You are on page 1of 299

‫إشارات اإلعجاز يف مظان اإلجياز‬

‫تأليف ‪ /‬بديع الزمان سعيد النّورسي‬

‫الكتاب عبارة عن نظرات لألستاذ سعيد النورسي يف كتاب هللا تعاىل‬


‫تنم عن بصرية نافذة‪ ،‬ومعرفة كالمية وبالغية عميقة‪ ،‬وذوق ذايت رفيع‪ ،‬ومنهج عقلي سديد‬

‫حتقيق ‪ /‬إحسان قاسم الصاحلي‬

‫الرحيم‬ ‫ِ‬
‫الرمحن ّ‬
‫ب ْسم هللا ّ‬
‫‪1‬‬
‫املقدمة‬

‫الدكتور حمسن عبداحلميد‬

‫استاذ التفسري والفكر االسالمي‬

‫جامعة بغداد‬

‫احلمـدهلل رب العـامليـن‪ ،‬والصـالة والسالم على من اُنزل عليه القرآن احلكيم حممد بن عبدهللا‬
‫خامت االنبياء والرسل‪ ،‬وعلى آله واصحابه والتابعني هلم باحسان اىل يوم الدين‪.‬‬

‫اما بعد‪:‬‬

‫فيكاد جيمع املنصفون من العلماء والدارسني املطلعني على تطور اوضاع املسلمني يف العصور‬
‫االخرية‪ ،‬ان االستاذ اجلليل بديع الزمان سعيد النورسى‪ ،‬كان شخصية اسالمية كبرية‪ ،‬صادق‬
‫االميان‪ ،‬عظيم االخالص‪ ،‬عزيز النفس‪ ،‬عارفاً حبقائق التوحيد‪ ،‬نابغة من نوابغ الزمان‪ ،‬غزير‬
‫العلم‪ ،‬نافذ الفكر‪ ،‬داعية ثبتاً اىل هللا تعاىل على بصرية‪ ،‬محل مهوم املسلمني منذ شبابه‪،‬‬
‫وقضى حياته يف اجلهاد الدائب يف سبيل توضيح عقيدة االسالم وبيان علل احكامه‪،‬‬
‫ودحض االفكار املنحرفة والفلسفات اجلاحدة املناقضة له والتخطيط العملي الجل انقاذ‬
‫املسلمني من الغزو الفكري اجلارف الذي تعرضوا له منذ اوائل القرن الرابع عشر اهلجري‪ ،‬بل‬
‫قبله‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬ثبتنا مقدمة الدكتور حمسن عبد احلميد الىت ق ّدمها مشكوراً للطبعة االوىل املطبوعة يف‬
‫العراق سنة ‪1041‬هـ ‪1191 -‬م ‪ -‬احملقق‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪6 :‬‬

‫ولقد لقى‪ ،‬رمحه هللا تعاىل يف سبيل ذلك مالقى‪ ،‬مما ليس جزاؤه اال عند هللا تعاىل البصري‬
‫بعباده الصاحلني واوليائه الصادقني وعلمائه اجملاهدين‪ ،‬الذين صدقوا العهد مع هللا تعاىل‪ ،‬ومل‬
‫خيشوا فيه سبحانه لومة الئم‪.‬‬

‫وهذا الكتاب الذي بني يديك ‪ -‬قارئي العزيز ‪ -‬جليل القدر‪ ،‬رصني السبك‪ ،‬قوي احلجة‪،‬‬
‫السَريانية الفائقة لالستاذ النورسى‪ ،‬وراء املعاين الدقيقة يف كتاباته‬
‫ميثل اجلى متثيل القدرة َ‬
‫كلها‪ ،‬السيما العلمية املختصة منها‪ .‬ولقد كانت تلك موهبة عبقرية‪ ،‬وهبه هللا تعاىل اياه‪،‬‬
‫لينظر يف كتاب هللا تعاىل من خالهلا ببصرية نافذة‪ ،‬ومعرفة كالمية وبالغية عميقة‪ ،‬وذوق‬
‫ذايت رفيع‪ ،‬ومنهج عقلي سديد‪ ،‬يلتمس الكشف عن احلقيقة‪ ،‬ويبغي ايصال االنسان اىل‬
‫اقتناع كامل بكون هذا القرآن معجزاً‪ ،‬حبيث جيد العقالء والفصحاء يف انفسهم ضرورة‬
‫االميان واالعرتاف بانه الكتاب احلق الذي نزل من عند عالم الغيوب على رسوله االكرم‬
‫حممد بن عبدهللا عليه افضل الصالة وازكى التسليم‪ ،‬كي يضع االنسانية على طريق دعوة‬
‫احلق‪ ،‬وينور بصريهتا بنور االميان‪ ،‬وادراك اليقني للوصول اىل العبودية اخلالصة لرب العاملني‪.‬‬

‫لقد استطاع االستاذ النورسى ان يصقل موهبته الفذة بدراسة العلوم االسالمية والفلسفات‬
‫القدمية والعلوم االنسانية والصرفة املعاصرة‪ ،‬زيادة على اطالعه الواسع على االدب والبالغة‬
‫العربية يف كتب امثال اجلاحظ والزخمشري والسكاكي السيما كتب النحوي البالغي الكبري‬
‫االمام عبد القاهر اجلرجاين حيث آمن بنظريته املشهورة يف النظم واعجب هبا اميا اعجاب يف‬
‫هذا الكتاب‪.‬‬

‫ومل تكن نظرية النظم جديدة اخرتعها اجلرجاين من غري مقدمات‪ ،‬وامنا لفت النظر اليها‬
‫اجلاحظ يف كتابه نظم القرآن والواسطي يف كتابه اعجاز القرآن يف نظمه والباقالين يف كتابه‬
‫اعجاز القرآن غري ان اجلرجاين شرحها شرحا حنويا بيانيا وافيا مرتابطا وصاغ منها نظرية‬
‫متكاملة تقوم على اساس عدم الفصل بني اللفظ ومعناه وبني الشكل واملضمون وقرر ان‬
‫البالغة يف النظم اليف الكلمة املفردة وال يف جمرد املعاين‪ ،‬دون تصوير االلفاظ هلا‪ .‬وبناء على‬
‫يعرف النظم بانه‪ :‬تعليق‬
‫ذلك فانه ّ‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪7 :‬‬

‫الكلمة بعضها على بعض ‪ ،‬وجعل بعضها بسبب من بعض‪ ،‬اي تضع كالمك الوضع الذي‬
‫يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه واصوله وتعرف مناهجه فال تزيغ عنها‪.‬‬

‫وكأين باالستاذ النورسى درس نظرية النظم هذه دراسة متقنة مث ظهر له ان املفسرين الذين‬
‫سبقوه كالزخمشري والرازي وايب السعود مل حياولوا تطبيقها من حيث هي منظومة متكاملة‬
‫تشمل ترتيب السور واآليات وااللفاظ سورة بعد سورة وآية بعد آية ولفظا بعد لفظ‪،‬‬
‫بتفاصيلها الكاملة فاراد ان يقتدي هبؤالء املفسرين العظام فيؤلف تفسرياً يطبق فيه نظرية‬
‫النظم تطبيقاً تفصيلياً شامالً من حيث املباين واملعاين ومن حيث املعارف اللغوية والعقلية‬
‫والذوقية‪ ،‬الكلية منها واجلزئية‪ ،‬واليت اعتمد عليها يف الكشف عن تفاصيل املنظومة القرآنية‬
‫اليت هبا يظهر االعجاز‪ ،‬وتتكشف دقائق خصائص االسلوب القرآين اليت خالفت خصائص‬
‫التعبري العريب البليغ قبله‪ ،‬واليت حريت البلغاء واخرست الفصحاء‪ ،‬ليحق عليهم التحدي‬
‫املعجز اىل يوم القيامة‪.‬‬

‫ومل تتوجه جهود النورسى اىل بيان نظرية النظم‪ ،‬مقدمة الثبات اعجاز القرآن البالغي‬
‫فحسب‪ ،‬بل اجتهت كذلك اىل التغلغل يف معاين اآليات‪ ،‬حيث اراد بناءها تفصيالً على‬
‫املرتكزات العقلية للوصول اىل اظهار العقائد االسالمية وارتباطها حبقائق الوجود‪.‬‬

‫ومن الواضح جدا ملن تأمل يف الكتاب وترتيبه‪ ،‬انه كان يريد ان يؤلف تفسرياً كامالً يف هذا‬
‫االجتاه‪ .‬ولو قدر لالستاذ ‪ -‬رمحه هللا تعاىل ‪ -‬ان ينهي عمله العظيم هذا كامالً‪ ،‬اذن لق ّدم‬
‫تفسرياً بالغياً وعقلياً كامالً شامالً‪ ،‬كان جديراً بان يأخذ منه عمره كله حيث كان من احملقق‬
‫ان حيوي حينئذ عشرات اجمللدات الضخام ‪ ،‬لو انه مشى يف ضوء منهجه هذا الذي نقرأه يف‬
‫هذا الكتاب‪.‬‬

‫اجل من ذلك واعظم‪.‬‬‫ولكن هللا سبحانه وتعاىل ق ّدر له االفضل من ذلك اذ وفقه لعمل ّ‬
‫عمل استطاع فيه ان يضع مسلمي بلده يف ظروف عصره يف مواجهة القرآن الكرمي‪ ،‬دون‬
‫اشغاهلم بقضايا بالغته واعجازه اللغوي واليت مل تكن مشكلة عصره‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪9 :‬‬

‫من خالل التحقيق يف جزئيات دقيقة ال يقوى على فهمها اال اخلواص جداً‪ .‬وكان من املؤكد‬
‫حينئذ ان يبقى اجلمهور االعظم من املسلمني يف عصره مبعزل عن االستفادة من مواهبه‬
‫الفذة ومحاسه االمياين املنقطع النظري‪ ،‬وكذلك مبعزل عن الصراع الفكري احلضاري الرهيب‬
‫غري املتكافئ مع الغزو الفكري املادي اجلاحد‪ ،‬الذي بدأ يتسلل رويداً رويداً اىل احلياة‬
‫االسالمية حىت تصدر السياسة واالقتصاد واالجتماع والثقافة والفن واالعالم يف كثري من بالد‬
‫االسالم‪.‬‬
‫من اجل ذلك‪ ،‬وقف النورسى عند هذا اجمللد من التفسري‪ ،‬ودفعته ظروف عصره وبلده اىل‬
‫اتون الصراع‪ ،‬ولكن يف قالب جديد ممثال بـسعيد اجلديد مستُه اهلدوء‪ ،‬والتدرج‪ ،‬والبناء‪،‬‬
‫والنفوذ احملكم اىل عقول املسلمني وقلوهبم دون صراخ عاطفي او هتريج مدمر‪ ،‬او صدامات‬
‫فوقية‪ ،‬مل يكن الوضع االسالمي يومئذ مهيئا هلا ويقوى فيها على جماهبة االعداء االقوياء يف‬
‫الداخل واخلارج‪.‬‬

‫لقد كان اسلوب رسائل النور يف وضوحه احلاسم‪ ،‬وهدوئه العلمي الباهر‪ ،‬وبيانه الذوقي‬
‫الرفيع‪ ،‬وحججه العقلية الدامغة هو البديل العصري الذكي السلوب اثبات اعجاز القرآن‬
‫اللغوي والبياين والعقلي من خالل نظرية النظم‪ ،‬الن ما اثاره االعداء مل يكن يتصل بالطعن‬
‫يف بالغة القرآن او مناقشة ما يتعلق باعجازه او بتناسب سوره وآيه وكلماته‪ .‬وامنا كان يركز‬
‫على شن هجوم عام شامل على اصول االميان‪ ،‬وحكمة التشريعات‪ ،‬وحماولة تفكيك النظام‬
‫االخالقي الذي جاء به القرآن الكرمي‪.‬‬

‫فتوجه اليها حبقائق‬


‫لقد وعى االستاذ النورسى التغيريات اهلائلة اليت احدثها الصراع اجلديد ّ‬
‫القرآن اليت قدمها من خالل اصول املنطق العقلي الفطري وعلوم ومعارف عصره‪.‬‬

‫انه استطاع ان يثبت من خالل جزء كامل من هذا الكتاب اعجاز القرآن الكرمي وبرهن‬
‫للدارسني وطالب احلقيقة‪ ،‬انه من السهل ان يستمر يف ضوء منهجه العلمي والعقلي‬
‫والذوقي الرفيع اىل النهاية‪ ،‬اذن فليكن هذا كافيا‪ ،‬وليتوجه بكليته وبقية‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪1 :‬‬

‫حياته العامرة اىل القضية االساس‪ ،‬وهي انقاذ اميان املسلمني يف عصر الصراع االعالمي‬
‫الرهيب‪ ،‬فأنتج يف هذا اجملال اميا انتاج من خالل عشرات الكتب والرسائل اليت وجهها اىل‬
‫النشئ اجلديد‪ ،‬إلحلاق اهلزمية العقيدية والفكرية باعداء االسالم من املالحدة وارباب‬
‫التغريب‪.‬‬
‫على انين اظلم هذا الكتاب اذا ادعيت انه خال من منهج مواجهة الصراع اجلديد‪ ،‬بل ازعم‬
‫هنا ‪ -‬على قدر ما يل من علم بافكار النورسى من خالل قراءتى لبعض رسائله يف عهده‬
‫اجلديد ‪ -‬انه مامن فكرة شرحها او بسطها او مثَّل عليها اال جتد هلا بذوراً موجزة او مفصلة‬
‫يف هذا الكتاب العلمي الرصني الذي بني يديك‪ ،‬السيما يف عرض اصول العقائد االسالمية‬
‫باسلوب عصري علمي‪ .‬غري انه اجته يف كتابه هذا اىل خماطبة خاصة تالمذته من خالل دمج‬
‫املصطلحات الكالمية القدمية ببدايات منهجه اجلديد الذي استقر عليه فيما بعد يف رسائل‬
‫النور‪.‬‬

‫ولعل هذا هو سر تسمية رسائل النور باهنا تفسري حقيقي للقرآن الكرمي‪ ،‬واحلق ان تفسري‬
‫القرآن وخماطبة املسلمني بآياته مل يبارح قط فكر النورسى اىل آخر حلظة من حلظات حياته‬
‫احلافلة باحملن واالحزان‪ ،‬والعلم والدعوة اىل التمسك بكتاب هللا وسنة نبيه صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪.‬‬

‫ان نشر هذا الكتاب بثوبه اجلديد هذا سيضع منوذجاً حتليلياً بالغياً رائعاً امام املهتمني‬
‫بالدراسات االعجازية والبالغية والنقدية املعاصرة‪ .‬السيما يف االوساط العلمية‪ .‬وسيجد‬
‫املهتمون بدراسات العقائد االسالمية من وجهة املنطق العقالين زادهم فيه من خالل‬
‫املباحث العقلية والعلمية العميقة اليت قدمها االستاذ تعليقاً على االيات اليت حللها من اوائل‬
‫سورة البقرة‪.‬‬

‫لقد احسن االستاذ الفاضل احسان قاسم الصاحلي بتحقيقه هذا الكتاب من جديد‪ ،‬حيث‬
‫اغناه بتدقيقاته املفيدة وشروحه القيمة يف احلواشي‪ ،‬وهذا فضل يكمل به افضاله السابقة‬
‫على قراء العربية حني قضى سنوات عدة يف ترمجة جمموعة متنوعة من رسائل النور اليت دجبها‬
‫يراع االمام املمتحن سعيد النورسى حجة االسالم حبق يف حياة تركيا احلديثة‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪14 :‬‬


‫فجزى هللا االستاذ النورسى خري اجلزاء ونفع املسلمني بعلمه وحججه الدامغة وكلماته النورانية‬
‫الصادقة يف خدمة كتاب هللا تعاىل وسنة رسوله االكرم صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫ويف ختام هذه الكلمات ادعو هللا تعاىل ان يوفق احملقق الكرمي اىل تقدمي ترمجة كاملة لرسائل‬
‫‪1‬‬
‫النور اىل قراء العربية اجمليدة‪.‬‬

‫وآخر دعوانا ان احلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

‫د‪ .‬حمسن عبداحلميد‬

‫كلية الرتبية ‪ -‬جامعة بغداد‬

‫‪ 2‬شعبان ‪1047‬هـ‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬لقد استجاب املوىل الكرمي هذا الدعاء وامثاله من الدعوات اخلالصة الخوة كرام بررة فوفقنا‬
‫لرتمجة كاملة لكليات رسائل النور وطبعها ونشرها‪ ،‬فاحلمدهلل اوالً وآخراً ‪ -‬احملقق‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪11 :‬‬

‫الرحي ِم‬ ‫بِ ْس ِم هللا َّ‬


‫الر ْمح ِن َّ‬

‫‪1‬‬
‫هذا التحقيق‬
‫احلمدهلل والصالة والسالم على رسول هللا ومن وااله‪ ،‬وبعد؛‬

‫ففي ايام قاحلة وشهور عجاف اكرمين هللا العلي القدير بقراءة هذا التفسري اجلليل قراءة ال‬
‫ارجو من ورائها سوى شرح للصدر‪ ،‬وتغذية للروح وتنضري للذهن‪.‬‬

‫كررت قراءته مرات ومرات‪ ،‬فاطفأ ‪ -‬باذن هللا ‪ -‬ظمأ القلب ٍ‬


‫بعذب برود‪ ..‬ولكن‪..‬‬

‫ولكن ملست انه حباجة اىل تنسيق جديد وحتقيق سديد ليسهل تناوله وال يتعذر فهمه لكل‬
‫من يريد ان يستفيد‪.‬‬

‫وشاء القدر اإلهلي ان يأتيين اخ كرمي بنسخة خمطوطة منه واخر بطبعته االوىل‪ ،‬وقد كنت‬
‫احتفظ برتمجته الرتكية وبطبعته الثانية واالخرية‪ ..‬فاستجمعت العناصر االوىل للتحقيق‪.‬‬
‫علي واعداداً لنسخة جيدة من هذا التفسري اجلليل مهمت‬
‫فايفاءاً لشكره تعاىل على ما أنعم ّ‬
‫ان اقوم بتحقيقه‪ ،‬ولكن‪..‬‬

‫ولكن قصوري‪ ،‬وقلة خربيت‪ ،‬وضخامة املوضوع‪ ،‬وجالل املقام‪ ،‬وخشية الزلل‪ ..‬كانت ت ّكفين‬
‫عن القيام بالتحقيق‪ ..‬بيد ان النظر اىل ما عند هللا‪ ،‬وفضله العميم‪ ،‬والثقة به‪ ،‬وحسن القصد‬
‫اليه يف خدمة كتابه العزيز‪ ..‬كانت تدفعين اىل العمل‪ ..‬فتخليت عن اإلحجام والزمت‬
‫اإلقدام متوكالً على العلي العالم‪ ،‬وسرت خبطوات متئدة‪ ،‬كاآليت‪:‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬ابقيت هذه املقدمة للتحقيق على ما هي عليه يف الطبعة االوىل املطبوعة يف العراق سنة‬
‫‪1041‬هـ ‪1111 -‬م‪ .‬االّ ما استوجب من حذف واضافة ليوافق هذه الطبعة‪ -.‬احملقق‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪12 :‬‬


‫لدي وهي‪:‬‬
‫اوالً‪ :‬قابلت بني النسخ اليت توفرت ّ‬
‫أ ‪ -‬نسخة خبط (املال عبداجمليد النورسي) ‪1‬مصححة من قبل املؤلف نفسه‪ .‬فأعتربهتا‬
‫األساس يف التحقيق‪.2‬‬

‫ب ‪ -‬الطبعة االوىل من الكتاب‪ ،‬املطبوع سنة ‪ 1110‬يف مطبعة (اوقاف اسالمية)‬


‫باستانبول ومصححة من قبل املؤلف وعليها بعض اهلوامش خبط يده‪ .‬وقد رمزت اليها‬
‫بـ(ط‪.)1‬‬

‫ج ‪ -‬خمطوط خبط السيد (طاهر بن حممد الشوشي)‪ 1‬انتهى منه سنة ‪1171‬هـ‪ ،‬وضم فيه‬
‫النساخ‪ ،‬مع وضع لعناوين صغرية الهم املوضوعات يف‬
‫تعليقات واستدراكات جيدة على ّ‬
‫الصفحة‪ ،‬وقد رمزت اليه بـ(ش)‪ .‬فكل اضافة او تعليق مذيل بـ(ش) هو منه‪.‬‬

‫شرْهتا (دار سوزلر يف‬


‫د ‪ -‬الرتمجة الرتكية له‪ ،‬واليت قام هبا (املال عبد اجمليد النورسى) ونَ َ‬
‫استانبول) سنة (‪ .)1176‬وقد رمزت اليها بـ(ت)‪.‬‬

‫هـ ‪ -‬حتقيق قام به الشيخ صدرالدين البدليسي‪ ،‬حيث وضع بعض اهلوامش وصحح اخطاء‬
‫مطبعية‪ ،‬فرمزت اليها بـ(ب)‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬وهو شقيق االستاذ النورسى‪ ،‬كان مدرساً للغة العربية‪ ،‬مث مفتياً ‪ ،‬مث مدرساً للعلوم‬
‫االسالمية يف املعهد العايل يف قونيا‪ ،‬ترجم كثرياً من رسائل النور اىل العربية‪ ،‬وترجم اشارات‬
‫االعجاز واملثنوى العريب النوري من العربية اىل الرتكية‪ .‬تويف سنة ‪ 1167‬عن ثالث ومثانني‬
‫سنة من العمر‪ .‬تغمده هللا برمحته الواسعة‪.‬‬

‫‪ 2‬هذه النسخة مع جمموعتني كامتلتني من كليات رسائل النور املستنسخة باليد واملصححة‬
‫من قبل املؤلف قد بعثها املؤلف سنة ‪1191‬م اىل مدينة "أورفة " داخل صندوقني‪ ،‬وهي‬
‫حمفوظة األن لدى الدكتور عبدالقادر بادللي‪ ،‬الذي تتلمذ على األستاذ النورسي وزاره مرات‬
‫كثرية‪ ،‬وسعى يف نشر الرسائل وما زال وترجم "املثنوي العريب النوري " ورسائل اخرى اىل‬
‫اللغة الرتكية‪ ،‬وله مصنفات عدة منها‪ :‬حياة األستاذ النورسي (‪1‬جملدات) ومصادر اآليات‬
‫يسر لنا‬
‫واألحاديث الشريفة الواردة يف رسائل النور‪ ،‬وغريمها‪ .‬مع مقاالت كثرية‪ .‬وهو الذي ّ‬
‫اإلطالع على النسخة األصلية لـ "إشارات اإلعجاز " فجزاه هللا خرياً على عمله النبيل‪.‬‬

‫‪ 3‬وهو من قرية "شوش " التابعة لقضاء "عقرة " يف مشايل العراق‪ .‬قرأ العلوم االسالمية وتضلّع‬
‫هبا‪ .‬نذر خطه اجلميل لرسائل النور‪ ،‬والسيما الشارات االعجاز‪ ،‬حيث كتب منها اربع‬
‫نسخ عالوة على ما استنسخه من الرسائل املرتمجة يف وقته حىت كان يستنسخ بعضها يف‬
‫ضوء القمر‪ .‬من تأليفاته "رياض النور " يف سرية الرسول االعظم صلى هللا عليه وسلم يف‬
‫ثالثة عشر ألف بيت باللغة الكردية‪ .‬تويف سنة ‪ 1162‬عن اربع واربعني سنة من العمر‪.‬‬
‫أسكنه هللا فسيح جناته‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪11 :‬‬

‫و ‪ -‬الطبعة االخرية املطبوعة يف مؤسسة اخلدمات االجتماعية يف بريوت سنة ‪1110‬‬


‫(‪ )1170‬وقد الحظت فيها‪:‬‬

‫‪ -1‬ترمجة السيد عاصم احلسيين ملقدمة الكتاب اليت كتبها االستاذ النورسى بالرتكية‪،‬‬
‫يت فيها تغيريات طفيفة لتفي مبراد املؤلف‪ ،‬مث اتتمت ترمجة‬‫اقتصرت على قس ٍم منها‪ ،‬فاجر ُ‬
‫بقية املقدمة‪.‬‬

‫‪ -2‬كلمة ثناء او (تقريظ) للشيخ صدرالدين البدليسي‪ ،‬وهي كلمة قيمة لبيان ظروف تأليف‬
‫التفسري‪ ،‬ومقارنته مع تفاسري اخرى مشهورة‪ ،‬فأبقيتها كما هي‪.‬‬
‫‪ -1‬هناك يف ختام الكتاب ثالث عشرة شهادة من شهادات الفالسفة وعلماء اوربا حول‬
‫أحقية القرآن‪ ،‬امهلتُها لركاكة ترمجتها اوالً ولعدم عثوري على اصوهلا كي اترمجها جمدداً‪،‬‬
‫ووضعت بدالً منها ما ق ّدمه االستاذ الدكتور عمادالدين خليل مشكوراً فصالً من كتابه القيم‬
‫قالوا عن االسالم وهو الفصل االول اخلاص بالقرآن الكرمي‪ ،‬فأحلقناه كامالً بالكتاب‪ ،‬فجزاه‬
‫هللا خرياً على عمله اجلليل‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬وبعد املقابلة او يف اثنائها صححت االخطاء املطبعية واالمالئية‪ ،‬مع تشكيل وضبط‬
‫وخرجت االحاديث الشريفة‬‫الكثري من الكلمات‪ ،‬مث عزوت اآليات الكرمية اىل سورها‪ّ .‬‬
‫لدي‪ ،‬ومبساعدة االخ الكرمي فالح عبد الرمحن‪ .‬وتركنا‬
‫الواردة فيه من الكتب املعتمدة املتوفرة ّ‬
‫قسما من االحاديث كما هو‪ ،‬لعل هللا يهئ لنا من املصادر احلديثية ما نتمكن من خترجيه‪ ،‬او‬
‫يرشدنا اليه علماؤنا االفاضل‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬راجعت امهات القواميس كاحمليط واملصباح وخمتار الصحاح وغريها لتفسري بعض ما‬
‫علي من كلمات‪..‬‬
‫استغلق ّ‬
‫رابعاً‪ :‬استخرجت االمثال الواردة فيه‪ ،‬وقابلتها مع اصوهلا يف جممع االمثال للميداين‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪10 :‬‬

‫علي من العبارات‪ ،‬استناداً اىل الرتمجة الرتكية‪ ،‬حيث جاءت‬


‫خامساً‪ :‬وضحت بعض ما أُهبم ّ‬
‫فيها تلك العبارات اكثر وضوحا‪ .‬وادرجتها يف اهلامش مع تذييلها بـ(ت) ورقم الصفحة‪.‬‬

‫علي امور حنوية ومسائل لغوية‪ .‬اضطرتين اىل مراجعة امهات الكتب‬‫سادساً‪ :‬استشكلت ّ‬
‫اللغوية كاملغين واالمشوين وغريمها‪ ،‬حىت اطمأن القلب وحصلت القناعة التامة بان ما اقره‬
‫االستاذ النورسى هو الصواب‪ ،‬او فيه جواز‪ ،‬وان ما الفته وتعلمته من قواعد النحو ما هو اال‬
‫النزر اليسري من حبر حميط عظيم بل ما هو اال الوجه الشائع من بني وجوه كثرية‪.‬‬
‫وبعد الفراغ من العمل بتوفيق هللا سبحانه وتعاىل‪ ،‬وضعت كل ماقمت به بني يدي اخي‬
‫االستاذ الدكتور حمسن عبد احلميد ليدلين على عثرايت ويبصرين على ثغرات العمل؛ اذ هو‬
‫وخ َرب اصول التفسري وضوابطه‬‫ب الرازي سنني‪ ،‬والزم االلوسى سنني اخرى‪َ ،‬‬ ‫صاح َ‬
‫الذي َ‬
‫درسا وتدريساً لسنني طويلة‪ ،‬ومازال‪ ،‬فكلل جهدي جزاه هللا خرياً مبقدمة وافية شافية‪.‬‬

‫وبعد‪:‬‬

‫فلقد بذلت ما بوسعى يف حتقيق الكتاب‪ ،‬ولست زاعما اين اوفيت حقه‪ ،‬ولكن حسيب انين‬
‫حاولت‪ ،‬وبذلت ما استطعت ابتغاء ان يكون من العمل الصاحل عندهللا‪ ،‬ورجاء ان تنايل‬
‫دعوة خالصة ممن ينتفع به‪.‬‬

‫وهللا نسأل ان يوفقنا اىل ُحسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل‪.‬‬

‫وصل اللّهم على سيدنا حممد وعلى آله وصحبه وسلم‪.‬‬


‫ّ‬

‫احسان قاسم الصاحلي‬

‫ليلة النصف من شعبان سنة ‪1047‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪16 :‬‬

‫اشــارات االعـجــاز‬

‫فـ ــي‬

‫مـظــان االيـجـ ــاز‬


‫تأليف‬

‫بديع الزمان سعيد النورسي‬

‫حتقيق‬

‫احسان قاسم الصاحلي‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪17 :‬‬

‫يم‬ ‫الر ْمح ـ ِن َّ ِ‬


‫بس ِم هللا َّ‬
‫الرح ْ‬ ‫ْ‬
‫مقدمة الرتمجة الرتكية‬

‫تنبيه‬

‫لقد مت تأليف تفسري اشارات االعجاز يف السنة االوىل من احلرب العاملية االوىل على جبهة‬
‫القتال بدون مصدر او مرجع‪ .‬وقد اقتضت ظروف احلرب الشاقة وما يواكبها من حرمان أن‬
‫يُكْتب هذا التفسري يف غاية االجياز واالختصار السباب عديدة ‪.‬‬

‫وقد بقيت الفاحتة والنصف االول من التفسري على حنو اشد امجاال واختصارا‪:‬‬
‫يعرب‬
‫أوالً‪ :‬الن ذلك الزمان مل يكن يسمح بااليضاح‪ ،‬نظراً اىل ان (سعيداً القدمي) كان ّ‬
‫بعبارات موجزة وقصرية عن مرامه‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬كان (سعيد) يضع درجة افهام طلبته االذكياء جداً موضع االعتبار‪ .‬ومل يكن يفكر يف‬
‫فهم اآلخرين ‪.‬‬

‫يبني أدق وأرفع ما يف نظم القرآن من االجياز املعجز‪ ،‬جاءت العبارات قصرية‬
‫ثالثاً‪ :‬ملا كان ّ‬
‫ورفيعة‪.‬‬

‫أجلت النظر فيه اآلن بعني (سعيد اجلديد)‪ .‬فوجدت ان هذا التفسري مبا حيتويه من‬‫بيد انين َ‬
‫تدقيقات‪ ،‬يع ّد حبق حتفة رائعة من حتف (سعيد القدمي) بالرغم من اخطائه وذنوبه‪.‬‬

‫مايعن له بنية‬
‫وملا كان ( اي سعيد القدمي ) يتوثب لنيل مرتبة الشهادة اثناء الكتابة‪ ،‬فيكتب ّ‬
‫خالصة‪ ،‬ويطبق قوانني البالغة ودساتري علوم العربية‪ ،‬مل استطع ان اقدح‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪19 :‬‬

‫يف اي موضع منه‪ ،‬اذ رمبا جيعل الباري عز وجل هذا املؤلَّف كفارة لذنوبه ويبعث رجاالً‬
‫يستطيعون فهم هذا التفسري حق الفهم‪.‬‬

‫ولوال موانع احلرب العاملية‪ ،‬فقد كانت النيّة تتجه اىل ان يكون هذا اجلزء وقفاً على توضيح‬
‫االعجاز النظمي من وجوه اعجاز القرآن ‪ ،‬وان تكون االجزاء الباقية كل واحد منها وقفاً‬
‫على سائر اوجه االعجاز‪.‬‬

‫حقائق التفسري املتفرقة يف الرسائل ألصبح تفسرياً بديعاً جامعاً‬


‫َ‬ ‫ولو ضمت االجزاء الباقية‬
‫للقرآن املعجز البيان ‪.‬‬
‫ولعل هللا يبعث هيئة سعيدة من املنورين جتعل من هذا اجلزء ومن الكلمات و املكتوبات‬
‫الست والستني‪ ،‬بل املائة والثالثني من اجزاء رسائل النور مصدراً‪ ،‬وتكتب يف ضوئه تفسرياً‬
‫من هذا القبيل‪)*(.‬‬

‫سعيد النورسي‬

‫(*) ان هذا التفسري القيم بني دفتيه ٍ‬


‫نكات ‪ 1‬بالغية دقيقة‪ ،‬قد اليفهمها كثري من القراء‪،‬‬
‫واليعريون هلا اهتمامهم‪ ،‬والسيما ما جاء ضمن اآليتني اللتني تصفان حال الكفار واآليات‬
‫األثنىت عشرة اخلاصة باملنافقني‪.‬‬

‫ان ذكر نكات دقيقة يف تلك اآليات واالقتصار على بيان دقائق دالالت الفاظها وبدائع‬
‫اشاراهتا باهتمام بالغ‪ ،‬من دون تفصيل ملاهية الكفر‪ ،‬مع تطرق يسري اىل الشبهات اليت‬
‫يلتزمها املنافقون ‪ -‬خالفاً ملا جرى يف سائر اآليات من حتقيق وتفصيل ‪ -‬اقول ان سبب‬
‫ذلك كله نلخصه يف نكات ثالث‪:‬‬

‫النكتة االوىل‪:‬‬

‫احس سعيد القدمي ‪ -‬بفيض من القرآن الكرمي ‪ -‬انه سيظهر يف هذا الزمان املتأخركفار‬
‫لقد ّ‬
‫ال يهتدون بكتاب ومنافقون من االديان السابقة‪ ،‬كما ظهروا يف بداية االسالم‪ ،‬فاكتفى‬
‫ببيان النكات الدقيقة لتلك اآليات من دون ان خيوض يف حقيقة‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬النكتة‪ :‬هى مسألة لطيفة اُخرجت بدقة نظر وإمعان فكر‪ ،‬ومسيت املسألة الدقيقة نكتة‬
‫لتأثري اخلواطر يف استنباطها ‪" -‬التعريفات للجرجاين"‪.‬‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪11 :‬‬

‫مسلكهم وبيان نقاط ارتكازهم‪ ،‬بل تركها جمملة دون تفصيل‪ ،‬لئال يع ّكر صفو اذهان القراء‬
‫سئ مهما كان يف ذهن القارئ‪،‬‬ ‫الكرام‪ .‬ومن املعلوم ان هنج رسائل النور هو‪ :‬عدم ترك أث ٍر ٍ‬
‫اذ جتيب اجوبة قاطعة على الشبهات اليت يثريها اعداء االسالم من دون ان تذكر الشبهة‬
‫نفسها ‪ -‬خبالف سائر العلماء ‪ -‬فتسد هبذا دخول اية شبهة كانت يف ذهن القارئ‪ .‬فانتهج‬
‫سعيد القدمي يف تفسريه هذا مسلك رسائل النور‪ ،‬فأوىل اهتمامه باجلانب البالغي لتلك‬
‫اآليات وبيان الفاظها واشاراهتا لئال يك ّدر االذهان ويعكر صفوها‪.‬‬

‫النكتة الثانية‪:‬‬

‫ملا كانت قراءة كل حرف من القرآن الكرمي فيها عشر حسنات أو مائة حسنة أو ألفاً من‬
‫مثرات اآلخرة أو الوفاً منها‪ ،‬فال يع ّد اذن ايضاح سعيد القدمي لنكات دقيقة ختص كلمات‬
‫القرآن الكرمي اسرافاً يف الكالم‪ ،‬اذ رغم دقة االهداب وصغر بؤبؤ العني فإن هلما امهية‬
‫احس سعيد القدمي يف النكات البالغية مثل هذه االمهية‪ ،‬لذا مل تثنه شراسة‬
‫عظمى‪ .‬فلقد ّ‬
‫املعارك وهول احلرب يف اجلبهة االمامية عن امالء ادق النكات القرآنية على تالميذه ‪.‬‬

‫النكتة الثالثة‪:‬‬

‫ان الرتمجة الرتكية هلذا التفسري مل توف بالغته الفائقة حق الوفاء‪ ،‬بل جاءت خمتصرة يف‬
‫مواضع عدة‪ .‬وسنلحق هبا ‪ -‬باذن هللا ‪ -‬التفسري العريب رفعاً هلذا النقص ما مل يكن من‬
‫مانع‪ .‬فريجى بذل املستطاع ليكون طبعه مطابقاً لالصل حمافظاً على توافقاته الرائعة اليت مل‬
‫متسها ارادة انسان‪ ،‬وذلك لئال تضيع عالمات قبوله‪.‬‬

‫سعيد النورسي‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪24 :‬‬

‫افادة املرام‬

‫اقول‪ :‬ملا كان القرآ ُن جامعاً ألشتات العلوم وخطبةً لعامة الطبقات يف كل االعصار‪ ،‬ال‬
‫يتحصل له تفسري الئق من فهم الفرد الذي قلما خيلُص من التعصب ملسلكه ومشربه؛ اذ‬ ‫ّ‬
‫خيصه ليس له دعوة الغري اليه إالّ ان يُع ّديه ‪ 1‬قبول اجلمهور‪ .‬واستنباطُه ‪ -‬ال بالتشهي‬
‫فهمه ُّ‬
‫ُ‬
‫‪ -‬له العمل لنفسه فقط‪ ،‬وال يكون حجةً على الغري إالّ ان يص ّدقه نوعُ امجاع‪.‬‬

‫فكما البد لتنظيم االحكام واطرادها ورفع الفوضى ‪ -‬الناشئة من حرية الفكر مع امهال‬
‫االمجاع ‪ -‬من وجود هيئة عالية من العلماء احملققني الذين ‪ -‬مبظهريتهم ألمنية العموم‬
‫واعتماد اجلمهور ‪ -‬يتقلدون كفالة ضمنية لالمة‪ ،‬فيصريون مظهر َّ ِ‬
‫حج ِية االمجاع الذي‬
‫سر ّ‬
‫التصري نتيجةُ االجتهاد شرعاً ودستوراً االّ بتصديقه وس ّكته ‪2‬؛ كذلك البد لكشف معاين‬
‫القرآن ومجع احملاسن املتفرقة يف التفاسري وتثبيت حقائقه ‪ -‬املتجلية بكشف الفن ‪ 1‬ومتخيض‬
‫الزمان ‪ -‬من انتهاض هيئة عالية من العلماء املتخصصني‪ ،‬املختلفني يف وجوه االختصاص‪،‬‬
‫وهلم مع ِ‬
‫دقة نظر ُو ْسعةُ ‪ 0‬فك ٍر لتفسريه‪.‬‬

‫نتيجة املرام ‪:‬‬

‫انه البد ان يكون مفسر القرآن ذا دهاء عال واجتهاد نافذ ووالية كاملة‪ .‬وماهو اآلن إالّ‬
‫الشخص املعنوي املتولد من امتزاج االرواح وتساندها وتالحق االفكار وتعاوهنا وتظافر‬
‫حكم ليس ٍ‬
‫لكل كثرياً مايُرى‬ ‫القلوب واخالصها وصميميتها‪ ،‬من بني تلك اهليئة‪ .‬فبسر للكل ٌ‬
‫‪9‬‬
‫ت منها افر ُادها‪.‬‬
‫ونوره وضياؤها ‪ ،‬من مجاعة َخلَ ْ‬
‫آثار االجتهاد وخاصةُ الوالية‪ُ ،‬‬
‫ُ‬

‫_____________________‬
‫‪ 1‬ع ّدى الشئ‪ :‬اجازه وأنفذه‪.‬‬

‫‪ 2‬سكة‪ :‬شارة الدولة املوضوعة على مسكوكاهتا‪.‬‬

‫‪ 3‬العلم احلديث‪.‬‬

‫‪ُ 4‬وسعة واتساع وسعة مبعىن الطاقة والقدرة‪.‬‬

‫‪ 5‬نور االجتهاد وضياء الوالية‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪21 :‬‬

‫مث اين بينما كنت منتظراً ومتوجهاً هلذا املقصد بتظاهر هيئة كذلك ‪ -‬وقد كان هذا غاية‬
‫تقرب زلزلة عظيمة ‪،1‬‬
‫خيايل من زمان مديد ‪ -‬اذ سنح لقليب من قبيل احلس قبل الوقوع ّ‬
‫فشرعت ‪ -‬مع عجزي وقصوري واالغالق يف كالمي ‪ -‬يف تقييد ما سنح يل من اشارات‬ ‫ُ‬
‫اعجاز القرآن يف نظمه وبيان بعض حقائقه‪ ،‬ومل يتيسر يل مراجعة التفاسري‪ .‬فان وافقها فبِها‬
‫علي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ت واالّ فالعُهدة ّ‬‫ون ْع َم ْ‬

‫انتهزت فرصة يف خط‬


‫ُ‬ ‫فوقعت هذه الطامة الكربى‪ ..‬ففي اثناء اداء فريضة اجلهاد كلما‬
‫ْ‬
‫قيدت ماالح يل يف االودية واجلبال بعبارات متفاوتة باختالف احلاالت‪ .‬فمع‬
‫احلرب ُ‬
‫ظهرت يف حالة من‬
‫ْ‬ ‫احتياجها اىل التصحيح واالصالح اليرضى قليب بتغيريها وتبديلها؛ اذ‬
‫خلوص النية ال توجد اآلن‪ ،‬فاعرضها ألنظار اهل الكمال ال ألنه تفسري للتنزيل‪ ،‬بل ليصري‬
‫مأخذ ‪ 2‬لبعض وجوه التفسري‪ .‬وقد ساقين شوقي اىل ماهو فوق‬ ‫‪ -‬لو ظفر بالقبول ‪ -‬نوع ٍ‬
‫َ‬
‫طوقي‪ ،‬فان استحسنوه شجعوين على الدوام‪.‬‬

‫ومن هللا التوفيق‪.‬‬

‫سعيد النورسي‬
‫_____________________‬

‫‪ 1‬لقد اخربنا مراراً يف اثناء الدرس وقوع زلزلة عظيمة (مبعىن احلرب العمومية فوقعت كما‬
‫اخربنا)‪.‬‬

‫محزة ‪ .‬حممد شفيق ‪ .‬حممد مهرى‪( .‬هؤالء من تالميذ املؤلف)‪.‬‬

‫‪ 2‬املصدر واملرجع‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪22 :‬‬

‫ملعة من تعريف القرآن‬

‫فان قلت‪ :‬القرآن ما هو؟‬

‫قيل لك‪ :‬هو الرتمجةُ االزلية هلذه الكائنات‪ ،‬والرتمجا ُن االبدي أللسنتها التاليات لآليات‬
‫كشاف ملخفيات كنوز االمساء املسترتة يف‬
‫ٌ‬ ‫ومفس ُر كتاب العا َمل‪ ..‬وكذا هو‬
‫التكوينية‪ّ ،‬‬
‫املض َمرة يف سطور احلادثات‪..‬‬‫مفتاح حلقائق الشؤون ْ‬
‫صحائف السموات واالرض‪ ..‬وكذا هو ٌ‬
‫وكذا هو لسان الغيب يف عامل الشهادة‪..‬وكذا هو خزينةٌ للمخاطبات االزلية السبحانية‬
‫ومشس هلذا العامل املعنوي‬
‫أساس وهندسةٌ ٌ‬ ‫وااللتفاتات االبدية الرمحانية‪ ..‬وكذا هو ٌ‬
‫القول الشارح والتفسريُ الواضح‬
‫االسالمي‪ ..‬وكذا هو خريطةٌ للعامل األُخروي‪ ..‬وكذا هو ُ‬
‫والربهان القاطع والرتمجان الساطع لذات هللا وصفاته وامسائه وشؤونه‪ ..‬وكذا هو ٍّ‬
‫مرب للعامل‬
‫االنساين‪ ،‬وكاملاء وكالضياء لالنسانية الكربى اليت هي االسالمية‪ ..‬وكذا هو احلكمة احلقيقية‬
‫كتاب‬ ‫ِ‬
‫البشر له‪ ..‬وكذا هو لالنسان‪ :‬كما انه ُ‬ ‫لنوع البشر‪ ،‬وهو املرشد املهدي اىل ما ُخل َق ُ‬
‫كتاب ام ٍر ودعوة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كتاب دعاء وعبودية كذلك هو ُ‬ ‫شريعة كذلك هو كتاب حكمة‪ ،‬وكما انه ُ‬
‫ِ‬
‫كتب كثريةٌ يف‬
‫كتاب واحد لكن فيه ٌ‬ ‫كتاب فكر‪ ،‬وكما انه ٌ‬ ‫كتاب ذك ٍر كذلك هو ُ‬ ‫وكما انه ُ‬
‫مقدس مشحون بالكتب والرسائل‬ ‫ٍ‬ ‫مقابلة مجيع حاجات االنسان املعنوية‪ ،‬كذلك هو كمنزل‬
‫كل و ٍ‬ ‫‪ .‬حىت انه قد أبرز مل ْشرب ِ ٍ‬
‫احد من اهل‬ ‫كل واحد من اهل املشارب املختلفة‪ ،‬وملسلك ِّ‬ ‫َ ّ‬
‫املسالك املتباينة من االولياء والصديقني ومن العرفاء واحملققني رسالةً الئقةً ملذاق ذلك‬
‫املشرب وتنويره‪ ،‬وملساق ذلك املسلك وتصويره حىت كأنه جمموعة الرسائل‪.‬‬

‫سعيد النورسي‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪21 :‬‬

‫الرِحْيم‬ ‫بس ِم هللا َّ‬


‫الر ْمحَن َّ‬ ‫ْ‬
‫(اَ َّلر ْمحن * َعلَّم اَلْ ُقرآ َن * خلَق ِ‬
‫االنْ َسا َن * َعلَّ َمهُ الْبَـيَا َن )‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ‬
‫فنحمده مصلني على نبيه حممد الذي ارسله رمحة للعاملني وجعل معجزته الكربى اجلامعة‬
‫برموزها واشاراهتا حلقائق الكائنات باقية على مر الدهور اىل يوم الدين وعلى آله عامة‬
‫واصحابه كافة‪.‬‬

‫أما بعد؛ فاعلم!‬

‫اوالً‪ :‬ان مقصدنا من هذه االشارات تفسري مجلة من رموز نظْ ِم القرآن؛ ألن االعجاز يتجلى‬
‫نقش النظم‪.‬‬
‫من نظمه‪ .‬وما االعجاز الزاهر االّ ُ‬
‫وثانياً‪ :‬ان املقاصد االساسية من القرآن وعناصره االصلية اربعة‪ :‬التوحيد والنبوة واحلشر‬
‫والعدالة؛ النه‪:‬‬

‫متسلسلة ر ٍ‬
‫احلة من أودية املاضي وبالده‪ ،‬سافرةٍ يف صحراء‬ ‫ٍ‬ ‫كب ٍ‬
‫وقافلة‬ ‫ملا كان بنو آدم كر ٍ‬
‫ذاهبة اىل شواهق االستقبال‪ ،‬متو ٍ‬
‫جهة اىل جنّاته‪ ،‬فتهتز هبم املناسبات وتتوجه‬ ‫الوجود واحلياة‪ٍ ،‬‬
‫ِ‬
‫احلكمة مستنطقا وسائالً منهم بـ "يا بين‬ ‫ت حكومةُ اخلِلقة فَ َّن‬
‫اليهم الكائنات‪ .‬كأنه اَرسلَ ْ‬
‫آدم! ِمن أين؟ اىل أين؟ ماتصنعون؟ َم ْن سلطانكم؟ َم ْن خطيبكم؟"‬

‫نوع‬
‫فبينما احملاورة‪ ،‬اذ قام من بني بين آدم ‪ -‬كأمثاله األماثل من الرسل اويل العزائم ‪ -‬سيّ ُد ِ‬
‫حممد اهلامشي صلى هللا عليه وسلم وقال بلسان القرآن‪:‬‬
‫البشر ّ‬
‫"ايها احلكمة ! حنن معاشر املوجودات جنئ بارزين من ظلمات العدم بقدرة سلطان االزل‪،‬‬
‫اىل ضياء الوجود‪ ..‬وحنن معاشر بين آدم بُعِثْنا بصفة املأمورية ممتازين من بني اخواننا‬
‫املوجودات حبمل االمانة‪ ..‬وحنن على جناح السفر من طريق احلشر‬

‫___________‬

‫‪ -1‬اى‪ :‬ايها الفن املسمى باحلكمة‪ .‬والفن يطلق على كل علم‪ ،‬واحلكمة‪ :‬علم يبحث عن‬
‫حقائق االشياء على ما هى عليه يف الوجود بقدر الطاقة البشرية‪ ،‬فهى علم نظرى غري آيل‬
‫(التعريفات)‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪20 :‬‬

‫أس‬
‫اىل السعادة االبدية‪ ،‬ونشتغل اآلن بتدارك تلك السعادة وتنمية االستعدادات اليت هى ر ُ‬
‫مالِنا‪ ..‬وانا سيُّ ُدهم وخطيبهم‪ .‬فها دونكم منشوري! وهو كالم ذلك السلطان األزيل تتألأل‬
‫اب الصواب ليس اال القرآ ُن‪ ،‬ذلك‬
‫عليه س ّكةُ االعجاز‪ .‬واجمليب عن هذه االسئلة اجلو َ‬
‫الكتاب‪..‬‬

‫كان ‪ 1‬هذه االربعة عناصره االساسية‪.‬‬


‫فكما ترتاءى هذه املقاصد االربعة يف كله‪ ،‬كذلك قد تتجلى يف سورةٍ سورة‪ ،‬بل قد يـُْل َمح هبا‬
‫لكل ٍ‬
‫فكل‬ ‫كالم كالم‪ ،‬بل قد يـرمز اليها يف ٍ‬
‫كلمة كلمة؛ الن كل جزء فجزء كاملرآة ٍ‬ ‫يف ٍ‬
‫ُْ َ‬
‫جزء ٍ‬
‫فجزء متسلسال‪.‬‬ ‫متصاعداً‪ ،‬كما ان الكل يرتاءى يف ٍ‬

‫ص كالكلي ذي‬
‫املشخ ُ‬
‫عرف القرآ ُن َّ‬
‫وهلذه النكتة ‪ -‬اعين اشرتاك اجلزء مع الكل ‪ -‬يُ ّ‬
‫اجلزئيات؟‪.‬‬

‫ان قلت‪ :‬ارين هذه املقاصد االربعة يف "بسم هللا" ويف "احلمد هلل"‪.‬‬

‫قلت‪ :‬ملا اُنزل (بسم هللا) لتعليم العباد كان "قُ ْل" َّ‬
‫مقدراً فيه‪ .‬وهو األ ُّم يف تقدير االقوال‬
‫القرآنية ‪ .2‬فعلى هذا يكون يف "قل" اشارة اىل الرسالة‪ ..‬ويف (بسم هللا) رمز اىل االلوهية‪..‬‬
‫‪1‬‬
‫تلميح اىل نظام العدالة واالحسان‪ ..‬ويف‬
‫ٌ‬ ‫(الرمحن)‬ ‫ويف‬ ‫‪..‬‬ ‫تلويح اىل التوحيد‬
‫ويف تقدمي الباء ٌ‬
‫(الرحيم) امياء اىل احلشر‪.‬‬

‫رمز اىل التوحيد‪ ..‬ويف (رب‬


‫وكذلك يف (احلمد هلل) اشارةٌ اىل االلوهية‪ ..‬ويف الم االختصاص ٌ‬
‫العاملني) امياء اىل العدالة والنبوة ايضا؛ الن بالرسل تربيةُ نوع البشر‪ ..‬ويف (مالك يوم الدين)‬
‫تصريح باحلشر‪.‬‬

‫ص َدف (اِنَّا اَ ْعطَْيـنَ َ‬


‫اك الْ َك ْوثـََر )‪ 0‬يتضمن هذه اجلواهر‪ .‬هذا مثاال فانسج على منواله‪.‬‬ ‫حىت ان َ‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬جواب ملا ‪( ..‬املؤلف)‪.‬‬

‫‪ 2‬اى‪ :‬يا حممد! قل هذا الكالم وعلّمه الناس (ت‪)11 :‬‬

‫‪ 3‬حيث يفيد احلصر‪( .‬ت‪)11 :‬‬

‫‪ 4‬وهى من اقصر السور القرآنية‪.‬‬


‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪29 :‬‬

‫(بِ ْس ِم هللا) كالشمس يضئ نَـ ْف َسه كغ ِريه‪ ،‬فاستغىن‪ .‬حىت ان باءه متعلقة بالفعل املفهوم من‬
‫يمن به‪ ،‬أو مبا يستلزمه "قل" املقدَّر من‬
‫معناها ‪ -‬اي‪ :‬استعني به‪ ،‬او املفهوم عرفاً‪ ،‬أي‪ :‬أتَ ّ‬
‫املؤخر لالخالص والتوحيد ‪.1‬‬
‫"أقرأ" ‪ّ -‬‬

‫اما "االسم" فاعلم! ان هلل امساء ذاتية‪ ،‬وامساء فعلية متنوعة كالغفار والرزاق واحمليي واملميت‬
‫وتنوعُها وتكثُّرها بسبب تعدد نسبة القدرة االزلية اىل انواع الكائنات ‪ .2‬فكأن (بسم‬‫وأمثاهلا‪ّ .‬‬
‫التعلق روحاً ُمم ّداً لكسب العبد‪.‬‬
‫هللا) استنز ٌال لتأثري وتعلق القدرة ليكون ذلك ُ‬
‫(هللا) لفظة اجلالل نسخةٌ جامعة جلميع الصفات الكمالية لداللتها التزاماً عليه؛ بسر استلزام‬
‫ذاته تعاىل لصفاته خبالف سائر األَعالم‪ ،‬لعدم االستلزام‪.‬‬

‫الرِحي ِم)‬
‫(الر ْمح ِن َّ‬
‫َّ‬

‫وجه النظم‪ :‬ان لفظ اجلالل كما يتجلى منه اجلالل بسلسلته‪ ،‬كذلك يرتاءى اجلمال‬
‫بسلسلته من (الرمحن الرحيم)‪ .‬اذ اجلالل واجلمال اصالن تسلسل منهما ‪ -‬بتجليهما يف كل‬
‫عامل ‪ -‬فروعٌ‪ :‬كاالمر والنهي‪ ،‬والثواب والعذاب‪ ،‬والرتغيب والرتهيب‪ ،‬والتسبيح والتحميد‪،‬‬
‫واخلوف والرجاء اىل آخره‪. .‬‬

‫وايضا كما ان لفظ اجلالل اشارة اىل الصفات العينية والتنزيهية؛ كذلك "الرحيم" امياء اىل‬
‫عني والغريٌ؛ اذ‬
‫الصفات الغريية الفعلية؛ و"الرمحن" رمز اىل الصفات السبع اليت هي ال ٌ‬
‫تكرر الوجود‪ .‬والوجود يستلزم‬
‫"الرمحن" مبعىن الرزاق‪ ،‬وهو عبارة عن اعطاء البقاء ‪ .‬والبقاءُ ُ‬
‫صة وصفة ُم َؤثَِّرة‪ ،‬وهي العلم واالرادة والقدرة‪ .‬والبقاء الذي هو مثرة‬
‫صَ‬
‫ِ‬
‫صفة ممَُيِّزة وصفة ُخمَ ّ‬
‫اعطاء الرزق يقتضي عُرفاً ثبوت البصر والسمع والكالم؛ اذ البد للرزاق من البصر لريى‬
‫حاجة املرزوق إن مل يَطلب‪ ،‬ومن السمع ليستمع كالمه إن طلب‪ ،‬ومن الكالم ليتكلم مع‬
‫الواسطة إن كانت ‪ .‬وهذه الست تستلزم السابعة اليت هي احلياة‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬ان االفعال املذكورة املتعلقة بالباء‪ ،‬تق ّدر مؤخراً للحصر ليتضمن االخالص والتوحيد (ت‪:‬‬
‫‪)10‬‬

‫‪ 2‬اى بسبب عالقة القدرة االزلية وتعلّقها بانواع الكائنات وافرادها (ت‪)10 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪26 :‬‬

‫ان قلت‪ :‬تذييل "الرمحن" الدال على النِ َع ِم العظيمة بـ "الرحيم" الدال على النعم الدقيقة‬
‫التديل‪ .‬والبالغة يف صنعة الرتقِّي من االدىن اىل االعلى؟‬
‫يكون صنعة ّ‬

‫تذييل للتتميم كاالهداب للعني واللجام للفرس‪ ..‬وايضا ملا توقفت العظيمةُ على‬ ‫قلت‪ٌ :‬‬
‫الدقيقة‪ ،‬كانت الدقيقة ارقى كاملفتاح للقفل واللسان للروح‪ ..‬وايضا ملا كان هذا املقام مقام‬
‫ِ‬
‫االمتنان‬ ‫التنبيه على مواقع النِ َع ِم كان األخفى أجدر بالتنبيه‪ ،‬فيكون صنعةُ ِّ‬
‫التديل يف مقام‬
‫التعداد صنعةَ الرتقِّي يف مقام التنبيه‪.‬‬
‫و ِ‬

‫حمال يف حقه تعاىل كرقَِّة القلب‪ .‬وان اُريد‬


‫ان قلت‪" :‬الرمحن" و"الرحيم" كامثاهلما مببادئها ٌ‬
‫منها النهايات ‪ 1‬فما حكمة اجملاز؟‬

‫قلت‪ :‬هي حكمة املتشاهبات ‪2‬؛ وهي التنزالت االهلية اىل عقول البشر؛ لتأنيس االذهان‬
‫صيب مبا يألفه ويأنس به‪ .‬فان اجلمهور من الناس جيتنون معلوماهتم‬
‫وتفهيمها‪ ،‬كمن تكلم مع ّ‬
‫عن حمسوساهتم وال ينظرون اىل احلقائق احملضة اال يف مرآة متخيالهتم ومن جانب مألوفاهتم‪..‬‬
‫وايضا املقصود من الكالم‪ :‬افادةُ املعىن‪ ،‬وهي التتم اال بالتأثري يف القلب واحلس‪ ،‬وهو‬
‫وب مألوف املخاطب وبه يستعد القلب للقبول‪.‬‬ ‫الحيصل اال بإلباس احلقيقة اسل َ‬

‫(احلَ ْم ُد)‬

‫وجه النظم مع ما قبله‪ :‬ان "الرمحن" و"الرحيم" ملا دلّتا على النِ َعم استوجبتا تعقيب احلمد‪ .‬مث‬
‫ان (احلمد هلل) قد ُكِّرَرت يف أربع ُس َوٍر من القرآن ‪ ،1‬كل واحدة منها ناظرة اىل نعمة من‬
‫‪0‬‬
‫النعم االساسية اليت هي‪ :‬النشأة االوىل‪ ،‬والبقاء فيها؛ والنشأة االُخرى‪ ،‬والبقاء بعدها‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬اى‪ :‬إن قصد اإلنعام الذي هو نتيجة والزم ملعىن حقيقتهما (ت‪)16 :‬‬

‫‪ 2‬الىت حمال استعمال معناها احلقيقي حبقه تعاىل‪ ،‬كاليد (ت‪)16 :‬‬

‫‪ 3‬وهى‪ :‬االنعام‪ ،‬الكهف‪ ،‬سبأ‪ ،‬فاطر‪.‬‬

‫‪ 4‬قال ابو اسحق االسفرايىن رمحه هللا‪ :‬يف سورة "األنعام " كل قواعد التوحيد‪ .‬وملا كانت نعمه‬
‫تعاىل مما تفوت احلصر إالّ اهنا ترجع امجاالً اىل اجياد وابقاء يف النشأة االوىل‪ ،‬واجياد وابقاء يف‬
‫النشأة اآلخرة‪ .‬وقد اشري يف "الفاحتة " "الكهف " اىل االبقاء االول‪ ،‬ويف "سبأ " اىل االجياد‬
‫الثاىن‪ ،‬ويف "فاطر " اىل االبقاء الثاىن‪ ،‬فلهذا ابتدأت هذه السور اخلمس بالتحميد (حاشية‬
‫شهاب على سورة االنعام ج ‪ 0‬ص‪()2‬ب)‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪27 :‬‬


‫‪1‬‬
‫كتصور العلة الغائية‬ ‫ِ‬
‫مث وجه نظمه يف هذا املقام‪ ،‬أي جعله فاحتةَ فاحتة القرآن هو‪ :‬انه ّ‬
‫للخلقة‪ ،‬واملعر ِفة اليت هي‬
‫احلمد صورةٌ امجالية للعبادة اليت هي نتيجةٌ ِ‬
‫امل َقدَّم يف الذهن؛ الن َ‬
‫(وماخلقت‬
‫ُ‬ ‫تصور للعلة الغائية‪ ..‬وقد قال عز وجل‬
‫حكمةٌ وغايةٌ للكائنات‪ .‬فكأن ذكره ٌ‬
‫‪2‬‬
‫اجلن وا ِإلنس االّ ليعبدون)‬
‫َّ‬

‫مث ان املشهور من معاين احلمد اظهار الصفات الكمالية‪.‬‬

‫وحتقيقه‪ :‬ان هللا سبحانه خلق االنسان وجعله نسخة جامعة للكائنات‪ ،‬وفهرستة ‪ 1‬لكتاب‬
‫العا َمل املشتمل على مثانية عشر الف عا َمل‪ ،‬وأودع يف جوهره امنوذجاً من كل عا َمل جتلى فيه‬
‫ماخلِ َق ألجله ايفاءً للشكر‬ ‫ِ‬
‫صرف االنسا ُن كل مااُنع َم عليه اىل ُ‬
‫اسم من امسائه تعاىل‪ .‬فاذا َ‬ ‫ٌ‬
‫كل‬
‫العريف ‪ -‬الداخل حتت احلمد ‪ -‬وامتثاالً للشريعة اليت هي جالء لصدأ الطبيعة‪ ،‬يصريُ ُّ‬
‫امنوذج مشكاةً لعالَ ِم ِه ومرآةً له وللصفة املتجلية فيه واالسم املتظاهر منه‪ .‬فيكون االنسان‬
‫ٍ‬
‫بروحه وجسمه خالصةَ عامل ْي الغيب والشهادة‪ ،‬ويتجلى فيه ما جتلى فيهما‪.‬‬
‫َ‬
‫فباحلمد يصري االنسان مظهراً للصفات الكمالية االهلية‪ .‬يدل على هذا قول حمي الدين‬
‫اخلَْل َق لِيَـ ْع ِرفُوين) ‪ 9‬أي ‪ :‬فخلقت اخللق‬
‫ت ْ‬ ‫ِ‬
‫ت َكْنـَزاً خمَْفيًّا فَ َخلً ْق ُ‬
‫‪0‬‬
‫العريب يف بيان حديث ( ُكْن ُ‬
‫ليكون مرآ ًة ِ‬
‫أشاه ُد فيها مجايل‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬اى يكون املعلوم ألجلها‪.‬‬

‫‪ 2‬سورة الذاريات‪. 96 :‬‬

‫‪ 3‬فهرس وفهرست كلمة معربة‪.‬‬

‫‪ 4‬حمي الدين بن عريب‪ 619 - 964 :‬هـ ‪ 1204 - 1169/‬م‬


‫هو حممد بن علي بن حممد ابن عريب‪ ،‬ابو بكر احلامتي الطائي األندلسي‪ ،‬املعروف مبحي‬
‫الدين بن عريب‪ ،‬امللقب بالشيخ األكرب‪ :‬فيلسوف‪ ،‬من أئمة املتكلمني يف كل علم‪ .‬ولد يف‬
‫مرسيه (باالندلس) وانتقل اىل اشبيلية‪ .‬وقام برحلة فزار الشام وبالد الروم والعراق واحلجاز‪.‬‬
‫وانكر عليه اهل الديار املصرية «شطحات» صدرت عنه‪ ،‬فعمل بعضهم على إراقة دمه‪.‬‬
‫وحبس‪ ،‬فسعى يف خالصه علي بن فتح البجائي فنجا‪ .‬واستقر يف دمشق‪ ،‬فتويف فيها له حنو‬
‫اربعمائة كتاب ورسالة‪ ،‬منها (الفتوحات املكية) يف التصوف وعلم النفس و(فصوص‬
‫احلكم)‪.‬‬

‫االعالم ‪ 291/6‬فوات الوفيات ‪ 201/2‬ميزان االعتدال ‪ 149/1‬جامع كرامات االولياء‬


‫‪ 119/1‬شذرات الذهب ‪114./9‬‬

‫‪ 5‬ال يعرف له سند صحيح وال ضعيف‪ ،‬االّ ان علي القارئ قال‪ :‬ولكن معناه صحيح‪،‬‬
‫مستفاد من قوله تعاىل(وما خلقت اجلن واالنس إالّ ليعبدون) اى ليعرفوىن‪ ،‬كما فسره ابن‬
‫عباس رضى هللا عنهما (باختصار عن كشف اخلفاء ‪.)112/2‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪29 :‬‬


‫‪1‬‬
‫الحظ مبفهوم "الواجب‬
‫ُ َ‬ ‫ي‬ ‫الذي‬ ‫املشخص‬ ‫االقدس‬ ‫(هلل) أي احلمد خمتص ومستحق للذات‬
‫الوجود" ‪ 2‬اذ قد يالحظ املشخص بأمر عام‪ .‬وهذه الالم متعلقة مبعىن نفسها‪،‬كأهنا تشربت‬
‫معىن متعلقها ‪ .1‬ويف الالم اشارة اىل االخالص والتوحيد‪.‬‬

‫وذراتهُ كنجومه ِّ‬


‫متفرقةٌ‬ ‫كل منها كالعامل عا َمل؛ َّ‬
‫يريب العامل جبميع اجزائه‪ ،‬اليت ٌ‬
‫ب) أي الذي ّ‬ ‫(ر ِّ‬
‫َ‬
‫ِّ‬
‫متحركة باالنتظام‪.‬‬

‫عني لكل شئ نقطةَ ٍ‬


‫كمال وأودع فيه ميالً اليها‪ ،‬كأنه َأمَره أمراً معنويا‬ ‫واعلم! ان هللا عز وجل ّ‬
‫ان يتحرك به اليها‪ ،‬ويف سفره حيتاج اىل ما ُميدُّه ودفع ما يَعوقهُ‪ ،‬وذلك برتبيته عز وجل‪ .‬لو‬
‫كل منفرداً وجمتمعاً بوظيفته اليت‬
‫تأملت يف الكائنات لرأيتها كبين آدم طوائف وقبائل يشتغل ٌ‬
‫عيَّـنَها له صانِعُه ساعياً ُجم ّداً مطيعا لقانون خالقه‪ .‬فما اعجب االنسان كيف يش ّذ!‬

‫ني) الياء والنون إما‪ :‬عالمة لالعراب فقط كـ "عشرين وثالثني"‪ ..‬أو للجمعية؛ ألن‬ ‫ِ‬
‫(الْ َعالَم َ‬
‫اجزاء العامل َعوامل‪ ..‬أو العاملُ ليس منحصراً يف املنظومة الشمسية‪ .‬قال الشاعر‪:‬‬

‫س َوالْ َق َم ُر‬ ‫ك َجت ِري النّج ِِ‬


‫ا َحلم ُد هلل َكم هلل ِمن فَـلَ ٍ‬
‫َّم ُ‬
‫وم به َوالش ْ‬
‫ُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬
‫ِِ‬
‫(رأَيْـتُـ ُه ْم ِيل َساجد َ‬
‫‪0‬‬
‫يصور كل جزء من‬
‫ّ‬ ‫البالغة‬ ‫نظر‬
‫َ‬ ‫ان‬ ‫اىل‬ ‫ة‬
‫ً‬‫اشار‬ ‫ين)‬ ‫مجع العقالء مثل َ‬
‫وآثر َ‬
‫َ‬
‫ويشهد‬ ‫الصانع‬ ‫اسم مايُعلَ ُم به‬ ‫أجزاء العامل بصورةِ حي ٍ ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫عاقل متكلّم بلسان احلال‪ .‬اذ العا َمل ُ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫اإلعالم يُوميان ‪ -‬كالسجود ‪ -‬اىل اهنا كالعقالء‪.‬‬
‫عليه ويشري اليه‪ .‬فالرتبية و ُ‬
‫(الَّْر ْمحن الَّْرِحي ِم)‬

‫أساس ْي الرتبية؛ اذ "الرمحن" لكونه مبعىن الرزاق يالئم جلب‬


‫وجه النظم‪ :‬اهنما اشارتان اىل َ‬
‫املنافع؛ و"الرحيم" لكونه مبعىن الغفار يناسب دفع املضار ومها االساسان للرتبية‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬جعل كلمة "الذات" امساً للحقيقة فزال التأنيث‪.‬‬

‫‪ 2‬الذى يكون وجوده من ذاته وال حيتاج اىل شئ اصالً‪.‬‬

‫‪ 3‬بعد حذف متعلقها (ت‪)17 :‬‬

‫‪ 4‬سورة يوسف‪.0 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪21 :‬‬


‫ك يَـ ْوِم ال ِّدي ِن) اي يوم احلشر واجلزاء‪.‬‬
‫(مالِ ِ‬
‫َ‬
‫وجه النظم‪ :‬انه كالنتيجة لسابقه؛ اذ الرمحة من أدلة القيامة والسعادة االبدية؛ الن الرمحة امنا‬
‫فالعقل الذي‬
‫ُ‬ ‫تكون رمحةً‪ ،‬والنعمة نعمةً إذا جاءت القيامة وحصلت السعادة االبدية‪ .‬وإالّ‬
‫هو من اعظم النِ َعم يكون مصيبةً على االنسان‪ ،‬واحملبة والشفقة اللتان مها من ألطف انواع‬
‫الرمحة تتحوالن أملاً شديداً مبالحظة الفراق االبدي‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫مالك لكل شئ دائما فما وجه االختصاص؟‬
‫إن قلت‪ :‬ان هللا تعاىل ٌ‬

‫وض َعها هللا تعاىل يف عامل الكون والفساد‬


‫قلت‪ :‬لالشارة اىل ان االسباب الظاهرية اليت َ‬
‫إلظهار عظمته ‪ -‬أي لئال يُرى يف ظاهر نظر العقل مباشرةُ يد القدرة باالمور اخلسيسة يف‬
‫جهة ُم ْلك األشياء ‪ -‬ترتفع يف ذلك اليوم وتتجلّى ملكوتيةُ كل شئ صافيةً ش ّفافةً‪ ،‬حبيث‬
‫كل شئ سيِّ َده وصانِ َعه بال واسطة‪ .‬ويف التعبري بلفظ "اليوم" إشارة اىل امارة‬
‫يَرى ويَعرف ُ‬
‫البني بني اليوم والسنة‪ ،‬وعمر البشر ودوران‬
‫حدسية من امارات احلشر بناء على التناسب ّ‬
‫العادة للثواين والدقائق والساعات وااليام‪ .‬فكما ان َمن‬
‫الدنيا‪ .‬كالكائن بني اَْميال الساعة ّ‬
‫يرى ميالً أمتَّ َد ْوَره حيدس يف نفسه ان من شأن اآلخر أيضاً ان يتم دوره وإن كان مبهلة؛‬
‫كذلك ان من يرى القيامة النوعية املكررة يف أمثال اليوم والسنة يتحدس بتولد ربيع السعادة‬
‫كنوع‪.‬‬
‫شخصه ٍ‬ ‫ُ‬ ‫األبدية يف صبح يوم احلشر لإلنسان الذي‬

‫واملراد من (ال ّدين) ّإما اجلزاء‪ ،‬أي يوم جزاء األعمال اخلريية والشرية‪ ،‬أو احلقائق الدينية‪ ،‬أي‬
‫يوم طلوعها وظهورها وغلبة دائرة االعتقاد على دائرة االسباب؛ ألن هللا عز وجل أودع‬
‫مبشيئته يف الكائنات نظاماً يربط االسباب باملسببات وأجلأ االنسان بطبيعته وومهه وخياله اىل‬
‫وجه كل شئ اليه وتَـنَـَّزه عن تأثري االسباب يف ُملكه‪.‬‬
‫ان يراعي ذلك النظام ويرتبط به‪ .‬وكذا ّ‬
‫وكلّف االنسان اعتقاداً وامياناً بان يراعي تلك الدائرة بوجدانه وروحه ويرتبط هبا‪ .‬ففي الدنيا‬
‫دائرة االسباب غالبة على دائرة االعتقاد؛ ويف األُخرى تتجلى حقائق العقائد غالبة على دائرة‬
‫االسباب‪.‬‬
‫واعلم! ان ٍ‬
‫لكل من هاتني الدائرتني مقاماً معيناً وأحكاماً خمصوصة‪ ،‬فالبد ان يُعطى كلٌّ‬
‫ح ّقه‪ .‬فمن نظر يف مقام دائرة االسباب بطبيعته وومهه وخياله ومقاييس‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬يف مالك يوم الدين (ت‪)11 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪14 :‬‬

‫االسباب‪ ،‬اىل دائرة االعتقاد اضطر اىل االعتزال‪ .‬ومن نظر يف مقام االعتقاد ومقاييسه بروحه‬
‫ووجدانه اىل دائرة االسباب أنتج له توكال تَـْنبَلِياً ‪ 1‬ومترداً يف مقابلة املشيئة النظامة‪.‬‬

‫(اِيَّ َ‬
‫اك نـَ ْعبُ ُد) يف "الكاف" نكتتان‪:‬‬
‫‪2‬‬
‫احدامها‪ :‬تضمن اخلطاب بسر االلتفات لالوصاف الكمالية املذكورة‪ ،‬اذ ذكرها شيئاً شيئاً‬
‫حيرك الذهن ويُع ّده وميألُهُ شوقاً ويهزه للتوجه اىل املوصوف‪ .‬فـ"اياك" أي‪ :‬يامن هو موصوف‬
‫ّ‬
‫هبذه الصفات‪.‬‬

‫واالخرى‪ :‬ان اخلطاب يشري اىل وجوب مالحظة املعاين يف مذهب البالغة ليكون املقروء‬
‫ك َكأَن َ‬
‫َّك‬ ‫كاملْنـَزل‪ ،‬فينجر طبعاً وذوقاً اىل اخلطاب‪ .‬فـ "ايّاك" يتضمن االمتثال بـ(أ ُْعبُ ْد َربَّ َ‬
‫ُ ‪1‬‬
‫تَـَراهُ)‪.‬‬

‫والتكلم مع الغري يف (نعبد) لوجوه ثالثة‪:‬‬

‫وذرات هذا العامل الصغري ‪ -‬وهو أنا ‪ -‬بالشكر العريف الذي هو‬
‫أي نعبد حنن معاشر أعضاء ّ‬
‫املوحدين نعبدك باطاعة شريعتك‪ ..‬وحنن معاشر‬ ‫إطاعة ٍ‬
‫كل ملا أُمر به‪ ..‬وحنن معاشر ّ‬
‫الكائنات نعبد شريعتك الكربى الفطرية ‪ 0‬ونسجد باحلرية واحملبة حتت عرش عظمتك‬
‫وقدرتك‪.‬‬
‫وجه النظم‪ :‬ان "نعبد" بيان وتفسري لـ "احلمد" ونتيجة والزم لـ (مالك يوم الدين)‪.‬‬

‫واعلم! ان تقدمي "اياك" لالخالص الذي هو روح العبادة‪ .‬وان يف خطاب الكاف رمزاً اىل‬
‫علة العبادة الن من اتصف بتلك االوصاف الداعية اىل اخلطاب استحق العبادة‪.‬‬

‫ني) هذه كـ (ايَّاك نعبد) باعتبار اجلماعات الثالث‪:‬‬‫(واِيَّ َ ِ‬


‫اك نَ ْستَع ُ‬ ‫َ‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬التنبل والتنبال‪ :‬البليد الكسالن‪ .‬ج تنابلة‪ .‬واملقصود هنا مذهب اجلربية‪.‬‬

‫‪ 2‬االلتفات‪ :‬هو العدول عن الغيبة اىل اخلطاب او التكلم‪ ،‬او على العكس (التعريفات)‪.‬‬

‫‪ 3‬اصل احلديث رواه البخارى ومسلم‪ ،‬وفيه‪ :‬ما االحسان؟ قال‪ :‬ان تعبد هللا كأنك تراه فإن‬
‫مل تكن تراه فانه يراك (متفق عليه) ورواية الطرباىن‪ :‬اُعبدهللا كأنك تراه‪ .‬وهو حديث صحيح‬
‫(صحيح اجلامع الصغري ‪)1401‬‬

‫‪ 4‬اى ننقاد وخنضع ونطيع‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪11 :‬‬

‫ِ‬
‫املوحدين ومعاشر الكائنات نطلب منك التوفيق واالعانة‬
‫اي حنن معاشر االعضاء ومعاشر ّ‬
‫على كل احلاجات واملقاصد اليت أمهها عبادتك‪.‬‬

‫أجل من مقام الربهان‪..‬‬


‫كرَر "اياك" لتزييد لذة اخلطاب واحلضور‪ ..‬وألن مقام العيان أعلى و ّ‬
‫َّ‬
‫أدعى اىل الصدق وبأن اليكذب‪ ..‬والستقالل ٍّ‬
‫كل من املقصدين‪.‬‬ ‫وألن احلضور َ‬

‫واعلم! ان نظم "نستعني" مع "نعبد"‪:‬‬


‫كنظم االجرة مع اخلدمة‪ ،‬ألن العبادة حق هللا على العبد‪ ،‬واالعانة إحسانُه تعاىل لعبده‪ .‬ويف‬
‫حصر "اياك" إشارة اىل ان هبذه النسبة الشريفة اليت هي العبادة واخلدمة له تعاىل يرتفَّ ُع العبد‬
‫ط خادمةً له وهو اليعرف اال واحدا‪،‬‬ ‫عن التذلل لالسباب والوسائط‪ ،‬بل تصري الوسائ ُ‬
‫ْم دائرة االعتقاد والوجدان كما مر‪ .‬ومن مل يكن خادما له تعاىل حبق يصري‬ ‫فيتجلى ُحك ُ‬
‫خادماً لالسباب ومتذلالً للوسائط‪ .‬لكن يلزم على العبد وهو يف دائرة االسباب ان اليهمل‬
‫االسباب باملرة لئال يكون متمردا يف مقابلة النظام املودع حبكمته ومشيئته تعاىل‪ ،‬ألن التوكل‬
‫يف تلك الدائرة عطالة كما مر‪.‬‬

‫وكنظم املق ِّدمة مع املقصود ألن االعانة والتوفيق مقدمة العبادة‪.‬‬

‫(اِ ْه ِدنَا)‬

‫أي مقاصدك أعلَ ُق بقلبك؟ فيقول‬


‫وجه النظم‪ :‬انه جواب العبد عن سؤاله تعاىل كأنه يسأل‪ّ :‬‬
‫العبد‪ :‬اهدنا‪.‬‬

‫تنوع مفعوله اىل اهلادين‬‫واعلم! ان "اهدنا" بسبب تعدد مراتب معانيه ‪ -‬بناء على ّ‬
‫واملستهدين واملستزيدين وغريهم ‪ -‬كأنه مشتق من املصادر االربعة لفعل اهلداية‪ .‬فاهدنا‬
‫باعتبار معشر "ثبّتنا"‪ ،‬وبالنظر اىل مجاعة "زدنا"‪ ،‬وبالقياس اىل طائفة "وفّقنا" واىل فرقة‬
‫(أعطَى ُك َّل َش ْيء َخ ْل َقهُ ُمثَّ َه َدى) ‪ 1‬هدانا بإعطاء‬
‫"اَ ْعطنا"‪ ..‬وأيضا ان هللا تعاىل حبكم ْ‬
‫احلواس الظاهرة والباطنة‪ ،‬مث هدانا بنصب الدالئل اآلفاقية واألنفسية‪ ،‬مث هدانا بارسال الرسل‬
‫وانزال الكتب‪ ،‬مث هدانا أعظم اهلداية بكشف احلجاب عن احلق فظهر احلق حقا والباطل‬
‫باطال‪.‬‬

‫اجتِنَابَهُ‪.‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫اعهُ َواَ ِرنَا الْبَاط َل بَاطالً َو ْارُزقْـنَا ْ‬ ‫اللَّ ُه َّم اَ ِرنَا ْ‬
‫احلَ َّق َحقًّا َو ْارُزقْـنَا اتّبَ َ‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة طه‪.94 :‬‬


‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪12 :‬‬

‫يم)‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫(الصَرا َط الْ ُم ْستَق َ‬
‫ّ‬
‫اعلم! أن الصراط املستقيم هو العدل الذي هو ملخص احلكمة والعفة والشجاعة الاليت هي‬
‫ط للمراتب الثالث للقوى الثالث‪.‬‬‫أوسا ٌ‬

‫توضيحه‪:‬‬

‫الروح يف البدن ِّ‬


‫املتحول احملتاج املعروض للمهالك أودع إلدامتها‬ ‫ان هللا عز وجل ملا اسكن َ‬
‫قوى ثالثا‪.‬‬
‫فيه ً‬
‫إحداها‪ :‬القوة الشهوية البهيمية اجلاذبة للمنافع‪.‬‬

‫وثانيتها‪ :‬القوة الغضبية السبُعية الدافعة للمضرات و ِّ‬


‫املخربات‪.‬‬ ‫َ‬
‫وثالثتها‪ :‬القوة العقلية امللكية املميزة بني النفع والضر‪.‬‬

‫لكنه تعاىل ‪ -‬حبكمته املقتضية لتَك ُّمل البشر بسر املسابقة ‪ -‬مل حي ِّدد بالفطرة تلك القوى‬
‫َّدها بالشريعة؛ ألهنا تنهي عن االفراط والتفريط‬ ‫كما حدد قوى سائر احليوانات‪ ،‬وإن حد َ‬
‫ت) ‪ .1‬وبعدم التحديد الفطري حيصل‬ ‫ِ‬ ‫وتأمر بالوسط‪ ،‬يصدع عن هذا (فَ ِ‬
‫استَق ْم َكما أُم ْر َ‬
‫ْ‬
‫مراتب ثالث‪ :‬مرتبة النقصان وهي التفريط‪ ،‬والزيادة وهي االفراط ‪ ،‬والوسط وهي العدل‪.‬‬

‫فتفريط القوة العقلية الغباوة والبالدة‪ ،‬وافراطها اجلربزة ‪ 2‬اخلادعة والتدقيق يف سفاسف االمور‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫ْمةَ فَـ َق ْد اُ ِويتَ َخ ْرياً َكثِرياً)‬ ‫ووسطها احلكمة‪( .‬ومن يـ ْؤت ِْ‬
‫احلك َ‬ ‫ََ ْ ُ َ‬
‫اعلم! انه كما تنوع اصل هذه القوة اىل تلك املراتب‪ ،‬كذلك كل فرع من فروعها يتنوع اىل‬
‫ط اجلرب واالعتزال ‪ ،0‬ويف‬‫مذهب أهل السنة وس ُ‬
‫ُ‬ ‫هذه الثالث‪ .‬مثال‪ :‬يف مسألة َخلق االفعال‪:‬‬
‫القياس‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مذهب التوحيد وسط التعطيل والتشبيه‪ ..‬وعلى هذه‬
‫ُ‬ ‫االعتقاد‪:‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة هود‪112 :‬‬

‫‪ 2‬اجلُربُز (بالضم)‪ :‬اخلب اخلبيث‪ ،‬واملصدر‪ :‬اجلربزة‪.‬‬

‫‪ 3‬سورة البقرة‪261 :‬‬

‫‪ 4‬اجلربية‪ :‬افراط حيث حيرم االنسان من العمل‪ .‬واملعتزلة تفريط حيث مينح التأثري لالنسان‪.‬‬
‫اما اهل السنة فهو الوسط‪ ،‬حيث مينح بداية تلك االفعال اىل االرادة اجلزئية وهناياهتا اىل‬
‫االرادة الكلية (ت‪)20 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪11 :‬‬

‫وتفريط القوة الشهوية اخلمودة وعدم االشتياق اىل شئ‪ ،‬وافراطها الفجور بأن يشتهي ما‬
‫صادف َح َّل أو َح ُرَم‪ ،‬ووسطها العفةُ بأن يرغب يف احلالل ويهرب عن احلرام‪ .‬وقس على‬
‫االصل كل فرع من فروعاته من االكل والشرب واللبس وأمثاهلا‪.‬‬

‫التهور الذي هو‬


‫الخياف منه والتوهم‪ ،‬وافراطها ّ‬
‫وتفريط القوة الغضبية اجلبانة أي اخلوف مما ُ‬
‫الد االستبداد والتحكم والظلم‪ ،‬ووسطها الشجاعة أي بذل الروح بعشق وشوق حلماية‬ ‫وُ‬
‫ناموس ‪ 1‬االسالمية واعالء كلمة التوحيد‪ .‬وقس عليها فروعها‪..‬‬

‫العمل بـ‬
‫ظلم واالوساط الثالثة هي العدل الذي هو الصراط املستقيم‪ ،‬اي ُ‬ ‫فاالطراف الستة ٌ‬
‫مر على هذا الصراط مير على الصراط املمتد على النار‪.‬‬
‫ومن َّ‬
‫‪2‬‬ ‫ِ‬ ‫(فَ ِ‬
‫ت) َ‬ ‫استَق ْم َكما اُم ْر َ‬
‫ْ‬
‫ت َعلَْي ِه ْم)‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ين اَنْـ َع ْم َ‬
‫(صَرا َط الذ َ‬
‫اعلم! ان نظم درر القرآن ليس خبيط واحد بل النظم ‪ -‬يف كث ٍري ‪ -‬نقوش حتصل من نسج‬
‫ِ‬
‫خطوط ٍ‬
‫نسب متفاوتة قُرباً وبُعداً‪ ،‬ظهوراً وخفاء‪ .‬الن أساس االعجاز بعد االجياز هذا‬
‫النقش‪ .‬مثال‪ :‬صراط الذين انعمت عليهم يناسب‪:‬‬

‫(احلمد هلل) الن النعمة قرينة احلمد‪..‬‬

‫و(رب العاملني) الن كمال الرتبية برتادف النِ َعم‪..‬‬

‫و(الرمحن الرحيم) الن املنعم عليهم ‪ -‬اعين االنبياء والشهداء والصاحلني ‪ -‬رمحةٌ للعاملني‬
‫ومثال ظاهر للرمحة‪..‬‬

‫و(مالك يوم الدين) الن الدين هو النعمة الكاملة‪..‬‬

‫و(نعبد) الهنم االئمة ‪..1‬‬

‫و(نستعني) الهنم املوفقون‪..‬‬

‫داه ُم اقْـتَ ِد ْه) ‪..0‬‬


‫و(اهدنا) الهنم االسوة بسر (فَبِ ُه ُ‬
‫_____________________‬

‫‪ 1‬الناموس‪ :‬ما حيميه الرجل من امسه وصيته وشرفه‪ .‬ويف (التعريفات)‪ :‬هو الشرع الذى شرعه‬
‫هللا‪.‬‬

‫‪ 2‬سورة هود‪112 :‬‬

‫‪ 3‬الهنم االئمة يف العبادة (ت‪)29 :‬‬

‫‪ 4‬سورة األنعام‪14 :‬‬


‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪10 :‬‬

‫و(الصراط املستقيم) لظهور احنصار الطريق املستقيم يف مسلكهم‪ .‬هذا مثال لك فقس عليه‪.‬‬
‫‪.‬‬

‫ويف لفظ "الصراط" إشارة اىل ان طريقهم مسلوكة حمدودة االطراف َمن سلكها الخيرج عنها‪.‬‬

‫ب العني‬
‫صَ‬‫ويف لفظ "الذين" ‪ -‬بناء على انه موصول‪ ،‬ومن شأن املوصول ان يكون معهوداً نَ ْ‬
‫للسامع ‪ -‬اشارة اىل علو شأهنم وتأللؤهم يف ظلمات البشر‪ ،‬كأهنم معهودون نصب العني‬
‫يتحر ومل يطلب‪ ..‬ويف مجعيته رمز اىل إمكان االقتداء هبم وحقانية‬ ‫لكل سامع وإن مل َّ‬
‫اع ِة) ‪..1‬‬
‫اجلَ َم َ‬
‫مسلكهم بسر التواتر اذ (يَ ُد هللا َم َع ْ‬

‫ويف صيغة "انعمت" اشارة اىل وسيلة طلب النعمة‪ ..‬ويف نسبتها شافع له كأنه يقول‪ :‬يااهلي!‬
‫علي وان مل استحق‪..‬‬ ‫ِ‬
‫ت بفضلك‪ ،‬فأنْع ْم ّ‬‫أنعم َ‬
‫االنعام وقد ْ‬
‫ُ‬ ‫من شأنك‬

‫ويف "عليهم" اشارة اىل شدة اعباء الرسالة ومحل التكليف‪ ،‬وامياء اىل اهنم كاجلبال العالية‬
‫تتلقىاعباء الرسالة ومحل التكليف‪ ،‬وامياء اىل اهنم كاجلبال العالية تتلقى شدائد املطر إلفاضة‬
‫َّ ِ‬
‫ين اَنْـ َع َم هللا َعلَْي ِه ْم‬ ‫الصحارى‪ .‬وما أمجل يف (الذين انعمت عليهم) يفسره (فَاُولئِ َ‬
‫ك َم َع الذ َ‬
‫الص ِّد ِيقني والشُّه َداء و َّ ِِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ني) ‪ 2‬اذ القرآن يفسر بعضه بعضا‪.‬‬ ‫الصاحل َ‬ ‫يني و ّ َ َ َ‬ ‫م َن النَّبِ ِّ َ‬
‫ان قلت‪ :‬مسالك االنبياء متفاوتة وعباداهتم خمتلفة؟‬

‫قيل لك‪ :‬ان التبعية يف اصول العقائد واالحكام؛ الهنا مستمرة ثابتة دون الفروعات اليت من‬
‫شأهنا التغري بتبدل الزمان‪ .‬فكما ان الفصول االربعة ومراتب عمر االنسان تؤثر يف تفاوت‬
‫االدوية والتلبّس‪ ،‬فكم من دواء يف وقت يكون داء يف آخر؛ كذلك مراتب عمر نوع البشر‬
‫تؤثر يف اختالف فروعات االحكام اليت هي دواء االرواح وغذاء القلوب‪.‬‬

‫_____________________‬
‫‪1‬‬
‫وحسنه بلفظ‪" :‬يد هللا على اجلماعة" (كشف اخلفاء ‪)111/2‬‬
‫ّ‬ ‫ي‬ ‫الرتمذ‬
‫و‬ ‫اىن‬
‫رب‬‫الط‬ ‫اه‬
‫و‬ ‫ر‬
‫وصححه حمقق اجلامع الصغري (‪ )7121‬وعزاه للحاكم والبيهقى يف االمساء عن ابن عمر‬
‫رضى هللا عنهما وابن عاصم عن اسامة بن شريك‪.‬‬

‫‪ 2‬سورة النساء‪61 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪19 :‬‬

‫ض ِ‬
‫وب َعلَْي ِه ْم ََ)‪.‬‬ ‫( َغ ِْري الْ َم ْغ ُ‬

‫وجه النظم‪ :‬اعلم! ان هذا املقام لكونه مقام اخلوف والتخلية يناسب املقامات السابقة؛‬
‫فينظر بنظر احلرية والدهشة اىل مقام توصيف الربوبية باجلالل واجلمال‪ ،‬وبنظر االلتجاء اىل‬
‫مقام العبودية يف "نعبد"‪ ،‬وبنظر العجز اىل مقام التوكل يف "نستعني"‪ ،‬وبنظر التسلي اىل رفيقه‬
‫الدائمي أعين مقام الرجاء والتحلية‪ ،‬اذ ّاول ما يتولد يف قلب من يرى أمراً هائال ِح ُّ‬
‫س احلرية‬
‫كل عند العجز مث التسلي بعد ذلك االمر‪.‬‬ ‫ميل الفرار مث التو ُ‬
‫مث ُ‬
‫ان قلت‪ :‬ان هللا عز وجل حكيم غين فما احلكمة يف خلق الشر والقبح والضاللة يف العامل؟‬

‫قيل لك‪ :‬اعلم! ان الكمال واخلري واحلسن يف الكائنات هي املقصودة بالذات وهي‬
‫الكليات؛ وان الشر والقبح والنقصان جزئيات بالنسبة اليها قليلة تبعية مغمورة يف اخللقة‪،‬‬
‫خلقها خالقها منتشرة بني احلسن والكمال‪ ،‬ال لذاهتا‪ ،‬بل لتكون مقدمة‪ ،‬وواحداً قياسياً‪،‬‬
‫لظهور ‪ -‬بل لوجود ‪ -‬احلقائق النسبية للخري والكمال‪.‬‬

‫الشر اجلزئي؟‬
‫ان قلت‪ :‬فما قيمة احلقائق النسبية حىت اُستُحسن ألجلها ّ‬
‫قيل لك‪ :‬ان احلقائق النسبية هي الروابط بني الكائنات‪ ..‬وهي اخلطوط املنسوج منها‬
‫يد ٍ‬
‫بألوف‬ ‫نظامها‪ ..‬وهي االشعة املنعكس منها وجود واحد النواعها‪ .‬وان احلقائق النسبية أز ُ‬
‫لذات لو كانت سبعة كانت احلقائق النسبية‬ ‫من احلقائق احلقيقية؛ اذ الصفات احلقيقية ٍ‬
‫سبعمائة‪ .‬فالشر القليل يـُ ْغتَـ َفر بل يُ ْستَ ْح َسن الجل اخلري الكثري؛ الن يف ترك اخلري الكثري ‪-‬‬
‫الن فيه شراً قليالً ‪ -‬شراً كثرياً‪ .‬ويف نظر احلكمة اذا قابل الشر القليل شراً كثرياً صار الشر‬
‫القليل حسناً بالغري‪ ،‬كما تقرر يف االصول يف الزكاة واجلهاد‪.‬‬

‫وما اشتهر من‪" :‬ان االشياء امنا تُـ ْعَرف باضدادها" معناه‪ :‬ان وجود الضد سبب لظهور‬
‫ووجود احلقائق النسبية للشئ‪ .‬مثال‪ :‬لو مل يوجد القبح ومل يتخلل بني احلسن ملا تظاهر وجود‬
‫احلسن مبراتبه الغري ‪ 1‬املتناهية‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬يقول البغدادى‪" :‬ال تدخل األلف والالم على (غري)؛ الن املقصود من ادخال (أل) على‬
‫النكرة ختصيصها بشئ معني‪ .‬فإذا قيل (الغري) اشتملت هذه اللفظة على ما ال حيصى‪ ،‬ومل‬
‫تتعرف بـ(أل) كما اهنا مل تتعرف باالضافة‪ ،‬فلم يكن إلدخال (أل) عليها من فائدة "‪.‬‬

‫وجاء يف املصباح املنري‪ ،‬يف مادة (غري) مانصه‪" :‬يكون وصفاً للنكرة‪ ،‬تقول‪ :‬جاءىن رجل‬
‫غريك‪ ،‬وقوله تعاىل‪( :‬غري املغضوب عليهم) امنا وصف هبا املعرفة‪ ،‬ألهنا اشبهت املعرفة‬
‫باضافتها اىل املعرفة‪ ،‬فعوملت معاملتها‪ .‬ومن هنا اجرتأ بعضهم فأدخل عليها األلف والالم؛‬
‫ألهنا ملا شاهبت املعرفة‪ ،‬باضافتها اىل املعرفة‪ ،‬جاز ان يدخلها ما يعاقب االضافة‪ ،‬وهو‬
‫ّ‬
‫االلف والالم‪...‬‬

‫وارتضى مؤمتر اجملمع اللغوى‪ ،‬املنعقد بالقاهرة يف دورته اخلامسة والثالثني‪ ،‬يف شهر شباط‬
‫(فرباير) ‪ 1161‬الرأى القائل‪" :‬ان كلمة غري الواقعة بني متضادين تكتسب التعريف من‬
‫املضاف اليه املعرفة‪ ،‬ويصح يف هذه الصورة‪ ،‬الىت تقع فيها بني متضادين‪ ،‬وليست مضافة‪،‬‬
‫ان تقرتن بـ(أل)‪ ،‬فتستفيد التعريف "‪( .‬باختصار عن معجم االخطاء الشائعة حملمد‬
‫العدناىن)‪.‬‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪16 :‬‬

‫اسم ٍ‬
‫فاعل‪ ،‬يف‪:‬‬ ‫ٍ‬
‫ان قلت‪ :‬ما وجه تفاوت هذه الكلمات الثالث‪ :‬فعالً‪ ،‬واسم مفعول‪ ،‬و َ‬
‫"انعمت" و "املغضوب" و "الضالني"؟‬

‫وأيضاً ما وجه التفاوت يف ذكر‪ :‬صفة الفرقة الثالثة‪ ،‬وعاقبة الصفة يف الفرقة الثانية‪ ،‬وعنوان‬
‫صفة الفرقة االوىل باعتبار املآل؟‬

‫قيل لك‪ :‬اختار عنوان النعمة؛ الن النعمة لذةٌ متيل النفس اليها‪ ..‬وفعالً ماضيا لالشارة اىل‬
‫ان الكرمي املطلق شأنه ان اليسرتد مايعطى‪ ..‬وأيضاً رمز اىل وسيلة املطلوب بإظهار عادة‬
‫علي‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ت فأنْعم ّ‬‫أنع ْم َ‬
‫املنعم‪ ،‬كأنه يقول‪ :‬ألن من شأنك االنعام وقد َ‬
‫أما (غري املغضوب) فاملراد منه‪ :‬الذين جتاوزوا بتجاوز القوة الغضبية فظلموا‪ ،‬وفسقوا برتك‬
‫االحكام كتمرد اليهود‪ .‬وملا كان يف نفس الفسق والظلم لذة منحوسة وعزة خبيثة ال تتنفر‬
‫نفس وهي نزول غضبه تعاىل‪ ..‬واختار االسم‬ ‫كل ٍ‬‫منه النفس ذَ َكَر القرآ ُن عاقبته اليت تُـنَـ ِّفر َّ‬
‫الذي من شأنه االستمرار اشارة اىل ان العصيان والشر امنا يكون مسة اذا مل ينقطع بالتوبة‬
‫والعفو‪.‬‬

‫ّأما (وال الضَّالني) فاملراد منه‪ :‬الذين ضلوا عن الطريق بسبب غلبة الوهم واهلوى على العقل‬
‫نفس صفتهم‬
‫والوجدان ووقعوا يف النفاق باالعتقاد الباطل كسفسطة النصارى‪ .‬اختار القرآن َ‬
‫نفس الضاللة أَ َملٌ‪ ،‬ينفر النفس وجيتنب منه الروح وإن مل َير النتيجة‪ ..‬وإمساً ألن الضاللة‬
‫الن َ‬
‫‪1‬‬
‫امنا تكون ضاللة اذا مل تنقطع‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬إذ انقطاعها اشارة اىل دخوهلا ضمن العفو (ت‪)21 :‬‬


‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪17 :‬‬

‫واعلم! ان كل االمل يف الضاللة وكل اللذة يف االميان‪.‬‬

‫يد القدرة من ظلمات العدم وأل َقْتهُ يف الدنيا‬


‫اخرجْته ُ‬
‫فإن شئت تأمل يف حال شخص‪ ،‬بينما َ‬
‫‪ -‬تلك الصحراء اهلائلة ‪ -‬اذ يفتح عينيه مستعطفا‪ ،‬فريى البليات والعلل كاالعداء تتهاجم‬
‫عليه‪ ،‬فينظر مسرتمحاً اىل العناصر والطبائع فرياها غليظة القلب بال رمحة قد كشرت عليه‬
‫االسنان؛ فريفع رأسه ‪ -‬مستمداً ‪ -‬اىل االجرام العلوية فرياها مهيبة ومدهشة هتدده كأهنا‬
‫مرامي ‪ 1‬نارية من أفواه هائلة متر حواليه؛ فيتحري وخيفض رأسه متسرتاً ويطالع نفسه؛ فيسمع‬
‫صيحات حاجاته وأنني فاقاته‪ ،‬فيتوحش‪ ،‬فينظر اىل وجدانه ملتجأً؛ فريى فيه الوفاً من‬ ‫ِ‬ ‫الوف‬
‫َ‬
‫متهيجة ممتدةٍ التُشبعها الدنيا‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫آمال‬

‫فباهلل عليك كيف حال هذا الشخص ان مل يعتقد باملبدأ واملعاد والصانع واحلشر؟ أتظن‬
‫أحرق لروحه؟ فإن له حالة تركبت من اخلوف واهليبة والعجز‬‫أشد عليه من حاله و َ‬‫جهنم َّ‬
‫والرعشة والقلق والوحشة واليتم واليأس؛ ألنه اذا راجع قدرته يراها عاجزة ضعيفة؛ واذا توجه‬
‫اىل تسكني حاجاته يراها التسكت؛ واذا صاح واستغاث اليُ ْس َمع وال يُغاث فيظن كل شئ‬
‫عدواً‪ ،‬ويتخيل كل شئ غريبا فال يستأنس بشئ؛ وال ينظر اىل دوران االجرام االّ بنظر اخلوف‬
‫والدهشة والتوحش املزعجة للوجدان‪.‬‬

‫وروحه بنور‬
‫مث تأمل يف حال ذلك الشخص اذا كان على الصراط املستقيم واستضاء وجدانهُ ُ‬
‫االميان‪ ،‬كيف ترى انه اذا وضع قدمه يف الدنيا وفتح عينيه فرأى هتاجم العاديات اخلارجية‬
‫يرى اذاً "نقطة استناد" يستند اليها يف مقابلة تلك العاديات‪ ،‬وهي معرفة الصانع فيسرتيح‪ .‬مث‬
‫اذا فتش عن استعداداته وآماله املمتدة اىل األبد يرى "نقطة استمداد" يستمد منها آماله‬
‫وتتشرب منها ماء احلياة وهي معرفة السعادة االبدية‪ .‬واذ يرفع رأسه وينظر يف الكائنات‬
‫يستأنس بكل شئ وجتتين عيناه من كل زهرة اُنسية وحتبّبا‪ ،‬ويرى يف حركات األجرام حكمةَ‬
‫ويتنزه بسريها وينظر نظر العربة والتفكر‪ .‬كأن الشمس تناديه‪ :‬أيها األخ! التتوحش‬
‫خالقها ّ‬
‫مين فمرحبا بقدومك! حنن كالنا خادمان ٍ‬
‫لذات واحد‪ ،‬مطيعان ألمره‪ .‬والقمر والنجوم‬
‫كل منها بلسانه اخلاص وترمز اليه‪ :‬بأهالً وسهالً‪ ،‬أما تعرفنا ؟ كلنا‬
‫والبحر وأخواهتا يناجيه ٌ‬
‫مشغولون‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬قنابل وقذائف‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪19 :‬‬

