Professional Documents
Culture Documents
كلمة الدكتور عزمي الافتتاحية في المؤتمر السنوي الثاني - الإسلاميون والديمقراطية PDF
كلمة الدكتور عزمي الافتتاحية في المؤتمر السنوي الثاني - الإسلاميون والديمقراطية PDF
ٍ
ألسباب مختلفة سياسية جيوستراتيجية ،وثقافية ،دينية وغير دينية ،ازدهرت في العقود الثالثة األخي ةر
وغالبا ما أُجريت
ً اكز كاملة.
األبحاث حول الموضوعات المتعلقة باإلسالم والديمقراطية ،وتخصصت فيها مر ُ
ات أكاديمي ٍة غربي ٍة ومراكز بحثية ذات عالقة بالمؤسسة
األبحاث وأُقر تمويلُها بناء على أجندات مؤسس ٍ
ً
بناء على جدول ٍ
السياسية في الغرب من جهة ،والمؤسسات اإلعالمية من جهة أخرى .وقلما ُبحث الموضوع ً
مسارين ال ثالث
ْ أعمال التحول الديمقراطي في الوطن العربي نفسه .أما في السياق العربي ،فقد اتخذ البحث
لهما ،يفترض أن يقود أولهما إلى تفسي ٍر "لالستثنائية العربية" في سياق موجة التحول الديمقراطي العالمية
بتحميل المسؤولية لإلسالم ،ويفترض أن يقود الثاني إلى تبرئة اإلسالم من هذه التهمة ،بتفسير ٍ
ات نظرية حول
وهمي مثل موضوع المسيحية والديمقراطية ،والبوذيةٌ توافق اإلسالم والديمقراطية .والموضوع برمته
فغالبا ما تتحول واو
تفسيرها بالعلم .ولهذا ً
ُ والديمقراطية .و ُاو العطف هنا توهم بوجود عالقة .وهذه ال يمكن
العطف في مثل هذه الحاالت إلى "واو العاطفة".
وبالمجمل كان علينا أن نشرح ونبرر لماذا ال يحصل تحو ٌل ديمقراطي في العالم العربي .وهذه من
أيضا
الحاالت النادرة التي ال ُيكتفى فيها بتحميل العلوم االجتماعية مسؤولية تفسير ظاهرة ،بل ُيطلب منها ً
أن تفسر غياب ظاهرة ،وهو ما قد ُيفقد البحث بوصلته العلمية ،فينزلق إلى الشطح الفكري والتأويل ،أي
يحوله إلى ٍ
علم في الغيب والغائب ،من مثل أن نشرح لماذا لم تنشأ الديمقراطية أو الرأسمالية في بالدنا ،مع
أن العلوم االجتماعية ال تكاد توفر لنا األدوات لنشرح لماذا نشأت في أوروبا ،فما بالك بشرح سبب عدم
نشوئها في أماكن أخرى!
1
المؤتمر السنوي الثاني في موضوع "اإلسالميون ونظام الحكم الديمقراطي"
ٍ
رئيس مسار آن األوان لمراجعته ،هو مسار مقاربة الثقافة السياسية كعائق
البحث ًا
ُ وبالمجمل ،اتخذ
جزئي لصحتها ،من نوع أن اإلسالم هوٍّ ٍ
بفحص عادة
أمام التحول الديمقراطي ،وهي الفرضية األولى .وُيكتفى ً
ٍ
ثقافات سياسية الثقافة السياسية أو المكون الرئيس فيها .وأقصى ما يصل إليه الفحص هنا ذلك التمييز بين
وبناء على التوزيع الطبقي والجغرافي من جهة ،وأيديولوجيات الحركات ً بناء على أنماط التدين،
إسالمية ً
ًّ
موضوعيا ولم يخلط الثقافة بالصفات الثابتة شبه العرقية؛ اإلسالمية من ٍ
جهة أخرى ،وغير ذلك ،هذا إذا كان
دور
ي في التحول الديمقراطي؛ والثّالثة أن الدين يلعب ًا والفرضية الثّانية أن الثقافة السياسية عام ٌل مصير ٌّ
الرابعة أن األحزاب السياسية اإلسالمية تيارات
أكبر من األيديولوجيات األخرى في صنع الثقافة السياسية .و ّ
دينية قبل أن تكون أحزًابا سياسي ًة أيديولوجي ًة مثل بقية األحزاب األيديولوجية ،سواء كان ذلك على مستوى
يمكن بسهولة أن نبين عبر العمل اإلحصائي
ُ تمسكها بالفكرة أو تخل يها عنها في الممارسة البراغماتية.
