You are on page 1of 53

‫‪1‬‬

‫اإلسالم‬
‫بين الشرق والغرب‬
‫لعلى عزت بيجوفيتش‬

‫ترجمة وإعداد‬
‫محمد يوسف عدس‬
‫مستشار سابق بهيئة اليونسكو‬
‫‪2‬‬

‫هذا الكتاب‬
‫ِّع منهما حتى‬
‫(( علي عزت بيجوفيتش )) (( اإلسالم بين الشرق والغرب )) صدر في طبعتين ُوز َ‬
‫اآلن أكير من تسعة وعشرين ألف نسخة وهو رقم غير معهود في توزيع الكتب العربية فتوزيع‬
‫نجاحا ملحوظا ‪.‬‬
‫ثالثة آالف نسخة من طبعة الكتاب ُي ْعتََب ُر ً‬
‫ف ترجمته – أحدث ظهوره وانتشاره‬
‫عندما ظَ َه َر الكتاب ألول مرة سنة ‪ – 1994‬وكان لي َش َر ُ‬
‫هزةً إعالمية وثقافية‪ M‬ملحوظة وكان مثار إعجاب ودهشة من الجميع ‪.‬‬
‫كل‬
‫انعقدت حوله ندوات في مصر وفي العالم العربي وحظي بتعليقات الصحفيين والكتاب من ِّ‬
‫ولعل أهم الندوات التي عُ ِق َد ْ‬
‫ت حول الكتاب تلك التي‬ ‫األطياف الفكرية على نطاق واسع ‪َّ ...‬‬
‫أشرف عليها الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي طالما أوصى بقراءة الكتاب وتدريسه في‬
‫برامج الدراسات الفلسفية بالجامعات‪. M‬‬
‫ص َل ُمؤلِّف الكتاب على جائزة الملك فيصل الدولية وحضر إلى‬ ‫وفي ديسمبر من نفس السنة َح َ‬
‫القاهرة بهذه المناسبة وإن كان اهتمامه األكبر التعريف بطبيعة ِ‬
‫وس ْر اإلبادة الجماعية التي َشنَّها‬
‫الصرب على المسلمين في البوسنة واستنهاض طاقات العرب والمسلمين لمساعدة بالده في‬
‫ِ‬
‫وقف العدوان الصربي ‪ ،‬وكان هو في ذلك الوقت رئيس جمهورية البوسنة وقائد نضالها‬
‫المستميت من أجل البقاء ورد العدوان ‪.‬‬
‫ورغم االنتشار الواسع لهذا الكتاب واالستقبال الرائع الذي استقبله به القراء والنقاد إال أنه كان‬
‫همه من جانب القارئ‬
‫موجه لصفوة القراء والمثقفين وأنه يصعب تناوله وفَ ُ‬
‫هناك شعور بأنه كتاب َّ‬
‫العادي ‪ .‬وقد شعرت كما َش َع َر كثير من األصدقاء أن هذا الكتاب ينطوي على كنوز فكرية‬
‫البد من َع َم ِل شيء لتذليل كل صعوبة حتى يتمكن من قراءته‬
‫ومعرفية‪ M‬وبه طاقة روحية كامنة وأنه َّ‬
‫بيسر أكبر عدد من الناس وال يَ ْخ َو ُمون من فائدته واالستمتاع به ‪ ...‬ومن ثم حثَّني األصدقاء دائما‬
‫عق ٍد كامل من الزمن‬
‫على محاولة اختصار الكتاب وإصدار طبعة ميسرة منه ‪ ،‬ولكني – على مدى َّ‬
‫– أحجمت عن هذه المحاولة خشية أن ينال التبسيط واالختصار من قيمة الكتاب الفكرية ‪.‬‬
‫تجم َع لدى الناشر الجريء صاحب الخبرة الواسعة في مجال النشر – وهو األستاذ‬ ‫ويبدو أنه قد َّ‬
‫تجمعت لديه من األسباب ومن وراء أصحاب الفكر والنظر ما َج َعلَه يُلِ َّح على‬
‫حسين عاشور – َّ‬
‫ضرورة إنجاز مهمة اختصار كتاب ( اإلسالم بين الشرق والغرب ) حتى اقتنعت بوجهة نظره‬
‫وبدأت أبحث عن منهج أو مقترب لتحقيق هذه المهمة يزيل ما في الكتاب من صعوبات فكرية‬
‫وعقبات‪ M‬فلسفية ويحتفظ في نفس الوقت بتراثه المعرفي وقيمته الفكرية وال ينتقص أو ينحرف‬
‫‪3‬‬

‫ض َعه المؤلف لهذا الكتاب وهو تقديم اإلسالم في نقائه وسموه في إطار‬
‫عن الهدف الذي َو َ‬
‫المقارنة مع الفكر الغربي وحضارته المنشقة على نفسها في صراع عميق بين المادية واإللحاد من‬
‫جانب الدين المجرد ُمتَ َمثِّال في الكاثوليكية المتطرفة ‪.‬‬
‫محمد يوسف عدس‬
‫مستشار سابق بهيئة اليونسكو‬
‫‪4‬‬

‫مقدمة‪M‬‬
‫ِّع منهما‬
‫كتاب (( علي عزت بيجوفيتش )) ( اإلسالم بين الشرق والغرب ) صدر في طبعتين ُوز َ‬
‫حتى اآلن أكثر من تسعة وعشرين ألف نسخة وهو رقم غير معهود‪ M‬في توزيع الكتب العربية‬
‫نجاحا ملحوظًا ‪.‬‬
‫فتوزيع ثالثة آلف نسخة من طبعة الكتاب ُي ْعتََب ُر ً‬
‫ث ظهوره وانتشاره‬
‫َح َد َ‬
‫عندما ظَ َه َر الكتاب ألول مرة سنة ‪ – 1994‬وكان لي شرف ترجمته – أ ْ‬
‫هز ًة إعالمية وثقافية‪ M‬ملحوظة وكان مثار إعجاب ودهشة من الجميع ‪ ..‬انعقدت حوله ندوات في‬ ‫َّ‬
‫وح ِظي بتعليقات‪ M‬الصحفيين وال ُكتَّاب من ِّ‬
‫كل األطياف الفكرية على نطاق‬ ‫مصر وفي العالم العربي َ‬
‫ولعل أهم الندوات التي عُ ِق َدت حول الكتاب تلك التي أشرف عليها الدكتور عبد‬
‫واسع ‪َّ ..‬‬
‫صى بقراءة الكتاب وتدريسه في برامج الدراسات الفلسفية‬
‫الوهَّاب المسيري الذي طالما ْأو َ‬
‫بالجامعات ‪.‬‬
‫ض َر إلى‬ ‫ص َل مؤلِّف الكتاب على جائزة الملك فيصل الدولية َ‬
‫وح َ‬ ‫وفي ديسمبر من نفس السنة َح َ‬
‫َّها‬ ‫القاهرة بهذه المناسبة وإ ْن كان اهتمامه األكبر التعريف بطبيعة ِس ْر ِ‬
‫ب اإلبادة الجماعية التي َشن َ‬
‫الصرب على المسلمين في البوسنة واستنهاض طاقات العرب والمسلمين لمساعدة بالده في‬
‫وقف العدوان الصربي ‪ ،‬وكان هو في ذلك الوقت رئيس جمهورية البوسنة وقائد نضالها‬
‫ور ِّد العدوان ‪.‬‬
‫المستميت من أجل البقاء ّ‬
‫ورغم االنتشار لواسع لهذا الكتاب واالستقبال الرائع الذي استقبله به القراء والنقاد إال أنه كان‬
‫موجه لصفوة القراء والمثقفين وأنه يصعب تناولُه و َف ْه ُمه‪ M‬من جانب القارئ‬
‫هناك شعور بأنه كتاب َّ‬
‫أن هذا الكتاب ينطوي على‬ ‫كثير من األصدقاء َّ‬
‫العادي محدود الثقافة ‪ .‬وقد شعرت كما َش َع َر ٌ‬
‫كنوز فكرية ومعرفية وبه طاقة روحية كامنة وأنه َّ‬
‫البد من َع َمل شيء لتذليل كل صعوبة حتى‬
‫أكبر عدد من الناس وال يُ ْح َر ُمون من فائدته واالستمتاع به ‪.‬‬ ‫َّ‬
‫يتمك َن من قراءته بيسر ُ‬
‫دائما على محاولة اختصار الكتاب وإصدار طبعة ميسرة منه ‪ ،‬ولكني –‬
‫ومن ثَ َّم َحثَّني األصدقاء ً‬
‫على مدى ع ْق ٍد كامل من الزمن – أحجمت عن هذه المحاولة خشية أن َ‬
‫ينال التبسيط واالختصار‬
‫من قيمة الكتاب الفكرية ‪.‬‬
‫ويبدو أنه قد تَ َج َّم َع لدى الناشر الجرئ صاحب الخبرة الواسعة في مجال النشر – وهو األستاذ‬
‫حسين عاشور – تجمعت لديه من األسباب ومن آراء أصحاب الفكر والنظر ما جعله يُلِ ُّح على‬
‫ضرورة إنجاز مهمة اختصار كتاب (( اإلسالم بين الشرق والغرب‪ )) M‬حتى اقتنعت بوجهة نظره‬
‫وبدأت أبحث عن منهج أو مقترب لتحقيق هذه المهمة يزيل ما في الكتاب من صعوبات فكرية‬
‫‪5‬‬

‫وعقبات‪ M‬فلسفية ويحتفظ في ن ْفس الوقت بتراثه المعرفي وقيمته الفكرية وال ينتقص أو ينحرف‬
‫ض َعه المؤلِّف لهذا الكتاب وهو تقديم اإلسالم في نقائه ّ‬
‫وسموه في إطار‬ ‫عن الهدف الذي َو َ‬
‫المقارنة مع الفكر الغربي وحضارته المنشقة على نفسها في صراع عميق بين المادية واإللحاد من‬
‫جانب وبين الدين المجرد ُمتَ َمثِّالً في الكاثوليكية المتطرفة ‪.‬‬
‫األصلي على قسمين رئيسين ‪ ،‬األول تحت عنوان ‪ ( :‬مقدمات – نظرات حول‬
‫ّ‬ ‫يشتمل الكتاب‬
‫الدين ) ‪ ،‬والثاني تحت عنوان ‪ ( :‬اإلسالم وحدة ثنائية القطب ) ‪.‬‬
‫وألن القسم األول يحتوي على حشد هائل من األفكار العلمية والفلسفية‪ M‬والمصطلحات الخاصة‬
‫التي في َف ْه ِمها إلى متخصصين أو مثقفين موسوعيين – اخترت سلسلة من المقتبسات الميسرة‬
‫تنم بإيحاءاتها األفكار الواردة بهذا القسم و ُت َق ِّرب‪ M‬القارئ من أسلوب المؤلِّف وطريقته في‬
‫ُّ‬
‫التحليل والوصول إلى النتائج ‪.‬‬
‫الهامة التي أبرزها المؤلِّف في هذا القسم َ‬
‫وبنَى عليها‬ ‫وتجدر اإلشارة هنا إلى بعض النقاط َّ‬
‫تحليالته واستنتاجاته في القسم الثاني ‪:‬‬
‫أوالً ‪ :‬أن الدين كامن في جذور أشياء كثيرة قد نحسب أال عالقة لها بالدين كالفن والثورة‬
‫والمذاهب أو االتجاهات الفلسفية العبثية والعدمية التي تتسم باإللحاد ‪ ،‬فإلحاد هؤالء ال عالقة له‬
‫جازما بينما إلحاد العدميين والعبثيين‬ ‫ِ‬
‫إنكارا يقينًا ً‬ ‫بإلحاد الفالسفة العقالنيين الذين ُي ْنكرون األلوهية ً‬
‫ث‬‫وظن أن الحياة َعبَ ٌ‬
‫إلحاد اليائس العاجز َك َد َح في بحثه عن اهلل ولكنه لم َي ْهتدي إليه فثار وتَ َم َّر َد َّ‬
‫خالية من الهدف ومن األلوهية ومن األمل ذلك ألنه محجوب مقطوع الصلة بالهداية اإللهية‬
‫وبالوحي الذي يقول ‪ { :‬أَفَ َح ِس ْبتُ ْم أَنَّ َما َخلَ ْقنَا ُك ْم َعبَثاً َوأَنَّ ُك ْم إِل َْينَا ال ُت ْر َجعُو َن } [ المؤمنون ‪:‬‬
‫‪. ] 115‬‬
‫التعرف عليها‬ ‫الثانية ‪ :‬أن (( علي عزت بيجوفيتش )) يستخدم مصطلحات‪ M‬خاصة به َّ‬
‫البد من ُّ‬
‫لنفهم ما يقول بطريقة صحيحة وأهم ما يطالعنا من هذه المصطلحات عبارة ( الدين المجرد )‬
‫ضا عن‬‫ف بها الدين عندما يقتصر على الجانب الروحي في اإلنسان وعلى الحياة اآلخرة ُم ْع ِر ً‬ ‫وي ِ‬
‫ص ُ‬ ‫َ‬
‫االهتمام بالجسد والحياة المادية التي تُ َش ِّك ُل الجانب اآلخر من اإلنسان وأبرز مثال عنده على‬
‫مجردا بهذا‬
‫ً‬ ‫تحولت إليها ‪ ..‬أما اإلسالم فليس دينًا‬
‫ذلك هو المسيحية األصلية والكاثوليكية التي َّ‬
‫يضم في إطار وحدته الروح‬
‫المعنى الغربي إنما هو ( دين وزيادة ) ‪ ،‬هو دين ثنائي القطب ُّ‬
‫معا ‪.‬‬
‫والجسد ً‬
‫‪6‬‬

‫حياة األرض وحياة السماء ‪ ..‬الدين والسياسة والمجتمع في إطار واحد والعبادة فيه ال تقتصر‬
‫يتوجه به اإلنسان إلى اهلل ابتداء‬
‫كل عمل َّ‬
‫التأمل والشعائر التعبدية الكنسية وإنما تشتمل على ِّ‬
‫على ُّ‬
‫من أصغر شيء ( إزالة حصوة من الطريق ) إلى الجهاد لدفع الظلم والعدوان وإقرار العدل ‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬أن (( عزت بيجوفيتش )) يميز بين الحضارة والثقافة‪ ، M‬ومصدر‪ M‬التمييز بينهما يرجع إلى‬
‫نشأة الحياة وتطورها في مسارين تاريخيين مختلفين ‪ ،‬فهناك تاريخ للدراما اإلنسانية التي بدأت‬
‫في المرحلة التمهيدية لخلق اإلنسان عندما َج َم َع اهلل ذرية آدم ( على هيئة ال نعلمها ) وسألهم ‪{ :‬‬
‫مؤك ًدا انتصار حرية اإلنسان ومسئوليته في‬ ‫ألست بربكم ‪ ..‬قالوا بلى ‪ } ..‬تطور هذا التاريخ ِّ‬
‫األرض ‪ ..‬وينتهي يوم الحساب في اآلخرة ‪ ،‬وينطو هذا المسار على ما يُ ْم ِك ُن تسميته ( الوازع‬
‫األخالقي ) للتاريخ وهو جوهر الثقافة‪ ، M‬أما الحضارة فهي تاريخ األشياء ( المادية ) وتطورها في‬
‫عالم التقدُّمات‪ M‬العلمية والتكنولوجية ‪.‬‬
‫والمهم – ونحن نقرأ لعلي عزت بيجوفيتش – أن َنَتنَبَّه إلى أنه يملك مصطلحات جديدة خاصة‬
‫به ‪ ،‬وقد يستخدم كلمات مألوفة بمفاهيم ومعاني جديدة غير مألوفة أو أكثر تحدي ًدا وتعيينًا ‪.‬‬
‫ت النظر إلى المالحظات اآلتية ‪:‬‬ ‫ولكي نساعد القارئ على متابعة القراءة بيُسر َن َو ُّد أن نل ِْف َ‬
‫‪ -‬قد نضيف كلمة في السياق بين قوسين لمزيد من اإليضاح دون مساس بسياق المعاني‬
‫واألفكار األصلية ‪.‬‬
‫ف‬
‫‪ -‬وجود ثالثة نقاط متجاورة ( ‪ ) ...‬في السياق تشير إلى كالم محذوف تمشيًا مع َه َد َ‬
‫االختصار ‪.‬‬
‫كل كالم مسبوق بمربع صغير كهذا ‪ ..‬هو تعليق من جانبنا يُقدِّم لفكرة جديدة أو يربط بين‬
‫‪ُّ -‬‬
‫فكرة وأخرى لضرورة اقتضاها الموقف ‪.‬‬
‫وختاما ‪ :‬فإن هذا الكتيب المختصر من كتاب ( اإلسالم بين الشرق والغرب‪ ) M‬محاولة مخلصة‬
‫ً‬
‫س ٍر ‪ ،‬لجمهور عريض من محبّي (( عزت بيجوفيتش ))‬‫لتقديم فكره وفلسفته في إطار موجز ُميَ َّ‬
‫خيرا ‪.‬‬
‫الذين قرءوا له من َق ْبل أو سمعوا عنه ً‬
‫ضى ‪.‬‬‫وي ْر َ‬ ‫ونسأل اهلل أن ُي َو ِّف َقنا إلى ما ُّ‬
‫يحب َ‬
‫اإلسكندرية في ‪ 6‬رمضان ‪ 1425‬هـ‬
‫‪ 19‬أكتوبر ‪ 2004‬م ‪.‬‬
‫محمد يوسف عدس‬
‫مستشار سابق بهيئة اليونسكو‬
‫‪7‬‬

‫عن اإلنسان والحياة يقول ‪:‬‬


‫لكل أفكار العالم ‪ ،‬فأي مناقشة تدور حول كيف‬
‫أصل اإلنسان )) هي َح َج ُر الزاوية ِّ‬
‫(( قضية (( ْ‬
‫ينبغي أن يحيا اإلنسان ‪ ،‬تأخذنا إلى الوراء إلى حيث مسألة ( أصل اإلنسان ) وفي ذلك تناقض‬
‫اإلجابات التي يقدِّمها كلٌّ من الدين ِ‬
‫والعلْم كما هو الشأن في كثير من القضايا )) ‪.‬‬
‫قائما ‪ :‬ما هو اإلنسان ؟ وهل اإلنسان جزء من العالم أو شيء مختلف عنه‬
‫يظل السؤال ً‬
‫(( ‪ُّ ..‬‬
‫)) ‪.‬‬
‫صح أننا نرتفع من خالل المعاناة و َن ْن َح ُّ‬
‫ط باالستغراق في المتع ‪ ،‬فذلك ألننا نختلف عن‬ ‫(( إذا َّ‬
‫صالً على‬
‫صالً على طراز (( داروين )) كما أن الكون ليس ُم َف َّ‬
‫الحيوانات ‪ ،‬إن اإلنسا َن ليس ُم َف َّ‬
‫طراز (( نيوتن )) )) ‪.‬‬
‫(( ُّ‬
‫يشك (( أليكس كاريل )) حتى في قُ ْد َرة اإلنسان على ال َف ْهم الكامل للحياة بداخل الخلية‬
‫فيقول ‪:‬‬
‫(( َّ‬
‫إن األساليب التي تستخدمها األعضاء في بناء نفسها غريبة على العقل البشري ‪ ..‬أكوام من‬
‫المادة تنبثق من خلية واحدة مفردة ‪ ،‬كأن بيتًا بأكمله ُي ْبنَى من طوبة سحرية ‪ ،‬طوبة تقوم تلقائيًّا‬
‫بتوليد وحدات أخرى من الطوب ‪ ..‬وتنمو األعضاء بطريقة تُ َذ ِّك ُرنا بما تفعله الجنيات في قصص‬
‫تماما في العالم الداخلي لألعضاء )) ‪.‬‬ ‫األطفال ‪َّ .‬‬
‫إن عقولَنا َتتُوه ً‬
‫َّ‬
‫إن الحياة معجزة أكثر منها ظاهرة )) ‪.‬‬
‫وتعصبه ‪:‬‬
‫* جهل اإلنسان ُّ‬
‫جميعا‬
‫قطعا لغرض ما ‪ ،‬فإننا ً‬
‫‪ ..‬إذا وجدنا في اكتشاف أثري حجرين موضوعين في نظام معين أو ً‬
‫نستنتج بالتأكيد أن هذا من عمل اإلنسان في الزمن القديم ‪ ،‬فإذا وج ْدنا بالقرب من الحجر‬
‫ضا منا لن يفكر أنها‬ ‫جمجمة بشرية أكثر كماالً وأكثر تعقي ًدا من الحجر بدرجة ال تقارن ‪َّ ،‬‬
‫فإن بع ً‬
‫ص ْنع كائن واع بل ينظرون إلى هذه الجمجمة الكاملة أو الهيكل الكامل كأنهما قد نَ َشأ‬ ‫من ُ‬
‫بذاتهما أو بالصدفة‪ – M‬هكذا يدون تدخُّل ع ْق ٍل أو َو ْعي ‪ ...‬أليس في إنكار اإلنسان هلل َه َوى َبيِّ ٌن ؟‬
‫لغزا ‪ .‬كأن حكمته هي‬ ‫إن ضيق أفق اإلنسان يتجلَّى أكثر ما يكون في اعتقاده بأنه ال يرى أمامه ً‬ ‫َّ‬
‫معا ‪ ،‬إنه َج ْه ٌل ولكن اإلنسان غير واع به ‪ ،‬حتى أنه يتقبله باعتباره معرفة‪M‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫وج ْهله ً‬ ‫مجموع علْمه َ‬
‫يتصرف بعنجهية وغرور ‪ ،‬حتى أنه ال يرى المشكلة ‪ .‬وفي هذا يتجلَّى‬ ‫في مواجهة أعظم لُ ْغ ًز َّ‬
‫وتعصبه ‪.‬‬
‫الحجم الحقيقي لجهل اإلنسان ُّ‬
‫‪8‬‬

‫ومن مهام الدين والفن والفلسفة توجيه نَظَ ِر اإلنسان إلى التساؤالت واأللغاز واألسرار ‪ .‬وقد‬
‫ُي َؤدِّي هذا إلى معرفة ما ‪ ،‬ولكن في أغلب األحيان ُي َؤدِّي إلى َو ْعي بجهلنا ‪ ،‬أو إلى تحويل جهلنا‬
‫الحظ الفاصل بين الجاهل والحكيم ‪،‬‬‫الذي ال نشعر به إلى َج ْه ٍل نعرف أنه َج ْهل ‪ ،‬وهذا هو ُّ‬
‫ٌ‬
‫أن الجاهل – بعكس الحكيم – يأخذ‬ ‫وأحيانًا يكون كالهما على معرفة‪ M‬قليلة ببعض المسائل ‪ ،‬إال َّ‬
‫َج ْهلَه على أنه معرفة ويتصرف بناء على ذلك ‪ ..‬إنه ببساطة أعمى ال َي َرى المشكلة وفي حالتنا هو‬
‫أعمى ال َي َرى المعجزة ‪.‬‬
‫لهذا الموقف أحيانًا ُم َع ِّقبات خطيرة في الحياة العملية فعند الجهال ثقةٌ عظيمة بالنفس ‪ ،‬بينما‬
‫وح َذ ٍر كما َف َع َل (( هاملت )) مما ُي ْع ِطي فريق الجهال ميزة ملحوظة ‪.‬‬
‫بشك َ‬‫يتصرف الحكيم ٍّ‬ ‫َّ‬
‫واضحا ) وهذا هو‬
‫ً‬ ‫للتأمل إذا كان ( كل شيء‬
‫التأمل ‪ .‬فال حاجة ُّ‬ ‫ض ِع ُّ‬ ‫ض ٌع يختلف عن َو ْ‬ ‫وهذا َو ْ‬
‫الموقف العقلي لما يُ َس ُّمونه باإلنسان الجماهيري أو بتعبير آخر ( الفهلوي ) ‪.‬‬
‫هذا الصنف من الناس ال يُ ْش ِغ ُل عقلَه باألسرار واأللغاز ‪ ..‬وال يشعر باإلعجاب والدهشة عندما‬
‫يواجه المجهول ‪.‬‬
‫حل‬
‫اسما ثم يمضي في طريق حياته معتق ًدا أنه قد َّ‬
‫صنِّفها ويضع لها ً‬ ‫ت أمامه مشكلة فإنه يُ َ‬
‫فإذا َب َر َز ْ‬
‫المشكلة ‪ ،‬ومن هنا جاءت مصطلحات‪ M‬مثل ‪ :‬الغريزة ‪ ( ..‬المادة ذات التنظيم الذاتي ) ‪ ( ..‬شكل‬
‫ُم َع َّقد‪ .. ) M‬أو (( مادة شديدة التنظيم ) ‪.‬‬
‫( وفي الحقيقة ) نحن ال نستطيع تفسير الحياة بالوسائل العلمية فقط ؛ ألن الحياة معجزة كما‬
‫أنها ( ظاهرة ) ‪ ..‬واإلعجاب والدهشة هما من أعظم أشكال َف ْه ِمنا للحياة ‪.‬‬
‫في الخلق واإلنسان والحرية ‪:‬‬
‫قضية الخلق هي في الحقيقة قضية الحرية اإلنسانية ‪ ،‬فإذا قَبِلْنا فكرة أن اإلنسان ال حرية له ‪،‬‬
‫وأن جميع أفعاله محدودة ساب ًقا ‪ ..‬ففي هذه الحالة ال تكون األلوهية ضرورية لتفسير الكون‬
‫ف بوجود اهلل َّإما‬ ‫و َف ْه ِمه ‪ ،‬ولكن إذا َسلَّ ْمنا بحرية اإلنسان ومسؤوليته عن أفعاله ‪ ،‬فإننا بذلك َن ْعتَ ِر ُ‬
‫وإما صراحة ‪ ،‬فاهلل وحده هو القادر على أن يخلق مخلوقًا ُح ًّرا ‪ ،‬فالحرية ال يُ ْم ِك ُن أن‬ ‫ض ْمنًا َّ‬ ‫ِ‬
‫توج َد إال بفعل الخلق ‪.‬‬
‫أي تالعب بالناس حتى ولو كان في مصلحتهم هو أمر ال إنساني ‪ ،‬أن تفكر بالنيابة عنهم وأن‬
‫ضا ال إنساني ‪ ،‬إن نسبة اإلنسانية إلينا بجعلنا ملتزمين‬‫تُ َح ِّررهم من مسئولياتهم والتزاماتهم هو أي ً‬
‫َك َد – على أعلى مستوى – قيمة‬ ‫ب اهللُ الحريةَ لإلنسان وأنذره بالعقاب الشديد أ َّ‬
‫‪ ..‬فعندما‪َ M‬و َه َ‬
‫‪9‬‬

‫ض َعه اهلل لنا ‪ :‬لندع اإلنسان يجاهد بنفسه‬


‫المثل األعلى الذي َو َ‬
‫اإلنسان كإنسان ‪ .‬فعلينا أن نتبع َ‬
‫نقوم بعملية نيابة عنه ‪.‬‬
‫بدالً من أن َ‬
‫بدون الدين وبدون فكرة الجهاد الروحي المتصل لإلنسان كما َت َق َّر َر في ( الحديث التمهيدي‬
‫العلوي ) ال يوجد إيمان حقيقي باإلنسان باعتباره قيمة عُلْيا ‪ .‬بدون ذلك ينتفي اإليمان بإمكانية‬
‫إنسانية اإلنسان ‪ ،‬أو بأنه موجود على الحقيقة ‪.‬‬
‫وجود‬ ‫وجود اهلل انتفى بالتالي‬ ‫ب من التناقض ‪ ،‬ألنه إذا انتفى‬ ‫إن القول بمذهب إنساني مل ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ض ْر ٌ‬
‫ْحد َ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان ‪ ،‬كما أنه لم يوجد إنسان فإن اإلنسانية التي يزعمونها تصبح عبارة بال مضمون ‪ .‬إن‬
‫يفهم المعنى الحقيقي لإلنسانية ‪ .‬وحيث أنه افتقد‬ ‫ِ‬
‫الذي ال يعترف بخلق اإلنسان ال يُ ْمكنه أن َ‬
‫القاعدة األساسية فإنه سوف ُي َقلِّص اإلنسان إلى مجرد ( إنتاج السلع وتوزيعها وف ًقا للحاجة ) ‪.‬‬
‫( اإلنسان نتاج البيئة ) هذه المسلَّمة الرئيسية في المذهب المادِّي تخدم كنقطة انطالق لجميع‬
‫النظريات الالإنسانية التي تتفرع منها ‪ :‬في القانون وفي علم االجتماع ‪ ،‬وفي ممارسة التالعب‬
‫بالبشر التي بلغت ذروتها في َع ْه ِد النازية والستالينية ‪ ،‬وجميع النظريات األخرى المماثلة في‬
‫ض ُع أولوية المجتمع فوق األفراد ‪ِّ ،‬‬
‫وتؤكد على التزام اإلنسان بخدمة المجتمع ‪.‬‬ ‫اإلغواء والتي تَ َ‬
‫الثقافة‪ M‬والحضارة ‪:‬‬
‫خادما‬ ‫ِ‬
‫إلى آخر هذه النظريات – كلها َت ْنتَمي إلى هذا المجال ‪ .‬وال يصح عندنا أن يكون اإلنسان ً‬
‫كل شيء في خدمة اإلنسان ‪،‬‬
‫ألي إنسان ‪ ،‬وال ينبغي أن ُيتَّخ َذ وسيلة ‪ ،‬بل يجب أن يوضع ّ‬
‫فاإلنسان خادم هلل فحسب ‪ ،‬وهذا هو المعنى المطلق لإلنسانية ‪.‬‬
‫ض الحاجة على َم ْن ال حاجة له‬‫الحضارة في َخل ِْقها الدائم لضرورات جديدة وقدرتها‪ M‬على َف ْر ِ‬
‫ُت َع ِّز ُز التبادل المادِّي بين اإلنسان وبين الطبيعة وتُ ‪ِِْْM‬غري اإلنسان بالحياة البرانية على حساب حياته‬
‫ِّد ) هذه سمة في جبلَّة الحضارة ‪.‬‬ ‫واربَ ْح لِتُبَد َ‬ ‫ِ ِ‬
‫الجوانية ‪ ( .‬أنْت ْج لَت ْربَ َح ‪ْ ،‬‬
‫أما الثقافة‪ ( M‬وفقا‪ M‬لطبيعتها الدينية ) فتميل إلى التقليل من احتياجات اإلنسان أو ِّ‬
‫الحد من درجة‬
‫إشباعها ‪ ،‬وبهذه الطريقة توسع في آفاق الحرية الجوانية لإلنسان ‪ .‬وهذا هو المعنى الحقيقي‬
‫ك وإنكار الذات عرفت في جميع الثقافات ‪..‬‬ ‫ألنواع كثيرة من النُّس ِ‬
‫ُ‬
‫س حكمة اإلسالم في ( َك ْبح الرغبات ) فإن الحضارة – وهي محكومة بمنطق مضاد‪– M‬‬ ‫فعلى َع ْك ِ‬
‫دائما وأب ًدا ‪.‬‬
‫مضادا ‪ ( :‬أطلق رغبات جديدة ) ً‬‫ً‬ ‫شعارا‬
‫عليها أن ترفع ً‬
‫التعليم وحده ال َي ْرقَى بالناس وال يجعلهم أفضل مما هم عليه أو أكثر حرية أو أكثر إنسانية ‪.‬‬
‫نفعا للمجتمع ‪ .‬وقد َب ْر َه َن التاريخ على أن‬ ‫العلم يجعل الناس أكثر قدرة ‪ ..‬أكثر كفاءة ‪ ،‬أكثر ً‬
‫‪10‬‬