‫خبدمة مالكك فال تضجر وال تتوحش وال ختف من هتديد الباليا بنعراهتا‪ ،‬فان جلام ٍ‬
‫كل بيد‬
‫خالقك‪.‬‬

‫فذلك الشخص يف احلالة االوىل حيس يف أعماق وجدانه أملاً شديداً فيضطر للتخلص منه‬
‫وهتوينه وابطال حسه بالتسلي‪ ،‬بالتغافل‪ ،‬باالشتغال بسفاسف األمور‪ ،‬ليخادع وجدانه وينام‬
‫روحه؛ واال احس بأ ٍمل عميق حيرق أعماق وجدانه‪ .‬فبنسبة البُـ ْع ِد عن الطريق احلق يتظاهر‬
‫ُ‬
‫تأثري ذلك االمل‪.‬‬

‫وحرك‬
‫وأما يف احلالة الثانية فهو حيس يف قعر روحه لذ ًة عالية وسعادة عاجلة كلما أيقظ قلبه َّ‬
‫أحس روحه استزاد سعادة واستبشر بفتح أبواب جنات روحانية له‪.‬‬ ‫وجدانه و ّ‬
‫اط الْ ُم ْستَ ِقي ِم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫اَللَّه َّم ِحبرم ِة ِ‬
‫الصر ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هذهِ ُّ‬
‫الس َورةِ ا ْج َع ْلنَا م ْن اَ ْه ِل َّ‬ ‫ُ ُْ َ‬
‫***‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪11 :‬‬

‫الرِحيم‬ ‫بس ِم هللا َّ‬


‫الر ْمحَن َّ‬ ‫ْ‬
‫‪1‬‬
‫الزْهَر َاويْ ِن‬
‫السورة االوىل من َّ‬

‫ان قلت‪ :‬ان يف القرآ ن املوجز املعجز أشياء مكررة تكراراً كثرياً يف الظاهر كالبسملة و"فبأي‬
‫آالء" اخل‪ ..‬و"ويل يومئذ" اخل‪ ..‬وقصة موسى وأمثاهلا‪ ،‬مع ان التكرار ُميِ ُّل وينايف البالغة‪.‬‬

‫"ما ُك ُّل َما يَـتَألْألُ ُْحي ِر ُق" فان التكرار قد ُميِ ُّل‪ ،‬ال مطلقاً‪ .‬بل قد يُستحسن وقد‬
‫قيل لك‪َ :‬‬
‫فكما أن يف غذاء االنسان ماهو قُوت كلما تكرر حال وكان آنس‪ ،‬وما هو تف ّكه ان‬ ‫يُسأم‪َ .‬‬
‫وقوة لالفكار وغذاء‬ ‫ِ‬
‫تكرر ُم َّل وان جتدد اُستُل ّذ‪ ،‬كذلك يف الكالم ما هو حقيقة وقوت ّ‬
‫لالرواح كلما استعيد اُستحسن واستؤنس مبألوفه كضياء الشمس‪ .‬وفيه ماهو من قبيل الزينة‬
‫وتلون لباسه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫والتفكه‪ ،‬لذتُه يف جت ّدد صورته ّ‬
‫وقوة للقلوب الميَُ ُّل على التكرار بل‬
‫قوت ّ‬
‫اذا عرفت هذا فاعلم! انه كما ان القرآن مبجموعه ٌ‬
‫‪2‬‬
‫يُستحلى على اإلكثار منه‪ ،‬كذلك يف القرآن ماهو روح لذلك القوت كلما تكرر تألأل‬
‫أس األساس والعقدة احلياتية‬ ‫وفارت اشعة احلق واحلقيقة من اطرافه‪ ،‬ويف ذلك البعض ماهو ّ‬
‫الرِحْيم)‪ .‬فيا هذا شاور مذاقك ان كنت‬ ‫(بس ِم هللا َّ‬
‫الر ْمحَن َّ‬ ‫ٍ‬
‫والنور املتجسد جبسد سرمدي كـ ْ‬
‫ذا مذاق!‪..‬‬

‫هذا بناء على تسليم التكرار‪ ،‬واالّ فيجوز ان تكون قصة موسى مثال مذكورة يف كل ٍ‬
‫مقام‬
‫‪1‬‬
‫لوجه مناسب من الوجوه املشتملة هي عليها‪ .‬فان قصة موسى أجدى من تفاريق العصا‬ ‫ٍ‬
‫أخ َذها القرآن بيده البيضاء فضةً فصاغتها ذهباً‪ ،‬فخرت سحرةُ البيان ساجدين لبالغته‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬عن اىب أمامة الباهلى رضى هللا عنه‪ ،‬قال‪ :‬مسعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪:‬‬
‫اقرأوا القرآن‪ ،‬فانه يأتى يوم القيامة شفيعاً الصحابه‪ ،‬اقرأوا الزهراوين‪ :‬البقرة وسورة آل‬
‫عمران‪...‬اخل احلديث‪ .‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪ 2‬كاملسك ما كررته يتضوع (ت‪)11 :‬‬


‫أعم من نفع غريه (جممع االمثال‬
‫انك خري من تفاريق العصا‪ ،‬مثل يضرب فيمن نفعه ّ‬
‫‪3‬‬

‫للميداىن)‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪04 :‬‬

‫وكذا يف "البسملة" جهات‪ :‬من االستعانة والتربك واملوضوعية بل الغايتية والفهرستية للنقط‬
‫االساسية يف القرآن‪.‬‬

‫وأيضا فيها مقامات‪ :‬كمقام التوحيد ومقام التنزيه ومقام الثناء ومقام اجلالل واجلمال ومقام‬
‫االحسان وغريها‪.‬‬

‫وايضا فيها احكام ضمنية‪ :‬كاالشارة اىل التوحيد والنبوة واحلشر والعدل اعين املقاصد االربعة‬
‫املشهورة‪ ،‬مع ان يف اكثر السور يكون املقصود بالذات واحداً منها‪ ،‬والباقي استطراديا‪ .‬فلِ َم‬
‫الجيوز ان يكون جلهة او ُحك ٍم او مقام منها مناسبة خمصوصة لروح السورة وتكون موضوعاً‬
‫للمقام بل فهرستة امجالية باعتبار تلك اجلهات واملقامات؟‬

‫***‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪01 :‬‬

‫امل ‪1‬‬

‫اعلم! ان ههنا مباحث اربعة‪:‬‬

‫املبحث االول‪:‬‬
‫ان االعجاز قد تن ّفس من اُفق (امل) ألن االعجاز نور يتجلى من امتزاج ملعات لطائف‬
‫فجر صادق‪.‬‬‫دق لكن الكل ٌ‬ ‫البالغة‪ .‬ويف هذا املبحث لطائف كل منها وإن َّ‬

‫تنصف كل احلروف اهلجائية اليت هي عناصر‬


‫منها‪ :‬ان (امل) مع سائر اخواهتا يف أوائل السور ّ‬
‫كل الكلمات‪ .‬فتأمل!‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان النصف املأخوذ اكثر استعماالً من املرتوك‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان القرآن كرر من املأخوذ ماهو اَيْ َس ُر على األلسنة كاأللف والالم‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫ومنها‪ :‬انه ذكر املقطّعات يف رأس تسع وعشرين سورة عدة احلروف اهلجائية‪.‬‬

‫ينصف كل ازواج أجناس طبائع احلروف من املهموسة واجملهورة‬ ‫ومنها‪ :‬ان النصف املأخوذ ّ‬
‫والشديدة والرخوة واملستعلية واملنخفضة واملنفتحة وغريها‪ ،‬واما االوتار فمن الثقيل القليل‬
‫‪2‬‬
‫كالقلقلة؛ ومن اخلفيف الكثري كالذالّقة‪.‬‬

‫ألطف سجيةً‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ان النصف املأخوذ من طبائعها ُ‬

‫ومنها‪ :‬ان القرآن اختار طريقاً يف املقطعات من بني اربعة ومخسمائة احتمال‪ ،‬ال ميكن‬
‫تنصيف طبائع احلروف اال بتلك الطريق‪ ،‬الن التقسيمات الكثرية متداخلة ومشتبكة‬
‫كل غرابة عجيبة‪.‬‬ ‫ومتفاوتة‪ .‬ففي تنصيف ٍ‬

‫يلومن االّ ذوقه‪.‬‬


‫فمن مل جينت نور االعجاز من مزج تلك اللمعات فال ّ‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬عدة حروف اهلجاء تسع وعشرون مع االلف الساكنه‪.‬‬

‫‪ 2‬فذكر من (املهموسة) وهي ما يضعف االعتماد على خمرجه‪ ،‬وجيمعها (ستشحثك خصفه)‬
‫نصفها وهي احلاء واهلاء والصاد والسني والكاف‪ .‬ومن البواقي (اجملهورة) نصفها جيمعه (لن‬
‫يقطع أمر) ومن (الشديدة) الثمانية اجملموعة يف (اجدت طبقك) اربعة جيمعها‪ .‬ومن البواقي‬
‫(الرخوة) عشرة جيمعها (محس على نصره) ومن املطبقة اليت هي الصاد والضاد والطاء والظاء‬
‫نصفها‪ .‬ومن البواقي (املنفتحة) نصفها‪ .‬ومن (القلقلة) وهي حروف تضطرب عند خروجها‬
‫وجيمعها (قد طبج) نصفها االقل لقلتها‪ .‬ومن (اللينتني) الياء ألهنا أقل ثقالً‪ ،‬ومن‬
‫(املستعلية) وهي اليت يتصعد الصوت هبا يف احلنك االعلى وهي سبعة‪ :‬القاف والصاد والطاء‬
‫واخلاء والغني والضاد والظاء نصفها االقل‪ ،‬ومن البواقي (املنخفضة) نصفها‪( ...‬تفسري‬
‫البيضاوي)‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪02 :‬‬

‫املبحث الثاين‪:‬‬

‫ويهز ِعطفه بأنه ‪ -‬بغرابته ‪ -‬طليعةُ غر ٍ‬


‫يب‬ ‫السامع ُّ‬
‫َ‬ ‫اعلم ان (الــم) كقرع العصا يوقظ‬
‫ٍ‬
‫وعجيب‪.‬‬

‫ويف هذا املبحث ايضاً لطائف‪:‬‬

‫منها‪ :‬ان التهجي وتقطيع احلروف يف االسم اشارة اىل جنس ما يتولد منه املسمى‪.‬‬

‫اعتباري ال مركب مزجي‪.‬‬


‫ّ‬ ‫ومنها‪ :‬ان التقطيع اشارة اىل ان املسمى واحد‬

‫ومنها‪ :‬ان التهجي بالتقطيع تلميح اىل إراءة مادة الصنعة؛ كإلقاء القلم والقرطاس ملن‬
‫يعارضك يف الكتابة‪ .‬كأن القرآن يقول‪" :‬أيها املعاندون امل ّدعون! انكم امراء الكالم‪ ،‬هذه‬
‫املادة اليت بني أيديكم هي اليت أصنع فيها ما أصنع"‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ان التقطيع املرمز اىل االمهال عن املعىن يشري اىل قطع حجتهم بـ "إنّا النعرف احلقائق‬
‫والقصص واالحكام حىت نقابلك"‪ .‬فكأن القرآن يقول‪" :‬ال أطلب منكم إالّ نظم البالغة‬
‫فجيئوا به مفرتيات"‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان التعبري عن احلروف بامسائها من رسوم أهل القراءة والكتابة ‪ ،1‬ومن يسمعون منه‬
‫الكالم ّام ّي مع حميطه‪ ،‬فنظراً اىل السجية ‪ -‬مع ان اول ما يتلقاهم خالف املنتظر ‪ -‬يرمز‬
‫إىل‪" :‬ان هذا الكالم اليتولد منه بل يُلقى اليه"‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان التهجي أساس القراءة ومبدؤها ‪ 2‬فيومئ اىل أن القرآن مؤسس لطريق خاص‬
‫ألميني‪.‬‬
‫ومعلم ّ‬
‫دق البعض ‪ -‬فهو دخيل يف صنعة‬
‫ومن مل ير نقشاً عالياً من انتساج هذه اخليوط ‪ -‬وإن ّ‬
‫البالغة فليقلِّد فتاوى أهلها‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬كالتعبري عن احلروف (أ ‪ ،‬ل) بألف الم‪ ،‬فهذا التعبري بامساء احلروف هو من اصول اهل‬
‫القراءة والكتابة (ت‪)10 :‬‬

‫‪ 2‬اى ان التهجى خيص املبتدئني بالقراءة (ت‪)10 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪01 :‬‬

‫املبحث الثالث‪:‬‬

‫أساسي االعجاز‪.‬‬
‫ان (الــم) إشارة إىل هناية االجياز‪ ،‬الذي هو ثاين َ‬
‫وفيه لطائف‪:‬‬

‫منها‪ :‬ان (الــم) يرمز ويشري ويومئ ويـُلَ ِّوح ويلَ ِّمح بالقياس التمثيلي املتسلسل اىل‪" :‬ان هذا‬
‫كالم هللا األزيل نزل به جربيل على حممد عليهما الصالة والسالم"‪ .‬النه كما ان االحكام‬
‫املفصلة يف جمموع القرآن قد ترتسم يف سورة طويلة إمجاال؛ وقد تتمثل سورة طويلة يف قصرية‬
‫إشارة؛ وقد تندرج سورة قصرية يف آية رمزاً؛ وقد تندمج آية يف كالم واحد تلوحياً؛ وقد‬
‫يتداخل كالم يف كلمة تلميحاً‪ ،‬وقد ترتاءى تلك الكلمة اجلامعة يف حروف مقطعة‪ ،‬كـ "سني‬
‫الرِحْيم" و‬ ‫"بس ِم هللا َّ‬
‫الر ْمحَن َّ‬ ‫الم ميم"‪ ..‬كالقرآن يف البقرة‪ ،‬والبقرة يف الفاحتة‪ ،‬والفاحتة يف ْ‬
‫الرِحْيم" يف البسملة املنحوتة ‪1‬؛ كذلك جيوز ذلك يف (الــم) أيضا‪.‬‬ ‫"بس ِم هللا َّ‬
‫الر ْمحَن َّ‬ ‫ْ‬
‫فباالستناد اىل هذا القياس التمثيلي املتسلسل‪ ،‬وباشارة (ذلك الكتاب) يتجلى من (الــم)‪:‬‬
‫"هذا كالم هللا األزيل نزل به جربيل على حممد عليهما الصالة والسالم"‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان احلروف املقطعة كالشفرة اإلهلية أبرقها اىل رسوله الذي عنده مفتاحها‪ .‬ومل يتطاول‬
‫يد فكر البشر اليه بعد‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪2‬‬
‫املنزل عليه رمزاً اىل ان الرمز له كالتصريح‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ان (الــم) اشارة اىل شدة ذكاوة َ‬
‫ومنها‪ :‬ان التقطيع اشارة اىل ان قيمة احلروف ليست يف معانيها فقط بل بينها مناسبات‬
‫كش َفها علم أسرار احلروف‪.‬‬
‫فطرية كمناسبة االعداد‪َ ،‬‬

‫ومنها‪ :‬ان (الــم) خاصة‪ ،‬اشارة بالتقطيع اىل املخارج الثالثة من احللق والوسط والشفة‪ ،‬وترمز‬
‫تلك االشارة اىل إجبار الذهن للدقة‪ ،‬وشق حجاب األُلفة؛ ليلجأ اىل مطالعة عجائب ألوان‬
‫نقش خلقة احلروف‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬املقصود‪ :‬النحت اللغوى‪.‬‬


‫‪ 2‬اى لكمال ذكائه يفهم ماهو رمز وامياء وامر خفى‪ ،‬كالصريح (ت‪)19 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪00 :‬‬

‫ِ‬
‫قطعات هذه اللطائف وانظرها واحدة‪ ،‬واستمع‪ ،‬لتقرأ‬ ‫فيا من صبغ يده بصنعة البالغة! رّكِب‬
‫عليك‪" :‬هذا َكالَ ُم هللا"‪.‬‬

‫املبحث الرابع‪:‬‬

‫ان (الــم) مع أخواهتا ملا برزت بتلك الصورة كانت كأهنا تنادى‪" :‬حنن االئمة؛ ال نقلد أحداً‬
‫وما اتبعنا إماماً‪ ،‬وأُسلوبنا بديع‪ ،‬وطرزنا غريب"‪.‬‬

‫وفيه لطائف‪:‬‬

‫منها‪ :‬ان من ديدن اخلطباء والفصحاء التأسي مبثال والنسج على منوال والتمشي يف طريق‬
‫مسلوكة‪ ،‬مع اهنا مل يطمثهن قبله إنس وال جان‪.‬‬

‫قبل‪ ،‬مل مياثل ومل يقلَّد مع تآخذ أسباب‬


‫بعد كما كان ُ‬ ‫ومنها‪ :‬ان القرآن بفواحته ومقاطعه بقي ُ‬
‫األوداء وحتدي االعداء‪ .‬ان شئت شاهداً فهذه ماليني من الكتب‬ ‫التأسي من شوق َّ‬ ‫ِ‬
‫التقليد و ّ‬
‫العامي أيضاً اذا قاسها‬
‫ّ‬ ‫العربية! هل ترى واحداً منها يوازيه‪ ،‬أو يقع قريباً منه؟ كال! بل اجلاهل‬
‫معه وقابله هبا ناداه نظره بـ "أن هذا ليس يف مرتبتها"‪ .‬فإما هو حتت الكل وهو حمال‬
‫درك االعجاز‪.‬‬
‫بالضرورة‪ ،‬وإما هو فوق الكل وهو املطلوب‪ ،‬فهو نصيبه من ْ‬
‫ومنها‪ :‬ان من شأن صنعة البشر اهنا تظهر اول ماتظهر خشنة ناقصة من وجوه‪ ،‬يابسة من‬
‫الطالوة‪ ،‬مث تتكمل وحتلو‪ .‬مع ان اسلوب القرآن ملا ظهر ظهر بطالوة و طراوة وشبابية‪،‬‬
‫وحت ّدى مع االفكار املعمرين ‪ -‬بتالحق االفكار وسرقة البعض عن البعض ‪ -‬وغلبهم فأعلن‬
‫صنع خالق القوى والقدر"‪.‬‬
‫بالغلبة‪" :‬انه من ُ‬
‫حنل ذهنك عن ازهار تلك املباحث االربعة َش ْه َد‪:‬‬
‫فيا من استنشق نسيم البالغة! أفال جيتىن ُ‬
‫"اَ ْش َه ُد اَ َّن ه َذا َكالَ ُم هللا"؟‬

‫***‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪09 :‬‬

‫ني ‪2‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ك الْ ِكتَاب ال ري ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫ب فيه ُه ًدى ل ْل ُمتَّق َ‬
‫ُ َْ َ‬ ‫ذل َ‬

‫مـقـدمـة‬

‫اعلم! ان من اساس البالغة الذي به يربق حسن الكالم جتاوب اهليئات وتداعي القيود‬
‫كل بق ْد ِر الطاقة للمقصد‪ ،‬الذي هو كمجمع االودية‬ ‫وتآخذها على املقصد االصلي‪ ،‬وامداد ٍّ‬
‫او احلوض املتشرب من اجلوانب‪ ،‬بأن تكون مصداقاً ومتثاالً ملا قيل‪:‬‬

‫ِ‬ ‫اح ٌد َوُكلٌّ اِ َىل َذ َاك ْ‬


‫اجلَ َمال يُشريُ‬
‫كوِ‬ ‫ِ‬
‫عبَ َاراتُـنَا َش َّىت َو ُح ْسنُ َ َ‬
‫ك) ‪ 1‬املسوقة للتهويل املستفاد من‬ ‫تأمل يف آية (ولَئِن م َّسْتـهم نَـ ْفحةٌ ِمن َع َذ ِ‬
‫اب َربِّ َ‬ ‫مثال‪َّ :‬‬
‫َ ْ َ ُْ َ ْ‬
‫املس‬
‫التقليل بسر انعكاس الضد من الضد‪ .‬أفال ترى التشكيك يف "إن" كيف ميد التقليل‪ ،‬و ّ‬
‫الرتوح فقط‪ ،‬واملرتّية والتحقري يف جوه ِر‬
‫"مست" كيف يشري اىل القلة و ّ‬ ‫بدل االصابة يف ّ‬
‫"من" كيف تومئ إليها‪ ،‬وتبديل‬ ‫تلوح بالقلة‪ ،‬والبعضية يف ِ‬ ‫وصيغة وتنوي ِن "نفحةٌ" كيف ِّ‬ ‫ِ‬
‫"رب" كيف تشري اليها‪،‬‬‫النكال بالـ "عذاب" كيف يرمز اليها‪ ،‬والشفقة املستفادة من الـ ّ‬
‫فكل ميد املقصد جبهته اخلاصة‪ .‬وقس على هذه اآلية أخواهتا‪ .‬وباخلاصة (الــم _‬ ‫وقس؟!‪ٌ ..‬‬
‫ذلك الكتاب الريب فيه هدى للمتقني) ألن هذه اآلية ذُكرت ملدح القرآن واثبات الكمال‬
‫له‪.‬‬
‫ولقد جتاوب وتآخذ على هذا املقصد‪ :‬ال َق َسم بـ "الــم" على وجه‪ ،‬واشارة "ذلك" وحمسوسيته‬
‫فكل كما ميد املقصد‬
‫وبُعديته‪ ،‬واأللف والالم يف "الكتاب"‪ ،‬وتوجيه اثباته بـ "الريب فيه"‪ٌ .‬‬
‫دق‪.‬‬
‫شف من حتته عن ما يستند اليه من الدليل وإن ّ‬ ‫ويلقي إليه حصته يرمز وي ّ‬

‫املوجه للنظر‬
‫فان شئت تأمل يف ال َق َسم بـ (الــم) إذ إنه كما يؤكد‪ ،‬كذلك يشعر بالتعظيم ّ‬
‫املوجب النكشاف ماحتته من اللطائف املذكورة ليربهن على الدعوى املرموز اليها‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة االنبياء‪06 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪06 :‬‬

‫وانظر االشارة يف (ذلك) املختصة بالرجوع اىل الذات مع الصفات لتعلم اهنا كما تفيد‬
‫املبشر به يف التوراة واالجنيل ‪ -‬كذلك‬
‫التعظيم ‪ -‬الهنا اما اشارة اىل املشار اليه بـ "الــم" او ّ‬
‫تلوح بدليلها؛ اذ ما أعظم ما أقسم به! وما أكمل ما بشَّر به التوراة واالجنيل!‪ ..‬مث أمعن‬ ‫ّ‬
‫النظر يف االشارة احلسية اىل األمر املعقول لرتى اهنا كما تفيد التعظيم واالمهية؛ كذلك تشري‬
‫كل على‬ ‫اجملِرب ِ‬
‫خليال ٍ‬ ‫األنظار ْ‬ ‫اىل ان القرآن كاملغناطيس املنجذب اليه األذها ُن‪ ،‬واملتزاحم عليه‬
‫ُ‬
‫االشتغال به‪ .‬فتظاهر بدرجة ‪ -‬تراه العيون من خلفها اذا راجعت اخليال ‪ -‬يرمز بلسان‬
‫وتربيه عن الضعف واحليلة الداعيني اىل التسرت‪ ..‬مث تف ّكر يف البُعدية‬
‫احلال اىل وثوقه بصدقه ّ‬
‫علو الرتبة املفيد لكماله؛ كذلك تومئ اىل دليله بأنه‬ ‫املستفادة من "ذلك"؛ اذ اهنا كما تفيد ّ‬
‫بعيد عن ما سلك عليه أمثاله‪ .‬فإما حتت ك ٍل وهو باطل باالتفاق‪ ،‬فهو فوق الكل‪.‬‬
‫مث تدبر يف "ال" (الكتاب)؛ الهنا كما تفيد احلصر العريف املفيد للكمال؛ تفتح باب املوازنة‬
‫ِ‬
‫وتلمح هبا اىل ان القرآن كما مجع حماسن الكتب قد زاد عليها فهو أكملها‪..‬‬
‫ّ‬
‫االم ّي َّ الذي‬
‫يلوح بأن الكتاب اليكون من مصنوع ّ‬
‫مث قف على التعبري بـ "الكتاب" كيف ّ‬
‫ليس من أهل القراءة والكتابة‪.‬‬

‫أما (الريب فيه) ففيه وجهان‪:‬‬

‫إرجاع الضمري إىل احلكم‪ ،‬أو إىل الكتاب‪:‬‬

‫فعلى االول ‪-‬كما عليه املفتاح ‪ - 1‬يكون مبعىن يقيناً‪ ،‬وبال شك‪ ،‬فيكون جهة وحتقيقا‬
‫الثبات كماله‪.‬‬

‫وعلى الثاين ‪ -‬كما عليه الكشاف ‪ - 2‬يكون تأكيداً لثبوت كماله‪.‬‬

‫وعلى الكل يناجي من حتت "الريب" بـ (وان كنتم يف ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة‬
‫من مثله) ويرمز اىل دليله اخلاص‪..‬‬

‫_____________________‬

‫‪( 1‬مفتاح العلوم) للعالمة سراج الدين اىب يعقوب يوسف بن اىب بكربن حممد بن علي‬
‫السكاكى املتوىف سنة ‪626‬هـ‪ .‬ويع ّد كتابه هذا اوسع ما كتب يف البيان يف زمانه‪ ،‬وله شروح‬
‫كثرية‪.‬‬

‫‪( 2‬الكشاف عن حقائق التنزيل) لالمام العالمة اىب القاسم جارهللا حممود بن عمر الزخمشري‬
‫اخلوارزمي املتويف سنة ‪919‬هـ‪.‬‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪07 :‬‬

‫واالستغراق يف "ال" بسبب اعدام الريوب املوجودة ينشد‪:‬‬


‫‪1‬‬
‫الس ِقي ِم‬
‫ص ِحيحاً َوافَـتُهُ ِم َن الْ َف ْه ِم َّ‬ ‫وَك ْم ِم ْن َعائِ ٍ‬
‫ب قَـ ْوالً َ‬ ‫َ‬
‫ويشري اىل ان احملل ليس ٍ‬
‫بقابل لتولّد الشكوك؛ اذ أقام على الثغور امارات تتنادى من‬
‫اجلوانب وتطرد الريوب املتهامجة عليه‪.‬‬

‫ويف ظرفية (فيه) والتعبري بـ "يف" بدل أخواهتا اشارة اىل انفاذ النظر يف الباطن‪ .‬واىل ان حقائقه‬
‫األوهام املتوضعة على سطحه بالنظر الظاهر‪.‬‬
‫َ‬ ‫وتطري‬
‫تطرد ّ‬
‫الكل عن ٍ‬
‫كل! انظر نظرة واحدة‬ ‫فيا من آنس قيمة الرتكيب من جانب التحليل‪ ،‬وأدرك فرق ّ‬
‫كل حصته اىل املقصد املشرتك مع دليله اخلاص‪،‬‬
‫اىل تلك القيود واهليئات لرتى كيف يلقي ٌ‬
‫نور البالغة من اجلوانب‪.‬‬
‫وكيف يفور ُ‬
‫اعلم! انه مل يربط بني مجل "الــم‪ ..‬ذلك الكتاب‪ ..‬الريب فيه‪ ..‬هدى للمتقني" حبلقات‬
‫كل حبجز سابقتها وذيل الحقتها‪ .‬فان كل‬ ‫العطف لشدة االتصال والتعانق بينها‪ ،‬و ِ‬
‫أخذ ٍ‬
‫لكل واحدة جبهة اخرى‪ .‬ولقد انتقش‬ ‫لكل جبهة؛ كذلك نتيجة ِ‬‫دليل ٍ‬
‫واحدة كما اهنا ٌ‬
‫االعجاز على هذه اآلية بنسج اثين عشر من خطوط املناسبات املتشابكة املتداخلة‪..‬‬

‫ان شئت التفصيل تأمل يف هذا‪:‬‬

‫(الــم) فاهنا تومئ باملآل اىل‪" :‬هذا متحدًّى به‪ ،‬ومن يربز اىل امليدان؟" مث تلوح بأنه معجز‪..‬‬

‫وطم عليها‪ .‬مث تلمح بأنه‬


‫وتفكر يف (ذلك الكتاب) فاهنا تصرح بأنه ازداد على أخوته َّ‬
‫مستثىن ممتاز المياثل‪..‬‬

‫منور بنور‬
‫مث تدبر يف (الريب فيه) فاهنا كما تُفصح عن انه ليس حمال للشك تعلن بأنه ّ‬
‫اليقني‪..‬‬
‫مث انظر يف (هدى للمتقني) اذ اهنا كما هتدى اليك انه يُري الطريق املستقيم؛ تفيدك انه قد‬
‫جتسم من نور اهلداية‪.‬‬

‫فكل منها باعتبار املعىن األول برهان لرفقائها وباعتبار املعىن الثاين نتيجة لكل منها‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬للمتنيب يف ديوانه ‪206/0‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪09 :‬‬

‫ونذكر على وجه املثال ثالثا من الروابط الثنيت عشرة لتقيس عليها البواقي‪:‬‬

‫فـ (الـم) أي‪ :‬هذا يتح ّدى كل معارض‪ ،‬فهو أكمل الكتب‪ ،‬فهو يقيين؛ اذ كمال الكتاب‬
‫جمسم اهلداية للبشر‪..‬‬
‫باليقني‪ ،‬فهو َّ‬

‫مث (ذلك الكتاب) اي‪ :‬هو ازداد على أمثاله فهو معجز ‪ -‬او ‪ -‬اي‪ :‬هو ممتاز ومستثىن؛ إذ‬
‫السوي للمتقني‪..‬‬
‫ّ‬ ‫الشك فيه؛ اذ إنه يُري السبيل‬

‫مث (هدى للمتقني) اي‪ :‬يرشد اىل الطريق املستقيم‪ ،‬فهو يقيين‪ ،‬فهو ممتاز‪ ،‬فهو معجز‪..‬‬
‫وعليك باستنباط البواقي‪.‬‬

‫أما (هدى للمتقني) فاعلم! ان منبع حسن هذا الكالم من أربع نقط‪:‬‬

‫االوىل‪ :‬حذف املبتدأ‪ ،‬اذ فيه اشارة اىل ان حكم االحتاد مسلَّم‪ .‬كأن ذات املبتدأ يف نفس‬
‫اخلرب‪ .‬حىت كأنه التغاير بينهما يف الذهن أيضا‪.‬‬
‫جتس َم فصار نفس جوهر‬
‫والثانية‪ :‬تبديل اسم الفاعل باملصدر‪ ،‬اذ فيه رمز اىل ان نور اهلداية َّ‬
‫ِ ‪1‬‬
‫القرآن؛ كما يتجسم لو ُن احلمرة فيصري ْقرمزاً‪.‬‬

‫والثالثة‪ :‬تنكري (هدى) اذ فيه إمياء اىل هناية دقة هداية القرآن حىت اليُكْتنه ُكْنهها‪ ،‬واىل غاية‬
‫الحياط هبا علماً‪ .‬اذ املنكورية إما بالدقة واخلفاء‪ ،‬وإما بالوسعة الفائتة عن‬
‫وسعتها حىت ُ‬
‫االحاطة‪ .‬ومن هنا قد يكون التنكري للتحقري وقد يكون للتعظيم‪.‬‬

‫والرابعة‪ :‬االجياز يف (للمتقني) بدل "الناس الذين يصريون متقني به" أوجز باجملاز االول اشارة‬
‫اىل مثرة اهلداية وتأثريها‪ ،‬ورمزاً اىل الربهان "ا ِإلِّينّ" ‪ 2‬على وجود اهلداية‪ .‬فان السامع يف عصر‬
‫يستدل بسابقه كما يستدل به الحقه‪.‬‬

‫ان قلت‪ :‬كيف تتولد البالغة اخلارجة عن طوق البشر بسبب هذه النقط القليلة املعدودة؟‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬قرمز‪ :‬بالكسر‪ ،‬صبغ ارمىن يكون من عصارة دود‪.‬‬


‫‪2‬‬
‫فاالين ‪ -‬بتشديد النون ‪ -‬مصدر صناعي‬ ‫الربهان االينّ واللّمي‪ :‬اصطالحان يرد شرحهما‪ّ ،‬‬
‫اللمي‪ ،‬فهو مصدر‬ ‫مأخوذ من "ان " املشبهة بالفعل الىت تدل على الثبوت والوجود‪ .‬اما ّ‬
‫صناعي مأخوذ من كلمة ِ‬
‫"ملَ " للعلية‪ .‬ويف (التعريفات)‪ :‬االستدالل من العلة اىل املعلوم‬
‫إين‪.‬‬
‫برهان ملّي ومن املعلوم اىل العلّة برهان ّ‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪01 :‬‬

‫حسن ثالثة اشياء صار‬


‫قيل لك‪ :‬ان يف التعاون واالجتماع سراً عجيباً‪ .‬ألنه اذا اجتمع ُ‬
‫كخمسة‪ ،‬ومخسة كعشرة‪ ،‬وعشرة كأربعني بسر االنعكاس‪ .‬اذ يف كل شئ نوع من االنعكاس‬
‫ودرجة من التمثيل‪ .‬كما اذا مجعت بني مرآتني ترتاءى فيهما مرايا كثرية‪ ،‬أو َّنورَهتما باملصباح‬
‫يزداد ضياء كل بانعكاس األشعة؛ فكذلك اجتماع النكت والنقط‪ .‬ومن هذا السر واحلكمة‬
‫ترى كل صاحب كمال وصاحب مجال يرى من نفسه ميالً فطرياً اىل ان ينضم اىل مثيله‬
‫ويأخذ بيد نظريه ليزداد حسناً اىل حسنه‪ .‬حىت ان احلجر مع َح َجريته اذا خرج من يد ِّ‬
‫املعقد‬
‫ليماس رأس أخيه ليتماسكا عن السقوط‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أسه‬
‫وخيضع ر َ‬
‫الباين يف السقف احملدب مييل ُ‬
‫فاالنسان الذي اليدرك سر التعاون هلو أمجد من احلجر؛ اذ من احلجر من يتقوس ملعاونة‬
‫اخيه!‪.‬‬

‫ان قلت‪ :‬من شأن اهلداية والبالغة البيان والوضوح وحفظ االذهان عن التشتت‪ ،‬فما بال‬
‫املفسرين يف امثال هذه اآلية اختلفوا اختالفاً مشتتاً‪ ،‬واظهروا احتماالت خمتلفة‪ ،‬وبينوا وجوه‬
‫تراكيب متباينة‪ ،‬وكيف يعرف احلق من بينها؟‬

‫قيل لك‪ :‬قد يكون الكل حقاً بالنسبة اىل سام ٍع فسام ٍع؛ اذ القرآن ما نزل ألهل عص ٍر فقط‬
‫بل ألهل مجيع األعصار‪ ،‬وال لطبقة فقط بل جلميع طبقات االنسان‪ ،‬وال لصنف فقط بل‬
‫لكل فيه حصة ونصيب من الفهم‪ .‬واحلال أن فهم نوع البشر خيتلف‬ ‫جلميع أصناف البشر‪ .‬و ٍ‬
‫درجة درجة‪ ..‬وذوقَه يتفاوت جهة جهة‪ ..‬وميلَه يتشتت جانباً جانباً‪ ..‬واستحسانه يتفرق‬
‫وجهاً ًَ وجهاً‪ ..‬ولذته تتنوع نوعاً نوعاً‪ ..‬وطبيعته تتباين قسما قسما‪ .‬فكم من أشياء‬
‫نظر طائفة دون طائفة‪ ،‬وتستلذها طبقة وال تتنزل اليها طبقة‪ .‬وقس!‪..‬‬‫يستحسنها ُ‬
‫كل مقتضى ذوقه‬ ‫ِ‬
‫فألجل هذا السر واحلكمة أ ْكثَـَر القرآ ُن من حذف اخلاص للتعميم ليق ّدر ٌ‬
‫واستحسانه‪ .‬ولقد نظم القرآن ُمجَله ووضعها يف مكان ينفتح من جهاته وجوه حمتملة ملراعاة‬
‫كل فه ٍم حصته‪ .‬وقس!‪ ..‬فإذاً جيوز أن يكون الوجوه بتمامها مرادة‬ ‫االفهام املختلفة ليأخذ ُ‬
‫بشرط أن ال تردها علوم العربية‪ ،‬وبشرط ان تستحسنها البالغة‪ ،‬وبشرط ان يقبلها علم‬
‫أصول مقاصد الشريعة‪.‬‬

‫فظهر من هذه النكتة ان من وجوه اعجاز القرآن نظمه وسبكه يف اسلوب ينطبق على افهام‬
‫عصر فعصر‪ ..‬وطبقة فطبقة‪.‬‬
‫***‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪94 :‬‬

‫اه ْم يـُْن ِف ُقو َن ‪1‬‬ ‫ب وي ِقيمو َن َّ ِ‬


‫الَّ ِذ ِ ِ ِ ِ‬
‫الصلوةَ وممَّا َرَزقْـنَ ُ‬ ‫ين يـُ ْؤمنُو َن بالْغْي ُ ُ‬
‫َ‬
‫(اَلَّ ِذين يـُ ْؤِمنُو َن بِالْغَْي ِ‬
‫ب)‬ ‫َ‬
‫اعلم! أن وجه نظم احملصل مع احملصل انصباب مدح القرآن اىل مدح املؤمنني وانسجامه به؛‬
‫إينّ عليه‪ ،‬ومثرة هدايته‪ ،‬وشاهد عليه‪ .‬وبسبب تضمن التشويق اشارة‬ ‫اذ انه نتيجة له‪ ،‬وبرهان ّ‬
‫اىل جهة حصة هذه اآلية من اهلداية‪ ،‬واىل اهنا مثال هلا‪.‬‬

‫اما وجه "الذين" مع "املتقني" فتشييع التخلية بالتحلية اليت هي رفيقتها أبداً؛ اذ التزيني بعد‬
‫التنزيه‪ ،‬أال ترى ان التقوى هي التخلي عن السيئات وقد ذكرها القرآن مبراتبها الثالث‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫ترك الشرك‪ ،‬مث ترك املعاصي‪ ،‬مث ترك ماسوى هللا‪ .‬والتحلية فعل احلسنات‪ :‬إما بالقلب او‬
‫القالب او املال‪ .‬فشمس االعمال القلبية "االميان"‪ ،‬والفهرستة اجلامعة لالعمال القالبية‬
‫"الصالة" اليت هي عماد الدين‪ ،‬وقطب االعمال املالية "الزكاة" اذ هي قنطرة االسالم‪.‬‬

‫اعلم! ان (الذين يؤمنون بالغيب) مع انه اذا نظرت اىل مقتضى احلال اجياز‪ ،‬اال انه اذا‬
‫وازنت بينه وبني مرادفه وهو "املؤمنون" تظنه إطنابا؛ فأبدل "ال" بـ"الذين" الذي من شأنه‬
‫االشارة اىل الذات بالصلة فقط ‪ ،1‬كأنه الصفة له اال هي للتشويق على االميان‪ ،‬والتعظيم‬
‫له؛ والرمز اىل ان االميان هو املنار على الذات قد تضاءلت حتته سائر الصفات‪ ..‬وأبدل‬
‫"مؤمنون" بـ "يؤمنون" لتصوير وإظها ِر تلك احلالة املستحسنة يف نظر اخليال‪ ،‬ولالشارة اىل‬
‫جتدده باالستمرار وجتلّيه برتادف الدالئل اآلفاقية واألنفسية‪ ،‬فكلما ازدادت ظهوراً ازدادوا‬
‫إميانا‪.‬‬

‫(بالغيب) أي بالقلب‪ ،‬اي باالخالص بال نفاق‪ .‬ومع الغائبية‪ ..‬وبالغائب‪ ..‬وبعامل الغيب‪..‬‬
‫_____________________‬

‫‪ 1‬ألن "الذين" من االمساء املبهمة‪ ،‬لذا فان صلته هى الىت متيّزه وتعينه (ت‪)01 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪91 :‬‬

‫واعلم! ان االميان هو النور احلاصل بالتصديق جبميع ما جاء به النيب عليه السالم تفصيال يف‬
‫ضروريات الدين وامجاال يف غريها‪.‬‬

‫ان قلت‪ :‬اليقتدر على التعبري عن حقائق االميان من العوام من املائة اال واحد؟‬

‫قيل لك‪ :‬ان عدم التعبري ليس َعلَماً على عدم الوجود‪ .‬فكما ان اللسان كثرياً ما يتقاصر عن‬
‫ان يرتجم عن دقائق مايف تصورات العقل؛ كذلك قد اليرتاءى بل يتغامض عن العقل سرائر‬
‫مايف الوجدان‪ ،‬فكيف يرتجم عن كل مافيه؟ أال ترى ذكاء السكاكي ‪ 1‬ذلك االمام الداهي‬
‫‪2‬‬
‫بدوي آخر؟ فبناء على ذلك‪،‬‬
‫ّ‬ ‫او‬ ‫‪،‬‬ ‫قد تقاصر عن اجتناء دقائق ماأبرزته سجية امرئ القيس‬
‫االستدالل على وجود االميان يف العامي يثبت باالستفسار واالستيضاح منه‪ .‬بأن تستفسر‬
‫املردد بني النفي واالثبات هكذا‪ :‬أيها العامي! أميكن يف عقلك أن يكون‬
‫العامي بالسؤال ّ‬
‫ّ‬ ‫من‬
‫الصانع الذي كان العامل جبهاته الست يف قبضة تصرفه أن يتم ّكن ‪ 1‬يف جهة من جهاته أو‬
‫كاف‪ .‬وقس على هذا‪..‬‬ ‫ال؟ فإن قال‪ :‬ال‪ .‬فنفي اجلهة ثابت يف وجدانه‪ ،‬وذلك ٍ‬
‫ٌ‬

‫فسره السعد ‪ - 0‬نور يقذفه هللا تعاىل يف قلب من يشاء من عباده‪ ،‬أي‬ ‫مث ان االميان ‪ -‬كما ّ‬
‫بعد صرف اجلزء االختياري‪ .‬فاالميان نور لوجدان البشر وشعاع من مشس االزل يضئ دفعةً‬
‫ملكوتيةَ الوجدان بتمامها‪ .‬فينشر اُنسية له مع كل الكائنات‪ ..‬ويؤسس مناسبة بني الوجدان‬
‫وبني كل شئ‪ ..‬ويلقي يف القلب قوة معنوية يقتدر هبا االنسان ان يصارع مجيع احلوادث‬
‫واملصيبات‪ ..‬ويعطيه ُو ْسعةً‬
‫_____________________‬

‫‪ 1‬ابو يعقوب يوسف بن ايب بكر (ت ‪626‬هـ‪1229 /‬م) من اعالم البالغة‪ ،‬مؤلف كتاب‬
‫«املفتاح» الذي يعد أوسع ما كتب يف البيان يف زمانه وله شروح كثرية‪ .‬وضع علوم البالغة يف‬
‫قالبها العلمي‪ .‬مولده ووفاته خبوارزم ‪.‬‬

‫‪909 - 017( 2‬م) هو امرؤ القيس بن ُحجر بن احلارث الكندي‪ ،‬اشهر شعراء العرب‬
‫على االطالق‪ ،‬مياين االصل‪ ،‬مولده بنجد ووفاته يف انقرة‪ ،‬وقد ُمجع بعض ما ينسب اليه من‬
‫الشعر يف ديوان صغري‪( .‬االعالم ‪.)12/2‬‬

‫‪ 3‬يتحيز يف مكان‪.‬‬

‫‪ 4‬هــو مسـعـود بــن عمر بن عـبـد هللا‪ ،‬ولد بتفـتـازان خبراسان فـي ‪( 712‬أو ‪727‬هــ) وتـويف‬
‫يف سـمرقـنـد ‪711‬هــ‪ ..‬إمام يف العربية واملنطق والفقه‪ ،،‬سعى إلحياء العلوم االسالمية بعد‬
‫كسوفها بغزو املغول فألف كثرياً من امهات الكتب‪ .‬حىت انه يعد احلد الفاصل بني العلماء‬
‫املتأخرين واملتقدمني‪ .‬من كتبه (هتذيب املنطق) و(شرح املقاصد) و (شرح العقائد النسفية) و‬
‫(املطول)‪ ..‬وكتابه (التلويح يف كشف حقائق التنقيح) يف االصول شرح فيه كتاب (التوضيح‬
‫يف حل غوامض التنقيخ) للعالمة عبيد هللا ابن مسعود احملبويب (ت‪707‬هـ)‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪92 :‬‬

‫يقتدر هبا ان يبتلع املاضي واملستقبل‪ .‬وكما ان االميان شعاع من مشس األزل ‪1‬؛ كذلك ملعة‬
‫من السعادة االبدية أي احلشر‪ .‬فينمو بضياء تلك اللمعة بذور كل اآلمال‪ ،‬ونواة كل‬
‫االستعدادات املودعة يف الوجدان‪ ،‬فتنبت ممتدة اىل االبد‪ ،‬فتنقلب نواة االستعداد كشجرة‬
‫طوىب‪.‬‬
‫الصلوَة)‬
‫يمو َن َّ‬ ‫ِ‬
‫(ويُق ُ‬
‫َ‬
‫اعلم! ان وجه النظم أظهر من الشمس يف رابعة النهار‪ .‬وان يف ختصيص "الصالة" من بني‬
‫وم ْعكسها‪ .‬كالفاحتة للقرآن‪،‬‬
‫حسنات القالب إشارة اىل أهنا فهرستة كل احلسنات وامنوذجها َ‬
‫واالنسان للعامل‪ .‬الشتماهلا على نوع ٍ‬
‫صوم وحج وزكاة وغريها‪ ،‬والشتماهلا على انواع عبادات‬
‫املخلوقات‪ ،‬الفطرية واالختيارية من املالئكة الراكعني الساجدين القائمني‪ ،‬ومن احلجر‬
‫الساجد‪ ،‬والشجر القائم‪ ،‬واحليوان الراكع‪..‬‬

‫مث انه أقام "يقيمون" مقام "املقيمني" إلحضار تلك احلركة احلياتية الواسعة واالنتباه الروحاين‬
‫اإلهلي يف العامل االسالمي اىل نظر السامع‪ .‬ووضع تلك الوضعية املستحسنة واحلالة املنتظمة‬
‫للتأسي؛ إذ من تأمل‬‫ِ‬
‫من نواحي نوع البشر نصب عني اخليال‪ ،‬ليهيج ويوقظ ميالن السامع ّ‬
‫يف تأثري النداء باآللة املعروفة ‪ 2‬يف نفرات العسكر املنتشرين املغمورين بني الناس وحتريك‬
‫النداء هلم دفعة‪ ،‬والقاء انتباه فيهم‪ ،‬وافراغهم يف وضع مستحسن‪ ،‬ومجعهم حتت نظام‬
‫احملمدي بني االنسان يف‬
‫مستملح يرى يف نفسه اشتياقا ألن ينساب اليهم‪ .‬فهكذا االذان َّ‬
‫االعلَى)‪..‬‬
‫صحراء العامل (وهلل املثَ ُل ْ‬
‫َ‬
‫وإمنا مل يقتصر يف مسافة االجياز على "يصلّون" بل امتها بـ (يقيمون الصالة) لالشارة اىل‬
‫امهية مراعاة معاين "االقامة" يف الصالة من تعديل االركان‪ ،‬واملداومة‪ ،‬واحملافظة‪ ،‬واجلد‪،‬‬
‫وتروجيها يف سوق العامل‪ .‬تأمل!‬

‫مث ان الصالة نسبة عالية‪ ،‬ومناسبة غالية‪ ،‬وخدمة نزيهة بني العبد وسلطان االزل‪ ،‬فمن شأن‬
‫تلك النسبة ان يعشقها كل روح‪ ..‬وأركاهنا متضمنة لألسرار اليت شرحها‬

‫_____________________‬
‫‪1‬‬
‫جل جالله املنور لكل شئ يف االدب الرتكى والفارسى خبالف‬
‫ّ‬ ‫هللا‬ ‫حبق‬ ‫مألوف‬ ‫تعبري‬
‫االدب العرىب‪.‬‬
‫‪ 2‬البوق العسكرى‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪91 :‬‬

‫أمثال "الفتوحات املكية"‪ ،‬فمن شأن تلك األسرار أن حيبها كل وجدان‪ ..‬واهنا دعوة صانع‬
‫االزل اىل سرادق حضوره مخس دعوات يف اليوم والليلة ملناجاته اليت هي يف حكم املعراج‪.‬‬
‫فمن شأهنا ان يشتاقها كل قلب‪ ..‬وفيها ادامة تصور عظمة الصانع يف القلوب وتوجيه‬
‫العقول اليها لتأسيس اطاعة قانون العدالة االهلية‪ ،‬وامتثال النظام الرباين‪ .‬واالنسان حيتاج اىل‬
‫ويل من تركها! وياخسارة من‬ ‫تلك االدامة من حيث هو إنسان النه مدينّ بالطبع‪ ..‬فيا َ‬
‫وتفاً ‪ِ 1‬‬
‫لنفس َمن مل‬ ‫تكاسل فيها! وياجهالة من مل يعرف قيمتها! فسحقاً وبعداً وافّاً ًّ‬
‫يستحسنها‪.‬‬

‫اه ْم يـُْن ِف ُقو َن)‪.‬‬ ‫ِ‬


‫(وممَّا َرَزقْـنَ ُ‬
‫َ‬
‫وجه النظم‪ :‬انه كما ان الصالة عماد الدين وهبا قوامه؛ كذلك الزكاة قنطرة االسالم وهبا‬
‫التعاون بني أهله‪.‬‬

‫مث ان من شروط ان تقع الصدقة موقعها الالئق‪:‬‬

‫ان اليسرف املتصدق فيقعد ملوماً‪ ..‬وان اليأخذ من هذا ويعطي لذاك؛ بل من مال نفسه‪..‬‬
‫المين فيستكثر‪ ..‬وان الخياف من الفقر‪ ..‬وان اليقتصر على املال‪ ،‬بل بالعلم والفكر‬
‫وان ّ‬
‫والفعل أيضا‪ ..‬وان اليصرف اآلخذ يف السفاهة‪ ،‬بل يف النفقة واحلاجة الضرورية‪.‬‬

‫ف ِإلحسان هذه النكت‪ ،‬واحساس هذه الشروط تصدَّق القرآن على األفهام بإيثار (ومما‬
‫رزقناهم ينفقون) على "يتصدقون" او "يزّكون" وغريمها؛ إذ أشار بـ "من" التبعيض اىل رد‬
‫االسراف‪ ..‬وبتقدمي (مما) اىل كونه من مال نفسه‪ ..‬وبـ"رزقنا" اىل قطع املنة‪ .‬أي‪ :‬ان هللا هو‬
‫ف ِم ْن ِذي الْ َع ْر ِش اِقْالَالً) ‪..2‬‬
‫املعطي وانت واسطة‪ ..‬وباالسناد اىل "نا" اىل‪( :‬الَ َختَ ْ‬
‫وباالطالق اىل تعميم التصدق للعلم والفكر‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬االف والتف‪ :‬وسخ االذن واالظفار‪ ،‬مث استعمال عند كل شئ يُضجر منه (الزاهر‬
‫لالنباري)‪.‬‬

‫‪ 2‬اصل احلديث‪ :‬عن عبد هللا بن مسعود رضى هللا عنه‪ ،‬قال‪ :‬دخل النيب صلى هللا عليه‬
‫عد ذلك ألضيافك‪.‬‬‫صربة من متر‪ ،‬فقال‪" :‬ما هذا يا بالل؟ " قال‪ :‬اُ ُّ‬
‫وسلم على بالل وعنده ُ‬
‫ختش من ذي العرش‬
‫قال‪" :‬أما ختشى ان يكون لك ُدخان يف نار جهنم؟! انفق بالل! وال َ‬
‫اقالالً "‪.‬‬

‫قال املنذري يف الرتغيب والرتهيب‪ :‬رواه البزار باسناد حسن والطرباين يف الكبري وذكر فيه‬
‫وحسنه احلافظ ابن حجر‪.‬‬
‫زيادة‪ .‬واحلديث اورده اهليثمي يف اجملمع وقال‪ :‬اسناده حسن‪ّ ،‬‬
‫واحلديث صحيح بطرقه (صحيح اجلامع الصغري رقم ‪ 1949‬وصحيح الرتغيب برقم ‪،112‬‬
‫واملشكاة برقم ‪ )1999‬ومع هذا ضعفه العراقي رمحه هللا تعاىل‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪90 :‬‬

‫وغريمها‪ .‬ومبادة (ينفقون) اىل شرط صرف اآلخذ يف النفقة واحلاجات الضرورية‪.‬‬

‫املسلم أخاه‬ ‫يغيث‬ ‫جسر‬ ‫كاة‬


‫الز‬ ‫أي‪:‬‬ ‫ِ ‪1‬‬ ‫(الزكاةُ قَـْنطَرةُ ِ‬
‫اال ْسالَم)‬ ‫مث ان يف احلديث الصحيح َّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫املسلم بالعبور عليها؛ اذ هي الواسطة للتعاون املأمور به‪ ،‬بل هي الصراط يف نظام اهليئة‬
‫االجتماعية لنوع البشر‪ ،‬وهي الرابطة جلريان مادة احلياة بينهم‪ ،‬بل هي الرتياق للسموم الواقعة‬
‫يف ترقيات البشر‪.‬‬
‫نعم! يف "وجوب الزكاة" و"حرمة الربا" حكمة عظيمة‪ ،‬ومصلحة عالية‪ ،‬ورمحة واسعة؛ اذ لو‬
‫اس أساس‬‫أمعنت النظر يف صحيفة العامل نظراً تارخيياً وتأملت يف مساوي مجعية البشر لرأيت ّ‬
‫مجيع اختالالهتا وفسادها‪ ،‬ومنبع كل االخالق الرذيلة يف اهليئة االجتماعية كلمتني فقط‪:‬‬
‫ِ‬
‫ميوت غ ِريي من اجلُ ِ‬
‫وع"‪.‬‬ ‫علي اَن َ‬ ‫إحدامها‪" :‬ا ْن َشبِ ْع ُ‬
‫ت فال َّ‬

‫َسرتيح اَنَا"‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫انت أل َ‬
‫ب َ‬
‫ت آل ُك َل اَنَا‪ .‬واتْـ َع ْ‬
‫ب اَنْ َ‬
‫والثـاني ــة‪" :‬ا ْكتَس ْ‬
‫فالكلمة االوىل الغدارة النَ ِه َمة الشنعاء هي اليت زلزلت العامل االنساينَّ فاشرف على اخلراب‪.‬‬
‫القاطع لعرق تلك الكلمة ليس االّ "الزكاة"‪.‬‬‫و ُ‬
‫والكلمة الثانية الظاملة احلريصة الشوهاء هي اليت هارت برتقِّيات البشر فأوشك أن تنهار هبا‬
‫ِ‬
‫املستأص ُل والدواء لتلك الكلمة ليس إالّ "حرمة الربا"‪ .‬فتأمل!‪..‬‬
‫يف نار اهلَْرج وامل ْرج‪ .‬و‬
‫َ‬
‫اعلم! ان شرط انتظام اهليئة االجتماعية ان ال تتجاىف طبقات االنسان‪ ،‬وان التتباعد طبقةُ‬
‫اخلواص عن طبقة العوام‪ ،‬واألغنياء عن الفقراء بدرجة ينقطع خيط الصلة بينهم‪ .‬مع ان‬
‫بامهال وجوب الزكاة وحرمة الربا انفرجت املسافة بني الطبقات‪ ،‬وتباعدت طبقات اخلواص‬
‫عن العوام بدرجة ال صلة بينهما‪ ،‬وال يفور من الطبقة‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬اورده اهليثمي يف اجملمع (‪ )62/1‬وقال‪ :‬رواه الطرباين يف الكبري واالوسط ورجاله موثقون‬
‫إالّ بقية مدلس وهو ثقة‪ ،‬واورده املنذري يف الرتغيب والرتهيب (‪ )917/1‬وقال‪ :‬رواه‬
‫الطرباين‪ ...‬وفيه ابن هليعة‪ ،‬والبيهقي وفيه بقية بن الوليد‪ .‬واحلديث ضعفه حمقق اجلامع‬
‫الصغري برقم ‪ 1111‬يف ضعيف اجلامع الصغري‪.‬‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪99 :‬‬

‫السفلى اىل العليا إالّ صدى االختالل‪ ،‬وصياح احلسد‪ ،‬وأنني احلقد والنفرة بدال عن االحرتام‬
‫و االطاعة والتحبب‪ ،‬وال يفيض من العليا على السفلى بدل املرمحة واالحسان والتلطيف إالّ‬
‫نار الظلم والتحكم‪ ،‬ورعد التحقري‪ .‬فأسفاً!‪ ..‬ألجل هذا قد صارت "مزيةُ اخلواص" اليت هي‬
‫و"فقر العوام" اللذان مها‬
‫"عجز الفقراء" ُ‬
‫للتكرب والغرور‪ .‬وصار ُ‬
‫سبب التواضع والرتحم سبباً ّ‬
‫سببا املرمحة عليهم واالحسان اليهم سبباً ألسارهتم وسفالتهم‪ ..‬وانشئت شاهداً فعليك‬
‫بفساد ِ‬
‫ورذالة حالة العامل املدينّ‪ ،‬فلك فيه شواهد كثرية‪ .‬وال ملجأ للمصاحلة بني الطبقات‬ ‫ِ‬
‫والتقريب بينها االّ جعل الزكاة ‪ -‬اليت هي ركن من اركان االسالمية ‪ -‬دستوراً عالياً واسعاً يف‬
‫تدوير اهليئة االجتماعية‪.‬‬

‫***‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪96 :‬‬

‫اآلخَرةِ ُه ْم يُوقِنُو َن ‪0‬‬


‫ك وبِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين يـُ ْؤِمنُو َن ِمبا أُنْ ِزَل الَْي َ‬
‫ك َوما أُنْ ِزَل م ْن قَـْبل َ َ‬ ‫َوالذ َ‬
‫يعني بوضع امارةٍ وجهاً من وجوه الرتاكيب يف كثري‬
‫اعلم! ان القرآن أرسل النظم ‪ -‬أي مل ّ‬
‫من أمثال هذه اآلية‪ ،‬لس ٍر لطيف‪ ،‬هو منشأ االجياز الذي هو منشأ االعجاز‪ ،‬وهو‪:‬‬

‫ان البالغة هي مطابقة مقتضى احلال‪ .‬واحلال‪ :‬ان املخاطبني بالقرآن على طبقات متفاوتة‪،‬‬
‫نوع‬
‫ويف اعصار خمتلفة‪ .‬فلمراعاة هذه الطبقات‪ ،‬وجملاورة هذه االعصار‪ ،‬ليستفيد خماطب كل ٍ‬
‫ماقُ ِّد َر له من حصته‪ ،‬حذف القرآ ُن يف كث ٍري للتعميم والتوزيع‪ ،‬واطلق يف كث ٍري للتشميل‬
‫والتقسيم‪ ،‬وارسل النظم يف كثري لتكثري الوجوه‪ ،‬وتضمني االحتماالت املستحسنة يف نظر‬
‫كل ذه ٍن مبقدار ذوقه‪ .‬فتأمل!‪..‬‬
‫البالغة واملقبولة عند العلم العريب ليفيض على ِ‬

‫مث ان وجه نظم هذه اآلية بسابقتها‪ :‬التخصيص بعد التعميم‪ .‬ليعلن على رؤوس االشهاد‬
‫لريد يد استغناء اهله يف أفواههم‪ ،‬وليأخذ يد امثال "عبد‬
‫شرف َم ْن آمن من اهل الكتاب‪ ،‬و ّ‬
‫َ‬
‫قس َمي املتقني ‪ 2‬للتصريح‬
‫ْ‬ ‫على‬ ‫التنصيص‬ ‫أيضا‬ ‫و‬ ‫به‪..‬‬ ‫يأمت‬ ‫الن‬ ‫غريه‬ ‫ق‬‫ِ‬
‫ويشو‬
‫ّ‬ ‫‪،‬‬ ‫‪1‬‬
‫هللا بن سالم"‬
‫بشمول هداية القرآن لكافة االمم‪ ،‬والتلويح لعموم رسالة حممد عليه السالم لقاطبة امللل‪..‬‬
‫ص َدف يؤمنون بالغيب اذ دل‬ ‫وايضا التفصيل بعد االمجال لشرح اركان االميان املندجمة يف َ‬
‫على الكتب والقيامة صراحة‪ ،‬وعلى الرسل واملالئكة ضمنا‪.‬‬

‫مث ان القرآن مل يوجز هنا بنحو (واملؤمنني بالقرآن) لرتصيع هذا املعىن بلطائف وتزيني ذيوله‬
‫بنكت‪ ،‬فآثر (والذين يؤمنون مبا أُنزل اليك)‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬صحايب‪ ،‬أسلم عند قدوم النىب صلى هللا عليه وسلم املدينة‪ ،‬وكان امسه (احلصني) فسماه‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عبدهللا‪ .‬شهد مع عمر رضى هللا عنه فتح بيت املقدس‬
‫واجلابية‪ ،‬وأقام باملدينة اىل ان تويف سنة ‪01‬هـ‪( .‬االصابة ‪ ،0729‬االستيعاب ‪.)192/2‬‬

‫‪ 2‬املذكورين يف هذه اآلية والىت سبقتها (ت‪)94 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪97 :‬‬

‫اذ يف "الذين" رمز اىل ان وصف االميان هو مناط احلكم وان الذات مع سائر الصفات تابعة‬
‫‪1‬‬
‫له ومغمورة حتته‪.‬‬

‫ويف (يؤمنون) بدل "املؤمنني" الدال على الثبوت يف زمان‪ ،‬تلويح اىل جتدد االميان بتواتر‬
‫النزول وتكرر الظهور مستمرا‪.‬‬

‫ويف "ما" االهبام‪ ،‬إمياء اىل ان االميان جممال قد يكفي‪ ،‬واىل تشميل االميان للوحي الظاهر‬
‫والباطن وهو احلديث‪.‬‬
‫ويف (انُزل) باعتبار مادته اشارة اىل ان االميان بالقرآن هو االميان بنزوله من عند هللا‪ .‬كما ان‬
‫االميان باهلل هو االميان بوجوده‪ ،‬وباليوم اآلخر هو االميان مبجيئه‪ .‬وبالنظر اىل صيغته املاضوية‬
‫‪ -‬مع انه مل يتم النزول اذ ذاك ‪ -‬اشارة اىل حتققه املنزلة مبنزلة الواقع مع ان مضارعية‬
‫"يؤمنون" تتالىف مايف ماضويته ‪ .2‬بل الجل هذا التنزيل ترى يف اساليب التنزيل كثريا ما يبتلع‬
‫بزي املاضي‪ ،‬اذ فيه بالغة لطيفة‪ .‬الن من مسع املاضي‬ ‫الزمان املاضي املستقبل ويتزيا املضارع ّ‬
‫فيما مل ميض بالنسبة اليه اهتز ذهنه‪ ،‬وتيقظ انه ليس وحده‪ ،‬وتذكر ان خلفه غريه من‬
‫الصفوف مبسافات‪ .‬حىت كأن االعصار مدارج واالجيال صفوف قاعدون خلفها‪ .‬وتنبّه ان‬
‫العلو يسمعه كل االجيال‪ .‬وهو خطبة اهلية‬ ‫اخلطاب والنداء املوجه اليه بدرجة من الشدة و ّ‬
‫كل الصفوف يف كل االعصار‪ .‬فاملاضي حقيقة يف الكثري ‪ -‬يف أكثر األزمان ‪-‬‬ ‫انصت هلا ُّ‬
‫وجماز يف القليل ‪ -‬يف أقلها ‪ - 1‬ومراعاة االكثر أوىف حلق البالغة‪.‬‬
‫ٌ‬

‫ويف (اليك) بدل "عليك" رمز اىل ان الرسالة وظيفة ُكلِّف هبا النيب عليه السالم َّ‬
‫وحتملها جبزئه‬
‫وعلو‬
‫شم اضطرار ّ‬ ‫االختياري‪ ..‬وإمياء اىل علّوه خبدمة جربائيل بالتقدمي اليه؛ اذ يف "على" ّ‬
‫واسطة النزول‪ ..‬ويف خطاب "اليك" بدل "اىل حنو حممد" تلويح اىل ان حممداً عليه السالم‬
‫ماهو إالّ خماطب والكالم كالم هللا‪ ..‬وايضا معىن اخلطاب تأكيد وتصوير ملعىن النزول الذي‬
‫هو الوحي الذي هو القرآن‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬حىت كأن ال صفة هلم مميزة االّ االميان (ت‪)92 :‬‬

‫‪ 2‬اى ماضوية "اُنزل "‪ .‬مبعىن ان الذى مل يتم نزوله‪ ،‬ان مل يكن داخالً ضمن مشولية "اُنزل "‬
‫فهو ضمن مشولية "يؤمنون " (ت‪)92 :‬‬

‫‪ 3‬فاملاضى حقيقة ثابتة لدى كثري من الناس يف اغلب االزمان‪ ،‬بينما يكون جمازاً لدى القليلني‬
‫يف اقل االزمان‪.‬‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪99 :‬‬

‫الذي هو خطاب هللا معه الذي هو اخلاصة النافذة يف الكل‪ .‬فكشف هذا اجلزء احلجاب‬
‫عن حصته من تلك اخلاصة‪ .‬فظهر ان هذا الكالم بالنظر اىل اشتماله على هذه اللطائف‬
‫املذكورة يف هناية االجياز‪.‬‬

‫(وما اُنزل من ْقبلِك)‬

‫اعلم! ان امثال هذه التوصيفات تتضمن تشويقاً‪ ،‬يتضمن أحكاما انشائية‪ .‬كآمنوا كذا وكذا‬
‫وال تفرقوا‪.‬‬

‫مث ان يف هذا النظم والربط اربع لطائف‪:‬‬

‫إحداها‪:‬‬

‫عطف املدلول على الدليل‪ .‬اي‪" :‬ياأيها الناس اذا آمنتم بالقرآن فآمنوا بالكتب السابقة‬
‫ني يَ َديْ ِه) ‪.1‬‬ ‫ايضا‪ ،‬اذ القرآن مص ِّدق هلا وشاهد عليها" بدليل (م ِ ِ‬
‫ص ّدقاً ل َما بَـ ْ َ‬
‫َُ‬
‫والثانية‪:‬‬

‫عطف الدليل على املدلول‪ ،‬أي‪" :‬ياأهل الكتاب اذا آمنتم باالنبياء السابقني والكتب‬
‫بشروا به‪ ،‬وألن مدار‬
‫السالفة لزم عليكم ان تؤمنوا بالقرآن ومبحمد عليه السالم‪ ،‬الهنم قد ّ‬
‫صدقهم‪ ،‬ونزوهلا ومناط نبوهتم يوجد حبقيقته وبروحه يف القرآن بوجه اكمل ويف حممد عليه‬
‫السالم بالوجه األظهر‪ .‬فيكون القرآن كالم هللا بالقياس االَْولَ ِوي‪َّ ،‬‬
‫وحممد عليه الصالة‬
‫والسالم رسوله بالطريق األوىل"‪.‬‬

‫والثالثة‪:‬‬
‫ان فيه اشارة اىل ان مآل القرآن ‪ -‬اعين االسالمية الناشئة يف زمان السعادة ‪ -‬كشجرة أصلها‬
‫ثابت يف أعماق املاضي‪ ،‬منتشرة العروق متشربة عن منابع حياهتا وقوهتا‪ ،‬وفرعها يف مساء‬
‫االستقبال ناشرة أغصاهنا مثمرة‪ .‬أي اخذت االسالمية بقرين املاضي واالستقبال‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة البقرة‪.17 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪91 :‬‬

‫والرابعة‪:‬‬

‫ان فيه اشارًة اىل تشويق اهل الكتاب على االميان وتأنيسهم‪ ،‬والتسهيل عليهم‪ .‬كأنه يقول‪:‬‬
‫"اليشقن عليكم الدخول يف هذا السلك‪ ،‬اذ الخترجون عن قشركم باملرة بل امنا تكملون‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫ومكمل يف االصول‬ ‫ِ‬
‫معتقداتكم‪ ،‬وتبنون على ماهو مؤسس لديكم" اذ القرآن مع ّدل ّ‬
‫ِ‬
‫مؤسس يف‬
‫والعقائد‪ ،‬وجامع جلميع حماسن الكتب السابقة واصول الشرائع السالفة‪ .‬إال انه ّ‬
‫التفرعات اليت تتحول بتأثري تغري الزمان واملكان؛ فكما تتحول االدوية وااللبسة يف الفصول‬
‫االربعة‪ ،‬وطرز الرتبية والتعليم يف طبقات عمر الشخص؛ كذلك تقتضي احلكمة واملصلحة‬
‫تبدل االحكام الفرعية يف مراتب عمر نوع البشر‪ .‬فكم من حكم فرعي كان مصلحة يف‬
‫زمان‪ ،‬ودواء يف وقت طفولية النوع‪ ،‬اليبقى مصلحة يف آخر‪ ،‬ودواء عند شبابية النوع‪ .‬وهلذا‬
‫سخ القرآن بعض الفروع‪ .‬اي ّبني انقضاء اوقات تلك الفروع ودخول وقت آخر‪.‬‬ ‫السر نَ َ‬

‫ويف (من قبلك) لطائف‪:‬‬

‫اعلم! انه ما من كلمة يف التنزيل يأىب عنها مكاهنا‪ ،‬أو مل يرض هبا‪ ،‬أو كان غريُها أوىل به‪.‬‬
‫مرص ٍع مرصوص متماسك بروابط املناسبات؛ فان‬ ‫بل مامن كلمة من التنزيل إال وهي كد ٍّر َّ‬
‫شئت مثاال تأمل يف‪( :‬من قبلك) كيف ترى اللطائف املتطايرة من جوانب هذه اآلية‬
‫توضعت على هذه الكلمة الفذة‪.‬‬
‫ّ‬

‫بت وتلونت ‪ُ -‬فرت ِّشح وتُرمز خبمس لطائف ‪ -‬املناسبات املنعكسة من‬ ‫فان (من قبلك) تشر ْ‬
‫املقاصد اخلمسة املندجمة يف مسألة النبوة املسوقة هلا هذه اآلية‪.‬‬

‫اما املقاصد املندجمة فهي‪ :‬ان حممداً عليه السالم نيب‪ ،‬وانه اكمل االنبياء‪ ،‬وانه خامت االنبياء‪،‬‬
‫وانه مرسل لكافة االقوام‪ ،‬وان شريعته ناسخة جلميع الشرائع‪ ،‬وجامعة حملاسنها‪.‬‬

‫اما وجه انعكاس املقصد االول يف تلك الكلمة‪ ،‬فهو‪:‬‬

‫ان "من قبلك" امنا يقال اذا احتد املسلك وكان الطريق واحداً‪ .‬فكأن هذه الكلمة ترتشح‪:‬‬
‫بأن احلجج على نبوة َمن قبله وصدق كتبهم‪ ،‬حجةٌ مبجموعها بتنقيح املناط ‪ 1‬وحتقيق املناط‬
‫بالقياس األوىل على نبوة حممد عليه السالم ونزول كتابه‪ .‬فكأن مجيع معجزاهتم معجزة فذة‬
‫على صدق حممد عليه السالم‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬اصطالح اصوىل يف مباحث العلة‪ :‬فتنقيح املناط‪ :‬هتذيب العلة مما علق هبا من االوصاف‬
‫الىت ال مدخل هلا يف العلية‪ .‬اما حتقيق املناط‪ :‬فهو االجتهاد يف حتقيق العلة الثابتة بالنص او‬
‫باالمجاع او بأي مسلك آخر‪ ،‬يف واقعة غري الىت ورد فيها النص‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪64 :‬‬

‫واما وجه انعكاس املقصد الثاين‪ ،‬وهو االكملية فيها‪ ،‬فهو‪:‬‬


‫ان "من قبلك" بناء على مالحظة عادة "ان السلطان خيرج يف اخريات الناس"‪ ..‬وعلى‬
‫قاعدة التكمل يف نوع البشر املقتضية الكملية املريب الثاين عن املريب االول‪ ..‬وعلى اغلبية‬
‫مهارة وزيادة اخللف على السلف‪ ،‬تلوح بان حممداً عليه السالم سلطان االنبياء‪ ،‬اكمل من‬
‫كلهم‪ .‬كما ان القرآن أمجع وأمجل ‪ 1‬من كتبهم‪.‬‬

‫واما وجه تشرهبا من املقصد الثالث وهو اخلامتية فهو‪:‬‬

‫استقر‬
‫ان "من قبلك" بسر قاعدة "ان الواحد اذا تكثَّر تس ْل َس َل اليسكن‪ ،‬وان الكثري اذا احت ّد ّ‬
‫الينقطع" وبامشام املفهوم املخالف تلمح بانه عليه السالم خامت االنبياء‪.‬‬

‫واما وجه انصباغها من املقصد الرابع وهو عموم الدعوة فهو‪:‬‬

‫كل منهم سلفك" بسر قاعدة "ان اخللف يأخذ متام‬


‫ان "من قبلك" املفيدة "انك َخلَ ُفهم و ٌ‬
‫وظيفة السلف ويقوم مقامه" تشري بأنه اذا كان كل منهم سلفك فانت نائب الكل‪ ،‬ورسول‬
‫مجيع االمم‪ .‬نعم اليكون إالّ كذلك!‪ ..‬اذ الفطرة حاكمة له‪ ،‬واحلكمة قاضية به؛ النه كانت‬
‫امم العامل االنساين قبل زمان السعادة يف غاية التباعد واالختالف مادة ومعىن‪ ،‬واستعداداً‬
‫وتربيةً؛ ماكفت هلم الرتبية الواحدة وما مشلت الدعوة املفردة‪ .‬مث ملا انتبه العامل االنساين بزمان‬
‫السعادة بعده‪ ،‬ومتايل اىل االحتاد مبداولة االفكار‪ ،‬ومبادلة الطبائع‪ ،‬واختالط االقوام‪ ،‬وحتري‬
‫البعض عن حال البعض حىت متخض الزمان بكثرة طرق املخابرة واملناقلة؛ فصارت الكرة‬
‫كمملكة وهي كوالية وهي كبلدة‪ ،‬واتصل الرحم بني اهل الدنيا؛ َك َفت الدعوة الواحدة‬
‫والنبوة الفريدة للكافة‪.‬‬

‫واما وجه إمشامها باملقصد اخلامس فهو‪:‬‬

‫ان "من قبلك" املومية من "من" اىل "اىل"‪ ،‬ومن "اىل" اىل االغناء ‪ .2‬اي "انتهت الرسالة‬
‫ت شريعتُك" ترمز بأن شريعته عليه السالم ناسخة باالنتهاء وجامعة‬‫بقدومك اذ اَ ْغنَ ْ‬
‫باالغناء‪.‬‬
‫_____________________‬

‫‪ 1‬وامشل (ش)‪.‬‬

‫‪ 2‬اى‪ :‬ان "من " يفيد معىن االبتداء‪ ،‬واالبتداء البد له من انتهاء ‪ -‬اى "اىل " ‪ -‬واالنتهاء‬
‫يدل على عدم احلاجة او االغناء (ت‪)96 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪61 :‬‬

‫واعلم! ان االمارة لنظر البالغة على تشرب هذه الكلمة هلؤالء اللطائف هي‪:‬‬

‫ان هذه املقاصد اخلمسة كاالهنار اجلارية حتت هذه اآليات‪ ،‬حىت يفور هذا بكماله يف آية‪..‬‬
‫بشَراشريه يف آخرة‪ .‬فأدىن ِّ‬
‫‪1‬‬
‫ترش ٍح على السطح‬ ‫وينبع ذاك بتمامه يف أُخرى‪ ..‬ويتجلى ذلك َ‬
‫يومي بتماس عروق الكلمة هبا‪ .‬وايضا تتسنبل هذه املعاين يف آيات مسوقة هلا‪.‬‬

‫االخَرةِ ُه ْم يُوقِنُو َن)‬


‫(وبِ ِ‬
‫َ‬
‫اعلم! ان مآل هذه اآلية هواملقصد الرابع من املقاصد االربعة املشهورة وهو "مسألة احلشر"‪.‬‬
‫مث انا قد استفدنا من نظم القرآن عشرة براهني عليها‪ ،‬ذكرناها يف كتاب آخر ‪ 2‬فناسب‬
‫تلخيصها هنا‪ .‬وهي‪:‬‬

‫ان احلشر حق؛ الن يف الكائنات نظاماً اكمل قصدياً‪ ..‬وان يف اخللقة حكمة تامة‪ ..‬وان ال‬
‫عبثية يف العامل‪ ..‬وان ال اسراف يف الفطرة‪ ..‬واملزكي هلؤالء الشواهد االستقراء التام جبميع‬
‫شاهد صدق على نظام نوع موضوعه‪ ..‬وايضا ان يف كثري من االنواع‬ ‫الفنون اليت كل منها ُ‬
‫مثل اليوم والسنة وغريمها قيامة مكررة نوعية‪ ..‬وايضا جوهر استعداد البشر يرمز اىل احلشر‪..‬‬
‫وايضا عدم تناهي آمال البشر وميوله يشري اليه‪ ..‬وايضا رمحة الصانع احلكيم تلوح به‪..‬‬
‫يصرح به‪ ..‬وأيضا بيان القرآن املعجز يف أمثال‬
‫وايضا لسان الرسول الصادق عليه السالم ّ‬
‫(وقَ ْد خلَ َق ُكم اَطْواراً) ‪( 1‬وما ربُّك بِظَالٍَّم لِْلعبِ ِ‬
‫يد) ‪ 0‬يشهد له‪ .‬تلك عشرة كاملة‪ ،‬مفاتيح‬ ‫َ‬ ‫ََ َ َ‬ ‫َ َ ْ َ‬
‫للسعادة االبدية وأبواب لتلك اجلنة‪.‬‬

‫اما بيان الربهان االول‪ :‬فهو انه لو مل تنجر الكائنات اىل السعادة االبدية لصار ذلك النظام‬
‫الذي اتقن فيه صانعُه اتقاناً َحيَّـَر فيه العقول صورةً ضعيفة خادعة‪ ،‬ومجيع املعنويات والروابط‬
‫والنسب يف النظام هباء منثوراً‪ .‬فليس نظام ذلك النظام االّ اتصاله بالسعادة‪ ،‬اي ان النكت‬
‫واملعنويات يف ذلك النظام امنا تتسنبل يف عامل اآلخرة‪ .‬واالّ‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬بشراشريه‪ :‬بأمجعه‪.‬‬

‫‪ 2‬هذه الرباهني مذكورة يف رسالة "السيما" من املثنوى العرىب النورى ومفصلة يف الكلمة‬
‫التاسعة والعشرين وموضحة بنور جتليات االمساء احلسىن يف الكلمة العاشرة (احلشر)‪.‬‬

‫‪ 3‬سورة نوح‪10. :‬‬

‫‪ 4‬سورة فصلت‪.06 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪62 :‬‬

‫متزق كل النسب‪ ،‬ويتفتت هذا النظام؛ مع‬


‫النطفأ مجيع املعنويات‪ ،‬وتقطّع جمموع الروابط‪ ،‬و ّ‬
‫ان القوة املندجمة يف النظام تنادي باعلى صوهتا‪ :‬ان ليس من شأهنا االنقضاض واالحنالل‪.‬‬

‫وأما الربهان الثاين‪ :‬فهو ان متثال العناية االزلية الذي هو احلكمة التامة‪ ،‬اليت هي رعاية‬
‫املصاحل واحلِ َكم يف كل نوع‪ ،‬بل يف كل جزئي ‪ -‬بشهادة كل الفنون ‪ -‬يبشر بقدوم السعادة‬
‫االبدية‪ .‬واالّ لَ ِزم انكار هذه احلكم والفوائد اليت اجربتنا البداهةُ على االقرار هبا؛ اذ حينئذ‬
‫تكون الفائدة ال فائدة‪ ..‬واحلكمة غري حكمة‪ ..‬واملصلحة عدم مصلحة‪ .‬وإن هذا االّ‬
‫سفسطة‪.‬‬

‫واما الربهان الثالث املفسر للثاين‪ :‬فهو ان الفن يشهد ايضا ان الصانع اختار يف كل شئ‬
‫الطريق االقصر‪ ،‬واجلهة االقرب‪ ،‬والصورة األخف واألحسن‪ .‬فيدل على ان العبثية‪ .‬فيدل‬
‫على انه ج ّدي حقيقي‪ .‬وماهو اال مبجئ السعادة االبدية‪ .‬واالّ لتنزل هذا الوجود منزلة العدم‬
‫ت هذا َعبَثاً‪.‬‬
‫الصرف‪ .‬وحتول كل شئ عبثاً حمضاً‪ ..‬سبحانك ماخلَ ْق َ‬
‫أما الربهان الرابع املوضح للثالث‪ :‬فهو ان ال اسراف يف الفطرة بشهادة الفنون‪ .‬فان تقاصر‬
‫ِذ ْهنُك عن ادراك ِح َكم االنسان االكرب وهو "العامل" فأمعن النظر يف العامل االصغر وهو‬
‫"االنسان"‪ .‬فان فن منافع االعضاء قد شرح واثبت‪ :‬ان يف جسد االنسان تقريبا ستمائة‬
‫كل لفائدة‪ ..‬ومائة واربعة وعشرين ألف‬ ‫ٍ‬
‫كل ملنفعة‪ ..‬وستة آالف عصب هي جمار للدم ّ‬ ‫عظم ّ‬
‫كوة للحجريات اليت تعمل يف كل منها مخس قوى من اجلاذبة والدافعة واملمسكة‬ ‫مسامة و ّ‬
‫املصورة واملولّدة كل منها ملصلحة‪ .‬واذا كان العا َملُ االصغر كذا فكيف يكون االنسان االكرب‬
‫و ّ‬
‫انقص منه؟ واذا كان اجلسد الذي ال امهية له بالنسبة اىل لبّه بتلك الدرجة من عدم االسراف‬‫َ‬
‫اف كل آثاره من املعنويات واآلمال واالفكار؟ اذ لوال‬‫فكيف يُتصور امهال جوهر الروح؟ واسر ٌ‬
‫السعادة االبدية لتقلصت كل املعنويات وصارت اسرافاً‪ .‬فباهلل عليك أميكن يف العقل ان‬
‫بصدفها وغالفها حىت الختلي ان يصل الغبار اليه‪ ،‬مث‬‫يكون لك جوهرة قيمتها الدنيا‪ ،‬فتهتم َ‬
‫فتكسرها شذراً مذراً ‪ 1‬ومتحو آثارها؟ كال مث كال!‬
‫تأخذ اجلوهرة ّ‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬شذراً مذراً‪ :‬اى ذهبوا يف كل وجه‪ ،‬فاملراد املبالغة يف الكسر والتجزئة (ش)‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪61 :‬‬


‫ماهتتم بالغالف إالّ ألجل مافيه‪ ..‬وايضا اذا افهمتك قوةُ البنية يف شخص وصحة أعضائه‬
‫تفهمك احلقيقةُ الثابتة اجلارية يف روح الكائنات‪،‬‬
‫واستعداده‪ ،‬استمرار بقائه وتكمله؛ أفال ّ‬
‫والقوةُ الكاملة املومية باالستمرار يف االنتظام‪ ،‬والكمال املنجر اىل التكمل يف النظام‪ :‬جمئ‬
‫السعادة االبدية من باب احلشر اجلسماين؟ اذ هي املخلصة لالنتظام عن االختالل‪،‬‬
‫والواسطة للتكمل وانكشاف تلك القوة املؤبدة‪.‬‬

‫واما الربهان اخلامس واحلدس املرمز اىل القصد‪ :‬فهو ان وجود نوع قيامات مكررة نوعية يف‬
‫كثري من االنواع يشري اىل القيامة العظمى وان شئت متثُ َل الرم ِز يف مثال‪ ،‬فانظر يف ساعتك‬
‫العادة واحدة‬
‫االسبوعية‪ ،‬فكما ان فيها دواليب خمتلفة دوارة متحركة حمركة لالبر واالَ ْميال ّ‬
‫ومعلنة حلركة ميل الساعات‪.‬‬ ‫منها للثواين‪ .‬وهي مقدمة وخمربة حلركة ابرة الدقائق‪ .‬وهي ُمع ّدة ُ‬
‫وهي حمصلة ومؤذنة حلركة االبرة اليت تعد ايام االسبوع‪ .‬فامتام دورة السابقة يشري بأن اختها‬
‫االفالك تع ّد أمياهلا االيام‬
‫ُ‬ ‫الالحقة تتم دورها؛ كذلك ان هلل تعاىل ساعةً كربى دواليبُها‬
‫والسنني وعمر البشر وبقاء الدنيا‪ ،‬نظري الثواين والدقائق والساعات وااليام يف ساعتك‪.‬‬
‫فمجئ الصبح بعد كل ليلة‪ ،‬والربيع بعد كل شتاء ‪ -‬بناء على حركة تلك الساعة ‪ -‬يشري‬
‫اشارة خفية ويرمز رمزا دقيقا بتولد صبح ربيع احلشر من تلك الساعة الكربى‪.‬‬

‫ان قلت‪ :‬القيامة النوعية الحتشر االشخاص باعياهنم فكيف ترمز بالقيامة الكربى لعود‬
‫االشخاص هناك باعياهنم؟‬

‫قيل لك‪ :‬ان شخص االنسان كنوع غريه‪ ،‬اذ نور الفكر اعطى آلمال البشر وروحه ُو ْسعة‬
‫وانبساطاً بدرجة ِ‬
‫وس َعت االزمنة الثالثة‪ ،‬لو ابتلع املاضي واملستقبل مع احلال مل متتلء آماله؛‬
‫صري ماهيته علوية‪ ،‬وقيمته عمومية‪ ،‬ونظره كلياً‪ ،‬وكماله غري حمصور‪ ،‬ولذته‬ ‫الن نور الفكر ّ‬
‫دائمية‪ ،‬وأمله مستمراً‪ .‬اما فرد النوع اآلخر فماهيته جزئية‪ ،‬وقيمته شخصية‪ ،‬ونظره حمدود‪،‬‬
‫دفعي‪ ،‬فوجود نوع قيامة يف االنواع‪ ،‬كيف اليشري بالقيامة‬
‫وكماله حمصور‪ ،‬ولذته آنية‪ ،‬وأمله ّ‬
‫الشخصية العمومية لالنسان؟‬
‫امللوح‪ :‬فهو عدم تناهي استعدادات البشر‪ .‬نعم ان تصورات البشر‬ ‫واما الربهان السادس ّ‬
‫وافكاره اليت التتناهى ‪ ،‬املتولدة من آماله الغري املتناهية ‪ ،‬احلاصلة من‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪60 :‬‬

‫ميوله الغري املضبوطة‪ ،‬الناشئة من قابلياته الغري احملدودة‪ ،‬املسترتة يف استعداداته الغري احملصورة‪،‬‬
‫املزروعة يف جوهر روحه الذي كرمه هللا تعاىل؛ كل منها يشري يف ماوراء احلشر اجلسماين‬
‫باصبع الشهادة اىل السعادة االبدية ومتد نظرها اليه‪ .‬فتأمل!‬

‫وأما الربهان السابع املبشر‪ :‬فهو ان رمحة الرمحن الرحيم تبشر بقدوم اعظم الرمحة اعين‬
‫السعادة االبدية؛ اذ هبا تصري الرمحة رمحة‪ ،‬والنعمة نعمة‪ .‬وهبا ختلص الكائنات من النياحات‬
‫روح‬
‫املصري للنعم نقماً‪ .‬اذ لو مل جيئ ُ‬‫العمومي املتولد من الفراق االبدي ّ‬
‫ّ‬ ‫املرتفعة من املأمت‬
‫النِ َعم أعين السعادة االبدية‪ ،‬لتحول مجيع النعم نقما؛ وللزم املكابرة يف انكار الرمحة الثابتة‬
‫بشهادة عموم الكائنات بالبداهة وبالضرورة‪..‬‬

‫فيا ايها احلبيب الشفيق ‪ 1‬العاشق! انظر اىل ألطف آثار رمحة هللا أعين احملبة والشفقة‬
‫والعشق؛ مث راجع وجدانك لكن بعد فرض تعقب الفراق االبدي واهلجران الاليزايل عليها‪،‬‬
‫كيف ترى الوجدان يستغيث‪ ..‬واخليال يصرخ‪ ..‬والروح يضجر من انقالب تلك احملبة‬
‫والشفقة ‪ -‬اللتني مها أحسن وألطف انواع الرمحة والنعمة ‪ -‬اعظم مصيبة عليك واشد بالء‬
‫فيك؟ أفيمكن يف العقل ان تساعد تلك الرمحة الضرورية هلجوم الفراق االبدي واهلجران‬
‫ايل على احملبة والشفقة؟ ال! بل من شأن تلك الرمحة ان تسلِّط الفر َ‬
‫اق االبدي على‬ ‫الاليز ّ‬
‫ايل على الفراق االبدي والعدم عليهما‪.‬‬
‫الاليزيل‪ ،‬واهلجران الاليز ّ‬
‫ّ‬ ‫اهلجران‬

‫املصرح‪ :‬فهو لسان حممد عليه السالم الصادق املصدوق‪ ،‬ولقد فتح‬‫واما الربهان الثامن ّ‬
‫كالمه أبواب السعادة االبدية‪ ،‬على ان إمجاع االنبياء من آدمهم اىل خامتهم عليهم السالم‬
‫على هذه احلقيقة حجة حقيقية قطعية على هذا املدعى‪ .‬وألمر ّما اتفقوا‪.‬‬
‫واما الربهان التاسع‪ :‬فهو اخبار القرآن املعجز؛ اذ التنزيل املصدق اعجازه بسبعة اوجه ‪ 2‬يف‬
‫ثالثة عشر عصرا دعواه عني برهاهنا‪ .‬فاخباره كشاف للحشر اجلسماين ومفتاح له‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬احلبيب من طالب املؤلف‪.‬‬

‫‪ 2‬تفصيل هذه االوجه يف الكلمة اخلامسة والعشرين (املعجزات القرآنية)‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪69 :‬‬

‫(وقَ ْد‬
‫واما الربهان العاشر‪ ،‬املشتمل على ألوف من الرباهني اليت تضمنها كثري من اآليات مثل َ‬
‫عديل"‬ ‫خلَ َق ُكم أطْواراً) املشري اىل "قياس متثيلي"‪ .‬و(وما ربُّ ِ ٍ ِ‬
‫ك بظَالّم ل ْل َعبيد) املشري اىل "دليل ّ‬
‫ََ َ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ٍ ‪1‬‬
‫وغريمها‪ .‬فلقد فتح القرآن يف أكثر اآليات ُك ّوات ناظرة اىل احلشر‪.‬‬

‫اما القياس التمثيلي املشار اليه باآلية االوىل‪:‬‬

‫فانظر يف وجود االنسان فانه ينتقل من طور اىل طور‪ ..‬من النطفة اىل العلقة‪ ..‬ومنها اىل‬
‫لكل من تلك االطوار قوانني‬‫املضغة‪ ..‬ومنها اىل العظم واللحم‪ ..‬ومنه اىل اخللق اجلديد‪ .‬و ٍّ‬
‫كل منها عن ٍ‬
‫قصد وارادةٍ واختيا ٍر‪ ..‬مث‬ ‫يشف ٌّ‬
‫خمصوصة‪ ،‬ونظامات معيّنة‪ ،‬وحركات مطّردة ّ‬
‫تأمل يف بقائه فإن هذا الوجود جيدد لباسه يف كل سنة‪ ،‬ومن شأهنالتحلل والرتكب‪ .‬اي‬
‫انقضاض احلجريات وتعمريها ببدل ما يتحلل من املادة اللطيفة املوزعة على نسبة مناسبة‬
‫االعضاء اليت حيضرها صانعُها بقانون خمصوص‪ .‬مث تأمل يف أطوار تلك املادة اللطيفة احلاملة‬
‫ألرزاق االجزاء‪ .‬كيف تنتشر يف اقطار البدن انتشاراً حتري فيه العقول‪ .‬وكيف تنقسم بقانون‬
‫التقسيم املعني على مقدار حاجات االعضاء؛ بعد ان تلخصت تلك املادة بنظام ثابت‪،‬‬
‫ودستور معني‪ ،‬وحركة عجيبة من اربع مصفاتات‪ ،‬وانطبخت يف اربعة مطابخ بعد اربعة‬
‫انقالبات عجيبة؛ املأخوذة تلك املادة من القوت احملصل من املواليد املنتشرة يف عامل العناصر‬
‫بدستور منتظم؛ ونظام خمصوص‪ ،‬وقانون معني‪ .‬وكل من القوانني والنظامات يف تلك االطوار‬
‫ٍ‬
‫وحكمة‪ .‬كيف ال‪ ،‬ولو تأملت من قافلة تلك املادة اللطيفة يف ذرة‬ ‫ٍ‬
‫وقصد‬ ‫يشف عن ٍ‬
‫سائق‬
‫مثال‪ ،‬مسترتة يف عنصر اهلواء تصري باآلخرة جزءاً من سواد عني "احلبيب"؛ لعلمت ان تلك‬
‫عني هلا؛ اذ لو‬
‫الذرة وهي يف اهلواء معيّنة كأهنا موظفة مأمورة بالذهاب اىل مكاهنا الذي ُ ّ‬
‫فين تيقنت ان ليست حركتها "اتفاقية عمياء" "بتصادف اعمى"‪ ،‬بل تلك‬ ‫نظرت إليها بنظر ّ‬
‫الذرة ما دخلت يف مرتبة اال تبعت نظاماهتا املخصوصة‪ ،‬وماتدرجت اىل طور اال عملت‬
‫بقوانينه املعينة‪ ،‬وما سافرت اىل طبقة اال وهي تساق حبركة عجيبة منتظمة‪ .‬فتمر على تلك‬
‫االطوار حىت تصل اىل موضعها‪ .‬مع اهنا التنحرف قطعا مقدار ذرة عن هدف مقصدها‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬الكوة‪ :‬اخلرق يف احلائط‪ .‬ج‪ :‬كواء وكوى وكوات‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪66 :‬‬

‫واحلاصل‪ :‬ان من تأمل يف النشأة االوىل مل يبق له تردد يف النشأة االخرى‪ ،‬ولقد قال النيب‬
‫عليه الصالة والسالم (عجباً ملن يرى النشأة االوىل كيف ينكر النشأة االخرى)‪.‬‬

‫فرقة أ ُِذ َن هلم باالسرتاحة واالنتشار اذا دعوا باآللة املعروفة ‪-‬‬ ‫نعم! كما ان مجع نفر ِ‬
‫ات عسك ِر ٍ‬
‫َ‬
‫فيتسللون عن كل طرف ومكمن‪ ،‬فيجتمعون متحدين حتت لوائهم ‪ -‬يكون أسهل وأسهل‬
‫مجع الذرات اليت حصلت بينها‬ ‫من جلبهم أول االمر اىل االنتظام حتت السالح؛ كذلك ان َ‬
‫بصور اسرافيل فينساب الكل من كل‬ ‫وجود و ٍ‬ ‫املؤانسة واملناسبة باالمتزاج يف ٍ‬
‫نوديت ُ‬
‫ْ‬ ‫احد اذا‬
‫فج عميق ملبِّية ألمر خالقها يكون أسهل وأمكن يف العقل من انشائها وتركيبها أول املرة‪.‬‬
‫أما بالنسبة اىل القدرة فأعظم االشياء كأصغرها‪ .‬مث الظاهر ان املعاد يعاد باجزائه االصلية‬
‫‪1‬‬
‫قص االظفار واالشعار‬
‫والفضولية معا‪ .‬كما يشري اليه كرب أجسام اهل احلشر وكراهة ّ‬
‫للجنُب‪ ،‬وسنّية دفنها ‪ .2‬والتحقيق‪ :‬ان عجب ال َذنَب يكفي ان يكون بذراً وماد ًة‬‫وحنوها ُ‬
‫‪1‬‬
‫لتشكله‪.‬‬

‫وأما الدليل الذي لوح به (وما ربك بظالم للعبيد)‪:‬‬

‫عمره يف غاية الطيب‬‫مير ُ‬‫فاعلم! أنّا كثرياً ما نرى الظامل الفاجر الغ ّدار يف غاية التنعم‪ ،‬و ّ‬
‫والراحة‪ .‬مث نرى املظلوم الفقري املتدين احلسن اخللق ينقضي عمره يف غاية الزمحة ‪ 0‬والذلة‬
‫املوت فيساوي بينهما‪ .‬وهذه املساواة بال هناية تُري ظلماً‪ .‬والعدالة‬
‫واملظلومية‪ ،‬مث جيئ ُ‬
‫منزهتان عن الظلم؛ فالبد من جمم ٍع آخر‬ ‫الكائنات ّ‬
‫ُ‬ ‫واحلكمة اإلهليتان اللتان شهدت عليهما‬
‫لريى االول جزاءه والثاين ثوابه فيتجلى العدالة اإلهلية‪ .‬وقس على هاتني اآليتني نظائرمها‪.‬‬
‫هذا‪..‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬عن اىب هريرة رضى هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ :‬ضرس الكافر ‪ -‬أو‬
‫ناب الكافر ‪ -‬مثل أحد وغلظ جلده مسرية ثالث‪ .‬رواه مسلم (‪.)2191/0‬‬

‫‪ 2‬ادفنوا ماءكم واشعاركم واظفاركم‪ ،‬التلعب هبا السحرة» مسند الفردوس ‪ .142/1‬وانظر‬
‫الفتح الكبري ‪ .179/2‬كنز العمال ‪ .17209‬مجع اجلوامع رقم ‪999.‬‬

‫‪ 3‬عن اىب هريرة رضى هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ :‬كل ابن آدم يأكله‬
‫الرتاب االّ عجب الذنب‪ ،‬منه ُخلق ومنه يرّكب‪ .‬رواه مسلم وابو داود وابن ماجه‪ .‬والعجب‪:‬‬
‫اصل الذنب‪.‬‬

‫‪ 4‬التعب واملشقة والضيق‪.‬‬


‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪67 :‬‬

‫أما وجه النظم يف اجزاء (وباآلخرة هم يوقنون)‬

‫فاعلم! ان مناط النكت‪" :‬الواو"‪ ،‬مث تقدمي "باآلخرة" مث االلف والالم فيها‪ ،‬مث التعبري هبذا‬
‫العنوان‪ ،‬مث ذكر "هم"‪ ،‬مث ذكر "يوقنون" بدل "يؤمنون"‪.‬‬

‫واما "الواو" ففيها التخصيص بعد التعميم‪ ،‬للتنصيص على هذا الركن من االميان‪ ،‬اذ هو‬
‫أحد القطبني اللذين تدور عليهما الكتب السماوية‪.‬‬

‫واما تقدمي (باالخرة) ففيه حصر‪ ،‬ويف احلصر تعريض بأن أهل الكتاب بناء على قوهلم (لن‬
‫النار اِالّ أيّاماً َم ْع ُدود ًة) ‪ 1‬ونفيهم اللذائذ اجلسمانية‪ ،‬آخرهتم آخرة جمازية امسية‪ ،‬ماهي‬
‫متسنا ُ‬
‫َّ‬
‫حبقيقة اآلخرة‪.‬‬

‫واما االلف والالم فللعهد‪ .‬اي اشارة اىل املعهود بالدوران على ألسنة كل الكتب السماوية‪..‬‬
‫ملح اىل اهنا حق واشارة اىل احلقيقة املعهودة احلاضرة بني اهداب العقول بسبب‬ ‫ويف العهد ٌ‬
‫الدالئل الفطرية املذكورة‪ ..‬ويف العهد حينئذ رمز اىل اهنا حقيقة‪ ..‬واما التعبري بعنوان "اآلخرة"‬
‫الناعتة للنشأة فلتوجيه الذهن اىل النشأة االوىل‪ ،‬لينتقل اىل امكان النشأة االخرى‪.‬‬

‫واما (هم) ففيه حصر ويف احلصر تعريض بأن إميان من مل يؤمن مبحمد عليه الصالة والسالم‬
‫من أهل الكتاب ليس بيقني‪ ،‬بل امنا يظنونه يقينا‪.‬‬

‫وأما ذكر (يوقنون) بدل "يؤمنون" مع ان االميان هو التصديق مع اليقني‪ ،‬فليضع االصبع‬
‫على مناط الغرض قصداً إلطارة الشكوك؛ اذ القيامة حمشر الريوب‪ ..‬وايضا بالتنصيص ينسد‬
‫طرق التعلل بـ "انا مؤمنون فليؤمن من مل يؤمن"‪.‬‬

‫***‬
‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة البقرة‪.94 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪69 :‬‬

‫ك ُهم امل ْفلِ ُحو َن ‪9‬‬


‫دى ِم ْن َرّهبِِ ْم َواُولئِ َ‬
‫ً‬ ‫ك َعلَى ُه‬ ‫اُولئِ َ‬
‫ُ‬
‫دى ِم ْن َرّهبٍِ ْم)‬ ‫ِ‬
‫(اُولئك َعلَى ُه ً‬
‫اعلم! ان املظان اليت تتلمع فيها النكت‪ :‬هي نظمها مع سابقتها‪ ،‬مث احملسوسية يف "اولئك"‪،‬‬
‫مث البُـ ْعدية فيها‪ ،‬مث العلو يف "على"‪ ،‬مث التنكري يف "هدى"‪ ،‬مث لفظ "من"‪ ،‬مث الرتبية يف‬
‫"رهبم"‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫اما النظم‪ ،‬فاعلم! ان هذه ‪ 1‬مرتبطة بسابقتها خبطوط مناسبات‪ .‬منها االستيناف أي‬
‫جواب لثالثة اسئلة مقدرة‪:‬‬

