You are on page 1of 194

‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪1‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫سقوط الق اهرة‬


‫مجموعة قصصية‬

‫رمضان سلمي برقي‬

‫‪2‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫«الفهرست»‬

‫سقوط القاهرة‪5 .........................................................................‬‬

‫مقابلة مع املوت‪11 ......................................................................‬‬

‫عبد الشيطان‪22 .........................................................................‬‬

‫الغراب املسحور‪22 .....................................................................‬‬

‫املسخوطة‪52 ...............................................................................‬‬

‫ورود الجنة ال تذبل‪42 ................................................................‬‬

‫حبيسة املريخ‪17 ..........................................................................‬‬

‫الخلود‪72 .....................................................................................‬‬

‫كيدهن‪104 ..................................................................................‬‬

‫حب حتى الثمالة‪117 .................................................................‬‬

‫املسيح الدجال‪135 ....................................................................‬‬

‫جسر من وهم‪122 ......................................................................‬‬

‫نظارة الحاسد‪152 ......................................................................‬‬

‫‪3‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫مزاح عفريت‪154 ........................................................................‬‬

‫حانوت اللذة‪157 ........................................................................‬‬

‫فرصة ضائعة‪142 ......................................................................‬‬

‫ذات ُسفلى‪145 ............................................................................‬‬

‫عيون أنثى‪147 .............................................................................‬‬

‫ضحكات من املاض ي‪115 ............................................................‬‬

‫صدر للكاتب‪172 .......................................................................:‬‬

‫سيصدر قريبا إن شاء هللا‪172 .................................................:‬‬

‫‪2‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫سقوط القاهرة‬

‫‪5‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ُترى هل قتل األمل ودُفن أسفل كومات من جليد‪ ،‬أم دُفن‬


‫حياً‪ ،‬وعند مقدم الربيع سيذوب الجليد القابع فوق أنفاسه‪،‬‬
‫ويعود إلى الحياة من جديد‪ ،‬ومن ثم يعود الحب‪ ،‬ولكن كم‬
‫مر من ربيع ولم يحدث شيئا ً!‪..‬‬

‫في شقتي بالطابق الرابع ببناية في ”حدائق‬


‫األهرام“ أَ ْن َتصِ ُ‬
‫ب خلف النافذة الزجاجية الكبيرة مبكراً‪ ،‬أتأمل‬
‫شارداً‪ ،‬السماء الغائمة ذات النور األبيض الخافت‪ ،‬وطبقات‬
‫الجليد المتراكمة فوق األهرامات‪ ،‬وأراقب الندف البيضاء‬
‫المتأرجحة بالهواء‪..‬‬

‫أ ْن ُظ ُر إلى الطريق؛ أجد قليل مِنْ السيارت المضرجة بندف‬


‫ِف صوب‬‫الثلج تمر مِنْ فينة ألخرى‪ ،‬أ ُ ْغل ُِق الستار‪ ،‬أَدْ ل ُ‬
‫الكرسي أمام المدفأة الكهربائية بباحة الشقة الواسعة‪ ،‬ذات‬
‫األساس التليد‪ ،‬مرتديا ً معطفا ً اتقا ًء للبرد‪.‬‬

‫ِس‪ ،‬أَ ْ‬
‫ش ِعل ُ سيجارة؛ فتنساب أعمدة الدخان من فمي‬ ‫أَ ْجل ُ‬
‫بغزارة كدخان قطار الفحم‪ ،‬وتمر لحظات وأتذك ُرها‪..‬‬

‫***‬

‫‪4‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫وقتذاك؛ ل َّما كانت بداية العصر الجليدي ‪ -‬وقت فراقها لي ‪-‬‬


‫كانت بالعشرين من عمرها‪ ،‬وأَ َنا كنت بالخمس وعشرين‬
‫ُ‬
‫والزلت أذكر تقاسيم وجهها الشمعي األبيض‪،‬‬ ‫من عمري‪،‬‬
‫ً‬
‫مرتدية معطف أحمر‬ ‫وعينيها السوداوان الواسعتان؛ كانت‬
‫بفرو‪ ،‬موارية رأسها داخل البرنس‪ ،‬وسروال مِنْ الجينز‪،‬‬
‫وكانت تقترب مني بقامتها المتوسطة‪ ،‬مهرولة في حذائها‬
‫ذي الرقبة الفرو فوق أكوام الجليد في ”ميدان‬
‫الرماية“ تتعثر تارة وتستقيم تارة‪..‬‬

‫كنت منتصبا ً على قارعة طريق متفرع من الميدان ومسجاة‬


‫ُ‬
‫على جانبيه أكوام الجليد‪ ،‬وأشجار خوت على عروشها‪،‬‬
‫ومنازل اعتلتها طبقات الجليد األبيض البراقة‪ ،‬وفنادق بدأت‬
‫تدب فيها الحياة من جديد‪ ،‬وقد كنت مرتديا ً معطفي األسود‪،‬‬
‫وسروالي الجينز غير مبال لقامتي الطويلة‪ ،‬وجسمي‬
‫الهزيل‪ ،‬وشعري الجعد المنكوش‪ ،‬ولحيتي وشاربي‬
‫المهملين ‪..‬‬

‫كنت أَ ْنفُ ُخ من فمي األبخرة ممتزجة بدخان سيجارتي‪ ،‬وقفت‬


‫"غادة" غير بعيد‪ ،‬لَ َو َحت بكفيها المدثران بقفازان مبتسمة‪،‬‬
‫ثم ِا ْق َت َر َب ْت أكثر وصاحت‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬ليتك َتأ ِ‬
‫ت معنا يا جمال؟‪.‬‬

‫ُ‬
‫رفعت رأسي‪،‬‬ ‫ألقيت السيجارة أرضاً‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أطرقت رأسي‪،‬‬
‫صِ ْح ُ‬
‫ت‪:‬‬

‫‪ -‬غادة‪ ...‬لن أتركها أبداً!‪.‬‬

‫ض ِح َك ْت‪ ،‬هرولت صوبي‪ ،‬تعانقنا‪ ،‬أغمضنا أعيننا؛ تناسينا‬


‫َ‬
‫ْ‬
‫علت زفراتنا وتنهيداتنا‪ .‬وقتذاك؛ كان حضنها‬ ‫الجليد والبرد‪،‬‬
‫بمذاق الموقد؛ ذلك الموقد الذي اشتعل فجأة ل ُيصهر عجزي‬
‫وحزني ويطفران على هيئة دموع من عيني‪..‬‬

‫كان الوقت عصراً والميدان خال من المارة‪ ،‬إِ ْن َف َك ْت عني بعد‬


‫قلت دامعاً‪:‬‬
‫علي كما السنين‪ُ ،‬‬
‫َّ‬ ‫لحظات مرت‬

‫‪ -‬سآلف الجليد!‪.‬‬

‫َك ْف َك َف ْت غادة دمعاتها‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫‪ -‬والفراق؟‪.‬‬

‫‪ -‬هو أيضا ً جليد!‪.‬‬

‫ُ‬
‫تأملت "خوفو" قلت‪:‬‬ ‫ُ‬
‫استدرت‪،‬‬ ‫َك ْف َك َف ُ‬
‫ت دمعاتي‪،‬‬

‫‪2‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬هل كان يتوقع المصريون قديما ً أن األهرامات ستغطى‬


‫بالجليد يوما ً ما؟‬

‫ِا ْق َت َر َب ْت من خلفي‪ ،‬أَ ْس َند ْ‬


‫َت كتفها إلى عامود إنارة بجواري‬
‫دافنة يديها بجيبي معطفها‪َ ،‬ن َظ َرت إلى هضبة األهرامات‬
‫الراقدة بين أكوام الجليد‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫‪ -‬مر عليها آالف السنين ولم تتأثر بأي تغير للمناخ أو أي‬
‫نظرت إلى‪ -‬أَ َت ْع َتقِ ُد أن الجليد سيفتت‬
‫تناوب للحضارات ‪-‬ثم َ‬
‫أحجارها قريباً؟‪.‬‬

‫َت َن َّهدْ ُ‬
‫ت بعمق‪ ،‬صمتنا لحظات‪ ،‬قلت‪:‬‬

‫‪ -‬ستحتاج آلالف من السنين تحت الجليد لتبدأ في التآكل؛‬


‫وقتها لربما تكن نهاية الحياة على األرض!‪.‬‬

‫ضح ِْك ْت‪ ،‬أَ ْخ َر َج ْت يدها من جيبيها‪ ،‬اقتربت مني‪ ،‬مسكت‬


‫َ‬
‫بيدي المدثرة في قفاز صوفي‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫‪ -‬أَ َت ْذ ُك ُر تلك المظاهرة؟‪.‬‬

‫ِا ْب َت َ‬
‫س ْم ُ‬
‫ت‪ ،‬قلت‪:‬‬

‫‪7‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬لم ولن أنس بالطبع؛ كان هذا منذ خمس سنوات‪ ،‬لما نزلنا‬
‫إلى ”ميدان التحرير“ لندعم الجيش السترداد سيناء من‬
‫اإلرهابيين؛ كنا صغاراً وقتذاك‪ ،‬لم تجمعنا الجيرة فقط بل‬
‫الحب أيضاً‪.‬‬

‫‪ -‬وا ْن َف َج َر ْت القنبلة في قلب الميدان‪ ،‬وإُصِ ْب ُ‬


‫ت في ساقي‪.‬‬

‫َن َظ ُ‬
‫رت لها‪ ،‬قلت‪:‬‬

‫وح َم ْل ُتكِ وه َْر َو ُ‬


‫لت بكِ صوب االسعاف بأحد الشوارع‬ ‫‪َ -‬‬
‫الجانبية‪ ،‬و ُك ْن ِ‬
‫ت تصرخين من األلم رغم أن إصابتكِ كانت‬
‫سطحية!‪.‬‬

‫ض ِح َك ْت‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫َ‬

‫‪ -‬أَ َنا رقيقة ال أتحمل رؤية الدماء!‪.‬‬

‫ت ببصري أتأمل "خوفو" قالت‪:‬‬ ‫ضح ِْك ُ‬


‫ت‪ُ ،‬عدْ ُ‬ ‫َ‬

‫‪ -‬وفجأة؛ انفجرت سيارة اإلسعاف قبل أن نصلها‪ ،‬وسقطنا‬


‫ت أَ َنا ثانية!‪.‬‬
‫ت في ذراعكِ ‪ ،‬وأُصِ ْب ُ‬
‫ت بشاظية أَ ْن َ‬
‫أرضاً‪َ ،‬وأُصِ ْب َ‬

‫ت بعمق‪ ،‬قُلت‪:‬‬
‫َت َنهدْ ُ‬

‫‪10‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬أتذكرين آنذاك؛ لما حملتكِ وشققت بكِ الشوارع المكدسة‬


‫بالفوضى والصراخ‪ُ ،‬ك ْن ِ‬
‫ت في الخامسة عشر من عمرك؛‬
‫مرتدية تنورة سوداء ممزقة من األسفل من أثر اإلصابة‬
‫بالشاظية‪ ،‬وقميص أبيض‪ ،‬وشعرك بال غطاء ناعم منسدل‬
‫على كتفيكِ ‪ ،‬و ُك ْن ُ‬
‫ت قد ربط ُ‬
‫ت بغطائه على جرح ساقكِ‬
‫إليقاف الدم‪ ،‬ولما قاربنا على صعود الجسر لنعبر إلى جهة‬
‫النيل األخرى؛ أوبلتنا السماء بالصواريخ؛ وساد الفزع‬
‫ْ‬
‫وتساقطت من حولنا المباني من أبراج‬ ‫والهرج والمرج‪،‬‬
‫وعمارات لتصير أكواما ً من الهديد‪ ،‬تخيلنا لوهلة أنها‬
‫القيامة‪ُ ،‬ك ْن ِ‬
‫ت تصرخين قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬كل هذه أحالم ليست حقيقة!‪.‬‬

‫ت بكِ فوق الجسر و أَ ْن ِ‬


‫ت ملقاة فوق كتفي ويداي‬ ‫َر َك ْ‬
‫ض ُ‬
‫تطوقان ساقيكِ صوب الجهة األخرى‪ .‬وقتذاك؛ ساد صمت‬
‫بداخلي‪ ،‬لم أعد أسمع سوى ضربات قلبي‪ ،‬ومن حولنا‬
‫السيارات المحطمة والمشتعلة نتيجة التدافع‪ ،‬ونتيجة انفجار‬
‫السيارات المفخخة‪ ،‬وهلع الناس وصراخهم ممن يركضون‬
‫فزعين في كال االتجاهين‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫سقطت بكِ أكثر من مرة‪ ،‬وداسونا بأقدامهم أكثر من مرة‪،‬‬ ‫ُ‬


‫ت أَ ْ‬
‫ش ُع ُر بأنكِ روحي‪ ،‬وترككِ نهايتي‪.‬‬ ‫لكني لم أَ َت َخل َ عنكِ ‪ُ ،‬ك ْن ُ‬

‫قاربنا من الوصول إلى نهاية الجسر‪ ،‬وفجأة؛ ِا ْن َق َ‬


‫س َم الجسر‬
‫إلى نصفين بقصف الصواريخ الغريبة التى لم نعرف ُك ْن ُها‬
‫وقتذاك‪ ،‬وتساقط الناس بالنيل كالجمر المشتعل‪ ،‬و َت َنا َف ْ‬
‫ست‬
‫صرخاتهم مع ضربات قلبي؛ أنزلتكِ حينئذ وتوقفنا نشاهد‬
‫مايحدث مشدوهين‪ ،‬والنار َت ْل َم ُع بحدقات عيوننا‪،‬‬
‫والصواريخ تتساقط فوق أبراج البنوك والفنادق والمباني‬
‫الحكومية فتخر أرضاً‪ ،‬والناس من حولنا يهربون من‬
‫الموت‪ ،‬ويتخبطون بنا عن اليمين وعن الشمال كالسكارى‪.‬‬
‫ص َر ْخ ِ‬
‫ت بي‪:‬‬ ‫َه َم ْم ُ‬
‫ت بحملكِ ‪َ ،‬‬

‫‪ -‬هيا نركض؟‪.‬‬

‫ركضنا معا ً بين الشوارع‪ ،‬كان القصف الصاروخي على‬


‫أشده شرقي النيل‪ ،‬لكن بالجهة األخرى كانت الضربات‬
‫متناثرة بعيدة عن بعضها البعض‪ ،‬حاولنا استخدام الهواتف‬
‫المحمولة‪ ،‬لكن وجدنا تغطية شبكات المحمول قد سقطت‪،‬‬
‫جلسنا نلتق ُط أنفاسنا بأحد الطرقات في ظل شجرة عظيمة‪،‬‬

‫‪12‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ض َج ْت السماء بأزيز الطائرات الحربية‪ ،‬وبعدها‬


‫وفجأة؛ َ‬
‫بساعة أو أكثر خبت أصوات القصف رويداً رويداً‪.‬‬

‫قمنا لنواصل السير حتى وصلنا إلى مستشفى صغير لم‬


‫يهدم‪ ،‬وقامت طبيبة طاعنة في السن بإسعافنا‪ ،‬كنا‬
‫مذعورين فاقدين لشهية الكالم‪ ،‬جالسين بجوار بعضنا‬
‫البعض على سرير واحد‪ ،‬قالت الطبيبة وقتذاك‪:‬‬

‫‪ -‬قدَّر ولطف!‪.‬‬

‫ت أَ ْن ِ‬
‫ت ضجرة‪:‬‬ ‫ص َر ْخ ِ‬
‫َ‬

‫‪ -‬هل كل ماحدث حقيقة؟‪.‬‬

‫‪ -‬حقيقة مؤسفة‪ ...‬لكن طائراتنا خرجت مح َّملة بالصواريخ‬


‫والجنود وسنسترد سيناء في غضون ساعات إن شاء هللا‬
‫وسنلقنهم درسا ً لن ينسوه!‪.‬‬

‫ت أَ َنا‪:‬‬
‫َت ْم َت ْم ُ‬

‫‪ -‬نحن َمنْ لن ننسى درسهم أبداً ماحيينا!‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ت في البكاء‪ ،‬طوقتكِ بين ذراعي‪ ،‬ورحت أ ُ َر ِّب ُ‬


‫ت‬ ‫ِا ْن َخ َر ْط ِ‬
‫ت أن ِ‬
‫على ظهركِ وأبكي مثلكِ ‪ ...‬حقاً؛ ذكريات ال تنسى‪،‬‬
‫واسترديناه خالل األعوام الالحقة‪ ،‬بعد صراع مرير‪..‬‬

‫تر َك ْت‬ ‫ُ‬


‫استرجعت معها أهم حدث في ذكرياتنا؛ َ‬ ‫فجأة؛ وبعدما‬
‫يدي‪َ ،‬ز َف ْر ُ‬
‫ت بضيق‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫‪ -‬مصر َولَ َج ْت عصر جليدي لم يتوقعه أحد كما َ‬


‫تر‪ ،‬وأبي لم‬
‫تعد له فرصة عمل هنا‪ ،‬لذلك سنسافر إلى أوربا جميعاً‪،‬‬
‫فكما تعرف؛ المناخ هناك أصبح على النقيض من مناخنا‪،‬‬
‫لكن أعدك‪ ،‬في أول فرصة سانحة سأعود إليك‪ ،‬ربما وقتها‬
‫تكون قد ضبطت أمورك‪ ،‬وحصلت على عمل ‪ -‬ثم ضحكت‬
‫بألم ‪ -‬وتكن قد ألفت الجليد!‪.‬‬

‫ُ‬
‫أشعلت‬ ‫ت يدي بجيبي‪ ،‬أَ ْخ َر ُ‬
‫جت السجائر‪،‬‬ ‫ض ْع ُ‬
‫لم أجبها‪َ ،‬و َ‬
‫واحدة‪ ،‬ورحت أتجول ببصري في أرجاء الميدان‪ ،‬متالشيا ً‬
‫النظر إلى عينيها‪ ،‬نافخا ً دخانا ً أحمراً مضرجا ً بدماء قلبي‬
‫الدامي‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫ُ‬
‫سأشتاق لك؟‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫ص َر ْخ ُ‬
‫ت‪:‬‬ ‫ا ِْس َتد َْر ُ‬
‫ت؛ حدجتها‪َ ،‬‬

‫‪12‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬كاذبة!‪.‬‬

‫ت بضيق‪،‬‬ ‫ِا ْن َف َج َر ْت بالبكاء‪ ،‬وخبأت عينيها خلف كفيها‪َ ،‬ت َن َهدْ ُ‬


‫ت عيناي َف َط َف َر‬ ‫ض ْن َتها بشدة‪ ،‬أَ ْغ َم ْ‬
‫ض ُ‬ ‫ِا ْق َت َر ْب ُ‬
‫ت منها‪ ،‬ا ِْح َت َ‬
‫دمعهما‪ ،‬وبعد دقائق؛ عال نحيبها و َت َفلَ ْ‬
‫تت من بين‬
‫َت‪َ ،‬ر َك َ‬
‫ض ْت بعيداً‪ ،‬وتوارت خلف ندف الثلج‪،‬‬ ‫أحضاني؛ ِا ْب َت َعد ْ‬
‫وخلف الدموع‪ ،‬وخلف ساعات السنين وأيامها ولياليها‪..‬‬

‫لم أعد إلى البيت يومها؛ لم أشأ رؤيتها راحلة‪ُ ،‬ط ْف ُ‬


‫ت بين‬
‫الطرقات والميادين المدثرة بأكوام الجليد شارد الفكر‪،‬‬
‫منقبض القلب‪ ،‬دامع العينين‪ ،‬أَ ْس َتعي ُد تفاصيل لقاءنا األخير‪،‬‬
‫وأفك ُر في لون المستقبل بدونها‪ ،‬والذي ُ‬
‫كنت أراه وقتذاك‬
‫أسوداً‪..‬‬

‫***‬

‫وهاأنذا اآلن أنتظرها؛ أ ْن َتظِ ُر سماع حرف من صوتها‪ ،‬أَ ْن َتظِ ُر‬
‫ضحكاتها بالرواق‪ ،‬أَ ْن َتظِ ُر طرقاتها على بابي‪ ،‬أنتظر الوفاء‬
‫لعهودها!‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫باألمس؛ ِا ْق َت َر ْب ُ‬
‫ت من باب شقتهم بآخر الرواق المقابل‬
‫لشقتنا؛ َت َف َّح ْ‬
‫ص ُ‬
‫ت القفل الخارجي وجدته قد تآكل من الصدأ‪،‬‬
‫كما تآكل قلبي من الفراق‪..‬‬

‫***‬

‫‪ -‬البد لي أن أستفيق!‪.‬‬

‫أتمتم بها ثم أَق ُ‬


‫ِف‪ ،‬أهرول صوب غرفة نوم أمي‪ ،‬أطرق‬
‫بابها‪ ،‬أسمع صوتها تقول‪:‬‬

‫‪ -‬ما خط ِبك يا جمال؟ وما الذي أوقظك مبكراً؟‬

‫‪ -‬سأنزل ُ إلى الطريق‪ ،‬هل تريدين شيء؟‪.‬‬

‫‪ -‬أتنزل في هذا المناخ الجليدي القاسي يابني؟‪.‬‬

‫ُ‬
‫أصمت لحظة‪ ،‬أبتسم‪ ،‬أقول‪:‬‬

‫‪ -‬لقد ألَ ْف ُ‬
‫ت الجليد يا أماه!‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫مقابلة مع الموت‬

‫‪11‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ت مع الموت غير مرة؛ بعد كل مرة كنت أُولَ ُد مِنْ‬


‫َت َقا َب ْل ُ‬
‫جديد‪ ،‬فتأتي المرة التالية كي ألقى حدفي مِنْ جديد؛ أما اآلن‬
‫فأ َنا أ ُ َج ِه ُز لموتتي األخيرة التى ال بعث بعدها إال يوم‬
‫الدين‪ ...‬رحماك ربي!‪.‬‬

‫ف كان مذاق الموت في المرات الماضية؟ ماذا كان‬ ‫ك َّي َ‬


‫شعوري وقتها؟ أحاول أن أَ َت َذ َك ُر‪ ،‬أحاول أن أَ ْس َت ْج ِم ُع تالبيب‬
‫ذاكرتي‪ ،‬أحاول أن أ ُ َفت ُ‬
‫ِش بين براثن الدهر عن رفاة‬
‫ذكرياتي‪ ...‬رحماك ربي!‪.‬‬

‫ش ُع ُر به اآلن‪ ،‬فلم يعد بالحياة‬ ‫الخوف مِنْ الموت؛ هذا ما ال أَ ْ‬


‫ُ‬
‫ت أرغب بها‪ ،‬أَ َتأ َ َّف ُ‬
‫ف مِنْ‬ ‫ش ِغ ْفا ً لمواطأتها‪ ،‬ما ُعدْ ُ‬
‫ما يجعلني َ‬
‫فكرة أن أَ ْن َتظِ ُر الموت ليطرق بابي‪ ،‬بيد أنه باستطاعتي‬
‫الذهاب إليه‪ ،‬والحقيقة أني ُم َت َحمِس لتلكم الفكرة؛ أن أرتمي‬
‫بنفسي بين أحضانه‪ ،‬وكأنه صديقا ً حميماً! ولِم كأنه؟ الموت‬
‫بالفعل صديقا ً حميما ً زارني غير مرة؛ كانت زيارته األولى‬
‫والدي رحمة هللا عليه‪..‬‬

‫***‬

‫‪12‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫كان أبي بالعقد الرابع مِنْ العمر أنذاك؛ وفي الصباح‪،‬‬


‫ُ‬
‫باهت‬ ‫ض؛ وقد كان يوما ً بارداً‬
‫ض ِ‬ ‫أَ ْ‬
‫ش َر َق ْت الشمس على َم َ‬
‫األلوان؛ َز َح ْ‬
‫فت فيه اآلليات صوب بلدتنا‪ ،‬مدعومة بالدبابات‬
‫والمدرعات‪ ،‬وبجنود اإلحتالل‪ ،‬وبدأوا إِ ْج َال َءنا بمكبرات‬
‫الصوت‪ .‬ا ِْس َت ّي َق َظ أبي مبكراً ذاك اليوم وكأنه على موعد مع‬
‫ص ُرخ و َن ْر ُ‬
‫ش ُق‬ ‫ت أ َنا وأطفال الحي؛ َن ْ‬
‫اق إليه‪َ .‬خ َر ْج ُ‬
‫ش َت ُ‬
‫حبيب َي ْ‬
‫الجنود بالحجارة‪ ،‬يردون علينا بالرصاص؛ َف َي ْسقُ ُط بعضنا‪.‬‬

‫كنت بالعاشرة مِنْ عمري آنذاك ورشقتهم باألحجار‪ ،‬وبكيت‬


‫ولعنتهم‪ .‬وفجأة؛ َدلَ َ‬
‫ف أبي تجاه الجنود والمدرعات‪،‬‬
‫فصوبوا مدافعهم إليه؛ ِا ْق َت َر َ‬
‫ب منهم أكثر‪ ،‬أطلقوا رصاصهم‬
‫ب سامقا قبالة البيت أمامهم ودماؤه‬ ‫على قدميه‪ ،‬ولكنه ِا ْن َت َ‬
‫ص َ‬
‫َت ْن ِز ُ‬
‫ف‪ ،‬قال بصوت جهور‪:‬‬

‫‪ -‬لن تهدموه إال فوق جثتي يا مخنثين؟!‪.‬‬

‫ض صوبهم‪ ،‬وسمعنا َد ِوي انفجار‪ ،‬و َت َنا َث َر ْت أشالء‬‫َر َك َ‬


‫ش َت َعلَ ْت النار‬ ‫ً‬
‫ممتزجة بأشالء أبي مِنْ حولنا‪ِ ،‬ا ْ‬ ‫الجنود‬
‫بمدرعاتهم‪َ ،‬و َق ْف ُ‬
‫ت بعيداً فاغرا فمي‪ ،‬وتوقف قلبي عن‬

‫‪17‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫الخفقان‪ ،‬ولم أر سوى سواداً في سواد؛ لقد كان أبي على‬


‫موعد مع الموت‪ ...‬رحماك ربي!‪.‬‬

‫***‬

‫اِس َت ْي َق ْظ ُ‬
‫ت صارخاً‪:‬‬

‫‪ -‬أبي ‪ ...‬أين أبي؟‪.‬‬

‫سم ِْع ُ‬
‫ت أمي تقول‪:‬‬ ‫َ‬

‫‪ -‬أبوك بالجنة‪ ...‬ال تنزعج يا ولدي؟‪.‬‬

‫مرت السنون؛ وأَ ْك َم ْل ُ‬


‫ت حياتي متنقالً بين المخيمات؛ وكانتا‬
‫ص ْل ُ‬
‫ت لسن الرابعة‬ ‫معي أمي وأختي الصغيرة‪ .‬ولما َو َ‬
‫عشرة؛ َخ َر ْج ُ‬
‫ت ألتدرب مع المجاهدين على حمل السالح‪.‬‬
‫َت َز َّو َج ْت أختي مِنْ أحد المجاهدين‪ ،‬وأمي أصابها مرض‬
‫السل‪ ،‬ولم تتح َّمل الحياة بال ُمخيمات؛ لم تتح َّمل البرد‬
‫القارس‪ ،‬لم تتح َّمل الجوع القارس‪ ،‬لم تتح َّمل الحياة بال‬
‫أبي‪ ،‬عاشت مثل جثة لم تستمتع بالحياة أبداً؛ وهل في‬
‫حياتنا شيء ُممتع؟ انتقلت للرفيق األعلى؛ وزادت من‬
‫الصدع الذي تركه موت أبي بقلبي‪ ،‬زادت من عذاباتي‪،‬‬

‫‪20‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ُ‬
‫وقابلت الموت من جديد؛ األولى كان أبي‪ ،‬والثانية أمي‪،‬‬
‫والثالثة‪ ...‬حتما ً أ َنا‪ ...‬رحماك ربي‪..‬‬

‫***‬

‫َت َقد َّْم ُ‬


‫ت بالتدريبات بطريقة مبهرة‪.‬‬

‫ت؟ بهذا تكن قد ِا ْق َت َر ْب َ‬


‫ت مِنْ تحقيق حلمك!‪.‬‬ ‫‪ -‬أَ ْح َ‬
‫س ْن َ‬

‫قالها لي قائدي‪ ،‬حينما رآني أبلي َبال ًء حسنا ً بتمارين‬


‫الرماية‪ ،‬واالشتباك‪ .‬كان حلمي أن اَ ْن َتقِ ْم ألبي مِنْ جنود‬
‫اإلحتالل‪ ،‬ولكني أريد أن أَ ْق ُتل ُ كتائبا ً منهم‪ ،‬ولن ُي ْ‬
‫ش ِ‬
‫ف غليلي‬
‫جندي أو اثنين‪ ،‬لكن الحقيقة سالحي لن ُي ْن ِج ُعني في‬
‫تحقيقه‪َ .‬ق َر َر قادتي أمراً وأَ ْطلَ ْع ُوني َعليهِ؛ عملية‬
‫استشهادية! وأ َنا َمنْ سينفذها‪َ ،‬وا َف ْق ُ‬
‫ت بعد تفكير قليل‪.‬‬

‫سأ ُ ْن ُ‬
‫ش ُر‬ ‫سأ ُ َق ِ‬
‫ابل ُ الموت بنفسي‪ ،‬وسأرتمي بين أحضانه‪َ ،‬‬ ‫َ‬
‫ال ُذعر والرعب في قلوب الصهاينة‪ ،‬ومرحبا ً بالموت لكن‬
‫يموتون معي ويحترقون بناري‪..‬‬

‫***‬

‫أما اآلن؛ فأ َنا في دَار َ‬


‫صغير بأطراف "غزة"‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬هيا لتستعد؟‪.‬‬

‫يأتني صوت قائدي يدعوني للتهيؤ‪ .‬أقول‪:‬‬

‫‪ -‬أريد أن أَقُو ُم بزيارة ألختي؟‪.‬‬

‫‪ -‬لك هذا ‪ ...‬ولكن احترس؟‪.‬‬

‫‪ -‬إن شاء هللا لن أموت إال ومعي العشرات مِنْ جنودهم‬


‫المخنثين‪ ،‬ال تقلق؟‪.‬‬

‫أ َنا اآلن بصحبة رهط مِنْ المجاهدين جالسين نتدارس‬


‫س جلبابي‪ ،‬أَ ْل َتح ُ‬
‫ِف الشال‪،‬‬ ‫الخطة‪ .‬وفجأة؛ أَفِذ عنهم‪ ،‬أَ ْل ِب ُ‬
‫وأَهُم بالخروج مِنْ الدار‪ .‬وفجأة؛ َن ْس َم ُع أزيز طائرات الكيان‬
‫الصهيوني َت ُ‬
‫شق السماء‪...‬‬

‫‪ -‬غارة على غزة!‪.‬‬

‫خ فينا القائد؛ َف َي َت َج َّم ُع المجاهدون سريعاً‪ ،‬و َي ْ‬


‫ص ُد ُر‬ ‫ص ُر ُ‬
‫َي ْ‬
‫أمره؛ يقول‪:‬‬

‫‪ِ -‬ا ْن ِز ْلوا إلى النفق سريعا ً و ِا ْن ِز ْلوا معكم األسلحة والزخيرة؟‪.‬‬

‫وراح َي ْكشِ ُ‬
‫ف عن غطاء لنفق أسفل الدار‪.‬‬

‫أصي ُح بغضب‪:‬‬
‫‪22‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬كنت أنوي زيارة أختي‪ ،‬ثم أعود ألقتل منهم العشرات‪،‬‬


‫لماذا يستبقون القدر‪ ...‬لماذا؟‪.‬‬

‫و َي ْبدَأ ُ المجاهدون بانزال الزخيرة واألسلحة إلى النفق‬


‫اآلمن‪ ،‬وأ َنا ُم ْن َتصِ ب ال أَ َت َت ْع َت ُع قيد أنملة‪َ ...‬يصِ ي ُح بي القائد‪:‬‬

‫‪ِ -‬ا ْن ِزلْ؟‪.‬‬

‫أَ َت َم ْل َمل ُ وال أ ُ ِج ُ‬


‫يب‪ .‬يقول‪:‬‬

‫‪ِ -‬ا ْن ِزلْ‪ ...‬البد مِنْ المحافظة على سالمتك فلن ُن ْفشِ ل حلمك‬
‫أبدا؟‪.‬‬

‫يبدأ َّد ِوي القنابل والصواريخ ُي َه ِّت ُك اآلذان َت ْهتِيكاً‪ ،‬وتبدأ‬


‫المنازل باالنهيار جراء القصف‪ .‬صرخات األطفال‬
‫ج بين األزقة والطرقات المسدودة بأكوام‬ ‫والنساء َت َت َح ْ‬
‫ش َر ُ‬
‫خ‪ ،‬الكل َي ْب َت ِهلُ‪ ،‬الكل َي ْب َح ُ‬
‫ث عن مالذ‬ ‫ص ُر ُ‬
‫األنقاض!‪ .‬الكل َي ْ‬
‫آمن‪ .‬أَ ْن ُظ ُر مِنْ النافذة‪ ،‬أَ َتأ َ َّملَ ُه ُم صامتاً!‪.‬‬

‫‪-‬اِيهِ‪ ...‬ماذا َق َر ْرت؟‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫يسألني القائد؛ بماذا أ ُ ِجي ُبه؟ أَأَدْ فِنُ نفسي بالنفق والنساء‬
‫واألطفال َت ُع ُج بهم الطرقات تحت ضجيج القصف؟ أم أَ ْن َ‬
‫س‬
‫قتل العشرات اآلن وأَ ْخ ُر ُ‬
‫ج إليهم؟!‪.‬‬

‫فجأة؛ ُي ْس َق ُط صاروخا ً فوق دار مالصقة لدارنا؛ فتهتز‬


‫األرض مِنْ تحت قدماي؛ اآلن أ ُ َق ِر ُر!‪.‬‬

‫ج ِألُدافِ ُع عن حلمي‬
‫سأ َ ْخ ُر ُ‬ ‫سأ ُ ّ‬
‫رجيِ الحلم القديم‪ ،‬و َ‬ ‫‪َ -‬‬
‫الحاضر!‪.‬‬

‫أقولها ثم أرتدي بذلتي العسكرية الخضراء‪ ،‬والقناع‬


‫والحذاء األسودين؛ بعد أن أخلع الجلباب‪ ،‬وأ ُ ْخ ِر ُ‬
‫ج بندقيتي‬
‫الكالشنكوف مِنْ الصندوق الخشبي المسجى بين أيديهم قبل‬
‫نزوله إلى النفق‪ ،‬وأتناول حقيبة مملوءة بخزنات‬
‫الرصاص‪ ،‬وينزلوا هم إلى النفق ويسقطون غطاءه فوقهم‪.‬‬

‫وأَ ْن َطل ُِق أنا خارجا ً مِنْ البيت بسرعة صوب صراخ النساء‬
‫واألطفال آلخذهم إلى ملجأ آمن مِنْ الغارات‪ .‬وريثما أَ ْب َت ِع ُد‬
‫عن الدار؛ إال ويتم قصفه بصاروخ مِنْ طائرة صهيونية!‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ف بعيداً من شدة االنفجار‪ ،‬وأَ ْسقُ ُط أرضاً‪،‬‬ ‫عندها أ ُ ْق َذ ُ‬


‫ض من هول المفاجأة؛‬ ‫وبجانبي الكالشنكوف والحقيبة‪ ،‬أَ ْن َه ُ‬
‫أَ ْس َت ِد ُر وأَ ْن ُظ ُر إلى البيت فأجده قد صار كومة أنقاض! أ ُ َت ْمتِ ُم‪:‬‬

‫‪ -‬الحمد هلل!‪.‬‬

‫ض صوب األطفال‬‫أَ َت َقلَّ ُد بالكالشنكوف وحقيبة الزخيرة؛ أَ ْر ُك ُ‬


‫والنساء والشيوخ؛ وأ ُ ْرشِ َدهُم إلى المخابئ اآلمنة تحت‬
‫األرض‪ ،‬و َي ْن َ‬
‫ضم إلي مسلحين أكثر ونعمل على إرشاد الناس‬
‫ص ُر ُ‬
‫خ امرأة مِنْ داخل المخبأ‪:‬‬ ‫إلى المخابئ‪ .‬وفجأة؛ َت ْ‬

‫‪ -‬أين طفلي!؟‪.‬‬

‫أَ ْن ِزل ُ إليها‪ ،‬أتأمل قسمات مِنْ حولها‪َ ،‬ت ِزيدُني الدموع‬
‫والرجفات اصراراً‪ ،‬أسألها‪:‬‬
‫ً‬
‫رتجفة‪:‬‬‫ماخ ْط ُبكِ يا أمي؟‪ .‬تقول ُم‬
‫‪َ -‬‬

‫‪ -‬إبني َف َقدْ ُته بالطريق ونحن قادمون!‪.‬‬

‫‪ -‬ال َت َخا ِ‬
‫ف سأحضره إن شاء هللا؟‪.‬‬

‫َي ْن ُظ ُر إلي شاب مِنْ المسلحين‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫‪25‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬بعض القوات الصهيونية َت ْق َت ِح ُم غزة بريا ً للبحث عن‬


