You are on page 1of 13

‫‪www.madjalate-almayadine.

com‬‬ ‫العدد األول‬ ‫مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية‬

‫عنف الفضاء الروائي في المدينة الجزائرية سنوات التسعينيات‪ ،‬رواية دم‬


‫الغزال لمرزاق بقطاش أنموذجا‬
‫حرار‬
‫د‪ .‬نسيم ّ‬
‫جامعة عبد الرحمن ميرة بجاية‬
‫الجزائر‬

‫َّ‬
‫الملخص‪:‬‬
‫عاشت الجزائر سنوات تسعينيَّات القرن الماضي أزمة حقيقيَّة‪َّ ،‬‬
‫تجلت مالمحها في الخطاب‬
‫فتحولت الكتابة إلى سالح وتعبير عن الوجود‪ .‬وقد حاول الخطاب‬ ‫السردي المكتوب ًّ‬
‫باللغة العربيَّة‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫الرواية‪ -‬أن يرصد التَّحوالت والظروف المعيشة‪ ،‬ويرصد األحداث في المتن الروائي‬
‫خاصة ِّ‬
‫السردي ‪َّ -‬‬
‫َّ‬
‫رغبة من الكتَّاب أن يسايروا الواقع المعيش‪.‬‬

‫إن اختياري مرحلة التسعينيات بالتَّحديد لدراسة الخطاب َّ‬


‫السردي هو محاولة إلبراز‬ ‫َّ‬
‫السوداوي للمدينة التي صارت فضاء الكتابة ِّ‬
‫الروائية‪ ،‬وانفتاح المدينة بدرجة أوسع على‬ ‫الجانب َّ‬
‫َ‬
‫الساحة األدبية أقالما جديدة‪،‬‬ ‫تراجيديا العنف‪ ،‬مقارنة بالفترة التي سبقت ِّ‬
‫التسعينيات‪ ،‬فقد برزت على َّ‬
‫تحاول اإلبداع األدبي ألول مرة وهو ما ُعرف عنه "جيل َّ‬
‫الشباب"‪ ،‬كما عرفت الفترة قف از عن المراحل‬
‫التوجه االشتراكي‪ ،‬ويحملون هموم‬
‫ُّ‬ ‫التسعينيات ِّ‬
‫يمجدون‬ ‫الرواية فيما سبق ِّ‬
‫السابقة والتي كان ُكتَّاب ِّ‬
‫َّ‬
‫الع َّمالية البسيطة‪.‬‬ ‫َّ‬
‫الفالحين والطبقات ُ‬
‫وطرق هذا الموضوع هو محاولة اإلجابة عن السؤال‪ :‬هل استطاعت المدينة الجزائريَّة كفضاء‬
‫روائي استيعاب أحداث العنف الواقعي ومواكبة التَّغيرات الحاصلة وقتها؟‪.‬‬

‫المفتاحية‪ :‬العنف‪ ،‬الفضاء‪ِّ ،‬‬


‫الرواية الجزائريَّة‪ ،‬دم الغزال‪ ،‬المدينة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫الكلمات‬

‫‪23‬‬
www.madjalate-almayadine.com ‫العدد األول‬ ‫مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية‬

Summary:
In the 1990s, Algeria experienced a crisis in narrative discourse written
in Arabic, and writing became a weapon and an expression of existence. The
narrative discourse - especially the novel - attempted to keep pace with the
transformations and the conditions of life.
The choice of the 1990s to study narrative discourse is an attempt to
highlight the black side of the city. The wider opening of the city to the
tragedy of violence, compared with the period before the 1990s, appeared in
literary pens a new scene, and trying to literary creation for the first time,
"youth generation." This period was also a leap from the previous stages of
previous years, which glorified the socialist orientation and carried the fears
of the peasantry and the workers' simple classes.
The methods of this topic are trying to answer the question: Was the
city of Algeria a literary space to accommodate the real violence and keep
pace with the changes that occur after that?

Key words :
Violence, space, The Algerian novel, Dam el Ghazzal, The City.

24
‫‪www.madjalate-almayadine.com‬‬ ‫العدد األول‬ ‫مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية‬

‫العربية الحديثة‪:‬‬
‫َّ‬ ‫الروائي في ِّّ‬
‫الدراسات‬ ‫‪ -1‬مفهوم الفضاء ِّّ‬

‫السردية الحديثة باعتباره ًّ‬


‫حدا أساسيا في بناء‬ ‫الروائي مقوال نقديا‪ ،‬اهتمت به ِّ‬
‫الدراسات َّ‬ ‫الفضاء ِّ‬
‫الدراسات والبحوث حديثا‪ ،‬وفرضت‬ ‫الروائي‪ ،‬وهو «من المصطلحات النقدية التي دخلت عالم ِّ‬ ‫النص ِّ‬
‫َّ‬
‫نفسها بقوة بعد أن أهملت سابقا بسبب انصراف النقاد والباحثين إلى التركيز على عناصر‬
‫السردية العربيَّة كان سببه االهتمام‬ ‫وشح ِّ‬
‫الدراسات َّ‬ ‫الشخصيَّات والزمان ‪ُّ ،..‬‬ ‫أخرى‪ ،)1(»...‬مثل دراسة َّ‬
‫وقلة التَّرجمات العربيَّة ِّ‬
‫للدراسات الغربيَّة الحديثة‪ ،‬وعدم مجاراة الغرب في‬ ‫ِّ‬
‫بالشعر على حساب النَّثر‪َّ ،‬‬

