You are on page 1of 9

‫‪.

‬وزارة التربية و التعليم الوطني‬


‫المـــادة‪ :‬فلســـفة‬ ‫– مديرية التربية – باتنة‬
‫األستاذ‪:‬بومعراف رياض‬ ‫‪ -‬ثانوية تيمقاد – باتنة‬
‫نـوع النــشاط ‪ :‬درس نظــري‬
‫‪:...................‬رقم المذكرة‬ ‫حجمها الساعي‬ ‫‪:‬المــجال التعلمي(اإلشكالية األولى)‪ :‬في إدراك العـالم الخارجي‪.‬‬
‫‪:....................‬تاريخها‬ ‫حجمها الساعي‪:‬‬ ‫المــحور التعلمي(المشكلة الثانية)‪ :‬في اللغة والفكر‬
‫‪.‬الفئة المستهدفة‪ 3 :‬آ‪ .‬ف‬
‫‪:............................................‬الكـفاءة الختامية‬

‫‪:...........................................‬الكفـاءة المحورية‬

‫‪:.............................................‬الكفـاءة الخاصة‬

‫ا‬ ‫ال‬ ‫ا‬ ‫ا‬


‫ل‬ ‫النشاط التعلمي‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫التقويم و‬ ‫المحتوى المنهجي‬ ‫ل‬
‫ز‬ ‫ومحتواه المعرفي‬ ‫س‬ ‫ط‬ ‫أنواعه‬ ‫ق‬
‫م‬ ‫ائ‬ ‫ر‬ ‫خطوات الدرس و مؤشراته‬ ‫د‬
‫ن‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫ر‬
‫الت‬ ‫ا‬
‫االنطالق من معارف قبلية‬ ‫ا‬ ‫أسئلة‬ ‫أسئلة مراجعة‬ ‫ب‬
‫لدرس سابق للتمهيد‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫تشخيصيةغر‬ ‫ن‬
‫سب‬ ‫ح‬ ‫ضها معرفة‬ ‫ا‬
‫و‬ ‫و‬ ‫مدى التحكم‬ ‫ء‬
‫رة‬ ‫ا‬ ‫في المعارف‬
‫السابقة من‬ ‫ا‬
‫ر‬ ‫أجل معاينة‬ ‫لـ‬
‫أ‪ -‬البناء المفاهيمي‬ ‫الك‬ ‫ا‬ ‫المقدمة‪:‬طرح المشكلة‪ :‬إذا لم تكن اللغة مجرد أصوات نحدثها وال مجرد رسوم‬ ‫ا‬
‫تا‬ ‫ل‬ ‫نخطها‪ ،‬فما عساها أن تكون؟ أليست عبارة عن إشارات ورموز نبدعها لتساعدنا على تنظيم‬ ‫ل‬
‫العالم الخارجي‬ ‫ب‬ ‫ح‬ ‫حياتنا الداخلية وعلى تحقيق التواصل مع غيرنا فضال عن تحديد عالقاتنا مع عالم األشياء ؟‬
‫م‬
‫اإلحساس‬ ‫الم‬ ‫و‬ ‫ف‬
‫اإلدراك‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫ه‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫و‬
‫س‬ ‫م‬
‫ي‬ ‫و‬
‫ب ‪ -‬البناء اإلشكالي‬ ‫تقويم تكويني‪.‬‬ ‫مقدمة‪ :‬طرح المشكلة‬
‫‪:‬إدراك طبيعة المشكلة‬ ‫حيوي عا ّم ‪ ،‬فَفي َم تتمثل طبيعتها ؟‬ ‫ّ‬ ‫‪ .I‬إذا لم تكن اللغة مجرد تعبير انفعالي ‪ ،‬أو نشاط‬
‫غرضه‬ ‫ـ أوال ‪ :‬أشكال التعبير االنفعالي ‪:‬‬
‫والمفارقة التي تتضمنها‬ ‫إكساب المتعلم‬ ‫‪ ‬مالحظة وضعيات والتعليق عليها ‪:‬‬
‫مما يدفع بالمتعلم إلى القلق‬ ‫كفاءة‬ ‫* لنتوقف عند اآلية الكريمة التي يشير فيها القرآن إلى قصة النبي سليمان –عليه السالم‪ -‬مع النملة‬
‫والتأمل والبحث العقلي‬ ‫‪.‬المشكلة‬ ‫ت نَ ْملَةٌ يَا أَيُّهَا النَّ ْم ُل ا ْد ُخلُوا َم َسا ِكنَ ُك ْ‪A‬م الَ‬
‫في قول هللا تعالى‪ " :‬حتَّى إِ َذا أَتَوْ ا َعلَى َوا ِدي النَّ ْم ِل قَالَ ْ‬
‫يَحْ ِط َمنَّ ُك ْم ُسلَ ْي َمانُ َو ُجنُو ُدهُ َوهُ ْم الَ يَ ْش ُعرُونَ" سورة النمل ‪18‬‬
‫‪ -‬التعليق عليها‪:‬‬
‫ـ ثانيا ً ‪ :‬التعبير من التكيف إلى الوعي‪:‬‬
‫ـ ثالثا‪ :‬اللغة خاصية إنسانية فريدة ‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫وما األسس التي تقوم عليها بوصفها بنية رمزية تطبع نشاط الفكر وتترجم إبداعاته ؟‬ ‫‪.I‬‬
‫‪ ‬عرض وضعية مشكلة ‪:‬‬
‫ا‬ ‫لنتم ّعن فيما يقوله باحث متخصص (ح) ألحد مرافقيه (ق) وهو يحاوره ‪:‬‬
‫ل‬ ‫ـ (ح) ‪ :‬ألم تالحظ أنّ استقراء آيات القرآن الكريم يجعلنا نقف على هذه الحقيقة ‪:‬‬
‫الك‬ ‫إنّه لم يستخدم مصطلح اللغة بل استخدم مصطلح اللسان ‪ ،‬عندما يتحدث عن الرسل وما جاؤوا‬
‫ح‬ ‫لتبليغه ؟‬
‫تا‬
‫و‬ ‫‪ -‬تحليل الوضعية المشكلة ‪:‬‬
‫ب‬
‫ا‬ ‫ـ أوال‪ :‬اللغة واللسان والكالم ‪:‬‬
‫الم‬ ‫عناصر مفهوم اللغة ‪:‬‬ ‫‪.1‬‬
‫ر‬
‫د‬ ‫عناصر مفهوم اللسان ‪:‬‬ ‫‪.2‬‬
‫ر‬ ‫عناصر مفهوم الكالم ‪:‬‬ ‫‪.3‬‬
‫و‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫س‬ ‫ـ ثانيا ً ‪ :‬طبيعة الرمز والداللة ‪:‬‬
‫ي‬ ‫‪ .1‬بنية الكالم ‪:‬‬
‫ا‬
‫مع‬ ‫‪ .2‬الرمز وأنواع الداللة ‪:‬‬
‫ل‬ ‫‪ .3‬العالقة بين األلفاظ واألشياء ‪ - :‬العالقة ضرورية ‪ -‬العالقة اعتباطية ‪.‬‬
‫ج‬
‫م‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫م‬ ‫ـ ثالثا ‪ :‬تبادلية اللغة والفكر‪:‬‬
‫ش‬
‫فل‬ ‫‪ .1‬الفكر منفصل عن اللغة ‪:‬‬
‫ا‬
‫سف‬ ‫ـ أن اللغة محدودة و تتجلى محدوديتها في مستويين هما ‪:‬‬
‫ر‬
‫ي‬
‫ك‬ ‫‪ -‬التعبير عن األشياء الخارجية ‪:‬‬
‫ة‬ ‫‪ -‬التعبير عن الذات‬
‫‪ .2‬الفكر واللغة متّصالن ‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سر للغة أن تحقق التبليغ والتواصل بالرغم من تنوعها وتعدّد نشاطاتها ؟‬ ‫ثم كيف يتي ّ‬ ‫‪.II‬‬
‫عرض وضعية مشكلة (وهي تتألف من محطتين مختلفتين) ‪:‬‬ ‫‪‬‬
‫* المحطة األولى ‪:‬‬
‫يشدّك في تأ ّمل األشهر األولى من حياة المولود‬
‫* المحطة الثانية ‪:‬‬
‫يستوقفك شخص في الشارع ويسألك عن مكان ما يريد منك أن ترشده إليه‪ ،‬لكنه يتحدث معك بلغة‬
‫ال تعرفها‬
‫‪ -‬تحليل الوضعية المشكلة‪:‬‬
‫‪ .1‬التبليغ والتواصل االجتماعي ‪ :‬أ ‪ -‬مفهوم التواصل ‪ .‬ب‪ -‬شروط التواصل‪ .‬وظائف اللغة‪...‬‬
‫خاتمة‪ :‬حل المشكلة‬

‫ال‬
‫ال‬
‫النشاط التعلمي‬ ‫و‬ ‫التقويم و أنواعه‬ ‫المحتوى المنهجي‬
‫ط‬
‫ومحتواه المعرفي‬ ‫س‬
‫ر‬
‫ا‬ ‫خطوات الدرس و‬
‫ق‬ ‫ال‬
‫ئ‬ ‫مؤشراته‬
‫ال‬ ‫ق‬
‫ل‬
‫ز‬ ‫ال‬ ‫د‬
‫ال‬
‫م‬ ‫ت‬ ‫ر‬
‫ت‬
‫ن‬ ‫ع‬ ‫ا‬
‫ع‬
‫ل‬ ‫ت‬
‫ل‬
‫م‬
‫م‬
‫ي‬
‫ي‬
‫ة‬
‫ة‬
‫مقدمة‪ :‬طرح المشكلة‬
‫من المتعارف عليه أن اللغة‪ ،‬كنسق وكظاهرة‪ ،‬تشير إلى األشياء خاصة المادية وتجردها في‬
‫أصوات أو خطوط تغني المتكلم أو القارئ عن إحضارها‪ .‬وعندما نتأمل في صورها وأشكالها نجد‬
‫أنها من التنوع‪ A‬بحيث يصعب حصرها في كيفية واحدة‪ :‬فالكالم لغة‪ ،‬واإليماءات‪ A‬لغة والموسيقى‬
‫لغة‪...‬إلخ‪ ،‬وهي بهذه الكيفيات‪ A‬تراث يرتبط بكينونة الكائن وحضارة اإلنسان‪ .‬ومن هنا ارتبطت‬
‫اللغة دوما ً بطبيعة متميزة‪ A‬وأهمية خاصة‪.‬‬
‫وفي رحلة البحث عن بيان طبيعتها‪ ،‬والكشف عن أهميتها َو َجب أن نتساءل‪ :‬إذا لم تكن اللغة‬
‫مجرد أصوات نحدثها وال مجرد رسوم نخطها‪ ،‬فما عساها أن تكون؟ أليست عبارة عن إشارات‬
‫ورموز نبدعها لتساعدنا على تنظيم‪ A‬حياتنا الداخلية وعلى تحقيق‪ A‬التواصل مع غيرنا فضال عن‬
‫تحديد عالقاتنا مع عالم األشياء ؟‬
‫حيوي عا ّم ‪ ،‬ففي َم تتمثل طبيعتها ؟‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫‪ I‬إ ذا لم تكن اللغة مجرد تعبير انفعالي‪ ،‬أو نشاط‬
‫ـ أوال ‪ :‬أشكال التعبير االنفعالي‪:‬‬