‫جهاديين‪ُ ...‬خ ْذ حذرك؟‪.‬‬

‫أقول له مِنْ خلف قناعي األسود‪:‬‬

‫‪ -‬ا ِْط َمئِن ‪ ...‬ليس هنالك عقاب أقسى مِنْ الموت يستطيعون‬
‫فعله بنا!‪.‬‬

‫وأَ ْن َطل ُِق إلى الطريق الذي وصفته لي المرأة؛ اَ ْب َت ِع ُد‬


‫مستكشفاً؛ أَ ْس َم ُع حسيس النار‪ ،‬وأرى األدخنة المتصاعدة‪،‬‬
‫ِيض ويعلو‪ ،‬وفجأة؛ أَ ْس َم ُع صراخ‬
‫ومِنْ فوقي األزيز َيغ ُ‬
‫ض صوب الصوت؛ أَ ِجدُه يبكي خلف أكوام الهديد‪،‬‬ ‫طفل‪ ،‬أَ ْر ُك ُ‬
‫ُي َغ ْم ِغ ُم‪:‬‬

‫‪ -‬أينَ أَ ْن ِ‬
‫ت يا أمي؟‪.‬‬

‫أَ ْن ِزل ُ على ركبتي أمامه‪ ،‬معلقا ً بندقيتي فوق كتفي وأَ ْح َتضِ ُنه‬
‫ت على ظهره‪ ،‬أقول‪:‬‬ ‫بشدة‪ ،‬وأ ُ َر ِّب ُ‬

‫‪ -‬أمك بخير‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫صلَ ُة آلياتهم‪،‬‬ ‫وأَهُم أن آخذه مِنْ يده وأعود ولكني أَ ْس َم ُع َ‬


‫ص ْل َ‬
‫ف للطفل‬ ‫وصيحات جنودهم‪َ ،‬فأ َتي ْقنُ بأنهم قادمون!‪ .‬أَصِ ُ‬
‫ِئ بأنه يعرفه‪ ،‬أقول له قبل أن يذهب‪:‬‬
‫طريق المخبأ؛ ُيوم ُ‬

‫‪ -‬ما هو ُح ْل ُم َك يا صغير؟‪.‬‬

‫يقول حانقاً‪:‬‬

‫‪ُ -‬ح ْلمِي أن أَ ْق ُتل ُ منهم العشرات‪.‬‬

‫ُمشيراً بيده إلى ال ُمقاتالت بالسماء‪ ،‬أَ ْب َتسِ ُم‪ ،‬أقول‪:‬‬

‫َب ألمك؛ لتعتني بك كي ُت َح ِّقق ُح ْل ُمك؟‪.‬‬


‫‪ -‬إذاً ا ِْذه ْ‬

‫َي ْن َطل ُِق راكضاً‪ ،‬و َيغ ُ‬


‫ِيب بين أكوام الهديد والمنازل‪.‬‬

‫جلية آلياتهم العسكرية؛ أَ ْن ُظ ُر خلفي إلى‬ ‫ً‬ ‫َت ْظ َه ُر أمامي‬


‫ج ّدهُ قد ا ِْخ َت َفى؛ أَ ْ‬
‫ص ُر ُ‬
‫خ‪:‬‬ ‫الطريق الذي َم َر َق منه الطفل وأَ ِ‬

‫‪ -‬مرحبا ً بكم في أرض األحالم!‪.‬‬

‫َوأَ ْس َم ُح لنيران الكالشنكوف أن َت ْن َطل ُِق صوب خنازير‬


‫الصهاينة لتجلدهم بسياطها‪..‬‬

‫‪21‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫عبد الشيطان‬

‫‪22‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ُ‬
‫فاخترت‬ ‫‪ُ -‬خ ِّي ْر ُ‬
‫ت بين جنتين؛ جنة الدنيا وجنة األخرة‪،‬‬
‫ُ‬
‫عشت أكثر من عشرين سنة في‬ ‫األولى بمحض إرادتي‪،‬‬
‫ُ‬
‫اتخذت‬ ‫ض ِّم الخطيئة‪،‬‬ ‫عشت عمراً من اللذة في ِ‬
‫خ َ‬ ‫ُ‬ ‫الوحل‪،‬‬
‫الشيطان ولياً‪ ،‬بل معلماً‪ ،‬بل كان إله‪ ،‬وكنت عبداً له؛ أرتل ُ‬
‫له الصلوات بين نهود الغواني‪ ،‬كنت أرك ُع له فقط بين أفخاذ‬
‫البغايا‪ ،‬كنت أتطه ُر له بالخمر‪ .‬كان الكذب منهاجي‪ ،‬كانت‬
‫س َف ْك ُ‬
‫ت دماء أبرياء كثر‪ ،‬كنت أشع ُر بنشوة‬ ‫النذالة صديقتي‪َ ،‬‬
‫أحرمهم من الحياة بسادية‪ ،‬كنت أستمت ُع بآالمهم‬
‫وأنا ِ‬
‫وبغرغراتهم ‪ ...‬شعور ليس له مثيل؛ حينما تشاه ُد إنسانا ً‬
‫يودع الحياة رغما ً عنه وأظافره منغرسة بوجهك تتسول‬
‫منك مهلة أخيرة‪ ،‬ونظراته العاجزة تتوسل منك الرحمة‪،‬‬
‫ورغم ذلك ؛ لم ترتجف لي فريصة‪.‬‬

‫لم أتزوج‪ ،‬لم أعرف لالستقرار طريق‪ ،‬كان عدوي الوحيد‬


‫األوحد هو الحب؛ فمعلوم لي أن الحب مرض ُيضعف‬
‫القلوب!‪ ...‬أعرف أنك مشمئز متقزز متأفف‪ ،‬بل أعرف أنك‬
‫وأعرف أنك تخيلت مصيري باآلخرة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ترتع ُد خوفا ً مني‪،‬‬
‫وربما اقش َّعر بدنك من هول مصيري‪ ،‬أرى العرق المتصبب‬

‫‪27‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫من جبينك‪ ،‬أالحظ جفاف حلقك‪ ،‬وهروب رضابك‪ ،‬ولكن‬


‫دعني أحكي لك عن إحدى خطياتي؟‪..‬‬

‫في غرفة واسعة ليس بها أساس‪ ،‬ذات سقف مرتفع‪،‬‬


‫يخترق ضوء النهار نوافذها ذات القضبان الحديدية ليسقط‬
‫أرضا ً ُمنكسراً تارة‪ ،‬ومستقيما ً تارة أخرى؛ أطرق المتحدث‬
‫وصمت لحظات‪ ،‬كان رجالً بالعقد الرابع من العمر؛‬
‫َ‬ ‫رأسه‬
‫مشعث الشعر واللحية‪ ،‬عيناه حمراوتان حادتان‪ ،‬وجهه‬
‫شاحب وبه آثار سحجات قديمة‪ ،‬يرتدي البذلة الحمراء‪،‬‬
‫يجلس على كرسي خشبي‪ ،‬وأمامه‬
‫ُ‬ ‫مكبلة يديه خلف ظهره‪،‬‬
‫منضدة خشبية مستديرة‪ ،‬ويجلس قبالته من الجهة األخرى‪،‬‬
‫رجل دين بعمامة بيضاء‪ ،‬مكفهر الوجه‪ ،‬ذا لحية بيضاء‬
‫قصيرة‪ ،‬يرتدي جبة رمادية‪ ،‬وأسفلها قفطان أبيض‪ ،‬قال‪:‬‬

‫‪ -‬احك باختصار وال ُت َم ْط ِم َط في الكالم وال تضيع الوقت‪،‬‬


‫حتى ي َن َفذ فيك حكم اإلعدام؟‪..‬‬

‫‪ -‬حسنا ً سأختصر‪ ،‬ولكن لي رجاء أود منكم تحقيقه‬


‫واعتبروه ضمن أمنيتي األخيرة؛ أريد أن أدخن السجائر‬
‫أثناء حديثي!‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫قالها المجرم غير مبال‪ ،‬حينئذ؛ وقف الشيخ‪ ،‬تحرك داخل‬


‫الغرفة الشاسعة ذات الجدران األسمنتية؛ اقترب من باب‬
‫يقف أمامه من الداخل مجندين في بذالتهم الشرطية‬
‫حديدي ُ‬
‫البيضاء‪ ،‬مدججين بالسالح‪ ،‬قال‪:‬‬

‫‪ -‬إن كان بينكم مدخن فاعطوني سجائر ‪..‬؟‬

‫أخرج مجند علبة سجائره‪ ،‬ومدها للشيخ‪ ،‬فأخذها وأخرج‬


‫سها في جيب المجند‪ ،‬وهمس‬
‫من جيبه بعض الجنيهات ود َّ‬
‫له‪:‬‬

‫‪ -‬ابتع بها سجائر لك فيما بعد ‪..‬؟‬

‫عاد الشيخ؛ وضع السجائر أمام المجرم‪ ،‬قال المجرم‬


‫مبتسماً‪:‬‬

‫ف سأدخن؟!‪.‬‬
‫‪ -‬أريد قداحة وأريد فك قيودي وإال ك َّي َ‬

‫قام الشيخ ثانية‪ ،‬أخذ من المجند قداحته‪ ،‬فتح الباب وذهب‬


‫إلى الضابط‪ ،‬واستأذنه فيما أراده المجرم؛ صاحبه الضابط‬
‫إلى الغرفة متبختراً في بدلته البيضاء‪ ،‬ومسدسه معلق‬
‫بحزامه‪ ،‬قائالً‪:‬‬

‫‪31‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬ياشيخ إنه مجرم خطير‪ ،‬وأخشى أن يقوم بأي حماقة‬


‫معك !‪.‬‬

‫‪ -‬ال تقلق تلك أمنيته فلنحققها له‪ ،‬ولنكن رحيمين به في‬


‫آخر لحظات حياته‪ ،‬وعلني أقنعه بالتوبة قبل موته؟‪.‬‬

‫وبعد أن فُ َك ْت قيوده‪ ،‬وأشعل سيجارته‪ ،‬زفر بارتياح‪ ،‬ثم قال‬


‫شارداً‪:‬‬

‫‪ -‬كان أبي إمام مسجد‪ ،‬تخيل يا شيخ‪ ،‬وأنا كما ترى‪ ،‬وكما‬
‫يقال "يخلق من ظهر العالم فاسد" كنت أنا الفاسد في‬
‫نظرهم‪ ،‬كان أبي يترجاني ألذهب إلى المسجد‪ ،‬وكنت أأبى‬
‫بشدة‪ ،‬وأذهب أللعب مع أقرنائي‪ ،‬كنا نسرق الحوانيت‬
‫ونهرب‪ ،‬كنا ندخن السجائر التي نسرقها‪ ،‬وكنا نعرقل المارة‬
‫بفتات زجاج نضعه بالطرقات‪ ،‬وكنا نبذر المسامير في‬
‫طريق السيارات؛ حتى أقرنائي لم يسلموا من حماقاتي؛ فقد‬
‫فقأت عين أحدهم بشاظية زجاج الختالفنا في اللعب‪،‬‬
‫ُ‬
‫وقطعت كف آخر بساطور لمحاولته التحرش بي‬
‫ُ‬
‫أثبت‬ ‫و ُمضاجعتي آنذاك؛ كانوا يظنوني ضعيفا ً ُمخنثاً‪ ،‬ولكني‬
‫لهم أني رجل وعلَ ْم ُ‬
‫ت عليهم جميعاً‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫أمي كانت تقول "أن الشيطان تلبسني" يقولون أنني‬


‫ف لشيطان أن يسكن‬
‫مسكون‪ ،‬فهل أنا مسكون يا شيخ؟ وك َّي َ‬
‫شيطان مثله؟ قديما كانوا يقولون لنا‪" :‬أن الشيطان ال‬
‫يسكن أجساد مرتادي الخمارات‪ ،‬لكنه يسكن أجساد قليلي‬
‫اإليمان" ولم أكن مؤمنا ً قط يا شيخ فك َّي َ‬
‫ف يسكنني‬
‫الشيطان؟ ذات مرة أخذني أبي إلى المسجد عنوة‪ ،‬وقبيل‬
‫ُ‬
‫شعرت بأن قوة عظيمة تصدني‪ ،‬فلم يستطع أبي أن‬ ‫الباب‬
‫يزحزحني قيد أنملة من موضعي‪ ،‬صرت وكأني شجرة‬
‫ض َر َب ْت بجذورها في أعماق األرض‪ ،‬عندها تفلت‬
‫عتيقة َ‬
‫منه‪ ،‬ومن وقتذاك وأنا شارداً في البالد‪ ،‬آكل من حرام‪،‬‬
‫وأشرب من حرام‪ ،‬وبالليل أتدثر بأحضان الغواني ‪..‬‬

‫َبد ْ‬
‫َت سيماء الدهشة والتعجب على قسمات الشيخ‪ ،‬وتململ‬
‫ليصيخ السمع للمجرم أكثر‪ ،‬نفخ المجرم دخان سيجارته‬
‫ُمبتسماً‪ ،‬ثم قال‪:‬‬

‫‪ -‬ذات مرة؛ نويت أن أزور والداي‪ ،‬ليس حنينا ً لهما بل ألني‬


‫كنت أمر بضائقة مالية وقتذاك وكنت أنوي سرقتهما أو‬
‫طلب المال منهما‪ ،‬بعد عشرين عاما ً من الغياب ياشيخ‪،‬‬
‫وصلت الحي ليالً وقبل أن أدخل؛ قابلت اثنين من أقرنائي‬
‫ُ‬

‫‪33‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫القُدامى‪ ،‬وفي جنح الظالم؛ قاموا بتثبيتي بمطاويهم‪ ،‬ولكني‬


‫أوسعتهم ضربا ً‪ ،‬وقلت لهما َمنْ أكون‪ ،‬وتذكراني‪ ،‬وتذكرا‬
‫خياناتي لهما‪ ،‬ولكنهما قاال لي أنهما افتقداني‪ ،‬وجلسنا‬
‫ندخن الحشيشة معا ً على جدار مهدم في خربة مظلمة ‪-‬‬
‫كانت بيتا ً فيما مضى وتهدمت وأحاطتها أكوام القمامة من‬
‫كل جانب ‪ -‬قال لي األول وكان أعور‪:‬‬

‫‪ -‬أُ ْ‬
‫ش ِه ُد هللا أني سامحتك يا صديقي على فقأ عيني‪ ،‬ومرادي‬
‫أن نعيد المياه لمجاريها‪ ،‬ها ما رأيك؟‪..‬‬

‫‪ -‬موافق‪.‬‬

‫وقال لي الثاني وكانت كفه مبتورة‪:‬‬

‫‪ -‬وأ ُ ْ‬
‫ش ِه ُد هللا أيضا ً بأني سامحتك على قطعك لكفي‪ ،‬ومرادي‬
‫أن نعيد المياه إلى مجاريها‪ ،‬ها ما رأيك؟‪.‬‬

‫‪ -‬موافق‪.‬‬

‫مر بعض من الوقت؛ تبادلنا فيه أطراف الكالم‪ ،‬قال لي‬


‫األعور‪:‬‬

‫‪32‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬هناك فتاة بالحي لو رأيتها ياصديقي لسوف ُت َجنْ من‬


‫جمالها‪..‬‬

‫وأثنى اآلخر على جمالها‪ ،‬وبدأ يعدد من صفاتها ومن فراهة‬


‫جسدها؛ نهديها ردفيها‪ ،‬الحقيقة لم أستطع المقاومة أكثر‪،‬‬
‫وتخيلتني بين نهديها‪ ،‬فقلت لهم ‪:‬‬

‫‪ -‬أريد هذه الفتاة؟‪.‬‬

‫ضحكا‪ ،‬قال األعور‪:‬‬

‫‪ -‬حالل عليك ياصديقنا‪ ،‬لتكن أول َمنْ يتمطقها ونحن لسنا‬


‫بطماعون‪ ،‬سنمصمص العظم الذي تتركه لنا‪ ،‬ولكن حاول‬
‫أن تترك لنا حتى نسيلتين ‪..‬‬

‫وضحكنا ثالثتنا‪ ،‬والتحفتنا سحابة من الدخان‪ ،‬قلت فجأة‪:‬‬

‫ف؟‪.‬‬
‫‪ -‬أين ومتى وك َّي َ‬

‫تساءل ذو الكف المبتور‪ ،‬قال‪:‬‬

‫ف يا أعور‪ ،‬العاهرة ال تضاجع إال أشخاص‬


‫‪ -‬صحيح ك َّي َ‬
‫ميسورين وال تنظر ل َمنْ هم أدنى منها‪ ،‬ولن ترضى بنا نحن‬
‫المشوهون؟!‪..‬‬

‫‪35‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫استشطت غضبا ً ياشيخ‪ ،‬وقلت لهم‪:‬‬


‫ُ‬ ‫عندها‬

‫‪ -‬نضاجعها عنوة‪ ،‬و َمنْ يحاول التصدي لنا نضاجعه معها‪.‬‬

‫ضحكوا جميعاً‪ ،‬قال األعور‪:‬‬

‫‪ -‬إِ َذاً فلنتحرك من اآلن‪ ،‬فبعد نصف ساعة بالضبط ستمر‬


‫بالطريق القريب من تلك الخربة‪ ،‬فلنختطفها‪ ،‬ونحصل‬
‫عليها‪ ،‬هيا استعدوا؟‪..‬‬

‫انتهت السيجارة‪ ،‬أش َعل َ األخرى‪ ،‬وبدا الشيخ منتبه وغارق‬


‫في عرقه‪ ،‬قال المجرم‪:‬‬

‫‪ -‬ومرت الفتاة مرتدية عباءتها السوداء الضيقة‪ ،‬وكانت‬


‫ص َر َخ ْت‬
‫بالفعل فارهة‪ ،‬وسرعان ما تحلقنا حولها‪ ،‬ولما َ‬
‫هددناها بمطاوينا‪ ،‬وكتمنا أنفاسها‪ ،‬وحملناها إلى الخربة‬
‫الظلماء بعيداً عن إنارة الطريق‪ ،‬وضربناها حتى أغمى‬
‫وخارت قواها مبكراً‪ ،‬فسهلت‬
‫ْ‬ ‫عليها؛ كان قلبها ضعيف‪،‬‬
‫علينا كثيراً‪ ،‬كانت جميلة حقاً‪ ،‬وبدا وجهها مألوفا ً لي‪،‬‬
‫ولكني لم أبال‪ ،‬قاال لي‪:‬‬

‫‪ -‬نحن على وعدنا؛ أبدأ أَ ْن َ‬


‫ت يا بطل؟‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ُ‬
‫بدأت باغتصابها فوجدتها بكر‪ ،‬فسألتهم‪ ،‬فقاال لي‪:‬‬ ‫وبالفعل‬

‫‪ -‬عملية ترقيع ياصديقي تقوم بها أسبوعيا ً لتزود األجر ‪..‬‬


‫تمتمت‪:‬‬

‫‪ -‬أيتها العاهرة بعد اآلن لن تجدي معك أيما عمليات!‪.‬‬

‫وبعدما انتهينا جميعاً؛ ألبسناها ثيابها‪ ،‬وكانت الساعة‬


‫تقترب من الثانية بعد منتصف الليل‪ ،‬تركناها وسط الطريق‬
‫المقفر المؤدي للحي تحت إحدى أعمدة اإلنارة فاقدة الوعي‬
‫مضرجة بدمائها‪.‬‬

‫َع َد ْل ُ‬
‫ت عن فكرة زيارة األهل بعد أن قشطنا أموال العاهرة‪،‬‬
‫وأجلتها واختفينا جميعا ً حتى تهدأ األمور‪ ،‬وبعد مرور عدة‬
‫شهور‪ ،‬وبعدما ضاقت بي الحال ثانية؛ قصدت الحي‪ ،‬وصلت‬
‫بيتنا‪ ،‬طرقت الباب‪ ،‬فتحت لي عجوز جعدة؛ كانت أمي‪،‬‬
‫ُ‬
‫دخلت وسط ذهولها وصمتها‪ ،‬وجلست على الكنبة بالصالة‪،‬‬
‫ُ‬
‫أشعلت سيجارة دونما انفراج لشفتاي عن كلمة‪ ،‬قالت أمي‪:‬‬

‫‪ -‬أأَ ْن َ‬
‫ت ابني؟‪..‬‬

‫‪31‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ص َر َخ ْت على أبي‪ِ ،‬ا ْق َت َر َب ْت مني‪َ ،‬ن َزلَ ْت على‬ ‫ُ‬


‫ضحكت‪َ ،‬‬
‫ركبتيها‪ ،‬وبدأت تتحسسني وتبكي‪ ،‬وخرج أبي من غرفته‪،‬‬
‫قالت‪:‬‬

‫‪ -‬ابنك عاد!‪..‬‬

‫انتفخت أوداج أبي‪ ،‬وصرخ‪:‬‬

‫‪ -‬ليس لي أبناء شياطين‪ ،‬ابني مات منذ عشرين سنة !‪.‬‬

‫ُ‬
‫قصدت الباب‪ ،‬أعطيتهم ظهري‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وهممت بالخروج‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وقفت‬
‫ُ‬
‫سمعت أمي تقول بصوت متهدج‪:‬‬

‫‪ -‬إنه أخاك يا حبيبتي؛ متغيب منذ عشرين عام ‪ -‬ثم وجهت‬


‫كالمها لي ‪ -‬سلم على أختك التي ولدت بعد رحيلك يا بني‬
‫وبعدها غادر؟‪..‬‬

‫ُ‬
‫واستدرت ياشيخ ألنظر ألختي‪ ،‬فإذا بها تلك الفتاة التي‬
‫ُ‬
‫شعرت بأن روحي‬ ‫اغتصبتها أنا والمشوهان! ُذ ِه ْل ُ‬
‫ت؛‬
‫انفصلت عن جسدي‪ ،‬ثم عادت لجسدي ُمبتلة بمياه شديدة‬
‫ُ‬
‫فشعرت بصدمتها‪،‬‬ ‫البرودة وملبدة بالشوك‪ ،‬أما أختي‬
‫ص َر َخ ْت بأعلى صوتها ُمرددة‪:‬‬
‫وبخيبتها‪ ،‬وبألمها وقهرها‪ ،‬و َ‬

‫‪32‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬إنه الذئب الذي اغتصبني! ليس أخي‪ ...‬ليس أخي! اقتله‬


‫يا أبي؟ اقتل هذا النجس‪ ...‬اقتله؟‪.‬‬

‫عندها ياشيخ شهقت أمي شهقة وكانت األخيرة؛ ماتت من‬


‫لحظتها‪ ،‬وهرع أبي تجاهي وجذبني من تالبيبي وبدأ‬
‫بضربي قائالً‪:‬‬

‫‪ -‬أَ ْن َ‬
‫ت شيطان البد أن تموت! الحياة حرام فيك!‪.‬‬

‫ُ‬
‫فأخرجت مطواة وطعنته عدة طعنات حتى‬ ‫وبدأ بخنقي‪،‬‬
‫ُ‬
‫تمتمت‪:‬‬ ‫مات‪،‬‬

‫‪ -‬ال يموت اإلنسان مرتين‪ ،‬أما قلت أني ميت آنفاً؟!‪.‬‬

‫ُ‬
‫عجزت‬ ‫ُ‬
‫اقتربت منها؛‬ ‫سقطت أختي ترتجف وتهذي‪،‬‬
‫ُ‬
‫تساءلت‪،‬‬ ‫للحظات؛ توقف عقلي؛ ماذا ينبغي أن أفعل؟‬
‫وفكرت في أن أُريحها وأُريح نفسي من العذاب والعار‪،‬‬
‫لحظات وعادت لي قواي وإرادتي؛ ذبحتها‪ ،‬ثم ودعت جثثهم‬
‫ُ‬
‫هربت‬ ‫بنظرة خاوية من أي إحساس‪ ،‬نظرة بليدة‪ ،‬ثم‬
‫ثانية ‪..‬‬

‫***‬

‫‪37‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫وقف الشيخ مفزوعا ً يتأمله بتقزز‪ ،‬أشعل المجرم سيجارة‬


‫ثالثة‪ ،‬قال‪:‬‬

‫‪ -‬أما القضية التي ُحكم بإعدامي فيها؛ فهي ذبح األعور وذو‬
‫الكف المبتورة وسط الشارع وأمام الناس بعد أن عثرت‬
‫عليهما بصعوبة جزاء مكيدتهم‪.‬‬

‫قال الشيخ حانقاً‪:‬‬

‫‪ -‬أَ ْن َ‬
‫ت شيطان بالفعل؛ صدق أباك!‪..‬‬

‫عبس وجه المجرم‪ ،‬وقال بصوت متهدج‪:‬‬

‫‪ -‬أليست هناك ثمة توبة‪ ...‬لي ياشيخ؟‪.‬‬

‫ه َّم الشيخ بمغادرته صوب الباب‪ ،‬قائالً‪:‬‬

‫‪ -‬هيهات يا عبد الشيطان‪.‬‬

‫وما إن استدار الشيخ وأعطاه ظهره؛ حتى ِا ْن َق ِّ‬


‫ض عليه‬
‫المجرم ومسك برأسه بين راحتيه وأداره يمنة وأعاده يسرة‬
‫في حركة خاطفة صدرت عنها فرقعة‪ ،‬فسقط الشيخ لتوه‬
‫جثة هامدة‪ ،‬وانتصب المجرم مقطباً‪ ،‬وبعينين حادتين تشعان‬
‫غضب؛ ينظر إلى المجندان اللذان يقتربان منه مشهران‬

‫‪20‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫سالحهما صوبه‪ ،‬ثم ينظر إلى جثة الشيخ المسجاة أرضاً‪،‬‬


‫متمتماً‪:‬‬

‫‪ -‬أستغفر هللا العظيم!‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫الغراب المسحور‬

‫‪22‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫لم أكن أصدق في السحر والشعوذة يوما ً ما‪ ،‬لكن بعد ما‬
‫تساءلت كثيراً‪ ،‬هل هذه المرأة ساحرة بالفعل؟‬
‫ُ‬ ‫حدث معي‪،‬‬
‫أم أن هناك لغز ُمطلسم البد من حله؟ البد أن هناك لغز؛ هذا‬
‫شيء غير طبيعي بالمرة؛ ال يوجد تفسير علمي لمثل هذه‬
‫الحادثة أبداً!‪..‬‬

‫***‬

‫بدأت الحادثة حينما كنت أسكن في غرفة فوق سطح أحدى‬


‫العمارات بأطراف القاهرة‪ ،‬ول َّما تغ َّيرت مواعيد عملي‬
‫أصبحت أستيق ُظ في‬
‫ُ‬ ‫بمصنع المالبس الذي كنت أعمل به؛‬
‫الساعة السادسة صباحاً‪ ،‬بعدما كنت أستيقظ في السابعة؛‬
‫وأصنع لنفسي كوبا ً من الشاي‪ ،‬وأُسخِن رغيفين من الخبز‪،‬‬
‫ج‬ ‫وأُخر ُ‬
‫ج من الثالجة الصغيرة‪ ،‬قطعة جبن على طبق‪ ،‬وأخر ُ‬
‫آلكل ال ُجبن‪ ،‬وأحتسي الشاي‪ ،‬خارج الغرفة فوق السطح‪..‬‬

‫أول صباح يحدث فيه ماحدث‪ ،‬كان صباحا ً هاديء‪،‬‬


‫والشمس على وشك أن ُتشرق من خلف األبراج الخرسانية‬
‫ُ‬
‫جلست على الكرسي البالستيكي‪ ،‬أمام‬ ‫العالية البعيدة؛‬
‫ُ‬
‫وضعت طعامي ‪ -‬أتمطق الجبن‬ ‫المنضدة الخشبية ‪ -‬حيث‬

‫‪23‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫وأُبلِّع بالشاي‪ ،‬وفي وجهتي عمارة ترتفع عن السطح ‪-‬‬


‫حيث أجلس ‪ -‬بثالثة طوابق‪ ،‬كانت بيضاء اللون‪،‬‬
‫وبواجهتها شرفات واسعة بدرابزونات حديدية‪ ،‬وكانت قِبلة‬
‫واجهتها عن يميني مثل واجهة العمارة حيث أسكن‪..‬‬

‫كنت ُمنهمكا ً في إفطاري‪ ،‬وفجأة دوى صوت ارتطام شيء‬


‫ُ‬
‫ُ‬
‫رفعت بصري‬ ‫ربما كان حجراً بنافذة أو باب باألعلى؛‬
‫ُ‬
‫تساءلت‬ ‫بعيني باحثا ً عن مصدر الصوت‪ ،‬و‬
‫ّ‬ ‫مفزوعاً‪ُ ،‬جلت‬
‫في نفسي‪ :‬كيف ألي شخص أن يقذف حجراً ويصل إلى‬
‫مسافة مابعد الطابق السابع؟!‪.‬‬

‫ح َّط ْت نظراتي فوق غراب‪ ،‬كان واقفا ً ينعق فوق درابزين‬


‫شرفة إحدى شقق الطابق الثامن بالعمارة أمامي‪ ،‬وفجأة؛‬
‫حلَّق بعيداً‪ ،‬ثم عاد ثانية شاقا ً الريح بسرعة شديدة‪ ،‬وارتطم‬
‫ُ‬
‫وقفت أشاهده‬ ‫بمنقاره وبجسمه ومخالبه بباب الشرفة!‬
‫ُ‬
‫وتمتمت‪:‬‬ ‫مشدوهاً‪،‬‬

‫‪ -‬ماذا يفعل هذا المجنون؟!‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫وظل يكرر فعلته حتى فُتح الباب‪ ،‬وخرجت امرأة بدا أنها في‬
‫األربعين من ُعمرها‪ ،‬ترتدي مالبس نومها القصيرة‪،‬‬
‫وشعرها منكوش‪ ،‬أشاحت له بيدها‪ ،‬وصاحت‪:‬‬

‫‪ -‬اذهب؛ لقد ايقظتني؟!‪.‬‬

‫دلفت المرأة إلى الداخل‪ .‬وقف الغراب صامتا ً فوق‬


‫ْ‬ ‫ثم‬
‫الدرابزين‪ ،‬وراح يتلفت حوله كالمجنون‪ ،‬وبعد لحظات حلق‬
‫بعيداً واختفى خلف البنايات العالية‪ ،‬وقد أشرقت الشمس‪..‬‬

‫جلست حائراً‪ ،‬تدور برأسي شتى التأويالت لِما حدث أمام‬


‫ُ‬
‫ُ‬
‫وتساءلت‪ :‬هل كان يوقظها؟ ولكن كيف؟ ربما كان‬ ‫عيني‪،‬‬
‫ّ‬
‫غرابا ً مدرب‪ ،‬ولكن هذا غير صحيح؛ ال توجد أغربة ُمدربة‪،‬‬
‫ربما ُمصادفة ال أكثر!‪..‬‬

‫وأقسم لو أن أحداً ما ‪ -‬وقتذاك ‪ -‬كان قد حكاه لي وأغلظ‬


‫األيمان ما صدقته‪ ،‬ولكنه لألسف حدث أمامي‪ ،‬وليس مرة‬
‫فحسب‪ ،‬ولكنه كان يحدث كل صباح‪ ،‬وفي نفس التوقيت‪،‬‬
‫وبات جليا ً أن األمر ليس ُمصادفة‪ ،‬حتى بات شغلي الشاغل‪،‬‬
‫فك طالسم هذا الحدث الغريب‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫فكرت في زميل يعمل معي بالمصنع‪ ،‬كان يدَّعي أنه يمتلك‬


‫المقدرة على فك طالسم أي حوادث غريبة‪ ،‬أو خاصة بالعالم‬
‫اآلخر‪ ،‬وكنت دائما ً أُك ِّذبه وأتحداه‪ ،‬ولكن ال مفر من‬
‫استشارته‪ .‬ربما يستطيع حل اللغز!؛ هكذا فكرت وقتها‪..‬‬

‫***‬

‫وذات يوم؛ في استراحة الغداء‪ ،‬جلست معه؛ كان شابا ً نحيل‬


‫الجسم‪ ،‬غليظ الرأس‪ ،‬ذو عينين واسعتين مخيفتين بعض‬
‫ُ‬
‫فوجدت عينيه‬ ‫ُ‬
‫حكيت له ماحدث‪،‬‬ ‫الشيء‪ .‬وبعد أن أكلنا‪،‬‬
‫جحظتا واتسعتا بطريقة ُمريبة ُمقلقة‪ ،‬رغم اتساعهما‬
‫الطبيعي ال ُمخيف‪ ،‬وصمت قليالً‪ ،‬ثم غمغم مع نفسه بعض‬
‫الوقت‪ ،‬وبعد دقيقة؛ انبسطت أساريره‪ ،‬قال لي بلهجة‬
‫ُملتحفة بثقة وخبرة وتمرس‪:‬‬

‫‪ -‬الملعونة‪ ...‬ثم صمت هازاً رأسه يمنة ويسرة‪ ،‬ناظراً في‬


‫اتجاه آخر‪ ،‬وكأنه كان يخاطب شخصا ً آخر يجلس معنا‪ ،‬وال‬
‫يظهر!‪.‬‬

‫‪ -‬من تقصد؟‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫إلي‪ ،‬قال بلهجة تشي‬


‫سألته‪ ،‬توقف عن هز رأسه‪ ،‬نظر ّ‬
‫بالعطف‪:‬‬

‫‪ -‬خائف عليك يازميل من تلك المرأة‪ ،‬لربما ُتسحِرك مثلما‬


‫سحرت الغراب‪ ،‬لتذهب كل صباح وتضغط الجرس لتوقظها‪،‬‬
‫أو تجعلك ُتحضر لها ال ُخضر والفاكهة من السوق!‪.‬‬

‫‪ -‬هل لك أن توضح أكثر؟!‪.‬‬

‫‪ -‬تلك المرأة ساحرة يا زميل‪ ،‬والغراب مسحور بتعويذة‬


‫طاعة ألقتها عليه‪ ،‬ليوقظها كل صباح!‪.‬‬

‫ضحك ُ‬
‫ت وقلت له‪:‬‬

‫ْ‬
‫وألقت تعويذاتها على غراب مسكين‪،‬‬ ‫‪ -‬ولم أرهقت نفسها‪،‬‬
‫وهي باستطاعتها أن تضبط منبه الهاتف‪ ،‬أو تشتري‬
‫ُمنبه؟!‪.‬‬

‫‪ -‬عزيزي؛ هذه األمور ال ينبغي أن ُتعمل عقلك فيها‪ ،‬وإن‬


‫كنت تحسب نفسك عاقالً فلم أتيت طالبا ً مساعدتي؟ لماذا لم‬
‫ُترغم عقلك على إيجاد تفسير يا ذكي؟!‪.‬‬

‫طأطأت رأسي خجالً‪ ،‬ثم قلت مستسلماً‪:‬‬


‫ُ‬

‫‪21‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬أعرف أن هُناك أمور عص َّية عن العقل و ُمستعص َّية عن‬


‫الفهم‪ ،‬مثل ذلك الحدث الغريب‪ ،‬لذا جئتك لعلي أجد‬
‫ُ‬
‫أصدق ماتقوله!‪.‬‬ ‫ُ‬
‫بدأت‬ ‫ضالتي‪ ...‬والحقيقة فقد‬

‫ابتسم بانتصار؛ نظر حوله وكأنه يخشى أن يسمعه أحد من‬


‫الزمالء ال ُمنتشرين من حولنا يتناولون طعامهم فوق‬
‫قرب رأسه مني قائالً‪:‬‬
‫الموائد‪ ،‬ثم َّ‬

‫‪ -‬أتعرف؛ ربما كان هذا الغراب جني ُمتجسد في هيئة‬


‫غراب‪ ،‬وهو عاشق وله لها‪ ،‬ولكنها ُتعذبه‪ ،‬أو تختبره‪،‬‬
‫لست متأكداً من هذه النقطة‬
‫ُ‬ ‫وقريبا ً سترضى عنه‪ ،‬ولكني‬
‫بعد؛ إذ البد لي أن أعاين مسرح األحداث بنفسي‪ ،‬وأشاهد‬
‫الغراب بأم عيني‪.‬‬

‫‪ -‬ماذا تقصد؟‪.‬‬

‫‪ -‬أبات عندك الليلة؟‪.‬‬

‫***‬

‫ُ‬
‫ماطلبت مساعدته؛ لم أنم طوال الليل‬ ‫ليتني لم أُخبره‪ ،‬ليتني‬
‫من الرعب والقلق؛ إذ كان دائم الغمغمة مع نفسه‪ ،‬وفي‬
‫وهيد الليل أجده ُيخاطب كائنات ال تظهر‪ ،‬ويضحكونه تارة‪،‬‬

‫‪22‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ويتشاجرون معه تارة‪ ،‬ويصمت تارة‪ ،‬ويصرخ تارة‪ ،‬حتى‬


‫كدت أن أُجن‪..‬‬
‫ُ‬

‫سكنت بأشخاص من العالم اآلخر‪ .‬ليلتئذ؛‬ ‫ُ‬


‫شعرت بأن الغرفة ُ‬
‫تركته ينم على السرير‪ ،‬واستلقيت على السجادة أرضاً‪،‬‬
‫حتى كلَّت مني الضلوع‪ ،‬وتشبعت مفاصلي من ثالجة البالط‪،‬‬
‫ُ‬
‫شعرت بأقدام كأقدام القطط تطأني‬ ‫وكلما أُغمضت عيناي‬
‫فكنت أستيق ُظ مفزوعاً‪ ،‬وال أجد شيئاً! وكل‬
‫ُ‬ ‫بسرعة غريبة‪،‬‬
‫ذلك من أجل فك الطلسم‪ ،‬وحل اللغز‪..‬‬

