You are on page 1of 10

‫جامعة باتنة ‪-1‬كلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية ‪ -‬قسم الفلسفة – مقياس‬

‫فلسفة العلوم – ماستر ‪ – 1‬السداسي الثاني – السنة الجامعية ‪2021 – 2020‬‬


‫– األستاذ بركان حسان – أستاذ محاضر ‪-‬‬
‫‪-‬المحا ضرة السادسة‪ :‬مشكلة الالنهاية في الرياضيات – األهداف‪ :‬تمكين الطالب‬
‫من االطالع على مشكلة الالنهاية رياضيا ّ ‪ /‬فلسفيا وممارسة النقد االبستمولوجي‬
‫للطروحات الفلسفية – تاريخ االرسال‪2021- 5-5 :‬‬
‫تمهيد‬
‫يقول "سيمون بواسون" ان "الحياة ممتعة لشيئين فقط‪ ،‬االكتشاف في الرياضيات وتعليم‬
‫الرياضيات"‪ .‬وكما يؤكد "هنري بوانكاريه على انه مهما كانت تبدو الرياضيات من العلوم‬
‫المجردة‪ ،‬فإنها لغة كل العلوم التجريبية األخرى‪ .‬ومن خالل ذلك‪ ،‬فان الباحث في فلسفة‬
‫الرياضيات سيكتشف فيها من القضايا المدهشة والمحيرة للعقل والتي تستدعيه مرات عديدة‬
‫الى التأمل وإعادة النظر واالستشكال حول قضاياها‪ ،‬ومن هذه القضايا مشكلة الالنهاية‪ .‬فاذا‬
‫كنا ال نصادف الالنهاية في الواقع المادي المبسوط للحواس‪ ،‬فاننا نستشعرها و نحدسها و‬
‫نتعقلها بل ونستشكلها دائما‪ .‬فالكون يبدو النهائيا‪ ،‬واالعداد الطبيعية‪ ،‬وعدد حبات الرمل وكل‬
‫ما هوال متناهي في الصغر او في الكبر او غير مرئي مثل الميكروبات في الهواء‬
‫وااللكترونات والفوتونات‪...‬الخ‪ .‬اذن ما مفهوم الالنهاية؟ ما داللتها الرياضية والفلسفية؟ وهل‬
‫هناك حل لمشكلة الالنهاية؟‬

‫‪-1‬مفهوم الالنهاية‬

‫في الحقيقة ان الالنهاية قد تعني لغويا ما ال نهاية له وهذا يصدق على المقادير الالمتناهية كما‬
‫قلنا سابقا مثل االعداد الطبيعية الصحيحة غالبا ما نصادف الالنهاية في علم الرياضيات‬
‫بالرمز المعقوف – ثمانية مقلوب‪ -‬وهو ما يطلق عليه عادة "بعقدة الحب" والحقيقة وراء هذا‬
‫الرمز هو الدوران المستمر حول المنحى‪ .‬وهذا مما دفع علماء الرياضيات منذ قرون عديدة‬
‫في محاولة فهم سحر الالنهاية وغموض ماهيتها جاهدين للتوصل الى قياسها ومعرفة قوانبنها‬
‫الرياضية‬ ‫المفاهيم‬ ‫صف‬ ‫في‬ ‫تقف‬ ‫كي‬ ‫تحكمها‬ ‫التي‬ ‫والقواعد‬
‫األخرى‪.‬‬
‫لقد كانت فكرة الالنهاية مصدر قلق وارباك أكثر من الفي عام‪ ،‬فاليونانيون القدماء مثال أبدو‬
‫محاوالتهم للتعرف عليها والوصول الى ماهيتها ولكنهم لم يتوصلوا الى نتائج مرضية بسبب‬
‫التناقضات التي تفرزها تلك الفكرة وتداخلها في المجاالت الدينية والفلسفية‪ .‬وعلى الرغم ما‬
‫أحرزه االغريق من تقدم يثنى عليه‪ ،‬فان الفكرة لم تتبلور تماما اال في القرن التاسع عشر‬
‫وبالذات في اعمال "بلزانو" و" فيرشتراوس" و "جورج كانتور" وهذا األخير سنركز عليه‬
‫في بحثنا‪.‬‬