‫السردي المعاصر‪.‬‬ ‫َّ‬


‫النقد َّ‬

‫ودقة ترجمته إلى ُّ‬


‫اللغة العربيَّة‪ ،‬فـ"حسن نجمي"‬ ‫تعدد المصطلحات‪َّ ،‬‬
‫وتعتري المصطلح إشكالية ُّ‬
‫اعتبر المترجم "غالب هلسا" الذي ترجم كتابا لـ"غاستون باشالر" يحمل عنوان" جماليات المكان" لم يكن‬
‫َّ‬
‫موفقا في ترجمة الكتاب‪ ،‬فيقول عنه‪« :‬تميزت هذه الترجمة بضعف ملحوظ‪ ،‬ضعف كارثي في كثير‬
‫من الجوانب‪ ،‬حيث هشاشة اإلمساك بالمفاهيم والمصطلحات‪ ،‬مخاطر السقوط التي تستلزمها عادة كل‬
‫وقفز على عبارات وجمل وكلمات ليس باإلمكان تجاوزها دون‬
‫ترجمة‪ ،‬ذهاب مع عكس المقصود تماما َ‬
‫ارتكاب جنايات قصوى»(‪)2‬؛ بل رأى من الواجب إعادة ترجمة عنوان الكتاب بـ" شعرية الفضاء" لتجاوز‬
‫الجناية(‪ ،)3‬ويرى في مفهومه للفضاء َّ‬
‫أن تجليَّاته « حاضرة بشكل من األشكال إما مضمرة أو‬
‫ونستشف من خالل هذا َّ‬
‫أن "حسن نجمي"‬ ‫ُّ‬ ‫موصوفة‪ ،‬أو معروفة أو محلوما بها أو متأمال فيها»(‪،)4‬‬
‫السردية للفضاء مرتبط بالتَّماهي‬ ‫وتصوره للفضاء من خالل ُّ‬
‫النصوص َّ‬ ‫ُّ‬ ‫يضع الفضاء بديال للمكان‪،‬‬
‫تصوره َّ‬
‫أن الفضاء أشمل‬ ‫الدقيقة التي يتقولب فيها المكان‪ ،‬وفي ُّ‬ ‫ِّ‬
‫الضيقة والمعالم َّ‬ ‫والتَّسامي عن الحدود‬
‫من المكان‪ ،‬وأنسب للتَّدليل على المكان‪.‬‬

‫ألن الفضاء في نظر‬ ‫أما "عبد الملك مرتاض" فيضع مصطلح " ِّ‬
‫الحيز" مقابال للفضاء‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫ومتماه في الخواء والفراغ‪« ،‬بينما الحيز لدينا ينصرف استعماله‬ ‫"مرتاض" مصطلح قاصر وغير دقيق‪،‬‬
‫إلى النتوء‪ ،‬والوزن‪ ،‬والثقل‪ ،‬والحجم‪ ،‬والشكل‪ ،)5(»..‬لقد حاول "مرتاض" في تعريفه ِّ‬
‫للحيز صناعة‬
‫قوالب منتظمة للفضاء تتناسب مع الوزن والحجم و َّ‬
‫الشكل‪ ،‬باختالفها فيما بينها‪ ،‬وتكون مترابطة فيما‬

‫الدار العربية للعلوم ناشرون‪ ،‬ومنشورات االختالف‪ ،‬بيروت والجزائر‪ ،‬ط‪ ،2010 ،1‬ص‪.123‬‬ ‫فيصل األحمر‪ ،‬معجم السيميائيات‪َّ ،‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫حسن نجمي‪ ،‬شعرية الفضاء المتخيل والهوية في الرواية العربية‪ ،‬المركز الثَّقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء وبيروت‪ ،‬ط‪ ،2000 ،1‬ص‪.43‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ن‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.46‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫السرد‪ ،‬عالم المعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،1998 ،‬ص‪.121‬‬


‫عبد الملك مرتاض‪ ،‬في نظرية الرواية بحث في تقنيات َّ‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪25‬‬
‫‪www.madjalate-almayadine.com‬‬ ‫العدد األول‬ ‫مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية‬

‫بينها‪ ،‬فاستعمل ِّ‬


‫الحيز مقابال للفضاء‪ ،‬يقول‪« :‬لقد خضنا في أمر هذا المفهوم‪ ،‬وأطلقنا عليه مصطلح‬
‫ِّ‬
‫"الحيز" مقابال للمصطلحين الفرنسي واإلنجليزي (‪ )Espace , Space‬في كل كتاباتنا األخيرة»(‪.)6‬‬

‫الروائي عند "مرتاض" ال يختلف عن التَّعاريف التي سبقته في‬ ‫وتعريف الفضاء – ِّ‬
‫الحيز‪ِّ -‬‬
‫طربِّه كتَّاب‬ ‫ِّ‬
‫فالحيز هو «المجال الفسيح الذي يتبارى في ُم ْ‬
‫ض َ‬ ‫مجال االشتغال على الفضاء السردي‪،‬‬
‫الرواية فيتعاملون معه بناء على ما يودون من هذا التعامل‪ ،‬حيث يغتدي الحيز من بين مشكالت‬
‫الروائي بالبنيات َّ‬
‫النصية‬ ‫ِّ‬
‫"الحيز" ِّ‬ ‫البناء الروائي‪ ،‬كالزمان والشخصية واللغة»(‪ ،)7‬ربط "مرتاض" مفهوم‬
‫وتصور األمكنة ببعديها المكاني (الجغرافي) والزماني (التَّاريخي)‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ِّ‬
‫المتمثلة في الزمن والشخصيات‪،‬‬

‫خاصة التي تتمفصل في هيكلها بنى‬ ‫الروائي أنه َّ‬


‫الطريقة ال َّ‬ ‫أما "فيصل لحمر" فينظر للفضاء ِّ‬
‫َّ‬
‫السرد تتنوع في كونه إطا ار يشتمل على أحداث‪ ،‬فالحدث الروائي‬ ‫السرد‪َّ « ،‬‬
‫إن استراتيجية الفضاء في َّ‬
‫ال يقدم مصحوبا بجميع إحداثياته الزمانية والمكانية (‪ )...‬ويتسع مفهوم الفضاء ليشمل البيئة الطبيعية‬
‫والصناعية بمختلف أنماطها ووظائفها‪ ،‬والشوارع وكل األماكن التي تعيش فيها الشخصيات‬
‫تصور الفضاء ِّ‬
‫الروائي من هذه الوجهة هو ربط بين أفعال‬ ‫ُّ‬ ‫الروائية»(‪ ،)8‬وبهذا المفهوم نستنتج َّ‬
‫أن‬
‫السرد ِّ‬
‫الروائي‪.‬‬ ‫َّ‬
‫الشخصيات في ِّ‬
‫الرواية ومكان وقوع هذه األفعال في بنية َّ‬

‫واعتبر "محمد َّ‬


‫عزام" الفضاء مقابال للمكان وال يجد أي حرج في ترجمة " غالب هلسا" لكتاب "‬
‫ويعدها «أولى ِّ‬
‫الدراسات التي تناولت المكان باعتباره عنص ار حكائيا‬ ‫غاستون باشالر" بل يشيد بترجمته ُّ‬
‫الرواية»(‪ ،)9‬كما استعرض أهم التَّجارب العربيَّة التي درست المكان في ِّ‬
‫الرواية منهم‪" :‬سي از‬ ‫مهما في ِّ‬
‫مميزة عن الفضاء‬ ‫قاسم وحسن بحراوي حميد الحمداني" و َّ‬
‫أكد في دراسته عدم وجود جهود عربيَّة َّ‬
‫الروائي والذي ِّ‬
‫يعرفه «مجموع األمكنة المحددة جغرافيا‪ ،‬والتي هي مسرح األحداث‪ ،‬وملعب األبطال‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫هذا إذا لم نأخذ بالفضاء كمنظور‪ ،‬وبالفضاء كداللة»(‪.)10‬‬