‫منذ الساعة الخامسة صباحاً؛ جلسنا فوق الكنبة بجوار‬


‫بعضنا البعض‪ ،‬خارج الغرفة‪ ،‬وفي وجهتنا الشقة إياها؛‬
‫صامتين‪ ،‬مشدوهين‪ ،‬منتظرين قدوم الغراب المسحور‪ ،‬أو‬
‫ربما الجني العاشق المتجسد‪..‬‬

‫وفجأة؛ وصل الغراب‪ ،‬وحط فوق الدرابزين‪ ،‬ولم يهجم على‬


‫الباب كالعادة‪ ،‬إنما ظل يحدج الباب في صمت‪ ،‬ثم ينظر إلينا‬
‫في صمت أيضا ً وكأنه تفاجأ بنا‪..‬‬

‫‪27‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫وقف صديقي واقترب من سور السطح ليتأمل المشهد عن‬


‫قرب‪ ،‬وكان تارة يزر عينيه‪ ،‬وتارة يوسعهما‪ ،‬وتارة ُيغمغم‬
‫مع نفسه‪ .‬نعق الغراب عدة نعقات ثم حلَّق بعيداً‪..‬‬

‫‪ -‬لقد خاف مني ذلك الجني العاشق ال ُمتجسد في هيئة‬


‫غراب!‪.‬‬

‫أخيراً؛ نطق بها زميلي بعد طول تأمل وانتظار‪ُ ،‬مقرراً كنه‬
‫ُ‬
‫دلفت صوبه‪ ،‬وقفنا بجوار بعضنا البعض‪،‬‬ ‫ذلك الغراب‪.‬‬
‫وكنت أرتجف مما حدث‪.‬‬

‫رأيت جن َّيا ً ُمتجسداً‪ ،‬كنت‬


‫ُ‬ ‫لقد خاف منه الجني! ال أُصدق أني‬
‫ُ‬
‫تماسكت‬ ‫أشعر وقتذاك بأني سأتبول على ثيابي ُرعباً‪ ،‬ولكني‬
‫أمام زميلي حتى ال يفضحني بين زمالئي بالعمل‪..‬‬

‫سمعنا صرير باب الشرفة‪ ،‬نظرنا سوياً‪ ،‬خرج زوج المرأة‬


‫بمنامته البيضاء يتمطى‪ ،‬بدا رجالً في العقد الرابع من‬
‫عمره‪ ،‬ممتليء الجسم‪ ،‬قصير القامة؛ نظر في كل‬
‫االتجاهات ثم ضحك‪ ،‬وه ّم أن يدخل لوال أن رآنا واقفين‬
‫نراقبه‪ .‬تلك هي اللحظة الحاسمة للتبول على الثياب من‬

‫‪50‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫شدة اإلحراج‪ُ .‬‬


‫قلت في نفسي‪ ،‬ولكنه ضحك في وجهينا‪ ،‬ثم‬
‫صاح‪:‬‬

‫‪ -‬هل رأيتم ذلك الغراب ال ُمتخلف؟ مؤكد هو الذي أيقظكم‬


‫مبكراً‪ُ ،‬مزعج أنا أعرف‪ ،‬كذلك هو لنا‪ ،‬غراب غبي؛ بل‬
‫أغبى غراب رأيته في حياتي؛ بيد أنني لم أقابل أغربة كثيرة‬
‫في حياتي ‪ -‬كانت يديه تتنافس مع لسانه للتوضيح‬
‫والوصف ‪ -‬كل يوم يا شباب يأتي في نفس التوقيت صباحا ً‬
‫ل ُيهاجم انعكاس صورته على زجاج باب الشرفة العاكس‬
‫كالمرآة‪ ،‬حتى نستيقظ على ضجته‪ ،‬فنفتح الباب فيرحل ‪ -‬ثم‬
‫ضحك لمدة دقيقة ‪ -‬أما اليوم فقد بدلنا األمس بالزجاج بابا ً‬
‫خشبياً‪ ،‬لذلك ال أظن أنه سيزعجكم أو ُيزعجنا مرة ثانية‬
‫ألنه س ُيحرم من رؤية إنعكاس صورته لألبد‪ ...‬صباحكم‬
‫سعيد‪..‬‬

‫ثم عاد لضحكه‪ ،‬ودخل الشقة!‪.‬‬

‫الحقيقة لم أتمالك نفسي وقتذاك‪ ،‬ونتيجة لحنقي‪ ،‬وغيظي‪،‬‬


‫ُ‬
‫تهورت على الزميل ال ُمشعوذ‪ ،‬وكانت النتيجة أنه‬ ‫وانفعالي‪،‬‬

‫‪51‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫حصل على أجازة مرضية لمدة شهر‪ ،‬ليحاول ُمعالجة بعض‬


‫ما أُصيب به من كسور وجروح ورضوض وكدمات!‪..‬‬

‫***‬

‫كل هذا ليس غريباً‪ ،‬إنما الغريب ما بات يحدث معي منذ‬
‫ثالثة أيام فقط؛ كل يوم الساعة السابعة مسا ًء‪ ،‬أجدني ذاهب‬
‫إلى سوق الخضروات والفاكهة‪ ،‬وأشترى أوزانا ً ُمع َّينة‪،‬‬
‫وأعرج على البقال‪ ،‬وأشتري كميات ُمع ّينة من المواد‬
‫كالمنوم إلى العمارة إياها‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الغذائية أيضاً‪ ،‬ثم أجدني متوجه‬
‫وأستقل المصعد الكهربائي إلى الشقة إياها بالطابق الثامن‪،‬‬
‫وأضغط الجرس‪ ،‬فتخرج لي المرأة إياها‪ ،‬وتأخذ مني‬
‫األشياء‪ ،‬وتبتسم في وجهي‪ ،‬وتعطيني ثمنها‪ ،‬ثم أجد نفسي‬
‫ُمستديراً قاصداً غرفتي إياها في صمت وبله غريبين!‬
‫وأسمعها تتمتم من خلفي ضاحكة‪:‬‬

‫‪ -‬أتعبتك معي؟!‪.‬‬

‫وأراني أستدير وأغمز لها بعيني‪ ،‬ويكأننا أصدقاء قدامى‪،‬‬


‫وأشعر بوجهي ُملتهباً‪ ،‬ومتصلبا ً على ابتسامة واسعة‪،‬‬
‫وأتمتم ُمغادراً‪:‬‬

‫‪52‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬تعبكِ راحة يا ست الكل!‬

‫‪53‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫المسخوطة‬

‫‪52‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫يتراقص نور ُذبالة القنديل الواهن بالمشكاة‪ ،‬فتنتشر بالغرفة‬


‫هالة نور أصفر‪ ،‬ذات مدى قصير‪ ،‬سرعان ماتختلط‬
‫بأطرافها العتمة‪ ،‬لتنتهي بظالم حالك ُملتصق بالجدران‬
‫وأركانها‪..‬‬

‫كذلك كانت تتراقص ضربات قلبي‪ ،‬وتتماوج بالغرفة ذات‬


‫الجدران الطينية ال ُمملّطة بال َّط ْفل األصفر‪ ،‬وسقفها الواطيء‪،‬‬
‫َّت من قِ َدمِها‪ ،‬و َتدلَّ ْت بعض عيدانها‬
‫وح َِزم بوصه التي اِسود ْ‬
‫التي دثرتها خيوط العنكبوت‪ ،‬وأنا واقفا ً بانتظارها‪ ،‬أن‬
‫تخرج من دهاليز دارها العتيق‪..‬‬

‫ُ‬
‫طرقت الباب الخشبي القصير‪ ،‬ال ُمتباعدة ألواحه‬ ‫ُ‬
‫كنت قد‬
‫ُ‬
‫وشعرت لوهلة‬ ‫التي نخرها السوس‪ ،‬عن بعضها البعض‪،‬‬
‫أنه سيخر أمامي كومة من الخشب‪ ،‬رغم أني كنت طفالً‬
‫بالسابعة من عمري آنذاك‪ ،‬وليست بكفي عافية إلردائه‬
‫أرضاً‪ ،‬ولكنه كان يهتز جراء طرقاتي‪ ،‬ويتخلخل‪..‬‬

‫سمعت صوتها آت من الداخل مكتوماً‪ ،‬وكأنه ُمنبعثا ً‬


‫ُ‬ ‫وقتئذ؛‬
‫من ُجحر ُمتغلغل في أعماق األرض‪ ،‬مثل جحور األرانب‪:‬‬
‫واقشعر جلدي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫«تعال؟» ال ادري لماذا انقبض قلبي‪،‬‬

‫‪55‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫وتساءلت « ُترى هل‬


‫ُ‬ ‫ْ‬
‫وتناوبت على ُمخيلتي صورة ”اللبؤة“‬
‫تنقلب العجوز الدميمة إلى ”اللبؤة“ التي تتجول بحقول‬
‫األذرة الطويلة ليالً‪ ،‬وتطلب ِم َّمن تجده يسقي زرعه‪ ،‬أن‬
‫ترضعه بثدييها الذين يكادا يالمسان األرض‪ ،‬كما ُيقال‪،‬‬
‫ولكن الناس تخاف من خلقتها السوداء‪ ،‬وعيناها‬
‫الواسعتين‪ ،‬والشعر الكثيف على جسمها‪ ،‬ويحاولون الهرب‬
‫منها‪ ،‬حينئذ؛ تصرخ صرخة مد ِّوية ُمرعبة‪ ،‬تفج صمت‬
‫الليل‪ ،‬ويسمعها النائمون على فرشاتهم‪ ،‬تجعل من يحاول‬
‫الهرب منها‪ ،‬يتيبس رعباً‪ ،‬وال يتحرك من مكانه قيد أنملة‪،‬‬
‫حتى تصله‪ ،‬وتبدأ في اِلتهامه حتى الموت‪ ،‬ثم تق ِّطعه‬
‫بالساطور‪ ،‬وتضعه بجوال‪ ،‬وتحمله على كتفها وتنصرف‬
‫إلى دارها الذي ال يعرف مكانه أحد‪ ،‬ثم تطبخه هناك على‬
‫َم َهل‪ ،‬وإن كان طفالً ُتخرج ُمخه وتجففه ثم تسحقه كالدقيق‬
‫وتصنع منه ُخبزاً لها‪ ،‬وتلقي بقية الجسد بالماء الساخن في‬
‫القِدر الضخم فوق الكانون لينضج وتأكله!‪.».‬‬

‫ُ‬
‫ووجدت على‬ ‫ُ‬
‫ودخلت فلم أجدها‪،‬‬ ‫بخطى وجلة‪ ،‬دفعت الباب‬
‫يميني مشكاة بها قنديل‪ ،‬وأمامي فتحتين ال يتعديان في‬
‫ارتفاعهما المتر ونصف‪ ،‬وال ي ُطل منهما سوى ألسنة‬

‫‪54‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫الظالم‪ ،‬فالعجوز ال تحتاج أطول من ذلك‪ ،‬فقامتها لم تكن‬


‫قصيرة فحسب‪ ،‬بل كانت ُمقوسة الظهر‪ ،‬حيث يبد في أحيان‬
‫إلي‬
‫كثيرة كحدبة ناتئة عن جسمها‪ ،‬حتى أنه كان ُيخيل ّ‬
‫آنذاك أني أبدو أطول منها إذا ما اقتربت مني!‪.‬‬

‫كنت واقفا ً أتأمل القنديل تارة‪ ،‬وأنقل ُ عيناي من فتحة إلى‬


‫ُ‬
‫أُخرى تارة‪ ،‬ومزدرداً ريقي تارة أخرى جراء جموح خيالي‬
‫ص ْح َفة‬
‫وشروده‪ُ ،‬منتظراً خروجها من أحداهما‪ ،‬وبيدي َّ‬
‫صغيرة‪ ،‬ملفوفة بخرقة قماش‪ ،‬كانت أمي قد وضعت بها‬
‫مغرفتي تقلية‪ ،‬وقطعة لحم‪ ،‬وفطيرة بيضاء‪ ،‬وامرتني أن‬
‫أذهب بها إلى العجوز‪ ،‬التي تسكن في آخر دار بنهاية‬
‫الطريق ال ُمعتم‪ ،‬ومن خلفه الحقول الواسعة الموحشة ليالً‪..‬‬

‫كانت دارها كبيرة؛ ال تبين لها نهاية في الظالم‪ ،‬وكانت‬


‫جدرانها قصيرة‪ ،‬من الطوب النيء‪ ،‬وكانت تعيش به‬
‫وحدها‪ .‬يقولون بالقرية أنها مسكينة‪ ،‬كانت ُمتزوجة قديماً‪،‬‬
‫من رجل مسكين‪ ،‬ال يملك سوى هذا البيت‪ ،‬وكان عقيما ً‪،‬‬
‫ورضيا بنصيبهما‪ .‬وحدث أنه استيقظ الناس ذات صباح‬
‫على صراخها ال ُمرعب‪ ،‬ول َّما دخلوا الدار عنوة‪ُ « ...‬ترى هل‬
‫كان ذلك الدخول سبب خلخلة بابها‪ ،‬وتنافر ألواحه؟!»‪...‬‬

‫‪51‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫وجدوا زوجها ميتا ً ميتة غريبة؛ ول ّما سألوها قالت‪« :‬لقد‬


‫افترسته ”اللبؤة“ حينما كان عائداً من العمل بين الحقول‬
‫ليالً؛ سلخت جلده‪ ،‬ونزعت لحمه‪ ،‬وتركته عظاما ً تكسوها‬
‫طبقة رقيقة حمراء من اللحم كما ترون‪ ،‬وأنا أحضرته إلى‬
‫البيت ليالً!» كان في شرخ الشباب‪ ،‬وهي أيضا ً كانت في‬
‫ريعان جمالها‪ ،‬و ُطغيان أنوثتها‪ ،‬ومن بعده‪ ،‬لم تتزوج أبداً‪،‬‬
‫وال أدري أكان وفا ًء ذلك؟ أم تطيراً للرجال منها!‪.‬‬

‫ما كان يستغرب له أهل القرية‪ ،‬هو كيفية مواصلة هذه‬


‫المرأة الحياة‪ ،‬بال عائل‪ ،‬وبال ُمنفق؟ يحدث أحيانا ً أن يعطف‬
‫عليها أهل اإلحسان‪ ،‬ولكنها حاالت نادرة‪ ،‬فقريتنا ال يوجد‬
‫بها غير المساكين الكادحين‪ ،‬الذين ُيشبهون بعضهم بعضا ً!‪.‬‬

‫‪ -‬جدتي ؟‪.‬‬

‫ُ‬
‫فسمعت صوتها يخرج من ذات العمق‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ناديت كي أتعجلها‪،‬‬
‫ويأتني من الفتحتين معاً‪ ،‬تقول لي‪:‬‬

‫‪ -‬اصبر ياولد‪ ،‬أنا قادمة؟!‬

‫ص ْح َفة على األرض‪ ،‬بجوار جرار المياه‪ ،‬واألجولة‬ ‫ُ‬


‫وضعت ال َّ‬
‫الكثيرة ال ُمتناثرة‪ ،‬والتي بدأ أنها ممتلئة بالخبز اليابس‪ ،‬ثم‬

‫‪52‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫وقفت أتأمل الظالم داخل الفتحتين‪ ،‬وعندما رك ُ‬


‫زت بصري‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أبصرت عينان ُمضيئتان بكل فتحة منهما عين كبيرة‪ ،‬فُتحتا‬
‫ُ‬
‫لوهلة في ذات الوقت‪ ،‬وصوبتا نحوي بغضب‪ ،‬ثم أُغلقتا‬
‫سريعا ً!‪.‬‬

‫ُ‬
‫فتعثرت‬ ‫جفلت إلى الخلف مرتجفاً‪ُ ،‬مطلقا ً صرخة مكتومة‪،‬‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫فسقطت‬ ‫ْ‬
‫صدرت عنه قضقضة عظام يتكسر‪،‬‬ ‫بجوال ثقيل‪،‬‬
‫ُ‬
‫وماعدت أبصر‬ ‫أرضاً‪ ،‬وتوقف نبض قلبي‪ ،‬وغامت عيناي‪،‬‬
‫ُ‬
‫وسمعت‬ ‫سوى خطوط متداخلة من النور والظالم‪ ،‬لحظات‬
‫بصعوبة‪ ،‬صرير الباب ُيفتح‪ ،‬ثم محادثة بين أشخاص تشبه‬
‫الوشوشة‪ ،‬وتخللها صوت كفحيح األفاعي‪ ،‬وتحركت خياالت‬
‫وأطياف من النور والظالم بعيناي‪.‬‬

‫ُ‬
‫كنت كجثة هامدة‪ ،‬ال أسمع وال أرى سوى بصيص من‬
‫ُ‬
‫وقفت‬ ‫عدت إلى الحياة شاهقاً‪ ،‬وسرعان ما‬
‫ُ‬ ‫الخياالت‪ ،‬وفجأة‬
‫أتلفت حولي مذعوراً‪...‬‬
‫ُ‬

‫‪ -‬ما بك يا ولدي؟!‪.‬‬

‫قاطعتني العجوز‪ُ ،‬معلنة عن وجودها؛ كانت نحيلة الجسم‪،‬‬


‫موشحة بالسواد‪ ،‬وعلى رأسها شاش أسود ُمه َّدل األطراف‬

‫‪57‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫من حولها‪ ،‬وشعرها األبيض يلمع أسفله من ضوء القنديل‬


‫ال ُمنكسر عليه‪ ،‬وبوجهها خطوط وتجاعيد بعدد سنوات‬
‫عمرها‪ ،‬التي ال يعلمها أحداً بالقرية أبداً‪ ،‬وتلوح ابتسامة‬
‫خبيثة على تقاسيمها الخابية‪ ،‬وعيناها تلمعان بوميض مثير‬
‫للقشعريرة‪ ،‬وتمسك بيدها جوال ُمنتفخ‪ ،‬لم يكن موجوداً‬
‫بالغرفة من قبل‪..‬‬

‫‪ -‬ماذا حدث لي؟‪.‬‬

‫ْ‬
‫ضحكت ل َّما سألتها‪ ،‬فخرجت ضحكتها خشنة كضحكة‬
‫الرجال‪ ،‬الزمتها رائحة فمها النتنة‪ ،‬ثم قالت‪:‬‬

‫ُ‬
‫تأخرت عليك بالداخل!‪.‬‬ ‫‪ -‬لقد نمت ياولدي‪ ،‬عندما‬

‫ص ْح َفة‪ ،‬قائلة‪:‬‬
‫ثم اقتربت من ال َّ‬

‫‪ -‬بلغ سالماتي ألمك‪ ،‬واشكرها على التقلية واللحم‬


‫ياحبيبي؟!‬

‫ُ‬
‫تساءلت بها في‬ ‫ْ‬
‫عرفت ما بداخله؟‬ ‫ثم تناولتها‪ ...‬ولكن كيف‬
‫نفسي حائراً‪ ،‬ثم وجدتها تدلف صوب إحدى الفتحتين‪،‬‬
‫فصِ ُ‬
‫حت فيها ببالهة طفل أخرق‪:‬‬

‫‪40‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ت بالخارج وليس بالداخل‪ ...‬من ِعندك‬


‫‪ -‬أنا لم أنم‪ ...‬أنت كن ِ‬
‫بالداخل‪ ،‬وكيف عرف ِ‬
‫ت ما باإلناء؟!‬

‫عندئذ‪ ،‬وجدتها تستقيم ببطء‪ ،‬وفرقعة عظام ظهرها تعلوا‪،‬‬


‫حتى انتصبت وكأنها ما احدودبت يوماً‪ ،‬واكتست مالمحها‬
‫جدية‪ ،‬وبدأت عيناها في الجحوظ‪ ،‬وأنياب فمها في البروز‬
‫ُ‬
‫ماكنت خارج‬ ‫منه‪ ،‬ولكني لم أنتظر لحظة أخرى‪ ،‬وسرعان‬
‫دارها‪ ،‬أركض صوب دارنا باكياً‪ُ ،‬مردداً‪« :‬العجوز هي‬
‫اللبؤة التي تأكل العيال‪..»!.‬‬

‫حكيت ألمي‪ ،‬ضحكت كثيراً‪ ،‬وقالت لي‪:‬‬


‫ُ‬ ‫ول َّما‬

‫‪ -‬خيالك خصب ياولدي‪ ،‬فعندما تكبر إن شاء هللا‪ ،‬ستصبح‬


‫مؤلف قصص شهير؛ العجوز مسكينة‪ ،‬إنما ”اللبؤة“ كانت‬
‫امرأة‪ ،‬فمات أوالدها جميعا ً فجأة‪ ،‬وكانوا سبعة ذكور‪،‬‬
‫ترض بقضاء هللا‪ ،‬وقتلت زوجها‪،‬‬
‫َ‬ ‫فغضبت ولم‬
‫خطت) ُمسِ َخ ْت لبؤة‪ ،‬تشبه القردة والبشر‪ ،‬وتريد أن‬
‫ْ‬ ‫س‬
‫لذلك( ُ‬
‫تقتل أي طفل أو رجل تراه‪ ،‬إنتقاما ً لموت أوالدها‪ ،‬إنما هذه‬
‫المرأة مسكينة‪ ،‬فقدت زوجها‪ ،‬على يد اللبؤة ذاتها‪ ،‬وهي‬

‫‪41‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫من حكت لنا عن حقيقة اللبؤة هذه‪ ،‬وكما ترى يا ولدي‪،‬‬


‫فهي تعيش حياة بؤس وحيدة‪ ...‬نم ياحبيبي نم؟!‪.‬‬

‫ُ‬
‫ونمت من الخوف‪ ،‬وبالصباح‪ ،‬كان فراشي ُمبلل بكميات بول‬
‫كثيرة‪ ،‬وال أتذكر بوضوح كمية األحالم ال ُمرعبة‪ ،‬التي‬
‫راودتني ليلتها!‪.‬‬

‫ُ‬
‫حكيت لهم ماحدث‬ ‫كنت متأكداً أن أمي لن تصدقني‪ ،‬وكل من‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫وأصبحت‬ ‫معي‪ ،‬لم يصدقوني أبداً‪ ،‬واآلن تحققت نبوءة أمي‬
‫مؤلف قصص‪ ،‬وهاأنذا أحكي لكم وأعرف أيضا ً أنكم لن‬
‫تصدقوني!‪..‬‬

‫ُ‬
‫وعرفت بالمدرسة‬ ‫ُ‬
‫وكبرت‪،‬‬ ‫ْ‬
‫ومرت األيام‪،‬‬
‫أن ”اللبؤة“ تعني ”أنثى األسد“ وال يوجد بشراً ُيمسخون‬
‫إلى مخلوقات أخرى في هذا الزمان‪..‬‬

‫وذات يوم‪ ،‬منذ عشرة أعوام؛ انسربت رائحة نتانة من دار‬


‫العجوز‪ ،‬ضايقت سائر أهل القرية‪ ،‬فدخلوا الدار عنوة‪،‬‬
‫وفوجئوا بجثة العجوز ُمتعفنة‪ ،‬وحتى ال ُيرهقوا أنفسهم‪،‬‬
‫ويحركوها من مكانها وتتفسخ‪ ،‬دفنوها محلها داخل دارها‪،‬‬
‫ولم يمس أحد من الرجال أي شيء بالدار‪ ،‬وأُغلق الدار‬

‫‪42‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ْ‬
‫وأصبحت‬ ‫على سرها‪ ،‬وانطوت سيرتها‪ ،‬مع السنين واأليام‪،‬‬
‫الدار مهجور ًة‪..‬‬

‫وال ُمثير للريبة‪ ،‬هو ماحدث منذ ذلك الحين أيضاً‪ ،‬وهو‬
‫توقف ”اللبؤة“ عن خطف األطفال‪ ،‬وقتل الرجال!‪.‬‬

‫ُ‬
‫وحمدت هللا أنها‬ ‫كنت مسافراً بعيداً عن القرية‪ ،‬وقت وفاتها‪،‬‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫كبرت‪ ،‬ولكن ال أدري‬ ‫ماتت‪ ،‬فقد ُ‬
‫كنت أخشاها‪ ،‬حتى بعدما‬
‫ما الذي َح َملني على أن أمر على دارها باألمس‪ ،‬وأتأمله‬
‫طويالً‪ ،‬وعبثا ً رحت أطرقه مرة تلو المرة‪ ،‬وفي دبر المرة‬
‫ُ‬
‫سمعت صوتها‪ ،‬الذي‬ ‫ُ‬
‫ألهث؛ لقد‬ ‫ُ‬
‫ركضت صوب دارنا‬ ‫الثالثة‪،‬‬
‫أتاني من قبل مكتوماً‪ ،‬كأنه ُمنبعثا ً من ُجحر ُمتغلغل في‬
‫ً‬
‫قائلة‪:‬‬ ‫أعماق األرض‪ ،‬كجحور األرانب‪،‬‬

‫‪ -‬تعال؟‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ورود الجنة ال تذبل‬

‫‪42‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫أذني ذاك الحوار الدافيء الذي دار بيننا‬


‫ّ‬ ‫ما يزل يصد ُ‬
‫ح في‬
‫في ليلة زواجنا األولى منذ عمر فات‪ ،‬وكان من أجمل‬
‫ذكرياتنا معاً‪ ،‬والذي طالما تذكرته حتى أقاوم الوحدة وأحيا‬
‫في غيابكِ يا حبيبتي!‪.‬‬

‫كانت ليلة شتاء باردة؛ وكنا ملتحمين تحت الفراش؛ في‬


‫أحضان بعضنا البعض‪ ،‬كنا جسد واحد‪ ،‬روح واحدة‪..‬‬

‫‪ -‬هل ورود الجنة تذبل ؟‪.‬‬

‫ليلتها سألتني ذلك السؤال‪ ،‬وما كان مني إال أن أجيبكِ على‬
‫مضض‪ ،‬قلت‪:‬‬

‫‪ -‬ال أعرف !‪.‬‬

‫ليلتذاك كنت أريد االنتشاء من دفء حضنكِ فحسب ولم أكن‬


‫أريد الخوض في أي أحاديث جانبية أخرى تحول بيني‬
‫ت أ ْن ِ‬
‫ت وتعلوكِ ابتسامتكِ الرائقة‪ ،‬قلت‪:‬‬ ‫وبينه؛ فأجب ِ‬

‫‪ -‬ورود الجنة ال تذبل أبداً!‪.‬‬

‫سألتكِ بتعجب‪:‬‬

‫ت ذلك ؟!‪ .‬فأجبتني بحماستكِ المعهودة‪ ،‬قلت‪:‬‬


‫ف عرف ِ‬
‫‪ -‬وك َّي َ‬

‫‪45‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬في كل مرة أرتمي بين أحضانك وأُغمض عيني؛ أدخل‬


‫فيها الجنة‪ ،‬في كل مرة ألمس يديك؛ ألمس فيها ورود الجنة‬
‫اليانعة التي ال تذبل أبداً في وجود هالة حبك من حولي‪ ،‬في‬
‫كل مرة أُلثم ثغرك؛ أتجرع فيها من كل أنهار الخمر بالجنة‬
‫فأسكر في حبك حتى الثمالة‪ ،‬في كل مرة أسمع صوتك؛‬
‫أنسطل ُ فيها من شدو بالبل الجنة وعنادلها‪ ،‬في كل مرة أكن‬
‫بالقرب منك فيها؛ أتحول لحورية طليقة بالجنة‪ ،‬وفي كل‬
‫مرة أكن فيها بحضنك؛ تكن أَ ْن َ‬
‫ت جنتي!‪.‬‬

‫ُ‬
‫ابتسمت‪ ،‬وقلت لكِ ‪:‬‬ ‫وقتذاك؛‬

‫‪ -‬نحن التوأم الذي أُن ِجب من رحمين!‪.‬‬

‫كم كانت عذبة كلماتكِ لي‪ ،‬فهذا بالضبط ما كنت أشعر به‬
‫دائما ً معكِ !‪.‬‬

‫فقيدتي الغالية‪ ،‬أعتق ُد أنني اآلن على فراش الموت؛ وال أحد‬
‫معي سوى رحمة من هللا‪ ،‬وروحكِ الطاهرة التي أحادثها‬
‫اآلن‪..‬‬

‫‪44‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫أتساءل كثيراً‪ :‬هل سأراك بعد الموت ؟ هل ستتالقى أرواحنا‬


‫وتتعانق في حياة ما بعد الموت؟‪ .‬أريد أن أتحدث إليكِ‬
‫ُ‬
‫جابهت من بعدك!‪.‬‬ ‫كثيراً‪ ،‬أريد أن أحك لكِ عما‬

‫اشتقت إليكِ كثيراً زوجتي الغالية؛ كم كانت أيامكِ القليلة‬


‫ُ‬
‫معي هي األجمل في حياتي‪ ،‬وبعد رحيلكِ صار ماتبقى من‬
‫عمري بمذاق الحنظل‪ ،‬صدقيني ال أُبالغ؛ حنظل‪ ،‬علقم‪ ،‬كل‬
‫ما له مذاق ال ُيطاق؛ تلك أيامي من بعدكِ !‪.‬‬

‫تذكرين؟ كنا صغاراً وقتذاك؛ حينما كنا جيرانا ً في شارع‬


‫واحد‪ ،‬وفي بناية واحدة‪ ،‬وشقتنا في آخر الرواق مقابلة‬
‫كنت أكبرك بثالثة أعوام‪ ،‬وكان عمركِ وقتذاك‬ ‫لشقتكم‪ُ .‬‬
‫ت أَ ْن ِ‬
‫ت الفتاة الوحيدة ألخوين من‬ ‫خمسة عشر عاماً‪ ،‬وكن ِ‬
‫ُ‬
‫وكنت أنا الولد الوحيد ألختين من‬ ‫الصبية وكن ِ‬
‫ت أكبرهم‪،‬‬
‫ُ‬
‫وكنت أصغرهم؛ كنا مدلل َّين!‪.‬‬ ‫البنات‬

‫بالرواق‪ ،‬بالسلم؛ كنا نتبادل النظرات‪ ،‬نتبادل الضحكات‪،‬‬


‫نتبادل الغمزات‪ ،‬ونتبادل الكلمات!‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫تذكرين لما قابلتك ‪ -‬عصراً ‪ -‬ذات مرة بالخارج؛ وكن ِ‬


‫ت‬
‫ُ‬
‫وكنت أنا‬ ‫تحملين حقيبتين بهما حويجات المنزل بكلتا يديكِ ‪،‬‬
‫قادما ً من النادي النتهائي من لعب الكرة مع أصدقائي هناك‪.‬‬

‫ُ‬
‫فحملت عنكِ أحمالك‪ ،‬فسعد ِ‬
‫ت‬ ‫وجدتك تزفرين تعبا ً وضيقاً‪،‬‬
‫حينها بوجودي في حياتكِ ألحمل عنكِ همومكِ ‪..‬‬

‫ظلينا نمشي على الطوار بجوار ذاك السور الممتد عبر‬


‫البصر حتى قاربنا على الوصول إلى بنايتنا‪ُ .‬‬
‫كنت أنا طويل‬
‫ت أَ ْن ِ‬
‫ت الجميلة ذات القوام‬ ‫القامة‪ ،‬هزيل الجسم‪ ،‬وكن ِ‬
‫الملفوف‪ ،‬والقامة القصيرة‪ ،‬والعيون السوداء‪ ،‬والبشرة‬
‫ت على يميني بجانب السور‪ ،‬وأنا على يساركِ‬
‫البيضاء‪ ،‬وكن ِ‬
‫بجانب الطريق‪ ،‬قل ِ‬
‫ت لي وقتذاك بلهجة التحفتها الرقة‪:‬‬

‫‪ -‬أنا سعيدة ألني صادفتك اليوم ‪.‬‬

‫فقلت لكِ بلهجة ساخرة‪:‬‬

‫‪ -‬الحقيقة هي ليست مصادفة !‪.‬‬

‫ابتسم ِ‬
‫ت وضربتني على كتفي‪ ،‬قلتِ‪:‬‬

‫‪ -‬يخ ُرب عقلك؟ أكنت تراقبني لتخاتلنى؟‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ُ‬
‫وقلت‪:‬‬ ‫فابتسمت لكِ‬

‫مر من هذا‬
‫‪ -‬بل قلبي هو َمنْ كان يراقبك وقد قال لي‪ْ :‬‬
‫الطريق وستقابل حبيبتك؟ وما كان مني إال االنصات له‪،‬‬
‫ُ‬
‫وأتيت من هذا الطريق فوجدتكِ حبيبتي‪ ،‬فشكرته؛ فزادت‬
‫دقاته!‪.‬‬

‫س َمت السعادة على تقاسيم وجهكِ الجميل‪،‬‬


‫عندها ارت َ‬
‫ت برفع يدكِ لتضربينني على‬
‫ت ببعض الخجل‪ ،‬وهمم ِ‬‫وشعر ِ‬
‫ُ‬
‫حملت جميع األشياء‬ ‫ً‬
‫ممازحة إياي‪ ،‬وبحركة سريعة‬ ‫كتفي‬
‫ُ‬
‫ومددت يدي اليمنى إلى يدكِ الطويلة التي‬ ‫في يدي اليسرى؛‬
‫ت أَ ْن ِ‬
‫ت يدكِ‬ ‫ُ‬
‫ومسكت بها؛ جذب ِ‬ ‫اعتادت ضرب كتفي بالمزاح‪،‬‬
‫ُ‬
‫أحكمت قبضتي على كفتكِ ‪،‬‬ ‫لتعيدينها؛ ولكن هيهات؛ فقد‬
‫ْ‬
‫استسلمت أناملكِ بين أناملي‪ ،‬وراحا كفانا‬ ‫وسرعان ما‬
‫يعتصران بعضهما البعض في وله‪ ،‬وتنهيدات تخرج من‬
‫أعماقنا محملة بالحنين‪ ،‬ودقات قلبينا باتت مسموعة للمارة‬
‫من حولنا!‪.‬‬

‫رحنا نتمطى الخطى في مشيتنا؛ متشابكي األيدي؛ نرسل‬


‫لبعضنا نظرات حب باستحياء من فينة ألخرى‪ ،‬نبتسم‬

‫‪47‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ُ‬
‫نسيت وقتذاك األحمال‬ ‫ُ‬
‫وكنت قد‬ ‫لبعضنا من فينة ألخرى‪،‬‬
‫ُ‬
‫نسيت أننا بالطريق والناس من حولنا‬ ‫الثقيلة بيدي اليسرى؛‬
‫ُ‬
‫أفقت على صوت أحدهم‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫تمر‪ ،‬حتى‬

‫‪ -‬هللا هللا! أهكذا يتناغى العاشقين بالطرقات علنا؟!‪.‬‬

‫إنه جار لنا‪ ،‬عينه منكِ ‪ ،‬ولكنكِ لي أنا فحسب‪ .‬حاول أن‬
‫يقترب منا‪ ،‬وحاول أن يمسك يدكِ ‪ ،‬مغمغماً‪:‬‬

‫ف تعشقين هذه الذبابة وأنا ال ؟ أنا أحبكِ ‪ ،‬هات يدكِ ؟‪.‬‬


‫‪ -‬ك َّي َ‬

‫ُ‬
‫وصرخت فيه‪:‬‬ ‫ُ‬
‫فألقيت ما بيدي؛‬

‫‪ -‬ابتعِد عنها حاالً؟‪.‬‬

‫ت أَ ْن ِ‬
‫ت به‪ ،‬قلتِ‪:‬‬ ‫فصرخ ِ‬

‫‪ -‬أما سمعت ما قاله لك؟‪.‬‬

‫أزحته بعيداً؛ عاد لي! جذبني من ثيابي‪ ،‬ضربني في وجهي‬


‫بقبضته عدة ضربات‪ ،‬حينها صح ِ‬
‫ت بجانبي‪:‬‬

‫‪ -‬أنا أحبك أَ ْن َ‬
‫ت ولن أحب غيرك؟!‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫عندها تشجعت؛ وأعترضت بيدي قبضته قبل أن تصل‬


‫لوجهي‪ ،‬وأثخنته ضرباً‪ ،‬حتى فر هارباً؛ وجعلني حبك‬
‫خارقاً؛ بعدما كنت هشيما ً تذروه الرياح !‪.‬‬

‫وقفت أمام شقتنا ‪ ،‬و أَ ْن ِ‬


‫ت هناك أمام‬ ‫ُ‬ ‫عدنا بعدها إلى البيت‪،‬‬
‫شقتكم؛ نتبادل نظرات ولهة‪ ،‬المعة بالشوق‪.‬‬

‫ُ‬
‫وارتميت بحضني تبكين؛‬ ‫وفجأة؛ جرينا تجاه بعضنا البعض‪،‬‬
‫وأغمض عيني‪ ،‬وأشعر بدفء‬
‫ُ‬ ‫وأنا أر ِّبت على ظهركِ ‪،‬‬
‫جسد ُك‪ ،‬أشعر بدقات قلبكِ ‪ ،‬أشعر بجمر الشوق يلهبني‪،‬‬
‫ت أَ ْنتِ‪:‬‬
‫غمغم ِ‬