‫ولقد عبر األستاذ "علي مصطفى مشرفة" عن الالنهاية عندما كتب في مقال نشر في المجمع‬
‫المصري للثقافة العلمية عام ‪ 1933‬بقوله الالنهاية كلمة تعبر عن معناها تعبيرا حرفيا دون‬
‫حاجة من جانبي او جانب أي شخص اخر الى تفسير‪ .‬ف‪ :‬ال النافية أي نهاية حد او طرف‪،‬‬
‫فيقال لشيء انه ألنهائي إذا لم يوجد له حد او نهاية وعكسه الشيء المنتهي او المحدد‪ .‬اذن‬
‫الالنهاية تعني الشيء الذي ال يحده شيء‪ ،‬أي بال حدود وهي ليست بعدد صحيح وانما هي‬
‫كمية او مقدار عن حالة غير منتهية‪ .‬ويبقى هذا التعريف في حيز المفاهيم التقليدية الذي‬
‫يعب ر عن الالنهاية بصورتها الممكنة او الجهدية‪ ،‬بينما يبقى االمر في صورتها الحقيقية او‬
‫الفعلية وهي اإلضافة التي تقدم بها "كانتور"‪ .‬والسؤال المطروح هنا هو ما حجم الالنهاية؟‬
‫لقد كان هذا السؤال مطروحا على "كانتور" قبل ان يخوض مسالة الالنهاية من كال طرفيها‬
‫ان تلك المسالة التي حيرت عقول سلفه ومعاصريه دفعت الرياضي الكبير "جوزيف الكرانج"‬
‫في عام ‪ 1784‬ان يعلن عن منح جائزة لمن يجد حال لهذه المعضلة‪ -‬بناء على اقتراح اكاديمية‬
‫برلين للعلوم‪ -‬وأخيرا جاءت حلول كثيرة في غاية التعقيد الرياضي ولكن من بين تلك الحلول‬
‫هناك حل بسيط جدا تقدم به الرياضي السويسري "سيمون لوهلير" الذي فاز بالجائزة والحل‬
‫هو" الالنهاية هي الهاوية التي تتداخل فيها افكارنا"‪ .‬والحل الجذري هو الذي نحن بصدده‬
‫وما ترمي اليه هذه الصفحات وهو الذي اتى به "كانتور" الذي هذب فكرة الالنهاية تهذيبا‬
‫رائعا مقدما الحل النهائي بعدما كانت الالنهاية عائمة في محيط المطلق والال محدود‪ ،‬وأعاد‬
‫اعتبار فكرة الالنهاية الحقيقية التي نبذها سلفه‪ ،‬و هي الالنهاية الكاملة او التامة و ليست‬
‫الممكنة او الجهدية كما كان يتصورها األوائل‪ .‬لقد برهن كانتور على وجود مستويات مختلفة‬
‫من الالنهائيات‪ ،‬بمعنى اخر‪ ،‬هناك رتب ودرجات من الالنهائيات ‪ ،‬كل مستوى يكون أكبر‬
‫من سابقه وهكذا نحصل على رتب النهائية من الالنهائيات و ان جميع المجموعات الالنهائية‬
‫ليس لها نفس المقدار‪ ،‬و انه يمكن مقارنة الواحدة مع األخرى‪ .‬فمثال مجموعة نقط الخط‬
‫المستقيم ومجموعة الكسور كلتاهما ال نهائيتان‪ .‬كما برهن أيضا على ان المجموعة األولى‬
‫أكبر حجما ومقدارا من األخرى‪ .‬ومن هذا المنطلق شن معاصرو"كانتور" حربا ضده‪ ،‬فمنهم‬
‫من اتهمه بالجنون واخر بالشعوذة‪ ،...‬فالرياضي الفرنسي الشهير "هنري بوانكاريه" شجب‬
‫نظرية االعداد الالنهائية بعنف حينما وصفها بانها مرض خطير جاء به "كانتور" وتأزمت‬
‫به الرياضيات ن لذا يجب التخلص منه تماما‪ .‬ووصفه اخر بانه يبني قصرا من الرمل‪ ،‬اما‬
‫استاذه "ليبولد كرونيكر" وهو أحد مشاهير الرياضيات آنذاك فقد شن هجوما عنيفا وقاسيا جدا‬
‫على تلميذه "كانتور" متهما إياه بالدجل والشعوذة وان اعماله الرياضية ليست اال فلسفة فارغة‬
‫وجوفاء وليس العلم الرياضي بحاجة اليها اطالقا‪ .‬ومن نتائج هذا الهجوم األخير والذي وراءه‬
‫الغيرة والحقد والحسد الدفين‪ ،‬ان أصيب "كانتور" بانهيار عصبي حاد قاده الى مستشفى‬
‫االمراض العقلية الذي مكث فيه أكثر من تمانية اعام حتى وفاته‪ .‬بينما يقول الريا ضي الشهير‬
‫"دفيد هلبرت" ان "كانتور" خلق لنا فردوسا وليس باستطاعة أحد ان يخرجنا‬
‫منه‪.‬‬

‫ان "جورج كانتور" هو مؤسس نظرية الالنهائيات في الرياضيات ويمكن ان يقال بحق انه‬
‫مؤسس الرياضيات الحديثة حيث كان شغله الشاغل هو انجاز مفهوم المجموعة باعتبارها‬
‫احدى ركائز الرياضيات األساسية وجعل نظرية االعداد الموغلة (ما وراء المنتهي) وبالذات‬
‫مفهوم االعداد الترتيبية لب اعماله‪.‬‬

‫‪ -2‬الالنهاية عند كانتور‬

‫ا‪ -‬السيرة العلمية ل "جورج كانتور"‬

‫هو "جورج فردينا رد فيليب كانتور" االبن األكبر الب تاجر ناجح هو "جورج فالدمار‬
‫كانتور"‪ .‬ولد "كانتور" عام ‪ 1845‬بمدينة "سانت بستراسبورغ"(روسيا لينين غراد سابقا‪-‬‬
‫عصر اإلمبراطورية السوفيتية) التي هاجر اليها ابوه لكنه عاد مع والده الى "فرانكفورت"‬
‫سنة ‪ 1856‬وحينها كان "كانتور" يبلغ من العمر ‪ 11‬سنة‪ .‬اما امه "ماريا بوهم" فتنحدر من‬
‫اسرة موسيقية عريقة‪ .‬ومنه فطاقات "كانتور" الفنية وحسه الذي ورثه عن امه‪ ،‬ظلت حبيسة‬
‫ولم تجد مخرجا لها اال في الفلسفة والرياضيات‪ ،‬وربما قد تكون أحد األسباب التي جعلته في‬
‫حالة عدم استقرار دائم‪.‬‬

‫ومن الناحية الدينية‪ ،‬كان والده معتنقا للبروتستنتية وأمه كالوثيكية اال ان "كانتور" اختار‬
‫المذهب البروتستانتي ومن خالله اكتسب ذوقا متميزا في مجادالته وخاصة في األمور اللفظية‬
‫الصغيرة في الهوت العصور الوسطى‪ ،‬فاذا لم يكن "كانتور" رياضيا لكان قدره حتما اما‬
‫الفلسفة او الالهوت‪ .‬ويمكن ان يقال في هذا الصدد ان نظرية "كانتور" حول الالنهاية باتت‬
‫حجر الزاوية عند اليسوعيين الذين كانت نزعاتهم المنطقية عن طريق الخيال الرياضي‬
‫الصرف الذي يكمن وراء تصوراتهم الالهوتية حول اثبات وجود الخالق الذي ال مجال للشك‬
‫فيه وما التماسك او االنسجام الذاتي للثالثي المقدس اال اندماج الثالثة في الواحد او الوحدة‬
‫وما تفرع الواحد الى ثالثة اال تعبيرا عن المساواة والخلود المشتركين‪ .‬لقد بدات موهبة‬
‫"كانتور" الرياضية في الظهور منذ سن الخامسة عشر‪ .‬بدا "كانتور" دراسته الجامعية في‬
‫"زيورخ" عام ‪ 1862‬وبعد عام انتقل الى جامعة "برلين" غداة وفاة والده وهناك درس‬
‫الرياضيات والفلسفة والفيزياء ولكن ميوله اندفعت الى الحقلين االولين بالتساوي وتاركا‬
‫الفيزياء دون مباالة‪ ،‬ففي الرياضيات تتلمذ على يد األساتذة " كومر" و "فيرشتراس" و "‬
‫كرونكر"‪ .‬وبناء على العرف السائد في الجامعات األلمانية آنذاك فانه يحق للطالب ان يقيم‬
‫في مدينة ما ويلتحق بالدراسة في جامعة أخرى خارج تلك المدينة وكان االمر كذلك حيث‬
‫كان يقيم "كانتور" عام ‪ 1866‬في "كوتنجن" ويدرس في "برلين"‪.‬‬

