مقياس منهجية البحث التاريخي السنة األولى( ماستر تخصص :المغرب العربي المعاصر د :سفيان لوصيف أ.
منهج التاريخ الشفوي:
يرى بن خلدون أن مفهوم التاريخ ميثل سجال للماضي و أنه ال بد من االستفادة من دراسة املاضي لفهم احلاضر ،و ينبغي 3التزام الدقة يف احلقائق التارخيية ،كما ال بد من التعمق يف دراسة هذه احلقائق ،و عدم االعتماد على النقل عندما تتخذ الروايات التارخيية الشفوية مصدرا من مصادر التاريخ بقوله ':كثريا ما وقع للمؤرخني و املفسرين و أئمة النقل من املغالط يف احلكايات و الوقائع ،العتمادهم فيها على جمرد النقل غثا أو مسينا و مل يعرضوها على أصوهلا و ال قاسوها بأشباهها و ال سريوها مبعيار احلكمة و الوقوف على طبائع الكائنات ،و حتكيم النظر و البصرية يف األخبار فضلوا عن احلق و تاهوا يف بيداء الوهم و الغلط. يتضح أن املنهج الذي وضعه بن خلدون يف كتابة التاريخ ال يعتمد على جمرد سرد الوقائع فحسب ،بل هو استقصاء األسباب و العلل أيضا ،لذا كانت مهمة املؤرخ صعبة و دقيقة ،إذ عليه أن ميحص األخبار قبل إثباهتا ،و من املغالط اليت يقع فيها املؤرخ الثقة بالناقلني و الرواة ،و قد يكون 3الراوي كاذبا عن قصد أو مبالغا يف ما يروي ،أو صادقا لكنه خمطئ يف فهم اخلرب الذي يرويه و يف هذه احلاالت مجيعا يكون 3كالمه خمالفا للوقع ،و على املؤرخ أن يراعي ناحيتني مهمتني هبذا اخلصوص مها: -أن ينظر يف ما إذا كان اخلرب املروي معقوال أو غري معقول. -أن يتثبت 3من أمانة الراوي و صدقه. و من يرى أن الروايات الشفوية ال تصلح وثائق و مستندات لدراسة التاريخ ،قد يرتاجع عن رأيه إذا تذكر أن أغلب الوثائق املدونة 3كانت يف األصل روايات متناقلة قبل أن تدون ،و على هذا األساس فإن الوثائق الشفوية ال تقل أمهية عن الوثائق املدونة ،و ال تتفوق األخرى على األوىل إال بكوهنا ختضع لطرق متعددة للتأكد منها و خلوها من التزوير ،و لكن ليس من الصعب 3أن توضع ضوابط مماثلة إلثبات صحة الوثائق الشفوية قبل تسجيلها بواسطة آالت التسجيل و تدوينها. ينبغي أن خيضع املصدر التارخيي للمنهج النقدي العلمي و حيث يرى كروتشه أن التاريخ يقوم على اجلمع بني اثنني ،املصادر التارخيية ،و نقد هذه املصادر ،و إن عملية نقد أو فحص أو حتقيق أو حتليل املصدر التارخيي سواء كان له عالقة باملكتوب 3و املدون أي الوثيقة 3أم ما له عالقة باخلرب أي التاريخ الشفوي تتطلب جهدا أو عمال منظما من املؤرخ ،لذلك فقد سار عدد كبري من املؤرخني وفق سلسلة مرتابطة من العمليات النقدية 3تبدأ بظاهر املصدر التارخيي مث باطنه و مضمونه ،و احلالتان الظاهرية و الباطنية 3تشكالن 3عمال متداخال و متكامال يف سياق العملية النقدية3 برمتها ،إذ ال ميكن البدء و االنتهاء 3بنقد املصدر التارخيي ظاهريا دون نقده باطنيا ،و ال جيوز البدء و االنتهاء 3بالنقد الباطين قبل تطبيق املنهج الظاهري ،كما ال جيوز االعتماد على املصدر التارخيي على ما به من عالت و مغالطات حىت و إن كانت عالته و