‫‪ -‬آسفة حبيبي لِما حدث لك!‪.‬‬

‫لكِ ُ‬
‫قلت‪:‬‬

‫ت خدشتي خدشاً!‪.‬‬
‫‪ -‬أعدكِ بأن عمري كله فدا ًء لكِ ‪ ،‬إن أن ِ‬

‫ثم لثمتني على خدي وتفل ِّتي فجذبتكِ من يدكِ ‪ ،‬فوقف ِ‬


‫ت‬
‫ْ‬
‫ولمعت شفتاكِ في عيني‪،‬‬ ‫ً‬
‫صامتة تتأمليني وأتأملكِ ‪،‬‬
‫شعرت بأن شفتيكِ تقطر عسالً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فتأملتهما‪ ،‬فارتعشتا‪ ،‬وقتئذ؛‬
‫ُ‬
‫أحسست بأن رضابكِ إكسير الحياة‪ ،‬ولم أشعر بنفسي إال‬
‫أمتص اإلكسير‪ ،‬وأتلذذ بالعسل‪ ،‬وطالت قبلتنا األولى‪..‬‬
‫ُ‬ ‫وأنا‬

‫‪11‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫مرت السنون سريعاً؛ تزوجن أخواتي البنات‪ ،‬وبعدها كنا‬


‫موفقين وتمت خطبتنا‪ ،‬وعشنا أياما ً جميلة‪ ،‬ومع اقتراب‬
‫ُ‬
‫دعوت هللا أن‬ ‫ُ‬
‫بدأت أشعر بقلق ما داخل قلبي‪ ،‬لكني‬ ‫ال ُعرس‪،‬‬
‫يتمم زواجنا على خير‪..‬‬

‫ماتت أمي؛ انتقلت إلى الرفيق األعلى‪ ،‬هذا ما كان يزعج‬


‫قلبي الحزين‪ ،‬كان عمري وقتذاك سبعة وعشرين سنة؛ لقد‬
‫تنشغل عني‬
‫ِ‬ ‫ت دوما ً بجانبي؛ لم‬
‫عانيت كثيراً حبيبتي‪ ،‬وكن ِ‬
‫ُ‬
‫أبداً‪.‬‬

‫ُ‬
‫وبقيت‬ ‫وتم تأجيل ال ُعرس لعام نظراً لتلك المصيبة الطارئة‪،‬‬
‫ُ‬
‫وفقدت المرأة‬ ‫أنا وأبي الطاعن في السن وحدنا بالشقة‪،‬‬
‫الحنون األولى من حياتي‪ ،‬واسودّت الدنيا في وجهي‪..‬‬

‫ُ‬
‫توظفت بإحدى الشركات بمرتب ممتاز‪ ،‬قارب العام على‬
‫االنتهاء؛ لمح لي أخوتكِ بضرورة إقامة ال ُعرس في أقرب‬
‫وقت وإال زوجاكِ لرجل غيري!‪ .‬حددنا ميعاد ال ُعرس‪،‬‬
‫وحدث ماالً ُيحمد عقباه؛ توفى أبي؛ انتقل إلى الرفيق‬
‫ُ‬
‫وفقدت الرجل الحنون األول من حياتي‪ ،‬وتم تأجيل‬ ‫األعلى‪،‬‬

‫‪12‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ال ُعرس لمدة سنة أخرى‪ ،‬لكن أخوتكِ لم يعجبهم الحال‪،‬‬


‫وكان هذا جليا ً على وجوههم‪..‬‬

‫ُ‬
‫وجدت الشقة قد‬ ‫ُ‬
‫رحت ألطمئن عليكِ ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫استيقظت ذات صباح؛‬
‫ُ‬
‫شعرت وقتذاك؛ بأن روحي‬ ‫هُجرت! ووضع عليها قفل كبير‪،‬‬
‫هجرت جسدي‪ ،‬وذلك القفل الكبير أُغلق به باب قلبي‬
‫ْ‬
‫ُ‬
‫شعرت لوهلة بأن القدر ال يريد لي أن أحظى‬ ‫عليكِ !‪.‬‬
‫بحبيبتي لنسعد بل يريد لي التعاسة األبدية فحسب! تذكرت‬
‫حينئذ أن أغلبية قصص الحب؛ ُكتِبت نهايتها بدموع الفراق‪،‬‬
‫فلِ َم أنا الذي يحظى بنهاية سعيدة!؟‪..‬‬

‫ضقت ذرعا ً من وحدتي‬


‫ُ‬ ‫بحثت عنكِ كثيراً ولم أجدكِ ؛ حتى‬
‫ُ‬
‫وعشت عزلتي حزيناً‪ ،‬ومرت الشهور‬
‫ُ‬ ‫وتكورت على نفسي‬
‫كالسنين‪..‬‬

‫ُ‬
‫وتمنيت رجوعكِ إلى قلبي‬ ‫ُ‬
‫شردت بكِ وناديتكِ‬ ‫ذات يوم؛‬
‫فسمعت قلبي يبشرني بأنكِ عائدة؛ وأنا دائما ً‬
‫ُ‬ ‫المهجور؛‬
‫أصدق قلبي‪ ،‬فلم أتعوده كاذبا ً أبداً‪.‬‬

‫ُ‬
‫ركضت‪ ،‬فتحت؛ وجدتكِ يا أحالمي‪،‬‬ ‫بعد أيام؛ طرق بابي؛‬
‫وجدتكِ منهارة ‪ ،‬عبوسة ‪ ،‬طالكِ الشحوب! تساءلت‪ :‬ماذا‬

‫‪13‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫عساي أن أفعل؟ أأبكي أم أضحك؟‪ .‬نصحني قلبي أن أسكن‬


‫بين أحضانكِ ففعلت‪ ،‬وارتحت‪ ،‬ومن ثم سكنت!‪.‬‬

‫‪ -‬نتزوج اآلن؟‪.‬‬

‫ُ‬
‫فنفذت طلبكِ‬ ‫كان طلبكِ ولم تنفرج شفتاكِ عن غيره؛‬
‫وحلمي؛ كتبنا كتابنا‪ ،‬ودخلنا غرفتنا‪ ،‬وسكن ِ‬
‫ت بحضني‪،‬‬
‫ُ‬
‫وتأكدت وقتذاك بنفسي أنكِ مازلت عذراء‪ ،‬لم يمسك سوء‬
‫ت وأين عائلتك؟‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وكنت أتساءل‪ :‬أين كن ِ‬ ‫طوال فترة غيابكِ‬
‫ت لي بينما كن ِ‬
‫ت بحضني؛ حيث‬ ‫حتى جاء اليوم الذي اعترف ِ‬
‫دار بيننا الحوار الذي لن أنساه أبداً ما حييت‪ ،‬وتذكر ِ‬
‫ت ما‬
‫ت بنحيب السنين‪ ،‬وتهدجت كلماتكِ الخارجة‪:‬‬
‫حدث وشهق ِ‬

‫كفكفت دموعكِ ‪ ،‬سألت ُك‪:‬‬


‫ُ‬ ‫ُ‬
‫انتبهت لكِ ؛‬ ‫‪ -‬أهلي ‪ ...‬حينها؛‬

‫‪ -‬أين هم ؟ ماذا حدث لهم ؟ هل هم بخير ؟‪.‬‬


‫ً‬
‫موجعة‬ ‫فأجب ِ‬
‫ت حينها على مضض؛ وقد بدا أن الذكرى كانت‬
‫لكِ وقاسية‪ ،‬قل ِ‬
‫ت لي‪:‬‬

‫‪ -‬ماتوا جميعا ً !‪.‬‬

‫فقاطعتكِ مصدوماً‪ ،‬قلت‪:‬‬

‫‪12‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬إنا هلل وإنا إليه راجعون !‪.‬‬

‫ت حديثكِ شاخصة العينين الكحيلتين بين أحضاني‬


‫أكمل ِ‬
‫ومخضلة الخدين بالدموع‪ ،‬قلتِ‪:‬‬

‫‪ -‬أرغموني على الرحيل‪ ،‬ورحلنا إلى مدينة ال أعرفها‪ ،‬وقد‬


‫كانو يريدون تزويجي لرجل غيرك؛ رجل أعمال من خارج‬
‫مصر‪ ،‬كان سيدفع لهم أموال طائلة! وأنا بدوري رف ُ‬
‫ضت‬
‫ُ‬
‫وتمسكت بحبك‪ ،‬وما كان منهم إال أن يعاملوني أسوأ‬
‫معاملة؛ ثم هجروني وسافروا جميعا ً إلى الخارج بعد أن‬
‫رموا بي إلى الشارع دونما مأوى‪ ،‬واعتبروني عاقة‪ ،‬وقالوا‬
‫لي اذهبي إلى حبيبكِ ‪ ،‬وعرفت بعدها أن الطائرة التي‬
‫ُ‬
‫بكيت‬ ‫ركبوها انفجرت بالسماء‪ ،‬ومات جميع َمنْ عليها؛‬
‫كثيراً ولكن ما حدث لهم ربما كان جزا ًء لما فعلوه بي‪ ،‬أو‬
‫ُ‬
‫وشعرت بك تناديني‪ ،‬فهربت من‬ ‫ربما كان القضاء والقدر‪...‬‬
‫وهرولت عائد ًة‬
‫ُ‬ ‫المدينة‪ ،‬ورحت أسأل الناس حتى اهتديت‪،‬‬
‫إليك‪..‬‬

‫قلت لَكِ ‪:‬‬


‫سارعت بدفنكِ في أحضاني‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫وقتذاك؛‬

‫‪15‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬أعشقكِ ‪ ...‬أدامكِ هللا لي وبارك فيكِ ؛ من اللحظة أنا كل‬


‫ت كل عائلتي‪ ،‬ورحم هللا موتانا جميعاً‪..‬‬‫عائلتكِ ‪ ،‬و أَ ْن ِ‬

‫مرت الشهور؛ كنت أتمنى أن تحملين مني دليل حبي لكِ‬


‫و ُننجب طفالً يجمع جز ًءا من روحي وجز ًءا من روحكِ ‪،‬‬
‫كنت أتمنى أن أراكِ في طفلي‪ .‬وأَ ْن ِ‬
‫ت كانت جل أمنياتكِ أن‬
‫تصبحين أم‪ ،‬وأن تضمي ابني وابنكِ إلى صدركِ ‪ ،‬وتسقيه‬
‫ت تتمنينه يشبهني كثيراً‪.‬‬
‫من حنانكِ ‪ ،‬كما أسقيتني‪ ،‬وكن ِ‬

‫لكن القضاء كانت له أحكامه؛ عندما أجري ِ‬


‫ت تحاليل الحمل‪،‬‬
‫اكتشفنا أنكِ عاقراً‪ ،‬وكانت الصاعقة!‪.‬‬

‫‪ -‬قلت لكِ مراراً وتكراراً ال أريد أطفال‪ ،‬أريدكِ أَ ْن ِ‬


‫ت فحسب‪،‬‬
‫ولن أترككِ أبداً‪ ،‬ولن أتزوج عليكِ أبداً أبداً‪ ...‬فكرة أني‬
‫مجرد أن أُعجب بغيركِ تبدو لي محض هراء‪..‬‬

‫ُ‬
‫قلت لكِ ذلك كي أهدئ من روعكِ ‪ ،‬حينما كن ِ‬
‫ت غاضبة‪ ،‬بعد‬
‫ت أنكِ عاقر‪ ،‬وبعد موجات غضب حادة تملكت‬
‫أن علم ِ‬
‫روحكِ ‪ ،‬قلتِ‪:‬‬

‫‪ -‬كنت أتمنى أن أنجبك من رحمي أنا‪ ،‬كنت أصبوا ألن‬


‫أداعبك في طفلنا الصغير ‪ ،‬كنت أتوسم من هللا أن أكن البنك‬

‫‪14‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫أم كما كنت لك زوجة؛ كنت أحلم أن أرى روحانا تندمج في‬
‫روح واحدة وتكبر أمامنا وتمأل نفوسنا سعادة‪ ،‬وكنت أريد‪،‬‬
‫وكنت تريد‪ ...‬وهللا فعل ما يريد‪ ،‬وسأرضى بقسمة هللا‬
‫وأحمده على قضائه!‪.‬‬

‫ت أنكِ أنثى‬
‫وقتذاك؛ كنت أشعر بألمي وبألمكِ ‪ ،‬لقد اكتشف ِ‬
‫غير قادرة على االنجاب‪ ،‬وهذا يعني لكِ أنكِ ؛ أنثى مع إيقاف‬
‫التنفيذ! وهنا َك ُمن عذابكِ ‪ ،‬وشعوركِ بالنقص‪ ،‬ولكني‬
‫عوضتكِ عن كل هذا وأتم هللا سعادتنا‪ ،‬وعشنا سنوات حتى‬
‫توفتكِ المنية فجأة منذ خمسة سنوات‪ ،‬وكانت آخر كلماتكِ‬
‫حينما قلت‪:‬‬

‫‪ -‬سأنتظرك بالجنة إن شاء هللا؛ حيث الورود التي ال تذبل؛‬


‫علي سأشتاق لك!‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ال تتأخر‬

‫كانت فاجعتي من بعدها وأ َنا بال روح‪ ،‬لقد كن ِ‬


‫ت روحي!‬
‫واآلن وأ َنا على فراش الموت‪ ،‬أشعر بكِ أمامي وأحادثكِ‬
‫وأشعر بأنكِ سعيدة لقدومي إليكِ ‪ ،‬وأريد أن أخبركِ أنني‬
‫ُ‬
‫أجريت بعض التحاليل بعد وفاتكِ نتيجة ما أصابني من‬
‫ُ‬
‫واكتشفت صدفة أنني عقيم وهذا يعني‬ ‫أمراض بعد فراقك؛‬

‫‪11‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫أنني رجل مع إيقاف التنفيذ! وصدق ما قلته لكِ من قبل‪:‬‬


‫"نحن التوأم الذي إ ُ ْن ِج َ‬
‫ب من رحمين"‪..‬‬

‫‪12‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫حبيسة المريخ‬

‫‪17‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫في ضوء قمر خافت لليلة من ليالي الشتاء قارسة البرودة؛‬


‫عاد ”سالم“ من الحقل إلى الدار راكبا ً حماره‪ ،‬مخترقا ً‬
‫الطريق الغارق في الضباب بين الحقول‪ ،‬وعلى أُذنيه‬
‫تتناوب شتى أصوات الليل من صرير الجراد‪ ،‬وعواء‬
‫ويحرن‬
‫ِ‬ ‫الذئاب‪ ،‬ونباح الكالب‪ ،‬والحمار يتحرك ببطء تارة‪،‬‬
‫تارة أُخرى‪ ،‬ولسعات العصا تنهال من سالم على مؤخرته‪،‬‬
‫وبكعبي قدميه يوالي لكزاته على بطنه‪ ،‬وتتحركان أُذناه في‬
‫كل االتجاهات اآلتية منها األصوات؛ وكأنه يخشى هجوما ً‬
‫مباغتا ً من كلب أو ذئب كعادته في كل إياب لهما بالليل‪،‬‬
‫وفي كل مرة يصيح سالم به غاضباً‪:‬‬

‫‪ -‬حمار جبان‪ ...‬حتام أتحملك؟ لقد ضقت ذرعا ً من مكرك‪...‬‬


‫علي وأبدل بالم َّكار هذا سيارة‪ ،‬أو دراجة‬
‫َّ‬ ‫يارب متى تفرجها‬
‫نارية؟!‪.‬‬

‫َي ْق ُطنُ سالم مع أسرته في دار من طابقين تقع بين الحقول‬


‫بأطراف القرية‪ .‬وما إن وصلها حتى تخلص من الحمار‬
‫وق َّيده بالزريبة‪ ،‬وصعد السلم الخارجي‪ ،‬واختلى بنفسه في‬
‫غرفته بالطابق الثاني‪..‬‬

‫‪20‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫أحضر من الصوان الكتاب الذي وجده من قبل بأحد‬


‫المغارات الجبلية شرقي القرية‪ ،‬وقتما كان يبحث عن أي‬
‫كنوز أو أي وسيلة لجلب المال‪ ،‬وكان آنذاك بصحبة رهط‬
‫من الدجالين والمشعوذين؛ هكذا كان احساسه بهم‪ ،‬ورغم‬
‫ذلك واصل معهم على أمل أن تصدُف معه ولو مرة و ُتفرج‬
‫بعدما كان يظنها لن ُتفرج‪ ،‬ولكنها لم تصدُف ولم ُتفرج‪ ،‬بل‬
‫أحيانا ً كان يصرف من جيبه عليهم‪ ،‬واعتقد وقتذاك بأن ذلك‬
‫الكتاب البد كتاب سِ حر‪ ،‬وستتحق أمنياته أخيراً‪ ،‬وسينفك‬
‫نحسه لألبد‪ ،‬فأخذه دون أن يشعروا به‪ ،‬وخبأه بجيبه‪،‬‬
‫واستعد لهذا اليوم الشتوي‪ ،‬الذي نامت به أسرته مبكراً‬
‫بسبب البرد والضباب؛ كي يفتحه و ُيحضِ ر ُخدَّام الكتاب من‬
‫ال ِجنْ ؛ كما كان يشاهد رفقائه المشعوذين يفعلون أمامه من‬
‫قبل‪ ،‬ليكتشف به الكنوز والخبايا ويخرجها‪ ،‬ويبيعها ويتغير‬
‫الحال ويتخلص من حماره الم َّكار‪ ،‬ومن وقت عثوره على‬
‫الكتاب صار يتهرب من المشعوذين‪ ،‬ويتقاعس عن‬
‫مرافقتهم حتى انفصل عنهم تماماً‪..‬‬

‫أ ْ‬
‫ش َعل َ الفحم بالمجمرة‪ ،‬ونثر البخور فوقه وتركها أرضا ً غير‬
‫بعيدة عنه‪ ،‬رفع وجهه فبدا شابا ً بالسابعة والعشرين من‬

‫‪21‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫عمره‪ ،‬شاحب الوجه‪ ،‬هذيل البنيان‪ ،‬مرتديا ً سرواالً من‬


‫الصوف‪ ،‬ومعطفا ً مهرأً ثقيالً‪..‬‬

‫جلس متربعا ً على الزربية الخضراء‪َ ،‬بد ْ‬


‫َت الغرفة من حوله‬
‫كبيرة ذات إضاءة خافتة َتشِ ُع من قنديل معلق بالجدار‪،‬‬
‫وكان في جانبها سرير متهالك وصوان صغير‪ ،‬وبالجانب‬
‫اآلخر الزربية حيث يجلس‪ ،‬وغير بعيد عنه َن َ‬
‫مرقة مسجاة‪،‬‬
‫ومن خلفه الباب‪..‬‬

‫َج َذ َ‬
‫ب ال َن َ‬
‫مرقة أمامه؛ وضع فوقها الكتاب‪ ،‬فوجد غالفه من‬
‫جلد سميك بني اللون‪ ،‬مرسومة عليه بوابة حجرية‬
‫مزخرفة‪ ،‬ومن حولها حراس بحرابهم‪ ،‬وحروف‬
‫هيروغليفية ورموز!‪ .‬فتحه‪ ،‬فوجد صفحاته من جلد أصفر‬
‫رقيق‪ ،‬وعلى وجه أول صفحة بالكتاب؛ وجد نقش لمنمنمة‬
‫صغيرة‪ ،‬بدا أنها رسم للمجموعة الشمسية "درب التبانة"‬
‫وفي وسطها ُرسِ َم مساراً حلزونيا ً منطلقا ً من كوكب األرض‬
‫إلى الكوكب المجاور له الرابع بالمجموعة؛ كوكب المريخ‬
‫دونما أن يقطع ‪ -‬ذلك المسار ‪ -‬بأي نجم أو كويكب آخر‪..‬‬

‫‪22‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫وكان هناك حزاما ً حول المريخ به بعض عالمات مبهمة‬


‫وحروف‪ ،‬و ُتلحظ بصعوبة نقطة سوداء بنهاية المسار فوق‬
‫سطح المريخ‪..‬‬

‫لم يكترث لهذا كله‪ ،‬ولم يفهمه‪َ ،‬ق َل َ‬


‫ب الصفحة ليفهم أكثر؛‬
‫فتحركت وعادت أدراجها كما كانت تلقائياً‪َ ،‬قلَ َبها مرة‬
‫أخرى‪ ،‬فعادت كما كانت ثانية‪َ ،‬ت ْم َت َم حانِقاً‪:‬‬

‫‪ -‬أَ ْع َتقِ ُد أن خدام الكتاب بدأوا مداعبتي!‪.‬‬

‫َقلَ َ‬
‫ب الصفحة ثالثة‪ ،‬فكانت الصفحة التالية سوداء‪ ،‬وقبل أن‬
‫يمعن البصر فيها‪َ ،‬‬
‫ش َع َر بأن الغرفة تهتز بشدة‪ ،‬فنظر إلى‬
‫ماحوله؛ فوج َد كل شيء يتراقص عداه! قرر أن يتماسك‬
‫ويتحمل من أجل تحقيق حلمه في ال َّثراء‪..‬‬

‫فجأة؛ انطفأ القنديل من االهتزازات‪ ،‬وأظلمت الغرفة؛ عندها‬


‫فقط ازدرد رضابه‪ ،‬ولكنه َف َك َر إذا ما أصابه خوف؛ هلك ال‬
‫محالة‪ ،‬لذا قرر أن يظل متمسكا ً بالشجاعة ألجتياز تلك‬
‫االختبارات ليسيطر على قوة الكتاب‪ ،‬ومن ثم يطلب كل ما‬
‫يتمناه‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫س الكتاب؛ تناوله ثم وضعه بحجره وأطبق‬ ‫مد يده‪َ ،‬ت َح َ‬


‫س َ‬
‫عليه بكلتا كفيه؛ عندها تحول الظالم من حوله إلى فضاء‬
‫مظلم تناثرت به النجوم والكواكب‪ ،‬وشعر بأنه داخل مركبة‬
‫فضائية بلورية شفافة تنطلق به من األرض وتجتاز الفضاء‬
‫بسرعة فائقة! حتى أنه لم يستطع االلتفات يمنة أو يسرة‪،‬‬
‫وكأنه تجمد داخل جسده‪ ،‬صار يتنفس بصعوبة‪ ،‬وانخفض‬
‫معدل نبضات قلبه‪ ،‬وفجأة؛ َظ َه َر ذلك المسار الحلزوني‬
‫المرسوم بمنمنمة الكتاب مضيئا ً أمامه بعد أن ولجته سفينته‬
‫الوهمية‪..‬‬

‫بعد لحظات وجد نفسه يقترب من كوكب المريخ‪ ،‬وشعر بأن‬


‫مركبته الوهمية ستهبط به على سطحه؛ أحس ببرودة‬
‫المناخ‪ ،‬وبدا المريخ لوهلة؛ أنه كوكب صخري ذو جبال‬
‫شاهقة‪ ،‬ووديان ممتدة‪ ،‬ويدوران من حوله قمرين‬
‫صغيرين‪..‬‬

‫ت َبد ْ‬
‫َّت تلك النقطة السوداء التي رآها فوق سطح المريخ‬
‫بالمنمنمة أمامه كنقطة سوداء صغيرة ومن حولها جبال‬
‫جليدية بيضاء‪ ،‬ولكن سرعان ما ِا ْت َ‬
‫س َع ْت النقطة حتى‬

‫‪22‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ابتلعته‪ ،‬وعندها فقط؛ فقد الوعي‪ ،‬وأظلمت الدنيا من‬


‫حوله‪..‬‬

‫ال يعرف كم مر من الوقت؟ وال يدري أين هو؟ وشعر بنفسه‬


‫س َ‬
‫بخدَر شديد طال جسمه‪،‬‬ ‫وأح َ‬
‫وقد بدأ باستعادة َو ْعيه‪َ ،‬‬
‫حاول فتح عينيه‪ ،‬وبالكاد فتحهما متألماً‪ ،‬وما إن فتحهما‬
‫حتى ان ْن َت َف َ‬
‫ض واقفاً‪ ،‬وجال ببصره لما حوله وتمتم متسائالً‪:‬‬

‫‪ -‬أين أَ َنا؟‪.‬‬

‫َو َج َد الكتاب ملقى أرضاً؛ تناوله ودفنه بجيب معطفه‪َ ،‬ن َزل َ‬
‫من فوق مصطبة صخرية كان مسجى فوقها؛ دلف مشدوها ً‬
‫ألستكشاف المكان من حوله‪ ،‬فبدا أنه كهف عظيم منحوت‬
‫في الصخر األحمر ذو البريق المعدني‪..‬‬

‫تقدم في السير متعجباً‪ ،‬وجد الكثير من برك واسعة مليئة‬


‫بالماء منحوتة بأرضية الكهف الصخرية‪ ،‬وعلى حوافها‬
‫نمت شجيرات كثيرة مورفة خضراء اللون‪ ،‬جذورها ضاربة‬
‫في القاع‪ ،‬ورأى ِبركا ً أخرى بها سوائل ذات ألوان داكنة‬
‫تغلي وتبقبق وتتصاعد منها ألسنة البخار!‪ .‬تقدم أكثر‬
‫مخترقا ً النور األبيض الناعم المنتشر بالكهف متسائالً ‪:‬‬

‫‪25‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬أين مصدره؟‪.‬‬

‫ْ‬
‫انعكست صورته على صفحة مائها‪ ،‬وجد‬ ‫اقترب من بركة‪،‬‬
‫فقاعات هواء كثيرة آتية من األعماق البعيدة‪ ،‬ا ِْغ َت َر َ‬
‫ف منها‬
‫بيديه وشرب على مضض‪ ،‬تمتم‪:‬‬

‫‪ -‬ماء غير آسن‪ ،‬لكن رائحته حديد!‪.‬‬

‫َو َق َ‬
‫ف بين األعمدة الصخرية العظيمة التي تنتشر بالكهف‬
‫على مسافات متباعدة وتشبه إلى حد كبير األعمدة بمعبد‬
‫الكرنك؛ متأمالً الدقة التي ُنح َ‬
‫ِت بها الكهف الجميل‪.‬‬

‫تقدم أكثر مخترقا ً طبقات ضباب أحمر رقيقة تشبه السحاب‬


‫بانبهار‪ ،‬ومن حوله البرك العجيبة‪َ ،‬ت ْم َت َم َمشدوهاً‪:‬‬

‫‪ -‬مؤكد أني أحلم‪ ...‬ال ليس حلم‪ ...‬إِ َذاً ما ُك ْن ُه ذلك المكان؟‬
‫ف أتيت؟ الكتاب‪ ...‬أجل‪،‬‬
‫ربما كان المريخ بالفعل! ولكن ك َّي َ‬
‫السر في الكتاب!‪ .‬ولكن المريخ ال ماء وال هواء على‬
‫سطحه! هل قلت سطحه؟ أنا لست فوق سطحه بل تحت‬
‫سطحه!‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫وخلَ َ‬
‫ص إلى أنه بكهف عجيب منحوت أسفل سطح المريخ‪،‬‬ ‫َ‬
‫واألدهى أن به مياء وهواء‪ ،‬وربما توجد به مخلوقات‬
‫مفترسة‪ ،‬وشعر بالقلق‪ ،‬وتساءل‪:‬‬

‫ف نقلني الكتاب إلى هنا؟‪.‬‬


‫‪ -‬ك َّي َ‬

‫قرر أن يفتح الكتاب ليجد ضالته‪ ،‬وقتئذ؛ جلس فوق مصطبة‬


‫صخرية بجوار بركة ماء‪ ،‬وفتح الكتاب‪ ،‬وقلَب صفحة‬
‫منمنمة الكواكب؛ فوجد الصفحة السوداء‪ ،‬أَ ْم َعنَ البصر‬
‫فيها‪ ،‬فوجد بها رسم يشبه كف إنسان مشعة في ليل مظلم‪،‬‬
‫وفوقها رسومات لنجوم وكواكب وحروف هيروغليفية‬
‫كثيرة‪ ،‬تمتم‪:‬‬

‫ُ‬
‫وضعت كفي بالظالم دون أن أدرك فوق رسمة الكف‬ ‫‪ -‬لربما‬
‫فحملتني قوة الكتاب إلى هذا الكهف بكوكب المريخ!‪.‬‬

‫وتساءل فيما سيفعله؛ أيعود إلى األرض أم يستكشف‬


‫ف سيعود؟ ورجح أنه ربما عندما يضع كفه‬
‫المزيد؟ ولكن ك َّي َ‬
‫على الكف المرسومة بالصفحة السوداء ثانية؛ يعود إلى‬
‫األرض في الحال‪..‬‬

‫‪21‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫عندئذ؛ وضع كفه‪ ،‬ولكن لم يحدث شيئاً! حاول مراراً‬


‫وتكراراً ولم يحدث شيئاً! زفر ضجراً‪:‬‬

‫ُ‬
‫هلكت ال مناص !‪.‬‬ ‫‪ -‬إِ َذاً فقد‬

‫ضاق صدره‪ ،‬وراح يندب حظه العثر‪ ،‬ويرثي نفسه الهالكة‪،‬‬


‫فجأة؛ تناهت ألذنه ه َْم َه َمات تقترب من بعيد؛ َفزع‪ ،‬دفن‬
‫الكتاب بجيبه‪ ،‬واختبأ خلف أحد األعمدة القريبة‪.‬‬

‫توقفت الهمهمات؛ تنفس بأريحية‪ ،‬ثم تواصلت ثانية عن‬


‫كثب؛ اقشعر بدنه وتوالت خفقات قلبه‪ ،‬قال في نفسه‪ :‬ربما‬
‫كان مخلوقا ً مفترسا ً قاطنا ً بالكهف فيفترسني!‪.‬‬

‫توقف المخلوق يلهث غير بعيد عن العامود الضخم الذي‬


‫توارى خلفه سالم‪ ،‬دعا هللا في نفسه‪ :‬يارب نجني؟‪ .‬قرر‪:‬‬
‫سأواجه قدري‪ ،‬وليكن ماهو كائن!‪َ .‬ت َح َّم َ‬
‫س‪ ،‬وأظهر نفسه‬
‫ببطء للمخلوق الرابض هناك‪ ،‬وعندما رآه؛ َج َفل َ رعباً!‪.‬‬

‫لقد كان مخلوقا ً يشبه أنثى البشر؛ َعجوز تمشي على أربع‪،‬‬
‫رأسها أصلع‪ ،‬وعيناها واسعتين حمراوتين‪ ،‬وجهها أبيض‬
‫شاحب جعد‪ ،‬هزيلة الجسم؛ ترتدي تنورة قصيرة من جلد‬
‫بال تواري بها عورتها‪ ،‬وثدياها عاريين متدليين!‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫َو َق َ‬
‫ف سالم يتأملها مأخوذاً‪ ،‬ولما رأته؛ َجلَ َ‬
‫س ْت متربعة؛‬
‫َد َع َك ْت عينها‪ ،‬وراحت بدورها تتأمله أيضاً‪ ،‬وفجأة انخرطت‬
‫في ندب ونحيب‪ ،‬وغمغمة بلغة غريبة‪ ،‬وظلت تشير بيديها‬
‫هنا وهناك وكأنها طفلة َو َجد ْ‬
‫َت أبيها بعد سنين من التيه‪.‬‬

‫َت َملَ َكه شعور بالعطف عليها وإحساس بأنها من البشر‪،‬‬


‫وتساءل في نفسه‪ :‬إن كانت هي من األرض حقاً؛ فما الذي‬
‫أتى بها إلى هنا؟ وكيف تعيش وماذا تأكل؟‪.‬‬

‫ِا ْن َت َه ْت من نحيبها؛ َدلَ َف ْت صوبه على أربع‪َ ،‬ن َزلَ ْت بوجهها‬


‫على قدميه تقبلهما ُم َت ْمتِمة بصعوبة‪:‬‬

‫?‪_ take me out‬‬

‫عندها َن َزل َ سالم أرضاً‪ ،‬وجلس متربعا ً وأجلسها أمامه‬


‫س َك بيديها وق َّبلهما‪ ،‬وفاضت عينيها بالدمع‪:‬‬
‫و َم َ‬

‫?‪_ wher are your chip‬‬

‫تمتمت بها‪ ،‬عندها ِا ْل َت َق َط سالم مالمح لغتها‪ ،‬لقد كانت‬


‫اإلنجليزية‪ ،‬إِ َذاً هي امرأة من األرض كما اِع َتقد‪ ،‬وقد كانت‬
‫لديه محصلة كلمات إنجليزية جيدة إلى حد ما‪ ،‬فحاول‬
‫التفاهم معها ونجح‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫كانت تظنه رائد فضاء‪ ،‬وكانت تريد العودة إلى األرض؛‬


‫طمأنها بأنهما سيعودا إلى األرض حتى تهدأ‪ ،‬وإن كان سالم‬
‫يدرك تمام اإلدراك بأنه سيمكث بالكهف حتى موته‪..‬‬

‫‪ -‬أنا من مصر‪ ...‬من أي البالد أ ْنتِ؟‪.‬‬

‫سألها باالنجليزية‪ ،‬فأجابت بصوت متهدج وبلغة عثرة‪:‬‬

‫‪ -‬أَ َنا من المملكة المتحدة‪ ...‬وأَ َنا أحب مصر بلدك‪،‬‬


‫وأهراماتها ومعابدها‪ ،‬وقد زرتها كثيراً‪.‬‬

‫وأضافت بعد لحظات صمت‪:‬‬

‫ُ‬
‫شاركت في بعثات علماء‬ ‫‪ -‬أعشق الحضارة المصرية وقد‬
‫كبار للتنقيب عن الكنوز واآلثار كثيراً في مصر‪.‬‬

‫قال لها سالم ممازحا ً إياها‪:‬‬

‫ُ‬
‫شاركت في بعثات مشعوذين كبار‬ ‫‪ -‬أَ َنا أشبهكِ كثيراً‪ ...‬لقد‬
‫للتنقيب عن اآلثار وبيعها خارج مصر‪ ،‬ولم أوفق في مرة‬
‫أبداً‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫وضحكا االثنين كثيراً‪ ،‬تذكر سالم أن بجيبه علبة سجائر؛‬


‫أخرجها‪ ،‬أشعل واحدة‪ ،‬وأشعل لها واحدة‪ ،‬سعلت في بادئ‬
‫األمر‪ ،‬ثم راحت تلتهمها بنهم حتى أنهتها‪..‬‬

‫نهض سالم وتبعته العجوز االنجليزية على أربعتها‪ ،‬وجلسا‬


‫َ‬
‫فوق المصطبة الصخرية‪ ،‬وراحا يدخنان السجائر بنهم‪،‬‬
‫وراح سالم يطمئنها أكثر فأكثر‪ ،‬ولما اطمأنت؛ استقامت‬
‫مخارج حروفها وا َت َ‬
‫ض َح ْت لهجتها‪ ،‬سألها سالم‪:‬‬

‫ف أتي ِ‬
‫ت إلى هنا؟‪.‬‬ ‫‪ -‬ك َّي َ‬

‫وجدها نزلت على أربع‪ ،‬ومشت أمامه متمتمة‪:‬‬

‫اتبعن؟‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪-‬‬

‫تبعها‪ ،‬فابتعدا داخل الكهف‪ ،‬واجتازا الضباب األحمر‪،‬‬


‫واألعمدة الضخمة‪ ،‬والبرك المبقبقة‪ ،‬والشجيرات المورفة‪،‬‬
‫والمصاطب الصخرية‪ ،‬وأكوام متناثرة من فتات الصخور؛‬
‫حتى وصال إلى غرفة بنهاية الكهف‪.‬‬

‫صعد ْ‬
‫َت هي بضع درجات حتى وصلت مدخل الغرفة وتبعها‬
‫سالم‪ ،‬دَخال الغرفة فبدت غرفة كبيرة منحوتة بالصخر‬
‫مضيئة بضوء أبيض منبعث من مشكاة بالجدار‪ ،‬وتنتشر‬

‫‪71‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫بها أكوام من عظام حيوانات صغيرة في حجم القطط‪،‬‬


‫وأكوام أخرى من جلودها‪..‬‬

‫اقترب سالم من المشكاة فوجد حجر ماسي مشع في حجم‬


‫كرة القدم‪ ،‬هو المصدر لضوء الغرفة‪ .‬كانت العجوز قد‬
‫د ََخلَ ْت غرفة أخرى بابها من داخل الغرفة األولى‪ ،‬وبعد‬
‫لحظات َخ َر َج ْت وبفمها كتاب‪ ،‬وجلست بالقرب من سالم‬
‫فجلس‪..‬‬

‫مسكت الكتاب بيدها‪ ،‬والحظت نظرات سالم ألكوام العظام‬


‫والمشكاة‪ ،‬فأشارت إلى أكوام العظام‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫‪ -‬حيوان صغير موطنه األصلي األرض‪ ،‬أحضروه من زاروا‬


‫الكهف قديماً‪ ،‬وتأقلم على مناخ الكهف؛ كان غذائي‬
‫ال ُمفضل‪ ،‬أ َّما الماسة فهي حجر مشع مجهول اإلسم‪ ،‬وقد تم‬
‫توزيعه بجدران الكهف ليضيئه بطريقة عجيبة‪.‬‬

‫رفعت الكتاب بيدها‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫‪ -‬هذا ما أتى بي إلى هنا!‪.‬‬

‫تأمل سالم الكتاب‪ ،‬فوجده نسخة طبق األصل من الكتاب‬


‫الذي يملكه‪ُ ،‬ذ ِهلْ‪ ،‬قالت العجوز‪:‬‬

‫‪72‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬هذا كتاب سِ حر قديم‪ ،‬يفتح ممرات لالنتقال بين الكواكب‬