‫للشر ‪،‬‬
‫َّاما ِّ‬ ‫الرجال المتعلمين والشعوب المتعلمة يُ ْم ِك ُن التالعب بهم بل يُ ْم ِك ُن أن يكونوا أي ً‬
‫ضا ُخد ً‬
‫ربما أكثر كفاءة من الشعوب المتخلفة ‪.‬‬
‫َّت حروبًا ظالمة استئصالية‬
‫وتاريخ اإلمبريالية سلسلة من القصص الحقيقية لشعوب َمتَ َحضِّرة َشت ْ‬
‫تعليما كان أكبر ذنبهم أنهم يدافعون عن أنفسهم وحرياتهم ‪.‬‬ ‫أقل ً‬ ‫ِّ‬
‫استعبادية ضد شعوب ُمتَ َخل َفة ّ‬
‫إن المستوى التعليمي المرتفع للغزاة لم ُي َؤ ِّث ْر على األهداف أو األساليب ‪ ،‬لقد ساعد فقط على‬ ‫َّ‬
‫ض الهزيمة على ضحاياهم ‪.‬‬ ‫كفاءة الغزاة و َف َر ِ‪M‬‬
‫الثقافة‪ M‬الجماهيرية ‪:‬‬
‫محل األدب والتفكير ‪ ،‬وبالتالي استطاع أن ُي َقلِّص النشاط الفكري ‪ ،‬إنه ُي َقدِّم‬
‫حل التليفزيون َّ‬
‫‪َّ ..‬‬
‫حلوالً جاهزة لجميع مشكالت الحياة ‪.‬‬
‫ويمدُّنا هذا العصر بأمثلة تدلُّنا على أن وسائل اإلعالم الجماهيرية للثقافة عندما تحتكرها الحكومة‬
‫– تستخدمها وسائل لتضليل الجماهير كأسوأ ما يكون التضليل ‪ ..‬فليس هناك حاجة للقوة‬
‫لحم ِل الشعب على َع َم ِل شيء ضد إرادته ‪ ،‬حيث يُ ِّم ُ‬
‫كن الوصول إلى ذلك اليوم بطريقة‬ ‫الغاشمة ْ‬
‫وم ْن ِع‬
‫بشل إرادة الشعب عن طريق تغذيته بحقائق مغلوطة‪ M‬جاهزة ومكررة ‪َ ،‬‬‫مشروعة‪ ، M‬وذاك ِّ‬
‫الناس من التفكير أو الوصول بأنفسهم إلى أحكامهم الخاصة عن الناس أو األحداث ‪.‬‬
‫أكدت الخبرة أنه من الممكن التأثير على الناس من خالل‬ ‫ْم النفس الجماهيري كما َّ‬ ‫ِ‬
‫لقد أثبت عل ُ‬
‫الملِ ِّح إلقناعهم بخرافات ال عالقة لها بالواقع ‪ ،‬وتنظر سيكلوجية وسائل اإلعالم‬
‫التكرار ُ‬
‫األخص باعتباره وسيلة – ليس إلخضاع الجانب الواعي في‬
‫ِّ‬ ‫الجماهيرية إلى التليفزيون على‬
‫اإلنسان فحسب بل الجوانب الغريزية والعاطفية‪ ، M‬بحيث تخلق فيه الشعور بأن اآلراء المفروضة‬
‫عليه هي آراؤه الخاصة ‪.‬‬
‫ضتَها في التليفزيون وتندفع الستخدامه وهكذا أصبح‬
‫فر َ‬
‫وَت َرى جميع المجتمعات الشمولية ْ‬
‫خطرا من البوليس والسجون ومعسكرات‪ M‬االعتقال‬
‫التليفزيون تهدي ًدا للحرية اإلنسانية ‪ ،‬أكثر ً‬
‫تماما سوف‬
‫السياسي ‪ ،‬وأعتقد أن األجيال القادمة – ما لم تكن قدرتها على التفكير قد ُد ِّم َرت‪ً M‬‬
‫تُصطدم باستشهاد الحيل الحالي المستهدف بدون عائق لتأثير هذه القوة الضارية التي ال رابط لها‬
‫دستورا جدي ًدا سنحتاج إليه‬
‫ً‬ ‫للحد من سطوة الحكام َّ‬
‫فإن‬ ‫وض ُع ِّ‬
‫‪ ،‬فإذا كانت الدساتير في الماضي تُ َ‬
‫لكبح جماح هذا الخطر الجديد الذي ُي َهدِّد بإقامة عبودية روحية من أسوأ األنواع ‪.‬‬
‫التقدُّم ضد اإلنسان ‪:‬‬
‫‪11‬‬

‫في المؤتمر الدولي السابع لعلماء الجريمة الذي انعقد في بلجراد سبتمبر ‪ 1973‬كان هناك‬
‫إجماع في الرأي على أن الوقت الراهن يتميز بالتزايد المذهل للجريمة في جميع البالد ‪.‬‬
‫ولتفسير هذا الوضع اعترف علماء الجريمة األمريكيون بأن كوكبنا هذا هو محيط من الجانحين‬
‫جميعا بشكل أو بآخر لديهم نزعة الجنوح وأنه ال يوجد أمامنا مخرج من هذه الكارثة ‪.‬‬
‫فالناس ً‬
‫الدين والثورة ‪:‬‬
‫كل ثورة حقيقية تتميز بسمات ( معينة ) تشتمل على اإليمان والشعور بالقوة واألهمية والعدوان‬
‫ُّ‬
‫والرغبة العارمة في التضحية والموت ‪ ..‬كل هذه المشاعر أبعد ما تكون عن المصلحة وأي‬
‫وجود المالمح األخالقية‬
‫َ‬ ‫يؤك َد‬ ‫شخص كان له دور في ثورة أو تابع تطورها عن ُق ْر ٍ‬
‫ب يستطيع أن ِّ‬
‫‪ .‬إنه َي َرى الثورة كقصيدة ملحمية وليس فقط مجرد تدمير آلي أو تغيير في اآللة الحاكمة ‪ ...‬إذا‬
‫نظرنا إلى الثورة من الداخل – ال باعتبارها عملية ولكن كجزء من الحياة – فستبدو كالدراما‬
‫تأثير األديان ‪ ،‬أما إذا نُ ِظ َر إليها من الخارج ‪ ،‬أي من وجهة النظر السياسية‬
‫التي ُت َؤ ِّث ُر في الناس َ‬
‫صفةً مختلفةً وهدفًا‪ M‬مختل ًفا ‪.‬‬ ‫الواقعية ‪ ،‬فيمكن أن تتخ َذ ِ‬
‫والمجتمع الذي تسيطر عليه مشاعر التضامن والتضحية والمصير المشترك يعتبر في ( حالة دينية‬
‫) ‪ ..‬هذا هو مناخ ( الحرارة العاطفية العالية ) ‪ ،‬الذي يظهر في حاالت الطوارئ ( والثورة ) ‪،‬‬
‫وفي االحتفاالت الدينية عندما يجمع الناس شعور األخوة والصداقة ‪ ( .‬كذلك ) فإن المجتمع‬
‫نوعا‬
‫ضا عاجز عن الثورة ‪ ،‬والبالد التي تمارس الحماس الثوري تمارس ً‬
‫العاجز عن التدين هو أي ً‬
‫من المشاعر الدينية الحيَّة ‪ ..‬فمشاعر األخوة والتضامن والعدالة هي مشاعر دينية في صميم‬
‫جوهرها ‪ ،‬وإنما موجهة في ثورة لتحقيق العدالة على األرض ‪.‬‬
‫الواجب والمصلحة ‪:‬‬
‫َّ‬
‫البد أن يكون وجود عالم آخر ممكنًا فنحن ال نستطيع أن نعتبر األبطال المأساويين منهزمين بل‬
‫منتصرين ‪ ..‬ولكن منتصرين أين ؟ في أي عالم هم منتصرون ؟ أولئك الذين فقدوا أمنهم‬
‫وحريتهم – بل حياتهم – بأي معنى هم المنتصرون ؟ ‪ ..‬من الواضع أنهم ليسوا منتصرين في هذا‬
‫دائما السؤال نفسه ‪:‬‬ ‫العالم ‪َّ ..‬‬
‫إن حياة هؤالء األبطال وتضحياتهم بصفة خاصة تغرينا أن نسأل ً‬
‫هل للوجود اإلنساني معنى آخر ‪ .‬معنى مختلف عن هذا المعنى النسبي المحدود ‪ .‬أم َّ‬
‫أن هؤالء‬
‫الرجال العظام الشجعان مجرد نماذج فاشلة ؟ ‪..‬‬
‫‪12‬‬

‫ولعل في هذا‬
‫تفسيرا عقليًّا َّ‬
‫ً‬ ‫إن األخالق كظاهرة واقعية في الحياة اإلنسانية ال يمكن تفسيرها‬‫َّ‬
‫الحجة األولى والعملية للدين ‪ .‬فالسلوك األخالقي إما أنه ال معنى له وإما َّ‬
‫أن له معنى في وجود‬
‫اهلل ‪.‬‬
‫التدريب والتنشئة ‪:‬‬
‫قياسه ‪ ،‬فالتنشئة فاعلية مباشرة تدخل إلى‬ ‫تأثيرا لطي ًفا على َن ْف ِ‬
‫س اإلنسان ال يمكن ُ‬ ‫ث التنشئة ً‬ ‫تُ ْح ِد ُ‬
‫جواني في ن ْف ِ‬
‫س‬ ‫الحب والقدوة والتسامح والعقاب ‪ ،‬بقصد إحداث نشاط ّ‬ ‫ِّ‬ ‫القلب عن طريق‬
‫اإلنسان ‪ .‬أما التدريب باعتباره حيوانيًا في جوهره فهو نظام من اإلجراءات واألعمال تتخذ لفرض‬
‫سلوك معين على الكائن البشري ‪ ،‬يزعمون أنه السلوك الصحيح ‪ .‬التنشئة تنتمي إلى اإلنسان أما‬
‫التدريب فإنه مصمم من أجل الحيوانات ‪ ،‬بواسطة التعليم يُ ْم ِك ُن تشكيل المواطنين أذلِّين يطيعون‬
‫القانون ليس بوازع من االحترام بل بدافع من الخوف أو العادة ‪ ،‬وقد يكون ضميرهم ميتًا‬
‫ومشاعرهم‪ M‬ذابلة ولكنهم ال يخرقون القانون لمجرد أنهم تَ َد َّربوا على ذلك ‪ .‬ونرى في األدب‬
‫شخصيات يزعمون أنها لمواطنين طاهري الذيل وهم في الحقيقة ُم َف َّرغون من األخالق ‪.‬‬
‫ومن ثَ َّم يوجد نوعان من العدالة ‪:‬‬ ‫وشخصيات ألناس خاطئين هم في أعماقهم أخيار ونبالء ‪ِ .‬‬
‫عدالة اإلنسان والعدالة اإللهية تنظر األولى إلى األعمال وتنظر الثانية إلى جوهر الوجود اإلنساني‬
‫‪.‬‬
‫المساحة الجوانية لإلنسان شاسعة تكاد تكون ال نهائية ‪ .‬فهو قادر على أبشع أنواع الجرائم‬
‫وعلى أنبل التضحيات ‪ .‬وليست عظمة اإلنسان أساسه في أعماله الخيرة وإنما في قُ ْد َرتِه على‬
‫يحط بقدر اإلنسان ‪ ،‬فالخير ال يوجد خارج‬ ‫يحد من هذه القدرة ُّ‬
‫االختيار ‪ .‬وكل من ُي َقلِّ ُل أو ُّ‬
‫ضا على‬
‫ضه بالقوة { ال إكراه في الدين } ‪ ..‬والقانون نفسه ينطبق أي ً‬ ‫إرادة اإلنسان وال يُ ْم ِك ُن فر َ‬
‫األخالق ‪ .‬إن التدريب حتى ولو كان يفرض السلوك الصحيح هو في أساسه ال أخالقي وال‬
‫إنساني ‪.‬‬
‫األخالق والعقل ‪:‬‬
‫تعرض هذه الفكرة لتحورات ‪،‬‬‫مفهوم‪ M‬الحرية اإلنسانية ال ينفصل عن فكرة األخالق فبالرغم من ُّ‬
‫تحول أو تطور خالل تاريخ علم األخالق ‪ .‬فمثل ما للمكان‬ ‫ظلَّت الحرية هي ( الثابت ) عند ِّ‬
‫كل ّ‬
‫والكم من أهمية في علم الطبيعة ‪ ،‬كانت أهمية الحرية بالنسبة لعلم األخالق ‪ .‬يُ ْد ِر ُك العقل‬
‫الخط الفارق بين العقل واألخالق ‪.‬‬ ‫والكم ولكنه ال يفهم الحرية ‪ ،‬وهذا هو ُّ‬
‫َّ‬ ‫المكان‬
‫‪13‬‬

‫نفس في كل شيء ‪،‬‬ ‫تكتشف الطبيعة واآللية ‪ ...‬بمعنى آخر َّ‬


‫يكشف َ‬
‫ُ‬ ‫إن العقل‬ ‫َ‬ ‫وظيفة‪ M‬العقل أن‬
‫دائما في مكانه ‪ .‬فهو ال يكشف في الطبيعة إال ذاته ‪ ..‬أعني اآللية‬ ‫ولهذا السبب فإن العقل يدور ً‬
‫‪ ..‬ومن هنا يأتي التناقض البيّن في بعض النظريات األخالقية التي ُت ْن ِهي َج َدلَها ُ‬
‫الم َع َّق َد بنتائج مثل‬
‫أن الغيرية تساوي األنانية ‪ ،‬وإنكار الذات يساوي اللذة ‪ ،‬وهذا هو التناقض نفسه الذي جعل‬
‫(( فولتير )) يستخلص رأيه الغامض الشهير ‪ (( :‬تضحية اإلنسان بنفسه بوازع من مصلحته الذاتية‬
‫)) ! ‪..‬‬
‫التحليل المنطقي العقلي لألخالق يختزلها – ربما لدهشة المالحظ – إلى طبيعة وأنانية وتضخيم‬
‫للذات ‪ ..‬يكشف العقل في الطبيعة مبدأ السببية العامة الكلية القدرة ‪ ،‬ويكشف في اإلنسان‬
‫الطبيعة ‪ :‬الغرائز ‪ (( :‬القوة ذات السيدين ‪ :‬اللذة واأللم )) التي ِّ‬
‫تؤكد عبودية اإلنسانية وانعدام‬
‫حولت األلوهية إلى ( السبب األول ) المحرك الذي ( ال‬ ‫حريته ‪ .‬إنها آلية التفكير نفسها التي َّ‬
‫يتحرك ) ‪ ،‬واختزلت الروح إلى نفس ‪ ،‬والفن إلى َع َم ٍل وتكنيك ‪َّ ،‬‬
‫إن محاولة إقامة األخالق على‬
‫تتحرك أبعد ما يُ َس َّمى األخالق االجتماعية ‪ ،‬أو قواعد السلوك الالزمة‬
‫أساس عقلي ال تستطيع أن َّ‬
‫للمحافظة على جماعة ُم َعيَّنة ‪ ،‬وهي في واقع األمر نوع من النظام االجتماعي ‪.‬‬
‫األخالق – بسبب ذلك – ال يُ ْم ِك ُن القول بأنها نتاج العقل ‪ .‬فالعقل يستطيع أن يختبر العالقات‬
‫ص ِد َر ُح ْك ًما قِيَ ًّما عندما تكون القضية قضية‬
‫ِّدها ‪ ،‬ولكنه ال يستطيع أن يُ ْ‬
‫بين األشياء ويُحد ُ‬
‫استحسان أو استهجان أخالقي ‪.‬‬
‫ص َل إلى تفرقة علمية دقيقة‪ .. M‬بين الجميل والقبيح ‪ ..‬الطبيعة والعقل على‬ ‫‪ ...‬من المستحيل أن تَ ِ‬
‫الصح والخطأ ‪ ،‬بين الخير والشر فهذه الصفات ليست موجودة‬ ‫ِّ‬ ‫السواء ال يمكنهما التمييز بين‬
‫في الطبيعة ‪.‬‬
‫البد أن يكون لعالم شيئًا‬ ‫متفردة ال تتكرر – بالنسبة للعلم ؟ َّ‬
‫فماذا يعني اإلنسان – كشخصية ِّ‬
‫يفهم هذه الحقيقة ‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫أكثر من علْمه ‪ ،‬أن يكون إنسانًا لكي َ‬
‫مؤكد بحريتنا ‪ ،‬فهل نستطيع أن نُ َف ِّس َر أو نَُب ْر ِه َن بطريقة‬
‫جميعا قد يكون لدينا شعور داخلي ِّ‬
‫إننا ً‬
‫ضا يصعب تحديده ‪ .‬جميعنا يوافق على أنه [ ليس ]‬
‫علمية على هذا الشعور المؤ ّكد ولو كان غام ً‬
‫من الصواب معاقبة‪ M‬الشخص الذي تسبب صدفة في جريمة [ َق ْتل ] ؟ ومع ذلك فهذا الموقف‬
‫المنطقي الواضح ال يمكن تبريره علميًّا ‪ ،‬فما يقبله القلب ال يستطيع العلم أن ُيَب ْر ِه َن عليه أو‬
‫يبرز أو يسان َد هذا الصوت‬ ‫العقل ال يستطيع أن َ‬
‫ُي َف ِّس َره ‪ ،‬فهل نستنتج القيام بواجبنا األخالقي ألن َ‬
‫‪14‬‬

‫ظ به رغم أنه‬
‫نعلم لماذا نحتف ُ‬
‫ظ بموقف دون أن َ‬ ‫نفعل هذا ‪ ،‬وإذن فنحن نحتف ُ‬‫الجواني ؟ إننا ال ُ‬
‫ضد َع ْقلِنا ‪ ،‬والسبب هو ثقةٌ نابعةٌ من داخلنا بسبب إيماننا ‪.‬‬
‫تَمنح البيولوجيا لإلنسان التقدُّم على حساب ِ‬
‫روحه و ُن ْبلِه اإلنساني ‪ ..‬ويرفض اإلنسان التقدُّم‬ ‫َْ ُ‬
‫تحط من إنسانيته ‪.‬‬ ‫المتاح إذا كان عليه أن يحصل عليه بوسائل ُّ‬
‫َ‬
‫هذا النوع من التقدُّم عند المسيحيين هو المذهب الشيطاني الطبيعي ‪ ،‬وعند الشعراء ( ركام من‬
‫القسوة المبرمجة ) ‪.‬‬
‫بارزا ال يمكنه أن يجعل األخالق والدين غير ضروريين ‪ ،‬فالعلم‬ ‫واضحا ً‬
‫ً‬ ‫التقدُّم العلمي مهما كان‬
‫ال يعلم الناس كيف يحيون وال من شأنه أن يقدِّم لنا معايير قِي ِميَّة ‪ ،‬ذلك ألن ِ‬
‫القيَ َم التي تَ ْس ُمو‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بالحياة الحيوانية إلى مستوى الحياة اإلنسانية تبقى مجهولة وغير مفهومة بدون الدين ‪ ،‬فالدين‬
‫متفوق على هذا العالم واألخالق هي معناه ‪.‬‬ ‫مدخل إلى ِعلْم آخر ِّ‬
‫األخالق والدين ‪:‬‬
‫رجل دين ال أخالق له ‪ ،‬وبالعكس ‪ ،‬فالدين نوع من المعرفة ‪ ،‬واألخالق‬
‫نتصو َر َ‬
‫من الممكن أن َّ‬
‫هي الحياة التي يحياها اإلنسان وف ًقا لهذه المعرفة ‪ ،‬وهنا يظهر االختالف بين المعرفة‪ M‬والممارسة‬
‫‪ ،‬فالدين إجابة على سؤال ‪ :‬كيف ُت َف ِّكر وكيف ُت ْؤ ِم ُن ؟ بينما األخالق إجابة على سؤال ‪ :‬كيف‬
‫تتصرف ؟ ‪..‬‬
‫تحكم الرغبة وكيف تهدف أو كيف تَ ْحيَا وكيف َّ‬
‫تنطوي إلهامات عالم الغيب على مطلب أن نحيا و ْف ًقا‪ M‬لهذه الرؤية الكونية الواسعة لالنهائية ومع‬
‫ذلك فهذا المطلب ال يتطابق مع هذه الرؤية ‪ .‬لقد كانت أخالقيات المسيح السامية نتيجة مباشرة‬
‫لو ْعي ِديني على الدرجة نفسها من القوة والوضوح ‪ .‬ومع ذلك فإن مفتشي التحقيق الذين قاموا‬
‫ضا مخلصين لعقيدتهم الدينية ‪ .‬ونحن إذ ُن َؤ ِّك ُد هذا ال نغفل‬
‫بعمليات االضطهاد الديني كانوا أي ً‬
‫عما في هذا المسلك من تناقض حاد ‪ .‬اقرأ هذه اآلية ‪ { :‬الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ‪..‬‬
‫إنها تتكرر بصيغتها أو معناها في القرآن أكثر من خمسين مرة ‪ ،‬كأنما ِّ‬
‫لتؤكد لنا ضرورة توحيد‬
‫أمرين اعتاد الناس على الفصل بينهما ‪ .‬هذه اآلية ُت َعِّب ُر عن الفرق بين الدين ( اإليمان ) وبين‬
‫معا ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫األخالق ( عمل الصالحات ) كما تأمر في ِ‬
‫نفس الوقت بضرورة أن يَس َير االثنان ً‬
‫فيوجه نظرنا إلى أن‬
‫يكشف القرآن لنا عن عالقة أخرى عكسية بين األخالق والدين ِّ‬
‫ُ‬ ‫كذلك‬
‫حافزا قويًّا على التدين { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون }‬ ‫الممارسة األخالقية قد تكون ً‬
‫بح ُم ْؤ ِمنًا ) وفي‬
‫ص ُ‬‫الخير تُ ْ‬
‫لتصبح َخّي ًرا ) وإنما يقول ‪ ( :‬ا ْف َعل َ‬
‫َ‬
‫فمعنى اآلية هنا ال يقول ‪ِ ( :‬‬
‫آم ْن‬
‫‪15‬‬

‫هذه النقطة نرى إجابة على سؤال كيف يمكن لإلنسان أن ُي َق ِّوي إيمانه ؟ ‪ ..‬واإلجابة هي ‪:‬‬
‫أمامك ) ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الخير تَجد اهللَ َ‬
‫( ا ْف َعل َ‬
‫األخالق والمصلحة المشتركة ‪:‬‬
‫يحب اإلنسان مشاعر وانطباعات معينة واألشياء التي تسببها‬‫يقول أصحاب نظرية المصلحة ‪ُّ (( :‬‬
‫أن اإلنسان يعيش في مجتمع فهو محاط‬ ‫وكل ما يسببها ‪ ،‬وبما َّ‬
‫‪ ،‬ويكره مشاعر وانطباعات أخرى ّ‬
‫حساسة مثله ‪ .‬جميع هذه الكائنات تبحث عن اللغة وجميعها يخشي األلم‬
‫بكائنات تشبهه وهي ّ‬
‫شرا ) ‪ ..‬ويطلقون‬
‫ب لهم األلم ( ًّ‬
‫وكل ما يُ َسبِّ ُ‬
‫خيرا ) َّ‬
‫ب لهم اللذة ( ً‬
‫وقد اصطلحوا على ما يُ َسبِّ ُ‬
‫ض َر ٌر لهم ( رذيلة ) ‪ .‬ويذهب هو لباح‬
‫كل ما فيه َ‬
‫كل ما فيه َن ْف ٌع لهم ( فضيلة ) وعلى ِّ‬
‫على ِّ‬
‫( ديترش فون ) إلى أن الضمير هو الو ْعي بالتأثير المحتمل لسلوكنا على الناس الذين يحيطون بنا‬
‫ضا ‪ :‬والندم إنما هو الخوف الذي نستشعره لمجرد التفكير بأن سلوكنا قد يجعل الناس‬
‫وعلينا أي ً‬
‫يكرهوننا أو يغضبون منا )) ‪.‬‬
‫مهذبة ‪ ..‬مصلحة‪ٍ M‬‬
‫فرد مفهومة‪ M‬ومق ّدرة ‪ ،‬إنما يتدخل‬ ‫هذه النظرية تجعل من األخالق مجرد أنانية َّ‬
‫ُ‬
‫ليحول هذه الرغبة في اللذة إلى مطلب أخالقي ‪ ،‬ويفسح الذكاء والذاكرة والرؤية أمام‬‫َ‬ ‫العقل‬
‫ُ‬
‫اإلنسان لَِي َرى الماضي المستقبل باإلضافة إلى الحاضر ‪ ..‬وهكذا ‪ ،‬ال يُ َح ِّفز سلوك اإلنسان فقط‬
‫مصلحته اآلنيّة وإنما النهاية السعيدة في طيتها ‪ ،‬وفي ضوء هذه الحسبة يحول اإلنسان مشاعر‬
‫األلم واللذة – وهي حقائق بيولوجيا حيوانية دارونينية – إلى مفهومي الخير والشر فالخير والشر‬
‫ص ُر أخالقيات المنفعة في‬ ‫ليسا سوى اللذة واأللم تضاعفا بالفطنة والتفكير والحساب وهكذا َت ْنح ِ‬
‫َ‬
‫وي ْن َح ِس ُر بعدها عند أسوار هذا العالم الدنيوي ‪.‬‬
‫حدود الطبيعة َ‬
‫الشعار السائ َد (‬
‫َ‬ ‫األخالق ليست مربحة بالمعنى العام لهذه الكلمة فهل نستطيع مثالً أن نقول ‪ :‬إن‬
‫النساء واألطفال أوالً ) مفي ٌد من الناحية االجتماعية ؟ ‪ ..‬هل من المفيد أن تكو َن عادالً أو أن‬
‫تقول الصدق ؟ ‪..‬‬
‫َ‬
‫نتصور مواقف عديدة يكون الظلم فيها والكذب هما المفيدان وبالمثل َّ‬
‫فإن‬ ‫إننا نستطيع أن َّ‬
‫التسامح الديني والسياسي ِ‬
‫والع ْرقي والوطني ليس مفي ًدا بالمعنى المعتاد للكلمة ‪ .‬أما أن تُ َد ّمر‬
‫الخصوم فهذا أكثر فائدة من وجهة نَظََر العقالنية البحتة ‪ .‬ولكن التسامح إذا توافر – فإن‬
‫التسامح بحافز من مبدأ أو باعث إنساني ‪.‬‬‫ُ‬ ‫يل المصلحة ‪ ،‬وإنما يكون‬ ‫ممارسته ال تكون من قَبِ ِ‬
‫كل ذلك‬ ‫أمل في شفائهم ‪ُّ ،‬‬ ‫إن حماية العجزة والمقعدين أو العناية بالمعوقين والمرضى الذين ال َ‬ ‫َّ‬
‫تخضع لمعايير المنفعة ‪ .‬نعم ‪ .‬قد‬‫َ‬ ‫يمكن أن‬
‫ُ‬ ‫السعي وراء الفائدة ‪ .‬فاألخالق ال‬ ‫ليس من قَبِ ِ‬
‫يل َّ‬
‫‪16‬‬

‫يكون السلوك األخالقي أحيانًا مفي ًدا ‪ ،‬ولكن ليس معنى هذا أن شيئًا قد أصبح أخالقيًّا ؛ ألنه‬
‫أثبت فائدته في فترة ما من فترات الخبرة اإلنسانية ‪.‬‬
‫على العكس فهذه الخبرة نادرة الحدوث ‪.‬‬
‫َّ‬
‫إن االعتقاد المتفائل بوجود اتساق بين المنفعة من ناحية وبين الصدق واألمانة من ناحية أخرى‬
‫عكس ذلك على‬
‫َ‬ ‫مدمر على نفوس الناس ألنهم يشاهدون‬
‫وضار فله أثر ِّ‬
‫ّ‬ ‫أثبت أنه اعتقاد ساذج بل‬
‫الدوام ‪.‬‬
‫ت على‬
‫اإلغراء َثبَ َ‬
‫َ‬ ‫بحق هو اإلنسان الذي ُي ْق ِد ُم على التضحية وإذا واجه‬
‫ولكن اإلنسان المستقيم ٍّ‬
‫َّ‬
‫إخالصه للمبادئ ال لمصلحته ‪ .‬ولو كانت الفضيلة مربحةً ًّ‬
‫حقا لتسارع إلى اقتحامها االنتهازيون‬
‫ليكونوا نماذج للفضيلة ‪.‬‬
‫يُ ْم ِك ُن إقامة أخالقيات المنفعة على أساس من العقل ولو على المستوى النظري ولكن من‬
‫ِ‬
‫يم على العقل وفي غيبة األلوهية أخالقيات غَْي ِريَّة ال أنانيَّة أو أخالقيات ُ‬
‫تقوم على‬ ‫المستحيل أن نُق َ‬
‫التضحية كما ينبغي أن تكون األخالق ‪.‬‬
‫السلوك باسم األنانية شيء والسلوك باسم الواجب شيء آخر ‪ ،‬األول يستن ُد إلى المصلحة‬
‫والحاجة والنظام والعقل أما الثاني فهو ممكن فقط باسم اهلل ‪ .‬ص ‪205‬‬
‫السلوك الجمعي قائم على التنظيم وقد يكون إجراميًا ‪ ..‬والمصلحة المشتركة ال يمكن أن تكون‬
‫دائما مصلحة مجموعة مغلقة‪ M‬قد تكون مجموعة سياسية أو وطنية أو‬
‫مصلحة جميع البشر ‪ ،‬إنها ً‬
‫طبقة ‪..‬‬
‫المصلحة المشتركة لمجموعة من الناس أو الوطن ما قد تستدعي استقالل أو استعباد بل حتى‬
‫إبادة أعضاء مجموعة أخرى من البشر أو شعب آخر ‪ .‬والتاريخ الحديث لألمم – وعلى األخص‬
‫أن ما يطلق عليه المصلحة المشتركة يُ ْم ِك ُن أن‬
‫تاريخ اإلمبريالية االستعمارية – حافل باألمثلة على َّ‬
‫صريحا ‪.‬‬
‫ً‬ ‫يأخ َذ َش ْكالً إجراميًّا‬
‫* أطلق على األخالق النفعية في الكتابات اإلنجليزية ( أخالق النتائج ) ‪ ،‬بمعنى أن الشيء يكون‬
‫تبعا لما َيَت َرتَّ ُ‬
‫ب عليه من نتائج َح َسنة أو َسيِّئة ‪ ،‬ولكن كما رأينا من َق ْبل‬ ‫أخالقيًّا أو ال أخالقي ً‬
‫األخالق األصلية ال تعبًا بالنتائج على اإلطالق إلى ِّ‬
‫حد إنكار األفعال باعتبار أنها هي التعبير‬
‫ب اهتمامها فحسب على النية أن تريد وأن‬
‫ص ُّ‬
‫الخارجي للسلوك اإلنساني ‪ ،‬فاألخالق األصيلة َي ْن َ‬
‫تفعل – ذلك أمر إنساني فباإلرادة والعمل ينتهي مجال األخالق ‪ ،‬أما النتائج والمعقبات فإنها‬
‫أمور بيد اهلل ( سبحانه وتعالى ) ‪.‬‬
‫‪17‬‬

‫األخالق بدون إله ‪:‬‬


‫كثيرا من األمثلة على أخالقية أناس ال يَ ْكتَ ِرثُون بتعاليم‬
‫ُت َقدِّم لنا الخبرة العملية في عالم األخالق ً‬
‫الدين أو ال يؤمنون باهلل وليس في األمر ثبات دائم ‪ ،‬بل يوجد انفصام بين العقيدة االسمية المعلنة‬
‫س ًكا شدي ًدا بل قد يكونون من العاملين في‬
‫وبين سلوك صاحبها ‪ .‬فهناك أناس ُمتَ َم ِّسكون بالدين تَ َم ُّ‬
‫الدعوة الدينية ‪ ،‬ومع ذلك ال تجد سلوكهم يختلف في شيء عن سلوك الماديين العتاة ‪ ،‬والعكس‬
‫ضا صحيح ‪ :‬فهناك أناس كثيرون منسوبون إلى التفكير المادِّي ومع ذلك يتمتعون بإخالص‬
‫أي ً‬
‫وع َدِم الثبات تنشأ‬
‫التشوش َ‬
‫شديد ومستعدون للمعاناة بل للنضال من أجل اآلخرين ‪ ،‬من هذا ُّ‬
‫الكوميديا َفتُ َحِّي ُر عقول المفكرين الجادين ‪ ،‬حتى أكثرهم استنارة ‪.‬‬
‫ليست هناك أذن عالقةٌ تلقائية بين عقيدتنا وسلوكنا ‪ ،‬فسلوكنا ليس بالضرورة من اختيارنا الواعي‬
‫وال هو قاصر عليه ‪ ..‬إنه على األرجح نتيجة التنشئة والمواقف التي َّ‬
‫تشكلت في مرحلة الطفولة ‪،‬‬
‫أكثر من نتيجة للمعتقدات الفلسفية والسياسية الواعية التي تأتي في مرحلة متأخِّرة من مراحل‬
‫يحكم على‬
‫َ‬ ‫السن وأن يحافظ على كلمته ‪ ،‬وأن‬
‫كبار ِّ‬
‫شخص ما أن يحترم َ‬‫ٌ‬ ‫الحياة ‪ .‬فإذا تعلَّم‬
‫يقول الصدق ‪ ،‬وأن يكره النفاق وأن يكون‬
‫ب اآلخرين ويساعدهم ‪ ،‬وأن َ‬ ‫الناس بصفاتهم وأن يُ ِح ُّ‬
‫إنسانًا بسيطًا أَبِيًّا ‪ ،‬إذا نشأ على كل هذه األخالق الحميدة فستكون هي صفاته الشخصية ‪،‬‬
‫بصرف النظر عن أفكاره السياسية األخيرة أو فلسفته‪ M‬االسمية التي يعتنقها ‪.‬‬
‫هذه األخالقيات – إذا نظرنا إليها نظرة تحليلية – مدينة الدين ومنقولة منه ‪ ..‬فقد َن َق َل التعليم‬
‫ينقل‬
‫يتصل بالعالقة بين اإلنسان واإلنسان ‪ ،‬ولكنه لم ْ‬ ‫ُ‬ ‫نظرات وفضائل دينية أصيلة معينه في ما‬
‫مصدر هذه األخالقيات ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الدين الذي هو‬
‫معها‪َ M‬‬
‫في هذه الحالة توج ُد خطوة واحدة بين التخلِّي عن هذا لدين والتخلِّي عن أخالقياته ‪ .‬بعض الناس‬
‫ال ي ْق ِدمون على هذه الخطوة ‪ِ ،‬‬
‫ومن ثَ َّم يظلُّون ( منقسمين ) بين دي ٍن ال َيتَّبِعُونه وأخالقيات هذا‬ ‫ُ ُ‬
‫ت عليه هذه األخالق‬ ‫ِ‬
‫يستمرون في اتباعها ‪ ،‬برغم أنهم ال يُؤمنُون باألساس الذي أٌقِ ْي َم ْ‬
‫ُّ‬ ‫الدين التي‬
‫‪ .‬هذا الموقف يَ ْمنَ ُح الفرصةَ لبروز ظاهرتين ُت َع ِّق َدان البحث ‪ :‬الملحدون األخالقيون ‪ ،‬والمؤمنون‬
‫الذين ال أخالق لهم ‪.‬‬
‫* ينتهي (( عزت بيجوفيتش )) من تحليالته لألوضاع األخالقية إلى نتيجتين هامتين ‪ :‬النتيجة‬
‫يمكن أن‬
‫ُ‬ ‫األولى ‪ ،‬هي أن األخالق من حيث هي مبدأ ال توج ُد بال دين ‪ ،‬بينما األخالق العملية‬
‫توج َد في غياب الدين ‪ ،‬فهي توجد – حسب تعبيره – ( بحكم القصور الذاتي ) ‪ ،‬ومن ثَ َّم َّ‬
‫فإن‬
‫أبرز خصائصها أنها واهنة بالغة الوهن ‪ ،‬والسبب عنده أنها قد انفصلت عن المصدر الذي َمنَ َحها‬
‫َ‬
‫‪18‬‬

‫ُق َّوتَها المبدئية ‪ ،‬أال وهو الدين ‪ ..‬أما النتيجية الثانية فهي أنه ال يُ ْم ِك ُن بناء نظام أخالقي على‬
‫س‬
‫ث في النظام الماركسي باالتحاد السوفيتي ‪ ،‬فلكي ُي َؤ ِّس ُ‬ ‫اإللحاد والمثال على ذلك ما َح َد َ‬
‫وجوده واستمراره كان عليهم أن يطلبوا من الناس مثاليةً‬ ‫ِ‬ ‫مجتمعا ويحافظوا على‬ ‫الماركسيون‬
‫ً‬
‫نبي من أتباعه باسم الدين ‪.‬‬‫أي ّ‬‫ب ُّ‬‫وتضحيةً أكثر مما طَلَ َ‬
‫حاول بناء‬
‫موضع الممارسة ثم َ‬ ‫إن اإللحاد إذا و ِ‬
‫ض َع‬ ‫وفي هذا يقول ‪ (( :‬عزت بيجوفيتش )) ‪َّ ( :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ستمد بضاعته من األشكال القائمة لألخالق االجتماعية ولكنه‬ ‫اضطرارا إلى أن يَ َّ‬
‫ً‬ ‫مجتمع فإنه يضطر‬
‫ملك الوسيلة لحماية المبدأ األخالقي أمام هجوم دعاة المنفعة أو األنانية أو الال أخالقية من‬
‫ال يَ ُ‬
‫يستطيع أن يجيب عن سؤال بسيط‬
‫ُ‬ ‫أشل ‪ ..‬لماذا ؟ ألنه فقط ال‬
‫أي نوع ‪ ،‬فاإللحاد عاجز ومنطقه ّ‬
‫إذا كنت سأحيا اليوم فقط وسأموت غ ًدا ‪ ..‬وأتالشى في التراب إلى األبد ‪ ،‬بال قيامة وال حساب‬
‫وال آخره ‪ ،‬فلم ال أعيش اليوم بدون قيود أو التزامات ما استطعت إلى ذلك سبيالً ؟ ‪..‬‬
‫إنما تبقى المعايير األخالقية الموروثة فحسب في و ْعي الناس ‪ ،‬وتحافظ عليها الدولة بدافع‬
‫الضرورة المحضة ‪ ،‬وفي كلتا الحالتين فإن هذا النظام األخالقي الموروث مناقض لأليدلوجية‬
‫الرسمية وال يوجد له مكان فيها ‪.‬‬
‫الثقافة‪ M‬والتاريخ‬
‫اإلنسانية األولى ‪:‬‬
‫تطور العالم قد بَ َدأَ من الصفر ‪ ،‬فالتاريخ‬ ‫أن التاريخ يسير في ٍّ‬
‫خط مستقيم وأن ّ‬ ‫يَعق ُد المادِّيُون َّ‬
‫يلتزم بحركة متصلة إلى اإلمام ‪ .‬ولكن التاريخ عند الماديين هو التطور المادِّي للحياة البشرية ‪،‬‬
‫فهم معنيون بتاريخ األشياء أو بتاريخ المجتمع ال بتاريخ اإلنسان نفسه ‪ ،‬أما تاريخ الثقافة فلم يبدأ‬
‫تحرر المجتمع اإلنساني ألول مرة من‬ ‫خط صاعد مستقيم ‪ ،‬فعندما‪َّ M‬‬ ‫من الصفر وال يسير في ٍّ‬
‫الطبيعة لم يكن يتميز عن أي قطيع من الحيوانات التي كانت حوله ‪ ،‬ولكنه في اللحظة نفسها‬
‫العقل ‪ .‬لقد َد َخ َل اإلنسا ُن‬ ‫ِ‬
‫يما أخالقية ُم َعيَّنة يحتار معها ُ‬
‫اكتشف سمات إنسانية خاصة به ‪ ،‬وق ً‬
‫التاريخ برأس مال أخالقي مبدئي هائل ‪ ،‬لم يرثه من آبائه المزعومين ( الحيوانات ) ‪ ،‬وقد َع َج َز‬ ‫َ‬
‫العلم لالفتراض الديني هو الذي أعاقه عن َف ْه ِ‪M‬م هذه‬ ‫ض ِ‬ ‫العلم عن تفسي ِر هذه الظاهرة ‪ ،‬وكان َرفْ ُ‬
‫ُ‬
‫الظاهرة ‪.‬‬
‫كانت األفكار االجتماعية عند األديب الروسي (( تولستوي )) ُمتَ ِّأث َر ًة بأوضاع ل ََم َسها في حياة‬
‫الفالحين الروس البسطاء الذين لم ُت ْف ِس ْدهم الدنيا بعد ‪ ،‬فهنا وفي كل مكان تسير ِ‬
‫القيَ ُم الخلقية‬
‫التطور المادِّي واالجتماعي ‪.‬‬ ‫ب مع المستويات البسيطة من َّ‬ ‫واإلنسانية جنبًا إلى َج ْن ٍ‬
‫‪19‬‬

‫في كتاب التاريخ العام ألفريقيا ( الذي نَ َشرتْه منظَّمة اليونسكو ) نأتي على حقائق مثِ ٍ‬
‫يرة عن ثقافة‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬
‫جميع األجانب سواء كانوا‬
‫ُ‬ ‫الشعوب البدائية ‪ ،‬فمن المعروف مثالً أنه في الدول األفريقية كان‬
‫ِ‬
‫وبنفس حقوق المواطنين المحليين ‪ ،‬في حين كان األجنبي‬ ‫ضا أو ملونين يتمتعو َن ب َك َرِم الضيافة‬
‫بي ً‬
‫ولعل هذه الحقائق وأمثالها هي‬
‫يتحو ُل إلى رقيق عندهم ‪َّ .‬‬
‫في روما القديمة أو في بالد اإلغريق َّ‬
‫خبيرا في‬
‫عالما المانيًا ً‬
‫ت ً‬ ‫خبيرا في الدراسات وأمثالها هي التي َج َعلَ ْ‬
‫عالما ألمانيًا ً‬
‫ت ً‬ ‫التي َج َعلَ ْ‬
‫ِّرون حتى النخاع َّ‬
‫وأن‬ ‫الدراسات اإلفريقية هو (( ليو فرونبيوس )) يقول ‪َّ (( :‬‬
‫إن األفارقة‪ُ M‬متَ َحض ُ‬
‫شون ليست سوى خيال أوربي )) ‪.‬‬ ‫متو ِّح ُ‬ ‫ِ‬
‫ف ْكرةَ أنهم برابرة َ‬
‫أين التحضُّر وأين البربرية ؟ ‪..‬‬
‫يرى (( عزت بيجوفيتش )) في تاريخ القارة األمريكية وحده أبلغ دليل على سقوط مزاعم‬
‫األوربيين في التحضُّر والبربرية حيث يقول ‪ (( :‬ألم يكن األسبان الغزاة المتحضِّرون هم الذين‬
‫ود َّمروا‬
‫ْبل – الثقافة‪ M‬الماياوية واألزتية َ‬ ‫ِّ‬
‫َد َّم ُروا – بأحط الوسائل – التي لم يشهدها التاريخ من ق ُ‬
‫الشعوب نفسها التي كانت تعيش في هذه المناطق ؟ أليس المستوطنون البيض ( هل نقول من‬
‫ضرة ؟ ! ) هم الذين َد َّم ُروا – بطريق منظمة – القبائل الهندية ( الهنود الحمر ) من‬
‫البالد المتح ّ‬
‫ب عنها ( مورجان ) ( بإعجاب شديد ) واستخدموا في ذلك‬
‫السكان المحليين والعشائر التي َكتَ َ‬
‫أساليب ( بشعة ) لم يسبقهم إليها أحد في التاريخ الحديث ؟ ‪..‬‬
‫األمريكيون المتحضِّرون ‪:‬‬
‫كانت الحكومة األمريكية حتى منتصف القرن التاسع عشر – تدفع مبلغًا من ِ‬
‫المال يأتي‬
‫واستمرت تجارة الرقيق األسود طوال ثالثة قرون‬ ‫َّ‬ ‫رأس أحد الهنود الحمر ‪،‬‬ ‫( للسلطات ) بفروة ِ‬
‫َع ْب َر األطلنطي جنبًا إلى َج ْن ٍ‬
‫ب مع نُ ُم ِّو الحضارة األوربية األمريكية ‪ ،‬كجزء ال َيتَ َج َّزا من هذه‬
‫الحضارة ‪ ،‬ولم تتوقَّف هذه التجارة الشائنة حتى سنة ‪ . 1865‬وقُ ّد َر عدد الذين وقعوا في األسر‬
‫فريسة الصيد البشري ( بالمعنى الحرفي لهذه العبارة ) خالل هذه الفترة بين ‪ 13‬إلى ‪ 15‬مليون‬
‫ف أب ًدا ‪ ،‬وهنا – مرة أخرى – كانت األعمال‬
‫علما بأن العدد الحقيقي لم ُي ْع َر ْ‬
‫إنسان ُح ٍّر ‪ً ،‬‬
‫ف‬
‫وص ُ‬
‫موجهة من مجتمع ُمتَ َحضِّر ضد أحرار مسالمين من الشعوب البدائية ( التي تُ َ‬
‫الوحشية َّ‬
‫بالبربرية ) ‪.‬‬
‫فإذا تأملنا اإلمبريالية الحديثة ‪ ،‬بمعنى المواجهة بين الحضارة األوربية وبين ما يُ َس َّمى بالشعوب‬
‫ص ُح عن نفسها في كل‬ ‫أن هذه اإلمبريالية ُت ْف ِ‬
‫المتخلِّفة غير المتحضِّرة أو األقل حضارة ‪ ،‬نجد َّ‬
‫‪20‬‬

‫مكان بع ْن ِفها وخداعها ونفاقها واستعبادها ‪ ،‬كما تبدو في تدمير جميع ِ‬


‫القيَ ِم المادية والثقافية‪M‬‬ ‫ُ‬
‫واألخالقية للشعوب البدائية الضعيفة ‪.‬‬
‫ما أشبه اليوم بالبارحة ‪ :‬وهل َن َرى من اإلمبريالية األمريكية الصهيونية باسم التحضُّر والديمقراطية‬
‫سوى هذا الوجه القبيح ! ‪.‬‬
‫بارزا من كتابه ونجد‬
‫حيزا ً‬
‫ويمنح هذه النقطة ً‬ ‫ُ‬ ‫يُ َمَي ُز (( عزت بيجوفيتش )) بين الحضارة والثقافة‬
‫له في ذلك تحليالت عميقة في أكثر من موضع ‪ ،‬حيث َي ْربِطَها بالنشأة األولى لإلنسان ‪،‬‬
‫وي ْنتهي إلى تساؤالت جوهرية عن مصد ِر ِّ‬
‫الشر في اإلنسان ‪.‬‬ ‫وباألخالق َ‬
‫األخالق والتاريخ ‪:‬‬
‫ُّم متصل َيَت َعلَّ ُق بسؤال آخر‬
‫ثابت هو لماذا نحيا ؟ أما الحضارة فهي َت َقد ٌ‬
‫موضوعُ الثقافة موضوعٌ ٌ‬
‫هو ‪ :‬كيف نحيا ؟ فاألول سؤال عن معنى الحياة والثاني سؤال عن كيفية هذه الحياة ‪ .‬ويُ ْم ِك ُن‬
‫مارا بالطواحين المائية ثم اكتشاف‬ ‫تمثيل الحضارة ِّ‬
‫بخط صاعد على الدوام يبدأ من اكتشاف النار ًّ‬ ‫َ‬
‫بحث دائب يعود إلى‬ ‫الحديد والكتابة واآللة حتى الطاقة الذرية ورحالت الفضاء ‪ .‬أما الثقافة‪ M‬فهي ٌ‬
‫موضوع الثقافة بأخطائه النمطية وفضائله‪M‬‬
‫َ‬ ‫الوراء ثم يبدأ من جديد ‪ ،‬ذلك ألن اإلنسان باعتباره‬
‫نقول‬
‫يبرهن على أولويته الفائقة ونستطيع أن َ‬
‫ُ‬ ‫اني ‪،‬‬
‫الج َّو ّ‬
‫وكل ما يشكل وجوده ُ‬ ‫وشكوكه وخطاياه ّ‬
‫ضا – إلى ٍّ‬
‫حد كبير – َع َدم قابليته للتغيير ‪.‬‬ ‫أي ً‬
‫فجميع المعضالت والمشاكل المعروفة‪ M‬اليوم في األخالق كانت معروفة منذ أكثر من ألفي سنة‬
‫ضت ‪ ،‬فجميع معلِّمي البشرية من أنبياء وغير أنبياء َع ْب َر أحقاب من الزمن ُّ‬
‫تمتد من القرن‬ ‫َم َ‬
‫نفس األخالق ‪ .‬فالحقائق‬ ‫َّ‬
‫قبل الميالد حتى العصر الحالي ‪ ،‬جميعهم َعل ُموا البشرية َ‬ ‫السادس َ‬
‫األخالقية حقائق ثابتة وهي بذلك تتميز عن القواعد والنظم االجتماعية وأساليب اإلنتاج والسبب‬
‫َّميُّ ِز يرجع إلى َّ‬
‫أن لُ ْغ َز اإلنسانية قد بَ َدأَ في لحظة الخلق اإللهي أو في هذه ( المقدِّمة‪M‬‬ ‫في هذا الت َ‬
‫ت‬
‫ألس ُ‬
‫السماوية ) ( التي َج َم َع اهلل فيها ذرية آدم عليه السالم على هيئة ال نعلمها وقال لهم ‪ْ { :‬‬
‫بربكم } ؟ قالوا ‪ :‬بلى ‪ )) ...‬هذا الفعل اإللهي الذي َسبَ َق تاريخ اإلنسانية كله ليس في مقدور‬
‫العقل أو العلم أو الخبرة وحدها أن يساعدنا في االقتراب أو ال َف ْهم لهذا اللغز العظيم ‪.‬‬
‫والوصايا األخالقية الجوهرية ال تتأثر بالزمان والمكان وال بالظروف االجتماعية ‪ ..‬فعلى َع ْك ِ‬
‫س ما‬
‫نراه في النظم االجتماعية والسياسية من اختالفات كبرى في درجة تطورها حتى في رموزها‬
‫الدينية وعقائدها نجد تماثالً عجيبًا في المبادئ األخالقية في أنحاء العالم ‪.‬‬
‫‪21‬‬

‫َّ‬
‫إن االختالفات في َق ْهم‪ M‬الخير والشر ‪ ،‬المسموع والممنوع تصادفنا فقط في المسائل األقل‬
‫أهمية ‪ ،‬وما يق ّدم إلينا عادة من أمثلة عن استناد األخالق إلى ظروف تاريخية وغيرها ال تتصل‬
‫على اإلطالق بالمبادئ األساسية في األخالق وإنما فقط بما يتعلَّق باألخالقيات والسلوكيات‬
‫الرسمية ‪ ،‬أما في أهم المسائل فتستطيع أن تج َد توا ُف ًقا‪ِّ M‬‬
‫مؤك ًدا بل تَطَ ُاب ًقا ‪.‬‬
‫الدراما والطوبيا ‪:‬‬
‫تحت عنوان الدراما والطوبيا ُينَاقش (( عزت بيجوفيتش )) قضيةَ الخير والشر فيتساءل ‪ :‬هل‬
‫ِ‬
‫الداخل ‪ ..‬من األعماق المظلمة في النفس اإلنسانية ؟ أم أنه يأتي من الخارج ‪ ..‬أي‬ ‫الشر من‬
‫يأتي ُّ‬
‫من الظروف الموضوعية للحياة اإلنسانية ؟ ‪ ،‬وإجابة على هذا التساؤل يقول ‪ :‬أمام هذه القضية‬
‫والشر‬
‫ِّ‬ ‫والماديُّون ‪ ،‬يعتق ُد المؤمنون أن نوازع الخي ِر‬
‫ِّ‬ ‫ينقسم الناس إلى طائفتين كبيرتين ‪ :‬المؤمنون‬
‫ُ‬
‫كالهما مركوزة في اإلنسان ومن ثَ َّم فإنهم ُي ْن ِك ُرون توجيهَ اللوم والقسوة إلى الخارج ؛ ألن هذا‬
‫شٍ‬
‫ف‬ ‫شر خيالي ال وجود له ‪ ،‬إنما ينبغي توجيه اللوم إلى أنفسنا على هيئة نَ َدٍم وَت َق ُ‬
‫يكون قتاالً مع ٍّ‬
‫‪.‬‬
‫وأن اإلنسان يكون‬ ‫وجودا خارجيًّا َّ‬
‫ً‬ ‫للشر‬
‫أن ِّ‬ ‫وي َرى (( عزت بيجوفيتش )) أن التأكيد على فكرة َّ‬ ‫َ‬
‫شريرا فقط ألن الظروف المحيطة به ظروف سيئة ‪ ،‬هذا التأكيد على أن اإلنسان نتاج ظروفه‪M‬‬ ‫ً‬
‫الخارجية ُي ْعتََب ُر من وجهة نَظَ ِر الدين أكثر األفكار ً‬
‫إلحادا وال إنسانية ‪ ،‬ذلك ألنها تختزل اإلنسان‬
‫إلى مجرد شيء – إلى خادم تعيس ل ُق َوى آلية عمياء بال اختيار وال إرادة ‪.‬‬
‫الشر في البيئة االجتماعية ) عبارتان بينهما أقصى التعارض‬
‫بداخل اإلنسان ) و ( ُّ‬‫ِ‬ ‫الشر‬
‫ويقول ‪ُّ ( :‬‬
‫‪ ،‬وهما يتوازيان مع ظاهرتين أخريين بينهما تعارض بل ِ‬
‫ص َدام أال وهما ‪ :‬الدراما والطوبيا ‪.‬‬
‫والطوبيا هي ( المدينة الفاضلة ) أو ( الجمهورية المثالية ) التي تخيلها بعض الفالسفة مثل‬
‫(( أفالطون )) و (( توماس مور )) ‪ ،‬وهي مجتمع خيالي مصنوع لم ينشأ طبيعيًّا أو تلقائيًّا وإنما‬
‫ُم َخطَّط ومبرمج‪ِ M‬من أَلِِفه إلى يائه ‪ ،‬ابتداء من اختيار أفراده من نوعيات وأعمار ُم َعيَّنة ‪ ،‬وخضوع‬
‫نوع الطعام وأساليب‬
‫هؤالء األفراد لقواعد صارمة تتناول عالقاته األسرية واالجتماعية كما تتناول َ‬
‫ضا ‪.‬‬
‫أنجب مري ً‬
‫َ‬ ‫بالقتل إذا َم ِر َ‬
‫ض أو‬ ‫العمل والراحة ‪ ..‬و ُتَبيّ ُن كيف يستبع ُد الفرد من المجتمع ِ‬
‫جوهر الدراما اإلنسانية فإن‬
‫ُ‬ ‫هذه الطوبيا الكاملة آلية ال إنسانية فيها ‪ ،‬فإذا كانت الحرية هي‬
‫النظام والتماثل هما العنصران األساسيان في الطوبيا ‪.‬‬
‫ض َم ِح ُّل عالم اإلنسان‬
‫فتتعامل مع العالم ‪ ..‬في الطوبيا يَ ْ‬
‫ُ‬ ‫تتعامل الدراما مع اإلنسان ‪ ،‬أما الطوبيا‬
‫الناس ليس‬
‫أن َ‬ ‫ليتحول إلى نقطة هامشية زائفة ‪ ،‬فاالفتراض المسبَّق في الطوبيا هو َّ‬ ‫الجواني الهائل َّ‬
‫ّ‬
‫‪22‬‬

‫الناس هنا ال يَ ْحيون وإنما‬


‫لهم نفوس ومن ثَ َّم ال توجد مشكالت إنسانية أو أخالقية في الطوبيا ‪ُ ..‬‬
‫ومون من الحرية – والمواطن هنا ليس له‬ ‫يعملون في وظائف ‪ ..‬إنهم ال يَ ْحيُون ألنهم َم ْح ُر ُ‬
‫والشر‬
‫ُّ‬ ‫والخير‬ ‫نفسه عن طريق التوالد ‪،‬‬‫شخصية بل له وظيفة‪ M‬في عملية اإلنتاج ‪ ..‬إنتاج نسخة من ِ‬
‫ُ‬
‫كلمتان ال معنى لهما عنده ‪ ..‬وهكذا كانت المجتمعات الشيوعية القائمة على طوبيا االشتراكية‬
‫فكل شيء‬
‫والشر ُّ‬
‫ِّ‬ ‫العلمية ال ُت ْعنَى بالمشكالت األخالقية ‪ ،‬فالطوبيا أبعد ما تكون عن معايير الخي ِر‬
‫فيها ُم َخطَّط ‪.‬‬
‫الدراما من حيث جوهرها وتاريخها فهي نتاج الدين ‪ ،‬أما الطوبيا فهي نوعٌ من العلم ‪ ،‬وفي هذا‬
‫ناتجا عن التكنولوجيا التي‬ ‫يرى (( ألدوس هكسلي )) َّ‬
‫أن إنسا َن المستقبل سيكون إنسانًا صناعيًّا ً‬
‫يتم إنتاج الجنين‬
‫علم الجينان ‪ ،‬سوف ُّ‬ ‫ت في ِ‬ ‫تحق َق ْ‬ ‫صَنعها ِ‬
‫بنفسه ‪ ..‬بواسطة التقدُّمات التي َّ‬ ‫ََ‬
‫ِّد تصميمه مسب ًقا ‪ ،‬وسيساعد العلم في َخل ِْق كائنات‬ ‫البشري في معامل كبيرة وف ًقا‪ M‬لنماذج تحد ُ‬
‫بشرية كاملة التماثُل أي نُسخ م َك َّررة من كائنات لن تكون لها شخصيات ِ‬
‫مستقلَّة‪ M‬متميزة ‪ ،‬ولكنها‬ ‫َ ُ‬
‫تتمتع بدالً من ذلك بأفضل الخصائص ‪.‬‬
‫ساكن الطوبيا ليس إنسانًا بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة بل حيوان اجتماعي أو حيوان ذو عقل ‪.‬‬
‫يكون اإلنسان أخالقيًا أو ال أخالقي أما عضو المجتمع الطوباوي فال يتميز إال بوظيفته فحسب ‪.‬‬
‫ص في قضية ( اإلنتاج واالستهالك والتوزيع ) ‪ ،‬والطوبيا عقيدة‬
‫في الطوبيا أحداث خارجية تتل ّخ ُ‬
‫فردا ( شخصية ) وليس حيوانًا فإن هذه‬ ‫ِ‬
‫الملحد وليست عقيدة المؤمن ‪ ،‬فإذا كان اإلنسا ُن ً‬
‫ِ‬
‫الخلق لحظة‬ ‫العقيدة مجرد و ْه ٍم ‪ ،‬ولقد أصبح المجتمع المثالي ( الطوبيا ) مستحيالً منذ ِ‬
‫لحظة‬ ‫َ‬
‫يعصف به القلق واإلحباط ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫صراعا أبديًّا‬
‫ً‬ ‫ألسنة اإلنسان ‪ ،‬فمنذ تلك اللحظة بَ َدأَ اإلنسان يواجه‬
‫إنها الدراما اإلنسانية الخالدة ‪:‬‬
‫{ وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ‪} ...‬‬
‫حقيقة الخلق وإرادة اهلل في وجود اإلنسان جعال هذه اآللية الطوباوية َو ْه ًما مستحيالً ‪ ،‬ومن هنا‬
‫جميعا ضد الدين وإنكارها لأللوهية ‪.‬‬
‫ب الطوبيات ً‬
‫تعص ُ‬
‫جاء ُّ‬
‫ِ‬
‫وهكذا ‪ :‬بينما أَ ْعلَ َن أنبياء الطوبيا أن المجتمع ومصالحه هي الق ْي َمة األ ْ‬
‫َس َمى ‪ ،‬فقد أراد اهللُ أن‬
‫يجعل من هذا‬
‫َ‬ ‫ب اهللُ الحريةَ لإلنسان لكي‬
‫يكو َن اإلنسان هو صاحب هذه القيمة القيمة ‪ ..‬لقد َو َه َ‬
‫يؤكد أن اإلنسان وروح اإلنسان هي القيمة األعلى ‪..‬‬ ‫واختبارا ‪ ،‬ولكي ِّ‬
‫ً‬ ‫العالم فتنةً له‬
‫صعب العبور ‪ ،‬هادر‬
‫َ‬ ‫بروح اإلنسان فإن هذا َي ْعني عمليًا أن تكون واعيًا بمحيط ٍ‬
‫هائل‬ ‫فإذا آمنت ِ‬
‫أخص خصائص اإلنسان فردية التي ال شفاء‬
‫والتمرد ‪ .‬وإذا عرفت بأن َّ‬
‫ُّ‬ ‫والشك‬
‫ّ‬ ‫بالعصيان والخوف‬
‫‪23‬‬

‫يحصل على حياة الرخاء والدعة‬‫َ‬ ‫له منها ‪َ ،‬تَبيَّ َن لك استحالة قولبة اإلنسان أو تدجينه ‪ ،‬إنَّه ما أن‬
‫يرفض أن‬
‫ُ‬ ‫ب باحثًا عن حريته وحقوقه‪ M‬اإلنسانية ‪َّ ( ..‬‬
‫إن اإلنسا َن حيوا ٌن‬ ‫حتى ينبذها بازدراء ‪ ،‬وي ِه ُّ‬
‫يكون حيوانًا ) ‪.‬‬
‫الطوبيا واألسرة ‪:‬‬
‫بعض الدساتير القديمة ‪ { ،‬على األقل‬ ‫ِ‬
‫األسرة ليست هي الخلية األساسية للمجتمع كما ُت ْعل ُن ُ‬
‫يجب أن نأخ َذ هذه المقولة بشيء من الحذر ] فاألسرة والمجتمع متنافران ذلك َّ‬
‫ألن المبدأ‬ ‫ُ‬
‫وكل‬
‫معا ‪ُّ ،‬‬
‫الحب والعاطفة‪ M‬وفي المجتمع هو المصلحة أو العقل أو كالهما ً‬ ‫ُّ‬ ‫الرابط في األسرة هو‬
‫حيف باألسرة بنفس الدرجة فإذا تَ َّم تطبيق المبدأ االجتماعي بكل‬
‫تطور في المجتمع يقابلُها ٌ‬
‫درجة ّ‬
‫ض ِع الطوبيا – تالشت األسرة ‪ ،‬فاألسرة باعتبارها حاضنة العالقات‬
‫ص َل إلى َو ْ‬
‫نتائجه – أي َو َ‬
‫تضيق دائرةُ األسرة حتى‬
‫الرومانسية والشخصية الحميمة في تعارض مع جميع مبادئ الطوبيا ‪ُ ..‬‬
‫أصبح االجتماع في عالقة زواجية مستحيالً من الناحية العملية وفي النهاية ال يبقى سوى الفرد‬‫َ‬
‫وحده مع عالقة سائبة بالجنس اآلخر ‪ ..‬بهذا االنحالل يتوقَّف الزواج ‪..‬‬
‫ٍ‪M‬‬
‫وظيفة أو َش ْك ٍل من‬ ‫مجرد‬
‫ُ‬ ‫متحر ًرا من أي عاطفة ؛ ألنه‬
‫في هذا المناخ يصبح َح ْم ُل األطفال ِّ‬
‫اشكال اإلنتاج ‪..‬‬
‫جميع أساسيات الوجود اإلنساني من اجتماعية ومادية‪ M‬ومعنوية من‬
‫ُ‬ ‫تتحول‬
‫في مجتمعات الطوبيا َّ‬
‫ستظل‬
‫ُّ‬ ‫األسرة إلى المجتمع ‪ ..‬تقول داعية تحرير المرأة الفرنسية ( سيمون دي بوافوار )) ‪:‬‬
‫يتم القضاء على خرافة األسرة وخرافة األمومة والغريزة األبوية ) وال تقضي‬
‫المرأة مستعبدة حتى َّ‬
‫ضا ‪ .‬فقد‬
‫تفعل ذلك في الواقع أي ً‬
‫الحضارةُ الغربية على األسرة فقط من الناحية النظرية ‪ ،‬وإنما ُ‬
‫نتتبع القضاء على‬
‫ستطيع أن َ‬
‫ُ‬ ‫وأخيرا األطفال ‪ .‬ونَ‬
‫ً‬ ‫أول من هجر األسرة ثم تبعته المرأة‬
‫الرجل َ‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫األسرة في كثير من الجوانب ‪:‬‬
‫َف َع َد ُ‪M‬د حاالت الزواج في َت َق ْه ُق ٍ‪M‬ر ُم ْستَ ِم ٍّر مع تزايد في نسبة حاالت الطالق ‪ ،‬وتزايد في عدد النساء‬
‫العامالت وزيادة مطردة في عدد المواليد غير الشرعيين ‪ ،‬وزيادة مستمرة في عدد األسر التي‬
‫تقوم على أحد الوالدين فقط هي األم ‪ ..‬الخ ‪.‬‬
‫ِ‬
‫طالبات المدارس أصبحت الرغبة في الزواج تَ ِر ُد في آخر القائمة ‪،‬‬ ‫وفي استبيانات فرنسية مع‬
‫المركز األول ‪.‬‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫االستقالل والحياة السائبة‬ ‫تحتل الرغبةُ في‬
‫بينما ُّ‬
‫‪24‬‬

‫النساء‬
‫َ‬ ‫نعرف منه َّ‬
‫أن‬ ‫ونَ َش َر معه ُد استكهولم للبحوث االجتماعية نتائج َم ْس ٍح أجراه سنة ‪ُ 1972‬‬
‫أصبح َن مدمنات‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫الحاالت نساء ميسورات الحال ‪ ،‬وإنما‬ ‫الالئي يذهبن إلى دو ِر الدعارة في أكثر‬
‫ِ‬
‫يستعذبْ َن هذا األسلوب من أساليب الحياة السائبة ‪.‬‬ ‫للدعارة فقط ألنهن‬
‫ُس ِر وهروب األطفال من البيوت ‪ ..‬وفي هذه األوضاع‬ ‫والنتيجة انتشار للطالق وانفصام‪ M‬عُ َرى األ َ‬
‫العالم على مقاس‪M‬‬
‫ص ُل َ‬ ‫المتردية يجد المسنون أنفسهم في أسوأ حال ‪ ..‬فهذه الحضارة العقالنية ُت َف ِّ‬
‫اجهم ‪ .‬غابت األم من البيت وتخلَّت عن وجبها التربوي فيه تلد فقط ‪ ،‬أما‬ ‫الشباب وأهوائهم ومز ِ‬
‫ََ‬
‫سكن‬ ‫ِ‬
‫ص ِّم ُم مواطنًا يَ ُ‬
‫عضوا في مجتمع ‪ ..‬تُ َ‬ ‫التربية فتتوالها الحضانة التي ال ُت َربِّي إنسانًا بل ُت ْنشئ ً‬
‫اجه عمليةً تكنولوجية كأننا بإزاء إنتاج دواجن ‪.‬‬ ‫الطوبيا ‪ .‬فبدالً من التربية والتنشئة اإلنسانية نُو ِ‬
‫َ‬
‫رأس هذه المجتمعات العبارة الماركسية الشهيرة كما وردت‪ M‬في كتاب ( رأس المال‬ ‫وترتفع على ِ‬
‫يجب حمايتهما من األبوين)) ! ‪..‬‬‫األطفال من كال الجنسين ُ‬ ‫َ‬ ‫) ‪َّ (( :‬‬
‫إن‬
‫تصل المجتمعات الغربية إلى درجة الصفر‬
‫هار نسبةُ المواليد حتى َ‬
‫فال غرابة في هذه األجواء أن َت ْن َ‬
‫ث هذا في أكثر بالد الدنيا ِغنى وصحة‬ ‫ٍ‬
‫بأمراض عقلية ‪ ..‬ويح ُد ُ‬ ‫ضى‬
‫الم ْر َ‬
‫في النمو ‪ ،‬وتزداد أعداد َ‬
‫! ‪..‬‬
‫األتباع والهراطقة ‪:‬‬
‫(( يوجد نوعٌ من الناس ُي ْع َجبُون بالسلطة القويَّة ‪ ،‬يُ ِحبُّون النظام ويعشقون التنظيم الخارجي الذي‬
‫وم ْن يطيعها ‪ ،‬إنهم يُ ِحبُّون المناطق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تنظيم الجيش ‪ ،‬حيث يكون معروفًا َم ْن ُي ْعطي األوامر َ‬‫يُ ْشبه َ‬
‫ْح َقت بالمدن ‪ ،‬حيث ُت َقام المنازل متشابهة في صفوف متراصة ذات واجهات‬ ‫الجديدة التي أُل ِ‬
‫الموحد وفِ َر َق موسيقى الجيش واالستعراضات ‪ ،‬وغيرها من‬ ‫َّ‬ ‫موحدة ‪ ،‬ويحبون الزي الرسمي‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫هؤالء الناس يتمتعون بعقلية األتباع ‪..‬‬ ‫األكاذيب التي ُت َزيِّ ُن َو ْجهَ الحياة وتجعلها أكثر قبوالً ‪..‬‬
‫أتباعا َف ُهم‪ M‬يُحبُّون األمن والنظام والمؤسسات والثناء من رؤسائهم‬‫إنهم ببساطة يُ ِحبُّون أن يكونوا ً‬
‫ب أصحاب‬ ‫ب األتباعُ أن تكو َن عليهم سلطة ويُ ِح ُّ‬
‫صون مسالمون أوفياء ‪ ..‬ويُ ِح ُّ‬ ‫ِ‬
‫‪ ..‬وهم ُم ْخل ُ‬
‫جميعا متوافقون كأنهم أجزاء من كل واحد ‪.‬‬ ‫السلطة أن يكو َن لهم أتباع َف ُهم ً‬
‫أناس أشقياءُ ملعونون ‪ ،‬في ثورة دائمة ضد شيء ما ‪ ،‬يتطلعون إلى شيء‬ ‫ٍ‬
‫ومن ناحية أخرى يوج ُد ٌ‬
‫كثيرا ‪..‬‬ ‫يتحدثُون عن الخب ِز ولكنهم َّ‬ ‫جديد على الدوام ‪ ،‬إنهم قليالً ما َّ‬ ‫ٍ‬
‫الح ِّريَّة ً‬
‫يتحدثُون عن ُ‬
‫كثيرا ‪ ،‬وال َي ْقَبلُون فكر َة أن الملك هو الذي‬ ‫ِ‬
‫يتحدَّثون عن السالم قليالً وعن الشخصية اإلنسانية ً‬
‫يَ ْمنَ ُحهم ُم َرَّتبَاتهم ‪ ،‬وإنما على العكس َي ْزعُ ُمون أنهم هم الذين يُط ِْع ُمون الملك ( ليست الحكومة‬
‫هي التي َتعُولُنا وإنما نحن الذين َنعُولُهم ) ‪.‬‬
‫‪25‬‬

‫هؤالء هم الهراطقة الخارجون ال يُحبُّون السلطةَ وال تُ ِحبُّهم السلطة ‪ .‬في األديان ُي َوفَّر األتباعُ‬
‫المتمر ُدون فإنهم يُ َم ِّج ُدو َن اهلل فَ َح ْسب ‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الح ِّريَّة‬ ‫السلطات واألوثا ُن ‪ ،‬أما َّ‬
‫عشا ُق ُ‬ ‫ُ‬ ‫األشخاص‬
‫ُ‬
‫المجتمع والجماعة ‪:‬‬
‫في الحديث عن األسرة أشار (( عزت بيجوفيتش )) إلى أن األسرة والمجتمع ُمتنافران ‪ ،‬وقد‬
‫ِّح لنا َّ‬
‫أن هذا المصطلح‬ ‫ض المجتمع ‪ ،‬وليس هذا بصحيح إنما أراد أن ُي َوض َ‬
‫ُي ْؤ َخذ من هذا أنه َي ْرفُ ُ‬
‫الماديَّة‬
‫ي َت ُقوم فيه العالقات على المصالح ِّ‬ ‫ماد ّ‬
‫الغربي للمجتمعات اإلنسانية ينطوي على كيان ّ‬
‫للتجمعات البشرية‬ ‫ُّ‬ ‫وتبادلها ‪ ،‬فالمجتمع من هذه الناحية ضرورة حياة ‪ ،‬ولكن المصطلح اإلسالمي‬
‫ض ُن روح اإلنسان‬ ‫التجمعات ‪ ،‬ألنها تَ ْحتَ ِ‬
‫الجوانية ) الجوهرية لهذه ُّ‬
‫ِّل الناحية ( ّ‬
‫فإن الجماعة تُ َمث ُ‬
‫ومشاعره وهويته الحقيقية ‪ ..‬وفي هذا يقول ‪ (( :‬يجب أن ُن َف ِّر َق بين المجتمع الذي هو مجموعة‬
‫( برانية ) من األفراد تَ َج َّمعُوا على أساس من المصلحة وبين الجماعة التي هي مجموعة ( جوانية )‬
‫الماديَّة‬
‫قائم على المطالب ِّ‬ ‫من الناس اجتمعوا على أساس من الشعور باالنتماء ‪ .‬المجتمع ٌ‬
‫والجماعة قائمة على المطالب الروحية ‪ ..‬على األشواق ‪ .‬الناس في المجتمع أعضاء مجهولون‬
‫تَ ْج َمعُهم المصلحة و ُت َف ِّرقُهم ‪ ،‬وفي الجماعة يكون الناس أخوة تجمعهم أفكار واحدة كما‬
‫تَ ْجمعهم الثقة ‪ ..‬وباختصار ‪ :‬شعورهم بأنهم واحد ‪ ..‬ي ِ‬
‫وج ُد المجتمع ؛ ألنه يُ َس ِّه ُل لنا الحصول‬‫ُ‬ ‫َُ‬
‫ض َم ُن بقاءنا ‪ ..‬فالطفل ال يُ ْم ِكنُه البقاء بدون مساعدة اآلخرين ‪ ..‬والكبير ال‬
‫على المنافع ويَ ْ‬
‫س َرة بدون َم ِعيَّة اآلخرين ‪ ،‬وهذا هو مصدر قيام المجتمع بمعناه ( البراني‬ ‫يستطيع العيش عيشة ُميَ َّ‬
‫ص من هذا أن طموحات اإلنسان للحياة في مجتمع ال تنبع من وجوده‬ ‫ِ‬
‫) ‪ ..‬ولذا يمكننا أن تَ ْستَ ْخل َ‬
‫الحقيقي وإنما من الضرورة ‪.‬‬
‫يتم من ناحية االعتبارات الجوهرية في اإلنسان وإنما من‬ ‫فالسعي إلى المشاركة في مجتمع ال ُّ‬
‫َج ِل المنافع التي ُي َو ِّف ُرها‪ M‬المجتمع ‪ .‬المجتمع تَ ْح ُك ُمه قوانين البقاء لألصلح ‪ ..‬قوانين التبعية‬
‫أْ‬
‫واالستغالل ‪ ..‬أو على أحسن الفروض القوانين التي تَ ْس َم ُح بالمشاركة في المصالح ‪ .‬لكن‬
‫عرف العدالة وتبادل المعونة والتضامن واألخوة ‪.‬‬
‫الجماعة وحدها هي التي تَ ُ‬
‫وء الفهم نتيجة للخلط غير الواعي بين هذه المصطلحين )) ‪.‬‬‫ولقد نَ َشأَ كثير من س ِ‬
‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫اإلسالم – الوحدة ثنائية القطب ‪:‬‬
‫موسى وعيسى ومحمد ‪:‬‬
‫‪26‬‬

‫لإلسالم تاريخان سابق على ظهور النبي محمد @ وتاريخ آخر بعد ظهوره ‪ ،‬هذا التاريخ لالحق‬
‫هو تاريخ اإلسالم الذي نعرفُه اليوم ‪ ،‬ولكن الدارس ال يستطيع َف ْه َمه‪َ M‬ف ْه ًما كامالً ما لم يكن على‬
‫األخص فترة اليهودية والمسيحية ‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫معرفة كافية بتاريخ اإلسالم السابق وعلى‬
‫هذه األديان الثالثة ( اإلسالم واليهودية والمسيحية ) قامت بدور أساسي في تاريخ اإلنسانية ‪،‬‬
‫ضا معنى الحياة‬
‫ومن خاللها أصبح اإلنسان محور للتاريخ ‪ ..‬في هذه األديان عرف اإلنسان أي ً‬
‫البراني وما بينهما من عالقات‬
‫ّ‬ ‫اني والتقدُّم‬
‫الجو ّ‬
‫الجوانية والحياة البرانية ‪ ،‬كما عرف معنى التقدُّم َّ‬
‫وحدود‪. M‬‬
‫البشري َت َّو َج بها النجاحات التاريخية لليهودية والمسيحية وتَالَفَى‬
‫ّ‬ ‫جاء اإلسالم بخبرة عن الجنس‬
‫ت فيهم ثالثة إمكانيات‬‫تجس َد ْ‬
‫فإن األنبياء الثالثة ‪ :‬موسى وعيسى ومحمد قد َّ‬ ‫إخفاقاتها ‪ ..‬وهكذا َّ‬
‫مبدئية لكل ما هو إنساني ‪:‬‬
‫اليهودي‬
‫ّ‬ ‫الدنيوي ) فجميع أفكار ونظريات العقل‬
‫ِّ‬ ‫ِّل بين األديان اتجاه ( هذا العالم‬
‫فاليهودية تُ َمث ُ‬
‫ْم بالعدالة التي َّ‬
‫البد أن‬ ‫ِ‬
‫َم ْعنية بإقامة َجنَّة أرضية ‪ ،‬حتى كتاب ( أيوب ) ( في العهد القديم ) هو حل ٌ‬
‫تتحق َق على األرض وليس في العالم اآلخر وإنما ( هنا واآلن ) ‪ ..‬هذا الكتاب منسوب إلى النبي‬ ‫َّ‬
‫التقي‬
‫توسع الشعراء العبرانيون في قصته وجعلوا منها أسطورة البريء ّ‬ ‫أيوب عليه السالم الذي َّ‬
‫وظلما !! ‪..‬‬ ‫الذي َّ‬
‫اشتد عليه العقاب قسوة ً‬
‫الصدوقيون ال‬
‫لم َيَت َقبَّل اليهود أب ًدا فكرة الخلود األُخروي ‪ ..‬فحتى وقت ظهور المسيح كان َ‬
‫وي َق ِّر ُر الفيلسوف (( موسى بن ميمون )) وهو أكبر ِّ‬
‫مفكر يهودي ظهر في‬ ‫يزالون يرفضونها ‪ُ ..‬‬
‫العصور الوسطى أن الخلود فكرة غير ذات موضوع ‪ ..‬ألنها في نَظَ ِره تنقض نفسها بنفسها ! ‪..‬‬
‫الرب التي كان اليهود َيَتنَبئُون بها قبل ظهور المسيح كان من المفترض أنها تستحق‬ ‫أما مملكة ِّ‬
‫على األرض وليس في السماء كما ُي ْؤ ِم ُن المسيحيون ‪ .‬ففي كتابات اليهود عن ( ِس ْفر الرؤيا )‬
‫يُ َم ِّجدون المسيح المنتقم الذي يأتي لتحقيق العدالة ‪.‬‬
‫يم دولة الشعب‬ ‫ِ‬
‫فالمسيح الذي كان ينتظره اليهود لم يكن نبيًّا يعاني ويموت وإنما بطالً قوميًّا يُق ُ‬
‫األساسي للعدالة‬
‫ّ‬ ‫تعيسا عالم بال معنى ‪ ..‬هذا هو المبدأ‬
‫المختار ‪ .‬فالعالم الذي يكون فيه العادل ً‬
‫الجنَّة على األرض فكرة يهودية في أساسها‬
‫كل عدالة اجتماعية ‪ ،‬ففكرة أن تكون َ‬
‫اليهودية ‪ ،‬بل ّ‬
‫سواء من ناحية خصائصها أو أصولها ‪.‬‬
‫ط التاريخ اليهودي في ماضيه وحاضره مصدر جاذبية قوية لجميع المقهورين وأصحاب‬ ‫وكان نَ َم ُ‬
‫ِّ‬
‫الحظ العاثر في كل زمان ‪ ،‬وقد َتَبنَّى القديس (( أوغسطين )) هذا النمط للمسيحية كما َتَبنَّاه ((‬
‫‪27‬‬

‫ماركس )) لالشتراكية ‪ .‬وجميع الثورات والطوباريات والعقائد االشتراكية وما يجري في مجراها‬
‫من أفكار تتطلع إلى َجنَّة في األرض – كلّها يهودية صادرة من ( العهد القديم ) ‪.‬‬
‫ضعية يهودية ‪..‬‬‫إن فكرة الماسونية عن اليقظة األخالقية للبشر عن طريق العلم هي فكرة َو ْ‬‫بل َّ‬
‫ولعل من األهمية بمكان الكشف عن العالقات الخفية والظاهرة بين ( الوضعية المنطقية )‬
‫َّ‬
‫والماسونية واليهودية ‪ ،‬فهذه العالقات والتأثيرات ليست معنوية فحسب وإنما هي عالقات واقعية‬
‫ملموسة ‪.‬‬
‫ويرى ( سومبارت ) أن تاريخ اليهود هو تاريخ التطور التجاري للعالم ‪ .‬وأول ما ظهرت العلوم‬
‫ْم االقتصاد السياسي بالصفة‬ ‫العلْم اليهودي ‪ ،‬ويمكن أن يوص ُ ِ‬ ‫الذريَّة كانت معروفة باسم ِ‬
‫ف عل ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫ِّ‬
‫نفسها ‪ ،‬فليس من قبيل المصادفة‪ M‬أن تكون أَل َْم َع األسماء في علوم الطبيعة النووية واالقتصادية‬
‫جميعا وبدون استثناء من اليهود ‪.‬‬
‫والسياسية واالشتراكية ً‬
‫دائما في الحضارة ‪ ..‬ويبدو كأنهم في‬ ‫لم يُ ْس ِهم اليهود ً‬
‫دائما في الثقافة ولكنهم كانوا يساهمون ً‬
‫ضا في الغرب ‪ ..‬يقول‬ ‫ث هذا أي ً‬
‫هجرة دائمة من حضارة آفلة إلى حضارة أخرى وليدة ‪ .‬وقد َح َد َ‬
‫إن اليهود لم يكن لهم أي تأثير على الثقافة‪ M‬في البالد‬‫اإلنجليزي ( براتراندرسل ) ‪َّ (( :‬‬
‫ّ‬ ‫الفيلسوف‬
‫المسيحية )) ‪ .‬ولكن ما أن تسود الثقافة في مدينة ما حتى يَظ َْهر اليهود ولقد نشأت مستعمرات‬
‫يهودية في كل مدينة رئيسية على طول التاريخ ‪ ،‬ففي التاريخ القديم نجد مدينة صور ‪ ،‬وصيدا ‪،‬‬
‫وأنطاكية ‪ ،‬والقدس ‪ ،‬واإلسكندرية ‪ ،‬وقرطاجة ‪ ،‬وروما‪ . M‬وفي أسبانيا اإلسالمية ( األندلس ) نجد‬
‫مدن قرطبة ‪ ،‬وغرناطة ‪ ،‬وتوليدو ‪ ،‬وأشبيلية ‪ .‬وفي بداية عصر النهضة نجد مدن أمستردام‬
‫وفينسيا ومارسيليا ‪ ،‬وفي العصر الحاضر في كل مدن العالم الكبرى وعلى األخص المدن‬
‫ت تاريخ اليهود ‪.‬‬
‫صَن َع ْ‬
‫األمريكية ‪ .‬هذه هي ُخطَى األقدام التي َ‬
‫ع‬
‫وفي تمويل اليهود لرحلة ( كولمبس ) َر ْم ٌز على إسهامهم‪ M‬مباشرة في اكتشاف عالم جديد َش َر َ‬
‫ضا وهو‬
‫يمارس الحضارة منذ بدايتها األولى ‪ .‬وكان أب العصر النووي الحديث يهوديًّا أي ً‬
‫كل الظروف حملة التقدُّم البراني المادة ‪ ،‬بمثل ما كان‬
‫(( أينتشتين )) ‪ .‬وهكذا كان اليهود في ِّ‬
‫المسيحيون حملة التقدُّم الجواني ‪.‬‬
‫الدين المجرد ‪:‬‬
‫اليهودي ) إلى‬
‫ّ‬ ‫العقل اإلنساني ( خالل التاريخ‬
‫ضعية ) هي التي لََفتَت َ‬
‫الو ْ‬
‫الماديَّة اليهودية ( أو َ‬
‫ِّ‬
‫العالم وأثارت االهتمام بالواقع الخارجي ‪ ،‬أما المسيحية َف َقد‪ M‬لََفتَت الروح اإلنسانية إلى نفسها ‪،‬‬
‫فالواقعية الصريحة للعهد القديم ال يُ ْم ِك ُن التغلُّب عليها إال بمثالية حاسمة للعهد الجديد ‪.‬‬
‫‪28‬‬

‫يصح – في المسيحية َشط َْر الطاقة اإلنسانية إلى اتجاهين متعاكسين ‪ :‬اتجاه السماء واتجاه‬
‫ال ّ‬
‫ويحب اآلخر أو‬
‫ُّ‬ ‫خدم سيدين ‪ ،‬فهو إما أن يَ ْك َره أحدهما‬
‫األرض ‪ ( ،‬فال يستطيع إنسان أن يَ َ‬
‫وتخدم مامون ) ‪ ( ،‬وكلمة‬ ‫الرب‬
‫تخدم َّ‬ ‫ِ‬
‫ويستخ ُّ‬
‫َ‬ ‫ف باآلخر ‪ ،‬إنك ال تستطيع أن َ‬ ‫ك بأحدهما‬ ‫يتمس َ‬
‫َّ‬
‫مامون في الكتابات اإلنجيلية تشير إلى شيطان الشهوة والمال ) ‪...‬‬
‫وجود اختالفات جوهرية بين روح ( العهد القديم ) و ( العهد‬
‫َ‬ ‫لقد الحظت السلطات الكنسية‬
‫واستبدل ( يهوا ) إلهَ‬
‫َ‬ ‫المسيح قد أَلْغَى قانون موسى‬
‫َ‬ ‫إنجيل مرقص إلى أن‬
‫ُ‬ ‫هب‬
‫الجديد ) حيث يَ ْذ ُ‬
‫الحب الذي َخلَ َق عالم الغيب الال مرئي ‪ ،‬وكما ( يقال ) ‪ :‬في‬
‫ِّ‬ ‫العدالة ومنق َذ العالم المادِّي ِ‬
‫بإله‬ ‫ّ‬
‫وضوحا من األناجيل‬
‫ً‬ ‫الشر أكثر‬
‫هذا اإلنجيل تبدو مبادئ الزهد ولال عُ ْنف واالمتناع عن مقاومة ِّ‬
‫األخرى ‪.‬‬
‫عالما كامالً ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ولذلك َّ‬
‫فإن الدين منذ البداية ينبذ أي َت َو ُّجه لتغيير العالم الخارجي أو محاولة َج ْعله ً‬
‫فالدين المجرد – من هذا المنطلق – يحكم على أي اعتقاد إنساني بأن تنظيم العالم الخارجي أو‬
‫تغييره ُي َؤدِّي إلى زيادة في الخير الحقيقي – بأنه خطيئة – أو هو في الحقيقة من أنواع خداع‬
‫النفس ‪ ..‬فالدين إجابة على سؤال كيف تحيا في ذاتك وتواجه هذه الذات ‪ ،‬وليس إجابة على‬
‫قمة جب ٍل أو م ٍ‬
‫الذ على اإلنسان أن‬ ‫سؤال كيف تعيش في العالم مع اآلخرين ‪ ..‬إنه م ْعب ٌد على ِ‬
‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫َي ْرتَِق َي إليه تار ًكا َخ ْل َفه خواء عالم ال سبيل إلى إصالحه ‪ ..‬عالم يهيمن عليه الشيطان وحده ‪ ..‬هذا‬
‫هو الدين المجرد ‪.‬‬
‫إن الطريق الذي يدعو إليه الدين طريق شاق وال يصلح لسلوكه إال َمن َك َّرسوا أنفسهم له ‪..‬‬
‫نفسا إال وسعها } كان ُي َو ِّجه اإلشارة بوضوح إلى المسيحية‬
‫ص َّر َح القرآن { ال يكلف اهلل ً‬
‫وعندما َ‬
‫‪ ..‬ولذلك َع َرفَت األديان المجردة طريقين أو برنامجين ‪ :‬حيث يوجد في البوذية ( الماهيان ) أو‬
‫شاق أليم م ْقتَ ِ‬
‫صر‪ M‬على الصفوة ‪ ،‬وطريق آخر يُ َس َّمى ( الهنايانا ) وهو‬ ‫الطريق العظيم وهو طريق ٌّ‬
‫ُ‬
‫خاصة‬
‫وأقل قسوة مفتوح لعامة الناس ‪ .‬وفي المسيحية تقسيم مماثل ‪ :‬فهناك حياة َّ‬
‫س ٌر ُّ‬
‫طريق ُميَ َّ‬
‫للقساوسة والنظام اإلكليروسي ‪ ،‬في مقابل الحياة العادية لعامة الناس ‪ .‬العزوبة لرجال الدين في‬
‫األمثل أما الزواج فتسوية‬
‫َ‬ ‫مقابل الزواج المسموح به لعامة الناس ‪ ،‬فالعزوبة‪ M‬هي الطريق الصحيح‬
‫أو حلٌّ وسط ‪.‬‬
‫لكل‬ ‫ٍ‬
‫برفض ِّ‬ ‫دائما‬ ‫َّ‬
‫إن ال ُق َوى ( الجوانية ) المصحوبة بنكران الذات مسألة شخصية بأسرها ترتبط ً‬
‫نشاط اجتماعي ‪ ..‬فالمسيحية والدين ( المجرد ) بصفة عامة – من حيث معارضتهما للعنف – ال‬
‫ض ِع اإلنسانية من الناحية االجتماعية ‪.‬‬
‫يمكن لهما التأثير في أي شيء من شأنه أن يُ َح ِّس َن من َو ْ‬
‫‪29‬‬

