You are on page 1of 12

‫مجلة دورية تصدرها املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكو ـ‬

‫تصدر باللغات الثالث ‪ :‬العربية ـ اإلنجليزية ـ الفرنسية‬

‫العدد الثاين والثالثون‬


‫السنة الحادية والثالثون‬
‫‪1437‬هـ‪2016/‬م‬
‫مجلة دورية تصدرها املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة‬
‫ـ إيسيسكو ـ‬
‫تصدر بالعربية واإلنجليزية والفرنسية‬

‫املدير املسؤول ‪:‬‬


‫الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري‬

‫رئيس هيئة التحرير ‪:‬‬


‫دريس‬
‫ي‬ ‫ال‬
‫عبد القادر إ‬
‫أبعاد جديدة لـمـقاصد الرشيعة ‪:‬‬
‫حـــفــــظ إنــســانــيــة اإلنــســان‬
‫د‪ .‬عبد املجيد النجار‮‬ ‬‪‭‬‬
‫(*)‬

‫خلق اإلنسان مكرماً‪ ،‬وقد قرر القرآن الكريم ذلك يف قوله تعاىل ‪ ﴿ :‬ولقد كرمنا‬
‫ال� والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم عىل‬ ‫ف‬ ‫ن‬
‫ب� آدم وحملناهم ي� ب‬ ‫ي‬
‫كث� ممن خلقنا تفضيال ً ﴾ (اإلرساء ‪.)70 :‬‬
‫ي‬
‫وتكريم اإلنسان معناه ‪« :‬جعله كرمياً‪ ،‬أي نفيساً غري مبذول وال ذليل»(‪ .)1‬ومن‬
‫الكرامة اإلنسانية ما يجده اإلنسان يف نفسه من وعي بذاته وعياً يتضمن اإلميان‬
‫بقيمته‪ ،‬واإلحساس بعزته‪ ،‬واستشعارا ً لالستعالء عىل ما يحيط به من مكونات الطبيعة‪،‬‬
‫والنظر إليها عىل أنها مسخرة من أجله‪.‬‬
‫إن هذه املعاين الحاصلة يف النفس اإلنسانية بالفطرة متأتي ًة من الرتكيب اإلنساين‬
‫املادي واملعنوي‪ ،‬ليست حاصلة يف أي مخلوق من املخلوقات الكونية األخرى‪ ،‬وهي‬
‫بذلك تشكل أحد العنارص األساس املكونة ملعنى اإلنسانية يف اإلنسان‪ ،‬والفارقة بني‬
‫حقيقته وحقيقة سائر الحيوانات‪ ،‬بله النباتات والجامدات‪ ،‬وهي بالتايل أحد العنارص‬
‫األساس التي عىل أساسها ابتيل اإلنسان بالتكليف‪ ،‬فتتوقف عليه إذن إىل حد كبري‪ ،‬أداء‬
‫ذلك التكليف كام هو مطلوب‪.‬‬
‫فاإلنسان إذا كان يشعر يف نفسه باملهانة من جراء ما يعامل به من تحقري‬
‫وإذالل وانتهاك للكرامة‪ ،‬فإنه يكون مكسور اإلرادة‪ ،‬فال يستطيع أن ينتج شيئاً‪ ،‬فضالً‬
‫عن أن يكون يف مقام الريادة واالبتكار‪ ،‬وإذا ً‪ ،‬فإن املهمة التعمريية التي هو مطالب‬

‫(*) كاتب ومفكر تونيس‪.‬‬


‫(‪ )1‬محمد الطاهر بن عاشور ‪( :‬التحرير والتنوير)‪.165/15 ،‬‬
‫أبعاد جديدة ملقاصد الرشيعة ‪ :‬حفظ إنسانية اإلنسان‬ ‫‪128‬‬