‫لقد كان المناخ الرياضي آنذاك مفعما بالحساب وبالذات عند استاذيه "كومر" و "كرونكر"‬
‫ولكن "كانتور" ولع بأعمال "جاوس" ونظرياته وهام بها حتى غاص فيها بعمق وبالذات في‬
‫عمل "جاوس" ونظرياته الخالدة وهي «التحقيقات الحسابية" حيث تطرق الى مسالة صعبة‬
‫تركها "جاوس" دون حل‪.‬‬

‫لقد كان "كانتور" مولعا باعمال"جاوس" المتعلقة بالنظرية الرقمية التي فتن بها وسحر‬
‫بمحتواها ال لوضوح وكمال براهينها ولكن تاثير استاذه "فيرشتراس" جعله يتجه الى التحليل‬
‫الرياضي وبالذات المتسلسالت المثلثية (متسلسالت فورييه)‪ .‬ولكن الصعوبات االحاسمة في‬
‫هذه النظرية والمتعلقة بتقارب المتسلسالت الالنهاية كانت اقل عمقا وقريبة المنال إذا ما‬
‫قورنت بنظرية قوى المتسلسالت وهي التي جذبت اهتمام "كانتور" ودفعته الى أسس التحليل‬
‫الرياضي أكثر من معاصريه الذين لم يولوا اعتبارا لها وقادته أخيرا الى احتضان رياضيات‬
‫وفلسفة الالنهاية‪ .‬هذه الفلسفة التي تترعرع في قاع جميع القضايا المتعلقة بمفاهيم االستمرارية‬
‫والنهايات والتقاربية‪ .‬تحصل على الدكتوراه عام ‪ 1868‬من جامعة "برلين" بأطروحته حول‬
‫نظرية االعداد واشتغل أستاذ بجامعة "هال" حيث كان يتقاضى راتبه من الطلبة مباشرة (هذا‬
‫االجراء كان معموال به آنذاك بجامعات المانيا)‪.‬و لقد نشر بحثه حول الحلول العامة لهذه‬
‫المسالة و التي تعد بمثابة البذرة األولى لنظرية المجموعات الالنهائية‪ .‬ان المسالة التي اقترحها‬
‫زميله "هاينه" برزت من خالل اعمال الرياضي الفرنسي الشهير "جون فورييه" حيث برهن‬
‫"فورييه" في عام ‪ 1822‬ان الرسم البياني لمنحنى "دقيق جدا"(املس‪-‬هو المنحنى الذي يوضح‬
‫اعدادا من النقط المتناهية غير المتصلة) يمكن تمثيله على مدى الفترة كمجموع لمتوالية مثلثية‬
‫النهائية‪ .‬وبتعبير اخر تتطابق اعداد النهائية من موجات الجيب والجيب تمام‪ ،‬فأية نقطة على‬
‫المنحنى الدقيق جدا (االملس) عدا نقاط التقاطع يمكن تقريبها الى درجة من الدقة حسبما نشاء‬
‫ويقال عندئذ بان المتواليات متقاربة الى المنحني او الى دالة عدا اعداد متناهية من النقط‬
‫أينما تكون‪.‬‬

‫و على الرغم من ان نظرية "كانتور" القت العديد من المعارضين و لكنه توصل فعال الى ان‬
‫يجعل المنطق الرياضي يتجدد و يصبح اكثر قوة و صالبة‪ ،‬كان "برتراندراسل" احد مؤيديه‬
‫و قال مادحا و مبجال إنجازات "كانتور" بانها اعظم اإلنجازات التي يفتخر بها العصر‬
‫(راسل‪،‬مبادئ الرياضيات‪،‬ص‪.)153‬‬

‫التقى"كانتور" عام ‪ 1874‬عالم الرياضيات "ديدكن" على جبال "هارتز" حيث كان يقضي‬
‫شهر العسل مع زوجته "فالي كوتمان" ‪ ،‬و كان اللقاء مثمرا حيث ناقشا معا المسائل الرياضية‬
‫التي كانت تشغله ‪ ،‬فقبل ذلك اللقاء بعام كتب "كانتور" رسالة الى "ديدكن" يساله فيها "هل‬
‫باإلمكان تطابق نقط سطح ما (مربع و من ضمنه نقط حدوده) مع نقط الخط المستقيم (من‬
‫ضمنها نقطتي البداية و النهاية) أي ان نقطة على السطح تناظرها أخرى على الخط المستقيم‬
‫و بالعكس ؟ " (الصديقي‪ ،‬مسالة الالنهاية في الرياضيات‪ ،‬ص‪ .)26‬و بالتعاون مع "ديدكن"‬
‫اعطى "كانتور" الشكل النهائي لنظرية االعداد الحقيقية بغية تحويل التحليل الرياضي الى‬
‫حساب ‪،‬أي الستخراج تعريف االعداد الحقيقية من مفهوم النهاية ‪ ،‬فانطلق من مبدا التقابل و‬
‫منه توصل الى نظرية الرتب المتصاعدة‪.‬‬

‫ب‪-‬معركة "كانتور" ضد خصومه‬

‫لقد كان "كانتور" يعلم بان نظريته الجديدة حول المجموعات الالنهائية و االعداد الموغلة‬
‫ستالقي حتما معارضة شديدة و هذا بالتأكيد لما تمثله نظريته من إزاحة االعتقاد التقليدي‬
‫السائد ‪ -‬و هذا مصير اية فكرة جديدة‪ -‬لذا كان احد اهداف "األسس" هو اثبات انه ليس ثمة‬
‫سبب لقبول االعتراضات القديمة حول اكتمال الالنهاية الحقيقية و من الممكن أيضا اإلجابة‬
‫على هؤالء الرياضيين امثال "جاوس" و الفالسفة أمثال "ارسطو" و الالهوتيين مثل "توماس‬
‫االكويني" ‪ ،‬سيجدون انفسهم في وضع معين و في يوم ما غير قادرين ان يرفضوا تلك الفكرة‬
‫الن "كانتور" نفسه لم يتطرق الى القضايا المعرفية لألعداد الموغلة فحسب بل الى التصورات‬
‫الميتافيزيقية المصحوبة بها الن هذه التصورات بمثابة الروح النابضة في اية فلسفة‪.‬‬

‫لقد كان "كانتور" وهو يدافع عن مشروعه العلمي الرياضي الجديد‪ ،‬مستعدا لمواجهة‬
‫االحتجاجات الفلسفية والدينية التي ربما تبرز من تناول مفهوم الالنهاية الحقيقية‪ .‬ان تفاصيل‬
‫برنامج "ليبولد كرونيكر" حول "التحسيب" الهادف الى ان الرياضيات برمتها ما هي اال اعداد‬
‫نهائية تتضمن فقط االعداد الصحيحة ‪ ،‬و تم تلخيص هذا البرنامج في مقاله الموسوم ب‬
‫"حول مفهوم العدد" و كما تمت اإلشارة اليه سابقا ان "كانتور" كتب اطروحته تحت اشراف‬
‫استاذه "كرونيكر"‪ ،‬كما ان اعمال "كانتور" و التي نشرت عام ‪ 1878‬حققت له نصرا عظيما‬
‫و جعلته يقف في مقدمة رياضيي عصره لكن هذا النصر سرعان ما تحول الى جحيم حيث‬
‫بدا خصومه يشنون عليه حربا ال هوادة فيها و بدأت القطيعة مع استاذه بجامعة برلين و‬
‫محرر مجلة "كريله" ‪ ،‬الرياضي المذكور انفا "ليبولد كرونكر"‪ .‬ومما القاه هو تأخر نشر‬
‫مقاله بمجلة"كريله" والسبب كان راجعا الى عوامل شخصية حيث لم يرد "كرونكر" ان تنشر‬
‫اعمال "كانتور" ألنه كان يرفض مفهوم الالنهاية الحقيقية او المكتملة وكذلك االعداد الموغلة‪.‬‬
‫لقد كانت الحملة التي شنها "كونكر" مشحونة بالغيرة على حد تعبير "إسحاق‬
‫اسيموف"‪.‬‬

