Professional Documents
Culture Documents
أبعاد جديدة لمقاصد الشريعة حفظ إنسانية الإنسان عبدالمجيد النجار PDF
أبعاد جديدة لمقاصد الشريعة حفظ إنسانية الإنسان عبدالمجيد النجار PDF
خلق اإلنسان مكرماً ،وقد قرر القرآن الكريم ذلك يف قوله تعاىل ﴿ :ولقد كرمنا
ال� والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم عىل ف ن
ب� آدم وحملناهم ي� ب ي
كث� ممن خلقنا تفضيال ً ﴾ (اإلرساء .)70 :
ي
وتكريم اإلنسان معناه « :جعله كرمياً ،أي نفيساً غري مبذول وال ذليل»( .)1ومن
الكرامة اإلنسانية ما يجده اإلنسان يف نفسه من وعي بذاته وعياً يتضمن اإلميان
بقيمته ،واإلحساس بعزته ،واستشعارا ً لالستعالء عىل ما يحيط به من مكونات الطبيعة،
والنظر إليها عىل أنها مسخرة من أجله.
إن هذه املعاين الحاصلة يف النفس اإلنسانية بالفطرة متأتي ًة من الرتكيب اإلنساين
املادي واملعنوي ،ليست حاصلة يف أي مخلوق من املخلوقات الكونية األخرى ،وهي
بذلك تشكل أحد العنارص األساس املكونة ملعنى اإلنسانية يف اإلنسان ،والفارقة بني
حقيقته وحقيقة سائر الحيوانات ،بله النباتات والجامدات ،وهي بالتايل أحد العنارص
األساس التي عىل أساسها ابتيل اإلنسان بالتكليف ،فتتوقف عليه إذن إىل حد كبري ،أداء
ذلك التكليف كام هو مطلوب.
فاإلنسان إذا كان يشعر يف نفسه باملهانة من جراء ما يعامل به من تحقري
وإذالل وانتهاك للكرامة ،فإنه يكون مكسور اإلرادة ،فال يستطيع أن ينتج شيئاً ،فضالً
عن أن يكون يف مقام الريادة واالبتكار ،وإذا ً ،فإن املهمة التعمريية التي هو مطالب
بأدائها سوف يكون غري قادر عىل إنجازها ،أو غري قادر عىل إنجازها عىل الوجه
املطلوب .ويف مقابل ذلك ،فإن اإلنسان القادر عىل اإلنجاز يف الفكر والعمل ،هو الذي
يكون محفوظ الكرامة ،قوي النفس عزيزا ً ،فهذه الصفات تشيع يف النفس قوة إرادة،
وهمة عالية ،وهو ما يدفع اإلنسان إىل االنطالق بآمال كبرية ،وعزمية ماضية ليفكر
وينجز ويفعل ،فيؤدي املهمة التي بها كلف.
ولهذا املعنى جاءت يف الدين أحكام كثرية تلتقي كلها عند مقصد حفظ كرامة
اإلنسان للحفاظ عىل معنى اإلنسانية فيه ،أمرا ً بكل ما من شأنه أن يشعر بالعزة
والقوة النفسية واالستعالء ،ومنعاً لكل ما من شأنه أن يشعر باملذلة والهوان والوهن،
سواء كان ذلك متمثالً يف ترصفات فعلية ،أو كان متمثالً يف ترصفات قولية ،فأميا فعل
أو قول يشعر بالكرامة والعزة ،فهو مطلوب يف الرشع ،وأميا فعل أو قول يشعر باملذلة
والهوان فهو ممنوع .ويف ذلك كله حفظ للكرامة ،فكام يتلف الجسم بالجراح والقطع،
فكذلك تنتقص اإلنسانية يف نفس اإلنسان بترصفات التحقري واإلهانة واالستنقاص قوالً
وفعالً .ذلك ألن الذات بتلك الترصفات تصاب بجراح قد تكون غائرة ،فتؤثر يف اإلرادات
والعزائم ،فتنكمش النفس ،وتتقلص ملكاتها ،وتلتف عىل ذاتها تجرت جراحها ،فال
تستطيع من جراء ذلك أن تثمر شيئاً ،فإذا ما حفظت كرامتها بالعزة انطلقت يف اإلنجاز.
