Professional Documents
Culture Documents
عُنف الفضاء الرِّوائي للمدينة في رواية 2 1
عُنف الفضاء الرِّوائي للمدينة في رواية 2 1
َّ
الملخص:
عاشت الجزائر سنوات تسعينيَّات القرن الماضي أزمة حقيقيَّةَّ ،
تجلت مالمحها في الخطاب
فتحولت الكتابة إلى سالح وتعبير عن الوجود .وقد حاول الخطاب السردي المكتوب ًّ
باللغة العربيَّةَّ ، َّ
الرواية -أن يرصد التَّحوالت والظروف المعيشة ،ويرصد األحداث في المتن الروائي
خاصة ِّ
السردي َّ -
َّ
رغبة من الكتَّاب أن يسايروا الواقع المعيش.
23
www.madjalate-almayadine.com العدد األول مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية
Summary:
In the 1990s, Algeria experienced a crisis in narrative discourse written
in Arabic, and writing became a weapon and an expression of existence. The
narrative discourse - especially the novel - attempted to keep pace with the
transformations and the conditions of life.
The choice of the 1990s to study narrative discourse is an attempt to
highlight the black side of the city. The wider opening of the city to the
tragedy of violence, compared with the period before the 1990s, appeared in
literary pens a new scene, and trying to literary creation for the first time,
"youth generation." This period was also a leap from the previous stages of
previous years, which glorified the socialist orientation and carried the fears
of the peasantry and the workers' simple classes.
The methods of this topic are trying to answer the question: Was the
city of Algeria a literary space to accommodate the real violence and keep
pace with the changes that occur after that?
Key words :
Violence, space, The Algerian novel, Dam el Ghazzal, The City.
24
www.madjalate-almayadine.com العدد األول مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية
العربية الحديثة:
َّ الروائي في ِّّ
الدراسات -1مفهوم الفضاء ِّّ
ألن الفضاء في نظر أما "عبد الملك مرتاض" فيضع مصطلح " ِّ
الحيز" مقابال للفضاءَّ ، َّ
ٍ
ومتماه في الخواء والفراغ« ،بينما الحيز لدينا ينصرف استعماله "مرتاض" مصطلح قاصر وغير دقيق،
إلى النتوء ،والوزن ،والثقل ،والحجم ،والشكل ،)5(»..لقد حاول "مرتاض" في تعريفه ِّ
للحيز صناعة
قوالب منتظمة للفضاء تتناسب مع الوزن والحجم و َّ
الشكل ،باختالفها فيما بينها ،وتكون مترابطة فيما
الدار العربية للعلوم ناشرون ،ومنشورات االختالف ،بيروت والجزائر ،ط ،2010 ،1ص.123 فيصل األحمر ،معجم السيميائياتَّ ، ()1
حسن نجمي ،شعرية الفضاء المتخيل والهوية في الرواية العربية ،المركز الثَّقافي العربي ،الدار البيضاء وبيروت ،ط ،2000 ،1ص.43 ()2
25
www.madjalate-almayadine.com العدد األول مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية
الروائي عند "مرتاض" ال يختلف عن التَّعاريف التي سبقته في وتعريف الفضاء – ِّ
الحيزِّ -
طربِّه كتَّاب ِّ
فالحيز هو «المجال الفسيح الذي يتبارى في ُم ْ
ض َ مجال االشتغال على الفضاء السردي،
الرواية فيتعاملون معه بناء على ما يودون من هذا التعامل ،حيث يغتدي الحيز من بين مشكالت
الروائي بالبنيات َّ
النصية ِّ
"الحيز" ِّ البناء الروائي ،كالزمان والشخصية واللغة»( ،)7ربط "مرتاض" مفهوم
وتصور األمكنة ببعديها المكاني (الجغرافي) والزماني (التَّاريخي).