‫لقد كان "كرونكر" دوما معارضا ل "كانتور"‪ ،‬بل كان يبذل جل اهتمامه في عرقلة تقدم‬
‫"كانتور" وابعاده عن سلك التعليم بجامعة "برلين" حتى دفعه الى ترك "برلين" وااللتحاق‬
‫بجامعة "هال" وهناك بدأت تظهر عليه نوبات االنهيار العصبي وعلى إثرها ادخل مستشفى‬
‫االمراض العقلية ومكث فيه ثمانية أعوام حتى وفاته‪.‬‬

‫ج‪ -‬الالنهاية عند "كانتور"‬

‫تعتبر نظرية المجموعات واالعداد الموغلة أحد االبداعات واإلنجازات الرئيسة بل‬
‫والمتميزة في اعمال "كانتور" تحديدا وفي تاريخ الرياضيات وفلسفتها بصورة اعم‪.‬‬
‫وتعتبر أبحاث "كانتور" األولى والتي هي سلسلة من الدراسات‪ ،‬بدا مسارها منذ‬
‫عام ‪ 1870‬وكان محورها يدور حول المتسلسالت المثلثية‪ .‬ولقد كان تحليل الدوال‬
‫هو الحافز الذي دفع"كانتور" الى فكرة "مجموعة النقط" ومن ثم الى اكتشافه الخالد‬
‫"االعداد الموغلة" أي اعداد ما وراء المنتهي‪ .‬لقد كانت اعمال "كانتور" المبكرة‬
‫منصبة حول متسلسالت "فورببه" وهي المتسلسلة المثلثية التي يمكن التعبير عنها‬
‫بالصورة التالية‪:‬‬

‫‪F=1/2a0cos(nx)+bnsin(nx)=1/2a0+a1cosx+b1sinx+a2cos2x+b2‬‬
‫…‪sin2x+‬‬

‫حيث ‪ a0 a1 p a2 b0 b1 b2..‬هي اعداد ثابتة تسمى معامالت "فورييه"‪.‬‬

‫وتستخدم هذه المتسلسلة لتمثيل او تقريب اية دالة دورية (دورتها‪ 2‬بي) وحيدة القيمة‬
‫وذلك عن طريق تحديد قيم مناسبة للمعامالت‪.‬‬
‫في عام ‪ 1870‬انجز "كانتور" أولى نتائجه المتعلقة بوحدانية الدالة‪ ،‬وهي‪ ،‬إذا كانت‬
‫الدالة متصلة في فترة ما‪ ،‬فان تمثيلها بوساطة المتسلسالت المثلثية يكون وحدانيا‪.‬‬
‫اما اعماله األخرى فكانت تدور حول متطلبات الدالة التي يجب ان تكون متصلة‬
‫على مدى الفترة‪ .‬لقد بحث "كانتور" عام ‪ 1872‬قضايا أكثر تعميما لنتائجه حول‬
‫نظرية الوحدانية قادته الى اكتشاف نتائج مهمة وهكذا تركزت اعماله في العام‬
‫المذكور حول اقتراب () الى دالة صفرية عند اية نقطة في الفترة () اما تشخيصه‬
‫الدقيق لهذه المسالة فدفعته الى صياغة نظرية محكمة وصارمة حول االعداد النسبية‬
‫(المنطقية) وبالذات عندما واجهته مسالة المجموعة التي تحتوي على عناصر‬
‫النهاءية (أي اعداد النهاءية من النقط)‪ .‬وهكذا استطاع "كانتور" ان يتوصل الى‬
‫هذه‬ ‫الممتاليات الرتبية او رتب للمتواليات‪ ،‬فالمجموعة () للمتتالية األساسية‬
‫المتالية تقترب طبعا من معيار "كوشي" الذي ينص على ان اية قيمة صغيرة محددة‬
‫مهما كانت قيمتها شرط ان تكون أكبر من الصفر فان القيمة المطلقة للفرق بينهما‬
‫سيكون أصغر من تلك القيمة‪.‬‬