ٍ
شعوب أخرى ،أن الفارق في المسحي واألدوات التحليلية النظرية السوسيولوجية المكتسبة باستقراء تجارب
جة أقل علىفارق ضئيل؛ ويصح ذلك بدر ٍ الثقافة السياسية الشعبية بين المتدين وغير المتدين في مجتمعاتنا ٌ
القصد بعبا ةر "فعل الدين في الثقافة السياسية"،
ُ مستوى النخب .كما يمكن أن نبين بأدو ٍ
ات نظرية أنه إذا كان
أيضا يتجاوزهم إلى غير المتدينين،
تأثير الموروث التاريخي الديني ،فإن تأثيره ال يقتصر على المتدينين وانما ً
العربية أن االستبداد في منطقتنا ،سواء كان
ّ فهو يؤثر في ثقافة المجتمع ككل .وسبق أن كتبت في المسألة
ًّ
علمانيا يستند إلى الموروث الحضاري ذاته ،ويستخدم األدوات الحديثة نفسها في الحكم في الوقت ًّ
دينيا أو
ذاته ،كما يمر بالتفاعالت ذاتها مع الحضارات والمجتمعات األخرى.
2
المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات
وتأويالت ور ٍ
غبات معاصرة .فهو إ ًذا ذاتُه حين ال ٍ ٍ
إسقاطات ٍ
وبمصطلحات لم تكن قائمة؛ ويضفي عليه سياقه،
يكون ذاته.
ُ اث حين ال
يكون ت ارثًاـ وهو تر ٌ
وبناء على تجربة األعوام القليلة الماضية الدالة بحكم انطالق ديناميات عملية التحول
ً أخيرا،
و ً
حلة جديدة ،يمكن أن نبين أن ثقافة المجتمعات السياسية لم تكن حلة إلى مر ٍ
االجتماعي الكبرى من مر ٍ
الثقافة السياسية الهشة للقواعد الشعبية قابلة للتعبئة ضد مبادئ الديمقراطية ،وهذا طبيعي في
ٍ
مجتمعات لم تتمرس بالعمل الديمقراطي ،ولم تتشرب قيمه ،أو تنشأ عليها .ولكن المسؤولية تقع على من لم
يتورع عن تعبئة المجتمعات ضد هذه المبادئ ،واستخدام التجهيل ذخي ًرة له ضد خصمه ،بدل تحمل
المسؤولية عن التحول الديمقراطي كعملية بناء ،هي ذاتها مسؤولية وطنية.
التمييز بين
ُ مطلوبا
ً جديدا .إذ لم يعد
بعدا ً
لهذا نقول :تتخذ اإلشكاليات والقضايا هذه في أيامنا بالذات ً
الثقافة السياسية للمتدين وغير المتدين ،بغض النظر عن جدوى هذا التمييز وأهميته لغايات البحث العلمي
ٍ
سياسات تهدف إلى تجذير الثقافة الديمقراطية .وانما السؤال الذي يشغلنا اآلن هو الثقافة السياسية ولوضع
للتيارات واألحزاب السياسية القائمة سواء كانت دينية أو غير دينية ،وفعل هذه الثقافة في قواعدها
الجماهيرية .ومن الظلم (والظلم في العلوم هو االنتقائية في اختيار المعطيات لتالئم الفرضيات ،والتلفيقية
وغياب الموضوعية في المنهج ،والتعميمات غير المنضبطة في االستقراء) أن نقصر بحثنا على الثقافة
أيضا،
ان لمراجعة الثقافة السياسية لليسار واليمين وللتيارات القومية ً
السياسية للتيارات اإلسالمية؛ وانما آن األو ُ
3
المؤتمر السنوي الثاني في موضوع "اإلسالميون ونظام الحكم الديمقراطي"
ثم علينا أن نبحث في العوائق الرئيسة أمام التحول الديمقراطي كما تبين ،وكما كنا نشخصها قبل
وثانيا ،تفاعلُها مع الريوع
جهاز األمن؛ ً
ُ وفسادها ،وفي مقدمتها
ُ أوال ،أجهزة الدولة البيروقراطية
الثورات ،وهي ً
النفطية وغير النفطية الفاعلة سياسيا وثقافيا على مستوى اإلقليم بصيغة تعاضد الدول والقوى االجتماعية
الرجعية المعادية للتحول الديمقراطي.