‫تستمد‬
‫ُ‬ ‫الراقية التي‬ ‫كما تعتبر جهود "حسن بحراوي" في دراسة الفضاء ِّ‬
‫الروائي من بين الجهود َّ‬
‫الروافد الغربية باختالف أنواعها‪ ،‬والتي يعدها "بحراوي" جهود لم تبلغ درجة الكمال بعد‪،‬‬
‫أصولها من َّ‬
‫ولدراسة الفضاء ِّ‬
‫الروائي –حسب حسن بحراوي‪ -‬فالبد من «رفع االلتباس عن العالقة القائمة بين‬
‫الفضاء النصي‪ ،‬والفضاء الحكائي والفضاء الواقعي وذلك قبل الشروع في دراسة مراحل بناء الفضاء‬

‫عبد الملك مرتاض‪ ،‬في نظرية الرواية‪ ،‬ص ‪.121‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.125‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫فيصل األحمر‪ ،‬معجم السيميائيات‪ ،‬ص‪.125‬‬ ‫(‪)8‬‬

‫الروائي مقاربة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان‪ ،‬دار الحوار للنشر والتوزيع‪ ،‬سوريا‪ ،‬ط‪ ،1998 ،1‬ص‪.111‬‬ ‫محمد َّ‬
‫عزام‪ ،‬فضاء النص ِّ‬ ‫(‪)9‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.114‬‬ ‫(‪)10‬‬

‫‪26‬‬
‫‪www.madjalate-almayadine.com‬‬ ‫العدد األول‬ ‫مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية‬

‫عدة أوجه منها َّأنه فضاء‬‫أن الفضاء ُيفهم على َّ‬‫الروائي وتحديد عناصره المكونة»(‪ ،)11‬ومعنى هذا َّ‬
‫للنص‪ ،‬والفضاء باعتباره مكانا جغرافيا‬‫السارد‪ ،‬ومكان واقعي في عمليَّة تلقي القارئ َّ‬
‫تخييلي من وجهة َّ‬
‫يخضع ِّ‬
‫لالتساع واالنغالق مثل (أماكن اإلقامة الجبرية والسجون والبيت‪ ،‬والشوارع واألحياء)‪.‬‬

‫السرد‪ ،‬و ُّ‬


‫اللغة هي الكاشفة عنه «إن الفضاء الروائي‪،‬‬ ‫الروائي مرتبط بخطيَّة َّ‬
‫وبهذا فالفضاء َّ‬
‫مثل المكونات األخرى للسرد ال يوجد إال من خالل ُّ‬
‫اللغة‪ ،‬فهو فضاء لفظي ‪ Espace verbal‬بامتياز‪،‬‬
‫ويختلف عن األفضية الخاصة بالسينما والمسرح‪ ،‬أي عن األماكن التي ندركها بالبصر أو السمع‪ ،‬إنه‬
‫فضاء ال يوجد سوى من خالل الكلمات المطبوعة في الكتاب»(‪ ،)12‬فالفضاء ِّ‬
‫الروائي ملفوظ حكائي‬
‫الروائية‪ ،‬وبدون ُّ‬
‫اللغة ما كان ليوجد سرد وال فضاء‪ ،‬بل دون‬ ‫النصوص ِّ‬ ‫أساسه ُّ‬
‫اللغة التي أوجدته في ُّ‬
‫للرواية‪ ،‬ألنه ميزة فنيَّة في مالمحها األدبيَّة و ِّ‬
‫الشعريَّة‪.‬‬ ‫وجود فضاء روائي ال وجود ِّ‬

‫ومن بين أولى الجهود التي ُبذلت في االشتغال على الفضاء ِّ‬
‫الروائي أيضا‪ ،‬جهود "حميد‬
‫عرف فيه الفضاء بـ« الفضاء كمعادل للمكان‪ :‬يفهم‬
‫السردي" والذي َّ‬ ‫لحمداني" في كتابه " بنية َّ‬
‫النص َّ‬
‫الفضاء في هذا التصور‪ ،‬على أنه الحيز الحكائي في الرواية أو الحكي عامة‪ ،‬ويطلق عليه عادة‬
‫الفضاء الجغرافي (‪ ،)13(»)Lespace géographique‬المالحظ َّأننا وجدنا "حميد لحمداني" استعمل‬
‫أن‬ ‫ِّ‬
‫"الحيز" وهو المصطلح نفسه الذي استعمله "عبد الملك مرتاض" وأشرنا لذلك سابقا‪ ،‬حتى َّ‬ ‫مصطلح‬
‫الباحث ليعتقد َّ‬
‫أن "مرتاض" هو السبَّاق الستعمال المصطلح‪ ،‬لكن "حميد لحمداني" من خالل هذا‬
‫اإلطالع تمكنت أن استخلص َّأنه السبَّاق الستعمال مصطلح ِّ‬
‫"الحيز" مقابال للفضاء‪.‬‬

‫َّ‬
‫بمخططات‪،‬‬ ‫وفصل الحديث في آراءهم َّ‬
‫ومثل لها‬ ‫اعتمد "لحمداني" على دراسات الغربيين َّ‬
‫والفضاء‬ ‫الجغرافي(‪،)géographique Espace‬‬ ‫الفضاء‬ ‫ِّ‬
‫الروائي‪:‬‬ ‫الفضاء‬ ‫تقسيمات‬ ‫وأبرز‬
‫‪Espace‬‬ ‫(‬ ‫ِّ‬
‫الداللي‬ ‫والفضاء‬ ‫(‪،)Idiologéme‬‬ ‫واأليديولوجيم‬ ‫َّ‬
‫النصي(‪،)Espace Textual‬‬
‫‪ ،)14()Sémantique‬والفضاء ِّ‬
‫الروائي عند "لحمداني" ليس مقابال للمكان كما عند "محمد عزام"؛ بل‬
‫«الفضاء أشمل وأوسع من معنى المكان‪ ،‬والمكان بهذا المعنى هو مكوِّن الفضاء (‪ )...‬إنه العالم‬
‫الواسع الذي يشمل مجموع األحداث الروائية‪ ،‬فالمقهى أو المنزل أو الشارع أو الساحة‪ ،‬كل منها ُّ‬
‫يعد‬