‫‪ ‬مالحظة وضعيات والتعليق عليها‪:‬‬
‫* لنتوقف عند اآلية الكريمة التي يشير فيها القرآن إلى قصة النبي سليمان (ع) مع النملة في‬
‫ت نَ ْملَةٌ يَا أَيُّهَا النَّ ْم ُل ا ْد ُخلُوا َم َسا ِكنَ ُك ْ‪A‬م الَ يَحْ ِط َمنَّ ُك ْم‬
‫قوله تعالى‪ " :‬حتَّى إِ َذا أَتَوْ ا َعلَى َوا ِدي النَّ ْم ِل قَالَ ْ‬
‫ُسلَ ْي َمانُ َو ُجنُو ُدهُ َوهُ ْم الَ يَ ْش ُعرُونَ " ‪ .‬سورة النمل ‪ ،‬اآلية ‪.18 ،‬‬
‫* ولنتأمل في مجتمع الحشرات ؛ إننا ننبهر بقدرة أفراده على االتصال فيما بينهم من خالل‬
‫الحركات واإلشارات‪ ،‬واإلفرازات الكيميائية؛ األمر الذي يجعل البعض منا ال يتر ّدد في االعتراف‬
‫بوجود (لغة) لديها؛ فقد وصف المجري كارل فون فريتش طريقة التواصل بين النحل ‪ ،‬حيث تقوم‬
‫النحلة التي تجد الطعام (الرحيق) برقصات دائرية تحرك فيها أجنحتها وذيلها‪ ،‬تخبر من خاللها‬
‫بقية العامالت بمكان وجوده وموضعه وبعده عن الخلية ‪ ،‬مستعينة في ذلك بمعالم منها‪ : A‬موقع‬
‫الخلية وموضع الشمس‪ ،‬وهذا ما يسمح لبقية العامالت من الوصول إليه بدقة‪ ،‬األمر الذي أكدته‬
‫مالحظات هذا العالم ‪.‬‬
‫* ولننظر في عالم الطيور؛ بالتأكيد إننا سنُعجب مما ير ّدده طائر الببغاء من الرسائل الصوتية‬
‫المقلدة‪ ،‬فال نملك إال أن ننسب إليه قدرة ما على (التخاطب والتعبير)‪.‬‬
‫* وأخيرا‪ ،‬لنتأمل بعض اإلشارات الطبيعية عند اإلنسان وبعض الفقاريات العليا (كالشمبانزي)؛‬
‫إن بشاشة الوجه والتبسم عالمتان تدالّن على الرضا والسرور‪ ،‬وعبوس الوجه والصراخ يدالّن‬
‫على التألم والحزن؛ وفي هذا المستوى ال يختلف تعبير اإلنسان عن تعبير الحيوان كثيرا‪ .‬لكن‬
‫اإلنسان يمكنه اللجوء أيضا إلى بعض اإلشارات االصطالحية؛ كأن يعبّر عن حاله بقوله‪ " :‬أنا‬
‫فر ٌح ومسرور‪ ،‬أو أنا حزين وأتألم "!‬
‫‪ -‬التعليق عليها‪:‬‬
‫(*) في الوضعية األولى‪ ،‬نقول ‪ :‬إنه من الجحود إنكار وجود اتصال بين أفراد النوع الواحد مثل‬
‫أن طبيعة هذا االتصال ومكوناته‪ ،‬ال تشبه ما في لغة اإلنسان؛‬ ‫النمل (كما ورد في اآلية) ‪ ،‬إالّ ّ‬
‫فاإلشارات واألصوات التي يستخدمها الحيوان محدودة العدد‪ ،‬كما أنّها فطرية تولد مع الكائن‪،‬‬
‫باإلضافة إلى أنّها نوعية أي ال يتمايز فيها أفراد النوع الواحد‪.‬‬
‫رسل (النحلة التي قامت بالرقصة)‬ ‫إن تحليل الوضعية الثانية يضفي بنا إلى اإلقرار بوجود ُم ِ‬ ‫(*) ّ‬
‫و ُمر َس ل إليه (بقية عامالت الخلية)‪ ،‬ورسالة (اإلشارة عن طريق الحركات والتي تخبر عن وجود‬
‫الطعام وموضعه وبُعده)؛ فهذا التحليل األوّ لي ال يدع مجاالً للبعض إلنكار وجود لغة‪ ،‬بل يقرّ بها‬
‫(أي بوجود لغة) يتواصل بها النحل‪.‬‬
‫لكن تحليل علم النفس السلوكي ال يوافق على هذه النتيجة‪ ،‬فما الحظه فون فريتش ال يزيد‬
‫عن كونه سلوكا غريزيا يحركه منبّه طبيعي يؤدي إلى استجابة آلية؛ بل أن تجارب إيفان بافلوف‬
‫تثبت‪ A‬أنّه يمكن تعليم الحيوان فقط استجابة شرطية لمنبّهات غير طبيعية ‪ .‬والعالقة بين الرقصات‬
‫(اإلشارة) واتجاه العامالت إلى موضع الطعام (االستجابة) ال يمكن أن تتصورها النحلة (أي لم‬
‫خال من التفكير ‪.‬‬ ‫تنبع‪ A‬من تفكير ولم يصحبها تفكير)‪ ،‬فهي مجرّ د ر ّد فعل آلي ٍ‬
‫أن عالم الحيوان‪ ،‬وإن كان يتواصل باستخدام (رموز وإشارات) لكنها خالية‬ ‫وبالتالي نخلص إلى ّ‬
‫خال من (الحوار)‪ ،‬فالنحلة التي تتلقى‬ ‫أن التواصل الحيواني ٍ‬ ‫من الذكاء والتفكير‪ .‬والمالحظة الثانية هي ّ‬
‫المعلومة والرسالة (اإلشارة) ال تجيب برقصة أخرى لتعيد إنتاج الرسالة‪ ،‬بل تقوم بسلوك وهو الطيران‬
‫إلى الموضع المعلن عنه‪.‬‬
‫أن الحيوان قد‬ ‫(*) إن اللغة‪ -‬انطالقا من الوضعية الثالثة‪ -‬ليست مجرد ظاهرة فيزيولوجية ذلك ّ‬
‫ينتج األصوات واإلشارات الحركية‪ ،‬لكنها مجرد استجابات انفعالية لمؤثرات خارجية أو داخلية‬
‫تسبب‪ A‬له اللذة أو األلم ‪ ،‬وهي خالية من التصورات (األفكار)‪ .‬لذا فالحيوان عاجز عن التعبير‪A‬‬
‫بواسطة اللغة وهذا العجز ال ينشأ من نقص األعضاء (العجز المادي)؛ بل بسبب‪ A‬غياب الوعي‬
‫(العقل والفكر)‪ .‬وهنا يقول ديكارت (‪.. ":)1650 -1596‬إنّك تجد العقعق والببغاء‪ A‬يستطيعان أن‬
‫ينطقا بعض األلفاظ مثلنا‪ ،‬ولكنّك ال تجدهما قادرين مثلنا على الكالم‪ ،‬أعني كالما ً يشهد بأنّهما‬
‫يعيان ما يقوالن " ‪ .‬على أالّ يفهم من الكالم هنا فقط القدرة على إنشاء أصوات ونطقها ‪ ،‬بل يقصد‬
‫التعبير‪ .‬وهو الذي جعل أبا الفلسفة الحديثة يعتبر‪ A‬اللغة‪ ،‬من حيث أنها ملكة تأليف الكالم وترتيب‬
‫األلفاظ المختلفة يعبر بها عن المعاني العقلية التي يعجّ بها الفكر‪ ،‬فيصالً يميز‪ A‬بين اإلنسان‬
‫والحيوان‪ ،‬فال يدخل في ذلك ما يصدره الحيوان من أصوات ومقاطع صوتية ألنّها ال تعبر عن‬
‫فكر وال يسبقها‪ A‬تفكير‪ ،‬بل هي انعكاس شرطي لبيئته الطبيعية وطبيعته الحيوانية العجماء‪.‬‬
‫ويؤكد صحة ما ذهب إليه ديكارت قصة األمريكية هيلين كيلر(‪Helen Adams Keller 1880-‬‬
‫‪ ،) 1968‬وهي فتاة ولدت عمياء و صماء و بكماء ومع ذلك تمكنت من تعلم لغة خاصة تستخدم فيها‬
‫حركات األصابع‪ ،‬وتفهم اآلخرين من خالل استعمال حاسة اللمس‪ ،‬واستطاعت أن تتغلب على‬
‫إعاقتها؛ فلم يمنعها الصمم والعمى والخرس من التواصل مع الغير‪ ،‬بل صارت ‪ ،‬وهي األديبة‬
‫والمحاضرة والناشطة األمريكية‪ ،‬إحدى رموز اإلرادة اإلنسانية‪.‬‬
‫ونخلص إذن‪ ،‬من تحليل الوضعيات الثالث األولى إلى النتائج التالية‪:‬‬
‫‪ -‬إن التعبير لدى الحيوان فطري وراثي‪ ،‬وهذا ما يجعله مرتبطا بالغريزة حيث أنّه ينطلق منها‪A‬‬
‫ويعبّر‪ A‬عنها وال يتجاوزها؛ لذا ال يستطيع الحيوان أن يغيره ألنه جزء من موروثه البيولوجي ‪.‬‬
‫‪ -‬إن الحيوان ُمع ٌّد للتعبير عن بعض الحاالت الطبيعية المرتبطة بالحياة وحفظ البقاء‪ ،‬فمثالً موضوع‬
‫الرسالة في رقصات النحل ينحصر في مكان وجود الطعام وبُعده عن الخلية فقط‪ ،‬لذا فلغة الحيوان ال‬
‫تعدو أن تكون نظاما ً إشاريا ً مغلقا ً وبدائياً‪ ،‬والنحلة – كما رأينا‪ -‬التي تخبر بموضع الطعام وبُعده عن‬
‫الخلية ال تخبر عن كميته ونوعيته‪.‬‬
‫أن شكل االتصال عند الحيوانات يندرج ضمن األساليب المنعكسة ؛ وهي نماذج نمطية‬ ‫‪ -‬كما ّ‬
‫توصل معلومات‪ A‬لكن بطريقة غير إرادية وخالية من القصد‪.‬‬
‫أن اإلشارة أو الرسالة التي يرسلها الحيوان ال يمكن تحليلها وتفكيكها‪ A‬وتجزئتها‪،‬‬ ‫‪ -‬باإلضافة إلى ّ‬
‫فالمسافة والموضع يتجليان في رقصة النحلة وال ينف ّكان عنها على النقيض من الكلمات التي‬
‫يستخدمها‪ A‬اإلنسان والتي يمكن أن تُف ّكك وتُستخدم لإلشارة إلى أشياء أخرى‪.‬‬