ولعل األحكام الرشعية الحافظة للكرامة تبتدئ بذلك اإللغاء لكل سبب من
أسباب التفاضل املتعلقة بالخلقة الذي تنتج عنه مقاييس تتدىن ببعض الناس إىل
أوضاع من الدونية واملهانة .وربطت تلك األسباب بـام يحصله اإلنسان نفسه من
التقوى ،وهو مقتىض قولهﷺ « :ال فضل لعريب عىل أعجمي ،وال ألعجمي عىل
عريب إال بالتقوى»( .)2فليس يف الرشع إذن من موروث خلقي ميكن أن يستخدمه
الناس ذريعة للح ّط من قيمة الوارث ،أو ميكن أن يجعلوه سبب دونية ومهانة يورث
يف نفسه الشعور باملذلة ،فتنكرس إرادته ،وتتحطم شخصيته املعنوية .لقد جاءت
الرشيعة سا َّد ًة لهذا الباب برصامة ،حفظاً لكرامة اإلنسان أن ينالها الوهن مبقتىض
املوروث الخلقي ،وأوكلت أسباب الرفعة والتسفل إىل الكسب اإلنساين ،فتحاً للباب
من أجل اكتساب القوة النفسية بكسب الدرجات العليا يف سلم التفاضل بني بني
اإلنسان ،فتحاً تتكافأ فيه الفرص بني جميع األفراد.
ثم تتالت الترشيعات التي تهدف كلها إىل حفظ الكرامة اإلنسانية ،ففرضت
كفالة اإلنسان باعتباره إنساناً من قبل محيطه االجتامعي األقرب فاألقرب ،ابتداءا ً
باألرسة وانتهاءا ً إىل الدولة ،لتوفري حد الكفاية له ،حيلول ًة دون الوقوع يف مذلة الفاقة
ومهانة السؤال .وحرمت الغيبة والنميمة والهمز واللمز ملا فيها من جرح للنفوس
يه ّد من قواها كام ته ّد الجروح يف األعضاء من قوة الجسم ،وانتهى ذلك إىل ما رشع
من تحريم مغلظ للقذف بصفة عامة ،والقذف بالزىن بصفة خاصة ،فقد ورد فيه ح ٌّد
بالجلد وسقوط الشهادة كام هو معلوم( ،)3وإمنا رشع هذا الحكم فيام نرى حفظاً
لكرامة النفس ،ألن القذف بهذه الجرمية يحدث يف نفس املقذوف أثرا ً بالغاً قد يصل
إىل تدمريها ،وذلك بالنظر إىل ما هو مستقر يف املجتمعات بصفة عامة ،ويف املجتمع
اإلسالمي بصفة خاصة ،من فظاعتها ،فمن اتهم بها يصيبه بسبب ذلك كرس نفيس
بليغ ،فحفظت الرشيعة كرامة النفوس بهذا الحكم(.)4
وقد ذهب الترشيع اإلسالمي بحفظ كرامة الذات اإلنسانية من حيث كونها ذاتاً
إنسانية ،إىل آفاق بعيدة ،إذ هي تجاوزت حدود العداوة والصداقة ،وأحوال الحرب
والسلم ،واختالف الشعوب واألمم ،لتنتهي إىل حدود الذات اإلنسانية مجردة من كل
االعتبارات ،فأميا ذات اندرجت ضمن اإلنسانية ،فإن الرشيعة جاءت بإيجاب أن تحفظ
كرامتها ومنعت كل ما يستنقص منها .ولذلك فقد حرمت املثلة باألعداء ،وأوجبت
احرتام جثث املوىت .وقد اطردت األحكام بذلك اطرادا ً يورث للناظر يف الرشيعة يقيناً
بأن حفظ الكرامة اإلنسانية مقصد قطعي من مقاصد الرشيعة اإلسالمية.
ومن أهم ما يتق َّوم به معنى اإلنسانية يف اإلنسان ،وما يتميز به عن غريه من
املخلوقات ،معنى غائية الحياة ،وهو ذلك املعنى الذي يجده اإلنسان يف نفسه بحسب
يل يتجاوز به لحظته الراهنة إىلالفطرة من أن لحياته غاية ،ولوجوده معنى مستقب ٌّ
أمد مقبل .وهذا املعنى ال تخلو منه نفس برشية ،مهام يكن املدى الذي متتد إليه غاية
الحياة يف النفوس طوالً وقرصا ً يف الزمن ،وقوة وضعفاً يف املعنى ،ولعل من شواهد ذلك
أننا ال نجد إنساناً إال وهو يدخر من يومه لغده ،ومن حارضه ملستقبله ،مهام اختلفت
أنواع املدخرات يف طبائعها وأحجامها ومناهجها وآمادها.