‫في لمح البصر‪ ،‬استخدمه بعض الكهنة بإحدى العصور‬
‫القديمة في مصر ‪ -‬بالدك ‪ -‬للسفر بين الكواكب والمجرات‪،‬‬
‫ونقل األشياء من األرض إلى الكواكب والعكس!‪.‬‬

‫ِا ْن َب َه َر سالم بتلك المعلومات التي يسمعها ألول مرة في‬


‫حياته!‪ .‬فتحت العجوز الكتاب على الصفحة السوداء‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫‪ -‬إذا ما وضعت كفك هنا‪ ،‬تنتقل إلى الكوكب المحدد‬


‫بالصفحة السابقة‪ ،‬وإذا ما أردت العودة تقلب الصفحة فتجد‬
‫كوكب األرض هو نهاية المسار ‪ -‬لم تقلب الصفحة لتوضح‬
‫‪ -‬ثم تقلب الصفحة مرة أخرى فتجد الصفحة السوداء وكف‬
‫العودة!‪ .‬سألها سالم‪:‬‬

‫ترجع حتى اآلن؟‪.‬‬


‫ِ‬ ‫‪ -‬لماذا لم تقل ِ‬
‫ب الصفحة؟ ولماذا لم‬

‫قطبت حاجبيها‪ ،‬قالت بحزن‪:‬‬

‫‪ -‬لألسف‪ ...‬الكتاب به صفحات االنطالق فقط‪ ،‬أما صفحات‬


‫العودة فقد قُدَّت منه‪ ،‬وهذا مالم أالحظه قبل تورطي في هذه‬
‫الرحلة ‪ -‬ثم نظرت إليه سائلة ‪ -‬هل أَ ْن َ‬
‫ت رائد فضاء حقاً؟‬
‫وإن كنت فأين سفينتك التي سنعود بها؟‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫لم يجبها‪ ،‬صمت يفكر‪ :‬ماذا لو كان كتابي أيضا ً قد قُ ّدت منه‬
‫صفحة العودة؟‪ .‬الكتاب بجيبه ب ّيد أنه عاجز‪ ،‬عن إخراجه‬
‫خوفا ً من المفاجأة‪..‬‬

‫أفاق من تفكيره‪ ،‬وجدها تسأله‪:‬‬

‫ف أتيت إلى هنا؟‪.‬‬


‫‪ -‬ك َّي َ‬
‫هقة َق ً‬
‫وية‪ ،‬وطوحت كتابها‬ ‫ش ً‬ ‫عندها أخرج الكتاب‪ ،‬فشهقت َ‬
‫وخ َط َف ْت كتابه من يده وراحت تقلب الصفحات بنهم‬
‫بعيداً‪َ ،‬‬
‫للبحث عن صفحة العودة‪ ،‬وهو يراقب مالمح وجهها الجعد‬
‫مرتجفا ً خائفا ً من عدم وجود صفحة العودة‪ ،‬وفجأة نظرت‬
‫إليه واحتضنت رأسه وأخذت ت َق ِّبله فتخلص من ذراعيها‪،‬‬
‫وسألها مرتعداً‪:‬‬

‫‪ -‬هل سنعود؟‪.‬‬

‫َر َف َع ْت الكتاب أمامه‪ ،‬فرأى كف العودة فخطفه من يدها‪،‬‬


‫وقال مبتسماً‪:‬‬

‫‪ -‬إذاً لنستعد لرحلة العودة إلى األرض؟‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ونزل أمامها‪ ،‬ونزلت خلفه‪ ،‬وعندما استدار والتفت وجدها‬


‫قد استقامت‪ ،‬وتمشي على رجليها كباقي البشر‪ ،‬ضحك‬
‫متمتماً‪:‬‬

‫‪ -‬سبحان هللا؛ األمل كان عالجها!‪.‬‬

‫وصال لمصطبة صخرية‪ ،‬تربع سالم فوقها؛ فتح الكتاب‬


‫ووضعه بحجره‪ ،‬واحتضنته العجوز من الخلف‪ ،‬سألها‪:‬‬

‫‪ -‬كم عمركِ ؟ وكم مكث ِ‬


‫ت هنا؟‪.‬‬

‫‪ -‬في أي األعوام نحن؟‪.‬‬

‫‪ -‬ستة وعشر وألفين!‪.‬‬

‫‪ -‬أَ ْن َ‬
‫ت تمزح؟‪.‬‬

‫‪ -‬ال أَ ْم َزح صدقيني!‪.‬‬

‫‪ -‬إن كنت ال تمزح فعمري اآلن أكثر من مائتي سنة‪،‬‬


‫وقضيت بالمريخ أكثر من مائة سنة !‪.‬‬

‫جحظت عينا سالم‪ ،‬قال في نفسه‪ :‬لقد فقدت المرأة عقلها!‪..‬‬

‫قال لها‪:‬‬

‫‪75‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬أ َنا أَ ْم َز ْح معك الحقيقة‪ ،‬نحن في سنة تسعمائة وألف‪.‬‬

‫وضحكا االثنين‪ ،‬ثم وضع سالم كفه فوق كف العودة‬


‫بالكتاب‪ ،‬ووضعت هي كفها فوق كف سالم‪ ،‬وفجأة؛ أظلمت‬
‫من حولهما‪ ،‬وتيبسا بأجسادهما‪ ،‬وعادا أدراجهما إلى‬
‫األرض‪ ،‬يجتازان الفضاء في لحظات‪ ،‬وعندما أفاق سالم‬
‫وجد نفسه بغرفته‪ ،‬ولم تشرق الشمس بعد‪.‬‬

‫فكر في أنه قد نسي أن يسأل العجوز اإلنجليزية عن اسمها؛‬


‫استدار ليتفحصها‪ ،‬وجدها جثة هامدة باردة‪ ،‬ال نبض بها‬
‫وال أنفاس‪ ،‬ووجها يشع بزرقة الموت‪ ،‬قال‪:‬‬

‫‪ -‬مكتوب لكِ أن تدفني باألرض!‪.‬‬

‫أَ َخ َذ فأساً‪َ ،‬‬


‫وح َملَها على كتفه إلى المقابر فهي قريبة من‬
‫داره‪ ،‬ولم يذهب إلى الزريبة ألنه موقن بأن الحمار يغط في‬
‫نوم عميق‪..‬‬

‫َح َف َر لها قبراً‪ ،‬ووضع به الجثة‪ ،‬ووضع كتاب السحر فوق‬


‫صدرها‪ ،‬وواراهما الثرى‪ ،‬وقفل عائداً إلى البيت قبل أن‬
‫تشرق الشمس‪..‬‬

‫‪74‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫دخل غرفته‪ ،‬طرح جسمه فوق السرير‪ ،‬أغمض عينيه‪ ،‬زفر‬


‫بارتياح‪ ،‬فجأة؛ شعر بشيء صلب أسفل ظهره‪ ،‬قام لينظر‪،‬‬
‫وجده كتاب السحر؛ َج َح َظ ْت عيناه‪..‬‬

‫‪71‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫الخلود‬

‫‪72‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫شاب؛ يجلس متفكراً ومتأمالً فيما حوله‪ ،‬فوق مصطبة‬


‫منحوتة من الصخر؛ وثيرة على شاطئ حصباءه من اللؤلؤ‪،‬‬
‫لنهر ألالء الماء عذب رقراق‪ ،‬ومن حوله الزعفران باثق‬
‫والريحان يعبق الهواء بعرفه‪ ،‬وغير بعيد وعلى الشاطئ‬
‫ً‬
‫عظيمة تحيطها الحدائق الغناءة‬ ‫اآلخر انتصبت قصوراً‬
‫واألجمة الخضراء‪ ،‬واألشجار السامقة التي ال تبين‬
‫ً‬
‫عذبة مختلطة‬ ‫الرتفاعاتها نهاية‪ ،‬وتصدر منها ضحكات‬
‫لرجال ونساء بدا أنهم في السعادة من نهاية‪..‬‬

‫من مقربة؛ بدا الشاب أنه في العقد الثالث من عمره؛ أمرد‬


‫الوجه وريانه‪ ،‬سبط الشعر وأسوده‪ ،‬مرتديا ً ثوبا ً من حرير‬
‫سندسي أخضر‪ ،‬ومزركش بخطوط ذهبية‪ ،‬محلى المعصمين‬
‫بأساور من ذهب وفضة‪..‬‬

‫يخيم ظِ الً ناعما ً ومنيراً على كل األشياء من حوله‪..‬‬

‫ص َد َح ‪ -‬خلف الشاب ‪ -‬صوتا ً نسائيا ً رقيقا ً آسراً‪ ،‬كأنه‬


‫فجأة؛ َ‬
‫تغريدة كروان أو عندلة عندليب أو زقزقة عصفور‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫‪ -‬حبيبي ؟‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫استدار الشاب ونظر خلفه وابتسامة عريضة محتلة كامل‬


‫فتجلَ ْت أمامه امرأة فارعة الطول‪ ،‬تدلف‬
‫تقاسيم وجهه؛ َ‬
‫صوبه من قصر قريب عظيم البنيان ومن حولها الزهور‬
‫بألوانها المختلفة مبثوثة‪ ،‬والفراشات البديعة األلوان تحوم‬
‫باألفق في بهجة ربيعية‪.‬‬

‫اقتربت‪ ،‬فت َبد ْ‬


‫َت امرأة بالعقد الثالث من عمرها‪ ،‬وضاءة‬
‫الوجه‪ ،‬واسعة العينين سوداواتهما‪ ،‬أسيلة الخدان‪ ،‬حمراء‬
‫الشفتان‪ ،‬شعرها ذهبي ناعم مرسل حتى كعبيها‪ ،‬ممشوقة‬
‫القد‪ ،‬كاعبة النهد‪َ ،‬ت َر َّفل ُ في فستان أبيض حريري ملتف‬
‫حول خصرها الدقيق‪ ،‬موشى باللؤلؤ‪ ،‬شذاها مسكا ً تنثره‬
‫باألفق من حولها‪َ ،‬تلِفُها هالة من نور‪ ،‬تمس ُك بيديها كأسين‬
‫بلوريين‪ ،‬ملؤهما الخمر األحمر‪ ،‬وتعلوها ابتسامة آسرة‬
‫سافرة عن أسنان عاجية براقة‪..‬‬

‫وقف الشاب‪ ،‬فبدا وافر الطول واالمتالء‪ ،‬اقتربت منه‬


‫ولثمته من شفتيه‪ ،‬ثم أخذ كأسا ً وجلس فوق المصطبة‪،‬‬
‫س ْت بجواره‪ .‬ارتشف جرعة وتمطقها قائالً‪:‬‬
‫وجل َ‬
‫َ‬

‫‪ -‬الحمد هلل ‪ -‬ثم نظر إليها ‪ -‬أشكركِ زوجتي الجميلة؟‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ِا ْب َت َ‬
‫س َم ْت حور العين قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬ال شكر بجنة الخلد يازوجي الحبيب‪ ،‬لقد خلقنا هللا لكم أنتم‬
‫عباد هللا المؤمنين جزا ًءا لكم‪ ،‬ورهن إشارتكم!‪.‬‬

‫ش َف ْت من كأسها جرعة ووضعته بجوارها ومالت على‬


‫ثم ا ِْر َت َ‬
‫صدره وطوقته بذراعها‪ ،‬فراح الشاب يداعب خصالت‬
‫شعرها المتدلية على جبينها الرقراق‪ ،‬وبعد لحظات انفكت‬
‫س ْت بعذوبة قائلة‪:‬‬
‫عنه‪ ،‬و َه َم َ‬

‫‪ -‬اِحكِ لي عن َع َملُك الذي أتى بك إلى الجنة؟‪.‬‬

‫نظر لها الشاب وابتسم ثم قال‪:‬‬

‫‪ -‬الخلود !‪.‬‬

‫ابتسمت حور العين‪ ،‬وأصغت السمع‪ ،‬فأكمل قائالً‪:‬‬

‫‪ -‬كنت شابا ً رقيق الحال من أسرة فقيرة‪ ،‬أبي وافته المنية‬


‫لما كان عمري خمسة عشر عاماً‪ ،‬وكان لي أختين‪ ،‬أصغر‬
‫ُ‬
‫فاضطررت أن أعمل وأكد حتى أزوجهما‪ ،‬ولم‬ ‫مني سناً‪،‬‬
‫أكترث ألمر زواجي‪ ،‬وبعد زواجهما بعشرة أعوام وفرت‬
‫ماال ال بأس به‪ ،‬يكفي لزواجي‪ ،‬وكنت آنذاك قد اجتزت‬

‫‪101‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ُ‬
‫فسألت نفسي‪ :‬أأتزوج اآلن ؟‪.‬‬ ‫األربعين سنة من عمري‪،‬‬
‫قالت لي أمي ذات صباح وأنا ذاهب إلى العمل‪:‬‬

‫وجدت لك بنت الحالل وبعد عودتك سنذهب معا ً لنخطبها؟‪.‬‬


‫ُ‬ ‫‪-‬‬

‫ذهبت إلى العمل وقلبي مشغول؛ أخيراً‬


‫ُ‬ ‫فرحت كثيراً‪،‬‬
‫ُ‬
‫سأتزوج بعد سني الشقاء‪...‬‬

‫قاطعته حور العين سائلة‪:‬‬

‫‪ -‬ماذا كنت تعمل؟‪.‬‬

‫‪ -‬عامل على باب هللا؛ أمر باألسواق ومعي عدتي‪ ،‬وأجلس‬


‫على األرصفة بانتظار رزق الرزاق‪.‬‬

‫‪ -‬أكمِل؟‪.‬‬

‫‪ -‬انتهى اليوم وقد رزقني هللا‪ُ ،‬عدْ ُ‬


‫ت إلى البيت‪ ،‬فلم أجد‬
‫أمي‪َ ،‬ت َناه ْ‬
‫َت إلى أذني جلبة بالعمارة التي نسكن بطابقها‬
‫ُ‬
‫هرعت إلى السلم أرتقيه‪ ،‬فوجدت مصدر الجلبة شقة‬ ‫الثاني‪،‬‬
‫جارتنا ذات الخمسين عام‪ ،‬والتي مات زوجها منذ سنون‪،‬‬
‫وترك لها أربعة أطفال أيتام في رقبتها‪ ،‬ولم يترك لها‬
‫سواهم‪ ،‬وما من مصدر رزق سوى بيع المالبس التي‬

‫‪102‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫تشتريها األم من بعض المصانع للجيران بالتقسيط‬


‫والنسيئة‪.‬‬

‫ُ‬
‫وجدت أمي وبعض النسوة من الجيران كلهن‬ ‫ُ‬
‫دخلت الشقة‪،‬‬
‫ُ‬
‫وعرفت منهن أن أم األيتام مريضة‬ ‫في الحزن من نهاية‪،‬‬
‫بمرض خبيث‪ ،‬والبد لها من عملية جراحية وإال ماتت‪.‬‬

‫لم أنم تلك الليلة‪ ،‬من التفكير في حال أم األيتام تلك‪ ،‬وحال‬
‫سها سوء ال قدَّر هللا!‪.‬‬
‫أطفالها إن م ّ‬

‫ُ‬
‫اعتذرت لصديقتي عن عدم ذهابنا إليهم‬ ‫‪ -‬ألم تنم بعد؟ لقد‬
‫ُ‬
‫حكيت لها عن مرض جارتنا؟!‪.‬‬ ‫و‬

‫قالتها لي أمي‪ ،‬بعدما د ََخلَ ْت غرفتي وقد أح َ‬


‫ض َر ْت لي كوبا ً‬
‫استويت جالساً‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫من الشاي‪ ،‬وبعدما‬

‫‪ -‬تشغلني أم األيتام يا أماه !‪.‬‬

‫جلست أمي بجواري‪َ ،‬ز َف َر ْت ثم قالت‪:‬‬

‫‪ -‬القدر ما منه مفر يا بني!‬

‫‪ -‬لكن األيتام ما ذنبهم أن يهلكوا من بعدها؟‪.‬‬

‫‪ -‬لن ينساهم هللا‪ ،‬التضجر؟‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫وألتمس العوض من هللا!‪.‬‬


‫ُ‬ ‫‪ -‬أفكر في أن أُساعدها‪،‬‬

‫ف تساعدها؟ إن عمليتها ال يكفها كل ماجمعت بالسنين‬


‫‪ -‬ك َّي َ‬
‫العجاف‪ ،‬وأنت تعرف أني أريد أن أفرح بك قبل رحيلي !‪.‬‬

‫‪ -‬بارك هللا لنا في عمرك وأطاله يا أماه‪..‬‬

‫تركتني أمي‪ ،‬وأنا غارق في غياهب التفكير وفي نتائج‬


‫ُ‬
‫فقارنت بين النتائج الدنيوية‪ ،‬والنتائج‬ ‫تضحيتي تلك‪،‬‬
‫ُ‬
‫فكرت في الخلود‪ ...‬أجل‬ ‫األخروية‪َ ،‬ف َر َج َح ْت كفة األخروية‪،‬‬
‫وتزوجت بالمال فكم عاما ً‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وفكرت إن آثرت نفسي‬ ‫الخلود‪،‬‬
‫سأقضي متزوجا ً مهما طال العمر أوق ُ‬
‫صر؟ ولكن إن ادَّخر‬
‫لي هللا جزا ًءا لفعلي الخير ابتغاء وجهه؛ زوجة من حور‬
‫العين بالجنة فكم عاما ً سأقضيه معها؟ ال عدد‪ ،‬ال محدود‪،‬‬
‫النهاية‪ ،‬هو الخلود ثم الخلود‪.‬‬

‫وأخفيت عن أمي األمر‪ ،‬وا ْب َتلَ َع ْت تكاليف‬


‫ُ‬ ‫حينئذ؛ َق َر ْر ُ‬
‫ت؛‬
‫ُ‬
‫جمعت بسنيني العجاف‪ ،‬وكنت‬ ‫عملية أم األيتام كل ما‬
‫سعيداً؛ راض النفس‪ ،‬ولكن قدّر هللا وماشاء فعل؛ ماتت أم‬
‫األيتام في غرفة العمليات‪ ،‬ولما َع َر َف ْت أمي باألمر‪ ،‬قالت‬
‫لي‪:‬‬

‫‪102‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬انظر اآلن ماذا أنابك‪ ،‬خسرت أموالك‪ ،‬وحدث ماحدث!‪.‬‬

‫‪ -‬يا أمي أنا راض لست ساخطا ً وأحم ُد هللا على عاقبة‬
‫أمري‪ ،‬ولن أفكر بالزواج أبداً في هذه الدنيا‪ ،‬فحسبي جزاء‬
‫ربي باآلخرة‪.‬‬

‫تكفلت بأطفالها‪ ،‬واعتبرتهم أوالداً‬


‫ُ‬ ‫ومن بعد وفاة أم األيتام‪،‬‬
‫ُ‬
‫وغططت في العمل حتى أذناي‪ ،‬لتوفير المال لطعامهم‬ ‫لي‪،‬‬
‫ُ‬
‫كبرت‬ ‫ومل َبسهم وتعليمهم‪ ،‬وبعد مرور السنين‪ ،‬ووفاة أمي‪،‬‬
‫شب األطفال وأصبحوا‬
‫بالسن وخارت قواي‪ ،‬لكن بعد أن َّ‬
‫ُ‬
‫ومرضت بنفس مرض أم‬ ‫رجاالً يعتمدون على أنفسهم‪،‬‬
‫األيتام الخبيث‪ ،‬لكني لم أخبر أحداً‪ ،‬حتى وافتني المنية‪،‬‬
‫ُ‬
‫وأصبحت معكم اآلن وعوضني هللا‬ ‫وتغمدني هللا برحمته‪،‬‬
‫عن الزوجة بثالثة‪ ...‬وبالخلود‪.‬‬

‫صد ََح ْت ضحكات وأغنوجات ساحرة أمام القصر المنيف‪.‬‬


‫َ‬
‫اِل َت َف َت َ‬
‫ت الحورية خلفها وتبس َم ْت ثم قالت‪:‬‬

‫‪ -‬وها هما قادمتان؛ زوجتك الثانية من حور العين‪،‬‬


‫وزوجتك البشرية التي تزوجتها بالجنة‪..‬‬

‫‪105‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫كيدهن‬

‫‪104‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫عندما ُتظلم الشمس فجأة‪ ،‬وتصبح وحيداً في ظلمات لج؛ ال‬


‫تدري سببا ً لجل آالمك‪ ...‬هذا ما أشعر به اآلن!‪.‬‬

‫منذ أكثر من عقدين؛ كان أبي السيد ”عبد الغني“ متزوجا ً‬


‫من السيدة ”جليلة“ وكان لديه أربعة أوالد وفتاة‪ ،‬كانوا‬
‫يتدرجون باألعمار من عشرة فأقل‪..‬‬

‫ذات يوم رأى ”منى“ أمي‪ ،‬وحدث أن كانت موظفة بسيطة‬


‫بإحدى شركاته‪ ،‬تنحدر لعائلة فقيرة زرية‪ ،‬تقطن إحدى‬
‫األحياء العشوائية حول القاهرة؛ أ ُ ْع ِج َ‬
‫ب أبي بحسنها‬
‫ومالحتها‪ ،‬ومرت األيام‪ ،‬وتزوجها سراً بعقد شرعي ‪ -‬بنا ًء‬
‫على طلبها ‪ -‬اتفق معها على عدم االنجاب!‪.‬‬

‫أمي كأي امرأة تتحرق إلنجاب طفالً لتصبح أم‪ ،‬وشعرت بأن‬
‫هذا الشرط مجحف ويسلبها حقوقها!‪ .‬ال أدري لماذا ارتبطت‬
‫به مع وجود شرط كهذا؛ ربما لينتشلها من الفقر‪ ،‬أوربما‬
‫ألنه زوج ال أكثر!‪.‬‬

‫َح َملَ ْت بي ولم تعلمه بالخبر حتى َند ََح ْت بطنها‪ ،‬فأمرها بأن‬
‫تتخلَص من حملها‪ ،‬وهذا ما رفضته أمي‪ ،‬وبدأ النقار‬
‫َ‬

‫‪101‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫بينهما‪ ،‬فلم تتحمل أمي الوضع المتذبذب‪ ،‬غاد ََر ْت شقته‪،‬‬


‫وعادت إلى شقة أمها‪ ،‬وطردها من العمل‪..‬‬

‫مرت الشهور‪ ،‬وقاربت على إنجابي‪ ،‬وقد كانت لها صديقة‬


‫حميمة بالعمل تدعى ”فاطمة“ لم تتخل عنها أبداً‪ ،‬كانت‬
‫تقرضها األموال وقت عوزها وفاقتها‪..‬‬

‫َك ُب َر على ”فاطمة“ الظلم الذي وقع لخليلتها ”منى“ وذات‬


‫يوم َذ َه َب ْت إلى زوجة أبي؛ السيدة ”جليلة“ تستجديها‬
‫وتستعطفها‪ ،‬وحكت لها عن قصة زواج أمي بأبي ونذالته‪،‬‬
‫فوجدتها غير غاضبة وال مكترثة‪ ،‬بل متعاطفة مع أمي‪.‬‬

‫كانت جالسة في بهو القصر في حلة حريرية‪ ،‬مشعلة‬


‫سيجارة نسائية فاخرة‪ ،‬وفاطمة منكمشة أمامها أرضاً‪،‬‬
‫قالت‪:‬‬

‫‪ -‬ال يصح أن نترك لحمنا ودمنا‪ ،‬نحن لسنا بأنذال‪ ،‬وأنا‬


‫سأتصرف مع عبد الغني!‪.‬‬

‫وأعطت فاطمة مبلغ من المال لتعطه ألمي نفقة والدتها‪،‬‬


‫وشكرتها لوقوفها بجانب منى‪ ،‬فقالت فاطمة‪:‬‬

‫‪102‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬هذه خليلتي ياسيدتي‪ ،‬وال يصح أن أتخلى عنها وال أُشكر‬


‫على فعلي معها!‪.‬‬

‫وبعد والدتي ظلت تتردد عليها لمدة عامين‪ ،‬وكانت ُتبدي‬


‫السخاء‪ ،‬والعطف والرحمة‪ ،‬وكانت أمي ُت َقدِّر جليلة هانم‬
‫قدرها وتحترمها‪ ،‬وأبي ليس له أي دور بتاتاً‪ ،‬وال يكترث‪،‬‬
‫وكأنه ال يعلم خبراً‪..‬‬

‫”رائد“ كان اِسمي‪ ،‬ولكن رائد في ماذا؟ ال أدري؛ حتى‬


‫هيئتي رائد بها‪ ،‬فأنا طويل القامة‪ ،‬هزيل الجسم‪ ،‬وعابس‬
‫الوجه‪ ..‬ح َك ْت لي جدتي كل ما سلف‪ ،‬وح َكت لي أيضا ً عن‬
‫آخر لقاء كان لها مع أمي‪ ،‬قالت‪" :‬وجدت أمك تحملك ‪-‬‬
‫وعمرك عامين ‪ -‬وت ِهم بالخروج‪ ،‬كانت ليلة شتاء قارسة‬
‫البرد‪ ،‬ومطرها على وشك السقوط‪ ،‬عندها انقبض قلبي‪،‬‬
‫سألتها‪:‬‬

‫‪ -‬أين ستذهبين في هذا الوقت وفي هذا المناخ يا منى؟‪.‬‬

‫أجابتني على مضض‪:‬‬

‫‪ -‬السيدة ”جليلة“ تريد أن تقابلني وترى الصغير!‪.‬‬

‫‪ -‬أفي هذا الوقت المتأخر من الليل؟!‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫تقلق‪ ،‬فاطمة ستذهب معي؟‪.‬‬


‫ِ‬ ‫‪ -‬ال‬

‫َودَّع ُتها وقد ازداد انقباض قلبي‪ ،‬وقد اعتلجني الشك‪ ،‬فهي‬
‫ْ‬
‫أظهرت‪ ،‬رغم وقفتها مع منى‪ ،‬فما كانت‬ ‫ضرتها مهما‬
‫ُ‬
‫مساندتها لها سوى مالليم‪ ،‬بيد أن منى لها حقوق عندهم‬
‫تفوق ذلك بكثير‪ ،‬مرت الليلة‪ ،‬وجاء الصباح ولم تعد منى‬
‫بعد‪ ،‬زاد قلقي‪ ،‬وقض مضجعي الجمر خوفا ً عليها‪ ،‬حتى‬
‫طرق بابي؛ إذ بالشرطة تخبرني عن وفاة أمك وصديقتها‬
‫بحادثة سير‪ُ ،‬ذه ُ‬
‫ِلت ولم أقتنع‪ ،‬وساورتني ظنوني أن الفاعل‬
‫هي السيدة جليلة! ولكن الدليل لدي ألورطها وآخذ بالثأر‪،‬‬
‫وكانت المعجزة نجاتك أَ ْن َ‬
‫ت حينما افتدك أمك!‪.‬‬

‫ليلتئذ؛ ُ‬
‫قلت للشرطة أنها هي َمنْ قتلت ابنتي وصديقتها‪.‬‬
‫وعند استجوابها قالت أنها التعلم شيئاً‪ .‬ولم يثبت عليها‬
‫شيء‪ ،‬وأخيراً علم أبوك بما حدث‪ ،‬ولتثبت حسن نيتها ألبيك‬
‫وللناس؛ طلبت مني أن تكفلك وترعاك بين أبنائها‪ ،‬ولكني‬
‫رفضت‪ ،‬وتكفل أبوك بنفقتك‪ ،‬وتعليمك‪ ،‬حتى كبرت‪ ،‬وصرت‬
‫شاباً‪ ،‬وانتقلت لتعيش بينهم‪".‬‬

‫‪110‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ُ‬
‫وجدت‬ ‫ُ‬
‫انتقلت إلى بيت أبي‪،‬‬ ‫رحمك هللا يا أمي‪ ،‬وعندما‬
‫سوء المعاملة‪ ،‬ولم أُقم عندهم طويالً‪ ،‬ألني ُط ُ‬
‫ردت من‬
‫البيت‪ ،‬بنا ًء على طلبها‪ ،‬وأسكنني أبي بتلك الشقة باإليجار‪،‬‬
‫وكنت دائم التردد على جدتي‪ ،‬وجعلني أعمل بأحدى شركاته‬
‫عمالً بسيطا ً نظير مبلغ زهيد‪..‬‬

‫تذكرت ذاك الموقف الذي ُط ِر ُ‬


‫دت من البيت بسببه‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وكلما‬
‫امتزجت دموعي بضحكاتي؛ السيدة ”جليلة“ قالت ألبي ذات‬
‫ً‬
‫مرتدية قميص‬ ‫ُ‬
‫دخلت عليها غرفة نومها‪ ،‬وكانت‬ ‫يوم؛ أنني‬
‫نوم قصير وكنت أحملق إلى جسمها بنهم‪ ،‬وكدت أن‬
‫أتحرش بها!‪.‬‬

‫ُ‬
‫لبيت سبتني وزجرتني‬ ‫والحقيقة؛ أنها هي التي نادتني ول َّما‬
‫ُ‬
‫ومانظرت لجسدها قط‪ ،‬وحدث ماحدث‪..‬‬

‫أ َت َع َج ُ‬
‫ب؛ امرأة تدلف العقد الخامس من عمرها‪ ،‬ومن‬
‫المفترض أنها بمكانة األم بالبيت‪ ،‬تتهمني بتلك التهمة‬
‫علي! لماذا؟‬
‫ّ‬ ‫الباطلة‪ ،‬والتي سرعان ماصدقها أبي‪ ،‬وسخط‬
‫هذا ما يبكيني‪ ،‬أما ما يضحكني فهو ظني في أنها تريد أن‬

‫‪111‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫تبرهن لنفسها أوال وألبي ثانية؛ أنها مازالت أنثى مرغوبة‪،‬‬


‫و ِم َّمنْ ! شاب أصغر من أبنائها!‪.‬‬

‫ُ‬
‫ماعدت أستبعدها من قتل أمي!‪.‬‬ ‫يالها من خرفة خرقة‪ ،‬وهللا‬

‫***‬

‫ُ‬
‫وأردت أن أتزوج وأستقر‪،‬‬ ‫ُ‬
‫اجتزت العشرين سنة‪،‬‬ ‫باألمس؛‬
‫ُ‬
‫ذهبت إلى مكتب أبي‪ ،‬جلست‪ ،‬قلت له‪:‬‬

‫‪ -‬أريد أن أتزوج؟‪.‬‬

‫كان جالسا ً خلف مكتبه الفخم‪ ،‬مرتديا ً بدلته األنيقة‪ ،‬ال تبدو‬
‫عليه عالمات الكبر أو تجاعيده‪ ،‬وجها ً رياناً‪ ،‬وحاجبان‬
‫مقطبان‪ ،‬كان يدخن سيجاره الضخم بشراهة‪ .‬نفخ دخانه‬
‫باتجاهي مبتسما ً ثم قال‪:‬‬

‫ظننت نفسك رجالً؟‪.‬‬


‫َ‬ ‫‪ -‬يا نجس! أَ َبلَ ْغت و‬

‫طأطأت رأسي أرضاً‪ ،‬أضاف بغضب‪:‬‬


‫ُ‬

‫‪ -‬ألهذا كنت تغازل المرأة التي ر َّبت َك يا وقح ؟‪.‬‬

‫‪ -‬وهللا مافعلت ‪ -‬ثم عال صوتي ‪ -‬أنا ال أريد سوى الحالل!‬


‫وأَ ْن َ‬
‫ت تعلم أني ال أملك ماالً‪ ...‬قاطعني معنفاً‪ ،‬قال‪:‬‬

‫‪112‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬يا وقح‪ ،‬وتتهم المرأة الشريفة الخيرة التي آوتك بالكذب‬


‫؟‪.‬‬

‫‪ -‬أنا ال أتهمها‪ ...‬قاطعني‪:‬‬

‫‪ -‬اعتمد على نفسك‪ ،‬وز ِّوج نفسك‪ ،‬لن أزوجك من مالي يا‬
‫نجس‪ ،‬انتهى‪.‬‬

‫‪ -‬أنا ابنك‪ ...‬ابنك ‪ -‬ثم نزلت دموعي ‪ -‬زوجني كما زوجت‬


‫أخوتي وأسست لهم بيوتاً‪.‬‬

‫‪ -‬أتحق ُد على أخوتك وتغار منهم على تعبهم وكدِّهم‪ ،‬هم‬


‫ت؟ ماذا قدمت لي؟‪.‬‬ ‫تعبوا معي‪ ،‬عملوا معي‪ ،‬ماذا فعلت أَ ْن َ‬

‫‪ -‬أنا أعمل معك أيضاً‪ ،‬وال أريد أكثر من حقي‪ ،‬أما أَ ْن َ‬


‫ت أبي‬
‫الذي أنجبني؟‪.‬‬

‫‪ -‬ليس لعملك فائدة معي‪ ،‬اُغ ُرب عني ال أريد أن أرى وجهك‬
‫‪ -‬ثم ساخراً مني ‪ -‬يريد أن أزوجه؛ وهللا عجائب!‪.‬‬

‫ُ‬
‫وهممت بالخروج‪ ،‬ولكن حاكت في‬ ‫ُ‬
‫نهضت‬ ‫ُ‬
‫كفكفت دموعي‪،‬‬
‫ُ‬
‫فاستدرت وقلت له‪:‬‬ ‫صدري جملة ُكبتت سنين‪،‬‬

‫‪ -‬أَ ْن َ‬
‫ت أب ظالم!‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫قام فجأة‪ ،‬واقترب مني وصفعني على وجهي بقوة‪ ،‬وصرخ‬


‫بي‪:‬‬

‫ُ‬
‫صرخت‬ ‫‪ -‬أخرج يا عاق‪ ،‬ال أريدك في عملي أو في بيتي ؟‪.‬‬
‫به‪:‬‬

‫اتق‬ ‫‪ -‬أَ ْن َ‬
‫ت العاق لست أنا‪ ،‬ظلمتني وظلمت أمي من قبل‪ِ ،‬‬
‫هللا؟‬

‫‪ -‬غلطتي الوحيدة أني تزوجت أمك‪ ،‬تلك الحثالة‪ ،‬التي كانت‬


‫تطمع في أموالي ‪.‬‬

‫ابتعدت عنه قليالً‪ ،‬قلت بصوت متهدج مقهور‪:‬‬


‫ُ‬

‫تتقول‬
‫‪ -‬اذكروا محاسن موتاكم؟ هي في عالم الحق‪ ،‬ال َّ‬
‫عليها بما ليس فيها‪ ،‬أَ ْن َ‬
‫ت َمنْ توددت إليها طمعا ً فيها‪،‬‬
‫نهشتها لحما ً ورميتها عظماً!‪.‬‬

‫‪ -‬هأ! لم تكن لها حسنة معي‪ ،‬عاقتني مثل ما عاققتني أَ ْن َ‬


‫ت‬
‫اآلن ‪.‬‬

‫‪ -‬حسبي هللا‪...‬‬

‫‪ -‬اِنكشِ ح؟‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬سأنكشِ ح‪.‬‬

‫وعدت إلى الشقة كارها ً لثيابي‪..‬‬


‫ُ‬ ‫خرجت من عنده باكياً؛‬
‫ُ‬

‫***‬

‫منذ عدة ساعات؛ أتوا أخوتي األربعة يتمطوون الخطى‬


‫وأبلغوني تأكيداً لما قاله لي أبي بالمكتب‪ ،‬وها أنذا أهم‬
‫بلملمة أمتعتي‪ ،‬ولكن أين الوجهة؟ ال يوجد سوى جدتي‬
‫الطاعنة بالسن وجهة‪ ،‬وخالتي التي توفى زوجها وترك لها‬
‫بنتا ً جميلة‪ ،‬وسكنت بشقة جدتي ترعاها‪ ،‬وتنفقان من‬
‫معاشيهما‪ ،‬والمال الذي كنت أرسله لهما قبل طردي من‬
‫سأذهب‪ ،‬وسأبحث عن أي عمل نقتات منه‪ ،‬عسى أن‬
‫ُ‬ ‫العمل‪،‬‬
‫يعوضني هللا خيراً ‪..‬‬

‫”رؤى“ بنت خالتي؛ إن شاء هللا سأطلبها للزواج‪ ،‬هي من‬


‫جلدتي‪ ،‬وليعينني هللا على توفير المال للزواج بها‬
‫وإسعادها‪..‬‬

‫فجأة؛ أتوقف عن تذكر أي شيء يزعجني‪ ،‬أعدل ُ من‬


‫جلستي على المقعد‪ ،‬أتناول هاتفي من فوق المنضدة‪ ،‬اتصل‬
‫علي رؤى‪ ،‬أقول لها‪:‬‬
‫ّ‬ ‫بجدتي‪ ،‬ترد‬