‫لقد أعطت دراسات "كانتور" حول المتسلسالت المثلثية بعدا اخر في مسار عمله‬
‫بل تحوال أيضا في أفكاره‪ ،‬حيث شرع في التركيز على العالقات الموجودة بين‬
‫االتصال ناهيك عن المتسلسالت نفسها‪ .‬وكانت هذه خطوة رائعة في تقدم عمله‬
‫وخاصة وصفه الدقيق لمجموعة النقط الالنهائية والذي كان التحليل الرياضي معوله‬
‫األساسي في مسالة اتصال نقط االحداثي السيني‪ .‬لذا اعتبرها "كانتور"‬
‫بديهيات(موضوعة)‪ ،‬فأية نقطة على الخط المتصل يناظرها عدد‪ ،‬هذا العدد حقيقي‬
‫–كي يمكن تميزه عن االعداد التخيلية‪ -‬وبالمثل أي عدد حقيقي تناظره نقطة على‬
‫الخط المستقيم‪ .‬ان الوصف الدقيق لمفهوم اتصال الخط ر المستقيم وارتباطه بنسق‬
‫االعداد الحقيقية الخاضع لمبدأ "التكافؤ" او المطابقة واحد الى واحد يعتبر أحد‬
‫إنجازات "كانتور" المهمة في بحوثه المنشورة عام ‪.1872‬‬

‫ولكن العائق الرئيس حول نظرية االعداد الحقيقية هي وجود اعداد مثل االعداد‬
‫الصماء‪ .‬وبناء على اقتراح "كارل فيرشتراس" استاذه بجامعة "برلين" توصل‬
‫"كانتور" الى ان االعداد الصماء يمكن تمثيلها بمتوالية‪ /‬متسلسلة النهائية من‬
‫االعداد الصماء‪ ،‬كما يمكن اعتبار جميع االعداد الصماء نقاط هندسية على خط‬
‫االعداد الحقيقية مثل االعداد الناطقة‪.‬‬

‫على الرغم من المنحى الكنتوري المفعم بالمنطق المجرد اال انه يبدو شاقا على‬
‫بعض الرياضيين الذين رفضوا االستسالم الى هذا المنطق الجديد ألنه يفترض‬
‫مسبقا وجود مجموعات او متواليات من االعداد تحوي على عناصر النهائية‪.‬‬

‫لم يكن "كانتور" آنذاك هو الوحيد الذي انكب على دراسة مسالة االتصال بل هناك‬
‫الكثير ومن بينهم زميله الرياضي األلماني "ريتشارد ديدكن"‪ .‬ففي عام ‪ 1872‬نشر‬
‫"ديدكن" تحليال حول هذه المسالة التي اعتمدت أساسا على المجموعات الالنهائية‬
‫ومن خاللها صرح "ديدكن" بالفكرة التي ساهم "كانتور" فيها مساهمة جبارة وأشاد‬
‫بها‪ .‬فالخط المستقيم يحتوي على نقط النهائية فهو أكثر عددا من مجال االعداد‬
‫الناطقة (النسبية)‪ ،‬فاذا اخذنا مثال توزيع النقط على جزء صغير من الخط المستقيم‬
‫تناظره(تكافؤه) نقط االعداد المذكورة او النقط الصحيحة بغض النظر عن طول‬
‫هذا الخط او ذاك‪ ،‬فهناك في الواقع اعداد النهائية من النقط‪ .‬وخالصة مالحظة‬
‫"ديدكن" هو انه بالرغم من كثافة النقط الصحيحة على الخط نفسه فهناك مجال‬
‫لحصر اعداد النهائية من النقط الصحيحة والنقط غير الصحيحة مثل ‪ 2‬الذي يقع‬
‫بين االعداد الصحيحة (الناطقة)‪ .‬وهذا بالطبع يترك فراغا والذي سيعرقل عملية‬
‫االتصال وعندئذ لن نحصل على االستمرارية‪.‬‬

‫إذا طرحنا هذا السؤال‪ :‬كيف تكون المجموعة الالنهائية من النقط في المنحنى‬
‫المتصل أكثر من مجموعة االعداد الالنهائية الناطقة؟ فان "ديدكن" لن يجيبنا بل‬
‫سيلتزم الصمت‪ .‬لقد كانت مساهمة "كانتور" تدور حول هذه المسالة التي نشرت‬

‫في عام ‪ 1874‬في المجلة الرياضية (كريلز جورنال) وهي احدى الدوريات‬

‫المرموقة وذات الصيت الحسن آنذاك‪.‬‬

You might also like