"نحن" و"هم"
وهموم نا البحثية ،أو باللغة التقنية أجندتُنا ،متمحورةٌ حول التحوالت الجارية في المنطقة
ُ أقول هذا
اطي يضمن مشاركة المواطنين في العملية السياسية ،ويضمن يمكن أن تقود إلى تحو ٍل ديمقر ٍّ
ُ العربية ،وكيف
معا ،وحقوق المواطنة التي باتت تشمل الحقوق االجتماعية والثقافية إضافةً
آن ًالحريات المدنية األساسية في ٍ
إلى الحريات ،أي تحول يشمل البعد اللبرالي والبعد الديمقراطي ،كما يشمل الضمانات االجتماعية الالزمة
على مستوى السياسات االجتماعية والتنمية البشرية.
ٍ
مناسبات عن رأيي في أن انقسام المجتمعات العربية بين علمانيين وكنت قد عبرت في عدة
ومتدينين ،أو قوى سياسية علمانية وقوى سياسية دينية (وهو األدق ألن الناس ليسوا إما علمانيين أو متدينين)
4
المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات
والتعددية السياسية ،أيها األخوات واإلخوة ،هي تعددية داخل "نحن" ،وليس بين "نحن" و"هم".
وبغض النظر عن عوامل التماسك االجتماعي فـ "نحن" بالنسبة إلى النظام الديمقراطي هي مجموع
المواطنين .وتتعدد القوى السياسية المتنافسة على نيل ثقتهم ألن لها وجهات ٍ
نظر مختلفة حول مصالح هذه الـ
أبناء الوطن وبناتُه نتقبل في داخلنا التعددية
"نحن" ،وليس على قسمتهم بين "نحن" و"هم"" .نحن" المواطنون ُ
ٍ
عامل مشترك هو الثقة الناجمة عن االنتماء إلى وحدة مصالح مواطنية بالحد األدنى" .نحن" بسبب وجود
المصرية ثارت ضد االستبداد ،وتقبلت في داخلها التعددية في ثورة 25يناير في الوقت ذاته .وكان االستبداد
"هم" .وكانت الموقف منه يضعف كلما ثارت شجون تقارب الرئيس كأب وكأخ في إطار "نحن" هالمية أهلية
بطريركية ،تقوم على ديماغوية وطنية ،وتنعدم فيها التعددية وتسود فيها وحدة مصير موهومة بين الديكتاتورية
بعدو
والرعية .ونح ن نشهد محاولةً إلعادة إنتاجها في مقابل "هم" المتمثلة هذه المرة ليس باالستبداد ،وال ٍّ
اجتماعي شعبي واسع ،بدأ باإلخوان المسلمين وقواعدهم االجتماعية ،واتسع وصار يتألف
ٍّ بقطاع
ٍ جي ،بل
خار ٍّ
من كل من يعارض ديماغوغيا تحويل عبادة الجيش إلى دين جديد.
جعيا ًّ
قيميا يقبل التعددية في داخله فقط ،ويعتبر اآلخر غير إطار مر ًّ
"نحن" في مقابل "هم" تعني ًا
عدوا متجس ًدا في
شرعي إال في إطار "هم" خارج الـ "نحن" ،هذا في حالة وجود تسامح .وقد يكون اآلخر ًّ
كيان سياسي هو دولة عدو ،أو يكتسب شرعيته فقط إذا تحول إلى ٍ
كيان سياسي مستقل بعالقات غير ٍ
عدوانية .فـ "هم" هذه تكتسب شرعية ككيان خارج الدولة ،أو في مجالها المحدد داخلها ،إذا نشأت في الدولة
أطر توافقية .أما إذا تولدت "هم" في إطار التنافس السياسي داخل ٍ
كيان سياسي مشترك ،فإن الصراع ٌ
واالستقطاب يحكمان العالقة بين "نحن" و"هم".
في هذه الحالة تستورد جدلية العدو والصديق إلى داخل الكيان السياسي .ومن هنا ،وفي إطار مسعى
ٍ
ودول خارجية ومؤامرات .ألن تسهيل تخيل تهديد الـ "نحن" إلنتاج اآلخر كـ "هم" ،يجري ربط اآلخر بقوى
5
المؤتمر السنوي الثاني في موضوع "اإلسالميون ونظام الحكم الديمقراطي"
وفي حالة العداء ال يعني التواصل بين "نحن" و"هم" إال التحريض ونشر الشائعات واآلراء المسبقة
بدال من النقاش والحوار .وألن المعايير األخالقية تصح داخل "نحن" ،وال تصح بالنسبة
والتنميطات العصابية ً
وخالفا لما ُيروج في
ً إلى اآلخر ،فإن الكذب يصبح مبرًرا ،وكذلك تبادل القبل وضمر الشر في الوقت ذاته.