‫بأدائها سوف يكون غري قادر عىل إنجازها‪ ،‬أو غري قادر عىل إنجازها عىل الوجه‬
‫املطلوب‪ .‬ويف مقابل ذلك‪ ،‬فإن اإلنسان القادر عىل اإلنجاز يف الفكر والعمل‪ ،‬هو الذي‬
‫يكون محفوظ الكرامة‪ ،‬قوي النفس عزيزا ً‪ ،‬فهذه الصفات تشيع يف النفس قوة إرادة‪،‬‬
‫وهمة عالية‪ ،‬وهو ما يدفع اإلنسان إىل االنطالق بآمال كبرية‪ ،‬وعزمية ماضية ليفكر‬
‫وينجز ويفعل‪ ،‬فيؤدي املهمة التي بها كلف‪.‬‬
‫ولهذا املعنى جاءت يف الدين أحكام كثرية تلتقي كلها عند مقصد حفظ كرامة‬
‫اإلنسان للحفاظ عىل معنى اإلنسانية فيه‪ ،‬أمرا ً بكل ما من شأنه أن يشعر بالعزة‬
‫والقوة النفسية واالستعالء‪ ،‬ومنعاً لكل ما من شأنه أن يشعر باملذلة والهوان والوهن‪،‬‬
‫سواء كان ذلك متمثالً يف ترصفات فعلية‪ ،‬أو كان متمثالً يف ترصفات قولية‪ ،‬فأميا فعل‬
‫أو قول يشعر بالكرامة والعزة‪ ،‬فهو مطلوب يف الرشع‪ ،‬وأميا فعل أو قول يشعر باملذلة‬
‫والهوان فهو ممنوع‪ .‬ويف ذلك كله حفظ للكرامة‪ ،‬فكام يتلف الجسم بالجراح والقطع‪،‬‬
‫فكذلك تنتقص اإلنسانية يف نفس اإلنسان بترصفات التحقري واإلهانة واالستنقاص قوالً‬
‫وفعالً‪ .‬ذلك ألن الذات بتلك الترصفات تصاب بجراح قد تكون غائرة‪ ،‬فتؤثر يف اإلرادات‬
‫والعزائم‪ ،‬فتنكمش النفس‪ ،‬وتتقلص ملكاتها‪ ،‬وتلتف عىل ذاتها تجرت جراحها‪ ،‬فال‬
‫تستطيع من جراء ذلك أن تثمر شيئاً‪ ،‬فإذا ما حفظت كرامتها بالعزة انطلقت يف اإلنجاز‪.‬‬
‫ولعل األحكام الرشعية الحافظة للكرامة تبتدئ بذلك اإللغاء لكل سبب من‬
‫أسباب التفاضل املتعلقة بالخلقة الذي تنتج عنه مقاييس تتدىن ببعض الناس إىل‬
‫أوضاع من الدونية واملهانة‪ .‬وربطت تلك األسباب بـام يحصله اإلنسان نفسه من‬
‫التقوى‪ ،‬وهو مقتىض قولهﷺ ‪« :‬ال فضل لعريب عىل أعجمي‪ ،‬وال ألعجمي عىل‬
‫عريب إال بالتقوى»(‪ .)2‬فليس يف الرشع إذن من موروث خلقي ميكن أن يستخدمه‬
‫الناس ذريعة للح ّط من قيمة الوارث‪ ،‬أو ميكن أن يجعلوه سبب دونية ومهانة يورث‬
‫يف نفسه الشعور باملذلة‪ ،‬فتنكرس إرادته‪ ،‬وتتحطم شخصيته املعنوية‪ .‬لقد جاءت‬
‫الرشيعة سا َّد ًة لهذا الباب برصامة‪ ،‬حفظاً لكرامة اإلنسان أن ينالها الوهن مبقتىض‬
‫املوروث الخلقي‪ ،‬وأوكلت أسباب الرفعة والتسفل إىل الكسب اإلنساين‪ ،‬فتحاً للباب‬
‫من أجل اكتساب القوة النفسية بكسب الدرجات العليا يف سلم التفاضل بني بني‬
‫اإلنسان‪ ،‬فتحاً تتكافأ فيه الفرص بني جميع األفراد‪.‬‬