‫‪115‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬أنا قادم إليكم ‪.‬‬

‫تضحك وتقول‪:‬‬

‫‪ -‬زيارة ؟‪.‬‬

‫‪ -‬ال‪ ...‬زواج ‪.‬‬

‫‪ِ -‬م َّمنْ ؟‪.‬‬

‫‪ -‬أمن جدتي مثالً أم خالتي؟‪.‬‬

‫تضحك ثم تسألني‪:‬‬

‫‪ -‬إِ َذاً ِم َّمنْ فما تبقى سواي؟‪.‬‬

‫‪ -‬أصحيح؟‪.‬‬

‫‪ -‬بلى!‪.‬‬

‫‪ -‬إِ َذاً منكِ أَ ْن ِ‬


‫ت طالما لم يتبق غيركِ !‪.‬‬

‫تستحي ثم تنهي المكالمة بدون استئذان كعادتها!‪.‬‬

‫‪ -‬كم أعشق سجيتها!‪.‬‬

‫يدق هاتفي‪ ،‬أنظر به فإذا به زميل لي يعمل بشركة أبي‪،‬‬


‫أتعجب؛ أفتح الخط‪ ،‬يقول‪:‬‬

‫‪114‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬مصيبة يا رائد!‪.‬‬

‫أرد بقلق‪:‬‬

‫‪ -‬ماذا حدث؟‪.‬‬

‫‪ -‬زوجة أبيك وأخوتك األربعة‪ ،‬انقلبت بهم السيارة منذ قليل‬


‫وقد فارقوا الحياة جميعاً‪ ،‬لم يتبق لك سوى أبيك وأختك‬
‫المتزوجة!‪.‬‬

‫أُصدم‪ ،‬أقول‪:‬‬

‫‪ -‬إ َّنا هلل وإ َّنا إليه راجعون!‪.‬‬

‫‪ -‬وأبيك في حالة يرثى لها ‪.‬‬

‫‪ -‬كان هللا في عونه!‪.‬‬

‫وأُنهي المكالمة وأنا أرتعد‪ ،‬أرتجف‪ ،‬أتصبب عرقا ً‪..‬‬

‫أنهض كي ألملم أمتعتي وأرحل‪ ،‬يدق الهاتف مرة ثانية؛‬


‫ُ‬
‫أنظر بشاشته فأجده رقم أبي؛ تزايلني الرجفة‪ ،‬أرفض‬
‫المكالمة‪ ،‬أغلق الهاتف‪ ،‬وأذهب ألتجهز للرحيل إلى عائلتي‬
‫الحقيقية‪ ،‬متمتماً‪:‬‬

‫لست نبيا ً والقسوة ال تورث إال القسوة!‪.‬‬


‫ُ‬ ‫‪-‬‬
‫‪111‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫لحظات‪ ،‬وأتراجع‪ ،‬أمس ُك الهاتف‪ ،‬أقوم بالضغط على زر‬


‫التشغيل‪ ،‬ثم أنتظر الشاشة لتضيء‪..‬‬

‫‪112‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫حب حتى الثمالة‬

‫‪117‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫عند تهيؤ الشمس للرحيل؛ كان شابا ً ثالثيني العمر‪ ،‬نحيل‬


‫الجسم‪ ،‬طويل القامة‪ ،‬يرتدي معطفه الجلدي األسود‪،‬‬
‫ويلتحف ملفه الصوفي البني ليتقي برد الشتاء القارس؛‬
‫واقفا ً في شرفة الطابق الثاني بمنزله المحاط باألجمة‬
‫الخضراء من كل االتجاهات‪..‬‬

‫كان يتأمل السماء الملبدة بالغيوم السوداء‪ ،‬التي على وشك‬


‫إسقاط حمولها أرضاً‪..‬‬

‫بدا وجهه عبوساً‪ ،‬وعيناه تنضحان ألم وبؤس‪ ،‬وأسفلهما‬


‫سواد شديد يثني على بؤسه‪..‬‬

‫ومض البرق في‬


‫َ‬ ‫بدا شارداً‪ ،‬ممسكا ً بسيجارة أشعلها تواً‪.‬‬
‫ثنايا السماء البعيدة‪ ،‬ف ُخ ِّيل إليه وكأنه نقش ألول حرف من‬
‫اسمها‪..‬‬

‫اشتد البرق‪ ،‬عال هزيم الرعد‪ ،‬وبكت السماء وتساقطت‬


‫دمعاتها ‪..‬‬

‫انطفأت السيجارة ل ّما لحقتها قطرات المطر‪ ،‬اشتد البرد‪،‬‬


‫عاد أدراجه ُمغمغماً‪:‬‬

‫‪ -‬سأدخل ُ فالجو صار برداً!‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫كانت عقارب ساعة الحائط الباهتة المعلقة بالجدار بالداخل‪،‬‬


‫تزحف صوب السادسة؛ أغلق باب الشرفة الزجاجي‪ ،‬دلف‬
‫إلى مقعد بباحة البيت‪ ،‬جلس‪ ،‬دك ماتبقى من السيجارة‬
‫بالمنفضة الموضوعة على منضدة وطيئة أمامه‪ ،‬وبجانبها‬
‫علبة السجائر والقداحة‪ ،‬وقنينة خمر‪ .‬أشعل سيجارة جديدة‪،‬‬
‫وصب كأس من الخمر‪ ،‬وجرعه دفعة واحدة!‪.‬‬

‫كانت اإلضاءة خافتة‪ ،‬تنبعث من عدة مصابيح واهنة معلقة‬


‫بالجدران‪ ،‬طل البرق عليه من خلف زجاج الشرفة أمامه‪،‬‬
‫شعر بأن الزجاج سيتحطم من قوة صيحات الرعد ‪..‬‬

‫أطرق رأسه قليالً‪ ،‬ثم رفعها فجأة وبدا أنه تذكر شيئا ً ما !‪.‬‬

‫شرد بذهنه بعيداً عن كرسيه‪ ،‬الحت بأفقه سحابات ذكرياته‬


‫البائدة‪ ،‬نطق بصوت ُمتقطع‪:‬‬

‫‪ -‬لم تتركين لي‪ ...‬سوى بصيص من ذكرياتكِ ‪...‬‬


‫الموجعة؟!‪.‬‬

‫تسربت دمعة من عينه اليسرى إلى خده الشاحب‪ ،‬فكفكفها‬


‫سريعاً‪ ،‬وكأنه يخشى أن تراها عينه اليمنى ‪..‬‬

‫‪121‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫إحمرت‬
‫َّ‬ ‫صب كأس خمر وجرعه سريعاً؛ صمت لحظات وقد‬
‫عيناه‪ ،‬وفجأة؛ شعر بأن آذانه تلتقط نداءات امرأة بصوت‬
‫ت من مكان سحيق‪ ...‬صاح ممتعضاً‪:‬‬
‫آ ِ‬

‫‪ -‬الصوت بعيد‪ ...‬الصوت بعيد!‪.‬‬

‫عاد الصوت ليصدح بأذنيه فصاح تارة أخرى‪:‬‬

‫‪ -‬ال أسمع! الصوت بعيد ‪...‬أرجوكِ ماذا تقولين؟!‪.‬‬

‫ُذ ِر َف ْت دموعه بغزارة‪ ،‬دك ماتبقى من السيجارة بالمنفضة‪،‬‬


‫هب واقفا ً كالمذعور‪ ،‬راح يذرع الباحة رواحا ً ومجيئا ً‬
‫واضعا ً كفيه خلف أذنيه ليصيغ السمع‪ ،‬وباحثا ً عن مصدر‬
‫الصوت‪ ،‬ولكن دون أيما فائدة؛ فقد انقطعت النداءات!‪.‬‬

‫حينئذ؛ انخرط في نحيب حاد‪..‬‬

‫لحظات وتوقف أمام الموقد المتوهج‪ ،‬الذ في صمت ُمطبق؛‬


‫تخلل الصمت هزيم الرعد القوي‪ ،‬وبعد لحظات نزل على‬
‫ركبتيه مستقبالً المدفئة البارزة عن الجدار‪ ،‬مد ذراعيه‬
‫أمامه متأمالً النار‪..‬‬

‫فجأة صرخ ساخطاً‪:‬‬

‫‪122‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬أين دفئك أيتها الجحيم ؟‪ ...‬ال ُ‬


‫زلت أشعر بالبرد ‪ ...‬أشعر‬
‫بالبرد!‪.‬‬

‫أطرق رأسه‪ ،‬أراح إليته فوق كاحليه‪ ،‬وضع ذراعيه فوق‬


‫ظاهر فخذيه وكأنه في جلسة استراحة مابين السجدتين‬
‫بصالة المسلمين‪ ،‬أو كأنه يؤدي طقوسا ً للنار كعبدتها!‪.‬‬

‫لحظات ورفع بصره ألعلى‪ ،‬فوقع بصره على صورة‬


‫مبروزة بإطار ُمذهب‪ ،‬ومعلقة على الجدار أعلى المدفأة‬
‫يميناً‪..‬‬

‫راح يتأمل الصورة التي يظهر فيها بجانب زوجته الصهباء‬


‫الباسمة‪ ،‬ذات الشعر الحريري المنسدل على كتفيها‪،‬‬
‫والعينين الخضراوين الواسعتين‪ ،‬ووجهها الوضاء‪.‬‬
‫تتوسطهما فتاة صغيرة في سن الرابعة تحملها األم على‬
‫ذراعها‪ ،‬تجمع في مالمحها بين أمها وأبيها؛ الوجه‬
‫الوضاء‪ ،‬هو ما أخذته من أمها‪ ،‬ومن أبيها نظرته الشاردة‬
‫والواضحة بتجل في الصورة!‪..‬‬

‫‪123‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫أغمض عينيه‪ ،‬أجهش بالبكاء‪ ،‬رمى رأسه إلى الخلف‪،‬‬


‫وفجأة‪ ،‬التحفت الرعشة الشديدة سائر جسمه‪ ،‬صاحبها أنين‬
‫وتوجع؛ ثم سقط على األرض مغشى عليه!‪..‬‬

‫ومايزال البرق يطل من زجاج النوافذ من فينة ألخرى‪،‬‬


‫ومازال الرعد يدغدغ سماء الصمت بالخارج‪ ،‬دون كابح أو‬
‫مانع‪..‬‬

‫***‬

‫بتناوب سحابات رائحة نتانة على أنفه؛ فتح‬


‫ْ‬ ‫فجأة؛ أحس‬
‫عينيه؛ فذ من جلسته‪ ،‬اشتم الرائحة‪ ،‬تقزز واشمأزت‬
‫تقاسيم وجهه!‪.‬‬

‫دلف بطرقة البيت الضيقة متعقبا ً مصدر الرائحة‪ ،‬حتى‬


‫وصل إلى باب إحدى الغرف‪ ،‬تمتم‪:‬‬

‫‪ -‬إذا الرائحة لكِ أنتِ؟!‪.‬‬

‫قهقه بصوت عال‪ ،‬وتملكته ضحكات مجلجلة‪ ،‬ثم فتح الباب‬


‫ودلف إلى الغرفة المظلمة‪ ،‬فجأة؛ توقف عن الضحك‪،‬‬
‫وخرج مسرعاً‪ ،‬مذعوراً مردداً‪:‬‬

‫‪122‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬القداحة ‪ ...‬القداحة!‪.‬‬

‫خطف القداحة من فوق المنضدة‪ ،‬ثم عاد سريعاً‪ ،‬دخل‬


‫الغرفة‪ ،‬أشعل القداحة‪ ،‬وجد الغرفة خالية من أيما أثاث‬
‫سوى تابوت خشبي مقفل ومسجى أرضاً‪..‬‬

‫اقترب من التابوت‪ ،‬أطفأ القداحة؛ جثا ركبتيه أمام التابوت‪،‬‬


‫ْ‬
‫جحظت عيناه‪،‬‬ ‫وصله؛ رفع يده‪ ،‬أشعل القداحة أمام وجهه؛‬
‫وراح يتفحص التابوت بنهم وانتشاء!‪.‬‬

‫تحسس بيده سطح التابوت متمتماً‪:‬‬

‫ت أيتها الراحلة ‪ ...‬كان الصوت لكِ ‪ ،‬والرائحة أيضا ً‬


‫‪ -‬إذا أن ِ‬
‫ُ‬
‫الزلت أحبكِ ‪ ...‬ولكن ماحدث لكِ‬ ‫لكِ ‪ ،‬رغم أنكِ تركتني‬
‫تستحقينه!‪.‬‬

‫ثم قهقه بسعادة غامرة حتى سعل عدة سعالت‪ ،‬وخشخش‬


‫صدره‪ ،‬فتوقف ورفع بصره الى األمام‪ ،‬أغمض عينيه‪ ،‬ثم‬
‫عاد بذاكرته إلى الخلف‪..‬‬

‫***‬

‫أطفأ القداحة‪ ،‬فسمع صوت زوجته تقول‪:‬‬

‫‪125‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬ألم تعدني بأنك ستقلع ع َّما تتعاطاه؟‪.‬‬

‫كان الزوج جالسا ً على طرف السرير مرتديا ً منامته‪،‬‬


‫وممسكا ً بين أنامله سيجارة مشتعلة‪ ،‬وكانت زوجته تجلس‬
‫أمام المرآة تتأمل وجهها‪ ،‬وكانت ترتدي قميص نوم أسود‬
‫طويل‪ ،‬في إضاءة منبعثة بوهن من أبجورتان على جانبي‬
‫السرير ‪..‬‬

‫ُ‬
‫مشتاق إليكِ ؟‪.‬‬ ‫‪ -‬هلم فأنا‬

‫ْ‬
‫هبت واقفة‪ ،‬قالت‬ ‫قالها بصوت حنون‪ ،‬فنظرت إليه‪،‬‬
‫غاضبة‪:‬‬

‫‪ -‬لن تلمسني إال بعدما أن تنف ُذ وعدك لي؟‪.‬‬

‫دك السيجارة بمنفضة فوق منضدة لصق السرير‪ ،‬هب‬


‫واقفاً‪ ،‬قال لها بلهجة ناعمة يستجديها‪:‬‬

‫‪ -‬حبيبتي ‪ ...‬صار لنا شهور وال أذكر أن نمنا على سرير‬


‫واحد أبداً‪ ،‬في كل مرة تخرجين لي بذريعة تلو أخرى‪ ،‬لقد‬
‫ُ‬
‫سئمت صدقيني!‪.‬‬

‫صاحت به‪:‬‬

‫‪124‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ُ‬
‫سئمت منك ومن وهنك‪ ،‬وحتى إن نمنا في سرير‬ ‫‪ -‬أنا التي‬
‫واحد‪ ،‬ما الذي باستطاعتك أن تفعله؟ ستق ِّبلني قبلتين‪ ،‬وقبل‬
‫الثالثة ستكون قد بللت نفسك‪ ،‬وتنقلب على جنبك وتعطني‬
‫ظهرك‪ ،‬وتتركني ملتاعة شبقة‪...‬أليس كذلك؟‪.‬‬

‫نقأ وجهها وأدمعت عيناها وأكملت‪:‬‬

‫‪ -‬بالها قربة منك‪ ،‬سأذهب لغرفة ابنتي‪ ،‬ألنم بجانبها‪ ،‬فعلى‬


‫األقل سترتمي لتنم بحضني‪ ،‬ولن تعطني ظهرها مثلك يا‬
‫سبع الرجال!‪.‬‬

‫طأطأ الزوج رأسه أرضاً‪ ،‬وانهد جالساً‪ ،‬على السرير وأسند‬


‫ظهره إلى حافته‪ ،‬وزم رجليه وتقوقع على نفسه‪ ،‬وبدأ‬
‫ينحب نحيبا ً شديداً‪ ،‬عندها اقتربت زوجته منه‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫‪ -‬لماذا تبكي اآلن؟ أنت من أوصلتنا لهذا الوضع‪ ،‬لقد عشنا‬


‫ثالثة أعوام جميلة‪ ،‬كنت جيداً معي لم تقصر في واجباتك‬
‫ُ‬
‫اكتشفت أنك تضاجعني‬ ‫الزوجية‪ ،‬وكنت أظنك خارقا ً حتى‬
‫متعاطيا ً أقراص جنسية منشطة‪ ،‬وعودتني على قوتك‬
‫المزيفة‪ ،‬واآلن لم تعد قادراً حتى على ابتالع قرص صداع‪،‬‬
‫ْ‬
‫وأصبحت أنت والحائط سواء!‪.‬‬ ‫وأصابك الوهن والتلف‪،‬‬

‫‪121‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫رفع الزوج بصره‪ ،‬قال باستحياء‪:‬‬

‫‪ -‬أنا احبكِ أال تتحملينني؟‬

‫‪ -‬وما الذي يجبرني على أن أتحمل نزقك وسذاجتك؟ أنا‬


‫ُ‬
‫مازلت شابة ولن أدفن نفسي معك وأضحي بحياتي من‬
‫أجلك أبداً‪.‬‬

‫‪ -‬أنا أحبكِ ‪ ...‬تحمليني‪ ...‬أرجوكِ ؟‪.‬‬

‫‪ -‬أنت تهذي ‪...‬‬

‫‪ -‬سأقتلكِ ‪..‬‬

‫‪ -‬لقد قتلتني من قبل كثيراً!‪.‬‬

‫‪ -‬أنا أحبكِ أرجوكِ ال تتركيني؟‪.‬‬

‫استدارت وتركت الغرفة ذاهبة لغرفة الطفلة‪ ،‬فدفن رأسه‬


‫بين ركبتيه ‪..‬‬

‫تمتمت الزوجة بسخط‪:‬‬

‫‪ -‬إرهاصات جنون‪ ،‬ولن أعيش مع مجنون ‪ ...‬سأرحل!‪.‬‬

‫***‬

‫‪122‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫مرت ساعة‪ ،‬ومازال مدفون الرأس ينتحب‪ ،‬يغمغم‪ ،‬يتوجع‪،‬‬


‫يئن!‪ .‬وفجأة؛ رفع بصره‪ ،‬هب واقفا ً وعيناه تقدحان‬
‫بالشرر‪ ،‬خرج من غرفته مسرعاً‪ ،‬وجدها بالطرقة‪ ،‬ولم‬
‫تدخل غرفة أبنتهما بعد‪ ،‬صاح حانقاً‪:‬‬

‫لست مجنونا ً أيتها العاهرة!‪.‬‬


‫ُ‬ ‫لست مجنوناً‪ ،‬أنا‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬أنا‬

‫استدارت له‪ ،‬فتوقف محله‪ ،‬حدجته‪ ،‬ثم عادت إلى وجهتها‬


‫صامته لتدلف غرفة الطفلة بآخر الطرقة‪..‬‬

‫ْ‬
‫انكتمت‪ ،‬بعد أن‬ ‫ً‬
‫مدوية سرعان ما‬ ‫ً‬
‫صرخة‬ ‫س ِم َع ْت‬
‫فجأة؛ ُ‬
‫هوى الزوج على رأسها بملة انتزعها سريعا ً من السرير‪،‬‬
‫فوقعت صريعة‪ ،‬فأثنى عليها بعدة ضربات قوية حتى‬
‫ْ‬
‫وتناثرت على‬ ‫تهشمت رأسها تماماً‪ ،‬فسالت الدماء‪،‬‬
‫الجدران‪ ،‬وتلطخت األرضية‪ ،‬وتطايرت األشالء‪ ،‬وتدحرجت‬
‫عين من عينيها‪ ،‬فلحقها ودهسها بقدمه ضاحكا ً فانفجرت‪،‬‬
‫فتدحرجت األخرى‪ ،‬لحقها وبعد مراوغة دهسها أيضاً‪ ،‬ثم‬
‫تنفس بأريحية‪ ،‬وكأنه حمالً كان جاثما ً فوق صدره‪ ،‬فأزاحه‬
‫وارتاح!‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫دنا منها‪ ،‬صدره يعلوا ويهبط‪ ،‬عرقه يتصبب‪ُ ،‬ترسم على‬


‫وجهه ابتسامة باردة؛ ألقى الملة المخضبة بالدماء جانباً‪،‬‬
‫جرها من رجليها ذاهبا ً إلى غرفة نومه‪ ،‬مخلفا ً بالطرقة خطا ً‬
‫عريضا ً من الدماء‪ ،‬ومن فُتات رأسها!‪.‬‬

‫‪ -‬عاهرة‪ ...‬سآخذ حقي منكِ دون أن تفتحي عينكِ في‪ ،‬أو‬


‫تتحججين ثانية؟‪.‬‬

‫ْ‬
‫دوت صرخة الطفلة ل َّما رأت‬ ‫تمتم بها‪ ،‬وقبل أن يدخل الباب‪،‬‬
‫ْ‬
‫صاحت‪:‬‬ ‫أمها جثة مضرجة بدمائها تجر جراً‪،‬‬

‫‪ -‬أمي؟!‪.‬‬

‫جرى ناحيتها األب ومسكها من كتفها‪ ،‬قال لها‪:‬‬

‫‪ -‬هل تحبين أمكِ ؟‪.‬‬

‫ارتعشت الطفلة‪ ،‬ولم تقو على النظر بعيني أبيها الداميتين‪،‬‬


‫ْ‬
‫صرخت‪:‬‬

‫‪ -‬أُحبها‪ ...‬أُحبها؟!‪.‬‬

‫وانخرطت في وصلة بكاء‪ ،‬قال األب بغيظ‪:‬‬

‫‪ -‬إذاً فلتذهبي إليها؟‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ْ‬
‫تفلتت وارتمت فوق جثة أمها تبكي وتتمتم بصوت‬ ‫وجدها‬
‫محشرج‪:‬‬

‫ت يا أُم‪...‬‬
‫‪ -‬أمي‪ ...‬أمي‪ ...‬ال تمو ِ‬

‫ْ‬
‫وقعت بجانب أمها جثة هامدة‪ ،‬إثر تناول أبيها الملة‬ ‫فجأة‬
‫وضربها على رأسها بقوة هشمته سريعاً‪:‬‬

‫‪ -‬إذهبي أنت وأمك إلى النار؟‪.‬‬

‫مزق قميص نوم زوجته‪ ،‬بعد أن طرحها على السرير‪ ،‬وهم‬


‫ليضاجعها‪ ،‬وجدها باردة‪ ،‬قال‪:‬‬

‫‪ -‬بعد قليل ستتوهجين أعدك بذلك؟‪.‬‬

‫ضاجعها سعيداً‪ ،‬مقهقهاً‪ ،‬مستمتعاً‪ ،‬وبعد أن انتهى؛ وجد‬


‫نفسه قد تلطخ بالدماء‪ ،‬ووجد السرير ومالءته وأرضية‬
‫البيت قد أغرقتهم الدماء‪ ،‬حتى الطرقة بها جثة طفلته ومن‬
‫حولها بركة دماء‪ ،‬تمتم‪:‬‬

‫‪ -‬الدماء أطفت جماالً على تصميم البيت‪ ،‬سأدعها كما هي!‪.‬‬

‫ارتدى ثيابه‪:‬‬

‫أثبت لها أني رجالً!‪.‬‬


‫ُ‬ ‫لست رجالً‪ ،‬وقد‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬كانت تقول أني‬

‫‪131‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ثم ه َّم بلف جثة زوجته بمالءة السرير‪ ،‬وبعدما لفها‪ ،‬أخر َج‬
‫مالءة أخرى من الصوان ولف جثة الصغيرة‪..‬‬

‫وحمل الجثث‪ ،‬ودخل إحدى غرف البيت الشاغرة‪ ،‬وترك‬


‫الجثتين بداخلها‪ ،‬ثم نزل مسرعا ً إلى قبو المنزل‪ ،‬كان‬
‫مظلماً‪ ،‬أشعل المصابيح‪ ،‬فبدا له مكتظا ً بأكوام من األساس‬
‫القديم المتهالك‪ ،‬وقف متفحصا ً حتى عثر على تابوت‬
‫خشبي‪ ،‬استخلصه‪ ،‬ثم أزال عنه األتربة‪ ،‬وحمله وصع َد إلى‬
‫الطابق الثاني ‪..‬‬

‫وضع التابوت بالغرفة الشاغرة‪ ،‬حمل الجثتين وألقاهما‬


‫بداخله‪ ،‬ثم وضع فوقه غطائه‪ ،‬وتنهد بارتياح‪ ،‬ثم خرج‬
‫ليشرب الخمر نخب المضاجعة اللذيذة‪..‬‬

‫***‬

‫فجأة؛ عاد من ذكرياته‪ ،‬وجد نفسه بالغرفة المظلمة أمام‬


‫التابوت‪ ،‬سمع جلبة شديدة بالخارج‪ ،‬خرج مسرعاً‪ ،‬فتح‬
‫باب الشرفة‪ ،‬وجد سيارة شرطة بالطريق الصغيرة الممهدة‬
‫بين األجمة الخضراء الموصلة لباب بيته‪ ،‬وقد انتشر ضوء‬
‫سارينتها‪ ،‬تمتم مذعوراً‪:‬‬

‫‪132‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬يريدون أن يأخذونها مني! لن أسمح لهم‪ ...‬لن أسمح!‪.‬‬

‫سمع طرقات على الباب قوية ومتتالية‪ ،‬دخل الغرفة‬


‫مسرعاً‪ ،‬أشعل القداحة‪ ،‬جر التابوت خارج الغرفة‪ ،‬وضعه‬
‫بالصالة‪ ،‬فتحه؛ وجد به مالءتين نظيفتين مفروشتين به؛‬
‫جحظت عيناه‪ ،‬صرخ مذعوراً‪:‬‬

‫‪ -‬سرقتموهما مني يا لصوص! سأقتلكم‪ ...‬وربي سأقتلكم؟!‪.‬‬

‫وركض صوب الباب‪ ،‬فتحه على مصراعيه‪ ،‬فدخال رجالن‬


‫ضحمان يرتديان لباسا ً أبيضاً‪ ،‬وبيدهم بذلة بيضاء‪ ،‬أكمامها‬
‫مقلوبة!‪.‬‬

‫أمسكوه‪ ،‬ألبسوه إياها من األمام‪ ،‬وجرجروه على السلم إلى‬


‫أسفل‪ ،‬ثم أدخلوه في سيارة منقوش عليها "مستشفى‬
‫األمراض النفسية" وكان معهما رجالن آخران‪ ،‬أعطوه‬
‫حقنة‪ ،‬فخارت قواه واستسلم لإلغماء!‪.‬‬

‫***‬

‫طرحاه على سرير السيارة الصغير وقيداه فوقه باألحزمة‬


‫ذات األبازيم‪ ،‬وجلسا من حوله‪ ،‬وانطلقت السيارة ‪..‬‬

‫‪133‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫نظر أحد الجالسان من خلف زجاج النافذة إلى الطريق قائالً‪:‬‬

‫ْ‬
‫توقفت األمطار!‪.‬‬ ‫‪ -‬لقد‬

‫‪ -‬الحمد هلل‪.‬‬

‫ف أنه مسكين؟!‪.‬‬
‫أتعر ُ‬
‫‪ِ -‬‬
‫‪ -‬لماذا؟‪.‬‬

‫‪ -‬كانا يعيشان بسعادة هو وزوجته‪ ،‬لوال أنه أصبح مدمنا ً‬


‫للخمر والعقاقير‪ ،‬وأصبح دائم المشاجرات معها‪ ،‬حتى‬
‫استحالت الحياة بينهما إلى عراك دائم‪ ،‬وذات مرة تشاجر‬
‫معها كعادته فتركت له البيت وأخذت طفلتهما معها‪ ،‬وأبلغت‬
‫عنه بأنه مجنون وخطر‪ ،‬وكان كلما رآها أمامه‪ ،‬تفاجأ بها‬
‫وقال لها‪" :‬أنا قتلتكِ باألمس كيف ُبعِث ِ‬
‫ت اليوم؟" فخافت أن‬
‫يقتلها بالفعل وهربت بطفلتها‪..‬‬

‫‪ -‬ياله من معتوه!‪.‬‬

‫والذا االثنان في ضحكات ال إرادية‪ ،‬وفجأة‪ ،‬فتح الزوج‬


‫عينيه‪ ،‬ثم قال متعجباً‪:‬‬

‫‪ -‬كيف ُبع ْ‬
‫ِثت ثانية وقد قتلتها منذ أسبوع؟!‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫المسيح الدجال‬

‫‪135‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ُ‬
‫جلست فوق جدار بيت بالسقف بعد أن‬ ‫وسط ظالم ناعم؛‬
‫ُ‬
‫نظرت أمامي‪ ،‬وجدتني على جانب‬ ‫تسلقته من الداخل‪،‬‬
‫طريق طويل يقطعه رأسيا ً ‪ -‬غير بعيد ‪ -‬طريق آخر‪ ،‬وكان‬
‫ظالمه خافت‪ ،‬وتتناثر على أسفلته بعض نقاط مضيئة بنور‬
‫أصفر واهن‪ ،‬وتلوح البيوت على جانبيه كسحابات دخان‬
‫سوداء كبيرة منبعجة ال تبين منها أي معالم‪..‬‬

‫ُ‬
‫فوجدت نفسي فوق هضبة عالية‪ ،‬تقع على ضفاف‬ ‫ُ‬
‫وقفت‬
‫نفس الطريق‪ ،‬ويحيط بحافاتها نور واهن قادم من األسفل‪،‬‬
‫فكرت قليالً‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫ُ‬

‫‪ -‬سأتقدم!‪.‬‬
‫ً‬
‫همهمة‬ ‫ُ‬
‫سمعت‬ ‫ُ‬
‫بدأت السير فوق الهضبة إلى األمام‪ ،‬فجأة؛‬
‫ُ‬
‫لمحت شبحان‬ ‫استدرت؛ كان ظالما ً خافت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫من خلفي‪،‬‬
‫يصعدان إلى الهضبة الهثين‪ ،‬وكأنهما يهربان من خطر ما؛‬
‫ُ‬
‫ركضت صوبهما‪،‬‬ ‫دققت البصر‪ ،‬وجدتهما شابا ً وفتاة‪،‬‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫حملت الشاب وقذفته من أعلى الهضبة‪،‬‬ ‫ودونما أي تفكير‪،‬‬
‫وكذلك الفتاة أسقطتها خلفه‪ ،‬والغريب أنهما لم يصرخا‪ ،‬ولم‬

‫‪134‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫أتبينُ مالمحهما أبداً‪ ،‬بل كانا خفيفين جداً وكأنهما بالونات‬


‫منتفخة‪..‬‬

‫ُ‬
‫وفكرت في النزول من فوق الهضبة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ندمت على قتلي لهما‪،‬‬
‫ُ‬
‫اجتزت التقاطع إياه‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وجدت نفسي بالطريق وقد‬ ‫فجأة؛‬
‫وأتقد ُم نحو حشد من أشباح بشر باهتو األلوان ال تبين لهم‬
‫رؤوس كاملة‪ ،‬يهتفون بكلمات ال أسمعها‪ ،‬وقد استحال الجو‬
‫نهاراً‪ ،‬وكان بجانبي شخص يرافقني ال أعرفه وال أرى‬
‫مالمحه‪ ،‬بدا لي كشخص من دخان أزرق لم تتشكل مالمحه‬
‫ُ‬
‫اقتربت أكثر‪،‬‬ ‫بعد‪ ،‬ولكن كان لدي أحساس بأننا أصدقاء‪،‬‬
‫ُ‬
‫أبحث بعيني عن شىء ما‪.‬‬ ‫وقفت مذهوالً‬
‫ُ‬

‫فجأة؛ ارتفع رأس رجل ذا عنق طويل من بين الحشود‪ ،‬كان‬


‫رأسا ً رفيعا ً أصلعاً‪ ،‬بوجه أصفر قاتم ملؤه التجاعيد‪ ،‬وأنف‬
‫ُ‬
‫صرخت إلى‬ ‫إلي وابتسم؛‬
‫معقوفة‪ ،‬وعينان واسعتان‪ ،‬نظر َّ‬
‫صديقي المجهول‪:‬‬

‫‪ -‬إنه المسيح الدجال!‪.‬‬

‫ْ‬
‫عرفت أنه الدجال مع أنه ليس بأعور؟‪.‬‬ ‫‪ -‬كيف‬

‫‪ -‬إنه هو صدقني‪ ،‬أنا أشع ُر بذلك!‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬وماذا سنفعل اآلن؟‪.‬‬

‫قلت له بثقة‪:‬‬

‫‪ -‬سنذهب معهم إلى السعودية‪ ،‬إنهم ذاهبون إليها‪ ،‬ومن ثم‬


‫نتركه ونهرب لنتحصن بالمدينة أو مكة؛ فهما محرمتان‬
‫عليه!‪.‬‬

‫ُ‬
‫نظرت‬ ‫تقدمنا في السير مع الحشد‪ ،‬وسبق الدجال الحشد‪،‬‬
‫إلي بوجه ملؤه المكر‪ ،‬كان طويالً‪ ،‬ربما‬
‫إليه‪ ،‬وجدته ينظر َّ‬
‫تعدى الثالثة أمتار‪ ،‬ساقيه كانتا في حجم عودين من‬
‫القصب‪ ،‬مرتديا ً سروالً أسوداً ضيقاً‪ ،‬وصدره عريض‪ ،‬سألت‬
‫صديقي‪:‬‬

‫‪ -‬متى سيدعوا للدين الجديد ويقول أنه إله؟‪.‬‬

‫‪ -‬ربما عندما يدخل السعودية!‪.‬‬

‫شعرت بخوف‪ُ ،‬‬


‫قلت لنفسي‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫عندها‬

‫‪ -‬فتنته ال أحد ينجوا منها إال من رحم ربي‪ ،‬البد أن أبتعد‪...‬‬


‫ال سأرافقه وأواجه فتنته بتمسكي بإيماني‪ ...‬ولكني لوحدي‬

‫‪132‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ليس معي سوى صديقى الغازي الذى سيذوب بالهواء في‬


‫أي لحظة ويتركني وحدي‪ ...‬إذاً سأهرب!‪.‬‬

‫فجأة؛ وجدتني وصديقي المجهول وحدنا بنفس الموضع‬


‫بالطريق‪ ،‬وقد استحال الجو ليالً‪ُ ،‬‬
‫قلت‪:‬‬

‫سنذهب إلى مكة أو المدينة‪ ،‬فلن يدخلهما الدجال أبداً؟‪.‬‬


‫ُ‬ ‫‪-‬‬

‫‪ -‬حسنا‪ ،‬هيا من هذا الطريق حتى ال نقابله ثانية؟‪.‬‬

‫وأشار لنفس الطريق‪ ،‬الذي مرق منه الدجال‪ ،‬قلت‪:‬‬

‫‪ -‬ولكن‪ ...‬كيف سنصل إلى السعودية؟ أنا ال أعرف الطريق‬


‫إليها وربما نقابله بالطريق!‪.‬‬

‫عدلت عن الذهاب‪ُ ،‬‬


‫قلت‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫وضاق صدري‪ ،‬و‬

‫‪ -‬سأهرب منه إلى الجبال والمغارات والكهوف!‪.‬‬

‫وراحت تتحرك بمخيلتي صور أبواب المغارات الحديدية‬


‫السوداء‪ ،‬وصراخ البشر بداخلها‪ ،‬وجنود المسيح بالمشاعل‬
‫المتوهجة وسط الظالم ينقبون المغارات بالمعاول‬
‫مزمجرين!‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫تركني صديقي عند هذا الحد‪ ،‬وال أعرف إن كان قد ذهب‬


‫إلى السعودية أم هرب إلى أي مكان آخر‪ ،‬أم تبخر في‬
‫وركضت أنا بالطريق قاصداً الكهوف والمغارات‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الهواء‪،‬‬
‫ْ‬
‫ظهرت مرتفعات الجبال البيضاء أمامي وأنا‬ ‫وبعد لحظات؛‬
‫ُ‬
‫فتساءلت‪ :‬ما حجم قوة الدجال وعدد جنوده؟‬ ‫بذات الطريق‪،‬‬
‫وماذا لو وجدني؟ كيف أنجو من براثنه؟ هل سأستطع‬
‫مقاومته أم سأهلك؟‪.‬‬

‫ُ‬
‫أجبت على نفسي أطمئنها‪:‬‬ ‫عندها‬

‫‪ -‬ربما وقتها سيكن قد هبط المسيح بن مريم ويخلصني ‪-‬‬


‫بأمر هللا ‪ -‬من فتنته!‪.‬‬

‫ُ‬
‫فتحت نصف عيناي‪،‬‬ ‫استيقظت فوق الفراش ُمجهداً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وفجأة؛‬
‫ُ‬
‫صغت‬ ‫ُ‬
‫تأملت الشاشة‪،‬‬ ‫وجدت نفسي نائما ً أمام التلفاز أرضاً‪،‬‬
‫ُ‬
‫وجدت المذيعة بنشرة األخبار تقول‪” :‬سيصل غداً‬
‫ُ‬ ‫السمع؛‬
‫الرئيس األمريكي في أول زيارة له إلى السعودية‪“...‬‬

‫ُ‬
‫وشرعت في إكمال نومي‪..‬‬ ‫ُ‬
‫أغمضت عيني‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أطفأت التلفاز‪،‬‬

‫سمعت صوتا ً مرعبا ً‬


‫ُ‬ ‫ُ‬
‫سقطت في بركة النوم‪ ،‬حتى‬ ‫ما إن‬
‫يصرخ بي حانقاً‪:‬‬

‫‪120‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬هل كنت تظن نفسك قد هربت مني؟‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫جسر من وهم‬

‫‪122‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ُ‬
‫أخرجت هاتفي من‬ ‫لم أذهب إلى المدرسة ذاك الصباح؛ بل‬
‫ُ‬
‫واتصلت بها‪ ،‬ول َّما فتحت الخط‪ ،‬قلت‪:‬‬ ‫جيبي‪،‬‬

‫‪ -‬إيه رأيك نطلع على الكوبري؟‪.‬‬

‫جاءني صوتها ُمتعجباً‪:‬‬

‫‪ -‬كوبري إيه يا بني دلوقت؛ ده إحنا داخلين على امتحانات!‬


‫إنت مش بتهمد؟‪.‬‬

‫كنا بالصف األول الثانوي آنذاك‪ ،‬وفي مدرسة ُمشتركة‬


‫ُ‬
‫صمت لحظات ثم قلت‪:‬‬ ‫واحدة‪.‬‬

‫‪ -‬اقسم باهلل لو ماجيتي يا رنا ل‪...‬‬

‫‪ -‬جاية‪ ،‬جاية خالص يا عماد!‪.‬‬

‫ُ‬
‫قاطعت‬ ‫وضحكت أيضاً‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬ ‫قاطعتني بها‪ ،‬ثم ضحكت‪،‬‬
‫ضحكتها قائالً‪:‬‬

‫‪ -‬بحبك على فكرة؟‪.‬‬

‫‪ -‬على فكرة؛ أنا عارفة‪ ...‬بس نفسي أسألك‪ :‬هو إنت ليه‬
‫بتقولهالي كل شوية؟!‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ت ليه دونا ً عن بنات الدنيا كلها مش بتحبي‬


‫‪ -‬هو ان ِ‬
‫تسمعيها كل شوية؟‪.‬‬

‫ْ‬
‫ضحكت‪ ،‬ثم سألتني ُمتهكمة‪:‬‬

‫‪ -‬إيه دة! هو إنت كنت بتقولها لبنات الدنيا كلها؟ آه ياخاين‪،‬‬


‫يا كداب‪ ،‬يا غشا‪...‬‬

‫قاطعتها حانقاً‪:‬‬

‫‪ -‬بس بقه يا رنا مضايقنيش؟!‪.‬‬

‫انفجرت ضاحكة بضحكتها تلك؛ تلك التي ُتكسبني دائما ً ثقة‬


‫ْ‬
‫في نفسي؛ أنا من ُتحبني صاحبة هذه الضحكة القادرة على‬
‫دغدغة أصلب المشاعر قسوة‪ ،‬وأصلدها شكيمة‪ .‬ولكنها‬
‫دوما ً ُتناغشني ل ُتنعشني‪ ،‬ول ُتهيج مياه الحياة الراكدة من‬
‫في دوما ً مع كل اتصال معها؛ احساس‬
‫حولي‪ ،‬لتترك ّ‬
‫بالتجديد‪ ،‬إنها تجعلني أشعر دائما ً بأنني حي؛ وما معنى‬
‫الحياة سوى أن تجد من تحبه ويحبك‪ ،‬نصفك اآلخر الذي‬
‫يشعر بألمك وأنت بعيد‪ ،‬ويشعر بفرح وأنت قريب‪ ،‬شخص‬
‫قد خلقه هللا ليكملك أنت فقط‪ ،‬صورتك ُحفرت في قلبه أثناء‬
‫تشكله في رحم الغيب!‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫استطاعت أن ُتثير حنقي كالعادة‪ ،‬ولكن سرعان ما رسبته‬


‫كما أثارته‪ ،‬حينما قالت‪:‬‬

‫‪ -‬أنا كمان على فكرة‪...‬‬

‫وصمتت‪ ،‬وبدأ قلبي يخفق بسرعة عجيبة؛ أعرف أنه لن‬


‫يهدأ إال عندما تنطقها‪ ،‬لذا سألتها‪:‬‬

‫‪ -‬إن ِ‬
‫ت إيه؟!‬

‫هدأ صوتها‪ ،‬التحفته رقة ونعومة‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫‪ -‬إيه!‪.‬‬

‫ُ‬
‫صحت بها‪:‬‬

‫‪ -‬هو إيه اللي إيه يارنا؟‪.‬‬

‫لم تجبني سوى بضحكتها إياها‪ ،‬ولكنها باتت حنونة‪ ،‬دافئة‪،‬‬


‫باستطاعتها اختراق جسد أي كائن حي‪ ،‬واالنزالق إلى‬
‫شغاف قلبه‪ ،‬واستثارة خفقاته‪..‬‬

‫وفجأة؛ قالت بهمس بالكاد التقطته أُذناي‪:‬‬

‫‪ -‬بحبك؟‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫طردت تنهيدة طويلة‪ُ ،‬طرد معها حنقي وغضبي‪ ،‬وهبطت‬


‫دقات قلبي وتباعدت المسافة بين كل دقة ودقة كمسافة‬
‫ميل!‪.‬‬

‫ونزلت دمعاتي حارة في صمت‪ ،‬وصمتنا كلينا دقيقة كاملة‪،‬‬


‫ُ‬
‫حاولت فيها كبح جماح أنيني حتى ال يفضحني أمامها‪،‬‬
‫وحتى إن فضحني؛ رنا تعرف كل شيء عني؛ تعرف لحظات‬
‫ضعفي‪ ،‬وأوقات قوتي‪ ،‬تعرف كل نقاط ضعفي‪ ،‬وأنا أيضا ً‬
‫أعرف كل نقاط ضعفها‪ ،‬ألنها جميعا ً متمثلة َّ‬
‫في أنا‪...‬‬

‫‪ -‬إنت فين؟‪.‬‬

‫انتزعتني بسؤالها الهادىء من وهدة حنيني‪ ،‬ومن غيابات‬


‫ُ‬
‫كافحت كي يخرج من فمي‬ ‫تفكيري‪ ،‬قلت لها بصوت‬
‫مفهوماً‪:‬‬

‫‪ -‬فوق الكوبري‪.‬‬

‫‪ -‬كوبري إيه؟‪.‬‬

‫انفعلت ُمجدداً‪:‬‬
‫ُ‬

‫‪ -‬هللا! هيكون كوبري إيه يعني يا رنا؟!‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬كوبري امبابة طبعاً‪.‬‬

‫‪ -‬طب لما أن ِ‬
‫ت عارفة بتوجعي قلبي ليه؟!‪.‬‬

‫صمتت ثم قالت بلهجة جادة‪:‬‬

‫‪ -‬ماعاش اللي يوجع قلبك يا عماد‪...‬‬

‫‪ -‬أل عاش يا رنا‪ ،‬عاش‪ ،‬وبيكلمني دلوقت‪ ،‬وعمال يناكف‬


‫في!‪.‬‬
‫َّ‬

‫‪ -‬أنا!‪ ...‬ده أنا حبيبتك!‪.‬‬

‫‪ -‬ما هو عشان حبيبتي؛ قلبي موجوع!‪.‬‬

‫ُ‬
‫ونهضت من فوق‬ ‫ُ‬
‫فكبحت دمعاتي‪،‬‬ ‫ثم ران الصمت علينا‪،‬‬
‫درجة سلم الممشى فوق الكبري؛ لم يكن هناك مارة فوق‬
‫حارتي المشاة الحديديتين أعلى الكوبري‪.‬‬

‫ُ‬
‫رحت أتأمل‬ ‫ُ‬
‫تحركت صوب الدرابزين والهاتف على أذني‪،‬‬
‫النيل باألسفل‪ ،‬ثم الجسور القابعة فوقه والغارقة في ضباب‬
‫الصباح‪ ،‬وازدحام السيارت من فوقها؛ ذلك االزدحام الذي ال‬
‫تنخفض ذروته في صباح أو مساء‪ ،‬ومباني الزمالك‬
‫العتيقة‪ ،‬وقبالتها األبراج الزجاجية الشاهقة التي تلمع من‬

‫‪121‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫نور الشمس‪ ،‬والمراكب الشراعية الشاقة المياه الخضراء‬


‫بأبهة وهدوء‪ ،‬و قطع السحاب المتناثرة بالسماء‪..‬‬

‫ُ‬
‫سألت نفسي‪ ،‬ولم‬ ‫ماذا لو لم أتزوج رنا؟ ماذا لو افترقنا؟!‬
‫أجد بداخلي جرأة على التفكير في أيما إجابة!‪.‬‬

‫‪ -‬أنا جييت؟‪.‬‬

‫ُ‬
‫تنهدت‬ ‫ُ‬
‫شعرت بها تطوقني من الخلف وتسكن‪،‬‬ ‫كانت رنا‪،‬‬
‫شح ُ‬
‫ِنت من جسدها بطاقة كهربائية لذيذة‪ ،‬تكفي‬ ‫بارتياح‪ ،‬و ُ‬
‫إلنارة القاهرة عاما ً دون أن تنضب‪..‬‬

‫قلت بصوت ُمتهدج‪:‬‬

‫‪ -‬كفاية كدة‪ ،‬لحد يكون معدّي يشوفنا على الوضع ده‬


‫يفهمنا غلط؟‪.‬‬

‫ْ‬
‫تراجعت برأسها قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬طب نبدِل أماك َّنا عشان يفهمونا صح؟!‪.‬‬

‫ضحكت قائالً‪:‬‬
‫ُ‬

‫‪ -‬يا قليلة األدب؟‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫استدرت محاوالً‬
‫ُ‬ ‫انفكت عني؛ وانتابتها ضحكات هيستيرية‪،‬‬
‫ُ‬
‫وجدت جسدها يهتز داخل‬ ‫إيقاف نفسي عن الضحك‪،‬‬
‫تنورتها ال ُكحلية‪ ،‬وقميصها األبيض‪ ،‬وقد اِح َم َّر ْت خدودها‬
‫ْ‬
‫والتمعت عيناها الكحيلتين‪ ،‬وعلى وشك إسقاط‬ ‫الوردية‪،‬‬
‫ُ‬
‫وضعت الهاتف في جيبي‪،‬‬ ‫دمعاتها جراء ضحكها الشديد‪،‬‬
‫ُ‬
‫قلت‪:‬‬

‫‪ -‬وحشتيني؟‪.‬‬

‫توقفت عن الضحك فجأة‪ ،‬وكأنها فركت ذر إيقاف قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬يعني خليتني ما اروحش المدرسة النهاردة‪ ،‬وجايبني‬


‫من ”شارع البوهي“ مشي‪ ،‬عشان تقولي ”وحشتيني“ ما‬
‫رجلي؟!‬
‫َّ‬ ‫لي ليه في التليفون ووفرت تعب‬
‫قولتهاش َّ‬

‫ُ‬
‫عدت لتأمل النيل‪ ،‬وقفت بجانبي تتأملني‪ ،‬وضعت‬ ‫ُ‬
‫امتعضت‪،‬‬
‫كفها األبيض الناعم فوق كفي القابضة على الدرابزين‪،‬‬
‫قالت بجدية‪:‬‬

‫‪ -‬عايزة أقولك على حاجة‪ ،‬بس مش عايزاك تزعل؟‪.‬‬

‫ْ‬
‫نزعت يدها وراحت‬ ‫استدرت ُمتأهبا ً لسماع َم ِ‬
‫رزئة‪ ،‬بعد أن‬ ‫ُ‬
‫تفركهما ببعضهما البعض في حيرة وقلق‪ُ ،‬‬
‫قلت‪:‬‬

‫‪127‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬قولي بسرعة وقعتي قلبي؟!‪.‬‬

‫قالت ُمحمرة الوجه‪:‬‬

‫‪ -‬إنت كمان وحشتني!‪.‬‬

‫‪ -‬يلعن أبو شكلك؟!‪.‬‬

‫أوبخها‬ ‫ُ‬
‫فهممت أن ِ‬ ‫خرجت رغما ً عني‪ ،‬فعادت لضحكاتها‪،‬‬
‫ْ‬
‫لوال أن أخرصني بوق القطار المار من أسفلنا وأزيزه‬
‫المرتفع‪ ،‬الذي لو صحنا بجواره بأعلى صوتنا لبدا أننا‬
‫صامتين‪..‬‬

‫***‬

‫حقا ً؛ كانت ذكريات جميلة‪..‬‬

‫ْ‬
‫تزوجت ؛‬ ‫ْ‬
‫تزوجت رنا‪ ،‬وبعدما‬ ‫بعد ذاك اليوم بعدة سنوات؛‬
‫ُ‬
‫أحببت‬ ‫ْ‬
‫تزوجت ؛‬ ‫ْ‬
‫تزوجت‪ ،‬وبعدما‬ ‫ُ‬
‫أحببت نرمين ولكنها‬
‫ُ‬
‫أحببت سالي‪،‬‬ ‫ْ‬
‫تزوجت؛‬ ‫تزوجت أيضاً‪ ،‬وبعدما‬
‫ْ‬ ‫مريم‪ ،‬ولكنها‬
‫ولكنها تزوجت هي األُخرى!‪..‬‬

‫ُ‬
‫تزوجت أنا منذ عام‪ ،‬وأنا اآلن أحب زوجتي ريهام‬ ‫وأخيراً؛‬
‫كثيراً‪..‬‬

‫‪150‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫والعجيبة أني ‪ -‬حتى اآلن ‪ -‬لم أجرؤ على التفكير في إيجاد‬


‫إجابة لذلك السؤال أبداً‪:‬‬

‫‪ -‬ماذا لو لم أتزوج رنا؟!‪..‬‬

‫‪151‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫نظارة الحاسد‬

‫‪152‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫يحكى أنه كان هناك رجل بالعِقد الخمسين من عمره‪ ،‬كان‬


‫معروف بالقرية أنه حاسد ذو عين صائبة‪ ،‬ال تحيد نظرته‬
‫أبداً عن إيذاء من يحسده‪ ،‬بل واألنكى من ذلك أنه كان على‬
‫علم تام بما توقعه نظراته في الناس من أضرار‪ ،‬لكنه كما‬
‫كان ُيحكى عنه كان غير قادر على منع نفسه من حسد‬
‫الناس‪.‬‬

‫في البيت كان أوالده ال يأكلون كثيراً خشية أن تصيبهم عين‬


‫أبيهم إن رآى أحدهم قد سمن جسمه‪ ،‬حتى أصبحوا ضعاف‬
‫األجساد شاحبي الوجوه‪..‬‬

‫وكانوا أيضا ً يحبسون عنه البهائم من جاموس وحمير حتى‬


‫ال يحسدها إن رآها سمينة‪ ،‬أو ُتدر لبنا ً وسمنا ً وفيرين‪،‬‬
‫باالتفاق معه بالطبع‪ ،‬رغم أنه كان يتح ّرق لرؤيتها ليطمئن‬
‫على ماله‪ ،‬ولكنه حبذ هذه الفكرة كثيراً خشية إلحاقها‬
‫باألضرار‪..‬‬

‫وحدث ذات يوم أن صنع له أوالده نظارة بصر ُتص ِّغر كل‬
‫األشياء عن حجمها الحقيقي ثالث مرات ليرتديها‪ ،‬وقالوا‬
‫له‪« :‬هذه النظارة ستوقف الحسد»‪ .‬وأقسموا عليه أال‬

‫‪153‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫يخلعها أبداً إال وقت االستحمام‪ ،‬داخل الحمام فقط‪ ،‬ولبسها‬


‫ُمنشدها ً سعيداً‪..‬‬

‫انحلت المشكلة‪ ،‬وعاد األوالد يأكلون وردت إليهم صحتهم‪،‬‬


‫وسمنت زوجته وربربت‪ ،‬وأصبح يدخل حوش البهائم وال‬
‫يحسدها؛ ألنه يراها أصغر من حجمها‪ ،‬وتوقف عن حسد‬
‫الناس وحسد بهائمها‪..‬‬

‫حتى هو أصبح يرى الطعام أمامه ضئيالً‪ ،‬فيأكل أضعاف ما‬


‫كان يأكله‪..‬‬

‫صباح يوم ما خرج كالعادة إلى الحقل‪ ،‬وبعد العودة جلس‬


‫على ناصية الشارع أمام داره‪ ،‬اقترب منه رجل ضعيف‬
‫البصر‪ ،‬وجلس بجانبه‪ ،‬وبعد أن سلم عليه‪ ،‬أخذا يتحدثا‪،‬‬
‫ُ‬
‫سمعت عن نظارتك الجديدة‪،‬‬‫فقال ضعيف البصر‪« :‬‬
‫ويقولون أنها ُتحسن الرؤية!»‬

‫«أجل هي كذلك!»‬

‫«اعطنيها أجربها‪ ،‬أريد أن أصنع مثلها؟»‬

‫خلعها الحاسد‪ ،‬بعد أن أغمض عينيه‪ ،‬فلبسها ضعيف‬


‫البصر‪ ،‬ول ّما لبسها انكمش إلى الجدار مشدوهاً‪ ،‬وفجأة‬

‫‪152‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫دوت صرخة من داخل البيت‪ ،‬فتح الحاسد عينيه‪ ،‬وأسرع‬


‫ّ‬
‫إلى الداخل‪ ،‬فوجد زوجته واقعة‪ ،‬والجاموسة قد كسرت‬
‫الباب الداخلي بين البيت والزريبة‪ ،‬فوقف أمام الجاموسة‬
‫مأخوذاً من عافيتها‪ ،‬وضخامتها قائالً‪:‬‬

‫«عف ّيت وسمنت‪ ،‬إذاً من حقها أن تترك الزريبة وتدخل‬


‫البيت لتأكل أكلنا اآلخر!»‬

‫فغرت زوجته فمها ل ّما رأته بال نظارة‪ ،‬وأطلقت صرخة‬


‫مدوية ل ّما رأت الجاموسة قد سقطت أرضا ً تلفظ أنفاسها‬
‫األخيرة!‪ .‬نظر الحاسد إليها قائالً ‪:‬‬

‫«ألن تقومي لتر ماذا أصاب الجاموسة؟ أم عفيتي وسمنتي‬


‫أنت األُخرى؟!»‬

‫أطلقت الزوجة صرخة لم تكتمل‪ ،‬هرع على إثرها األوالد‬


‫من الخارج‪ ،‬فاستدار الحاسد يتأملهم جاحظ العينين‪ ،‬بينما‬
‫ضعيف البصر ُمنكمشا ً بالخارج ال ينطق بحرف‪ ،‬مراقبا ً‬
‫الحاسد خارجا ً من باب داره نحيفا ً كعود قصب منزوع‬
‫األوراق‪ ،‬يضرب كفا ً بكف ُمغمغما ً‪:‬‬

‫‪ -‬بيت َ‬
‫وخ ُرب!‪..‬‬

‫‪155‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫مزاح عفريت‬

‫‪154‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫كما اعتاد دائما ً في نوبة حراسته الليلية؛ أن يطفيء مصباح‬


‫ذلك الكشك الخشبي الصغير‪ ،‬ويترك الكشافات الكبيرة‬
‫المثبتة أعلى الكشك لتنير له الطريق الترابي المقفر‪،‬‬
‫وتكشف له عن بوابة ذلك المعسكر المهجور الذي يجلس‬
‫أمامه لحراسته‪..‬‬

‫مجند شاب‪ ،‬في لباسه العسكري األسود‪ ،‬ملقاة بندقيته‬


‫الميري والخوذة‪ ،‬فوق منضدة خشبية بجانبه؛ كان جالسا ً‬
‫بمحول‬
‫ِّ‬ ‫على مقعد خشبي مثبت إلى جدار الكشك؛ يعبث‬
‫محطات مذياعه الصغير؛ باحثا ً عن محطة الغناء‪..‬‬

‫شعر فجأة؛ بأن هناك قط أسفل الكرسي‪ ،‬يخربش بأظافره‬


‫سمانتي ساقيه؛ نتر ساقيه بعيداً؛ انتفض واقفاً‪ ،‬أضاء‬
‫المصباح‪ ،‬انتصب متعجبا ً ومتسائالً ‪ :‬كيف دخل ذلك القط‬
‫أسفل الكرسي؟ ومن أين أتى القط أصالً وكل ما حولي‬
‫صحراء جرداء؟‪.‬‬

‫قرفص أرضا ً أمام الكرسي‪ ،‬تفصد العرق من جبينه؛ نظر‬


‫أسفله متوجساً‪...‬‬

‫‪ -‬أنا بهذر معاك ياعم‪ ،‬إنت مبتحبش الهذار وال إية؟!‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫قالها قط أسود ضخم‪ ،‬برأس إنسان صغير يكسوه الشعر‬


‫األسود‪ ،‬وتتوسطه عيني قط واسعتان‪ .‬وقبل أن ينهيها؛‬
‫ْ‬
‫دوت صرخة المجند وانطرح جثة هامدة‪..‬‬

‫تمتم القط غاضباً‪:‬‬

‫‪ -‬واضح إن الهذار قلب جد!‪.‬‬

‫ثم ذاب في الهواء كالدخان‪..‬‬

‫‪152‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫حانوت اللذة‬

‫‪157‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ُ‬
‫عرجت على حانوت‬ ‫كنت إذا ما لمحتها من بعيد واقفة‪،‬‬
‫البقالة حيث تنتصب خلف ”البنك“ تبيع لهذه‪ ،‬وتحاسب‬
‫ذاك‪..‬‬

‫ُ‬
‫خطفت أيما شيء من فوق‬ ‫وإن كانت ُمنشغلة مع زبائن؛‬
‫األرفف ال يتعدى سعره الخمسة جنيهات‪ ،‬وتظاهرت‬
‫ُ‬
‫ونشأت أتنقل ببصري ما بينها وبين الزبائن‪،‬‬ ‫باالنتظار‪،‬‬
‫وحقيقة األمر؛ ال ترى عيناي سواها‪..‬‬

‫تقترب هي من السادسة عشرة من عمرها‪ ،‬تمتلك جسم‬


‫مخروط بحذق‪ ،‬ونهدين مستفزين‪ ،‬وبشرة بيضاء كالشمع‪،‬‬
‫وعينين سوداوين كحيلين‪ ،‬وشفتان تخاطبان الزبائن بصوت‬
‫كوشوشة الودع‪ ،‬ال يكاد ُيسمع من نعومته وأنوثته‪..‬‬

‫أظل شارداً متأمالً قسماتها‪ ،‬وحركاتها‪ ،‬وطريقة نطقها‬


‫للحروف‪ ،‬وأناملها البيضاء الرفيعة وهي تتناول الجنيهات‬
‫بتأفف وإباء‪ ،‬ومراقبا ً الهتزازات نهديها وتكورهما‪ ،‬تحت‬
‫ثيابها الضيقة‪ ،‬ول َّما تتحرك لتجلب شيئا ً و ُيصبح جسمها‬
‫بالكامل أمام ناظري‪ ،‬أَ ْن َ‬
‫شدِه وأغب ُط عيناي على ما رأت من‬
‫جمال ودلع‪ ،‬وتتماوج دقات قلبي مع تماوج شعرها المتهدل‬

‫‪140‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫مابين الهبوط والصعود‪ ،‬ويقشعر بدني قشعريرة تجدد‬


‫بداخلي الرجولة الصدئة‪ ،‬و ُيطلِق جوفي تنهيدة ُمح َّملة‬
‫بصهد التفاعالت ال ُمنعملة بداخلي‪..‬‬

‫وال ينتشلني من بركة خياالتي اللذيذة‪ ،‬ويقطع سعادة عيناي‬


‫وقلبي‪ ،‬سوى صوتها الذي البد أن يسجل مقاطعاً‪ ،‬ويوصف‬
‫عالجا ً سماعيا ً لمن هم مثلي‪ ،‬قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬خمسة جنيهات ياجدي؟‪.‬‬

‫ُ‬
‫ولجت العقد‬ ‫حينئذ؛ أتذكر خجالً من انحطاط خياالتي أني‬
‫وأقبض على‬
‫ُ‬ ‫الخمسين من عمري منذ سنوات؛ أنقدها الثمن‬
‫عصاي‪ ،‬وأدلف خارجا ً صوب الطريق‪ ،‬رامقا ً ُنهديها نظرة‬
‫وداع‪..‬‬

‫‪141‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫فرصة ضائعة‬

‫‪142‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫”أخير ًا جاءتني الفرصة ُمتدحرجة!‪“.‬‬

‫ُ‬
‫لمحت تلك السيدة الثالثينية التي بدا أنها‬ ‫قلتها في نفسي ل َّما‬
‫من ذوات المال واألعمال؛ وذاك مادل عليه طراز سيارتها‬
‫الفارهة‪ ،‬واألشياء الثمينة التي كانت تبتاعها من البقال في‬
‫طريقها‪ ،‬وثيابها الغالية الناصعة‪ ،‬لوال ذاك القطع الصغير‬
‫في بنطالها من دبر‪ ،‬والذي كان ُيظهر لحم فخذها وأطراف‬
‫لباسها الداخلي‪..‬‬

‫فكرت في أنه قد قُد على حين غفلة منها‪ ،‬والبد من‬


‫ُ‬ ‫وقتئذ؛‬
‫تحذيرها‪ ،‬وتركت مقشتي وسلة القمامة البالستيكية ذات‬
‫ُ‬
‫وهرعت ببذلتي الخضراء ال ُمتسخة إليها ‪ -‬كانت‬ ‫العجالت‪،‬‬
‫قد ركبت سيارتها ‪ُ -‬ممنيا ً نفسي بأن تشكرني بابتسامة‬
‫رقيقة‪ ،‬وإيماءة جذابة‪ ،‬و ُت َط ِب ُق عشرة جنيهات‪ ،‬وتدفنها في‬
‫كفي‪.‬‬

‫ُ‬
‫اقتربت منها‪ ،‬لم تتحرك بسيارتها وانتظرتني بنظرات ُملؤها‬
‫ُ‬
‫دنوت برأسي منها‪:‬‬ ‫قلت لها هامساً‪ ،‬بعدما‬
‫التعجب‪ُ ،‬‬

‫‪143‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬بنطال سيادتك مقطوع من الخلف يا مدام‪ ،‬أنا قلت أَ َع َّرف‬


‫حضرتك يمكن مخدتيش بالك منه‪ ،‬عشان تستري نفسك؛‬
‫احنا عندنا واليا برضك؟‪.‬‬

‫ابتسمت في وجهي هازة رأسها ذو الشعر الذهبي ال ُمتهدل‪،‬‬


‫ثم أخرجت من حقيبتها عشرين جنيهاً‪ ،‬ودفنتها في يدي‬
‫قائلة‪:‬‬

‫‪ -‬على فكرة دي الموضة يا عم الحاج‪ ...‬بااااي!‪.‬‬

‫وقفت مشدوهاً‪ ،‬ومتأمالً سيارتها ال ُمنطلقة بعيداً‪ ،‬وصدى‬


‫ُ‬
‫قهقهاتها يبتعد عن أذني كلما ابتعدت السيارة على‬
‫الطريق!‪..‬‬

‫‪142‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ذات سُفلى‬

‫‪145‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬أنا تعبان قوي!‪.‬‬

‫في آخر اتصال بيننا؛ قلتها لها‪ ،‬فخرجت من جوفي متهدجة‬


‫حارة مستغيثة‪ ،‬عمياء تتحسس طريقها صوب أيما طوق‬
‫للنجاة‪ ،‬تتخبط داخل نفق بحثا ً عن منفذ للهواء‪ ،‬أو بحثا ً عن‬
‫أيما قلب به رحمة أو بعض من بقايا مشاعر آدمية‪ ،‬ولكنها‬
‫سألتني وكأنها غريبة عني‪ ،‬أو أنا غريب عنها‪ ،‬وتناست‬
‫حبي لها‪ ،‬وحبها لي‪ ،‬أو تظاهرت بالتناسي بعدما اختارت‬
‫الفراق بقلب ُمطمئن حفاظا ً على ماء وجهها‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫‪ -‬إيه اللي تاعبك؟!‪.‬‬

‫ُ‬
‫صمت‪ ،‬ولكن عيناي أبت الصمت‪ ،‬وسحت الدموع بال‬
‫مكيال‪ ،‬واشتعلت ناراً في أركان قلبي فانقبض‪ ،‬وازداد‬
‫رجيفاً‪..‬‬

‫‪ -‬مش بتاكل؟‪.‬‬

‫سألتني؛ أجبتها فخرج صوتي كصوت قادم من جوف‬


‫األرض‪ ،‬وقد سلخته الصخور والمعادن‪ ،‬فصار نسيلة‬
‫عجفاء‪:‬‬

‫‪ -‬باكل ياستي!‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬مش بتشرب؟‪.‬‬

‫‪ -‬بشرب!‪.‬‬

‫‪ -‬مش صحتك كويسة وبتشتغل؟!‪.‬‬

‫‪ -‬الحمد هلل؛ بشتغل أيوة!‪.‬‬

‫صمتت برهة ثم سألت بلهجة الموقن باإلجابة‪ ،‬الذي يعرف‬


‫مابي‪ ،‬وال أدري أكانت تريدني أن أجيبها وأقول لها"أنتِ"‬
‫لتزداد كبريا ًء فوق كبريائها! أم تريد لنحيبي أن يعلوا‬
‫لتسمعه‪ ،‬وتزداد ذاتها السفلى تصخما ً وسعادة بقهري‪،‬‬
‫وجرحي وتذليلي‪ ،‬ثم تركيعي!‪..‬‬

‫‪ -‬أومال إيه اللي تاعبك؟!‪.‬‬

‫ُ‬
‫قررت أن أعيد على مسامعها ما‬ ‫أعرف أنها تعرف‪ ،‬ولكني‬
‫تعرفه‪ ،‬وتود أن تسمعه بحرقة‪ ،‬فقد راود ُمخيلتي آنذاك‬
‫مشهد كانت هي بطلته‪ ،‬مشهد من ال ُمستقبل البعيد؛ رأيتها‬
‫تبكي‪ ،‬وتندم أنها تركتني رغم علمها بقدر محبتي لها‪،‬‬
‫وتتذكر كل كلمات الحب التي ألقيتها على آذانها الصماء‪،‬‬
‫وقلبها ال ُغلف‪ ،‬وتزدري أيما سبب تحججت به قديما ً ل ُتحِل‬
‫لنفسها الفراق‪،‬‬

‫‪141‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ْ‬
‫تذكرت كلماتي؛ ازداد نحيبها‪ ،‬وتيبس جسدها‪،‬‬ ‫وكلما‬
‫ْ‬
‫وسقطت في وهدة الوحدة أكثر فأكثر!‪.‬‬ ‫وشحب وجهها‪،‬‬

‫إذاً هنيئا ً لك ال ُمسقبل بآالمه وأتراحه‪ ،‬وهنيئا ً لي الماضي‬


‫بذكرياته وأفراحه!‪ُ .‬‬
‫قلت لها وأنا على شفير الموت‪:‬‬

‫‪ -‬اللي تاعبني‪ ،‬هو قلبي‪ ...‬اللي لسه بيحبك!‪.‬‬

‫تلجلت‪ ،‬تلعثمت‪ ،‬اغتاظت‪ ،‬نطقت جملتها التي بدا أنها قد‬


‫استظهرتها جيداً‪ ،‬وخرجت كعزاء من يعزي في قتيل‪ ،‬قتله‬
‫بيديه‪:‬‬

‫‪ -‬أنا مبحبش حد!‪..‬‬

‫‪142‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫عيون أنثى‬

‫‪147‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ُكنت دوما ً أحار من طبيعة نظرات اإلناث‪ ،‬وما يقال عنها‪..‬‬

‫يقال أن نظراتهن تختلف عن نظرات الرجال!‪.‬‬

‫نظراتهن وإن كانت خاطفة التكاد تشعر بها‪ ،‬فهي كافية‬


‫لتجسيد ُنسخة منك وتعتيقها على رف من رفوف عقلها‬
‫المتينة ‪ ...‬غريب أليس كذلك!‪.‬‬

‫أما نظراتنا نحن معشر الرجال‪ ،‬فتلتقط صورة واحدة ال‬


‫أكثر‪ ،‬وتضعها على أهم رف برفوف عقولنا‪ ،‬أما الصورة‬
‫فهي للجسد وأحيانا ً لقطة عابرة للوجه‪ ،‬سرعان ما تبهت‬
‫ألوانها‪ ،‬وتضيع خطوطها وتتشابك مع خطوط عشرات‬
‫الوجوه التي قابلناها حقيقة وخياالً‪..‬‬

‫أعتق ُد أن هذا ما حدث معي؛ لم تكن نظرتها الخاطفة مجرد‬


‫عابرة سبيل‪ ،‬بل كانت بكل تأكيد ذكية ُمتفحصة! وأنا ُ‬
‫كنت‬
‫جاهالً بتلكم الحقيقة‪ ،‬حتى أتى يوم وطفح إنائها بقطرات‬
‫الوله ال ُملتهبة‪ ،‬ولم تجد بداخلها عزما ً لكبح جماح قلبها‬
‫ال ُمتيم‪..‬‬

‫كنت ماراً بال ُطرقة الض ِّيقة صوب‬


‫ض ْت طريقي‪ ،‬حينما ُ‬
‫اِعتر َ‬
‫مكتب مدير القسم الذي أنتمي إليه بالشركة التي كنا نعمل‬

‫‪110‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫بها‪ ،‬وكانت هي خارجة منه‪ ،‬كانت ُمتأنقة بمالبسها‬


‫السوداء‪ ،‬وبشرتها النضرة البيضاء‪ ،‬التي ما إن تراها حتى‬
‫تشعر أنها ُمضاءة بكهرباء خفية!‪.‬‬

‫كانت قامتها متوسطة الطول‪ ،‬وممتلئة الجسم‪ ،‬امتال ًء جذاباً‪،‬‬


‫يجعلك تشعر بثقلها ليس على األرض‪ ،‬ولكن في الحياة‪،‬‬
‫وفي القلوب!‪.‬‬

‫ْ‬
‫تلعثمت حروفها‪ ،‬ولم‬ ‫إلي كي أتوقف‪ ،‬ثم‬ ‫ْ‬
‫أشارت بيدها ّ‬
‫كنت واقفا ً وبيدي حزمة‬
‫تنطق‪ .‬وشرد عقلها يرتب كلمات؛ ُ‬
‫ْ‬
‫تأخرت‪ ،‬عندئذ‬ ‫أوراق‪ ،‬بانتظارها أن َتخ ُرج كلماتها‪ ،‬ولكنها‬
‫ُ‬
‫وجدت سوى تلك الجملة‪،‬‬ ‫ُ‬
‫اضطررت أن أقول أي شيء‪ ،‬وما‬
‫فقلتها بتلقائية‪:‬‬

‫‪ -‬تبدين أنيقة اليوم؟‬

‫ُ‬
‫سمعت أزيز مكابح التروس‬ ‫ص َم ُ‬
‫ت أتأملها؛ أقسم أني‬ ‫ثم َ‬
‫بعقلها‪ ،‬والتي توقفت فجأة‪ ،‬بسبب ُمقاطعتها من قِ َبلي‪.‬‬
‫ُ‬
‫والزلت أتذكر أثر وقع الكلمات على وجهها الذي نقأ فجأة‪،‬‬
‫ْ‬
‫وتناوبت شتى األلوان على زخرفته‪ ،‬وعيناها السوداوان‬
‫الواسعتان الكحيلتان‪ ،‬اللتان تعلقتا بي لحظات‪ ،‬كطفل هددته‬

‫‪111‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫خجل‬
‫ِ‬ ‫أمه بالرحيل عنه‪ ،‬وتركه وحيداً‪ ،‬ثم سقطتا أرضا ً في‬
‫وصمت أنيقين!‪.‬‬

‫هل كانت تحبني‪ ،‬وأنا ال أدري؟!‬

‫ستعترف‪ ،‬والجرأة هي التي نقصتها؟!‬


‫ُ‬ ‫هل كانت‬

‫ُ‬
‫سمعت جرس‬ ‫جدوى تساؤلي حينذاك‪ ،‬إذ‬ ‫ُ‬
‫تساءلت‪ ،‬ولكن ما ّ‬
‫ُ‬
‫ودلفت‬ ‫ُ‬
‫فأفقت من تأمل صمت حيائها الجميل‪،‬‬ ‫مكتب المدير‪،‬‬
‫صوب المكتب‪ ،‬ثانيا ً رقبتي‪ ،‬أراقبها بعيناي‪ ،‬وهي تدلف‬
‫صوب القسم الذي يجمعنا‪ ،‬تقدم ساقا ً وتؤخر أخرى!‪.‬‬

‫أتذكرها دوماً؛ كانت تداعبني بنظراتها‪ ،‬وتهدهدني‬


‫برموشها‪ ،‬وتدثرني بحاجبيها‪ .‬كنت أشعر بصهد حنانها؛ في‬
‫زمهرير الشتاء يدفئني‪ ،‬وفي قيظ الصيف ُينعشني؛ كان‬
‫يغادرها‪ ،‬ويصلني حيث أجلس على المكتب‪ ،‬ال ُمقابل‬
‫لمكتبها‪ ،‬ال تفصلنا سوى مسافة ال تتعدى المترين‪ ،‬ومن‬
‫حولنا العواذل‪ ...‬بقية الزمالء‪.‬‬

‫إلي‪ ،‬فأرفع‬
‫حتى وأنا ُمنهمك في األوراق‪ ،‬أشعر بأنها تنظر ّ‬
‫رأسي فجأة‪ ،‬فأجدها تختطف رأسها‪ ،‬وتجبره على اإلطراق‪،‬‬
‫مبتسمة ابتسامتها العذبة إياها‪ ...‬أليس ذلك بحب!‬

‫‪112‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫كان حبها لي ظاهراً للعيان؛ ابتسامتها التي ُتجبرني أن‬