الثقافة اإلعالمية ،فإن ازدواجية المعايير هنا ال تُ ُّ
عد رذيل ًة بل سياسة بالمعنى السلبي لكلمة سياسة كما أورثه
كارل شميت للسياسة المعاصرة كجدلية العدو والصديق.
السياسة هنا تعني نقل جدلية العدو والصديق إلى السياسة الداخلية لتحل محل التعددية السياسية،
وحتى محل التعددية األهلية للمجتمعات التقليدية .فما يصح لـ "نحن" ال يصح لـ "هم" .وال يصح تعميم حتى
اإلعالم وحتى المؤامرة الكونية،
ُ األمن والجيش و
ُ يالم
الحق في الحياة وادانة القتل .فإذا قُتل متظاهر "منا"ُ ،
مظهره وشكلُه الذي وجوده في ذلك المكان ،ومنها
ُ ٍ
مختلفة منها ٍ
بأشكال احد منهم يقع اللوم عليه
واذا قُتل و ٌ
ُ
فوضويا أو إر ًّ
هابيا؛ ًّ تدريج المختلف بفكرة أنه "ال يشبهني" ليصل إلى درجة أنه يبدو
ُ يوحي بأنه مختلف ،ويبدأ
نساؤنا يمارسن حرية المرأة على جسدها ،أما نساؤهم فيمارسن جهاد النكاح .أو
أيضاُ .
ومنها المؤامرة الكونيةُ ً
اجتماعيا .واذا التقى أحد"نا" مع ٍ
سفير أجنبي ًّ ًّ
أخالقيا و ت
فمنحال ٌ
العكس ،نسا ُؤنا يمارسن الجهاد أما نساؤهم ْ
إنجاز وطني؛ واذا التقاه أحد"هم" فهو خائن بغض
ٌ فهذه ضرورات وبراغماتية سياسية ،وفي بعض الحاالت
اغماتي
ٌّ ٍ
تهديد وسلم سالحه لألميركان فإنه بر النظر عن سياق اللقاء وأهدافه .واذا تراجع أحد"نا" عند أول
وكاذب؛ أما إذا وقع أحد"هم" اتفاق
ٌ وهمي
ٌّ سياسي
ٌ انتصار
ٌ ويصطنع حتى
حاذق فوت الفرص على المعتدينُ ،
ٍ
مقاومة باسلة فهو مفرط في الحقوق ،بغض النظر عن الظروف. وقف إطالق النار بعد
ٍ
جماعة عصبوية ،وهي تعيق التعددية تؤسس عالقة "نحن" و"هم" لمعايير مختلفة ،وتتسق مع إنتاج
فهم ذلك في حالة "نحن" في مقابل االستبداد ،وهذه حالة الثورة الشعبية كما
السياسية في اإلطار ذاته .ويمكن ُ
في الصراع على الحياة والموت إبان الثورة ،ويمكن فهم "نحن" و"هم" في حالة الحرب التي تجري التهيئةُ لها
6
المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات
تستقيم مع المجتمعات الديمقراطية ،وانما أقصد تلك التي تحول إلى مرجعي ٍة ثقافية سياسية لتشكل هوي ًة
ٍ
بهدف سياسي هو تعبئتُها ضد المنافس الذي أصبح من اآلن معا سياسي ًة شمولية ونمط حياة في ٍ
آن ً
فصاعدا ،الخصم والعدو.
ً
عناصر الشرخ االجتماعي ألنه يحول الصراع إلى صراع علىُ التنافس إلى عداء .وتتوفر في هذا االنقسام
ٍ
عالمات له في المظهر الخارجي والسلوكي .هذا ما دفعني إلى التأكيد على أن ويسهُل اصطناع
نمط الحياةْ ،
ًّ
تنافسيا ،بل ال بد أن يتحول إلى ًّ
سياسيا انقساما
ً االنقسام العلماني الديني ال يمكن أن يكون في مجتمعات نا
طرف فيها أن يسود اآلخر ،أو أن ُيخضعه لهيمنته الثقافية والسياسية ،هذا مع أن ٍ يحاول كل
ُ مو ٍ
اجهة
"الطرفين" المزعوم ْين علمانيان من حيث أهدافهما السياسية الدنيوية ،وكالهما متدين من حيث ثقافة قواعده
الشعبية .وال أدل على ذلك من سخرية الواقع نفسه من السياسيين .وهو الذي دعا قيادة االنقالب العسكري
(الذي ُيصور وكأنه علماني ضد إسالميين) لالستعانة بفتاوى دينية في تبرير قتل المتظاهرين بوصفهم
ًّ
شعبيا بالعداء لألخونة تستخدم قيادتها خوارج ،أو بوصفهم خارجين عن الملة .هنا ثورة مضادة مبررة
العسكري فتاوى دينية تبرر القتل شرًعا .أي أن الدين استُغل أسوأ استغالل يمكن تخيلُه .لقد استُخدم في
وبحجج دينية.