( )3راجع :محمد أبو زهرة :العقوبة 80 ،69 :وما بعدها.
( )4راجع يف حفظ النفس بالكرامة :د .محمد عبد الله دراز :دراسات إسالمية يف العالقات االجتامعية 33 :وما بعدها .وعالل
الفايس :مقاصد الرشيعة اإلسالمية ومكارمها .235 :
أبعاد جديدة ملقاصد الرشيعة :حفظ إنسانية اإلنسان 130
إن هذه الغائية للحياة يف وجدان اإلنسان تُع ُّد عنرصا ً من عنارص إنسانيته ،إذ
هي من خواصه باعتباره إنساناً يفارق بها سائر الحيوانات التي ال تعيش إال للحظتها،
وإذا ما ادخر بعضاً منها طعاماً ملستقبله ،فإمنا ذلك ليتمكن مام ادخر من العيش،
ليحقق غاية خالل ذلك العيش .ولذلك فإنه إذا ما انهدمت تلك الغائية يف النفس
البرشية ،وفقد اإلنسان أي غاية لحياته ،أدى ذلك إىل انهيار الحياة بأكملها ،إذ يفقد
بذلك معنى إنسانيته ،وهو أحد تفسريات انتحار املنتحرين ،فاألكرث من هؤالء إمنا يقدم
عىل ما أقدم عليه ،ألنه يجد حياته قد فقدت معناها بفقدان غايتها املرجوة منها.
ولهذا املعنى فقد جاءت كثري من التوجيهات الدينية واألحكام الرشعية تجعل
من حفظ غائية الحياة مقصدا ً لها ،وتلتقي كلها عىل اختالفها بني أحكام عقدية وأحكام
رشعي ٍة عملي ٍة عىل تحقيق هذا املقصد الرشعي من خالل تلك األحكام ،وذلك حفظاً
ملعنى إنسانية اإلنسان التي غائي ُة الحياة أح ُد عنارصها األساس.
ولعل أول ما يبدو من تلك األحكام املبتغى بها مقص ُد حفظ غائية الحياة ،ما
جاء يف القرآن الكريم من تقرير عقدي لكون اإلنسان ما خلق إال لغاية ،وأن معنى
حياته مرتبط بتلك الغاية ،إمياناً بها ،وسعياً يف تحقيقها ،وأنه لو نزعت منه غائية
الحياة لنقصت إنسانيته ليصل إىل ما يقارب مرتبة سائر الحيوانات ،وهذا ما يبينه
النسان أن يُ ت�ك ً
سدى ﴾ (القـيامة .)36 :وقوله تعاىل : أيحـسب إ
َ قوله تعـاىل ﴿ :
﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً ﴾ (املؤمنون .)115 :
فهذا تنبي ٌه إىل أن اإلنسان مل يخلق مهمالً عىل سبيل العبثية بدون أن تكون له
يف الحياة غاية ،وإمنا خلق لتكون لحياته غاية يتمثلها يف نفسه ،ويعمل عىل تحقيقها
يف واقعه.
مفصل للغاية التي خلق من أجلها اإلنسان، وقد جاء يف القرآن الكريم بيا ٌن ٍ
واف ّ
والتي ينبغي أن يتمثلها يف نفسه إمياناً ،ويسعى فيها عمالً ،متهيدا ً بذلك ألحكام أخرى
مطردة تعمل بصفة مبارشة عىل تحقيق ما تحفظ به تلك الغاية يف تصور اإلنسان
وعمله ،فقد جاء يف القرآن الكريم أن الله تعاىل خلق اإلنسان لغاية ،هي أن يكون
خليفة له يف األرض ،وذلك ما جاء يف قوله تعاىل ﴿ :وإذ قال ربك للمالئكة ن يإ� جاعل
الرض خليفة ﴾ (البقرة .)30 : ف� أ
ي
131 د .عبد املجيد النجار
ومعـنى هـذه الخالفـة يف األرض ،هـو أن يكـون اإلنسـان مطبـقاً ألوامر اللـه
والنس إال ليعبدون ﴾ ونواهيه فيها ،وهو ما بينه قوله تعاىل ﴿ :وما خلـقت الجن إ
(الذاريات .)56 :
وتلك الغاية من خلق اإلنسان تقيض أن تكون أيضاً غاي ًة لحياته عىل املعنى الذي
رشحناه آنفاً ،فتتوجه جميع مناشط الحياة يف وجهة تحقيق الخالفة وفق منهج العبادة،
فتكون غاية الحياة اإلنسانية هي إذن تحقيق الخالفة يف األرض باالستجابة ألوامره
ومما� لله ربت ونسك ومحياي ونواهيه ،وهو مقتىض قوله تعاىل ﴿ :قل إن ت
صال�
ي ي ي
ين
العالم� ﴾ (األنعام .)162 :
أساس ْيـن :أولهام ترقية الذات
ومضمون الخالفة يف األرض ،يشتمل عىل عنرصين َ
اإلنسانية متمثلة يف اإلنسان الفرد ،بتزكيته يف نفسه وفكره وجسمه ،وأعىل ما يكون ذلك
بتقوية صلته بربه الذي خلقه ،ومتمثلة أيضاً ،يف اإلنسان الجامعة بتزكية الهيئة الجامعية
بالرتاحم والتعاون والتكافل والتحابب والوئام ،فإذا اإلنسان ،فردا ً وجامع ًة ،يرتقي يف سلم
اإلنسانية إىل أعىل الدرجات كادحاً إىل ربه كدحاً يقرتب به منه ،ويبتعد به عن سائر
املخلوقات التي ليست محل تكليف .وثانيهام التعمري يف األرض علامً بقوانينها ،واستثامرا ً
لخرياتها ،وارتفاقاً ملقدراتها يف غري رسف وال عبث وال إخالل بنظامها املوزون.
وإ ْذ قد ح ّدد الله تعاىل لإلنسان الغاية من وجوده ،وجعل هذه الغائية عنرصا ً
من عنارص إنسانيته ،فإنه قد رشع له من الدين ما يحفظ تلك الغائية أن تكون قامئة
يف تصوره ،وأن يكون تحقيقها هدفاً يف سلوكه ،ورشع له منع كل ما عىس أن يطال تلك
الغائية بالهدم لتحل محلها املعاين املناقضة لها من يأس وقنوط وتربم بالحياة وشعور
بعبثيتها وفقدان لقيمتها جراء ما فقدت من غايتها ،وقد جاءت يف ذلك أحكام رشعية
كثرية تجتمع كلها عند أن تحفظ هذه الغائية قامئ ًة يف النفس.
ومن ذلك عىل سبيل املثال ،ما جاء من نهي مغلظ عىل القنوط من رحمة الله
واليأس منها ،كام يف قوله تعاىل ﴿ :قل يا عبادي الذين أرسفوا عىل أنفسهم ال
تقنطوا من رحمة الله ﴾ (الزمر .)53 :
فاليأس من رحمة الله معناه أن يشعر اليائس بأن حياته مل يبق لها من غاية ،إذ
ال ميكن أن يتم فيها تدارك ملا مىض ،وال أمل فيام هو آت منها ،وهذا الوضع من فقدان
أبعاد جديدة ملقاصد الرشيعة :حفظ إنسانية اإلنسان 132
الغائية يف الحياة ،نهى الله تعاىل أن ينتهي إليه الذين أرسفوا يف الذنوب ،بله من هم
دونهم يف ذلك من الناس.
ومن ذلك أيضاً ،ما جاء يف قوله تعاىل ﴿ :وال تلقوا بأيديكم إىل التهلكة ﴾
(البقرة .)195 :
فبعض املفرسين فرسوا التهلكة امل ُـ ْنـ َهى عنها ،باليأس من رحمة الله يأساً يفيض
إىل التامدي يف الذنوب( ،)5وفرسها آخرون بأنها مطلق إتالف النفس بدون أن يجتنى
منه مقصود( .)6واملعنيان يتمم أحدهام اآلخر ،فإتالف النفس دون رجاء غرض مقصود،
إمنا هو ناشئ يف األغلب األعم ،عن اليأس من الحياة ،يأساً ينشأ عن االعتقاد بأن هذه
الحياة قد استنفدت أغراضها ومل يبق فيها من غاية يرتجى تحقيقها .وهذا هو ما جاء
فيه هذا النهي الوارد يف اآلية نهياً جازماً.
ويعضّ د هذا الجز َم يف حرمة اإللقاء بالنفس إىل التهلكة ،ما جاء يف الرشيعة من
تحريم مطلق ألن يقتل اإلنسان نفسه انتحارا ً ،وهو ما جاء يف قولهﷺ « :من قتل
نفسه بحديدة عذب بها يف نار جهنم»(.)7
وقَتْ ُل النفس إمنا هو تعبري عن فقدان قاتل نفسه للغاية من الحياة ،فالحكم
بتحرميه هذا التحريم املشدد ،إمنا هو حفظاً لغائية الحياة مقصدا ً من مقاصد الرشيعة
مندرجاً ضمن مقصد كيل هو مقص ُد حفظ إنسانية اإلنسان ،إذ هذه الغائية هي أحد
مكونات تلك اإلنسانية ،فإهدارها ينهدم به جزء منها.
إ َّن من أهم العنارص املكونة إلنسانية اإلنسان حرية اإلرادة ،فكل املوجودات
الكونية خلقت مسوق ًة إىل مصائرها عىل سبيل الحتم ،إال اإلنسان فقد خلق بإرادة
حرة يختار بها مصريه ،وهو معنى قوله تعاىل ﴿ :إنا عرضنا أ
المانة عىل السماوات
النسان إنه كان ظلوماً والرض والجبال ي ن أ
فأب� أن يحملنها وأشفقن منها وحملها إ
جهوال ً ﴾ (األحزاب .)72 :
فهذه األمانة التي حملها اإلنسان دون كل املوجودات ،إمنا حملها بناء عىل
أساس من إنسانيته.
رص ٌ إرادته الحرة التي كان بها إنساناً ،فهي إذن عن ٌ
وحينام تنتهك حرية اإلنسان ،بأن تلغى بأي وجه من وجوه اإللغاء ،فإن ذلك
يع ّد استنقاصاً من إنسانيته ،ويع ّد بالتايل هدرا ً لقدرته عىل أداء مهمته التي من أجلها
خلق خالف ًة يف األرض وتعمريا ً فيها.
إنه ليس من شك يف أن من أعظم أسباب القوة النفسية الحرية ،ومن أعظم
أسباب ضعف النفوس االستبداد عليها .وحرية اإلنسان تعني أن يكون مترصفاً يف
نفسه مبحض اختياره ،سواء فيام يتعلق بتفكريه أو بأقواله أو بأفعاله ،فيتجه يف كل
ذلك بحسب ما متليه عليه إرادته الذاتية( )8واالستبداد يعني أن تتسلط عليه عوامل
خارجية تقيد مشيئته يف الفكر أو يف القول أو يف العمل ،فيتجه يف كل ذلك ،أو يف
بعضه ،بحسب ما متليه تلك العوامل عكس إرادته ،فإذا هو يقول أو يفعل ما ال يريد،
وال يقول وال يفعل ما يريد.
وحينام تطرأ عىل النفس عوامل االستبداد ،فإنها تفقد قدرتها عىل االنطالق فيام
تريد لتبدع يف الفكر أو يف القول والعمل ،وتنكمش عىل ذاتها مرتقبة أوامر وتوجيهات
املستبد عليها ،لريسم لها الطريق ويسوقها فيه ،فإذا هي تذهب فيه كام هو مرسوم،
وهذا الوضع النفيس يعوق اإلنسان عن أن يقوم مبا هو مطلوب منه من تعمري ،إذ
التعمري ال يكون إال باملبادرة واالبتكار واالنطالق يف التجارب الحرة التي تعدل مسارها
ذاتياً ،وتحقق تقدماً إىل األمام ،وأما االرتهان النفيس إلرادة خارجية ،فإنه ال يثمر من
ذلك شيئاً ،وهو أحد مقتضيات قوله تعاىل ﴿ :ض�ب الله مثال ً عبداً مملوكاً ال يقدر
�ء ﴾ (النحل .)75 : ش
عىل ي
سبب عجزه هذه فهذا الذي رضب به املثل عاجزا ً ال يقدر عىل فعل يشء ،إمنا ُ
العبودية التي سلبته حريته ،فصار بذلك ضعيف النفس عاجزا ً عن الفعل.
ويف سبيل حفظ حرية اإلنسان من االستبداد والتسلط ،جاءت الرشيعة بأحكام
كثرية تلتقي يف معرض تعددها وتنوعها ،عند اإللزام بتوفري الحرية لإلنسان ،ومنع أي
( )8ع ّرف محمد الطاهر بن عاشور الحرية بقوله « :متكن الشخص من الترصف يف نفسه وشؤونه كام يشاء دون معارض (ابن عاشور:
مقاصد الرشيعة .)309 :
أبعاد جديدة ملقاصد الرشيعة :حفظ إنسانية اإلنسان 134
رضب من رضوب التسلط عليها واإلهدار لها ،وقد بلغت هذه األحكام من االستفاضة
بحيث أصبحت تفيد عىل وجه القطع ،أن حفظ الحرية مقصد رشعي من املقاصد
العامة ،وهو مقصد يندرج ضمن مقصد أعىل منه ،هو مقصد حفظ إنسانية اإلنسان،
باعتبار أن الحرية من أعظم مكوناتها .وقد كان الشيخ محمد الطاهر بن عاشور سباقاً
حينام عقد فصالً يف كتابه عن مقاصد الرشيعة ،ب ّيـن فيه أن حفظ حرية اإلنسان
مقصد أصيل من مقاصد الرشيعة ،وقال فيه « :إن استواء أفراد األمة يف ترصفهم يف
يل من مقاصد الرشيعة ،وذلك هو املراد بالحرية»(.)9
أنفسهم ،مقص ٌد أص ٌّ
ولعل جامع األحكام الرشعية التي وضعت لتحقيق مقصد حفظ الحرية ،هي
تلك األحكام املتعلقة بالرق ،فهي أحكام تنتهي يف جملتها إىل التضييق يف مداخله
وأسبابه حتى حرم عىل اإلنسان أن يتنازل عن حريته يف ذاته ليصبح مبحض إرادته
رقيقاً ،والتوسيع يف مخارجه حتى جعل فك الرقبة عبادة يتقرب بها إىل الله تعاىل،
واملقصد من كل ذلك هو الوصول إىل وضع ينتهي فيه استعباد اإلنسان لإلنسان ،وذلك
تحرير أبدي للنفس اإلنسانية من عبودية مل تخل منها حضارة من الحضارات القدمية
قبل اإلسالم .وإمنا رشعت هذه األحكام حفظاً إلنسانية اإلنسان أن تكون مكتملة
بحفظ الحرية ومنع العبودية(.)10
وتتفرع عىل هذه األحكام بتحرير اإلنسان من الرق ،أحكام أخرى كثرية تلتقي
عند ذات املقصد الذي هو حفظ الحرية ،ومنها الحكم بحرية املعتقد كام يف قوله
تعاىل ﴿ :ال إكراه ف ي� الدين قد تب ّيـن الرشد من الغي ﴾ (البقرة .)256 :
وحرية التفكري وحرية القول للصدع بنتائج ذلك التفكري ،كام يف قوله تعاىل :
الخ� ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إىل ي
وأولئك هم المفلحون ﴾ (آل عمران .)104 :
وحرية العمل ،وحرية التنقل ،والحرية الشخصية يف املأكل وامللبس واملنزل ،وما
إىل ذلك من سائر ما يندرج تحت مسمى الحرية ،فقد جاءت الترشيعات املختلفة
ملزم ًة بحفظها ،وإن يكن وفق ضوابط ال تؤول معها الفوىض التي قد تؤدي إىل انخرام
النظام االجتامعي ،فتؤول إىل عكس املقصود منها(.)11
وقد استكملت الرشيعة هذه األحكام الـمـشَ ـ ِّرعـة للحرية ،بأحكام أخرى تحرم
االعتداء عليها ،وتضع العقوبات الصارمة عىل ذلك االعتداء ،ناهيك يف ذلك أن امرأة
دخلت النار يف هرة اعتدت عىل حريتها يف التنقل بالحبس حتى ماتت( .)12ومن ذلك
ما جاء يف الرشيعة من تحريم لالعتداء عىل الحريات الشخصية بانتهاك حرمة البيوت
والدخول إليها بدون إذن ،والتلصص لالطالع عىل العورات ،فكل ذلك يعاقب عليه
بالتعزير ،ويسقط املسؤولية عىل من دفعه بجرح أو بقتل إذا كان ال ميكن دفعه إال
بذلك( ،)13وكذلك األمر يف كل اعتداء عىل الحرية فإن عليه عقوبة بالتعزير.
وحينام يكون تقييد الحرية عقوب ًة مرشوع ًة يقتضيها العدل قصاصاً أو دفعاً
للعدوان مبثله ،فإن الرشيعة قد نظمته بأحكام منضبطة َح َذ َر أن ينتهي األمر إىل
اإلرساف فيه .ولذلك فقد عهدت الرشيعة بتقييد الحرية عقاباً ،إىل املجتمع ممثالً يف
السلطان ،ومل توكله إىل األفراد ،ومن ذلك أن عقوبة الحبس عىل سبيل املثال ،ال ميكن
أن ينفذها إال ويل األمر دون األفراد ،فإذا ما قام الفرد بتنفيذها ،اعترب ذلك ظلامً استحق
عليه التعزير كام استحق ابن عمرو بن العاص التعزير من عمر بن الخطاب ملا اعتدى
بنفسه باإلهانة عىل حرية من اعتدى عليه خطأ بوطء ثوبه ،فقد كان عليه أن يشتيك
إىل السلطان ليبارش تنفيذ تلك العقوبة ،وهذا ما يفرس قولة عمر الشهرية يف هذا املقام
«متى استعبدتم الناس وقد لدتهم أمهاتهم أحراراً»( ،)14فهذا التعنيف منه البن عمر،
إمنا هو بسبب اعتدائه عىل حرية خصمه انتصارا ً لنفسه بنفسه ،معامالً إياه معاملة
العبيد ،والحال أنه حر محفوظ الحرية ،فال يجوز االعتداء عىل حريته إال عقاباً يوقعه
السلطان يك ال يقع إرساف كام وقع.
فذلك كله إمنا هو ترشيع لحفظ الحرية(.)15
( )11راجع ذات املرجعني يف ذات املصدر.
( )12جاء يف الحديث قولهﷺ « :دخلت امرأة النار يف هرة ربطتها فلم تطعمها ومل تدعها تأكل من خشاش األرض» ،أخرجه البخاري :
كتاب بدء الخلق ،باب خمس من الدواب الفواسق.
( )13راجع تفاصيل األحكام يف ذلك يف ٬محمد أبو زهرة :العقوبة .344 ،337 :
( )14راجع القصة مبجملها يف :منتخب كنز العامل للمتقي الهندي (فصل فضائل الفاروق).
( )15راجع رشح هذا امللمح الدقيق العميق يف :ابن عاشور :مقاصد الرشيعة .316 :
أبعاد جديدة ملقاصد الرشيعة :حفظ إنسانية اإلنسان 136
إن هذه الترشيعات املتعددة املختلفة ،إمنا رشعت لتحقيق الحرية تأسيساً لها
ودفعاً لالعتداء عليها ،وإمنا حظيت الحرية مبثل هذه الترشيعات التي تثبت عىل وجه
أساس من مقاصد الرشيعة ،ألن اإلنسان إذا مل تحفظ القطع أن حفظ الحرية مقص ٌد ٌ
حريته فإنه يفقد أهم مق ّوم من مقومات حقيقة اإلنسانية فيه ،وهي الحرية التي
ُم ِّيز بها عن سائر املخلوقات ،وتفقد بذلك حياته الشطر األكرب من معناها ،وإذا به
قد تعطلت ملكاته عن االنطالق من أجل الفعل املنتج ،وأصبح اإلنسان بحكم ذلك
التسلط ،ال يقدر عىل يشء كام جاء يف التعبري القرآين ،فانتهى األمر إذن إىل أن الرشيعة
جاءت تعمل عىل حفظ الحرية مقصدا ً رشعياً ينتهي إىل حفظ إنسانية اإلنسان مقصدا ً
أعىل ،كام ينتهي إليه حفظ الفطرة ،وحفظ الكرامة ،وحفظ غائية الحياة ،إذ هذه كلها
متثل العنارص األساس ملعنى تلك اإلنسانية يف اإلنسان .وإذا حفظت إنسانية اإلنسان،
وانضم ذلك إىل حفظ دينه ،فإن األمر ينتهي إىل حفظ الحياة اإلنسانية بأكملها أن
تكون لها القيمة التي أرادها لها الله تعاىل ،إذ قيمة الحياة تنحرص من منظور إسالمي،
فيام تتق َّو ُم به من دين ومن إنسانية.