‫منها‪ :‬السؤال عن املثال‪،‬كأن السامع بعدما مسع ان القرآن من شأنه اهلداية الشخاص من‬
‫أحب أن يراهم وهم بالفعل تلبسوا بتلك‬ ‫ٍ‬
‫بأوصاف‪َّ ،‬‬ ‫شأهنم ‪ -‬بسبب اهلداية ‪ -‬االتصاف‬
‫االوصاف متكئني على ارائك اهلداية‪ .‬فأجاب ُمريئاً للسامع بقوله (اولئك على هدى من‬
‫رهبم)‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬السؤال عن العلة ‪ ،‬كأن السائل يقول‪ :‬ما بال هؤالء استحقوا اهلداية واختصوا هبا؟‬
‫فأجاب‪ :‬بأن هؤالء الذين امتزجت واجتمعت فيهم تلك االوصاف ‪ -‬إن تأملت ‪ -‬جلديرون‬
‫بنور اهلداية‪.‬‬

‫فان قلت‪ :‬التفصيل السابق أجلى للعلة من االمجال يف "اولئك"؟‬


‫قيل لك‪ :‬قد يكون االمجال اوضح من التفصيل السيما اذا كان املطلوب متولداً من اجملموع؛‬
‫اذ بسبب جزئية ذهن السامع‪ ،‬والتدرج يف اجزاء التفصيل‪ ،‬وتداخل النسيان بينها‪ ،‬وجتلي‬
‫العلة من مزج االجزاء قد اليُتفطن لتولد العلة‪ .‬فاالمجال يف "اولئك" الجل االمتزاج أجلى‬
‫للعلية‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬السؤال عن نتيجة اهلداية ومثرهتا‪ ،‬والنعمة واللذة فيها‪ .‬كأن السامع يقول‪ :‬ما اللذة‬
‫والنعمة؟ فاجاب بأن فيها سعادة الدارين‪ .‬أي ان نتيجة اهلداية نفسها‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬ان هذه اآلية (ش)‪.‬‬

‫‪ 2‬اى اهنا جواب‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪61 :‬‬

‫ومثرهتا عينها‪ ،‬اذ هي بذاهتا نعمة عظمى ولذة وجدانية‪ ،‬بل جنة الروح؛ كما ان الضاللة‬
‫جهنمها‪ .‬مث بعد ذلك تثمر الفالح يف اآلخرة‪.‬‬

‫واما احملسوسية يف (اولئك) فاشارة اىل ان ذكر االوصاف الكثرية سبب للتجسم يف الذهن‪،‬‬
‫واحلضور يف العقل‪ ،‬واحملسوسية للخيال‪ .‬فمن العهد ‪ِ 1‬‬
‫الذكري ينفتح باب اىل العهد‬
‫اخلارجي‪ ،‬ومن العهد اخلارجي ينتقل اىل امتيازهم‪ ،‬وينظر اىل تأللئهم يف نوع البشر كأنه من‬
‫رفع رأسه وفتح عينيه ال يرتاءى له اال هؤالء‪.‬‬

‫واما البُعدية يف (اولئك) مع قُربيتهم يف اجلملة فلالشارة اىل تعايل رتبتهم؛ اذ الناظر اىل‬
‫البعداء ال يرى اال اطوهلم قامة‪ ،‬مع ان حقيقة البعد الزماين واملكاين اقضى حلق البالغة؛ اذ‬
‫هذه اآلية كما ان عصر السعادة لسان ذاكر هلا وهي تنزل‪ ،‬كذلك كلٌّ من االعصار‬
‫االستقبالية كأنه لسان ذاكر هلا‪ ،‬وهي شابة طرية كأهنا اذ ذاك نزلت ال اهنا نزلت مث‬
‫حكيت‪.‬فاوائل الصفوف املشار اليهم بـ "اولئك" يرتاؤن من بـُ ْع ٍد‪ .‬وألجل الرؤية مع بُعدهم‬
‫وعلو رتبتهم‪.‬‬
‫يُعلم عظمتهم ّ‬
‫صري اكثر االمور كاملرايا اليت ترتاءى يف‬
‫واما لفظ (على) فاعلم! ان سر املناسبة بني االشياء َّ‬
‫أنفسها؛ هذه يف تلك وتلك يف هذه‪ .‬فكما ان قطعة زجاجة تريك صحراء واسعة؛ كذلك‬
‫كثرياً ماتذ ّكِرك كلمةٌ ٌَ فذة خياال طويال‪ ،‬ومتثل نصب عينيك هيئة كلمة حكاية عجيبة‪.‬‬
‫"بارَز" يفتح لك معركة احلرب‪ ،‬ولفظ‬ ‫وجيول بذهنك كالم يف عامل املثال املثايل‪ .‬كما ان لفظ َ‬
‫"مثرة" يف اآلية يفتح لك باب اجلنة وقس! فعلى هذا لفظ "على" للذهن كال ُك َّوة اىل اسلوب‬
‫اق إهلي أهداه للمؤمنني ليسلكوا‪ ،‬وهم عليه يف الطريق املستقيم‬ ‫متثيلي هو ان هداية القرآن بُر ٌ‬
‫سائرين اىل عرش الكماالت‪.‬‬

‫واما التنكري يف (هدى) فيشري اىل انه غري (هدى للمتقني) اذ املن ّكر املكرر غري االول يف‬
‫االغلب ‪ .2‬فذاك مصدر وهذا حاصل باملصدر‪ ..‬وهو صفة حمسوسة قارة ‪ 1‬كثمرة االول‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬حيث ذكرت اوصافهم فاصبحت معهودة (ت‪)69 :‬‬

‫‪ 2‬حيث ان النكرة اذا كررت بصورة معرفة‪ ،‬فتلك املعرفة هى عني تلك النكرة‪ ،‬اما اذا ذكرت‬
‫النكرة نكرة فال تكون عني النكرة يف االغلب (ت‪)67 :‬‬

‫‪ 3‬قارة ‪ :‬ثابتة‪.‬‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪74 :‬‬
‫‪1‬‬
‫واما لفظ (من) فيشري اىل ان اخللق والتوفيق يف اهتدائهم ‪ -‬املكسوب هلم ‪ -‬من هللا‪.‬‬

‫واما لفظ الـ "رب" فيشري اىل ان اهلداية من شأن الربوبية فكما يربيهم بالرزق يغذيهم‬
‫باهلداية‪.‬‬

‫ك ُه ُم الْ ُم ْفلِ ُحو َن)‬


‫(وأُولئِ َ‬
‫َ‬
‫اعلم! ان مظان حتري النكت هي‪ :‬عطف "الواو"‪ ،‬مث تكرار "اولئك"‪ ،‬مث "ضمري الفصل"‪،‬‬
‫مث االلف والالم‪ ،‬مث إطالق "مفلحون" وعدم تعيني وجه الفالح‪.‬‬

‫اما العطف فمبين على املناسبة؛ اذ كما ان (اولئك) االول اشارة اىل مثرة اهلداية من السعادة‬
‫العاجلة؛ فهذه اشارة اىل مثرهتا من السعادة اآلجلة‪ .‬مث انه مع ان كالً منهما مثرة لكل ما مر‪،‬‬
‫اال ان األَوىل أَن (اولئك) االول يرتبط ِع ْرقُه بـ(الذين) االول‪ ،‬الظاهر اهنم املؤمنون من‬
‫األميني‪ ،‬ويأخذ قوته من اركان االسالمية‪ ،‬وينظر اىل ماقبل (وباآلخرة هم يوقنون)‪ .‬و‬
‫(اولئك) الثاين ينظر برمز خفي اىل (الذين) الثاين‪ ،‬الظاهر اهنم مؤمنو اهل الكتاب‪ .‬ويكون‬
‫مأخذه اركان االميان واليقني باآلخرة‪ .‬فتأمل!‬

‫واما تكرار (اولئك) فاشارة اىل استقالل كل من هاتني الثمرتني يف العلة الغائية للهداية‬
‫والسببية لتميزهم ومدحهم‪ ،‬اال ان األوىل ان يكون (اولئك) الثاين اشارة اىل االول مع‬
‫مكرم‪.‬‬
‫حكمه كما تقول‪ :‬ذلك عامل وذلك ّ‬
‫واما ضمري الفصل فمع انه تأكيد احلصر الذي فيه تعريض بأهل الكتاب الذين مل يؤمنوا‬
‫بالنيب عليه السالم‪ ،‬فيه نكتة لطيفة وهي‪ :‬ان توسط (هم) بني املبتدأ واخلرب من شأنه أن‬ ‫ّ‬
‫وحيال الباقية على اخليال؛ الن‬
‫البعض ُ‬
‫ُ‬ ‫حيول املبتدأ للخرب الواحد موضوعاً الحكام كثرية يُذ َكر‬
‫ويشوقه على حتري االحكام املناسبة‪ .‬فكما انك تضع‬ ‫ِ‬
‫(هم) ينَبّه اخليال على عدم التحديد ّ‬
‫زيداً بني عيين السامع فتأخذ تغزل منه االحكام قائال‪ :‬هو عامل‪ ،‬هو عامل‪ ،‬هو كذا وكذا‪ .‬مث‬
‫تقول قس! كذلك ملا قال (اولئك) مث جاء (هم) هيّج اخليال الن جيتين ويبتين بواسطة‬
‫الضمري أحكاماً مناسبة‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬اذ االهتداء‪ ،‬اى سلوك طريق الصواب‪ ،‬هو ضمن اختيارهم وداخل كسبهم‪ ،‬مع ان اهلداية‬
‫الىت هى صفة ثابتة‪ ،‬فهى من هللا تعاىل (ت‪)67 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪71 :‬‬

‫لصفاهتم‪،‬كـ‪ :‬اولئك هم على هدى‪ ..‬هم مفلحون‪ ..‬هم فائزون من النار‪ ..‬هم فائزون‬
‫باجلنة‪ ..‬هم ظافرون برؤية مجال هللا تعاىل اىل آخره‪.‬‬

‫وأما األلف والالم فلتصوير احلقيقة‪.‬كأنه يقول‪ :‬ان أحببت أن ترى حقيقة املفلحني‪ ،‬فانظر‬
‫يف مرآة (اولئك) لتمثل لك‪ ..‬أو لتمييز ذواهتم‪ ،‬كأنه يقول‪ :‬الذين مسعت أهنم من أهل‬
‫الفالح ان أردت ان تعرفهم فعليك بـ (اولئك) فهم هم‪ ..‬او لظهور احلكم وبداهته نظري‬
‫"والده العبد" اذ كون والده عبداً معلوم ظاهر‪..‬‬

‫وأما إطالق "مفلحون" فللتعميم؛ اذ خماطب القرآن على طبقات مطالبهم خمتلفة‪ .‬فبعضهم‬
‫يطلب الفوز من النار‪ ..‬وبعض إمنا يقصد الفوز باجلنة‪ ..‬وبعض امنا يتحرى الرضاء االهلي‪..‬‬
‫جرا‪ ..‬فاطلق هنا لتعم مائدة احسانه فيجتين كلٌّ‬
‫وبعض ماحيب اال رؤية مجاله‪ ..‬وهلم ّ‬
‫مشتهاه‪.‬‬

‫***‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪72 :‬‬

‫ين َك َف ُروا َس َواءٌ َعلَْي ِه ْم ءَاَنْ َذ ْرتَـ ُه ْم اَْم َملْ تُـْن ِذ ْرُه ْم اليـُ ْؤِمنُو َن ‪6‬‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ا ًّن الذ َ‬
‫وجه النظم‪:‬‬

‫ومجايل‪ .‬فبتجليهما يف عامل‬


‫ّ‬ ‫جاليل‬
‫ّ‬ ‫ي يف عامل صفاته االزلية جتلِّيَـ ْني‬
‫اعلم! ان للذات االحد ِّ‬
‫صفات االفعال يتظاهر اللطف والقهر واحلسن واهليبة‪ .‬مث باالنعطاف يف عامل االفعال يتولد‬
‫التحلية والتخلية والتزيني والتنزيه‪ .‬مث باالنطباع يف العامل األُخروي من عامل اآلثار يتجلى‬
‫اللطف جنة ونوراً‪ ،‬والقهر جهنم وناراً‪ .‬مث باالنعكاس يف عامل الذكر ينقسم الذكر اىل احلمد‬
‫والتسبيح‪ .‬مث بتمثلهما يف عامل الكالم يتنوع الكالم اىل األمر والنهي‪ .‬مث باالرتسام يف عامل‬
‫االرشاد يقسمانه اىل الرتغيب والرتهيب والتبشري واالنذار‪ .‬مث بتجليهما على الوجدان يتولد‬
‫الرجاء واخلوف‪ ..‬وهكذا‪ .‬مث ان من شأن االرشاد ادامة املوازنة بني الرجاء واخلوف‪ ،‬ليدعو‬
‫الرجاء اىل ان يسعى بصرف القوى‪ ،‬واخلوف اىل ان اليتجاوز باالسرتسال فال ييأس من‬
‫الرمحة فيقعد ملوماً‪ ،‬وال يأمن العذاب فيتعسف وال يبايل‪ .‬فلهذه احلكمة املتسلسلة مار ّغب‬
‫بذم الفجار‪.‬‬
‫رهب‪ ،‬وما مدح االبرار اال وقرنه ّ‬‫القرآن إالّ وقد َّ‬

‫‪ p‬ان قلت‪ :‬فلِ َم مل يعطف هنا كما عطف يف (اِ َّن االبْـَر َار لَِفي نَعِي ٍم _ َواِ َّن الْ ُف َّج َار لَِفي‬
‫َج ِحي ٍم) ‪.1‬؟‬

‫قيل لك‪ :‬ان حسن العطف ينظر اىل حسن املناسبة‪ ،‬وحسن املناسبة خيتلف باختالف‬
‫الغرض املسوق له الكالم‪ .‬وملا اختلف الغرض هنا وهنالك‪ ،‬مل يستحسن العطف هنا؛ اذ‬
‫مدح املؤمنني منجر ومقدمة ملدح القرآن‪ ،‬ونتيجة له‪ ،‬وسيق له‪ .‬وأما ذم الكافرين فللرتهيب‬
‫ُ‬
‫اليتصل مبدح القرآن‪.‬‬

‫مث انظر اىل اللطائف املندجمة يف نظم اجزاء هذه اآلية!‬

‫أسيَـ ُر ما يصادفك يف منازل التنزيل‪ .‬وألمر ّما‬


‫أج َو ُل و ْ‬
‫فأوال‪ :‬استأنس بـ (إ ّن) و(الذين) فاهنما ْ‬
‫أكثر القرآ ُن من ذكرمها؛ اذ معهما من جوهر البالغة نكتتان عامتان غري ماختتص كل موقع‪.‬‬
‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة االنفطار‪11،10 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪71 :‬‬

‫أما (إ ّن) فان من شأهنا ان تثقب السطح نافذة اىل احلقيقة‪ ،‬وتوصل احلكم اليها؛ كأهنا عرق‬
‫احلكم وهذه الدعوى ليست خيالية وال‬‫ُ‬ ‫الدعوى اتصلت باحلق‪ .‬مثال‪ :‬ان هذا كذا‪ ..‬أي‬
‫مبتدعة وال اعتبارية وال مستحدثة؛ بل هي من احلقائق اجلارية الثابتة‪ .‬وما يقال من أن "إ ّن"‬
‫للتحقيق فعنوان هلذه احلقيقة واخلاصية‪ .‬والنكتة اخلصوصية هنا هي أن "إ ّن" الذي شأنه رد‬
‫الشك واالنكار مع عدمهما يف املخاطب لالشارة اىل شدة حرص النيب عليه السالم على‬
‫امياهنم‪.‬‬

‫واما (الذين) فاعلم! ان "الذي" من شأنه االشارة اىل احلقيقة اجلديدة اليت أحس هبا العقل‬
‫قبل العني‪ ،‬وأخذت يف االنعقاد ومل تشتد‪ ،‬بل تتولد من امتزاج أشياء وتآخذ أسباب مع نوع‬
‫غرابة‪ .‬وهلذا ترى من بني وسائط االشارة والتصوير يف االنقالب اجملدد للحقائق لفظ "الذي"‬
‫أسري على االلسنة وأكثر دورانا‪ .‬فلما ان جتلى مؤسس احلقائق وهو القرآن‪ ،‬اضمحل أنواعٌ‬‫َ‬
‫ونقضت فصوُهلا وتشكلت انواع اُخر وتولدت حقائق اخرى‪ .‬اما ترى زمان اجلاهلية كيف‬
‫تشكلت االنواع على الروابط امللّية وتولدت احلقائق االجتماعية على العصبيات القومية؟‬
‫فلما ان جاء القرآن قطع تلك الروابط وخرب تلك احلقائق فأسس بدالَ عنها انواعاً‪ ،‬فصوهلا‬
‫الروابط الدينية‪ .‬فتأمل!‪ ..‬فلما أشرق القرآن على نوع البشر تزاهر بضيائه وامثر بنوره قلوب‬
‫فتحصلت حقيقة نورانية هي فصل نوع املؤمنني‪ .‬مث خلبث بعض النفوس تعفنت يف مقابلة‬
‫النفوس فتولدت حقيقة مسّية هي خاصة نوع َمن كفر ‪..1‬‬
‫ُ‬ ‫الضياء تلك‬
‫‪2‬‬
‫وايضا بني "الذين" و"الذين" تناسب‪.‬‬
‫اعلم! ان املوصول كااللف والالم يستعمل يف مخسة معان اشهرها العهد‪ .‬فـ"الذين" هنا‬
‫اشارة اىل صناديد الكفر امثال ايب جهل وايب هلب وأُمية بن خلف وقد ماتوا على الكفر‪.‬‬
‫ملعات يتولد منها نوعٌ من االعجاز من‬
‫فعلى هذا يف اآلية إخبار عن الغيب‪ .‬وامثال هذا ٌ‬
‫االنواع االربعة لالعجاز املعنوي‪.‬‬

‫واما لفظ (كفروا) فاعلم! ان الكفر ظلمة حتصل من انكار شئ مما عُلِ َم ضرورًة جمئ الرسول‬
‫عليه السالم به‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬فألجل االشارة اىل هذه احلقيقة الكفرية‪ ،‬ذكر "الذين"(ت‪)72 :‬‬

‫‪ 2‬ألن كالً منهما يدالن على حقيقة مضادة لالخرى (ت‪)72 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪70 :‬‬

‫ان قلت‪ :‬ان القرآن من الضروريات وقد اُختلف يف معانيه؟‬

‫قيل لك‪ :‬ان يف كل كالم من القرآن ثالث قضايا‪:‬‬

‫احداها‪" :‬هذا كالم هللا"‪.‬‬

‫والثانية‪" :‬معناه املراد حق"؛ وانكار ٍّ‬


‫كل من هاتني كفر‪.‬‬

‫والثالثة‪" :‬معناه املراد هذا"؛ فان كان ُْحم َكماً أو مفسراً فاالميان به واجب بعد االطالع‪،‬‬
‫واالنكار كفر‪ .‬وان كان ظاهراً‪ ،‬او نصاً حيتمل معىن آخر‪ ،‬فاالنكار بناء على التأويل ‪ -‬دون‬
‫التشهي ‪ -‬ليس بكفر ‪ .1‬ومثل اآلية احلديث املتواتر؛ اال ان يف انكار القضية االوىل من‬
‫ّ‬
‫‪2‬‬
‫احلديث تأمال‪.‬‬

‫ان قلت‪ :‬الكفر جهل ويف التنزيل (يَـ ْع ِرفُونَهُ َك َما يَـ ْع ِرفُو َن اَبْـنَ ُ‬
‫اءه ْم) ‪ 1‬فما التوفيق؟‬

‫قيل لك‪ :‬ان الكفر قسمان‪:‬‬

‫جهلي ِ‬
‫ينكر ألنه ال يعلم‪ .‬والثاين جحودي متردي يعرف لكن اليقبل‪ ،‬يتي ّقن لكن اليعتقد‪،‬‬ ‫ّ‬
‫يص ِّدق لكن اليـذعن وجدانُه‪ .‬فتأمل!‪..‬‬

‫ان قلت‪ :‬هل يف قلب الشيطان معرفة؟‬

‫قيل لك‪ :‬ال‪ ،‬اذ حبكم صنعته الفطرية يشتغل قلبُه دائما باالضالل ويتصور عقلُه دائماً الكفر‬
‫للتلقني فال ينقطع هذا الشغل‪ ،‬وال يزول ذلك التصور عن عقله حىت تتمكن فيه املعرفة‪.‬‬

‫الزنّار ‪ -‬وقد قيس عليه "الش َّْوقَة" ‪ - 0‬كفراً؟‬


‫‪ p‬ان قلت‪ :‬الكفر صفة القلب فكيف كان ش ّد ُ‬
‫‪9‬‬
‫قيل لك‪ :‬ان الشريعة تعترب باالمارات على االمور اخلفية حىت اقامت االسباب الظاهرية‬
‫بعض نوعه عن امتام الركوع‪ ،‬وإلباس‬
‫الزنَّار املانع ُ‬
‫مقام العلل‪ .‬ففي شد ُ‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬واختالف املفسرين ليس االّ يف هذا القسم (ت‪)71 :‬‬

‫‪ 2‬اى ثبوت صحته وتواتره (ت‪)71 :‬‬

‫‪ 3‬سورة البقرة‪106 :‬‬

‫‪ 4‬القبعة‪.‬‬

‫‪ 5‬الىت هى ليست علالً (ت‪)70 :‬‬


‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪79 :‬‬

‫"الشوقَة" املانعة عن متام السجود عالمة االستغناء عن العبودية‪ ،‬والتشبه بالكفرة ِ‬


‫املومئ‬ ‫َْ‬
‫باستحسان مسلكهم وملّيتهم‪ .‬فما دام مل يُقطَع بانتفاء االمر اخلفي ُحي َكم باالمر الظاهر‪.‬‬

‫ان قلت‪ :‬اذا مل ُجي ِد االنذار فلِ َم التكليف؟‬


‫‪1‬‬
‫قيل لك‪ :‬إللزام احلجة عليهم‪.‬‬

‫ان قلت‪ :‬االخبار عن متردهم يستلزم امتناع امياهنم فيكون التكليف باحملال؟‬

‫قيل لك‪ :‬ان االخبار وكذا العلم واالرادة ال تتعلق بكفرهم مستقال مقطوعاً عن السبب‪ ،‬بل‬
‫امنا تتعلق بكفرهم باختيارهم‪ .‬كما يأتيك تفصيله‪ .‬ومن هنا يقال‪" :‬الوجوب باالختيار ال‬
‫ينايف االختيار"‪.‬‬
‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬
‫الكالمي"‪.‬؟‬
‫ّ‬ ‫االصم‬ ‫"اجلذر‬ ‫يشبه‬ ‫عقلي‬
‫ّ‬ ‫حمال‬ ‫ان قلت‪ :‬امياهنم بعدم امياهنم‬

‫قيل لك‪ :‬اهنم ليسوا مكلفني بالتفصيل حىت يلزم احملال‪.‬‬

‫مث يف ايراد (كفروا) فعالً ماضياً‪ ،‬اشارة اىل اهنم اختاروا الكفر بعد تبني احلق فلذا اليفيد‬
‫االنذار‪.‬‬

‫واما (سواء) فمجاز عن‪" :‬انذارك كعدم االنذار يف عدم الفائدة او يف صحة الوقوع" اي‬
‫الموجب لالنذار وال لعدمه‪.‬‬

‫واما (عليهم) ففيه امياء اىل اهنم اخلدوا اىل االرض فال يرفعون رؤوسهم وال يصغون اىل كالم‬
‫(ما َعلَى‬
‫آمرهم‪ ..‬وفيه أيضا رمز اىل انه ليس سواء عليك‪ ،‬الن لك اخلري يف التبليغ؛ اذ َ‬
‫الرس ِ‬
‫ول إالّ البَالغُ) ‪.0‬‬ ‫َّ ُ‬
‫_____________________‬

‫‪ 1‬اذ ميكنهم ان يقولوا مل نبلّغ بالتكليف وال علم لنا به‪ ،‬ويكون هذا مدار جناهتم من اجلزاء‬
‫(ت‪)70 :‬‬

‫‪ 2‬كما يف "اليؤمنون" وامثاهلا من اآليات (ت‪)70 :‬‬

‫‪ 3‬مغلطة اجلذر االصم هى هذه‪ :‬قيل ان اجتماع النقيضني واقع‪ ،‬النه لو قال قائل كل‬
‫كالمي يف هذه الساعة كاذب واحلال انه مل يقل يف تلك الساعة غري هذا الكالم‪ ،‬فال خيلو‬
‫من ان يكون هذا الكالم‪ ،‬صادقاً أوكاذباً‪ .‬وعلى التقديرين يلزم اجتماع النقيضني‪ .‬اما اذا‬
‫كان صادقاً فيلزم كذب كالمه يف تلك الساعة‪ ،‬وهذا الكالم مما تكلم به يف تلك الساعة ومل‬
‫يتكلم بغريه؛ فيلزم كذب كالمه‪ .‬والتقدير انه صادق فيلزم اجتماع النقيضني وان كان كاذباً‬
‫يلزم ايضاً اجتماع النقيضني النه يلزم ان يكون بعض افراد كالمه صادقاً يف تلك الساعة لكن‬
‫ما وجد عنه يف تلك الساعة سوى هذا الكالم فيلزم صدقه‪ ،‬واملفروض كذبه فيلزم اجتماع‬
‫النقيضني‪ .‬وهذه املغلطة مشهورة حتري مجيع العلماء يف حلّها‪(.‬ب)‬

‫‪ 4‬سورة املائدة‪.11 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪76 :‬‬

‫واما (ءَاَنذرهتم ام مل تنذرهم) فاهلمزة واَْم هنا يف حكم "سواء حريف"‪ ،‬تأكيد لسواء االول‪ .‬أو‬
‫تأسيس نظراً اىل اقتسامهما املعنيني املذكورين للمساواة‪.‬‬

‫عرب عن املساواة بصورة االستفهام؟‬ ‫ِ‬


‫ان قلت‪ :‬فل َم ّ‬
‫قيل لك‪ :‬اذا اردت ان تنبه املخاطب على عدم الفائدة يف فعل نفسه بوجه لطيف مقنع البد‬
‫ان تستفهم ليتوجه ذهنُه اىل فعله فينتقل منه اىل النتيجة فيطمئن‪ ..‬مث العالقة بني االستفهام‬
‫واملساواة تضمنه هلا؛ اذ السائل يتساوى يف علمه الوجود والعدم‪ ..‬وايضا كثريا مايكون‬
‫اجلواب هذه املساواة الضمنية‪.‬‬

‫عرب عن االنذار يف "أنذرهتم" بصورة املاضي؟‬ ‫ِ‬


‫ان قلت‪ :‬ملَ ّ‬
‫ت" فقس!‬
‫جربْ َ‬
‫قيل لك‪ :‬لينادي "يا حممد قد َّ‬

‫ان قلت‪ِ :‬ملَ ذكر (ام مل تنذرهم) مع ان عدم فائدة عدم االنذار ظاهر؟‬

‫قيل لك‪ :‬كما قد ينتج االنذار اصراراً‪ ،‬كذلك قد جيدي السكوت انصاف املخاطب‪.‬‬

‫ان قلت‪ِ :‬ملَ انذر بالرتهيب فقط مع انه بشري نذير؟‬

‫قيل لك‪ :‬اذ الرتهيب هو املناسب للكفر‪ ،‬والن دفع املضار أوىل من جلب املنافع وأشد‬
‫تأثرياً‪ ،‬وألن الرتهيب هنا يهز ِعطف اخليال ويوقظه الن يتلقى وجيتين بعد قوله (اليؤمنون)‬
‫"أبشرهتم ام مل تبشرهم"‪.‬‬
‫ّ‬

‫مث اعلم! كما ان لكل حك ٍم معىن حرفياً ومقصدا خفياً؛ كذلك هلذا الكالم معان طيارة‬
‫بتأسيه‬
‫ومقصد سيق له هو ختفيف الزمحة‪ ،‬وهتوين الشدة عن النيب عليه السالم‪ ،‬وتسليته ّ‬
‫بالرسل السالفني‪ .‬اذ خوطب اكثرهم مبثل هذا اخلطاب‪ ،‬حىت قال نوح بعده (ال تَ َذ ْر َعلَى‬
‫ين َديَّاراً) ‪ ..1‬مث ألن آيات القرآن كاملرايا املتناظرة‪ ،‬وقصص االنبياء كاهلالة‬ ‫ِ‬ ‫االَر ِ ِ‬
‫ض م َن الْ َكافر َ‬ ‫ْ‬
‫اهلي‬
‫فطري ّ‬
‫للقمر تنظر اىل حال النيب عليه السالم؛ كان كأن هذا الكالم يقول‪ :‬هذا قانون ّ‬
‫جيب االنقياد له‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة نوح‪26 :‬‬


‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪77 :‬‬

‫واعلم بعد هذا التحليل!‬

‫ان جمموع هذه اآلية اىل (وهلم عذاب عظيم) سيقت‪ :‬مشريًة بعقودها اىل تقبيح الكفر‬
‫وترذيله‪ ،‬والتنفري منه والنهي الضمين عنه‪ ،‬وتذليل أهله‪ ،‬والتسجيل عليهم‪ ،‬والرتهيب عنه‪،‬‬
‫وهتديدهم‪ ..‬منادية ‪ 1‬بكلماهتا بأن يف الكفر مصائب عظيمة‪ ،‬وفوات نِ َعم جسيمة‪ ،‬وتولد‬
‫آالم شديدة‪ ،‬وزوال لذائذ عالية‪ ..‬مصرحةً جبملها بأن الكفر أخبث االشياء وأضرها‪.‬‬

‫اذ أشار بلفظ (كفروا) بدل "مل يؤمنوا" اىل اهنم بعدم االميان وقعوا يف ظلمة الكفر الذي هو‬
‫مصيبة تفسد جوهر الروح وايضا هو معدن اآلالم‪.‬‬

‫وبلفظ (اليؤمنون) بدل "اليرتكون الكفر" اىل اهنم مع تلك اخلسارة سقط من ايديهم االميان‬
‫الذي هو منبع مجيع السعادات‪.‬‬

‫وبلفظ (ختم هللا على قلوهبم) اىل ان القلب والوجدان ‪ -‬الذي حياته وفرحه وسروره وكماالته‬
‫بتجلي احلقائق االهلية بنور االميان ‪ -‬بعدما كفروا صار كالبناء املوحش الغري املعمور املشحون‬
‫باملضرات واحلشرات‪ ،‬فاُْق ِفل واُْم ِهر ‪ 2‬على بابه ليُجتَنب‪ ،‬وتُرك مفوضاً للعقارب واالفاعي‪.‬‬

‫وبلفظ (وعلى مسعهم) اىل فوات نعمة عظيمة مسعية بسبب الكفر؛ اذ السمع من شأنه ‪ -‬اذا‬
‫نور االميان واستند اليه ‪ -‬االحتساس بنداء كل العامل وفهم اذكارها‪،‬‬ ‫استقر خلف صماخه ُ‬
‫ليسمع من ترمنات هبوب الريح‪،‬‬
‫ُ‬ ‫السمع‬
‫َ‬ ‫ومسع صياح الكائنات وتفهم تسبيحاهتا‪ ..‬حىت ان‬
‫ومن نعرات رعد الغيم‪ ،‬ومن نغمات امواج البحر‪ ،‬ومن صرخات دقدقة احلجر‪ ،‬ومن‬
‫هزجات نزول املطر‪ ،‬ومن سجعات غناء الطري كالماً ربانياً‪ ،‬ويفهم تسبيحا علويا‪ ،‬كأن‬
‫الكائنات موسيقية عظيمة له‪ ،‬هتيّج يف قلبه حزناً علوياً وعشقاً روحانياً فيحزن بتذكر‬
‫األحباب واالنيس فيكون احلزن لذة؛ ال بعدم االحباب فيكون غماً‪ ..‬واذا اظلم ذلك السمع‬
‫بالكفر صار اصم من تلك االصوات اللذيذة‪ ،‬واليسمع من الكائنات إال نياحات املأمت‬
‫ونعيات املوت‪ ،‬فال يلقي‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬بالنصب‪ ،‬عطف على قوله‪ :‬مشريةً‪ .‬وكذا مصرحة‪.‬‬

‫‪ 2‬اى ختم على بابه‪ .‬واملهر‪ -‬بالضم ‪ -‬هو اخلتم الذى يطبع ويوقع به‪ .‬والكلمة اعجمية‬
‫استعملها تفنناً‪ .‬وله من احلسن مقام(ش)‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪79 :‬‬

‫يف القلب اال غم اليتمة ‪ -‬اي عدم االحباب ‪ -‬ووحشة الغربة ‪ -‬اي عدم املالك واملتعهد ‪-‬‬
‫فبناء على هذا السر أحل الشرع بعض االصوات وهو ماهيّج عشقاً علوياً وحزناً عاشقياً‪،‬‬
‫فميِّْزه بتأثريه يف‬
‫وحرم بعضها وهو ما انتج اشتهاء نفسياً وحزناً يتمياً‪ ،‬ومامل يُِرَك الشرع َ‬
‫ّ‬
‫روحك ووجدانك‪.‬‬

‫(وعلى ابصارهم غشاوة) اىل زوال نعمة جسيمة بسبب الكفر؛ اذ البصر من شأنه‬ ‫وبكلمة َ‬
‫اذا استضاء نوره واتصل بنور االميان الساكن خلف ُشبيكته ممداً وحمركاً له كان كل الكائنات‬
‫كجنة مزينة بالزهر واحلور‪ ،‬ويصري نور العني حنال تطري عليها فتجتىن من تلك االزاهري عصارة‬
‫العربة والفكرة واالنسية واالستيناس والتحبب والتهنئة‪ ،‬فتأخذ محيلتها فتتخذ يف الوجدان‬
‫البصر بالكفر طمس‪ ،‬وصارت الدنيا يف‬ ‫شهد الكماالت‪ ..‬واذا أظلم ‪ -‬العياذ باهلل ‪ -‬ذلك ُ‬
‫نظره سجناً‪ ،‬وتسرتت عنه احلقائق وتوحشت عليه الكائنات وتلقى اىل قلبه آالماً حتيط‬
‫بوجدانه من الرأس اىل القدم‪..‬‬
‫وبلفظ (وهلم عذاب عظيم) اىل مثرة شجرة زقوم الكفر يف العامل االخروي من عذاب جهنم‬
‫ومن نكال الغضب االهلي‪ .‬هذا‪.‬‬

‫واما "اليؤمنون" فتأكيد لـ "سواء" ينص على جهة املساواة‪.‬‬

‫***‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪71 :‬‬

‫صا ِرِه ْم ِغ َش َاوةٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬


‫َختَ َم هللا َعلَى قُـلُوهب ْم َو َعلَى مسَْع ِه ْم َو َعلَى اَبْ َ‬
‫يم ‪7‬‬ ‫ِ‬
‫ذاب َعظ ٌ‬
‫َوَهلُ ْم َع ٌ‬
‫مـقدمـة‬

‫اعلم! انه لزمنا ان نقف هنا حىت نستمع ملا يتكلم به املتكلمون؛ اذ حتت هذه اآلية حرب‬
‫عظيمة بني اهل االعتزال واهل اجلرب واهل السنة واجلماعة‪ .‬ومثل هذه احلرب تستوقف‬
‫النُظّار‪ .‬فناسب ان نذكر اساسات لتستفيد منها‪:‬‬

‫ان مذهب اهل السنة واجلماعة هو الصراط املستقيم‪ ،‬وماعداه إما افراط او تفريط‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫منها‪ :‬انه قد حتقق "اَ ْن ال ُم َؤثَِّر ِيف الْ َك ْو ِن اِالّ هللا" فإذاً ال تفويض‪.‬‬

‫ومنها‪" :‬ان هللا حكيم" فال يكون الثواب والعقاب عبثني فحينئذ ال اضطرار‪ .‬فكما ان‬
‫التوحيد يدفع يف صدر االعتزال؛ كذلك التنزيه يضرب على فم اجلرب‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان لكل شئ جهتني‪ :‬جهة ُملكية هي قد تكون حسنة وقد تكون قبيحة تتوارد عليها‬
‫االشكال كظهر املرآة‪ .‬وجهة ملكوتية تنظر اىل اخلالق‪ .‬وتلك شفافة يف كل شئ كوجه املرآة‪.‬‬
‫فخلق القبيح ليس قبيحاً؛ اذ اخللق من جهة امللكوتية حسن‪ ،‬والن خلقه لتكميل احملاسن‬
‫ُ‬
‫فيحسن بالغري‪ .‬فال تصغ اىل سفسطة االعتزال!‬
‫قار خملوق جامد ال يشتق منه الصفات ‪ .1‬واما املصدر‬ ‫‪2‬‬
‫ومنها‪ :‬ان احلاصل باملصدر أمر ٌ‬
‫اهل‬
‫اعتباري يشتق منه الصفات‪ .‬فال يكون خالق القتل قاتال‪ ..‬فَ َذ ْر َ‬
‫ّ‬ ‫نسيب‬
‫فمكسوب ّ‬
‫االعتز ِال يف خوضهم يَـ ْل َعبُون!‪..‬‬

‫الظاهري يف االغلب نتيجة الفعال متسلسلة منتهية اىل ميالن النفس الذي‬
‫ّ‬ ‫ومنها‪ :‬ان الفعل‬
‫يسمى "باجلزء االختياري"‪ .‬فتدور املنازعات على هذا االساس‪.‬‬
‫ّ‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬كما يقول اهل االعتزال من ان العبد خالق الفعاله (ت‪)71 :‬‬

‫‪ 2‬كاألمل واملوت احلاصلني بالضرب والقتل (ت‪)71 :‬‬

‫‪ 3‬اى اليشتق من اجلامد اسم الفاعل كما هو معلوم يف علم الصرف (ت‪)94 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪94 :‬‬

‫ومنها‪ :‬ان االرادة الكلية االهلية ناظرة بعادته تعاىل اىل االرادة اجلزئية للعبد‪ ،‬فال اضطرار‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان العلم تابع للمعلوم‪ ،‬فال يتبعه املعلوم حىت يدور‪ .‬فال يُتعلل يف العمل باحالة‬
‫مقاييسه على القدر‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان خلق احلاصل باملصدر متوقف على كسب املصدر جبريان عادة هللا تعاىل باشرتاطه‬
‫به‪ .‬والنواة يف كسب املصدر والعقدة احلياتية فيه هي امليالن‪ ،‬فبحلّه تنحل عقدة املسألة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان الرتجح بال مرجح حمال دون الرتجيح بال مرجح فال تُعلّ ُل أفعالُه تعاىل باالغراض؛‬
‫بل اختياره تعاىل هو املرجح‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ان االمر املوجود البد له من مؤثر وإال لزم الرتجح بال مرجح وهو حمال كما مر‪ .‬واما‬
‫االمر االعتباري ‪ 1‬فتخصصه بال خمصص ال يلزم منه احملال‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان املوجود جيب ان جيب مث يوجد ‪ .2‬واما االمر االعتباري فالرتجح بال انتهاء اىل حد‬
‫الوجوب كاف فال يلزم ممكن بال مؤثر‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان العلم بوجود شئ اليستلزم العلم مباهيته‪ ،‬وعدم العلم باملاهية اليستلزم العدم‪.‬‬
‫فعدم التعبري عن ُك ِنه االختيار الينايف قطعية وجوده‪.‬‬

‫واذا تفطنت هلذه االساسات فاستمع ملا يُتلى عليك‪:‬‬

‫فنحن معاشر اهل السنة واجلماعة نقول‪ :‬يا اهل االعتزال! ان العبد ليس خالقاً للحاصل‬
‫باملصدر كاحلاصل من املصدر ‪ ،1‬بل هو مصدر املصدر فقط ‪0‬؛ اذ "ال مؤثر يف الكون اال‬
‫هللا"‪ ،‬والتوحيد هكذا يقتضي‪ .‬مث نقول‪ :‬يا اهل اجلرب! ليس العبد مضطراً بل له جزء اختياري‬
‫الن هللا حكيم‪ .‬وهكذا يقتضي التنزيه‪.‬‬

‫شرح اجلزء االختياري بالتحليل اليظهر منه اال اجلرب‪.‬‬


‫فان قلتم‪ :‬كلما يُ ّ‬
‫قيل لكم‪:‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬هو الذى ال وجود له االّ يف عقل املعترب مادام معترباً (التعريفات)‪.‬‬

‫‪ 2‬اى ال يأتى اىل الوجود شئ مامل يكن وجوده واجباً‪ .‬فعند تعلق االرادتني اجلزئية والكلية يف‬
‫شئ يكون وجود الشئ واجباً‪ ،‬فيوجد حاالً (ت‪)94 :‬‬

‫‪ 3‬اى ليس خالقاً لألثر احلاصل باملصدر‪ ،‬وهو الذى يطلق عليه الكسب (ت‪)91 :‬‬

‫‪ 4‬فليس بيد العبد االّ الكسب (ت‪)91 :‬‬


‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪91 :‬‬

‫اوالً‪ :‬ان الوجدان والفطرة يشهدان ان بني االمر االختياري واالضطراري امرا خفيا فارقا‪،‬‬
‫وجوده قطعي‪ .‬فال علينا ان ِّ‬
‫النعرب عنه‪.‬‬ ‫ُ‬

‫وثانياً‪ :‬نقول ان امليالن ان كان امراً موجوداً ‪-‬كما عليه االشاعرة ‪ -‬فالتصرف فيه امر‬
‫اعتباري بيد العبد ‪1‬؛ وان كان امليالن امرا اعتباريا ‪-‬كما عليه املاتريدية ‪ -‬فذلك االمر‬
‫االعتباري ثبوته وختصصه اليستلزم العلة التامة املوجبة ‪ 2‬فيجوز التخلف ‪ .1‬فتأمل!‬

‫واحلاصل‪ :‬ان احلاصل باملصدر موقوف عادة على ‪ 0‬املصدر الذي اساسه امليالن الذي هو‬
‫‪ -‬او التصرف فيه ‪ -‬ليس موجوداً حىت يلزم ‪ 9‬من ختصصه مرة هذا ومرة ذاك ممكن بال‬
‫مؤثر‪ ،‬او ترجح بال مرجح‪ ..‬والمعدوماً ايضاً حىت اليصلح ان يكون شرطا خللق احلاصل‬
‫باملصدر او سبباً للثواب والعقاب‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫ان قلت‪ :‬العلم االزيل واالرادة االزلية ينحيان على االختيار بالقلع؟‬

‫بفعل باختيا ٍر الينايف االختيار ‪ ..7‬وايضا ان العلم االزيل حميط كالسماء‬


‫قيل لك‪ :‬ان العلم ٍ‬
‫ال مبدأ للسلسلة كرأس زمان املاضي حىت تسند اليه املسببات متغافال عن االسباب مومها‬
‫خروجها‪ ..‬وايضا ان العلم تابع للمعلوم‪ ،‬أي على أي كيفية يكون املعلوم‪ ،‬كذلك حييط به‬
‫العلم‪ ،‬فال يستند مقاييس املعلوم اىل اساسات القدر‪ ..‬وايضا ان االرادة التتعلق باملسبب‬
‫فقط مرة وبالسبب مرة اخرى حىت التبقى فائدة يف االختيار والسبب؛ بل تتعلق تعلقاً واحداً‬
‫باملسبب وبسببه‪ .‬وعلى هذا السر لو قتل شخص شخصاً بالبندقة مثال‪ ،‬مث فرضنا عدم‬
‫السبب والرمي هل ميوت ذلك الشخص يف ذلك اآلن ام ال؟ فاهل اجلرب يقولون‪ :‬لو مل يُقتل‬
‫ملات ايضا لتعدد التعلق واالنقطاع بني السبب واملسبب‪ ..‬واهل االعتزال يقولون‪ :‬مل ميت‪،‬‬
‫جلواز ختلف‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬اى حتويل ذلك امليالن من فعل اىل آخر (ت‪)91 :‬‬

‫‪ 2‬حبيث ال تبقى احلاجة اىل االرادة الكلية (ت‪ )91 :‬والعلة التامة‪ :‬هى مجلة ما يتوقف عليه‬
‫وجود الشئ (التعريفات)‪.‬‬

‫‪ 3‬اذ كثرياً ال يقع الفعل بوقوع امليالن (ت‪)91 :‬‬

‫‪ 4‬على عادة هللا اجلارية (ت‪)91 :‬‬

‫‪ 5‬فيحتاج اىل مؤثر (ت‪)91 :‬‬

‫‪ 6‬اى يزيالن االختيار ويقضيان عليه‪.‬‬

‫‪ 7‬الن املؤثر هو القدرة وليس العلم الذى هو تابع للمعلوم (ت‪)92 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪92 :‬‬

‫املراد عن االرادة عندهم‪ ..‬واما اهل السنة واجلماعة فيقولون‪ :‬نتوقف ونسكت؛ اذ فرض‬
‫عدم السبب يستلزم فرض عدم تعلق االرادة والعلم باملسبب ايضا‪ ،‬اذ التعلق واحد‪ .‬فهذا‬
‫الفرض احملال جاز ان يستلزم حماال‪ .‬فتأمل!‬

‫***‬
‫مـقـدمـة اخـرى‬

‫اعلم! ان الطبيعيني يقولون‪ :‬ان لالسباب تأثرياً حقيقياً‪ . .‬واجملوس يقولون‪ :‬ان للشر خالقاً‬
‫آخر‪ ..‬واملعتزلة ي ّدعون‪ :‬ان احليوان خالق إلفعاله االختيارية‪ .‬وأساس هذه الثالثة مبنية على‬
‫باطل‪ ،‬وخطأ حمض‪ ،‬وجتاوز عن احلد وقياس مع الفارق‪ ،‬خدعهم وشبطهم ‪1‬؛ اذ ذهبوا‬ ‫وه ٍم ٍ‬
‫الشرك‪ .‬وان شئت التفصيل فاستمع ملسائل تطرد ذلك‬ ‫ظناً منهم اىل التنزيه فوقعوا يف َشرك ِ‬
‫َ‬
‫الوهم‪:‬‬

‫منها‪ :‬انه كما ان استماع االنسان وتكلمه ومالحظته وتفكره جزئية تتعلق بشئ فشئ على‬
‫سبيل التعاقب؛ كذلك مهتُه جزئية التشتغل باالشياء إال على سبيل التناوب‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان قيمة االنسان بنسبة ماهيته‪ ..‬وماهيته بدرجة مهته‪ ..‬ومهته مبقدار امهية املقصد‬
‫الذي يشتغل به‪.‬‬

‫توجه يفىن فيه وينحبس عليه‪ .‬ومن هذه النقطة ترى الناس ‪-‬‬
‫ومنها‪ :‬ان االنسان اىل اي شئ ّ‬
‫يف عرفهم ‪ -‬اليسندون شيئا خسيساً وأمراً جزئيا اىل شخص عظيم ٍ‬
‫وذات عال؛ بل اىل‬
‫الوسائل ظناً ًَ منهم ان االشتغال باالمر اخلسيس اليناسب وقاره‪ ،‬وهو اليتنزل له وال يسع‬
‫االمر احلقري مهته العظيمة‪ ،‬وال يوازن االمر اخلفيف مع مهته العظيمة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان من شأن االنسان ‪ -‬اذا تفكر يف شئ حملاكمة احواله ‪ -‬ان يتحرى مقاييسه‬
‫وروابطه واساساته‪ ،‬أوالً يف نفسه‪ ،‬مث يف ابناء جنسه‪ ..‬وان مل جيد ففي جوانبه من املمكنات‪.‬‬
‫حىت ان واجب الوجود الذي اليشبه املمكنات بوجه من الوجوه اذا تفكر فيه االنسان تلجؤه‬
‫القوة الوامهة الن جيعل هذا الوهم السئ املذكور دستوراً‪ ،‬والقياس اخلادع منظاراً له‪ .‬مع ان‬
‫الصانع جل جالله الينظر اليه من هذه النقطة؛ اذ ال احنصار لقدرته‪.‬‬

‫_____________________‬
‫‪1‬‬
‫ط) مبعىن‪ :‬أفرط‬
‫لقد وردت هذه الكلمة مصروفة يف عدة مواضع من الكتاب‪ ،‬ولعلها‪( :‬ش ّ‬
‫وتباعد عن احلق‪ ،‬او (شيّط) من شاط اى‪ :‬هلك‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪91 :‬‬

‫االعلى ‪ -‬شاملة‬‫ومنها‪ :‬ان قدرته وعلمه وارادته جل جالله كضياء الشمس ‪ -‬وهلل الْ َمثَ ُل ْ‬
‫لكل شئ‪ ،‬وعامة لكل امر‪ .‬فال تقع يف االحنصار والجتئ يف املوازنة‪ .‬فكما تتعلق باعظم‬
‫االشياء كالعرش؛ تتعلق باصغرها كاجلوهر الفرد‪ ..‬وكما خلق الشمس والقمر؛ كذلك خلق‬
‫عيين الربغوث والبعوضة‪ ..‬وكما اودع نظاماً عالياً يف الكائنات؛ كذلك اوقع نظاماً دقيقاً يف‬ ‫َ‬
‫امعاء احليوانات (اخلردبينية) ‪ ..‬وكما ربط االجرام العلوية والنجوم املعلَّقة بقانونه املسمى‬
‫‪1‬‬

‫باجلاذب العمومي؛ كذلك نظّم اجلواهر الفردة بنظري ذلك القانون كأنه مثال مصغر هلا‪ .‬اذ‬
‫العجز تتساوى يف قدرته االشياء‪ ،‬اذ‬
‫بتداخل العجز تتفاوت مراتب القدرة‪ .‬فمن امتنع عليه ُ‬
‫العجز ضد القدرة الذاتية‪ .‬فتأمل!‬

‫ومنها‪ :‬ان اول ماتتعلق به القدرة ملكوتية االشياء وهي ش ّفافة حسنة يف الكل كما مر‪ .‬فكما‬
‫جملى ووجه القمر مستضيئا؛ كذلك صري ملكوتية الليل‬
‫انه جل جالله جعل وجه الشمس ً‬
‫والغيم حسنة منرية‪.‬‬

‫ذهن البشر‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬ان مقياس عظمته تعاىل وميزان كماالته وواسطة حماكمة اوصافه اليسعها ُ‬
‫وال ميكن له اال بوجه ‪ ،2‬بل امنا هو مبا يتحصل من مجيع مصنوعاته‪ ..‬ومبا يتجلى من جمموع‬
‫آثاره‪ ..‬ومبا يتلخص من كل افعاله‪ .‬نعم الذرة تكون مرآةً وال تكون مقياساً‪.‬‬

‫واذا تفطنت هلذه املسائل فاعلم! ان الواجب تعاىل اليقاس على املمكنات‪ ،‬اذ الفرق من‬
‫الثرى اىل الثريا‪ .‬أال ترى اهل الطبيعة واالعتزال واجملوس ‪ -‬بناء على تسلط القوة الوامهة هبذا‬
‫القياس على عقوهلم ‪ -‬كيف التجأوا اىل اسناد التأثري احلقيقي اىل االسباب‪ ،‬وخلق االفعال‬
‫وتنزهه كيف‬
‫للحيوان‪ ،‬وخلق الشر لغريه تعاىل؟ يظنون ويتومهون ان هللا تعاىل بعظمته وكربيائه ّ‬
‫يتنزل هلذه االمور اخلسيسة واالشياء القبيحة؟ فسحقاً هلم! كيف صريوا العقل اسرياً هلذا‬
‫الوهم الواهي هـذا؟‪ ..‬ياهذا ! هذا الوهم قد يتسلط على املؤمن ايضا من جهة الوسوسة‬
‫فتجنَّب!‪.‬‬

‫***‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬اي اجملهرية الىت ال ميكن رؤيتها بالعني اجملردة‪.‬‬

‫‪ 2‬اى الميكن لالنسان ان يستوعب اوصافه اجلليلة االّ مبا يتحصل له من مشاهدة مصنوعاته‬
‫سبحانه وتعاىل‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪90 :‬‬

‫اما حتليل كلمات هذه اآلية ونظمها‪:‬‬

‫فاعلم! ان ربط (ختم) بـ "اليؤمنون" وتعقيبه به نظري ترتب العقاب على العمل‪ .‬كأنه يقول‬
‫ملا افسدوا اجلزء االختياري ومل يؤمنوا عوقبوا خبتم القلب وس ّده‪ .‬مث لفظ "اخلتم" يشري اىل‬
‫استعارة مركبة تومئ اىل اسلوب متثيلي يرمز اىل ِ‬
‫ضرب َمثَ ٍل ِّ‬
‫يصور ضاللتهم؛ اذ املعىن فيه منع‬
‫نفوذ احلق اىل القلب‪ .‬فالتعبري باخلتم يصور القلب بيتاً بناه هللا تعاىل ليكون خزينة اجلواهر‪،‬‬
‫مث بسوء االختيار فسد وتعفن وصار ما فيه مسوما فاُغلق واُمهر ليُجتنب‪.‬‬

‫واما (هللا) فاعلم! ان فيه التفاتاً من التكلم اىل الغيبة‪ .‬ومع نكتة االلتفات ففي مناسبة لفظ‬
‫"هللا" مع متعلق "اليؤمنون" يف النية‪ ،‬أعين لفظ "باهلل"‪ ،‬اشارة اىل لطافة‪ ،‬هي انه ملا جاء نور‬
‫معرفة هللا اليهم فلم يفتحوا باب قلبهم له توىل عنه مغضباً واغلق الباب عليهم‪.‬‬
‫واما (على) فاعلم! ان فيه ‪ -‬بناء على كون اخلتم متعدياً بنفسه ‪ -‬اشارة اىل تضمني ختم‬
‫"وسم"‪ ،‬كأنه يقول‪ :‬جعل هللا اخلتم ومساً وعالمةً على القلب يتومسه املالئكة‪ ..‬ويف "على"‬
‫أيضا امياء اىل ان املسدود الباب العلوي من القلب ال الباب السفلي الناظر اىل الدنيا‪.‬‬

‫واما (قلوهبم) ق ّدمه على السمع والبصر النه هو حمل االميان‪ ..‬والن اول دالئل الصانع‬
‫يتجلى من مشاورة القلب مع نفسه‪ ،‬ومراجعة الوجدان اىل فطرته‪ ،‬النه اذا راجع نفسه حيس‬
‫بعجز شديد يلجؤه اىل نقطة استناد‪ ،‬ويرى احتياجاً شديداً لتنمية آماله فيضطر اىل نقطة‬
‫استمداد‪ ،‬وال استناد وال استمداد اال باالميان‪ ..‬مث ان املراد بالقلب اللطيفة الربانية اليت مظهر‬
‫حسيّاهتا الوجدان‪ ،‬ومعكس افكارها الدماغ‪ ،‬ال اجلسم الصنوبري‪ .‬فاذاً يف التعبري بالقلب رمز‬
‫اىل ان اللطيفة الربانية ملعنويات االنسان كاجلسم الصنوبري جلسده‪ .‬فكما ان ذلك اجلسم‬
‫ماكينة حياتية تنشر ماء احلياة ألقطار البدن‪ ،‬واذا انسد وسكن مجد اجلسد؛ كذلك تلك‬
‫اللطيفة تنشر نور احلياة احلقيقية القطار اهليئة اجملسمة من معنوياته واحواله وآماله‪ .‬واذا زال‬
‫كشبح الحراك به واظلم‬
‫نور االميان ‪ -‬العياذ باهلل ‪ -‬صارت ماهيته اليت يصارع هبا الكائنات ٍ‬
‫عليه‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪99 :‬‬

‫كل بنوع من الدالئل‪ .‬فالقلب بالدالئل‬ ‫واما وعلى (مسعهم) كرر "على" لالشارة اىل استقالل ٍ‬
‫العقلية والوجدانية‪ .‬والسمع بالدالئل النقلية واخلارجية‪ ،‬وللرمز اىل ان ختم السمع ليس من‬
‫جنس ختم القلب‪ ..‬مث ان يف افراد السمع مع مجع جانبيه اجيازاً ورموزاً اىل ان السمع‬
‫سمع فرد‪ ..‬وان املسموع للكل فرد‪ ..‬وانه يسمع فرداً‬ ‫مصدر‪ ،‬لعدم اجلفن له‪ ..‬واىل ان امل ِ‬
‫ُ‬
‫فرداً‪ ..‬والشرتاك الكل كأن امساعهم باالتصال صارت فرداً‪ ..‬والحتاد اجلماعة وتشخصها‬
‫يتخيل هلا مسع فرد‪ ..‬واىل اغناء مسع الفرد عن استماع الكل فحق السمع يف البالغة االفراد‪..‬‬
‫لكن القلوب واالبصار خمتلفة متعلقاهتما‪ ،‬ومتباينة طرقهما‪ ،‬ومتفاوتة دالئلهما‪ ،‬ومعلمهما‬
‫على انواع‪ ،‬ومل ّقنهما على اقسام‪ .‬فلهذا توسط املفرد بني اجلمعني‪ .‬وع ّقب القلب بالسمع‬
‫اب مللكاته‪ ،‬واقرب اليه‪ ،‬ونظريه يف تساوي اجلهات الست عنده‪.‬‬ ‫الن السمع ٌ‬
‫واما (وعلى ابصارهم غشاوة) فاعلم! ان يف تغيري االسلوب باختيار اجلملة االمسية اشارة اىل‬
‫ان جنا َن البصر اليت جيتين منها دالئله ثابتة دائمة خبالف حدائق السمع والقلب؛ فاهنا‬
‫متجددة‪ ..‬ويف اسناد اخلتم اىل هللا تعاىل دون الغشاوة اشارة اىل ان اخلتم جزاء كسبهم‪،‬‬
‫والغشاوة مكسوبة هلم‪ ،‬ورمز اىل ان يف مبدأ السمع والقلب اختياراً‪ ،‬ويف مبدأ البصر اضطراراً‬
‫وحمل االختيار غشاوة التعامي‪ .‬ويف عنوان الغشاوة اشارة اىل ان للعني جهة واحدة‪ .‬وتنكريها‬
‫للتنكري‪ ،‬أي التعامي حجاب غري معروف حىت يـُتَحفظ منه‪ ..‬ق ّدم (على ابصارهم) ليوجه‬
‫العيون اىل عيوهنم اذ العني مرآة سرائر القلب‪.‬‬

‫وأما (وهلم عذاب عظيم) فاعلم! انه كما اشار بالكلمات السابقة اىل حنظالت تلك‬
‫الشجرة امللعونة الكفرية يف الدنيا؛ كذلك اشار هبذه اىل حنظلة جانبها املمتد اىل اآلخرة‬
‫وهي زقّوم جهنّم‪..‬‬

‫مث ان سجية االسلوب تقتضي (وعليهم عقاب شديد)‪ .‬ففي ابدال "على" بالالم و"العقاب"‬
‫توبيخي‬
‫ّ‬ ‫نوع هتكم‬
‫بالعذاب و"الشديد" بالعظيم‪ ،‬مع ان كال منها يليق بالنعمة رمز اىل ِ‬
‫يضي؛ كأنه ينعي هبم‪ :‬ما منفعتهم‪ ،‬وال لذهتم‪ ،‬وال نعمتهم العظيمة اال العقاب؛ نظري‬ ‫تعر ّ‬
‫‪1‬‬
‫ذاب اَلِي ٍم)‬
‫ب وِجيع)‪ .‬و(فَـب ِّشرُهم بِع ٍ‬
‫َ ْ ْ َ‬ ‫ض ْر ٌ َ ُ‬
‫نهم َ‬
‫َِ‬
‫(حتيَّةُ بَـْي ْ‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة آل عمران‪.21 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪96 :‬‬

‫اذ الالم لعاقبة العمل وفائدته‪ .‬فكأنه يتلو عليهم"خذوا اجرة عملكم"‪.‬‬
‫ويف لفظ "العذاب" رمز خفي اىل ان يذكرهم استعذاهبم واستلذاذهم باملعاصي يف الدنيا‬
‫فكأنه يقرأ عليهم "ذوقوا مرارة حالوتكم"‪.‬‬

‫ويف لفظ الـ "عظيم" اشارة خفية اىل تذكريهم حال صاحب النعمة العظيمة يف اجلنة فكأنه‬
‫يلقنهم‪ :‬انظروا اىل ماضيعتم على انفسكم من النعمة العظيمة‪ ،‬وكيف وقعتم يف االمل االليم‪.‬‬
‫مث ان "عظيم" تأكيد لتنوين "عذاب"‪.‬‬

‫أبدي غري متناه فكيف ينطبق هذا‬


‫ان قلت‪ :‬ان معصية الكفر كانت يف زمان قليل واجلزاء ّ‬
‫اجلزاء على العدالة االهلية؟ وإ ْن ُسلِّم‪ ،‬فكيف يوافق احلكمة األزلية؟ وان ُسلِّم‪ ،‬فكيف‬
‫تساعده املرمحة الربانية؟‬

‫قيل لك‪ :‬مع تسليم عدم تناهي اجلزاء‪ ،‬ان الكفر يف زمان متناهٍ جناية غري متناهية بست‬
‫جهات‪:‬‬

‫منها‪ :‬ان من مات على الكفر لو بقي أبدا لكان كافراً أبداً لفساد جوهر روحه‪ ،‬فهذا القلب‬
‫الفاسد استعد جلناية غري متناهية‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان الكفر وان كان يف زمان متناه لكنه جناية على غري املتناهي‪ ،‬وتكذيب لغري‬
‫املتناهي أعين عموم الكائنات اليت تشهد على الوحدانية‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان الكفر كفرا ٌن لنع ٍم غري متناهية‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان الكفر جناية يف مقابلة الغري املتناهي وهو الذات والصفات االهلية‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان وجدان البشر ‪ -‬بسر حديث (الَ يَ َسعُين اَْر ِضي َوال َمسائي) ‪ - 1‬وان كان يف‬
‫الظاهر وامللك حمصوراً ومتناهياً لكن ملكوتيته باحلقيقة نشرت ومدت عروقها اىل األبد‪ .‬فهو‬
‫من هذه اجلهة كغري املتناهي وبالكفر تلوث واضمحل‪.‬‬

‫_____________________‬
‫‪ 1‬احلديث (ما وسعين مسائي وال ارضي ولكن وسعين قلب عبدي املؤمن)‪ .‬ذكره يف االحياء‬
‫بلفظ مقارب‪ .‬قال العراقي يف خترجيه‪ :‬مل ار له أصالً (كشف اخلفاء للعجلوين ‪119/2‬‬
‫باختصار)‪ .‬وقال السيوطي يف الدرر املنتثرة‪ :‬قلت اخرج االمام امحد يف الزهد عن وهب بن‬
‫منبه‪ :‬ان هللا فتح السموات حلزقيل حىت نظر اىل العرش فقال حزقيل‪ :‬سبحانك ما اعظمك‬
‫يارب! فقال هللا‪ :‬ان السموات واالرض ضعفن ان يسعنين ووسعين قلب املؤمن الوادع اللني»‬
‫اهـ ‪ .‬قال ابن حجر اهليتمي يف الفتاوى احلديثية‪ :‬وذكر ٍ‬
‫مجاعة له من الصوفية ال يريدون‬ ‫ُ‬
‫حقيقة ظاهره من االحتاد واحللول ألن كالً منهما كفر‪ ،‬وصاحلو الصوفية اعرف الناس باهلل‬
‫وما جيب له وما يستحيل عليه‪ ،‬وامنا يريدون بذلك ان قلب املؤمن يسع االميان باهلل وحمبته‬
‫ومعرفته‪ .‬ا هـ ‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪97 :‬‬

‫ومنها‪ :‬ان الضد وان كان معانداً لضده لكنه مماثل له يف أكثر األحكام‪ .‬فكما ان االميان‬
‫يثمر اللذائذ األبدية‪ ،‬كذلك من شأن الكفر ان يتولد منه اآلالم األبدية‪.‬‬

‫فمن مزج هذه اجلهات الست يستنتج ان اجلزاء الغري املتناهي امنا هو يف مقابلة اجلناية الغري‬
‫املتناهية وما هو إالّ عني العدالة‪.‬‬

‫ان قلت‪ :‬طابق العدالة ‪ 1‬لكن اين احلكمة الغنية عن وجود الشرور املنتجة للعذاب؟‬

‫قيل لك‪ :‬كما قد مسعت مرة أخرى انه اليُرتك اخلري الكثري لتخلل الشر القليل ألنه شر كثري‪.‬‬
‫اذ ملا اقتضت احلكمة االهلية تظاهر ثبوت احلقائق النسبية اليت هي أزيد بدرجات من احلقائق‬
‫احلقيقية ‪ -‬وال ميكن هذا التظاهر اال بوجود الشر؛ وال ميكن توقيف الشر على ح ّده ومنع‬
‫طغيانه اال بالرتهيب؛ وال ميكن تأثري الرتهيب حقيقة يف الوجدان اال بتصديق الرتهيب‬
‫وحتقيقه بوجود عذاب خارجي؛ اذ الوجدان ال يتأثر حق التأثر ‪-‬كالعقل والوهم ‪ -‬بالرتهيب‬
‫اال بعد ان يتحدس باحلقيقة اخلارجية األبدية بتفاريق االمارات ‪ -‬فمن عني احلكمة بعد‬
‫التخويف من النار يف الدنيا وجود النار يف اآلخرة‪.‬‬

‫ان قلت‪ :‬قد وافق احلكمة فما جهة املرمحة فيه؟‬

‫قلت‪ :‬ال يتصور يف حقهم إالّ العدم أو الوجود يف العذاب‪ ،‬والوجود ‪ -‬ولو يف جهنم ‪-‬‬
‫مرمحةٌ وخريٌ بالنسبة اىل العدم إن تأملت يف وجدانك؛ اذ العدم شر حمض‪ ،‬حىت ان العدم‬
‫مرجع كل املصائب واملعاصي ان تفكرت يف حتليلها‪ .‬واما الوجود فخري حمض فليكن يف‬
‫جهنم‪ ..‬وكذا ان من شأن فطرة الروح ‪ -‬اذا علم ان العذاب جزاء مزيل جلنايته وعصيانه ‪-‬‬
‫ان يرضى به لتخفيف محل خجالة اجلناية ويقول‪ :‬هو حق‪ ،‬وانا مستحق‪ .‬بل حباً للعدالة قد‬
‫يلتذ معىن! وكم من صاحب ناموس يف الدنيا يشتاق اىل اجراء احلد على نفسه ليزول عنه‬
‫حجاب خجالة اجلناية‪ .‬وكذا ان الدخول وان كان اىل خلود دائم وجهنم بيتهم أبدا‪ ،‬لكن‬
‫بعد مرور جزاء العمل دون االستحقاق حيصل هلم نوع اُلفة وتطبّع مع ختفيفات كثرية مكافأ ًة‬
‫ألعماهلم اخلريية‪ .‬اشارت اليها األحاديث‪ .‬فهذا مرمحة هلم مع عدم لياقتهم‪.‬‬
‫***‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬اى ان اجلزاء االبدى للكافر طابق العدالة‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪99 :‬‬

‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َوِم َن النّ ِ‬


‫ول َامنَّا بِاهلل َوبِالْيَـ ْوم اآلخ ِر َوما ُه ْم مبُؤمن َ‬
‫ني ‪9‬‬ ‫اس َم ْن يَـ ُق ُ‬

‫وجه النظم‪:‬‬
‫انه كما يُعطف املفرد على املفرد لالشرتاك يف احلكم‪ ،‬واجلملة على اجلملة لالحتاد يف املقصد؛‬
‫كذلك قد تُعطف القصة على القصة للتناسب يف الغرض‪ .‬ومن األخري عطف قصة املنافقني‬
‫على الكافرين‪ .‬أي عطف ملخص اثنيت عشرة آية على مآل آيتني؛ اذ ملا افتتح التنزيل بثناء‬
‫ذلك الكتاب فاستتبع مثرات ثنائه من مدح املؤمنني‪ ،‬فاسرتدف ذم اضدادهم بسر "امنا تعرف‬
‫ب تعقيب املنافقني تكميال لالقسام‪.‬‬ ‫ناس َ‬
‫األشياء باضدادها" ولتتم حكمة االرشاد‪َ ،‬‬
‫ان قلت‪ِ :‬ملَ أوجز يف حق الكافرين كفراً حمضاً بآيتني واطنب يف النفاق باثنيت عشرة آية؟‬

‫قيل لك‪ :‬لنكات؛‬

‫اضر‪ .‬واذا كان خمنساً كان أخبث‪ .‬واذا كان كذاباً كان‬
‫العدو اذا مل يـُ ْعَرف كان َّ‬
‫منها‪ :‬ان ّ‬
‫أشد فساداً‪ .‬واذا كان داخلياً كان أعظم ضرراً؛ اذ الداخلي يفتت الصالبة ويشتِّت القوة‬
‫خبالف اخلارجي فانه يتسبب لتشدد الصالبة العصبية‪ .‬فأسفاً! ان جناية النفاق على االسالم‬
‫عظيمة جداً‪ .‬وما هذه املشوشية ‪ 1‬االّ منه‪ .‬وهلذا أكثر القرآن من التشنيع عليهم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان املنافق الختالطه باملؤمنني يستأنس شيئاً فشيئاً‪ ،‬ويألف باالميان قليال قليال‪،‬‬
‫ويستعد ألن يتنفر عن حال نفسه بسبب تقبيح أعماله وتشنيع حركاته؛ فتتقطر كلمة‬
‫التوحيد من لسانه اىل قلبه‪.‬‬

‫ٍ‬
‫جنايات اُ َخر كاالستهزاء واخلداع والتدليس واحليلة‬ ‫ومنها‪ :‬ان املنافق يزيد على الكفر‬
‫والكذب والرياء‪.‬‬

‫_____________________‬

‫صريه مضطرباً‪.‬‬
‫شوش االمر‪ :‬خلطه‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫‪1‬‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪91 :‬‬

‫ومنها‪ :‬ان املنافق يف األغلب يكون من أهل الكتاب ومن أهل اجلربزة الومهية فيكون حيّاال‬
‫دساساً ذا ذكاء شيطاينّ‪ ،‬فاالطناب يف حقه أعرق يف البالغة‪.‬‬
‫ّ‬
‫(من) على وجه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أما حتليل كلمات هذه اآلية‪ ،‬فاعلم! ان (من الناس) خرب مقدم لـ َ‬
‫بديهي‪....‬؟‬
‫ٌّ‬ ‫ان قلت‪ :‬كون املنافق انسانا‬

‫قيل لك‪ :‬اذا كان احلكم بديهياً يكون الغرض واحداً من لوازمه وهنا هو التعجيب‪ .‬كأنه‬
‫مكرم‪ ،‬ليس من شأنه ان يتنزل اىل هذه‬
‫يقول كون املنافق الرذيل انساناً عجيب؛ اذ االنسان ّ‬
‫الدركة من اخلسة‪.‬‬

‫ان قلت‪ :‬فَلِ َم ق ّدم؟‬

‫قيل لك‪ :‬من شأن انشاء التعجب الصدارة وليتمركز النظر على صفة املبتدأ اليت هي مناط‬
‫ومر اىل اخلرب‪.‬‬
‫الغرض وإال النتظر ّ‬
‫مث ان عنوان (الناس) يرتشح منه لطائف‪:‬‬

‫منها‪ :‬انه مل يفضحهم بالتعيني‪ ،‬بل سرتهم حتت عنوان "الناس" إمياءً اىل ان سرتهم وعدم‬
‫النيب عليه السالم؛ اذ لو فضحهم‬ ‫كشف احلجاب عن وجوههم القبيحة أنسب بسياسة ّ‬
‫بالتشخيص لتوسوس املؤمنون؛ اذ اليـُ ْؤَمن من دسائس النفس‪ .‬والوسوسة تنجر اىل اخلوف‬
‫عليه السالم‬ ‫واخلوف اىل الرياء والرياء اىل النفاق‪ ..‬وألنه لو شنّعهم بالتعيني لقيل ان النيب ِ‬
‫مرتدد اليثق باتباعه‪ ..‬والن بعضا من الفساد لو بقي حتت احلجاب النطفأ شيئاً فشيئاً‬
‫تستَ ِح فَافْـ َع ْل َما‬ ‫ِ‬
‫واجتهد صاحبُه يف اخفائه ولو ُرفع احلجاب ‪ -‬فبناءً على ما قيل "اذا ملْ ْ‬
‫ت" ‪ - 1‬لَيقول فليكن ما كان‪ ،‬ويأخذ يف النشر وال يبايل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫شْئ َ‬
‫ومنها‪ :‬ان التعبري بـ (الناس) يشري اىل انه مع قطع النظر عن سائر الصفات املنافية للنفاق‬
‫الرذالة‪.‬‬
‫فأعم الصفات أعين‪ :‬االنسانية أيضاً منافية له؛ اذ االنسان مكرم ليس من شأنه هذه َ‬ ‫ّ‬
‫_____________________‬

‫‪ 1‬هذا املثل اصله حديث نبوى رواه البخارى عن اىب مسعود عقبة بن عمرو االنصارى رضى‬
‫الناس من كالم النبوة االوىل‪:‬‬
‫هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬ان مما ادرك ُ‬
‫اذا مل تستح فاصنع ما شئت)‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪14 :‬‬

‫ومنها‪ :‬انه رمز اىل ان النفاق ال خيتص بطائفة وال طبقة بل يوجد يف نوع االنسان أية طائفة‬
‫كانت‪.‬‬

‫خيل حبيثية كل من كان انساناً فالبد ان يتحرك غضب الكل‬ ‫ِ‬


‫ومنها‪ :‬انه يـُلَ ّوح بان النفاق ّ‬
‫خيل بناموس طائفة ويهيِّج‬
‫السم؛ كما ّ‬
‫عليه‪ ،‬ويتوجه الكل اىل حتديده‪ ،‬لئال ينتشر ذلك ّ‬
‫غضبهم شناعةُ فرد منهم‪.‬‬

‫(من يقول آمنا)‬


‫وأما َ‬
‫فان قلت‪ِ :‬ملَ افرد "يقول" ومجع "آمنا" مع ان املرجع واحد؟‬

‫قيل لك‪ :‬فيه اشارة اىل لطافة ظريفة هي‪:‬‬

‫اظهار ان املتكلم مع الغري متكلم وحده فـ "يقول"‪ :‬للتلفظ وحده و"آمنا" ألنه مع الغري يف‬
‫احملكي بوجهني‪،‬‬
‫ّ‬ ‫احلكم‪ ..‬مث ان هذا حكاية عن دعواهم ففي صورة احلكاية اشارة اىل رد‬
‫احملكي اشارة اىل قوته جبهتني؛ اذ "يقول" يرمز مبادته اىل ان قوهلم ليس عن‬
‫ّ‬ ‫كما ان يف‬
‫اعتقاد وفعل‪ ،‬بل يقولون بأفواههم ما ليس يف قلوهبم‪ ..‬وبصيغته يومئ اىل ان سبب استمرار‬
‫مدافعتهم وادعائهم مراآة الناس الحمرك وجداين‪ ..‬ويف الدعوى امياء منهم بصيغة املاضي اىل‪:‬‬
‫"إنّا معاشر أهل الكتاب قد آمنا قبل فكيف النؤمن اآلن"‪ ..‬ويف لفظ "نا" رمز منهم اىل‪:‬‬
‫كذب"‪.‬‬ ‫"انّا مجاعة متحزبون لسنا كفرد ي ِ‬
‫كذب أو يُ َّ‬‫َ‬
‫احملكي بعينه‪ ،‬أو يتصرف فيه بأخذ‬
‫ّ‬ ‫وأما (باهلل وباليوم اآلخر) فاعلم! ان للتنزيل ان يأخذ‬
‫مآله‪ ،‬أو تلخيص عبارته‪ :‬فعلى األول ذكروا األول واآلخر من أركان االميان اظهاراً للقوي‪،‬‬
‫وملا هو أقرب ألن يُقبَل منهم‪ ،‬وأشاروا اىل سلسلة األركان بتكرار الباء مع القرب‪ .‬وعلى‬
‫الثاين بأن يكون كالمه تعاىل؛ ففي ذكر القطبني فقط اشارة اىل ان أقوى ما ي ّدعونه أيضاً‬
‫ليس باميان؛ اذ ليس امياهنم هبما على وجههما‪ .‬وكرر الباء للتفاوت؛ اذ االميان باهلل اميان‬
‫مر‪.‬‬
‫بوجوده ووحدته‪ ،‬وباليوم اآلخر حبقيته وجميئه كما ّ‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪11 :‬‬

‫واما (وما هم مبؤمنني)‬

‫فان قلت‪ِ :‬ملَ مل يقل "وما امنوا" األشبه بـ "آمنا"؟‬

‫قيل لك‪ :‬لئال يُتوهم التناقض صورة ‪ ،1‬ولئال يرجع التكذيب اىل نفس "آمنا" الظاهر انشائيته‬
‫املانعة من التكذيب‪ .‬بل لريجع النفي والتكذيب اىل اجلملة الضمنية املستفادة من "آمنا"‪،‬‬
‫وهي "فنحن مؤمنون"‪ ..‬وأيضا ليدل بامسية اجلملة على دوام نفي االميان عنهم‪.‬‬

‫ان قلت‪ِ :‬ملَ ال يدل على نفي الدوام مع ان "ما" مقدم؟‬

‫قيل لك‪ :‬ان النفي معىن احلرف الكثيف‪ ،‬والدوام معىن اهليئة اخلفيفة‪ ،‬فالنفي أغمس وأقرب‬
‫اىل احلكم‪.‬‬

‫ان قلت‪ :‬ما نكتة ‪ 2‬الباء على خرب ما؟‬

‫فرق بني "ما زيد‬


‫قيل لك‪ :‬ليدل على اهنم ليسوا ذواتاً أهالً لالميان وإن آمنوا صورة‪ ،‬اذ ٌ‬
‫سخيا" و"ما زيد بسخي"؛ اذ األول‪ :‬هلوائية الذات‪ ،‬معناه‪ :‬زيد اليسخو بالفعل وان كان‬
‫أهال ومن نوع الكرماء‪ .‬وأما الثاين‪ :‬فمعناه زيد ليس ٍ‬
‫بذات قابل للسماحة وليس من نوع‬
‫األسخياء وإن أحسن بالفعل‪.‬‬

‫***‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬اي بني "آمنا" الىت جاءت يف اآلية‪ ،‬وبني "وما آمنوا" املذكورة يف السؤال‪.‬‬

‫‪ 2‬نكتة يف غاية الدقة (املؤلف)‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪12 :‬‬

‫ين َآمنُوا َوَما َخيْ َدعُو َن اِالَّ اَنْـ ُف َس ُه ْم‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُخيادعُو َن هللا َوالذ َ‬
‫يم‬‫وما ي ْشعرو َن ‪ 1‬يف قُـلُوهبِِم مرض فَـزادهم هللا مرضا وَهلم ع َذ ِ‬
‫اب اَل ٌ‬
‫ْ َ َ ٌ َ َ ُ ُ َ َ ً َ ُْ َ ٌ‬ ‫َ َ َ ُُ‬
‫ِمبا كانُوا يك ِ‬
‫ْذبُو َن ‪14‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫اعلم! ان وجه النظم‪ :‬اشارات مجلها‪ :‬اىل التوبيخ على النفاق‪ ..‬مث تشنيعه‪ ..‬مث تقبيحهم‪..‬‬
‫مث التهديد عليه‪ ..‬مث ترهيبهم‪ ..‬مث التعجب منهم‪ ..‬مث بيان مقصدهم من قوهلم املذكور‪ ...‬مث‬
‫بيان علة قوهلم‪ ..‬مث بيان أول اجلنايات األربع الناشئة من النفاق وهي اخلداع‪ ،‬واالفساد‪،‬‬
‫وتسفيه املؤمنني‪ ،‬واالستهزاء هبم‪ ..‬مث متثيل جناياهتم وحيلهم باسلوب استعارة متثيلية هكذا‪:‬‬
‫صور معاملتهم مع احكام هللا تعاىل ومع النيب عليه السالم واملؤمنني ‪ -‬باظهارهم االميان‬
‫بان ّ‬
‫ألغراض دنيوية مع تبطّن الكفر‪ ،‬ومعاملة هللا والنيب واملؤمنني معهم باجراء أحكام املؤمنني‬
‫عليهم استدراجا‪ ،‬مع اهنم أخبث الكفرة عند هللا ‪ -‬بصورة خداع شخصني‪ ،‬أو الصياد مع‬
‫‪1‬‬
‫الصيد الذي حيس الصياد باخلروج عن القاصعاء مث يفر من النافقاء‪.‬‬

‫أما نظم مجل اجلناية األوىل من (خيادعون) اىل (مبا كانوا يكذبون) فانظر اىل ما تضمنت من‬
‫النتائج املتسلسلة املرتتبة يف اجلمل السبع‪ ،‬وهي‪ :‬حتميقهم بطلب احملال‪ ..‬مث تسفيههم باضرار‬
‫أنفسهم بنية املنفعة‪ ..‬مث جتهيلهم بعدم التمييز بني الضر والنفع‪ ..‬مث ترذيلهم خببث الطينة‬
‫ومرض معدن الصحة وموت منبع احلياة‪ ..‬مث تذليلهم بتزييد املرض يف طلب الشفاء‪ ..‬مث‬
‫هتديدهم بأمل حمض يولد أملاً صرفاً‪ ..‬مث تشهريهم بني الناس بأقبح العالمات أعين الكذب‪.‬‬

‫اتساق وانتظام تلك اجلمل السبع وانصباب احلكم فيما بينها فهو‪ :‬أنك كما اذا اردت‬
‫ُ‬ ‫وأما‬
‫زجر واحد عن شئ ونصحه تقول له اوالً‪ :‬ياهذا! ان كان لك عقل فهذا حمال‪ ..‬مث‪ :‬ان‬
‫حس فلِ َم المتيز بني الضر والنفع؟‪ .‬مث‪ :‬إن‬
‫كنت حتب نفسك فهذا يضرها‪ ..‬مث‪ :‬ان كان لك ّ‬
‫مل يكن لك اختيار فال اقل من ان تعرف فساد سجيتك‪،‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬كالمها من جحرة الريبوع‪ ،‬يظهر االوىل وخيفى الثانية (ش)‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪11 :‬‬

‫حيرف احلقيقة‪ ،‬ويريك احللو مراً‪ ..‬مث‪ :‬ان تطلب الشفاء فهذا يزيد مرضك‬ ‫وفيها مرض ِّ‬
‫طري نعاسه‬
‫واليشفي‪ ،‬مثلك كمثل من ابتلى بداء السهر فاجتهد يف النوم فانتج له قلقا ّ‬
‫‪1‬‬
‫فاغتم لوجود املصيبة حىت صري املصيبة مصيبتني‪..‬‬
‫ّ‬ ‫أيضا‪ ،‬أو كمن أصيب قلبه بداء "املرق"‬
‫تتحر اللذة فهذا فيه أمل شديد ينتج أملاً أشد ليس كأمثاله اليت فيها لذة مزخرفة‪ ..‬مث‪:‬‬
‫مث‪ :‬ان َّ‬
‫يوسم على خرطومك بوسم قبيح‪ ،‬وتُعلَن بني الناس ملنع‬ ‫ان مل تنتبه ومل تنزجر ال يبقى اال ان َ‬
‫سراية فسادك اىل الناس؛ كذلك ان هللا تعاىل قال لزجر املنافقني (خيادعون هللا) بدل‬
‫النيب مبلِّغ عن هللا تعاىل‪،‬‬
‫النيب عليه السالم و ّ‬
‫النيب" لتحميقهم‪ ،‬أي‪ :‬كيف خيادعون ّ‬ ‫"خيادعون ّ‬
‫فحيلتهم راجعة اىل هللا‪ ،‬واالحتيال مع هللا تعاىل حمال‪ ،‬وطلب احملال محق‪ .‬ومثل هذا احلمق‬
‫مما يُتعجب منه‪ ..‬مث اتبعه (وما خيدعون اال انفسهم) لتسفيههم‪ ،‬أي‪ :‬ليس يف فعلكم نفع‬
‫بل فيه ضرر‪ ،‬وضرره يعود على أنفسكم‪ ،‬فكأنكم ختادعون أنفسكم‪ ..‬مث ع ّقبه (وما‬
‫أضل من احليوان‪ ،‬كاالحجار اجلامدة‬ ‫يشعرون) لتجهيلهم أي‪ :‬ايّها اجلهالء! قد صرمت ّ‬
‫الحتسون بالفرق بني الضر والنفع‪ ..‬مث اردفه (يف قلوهبم مرض) لرتذيلهم بانفساد اجلوهر‪،‬‬
‫أي‪ :‬ان مل يكن لكم اختيار فال أقل من أن تعرفوا املرض مرضاً ًَ‪ ،‬وان سجيتكم فسدت‪.‬‬
‫وان النفاق واحلسد مرض يف الروح من شأنه حتريف احلقيقة وتغيريها حىت تظنون احللو مراً‬
‫املر حلواً والسوداء بيضاء واألبيض أسود فال تتبعوه‪ ..‬مث زاد (فزادهم هللا مرضاً) لتذليلهم‪،‬‬ ‫وّ‬
‫أي‪ :‬إن كنتم تطلبون هبذا الدواء والتشفي من غيظكم وحسدكم فهذا داء ال يزيدكم اال‬
‫فضربَه بتلك اليد املكسورة فازداد‬
‫يده فأراد االنتقام َ‬‫سر اح ٌد َ‬‫مرضا على مرض‪ .‬فأنتم كمن َك َ‬
‫كسراً على كسر‪ ..‬مث قال (وهلم عذاب أليم) لتهديدهم‪ ،‬أي‪ :‬ان تتحروا اللذة فما نفاقكم‬
‫هذا اال فيه أمل شديد عاجل ينتج أملاً أشد آجال‪ ،‬ليس كسائر املعاصي اليت فيها نوع من‬
‫اللذة السفلية العاجلة‪ ..‬مث أمته بقول (مبا كانوا يكذبون) لتوسيمهم بأشنع الوسم‪ ،‬أي‪ :‬ان مل‬
‫تنتبهوا ومل تنتهوا مل يبق اال ان تُ َش َّهروا بني الناس بالكذب املانع لالعتماد لئال يتعدى‬
‫مرضكم‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬املرق‪ :‬كلمة اعجمية تعىن االهتمام واللهفة واالمل وحب التطلع‪.‬‬


‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪10 :‬‬

‫أما وجه النظم بني أجزاء كل مجلة‪:‬‬

‫ففي األُوىل‪ :‬أعين مجلة (خيادعون هللا والذين آمنوا) هو‪:‬‬

‫ان يف التعبري عن عملهم باخلداع مع املضارعية‪ ،‬السيما من باب املشاركة‪ ،‬خصوصاً مع‬
‫النيب واقامة "الذين آمنوا" مقام "املؤمنني" تنصيصاً وتصرحياً مبحالية‬‫اقامة لفظة "هللا" مقام ّ‬
‫غرضهم من حيلتهم‪ ،‬وجعل احملالية نصب العني بصورة تتنفر عنها النفوس وترتعد‪ ،‬اذ فيما‬
‫يف اخلداع من االستعارة التمثيلية ما يوقظ النفرة‪ ..‬وفيما يف املضارعية من التصوير مع‬
‫(وجَزاؤا سيِّئَ ٍة َسيِّئَةٌ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫االستمرار ما يَ ْش َمئّز منه القلب‪ ..‬وفيما يف املشاركة من املشاكلة نظري َ‬
‫ِمثْـلُ َها) ‪ 1‬ما ينتج عدم انتاج حيلتهم؛ اذ يف باب املشاركة فعل الفاعل سبب لفعل املفعول‪،‬‬
‫وهنا فعل املفعول صار سبباً لعقم خداع الفاعل وعدم تأثريه‪ ،‬بل جعل اخلداع صورة واهية‬
‫ٍ‬ ‫كانعكاس املقصد فيما اذا استهزيت ٍ‬
‫مستبطن علماً ومستخف استهزاءً‬ ‫ٌ‬ ‫بأحد جلهله‪ ،‬مع أنه‬ ‫َ‬
‫بك‪ ..‬وفيما يف التصريح بلفظة "هللا" من التنصيص على حمالية الغرض ‪ -‬اذ خداع النيب عليه‬
‫احليلة‪ ..‬وما يف "الذين آمنوا" من جعل الصلة‬ ‫السالم ينجر اليه تعاىل ‪ -‬ما يشيط العقل عن ِ‬
‫َ‬
‫مداراً‪ ،‬اشارة اىل ان املنافقني يتحببون اليهم بصفة االميان ويهيِّجون عرق امياهنم للتحبب‬
‫والتداخل فيهم‪ ..‬وفيه امياء أيضا اىل ان مجاعة املؤمنني املنورين عقوهلم بنور االميان ال تتسرت‬
‫عنهم احليلة فينتج أيضا عقم حيلتهم‪..‬‬

‫ويف الثانية‪ :‬أعين مجلة (وما خيدعون اال أنفسهم) هو‪:‬‬

‫ان يف هذا احلصر اشارة اىل كمال سفاهتهم بعكس العمل يف معاملتهم كمن رمى حجراً اىل‬
‫جدار فانثىن لكسر رأسه؛ اذ رشوا النبال لضرر املؤمنني فاُصيبت أنفسهم فكأهنم خيادعون‬
‫بالذات ذواهتم‪ ..‬ويف تبديل "يضرون" بـ (خيدعون) اشارة اىل هناية سفاهتهم‪ ،‬اذ يوجد يف‬
‫أهل العقل من يضر نفسه قصداً وال يوجد من خيادع نفسه عمداً اال ان يكون محاراً يف‬
‫ظ نفساينّ‬ ‫صورة انسان‪ .‬ويف عنوان "انفسهم" رمز خفي اىل أن نفاقهم وحيلتهم ملا كان حل ّ‬
‫نفسي انتج نقيض مطلوهبم لنفسهم‪.‬‬
‫وغرض ّ‬
‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة الشورى‪04 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪19 :‬‬

‫ان قلت‪ :‬هذا احلصر يومئ اىل ان خداعهم ما ضر االسالم واملسلمني مع ان االسالم ما‬
‫كالسم يف عناصر العامل‬
‫رأى من شئ ضرراً مثل ما رأى من أنواع النفاق وشعباته املنتشرة ّ‬
‫االسالمي؟‬
‫ّ‬
‫السم الساري امنا هو من طبيعتهم املتفسدة وفطرهتم‬
‫قيل لك‪ :‬وما تراه من الضرر املتعدي و ّ‬
‫املتفسخة ووجداهنم املتعفن نظري سراية املرض؛ وليس نتيجة حيلتهم وخداعهم باختيارهم اذ‬
‫يريدون خداع هللا والنيب ومجاعة املؤمنني‪ ،‬وهللا عامل بكل شئ والنيب عليه السالم يوحى اليه‪،‬‬
‫ومجاعة املؤمنني التستطيع احليلة ان تتسرت عنهم مدة مديدة فهم الينخدعون‪ .‬فثبت اهنم ال‬
‫خيدعون اال أنفسهم فقط‪.‬‬

‫ويف الثالثة‪ :‬أعين مجلة (وما يشعرون) أي ال حيسون‪ ،‬هو‪:‬‬

‫أي جتهيل هلم‪ ،‬ألهنا تشعر بأهنم إن كانوا عقالء فهذا ليس من‬
‫ان يف هذه الفذلكة جتهيال ّ‬
‫شأن العقل‪ ،‬وإن كانوا حيوانات يتحركون مبيل نفساينّ فشأهنم ان حيسوا ويشعروا مبثل هذا‬
‫الضرر احملسوس‪ .‬فثبت اهنم صاروا مثل مجادات ال اختيار هلا‪.‬‬

‫ويف الرابعة‪ :‬أعين مجلة (يف قلوهبم مرض) هو‪:‬‬

‫احلسي ظهر أن يف روحهم‬


‫ّ‬ ‫ان سوقها يفيد اهنم ملا مل يعملوا مبقتضى احملاكمة العقلية والشعور‬
‫مرضاً فال أقل من ان يعرفوا انه مرض ليجتنبوا عن القضايا والحيكموا عليها؛ اذ من شأن‬
‫املر كما مر‪ ..‬ويف لفظ (يف) رمز اىل ان حسدهم‬ ‫املرض تغيري احلقيقة وتشويه املزين وحتلية ّ‬
‫وحقدهم مرض يف ملكوت القلب وهي اللطيفة اليت مر ذكرها‪ ..‬ويف عنوان "القلب" اشارة‬
‫اىل انه كما ان جسم القلب اذا مرض اختل مجيع أفعال البدن؛ كذلك اذا مرض معىن القلب‬
‫وماكِنَتُها‪..‬‬
‫باخلداع والنفاق احنرف كل أفعال الروح عن منهج االستقامة اذ هو منبع احلياة َ‬
‫ويف تقدمي (يف قلوهبم) على (مرض) امياء اىل احلصر جبهتني‪ ،‬ومن االمياء اشارة بطريق‬
‫التعريض اىل ان االميان نور‪ ،‬شأنه أن يعطي جلميع أفعال االنسان وآثاره صحة واستقامة‪..‬‬
‫وأيضاً يف امياء احلصر رمز اىل ان الفساد يف األساس فال جيدي تعمري الفروعات‪ ..‬ويف لفظ‬
‫"املرض" رمز اىل قطع عذرهم وإلقامهم احلجر بان الفطرة مهيأة للحقيقة‪ .‬وما الفساد‬
‫واخلراب االّ مرض عارض‪ ..‬ويف تنوين التنكري اشارة اىل انه يف مكمن عميق ال يرى حىت‬
‫يداوى‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪16 :‬‬

‫ويف اخلامسة‪ :‬أعين مجلة (فزادهم هللا مرضاً) هو‪:‬‬

‫اهنم حينما مل يعرفوا انه مرض حىت يتجنبوا منه بل طلبوه مستحسنني له زادهم هللا تعاىل؛ اذ‬
‫"من طلب َو َجد"‪ ..‬ويف "الفاء" اليت هي للتعقيب السبيب ‪ -‬مع ان وجود املرض ليس سببا‬ ‫َ‬
‫رمز اىل اهنم ملا مل يشخصوا املرض فلم يتحروا وسائل الشفاء بل توسلوا بأسباب‬ ‫لزيادته ‪ٌ -‬‬
‫الزيادة كمن يضارب خصماً غالباً بيده العليلةصاروا كأهنم طلبوا الزيادة فزادهم هللا مرضاً‬
‫بقلب أملهم يأساً مزعجا‪ ،‬بسبب ظفر املؤمنني‪ ،‬وقلب خصومتهم حقداً حمرقاً للقلب بسبب‬ ‫ِ‬
‫مرضي اليأس واحلقد داء اخلوف وعلة الضعف ومرض الذلة‬
‫غلبة املؤمنني‪ ،‬فتولد من َ‬
‫فاستولت على القلب‪.‬‬

‫الباطين‬
‫ّ‬ ‫مث ان هللا تعاىل مل يقل "فزاد هللا مرضهم" بل جعل املفعول متييزاً لإلشارة اىل ان املرض‬
‫القليب سرى اىل الظاهر أيضاً وتعدى اىل مجيع األفعال‪ ،‬فكأن هذا الداء اخلبيث استوىل على‬ ‫ّ‬
‫‪1‬‬
‫وجودهم فكأن وجودهم نفس الداء فزيادة جراحات املرض ونفطاته زيادة لنفس ذواهتم؛ اذ‬
‫ت ناراً" يفيد ان النار سرت اىل متام البيت حىت كأن متام الْبَـْيت نار تلتهب‬ ‫ِ‬
‫"ا ْشتَـ َع َل الْبَـْي ُ‬
‫أي جانب كان‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لت نَ ُار الْبَـْيت" فانه يصدق بتلهب النار من ّ‬
‫خبالف "ا ْشتَـ َع َ‬
‫ويف السادسة‪ :‬أعين مجلة (وهلم عذاب اليم) هو‪:‬‬

‫ان "الالم" اليت هي للنفع‪ ،‬اشارة اىل انه لو كان هلم منفعة لكانت البتة أملاً معذباً دنيوياً‪ ،‬أو‬
‫عذاباً اخروياً مؤملاً‪ ،‬وكونه منفعة من احملال‪ ،‬فمحال هلم املنفعة‪ ..‬ويف وصف العذاب باألليم‬
‫أي املتأمل‪ ،‬مع ان األليم هو الشخص رمز اىل ان العذاب استوىل على وجودهم وأحاط‬
‫بذواهتم ونفذ يف بواطنهم حبيث حتولوا بنفس العذاب‪ ،‬وصار العذاب عني ذواهتم‪ ،‬كانقالب‬
‫‪2‬‬
‫الفحم مجرة نار بنفوذ النار ‪ .‬فاذا نظر اخليال اىل صورة العذاب واستمع من جوانبه أنيناً‬
‫يئن ويتأمل‪.‬‬
‫وتأملاً وعويالً تتولد من احلياة املتجددة حتت العذاب يتخيل ان العذاب هو الذي ّ‬
‫فما أشد التهديد ملن تأمل!‪. .‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬نفطاته‪ :‬بثراته‪.‬‬

‫‪ 2‬بنفوذ النار فيها (ش)‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪17 :‬‬

‫ويف السابعة‪ :‬أعين مجلة (مبا كانوا يكذبون) هو‪:‬‬

‫ان يف تعليق العذاب من بني جناياهتم املذكورة بالكذب فقط اشارة اىل شدة شناعة الكذب‬
‫سم الكذب؛ اذ الكذب أساس‬ ‫وقبحه ومساجته‪ .‬وهذه االشارة شاهد صدق على شدة تأثري ّ‬
‫الكفر‪ ،‬بل الكفر كذب ورأس الكذب‪ ،‬وهو األُوىل من عالمات النفاق‪ .‬وما الكذب اال‬
‫خرب األخالق العالية‪ ..‬وهو‬ ‫افرتاء على القدرة االلـهية‪ ،‬وضد للحكمة الربانية‪ ..‬وهو الذي ّ‬
‫السم يف االسالم‪ ..‬وبه اختلت‬
‫صري التشبثات العظيمة كالشبحات املنتنة‪ ..‬وبه انتشر ّ‬ ‫الذي ّ‬
‫احوال نوع البشر‪ ..‬وهو الذي قيّد العامل االنساين عن كماالته‪ ،‬واوقفه عن ترقياته‪ ..‬وبه وقع‬
‫أمثال مسيلمة الكذاب يف أسفل سافلي اخلسة‪ ..‬وهو احلمل الثقيل على ظهر االنسان‬
‫فيعوقه عن مقصوده‪ ..‬وهو االب للرياء واألم للتصنع‪ ..‬فلهذه األسباب اُختص بالتلعني‬
‫والتهديد والنعي النازل من فوق العرش‪..‬‬

‫فيا أيّها الناس! السيما ايّها املسلمون! ان هذه اآلية تدعوكم اىل ال ّدقة!‬

‫فان قلتم‪ :‬ان الكذب للمصلحة عفو؟‬

‫قيل لكم‪ :‬اذا كانت املصلحة ضروريةً قطعية‪ ،‬مع انه عذر باطل؛ اذ تقرر يف اصول الشريعة‪:‬‬
‫ان األمر الغري املضبوط (أي الذي اليتحصل بسبب كونه قابال لسوء االستعمال) ال يصري‬
‫علة ومداراً للحكم‪ ،‬كما ان املشقة لعدم انضباطها ما صارت علة للقصر‪ ،‬بل العلةُ السفر‪.‬‬
‫ولئن سلّمنا فغلبة الضرر على منفعة شئ تفىت بنَسخه وتكون املصلحةُ يف عدمه‪ .‬وما ترى‬
‫من اهلَْرج واملرج يف حال العامل شاهد على غلبة ضرر عذر املصلحة‪ .‬اال ان التعريض والكناية‬
‫لزوم ِ‬ ‫َ‬
‫الكذب‪ .‬فالسبيل مثْـىن‪ :‬إما السكوت؛ اذ "اليلزم من ِ‬
‫قول ِّ‬
‫كل‬ ‫قول ُ‬ ‫كل ٍ‬‫صدق ِّ‬ ‫ليسا من‬
‫ََ‬
‫صدق"‪ .‬وإما الصدق؛ اذ الصدق هو أساس االسالمية‪ ،‬وهو خاصة االميان‪ ،‬بل االميان‬
‫صدق ورأسه‪ ..‬وهو الرابط لكل الكماالت‪ ..‬وهو احلياة لألخالق العالية‪ ..‬وهو العرق‬
‫الرابط لألشياء باحلقيقة‪ ..‬وهو جتلّي احلق يف اللسان‪ ..‬وهو حمور ترقي االنسان‪ ..‬وهو نظام‬
‫العامل االسالمي‪ ..‬وهو الذي يُسرع بنوع البشر يف طريق الرتقي ‪ -‬كالربق ‪ -‬اىل كعبة‬
‫أصحاب‬
‫ُ‬ ‫تفوق‬
‫أعز من السالطني‪ ..‬وبه ّ‬
‫يصري امخد الناس وافقره ّ‬
‫الكماالت‪ ..‬وهو الذي ّ‬
‫اهلامشي" عليه الصالة‬
‫ّ‬ ‫"سيّدنا حممد‬
‫النيب عليه الصالة والسالم على مجيع الناس‪ ..‬وبه ارتفع َ‬
‫ّ‬
‫والسالم اىل أعلى عليي مراتب البشر‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪19 :‬‬


‫صلِ ُحو َن ‪11‬‬ ‫ِ‬ ‫واِ َذا قِ‬
‫يل َهلُ ْم ال تُـ ْفس ُدوا ِيف ْ‬
‫االرض قالُوا اّمنَا َْحن ُن ُم ْ‬ ‫َ َ‬
‫أَال اِنـَّهم هم الْم ْف ِس ُدو َن ولـ ِ‬
‫ـك ْن ال يَ ْشعُُرون ‪12‬‬ ‫َ‬ ‫ُْ ُُ ُ‬
‫اعلم! ان وجه نظم هذه اآلية مبا قبلها هو‪:‬‬

‫ان هللا تعاىل ملا ذكر األُوىل من اجلنايات الناشئة عن نفاقهم وهي ظلمهم أنفسهم وجتاوزهم‬
‫على حقوق هللا تعاىل بنتائجها املتسلسلة املذكورة‪ ،‬ع ّقبها بثانية اجلنايات؛ وهي جتاوزهم على‬
‫حقوق العباد وايقاعهم الفساد بينهم مع تفرعاهتا‪..‬‬

‫مث ان (اذا قيل) كما انه مربوط باعتبار القصة بـ "يقول" يف "ومن الناس من يقول" وباعتبار‬
‫املآل بـ "خيادعون"؛ كذلك يرتبط باعتبار نفسه بـ "يكذبون"‪ .‬وتغري األسلوب من احلِملية اىل‬
‫الشرطية امارة ورمز خفي اىل مقدَّر بينهما كأنه يقول‪" :‬هلم عذاب اليم مبا كانوا يكذبون؛ إذ‬
‫إذا كذبوا فتنوا‪ ،‬واذا فتنوا أفسدوا‪ ،‬واذا نوصحوا مل يقبلوا‪ ،‬واذا قيل هلم التفسدوا اخل"‪.‬‬

‫وأما وجه النظم بني اجلمل الصرحية والضمنية يف هذه اآلية‪ :‬فهو عني النظم والربط يف ما‬
‫أمثّل لك وهو‪:‬‬

‫انك اذا رأيت أحداً يسلك يف طريق تنجر اىل هالكه‪ ،‬فاوالً تنصحه قائال له‪ :‬مذهبك هذا‬
‫ينهار بك يف البوار فتجنَّب‪ .‬وان مل ينته بنُهاه تعود عليه بالزجر والنهي والنعي وتؤيد هنيَك‬
‫وتدميَه يف ذهنه إما بتخويفه بنفرة العموم‪ ،‬واما برتقيق قلبه بالشفقة اجلنسية كما سيأتيك‬
‫بياهنما‪ .‬فان كان ذلك الشخص متعنتا جلوجاً مصراً َّ‬
‫ألد راكباً منت اجلهل املرّكب فهو‬
‫اليسكت بل يدافع عن نفسه‪ ،‬كما هو شأن كل مفسد يرى فساده صالحا؛ اذ االنسانية ال‬
‫ختلى ان يرتكب الفساد من حيث هو فساد‪ ..‬مث يستدل ويدعي بأن طريقي هذا حق‪،‬‬
‫ومعلوم انه كذلك؛ فال حق لك يف النصيحة فال احتياج اىل نصيحتك‪ ..‬بل انت حمتاج اىل‬
‫السوي إالّ سبيلنا‪ ،‬فال تعرض بوجود طريق أصوب‪ ..‬وان كان ذلك‬ ‫ّ‬ ‫التعلم‪ ..‬فما السبيل‬
‫الشخص اللجوج ذا‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪11 :‬‬

‫الوجهني يكون كالمه ذا اللسانني؛ يداري الناصح إللزامه بوجه‪ ،‬ويتحفظ على مسلكه بآخر‬
‫فيقول‪ :‬أنا مصلح أي ظاهراً كما تطلب وباطناً كما اعتقد‪ ..‬مث من شأنه تأييد وتأكيد دعواه‬
‫بأن الصالح من صفيت املستمرة‪ ،‬ال اين كنت صاحلا اآلن بعد فسادي قبل‪ ..‬مث اذا كان‬
‫ذلك الشخص متمرداً ومتنمراً ‪ 1‬ومصراً يف نشر مذهبه‪ ،‬وترويج مسلكه‪ ،‬وتزييف ناصحه‬
‫وتعريض أهل احلق هبذه الدرجة‪ ،‬ظهر انه الجيدي له دواء‪ ،‬ومل يبق إال آخر الدواء‪ ،‬أعين‪:‬‬
‫املعاجلة لعدم السراية وما هذه املعاجلة اال تنبيه الناس واعالمهم بانه مفسد ال صالح فيه؛ اذ‬
‫ال يستعمل عقله وال يستخدم شعوره حىت حيس هبذا الشئ الظاهر احملسوس‪.‬‬

‫فاذا تفهمت احللقات املسردة يف هذا املثال تفطنت ما بني اجلمل املنصوصة واملرموزة اليها‬
‫حيمر ‪ 2‬من حتته‬
‫بالقيود يف واذا قيل هلم اىل آخره‪ .‬فان فيما بينها نظما فطريا باجياز ّ‬
‫االعجاز‪.‬‬

‫واما نظم هيئات كل مجلة مجلة‪:‬‬

‫فاعلم! ان مجلة (واذا قيل هلم ال تفسدوا يف األرض) القطعية يف (اذا) اشارة اىل لزوم النهي‬
‫عن املنكر ووجوبه‪..‬‬

‫وبناء املفعول يف (قيل) رمز اىل ان النهي فرض كفاية على العموم‪..‬‬

‫ويف الم (هلم) امياء اىل ان النهي البد ان يكون على وجه النصيحة دون التحكم‪ ،‬والنصيحة‬
‫على وجه اللطف دون التقريع‪..‬‬

‫و (التفسدوا) فذلكة وخالصة لصورة قياس استثنائي ‪ 1‬أي ال تفعلوا هكذا‪ ،‬واالّ نشأ منه‬
‫فتنحل رابطة االتفاق‪ ،‬فيتولد منه‬
‫ّ‬ ‫اهلَْرج وامل ْرج‪ ،‬فينقطع خيط االطاعة‪ ،‬فيتشوش نظام العدالة‪،‬‬
‫َ‬
‫الفساد‪ ،‬فال تفعلوا لئال تفسدوا‪..‬‬
‫ولفظ (يف األرض) تأييد وتأكيد للنهي وادامة للزجر‪ ،‬اذ هنى الناصح موقت البد من ادامته‬
‫يف ذهن املنصوح بتوكيل وجدانه ليزجره دائما من حتته‪ .‬وهو اما‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬اي غضباً‪ ،‬غري ان ظاهر السياق واملذاق متنمرداً‪ ،‬اي كائناً كالنمرود (ش)‪.‬‬

‫يشع ويضئ‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪2‬‬

‫‪ 3‬ما يكون عني النتيجة او نقيضها مذكوراً فيه بالفعل (التعريفات)‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪144 :‬‬

‫بتحريك عرق الشفقة اجلنسية‪ ،‬واما بتهييج عرق التنفر من نفرة العموم‪ ..‬و(يف األرض) هو‬
‫الذي يوقظ العرقني وينعشهما؛ اذ لفظ (يف االرض) يناجيهم بان فسادكم هذا يسري اىل‬
‫فأي حقد وغيظ لكم على مجيع الناس الذين فيهم املعصومون والفقراء والذين‬
‫نوع البشر ّ‬
‫التعرفوهنم‪ ،‬أفال تتوجعون هلم وملَ الترتمحون هبم؟ هب ان ليست لكم تلك الشفقة اجلنسية‬
‫فال أقل من أن تالحظوا ان حركتكم هذه جتلب عليكم معىن نفرة العموم‪.‬‬

‫أي غرض هلم بالعموم وكيف ينجر فسادهم اىل الكل؟‬


‫‪ p‬فان قلت‪ّ :‬‬
‫قيل لك‪ :‬كما ان من نظر مبرآة البصر السوداء رأى كل شئ اسود قبيحاً‪ .‬كذلك من‬
‫احتجبت بصريتُه بالنفاق وفسد قلبُه بالكفر رأى كل شئ قبيحاً مبغوضاً‪ ،‬حيصل يف قلبه‬
‫سن من جرخ ‪ 1‬من دوالب‬ ‫عناد وحقد مع كل البشر بل كل الكائنات‪ ..‬مث كما ان انكسار ّ‬
‫من ساعة يتأثر به الكل كلياً أو جزئياً؛ كذلك بنفاق الشخص يتأثر نظام هيئة البشر اليت‬
‫انتظمت بالعدالة واالسالمية واالطاعة‪ .‬فأسفاً قد تظاهرت مسومهم املتسلسلة حىت انتجت‬
‫هذه السفالة‪.‬‬

‫وأما مجلة (قالوا امنا حنن مصلحون) ففي "قالوا" بدل "اليقبلون النصيحة" الظاهر من السياق‬
‫اشارة اىل اهنم ي ّدعون ويدعون اىل مسلكهم‪.‬‬

‫ويف (امنا) خاصيتان‪:‬‬

‫االوىل‪ :‬ان مدخوله البد ان يكون معلوماً حقيقة أو ادعاء‪ .‬ففيها رمز اىل تزييف الناصح‬
‫واظهار ثباهتم على جهلهم املركب‪.‬‬

‫والثانية‪ :‬احلصر ففيها اشارة اىل ان صالحهم اليشوبه فساد فليسوا كغريهم؛ ففي االشارة رمز‬
‫اىل التعريض باملؤمنني‪.‬‬

‫ويف امسية (مصلحون) بدل "نصلح" اشارة اىل ان الصالح صفتنا الثابتة املستمرة فحالنا هذه‬
‫عني االصالح باالستصحاب‪ ..‬مث اهنم ينافقون يف هذا الكالم أيضا اذ يتبطنون خالف‬
‫مايظهرون فباطناً يدعون فسادهم صالحاً وظاهراً يراؤن أن عملهم لصالح املؤمنني‬
‫ومنفعتهم‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬جرخ يقرب من معىن دوالب‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪141 :‬‬

‫وأما مجلة (أال اهنم هم املفسدون ولكن اليشعرون) فاعلم! اهنم ملا ادرجوا يف معاطف اجلملة‬
‫السابقة معاين‪ :‬من ترويج مسلكهم ودعوى ثبوت الصالح هلم‪ ،‬وان الصالح صفتهم‬
‫املستمرة‪ ..‬واهنم منحصرون عليه‪ ..‬وان الفساد اليشوب صالحهم‪ ..‬وان هذا احلكم ظاهر‬
‫معلوم‪ ..‬ومن تعريضهم باملؤمنني ومنتجهيلهم للناصح؛ أجاهبم القرآن الكرمي هبذه اجلملة‬
‫ٍ‬
‫ألحكام من اثبات الفساد هلم‪ ،‬واهنم متحدون مع حقيقة املفسدين‪ ..‬وان الفساد‬ ‫املتضمنة‬
‫منحصر عليهم‪ ..‬وان هذا احلكم حقيقة ثابتة‪ ..‬ومن تنبيه الناس على شناعتهم‪ ..‬ومن‬
‫جتهيلهم بنفي احلس عنهم كأهنم مجادات‪ .‬وان شئت فانظر‪:‬‬

‫اىل (أال) اليت للتنبيه كيف تزيِّف بتنبيهها تروجيَهم الناشئ من دعواهم املرتشح من "قالوا"‪..‬‬

‫واىل "إ ّن" اليت للتحقيق كيف ترد دعواهم املعلومية بـ "امنا"‪ ،‬كأن "إ ّن" تقول حاهلم يف احلقيقة‬
‫والباطن فساد‪ ،‬فال جيديهم الصالح ظاهراً‪.‬‬

‫الضمين يف "امنا" و"حنن" واىل تعريف "املفسدون"‬


‫ّ‬ ‫واىل احلصر يف "هم" كيف يقابل تعريضهم‬
‫‪ -‬الذي معناه حقيقة املفسدين ترى يف ذاهتم فهم هي ‪ -‬كيف يدافع حصرهم املستفاد من‬
‫"امنا" أيضا‪.‬‬

‫واىل ولكن (اليشعرون) كيف يدافع تزييفهم الناصح واهنم ليسوا مستحقني للنصيحة بدعوى‬
‫املعلومية‪ .‬فتأمل!‬

‫***‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪142 :‬‬

‫اس قالُوا أَنـُ ْؤِم ُن َكما َآم َن ُّ‬ ‫واِذَا قِيل َهلم ِ‬
‫الس َفهاءُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬‫الن‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫آم‬
‫َ‬ ‫ما‬‫ك‬‫َ‬ ‫ا‬
‫و‬ ‫ن‬
‫ُ‬ ‫آم‬ ‫َ َ ُْ‬
‫الس َفهاءُ َولكِ ْن اليَـ ْعلَ ُمو َن ‪11‬‬ ‫ِ‬
‫َّه ْم ُه ُم ُّ‬
‫أَال انـ ُ‬
‫اعلم! ان وجه نظم هذا النوع بالنوع األول‪:‬‬
‫من حيث اهنما نصيحة وارشاد؛ عطف األمر باملعروف والتحلية والرتغيب‪ ،‬على النهي عن‬
‫املنكر والتخلية والرتهيب‪..‬‬

‫ومن حيث اهنما من اجلناية؛ عطف تسفيههم للمؤمنني وغرورهم على افسادهم‪ ،‬كما ربط‬
‫افسادهم بفسادهم الاليت كل منها غصن من شجرة زقّوم النفاق‪.‬‬

‫واما وجه النظم بني مجل هذه اآلية‪:‬‬

‫فاعلم! انه ملا قيل‪( :‬واذا قيل هلم آمنوا كما آمن الناس) وأشري هبيئاهتا اىل وجوب النصيحة‬
‫على سبيل الكفاية باميان خالص اتباعا للجمهور الذين هم الناس ال ُك ّمل ليأمرهم الوجدان‬
‫دائما هبذا االمر‪ ،‬حكى وقال‪( :‬قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) اشارة اىل متردهم وغرورهم‬
‫ودعواهم اهنم على احلق كما هو شأن كل مبطل يرى باطله حقا ويعلم جهله علما؛ اذ‬
‫التفسد متردوا‪ ،‬وحبكم‬
‫وميل افساد‪ ،‬وحبكم ّ‬‫غرور ُ‬
‫تفسد قلبُهم‪ ،‬وبالفساد نشأ ٌ‬ ‫بالنفاق َّ‬
‫االفساد يقول بعضهم لبعض متناجيا باالضالل‪ ،‬وحبكم الغرور يرون شدة الديانة وكمال‬
‫االميان املقتضيني لالستغناء والقناعة سفالة وسفاهة وفقراً‪ .‬مث حبكم النفاق ينافقون يف‬
‫كالمهم هذا أيضاً؛ اذ ظاهره‪ :‬كيف نكون كالسفهاء ولسنا جمانني وحنن أخيار كما تطلبون؟‬
‫‪1‬‬
‫وباطنه كيف نكون كاملؤمنني الذين أكثرهم فقراء وهم يف نظرنا سفهاء حتزبوا من اَْوباش‬
‫االقوام؟ وعليك التطبيق بني دقائق اجلزئني من الشرطية‪ .‬مث القمهم احلجر بقوله‪( :‬أال اهنم‬
‫هم السفهاء)؛ اذ من كان متمرداً هبذه الدرجة وجاهال جبهله فحقهم االعالن بني اخللق‬
‫وتشهريهم باحنصار السفاهة وانه من احلقائق الثابتة‪ ،‬وان تسفيههم لسفاهة أنفسهم‪ ..‬مث‬
‫قال‪( :‬ولكن اليعلمون) اشارة اىل اهنم جاهلون جبهلهم‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سفلة الناس واخالطهم‪.‬‬


‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪141 :‬‬

‫فيكون جهال مركباً فال جيديهم النصيحة‪ ،‬فالبد ان يعرض عنهم صفحاً؛ اذ ال يفهم‬
‫النصيحة اال من يعلم جهلَه‪.‬‬

‫وأما وجه النظم يف هيئات كل مجلة مجلة‪:‬‬

‫ففي مجلة (واذا قيل هلم آمنوا كما آمن الناس) لفظ (اذا) جبزميته رمز اىل لزوم االرشاد باالمر‬
‫باملعروف‪ ..‬وبناء املفعول يف (قيل) امياء اىل ان وجوب النصيحة على سبيل الكفاية كما‬
‫مر‪..‬‬

‫ولفظ (آمنوا) بدل "اخلصوا يف اميانكم" اشارة اىل ان االميان بال إخالص ليس باميان‪..‬‬

‫ولفظ (كما آمن) تلويح باألسوة احلسنة وحسن املثال ليخلصوا على منواله‪..‬‬

‫ويف لفظ (الناس) نكتتان‪ :‬ومها السبب يف جعل الوجدان آمراً باملعروف دائما؛ اذ (كما آمن‬
‫السفهاء) يرتشح بـ "فاتبعوا مجهور الناس اذ خمالفة اجلمهور خطأ من شأن القلب ان ال يقدم‬
‫عليه"‪ ،‬وأيضا يلوح باهنم هم الناس فقط كأن من عداهم ليسوا بانسان اال صورة‪ ،‬إما برتقى‬
‫هؤالء يف الكماالت واحنصار حقيقة االنسانية عليهم وإما بتدين اولئك عن مرتبة االنسانية‪.‬‬

‫اما مجلة (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) اليت مآهلا‪ :‬ال نقبل النصيحة كيف نكون كهؤالء‬
‫األذالّء؛ اذ هم يف نظرنا سفهاء وال نقاس حنن معاشر أهل اجلاه عليهم‪ ..‬ففي لفظ (قالوا)‬
‫رمز اىل تربئة النفس وترويج املسلك واالستغناء عن النصيحة والغرور والدعوى‪ ..‬ويف لفظ‬
‫االنكاري اشارة اىل شدة متردهم يف جهلهم املركب‪ ،‬كأهنم بصورة‬
‫ّ‬ ‫(أنؤمن) باالستفهام‬
‫ردنا‪.‬؟ مث ان يف‬
‫االستفهام يقولون‪ :‬ايها الناصح راجع وجدانك هل ترى انصافك يقبل ّ‬
‫متعلق "قالوا" وجوهاً ثالثة مرتتبة؛ أي‪ :‬قالوا ألنفسهم‪ ،‬مث ألبناء جنسهم‪ ،‬مث ملرشدهم‪ ،‬كما‬
‫هو شأن كل متنصح اذا نصحه الناصح‪ ،‬فاول األمر يشاور مع نفسه‪ ،‬مث حياور مع ابناء‬
‫جنسه‪ ،‬مث يراجعك بنتيجة حماكمتهم‪ .‬فعلى هذا ملا قيل هلم ما قيل راجعوا قلوهبم املتفسدة‬
‫ووجداهنم املتفسخ فاشارت عليهم باالنكار‪ ،‬فقالوا مرتمجني عما يف ضمريهم‪ ،‬مث راجعوا بنظر‬
‫االفساد اىل اخواهنم‪ ،‬فاشاروا عليهم أيضاً باالنكار فأخذوا بنجواهم‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪140 :‬‬

‫وحماورهتم‪ ،‬مث رجعوا بطريق االعتذار والسفسطة اىل الناصح فشاغبوا وقالوا‪" :‬بيننا فرق‬
‫وتصوفهم باالضطرار‪ .‬اما‬‫النقاس عليهم إذ هم فقراء مضطرون جمبورون فشدهتم يف الديانة ّ‬
‫حنن فأهل عزة وجاه" فبحكم الغرور حييلون الناصح على انصافه‪ .‬وحبكم اخلداع واحليلة‬
‫يتكلمون بكالم ذي لسانني‪ ،‬أي ايها املرشد! التظننا سفهاء والنكون كالسفهاء يف نظركم‪،‬‬
‫بل نفعل كما يفعل املؤمنون اخللص‪ .‬مع ان مرادهم باطناً‪ :‬النكون كهؤالء املؤمنني الفقراء؛‬
‫خفي اىل فسادهم وافسادهم وغرورهم‬ ‫اذ ال اعتداد هبم يف نظرنا‪ .‬ففي هذا اللفظ رمز ّ‬
‫ونفاقهم‪..‬‬

‫(كما آمن السفهاء) أي الذين تظنوهنم الناس الكاملني هم يف نظرنا اذالء فقراء جمبورون مع‬
‫كل منهم سفيهُ قوم‪ .‬ففي دعواهم الفرق يف القياس اشارة اىل ان االسالمية كهف‬ ‫كثرهتم‪ٌ ،‬‬
‫التكرب‪ ،‬وما‬
‫املساكني وملجأ الفقراء وحامية احلق وحافظة احلقيقة ومانعة الغرور وقامعة ّ‬
‫مقياس الكمال واجملد االّ هي‪ ..‬وأيضاً يف الفرق اشارة اىل ان سبب النفاق يف األغلب هو‬
‫الرأْ ِي) ‪.1‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ـك اتَّـبـ َع َ ِ َّ ِ‬
‫ي َّ‬‫ك االَّ الذي َن ُه ْم اََراذلُنَا بَاد َ‬ ‫الغرض والغرور والتكرب كما يفسره‪( :‬وما نَريـ َ َ‬
‫وأيضاً يف الفرق اشارة خفية اىل ان االسالمية التصري وسيلة التحكم والتغلب يف أيدي أهل‬
‫الدنيا واجلاه؛ بل امنا هي واسطة ِإلحقاق احلق يف أيادي أهل الفقر والضرورة خالف سائر‬
‫يخ‪.‬‬
‫األديان‪ .‬ويشهد على هذه احلقيقة التأر ُ‬

‫أما مجلة (أال اهنم هم السفهاء) فاعلم! ان القرآن الكرمي امنا أكثر من التشديد والتشنيع على‬
‫النفاق ألجل ان أكثر بليات العامل االسالمي من أنواع النفاق‪ ..‬مث ان لفظ (أال) للتنبيه‬
‫وتشهري سفاهتهم على رؤوس األشهاد‪ ،‬والستشهاد فكر العموم على سفاهتهم‪ .‬وأصل معىن‬
‫(أال) أال تعلمون اهنم سفهاء؟ أي‪ :‬فاعلموا‪ ..‬مث ان "ا ّن" مرآة احلقيقة ووسيلة اليها كأنه‬
‫يقول‪ :‬راجعوا احلقيقة لتعلموا ان سفسطتهم الظاهرية ال أصل هلا‪ .‬مث لفظ "هم" للحصر لرد‬
‫تربئة أنفسهم‪ ،‬ودفع تسفيههم للمؤمنني الذي اشاروا اليه بـ (كما آمن السفهاء) أي ان‬
‫‪2‬‬
‫السفيه َمن ترك اآلخرة بالغرور والغرض واللذة الفانية دون من أشرتى الباقي برتك اهلوسات‬
‫الفانية‪ .‬مث ان‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة هود‪27. :‬‬

‫‪ 2‬اهلوس‪ :‬طرف من اجلنون وخفة العقل واملقصود هنا االغراض النفسية وامانيها‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪149 :‬‬

‫األلف والالم يف "السفهاء" لتعريف احلكم أي معلوم اهنم سفهاء‪ .‬وللكمال أي كمال‬
‫السفاهة فيهم‪.‬‬

‫أما (ولكن اليعلمون) ففيه اشارات ثالث‪:‬‬

‫احداها‪:‬‬

‫ان متييز احلق عن الباطل وتفريق مسلك املؤمنني عن مسلكهم حمتاج اىل نظر وعلم‪ ،‬خبالف‬
‫افسادهم وفتنتهم‪ ،‬فانه ظاهر حيس به َمن له أدىن شعور‪ .‬وهلذا ذيّل اآلية األوىل بـ (ولكن ال‬
‫يشعرون)‪.‬‬

‫والثانية‪:‬‬
‫ان (اليعلمون) وأمثاهلا من فواصل اآليات من (اليعقلون) و(اليتفكرون) و(اليتذكرون)‬
‫وغريها تشري اىل ان االسالمية مؤسسة على العقل واحلكمة والعلم‪ .‬فمن شأهنا ان يقبلها كل‬
‫عقل سليم ال كسائر األديان املبنية على التقليد والتعصب‪ .‬ففي هذه االشارة بشارة كما‬
‫ذكرت يف موضع آخر‪.‬‬

‫والثالثة‪:‬‬

‫اإلعراض عنهم وعدم االهتمام هبم‪ ،‬اذ النصيحة ال جتديهم‪ ،‬اذ اليعلمون جهلَهم حىت‬
‫يتحروا زوالَه‪.‬‬
‫ّ‬
‫***‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪146 :‬‬

‫ياطينِ ِه ْم قَالُوا اِنَّا َمع ُك ْم َْ‬


‫واِ َذا لَ ُقوا الَّ ِذين آمنُوا قالُوا امنَّا واِ َذا خلَوا اِ َىل َش ِ‬
‫َ َ َْ‬ ‫َ َ‬
‫ُّه ْم ِيف طُ ْغياهنِِ ْم يَـ ْع َم ُهون ‪19‬‬ ‫اَِّمنَا ْحنن مستَـه ِزُؤ َن ‪ 10‬اَهلل يستَـه ِز ُ ِِ‬
‫ئ هب ْم َوميَُد ُ‬ ‫َْ ْ‬ ‫ُُْ ْ‬
‫اعلم! ان وجه نظم مآل هذه اآلية مبآل سابقتها‪ :‬عطف اجلناية الرابعة‪ ،‬أعين االستهزاء‬
‫واالستخفاف على اجلنايات السابقة من التسفيه واالفساد والفساد‪.‬‬

‫ٍ‬
‫استناد عن اآلالم ونقطة‬ ‫وان وجه النظم بني مجلها هو انه‪ :‬كما ان لالميان الذي هو نقطة‬
‫استمداد لآلمال ثالث خواص حقيقية‪:‬‬

‫التنزل للتذلّل‪.‬‬
‫إحداها‪ :‬عزة النفس الناشئة من "نقطة االستناد"‪ ،‬ومن شأن عزة النفس عدم ّ‬
‫والثانية‪ :‬الشفقة اليت من شأهنا عدم التذليل والتحقري‪.‬‬

‫والثالثة‪ :‬احرتام احلقائق ومعرفة قيمتها‪ ،‬ألن صاحب غايل القيمة ذو حقيقة‪ ،‬وعنده اجلوهر‬
‫اضداد‬
‫ُ‬ ‫الفريد‪ ،‬وعدم االستخفاف باحلقيقة ألنه أيضاً رزين؛ كذلك لضد االميان‪ ،‬أعين النفاق‬
‫خو ِ‬
‫اصه الثالث‪ ،‬فخواص النفاق الناشئة منه‪ :‬ذلة النفس‪ ،‬وميل ا ِإلفساد‪ ،‬والغرور بتحقري‬
‫الغري‪.‬‬

‫التذلل‪ ،‬وهو الرياءَ وهو املداهنةَ‬


‫َ‬ ‫اذا عرفت هذا‪ ،‬فاعلم! ان النفاق يولِّد ذلةَ النفس وهي تنتج‬
‫الكذب‪ .‬فأشار اليه بقوله‪ :‬واذا لقوا الذين امنوا قالوا آمنا‪..‬‬
‫َ‬ ‫وهي‬

‫الروح أي عدم الصاحب واحلامي واملالك‬


‫مث ملا كان النفاق مفسداً للقلب وفساده ينتج يـُْت َم ِ‬
‫فيتولد اخلوف وهو يلجؤه اىل التسرت‪ ،‬اشار اليه بلفظ واذا خلوا‪..‬‬

‫االفساد وهو الفتنةَ وهي‬


‫َ‬ ‫مث ملا كان النفاق قاطعا للرحم وقطعُه يزيل الشفقة‪ ،‬وزواهلا ينتج‬
‫الضعف وهو يضطره اىل االلتجاء اىل ظهري ومستند‪ ،‬أشار اليه بلفظ اىل‬‫َ‬ ‫اخليانةَ وهي‬
‫(شياطينهم)‪..‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪147 :‬‬

‫مث ملا كان النفاق جهال تردديا انتج تذبذب الطبيعة وهو عدم الثبات وهو عدم املسلك وهو‬
‫عدم األمنية هبم وهو جيربهم على جتديد عهدهم‪ ،‬أشار اىل هذه السلسلة بلفظ (قالوا إنّا‬
‫معكم)‪..‬‬

‫ورخصوا غايل القيمة لعدم قيمتهم‪،‬‬‫مث ملا احتاجوا اىل االعتذار استخ ّفوا باحلقيقة خلفتهم‪ّ ،‬‬
‫وأهانوا بالعايل هلون نفسهم وضعفها الذي ينشأ منه الغرور فقال‪( :‬قالوا امنا حنن‬
‫مستهزؤن)‪..‬‬

‫مث بينما كان السامع منتظراً من انصباب الكالم مقابلةَ املؤمنني هلم رأى ان هللا قابلهم بدالً‬
‫عن املؤمنني اشارة اىل تشريفهم‪ ،‬ورمزاً اىل ان استهزاءهم يف مقابلة جزاء هللا تعاىل كالعدم‪،‬‬
‫وامياءً اىل محقهم وزجرهم وردهم؛ اذ كيف يُستَـ ْهزأُ مبن كان هللا حاميه؟ فقال تعاىل‪( :‬هللا‬
‫يستهزئ هبم) أي يعاقبهم على استهزائهم أشد جزاء بصورة استخفاف وهتك ٍم هبم يف الدنيا‬ ‫ُ‬
‫التجددي‪ ..‬ومجلة (وميدهم يف طغياهنم يعمهون) كشف وتفصيل‬
‫ّ‬ ‫واآلخرة مع االستمرار‬
‫وتصوير جلزاء استهزائهم بطرز االستهزاء‪.‬‬

‫أما وجه نظم هيئات كل مجلة مجلة‪:‬‬

‫فاعلم! ان مجلة (اذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) اليت سيقت يف مداهنتهم؛ قطعية (اذا) فيها‬
‫امياءٌ اىل اجلزم والتعمد والقصد‪ ،‬أي عزموا بعمد وقصد مالقاهتم‪ ..‬ولفظ (لقوا) امياء اىل اهنم‬
‫تعمدوا مصادفتهم يف الطرق بني ظهراين الناس‪ ..‬ولفظ (الذين امنوا) بدل "املؤمنني" اشارة‬
‫اىل مباشرهتم معهم ومتاسهم هبم‪ ،‬واىل ان ارتباطهم معهم بصفة االميان‪ ،‬واىل ان مدار النظر‬
‫بني أوصاف املؤمنني صفة االميان فقط‪ ..‬ولفظ (قالوا) تلويح اىل اهنم يقولون بأفواههم‬
‫ماليس يف قلوهبم‪ ،‬وان قوهلم للتصنع والرياء واملداهنة ودفع التهمة واحلرص على جلب منافع‬
‫املؤمنني واالطالع على أسرارهم‪ ..‬ولفظ (آمنا) بال تأكيد مع اقتضاء املقام اياه‪ ،‬وبايراده‬
‫مجلة فعلية‪ ،‬اشارة اىل ان ليس يف قلوهبم مشوق وعشق حمرك ليتشددوا ويتجلدوا يف‬
‫كالمهم‪ ..‬وأيضاً ان يف ترك التأكيد امياء اىل تشددهم يف دفع التهمة عنهم‪ ،‬كأهنم يقولون‪:‬‬
‫انكاركم ليس يف موقعه بل يف منزلة العدم‪ ،‬اذ لسنا أهالً‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪149 :‬‬

‫للتهمة‪ ..‬وأيضاً فيه رمز اىل ان التأكيد اليروج عنهم‪ ..‬وأيضا فيه ملح اىل ان هذا احلجاب‬
‫الرقيق الضعيف على الكذب اذا شدد متزق‪ ..‬وأيضا يف فعليته اشارة اىل انه الميكن هلم ان‬
‫يدعوا الثبات والدوام‪ ،‬وامنا غرضهم من هذا التصنع االشرتاك يف منافع املؤمنني واالطالع‬
‫على اسرارهم بادعاء حدوث االميان‪.‬‬

‫وأما مجلة (واذا خلوا اىل شياطينهم قالوا انا معكم) فـ "الواو" اجلامعة يف (واذا) امياء اىل ان‬
‫هذا الكالم سيق لبيان ان المسلك هلم‪ ،‬ولبيان تذبذهبم املفصل هباتني الشرطيتني‪ ..‬واجلزمية‬
‫يف (اذا) رمز اىل اهنم حبكم الفساد واالفساد يرون االلتجاء وظيفةً ضرورية‪ ..‬ولفظ (خلوا)‬
‫اشارة اىل اهنم حبكم اخليانة يتخوفون‪ ،‬وحبكم اخلوف يتسرتون‪ ..‬ولفظ (اىل) بدل "مع"‬
‫املناسب لِـ"خلوا" اشارة اىل اهنم حبكم العجز والضعف يلتجئون‪ ،‬وحبكم الفتنة واالفساد‬
‫يوصلون اسرار املؤمنني اىل الكافرين‪ ..‬ولفظ "الشياطني" اشارة اىل ان رؤساءهم كالشياطني‬
‫متسرتون موسوسون‪ ،‬واىل اهنم كالشياطني يضرون‪ ،‬واىل اهنم على مذهب الشياطني‬
‫اليتصورون االّ الشر‪.‬‬

‫وأما مجلة (قالوا إنّا معكم) املسوقة لتربئة ذمتهم وجتديد عهدهم وثباهتم يف مسلكهم‪ ،‬فاعلم!‬
‫انه أكد مع غري املنِكر هنا‪ ،‬وترك التأكيد مع املنِكر هناك ‪ 1‬اشارًة وداللةً على عدم الشوق‬
‫احملرك يف قلب املتكلم هناك ووجوده هنا‪ .‬أما امسية هذا وفعلية ذاك‪ ،‬فألن املقصود اثبات‬
‫الثبوت والدوام يف ذا‪ ،‬واحلدوث يف ذلك‪.‬‬

‫أما (امنا حنن مستهزؤن) فاعلم! انه مل يعطف‪ ،‬اذ الوصل امنا هو بالتوسط بني كمال‬
‫بدل جبهة وتأكيد جبهة ومها من كمال‬‫االتصال وكمال االنقطاع‪ .‬مع ان هذه اجلملة ٌ‬
‫اب سؤ ٍال مقدَّر جبهة أخرى‪ ،‬وهو من كمال االنقطاع خلربية اجلواب وانشائية‬ ‫االتصال‪ ،‬وجو ُ‬
‫السؤال يف األغلب‪ ..‬أما وجه التأكيد ويقرب منه البدل فهو‪ :‬ان مآهلا اهانة احلق وأهله‬
‫فيكون تعظيما للباطل وأهله وهو مآل (إنّا معكم)‪ ..‬وأما وجه اجلوابية للسؤال املقدر فكأن‬
‫شياطينهم يقولون هلم‪" :‬ان كنتم معنا ويف مسلكنا فما بالكم توافقون املؤمنني؟ فإما انتم يف‬
‫مذهبهم او المذهب لكم" فاعت َذروا جميبني بـ (إمنا حنن مستهزؤن) فصرحوا باهنم ليسوا من‬
‫االسالم يف شئ‪ ،‬وأشاروا‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬اى يف اآلية‪( :‬قالوا آمنا) بال تأكيد‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪141 :‬‬


‫حبصر (امنا) اىل اهنم ليسوا مذبذبني بال مذهب معلوم‪ ،‬وبامسية (مستهزؤن) اىل ان االستهزاء‬
‫شأهنم وصفتهم‪ .‬ففعلهم هذا ليس باجلد‪.‬‬

‫وأما مجلة (هللا يستهزئ هبم) فاعلم! اهنا مل توصل بسوابقها بل فصلت فصال؛ ألهنا لو‬
‫عطفت فإما على (منا حنن مستهزؤن) وهو يقتضي ان تكون هذه أيضاً تأكيداً لـ (انا‬
‫معكم)‪ ..‬وإما على (قالوا) وهو يقتضي ان تكون هذه أيضاً مقوال هلم‪ ..‬وإما على (قالوا)‬
‫وهو يقتضي ان تكون هذه أيضاً مقيدة بوقت اخللوة مع ان استهزاء هللا بالدوام‪ ..‬وإما على‬
‫(اذا خلوا) وهو يقتضي ان تكون هذه من تتمة صفة تذبذهبم‪ ..‬وإما على (اذا لقوا) وهو‬
‫يستلزم ان يكون الغرض منهما واحداً ًَ‪ .‬مع ان األول لبيان العمل‪ ،‬والثاين للجزاء‪ ،‬واللوازم‬
‫باطلة‪ ،‬فالوصل اليصح‪ .‬فلم يبق اال ان تكون مستأنفة جواباً لسؤال مق ّدر‪ .‬مث ان يف هذا‬
‫االستيناف امياءً ورمزاً اىل ان شناعتهم وخباثتهم بلغت درجة جترب روح كل سام ٍع ور ٍاء ان‬
‫يسأل بـ"كيف جزاء َمن هذا عمله؟"‪.‬‬

‫مث ان االفتتاح بلفظة (هللا) مع ان ذهن السامع كان منتظراً لتلقي مقابلة املؤمنني معهم‪،‬‬
‫اشارة اىل تشريف املؤمنني وترمحه عليهم‪ ،‬اذ قد قابل بدال عنهم‪ ..‬وأيضاً رمز اىل زجرهم؛ اذ‬
‫اليُستهزأ مبن استناده بعالّم الغيوب‪ ..‬وأيضاً امياء باالقتطاع وعدم النظر اىل تقرر استهزائهم‬
‫اىل ان استهزاءهم كالعدم بالنظر اىل جزائه‪ ..‬مث ان التعبري عن نكايات هللا تعاىل معهم‬
‫باالستهزاء ‪ -‬الذي اليليق بشأنه تعاىل ‪ -‬للمشاكلة يف الصحبة‪ ،‬وللرمز اىل ان النكاية جزاء‬
‫لالستهزاء ونتيجة والزمة له‪ ،‬مع أن املراد الزم االستهزاء‪ ،‬أعين التحقري‪ ..‬وأيضاً امياء اىل ان‬
‫استهزاءهم الذي ال يفيد بل يضر عني استهزاء هللا تعاىل معهم؛ كمن يظن انه يستهزئ بك‬
‫مع انك تراه كاجملنون تريد ان يتكلم ولو بشتمك لتضحك منه‪ ،‬فاستهزاؤه بعض استهزائك‪.‬‬

‫مث يف (يستهزئ) مضارعا مع ان السابق (مستهزؤن) اسم فاعل اشارة اىل ان نكايات هللا‬
‫يقل تأثريه بل‬
‫تعاىل وحتقرياته تتجدد عليهم ليحسوا باألمل ويتأثروا به؛ اذ ما استمر على نسق ّ‬
‫قد يعدم‪ .‬ولذا قيل شرط االحساس االختالف‪.‬‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪114 :‬‬

‫أما (وميدهم يف طغياهنم يعمهون) أي توسلوا بأسباب الضاللة وطلبوها فأعطاهم هللا تعاىل‪..‬‬
‫رد اجلرب‪ ،‬أي‬
‫تضمن "ميد" لالستمداد امياء اىل ّ‬
‫ففي لفظ "ميد" رمز اىل رد اإلعتزال‪ ،‬ويف ّ‬
‫اختاروا بسوء اختيارهم واستمدوا‪ ،‬فأم ّدهم هللا تعاىل وأرخى عناهنم‪ ..‬ويف اضافة الطغيان اىل‬
‫"هم" أي ان هلم فيه اختياراً رمز اىل رد عذرهم باجملبورية‪ ..‬ويف الطغيان اشارة اىل ان ضررهم‬
‫متعد استغرق احملاسن كالسيل وهدم أساس الكماالت فلم يبق االّ غثاء أحوى‪ .‬و( يعمهون)‬
‫أي‪ :‬يتحريون ويرتددون‪ .‬وفيه اشارة اىل انه المسلك هلم وليس هلم مقصود معني‪.‬‬

‫***‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪111 :‬‬

‫ت ِجت َارتـُ ُه ْم‬ ‫اُولَئِ َّ ِ‬


‫الضالَلَةَ بِا ْهلَُدى فَما َرِحبَ ْ‬
‫ين ا ْشتَـَرُوا َّ‬
‫ك الذ َ‬ ‫َ‬

‫ين ‪16‬‬ ‫ِ‬


‫َوما كانُوا ُم ْهتَد َ‬
‫اعلم! ان وجه نظمها بسابقتها هو‪:‬‬

‫ان هذه اآلية فذلكة وامجال للتفاصيل السابقة‪ ،‬وتصوير هلا بصورة عالية مؤثرة‪ .‬وختصيص‬
‫ومرها‬
‫اسلوب التجارة للتمثيل‪ ،‬ألجل ان املخاطبني يف الصف األول قد ذاقوا حلو التجارة ّ‬
‫برحليت الصيف والشتاء‪.‬‬

‫ووجه املناسبة هو أن نوع البشر اُرسل اىل الدنيا ال للتوطن فيها‪ ،‬بل ليتّجروا يف رأس ماهلم‬
‫من االستعدادات والقابليات ليزرعوا مث يتصرفوا يف غالّهتا‪.‬‬

‫مث ان وجه النظم بني مجل هذه اآلية هو‪:‬‬


‫اهنا ترتبت ترتبا فطريّاً سلساً على نسق اسلوب التمثيل وهو هذا‪ :‬ان تاجراً مغبونا خمذوالً‬
‫مال ٍ‬
‫غال فاشرتى به السموم وما يضره‪ ،‬فتصرف فيه‪ ،‬فلم يربح ومل يفد؛ بل‬ ‫أعطي له رأس ٍ‬
‫ُ‬
‫ألقاه يف خسارة على خسارة‪ ،‬فأضاع رأس ماله‪ ،‬مث أضل الطريق؛ حبيث ال يستطيع ان‬
‫يرجع‪.‬‬

‫أما نظم هيئات مجلة مجلة‪:‬‬

‫فلفظ (اولئك) موضوع الحضار احملسوس البعيد‪ :‬أما اإلحضار فإشارة اىل أن من شأن كل‬
‫سامع اذا مسع تلك اجلنايات املذكورة ان حيصل شيئاً فشيئاً يف قلبه نفرة وغيظ يتشدد تدرجياً‬
‫حبيث يريد ان يراهم ليتش ّفى الغيظ منهم‪ ،‬ويقابلهم بالنفرة والتحقري‪ ..‬وأما احملسوسية فرمز‬
‫جيسمهم يف الذهن حىت صاروا حمسوسني نصب‬ ‫اىل أن االتصاف هبذه االوصاف العجيبة ّ‬
‫اخليال‪ .‬ومن احملسوسية رمز اىل علة احلكم بسر إجنرار املعصية اىل املعصية‪ ..‬وأما البُعدية‬
‫فاشارة اىل شدة بُعدهم عن الطريق احلق‪ ،‬ذهبوا اىل حيث اليرجعون‪ ،‬فالذهاب يف أيديهم‬
‫دون اإلياب‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪112 :‬‬

‫َّث وطَِف َق ان يصري‬


‫ولفظ (الذين) إشارة اىل ان هذا نوع من التجارة عجيب خبيث حتد َ‬
‫أساساً ومسلكا مير عليه ناس؛ اذ قد مر ان املوصول اشارة اىل احلقائق اجلديدة اليت اخذت‬
‫يف االنعقاد‪.‬‬

‫ولفظ (اشرتوا) اشارة اىل رد اعتذارهم بـ "ان فطرتنا هكذا"‪ .‬فكأن القرآن الكرمي يقول هلم‪:‬‬
‫مال‪ ،‬وأودع يف روحكم استعداد الكمال‪ ،‬وغرس‬ ‫ال!‪ .‬ولقد أعطاكم هللا أنفاس العمر رأس ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫يف وجدانكم نواة احلقيقة وهي اهلداية الفطرية لتشرتوا السعادة فاشرتيتم بدهلا ‪ -‬بل برتكها ‪-‬‬
‫اللذائذ العاجلة واملنافع الدنيوية فاخرتمت بسوء اختياركم مسلك الضاللة على منهج اهلداية‪،‬‬
‫فافسدمت اهلداية الفطرية‪ ،‬وضيعتم رأس مالكم‪.‬‬
‫ولفظ (الضاللة باهلدى) فيه اشارة اىل اهنم خسروا خسارة على خسارة‪ .‬اذ كما خسروا‬
‫بالضاللة؛ كذلك خسروا برتك النعمة العظيمة اليت هي اهلداية‪.‬‬

‫أما مجلة (فما رحبت جتارهتم) فاعلم! ان يف ختصيص نفي الربح ‪ -‬مع اهنم كما قد خسروا‬
‫فقد أضاعوا رأس املال أيضاً ‪ -‬اشارة اىل من شأن العاقل ان اليقدم على جتارة الربح فيها‪،‬‬
‫فضالً عما فيها خسارة واضاعة رأس املال‪ ..‬مث يف اسناد الفعل اىل التجارة مع ان األصل‬
‫"فما رحبوا يف جتارهتم" اشارة اىل ان جتارهتم هذه جبميع أجزائها وكل أحواهلا وقاطبة وسائطها‬
‫ال فائدة فيها ال جزئياً وال كليا؛ ال كبعض التجارات اليت اليكون يف حمصلها وفذلكتها ربح‪،‬‬
‫فشر حمض وضرر حبت‪.‬‬ ‫ولكن يف أجزائها فوائد‪ ،‬ولوسائط خدمتها استفادات‪ ..‬أما هذه ّ‬
‫"نام لَْيـلُهُ"بدل "نام يف الليل"؛ اذ األول يفيد ان ليله أيضا ساكن وساكت‬
‫ونظري هذا االسناد َ‬
‫ميوجه طارق‪.‬‬ ‫كالنائم ال ِّ‬
‫حيرك ليلته شئ وال ِّ‬

‫وأما مجلة (وما كانوا مهتدين) أي كما خسروا وأضاعوا املال؛ كذلك قد اضلوا الطريق‪،‬‬
‫خفي اىل "هدى للمتقني" يف‬
‫فرتشيح وتزيني كسابقتها ألسلوب "اشرتوا"‪ ..‬وأيضاً فيها رمز ّ‬
‫رأس السورة‪ .‬كأنه يقول‪ :‬اعطى القرآن الكرمي اهلداية فما قبل هؤالء‪.‬‬

‫***‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪111 :‬‬


‫ِ‬
‫ت َما َح ْولَهُ‬
‫ضاءَ ْ‬ ‫َمثَـلُ ُه ْم َك َمثَ ِل الَّذي ْ‬
‫استَـ ْوقَ َد نَاراً فَـلَ َّما اَ َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ْم عُ ْم ٌي‬ ‫ب هللا بِنُوِره ْم َوتَـَرَك ُه ْم ِيف ظُلُمات اليـُْبص ُرون ‪ُ 17‬‬
‫ص ٌّم بُك ٌ‬ ‫َذ َه َ‬
‫صابِ َع ُه ْم ِيف‬ ‫ب ِمن َّ ِ ِ ِ‬ ‫فَـ ُه ْم ال يَـ ْرِجعُو َن ‪ 19‬اَْو َك َ ِ ٍ‬
‫مات َوَر ْع ٌد َوبَـ ْر ٌق َْجي َعلُو َن اَ َ‬
‫السماء فيه ظُلُ ٌ‬ ‫صيّ َ‬
‫وت وهللا ُِحمي ٌ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ا َذاهنِِ ْم ِمن َّ ِ ِ‬
‫ين ‪11‬‬ ‫ط بالْ َكاف ِر َ‬ ‫الص َواعق َح َذ َر الْ َم َ‬ ‫َ‬
‫ضاءَ َهلُ ْم َم َش ْوا فِ ِيه َواِ َذا اَظْلَ َم َعلَْي ِه ْم‬
‫ص َارُه ْم ُكلَّما اَ َ‬
‫ف اَبْ َ‬
‫اد الْبَـ ْر ُق َخيْطَ ُ‬
‫يَ َك ُ‬
‫صا ِرِه ْم اِ َّن هللا‬ ‫ِ‬
‫ب بِ َس ْمع ِه ْم َواَبْ َ‬
‫قَ ُاموا َولَ ْو َشاءَ هللا لَ َذ َه َ‬
‫دير ‪24‬‬ ‫على ُك ِل ٍ‬
‫شيء قَ ٌ‬
‫َ ّ ْ‬
‫إعلم! ان أساس اعجاز القرآن الكرمي يف بالغة نظمه‪ .‬وبالغة النظم على قسمني‪:‬‬

‫قسم كاحللية وقسم كاحللّة‪:‬‬

‫توخي‬
‫فاألول‪ :‬كالآللئ املنثورة والزينة املنشورة والنقش املرصع‪ .‬ومعدنه الذي يتحصل منه هو ّ‬
‫املعاين النحوية احلرفية فيما بني الكلم‪ ،‬كإذابة الذهب بني أحجار فضة‪ .‬ومثرات هذا النوع‬
‫هي اللطائف اليت تعهد بياهنا فن املعاين‪..‬‬

‫والقسم الثاين‪ :‬هو كلباس عال وحلة فاخرة ق ّدت من اسلوب على مقدار قامات املعاين‪،‬‬
‫وخيطت من قطعات خيطاً منتظماً فيلبس على قامة املعىن أو القصة أو الغرض دفعة‪.‬‬
‫وصناع هذا القسم واملتكفل به فن البيان‪ ..‬ومن أهم مسائل هذا القسم التمثيل‪ .‬ولقد أكثر‬
‫القرآن الكرمي من التمثيالت اىل ان بلغت األلف؛ ألن يف التمثيل سراً لطيفاً وحكمة عالية؛‬
‫اذ به يصري الوهم مغلوباً للعقل‪ ،‬واخليال جمبوراً لالنقياد للفكر‪ ،‬وبه يتحول الغائب حاضراً‪،‬‬
‫واملعقول حمسوساً‪ ،‬واملعىن جمسماً‪ ،‬وبه جيعل املتفرق جمموعاً‪ ،‬واملختلط ممتزجا‪ ،‬واملختلف‬
‫متحداً‪ ،‬واملنقطع متصال‪ ،‬واألعزل مسلّحا‪ .‬وان شئت التفصيل فاستمع معي ملا يرتمن به‬
‫صاحب دالئل االعجاز يف أسرار بالغته ‪1‬؛ حيث قال‪:‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬اسرار البالغة لعبد القاهر اجلرجاىن (املتويف ‪071‬هـ)‪ .‬طبع عدة طبعات منها يف مطبعة‬
‫االستقامة سنة ‪ 1109‬مبصر وكتب حواشيه االستاذ امحد مصطفى املراغي‪ ،‬والفصل املذكور‬
‫هو يف ص‪ 129‬من الطبعة املذكورة‪.‬‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪110 :‬‬

‫فصل يف مواقع التمثيل وتأثريه‬

‫اعلم! ان مما اتفق العقالء عليه‪ :‬ان التمثيل اذا جاء يف أعقاب املعاين أو برزت هي باختصار‬
‫يف معرضه‪ ،‬ونقلت عن صورها األصلية اىل صورته‪،‬كساها اهبةً‪ ،‬وكسبها منقبةً‪ ،‬ورفع من‬
‫أقدارها‪ ،‬وشب من نارها‪ ،‬وضاعف قواها يف حتريك النفوس هلا‪ ،‬ودعا القلوب اليها‪ ،‬واستثار‬
‫هلا من أقاصي األفئدة صبابة وكلفاً‪ ،‬وقسر الطباع على أن تعطيها حمبة وشغفاً‪.‬‬

‫ع لإللف‪،‬‬ ‫فان كان مدحاً كان أهبى وأفخم‪ ،‬وأنبل يف النفوس وأعظم‪ ،‬و َّ ِ‬
‫أهز للعطْف‪ ،‬وأسر َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بغر املواهب‬
‫ب شفاعة للمادح‪ ،‬واقضى له ّ‬
‫أوج َ‬
‫أغلب على املمتدح‪ ،‬و َ‬
‫أجلب للفرح‪ ،‬و َ‬
‫و َ‬
‫أجدر‪.‬‬
‫اذكر‪ ،‬وأوىل بان تعلقه القلوب و َ‬
‫أسري على األلسن و َ‬
‫واملنائح‪ ،‬و َ‬
‫وإن كان ذماَْ كان م ُّسه أوجع‪ِ ،‬‬
‫وميسمه أل َذع‪ ،‬ووقعه أشدَّ‪ ،‬وحدُّه احدَّ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫اقهر‪ ،‬وبيانه اهبَر‪.‬‬
‫انور‪ ،‬وسلطانه َ‬
‫وإن كان حجاجاً كان برهانه َ‬
‫ابعد‪ ،‬وشرفه اجدَّ‪ ،‬ولسانه ألدَّ‪.‬‬
‫وإن كان افتخاراً كان شأوه َ‬

‫اسل‪ ،‬ولغرب الغضب‬‫أخلب‪ ،‬وللسخائم ّ‬‫اقرب‪ ،‬وللقلوب َ‬ ‫وإن كان اعتذاراً كان اىل القلوب َ‬
‫أبعث‪ .‬وإن كان وعظاً كان أشفى للصدر‪،‬‬ ‫انفث‪ ،‬وعلى حسن الرجوع َ‬ ‫افل‪ ،‬ويف عُ َقد العقود َ‬
‫َّ‬
‫وادعى اىل الفكر‪ ،‬وأبلغ يف التنبيه والزجر‪ ،‬وأجدر بأن َْجيلي الغياية (‪ ، )1‬ويبصر الغاية‪،‬‬
‫ويربئ العليل‪ ،‬ويشفي الغليل‪ ...‬وهكذا احلكم اذا استقريت فنون القول وضروبه‪ ،‬وتتبعت‬
‫أبوابه وشعوبه‪( .‬انتهى)‪..‬‬

‫مث ان يف اآليات اآلتية دالئل اعجاز واسرار بالغة فذكرناها هنا ملناسبتها ملسائل املقدمة‬
‫اآلتية‪.‬‬

‫فمثال التمثيل يف مقام املدح ما ذكره القرآن الكرمي يف وصف الصحابة من‪:‬‬
‫(‪ )1‬الغياية‪ :‬ضوء شعاع الشمس‪ ،‬قعر البئر‪ ،‬وكل ما أظل اإلنسان كالسحابة والغربة‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪119 :‬‬


‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اع)(‪)1‬‬
‫الزَّر َ‬
‫ب ُّ‬‫ظ فَاستَوى َعلى ُسوقه يـُ ْعج ُ‬ ‫له ْم ِيف االْ ْجن ِيل َكَزْرٍع اَ ْخَر َج َشطْئَهُ فَ َازَرهُ فَ ْ‬
‫استَـ ْغلَ َ‬ ‫(وَمثَ ُ‬
‫َ‬
‫وقس نظائره‪..‬‬

‫ويف مقام الذم‪:‬‬

‫(مثَل الذين ُمحّلوا التورية‬ ‫ث)(‪ )2‬و َ‬ ‫ب ان َْحت ِمل َعلَيه يَـ ْل َه ْ‬
‫ث أو تَـ ْرتْكه يَـ ْل َه ْ‬ ‫(فَمثَـلُهُ َكمثَ ِل الْ َك ْل ِ‬
‫َ َ‬
‫مث مل حيملوها َك َمثَ ِل احلِما ِر َْحي ِم ُل أسفاراً)(‪ )1‬و (اِنَّا َج َع ْلنَا يف اَ ْعنَاقِ ِه ْم اَ ْغالَالً فَ ِه َي اِ َىل‬
‫ان فَـ ُه ْم ُم ْق َم ُحو َن)(‪ )0‬وقس‪.‬‬ ‫االْ ْذقَ ِ‬

‫ويف مقام االحتجاج واالستدالل‪:‬‬

‫ومثَ ُل‬ ‫ِ‬ ‫(مثَلهم كمثل الذي استَوقَ َد ناراً) و (او َكصيِ ٍ ِ‬
‫مات اىل آخره و َ‬ ‫ب من السماء فيه ظُلُ ٌ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫الذين كفروا َك َم ِثل الذي يَـْنعِق مبا ال يسمع االّ دعاءً ونداءً)(‪ )9‬و (مثل الذين اختذوا ِمن‬
‫فسالت أوديةٌ‬ ‫ِ‬ ‫دون هللا اولياءَ ِ‬
‫ْ‬ ‫اختذت بيتاً)(‪ )6‬و (أنزل من السماء ماءً‬
‫ْ‬ ‫العنكبوت‬ ‫كمثل‬
‫حلية أو متاع َزبَ ٌد ِمثْـلُه)(‪)7‬‬
‫ب َق َدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه يف النار ابتغاء ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ورجالً َسلَما لَر ُج ٍل هل يستويان مثال)(‪)9‬‬ ‫ِ‬
‫ب هللا مثالً رجالً فيه شركاءُ ُمتَشاكسون ُ‬ ‫(ضَر َ‬
‫و َ‬
‫وقس عليه‪.‬‬

‫يسم افتخاراً ‪ -‬بيان عظمته تعاىل وكماالته اإلهلية قوله تعاىل‪:‬‬ ‫ونظري مثال االفتخار ‪ -‬وان مل ّ‬
‫ات بِيَ ِمينِ ِه‬
‫ات مطويّ ٌ‬
‫ِ‬
‫يوم القيامة والسمو ُ‬
‫ضتُه َ‬ ‫(وما قَ َد ُروا هللا َح َّق قَ ْد ِره واأل ُ‬
‫رض َمجيعاً قَـْب َ‬
‫سبحانه وتعاىل عما يشركون)(‪ )1‬وقس عليه‪.‬‬

‫ومثال التمثيل يف مقام االعتذار اليوجد اال حكايات أهل األعذار الباطلة لالحتجاج عليهم‬
‫كقوله‪:‬‬

‫اب)(‪ )14‬وقس‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫(وقالوا قُـلُوبُنا يف اكنّة مما تدعونا اليه ويف اذاننا َوقْـٌر وم ْن بَيننا وبينك ح َج ٌ‬
‫ومن الشعر‪:‬‬

‫ص َمذبُوحاً ِم َن االْ َِمل‬ ‫ِ‬


‫الحت َسبُوا اَ َّن َرقْصي بْيـنَ ُك ْم طََر ٌ‬
‫ب فَالطّْيـ ُر يَـ ْرقُ ُ‬ ‫َْ‬

‫(‪ )1‬سورة الفتح‪.21 :‬‬

‫(‪ )2‬سورة االعراف‪.176 :‬‬

‫(‪ )1‬سورة اجلمعة‪.9 :‬‬

‫(‪ )0‬سورة يس‪.9 :‬‬

‫(‪ )9‬سورة البقرة‪.171 :‬‬

‫(‪ )6‬سورة العنكبوت‪.01 :‬‬

‫(‪ )7‬سورة الرعد‪.17 :‬‬

‫(‪ )9‬سورة الزمر‪.21 :‬‬

‫(‪ )1‬سورة الزمر‪.67 :‬‬

‫(‪ )14‬سورة فصلت‪.9 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪116 :‬‬

‫ومثاله من الوعظ يف وصف نعيم الدنيا ما ذكره القرآن الكرمي من‪:‬‬

‫فراً مث يكون ُحطاماً)(‪ )1‬و (أَ َمل تَـَر ان‬ ‫(كمثل َغي ٍ‬
‫صّ‬ ‫هيج فرتيــه ُم ْ‬
‫ب الكفار نـَبَاتُه مث يَ ُ‬
‫أع َج َ‬
‫ث ْ‬ ‫ْ‬
‫ِج ِبه َزْرعا ُخمتلفاً ألوانُه)(‪ )2‬و (اِنّا‬
‫األرض مث ُخير ُ‬‫ِ‬ ‫ينابيع يف‬ ‫ِ‬
‫انزل من السماء ماءً فَ َسلكه َ‬
‫هللا ِ‬
‫َ‬
‫أشفقن ِمنها َ‬ ‫ِ‬ ‫األرض و ِ‬
‫ات و ِ‬ ‫ضنا األمانةَ على السمو ِ‬
‫ومحَلَها‬ ‫ني أ ْن َْحيم ْلنَها و َ‬ ‫اجلبال فأَبَـ ْ َ‬ ‫َعَر ْ‬
‫ص ِّدعاً‬ ‫ِ‬
‫ا ِإلنسا ُن إِنه كا َن ظَلُوماً َج ُهوالً)(‪ )1‬و (لو أنزلْنا هذا القرآ َن على َجبَ ٍل لرأيتَهُ خاشعاً ُمتَ َ‬
‫للناس لَ َعلَّ ُهم يَـتَـ َف َّكرو َن)(‪ )0‬و (فَما َهلُ ْم َعن التَذْكِ ِرةِ‬
‫ض ِرُهبا ِ‬ ‫االمثال نَ ْ‬
‫ُ‬ ‫ِمن َخ ْشيَ ِة هللا وتِ َ‬
‫لك‬
‫َ‬
‫ت ِمن قَ ْس َورة)(‪ )9‬و (مثل الذين يُ ِنفقو َن أَموا َهلُ ْم يف‬ ‫ِ‬
‫ني _ َكأهنُم َمحٌُر ُمستَـْنفرةٌ _ فَـَّر ْ‬ ‫ِ‬
‫ُم ْع ِرض َ‬
‫كل ُسْنبلة مائةُ َحبَّة)(‪ )6‬و (كمثل َجنَّة بَِربْوة‬ ‫ٍ‬
‫سنابل يف ِّ‬‫َ‬ ‫ت َسْب َع‬ ‫سبيل هللا َك َم ِثل َحبة اَنْـبَتَ ْ‬
‫اَصاهبا وابل)(‪.. )7‬‬

‫ويف احباط العمل الصاحل بااليذاء والرياء‪:‬‬

‫ِ‬ ‫(أَيـوُّد أَح ُد ُكم أن تكون له جنةٌ ِمن َخن ٍيل وأ َْع ٍ‬
‫األهنار له فيها من ِّ‬
‫كل‬ ‫ُ‬ ‫ناب جتري من حتتها‬ ‫ََ َ‬
‫الذين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫و(مثل َ‬
‫ُ‬ ‫ت)(‪)9‬‬ ‫فاحتَـَرقَ ْ‬
‫نار ْ‬ ‫إعصار فيه ٌ‬
‫ٌ‬ ‫فأصاهبا‬
‫َ‬ ‫ض َعفاء‬
‫الث ََّمرات وأَصابَه الكبَـ ُر وله ذُريةٌ ُ‬
‫قدرو َن ِمما َكسبوا على ٍ‬
‫شيء‬ ‫عاصف الي ِ‬
‫ٍ‬ ‫ماد اشتدت به الريح يف ٍ‬
‫يوم‬ ‫َك َفروا بِرّهبِِم اعما ُهلم َكر ٍ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫البعيد)(‪. )1‬‬
‫الضالل ُ‬ ‫ُ‬ ‫ذلك هو‬

‫ومثاله من طبقات الكالم يف مقام الوصف‪:‬‬

‫فقال هلا ولألرض ائتيا طَْوعاً أو كرهاً قَالتا أَتَـْينا‬ ‫ِ‬


‫السماء وهي دخا ٌن َ‬ ‫(مثَّ استوى اىل‬
‫ض َي األمر‬ ‫طائِعني)(‪ )14‬و (قيل يا أرض ابلَعي ماءك ويا مساء اقلعي وغيض املاء وقُ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب هللا َمثَالً كلمةً‬ ‫ضَر َ‬
‫كيف َ‬ ‫وقيل بُعداً للقوم الظالمني)(‪ )11‬و (اَ َملْ تَـَر َ‬
‫ودي َ‬‫وت على اجلُ ّ‬ ‫واست ْ‬
‫ذن َرِّهبا)(‪)12‬‬ ‫ني بِإ ِ‬ ‫كل ِح ٍ‬ ‫ٍ‬
‫طَيِّبَةً َك َش َجرةٍ طَيِّبَة اصلُها ٌ‬
‫ثابت وفرعُها يف السماء _ تُؤيت أُ ُكلَها َّ‬
‫األرض َما َهلا ِمن قَرا ٍر)(‪.. )11‬‬ ‫ِ‬ ‫َّت ِمن ِ‬
‫فوق‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ ٍ‬
‫(ومثل كلمة خبيثة كشجرةٍ خبيثة اجتُث ْ‬ ‫ُ‬ ‫و‬

‫(‪ )1‬سورة احلديد‪.24 :‬‬

‫(‪ )2‬سورة الزمر‪.21 :‬‬

‫(‪ )1‬سورة االحزاب‪.72 :‬‬

‫(‪ )0‬سورة احلشر‪.21 :‬‬

‫(‪ )9‬سورة املدثر‪.91 ،94 ،01 :‬‬


‫(‪ )6‬سورة البقرة‪.261 :‬‬

‫(‪ )7‬سورة البقرة‪.269 :‬‬

‫(‪ )9‬سورة البقرة‪.266 :‬‬

‫(‪ )1‬سورة ابراهيم‪.19 :‬‬

‫(‪ )14‬سورة فصلت‪.11 :‬‬

‫(‪ )11‬سورة هود‪.00 :‬‬

‫(‪ )12‬سورة ابراهيم‪.29 ،20 :‬‬

‫(‪ )11‬سورة ابراهيم‪.26 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪117 :‬‬

‫ومن الشعر‪:‬‬

‫والليل جتري الدراري يف جمرته كالروض تطفو على هنر ازاهريه(‪)1‬‬

‫أساليب متنوعة‪ .‬ك ٌل‬ ‫ٍ‬


‫اتب وصوراً و َ‬‫اعلم! ان يف كل آية من هذه اآليات التمثيلية طبقات ومر َ‬
‫كل منها ‪ -‬كفيل وضامن لطائفة من احلقائق‪ .‬وكما انك اذا أخذت قوارير من‬ ‫منها ‪ -‬يف ٍ‬
‫صريهتا ذوات نور(‪ )2‬بإدراج‬
‫اهر‪ ،‬مث ّ‬
‫فضة وزيّنتها بذوب الذهب‪ ،‬مث نقشتها جبو َ‬
‫اع زينة؛ كذلك يف كل من تلك اآليات من‬ ‫"الكرتيق"(‪ )1‬ترى فيها طبقات حسن وانو َ‬
‫وم ّدت رموز اىل مقامات كأن‬
‫التمثيلي قد شرعت اشارات ُ‬
‫ّ‬ ‫األصلي اىل األسلوب‬
‫ّ‬ ‫املقصد‬
‫كل لوناً وحصة حىت صارت تلك الكلمات من‬ ‫أصل املقصد تدحرج على املراتب وأخذ من ٍ‬
‫جوامع الكلمات بل من مجع اجلوامع‪.‬‬
‫فصـل ومقدمــة‬

‫اعلم! ان املتكلم كما يفيد املعىن مث يـُ ْقنِع العقل بواسطة الدليل؛ كذلك يلقي اىل الوجدان‬
‫يات بواسطة صور التمثيل فيحرك يف القلب امليل أو النفرة ويهيئُه للقبول‪ .‬فالكالم البليغ‬ ‫حس ٍ‬
‫ِ‬
‫ّ‬
‫ما استفاد منه العقل والوجدان معاً‪ ،‬فكما يتداخل اىل العقل يتقطر اىل الوجدان أيضا‪.‬‬
‫التمثيل؛ اذ هو يتضمن قياساً وينعكس به يف مرآة املمثل القانون‬ ‫ُ‬ ‫واملتكفل هلذين الوجهني‬
‫املندمج يف املمثل به‪ .‬فكأنه دعوى مدلَّل‪ .‬كما تقول يف رئيس يكابد الباليا لراحة رعيته‪:‬‬
‫وختضر من حتته األودية)‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مشاق الثلج والبَـَرد‪،‬‬
‫يتحمل ّ‬
‫(اجلبل العايل ّ‬
‫حس النفرة أو الرغبة أو امليالن أو‬
‫مث ان أساس التمثيل هو التشبيه‪ .‬ومن شأن التشبيه حتريك ّ‬
‫الكراهية أو احلرية أو اهليبة؛ فقد يكون للتعظيم أو التحقري أو الرتغيب أو التنفري أو التشويه‬
‫احلس ٍ‬
‫مبيل أو نفرة‪.‬‬ ‫أو التزيني أو التلطيف اىل آخره‪ ...‬فبصورة األسلوب يوقَظ الوجدان وينبَّه ُّ‬

‫(‪ )1‬قائله ابن النبيه املصرى يف مدح االيوبيني تويف سنة ‪611‬هـ‪.‬‬

‫(‪ )2‬ذوات انوار (ش)‪.‬‬

‫(‪ )1‬الكهرباء‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪119 :‬‬

‫تفرق املقصد وانتشاره‬


‫حيوج اىل التمثيل عمق املعىن ودقته ليتظاهر بالتمثيل‪ ،‬أو ّ‬ ‫مث ان مما ِّ‬
‫األول متشاهبات القرآن الكرمي؛ اذ هي عند أهل التحقيق نوع من التمثيالت‬ ‫لريتبط به‪ .‬ومن ّ‬
‫العالية وأساليب حلقائق حمضة ومعقوالت صرفة؛ وألن العوام اليتلقون احلقائق يف األغلب االّ‬
‫بصورة متخيلة‪ ،‬وال يفهمون املعقوالت الصرفة االّ بأساليب متثيلية مل يكن ب ّد من املتشاهبات‬
‫كـ (اِ ْستوى َعلَى الْ َع ْر ِش)(‪ )1‬لتأنيس اذهاهنم ومراعاة أفهامهم‪.‬‬
‫اس اَساس البالغة مق ِّدمة لبيان اعجاز‬
‫مث اين استخرجت ‪ -‬فيما مضى من الزمان ‪ -‬من ّ‬
‫القرآن الكرمي ثنيت عشرة مسألة‪ .‬كل منها خيط حلقائق(‪ . )2‬وملا ذكرت هذه اآليات‬
‫التمثيلية هنا ‪ -‬دفعةً ‪ -‬ناسب تلخيص تلك املسائل فنقول وباهلل التوفيق‪:‬‬

‫املسألة األوىل‪:‬‬

‫ان منشأ نقوش البالغة امنا هو نظم املعاين دون نظم اللفظ كما جرى عليه اللفظيون‬
‫املتصلفون‪ ،‬وصار حب اللفظ فيهم مرضاً مزمناً اىل ان رد عليهم عبد القاهر اجلرجاين(‪ )1‬يف‬
‫دالئل االعجاز واسرار البالغة‪ ،‬وحصر على املناظرة معهم أكثر من مائة صحيفة‪.‬‬

‫ونظم املعاين‪ :‬عبارة عن توخي املعاين النحوية فيما بني الكلمات‪ .‬اي اذابة املعاين احلرفية بني‬
‫ُ‬
‫الطبيعي لألفكار‬
‫ّ‬ ‫الكلم لتحصيل النقوش الغريبة‪ .‬وان أمعنت النظر لرأيت ان اجملرى‬
‫واحلسيات امنا هو نظم املعاين‪ .‬ونظم املعاين هو الذي يشيّد بقوانني املنطق‪ ..‬وأسلوب املنطق‬
‫هو الذي يتسلسل به الفكر اىل احلقائق‪ ..‬والفكر الواصل اىل احلقائق هو الذي ينفذ يف‬
‫دقائق املاهيات ونسبها‪ ..‬ونسب املاهيات هي الروابط للنظام األكمل‪ ..‬والنظام األكمل هو‬
‫للحسن اجملرد الذي هو منبع كل حسن‪ ..‬واحلسن اجملرد هو الروضة ألزاهري البالغة‬ ‫الص َدف ُ‬
‫َ‬
‫املسماة‬
‫ويتنزه فيها البالبل ّ‬
‫اليت تسمى لطائف ومزايا‪ ..‬وتلك اجلنة املزهرة هي اليت جيول ّ‬
‫بالبلغاء وعشاق الفطرة‪ ..‬واولئك البالبل نغماهتم احللوة اللطيفة امنا تتولد من تقطيع الصدى‬
‫الروحاين املنتشر من أنابيب نظم املعاين‪.‬‬

‫(‪ )1‬سورة االعراف‪.90 :‬‬

‫(‪ )2‬املقصود املقالة الثانية من كتاب (حماكمات "عقلية") ‪ -‬الصيقل االسالمي‪.‬‬

‫(‪( )1‬ت ‪071‬هـ ‪1479 /‬م) اِمام يف اللغة والبالغة‪ ،‬له مصنفات منها‪ :‬كتاب املغين (‪14‬‬
‫جملد) املقتصد (‪ 1‬جملدات) اعجاز القرآن‪ ،‬املفتاح‪ ،‬دالئل االعجاز‪ ،‬اسرار البالغة‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪111 :‬‬


‫واحلاصل‪ :‬ان الكائنات يف غاية البالغة قد أنشأها وأنشدها صانعُها فصيحةً بليغة‪ ،‬فكل‬
‫صورة وكل نوع منها ‪ -‬بالنظام املندمج فيه ‪ -‬معجزة من معجزات القدرة‪ .‬فالكالم اذا حذا‬
‫وقع يف‬
‫توجه اىل نظم اللفظ َ‬
‫نظامه حاز اجلزالة حبذافريها‪ .‬واالّ فإن َّ‬
‫نظمه َ‬
‫حذو الواقع‪ ،‬وطابق ُ‬
‫التصنع والرياء كأنه يقع يف أرض يابسة وسراب خادع‪.‬‬

‫السر يف االحنراف عن طبيعة البالغة انه‪:‬‬


‫و ّ‬
‫اهم‪ ،‬وفسد‬
‫ملا اجنذب واستعرب العجم جباذبة سلطنة العرب صارت صنعة اللفظ عندهم ّ‬
‫ري اليت هي أساس بالغة القرآن الكرمي‪ ،‬وتلون معكس أساليب‬
‫ض ّ‬‫باالختالط َملَكة الكالم امل َ‬
‫ُ‬
‫ضر" ومزاجهم‪ .‬فاستهوى حب اللفظ كثري‬ ‫"م‬
‫َُ‬ ‫قوم‬ ‫يات‬ ‫حس‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫القرآن الكرمي؛ وامنا معدهنا‬
‫من املتأخرين‪.‬‬

‫تذييل‪ :‬تزيني اللفظ امنا يكون زينة اذا اقتضته طبيعةُ املعاين‪ .‬وشعشعة صورة املعىن امنا تكون‬
‫استعداد املقصود‪.‬‬
‫ُ‬ ‫حشمةً له اذا أ َِذن به املآل‪ .‬وتنوير االسلوب امنا يكون جزالة اذا ساعده‬
‫تأسست على مناسبة املقصود وارتضى به املطلوب‪.‬‬ ‫ولطافة التشبيه امنا تكون بالغة اذا ّ‬
‫وعظمةُ اخليال وجوالنُه امنا تكون من البالغة اذا مل تؤمل احلقيقةَ ومل تثقل عليها ويكون اخليال‬
‫مثاال للحقيقة متسنبال عليها‪ .‬وان شئت األمثلة اجلامعة لتلك الشرائط فعليك بتلك اآليات‬
‫التمثيلية املذكورة‪.‬‬

‫املسألة الثانية‪:‬‬

‫اهر واملعاينَ أجساما واجلمادات‬


‫صري األعراض جو َ‬
‫ان السحر البياين اذا جتلى يف الكالم ّ‬
‫تنجر اىل املخاصمة‪ ،‬وقد تُوصل اىل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ذوات أرواح والنباتات عقالءَ‪ ،‬فيوقع بينها حماورة قد ّ‬
‫املطايبة فرتقص اجلمادات يف نظر اخليال‪ .‬وان شئت مثاال فادخل يف هذا البيت‪.‬‬

‫ص ْد ِري(‪)1‬‬ ‫ْ‬ ‫ت مطْلِ ِه فَـتَختَ ِ‬


‫ف ِمن َْحت ِ‬ ‫يـن ِ‬
‫اجيين ا ِ‬
‫س يف َ‬
‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ي‬
‫َ‬‫ْ‬‫ل‬‫ا‬‫و‬‫َ‬ ‫ال‬
‫ُ‬ ‫اآلم‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ص‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ال‬
‫َ‬ ‫خ‬‫ْ‬ ‫إل‬ ‫َُ‬

‫او استمع معاشقة االرض مع املطر يف‪:‬‬


‫(‪)1‬إلبن املعتز (دالئل االعجاز ص‪ )61‬ويف ديوان ابن املعتز‪ :‬جتاذبىن االطراف بالوصل‬
‫والقلى‪ ...‬ص‪.226‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪124 :‬‬

‫ِِ‬
‫الرضاب (‪)1‬‬
‫ف ُ‬ ‫ف َماءَهُ َر ْش َ‬ ‫تَ َش َّكى االْ ْر ُ‬
‫ض َغْيبَتَهُ الَْيه َوتَـ ْر ُش ُ‬

‫تصوت األرض اليابسة بنزول املطر بعد تأخر‪ .‬والبد يف كل‬ ‫فهذه الصورة امنا تسنبلت على ّ‬
‫خيال من نواة من احلقيقة نظري هذا املثال‪ ،‬والبد يف زجاجة كل جماز من سراج احلقيقة‪ ،‬واالّ‬
‫كانت بالغته اخليالية خرافة بال عرق ال تفيد االّ حرية‪.‬‬

‫املسألة الثالثة‪:‬‬

‫وحلته البيانية باسلوبه‪ .‬واسلوبه صورة احلقائق وقالب املعاين‬


‫اعلم! ان كمال الكالم ومجاله ُ‬
‫خيايل؛‬ ‫ِ‬
‫املتخذ من قطعات االستعارة التمثيلية‪ .‬وكأن تلك القطعات "سي ُموطُو ْغَراف" (‪ّ )2‬‬
‫كإراءة لفظ "الثمرة" جنتها وحديقتها‪ .‬ولفظ "بارز" معركة احلرب‪ .‬مث ان التمثيالت مؤسسة‬
‫سر املناسبات بني األشياء‪ ،‬واالنعكاسات يف نظام الكائنات‪ ،‬واخطار امور اموراً؛‬ ‫على ّ‬
‫كإخطار رؤية اهلالل يف الثريا يف ذهن ابناء النخلة غصنَها األبيض بالقدم املتقوس بتديل‬
‫رجون القدمي ) (‪.)0‬‬
‫عاد كالعُ ُ‬
‫(حىت َ‬
‫العنقود (‪ .)1‬ويف التنزيل َ‬
‫مث ان فائدة اسلوب التمثيل كما يف اآليات املذكورة هي‪ :‬ان املتكلم بواسطة االستعارة‬
‫امكن له‬
‫التمثيلية يُظهر العروق العميقة‪ ،‬ويوصل املعاين املتفرقة‪ .‬واذا وضع بيد السامع طرفاً َ‬
‫جير الباقي اىل نفسه‪ ،‬وينتقل اليه بواسطة االتصال‪ ،‬فربؤية ٍ‬
‫بعض يتدرج شيئاً فشيئاً ‪ -‬ولو‬ ‫ان ّ‬
‫ِّ‬
‫اجلوهري ما قال يف وصف الكالم البليغ‪" :‬الكالم البليغ‬ ‫مع ظلمة ‪ -‬اىل متامه‪ .‬فمن ِمسع من‬
‫اجلمال ما قال‬
‫اخلمار ما قال فيه‪" :‬ما طُبخ يف مراجل العلم"‪ ..‬ومن َّ‬ ‫ما ثقبته الفكرةُ"‪ ..‬ومن ّ‬
‫اخذت خبطامه واََخنْتَهُ يف َم ْربك املعىن" ينتقل اىل متام املقصد مبالحظة الصنعة‪.‬‬
‫َ‬ ‫فيه‪" :‬ما‬
‫مث ان احلكمة يف تشكل االسلوب هي‪ :‬ان املتكلم بارادته ينادي ويوقظ املعاينَ الساكنة يف‬
‫زوايا القلب كأهنا حفاة عراة‪ .‬فيخرجون ويدخلون اخليال‪ ،‬فيلبسون ما‬

‫(‪ )1‬للمتنيب يف ديوانه ‪.261/1‬‬

‫(‪ )2‬الكتابة املتحركة‪ ،‬اصلها‪ :‬سينماطوغراف مث اختصرت اىل سينما‪.‬‬

‫(‪ )1‬لعل االستاذ يقصد قول قيس بن خطيم‪:‬‬

‫وقد الح يف الصبح الثريا ملن رأى كعنقود مالحيّه حني ّنورا‬

‫او قول ابن املعتز‪:‬‬

‫وارى الثريا يف السماء كأهنا قدم تبدت من ثياب حداد‬

‫(‪ )0‬سورة يس‪.11 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪121 :‬‬

‫جيدون من الصور احلاضرة بسبب الصنعة أو التوغل أو األلفة أو األحتياج‪ ،‬وال أقل من ِّ‬
‫لف‬
‫ٍ‬
‫منديل من تلك الصنعة برأسه‪ ،‬أو االنصباغ بلون ّما‪ .‬وما جتده يف ديباجة الكتب من براعة‬
‫االستهالل من اظهر امثلة هذه املسألة‪.‬‬

‫مث ان اسلوب الكالم قد يكون باعتبار خيال املخاطَب كما يف أساليب القرآن الكرمي فال‬
‫ارق من النسيم اذا سرى يرمز اليه هبيئات‬
‫تنس‪ .‬مث ان مراتب االسلوب متفاوتة فبعضها ّ‬ ‫َ‬
‫الكالم‪ .‬وبعضها اخفى من دسائس احلرب اليشمه االّ ذو دهاء يف احلرب؛ كاستشمام‬
‫"من يربز اىل امليدان"‪ .‬وان‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم)(‪ )2‬اسلوب َ‬ ‫(م ْن ُْحييي الْعظَ َام َوه َي َرم ٌ‬
‫الزخمشري(‪ )1‬من َ‬
‫شئت فتأمل يف اآليات املذكورة تر فيها مصداق هذه املسائل بألطف وجه‪ .‬وان شئت ُزِر‬
‫"ر َجتَتَهُ"(‪ )0‬باسلوب احلكيم يف قوله‪:‬‬
‫البوصريي(‪ )1‬وانظر كيف كتب َ‬
‫َّ‬ ‫االمام‬
‫َ‬
‫َت ِم َن الْ َم َحا ِرِم َوالْ ِزْم ِمحْيَةَ الن ََّدم‬ ‫واستـ ْفرِغ الدَّمع ِمن ع ٍ ِ‬
‫ني قَد ْامتَأل ْ‬
‫ْ َ ْ َْ‬ ‫َ َْ‬

‫ورمز اىل االسلوب بلفظ احلمية‪ .‬او استمع هدهد سليمان كيف أومأ اىل هندسته(‪ )9‬بقوله‪:‬‬
‫ات و ِ‬
‫االرض)(‪. )6‬‬ ‫السمو ِ‬
‫بءَ يف َّ َ‬ ‫(االّ يَ ْس ُج ُدوا هلل الَّ ِذي ُخيْرِج ْ‬
‫اخلَ ْ‬
‫املسألة الرابعة‪:‬‬

‫اعلم! ان الكالم امنا يكون ذا ّقوة وقدرة اذا كان اجزاؤه مصداقا ملا قيل‪:‬‬

‫اح ٌد َوُكلٌّ اِ َىل ذَ َاك ْ‬


‫اجلَ َم ِال يُشري‬ ‫كوِ‬
‫حسنُ َ َ‬
‫ِ‬
‫عبَاراتُنا َشىت َو ْ‬
‫(‪ )1‬هو ابو القاسم حممود بن عمر بن حممد الزخمشرى جار هللا‪ .‬ولد بزخمشر سنة ‪067‬هـ‪،‬‬
‫تويف بعد رجوعه من مكة املكرمة سنة ‪919‬هـ‪ .‬إمام عصره يف اللغة والتفسري‪ ،‬له "الكشاف‬
‫عن حقائق التنزيل " و "الفائق يف غريب احلديث " و "املفصل يف النحو " و "اساس البالغة‬
‫" وغريها‪.‬‬

‫(‪ )2‬سورة يس‪.79 :‬‬

‫(‪619 - 649( )1‬هـ) حممد بن سعيد بن محاد بن عبدهللا البوصريي املصري‪ .‬شاعر‪،‬‬
‫حسن الديباجة‪ ،‬مليح املعاين‪ ،‬له ديوان شعر مطبوع‪ ،‬واشهر شعره الربدة املشهورة بـ "بردة‬
‫املديح " (كشف الظنون ‪ 299/1‬االعالم ‪.)111/6‬‬

‫(‪ )0‬وصفة طبية‪.‬‬

‫(‪ )9‬ومعرفته املاء حتت االرض (الكشاف)‪.‬‬

‫(‪ )6‬سورة النمل‪.29 :‬‬


‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪122 :‬‬

‫كل ب َق َد ِره‬
‫كل بيد اآلخر ويظاهره‪ ،‬وميد ٌ‬
‫بان تتجاوب قيودات الكالم ونظمه وهيئته‪ ،‬ويأخذ ٌ‬
‫الكلي مع مثراته اخلصوصية‪ .‬كأن الغرض املشرتك حوض يتشرب من جوانبه الرطبة‪،‬‬ ‫الغرض ِّ‬
‫َ‬
‫فيتولد من هذه اجملاوبة املعاونةَ‪ ،‬ومنها االنتظام‪ ،‬ومنه التناسب‪ ،‬ومنه احلسن واجلمال الذايت‪.‬‬
‫وهذا السر من البالغة يتألأل من جمموع القرآن ال سيما يف (الـم _ ذلك الكتاب الريب فيه‬
‫مستهم نفحةٌ من عذاب ربك)(‪. )1‬‬ ‫هدى للمتقني) كما مسعتَه مع التنظري بقوله‪( :‬ولئن َّ‬

‫املسألة اخلامسة‪:‬‬

‫اعلم! ان غناء الكالم وثروته ووسعته هو انه كما أن أصل الكالم يفيد أصل املقصد؛ كذلك‬
‫كيفياته وهيئاته ومستتبعاته تشري وترمز وتلوحاىل لوازم الغرض وتوابعه وفروعه‪ ،‬فكأمنا ترتاءى‬
‫طبقة بعد طبقة ومقاما خلف مقام‪ .‬وان شئت مثاال تأمل يف (واذا قيل هلم التفسدوا يف‬
‫املفسر سابقا‪.‬‬
‫االرض) اىل آخره‪ .‬و(واذا لقوا الذين آمنوا) اىل آخره‪ ،‬على الوجه َّ‬

‫املسألة السادسة‪:‬‬

‫اعلم! ان املعاين اجملتناة من خريطة الكالم املأخوذة املنقوشة "ب ُفوطُ ْغراف" التلفظ على أنواع‬
‫س به واليُرى‪ ..‬وبعضها كالبخار يُرى وال يـُ ْؤخذ‪..‬‬
‫خمتلفة ومراتب متفاوتة‪ .‬فبعضها كاهلواء ُحي ّ‬
‫وبعضها كاملاء يُؤخذ والينضبط‪ ..‬وبعضها كالسبيكة ينضبط واليتعني‪ ..‬وبعضها كال ّد ّر‬
‫املنتظم والذهب املضروب يتشخص‪ ،‬مث بتأثري الغرض واملقام قد يتصلب اهلوائي‪ .‬وقد تعتور‬
‫على املعىن الواحد احلاالت الثالث‪ .‬أال ترى انه اذا أثر أمر خارجي يف وجدانك يتهيج‬
‫ميول‪ ،‬مث يتحصل بعضها‪ ،‬مث يتشكل من‬ ‫عان هوائية فيتولد ٌ‬‫قلبك؟ فيثري احلسيات فيتطاير م ٍ‬
‫ُ‬
‫ذلك البعض قسم‪ ،‬مث ينعقد من ذلك القسم بعض‪ .‬ففي كل من هذه الطبقات يتوضع‬
‫وينعقد البعض‪ ،‬ويبقى البعض اآلخر معلّقا كمعلقية بعض الصوت عند تشكل احلروف‪،‬‬
‫الغرض‬
‫ُ‬ ‫والتنب عند انعقاد احلبوب‪ .‬فمن شأن البليغ ان يفيد بصريح الكالم ما تعلق به‬
‫واقتضاه املقام‪ ،‬وطلبه املخاطب‪ .‬مث حييل الطبقات األُخر ‪ -‬مبقدار نسبة درجة القرب من‬
‫الغرض ‪ -‬على داللة القيود‪ ،‬واشارة الفحوى‪ ،‬ورمز الكيفيات‪ ،‬وتلويح مستتبعات‬
‫(‪ )1‬سورة االنبياء‪.06 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪121 :‬‬

‫الرتاكيب‪ ،‬وتلميح األساليب‪ ،‬وإمياء أطوار املتكلم‪ .‬مث ان من تلك املعاين املعلقة معاين حرفية‬
‫هوائية ليس هلا ألفاظ خمصوصة‪ ،‬وال هلا وطن معني بل كالسيَّاح السيَّار؛ قد يسترت يف كلمة‬
‫ِ‬
‫عصرت تقطَّر‪ .‬كالتحسر يف (اِين َو َ‬
‫ض ْعتُها‬ ‫َ‬ ‫وقد يتشربه كالم وقد يتداخل يف قصة‪ ،‬فان‬
‫اب‪ ..‬اخل)‪ .‬واالشتياق والتمدح واخلطاب واالشارة والتأمل‬ ‫ت الشَّبَ َ‬
‫اُنْثى)(‪ )1‬والتأسف يف (لَْي َ‬
‫والتحري والتعجب والتفاخر وغري ذلك‪ .‬مث ان شرط حسن املعاشرة بني تلك املعاين املتزامحة‬
‫االساسي‪ .‬وان شئت مثاالً هلذه املسألة‬
‫ّ‬ ‫تقسيم العناية واالهتمام على نسبة خدمتها للغرض‬
‫فمن رأس السورة اىل هنا مثال ّبني على الوجه املشروح سابقاً‪.‬‬

‫املسألة السابعة‪:‬‬

‫اعلم! ان اخليال املندمج يف اسلوب البد ان يتسنبل على نواة حقيقة‪ ،‬ويكون كاملرآة يف ان‬
‫انني والعلل املندرجة يف سلسلة اخلارجيات‪.‬‬
‫ينعكس به ‪ -‬يف املعنويات ‪ -‬القو ُ‬

‫وفلسفة النحو اليت هي املناسبات املذكورة يف كتبه أيضاً من هذا القبيل؛ كما يقال‪ :‬الرفع‬
‫للفاعل ألن القوي يأخذ القوي‪ .‬وقس عليه‪..‬‬

‫املسألة الثامنة‪:‬‬

‫نص على ان احلروف اليت تعدد معانيها كـ "من" و "اىل" و"الباء"‬


‫اعلم! ان سيبويه(‪ّ )2‬‬
‫وغريها‪ ،‬أصل املعىن فيها واحد اليزول؛ لكن باعتبار املقام والغرض قد يتشرب معىن معلقاً‪،‬‬
‫وجيذبه اىل جوفه‪ ،‬فيصري املعىن األصلي صورة واسلوباً ملسافره‪ .‬وكذلك ان العارف بفقه اللغة‬
‫اذا تأمل َعرف ان اللفظ املشرتك يف األغلب معناه واحد‪ ،‬مث باملناسبات وقع تشبيهات‪ ..‬مث‬
‫منها جمازات‪ ..‬مث منها حقائق عرفية‪ ..‬مث يتعدد‪ .‬حىت ان اسم "العني" الىت معناه الواحد‬
‫العلوي ينظر اىل العامل‬
‫َّ‬ ‫البصر أو املنهل‪ ،‬يطلق على الشمس أيضاً(‪ )1‬بالرمز اىل ان العامل‬
‫السفلي هبا‪ ،‬او ان ماء احلياة الذي هو الضياء يسيل من ذلك املنبع يف اجلبل األبيض‬
‫ِّ‬
‫املشرف وقس!‪..‬‬

‫(‪ )1‬سورة آل عمران‪.16 :‬‬

‫(‪ )2‬هو عمر بن عثمان‪ ،‬امام حناة البصرة‪ ،‬ولد بالبيضاء من مدن شرياز نشأ بالبصرة ودرس‬
‫النحو على اخلليل الفراهيدى‪ ،‬ورد بغداد فناظر امام حناة الكوفة الكسائى فحكم بانتصاره‬
‫عليه‪ ،‬فأسف وعاد اىل موطنه‪ ،‬وألف كتابه الذى يع ّد اصل النحو‪ ،‬تويف سنة ‪716‬هـ‪.‬‬

‫(‪ )1‬والعني‪ :‬عني الشمس‪ ،‬وعني الشمس‪ :‬شعاعها الذى ال تثبت عليه العني‪ .‬وقيل‪ :‬العني‬
‫الشمس نفسها‪ ،‬يقال‪ :‬طلعت العني‪ ،‬وغابت العني‪( .‬لسان العرب البن منظور)‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪120 :‬‬

‫املسألة التاسعة‪:‬‬

‫الشخصي والتصور البسيط‪:‬‬ ‫اعلم! ان أعلى مراتب البالغة الذي ي ِ‬


‫عجز االراد َة اجلزئية والفكر‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫هو ان حيافظ ويراعي وينظر املتكلم دفعةً نسب قيود الكالم وروابط الكلمات وموازنة اجلمل‬
‫كل مع اآلخر نقشاً متسلسالً اىل النقش األعظم‪ .‬حىت كأن املتكلم استخدم‬ ‫ِ‬
‫اليت يُظهر ٌ‬
‫نقوش غريبة من‬
‫عقوال اىل عقله كالباين لقصر يضع األحجار املتلونة بوضعية حتصل هبا ٌ‬
‫مناظرة وموازاة الكل مع الكل كـ"العني"(‪ )1‬يف اخلط املشرتك بني "اخللفاء الراشدين"‪ .‬ومن‬
‫اظهر مسائل هذه املسألة قوله تعاىل‪( :‬الـم _ ذلك الكتاب الريب فيه هدى للمتقني) على‬
‫ما مسعت سابقا‪..‬‬

‫علو الكالم أن يكون كشجرة النسب يتسلسل متناسال اىل املقاصد اليت‬‫وأيضاً من أسباب ّ‬
‫تتدىل على املقام والغرض‪ ..‬وأيضاً من أسباب رفعة طبقة الكالم أن يكون مستعداً الستنباط‬
‫كثري من الفروع والوجوه كقصة موسى على نبينا وعليه السالم‪.‬‬

‫املسألة العاشرة‪:‬‬
‫وح ْلوه هو ان تكون املعاين واحلسيات املندجمة فيه‬
‫اعلم! ان سالسة الكالم املنتجة للطافته ُ‬
‫كز‬
‫ممتزجة تتحد أو خمتلفة تنتظم؛ لئال تتشرب اجلوانب ّقوة االفادة والغرض‪ ،‬بل جيذب املر ُ‬
‫القوَة من األطراف‪ ..‬وأيضاً من السالسة ان يتعني املقصد‪ ..‬وأيضاً منه ان يتظاهر ملتقى‬
‫ّ‬
‫األغراض‪.‬‬

‫املسألة احلادية عشرة‪:‬‬

‫وقوته هي‪ :‬ان يكون الكالم حبيث يشري اىل‬ ‫اعلم! ان سالمة الكالم اليت هي سبب صحته ّ‬
‫املبادئ والدالئل‪ ،‬ويرمز اىل اللوازم والتوابع‪ ،‬وبقيود املوضوع واحملمول وكيفياهتما يومئ اىل رد‬
‫االوهام ودفع الشبهات؛ كأن كل قيد جواب لسؤال مق ّدر‪ .‬وان شئت مثاال فعليك بفاحتة‬
‫الكتاب‪.‬‬

‫(‪ )1‬من املعلوم ان امساء اخللفاء الراشدين االربعة تبدأ حبرف "العني" وقد استلهم بعض‬
‫اخلطاطني نقشاً بديعاً استعمل فيه حرف "العني" مشرتكاً بني امسائهم‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪129 :‬‬

‫املسألة الثانية عشرة‪:‬‬

‫اعلم! ان األساليب على ثالثة أنواع‪:‬‬

‫أحدها‪:‬‬

‫االسلوب اجملرد‪ ،‬الذي لونه واحد‪ ،‬وخاصته االختصار والسليقية والسالمة واالستقامة فهو‬
‫أملس سوي‪ ،‬وحمل استعماله املعامالت واحملاورات والعلوم اآللية‪ .‬وان شئت مثاال سلساً منه‬
‫فعليك بكتب السيّد اجلرجاين‪.‬‬

‫والثاين‪:‬‬
‫االسلوب املزين‪ ،‬وخاصته التزيني والتنوير‪ ،‬وهتييج القلب بالتشويق أو التنفري‪ .‬واملقام املناسب‬
‫حتريت املثال املزيّن فادخل يف‬
‫له اخلطابيات كاملدح والذم وغريمها واالقناعيات ونظائرمها‪ .‬واذا ّ‬
‫دالئل االعجاز واسرار البالغة َتر فيهما جناناً مزينة‪.‬‬

‫والثالث‪:‬‬

‫القوة واهليبة والعلوية الروحانية‪ .‬ومقامه املناسب اإلهليات‬


‫االسلوب العايل‪ ،‬وخاصته الشدة و ّ‬
‫واألصول واحلكمة‪ .‬وإن شئت مثال بيناً ومتثاالً ِ‬
‫معجزاً فعليك بـ "القرآن" فان فيه ما ال عني‬
‫رأت وال خطر على قلب بليغ‪..‬‬

‫(انتهى الفصل بتلخيص)‪.‬‬

‫***‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪126 :‬‬

‫مث اعلم! ان مدار النظر يف آيتنا هذه‪ ،‬وهي (مثلهم كمثل الذي استوقد) اخل‪:..‬‬

‫ّأوالً‪ :‬نظمها بسابقها‪ ..‬وثانياً‪ :‬النظم بني مجلها‪ ..‬وثالثاً‪ :‬نظم كيفية مجلة مجلة؛ فمع‬
‫استحضار مامضى‪:‬‬

‫صرح حبقيقة حال املنافقني ونص على جنايتهم ع ّقبها بالتمثيل‬


‫اعلم! ان القرآن الكرمي ملا ّ‬
‫لثالث نكت‪-:‬‬

‫إحداها‪ :‬تأنيس اخليال الذي هو أطوع للمتخيالت من املعقوالت‪ ،‬وتأمني اطاعة الوهم‬
‫الذي شأنه التشكيكات ومعارضة العقل وانقياده باظهار الوحشي بصورة املأنوس‪ ،‬وتصوير‬
‫الغائب بصورة الشاهد‪.‬‬

‫احلس والفكر بتمثيل املعقول باحملسوس‪.‬‬


‫والثانية‪ :‬هتييج الوجدان وحتريك نفرته ليتفق ُ‬
‫والثالثة‪ :‬ربط املعاين املتفرقة واراءة رابطة حقيقية بينها بواسطة التمثيل‪ ..‬وأيضا الوضع نصب‬
‫الدقائق اليت أمهلها اللسان‪.‬‬
‫َ‬ ‫عني اخليال ليجتين بالنظر‬

‫واعلم! ان مآل مجل هذه اآلية كما يناسب مآل جمموع قصة املنافقني؛ كذلك يناسب آيةً‬
‫آيةً منها‪ .‬أال ترى ان مآل القصة اهنم آمنوا صورةً للمنافع الدنيوية‪ ..‬مث تبطنوا الكفر‪ ..‬مث‬
‫يتحروا احلق‪ ..‬مث مل يستطيعوا الرجوع فيعرفوا‪ .‬وما أنسب هذا حبال من‬ ‫حتريوا وترددوا‪ ..‬مث مل ّ‬
‫انطفأت‪ ..‬مث اُظلموا‪ ..‬مث اليرتاءى هلم‬
‫ْ‬ ‫أوقدوا هلم ناراً أو مصباحاً‪ ..‬مث مل حيافظوا عليها‪ ..‬مث‬
‫صم‪ ،‬ولتعامي الليل‬
‫شئ حىت يكون كل شئ معدوماً يف حقهم!‪ .‬فلسكون الليل كأهنم ّ‬
‫مي‪ ،‬ولعدم وجود املخاطَب واملغيث اليستغيثون كأهنم بُكم‪ ،‬ولعدم‬ ‫وانطفاء أنواره كأهنم عُ ٌ‬
‫استطاعة الرجوع كأهنم أشباح جامدة ال أرواح هلا‪.‬‬

‫مث ان يف املشبَّه به نقطاً أساسية تناظر النقط األساسية يف املشبه‪ .‬مثال‪ :‬الظلمة تنظر اىل‬
‫الكفر‪ ،‬واحلرية اىل التذبذب‪ ،‬والنار اىل الفتنة‪ .‬وقس!‪..‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪127 :‬‬

‫ان قلت‪ :‬ان يف التمثيل نوراً فأين نور املنافق حىت يتم تطبيق التمثيل؟‪.‬‬

‫قيل لك‪ :‬ان مل يكن يف الشخص نور ففي حميطه ميكن له االستنارة‪ ..‬وان مل‪ ،‬ففي قومه‬
‫ميكن االستضاءة‪ ..‬وان مل‪ ،‬ففي نوعه ميكن له االستفادة‪ ..‬وان مل‪ ،‬ففي فطرته كان ميكن له‬
‫االستفاضة كما مر‪ ..‬وان مل تقنع‪ ،‬ففي لسانه بالنظر اىل نظر غريه أو بالنظر اىل نفسه‬
‫لرتتب املنافع الدنيوية‪ ..‬وان مل‪ ،‬فباعتبار البعض من الذين آمنوا مث ارتدوا‪ ..‬وان مل‪ ،‬فيجوز‬
‫ان يكون النور اشارة اىل ما استفادوا كما ان النار اشارة اىل الفتنة‪ ..‬وان مل ترض هبذا أيضاً‪،‬‬
‫فبتنزيل امكان اهلداية منزلة وجودها كما أشار اليه اشرتوا الضاللة باهلدى فانه هو اجلار‬
‫اجلنب للتمثيل‪.‬‬
‫أما وجه النظم بني اجلمل‪ :‬فاعلم! ان نظم مجلة (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً) مناسبتُها‬
‫للموقع‪.‬‬

‫الصف األول من خماطيب‬


‫ّ‬ ‫نعم‪ ،‬حال هذا املستوقد على هذه الصورة تطابق مقتضى حال‬
‫القرآن الكرمي وهم ساكنو جزيرة العرب؛ اذ ما منهم اال وقد عرف هذه احلالة بالذات أو‬
‫بالتسامع وحيس (‪ )1‬بدرجة تأثريها ومشوشيتها؛ اذ بسبب ظلم الشمس يلتجئون اىل ظلمة‬
‫الليل فيسريون فيها‪ .‬وكثرياً مايغمى عليهم السماء فيصادفون حزن الطرق وقد ينجر هبم‬
‫الطريق اىل الورطة‪ ..‬وأيضاً قد جيولون يف معاطف الكهوف املشحونة باملؤذيات فيضلون‬
‫الطريق فيحتاجون إليقاد النار أو اشتعال املصباح ليبصروا رفقاءهم حىت يستأنسوا ويروا‬
‫أهبتهم وأشياءهم كي حيافظوا عليها‪ ،‬ويعرفوا طريقهم ليذهبوا فيها ويرتاءى هلم الضواري‬
‫واملهالك ليجتنبوا‪ .‬فبينما هم استضاؤا بنورهم اذ اختطفتهم آفة مساوية‪ ..‬وبينما هم يف ذروة‬
‫كمال الرجاء وآن الظفر باملطلوب اذ سقطوا يف حضيض اليأس املطلق‪ .‬فنص على هذا‬
‫احلال بقوله‪:‬‬