ٍ السياسة ضد الخصوم ،ولتبرير القتل بالذات،
7
المؤتمر السنوي الثاني في موضوع "اإلسالميون ونظام الحكم الديمقراطي"
تذكرون الحوارات الطويل ة التي جرت طوال العقد األخير من القرن العشرين بين أطراف المجتمع
السياسي العربي الداعية إلى الديمقراطية والمحذرة منها ،ألنها قد تأتي باإلسالميين .لم ت ْجر هذه الحوارات
أسئلة وتساؤ ٍ
الت ٍ سر ،وان كان المحذرون من خارج منظري أنظمة االستبداد القائمة يساجلون بخجل بصيغة ًّا
من نوع :وما الضمان لعدم قدوم اإلسالميين إلى الحكم في حالة اختيار الحكام في انتخابات؟ وما الضمان
ٍ
بانتخابات أخرى؟ أليست الديمقراطية بالنسبة إليهم سل ًما يصعدون به إلى الحكم ثم أنهم إذا حكموا سيسمحون
خطر من الدكتاتوريات العسكرية؟ لقد سال الحبر ُمهراقًا
يسحبونه إليهم؟ أليس الحكم الديني الشمولي أكثر ًا
وغالبا ما جرى االستشهاد بتجربة الجزائر إلى درجة أنها تستحق تسمية
ً على هذه النقاشات والمناظرات.
ٍ
ناجمة عن االنقالب على العملية حرب أهلي ٍة
"متالزمة ال جزائر" ،والتي لم تقد إلى حكم اإلسالميين بل إلى ٍ
االنتخابية ،هذا إذا تناولنا الوقائع وحد ها من دون النوايا .فنحن لم نعرف الكثير عن نوايا اإلسالميين هناك لو
حكموا قبل أن يتعرضوا للقمع والتنكيل .وأخشى أنه في ما يتعلق بالموقف من الديمقراطية أصبح لإلسالميين
أثرا .ففي األخيرة فاز اإلخوان
سردية ،وهي تتضمن متالزمتين ،متالزمة الجزائر؛ ومتالزمة مصر األبعد ً
فجهاز فعال،
اسما دون أن يحكم ً ٍ
ُ رئيس مدة عام كامل .وربما حكم ً
المسلمون في االنتخابات ،وحكم من بينهم ٌ
ٍ
انتخابات ديمقراطي ًة نزيهة ،وفازوا الدولة لم يتعاون مع الرئيس المنتخب في الواقع .هنا خاضوا مؤخًار
جهاز الدولة القائم ،أو ما يسمى باالنتخابات في جو ٍ
الت متعددة .وفي النهاية ،وفي السطر األخير لم يحترم ُ
هناك الدولة العميقة ،هذه النتائج ،ولم يتعاون مع الحكم المنتخب ،وحين توفرت القاعدة الشعبية المتضررة
من مشكالت مرحلة التحول الصعبة وعدم استقرارها انقلب عليه .وتحالفت معه في ذلك ًقوى سياسيةٌ كانت قد
خسرت االنتخابات.
8
المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات
ٍ
إسقاطات على وكانت النتيجة إجهاض عملية التحول الديمقراطي في مصر ،بما في ذلك من
ٍ
وجهات أخرى مازالت مجهول ًة ،ألن الديناميكية المنطقة كلها ،واالنحراف بمسار التحول الديمقراطي إلى
االجتماعية الناجمة عن االنقالب العسكري من ٍ
فعل وردود فعل ما زالت غير واضحة المعالم بصو ٍرة كاملة
اط غير منظمة في قواعد التيارحتى اآلن .وأسوأ هذه االحتماالت دوام الحكم العسكري ،واستنتاج أوس ٍ
ُ
اإلسالمي عانت من القبضة األمنية فشل المشاركة في العملية الديمقراطية واالنتقال إلى وسائل أخرى،
ومحاولة قوى الثورة المضادة في ٍ
دول أخرى تقليد التجربة المصرية.
مطلوبا منها أن تقبل بالهامش الذي أتاحه اإلصالح ،وأن تندمج في العملية السياسية ،وأن تقبل
ً كان
بالعملية الديمقراطية وسيل ًة للوصول إلى الحكم .لم ُيطلب منها التخلي عن موروثها الفكري والثقافي ،وال طُلب
منها التخلي عن أيديولوجيتها ،وذلك ألن كل ٍ
عاقل يفترض أن االندماج في العملية السياسية ،واتباع قنوات
التعاون والحوار ،والتنافس مع تيار ٍ
ات سياسية أخرى في ٍ
أطر أوسع ،ال بد أن تؤثر في النهاية في
فالفكر واأليديولوجية ال يتغيران بقرٍار بل
ُ األيديولوجية نفسها .وهذه هي أ بجديات ما يدعى بالتغذية الراجعة.
بالتدريج وفي البراكسيس االجتماعي والسياسي الملموس ذاته .وكما أن األهداف والظروف تقود إلى اختيار
الوسائل ،فإن الوسائل تؤثر في مستخدميها أكثر مما يعتقد هؤالء المستخدمون.
انشقاقات وتغير ٍ
ات ٍ غالبا ما تؤدي إلى ٍ
ويؤدي هذا في نهاية األمر إلى إجراء مراجعات أيديولوجية ً
في بنية الحركات السياسية ذاتها .وهو ما جرى في الحركة االشتراكية األوروبية في نهاية القرن التاسع عشر
بعدا عن الديمقراطية البرلمانية بوصفها في نظرها شكل ممارسة
وبداية القرن العشرين ،إذ كانت أكثر ً
دكتاتورية الرأسمالية ،من ُبعد الحركات اإلسالمية عنها في أيامنا .ولكن اندراجها في إطار العمل السياسي
العلني النقابي والبرلماني ،واتاحة اليمين الفرصة لها للمساهمة في إدارة الدولة ،وحتى في قضايا الحرب
فعال ،والى اكيا ديمقر ًّ
اطيا ً والسالم ،أديا إلى تغير أيديولوجية التيار الرئيس في الحركة االشتراكية ليصبح اشتر ًّ
9
المؤتمر السنوي الثاني في موضوع "اإلسالميون ونظام الحكم الديمقراطي"
انفصال الحركة الشيوعية المؤمنة بدكتاتورية البروليتاريا التي انتهت إلى دكتاتورية من دون بروليتاريا .ولكن
حتى األحزاب الشيوعية في الغرب استنتجت ضرورة مراجعة نهجها بعد انفضاح حجم كارثة الستالينية،
ٍ
خالف عميق مع الكتلة ونشأت كما تعلمون الشيوعية األوروبية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته ،في
السوفييتية ،وذلك بقيادة الحزب الشيوعي اإليطالي .كانت تلك صيرو ةر جرت من خالل المشاركة في العملية
الديمقراطية ذاتها .وانطلقت المراجعة الفكرية من خالل الحوار مع الواقع ،واالضطرار إلى مالءمة اللغة
فرق شاسع بين
السياسية معه ،وعقلنتها نتيجةً لنشوء ما يسميه هبرماس بفضاء الممارسة التواصلية .فثمة ٌ
خطاب تعبوي موجه للمؤيدين في ٍ
ناد حزبي مغلق ،أو في العمل السري ،وبين التوجه إلى الجمهور العام في ٍ
قادر على ٍ
بحجج يفترض أن تكون مقنعة لآلخرين ،وبلغة سياسية وبرامج تثبت أن صاحبها ٌ
ٍ وسائل اإلعالم
إدارة الدولة بتعقيدات هذه اإلدارة؛ ومشكلة الحركات األيديولوجية العربية في هذا السياق أنها حين تخاطب
جمهور أوسع بكثير نتيجةً لوجود الكاميرا،
ًا أحيانا أن وسائل اإلعالم موجودة ،وأنها تخاطب
ً جمهورها تنسى
أقدر على ٍ
وأنها بذلك تهدم الثقة وتخرب عمل سنوات من تغيير الصورة والخطاب .ومشكلتُها الثانية أنها ُ
ٍ
حلول للمشكالت التي تعاني منها الدولةُ والمجتمع. ات تعبوية في معارضة الخصوم ،من طرح صوغ شعار ٍ
ْ
فاإلسالم هو الحل ،واالشتراكية هي الحل ،والقومية هي الحل ،وحتى الديمقراطية هي الحل ...جميعها ،على
ات أيد يولوجية فضفاضة تتميز عن بعضها ،ولكنها لم تعد تعني الكثير إذا
الرغم من الفوارق فيما بينها ،شعار ٌ
ٍ
حلول عينية. نهجا متميًاز عن غيره ،وامتحانه قدرته على وضع
لم تكن ً
وتبقى القضية األهم في هذا السياق أن الحركات األيديولوجية العربية ،بيسارها ويمينها ،وقومييها
اصال في الفضاء العمومي ،أي عبر الممارسة السياسية للخطاب ،ألن االستبداد لم
واسالمييها ،لم تمارس تو ً
يتح لها الفرصة لذلك .وظلت مراجعاتُها نظريةً ،أثبت الواقع أنها سطحية وهشة .فمن السهل أن تكون
ي ،وأن تتنصل محكوما من نظام ديكتاتور ٍّ
ً معارضا
ً معارضا وأن تطالب بالديمقراطية ،ومن السهل أن تكون
ً
من تاريخ الدكتاتوريات التي كنت تدعمها .ينطبق هذا على ذلك الجزء من اليسار الذي لم يكن ديمقر ًّ
اطيا،
ووقف ضد الديمقراطية في ٍ
دول عديدة ،وغير رأيه بعد انهيار المنظومة االشتراكية ،أو خالل هذا االنهيار،
ناجمة عن الممارسة .وينطبق ذلك بدر ٍ
جة أكبر على ٍ أي أنه تغير بعوامل خارجية ،وليس بفعل قن ٍ
اعات عميقة
القومي ين الذين حسبنا أنهم قاموا بمر ٍ
اجعة لمراحل وجودهم في الحكم ،فإذا بهم وفي خضم نشوء التحالفات مع
11
المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات
جهاز الدولة القديم للتخلص من خصومهم يقدسون أسوأ مظاهر مرحلة حكم التيار القومي ،أال وهو الطابعُ
ات الجوفاء ،ويهملون الجانب اإليجابي في تلك الفترة،
األمني العسكري المستهتر بحقوق اإلنسان ،والشعار ُ
الحقوق االجتماعية ،واحترُام الفئات الشعبية ،حتى في مرحلة الصراع
ُ البعد المتعلق بمشروع بناء األمة ،و
وهو ُ
وزج بأعضائها في غياهب السجون. مع الحركات اإلسالمية في حينه ،والتي اضطُهدت ولوحقت ُ
يبرز سببان رئيسان إ ًذا لضرورة التحالف في المرحلة االنتقالية؛ ّأولهما منع حصول شرٍخ يؤدي إلى
انقسام المجتمع على مستوى الهوية ،وبالتالي إلى احتر ٍ
اب تبرر فيه الغاية الوسيلة بدل التنافس بوسائل
سلفا .وثانيهما ،غياب الثقة بالثقافة الديمقراطية لكل ٍ
حزب من األحزاب؛ مشروعة منضبطة ومجمع عليها ً
وأكرر :غياب الثقة ليس فقط بالثقافة السياسية لألحزاب اإلسالمية .فما شهدناه خالل مدة حكم اإلسالميين
استخداما ألدوات القمع ضد خصومهم السياسيين ،ممن حكموا قبلهم القصير ًّ
جدا في مصر أنهم كانوا أقل ة
ً
في المجلس العسكري ،وممن جاء بعدهم في تحالف االنقالب العسكري وخصومهم السياسيين ،إذ قامت
أجهزة األمن قبل فترتهم القصيرة وبعدها باستخدام أعنف األدوات وأكثرها دمويةً ضد من شاركوا في
ٍ
حركات سياسية علمانية استخدام االحتجاج السياسي ،حتى لو كان هذا االحتجاج بالكلمة .كما شهدنا تبرير
ٍ
حاالت أخرى. العنف والقتل ضد المتظاهرين في حاالت ،وادانتهما واستنكارهما في
11
المؤتمر السنوي الثاني في موضوع "اإلسالميون ونظام الحكم الديمقراطي"
كل ٍ
حزب الثورة فرصةً للوصول وفي ظل غياب الثقافة السياسية الديمقراطية للنخب الحزبية ،اعتبر ُّ
إلى الحكم ،وليس فرص ًة لبناء الديمقراطية .وقاد هذا المنطلق إلى أسوأ االحتماالت وهي اغتنام جهاز الدولة
الفرصة لالنقضاض على السلطة.
ومع ذلك،
ًّ
ضروريا .وهذا هو موضوعنا .وأذكر أن موضوعنا ليس اإلسالم كالم خاص بالحركات اإلسالمية ما زال
ثمة ٌ
ات السياسية اإلسالمية والديمقراطية .وهذا
موضوعنا هو التيار ُ
ُ والديمقراطية .فهذا األخير موضوعٌ وهمي.