‫الروائي (الفضاء‪ -‬الزمن‪ -‬الشخصية)‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت والدَّار البيضاء‪ ،‬ط‪ ،1990 ،1‬ص‪.27‬‬ ‫حسن بحراوي‪ ،‬بنية َّ‬
‫الشكل ِّ‬ ‫(‪)11‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ن‪.‬‬ ‫(‪)12‬‬

‫حميد لحمداني‪ ،‬بنية النص السردي من منظور النقد األدبي‪ ،‬المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت والدار البيضاء‪ ،‬ط‪،1991 ،1‬‬ ‫(‪)13‬‬

‫ص‪.53‬‬
‫ينظر‪ :‬المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.62‬‬ ‫(‪)14‬‬

‫‪27‬‬
‫‪www.madjalate-almayadine.com‬‬ ‫العدد األول‬ ‫مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية‬

‫مكانا محددا‪ ،‬ولكن إذا كانت الرواية تشتمل هذه األشياء كلها فإنها جميعا تشكل فضاء الرواية»(‪،)15‬‬
‫فمفهوم الفضاء عند "لحمداني" ليس معادال للمكان بل الفضاء أوسع وأشمل لألمكنة التي يأتي ذكرها‬
‫النص ِّ‬
‫الروائي‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫متفرقة في متن َّ‬

‫‪ُ -2‬عنف الفضاء ِّّ‬


‫الروائي للمدينة في رواية "دم الغزال" لمرزاق بقطاش‪:‬‬

‫الرواية كاشفا لعالم سوداوي رهيب‪ ،‬وذلك « َّ‬


‫ألن واقع التسعينيات جرد الكاتب‬ ‫السرد في ِّ‬
‫يبدو َّ‬
‫ِّ‬
‫وتجسد‬ ‫من كل إمكانية إلبراز الصراع أو التنبؤ بمستقبل‪ ،‬لذلك رأينا كتابة المحنة تركن إلى المحنة‬
‫الحالة»(‪ ،)16‬فاستحضار التَّاريخ الدَّموي يبرز جليا للوهلة األولى من َّأول عتبة نصيَّة ‪-‬العنوان‪ "-‬دم‬
‫الغزال" فهو صرخة مدويَّة للخوف الذي يعتري نفسيَّة المبدع "مرزاق بقطاش"‪.‬‬

‫صورها الكاتب‪ ،‬فكشف عن اسم َّ‬


‫الذات‬ ‫لقد َّ‬
‫تجلت في فصول ا ِّلرواية واقعيَّة األحداث التي َّ‬
‫محمد بوضياف"‪ ،‬ومكان تشييع الجثَّة " أمام‬
‫الساردة لألحداث "مرزاق بقطاش"‪ ،‬واسم المقتول "الرئيس َّ‬
‫َّ‬
‫المؤلف في ذلك‬ ‫َّ‬ ‫قبر "األمير عبد القادر" في مقبرة الشهداء بالعاصمة‪ ،‬ومن هذا المنظور َّ‬
‫فإن غاية‬
‫إن ِّ‬
‫الرواية «مرآة المجتمع‬ ‫تحمل مسؤوليته في التَّأريخ لألحداث التي عايشها فترة العشرية َّ‬
‫السوداء‪َّ ،‬‬ ‫ُّ‬
‫المدني الصاعد‪ ،‬وسالحه اإلبداعي في مواجهة نقائضه التي ال تزال إلى اليوم مقترنة بالتَّعصب‬
‫السرد‪ ،‬فغدت‬ ‫متنوعة وم ِّ‬
‫تعددة ُّ‬
‫بتعدد أفضية َّ‬ ‫والتَّسلط والتَّطرف»(‪ ،)17‬وهو ما َّ‬
‫شكل مستويات سردية ِّ‬ ‫ُ‬
‫وزعها الكاتب على ثالثة فصول تُ ِّ‬
‫كون في مجملها رواية "دم الغزال"‪.‬‬ ‫بذلك حكايات َّ‬

‫‪ 1-2‬عنف فضاء المقبرة‪:‬‬

‫إن دراسة الفضاء في رواية "دم الغزال" على الوجه الذي ذكرناه تُستقى من الخطاب ِّ‬
‫الروائي؛‬ ‫َّ‬
‫باللغة اإلبداعية في متون النصوص‪ ،‬ولهذا فال يمكن استجالء معالم‬ ‫يتشكل ُّ‬
‫َّ‬ ‫ألن الفضاء ِّ‬
‫الروائي‬ ‫َّ‬
‫الهامة التي َّ‬
‫شكلت سمة‬ ‫َّ‬ ‫الرواية –مدار التَّحليل‪ -‬بمعزل عن األحداث (‪)évenements‬‬
‫الفضاء في ِّ‬
‫للرواية‪ ،‬و ُّ‬
‫الشخوص (‪ )personages‬المشاركة في األحداث‪ ،‬سواء كانت متآلفة فيما بينها أم‬ ‫سردية ِّ‬
‫الشخوص من منظور موقف الكاتب‪.‬‬ ‫النظر (‪ )points de vue‬التي تُ ِّ‬
‫مثلها ُّ‬ ‫متصارعة‪ ،‬ووجهات َّ‬

‫ترمز المقبرة في المخيال العربي إلى المكان الموحش الذي تنتهي فيه حياة البشر‪ ،‬وهي‬
‫المكان المحتوم على ِّ‬
‫كل نفس فانية أن تنزل به‪ ،‬وقد َّ‬
‫شكل حضور المقبرة في رواية "دم الغزال"‬

‫حميد لحمداني‪ ،‬بنية النص السردي من منظور النقد األدبي‪ ،‬ص‪.63‬‬ ‫(‪)15‬‬

‫آمنة بلعلى‪ ،‬المتخيل في الرواية الجزائرية من المتماثل إلى المختلف‪ ،‬ص‪.78‬‬ ‫(‪)16‬‬

‫جابر عصفور‪ ،‬زمن الرواية‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪ ،1999 ،1‬ص‪.12‬‬ ‫(‪)17‬‬

‫‪28‬‬
‫‪www.madjalate-almayadine.com‬‬ ‫العدد األول‬ ‫مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية‬

‫السرد‪ ،‬وحمولة مشحونة بسمات العنف والفجيعة‪ ،‬بداية بالعنوان "دم الغزال"‬
‫حضو ار مركزيا لخطيَّة َّ‬
‫النص‪ ،‬فالدم رمز التَّضحية والجريمة والحروب‪ ،‬وداللة‬ ‫العتبة النَّصية التي ِّ‬
‫تمثل مفتاحا لفتح أبواب َّ‬
‫انتصار القوي على الضعيف‪َّ ،‬‬
‫ثم عنوان الفصل األول من الرواية "وما قتلوه وما صلبوه‪ "..‬وهو تناص‬
‫السالم‪ ،‬لكن القارئ وبتوالي القراءة يجد مفارقة سردية‬
‫قصة سيدنا عيسى عليه َّ‬
‫قرآني تستحضر به َّ‬
‫"محمد بوضياف" وأجواء تشييعه إلى مثواه‬
‫َّ‬ ‫للعنوان الجزئي‪ ،‬فيجد سردا تراجيديا لمقتل رئيس الجزائر‬
‫السرد فظا فظاظة الواقع‪ ،‬بداية من تصوير حال المقبرة «المقبرة مترامية‬
‫بمقبرة الشهداء‪ ،‬حيث ينطلق َّ‬
‫تضم في حناياها العدد العديد من أبناء مدينتنا البحرية الضخمة (‪ )...‬قبالتي مربع يضم قبو ار‬
‫األطراف ُّ‬
‫رخامية فخمة هي قبور العظماء الشهداء»(‪ ،)18‬ومن هذا يتجلى لنا َّ‬
‫أن مكان المقبرة بالعاصمة‬
‫السارد من خالل هذا َّأنه ذات ِّ‬
‫موجهة للقارئ ( ‪sujet‬‬ ‫الجزائريَّة والمقبرة هي "مقبرة العالية"‪ ،‬يبدو َّ‬
‫أن َّ‬
‫السارد ضج ار‬‫السرد تزداد نفسيَّة َّ‬ ‫ُّ‬
‫وبتقدم َّ‬ ‫‪ )model‬من خالل االهتمام بجغرافية المكان وتضاريسه‪،‬‬
‫"النخبة السياسية" التي يسميها َّ‬
‫"اللعنة السياسية" والذين‬ ‫وتضايقا من المكان الذي يتواجد فيه لتواجد ُّ‬
‫اجتمعوا في المقبرة لبرهة ليعودوا بعد اجتماعهم إلى التنابز ِّ‬
‫السياسي والمعارضات فيما بينهم‪ ،‬ويحيل‬
‫اللعنة واألزمة التي َّ‬
‫حلت بالجزائر‪.‬‬ ‫النخبة السياسية هي سبب َّ‬
‫أن ُّ‬
‫بهذا َّ‬

‫السارد بـ"القامات الزرقاء الرقطاء"؛ « إنها زرقة متعمدة بل هي‬ ‫أما أفراد ُّ‬
‫الشرطة فيصفهم َّ‬ ‫َّ‬
‫مفتعلة بغاية بث الذعر في النفوس‪ ،‬الرؤوس حاسرة والشعر ال يكاد يبلغ األذنين‪ ،‬رجال مدربون حقا‬
‫شك في َّ‬
‫أن هذه الفئة‬ ‫(‪ )...‬في تشكيلة ليس لها وجود إال زمن الحروب والغدر واالغتياالت»(‪ ،)19‬فال َّ‬
‫السارد‪ -‬تُثير الرعب والذعر في نفوس المواطنين‪« ،‬ال شك أن هناك عقوال شيطانية‬ ‫‪-‬من منظور َّ‬
‫درست لغة الخوف والرعب زمنا طويال لتخرج بمثل هذه األشكال واأللبسة»(‪ ،)20‬وهي ِّ‬
‫تمثل بيادًقا في‬
‫أيدي َّ‬
‫الحكام‪ ،‬فجلي َّ‬
‫أن فضاء المقبرة بوجود "القامات الزرقاء" اكتسى رعبا أكثر من الرعب والخوف‬
‫الطبيعي المألوف في المقابر‪ ،‬ووجودهم في المقبرة أيضا هو خوف "النخبة السياسية" من انفالت‬
‫األوضاع داخل المقبرة‪.‬‬

‫ِّ‬
‫المشيعون الذين ساروا إلى المقبرة فهم مئات األلوف ويقارب الموقف بأنَّه «مشهد أخروي‪..‬‬ ‫أما‬
‫َّ‬
‫ِّ‬
‫المشيعون للجنازة كان رهيبا وهذا يدل على‬ ‫َّإنه مشهد الحشر غير َّ‬
‫أن العقاب غير موجود»(‪ ،)21‬فتدافع‬
‫المصور في المقبرة ال‬
‫َّ‬ ‫شعبية الرئيس وما يحظى به من احترام لدى شعبه‪ ،‬كما َّ‬
‫أن الموقف الدنيوي‬

‫مرزاق بقطاش‪ ،‬دم الغزال‪ ،‬دار القصبة َّ‬


‫للنشر‪ ،‬الجزائر‪( ،‬د ط)‪ ،2002،2012 ،‬ص ‪.7‬‬ ‫)‪(18‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.11‬‬ ‫(‪)19‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.12‬‬ ‫(‪)20‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.18‬‬ ‫(‪)21‬‬

‫‪29‬‬
‫‪www.madjalate-almayadine.com‬‬ ‫العدد األول‬ ‫مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية‬

‫أن الموقف الدنيوي انفلت منه الجناة دون عقاب‪ ،‬وهو‬ ‫ِّ‬
‫المهول سوى َّ‬ ‫يختلف عن المشهد األخروي‬
‫الرواية‪ :‬من يقتل من؟‪ ،‬فالجثث تتساقط يوميا‪ ،‬والمقابر تتَّسع يوميا‪.‬‬
‫السؤال الذي أُثير في ِّ‬

‫يعمل "مرزاق بقطاش" في تصوير األحداث في المقبرة على تشويه ومسخ صورة النخبة‬
‫السياسية وأفراد الشرطة لتقبيحها لدى القارئ‪ ،‬وهو ما يتناسب وصورة المقبرة‪ ،‬فقد حلل ما جرى في‬
‫المقبرة من وجهات نظر واقعية (واقعية المكان وجنازة المقتول)‪ ،‬وفكرية سياسية (مواقف النخب‬
‫السياسية)‪ ،‬وفلسفية (من يقتل من؟)‪َّ ،‬‬
‫وتجلت لنا الذات المتكلِّمة (‪ )Dictum‬في تصوير هذه األحداث‬
‫ذات حائرة بدت تتهاوى داخليا لشعورها بثقل العالم وحجم المأساة‪ ،‬وهو ما جعله ُي ِّ‬
‫صور األحداث في‬
‫مكان ِّ‬
‫يمثل نهاية الحياة "المقبرة"‪.‬‬

‫والمقبرة عند "مرزاق بقطاش" هي مساحة وهمية تجمع كل المتناقضات من أحياء وأموات‪ ،‬ولو‬
‫ِّقدر للموتى أن يقوموا من قبورهم لعادوا إلى الصراع فيما بينهم(‪ ،)22‬وحضور الجنائز يوميا في المقابر‬
‫أما نحن‬ ‫ومشاهدة المراسيم م ار ار لم يعد ُيؤثر في َّ‬
‫النفس‪ ،‬فربط المقبرة بالموت للجميع حتى نفسه « َّ‬
‫فنقتل اليوم وغدا وبعد غد وال يمكن أن نوصف إال بالوحوش‪ ،‬حتى الوحوش تحترم ضحاياها‪َّ ،‬إنها‬
‫أما نحن فنرميها بالرصاص في الظهر والقفا على الرغم من َّأنها طعنت في‬
‫تتعامل معها بنبل وشرف‪َّ ،‬‬
‫ِّ‬
‫السن»(‪.)23‬‬

‫تحولت المقبرة من مكان للهدوء إلى مكان الهرج والمرج والخوف‪ ،‬وزاد تصوير عنف مقتل‬
‫لقد َّ‬
‫بوضياف قمة التراجيديا والمأساة‪َّ ،‬‬
‫وشكل الموت والتَّقتيل معادال موضوعيا للمقبرة التي أحالت للعجائبي‬
‫أيضا (‪َّ ،)le merveilleux‬‬
‫ومثلت المقبرة تعالًقا نصيًّا (‪ )corrélation textuelle‬مع َفصلي ِّ‬
‫الرواية‬
‫اآلخ َرين‪.‬‬
‫َ‬

‫‪ 2-2‬عنف فضاء المستشفى‪:‬‬

‫الذات َّ‬
‫المثقفة‬ ‫مثل المستشفى في رواية "دم الغزال" فضاء مغلقا‪ ،‬ومظه ار من مظاهر انكسار َّ‬ ‫َّ‬
‫ً‬
‫الحالمة بالبحوث العلميَّة‪ ،‬يقول "مرزاق بقطاش" «ال أبحث عن التراجيديا‪ ،‬فأنا التراجيديا بالذات‪،‬‬
‫ِّ‬
‫المؤسس لعلم جديد "علم الجنائز"؛ «إنه علم حقيقي وأنا‬ ‫التراجيديا التي تمشي على قدميها»(‪ ،)24‬وهو‬

‫مرزاق بقطاش‪ ،‬دم الغزال‪ ،‬ص‪.22‬‬ ‫(‪)22‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.28‬‬ ‫(‪)23‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.114‬‬ ‫(‪)24‬‬

‫‪30‬‬
‫‪www.madjalate-almayadine.com‬‬ ‫العدد األول‬ ‫مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية‬

‫(‪)25‬‬
‫السرد يحيل إلى صدمة القدر الذي جعل "مرزاق‬
‫واضعه وينبغي أن ندرسه في الجامعات‪ ، »..‬فهذا َّ‬
‫بقطاش" مجنونا‪ ،‬ومضطربا عقليا‪ ،‬وضحيَّة كاد أن يفارق الحياة‪.‬‬

‫راهن األديب في روايته على فضاء "المستشفى" ليمِّثل الخطاب الهذياني من خالل اعتقاد‬
‫مقربيه إصابته بالجنون‪ « ،‬لم يعد هناك شك في جنونه بالنسبة ألفراد أسرته‪ ،‬العملية الجراحية هي‬
‫السبب»(‪ ،)26‬ومعالجته موضوع الموت واالنتقال بين المواضيع و َّ‬
‫الربط بينها‪ ،‬وهذا ما جعلهم يودعونه‬
‫مصحة عقليَّة مع المرضى‪« ،‬هل أنا مجنون حقا؟»(‪)27‬؛ سؤال الحيارى و َّ‬
‫المثقف المستهدف وقت‬ ‫َّ‬ ‫في‬
‫فالسارد يدخل‬
‫المصحة العقلية َّ‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫التسعينيَّات‪َّ ،‬‬
‫ألنهم يناضلون بأقالمهم ويدينون الواقع المزري‪ ،‬أما في‬
‫النفسي وقدرته على شفاء المرضى عقليا‪،‬‬ ‫المصحة حول جدوى ِّ‬
‫الطب َّ‬ ‫َّ‬ ‫في جدال ِّ‬
‫طبي مع طبيبتي‬
‫وبعد انتهاء جلسة المعالجة يذهب لمجالسة المرضى‪« ،‬البعض منهم أطراف عيونهم متورمة بسبب‬
‫عمليات التنويم المستمرة‪ ،‬وبعضهم اآلخر يدخنون دون توقف‪ ،‬قال في نفسه‪ :‬في الحقيقة علم‬
‫الجنازات يبدأ من هذا المكان‪َ .‬أو ليست هذه المصحة عبارة عن مقبرة من المقابر؟»(‪َّ ،)28‬إنها رسوم‬
‫كاريكات ورية لنماذج بشرية ضحايا الواقع‪ ،‬وفضاء المستشفى ال يختلف عن فضاء المقبرة في نظر‬
‫الكاتب؛ بل "المستشفى" انطالقة فعلية لتوسيع ِّ‬
‫حيز التراجيديا في المدينة‪.‬‬

‫لقد َّ‬
‫مثل الجنون في ِّ‬
‫الرواية طقسا احتفاليا في نظر "مرزاق بقطاش"‪ ،‬وليس إسقاطا مرضيا كما‬
‫أن الجنون لعبة أكاديمية‬ ‫يراه َّ‬
‫الناس‪ ،‬وهو بهذا يقترب من تعريف الجنون عند "ميشيل فوكو" الذي يرى َّ‬
‫وهو موضوع للخطابات‪ ،‬فالمجنون َّ‬
‫يتحدث عن نفسه من خالل نفسه‪ُ ،‬يدان ويدافع عن نفسه‪ ،‬ويطالب‬
‫المصحة العقلية ويحال‬
‫َّ‬ ‫أن يكون قريبا من السعادة والحقيقة والعقل(‪ ،)29‬وهو السبب الذي جعله يدخل‬
‫إلى مصحة أخرى للعالج‪.‬‬