مغالطاته حمدودة و قليلة. إن منهج نقد الوثائق املدونة ظاهريا و باطنيا 3ميكن تطبيقه على التاريخ الشفوي آخذين بعني االعتبار عناصر االختالف و التشابه يف املضمون أحيانا ،فمثال مادة الوثيقة املدونة – الورق، هي أحد عناصر النقد الظاهري ،ختتلف يف مضموهنا عن مادة الرواية يف التاريخ الشفوي -اللغة املنطوقة -بينما يتشابه عنصر دواعي الكذب و اخلطأ و أسباهبما يف النقد الباطين للوثيقة املدونة مع الرواية يف التاريخ الشفوي ،و من هنا فإن إمكانية تطبيق املنهج النقدي للوثيقة املدونة على التاريخ الشفوي من شأنه أن مينح التاريخ الشفوي أمهية ال يستهان 3هبا بوصفها مصدرا من مصادر املعرفة التارخيية. و يقول الدكتور ميالد املقرحي إن هناك ثالث قضايا ينبغي اعتمادها عند حتويل الرواية الشفهية 3إىل رواية مدونة: -إمكانية 3تعليم الكثري من الرواية الشفهية يف ميدان التاريخ. -أن دراسة املاضي من خالل الرواية الشفهية 3،تشتمل على كل أنواع البحث التارخيي األخرى، فهي مزيج من اإلثارة و الرتابة. -أن يوضع ما جيمع من روايات شفهية يف متناول املؤرخني ،لتوسعة دائرة استخدامها ،خصوصا لدى كثري من املؤرخني الذين يقللون من أمهيتها ،البد من نشرها و جعلها متاحة مثلها مثل التاريخ املدون. من هنا تتضح أمهية أن يقوم املؤرخ بفحص الروايات الشفهية 3و تقوميها ،و معرفة الدوافع من و رائها ،و كذلك طريقة تناقلها ،و لعل هذا العمل يقود إىل فحص آخر ال يقل أمهية عن األول ،و هو فحص احلبكة األسلوبية ،و اهلدف ،و اخللفية للراوي ،كما على املؤرخ أن يفحص كذلك البناء الداخلي و اخلارجي للرواية الشفهية 3من خالل املنهج املعروف لدى املؤرخني ،فإذا مت كل ذلك بنجاح ميكن عندئذ تدوين الرواية الشفوية ،و من مث تصبح وثيقة 3تارخيية مثلها مثل الوثائق املعروفة. قد اشتط املؤرخون يف إيراد شروط كثرية لتحويل الرواية الشفهية إىل رواية مدونة ،و له احلق يف ذلك ،طاملا أن أغلب الرتاث الشفهي حيمل يف طياته تناقضات كثرية مع التاريخ املدون، من ذلك أن أغلب الروايات الشفوية تسودها ثالثة مفاهيم ثقافية مهمة ،هي افتقارها ملفهوم3 القياس الزمين ،و عدم وضوح الفكرة التارخيية فيها ،و الثالثة 3النظر إىل املاضي مبثالية كبرية ،و هذا كله يشكل إحدى املشكالت اليت تواجه البحث يف التاريخ الشفوي. العمل الميداني(: قبل البدء بالعمل امليداين جيب وضع تصور مسبق للمشروع ،و رسم خمطط عمل ،حرصا على عدم التشتت من جهة ،و على بلوغ أفضل النتائج يف الوقت 3املتاح ،و الذي كثريا ما تتخلله عقبات بعضها طارئ ،و يشمل خمطط العمل: -حتديد منطقة العمل و اليت ميكن أن تكون مدينة ،أو بلدة ،أو حمافظة ،أو قرية... -دراسة تاريخ املنطقة ،و معرفة جغرافيتها. -معرفة أساليب 3عيش السكان 3و عاداهتم و تقاليدهم و عقائدهم. -حتديد املوضوع الذي سنعمل على مجعه ،كأن يكون احلكاية الشعبية 3،أو األمثال... -مجع معلومات وافرة عن املوضوع الذي مت اختياره ،بالعودة إىل ما كتب عنه من مقاالت و مؤلفات ،و ما قدم عنه من برامج إذاعية3. -جتهيز خريطة توضح القرى و املسافات بينها 3،و الطرق الواصلة إليها و حتديد القرى اليت سيشملها البحث ،و تعيني القرية األوىل اليت سنبدأ العمل منها ،و مجع معلومات وافرة وشاملة عنها ،و اإلعداد لزيارة استطالعية هلا. -معرفة أمساء الرواة يف القرية و صفات كل منهم ،و عناوينهم و حتديد الراوي األول. -وضع قائمة بأمساء األفراد الذين ميكن االستعانة هبم يف املنطقة ،مثل األعيان ،الكتاب، املعلمون... يتطلب العمل يف مجع التاريخ الشفوي و توثيقه 3ودراسته اهتماما ذاتيا جديا من الباحث ،و إرادة قوية متكنه من حتدي الصعوبات ،و هي عجم التعجل و الدأب املستمر ،و الروح االجتماعية و التواصل مع الناس و التسلح باملعارف النظرية ،فقد كان الرحالة و املستشرقون الغربيون 3منوذجا يستحق التقدير ،يف املشاق و االجتهاد و اخلاطرة بالنفس ،يف ظروف كان األمن شبه معدوم ،و املواصالت 3عسرية ،و املسافات مرتامية 3يف األرياف و البوادي يف سبيل حتقيق األهداف اليت نذروا أنفسهم هلا. و على أية حال هناك أكثر من أسلوب يف مجع التاريخ الشفوي بأنواعه املعرفية ،و األدبية، و السياسية 3،و الفنية و املادية ،و تصنيفها 3و أرشفتها متهيدا لدراستها الحقا ،و من هذه األساليب3: -العمل الفردي. -عمل جمموعة أفراد. -العمل املؤسسي. الباحثون في التاريخ الشفوي: إن من يعتقد أن الرواية الشفوية ال تصلح وثائق و مستندات لدراسة التاريخ ،قد يرتاجع عن رأيه إذا تذكر أن الوثائق املدونة كانت يف األصل روايات شفوية متناقلة قبل أن تدون ،و على هذا األساس فإن الوثائق الشفوية ال تقل أمهية عن الوثائق املدونة ،و ال تتفوق األخرية على األوىل إال بكوهنا ختضع لطرق متعددة للتأكد منها ،و لكن ليس من الصعب 3أن نضع ضوابط مماثلة إلثبات صحة الوثائق الشفوية 3قبل تسجيلها بواسطة آالت التسجيل أو تدوينها فقد مت استعمال املصدر الشفهي يف الدول املتطورة مثل بريطانيا و الواليات املتحدة األمريكية 3منذ مطلع القرن 20م ،باإلضافة إىل أنه ينظر إىل الرواية الشفوية 3على أهنا مكملة للنص املدون و ال تقوم مقامه ،و قد أثبت أكثر من مرة أن بعض املقابالت الشخصية تكشف حقائق تارخيية جديدة تنشر ألول مرة ،إن املصدر الشفوي ضرورة علمية لفهم حقائق التاريخ. أمهية الرتاث 3الشفوي املتزايدة 3،و اهتمام العلماء به ،فإن مواقفهم تبدو متفاوتة 3،و ميكن تبني مخسة مواقف حيال الرتاث 3الشفوي و أمهيته هي: -أن الرتاث الشفوي قد حيتوي على قدر من احلقيقة 3و الصدق. -أنه من املستحيل تبني مقدار احلقيقة يف الرتاث 3الشفوي و تقييمها. -أن الرتاث الشفوي ال ميكن االعتماد عليه يف كتابه التاريخ. -أن كل العوامل املؤثرة يف مصداقية الرتاث الشفوي جيب أن تفحص بعناية. -جيب أن خيضع الرتاث الشفوي للفحص الدقيق بواسطة املنهج التارخيي الصارم. الرافضون للتاريخ الشفوي كأداة لكتابة التاريخ: بدأ استخدام ومجع الرواية الشفوية كمنهج للبحث يتسع بسرعة ،و ازداد عدد