‫(‪ )2‬أخرجه أحمد ‪ :‬حديث رجل من أصحاب النبي‪ ،‬رقم ‪.22978‬‬


‫‪129‬‬ ‫د‪ .‬عبد املجيد النجار‬

‫ثم تتالت الترشيعات التي تهدف كلها إىل حفظ الكرامة اإلنسانية‪ ،‬ففرضت‬
‫كفالة اإلنسان باعتباره إنساناً من قبل محيطه االجتامعي األقرب فاألقرب‪ ،‬ابتداءا ً‬
‫باألرسة وانتهاءا ً إىل الدولة‪ ،‬لتوفري حد الكفاية له‪ ،‬حيلول ًة دون الوقوع يف مذلة الفاقة‬
‫ومهانة السؤال‪ .‬وحرمت الغيبة والنميمة والهمز واللمز ملا فيها من جرح للنفوس‬
‫يه ّد من قواها كام ته ّد الجروح يف األعضاء من قوة الجسم‪ ،‬وانتهى ذلك إىل ما رشع‬
‫من تحريم مغلظ للقذف بصفة عامة‪ ،‬والقذف بالزىن بصفة خاصة‪ ،‬فقد ورد فيه ح ٌّد‬
‫بالجلد وسقوط الشهادة كام هو معلوم(‪ ،)3‬وإمنا رشع هذا الحكم فيام نرى حفظاً‬
‫لكرامة النفس‪ ،‬ألن القذف بهذه الجرمية يحدث يف نفس املقذوف أثرا ً بالغاً قد يصل‬
‫إىل تدمريها‪ ،‬وذلك بالنظر إىل ما هو مستقر يف املجتمعات بصفة عامة‪ ،‬ويف املجتمع‬
‫اإلسالمي بصفة خاصة‪ ،‬من فظاعتها‪ ،‬فمن اتهم بها يصيبه بسبب ذلك كرس نفيس‬
‫بليغ‪ ،‬فحفظت الرشيعة كرامة النفوس بهذا الحكم(‪.)4‬‬
‫وقد ذهب الترشيع اإلسالمي بحفظ كرامة الذات اإلنسانية من حيث كونها ذاتاً‬
‫إنسانية‪ ،‬إىل آفاق بعيدة‪ ،‬إذ هي تجاوزت حدود العداوة والصداقة‪ ،‬وأحوال الحرب‬
‫والسلم‪ ،‬واختالف الشعوب واألمم‪ ،‬لتنتهي إىل حدود الذات اإلنسانية مجردة من كل‬
‫االعتبارات‪ ،‬فأميا ذات اندرجت ضمن اإلنسانية‪ ،‬فإن الرشيعة جاءت بإيجاب أن تحفظ‬
‫كرامتها ومنعت كل ما يستنقص منها‪ .‬ولذلك فقد حرمت املثلة باألعداء‪ ،‬وأوجبت‬
‫احرتام جثث املوىت‪ .‬وقد اطردت األحكام بذلك اطرادا ً يورث للناظر يف الرشيعة يقيناً‬
‫بأن حفظ الكرامة اإلنسانية مقصد قطعي من مقاصد الرشيعة اإلسالمية‪.‬‬
‫ومن أهم ما يتق َّوم به معنى اإلنسانية يف اإلنسان‪ ،‬وما يتميز به عن غريه من‬
‫املخلوقات‪ ،‬معنى غائية الحياة‪ ،‬وهو ذلك املعنى الذي يجده اإلنسان يف نفسه بحسب‬
‫يل يتجاوز به لحظته الراهنة إىل‬‫الفطرة من أن لحياته غاية‪ ،‬ولوجوده معنى مستقب ٌّ‬
‫أمد مقبل‪ .‬وهذا املعنى ال تخلو منه نفس برشية‪ ،‬مهام يكن املدى الذي متتد إليه غاية‬
‫الحياة يف النفوس طوالً وقرصا ً يف الزمن‪ ،‬وقوة وضعفاً يف املعنى‪ ،‬ولعل من شواهد ذلك‬
‫أننا ال نجد إنساناً إال وهو يدخر من يومه لغده‪ ،‬ومن حارضه ملستقبله‪ ،‬مهام اختلفت‬
‫أنواع املدخرات يف طبائعها وأحجامها ومناهجها وآمادها‪.‬‬
‫(‪ )3‬راجع ‪ :‬محمد أبو زهرة ‪ :‬العقوبة ‪ 80 ،69 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫(‪ )4‬راجع يف حفظ النفس بالكرامة ‪ :‬د‪ .‬محمد عبد الله دراز ‪ :‬دراسات إسالمية يف العالقات االجتامعية ‪ 33 :‬وما بعدها‪ .‬وعالل‬
‫الفايس‪ :‬مقاصد الرشيعة اإلسالمية ومكارمها ‪.235 :‬‬
‫أبعاد جديدة ملقاصد الرشيعة ‪ :‬حفظ إنسانية اإلنسان‬ ‫‪130‬‬