‫فالتغيرات االجتماعية ال تأتي بواسطة الصلوات واألخالقيات ( وحدهما ) وإنما عن طريق قوة‬
‫َّمة باألفكار أو المصلحة ‪ .‬ومن هنا جاء االتهام – الذي قد ُيَب ِّر ُره التاريخ ولكن ال ُتَب ِّر ُره‬
‫ُم َدع َ‬
‫يخدم الطبقة الحاكمة‬
‫ِّم األمر الواقع السائد في عصره ‪ ،‬وأنه بهذا ُ‬
‫األخالق – أن الدين إنما يُ َدع ُ‬
‫بصرف النظر عن المعارضة النفسية ‪ ..‬والقرآن يُ َس ّمي المسيحية ( بالغًا ) وتُ َس ِّميها األناجيل‬
‫تحب نفسك )‬
‫حب جارك كما ُّ‬ ‫( بشارة ) ‪ ..‬بشارة ألعمق ما في الوجود اإلنساني من حقائق ‪ّ ( :‬‬
‫الش َّر ) ‪ ..‬هذه المطالب تسير ضد فطرة المنطق‬‫حب أعداءك وبارك العنيك ) ‪ ( ..‬ال ُت َقاوم َّ‬
‫‪ّ ( ..‬‬
‫يوجهنا نحو البحث عن معناها الحقيقي ‪ ..‬إنها تُ ِ‬
‫وحي بالبشارة لعالم‬ ‫العملي في حياة اإلنسان مما ِّ‬
‫آخر كما قال المسيح ‪ ( :‬إ ّن مملكتي ليست في هذا العالم ) ‪.‬‬
‫ورفْضه‪: M‬‬
‫َقبُول المسيح َ‬
‫بح َم ْعنِيًا بالسياسة في معناها‬
‫ص َ‬‫صبح هو نفسه دنيويًّا بمعنى أن يُ ْ‬ ‫ُي َؤثِّر الدين في العالم فقط عندما يُ ْ‬
‫الواسع ‪ .‬ومن هذه الناحية يقال ‪ :‬إن اإلسالم مسيحية أ ُِعي َد تكييفها تجاه العالم ‪ ..‬هذا التعريف‬
‫ف لنا عن التشابه وعن االختالف بين الدينين ‪.‬‬‫يَ ْك ِش ُ‬
‫تنبع‬
‫استمرارا لليهودية ‪ ..‬وهذه الفكرة عن اإلسالم ُ‬ ‫ً‬ ‫في تصنيف ( هيجل ) لألديان اعتبر اإلسالم‬
‫إن كتاب أيوب )‬‫من وجهة نَظَ ٍر مسيحية ‪ ،‬وذهب ( شنبجلر ) إلى رأي يُ ْشبِهُ هذا عندما قال ‪َّ ( :‬‬
‫ت ( مرسيا ) إليادي ) النبي محمد‬
‫ض َع ْ‬
‫كتابة إسالمية ‪ .‬وفي كتابها ( أنماط من األديان المقارنة ) َو َ‬
‫التحول‬
‫التحول من المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة واألخيرة من مراحل ُّ‬ ‫@ على مفترق طريق ُّ‬
‫الروحي للجنس البشري ‪ .‬ومن ثَ َّم فالمرحلة الثالثة – التي لم َت ْنتَ ِه بعد – بدأت بمحمد @ ‪،‬‬
‫حيث تذهب (( إليادي )) إلى أن تاريخ العقل اإلنساني هو عملية ( َعل َْمنَة ) عامة ‪ ،‬وبهذه الرؤية‬
‫يقف محمد @ على حافة سيادة المسيحية وبداية العصر العلماني الحديث ‪ ،‬بمعنى أنه يقف في‬
‫النقطة البؤرية للتوازن التاريخي ‪.‬‬
‫حي ْننَا جانبًا رؤية (( إليادي )) التاريخية ذات البعد الواحد – وهي رؤية غير مقبولة من‬
‫فإذا نَ َّ‬
‫وجهة نَظَ ِرنا – نستبقي منها إشارتها إلى الموقف ( الوسط ) لإلسالم ولمحمد @ الذي تتميز به‬
‫يظل ثابتًا بصرف النظ ِر عن اختالف ( المقتربات ) أو التفسيرات ‪.‬‬
‫هذه الرؤية ‪ .‬هذا االنطباع ُّ‬
‫الفريسين [ * ] والمجادلين والكتاب والكفار‬
‫دخول القدس ؛ ألنها مدينة ّ‬
‫َ‬ ‫المسيح‬
‫ُ‬ ‫َّب‬
‫لقد تَ َجن َ‬
‫وأصحاب اإليمان السطحي ‪ ،‬ومن ناحية أخرى ال ُت َو ِّجه االشتراكية خطابها ألبناء الريف وإنما‬
‫يعود‬
‫َتَت َو َّجه به ألبناء المدن الكبرى ‪ ،‬أما محمد @ فكان يذهب إلى غار حراء ليتعبَّ َد ولكنه كان ُ‬
‫كل مرة إلى المدينة الكافرة ( مكة ) لكي ُي َؤدِّي رسالته ‪.‬‬
‫في ِّ‬
‫‪30‬‬

‫اكتمل‬
‫َ‬ ‫ص ُفه بأنه (( اإلسالم )) ؛ ألن اإلسالم‬ ‫ث في مكة ال يمكن َو ْ‬ ‫ومع ذلك َّ‬
‫فإن كل ما َح َد َ‬
‫ص ِّوفًا حني ًفا ‪،‬‬
‫صائما ُمَتنَ ِّس ًكا ُمتَ َ‬
‫وبلَ َغ ذروته في ( المدينة ) ‪ ..‬لقد كان محمد @ في غار حراء ً‬
‫َ‬
‫وكان في مكة ُمبَ ِّش ًرا بفكرة دينية أما في المدينة فقد أصبح داعية إلى ( الفكرة اإلسالمية ) ‪ ..‬لقد‬
‫ت في المدينة { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم‬
‫اكتملت الرسالة المحمدية وَتَبل َْو َر ْ‪M‬‬
‫نعمتي ورضيت لكم اإلسالم دينًا } ‪ ..‬هناك في المدينة وليس في مكة كانت بداية ومصدر النظام‬
‫االجتماعي كله ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلسالمي‬
‫ّ‬
‫ع‬
‫يعود من الغار فلو أنه لم َيعُد لبقي حنيفيًا ولكنه عاد من الغار و َش َر َ‬
‫البد لمحمد @ أن َ‬ ‫كان َّ‬
‫ك والعقل‬ ‫التنس ِ‬
‫الجواني وعالم الواقع ‪ ..‬بين ُّ‬ ‫يدعو إلى اإلسالم ‪ ،‬وهكذا تَ َّم االمتزاج بين العالم‬
‫ّ‬
‫َخ َذ يتطور حتى أصبح دولة ‪ ،‬وهذا يعني أن‬ ‫صوفيًّا ثم أ َ‬‫التأم ِل والنشاط لقد بَ َدأَ اإلسالم ُ‬
‫‪ ..‬بين ُّ‬
‫إسالما ) ‪.‬‬
‫ً‬ ‫الدين قد َت َقبَّ َل عالم الواقع وأصبح (‬
‫تماما ما في اإلنسان ‪ ..‬فيه تلك الومضة اإللهية ‪ ..‬وفيه‬ ‫اإلسالم نسخة من اإلنسان ‪ ،‬ففي اإلسالم ً‬
‫تعاليم عن الواقع والظالل ‪ ..‬باإلسالم جوانب قد ال َت ُرو ُق للشعراء الرومانسيين فالقرآن واقعي‬
‫ب َف ْه ُمه ‪ ،‬وقد ال يكون له‬
‫صعُ ُ‪M‬‬
‫ال مكان فيه ألبطال المالحم ‪ ..‬واإلسالم بدون إنسان يُطَِّب ُقه يَ ْ‬
‫وجود بالمعنى الصحيح ‪...‬‬
‫مفهوم َم ْف َع ٌ‪M‬م بالحيوية عن األلوهية ‪ .‬ولكن‬
‫ٌ‬ ‫َّام بوحدانية اهلل ‪ :‬فبها‬
‫لم تبلغ المسيحية أب ًدا الو ْعي الت ّ‬
‫يجعل الفكرة اإلنجيلية عن اهلل‬
‫َ‬ ‫ال توجد بها فكرة واضحة عن اهلل ‪ ..‬وكانت ُم ِه َّمة محمد @ أن‬
‫ِ‬
‫وضوحا وأقر إلى َع ْق ِل اإلنسان وف ْك ِره ‪ ،‬فاهلل هو ا ِإلله الواحد الذي تتو ُق إليه النفوس وتً ْ‬
‫صبُو‬ ‫ً‬ ‫أكثر‬
‫أفكار نبيله في عُ ُقولِنا ‪.‬‬
‫إليه ٌ‬
‫في األناجيل ا ِإلله ( أب ) وفي القرآن اهلل ( رب ) العباد ‪ ،‬ا ِإلله في األناجيل محبة ‪ ،‬وفي القرآن‬
‫يستحق الحمد والثناء ) ‪ .‬هذه الخاصية في َف ْه ِم المسيحية لأللوهية انقلبت فيما بعد إلى‬ ‫ُّ‬ ‫( جالل‬
‫ت بالوحدانية األصلية للمسيحية في سبيل الثالوث واألم العذراء‬ ‫ض َّح ْ‬
‫سلسلة من الصور المختلطة َ‬
‫كل ما ُم َّر به ا ِإلسالم من نكبات‬
‫والقديسين ‪ ..‬مثل هذا التطور غير ممكن في اإلسالم ‪ ،‬فبرغم ِّ‬
‫ظل ا ِإلسالم ( أنقى أديان التوحيد ) ‪ .‬النفس ا ِإلنسانية قادرة على تصور األلوهية فحسب‬
‫تاريخية َّ‬
‫تتحول إلى فكرة ( اهلل الواحد األحد ) ‪.‬‬
‫فإن األلوهية َّ‬‫‪ ،‬أما خالل العقل َّ‬
‫ِّي ‪،‬‬
‫زمام العالم الماد ّ‬
‫يملك الشيطا ُن َ‬
‫إله المسيحية هو رب عالم األفراد ( الناس واألنفس ) بينما ُ‬
‫الجوانية ‪ .‬بينما العقيدة اإلسالمية في اهلل‬
‫ولذلك فإن االعتقاد المسيحي في اهلل يتطلب الحرية ّ‬
‫‪31‬‬

‫ضا ‪َّ .‬‬


‫إن االعتقادين األساسيين في اإلسالم ‪ ( :‬اهلل‬ ‫تنطوي إضافة إلى ذلك على الحرية البرانية أي ً‬
‫أكبر ) و ( ‪ ..‬ال إله إال اهلل ) هما في الوقت نفسه أعظم القوى الثورية في اإلسالم ‪.‬‬
‫يظل اإلنسان الكامل إنسانًا ‪ .‬ومن ثَ َّم استنتج‬
‫لم تستطع المسيحية كذلك أن َتَت َقبَّل فكر َة أن َّ‬
‫المسيحيون من كالم عيسى فكرة ( ا ِإلله اإلنسان ) ومن ثَ َّم اعتبروا عيسى ابنًا هلل ‪ ،‬ولكن َّ‬
‫ظل‬
‫المثل األعلى لإلنسان والجندي في الوقت نفسه‬
‫محمد @ إنسانًا فقط ‪ .‬لقد أعطى محمد @ َ‬
‫انطباعا مالئكيًّا ‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ ..‬أما عيسى عليه السالم فقد َخلَّ َ‬
‫ف‬
‫كذلك كان األمر بالنسبة للنساء فقد احتفظ القرآن لوظائفهن الطبيعية كزوجات وأمهات‪ M‬على‬
‫عكس صورة ( مارتا ) وماري في األناجيل ‪ ..‬ولذلك فإن الهجوم المسيحي على طبيعة محمد‬
‫@ اإلنسانية الخالصة – أكثر مما يجب – هو هجوم ناتج في الواقع عن سوء َف ْه ٍم ‪.‬‬
‫أن محم ًدا ليس إال إنسانًا ‪:‬‬ ‫نفسه ِّ‬
‫يؤكد َّ‬ ‫فالقرآن ُ‬
‫بشرا رسوالً } ‪ { ..‬قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي أنما إلهكم‬
‫{ قل سبحان ربي هل كنت إال ً‬
‫ستوجه إليه في المستقبل حيث قال ‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ف القرآن عن االتهامات‪ M‬التي‬
‫إله واحد } ‪ ،‬كما َك َش َ‬
‫{ وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في األسواق } ‪.‬‬
‫إن مجرد المقارنة بين قاموس‪ M‬المفردات المستخدمة في األناجيل والتي وردت في القرآن ُي َؤدِّي‬
‫تكرارا ملحوظًا‬
‫ً‬ ‫بنا إلى العديد من االستنتاجات الواضحة ‪ ..‬في األناجيل يتكرر ورود‪ M‬ألفاظ ُم َعيَّنة‬
‫حب ‪ ،‬ندم ‪ ،‬عضو‬
‫الفريس ‪ ،‬خطيئة ‪ّ ،‬‬ ‫مثل ‪ :‬مبارك ‪ ،‬مقدَّس ‪ ،‬مالك ‪ ،‬الحياة األبدية ‪ ،‬سماوات ‪ّ ،‬‬
‫تطهر ‪ ،‬خالص ‪ ..‬الخ ‪ .‬بينما في القرآن نجد‬
‫سر ‪ ،‬الجسد ( كحامل للخطيئة ) ‪ ،‬النفس ‪ّ ،‬‬
‫‪ّ ،‬‬
‫المصطلحات نفسها مصاغة على صورة هذا العالم وقد اكتسبت واقعية وتحدي ًدا مثل ‪ :‬العقل ‪،‬‬
‫التطهر ( الوضوء ) ‪ ،‬القوة ‪ ،‬الشراء ‪ ،‬العقد ‪ ،‬الرهان ‪ ،‬الكتابة ‪ ،‬األسلحة ‪ ،‬القتال ‪،‬‬
‫الصحة ‪ّ ،‬‬
‫التجارة ‪ ،‬الفاكهة ‪ ،‬العزم ‪ ،‬الحذر ‪ ،‬العقاب ‪ ،‬العدل ‪ ،‬الربح ‪ ،‬االنتقام ‪ ،‬الصيد ‪ ،‬الشفاء ‪،‬‬
‫المنافع ‪ ..‬الخ ‪.‬‬
‫يعرف اإلسالم كتابات دينية ( الهوتية ) ُم َعيَّنة بالمعنى المفهوم في أوربا للكلمة ‪ ،‬كما أنه ال‬
‫ال ُ‬
‫كل حركة إسالمية‬
‫مفكر إسالمي هو عالم دين ‪ ،‬كما أن َّ‬ ‫يعرف كتابات دنيوية ُم َج َّردة ‪ ،‬فكل ِّ‬
‫صحيحة هي حركة سياسية ‪.‬‬
‫ويُ ْم ِك ُن استخالص نتائج مماثلة من المقارنة بين المسجد والكنيسة ‪ ،‬فالمسجد مكان للناس أما‬
‫جو من الصوفية‬‫جو من العقالنية وفي الكنيسة ٌّ‬
‫الكنيسة فهي ( معبد الرب ) ‪ ..‬في المسجد يسود ٌّ‬
‫‪ ..‬المسجد بؤرة نشاط دائم ‪ ،‬وهو ( عادة ) قريب من السوق في قلب المناطق اآلهلة بالسكان‬
‫‪32‬‬

‫التحاما ببيئتها ‪ ،‬ويميل التصميم المعماري للكنيسة إلى الصمت والظالم‬


‫ً‬ ‫أقل‬
‫‪ ،‬أما الكنيسة فتبدو َّ‬
‫كل اهتمام‬
‫الناس كاتدرائية ‪ ..‬يتركون خارجها َّ‬
‫واالرتفاع إشارة إلى عالم آخر ‪ ..‬وعندما يَ ْد ُخ ُل ُ‬
‫الناس فيه بع َد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‪M‬‬
‫ش ُ‬ ‫المفروض أن ُينَاق َ‬ ‫بالدنيا كأنهم داخلون إلى عالم آخر ‪ ،‬أما المسجد فمن‬
‫انتهائهم من الصالة هموم دنياهم ‪ ..‬وهذا هو الفرق ‪.‬‬
‫الناس‬
‫يحث ُ‬ ‫تستطيع األناجيل أن تقول ‪ِ { :‬عش كما تَ ْحيَا الزنابق في الحقول )) ‪ ،‬ولكن القرآن ُّ‬
‫على الكدح والسعي وراء العيش فيقول ‪ { :‬وجعلنا النهار معا ًشا } ‪ ,‬ويذكرهم بنعمة النهار‬
‫َّهار م ْب ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صراً إِ َّن‬ ‫المضيء الذي يُ َس ِّه ُل السعي فيقول ‪ { :‬اللَّهُ الَّذي َج َع َل لَ ُك ُم اللَّْي َل لتَ ْس ُكنُوا فيه َوالن َ َ ُ‬
‫َّاس ول ِ‬
‫َك َّن أَ ْك َث َر الن ِ‬ ‫اللَّهَ لَ ُذو فَ ْ‬
‫َّاس ال يَ ْش ُك ُرو َن } [ غافر ‪. ] 61 :‬‬ ‫ض ٍل َعلَى الن ِ َ‬
‫أن اهلل َخلَ َق اإلنسان ليكون سي ًدا في األرض ( خليفة ) ‪،‬‬ ‫يؤكد القرآن – على خالف – األناجيل َّ‬ ‫ِّ‬
‫تسخير الطبيعة والعالم خالل المعرفة‪ M‬والعمل أي بالعلم والفعل ‪ .‬من هذه‬ ‫َ‬ ‫وأن اإلنسان يُ ْم ِكنهُ‬
‫الحقيقة وبتركيز اإلسالم على القانون والعدالة يبرهن على أنه ال يستهدف الثقافة فقط وإنما‬
‫ضا ‪.‬‬
‫يَ ْس َعى لبناء حضارة أي ً‬
‫وقد يُ ْستَ َد ُّل على موقف اإلسالم تجاه الحضارة من خالل اهتمامه بالقراءة والكتابة باعتبارهما‬
‫الوحي فكانت أول ما َن َز َل على محمد @ من‬ ‫أَق َْوى ُم َح ِّرك للحضارة ‪ ،‬فال غرابةَ أن ُي ْعنَى بهما ْ‬
‫آيات القرآن { إقرأ باسم ربك الذي خلق } ‪ ..‬وقد تبدو القراءة غريبة عن الدين ( المجرد ) ‪..‬‬
‫س ذلك اعتاد محمد @ أن‬ ‫فقد بقيت األناجيل تقلي ًدا شفويًّا لفترة طويلة من الزمن ‪ ..‬وعلى َع ْك ِ‬
‫فور نزولها ‪ ،‬وهي ممارسة لم يكن عيسى ( عليه السالم )‬ ‫ِ‬
‫الوحي َ‬
‫يُ ْملي آيات القرآن على ُكتَّاب ْ‬
‫ليقبلها ألنها أقرب ما تكون إلى اهتمامات الفرنسيين التي كان يستَ ِ‬
‫نك ُرها ‪.‬‬ ‫َْ‬ ‫ّ‬
‫حق محاربة الظلم { والذين أصابهم البغي هم ينتصرون ‪ } ...‬ليس من‬ ‫إن إصرار القرآن على ِّ‬ ‫َّ‬
‫قبيل الت ِ‬
‫َّديُّ ِن بمعناه الضيق فمبادئ الال عُ ْنف والالمقاومة‪ M‬أقرب إلى مبادئ الدين المجرد وهي‬
‫مبادئ تَظ َْه ُر بشكل متماثل في تعاليم عيسى ( عليه السالم ) ‪ ،‬وفي الفكر الديني الهندي ‪ ،‬حيث‬
‫امتدادا عند (( غاندي )) في (( الستياجراها )) ‪ ،‬وهي أسلوب للنضال عن طريق‬
‫ً‬ ‫نجد لها‬
‫أقر القرآن القتال بل أمر به بدالً من الرضوخ للمعاناة والظلم‬
‫الالعنف والعصيان المدني ‪ .‬وعندما َّ‬
‫ض ُع قواعد سياسية واجتماعية ‪ .‬لقد كان محمد‬
‫لم يكن ُي َق ِّر ُر مبادئ دين أو أخالق وإنما كان يَ َ‬
‫@ مقاتالً ‪.‬‬
‫شر اجتماعي ‪ ،‬وليس‬
‫كان لتحريم الخمر في اإلسالم – بالدرجة األولى – صفة اجتماعية فالخمر ٌّ‬
‫إن بعض األديان استخدمت الكحول كعامل صناعي‬ ‫في الدين المجرد شيء ضد الخمر ‪ ،‬بل َّ‬
‫‪33‬‬

‫يُ َساعد على استحضار النشوة ‪ ،‬شأنه في ذلك شأن اإلظالم في الكاتدرائيات ورائحة البخور‬
‫الم َعطِّرة فكلُّها وسائل ُت َؤدِّي إلى هذا النوع من المخ ّدر المطلوب ‪ ..‬وال يرى المسيحيون خطأ‬
‫ُ‬
‫يتحو َل الخمر – رمزيًّا – إلى دم المسيح خالل القربان المقدَّس فال نجد في المسيحية‬
‫في أن َّ‬
‫تحريما للخمر كما َح َّر َمها اإلسالم واعتبرها من الكبائر ‪ ..‬ذلك ألن اإلسالم عندما َح َّر َم الخمر‬
‫ً‬
‫ك مسلك العلم ال مسلك الدين المجرد ‪.‬‬
‫َسلَ َ‬
‫كيف انشطرت وحدة اإلسالم ‪:‬‬
‫ص ُروا اإلسالم على جانبه الديني المجرد فأهدروا‬ ‫لقد انشطرت وحدة اإلسالم على يد أُنَ ٍ‬
‫اس قَ َ‬
‫وحدته ‪ ،‬وهي خاصيته التي ينفرد بها عن سائر األديان ‪ .‬لقد اختزلوا اإلسالم إلى دين مجرد أو‬
‫إلى صوفية فتدهورت أحوال المسلمين ‪ ،‬ذلك ألن المسلمين عندما يضعف نشاطهم ‪ ،‬وعندما‬
‫ِ‬
‫التفاعل معه‪ M‬تصبح الدولة اإلسالمية كأي دولة‬ ‫ورهم في هذا العالم ‪َّ ،‬‬
‫ويتوق ُفون عن‬ ‫ِ‬
‫ُي ْهملُون َد َ‬
‫أخرى ‪ ،‬ويصبح تأثير الجانب الديني في اإلسالم كتأثير أي دين آخر وتصبح الدولة قوة عريانة ال‬
‫يجر المجتمع نحو ‪ :‬السلبية‬ ‫تخدم إال نفسها ‪ ،‬في حين يبدأ الدين ( الذي أصبح خامالً ) ُّ‬ ‫ُ‬
‫والتخلُّف ‪ ،‬ويُ َش ِّك ُل الملوك واألمراء والعلماء الملحدون ورجال الكهنوت وفِ َر ُق الدراويش‬
‫جميعا الوجه الخارجي لالنشطار الداخلي الذي أصاب‬ ‫والصوفية والشعراء السكارى ‪ ،‬يُ َش ْكلُون ً‬
‫لقبصر وما هلل هلل ) ‪.‬‬ ‫لقيصر‬ ‫اإلسالم ‪ .‬وهنا َنعود إلى المعادلة المسيحية ‪ِ ( :‬‬
‫أعط ما‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫إن الفلسفة الصوفية والمذاهب الباطنية تُ َمثِ ُل – على وجه اليقين – نمطًا من أكثر األنماط انحرافًا‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫‪ ،‬ولذلك يُ ْم ِك ُن أن نُطْل َق عليها ( نَ ْ‬
‫ص َرنَة ) اإلسالم ‪..‬‬
‫نقول هذا الكالم وفي ذهننا الممارسات الخاطئة لبعض فِ َر ِق الدراويش التي انتهت بهم إلى‬
‫السلبية واالنسحاب من الحياة النشطة ‪ ،‬ولكن إذا كان الحديث عن التّ َديُّ ِن العميق فإننا نقول ‪:‬‬
‫وأن محم ًدا @كان في مق ّدمة‪ M‬الجميع ‪.‬‬ ‫إن كل مسلم ملتزم هو صوفي بمعنى من المعاني ‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫وهناك خطر التمادي في االتجاه اآلخر وأعني به ( مادية ) اإلسالم ‪ ،‬ولكن االنطباع العام السائد‬
‫ص ُن العالم‬
‫أن مادية اإلسالم أو مجموع العناصر الطبيعية واالجتماعية المتضمنة في صلْبه تُ َح ِّ‬
‫عدم ( نجاح ) الثورة الشيوعية في الدول‬ ‫فإن َ‬‫المتطرفة ‪ ..‬ولذلك َّ‬
‫َّ‬ ‫اإلسالمي ضد األفكار‬
‫يحتاج إلى ( ماركس ) ؛ ألن فيه ( عدالته )‬
‫ُ‬ ‫اإلسالمية ليس من قبيل المصادفة‪ ، M‬فاإلسالم ال‬
‫صح هذا التعبير ‪.‬‬
‫الخاصة ‪ ،‬إذا َّ‬
‫* يَقص ُد العدالة االجتماعية في اإلسالم ‪.‬‬
‫( ثنائية أعمدة اإلسالم الخمسة )‬
‫‪34‬‬

‫الصالة ‪:‬‬
‫تصح الصالة في اإلسالم بدون وضوء ‪ ،‬بينما في الدين المجرد يُ ْم ِك ُن أداء الصالة مع وجود‬
‫ال ُّ‬
‫كل من المسيحية‬‫ْم الرهبنة في ِّ‬ ‫القذرة ‪ ،‬وتُ َس َّمى حينذاك ( القذارة المقدَّسة ) كما عرفتها نُظ ُ‬
‫إغفال البدن بل‬
‫أن َ‬ ‫شعورا دينيًا أصيالً َّ‬
‫والهندوسية ‪ ،‬فالرهبان الذين َيتَ َجنَّبون النظافة يشعرون‪ً M‬‬
‫اإلهمال المتعمد لنظافته ُي َق ِّوي الجانب الروحي في الصالة ‪ ،‬فالصالة ( عندهم ) تكون أصدق إذا‬
‫َّب ( المرء ) أي عناية بالبدن ‪.‬‬
‫تَ َجن َ‬
‫أما في اإلسالم فالوضوء والحركات في الصالة تُ َش ِّكل الجانب العقلي منها ‪ ،‬فال تجعلها مقصورةً‬
‫على جانبها الروحي المجرد بل تضيف إليها النظام والصحة ‪ .‬وفي الوضوء فجرا بالماء البارد‬
‫تؤكدها ) صفوف صالة الجماعة المتالحمة ‪.‬‬ ‫يوجد بالتأكيد شيء من الروح العسكرية ( ِّ‬
‫جميع أعضاء الجسم تقريبًا وألنها ُت َؤدِّي خمس مرات في‬
‫َ‬ ‫وتَ ْش َم ُل الحركات الخارجية للصالة‬
‫اليوم على األقل فهي وسيلة َف َّعالة لعالج الخمور واالسترخاء ‪.‬‬
‫فالصالة بهذا الجمع بين الروحي والبدني في إطار واحد تعتبر أكمل تصوير لما يُطْلِ ُق عليه‬
‫(( عزت بيجوفيتش )) ( الوحدة ثنائية القطب ) ‪.‬‬
‫ُحادي‬
‫سب على جانبه البدني والعقالني في الصالة هو بدوره ليس أ َ‬
‫حتى الوضوء الذي يُ ْح ُ‬
‫ضا لذلك ‪ .‬يقول اهلل سبحانه ( َّ‬
‫إن‬ ‫وصحة ولكنه فضيلة روحية أي ً‬
‫َّ‬ ‫الجانب بل فيه ثنائية ‪ ،‬فهو نظافة‬
‫وج ُد إال في اإلسالم ‪،‬‬
‫ويحب المتطهرين ) ‪ ،‬وعبارة ( النظافة من اإليمان ) ال تُ َ‬
‫ُّ‬ ‫يحب التوابين‬
‫اهلل ُّ‬
‫فالبدن ونظافته في جميع األديان األخرى المعروفة‪ M‬خارج االعتبار ‪ ..‬وصالة التراويح المصاحبة‬
‫ضا ممكن فقط في اإلسالم ‪.‬‬ ‫ف طبِّ ٌي ‪ ..‬وهو أي ً‬
‫الصحي ولها َه َد ٌ‬
‫ّ‬ ‫للصيام في رمضان لها أثرها‬
‫جميعا على حقائق فلكية ُم َعَّينَة‪ .. M‬فالصالة‬
‫إن مواقيت الصالة مثل مواقيت الصيام والحج تعتم ُد ً‬ ‫َّ‬
‫تشتمل على عناصر روحية وعناصر مادية وطبيعية على ٍّ‬
‫حد سواء ‪ ..‬وكان التطور‬ ‫ُ‬ ‫اإلسالمية‬
‫السريع ِلعلْم الفلك في قرون اإلسالم األولى وثيق الصلة بحاجة المسلمين إلى التحديد الدقيق‬
‫للمكان والزمان ‪ ،‬ولدينا أسباب عديدة لالعتقاد بأن هذا التطور كان َه َدفًا من أهداف اإلسالم ‪.‬‬
‫ت الجانب الدنيوي أو العلمي أو الطبيعي ) ُي َز َّكى بقوة صفة‬ ‫هذا الجانب من الصالة ( َس ِّمه إ ْن ِش ْئ َ‬
‫ضا مناسبة للعالقات الشخصية المباشرة ‪،‬‬ ‫أخرى هي الصفة االجتماعية في جماعة ‪ ،‬ولكنها أي ً‬
‫وبهذا االعتبار تكون الصالة ضد السلبية والفردية واالنعزال ‪ ،‬فإذا كانت الحياة ُت َف ِّر ُق الناس َّ‬
‫فإن‬
‫زجهم ‪ .‬إنها مدرسة يومية للتآلف والمساواة والوحدة ومشاعر الو ّد ‪.‬‬ ‫المسجد يُ َج ِّمعُهم ويَ ْم ُ‬
‫خصوصا ) صالة الجمعة ‪ ..‬فهي تكان تكون‬
‫ً‬ ‫ج هذا االتجاه االجتماعي في الصالة ‪( ..‬‬
‫ويَت َّو ُ‬
‫ُ‬
‫‪35‬‬