الدراسات و األحباث اليت تعتمد هذا املنهج بشكل الفت ،لكن رغم ذلك فإن مسة الرتدد و الشك هبذا املنهج ما زالت تشوب موقف املؤرخني الكالسيكيني 3،و األوساط األكادميية اليت تشك مبصداقية هذا املنهج و قدرته على تقدمي ما مسوه باحلقائق فهم ينتقدون 3هذا املنهج على أساس: -اعتمادها على الذاكرة اليت هي عرضة للقصور و اخلطأ. -التاريخ الشفوي و حتديدا تاريخ احلياة هو عمليات جتري على األحياء يف حني أن التاريخ هو دراسة املاضي ،و يف هذا السياق جيب حتري الدقة فيما ينقل على لسان الرواة ،و إال تفقد الرواية الشفوية 3أمهيتها ،حيث نسمح بذلك للبعض بنقل روايات إما تافهة أو خمتلفة سوف تتناقلها األجيال على ما فيها من عيوب و نقص. ختلي املؤرخني عن املصادر الشفوية قد ترك للمختصني يف الفلكلور و األنثربولوجيا امليدان3 واسعا ،مما جعل تلك املصادر تنأى عن بعدها التارخيي ،و مل يعرتف املختصون يف تلك العلوم بأمهية 3التاريخ يف دراسة الرتاث الشفوي ،إال يف مطلع اخلمسينات من القرن املاضي ،و لعل السبب هو سيطرة علماء الفلكلور على املصادر الشفهية ،و كانوا يروهنا تدل على املعىن الفلسفي و املغزى التعليمي أكثر من كوهنا حتمل أي تفاصيل تارخيية ،بل وصل األمر ببعضها على التصريح بأن 3املصادر الشفوية ال حتتوي على حقائق تارخيية. نقد التاريخ الشفوي: إن املصدر املدون ليس سوى حوار الفرد مع ماضيه الشخصي ،و هلذا ال جيوز أن نبالغ يف إبراز دور الفرد مهما كانت مرتبته ،كما ال جيوز املبالغة يف بناء استنتاجات عامة على أساس آرائه اخلاصة ،فالفرد مهما كانت مرتبته االجتماعية ال ميكن أن يكون 3صانعا للحدث التارخيي بل جمرد مشارك فيه. و الشيء نفسه ميكن أن يقال عن الكثري من الروايات الشفوية 3،و هي إىل حد ما أطالل املاضي ،تعرضت للتغيري و التفكك 3و التعديل و احلذف و اإلضافة ،و هلذا ال جيب أن ننظر إليها كحقيقة تارخيية مطلقة ،و هذا ما ولد لدى بعض املؤرخني مفهوما أن املصدر الشفوي ال يصلح إال لدراسة اجملتمعات اليت مل تعرف التدوين ،و هلذا السبب أيضا يرفض بعض املؤرخني اعتماد الرواية الشفوية 3أو املصدر الشفوي إىل جانب الوثيقة 3أو النص املدون. مصاعب البحث في التاريخ الشفوي: على الباحث أن يقدم على عمله بواقعية دون أوهام أو أحالم ،و عليه أن يتوقع املصاعب و العقبات 3،اليت قد جتلب له اإلحباط و اليأس 3،فإن مل يكن مؤمنا بأمهية املشروع و مناضال إلجناحه ،و متحليا بالصرب وسعة الصدر ،و القدرة على حتمل املشاق اجلسدية أحيانا ،و املواقف احملبطة أحيانا أخرى و الرد عليها بشر مساحة من الثقة مع الناس. املصاعب 3اليت تواجه التاريخ الشفوي و العمل امليداين عديدة و متنوعة 3،جيب إدراكها سلفا كي حنسن التعامل معها و منها: -طغيان 3النزعة املصلحية ،فقد ينكر الناس إىل كل شيء و كل عمل مبنظار الربح و اخلسارة ،و قد يتأكد الباحث من ذلك خالل جوالته ،حيث بدأت هذه النزعة فاقعة جدا ،حىت أن الذين يفكرون باملشاركة يف عملية اجلمع كانوا يطرحون صراحة ماذا نستفيد ؟ -قلة الوعي بأمهية 3التاريخ الشفوي. -قلة توفر مراكز أحباث متخصصة يف هذا اجملال. -قلة وجود مؤسسات ثقافية تتبىن مشروع التاريخ الشفوي. -كون اجلهود التوثيقية 3الشفوية 3ال تزال يف بدايتها. -قلة اعتماد مادة تاريخ الشفوي كمنهج أو موضوع دراسة يف املعاهد املتخصصة يف العلوم اإلنسانية 3و االجتماعية ،و املؤسسات الرتبوية و التعليمية3. -قلة توفر املعلومات لدى الباحث عن موضوع حبثه ،مما قد يسبب له حرجا أمام الراوي و خيلق له أجواء غري مشجعة يف عملية إجراء املقابلة. -عدم تعريف الراوي أيضا بأهداف املقابلة وجهة البحث و أمهية املوضوع 3يف خدمة الصاحل العام مما جيعل الراوي غري متشجع للحديث. -الوضع الصحي لعدد غري قليل من الرواة الكبار ،فأمراض الكرب كثرية ،و يف هذه األحوال علينا اقتناص 3األوقات اليت يكون 3فيها الراوي يف وضع صحي مريح. -طبيعة املنطقة 3،فبعض املناطق 3أو اجلماعات متيل إىل التكتم ،خاصة أمام الغريب ،مهما كان املوضوع 3عاديا و يف بعض املناطق تصعب مقابلة النساء. -اخلروج عن موضوع املقابلة و إظهار الباحث نفسه بأنه أعلم من الراوي ،و هذا التصرف يضعف املقابلة و يتسبب يف إفشاهلا. -اعتقاد بعض الناس بأن جامع البحث سيجين ثروة من املعلومات اليت يدوهنا. -ضعف ثقة الرواي بالباحث ،فإذا مل يكسب الباحث أو اجلامع ثقة الراوي و احرتامه فلن حيصل على شيء يفيد. -قد يقوم الباحث بتحريف أقوال الراوي و التأثري عليه بوسائل خمتلفة حلمله على تضخيم األحداث أو سرد حكايات و قصص مل حتدث ،و هبذا يكون الباحث قد أخذ شهادة الراوي بطريقة غري أخالقية و غري علمية و بعيدة عن احلقيقة. تحديات( أمام الباحث: -إن الرواية اليت يرويها الراوي و احملتوية على املعلومات عن موضوع معني ،ليست بالضرورة أن تكون 3معربة عن احلقيقة ،فاإلنسان من طبيعته النسيان3. -مبالغة الراوي يف ذكره و تناوله لألحداث و تضخيمها ،أو قد حيجب الراوي جزء من روايته، و ال يقول احلقيقة بسبب شعوره باخلوف أو احلرج أو اخلطر من ذكر بعض األحداث. -عدم تأكد الراوي من بعض املعلومات و لذلك جيب على الباحث التدقيق فيها و متابعتها و مقارنتها باملعلومات األخرى من مصادر خمتلفة حىت يتم إثباهتا أو نفيها. شخصية و ثقافة( الراوي(: الرواية الشفوية عرضة للتغيري و التبديل ،و اإلنسان 3عرضة للنسيان ،و قد ختونه الذاكرة ،أو خيلط بني األحداث ،أو ينحاز جلهة معينة أو رأي أو فكر يؤمن هبما ،هلذا ال بد من دراسة الراوي نفسه ،و ال بأس أن نطبق على الرواة شيئا يسريا من منهج احملدثني ،و ال بأس أن يقوم املؤرخ بدور احملقق الذي يستجوب الشهود من أجل الوصول إىل احلقيقة. الراوي هو الشخص الذي سيتم مقابلته ،و لديه معلومات و أخبار متنوعة 3عن مواضيع كثرية سواء كانت هذه املعلومات عن أحداث وقعت أو معلومات عن أشخاص ،فالراوي له أمهية كبرية يف تدوين الذاكرة ،إذ يعترب املصدر األول و عليه يتوقف مدى استفادة الباحث من مواضيع التاريخ الشفوي املختلفة ،فإنه ال بد من حتديد املوصفات املطلوبة الختيار الراوي أو الرواة من أجل احلصول على املعلومات و الروايات السليمة بالشكل الصحيح و هذه املواصفات: -أن يكون الراوي يتمتع بالنزاهة و املصداقية 3و املوضوعية3. -الرغبة احلقيقية 3و املوافقة من قبل الراوي على إجراء املقابلة الشخصية. أمام هذه الضوابط اليت ستسري عليها الدراسة يف عملية التقومي 3،لنقيس على أساسها صحة و منطقية الروايات فهي كالتايل: -مدى مسامهة الراوي يف صنع أحداث الفرتة اليت يروي عنها. -مدى استخدام الباحث لعدة روايات حلدث بعينه مما يدعم موقفه. -مدى استخدام الباحث لرواية اآلحاد يضعف من قوهتا. -عدم ذكر الباحث السم الراوي يفقد أمهيتها. مهنية واحترافية المؤرخ: ال بد للباحث من مؤهالت ثقافية مناسبة للعمل يف مجع التاريخ الشفوي و دراسته قبل اخلوض يف العمل امليداين ،و من هذه املؤهالت والشروط: -معرفة شيء و لو قليل عن التاريخ الشفوي. -معرفة املصطلحات و إشكاليتها. -أن يكون دقيق املالحظة يدرك مثال حني يقفز الراوي عن نقطة ما يف املوضوع و يتنقل إىل موضوع آخر ،فعلى الباحث أن يعرف النقطة اليت قفز عنها الرواية و أسباب جتاهلها و عدم ذكرها. -أن حيسن توجيه األسئلة للراوي ليأخذ عنه الرواية الدقيقة الشاملة املتسلسلة ،و بقاء احلديث عن املوضوع 3،لعدم هدر الوقت 3باألحاديث اجلانبية. و هلذا فإن الرواية الشفوية معرفة تارخيية إذا كان مضموهنا يشكل شاهدا أو دليال يبحث عنه املؤرخ ،لتعليل ما وقع أو لتدعيم وجهة نظره ،و هبذا تصبح الروايات الشفوية جمرد أدلة أو كشوف نفي أو إثبات وجهة نظر معينة. إن األعمال التارخيية اليت استخدمت الرواية الشفوية جيب أن ختضع ملعايري منهجية مهنية، كتلك اليت تقوم على أساسها األعمال التارخيية التقليدية و لعل من أمهها الفهم النقدي ملن يؤرخ، و مدى وعيه السياسي و الثقايف و االجتماعي بالظاهرة اليت تدرس ،و كيف يتم تشكيل و إعادة البناء االجتماعي للماضي يف احلاضر و ما هي القضايا الغائبة و أسباب غياهبا ،و استخدام منهج الشك ،إضافة إىل تقيد الباحث يف التاريخ الشفوي باملضامني و املعاين و احلقائق و احملتويات 3اليت تتضمنها الرواية الشفوية 3دون حتميلها أكثر مما تتحمل ،بالنظر إىل احلقيقة 3اليت تقول إن نقل احلقائق و املفاهيم و املضامني و املعاين جيب أن يكون 3دقيقا و صحيحا ،بغض النظر على مدى موافقتها أو معارضتها مع قناعات و والءات الباحث ،و هو ما يضمن أن تكون الدراسة أمينة يف نقل األحداث بأمانة و موضوعية لتقدمي املشهد كما حدث دون هتويل أو هتوين. من هنا تتضح أمهية أن يقوم املؤرخ بفحص الروايات الشفوية 3و تقوميها ،و معرفة الدوافع من ورائها ،و كذلك طريقة تناقلها ،و لعل هذا العمل يقود إىل فحص آخر ال يقل أمهية عن األول و هو اهلدف ،كما على املؤرخ أن يفحص كذلك البناء الداخلي و اخلارجي للرواية الشفوية من خالل املنهج املعروف لدى املؤرخني ،فإذا مت كل ذلك بنجاح ميكن عند تدوين الرواية الشفوية ،و من