ُّ ِّ
المتمثلة في الزمن والشخصيات،
تستمد
ُ الراقية التي كما تعتبر جهود "حسن بحراوي" في دراسة الفضاء ِّ
الروائي من بين الجهود َّ
الروافد الغربية باختالف أنواعها ،والتي يعدها "بحراوي" جهود لم تبلغ درجة الكمال بعد،
أصولها من َّ
ولدراسة الفضاء ِّ
الروائي –حسب حسن بحراوي -فالبد من «رفع االلتباس عن العالقة القائمة بين
الفضاء النصي ،والفضاء الحكائي والفضاء الواقعي وذلك قبل الشروع في دراسة مراحل بناء الفضاء
الروائي مقاربة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان ،دار الحوار للنشر والتوزيع ،سوريا ،ط ،1998 ،1ص.111 محمد َّ
عزام ،فضاء النص ِّ ()9
26
www.madjalate-almayadine.com العدد األول مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية
عدة أوجه منها َّأنه فضاءأن الفضاء ُيفهم على َّالروائي وتحديد عناصره المكونة»( ،)11ومعنى هذا َّ
للنص ،والفضاء باعتباره مكانا جغرافياالسارد ،ومكان واقعي في عمليَّة تلقي القارئ َّ
تخييلي من وجهة َّ
يخضع ِّ
لالتساع واالنغالق مثل (أماكن اإلقامة الجبرية والسجون والبيت ،والشوارع واألحياء).
ومن بين أولى الجهود التي ُبذلت في االشتغال على الفضاء ِّ
الروائي أيضا ،جهود "حميد
عرف فيه الفضاء بـ« الفضاء كمعادل للمكان :يفهم
السردي" والذي َّ لحمداني" في كتابه " بنية َّ
النص َّ
الفضاء في هذا التصور ،على أنه الحيز الحكائي في الرواية أو الحكي عامة ،ويطلق عليه عادة
الفضاء الجغرافي ( ،)13(»)Lespace géographiqueالمالحظ َّأننا وجدنا "حميد لحمداني" استعمل
أن ِّ
"الحيز" وهو المصطلح نفسه الذي استعمله "عبد الملك مرتاض" وأشرنا لذلك سابقا ،حتى َّ مصطلح
الباحث ليعتقد َّ
أن "مرتاض" هو السبَّاق الستعمال المصطلح ،لكن "حميد لحمداني" من خالل هذا
اإلطالع تمكنت أن استخلص َّأنه السبَّاق الستعمال مصطلح ِّ
"الحيز" مقابال للفضاء.
َّ
بمخططات، وفصل الحديث في آراءهم َّ
ومثل لها اعتمد "لحمداني" على دراسات الغربيين َّ
والفضاء الجغرافي(،)géographique Espace الفضاء ِّ
الروائي: الفضاء تقسيمات وأبرز
Espace ( ِّ
الداللي والفضاء (،)Idiologéme واأليديولوجيم َّ
النصي(،)Espace Textual
،)14()Sémantiqueوالفضاء ِّ
الروائي عند "لحمداني" ليس مقابال للمكان كما عند "محمد عزام"؛ بل
«الفضاء أشمل وأوسع من معنى المكان ،والمكان بهذا المعنى هو مكوِّن الفضاء ( )...إنه العالم
الواسع الذي يشمل مجموع األحداث الروائية ،فالمقهى أو المنزل أو الشارع أو الساحة ،كل منها ُّ
يعد
الروائي (الفضاء -الزمن -الشخصية) ،المركز الثقافي العربي ،بيروت والدَّار البيضاء ،ط ،1990 ،1ص.27 حسن بحراوي ،بنية َّ
الشكل ِّ ()11
حميد لحمداني ،بنية النص السردي من منظور النقد األدبي ،المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع ،بيروت والدار البيضاء ،ط،1991 ،1 ()13
ص.53
ينظر :المرجع نفسه ،ص.62 ()14
27
www.madjalate-almayadine.com العدد األول مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية
مكانا محددا ،ولكن إذا كانت الرواية تشتمل هذه األشياء كلها فإنها جميعا تشكل فضاء الرواية»(،)15
فمفهوم الفضاء عند "لحمداني" ليس معادال للمكان بل الفضاء أوسع وأشمل لألمكنة التي يأتي ذكرها
النص ِّ
الروائي. ِّ
متفرقة في متن َّ
إن دراسة الفضاء في رواية "دم الغزال" على الوجه الذي ذكرناه تُستقى من الخطاب ِّ
الروائي؛ َّ
باللغة اإلبداعية في متون النصوص ،ولهذا فال يمكن استجالء معالم يتشكل ُّ
َّ ألن الفضاء ِّ
الروائي َّ
الهامة التي َّ
شكلت سمة َّ الرواية –مدار التَّحليل -بمعزل عن األحداث ()évenements
الفضاء في ِّ
للرواية ،و ُّ
الشخوص ( )personagesالمشاركة في األحداث ،سواء كانت متآلفة فيما بينها أم سردية ِّ
الشخوص من منظور موقف الكاتب. النظر ( )points de vueالتي تُ ِّ
مثلها ُّ متصارعة ،ووجهات َّ
ترمز المقبرة في المخيال العربي إلى المكان الموحش الذي تنتهي فيه حياة البشر ،وهي
المكان المحتوم على ِّ
كل نفس فانية أن تنزل به ،وقد َّ
شكل حضور المقبرة في رواية "دم الغزال"
حميد لحمداني ،بنية النص السردي من منظور النقد األدبي ،ص.63 ()15
آمنة بلعلى ،المتخيل في الرواية الجزائرية من المتماثل إلى المختلف ،ص.78 ()16
جابر عصفور ،زمن الرواية ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،القاهرة ،مصر ،ط ،1999 ،1ص.12 ()17
28
www.madjalate-almayadine.com العدد األول مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية
السرد ،وحمولة مشحونة بسمات العنف والفجيعة ،بداية بالعنوان "دم الغزال"
حضو ار مركزيا لخطيَّة َّ
النص ،فالدم رمز التَّضحية والجريمة والحروب ،وداللة العتبة النَّصية التي ِّ
تمثل مفتاحا لفتح أبواب َّ
انتصار القوي على الضعيفَّ ،
ثم عنوان الفصل األول من الرواية "وما قتلوه وما صلبوه "..وهو تناص
السالم ،لكن القارئ وبتوالي القراءة يجد مفارقة سردية
قصة سيدنا عيسى عليه َّ
قرآني تستحضر به َّ
"محمد بوضياف" وأجواء تشييعه إلى مثواه
َّ للعنوان الجزئي ،فيجد سردا تراجيديا لمقتل رئيس الجزائر
السرد فظا فظاظة الواقع ،بداية من تصوير حال المقبرة «المقبرة مترامية
بمقبرة الشهداء ،حيث ينطلق َّ
تضم في حناياها العدد العديد من أبناء مدينتنا البحرية الضخمة ( )...قبالتي مربع يضم قبو ار
األطراف ُّ
رخامية فخمة هي قبور العظماء الشهداء»( ،)18ومن هذا يتجلى لنا َّ
أن مكان المقبرة بالعاصمة
السارد من خالل هذا َّأنه ذات ِّ
موجهة للقارئ ( sujet الجزائريَّة والمقبرة هي "مقبرة العالية" ،يبدو َّ
أن َّ
السارد ضج ارالسرد تزداد نفسيَّة َّ ُّ
وبتقدم َّ )modelمن خالل االهتمام بجغرافية المكان وتضاريسه،
"النخبة السياسية" التي يسميها َّ
"اللعنة السياسية" والذين وتضايقا من المكان الذي يتواجد فيه لتواجد ُّ
اجتمعوا في المقبرة لبرهة ليعودوا بعد اجتماعهم إلى التنابز ِّ
السياسي والمعارضات فيما بينهم ،ويحيل
اللعنة واألزمة التي َّ
حلت بالجزائر. النخبة السياسية هي سبب َّ
أن ُّ
بهذا َّ
السارد بـ"القامات الزرقاء الرقطاء"؛ « إنها زرقة متعمدة بل هي أما أفراد ُّ
الشرطة فيصفهم َّ َّ
مفتعلة بغاية بث الذعر في النفوس ،الرؤوس حاسرة والشعر ال يكاد يبلغ األذنين ،رجال مدربون حقا
شك في َّ
أن هذه الفئة ( )...في تشكيلة ليس لها وجود إال زمن الحروب والغدر واالغتياالت»( ،)19فال َّ
السارد -تُثير الرعب والذعر في نفوس المواطنين« ،ال شك أن هناك عقوال شيطانية -من منظور َّ
درست لغة الخوف والرعب زمنا طويال لتخرج بمثل هذه األشكال واأللبسة»( ،)20وهي ِّ
تمثل بيادًقا في
أيدي َّ
الحكام ،فجلي َّ
أن فضاء المقبرة بوجود "القامات الزرقاء" اكتسى رعبا أكثر من الرعب والخوف
الطبيعي المألوف في المقابر ،ووجودهم في المقبرة أيضا هو خوف "النخبة السياسية" من انفالت
األوضاع داخل المقبرة.
ِّ
المشيعون الذين ساروا إلى المقبرة فهم مئات األلوف ويقارب الموقف بأنَّه «مشهد أخروي.. أما
َّ
ِّ
المشيعون للجنازة كان رهيبا وهذا يدل على َّإنه مشهد الحشر غير َّ
أن العقاب غير موجود»( ،)21فتدافع
المصور في المقبرة ال
َّ شعبية الرئيس وما يحظى به من احترام لدى شعبه ،كما َّ
أن الموقف الدنيوي
29
www.madjalate-almayadine.com العدد األول مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية
أن الموقف الدنيوي انفلت منه الجناة دون عقاب ،وهو ِّ
المهول سوى َّ يختلف عن المشهد األخروي
الرواية :من يقتل من؟ ،فالجثث تتساقط يوميا ،والمقابر تتَّسع يوميا.
السؤال الذي أُثير في ِّ
يعمل "مرزاق بقطاش" في تصوير األحداث في المقبرة على تشويه ومسخ صورة النخبة
السياسية وأفراد الشرطة لتقبيحها لدى القارئ ،وهو ما يتناسب وصورة المقبرة ،فقد حلل ما جرى في
المقبرة من وجهات نظر واقعية (واقعية المكان وجنازة المقتول) ،وفكرية سياسية (مواقف النخب
السياسية) ،وفلسفية (من يقتل من؟)َّ ،
وتجلت لنا الذات المتكلِّمة ( )Dictumفي تصوير هذه األحداث
ذات حائرة بدت تتهاوى داخليا لشعورها بثقل العالم وحجم المأساة ،وهو ما جعله ُي ِّ
صور األحداث في
مكان ِّ
يمثل نهاية الحياة "المقبرة".
والمقبرة عند "مرزاق بقطاش" هي مساحة وهمية تجمع كل المتناقضات من أحياء وأموات ،ولو
ِّقدر للموتى أن يقوموا من قبورهم لعادوا إلى الصراع فيما بينهم( ،)22وحضور الجنائز يوميا في المقابر
أما نحن ومشاهدة المراسيم م ار ار لم يعد ُيؤثر في َّ
النفس ،فربط المقبرة بالموت للجميع حتى نفسه « َّ
فنقتل اليوم وغدا وبعد غد وال يمكن أن نوصف إال بالوحوش ،حتى الوحوش تحترم ضحاياهاَّ ،إنها
أما نحن فنرميها بالرصاص في الظهر والقفا على الرغم من َّأنها طعنت في
تتعامل معها بنبل وشرفَّ ،
ِّ
السن»(.)23
تحولت المقبرة من مكان للهدوء إلى مكان الهرج والمرج والخوف ،وزاد تصوير عنف مقتل
لقد َّ
بوضياف قمة التراجيديا والمأساةَّ ،
وشكل الموت والتَّقتيل معادال موضوعيا للمقبرة التي أحالت للعجائبي
أيضا (َّ ،)le merveilleux
ومثلت المقبرة تعالًقا نصيًّا ( )corrélation textuelleمع َفصلي ِّ
الرواية
اآلخ َرين.