‫إن هذه الغائية للحياة يف وجدان اإلنسان تُع ُّد عنرصا ً من عنارص إنسانيته‪ ،‬إذ‬
‫هي من خواصه باعتباره إنساناً يفارق بها سائر الحيوانات التي ال تعيش إال للحظتها‪،‬‬
‫وإذا ما ادخر بعضاً منها طعاماً ملستقبله‪ ،‬فإمنا ذلك ليتمكن مام ادخر من العيش‪،‬‬
‫ليحقق غاية خالل ذلك العيش‪ .‬ولذلك فإنه إذا ما انهدمت تلك الغائية يف النفس‬
‫البرشية‪ ،‬وفقد اإلنسان أي غاية لحياته‪ ،‬أدى ذلك إىل انهيار الحياة بأكملها‪ ،‬إذ يفقد‬
‫بذلك معنى إنسانيته‪ ،‬وهو أحد تفسريات انتحار املنتحرين‪ ،‬فاألكرث من هؤالء إمنا يقدم‬
‫عىل ما أقدم عليه‪ ،‬ألنه يجد حياته قد فقدت معناها بفقدان غايتها املرجوة منها‪.‬‬
‫ولهذا املعنى فقد جاءت كثري من التوجيهات الدينية واألحكام الرشعية تجعل‬
‫من حفظ غائية الحياة مقصدا ً لها‪ ،‬وتلتقي كلها عىل اختالفها بني أحكام عقدية وأحكام‬
‫رشعي ٍة عملي ٍة عىل تحقيق هذا املقصد الرشعي من خالل تلك األحكام‪ ،‬وذلك حفظاً‬
‫ملعنى إنسانية اإلنسان التي غائي ُة الحياة أح ُد عنارصها األساس‪.‬‬
‫ولعل أول ما يبدو من تلك األحكام املبتغى بها مقص ُد حفظ غائية الحياة‪ ،‬ما‬
‫جاء يف القرآن الكريم من تقرير عقدي لكون اإلنسان ما خلق إال لغاية‪ ،‬وأن معنى‬
‫حياته مرتبط بتلك الغاية‪ ،‬إمياناً بها‪ ،‬وسعياً يف تحقيقها‪ ،‬وأنه لو نزعت منه غائية‬
‫الحياة لنقصت إنسانيته ليصل إىل ما يقارب مرتبة سائر الحيوانات‪ ،‬وهذا ما يبينه‬
‫النسان أن يُ ت�ك ً‬
‫سدى ﴾ (القـيامة ‪ .)36 :‬وقوله تعاىل ‪:‬‬ ‫أيحـسب إ‬
‫َ‬ ‫قوله تعـاىل ‪﴿ :‬‬
‫﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً ﴾ (املؤمنون ‪.)115 :‬‬
‫فهذا تنبي ٌه إىل أن اإلنسان مل يخلق مهمالً عىل سبيل العبثية بدون أن تكون له‬
‫يف الحياة غاية‪ ،‬وإمنا خلق لتكون لحياته غاية يتمثلها يف نفسه‪ ،‬ويعمل عىل تحقيقها‬
‫يف واقعه‪.‬‬
‫مفصل للغاية التي خلق من أجلها اإلنسان‪،‬‬ ‫وقد جاء يف القرآن الكريم بيا ٌن ٍ‬
‫واف ّ‬
‫والتي ينبغي أن يتمثلها يف نفسه إمياناً‪ ،‬ويسعى فيها عمالً‪ ،‬متهيدا ً بذلك ألحكام أخرى‬
‫مطردة تعمل بصفة مبارشة عىل تحقيق ما تحفظ به تلك الغاية يف تصور اإلنسان‬
‫وعمله‪ ،‬فقد جاء يف القرآن الكريم أن الله تعاىل خلق اإلنسان لغاية‪ ،‬هي أن يكون‬
‫خليفة له يف األرض‪ ،‬وذلك ما جاء يف قوله تعاىل ‪ ﴿ :‬وإذ قال ربك للمالئكة ن يإ� جاعل‬
‫الرض خليفة ﴾ (البقرة ‪.)30 :‬‬ ‫ف� أ‬
‫ي‬
‫‪131‬‬ ‫د‪ .‬عبد املجيد النجار‬

‫ومعـنى هـذه الخالفـة يف األرض‪ ،‬هـو أن يكـون اإلنسـان مطبـقاً ألوامر اللـه‬
‫والنس إال ليعبدون ﴾‬ ‫ونواهيه فيها‪ ،‬وهو ما بينه قوله تعاىل ‪ ﴿ :‬وما خلـقت الجن إ‬
‫(الذاريات ‪.)56 :‬‬
‫وتلك الغاية من خلق اإلنسان تقيض أن تكون أيضاً غاي ًة لحياته عىل املعنى الذي‬
‫رشحناه آنفاً‪ ،‬فتتوجه جميع مناشط الحياة يف وجهة تحقيق الخالفة وفق منهج العبادة‪،‬‬
‫فتكون غاية الحياة اإلنسانية هي إذن تحقيق الخالفة يف األرض باالستجابة ألوامره‬
‫ومما� لله رب‬‫ت‬ ‫ونسك ومحياي‬ ‫ونواهيه‪ ،‬وهو مقتىض قوله تعاىل ‪ ﴿ :‬قل إن ت‬
‫صال�‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫ين‬
‫العالم� ﴾ (األنعام ‪.)162 :‬‬
‫أساس ْيـن ‪ :‬أولهام ترقية الذات‬
‫ومضمون الخالفة يف األرض‪ ،‬يشتمل عىل عنرصين َ‬
‫اإلنسانية متمثلة يف اإلنسان الفرد‪ ،‬بتزكيته يف نفسه وفكره وجسمه‪ ،‬وأعىل ما يكون ذلك‬
‫بتقوية صلته بربه الذي خلقه‪ ،‬ومتمثلة أيضاً‪ ،‬يف اإلنسان الجامعة بتزكية الهيئة الجامعية‬
‫بالرتاحم والتعاون والتكافل والتحابب والوئام‪ ،‬فإذا اإلنسان‪ ،‬فردا ً وجامع ًة‪ ،‬يرتقي يف سلم‬
‫اإلنسانية إىل أعىل الدرجات كادحاً إىل ربه كدحاً يقرتب به منه‪ ،‬ويبتعد به عن سائر‬
‫املخلوقات التي ليست محل تكليف‪ .‬وثانيهام التعمري يف األرض علامً بقوانينها‪ ،‬واستثامرا ً‬
‫لخرياتها‪ ،‬وارتفاقاً ملقدراتها يف غري رسف وال عبث وال إخالل بنظامها املوزون‪.‬‬
‫وإ ْذ قد ح ّدد الله تعاىل لإلنسان الغاية من وجوده‪ ،‬وجعل هذه الغائية عنرصا ً‬
‫من عنارص إنسانيته‪ ،‬فإنه قد رشع له من الدين ما يحفظ تلك الغائية أن تكون قامئة‬
‫يف تصوره‪ ،‬وأن يكون تحقيقها هدفاً يف سلوكه‪ ،‬ورشع له منع كل ما عىس أن يطال تلك‬
‫الغائية بالهدم لتحل محلها املعاين املناقضة لها من يأس وقنوط وتربم بالحياة وشعور‬
‫بعبثيتها وفقدان لقيمتها جراء ما فقدت من غايتها‪ ،‬وقد جاءت يف ذلك أحكام رشعية‬
‫كثرية تجتمع كلها عند أن تحفظ هذه الغائية قامئ ًة يف النفس‪.‬‬
‫ومن ذلك عىل سبيل املثال‪ ،‬ما جاء من نهي مغلظ عىل القنوط من رحمة الله‬
‫واليأس منها‪ ،‬كام يف قوله تعاىل ‪ ﴿ :‬قل يا عبادي الذين أرسفوا عىل أنفسهم ال‬
‫تقنطوا من رحمة الله ﴾ (الزمر ‪.)53 :‬‬
‫فاليأس من رحمة الله معناه أن يشعر اليائس بأن حياته مل يبق لها من غاية‪ ،‬إذ‬
‫ال ميكن أن يتم فيها تدارك ملا مىض‪ ،‬وال أمل فيام هو آت منها‪ ،‬وهذا الوضع من فقدان‬
‫أبعاد جديدة ملقاصد الرشيعة ‪ :‬حفظ إنسانية اإلنسان‬ ‫‪132‬‬