مث تصبح وثيقة تارخيية مثلها مثل الوثائق املعروفة. عمل املؤرخون يف إجياد شروط كثرية لتحويل الرواية الشفوية 3إىل رواية مدونة ،طاملا أن أغلب الرتاث الشفوي حيمل يف طياته تناقضات كثرية مع التاريخ املدون ،من ذلك أن أغلب الروايات الشفوية تسودها ثالثة مفاهيم ثقافية مهمة هي افتقارها ملفهوم القياس الزمين ،و عدم وضوح الفكرة التارخيية فيها ،و الثالثة 3النظر إىل املاضي مبثالية كبرية و هذا كله يشكل إحدى املشكالت 3اليت تواجه البحث يف التاريخ الشفهي. متثل املقابلة الشخصية ألجل تسجيل النص الشفوي أبعادا نفسية و إنسانية 3،ال ميكن الوصول إليها إال من خالل النص املكتوب ،فاملؤرخ يف هذه احلالة يعيش األحداث التارخيية اليت يدرسها عرب بعض املشاركني فيها أو ممن مسعها ،و له إمكانية 3احلوار املباشر معهم ،و استيضاحهم جوانب كثرية عن املاضي ،كما يستفيد املؤرخ بطريقة مباشرة من االنطباع العام الذي تركته األحداث الالحقة يف نفس الفرد ،الذي شارك يف صنع احلدث أو شهده أو مسعه ،و هذا بدوره يسهم يف ضبط االستنتاجات العلمية اليت يتوصل إليها الباحث ،و أيضا عن طريق اكتشاف حقيقة األهداف اليت توخاها أولئك الناس من صنع أحداث حمددة. يعد مكان املقابلة ركنا أساسيا من أركان املقابلة الشخصية الناجحة ،و هو يؤثر بشكل كبري على سريها و على نوعية 3البيانات اليت حيتفظ هبا الراوي ،و املكان 3له خصوصية لدى الكثريين فعلماء النفس يستخدمونه لتعديل السلوك ،ففيه تكمن ذكرياهتم و بني ثناياه ختتبئ جتربتهم يف احلياة. ينبغي على الباحث يف التاريخ الشفوي أثناء إجراء املقابلة أن يرصد األوقات اليت تصلح إلجراء املقابلة الفعلية مع الراوي ،و ليس بالضرورة أن يرتك حتديد الوقت للراوي فقط كما يقرر بعض الباحثني ،بل جيب أن يشاركه يف ذلك أيضا ،ألن الباحث له هدف ورؤية من ذلك ،تعد املقابلة فرصة للباحث كي ميتحن فيها الراوي و يعرف مدى صلته باألحداث أو مشاركته فيها ،و حجم و نوعية البيانات 3واملعلومات اليت ميتلكها ،فإذا اكتشف الباحث أنه ليس بإمكان الراوي أن يكون 3مفيدا له ،ينسحب من املوقف ،أما إذا تبني للباحث أن لدى الراوي ما يفيد حبثه فعليه أن حيدد معه موعدا إلجراء املقابلة و تسجيلها. لذا وجب علينا االهتمام بالتاريخ الشفوي هبدف إنقاذ ما ميكن إنقاذه من معلومات ووقائع تارخيية و تدوينها و توثيقها ،و العمل على تصحيح كل ما كتب حىت اآلن من قبل بعض املؤرخني األجانب و نقدهم. تتألف عملية البحث يف جمال الرتاث الشفوي من ثالث مراحل متتالية هي: -مجع املادة من مصادرها الشفوية3. -تصنيف 3ما مت مجعه و فهرسته و إيداعه 3يف أرشيف. -الدراسة و التحليل. و لعله من املفيد جدا اإلطالع 3على العمل اجليد الذي ألفه كولو ديفز بعنوان 3التاريخ الشفوي من الشريط إىل الورق ،و يف أربعة فصول حتدث املؤلفون عن خطوات مجع التاريخ الشفوي و حتويل الرواية الشفوية 3إىل تاريخ مدون ،و لقاء العامة و نشر التاريخ الشفوي ،و أخريا إدراك التاريخ الشفوي.