َ
الذات َّ
المثقفة مثل المستشفى في رواية "دم الغزال" فضاء مغلقا ،ومظه ار من مظاهر انكسار َّ َّ
ً
الحالمة بالبحوث العلميَّة ،يقول "مرزاق بقطاش" «ال أبحث عن التراجيديا ،فأنا التراجيديا بالذات،
ِّ
المؤسس لعلم جديد "علم الجنائز"؛ «إنه علم حقيقي وأنا التراجيديا التي تمشي على قدميها»( ،)24وهو
30
www.madjalate-almayadine.com العدد األول مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية
()25
السرد يحيل إلى صدمة القدر الذي جعل "مرزاق
واضعه وينبغي أن ندرسه في الجامعات ، »..فهذا َّ
بقطاش" مجنونا ،ومضطربا عقليا ،وضحيَّة كاد أن يفارق الحياة.
راهن األديب في روايته على فضاء "المستشفى" ليمِّثل الخطاب الهذياني من خالل اعتقاد
مقربيه إصابته بالجنون « ،لم يعد هناك شك في جنونه بالنسبة ألفراد أسرته ،العملية الجراحية هي
السبب»( ،)26ومعالجته موضوع الموت واالنتقال بين المواضيع و َّ
الربط بينها ،وهذا ما جعلهم يودعونه
مصحة عقليَّة مع المرضى« ،هل أنا مجنون حقا؟»()27؛ سؤال الحيارى و َّ
المثقف المستهدف وقت َّ في
فالسارد يدخل
المصحة العقلية َّ
َّ ِّ
التسعينيَّاتَّ ،
ألنهم يناضلون بأقالمهم ويدينون الواقع المزري ،أما في
النفسي وقدرته على شفاء المرضى عقليا، المصحة حول جدوى ِّ
الطب َّ َّ في جدال ِّ
طبي مع طبيبتي
وبعد انتهاء جلسة المعالجة يذهب لمجالسة المرضى« ،البعض منهم أطراف عيونهم متورمة بسبب
عمليات التنويم المستمرة ،وبعضهم اآلخر يدخنون دون توقف ،قال في نفسه :في الحقيقة علم
الجنازات يبدأ من هذا المكانَ .أو ليست هذه المصحة عبارة عن مقبرة من المقابر؟»(َّ ،)28إنها رسوم
كاريكات ورية لنماذج بشرية ضحايا الواقع ،وفضاء المستشفى ال يختلف عن فضاء المقبرة في نظر
الكاتب؛ بل "المستشفى" انطالقة فعلية لتوسيع ِّ
حيز التراجيديا في المدينة.
لقد َّ
مثل الجنون في ِّ
الرواية طقسا احتفاليا في نظر "مرزاق بقطاش" ،وليس إسقاطا مرضيا كما
أن الجنون لعبة أكاديمية يراه َّ
الناس ،وهو بهذا يقترب من تعريف الجنون عند "ميشيل فوكو" الذي يرى َّ
وهو موضوع للخطابات ،فالمجنون َّ
يتحدث عن نفسه من خالل نفسهُ ،يدان ويدافع عن نفسه ،ويطالب
المصحة العقلية ويحال
َّ أن يكون قريبا من السعادة والحقيقة والعقل( ،)29وهو السبب الذي جعله يدخل
إلى مصحة أخرى للعالج.
مثل "المستشفى" موطنا ألركيولوجيا األلم ،والذي ُيقصد به عند "ميشيل فوكو" «البحثكما َّ
تصور لنا غربة َّ
الذات اإلنسانيَّة مع الطابع ِّ المعمق في متون الوقائع أو الوثائق التاريخية ،التي
َّ
وتجسدت أركيولوجيا األلم في
َّ اإلكراهي لهذه الجماعة والتي تجعله في خصام ال ينقطع مع ذاته»(،)30
ينظر :ميشيل فوكو ،تاريخ الجنون في العصر الكالسيكي ،ترجمة وتقديم :سعيد بن ك ارد ،المركز الثقافي العربي الدَّار البيضاء ،المغرب ،ط،2006 ،1 ()29
ص36
ينظر :ميشيل فوكو ،جنيالوجيا المعرفة ،تر :أحمد السطاتي ،وعبد السالم بن عبد العالي ،ط ،2دار توبقال للنشر ،الدار البيضاء-المغرب ،2008 ،ص ()30
.22
31
www.madjalate-almayadine.com العدد األول مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية
"المستشفى" من خالل إصابة "مرزاق بقطاش" برصاصة في الرأس أفقدته القدرة على الكالم وأصابته
في ِّ
فكه «لقد خرجت الرصاصة ،انفلتت ،لم يعد لها أثر في دماغك يا هذا! هناك ثقبان صغيران
()31
جسد مالمحه
أحدهما أسفل القفا وثانيها في مستهل الفك األيمن» ،لقد كان اإلحساس باأللم شعوريا َّ
"مرزاق بقطاش" في المستشفى العسكري "بعين النعجة" وهو فضاء عرضي ( )paratopiqueغير بعيد
عن منزله القريب من مقبرة "العالية" بين "باب الزوار والحراش"ِّ ،
يحدد موقعه فيقول« :المستشفى
العسكري :في الجهة الشرقية من مدينة الجزائر العظيمة من مدينة القراصنة ،من هذه المساحة التي
دوخت أوربا بأكملها في مرحلة من ملراحل التاريخ»( ،)32وهو مقطع عرضي يرجع القارئ لزمن جزائر
رياس البحر وبسط قوتها على البحر األبيض المتوسط قبل فترة االنكسار والت ُّ
حطم.
َّ
مثل المستشفى أيضا ِّ
حي از لصراع "مرزاق بقطاش" مع الموت ومع األلم ومع المرض ،يصف
معاناته من األلم فيقول عن تطبيب جرحه« :يغرز ابرته في قفاي ليخيط الثقب ،ليسد سدا منيعا ،آه
منك ياذا القرنين! أنت تفرغ قط ار على ثقب أحدثه قوم ياجوج وماجوج ،وال بد أن تأتي ُبزَب ِّر الحديد
لتضع بها حدا بين اإلنسان والشر لتنشئ صناعة الخير من جديد في هذه الدنيا»( ،)33يظهر تشبُّث
الكاتب بالحياة ِّ
وحبها ومقاومته لأللم ،لكن تراجيديا الموت ،و"علم الجنائز" الذي كان يكتب عنهما
ويبحث عنهما ،جعاله يعيش الموقف ويتخبَّط فيهَّ ،إنه داللة على انتشارهما في كل األرجاء واألفضية،
حتى في «عالم المدن حيث تنشأ الديكتاتوريات»(.)34
32
www.madjalate-almayadine.com العدد األول مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية
خاتمة:
للسلطة فترة
ممجد ُّ -لقد َّ
مثلت المدينة الجزائرية فضاء روائيا إلدانة العنف والخطاب ال ِّّ
عينيات ،وقد احتوت مظاهر العنف والدموية التي عصفت بكل ما تبقى من مظاهر التمدُّن ال ِّّتس َّ
السير نحو ُّ
التفتح على اآلخر. ومحاوالت َّ
ُّ
وتحطم الرؤية الحالمة بعالم مدني وجسدت رواية "دم الغزال" الواقع المأساوي للمدينة
َّ -
أما العنف فكان حاض ار
فصورت تراجيديا الموت ،والجنائزية في مدينة الجزائر "العاصمة"ّ ، ِّّ
متحضرَّ ،
الرصاص المدوي الذي كان ال يخطئ أهدافه.باستحضار الكاتب ألحداث أكتوبر1988م ،وأصوات َّ
ِّّ
المكبر" التصوير الواقعي و َّ
التشخيص العيني َّ
الدقيق "المنظار -غلب على رواية "دم الغزال" َّ
الكتاب تأريخ األحداث و َّ
التعبير من وجهات نظرهم. للتفاصيل ،وهذا محاولة من َّ
َّ
33
www.madjalate-almayadine.com العدد األول مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية
ّأوال) المصادر:
34
www.madjalate-almayadine.com العدد األول مجلة الميادين للدراسات في العلوم اإلنسانية
35