‫أبتسم إذ رأيتها‪ُ ،‬مرتسمة على وجهها‪ ،‬في أي حالة ُ‬
‫كنت‪،‬‬
‫أو كان مزاجي‪ ،‬تأمرني أن أسعد‪ ،‬فأسعد‪ .‬تنتشلني من وهدة‬
‫الضيق‪ ،‬إلى رحابة آفاقها‪ ،‬حيث ال حدود ألي شيء كان ذا‬
‫حدود قديما ً!‪.‬‬

‫ُ‬
‫فكرت‪:‬‬ ‫أقبض على مِقبض باب مكتب المدير‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وقفت قبل أن‬ ‫ت‬
‫تزوج التي تحبك؟ هكذا يقال دائماً‪ ،‬وما أدراني؟ لربما‬
‫أحبها‪ ،‬أو أنني مع األيام سأحبها‪ ،‬وخاصة أني لم أحب فتاة‬
‫حتى اآلن!‪.‬‬

‫ُ‬
‫وقصدت القسم‪ ،‬ول ّما دخلته‪ ،‬وجدتها تنظر‬ ‫تراجعت سريعاً‪،‬‬
‫ُ‬
‫لي باستغراب ممزوج بابتسامة شجعتني على أن أقول لها‬
‫وللجميع آنذاك‪:‬‬

‫‪ -‬هل تقبلين أن تتزوجيني؟‪.‬‬

‫ْ‬
‫فضحكت‪،‬‬ ‫شغروا أفواههم والتزموا الغمز واللمز‪ ،‬أما هي‬
‫ولكنها ضحكة جديدة؛ لم أرها ُمنطبعة على وجهها من قبل‪،‬‬
‫ثم قالت بسخرية‪:‬‬

‫‪113‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬أنت مثل أخي‪ ،‬دعك من المزاح يا زميلي العزيز‪ ،‬و ُعد‬


‫لعملك؟‪.‬‬

‫صدمت‪ ،‬وتلجلجت‪ ،‬وسخر مني ُعذالي‪،‬‬


‫ما هذا الهراء!؟ ُ‬
‫وتطايرت ضحكاتهم في كل االتجاهات!‪.‬‬

‫وغدوت نحو مكتب السيد المدير خائباً‪،‬‬


‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تأبطت أوراقي‪،‬‬
‫سادراً‪ُ ،‬متسائالً‪:‬‬

‫وماذا ع ّما كنت أشعر به منها!؟‪.‬‬

‫دخلت المكتب‪ ،‬ووقعنا األوراق‪ ،‬ثم دلفت صوب الباب‪،‬‬


‫وهممت أن أخرج‪ ،‬لوال أن استوقفني مديري قائالً‪:‬‬
‫ُ‬

‫‪ -‬إنها تحبك‪ ...‬هكذا أوصتني أن أقل لك‪ ،‬ألنها تستحي‬


‫منك‪..‬‬

‫‪112‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ضحكات من الماضي‬

‫‪115‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫الوالدة‪...‬‬

‫منذ أيام؛ انﻀﻤﺖ مﻮﻇفة جﺪيﺪة الى العﻤﻞ‪ ،‬وكان مﻜﺘﺒها‬


‫بﺠﻮار مكتب ”كﻤال“ وفي أول يﻮم عﻤﻞ له بعﺪ األجازة؛‬
‫جلﺲ منكبا ً على العمل بشراهة‪ ،‬وفجأة؛ صدح صوتا ً أنثويا ً‬
‫جميالً يلقي الﺘﺤﻴة عليه‪..‬‬

‫رفع بﺼﺮه لﻴﺮد تﺤﻴﺘها؛ انﺘفﺾ واقفا ً ال يﺼﺪق ما يﺮى؛‬


‫إنها ”عزيزة“ بشحمها ولحمها‪ ،‬بﻨفﺲ مالمﺤها‪ ،‬نفﺲ‬
‫ابﺘﺴامﺘها‪ ،‬نفس رقة صوتها!‪.‬‬

‫ُذهل وتعجب كﺜﻴﺮاً‪ ،‬وحﺪث ذلك االنﺠﺬاب الغريب بﻴﻦ االثﻨﻴﻦ‬


‫من أول نظرة‪ ،‬وهام بها شارداً يتخيل خطبته عليها ‪،‬‬
‫وزواجه بها‬

‫ثم أفاق وذهب ليتعرف إليها وعلى وجهه ابتسامة أمل‪...‬‬

‫الموت‪....‬‬

‫أعلﻦ ”كمال“ خﻄﺒﺘه مﻨﺬ خمسة أشهﺮ ‪ ،‬على فتاة من بلﺪته‬


‫بالجنوب‪..‬‬

‫‪114‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ال أحﺪ مﻦ الﺰمالﺀ بالعمل يعﺮف عﻦ حﻴاته الﺸﺨﺼﻴة كﺜﻴﺮاً‪،‬‬


‫وغﻴﺮ ذلﻚ فهﻮ شﺨﺺ غير اجتماعي بالمرة ‪ ،‬وال يحب‬
‫الثرثرة ‪ ،‬والخوض في األحاديث التي ال تجدي نفعاً‪..‬‬

‫خﻄﻴﺒﺘه تﺪعى ”عﺰيﺰة“ وكانﺖ جارته‪ ،‬وكانﺖ فﺘاة رائعة‬


‫الﺠﻤال؛ طويلة القامة‪ ،‬منحوتة القوام‪ ،‬بيضاء البشرة‪،‬‬
‫عيناها سوداوتان واسعتان كحيلتان‪ ،‬وكانت األجمل بالقرية‪.‬‬
‫كان كﻤال يﻜﻦ لها معﺰة وحبا ً لﻴﺲ له حﺪود ‪ ،‬وكانﺖ هي‬
‫أيضا ً تﺒادله نفﺲ الﺸعﻮر ‪ ،‬وكانا االثﻨﻴﻦ قﺼة العشق‬
‫األشهﺮ بالقﺮية‪..‬‬

‫األﻃفال كانوا يعﺮفﻮن أن كﻤال يﺤﺐ عﺰيﺰة‪ ،‬وعزيزة تحب‬


‫كمال‪ ،‬بيد أن كمال كان كتوماً‪ ،‬وال يفﺸي أسﺮاره ألحﺪ ‪،‬‬
‫لﻜﻦ الﺤﺐ هﻮ مﻦ أفﺸى السر في هذه المرة‪ .‬فال يﻮجﺪ مﻜانا ً‬
‫في تلﻚ القﺮية إال وله ذكﺮى لهﻤا‪ ،‬وال يوجد جذع شجرة إال‬
‫وحفﺮا عليه قلب يخترقه سهم الحب وبطرفيه حرفيهما‪..‬‬

‫***‬

‫كانا جالسان بجوار بعضهما البعض على ربوة خضراء‬


‫يشاهدان غروب الشمس خلف النخيل والحقول‪ ،‬كانا‬

‫‪111‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫متالصقين؛ عزيزة في جلبابها المزركش بالورود‪ ،‬وطرحتها‬


‫الموشاة بالترتر‪ ،‬وكمال بجلبابه الفضفاض‪ ،‬وشاله‬
‫المصبوغ‪ ،‬مسك يديها‪ ،‬قال‪:‬‬

‫ت على‬ ‫ُ‬
‫عدت أهتم لشروق الشمس مذ أن أشرق ِ‬ ‫‪ -‬ما‬
‫حياتي!‪.‬‬

‫ابتسمت بملء شدقيها‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫ُ‬
‫ولدت حينما‬ ‫‪ -‬أنا لم أولد حين وضعتني أمي ‪ ،‬ولكني‬
‫وضعتني بحضنك الدافيء‪.‬‬

‫ْ‬
‫وغربت الشمس‪..‬‬ ‫طوقها‪ ،‬وقبل رأسها‪،‬‬

‫***‬

‫تﻤﺖ الﺨﻄﺒة و َف ِر َح مﻦ َف ِرح َ‬


‫وح ِزنَ من حزن؛ فقد سبق‬
‫وتقدم لخطبتها الكثير من شباب القرية؛ لكنها رفضتهم‬
‫جميعا ً من أجل معشوقها؛ كمال‪.‬‬

‫لبسا خاتما الﺨﻄﻮبة؛ جلﺴا مع بعﻀهﻤا البعض بشرفة دار‬


‫العروسة الواسعة المطلة على حقول القمح الخضراء؛‬

‫‪112‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫متقابالن يتأمالن بعضهما البعض في صمت؛ كانت عزيزة‬


‫ترتدى فستانا ً أحمراً‪ ،‬وشعرها الناعم منسدل على كتفيها‪.‬‬
‫كان كمال مرتديا ً ً‬
‫بدلة سودا ًء‪ ،‬وغير بعيد في باحة الدار؛‬
‫تردد الفتيات األهازيج‪ ،‬والضحكات‪ ،‬كسرت عزيزة الصمت‬
‫قائلة ‪:‬‬

‫‪ -‬سأنهض ألحﻀﺮ لﻚ شيئا ً حﺘى تﺘﺬكﺮني به في سفﺮك‪...‬‬


‫قاطعها كﻤال‪:‬‬

‫‪ -‬ومﺘى نسيتكِ حﺘى أتﺬكﺮكِ !؟‪.‬‬

‫وصمتا االثنين فينة ثم أردف كمال قائالً ‪:‬‬

‫‪ -‬أنت الروح لجسدي‪ ،‬وفراقكِ الﻤﻮت‪ ...‬قاطعته عﺰيﺰة‪:‬‬

‫‪ -‬ليجعل الله يﻮمي قﺒﻞ يﻮمﻚ حبيبي؟‪.‬‬

‫‪ -‬سالمتكِ مﻦ الﻤﻮت ‪ ،‬إن شاﺀ الله سﻨعﻴﺶ ونﺘﺰوج‬


‫ونﻨﺠﺐ أﻃفاال كﺜﻴﺮين ‪ ،‬فدعكِ مﻦ تلﻚ الﺴﻴﺮة ‪ ،‬وقولي لي ‪،‬‬
‫ماذا كن ِ‬
‫ت سﺘﺤﻀﺮيﻦ لي ؟ فال يﻮجﺪ عﻨﺪي أجﻤﻞ من‬
‫وجودكِ معي!‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫وقفت عﺰيﺰة؛ دلفت داخل الدار؛ أحﻀﺮت صﻨﺪوقا ً خشبيا ً‬


‫صغﻴﺮاً مطعم بزخارف مذهبة‪ ،‬ثم جلست‪ ،‬ومدته إليه‪،‬‬
‫قالت‪:‬‬

‫‪ -‬ال تفﺘﺤه هﻨا بﻞ بعﺪ وصولك إلى القاهرة ؟‪.‬‬

‫ابتسم‪ ،‬تناوله منها‪ ،‬وضعه على حجره‪ ،‬أضافت‪:‬‬

‫‪ -‬أغار علﻴﻚ مﻦ فﺘﻴات القاهﺮة ‪ ،‬فإنهﻦ يﻀعﻦ زيﻨﺘهﻦ‬


‫ويﺮتﺪيﻦ الﻤالبﺲ الﺨلﻴعة ‪ ،‬أخﺸى أن يفﺘﻨﻨﻚ بﺠﻤالهﻦ‬
‫وحﺮكاتهﻦ‪ ...‬قاﻃعها‪:‬‬

‫‪ -‬ال أسﺘﻄﻴع أن أنﻈﺮ ألى فﺘاة سواكِ ‪ ،‬وإن فعلﺘها ونﻈﺮت‬


‫إلحﺪاهﻦ رأيﺖ صﻮرتكِ ‪ ،‬ألنكِ عيني التي أرى بها‪-‬ثم مسك‬
‫يديها‪-‬صدقينيلﻢ ولﻦ أشعﺮ باألمان والﺤﺐ إال بﻴﻦ أحﻀانﻚ‪،‬‬
‫لذا دعكِ مﻦ هﺬا الﻤﺰاح يا عﺰيﺰة على قلﺒي ‪ ،‬ودعﻴﻨا‬
‫نﺴﺘﺮق تلﻚ اللﺤﻈات الحلوة مﻦ العﻤﺮ؟‪.‬‬

‫قالت عزيزة بصوت متهدج ‪:‬‬

‫‪ -‬أحﻴانا ً أشع ُر بﺨﻮف شﺪيﺪ وأشعﺮ أن تلﻚ الفﺮحة الﺘي‬


‫نﺤﻴاها لﻦ تﻄﻮل ‪ ،‬وكﺜﺮما رأيﺘﻚ بأحالمي وأنﺖ حﺰيﻦ تﺒﻜي‬
‫وال أدري لﻤاذا !‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫نزلت دموع عينيها الكحيلتين على خديها الميسين في‬


‫صمت ‪ ،‬فكفكف كمال دمعاتها بيده‪ ،‬فقبلتها‪ ،‬قالت‪:‬‬

‫‪ -‬أخﺸى أن ُيك َتب علﻴﻨا الفﺮاق فأموت‪ ،‬أنا أتعﺬب وأتلوى‬


‫مﻦ نار االشتياق عﻨﺪما تﺴافﺮ ‪ ،‬فما بالك بالفراق ؟ عﺪني يا‬
‫كﻤال أن ال يفرقنا سوى الموت؟‪.‬‬

‫‪ -‬أعﺪكِ !‪.‬‬

‫قالت ودموعها تنهمر ‪:‬‬

‫‪ -‬وأعﺪك أني سأحبك حﺘى بعﺪ مﻮتي!‪.‬‬

‫***‬

‫وصﻞ القاهﺮة؛ عاد لشقته‪ ،‬جلس بالشرفة ‪ ،‬فﺘح الﺼﻨﺪوق‬


‫فإذا بﺪاخله ”الﺪمﻴة القماشية الﺼغﻴﺮة“ التي تﺤﺘﻀﻦ قلبا ً‬
‫مﻦ القﻤاش ‪ ،‬والﺘي قﺪ غزلتها عﺰيﺰة مﻨﺬ أن كانا ﻃفلﻴﻦ‬
‫وكانا يلعﺒان بها سﻮياً؛ أُحيك علﻴها مؤخراً عﺒارة ”سأحﺒﻚ‬
‫حﺘى بعﺪ مﻮتي“‬

‫ارتﺠﻒ كﻤال وتساءل‪:‬‬

‫لﻤاذا تﻜﺮر كلمة "الﻤﻮت" أنه ألمر مقلﻖ!‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫***‬

‫بعد مرور أسابيع؛ اتﺼﻞ أحﺪ أهﻞ القرية بﻜﻤال‪ ،‬قال‪:‬‬

‫‪ -‬عﺰيﺰة في خﻄﺮ البﺪ أن تحضر حاال لتساعدها؟!‪.‬‬

‫ل َّما قالها المتصل؛ انقبض قلبه وتالحمت نبضاته‪ ،‬لﻢ يستطع‬


‫االنﺘﻈار أو االسﺘفﺴار وانﺘابه الﺬعﺮ والﺨﻮف والﺤﻴﺮة‬
‫والقلﻖ ‪..‬‬

‫بدل مالبسه‪ ،‬ذهب إلى موقف السيارات‪ ،‬اسﺘقﻞ سﻴارة‬


‫خاصة حﺘى يﺼﻞ بأسﺮع وقﺖ إلى القﺮية حتى يعﺮف ماذا‬
‫جﺮى هﻨاك؟ وليطمئن على حﺒﻴﺒﺘه‪..‬‬

‫***‬

‫وصﻞ كمال إلى أطراف القرية ‪ ،‬زاد انقباض قلﺒه أكﺜﺮ‬


‫فأكثر؛ فوجيء من بعيد بأن القﺮية جﻤﻴعها قﺪ تﺠﻤعﺖ أمام‬
‫مﻨﺰل عزيزة!‬

‫ركض كالمجنون يصرخ بالناس ‪:‬‬

‫‪ -‬ماذا يحدث ؟!‪..‬‬

‫‪122‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ولﻜﻦ أحﺪاً لﻢ يﺠﺐ! بدأ يركض بﻴﻦ صفﻮف الﻨاس وهﻮ‬


‫يكرر صرخاته ‪:‬‬

‫‪ -‬ماذا حﺪث؟‪ ...‬أيﻦ عﺰيﺰة؟‪.‬‬

‫تﻴقﻦ لحظتها أن هﻨالﻚ مﻜﺮوه ما يحدث لها!‪.‬‬

‫فﺒﺪأت الﺪمﻮع تﻨهﻤﺮ ودقات القلﺐ تكاد تنفذ من صدره‪ ،‬ﻇﻞ‬


‫يﺼﺮخ ويﺼﺮخ ولﻢ يعﺮه أحﺪ اهﺘﻤاماً‪ ،‬إال مصمصة الشفاة‬
‫‪ ،‬دون أية إجابة‪ ،‬فﺰادت حالة الغﻤﻮض الﻤﺤﻴﻄة بﻨفﺴﻴﺘه ‪،‬‬
‫فازدادت سﻮ ًء فسو ًء!‪.‬‬

‫وصﻞ أخيراً أمام باب دارها ‪ ،‬ومن حوله حلقات وصفوف‬


‫من الرجال والنساء‪ ،‬ووجﺪ الﻨﻴاح والعﻮيﻞ مﻦ أهﻞ الدار ‪..‬‬

‫وجﺪ ”أم عﺰيﺰة“ جالﺴة على األرض ‪ ،‬وتهﻴﻞ فﻮق رأسها‬


‫الﺘﺮاب وتﻨﻮح بﻄﺮيقة مفﺰعة‪ِ ،‬انهار أمامها ”كﻤال“ نزل‬
‫على ركبتيه يتأملها كطفل نزل تواً إلى الوجود‪..‬‬

‫نظرت إلﻴه األم وتﻮقفﺖ لﺜﻮان عﻦ الﻨﻴاح والعﻮيﻞ بيد أن‬


‫يديها قابضتان على التراب‪ ،‬نﻈﺮت لعينيه فوجدته غارقا ً‬
‫بﺪمﻮعه‪ ،‬أمﺴﻚ يﺪيها وسكب التراب من قبضتيها ثم قال لها‬
‫بﺼﻮت مبحوح ‪:‬‬

‫‪123‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬ماذا يﺤﺪث‪ ...‬أيﻦ عﺰيﺰة ؟‬

‫ﺼﺮخﺖ به ‪:‬‬

‫‪ -‬عﺰيﺰة ألﺤقﺖ بﻨا العار‪ ،‬وتركتهم يغتصبونها! وأخﺬها‬


‫أبوها إلى بطن الﺠﺒﻞ لﻴغﺴﻞ عاره ويﺪفﻨها‪..‬‬

‫أشارت إلى الﺠﺒﻞ القﺮيﺐ‪ ،‬لﻢ يﺼﺪق كمال هﺬا الﺤﺪيﺚ‬


‫وتﻮقﻒ عقله وقلﺒه لﺜﻮان‪ ،‬ثﻢ عاد إلى الﺤﻴاة مﺮة أخﺮى‪..‬‬

‫لﻢ يﻜﻦ أمامه خﻴار إال أمﻞ مﻨعﺪم وهﻮ اللﺤاق بهﻢ قﺒﻞ أن‬
‫يمسسها أذى؛ ركض كﻤال صوب الﺠﺒﻞ ‪ ،‬وكانﺖ الﺼفﻮف‬
‫عﻦ يﻤﻴﻨه وعﻦ شﻤاله مﻦ الﻤﺘفﺮجﻴﻦ مﻦ أهﻞ القﺮية‬
‫كثيرة‪..‬‬

‫كلﻤا جﺮى أكﺜﺮ وقع على سﻤعه عﺒارات تقﺬف مﻤﻦ‬


‫اصﻄفﻮا في ﻃﺮيقه ‪ ،‬فيقول أحﺪهﻢ ‪:‬‬

‫‪ -‬إنها عاهﺮة وتﺴﺘﺤﻖ!‪.‬‬

‫ويقول آخر ‪:‬‬

‫‪ -‬تعﻮدت على فعﻞ الﺮذيلة وبﺪأتها مع فﺘى الﻤﺪيﻨة!‪.‬‬

‫ويقول غيرهم ‪:‬‬

‫‪122‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬ال توجد فتاة يمكن اغتصابها رغما ً عنها أبداً!‪.‬‬

‫ولكنه لم يكترث فخوفه ولهفﺘه وشغله الشاغل اللحاق‬


‫بعزيزة ليس إال!‪.‬‬

‫***‬

‫وصﻞ إلى الﺠﺒﻞ ‪ ،‬وبعد أن صعده ‪ ،‬سمع صﺮاخها وبﻜاؤها‬


‫واسﺘغاثاتها‪ ،‬ركض صﻮب الﺼﻮت ‪ ،‬فﻮجﺪ رجال مﻦ‬
‫عائلﺘها مسلحين بالبنادق ‪ ،‬ومﻨعاه مﻦ العﺒﻮر بالقوة!‪.‬‬

‫نظر إلى بطن الﺠﺒﻞ فﻮجﺪ عﺰيﺰة مﻜﺒلة بالحبال ‪ ،‬وأبوها‬


‫واقف أمامها يحدجها وبيده بندقﻴﺘه‪ ،‬لمحته عﺰيﺰة‬
‫فﺼﺮخﺖ ‪:‬‬

‫‪ -‬انﺠﺪني يا كﻤال؟ ال تﺘﺨلى عﻨي يا حﺒﻴﺒي؟ أنا بريئة‬


‫التصدقهم؟ أنت تعرف بأني مخلصة لك لوحدك؟!‪.‬‬

‫فﺼﺮخ كﻤال ‪:‬‬

‫‪ -‬ال تقﺘلها أرجﻮك ‪ ...‬انﺘﻈﺮ ؟‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ثﻢ انسل مﻦ بين الﺮجال المسلحين ‪ ،‬ونزل ناحﻴﺘها‪ ،‬أشهﺮ‬


‫أبوها سالحه نحوها ‪ ،‬ثﻢ أﻃلﻖ وابال مﻦ الﺮصاص على‬
‫جﺴﺪها الﻀعﻴﻒ الﺮقﻴﻖ‪..‬‬

‫وقعﺖ عزيزة على األرض ‪ ،‬لﺘلفﻆ أنفاسها األخﻴﺮة‪ ،‬وهرب‬


‫األب بعﻴﺪاً عﻨها ‪ ،‬بعﺪ أن سﻤع صﻮت ساريﻨة الﺸﺮﻃة‪..‬‬

‫لﻢ يﺼﺪق كﻤال مايحدث لﺤﺒﻴﺒﺘه أمام عﻴﻨﻴه ‪ ،‬وال يفهﻢ سﺒﺐ‬
‫كﻞ هﺬا ‪ ،‬وجﺮى علﻴها فﻮجﺪها غارقة في بﺤﺮ دمائها ‪..‬‬
‫ُذهﻞ عقله ‪ ،‬ورفض مايحدث؛ ﻇﻞ يﺒﻜي ويﺒﻜي ‪ ،‬مﺴﻚ بﻴﺪها‬
‫يقبلها بحرارة ‪ ،‬وهﻮ غارق في بﺤﺮ دمﻮعه ‪ ،‬وقال لها‬
‫بصوت متهدج من شدة نحيبه ‪:‬‬

‫ت راحلة؟ ال تﺘﺮكيني ‪ ...‬أرجﻮكِ‬ ‫‪ -‬لقﺪ عﺪ ُ‬


‫ت إليكِ ‪ ...‬لﻤاذا أن ِ‬
‫ال تﺘﺮكيني ‪...‬فلن أسﺘﻄﻴع العﻴﺶ بﺪونكِ هﻴا انهضي؟‬
‫اعطني فرصة أخرى‪...‬فرصة واحدة أرجوكِ أريد أن أُحبك‪،‬‬
‫أتزوج ُك‪ ،‬أريد إنجاب أطفال منكِ ‪ ،‬يشبهونك وال يشبهونني؟‪.‬‬

‫فﻜانﺖ جاحظة العينين كأنها تتأمله ‪ ،‬وتﻨﻈﺮ إلﻴه وهو قابض‬


‫على يﺪيها الباردتين ‪..‬‬

‫‪124‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫لقد كان هو آخﺮ ما رأته عﻴﻨاها بهذه الدنيا القصيرة األمد‪،‬‬


‫كان بالﻨﺴﺒه لها كﻞ شئ جﻤﻴﻞ ‪ ،‬والﺤلﻢ الﻮحﻴﺪ في حﻴاتها‬
‫والﺬي لﻢ يﺘﺤقﻖ!‪.‬‬

‫صﺮخ كﻤال ثﻢ فقﺪ الﻮعي وسﻂ بﺮكة دمائها ‪ .‬أتﺖ الﺸﺮﻃة‬


‫للمعاينة‪ ،‬و ُنقِل كﻤال إلى المستشفى‪..‬‬

‫***‬

‫ﻇﻞ في غﻴﺒﻮبة تامة بﻀعة أيام ‪..‬‬

‫قال األﻃﺒاﺀ ‪ :‬إن كﻤال لﻦ يﻨﺠﻮا مﻦ تلﻚ الغﻴﺒﻮبة الﻨاتﺠة‬


‫عﻦ جلﻄة دماغﻴة حادة نتيجة صدمته العاطفية‪.‬‬

‫ولﻜﻦ القﺪر كانﺖ له حﺴابات أخﺮى!‪.‬‬

‫وفﺠأة؛ عادت الﺤﻴاة إلى كﻤال فوق سرير المستشفى ‪،‬‬


‫وأفاق مﻦ الغﻴﺒﻮبة ‪ ،‬وعاد طبيعياً‪ ،‬وقتئذ؛ انﺪهﺶ األﻃﺒاﺀ‬
‫أيما اندهاش!‪.‬‬

‫وبعﺪ الفﺤﻮصات والﺘﺤالﻴﻞ والﺠلﺴات الﺤﻮارية مع كﻤال ‪،‬‬


‫اكﺘﺸﻒ األﻃﺒاﺀ ”أنه أصﻴﺐ بفقﺪان ذاكرة جﺰئي“‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫فهو ال يﺘﺬكﺮ شيئا ً ع َّما حﺪث لعﺰيﺰة‪ ،‬وكان آخﺮ ما يﺘﺬكﺮه‬


‫هﻮ قدومه للقرية بال سبب يتذكره‪ .‬لم يقبل عقله الحادثة ‪،‬‬
‫فرفض تخزينها بذاكرته‪ ،‬وحدث الخلل والفقدان‪..‬‬

‫عﻨﺪما سأل أهلهعﻦ سﺒﺐ وجﻮده بالمستشفى ‪ ،‬فأجابﻮه ‪:‬‬

‫‪ -‬حادث بﺴﻴﻂ ‪..‬‬

‫فﺴأل عﻦ عﺰيﺰة فأجابﻮه ‪:‬‬

‫‪ -‬ذهﺒﺖ مع عائلﺘها لﺰيارة أقارب ألمها بإحﺪي مﺤافﻈات‬


‫الﺸﻤال وال يﻮجﺪ أحﺪ مﻦ عائلﺘها بالقﺮية!‪.‬‬

‫***‬

‫قفل عائداً إلى لقاهﺮة‪ ،‬وعاد إلى عﻤله‪ ،‬ولﻜﻨه أصﺒح‬


‫مﺸغﻮال على عﺰيﺰة‪ ،‬ومﺘي سﺘعﻮد‪،‬‬

‫وأصﺒﺤﺖ تﺮاوده تلﻚ األحالم الﺘي ال يﺮى بها إال الﻈالم‬


‫ويسمع تلك الضحكات اآلتية من ماض سﺤﻴﻖ ‪ ،‬وتﺸﺒه‬
‫ضﺤﻜات عﺰيﺰة بل هي ضحكاتها!‪.‬‬

‫ساورته شﻜﻮك كﺜﻴﺮة فﺴافﺮ الى القﺮية غير مرة ‪،‬‬


‫ليستقص أية أخباراً عن عﺰيﺰة أو أي أحﺪ مﻦ أ ُسﺮتها ‪..‬‬
‫ِ‬

‫‪122‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ولكن كل ما استطاع أن يعرفه أنهم لﻦ يعﻮدوا إلى القﺮية‬


‫اآلن ‪ .‬واحﺘﻤال كﺒﻴﺮ أن لﻦ يعﻮدوا أبﺪاً! فقﺪ باعﻮا أرضهم‬
‫ومﻨﺰلهﻢ وسﻴعﻴﺸﻮن في إحﺪى مﺤافﻈات بحري!‪.‬‬

‫لقد أُبرم إتفاق بين معظم أهﻞ القﺮية على طي السر وكﺘﻤان‬
‫ماحﺪث مﺮاعاة لﻤﺮضه‪..‬‬

‫َت َف َقد كمال ذكﺮياته بالقﺮية حزيناً‪ ،‬ثﻢ عاد الى القاهﺮة حانقا ً‬
‫غاضبا ً مكسوراً‪..‬‬

‫***‬

‫لﻢ يﺼﺪق كﻤال أي شيﺀ وتﺪهﻮرت حالﺘه الﻨفﺴﻴة ‪ ،‬ولﻢ‬


‫يﺘﺨﻴﻞ أن عﺰيﺰة تﺨلﺖ عﻨه بﺴهﻮله ‪ ..‬ومازال عﻨﺪه أمﻞ‬
‫كﺒﻴﺮ أن تعﻮد ألحﻀانه ثانﻴة ‪ ،‬فهﻮ يعﺮف مﺪى حﺒها له‪،‬‬
‫ت يﻮما ً ما وتﻄﺮق أبﻮابه‬ ‫وظن أن ما يﺤﺪث له مﺰ ً‬
‫حة وسﺘأ ِ‬
‫بﻜﻞ الﺸﻮق والحنين ‪..‬‬

‫كان كمال يجلس بشرفة الشقة بالقاهرة‪ ،‬ينفخ دخانه‪ ،‬فدق‬


‫الهاتف‪ ،‬نهض سريعاً‪ ،‬أجاب‪:‬‬

‫‪ -‬مرحباً؟‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫‪ -‬أستاذ كمال أنصحك أن تنسى عزيزة؟‪.‬‬

‫‪ -‬لماذا تقول لي هذا الكالم ومن أنت أصالً؟‬

‫‪ -‬ألنني رأيتها؛ لقد تزوجت برجل قريب ألمها من بحري‪،‬‬


‫لقد كان حبها لك تعلق ال أكثر ‪ ،‬وما إن رأت ذلك الرجل‬
‫وعشقته حتى تعلقت به أكثر منك وتزوجته!‪..‬‬

‫‪ -‬أرجوك‪ ...‬ان كنت تعرف عنوانها فاعطنيه؟‪.‬‬

‫‪ -‬من األفضل أن تنساها مثلما نسيتك هي؟‪.‬‬

‫‪ -‬مستحيل‪ ...‬من أنت باهلل عليك؟ من أنت؟‪.‬‬

‫‪ -‬أنا فاعل خير!‪.‬‬

‫‪ -‬أين هي أرجو‪...‬‬

‫ثم انتهت المكالمة‪..‬‬

‫***‬

‫اسﺘأذن له أصﺪقاؤه في أجازة لعﺸﺮة أيام؛ حزم أمﺘعﺘه‬


‫وذهﺐ إلى إحﺪى الﻤﺪن الﺴاحلية لعله يﺠﺪ الﺘﺤﺴﻦ والﺼفاﺀ‬
‫هناك!‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ولﻜﻦ راودته تلﻚ األحالم غير مرة‪ ،‬وذات الضحكان غير‬


‫مرة‪ ،‬جلس على الشاطيء ‪ ،‬ووضع أمامه على الطاولة‬
‫ُ‬
‫تمنيت لو أنني‬ ‫الصندوق الخشبي الصغير‪ ،‬تأمله‪.‬قديما ً‬
‫شخص خارق ‪ ،‬وبمقدوري أن أغزوا العالم إلعادة كل‬
‫وجدت نفسي عاجزاً‬
‫ُ‬ ‫حبيب لحبيبه ‪ ،‬ولما هجرني الحبيب‬
‫ُ‬
‫فأيقنت عندها أنني بشر ال أستطيع‬ ‫عن استعادة حتى طيفه ‪،‬‬
‫تغيير مجريات األقدار‪.‬‬

‫قالها في نفسه متألماً‪ ،‬نظر إلى البحر شارداً‪ ،‬تمتم‪:‬‬

‫تزوجت حقاً‪،‬‬
‫ْ‬ ‫‪ -‬سأرضى بنصيبي وقسمتي ‪ ،‬وإن كانت قد‬
‫فأتمنى لها السعادة من كل قلبي ‪ ،‬أما أنا فمن اآلن سأبحث‬
‫عن سعادتي أيضا ً‪ ،‬رغم أني متأكد أنها قد أخذتها معها إلى‬
‫األبد!‪.‬‬

‫فتح الﺼﻨﺪوق‪ ،‬أخرج الدمية‪ ،‬وضعها أمامه‪ ،‬قال‪:‬‬

‫ت عﻨي واخﺘﺮ ِ‬
‫ت‪-‬ثم سالت دمعاته‪-‬‬ ‫ت كاذبة لقﺪ تخلي ِ‬
‫‪ -‬أن ِ‬
‫غيري ‪ ،‬في وقت أنا في أمس الحاجة لكِ فيه ‪ ،‬فاآلن ما‬
‫ُ‬
‫عدت أحتاج لغروب الشمس بعد أن غرب ِ‬
‫ت عن حياتي ‪،‬‬

‫‪171‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫ُ‬
‫سأبحث عن شمس جديدة تشعرني بالدفء وال تأفل مثلكِ‬
‫أبداً‪..‬‬

‫ثم نظر إلى الدمية؛ رأى وجه عزيزة ينأى عن النظر إليه‪،‬‬
‫قال‪:‬‬

‫تتكبر؟ أنا كالشمس التى ترسل لألرض أشعتها‪ ،‬فتبدأ‬


‫ِ‬ ‫‪ -‬ال‬
‫صيرورة انقشاع الظالم وبزوغ النهار‪ ،‬وأن ِ‬
‫ت كالقمر الذي‬
‫يعقبني ويطل على األرض في غيابي‪ ،‬وبنور استمددته مني‬
‫لتبدأ صيرورة الليل ذو النور الخافت‪ ،‬ليل السحر ‪ ،‬ليل‬
‫ت قمراً فأنا من أعاركِ نوره‬
‫الشاعرية ‪ ،‬ليل الحب‪ ...‬فإن كن ِ‬
‫تتكبر؟‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الذي جعلكِ قمراً يتغنى به‪ ...‬ال‬

‫ثم بدا عليه بعض إصرار مع كثير من الحزن‪ ،‬قال‪:‬‬

‫‪ -‬وداعا ً يا دميتي سأضعكِ بين الذكريات األليمة ‪ ،‬ألبدأ في‬


‫صناعة ذكريات جديدة؟‪.‬‬

‫ثم أدخل الدمية في الصندوق‪ ،‬وأغلقه بقفﻞ ثﻢ وضعه في‬


‫الﺤقﻴﺒة‪ ،‬وانﺘهﺖ أجازته وعاد إلى القاهﺮة‪..‬‬

‫***‬

‫‪172‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫منذ أيام؛ انﻀﻤﺖ مﻮﻇفة جﺪيﺪة الى العﻤﻞ‪ ،‬وكان مﻜﺘﺒها‬


‫بﺠﻮار مكتب ”كﻤال“ وفي أول يﻮم عﻤﻞ له بعﺪ األجازة؛‬
‫جلﺲ منكبا ً على العمل بشراهة‪ ،‬وفجأة؛ صدح صوتا ً أنثويا ً‬
‫جميالً يلقي الﺘﺤﻴة عليه‪..‬‬

‫رفع بﺼﺮه لﻴﺮد تﺤﻴﺘها؛ انﺘفﺾ واقفا ً ال يﺼﺪق ما يﺮى؛‬


‫إنها ”عزيزة“ بشحمها ولحمها‪ ،‬بﻨفﺲ مالمﺤها‪ ،‬نفﺲ‬
‫ابﺘﺴامﺘها‪ ،‬نفس رقة صوتها!‪.‬‬

‫ُذهل وتعجب كﺜﻴﺮاً‪ ،‬وحﺪث ذلك االنﺠﺬاب الغريب بﻴﻦ االثﻨﻴﻦ‬


‫من أول نظرة‪ ،‬وهام بها شارداً يتخيل خطبته عليها ‪،‬‬
‫وزواجه بها‬

‫ثم أفاق وذهب ليتعرف عليها وعلى وجهه ابتسامة أمل‪..‬‬

‫‪173‬‬
‫رمضان سلمي برقي‬ ‫سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية‬

‫صدر للكاتب‪:‬‬

‫⬛ موالتي والدمار _ خواطر ‪2017 _ pdf‬‬

‫⬛ وحدي بين ُحطام العالم _ مجموعة قصصية _ ‪pdf‬‬


‫‪2017‬‬

‫⬛ وفاء الجن _ رواية ‪2017 _ pdf‬‬

‫⬛ مشاعر آلة _ قصة قصيرة _ ورقي _ ‪2015‬‬

‫⬛ ستموت الليلة _ قصة قصيرة _ ورقي _ ‪2018‬‬

‫⬛ مقاالتي _ مقاالت ‪2018 _ pdf‬‬

‫⬛ سقوط القاهرة _ مجموعة قصصية ‪2018 _ pdf‬‬

‫سيصدر قريبًا إن شاء هللا‪:‬‬

‫⬛ أنشودة الموت‪/‬اللحم والمش _ مجموعة قصصية ورقي‬

‫⬛ زرزور باأللوان _ قصة للطفل ‪pdf‬‬

‫‪172‬‬

You might also like