‫ـ ثانيا ً ‪ :‬التعبير من التكيف إلى الوعي‪:‬‬
‫إن محاولة حل المشكلة يبتدئ أوال من اإلقرار بحقيقة أن اإلنسان بإمكانه أن يعبّر عن أفكاره‬
‫وأحواله النفسية بالطريقتين معا (مما تضمنته الوضعية األخيرة) ‪:‬‬
‫ألن لإلنسان ملكة فطرية تساعده على‬ ‫أ‪ -‬باإلشارات الطبيعية‪ :‬وهي التي ال تحتاج إلى تعلم ؛ ّ‬
‫فهمها ‪ ،‬وإن كانت تخبر بشيء حاضر أو غائب ظاهر أو خفي‪ ،‬إالّ أنّها مجرد انعكاس شرطي لمنبه‬
‫داخلي أو خارجي‪ ،‬وقراءتها تعتمد على مبدأ العلية (السببية) األمر الذي قد يكون سببا ً للخطأ‪.‬‬
‫فاإلشارات الطبيعية من تبسم وبشاشة وجه ‪ ،‬أو عبوس وصراخ وبكاء‪ ،‬تعتبر عند اللغويين عالمات‬
‫طبيعية أي "‪..‬حادث ُم ْدرك بالحواس‪ ، A‬ينقل الذهن إلى تصور حادث آخر غير مدرك أو غير ممكن‬
‫اإلدراك [عن طريق الحواس] "‪ ،‬فنحن نفسر التبسم وبشاشة الوجه على أنّه عالمة على السرور‬
‫والفرح والرضا‪ A،‬بينما يعني الصراخ والبكاء التألم‪ A‬والحزن‪ .‬فبالرغم من كونهما عالمتين تشيران‬
‫أن ذلك ال يبرر اعتبارهما عالمتين لغويتين‪ ،‬وسبب ذلك أن التبسم‬ ‫وتحمالن معنى غير ظاهر‪ ،‬إالّ ّ‬
‫والضحك أو الصراخ والبكاء عالمات غير قابلة للتحليل والتفكيك ‪ ،‬أي أنها كتلة واحدة ال تتجزأ‪،‬‬
‫ولو حاولنا تفكيكها فقدت قدرتها على الداللة فال تصير ذات معنى ‪ ،‬فالصوت (أيْ ) لو جزء إلى‪:‬‬
‫( أ ) و ( يْ )‪ ،‬لما فهما منه أنه يشير إلى األلم‪ .‬كما أنّهما رد فعل آلي لمثير داخلي أو خارجي؛ فهما‬
‫أقرب إلى كونهما سلوكا من كونهما عالمتين لغويتين‪.‬‬
‫ب‪ -‬وباإلشارات االصطالحية‪ A:‬وهي نسق من الرموز االتفاقية المكتسبة بالتعلم‪ .‬وهذه الرموز‬
‫واإلشارات يتواضع عليها البشر ويتفاهمون من خاللها وال نجد لها مثيالً في عالم الحيوان األمر الذي‬
‫يبرر حصر اللغة في اإلنسان خاصة إذا تعلق األمر بـ(الكالم)‪ .‬أما اإلشارات االصطالحية الواردة في‬
‫الجملتين (أنا فرح‪ A‬ومسرور) أو (أنا حزين وأتألم)‪ ،‬فيسميهما اللغويون عالمات لغوية وسبب ذلك أنّها‬
‫عالمات صوتية رمزية‪ A،‬إذ ال يوجد ترابط طبيعي بين كلمة (مسرور) والحالة النفسية التي أشعر بها‪،‬‬
‫عكس ما هو عليه الحال في اإلشارة الطبيعية التي ترتبط‪ A‬بما تشير‪ A‬وتد ّل عليه مثالً‪ :‬الدخان ال ينف ّك عن‬
‫أن كل كلمة وردت في الجملتين السابقتين يمكن أن توظف في جملة أخرى‬ ‫النار بل يشير إليها‪ .‬كما ّ‬
‫مثال ذلك (أنا) يمكن أن أوظفها في جملة أخرى فأقول‪( :‬أنا تلميذ في السنه الثالثة ثانوي)‪ .‬ثم أن الجملة‬
‫(أنا فرح‪ A‬ومسرور) تقبل التفكيك إلى وحدات صوتية دنيا (أقل) لك ّل وحدة صورة صوتية خاصة ومعنى‬
‫خاص؛ فلو فككناها إلى ما يلي‪( :‬أنا)‪( ،‬فرح)‪( ،‬و)‪( ،‬مسرور) نالحظ ّ‬
‫أن ك ّل وحدة قابلة لالنفكاك عن‬
‫معان مختلفة ‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫المجموع ويمكن أن توظف في جمل أخرى لتؤدي‬
‫أن الحيوانات ال تمتلك (لغة) بالمعنى الدقيق للكلمة؛ فاإلقرار‬ ‫م ّما سبق يمكن أن نستنتج ّ‬
‫بوجود لغة عند الحيوان أمر فيه توسع مبالغ فيه وغير مقبول‪ ،‬وأنها لدى اإلنسان ليست مجرد‬
‫تعبيرات‪ A‬انفعالية فطرية‪ ،‬بل تتجاوز ذلك إلى اصطناع اإلشارات االصطالحية المتفق عليها‬
‫بالتواضع والترميز‪.‬‬
‫ـ ثالثا‪ :‬اللغة خاصية إنسانية فريدة ‪:‬‬
‫وإذا كان األمر كذلك‪ ،‬فإنه يتحتّم طرح السؤال التالي‪ :‬كيف يمكن اعتبار اللغة االصطالحية‬
‫وحدها هي ما يميّز اإلنسان؟ بل كيف يمكن حصره فيها بالماهية؟‬
‫قد يتبادر للكثير منا أن يميز لغة اإلنسان عن لغة الحيوان انطالقا ً من الفرق الكمي الذي تزخر به‬
‫لغة البشر مقارنة باللغة المحدودة للحيوانات‪ .‬لذا فالتباين الكمي في نسق الرموز واإلشارات التي‬
‫يتواصل بها البشر يتجاوز بعدة أضعاف منظومة اإلشارات الحيوانية‪ ،‬خاصة التي تعيش في مجموعات‬
‫كما هو الحال عند قردة الشمبانزي التي رُصد لها حوالي ‪ 35‬صواتاً‪ ،‬لكن هذا الفارق الكمي ال يقارن‬
‫بالفارق الكيفي الموجود بينهما‪.‬‬
‫وهذا ما جعل جورج غسدورف يعتبر‪ A‬اللغة كلمة السر التي تدخل الطفل العالم اإلنساني‬
‫مستثمراً التجربة التي قام بها بعض علماء النفس بين طفل وقرد صغير‪ ،‬حيث الحظ العلماء تشابه‬
‫االستجابات وتساوي القدرة على المنافسة‪ .‬لكن الفارق سرعان ما بدأ في الظهور وتعمق بعد أن‬
‫تعلم الطفل اللّغة‪ ،‬بينما بقي القرد حبيس المحيط الطبيعي و عالم الغريزة؛"‪..‬فالح ّد الذي يفصل‬
‫بينهما هنا فصالً مطلقا ً هو عتبة اللغة "‪ .‬وال يتوقف األمر عند حدود هذا االستنتاج‪ A،‬بل أن ذلك‬
‫يفنّد الطابع المادي للغة‪ ،‬الذي يروّ ج له بعض األطباء وعلماء التشريح؛ فالشروط العضوية من‬
‫دماغ وحبال صوتية ولسان وتجاويف أنفية وفموية تقوم باألساس بوظائف حيوية عضوية‪ :‬إذ‬
‫اللّسان موضوع للتذوق بينما استخدامه في الكالم يعتبر‪ A‬وظيفة ثانوية‪ ،‬بل أن " الكالم يبدو أنّه‬
‫ألن " ‪..‬وظيفة الكالم‬ ‫وظيفة ال عضو لها خاصا ً بها "‪،‬ومن هنا فالشروط العضوية ال تنتج اللغة ّ‬
‫في جوهرها ليست وظيفة عضوية بل هي وظيفة ذهنية وروحية "‪.‬‬
‫ولعلّ المقارنة بين لغة اإلنسان وما يطلق عليه مجازاً (لغة الحيوان) كفيلة بإثبات صحة هذا‬
‫الطرح من حيث أن لغة اإلنسان تتميّز بخصائص تنفرد بها أهمها‪:‬‬
‫* أنّها مكتسبة عن طريق التعلم ‪ ،‬لذلك فهي ليست موروثا ً بيولوجيا ً بل ميراث اجتماعي ثقافي‬
‫يتغير‪ A‬عبر التاريخ‪ ،‬عكس تعبيرات الحيوان الجامدة المتصلبة ‪.‬‬
‫* يرتبط‪ A‬وجودها عند اإلنسان بالعقل وأثره فيها مدهش‪ ،‬فبدونه تكون مجرد ضوضاء خالية من‬
‫المعنى‪ ،‬وهذا ينسحب‪ A‬على المقاطع الصوتية التي يصدرها األخرس حيث أنّه يربطها باإلشارات‬
‫أن النّاس الذين ولدوا صما بكما‪،‬‬ ‫معان يقصد من خاللها التواصل؛ "‪..‬ففي حين ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الحركية لتدل على‬
‫و ُح رموا من األعضاء التي يستخدمها غيرهم للكالم‪ ،‬كحرمان الحيوانات أو أكثر‪ ،‬قد اعتادوا أن‬
‫أن معرفة‬ ‫يخترعوا من تلقاء أنفسهم إشارات يفهمها من يجد الفرصة الكافية لتعلم لغتهم؛ إننّا نرى ّ‬
‫الكالم ال تستلزم إالّ القليل من العقل"‪.‬‬
‫* تتصف بازدواجية خاصية الكالم‪ ،‬إذ لها بنية مركبة تنقسم إلى مستويين‪:‬‬
‫أ‪ .‬المستوى الصوتي‪ :‬ويتمثل في األصوات التي نصدرها أثناء الكالم حيث تتآلف‬
‫األصوات في مقاطع لتصير كلمات محددة ذات معنى‪.‬‬
‫ب‪ .‬المستوى التركيبي‪ :‬وهو الذي يتضمن عناصر مركبة ذات معنى (الجمل)‪ ،‬على أن ال يتوقف‬
‫التركيب على المفردات فقط بل على القواعد النحوية والصرفية‪.‬‬
‫* لها قدرة التحوّ ل من حيث أنها تمنح اإلنسان المقدرة على أن يتكلم عن األشياء واألحداث عبر‬
‫الزمان والمكان‪ .‬ولغة اإلنسان ليست مرتبطة فقط باللحظة الراهنة‪ ،‬بل تعود إلى الماضي وتنفذ إلى‬
‫المستقبل‪ ،‬وال تخبر عن األشياء المادية فقط بل التصورات الفكرية‪.‬‬
‫* ولها قابلية االنتقال فهي تكتسب‪ A‬بالتعلم والمحاكاة‪ ،‬والذي يتيح ذلك وجود قدرة واستعداد فطري‬
‫يسمح لإلنسان بذلك‪ ،‬ولهذا تنتقل اللغة من جيل إلى جيل‪ .‬ليس هذا فحسب‪ ،‬بل يمكن للفرد أن يتعلم‬
‫لغة خارج جماعته اللغوية‪ ،‬فالعربي بإمكانه أن يتعلم لغة الفرنسي والعكس‪ ،‬بينما‪ A‬هذا غير ممكن‬
‫في عالم الحيوان فالنحلة ال يمكنها أن تتعلم لغة غيرها‪.‬‬
‫* واللغة عند اإلنسان ترتبط‪ A‬باإلبداعية كتنظيم كالمي مفتوح‪ A‬يسمح بإنتاج‪ A‬وفهم عدد ال محدود من‬
‫الجمل حتى التي لم يسبق سماعها‪ ،‬فاإلنسان ال يردد فقط ما سمعه بل يجدد‪ ،‬وهذا الرتباطها‪A‬‬
‫بالفكر‪ ،‬األمر الذي يجعلها تالئم كل أوضاع المتكلم‪ .‬وبالرغم من أن جهاز النطق اإلنساني‬
‫(الحنجرة اللسان‪ ،‬الحبال الصوتية‪..‬إلخ) محدود الحجم واألوضاع بحيث ينتج أصواتا ً محدودة‪.." ،‬‬
‫ومع هذا العدد المحدود من األصوات والحركات ننتج من التراكيب‪ A‬الصوتية (الكلمات) ما ال‬
‫حصر له (ماليين الكلمات)‪ ،‬وال يستنفد‪ A‬هذا العدد إمكانياتنا إلنتاج‪ A‬كلمات جديدة وفقا ً لقواعد اللغة‬
‫المصطلح عليها"‪.‬‬
‫* كما تتسع لغة اإلنسان للتعبير‪ A‬عن خبراته وتجاربه ومعارفه‪ ،‬بل تتعدى ذلك إلى التعبير‪ A‬عن‬
‫التصورات العقلية والقيم الجمالية والمعاني النفسية‪ ،‬بعكس‪ A‬لغة الحيوان التي ال تتعدى حاجاته‬
‫البيولوجية الغريزية‪ ،‬أو االنفعاالت األولية من لذة وألم‪.‬‬
‫* واللغة عند اإلنسان ال ترتبط بالعقل فقط‪ ،‬بل باإلرادة أيضاً‪ ،‬وهذا هو النمط الثاني من أشكال‬
‫االتصال‪ ،‬وهو األسلوب المقصود؛ فاإلنسان يستعمل اإلشارات والرموز بوعي ويستخدمها‪A‬‬
‫لتحقيق أغراضه وهو يقصد بها ذلك‪ .‬ودليل خضوع التعبير‪ A‬اللغوي لسلطان اإلرادة مقدرة اإلنسان‬
‫على الكذب‪ ،‬فتطوّ ر وتعقّد مظاهر الحياة االجتماعية خَ لَق دوافع أخرى للكالم غير طلب الحاجة‬
‫واإلخبار‪ ،‬بل خَ لَق أغراضا ً أخرى كالعبث‪ A‬والمراوغة واإلغراء‪ ،‬فاإلنسان هو الكائن الوحيد الذي‬
‫يتع ّمد‪ A‬الكذب‪.‬‬
‫مما سبق يجب اإلقرار بتفرّ د اإلنسان باللغة عن سائر الحيوانات‪ ،‬ومن هنا فهي ميزة إنسانية‬
‫خالصة‪ ،‬لذا يصحّ أن يقال عن اإلنسان‪" :‬إنّه حيوان ناطق" بالماهية‪.‬‬
‫‪ II‬وما األسس التي تقوم عليها بوصفها بنية رمزية تطبع نشاط الفكر وتترجم‬
‫إبداعاته ؟‬
‫‪ ‬عرض وضعية مشكلة ‪:‬‬
‫لنتمعّن فيما يقوله باحث متخصص (ح) ألحد مرافقيه (ق) وهو يحاوره‪:‬‬
‫أن استقراء‪ A‬آيات القرآن الكريم يجعلنا نقف على هذه الحقيقة‪:‬‬ ‫ـ (ح)‪ :‬ألم تالحظ ّ‬
‫إنّه لم يستخدم مصطلح اللغة بل استخدم مصطلح اللسان‪ ،‬عندما يتحدث عن الرسل وما جاؤوا‬
‫لتبليغه؟ مثل قول هللا تعالى‪َ " :‬و َما أَرْ َس ْلنَا ِمن َّرس ٍ‬
‫ُول إِالَّ بِلِ َس ِ‬
‫ان قَوْ ِم ِه لِيُبَيِّنَ لَهُ ْم "[ سورة إبراهيم‪،‬‬
‫اآلية‪.]4 ،‬‬
‫ـ (ق) ‪ :‬أجل‪ ،‬فهل معنى ذلك أن مصطلح اللغة يرادف كل كالم بلسان ُمبين؟‬
‫ـ (ح)‪ :‬كال‪ ،‬فاإلنسان ال يعبّر‪ A‬عن حاجاته وأفكاره باستخدام (الكالم)‪ ،‬بل هناك ع ّدة طرق‬
‫مختلفة؛ فلعلّك شاهدت في األشرطة العلمية الوثائقية الكتابة الهيروغليفية التي تخبر عن بعض‬
‫األحداث والشخصيات الفرعونية من خالل رسم صور ورموز‪ :‬فللموت صورة وللسلطة صورة‪،‬‬
‫والسطوة صورة‪ ،‬وللخضوع وللطاعة صور‪...‬إلخ‬
‫ـ (ق)‪ :‬وهذا ما نفعله نحن أحياناً؛ فعندما نريد أن نرمز لشجاعة شخص ما نرسم صورة أسد‪،‬‬
‫كما قد نرسم صورة ثعلب لنعبر عن خداعه‪ ،‬وبعض الشركات التي تنتج مواد كيميائية خطرة‬
‫تضع صورة لجمجمة وعليها عالمة (×)‪.‬‬
‫ـ (ح)‪ :‬ثم أنه حتى مع افتراضنا أن اللغة هي الكالم المنطوق‪ A‬بأصوات‪ ،‬فإننا ال نستخدم‬
‫(لسانا) واحدا بالضرورة؛ فانظر إلى كثرة اللغات أال يع ّد ذلك دليال على صدق ما أقول؟‬
‫ـ (ق)‪ :‬إنك تزيد من حيرتي بدل أن تُزيلها! فما الثابت في كل هذا‪ ،‬وما المتغير؟‬
‫ـ (ح)‪ :‬فأما الثابت فهو اللغة؛ إنها واحدة لقيامها‪ A‬على الفكر الذي يصنع اإلنسان‪ ،‬وأما المتغير‬
‫فهو اللسان بتغير‪ A‬الزمان والمكان‪ ،‬والكالم بتنوع‪ A‬األصوات والكلمات والرموز‪.‬‬
‫ـ (ق)‪ :‬إذن هل يمكنني‪ A‬أن أقول بناء على ما فهمته منك‪ :‬إن اللغة أع ُّم من اللسان‪ ،‬وبالتالي‬
‫فهي أع ُّم من الكالم‪ ،‬باعتبار هذا أخصُّ خصوصيات اللسان؟‬
‫‪ -‬تحليل الوضعية المشكلة‪:‬‬
‫من تحليل الوضعية المشكلة نلمس أوال مدى التماثل المنعقد بين مجاالت هذا الثالثي؛ فصورة‬
‫األسد أو الثعلب أوالجمجمة تعتبر (رموزاً)‪ ،‬بينما‪ A‬الكلمات واأللفاظ هي (عالمات لسانية)‪ ،‬ومع‬
‫ذلك فالصورة أو الرمز أو الكلمة ت ّدل على المعنى الذي وضعت له‪ ،‬وتخبر عن الشيء الغائب؛‬
‫فمثالً صورة الجمجمة على المواد الخطرة تعني (الموت) التي يمكن أن تحدث لو تناول هذا‬
‫الشخص هذه المواد‪ ،‬فإحضار الموت غير ممكن إالّ من خالل صورة تعبر عنها وت ّدل على معناها‬
‫وقد تغني عن كتابة (مادة خطرة ‪ -‬تقتل)‪ ،‬فاإلنسان الميت عندما تتحلل جثته ال يبقى منه إالّ‬
‫العظام؛ فلذلك فصورة الجمجمة تحاكي حال اإلنسان الميت‪ ،‬أما الكلمات واألصوات فتزيد على‬
‫الصور أنّها تعبر عن حاالت أكثر تعقيداً وتحضر صور ومعاني األشياء أكثر مما تفعله الرموز‬
‫والصور‪ ،‬لكن تحليل العناصر يبين درجة التمايز بينها بوضوح‪.‬‬
‫ـ أوال‪ :‬اللغة واللسان والكالم‪:‬‬
‫إن األمر الذي يستوجب التوقف عنده أوال في هذا الحوار عالقة اللغة باللسان‪ :‬ما طبيعتها؟‬ ‫ّ‬
‫وإلى أي مدى يختلف اللسان عن اللغة؟ وكيف يلزم عنه الكالم؛ سواء كان هذا الكالم قوالً أُصدرت‬
‫فيه أصوات وألفاظ وجُمل‪ ،‬أو رمزاً استعملت فيه إيماءات وصور؟‬
‫عناصر مفهوم اللغة ‪:‬‬ ‫‪.4‬‬
‫إن علم النفس اللغوي يربط بين اللغة واإلنسان فيعتبرها‪ A‬سلوكا ً قابالً للدراسة التجريبية‪،‬‬
‫أن إنتاج الرسالة اللغوية (خاصة‬ ‫ينبع‪ A‬من إمكانيات وقدرات اإلنسان العقلية والفيزيولوجية؛ حيث ّ‬
‫الكالم) تسبقه وتعقبه عمليات عقلية كثيرة؛ منها اإلدراك‪ ،‬والتخيل والترميز‪ ،‬والتأويل‪ ،‬والتفسير‪،‬‬
‫والتركيب األمر الذي يجعلها قدرة خاصة باإلنسان للتعبير‪ A‬والتواصل بواسطة عالمات مميّزة‪A.‬‬
‫وارتباط اللغة بالكالم مسموعا ً كان أو منطوقاً‪ ،‬هو الذي يفسر ارتباط اللغة باللّسان " ‪..‬ألنها‬
‫ُ‬
‫أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم "‪ .‬وجاء في (لسان العرب البن منظور)‪ « : A‬اللغة منَ‬
‫صة ‪ ،‬وأصْ لُهَا ‪ :‬لغوة وقيل ‪ :‬أصلها لغا يلغو‪ ،‬ولغا فالن عن الصواب وعن الطريق إذا‬ ‫األسما ِء النَا ِق َ‬
‫مال عنه‪ .‬واللغو‪ :‬النطق‪ .‬يقال‪ :‬هذه لغتهم التي يلغون بها أي ينطقون»‬
‫أن األغراض ال تنحصر فيما هو مادي محسوس بل تتع ّداه إلى ما هو معنوي معقول؛ فاللغة "‬ ‫على ّ‬
‫كيان عام يضم النشاط اللغوي اإلنساني ويشمل كل ما هو منطوق‪ A‬أو مكتوب أو إشارة أو اصطالح‬
‫"‪ ،‬والعالمات إشارة كانت أو رمزاً‪ ،‬صوتا ً كان أو صورة‪ ،‬رسما ً كان أو حركة؛ عندما نتفق‪ A‬على‬
‫المعنى الذي تحمله ونتعامل بها كذلك تصير عالمة لغوية يشار بها ويفهم منها رسالة معينة‪ ،‬األمر‬
‫الذي يوسع معنى اللغة " ‪..‬كنظام من العالمات االصطالحية ذات الداللة االصطالحية "‪.‬‬
‫كما يدخل في معنى‪ A‬اللغة كل وسيلة تساعد على التعبير مثل"‪..‬تبادل المشاعر واألفكار‬
‫كاإلشارات واألصوات واأللفاظ وهي ضربان‪ :‬طبيعية كبعض حركات الجسم واألصوات المهملة‪،‬‬
‫ووضعية وهي مجموعة رموز وإشارات أو ألفاظ متفق عليها ألداء المشاعر واألفكار"‪ .‬فيلزم من‬
‫هذا ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬اللغة كل متكامل ونسق من الرموز واإلشارات‪ ،‬تشكل األصوات أهم أنماطها‪.‬‬
‫‪ -‬ارتباطها باإلنسان فرداً كان أو جماعة‪.‬‬
‫‪ -‬اللغة واقعة اجتماعية كامنة في عقول جميع األفراد المنتمين لمجموعة لغوية معيّنة‪.‬‬
‫عناصر مفهوم اللسان‪:‬‬ ‫‪.5‬‬
‫اللّسان يطلق على لغة مح ّددة تتكلم بها جماعة معينة من النّاس‪ ،‬ضمن قواعد وقوانين مضبوطة‪،‬‬
‫فاللسان له وجود اجتماعي مستقل عن األفراد الذين يتكلمونه‪ ،‬ومن هذا فاللّسان أخص من اللغة‪ :‬مثال ذلك‬
‫اللسان العربي جاء في (لسان العرب) ‪ « :‬اللّسان‪ :‬جارحة الكالم‪ ...‬قال ابن بري‪ :‬اللسان هو‬
‫الرسالة والمقالة‪ .‬ويذكر بمعنى الكالم » ويراد باللسان في الفرنسية اللغة‪ .‬أ ّما اللغة فتطلق على‬
‫النشاط اللغوي اإلنساني سواء كان رمزاً صوتياً أو مكتوبا ً أو إشارة أو اصطالحا‪.‬‬
‫وخصوصية اللّسان تظهر في كونه اللغة منظوراً إليها في سياقها االجتماعي والزماني‬
‫والمكاني‪ ،‬ويعني هذا؛ الموروث اللفظي من مفردات‪ A‬وكلمات‪ ،‬والقواعد النحوية والصرفية الضابطة لهذه‬
‫اللغة‪ ،‬فاللّسان قد يختلف في اللغة الواحدة نظراً لتأثير عوامل خارجة عن اللغة كالجغرافيا والنظام‬
‫االجتماعي واختالط المجتمع بغيره من المجتمعات‪.‬‬
‫عناصر مفهوم الكالم‪:‬‬ ‫‪.6‬‬
‫الكالم هو الممارسة الفردية المنطوقة‪ ،‬أي هو فعل ملموس ونشاط شخصي يمكن مالحظته‬
‫بمراقبة الكالم أو الكتابة ‪ .‬والتكلم هو أن يقول اإلنسان شيئا ً ما لشخص آخر‪ ،‬فينتج عن هذا ّ‬
‫أن‬
‫الكالم هو القدرة على التفاهم بين النّاس عن طريق عالمات صوتية تتيحها‪ A‬لغة محددة‪ .‬فشروط‬
‫الكالم إذن هي‪:‬‬
‫‪ -‬وجود لغة مح ّددة (كالعربية أو غيرها)‪.‬‬
‫‪ -‬وجود قدرة على التعبير‪ ،‬عن شيء مادي كان أم معنوي‪ ،‬بنية التبليغ والتواصل والتفاهم بحيث‪A‬‬
‫يسبق ذلك تفكير وإرادة‪ ،‬وقصد إلى غاية محددة‪ ،‬ال أن يكون التعبير ر ّد فعل آلي خال من القصد‪،‬‬
‫كما هو الحال في عالم الحيوانات‪.‬‬
‫‪ -‬القدرة على الكالم من خالل شروط نفسية كالسالمة من االضطرابات العقلية المعيقة إلمكانية التكلم كمرض‬
‫(الحبسة اللفظية) والذي يؤدي إلى صعوبة استدعاء الكلمات في القول أو الكتابة فيختل التركيب‪ ،‬وشروط‬
‫عضوية مثل سالمة أجهزة إصدار الكالم من حنجرة وحبال صوتية ورئتين ولسان وتجاويف فموية وأنفية‬
‫باإلضافة إلى سالمة الدماغ‪.‬‬
‫‪ -‬اإللمام بالمفردات والكلمات وقواعد التراكيب اللغوية والنحوية والصرفية‪ ،‬لكي ال يختل بناء‬
‫الجمل في الكالم ويفقد بذلك داللته‪.‬‬
‫مما تق ّدم يمكن أن نتبين‪ A‬نقاط االلتقاء بين اللغة واللسان والكالم فيما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬فاللغة هي اإلطار العام الذي يشمل الكالم واللسان معاً‪.‬‬
‫‪ -‬الكالم كفعل فردي ال يتم إالّ باللغة واللّسان (ال يقصد هنا باللسان الجارحة)‪.‬‬
‫‪ -‬اللّسان هو اللغة التي تستعملها جماعة لغوية محددة‪( A‬اجتماعيا ً وتاريخيا ً وجغرافيا)‪.‬‬
‫ومع ذلك يجب أن نفرق بينها‪ A‬من خالل اآلتي‪:‬‬
‫‪ -‬اللغة تختلف عن الكالم في كونها‪ A‬واقعة اجتماعية ثابتة بينما الكالم عمل فردي متغير‪.‬‬
‫‪ -‬اللغة نتاج يرثه الفرد بينما‪ A‬الكالم عمل إرادي يقوم به الفرد يتطلب قدرات خاصة‪.‬‬
‫‪ -‬اللغة تمثل الجانب االجتماعي من الكالم لذا فهو غير قادر على تعديلها وتغييرها األمر‬
‫الذي يبرر دراستها مستقلة عنه‪.‬‬
‫‪ -‬اللغة أع ّم من اللّسان ألنّه مرتبط بظروف مكانية وزمانية لجماعة لغوية معيّنة دون‪ A‬غيرها‪.‬‬
‫ـ ثانيا ً ‪ :‬طبيعة الرمز والداللة‪:‬‬
‫إن شئت ع ّدة‬ ‫أن اإلنسان يمتلك عدة أنماط من التعبي‪ ،‬أو ْ‬ ‫لقد ورد في الوضعية السابقة ّ‬
‫مستويات‪ ( :‬اللغة‪ ،‬واللسان‪ ،‬والكالم)‪ ،‬لكن أخصّ هذه األنماط الكالم (النمط التواصلي الصوتي)‪،‬‬
‫مما جعل البعض يقصرون معنى اللغة على هذا النوع من التواصل‪ .‬األمر الذي يدفعنا إلثارة هذه‬
‫التساؤالت‪ :‬ما طبيعة اللغة؟ وم َّم تتكون؟ وما طبيعة الوحدات التي تتألف منها؟ ما هو الرمز؟ وما‬
‫هي العالمة اللسانية؟ وهل اللغة تُعرف خارج مستعملها‪ ،‬أم أنّها باإلضافة إلى كونها رموزاً‬
‫وإشارات تحمل معنى آخر يتوقف على مستعملها‪( A‬اإلنسان)؟ وهل هناك تالزم بين الكلمات‬
‫واألشياء؟‬
‫إن اإلجابة على مجمل هذه األسئلة يتأثر بالخلفية الفكرية والعلمية التي ينطلق منها المجيب‬ ‫ّ‬
‫سواء كان من علماء اللسانيات أو علماء اللغة أو علماء النفس؛ ولكن علم األصوات (‬
‫‪ )Phonologie‬وعلم المعنى (‪ )Sémiologie‬هما اللذان يوكل إليهما البحث في النظم الصوتية‬
‫للكالم‪ ،‬والداللة المرتبطة بهذه النظم‪.‬‬
‫‪ .1‬بنية الكالم‪ :‬من هذا المنظور تتكون من‪:‬‬
‫(أ) الفونيمات (‪ :)Phonème‬وهي األصوات األساسية أو الوحدات الصوتية األساسية‬
‫غير الدالة (ال تحمل معنى)‪ A‬والتي يتكون منها الكالم ‪.‬‬
‫(ب) المورفيمات (‪ :)Morphème‬وهي ما ينتج عن ضم األصوات األساسية إلى وحدات لها‬
‫معنى في بداية الكلمة ونهايتها‪.‬‬
‫ومن الفونيمات‪ A‬والمورفيمات‪ A‬يكوّ ن اإلنسان تركيبات النهائية من الرموز والكلمات‪ ،‬لها‬
‫دالالت متع ّد دة حسب سياقها تسمح لإلنسان بالتعبير عن كل شيء‪ .‬وهذا ما جعل أندري مارتيني‬