‫الغائية يف الحياة‪ ،‬نهى الله تعاىل أن ينتهي إليه الذين أرسفوا يف الذنوب‪ ،‬بله من هم‬
‫دونهم يف ذلك من الناس‪.‬‬
‫ومن ذلك أيضاً‪ ،‬ما جاء يف قوله تعاىل ‪ ﴿ :‬وال تلقوا بأيديكم إىل التهلكة ﴾‬
‫(البقرة ‪.)195 :‬‬
‫فبعض املفرسين فرسوا التهلكة امل ُـ ْنـ َهى عنها‪ ،‬باليأس من رحمة الله يأساً يفيض‬
‫إىل التامدي يف الذنوب(‪ ،)5‬وفرسها آخرون بأنها مطلق إتالف النفس بدون أن يجتنى‬
‫منه مقصود(‪ .)6‬واملعنيان يتمم أحدهام اآلخر‪ ،‬فإتالف النفس دون رجاء غرض مقصود‪،‬‬
‫إمنا هو ناشئ يف األغلب األعم‪ ،‬عن اليأس من الحياة‪ ،‬يأساً ينشأ عن االعتقاد بأن هذه‬
‫الحياة قد استنفدت أغراضها ومل يبق فيها من غاية يرتجى تحقيقها‪ .‬وهذا هو ما جاء‬
‫فيه هذا النهي الوارد يف اآلية نهياً جازماً‪.‬‬
‫ويعضّ د هذا الجز َم يف حرمة اإللقاء بالنفس إىل التهلكة‪ ،‬ما جاء يف الرشيعة من‬
‫تحريم مطلق ألن يقتل اإلنسان نفسه انتحارا ً‪ ،‬وهو ما جاء يف قولهﷺ ‪« :‬من قتل‬
‫نفسه بحديدة عذب بها يف نار جهنم»(‪.)7‬‬
‫وقَتْ ُل النفس إمنا هو تعبري عن فقدان قاتل نفسه للغاية من الحياة‪ ،‬فالحكم‬
‫بتحرميه هذا التحريم املشدد‪ ،‬إمنا هو حفظاً لغائية الحياة مقصدا ً من مقاصد الرشيعة‬
‫مندرجاً ضمن مقصد كيل هو مقص ُد حفظ إنسانية اإلنسان‪ ،‬إذ هذه الغائية هي أحد‬
‫مكونات تلك اإلنسانية‪ ،‬فإهدارها ينهدم به جزء منها‪.‬‬
‫إ َّن من أهم العنارص املكونة إلنسانية اإلنسان حرية اإلرادة‪ ،‬فكل املوجودات‬
‫الكونية خلقت مسوق ًة إىل مصائرها عىل سبيل الحتم‪ ،‬إال اإلنسان فقد خلق بإرادة‬
‫حرة يختار بها مصريه‪ ،‬وهو معنى قوله تعاىل ‪ ﴿ :‬إنا عرضنا أ‬
‫المانة عىل السماوات‬
‫النسان إنه كان ظلوماً‬ ‫والرض والجبال ي ن‬ ‫أ‬
‫فأب� أن يحملنها وأشفقن منها وحملها إ‬
‫جهوال ً ﴾ (األحزاب ‪.)72 :‬‬