موضوعٌ حقيقي يمكن معالجته باألدوات العلمية.
12
المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات
المواطنة هنا صفةٌ عامة تنطبق على الرجل والمرأة ،وعلى المتدين وغير المتدين ،وعلى المسلم وغير المسلم.
مسلما مع غير المسلمين بصفتهم غير مسلمين في المجال الديني ،أو ربما في ً يتعامل المسلم بصفته
ُ قد
مجال األحوال الشخصية في قضايا حساسة مثل الزواج وغيره .أما الحركة السياسية الديمقراطية ،فال تقسم
المواطنين بين ر ٍ
جال ونساء ،ومؤمنين وغير مؤمنين ،أو مسلمين وغير مسلمين ،بل هي تتعامل مع
المواطنين بصفتهم هذه.
شخص من غير دينه ،فقد يتسامح مع عقيدته أو مع نمط حياته أو مع مذهبه ،إذا ٍ مسلم مع
حين يتعامل ٌ
التسامح هنا فضيلةٌ من الفضائل .أما الحركةُ السياسية الديمقراطية
ُ ٍ
مذهب مختلف .و كان من الدين نفسه ومن
أصال
مسموحا لها ً
ً في إطار النظام الديمقراطي ،فهي ال تتسامح مع غير المسلم بإقرارها بالمساواة له ،وليس
فضال منها وال منة ،وال معنى هنا
ً أن تتسامح ،إنما هي ُملزمةٌ أن تعترف بحقوقه كمواطن ،وهذا ليس
ٍ
حركة ديمقراطية وغير ديمقراطية. أحد الفروق المهمة بين
للتسامح .وهذا ُ
13
المؤتمر السنوي الثاني في موضوع "اإلسالميون ونظام الحكم الديمقراطي"
ٍ
محدق بثقافتها العربية اإلسالمية ،إال من االستبداد .وان الفرض والقسر ٍ
خطر السيادية .ولكن ليس من
ٍ
مجاالت سلوكية متعلقة بالمجال الخاص ونمط الحياة في إطار الحياة السياسية الديمقراطية قد واإلمالء في
بدال من أهلهم. ٍ
حركة سياسية ديمقراطية تربية األبناء ً هدف
ُ تقود إلى ردة ٍ
فعل متطرفة ونتائج معاكسة .فليس
وال ُيفترض أن تتدخل في العالقات األسرية ،وفي مأكل الناس ومشربهم وملبسهم في مجالهم الخاص .وهو
مجا ٌل متوسع باستمرار ويرتبط بالعالقة الوثيقة بين حرية االختيار واألخالق واإليمان .واذا قلنا مواطن ،فقد
أقررنا بوجود ٍ
مجال خاص للفرد ،مرتبط بجسده ونفسه ،وبحرية خياراته األخالقية طالما لم تتعارض مع حرية
اآلخرين وحقوقهم.
وفي هذا السياق ،ال بأس أن ُنجري مراجعةً للثقافة والموروث الحضاري العربي اإلسالمي في مسألة
المواطنة والدولة واألمة ،وهل كان ثمة دولة بمعنى المصطلح الذي نقصده في عصرنا في التاريخ اإلسالمي
أمور أثرت برأيي (وما زالت تؤثر) في المسلمين وغير المسلمين،
الكالسيكي؟ وما هي الدولة الحديثة؟ كلها ٌ
عموما.
ً فرض ٍ
عين علمي بحثي؛ ألنها تؤثر في ثقافتنا السياسية ُ وفي المتدينين وغير المتدينين .إن مراجعتها
ولكن حسم موضوع المواطنة واألمة بالمعنى أعاله في السلوك السياسي وفي الخطاب وفي البرنامج ،سواء
كان هذا الخطاب موج ًها نحو القواعد الشعبية الخاصة بهذا التنظيم السياسي أو ذاك أو الجمهور بصو ٍةر
يات ملحة ال بد للقوى السياسية من حسمها قبل
عامة ،ال ينتظر مثل هذه المراجعات .إنها مهام مباشرة وتحد ٌ
خاطئا من أساسه .أما إذا
ً مسار
ًا االنطالق ،ألنه إذا حسمت هذه القضايا بصو ٍرة خاطئة ،يتخذ التطور
ُحسمت بصو ٍرة صحيحة ،فإن آفاق التطور تنفتح ،وال بد أن تصل إلى الهدف ،على الرغم من العوائق
والعثرات ،ووعورة الطريق ،وعلى الرغم من التضحيات الجسام.
14