‫أن جوهر اللغة اإلنسانية هو قابليتها للتفكيك وإعادة التركيب‪ ،‬وهذا ما يطلق عليه اللغويون‬ ‫يعتبر‪ّ A‬‬
‫أن اللغة قابلة للفصل والوصل بين عناصرها اللغوية (الفونيمات‬ ‫(التمفصل)؛ ويقصد به ّ‬
‫والمورفيمات)‪ A،‬فاللغة تنقسم إلى سلسلة كالمية تنفك‪ A‬بدورها إلى وحدات‪.‬‬
‫أن لغة اإلنسان تتكون من وحدات صوتية أساسية خالية المعنى‪ ،‬ومن‬ ‫مما تقدم نخلص إلى ّ‬
‫وحدات صوتية أعلى ذات معنى تسمح بتأليف جمل متعددة وفقا ً لقواعد النحو‪ ،‬وتعبر عن مضامين‬
‫أن اللغة ميزة إنسانية‪.‬‬ ‫مختلفة تؤكد كلّها على ّ‬
‫‪ .2‬الرمز وأنواع الداللة‪:‬‬
‫إن الرمز عند هيغل (‪ )1831 -1770‬عالمة تحوي خصائص وصفات ما تدل عليه‪ ،‬بحيث‬
‫أن هذا الرمز يستدعي ويحضر للشعور والوعي الداللة والمعنى اللذان نقصد لتبليغهما‪ ،‬فاألشياء‬ ‫ّ‬
‫والعالمات التي نرمز بها ال تعبر‪ A‬وتخبر فقط عن نفسها بل تحوي الخاصية العامة للشيء أو‬
‫المعنى الذي ترمز له‪ .‬وع ّرف علماء الداللة الرمز بأنّه "‪ ..‬مثير بديل يستدعي لنفسه نفس‬
‫االستجابة التي قد يستدعيها شيء آخر عند حضوره"‪ ،‬وقسموه إلى قسمين‪:‬‬
‫‪ -‬الرمز اللغوي‪ :‬فالكلمات (المنطوقة أو المكتوبة)‪ A‬أخص أنواع الرموز اللغوية حيث أنّها ال‬
‫تشير لنفسها بل ألشياء أخرى غيرها‪.‬‬
‫‪ -‬الرمز غير اللغوي‪ :‬ومثال ذلك الجرس في تجربة بافلوف‪ ،‬حيث أنّه (أي صوت الجرس)‬
‫يستدعي شيئا غير نفسه‪ ،‬فالكلب عند سماعه للجرس يتو ّجه إلى مكان الطعام ‪.‬‬
‫أما العالمة اللغوية فهي "‪..‬وحدة أساسية في عملية التواصل بين أفراد مجتمع معين وتنقسم‬
‫إلى‪ :‬دال ومدلول‪ ،‬فالدال‪ :‬هو الصورة السمعية (البصمة النفسية للصوت) التي تعني شيئا ما وتدل‬
‫عليه‪ .‬أما المدلول‪ :‬فهو التصور الذهني للشيء المعني"؛ والمقصود بالعالمة اللغوية كل ما يصح‬
‫اعتباره عالمة قابلة للتأويل وتدل على شيء آخر غيرها‪ ،‬وأخص هذه العالمات الكلمات مسموعةً‬
‫أو مكتوبةً‪ .." ،‬فالعالمة اللسانية ال توحّ د بين شيء واسم‪ ،‬وأنّما بين مفهوم وصورة سمعية‪،‬‬
‫والعالمة اللّسانية هي إذن كائن ذهني ذو وجهين "‪.‬‬
‫وللرمز داللتان‪ :‬داللة حقيقية‪ ،‬وداللة مجازية‪ ،‬بينما العالمة اللغوية ال تحمل إال داللة‬
‫مجازية؛ وهذا الفارق يتجلى في العالقة بين ال ّدال والمدلول؛ فالرمز ليس فارغا ً تماماً‪ ،‬حيث ّ‬
‫أن‬
‫هناك عالقة طبيعية بين الدال والمدلول‪ :‬فالميزان رمز العدالة وال يمكن أبداً تبديله بالدبابة مثالً‪،‬‬
‫على عكس العالمة اللغوية التي لها وجه مادي يمكن مالحظته ووصفه وتسجيله‪ ،‬ووجه معنوي‪" :‬‬
‫‪..‬فالكلمة وسيط بين أفكارنا وتجاربنا؛ فهي ترتّبها‪ A‬وتنقلها من طابعها الذاتي إلى تجارب يدركها‬
‫اآلخرون"‪.‬‬
‫‪ .3‬العالقة بين األلفاظ واألشياء‪:‬‬
‫‪ -‬العالقة ضرورية‪ :‬فاللفظ يطابق‪ A‬ما يدل عليه في العالم الخارجي‪ ،‬وأساس هذه الرأي نظرية‬
‫محاكاة اإلنسان ألصوات الطبيعة‪ ،‬وبسبب تطور الحياة وتعقدها أبدع اإلنسان كلمات وألفاظا جديدة‬
‫ليدل بها على األشياء ‪.‬‬
‫وهذا ما دافع عنه بعض اللغويين المعاصرين بمحاولة إثبات الترابط الوثيق بين ال ّدال والمدلول‬
‫في العالمة اللّسانية‪ ،‬من حيث " ‪..‬إن العالقة بين الدال والمدلول ليست اعتباطية بل هي على عكس ذلك‬
‫أن العالمة اللّسانية بنية واحدة يتّحد فيها ال ّدال بالمدلول‪ ،‬وبدون هذا‬‫عالقة ضرورية "‪ .‬وتبرير‪ A‬ذلك ّ‬
‫االتحاد تفقد العالمة اللسانية هذه الخاصية‪ .‬ومن جهة ثانية فذهن اإلنسان ال يستسيغ وال يقبل األصوات‬
‫التي ال تحمل تمثالً (أو شيئاً) يمكن معرفته‪ A،‬فلو كان األمر كذلك ‪ -‬أي وجود أصوات ال تدل على شيء‬
‫وال تحمل مفهوما ً يمكن التعرف عليه‪ -‬تصير غريبة ومجهولة‪.‬‬
‫أن اللغة خاصة‬ ‫لكن هذه األطروحة تصطدم ببعض الحقائق التي أقرّ ها علماء اللغة‪ ،‬أولها ّ‬
‫(الكالم) نسق من اإلشارات والرموز التي أبدعها اإلنسان وتواضع عليها ليستخدمها في التعبير‬
‫والتواصل؛ فلو كانت الكلمات تحاكي األشياء‪ ،‬فكيف يمكن تفسير تعدد األلفاظ والمس ّميات لشيء‬
‫أن العالقة بين االسم والشيء ضرورية؟‬ ‫واحد‪ ،‬واال ّدعاء في نفس الوقت ّ‬
‫‪ -‬العالقة اعتباطية‪ :‬إن العالمة اللسانية ال توحد بين اسم وشيء بل بين مفهوم وصورة‬
‫سمعية‪ .‬ولعلّ المثال اآلتي يوضح ذلك‪:‬‬
‫فكلمة (أخت) هي تتابع لألصوات التالية‪( :‬أ ‪ ،‬خ ‪ ،‬ت) وهذا هو ال ّدال‪ ،‬أما المدلول فهو معنى‬
‫(األخت)‪ ،‬لذلك ال توجد ضرورة عقلية أو تجريبية فرضت على اللغة العربية مثالً التعبير عن هذا‬
‫المعنى بهذه األصوات‪ ،‬بل ت َّم اقتراحها دون مبرر؛ وهذا ما يسمى بالتواضعية االعتباطية أو‬
‫التحكمية (العفوية)‪A.‬‬
‫أن نفس المعنى (معنى األخت) يعبر عنه في لغات‬ ‫والدليل الثاني الذي يبرر‪ A‬صحة هذا التحليل ّ‬
‫أخرى بتتابع أصوات أخرى‪ ،‬فمثال في الفرنسية نقول (‪ ،)Sœur‬وفي اإلنجليزية نقول (‪)sister‬؛ فلو‬
‫كانت العالقة ضرورية لما تباينت األصوات‪ ،‬بل لما تع ّددت اللغات بين المجتمعات‪ ،‬وهذا التنوع في‬
‫اللغات يثبت اعتباطية العالمة اللّسانية‪.‬‬
‫أن الفرد له حرية في وضع العالمات‬ ‫أن االعتباطية ال تعني ّ‬ ‫لكن يجب أن ننبّه إلى ّ‬
‫واستعمالها حسب هواه‪ ،‬بل يتقيّد ذلك باالستعمال االجتماعي‪ ،‬إذ ال يمكن للفرد أن يشير إلى فكرة‬
‫(األخت) بأصوات أخرى من وضعه هو دون أن يكون متفق‪ A‬عليها داخل المجتمع وفي حدود ما‬
‫يسمح به اللّسان (لغة المجتمع)‪.‬‬
‫أن اللغة نشاط رمزي العالقة فيه بين األسماء واألشياء‪ A‬غير‬ ‫يلزم من هذا التأكيد على ّ‬
‫ضرورية‪ ،‬وبواسطته يتمثل اإلنسان الواقع دون الحاجة إلى إحضاره في شكله المادي والتقيد به‪،‬‬
‫حيث يتجاوز باللغة وجوده المادي‪.‬‬
‫ـ ثالثا ‪ :‬تبادلية اللغة والفكر‪:‬‬
‫أن بعضنا م َّر بالتجربة التالية‪ :‬وهي التردد أثناء كتابة رسالة أو مقالة‪ ،‬فنتوقف أثناء‬ ‫البد ّ‬
‫التعبير لنفكر أي الكلمات تناسب‪ A‬المعنى الذي يجول بخاطرنا‪ ،‬كما قد نعدل عن بعض العبارات‬
‫فنشطبها أو نغيرها بأخرى تبدو لنا مناسبة‪ ،‬بل قد يعتذر البعض عن خطابه فيراه قاصراً خانته فيه‬
‫األلفاظ وقصرت الكلمات عن تبليغ المعاني أو المشاعر‪ .‬وهنا نتساءل‪ :‬ما الفكر؟ وهل هو مستقل‬
‫عن اللغة؟ أم ال يمكنه أن يوجد خارجا ً عنها ألنّهما شيء واحد؟‬
‫‪ -‬تحليل الوضعية‪:‬‬
‫يجمع النّاس على أنّهم مرّ وا ويمرون في حياتهم بهذه التجربة‪ ،‬لذلك يسارع البعض منا إلى‬
‫اتهام اللغة بالقصور ويفصلون بينها وبين الفكر‪ .‬لكن المتأمل لهذه التجربة وغيرها قد يتبيّن أمراً‬
‫أن الخلل ال يعود لقصور اللغة بقدر ما يتعلق بالشخص الذي ال يملك ثروة لغوية كافية‬ ‫آخر وهو ّ‬