‫(‪ )5‬راجع الطربي ‪ :‬جامع البيان ‪.277/2 :‬‬


‫(‪ )6‬راجع ابن عاشور ‪ :‬التحرير والتنوير ‪.214/2 :‬‬
‫(‪ )7‬أخرجه البخاري يف كتاب الجنائز‪ ،‬باب ما جاء يف قاتل النفس‪.‬‬
‫‪133‬‬ ‫د‪ .‬عبد املجيد النجار‬

‫فهذه األمانة التي حملها اإلنسان دون كل املوجودات‪ ،‬إمنا حملها بناء عىل‬
‫أساس من إنسانيته‪.‬‬
‫رص ٌ‬ ‫إرادته الحرة التي كان بها إنساناً‪ ،‬فهي إذن عن ٌ‬
‫وحينام تنتهك حرية اإلنسان‪ ،‬بأن تلغى بأي وجه من وجوه اإللغاء‪ ،‬فإن ذلك‬
‫يع ّد استنقاصاً من إنسانيته‪ ،‬ويع ّد بالتايل هدرا ً لقدرته عىل أداء مهمته التي من أجلها‬
‫خلق خالف ًة يف األرض وتعمريا ً فيها‪.‬‬
‫إنه ليس من شك يف أن من أعظم أسباب القوة النفسية الحرية‪ ،‬ومن أعظم‬
‫أسباب ضعف النفوس االستبداد عليها‪ .‬وحرية اإلنسان تعني أن يكون مترصفاً يف‬
‫نفسه مبحض اختياره‪ ،‬سواء فيام يتعلق بتفكريه أو بأقواله أو بأفعاله‪ ،‬فيتجه يف كل‬
‫ذلك بحسب ما متليه عليه إرادته الذاتية(‪ )8‬واالستبداد يعني أن تتسلط عليه عوامل‬
‫خارجية تقيد مشيئته يف الفكر أو يف القول أو يف العمل‪ ،‬فيتجه يف كل ذلك‪ ،‬أو يف‬
‫بعضه‪ ،‬بحسب ما متليه تلك العوامل عكس إرادته‪ ،‬فإذا هو يقول أو يفعل ما ال يريد‪،‬‬
‫وال يقول وال يفعل ما يريد‪.‬‬
‫وحينام تطرأ عىل النفس عوامل االستبداد‪ ،‬فإنها تفقد قدرتها عىل االنطالق فيام‬
‫تريد لتبدع يف الفكر أو يف القول والعمل‪ ،‬وتنكمش عىل ذاتها مرتقبة أوامر وتوجيهات‬
‫املستبد عليها‪ ،‬لريسم لها الطريق ويسوقها فيه‪ ،‬فإذا هي تذهب فيه كام هو مرسوم‪،‬‬
‫وهذا الوضع النفيس يعوق اإلنسان عن أن يقوم مبا هو مطلوب منه من تعمري‪ ،‬إذ‬
‫التعمري ال يكون إال باملبادرة واالبتكار واالنطالق يف التجارب الحرة التي تعدل مسارها‬
‫ذاتياً‪ ،‬وتحقق تقدماً إىل األمام‪ ،‬وأما االرتهان النفيس إلرادة خارجية‪ ،‬فإنه ال يثمر من‬
‫ذلك شيئاً‪ ،‬وهو أحد مقتضيات قوله تعاىل ‪ ﴿ :‬ض�ب الله مثال ً عبداً مملوكاً ال يقدر‬
‫�ء ﴾ (النحل ‪.)75 :‬‬ ‫ش‬
‫عىل ي‬
‫سبب عجزه هذه‬ ‫فهذا الذي رضب به املثل عاجزا ً ال يقدر عىل فعل يشء‪ ،‬إمنا ُ‬
‫العبودية التي سلبته حريته‪ ،‬فصار بذلك ضعيف النفس عاجزا ً عن الفعل‪.‬‬
‫ويف سبيل حفظ حرية اإلنسان من االستبداد والتسلط‪ ،‬جاءت الرشيعة بأحكام‬
‫كثرية تلتقي يف معرض تعددها وتنوعها‪ ،‬عند اإللزام بتوفري الحرية لإلنسان‪ ،‬ومنع أي‬
‫(‪ )8‬ع ّرف محمد الطاهر بن عاشور الحرية بقوله ‪« :‬متكن الشخص من الترصف يف نفسه وشؤونه كام يشاء دون معارض (ابن عاشور‪:‬‬
‫مقاصد الرشيعة ‪.)309 :‬‬
‫أبعاد جديدة ملقاصد الرشيعة ‪ :‬حفظ إنسانية اإلنسان‬ ‫‪134‬‬