‫حضره بعض‬
‫صالة حضرية سياسية ‪ ،‬تقام في اإلجازة األسبوعية ‪ ،‬في مسجد مركزي جامع يَ ُ‬
‫رجال الدولة ‪ ..‬وخطبة الجمعة َق ْب َل الصالة جزءٌ ال َيتَ َج َّزأُ من الصالة ‪ ،‬وهي بصفة رئيسية رسالة‬
‫إن هذا يتعارض مع مفهوم الصالة ‪ ،‬وهو استنتاج َيت َِّف ُق مع‬
‫سياسية ‪ ..‬وقد يقول المسيحيون ‪َّ :‬‬
‫الطريقة المسيحية في التفكير ‪ ،‬ولكنه استنتاج غير ُمَب ِّر ٍر من وجهة نَظَ ِر اإلسالم ‪.‬‬
‫الزكاة ‪:‬‬
‫المجرد إلى اإلسالم ظاهر بوضوح في مسألة الزكاة ‪ ،‬ففي المرحلة ِّ‬
‫المكيَّة‬ ‫َّ‬ ‫التحول من الدين‬ ‫ُّ‬
‫س مجتمع‬ ‫َس َ‬
‫كانت الزكاة تُ ْمنَ ُح للفقراء على سبيل التطوع ( صدقات تطوعية ) ‪ ..‬ولكن عندما تَأ َّ‬
‫تحولت فيها الجماعة الروحية إلى دولة – بَ َدأَ محمد @‬
‫المدينة – وهي اللحظة التاريخية التي َّ‬
‫التزاما قانونيًا ( فريضة شرعية ) ‪ ،‬أي ضريبة يدفعها األغنياء للفقراء ‪..‬‬
‫يعامل الزكاة باعتبارها ً‬
‫ُ‬
‫وهي – على قَ ْد ِر علمنا – أول ضريبة من نوعها في التاريخ ‪ ،‬كأن اإلسالم قد أنشأ الزكاة عندما‬
‫أضاف اإللزام القانوني إلى المؤسسة المسيحية للصدقة‪. M‬‬
‫ض الزكاة استجابة لظاهرة ليست في ِّ‬
‫حد ذاتها واحدية الجانب ‪ .‬فالفقر‪ M‬ليس قضية‬ ‫لقد جاء َف ْر ُ‬
‫الشر الذي تنطوي عليه النفوس البشرية ‪،‬‬
‫ضا في ِّ‬
‫اجتماعية بَ ْحتَةٌ ‪ ،‬فليس َسبَبُه العوز فقط وإنما أي ً‬
‫فالحرمان هو الجانب الخارجي للفقر وأما جانبه الداخلي فهو الجشع ( أو اإلثم ) وإال فكيف‬
‫نُ َف ِّس ُر وجود الفقر في مجتمعات ثَ ِريَّة ؟ إننا في النصف الثاني من القرن العشرين وال يزال ثُلَ ُ‬
‫ث‬
‫ص في‬ ‫ص ُم ْز ِمن في التغذية ‪ ،‬فهل يرجع هذا إلى َن ْق ٍ‬
‫ص في الغذاء أم إلى َن ْق ٍ‬ ‫البشرية يعاني من نٌ ْق ٍ‬
‫حل اجتماعي‬ ‫فكل ٍّ‬‫ض َّم َن االعتراف بالذنب ‪ُّ ..‬‬ ‫حل لمشكلة الفقر ينبغي أن َيتَ َ‬‫إن أي ّ‬ ‫الشعور ! ؟ ‪َّ ،‬‬
‫ض َّم َن حالًّ إنسانيًّا ‪ ،‬بمعنى أنه ال ينبغي االكتفاء بتغيير العالقات االقتصادية ‪ ،‬بل أي ً‬
‫ضا‬ ‫َّ‬
‫البد أن َيتَ َ‬
‫وم‬
‫يجب إحداث التوزيع العادل ‪ ،‬وكذلك التنشئة الصحيحة للناس التي َت ُق ُ‬ ‫العالقات اإلنسانية ‪ُ ،‬‬
‫الحب والتعاطف ‪.‬‬‫ِّ‬ ‫على‬
‫الزكاة مرآة للناس ‪ ..‬إنها تقضي على الفقر بين المحتاجين وتقضي على الال مباالة بين األغنياء ‪،‬‬
‫إنها ُت َقلِّ ُل من التفاوت الماد ّ‬
‫ِّي بين الناس و ُت َق ِّربهم بعضهم من بعض ‪.‬‬
‫إن غاية اإلسالم ليس هي القضاء على األغنياء وإنما القضاء على الفقر ‪ ..‬واالعتبارات القانونية‬ ‫َّ‬
‫المتصلة بالزكاة مقصورة على ‪ :‬كم ُت ْعطَي مما تملك لمن ؟ ‪ ،‬إال أن مؤسسة الزكاة َت ْعتَبَِ ُر َّ‬
‫أن مبدأ‬
‫ِّل‬ ‫التضامن في ِّ‬
‫حد ذاته هو األهم من مجرد النسب المستحقة واألرقام ‪ ،‬فطب ًقا لهذا المبدأ يُ َمث ُ‬
‫شك أنه إذا‬ ‫التزام أغنياء المجتمع بكفالة فقرائه األهمية الحاسمة في القضية ‪ ..‬وال يساورنا أدنى ٍّ‬
‫ف النظر عن‬ ‫قام نظام إسالمي صحيح فإن سيناضل من أجل تحقيق الهدف من هذا المبدأ بصر ِ‬
‫ْ‬
‫‪36‬‬

‫سيتم توفيرها بالقوة‬


‫حق للفقراء فإنه ُّ‬‫مستوى الدَّخل أو إحصائيات السكان ‪ ..‬وحيث أن الزكاة ٌّ‬
‫إذا لَ ِز َم األمر ‪.‬‬
‫موضعا‬
‫ً‬ ‫و ْف ًقا لبعض المصادر ذُكِ َر اإللزام بالعطاء ) الصدقة ) والتوصية بها في اثنين وثمانين‬
‫بالقرآن ‪ ،‬ونتيجة إلصرار التعاليم اإلسالمية على العطاء والصدقة‪َ M‬ج َرت ثورة هادئة في‬
‫المجتمعات المسلمة تبلورت في مؤسسة ( األوقاف ) ‪ ،‬والوقف من حيث انتشاره وأهميته ال‬
‫يوجد له مثيل في البالد غير اإلسالمية ‪ ،‬فال تكاد توجد دولة إسالمية واحدة ليس فيها ممتلكات‬
‫صصة لألوقاف وخدمة‪ M‬الخير العام ‪ ..‬لم يذكر الوقف في القرآن ولكنَّه لم يظهر في‬
‫كبيرة ُم َخ َّ‬
‫المجتمعات اإلسالمية بمحض الصدفة ‪ ،‬إنما كان ظهوره نتيجة لسيادة روح التضامن ولتأثير‬
‫أن غايات‬‫وظيفة‪ M‬الزكاة التعليمي في المجتمعات المسلمة ‪ ،‬هذه التجربة اإلنسانية تُوفِّر األمل في َّ‬
‫ف‪.‬‬‫اجتماعية ُم َعيَّنة يُ ْم ِكن تحقي ُقها بدون عُ ْن ٍ‬
‫ُ‬
‫مستمرة ‪ ،‬وقد روى عبد اهلل‬
‫َّ‬ ‫تأكد في القرآن توحيد فريضتي الصالة والزكاة ( واقترانهما ) بصفة‬ ‫َّ‬
‫بن مسعود عن رسول اهلل @ أنه قال ما معناه ‪ (( :‬لقد أ ُِم ْرتم بإقامة الصالة وإيتاء الزكاة فمن ال‬
‫ص ِل األعمال عن‬‫ُي َؤدِّي الزكاة ال صالة له )) ‪ ..‬وال يوجد تفسير لذلك إال أنها دعوة ضد فَ ْ‬
‫ص ِل اإلنسان عن الدنيا ‪ ،‬وهي دعوة إسالمية في صميم جوهرها ‪ ..‬وقد استخدم أبو‬ ‫اإليمان أو فَ ْ‬
‫بكر – الخليفة األول – المنطق نفسه عندما َق َّر َ‪M‬ر استخدام القوة ضد مانعي الزكاة ‪ ..‬وذُكِ َر أنه‬
‫قال في هذا الموقف ‪ (( :‬واهلل ألقاتلَ َّن َم ْن َف َّر َق بين الصالة والزكاة )) ‪.‬‬
‫إن المعادلة القرآنية المألوفة التي تَ ْج َم ُع بين الصالة والزكاة ليست إال صيغة ُم َعيَّنة من معادلة‬ ‫َّ‬
‫آمن ‪ ..‬وافعل الخير ) ( قُ ْل آمنت ثم‬ ‫أخرى ( ثنائية القطب ) أكثر تكرارا وأكثر عمومية وهي ( ِ‬
‫ً‬
‫استقم ) ‪ ..‬والتي يُ ْم ِكن اعتبارها األساس الجوهري لألوامر الدينية واألخالقية واالجتماعية في‬
‫القرآن ‪ .‬هذه المعادلة تُ َحدِّد العمودين اللذين ال بديل لهما واللذين َي ُقوم عليهما اإلسالم كلّه‬
‫‪..‬ولعل من المناسب النظر إلى هذه المعادلة باعتبارها أول صيغة لإلسالم فأرفعها ‪ ،‬فاإلسالم‬ ‫َّ‬
‫بكامله يقع تحت صيغة ( الوحدة ثنائية القطب ) ‪.‬‬
‫بهذا األسلوب التحليلي المبدع يتناول (( عزت بيجوفيتش )) النطق بالشهادتين والصوم والحج‬
‫إن‬ ‫ِ‬
‫انطباق هذا المبدأ في أمور أخرى كثيرة قد ال تَ ْخطُر على ِ‬
‫بال أحد فيقول ‪َّ :‬‬ ‫ليكشف لنا عن‬
‫َ‬
‫الثنائية التي يتميز بها اإلسالم واضحة في أمور أخرى كثيرة ‪ ،‬انظر إلى هذه اآلية من القرآن ‪{ :‬‬
‫ام َع َش َر ِة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال ُي َؤاخ ُذ ُك ُم اللَّهُ بِاللَّ ْغ ِو في أَيْ َمان ُك ْم َولَك ْن ُي َؤاخ ُذ ُك ْم بِ َما َع َّق ْدتُ ُم اأْل َيْ َما َن فَ َك َّف َارتُهُ إِط َْع ُ‬
‫ام ثَالثَِة أَيَّ ٍام‬ ‫مساكِين ِمن أَوس ِط ما تُط ِْعمو َن أ َْهلِي ُكم أَو كِسو ُت ُهم أَو تَ ْح ِرير ر َقب ٍ‪M‬ة فَمن ل ِ ِ‬
‫َم يَج ْد فَصيَ ُ‬ ‫ُ َ َ َْ ْ‬ ‫ْ ْ َْ ْ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ََ َ ْ َْ َ‬
‫‪37‬‬

‫‪ [ } ...‬المائدة ‪ ] 89 :‬وهكذا ( في هذا الموقف ) ترى األعمال االجتماعية المفيدة في العالم‬


‫يستحيل‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫كبديل عندما‬ ‫الخارجي لها أولوية على األعمال الروحية الخالصة ‪ ،‬فاألخيرة تُطَبَّ ُق فقط‬
‫أداء األولى ‪.‬‬
‫يُ َك ِّرس العهد القديم فكرة األذى باألذى ‪ ،‬ويُ َك ِّرس العهد الجديد العفو ‪ ،‬فانظر إلى القرآن كيف‬
‫ُي َر ِّكب ُج ْزئيًّا من هاتين الذرتين ‪ { :‬وجزاء سيئة مثلها ‪ ،‬فمن عفى وأصلح فأجره على اهلل ‪ ،‬إنه ال‬
‫مباشرا وآليا في بعض األحيان ‪ ،‬ففي سياق ِذ ْك ِر التوراة‬ ‫يحب الظالمين } ‪ ..‬ويكاد التركيب يبدو ً‬
‫ف‬‫ف بِاأْل َنْ ِ‬‫س َوال َْع ْي َن بِال َْع ْي ِن َواأْل َنْ َ‬ ‫س بِ َّ‬
‫الن ْف ِ‬ ‫تَ ِر ُد في القرآن هذه اآلية ‪َ { :‬و َكتَْبنَا َعلَْي ِه ْم فِ َيها أ َّ‬
‫الن ْف َ‬
‫َن َّ‬
‫َم يَ ْح ُك ْم بِ َما‬ ‫ِ‬ ‫الس ِّن والْجر ِ‬ ‫َواأْل ُذُ َن بِاأْل ُذُ ِن َو ِّ‬
‫ص َّد َق بِه َف ُه َو َك َّف َارةٌ لَهُ َو َم ْن ل ْ‬‫اص فَ َم ْن تَ َ‬
‫ص ٌ‬ ‫وح ق َ‬ ‫الس َّن بِ ِّ َ ُ ُ َ‬
‫ِ‬
‫اإلنسان‬ ‫إن اإلسالم ليس ِدينًا يُ َح ِّر ُم على‬ ‫ك ُه ُم الظَّالِ ُمو َن } [ المائدة ‪َّ ، ] 45 :‬‬ ‫أَْن َز َل اللَّهُ فَأُولَئِ َ‬
‫تماما فقد َج َع َل ترابها‬
‫ْعن األرض بل على العكس ً‬ ‫سرف في التحريم ‪ ،‬إنه ال َيل ُ‬
‫فاكهةَ األرض وال يُ ُ‬
‫استخدامه فيما‬ ‫بديل يُ ْم ِك ُن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫األرض ٌ‬ ‫فتراب‬
‫ُ‬ ‫والوضوء‬ ‫للطهارة‬ ‫الماء‬
‫طهورا ‪ :‬فإذا لم يجد اإلنسان َ‬ ‫ً‬
‫التيم ِم ( وضوء بغير ماء ) ليس لها معنى سوى ذلك ‪.‬‬
‫يم ِم ) ‪ ،‬والرمزية في ُّ‬
‫ف ( بالتّ ُّ‬
‫ُي َع َر ُ‬
‫بعض المسلمات اإلسالمية دينية من حيث عنوانها أو صيغتها أو أصلها فقط ولكنها إسالمية‬
‫بق هذا على األمر بالنظافة وتحريم الخمر ‪ ،‬واألوامر المشابهة‬
‫وي ْنطَ ُ‬
‫بأحسن معنى لهذه الكلمة ‪َ ..‬‬
‫الماديَّة أو‬
‫البرانية ) ِّ‬
‫تنبع من العناية بالحياة ( ّ‬
‫ليست من الدين المجرد لسبب بسيط أنها ُ‬
‫االجتماعية وتكتسب معناها الكامل في إطارها الحضاري ‪ ..‬فالمدن الكبرى المزدحمة اليوم ال‬
‫يُ ْم ِك ُن الحفاظ على الحياة فيها بدون قَ ْد ٍر من النظافة الشخصية والعامة‪ ، M‬أما إدمان الخمر فقد‬
‫ص ِر التكنولوجية والحياة المدنية المعاصرة ‪...‬‬
‫أثبت أنه أكبر مشكلة في َع ْ‬
‫والسنَّة النبوية ‪،‬‬
‫ضا على مصادر‪ M‬اإلسالم ‪ ،‬فلإلسالم مصدران أساسيان هما القرآن ُّ‬ ‫تنطبق الثنائية أي ً‬
‫وتشير‬ ‫ِّالن َم ًعا اإللهام والخبرة ‪ ،‬الخلود والزمن ‪ ،‬التفكير والممارسة ‪ ،‬الفكرة والحياة ‪..‬‬ ‫يم ث ِ‬
‫ُ‬ ‫َُ‬
‫يتعس ُر َف ْه ُ‪M‬م القرآن َف ْه ًما‬
‫السنَّة النبوية أي بدون حياة النبي @ َّ‬
‫التفاسير القرآنية إلى أنه بدون ُّ‬
‫نفسه كفلسفة عملية أو‬ ‫اإلسالم َ‬
‫ُ‬ ‫صحيحا ‪ ،‬إنه فقط من خالل َف ْه ِمنا لحياة الرسول @ َي ْع ِر ُ‬
‫ض‬ ‫ً‬
‫ُخطَّة شاملة للحياة كلها ‪ (( ،‬كان ُخلُ ُقه القرآن )) و (( كان قرآنًا يمشي على األرض )) ‪..‬‬
‫ت حياته ) ‪.‬‬ ‫ص َف ْ‬ ‫ف الرسول وو ِ‬
‫ص َ‬‫( هكذا و ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫نظل في إطار الثنائية ‪ :‬فاإلجماع‬
‫فإذا أضفنا إلى تحليلنا لهذين المصدرين فكرة ( اإلجماع ) فإننا ُّ‬
‫والرازي اتفاق أغلب علماء الفقه ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الطبري‬
‫ّ‬ ‫الشافعي يعني اتفاق جميع اآلراء وعند‬
‫ّ‬ ‫عند اإلمام‬
‫‪38‬‬

‫معا ‪،‬‬
‫ولم يكن اإلسالم ليكون ما هو عليه لو أنه لم يجمع في ثنائية بين مبدأ الصفوة ومبدأ العدد ً‬
‫ففي اإلجماع توج ُد الصفوة النوعية ( االرستقراطية الفكرية ) ويوجد الجانب العددي‬
‫( الديمقراطية ) ‪..‬‬
‫وأخيرا نجد َّ‬
‫أن أعظم شخصية في اإلسالم هي شخصية المجاهد الشهيد في سبيل هلل ‪ ..‬فهو‬ ‫ً‬
‫راهب وجدي في شخص واحد ‪ ،‬فما انقسم في المسيحية إلى مبدأ للرهبانية ومبدأ للفرسان‬
‫اتحد في اإلسالم في شخصية الشهيد ( رهبان بالليل وفرسان بالنهار ) ‪ ..‬إنها وحدة الروح والدم‬
‫وهما مبدأن َي ْنتَ ِميَان إلى عالمين مختلفين ‪.‬‬
‫يتضم ُن موقِ ًفا علميًّا جوهريًّا ( يتجلَّى ) في‬
‫ال يحتوي القرآن على حقائق علمية جاهزة ‪ ،‬ولكنَّه َّ‬
‫يشير القرآن إلى حقائق كثيرة في‬ ‫اهتمامه بالعالم الخارجي وهو أمر غير مألوف في األديان ‪ُ .‬‬
‫الطبيعة ويدعو اإلنسان لالستجابة إليها ‪.‬‬
‫ِّر باسم اهلل ‪ { :‬إقرأ‬
‫صد َ‬ ‫األمر بالعلم وبالقراءة متعا ِر ً‬
‫ضا مع فكرة األلوهية ‪ ،‬بل إنه قد ُ‬ ‫وال يبدو هنا ُ‬
‫ت‬
‫وي ْف َهم طبيعةً َخلَ َق ْ‬
‫باسم ربك الذي خلق } ‪ ...‬بمقتضى هذا األمر ال يالحظ اإلنسان ويبحث َ‬
‫وي ْف َه ُم الكون الذي أَبْ َد َعه اهلل ‪ ،‬ولذلك فإن المالحظة‬
‫ظ َ‬‫الماديُّون ) وإنما يالح ُ‬
‫نفسها ( كما يزعم ِّ‬
‫َ‬
‫وحب االستطالع‬ ‫ف أو خالية من الشوق وإنما هي مزيج من العلم ِّ‬ ‫( المطلوبة ) ليست بال ه َد ٍ‬
‫َ‬
‫واإلعجاب الديني ‪ ،‬وكثير من أوصاف الطبيعة في القرآن على درجة عالية من الشاعرية ‪..‬‬
‫يورد (( عزت بيجوفيتش )) في هذا الصدد اثنتي عشرة آية كدليل على هذه الحقيقة نذكر منها‬
‫ُ‬
‫هذه اآلية ‪:‬‬
‫ْح ِّي َذلِ ُك ُم اللَّهُ فَأَنَّى‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب والنَّوى ي ْخرِج ال ِ‬ ‫ِ‬
‫ِج ال َْميِّت م َن ال َ‬ ‫ْح َّي م َن ال َْميِّت َو ُم ْخر ُ‬ ‫ْح ِّ َ َ ُ ُ َ‬ ‫{ )إِ َّن اللَّهَ فَال ُق ال َ‬
‫ك َت ْق ِد ُير ال َْع ِزي ِز ال َْعلِ ِيم َو ُه َو‬ ‫س َوالْ َق َم َر ُح ْسبَاناً َذلِ َ‬‫الش ْم َ‬ ‫اح َو َج َع َل اللَّْي َل َس َكناً َو َّ‬ ‫صبَ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُت ْؤفَ ُكو َن فَال ُق اإْلِ ْ‬
‫يات لَِق ْوٍم َي ْعلَ ُمو َن َو ُه َو‬ ‫صلْنَا اآْل ِ‬ ‫ات الَْب ِّر َوالْبَ ْح ِر قَ ْد فَ َّ‬ ‫الَّ ِذي جعل لَ ُكم النُّجوم لَِت ْهتَ ُدوا بِ َها فِي ظُلُم ِ‬
‫َ‬ ‫ََ َ ُ ُ َ‬
‫)و ُه َو الَّ ِذي‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫الَّ ِذي أَنْ َشأَ ُك ْم ِم ْن َن ْف ٍ‬
‫صلْنَا اآْل يات ل َق ْوم َي ْف َق ُهو َن َ‬ ‫س َواح َدة فَ ُم ْسَت َق ٌّر َو ُم ْسَت ْو َدعٌ‪ M‬قَ ْد فَ َّ‬
‫ِج ِم ْنهُ َحبّاً ُمَت َراكِباً َو ِم َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫اء فَأَ ْخ َر ْجنَا بِ ِه َنبَ َ‬ ‫أَْنز َل ِمن َّ ِ‬
‫ات ُك ِّل َش ْيء فَأَ ْخ َر ْجنَا م ْنهُ َخضراً نُ ْخر ُ‬ ‫الس َماء َم ً‬ ‫َ َ‬
‫الر َّما َن ُم ْشتَبِهاً َوغَْي َر ُمتَ َشابِ ٍه انْظُُروا‬ ‫الز ْيتُو َن َو ُّ‬
‫اب َو َّ‬ ‫َّات ِم ْن أَ ْعنَ ٍ‬‫النَّ ْخ ِل ِمن طَل ِْع َها قِ ْنوا ٌن َدانِيةٌ وجن ٍ‬
‫َ ََ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫يات لَِق ْوم ُي ْؤ ِمنُو َن } [ األنعام ‪. ] 99 – 95 :‬‬ ‫ٍ‬ ‫إِلَى ثَم ِر ِه إِذَا أَثْمر وي ْن ِع ِه إِ َّن فِي ذَلِ ُكم آَل ٍ‬
‫ْ‬ ‫ََ ََ‬ ‫َ‬
‫يقول (( عزت بيجوفيتش )) ‪:‬‬
‫(( في هذه اآليات التي اتجهت بِ ُكلِّيَّتِها إلى الطبيعة نج ُد تقبُّالً كامالً للعالم ‪ ،‬وال أثر فيها ألي‬
‫نوع من الصراع مع الطبيعة ‪ ،‬فاإلسالم يبرز ما في المادة من جمال ونُبل كما هو الحال بالنسبة‬
‫‪39‬‬

‫مستودعا للخطيئة ‪،‬‬


‫ً‬ ‫للجسم في موقف الصالة ‪ ،‬فالعالم ليس مملكة للشيطان ‪ ،‬وليس الجسم‬
‫مغموسا بألوان هذا العالم ‪،‬‬
‫ً‬ ‫ص َّو َره القرآن‬
‫حتى عالم اآلخرة ‪ ،‬وهو غاية آمال اإلنسان وأعظمها ‪َ ،‬‬
‫ِّي‬
‫ويرى المسيحيون في هذا حسيّةً تتنافي مع عقيدتهم ‪ ،‬ولكن اإلسالم ال يرى العالم الماد ّ‬
‫مستغربًا في إطاره الروحي ‪.‬‬
‫الفضول الفكري و ُت ْع ِطي قوة دافعة للعقل المكتشف ‪ { :‬وجعلنا من‬ ‫َ‬ ‫وبعض آيات القرآن تُوقِ ُ‬
‫ظ‬
‫اب و َزرعٌ ونَ ِخيل ِ‬
‫ٍ‬ ‫ات وجن ٌ ِ‬ ‫الماء كل شيء حي } ‪ { ،‬وفِي اأْل َر ِ ِ‬
‫صْن َوا ٌن‬ ‫َّات م ْن أَ ْعنَ َ ْ َ ٌ‬ ‫ض قطَ ٌع ُمتَ َجا ِو َر ٌ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ض فِي اأْل ُ ُك ِل } [ الرعد ‪. ] 4 :‬‬‫ض َها‪َ M‬علَى َب ْع ٍ‬
‫ِّل َب ْع َ‬ ‫ِ ٍ ٍِ‬ ‫ِ ٍ‬
‫َوغَْي ُر ص ْن َوان يُ ْس َقى ب َماء َواحد َونُ َفض ُ‬
‫ستف ُّز الفكر فهي تطرح مشكلة تَ ْك ُم ُن في أعماق علوم الكيمياء ‪.‬‬ ‫واآلية األخيرة على األخص تَ ِ‬
‫ضعوا النهاية للجدل الذي دار حول قضايا جوهرية استحوذت‬ ‫والنتيجة أن المسلمين هم الذين َو َ‬
‫تحوالً من الفلسفة الصوفية إلى العلم‬
‫على المسيحية عندما اتجهوا إلى الكيمياء ‪ ،‬وكان هذا ُّ‬
‫العقالني ‪.‬‬
‫مشترك وهو الدعوة إلى المالحظة وهي‬ ‫ٌ‬ ‫ص ٌر‬
‫اقتباسها من القرآن َع ْن ُ‬
‫ُ‬ ‫وفي جميع اآليات التي َسبَ َق‬
‫الطبيعي ‪.‬‬ ‫اعلِيَّة بدأت بواسطتها قدرة اإلنسان على العالم‬‫فَ ِ‬
‫ّ‬
‫أن هذه القوة ال تَ ْك ُم ُن في أسلحتها واقتصادها‪ M‬فهذا هو‬ ‫ولقد أثبت البحث في أساس القوة الغربية َّ‬
‫المظهر الخارجي لألشياء فقط ‪ ،‬وإنما يَ ْك ُم ُن في المالحظة والمنهج التجريبي في التفكير الذي‬
‫ورثته الحضارة الغربية من ( بيكون ) الذي استمدَّه بدوره من المسلمين في األندلس ) ‪.‬‬
‫يد األساتذة المسلمين األندلسيين ‪.‬‬ ‫كان (( روجر بيكون )) يجيد اللغة العربية وقد َتَتلْم َذ على ِ‬
‫َ‬
‫تطبيق اإلسالم في الممارسة العملية انطالقًا من مستوى بدائي ‪ ،‬فالصالة ال يُ ْم ِك ُن‬ ‫ُ‬ ‫من المستحيل‬
‫صحيحا إال بضبط الوقت واالتجاه في المكان ‪ ،‬فالمسلمون ( مع انتشارهم على‬ ‫ً‬ ‫أداء‬
‫أدا ُؤها ً‬
‫اعهم في‬ ‫أوض َ‬
‫جميعا في الصالة نحو الكعبة ُم َكيِّفين َ‬ ‫يتوجهوا ً‬ ‫سطح الكرة األرضية ) عليهم أن َّ‬
‫حقائق ِعل ِْم الفلك َّ‬
‫والبد من‬ ‫ُ‬ ‫المكان على اختالف مواقعهم ‪ ،‬وتحديد مواقيت الصالة تَ ْح ُك ُمه‬
‫تحديد هذه المواقيت تحدي ًدا دقي ًقا خالل أيام السنة كلها ‪ ،‬ويقتضي هذا تحديد موقع األرض في‬
‫مدارها الفلكي حول الشمس ‪.‬‬
‫وتحتاج الزكاة إلى إحصاء ( المستحقين ) ودليل ( استحقاقهم الشرعي ) وحساب مقادير الزكاة‬
‫الحج بالسفر وضرورة اإللمام بكثير من ( المعلومات‪ ) M‬والحقائق التي يتطلبها المسافر‬
‫‪ .‬ويتَّصل ُّ‬
‫ص َرفْنا النظر عن أي شيء آخر في‬
‫ض ْعنا األمر في أبسط صوره ‪ ،‬وإذا َ‬
‫إلى مسافات‪ M‬بعيدة ‪ .‬فإذا َو َ‬
‫اإلسالم لوجدنا أن المجتمع المسلم بدون أن يمارس أي شيء سوى األعمدة الخمسة لإلسالم ‪،‬‬
‫‪40‬‬

‫أن اإلنسان ال يستطيع أن يكو َن ُم ْسلِ ًما‬


‫يجب عليه أن يبلغ حدًّا أدنى من الحضارة ‪ ،‬ومعنى هذا َّ‬
‫ويبقى ُمتَ َخلِّ ًفا ‪.‬‬
‫شك ‪ ،‬وتأتي الحجة على هذا من تاريخ العلوم اإلسالمية نفسها ‪،‬‬ ‫مقصودا بال ٍّ‬
‫ً‬ ‫كان هذا االتجاه‬
‫تطور جميع الميادين العلمية في القرن األول اإلسالمي قد بدأت بمحاوالت تأدية‬ ‫أن َ‬ ‫فهي ُتَبيِّ ُن لنا َّ‬
‫الدقَّة ‪.‬‬
‫الفرائض اإلسالمية بأكبر قَ ْد ٍر من ِّ‬
‫التقدُّم العلمي ‪:‬‬
‫قدرا من المعارف الهامة‬ ‫ِ‬
‫مزدهرا ‪ ،‬وقد َج َم َع ً‬
‫ً‬ ‫ْم التنجيم‬
‫َو َج َد المسلمون في وادي نهر الفرات عل َ‬
‫عن الظواهر الفلكية َع ْب َر ثالثة آالف سنة ‪ ،‬ولكن ألن االعتقاد بارتباط مصير اإلنسان بالنجوم‬
‫( وهو ميدان ِعل ِْم التنجيم ) كان غريبًا ( مجافيًا ) لإلسالم ‪ ،‬فإن التوحيد اإلسالمي والعقالنية‬
‫ت لهذا الغرض مدرسة بغداد لعلوم‬ ‫اإلسالمية استطاعا تحويل ِعل ِْم التنجيم إلى ِعل ِْم َفلَ ٍ‬
‫ك وقد أُنْ ِشئَ ْ‬
‫ت باسم مرصدها الشهير ‪.‬‬
‫وس ِّميَ ْ‬ ‫ِ‬
‫ال َفلَك ُ‬
‫أخص خصائص مدرسة بغداد لعلم‬
‫ويتحدَّث ( العالم سيديلوت ) عن ذلك فيقول ‪ (( :‬كان من ِّ‬
‫الفلك منذ نشأتها روحها العلمية ‪ :‬أال تنتقل من المعلوم إلى المجهول وأال َت ْقبَ َل شيئًا كأمر ثابت‬
‫التحقق منه عن طريق ( المالحظة ) ‪ .‬وقد‪ M‬اقترب تقويم الفلكي المسلم ( ال َخيَّام ) من‬ ‫يتم ُّ‬
‫ما لم ّ‬
‫الدقَّة التي يتميز بها التقويم الجريجوري الذي تستخدمه أوروبا حتى اليوم ‪.‬‬
‫ِّ‬
‫وتختص بدراسة حركات‬ ‫ُّ‬ ‫ب إلى مؤلِّفها (( إبراهيم الزركلي ))‬
‫أما قوائم ( توليدو ) التي ُت ْن َس ُ‬
‫الكواكب فقد ظلَّت لفترة طويلة من الزمن أساس ِعل ِْم الفلك في أوربا ‪ .‬وأَ ْعلَ َن (( البيروني )) أن‬
‫تدور حول محورها أمام الشمس وليست الشمس هي التي تدور حول األرض كما كان‬
‫األرض ُ‬
‫باجه )) إلى أن مدارات الكواكب بيضوية وليست دائرية ‪.‬‬ ‫شائعا قبله ‪ ،‬وذهب (( ابن ّ‬
‫ً‬
‫هذا االهتمام ُّ‬
‫الفذ ِ‬
‫بعلم الفلك وبالعلوم الطبيعية خالل القرن األول لإلسالم كان نتيجة مباشرة‬
‫الدين نحو الطبيعة وبدأت بذلك مرحلة عظيمة في تطور العلوم ‪ ،‬وكان‬ ‫تحو َل ُ‬
‫لتأثير القرآن ‪ ،‬فقد َّ‬
‫ت في التاريخ ‪.‬‬ ‫هذا من أعظم اإلنجازات التي َّ‬
‫تحق َق ْ‬
‫إن احتضان الدين للعلم اتجاه إسالمي يُ ْم ِك ُن أن ُي َرى في أحسن صوره في التحام المسجد‬‫َّ‬
‫بالمدرسة ‪ ،‬ويرجع أول قرار لبناء المدارس ُق ْرب‪ M‬المساجد إلى الخليفة (( عمر بن الخطاب ))‬
‫تكرر األمر بذلك في َع ْه ِد (( هارون الرشيد )) ‪ ..‬ولم تنفصل المدارس عن‬ ‫رضي اهلل عنه وقد َّ‬
‫المساجد إال بعد ذلك بعهد طويل ‪ ،‬وذلك عندما أُنْ ِشئَت المدرسة ( النظامية ) في بغداد ‪ ،‬ومع‬
‫استمرت البرامج الدراسية قائمة على أساس ( الوحدة ثنائية القطب ) ‪...‬‬
‫َّ‬ ‫ذلك فقد‬
‫‪41‬‬

‫ف إال في إطار الثقافة اإلسالمية ‪ ،‬وهي ما‬ ‫وقد َنتَ َج عن التحام المسجد والمدرسة ظاهرة ال ُت ْع َر ُ‬
‫معا ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫مع بين وظيفتي المسجد والمدرسة ً‬ ‫يُ ْمك ُن أن يُطْلَ َق عليه ( المسجدرسة ) وهو بناء فريد يَ ْج ُ‬
‫وال يوجد له تسمية موازية في اللغات األوربية ‪ ،‬ويوجد دليل تاريخي على أن المسجد األول‬
‫الص ًّفة ) ‪.‬‬
‫س الوقت وكان يُ َس َّمى مسجد ( ُّ‬ ‫الذي َبنَاه النبي @ بنفسه كان مدرسة في َن ْف ِ‬
‫الم َسلَّمة اإلسالمية لوحدة الدين والعلم التي‬
‫ني لتلك ُ‬ ‫الت َق ّ‬
‫ِّي أو ِّ‬
‫هذا البناء المتميز هو المعادل الماد ّ‬
‫بَ َدأَ بها نزول القرآن نفسه ‪ { :‬اقرأ باسم ربك الذي خلق ‪} ..‬‬
‫َّم ْتها‪ M‬هذه المدارس ‪ ،‬وكانت المدرسة‬ ‫نفسه في جميع البرامج التي قَد َ‬ ‫وقد انعكس المفهوم ُ‬
‫نموذجا للمدرسة اإلسالمية في كل مكان ‪ .‬ورأى األوربيون أن‬
‫ً‬ ‫النظامية في بغداد لزمن طويل‬
‫هذه المدرسة تعتبر مدرسة دينية عُلْيا ‪ ،‬ولكن الحقيقة َّ‬
‫أن برامج هذه المدرسة – إلى جانب‬
‫اشتمالها على علوم الدين من تفسير وحديث وأخالق وعقائد – كانت ُت ْعنَى على المستوى ذاته‬
‫بالقانون ( الفقه ) والفلسفة واآلداب والرياضيات والفلك والطب كجزء ال َيتَ َج َّزأُ من برامجها ‪،‬‬
‫شيوعا‬
‫نموذجا يُ ْحتَ َذى لكثير من المدارس المماثلة ‪ ،‬وأصبحت أكثر األنماط ً‬
‫ً‬ ‫وكانت ( النظامية )‬
‫في جميع المدن اإلسالمية الكبرى ‪.‬‬
‫ولذلك ال يُ ْم ِك ُن تصنيف المدارس في العالم اإلسالمي و ْف ًقا للمعايير األوربية ‪ ،‬التي ُت َق ِّس ُم‬
‫أمرا طبيعيًا ؛ ألنها‬ ‫جميعا ً‬
‫المدارس إلى مدنية ودينية ‪ ،‬فهذا النوع من المدارس اعتبرها المسلمون ً‬
‫وظل الموقف سائ ًدا إلى الوقت الحاضر ‪ ،‬وحيثما ُو ِج َد‬ ‫انبثقت مباشرة من الروح اإلسالمية َّ‬
‫اختالف فمرجعه إلى التأثير األجنبي ‪.‬‬
‫األصلي للمدرسة يتوازى مع المفهوم اإلسالمي األساسي الذي ُي َو ِّح ُد بين الدين والعلم ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الوضع‬
‫ِ‬
‫دائما كجامع وجامعة‪، M‬‬ ‫فأزهر القاهرة هو أكبر وأقدم مدرسة ( أُنْشئ عام ‪ 972‬م ) ويشار إليه ً‬
‫ولم يقتصر التعليم في األزهر على علوم الدين فقط إال في أحلك فترات التدهور ‪..‬‬
‫منحه واقعيةً خاصة في َف ْه ِمه لإلنسان ‪َ :‬فَت َقبُّ ُل الطبيعة‬
‫توجهَ اإلسالم نحو العالم الخارجي يَ ُ‬ ‫َّ‬
‫إن ُّ‬
‫ضت‪ M‬جميع األديان األخرى هذا العالم‬ ‫ضا َت َقبُّ َل الطبيعة اإلنسانية ‪ ..‬لقد َرفَ َ‬
‫ض َّم ُن أي ً‬
‫بصفة عامة َيتَ َ‬
‫بما في ذلك ِج ْس ُم اإلنسان ‪ .‬فاإلسالم هو تحقيق المستحيل في نَظََر المسيحية أال وهو االعتراف‬
‫بعض اآليات القرآنية غريبة في نَظَ ِر الدين المجرد ‪ ،‬على سبيل المثال تلك‬ ‫بواقعية العالم ‪ .‬وتبدو ُ‬
‫والحب الجنسي والكدح والصحة ‪ ..‬وهكذا تبلورت أكبر‬ ‫ّ‬ ‫اآليات المتعلِّقة بَِت َقبُّ ِل المتعة البدنية‬
‫ت بظهور ( دين‬ ‫حقيقة حاسمة في تاريخ األديان ‪ ،‬وفي تاريخ العقل اإلنساني بصفة عامة تَ َمَّي َز ْ‬
‫‪42‬‬

‫العالمين ) عالم الدنيا وعالم اآلخر ) ‪ ( ..‬عالم المادة وعالم الروح ) ‪..‬بمعنى آخر ظهور‬
‫بكل جوانبها ‪.‬‬ ‫المنظومة التي تَ ْحتَ ِ‬
‫ض ُن الحياةَ اإلنسانية ِّ‬
‫ض الدين من أجل العلم ‪ ،‬أو يتخلَّى عن الكدح في‬ ‫وتَ َح َّق َق اإلنسان أنه ليس في حاجة إلى أن َي ْرفُ َ‬
‫سبيل حياة أفضل من أجل الدين ‪.‬‬
‫في الوقت الذي ُي َؤ ِّكد فيه اإلسالم على عظمة اإلنسان وكرامته يبدي واقعية شديدة ‪ ..‬فاإلسالم‬
‫يتعسف بتنمية خصال ال جذور لها في طبيعة اإلنسان ‪ ..‬إنه ال يحاول أن يجعل ِمنّا مالئكة ؛‬ ‫ال َّ‬
‫ألن هذا مستحيل بل يميل إلى َج ْع ِل اإلنسان إنسانًا ‪ ..‬في اإلسالم قَ ْد ٌر من الزهد ولكنه لم يحاول‬
‫بهذا الزهد أن يُ َد ِّم َر الحياة أو الصحة أو الفكر أو حب االجتماع باآلخرين أو الرغبة في السعادة‬
‫والمتعة ‪ ..‬هذا القدر من الزهد أريد به توازنًا في غرائزنا ‪ ،‬أو توفير نوع من التوازن بين الجسم‬
‫والروح ‪ ..‬بين الدوافع الحيوانية والدوافع األخالقية ‪ .‬وهكذا – من خالل الوضوء والصالة‬
‫والصيام وصالة الجماعة والنشاط والمالحظة والكدح والتوسط – يواصل اإلسالم عمل الفطرة‬
‫في تشكيل اإلنسان ‪.‬‬
‫ب سوء َف ْه ِ‪M‬م العقل الغربي لهذا الدين ‪ ..‬وهو سوء‬ ‫إن هذا الموقف اإلسالمي بالذات هو الذي َسبَّ َ‬
‫مستمرا إلى اليوم !! ‪..‬‬ ‫ًّ‬ ‫َف ْه ِ‪M‬م ال يزال‬
‫رين دعواهم بمقتبسات من آيات القرآن‬ ‫لقد َهاجم بعض النقاد اإلسالم لِ ِح ََِّّ‪ِ M‬‬
‫سته المزعومة ُم َع ِّز َ‬ ‫َ ِّ‬ ‫ََ‬
‫يدافع‬
‫ُ‬ ‫وأمثلة من سيرة حياة محمد @ ‪ ،‬ونحن نقول بصراحة وبال مواربة ‪ (( :‬نعم ‪َّ ..‬‬
‫إن اإلسالم‬
‫س الزهد فيها ‪ ..‬وأنه يدافع عن الثراء ضد الفقر ‪ ،‬وعلى قدرة‬
‫عن الحياة الطبيعية وال يُ َك ِّر ُ‬
‫اإلنسان في تسخير الطبيعة ‪ ،‬ليس فقط على هذا لكوكب األرضي فقط ولكن في الكون كله ما‬
‫صحيحا َّ‬
‫البد أن ننظر إلى أفكارنا ‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أمكن له ذلك ‪ ..‬ولكن لكي َن ْف َه َم موقف اإلسالم َف ْه ًما‬
‫( الطبيعة والثروة والسياسة والعلم والقوة والمعرفة والسعادة ) بطريقة مختلفة عما اعتاد عليه‬
‫الناس في الحضارة الغربية ‪...‬‬
‫الحياة في اإلسالم يَ ْح ُك ُمها عامالن متكامالن ‪ :‬أحدهما الرغبة الطبيعية في السعادة والقوة والثاني‬
‫النظري فقط‬
‫ّ‬ ‫الكمال األخالقي ‪ ..‬هذان العامالن يتعارضان ويطرد أحدهما اآلخر في إطار المنطق‬
‫ولكنهما يتآزران بطرق عديدة في حياتنا وأمام أعيننا )) ‪.‬‬
‫تتهم األناجيل الغرائز وتتحدَّث عن الروح فقط َّأما القرآن فإنه يستعي ُد الغرائز ؛ ألنها حقيقة واقعة‪M‬‬
‫ٍ‬
‫ولحكمة ما أ ََم َر اهلل المالئكة‬ ‫وإن لم يكن فيها ُس ُم ّو ‪ ..‬يتناول القرآن الغرائز ُمَت َف ِّه ًما‪ M‬ال ُمتَّ ِه ًما ‪..‬‬
‫ض َّم ُن هذا السجود َت َف ُّو َق ما هو إنساني على ما هو مالئكي ؟ ‪ ..‬ليس‬
‫بالسجود لإلنسان ‪ ..‬أال َيتَ َ‬
‫‪43‬‬

‫الناس كائنات نبيلة حلوة الشمائل ‪ ،‬إنما هم فحسب ُم َهيَّئُون لفعل الخير ‪َّ ..‬‬
‫إن لهم أبدانًا وفيهم‬
‫غلظة وتتجاذبهم الرغبات والمغريات من أقطارهم ‪ ..‬وتحت تأثير رغبة شاذَّة أن نجعل من الناس‬
‫كائنات معصومة من الخطأ ُمَب َّرأة من اإلثم – تَ َح َّق ْقنا فجأة أننا – بدالً من ذلك – حصلنا على‬
‫شخصيات زائفة حساسة شاحبة ‪ ..‬كائنات غير قادرة على فِ ْع ِل ٍّ‬
‫شر وال خير ‪.‬‬
‫قضية اإلسالم هي قضية اتساق اإلنسان مع نفسه اتسا ُق ُمثله العليا مع رغباته المادية واالجتماعية‬
‫والفكرية ‪ ،‬ذلك ألن الصراع في هذا المجال الحيوي مصدر أساسي لألمراض النفسية العصابية ‪،‬‬
‫يضاف إلى المصدر اآلخر أال وهو الصراع بين اإلنسان وبيئته ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫والتشوه النفسي الذي أصاب اإلنسان الغربي ُي ْعتََب ُر جزئيًّا نتيجة للصراع‬ ‫ّ‬ ‫إن االضطرابات العصابية‬ ‫َّ‬
‫المثُ ِل العليا للمسيحية وبين المنظومات السياسية للمجتمع التي تطورت منفصلة‪ M‬عن‬ ‫الداخلي بين ُ‬
‫المثُل العليا ‪ ،‬بحيث أصبحت الكنيسة َت ْر َعى الروح بينما َتَت َولَّى الدولة الت َ‬
‫َّح ُّك َم في األجسام‬ ‫هذه ُ‬
‫لقيصر وما هلل هلل )) ‪ ..‬لقد ُس ِم َح لإلنسان الغربي أن‬ ‫َ‬ ‫لقيصر‬
‫َ‬ ‫الم َسلَّمة القائلة ‪ (( :‬أَ ْع ِط ما‬
‫َوفْ َق ُ‬
‫يكون مسيحيًا في حياته الخاصة وأن يكون ( مكيًا فيليًّا ) في معامالته‪ M‬العامة وأعماله ‪ ،‬والذين ال‬
‫يتحملوا هذا الصراع يقعون فريسة لالضطرابات العصابية ‪.‬‬ ‫يستطيعون أن َّ‬
‫التعرف على العالم اإلسالمي على انطباع بأنه يوجد‬‫يح لهم ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫من ناحية أخرى يكاد يُ ْجم ُع الذين أُت َ‬
‫اتساق بين اإلنسان وبين مجتمعه ‪ ،‬وباندماج الفرد في النسيج االجتماعي ‪ ،‬وليس هذا االلْتِ َحام‬
‫عضوي ‪ ..‬هذه حقيقة قائمة رغم انتشار الفقر‬
‫ّ‬ ‫سياسا أو قانونيًّا وإنما الْتِ َحام ُج ّواني‬
‫صناعيًّا أو ًّ‬
‫والتخلُّف في هذه البالد ‪.‬‬
‫ب إليه ( رلف والْدو إمرسون ) حديثًا بهذا المعنى ‪ ( :‬أنا‬ ‫التطرف ‪ ..‬وقد نَ َس َ‬
‫ض النبي @ ُّ‬ ‫لقد َرفَ َ‬
‫مخاصما لكثير من األضداد‬ ‫أن النبي @ كان‬ ‫شك َّ‬ ‫ٍ‬
‫وعالم كاف ٍر )) ‪ ..‬وال َّ‬ ‫تقي ٍ‬
‫جاهل‬
‫ً‬ ‫خصم ّ‬‫ُ‬
‫ِ‬
‫المتطرفة ‪ :‬المؤمنون الضعفاء‪ .. M‬والحكام الذين ال يؤمنون باهلل ‪ ..‬والنفس النقية في بَ َد ٍن قَذ ٍر ‪..‬‬
‫ِ‬
‫خصما للعدالة التي ال تساندها قوة ‪ ..‬كما‬ ‫والنفس الفاسدة في ج ْس ٍم ُم َه ْن َدم ‪ ..‬كان محمد @ ً‬
‫خصما للقوة الباغية ‪.‬‬
‫كان ً‬
‫الغنَى ‪ ..‬وكان‬ ‫ص ُّر على الفضيلة مع ِ‬‫الغنَى والوفرة ولكنه كان ي ِ‬‫لم يكن محمد @ ليعترض على ِ‬
‫ُ‬
‫بالتأكيد ضد الفضيلة العريانة العاجزة التي ليس لها من يَ ْح ِميها ‪ ..‬وقد َس َّوى الرسول @ الجهاد‬
‫من أجل حياة أفضل ‪ ..‬الجهاد ضد الطغيان والجهل والمرض والفقر والقذارة – بالفضيلة‬
‫األخالقية ‪.‬‬
‫‪44‬‬

‫ونساء –‬
‫ً‬ ‫صلُّون ويصومون ‪ ..‬إنهم أناس عاديون – رجاالً‬
‫ليس المسلمون قديسين حتى عندما يُ َ‬
‫ومتَ ِع الحياة ومع ذلك َف ُهم‪ M‬إنسانيون إلى النخاع ‪ ..‬يشاركون في الحياة الواقعية‬ ‫بالحب ُ‬
‫ّ‬ ‫لمون‬
‫يَ ْح ُ‬
‫أنفسهم ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫دائما ‪ ،‬إنهم ال يعتزلون في الكهوف بعي ًدا عن المجتمع وال ُي ْهملُون َ‬ ‫ويعودون إليها ً‬
‫ضون التمتُّع بالطيبات التي َر َزقَهم اهلل‬ ‫إنهم ال يَ ْستَ ْسلِ ُمون ليكونوا َ‬
‫تحت رحمة أعدائهم ‪ ..‬وال َي ْرفُ ُ‬
‫يستمتع بهذا النوع من الحرية ‪،‬‬
‫ُ‬ ‫إن المسلمين ال َي ْعتَبِ ُرو َن الحرية الجوانية كافية ُّ‬
‫فكل مؤمن‬ ‫بها ‪َّ ..‬‬
‫الماديَّة وال يرضون بأن يكونوا عبي ًدا ألحد ‪...‬‬ ‫ولكنهم يحرصون على الحرية ِّ‬
‫ف بما في طبيعة اإلنسان من‬ ‫الحل األمثل لإلنسانية ألنه َي ْعت ِر ُ‬
‫من هنا جاءت أهمية اإلسالم باعتباره َّ‬
‫ب جانبًا من طبيعة اإلنسان على حساب جانبه آلخر من شأنه أن‬ ‫حل مختلف ُيغَلِّ ُ‬ ‫وأي ٍّ‬
‫ثنائية ‪ّ ،‬‬
‫يعوق انطالق ال ُق َوى اإلنسانية ( الكامنة ) أو ُي َؤدِّي إلى صراع داخلي ‪َّ ..‬‬
‫إن اإلنسان بطبيعته‬
‫الثنائية أكبر حجة لإلسالم ‪.‬‬
‫اإلسالم والحياة ‪:‬‬
‫ليست الثنائية فلسفة‪ M‬سامية وإنما هي نوع من الحياة اإلنسانية السامية ‪ :‬فالشعر ( مثالً ) من حيث‬
‫أن كبار الشعراء قد جمعوا في ِش ْعرهم بين العقل والمشاعر ‪ ..‬بين العلم‬‫المبدأ مسألة قلبية إال َّ‬
‫ص الفرد ال المجتمع إال َّ‬
‫أن هناك قصائد ساعدت في تشكيل األمم‬ ‫والجمال ‪ ..‬ولو َّ‬
‫أن الشعر يَ ُخ ُّ‬
‫وفي القضاء على العبودية ‪.‬‬
‫المتَ َمِّي َز‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كذلك األمر بالنسبة للرياضيات فهي وإن كانت َت ْنتَمي إلى العقل إال أن َعال َم الرياضيات ُ‬
‫ضا بمعنى من‬ ‫ضا ‪ ،‬وكان العلماء الكبار في الطبيعة والفلك صوفيين أي ً‬ ‫شاعرا أي ً‬ ‫َّ‬
‫البد أن يكون ً‬
‫المعاني ‪.‬‬
‫حافزا أخالقيًّا قويًّا‬ ‫ِ‬
‫ضا فالعقاب‪ M‬وإن كان إجراء قَ ْمعيًّا إال أنه ً‬
‫وينطوي العقاب على فكرة الثنائية أي ً‬
‫‪ ..‬فإذا قام العقاب على العدل كانت له قيمة تعليمية بالنسبة للمذنب ولغيره من الناس ‪..‬‬
‫وف اهلل هو بدايةٌ لِ ُحبَّه ‪.‬‬
‫فالخوف الذي يتولَّد من فكرة العقاب هو بداية لألخالق مثلما أن َخ َ‬
‫وتعكس الثنائية نفسها في الرياضة البدنية فهي وإن كانت مجرد نشاط بدني إال أن لها قيمة‬
‫ُ‬
‫تجتمع كلها‬
‫ُ‬ ‫تعليمية كبيرة ‪ ..‬فال غرابة أن الجسم والنفس ‪ ..‬القلب والعقل ‪ ..‬والعلم والدين‬
‫ِّل قِ َّمةَ الحياة ‪ ..‬أما العقل العريان أو اإللهام المجرد َف ُهما من عالمات التدهور‬
‫عند نقطة واحد تُ َمث ُ‬
‫‪.‬‬
‫وفي الوحدة ثنائية القطب يخدم المبدأ العلماني المبدأ الروحي ‪ :‬فنظافة‪ M‬البدن تساعد على تطهير‬
‫أس َمى أنواع التأمل الروحي ‪..‬‬
‫النفس وتصبح الصالة ْ‬
‫‪45‬‬

‫والبد أن يكون الجسم قويًّا ليقدر على إطاعة العقل فالخادم الجيد َّ‬
‫البد أن يكون قويًّا ‪ ..‬وتفسح‬ ‫َّ‬
‫التجاوزات الطريق أمام األهواء التي تضعف أجسامنا في النهاية ‪ ..‬وعلى عكس ذلك ُي َؤدِّي‬
‫تعذيب البدن باالمتناع عن الطعام إلى النتيجة ذاتها ولكن لسبب مضاد‪ .. M‬وكلما كان الجسم‬
‫ضعي ًفا كان سلطانه على العقل أقوى وكلما كان قويًّا كان أكثر طاعة ‪ ..‬فجميع األهواء الحسية‬
‫مختزنة في الجسم الضعيف وكلما قَ ِّل إشباعها كلما أوقعت‪ M‬بنا اآلالم ‪.‬‬
‫والقوة – من حيث المبدأ – ال صالة لها باألخالق ولكن في الحياة الواقعية ال توجد عدالة‬
‫معا ‪ ..‬لقد انبثقت‬
‫قوة ُت َع ِّز ُزها ‪ ،‬فالعدالة وحدة تَ ْج َم ُع بين مفهومي‪ M‬اإلنصاف والقوة ً‬
‫حقيقية بدون َّ‬
‫أفكار المساواة والحرية واإلخاء من الدين ‪ ،‬ولكن من حيث الواقع كان تحقيق هذه المبادئ‬
‫عجز الدين عن تحقيق بعض مبادئه العظيمة‬
‫بواسطة الثورة ‪ ..‬أعني بالسياسة والعنف ‪ ..‬وكان ُ‬
‫تبرير العنف‬
‫سببًا في التهوين من مصداقيته أمام المستضعفين والمقهورين ‪ ،‬وعلى العكس ْأم َك َن ُ‬
‫والسياسة ألنهما ْأو َج َدا الوسائل المطلوبة لتحقيق األفكار العظيمة التي دعا إليها الدين وبَ ْش َر بها‬
‫ولكنه َع َج َز عن ترجمتها إلى واقع ‪.‬‬
‫العمل اإلنساني ‪:‬‬
‫للعمل اإلنساني جانبان ‪ :‬األول هو النشاط نفسه وهو إنساني ال نفعي ‪ ،‬والثاني هو النتيجة‬
‫المترتبة على هذا النشاط أو الناتج الذي تُ َح ِّف ُز إليه المنفعة ‪ ،‬والدين َم ْعنِي بالجانب األول أما‬
‫الحضارة فَ َم ْعنِيَّة بالجانب الثاني ‪ ..‬ال ُت َف ِّكر الحضارة ( اشتراكية أو رأسمالية ) إال في النتائج ‪..‬‬
‫وهي تحاول أن َتتَ َجنَّب العمل بقد ِر ما تستطيع ‪ ،‬وذلك من خالل تأجير قوة العمل سواء كانوا‬
‫من العبيد في الزمن السالف أو اآلالت في الزمن الالحق ‪.‬‬
‫أن العمل كنشاط نافع له جانبان ‪ :‬جانبه األخالقي وجانبه االقتصادس‪.. M‬‬ ‫و ( بتحليل ) العمل رأينا َّ‬
‫الشر والهوى كما أنه دفاع ضد الفقر ‪ ،‬والعمل بهذه الصفة الثنائية ظاهرة إسالمية‬
‫فهو دفاع ضد ِّ‬
‫‪.‬‬
‫كل من الحياتين الطبيعية‬ ‫ويُ ْم ِك ُن مالحظة التوازي بين النافع واألخالقي بوضوح في ظاهرة ُّ‬
‫تهم ّ‬
‫واالجتماعية لإلنسان ‪ ..‬إنها ظاهرة َم ْن ِع أو تحديد الزواج من األقارب خالل تاريخ تطور األسرة‬
‫موقف العلم واألخالق متفقان اتفاقًا كامالً ‪.‬‬
‫َ‬ ‫اإلنسانية ‪ ،‬في هذه الناحية نج ُد أن‬
‫تحريم زواج األقارب األ ْدنين في كل بقاع العالم وفي جميع األزمنة ‪ ،‬وهذا َمثَ ُل َح ًّي‬
‫ُ‬ ‫لقد ُو ِج َد‬
‫لما يُ ْم ِك ُن أن نُ َس ِّميَه باإلسالم ( الفطري ) وكأن الحياة نفسها قد اهتدت إلى طريقها اإلسالمي ‪.‬‬
‫‪46‬‬

‫ني على‬
‫ني على أسباب أخالقية بمقدار ما هو َم ْب ّ‬
‫تحريم زواج األقارب األ ْدنين َم ْب ّ‬
‫َ‬ ‫لقد ُو ِج َد أن‬
‫يخص اإلنسان وحده وإنما‬
‫ُّ‬ ‫أسباب بيولوجية صحية ‪ ..‬فقد أثبتت التجارب أنه قانون طبيعي ال‬
‫ينطبق على الحيوان والنبات كذلك ‪ ..‬ويالحظ َّ‬
‫أن تحريم زواج األقارب قديم جدًّا ‪ ،‬وقد اعتبر‬ ‫ُ‬
‫ِّل‬
‫زواج ( المحارم ) خطأ أخالقيًّا ‪ ..‬وهذا َمثَ ٌل كامل على التوافق بين األخالق والعلم وهو يُ َمث ُ‬
‫جوهر ما نُ َس ِّميه بالمقترب اإلسالمي ‪.‬‬
‫ينتقل (( عزت بيجوفيتش )) إلى مجال الطب ليثبت ما فيه من ثنائية ‪ ،‬فلم يكن الطب – في‬
‫علما بحتًا ‪ ،‬ولكن َج َم َع إلى جانب العلم الحكمة واألخالق والنظام‬
‫الماضي أو الحاضر – ً‬
‫ف لها أسباب عضوية ُم َحدَّدة وإنما‬
‫الروحي في وقت واحد ‪ ..‬وقد اكتشفت حديثًا أمراض لم ُي ْع َر ْ‬
‫لها عالقة باالضطرابات النفسية ومن ثَ َّم نَ َشأَ فرعٌ حديث في الطب اختص بدراسة التأثير المتبادل‬
‫بين الجسم والنفس وهو علم الطب (( السيكوسوماتي )) النفسجسدي ‪ ..‬هذا العلم َي ْعتَبِ ُر‬
‫والسكري والشقيقة وأنواع الصداع األخرى واآلالم الروماتزمية‬ ‫الشعبي والبدانة ّ‬
‫ّ‬ ‫القروح والربو‬
‫‪ ..‬كل هذه األمراض في أساسها ذات أصل نفسي ‪ ..‬ولهذا السبب ال يُ ْم ِك ُن اختزال العالج‬
‫الصحيح إلى مجرد عالج ( طبيعيكيميائي ) فقط أو مجرد جراحة ‪ ..‬ويختلف العالج من شخص‬
‫يصح أن‬
‫إلى شخص آخر رغم أن المرض واحد ‪ ..‬ولذلك قد تكون هناك أجزاء من الحقيقة ال ُّ‬
‫نستبع َدها في القصص القديمة عن الشفاء بالصالة والقرابين والصيام ‪َّ ..‬‬
‫إن مستشفيات باريس‬
‫الطب شأنه في ذلك شأن أي شيء‬ ‫فإن َّ‬ ‫تستخدم الموسيقى في العالج ‪ ..‬وال عجب َّ‬ ‫ُ‬ ‫حتى اليوم‬
‫نى باإلنسان مباشرة – عليه أن يُ َح ِّق َق التكامل بين العلم والدين ‪.‬‬
‫آخر َم ْع ً‬
‫ي‬ ‫يذهب إلى َّ‬
‫أن العامل الما ّد ّ‬ ‫ُ‬ ‫ي للتاريخ الذي‬
‫يرفض (( عزت بيجوفيتش )) التفسير الما ّد ّ‬
‫وي َرى أنه ال يُ ْم ِك ُن إغفال دور التأثير الخالق‬
‫الم َؤ ِّث ُر الوحيد في التطور التاريخي َ‬
‫الموضوعي هو ُ‬
‫ّ‬
‫والمثَل العليا ‪ .‬فالوضع‬
‫الو ْعي اإلنساني ُمتَ َمثِّالً في الشخصيات القويَّة واألفكار الكبرى ُ‬ ‫لعامل َ‬
‫التاريخي في أي لحظة من الزمن هو نتيجة التفاعل بين هذين العاملين المستقلين ‪ ..‬يقول ‪:‬‬
‫إن التأثير اإلنساني على َم ْجرى التاريخ يتوقَّف على قوة اإلرادة َ‬
‫والو ْعي ‪ ،‬وكلما َعظُ َمت القوة‬ ‫(( َّ‬
‫الروحية للمشارك في األحداث التاريخية كلما َعظُ َم استقالله عن القوانين الخارجية والعكس‬
‫حر حرية كاملة وليس للقوانين الخارجية سلطان عليه ‪ ،‬فقد‬
‫صحيح ‪ .‬فمن حيث المبدأ اإلنسان ٌّ‬
‫تَ َم َّك َن اإلنسان بقوة إرادته أن ُي َقا ِو َم األمراض والمخاطر ‪.‬‬
‫ك ‪ ،‬ولكن هذا القانون ( البديهي ) الواضح ال‬ ‫نفسه بين األسود قد َي ْهلَ ُ‬ ‫َّ‬
‫إن اإلنسا َن إذا َو َج َد َ‬
‫ِ‬
‫بالحسم‬ ‫ب األسود ‪ .‬والتاريخ قصة متصلة من مجموعات صغيرة من أناس تَ َمَّي ُزوا‬ ‫ينطبق على ُم َد ِّر ِ‬
‫‪47‬‬