‫(فلما أضاءت ما حوله ذهب هللا بنورهم)‪ .‬اعلم! ان هذه "الفاء" تشري اىل اهنم أوقدوا النار‬
‫ليستضيؤا فاضاءت فاطمأنوا باالستضاءة فتعقبهم اخليبة وسقطوا يف أيديهم‪ .‬وما أشد تأثري‬
‫العدم عليهم يف آن انتظار احلصول!‪ .‬مث ان هذه الشرطية تستلزم استلزام االضاءة لذهاب‬
‫النور‪ .‬وخفاء هذا االستلزام يشري اىل تقدير ما يظهر‬

‫أحس (ش)‬
‫(‪ )1‬و ّ‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪129 :‬‬

‫به اللزوم هكذا‪ :‬فلما اضاءت استضاؤا هبا فاشتغلوا‪ ..‬فلم حيافظوا‪ ..‬فلم يهتموا هبا‪ ،‬ومل‬
‫يعرفوا قدر النعمة فيها‪ ..‬فلم ميدوها‪ ..‬فلم يدميوها؛ فانطفأت‪ .‬ألنه ملا كانت الغفلة عن‬
‫الوسيلة لالشتغال بالنتيجة ‪ -‬بسر (اِ َّن االْ َِنْ َسا َن لَيَطْغَى _ اَن َرآهُ اِ ْستَـ ْغ َىن)(‪ - )1‬سبباً‬
‫نفس االضاءة سبب لذهاب النور‪.‬‬ ‫لعدم اإلدامة املستلزم لالنطفاء كان كأن َ‬
‫أما مجلة (وتركهم يف ظلمات) فبعدما أشار اىل خسراهنم بذهاب النعم بزوال النور عقبه‬
‫خبذالهنم بنزول النقم بالسقوط يف الظلمات‪.‬‬

‫أما مجلة (ال يبصرون) فاعلم! ان االنسان اذا اظلم عليه وأضل السبيل فقد يسكن ويتسلى‬
‫برؤية رفقائه ومرافقه‪ ،‬واذا مل يبصرمها كان السكون مصيبة عليه كاحلركة بل أوحش‪.‬‬

‫عمي فهم ال يرجعون) فاعلم! ان االنسان اذا وقع يف مثل هذا البالء قد‬
‫بكم ٌ‬
‫(صم ٌ‬‫أما ٌ‬
‫يتسلى ويأمل ويرجو النجاة من جهات أربع مرتتبة‪:‬‬

‫فأوالً‪ :‬يرجو أن يسمع تناجي اخللق من القرى أو أبناء السبيل؛ إن ِ‬


‫يستم ْد َمي ّدوه‪ .‬وملا كانت‬
‫"صم" لقطع هذا الرجاء‪.‬‬
‫الليلة ساكنة بكماءَ استوى هو واألصم‪ ،‬فقال‪ُ :‬‬
‫وثانياً‪ :‬يأمل انه إن نادى أو استغاث ُحيتمل أن يسمع أح ٌد فيغيثه‪ ،‬وملا كانت الليلة صماء‬
‫كان ذو اللسان واألبكم سواء فقال‪" :‬بُكم" إللقامهم احلجر بقطع هذا الرجاء أيضاً‪.‬‬

‫وثالثاً‪ :‬يأمل اخلالص برؤية عالمة أو نار او ٍّ‬


‫نري تشري له اىل هدف املقصد‪ .‬وملا كانت الليلة‬
‫مي" ِإلطفاء هذا األمل‬
‫طامية رمداء عبوسة عمياء كان ذو البصر واألعمى واحداً فقال‪" :‬عُ ٌ‬
‫أيضاً‪.‬‬

‫وح ٍل‬
‫ورابعاً‪ :‬اليبقى له االّ ان جيهد يف الرجوع‪ ،‬وملا أحاط به الظلمة كان كمن دخل يف ْ‬
‫باختياره وامتنع عليه اخلروج‪ .‬نعم‪ ،‬كم من أم ٍر تذهب اليه باختيار مث يُسلَب عنك االختيار‬
‫يف الرجوع عنه ختلّيه انت وال خيليك هو‪ ،‬فقال تعاىل‪ :‬فهم‬

‫(‪ )1‬سورة العلق‪6،7 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪121 :‬‬

‫(ال يرجعون) لسد هذا الباب عليهم وقطع آخر احلبل الذي يتمسكون به‪ ،‬فسقطوا يف‬
‫ظلمات اليأس والتوحش والسكونة واخلوف‪.‬‬
‫أما اجلهة الثالثة‪ ،‬أعين ‪:‬‬

‫نظم قيودات مجلة مجلة‪ ،‬فانظر اىل (مثلهم كمثل الذ ِي استوقد ناراً) كيف تتطاير شرارات‬
‫النكت من قيوداهتا‪.‬‬

‫أما لفظ "املثل" فاشارة اىل غرابة حال املنافقني وان قصتهم اعجوبة؛ اذ املثَل هو الذي جيول‬
‫َ‬
‫أخص صفاته الغرابة‪ .‬مث الندماج قاعدة‬ ‫على األلسنة ويتناقله الناس لتضمنه لغرابة؛ اذ ّ‬
‫أساسية يف األمثال يقال هلا‪" :‬حكمة العوام" و "فلسفة العموم"‪ .‬فاملراد باملثل هنا صفتهم‬
‫الغريبة وقصتهم العجيبة وحاهلم الشنيعة‪ .‬ففي التعبري باملثَل جمازاً اشارة اىل الغرابة‪ ،‬ويف‬
‫َ‬
‫االشارة رمز اىل ان من شأن صفتهم أن تدور على لسان النفرة والتلعني كضرب املثل‪.‬‬

‫وأما "الكاف"‪:‬‬

‫فإن قلت‪ :‬إن ُحذف كان تشبيهاً بليغاً فهو أبلغ؟‬

‫قيل لك‪ :‬األبلغ يف هذا املقام ذكره‪ ،‬اذ التصريح به يوقظ الذهن بان ينظر اىل املثال تبعياً‬
‫فينتقل عن كل نقطة مهمة منه اىل نظريها من املشبه‪ .‬واال فقد يتوغل فيه قصداً فتفوت منه‬
‫دقائق التطبيق‪.‬‬

‫وأما "املثَل" الثاين فاشارة اىل ان حال املستوقد بغرابته ووجوده يف حس العموم كان يف حكم‬
‫َ‬
‫ضرب املثل‪.‬‬

‫وأما "الذي"‪:‬‬

‫افرد مع اهنم مجاعة؟‬


‫فان قلت‪ :‬كيف َ‬

‫قيل لك‪ :‬اذا تساوى اجلزء والكل والفرد واجلماعة ومل يؤثر االشرتاك يف صفة الفرد زيادة‬
‫ونقصانا جاز الوجهان مثل (كمثل احلمار) ففي افراده اشارة اىل استقالل كل فرد يف متثل‬
‫الدهشة وتصوير شناعتهم‪ ،‬أوكان "الذي" "الذين" فاختُصر‪.‬‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪114 :‬‬

‫وأما (استوقد) فسينُه اشارة اىل التكلف والتحري‪ .‬ويف افراده مع مجع الضمري يف "نورهم" رمز‬
‫ٍ‬
‫جلماعة‪ .‬ولقد ألطف يف اإلفراد إيقاداً واجلمع استنارة‪.‬‬ ‫يوقد‬
‫لطيف اىل أن فرداً ُ‬

‫وأما (ناراً) بدل "املصباح" أو غريه فاشارة اىل املشقة يف نور التكليف‪ ،‬ورمز اىل اهنم يوقدون‬
‫نار فتنة‪ .‬وأما تنكريه فامياء اىل شدة احتياجهم حىت اهنم يرضون بأية نار‬
‫حتت النور الظاهري َ‬
‫كانت‪.‬‬
‫ِ‬
‫مث اَج ِل َ‬
‫النظر فيما حول مجلة (فلما أضاءت ما حوله ذهب هللا بنورهم) لرتى كيف تضئ‬
‫قيودا ُهتا على ظلمات الدهشة اليت هي الغرض األساسي‪ .‬ولقد مسعت يف املسألة الرابعة ان‬
‫قوة الكالم بتجاوب القيود‪:‬‬

‫أما "الفاء" فإمياء اىل ان هجوم اليأس املطلق تعقب كمال الرجاء‪.‬‬

‫وأما (ملا) فلتضمنه قياساً استثنائياً مستقيماً مع داللته على حتقق املقدم ينتج حتقق التايل‬
‫وقطع التسلي‪.‬‬

‫وأما (أضاءت) فاشارة اىل ان االيقاد لالستنارة ال لالصطالء‪ .‬وفيه رمز اىل شدة الدهشة اذ‬
‫ما أفاد هلم االضاءة إال رؤية املهالك والعلم بوجودها‪ .‬ولوالها ألمكن مغالطة النفس‬
‫وتسكينها‪.‬‬

‫وأما (ما حوله) فاشارة اىل احاطة الدهشة من اجلهات األربع‪ ،‬واىل لزوم التحفظ باالضاءة‬
‫عن هجوم الضرر عن اجلهات الست‪.‬‬

‫وأما (ذهب) فألنه جزاء الشرط‪ ،‬ال بد ان يكون الزماً‪ .‬وخلفاء اللزوم ‪ -‬كما مر ‪ -‬يرمز اىل‬
‫اهنم مل يتعهدوها ومل يعرفوا قَ ْد َر النعمة فيها فبنفس االضاءة اُخذوا عن أنفسهم وأنساهم‬
‫تعهدها فأخذها هللا عنهم‪..‬‬ ‫البطر والفرح ّ‬
‫وأما اسناد "ذهب" اىل (هللا) فاشارة اىل قطع رجاءين‪ :‬رجاء التعمري ورجاء الرمحة؛ ألنه يشري‬
‫اىل ان اآلفة مساوية التقبل التعمري‪ ،‬ويرمز اىل انه جزاءٌ لقصور املرء‪ ،‬وهلذا يأخذه هللا تعاىل‪.‬‬
‫فينقطع املتمسك به عند انقطاع األسباب وهو أمل الرمحة‪ ،‬اذ اليستعان من احلق على ابطال‬
‫احلق‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪111 :‬‬

‫البني بني ذهب به أي‬


‫العود؛ اذ ال راد ملا أخذه هللا للفرق ّ‬
‫وأما "الباء" فاشارة اىل اليأس عن َ‬
‫استصحبه‪ ،‬وبني اذهبه أي ارسله‪ ،‬وذهب أي انطلق؛ إلمكان العود يف ِ‬
‫اآلخَرين دون األول‪.‬‬

‫وأما "النور" ففيه امياء لطيف اىل تذكر حاهلم على الصراط‪.‬‬

‫ناره فقط‬
‫وأما االضافة يف (هم) املفيدة لالختصاص فاشارة اىل شدة تأثرهم؛ اذ َمن انطفأت ُ‬
‫مع ان نار الناس تلتهب أشد تأملا‪.‬‬

‫الكلي‪،‬‬
‫در التنزيل ما ألطفه يف فنون البالغة! أمل تر كيف توجهت هيئاهتا اىل الغرض ّ‬
‫وهلل ّ‬
‫أعين الدهشة مع اليأس‪ ،‬كاحلوض يف ملتقى األودية؟‪.‬‬

‫مث امعن النظر يف (وتركهم يف ظلمات اليبصرون)‪:‬‬

‫أما "الواو" فاشارة اىل اهنم مجعوا بني اخلسارتني؛ ُسلبوا ضياءً وأُلبسوا ظلمةً‪.‬‬

‫لب‪ .‬فمن‬
‫أما "تَـَرك" بدل "أبقى" أو غريه فاشارة اىل اهنم صاروا كجسد بال روح وقشر بال ّ‬
‫شأهنم ان يُرتكوا سدى ويُلقوا ظهريا‪.‬‬

‫وأما (يف) فرمز اىل انه انعدم يف نظرهم كل شئ ومل يبق االّ عنوان العدم وهو الظلمة فصارت‬
‫ظرفاً وقرباً هلم‪.‬‬
‫وأما مجع (ظلمات) فامياء اىل ان َسواد الليل وظلمة السحاب أولَدتا يف روحهم ظلمة اليأس‬
‫واخلوف‪ ،‬ويف مكاهنم ظلمة التوحش والدهشة‪ ،‬ويف زماهنم ظلمة السكون والسكوت‪،‬‬
‫فأحاطت هبم ظلمات متنوعة‪ ..‬وأما تنكريها فامياء اىل اهنا جمهولة هلم مل يسبق هلم الُْفة‬
‫مبثلها فتكون أشد وقعا‪.‬‬

‫وأما (اليبصرون) فتنصيص على اساس املصائب‪ ،‬اذ َمن مل ير كان ارأى للباليا‪ ،‬وبفقد‬
‫البصر يبصر أخفى املصائب‪ .‬وأما املضارعية فلتصوير ومتثيل حاهلم نصب عني اخليال لريى‬
‫السامع دهشتهم فيتحسس بوجدانه أيضاً‪.‬‬

‫وأما ترك املفعول فللتعميم‪ ،‬أي اليرون منافعهم ليحافظوها‪ ،‬وال يبصرون املهالك كي جيتنبوا‬
‫عنها‪ .‬وال يرتاءى الرفقاء ليستأنسوا هبم‪ ،‬فكأن كل واحد فرد برأسه‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪112 :‬‬

‫مث انظر اىل مجل (صم بكم عمي فهم اليرجعون) لتسمع ما تتناجى به؛ اذ هذه األربعة ٌّ‬
‫حد‬
‫مشرتك بني املمثل واملمثل به‪ ،‬وبرزخ بينهما ومتوجهة اليهما؛ تتكلم عن حال الطرفني‪ .‬ومرآة‬
‫هلما تريك شأهنما‪ .‬ونتيجة هلما تسمعك قصتهما‪.‬‬

‫أما اجلهة الناظرة اىل املمثل به‪:‬‬

‫منج‪،‬‬
‫فاعلم! ان من سقط يف مثل هذه املصيبة يبقى له رجاء النجاة باستماع جنوى ٍ‬
‫فاستلزمت ابكمية الليلة اصميته‪ ..‬مث امساع مغيث فاقتضت اصمية الليل ابكميته‪ ..‬مث اهلدى‬
‫بدء فانسد عليه الباب كمن سقط يف‬‫برؤية نار أو نري فانتج تعامي الليل عميه‪ ..‬مث العود اىل ٍ‬
‫ّ‬
‫وحل كلما حترك انغمس‪..‬‬

‫وأما اجلهة الناظرة اىل املمثل‪:‬‬


‫فاعلم! اهنم ملا وقعوا يف ظلمات الكفر والنفاق امكن هلم النجاة عن تلك الظلمات بطرق‬
‫أربعة مرتتبة‪:‬‬

‫فاوالً‪:‬‬
‫ّ‬
‫كان عليهم ان يرفعوا رؤسهم ويستمعوا اىل احلق ويصغوا اىل ارشاد القرآن‪ ،‬لكن ملا صارت‬
‫غلغلة (‪ )1‬اهلوى مانعة ألن خيلُص صدى القرآن اىل صماخهم‪ ،‬وأخذ التهوس بآذاهنم جاراً‬
‫هلم عن تلك الطريق‪ ،‬نعى عليهم القرآن بقوله‪( :‬صم) اشارة اىل انسداد هذا الباب ورمزاً اىل‬
‫ان آذاهنم كأهنا قطعت وبقيت ثقبات مشوهة أو قطعات متدلية يف جوانب رؤسهم‪.‬‬

‫وثانياً‪:‬‬

‫البد هلم ان خيفضوا رؤسهم ويشاوروا وجداهنم فيسألوا عن احلق والصراط‪ ،‬لكن ملا اخذ‬
‫العناد على يد لساهنم وجره احلقد من خلف اىل اجلوف‪ ،‬ألقمهم القرآن احلجر بقوله‪:‬‬
‫(بكم) اشارًة اىل انسداد هذا الباب أيضا يف وجوههم ورمزاً اىل اهنم بالسكوت عن االقرار‬
‫باحلق كانوا كمن قلع لسانه فبقي الفم ككهف خال عن ساكنه مشوهاً للوجه‪.‬‬

‫(‪ )1‬يف الشئ‪ :‬دخل فيه على تعب وشدة‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪111 :‬‬

‫وثالثاً‪:‬‬

‫يده على عيوهنم‬‫التغافل َ‬


‫ُ‬ ‫وضع‬
‫لزمهم ان يُرسلوا انظار العربة لتجتين هلم الدالئل اآلفاقية‪ ،‬لكن َ‬
‫(عمي) اشارة اىل اهنم عمهوا‬
‫ورد ‪ -‬وطرد ‪ -‬التعامي األنظار اىل أجفاهنم‪ .‬فقال القرآن‪ٌ :‬‬ ‫ّ‬
‫ورمز حبذف أداة التشبيه اىل ان عيوهنم اليت هي أنوار الرأس كأهنا‬
‫(‪ )1‬عن هذا الطريق أيضاً‪َ .‬‬
‫مشوهة يف جباههم‪.‬‬
‫قلعت فبقيت نُقرات ّ‬
‫ورابعاً‪:‬‬
‫البد من ان يعرفوا قبح حاهلم القبيح ليتنفروا فيندموا فيتوبوا فريجعوا‪ .‬لكن ملا زيّنت هلم‬
‫القبائح‪ ،‬قال القرآن‪:‬‬
‫َ‬ ‫أنفسهم ‪ -‬ألجل فساد الفطرة باالصرار وغلبة اهلوى والشيطان ‪ -‬تلك‬ ‫ُ‬
‫(فهم اليرجعون) اشارة اىل انسداد آخر الطرق عنهم‪ ،‬ورمزاً اىل اهنم وقعوا باختيارهم فيما ال‬
‫اختيار هلم يف اخلروج كاملضطرب يف حبر الرمل‪.‬‬

‫***‬

‫(‪ )1‬حتريوا يف طريقهم او امرهم‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪110 :‬‬

‫صابِ َع ُه ْم‬ ‫اَو َكصيِب ِمن َّ ِ ِ ِ‬


‫ات َوَر ْع ٌد َوبَـ ْر ٌق َْجي َعلُو َن اَ َ‬
‫السماء فيه ظُلُ َم ٌ‬ ‫ْ َّ َ‬
‫ِ‬ ‫ت َوهللا ُِحمي ٌ‬ ‫اع ِق ح َذر املو ِ‬ ‫ِيف اذاهنِِم ِمن َّ ِ‬
‫ص َارُه ْم‬
‫ف اَبْ َ‬ ‫ط بِالْ َكاف ِرينَ ‪ 11‬يَ ُ‬
‫كاد الْبَـ ْر ُق َخيْطَ ُ‬ ‫الص َو َ َ َْ‬ ‫ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صا ِره ْم ا ّن‬‫ب بِ َس ْمع ِه ْم َواَبْ َ‬ ‫ِ‬
‫ُكلَّما اَضاءَ َهلُ ْم َم َش ْوا فيه َواذَا اَظْلَ َم َعلَْيه ْم قَ ُاموا َولَ ْو َشاءَ هللا لَ َذ َه َ‬
‫هللا َعلى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير ‪24‬‬

‫اعلم! ان مدار النظر يف هذه اآلية ايضا من ثالثة وجوه‪ ،‬نظمها بسابقتها‪ ،‬والنظم بني‬
‫العادة للساعات‬
‫االميال ّ‬‫مجلها‪ ،‬مث النظر بني هيئات مجلة مجلة‪ .‬مثلها يف االرتباط كمثل ْ‬
‫والدقائق والثواين‪.‬‬

‫أما وجه النظم بينها وبني سابقتها فهو‪ :‬انه كرر التمثيل واطنب يف التصوير اشارًة اىل احتياج‬
‫تصوير حال املنافقني يف دهشتهم وحريهتم اىل نوعني منه‪ ،‬إذ‪:‬‬

‫خالصة التمثيل األول هي‪:‬‬


‫نفسه يف صحراء الوجود منفرد ًة عن األصحاب مطرود ًة عن مجعية الكائنات‬
‫ان املنافق يرى َ‬
‫كل شئ يف نظره معدوماً ويرى املخلوقات اجنبية‬
‫خارجةً عن حكم مشس احلقيقة‪ .‬يصري ُ‬
‫كلها‪ ،‬ساكنة وساكتة استوىل عليها الوحشة واخلمود‪ .‬وأين هذا من حال املؤمن الذي يرى‬
‫بنور االميان كل املوجودات احبّاءه ويستأنس بكل الكائنات؟‪.‬‬

‫وخالصة التمثيل الثاين هي‪:‬‬

‫ان املنافق يظن ان العا َمل بأجزائه ينعي عليه مبصائبه ويهدده ببالياه ويصيح عليه حبادثاته‬
‫وحييط به بنوازله كأن األنواع اتفقوا على عداوته فانقلب النافع ضاراً‪ .‬وما هذه احلالة اال لعدم‬
‫نقطيت االستمداد واالستناد كما مر‪ .‬واين هذا من حال املؤمن الذي يسمع باالميان‬
‫تسبيحات الكائنات وتبشرياهتا؟‪..‬‬

‫وأيضاً تكرار التمثيل امياء اىل انقسام املنافقني اىل الطبقة السفلية العامية املناسبة للتمثيل‬
‫االول واىل الطبقة املتكربة املغرورة املوافقة للتمثيل الثاين‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪119 :‬‬

‫وأما مناسبة هذا التمثيل ملقامه بالنظر اىل السامع فهي‪ :‬ان الصف األول من خماطيب القرآن‬
‫ابناء الفيايف يفرتشون الصحارى ويتخيّمون بفسطاط السماء‪ .‬وما منهم اال وقد رأى بنفسه‬
‫حس العموم؛ حبيث تؤثّر فيه‬
‫أو مسع من أبناء جنسه مثل هذه احلادثة حىت استأنس هبا ُّ‬
‫كضرب املثل‪.‬‬

‫وأما مناسبته للتمثيل األول فأظهر من ان خيفى‪ ،‬اذ هو كالتكملة والتتمة له مع االحتاد يف‬
‫كثري من النقط‪.‬‬

‫وأما مناسبة التمثيل للممثل له فبخمسة وجوه‪:‬‬


‫مجيع‬
‫منها‪ :‬وقوعهما كليهما يف شدة احلرية بانسداد كل طرق النجاة عليهم‪ ،‬وبان ضلت ُ‬
‫أسباب اخلالص عنهم‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬وقوعهما يف شدة اخلوف حىت يتخيل كل من املشبه واملشبه به‪ ،‬ان املوجودات اتفقت‬
‫على عداوته وال يأمن من بقائه يف كل دقيقة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬وقوعهما يف شدة الدهشة املنتجة الختبال العقل حىت ان كالً منهما يتبلّه‪ .‬كمثل من‬
‫يرى برق السيوف فيتحفظ بغمض بصره أو يسمع تقتقة البنادق فيتجنب عن اجلرح بسد‬
‫مسعه‪ .‬أو كمثل من ال حيب غروب الشمس فيمسك دوالب ساعته لئال يدور جرخ الفلك‬
‫الربق احملرق اليرتحم عليهم ِّ‬
‫بغض‬ ‫الدوار‪ ،‬فما أخبلهم!‪ ..‬اذ الصاعقةُ ال تنثين بسد االمساع‪ ،‬و ُ‬
‫ّ‬
‫األبصار‪ .‬ومن هنا يُرى ان مل يبق هلم ممسك‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان الشمس واملطر والضياء واملاء كما إهنا منابع حياة األزاهري وتربية النباتات‪ ،‬وسبب‬
‫موقعهما املنتظر هلما‬
‫تعفن امليتات وننت القاذورات؛ كذلك ان الرمحة والنعمة اذا مل تصادفا َ‬
‫والعارف بقيمتهما‪ ،‬تنقلبان زمحة ونقمة‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬انه كما يوجد التناسب بني املآلني الذي هو األصل يف انعقاد االستعارة التمثيلية بال‬
‫نظر اىل تطبيق األجزاء؛ كذلك يوجد مناسبات هنا بني أجزائهما؛ اذ الصيِّب حياة النباتات‬
‫كما ان االسالمية حياة األرواح‪ ،‬والربق والرعد يشريان اىل الوعد والوعيد‪ ،‬والظلمات تريك‬
‫شبهات الكفر وشكوك النفاق‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪116 :‬‬

‫وأما وجه النظم بني اجلمل‪:‬‬

‫فاعلم! ان التنزيل ملا قال (أو كصيب من السماء) مشرياً اىل اهنم كالذين اضطروا اىل السفر‬
‫مصائب تصيب مرماها‬
‫ُ‬ ‫يف صحراء موحشة يف ليلة مظلمة حتت مطر شديد‪،‬كأن قطراتِه‬
‫اجلو بكثرهتا؛ استيقظ ذهن السامع منتظراً لبيان السبب يف ان صار‬ ‫بصوهبا وقد مألت ّ‬ ‫َ‬
‫ب الذي هو يف األصل رمحة مرغوبة مصيبةً هائلة فقال مصوراً لدهشته‪( :‬فيه ظلمات)‬ ‫الصيّ ُ‬
‫مشرياً اىل ان املطر كما هو ظرف لظلمة السحاب ولكثافته؛ كذلك ألجل عمومه وكثرته‬
‫ات مسود ًة بني قطراته‪ ..‬مث ما من سامع يسمع (فيه‬ ‫واحاطته كأنه ظرف للّيلة املتَـ َفتِتَة قطر ٍ‬
‫ُ‬
‫ظلمات) اال وينتظر لبيان‪ .‬كأن املتكلم مسع صدى الرعد من ذهن السامع فقال‪( :‬ورعد)‬
‫مشرياً اىل هتويل احلال وتشديدها بان السماء أمرية املوجودات عزمت على اهالكهم‪ ،‬وتصيح‬
‫عليهم برعدها؛ اذ املصاب املدهوش يتخيل من الكائنات املتعاونة على اضراره حركة مزعجة‬
‫توهم اهنا تتكلم مبا يهدده وتصيح‬ ‫حتت سكوهنا‪ ،‬ونطقاً مهيباً حتت سكوهتا‪ .‬فاذا مسع الرعد َّ‬
‫عليه؛ اذ باخلوف حيسب كل صيحة عليه‪ ..‬مث ان السامع اليسمع الرعد االّ ويستهل فيربق‬
‫الدائمي‪ ،‬ولذلك قال‪( :‬وبرق) مشرياً بالتنكري اىل انه غريب عجيب‪ .‬نعم! هو‬ ‫ّ‬ ‫يف ذهنه رفيقه‬
‫يف نفسه عجيب؛ اذ بتولده ميوت عاملٌ من الظلمات فتطوى وتلقى اىل العدم‪ ،‬ومبوته فجأة‬
‫حيىي وحيشر عامل من الظلمات‪ .‬كأنه نار حينما تنطفئ تورث ملء الدنيا دخاناً‪ .‬ومن شأن‬
‫املصاب هبا ان ميعن النظر وال مير بنظر سطحي بناء على االلفة واملناسبة حىت يتكشف عن‬
‫دقائق صنع القدرة‪ ..‬مث بعد هذا التصوير كأن ذهن السامع يتحرك سائال‪ :‬كيف يعملون؟‬
‫ِوِبَ يتشبثون؟ فقال‪( :‬جيعلون أصابعهم يف اذاهنم من الصواعق حذر املوت) مشرياً اىل ان‬
‫المناص وال ملجأ وال منجى هلم حىت اهنم كالغريق يتمسكون مبا اليـُتَ َمسك به‪ .‬فمن‬
‫التدهش يستعملون األصابع موضع األنامل كأن الدهشة تضرب على أيديهم فيدخلون‬
‫األصابع من الوجع يف اآلذان ومن التبله اهنم يسدون اآلذان لئال تصيبهم الصواعق‪ ..‬مث بعد‬
‫خصت ُفريجى؟ فقال‪( :‬وهللا حميط‬ ‫أعمت املصيبة أم ّ‬ ‫ذهن السامع سائال‪ّ :‬‬ ‫هذا يتحرى ُ‬
‫بالكافرين) مشرياً اىل ان هذه املصيبة جزاءٌ لكفراهنم النعمة‪ .‬يؤاخذهم هللا تعاىل به لشذوذهم‬
‫عن القانون االهلي املودع يف اجلمهور‪ .‬مث ملا مسع شدة الرعد حي ّدث نفسه بـ "أال يفيدهم‬
‫الربق بأراءة الطريق"؟ فقال‪:‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪117 :‬‬


‫(يكاد الربق خيطف أبصارهم) مشرياً اىل انه كما ان الرعد يعاديهم فال يستطيعون السمع؛‬
‫كذلك الربق خياصمهم باضاءته فيظلم أبصارهم‪ ..‬مث بعد مساع جتاوب الكائنات على‬
‫عداوهتم ينادي ذهن السامع بـ "فما مصري حاهلم وما يفعلون؟ ومبه يشتغلون؟" فقال‪( :‬كلما‬
‫أضاء هلم مشوا فيه واذا اظلم عليهم قاموا) مشرياً اىل اهنم مشوشون مرتددون متحريون‬
‫مرتقبون ألدىن فرصة وألدىن رؤية للطريق‪ .‬فكلما تراءت هلم يتحركون لكن كحركة املذبوح‬
‫الضطراب أرواحهم‪ ،‬ويتخطون خطى يسرية مع علمهم بان الفائدة‪ ،‬وكلما غشيتهم الظلمة‬
‫فجأة ينجمدون يف مقامهم‪ ..‬مث يستعد ذهن السامع لالستفسار بـ ِ‬
‫"ملَ الميوتون أو يعمون أو‬ ‫ُ‬
‫باملرة فيخلصون عن االضطراب؟" فقال‪( :‬ولو شاء هللا لذهب بسمعهم وأبصارهم)‬ ‫يصمون ّ‬
‫أي ليسوا مستحقني للخالص من االضطراب وهلذا التتعلق املشيئة باماتتهم ولو تعلقت‬
‫لتعلقت بذهاب مسعهم وبصرهم‪ .‬ولكن بقاء السمع الستماع العقاب ووجود البصر لرؤية‬
‫العذاب أجدر مبن شذ ونشز عن قانونه تعاىل‪..‬‬

‫مث ان هذه القصة ملا احتوت على نقاط يتلوح من معاطفها استطراداً‪ :‬العظمة والقدرة االهلية‬
‫وتصرفه تعاىل يف الكائنات‪ ،‬وال سيما يتذكر السامع تبعا يف تالفيفها عجائب الرعد والربق‬
‫والسحاب‪ ،‬كان من حق السامع املتيقظ وجدانُه ان يعلن ويقول‪ :‬سبحانه ما أعظم قدرَة َم ْن‬
‫هذه الكائنات جتلِّي هيبته وهذه املصيبات جتلِّي غضبه‪ .‬فقال‪( :‬ان هللا على كل شيء‬
‫قدير)‪.‬‬

‫وأما نظم هيئات مجلة مجلة‪:‬‬

‫فاعلم! ان "أو" يف (او كصيب) اشارة اىل انقسام حال املمثل اىل قسمني‪ ،‬ورمز اىل حتقيق‬
‫املناسبة بني التمثيلني وبينهما وبني املمثل له وامياء اىل مسلّمية املشاهبة‪ ..‬وأيضا متضمن لـ‬
‫"بل" الرتقية؛ اذ التمثيل الثاين اش ّد َه ْوالً‪ .‬وان "كصيب" لعدم مطابقته للمثل يقتضي تقدير‬
‫الزم‪ ،‬والسكوت عن اظهار املقدر لالجياز‪ ،‬واالجياز يف اللفظ الطناب املعىن باحالته على‬
‫خيال السامع باالستمداد من املقام‪ .‬فبعدم املطابقة كأنه يقول‪ :‬أو كالذين سافروا يف صحراء‬
‫خالية وليلة مظلمة فاصابتهم مصائب بصيب‪ .‬وان العدول عن لفظ املطر املأنوس املألوف‬
‫اىل الصيب رمز اىل أن قطرات ذلك املطر كمصائب ترمى اليهم بقصد فتصيبهم مع فقد‬
‫الساتر عليهم‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪119 :‬‬

‫وان ذكر (من السماء )مع بداهة ان املطر ال جيئ االّ من جهتها امياء بالتخصيص اىل‬
‫ِ‬
‫األرض وال طائر يطري‬ ‫(وما ِم ْن دابٍّة يف‬
‫التعميم وبالتقييد اىل االطالق نظري التقييد يف َ‬
‫جبناحيه)(‪ )1‬أي مطبق آخذ بآفاق السماء‪ .‬وما استدل بعض املفسرين بلفظ من السماء‬
‫جبال فيها ِمن بَـَرٍد)(‪ )2‬على نزول املطر من جرم السماء‬
‫السماء من ٍ‬‫ِ‬ ‫هنا ويف آية (ويـُنَـِّزُل من‬
‫فنظر البالغة اليرى عليه سكةَ احلقيقة‪ .‬بل‬ ‫حىت ختيل "بعض" وجود حبر حتت السماء‪ُ ،‬‬
‫املعىن‪ :‬من جهة السماء‪ .‬والتقييد ملا عرفت‪ .‬وقد قيل السماء ما عالك‪ ،‬فالسحاب كاهلواء‬
‫مساء‪.‬‬

‫اجلهات أي ميكن النزول من أية جهة‬‫ُ‬ ‫وحتقيق املقام‪ :‬هو انك ان نظرت اىل القدرة تتساوى‬
‫ِ‬
‫املؤسسة للنظام األحسن يف األشياء املستل ِزم حملافظة‬
‫كانت‪ .‬وان نظرت اىل احلكمة االهلية ّ‬
‫ِ‬
‫املرجحة ألقرب الوسائل فاملطر امنا هو من تكاثف البخار املائي املنتشر يف‬
‫املوازنة العمومية ّ‬
‫املائي املنتشر يف أعماقها‪.‬‬
‫كرة اهلواء اليت احد أجزائها العشرة ذلك البخار ّ‬
‫كل‪ ،‬ويتسللن من األطراف ومن كل فج‬
‫وتوضيحه‪ :‬ان ذراته اذا امرهتا االرادة االهلية‪ ،‬يتمثل ٌ‬
‫بعض فتصري قطر ٍ‬
‫ات تأخذها‬ ‫تكاثف ٍ‬ ‫حزبن سحاباً هامراً‪ .‬مث بارادة آمرها يشت ّد‬
‫عميق‪ .‬فيت َّ‬
‫ُ‬
‫بعض بعضاً‬
‫بأيديهم املالئكةُ الذين هم ممثلو القوانني ومعكس النظامات لئال يزاحم ويصادم ٌ‬
‫فيضعوهنا على األرض‪ .‬وألجل حمافظة املوازنة يف اجلو البد من ِ‬
‫بدل ما يتحلل بالتقطر‪،‬‬ ‫ّ‬
‫فم ْحمله انه تصور‬
‫مساوي َ‬
‫ّ‬ ‫بخر البحر واألرض فيمأل منازهلا‪ .‬وأما ختيل ٍ‬
‫بعض وجود حبر‬ ‫فيُ َّ‬
‫اجلو لون البحر‪ ،‬والحتواء اجلو على ماء أكثر من البحر احمليط‬
‫اجملاز حقيقةً؛ اذ الراءة خضرة ّ‬
‫ما استبعد تشبيهه بالبحر‪.‬‬
‫(وينزل من السماء من جبال فيها من برد) فاعلم! ان اجلمود على الظاهر مع التوقد يف‬ ‫أما ّ‬
‫استعارهتا مجود بارد ومخود ظاهر‪ .‬اذ كما تضمن (قَـ َوا ِر َير ِم ْن فِض ٍَّة)(‪ )1‬استعارة بديعة؛‬
‫(م ْن ِجبَ ٍال فيها ِم ْن بَـَرٍد) على استعارة بديعة عجيبة مستملحة‪ .‬فكما ان‬ ‫كذلك حيتوي ِ‬
‫ظروف اجلنة مل تكن من الزجاجة والمن الفضة بل يف شفافية الزجاج وبياض الفضة ومن‬
‫حيث ان الزجاجة التكون من الفضة لتخالف‬

‫(‪ )1‬سورة االنعام‪.19 :‬‬

‫(‪ )2‬سورة النور‪.01 :‬‬

‫(‪ )1‬سورة االنسان‪.16 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪111 :‬‬

‫"من"‪ ،‬كذلك (من جبال فيها من برد) متضمنة‬ ‫النوعني اشار اىل االستعارة باالضافة بذكر ِ‬
‫شعري بالنظر اىل السامع‪ .‬وذلك اخليال مبين على مالحظة‬ ‫ّ‬ ‫الستعارتني مؤسستني على خيال‬
‫السفلي‪ .‬وتلك املالحظة مبنية على‬
‫ّ‬ ‫العلوي وتشكل العامل‬
‫ّ‬ ‫املشاهبة واملماثلة بني متثل العامل‬
‫اجلو يف لبس الصور من يد القدرة كأن األرض ملا برزت‬ ‫تصور املسابقة والرقابة بني األرض و ّ‬
‫جبباهلا الالبسة للبيض من حلل الثلج والبَـَرد يف الشتاء‪ ،‬واملتعممة هبا يف الربيع‪ .‬مث تزينت يف‬
‫الصيف ببساتينها املتلونة فأظهرت يف نظر احلكمة بانقالباهتا معجزة القدرة االهلية‪ ،‬قابلَها‬
‫جو السماء حماكياً هلا مسابقاً معها إلظهار معجزة العظمة االهلية فربز متربقعاً ومتقمصاً‬ ‫ُّ‬
‫بالسحاب املتقطع جباال وأطواداً وأودية‪ ،‬واملتلون بألوان خمتلفة مصورة لبساتني األرض‪،‬‬
‫ملوحا ذلك اجلو بأجلى دالئل العظمة وأجلها‪ .‬فبناء على هذه الرؤية واملشاهبة والتوهم‬
‫الصيفي باجلبال والسفن والبساتني‬
‫ّ‬ ‫اخليايل استحسن اسلوب العرب تشبيه السحاب السيما‬ ‫ّ‬
‫واألودية وقافلة اإلبل كما تسمع من العرب يف خطبهم‪ .‬فيخيل اىل نظر البالغة ان قطعات‬
‫هز عصا بَرقه‬ ‫السحاب الصيفي سيارة وسبّاحة يف اجلو‪ ،‬كأن الرعد راعيها وحاديها كلما ّ‬
‫على رؤسهم يف البحر احمليط اهلوائي اهتزت تلك القطعات وارجتت‪ ،‬وتراءت جباال صادفت‬
‫احلشر‪ ،‬أو سفنا يلعب هبا يد العاصفة‪ ،‬أو بساتني ترججها من حتتها الزلزلة‪ ،‬أو قافلة شردت‬
‫من هجوم قطاع الطريق‪ .‬ومع ذلك يسريون وجيرون بأمر خالقهم حىت كأن كل ذرة من‬
‫نت يف مكاهنا ّاوال ساكتة ساكنة منتظرة ألمر خالقها‪ .‬وملا ناداها‬
‫تكم ْ‬
‫ذرات ذلك البخار َّ‬
‫ـ"ح َّي على االجتماع واالحتاد!" تسارعوا من منازهلم‬
‫الرعد ‪ -‬كاآللة املعروفة يف العسكر ‪ -‬ب َ‬
‫ُ‬
‫مهطعني اىل داعيهم فيحشرون سحابا‪ .‬مث بعد ايفاء الوظيفة وأمرهم باالسرتاحة يطري كل اىل‬
‫وكره‪ ..‬فبناء على هذه املناسبة اخليالية‪ ،‬وعلى اجملاورة بني السحاب واجلبال ‪ -‬إذ اجلبل‬
‫جلذب الرطوبة يتظاهر ويتشكل السحاب عليه مبقداره ويلبس لباسه ‪ -‬وعلى تلون السحاب‬
‫بنظري بياض الثلج والربد وتكيفه برطوبتهما وبرودهتما‪ ،‬وعلى وجود األخوة بينهما ومبادلة‬
‫الصورة واللباس هلما يف كثري من مواضع القرآن ومصافحتهما يف منازل التنزيل كمحاورهتما‬
‫ومعانقتهما يف كثري من سطور صحيفة األرض من كتاب‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪104 :‬‬

‫العامل فرتى السحاب متوضعا على اجلبل ويصري اجلبل كأنه مرسى لسفن السحاب ترسى‬
‫عليه‪ ،‬أو جملس تتشاور عليه‪ ،‬أو وكر تطري اليه ‪ -‬استحق حبكم اجملاورة يف نظر البالغة ان‬
‫فيعرب عن السحاب باجلبل ‪ -‬مع تناسي التشبيه‪ .‬فاذا قد عرفت ما‬ ‫يتبادال ويستعريا لوازمهما ّ‬
‫أي من جهة السماء‪" .‬من جبال" أي من‬ ‫مسعت من املناسبات فـ (يُ ّنزل من السماء) ْ‬
‫سحاب كاجلبال‪" .‬من برد" أي يف لونه ورطوبته وبرودته‪.‬‬

‫فيا هذا! ما أجربك مع وجود هذا التأويل الذي تقبله البالغة على اعتقاد نزول املطر بدقيقتني‬
‫من مسافة مخس مائة سنة املخالف حلكمة هللا الذي اتقن كل شئ صنعاً‪.‬‬

‫أما هيئات مجلة‪( :‬فيه ظلمات) املسوقة للتهويل؛ فتقدمي (فيه) اشارة اىل ان خيال املصاب‬
‫املدهوش والسامع املستحضر خياله لتلك احلال يتوهم ان ظلمات الليايل الكثرية افرغت‬
‫بتمامها يف تلك الليلة‪ .‬وأما الظرفية مع ان الصيب مظروف فرمز اىل ان املتدهش بتلك‬
‫املصيبة يظن فضاء العامل حوضا قد ملئ من املطر‪ ،‬فما الليل اال مظروف مفتت بني أجزائه‪.‬‬
‫وأما مجع "الظلمات" فامياء اىل تنوعها من ظلمة سواد السحاب وكثافته وانطباقه‪ ،‬ومن‬
‫تقارب دفعات املطر وتكاثف قطره‪ ،‬ومن تضاعف ظلمة الليل‪ .‬وأما تنكري (ظلمات)‬
‫فلالستنكار‪ ،‬وجلهل املخاطب فهو تأكيد (ظلمات)‪.‬‬

‫وأما مجلة (ورعد وبرق) فاعلم! ان املقصد تصوير حريهتم ودهشتهم‪ ،‬وان املصاب املتحري‬
‫جيمع متام دقته ونظره اىل أدىن حادث‪ .‬فإلمعان النظر يتفطنون ملا يف الرعد والربق من‬
‫االنقالبات العجيبة والتحول الغريب‪ .‬اذ بينما يرى املصابون ظلمة استولت على الكائنات‬
‫املييت؛ اذ يرون‬ ‫ِ‬
‫اليتمي والسكوت ّ‬‫ّ‬ ‫بالغم‬
‫وابتلعت املوجودات ‪ -‬نظري العدم ‪ -‬فتنقلب حريُهتم ّ‬
‫اظهر دالئل الوجود‪ ،‬وهو تكلم العلويات‪ ،‬مث ظهورها بكشف احلجاب فينقلب نظرهم اىل‬
‫نظر املدهوش املتحري اخلائف؛ اذ كما اهنم اذا رأوا ظلمات غري حمصورة يف فضاء غري متناه‪،‬‬
‫ضعف فيه ٍ‬
‫جبانب يُبقي هلم أمالً‪ ،‬ينظرون نظر اليأس؛ كذلك اذا فاجأهم بغتة انعدام‬ ‫َ‬ ‫ال‬
‫يأسهم املطلق اىل رجاء‪.‬‬
‫الظلمات بان افرغت من الفضاء‪ ،‬وملئ بدهلا نوراً ينقلب ُ‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪101 :‬‬

‫الغييب يف أيدي املالئكة املوكلني على‬


‫اعلم! ان الرعد والربق آيتان ظاهرتان من جهة العامل ّ‬
‫باملسببَات فاذا تشكل‬
‫عامل السحاب لتنظيم قوانينه‪ .‬مث ان احلكمة االهلية ربطت األسباب َّ‬
‫السحاب من خبار املاء املنتشر يف اهلواء؛ صار قسم حامالً "لاللكرتيك" املنفي وقسم حامالً‬
‫"لاللكرتيك" املثبت؛ فحينما يتقاربان يتصادمان دفعة فيتولد الربق‪ .‬مث باهلجوم واالنقالع‬
‫دفعة وامتالء موضعه بآخر لعدم اخللو‪ ،‬يهتز وتتموج الطبقات فيتولد صدى الرعد‪ .‬وال جتري‬
‫هذه احلاالت اال حتت نظام وقانون يتمثلهما َملَك الرعد والربق‪ .‬وأما ظرفية الصيّب هلما مع‬
‫ان الظرف هو السحاب فألن املدهوش والسامع املتدهش بدهشته يرى الصيب حميطا بكل‬
‫شئ إلحاطته بنفسه‪ .‬وأما إفراد الرعد والربق مع مجع الظلمات‪ ،‬فاشارة اىل ان منشأ الدهشة‬
‫كشف احلجاب باالبراق‪ ،‬ومها معىن‬‫وهتديدها باإلرعاد‪ ،‬و َ‬
‫َ‬ ‫تكلم السماء‬
‫ختيل املصاب َ‬
‫مصدري للكالم واليد البيضاء‪ .‬وأيضا كل منهما نوع واحد وان تعددت أفراده‪.‬‬
‫ّ‬
‫وبرق) فبدل من الصفة‪ ،‬أي‪ :‬رعد قاصف وبرق خاطف‪ ،‬ودالة على عدم‬ ‫وأما تنوين (رع ٌد ٌ‬
‫االلفة هبما بسبب التفطن بالدقة ملا فيهما من العجائب‪ ..‬وأيضاً فيها امياء اىل اهنم اليعرفون‬
‫ذلك الرعد والربق لسد السمع وغض البصر‪.‬‬

‫وأما هيئات مجلة (جيعلون أصابعهم يف اذاهنم من الصواعق حذر املوت)‬

‫فاعلم! اهنا جواب لسؤال مقدر واستيناف حسن؛ اذ السامع ملا توجه اىل هذه القصة احلسية‬
‫التصوير‬
‫َ‬ ‫كمل التصوير‬
‫التمثيلية حصل له ميالن شديد لكشف حال املصيبة‪ .‬مث بعد ان ّ‬
‫وقضى منه الوطر انثىن جمرى امليالن اىل كشف حال املصاب‪ .‬فكأنه يقول السائل‪ :‬كيف‬
‫حال املصاب حينئذ وِب يتشبث للنجاة؟ فأجاب القرآن بقوله‪( :‬جيعلون اصابعهم)‪ ..‬اخل‪.‬‬
‫أي المناص هلم‪ ،‬امنا هم كالغرقى يتمسكون بغري متمسك فرييدون التحفظ من جمانيق(‪)1‬‬
‫حمال‪ ،‬فال سبب‪.‬‬
‫السماويني بسد األمساع‪ .‬وكونه سبباً ٌ‬

‫وأما لفظ (جيعلون) بدل "يدخلون" فامياء اىل اهنم حتروا األسباب فما صادفوا اال ماسببيته‬
‫جبعلهم وظنهم فقط‪ ..‬وصورة املضارع املستحضرة للحال فرمز‬

‫(‪)1‬مجع منجنيق‪ :‬آلة حربية ترمى" هبا القذائف‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪102 :‬‬

‫اىل ان السامع يف مثل هذا املقام املهيج للحرية حيضر خبياله زمان الواقعة ومكان احلادثة‪ .‬مث‬
‫يف املضارع استمرار جتددي‪ .‬ويف استمراره امياء اىل تواتر تقتقة السحاب‪.‬‬

‫وأما (أصابعهم) بدل "أناملهم" فاشارة اىل شدة احلرية باستعمال األصابع موضع األنامل‪.‬‬

‫وأما يف (اذاهنم) فامياء اىل شدة اخلوف من صدى الرعد حىت خييل اليهم انه لو دخل الرعد‬
‫لطري األرواح من أبواب األفواه‪ .‬وفيه رمز لطيف اىل اهنم ملا مل يفتحوا آذاهنم‬
‫يف شبكة اآلذان ّ‬
‫لنداء احلق والنصيحة عوقبوا من تلك اجلهة بنعرات الرعد‪ ،‬فسدوا هنا ما سدوا هناك‪ ،‬كمن‬
‫فيدخل ميني الندامة يف فيه ويضع يسار اخلجالة‬ ‫اخرج كالما شنيعا ِمنِ ِ‬
‫ضَرب على فمه ُ‬
‫فيه يُ ْ‬
‫على عينه‪.‬‬

‫وأما (من الصواعق) فاشارة اىل احتاد الرعد والربق على اضراره؛ اذ الصاعقة صوت شديد‬
‫معه نار حمرقة تصرع من صادف‪.‬‬

‫وأما (حذر املوت) فاشارة اىل ان البالء ج ّذ (‪ )1‬اللحم اىل العظم‪ ،‬وجاز األحوال اىل‬
‫احلياة‪ ،‬فما يعنيهم االّ غم املوت وحفظ احلياة‪.‬‬

‫وأما هيئات مجلة (وهللا حميط بالكافرين)‬

‫فاعلم! ان "الواو" تقتضي املناسبة‪ ،‬وما املناسبة اال بني هذه وبني التابع ملآل السابقة‪ .‬فكأن‬
‫هذه "الواو" تقرأ عليهم‪" :‬هم قوم فروا من العمارة ونفروا من احلضارة وعصوا قانون كون‬
‫الليل سباتا ومل يطيعوا نصيحة الناصح فظنوا النجاة باخلروج اىل الصحراء فخابوا وأحاط هبم‬
‫بالء هللا"‪.‬‬

‫وأما لفظ (هللا) فرمز اىل قطع آخر رجائهم؛ اذ املصاب امنا يلتجئ ويتسلى اوالً وآخراً اىل‬
‫رمحة هللا‪ ،‬فحني استحقوا غضب هللا تعاىل انطفأ ذلك الرجاء‪.‬‬

‫وأما لفظ (حميط) فامياء اىل ان هذه املصائب احمليطة آثار غضبه تعاىل‪ ،‬فكما ان السماء‬
‫هتجم عليهم من اجلهات الست؛ كذلك غضبه تعاىل وبلياته‬ ‫والسحاب والصيّب والليل ُ‬
‫حميطة هبم‪ ..‬وأيضاً علمه تعاىل وقدرته حميطان بكل الكائنات‪ ،‬وأمره‬

‫وجز َّه‪ :‬قطعه‪.‬‬


‫وجز َّه‪ :‬قطعه‪ .‬ج ّذه ّ‬
‫(‪ )1‬ج ّذه ّ‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪101 :‬‬

‫شامل لكل الذرات‪ .‬فكأن (حميط) يتلو عليهم‪ :‬التنفذون من أقطار السموات واألرض‪،‬‬
‫فثم وجه هللا )‪)1(.‬‬
‫(فأينما تولوا َّ‬
‫وأما تعلق "الباء" فرمز اىل اهنم وقعوا فيما هربوا عنه فصاروا هدفا للسهام‪.‬‬

‫وأما التعبري بالكافرين فاشارة اىل اراءة متثال املمثل ‪ -‬أعين املنافقني ‪ -‬يف مرآة التمثيل‪ ،‬لئال‬
‫يتوغل فيه ذهن السامع فينسى املقصد‪ ..‬ورمز اىل ان املشاهبة وصلت اىل درجة‪ ،‬وتضايق‬
‫املسافة بينهما اىل ح ّد يرتاءيان معا‪ ،‬فتمتزج احلقيقة باخليال‪ ..‬وأيضاً امياء اىل ظلمة قلوهبم اذ‬
‫وجداهنم أيضاً يعذهبم لقصورهم وجنايتهم؛ اذ من رأى جزاء جنايته اليسرتيح وجدانه‪.‬‬

‫وأما هيئات مجلة‪( :‬يكاد الربق خيطف أبصارهم) فاستينافها يشري اىل ان السامع يقول‪ :‬أال‬
‫ُجيب بأهنم خيافون من الضرر فضالً عن‬
‫ينتفعون بالربق املخفف لبالء الظلمة عنهم؟ فأ َ‬
‫الفائدة‪.‬‬

‫وأما (يكاد)(‪ )2‬فيشري باعتبار خاصته املشهورة اىل وجود سبب زوال البصر لكن مل يزل‬
‫لوجود مانع‪.‬‬

‫وأما (خيطف) باعتبار استعماله كاختطفته الغُول والعُقاب ففيه بالغة لطيفة تربق للذهن‬
‫مير هو‬
‫وتشري اىل ان الربق يسابق شعاع العني من قبل ان يصل اىل األشياء ليأخذ صورها ّ‬
‫عليه فيقطعه ويضرب على جفنه فيذهب بنوره‪ .‬كأن نور العني ملا خرج من بيته مسرعاً‬
‫ألجتناء صور األشياء يسارع الربق الذي هو شعاع عني الليل‪ ،‬فيأخذ من يد شعاع العني‬
‫صورته قبل ايصاله اىل املخزن‪ ،‬أي خيتلس الربق صورته من يده‪.‬‬

‫وأما (أبصارهم) فرمز ‪ -‬بناء على كوهنا مرآة للقلوب ‪ -‬اىل عمل بصائر املنافقني املتعامية‬
‫عن الرباهني القاطعة القرآنية‪.‬‬

‫وأما هيئات مجلة (كلما أضاء هلم مشوا فيه واذا اظلم عليهم قاموا) فاستينافها يشري اىل ان‬
‫السامع حينما رأى اختالف املصيبة وتغريها سأل عن شأهنم يف احلالتني فأجيب بذلك‪.‬‬

‫(‪ )1‬سورة البقرة‪.119 :‬‬


‫(‪)2‬كاد من افعال املقاربة وضعت ملقاربة اخلرب من الوجود لعروض سببه‪ ،‬لكنه مل يوجد إما‬
‫لفقد شرط او لعروض مانع (ب)‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪100 :‬‬

‫وأما (كلما) يف االضاءة و "اذا" يف االظالم فاشارة اىل شدة حرصهم على الضياء ينتهزون‬
‫ادىن الضياء فرصة‪ .‬وأيضا "كلما" متضمن لقياس مستقيم استثنائي‪.‬‬

‫وأما (اضاء هلم) بالم االَ ْجلية والنفع فرمز اىل ان املصاب املدهوش يستغرق يف حاجة نفسه‬
‫حىت يظن الضياء الذي تنشره يد القدرة يف العامل آلالف ِحك ٍم كلية أنه املراد به خاصة‪ ،‬ويد‬
‫القدرة امنا ارسلته ألجله‪.‬‬

‫واما (مشوا) مع اقتضاء الفرصة السري السريع فاشارة اىل ان املصيبة اقعدهتم فما سريهم‬
‫السريع االّ مشي وحركة على مهل‪.‬‬

‫واما (فيه) فاشارة اىل ان مسافة حركتهم الضياءُ الذي هو لون الزمان فكأنه حيدد هلم املكان‪.‬‬

‫واما (واذا) فـ "الواو" رمز اىل جتديد املصيبة لتشديد التأثري‪ .‬واما االمهال واجلزئية يف "اذا"‬
‫عكس "كلما" فاشارة اىل شدة نفرهتم وتعاميهم‪ ،‬فتأخذهم وهم منغمسون يف آن الفرصة‪.‬‬

‫وأما (اظلم) باالسناد اىل الربق فاشارة اىل ان الظلمة بعد الضياء اشد‪ .‬وامياء اىل ان خيال‬
‫املصاب ملا رأى الربق طرد الظلمة مث ذهب وامتأل موضعه بالظلمات يتخيل انه انطفأ واورث‬
‫دخاناً‪.‬‬

‫وأما (عليهم) ِّ‬


‫امللوح بالضرر فاشارة اىل ان االظالم ليس تصادفيا بل جزاء لعملهم‪ .‬ورمز اىل‬
‫ان املدهوش يتخيل الظلمةَ املالئة للفضاء كأهنا تقصد ‪ -‬من بني األشياء ‪ -‬ذلك االنسان‬
‫هدف هجومها وإضرارها‪.‬‬
‫الصغري الذليل وجتعله خاصة َ‬

‫تقوسوا كالراكعني كما هو‬


‫واما (قاموا) بدل "سكنوا" فاشارة اىل اهنم باملصيبة وشدة التشبث ّ‬
‫شأن اجمل ِّدين يف العمل‪.‬‬
‫وأما هيئات مجلة (ولو شاء هللا لذهب بسمعهم وأبصارهم) فالـ "واو" بسر الربط ت ّلوح اىل ان‬
‫يد القدرة تتصرف حتت حجاب األسباب‪ ،‬وان نظر احلكمة يراقب من فوق مجيع العلل‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪109 :‬‬

‫استثنائي غري مستقيم‪ .‬أي عدم املشيئة علة لعدم ذهاهبما؛ كما‬
‫ّ‬ ‫وأما (لو) فمتضمنة لقياس‬
‫ان عدم الذهاب دليل على العلم بعدم املشيئة بذهاهبما‪ .‬وأيضاً رمز اىل ان السبب بلغ‬
‫النهاية‪.‬‬

‫وأما (شاء) فاشارة اىل ان الرابط بني السبب واملسبَّب امنا هي املشيئة واالرادة اإلهلية‪ .‬فالتأثري‬
‫للقدرة‪ ،‬وما االسباب إال حجاب العزة والعظمة لئال تباشر يد القدرة باألمور اخلسيسة يف‬
‫ظاهر نظر العقل‪.‬‬

‫وأما التصريح بلفظة (هللا) فاشارة اىل زجر الناس عن ا ِإلبتالء باألسباب واالنغماس فيها‪.‬‬
‫وأيضا لدعوة األذهان اىل رؤية يد القدرة خلف كل األسباب‪ ..‬وأما حذف مفعول "شاء"‬
‫وان كان واجبا بالقاعدة املطردة فيجوز بقرينة اخواته ان يكون امياء اىل عدم تأثر املشيئة‬
‫واالرادة االهلية بأحوال الكائنات وعدم تأثري األشياء يف الصفات االهلية كما تتأثر ارادة البشر‬
‫حبسن األشياء وقبحها وعظمتها وصغرها‪.‬‬

‫واما (لذهب) فاشارة اىل ان األسباب ليست مسلطة ومستولية على املسببات حىت اذا ُرفعت‬
‫بقيت املسببات يف جوف العدم تلعب هبا يد التصادف وتشتّتها باالتفاق‪ ،‬بل يد القدرة‬
‫يد احلكمة االهلية بقانون املوازنة‬
‫حاضرة خلف األسباب‪ .‬اذا أخرجت األشياءَ تأخذها ُ‬
‫خربت بُنية املاء‪ ،‬فبالنظام‬
‫واالنتظام‪ ،‬ترسلها اىل مواقع اُخر والهتملها‪ .‬كما ان احلرارة اذا ّ‬
‫املندمج يف اهلواء يذهب البخار يف جمرى معني ويسوقه صانعه اىل موقع معني‪ ..‬وكذا يف‬
‫"ذهب" رمز اىل ان احلواس اخلمس الظاهرة ليست متولدة عن الطبيعة وال الزمة لتجاويف‬
‫السمع والبصر‪ ،‬بل امنا هي هداياه تعاىل وعطاياه‪ .‬وما التجاويف واألسباب االّ شرائط‬
‫عادية‪.‬‬
‫وأما التعدية بالباء بدل اهلمزة فامياء اىل ان يد القدرة ال تطلق األشياء عن حبل األسباب‪،‬‬
‫ازمتها بيد نظام‪.‬‬
‫َغارُهبا على عنقها (‪ )1‬بل تضع ّ‬
‫واما افراد "السمع" مع مجع "البصر" فاشارة اىل افراد املسموع وتعدد املبصر‪ ،‬اذ الف رجل‬
‫يسمعون شيئاً واحداً مع ختالف املبصرات‪.‬‬

‫بك‪ .‬والغارب‪ :‬اعلى السنام‪ .‬وهذا كناية عن الطالق‪ ،‬اى‪:‬‬ ‫(‪ )1‬اصل املثل‪ِ :‬‬
‫حبلك على غار ِ‬
‫اذهىب حيث ِ‬
‫شئت (جممع االمثال)‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪106 :‬‬

‫وأما هيئات مجلة (ان هللا على كل شيء قدير) فاعلم! اهنا فذلكة لتحقيق الدهشة يف‬
‫التمثيل واملمثل له تشري اىل انه كما ال هتمل دقائق أحوال املصابني املتمثلة جلزئيات أحوال‬
‫املنافقني؛ كذلك يُرى يف كل ذرة تصرف القدرة االهلية‪.‬‬

‫واما (ان) فمع اشارهتا اىل ان هذا احلكم من احلقائق الراسخة‪ ،‬رمز اىل عظمة املسألة‬
‫للرتدد يف‬ ‫ِ‬
‫ووسعتها ودقتها‪ ،‬وعجز البشر وضعفه وقصوره عنها املولّدة لألوهام املنتجة ّ‬
‫اليقينيات‪.‬‬

‫واما التصريح بلفظة (هللا) فامياء اىل دليل احلكم‪ ،‬اذ القدرة التامة الشاملة الزمة لاللوهية‪.‬‬

‫دى َمهالً‪ ،‬بل ترقب‬


‫وأما (على) فامياء اىل ان القدرة املخرجة لالشياء من العدم ال ترتكها ُس ً‬
‫عليها احلكمة وتربيها‪.‬‬

‫وأما (كل) فاشارة اىل ان آثار األسباب‪ ،‬واحلاصل باملصدر من األفعال االختيارية أيضا‬
‫بقدرته تعاىل‪.‬‬

‫وأما لفظ (شيء) مبعىن مشئ أي ما تعلقت به املشيئة‪ ،‬فاشارة اىل ان املوجودات بعد‬
‫وجودها التستغين عن الصانع بل تفتقر يف كل آن لبقائها ‪ -‬الذي هو تكرر الوجود ‪ -‬اىل‬
‫تأثري الصانع‪.‬‬
‫وأما لفظ (قدير) بدل "قادر" فرمز اىل ان القدرة ليست على مقدار املقدورات فقط‪ ،‬واهنا‬
‫ذاتية ال تغري فيها‪ ،‬والزمة التقبل الزيادة والنقصان لعدم امكان ختلل ضدها حىت ترتتب شدة‬
‫ونقصانا‪ ..‬وتلويح اىل ان القدرة كاجلنس وكميزان الصرف‪ ،‬أعين‪( :‬فَـ َع َل) جلميع األوصاف‬
‫الفعلية من الرزاق والغفار واحمليي واملميت وغريها‪ .‬تفكر فيما مسعت حق التفكر!‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪107 :‬‬

‫ين ِم ْن قَـْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬


‫اس ْاعبُ ُدوا َربَّ ُك ُم الذي َخلَ َق ُك ْم َواَلذ َ‬
‫يَا اَيـُّ َها النّ ُ‬
‫الس ِ‬
‫ماء َماءً فَاَ ْخَر َج بِِه ِم َن‬ ‫الس َماءَ بِنَاءً َواَنْـَزَل ِم َن َّ‬ ‫ض فَِراشاً َو َّ‬ ‫ِ‬
‫تَـتَّـ ُقو َن ‪ 21‬الَّذي َج َع َل لَ ُك ْم األ َْر َ‬
‫الثَّمر ِ‬
‫ات ِرْزقاً لَ ُك ْم فَال َْجت َعلُواِ هلل اَنْ َداداً َواَنْـتُ ْم تَـ ْعلَ ُمو َن ‪22‬‬ ‫ََ‬
‫مقدم ـ ـ ــة‬

‫ِ‬
‫وملَكة؛ اذ األمور الوجدانية والعقلية‬ ‫ترسخ العقائد وتُ ِّ‬
‫صريها حاال َ‬ ‫اعلم! ان العبادة هي اليت ّ‬
‫آثارها وتأثرياهتا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تنمها وترّهبا العبادة ‪ -‬اليت هي امتثال األوامر واجتناب النواهي ‪ -‬تكن ُ‬
‫إن مل ّ‬
‫ضعيفة‪ .‬وحال االسالم ‪ 1‬احلاضرة شاهدة‪.‬‬

‫واعلم أيضاً! ان العبادة سبب لسعادة الدارين‪ ..‬وسبب لتنظيم املعاش واملعاد‪ ..‬وسبب‬
‫النوعي‪ ..‬وهي النسبة الشريفة العالية بني العبد وخالقه‪.‬‬
‫الشخصي و ّ‬
‫ّ‬ ‫للكمال‬

‫أما وجه سببيتها لسعادة الدنيا اليت هي مزرعة اآلخرة فمن وجوه‪:‬‬

‫منها‪ :‬ان االنسان ُخلق ممتازاً ومستثىن من مجيع احليوانات مبزاج لطيف عجيب‪ ،‬انتج ذلك‬
‫وميل الزينة‪ ،‬وميَالناً فطرياً اىل ان يعيش وحيىي مبعيشة‬
‫وميل األحسن َ‬
‫ميل االنتخاب َ‬ ‫املزاج فيه َ‬
‫وكمال الئقني باالنسانية‪ ..‬مث ألجل تلك امليول احتاج االنسان يف حتصيل حاجاته يف مأكله‬
‫وملبسه ومسكنه اىل تلطيفها واتقاهنا بصنائع مجة ال يقتدر هو بانفراده على كلها‪ .‬وهلذا‬
‫احتاج اىل االمتزاج مع أبناء جنسه ليتشاركوا‪ ،‬فيتعاونوا‪ ،‬مث يتبادلوا مثرات سعيهم‪ .‬لكن ملا مل‬
‫فطري لتأمني ترقّيهم َبزْمبَـَرِك‬ ‫ٍ‬
‫الصانع احلكيم قوى البشر الشهوية والغضبية والعقلية حب ّد ّ‬
‫ُ‬ ‫حيدد‬
‫االختياري ‪ -‬ال كاحليوانات اليت ُحددت قواها ‪ -‬حصل اهنماك وجتاوز‪ ..‬مث الهنماك‬‫ّ‬ ‫‪ 2‬اجلزء‬
‫القوى وجتاوزها ‪ -‬بسر عدم التحديد ‪ -‬حتتاج اجلماعة اىل العدالة يف تبادل مثرات السعي‪..‬‬
‫مث ألن عقل كل احد اليكفي يف درك العدالة احتاج النوع اىل عقل كلي للعدالة يستفيد منه‬
‫كلي‪ ،‬وما هو إالّ‬
‫عقل العموم‪ .‬وما ذلك العقل االّ قانون ّ‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬العامل االسالمي (ت‪)12 :‬‬

‫‪ 2‬النابض‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪109 :‬‬

‫مقنن وصاحب ومبلّغ ومرجع‪ ،‬وما‬ ‫الشريعة‪ ..‬مث حملافظة تأثري تلك الشريعة وجرياهنا البد من ِّ‬
‫النيب الدامة حاكميته يف الظواهر والبواطن ويف العقول‬ ‫النيب عليه السالم‪ ..‬مث ان ّ‬
‫هو االّ ّ‬
‫وخلُقاً‪ .‬وحيتاج أيضاً اىل‬
‫والطبائع حيتاج اىل امتياز وتفوق ماد ًة ومعىن‪ ،‬سريًة وصورة‪َ ،‬خ ْلقاً ُ‬
‫دليل على قوة املناسبة بينه وبني مالك امللك صاحب العامل‪ ،‬وما الدليل اال املعجزات‪ ..‬مث‬
‫لتأسيس اطاعة األوامر وتأمني اجتناب النواهي حيتاج اىل ادامة تصور عظمة الصانع‬
‫وصاحب امللك يف االذهان وما هو اال جتلي العقائد‪ ..‬مث الدامة التصور ورسوخ العقائد‬
‫حيتاج اىل مذ ّكِر مكرر وعمل متجدد‪ ،‬وما املذ ّكِر املكرر اال العبادة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ان العبادة لتوجيه األفكار اىل الصانع احلكيم‪ .‬والتوجه لتأسيس االنقياد‪ .‬واالنقياد‬
‫ل ِإليصال اىل االنتظام األكمل واالرتباط به‪ .‬واتباع النظام لتحقيق سر احلكمة‪ .‬واحلكمة‬
‫يشهد عليها اتقان الصنع يف الكائنات‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان االنسان كالشجر الذي علق على ذروته كثري من خطوط اآللة الربقية‪ ،‬قد الت ّفت‬
‫على رأسه رؤوس نظامات اخللقة‪ ،‬وامتدت مشرعة اليه قوانني الفطرة‪ ،‬وانعكست متمركزة فيه‬
‫اشعة النواميس االهلية يف الكائنات‪ .‬فالبد للبشر ان يتممها ويربطها وينتسب اليها ويتشبث‬
‫باذياهلا ليسري باجلريان العمومي حىت ال يُزلق واليُطرد وال يُلقى عن ظهر هذه الدواليب‬
‫املتحركة يف الطبقات‪ .‬وما هي اال بالعبادة اليت هي امتثال األوامر واجتناب النواهي‪.‬‬

‫نسب كثرية اىل مراتب عديدة يف‬‫ومنها‪ :‬ان بامتثال األوامر واجتناب النواهي حيصل لالنسان ٌ‬
‫كنوع؛ اذ كثري من األوامرالسيما اليت هلا متاس بالشعائر‬
‫اهليئة االجتماعية‪ ،‬فيصري الشخص ٍ‬
‫واملصاحل العمومية كاخليط الذي نيط به حيثيات ونظُم فيه حقوق‪ ،‬لواله لتمزقت وتطايرت‪.‬‬

‫ومنها‪ :‬ان االنسان املسلم له مناسبات ثابتة وارتباط قوي مع كل املسلمني‪ .‬ومها سببان‬
‫الخوة راسخة وحمبة حقيقية بسبب العقائد االميانية وامللكات االسالمية‪ .‬أما سبب ظهور‬
‫تلك العقائد وتأثريها وصريورهتا َملَكة راسخة فامنا هي العبادة‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪101 :‬‬

‫النفسي فاعلم!‬
‫ّ‬ ‫وأما جهة الكمال‬

‫ان االنسان مع صغر جرمه وضعفه وعجزه وكونه حيواناً من احليوانات ينطوي على روح غال‬
‫وحيتوي على استعداد كامل‪ ،‬ويتبطن ميوال الحصر هلا ويشتمل على آمال ال هناية هلا‪ ،‬وحيوز‬
‫افكاراً غري حمصورة ويتضمن قوى غري حمدودة مع ان فطرته عجيبة كأنه فهرستة لألنواع‬
‫والعوامل‪ .‬فالعبادة هي السبب النبساط روحه وجالء قيمته‪ ..‬وأيضاً هي العلة النكشاف‬
‫منوه ليناسب السعادة األبدية‪ ..‬وكذا هي الذريعة لتهذيب ميوله ونزاهتها‪ ..‬وهي‬
‫استعداده و ّ‬
‫الوسيلة لتحقيق آماله وجعلها مثمرة ريانة‪ ..‬وكذلك هي الواسطة لتنظيم أفكاره وربطها‪..‬‬
‫الصْيقل َلريْن الطبيعة على أعضائه‬
‫وأيضاً هي السبب لتحديد قواه وإجلامها‪ ..‬وأيضا هي َ‬
‫املادية واملعنوية اليت كل منها كأنه منفذ اىل عامل خمصوص ونوع اذا شف‪ ..‬وأيضا هي‬
‫املوصل للبشر اىل شرفه الالئق وكماله املقدر‪ ،‬اذا كانت بالوجدان والعقل والقلب والقالب‪..‬‬
‫وكذلك هي النسبة اللطيفة العالية‪ ،‬واملناسبة الشريفة الغالية بني العبد واملعبود‪ .‬وتلك النسبة‬
‫هي هناية مراتب كمال البشر‪.‬‬

‫مث ان االخالص يف العبادة هو‪ :‬ان تفعل ألنه أُمر هبا‪ ،‬وان اشتمل كل أمر على ِح َكم‪ ،‬كل‬
‫منها يكون علة لالمتثال‪ ،‬اال ان االخالص يقتضي ان تكون العلةُ هي األمر‪ ،‬فان كانت‬
‫مرجحة فجائزة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫احلكمةُ علةً فالعبادة باطلة‪ ،‬وان بقيت ّ‬
‫***‬

‫مث ان املخاطبني ملا مسعوا (يا ايها الناس اعبدوا) استفسروا بلسان احلال‪ :‬ما احلكمة؟ وِملَ؟ وما‬
‫وألي شئ؟‬
‫اجملبورية؟ ّ‬
‫أما احلكمة فقد مسعت يف املقدمة‪ .‬وأما العلة فأجاب القرآن الكرمي باثبات الصانع وتوحيده‬
‫النبوة بقوله‪( :‬وان كنتم يف ريب مما نزلنا)‪ ..‬اخل‪.‬‬
‫بقوله‪( :‬ربكم الذي خلقكم)‪ ..‬اخل‪ .‬واثبات ّ‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪194 :‬‬

‫مقدمة يف نكات هذه اآلية‪:‬‬

‫اعلم! ان الربهان إما "لِ ّمي" وهو االستدالل باملؤثر على األثر‪ .‬وإما "اِ ّينّ" وهو االستدالل‬
‫باألثر على املؤثر‪ ،‬وهذا أسلم ‪ .1‬وهو إما "إمكاينّ باالستدالل" بتساوي الطرفني على‬
‫وجد‪ ..‬وكل منها اما باعتبار‬ ‫املرجح‪ ،‬واما "حدوثي باالستدالل" بالتحول والتب ّدل على امل ِ‬‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ذوات االشياء أو باعتبار صفاهتا‪ ..‬وكل منها إما باعطاء الوجود أو بادامة البقاء‪ ..‬وكل منها‬
‫عناييت"‪ .‬وهذه اآلية اشارة اىل هذه األنواع‪ ،‬فامللخص منها‬
‫ّ‬ ‫اعي" أو "دليل‬
‫إما "دليل اخرت ّ‬
‫هنا‪ ،‬وقد فصلناه يف كتاب آخر‪.‬‬

‫تلوح به هذه اآلية‪ ،‬هو‪" :‬النظام املندمج يف‬‫أما دليل العناية على اثبات الصانع الذي ِّ‬
‫الكائنات"؛ اذ النظام خيط نيط به املصاحل واحلكم‪ .‬فجميع اآليات القرآنية اليت تعد منافع‬
‫نساجةٌ هلذا الدليل‪ ،‬ومظاهر لتجلِّي هذا الربهان؛ اذ النظام‬ ‫ِ‬
‫األشياء وتذكر ح َكمها امنا هي ّ‬
‫املرعي به املصاحل واحلكم كما يثبت وجود نظّام‪ ،‬كذلك يدل على قصد الصانع وحكمته‬
‫وهم التصادف األعمى واالتفاقية العمياء‪.‬‬
‫وينفي من البني َ‬
‫ياهذا! ان مل حيط نظرك هبذا النظام العايل املزيَّن بفصوص احل َكم‪ ،‬والتقتدر على االستقراء‬
‫التام؛ فانظر جبواسيس الفنون ‪ -‬اليت هي احلواس لنوعك ‪ -‬احلاصلة من تالحق األفكار ‪-‬‬
‫كل فن من فنون‬
‫الذي هو يف ُحكم فكر النوع ‪ -‬لرتى نظاماً يبهر العقول‪ ،‬وتعلم ان ّ‬
‫كشاف بكلية قواعده عن اتساق وانتظام اليعقل أكمل منهما؛ اذ كل نوع من‬ ‫الكائنات ّ‬
‫الكائنات اما تش ّكل فيه فن أو يقبل ان يتشكل‪ .‬والفن عبارة عن قواعد كلية‪ .‬وكلية القاعدة‬
‫تدل على حسن النظام؛ اذ ما النظام له الجتري فيه الكلية‪ .‬أال ترى ان قولنا "كل عامل فهو‬
‫ذو عمامة بيضاء" امنا يصدق كلية‪ ،‬اذا كان يف ذلك النوع انتظام‪ .‬فانتج أن كل فن من‬
‫الفنون الكونية بسبب كلية قواعده ينتج باالستقراء التام نظاماً كامال شامال‪ ،‬وان كل فن‬
‫برهان ّنري يشري اىل املصاحل والثمرات املتدلية كالعناقيد يف حلقات سالسل املوجودات‪ ،‬ويل ِّوح‬
‫اعالم الشهادة على‬ ‫ِ‬
‫اىل احل َكم والفوائد املسترتة يف معاطف انقالبات األحوال‪ .‬فرتفع الفنو ُن َ‬
‫قصد الصانع وحكمته‪،‬كأن كل فن جنم ثاقب يف طرد شياطني األوهام‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬كداللة النار على الدخان وداللة الدخان على النار‪ ،‬وهذا اسلم من الشبهات (ت‪)16 :‬‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪191 :‬‬

‫وان شئت فعليك هبذا املثال مع قطع النظر عن العموم وهو‪:‬‬

‫املكروسكويب الذي ال يُرى بالعني بال واسطة‪ ،‬اشتملت صورته الصغرية على‬
‫ّ‬ ‫ان احليوان‬
‫ماكينة دقيقة بديعة إهلية‪ .‬فبالضرورة والبداهة ان تلك املاكينة املمكنة يف ذاهتا وصفاهتا ما‬
‫وجدت بنفسها بال علة إلمكان ذاهتا وصفاهتا وأحواهلا‪ .‬واملمكن متساوي الطرفني ككفيت‬
‫مرجحة‪ ..‬ومن‬‫ِ‬
‫امليزان‪ ،‬ولو وجد الرتجح لكان يف العدم‪ .‬فباتفاق العقالء البد هلا من علة ّ‬
‫احملال ان تكون العلة أسبابا طبيعية؛ اذ ما فيها من النظام الدقيق يقتضي هناية علم وكمال‬
‫شعور الميكن تصورمها يف تلك األسباب‪ ،‬اليت خيادعون أنفسهم هبا‪ .‬مع اهنا أسباب بسيطة‬
‫قليلة جامدة مل يتعني جماريها‪ ،‬ومل يتحدد حماركها مع ترددها بني ألوف من اإلمكانات اليت ال‬
‫اولوية لبعضها‪ .‬فكيف جتري يف جمرى معني‪ ،‬وتتحرك على حمرك حمدود‪ ،‬وكيف يرتجح بعض‬
‫وجوه اإلمكانات حىت يتولد هذه املاكينة العجيبة املنتظمة اليت حريت العقول يف دقائق‬
‫‪1‬‬
‫ذرة شعور "افالطون"‬ ‫نفسك وتطمئن بتولدها منها ان اعطيت لكل ّ‬ ‫ح َكمها‪ ،‬بل امنا تقنع ُ‬
‫اعتقدت بني تلك الذرات خمابرة عمومية‪ .‬وما هذه االّ سفسطة‬‫َ‬ ‫وحكمة "جالينوس" ‪ 2‬و‬
‫السوفسطائي‪ .‬مع أن أس األسباب املادية وجود القوة اجلاذبة والقوة الدافعة معا‬
‫ّ‬ ‫خيجل منها‬
‫يف جزء اليتجزأ واجلوهر الفرد‪ ،‬وان هذا كاجتماع الضدين‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬قانون اجلاذبة والدافعة وأمثاهلما امساء لقوانني عادات هللا تعاىل وشريعته الفطرية املسماة‬
‫بالطبيعة‪ .‬فهذه القوانني مقبولة بشرط ان التنتقل من القاعدية اىل الطبيعية‪ ،‬وان الخترج من‬
‫الذهنية اىل اخلارجية‪ ،‬وان التتحول من االعتبارية اىل احلقيقية‪ ،‬وان ال ترتقى من اآللتية اىل‬
‫املؤثرية‪.‬‬

‫فاذا تفهمت ما يف هذا املثال ورأيت عظمته مع صغره ووسعته مع ضيقه؛ فارفع رأسك وانظر‬
‫يف الكائنات تر وضوح دليل العناية وظهوره مبقدار درجة وسعة‬

‫_____________________‬
‫‪ 107 - 027 1‬ق‪.‬م) من مشاهري فالسفة اليونان‪ ،‬تلميذ سقراط ومعلم ارسطو‪ .‬من‬
‫مؤلفاته (اجلمهورية) و(احملاورات)‪.‬‬

‫‪244 - 114( 2‬م) طبيب وكاتب يوناين‪ ،‬ولد يف برجامون وعمل جراحاً ملدرسة املصارعني‬
‫هبا بعد ان امت دراسته يف بالد اليونان وآسيا الصغرى واالسكندرية مث اقام بروما حيث ذاع‬
‫صيته وينسب اليه مخسمائة مؤلف اغلبها يف الطب والفلسفة‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪192 :‬‬

‫مظاهر هلذا الدليل‪.‬‬


‫ُ‬ ‫العادة لنِعم األشياء واملذ ّكِرة لفوائدها‬
‫الكائنات‪ .‬فكل اآليات القرآنية ّ‬
‫فكلما أمر القرآن الكرمي بالتفكر فامنا أشار خماطباً للعموم اىل طريق هذا االستدالل (فَ ِ‬
‫ارج ِع‬
‫صَر َه ْل تَرى ِم ْن فُطُوٍر) ‪ 1‬مث ان الذي يومئ اىل هذا الدليل من هذه اآلية قوله تعاىل ‪:‬‬ ‫الْبَ َ‬
‫السم ِاء ماء فَاَخرج بِِه ِمن الثَّمر ِ‬
‫ات‬ ‫ِ‬ ‫ض فِراشاً و َّ ِ‬
‫الس َماءَ بنَاءً َواَنْـَزَل م َن َّ َ َ ً ْ َ َ َ َ َ‬ ‫االر َ َ َ‬
‫(الذي َج َع َل لَ ُك ْم ْ‬
‫ِرْزقاً لَ ُك ْم)‪.‬‬

‫ين ِم ْن قَـْبلِ ُك ْم) فهو‪:‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ‬


‫اعي املشار اليه بقوله تعاىل‪( :‬اَلذي َخلَ َق ُك ْم َوالذ َ‬
‫وأما الدليل االخرت ّ‬
‫ان هللا تعاىل اعطى لكل فرد ولكل نوع وجوداً خاصاً هو منشأ آثاره املخصوصة‪ ،‬ومنبع‬
‫كماالته الالئقة؛ اذ النوع يتسلسل اىل االزل ِإلمكانه‪ ،‬ولبطالن التسلسل‪ ،‬والن هذا التغري‬
‫يف العامل يثبت حدوث بعض باملشاهدة‪ ،‬وبعض آخر بالضرورة العقلية‪ .‬مث انه قد ثبت بعلم‬
‫احليوانات والنباتات تكثّر األنواع اىل أزيد من مائيت الف نوع ولكل نوع آدم وأب عال‪.‬‬
‫فبسر احلدوث واالمكان يثبت بالضرورة صدور تلك االوادم واآلباء لالنواع عن يد القدرة‬
‫اإلهلية بال واسطة‪ .‬وال يُتوهم فيها ما يتوهم يف السلسلة‪ .‬وتوهم انشقاق األنواع بعضها عن‬
‫بعض باطل‪ ،‬ألن النوع املتوسط ال يتسلسل بالتناسل يف األكثر فال يكون رأس سلسلة‪ .‬فاذا‬
‫كان املبدأ واألصل هكذا‪ ،‬فأجزاء السلسلة كذلك بالطريق األوىل‪.‬‬
‫نعم كيف يُتصور ان تكون األسباب الطبيعية البسيطة اجلامدة اليت الشعور هلا وال اختيار‬
‫قابلة ِإلجياد تلك السالسل اليت حتريت األفهام فيها‪ ،‬والخرتاع أفرادها اليت كل منها صنعة‬
‫عجيبة من معجزات القدرة‪ .‬فكل األفراد مع سالسلها تشهد بلسان حدوثها وامكاهنا‬
‫شهادة قاطعة على وجوب وجود خالقها جل جالله‪.‬‬

‫"ان قلت‪ :‬فمع هذه الشهادة القاطعة كيف يعتقد االنسان بأمثال ضالالت ازلية املادة‬
‫وحركتها؟‪.‬‬

‫كاملستهل الذي رأى الشعرة البيضاء من‬


‫ّ‬ ‫احملال ممكناً‪،‬‬
‫التبعي قد يُري َ‬
‫قيل لك‪ :‬ان النظر ّ‬
‫اهدابه هالل العيد؛ ألن االنسان بسبب جوهره العايل وماهيته املكرمة امنا يدور خلف احلق‬
‫واحلقيقة‪ .‬وامنا يقع الباطل والضالل يف يده بال اختيار والدعوة وال ٍّ‬
‫حتر‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة امللك‪.1 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪191 :‬‬

‫التبعي فيقبله اضطراراً؛ ألنه ملا تغافل عن النظام الذي هو خيط احلِ َكم‪،‬‬
‫السطحي ّ‬
‫ّ‬ ‫بل بنظره‬
‫وتعامى عن ضدية احلركة واملادة لالزلية احتمل عند نظره التبعي اسناد هذا النقش البديع‬
‫"اجلسري" ‪ 1‬يف َم ْن دخل‬
‫ّ‬ ‫والصنعة العجيبة اىل التصادف األعمى واألتفاق األعور‪ .‬كما قال‬
‫قصراً مزينا مشتمالً على آثار املدنية‪ ،‬من انه حينما اليرى صاحبه فيعتقد عدمه يضطر‬
‫الطبيعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ِإلسناد زينته وأساساته اىل االتفاق والتصادف وناموس االنتخاب‬

‫وأيضاً ملا تعامى وتغافل عن شهادة كل احلكم والفوائد يف نظام العامل على اختيار تام وعلم‬
‫شامل وقدرة كاملة احتمل يف نظره التبعي اثبات تأثري حقيقي هلذه األسباب اجلامدة‪.‬‬
‫فيا هذا! مع قطع النظر عن دقائق صنعته جل جالله تأمل يف اظهر اآلثار اليت تسمى‬
‫"طبيعة" وهو االرتسام ‪ -‬بشرط ان متزق حجاب االلفة ‪ -‬كيف تقنع نفسك ويقبل عقلك‬
‫ان خاصية وجه املرآة علة مؤثرة مناسبة لكشط وجه السماء وجلب صورة ارتفاعها ونقشها‬
‫املسمى باجلاذب‬
‫الومهي يف احلقيقة ّ‬
‫بنجومها يف زجيجتها؟‪ .‬وكيف يقنع عقلك بأن األمر ّ‬
‫العمومي علة مؤثرة كخيط املنجنيق ِإلمساك األرض والنجوم وحتريكها وتدويرها بانتظام‬
‫ّ‬
‫حمكم؟‬

‫احلاصل‪ :‬ان االنسان اذا نظر نظراً سطحياً تبعيّاً اىل األمر الباطل احملال ومل ير العلة احلقيقية‬
‫احتمل صحته عنده‪ .‬اال انه اذا نظر اليه قصداً وبالذات وحتراه مشرتياً له الميكن ان يقبل‬
‫شيئاً من تلك املسائل اليت يطنطنون هبا يف احلكميات‪ ،‬االّ ان يتبلّه بفرض عقل احلكماء‬
‫الذرات‪.‬‬
‫وحكمة السياسيّني يف ّ‬
‫" ان قلت‪ :‬فما الطبيعة والنواميس وال ُق َوى اليت يدمدمون هبا ويسلّون أنفسهم هبا؟‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬هو حسني بن حممد بن مصطفى اجلسر (‪1127 - 1261‬هـ)(‪1141 - 1909‬م)‬


‫عامل بالفقه واالدب‪ ،‬من بيت علم يف طرابلس الشام‪ .‬له نظم كثري‪ .‬دخل االزهر سنة‬
‫‪1271‬هـ واستمر اىل سنة ‪1290‬هـ‪ ،‬وعاد اىل طرابلس فكان رجلها يف عصره‪ ،‬علماً‬
‫ووجاهة‪ ،‬وتويف فيها‪ .‬كتبه (الرسالة احلميدية يف حقيقة الديانة االسالمية) و(احلصون‬
‫احلميدية) يف العقائد االسالمية‪ .‬و«سرية مه ّذب الدين» و «رياض طرابلس» وهى جمموعة‬
‫دراسات ادبية واجتماعية يف عشرة اجزاء‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪190 :‬‬


‫قيل لك‪ :‬ان الطبيعة ِم ْسطر ‪ 1‬المصدر‪ ..‬ومطبعة ال طابع‪ ..‬وقوانني القوة‪ .‬بل امنا هي‬
‫شريعة فطرية إهلية أوقعت نظاما بني أفعال أعضاء جسد عامل الشهادة‪.‬كما ان الشريعة‬
‫حمص ُل وخالصةُ قواعد األفعال االختيارية‪ ،‬ونظام الدولة جمموع الدساتري السياسية‪ .‬فكما ان‬
‫َّ‬
‫ص عادة هللا‬
‫ملخ ُ‬
‫اعتباري َّ‬
‫ّ‬ ‫الشريعة والنظام أمران معقوالن اعتباريان؛ كذلك الطبيعة أمر‬
‫اخلارجي فكتوهم الوحشي الذي يرى فرقة العسكر‬
‫ّ‬ ‫اجلارية يف اخللقة‪ .‬وأما توهم وجودها‬
‫خارجي ربط بينهم‪ .‬فمن كان وجدانه وحشيا يتخيل الطبيعة‬ ‫ّ‬ ‫وجود أمر‬
‫يتحركون بانتظام‪َ ،‬‬
‫بسبب االستمرار موجوداً خارجياً مؤثراً‪.‬‬

‫احلاصل‪ :‬ان الطبيعة صنعة هللا تعاىل وشريعته الفطرية‪ .‬واما نواميسها فمسائلها‪ .‬وأما قواها‬
‫فأحكام تلك املسائل‪.‬‬

‫وحدوا‪ ،‬فاعلم! ان‬


‫أما دليل التوحيد الذي أشار اليه (اعبدوا) على تفسري ابن عباس أي ّ‬
‫القرآن املعجز البيان ما ترك من دالئل التوحيد شيئاً‪ .‬وما تضمنته آية (لو كان فيهما آهلة اال‬
‫هللا لفسدتا) ‪ 2‬من برهان التمانع دليل كاف ومنار ِّنري على ان االستقالل خاصة ذاتية والزم‬
‫ضروري لاللوهية‪ ،‬مث يف هذه اآلية رمز اىل دليل لطيف على التوحيد وهو‪ :‬ان تعاو َن األرض‬
‫والسماء ومناسبتهما يف توليد الثمرات ‪ -‬لتُـ َعيِّش نوع البشر وجنس احليوان ‪ -‬ومشاهبةَ آثار‬
‫وجتاوب اجلوانب‬
‫َ‬ ‫بعض بتكميل بعض انتظام بعض‪،‬‬ ‫بعض يد ٍ‬‫وتعانق أطرافه وأخذ ٍ‬
‫َ‬ ‫العامل‬
‫ونظر الكل اىل نقطة واحدة‪ ،‬وحركةَ الكل باالنتظام على‬ ‫بعض لسؤال حاجة بعض‪َ ،‬‬ ‫وتلبيةَ ٍ‬
‫تصرح بان صانع هذه املاكينة الواحدة واحد وتتلو على ٍ‬
‫كل‪:‬‬ ‫تلوح بل ِّ‬ ‫حمور نظام واحد؛ ِّ‬
‫‪1‬‬ ‫وِيف ُك ِل َشي ٍء لَه آيةٌ تَ ُد ُّل على اَنَّه و ِ‬
‫اح ٌد‬ ‫َ َُ‬ ‫َ ّ ْ ُ َ‬
‫مث اعلم! ان الصانع كما انه واجب الوجود وواحد؛ كذلك انه متصف جبميع األوصاف‬
‫الكمالية؛ ألن ما يف املصنوع من فيض الكمال امنا هو مقتبس من ظل جتلي كمال صانعه‪.‬‬
‫فبالضرورة يوجد يف الصانع جل جالله من اجلمال والكمال واحلسن ما هو أعلى بدرجات‬
‫غري متناهية من عموم ما يف عموم الكائنات من احلسن والكمال‬
‫_____________________‬

‫‪ِ 1‬مسطَر‪ :‬ما يُسطر به الكتّاب‪.‬‬

‫‪ 2‬سورة االنبياء‪22. :‬‬

‫‪ 3‬الىب العتاهية يف ديوانه وينسب اىل االمام علي كرم هللا وجهه‪ .‬ونسبه إبن كثري يف مقدمة‬
‫تفسريه اىل إبن املعتز‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪199 :‬‬


‫احملسن ودليل عليها‪ ،‬واالجياد لوجود ِ‬
‫املوجد‪ ،‬واالجياب‬ ‫واجلمال؛ اذ االحسان فرعٌ لثروة ِ‬
‫احملسن املناسب له‪..‬‬
‫لوجوب املوجب‪ ،‬والتحسني حلسن ّ‬
‫منزه عن مجيع النقائص‪ ،‬ألن النواقص امنا تنشأ عن عدم استعداد ماهيات‬
‫وكذلك ان الصانع َّ‬
‫املاديات وهو تعاىل جمرد عن املاديات‪..‬‬

‫أوصاف نشأت من إمكان ماهيات الكائنات وهو‬ ‫وكذلك انه تعاىل مقدس عن لوازم و ٍ‬
‫سبحانه واجب الوجود ليس كمثله شئ جل جالله‪ .‬ولقد أشار اىل هاتني احلقيقتني بقوله‪:‬‬
‫(فال جتعلوا هلل أنداداً)‪.‬‬

‫(وهللا الْغَِ ُّ‬


‫ين َواَنْـتُ ُم ال ُف َقَراءُ) ‪ 1‬فاعلم! ان كل‬ ‫أما الدليل االمكاينّ املشار اليه بقوله تعاىل‪َ :‬‬
‫احد و ٍ‬
‫احد‬ ‫فرد من صفاهتا‪ ،‬وباعتبار و ٍ‬ ‫فرد ٍ‬ ‫واحدة من َذرات الكائنات باعتبار ذاهتا‪ ،‬وباعتبار ٍ‬
‫جهة من وجوهها؛ بينما تراها ترتدد بني االمكانات الغري املتناهية‬ ‫جهة ٍ‬ ‫من أحواهلا‪ ،‬وباعتبار ٍ‬
‫يف الذات والصفات واألحوال والوجود‪ ،‬اذاً انتعشت وقامت وسلكت طريقاً معيناً منها‬
‫ولبست صفة خمصوصة‪ ،‬وتكيفت حبالة منتظمة‪ ،‬وركبت على قانون مسدَّد‪ ،‬وتوجهت اىل‬
‫معني‪ ،‬فأنتجت حكمةً ومصلحةً ال حتصالن االّ بذلك الطرز املعني‪ ..‬أفال تنادي‬ ‫مقصد ّ‬
‫وتصرح بقصد صانعها وحكمته؟ فكما ان كل ذرة بنفسها دليل على‬ ‫بلساهنا املخصوص‪ّ ،‬‬
‫االنفراد؛ كذلك تتزايد داللتها باعتبار كوهنا جزءاً من مركبات متداخلة متصاعدة؛ اذ هلا يف‬
‫كل مركب مقام‪ ..‬ويف كل مقام هلا نسبة‪ ..‬ويف كل نسبة هلا وظيفة‪ ..‬ويف كل وظيفة تثمر‬
‫جندي يف‬
‫ّ‬ ‫مصاحل‪ ..‬ويف كل مرتبة تتلو بلساهنا دالئل وجوب وجود صانعها‪ ..‬مثلها كمثل‬
‫"طاقمه وطابوره وفرقته اخل"‪.‬‬

‫***‬

‫ولنشرع يف نظم هذه اآلية باعتبار نظم جمموعها مبا قبلها‪ ،‬مث نظم مجلها بعض مع بعض‪ ،‬مث‬
‫نظم هيئات كل مجلة مجلة‪.‬‬

‫أما نظم اجملموع مبا قبله‪:‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة حممد‪.19 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪196 :‬‬

‫فاعلم! ان القرآن ملا ّبني أقسام البشر وأنواع املكلَّفني من املؤمنني املتّقني والكافرين املعاندين‬
‫واملنافقني املذبذبني توجه اليهم كافة خماطبا بقوله‪( :‬يا أيها الناس اعبدوا) ع ّقبه ورتّبه على‬
‫سابقه ترتيب البناء على اهلندسة‪ ،‬واألمر والنهي بالعمل على قانون العلم‪ ،‬والقضاء على‬
‫القدر‪ ،‬واالنشاء واالجياد على القصة واحلكاية؛ اذ ملا ذكر مباحث الفرق الثالث‪ ،‬وذكر‬
‫كل هتيأ املوضع وانتبه السامع فالتفت خماطبا بذلك اخلطاب‪ ..‬مث ان يف‬ ‫كل وعاقبة ٍّ‬‫خاصة ٍ‬
‫هذا االلتفات ‪ -‬أعين ذكرهم أوالً بالغيبة مث اخلطاب معهم هنا ‪ -‬نكتة عمومية يف اسلوب‬
‫البيان وهي‪ :‬انه اذا ذكر حماسن شخص أو مساويه شيئاً فشيئاً يتزايد حبكم االيقاظ والتهييج‬
‫ميالن استحسان أو ميل نفرة‪ .‬ويتقوى ذلك امليل شيئاً فشيئاً اىل أن جيرب صاحبه على‬
‫املشافهة مع ذلك الشخص‪ ،‬وبالنظر اىل املقام يقتضي ميوالت السامعني ألوصافه ان حيضر‬
‫املتكلم ذلك الشخص وجيره اىل حضورهم فيتوجه اليه باخلطاب‪..‬‬

‫وفيه نكتة خصوصية هنا‪ :‬وهي ختفيف أعباء التكليف بلذة اخلطاب‪ ..‬وفيه أيضاً اشارة اىل‬
‫ان ال واسطة يف العبادة بني العبد وخالقه‪.‬‬

‫وأما نظم اجلمل فـ (يا أيها الناس اعبدوا) خطاب لكل انسان من الفرق الثالث يف األزمنة‬
‫الثالثة من كل طبقات الفرق‪ .‬أي‪ :‬ايها املؤمنون الكاملون اعبدوا على صفة الثبات والدوام‪..‬‬
‫وأيها املتوسطون اعبدوا على كيفية االزدياد‪ ..‬وأيها الكافرون افعلوا العبادة مع شرطها من‬
‫االميان والتوحيد‪ ..‬وايها املنافقون اعبدوا على كيفية اإلخالص‪ .‬فالعبادة هنا كاملشرتك املعنوي‬
‫فتأمل!‪.‬‬

‫(ربكم) أي‪ :‬اعبدوه ألنه رب يربيكم فالبد ان تكونوا عباداً تعبدونه‪.‬‬

‫تذييل‪ :‬يف (ربكم) رمز دقيق اىل دليل امكان الذوات‪ .‬ويف (جعل لكم األرض فراشا) اىل‬
‫دليل امكان الصفات‪ .‬ويف (الذي خلقكم والذين من قبلكم) اىل دليل حدوث الذوات‬
‫الغين وانتم الفقراء)‬
‫ينص على دليل امكان الذوات قوله تعـاىل ‪L‬وهللا ّ‬
‫والصفات‪ .‬والذي ّ‬
‫عدو يل إالّ رب العاملني) ‪ 2‬وكذلك (قل هللا مث َذ ْرهم‬
‫ّ‬ ‫(فاهنم‬ ‫ا‬
‫ً‬ ‫أيض‬
‫و‬ ‫‪1‬‬
‫وايضا اىل ربك املنتهى‬
‫يف‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة النجم‪02. :‬‬

‫‪ 2‬سورة الشعراء‪.77 :‬‬


‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪197 :‬‬

‫تطمئن القلوب) ‪ 1‬وقس‬


‫ُّ‬ ‫خوضهم يلعبون) ‪ 1‬وأيضا (ففروا اىل هللا) ‪ 2‬وكذلك (اَالَ بذكر هللا‬
‫فتأمل‪.!.‬‬

‫وأما مجلة (الذي خلقكم) فاعلم! ان هللا تعاىل ملا أمر بالعبادة وهي تقتضي ثالثة أشياء‪:‬‬

‫وجود املعبود‪ ،‬ووحدته‪ ،‬واستحقاقه للعبادة‪..‬‬

‫أجاب عن هذه األسئلة املقدرة باالشارة اىل دالئلها الثالثة‪:‬‬

‫فدالئل الوجود قسمان‪ :‬آفاقي وأنفسي‪ .‬واألنفسي نوعان‪ :‬نفسي وأصويل‪ .‬فاشار اىل‬
‫النفسي األقرب األوضح بقوله‪( :‬الذي خلقكم) واىل االصويل بقوله‪ :‬والذين من قبلكم‪.‬‬

‫وأما نظم (لعلكم تتقون) فاعلم! ان القرآن الكرمي ملا علق العبادة على خلقهم وآبائهم‬
‫اقتضى ترتيب العبادة على خلق البشر نقطتني‪:‬‬

‫إحدامها‪ :‬ان تكون خلقتهم باستعداد العبادة‪ ،‬وجبليتهم على قابلية التقوى؛ حىت من يرى‬
‫ذلك االستعداد يأمل ويرجو منهم العبادة كمن يرى املخالب يأمل االفرتاس‪.‬‬

‫والثانية‪ :‬ان يكون املقصد من خلقتهم ووظيفتهم اليت هم مأمورون هبا وكماهلم الذي‬
‫يتوجهون اليه هو التقوى الذي هو كمال العبادة‪.‬‬

‫(ولعلكم تتقون) أي املقصد من خلقكم وكمالكم والذي هيئ له استعدادكم امنا هو التقوى‪.‬‬
‫وأما مجلة (جعل لكم األرض فراشا) فاشارة اىل أقرب الدالئل اآلفاقية على وجوده تعاىل‪. .‬‬
‫وأيضاً فيها رمز اىل رد التأثري احلقيقي لألسباب الذي هو منشأ لنوع شرك‪ .‬أي متهيد األرض‬
‫جبعله تعاىل ال بالطبيعة‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة االنعام‪11. :‬‬

‫‪ 2‬سورة الذاريات‪94. :‬‬

‫‪ 3‬سورة الرعد‪.29 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪199 :‬‬

‫وأما (والسماء بناء) فإشارة ‪ -‬بذكر السماء اليت هي لصيق األرض ‪ -‬اىل أعلى الدالئل‬
‫اآلفاقية البسيطة‪.‬‬

‫مث اشار بقوله (وأنزل من السماء) اىل وجه داللة املركبات واملواليد على وجود صانعها‪.‬‬

‫يلوح بالوحدة‪.‬‬‫مث ان كل من اجلمل السابقة كما تدل على اثبات الوجود؛ كذلك اجملموع ّ‬
‫وصورة الرتتيب املشري اىل النظام امللوح بالنعم مع داللة (رزقا لكم) تثبت استحقاقه تعاىل‬
‫اجب‪ .‬ويف (رزقا لكم) اشارة اىل انه كما ان االرض واملواليد ختدم‬ ‫ِ‬
‫للعبادة‪ ،‬ألن شكَْر املُْنعم و ٌ‬
‫لك البد ان ختدم ملن سخرها لك‪.‬‬

‫وأما نظم (فال جتعلوا هلل انداداً) فاعلم! انه قد امتدت من نظمها خطوط اىل (يا ايها الناس‬
‫اعبدوا ربكم) واىل (الذي خلقكم) واىل (الذي جعل لكم) واىل (وانزل)‪ .‬أي‪ :‬اذا عبدمت‬
‫ربكم فال تشركوا له ألنه هو الرب‪ ،‬وألنه هو اخلالق لكم ولنوعكم فال جيعل بعضكم بعضا‬
‫أرباباً من دون هللا‪ ،‬وألنه هو الذي خلق األرض وفرشهاومهدها لكم‪ ،‬وألنه هو الذي خلق‬
‫السماء وجعلها سقفا لبنائكم فال تعتقدوا تأثرياً حقيقياً لألسباب الطبيعية اليت هي منشأ‬
‫الوثنية‪ ،‬وألنه هو الذي أرسل املاء اىل األرض لرزقكم ومعيشتكم‪ ،‬وال نعمة اال منه فال شكر‬
‫وال عبادة االّ له‪.‬‬

‫وأما نظم كيفيات وهيئات مجلة مجلة‪ ،‬فاعلم! ان كلمة (يا أيها) يف مجلة "يا ايها الناس‬
‫اعبدوا" قد أكثر التنزيل من ذكرها لنكت دقيقة ولطائف رقيقة‪ ،‬اذ هذا اخلطاب مؤكد بوجوه‬
‫ثالثة‪:‬‬

‫ي" من التوسم‪ ،‬وما يف "ها" من التنبيه‪.‬‬


‫مبا يف "يا" من االيقاظ‪ ،‬وما يف "اَ ُّ‬

‫فاخلطاب هنا رمز اىل فوائد ثالث‪ :‬مقابلة مشقة التكليف بلـذة اخلطاب‪ ..‬وان ترقى االنسان‬
‫من حضيض الغيبة اىل مقام احلضور امنا هو بواسطة العبادة ‪ ..1‬وأيضاً اشارة اىل ان‬
‫املخاطب مكلف جبهات ثالث‪ :‬باعتبار قلبه بالتسليم واالنقياد‪ ،‬ومن جهة عقله باالميان‬
‫والتوحيد‪ ،‬وبالنظر اىل قالبه بالعمل والعبادة‪..‬‬

‫وأيضاً امياء اىل ان املخاطبني ثالث فرق ‪ ..2‬وأيضاً تلويح اىل الطبقات الثالث من اخلواص‬
‫واملتوسطني والعوام‪..‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬وان ال واسطة يف العبادة بني العبد وخالقه (ش)‪.‬‬

‫‪ 2‬املؤمنون والكفار واملنافقون (ت‪)149 :‬‬


‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪191 :‬‬

‫وأيضاً تلميح اىل الطرز املألوف والنسق املأنوس وهو ان املرء اوال ينادي أحداً فيوقفه‪ .‬مث‬
‫‪1‬‬
‫يتومسه فيوجهه‪ .‬مث خياطبه فيخدمه‪.‬‬

‫فبناء على هذه النكت تكون التأكيدات يف اخلطاب مؤسسة من تلك اجلهات‪.‬‬

‫أما النداء يف "يا" فألن املنادى هو الناس املشتمل على الطبقات املختلفة من الغافلني‬
‫والغائبني والساكنني واجلاهلني واملشغولني واملعرضني واحملبني والطالبني والكاملني يكون هذا‬
‫النداء للتنبيه‪ ،‬وكذا ل ِإلحضار‪ ،‬وكذا للتحريك‪ ،‬وكذا للتعريف‪ ،‬وكذا للتفريغ‪ ،‬وكذا للتوجيه‪،‬‬
‫هلز العطف‪..‬‬
‫وكذا للتهييج‪ ،‬وكذا للتشويق‪ ،‬وكذا لالزدياد‪ ،‬وكذا ّ‬
‫وأما البُعد يف "يا" مع ان املقام مقام القرب‪ ،‬فاشارة اىل جاللة وعظمة امانة التكليف‪..‬‬
‫وأيضاً امياء اىل بُعد درجة العبودية عن مرتبة االلوهية‪ ..‬وأيضاً رمز اىل بُعد اعصار املكلفني‬
‫حمل ِ‬
‫وزمان ظهور اخلطاب‪ .‬وأيضاً تلويح اىل شدة غفلة البشر‪.‬‬ ‫عن ِّ‬
‫"أي" املوضوع للتوسم من العموم فرمز اىل ان اخلطاب لعموم الكائنات‪ .‬فيخصص من‬
‫وأما ّ‬
‫جتاوز حلق‬
‫بينها االنسان بتحمل األمانة على طريق فرض الكفاية‪ .‬فاذاً قصور االنسان ٌ‬
‫‪2‬‬
‫جمموع الكائنات‪ ..‬مث يف "أي" جزالة االمجال مث التفصيل‪.‬‬

‫وأما "ها" فمع كونه عوضاً عن املضاف اليه‪ ،‬اشارة اىل تنبيه من حضر بـ "يا"‪.‬‬

‫وأما (الناس) فاشارة ‪ -‬حبكم تلميح الوصفية األصلية ‪ -‬اىل العتاب‪ ،‬أي "ايها الناس كيف‬
‫تنسون امليثاق األزيل"؟ وأيضاً اىل العذر أي "ايها الناس البد ان يكون قصوركم عن السهو‬
‫والنسيان ال بالعمد واجلد"!‪.‬‬
‫أما (اعبدوا) فبحكم جوابيته للنداء العام مناداه للطبقات املذكورة يدل على االطاعة‪ ،‬ويشري‬
‫اىل االخالص‪ ،‬ويرمز اىل الدوام‪ ،‬ويلوح اىل التوحيد‪ .‬أي اطيعوا‪ ..‬واخلصوا‪ ..‬واثبتوا‪..‬‬
‫وازدادوا‪ ..‬ووحدوا‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬فيستخدمه (ب)‬

‫اي» إمجال وإهبام حيث ذكرت غري مضافة‪ ،‬االّ ان كلمة «الناس» تزيل‬
‫ألن يف كلمة « ّ‬
‫‪2‬‬

‫وتفصل ذلك االمجال (ت‪)141 :‬‬


‫ذلك االهبام ّ‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪164 :‬‬

‫وأما (ربكم) فإشارة إىل ان العبادة كما ينبغي ان يرغّب فيها ألهنا نسبة شريفة ومناسبة‬
‫عالية؛ كذلك البد ان تطلب ألهنا شكر وخدمة ملن هو يربيكم وحتتاجون اليه‪.‬‬

‫أما هيئات (الذي خلقكم والذين من قبلكم)‬

‫فاعلم! ان (الذي) الذي جهة معلوميته الصلة ‪ 1‬يشري اىل ان معرفة هللا تعاىل امنا تكون‬
‫بأفعاله وآثاره ال بكنهه‪.‬‬

‫"خلَق" املمتاز عن االجياد واالنشاء بكونه على وجه مقدر مستو‪ ،‬اشارة اىل ان استعداد‬ ‫وان َ‬
‫البشر مسدَّد للتكليف‪ ..‬وأيضاً رمز اىل ان العبادة وظيفة‪ ،‬ألهنا نتيجة اخللقة واجرهتا‪ .‬فما‬
‫الثواب االّ من حمض فضل هللا تعاىل‪.‬‬
‫وان (الذين) بناءً على اهبامه امياء اىل ان الذين سبقوكم انقرضوا فماتوا فذهبوا‪ ..‬فلم يبق‬
‫منهم جهة املعلومية اال كوهنم خملوقني قبلكم‪ ..‬فأنتم على شفا جرف القرب‪ ..‬فاعتربوا‪ ..‬فال‬
‫تغرتوا بالدنيا‪ ..‬فتشبثوا بأذيال العبادة اليت هي وسيلة السعادة االبدية‪.‬‬

‫أما كيفيات (لعلكم تتقون) فاعلم! ان "لعل" للرجاء ففي املرغوب يقال اطماع ويف املكروه‬
‫حمال‪ .‬فهو اما باعتباره لكن جمازاً‪ ،‬واما باعتبار‬
‫اشفاق‪ .‬فالرجاء يف حق املتكلم هنا حقيقةً ٌ‬
‫املخاطب‪ ،‬واما باعتبار املشاهدين والسامعني‪:‬‬

‫أما باعتبار املتكلم فاستعارة متثيلية كما ان من جهز أحداً بأسباب ٍ‬


‫خدمة يرجو منه عرفا‬
‫تلك اخلدمة؛ كذلك ان هللا جهز البشر باستعداد الكمال وقابلية التكليف وواسطة االختيار‪.‬‬
‫ففي االستعارة اشارة اىل ان حكمة خلق البشر هي التقوى‪ ..‬وكذا رمز اىل ان نتيجة العبادة‬
‫مرتبة التقوى‪ ..‬وكذلك امياء اىل ان التقوى أكرب املراتب‪ ..‬وأيضاً تلميح اىل طرز اسلوب‬
‫القطعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫امللوك باالطماع والرمز يف موضع الوعد‬

‫وأما باعتبار املخاطب فكأنه يقول‪ :‬اعبدوا حال كونكم راجني للتقوى ومتوسطني بني الرجاء‬
‫واخلوف‪ .‬ويف هذا االعتبار اشارة اىل انه البد ان اليعتمد االنسان على‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬فاذا قيل مثالً ‪" :‬الذى جاءك" فجهته املعلومة لديك هى اجملئ اليك‪ .‬اما سائر جهاته‬
‫فمجهولة (ت‪)114 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪161 :‬‬

‫عبادته‪ ..‬وكذا امياء اىل انه البد ان اليكتفي مبا هو فيه بل لزم ان يكون مصداقا لـ"عليك‬
‫باحلركة غري السكون" فينظر يف كل مرتبة اىل ما فوقها‪.‬‬
‫واما باعتبار املشاهدين والسامعني فكأن من شاهد البشر جمهزاً ومسلحاً باستعدادات يأمل‬
‫ويرجو منه العبادة‪ ،‬كمن يرى خمالب حيوان وأنيابه يأمل منه االفرتاس‪ ..‬وكذلك اشارة اىل ان‬
‫العبادة مقتضى الفطرة‪.‬‬

‫اما لفظ (تتقون) فاشارة ‪ -‬حبكم ترتبه على عبادة الطبقات املذكورة ‪ -‬اىل مراتب التقوى‬
‫وهي‪ :‬التقوى عن الشرك‪ .‬مث التقوى عن الكبائر‪ .‬مث التقوى حبفظ القلب عما سواه تعاىل‪..‬‬
‫وكذا التقوى بالتجنب عن العقاب‪ ..‬وايضاً التقوى بالتحرز عن الغضب‪ ..‬وكذا رمز اىل ان‬
‫العبادة باالخالص تكون عبادة‪ ..‬وايضاً امياء اىل ان العبادة مقصودة بالذات ال وسيلة‬
‫حمضة‪ ..‬وكذلك رمز اىل ان العبادة البد ان التكون ألجل الثواب والعقاب‪.‬‬

‫اما هيئات آية (الذي جعل لكم االرض فراشا والسماء بناء) فاعلم! اهنا اشارة اىل التهييج‬
‫على العبادة ببيان عظمة قدرة الصانع‪ ،‬واىل التشويق عليها باالمتنان‪ .‬كأنه يقول‪ :‬ايها‬
‫االنسان! ان الذي سخر لك االرض والسماء يستحق ان تعبده‪ ..‬وكذا امياء اىل فضيلة‬
‫وعلو قيمته ومكرميته عند هللا‪ ،‬كأنه يقول‪ :‬ان الذي اكرمكم بأن هيّأ االجرام العلوية‬
‫البشر ّ‬
‫والسفلية بعظمتها الستفادتكم‪ ،‬البد أن تظهروا لياقتكم للكرامة بعبادته‪ ..‬وكذا تلميح اىل رد‬
‫ِ‬
‫وقصد‬ ‫التصادف واالتفاق وتأثري الطبيعة‪ .‬أي ان كل ما ترون بصفاهتا امنا هي ِ‬
‫جبعل جاعل‬
‫خمصص ونظ ِم نظَّام جلّت حكمته‪ ..‬وكذا تلويح اىل رد مذهب اهل الطبيعة‬ ‫ِ ِ‬
‫وختصيص ّ‬ ‫قاصد‬
‫ومذهب الصابئني املولد ملذهب الوثنيني‪ ..‬وايضاً تنبيه اىل ان صفات األجسام بإمكاهنا تدل‬
‫على الصانع؛ اذ االجسام متساوية ذرا ُهتا يف قابلية األحوال والكيفيات العمومية فكل صفة‬
‫ممكنة مرتددة بني احتماالت كثرية فكل جسم باعتبار كل صفة وكيفية حيتاج اىل قصد‬
‫ِ ِ‬
‫خمصص‪.‬‬
‫وختصيص ّ‬ ‫وحكمة‬

‫اما تقدمي (لكم) فاشارة اىل ان تفريش االرض ألجل االنسان‪ ،‬ال ان املفرتش واملستفيد هو‬
‫االنسان فقط‪ ،‬حىت يكون الزائد عبثاً‪ ،‬فتأمل!‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪162 :‬‬


‫واما (فراشا) فاشارة اىل نكتة البالغة اليت هي نقطة الغرابة وهي قيد "مع اقتضاء طبعها‬
‫االنغماس يف املاء"‪ ..‬وامياء اىل ان التفريش باجلعل خالف الطبيعة؛ اذ مقتضى طبيعة الكرة‬
‫استيالء املاء عليها واحاطته هبا‪ ،‬فالصانع حبكمته ومرمحته اظهر قسما منها وفرشه ووضع‬
‫عليه مائدة نِ َعمه‪ ..‬وكذا تنبيه ‪ -‬بقاعدة "اذا ثبت الشئ ثبت بلوازمه" ‪ -‬اىل ان األرض‬
‫كأرض البيت مبسوطة‪ ،‬فانواع النباتات واحليوانات فيها كأساسات البيت امنا وضعت بقصد‬
‫وحكمة‪ ..‬وكذا امياء اىل ان االرض توسطت بقصد وحكمة بني املائع الذي اليتمسك عليه‬
‫االقدام‪ ،‬وبني الصلب الشديد الذي اليقبل االستفادة والزراعة فيكون عبثا‪ ،‬ولو كان ذهبا‪.‬‬
‫ِ‬
‫وقصد حكيم‪.‬‬ ‫وجعل‬ ‫ِ‬
‫بتخصيص ِ‬ ‫فبالتوسط اشارة اىل انه‬

‫اما (والسماء بناءً) فاشارة اىل انه تعاىل ملا جعل لكم السماء سقفا وبناء صارت جنومها‬
‫قناديل لكم فال يتوهم التصادف يف تفريق تلك القناديل وانتشارها كما يتوهم التصادف يف‬
‫وضعية اجلواهر اليت ترمى على األرض منتثرة‪.‬‬

‫سر عجيب دقيق غال وهو‪:‬‬


‫اعلم! ان يف هذه اآلية اشارة ورمزاً وامياء اىل ّ‬
‫‪ p‬ان قلت‪ :‬ان االنسان ذرة بالنسبة اىل أرضه‪ ،‬وأرضه ذرة بالنسبة اىل الكائنات‪ .‬وكذا فرده‬
‫ذرة ‪ 1‬اىل نوعه ونوعه ذرة بالنسبة اىل شركائه يف االستفادة يف هذا البيت العايل‪ .‬وكذا جهة‬
‫استفادة البشر بالنسبة اىل فوائد وغايات هذا البيت ذرة‪ ،‬والغايات اليت حتس هبا العقول ذرة‬
‫بالنسبة اىل فوائده يف احلكمة األزلية والعلم اإلهلي فكيف جعل العامل خملوقاً الجل البشر‬
‫واستفادته علة غائية؟‪.‬‬

‫مر ألجل ُوسعة روح االنسان وتبسط عقله وانبساط‬ ‫قيل لك‪ :‬نعم! ولكن مع كل ما ّ‬
‫استعداده وكثرة وانتشار استفادته من الكائنات‪ ..‬وايضاً ألجل عدم املزامحة والتجزي واملدافعة‬
‫يف جهة االستفادة كنسبة الكلي اىل جزئياته ‪ -‬اذ الكلي بتمامه موجود يف كل من جزئياته‬
‫المزامحة وال جتزء ‪ -‬جعل القرآن الكرمي جهة استفادة البشر اليت هي غاية فذة من الوف‬
‫الوف غايات السماء واألرض يف منزلة العلة الغائية كأهنا هي العلة بالنظر اىل االنسان‪ .‬اي‬
‫ان االنسان يستفيد من األرض عرصةً لبيته والسماء سقفا له والنجوم قناديل والنباتات‬
‫فحق لكل فرد ان يقول‪ :‬مشسي ومسائي وأرضي‪ .‬فتأمل وعقلك معك!‬ ‫ذخائر‪ّ ،‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬ذرة بالنسبة اىل نوعه (ش)‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪161 :‬‬

‫اما كيفيات (وانزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم) فاعلم! ان نسبة انزل‬
‫اىل الضمري اشارة اىل ان القطرات امنا تُ َنزل مبيزان قصد وتُرسل حبكمة‪ ،‬حىت ان كل قطرة‬
‫حمفوفة بنظام خمصوص بأمارة عدم مصادمتها ألخواهتا يف تلك املسافة البعيدة مع تلعب‬
‫اهلواء هبا‪ .‬فيؤذن ان ليست غوارهبا على اعناقها ‪ ،1‬بل زمام كل يف يد ملَك ممثِّل لنظام‬
‫ومعكس له‪.‬‬

‫أما (من السماء) فاشارة باقامة الظاهر مقام الضمري اىل ان الغرض من هذه السماء جهتها‬
‫‪2‬‬
‫ال ِجرمها املخصوص‪.‬‬

‫اما (ماء) مع ان املنزل ثلج وبَـَرد ومطر‪ ،‬فاشارة اىل املنشأ القريب لالستفادة (وجعلنا من املاء‬
‫كل شئ حي) ‪ .1‬أما تنكريه فاشارة اىل انه ماء عجيب شأنه‪ ،‬غريب نظامه‪ ،‬جمهول لكم‬
‫امتزاجاته الكميوية‪.‬‬

‫أما فاء (فاخرج) املوضوعة للتعقيب بال مهلة مع املهلة بني نزول املاء وخروج الثمر فتلويح‬
‫اىل فـ"اهتزت األرض وربت واخضرت وانبتت من كل زوج هبيج فاخرج"‪ .‬أما نسبة "اخرج"‬
‫اىل الضمري فاشارة اىل ان خروج الثمار ليس بتولد وتركب فقط‪ ،‬بل الصانع احلكيم ينشؤها‬
‫ويرتبها بصفات وخواص التوجد يف مادهتا‪.‬‬
‫أما (به) فبسبب تشرب املعىن احلقيقي ‪ -‬وهو االلصاق ‪ -‬للسببية رمز اىل لطافة طراوة‬
‫الثمار‪ ،‬فيعلو اليها املاء ‪ -‬خالف طبيعته ‪ -‬بوساطة "اآلثار الشعرية" فيمأل أقداح الثمرات‬
‫ملصقاً هبا‪.‬‬

‫أما (من الثمرات) فلعدم خلوها من معىن االبتداء عند (سيبويه) يشري اىل مفعول يتنوع بتعني‬
‫فهم السامع‪ ،‬أي ان من الثمرات أنواعاً كما تشتهون‪.‬‬

‫أما تنوين (رزقاً) فاشارة اىل انه رزق جمهول لكم أسباب حصوله فيجئ من حيث ال‬
‫حيتسب‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬الصحيح‪" :‬حبلها على غارهبا"‪ ..‬راجع الكتب الفقهية يف حبث كنايات الطالق واملعاجم‬
‫اللغوية يف مادة "غرب" (ب)‬

‫‪ 2‬ألن املقام مقام الضمري‪ ،‬فاذا عدل عنه اىل الظاهر يكون املراد به غري االول‪( ...‬ب)‬

‫‪ 3‬سورة االنبياء‪.14 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪160 :‬‬

‫أما (لكم) فاشارة اىل تأكيد معىن االمتنان‪ ..‬وأيضاً امياء اىل ان الرزق ألجلكم فال بأس من‬
‫استفادة غريكم منه تبعاً‪ ..‬وكذا رمز اىل انه تعاىل كما خصكم بالنعم فخصوه بالشكر‪.‬‬

‫أما نظم هيآت (فال جتعلوا هلل اندادا) فالفاء‪ ،‬ينظر اىل الفقرات األربعة‪ :‬أي ألنه هو املعبود‬
‫فال تشركوا‪،‬وألنه هو القادر املطلق واألرض والسماء يف قبضته فال تعتقدوا له شريكا‪ ،‬والنه‬
‫املنعم فال تشركوا يف شكره‪ ،‬وألنه هو خالقكم فال تتخيلوا له شريكا‪.‬‬
‫أما (جتعلوا) بدل تعتقدوا فاشارة اىل معىن (ان هي اال امساء مسيتموها) ‪ 1‬أي امساء ال معىن‬
‫هلا تتخيلون هلا وجوداً جبعلكم‪.‬‬

‫أما تقدمي (هلل) فمع االهتمام جبعله نصب العني امياء اىل ان منشأ النهي كون الشريك هلل‪.‬‬

‫اما (اندادا) فلفظ الند مبعىن‪ :‬املثل‪ ،‬ومثله تعاىل يكون عني ضده‪ ،‬وبينهما تضاد‪ ،‬ففيه امياء‬
‫لطيف اىل ان الند ّبني البطالن بنفسه‪ ..‬أما اجلمع فاشارة اىل هناية جهالة املشركني وامياء اىل‬
‫التهكم هبم‪ ،‬أي كيف جتعلون هلل الذي ال شبيه له بوجه ما‪ ،‬مجاعة من أمثال واضداد؟‪.‬‬
‫وكذا رمز اىل رد كل أنواع الشرك أي ال شريك له يف ذاته وال يف صفاته وال يف افعاله‪..‬‬
‫وتلويح اىل رد طبقات املشركني من الوثنيني والصابئني وأهل التثليث وأهل الطبيعة املعتقدين‬
‫بالتأثري احلقيقي لألسباب‪.‬‬

‫تذييل‪ :‬منشأ الوثنية واألصنام إما تأليه النجوم أو ختيل احللول أو توهم اجلسمية‪.‬‬

‫أما (وانتم تعلمون) فمع اخواهتا من الفواصل اشارة اىل ان منشأ االسالمية هو العلم‬
‫وأساسها العقل‪ ،‬فمن شأنه ان يقبل احلقيقة ويرد سفسطة االوهام‪ .‬مث انه أطنب باجياز ترك‬
‫املفعول‪ ،‬أي وانتم تعلمون‪ :‬ان المعبود حقيقياً وال خالق وال قادر مطلقاً وال منعم اال هو‪..‬‬
‫وكذا وانتم تعلمون ان اآلهلة واألصنام ليست بشئ‪ ،‬ال تقتدر على شئ واهنا خملوقة جمعولة‬
‫تتخيلوهنا‪ ،‬فتدبر!‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة النجم‪.21 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪169 :‬‬


‫ون هللا اِ ْن‬
‫ب ِممَّا نَـَّزلْنَا علَى عب ِدنَا فَأْتُوا بِسورةٍ ِمن ِمثْلِ ِه و ْادعوا ُشهداء ُكم ِمن د ِ‬
‫َ ُ َ َ ْ ْ ُ‬ ‫َُ ْ‬ ‫َ َْ‬ ‫وإ ْن ُكْنتُ ْم ِيف ريْ ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اس واحلِ َج َارةُ اُ ِعد ْ‬
‫َّت‬ ‫َّار الَّيت َوقُ ُ‬
‫ود َها النّ ُ‬ ‫ني ‪ 21‬فَان َملْ تَـ ْف َعلُوا َولَ ْن تَـ ْف َعلُوا فَاتَّـ ُقوا الن َ‬ ‫صادق َ‬ ‫ُكْنتُ ْم َ‬
‫ِ ِ‬
‫ين ‪20‬‬ ‫ل ْلكاف ِر َ‬
‫مقدمـة يف حتقيق النبوة‬

‫اعلم! انه كما اثبتت اآلية السابقة ّاول املقاصد األساسية القرآنية وهو التوحيد؛ كذلك تثبت‬
‫حممد عليه الصالة والسالم بأكمل معجزاته‬
‫نبوة ّ‬
‫هذه اآلية ثاينَ املقاصد األربعة وهو اثبات ّ‬
‫نبوته يف كتاب آخر فلنلخص‬
‫الذي هو التح ّدي باعجاز القرآن الكرمي‪ .‬ولقد فصلنا دالئل ّ‬
‫بعضها هنا يف ست ‪ 1‬مسائل‪:‬‬

‫املسألة األوىل‪:‬‬

‫اخلفي ينتج ان‬


‫اعلم! ان االستقراء التام يف أحوال األنبياء مع االنتظام املطّرد املسمى بالقياس ّ‬
‫نبوة األنبياء وأساسها وكيفية معامالهتم مع اممهم ‪ -‬بشرط جتريد املسألة عن‬ ‫مدار ّ‬
‫حممد عليه الصالة والسالم الذي‬ ‫خصوصيات تأثري الزمان واملكان ‪ -‬يوجد بأكمل وجه يف ّ‬
‫وي انه أيضاً رسول‬ ‫هو استاذ البشر يف ِّ‬
‫سن كمال البشر‪ ،‬فينتج بالطريق االَْوىل وبالقياس األ َْولَ ّ‬
‫حممد عليه السالم الذي‬ ‫هللا‪ .‬فجميع األنبياء بألسنة معجزاهتم كأهنم شاهدون على صدق ّ‬
‫هو الربهان ِّ‬
‫النري على وجود الصانع ووحدته فتأمل‪...‬‬

‫املسألة الثانية‪:‬‬

‫اعلم! ان كل حال من احواله وكل حركة من حركاته عليه السالم ‪ -‬وان مل يكن خارقاً ‪-‬‬
‫يلَ ِّوح باملبدأ على صدقه وباملنتهى على حقانيته‪ .‬أال ترى انه عليه السالم كيف كان حاله يف‬
‫أمثال واقعة الغار اليت انقطع ‪ -‬حبسب العادة ‪ -‬أمل اخلالص‪،‬‬

‫_____________________‬
‫‪ 1‬يف سبع مسائل (ش)‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪166 :‬‬

‫(الحتَز ْن اِن هللا َم َعنَا) ‪ .!1‬فكما ان ابتداءه باحلركة ‪-‬‬


‫يقول بكمال الوثوق واالطمئنان واجلدية َْ‬
‫بال مباالة ملعارض وبال خوف وتردد مع كمال االطمئنان ‪ -‬يدل على متسكه بالصدق؛‬
‫كذلك تأسيسه بانتهاء حركاته ‪ -‬لقواعد هي األساس لسعادة الدارين ‪ -‬واصابته للحق‬
‫واتصاله باحلقيقة دليل على حقانيته‪ ،‬فهذا فرداً فرداً‪ .‬وأما اذا نظرت اىل جمموع حركاته‬
‫فتبصر!‪..‬‬‫نبوته كالربق الالمع‪ّ .‬‬ ‫واحواله يتجلى لعينك برها ُن ّ‬
‫املسألة الثالثة‪:‬‬

‫اعلم! ان الزمان املاضي واحلال ‪ -‬أي عصر السعادة ‪ -‬واالستقبال اتفقت على تصديق‬
‫نبوته‪ .‬ولنطالع هذه الصحف األربع‪:‬‬
‫نبوته كما ان ذاته دليل على ّ‬
‫ّ‬
‫تصور أربع نكت‪:‬‬
‫فأوالً‪ :‬نتربك مبطالعة ذاته عليه السالم‪ .‬والبد ّأوالً من ّ‬
‫التصنعي ‪ -‬ولو كانا على أكمل‬
‫ُ‬ ‫الصنعي و‬
‫ُ‬ ‫كالتكحل" أي اليصل‬
‫ّ‬ ‫الكحل‬
‫ُ‬ ‫إحداها‪ :‬انه "ليس‬
‫هيئة حر ِ‬
‫كة الصنعي‬ ‫ِ‬
‫غلطات ِ‬ ‫فلتات‬
‫الفطري وال يقوم مقامه‪ ،‬بل ُ‬
‫الطبيعي و ّ‬
‫ّ‬ ‫الوجوه ‪ -‬مرتبة‬
‫تومئ مبزخرفيته‪.‬‬

‫والثانية‪ :‬ان االخالق العالية امنا تتصل بأرض احلقيقة باجلدية‪ ،‬وان ادامة حياهتا وانتظام‬
‫جمموعها امنا هي بالصدق‪ .‬ولو ارتفع الصدق من بينها صارت كهشيم تذروه الرياح‪.‬‬

‫والثالثة‪ :‬هي انه كما يوجد امليل واجلذب يف األمور املتناسبة‪ ،‬كذلك يوجد الدفع والتنافر يف‬
‫األمور املتضادة‪.‬‬

‫كقوة احلبل مع ضعف خيوطه‪..‬‬ ‫للكل حكماً ليس ٍ‬


‫لكل" ّ‬ ‫والرابعة‪ :‬هي "ان ِّ‬
‫حممد عليه الصالة والسالم وسريه وتاريخ حياته‬
‫واذا تفطنت هلذه النكت فاعلم! ان آثار ّ‬
‫تشهد ‪ -‬مع تسليم أعدائه ‪ -‬بانه لعلى خلق عظيم‪ ،‬وبانه قد اجتمع فيه اخلصائل العالية‬
‫كافة‪ .‬ومن شأن امتزاج تلك األخالق توليد عزة للنفس وحيثية وشرف ووقار التساعد التنزل‬
‫علو املالئكة اليساعد الختالط الشياطني بينهم؛ كذلك تلك‬‫للسفاسف‪ .‬فكما ان ّ‬
‫األخالق العالية جبمعها ال تساعد أصال لتداخل احليلة‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة التوبة‪.04 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪167 :‬‬

‫والكذب بينها‪ .‬أال ترى ان الشخص املشتهر بالشجاعة فقط ال يتنزل للكذب االّ بعسر؟‬
‫فكيف باجملموع؟ فثبت ان ذاته عليه السالم كالشمس دليل لنفسه‪..‬‬

‫وأيضاً اذا تأملت يف حاله عليه السالم من األربع اىل اربعني ‪ -‬مع ان من شأن الشبابية‬
‫وتوقد احلرارة الغريزية ان تظهر ما خيفى وتلقي اىل الظاهر ما استرت يف الطبيعة من احليل ‪-‬‬
‫تراه عليه السالم قد تدرج يف سنينه وعاشر بكمال استقامة وهناية متانة وغاية عفة واطراد‬
‫حال من أحواله اىل حيلة‪ ،‬السيما يف مقابلة املعاندين األذكياء‪ .‬وبينما تراه‬ ‫وانتظام‪ .‬ما اومأ ٌ‬
‫عليه السالم كذلك اذ تنظر اليه وهو على رأس اربعني سنة ‪ -‬الذي من شأنه جعل احلاالت‬
‫تكشف عليه السالم عن شخص خارق قد اوقع‬ ‫َملَكة والعادات طبيعة ثابتة ال ختالف ‪ -‬قد ّ‬
‫يف العامل انقالباً عظيماً عجيبا‪ .‬فما هو االّ من هللا‪.‬‬

‫املسألة الرابعة‪:‬‬
‫صص األنبياء املذكورة على لسانه عليه السالم يف‬
‫اعلم! ان صحيفة املاضي املشتملة على قَ َ‬
‫نبوته مبالحظة أربع نكت‪.‬‬
‫القرآن الكرمي برهان على ّ‬
‫إحداها‪ :‬إن من يأخذ أساسات ف ٍن ويعرف العقد احلياتية فيه وحيسن استعماهلا يف مواضعها‬
‫مث يبين م ّدعاه عليها؛ يدل ذلك على مهارته وحذاقته يف ذلك الفن‪.‬‬

‫النكتة الثانية‪ :‬هي انك ان كنت عارفا بطبيعة البشر ال ترى أحداً يتجاسر وبال تردد وبال‬
‫كذب ولو صغرياً‪ ..‬يف قوم ولو قليلني‪ ..‬يف دعوى ولو حقرية‪..‬‬ ‫مباالة بسهولة على ٍ‬
‫خمالفة و ٍ‬
‫حبيثية ولو ضعيفة‪ .‬فكيف مبن له حيثية يف غاية العظمة‪ ..‬ويف دعوى يف غاية اجلاللة‪ ..‬يف‬
‫امي مل يقرأ‪ ..‬يبحث عن أمور ال‬‫قوم يف غاية الكثرة‪ ..‬يف مقابلة عناد يف غاية الشدة مع انه ّ‬
‫يستقل فيها العقل ويظهرها بكمال اجلدية‪ ،‬ويعلنها على رؤوس األشهاد‪ .‬أفال يدل هذا على‬
‫صدقه وانه ليس منه بل من هللا؟‬

‫املدنيني ‪ -‬بِتعليم العادات واألحوال وتلقني‬


‫الثالثة‪ :‬هي ان كثرياً من العلوم املتعارفة عند َ‬
‫الوقوعات واألفعال ‪ -‬جمهولة نظريةٌ عند البدويني‪ .‬فبناء علىه البد ملن حياكم ويتحرى حال‬
‫البدويني ‪ -‬ال سيما يف القرون اخلالية ‪ -‬ان يفرض نفسه يف تلك البادية‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪169 :‬‬

‫امي علماء فن ‪ -‬ولو فن الصرف ‪ -‬مث ّبني رأيه يف مسائله مص ِّدقاً‬


‫الرابعة‪ :‬هي انه لو ناظر ّ‬
‫ومصححاً يف مطارح االختالف؛ افال يدلك ذلك على تفوقه‪ ،‬وأن علمه‬ ‫ِ‬ ‫يف مظان االتفاق‪،‬‬
‫ّ‬
‫وهيب؟‪.‬‬

‫قص علينا بلسان‬


‫العريب عليه السالم مع اميّته ّ‬
‫حممداً ّ‬‫اذا عرفت هذه النكت‪ :‬فاعلم! ان ّ‬
‫وبني أحواهلم وشرح أسرارهم‬
‫ص االولني واالنبياء قصةَ َم ْن حضر وشاهد‪ّ ،‬‬ ‫قص َ‬
‫القرآن الكرمي َ‬
‫على رؤوس العامل يف دعوى عظيمة جتلب اليها دقة األذكياء‪ .‬وقد قص بال مباالة‪ ،‬وأخذ‬
‫العقد احلياتية فيها واساساهتا م َقدَّمة مل ّدعاه‪ ،‬مص ِّدقاً فيما اتفقت عليه الكتب السالفة‪،‬‬
‫طي الزما َن واملكا َن‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اجلوال املعكس للوحي االهلي ّ‬
‫ومصححا فيما اختلفت فيه‪ .‬كأنه بالروح ّ‬
‫ّ‬
‫فبني كأنه مشاهد‪ .‬فثبت ان حاله هذه دليل نبّوته وإحدى‬
‫فتداخل يف اعماق املاضي ّ‬
‫نبوة األنبياء يف حكم دليل معنوي له‪ ،‬ومجيع معجزات االنبياء يف‬
‫معجزاته‪ .‬فمجموع دالئل ّ‬
‫حكم معجزة معنوية له‪.‬‬

‫املسألة اخلامسة‪:‬‬

‫يف بيان صحيفة عصر السعادة ال سيما مسألة جزيرة العرب‪ .‬فها هنا أيضاً أربع نكت‪:‬‬

‫احداها‪ :‬انك اذا تأملت يف العامل ترى انه قد يتعسر ويستشكل رفع عادة ولو حقرية يف قوم‬
‫هبمة ولو‬ ‫ِ‬
‫ولو قليلني‪ .‬أو خصلة ولو ضعيفة‪ ..‬يف طائفة ولو ذليلني‪ ..‬على ملك ولو عظيما‪ّ ..‬‬
‫شديدة‪ .‬يف زمان مديد بزمحة كثرية ‪ .1‬فكيف انت مبن مل يكن حاكما‪ ،‬تشبث يف زمان قليل‬
‫ٍ‬
‫عادات َوَرفَ َع أخالقاً قد استقرت بتمام الرسوخ‬ ‫هبمة جزئية ‪ -‬بالنسبة اىل املفعول ‪َ -‬وقَـلَ َع‬
‫واستؤنس هبا هناية استيناس واستمرت غاية استمرار‪ ،‬فغرس فجأة بدهلا عادات وأخالقاً‬
‫تكملت دفعة عن قلوب قوم يف غاية الكثرة وملألوفاهتم يف هناية التعصب‪ .‬أفال تراه خارقاً‬
‫للعادات؟‪..‬‬

‫تدرجيي كنمو الطفل‪ ،‬وغلَبتُها للدولة‬ ‫النكتة الثانية‪ :‬هي ان الدولة شخص معنوي‪ُّ .‬‬
‫تشكلُها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أحكامها كالطبيعة الثابتة مللتها ‪ -‬متمهلة‪ .‬أفال‬
‫ُ‬ ‫العتيقة ‪ -‬اليت صارت‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬يف زمان ولو مديد بزمحة ولوكثرية (ش)‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪161 :‬‬


‫ٍ‬
‫عظيمة‬ ‫ٍ‬
‫حلكومة‬ ‫حممد عليه السالم‬
‫تشكيل ّ‬
‫ُ‬ ‫يكون حينئذ من اخلارق لعادةِ تش ّكل الدول‬
‫دفعةً‪ ،‬مهيئة لنهاية الرتقي‪ ،‬متضمنة لألساسات العالية األبدية مع غلبتها للدول العظيمة‬
‫ومعىن‪.‬‬
‫دفعة مع ابقاء حاكميته ال على الظاهر فقط‪ ،‬بل ظاهراً وباطناً وماد ًة ً‬
‫سطحي‪ .‬لكن الغلبة على‬
‫ّ‬ ‫ظاهري‪ ،‬وتسلط‬
‫ّ‬ ‫النكتة الثالثة‪ :‬هي انه ميكن بالقهر واجلرب حتكم‬
‫األفكار‪ ،‬والتأثري بالقاء حالوته يف األرواح‪ ،‬والتسلط على الطبائع مع حمافظة حاكميته على‬
‫الوجدان دائما ال يكون االّ من خوارق العادات‪ ..‬وليس االّ اخلاصة املمتازة للنبّوة‪.‬‬

‫النكتة الرابعة‪ :‬هي ان تدوير أفكار العموم وارشادها حبيل الرتهيب والرتغيب واخلوف‬
‫والتكليف امنا يكون تأثريها جزئيا سطحياً موقتا يس ّد طريق احملاكمة العقلية يف زمان‪ .‬أما من‬
‫نفذ يف أعماق القلوب بارشاده‪ ،‬وهيج دقائق احلسيات‪ ،‬وكشف اكمام االستعدادات‪ ،‬وأيقظ‬
‫األخالق‪ ،‬وأظهر اخلصائل املستورة‪ ،‬وجعل جوهر انسانيتهم فواراً‪ ،‬وأبرز قيمة ناطقيتهم؛ فامنا‬
‫هو مقتبس من شعاع احلقيقة ومن اخلوارق للعادة‪ .‬بينما ترى شخصا يف قساوة قلبه يقرب بنته‬
‫يرتحم على حنو النمل‪ ،‬ويتأمل بأمل‬
‫حيةً وال يتأمل وال يتأثر اذ تراه بعد يوم ‪ -‬وقد اسلم ‪ّ -‬‬
‫حيوان‪ .‬فباهلل عليك أينطبق هذا االنقالب احلسي على قانون؟‪.‬‬

‫فاذا عرفت هذه النكت تأمل يف نقطة أخرى وهي‪:‬‬

‫عمومي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يد امنا هو الذي اقتدر على انعاش استعداد‬ ‫الداهي الفر َ‬
‫َ‬ ‫ان تاريخ العامل يشهد ان‬
‫حسا‬
‫عمومي؛ اذ َمن مل يوقظ هكذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫حس‬
‫وايقاظ خصلة عمومية‪ ،‬والتسبب النكشاف ّ‬
‫نائما يكون سعيُه هباء موقتا ولو كان جليال يف نفسه‪ ..‬وأيضا ان التاريخ يرينا ان أعظم‬
‫ِ‬
‫احلسيات العمومية‪ :‬كحس احلمية‬ ‫الناس هو املوفَّق اليقاظ واحد أو اثنني أو ثالث من هذه ّ‬
‫امللّية‪ ،‬وحس االخوة‪ ،‬وحس احملبة‪ ،‬وحس احلرية اخل‪ .‬أفال يكون اذاً ايقاظ الوف من‬
‫ويني منتشرين يف جزيرة العرب‬ ‫ِ‬
‫احلسيات ‪ -‬املستورة العالية‪ ،‬وجعلها ّفوارة منكشفة يف قوم بَ َد ّ‬
‫ّ‬
‫تلك الصحراء الوسيعة ‪ -‬من اخلوارق؟‪ ..‬نعم ‪ !.1‬هو من ضياء مشس احلقيقة‪.‬‬

‫_____________________‬
‫‪ 1‬لعله بلى" (ش)‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪174 :‬‬

‫فيا هذا! من مل يُدخل يف عقله هذه النقطة نُ ْد ِخل جزيرَة العرب يف عينه‪ .‬فهذه جزيرة بعد‬
‫ثالثة عشر عصراً وبعد ترقي البشر يف مدارج التمدن!‪ِ ..‬‬
‫فانتخب ايها املعاند من أكمل‬
‫حممد العريب عليه‬
‫الفالسفة مائة‪ ،‬فليسعوا مائة سنة فان فعلوا جزءاً من مائة جزء مما فعله ّ‬
‫الصالة والسالم بالنسبة اىل زمانه ‪ ...1‬فان مل تفعل ‪ -‬ولن تفعل ‪ -‬فاتّق عاقبة العناد! نعم‪،‬‬
‫هذه احلالة خارقة للعادة وان هي االّ معجزة من معجزاته عليه الصالة والسالم‪.‬‬

‫ومعارفَة مع‬
‫واعلم أيضاً‪ :‬ان من اراد التوفيق يلزم عليه ان يكون له مصافاة مع عادات هللا‪َ ،‬‬
‫قوانني الفطرة‪ ،‬ومناسبة مع روابط اهليئة االجتماعية‪ .‬واالّ‪ ،‬أجابته الفطرة بعدم املوفَّقية جو َ‬
‫اب‬
‫إسكات‪..‬‬

‫العمومي‪ .‬واالّ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وأيضاً َمن حترك مبسلك يف اهليئة االجتماعية يلزمه ان ال خيالف حركة اجلريان‬
‫طريه ذلك الدوالب عن ظهره فيسقط يف يده‪ .‬فاذاً من ساعده التوفيق يف ذلك اجلريان‬ ‫ّ‬
‫كمحمد عليه السالم يثبت انه متمسك باحلق‪.‬‬‫ّ‬
‫فاذا تفهمت هذا‪ ،‬تأمل يف حقائق الشريعة مع تلك املصادمات العظيمة واالنقالبات‬
‫العجيبة‪ ،‬ويف هذه األعصار املديدة تَـَرها قد حافظت على موازنة قوانني الفطرة وروابط‬
‫االجتماعيات الاليت بدقتها ال ترتاءى للعقول مع كمال املناسبة واملصافاة معها‪ .‬فكلما امتد‬
‫الفطري لنوع‬
‫ّ‬ ‫الزمان تظاهر االتصال بينها‪ .‬ويتظاهر من هذه احلالة؛ ان االسالمية هي الدين‬
‫رق‪ .‬أال ترى ان الرتياق الشايف للسموم القاتلة يف اهليئة‬
‫البشر واهنا حق‪ ،‬هلذا الينقطع ان ّ‬
‫االجتماعية امنا هو أمثال "حرمة الربا ووجوب الزكاة" اللتني مها مسألتان يف ألوف مسائل‬
‫تلك الشريعة‪.‬‬
‫اهلامشي عليه الصالة‬
‫ّ‬ ‫فاذا عرفت هذه النكت األربع مع هذه النقط الثالث‪ ،‬اعلم! ان حممداً‬
‫والسالم مع انه ّام ّي مل يقرأ ومل يكتب‪ ،‬ومع عدم قوته الظاهرية وعدم حاكميته له أو لسلفه‪،‬‬
‫وعدم ميل حتكم وسلطنة‪ ،‬قد تشبث بقلبه بوثوق واطمئنان يف موقع يف غاية اخلطر ويف مقام‬
‫مهم‪ ،‬بأمر عظيم فغلب على األفكار‪ ،‬وحتبب اىل األرواح‪ ،‬وتسلط على الطبائع‪ ،‬وقلع من‬
‫أعماق قلوهبم العادات واألخالق الوحشية املألوفة الراسخة املستمرة الكثرية‪ .‬مث غرس يف‬
‫موضعها يف غاية ا ِإلحكام والقوة ‪-‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬وجواب إن حمذوف‪ ،‬اى فاطلب ماتشاء (ش)‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪171 :‬‬

‫كأهنا اختلطت بلحمهم ودمهم ‪ -‬أخالقا عالية وعادات حسنة‪ ،‬وقد بدل قساوة قلوب قوم‬
‫خامدين يف زوايا الوحشة حبسيات رقيقة وأظهر جوهر انسانيتهم‪ .‬مث أخرجهم من زاوية‬
‫وصريهم معلِّمي عالَمهم‪ ،‬و َّ‬
‫أسس هلم دولةً ابتلعت الدول‬ ‫الوحشة َورقي هبم اىل اوج املََدنية ّ‬
‫اجلوالة والنور النّوار فاحرقت روابط الظلم‬
‫كعصا موسى فلما ظهرت صارت كالشعلة ّ‬
‫الغرب‪ .‬أفال تدل هذه احلالة‬
‫الشرق و َ‬
‫والفساد‪ ،‬وجعل سرير تلك الدولة الدفعية يف زمان قليل َ‬
‫على ان مسلكه حقيقة وانه صادق يف دعواه؟‬

‫املسألة السادسة‪:‬‬

‫يف صحيفة املستقبل السيما "مسألة الشريعة"‪ .‬والبد من مالحظة أربع نكت يف هذه‬
‫املسألة‪:‬‬
‫احداها‪ :‬ان شخصاً ولو خارقاً امنا يتخصص ويصري صاحب ملَكة يف أربعة فنون او مخسة‬
‫فقط‪.‬‬

‫النكتة الثانية‪ :‬إن كالماً واحداً قد يتفاوت بصدوره عن متكلمني‪ ،‬فكما يدل على سطحية‬
‫أحد وجهله‪ ..‬يدل على ماهرية اآلخر وحذاقته مع ان الكالم هو الكالم؛ اذ احدمها ملا نظر‬
‫اىل املبدأ واملنتهى‪ ،‬والحظ السياق والسباق‪ ،‬واستحضر مناسبته مع أخواته‪ ،‬ورأى موضعاً‬
‫مناسبا فأحسن االستعمال فيه‪ ،‬وحترى أرضا منبتة فزرعه فيها؛ ظهر منه انه خارق وصاحب‬
‫ملكة فيما هذا الكالم منه‪ .‬وكل فذلكات القرآن الكرمي من الفنون وملتقطاته امنا هي من‬
‫هذا القبيل‪.‬‬

‫النكتة الثالثة‪ :‬هي ان كثرياً من االمور العادية اآلن ‪ -‬بسبب تكمل املبادئ والوسائط حىت‬
‫يلعب هبا الصبيان ‪ -‬لو كانت قبل هذا بعصرين لع ّدت من اخلوارق‪ .‬فما حيافظ شبابيته‬
‫وطراوته وغرابته على هذه االعصار املديدة يكون البتة من خوارق العادات والعادات اخلارقة‪.‬‬

‫النكتة الرابعة‪ :‬هي ان االرشاد امنا يكون نافعا اذا كان على درجة استعداد أفكار اجلمهور‬
‫األكثر‪ .‬واجلمهور ‪ -‬باعتبار املعظم ‪ -‬عوام‪ .‬والعوام ال يقتدرون على رؤية احلقيقة عريانةً وال‬
‫صور القرآ ُن‬
‫يستأنسون هبا اال بلباس خياهلم املألوف‪ .‬فلهذه النكتة ّ‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪172 :‬‬

‫الكرمي تلك احلقائق مبتشاهبات وتشبيهات واستعارات وحفظ اجلمهور الذين مل يتكملوا عن‬
‫الظاهري ‪-‬‬
‫ّ‬ ‫اجلمهور ‪ -‬باحلس‬
‫ُ‬ ‫الوقوع يف ورطة املغلطة‪ .‬فأبْـ َه َم وأمهَ َل يف املسائل اليت يعتقد‬
‫خالف الواقع ضروريا‪ ،‬لكن مع ذلك أومأ اىل احلقيقة بنصب امارات‪.‬‬

‫العقلي‬
‫ّ‬ ‫فاذا تفطنت هلذه النكت‪ ،‬اعلم! ان الديانة والشريعة االسالمية املؤسسة على الربهان‬
‫ملخصة من علوم وفنون تضمنت العقد احلياتية يف مجيع العلوم األساسية‪ :‬من فن هتذيب‬
‫وفن تدبري اجلسد‪ ،‬وعلم تدوير املنزل‪ ،‬وفن‬
‫الروح‪ ،‬وعلم رياضة القلب‪ ،‬وعلم تربية الوجدان‪ّ ،‬‬
‫سياسة املدنية‪ ،‬وعلم نظامات العامل‪ ،‬وفن احلقوق‪ ،‬وعلم املعامالت‪ ،‬وفن اآلداب‬
‫فسرت وأوضحت يف مواقع اللزوم‬ ‫االجتماعية‪ ،‬وكذا وكذا وكذا‪ ...‬اخل‪ .‬مع ان الشريعة ّ‬
‫امجلت‬
‫ْ‬ ‫ومظان االحتياج‪ ،‬وفيما مل يلزم او مل يستعد له االذها ُن او مل يساعد له الزما ُن‬
‫بفذلكة ووضعت أساسا احالت االستنباط منه وتفريعه ونشو منائه على مشورة العقول‪.‬‬
‫واحلال ان كل هذه الفنون بل ثلثها بعد ثالثة عشر عصرا ‪ -‬مع انبساط تالحق األفكار‬
‫وتوسع نتائجها‪ ،‬وكذا يف املواقع املتمدنة‪ ،‬وكذا يف األذكياء ‪ -‬اليوجد يف شخص‪ .‬فمن زيّن‬
‫وجدانه باالنصاف يصدق بان حقيقة هذه الشريعة خارجة عن طاقة البشر دائما السيما يف‬
‫ذلك الزمان‪ ،‬ويص ّدق مبآل (مل تفعلوا ولن تفعلوا)‪.‬‬

‫"والفضل ما شهدت به االعداء"‪ :‬فهذا "قارالئيل" ‪ 1‬فيلسوف امريكا نقل عن األديب‬


‫الشهري االملاين وهو "كوته" ‪ 2‬اذ قال بعد ما أمعن النظر يف حقائق القرآن الكرمي عجبا‬
‫تكمل العامل املدين يف دائرة االسالمية؟ فأجاب بنفسه‪ :‬نعم! بل‬
‫أميكن ّ‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬توماس كاراليل (‪ )1991 - 1719‬كاتب ومؤرخ وفيلسوف انكليزي‪ ،‬اراد والده البنّاء‬
‫مر مبعاناة نفسية‬ ‫ان يكون إبنه قسيساً إالّ ان كثرة شكوكه حول الدين حالت دون ذلك‪ّ ،‬‬
‫دامت زهاء سبع سنوات‪ ،‬انتهى به املطاف باالستقرار على مسائل االميان‪ .‬ألقى سلسلة من‬
‫وبني انه النيب‬
‫احملاضرات‪ ،‬تناول يف احداها عظمة الرسول صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وأثىن عليه ّ‬
‫احلق ودحض افرتاءات كثرية‪ .‬مجع تلك احملاضرات يف كتابه املشهور «االبطال»‪ .‬اوصى‬
‫بتوزيع ثرواته اىل الطالب الفقراء‪ ،‬وايداع مكتبته يف جامعة هارفرد االمريكية‪ .‬ترك آثاراً عميقة‬
‫يف ثقافة االنكليز ونظرهتم اىل العامل(باختصارمن ‪ LUGAT YENI‬عن دائرة املعارف الرتكية)‪.‬‬

‫‪ 2‬جوهان فولف جانج فون (‪ )1912 - 1701‬كاتب وشاعر وروائى وناقد أملاين‪ .‬ولد يف‬
‫اسرة ثرية وتعلم الالتينية واليونانية وااليطالية واالنكليزية والعربية وحصل الفرنسية عام ‪ ،1‬مث‬
‫انتقل اىل مدينة ليبزنج لتعلم احلقوق مث انصرف اىل التأليف مث توىل مناصب قضائية وادارية‬
‫ووضع خالل ذلك مسرحيات وكتباً تناول فيها تأمالته يف احلياة‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪171 :‬‬

‫احملققون اآلن مستفيدون جبهة من تلك الدائرة‪ .‬مث قال الناقل‪ :‬ملا طلعت حقائق القرآن‬
‫فح َّق له؛ اذ الحيصل شئ من‬
‫اجلوالة وابتعلت سائر االديان‪ُ ،‬‬ ‫الكرمي صارت كالنار ّ‬
‫سفسطيات النصارى وخرافات اليهود‪ .‬فص ّدق ذلك الفيلسوف مآل (فأتوا بسورة من مثله‪..‬‬
‫فان مل تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار)‪.‬‬

‫ِ‬
‫مفسره ‪ -‬أعين احلديث ‪ -‬امنا اخذ من كل فن فذلكة‪،‬‬
‫فان قلت‪ :‬ان القرآن الكرمي وكذا ّ‬
‫ٍ‬
‫فذلكات كثرية ممكنة لشخص‪.‬‬ ‫واحاطةَ‬

‫قيل لك‪ :‬ان الفذلكة حبسن االصابة يف موقعها املناسب‪ ،‬واستعماهلا يف أرض منبتة مع أمور‬
‫تشف كالزجاجة عن ملكة تامة يف‬
‫مرموزة غري مسموعة ‪ -‬قد اشرنا اليها يف النكتة الثانية ‪ّ -‬‬
‫ذلك الفن واطالع تام يف ذلك العلم فتكون الفذلكة يف حكم العلم وال ميكن لشخص‬
‫أمثال هذه‪.‬‬

‫اعلم! ان نتيجة هذه احملاكمات هي ان تستحضر ّاوال ما سيأيت من القواعد وهي‪:‬‬

‫ان شخصاً اليتخصص يف فنون كثرية‪ ..‬وان كالما واحداً يتفاوت من شخصني‪ ،‬يكون‬
‫بالنظر اىل واحد ذهباً واىل اآلخر فحماً‪ ..‬وان الفنون نتيجة تالحق األفكار وتتكمل مبرور‬
‫الزمان‪ ..‬وان كثرياً من النظريات يف املاضي صارت بديهية اآلن‪ ..‬وان قياس املاضي على هذا‬
‫الزمان قياس مثبط مع الفارق‪ ..‬وان أهل الصحراء التسرت بساطتهم وصفوهتم احليل‬
‫والدسائس اليت ختتفي حتت حجاب املدنية‪ ..‬وان كثرياً من العلوم امنا يتحصل بتلقني‬
‫العادات والوقوعات وبتدريس األحوال لطبيعة البشر باعداد الزمان واحمليط‪ ..‬وان نور نظر‬
‫البشر الينفذ يف املستقبل وال يرى الكيفيات املخصوصة‪ ..‬وانه كما ان حلياة البشر عمراً‬
‫طبيعي ينتهي البتة‪ ..‬وان للمحيط الزماين واملكاين تأثرياً‬
‫ّ‬ ‫طبيعياً ينقطع؛ كذلك لقانونه عمر‬
‫عظيماً يف أحوال النفوس‪ ..‬وان كثرياً من اخلوارق املاضية تصري عادية بتكمل املبادئ‪ ..‬وان‬
‫كالصيب يتدرج‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الذكاء ولو كان خارقاً ال يقتدر على اجياد ف ٍن وتكميله دفعةً بل‬

‫وتعر من اخلياالت الزمانية‬


‫فتجرد َّ‬
‫واذا استحضرت هذه املسائل وجعلتها نصب عينيك َّ‬
‫ص من ساحل هذا العصر يف حبر الزمان‪ ،‬ماراً حتته اىل ان خترج من‬‫واألوهام احمليطية‪ ،‬مث غُ ْ‬
‫جزيرة عصر السعادة ناظراً على جزيرة العرب!‪ ..‬مث ارفع رأسك والبس‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪170 :‬‬

‫ما خاط لك ذلك الزمان من األفكار‪ ،‬مث انظر يف تلك الصحراء الوسيعة!‪ .‬فأول ما يتجلى‬
‫لعينك‪ :‬انك ترى انسانا وحيدا ال معني له وال سلطنة يبارز الدنيا برأسه‪ ..‬ويهجم على‬
‫اجل من كرة االرض‪ ..‬وأخذ بيده شريعة هي كافلة‬ ‫العموم‪ ..‬ومحل على كاهله حقيقة ّ‬
‫لسعادة الناس كافة‪ ..‬وتلك الشريعة كأهنا زبدة وخالصة من مجيع العلوم االهلية والفنون‬
‫بنمو استعداد البشر‬
‫احلقيقية‪ ..‬وتلك الشريعة ذات حياة ال كاللباس بل كاجللد‪ ،‬تتوسع ّ‬
‫ئلت قوانينُها من‬
‫وتثمر سعادة الدارين‪ ،‬وتنظم أحوال نوع االنسان كأهل جملس واحد‪ .‬فإن ُس ْ‬
‫األزيل ونرافق فكر البشر اىل األبد‪،‬‬
‫اين اىل اين؟ لقالت بلسان اعجازها‪ :‬جنئ من الكالم ّ‬
‫فبعد قطع هذه الدنيا نفارق صورةً من جهة التكليف ولكن نرافق دائما مبعنوياتنا واسرارنا‬
‫التعجيزي يف‬
‫َّ‬ ‫األمر‬
‫فنغذي روحهم ونصري دليلهم‪ ..‬فيا هذا أفال يتلو عليك ما شاهدت َ‬
‫(فأتوا بسورة من مثله‪ ..‬فان مل تفعلوا ولن تفعلوا)‪..‬اخل‪.‬‬

‫مث اعلم ان آية (وان كنتم يف ريب مما نزلنا)‪...‬اخل‪ :‬تشري اىل ان ناساً ‪ -‬بسبب الغفلة عن‬
‫مقصود الشارع يف ارشاد اجلمهور وجهلهم بلزوم كون االرشاد بنسبة استعداد األفكار ‪-‬‬
‫وقعوا يف شكوك وريوب منبعها ثالثة امور‪:‬‬
‫احدها‪ :‬اهنم يقولون‪ :‬وجود املتشاهبات واملشكالت يف القرآن الكرمي ٍ‬
‫مناف إلعجازه املؤسس‬
‫ووضوح االفادة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫على البالغة املبنية على ظهور البيان‬

‫أهبم يف حقائق اخلِلقة وفنون الكائنات مع انه‬


‫والثاين‪ :‬اهنم يقولون‪ :‬ان القرآن الكرمي اطلق و َ‬
‫مناف ملسلك التعليم واالرشاد‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬اهنم يقولون‪ :‬ان بعض ظواهر القرآن الكرمي اميل اىل خالف الدليل العقلي فيحتمل‬
‫خالف الواقع وهو خمالف لصدقه‪.‬‬

‫اجلواب ‪ -‬وباهلل التوفيق ‪ -‬ايها املشككون اعلموا!‪ .‬ان ما تتصورونه سبباً للنقص امنا هو‬
‫شواهد صدق على سر اعجاز القرآن الكرمي‪.‬‬

‫أما اجلواب عن الريب األول وهو وجود املتشاهبات واملشكالت‪:‬‬

‫فاعلم! ان ارشاد القرآن الكرمي لكافة الناس‪ ،‬واجلمهور األكثر منهم عوام‪ ،‬واألقل تابع‬
‫لألكثر يف نظر االرشاد‪ .‬واخلطاب املتوجه حنو العوام يستفيد منه اخلواص‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪179 :‬‬

‫ويأخذون حصتهم منه‪ ..‬ولو عكس لبقي العوام حمرومني‪ ،‬مع ان مجهور العوام ال جيردون‬
‫اذهاهنم عن املألوفات واملتخيالت‪ ،‬فال يقتدرون على درك احلقائق اجملردة واملعقوالت الصرفة‬
‫نظرهم على نفس‬‫االّ مبنظار متخيالهتم وتصويرها بصورة مألوفاهتم‪ .‬لكن بشرط ان اليقف ُ‬
‫الصورة حىت يلزم احملال واجلسمية او اجلهة بل مير نظرهم اىل احلقائق‪.‬‬

‫مثال‪ :‬ان اجلمهور امنا يتصورون حقيقة التصرف االهلي يف الكائنات بصورة تصرف السلطان‬
‫الذي استوى على سرير سلطنته‪ .‬وهلذا اختار الكناية يف (الرمحن على العرش استوى) ‪ 1‬واذا‬
‫يق االرشاد‬
‫منهج البالغة ويستلزمه طر ُ‬
‫كانت حسيات اجلمهور يف هذا املركز فالذي يقتضيه ُ‬
‫رعايةَ افهامهم واحرت َام حسياهتم‪ ،‬ومماشاة عقوهلم ومراعاة أفكارهم‪ .‬كمن يتكلم مع صيب‬
‫فهو يتصىب يف كالمه ليفهمه ويستأنس به‪ .‬فاألساليب القرآنية يف أمثال هذه املنازل املرعي‬
‫فيها اجلمهور تسمى بـ"التنزالت ا ِإلهلية اىل عقول البشر"‪ ،‬فهذا التنزل لتأنيس اذهاهنم‪ .‬فلهذا‬
‫صور املتشاهبات منظاراً على نظر اجلمهور‪ .‬أال ترى كيف أكثر البلغاء من االستعارات‬ ‫وضع َ‬
‫لتصور املعاين الدقيقة‪ ،‬أو لتصوير املعاين املتفرقة! فما هذه املتشاهبات اال من أقسام‬
‫االستعارات الغامضة‪ ،‬اذ اهنا صور للحقائق الغامضة‪.‬‬

‫أما كون العبارة ُمشكالً؛ فإما لدقة املعىن وعمقه‪ ،‬واجياز االسلوب وعلويته‪ ،‬فمشكالت‬
‫القرآن الكرمي من هذا القبيل‪ ..‬وإما ِإلغالق اللفظ وتعقيد العبارة املنايف للبالغة‪ ،‬فالقرآن‬
‫الكرمي مربأ منه‪ .‬فيا أيها املرتاب! أفال يكون من عني البالغة تقريب مثل هذه احلقائق‬
‫العميقة البعيدة عن أفكار اجلمهور اىل أفهام العوام بطريق سهل؟ اذ البالغة مطابقة مقتضى‬
‫احلال فتأمل‪..‬‬

‫أما اجلواب عن الريب الثاين‪ ،‬وهو اهبام القرآن يف حبث تشكل اخللقة على ما شرحته الفنون‬
‫اجلديدة‪:‬‬

‫ميل الرتقي‪ ،‬وميل‬


‫ب منه يف االنسان ُ‬
‫وتشع َ‬
‫ميل االستكمال‪َّ ،‬‬ ‫فاعلم! ان يف شجرة العامل َ‬
‫نشوه ومناءه بواسطة التجارب الكثرية‪ ،‬ويتشكل ويتوسع بواسطة تالحق‬ ‫الرتقي كالنواة حيصل ّ‬
‫نتائج األفكار؛ فيثمر فنوناً مرتتبة حبيث ال ينعقد املتأخر االّ بعد‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة طه‪9 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪176 :‬‬


‫تشكل املتقدم‪ ،‬وال يكون املتقدم مقدمة للمؤخر اال بعد صريورته كالعلوم املتعارفة‪ .‬فبناء على‬
‫هذا السر لو أراد أحد تعليم ف ٍن أو تفهيم عل ٍم ‪ -‬وهو امنا تولد بتجارب كثرية ‪ -‬ودعا الناس‬
‫اليه قبل هذا بعشرة أعصر ال يفيد االّ تشويش اذهان اجلمهور‪ ،‬ووقوع الناس يف السفسطة‬
‫واملغلطة‪.‬‬

‫مثال‪ :‬لو قال القرآن الكرمي" ايها الناس انظروا اىل سكون الشمس ‪ 1‬وحركة األرض واجتماع‬
‫اجلمهور إما يف التكذيب واما يف‬
‫َ‬ ‫مليون حيوان يف قطرة‪ ،‬لتتصوروا عظمة الصانع" أل َْوقع‬
‫الظاهري ‪ -‬أو غلط احلس ‪ -‬يرى‬
‫ّ‬ ‫املغالطة مع أنفسهم واملكابرة معها بسبب ان حسهم‬
‫املشاهدة‪ .‬واحلال ان تشويش االذهان ‪ -‬ال‬
‫سطحية األرض ودوران الشمس من البديهيات َ‬
‫لتشهي بعض أهل زماننا ‪ٍ -‬‬
‫مناف ملنهاج االرشاد وروح البالغة‪.‬‬ ‫سيما يف مقدار عشرة أعصر ِّ‬
‫يا هذا! ال تظنن قياس أمثاهلا على النظريات املستقبلة من أحوال اآلخرة ‪ ..2‬اذ احلس‬
‫الظاهري ملا مل يتعلق جبهة منها بقيت يف درجة االمكان فيمكن االعتقاد واالطمئنان هبا‬
‫فحقها الصريح التصريح هبا‪ .‬لكن ما حنن فيه ملا خرج من درجة االمكان واالحتمال يف‬
‫نظرهم ‪ -‬حبكم غلط احلس ‪ -‬اىل درجة البداهة عندهم فحقه يف نظر البالغة االهبام‬
‫واالطالق احرتاما حلسياهتم وحفظاً الذهاهنم من التشويش‪ .‬ولكن مع ذلك اشار القرآن‬
‫الكرمي ورمز و ّلوح اىل احلقيقة‪ ،‬وفتح الباب لألفكار ودعاها للدخول بنصب امارات وقرائن‪.‬‬
‫فيا هذا ! ان كنت من املنصفني اذا تأملت يف دستور "كلِّم الناس على قدر عقوهلم" ورأيت‬
‫ان أفكار اجلمهور لعدم اعداد الزمان واحمليط ال تتحمل والهتضم التكليف مبثل هذه األمور‬
‫‪ -‬اليت امنا تتولد بنتائج تالحق األفكار ‪ -‬لعرفت ان ما اختاره القرآن الكرمي من االهبام‬
‫واالطالق من حمض البالغة ومن دالئل اعجازه‪.‬‬

‫اما اجلواب عن الريب الثالث‪ ،‬وهو امالة بعض ظواهر اآليات اىل منايف الدالئل العقلية وما‬
‫كشفه الفن‪:‬‬

‫_____________________‬
‫‪ 1‬قد سنح ىل يف املرض بني النوم واليقظة يف والشمس جترى ملستقر هلا اى يف مستقرها‪،‬‬
‫الستقرار منظومتها‪ ،‬اى جرياهنا لتوليد جاذبتها النظامة للمنظومة الشمسية‪ ،‬ولو سكنت‬
‫لتناثرت (هذه احلاشية النومية دقيقة لطيفة) ‪ -‬املؤلف‪.‬‬

‫‪ 2‬اى ال تظنن ان امور اآلخرة واحواهلا الىت هى جمهولة لنا كتلك النظريات الىت يكشف عنها‬
‫املستقبل (ت‪)111 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪177 :‬‬

‫ارشاد اجلمهور اىل أربعة اساسات هي‪ :‬اثبات‬ ‫األصلي يف القرآن الكرمي ُ‬
‫ّ‬ ‫فاعلم! ان املقصد‬
‫تبعي‬
‫فذكر الكائنات يف القرآن الكرمي امنا هو ّ‬ ‫النبوة‪ ،‬واحلشر‪ ،‬والعدالة‪ُ ..‬‬
‫الصانع الواحد‪ ،‬و ّ‬
‫‪1‬‬
‫ذكر‬
‫َ‬ ‫امنا‬ ‫بل‬ ‫‪،‬‬ ‫ادي لالستدالل؛ اذ ما نزل القرآن لدرس اجلغرافيا والقوزموغرافيا‬
‫واستطر ّ‬
‫الكائنات لالستدالل بالصنعة ا ِإلهلية والنظام البديع على النظّام احلقيقي جل جالله‪ .‬واحلال‬
‫ان اثر الصنعة والعمد والنظام يرتاءى يف كل شئ‪ .‬وكيف كان التشكل فال علينا؛ اذ ال يتعلق‬
‫باملقصد األصلي‪ ،‬فحينئذ ما دام انه يبحث عنها لالستدالل‪ ،‬وما دام انه جيب كونه معلوما‬
‫تأنيس‬
‫االرشاد والبالغةُ َ‬
‫ُ‬ ‫قبل املدعى‪ ،‬وما دام انه يستحسن وضوح الدليل‪ ..‬كيف ال يقتضي‬
‫معتقداهتم احلسية‪ ،‬ومماشاة معلوماهتم األدبية بامالة بعض ظواهر النصوص‪ ،‬اليها‪ ،‬ال ليدل‬
‫عليها بل من قبيل الكنايات او مستتبعات الرتاكيب مع وضع قرائن وامارات تشري اىل‬
‫احلقيقة ألهل التحقيق‪.‬‬

‫مثال‪ :‬لو قال القرآن الكرمي يف مقام االستدالل‪":‬ايها الناس! تف ّكروا يف سكون الشمس مع‬
‫حركتها الصورية‪ ،‬وحركة األرض اليومية والسنوية مع سكوهنا ظاهراً‪ ،‬وتأملوا يف غرائب‬
‫العمومي بني النجوم‪ ،‬وانظروا اىل عجائب االلكرتيك واىل االمتزاجات الغري املتناهية‬
‫ّ‬ ‫اجلاذب‬
‫بني العناصر السبعني‪ ،‬واىل اجتماع الوف الوف حيوانات يف قطرة ماء لِتعلموا ان هللا على‬
‫اشكل بدرجات من املدعى‪ .‬وإ ْن هذا االّ‬
‫اغمض و َ‬
‫كل شئ قدير!‪ "..‬لكان الدليل اخفى و َ‬
‫مناف لقاعدة االستدالل‪ .‬مث ألهنا من قبيل الكنايات ال يكون معانيها مدار صدق وكذب‪.‬‬
‫أال ترى ان لفظ "قال" ألفه يفيد خفة سواء كان أصله واوا أو قافا أو كافا‪.‬‬

‫احلاصل‪ :‬ان القرآن الكرمي ألنه نزل جلميع االنسان يف مجيع األعصار يكون هذه النقط‬
‫ادق‬ ‫الثالث دالئل اعجازه‪ .‬والذي علّم القرآ َن ِ‬
‫املعجَز ا ّن نظر البشري النذير وبصريته الن ّق َادة ّ‬
‫احلق أغىن‬
‫أجل وأجلى وأنفذ من ان يلتبس او يشتبه عليه احلقيقة باخليال‪ ،‬وان مسلكه ّ‬ ‫و ّ‬
‫وأعلى وأنزه وأرفع من ان يدلِّس أو يغالط على الناس!‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬علم الفلك‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪179 :‬‬

‫املسألة السابعة‪:‬‬

‫اعلم! ان كتب السري والتاريخ قد ذكرت كثرياً من معجزاته احملسوسة‪ ،‬واخلوارق الظاهرة‬
‫التفصيل على‬
‫َ‬ ‫املشهورة عند اجلمهور‪ ،‬وقد فسرها احملققون‪ .‬فألن تعليم املعلوم ضائع‪ ،‬اَ َح ْلنا‬
‫كتبهم فلنجمل بذكر األنواع‪:‬‬

‫فاعلم! ان اخلوارق الظاهرة وان كان كل فرد منها آحاديا غري متواتر لكن اجلنس وكثرياً من‬
‫األنواع متواتر باملعىن‪ .‬مث ان انواعها ثالثة‪:‬‬
‫األول‪ :‬االرهاصات املتنوعة كانطفاء نار اجملوس‪ ،‬ويبوسة حبر ساوة‪ ،‬وانشقاق ايوان كسرى‪،‬‬
‫النيب عليه الصالة‬
‫وبشارات اهلواتف‪ .‬حىت كأنه يتخيل لالنسان ان العصر الذي ولد فيه ّ‬
‫باحلس قبل الوقوع‪.‬‬ ‫فبشر بقدومه‬ ‫والسالم صار حساساً ذا كر ٍ‬
‫امة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫النوع الثاين‪ :‬االخبارات الغيبية الكثرية من فتح كنوز كسرى وقيصر‪ ،‬وغلبة الروم‪ ،‬وفتح مكة‪،‬‬
‫املعني واملكان املش ّخص‪ ،‬فجال يف جوانب‬
‫مزق قيد الزمان ّ‬ ‫اجملرد الطيّار ّ‬
‫وأمثاهلا‪ .‬كأن روحه ّ‬
‫املستقبل فقال لنا كما شاهد‪.‬‬

‫النوع الثالث‪ :‬اخلوارق احلسيَّة اليت أظهرها وقت التح ِّدي والدعوى‪ .‬كتكلم احلجر‪ ،‬وحركة‬
‫الشجر وشق القمر‪ ،‬وخروج املاء‪ .‬وقد قال الزخمشري‪ :‬بلغ هذا النوع إىل الف‪ .‬وأصناف من‬
‫هذا النوع متواترة باملعىن حىت ان (وانْ َش َّق الْ َق َم ُر) مل يتصرف يف معناه من أنكر القرآن الكرمي‬
‫أيضاً‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪171 :‬‬

‫فإن قلت‪ :‬مثل انشقاق القمر البد أن يشتهر يف العامل ويتعارف‪.‬‬

‫قيل لك‪ :‬فإلختالف املطالع‪ ،‬ووجود السحاب‪ ،‬وعدم الرتصد للسماء كما يف هذا الزمان‪،‬‬
‫ولكونه يف وقت الغفلة‪ ،‬ولوجوده يف الليل‪ ،‬ولكون االنشقاق آنياً‪ ..‬اليلزم ان يراه كل الناس‬
‫أو أكثرهم‪ .‬على انه قد ثبت يف الروايات انه قد رآه كثري من القوافل الذين كان مطلعهم‬
‫ذلك املطلع‪.‬‬

‫مث أن رئيس هذه املعجزات هو القرآن املبني املربهن اعجازه جبهات سبع أُشري اليها يف هذه‬
‫اآلية‪.‬‬

‫واذ تفهمت هذه املسائل فاستمع ملا يتلى عليك من نظم اآلىة بوجوهها الثالثة؛ من نظم‬
‫اجملموع مبا قبله‪ ،‬ونظم اجلمل بعضها مع بعض‪ ،‬ونظم هيئات وقيود مجلة مجلة‪.‬‬
‫أما النظم األول فمن وجهني‪:‬‬

‫| األول‪ :‬انه ملا قال (يا ايها الناس) إلثبات التوحيد ‪ -‬على تفسري ابن عباس ‪ -‬اثبت هبذه‬
‫النبوة‬
‫نبّوة حممد عليه الصالة والسالم الذي هو من اظهر دالئل التوحيد‪ .‬مث ان اثبات ّ‬
‫ادق وجوه اعجاز القرآن ما يف بالغة نظمه‪ .‬مث انه‬
‫باملعجزات‪ .‬وأعظم املعجزات هو القرآن‪ .‬و ّ‬
‫اتفق االسالم على ان القرآن ِ‬
‫معجز‪ ..‬االّ ان احملققني اختلفوا يف طرق االعجاز‪ ،‬لكن‬
‫كل اختار جهةً من جهاته‪ .‬فعند بعض اعجازه‪ :‬اخباره‬ ‫التزاحم بني تلك الطرق‪ ،‬بل ٌ‬
‫بالغيوب‪ ..‬وعند بعض‪ :‬مجعه للحقائق والعلوم‪ ..‬وعند بعض‪ :‬سالمته من التخالف‬
‫والتناقض‪ ..‬وعند بعض‪ :‬غرابة اسلوبه وبديعيته يف مقاطع ومبادئ اآليات والسور‪ ..‬وعند‬
‫بعض‪ :‬ظهوره من ّامي مل يقرأ ومل يكتب‪ ..‬وعند بعض‪ :‬بلوغ بالغة نظمه اىل درجة خارجة‬
‫عن طوق البشر‪ .‬وكذا وكذا‪ ..‬اخل‪.‬‬

‫مث اعلم! ان معرفة هذا النوع من االعجاز تفصيال امنا حتصل مبطالعة أمثال هذا التفسري‪،‬‬
‫وامجاالً يـُ ْعرف بثالث طرق‪( .‬كما حققها عبد القاهر اجلرجاين شيخ البالغة والزخمشري‬
‫والسكاكي واجلاحظ ‪).1‬‬

‫_____________________‬

‫‪969 - 779( 1‬م) عمر بن حبر‪ ،‬كاتب ولد ومات بالبصرة‪ ،‬كان من اسرة فقرية مات ابوه‬
‫وهو صغري فاضطر اىل احرتاف بيع اخلبز والسمك اىل جانب مواصلة التعليم يف الكتاب‬
‫واملسجد واحللقات واالطالع على كل ما تقع عليه يداه‪ .‬ألف اكثر من (‪ )194‬كتاباً اشهر‬
‫كتبه " احليوان" و "البيان والتبيني" و" البخالء"‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪194 :‬‬


‫الطريق األول‪ :‬هو ان قوم العرب كانوا بدويني ّاميني وهلم حميط عجيب يناسبهم‪ ..‬وقد‬
‫انتبهوا باالنقالبات العظيمة يف العامل‪ ..‬وكان ديواهنم الشعر وعلمهم البالغة‪ ،‬ومفاخرهتم‬
‫بالفصاحة يف أمثال سوق عكاظ‪ ..‬وكانوا أذكى األقوام‪ ..‬وكانوا أحوج الناس جلوالن الذهن‬
‫اذاً‪ ..‬ولقد كان ألذهاهنم فصل الربيع‪ ،‬فطلع عليهم القرآن الكرمي حبشمة بالغته فمحا وهبر‬
‫متاثيل بالغتهم وهي "املعلقات السبعة" املكتوبة بذوب الذهب على جدار الكعبة‪ .‬مع ان‬
‫اولئك الفصحاء البلغاء ‪ -‬الذين هم أمراء البالغة وحكام الفصاحة ‪ -‬ما عارضوا القرآن وما‬
‫النيب عليه السالم هلم‪ ،‬ولومه هلم‪ ،‬وتقريعه اياهم‪ ،‬وتسفيهه‬ ‫ِ‬
‫حاروا ببنت شفة‪ ،‬مع شدة حت ّدي ّ‬
‫حيك‬
‫ألحالمهم‪ ،‬وحتريكه العصاهبم يف زمان طويل‪ ،‬وترذيله هلم مع ان من بلغائهم من ّ‬
‫بيافوخه ‪ 1‬كتف السماء‪ ،‬ومنهم من يناطح ِ‬
‫السما َك ْني ‪ 2‬بكربه فلوال اهنم ارادوا وجربوا‬
‫ّ‬
‫أنفسهم فأحسوا بالعجز‪ ،‬ملا سكتوا عن املعارضة البتة؛ فعجزهم دليل اعجاز القرآن‪.‬‬

‫والطريق الثاين‪ :‬هو ان اهل العلم والتدقيق واهل التنقيد الذين يعرفون خواص الكالم ومزاياه‬
‫ولطائفه تأملوا يف القرآن سورًة سورًة‪ ،‬وعشراً عشراً‪ ،‬وآيةً آيةً‪ ،‬وكلمةً كلمةً؛ فشهدوا بانه‬
‫جامع ملزايا ولطائف وحقائق الجتتمع يف كالم بشر‪ .‬فهؤالء الشهداء الوف الوف‪ .‬والذي‬
‫حتوالً عظيما‪ ،‬واسس ديانة‬
‫يدل على صدق شهادهتم هو ان القرآن أوقع يف العامل االنساين ّ‬
‫شب‪ ،‬وكلما‬ ‫واسعة‪ ،‬وادام على وجه الزمان ما اشتمل عليه من العلوم‪ .‬فكلما شاب الزما ُن ّ‬
‫تكرر حال‪ .‬فاذاً (ان هو اال وحي يوحى) ‪.1‬‬

‫والطريق الثالث‪ 0 :‬كما حققه اجلاحظ‪ :‬هو ان الفصحاء والبلغاء مع شدة احتياجهم اىل‬
‫النيب عليه السالم‪ ،‬ومع شدة حقدهم وعنادهم له تركوا املعارضة باحلروف‬‫إبطال دعوى ّ‬
‫ِ‬
‫األطول‬ ‫ِ‬
‫األصعب‬ ‫ألسهل‪ ،‬والتجأوا اىل املقارعة بالسيوف الطر ِيق‬ ‫األقرب وا‬
‫َ‬ ‫األسلم و َ‬
‫َ‬ ‫يق‬
‫الطر َ‬
‫املشكوكة العاقبة الكثرية املخاطر؛ وهم بدرجة من الذكاء‬

‫_____________________‬
‫‪1‬‬
‫وتكرب من‬
‫اليافوخ‪ :‬املوضع الذى يتحرك من رأس الطفل‪ ،‬واملقصود هنا‪ :‬من عال قدره ّ‬
‫البلغاء‪.‬‬

‫‪ 2‬السماكان‪ :‬جنمان ّنريان‪.‬‬

‫‪ 3‬سورة النجم‪0 :‬‬

‫‪ 4‬هذه الطريق حجة قاطعة ‪ -‬املؤلف‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪191 :‬‬

‫السياسي‪ ،‬ال ميكن ان خيفى عليهم التفاوت بني هذين الطريقني‪ .‬فمن ترك الطريق األول لو‬
‫وروحه يف املهالك فهو إما‬
‫امكن ‪ -‬مع انه أشد إبطاال لدعواه ‪ -‬واختار طريقاً أوقع مالَه َ‬
‫سفيه‪ ،‬وهو بعيد ممن ساسوا العامل بعد ان اهتدوا‪ ..‬وإما انه أحس من نفسه العجز عن‬
‫السلوك يف الطريق األول فاضطر للطريق الثاين‪.‬‬

‫فان قلت‪ :‬ميكن ان تكون املعارضة ممكنة؟‬

‫ناس لتحريك أعصاهبم هلا‪ .‬ولو طمعوا لفعلوا لشدة‬‫امكنت لطمع فيها ٌ‬
‫ْ‬ ‫قيل لك‪ :‬لو‬
‫احتياجهم‪ .‬ولو عارضوا لتظاهرت للرغبة وكثرة األسباب للظهور‪ .‬ولو تظاهرت لوجد من‬
‫يلتزمها ويدافع عنها ويقول‪ :‬انه قد عورض ال سيما يف ذلك الزمان‪ .‬ولو كان هلا ملتزمون‬
‫ومدافعون ولو بالتعصب الشتهرت الهنا مسألة مهمة‪ .‬ولو اشتهرت لنقلتها التواريخ كما‬
‫نقلت هذيانات مسيلمة بقوله‪( :‬الفيل ما الفيل وماادراك ما الفيل صاحب ذَنَب قصري‬
‫وخ ْرطوم طويل)‪.‬‬
‫ُ‬
‫فان قلت‪ :‬مسيلمة كان من الفصحاء فكيف صار كالمه َم ْسخرة وأضحوكة بني الناس؟‬
‫قيل لك‪ :‬ألنه قوبل مبا فاقه بدرجات كثرية‪ .‬أال ترى ان شخصا ولو كان حسناً اذا قوبل‬
‫بيوسف عليه السالم لصار قبيحاً ولو كان مليحا‪ .‬فثبت ان املعارضة الميكن؛ فالقرآن‬
‫معجز‪.‬‬

‫فان قلت‪ :‬للمرتابني كثري من االعرتاضات والشكوك على تراكيب القرآن وكلماته مثل (إن‬
‫هذان) ‪ 1‬و (الصابئون) ‪ 2‬و (الذي استوقد ناراً) وامثاهلا من االعرتاضات النحوية؟‬

‫قيل لك‪ :‬عليك خبامتة مفتاح السكاكي فانه ألقمهم احلجر بـ"أفال يتفطنون ان من كرر كالمه‬
‫يف زمان مديد مع انه فصيح باالتفاق كيف الحيس بالغلطات اليت تظهر لنظر هؤالء‬
‫احلمقاء"؟‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة طه‪61 :‬‬

‫‪ 2‬سورة املائدة‪61 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪192 :‬‬

‫أما الوجه الثاين‪:‬‬

‫ذهن السامع بـ "على أية كيفية‬


‫لنظم اآلية فاعلم! ان اآلية السابقة ملا امرت بالعبادة استفسر ُ‬
‫نعبد"؟ فكأنه أجاب‪ :‬كما علمكم القرآن! فعاد سائال‪ :‬كيف نعرف انه كالم هللا تعاىل؟‬
‫فأجاب بقوله‪( :‬وان كنتم يف ريب مما نزلنا على عبدنا‪ )..‬اخل‪.‬‬

‫أما نظم اجلمل بعضها مع بعض فهو‪:‬‬


‫ان مجلة (وان كنتم يف ريب مما نزلنا على عبدنا) قد وقعت يف موقعها املناسب؛ اذ ملا أمر‬
‫تبت‬
‫القرآن بالعبادة كأنه ُسئل‪ :‬كيف نعرف انه امر هللا حىت جيب االمتثال؟ فقيل له‪ :‬ان ار َ‬
‫ِّ‬
‫فجرب نفسك لتتيقن انه امر هللا‪..‬‬

‫ومن وجوه النظم ايضا ان القرآن ملا اثىن على نفسه جبملة (ذلك الكتاب الريب فيه هدى‬
‫للمتقني) مث استتبع مدحه مدح املؤمنني‪ ،‬مث استطرد مدح املؤمنني ذم الكافرين واملنافقني‪ ،‬مث‬
‫استعقب األمر بالعبادة والتوحيد‪ ..‬عاد القرآن اىل األول بالنظر اىل (الريب فيه) أي‪ :‬أما‬
‫القرآن فليس قابال للشك والريب؛ فما ريوبكم االّ من مرض قلوبكم وسقامة طبعكم‪ .‬كما‪:‬‬
‫س ِمن رم ٍد ويـْنـ َفر طَعم اْ ِ‬
‫ملاء ِم ْن َس َق ٍم‬ ‫َّم ِ ْ َ َ َ ُ ُ ْ ُ‬ ‫ض ْوءُ الش ْ‬
‫قَ ْد يـُْن َك ُر َ‬

‫وأما نظم (فأتوا بسورة من مثله) فاعلم! ان هذه جزاء الشرط‪ ،‬وجزاء الشرط يلزم ان يكون‬
‫الزماً لفعل الشرط‪ .‬وملا كان األمر تعجيزيا استلزم تقدير "تشبثوا"‪ .‬وملا كان األمر انشاء‬
‫واالنشاء اليصري الزما‪ ،‬يلزم اَن يكون الزم األمر جزاء‪ .‬وهو الوجوب الذي هو من أصول‬
‫معاين األمر‪ ،‬مث وجوب التشبث أيضاً اليظهر لزومه للريب فاقتضى تقدير مجل مطوية حتت‬
‫اجياز اآلية‪ .‬فالتقدير "ان كنتم يف ريب انه كالم هللا جيب عليكم ان تتعلموا اعجازه‪ ،‬فان‬
‫وحممد عليه السالم بشر‪ ،‬وان أردمت ظهور اعجازه ِّ‬
‫فجربوا‬ ‫املعجز اليكون كالم البشر ّ‬
‫أنفسكم ليظهر عجزكم‪ ،‬فيجب عليكم التشبث باتيان سورة من مثله"‪.‬‬

‫أوجزه وما أعجزه!‪.‬‬


‫فللّه در التنزيل ما َ‬
‫وأما نظم (وادعوا شهداءَكم من دون هللا) فبثالثة اوجه‪:‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪191 :‬‬

‫أحدها‪ :‬اهنم يقولون عجزنا ال يدل على عجز البشر‪ ..‬فافحمهم بقوله‪( :‬وادعوا شهداءكم)‬
‫أي كرباءكم ورؤساءكم‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬اهنم يزعمون‪ :‬انّا لو عارضنا فمن يلتزمنا ويدافع عنا؟ فألقمهم احلجر بانه ما من‬
‫مسلك االّ وله متعصبون ولو عارضتم لظهر لكم شهداء يذبّون عنكم‪.‬‬

‫وش ِهد له‬


‫النيب عليه السالم هللا تعاىل ص ّدقه هللا َ‬
‫والثالث‪ :‬ان القرآن كأنه يقول‪ :‬ملا استشهد ُّ‬
‫بوضع سكة االعجاز على دعواه‪ .‬فان كان يف آهلتكم وشهدائكم فائدة لكم فادعوهم‪ .‬وما‬
‫هذا اال هناية التهكم هبم‪.‬‬

‫وأما نظم (فان مل تفعلوا) فظاهر‪ ،‬اذ التقدير "فان جربتم فانظروا فان مل تقدروا ظهر عجزكم‬
‫ومل تفعلوا"‪.‬‬

‫وأما نظم (ولن تفعلوا) فكأنه ملا قال مل تفعلوا‪ ..‬قيل من جانبهم‪ :‬عدم فعلنا فيما مضى‬
‫اليدل على عجز البشر فيما سيأيت‪ .‬فقال‪ :‬ولن تفعلوا‪ ،‬فرمز اىل االعجاز بثالثة اوجه‪.‬‬

‫احدها‪ :‬االخبار بالغيب وكان كما اخرب‪ .‬أال ترى ان املاليني من الكتب العربية مع التمايل‬
‫اىل تقليد اسلوب التنزيل وكثرة املعاندين لو فتشتها؛ مل يوافقه شئ منها‪ .‬كأن نوعه منحصر‬
‫يف شخصه‪ .‬فأما هو حتت الكل وهو باطل باالتفاق‪ .‬فما هو اال فوق الكل‪.‬‬

‫والوجه الثاين‪ :‬ان القطع واجلزم بعدم فعلهم مع التقريع عليهم وحتريك أعصاهبم يف هذا املقام‬
‫املشكل ويف هذه الدعوى العظيمة عالمة صادقة على انه واثق امني مطمئن مباله ومقاله‪.‬‬

‫والوجه الثالث‪ :‬ان القرآن كأنه يقول‪ :‬اذا كنتم امراء الفصاحة وأشد الناس احتياجاً اليها ومل‬
‫تقتدروا مل يقتدر عليه البشر‪ .‬وكذا فيه اشارة اىل ان نتيجة القرآن اليت هي االسالمية كما مل‬
‫يقتدر على نظريها الزمان املاضي؛ كذا يعجز عن مثلها الزمان املستقبل‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪190 :‬‬

‫وأما نظم (فاتقوا النار اليت وقودها الناس واحلجارة) فاعلم! ان تعقيب "ان مل تفعلوا"‬
‫بـ"فاتقوا" يقتضي يف ذوق البالغة تقديراً هكذا‪ :‬ان مل تفعلوا ولن‪ ..‬ظهر انه معجز‪ ،‬فهو‬
‫كالم هللا‪ ،‬فوجب عليكم االميان به وامتثال أوامره‪ ...‬ومن األوامر يا ايها الناس اعبدوا لتتقوا‬
‫النار فاتقوا النار‪ .‬فاوجز فاعجز‪.‬‬

‫وأما نظم (اليت وقودها الناس واحلجارة) فاعلم! ان املقصد من (فاتقوا) هو الرتهيب‪ ،‬ومعىن‬
‫فهوله بـ(وقودها الناس) اذ النار اليت حطبها كان انسانا‬ ‫الرتهيب امنا يؤكد بالتهويل والتشديد ّ‬
‫احلجر أشد تأثرياً‪ ..‬مث أشار اىل‬
‫أخوف وأدهش‪ ..‬مث شدده بعطف احلجارة؛ اذ ما حترق َ‬
‫الزجر عن عبادة األصنام‪ :‬أي لو مل تتمثلوا أمر هللا‪ ،‬وعبدمت أحجاراً لدخلتم ناراً تأكل العُبّاد‬
‫ومعبوداهتم‪.‬‬

‫وأما نظم (اعدت للكافرين) فهو اهنا توضيح وتقرير لزوم جزاء الشرط لفعله‪ :‬أي هذه املصيبة‬
‫ليست كالطوفان وسائر املصائب اليت التصيب الظاملني خاصة بل تعم األبرار واألخيار؛ فامنا‬
‫الكفر السبيل للنجاة اال امتثال القرآن‪.‬‬
‫جيرها ُ‬
‫هذه ختتص باجلانني ّ‬
‫مث اعلم! ان (اُع ّدت) اشارة اىل ان جهنم خملوقة موجودة اآلن ال كما زعمت املعتزلة‪ ..‬مث ان‬
‫مما يدلك ويفيد حدسا لك على أبدية جهنم انك اذا تفكرت يف العامل بنظر احلكمة ترى‬
‫النار خملوقة عظيمة مستولية غالبة‪ ،‬كأهنا عنصر أساس يف العلويات والسفليات‪ .‬وتفهمت‬
‫وجود رأس عظيم ومثرة عجيبة تدلت اىل األبد‪ .‬أال ترى ان من رأى عرقا ممتداً تفطن لوجود‬
‫بطيخ مثال يف رأسه؛ وكذلك من رأى اخللقة النارية تفطن ِإلنتهائها اىل حنظلة جهنم‪ .‬وكذا‬
‫من رأى النعم واحملاسن واللذائذ حيدس بأن مصبها وخملصها وروضها اجلنة‪.‬‬

‫فان قلت‪ :‬اذا كانت جهنم موجودة اآلن فاين موضعها؟‬

‫نعني موضعها‪.‬‬
‫قيل لك‪ :‬حنن معاشر أهل السنة واجلماعة نعتقد وجودها اآلن لكن ال ّ‬
‫فان قلت‪ :‬ان ظواهر األحاديث تدل على اهنا حتت األرض‪ .‬ويف حديث‪ :‬ان نارها أشد‬
‫أحر من نار الدنيا مبائيت دفعة‪ .‬وان الشمس أيضا تدخل يف جهنم؟‬
‫و ّ‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪199 :‬‬


‫قيل لك‪ :‬ان حتت األرض عبارة عن مركزها‪ ،‬اذ حتت الكرة مركزها‪ .‬وقد ثبت يف نظريات‬
‫احلكمة ان يف مركزها ناراً بالغة يف الشدة اىل مقدار مائيت الف درجة‪ .‬اذ كلما حتفر األرض‬
‫ثالثة وثالثني ذراعا بذراع التجار تتزايد تقريبا درجة حرارة‪ .‬فإىل املركز تصري تقريبا مائيت الف‬
‫النظري مطابق ملآل احلديث الذي يقول اهنا أشد من نار الدنيا مبائيت درجة‪.‬‬‫ّ‬ ‫درجة‪ .‬فهذا‬
‫وأيضاً يف احلديث ان قسماً من تلك النار زمهرير حترق بربودهتا ‪ .1‬وهذا احلديث مطابق هلذا‬
‫النظري؛ اذ النار املركزية مشتملة على املراتب النارية كلها اىل السطح‪ .‬وقد تقرر يف احلكمة‬
‫الطبيعية ان للنار مرتبة جتذب دفعةً حرارة جماورها فتحرقه بالربودة وتصري املاء َمجَداً‪.‬‬

‫فان قلت‪ :‬ما يف جوف األرض ومظروفها صغري فكيف تسع جهنم اليت تسع السموات‬
‫واالرض؟‬

‫قيل لك‪ :‬نعم باعتبار املِلك واملطويتية وان كانت مظروفة لألرض لكن بالنظر اىل العامل‬
‫األُخروي بالغة يف العظمة اىل درجة تسع الُوفا من أمثال هذه األرض‪ .‬بل ان عامل الشهادة‬
‫وسرها‬
‫كحجاب مان ٍع الرتباط تلك النار بسائر أغصاهنا‪ .‬فما يف جوف األرض االّ مركزها ّ‬
‫امثرت أغصا ُهنا‬ ‫أو قلب عفريتها‪ .‬وأيضاً ال تستلزم التحتية اتصاهلا باألرض‪ ،‬اذ شجرةُ ِ‬
‫اخللقة ْ‬
‫بني األغصان اين‬ ‫أرضني أخرى‪ .‬فما حتت الثمرة يشمل ما َ‬‫أرضنا و َ‬ ‫النجوم و َ‬
‫القمر و َ‬
‫الشمس و َ‬‫َ‬
‫ٍ‬
‫حديث‬ ‫جهنم ال تُـَرُّد‪ .‬ويف‬
‫سافرت ُ‬
‫ْ‬ ‫فأين‬
‫فملك هللا تعاىل واسع‪ ،‬وشجرة اخللقة منتشرة َ‬ ‫كان‪ُ .‬‬
‫َّم َمطْ ِويَّةٌ) فيمكن ان تكون بيضة ألرضنا الطيارة مىت ميتزق حجاب امللك ينفتق‬‫ن‬ ‫ه‬ ‫ج‬ ‫َّ‬
‫ن‬ ‫(اِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪2‬‬
‫ألهل العصيان‪ .‬وحيتمل ان ماشبط أهل االعتزال‬ ‫أسناهنا ِ‬
‫تلك البيضة وتتظاهر هي كاشرةً َ‬
‫وأوقعهم يف الغلط بعدم وجودها اآلن امنا هو هذه املطويتية‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬عن اىب هريرة رضى هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ :‬اشتكت النار اىل‬
‫نفس يف الشتاء ونفس يف‬
‫رهبا‪ ،‬فقالت‪" :‬يا رب! أكل بعضي بعضاً‪ ،‬فجعل هلا نفسني‪ٌ .‬‬
‫الصيف‪ .‬فش ّدة ما جتدون من الربد من زمهريرها‪ ،‬وشدة ما جتدون من احلر من مسومها " رواه‬
‫البخارى ‪ -‬كتاب االميان‪ ،‬ابن ماجه ‪ 0111‬والرتمذي ‪ 2912‬وعن اىب هريرة رضى هللا عنه‬
‫ان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم " رواه امحد‬
‫‪( 160/20‬الفتح الرباىن) واورده اهليثمى يف اجملمع ‪ 197/1‬وقال‪ :‬رواه امحد ورجاله رجال‬
‫الصحيح‪.‬‬

‫‪ 2‬االظهر‪ :‬شيط‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪196 :‬‬


‫هيئات ِ‬
‫وقيود مجلة مجلة‪:‬‬ ‫وأما نظم ِ‬

‫فاعلم! ان مجلة (وان كنتم يف ريب مما نزلنا على عبدنا) الواو فيها بناء على املناسبة بني‬
‫املتعاطفني تومئ اىل‪ :‬تقدير "كما علّمكم القرآن"‪ ..‬وايراد (اِ ْن) الرتددية يف موضع "اذا" اليت‬
‫هي للقطع مع ان ريبهم جمزوم به اشارة اىل انه ألجل ظهور أسباب زوال الريب شأنه ان‬
‫يكون مشكوك الوجود بل من احملال يفرض فرضا‪ .‬مث ان الشك يف (إ ْن) بالنظر اىل االسلوب‬
‫ال بالقياس اىل املتكلم تعاىل‪ ..‬وايراد (كنتم يف ريب) بدل ارتبتم مع انه اقصر اشارة اىل ان‬
‫منشأ الريب طبعهم املريض وكوهنم‪ .‬وظرفية الريب هلم مع انه مظروف لقلبهم امياء اىل ان‬
‫ظلمة الريب انتشرت من القلب فاستولت على القالب‪ ،‬فاظلم عليه الطرق‪ ..‬وتنكري (ريب)‬
‫أي نوع من أنواع الريب ترتابونه فاجلواب واحد وهو‪ :‬ان هذا معجز وحق‪.‬‬ ‫للتعميم أي‪ّ :‬‬
‫السطحي خطأ فال يلزم لكل ريب جواب خاص‪ .‬أال ترى ان من رأى‬ ‫ّ‬ ‫فتخطئتكم بالنظر‬
‫رأس عني وذاقه عذبا فراتا ال حيتاج اىل ذوق كل جدول وفرع قد تشعب منه‪ ..‬و"من" يف‬
‫(مما نزلنا) امياء اىل تقدير لفظ "يف شئ مما" ولفظ (نزلنا) اشارة اىل ان منشأ شبهتهم هو‬
‫(نزلنا) الدال على النزول تدرجيا على‬ ‫صفة النزول‪ .‬فاجلواب القاطع اثبات النزول فقط‪ .‬وايثار ّ‬
‫"انزلنا" الدال عليه دفعة اشارة اىل ان ما يتحججون به قوهلم‪ :‬لوال انزل عليه دفعة‪ .‬بل على‬
‫مقتضى الواقعات تدرجياً نوبة نوبة جنماً جنماً سورة سورة‪ ..‬وايثار العبد على "النيب" و "حممد"‬
‫اشارة اىل تعظيم النيب‪ ،‬وامياء اىل علو وصف العبادة‪ ،‬وتأكيد ألمر "اعبدوا" ورمز اىل دفع‬
‫النيب عليه السالم أعبد الناس وأكثرهم تالوة للقرآن الكرمي‪ .‬فتفكر!‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫أوهام بان ّ‬
‫وان مجلة (فأتوا بسورة من مثله) األمر يف (فأتوا) للتعجيز‪ ،‬وفيه التح ِّدي والتقريع والدعوة اىل‬
‫املعارضة والتجربة ليظهر عجزهم‪ ..‬ولفظ (بسورة) اشارة اىل هناية افحام‪ ،‬وشدة تبكيت‪،‬‬
‫وغاية إلزام؛ إذ‪:‬‬

‫أول طبقات التح ِّدي هو‪:‬‬

‫ان يقال‪ :‬فأتوا مبثل متام القرآن حبقائقه وعلومه واخباراته الغيبية مع نظمه العايل من شخص‬
‫ّامي !‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪197 :‬‬

‫وثانيتها‪ :‬ان يقال‪:‬‬

‫ان مل تفعلوا كذا فأتوا هبا مفرتيات لكن بنظم بليغ مثله‪.‬‬

‫وثالثتها‪ :‬ان يقال‪:‬‬

‫ان مل تفعلوا هكذا ايضاً فأتوا مبقدار عشر سور‪.‬‬

‫ورابعتها‪:‬‬

‫أقل من أن تأتوا بقدر سورة طويلة‪.‬‬


‫انه ان مل تقتدروا عليه أيضاً فال ّ‬
‫وخامستها‪:‬‬

‫انه ان مل يتسري لكم هذا أيضاً فأتوا مبقدار سورة مطلقا ولو أقصر كـ انا اعطيناك من شخص‬
‫امي مثله‪.‬‬
‫ّ‬
‫وسادستها‪:‬‬

‫امي فأتوا من عامل ماهر وكاتب حاذق‪.‬‬ ‫ِ‬


‫انه ان مل ميكنكم اإلتيان من ّ‬
‫وسابعتها‪:‬‬

‫انه ان تعسر عليكم هذا أيضاً فليعاون بعضكم بعضا على اإلتيان‪.‬‬

‫وثامنتها‪:‬‬

‫انه ان مل تفعلوا فاستعينوا بكافة ا ِإلنس واجلن واستمدوا من جمموع نتائج تالحق افكارهم من‬
‫آدم اىل قيام الساعة‪ ،‬ونتائج افكارهم هي مابني ايديكم من هؤالء الكتب على االسلوب‬
‫العريب مع شوق التقليد وعناد املعارضة؛ ففضالً عن أهل التحقيق لو تصفحها َم ْن له ادىن‬
‫مسكة ولو جاهل لقال‪ :‬ليس فيها مثله‪ ،‬فإما هو حتت الكل وهو باطل باالتفاق واما فوق‬
‫مر الزمان‪،‬‬ ‫الكل وهو املطلوب كما مر آنفاً‪ .‬نعم‪ ،‬مل يعارض يف ثالثة عشر عصراً هكذا ّ‬
‫مير اىل يوم القيامة‪.‬‬
‫وهكذا ّ‬
‫وتاسعتها‪:‬‬

‫ان يقال ال تتحججوا بان ليس لنا شهداء وانتم ال تشهدون لنا‪ .‬أال فادعوا شهداءَكم‬
‫واملتعصبني لكم فلرياجعوا وجداهنم هل يتجاسرون على تصديق دعواكم املعارضة‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪199 :‬‬

‫واذا تفهمت هذه الطبقات فانظر اىل القرآن كيف أعجز بان أوجز فأشار اىل هذه املراتب‪،‬‬
‫ِِ‬
‫فألقمهم احلجر وأرخى هلم العنان‪ .‬مث اعلم ان عجز البشر عن معارضة أقصر سورة انيّتُهُ‬
‫بديهية‪ .‬واما ملِيَّتُهُ فقيل هي‪ :‬ان هللا تعاىل صرف القوى عن املعارضة‪ .‬واملذهب األصح يف‬
‫اللِّ ِميَّة ما عليه عبدالقاهر اجلرجاين والزخمشري والسكاكي‪ .‬وهو ‪ :‬ان قدرة البشر ال تصل اىل‬
‫درجة نظمه العايل‪ .‬مث ان السكاكي اختار ان االعجاز ذوقي اليعرب عنه واليشرح بل يذاق‬
‫ذوقا‪ .‬وأما صاحب دالئل االعجاز فاختار انه ميكن التعبري عنه‪ .‬وحنن على مذهبه يف هذا‬
‫البيان‪.‬‬

‫وايثار (سورة) على جنم أو طائفة أو نوبة اشارة اىل الزامهم يف منشأ شبهتهم وهي‪ :‬لوال انزل‬
‫عليه دفعة واحدة؟ أي فهاتوا انتم ولو بنوبة فذة‪ ..‬وأيضاً امياء اىل تضمن تسوير التنزيل سورة‬
‫سورة لفوائد مجة بيّنها الزخمشري‪ ،‬واىل تضمن هذا االسلوب الغريب للطائف‪ ..‬ولفظ (من‬
‫املنزل‪ ،‬أو من مثل املنزل عليه‪ .‬اعلم! ان حق العبارة على األول‬
‫مثله) فيه معنيان أي مبثل َ‬
‫"مثل سورة منه" لكن عدل اىل (من مثله) لالمياء اىل مالحظة االحتمال الثاين‪ ،‬أي امنا‬
‫تكون معارضتكم مبطلة لدعواه لو جاءت من مثله يف عدم التعلم‪ ..‬وكذا اشارة اىل ان‬
‫املعارضة امنا تبطل االعجاز لو كان املعارض به من جمموع مثل‪ ..‬وكذا رمز اىل توجيه‬
‫االذهان اىل امثال القرآن يف النزول من الكتب السماوية ليوازن ذهن السامع بينها فيتفطن‬
‫لعلوه‪.‬‬

‫وان مجلة (وادعوا شهداءكم من دون هللا) ايثار "ادعوا" فيها على "استعينوا" او "استمدوا"‬
‫ويذب عنهم اليفقدهم بل حاضر ال حيتاجون اال اىل ندائه‪ ..‬ولفظ‬ ‫امياء اىل ان من يلبيهم ّ‬
‫"شهداء" جامع لثالثة معان‪ :‬اي كرباءكم يف الفصاحة‪ ..‬ومن يشهد لكم‪ ..‬وآهلتكم‪ .‬فنظراً‬
‫اىل األول إلزام هلم‪ ،‬يقطع حتججهم بان عدم قدرتنا اليدل على عدم قدرة كربائنا‪ .‬ونظراً إىل‬
‫الثاين افحام هلم‪ ،‬يقطع تعللهم بأن ليس لنا شهداء بانه ال مسلك االّ له ذابون وشهداء‪.‬‬
‫ونظراً اىل الثالث تبكيت هلم وهتكم هبم بان اآلهلة اليت ترجون منها النفع ودفع الضر كيف‬
‫يهمكم؟‪ ..‬واضافة "شهداء" اىل "كم" املفيدة لالختصاص‬ ‫التعينكم يف هذا األمر الذي ّ‬
‫تقوي عضد املعىن األول‪ :‬بان الكرباء حاضرون معكم‪ ،‬وبينكم اختصاص لو اقتدروا‬
‫لعاونوكم البتة‪ .‬وتصل جناح املعىن الثاين بانا نقبل شهادة من يلتزمكم ويتعصب لكم فاهنم‬
‫أيضا ال‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪191 :‬‬


‫بديهي البطالن‪ .‬وتأخذ بساعد املعىن الثالث مع التقريع بأن‬
‫ّ‬ ‫يتجاسرون على الشهادة على‬
‫اآلهلة اليت اختذمتوها معبودات كيف المتدكم‪ ..‬ولفظ (من دون هللا) نظراً اىل األول اشارة اىل‬
‫التعميم أي كل فصيح يف الدنيا ما خال هللا تعاىل‪ .‬وكذا اىل ان اعجازه ليس االّ ألنه من‬
‫هللا‪ ..‬ونظراً اىل الثاين اشارة اىل عجزهم ومبهوتيتهم بقوهلم‪" :‬هللا شاهد‪ ،‬هللا عليم انا نقتدر"‪.‬‬
‫ألن ديدن العاجز احملجوج احللف باهلل واالستشهاد به على ما ال يقتدر على االستدالل‬
‫النيب عليه الصالة والسالم ليست اال‬
‫عليه‪ ..‬ونظرا اىل الثالث اشارة اىل ان معارضتهم مع ّ‬
‫مقابلة الشرك بالتوحيد واجلمادات خبالق األرض والسموات‪.‬‬

‫وان مجلة (ان كنتم صادقني) اشارة اىل قوهلم‪ :‬لو شئنا لقلنا مثل هذا‪ ..‬وكذا تعريض بانكم‬
‫لستم من أهل الصدق اال ان يفرض فرضا‪ ،‬بل من أهل السفسطة‪ ،‬ما وقعتم يف الريب من‬
‫طريق طلب احلق بل طلبتم فوقعتم فيه‪ ..‬مث ان جزاء هذا الشرط حمصل ما قبله أي فافعلوا‪.‬‬

‫أما مجلة (فان مل تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار) اىل آخره‪ .‬فاعلم! ان (ان كنتم صادقني)‬
‫احتجاج القرآن عليهم بقياس استثنائي استثىن نقيض التايل النتاج نقيض املقدم‪.‬‬

‫تلخيصه‪ :‬ان كنتم صادقني تفعلوا املعارضة وتأتوا بسورةٍ لكن ما تفعلون ولن تفعلوا‪ ،‬فانتج‬
‫النيب عليه السالم صادقا فالقرآن معجز‪ ،‬فوجب‬ ‫فلم تكونوا صادقني فكان خصمكم وهو ّ‬
‫عليكم االميان به لتتقوا من العذاب‪ ...‬انظر كيف اوجز التنزيل فاعجز‪ .‬مث انه ذكر موضع‬
‫استثناء نقيض التايل وهو "لكن ماتفعلون" لفظ (ان مل تفعلوا) مشرياً بتشكيك "ان" اىل‬
‫جماراة ظنهم‪ ،‬وبالشرطية اىل استلزام نقيض التايل لنقيض املقدم‪ .‬مث ذكر موضع النتيجة وهي‬
‫نقيض املقدم أعين فلم تكونوا صادقني علة الزم الزم الزمها وهي قوله (فاتقوا النار) لتهويل‬
‫الرتهيب والتهديد ‪.1‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬قد استعمل املنطق هنا استعماالً حسناً ‪ -‬املؤلف‪.‬‬


‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪114 :‬‬

‫أما (ان مل تفعلوا) املاضي بالنظر إىل "مل" واملستقبل بالقياس إىل "ان" فلتوجيه الذهن إىل‬
‫املذهبة أتساويه أو تدانيه أو‬
‫ماضيهم كأنه يقول هلم‪" :‬أنظروا إىل خطبكم املزيّنة ومعلقاتكم ّ‬
‫تقع قريبا منه؟"‪.‬‬

‫وإيثار (تفعلوا) على "تأتوا" لنكتتني‪:‬‬

‫عجزهم ومنشأ العجز الفعل ال األثر‪.‬‬


‫احدامها‪ :‬االمياء اىل ان منشأ االعجاز ُ‬
‫والثانية‪ :‬االجياز‪ ،‬اذ "فعل" كما انه يف الصرف ميزان األفعال وجنسها؛ كذلك يف األساليب‬
‫مصدر األعمال وملخص القصص كأنه ضمري اجلمل كناية عنها‪.‬‬

‫أما (ولن تفعلوا) فاعلم! ان التأكيد والتأبيد يف (لن) امياء اىل القطعية وهي اشارة اىل ان‬
‫القائل مطمئن ج ّدي‪ ،‬الريب له يف احلكم‪ .‬وهذا رمز اىل ان ال حيلة‪ ..‬أما (فاتقوا) بدل‬
‫"جتنبوا" فلالمياء اىل ما ناب عنه اجلزاء من آمنوا واتقوا الشرك الذي هو سبب دخول النار‪..‬‬
‫أما تعريف (النار) فللعهد أي النار اليت عهدت واستقرت يف أذهان البشر بالتسامع عن‬
‫األنبياء من آدم اىل اآلن‪ ..‬وأما توصيفها بـ(اليت) املوصولة مع ان من شأهنا ان تكون معلومة‬
‫ّاوالً‪ ،‬فألجل نزول (ناراً وقودها الناس واحلجارة) ‪ 1‬قبل هذه اآلية فاملخاطبون قد مسعوا تلك‪،‬‬
‫فاملوصولية يف موقعها‪ ..‬وأما وقودها الناس واحلجارة فالغرض كما مر آنفاً الرتهيب‪ ،‬والرتهيب‬
‫فهول بلفظ "الناس" كما قرع به‪ ،‬وشدد "باحلجارة" كما وبخ هبا‪.‬‬ ‫يؤكد بالتهويل والتشديد ّ‬
‫أي ماترجون منه النفع والنجاة وهو االصنام يصري آلة لتعذيبكم‪.‬‬

‫واما مجلة (اعدت للكافرين) فاعلم! ان املوضع موضع "اعدت لكم" لكن القرآن يذكر‬
‫الفذلكة والقاعدة الكلية يف األغلب يف آخر اآليات ليشري اىل كربى دليل احلكم؛ اذ اصل‬
‫الكالم‪" :‬اعدت لكم ان كفرمت ألهنا اع ّدت للكافرين"‪ .‬فلهذا اقيم املظهر مقام املضمر‪..‬‬
‫وأما ماضية (اع ّدت) فاشارة كما مر اىل وجود جهنم اآلن‪.‬‬
‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة التحرمي‪6 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪111 :‬‬

‫ات اَ َّن َهلم جنّ ٍ‬


‫ات َْجت ِري ِم ْن َْحتتِ َها‬ ‫وب ِّشر الَّ ِذين آمنوا وع ِملُوا الص ِ‬
‫احل ِ‬
‫ُْ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ َُ َ َ‬ ‫ََ‬
‫شاهباً َوَهلُ ْم فِيها‬
‫االنْـهار ُكلَّما رِزقُوا ِمْنـها ِمن َمثَرةٍ ِرْزقاً قَالُوا هذاَ الَّ ِذي رِزقْنا ِمن قَـبل واُتُوا بِِه متَ ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ َُْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َُ‬
‫اج ُمطَ َّهَرةٌ َوُه ْم فِيها خالِ ُدو َن ‪29‬‬ ‫اَْزَو ٌ‬
‫فاعلم! ان نظم هذه اآلية كأخواهتا بثالثة وجوه‪ :‬نظم اجملموع مبا قبله‪ ،‬واجلمل بعضها مع‬
‫بعض‪ ،‬واهليئات‪.‬‬

‫أما األول‪ :‬فاعلم! ان ملآهلا ارتباطات متفاوتة مع اآليات السابقة‪ ،‬وخطوطا ممتدة باالختالف‬
‫اىل اجلمل السالفة‪ .‬أال ترى ان القرآن الكرمي ملا أثىن يف رأس السورة على نفسه وعلى املؤمنني‬
‫باالميان والعمل الصاحل كيف أشار هبذه اآلية اىل نتيجة االميان ومثرة العمل الصاحل‪ ..‬وكذا ملا‬
‫ذم الكفار وشنع على املنافقني وبني طريقهم املنجر اىل الشقاوة األبدية ّلوح هبذه اآلية اىل‬
‫نور السعادة األبدية‪ ،‬فأراهم ليزيدوا حسرة على حسرة بفوات هذه النعمة العظمى‪ ..‬مث ملا‬
‫كلف بـ (يا ايها الناس اعبدوا) ‪ -‬مع ان يف التكليف مشقة وكلفة وترك اللذائذ العاجلة ‪-‬‬
‫فتح هلم ابواب اآلجلة؛ فاراهم هبذه اآلية تطمينا لنفوسهم وتأمينا هلم‪ ..‬مث ملا اثبت التوحيد‬
‫‪ -‬الذي هو أول اركان االميان الذي هو أساس التكليف ‪ -‬صرح يف هذه اآلية بثمرة التوحيد‬
‫النبوة ‪ -‬ثانية أركان‬
‫وعنوان الرمحة وديباجة الرضاء بإراءة اجلنة والسعادة األبدية‪ ..‬مث ملا أثبت ّ‬
‫االميان ‪ -‬باالعجاز بقوله (وان كنتم يف ريب)‪..‬اخل‪ ،‬أشار هبذه مع املطوي قبلها اىل وظيفة‬
‫النيب وهي‪ :‬ا ِإلنذار والتبشري بلسان القرآن‪ ..‬مث ملا اوعد وأرهب وانذر يف‬
‫النبوة ومكلفية ّ‬
‫ّ‬
‫وبشر هبذه اآلية بسر ان التضاد مناسبة‪ ..‬وأيضاً ان الذي يُطيع‬
‫سابقتها القريبة وعد ورغب ّ‬
‫‪1‬‬
‫وحس‬
‫ّ‬ ‫اخلوف‬ ‫حس‬
‫ّ‬ ‫هتييج‬
‫ُ‬ ‫العقل؛‬ ‫حلكم‬ ‫مطيعا‬ ‫ن‬ ‫الوجدا‬ ‫ويصري‬
‫ّ‬ ‫االطاعة‬ ‫ويدمي‬ ‫‪،‬‬ ‫النفس‬
‫َ‬
‫الشوق معا جبمع الرتغيب والرتهيب؛ اذ حكم العقل وامره موقّت فالبد من وجود حمرك آمر‬
‫دائمي يف الوجدان‪ ..‬وكذا ملا أشار بالسابقة اىل احد شقي اآلخرة كمل هبذه اآلية الشق‬
‫ّ‬
‫اآلخر وهو منبع السعادة االبدية‪ ..‬وكذا ملا لوح هناك بالنار اىل جهنم صرح هنا باجلنة‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬يطيع يطوع أي جيعلها مطيعة ‪ -‬املؤلف‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪112 :‬‬

‫مث اعلم! ان اجلنة وجهنم مثرتان تدلّتا اىل االبد من شجرة اخللقة‪ ،‬ونتيجتان لسلسلة‬
‫الكائنات‪ ،‬وخمزنان النصباب الكائنات‪ ،‬وحوضان للكائنات اجلارية اىل األبد‪ .‬نعم! تتمخض‬
‫الكائنات وختتلط حبركة عنيفة فتتظاهر اجلنة وجهنم فتمتلئان‪.‬‬

‫تدق‬
‫وايضاحه‪ :‬هو ان هللا جل جالله ملا اراد ان يبدع عاملاً لالبتالء واالمتحان حلكم كثرية ّ‬
‫وحتوله حلِ َكم؛ مزج الشر باخلري وادرج الضر يف النفع‪،‬‬ ‫عن العقول‪ ،‬واراد تغيري ذلك العامل ّ‬
‫وادمج القبح يف احلسن؛ فوصلها جبهنم وأمدها هبا‪ .‬وساق احملاسن والكماالت تتجلى يف‬
‫اجلنة‪ .‬وأيضاً ملا اراد جتربة البشر ومسابقتهم‪ ،‬وأراد وجود اختالفات وتغريات فيهم يف دار‬
‫االبتالء خلط األشرار باألبرار‪ .‬مث ملا انقضى وقت التجربة وتعلقت االرادة بأبديتهم جعل‬
‫ِ‬
‫تلطيف‬ ‫(و ْامتَ ُازوا اْليَـ ْوَم اَيـُّ َها الْ ُم ْج ِرُمو َن) ‪ .1‬وصري األبرار مظهر‬
‫األشرار مظهر خطاب َ‬
‫دين) ‪ 2‬وملا امتاز النوعان تص ّفت الكائنات فانسلّت مادة الضر‬ ‫ِ‬
‫وها َخال َ‬‫وتشريف (فَ ْاد ُخلُ َ‬
‫والشر عن عنصر النفع واخلري والكمال فاختارت جانبا‪.‬‬
‫واحلاصل‪ :‬انه لو امعن النظر يف الكائنات صودف فيها عنصران أساسان وعرقان ممتدان اذا‬
‫حتصال وتأبدا صارا جنة وجهنم‪.‬‬

‫مـقـدم ـ ــة‬

‫هذه اآلية مع ما قبلها اشارة اىل القيامة واحلشر‪ ،‬فمدار النظر يف هذه املسألة أربع نقط‪:‬‬

‫إحداها ‪ :‬إمكان خراب العامل وموته‪..‬‬

‫والثانية ‪ :‬وقوعه‪..‬‬

‫والثالثة ‪ :‬التعمري وا ِإلحياء‪..‬‬

‫والرابعة‪ :‬وقوعه‪..‬‬

‫أما امكان موت الكائنات‪:‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة يس‪91. :‬‬

‫‪ 2‬سورة الزمر‪.71 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪111 :‬‬

‫أج ٌل‬
‫طبيعي‪ ..‬فله َ‬
‫ّ‬ ‫فاعلم! ان الشئ الداخل حتت قانون التكامل ففيه نشوء ومناء‪ ..‬فله عمر‬
‫فطري؛ الخيلص من حكم املوت؛ بدليل استقراء أكثر أفراد األنواع‪ .‬فكما ان االنسان عامل‬
‫ّ‬
‫صغري ال خالص له من اخلرابية؛ كذلك العامل انسان كبري المناص له من املوت البتة‪ .‬وكما‬
‫ان الشجر نسخة من الكائنات يعقبها التخريب واالحنالل؛ كذلك سلسلة الكائنات من‬
‫خارجي‬
‫ّ‬ ‫عرض عاصفةٌ او مرض‬
‫شجرة اخللقة المناص هلا من يد التخريب للتعمري‪ .‬ولئن مل يَ ْ‬
‫جئ بالضرورة وعلى كل حال‬
‫خيرهبا صانُعها قبلَه لَيَ ُ‬‫الفطري‪ ،‬ومل ّ‬
‫ّ‬ ‫باالرادة األزلية قبل العمر‬
‫ِ‬
‫ت _ واذا النجوم انكدرت) ‪ .1‬و (اذا‬ ‫س ُك ِّوَر ْ‬
‫الش ْم ُ‬
‫يوم يتحقق فيه (اذا ّ‬
‫الفين ٌ‬
‫حىت باحلساب ّ‬
‫السماء انشقت) ‪ .2‬فيتظاهر يف الفضاء سكرات االنسان الكبري خبرخرة ‪ 1‬عجيبة وصوت‬
‫هائل‪.‬‬

‫أما وقوعه‪:‬‬

‫وحتوِل‬ ‫ِ‬
‫تغري وتب ّدل ّ‬
‫فبامجاع كل االديان السماوية‪ ،‬وبشهادة كل فطرة سليمة‪ ،‬وباشارة ّ‬
‫الكائنات‪ .‬وان شئت ان تتصور سكرات العامل وخرخرته فاعلم! ان الكائنات قد ارتبطت‬
‫علوي دقيق‪ ،‬واستمسكت بروابط عجيبة فاذا صار جسم من االجرام العلوية مظهر‬ ‫بنظام ّ‬
‫خطاب " ُكن" او "اُ ْخ ُرج َع ْن ِ ْحم َ‬
‫ورك" ترى العامل يشرع يف السكرات‪ ،‬وترى النجوم تتصادم‪،‬‬
‫وتتالطم االجرام فرتعد وتصيح يف الفضاء الغري املتناهي‪ ،‬ويضرب بعض وجه بعض‪ ،‬وترمي‬
‫حمص ُل ماليني َمرامي مدافع‬ ‫بشرر كأرضنا هذه بل أكرب‪ .‬فكيف انت خبرخرة ٍ‬
‫موت صوُهتا َّ‬
‫رصاصتُها الصغرى أكرب من األرض؟‪ ..‬فبهذا املوت تتمخض اخلِلقة وتتميز الكائنات فتمتاز‬
‫جهنم بعشريهتا ومادهتا‪ ،‬وتتجلى اجلنة جامعة لطائفتها مستمدة من عناصرها‪.‬‬

‫‪ p‬فان قلت‪ِ :‬ملَ كانت الكائنات َّ‬


‫مغرية موقّتة خترب مث تصري يوم القيامة مؤبدة حمكمة ثابتة؟‬

‫قيل لك‪ :‬ان احلكمة والعناية االزليتني ملا اقتضتا التجربة واالبتالء‪ ،‬والنشوء والنماء يف‬
‫االستعدادات‪ ،‬وظهور القابليات‪ ،‬وظهوراحلقائق النسبية اليت تصري يف اآلخرة‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة التكوير‪2. - 1 :‬‬

‫‪ 2‬سورة االنشقاق‪1. :‬‬


‫‪ 3‬خرخرة‪ :‬صوت النائم‪ ،‬استعمله للمحتضر (ش)‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪110 :‬‬

‫حقائق حقيقية‪ ،‬ووجود مراتب نسبية‪ ،‬وحكم كثرية التدركها العقول؛ جعل الصانع جل‬
‫املضار ممزوجة باملنافع‪ ،‬والشرور متداخلة بني اخلري‪ ،‬واملقابح جمتمعة‬
‫الطبائع خمتلطةً‪ ،‬و ّ‬
‫َ‬ ‫جالله‬
‫يد القدرة االضداد ختمرياً فصريت الكائنات تابعة لقانون التبدل والتغري‬ ‫فخمرت ُ‬
‫مع احملاسن‪ّ ،‬‬
‫والتحول والتكامل‪ .‬فلما انسد ميدان االمتحان وانقضى وقت االبتالء وجاء وقت احلصاد؛‬
‫أراد الصانع جل جالله بعنايته تصفية االضداد املختلطة للتأبيد‪ ،‬ومتييز أسباب التغري‪ ،‬وتفريق‬
‫مواد االختالف؛ فتحصل جهنم جبسم حمكم مظهراً خلطاب (وامتازوا) وجتلى اجلنة جبسم‬
‫مؤبد مشيد مع أساساهتا‪ ..‬بسر ان املناسبة شرط االنتظام‪ ،‬والنظام سبب الدوام‪ .‬مث انه‬
‫تعاىل اعطى بقدرته الكاملة لساكين هاتني الدارين األبديتني وجوداً مشيداً السبيل لالحنالل‬
‫والتغري اليه‪ ،‬على ان التغري هنا املنجر اىل االنقراض امنا هو بتفاوت النسبة بني الرتكيب وما‬
‫يتحلل‪ .‬وأما هناك فالستقرار النسبة جيوز التغري بال اجنرار اىل االحنالل‪.‬‬

‫وأما النقطة الثالثة والرابعة‪ :‬أعين امكان التعمري واحلشر ووقوعه‪:‬‬

‫النقلي فقط للزوم الدور ‪ 1‬أشار القرآن‬


‫فاعلم! ان التوحيد والنبّوة ملا مل يصح اثباهتما بالدليل ّ‬
‫اىل الدالئل العقلية عليهما‪ .‬أما احلشر فيجوز اثباته بالعقل والنقل‪:‬‬

‫العقلي فراجع اىل ما بيّنا بقدر الطاقة يف تفسري (وباآلخرة هم يوقنون) حاصله‪ :‬ان النظام‬
‫ّ‬ ‫أما‬
‫والرمحة والنعمة امنا تكون نظاماً ورمحة ونعمة ان جاء احلشر‪..‬‬

‫للعقلي‬
‫ّ‬ ‫النقلي مع الرمز‬
‫النقلي فقول كل االنسان مع حكم القرآن املعجز بوقوعه‪ .‬وأما ّ‬ ‫واما ّ‬
‫فراجع هذا املوضع من تفسري فخر الدين الرازي ‪ 2‬فانه ع ّدد اآليات املثبتة للحشر‪.‬‬
‫واحلاصل‪ :‬انه ما من متأمل يف نظائ ِر وأشباهِ و ِ‬
‫أمثال احلشر يف كثري من االنواع االّ ويتحدس‬
‫من تفاريق االمارات اىل وجود احلشر اجلسماين والسعادة األبدية‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬حيث ان صحة الدالئل النقلية ‪ -‬القرآن واحلديث ‪ -‬مرتبطة بصحة النبوة وصدقها‪ ،‬فإذا‬
‫ما اثبتت النبوة ايضاً بالدالئل النقلية‪ ،‬يلزم احملال وهو الدور والتسلسل‪ ،‬لذا أشار القرآن‪...‬‬
‫اخل (ت‪)61 :‬‬

‫‪1241 - 1101( 2‬م) متكلم وفيلسوف ومفسر القرآن‪ ،‬لقب بشيخ االسالم وانقطع يف‬
‫اواخر ايامه للوعظ وتالوة القرآن منصرفاً عن اجملادالت الكالمية‪ ،‬له مصنفات كثرية امهها‬
‫«مفاتيح الغيب» تفسري للقرآن الكرمي و«لباب االشارات» و«شرح ديوان سقط الزند» الىب‬
‫العالء املعري‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪119 :‬‬

‫أما نظم مجلها بعض مع بعض‪ ،‬فاعلم! ان السلك الذي نُظم فيه جواهر مجل هذه اآلية‬
‫وسلسلتها هي ‪ :‬ان السعادة األبدية قسمان‪:‬‬

‫األول اْالَوىل‪ :‬رضاء هللا تعاىل وتلطيفه وجتلّيه وقربيته‪.‬‬

‫والثاين‪ :‬السعادة اجلسمانية وهي باملسكن واملأكل واملنكح ومتممها ومكملها مجيعاً هو‬
‫الدوام واخللود‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫مث ان أقسام االول مستغنية عن التفصيل أو غري قابلة‪.‬‬
‫وأما أقسام الثاين‪ :‬فاملسكن‪ ،‬ألطفه ما جيري املاء بني نباتاته‪ .‬أال ترى ان ملهم الشعر‬
‫ومفيض العشق يف القلوب امنا هو خشخشة ‪ 2‬املاء وخريره وكشكشة ‪ 1‬االهنار وصفريها‬
‫حتت القصور وبني البساتني‪..‬‬

‫واملأكل الرزق وألنه تفكه يكون كمال لذته فيما حصل به األُلفة واالنسية‪ ،‬وألنه تفكه يكون‬
‫علو النعمة وتفوقها على‬
‫كمال لذته يف التجدد من جهة؛ اذ حبكم املألوفية يُعرف درجة ّ‬
‫نظريها‪ .‬وكذا من مكمالت اللذة ان يُعرف انه جزاء عمله‪ ..‬ومنها ان يكون منبعه وخمزنه‬
‫حاضراً نصب العني لتحصل لذة االطمئنان‪..‬‬

‫وأما املنكح‪ ،‬فاعلم! ان من اش ّد حاجات االنسان وجود قلب مقابال لقلبه ملداولة احملبة‬
‫ومبادلة العشق واملؤانسة والتشارك يف اللذة‪ ،‬بل التعاون يف أمثال احلرية والتفكر‪ .‬أال ترى ان‬
‫من رأى ما يتحري فيه أو يتفكر يف أمر عجيب يدعو ولو ذهنا من يعينه يف حتمل احلرية‪ .‬مث‬
‫ومكمل‬
‫الروحي ّ‬‫ّ‬ ‫احرها قلب القسم الثاين‪ .‬مث ان متمم االمتزاج‬
‫ا ّن ألطف القلوب وأشفقها و ّ‬
‫الصوري كون القسم الثاين مربأة ومطهرة من األخالق‬ ‫ّ‬ ‫القليب‪ ،‬ومصفى االختالط‬
‫االستيناس ّ‬
‫السيئة والعوارض املنفرة‪.‬‬

‫فإن قلت‪ :‬ان األكل لبقاء الشخص؛ اذ به حيصل تعمري ما يتحلل‪ ،‬وان النكاح لبقاء النوع‬
‫مع ان األشخاص يف اآلخرة مؤبّدون ال يقع فيهم التحويل واالحنالل وكذا التناسل يف‬
‫اآلخرة؟‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬غري قابلة للتفصيل‪.‬‬

‫‪ 2‬صوت السالح او احللى عند اصطكاكه‪.‬‬

‫‪ 3‬صوت جلد احلية حني املرور‪ ،‬استعمله املؤلف لصوت مرور املاء كاحلية (ش)‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪116 :‬‬

‫قيل لك‪ :‬ان فوائد األكل والنكاح ليست منحصرة يف البقاء والتناسل بل فيهما لذة عظيمة‬
‫األملي‪ .‬وكيف اليكون فيهما يف عامل السعادة واللذة لذات عالية منزهة؟‬
‫يف هذا العامل ّ‬
‫فان قلت‪ :‬ان اللذة هنا دفع األمل؟‬

‫األبدي على هذا العامل‬


‫ّ‬ ‫قيل لك‪ :‬ان دفع االمل سبب من أسباب اللذة‪ ..‬وأيضاً قياس العامل‬
‫"خ ْور ُخ ْور" ‪ 1‬هذه وتلك اجلنة العالية هي النسبة‬
‫قياس مع الفارق‪ ،‬بل ان النسبة بني حديقة ُ‬
‫بني لذائذ اآلخرة ونظائرها يف هذا العامل‪ .‬فكما تفوق تلك اجلنة على احلديقة بدرجات غري‬
‫حمصورة؛ كذلك هذه‪ ..‬واىل هذا التفاوت العظيم اشار ابن عباس رضي هللا تعاىل عنهما‬
‫بقوله‪" :‬ليس يف اجلنة اال امساءها" ‪ 2‬أي مثرات الدنيا‪.‬‬

‫أما اخللود ودوام اللذة‪ ،‬فاعلم! ان اللذة امنا تكون لذة حقيقيةِ ان مل ينغّصها الزو ُال؛ اذ كما‬
‫تصوُر زو ِال اللذةِ أملٌ أيضاً‪ .‬حىت ان‬
‫سبب هلا‪ ،‬كذلك زوال اللذة أمل بل ّ‬
‫دفع االمل لذةٌ أو ٌ‬ ‫ان َ‬
‫جمموع اشعار العشاق اجملازيني امنا هي انني ونياح من هذا األمل‪ .‬وان ديوان كل عاشق غري‬
‫حقيقي امنا هو بكاء وعويل من هذا األمل الناشئ من تصور زوال احملبوب‪ ..‬نعم‪ ،‬ان كثرياً‬
‫من اللذائذ املوقّتة اذا زالت امثرت آالما مستمرة كلما تذكرها ‪ 1‬يفور ِمن فيه‪" :‬ايواه!"‬
‫واأسفا! املرتمجَ ْ ِ‬
‫ني عن هذا األمل الروحاينّ‪ .‬وان كثرياً من اآلالم اذا انقضت اولدت ل ّذات‬
‫مستمرة كلما تذكرها الشخص وهو قد جنا يتكلم بـ"احلمد هلل" ِّ‬
‫امللوح لنعمة معنوية‪.‬‬

‫أجل! ان االنسان خملوق لألبد فامنا حتصل له اللذة احلقيقية يف األمور األبدية كاملعرفة االهلية‬
‫واحملبة والكمال والعلم وأمثاهلا‪.‬‬

‫واحلاصل‪ :‬ان اللذة والنعمة امنا تكونان لذة ونعمة ان كانتا خالدتني‪.‬‬

‫واذا رأيت هذا السلك فانظم فيه مجل اآلية‪.‬‬


‫_____________________‬

‫‪ 1‬حديقة خورخور‪ :‬مكان يقع حتت قلعة مدينة «وان» وفيها مدرسة املؤلف‪.‬‬

‫‪( 2‬ليس يف الدنيا ممايف اجلنة اال االمساء) او الفاظ مقاربة واملعىن واحد‪ ،‬انظر تفسري ابن كثري‬
‫‪ ،61/1‬تفسري القرطىب ‪ ،204/1‬الطربى ‪ 119/1‬فتاوى ابن تيمية ‪ ،29/1‬املطالب‬
‫العالية البن حجر برقم ‪ ،0612‬فتح القدير للشوكاىن ‪99./1‬‬

‫‪ 3‬تذكرها االنسان‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪117 :‬‬

‫أما مجلة (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصاحلات) فاعلم! انه تعاىل ملا كلف الناس‪ ،‬وأثبت‬
‫النيب بالتبليغ أمره بالتبشري تأميناً المتثال التكليف الذي فيه مشقة وترك للّذائذ‬
‫النبوة‪ ،‬وكلف ّ‬‫ّ‬
‫الدنيوية‪ .‬فكما انه مأمور باالنذار؛ كذلك مأمور بالتبشري برضاء هللا تعاىل وتلطيفه وقربيته‬
‫وبالسعادة األبدية‪.‬‬

‫وأما مجلة (ان هلم جنات جتري) فاعلم! كما مر ان ّاول حاجات االنسان الضرورية ‪ -‬ألنه‬
‫جسم ‪ -‬املكان واملسكن؛ وان أحسن املكان هو املشتمل على النباتات واألشجار‪ ،‬وان‬
‫الطفه هو الذي يتسلل بني خضراواته املاء‪ ،‬وان اكمله هو الذي جتري بني أشجاره وحتت‬
‫قصوره األهنار بكثرة‪ .‬فلهذا قال (جتري من حتتها األهنار)‪ ..‬مث ان اشد احلاجات كما مسعت‬
‫آنفاً بعد املكان واكمل اللذائذ اجلسمانية هو االكل والشرب اللذين يشري اليهما اجلنة‬
‫والنهر‪ ..‬مث ان اكمل الرزق هو ان يكون مألوفاً ومأنوساً ليعرف درجة تفوقه على نظريه‪..‬‬
‫وأل ّذ الفاكهة ان تكون متجددة‪ ..‬وان اصفى اللذة هو أن يكون املقتطَف معلوماً وقريباً‪..‬‬
‫وان أل ّذها ان يعرف اهنا مثرة عمله‪ .‬فلهذا قال‪( :‬كلما رزقوا منها من مثرة رزقاً قالوا هذا الذي‬
‫رزقنا من قبل) أي يف الدنيا أو قبل هذا اآلن‪.‬‬
‫وأما (وأتوا به متشاهبا) فاعلم! ان يف احلديث‪ :‬ان صورهتا واحدة والطعم خمتلف ‪ .1‬فتشري‬
‫اآلية اىل لذة التجدد يف الفاكهة‪ ..‬وان كمال اللذة ان يكون الشخص خمدوما يؤتى اليه‪.‬‬
‫وأما مجلة (وهلم فيها أزواج مطهرة) فاعلم! كما رأيت يف السلك ان االنسان حمتاج لرفيقة‬
‫وقرينة يسكن اليها وينظر بعينها وتنظر بعينه ويستفيد من احملبة اليت هي ألطف ملعات الرمحة‪.‬‬
‫أال ترى ان األنسية التامة هنا هبن؟ وأما مجلة (وهم فيها خالدون) فاعلم! ان االنسان اذا‬
‫صادف نعمة او اصاب لذة فأول ما يتبادر لذهنه‪ :‬أتدوم أم تُـنَـغَّص بزوال؟ فلهذا أشار اىل‬
‫تكميل النعمة خبلود اجلنة ودوامهم وازواجهم فيها ودوام اللذائذ واستمرار االستفادة بقوله‪:‬‬
‫(وهم فيها خالدون)‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬اخرجه ابن جرير عن حيىي بن كثري (ب)‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪119 :‬‬

‫أما نظم هيئات مجلة مجلة‪:‬‬

‫(وبشر الذين آمنوا وعملوا الصاحلات) الواو فيها ‪ -‬بسر املناسبة بني املتعاطفني ‪-‬‬‫فجملة ّ‬
‫"بشر" فرمز اىل ان اجلنة بفضله تعاىل‬
‫اشارة اىل "انذر" الذي يتقطر من أنف السابقة‪ ..‬وأما ّ‬
‫ال واجب عليه‪ ..‬وكذا اىل ان البد ان ال يكون العمل ألجل اجلنة‪ ..‬وأما صورة األمر يف‬
‫"بشر" فامياء اىل "بلّغ مبشراً" فانه مكلَّف بالتبليغ‪..‬‬
‫ّ‬
‫مر يف رأس السورة ليكون‬‫واما (الذين آمنوا) بدل "املؤمنني" األقصر فتلويح اىل "الذين" الذي ّ‬
‫تفصيله هناك مبيِّنا ملا امجل هنا‪ ..‬واما ايراد "آمنوا وعملوا" على صيغة املاضي هنا‪ ،‬مع ايراد‬
‫"يؤمنون" و "ينفقون" هناك بصيغة املضارع فلإلشارة اىل ان مقام املدح والتشويق على اخلدمة‬
‫شأنه املضارع‪ .‬وأما مقام املكافأة واجلزاء فاملناسب املاضي‪ ،‬اذ االجرة بعد اخلدمة‪..‬‬

‫وأما واو (وعملوا) فاشارة بسر املغايرة اىل ان العمل ليس داخال يف االميان كما قالت املعتزلة‪.‬‬
‫واىل ان االميان بغري عمل ال يكفي‪ .‬ولفظ العمل رمز اىل ان ما يبشر به كاالجرة‪..‬‬

‫املصري" ‪ 1‬االطالق هنا حوالة على‬


‫ّ‬ ‫أما (الصاحلات) فمبهمة وجمملة‪ .‬قال "شيخ حممد عبده‬
‫االشتهار وتعارف الصاحلات بني الناس‪ .‬أقول‪ :‬وكذا اطلقت اعتماداً على رأس السورة‪.‬‬

‫وأما مجلة (ان هلم جنات جتري من حتتها األهنار) فاعلم! ان هيئاهتا ‪ -‬من حتقيق "ا ّن"‬
‫وختصيص "الالم" وتقدمي "هلم" ومجع "اجلنة" وتنكريها وذكر اجلريان وذكر "من" مع "حتت"‬
‫‪2‬‬
‫االساسي الذي هو‬
‫ّ‬ ‫الغرض‬ ‫امداد‬ ‫على‬ ‫وتتجاوب‬ ‫تتعاون‬ ‫‪-‬‬ ‫يفه‬‫ر‬ ‫وتع‬ ‫وختصيص "هنر"‬
‫كزي‪ .‬ألن (ا ّن) اشارة‬
‫السرور ولذة املكافأة كاألرض النشفة الرطبة ترشح جبوانبها احلوض املر ّ‬
‫اىل ان البشارة مبا هو يف هذه‬

‫_____________________‬

‫‪1149 - 1901( 1‬م) حممد عبده بن حسن خريهللا من آل الرتكماين‪ ،‬مفىت الديار‬
‫املصرية‪ .‬ولد يف شنرا (من قرى الغربية مبصر)‪ ،‬وتعلم باجلامع االمحدى بطنطه مث باالزهر‬
‫وعمل يف التعليم‪ ،‬وكتب يف الصحف‪ .‬اصدر مع مجال الدين االفغاين جريدة "العروة الوثقى‬
‫" يف باريس مث عاد اىل بريوت‪ ،‬فاشتغل بالتدريس والتأليف‪ ،‬دفن يف القاهرة‪ ،‬له "تفسري‬
‫القرآن الكرمي " مل يتمه‪ ،‬و "رسالة التوحيد " و "شرح هنج البالغة "‪( ..‬االعالم ‪)292/6‬‬

‫‪ 2‬ومجعه وتعريفه (ش)‬


‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪111 :‬‬

‫الدرجة من العظمة يرتدد فيها العقل فتحتاج اىل التأكيد‪ ..‬وأيضاً من شأن مقام السرور طرد‬
‫األوهام؛ اذ طََريان ادىن وهم يكسر اخليال ويطري السرور‪ ..‬وكذا امياء اىل ان هذا ليس وعداً‬
‫صرفا بل حقيقة من احلقائق‪ .‬والم (هلم) اشارة اىل االختصاص والتملك واالستحقاق‬
‫الفضلي لتكميل اللذة وزيادة السرور‪ .‬واالّ فكثرياً ما يضيف َملِ ٌ‬
‫ك مسكيناً‪ ..‬وتقدمي (هلم)‬ ‫ّ‬
‫اشارة اىل اختصاصهم بني الناس باجلنة‪ ،‬اذ مالحظة حال أهل النار سبب لظهور قيمة لذة‬
‫اجلنة‪ ..‬ومجع (جنّات) اشارة اىل تعدد اجلنان وتنوع مراتبها على نسبة تنوع مراتب األعمال‪..‬‬
‫وكذا رمز اىل ان كل جزء من اجلنة جنة‪ ..‬وكذا امياء اىل ان ما يصيب حصة كل ‪ -‬لوسعته‬
‫‪ -‬كأنه كاجلنة بتمامها ال كأنه يساق جبماعتهم اىل موضع‪ ..‬وتنكري (جنّات) يتلو على ذهن‬
‫السامع‪" :‬فيها ما ال عني رأت‪ ،‬وال اذن مسعت‪ ،‬وال خطر على قلب بشر" ‪ .1‬وكذا حييل‬
‫كل على الطرز الذي يستحسنه‪ ..‬وكذا كأن التنوين بدل‬ ‫على أذهان السامعني حىت يتصورها ٌ‬
‫س)‪ .2‬وأما (جتري) فاعلم! ان أحسن الرياض ما فيها ماء‪ .‬مث أحسنها‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫(وف َيها َما تَ ْشتَهيه االَنْـ ُف ُ‬
‫ما يسيل ماؤها‪ .‬مث أحسنها ما استمر السيالن‪ .‬فبلفظ (جتري) أشار اىل تصوير دوام‬
‫اجلريان‪ ..‬واما (من حتتها) فاعلم! ان أحسن املاء اجلاري يف اخلضراوات ان ينبع صافيا من‬
‫تلك الروضة‪ ،‬ومير ُمتَ َخ ْرِخراً حتت قصورها‪ ،‬ويسيل منتشراً بني أشجارها فاشار بـ (من حتتها)‬
‫اىل هذه الثالثة‪ ..‬وأما (األهنار) فاعلم! ان أحسن املاء اجلاري يف اجلنان ان يكون كثرياً‪ .‬مث‬
‫أحسنه ان تتالحق األمثال من جداوله‪ .‬فان بتناظر األمثال يتزايد احلسن على قيمة األجزاء‪.‬‬
‫مث أحسنه ان يكون املاء عذباً فراتا لذيذاً كما قال ٍ‬
‫(ماء َغري ِ‬
‫آس ٍن) ‪ 1‬فبلفظ "هنر" ومجعه‬ ‫ْ‬
‫وتعريفه أشار اىل هذه‪.‬‬

‫أما مجلة (كلما رزقوا منها من مثرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) فاعلم! ان هيئاهتا‬
‫تتضمن كثرية من اجلمل الضمنية‪ .‬فاستينافها جواب لسؤال مقدر‪.‬‬

‫_____________________‬
‫‪ 1‬عن اىب هريرة رضى هللا عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ :‬قال هللا عز وجل‪:‬‬
‫اعددت لعبادى الصاحلني ما العني رأت وال أُذن مسعت وال خطر على قلب بشر‪ ،‬واقرأوا ان‬
‫ُ‬
‫شئتم فال تعلم نفس ما اخفي هلم من قرة اعني (السجدة‪ .)17 :‬رواه البخارى ومسلم برقم‬
‫‪ 2920‬ومل يذكر اآلية‪ ،‬والرتمذي ‪( 1119‬حتقيق امحد شاكر) وزاد نسبته يف صحيح‬
‫اجلامع الصغري ‪ 0191‬ألمحد والنسائي وابن ماجه‪.‬‬

‫‪ 2‬سورة الزخرف‪71. :‬‬

‫‪ 3‬سورة حممد‪.19 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪244 :‬‬

‫وذلك السؤال ممزوج من مثانية اسئلة متسلسلة؛ اذ ملا بشروا مبسكن هكذا عال يتبادر لذهن‬
‫السامع‪ :‬أفيه رزق أم ال ؟ واذا كان فيه رزق فمن اين جيئ وحيصل ؟ واذا حصل من تلك‬
‫اجلنة فمن أي شئ منها ؟ واذا كان من مثرهتا فهل هي تشبه مثار الدنيا ؟ واذا شاهبتها فهل‬
‫يشبه بعضها بعضا ؟ واذا تشاهبت فهل ختتلف طعومها ؟ واذا اختلفت وقد قطعت فهل‬
‫تنقص ام ميتلء موضعها؟ واذا تبدلت بأخرى فهل يدوم األكل منها؟ واذا دام فما حال‬
‫اآلكلني أفال يستبشرون؟ واذا استبشروا فماذا يقولون؟ واذ تفطنت هلذه األسئلة فانظر كيف‬
‫أجاب القرآن الكرمي عن هذه األسئلة املتسلسلة هبيئات هذه اجلملة‪..‬‬

‫أما لفظ كلما فاشارة اىل الدوام والتحقيق‪ ..‬وماضوية رزقوا اشارة اىل حتقيق الوقوع‪ ..‬وكذا‬
‫امياء اىل‬

‫أما لفظ (كلما) فاشارة اىل الدوام والتحقيق‪ ..‬وماضوية (رزقوا) اشارة اىل حتقيق الوقوع‪..‬‬
‫وكذا امياء اىل اخطار نظريه من رزق الدنيا اىل ذهنهم‪ ..‬وايراده على بناء املفعول اشارة اىل‬
‫عدم املشقة واهنم خمدومون يؤتى اليهم‪ ..‬وايثار (منها من مثرة) على "من مثراهتا" للتنصيص‬
‫على جوابني عن سؤالني من األسئلة املذكورة‪ .‬وتنكري (مثرة) املفيد للتعميم اشارة اىل انه أية‬
‫مثرة كانت فهي رزق‪ ..‬وتنكري (رزقا) اشارة اىل انه ليس من الرزق الذي تعلمونه لدفع‬
‫اجلوع‪ ..‬ولفظ (قالوا) أي يتقاولون بعضهم لبعض امياء اىل االستبشار واالستغراب الالزمني‬
‫للحكم‪.‬‬

‫أما مجلة (هذا الذي رزقنا من قبل) فاعلم! ان هذا االطالق يتضمن أربعة معان‪:‬‬

‫أحدها‪ :‬ان هذا ما رزقنا من العمل الصاحل يف الدنيا فبشدة االرتباط بني العمل واجلزاء كأن‬
‫العمل جتسم يف اآلخرة ثواباً‪ .‬ومن هنا االستبشار‪.‬‬

‫والثاين‪ :‬ان هذا ما رزقنا من األطعمة يف الدنيا مع هذا التفاوت العظيم بني طعميهما‪ .‬ومن‬
‫هنا االستغراب‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬ان هذا مثل ما أكلنا قبل هذا اآلن مع احتاد الصورة واختالف املعىن جلمع ل ّذ َيت‬
‫االلفة والتجدد‪ .‬ومن هنا االبتهاج‪.‬‬

‫والرابع‪ :‬ان هذه اليت على أغصان الشجرة هي اليت أكلناها اذ ينبت بدهلا دفعة فكأهنا اياها‪.‬‬
‫ومن هنا يعرف اهنا ال تنقص‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪241 :‬‬

‫وأما مجلة (وأتوا به متشاهبا) فاعلم! اهنا فذلكة وتذييل واعرتاضية لتصديق احلكم السابق‬
‫وتعليله‪ ..‬وبناء املفعول يف (اُتوا) اشارة اىل ان هلم َخ َد َمة‪ ..‬ويف متشاهبا ما عرفت من االشارة‬
‫اىل مجع اللذتني‪:‬‬

‫وأما مجلة (وهلم فيها أزواج مطهرة) فاعلم! ان الواو بسر املناسبة العطفية اشارة اىل اهنم كما‬
‫حيتاجون اىل املسكن ألجسامهم يفتقرون اىل السكن ألرواحهم‪( ..‬وهلم) اشارة اىل‬
‫االختصاص والتملك‪ ،‬ورمز اىل التخصيص واحلصر‪ ،‬وامياء اىل ان هلم غري النساء الدنيوية‬
‫حوراً عيناً خلقن ألجلهم‪ ..‬و(فيها) اشارة اىل ان تلك األزواج الئقة بتلك اجلنة فعلى نسبة‬
‫علو درجاهتا يفوق حسنهن‪ ..‬وكذا فيها امياء خفي اىل أن اجلنة تزينت وتربجت هبن ‪..1‬‬ ‫ّ‬
‫رهن ونزههن يد القدرة؟‪ ..‬وكذا‬‫طه ُ‬ ‫و(مطهرة) اشارة اىل أن ِّ‬
‫مطهراً طهرهن‪ ،‬فما ظنك مبن ّ‬
‫امياء بالتعدية ان نساء الدنيا يطهرن ويصفني فيصرن حساناً كاحلور العني املتطهرات يف‬
‫أنفسهن‪.‬‬

‫وأما مجلة (وهم فيها خالدون) فاشارة اىل اهنم‪ ،‬وكذا أزواجهم‪ ،‬وكذا لذائذ اجلنة‪ ،‬وكذا اجلنة‬
‫كافةً؛ أبدية‪.‬‬
‫***‬

‫_____________________‬

‫النساخ‪ .‬أفيمكن ان أقول ‪:‬‬


‫اين حتليل لفظ "ازواج "؟ لعله سقط من ايدى ّ‬
‫‪1‬‬

‫وعنوان "ازواج " اشارة اىل اهنن على حسن اخللق وطيب الطبيعة الذى هو رأس االلفة‬
‫واساس االزدواج‪ ..‬وايضاً فيه رمز لطيف اىل اهنن على وفق قاماهتم‪ .‬ومجع "أزواج " امياء اىل‬
‫لكل ازواجاً كثرية ‪ -‬كما بينه احلديث ‪ -‬ال واحدة او اثنتني‪ .‬وتنكريها اشارة اىل اهنن‬‫ان ٍ‬
‫مر‬
‫حلسنهن وطهرهن حريّات باسم االزواج‪ .‬وكذا احالة على ذوق السامع واشتهائه نظري ما ّ‬
‫يف "جنات "‪ .‬وكذا كأن التنوين بدل عُرباً اتراباً (ش)‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪242 :‬‬


‫ِ‬
‫وضةً فَما فَـ ْوقَها‬ ‫ض ِر َ‬
‫ب َمثَالً ما بَـعُ َ‬ ‫ا َّن هللاَ ال يَ ْستَ ْحيي اَ ْن يَ ْ‬

‫ين َك َف ُروا فَـيَـ ُقولُو َن‬ ‫َّ ِ‬ ‫فَاََّما الَّ ِذين آمنُوا فَـيـعلَمو َن اَنَّه ْ ِ ِ‬
‫احلَ ُّق م ْن َرّهب ْم َواََّما الذ َ‬ ‫َ َ َْ ُ ُ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ما َذا اََر َاد هللا هب َذا َمثَالً يُض ُّل بِه َكثرياً َويـَ ْهدي بِه َكثرياً َوَما يُض ُّل بِه االَّ الْ َفاسق َ‬
‫ني‬

‫وص َل َويـُ ْف ِس ُدو َن ِيف‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِِ‬ ‫َّ ِ‬


‫ضو َن َع ْه َد هللا م ْن بَـ ْعد ميثاقه َويَـ ْقطَعُو َن ما اََمَر هللا بِه اَ ْن يُ َ‬
‫ين يَـْنـ ُق ُ‬
‫‪ 26‬الذ َ‬
‫اس ُرو َن ‪27‬‬ ‫اخل ِ‬
‫ض اُولئِك ُه ُم ْ‬ ‫االْ ْر ِ‬

‫اعلم! ان يف هذه اآلية أيضاً الوجوه الثالثة النظمية وان مآل اجملموع ينظر اىل سوابقه واىل‬
‫لواحقه واىل جمموع القرآن الكرمي‪.‬‬

‫وأما نظمها بالنظر الىلواحقها فاعلم! ان القرآن ملا مثّل بالذباب والعنكبوت وحبث عن النمل‬
‫والنحل انتهز الفرصةَ ‪ -‬لالعرتاض‪ -‬اليهود واَهل النفاق و ِ‬
‫الشرك فتحمقوا وقالوا‪ :‬أيتنزل هللا‬ ‫ُ ُ‬
‫تعاىل مع عظمته اىل البحث عن هذه األمور اخلسيسة اليت يستحي من حبثها أهل الكمال؟‬
‫فضرب القرآن هبذه اآلية ضرباً على أفواههم‪.‬‬

‫النبوة باإلعجاز واإلعجاز‬


‫وأما نظمها بالقياس اىل سوابقها‪ ،‬فاعلم! أن القرآن ملا أثبت ّ‬
‫بالتح ِّدي والتح ِّدي بسكوهتم‪ ..‬وكذلك أثبت يف رأس السورة ان القرآن مشتمل على صفات‬
‫عالية ومزايا كاملة ال جتتمع يف كالم؛ سكتوا يف نقطة التحدي حىت مل ينبض هلم عرق‬
‫عصبية لكن اعرتضوا وغالطوا يف نقطة كماله وقالوا ان التمثيل يف امثال (كمثل الذي استوقد‬
‫ِ‬
‫(كصيب من السماء) من األمور العادية سبب لنزالة درجة الكالم فيشبه احملاورة‬
‫ناراً) و ّ‬
‫العادية بني الناس؛ فالقرآن ألقمهم حجراً وأفحمهم هبذه اآلية‪.‬‬

‫وايضاحه‪ :‬ان هلم شبهات واهية منشؤها أوهام متسلسلة مبناها مغالطات‪:‬‬

‫احداها‪ :‬القياس مع الفارق ومنشؤه اهنم ينظرون اىل كل شئ مبرآة مألوفهم‪ .‬فحينما يرون‬
‫االنسان ذهنه جزئي وفكره جزئي ولسانه جزئي ومسعه جزئي؛ ال يتعلق‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪241 :‬‬


‫كل بأمرين معا بالذات‪ ،‬ويعرفون أن مقياس اهلمة موضوع املشغلة واالهتمام‪ ،‬ويرون ان‬ ‫ٌ‬
‫القيمة والعظمة بنسبة اهلمة حىت اهنم ال يسندون أمراً حقرياً نزيالً اىل شخص عال جليل؛‬
‫ظناً منهم انه اليتنزل لالشتغال مبثله واليسع ذلك األمر احلقري مهته العظيمة‪ ،‬ينظرون هبذا‬
‫النظر املشط اىل الواجب تعاىل ويقولون‪ :‬كيف يتنزل بعظمته وجالله للتكلم مع البشر مبثل‬
‫حماورة االنسان وللبحث عن هذه األمور اجلزئية السيما هذه األشياء احمل ّقرة؟ أفال يعقل هؤالء‬
‫السفهاء ان ارادة هللا تعاىل وعلمه وقدرته كلية عمومية شاملة حميطة وليس مقياس عظمته‬
‫تعاىل االّ جمموع آثاره‪ ،‬وما ميزان جتليه االّ كافة كلماته اليت لو كان البحر مداداً هلا مانفدت‪.‬‬
‫مثالً (وهلل املثل األعلى) اذا القت الشمس ‪ -‬بعد فرض كوهنا خمتارة عاقلة ‪ -‬ضياءها على‬
‫ملوثة‪ ،‬أيُقال هلا كيف تنزلت بعظمتها لالشتغال واالهتمام مبثل هذه الذرة؟‬ ‫ذرة ّ‬ ‫ّ‬
‫الفرد وأتقن‬
‫اجلوهر َ‬
‫َ‬ ‫نعم! ان هللا تعاىل كما خلق العامل واتقنه صنعاً واهتم به؛ كذلك خلق‬
‫صنعه‪ .‬ففي نظر القدرة اجلواهر الفردة كالنجوم السيارة‪ ،‬ألن قدرته تعاىل وعلمه وارادته‬
‫وكالمه الزمة للذات‪ ،‬وذاتية‪ ،‬فليست متجددة وال قابلة للزيادة والنقصان وال متغرية حىت‬
‫يتداخل فيها املراتب؛ اذ العجز ض ٌد هلا ال ميكن تداخله بينها‪ .‬فال فرق بني الذرة والشمس‪.‬‬
‫املمكن بتساوي طرفَيه كامليزان ذي الكفتني‪ ،‬ال فرق يف صرف القوة اليت ترفع كفة وتضع‬ ‫ُ‬ ‫اذ‬
‫أخرى بني ان يكون يف الكفتني مشسان أو ذرتان‪ ،‬وهكذا نسبة املقدورات بالنسبة اىل القدرة‬
‫الذاتية الالزمة‪ .‬وأما بالنسبة اىل قوة املمكنات العارضة املتغرية املتداخل بينها العجز فال‬
‫موازنة‪.‬‬

‫واحلاصل‪ :‬ان الذرات واألمور اخلسيسة ملا كانت خملوقة له تعاىل كانت معلومة له بالضرورة‪،‬‬
‫شاحة بالبداهة أن يبحث عنها‪ .‬وعلى هذا السر قال (أال يعلم من خلق وهو اللطيف‬ ‫فال ُم ّ‬
‫اخلبري) ‪ 1‬فكيف ال يبحث عنها وال يتكلم هبا َم ْن َعلِم وهو العزيز احلكيم‪.‬‬

‫وثانية املغالطات‪ :‬هي اهنم يزعمون اهنم يرون يف اسلوب القرآن خلف املتكلم متثال انسان‪،‬‬
‫بدليل البحث عن هذه األشياء احلقرية واألمور العادية كأسلوب حماورة البشر‪ .‬أفال يتذكر‬
‫هؤالء املتجاهلون ان الكالم كما ينظر اىل متكلمه جبهة؛ كذلك‬
‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة امللك‪.10 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪240 :‬‬

‫ينظر اىل املخاطب به جبهات‪ ،‬على ما تقتضيه البالغة للتطبيق على مقتضى حال املخاطب‪.‬‬
‫اسلوب‬
‫َ‬ ‫فلما كان املخاطب بشراً وكان البحث عن أحواله واملقصد تفهيمه‪ ،‬لبس القرآن‬
‫ـ"التنزالت االهلية اىل عقول البشر" للتأنيس‪ ..‬أال تراك اذا‬
‫البشر املمزوج حبسيّاته املسمى ب ّ‬
‫تتصىب له؟‬
‫صيب ّ‬‫حاورت مع ّ‬
‫فان قلت‪ :‬ان حقارة األشياء وخساستها تنايف عظمة القدرة ونزاهة الكالم؟‬

‫قيل لك‪ :‬ان احلقارة واخلساسة والقبح وأمثاهلا امنا هي بالنظر اىل ُملك األشياء وجهتها‬
‫السطحي‪ .‬وقد ُوضعت األسباب الظاهرية للتوسط يف هذه‬ ‫ّ‬ ‫الناظرة الينا وبالنظر اىل نظرنا‬
‫اجلهة لتنزيه العظمة‪ .‬وأما بالنظر اىل ملكوتية األشياء فكلها ش ّفافة عالية‪ .‬وهذه اجلهة هي‬
‫حمل تعلق القدرة‪ ،‬الخيرج من التعلق شئ؛ فكما اقتضت العظمة وضع األسباب يف الظاهر‬
‫لكل واحاطة الكالم به؛ على ان القرآن املكتوب‬‫كذلك تستلزم الوحدة والعزة مشول القدرة ٍ‬
‫ذرة باجلواهر الفردة ليس بأقل جزالةً من القرآن املكتوب على صحيفة السماء مبداد‬ ‫على ّ‬
‫النجوم‪ ،‬وان خلقة الذباب ليست بأدىن صنعا من خلقة الفيل‪ .‬فالكالم كالقدرة‪.‬‬

‫أي شئ تعود احلقارة الظاهرية يف هذه التمثيالت؟‬


‫فان قلت‪ :‬اىل ّ‬
‫قيل لك‪ :‬امنا تعود اىل املمثَّل له دون املمثِّل‪ ،‬فكلما كانت مطابقته للممثَّل له أحسن‪ ،‬كانت‬
‫درجة الكالم أعلى ونظام البالغة أرفع‪ .‬أال ترى ان السلطان اذا أعطى راعيه ما يليق به من‬
‫اللباس وألقى اىل الكلب ما يشتهيه من العظم‪ ..‬اخل‪ .‬اليقال انه فعل بدعة‪ ،‬بل يقال انه‬
‫أحسن بوضع كل شئ يف موضعه‪ .‬فاذاً كلما كان املمثل حقرياً كان مثاله حقرياً‪ ،‬وان كان‬
‫عظيماً فعظيماً‪ .‬وملا كانت األصنام أدىن االمور سلط هللا الذباب على رؤوسها‪ .‬وملا كانت‬
‫عبادهتا أهون األشياء جعل هللا تعاىل نسج العنكبوت عنواهنا‪.‬‬

‫وثالثة املغالطات‪ :‬اهنم يقولون ما احلاجة اىل امثال هذه التمثيالت املومئة اىل العجز عن‬
‫اظهار احلقيقة؟‪.‬‬

‫اجلواب‪ :‬ملا كان املقصد من انزال التنزيل ارشاد اجلمهور‪ ،‬واجلمهور عوام‪ ،‬والعوام اليرون‬
‫احلقائق احملضة واجملردات الصرفة عراة عن متخيالهتم ـ ألبس هللا تعاىل بلطفه واحسانه احلقائق‬
‫سر املتشاهبات‪.‬‬
‫لباس مألوفاهتم لتحسن الُفتهم كما عرفت يف ّ‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪249 :‬‬

‫أما نظم اجلمل بعض مع بعض‪ ،‬فاعلم! أن (ان هللا ال يستحيي ان يضرب مثال ما بعوضة‬
‫فما فوقها) ردٌّ وطرد العرتاضات متسلسلة‪ .‬كأهنم يقولون أية حكمة يف مكاملة هللا تعاىل مع‬
‫البشر ‪ ،‬وعتابه عليهم‪ ،‬والتش ِّكي منهم؛ فاهنا عالمة ان لالنسان أيضاً تصرفاً آخر يف العامل؛‬
‫السيما كاحملاورة اجلارية بني الناس فاهنا عالمة انه كالم البشر‪ ..‬والسيما يرتاءى من خلف‬
‫الكالم متثال انسان‪ ..‬والسيما بتصويرات ومتثيالت فاهنا عالمة العجز عن اظهار احلقيقة‪..‬‬
‫والسيما اذا كانت التمثيالت عادية فاهنا عالمة احنصار ذهن املتكلم ‪ ..‬وال سيما بأمور‬
‫حقرية فاهنا عالمة خفة املتكلم‪ ..‬والسيما اذا كانت مما ال اضطرار اليه وكان تركه أوىل‪..‬‬
‫العزة عن البحث عنه‪ ..‬والسيما اذا كان‬ ‫أهل ّ‬ ‫والسيما اذا كان بعض تلك األمور مما يستحي ُ‬
‫الباحث ذا العظمة واجلالل‪ ..‬فأجاب القرآن هدما هلذه السلسلة من املبدأ اىل املنتهى بضربة‬
‫واحدة فقال (ان هللا اليستحيي‪ )...‬اخل؛ الن جهة امللكوتية ال تنايف العظمة واجلالل فال‬
‫يرتكها وال يهملها؛ اذ االلوهية تقتضي كذلك‪ .‬فاذاً ميثَّل باألمور احمل ّقرة للمعاين احمل ّقرة؛ اذ‬
‫حكمته مع سر البالغة هكذا تقتضي‪ ..‬فاذاً يذكر التمثيالت العادية بناء على اهنا املوافقة‬
‫يصور احلقائق بتمثيالت ‪ -‬بناء على ما تقتضيه العناية مع التنزالت‬ ‫للرتبية واالرشاد‪ . .‬فاذاً ّ‬
‫االهلية ‪ ..‬فاذاً خيتار اسلوب حماورة البشر بعض مع بعض بناء على ما تقتضيه الربوبية مع‬
‫الرتبية‪ ..‬فاذاً يتكلم مع الناس بناءً على ماتقتضيه احلكمة مع النظام‪.‬‬

‫واحلاصل‪ :‬ان هللا تعاىل ملا أودع يف االنسان جزءاً اختيارياً وجعله مصدراً لعامل األفعال‪ ،‬أرسل‬
‫كالمه لينظم ذلك العامل‪.‬‬

‫وان نظم مجلة (فاما الذين آمنوا فيعلمون انه احلق من رهبم) هو‪ :‬انه ملا ذكر يف األوىل‬
‫املدعى‪ ،‬أشار هبذه اىل طريق دليله‪ .‬وكذا رمز وأومأ اىل وجه دفع األوهام‪ ،‬أي من نظر بنور‬
‫االميان ومن جانب هللا تعاىل ومن جهة قدرته جاعال حكمته وعنايته وربوبيته نصب العني‪،‬‬
‫علم انه حق وبالغة‪ .‬واما من نظر من جانب حضيض نفسه‪ ،‬ومن جهة املمكنات‪ ،‬فال‬
‫جرم ستهوي به األوهام‪ ..‬ومثلهما كمثل شخصني صعدا منحدراً رأيا جداول ماء‪ .‬أما‬
‫أحدمها فيصعد ويرى رأس العني ويذوق فيعلم ان املاء كله عذب؛ فكلما يصادف قطعة ماء‬
‫من تفرعات اجلداول‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪246 :‬‬

‫يتفطن ‪ -‬ولو بامارة ضعيفة ‪ -‬انه عذب‪ ،‬فال تقدر األوهام ولو قوية على تغليطه‪ .‬وأما‬
‫اآلخر فيتسفل وينظر من جانب التفرعات وال يرى منبع العني فيحتاج ملعرفة عذوبة كل‬
‫قطعة ماء اىل دليل قطعي‪ .‬فأدىن وه ٍم يُورطه يف الشبهة‪ .‬أو كمثال شخصني بينهما مرآة‬
‫امللون‪.‬‬
‫ينظر أحدمها اىل الوجه الش ّفاف‪ ،‬واآلخر اىل الوجه ّ‬
‫واحلاصل‪ :‬انه البد يف النظر اىل صنعه تعاىل ان ينظر اليه من جانبه تعاىل مع مالحظة عنايته‬
‫وربوبيته وليس هذا النظر اال بنور االميان والتكون األوهام حينئذ ‪ -‬ولو قوية ‪ -‬إال أوهن من‬
‫بيت العنكبوت‪ .‬ولو نظر اليه من جهة املمكنات بنظر املشرتي وبفكره اجلزئي لقويت يف‬
‫اجلودي‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫بعوضة رؤية العني جلبل‬ ‫جناح‬
‫ّ‬ ‫األوهام الضعيفة فيتسرت عنه احلقيقةُ كما مينع ُ‬
‫ُ‬ ‫عينه‬
‫وان نظم مجلة‪( :‬وأما الذين كفروا‪ )..‬اخل هو‪ :‬انه ملا ارى طريق فهم حكمة اسلوب‬
‫التمثيالت ‪ -‬وهي النظر بنور االميان من جانب الواجب الوجود ‪ّ -‬بني هنا الطريق املقابل‬
‫الذي هو منشأ األوهام والتعلالت بأن ينظر من طرف نفسه بظلمة الكفر اليت تصور كل‬
‫اخف َوْهم‪ .‬مث يضل طريق احلق مث يرتدد مث‬
‫شئ مظلما مع مرض القلب الذي يثقل به ّ‬
‫يستفهم مث ينكر‪ .‬فالقرآن باالجياز والكناية أورد ‪ -‬اشارًة اىل استفهامهم االنكاري ‪ -‬قوله‪:‬‬
‫(ماذا أراد هللا هبذا مثال) بدل "اليعلمون" مع انه املطابق للسابق ظاهراً‪.‬‬

‫وان نظم مجلة‪( :‬يضل به كثرياً ويهدي به كثرياً) هو‪ :‬اهنا جواب عن صورة استفهامهم فلغاية‬
‫االجياز نزلت الغاية والعاقبةُ منزلة العلة الغائية كأهنم يسألون ويقولون‪ :‬ألي شئ كان هكذا؟‬
‫وِملَ مل يكن اعجازه بديهيا؟ وِملَ مل يكن كونه كالم هللا ضرورياً؟ وِملَ صار معرض األوهام‬
‫بسبب هذه األمثال؟ فأجاب القرآن بقوله‪( :‬يضل به كثرياً ويهدي به كثرياً) أي‪ :‬ألجل ان‬
‫من تفكر فيه بنور االميان ازداد نوراً‪ .‬ومن تفكر بظلمة الكفر والتنقيد ازداد ظلمة‪ ..‬وهذا‬
‫نظري ليس بديهياً‪ ..‬وهذا ألجل تفريق األرواح الصافية العلوية عن األرواح الكدرة‬ ‫ألجل انه ّ‬
‫السفلية‪ ..‬وهذا ألجل متييز االستعدادات العالية بالنشوء والنماء عن االستعدادات اخلبيثة‪..‬‬
‫وهذا ألجل متييز الفطرة الصحيحة بالتكمل واجملاهدة واالجتهاد عن الفطرة املتفسخة‬
‫الفاسدة‪ ..‬وهذا ألجل ان أمتحان البشر يستلزمه‪ ..‬وهذا ألجل ان االبتالء يقتضيه‪..‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪247 :‬‬

‫وهذا ألجل ان سر التكليف لتكميل البشر وسعادته يستلزمه‪ .‬فأوجز التنزيل يف اجلواب‪.‬‬

‫ان قلت‪ :‬قد قلت ان التكليف لتأمني سعادة البشر مع انه يكون سببا لوقوع األكثر يف‬
‫الشقاوة‪ ،‬ولواله ملا صار التفاوت هبذه الدرجة؟‪.‬‬

‫االختياري بكسبه تشكيل عامل األفعال االختيارية؛‬


‫َّ‬ ‫قيل لك‪ :‬ان هللا تعاىل كما كلّف اجلزء‬
‫كذلك جعل التكليف سبب اسقاء وانبات البذور الغري احملصورة املودوعة يف روح البشر‪.‬‬
‫ولواله لبقيت احلبوبات يابسة‪ .‬واذا تأملت يف أحوال النوع بنظر نافذ رأيت كل ترقيات الروح‬
‫املعنوية‪ ،‬وكل تكمالت الوجدان االهلية‪ ،‬وتكمالت العقل‪ ،‬وترقيات الفكر املثمرة بدرجة حتري‬
‫فيها العقول امنا وجدت كافة بالتكليف‪ ..‬وامنا استيقظت ببعثة األنبياء‪ ..‬وامنا تلقحت‬
‫بالشرائع‪ ..‬وامنا أهلمت من األديان‪ .‬ولوالها لبقي االنسان حيوانا والنعدمت هذه الكماالت‬
‫الوجدانية وتلك احملاسن االخالقية‪ .‬أما القسم القليل فقبلوا التكليف اختيارا ففازوا بالسعادة‬
‫الشخصية وصاروا سببا للسعادة النوعية‪ .‬وأما القسم الكثري كميةً فهم وان كفروا بقلوهبم‬
‫وفيما هم فيه خمتارون لكن ملا مل يكن كل حال كل كافر كافراً وكل صفته كافرة يابسة كانوا‬
‫ِ‬
‫للحسيات الوجدانية‪ ،‬وتنبيه النبوة للسجايا االخالقية‪ ،‬وبتسامع الشرائع‬
‫بسبب ايقاظ البعثة ّ‬
‫‪ ،‬وتعارف آثارها حبيث قد قبلوا أنواعاً من التكليف اضطراراً‪.‬‬

‫فان قلت‪ :‬سعادة القليل مع شقاوة الكثري كيف تكون مظهراً لسعادة النوع حىت تكون‬
‫الشريعة رمحة‪ ،‬مع ان سعادة النوع امنا تكون بالكل او األكثر؟‬

‫قيل لك‪ :‬اذا كان لك مائة بيضة ووضعتها حتت طري‪ ،‬فافرخت عشرين وأفسدت مثانني؛ أفال‬
‫تقول قد تكمل هذا النوع؟ اذ حياة عشرين تساوي ألوف ٍ‬
‫بيضة‪ .‬أو كان لك مائة نواة متر‬
‫فأسقيتها باملاء فصار عشرون منها خنالت باسقات وتفسخ مثانون‪ ،‬أفال تقول‪ :‬املاء سعادة‬
‫هلذا النوع؟ او كان لك معدن فسلطت عليه النار فأصفت ُمخسه ذهبا وصريت الباقي فحماً‬
‫ورماداً‪ ،‬افال تكون النار سبب كماله وسعادته؟ وقس على هذا!‪ ..‬فاذاً نشوء احلسيات‬
‫منو األخالق امنا هو باجملاهدة‪ ،‬وتكمل األشياء امنا هو مبقابلة األضداد ومزامحتها‪.‬‬
‫العالية و ّ‬
‫أالترى ان حكومة اذا جاهدت ينمو فيها اجلسارة واذا تركت انطفأت‪ ..‬تأمل!‪..‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪249 :‬‬

‫وان نظم مجلة (وما يضل به االّ الفاسقني) هو‪ :‬انه ملا اهبم يف (يضل به كثرياَ) انتبه ذهن‬
‫السامع وخاف فاستفسر قائالً‪ :‬من هم الضالون؟ وما السبب؟ وكيف جتئ الظلمة من نور‬
‫القرآن؟‪ ..‬فأجاب‪ :‬بأهنم الفاسقون‪ ،‬وان االضالل جزاء لفسقهم‪ ،‬وبالفسق ينقلب النور يف‬
‫حق الفاسق ناراً والضياء ظلمة‪ .‬أال ترى ان ضياء الشمس يعفن ما استقذرت مادته‪ .‬وان‬
‫وجه التوصيف بقوله (الذين ينقضون عهد هللا من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر هللا به أن‬
‫يوصل ويفسدون يف األرض) هو انه شر ٌح وكشف للفسق اذ الفسق عدول عن احلق وجتاوز‬
‫عن احلد وخروج من القشر احلصني‪ .‬وان الفسق امنا هو باالفراط أو التفريط يف القوى‬
‫القوة العقلية والغضبية والشهوية‪ ..‬وان االفراط والتفريط سببان للعصيان يف‬
‫الثالث اليت هي ّ‬
‫مقابلة الدالئل اليت كالعهود االهلية يف الفطرة‪ ..‬وكذا وسيلتان ملرض احلياة النفسية وأشري اىل‬
‫هذا بالصفة األوىل‪ ..‬وكذلك ِّ‬
‫حمركان للعصيان يف مقابلة احلياة االجتماعية ومتزيق الروابط‬
‫والقوانني االجتماعية وأشري اىل هذا بالصفة الثانية‪ ..‬وأيضا مها سببان للفساد واالختالل‬
‫املنجر اىل فساد نظام األرض وأشري اىل هذا بالصفة الثالثة‪ .‬نعم! ان الفاسق بتجاوز القوة‬
‫العقلية عن حد االعتدال يكسر رابطة العقائد وميزق القشر احلصني اي احلياة األبدية‪..‬‬
‫وبتجاوز القوة الغضبية ميزق قشر احلياة االجتماعية‪ ..‬وبتجاوز القوة البهيمية واتباع اهلوى‬
‫يزيل عن قلبه الشفقة اجلنسية فيفسد ويورط الناس فيما تورط فيه فيكون سببا لضرر النوع‬
‫وفساد نظام األرض‪.‬‬

‫وان نظم مجلة (أولئك هم اخلاسرون) هو‪ :‬انه ملا ذكر جنايات الفاسق ورهب هبا أكد‬
‫التهديد بنتيجتها وجزائها ليؤثر الرتهيب‪ .‬فقال‪ :‬هم الذين خسروا ببيع اآلخرة بالدنيا‬
‫‪1‬‬
‫واستبدال اهلدى باهلوى‪..‬‬

‫ولنشرع يف نظم هيئات مجلة مجلة‪ ،‬فاعلم! ان اآليات ومجلها وهيئاهتا كأميال الساعة اليت‬
‫ِ‬
‫الساعات‪ ،‬فكلما يثبت هذا شيئاً يؤيده ذاك بدرجته وميده ذلك‬ ‫الدقائق و‬
‫تع ّد الثواين و َ‬
‫بنسبته‪ ،‬وكذا اذا اراد هذا شيئاً عاونه ذاك وساعده اآلخر حبيث ُخيطر احلال ما قيل‪:‬‬

‫اح ٌد وُكل اىل ذَ َاك ْ ِ ِ‬


‫ِعباراتُنا َشىت وحسنُ َ ِ‬
‫اجلَمال يُشريُ‬ ‫ك َو َ ٌ‬ ‫ّ َُ ْ‬ ‫ََ‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬لعله‪ :‬استبدال اهلوى باهلدى‪.‬‬


‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪241 :‬‬

‫وعلو طبقته ودقة نقشه اىل مرتبة االعجاز‪.‬‬


‫وهلذا السر قد بلغت سالسة القرآن ّ‬
‫أما هيئات مجلة (ان هللا اليستحيي أن يضرب مثال ما بعوضة فما فوقها) فاعلم! ان (ان)‬
‫ورد الرتدد واالنكار فهي اشارة اىل الرتددات املتسلسلة املذكورة‪ ..‬وان لفظة "هللا"‬
‫للتحقيق ّ‬
‫لتنبيه الذهن على اخلطأ يف القياس املذكور‪ ..‬وان ايثار (اليستحيي) على "اليرتك" مع ان‬
‫احلياء ‪ -‬وهو انقباض النفس ‪ -‬حمال يف حقه تعاىل ونفى احملال ال فائدة فيه‪ ،‬اشارة اىل ان‬
‫األسباب من احلكمة والبالغة وغريمها تقتضي حسن التمثيل فال علة للرتك اال احلياء‪ ،‬واحلياء‬
‫عليه تعاىل حمال فال سبب للرتك أصال فألزمهم أش ّد إلزام وألطفه‪ ..‬وكذا رمز مبشاكلة‬
‫رب حممد من التمثيل هبذه احمل ّقرات"‪..‬‬ ‫الصحبة اىل كلمتهم احلمقاء من قوهلم‪" :‬أما يستحي ّ‬
‫وان ايثار (ان يضرب) على "من املثل احلقري" مع انه األنسب‪ ،‬اشارة اىل اسلوب لطيف‬
‫وهو‪ :‬ان التمثيل كضرب اخلامت للتصديق واالثبات‪ ،‬أو كضرب السكة للقيمة واالعتبار‪ .‬ويف‬
‫االشارة رمز اىل حسن التمثيل طرداً لألوهام‪ ،‬وكذا اشارة اىل ان التمثيل منهاج مشهور‬
‫مستحسن‪ ،‬ألن ضروب األمثال من القواعد املعروفة‪ ..‬وان ايثار (ان يضرب) على "ضرب"‬
‫مع انه األوجز لالمياء اىل أن منشأ االعرتاض ليس إالّ اخلساسة‪ .‬ألن (ان يضرب) لعدم‬
‫القصد اىل املفعول‪ ..‬وأما "ضرب" فالستقالله كأنه كثيف يستوقف‬ ‫َ‬ ‫استقالله كأنه لطيف ُميّر‬
‫القصد‪ ..‬وان (مثال) امياء اىل خاصية التمثيل من تصوير املعقول باحملسوس‪ ،‬واملوهوم باحملقق‪،‬‬
‫والغائب بالشاهد‪ .‬ومنه امياء اىل رد الوهم‪ ..‬وتنكري (مثال) رمز اىل ان مدار النظر هو ذات‬
‫التمثيل‪ ،‬وأما الصفات فمحمولة على طبيعة املقام وحال املمثَّل له‪ ..‬وان التعميم يف (ما)‬
‫اشارة اىل تعميم القاعدة لئال خيتص اجلواب مبا اعرتضوا به فاملمثَّل له أية صورة أقتضى‬
‫استحسنتها البالغة‪ .‬وان ختصيص (بعوضة) اشارة اىل كثرة استعمال البلغاء للتمثيل هبا‬
‫كقوهلم "أضعف من البعوضة" ‪ 1‬و"أشد عنادا من البعوضة" و "كلفتين مخ البعوضة" و‬
‫"أعز من مخ البعوضة" ‪ 2‬و "قالت البعوضة للنخلة استمسكي انا أطري" و "الدنيا ال توزن‬ ‫ّ‬
‫عندهللا جناج بعوضة" وقس‪ ..‬ويف االشارة رمز اىل ضعف ومههم‪ ..‬وان املعىن بـ (ما فوقها)‬
‫مادوهنا يف الصغر وما‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬مجهرة االمثال للعسكرى ‪1../2‬‬

‫‪ 2‬مجهرة االمثال للعسكرى ‪.11/2‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪214 :‬‬

‫فوقها يف قيمة البالغة أو يف الصغر أيضا فالتعبري بـ (مافوقها) اشارة اىل ان الصغري اغرب‬
‫بالغة وأعجب خلقة‪.‬‬

‫واعلم! ان اهليئات كخيوط احلرير باجتماعها يظهر النقش احلسن‪.‬‬

‫وأما هيئات مجلة (فأما الذين آمنوا فيعلمون انه احلق من رهبم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا‬
‫أراد هللا هبذا مثال) فاعلم! ان الفاء للتفريع‪ ،‬والتفريع اشارة اىل دليل ضمين ينتج هذه اجلملة‬
‫ذات الشقني‪ :‬أي اليرتك التمثيل ألن البالغة تقتضيه؛ فمن انصف يعرف انه بليغ وحق‬
‫وكالم هللا تعاىل‪ .‬ومن نظر بالعناد اليعلم احلكمة فيرتدد‪ ..‬فيسأل‪ ..‬فينكر‪ ..‬فيستحقر‪.‬‬
‫فانتج‪ :‬ان املؤمن ‪ -‬ألنه منصف ‪ -‬يصدق انه كالم هللا‪ ،‬والكافر ‪ -‬ألنه معاند ‪ -‬يقول ما‬
‫الفائدة فيه؟ وان "اما" فالهنا شرطية لزومية يف الوضع اشارة اىل ان اخلرب الزم للمبتدأ‬
‫وضروري له‪ ،‬يعين من شأن املبتدأ هذا اخلرب‪ ..‬وان ايراد (الذين آمنوا) بدل "املؤمنني" اشارة‬
‫ّ‬
‫اىل التنصيص على ان االميان هو سبب العلم حبقيته وان العلم حبقيته اميان ‪ ..1‬وان (انه‬
‫احلق) بدل "انه البليغ" األنسب باملقام اشارة اىل آخر نتيجة اعرتاضهم اذ غرضهم نفى كونه‬
‫كالم هللا‪ ..‬وان حصر "انه احلق" اشارة اىل ان هذا هو املستحسن الذي ال يستقبح خبالف‬
‫ما يزعمون اذ السالمة من العيب التثبت الكمال‪ ..‬وان (من رهبم) اشارة اىل ان هدف‬
‫غرضهم انكار النزول‪ ..‬وان "اما" يف "واما الذين كفروا" للتأكيد والتحقيق والتفصيل‪ ..‬وان‬
‫ايراد (الذين كفروا) بدل "الكافرين" األوجز امياء كما مر اىل ان انكارهم جيئ من الكفر‬
‫ويذهب اىل الكفر‪ ..‬وان ايثار (فيقولون) على "فال يعلمون" مع انه الظاهر كما مر فالختيار‬
‫طريق الكناية لالجياز أي‪ :‬من كفر اليعرف احلقيقة فينجر اىل الرتدد‪ ..‬فينجر اىل االنكار‪..‬‬
‫فينجر اىل االستحقار بصورة االستفهام‪ ..‬وأيضاً يف "يقولون" رمز اىل أهنم كما كانوا ضالّني‪،‬‬
‫كذلك كانوا مضلني بأقواهلم‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬الظاهر‪ :‬ان ههنا حذفاً من نسيان النساخ ‪ -‬كما انه نسي حتليل ماذا اراد هللا هبذا مثالً‬
‫برمته ‪ -‬مع االسف ‪ -‬يُعلم من عدم ارتباط الكالم‪ ،‬ومن فقد كلمة "فيعلمون " ومن عديله‬
‫"الذين كفروا " مع االحالة هناك على ما هنا‪ .‬فاقول بدالً عن املؤلف على نسق ما يأيت‪،‬‬
‫فعلي‪:‬‬
‫حل حمله فبها واالّ ّ‬
‫فان ّ‬
‫ان ايراد الذين آمنوا بدل "املؤمنني " االوجز امياء اىل ان انصافهم جيئ من االميان‪ ،‬ويذهب‬
‫اىل االميان‪ ..‬وان ايثار "فيعلمون " على "فيقولون " االنسب مبا يأيت اشارة اىل التنصيص‬
‫على ان االميان هو سبب العلم حبقيقته‪ ،‬وان العلم حبقيقيته اميان (ش)‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪211 :‬‬

‫وأما هيئات مجلة (يضل به كثرياً ويهدي به كثرياَ) فاعلم! ان الرتتيب يقتضي تقدمي الثانية‬
‫أهم‪ .‬أما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫املرتدد املستفهم املستنكر املستقبح كان (يضل) ّ‬
‫رد اعرتاض ّ‬ ‫لكن ملا كان الغرض ّ‬
‫العدول عن "الضاللة واهلداية" املناسبتني للسؤال اىل صورة الفعل املضارع فاشارة اىل ان‬
‫كفرهم يتكاثف ظلمة على ظلمة بنسبة تزايد النزول جتدداً؛ كما ان املؤمن يتزايد اميانه‬
‫بدرجات النزول نوراً على نور‪ ..‬وكذا يف الفعل ‪ -‬بناء على كونه جوابا ‪ -‬رمز اىل بيان حال‬
‫الفريقني وبيان السبب‪ .‬وأما (كثرياً) ففي األُوىل كمية وعدداً‪ ،‬ويف الثانية قيمة وكيفية‪ .‬نعم!‬
‫سر كون القرآن رمحة للبشر‬
‫ان كرام الناس كثريون وان قلّوا‪ .‬فالتعبري بالكثري يف الثانية رمز اىل ّ‬
‫‪ .1‬تأمل‪..‬‬

‫وأما مجلة (وما يضل به االّ الفاسقني) فاعلم! انه ملا ذكر الكثري يف االوىل دفع الوسوسة‬
‫واخلوف والرتدد وهتمة النقص يف القرآن ببيان‪ :‬ان الضالني من هم؟ وان منشأ الضاللة‬
‫فسقهم‪ ،‬وان سببها كسبهم‪ ،‬وان القصور منهم ال من القرآن‪ ،‬وان خلق الضاللة جزاء‬
‫لفعلهم‪..‬‬

‫مفسرة بالحقتها‬
‫كشافة لسابقتها؛ كذلك َّ‬
‫مث اعلم! ان كل واحدة من هذه اجلمل كما اهنا ّ‬
‫كأهنا دليل للسابقة نتيجة لالحقة‪.‬‬

‫وايضاحه‪ :‬ان فيها سلسلتني‪.‬‬

‫إحداها هكذا‪ :‬انه اليستحي‪ ..‬ألنه اليرتك‪ ..‬ألنه بليغ‪ ...‬ألنه حق‪ ..‬ألنه كالم هللا‪ ..‬الن‬
‫املؤمن يعلمه‪.‬‬

‫والثانية هكذا‪ :‬انه اليستحي كما يقول املنكر‪ ..‬ألهنم يقولون يلزم تركه‪ ..‬ألهنم اليعلمون‬
‫حكمته‪ ..‬ألهنم يقولون ما الفائدة فيه‪ ..‬ألهنم ينكرونه‪ ..‬ألهنم يستحقرونه‪ ..‬ألهنم يقعون يف‬
‫الضاللة بسماعه‪ ..‬ألهنم يضلهم القرآن‪ ..‬ألهنم هم الذين فسقوا وخرجوا عن قشرهم‪..‬‬
‫ألهنم نقضوا عهد هللا‪ ..‬ألهنم مزقوا ما اتصل بأمر التكوين والتشريع‪ ..‬ألهنم يفسدون النظام‬
‫االهلي يف االرض‪ .‬فاذاً هم اخلاسرون يف الدنيا باضطراب الوجدان وبقلق القلب وبتوحش‬ ‫ّ‬
‫األبدي وبغضب هللا‪ ،‬فتأمل يف سالسة السلسلتني!‪)2(..‬‬‫ّ‬ ‫الروح‪ ،‬ويف اآلخرة بالعذاب‬

‫_____________________‬
‫‪ 1‬اِذ من لطف القرآن ومشول رمحته للناس اظهار فضائل املهتدين القليلني كثريًة‪ ،‬وبيان ان‬
‫صاحب فضلية وهداية اوىل" من ٍ‬
‫الف من احملرومني منها‪ ،‬لذا فالكرام كثريون وان قلّوا (ت‪:‬‬
‫‪)116‬‬

‫(‪ )2‬جزاك هللا خرياً كثرياً لقد أحسنت يف فهم السلسلتنب وتفهيمهما( خبط املؤلف على‬
‫نسخة مطبوعة)‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪212 :‬‬

‫وأما هيئات مجلة (الذين ينقضون عهد هللا من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر هللا به ان يوصل‬
‫ويفسدون يف األرض) فاعلم! ان توصيف الفاسقني املشككني يف اعجازه ونظمه هبذه‬
‫األوصاف يف هذا املقام‪ ،‬امنا هو ملناسبة لطيفة عالية‪ .‬كأن القرآن يقول‪ :‬ليس ببعيد من‬
‫الفساق ‪ -‬الذين مل يروا اعجاز القدرة يف نظام الكائنات اليت هي القرآن األكرب ‪ -‬ان‬
‫يرتددوا وجيهلوا اعجاز نظم القرآن؛ اذ كما يرون نظام الكائنات تصادفيا‪ ،‬والتحوالت املثمرة‬
‫عبثا اتفاقية فتسرت عنهم ‪ -‬لفساد روحهم ‪ِ -‬ح َك َمه؛ كذلك بفطرهتم السقيمة وهتوسهم‬
‫مرة‪.‬‬
‫الفاسد رأوا النظم املعجز مشوشا ومقدماته عقيمة ومثراته ّ‬
‫اما مجلة (ينقضون عهد هللا) فألن النقض لغةً تفريق خيوط احلبل ومتزيقها اشارة اىل اسلوب‬
‫عال‪،‬كأن عهده تعاىل حبل نوراين فتل باحلكمة والعناية واملشيئة فامتد من االزل اىل ان‬
‫اتصل باألبد‪ .‬فتجلى يف الكائنات بصورة النظام العمومي وأرسلت تلك السلسلة سالسلها‬
‫اىل األنواع وامت ّد أ َْع ُجبُها ‪ 1‬اىل نوع البشر فاورثت وامثرت يف روح البشر بذور استعدادات‬
‫يعي‪ ،‬أي الدالئل النقلية‪ .‬فوفاء‬
‫االختياري املعدَّل باألمر التشر ّ‬
‫ّ‬ ‫وقابليات تسقى وتتزاهر باجلزء‬
‫العهد صرف االستعدادات فيما وضعت له؛ ونقض العهد خالفه وتفريقه‪ ،‬كاالميان ببعض‬
‫األنبياء وتكذيب بعض‪ ..‬وقبول بعض األحكام ورد بعض‪ ..‬واستحسان بعض اآليات‬
‫واستنكار بعض ‪ ..‬فانه خيل بالنظام والنظم واالنتظام‪.‬‬
‫يعي‬
‫وأما مجلة (ويقطعون ما أمر هللا به أن يوصل) فاعلم! ان هذا األمر عام لألمر التشر ِّ‬
‫التكويين املندمج يف القوانني الفطرية والعادات االهلية‪ .‬فالقطع ملا أمر بوصله شرعاً‬
‫ِّ‬ ‫واألمر‬
‫كقطع صلة الرحم وقطع قلوب املؤمنني بعض عن بعض‪ .‬وعلى هذا القياس!‪ ..‬وتكويناً‬
‫كقطع العمل عن العلم‪ ..‬وقطع العلم عن الذكاء ‪ ..‬وقطع الذكاء عن االستعداد‪ .‬وقطع‬
‫معرفة هللا عن العقل‪ ..‬وقطع السعي عن القوة‪ ..‬وقطع اجلهاد عن اجلسارة وهكذا!‪ ..‬اذ‬
‫إعطاء القوة أمر معنوي تكويين بالسعي‪ ،‬وإعطاء الذكاء أمر معنوي بالعلم‪ ..‬اىل آخره‪...‬‬

‫وأما مجلة (ويفسدون يف األرض) فاعلم! ان من فسد وتورط يف الوحل يطلب أن يكون له‬
‫عمت البلية‬
‫رفقاء متورطون ليتخفف عنه دهشة احلال بسر "اذا ّ‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬مجع عجب وهو الدنب‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪211 :‬‬

‫الكماالت وتتساقط احلسيات‬


‫ُ‬ ‫اختالل‪ ،‬خترب يف قلبه‬
‫ٌ‬ ‫طابت" وكذا اذا وقع يف قلب أحد‬
‫العالية‪ ،‬فيتولد فيه ميل التخريب فينتج له لذة يف التخريب فيتحرى لذته يف االفساد‬
‫واالختالل‪.‬‬

‫‪ p‬فان قلت‪ :‬كيف يؤثر فساد فاسق يف عموم األرض املشار اليه بلفظ يف األرض؟‬

‫قيل لك‪ :‬الذي فيه نظام ففيه موازنة ‪ ،‬حىت ان النظام مبين على املوازنة فتداخل شئ حقري‬
‫بني دواليب ماكينة تتأثر به‪ ،‬وان مل ُحيس‪ .‬وامليزان الذي يف كفتيه جبالن يتأثر بوضع جوزة‬
‫على كفة‪..‬‬
‫وأما مجلة (اولئك هم اخلاسرون) فاعلم! ان حق العبارة "هم خاسرون يف عدم اهلداية به "‬
‫االطالق لنكت‪:‬‬
‫ُ‬ ‫يف و‬
‫فلفظ "اولئك" ولفظ "هم" والتعر ُ‬

‫حمسوس‪ ،‬فا ِإلحضار املستفاد منه اشارة اىل ان السامع اذا‬


‫ٍ‬ ‫أما (اولئك) فألن وضعه ِإلحضار‬
‫مسع حاهلم اخلبيثة من شأنه ان حيصل له ح ّدة عليهم ونفرة منهم‪ .‬فلتطمني نفرته وتش ّفي‬
‫ح ّدته يطلب أن يستحضروا إىل خياله ليشاهدهم وقت اتصافهم بالعاقبة الوخيمة‪. .‬‬
‫واحملسوسية اشارة اىل أن أوصافهم الرذيلة تكثرت بدرجة جتسمهم حمسوسني نصب نظر‬
‫النفرة‪ .‬فمن ا ِإلشارة امياء إىل علة احلكم باخلسارة‪ . .‬والبعدية إشارة إىل أهنم قد بعدوا عن‬
‫طريق احلق بدرجة اليرجعون فيستحقون الذم والتشنيع خبالف من كان يف معرض الندامة‬
‫ومسافة الرجوع‪ ..‬و(هم) اشارة اىل ان اخلسارة منحصرة عليهم حىت ان خسارات املؤمنني‬
‫لبعض اللذائذ الدنيوية ليست خسارة‪ .‬وكذا خسارات أهل الدنيا يف جتاراهتم ليست خسارة‬
‫بالنسبة إىل خساراهتم‪ ..‬واأللف والالم اشارة اىل تصوير احلقيقة أي من أراد أن يرى حقيقة‬
‫اخلاسرين فلينظر اليهم‪ . .‬وكذا امياء اىل أن مسلكهم حمض خسارة ال كاخلسارات األخر اليت‬
‫فيها وجوه من النفع لكن الضر أكثر‪ .‬فالتعريف اما للكمال أو للبداهة أو لتصوير احلقيقة‪..‬‬
‫اخلطايب اىل عموم أنواع اخلسارات‪ .‬أي خسروا يف وفاء‬
‫ّ‬ ‫واطالق اخلسارة اشارة باعانة املقام‬
‫العهد بالنقض‪ ،‬ويف صلة الرحم بالقطيعة‪ ،‬ويف االصالح با ِإلفساد‪ ،‬ويف االميان بالكفر‪،‬‬
‫وبالشقاوة خسروا السعادة األبدية‪..‬‬

‫***‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪210 :‬‬

‫ف تَ ْك ُف ُرو َن بِاهلل َوُكْنتُ ْم اَْم َواتاً فَاَ ْحيا ُك ْم ُمثَّ ُميِيتُ ُك ْم ُمثَّ ُْحييِي ُك ْم‬
‫َكْي َ‬

‫ُمثَّ اِلَْي ِه تُـ ْر َجعُو َن ‪29‬‬

‫اعلم ان هلذه اآلية أيضاً الوجوه الثالثة النظمية‪:‬‬


‫أما نظم مآهلا بسابقها‪ ،‬فاعلم! ان هللا تعاىل ملا دعا الناس إىل عبادته واالعتقاد به‪ ،‬وذكر‬
‫أصول العقائد واألحكام مشرياً إىل دالئلها إمجاالً؛ عاد يف هذه اآلية مع لواحقها الثالث إىل‬
‫سرد الدالئل عليها بتعداد النعم املتضمنة للدالئل‪ .‬مث إن أعظم النعم "احلياة" املشار اليها‬
‫هبذه اآلية‪ ،‬مث "البقاء" أي كمال احلياة بتنظيم السموات واألرض املشار اليه باآلية الثانية‪ ،‬مث‬
‫تفضيل البشر وتكرميه على الكائنات باآلية الثالثة‪ ،‬مث تعليمه العلم بالرابعة‪ ..‬فهذه النعم نظراً‬
‫اىل "صورة النعمة" دليل العناية والغاية‪ ،‬وكذا دليل العبادة؛ اذ شكر املنعم واجب وكفران‬
‫اعي على وجود املبدأ واملعاد‪ ..‬وكذا ان‬‫النعم حرام يف العقول‪ .‬ونظراً اىل "احلقيقة" دليل اخرت ّ‬
‫هذه اآلية كما تنظر اىل سابقتها كذلك تنظر إىل األسبق من حبث الكافرين واملنافقني فأشار‬
‫التعجيب إىل تقريعهم وتشنيعهم وهتديدهم وترهيبهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫االنكاري‬
‫ّ‬ ‫هبذا االستفهام‬

‫وأما نظم اجلمل‪ ،‬فاعلم! ان هنا إلتفاتاً من الغيبة اىل اخلطاب؛ اذ حكى عنهم ّاوالً مث‬
‫خاطبهم‪ ،‬لنكتة معلومة يف البالغة وهي‪:‬‬

‫انه اذا ذكر مساوئ شخص شيئاً فشيئاً تزيد احل ّدة عليه‪ ،‬اىل ان يلجئ املتكلم ‪ -‬لو كان‬
‫انساناً ‪ -‬اىل املشافهة واملخاطبة معه‪ ..‬وكذا اذا ذكرت حماسن أحد درجة درجة يتقوى ميل‬
‫املكاملة معه اىل أن يلجئ إىل التوجه اليه واخلطاب معه‪ .‬فلنزول القرآن على أسلوب العرب‬
‫التفت فقال‪( :‬كيف تكفرون) خماطباً هلم‪.‬‬

‫مث اعلم! انه ملا كان املقصد هنا سرد الرباهني على األصول السابقة من االميان والعبادة‪ ،‬ورد‬
‫الكفر ومنع كفران النعمة‪ .‬مث ان أوضح الدالئل هو الدليل املستفاد من سلسلة أحوال البشر‪،‬‬
‫وان أكمل النعم هي النعم املتدلّية يف أنابيب تلك السلسلة‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪219 :‬‬

‫واملندجمة يف عقدها؛ قال‪( :‬وكنتم أمواتا فأحياكم مث مييتكم مث حيييكم مث اليه ترجعون) اشارة‬
‫اىل تلك السلسلة العجيبة املرتتبة ذات العقد اخلمس اليت تدلت من أنابيبها عناقيد النعم‪.‬‬
‫حلل تلك العقد‪.‬‬
‫فلنمهد مخس مسائل ّ‬‫ّ‬
‫املسألة األوىل‪ :‬يف (وكنتم أمواتا)‪.‬‬

‫اعلم! ان االنسان باعتبار جسده بينما كان ذر ٍ‬


‫ات جامد ًة منتشرًة يف العامل‪ ،‬اذ تراها دخلت‬‫ّ‬
‫معني حتت انتظام‪ ..‬مث بينما تراها متسرتة ساكتة يف عامل العناصر اذ‬
‫بقانون خمصوص ونظام ّ‬
‫معني وانتظام يومئ إىل قصد وحكمة اىل عامل املواليد‪ ..‬مث بينما‬
‫تراها انتقلت متسلّلة بدستور ّ‬
‫تراها متفرقة ساكنة يف ذلك العامل اذ تراها حتزبت بطرز عجيب وصارت نطفة‪ ..‬مث‬
‫بانقالبات متسلسلة علقة فمضغة‪ ..‬فلحماً وعظاماً وهلم جرا‪ ..‬فكلٌّ من هذه األطوار وان‬
‫‪1‬‬
‫مكمالً بالنسبة اىل سابقه اال انه ميّت وموات‪.‬‬
‫كان َّ‬

‫‪ p‬فان قلت‪ :‬املوت عدم احلياة وزواهلا وال حياة فيها حىت تزول؟‬

‫قيل لك‪ :‬اختار اجملاز العداد الذهن لقبول العقدة الثالثة والرابعة‪.‬‬

‫املسألة الثانية‪ :‬يف (فأحياكم)‪.‬‬

‫أعجب معجزات القدرة وادقّها احلياةُ‪ ..‬وكذا هي أعظم كل النعم وأظهر كل‬‫َ‬ ‫اعلم! ان‬
‫الرباهني على املبدأ واملعاد‪.‬‬

‫أما وجه أدقيتها وغموضها فهو‪:‬‬

‫ان ادىن أنواع احلياة حياة النبات‪ ،‬وان ّأول درجاهتا تنبه العقدة احلياتية يف احلبة‪ .‬وهذا التنبه‬
‫مع شدة ظهوره وعمومه وااللفة به من زمان آدم اىل اآلن قد بقي مستوراً عن نظر حكمة‬
‫البشر‪.‬‬

‫وأما وجه كوهنا أعظم النعم فهو‪:‬‬

‫ان اجلسم الذي الحياة فيه ليس له مناسبة إالّ مع مكانه املشخص وما به خيتلط فيكون‬
‫يتيماً منفرداً ولو كان جبال‪ .‬لكن اذا رأيت جسما ولو صغرياً كالنحل مثال وقع‬
‫_____________________‬

‫‪ 1‬بالنسبة اىل الحقه‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪216 :‬‬

‫حيق له أن‬
‫مناسبات مع عموم الكائنات وجتارة مع األنواع حىت ّ‬ ‫ٌ‬ ‫فيه احلياة حصل له دفعةً‬
‫يقول‪" :‬مكاين الكائنات وهي كملكي"‪ .‬اذ اذا انتقل إىل احلياة احليوانية تراه جيول حبواسه‬
‫ويتصرف هبا يف أطراف الكائنات فيحصل بينه وبني أنواعها اختصاص ومبادلة وحمبة‪ ..‬وال‬ ‫ّ‬
‫يتصرف يف العامل‬
‫سيما اذا ترفع إىل طبقة االنسانية تراه بنور العقل جيول يف عوامل‪ .‬فكما ّ‬
‫اجلسماين جيول يف العامل الروحاين‪ ،‬ويطوف يف العامل املثايل‪ .‬وكما يسافر هو اىل تلك العوامل؛‬
‫كذلك تسافر هي اليه بالتمثل يف مرآة روحه حىت يستحق أن يقول‪" :‬ان العامل خملوق‬
‫ألجلي بفضل هللا تعاىل"‪ ..‬فتتنوع حياته وتنبسط اىل احلياة املادية واملعنوية واجلسمانية‬
‫والروحانية اليت يشتمل كل منها على طبقات‪ .‬فحق أن يقال‪ :‬كما ان الضياء سبب لظهور‬
‫األلوان واألجسام؛ كذا ان احلياة كشافة لكافة املوجودات وسبب لظهورها‪ ،‬وان احلياة هي‬
‫ذرة كعامل‪ .‬وان احلياة هي الوسيلة ِإلحسان جمموع العامل لذي حياة برأسه مع عدم‬ ‫تصري ّ‬
‫اليت ّ‬
‫املزامحة واالنقسام إالّ يف أقل قليل بني البشر‪.‬‬

‫وأما وجه كوهنا أظهر الدالئل على الصانع وكذا على احلشر‪:‬‬

‫فاعلم! ان انتقال بعض ذرات جامدة وانقالهبا دفعة اىل هيئة ووضعية ختالف الوضعية األوىل‬
‫أي برهان‪ .‬حىت ان احلياة لكوهنا أشرف احلقائق‬
‫‪ -‬بال توسط سبب معقول ‪ -‬برهان ّ‬
‫وأنزهها‪ ،‬ال خسة فيها ٍ‬
‫بوجه وال َريْن عليها‪ ،‬ال يف جهة امللك وال يف جهة امللكوت‪ ،‬فكال‬ ‫ّ‬
‫وجهيها لطيفان‪ ،‬حىت ان حياة أخس حيوان جزئي أيضاً عالية‪ .‬وهلذا السر(‪ )1‬مل يتوسط‬
‫ظاهري؛ اذ مباشرهتا ال تنايف عزة القدرة‪ ،‬مع ان وضع األسباب‬
‫ّ‬ ‫بينها وبني يد القدرة سبب‬
‫الظاهرية ‪ -‬كما مر ‪ -‬حملافظة عزة القدرة يف مباشرة األمور اخلسيسة يف ظاهر النظر‪.‬‬

‫وأما وجه كوهنا أظهر الدالئل على املبدأ واملعاد فقد مسعت آنفا‪ ،‬فلنلخص لك وهو‪:‬‬

‫ان من نظر يف هذه احلياة وتدرج بنظره اىل األطوار املرتتبة إىل أبسط صور اجلسم يرى أجزاء‬
‫منتثرة يف عامل الذرات‪ .‬مث يبصرها قد تلبس يف عامل العناصر صوراً أخرى‪ .‬مث يصادفها يف‬
‫عامل املواليد يف وضعية أخرى‪ ..‬مث يالقيها يف نطفة مث يف‬

‫(‪ )1‬تدقيق حسن ( خبط املؤلف على نسخة مطبوعة)‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪217 :‬‬

‫علقة مث يف مضغة‪ .‬مث يراها دفعة بانقالب عجيب قد لبست صورة ويرى يف هذه االنقالبات‬
‫حركات منتظمة على دساتري معينة يرتاءى منها‪ :‬ان كل ذرة كانت معينة يف أول األطوار‬
‫كأهنا موظفة للذهاب إىل املوضع املناسب من جسد احلي‪ ،‬فيتفطن الذهن اهنا بقصد تُساق‬
‫وحبكمة تُرسل‪ ،‬وكانت احلياة الثانية يف نظره أهون وأسهل وأمكن بدرجات فيقنع هبا قلبه‬
‫بالطريق األَوىل‪ .‬فهذه اجلملة كالدليل لالحقتها والكل معا برهان على االنكار املستفاد من‬
‫"كيف"‪.‬‬

‫املسألة الثالثة‪ :‬يف (مث مييتكم)‪.‬‬

‫اعلم! ان آية (خلق املوت واحلياة) ‪ 1‬تدل على ان املوت ليس إعداماً وعدماً صرفاً‪ ،‬بل‬
‫تصرف‪ ،‬وتبديل موضع‪ ،‬واطالق للروح من احملبس‪ .‬وكذا ان ما وجد يف نوع البشر اىل اآلن‬
‫وجنَ َم من اشارات غري حمدودة؛ القت اىل األذهان قناعة وحدسا‬‫من امارات غري معدودة‪َ ،‬‬
‫بأن ا ِإلنسان بعد املوت يبقى جبهة‪ ،‬وان الباقي منه هو الروح‪ .‬فوجود هذه اخلاصة الذاتية يف‬
‫فرد يكون دليال على وجودها يف متام النوع للذاتية‪ .‬ومن هنا تكون املوجبة الشخصية‬
‫عدم‬
‫عدم علتُه ُ‬
‫مستلزمة للموجبة الكلية‪ ،‬فحينئذ يكون املوت معجزة القدرة كاحلياة‪ .‬ال انه ٌ‬
‫شرائط احلياة‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬كيف يكون املوت نعمة حىت نُ ِظّم يف سلك النِ َعم؟‬

‫قيل لك‪ :‬أما‪:‬‬

‫ّأوال‪ :‬فألنه مقدمة للسعادة األبدية‪ ،‬وملقدمة الشئ حكم الشئ ُحسنا وقبحاً؛ اذ مايتوقف‬
‫عليه الواجب واجب وما ينجر إىل احلرام حرام‪..‬‬

‫وثانيا‪ :‬فألن املوت عند أهل التحقيق من ِّ‬


‫املتصوفني جناة للشخص خبروجه عن نظري احملبس‬
‫املضرة اىل صحراء واسعة‪..‬‬
‫املشحون باحليوانات ّ‬
‫و ثالثا‪ :‬فألنه باعتبار نوع البشر نعمة عظمى؛ اذ لوالها لوقع النوع يف سفاالت مدهشة‪..‬‬

‫ورابعا‪ :‬فألنه باعتبار بعض األشخاص نعمة مطلوبة اذ بسبب العجز والضعف ال يتحمل‬
‫تكاليف احلياة وضغط البليات وعدم شفقة العناصر‪ ،‬فاملوت باب فوزه‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة امللك‪.2 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪219 :‬‬

‫املسألة الرابعة‪ :‬يف (مث حيييكم)‪.‬‬

‫ني واَ ْحيَـْيتَـنَا اثْـنَتَـ ْ ِ‬


‫ني) ‪ 1‬وكذا برمز تعقيب هذه بـ مث اليه ترجعون‬ ‫ِ‬
‫اعلم! ان باشارة آية (اََمتـَّنَا اثْـنَتَـ ْ َ‬
‫مع النظر إىل اجياز القرآن‪ ،‬امياء اىل حياة القربكما تدل على حياة احلشر‪.‬‬

‫‪ p‬فإن قلت‪ :‬اذا اُحرق انسان واُعطي رماده للهواء كيف يتصور فيه احلياة القربية؟‬
‫قيل لك‪ :‬ان البنية ليست شرطا للحياة عند أهل السنة واجلماعة فيمكن تعلق الروح ببعض‬
‫الذرات‪.‬‬

‫‪ p‬فإن قلت‪ :‬كيف يتصور عذاب القرب مع انه لو وضعت بيضة على صدر جنازة بأيام ال‬
‫حيس فيها أدىن حركة فكيف احلياة والعذاب؟‬

‫املثايل قد بُرهن عليه يف موقعه‪ ،‬حىت ان وجوده قطعي عند احملققني‬


‫قيل لك‪ :‬ان العامل ّ‬
‫اهر واملتغريات ثابتةً‪ .‬والعيون‬
‫اض جو َ‬
‫حتويل املعاين أجساماً واألعر ُ‬
‫اإلهليني‪ .‬وخاصةُ ذلك العامل ُ‬
‫الناظرة من عامل الشهادة اليه‪ ،‬الرؤيا الصادقة والكشف الصادق واألجسام الشفافة فاهنا ِّ‬
‫تلوح‬
‫اثبت حقيقةً من عامل املثال الذي هو متثاله‪ .‬وظل هذا العامل عامل‬
‫بوجوده‪ .‬مث ان عامل الربزخ ُ‬
‫الرؤيا‪ ،‬وظل هذا عامل اخليال‪ ،‬ونظري هذا االجسام الشفافة كاملرآة‪ .‬فاذ تفهمت هذا فانظر‬
‫يف عامل الرؤيا وتأمل يف شخص نام عندك وهو ساكن وساكت مع انه يف عامله يقاتل‬
‫ويضارب فيصري جمروحا أو تلدغه احلية فيتأمل‪ .‬ولو أمكن لك أن تدخل يف رؤياه وتقول له‪:‬‬
‫وحلفت له ألف ميني ملا يصدقك‪ .‬ويقول‬
‫َ‬ ‫يا هذا! ال تعجز وال تغضب فإن هذا ليس حقيقة‬
‫علي؛‬
‫لك‪ :‬هذا أملي يوجعين وهذا جرحي! أما ترى هذا وبيده السيف‪ ،‬واما ترى احلية هتجم ّ‬
‫اذ جتسم معىن وجع الكتف أو نزلة الرأس ‪ 2‬يف صورة سيف جارح‪ ،‬اذ النتيجة واحدة‪ .‬أو‬
‫تصور معىن اخليانة املوجعة لقلبه يف لباس احلية اذ األمل واحد‪ .‬فيا هذا! اذ ترى ذاك يف ظل‬
‫َّ‬
‫عامل املثال أفال تصدقه يف عامل الربزخ الذي هو أثبت حقيقة بدرجات وأبعد منا؟ أما‬
‫(حيييكم) بالنظر اىل احلياة األخروية‪ .‬فاعلم! ان تلك‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة غافر‪11. :‬‬

‫‪ 2‬مرض الزكام‪.‬‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪211 :‬‬

‫احلقائق ‪ -‬كالنعمة ‪ -‬نقمةً‪.‬‬


‫ُ‬ ‫احلياة نتيجة لكل العامل‪ .‬ولوالها مل تكن احلقيقة ثابتة والنقلبت‬
‫وقس!‪ ..‬ولقد خلصنا دالئلها يف تفسري (وباآلخرة هم يوقنون)‪..‬‬

‫املسألة اخلامسة‪ :‬يف (مث اليه ترجعون) آخر العقد من تلك السلسلة‪.‬‬

‫اعلم! ان اخلالق جلّت قدرته مزج االضداد يف عامل الكون والفساد حلِِ َكم دقيقة ووضع أسبابا‬
‫ظاهرية ووسائط اظهاراً لعزته فرتتبت سلسلة العلل واملعلوالت‪ .‬مث ملا تص ّفت الكائنات‬
‫ومتيزت وحتزبت يف احلشر ارتفعت األسباب واُسقطت الوسائط فارتفع احلجاب وُكشف‬
‫صانعه ويعرف مالكه احلقيقي‪.‬‬
‫الغطاء فريى كلٌّ َ‬
‫تذييل خلالصة نظم اجلمل‪ :‬اعلم! انه تعاىل ملا أنكر كفرهم الواقع بطريق االستفهام‬
‫االستخباري يف "كيف" ودعا الناس اىل التعجب منه؛ برهن عليه مبا بعد الواو احلالية أي‬
‫ّ‬
‫باراءة أربعة انقالبات عظيمة كلها وكل منها شاهد على وجوب االميان‪ .‬مث ان كل انقالب‬
‫ومع ّدة لالنقالب الذي يليه فمن الطور االول من‬
‫منها مشتمل على أطوار ومراتب‪ ،‬ومقدمة ُ‬
‫أصل جسد احلي دائما فيلقى‬
‫االنقالب األول إىل الطور اآلخر من االنقالب اآلخر يتجدد ُ‬
‫قشراً ويلبس األكمل مث خيلعه ويلبس صورة أعلى مث يلقيها أيضاً فيلبس صورة أحسن وهلم‬
‫جرا!‪ ..‬فهو دائماً يف استبدال صورة بأخرى كاملة إىل أن يصل إىل أعلى األعايل فيستقر‬
‫معني وقانون منتظم‪ .‬فأشار إىل أول االنقالبات بقوله‬
‫بتقرر السعادة األبدية‪ ،‬وكلها بنظام ّ‬
‫(وكنتم أمواتا) وهذا مشتمل على أطوار آخر األطوار ينتج مآل (فأحياكم) الدال على‬
‫االنقالب الثاين الذي هو أعجب حقائق العامل املشتمل على أطوار آخرها تنتهي بانقالب‬
‫(مث مييتكم) املشتمل أيضاً على أطواره الربزخي اليت تتم بانقالب (مث حيييكم) املشتمل على‬
‫أطواره القربية مث احلشرية املختومة بقوله (مث اليه ترجعون)‪ .‬فمن أمعن يف هذه االنقالبات‬
‫كيف يتجاسر على االنكار؟‬

‫ولنشرع يف نظم هيئات مجلة مجلة‪:‬‬


‫أما اجلملة األوىل أعين (كيف تكفرون باهلل وكنتم أمواتا) فاالستفهام فيها لتوجيه ذهنهم اىل‬
‫فيقروا‪ .‬و(كيف) اشارة اىل االستدالل على عدم الكفر‬ ‫قباحتهم لريوا بأنفسهم فينصفوا ّ‬
‫بانكار احلال الالزم‪ .‬واخلطاب يف (تكفرون) امياء كما‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪224 :‬‬

‫مر اىل شدة الغضب ومل يقل "التؤمنون" اشارة اىل ش ّدة متردهم اذ يرتكون االميان الذي عليه‬
‫الدالئل ويقبلون الكفر الذي على بطالنه الرباهني‪ .‬و واو احلالية يف (وكنتم) تشري إىل مقدر‪،‬‬
‫اذ اجلملتان ماضيتان‪ .‬واألُخريان مستقبلتان كالمها اليوافق قاعدة مقارنة احلال لعامل ذي‬
‫‪1‬‬
‫احلال‪ ،‬فاذاً التقدير "واحلال انكم تعلمون"‪.‬‬

‫فإن قلت‪ :‬اهنم وان علموا باملوت واحلياة األُوىل لكنهم اليعلمون اهنما من هللا‪ ،‬وكذلك‬
‫اليقرون باحلياة الثانية واليصدقون بالرجوع اليه تعاىل؟‬

‫قيل لك‪ :‬من البالغة تنزيل اجلاهل منزلة العامل عند ظهور دالئل ازالة اجلهل‪ .‬فلما كان‬
‫التفكر يف أطوار املوت األول واحلياة األُوىل ملجأ اىل االقرار بالصانع وكان العلم هبا مقنعا‬
‫للذهن بوقوع احلياة الثانية؛ كانوا كأهنم عاملون هبذه السلسلة‪ .‬واخلطاب يف (كنتم) اشارة اىل‬
‫أجسادهم‬
‫َ‬ ‫ان هلم يف عامل الذرات أيضاً وجوداً وتعينا‪ .‬ال ان الذرات كيفما اتفقت صارت‬
‫املعينة بالتصادف‪ .‬وإيثار (أمواتا) على مجاد ‪ 2‬أو ذرات امياء اىل مآل ( َملْ يَ ُك ْن َشْيئاً َم ْذ ُكوراً)‬
‫‪.1‬‬

‫وأما مجلة (فأحياكم)‪:‬‬

‫فان قلت‪ :‬الفاء للتعقيب واالتصال مع ختلل تلك األطوار وتوسط مسافة طويلة اىل احلياة؟‬

‫قيل لك ‪ :‬الفاء لإلشارة إىل منشأ دليل الصانع وهو ان انقالهبا من اجلمادية اىل احليوانية‬
‫دفعةً من غري توسط سبب معقول يُلجئ الذهن اىل االقرار بالصانع‪ .‬وكذا ان األطوار يف‬
‫حالة املوات ناقصة غري ثابتة شأهنا التعقيب‪ .‬وإيثار (أحياكم) على "صرمت أحياء" للتصريح‪،‬‬
‫أي صرمت أحياء والميكن ذلك بغري قدرة الصانع‪ .‬فانتج ان هللا تعاىل هو الذي أحيا‪.‬‬

‫وأما مجلة (مث مييتكم) بدل "متوتون" فإشارة كما مر اىل أن املوت تصرف عظيم للقدرة‬
‫الطبيعي مث انتهى إىل‬
‫ّ‬ ‫مبقياس القدر‪ .‬أال ترى ان من استوىف عمره‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬انكم تعلمون انكم كنتم امواتاً (ش)‪.‬‬

‫‪ 2‬على مجادات (ش)‬

‫‪ 3‬سورة االنسان‪.1 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪221 :‬‬

‫األجل اق ُّل قليل‪ .‬فيتيقظ الذهن اىل ان املوت ليس نتيجة طبيعية‪ .‬فاملوت احنالل اجلسد ال‬
‫فناء الروح بل اطالقه‪.‬‬

‫وأما مجلة (مث حيييكم) فـ "مث" اشارة اىل توسط عامل الربزخ ذي العجائب‪.‬‬

‫وأما مجلة (مث اليه ترجعون) فـ "مث" اشارة اىل توسط الغطاء العظيم‪ .‬و"ترجعون" اشارة اىل‬
‫كشف الغطاء وطرد األسباب واسقاط الوسائط‪.‬‬

‫بعض‬
‫توهم ٌ‬
‫فإن قلت‪ :‬الرجوع اىل هللا تعاىل يقتضي ان يكون اجملئ منه ّاوال‪ ،‬ومن هنا َ‬
‫االتصال واشتبه بعض أهل التصوف‪.‬‬
‫َ‬
‫قيل لك‪ :‬ان يف الدنيا وجوداً وبقاء وكذا يف اآلخرة وجود وبقاء‪ .‬فالوجود يف الدنيا يصدر من‬
‫يد القدرة بال واسطة وأما البقاء احملفوف بالتحليل والرتكيب والتصرف والتحول يف عامل‬
‫الكون والفساد فيتداخل بينه العلل وتتوسط األسباب للحكمة املذكورة سابقا‪ .‬وأما يف‬
‫كل شئ‬‫اآلخرة فالوجود وكذا البقاء بلوازمه وتركيباته يظهر بالذات من يد القدرة ويعرف ُّ‬
‫مال َكه احلقيقي‪ .‬فاذا تأملت يف هذا علمت معىن الرجوع‪.‬‬
‫***‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪222 :‬‬

‫ٍ‬ ‫مجيعاً ُمثَّ استوى اِ َىل َّ ِ‬


‫ض َِ‬ ‫ِ‬
‫وه َو‬
‫السماء فَ َس ّويـ ُـه َّن َسْب َع َمس َوات ُ‬ ‫َْ‬ ‫ُه َو الَّذي َخلَ َق لَ ُك ْم ما ِيف ْ‬
‫األر ِ‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم ‪21‬‬ ‫ب ُك ِّل َش ْيء َعل ٌ‬
‫‪1‬‬
‫اعلم! ان هلذه اآلية ايضاً الوجوه الثالثة العظيمة‪:‬‬

‫أما نظم اجملموع بالسابق فهو‪ :‬ان يف اآلية األوىل انكار الكفر والكفران بالدالئل االنفسية‬
‫وهي أطوار البشر‪ ،‬ويف هذه اآلية اشارة اىل الدالئل اآلفاقية‪ ..‬وكذا يف األوىل اشارة اىل نعمة‬
‫الوجود واحلياة‪ ،‬ويف هذه اآلية اىل نعمة البقاء‪ ..‬وكذا يف تلك دليل على الصانع ومقدمة‬
‫للحشر‪ ،‬ويف هذه اشارة اىل حتقيق املعاد وازالة الشبه كأهنم يقولون‪ :‬اين لإلنسان هذه‬
‫القيمة؟ وكيف له تلك األمهية؟ وما موقعه عند هللا حىت يقيم القيامة ألجله؟ فقال القرآن‬
‫باشارات هذه اآلية‪ :‬ان لإلنسان قيمة عالية بدليل ان السموات واألرض مسخرة الستفادته‪،‬‬
‫وكذا ان له أمهية عظيمة بدليل ان هللا مل خيلق االنسان للخلق بل خلق اخللق له‪ ،‬وان له عند‬
‫خالقه ملوقعا بدليل ان هللا تعاىل مل يوجد العامل لذاته بل اوجده للبشر وأوجد البشر لعبادته‪.‬‬
‫فانتج ان االنسان مستثىن وممتاز ال كاحليوانات فيليق أن يكون مظهراً جلوهرةِ (مث اليه‬
‫ترجعون)‪.‬‬

‫وأما نظم مجلة مجلة‪ ،‬فاعلم! ان لفظ "مجيعا" يف اجلملة األوىل ولفظ "مث" يف الثانية ولفظ‬
‫"سبع" يف الثالثة تقتضي حتقيقاً‪ .‬فلنتكلم عليها يف ثالث مسائل‪:‬‬
‫املسألة األوىل‪:‬‬

‫ان قلت‪ :‬ان هذه اآلية تدل على أن مجيع ما يف األرض الستفادة البشر فكيف يتصور‬
‫استفادة (زيد) مثال من كل جزء من أجزاء األرض؟ و(حبيب وعلي) ‪ 2‬كيف يستفيدان من‬
‫حجر يف قعر جبل يف وسط جزيرة يف البحر احمليط الكبري؟ وكيف يكون مال (زيد) الستفادة‬
‫اجلميع ال التوزيع‪ .‬وكذا كيف تكون‬ ‫عمرو؟ مع ان اآلية باشارات أخواهتا تشري أن لكل ٍ‬
‫فرد‬
‫َ‬
‫الشمس والقمر وغريمها مع‬

‫_____________________‬

‫‪( 1‬ش)‪.‬‬

‫‪ 2‬مها من طلبة االستاذ املؤلف يف مدرسة خورخور‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪221 :‬‬

‫تلك العظمة لزيد وعمرو والعلة الغائية فيها الفائدة اجلزئية هلما؟ وكيف تكون املضرات‬
‫الستفادة البشر مع انه ال جمازفة يف القرآن والتليق املبالغة ببالغته احلقيقية؟‬

‫قيل لك‪ :‬تأمل يف ست نقاط يتطاير عنك األوهام‪:‬‬

‫تصري اجلزء كال واجلزئي كليا واملنفرد مجاعة واملقيد مطلقا‬


‫األوىل‪ :‬ان خاصية احلياة كما مر ّ‬
‫والفرد عاملاً‪ ،‬فيصري األنواع كقوم ذي حياة والدنيا بيته ويكون له مناسبة مع كل شئ‪.‬‬

‫والثانية‪ :‬ان يف العامل كما علمت نظاما ثابتا واتساقا حمكما ودساتري عالية وقوانني أساسية‬
‫سن من‬
‫مستمرة فيكون العامل كساعة أو ماكينة منتظمة‪ .‬فكما ان كل دوالب منها بل كل ّ‬
‫دخل ولو جزئيا يف نظام املاكينة‪ ،‬وكذا له تأثري يف‬
‫سن له ٌ‬
‫كل دوالب بل كل جزء من كل ّ‬
‫فائدة املاكينة ونتيجتها بواسطة نظامها؟ كذلك لوجوده دخل يف فائدة أهل احلياة الذين‬
‫سيّدهم ورئيسهم البشر‪.‬‬

‫والثالثة‪ :‬انه ‪ -‬كما قرع مسعك فيما مضى ‪ -‬ال مزامحة يف وجوه االستفادة‪ ،‬فكما ان‬
‫الشمس بتمامها لزيد وان ضياءها روضة وميدان لنظره؛ كذلك بتمامها ُملك لعمرو وجنة له‪.‬‬
‫فزيد مثال لو كان يف العامل وحده كيف تكون استفادته؛ كذلك اذا كان مع كل الناس ال‬
‫‪1‬‬
‫ينقص منها شئ اال فيما يعود اىل الغارين‪.‬‬

‫والرابعة‪ :‬ان الكائنات ليس هلا وجه رقيق فقط‪ ،‬بل فيها وجوه عمومية خمتلفة طبقا على طبق‪،‬‬
‫ولفوائدها جهات كثرية عمومية متداخلة‪ ،‬وطرق االستفادة متعددة متنوعة‪ .‬مثالً‪ :‬اذا كان‬
‫لك روضة تستفيد منها جبهة ويستفيد الناس جبهة أخرى‪ ،‬كاالستلذاذ بالقوة الباصرة‪ .‬والجرم‬
‫ان استفادة االنسان حتصل حبواسه اخلمس الظاهرة وحبواسه الباطنة وجبسمه وبروحه وكذا‬
‫بعقله وقلبه وكذا يف دنياه ويف آخرته وكذا من جهة العربة وقس عليها‪ ..‬فال مانع من‬
‫استفادته بوجه من هذه الوجوه من كل ما يف األرض بل العامل‪.‬‬

‫واخلامسة‪ :‬انه‪:‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬احلنكان االعلى واالسفل‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪220 :‬‬


‫ان قلت‪ :‬هذه اآليات مع آيات اُخر تشري اىل ان هذه الدنيا العظيمة خملوقة ألجل البشر‬
‫وجعل استفادته علة غائية هلا‪ .‬واحلال ان زحل األكرب من األرض ليست فائدهتا بالنسبة اىل‬
‫البشر االّ نوع زينة وضياء ضعيف فكيف يكون علة غائية؟‬

‫قيل لك‪ :‬ان املستفيد يفىن يف جهة استفادته وينحصر ذهنُه يف طريقها وينسى ما عداها‬
‫وينظر اىل كل شئ لنفسه وحيصر العلة الغائية على ما يتعلق به‪ .‬فاذاً ال جمازفة يف الكالم‬
‫ِ‬
‫أللوف‬ ‫ملوجه اىل ذلك الشخص يف مقام االمتنان بأن يقال‪ :‬ان زحل الذي أبدعه خالقه‬ ‫ا َّ‬
‫ٍ‬
‫مستفيد العلة الغائية يف إبداعه‬ ‫ألوف‬
‫جهات‪ ،‬ويف كل جهة ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ِح َك ٍم‪ ،‬ويف كل حكمة ُ‬
‫ألوف‬
‫جهة استفادة ذلك الشخص‪.‬‬

‫كلي‬
‫ئي ّ‬‫والسادسة‪ - :‬وقد نبهت عليه ‪ -‬ان االنسان وان كان صغرياً فهو كبري‪ ،‬فنفعه اجلز ّ‬
‫فال عبثية‪.‬‬

‫املسألة الثانية‪ :‬يف (مث)‪:‬‬

‫ك‬ ‫ِ‬
‫األرض بـَ ْع َد ذل َ‬
‫اعلم! ان هذه اآلية تدل على أن خلق األرض قبل السماء‪ ،‬وان آية (و َ‬
‫نامهَا) ‪ 2‬تدل‬ ‫‪1‬‬
‫َدحيـ َـها) تدل على ان خلق السماء قبل االرض‪ ،‬وان آية ( َكانَـتَا َرتْقاً فَـ َفتَـ ْق ُ‬
‫على اهنما خلقتا معا وانشقتا من مادة‪..‬‬

‫واعلم ثانيا‪ :‬ان نقليات الشرع تدل على ان هللا تعاىل خلق ّاوال جوهرةً ‪ -‬أي مادة ‪ -‬مث‬
‫جتلى عليها فجعل قسما منها خبارا وقسما مائعا‪ .‬مث تكاثف املائع بتجلِّيه فأزبد‪ .‬مث خلق‬
‫األرض أوسبع كرات من األرضني من ذلك الزبد فحصل لكل أرض منها مساء من اهلواء‬
‫فسوى منها مسوات زرع فيها النجوم فانعقدت السموات‬ ‫مي‪ .‬مث بسط املادة البخارية ّ‬
‫النسي ّ‬
‫مشتملة على نويات النجوم‪ .‬وان فرضيات احلكمة اجلديدة ونظرياهتا حتكم بأن املنظومة‬
‫الشمسية أي مع مسائها اليت تسبح فيها كانت جوهراً بسيطاً مث انقلب إىل نوع خبار مث حتصل‬
‫ناري مث تصلب بالتربد منه قسم مث ترامى ذلك املائع الناري بالتحرك شرارات‬
‫من البخار مائع ّ‬
‫وقطعات انفصلت فتكاثفت فصارت سيّارات منها أرضنا هذه‪.‬‬
‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة النازعات‪14. :‬‬

‫‪ 2‬سورة االنبياء‪.14 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪229 :‬‬

‫فإذا مسعت هذا جيوز لك التطبيق بني هذين املسلكني ألنه ميكن أن يكون آية (كانتا رتقا‬
‫ففتقنامها) اشارة اىل ان األرض مع املنظومة الشمسية كانت كعجني عجنته يد القدرة من‬
‫"مادة االَثِري" اليت هي كاملاء السيّال بالنسبة اىل املوجودات فتنفذ جارية‬
‫جوهر بسيط أعين ّ‬
‫بينها‪ .‬وآية (وكا َن عرشه علَى الْ ِ‬
‫ماء) ‪ 1‬اشارة اىل هذه املادة اليت هي كاملاء‪ .‬و"االثري" بعد‬ ‫َ َْ ُ ُ َ‬
‫اهر فرد ًة مث جعل‬ ‫ِ‬
‫صريه جو َ‬‫ألول جتلّي الصانع باالجياد‪ ،‬اي فخلق "األثري" مث ّ‬ ‫خلقه‪ ،‬هو املركز ّ‬
‫البعض كثيفاً‪ ،‬مث خلق من الكثيف سبع كرات مسكونة منها ارضنا‪ .‬مث ان األرض بالنظر اىل‬
‫كثافتها وتصلبها قبل الكل وتعجيلها يف لبس القشر وصريورهتا من زمان مديد منشأ احلياة‬
‫مع بقاء كثري من االجرام السماوية اىل اآلن مائعة نارية تكون خلقتها وتشكلها من هذه‬
‫اجلهة قبل خلق السموات‪ .‬وملا كان تكمل منافعها ودحوها ‪ -‬أي بسطها ومتهيدها لتعيّش‬
‫اسبق من هذه اجلهة مع‬
‫نوع البشر ‪ -‬بعد تسوية السموات وتنظيمها تكون السموات َ‬
‫االجتماع يف املبدأ‪ .‬فاآليات الثالث تنظر اىل النقاط الثالث‪.‬‬

‫اجلواب الثاين‪ :‬ان املقصد من القرآن الكرمي ليس درس تاريخ اخللقة‪ ،‬بل نزل لتدريس معرفة‬
‫الصانع‪ .‬ففيه مقامان‪ :‬ففي مقام بيان النعمة واللطف واملرمحة وظهور الدليل تكون األرض‬
‫اقدم‪ ،‬ويف مقام دالئل العظمة والعزة والقدرة تكون السموات اسبق‪ ..‬مث ان "مث" كما تكون‬ ‫َ‬
‫‪2‬‬
‫للرتاخي الذايتّ جتئ للرتاخي الرتيب فـ (مث استوى) أي مث اعلموا وتفكروا انه استوى‪.‬‬

‫املسألة الثالثة‪ :‬يف (سبع)‪:‬‬


‫ات تسعة‪ ،‬وتصورها أهلُها بصورة عجيبة‪ ،‬واستوىل‬ ‫اعلم! ان احلكمة العتيقة قائلة بأن السمو ِ‬
‫فكرهم على نوع البشر يف اعصار‪ .‬حىت اضطر كثري من املفسرين اىل إمالة ظواهر اآليات اىل‬ ‫ُ‬
‫مذهبهم‪ .‬وأما احلكمة اجلديدة فقائلة بأن النجوم معلَّقة يف الفضاء واخللو كأهنا ِ‬
‫منكرة لوجود‬
‫الشريعة فحاكمة بأن الصانع جل جالله‬ ‫السماء‪ .‬فكما أفرطت إحدامها ّفرطت األخرى‪.‬وأما ّ‬
‫خلق سبع مسوات وجعل النجوم فيها‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة هود‪7. :‬‬

‫‪ 2‬اى للرتاخى التفكرى‪ ،‬مبعىن‪ :‬ان خلق السموات مع انه أسبق إالّ ان التفكر فيه يأتى باملرتبة‬
‫الثانية‪ .‬ومع ان خلق االرض بعد السموات االّ ان التفكر فيه اسبق‪ ،‬اي يلزم التفكر يف خلق‬
‫االرض قبل السموات (ت‪.)216 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪226 :‬‬

‫كالسماك تسبح‪ .‬واحلديث يدل على ان "السماء موج مكفوف" ‪ 1‬وحتقيق هذا املذهب‬
‫َّ‬
‫احلق يف ست مقدمات‪.‬‬

‫األوىل‪ :‬انه قد ثبت فنّا وحكمة ان الفضاء الوسيع مملوء من األثري‪.‬‬

‫والثانية‪ :‬ان رابطة قوانني األجرام العلوية وناشر قوى أمثال الضياء واحلرارة وناقلها مادة‬
‫موجودة يف الفضاء مالئة له‪.‬‬

‫والثالثة‪ :‬ان مادة األثري مع بقائها اثرياً هلا كسائر املواد تشكالت خمتلفة وتنوعات متغايرة‬
‫كتشكل البخار واملاء واجلمد‪.‬‬
‫والرابعة‪ :‬انه لو أمعن النظر يف االجرام العلوية يُرى يف طبقاهتا ختالف‪ .‬أال ترى ان هنر السماء‬
‫املسمى بـ " َكه َكشان" ‪ 2‬املرئي يف صورة لطخة سحابية امنا هو ماليني ٍ‬
‫جنوم أخذت يف‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫االنعقاد‪ .‬فصورةُ األثري اليت تنعقد تلك النجوم فيها ختالف طبقة الثوابت البتة‪ ،‬وهي أيضاً‬
‫ختالف طبقات املنظومة الشمسية باحلدس الصادق وهكذا اىل سبع منظومات‪.‬‬

‫واخلامسة‪ :‬انه قد ثبت حدسا واستقراء انه اذا وقع التشكيل والتنظيم والتسوية يف مادة تتولد‬
‫منها طبقات خمتلفة كاملعدن يتولد منه الرماد والفحم واألملاس‪ ..‬وكالنار تتميز مجراً وهلبا‬
‫ودخانا‪ ،‬وكمزج مولّد املاء مع مولّد احلموضة ‪ 1‬يتشكل منه ماء ومجد وخبار‪.‬‬

‫والسادسة‪ :‬ان هذه االمارات تدل على تعدد السموات‪ .‬والشارع الصادق قال هي سبعة‪،‬‬
‫فهي سبعة على ان السبع والسبعني والسبع مائة يف أساليب العرب ملعىن الكثرة‪.‬‬

‫فسواها ونظّمها بنظام‬


‫واحلاصل‪ :‬ان الصانع جل جالله خلق من "مادة األثري" سبع مسوات ّ‬
‫عجيب دقيق وزرع فيها النجوم وخالف بني طبقاهتا‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬جزء من حديث اخرجه االمام امحد يف مسنده (‪ )174/2‬والرتمذي برقم (‪ )1219‬ويف‬


‫حتفة االحوذي برقم (‪ )1192‬وقال‪ :‬هذا حديث غريب من هذا الوجه‪ .‬وعزاه صاحب‬
‫التحفة المحد وابن ايب حامت والبزار ويف جممع الزوائد (‪ )112 /9‬جزء من حديث رواه‬
‫وضعفه النسائي وغريه‪،‬‬
‫الطرباين يف االوسط‪ ،‬وفيه ابو جعفر الرازي‪ ،‬وثّقه ابو حامت وغريه ّ‬
‫وبقية رجاله ثقات‪ ،‬وانظر فيه كذلك (‪ )121/7‬وتفسري ابن كثري ‪ -‬سورة احلديد‪.‬‬

‫‪ 2‬درب التبانة‪.‬‬

‫‪ 3‬اهليدروجني واالوكسجني‪.‬‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪227 :‬‬

‫اعلم! انك اذا تفكرت يف ُو ْسعة خطابات القرآن الكرمي ومعانيه ومراعاته الفهام عامة‬
‫الطبقات من أدىن العوام اىل أخص اخلواص ترى أمراً عجيباً‪ .‬مثالً‪ :‬من الناس من يفهم من‬
‫(سبع مسوات) طبقات اهلواء النسيمية‪ ..‬ومنهم من يفهم منه الكرات النسيمية احمليطة بأرضنا‬
‫هذه وأخواهتا ذوات ذوي احلياة‪ ..‬ومنهم من يفهم منه السيّارات السبع املرئية للجمهور‪..‬‬
‫ومنهم من يفهم منه طبقات سبعة اثريية يف املنظومة الشمسية‪ ..‬ومنهم من يفهم منه سبع‬
‫منظومات مشوسية أوالها منظومة مشسنا هذه‪ ..‬ومنهم من يفهم منه انقسام األثري يف‬
‫التشكل اىل طبقات سبعة كما مر آنفا‪ ..‬ومنهم من يرى مجيع ما يُرى مما ُزيّن مبصابيح‬
‫الشموس والنجوم الثوابت مساء واحدة‪ .‬هي السماء الدنيا وفوقها ست مسوات اُخر الترى‪..‬‬
‫ومنهم من اليرى احنصار سبع مسوات يف عامل الشهادة فقط بل يتصورها يف طبقات اخللقة‬
‫يف العوامل الدنيوية واألٌخروية والغيبية‪ ..‬فكل يستفيض بقدر استعداده من فيض القرآن‬
‫ويأخذ حصته من مائدته فيشتمل على كل هذه املفاهيم‪.‬‬

‫واعلم! ان اجلملة األوىل‪ :‬أعين (هو الذي خلق لكم ما يف األرض مجيعاً) نظمها خبمسة‬
‫أوجه‪:‬‬

‫األول‪ :‬ان اآلية األوىل اشارة اىل نعمة احلياة والوجود‪ ،‬وهذه تشري اىل نعمة البقاء وأسبابه‪.‬‬

‫والثاين‪ :‬انه ملا اثبتت األوىل للبشر أعلى املراتب أعين الرجوع اليه تعاىل تنبه ذهن السامع‬
‫للسؤال بـ "اين هلذا االنسان الذليل استعداد هلذه املرتبة العالية إالّ ان يكون بفضله تعاىل‬
‫وجذبه؟"‪ .‬فكأن هذه اجلملة تقول جميبة عن ذلك السؤال ان ل ِإلنسان عند خالقه الذي‬
‫سخر له مجيع الدنيا ملوقعا عظيما‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬انه ملا أشارت األوىل اىل وجود احلشر والقيامة للبشر ذهب السامع اىل سؤال‪ :‬ما‬
‫أمهية البشر حىت تقوم القيامة ألجله وخيرب العامل لسعادته؟ فكأن هذه اجلملة جتيبه بـ "ان‬
‫وس ّخر له األنواع له أمهية عظيمة تشري اىل انه هو‬
‫من ُهيّ َئ مجيع ما يف األرض الستفادته ُ‬
‫النتيجة للخلقة"‪.‬‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪229 :‬‬

‫والرابع‪ :‬ان األوىل اشارت بـ (اليه ترجعون) اىل رفع الوسائط واحنصار املرجعية فيه تعاىل‪.‬‬
‫واحلال ان للبشر يف الدنيا مراجع كثرية‪ ،‬فهذه اجلملة تقول أيضاً ان األسباب والوسائط‬
‫األسباب‬
‫ُ‬ ‫تشف عن يد القدرة‪ ،‬وان املرجع احلقيقي يف الدنيا امنا هو هللا تعاىل وامنا توسطت‬
‫ّ‬
‫حلِ َكم فانه تعاىل هو الذي خلق ل ِإلنسان كل ما حيتاج اليه‪.‬‬

‫واخلامس‪ :‬ان األوىل ملا اشارت اىل السعادة األبدية أشارت هذه اىل ِ‬
‫سابقة ٍ‬
‫فضل يستلزم تلك‬
‫حلقيق بأن يعطى له السعادة‬
‫الفضل أي من اُحسن اليه مجيع ما يف األرض ٌ‬
‫ُ‬ ‫السعادة ذلك‬
‫األبدية‪.‬‬

‫ومجلة (مث استوى اىل السماء) نظمها بأربعة أوجه‪.‬‬

‫األرض أح ٌد إالّ وخيطر يف ذهنه السماء‪.‬‬


‫َ‬ ‫تصور‬
‫األول‪ :‬ان السماء رفيقة األرض ال يَ ُ‬
‫ِ‬
‫املكمل لوجه استفادة البشر مما يف األرض‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬ان تنظيم السماء هو ّ‬
‫والثالث‪ :‬ان اجلملة األُوىل اشارت اىل دالئل االحسان والفضل وهذه تشري اىل دالئل العظمة‬
‫والقدرة‪.‬‬

‫والرابع‪ :‬ان هذه اجلملة تشري اىل ان فائدة البشر ال تنحصر على األرض بل السماء أيضاً‬
‫مسخرة الستفادته‪.‬‬

‫(فسويهن سبع مسوات) بثالثة أوجه‪.‬‬


‫ونظم مجلة‪ّ :‬‬
‫األول‪ :‬ان ربطها باألُوىل كربط "فيكون" مع "كن"‪.‬‬

‫والثاين‪ :‬انه كربط تعلق القدرة بتعلق االرادة‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬انه كربط النتيجة باملقدمة‪.‬‬


‫ونظم مجلة (وهو بكل شيء عليم) بوجهني‪:‬‬

‫أحدمها‪ :‬اهنا دليل لِ ّمي على التنظيم السابق كما ان التنظيم السابق دليل اِ ّينّ عليها؛ اذ‬
‫االتساق واالنتظام يدالن على وجود العلم الكامل كما ان العلم يفيد االنتظام‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪221 :‬‬

‫واآلخر‪ :‬ان اجلملة األوىل تدل على القدرة الكاملة وهذه على العلم الشامل‪.‬‬

‫أما نظم هيئآت مجلة مجلة‪ :‬ففي اجلملة األوىل االستيناف وتعريف اجلزئني وتعريف اخلرب والم‬
‫"لكم" وتقدمي "لكم" ولفظ "يف" ولفظ "مجيعا"‪:‬‬

‫أما االستيناف فإشارة إىل أسئلة مقدرة وأجوبة قد نبهت عليها يف االوجه اخلمسة لنظم‬
‫اجلملة األوىل‪ ..‬وأما تعريف اجلزئني ‪ 1‬فاشارة اىل التوحيد واحلصر الذي هو دليل على احلصر‬
‫يف تقدمي "اليه" يف (مث اليه ترجعون)‪ ..‬وأما تعريف اخلرب فاشارة اىل ظهور احلكم ‪ ..2‬وأما الم‬
‫النفع يف (لكم) فاشارة اىل أن األصل يف األشياء االباحة وامنا تعرض احلرمة للعصمة‪ :‬كمال‬
‫اآلدمي‪ .‬أو للضرر‪ :‬كالسم‪ .‬أو لالستقذار‪ :‬كبلغم الغري‪ .‬أو‬
‫ّ‬ ‫الغري‪ .‬أو للحرمة‪ :‬كلحم‬
‫للنجاسة‪ :‬كامليتة‪ ..‬وكذا رمز اىل وجود النفع يف كل شئ‪ ،‬وان للبشر ولو جبهة من اجلهات‬
‫استفادة ولو بنوع من األنواع ولو يف أحقر األشياء وال أقل من نظر العربة‪ ،‬وكذا امياء اىل انه‬
‫كم من خزائن للرمحة مكنوزة يف جوف األرض تنتظر أبناء املستقبل‪ ..‬وأما تقدمي (ولكم)‬
‫فاشارة اىل أن جهة استفادة البشر أقدم الغايات وأوالها وأوهلا‪ ..‬وأما (ما) املفيدة للعموم‬
‫حتري النفع يف كل شئ‪ ..‬وأما (يف األرض) بدل "على األرض" مثال‪ ،‬فاشارة‬ ‫فللحث على ِّ‬
‫حتري ما يف جوفها‪ ..‬ويدل تدرج‬ ‫اىل وجود أكثر املنافع يف بطن األرض‪ ،‬وكذا تشجيع على ِّ‬
‫البشر يف االستفادة من معادن األرض وموادها على انه ميكن أن يكون يف ضمنها مواد‬
‫ط تكاليف احلياة من الغذاء وغريه‪ ..‬واما‬ ‫وعناصر ختفف عن كاهل أبناء االستقبال ضغ َ‬
‫(مجيعا) فلرد األوهام يف عبثية بعض األشياء‪.‬‬
‫وأما ( مث) يف اجلملة الثانية فاشارة اىل سلسلة من أفعاله تعاىل وشؤونه بعد خلق األرض إىل‬
‫تنظيم السماء‪ ..‬وكذا رمز اىل تراخي رتبة التنظيم يف نفع البشر عن خلقة األرض‪ ..‬وكذا امياء‬
‫يسوي‪ ..‬وكذا فيه جماز أي كمن‬
‫اىل تأخره عنها‪ .‬واما (استوى) ففيه اجياز‪ ،‬أي‪ :‬أراد أن ّ‬
‫يسدد قصده اىل شئ ال ينثين مينةً ويسرًة‪ .‬و(اىل السماء) أي اىل مادهتا وجهتها‪ .‬واما فاء‬
‫(فسويــهن) فبالنظر اىل جهة‬

‫_____________________‬

‫‪" 1‬هو "‪ :‬مبتدأ‪ ،‬و "الذى " مع صلته‪ :‬خرب (ت‪)221 :‬‬

‫‪ 2‬حيث ان اصل اخلرب نكرة‪ ،‬االّ ان جميئه معرفةً اشارة اىل ظهور احلكم‪ ،‬وهو‪ :‬ان هللا خالق‬
‫االرض مبا فيها‪ .‬وهو امر معلوم ظاهر (ت‪.)221 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪214 :‬‬

‫التفريع نظري ترتب "فيكون" على "كن"‪ ،‬وتعلق القدرة على تعلق االرادة والقضاء على‬
‫"ونوعها ونظّمها ودبّر األمر بينها‬
‫القدر‪ .‬واما بالقياس اىل جهة التعقيب فامياء اىل تقدير ّ‬
‫"سوى" أي خلقها منتظمة مستوية متساوية يف أن أعطى كالّ ما يناسب‬ ‫فسويهن" اخل‪ .‬واما ّ‬‫ّ‬
‫استعداده ويساوي قابليته‪ .‬واما "هن" فامياء اىل تنوع مواد السموات‪ .‬وأما (سبع) فيتضمن‬
‫الكثرة واملناسبة مع الصفات السبع ومع األدوار السبعة يف تشكالت األرض‪ .‬و(مسوات) أي‬
‫السيارات ومزرعة حلبّات النجوم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الاليت هن رياض ألزاهري الدراري وحبار لسماك ّ‬
‫أما مجلة (وهو بكل شيء عليم) فواو العطف املقتضية للمناسبة اشارة اىل "وهو على كل‬
‫شئ قدير فهو اخلالق هلذه االجرام العظيمة‪ ،‬وهو بكل شئ عليم فهو النظّام املتقن للصنعة‬
‫فيها"‪ .‬وباء االلصاق اشارة اىل عدم انفكاك العلم عن املعلوم‪ .‬واما "كل" فهو العام الذي مل‬
‫ص منه البعض" واالّ لكانت‬
‫خيص منه البعض‪ .‬وقد خص قاعدة "وما من عام االّ وقد ُخ َّ‬
‫الكالمي" ولفظ "شيء"‬
‫ّ‬ ‫هذه القاعدة حبيث اذا صدقت ك ّذبت نفسها نظري "اجلذر األصم‬
‫الشائي واملشيءَ وما ليس هبذا وال بذاك كاملمتنع‪ .‬و "عليم" أي ذات ثبت له الزماً منه‬
‫ّ‬ ‫يعم‬
‫العلم‪.‬‬

‫***‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪211 :‬‬

‫ض َخلِي َفةً قالُوا اََْجت َع ُل‬ ‫ك لِْلملئِ َك ِة اِِين ج ِ‬


‫اع ٌل ِيف األ َْر ِ‬ ‫ّ َ‬ ‫َوا ْذ قَ َال َربُّ َ َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫فِيها من يـ ْف ِس ُد فِيها ويس ِف ِ‬
‫س لَ َ‬
‫ك ال ّد َماءَ َوَْحن ُن نُ َسبّ ُح حبَ ْمد َك َونـُ َق ّد ُ‬
‫ََ ْ ُ‬ ‫َْ ُ‬
‫قَ َال اِِّين اَ ْعلَ ُم ما التَـ ْعلَ ُمو َن ‪14‬‬

‫مـقـدمـ ــة‬

‫اعلم! ان التصديق بوجود املالئكة أحد أركان االميان‪ .‬ولنا هنا مقامات‪..‬‬

‫املقام األول‪:‬‬

‫ان من نظر اىل األرض وقد امتُلئت بذوي األرواح مع حقارهتا‪ ،‬وتأمل يف انتظام العامل‬
‫واتقانه‪ ،‬حتدس بوجود سكان يف هذه الربوج العالية‪ .‬فَ َمثَ ُل َم ْن مل يص ّدق بوجود املالئكة‬
‫ملوثة باملزخرفات مشحونة‬
‫َك َمثَل رجل ذهب اىل بلدة عظيمة وصادف دارا صغرية عتيقة ّ‬
‫بالناس‪ .‬ورأى عرصاهتا مملوءة من ذوي األرواح وحلياهتم شرائط خمصوصة كالنباتات‬
‫السماك‪ .‬مث رأى اُلوفا من القصور العالية اجلديدة قد ختلّلت بينها ميادين النزهة فيعتقد‬ ‫ِ‬
‫و ّ‬
‫خلوها عن السكان لعدم جريان شرائط حياة هذه الدار يف تلك القصور‪ .‬ومثل املعتقد‬
‫بوجودهم َك َمثَل َم ْن اذا رأى هذا البيت الصغري وقد امتأل من ذوي األرواح ورأى انتظام‬
‫البلدة‪ ،‬جزم بأن لتلك القصور املزيَّنة أيضاً سكانا يناسبوهنا وتوافقهم وهلم شرائط حياة‬
‫خمصوصة فعدم مشاهدهتم ‪ -‬لبعدهم وترفعهم ‪ -‬ال يدل على عدمهم‪ .‬فامتالء األرض من‬
‫اخلفي املبين على‬
‫وي املؤسس على القياس ّ‬ ‫ذوي احلياة ينتج بالطريق االْوىل وبالقياس االْولَ ّ‬
‫االنتظام املطرد ‪ -‬امتالء هذه الفضاء الوسيعة بربوجها وجنومها ومساواهتا من ذوي األرواح‬
‫الذي يدعوهم الشرع باملالئكة املنطوية على أجناس خمتلفة فتأمل!‪..‬‬

‫املقام الثاين‪:‬‬

‫اعلم ‪ -‬كما مر ‪ -‬ان احلياة هي الكشافة للموجودات بل هي النتيجة هلا‪ ،‬فاذاً كيف ختلو‬
‫هذه الفضاء الوسيعة من ساكنيها وتلك السموات من عامريها‪ .‬ولقد‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪212 :‬‬

‫أمجع العقالء إمجاعا معنويا ‪ -‬وان اختلفوا يف طرق التعبري ‪ -‬على وجود معىن املالئكة‬
‫اال ْشراقِيّني‬
‫اجملردة الروحانية لألنواع‪ ،‬و ِ‬
‫عربوا عنهم باملاهيات َّ‬
‫املشائيني ّ‬
‫وحقيقتهم‪ ،‬حىت ان ّ‬
‫عربوا عنها بالعقول وأرباب األنواع‪ ،‬وأهل األديان مبلَك اجلبال وملَك البحار وملك االمطار‬ ‫ّ‬
‫مثال‪ .‬حىت ان املاديني الذين عقوهلم يف عيوهنم مل يتيسر هلم انكار معىن املالئكة بل نظروا‬
‫اليهم يف القوات السارية يف نواميس الفطرة‪.‬‬

‫فان قلت‪ :‬أفال يكفي الرتباط الكائنات وحيويتها هذه النواميس وتلك القوانني اجلارية يف‬
‫اخللقة؟‬

‫قيل لك‪ :‬ما تلك النواميس اجلارية والقوانني السارية اال أمور اعتبارية بل ومهية ال يتعني هلا‬
‫وم ْن هو آخذ برأس خيوطها وان هي إالّ‬ ‫ِ‬
‫وجود وال يتشخص هلا ُهويّة اال مبمثّالهتا ومعاكسها َ‬
‫املالئكة‪ ..‬وأيضاً قد اتفق احلكماء والعقل والنقل على عدم احنصار الوجود يف عامل الشهادة‬
‫الظاهر اجلامد الغري املوافق لتشكل األرواح‪ .‬فعامل الغيب املشتمل على عوامل ‪ -‬املوافق‬
‫مظهر حلياة عامل الشهادة‪ ..‬فاذا شهدت لك هذه‬ ‫‪،‬‬ ‫‪1‬‬
‫للسماك ‪ -‬مشحون هبا‬ ‫لألرواح كاملاء ِ‬
‫ٌ‬
‫األمور األربعة على وجود معىن املالئكة فأحسن صور وجودهم اليت ترضى هبا العقول‬
‫السليمة ماهو إالّ ماشرحه الشرع من ّاهنم عباد مكرمون ال خيالفون مايؤمرون‪ ،‬وكذا اهنم‬
‫أجسام لطيفة نورانية ينقسمون إىل أنواع خمتلفة‪.‬‬

‫املقام الثالث‪:‬‬

‫اعلم ان مسألة املالئكة من املسائل اليت يتحقق الكل بثبوت جزء واحد‪ ،‬ويُعلم النوع برؤية‬
‫الكل‪ .‬مث كما انه حمال عندك ‪ -‬ايقظك هللا ‪ -‬أن جيمع‬
‫أحد األشخاص‪ ،‬اذ من أنكر أنكر َّ‬
‫أهل كل األديان يف كل األَعصار من آدم اىل اآلن على وجود املالئكة وثبوت احملاورة معهم‬
‫وثبوت مشاهدهتم والرواية عنهم كمباحثة الناس طائفة عن طائفة‪ ،‬بدون رؤية فرد بل أفراد‬
‫منهم وبدون ضرورة وجود شخص بل أشخاص منهم‪ ،‬وبدون االحساس بالضرورة‬
‫بوجودهم؛ كذلك حمال أن يقوم َوْهم كذلك يف عقائد البشر ويستمر هكذا ويبقى يف‬
‫االنقالبات بدون حقيقة يتسنبل عليها وبدون مبادئ ضرورية مولِّدة لذلك االعتقاد‬
‫العمومي‪ .‬فإذاً ليس سند هذا‬
‫ّ‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬اى باملالئكة‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪211 :‬‬

‫االمجاع االّ حدس تولَّد من تفاريق امارات حصلت من واقعات مشاهدات نشأت من‬
‫مبادئ ضرورية‪ .‬وليس سبب هذا االعتقاد العمومي اال مبادئ ضرورية تولدت من رؤيتهم‬
‫كرات تفيد قوة التواتر املعنوي‪ .‬واالّ رفع األمن من يقينيات معلومات البشر‪.‬‬‫ومشاهدهتم يف ّ‬
‫فاذا حتقق وجود واحد من الروحانية يف زمان ّما حتقق وجود هذا النوع‪ .‬واذا حتقق هذا النوع‪،‬‬
‫كان كما ذكره الشرع وبيّنه القرآن الكرمي‪.‬‬
‫مث ان نظم مآل هذه اآلية بسابقها من أربعة وجوه‪:‬‬

‫األول‪ :‬انه ملا كانت هذه اآليات يف تعداد النعم العظام‪ ،‬واشارت األوىل إىل أعظمها ‪ -‬من‬
‫كون البشر نتيجة للخلقة وكون مجيع ما يف األرض مسخراً له يتصرف فيها على ما يشاء ‪-‬‬
‫اشارت هذه اىل ان البشر خليفة األرض وحاكمها‪.‬‬

‫والثاين‪ :‬ان هذه اآلية بيان وتفصيل وايضاح وحتقيق وبرهان وتأكيد ملا يف اآلية األوىل من أن‬
‫أزمة سالسل ما يف األرض يف يد البشر‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬ان تلك ملا بيّنت بناء املسكنني من األرض والسماء اشارت هذه اىل ساكنيهما من‬
‫البشر وامللَك‪ ،‬واهنا رمزت اىل سلسلة اخللقة‪ ،‬وأومأت هذه اىل سلسلة ذوي األرواح‪.‬‬

‫والرابع‪ :‬اهنا ملا صرحت بأن البشر هو املقصود من اخللقة وان له عند خالقه ملوقعاً عظيما‪،‬‬
‫اختلج يف ذهن السامع انه كيف يكون للبشر هذه القيمة مع كثرة شروره وفساده؟ وهل‬
‫تستلزم احلكمة وجوده للعبادة والتقديس له تعاىل؟ فأشارت هذه اىل ان تلك الشرور‬
‫السر املودع فيه‪ ،‬وان هللا غين عن عبادته اذ له تعاىل من املالئكة‬ ‫واملفاسد تُغتفر يف جنب‬
‫ّ ُ‬
‫املسبِّحني واملق ِّدسني ما ال حيصر بل حلكمة يف علم عالّم الغيوب‪.‬‬

‫وأما نظم اجلمل بعضها مع بعض فهو‪:‬‬

‫تنصب بناء على اقتضاء "اذ" رديفا هلا‪ ،‬وعطفه على (وهو بكل شيء عليم) ‪ -‬إىل‬ ‫ُّ‬ ‫ان اآلية‬
‫تقدير ‪ 1‬إذ خلق ما خلق منتظما متقنا هكذا واذ قال ربك للملئكة اخل‪ ،‬وانه تعاىل ملا‬
‫سر احلكمة ولتعليم‬
‫خاطب مع املالئكة ‪ -‬ليستفسروا ّ‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬وذلك لعدم وجود عالقة بني اآليتني (ت‪)229 :‬‬


‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪210 :‬‬

‫بسر املقاولة اىل ما‬


‫طريق املشاورة قائال (اين جاعل يف األرض خليفة) ‪ -‬توجه ذهن السامع ّ‬
‫وبسر االستفسار عن حكمته مع التعجب اىل (أجتعل فيها)؟ وبسر استخالفهم عن‬ ‫"قالوا"؟ ّ‬
‫اجلن املفسدين مع توديع القوة الغضبية والشهوية فيهم أيضا اىل (من يفسد فيها) بتجاوز‬
‫القوة الثانية (ويسفك الدماء) بتجاوز القوة األوىل‪ .‬مث بعد متام السؤال واالستفسار والتعجب‬
‫ينتظر ذهن السامع جلوابه تعاىل‪ .‬فقال‪( :‬قال اين اعلم ماال تعلمون) أي فاألشياء ليست‬
‫منحصرة يف معلوماتكم‪ .‬فعدم علمكم ليس امارة على العدم‪ ،‬واين حكيم‪ ،‬يل فيهم حكمة‬
‫يغتفر يف جنبها فسادهم وسفكهم‪.‬‬

‫أما نظم هيئات مجلة مجلة‪ ،‬فاعلم! ان الواو يف (واذ قال ربك للملئكة اين جاعل يف األرض‬
‫خليفة) وكذا يف (واذ قال ربك للملئكة اين خالق بشراً من صلصال) ‪ 1‬يف آية أخرى بسر‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ره ْم بِ َذل َ‬
‫ك"‬ ‫املناسبة العطفية اشارة اىل "اذ واذ" كما مر‪ .‬وكذا ‪ -‬بسر ان الوحي يتضمن "ذَ ّك ُ‬
‫اشارة اىل "واذكر هلم اذ" اخل‪..‬‬

‫وان (اذ) املفيد للزمان املاضي لتسيري األذهان يف األزمنة املتسلسلة املاضوية ورفع وجلب‬
‫واحضار هلا اىل ذلك الزمان لتنظره فتجتين ما وقع فيه‪ ..‬وان (ربك) اشارة اىل احلجة على‬
‫كملك وجعلك مرشداً للبشر إلزالة فسادهم أي "انت احلسنة الكربى اليت‬ ‫املالئكة أي ربّاك و ّ‬
‫ترجحت وغطت على تلك املفاسد"‪ ..‬وان (للملئكة) اشارة يف هذه املقاولة الكائنة على‬
‫صورة املشاورة اىل ان لسكان السموات أعين املالئكة مزيد ارتباط وعالقة وزيادة مناسبة مع‬
‫وح َفظة وَكتَبَة على هؤالء فح ّقهم االهتمام‬
‫موكلني َ‬
‫سكان األرض أعين البشر‪ .‬فان من اولئك ُ‬
‫بشأهنم‪ .‬وان "ان" بناء على كوهنا لرد الرتدد املستفاد من "أجتعل" اشارة اىل عظمة املسألة‬
‫وأمهيتها‪ .‬وان ياء املتكلم وحده هنا مع "نا" للمتكلم مع الغري يف "قلنا" يف اآليات اآلتية‬
‫اشارة اىل ان ال واسطة يف اجياده وخلقه كما توجد يف خطابه وكالمه‪ .‬ومما يدل على هذه‬
‫النكت آية (انا انزلنا اليك الكتاب باحلق لتحكم بني الناس مبا اريك هللا) ‪ 2‬فقال "انزلنا"‬
‫بنون العظمة لوجود الواسطة يف الوحي وقال "أريك هللا"‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة احلجر‪29 :‬‬

‫‪ 2‬سورة النساء‪149 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪219 :‬‬

‫مفرداً لعدم الواسطة يف إهلام املعىن‪ .‬وان ايثار (جاعل) على "خالق" اشارة اىل ان مدار‬
‫الشبهة واالستفسار اجلعل(‪. )1‬والتخصيص لعمارة األرض ال اخللق واالجياد‪ ،‬ألن الوجود‬
‫خري حمض واخللق فعله الذايتّ ال يُسأل عنه‪ .‬وان ايثار "يف" يف (يف األرض) على "على" مع‬
‫ان البشر على األرض الخيلو من االمياء اىل ان البشر كالروح املنفوخ يف جسد األرض‪ ،‬فمىت‬
‫األرض وماتت‪ .‬وان (خليفة) اشارة اىل انه قد وجد قبل َهتئ األرض‬ ‫ُ‬ ‫خرج البشر خربت‬
‫األوليةُ لألرض وهذا هو‬
‫ط حياته االدو ُار ّ‬ ‫خملوق ُم ْد ِرك ساعدت شرائ َ‬
‫لشرائط حياة اإلنسان ٌ‬
‫األوفق لقضية احلكمة‪ .‬واملشهور ان ذلك املخلوق امل ْد ِرك كان نوعا من اجلن فأفسدوا‬
‫ُ‬
‫فاستُخلفوا با ِإلنسان‪.‬‬

‫اما هيئات مجلة (قالوا أجتعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) فاعلم! ان استيناف‬
‫(قالوا) اشارة اىل ان توجيه خطابه تعاىل اىل املالئكة يلجئ السامع اىل السؤال بـ "كيف‬
‫بيت وأيرضون هبم قرناء وما رأيهم فيهم؟" فقال‪" :‬قالوا"‪ .‬وان وجه كونه‬
‫بيت َ‬‫يتل ّقون جرياهنم َ‬
‫جزاء لـ "اذ" هو‪ :‬ان حكم هللا تعاىل جبعل البشر خليفة يف األرض ‪ -‬اليت وّكل عليها املالئكة‬
‫‪ -‬مع انه ال مشري له تعاىل وال وزير يستلزم اظهار كيفية تلقيهم هلم‪ .‬وان صورة القول اشارة‬
‫اىل اسلوب املقاولة على صورة املشاورة لتعليم الناس مع تنزهه تعاىل عنها‪ .‬وان استفهام‬
‫(أجتعل) فلتحقق اجلعل باخباره تعاىل متتنع حقيقتُه فيتولد منه التعجب الناشئ عن خفاء‬
‫السبب فيتولد منه االستفسار ‪ -‬أي ما حكمة اجلعل؟ فاستفهم عن املسبب بدال عن‬
‫السبب وليس ل ِإلنكار لعصمتهم ‪ .2‬وان اجلعل رمز اىل ان شؤون البشر ونسبه االعتبارية‬
‫ووضعياته ليست من لوازم الطبيعة وال من ضروريات الفطرة بل كل منها جبعل اجلاعل‪ .‬وان‬
‫(فيها) مع "فيها" مع قصر املسافة فللتنصيص واالمياء اىل معىن‪ :‬ما حكمة جعل البشر روحا‬
‫منفوخا يف جسد األرض حلياهتا مع وجود الفساد واالماتة من حيث األحياء؟‪ .‬وان التعبري بـ‬
‫(م ْن) اشارة اىل انه ال يعنيهم شخصية البشر وامنا يثقل عليهم عصيان خملوق هلل تعاىل‪ .‬وان‬‫َ‬
‫ايراد (يفسد) بدل "يعصي" اشارة اىل ان العصيان ينجر اىل فساد نظام العامل‪ .‬وان صورة‬
‫املضارع اشارة اىل ان‬

‫_____________________‬

‫(‪ )1‬اي جعل البشر وختصيصه لعمارة االرض (ت‪)214 :‬‬

‫( ‪)2‬ان القصد من استفهام املالئكة ليس اعرتاضاً على اجلعل‪ ،‬اذ حتقق باخباره تعاىل‪،‬‬
‫والهنم ال يعصون هللا ما امرهم‪ ،‬وامنا هو استفسار عن حكمة اجلعل‪ ،‬وذلك خلفاء السبب‬
‫عنهم (ت‪.)212 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪216 :‬‬

‫املستنكر جتدد العصيان واستمراره‪ .‬وقد علموا ذلك اما باعالمه تعاىل أو مبطالعة اللوح أو‬
‫مبعرفة فطرهتم من عدم حتديد القوى املودعة فيهم‪ .‬فبتجاوز الشهوية حيصل الفساد وبتعدي‬
‫الغضبية ينشأ السفك والظلم‪ .‬و(فيها) أي مع أهنا كانت مسجداً اُسس على التقوى‪ .‬وان‬
‫موقع "الواو" اجلمع بني الرذيلتني مبناسبة اجنرار الفساد اىل سفك الدم‪ .‬وان ايثار (يسفك)‬
‫على "يقتل" ألن السفك هو القتل بظلم‪ .‬ومن القتل ما هو جهاد يف سبيل هللا وكذا قتل‬
‫الفرد لسالمة اجلماعة كقتل الذئب لسالمة الغنم‪ .‬واما الدماء فتأكيد ملا يف السفك من الدم‬
‫لتشديد شناعة القتل‪.‬‬

‫وأما هيئات (وحنن نسبح حبمدك ونقدس لك) فواو احلال اشارة اىل استشعارهم االعرتاض‬
‫عليهم بـ "اما يكفيكم حكمة عبادة البشر وتقديسه له تعاىل؟" (وحنن) أي معاشر املالئكة‬
‫املعصومني من املعاصي‪ ..‬وامسية اجلملة اشارة اىل ان التسبيح كالسجية هلم والالزم لفطرهتم‬
‫وهم له‪ .‬أما (نسبح حبمدك) فكلمة جامعة أي نعلنك يف الكائنات بأنواع العبادات‪..‬‬
‫ونعتقد تنزهك عما ال يليق جبنابك بتوصيفك بأوصاف اجلالل وما هو اال من نعمك احملمود‬
‫عليها‪ .‬ونقول "سبحان هللا وحبمده"‪ .‬وحنمدك ونصفك بأوصاف اجلالل واجلمال‪ .‬ونقدس‬
‫لك أي نقدسك‪ ،‬أو نطهر أنفسنا وأفعالنا من الذنوب وقلوبنا من االلتفات اىل غريك‪ .‬فالواو‬
‫للجمع بني الفضيلتني أي امتثال األوامر واجتناب النواهي‪ ،‬فيكون حذاء الواو األول‪.‬‬

‫واما هيئات (قال اين اعلم ما التعلمون) فاستينافها اشارة اىل السؤال بـ "ماذا قال هللا تعاىل‬
‫بني السبب مزيال لتعجبهم‪ ،‬وما احلكمة يف ترجيح البشر عليهم؟"‬ ‫جميبا الستفسارهم‪ ،‬وكيف ّ‬
‫فقال "قال" مشرياً إىل جواب امجايل مث فصل بعض التفصيل باآلية التالية‪ .‬و" ان" يف (اين‬
‫اعلم) للتحقيق ورد الرتدد والشبهة وهو امنا يكون يف حكم نظري ليس مبسلّم مع بداهة‬
‫ومسلّمية علم هللا تعاىل مبا ال يعلم اخللق وحاشاهم عن الرتدد يف هذا‪ .‬فحينئذ يكون "ان"‬
‫مناراً على سلسلة مجل خلصها القرآن الكرمي وأمجلها وأوجزها بطريق بياينّ مسلوك‪ .‬أي‪ :‬ان‬
‫يف البشر مصاحلَ وخرياً كثريا تغمر يف جنبها معاصيه اليت هي شر قليل‪ ،‬فاحلكمة تنايف ترك‬
‫ذلك هلذا‪ .‬وان يف البشر لسراً ّاهله للخالفة غفلت عنه املالئكة وقد علمه خالقه‪..‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪217 :‬‬

‫وان فيه حكمة رجحته عليهم اليعلموهنا ويعلمها من خلق‪ .‬وأيضاً قد يتوجه معىن "ان" اىل‬
‫احلكم الضمين املستفاد من واحد من قيود مدخوهلا أي ال تعلمون بالتحقيق‪ ..‬وأيضاً (اعلم‬
‫ما ال تعلمون) من قبيل ذكر الالزم وارادة امللزوم أي يوجد ما ال تعلمون‪ ،‬اذ علمه تعاىل الزم‬
‫لكل شئ فنفى العلم دليل على عدم املعلوم كما قال تعاىل (مبا ال يعلم) أي ال ميكن‬
‫واليوجد‪ ،‬ووجود العلم دليل على وجود املعلوم‪ ..‬مث انه قد ذكر يف حتقيق هذا اجلواب‬
‫االمجايل ان هللا عليم حكيم‪ .‬الختلو أفعاله تعاىل عن حكم ومصاحل‪ ،‬فاملوجودات ليست‬
‫حمصورة يف معلومات اخللق فعدم العلم ال يدل على العدم‪ ،‬وان هللا تعاىل ملا خلق اخلري‬
‫احملض أعين املالئكة‪ ،‬والشر احملض أعين الشياطني‪ ،‬وما الخري عليه وال شر أعين البهائم‪،‬‬
‫اقتضت حكمة الفيّاض املطلق وجود القسم الرابع اجلامع بني اخلري والشر‪ .‬إن انقادت القوة‬
‫الشهوية والغضبية للقوة العقلية فاق البشر على املالئكة بسبب اجملاهدة‪ ،‬وان انعكست‬
‫انزل من البهائم لعدم العذر‪.‬‬
‫القضية صار َ‬

‫***‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪219 :‬‬

‫ض ُه ْم َعلَى الْ َملئِ َك ِة فَ َ‬


‫قال اَ ََنْبِ ُؤِين‬ ‫َو َعلَّ َم َاد َم االْ ْمساءَ ُكلَّها ُمثَّ َعَر َ‬
‫ك ال ِع ْل َم لَنا اِالَّ‬
‫قني ‪ 11‬قالُوا ُسْبحانَ َ‬
‫َمس ِاء هؤال ِء اِ ْن ُكْنتم ِ‬
‫صاد َ‬‫ُْ َ‬ ‫بِأ ْ َ ُ‬

‫يم ‪ 12‬قَ َال يا َاد ُم اَنْبِْئـ ُه ْم بِاَ ْمسائِ ِه ْم‬ ‫َّك اَنْتَ الْعلِيم ْ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫احلَك ُ‬ ‫َما َعل ْمتَنا ان َ َ َ َ ُ‬
‫السمو ِ‬
‫ات‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫ب َّ َ‬‫فَـلَ َّما اَنْـبَاَ ُه ْم باَ ْمسائه ْم قَ َال اَ َملْ اَقُ ْل لَ ُك ْم ا ّين اَ ْعلَ ُم َغْي َ‬
‫َواالْ ْر ِ‬
‫ض َواَ ْعلَ ُم َما تَـْب ُدو َن َوما ُكْنتُ ْم تَكْتُ ُمو َن ‪11‬‬

‫مـقـدم ــة‬

‫اعلم! ان هذه معجزة آدم حت ِّديت هبا املالئكة بل معجزة نوع البشر يف دعوى اخلالفة‪ .‬ان يف‬
‫ص لعرباً‪ .‬مث اين نظراً اىل ان (وال رطب واليابس اال يف كتاب مبني) ‪ 1‬ومستنداً اىل ان‬
‫القص َ‬
‫َ‬
‫‪2‬‬
‫ألفهم من اشارات‬
‫التنزيل كما يفيدك بدالالته ونصوصه؛ كذلك يعلّمك باشارته ورموزه‪ُ ،‬‬
‫التشجيع للبشر على‬
‫َ‬ ‫التشويق و‬
‫َ‬ ‫صص األنبياء ومعجزاهتم‬ ‫استاذية اعجاز القرآن الكرمي يف قَ َ‬
‫التوسل للوصول إىل أشباهها‪ .‬كأن القرآن بتلك القصص يضع اصبعه على اخلطوط‬
‫األساسية ونظائر نتايج هنايات مساعي البشر للرتقي يف االستقبال الذي يُبىن على مؤسسات‬
‫املاضي الذي هو مرآة املستقبل‪ .‬وكأن القرآن ميسح ظهر البشر بيد التشويق والتشجيع قائال‬
‫له‪ :‬اسع واجتهد يف الوسائل اليت توصلك اىل بعض تلك اخلوارق! أفال ترى ان الساعة‬
‫والسفينة أول ما أهدهتما للبشر يد املعجزة‪ .‬وان شئت فانظر اىل (وعلّم آدم االمساء كلها)‬
‫جبال ّأويب معه والطري وألنّا له احلديد) ‪ 1‬واىل (ولسليمن‬
‫داود منّا فضال يا ُ‬ ‫واىل (ولقد اتينا َ‬
‫ني‬
‫أس ْلنا له َع َ‬
‫دوها شهر ورواحها شهر و َ‬ ‫الريح غُ ّ‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة االنعام‪91 :‬‬

‫‪ 2‬فان كنت يف ريب فيما استخرجه من لطائف نظم التنزيل‪ ،‬فاقول‪:‬‬

‫قد استشرنا ابن الفارض تفاؤالً فأجاب بـ‪:‬‬

‫تنزلوا على قلبه وحياً مبا يف صحيفة (حبيب)‬


‫كأن الكرام الكاتبني ّ‬
‫‪ 3‬سورة سبأ‪14 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪211 :‬‬

‫فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) ‪ 2‬واىل‬


‫ْ‬ ‫احلجَر‬
‫َ‬ ‫بعصاك‬
‫َ‬ ‫(اضرب‬ ‫اىل‬‫و‬ ‫النحاس"‬ ‫"أي‬ ‫‪1‬‬
‫القطر)‬
‫األبرص ََ بإذين) ‪ .! 1‬مث تأمل فيما خمّضه تالحق أفكار البشر واستنبطه من‬
‫(وتربئ االكمهَ و َ‬
‫ُ‬
‫ناطق‪ .‬كل منها ‪ -‬خبواص وصفات وأمساء ‪ -‬نوع من أنواع الكائنات حىت صار‬ ‫ألوف ٍ‬
‫فنون ٍ‬
‫البشر مظهر (وعلّم آدم األمساء كلها) مث فيما استخرجه فكر البشر من عجائب الصنعة من‬
‫الس ّكة احلديدية واآللة الربقية وغريمها بواسطة تليني احلديد وإذابة النحاس حىت صار مظهر‬
‫احلديد) الذي هو ّام صنائعه‪ ،‬وفيما أفرخه أذهان البشر من الطيّارات اليت تسري يف‬
‫َ‬ ‫(وألنّا له‬
‫احها شهر)‪ ،‬وفيما ترقى اليه سعى البشر‬‫شهر َورو ُ‬
‫يوم شهراً حىت كاد ان يصري مظهر (غُ ُدوها ٌ‬
‫نضاخة‬
‫من اخرتاع اآلالت والعصي اليت تضرب يف األرض الرملة اليابسة فتفور منها عني ّ‬
‫وتصري الرملة روضة حىت أوشك ان يصري مظهر (اضرب بعصاك احلجر)‪ ،‬وفيما انتجه‬
‫جتارب البشر من خوارق الطب اليت طفق ان تربئ األكمه واألبرص واملزمن باذن هللا‪ ..‬تر‬
‫مناسبة تامة تصح لك أن تقول تلك مقائسها‪ ،‬وذكرها يشري اليها ويشجع عليها‪..‬‬

‫نار كوين برداً وسالما) ‪ 0‬واىل (لوال ان َرا برها َن ربه) ‪ 9‬أي صورة‬
‫وكذا انظر اىل قوله تعاىل (يا ُ‬
‫(ياجبال ّأويب معه)‬ ‫يح يوسف) ‪ 6‬واىل‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫يعقوب عاضا على اصبعه يف رواية‪ ،‬واىل (اين ألَجد ر َ‬
‫واىل (عُلِّمنا منطق الطري) ‪ 7‬واىل (أنا اتيك به قبل ان يرت ّد اليك طرفُك) ‪ 9‬وأمثاهلا‪ ،‬مث تأمل‬
‫فيما كشفه البشر من مرتبة النار اليت الحترق ومن الوسائط اليت متنع ا ِإلحراق‪ ،‬وفيما اخرتعه‬
‫من الوسائل اليت جتلب الصور واألصوات من مسافات بعيدة وحتضرها اليك قبل ان يرتد‬
‫اليك طرفك‪ ،‬وفيما أبدعه فكر البشر من اآلالت الناطقة مبا تتكلم‪ ،‬ويف استخدامه ألنواع‬
‫الطيور واحلمامات وقس عليها‪ ،‬لرتى بني هذين القسمني مالءمة حيق هبا ان يقال يف هذه‬
‫رموز اىل تلك‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬سورة سبأ‪12 :‬‬

‫‪ 2‬سورة البقرة‪64 :‬‬

‫‪ 3‬سورة املائدة‪114 :‬‬

‫‪ 4‬سورة االنبياء‪61 :‬‬


‫‪ 5‬سورة يوسف‪20 :‬‬

‫‪ 6‬سورة يوسف‪10 :‬‬

‫‪ 7‬سورة النمل‪16 :‬‬

‫‪ 8‬سورة النمل‪04 :‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪204 :‬‬

‫وكذا تأمل يف خاصية املعجزة الكربى اليت هي خاصية الناطقية اليت هي خاصية االنسانية‬
‫يريب روح البشر وألطف ما يص ِّفي وجدانه‬
‫وهي األدب والبالغة‪ ،‬مث تدبر يف ان أعلى ما ِّ‬
‫وأحسن ما يزيِن فكره وأبسط ما ِ‬
‫يوسع قلبه امنا هو نوع من األدبيات‪ .‬وألمر ّما ترى هذا‬ ‫ّ‬
‫النوع أبسط الفنون وأوسعها جماال وأنفذها وأشدها تأثرياً وألصقها بقلوب البشر حىت كأنه‬
‫سلطاهنا‪ .‬فتأمل!‪..‬‬

‫مث ان هلذه اآلية أيضا الوجوه الثالثة النظمية‪:‬‬

‫أما نظم مآهلا بسابقتها فمن وجوه أربعة‪:‬‬

‫األول‪ :‬ان التنزيل ملا ذكر يف اآلية األوىل يف بيان حكمة خلقة االنسان ما هو ّاول االجوبة‬
‫وأوالها وأعمها للكل وأيسرها وأسهلها اقناعاً وأمجلها امجاال وأوجزها‪ّ ،‬بني هبذه اآلية جوابا‬
‫تفصيليا يطمئن به العوام واخلواص‪.‬‬

‫والثاين‪ :‬انه ملا صرح يف تلك مبسألة اخلالفة للبشر برهن هبذه على تلك الدعوى مبعجزة ذلك‬
‫النوع يف مقابلة املالئكة‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬انه ملا أشار بتلك اىل ترجح البشر على امللَك رمز هبذه اىل لِميّة الرجحان‪.‬‬
‫والرابع‪ :‬انه ملا ّلوح هبا اىل مظهرية هذا النوع للخالفة الكربى يف األرض ملح هبذه احتجاجا‬
‫عليها اىل ان االنسان هو النسخة اجلامعة واملظهر االمتّ لكل التجليات لتنوع استعداداته‬
‫وتكثر طرف استفاداته وعلمه فيحيط بالكائنات حبواسه اخلمس الظاهرة والباطنة ال سيما‬
‫بوجدانه الذي ال قعر له‪ .‬أفال تراه يعلم أمثال حالوة العسل بوجهني بل بوجوه خالف امللَك‬
‫فتأمل!‬

‫ففطري يف غاية السالسة‪ :‬فاألوىل‪ :‬حتقيق ملضمون (اين‬


‫ّ‬ ‫أما نظم اجلمل بعضها مع بعض‬
‫أعلم ما ال تعلمون) وتفصيل ملا أمجل فيها وتفسري ملا أهبم‪ ..‬وكذا ان خالفة هللا تعاىل يف‬
‫أرضه إلجراء أحكامه وتطبيق قوانينه تتوقف على علم تام‪ ..‬وكذا ان انصباب الكالم يف‬
‫وسواه ونفخ فيه من روحه وربّاه مث علّم األمساء وأعده‬
‫اآلية األوىل ينجر اىل "فخلقه ّ‬
‫للخالفة"‪ .‬مث ملا اصطفاه على املالئكة وميّزه بعلم األمساء يف مسألة الرجحان واستحقاق‬
‫اخلالفة اقتضى مقام التح ِّدي عرض األشياء‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪201 :‬‬

‫اقروا حبكمته تعاىل واطمأنوا‪.‬‬


‫عليهم وطلب املعارضة منهم‪ .‬مث ملا أحسوا بالعجز من أنفسهم ّ‬
‫وهلذا قال‪( :‬مث عرضهم على امللئكة فقال انبؤين بأمساء هؤالء ان كنتم صادقني)‪" .‬قالوا" أي‬
‫دسه يف استفسارهم انانيةُ ابليس (سبحانك ال علم لنا اال ما علمتنا انك انت‬ ‫متربئني مما ّ‬
‫العليم احلكيم) ‪ 1‬مث ملا ظهر عجزهم لعدم جامعية استعدادهم اقتضى املقام بيان اقتدار آدم‬
‫حىت يتم التح ِّدي فقال‪( :‬يا آدم أنبئهم بامسائهم) مث ملا امتثل وظهر سر احلكمة فيه اقتضى‬
‫املقام استحضار اجلواب االمجايل السابق وجعله كالنتيجة هلذا التفصيل فقال‪( :‬أمل أقل لكم‬
‫تشف‬
‫اين أعلم غيب السموات واألرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) واعلم! انه قد ّ‬
‫وحتس صورة املقاولة عن تولّد انانية ابليس فيما بني املالئكة وتشعر بتداخل اعرتاض طائفة‬
‫ّ‬
‫بني استفسارهم‪.‬‬
‫صوره بفطرة تضمنت‬ ‫أما نظم هيئات مجلة مجلة‪ :‬فجملة (وعلم آدم األمساء كلها) أي ّ‬
‫مبادئ أنواع الكماالت‪ ،‬وخلقه باستعداد زرع فيه أنواع املعايل‪ ،‬وجهزه باحلواس العشر‬
‫وبوجدان تتمثل فيه املوجودات‪ ،‬واع ّده هبذه الثالث لتعلّم حقائق األشياء بأنواعها‪ ،‬مث علّمه‬
‫األمساء كلها‪ .‬الواو فيها اشارة اىل اجلمل املطوية حتت إجيازه كما مر‪ .‬و(علم) فيه اشارة اىل‬
‫تنويه العلم ورفعة درجته وانه هو احملور للخالفة‪ ..‬وكذا رمز اىل أن األمساء توقيفية‪ .‬ويؤيده‬
‫وجود املناسبة املرجحة للوضع ‪ -‬يف األغلب ‪ -‬بني األمساء واملسميات‪ ..‬وكذا امياء اىل ان‬
‫املعجزة فعل هللا بال واسطة خالفاً للفالسفة الذين يقولون ان اخلوارق أفعال لألرواح اخلارقة‪.‬‬
‫و(آدم) أي الشخص األرضي الذي أراد هللا تعاىل خالفته ومساه آدم فالتصريح بالعلم لتنويهه‬
‫وتشهريه واحضاره بصورته‪ ..‬و(األمساء) مسات األشياء من الصفات واخلواص واألمساء‪ ،‬أو‬
‫اللغات‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬لقد جاءت اىل لساين ‪ -‬دون اختيا ٍر مين‪ -‬هذه اآلية الكرمية يف ختام معظم "الكلمات "‬
‫و "املكتوبات " من رسائل النور‪ ،‬واآلن فقط ادركت ان تفسريي هذا قد اُختتم ايضاً هبذه‬
‫اآلية الكرمية‪ .‬فجميع "الكلمات " اذاً ما هي االّ تفسري حقيقي هلذه اآلية الكرمية‪ ،‬وجدول‬
‫رقراق ينساب من حبرها مث يصب فيه يف خامتة املطاف‪ .‬حىت لكأن كل " كلمة " من‬
‫"الكلمات " تنبع من هذه اآلية الكرمية‪ .‬فانا اذاً مل استكمل منذ ذلك الوق تفسري هذه اآلية‬
‫كي اشرع يف اجلزء الثاين من التفسري‪.‬‬

‫سعيد النورسي (ت‪)200:‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪202 :‬‬


‫اليت اقتسمها بنو آدم‪ .‬وفيه امياء بدليل (عرضهم) اىل ان االسم عني املسمى ‪ 1‬كما عليه‬
‫أهل السنة و (كلها) تنصيص على منشأ التميز ومدار االعجاز‪ ..‬ومجلة (مث عرضهم على‬
‫امللئكة فقال انبؤين بأمساء هؤالء ان كنتم صادقني) فـ (مث) اشارة بسر الرتاخي واقتضاء املقام‬
‫اىل "وقال هو أكرم منكم وأحق باخلالفة"‪ .‬واما (عرضهم) أي اظهر أنواع األشياء مبسوطة‬
‫للبيع النظارهم كعرض املتاع على املشرتي وعرض الصفوف على األمري ففيه اشارة اىل ان‬
‫للم ْد ِرك يشرتيها بالعلم‪ ،‬ويأخذها باالسم‪ ،‬ويتملكها بتمثل الصورة‪ .‬وأما‬
‫املوجودات مال ُ‬
‫"هم" الدال على الذكور العقالء فسر ما فيه من التغليبني واجملاز ما يرمز اليه لفظ العرض ‪.2‬‬
‫اذ يتخيل من ارساله صور طوائف املوجودات مارة صفاً صفاً على األنظار ‪ -‬كوهنا قبائل من‬
‫العقالء جييئون اليهم‪ .‬واما (على) فامياء اىل ان ما يعرض عليهم هي الصور املرتسمة يف اللوح‬
‫األعلى‪.‬‬

‫_____________________‬

‫‪ 1‬اى اذا اريد باالسم ذات الشئ(ب)‬

‫‪ 2‬حيث هناك تغليب الذكور على االناث‪ ،‬وتغليب العقالء على غريهم‪ .‬اما اجملاز فهو يف‬
‫رجوع «هم» اىل انواع اجلمادات (ت‪.)201:‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪201 :‬‬

‫بامسه سبحانه‬

‫كــلم ــة‬
‫لستة من طالب النور‬

‫لقد درسنا على استاذنا الفاضل قسماً من تفسريه املوسوم "اشارات االعجاز" الذي ألّفه قبل‬
‫اربعني سنة اثناء احلرب العاملية االوىل‪ ،‬حينما كان يؤدي فريضة اجلهاد يف اخلط االمامي‬
‫لساحة القتال واحياناً كان على صهوة جواده‪.‬‬

‫وحنن مع قصر فهمنا بدقائق اللغة العربية واسرار البالغة‪ ،‬فقد ادركنا عندما قرأنا هدا التفسري‬
‫على يد استاذنا الفاضل انه تفسري بديع وخارق للعادة‪ ،‬فرأينا من االنسب ان نذكر النقاط‬
‫االربع اآلتية حول بيان هذا التفسري لالعجاز النظمي فحسب من وجوه االعجاز للقرآن‬
‫الكرمي‪:‬‬

‫النقطة االوىل‪:‬‬

‫ان معاىن القرآن الكرمي معاىن شاملة كلية وعامة ال تقتصر على طائفة معينه او على معىن‬
‫جزئي‪ ،‬بل يقدم اطيب االغذية طراً وألذها طعماً اىل الوف الطبقات املتباينة من اجلن‬
‫واالنس‪ ،‬فيويف حاجة افكارهم ويشبع عقوهلم ويغذى قلوهبم وينمي ارواحهم‪ ،‬كل مبا يليق‬
‫به؛ وذلك النه وحي مساوي وخطاب صمداين خياطب هللا سبحانه مجيع طبقات البشر‬
‫املصطفني خلف االعصار‪ ،‬فيجيب عن اسئلة واستفسارات مجيع الطوائف ويليب حاجاهتم‬
‫كلها؛ فال غرو انه كالم رب العاملني‪ ،‬صادر من ارفع مراتب الربوبية املطلقة‪.‬‬

‫النقطة الثانية‪:‬‬

‫ان الفاظ القرآن الكرمي اليت هي مبثابة االصداف لنفائس آللئ املعاين الكلية الشاملة‪ ،‬واليت‬
‫نزلت من صفة الكالم االزيل وخاطبت مجيع االعصار ومجيع البشرية‪ ،‬ال ريب اهنا كلية‬
‫جامعة‪ .‬وقد ملسنا يف هذا التفسري قسماً من االعجاز ‪ -‬القطعي الثبوت ‪ -‬يف كل حرف من‬
‫حروف ذلك الكتاب احلكيم واليت يثمركل‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪200 :‬‬


‫منها عشر حسنات او مائة او الفاً او الوفاً بل يف االوقات املباركة ‪ -‬كليلة القدر ‪ -‬ثالثني‬
‫الف مثر من مثرات اجلنة‪.‬‬

‫النقطة الثالثة‪:‬‬

‫ان احلسن واجلمال اللذين يلمعان يف جمموع الشئ‪ ،‬ال يتحريان يف كل جزء من اجزائه‪ ،‬وال‬
‫يع ّد نقصاً ما مل يشاهد ذلك اجلمال يف اجلزء‪ .‬ومع هذا فان االعجاز النظمى الذي نراه يف‬
‫مجيع سور القرآن الكرمي ويف آياته نراه بنمط آخر عندما ندقق وحنلل هيئات وكيفيات كلماته‬
‫ومجله ‪ .‬وهذا التفسري املؤلف بالعربية يبني منبعاً من املنابع السبعة العجاز الكتاب احلكيم‪،‬‬
‫اال وهو اجلزالة اخلارقة يف الفاظه مبيناً ادق فروعه واخفى اسراره‪ .‬فال شك انه ال يعد اسرافاً‬
‫‪ -‬بل هو حقيقة ‪ -‬اهتمام "اشارات االعجاز" بكل حرف من حروف القرآن العظيم اليت‬
‫يثمر كل منها عشراً من احلسنات بل يرتقى الثواب ثالثني الفاً يف بعض االوقات‪.‬‬

‫النقطة الرابعة‪:‬‬

‫ان معاىن القرآن احلكيم هلا جامعية واسعة وكلية شاملة وذلك لصدوره من الكالم االزىل‬
‫وخطابه مجيع الطبقات البشرية يف مجيع االعصار لذا ال تنحصر تلك املعاين على مسألة‬
‫واحدة كما هي يف االنسان بل هي كالعني الباصرة تنظر اىل اوسع املدى‪ .‬فيضم الكالم‬
‫االزىل ضمن نظره احمليط مجيع االزمان ومجيع البشرية بطوائفها كافة‪.‬‬

‫فبناء على ما اسلفناه نقول‪ :‬ان مجيع الوجوه اليت اوردها املفسرون يف كتبهم الىت تفوق العد‬
‫وما استنبطوه من املعاين املشتمل عليها الكتاب الكرمي صراحة او اشارة او رمزاً او امياءً او‬
‫تلوحياً او تلميحاً مرادة ومقصودة بالذات من الكتاب الكرمي‪ ،‬شريطة ان ال تردها العلوم‬
‫العربية وان تستحسنها البالغة وان يقبلها علم اصول مقاصد الشريعة‪.‬‬

‫طاهري‪ ،‬زبري‪ ،‬صونغور‪ ،‬ضياء‪ ،‬جيالن‪ ،‬بايرام‪.‬‬

‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪209 :‬‬


‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬

‫وبه ثقيت‬

‫كـلـمــة ثـنـ ـ ــاء‬

‫احلمد هلل رب العاملني والصالة والسالم على سيد اخللق حممد وعلى آله وصحبه امجعني‪.‬‬

‫وبعد فقد كان رائدنا العظيم االستاذ املناضل العالمة "بديع الزمان النورسي" منذ ان تفتحت‬
‫امام عينيه آفاق شاسعة من دنيا العلم والعرفان وخاض عباب الكتاب العزيز يتطلع دائما‬
‫(كما كتبه االستاذ يف افادة املرام) اىل انتهاض جلنة مؤلفة من كبار العلماء املتخصصني‪ ،‬كل‬
‫يف ناحية من نواحي العلم‪ ،‬تقوم تلك اللجنة بدراسات طويلة يف شىت نواحي الكتاب الكرمي‬
‫حىت يتحصل ويتولد من حمهوداهتم الكثرية ودراساهتم الطويلة تفسريٌ جامع للقرآن املبني‪،‬‬
‫يستجيب حلاجات القرن العشرين‪ ،‬واستمر لديه ذلك التطلع والرتقب اىل بداية زمن احلرب‬
‫العاملية االوىل‪.‬‬

‫أيس االستاذ من حتقق‬


‫فلما انفلقت قنبلة احلرب بني شعبنا الرتكي وبني الشعب الروسي َ‬
‫ذلك االمل بعض االياس فاضطر ان يكتب ما يلوح له من اشارات اعجاز القرآن‪ .‬فأخذ‬
‫يقيد ويصنف ويرتب ما يسنح له يف شرح آي الذكر احلكيم‪ .‬فجاء منه هذا القسم من‬
‫التفسري‪ ،‬وهو رغم انه وليد فك ٍر واحد اال انه فريد يف بابه مل ينسج لآلن على منواله اي‬
‫تفسري النه يستجلي ويكشف االعجاز املكنون يف نظم الكتاب اجمليد بطريقة عجيبة خمرتعة‬
‫مل نرها ومل نصادفها فيما عثرنا عليه من مشهور التفاسري املتداولة كتفسري "ايب السعود"‬
‫و"الفخر الرازي" و"البيضاوي" وتفسري االستاذ املرحوم "الشيح طنطاوي جوهري" الذي‬
‫افاض واسهب فيه وبني كثريا من العلوم املختلفة اليت تشري اليها االيات الكونية‪.‬‬

‫فردد الطرف اوال يف حتليله املنوط بآية (ومن الناس من يقول امنا‬
‫وان كنت يف ريب مما نقول ّ‬
‫باهلل وباليوم االخر وما هم مبؤمنني) او املنوط بآية (ختم هللا على قلوهبم وعلى مسعهم وعلى‬
‫أبصارهم غشاوة) اخل او بآية (ومما رزقناهم ينفقون)‬
‫إشارات اإلعجاز ‪ -‬ص‪206 :‬‬

‫او بأي آية اخرى من االيات املشروحة يف ذلك التفسري وبعد ذلك طالع يف عني هاتيك‬
‫اآليات السالفة الذكر سائر التفاسري‪ ،‬مث ليتكلم ضمريُك احلر املطلق من قيد التعصب‪.‬‬

‫خالصة القول‪ :‬ان يف عباراته عذوبة وحالوة وطالوة بديعة وتدقيقاً خارقاً جداً يف حتليل آي‬
‫املنزل‪ .‬انه بني جهة مناسبة اآليات بعضها ببعض‪ ،‬وتناسب اجلمل وتناسقها‪ ،‬وكيفية‬ ‫الوحي ّ‬
‫جتاوب هيآت اجلمل وحروفها حول املعين ملراد معتمداً يف ذلك على أدق قواعد علم البالغة‬
‫وعلى اصول النحو والصرف وقوانني املنطق ودسابري علم اصول الدين وسائر ما له عالقة‬
‫بذلك من خمتلف العلوم‪ .‬حىت انه ليبحث عن اخفى مناسبات البالغة الذي ال يكشف‬
‫عادة باجملهر املعنوي املركز يف الدماغ البشري‪.‬‬

‫واعجب من الكل انه وجد ذلك التدقيق البالغ والبحث العميق حينما كان ينصب ويتقاطر‬
‫على املـؤلف من جهاته االربع شابيب رصاص بنادق اجليوش السوفيتية‪ ،‬فكان االستاذ‬
‫يناضل ويطلق بندقيته يف صدور االعداء من جهة ويضع يف مصنع دماغه قنبلة اعجاز القرآن‬
‫الذرية ليحطم هبا بنيان الكفر والضالل من جهة اخرى فيا سبحان هللا من ذكاء اهلي خارق‪،‬‬
‫جمهز ببطولة عجيبة وثبات قلب زائد‪ .‬ان ذلك الوقت العصيب واملوقف الرهيب مل يُدهش‬
‫املؤلف ومل ي ِ‬
‫ذهل فكره الثاقب عن اجلوالن يف مناحي اعجاز القرآن املبني‪ .‬وها حنن تالمذة‬ ‫ُ‬
‫رسائل النور يسرنا ان نضع هذا الكتاب بني يدي االنسانيني من البشر ليدرس دراسة جمردة‬
‫عن االغراض بعيدة عن االهواء والتعصب الذميم‪ .‬ان يف ذلك لذكرى ملن كان له قلب او‬
‫القى السمع وهو شهيد‪ .‬وهللا أسأل ان ينفع به الناس ويهديهم سواء السبيل‪.‬‬

‫الشيخ صدر الدين يوكسل البدليسي‬

‫‪1179‬هـ‬

You might also like