‫رضب من رضوب التسلط عليها واإلهدار لها‪ ،‬وقد بلغت هذه األحكام من االستفاضة‬
‫بحيث أصبحت تفيد عىل وجه القطع‪ ،‬أن حفظ الحرية مقصد رشعي من املقاصد‬
‫العامة‪ ،‬وهو مقصد يندرج ضمن مقصد أعىل منه‪ ،‬هو مقصد حفظ إنسانية اإلنسان‪،‬‬
‫باعتبار أن الحرية من أعظم مكوناتها‪ .‬وقد كان الشيخ محمد الطاهر بن عاشور سباقاً‬
‫حينام عقد فصالً يف كتابه عن مقاصد الرشيعة‪ ،‬ب ّيـن فيه أن حفظ حرية اإلنسان‬
‫مقصد أصيل من مقاصد الرشيعة‪ ،‬وقال فيه ‪« :‬إن استواء أفراد األمة يف ترصفهم يف‬
‫يل من مقاصد الرشيعة‪ ،‬وذلك هو املراد بالحرية»(‪.)9‬‬
‫أنفسهم‪ ،‬مقص ٌد أص ٌّ‬
‫ولعل جامع األحكام الرشعية التي وضعت لتحقيق مقصد حفظ الحرية‪ ،‬هي‬
‫تلك األحكام املتعلقة بالرق‪ ،‬فهي أحكام تنتهي يف جملتها إىل التضييق يف مداخله‬
‫وأسبابه حتى حرم عىل اإلنسان أن يتنازل عن حريته يف ذاته ليصبح مبحض إرادته‬
‫رقيقاً‪ ،‬والتوسيع يف مخارجه حتى جعل فك الرقبة عبادة يتقرب بها إىل الله تعاىل‪،‬‬
‫واملقصد من كل ذلك هو الوصول إىل وضع ينتهي فيه استعباد اإلنسان لإلنسان‪ ،‬وذلك‬
‫تحرير أبدي للنفس اإلنسانية من عبودية مل تخل منها حضارة من الحضارات القدمية‬
‫قبل اإلسالم‪ .‬وإمنا رشعت هذه األحكام حفظاً إلنسانية اإلنسان أن تكون مكتملة‬
‫بحفظ الحرية ومنع العبودية(‪.)10‬‬
‫وتتفرع عىل هذه األحكام بتحرير اإلنسان من الرق‪ ،‬أحكام أخرى كثرية تلتقي‬
‫عند ذات املقصد الذي هو حفظ الحرية‪ ،‬ومنها الحكم بحرية املعتقد كام يف قوله‬
‫تعاىل ‪ ﴿ :‬ال إكراه ف ي� الدين قد تب ّيـن الرشد من الغي ﴾ (البقرة ‪.)256 :‬‬
‫وحرية التفكري وحرية القول للصدع بنتائج ذلك التفكري‪ ،‬كام يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫الخ� ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‬ ‫﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إىل ي‬
‫وأولئك هم المفلحون ﴾ (آل عمران ‪.)104 :‬‬
‫وحرية العمل‪ ،‬وحرية التنقل‪ ،‬والحرية الشخصية يف املأكل وامللبس واملنزل‪ ،‬وما‬
‫إىل ذلك من سائر ما يندرج تحت مسمى الحرية‪ ،‬فقد جاءت الترشيعات املختلفة‬

‫(‪ )9‬املصدر نفسه‪.‬‬


‫(‪ )10‬راجع يف ذلك عالل الفايس ‪ :‬مقاصد الرشيعة اإلسالمية ومكارمها ‪ ،242 :‬وابن عاشور ‪ :‬مقاصد الرشيعة ‪ 310 :‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪135‬‬ ‫د‪ .‬عبد املجيد النجار‬