‫طابعا ال يُ ْم َحى في مجرى األحداث التاريخية وتَ َم َّكنُوا من تغيي ِر‬


‫والشجاعة والذكاء ‪ ..‬تركوا ً‬
‫مسار التاريخ ‪.‬‬
‫قوة الظروف الموضوعية تتزايد بالنسبة ذاتها التي يتناقص فيها العامل الفردي ‪ ،‬فكلما أصبح‬ ‫َّ‬
‫إن َّ‬
‫نملك القدرة‬ ‫هذا خامالً غير َف َّعال‪ M‬كلما نَقص قَ ْدره في اإلنسانية وزاد نَ ِ‬
‫صيبُه من الشيئية – إننا ُ‬ ‫َ ُ‬
‫على الطبيعة وعلى التاريخ إذا كانت لنا القدرة على أنفسنا ‪ ..‬وهذا هو موقف اإلسالم من التاريخ‬
‫‪ { :‬إن اهلل ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ‪.‬‬
‫ِّد‬
‫هذه النظرية اإلسالمية الجوهرية لألحداث التاريخية تستطيع أن ُت َف ِّس َر لنا سير التاريخ وأن تُ َحد َ‬
‫ِّد قدرتهم على هذه األحداث ‪ ،‬وحدود‪ M‬هذه القدرة ن أي‬ ‫نصيب الناس في ( أحداثه ) ‪ ،‬وأن تُحد ُ‬
‫موضوعا لألحداث‬
‫ً‬ ‫في إمكانها التمييز بين ما يستطيع اإلنسان عملَه وما ينبغي عملُه باعتباره‬
‫للمثَل العليا في الواقع التاريخي وتغيير هذا‬
‫التاريخية ‪ ..‬هذه النظرة ُت َف ِّس ّر لنا التأثير الخالق ُ‬
‫الواقع خالل إرادة اإلنسان وطاقته‪ ، M‬ومن ناحية أخرى ُت َف ِّس ُر لنا دور العوامل الموضوعية أو‬
‫ض الحتمية التاريخية كما‬ ‫ضرورة االعتماد على الحقائق الموضوعية ‪ .‬هذه النظرة اإلسالمية َت ْرفُ ُ‬
‫إن الحقائق واألفكار ‪ ،‬ومن ثَ َّم الواقع‬ ‫أي مثالية جوفاء ال جذور لها في الواقع ‪َّ ..‬‬
‫ض ّ‬‫َت ْرفُ ُ‬
‫كل منهما حدوده في هذا المفهوم ‪.‬‬
‫واإلنسان ‪ ،‬يأخذ ّ‬
‫الطبيعة اإلسالمية للقانون ‪:‬‬
‫صالً كامالً عن القانون تحت هذا العنوان ‪ ،‬وهو من أبدع وأمتع‬
‫عقد (( عزت بيجوفيتش )) فَ ْ‬
‫ٍ‬
‫موجزة له ‪،‬‬ ‫ألن هدفنا في هذا المختصر هو تبسيط الكتاب وتقديم ٍ‬
‫صيغة‬ ‫فصول الكتاب ‪ ،‬ولكن َّ‬
‫َّع به من َز َخ ِم فلسفي فكري‬ ‫ِ‬
‫وألن أي تبسيط أو اختصار لهذا الفصل بالذات ُي ْفق ُده ما يتمت ُ‬
‫ويحجب تحليالته البديعة وقوة منطقة لذلك سأكتفي باقتباس عبارات منه ذات داللة ‪.‬‬
‫وأبدأ بتحرير نقطة هامة تتعلَّ ُق بثنائية القانون التي ُ‬
‫تنبع من مبدأ الثنائية اإلسالمية ‪ ..‬حيث يرى‬
‫(( عزت بيجوفيتش )) َّ‬
‫أن قوانين أني مجتمع هي تلك القوانين التي – بجانب التهديد بالعقاب –‬
‫ضا ‪ ..‬وكل قانون منظومة قانونية هي كذلك أو على األقل تتظاهر بأن‬
‫تلزم ضمير المواطن أي ً‬
‫تكون كذلك ‪ ..‬فهناك ثنائية أصيلة في القانون ‪ :‬إرادة واضع القانون ‪ ،‬والعدالة التي جاء هذا‬
‫ت هذه الثنائية‬ ‫ليحق َقها ‪ ،‬هذه الثنائية ال فِ َكاك منها وال يُ ْم ِك ُن االستغناء عنها ‪ ..‬فإذا تَ َحطَّ َم ْ‬
‫القانون ِّ‬
‫وينحصر في مصلحة السلطة السياسية فقط ‪ ،‬وإما أن‬ ‫َ‬ ‫يتالشي القانون ‪ ..‬فهو إما أن يتقلَّ َ‬
‫ص‬
‫ُيتَ َس َامي إلى مجرد فكرة أو دعوة أخالقية ‪ ،‬وفي كلتا الحالتين يتوقَّف القانون عن أن يكون قانونًا‬
‫‪.‬‬
‫‪48‬‬

‫يقوم على واحد من المبدأين فحسب ‪ :‬فال المسيحية وحدها‬ ‫ِ‬ ‫معنى هذا َّ‬
‫أن القانون ال يُ ْمك ُن أن َ‬
‫الماديَّة وحدها يُ ْم ِك ُن أن ُت ْنتِ َج منظومة قانونية ‪ ..‬فالقانون كما يراه المسيحيون محاولة وهمية‬‫وال ِّ‬
‫لتنظيم العالم محاولة مصيرها الفشل في النهاية ‪ ،‬لقد جاء عيسى ( عليه السالم ) لِيُبَ ِّش َر بالمحبة‬
‫يأت من أجل العدالة التي َق َّر َرها‪ M‬التوراة ‪.‬‬‫ولم ِ‬
‫وجه نحو هذا العالم ولكنه في الوقت نفسه‬ ‫إن القانون موضوعي مغموس في السياسة والمجتمع ُم َّ‬ ‫َّ‬
‫ينطوي على معايير أخالقية ويهدف إلى إقامة مبدأ العدل في العالم وهو مبدأ أخالقي بهذا المعنى‬
‫يكون القانون وحدة ثنائية القطب ‪ ،‬فالقانون بحكم طبيعته إسالمي ‪.‬‬
‫في جميع الدول ( المستبدة ) نواجه القوة الباطشة التي تحتكرها السلطات على حساب الهيئات‬
‫المنتخبة ويحتكرها البوليس على حساب المحاكم والنظام القضائي ‪ ..‬هذا النوع من الدول من‬
‫أكبر سماته أنه يحاول أن يجعل من المحاكم أدوات طََّي َعة في قبضة السلطات اإلدارية ‪..‬‬
‫نوعا من ( وحدة الهويّة ) بين القانون والدين ‪ ،‬و َن َرى غالبية رجال الفكر الديني‬ ‫في اإلسالم نجد ً‬
‫الكبار في اإلسالم قد أَلَُّفوا ُكتبًا في الفقه وبين الدين في هذه المؤلَّفات ‪ ،‬كما أن اإلسالم ال‬
‫يعترف بهذا االنفصال ‪ ،‬بمعنى أن القانون إنما هو نتاج طبيعي لإلسالم ‪.‬‬
‫العرب ( المسلمين ) هم األمة‬ ‫َ‬ ‫يقتبس (( عزت بيجوفيتش )) من (( الفريد كريمر )) قوله ‪ (( :‬إن‬
‫الوحيدة خالل القرون الوسطى األولى التي استطاعت – في تطويرها للقانون – أن تُ َح ِّق َق‬
‫إنجازات باهرة ‪ ..‬هذه اإلنجازات تقف بعظمتها مباشرة مع األعمال التي َح َّق َقها الرومان ُ‬
‫صنَّاع‬
‫القانون في العالم )) ‪.‬‬
‫ت بالقانون باعتبارها الجهة ِّ‬
‫المنفذة‬ ‫في الدول الشيوعية أصابت المحاكم ( اللعنة ) التي ل ِ‬
‫َح َق ْ‬
‫وكل حكومة من هذا الطراز تحاول أن َّ‬
‫تحط من قدر‬ ‫للقانون ‪ ..‬حيث نظرت إليها بازدراء ‪ُّ ..‬‬
‫نجاحا كامالً فإنها عادة ما‬
‫القانون والمحاكم ‪ ..‬ولكن ألن الحكومات لم تنجح في محاولتها ً‬
‫تتجاهل المحاكم وتتجاوزها باستخدام المحاكمات المباشرة بواسطة البوليس والسلطات‬
‫التنفيذية ومراكز االعتقال أي بوسائل أخرى بعي ًدا عن المحاكم ( التقليدية الطبيعية ) ‪.‬‬
‫إن الشيء الثابت الذي ال يتغير في هذا الوضع هو عدم احترام الدولة لقوانينها وتجاوز هذه‬ ‫َّ‬
‫القوانين بإصدار عدد من اإلجراءات االستثنائية ‪ [ ..‬يأتي في هذا السياق قوانين الطوارئ‬
‫والمحاكم العسكرية ] ‪.‬‬
‫‪49‬‬

‫يتعرض الفرد إلجراءات‬


‫ظل نظام ( حماية المجتمع ) ‪َّ ..‬‬
‫التقصير في حقوق اإلنسان الفرد في ِّ‬
‫ب َجنَاه ‪ ،‬ويُ ْم ِك ُن لتدابير حماية المجتمع أن تتخذ أشكاالً بالغة القسوة في حالتي‬
‫سفية دون ذَنْ ٍ‬
‫َت َع ُّ‬
‫المنع أو الوقاية من أخطار محتملة ‪..‬‬
‫ولقد استخدمت ( إجراءات ) من هذا النوع في بعض البالد ضد المعارضة السياسية ‪..‬‬
‫األفكار والواقع ‪:‬‬
‫هامة‬
‫هذا هو عنوان الفصل العاشر من الكتاب يتناول فيه (( عزت بيجوفيتش )) حقيقةً إنسانية َّ‬
‫ث‬
‫وهي أن األيديولجيات المتطرفة تضطر عند التطبيق إلى تنازالت تخالف مبادئها األصلية ‪َ ..‬ح َد َ‬
‫هذا في الماركسية وفي المسيحية عندما حاولتا بناء مجتمعات على أساس من مبادئهما ‪ ..‬فكان‬
‫الماديَّة وتعترف بشيء من األخالق وحقوق اإلنسان ‪،‬‬ ‫على الماركسية أن تتخلَّى عن َ‬
‫ص َرامتها ِّ‬
‫مقصورا على رجال الدين‬ ‫ُّب الزواج )‬ ‫وكان على المسيحية أن تتخلَّى فكرتها عن ِ‬
‫الع َّقة ( أو تُ َجن ِ‬
‫ً‬
‫فقط ‪ ،‬واعترفت بالعمل بدالً من الزهد في الدنيا واالنقطاع عنها ‪.‬‬
‫الطريق الثالث خارج اإلسالم ‪:‬‬
‫هو عنوان الفصل الحادي عشر ‪ ..‬يقول فيه (( عزت بيجوفيتش )) ‪ .. (( :‬ستظل أروبا تُ ِّ‬
‫فك ُر في‬
‫وسيظل دين أوربا وإلحادها‬
‫ُّ‬ ‫إطار االختبارات المسيحية ‪ :‬إما مملكة الرب وإما مملكة األرض ‪..‬‬
‫سادرين في طبيعتهما المتطرفة )) ‪.‬‬
‫متحرر من التأثيرات‬
‫ولكن يوجد جزء من العالم الغربي – بسبب موقعه الجغرافي وتاريخه – ّ‬
‫متحرر من العُ َقد المستعصية لهذا العصر ‪ ..‬هذا الجزء من‬
‫المباشرة المسيحية القرون الوسطى ‪ِّ ،‬‬
‫العالم الغربي كان دائم البحث عن طريق ثالث وقد اهتدى إليه وهو طريق يحمل في ثناياه مالمح‬
‫ضا العالم األنجلوسكسوني‬ ‫الطريق ( اإلسالمي ) ‪ ،‬والدولة التي أعنيها هي إنجلترا وإلى ٍّ‬
‫حد ما أي ً‬
‫بصفة عامة ‪.‬‬
‫( ولذلك ) يعتبر ظهور إنجلترا والروح األنجلوسكسونية في تاريخ الغرب أشبه بظهور اإلسالم‬
‫ولعل هذا هو ما عناه ( شبنجلر ) في مقارنته بين النبي محمد @ وبين‬
‫في تاريخ الشرق ‪َّ ،‬‬
‫(( كرومويل )) ‪ ..‬لقد رأى (( شبنجلر )) الشخصيتين في إطار نظرته لتاريخ العالم كأنهما‬
‫شخصيتان معاصرتان ‪:‬‬
‫التوحيد بين الكنيسة اإلنجليزية والدولة وكذا ظهور اإلنجليز كقوة عالمية ‪ ،‬كل ذلك بدأ‬
‫(( بكرومويل )) ‪ ،‬وكذلك بدأت بمحمد @ وحدة الدين والدولة وظهور القوة العالمية لإلسالم‬
‫ومؤس ًسا إلمبراطورية كبرى ‪ ..‬ويبدو أن هذا أمر طبيعي جدًّا‬
‫ِّ‬ ‫متطه ًرا‬
‫‪ ،‬وكان كالهما مؤمنًا ِّ‬
‫‪50‬‬

‫بالنسبة للعقل اإلسالمي والعقل األنجلوسكسوني ‪ ،‬ولكنه شديد الغرابة عند العقل األوربي ‪ .‬لقد‬
‫َحطَّ َم القديس (( لويس )) الدولة الفرانكوفونية ‪ ،‬أما في العالم اإلسالم – فعلى عكس ذلك لم‬
‫يحدث تقدُّم سياسي أو اجتماعي إال بصحوة دينية ‪.‬‬
‫ض َع (( بيكون )) بناء الفكر الفلسفي اإلنجليزي على قاعدتين مستقلتين في أصلهما ‪ :‬الخبرة‬ ‫َو َ‬
‫الصحيح‬
‫ِ‬ ‫الباطنية التي ُت َؤدِّي إلى استنارة الروح ( أو الدين ) ‪ ،‬والمالحظة التي ُت َؤدِّي إلى ِ‬
‫العلْم‬
‫اختزال‬
‫َ‬ ‫ظل (( بيكون )) ثابتًا على ثنائية كما َف َع َل اإلسالم ‪ ،‬فلم يحاول‬ ‫( أو ِ‬
‫العلْم التجريبي ) ‪َّ ..‬‬
‫النظرة العلمية أو النظرة الدينية – إحداهما لحساب األخرى ‪ ، .‬وإنما أقام التوازن بين النظرتين‬
‫‪ ..‬لهذا اعتبره اإلنجليز أعظم تعبير أصيل عن الفكر اإلنجليزي والمشاعر اإلنجليزية ‪..‬‬
‫يقول (( عزت بيجوفيتش )) ‪ :‬ولكن َت ْب َقى حقيقةٌ هامة عن ( بيكون ) لم يتم دراستها أو‬
‫صا‬ ‫ِ‬
‫االعتراف بها أال وهي أن أب الفلسفة والعلوم اإلنجليزية كان في حقيقة األمر تلمي ًذا ُم ْخل ً‬
‫األخص‬
‫ِّ‬ ‫للثقافة العربية اإلسالمية ‪ ،‬وقد تَأ ََّث َر (( بيكون )) تَأ َُّث ًرا قويًّا بالمفكرين المسلمين وعلى‬
‫( ابن سينا ) الذي اعتبره (( بيكون )) أعظم فيلسوف ظَ َه َر بعد (( أرسطو )) ‪..‬‬
‫لنتأمل هذه الحقيقة ‪ :‬في القارة األوربية – كقاعدة عامة – العالم التجريبي عادة ما يكون ملح ًدا‬
‫‪ ،‬أما في إنجلترا فإن ( جون لوك ) أب المنهج التجريبي فقد َج َع َل ( اهلل ) في مركز نظريته‬
‫األخالقية ‪ ،‬ودافع عن الروادع األخروية من ثواب وعقاب‪ M‬بحماس القسيس ‪ ،‬وأدمجها في بناء‬
‫قاصرا على هذا العالم ‪،‬‬
‫كل أمل اإلنسان ً‬
‫المبادئ األخالقية ‪ .‬يقول ( جون لوك ) ‪ (( :‬إذا كان ُّ‬
‫نبحث عن‬
‫َ‬ ‫وإذ كنا سنتمتع بالحياة هنا في هذه الدنيا فقط فليس غريبًا وال مجافيًا للمنطق أن‬
‫السعادة ‪ ..‬والمتعة ‪ ..‬دعنا نأكل ونشرب ‪ ..‬دعنا نتمتع باألشياء التي تجعلنا سعداء ؛ ألننا غ ًدا‬
‫ص ُل في أدلته على وجود اهلل ‪.‬‬
‫ضى ( جون لوك ) التجريبي الكبير ُي َف ِّ‬
‫سنموت ( بال قيامة‪ .. ) M‬ثم َم َ‬
‫بينما في فرنسا الكاثوليكية ال يزال الصراع العنيد بين المدرسة الروحية والمدرسة الوضعية‬
‫مستمرا ‪.‬‬
‫ًّ‬
‫حتى االشتراكية اإلنجليزية هي األخرى من نوع مختلف عن نظيراتها في أوربا ‪ ،‬فاالشتراكية في‬
‫أوربا مرتبطة ارتباطًا وثي ًقا بالفلسفة‪ M‬المادية واإللحاد ‪ ،‬بينما نستمع من منظمة حزب العمال‬
‫البريطاني اقتباسات من الكتب المقدسة ( مثلما نسمعها من منبر الكنيسة هناك ) على ِّ‬
‫حد تعبير‬
‫أحد المراسلين الصحافيين الفرنسيين ُم َعِّب ًرا عن انطباع االندهاش ‪.‬‬
‫يتحدَّث (( عزت بيجوفيتش )) عن الدولة الكاثوليكية وعدم قدرتها على سلوك الطريق الثالث‬
‫( أو الطريق الوسط ) فإيطاليا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال كانت وال تزال نماذج لمجتمعات حادة‬
‫‪51‬‬

‫االستقطاب ‪ ..‬فالرأي العام في هذه البالد منقسم – بشكل غير قابل للتصالح – بين حركات‬
‫تماما‬
‫وأحزاب يمينية مسيحية ويسارية ماركسية ‪ ،‬أما الوسط فإما أنه محدود جدًّا وإما قد تالشى ً‬
‫‪ ..‬في هذه البالد تصطدم أكبر عقيدتين متصلِّبتين في التاريخ ‪ :‬الكاثوليكية والشيوعية ‪.‬‬
‫يرصد (( عزت بيجوفيتش )) محوالت حديثة للتقارب بين الكاثوليكية والماركسية ‪ ،‬ويالحظ‬
‫تنازالت من كال الجانبين فيما يعرف باسم ( التسوية التاريخية ) ثم ُي َعلّق على ذلك بقوله ‪:‬‬
‫إسالما وال‬
‫ً‬ ‫(( جميع هذه الظواهر التي التي ناقشناها ذات داللة على َت َو ُّجهاتها ولكنها ليست‬
‫ض َّم ُن‬
‫ُت َؤدِّي اإلسالم ؛ ألنها قسريَّة متكلّفة غير متسقة مع نفسها وقاصرة ‪ .‬أما اإلسالم فإنه َيتَ َ‬
‫للم َسلَّ َمات الدينية واالشتراكية أحادية الجانب ‪ ،‬وينطوي على تسليم إرادي بمبدا‬ ‫ضا واعيًا ُ‬
‫رف ً‬
‫ِّل‬
‫الثنائية ‪ ،‬ومهما يكن األمر فإن ما رأيناه من تَأ َْر ُج ٍح وانحرافات وتسويات قهرية ‪ ،‬إنما يُ َمث ُ‬
‫انتصارا للحياة والواقع اإلنساني على جميع األيدلوجيات القاصرة على جانب واحد ‪ ،‬وهذا في‬
‫ً‬
‫انتصارا للمفهوم اإلسالمي ‪.‬‬
‫ً‬ ‫حد ذاته ُّ‬
‫يعد‬ ‫ِّ‬
‫التسليم هلل ‪:‬‬
‫للطبيعة حتميةٌ تَ ْح ُك ُمها ‪ ،‬ولإلنسان قَ َد ُره ‪ ،‬والتسليم بهذا ال َق َد ِر هو الفكرة النهائية العليا لإلسالم‬
‫‪.‬‬
‫فهل ال َق َد ُر موجود ‪ ..‬وأي يَ ْك ٍل يتخذ ؟ دعنا ننظر في حياتنا لنرى ماذا َتَب َّقى من ُخطَ ِطنا العزيزة‬
‫نأت إلى هذا العالم بال حول لنا وال قوة ‪ ..‬ثم‬ ‫على أنفسنا ‪ ..‬وما ب ِّقي من أحالم شبابنا ؟ ‪ ..‬ألم ِ‬
‫َ‬
‫قدرا من الذكاء قَ َّل أو َك ُث َر ‪ ،‬ومالمح جذابة أو ُمَن ِّفرة ‪،‬‬ ‫واجهنا تركيبتنا الشخصية ‪ِ ،‬‬
‫ومن ْحنَا ً‬
‫ُ‬
‫اذ ‪ ..‬في أوقات عصيبة أو‬ ‫شح ٍ‬
‫ك أو كوخ َّ‬ ‫ص ٍر ملِ ٍ‬
‫وتركيبة بدنية رياضية أو قزمية ‪ ،‬ونشأنا في قَ ْ َ‬
‫يتم‬
‫زمن سالم ‪ ..‬تحت سلطان طاغية جبار أو أمير نبيل ‪ ..‬وفي ظروف جغرافية وتاريخية لم ّ‬
‫استشارتنا بشأنها ! ‪ ..‬كم هي محدودة تلك التي نسميها إرادتنا ‪ ..‬وكم هو هائل وغير محدود‬
‫قَ ّد ُرنَا ! ‪..‬‬
‫ِّر له أن يعتم َد في وجوده على كثير من الحقائق التي ال‬ ‫ِ‬
‫لقد ُوض َع اإلنسان في هذا العالم وقُد َ‬
‫يملك عليها سلطانًا ‪ ،‬وتتأثر حياته بعوامل قريبة منه وعوامل أخرى نائية عنه أكثر مما يتخيل ‪..‬‬
‫ت معرفتنا عن العالم تزايد إدراكنا بأننا ال يُ ْم ِك ُن أن تَ ُكو َن أسياد مصائرنا ‪ .‬حتى مع‬
‫وكلما تَ َم ْ‬
‫افتراض أعظم تقدٍُّم ممكن للعلم ‪ ،‬فإن مقدار ما سيكون تحت سيطرتنا من عوامل ال يساوي شيئًا‬ ‫ِ‬
‫بالكم الهائل من العوامل الخارجة عن هذه السيطرة ‪..‬‬ ‫إذا قُو ِر َن ِّ‬
‫‪52‬‬

‫ويجتهد اإلسالم في تنظيم هذا العالم عن طريق التنشئة والتعليم والقوانين التي َش َرعها اهلل ‪ ،‬وهذا‬
‫هو مجاله المحدود أما مجاله الرحيب فهو التسليم هلل ‪..‬‬
‫جميع‬
‫َ‬ ‫نتبع‬
‫يمكن أن تكون كافية في إطار هذا الوجود المحدود ‪ ،‬إننا قد ُ‬ ‫ُ‬ ‫العدالة الفردية ال‬
‫القواعد والتعاليم اإلسالمية التي من شأنها أن تَ ْمنَ َحنَا السعادة في الدارين ‪ ..‬الدنيا واآلخرة ‪ ،‬وقد‬
‫نضيف إلى ذلك اتخا َذ جميع اإلجراءات الطبية واالجتماعية واألخالقية ‪ ،‬ولكن بسبب التشاب ِ‬
‫ك‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫سنظل نُصاب في أجسامنا وفي نفوسنا بكثير من‬ ‫ُّ‬ ‫الرهيب لألقدار والرغبات والحوادث فإننا‬
‫عزي أ ًُّما فقدت‪ M‬ابنَها الوحيد ! وأي َسلْوى ممكنة لرجل أصيب في‬ ‫المعاناة ‪ ،‬فما الذي يُ ْم ِك ُن أن يُ ِّ‬
‫حادثة فأصبح ُم َع َّوقًا قعي ًدا ! ‪.‬‬
‫الب ّد أن نكو َن على َو ْعي بظروفنا اإلنسانية فنحن ( ُمَتلَبِّسون ) بأوضاع ُم َعيَّنة ‪ ..‬وقد أستطيع أن‬
‫أعمل على تغيير هذا الوضع أو ذاك ‪ ..‬ولكن َت ْب َقى هناك أوضاع ال َت ْقبَ ُل بطبيعتها التغيير ‪..‬‬
‫مفر لي من الموت ‪َّ ،‬‬
‫والبد من أن أعاني وأن ( أكدح ) ‪ ،‬إنني‬ ‫وَت ْب َقى أمامنا هذه الحقائق ‪ :‬إنني ال َّ‬
‫أن واجب اإلنسان‬ ‫ِّ‬
‫المؤكد َّ‬ ‫ظ ‪ ..‬إنني أََت َعث ُ‬
‫َّر دون رغبة مني في مشاعر الذنب ‪ ..‬ومن‬ ‫ضحية الح ّ‬
‫فسيظل ٌ‬
‫أطفال يموتون‬ ‫ّ‬ ‫كل شيء بمقدوره أن يُ َح ِّسنَه ‪ ،‬ومع ذلك‬
‫يبذل جه َده لتحسين ِّ‬
‫هو أن َ‬
‫بطريقة مأساوية حتى في أكثر المجتمعات كماالً ‪ ..‬واإلنسان على أحسن الفروض قد يستطيع أن‬
‫الظلم واأللم مستمرين ‪..‬‬
‫كم المعاناة في هذا العالم ومع ذلك َسيَْب َقى ُ‬ ‫ُي َقلِّ َل من ِّ‬
‫فهل يَ ْستَ ْسلِ ُم اإلنسا ُن هلل أم َيتَ َم َّر ُد عليه ! ؟ يقول (( عزت بيجوفيتش )) إجابة على هذا السؤال ‪:‬‬
‫االعتراف بال َق َد ِر استجابة مثيرة للقضية اإلنسانية الكبيرة التي تنطوي على معاناة ال َم َر َّد لها ‪ ..‬إنه‬
‫َّح ُّمل بالصبر ‪ ،‬وفي هذه‬ ‫َّح ُّمل والصمود والت َ‬
‫واع بالت َ‬
‫اعتراف بالحياة على ما هي عليه ‪ ..‬وقرار ٍ‬
‫النقطة يختلف اإلسالم اختالفًا حادًّا عن المثالية المصطنعة ‪ ..‬وذلك ألن التسليم هلل هو ضوء يانع‬
‫يختر ُق التشاؤم ويتجاوزه ‪.‬‬
‫التسليم هلل في ِّ‬
‫حد ذاته‬ ‫أن‬ ‫وكنتيجة العتراف اإلنسان بعجزه وشعوره بالخطر ِ‬
‫وعدم األمن يج ُد َّ‬
‫َ‬
‫قوةٌ جديدة وطمأنينة جديدة ‪..‬‬
‫الشعور باألمن الذي ال يُ ْم ِك ُن تعوي َ‬
‫ضه بأي شيء آخر ‪ .‬وال‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫إن اإليمان باهلل واإليمان بعنايته يَ ْمنَ ُحنَا‬
‫كل‬
‫كثير من الناس خاطئين ‪ ،‬ففي الحقيقة ُّ‬
‫يظن ٌ‬‫َي ْعني التسليم هلل سلبية في موقف اإلنسان كما ُّ‬
‫السالالت البطولية كانوا من المؤمنين بالقدر ‪َّ ..‬‬
‫إن طاعة اهلل تستبع ُد طاعة البشر والخضوع لهم (‬
‫ال إله إال اهلل ) إنها صلة جديدة بين اإلنسان وبين اهلل ‪ ،‬ومن ثَ َّم بين اإلنسان واإلنسان ‪.‬‬
‫‪53‬‬

‫ضا ُح ِّريَّة يكتسبها اإلنسان بمواصلة اإليمان بَِق َد ِره ‪ ،‬ومواصلة الكدح والجهاد سمتان‬
‫إنها أي ً‬
‫إنسانيتان معقولتان ‪ ،‬وفيهما َّ‬
‫يتحقق االعتدال والصفاء‪ M‬إذا نحن آمنا بأن النتيجة النهائية ليست‬
‫بأيدينا ‪ ،‬إنما علينا أن نَ ْس َعى و َن ْع َم َل ‪ ..‬أما الباقي فبين يدي اهلل ‪.‬‬
‫س السالم ‪ ..‬وأال‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فلكي نُ ْدر َك حقيقة وجودنا في هذا العالم َي ْعني أن نَ ْستَ ْسل َم هلل ‪ ..‬وأن َنَتَنف َ‬
‫ب عليه ‪ .‬علينا أن َنَت َقبَّ َل المكان‬ ‫بكل شيء والتغلُّ ِ‬ ‫يحملنا الوهم على تبديد جهودنا في اإلحاطة ِّ‬
‫الطريق‬
‫ُ‬ ‫والتسليم هلل هو‬
‫ُ‬ ‫والزمان اللذين أحاطا بميالدنا ‪ ..‬فالزمان والمكان قَ َد ُر اهلل وإرادته ‪،‬‬
‫حل لها وال معنى ‪ ..‬إنه طريق للخروج بدون‬ ‫للخروج من ظروف الحياة المأساوية التي ال َّ‬ ‫ِ‬ ‫الوحيد‬
‫تَ َم ُّر ٍد وال قنوط وال عدمية وال انتحار ‪ ،‬إنه شعور بطولي ( وال أقول ‪ :‬شعور بطل ) بل شعور‬
‫إنسان عادي قام بأداء واجبه وَت َقبَّ َل قَ َد َره ‪.‬‬
‫إن اإلسالم لم يأخذ اسمه من قوانينه وال نظامه وال محرماته وال من جهود النفس والبدن التي‬ ‫َّ‬
‫تنقدح فيها‬ ‫ظة ٍ‬
‫فارقة‬ ‫يطالب اإلنسان بها ‪ ..‬وإنما من شيء يشمل هذا كله ويسمو عليه ‪ ..‬من لَح ٍ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َُْ‬
‫شرارةُ و ْعي باطني ‪ِ ..‬من قوة النفس في مواجهة ِم َح ِن الزمان ‪ ..‬من التهيُّؤ الحتمال ِّ‬
‫كل ما يأتي به‬
‫الوجود ‪ ..‬من حقيقة التسليم هلل ‪ ..‬إنه استسالم هلل ‪ ..‬واالسم إسالم ! ‪.‬‬
‫وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين ‪..‬‬
‫****‬

You might also like