‫مثل "المستشفى" موطنا ألركيولوجيا األلم‪ ،‬والذي ُيقصد به عند "ميشيل فوكو" «البحث‬‫كما َّ‬
‫تصور لنا غربة َّ‬
‫الذات اإلنسانيَّة مع الطابع‬ ‫ِّ‬ ‫المعمق في متون الوقائع أو الوثائق التاريخية‪ ،‬التي‬
‫َّ‬
‫وتجسدت أركيولوجيا األلم في‬
‫َّ‬ ‫اإلكراهي لهذه الجماعة والتي تجعله في خصام ال ينقطع مع ذاته»(‪،)30‬‬

‫مرزاق بقطاش‪ ،‬دم الغزال‪ ،‬ص‪.76‬‬ ‫(‪)25‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.76‬‬ ‫(‪)26‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.83‬‬ ‫(‪)27‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.95‬‬ ‫(‪)28‬‬

‫ينظر‪ :‬ميشيل فوكو‪ ،‬تاريخ الجنون في العصر الكالسيكي‪ ،‬ترجمة وتقديم‪ :‬سعيد بن ك ارد‪ ،‬المركز الثقافي العربي الدَّار البيضاء‪ ،‬المغرب‪ ،‬ط‪،2006 ،1‬‬ ‫(‪)29‬‬

‫ص‪36‬‬
‫ينظر‪ :‬ميشيل فوكو‪ ،‬جنيالوجيا المعرفة‪ ،‬تر‪ :‬أحمد السطاتي‪ ،‬وعبد السالم بن عبد العالي‪ ،‬ط‪ ،2‬دار توبقال للنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪-‬المغرب‪ ،2008 ،‬ص‬ ‫(‪)30‬‬

‫‪.22‬‬

‫‪31‬‬
‫‪www.madjalate-almayadine.com‬‬ ‫العدد األول‬ ‫مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية‬

‫"المستشفى" من خالل إصابة "مرزاق بقطاش" برصاصة في الرأس أفقدته القدرة على الكالم وأصابته‬
‫في ِّ‬
‫فكه «لقد خرجت الرصاصة‪ ،‬انفلتت‪ ،‬لم يعد لها أثر في دماغك يا هذا! هناك ثقبان صغيران‬
‫(‪)31‬‬
‫جسد مالمحه‬
‫أحدهما أسفل القفا وثانيها في مستهل الفك األيمن» ‪ ،‬لقد كان اإلحساس باأللم شعوريا َّ‬
‫"مرزاق بقطاش" في المستشفى العسكري "بعين النعجة" وهو فضاء عرضي (‪ )paratopique‬غير بعيد‬
‫عن منزله القريب من مقبرة "العالية" بين "باب الزوار والحراش"‪ِّ ،‬‬
‫يحدد موقعه فيقول‪« :‬المستشفى‬
‫العسكري‪ :‬في الجهة الشرقية من مدينة الجزائر العظيمة من مدينة القراصنة‪ ،‬من هذه المساحة التي‬
‫دوخت أوربا بأكملها في مرحلة من ملراحل التاريخ»(‪ ،)32‬وهو مقطع عرضي يرجع القارئ لزمن جزائر‬
‫رياس البحر وبسط قوتها على البحر األبيض المتوسط قبل فترة االنكسار والت ُّ‬
‫حطم‪.‬‬

‫َّ‬
‫مثل المستشفى أيضا ِّ‬
‫حي از لصراع "مرزاق بقطاش" مع الموت ومع األلم ومع المرض‪ ،‬يصف‬
‫معاناته من األلم فيقول عن تطبيب جرحه‪« :‬يغرز ابرته في قفاي ليخيط الثقب‪ ،‬ليسد سدا منيعا‪ ،‬آه‬
‫منك ياذا القرنين! أنت تفرغ قط ار على ثقب أحدثه قوم ياجوج وماجوج‪ ،‬وال بد أن تأتي ُبزَب ِّر الحديد‬
‫لتضع بها حدا بين اإلنسان والشر لتنشئ صناعة الخير من جديد في هذه الدنيا»(‪ ،)33‬يظهر تشبُّث‬
‫الكاتب بالحياة ِّ‬
‫وحبها ومقاومته لأللم‪ ،‬لكن تراجيديا الموت‪ ،‬و"علم الجنائز" الذي كان يكتب عنهما‬
‫ويبحث عنهما‪ ،‬جعاله يعيش الموقف ويتخبَّط فيه‪َّ ،‬إنه داللة على انتشارهما في كل األرجاء واألفضية‪،‬‬
‫حتى في «عالم المدن حيث تنشأ الديكتاتوريات»(‪.)34‬‬

‫جسدت األفضية التي انتقل فيها السارد في عالمه ِّ‬


‫الروائي أفضية مدنيَّة كابوسية لواقع بائس‬ ‫َّ‬
‫فمثلت المقبرة فضاء احتوى "الضحية" "محمد بوضياف"‪َّ ،‬‬
‫ومثل المستشفى فضاء لذات كادت‬ ‫مهزوم‪َّ ،‬‬
‫عرت الواقع وكشفت ستاره‪ ،‬عن طريق التَّشخيص‬
‫أن تهزم لوال لطف المقادير‪ ،‬وهي خطابات سردية َّ‬
‫السرد وراء البطل‪ ،‬بل التَّكلم بلسان "مرزاق بقطاش" نفسه في متون السرد‪،‬‬
‫والمعاينة‪ ،‬وعدم التَّخفي في َّ‬
‫جسد قبح الوقائع‪ ،‬واحتواء متناقضات الواقع بين صراع ُّ‬
‫النخبة‬ ‫وكانت العاصمة فضاء مدنيا واقعيا َّ‬
‫الشعب الجزائري ِّ‬
‫بكل طبقاته‪.‬‬ ‫السياسية واإلرهاب‪ ،‬وهو صراع دفع ثمنه َّ‬

‫مرزاق بقطاش‪ ،‬دم الغزال‪ ،‬ص‪.129‬‬ ‫(‪)31‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.134‬‬ ‫(‪)32‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.136‬‬ ‫(‪)33‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.137‬‬ ‫(‪)34‬‬

‫‪32‬‬
‫‪www.madjalate-almayadine.com‬‬ ‫العدد األول‬ ‫مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية‬

‫خاتمة‪:‬‬

‫للسلطة فترة‬
‫ممجد ُّ‬ ‫‪ -‬لقد َّ‬
‫مثلت المدينة الجزائرية فضاء روائيا إلدانة العنف والخطاب ال ِّّ‬
‫عينيات‪ ،‬وقد احتوت مظاهر العنف والدموية التي عصفت بكل ما تبقى من مظاهر التمدُّن‬ ‫ال ِّّتس َّ‬
‫السير نحو ُّ‬
‫التفتح على اآلخر‪.‬‬ ‫ومحاوالت َّ‬

‫ُّ‬
‫وتحطم الرؤية الحالمة بعالم مدني‬ ‫وجسدت رواية "دم الغزال" الواقع المأساوي للمدينة‬
‫َّ‬ ‫‪-‬‬
‫أما العنف فكان حاض ار‬
‫فصورت تراجيديا الموت‪ ،‬والجنائزية في مدينة الجزائر "العاصمة"‪ّ ،‬‬ ‫ِّّ‬
‫متحضر‪َّ ،‬‬
‫الرصاص المدوي الذي كان ال يخطئ أهدافه‪.‬‬‫باستحضار الكاتب ألحداث أكتوبر‪1988‬م‪ ،‬وأصوات َّ‬

‫ِّّ‬
‫المكبر"‬ ‫التصوير الواقعي و َّ‬
‫التشخيص العيني َّ‬
‫الدقيق "المنظار‬ ‫‪ -‬غلب على رواية "دم الغزال" َّ‬
‫الكتاب تأريخ األحداث و َّ‬
‫التعبير من وجهات نظرهم‪.‬‬ ‫للتفاصيل‪ ،‬وهذا محاولة من َّ‬
‫َّ‬

‫الذاتية بضمير الـ"أنا" و َّ‬


‫التصريح باسم الكاتب نفسه‬ ‫ِّ‬
‫السيرة َّ‬ ‫‪ -‬كما اقتربت ِّّ‬
‫الرواية من سرد ّ‬
‫"مرزاق بقطاش" الذي عايش األحداث ورصدها ودونها إحساسا منه بالمسؤولية التاريخية‬
‫واألخالقية‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫‪www.madjalate-almayadine.com‬‬ ‫العدد األول‬ ‫مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية‬

‫قائمة المصادر والمراجع‪:‬‬

‫ّأوال) المصادر‪:‬‬

‫‪ )1‬مرزاق بقطاش‪ ،‬دم الغزال‪ ،‬دار القصبة َّ‬


‫للنشر‪ ،‬الجزائر‪( ،‬د ط)‪.2002،2012 ،‬‬

‫ثانيا) المراجع العربية‪:‬‬

‫الرواية الجزائرية من المتماثل إلى المختلف‪ ،‬دار األمل ِّ‬


‫للطباعة و َّ‬
‫النشر‬ ‫‪ )1‬آمنة بلعلى‪ ،‬المتخيل في ِّ‬
‫والتَّوزيع‪ ،‬تيزي وزو –الجزائر‪ ،-‬ط‪.1،2011‬‬

‫‪ )3‬جابر عصفور‪ ،‬زمن ِّ‬


‫الرواية‪ ،‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬ط‪.1999 ،1‬‬
‫‪ )4‬حسن بحراوي‪ ،‬بنية َّ‬
‫الشكل ِّ‬
‫الروائي (الفضاء‪ -‬الزمن‪ -‬الشخصية)‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‬
‫و َّ‬
‫الدار البيضاء‪ ،‬ط‪.1990 ،1‬‬
‫الرواية العربية‪ ،‬المركز الثَّقافي العربي‪َّ ،‬‬
‫الدار‬ ‫الهوية في ِّ‬
‫‪ )5‬حسن نجمي‪ ،‬شعرَّية الفضاء المتخيل و َّ‬
‫البضاء وبيروت‪ ،‬ط‪.2000 ،1‬‬
‫‪ )6‬حميد لحمداني‪ ،‬بنية النص السردي من منظور النقد األدبي‪ ،‬المركز الثقافي العربي للطباعة‬
‫والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت والدار البيضاء‪ ،‬ط‪.1991 ،1‬‬
‫الدار العر َّبية للعلوم ناشرون‪ ،‬ومنشورات االختالف‪ ،‬بيروت‬
‫‪ )7‬فيصل األحمر‪ ،‬معجم السيميائيات‪َّ ،‬‬
‫والجزائر‪ ،‬ط‪.2010 ،1‬‬
‫‪ )8‬محمد َّ‬
‫عزام‪ ،‬فضاء النَّص ِّ‬
‫الروائي مقاربة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان‪ ،‬دار الحوار للنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬سوريا‪ ،‬ط‪.1998 ،1‬‬
‫السرد‪ ،‬عالم المعرفة‪ ،‬الكويت‪.1998 ،‬‬
‫تقنيات َّ‬ ‫‪ )9‬عبد الملك مرتاض‪ ،‬في نظرَّية ِّ‬
‫الرواية بحث في َّ‬

‫‪34‬‬
‫‪www.madjalate-almayadine.com‬‬ ‫العدد األول‬ ‫مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية‬

‫ثالثا) المراجع المترجمة‪:‬‬


‫النشر‬ ‫المؤسسة الجامعية ِّ‬
‫للدراسات و َّ‬ ‫َّ‬ ‫‪)1‬غاستون باشالر‪ ،‬جماليات المكان‪ ،‬ترجمة‪:‬غالب هلسا‪،‬‬
‫والتَّوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪.1984 ،2‬‬
‫‪ )2‬ميشيل فوكو‪ ،‬تاريخ الجنون في العصر الكالسيكي‪ ،‬ترجمة وتقديم‪ :‬سعيد بن ك ارد‪ ،‬المركز‬
‫الثقافي العربي َّ‬
‫الدار البيضاء‪ ،‬المغرب‪ ،‬ط‪.2006 ،1‬‬
‫‪ )3‬ميشيل فوكو‪ ،‬جنيالوجيا المعرفة‪ ،‬تر‪ :‬أحمد السطاتي‪ ،‬وعبد السالم بن عبد العالي‪ ،‬ط‪ ،2‬دار‬
‫توبقال َّ‬
‫للنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪-‬المغرب‪.2008 ،‬‬

‫‪35‬‬

You might also like