‫ملزم ًة بحفظها‪ ،‬وإن يكن وفق ضوابط ال تؤول معها الفوىض التي قد تؤدي إىل انخرام‬
‫النظام االجتامعي‪ ،‬فتؤول إىل عكس املقصود منها(‪.)11‬‬
‫وقد استكملت الرشيعة هذه األحكام الـمـشَ ـ ِّرعـة للحرية‪ ،‬بأحكام أخرى تحرم‬
‫االعتداء عليها‪ ،‬وتضع العقوبات الصارمة عىل ذلك االعتداء‪ ،‬ناهيك يف ذلك أن امرأة‬
‫دخلت النار يف هرة اعتدت عىل حريتها يف التنقل بالحبس حتى ماتت(‪ .)12‬ومن ذلك‬
‫ما جاء يف الرشيعة من تحريم لالعتداء عىل الحريات الشخصية بانتهاك حرمة البيوت‬
‫والدخول إليها بدون إذن‪ ،‬والتلصص لالطالع عىل العورات‪ ،‬فكل ذلك يعاقب عليه‬
‫بالتعزير‪ ،‬ويسقط املسؤولية عىل من دفعه بجرح أو بقتل إذا كان ال ميكن دفعه إال‬
‫بذلك(‪ ،)13‬وكذلك األمر يف كل اعتداء عىل الحرية فإن عليه عقوبة بالتعزير‪.‬‬
‫وحينام يكون تقييد الحرية عقوب ًة مرشوع ًة يقتضيها العدل قصاصاً أو دفعاً‬
‫للعدوان مبثله‪ ،‬فإن الرشيعة قد نظمته بأحكام منضبطة َح َذ َر أن ينتهي األمر إىل‬
‫اإلرساف فيه‪ .‬ولذلك فقد عهدت الرشيعة بتقييد الحرية عقاباً‪ ،‬إىل املجتمع ممثالً يف‬
‫السلطان‪ ،‬ومل توكله إىل األفراد‪ ،‬ومن ذلك أن عقوبة الحبس عىل سبيل املثال‪ ،‬ال ميكن‬
‫أن ينفذها إال ويل األمر دون األفراد‪ ،‬فإذا ما قام الفرد بتنفيذها‪ ،‬اعترب ذلك ظلامً استحق‬
‫عليه التعزير كام استحق ابن عمرو بن العاص التعزير من عمر بن الخطاب ملا اعتدى‬
‫بنفسه باإلهانة عىل حرية من اعتدى عليه خطأ بوطء ثوبه‪ ،‬فقد كان عليه أن يشتيك‬
‫إىل السلطان ليبارش تنفيذ تلك العقوبة‪ ،‬وهذا ما يفرس قولة عمر الشهرية يف هذا املقام‬
‫«متى استعبدتم الناس وقد لدتهم أمهاتهم أحراراً»(‪ ،)14‬فهذا التعنيف منه البن عمر‪،‬‬
‫إمنا هو بسبب اعتدائه عىل حرية خصمه انتصارا ً لنفسه بنفسه‪ ،‬معامالً إياه معاملة‬
‫العبيد‪ ،‬والحال أنه حر محفوظ الحرية‪ ،‬فال يجوز االعتداء عىل حريته إال عقاباً يوقعه‬
‫السلطان يك ال يقع إرساف كام وقع‪.‬‬
‫فذلك كله إمنا هو ترشيع لحفظ الحرية(‪.)15‬‬
‫(‪ )11‬راجع ذات املرجعني يف ذات املصدر‪.‬‬
‫(‪ )12‬جاء يف الحديث قولهﷺ ‪« :‬دخلت امرأة النار يف هرة ربطتها فلم تطعمها ومل تدعها تأكل من خشاش األرض»‪ ،‬أخرجه البخاري ‪:‬‬
‫كتاب بدء الخلق‪ ،‬باب خمس من الدواب الفواسق‪.‬‬
‫(‪ )13‬راجع تفاصيل األحكام يف ذلك يف‪ ٬‬محمد أبو زهرة ‪ :‬العقوبة ‪.344 ،337 :‬‬
‫(‪ )14‬راجع القصة مبجملها يف ‪ :‬منتخب كنز العامل للمتقي الهندي (فصل فضائل الفاروق)‪.‬‬
‫(‪ )15‬راجع رشح هذا امللمح الدقيق العميق يف ‪ :‬ابن عاشور ‪ :‬مقاصد الرشيعة ‪.316 :‬‬
‫أبعاد جديدة ملقاصد الرشيعة ‪ :‬حفظ إنسانية اإلنسان‬ ‫‪136‬‬

‫إن هذه الترشيعات املتعددة املختلفة‪ ،‬إمنا رشعت لتحقيق الحرية تأسيساً لها‬
‫ودفعاً لالعتداء عليها‪ ،‬وإمنا حظيت الحرية مبثل هذه الترشيعات التي تثبت عىل وجه‬
‫أساس من مقاصد الرشيعة‪ ،‬ألن اإلنسان إذا مل تحفظ‬ ‫القطع أن حفظ الحرية مقص ٌد ٌ‬
‫حريته فإنه يفقد أهم مق ّوم من مقومات حقيقة اإلنسانية فيه‪ ،‬وهي الحرية التي‬
‫ُم ِّيز بها عن سائر املخلوقات‪ ،‬وتفقد بذلك حياته الشطر األكرب من معناها‪ ،‬وإذا به‬
‫قد تعطلت ملكاته عن االنطالق من أجل الفعل املنتج‪ ،‬وأصبح اإلنسان بحكم ذلك‬
‫التسلط‪ ،‬ال يقدر عىل يشء كام جاء يف التعبري القرآين‪ ،‬فانتهى األمر إذن إىل أن الرشيعة‬
‫جاءت تعمل عىل حفظ الحرية مقصدا ً رشعياً ينتهي إىل حفظ إنسانية اإلنسان مقصدا ً‬
‫أعىل‪ ،‬كام ينتهي إليه حفظ الفطرة‪ ،‬وحفظ الكرامة‪ ،‬وحفظ غائية الحياة‪ ،‬إذ هذه كلها‬
‫متثل العنارص األساس ملعنى تلك اإلنسانية يف اإلنسان‪ .‬وإذا حفظت إنسانية اإلنسان‪،‬‬
‫وانضم ذلك إىل حفظ دينه‪ ،‬فإن األمر ينتهي إىل حفظ الحياة اإلنسانية بأكملها أن‬
‫تكون لها القيمة التي أرادها لها الله تعاىل‪ ،‬إذ قيمة الحياة تنحرص من منظور إسالمي‪،‬‬
‫فيام تتق َّو ُم به من دين ومن إنسانية‪.‬‬

You might also like