Professional Documents
Culture Documents
الرحيم ِ
الرمحن ّ
ب ْسم هللا ّ
1
املقدمة
جامعة بغداد
احلمـدهلل رب العـامليـن ،والصـالة والسالم على من اُنزل عليه القرآن احلكيم حممد بن عبدهللا
خامت االنبياء والرسل ،وعلى آله واصحابه والتابعني هلم باحسان اىل يوم الدين.
اما بعد:
فيكاد جيمع املنصفون من العلماء والدارسني املطلعني على تطور اوضاع املسلمني يف العصور
االخرية ،ان االستاذ اجلليل بديع الزمان سعيد النورسى ،كان شخصية اسالمية كبرية ،صادق
االميان ،عظيم االخالص ،عزيز النفس ،عارفاً حبقائق التوحيد ،نابغة من نوابغ الزمان ،غزير
العلم ،نافذ الفكر ،داعية ثبتاً اىل هللا تعاىل على بصرية ،محل مهوم املسلمني منذ شبابه،
وقضى حياته يف اجلهاد الدائب يف سبيل توضيح عقيدة االسالم وبيان علل احكامه،
ودحض االفكار املنحرفة والفلسفات اجلاحدة املناقضة له والتخطيط العملي الجل انقاذ
املسلمني من الغزو الفكري اجلارف الذي تعرضوا له منذ اوائل القرن الرابع عشر اهلجري ،بل
قبله.
_____________________
1ثبتنا مقدمة الدكتور حمسن عبد احلميد الىت ق ّدمها مشكوراً للطبعة االوىل املطبوعة يف
العراق سنة 1041هـ 1191 -م -احملقق.
ولقد لقى ،رمحه هللا تعاىل يف سبيل ذلك مالقى ،مما ليس جزاؤه اال عند هللا تعاىل البصري
بعباده الصاحلني واوليائه الصادقني وعلمائه اجملاهدين ،الذين صدقوا العهد مع هللا تعاىل ،ومل
خيشوا فيه سبحانه لومة الئم.
وهذا الكتاب الذي بني يديك -قارئي العزيز -جليل القدر ،رصني السبك ،قوي احلجة،
السَريانية الفائقة لالستاذ النورسى ،وراء املعاين الدقيقة يف كتاباته
ميثل اجلى متثيل القدرة َ
كلها ،السيما العلمية املختصة منها .ولقد كانت تلك موهبة عبقرية ،وهبه هللا تعاىل اياه،
لينظر يف كتاب هللا تعاىل من خالهلا ببصرية نافذة ،ومعرفة كالمية وبالغية عميقة ،وذوق
ذايت رفيع ،ومنهج عقلي سديد ،يلتمس الكشف عن احلقيقة ،ويبغي ايصال االنسان اىل
اقتناع كامل بكون هذا القرآن معجزاً ،حبيث جيد العقالء والفصحاء يف انفسهم ضرورة
االميان واالعرتاف بانه الكتاب احلق الذي نزل من عند عالم الغيوب على رسوله االكرم
حممد بن عبدهللا عليه افضل الصالة وازكى التسليم ،كي يضع االنسانية على طريق دعوة
احلق ،وينور بصريهتا بنور االميان ،وادراك اليقني للوصول اىل العبودية اخلالصة لرب العاملني.
لقد استطاع االستاذ النورسى ان يصقل موهبته الفذة بدراسة العلوم االسالمية والفلسفات
القدمية والعلوم االنسانية والصرفة املعاصرة ،زيادة على اطالعه الواسع على االدب والبالغة
العربية يف كتب امثال اجلاحظ والزخمشري والسكاكي السيما كتب النحوي البالغي الكبري
االمام عبد القاهر اجلرجاين حيث آمن بنظريته املشهورة يف النظم واعجب هبا اميا اعجاب يف
هذا الكتاب.
ومل تكن نظرية النظم جديدة اخرتعها اجلرجاين من غري مقدمات ،وامنا لفت النظر اليها
اجلاحظ يف كتابه نظم القرآن والواسطي يف كتابه اعجاز القرآن يف نظمه والباقالين يف كتابه
اعجاز القرآن غري ان اجلرجاين شرحها شرحا حنويا بيانيا وافيا مرتابطا وصاغ منها نظرية
متكاملة تقوم على اساس عدم الفصل بني اللفظ ومعناه وبني الشكل واملضمون وقرر ان
البالغة يف النظم اليف الكلمة املفردة وال يف جمرد املعاين ،دون تصوير االلفاظ هلا .وبناء على
يعرف النظم بانه :تعليق
ذلك فانه ّ
الكلمة بعضها على بعض ،وجعل بعضها بسبب من بعض ،اي تضع كالمك الوضع الذي
يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه واصوله وتعرف مناهجه فال تزيغ عنها.
وكأين باالستاذ النورسى درس نظرية النظم هذه دراسة متقنة مث ظهر له ان املفسرين الذين
سبقوه كالزخمشري والرازي وايب السعود مل حياولوا تطبيقها من حيث هي منظومة متكاملة
تشمل ترتيب السور واآليات وااللفاظ سورة بعد سورة وآية بعد آية ولفظا بعد لفظ،
بتفاصيلها الكاملة فاراد ان يقتدي هبؤالء املفسرين العظام فيؤلف تفسرياً يطبق فيه نظرية
النظم تطبيقاً تفصيلياً شامالً من حيث املباين واملعاين ومن حيث املعارف اللغوية والعقلية
والذوقية ،الكلية منها واجلزئية ،واليت اعتمد عليها يف الكشف عن تفاصيل املنظومة القرآنية
اليت هبا يظهر االعجاز ،وتتكشف دقائق خصائص االسلوب القرآين اليت خالفت خصائص
التعبري العريب البليغ قبله ،واليت حريت البلغاء واخرست الفصحاء ،ليحق عليهم التحدي
املعجز اىل يوم القيامة.
ومل تتوجه جهود النورسى اىل بيان نظرية النظم ،مقدمة الثبات اعجاز القرآن البالغي
فحسب ،بل اجتهت كذلك اىل التغلغل يف معاين اآليات ،حيث اراد بناءها تفصيالً على
املرتكزات العقلية للوصول اىل اظهار العقائد االسالمية وارتباطها حبقائق الوجود.
ومن الواضح جدا ملن تأمل يف الكتاب وترتيبه ،انه كان يريد ان يؤلف تفسرياً كامالً يف هذا
االجتاه .ولو قدر لالستاذ -رمحه هللا تعاىل -ان ينهي عمله العظيم هذا كامالً ،اذن لق ّدم
تفسرياً بالغياً وعقلياً كامالً شامالً ،كان جديراً بان يأخذ منه عمره كله حيث كان من احملقق
ان حيوي حينئذ عشرات اجمللدات الضخام ،لو انه مشى يف ضوء منهجه هذا الذي نقرأه يف
هذا الكتاب.
اجل من ذلك واعظم.ولكن هللا سبحانه وتعاىل ق ّدر له االفضل من ذلك اذ وفقه لعمل ّ
عمل استطاع فيه ان يضع مسلمي بلده يف ظروف عصره يف مواجهة القرآن الكرمي ،دون
اشغاهلم بقضايا بالغته واعجازه اللغوي واليت مل تكن مشكلة عصره
من خالل التحقيق يف جزئيات دقيقة ال يقوى على فهمها اال اخلواص جداً .وكان من املؤكد
حينئذ ان يبقى اجلمهور االعظم من املسلمني يف عصره مبعزل عن االستفادة من مواهبه
الفذة ومحاسه االمياين املنقطع النظري ،وكذلك مبعزل عن الصراع الفكري احلضاري الرهيب
غري املتكافئ مع الغزو الفكري املادي اجلاحد ،الذي بدأ يتسلل رويداً رويداً اىل احلياة
االسالمية حىت تصدر السياسة واالقتصاد واالجتماع والثقافة والفن واالعالم يف كثري من بالد
االسالم.
من اجل ذلك ،وقف النورسى عند هذا اجمللد من التفسري ،ودفعته ظروف عصره وبلده اىل
اتون الصراع ،ولكن يف قالب جديد ممثال بـسعيد اجلديد مستُه اهلدوء ،والتدرج ،والبناء،
والنفوذ احملكم اىل عقول املسلمني وقلوهبم دون صراخ عاطفي او هتريج مدمر ،او صدامات
فوقية ،مل يكن الوضع االسالمي يومئذ مهيئا هلا ويقوى فيها على جماهبة االعداء االقوياء يف
الداخل واخلارج.
لقد كان اسلوب رسائل النور يف وضوحه احلاسم ،وهدوئه العلمي الباهر ،وبيانه الذوقي
الرفيع ،وحججه العقلية الدامغة هو البديل العصري الذكي السلوب اثبات اعجاز القرآن
اللغوي والبياين والعقلي من خالل نظرية النظم ،الن ما اثاره االعداء مل يكن يتصل بالطعن
يف بالغة القرآن او مناقشة ما يتعلق باعجازه او بتناسب سوره وآيه وكلماته .وامنا كان يركز
على شن هجوم عام شامل على اصول االميان ،وحكمة التشريعات ،وحماولة تفكيك النظام
االخالقي الذي جاء به القرآن الكرمي.
انه استطاع ان يثبت من خالل جزء كامل من هذا الكتاب اعجاز القرآن الكرمي وبرهن
للدارسني وطالب احلقيقة ،انه من السهل ان يستمر يف ضوء منهجه العلمي والعقلي
والذوقي الرفيع اىل النهاية ،اذن فليكن هذا كافيا ،وليتوجه بكليته وبقية
حياته العامرة اىل القضية االساس ،وهي انقاذ اميان املسلمني يف عصر الصراع االعالمي
الرهيب ،فأنتج يف هذا اجملال اميا انتاج من خالل عشرات الكتب والرسائل اليت وجهها اىل
النشئ اجلديد ،إلحلاق اهلزمية العقيدية والفكرية باعداء االسالم من املالحدة وارباب
التغريب.
على انين اظلم هذا الكتاب اذا ادعيت انه خال من منهج مواجهة الصراع اجلديد ،بل ازعم
هنا -على قدر ما يل من علم بافكار النورسى من خالل قراءتى لبعض رسائله يف عهده
اجلديد -انه مامن فكرة شرحها او بسطها او مثَّل عليها اال جتد هلا بذوراً موجزة او مفصلة
يف هذا الكتاب العلمي الرصني الذي بني يديك ،السيما يف عرض اصول العقائد االسالمية
باسلوب عصري علمي .غري انه اجته يف كتابه هذا اىل خماطبة خاصة تالمذته من خالل دمج
املصطلحات الكالمية القدمية ببدايات منهجه اجلديد الذي استقر عليه فيما بعد يف رسائل
النور.
ولعل هذا هو سر تسمية رسائل النور باهنا تفسري حقيقي للقرآن الكرمي ،واحلق ان تفسري
القرآن وخماطبة املسلمني بآياته مل يبارح قط فكر النورسى اىل آخر حلظة من حلظات حياته
احلافلة باحملن واالحزان ،والعلم والدعوة اىل التمسك بكتاب هللا وسنة نبيه صلى هللا عليه
وسلم.
ان نشر هذا الكتاب بثوبه اجلديد هذا سيضع منوذجاً حتليلياً بالغياً رائعاً امام املهتمني
بالدراسات االعجازية والبالغية والنقدية املعاصرة .السيما يف االوساط العلمية .وسيجد
املهتمون بدراسات العقائد االسالمية من وجهة املنطق العقالين زادهم فيه من خالل
املباحث العقلية والعلمية العميقة اليت قدمها االستاذ تعليقاً على االيات اليت حللها من اوائل
سورة البقرة.
لقد احسن االستاذ الفاضل احسان قاسم الصاحلي بتحقيقه هذا الكتاب من جديد ،حيث
اغناه بتدقيقاته املفيدة وشروحه القيمة يف احلواشي ،وهذا فضل يكمل به افضاله السابقة
على قراء العربية حني قضى سنوات عدة يف ترمجة جمموعة متنوعة من رسائل النور اليت دجبها
يراع االمام املمتحن سعيد النورسى حجة االسالم حبق يف حياة تركيا احلديثة.
ويف ختام هذه الكلمات ادعو هللا تعاىل ان يوفق احملقق الكرمي اىل تقدمي ترمجة كاملة لرسائل
1
النور اىل قراء العربية اجمليدة.
2شعبان 1047هـ
_____________________
1لقد استجاب املوىل الكرمي هذا الدعاء وامثاله من الدعوات اخلالصة الخوة كرام بررة فوفقنا
لرتمجة كاملة لكليات رسائل النور وطبعها ونشرها ،فاحلمدهلل اوالً وآخراً -احملقق.
1
هذا التحقيق
احلمدهلل والصالة والسالم على رسول هللا ومن وااله ،وبعد؛
ففي ايام قاحلة وشهور عجاف اكرمين هللا العلي القدير بقراءة هذا التفسري اجلليل قراءة ال
ارجو من ورائها سوى شرح للصدر ،وتغذية للروح وتنضري للذهن.
ولكن ملست انه حباجة اىل تنسيق جديد وحتقيق سديد ليسهل تناوله وال يتعذر فهمه لكل
من يريد ان يستفيد.
وشاء القدر اإلهلي ان يأتيين اخ كرمي بنسخة خمطوطة منه واخر بطبعته االوىل ،وقد كنت
احتفظ برتمجته الرتكية وبطبعته الثانية واالخرية ..فاستجمعت العناصر االوىل للتحقيق.
علي واعداداً لنسخة جيدة من هذا التفسري اجلليل مهمت
فايفاءاً لشكره تعاىل على ما أنعم ّ
ان اقوم بتحقيقه ،ولكن..
ولكن قصوري ،وقلة خربيت ،وضخامة املوضوع ،وجالل املقام ،وخشية الزلل ..كانت ت ّكفين
عن القيام بالتحقيق ..بيد ان النظر اىل ما عند هللا ،وفضله العميم ،والثقة به ،وحسن القصد
اليه يف خدمة كتابه العزيز ..كانت تدفعين اىل العمل ..فتخليت عن اإلحجام والزمت
اإلقدام متوكالً على العلي العالم ،وسرت خبطوات متئدة ،كاآليت:
_____________________
1ابقيت هذه املقدمة للتحقيق على ما هي عليه يف الطبعة االوىل املطبوعة يف العراق سنة
1041هـ 1111 -م .االّ ما استوجب من حذف واضافة ليوافق هذه الطبعة -.احملقق.
ج -خمطوط خبط السيد (طاهر بن حممد الشوشي) 1انتهى منه سنة 1171هـ ،وضم فيه
النساخ ،مع وضع لعناوين صغرية الهم املوضوعات يف
تعليقات واستدراكات جيدة على ّ
الصفحة ،وقد رمزت اليه بـ(ش) .فكل اضافة او تعليق مذيل بـ(ش) هو منه.
هـ -حتقيق قام به الشيخ صدرالدين البدليسي ،حيث وضع بعض اهلوامش وصحح اخطاء
مطبعية ،فرمزت اليها بـ(ب).
_____________________
1وهو شقيق االستاذ النورسى ،كان مدرساً للغة العربية ،مث مفتياً ،مث مدرساً للعلوم
االسالمية يف املعهد العايل يف قونيا ،ترجم كثرياً من رسائل النور اىل العربية ،وترجم اشارات
االعجاز واملثنوى العريب النوري من العربية اىل الرتكية .تويف سنة 1167عن ثالث ومثانني
سنة من العمر .تغمده هللا برمحته الواسعة.
2هذه النسخة مع جمموعتني كامتلتني من كليات رسائل النور املستنسخة باليد واملصححة
من قبل املؤلف قد بعثها املؤلف سنة 1191م اىل مدينة "أورفة " داخل صندوقني ،وهي
حمفوظة األن لدى الدكتور عبدالقادر بادللي ،الذي تتلمذ على األستاذ النورسي وزاره مرات
كثرية ،وسعى يف نشر الرسائل وما زال وترجم "املثنوي العريب النوري " ورسائل اخرى اىل
اللغة الرتكية ،وله مصنفات عدة منها :حياة األستاذ النورسي (1جملدات) ومصادر اآليات
يسر لنا
واألحاديث الشريفة الواردة يف رسائل النور ،وغريمها .مع مقاالت كثرية .وهو الذي ّ
اإلطالع على النسخة األصلية لـ "إشارات اإلعجاز " فجزاه هللا خرياً على عمله النبيل.
3وهو من قرية "شوش " التابعة لقضاء "عقرة " يف مشايل العراق .قرأ العلوم االسالمية وتضلّع
هبا .نذر خطه اجلميل لرسائل النور ،والسيما الشارات االعجاز ،حيث كتب منها اربع
نسخ عالوة على ما استنسخه من الرسائل املرتمجة يف وقته حىت كان يستنسخ بعضها يف
ضوء القمر .من تأليفاته "رياض النور " يف سرية الرسول االعظم صلى هللا عليه وسلم يف
ثالثة عشر ألف بيت باللغة الكردية .تويف سنة 1162عن اربع واربعني سنة من العمر.
أسكنه هللا فسيح جناته.
-1ترمجة السيد عاصم احلسيين ملقدمة الكتاب اليت كتبها االستاذ النورسى بالرتكية،
يت فيها تغيريات طفيفة لتفي مبراد املؤلف ،مث اتتمت ترمجةاقتصرت على قس ٍم منها ،فاجر ُ
بقية املقدمة.
-2كلمة ثناء او (تقريظ) للشيخ صدرالدين البدليسي ،وهي كلمة قيمة لبيان ظروف تأليف
التفسري ،ومقارنته مع تفاسري اخرى مشهورة ،فأبقيتها كما هي.
-1هناك يف ختام الكتاب ثالث عشرة شهادة من شهادات الفالسفة وعلماء اوربا حول
أحقية القرآن ،امهلتُها لركاكة ترمجتها اوالً ولعدم عثوري على اصوهلا كي اترمجها جمدداً،
ووضعت بدالً منها ما ق ّدمه االستاذ الدكتور عمادالدين خليل مشكوراً فصالً من كتابه القيم
قالوا عن االسالم وهو الفصل االول اخلاص بالقرآن الكرمي ،فأحلقناه كامالً بالكتاب ،فجزاه
هللا خرياً على عمله اجلليل.
ثانياً :وبعد املقابلة او يف اثنائها صححت االخطاء املطبعية واالمالئية ،مع تشكيل وضبط
وخرجت االحاديث الشريفةالكثري من الكلمات ،مث عزوت اآليات الكرمية اىل سورهاّ .
لدي ،ومبساعدة االخ الكرمي فالح عبد الرمحن .وتركنا
الواردة فيه من الكتب املعتمدة املتوفرة ّ
قسما من االحاديث كما هو ،لعل هللا يهئ لنا من املصادر احلديثية ما نتمكن من خترجيه ،او
يرشدنا اليه علماؤنا االفاضل.
ثالثاً :راجعت امهات القواميس كاحمليط واملصباح وخمتار الصحاح وغريها لتفسري بعض ما
علي من كلمات..
استغلق ّ
رابعاً :استخرجت االمثال الواردة فيه ،وقابلتها مع اصوهلا يف جممع االمثال للميداين.
علي امور حنوية ومسائل لغوية .اضطرتين اىل مراجعة امهات الكتبسادساً :استشكلت ّ
اللغوية كاملغين واالمشوين وغريمها ،حىت اطمأن القلب وحصلت القناعة التامة بان ما اقره
االستاذ النورسى هو الصواب ،او فيه جواز ،وان ما الفته وتعلمته من قواعد النحو ما هو اال
النزر اليسري من حبر حميط عظيم بل ما هو اال الوجه الشائع من بني وجوه كثرية.
وبعد الفراغ من العمل بتوفيق هللا سبحانه وتعاىل ،وضعت كل ماقمت به بني يدي اخي
االستاذ الدكتور حمسن عبد احلميد ليدلين على عثرايت ويبصرين على ثغرات العمل؛ اذ هو
وخ َرب اصول التفسري وضوابطهب الرازي سنني ،والزم االلوسى سنني اخرىَ ، صاح َ
الذي َ
درسا وتدريساً لسنني طويلة ،ومازال ،فكلل جهدي جزاه هللا خرياً مبقدمة وافية شافية.
وبعد:
فلقد بذلت ما بوسعى يف حتقيق الكتاب ،ولست زاعما اين اوفيت حقه ،ولكن حسيب انين
حاولت ،وبذلت ما استطعت ابتغاء ان يكون من العمل الصاحل عندهللا ،ورجاء ان تنايل
دعوة خالصة ممن ينتفع به.
وهللا نسأل ان يوفقنا اىل ُحسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.
اشــارات االعـجــاز
فـ ــي
حتقيق
تنبيه
لقد مت تأليف تفسري اشارات االعجاز يف السنة االوىل من احلرب العاملية االوىل على جبهة
القتال بدون مصدر او مرجع .وقد اقتضت ظروف احلرب الشاقة وما يواكبها من حرمان أن
يُكْتب هذا التفسري يف غاية االجياز واالختصار السباب عديدة .
وقد بقيت الفاحتة والنصف االول من التفسري على حنو اشد امجاال واختصارا:
يعرب
أوالً :الن ذلك الزمان مل يكن يسمح بااليضاح ،نظراً اىل ان (سعيداً القدمي) كان ّ
بعبارات موجزة وقصرية عن مرامه.
ثانياً :كان (سعيد) يضع درجة افهام طلبته االذكياء جداً موضع االعتبار .ومل يكن يفكر يف
فهم اآلخرين .
يبني أدق وأرفع ما يف نظم القرآن من االجياز املعجز ،جاءت العبارات قصرية
ثالثاً :ملا كان ّ
ورفيعة.
أجلت النظر فيه اآلن بعني (سعيد اجلديد) .فوجدت ان هذا التفسري مبا حيتويه منبيد انين َ
تدقيقات ،يع ّد حبق حتفة رائعة من حتف (سعيد القدمي) بالرغم من اخطائه وذنوبه.
مايعن له بنية
وملا كان ( اي سعيد القدمي ) يتوثب لنيل مرتبة الشهادة اثناء الكتابة ،فيكتب ّ
خالصة ،ويطبق قوانني البالغة ودساتري علوم العربية ،مل استطع ان اقدح
يف اي موضع منه ،اذ رمبا جيعل الباري عز وجل هذا املؤلَّف كفارة لذنوبه ويبعث رجاالً
يستطيعون فهم هذا التفسري حق الفهم.
ولوال موانع احلرب العاملية ،فقد كانت النيّة تتجه اىل ان يكون هذا اجلزء وقفاً على توضيح
االعجاز النظمي من وجوه اعجاز القرآن ،وان تكون االجزاء الباقية كل واحد منها وقفاً
على سائر اوجه االعجاز.
سعيد النورسي
ان ذكر نكات دقيقة يف تلك اآليات واالقتصار على بيان دقائق دالالت الفاظها وبدائع
اشاراهتا باهتمام بالغ ،من دون تفصيل ملاهية الكفر ،مع تطرق يسري اىل الشبهات اليت
يلتزمها املنافقون -خالفاً ملا جرى يف سائر اآليات من حتقيق وتفصيل -اقول ان سبب
ذلك كله نلخصه يف نكات ثالث:
النكتة االوىل:
احس سعيد القدمي -بفيض من القرآن الكرمي -انه سيظهر يف هذا الزمان املتأخركفار
لقد ّ
ال يهتدون بكتاب ومنافقون من االديان السابقة ،كما ظهروا يف بداية االسالم ،فاكتفى
ببيان النكات الدقيقة لتلك اآليات من دون ان خيوض يف حقيقة
_____________________
1النكتة :هى مسألة لطيفة اُخرجت بدقة نظر وإمعان فكر ،ومسيت املسألة الدقيقة نكتة
لتأثري اخلواطر يف استنباطها " -التعريفات للجرجاين".
إشارات اإلعجاز -ص11 :
مسلكهم وبيان نقاط ارتكازهم ،بل تركها جمملة دون تفصيل ،لئال يع ّكر صفو اذهان القراء
سئ مهما كان يف ذهن القارئ، الكرام .ومن املعلوم ان هنج رسائل النور هو :عدم ترك أث ٍر ٍ
اذ جتيب اجوبة قاطعة على الشبهات اليت يثريها اعداء االسالم من دون ان تذكر الشبهة
نفسها -خبالف سائر العلماء -فتسد هبذا دخول اية شبهة كانت يف ذهن القارئ .فانتهج
سعيد القدمي يف تفسريه هذا مسلك رسائل النور ،فأوىل اهتمامه باجلانب البالغي لتلك
اآليات وبيان الفاظها واشاراهتا لئال يك ّدر االذهان ويعكر صفوها.
النكتة الثانية:
ملا كانت قراءة كل حرف من القرآن الكرمي فيها عشر حسنات أو مائة حسنة أو ألفاً من
مثرات اآلخرة أو الوفاً منها ،فال يع ّد اذن ايضاح سعيد القدمي لنكات دقيقة ختص كلمات
القرآن الكرمي اسرافاً يف الكالم ،اذ رغم دقة االهداب وصغر بؤبؤ العني فإن هلما امهية
احس سعيد القدمي يف النكات البالغية مثل هذه االمهية ،لذا مل تثنه شراسة
عظمى .فلقد ّ
املعارك وهول احلرب يف اجلبهة االمامية عن امالء ادق النكات القرآنية على تالميذه .
النكتة الثالثة:
ان الرتمجة الرتكية هلذا التفسري مل توف بالغته الفائقة حق الوفاء ،بل جاءت خمتصرة يف
مواضع عدة .وسنلحق هبا -باذن هللا -التفسري العريب رفعاً هلذا النقص ما مل يكن من
مانع .فريجى بذل املستطاع ليكون طبعه مطابقاً لالصل حمافظاً على توافقاته الرائعة اليت مل
متسها ارادة انسان ،وذلك لئال تضيع عالمات قبوله.
سعيد النورسي
إشارات اإلعجاز -ص24 :
افادة املرام
اقول :ملا كان القرآ ُن جامعاً ألشتات العلوم وخطبةً لعامة الطبقات يف كل االعصار ،ال
يتحصل له تفسري الئق من فهم الفرد الذي قلما خيلُص من التعصب ملسلكه ومشربه؛ اذ ّ
خيصه ليس له دعوة الغري اليه إالّ ان يُع ّديه 1قبول اجلمهور .واستنباطُه -ال بالتشهي
فهمه ُّ
ُ
-له العمل لنفسه فقط ،وال يكون حجةً على الغري إالّ ان يص ّدقه نوعُ امجاع.
فكما البد لتنظيم االحكام واطرادها ورفع الفوضى -الناشئة من حرية الفكر مع امهال
االمجاع -من وجود هيئة عالية من العلماء احملققني الذين -مبظهريتهم ألمنية العموم
واعتماد اجلمهور -يتقلدون كفالة ضمنية لالمة ،فيصريون مظهر َّ ِ
حج ِية االمجاع الذي
سر ّ
التصري نتيجةُ االجتهاد شرعاً ودستوراً االّ بتصديقه وس ّكته 2؛ كذلك البد لكشف معاين
القرآن ومجع احملاسن املتفرقة يف التفاسري وتثبيت حقائقه -املتجلية بكشف الفن 1ومتخيض
الزمان -من انتهاض هيئة عالية من العلماء املتخصصني ،املختلفني يف وجوه االختصاص،
وهلم مع ِ
دقة نظر ُو ْسعةُ 0فك ٍر لتفسريه.
انه البد ان يكون مفسر القرآن ذا دهاء عال واجتهاد نافذ ووالية كاملة .وماهو اآلن إالّ
الشخص املعنوي املتولد من امتزاج االرواح وتساندها وتالحق االفكار وتعاوهنا وتظافر
حكم ليس ٍ
لكل كثرياً مايُرى القلوب واخالصها وصميميتها ،من بني تلك اهليئة .فبسر للكل ٌ
9
ت منها افر ُادها.
ونوره وضياؤها ،من مجاعة َخلَ ْ
آثار االجتهاد وخاصةُ الواليةُ ،
ُ
_____________________
1ع ّدى الشئ :اجازه وأنفذه.
3العلم احلديث.
مث اين بينما كنت منتظراً ومتوجهاً هلذا املقصد بتظاهر هيئة كذلك -وقد كان هذا غاية
تقرب زلزلة عظيمة ،1
خيايل من زمان مديد -اذ سنح لقليب من قبيل احلس قبل الوقوع ّ
فشرعت -مع عجزي وقصوري واالغالق يف كالمي -يف تقييد ما سنح يل من اشارات ُ
اعجاز القرآن يف نظمه وبيان بعض حقائقه ،ومل يتيسر يل مراجعة التفاسري .فان وافقها فبِها
علي. ِ
ت واالّ فالعُهدة ّون ْع َم ْ
سعيد النورسي
_____________________
1لقد اخربنا مراراً يف اثناء الدرس وقوع زلزلة عظيمة (مبعىن احلرب العمومية فوقعت كما
اخربنا).
2املصدر واملرجع.
قيل لك :هو الرتمجةُ االزلية هلذه الكائنات ،والرتمجا ُن االبدي أللسنتها التاليات لآليات
كشاف ملخفيات كنوز االمساء املسترتة يف
ٌ ومفس ُر كتاب العا َمل ..وكذا هو
التكوينيةّ ،
املض َمرة يف سطور احلادثات..مفتاح حلقائق الشؤون ْ
صحائف السموات واالرض ..وكذا هو ٌ
وكذا هو لسان الغيب يف عامل الشهادة..وكذا هو خزينةٌ للمخاطبات االزلية السبحانية
ومشس هلذا العامل املعنوي
أساس وهندسةٌ ٌ وااللتفاتات االبدية الرمحانية ..وكذا هو ٌ
القول الشارح والتفسريُ الواضح
االسالمي ..وكذا هو خريطةٌ للعامل األُخروي ..وكذا هو ُ
والربهان القاطع والرتمجان الساطع لذات هللا وصفاته وامسائه وشؤونه ..وكذا هو ٍّ
مرب للعامل
االنساين ،وكاملاء وكالضياء لالنسانية الكربى اليت هي االسالمية ..وكذا هو احلكمة احلقيقية
كتاب ِ
البشر له ..وكذا هو لالنسان :كما انه ُ لنوع البشر ،وهو املرشد املهدي اىل ما ُخل َق ُ
كتاب ام ٍر ودعوة، ٍ ٍ
كتاب دعاء وعبودية كذلك هو ُ شريعة كذلك هو كتاب حكمة ،وكما انه ُ
ِ
كتب كثريةٌ يف
كتاب واحد لكن فيه ٌ كتاب فكر ،وكما انه ٌ كتاب ذك ٍر كذلك هو ُ وكما انه ُ
مقدس مشحون بالكتب والرسائل ٍ مقابلة مجيع حاجات االنسان املعنوية ،كذلك هو كمنزل
كل و ٍ .حىت انه قد أبرز مل ْشرب ِ ٍ
احد من اهل كل واحد من اهل املشارب املختلفة ،وملسلك ِّ َ ّ
املسالك املتباينة من االولياء والصديقني ومن العرفاء واحملققني رسالةً الئقةً ملذاق ذلك
املشرب وتنويره ،وملساق ذلك املسلك وتصويره حىت كأنه جمموعة الرسائل.
سعيد النورسي
اوالً :ان مقصدنا من هذه االشارات تفسري مجلة من رموز نظْ ِم القرآن؛ ألن االعجاز يتجلى
نقش النظم.
من نظمه .وما االعجاز الزاهر االّ ُ
وثانياً :ان املقاصد االساسية من القرآن وعناصره االصلية اربعة :التوحيد والنبوة واحلشر
والعدالة؛ النه:
متسلسلة ر ٍ
احلة من أودية املاضي وبالده ،سافرةٍ يف صحراء ٍ كب ٍ
وقافلة ملا كان بنو آدم كر ٍ
ذاهبة اىل شواهق االستقبال ،متو ٍ
جهة اىل جنّاته ،فتهتز هبم املناسبات وتتوجه الوجود واحلياةٍ ،
ِ
احلكمة مستنطقا وسائالً منهم بـ "يا بين ت حكومةُ اخلِلقة فَ َّن
اليهم الكائنات .كأنه اَرسلَ ْ
آدم! ِمن أين؟ اىل أين؟ ماتصنعون؟ َم ْن سلطانكم؟ َم ْن خطيبكم؟"
نوع
فبينما احملاورة ،اذ قام من بني بين آدم -كأمثاله األماثل من الرسل اويل العزائم -سيّ ُد ِ
حممد اهلامشي صلى هللا عليه وسلم وقال بلسان القرآن:
البشر ّ
"ايها احلكمة ! حنن معاشر املوجودات جنئ بارزين من ظلمات العدم بقدرة سلطان االزل،
اىل ضياء الوجود ..وحنن معاشر بين آدم بُعِثْنا بصفة املأمورية ممتازين من بني اخواننا
املوجودات حبمل االمانة ..وحنن على جناح السفر من طريق احلشر
___________
-1اى :ايها الفن املسمى باحلكمة .والفن يطلق على كل علم ،واحلكمة :علم يبحث عن
حقائق االشياء على ما هى عليه يف الوجود بقدر الطاقة البشرية ،فهى علم نظرى غري آيل
(التعريفات).
أس
اىل السعادة االبدية ،ونشتغل اآلن بتدارك تلك السعادة وتنمية االستعدادات اليت هى ر ُ
مالِنا ..وانا سيُّ ُدهم وخطيبهم .فها دونكم منشوري! وهو كالم ذلك السلطان األزيل تتألأل
اب الصواب ليس اال القرآ ُن ،ذلك
عليه س ّكةُ االعجاز .واجمليب عن هذه االسئلة اجلو َ
الكتاب..
ص كالكلي ذي
املشخ ُ
عرف القرآ ُن َّ
وهلذه النكتة -اعين اشرتاك اجلزء مع الكل -يُ ّ
اجلزئيات؟.
ان قلت :ارين هذه املقاصد االربعة يف "بسم هللا" ويف "احلمد هلل".
قلت :ملا اُنزل (بسم هللا) لتعليم العباد كان "قُ ْل" َّ
مقدراً فيه .وهو األ ُّم يف تقدير االقوال
القرآنية .2فعلى هذا يكون يف "قل" اشارة اىل الرسالة ..ويف (بسم هللا) رمز اىل االلوهية..
1
تلميح اىل نظام العدالة واالحسان ..ويف
ٌ (الرمحن) ويف .. تلويح اىل التوحيد
ويف تقدمي الباء ٌ
(الرحيم) امياء اىل احلشر.
_____________________
(بِ ْس ِم هللا) كالشمس يضئ نَـ ْف َسه كغ ِريه ،فاستغىن .حىت ان باءه متعلقة بالفعل املفهوم من
يمن به ،أو مبا يستلزمه "قل" املقدَّر من
معناها -اي :استعني به ،او املفهوم عرفاً ،أي :أتَ ّ
املؤخر لالخالص والتوحيد .1
"أقرأ" ّ -
اما "االسم" فاعلم! ان هلل امساء ذاتية ،وامساء فعلية متنوعة كالغفار والرزاق واحمليي واملميت
وتنوعُها وتكثُّرها بسبب تعدد نسبة القدرة االزلية اىل انواع الكائنات .2فكأن (بسموأمثاهلاّ .
التعلق روحاً ُمم ّداً لكسب العبد.
هللا) استنز ٌال لتأثري وتعلق القدرة ليكون ذلك ُ
(هللا) لفظة اجلالل نسخةٌ جامعة جلميع الصفات الكمالية لداللتها التزاماً عليه؛ بسر استلزام
ذاته تعاىل لصفاته خبالف سائر األَعالم ،لعدم االستلزام.
الرِحي ِم)
(الر ْمح ِن َّ
َّ
وجه النظم :ان لفظ اجلالل كما يتجلى منه اجلالل بسلسلته ،كذلك يرتاءى اجلمال
بسلسلته من (الرمحن الرحيم) .اذ اجلالل واجلمال اصالن تسلسل منهما -بتجليهما يف كل
عامل -فروعