You are on page 1of 16

‫"نحن" و"هم" ومأزق الثقافة الديمقراطية في عصر الثورة‬

‫كلمة الدكتور عزمي بشارة االفتتاحية في المؤتمر السنوي الثاني في موضوع‬


‫األمة"‬
‫اطي" بعنوان "مسائل المواطنة والدولة و ّ‬
‫"اإلسالميون ونظام الحكم الديمقر ّ‬
‫ّ‬

‫فندق ريتز كارلتون الدوحة‪8902/90/82 :‬‬


‫المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‬

‫عن األجندات البحثية‬

‫ٍ‬
‫ألسباب مختلفة سياسية جيوستراتيجية‪ ،‬وثقافية‪ ،‬دينية وغير دينية‪ ،‬ازدهرت في العقود الثالثة األخي ةر‬
‫وغالبا ما أُجريت‬
‫ً‬ ‫اكز كاملة‪.‬‬
‫األبحاث حول الموضوعات المتعلقة باإلسالم والديمقراطية‪ ،‬وتخصصت فيها مر ُ‬
‫ات أكاديمي ٍة غربي ٍة ومراكز بحثية ذات عالقة بالمؤسسة‬
‫األبحاث وأُقر تمويلُها بناء على أجندات مؤسس ٍ‬
‫ً‬
‫بناء على جدول‬ ‫ٍ‬
‫السياسية في الغرب من جهة‪ ،‬والمؤسسات اإلعالمية من جهة أخرى‪ .‬وقلما ُبحث الموضوع ً‬
‫مسارين ال ثالث‬
‫ْ‬ ‫أعمال التحول الديمقراطي في الوطن العربي نفسه‪ .‬أما في السياق العربي‪ ،‬فقد اتخذ البحث‬
‫لهما‪ ،‬يفترض أن يقود أولهما إلى تفسي ٍر "لالستثنائية العربية" في سياق موجة التحول الديمقراطي العالمية‬
‫بتحميل المسؤولية لإلسالم‪ ،‬ويفترض أن يقود الثاني إلى تبرئة اإلسالم من هذه التهمة‪ ،‬بتفسير ٍ‬
‫ات نظرية حول‬
‫وهمي مثل موضوع المسيحية والديمقراطية‪ ،‬والبوذية‬‫ٌ‬ ‫توافق اإلسالم والديمقراطية‪ .‬والموضوع برمته‬
‫فغالبا ما تتحول واو‬
‫تفسيرها بالعلم‪ .‬ولهذا ً‬
‫ُ‬ ‫والديمقراطية‪ .‬و ُاو العطف هنا توهم بوجود عالقة‪ .‬وهذه ال يمكن‬
‫العطف في مثل هذه الحاالت إلى "واو العاطفة"‪.‬‬

‫وبالمجمل كان علينا أن نشرح ونبرر لماذا ال يحصل تحو ٌل ديمقراطي في العالم العربي‪ .‬وهذه من‬
‫أيضا‬
‫الحاالت النادرة التي ال ُيكتفى فيها بتحميل العلوم االجتماعية مسؤولية تفسير ظاهرة‪ ،‬بل ُيطلب منها ً‬
‫أن تفسر غياب ظاهرة‪ ،‬وهو ما قد ُيفقد البحث بوصلته العلمية‪ ،‬فينزلق إلى الشطح الفكري والتأويل‪ ،‬أي‬
‫يحوله إلى ٍ‬
‫علم في الغيب والغائب‪ ،‬من مثل أن نشرح لماذا لم تنشأ الديمقراطية أو الرأسمالية في بالدنا‪ ،‬مع‬
‫أن العلوم االجتماعية ال تكاد توفر لنا األدوات لنشرح لماذا نشأت في أوروبا‪ ،‬فما بالك بشرح سبب عدم‬
‫نشوئها في أماكن أخرى!‬

‫‪1‬‬
‫المؤتمر السنوي الثاني في موضوع "اإلسالميون ونظام الحكم الديمقراطي"‬

‫ٍ‬
‫رئيس‬ ‫مسار آن األوان لمراجعته‪ ،‬هو مسار مقاربة الثقافة السياسية كعائق‬
‫البحث ًا‬
‫ُ‬ ‫وبالمجمل‪ ،‬اتخذ‬
‫جزئي لصحتها‪ ،‬من نوع أن اإلسالم هو‬‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بفحص‬ ‫عادة‬
‫أمام التحول الديمقراطي‪ ،‬وهي الفرضية األولى‪ .‬وُيكتفى ً‬
‫ٍ‬
‫ثقافات سياسية‬ ‫الثقافة السياسية أو المكون الرئيس فيها‪ .‬وأقصى ما يصل إليه الفحص هنا ذلك التمييز بين‬
‫وبناء على التوزيع الطبقي والجغرافي من جهة‪ ،‬وأيديولوجيات الحركات‬ ‫ً‬ ‫بناء على أنماط التدين‪،‬‬
‫إسالمية ً‬
‫ًّ‬
‫موضوعيا ولم يخلط الثقافة بالصفات الثابتة شبه العرقية؛‬ ‫اإلسالمية من ٍ‬
‫جهة أخرى‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬هذا إذا كان‬
‫دور‬
‫ي في التحول الديمقراطي؛ والثّالثة أن الدين يلعب ًا‬ ‫والفرضية الثّانية أن الثقافة السياسية عام ٌل مصير ٌّ‬
‫الرابعة أن األحزاب السياسية اإلسالمية تيارات‬
‫أكبر من األيديولوجيات األخرى في صنع الثقافة السياسية‪ .‬و ّ‬
‫دينية قبل أن تكون أحزًابا سياسي ًة أيديولوجي ًة مثل بقية األحزاب األيديولوجية‪ ،‬سواء كان ذلك على مستوى‬
‫يمكن بسهولة أن نبين عبر العمل اإلحصائي‬
‫ُ‬ ‫تمسكها بالفكرة أو تخل يها عنها في الممارسة البراغماتية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫شعوب أخرى‪ ،‬أن الفارق في‬ ‫المسحي واألدوات التحليلية النظرية السوسيولوجية المكتسبة باستقراء تجارب‬
‫جة أقل على‬‫فارق ضئيل؛ ويصح ذلك بدر ٍ‬ ‫الثقافة السياسية الشعبية بين المتدين وغير المتدين في مجتمعاتنا ٌ‬
‫القصد بعبا ةر "فعل الدين في الثقافة السياسية"‪،‬‬
‫ُ‬ ‫مستوى النخب‪ .‬كما يمكن أن نبين بأدو ٍ‬
‫ات نظرية أنه إذا كان‬
‫أيضا يتجاوزهم إلى غير المتدينين‪،‬‬
‫تأثير الموروث التاريخي الديني‪ ،‬فإن تأثيره ال يقتصر على المتدينين وانما ً‬
‫العربية أن االستبداد في منطقتنا‪ ،‬سواء كان‬
‫ّ‬ ‫فهو يؤثر في ثقافة المجتمع ككل‪ .‬وسبق أن كتبت في المسألة‬
‫ًّ‬
‫علمانيا يستند إلى الموروث الحضاري ذاته‪ ،‬ويستخدم األدوات الحديثة نفسها في الحكم في الوقت‬ ‫ًّ‬
‫دينيا أو‬
‫ذاته‪ ،‬كما يمر بالتفاعالت ذاتها مع الحضارات والمجتمعات األخرى‪.‬‬

‫ي للمتدينين والعلمانيين على ٍّ‬


‫حد سواء؛ ألنه‬ ‫وال شك في نفسي أن فهم الموروث الحضاري ضرور ٌّ‬
‫"سلبا" التأثير السلبي فحسب‪ ،‬وانما االنفعال وردة الفعل السلبية‪.‬‬
‫يجابا‪ .‬وال أقصد بـ ً‬
‫سلبا وا ً‬
‫جميعا ً‬
‫ً‬ ‫يؤثر فيهم‬
‫أيضا االنفعال المستقبل الموجب الذي يغير في‬
‫إيجابا" التأثير اإليجابي فحسب‪ ،‬وانما ً‬
‫أيضا بـ " ً‬
‫وال أقصد ً‬
‫ضر في‬
‫التراث ويعيد تفسيره‪ .‬فالتراث ليس ت ارثًا إال في الحاضر‪ ،‬أما في سياقه التاريخي فهو ليس ت ارثًا بل حا ٌ‬
‫اث في ضوء الحاضر‪ ،‬وفي ضوء فهم المعاصرين فقط‪ ،‬واستدعائهم له‪ .‬وهذا الحضور‬
‫زمانه‪ .‬التراث تر ٌ‬
‫ٍ‬
‫سياق تاريخي مختلف عن‬ ‫ويفهم في‬ ‫ًّ‬
‫جذريا عما كان عليه في األصل؛ إذ ُيق أرُ ُ‬ ‫تغيير‬
‫ًا‬ ‫معا يغيرانه‬
‫والفهم ً‬

‫‪2‬‬
‫المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‬

‫وتأويالت ور ٍ‬
‫غبات معاصرة‪ .‬فهو إ ًذا ذاتُه حين ال‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫إسقاطات‬ ‫ٍ‬
‫وبمصطلحات لم تكن قائمة؛ ويضفي عليه‬ ‫سياقه‪،‬‬
‫يكون ذاته‪.‬‬
‫ُ‬ ‫اث حين ال‬
‫يكون ت ارثًاـ وهو تر ٌ‬

‫وبناء على تجربة األعوام القليلة الماضية الدالة بحكم انطالق ديناميات عملية التحول‬
‫ً‬ ‫أخيرا‪،‬‬
‫و ً‬
‫حلة جديدة‪ ،‬يمكن أن نبين أن ثقافة المجتمعات السياسية لم تكن‬ ‫حلة إلى مر ٍ‬
‫االجتماعي الكبرى من مر ٍ‬

‫منفعال‪ ،‬ال سيما حين فضلت النخب‬


‫ً‬ ‫عنصر‬
‫ًا‬ ‫فاعال في إعاقة التحول الديمقراطي‪ ،‬بقدر ما كانت‬
‫عنصر ً‬
‫ًا‬
‫نخبا على مستوى المنطقة أو على مستوى كل دولة على حدة‪،‬‬
‫المناهضة للتحول الديمقراطي‪ ،‬سواء كانت ً‬
‫ًّ‬
‫سياسيا‪ .‬وهذا ينطبق على األحزاب‬ ‫تعبئة الناس ضد الخصم إلفشاله على الحوار معه أو االكتفاء بمعارضته‬
‫المتنافسة‪ .‬ففي خضم الصراع في مرحلة التحول قامت أوساطٌ واسعة من النخب السياسية واإلعالمية بتجهيل‬
‫بدال من تنويرهم‪ ،‬وأقدمت على مخاطبة غرائزهم بدال من عقولهم‪ ،‬ولم تتورع عن استخدام الكذب البواح‬
‫الناس ً‬
‫إذا لزم لتجنيد الناس ضد التحول الديمقراطي‪ .‬فمن يتحمل المسؤولية في مثل هذه الحالة؟ ضعف ثقافة‬
‫ال جمهور الديمقراطية‪ ،‬أم ثقافة النخب المعادية للديمقراطية؟‬

‫الثقافة السياسية الهشة للقواعد الشعبية قابلة للتعبئة ضد مبادئ الديمقراطية‪ ،‬وهذا طبيعي في‬
‫ٍ‬
‫مجتمعات لم تتمرس بالعمل الديمقراطي‪ ،‬ولم تتشرب قيمه‪ ،‬أو تنشأ عليها‪ .‬ولكن المسؤولية تقع على من لم‬
‫يتورع عن تعبئة المجتمعات ضد هذه المبادئ‪ ،‬واستخدام التجهيل ذخي ًرة له ضد خصمه‪ ،‬بدل تحمل‬
‫المسؤولية عن التحول الديمقراطي كعملية بناء‪ ،‬هي ذاتها مسؤولية وطنية‪.‬‬

‫التمييز بين‬
‫ُ‬ ‫مطلوبا‬
‫ً‬ ‫جديدا‪ .‬إذ لم يعد‬
‫بعدا ً‬
‫لهذا نقول‪ :‬تتخذ اإلشكاليات والقضايا هذه في أيامنا بالذات ً‬
‫الثقافة السياسية للمتدين وغير المتدين‪ ،‬بغض النظر عن جدوى هذا التمييز وأهميته لغايات البحث العلمي‬
‫ٍ‬
‫سياسات تهدف إلى تجذير الثقافة الديمقراطية‪ .‬وانما السؤال الذي يشغلنا اآلن هو الثقافة السياسية‬ ‫ولوضع‬
‫للتيارات واألحزاب السياسية القائمة سواء كانت دينية أو غير دينية‪ ،‬وفعل هذه الثقافة في قواعدها‬
‫الجماهيرية‪ .‬ومن الظلم (والظلم في العلوم هو االنتقائية في اختيار المعطيات لتالئم الفرضيات‪ ،‬والتلفيقية‬
‫وغياب الموضوعية في المنهج‪ ،‬والتعميمات غير المنضبطة في االستقراء) أن نقصر بحثنا على الثقافة‬
‫أيضا‪،‬‬
‫ان لمراجعة الثقافة السياسية لليسار واليمين وللتيارات القومية ً‬
‫السياسية للتيارات اإلسالمية؛ وانما آن األو ُ‬

‫‪3‬‬
‫المؤتمر السنوي الثاني في موضوع "اإلسالميون ونظام الحكم الديمقراطي"‬

‫تاريخيا لم يكن ديمقر ًّ‬


‫اطيا‬ ‫ًّ‬ ‫وبهتانا باللبراليين‪ .‬فحتى الل برالي‬
‫ً‬ ‫زور‬ ‫وكذلك ثقافة من ُيسمون عن ٍّ‬
‫حق‪ ،‬أو ًا‬
‫بالضرورة في أوروبا القرن التاسع عشر؛ فما بالُك بالمتلبرل المستجد الذي يجهل‪ ،‬أو يتجاهل أن ال معنى‬
‫لهذه الكنية إذا كان حاملها ال يدافع عن الحريات المدنية‪ ،‬والذي ال يعرف من اللبرالية وأصولها ومبادئها‬
‫سوى التعصب لنمط ٍ‬
‫حياة محدد ال عالقة له بالحرية والتحرر‪ ،‬وال يفقه منها سوى العداء للدين‪ ،‬وان كان‬
‫العداء ليس من مبادئها وال من أصولها التاريخية أو النظرية؟‬

‫ثم علينا أن نبحث في العوائق الرئيسة أمام التحول الديمقراطي كما تبين‪ ،‬وكما كنا نشخصها قبل‬
‫وثانيا‪ ،‬تفاعلُها مع الريوع‬
‫جهاز األمن؛ ً‬
‫ُ‬ ‫وفسادها‪ ،‬وفي مقدمتها‬
‫ُ‬ ‫أوال‪ ،‬أجهزة الدولة البيروقراطية‬
‫الثورات‪ ،‬وهي ً‬
‫النفطية وغير النفطية الفاعلة سياسيا وثقافيا على مستوى اإلقليم بصيغة تعاضد الدول والقوى االجتماعية‬
‫الرجعية المعادية للتحول الديمقراطي‪.‬‬

‫"نحن" و"هم"‬

‫وهموم نا البحثية‪ ،‬أو باللغة التقنية أجندتُنا‪ ،‬متمحورةٌ حول التحوالت الجارية في المنطقة‬
‫ُ‬ ‫أقول هذا‬
‫اطي يضمن مشاركة المواطنين في العملية السياسية‪ ،‬ويضمن‬ ‫يمكن أن تقود إلى تحو ٍل ديمقر ٍّ‬
‫ُ‬ ‫العربية‪ ،‬وكيف‬

‫معا‪ ،‬وحقوق المواطنة التي باتت تشمل الحقوق االجتماعية والثقافية إضافةً‬
‫آن ً‬‫الحريات المدنية األساسية في ٍ‬
‫إلى الحريات‪ ،‬أي تحول يشمل البعد اللبرالي والبعد الديمقراطي‪ ،‬كما يشمل الضمانات االجتماعية الالزمة‬
‫على مستوى السياسات االجتماعية والتنمية البشرية‪.‬‬

‫ٍ‬
‫مناسبات عن رأيي في أن انقسام المجتمعات العربية بين علمانيين‬ ‫وكنت قد عبرت في عدة‬
‫ومتدينين‪ ،‬أو قوى سياسية علمانية وقوى سياسية دينية (وهو األدق ألن الناس ليسوا إما علمانيين أو متدينين)‬

‫‪4‬‬
‫المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‬

‫مجتمعي يمنع التعددية‪ .‬واالنقسام العمودي المجتمعي الذي يمنع‬


‫ٍ‬ ‫ال يقود إلى تعددية سياسية بل إلى شرٍخ‬
‫التعددية السياسية هو االنقسام إلى ُهويات‪ ،‬أو ما أسميته في مناسبة أخرى‪" ،‬نحن" و"هم"‪.‬‬

‫والتعددية السياسية‪ ،‬أيها األخوات واإلخوة‪ ،‬هي تعددية داخل "نحن"‪ ،‬وليس بين "نحن" و"هم"‪.‬‬
‫وبغض النظر عن عوامل التماسك االجتماعي فـ "نحن" بالنسبة إلى النظام الديمقراطي هي مجموع‬
‫المواطنين‪ .‬وتتعدد القوى السياسية المتنافسة على نيل ثقتهم ألن لها وجهات ٍ‬
‫نظر مختلفة حول مصالح هذه الـ‬
‫أبناء الوطن وبناتُه نتقبل في داخلنا التعددية‬
‫"نحن"‪ ،‬وليس على قسمتهم بين "نحن" و"هم"‪" .‬نحن" المواطنون ُ‬
‫ٍ‬
‫عامل مشترك هو الثقة الناجمة عن االنتماء إلى وحدة مصالح مواطنية بالحد األدنى‪" .‬نحن"‬ ‫بسبب وجود‬
‫المصرية ثارت ضد االستبداد‪ ،‬وتقبلت في داخلها التعددية في ثورة ‪ 25‬يناير في الوقت ذاته‪ .‬وكان االستبداد‬
‫"هم"‪ .‬وكانت الموقف منه يضعف كلما ثارت شجون تقارب الرئيس كأب وكأخ في إطار "نحن" هالمية أهلية‬
‫بطريركية‪ ،‬تقوم على ديماغوية وطنية‪ ،‬وتنعدم فيها التعددية وتسود فيها وحدة مصير موهومة بين الديكتاتورية‬
‫بعدو‬
‫والرعية‪ .‬ونح ن نشهد محاولةً إلعادة إنتاجها في مقابل "هم" المتمثلة هذه المرة ليس باالستبداد‪ ،‬وال ٍّ‬
‫اجتماعي شعبي واسع‪ ،‬بدأ باإلخوان المسلمين وقواعدهم االجتماعية‪ ،‬واتسع وصار يتألف‬
‫ٍّ‬ ‫بقطاع‬
‫ٍ‬ ‫جي‪ ،‬بل‬
‫خار ٍّ‬
‫من كل من يعارض ديماغوغيا تحويل عبادة الجيش إلى دين جديد‪.‬‬

‫جعيا ًّ‬
‫قيميا يقبل التعددية في داخله فقط‪ ،‬ويعتبر اآلخر غير‬ ‫إطار مر ًّ‬
‫"نحن" في مقابل "هم" تعني ًا‬
‫عدوا متجس ًدا في‬
‫شرعي إال في إطار "هم" خارج الـ "نحن"‪ ،‬هذا في حالة وجود تسامح‪ .‬وقد يكون اآلخر ًّ‬
‫كيان سياسي هو دولة عدو‪ ،‬أو يكتسب شرعيته فقط إذا تحول إلى ٍ‬
‫كيان سياسي مستقل بعالقات غير‬ ‫ٍ‬
‫عدوانية‪ .‬فـ "هم" هذه تكتسب شرعية ككيان خارج الدولة‪ ،‬أو في مجالها المحدد داخلها‪ ،‬إذا نشأت في الدولة‬
‫أطر توافقية‪ .‬أما إذا تولدت "هم" في إطار التنافس السياسي داخل ٍ‬
‫كيان سياسي مشترك‪ ،‬فإن الصراع‬ ‫ٌ‬
‫واالستقطاب يحكمان العالقة بين "نحن" و"هم"‪.‬‬

‫في هذه الحالة تستورد جدلية العدو والصديق إلى داخل الكيان السياسي‪ .‬ومن هنا‪ ،‬وفي إطار مسعى‬
‫ٍ‬
‫ودول خارجية ومؤامرات‪ .‬ألن تسهيل تخيل تهديد‬ ‫الـ "نحن" إلنتاج اآلخر كـ "هم"‪ ،‬يجري ربط اآلخر بقوى‬

‫‪5‬‬
‫المؤتمر السنوي الثاني في موضوع "اإلسالميون ونظام الحكم الديمقراطي"‬

‫حقيقي من عدو حقيقي يتطلب أن يصاغ ٍ‬


‫كدول وكيانات سياسية أخرى‪ ،‬وال بد من ربط الخصم السياسي بها‬
‫فعال‪.‬‬
‫لتحويله إلى "هم" ً‬

‫وفي حالة العداء ال يعني التواصل بين "نحن" و"هم" إال التحريض ونشر الشائعات واآلراء المسبقة‬
‫بدال من النقاش والحوار‪ .‬وألن المعايير األخالقية تصح داخل "نحن"‪ ،‬وال تصح بالنسبة‬
‫والتنميطات العصابية ً‬
‫وخالفا لما ُيروج في‬
‫ً‬ ‫إلى اآلخر‪ ،‬فإن الكذب يصبح مبرًرا‪ ،‬وكذلك تبادل القبل وضمر الشر في الوقت ذاته‪.‬‬
‫الثقافة اإلعالمية‪ ،‬فإن ازدواجية المعايير هنا ال تُ ُّ‬
‫عد رذيل ًة بل سياسة بالمعنى السلبي لكلمة سياسة كما أورثه‬
‫كارل شميت للسياسة المعاصرة كجدلية العدو والصديق‪.‬‬

‫السياسة هنا تعني نقل جدلية العدو والصديق إلى السياسة الداخلية لتحل محل التعددية السياسية‪،‬‬
‫وحتى محل التعددية األهلية للمجتمعات التقليدية‪ .‬فما يصح لـ "نحن" ال يصح لـ "هم"‪ .‬وال يصح تعميم حتى‬
‫اإلعالم وحتى المؤامرة الكونية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫األمن والجيش و‬
‫ُ‬ ‫يالم‬
‫الحق في الحياة وادانة القتل‪ .‬فإذا قُتل متظاهر "منا"‪ُ ،‬‬
‫مظهره وشكلُه الذي‬ ‫وجوده في ذلك المكان‪ ،‬ومنها‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫مختلفة منها‬ ‫ٍ‬
‫بأشكال‬ ‫احد منهم يقع اللوم عليه‬
‫واذا قُتل و ٌ‬
‫ُ‬
‫فوضويا أو إر ًّ‬
‫هابيا؛‬ ‫ًّ‬ ‫تدريج المختلف بفكرة أنه "ال يشبهني" ليصل إلى درجة أنه يبدو‬
‫ُ‬ ‫يوحي بأنه مختلف‪ ،‬ويبدأ‬
‫نساؤنا يمارسن حرية المرأة على جسدها‪ ،‬أما نساؤهم فيمارسن جهاد النكاح‪ .‬أو‬
‫أيضا‪ُ .‬‬
‫ومنها المؤامرة الكونيةُ ً‬
‫اجتماعيا‪ .‬واذا التقى أحد"نا" مع ٍ‬
‫سفير أجنبي‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬
‫أخالقيا و‬ ‫ت‬
‫فمنحال ٌ‬
‫العكس‪ ،‬نسا ُؤنا يمارسن الجهاد أما نساؤهم ْ‬
‫إنجاز وطني؛ واذا التقاه أحد"هم" فهو خائن بغض‬
‫ٌ‬ ‫فهذه ضرورات وبراغماتية سياسية‪ ،‬وفي بعض الحاالت‬
‫اغماتي‬
‫ٌّ‬ ‫ٍ‬
‫تهديد وسلم سالحه لألميركان فإنه بر‬ ‫النظر عن سياق اللقاء وأهدافه‪ .‬واذا تراجع أحد"نا" عند أول‬
‫وكاذب؛ أما إذا وقع أحد"هم" اتفاق‬
‫ٌ‬ ‫وهمي‬
‫ٌّ‬ ‫سياسي‬
‫ٌ‬ ‫انتصار‬
‫ٌ‬ ‫ويصطنع حتى‬
‫حاذق فوت الفرص على المعتدين‪ُ ،‬‬
‫ٍ‬
‫مقاومة باسلة فهو مفرط في الحقوق‪ ،‬بغض النظر عن الظروف‪.‬‬ ‫وقف إطالق النار بعد‬

‫ٍ‬
‫جماعة عصبوية‪ ،‬وهي تعيق التعددية‬ ‫تؤسس عالقة "نحن" و"هم" لمعايير مختلفة‪ ،‬وتتسق مع إنتاج‬
‫فهم ذلك في حالة "نحن" في مقابل االستبداد‪ ،‬وهذه حالة الثورة الشعبية كما‬
‫السياسية في اإلطار ذاته‪ .‬ويمكن ُ‬
‫في الصراع على الحياة والموت إبان الثورة‪ ،‬ويمكن فهم "نحن" و"هم" في حالة الحرب التي تجري التهيئةُ لها‬

‫‪6‬‬
‫المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‬

‫انقسام المواطنين خالل عملية التحول الديمقراطي إلى "نحن"‬


‫ُ‬ ‫بالتعبئة والتجييش وكتم التعددية الداخلية‪ .‬أما‬
‫ٍ‬
‫بخطر محدق بالديمقراطية ذاتها‪.‬‬ ‫و"هم"‪ ،‬وتحريض القوى السياسية‪ ،‬وتعبئةُ اإلعالم على ذلك‪ ،‬فتنذر‬

‫أيديولوجي يتحول إلى هوية تشك ل مرجعي ًة سياسية مثل‬


‫ٍّ‬ ‫سياسي أو‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫خالف‬ ‫ُّ‬
‫يصح هذا على كل‬
‫منفصال وسردي ًة تاريخي ًة خاص ًة بها‪ ،‬واذا ُجعلت‬
‫ً‬ ‫تاريخا‬
‫ً‬ ‫سيست‪ ،‬أو حملت‬
‫الطوائف والجماعات الثقافية إذا ُ‬
‫أبدا أن التعددية الثقافية ال تصح‪ ،‬وأن تعددية أنماط الحياة ال‬ ‫حياة ذا ٍ‬
‫بعد سياسي‪ .‬وليس المقصود بذلك ً‬ ‫نمط ٍ‬

‫تستقيم مع المجتمعات الديمقراطية‪ ،‬وانما أقصد تلك التي تحول إلى مرجعي ٍة ثقافية سياسية لتشكل هوي ًة‬
‫ٍ‬
‫بهدف سياسي هو تعبئتُها ضد المنافس الذي أصبح من اآلن‬ ‫معا‬ ‫سياسي ًة شمولية ونمط حياة في ٍ‬
‫آن ً‬
‫فصاعدا‪ ،‬الخصم والعدو‪.‬‬
‫ً‬

‫ات غير قائمة‪ .‬إنه يصنع هوي ٍ‬


‫ات لتبرير تحويل‬ ‫يفرض االنقسام الديني العلماني على المجتمع هوي ٍ‬

‫عناصر الشرخ االجتماعي ألنه يحول الصراع إلى صراع على‬‫ُ‬ ‫التنافس إلى عداء‪ .‬وتتوفر في هذا االنقسام‬
‫ٍ‬
‫عالمات له في المظهر الخارجي والسلوكي‪ .‬هذا ما دفعني إلى التأكيد على أن‬ ‫ويسهُل اصطناع‬
‫نمط الحياة‪ْ ،‬‬
‫ًّ‬
‫تنافسيا‪ ،‬بل ال بد أن يتحول إلى‬ ‫ًّ‬
‫سياسيا‬ ‫انقساما‬
‫ً‬ ‫االنقسام العلماني الديني ال يمكن أن يكون في مجتمعات نا‬
‫طرف فيها أن يسود اآلخر‪ ،‬أو أن ُيخضعه لهيمنته الثقافية والسياسية‪ ،‬هذا مع أن‬ ‫ٍ‬ ‫يحاول كل‬
‫ُ‬ ‫مو ٍ‬
‫اجهة‬
‫"الطرفين" المزعوم ْين علمانيان من حيث أهدافهما السياسية الدنيوية‪ ،‬وكالهما متدين من حيث ثقافة قواعده‬
‫الشعبية‪ .‬وال أدل على ذلك من سخرية الواقع نفسه من السياسيين‪ .‬وهو الذي دعا قيادة االنقالب العسكري‬
‫(الذي ُيصور وكأنه علماني ضد إسالميين) لالستعانة بفتاوى دينية في تبرير قتل المتظاهرين بوصفهم‬
‫ًّ‬
‫شعبيا بالعداء لألخونة تستخدم قيادتها‬ ‫خوارج‪ ،‬أو بوصفهم خارجين عن الملة‪ .‬هنا ثورة مضادة مبررة‬
‫العسكري فتاوى دينية تبرر القتل شرًعا‪ .‬أي أن الدين استُغل أسوأ استغالل يمكن تخيلُه‪ .‬لقد استُخدم في‬
‫وبحجج دينية‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫السياسة ضد الخصوم‪ ،‬ولتبرير القتل بالذات‪،‬‬

‫‪7‬‬
‫المؤتمر السنوي الثاني في موضوع "اإلسالميون ونظام الحكم الديمقراطي"‬

‫التيارات األيديولوجية والديمقراطية‬

‫تذكرون الحوارات الطويل ة التي جرت طوال العقد األخير من القرن العشرين بين أطراف المجتمع‬
‫السياسي العربي الداعية إلى الديمقراطية والمحذرة منها‪ ،‬ألنها قد تأتي باإلسالميين‪ .‬لم ت ْجر هذه الحوارات‬
‫أسئلة وتساؤ ٍ‬
‫الت‬ ‫ٍ‬ ‫سر‪ ،‬وان كان المحذرون من خارج منظري أنظمة االستبداد القائمة يساجلون بخجل بصيغة‬ ‫ًّا‬
‫من نوع‪ :‬وما الضمان لعدم قدوم اإلسالميين إلى الحكم في حالة اختيار الحكام في انتخابات؟ وما الضمان‬
‫ٍ‬
‫بانتخابات أخرى؟ أليست الديمقراطية بالنسبة إليهم سل ًما يصعدون به إلى الحكم ثم‬ ‫أنهم إذا حكموا سيسمحون‬
‫خطر من الدكتاتوريات العسكرية؟ لقد سال الحبر ُمهراقًا‬
‫يسحبونه إليهم؟ أليس الحكم الديني الشمولي أكثر ًا‬
‫وغالبا ما جرى االستشهاد بتجربة الجزائر إلى درجة أنها تستحق تسمية‬
‫ً‬ ‫على هذه النقاشات والمناظرات‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ناجمة عن االنقالب على العملية‬ ‫حرب أهلي ٍة‬
‫"متالزمة ال جزائر"‪ ،‬والتي لم تقد إلى حكم اإلسالميين بل إلى ٍ‬
‫االنتخابية‪ ،‬هذا إذا تناولنا الوقائع وحد ها من دون النوايا‪ .‬فنحن لم نعرف الكثير عن نوايا اإلسالميين هناك لو‬
‫حكموا قبل أن يتعرضوا للقمع والتنكيل‪ .‬وأخشى أنه في ما يتعلق بالموقف من الديمقراطية أصبح لإلسالميين‬
‫أثرا‪ .‬ففي األخيرة فاز اإلخوان‬
‫سردية‪ ،‬وهي تتضمن متالزمتين‪ ،‬متالزمة الجزائر؛ ومتالزمة مصر األبعد ً‬
‫فجهاز‬ ‫فعال‪،‬‬
‫اسما دون أن يحكم ً‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫رئيس مدة عام كامل‪ .‬وربما حكم ً‬
‫المسلمون في االنتخابات‪ ،‬وحكم من بينهم ٌ‬
‫ٍ‬
‫انتخابات ديمقراطي ًة نزيهة‪ ،‬وفازوا‬ ‫الدولة لم يتعاون مع الرئيس المنتخب في الواقع‪ .‬هنا خاضوا مؤخًار‬
‫جهاز الدولة القائم‪ ،‬أو ما يسمى‬ ‫باالنتخابات في جو ٍ‬
‫الت متعددة‪ .‬وفي النهاية‪ ،‬وفي السطر األخير لم يحترم ُ‬
‫هناك الدولة العميقة‪ ،‬هذه النتائج‪ ،‬ولم يتعاون مع الحكم المنتخب‪ ،‬وحين توفرت القاعدة الشعبية المتضررة‬
‫من مشكالت مرحلة التحول الصعبة وعدم استقرارها انقلب عليه‪ .‬وتحالفت معه في ذلك ًقوى سياسيةٌ كانت قد‬
‫خسرت االنتخابات‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‬

‫ٍ‬
‫إسقاطات على‬ ‫وكانت النتيجة إجهاض عملية التحول الديمقراطي في مصر‪ ،‬بما في ذلك من‬
‫ٍ‬
‫وجهات أخرى مازالت مجهول ًة‪ ،‬ألن الديناميكية‬ ‫المنطقة كلها‪ ،‬واالنحراف بمسار التحول الديمقراطي إلى‬
‫االجتماعية الناجمة عن االنقالب العسكري من ٍ‬
‫فعل وردود فعل ما زالت غير واضحة المعالم بصو ٍرة كاملة‬
‫اط غير منظمة في قواعد التيار‬‫حتى اآلن‪ .‬وأسوأ هذه االحتماالت دوام الحكم العسكري‪ ،‬واستنتاج أوس ٍ‬
‫ُ‬
‫اإلسالمي عانت من القبضة األمنية فشل المشاركة في العملية الديمقراطية واالنتقال إلى وسائل أخرى‪،‬‬
‫ومحاولة قوى الثورة المضادة في ٍ‬
‫دول أخرى تقليد التجربة المصرية‪.‬‬

‫مطلوبا من الحركات اإلسالمية منذ أن انطلقت عمليةُ اإلصالح السياسي في بعض‬


‫ً‬ ‫ما الذي كان‬
‫بلدان الوطن العربي‪ ،‬وظلت تتعثر دون أن تُفلت الديكتاتوريات زمام المبادرة منذ منتصف الثمانينيات وحتى‬
‫عام ‪2111‬؟‬

‫مطلوبا منها أن تقبل بالهامش الذي أتاحه اإلصالح‪ ،‬وأن تندمج في العملية السياسية‪ ،‬وأن تقبل‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫بالعملية الديمقراطية وسيل ًة للوصول إلى الحكم‪ .‬لم ُيطلب منها التخلي عن موروثها الفكري والثقافي‪ ،‬وال طُلب‬
‫منها التخلي عن أيديولوجيتها‪ ،‬وذلك ألن كل ٍ‬
‫عاقل يفترض أن االندماج في العملية السياسية‪ ،‬واتباع قنوات‬
‫التعاون والحوار‪ ،‬والتنافس مع تيار ٍ‬
‫ات سياسية أخرى في ٍ‬
‫أطر أوسع‪ ،‬ال بد أن تؤثر في النهاية في‬
‫فالفكر واأليديولوجية ال يتغيران بقرٍار بل‬
‫ُ‬ ‫األيديولوجية نفسها‪ .‬وهذه هي أ بجديات ما يدعى بالتغذية الراجعة‪.‬‬
‫بالتدريج وفي البراكسيس االجتماعي والسياسي الملموس ذاته‪ .‬وكما أن األهداف والظروف تقود إلى اختيار‬
‫الوسائل‪ ،‬فإن الوسائل تؤثر في مستخدميها أكثر مما يعتقد هؤالء المستخدمون‪.‬‬

‫انشقاقات وتغير ٍ‬
‫ات‬ ‫ٍ‬ ‫غالبا ما تؤدي إلى‬ ‫ٍ‬
‫ويؤدي هذا في نهاية األمر إلى إجراء مراجعات أيديولوجية ً‬
‫في بنية الحركات السياسية ذاتها‪ .‬وهو ما جرى في الحركة االشتراكية األوروبية في نهاية القرن التاسع عشر‬
‫بعدا عن الديمقراطية البرلمانية بوصفها في نظرها شكل ممارسة‬
‫وبداية القرن العشرين‪ ،‬إذ كانت أكثر ً‬
‫دكتاتورية الرأسمالية‪ ،‬من ُبعد الحركات اإلسالمية عنها في أيامنا‪ .‬ولكن اندراجها في إطار العمل السياسي‬
‫العلني النقابي والبرلماني‪ ،‬واتاحة اليمين الفرصة لها للمساهمة في إدارة الدولة‪ ،‬وحتى في قضايا الحرب‬
‫فعال‪ ،‬والى‬ ‫اكيا ديمقر ًّ‬
‫اطيا ً‬ ‫والسالم‪ ،‬أديا إلى تغير أيديولوجية التيار الرئيس في الحركة االشتراكية ليصبح اشتر ًّ‬

‫‪9‬‬
‫المؤتمر السنوي الثاني في موضوع "اإلسالميون ونظام الحكم الديمقراطي"‬

‫انفصال الحركة الشيوعية المؤمنة بدكتاتورية البروليتاريا التي انتهت إلى دكتاتورية من دون بروليتاريا‪ .‬ولكن‬
‫حتى األحزاب الشيوعية في الغرب استنتجت ضرورة مراجعة نهجها بعد انفضاح حجم كارثة الستالينية‪،‬‬
‫ٍ‬
‫خالف عميق مع الكتلة‬ ‫ونشأت كما تعلمون الشيوعية األوروبية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته‪ ،‬في‬
‫السوفييتية‪ ،‬وذلك بقيادة الحزب الشيوعي اإليطالي‪ .‬كانت تلك صيرو ةر جرت من خالل المشاركة في العملية‬

‫الديمقراطية ذاتها‪ .‬وانطلقت المراجعة الفكرية من خالل الحوار مع الواقع‪ ،‬واالضطرار إلى مالءمة اللغة‬
‫فرق شاسع بين‬
‫السياسية معه‪ ،‬وعقلنتها نتيجةً لنشوء ما يسميه هبرماس بفضاء الممارسة التواصلية‪ .‬فثمة ٌ‬
‫خطاب تعبوي موجه للمؤيدين في ٍ‬
‫ناد حزبي مغلق‪ ،‬أو في العمل السري‪ ،‬وبين التوجه إلى الجمهور العام في‬ ‫ٍ‬
‫قادر على‬ ‫ٍ‬
‫بحجج يفترض أن تكون مقنعة لآلخرين‪ ،‬وبلغة سياسية وبرامج تثبت أن صاحبها ٌ‬
‫ٍ‬ ‫وسائل اإلعالم‬
‫إدارة الدولة بتعقيدات هذه اإلدارة؛ ومشكلة الحركات األيديولوجية العربية في هذا السياق أنها حين تخاطب‬
‫جمهور أوسع بكثير نتيجةً لوجود الكاميرا‪،‬‬
‫ًا‬ ‫أحيانا أن وسائل اإلعالم موجودة‪ ،‬وأنها تخاطب‬
‫ً‬ ‫جمهورها تنسى‬
‫أقدر على‬ ‫ٍ‬
‫وأنها بذلك تهدم الثقة وتخرب عمل سنوات من تغيير الصورة والخطاب‪ .‬ومشكلتُها الثانية أنها ُ‬
‫ٍ‬
‫حلول للمشكالت التي تعاني منها الدولةُ والمجتمع‪.‬‬ ‫ات تعبوية في معارضة الخصوم‪ ،‬من طرح‬ ‫صوغ شعار ٍ‬
‫ْ‬
‫فاإلسالم هو الحل‪ ،‬واالشتراكية هي الحل‪ ،‬والقومية هي الحل‪ ،‬وحتى الديمقراطية هي الحل‪ ...‬جميعها‪ ،‬على‬
‫ات أيد يولوجية فضفاضة تتميز عن بعضها‪ ،‬ولكنها لم تعد تعني الكثير إذا‬
‫الرغم من الفوارق فيما بينها‪ ،‬شعار ٌ‬
‫ٍ‬
‫حلول عينية‪.‬‬ ‫نهجا متميًاز عن غيره‪ ،‬وامتحانه قدرته على وضع‬
‫لم تكن ً‬

‫وتبقى القضية األهم في هذا السياق أن الحركات األيديولوجية العربية‪ ،‬بيسارها ويمينها‪ ،‬وقومييها‬
‫اصال في الفضاء العمومي‪ ،‬أي عبر الممارسة السياسية للخطاب‪ ،‬ألن االستبداد لم‬
‫واسالمييها‪ ،‬لم تمارس تو ً‬
‫يتح لها الفرصة لذلك‪ .‬وظلت مراجعاتُها نظريةً‪ ،‬أثبت الواقع أنها سطحية وهشة‪ .‬فمن السهل أن تكون‬
‫ي‪ ،‬وأن تتنصل‬ ‫محكوما من نظام ديكتاتور ٍّ‬
‫ً‬ ‫معارضا‬
‫ً‬ ‫معارضا وأن تطالب بالديمقراطية‪ ،‬ومن السهل أن تكون‬
‫ً‬
‫من تاريخ الدكتاتوريات التي كنت تدعمها‪ .‬ينطبق هذا على ذلك الجزء من اليسار الذي لم يكن ديمقر ًّ‬
‫اطيا‪،‬‬
‫ووقف ضد الديمقراطية في ٍ‬
‫دول عديدة‪ ،‬وغير رأيه بعد انهيار المنظومة االشتراكية‪ ،‬أو خالل هذا االنهيار‪،‬‬
‫ناجمة عن الممارسة‪ .‬وينطبق ذلك بدر ٍ‬
‫جة أكبر على‬ ‫ٍ‬ ‫أي أنه تغير بعوامل خارجية‪ ،‬وليس بفعل قن ٍ‬
‫اعات عميقة‬
‫القومي ين الذين حسبنا أنهم قاموا بمر ٍ‬
‫اجعة لمراحل وجودهم في الحكم‪ ،‬فإذا بهم وفي خضم نشوء التحالفات مع‬

‫‪11‬‬
‫المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‬

‫جهاز الدولة القديم للتخلص من خصومهم يقدسون أسوأ مظاهر مرحلة حكم التيار القومي‪ ،‬أال وهو الطابعُ‬
‫ات الجوفاء‪ ،‬ويهملون الجانب اإليجابي في تلك الفترة‪،‬‬
‫األمني العسكري المستهتر بحقوق اإلنسان‪ ،‬والشعار ُ‬
‫الحقوق االجتماعية‪ ،‬واحترُام الفئات الشعبية‪ ،‬حتى في مرحلة الصراع‬
‫ُ‬ ‫البعد المتعلق بمشروع بناء األمة‪ ،‬و‬
‫وهو ُ‬
‫وزج بأعضائها في غياهب السجون‪.‬‬ ‫مع الحركات اإلسالمية في حينه‪ ،‬والتي اضطُهدت ولوحقت ُ‬

‫أكثر ديمقراطيةً أو ليبراليةً من اآلخر‪.‬‬


‫ليس في األحزاب األيديولوجية العربية من يمكنه االدعاء أنه ُ‬
‫ًّ‬
‫مستعدا للتحالف مع جهاز الدولة القديم‪ ،‬وحتى مع فلول‬ ‫وحين لم يتمكن من الحكم وحده‪ ،‬كان ٌّ‬
‫كل منها‬
‫النظام القديم إللحاق الهزيمة بالطرف اآلخر بعد الثورة‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فإننا نرى أنه في ظل غياب الثقة بالثقافة‬
‫ًّ‬
‫دستوريا بغض‬ ‫السياسية للنخب الحزبية ال بد من عوامل إلزٍام أولها االلتزُام باحترام مبادئ الديمقراطية المقرة‬
‫النظر عن أيديولوجية الحزب الحاكم؛ والثاني تفضيل الشراكة في المراحل االنتقالية على االنفراد بالحكم لكي‬
‫تراقب األحزاب السياسية بعضها وتوازن بعضها‪ ،‬خالل عملية إدارة مرحلة االنتقال وادارة الدولة إلى أن‬
‫تفرض المبادئ الديمقراطية نفسها كإجماع يسمح باالنقسام بين ٍ‬
‫حكم ومعارضة من دون التخلي عن هذه‬
‫المبادئ في سبيل تحقيق مكاسب في الخصومة‪.‬‬

‫يبرز سببان رئيسان إ ًذا لضرورة التحالف في المرحلة االنتقالية؛ ّأولهما منع حصول شرٍخ يؤدي إلى‬
‫انقسام المجتمع على مستوى الهوية‪ ،‬وبالتالي إلى احتر ٍ‬
‫اب تبرر فيه الغاية الوسيلة بدل التنافس بوسائل‬
‫سلفا‪ .‬وثانيهما‪ ،‬غياب الثقة بالثقافة الديمقراطية لكل ٍ‬
‫حزب من األحزاب؛‬ ‫مشروعة منضبطة ومجمع عليها ً‬
‫وأكرر‪ :‬غياب الثقة ليس فقط بالثقافة السياسية لألحزاب اإلسالمية‪ .‬فما شهدناه خالل مدة حكم اإلسالميين‬
‫استخداما ألدوات القمع ضد خصومهم السياسيين‪ ،‬ممن حكموا قبلهم‬ ‫القصير ًّ‬
‫جدا في مصر أنهم كانوا أقل‬ ‫ة‬
‫ً‬
‫في المجلس العسكري‪ ،‬وممن جاء بعدهم في تحالف االنقالب العسكري وخصومهم السياسيين‪ ،‬إذ قامت‬
‫أجهزة األمن قبل فترتهم القصيرة وبعدها باستخدام أعنف األدوات وأكثرها دمويةً ضد من شاركوا في‬
‫ٍ‬
‫حركات سياسية علمانية استخدام‬ ‫االحتجاج السياسي‪ ،‬حتى لو كان هذا االحتجاج بالكلمة‪ .‬كما شهدنا تبرير‬
‫ٍ‬
‫حاالت أخرى‪.‬‬ ‫العنف والقتل ضد المتظاهرين في حاالت‪ ،‬وادانتهما واستنكارهما في‬

‫‪11‬‬
‫المؤتمر السنوي الثاني في موضوع "اإلسالميون ونظام الحكم الديمقراطي"‬

‫كل ٍ‬
‫حزب الثورة فرصةً للوصول‬ ‫وفي ظل غياب الثقافة السياسية الديمقراطية للنخب الحزبية‪ ،‬اعتبر ُّ‬

‫إلى الحكم‪ ،‬وليس فرص ًة لبناء الديمقراطية‪ .‬وقاد هذا المنطلق إلى أسوأ االحتماالت وهي اغتنام جهاز الدولة‬
‫الفرصة لالنقضاض على السلطة‪.‬‬

‫ومع ذلك‪،‬‬

‫ًّ‬
‫ضروريا‪ .‬وهذا هو موضوعنا‪ .‬وأذكر أن موضوعنا ليس اإلسالم‬ ‫كالم خاص بالحركات اإلسالمية ما زال‬
‫ثمة ٌ‬
‫ات السياسية اإلسالمية والديمقراطية‪ .‬وهذا‬
‫موضوعنا هو التيار ُ‬
‫ُ‬ ‫والديمقراطية‪ .‬فهذا األخير موضوعٌ وهمي‪.‬‬
‫موضوعٌ حقيقي يمكن معالجته باألدوات العلمية‪.‬‬

‫الدساتير المكتوبة وغير المكتوبة‪ .‬ولكن بعضها‪ ،‬إذا لم‬


‫ُ‬ ‫يمكن أن تتغير عبر الزمن‪ ،‬وتضبطها‬
‫ُ‬ ‫أمور كثيرة‬
‫ٌ‬
‫صحيحا‪ ،‬فإن التطور ومرور الزمن قد يغيرانه لألسوأ‪ ،‬ألن المسار كان قد انحرف عن‬
‫ً‬ ‫نحى‬
‫يأخذ من البداية م ً‬
‫الوجهة التي تقود إلى الهدف منذ لحظة االنطالق‪ .‬وهو يبتعد عنه كلما تقدم منه‪.‬‬

‫ومن ضمن هذه القضايا‪:‬‬

‫حزب سياسي بواقعية وبنجاح في العمل‬


‫ٌ‬ ‫ّأوًال‪ ،‬قضية اإلطار المرجعي لألمة والمواطنة؛ ال يمكن أن يتعامل‬
‫أصال‪ .‬إن اإلطار المرجعي‬
‫السياسي الديمقراطي‪ ،‬إذا لم يستوعب ويذوت مرجعية العمل السياسي الديمقراطي ً‬
‫للعمل السياسي الديمقراطي هو الدولة الوطنية التي تشكل أم ًة غير األمم الدينية والثقافية‪ ،‬وغير القومية؛ إنها‬
‫أمةُ المواطنين‪ .‬وهذا ال ُينقص من شأن الدين والقومية‪ ،‬وال من دورهما في تأسيس المشترك الثقافي داخل‬
‫الدولة ومع محيطها‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‬

‫المواطنة هنا صفةٌ عامة تنطبق على الرجل والمرأة‪ ،‬وعلى المتدين وغير المتدين‪ ،‬وعلى المسلم وغير المسلم‪.‬‬
‫مسلما مع غير المسلمين بصفتهم غير مسلمين في المجال الديني‪ ،‬أو ربما في‬ ‫ً‬ ‫يتعامل المسلم بصفته‬
‫ُ‬ ‫قد‬
‫مجال األحوال الشخصية في قضايا حساسة مثل الزواج وغيره‪ .‬أما الحركة السياسية الديمقراطية‪ ،‬فال تقسم‬
‫المواطنين بين ر ٍ‬
‫جال ونساء‪ ،‬ومؤمنين وغير مؤمنين‪ ،‬أو مسلمين وغير مسلمين‪ ،‬بل هي تتعامل مع‬
‫المواطنين بصفتهم هذه‪.‬‬

‫شخص من غير دينه‪ ،‬فقد يتسامح مع عقيدته أو مع نمط حياته أو مع مذهبه‪ ،‬إذا‬ ‫ٍ‬ ‫مسلم مع‬
‫حين يتعامل ٌ‬
‫التسامح هنا فضيلةٌ من الفضائل‪ .‬أما الحركةُ السياسية الديمقراطية‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫مذهب مختلف‪ .‬و‬ ‫كان من الدين نفسه ومن‬
‫أصال‬
‫مسموحا لها ً‬
‫ً‬ ‫في إطار النظام الديمقراطي‪ ،‬فهي ال تتسامح مع غير المسلم بإقرارها بالمساواة له‪ ،‬وليس‬
‫فضال منها وال منة‪ ،‬وال معنى هنا‬
‫ً‬ ‫أن تتسامح‪ ،‬إنما هي ُملزمةٌ أن تعترف بحقوقه كمواطن‪ ،‬وهذا ليس‬
‫ٍ‬
‫حركة ديمقراطية وغير ديمقراطية‪.‬‬ ‫أحد الفروق المهمة بين‬
‫للتسامح‪ .‬وهذا ُ‬

‫وحين يتوجه رئيس ٍ‬


‫دولة بضمير المتكلم الجمعي "نحن"‪ ،‬فال يجوز أن ُيفهم من كالمه "نحن المسلمون"‪ ،‬أو‬ ‫ُ‬
‫"نحن السنة" أو الشيعة‪ ،‬حتى لو كان متديًنا وا ًّ‬
‫سالميا له أيديولوجيته‪ .‬وحينما يقول "نحن" بصفة رئيس دولة‬
‫مفهوما أنه يقصد "نحن المواطنون"‪ .‬هذه األمور ُيفترض أن تكون من األولويات والبديهيات‪.‬‬
‫ً‬ ‫يجب أن يكون‬
‫النقاشات األخرى حول الحقوق االجتماعية والسياسية‪ ،‬وحول نمط النظام‬
‫ُ‬ ‫وعلى أساس االتفاق عليها تجري‬
‫االقتصادي‪ ،‬وحول السياسة الخارجية‪ ،‬وغيرها من القضايا الكبرى التي يفترض أنها موضع خال ٍ‬
‫ف بين‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫األحزاب في الديمقراطيات‪.‬‬

‫اب محلي ودولي باستحواذ المجال‬


‫تمييز الحدود بين الخاص والعام‪ .‬ثمة استغر ٌ‬
‫ُ‬ ‫ثانيا‪،‬‬
‫ومن ضمن هذه القضايا ً‬
‫الخاص المتعلق بحياة المواطن على تفكير حركة سياسية‪ ،‬وعلى تفكير قواعدها االجتماعية‪ .‬هذا العنصر‬
‫ٍ‬
‫لقطاعات واسعة من الناس إذا وضعته حركة سياسية في‬ ‫ًّ‬
‫مركزيا ومحرًكا‬ ‫على هامشيته السياسية يص بح‬
‫صوغ الدساتير‪ ،‬وفي خطابها الحزبي‪ ،‬بما في ذلك في إطار تعبئة القواعد ضد اآلخرين‪،‬‬
‫صلب اهتمامها عند ْ‬
‫ٍ‬
‫كشكل من‬ ‫وكأن الحركة ما زالت تعيش في مرحلة الصراع ضد االستعمار‪ ،‬وما زالت ترى في أنماط الحياة‬
‫ًّ‬
‫اقتصاديا‪ ،‬وال من حيث إرادتها‬ ‫ًّ‬
‫سياسيا‪ ،‬ولم تستقل‬ ‫األقطار العربية‬
‫ُ‬ ‫أشكال النفوذ االستعماري‪ .‬لقد استقلت‬

‫‪13‬‬
‫المؤتمر السنوي الثاني في موضوع "اإلسالميون ونظام الحكم الديمقراطي"‬

‫ٍ‬
‫محدق بثقافتها العربية اإلسالمية‪ ،‬إال من االستبداد‪ .‬وان الفرض والقسر‬ ‫ٍ‬
‫خطر‬ ‫السيادية‪ .‬ولكن ليس من‬
‫ٍ‬
‫مجاالت سلوكية متعلقة بالمجال الخاص ونمط الحياة في إطار الحياة السياسية الديمقراطية قد‬ ‫واإلمالء في‬
‫بدال من أهلهم‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫حركة سياسية ديمقراطية تربية األبناء ً‬ ‫هدف‬
‫ُ‬ ‫تقود إلى ردة ٍ‬
‫فعل متطرفة ونتائج معاكسة‪ .‬فليس‬
‫وال ُيفترض أن تتدخل في العالقات األسرية‪ ،‬وفي مأكل الناس ومشربهم وملبسهم في مجالهم الخاص‪ .‬وهو‬
‫مجا ٌل متوسع باستمرار ويرتبط بالعالقة الوثيقة بين حرية االختيار واألخالق واإليمان‪ .‬واذا قلنا مواطن‪ ،‬فقد‬
‫أقررنا بوجود ٍ‬
‫مجال خاص للفرد‪ ،‬مرتبط بجسده ونفسه‪ ،‬وبحرية خياراته األخالقية طالما لم تتعارض مع حرية‬
‫اآلخرين وحقوقهم‪.‬‬

‫وفي هذا السياق‪ ،‬ال بأس أن ُنجري مراجعةً للثقافة والموروث الحضاري العربي اإلسالمي في مسألة‬
‫المواطنة والدولة واألمة‪ ،‬وهل كان ثمة دولة بمعنى المصطلح الذي نقصده في عصرنا في التاريخ اإلسالمي‬
‫أمور أثرت برأيي (وما زالت تؤثر) في المسلمين وغير المسلمين‪،‬‬
‫الكالسيكي؟ وما هي الدولة الحديثة؟ كلها ٌ‬
‫عموما‪.‬‬
‫ً‬ ‫فرض ٍ‬
‫عين علمي بحثي؛ ألنها تؤثر في ثقافتنا السياسية‬ ‫ُ‬ ‫وفي المتدينين وغير المتدينين‪ .‬إن مراجعتها‬
‫ولكن حسم موضوع المواطنة واألمة بالمعنى أعاله في السلوك السياسي وفي الخطاب وفي البرنامج‪ ،‬سواء‬
‫كان هذا الخطاب موج ًها نحو القواعد الشعبية الخاصة بهذا التنظيم السياسي أو ذاك أو الجمهور بصو ٍةر‬
‫يات ملحة ال بد للقوى السياسية من حسمها قبل‬
‫عامة‪ ،‬ال ينتظر مثل هذه المراجعات‪ .‬إنها مهام مباشرة وتحد ٌ‬
‫خاطئا من أساسه‪ .‬أما إذا‬
‫ً‬ ‫مسار‬
‫ًا‬ ‫االنطالق‪ ،‬ألنه إذا حسمت هذه القضايا بصو ٍرة خاطئة‪ ،‬يتخذ التطور‬
‫ُحسمت بصو ٍرة صحيحة‪ ،‬فإن آفاق التطور تنفتح‪ ،‬وال بد أن تصل إلى الهدف‪ ،‬على الرغم من العوائق‬
‫والعثرات‪ ،‬ووعورة الطريق‪ ،‬وعلى الرغم من التضحيات الجسام‪.‬‬

‫‪14‬‬

You might also like