‫بأن عدم القدرة على التعبير‬ ‫تسمح له بالتعبير‪ A‬وتبليغ المعاني‪ ،‬بل ذهب بعض المحللين إلى القول ّ‬
‫ترجع لعدم وجود فكرة أصال‪.‬‬
‫ويمكن اعتبار"‪..‬الفكر بوجه عام جملة النشاط الذهني من تفكير‪ A‬وإرادة ووجدان وعاطفة‪،‬‬
‫وبوجه خاص ما يت ّم به التفكير من أفعال ذهنية كالتحليل والتركيب‪ A‬والتنسيق‪." A‬‬
‫ومن هنا يظهر الطابع المعقد للفكر من حيث أنّه نشاط عقلي تتشابك فيه القدرات العقلية العليا‬
‫من إدراك وتخيل وتذكر وتحليل وتركيب وتأويل؛ فالتفكير‪ A‬بوصفه عملية عقلية يعتمد على أدوات‬
‫هي المعاني‪ ،‬ويقابلها‪ A‬في اللغة األلفاظ والصور اللفظية‪.‬‬
‫‪ .1‬الفكر منفصل عن اللغة‪:‬‬
‫قد يميل البعض منا إلى الفصل بين الفكر واللغة‪ ،‬بالقول بأسبقيته (الفكر) عليها (اللغة) األمر‬
‫الذي يجعله أكثر أهمية منها ألنّها مجرد أداة في يده وتأثيره‪ A‬عليها إيجابي‪.‬‬
‫ويستند‪ A‬هذا الموقف إلى ع ّدة مبررات منها‪:‬‬
‫أ ـ أن اللغة محدودة و تتجلى محدوديتها‪ A‬في مستويين هما‪:‬‬
‫‪ -‬التعبير‪ A‬عن األشياء الخارجية‪ :‬فاللغة وسيط بين اإلنسان واألشياء الموجودة في العالم‬
‫الخارجي‪ ،‬فعندما تريد الحديث عن (الشجرة) يكفيك أن تنطق‪ A‬بهذه الكلمة ليستحضر السامع معناها‬
‫وال تضطر إلحضارها له‪.‬‬
‫‪ -‬التعبير‪ A‬عن الذات‪ :‬فمشاعر اإلنسان نابضة بالحيوية وال يوجد في اللغة ما يُ َم ّكن من أن ننقل هذه‬
‫المشاعر فيحس بها اآلخرون كما نحسها نحن‪ .‬فاللغة ال تنقل من المشاعر إالّ جانبها‪ A‬العام غير‬
‫الشخصي‪ ،‬وهذا ما يجعلها عائقا ً أمام وعي اإلنسان لذاته‪.‬‬
‫وقد تؤدي األلفاظ إلى قتل المعاني وتجمد حيويتها وحركتها‪ A،‬بينما المعاني مبسوطة ممتدة‪A‬‬
‫وغير نهائية بل تتطور أسرع من األلفاظ؛ فالفكرة أغنى من اللفظ إذ يمكن التعبير عنها بألفاظ‬
‫معان‬
‫ٍ‬ ‫مختلفة‪ ،‬بينما األلفاظ معدودة ومحدودة‪ ،‬بل قيمتها ال تكون إالّ من خالل ما تنطوي عليه من‬
‫ومفاهيم وتصوّ رات‪.‬‬
‫لكن هذا الرأي‪ A‬بالغ في تمجيد الفكر والتقليل من شأن اللغة‪ ،‬األمر الذي‪ A‬جعل الفكر نشاطا ً أخرساً؛‪A‬‬
‫أن الطفل‪ A‬يتعلم الفكر واللغة في آن واحد‪ ،‬لذلك قال‬ ‫وهذه النتيجة ال تؤكدها معطيات علم النفس الذي‪ A‬أثبت ّ‬
‫هيغل‪.." :‬نحن نفكر داخل الكلمات"‪ ،‬وإلى نفس االتجاه ذهب غوسدروف حيث قال‪.." :‬التفكير ضا ٌّج‬
‫بالكلمات"‪.‬‬
‫‪ .2‬الفكر واللغة متّصالن‪:‬‬
‫إن األلفاظ توضح المعاني وتميزها عن بعضها البعض وتصبغ عليها صبغة منطقية‪ ،‬فلو‬
‫أن األفكار أحوال معنوية مستقلة عن األلفاظ لكانت أحوالً‬ ‫سلمنا جدالً مع أنصار االتجاه الثنائي ّ‬
‫غامضة مبهمة ولما تمكنا من معرفتها‪ A‬والتمييز‪ A‬بينها‪ ،‬فبدون اللغة ال تدرك المعاني وال تعرف‪ .‬هذا‬
‫ما ذهبت إليه اللسانية جوليا كريستيفا‪( A‬نفسانية ولسانية فرنسية من أصل بلغاري ولدت عام‬
‫‪ )1941‬حيث اعتبرت اللغة الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يوجد بها الفكر‪ ،‬بل هي حقيقة وجود‪،‬‬
‫إن اللغة هي جسم الفكر »‪ ،‬وهذا نفسه ما قصده ميرلو بونتي‪( A‬فيلسوف فرنسي‬ ‫حيث قالت‪ّ « :‬‬
‫‪ )1961-1908‬بقوله‪ « :‬الفكرة تؤخذ من العبارة والعبارة ما هي إال الوجود الخارجي للفكرة »‪.‬‬
‫أن األلفاظ‬‫أما عن اتهام اللغة بالقصور والعجز عن اإللمام بنواحي الفكر‪ ،‬فيكفي أن نعلم ّ‬
‫تحفظ المعاني وتبقي‪ A‬عليها وبدونها لزالت عن الوجود لهذا اعتُبرت األلفاظ حصون المعاني‪،‬‬
‫ومهمة الحصن الحفظ والصون‪ ،‬كما أن اللغة تثري الفكر؛ فقد أثبت علم النفس أنه كلما اتسعت‬
‫ثروة الفرد اللغوية ‪ ،‬زادت قدرته على التفكير‪ A‬والتعبير‪ ، A‬وبذلك ينمو الذكاء وتزداد نسبته‪.‬‬
‫ليس هذا فحسب‪ ،‬بل أن اللغة تصبغ الفكر بصبغة اجتماعية موضوعية تنقله من طابعه االنفعالي‬
‫الذاتي‪ ،‬ليصير خبرة إنسانية قابلة للتحليل والفهم واالنتقال بين النّاس‪.‬‬
‫إن االعتقاد بوجود نشاط فكري بدون لغة هو مجرد توهّم ألنّه في الحقيقة (مونولوج) داخلي بين‬
‫عال"‪،‬‬ ‫الذات ونفسها؛ إذ "‪..‬عندما نفكر فنحن نتكلم بصوت خافت‪ ،‬وعندما نتحدث فنحن نفكر بصوت ٍ‬
‫وبذلك فاللغة هي ذاتها الفكر‪.‬‬
‫وعلى ضوء ما سبق‪ ،‬ومهما تحفظ البعض من مسألة التوحيد بين اللغة والفكر واعتبارهما‬
‫شيئا واحدا‪ ،‬وبالرغم من أن اللغة قد تقصر أحيانا ً عن التعبير عن األفكار بناء على أن قدرتنا على‬
‫الفهم ال تناسب‪ A‬دائما ً قدرتنا على التبليغ‪ ،‬إال أنه ال ب ّد من التسليم بوجود عالقة ترابط بين الفكر‬
‫واللغة‪ ،‬وهذا ما تؤكده الدراسات واألبحاث العلمية الّلسانية؛ وهذه العالقة تشبه العالقة بين وجه‬
‫حيث"‪..‬إن الفكر هو وجه الصفحة‪ ،‬بينما الصوت هو ظهر الصفحة؛ وال‬ ‫ّ‬ ‫الورقة النقدية وظهرها‪،‬‬
‫يمكن قطع الوجه دون أن يت ّم في الوقت نفسه قطع الظهر‪ ،‬وبالتالي ال يمكن في مضمار اللغة فصل‬
‫الصوت عن الفكر‪ ،‬أو فصل الفكر عن الصوت"‪.‬‬
‫سر للغة أن تحقق التبليغ والتواصل بالرغم من تنوعها وتعدّد‬ ‫ثم كيف يتي ّ‬ ‫‪III‬‬
‫نشاطاتها ؟‬
‫‪ ‬عرض وضعية مشكلة (وهي تتألف من محطتين مختلفتين)‪:‬‬
‫* المحطة األولى‪:‬‬
‫يش ّدك في تأ ّم ل األشهر األولى من حياة المولود الجديد كمحطة حساسة وحرجة‪ ،‬ال ضعف‬
‫هذا المولود وتوقف حياته على أمه فقط‪ ،‬بل أنه ال يمتلك إالّ وسيلة وحيدة يتصل بها مع اآلخرين؛‬
‫هي وسيلة اللغة الطبيعية الفطرية‪ ،‬والمتمثلة في اإلشارات الجسدية التي يرسل بها رسائل بسيطة‬
‫تتعلق بإحساس الجوع واأللم؛ فالبكاء مؤشر يخبر األم باالنزعاج‪ ،‬والصراخ وارتفاع درجة‬
‫الحرارة قد يكونا عرضين لمرض ما‪ .‬لذا فقراءتهما‪ A‬بكيفية جيّدة تتطلب خبرة وممارسة قد تُعوز‬
‫األم أحيانا ً فتلجأ إلى الطبيب‪ ،‬وكثيراً ما تلجأ األم اليائسة لمحادثة رضيعها تسأله ما يبكيه وما‬
‫يؤلمه‪ ،‬بينما ال يستطيع‪ A‬هو الر ّد عليها ألنّه عاجز في هذه المرحلة عن التواصل‪.‬‬
‫* المحطة الثانية‪:‬‬
‫يستوقفك‪ A‬شخص في الشارع ويسألك عن مكان ما يريد منك أن ترشده إليه‪ ،‬لكنه يتحدث معك‬
‫بلغة ال تعرفها‪ ،‬فتسمع منه كلمات هي عبارة عن أصوات غريبة ال تعني شيئا ً بالنسبة إليك‪،‬‬
‫وعندما تحاول إخباره تدرك قصور اإليماءات‪ ،‬فتحاول أن توضحها بكلمات من لغتك‪ ،‬فتالحظ‬
‫أن التواصل يتطلب‬ ‫حيرته واستغرابه ألنّه مثلك يسمع أصواتا ً لكنه ال يفهم منها‪ A‬شيئاً‪ ،‬فيتضح ّ‬
‫شروطا ً موضوعية بدونها ال يت ّم‪.‬‬
‫فمن خالل الوضعيتين السابقتين نتساءل نحن‪ :‬ما المقصود بالتواصل؟ وهل هو دائم؟ وما هي‬
‫عوامله التي يقوم عليها؟ وهل وظيفة اللغة تتوقف عنده؟‬
‫‪ -‬تحليل الوضعية المشكلة‪:‬‬
‫أن غياب اللغة بمعناها االصطالحي‬ ‫يتضح من تحليل الوضعية المشكلة في محطتها األولى ّ‬
‫يعزل اإلنسان في دائرة ضيقة ال تزيد عما يعيشه الحيوان‪ ،‬ولهذا يسمي علماء النفس المرحلة‬
‫األولى من الطفولة بالمرحلة الحسية الحشوية (أو ما سماها جان بياجي بمرحلة الالتمايز)‪ ،‬حيث‬
‫أن الرضيع يتلقى تنبيهات‪ A‬داخلية وخارجية‪ ،‬ويستجيب‪ A‬لها لكنها ذلك مقصور على الجانب‬ ‫ّ‬
‫الفيزيولوجي فقط‪ ،‬فهو ال يدرك ما يدور من حوله من حديث وكالم وال يحسن قراءة التعابير‬
‫الجسدية لألبوين‪..‬إلخ‪ .‬ومن ثمة ال يرد برسائل أخرى تجعله يتواصل مع غيره‪ ،‬لكن سرعان ما‬
‫يتجاوز هذه المرحلة بتقدمه التدريجي في النمو العقلي‪ ،‬خاصة بعد أن يبدأ في نطق كلماته األولى‪،‬‬
‫والتي بالرغم من بساطتها‪ A‬يستطيع من خاللها أن يخبر غيره بما يريد ويجعلهم يستجيبون لبعض‬
‫طلباته‪ ،‬كما يفهم نسبيا ما يقولون ويتفاعل معهم‪.‬‬
‫أن تباين اللغات قد يعيق عملية التواصل بالنسبة للراشد‪،‬‬ ‫أما بالنسبة للوضعية الثانية فتظهر ّ‬
‫فال يكفي أن تمتلك لغة مجتمعك‪ A‬لتتواصل مع جميع النّاس‪ ،‬األمر الذي جعل البعض يتنبه إلى ّ‬
‫أن‬
‫التواصل البد له من شروط ومقومات وعوامل ال يتم إالّ بها‪.‬‬
‫‪ .1‬التبليغ والتواصل االجتماعي‪:‬‬
‫أ ‪ -‬مفهوم التواصل‪:‬‬
‫إن التواصل في اللغة مأخوذ من الصلة‪ ،‬والتواصل اصطالحا‪ :‬هو تبادل الحقائق واألفكار‬
‫والمشاعر بين شخصين أو أكثر بمختلف وسائل االتصال وأخصها (الكالم)‪ .‬وفي العرف االعام‬
‫هناك فرق بين االتصال والتواصل‪ ،‬فاالتصال يعني توجيه رسالة من طرف آلخر دون تلقي أي‬
‫ر ّد عليها‪ ،‬كما هو الحال في المحاضرات التي ال يشارك فيها أحد من المستمعين‪ ،‬أو خطب األئمة‬
‫للمصلين‪ ،‬أو خطب الرؤساء للجماهير‍‪ ،‬بينما‪ A‬التواصل يعني الرد على المحاضرين واألئمة‬
‫والرؤساء‪ ،‬بحيث يكون هناك حوار وتبادل لآلراء واألفكار‪.‬‬
‫كون عالقات بأشخاص آخرين‬ ‫إن الذات ال توجد وحدها في العالم بل الحياة تفرض عليها أن تُ ِّ‬ ‫ّ‬
‫تتبادل معهم التجارب‪ .‬واإلنسان ليس ذاتية محضة‪ ،‬أي وعي منعزل ومنفصل عن اآلخرين وعن‬
‫العالم‪ ،‬فاإلنسانية ال تتحقق إالّ بالتواصل واالنفتاح ومشاركة الغير؛ وهنا تبرز اللغة كضامن لهذا‬
‫التواصل ألنّها ليست ملكا ً للشخص الذي يتكلم بها فحسب‪.‬‬
‫ب‪ -‬شروط التواصل‪:‬‬
‫‪:‬حتى يت ّم التواصل بين األشخاص البد من مقومات‪ A‬وعوامل أبرزها‬
‫المرسل‪ :‬وهو الطرف المنتج أو المبلغ للرسالة؛ (يكون شخصا ً أو جماعة أو هيئة)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬المتلقي‪ :‬وهو المرسل إليه أو المتلقي للرسالة؛ (يكون أيضا شخصا ً أوجماعة أو هيئة)‪.‬‬
‫‪ -‬الرسالة‪ :‬وهي الخطاب الذي يوجهه المرسل إلى المتلقي‪.‬‬
‫‪ -‬المرجع‪ :‬وهو الموضوع الذي تتمحور‪ A‬حوله الرسالة وتسعى إلى تبليغه‪.‬‬
‫‪ -‬روابط االتصال‪ :‬أو ما يطلق عليه بقنوات‪ A‬االتصال سواء كانت‪ A‬مادية أو نفسية‪.‬‬
‫‪ -‬الشيفرة‪ :‬أي النظام الرمزي المشترك بين المرسل والمتلقي‪ ،‬فقد يكون كالما ً أو إشارات‬
‫يدوية أو إشارات بصرية أو إيماءات أو الفتات‪.‬‬
‫إن وظيفية اللغة باعتبارها في األساس وسيلة تعبير وتفاهم وتواصل فقط ال يحلّ المشكلة‪ ،‬إذ‬ ‫ّ‬
‫ثمة تنوع في وظائفها ال يتوقف عند هذا الح ّد‪ .‬ومن أه ّم هذه الوظائف‪:‬‬
‫‪ -‬الوظيفة النفعية‪ :‬اللغة تسمح لإلنسان بإشباع حاجاته سواء البيولوجية الغريزية‪ ،‬أو النفسية‬
‫االنفعالية‪ ،‬فالواحد منا لو شعر بالجوع أو العطش ألمر من حوله بأن يناوله الغذاء أو الماء‪ ،‬كما‬
‫أنّه يخبر بحاجة للراحة أو الترفيه عن النفس‪.‬‬
‫‪ -‬الوظيفة الشخصية‪ :‬اللغة وسيلة يعبر بها الشخص عن ذاته وهذا ما يسمح للغير بمعرفته‬
‫والتعرف على اهتماماته وتطلعاته‪ ،‬فيكوّنون فكرة عنه‪ ،‬ليس هذا فحسب بل بها يثبت الشخص‬
‫ذاته‪ .‬وهذا ما نجده عند كبار األدباء والمفكرين‪.‬‬
‫‪ -‬الوظيفة التفاعلية‪ :‬اللغة تستخدم للتفاعل مع اآلخرين في المحيط االجتماعي‪ ،‬ومن ثمة يتم‬
‫تبادل اآلراء واألفكار بل كثيراً ما تتناقل المشاعر أثناء الحوار فيواسي النّاس بعضهم البعض أو‬
‫يشارك بعضهم اآلخر األفراح واألحزان‪.‬‬
‫‪ -‬الوظيفة االستكشافية‪ :‬اللغة وسيلة اإلنسان للتعرف على محيطه طبيعيا ً كان أم اجتماعيا ً‬
‫حيث أنّه يسأل عن أسماء األشياء ومكوناتها ووظائفها وكيفية استخدامها؛ وعن الظواهر الطبيعية‬
‫وأسباب حدوثها والقوانين المتحكمة فيها‪.‬‬
‫‪ -‬الوظيفة التنظيمية‪ :‬اللغة تنظم سلوك واستجابات اآلخرين من خالل األوامر والنواهي التي‬
‫ولعل الفتات وإشارات المرور خير ما يثبت‪A‬‬ ‫ّ‬ ‫نصدرها للطفل أثناء التربية توجّه سلوكه وتنظمه؛‬
‫ذلك‪ ،‬حيث أنّها إشارات اصطالحية وضعها اإلنسان لينظم استجابات السائقين من خالل األوامر‬
‫والنواهي التي تحملها‪.‬‬
‫‪ -‬الوظيفة التخيلية‪ :‬اللغة نسق من الرموز يجرد الواقع المادي في كلمات تغنيه عن‬
‫إحضارها‪ ،‬ليس هذا فحسب بل تعطي اللغة الفرد القدرة على االنفالت من الواقع والهروب من‬
‫ضغط الحياة اليومية من خالل ما يتخيله في القصص أو األشعار أو أحالم اليقظة‪.‬‬
‫‪ -‬الوظيفة الرمزية‪ :‬وخير مثال على ذلك الرياضيات التي تتعامل بكائنات عقلية مجردة يتم‬
‫إدراكها من خالل رموز يضعها اإلنسان‪ ،‬بل أن علماء الطبيعية يجرّدون الظواهر المادية‬
‫المحسوسة من حركة‪ ،‬وحرارة‪ ،‬وضوء‪ ،‬وتفاعالت كيميائية‪ ،‬ومعادالت‪A‬؛ ويتعاملون بها أثناء‬
‫البحث والدراسة‪.‬‬
‫‪ -‬الوظيفة اإلخبارية‪ :‬اللغة تنقل المعلومات إلى اآلخرين سواء كانت أحداثا ً سياسية‪ ،‬أو‬
‫اجتماعية‪ ،‬أو طبيعية؛ وهذا ما تضطلع به اليوم وسائل اإلعالم حيث تتناقل يومياً‪ A‬ما يجري في‬
‫العالم‪ ،‬األمر الذي يمنحها القدرة على التأثير في الجمهور وتوجيه الرأي العام‪.‬‬
‫خاتمة‪ :‬حل المشكلة‬
‫أن الحديث عن اللغة هو في الحقيقة حديث عن اإلنسان؛ فهي خاصته‬ ‫مما تقدّم نخلص إلى ّ‬
‫التي تميزه بالرغم مما يتراءى في عالم الحيوان من إرهاصات بدائية للتواصل‪ ،‬ليس فقط لكون‬
‫هذه اإلرهاصات غريزية وبيولوجية صرفة‪ ،‬بل لخلوّ ها من الطابع الفكري‪ ،‬الذي هو عند اإلنسان‬
‫من التعقيد بحيث يصعب فصله عن اللغة ذاتها؛ وذلك الشتراكهما‪ A‬في التركيب والداللة والرمز‪.‬‬
‫ويبقى التواصل بأوسع معانيه فضال عن الوظائف النفسية والمنطقية أبرز ما تحققه اللغة كغاية‬
‫كبرى تحفظ لإلنسانية تراثها الثقافي والحضاري على مرّ العصور‪.‬‬

‫المفتش‬ ‫المدير‬ ‫األستاذ‬

You might also like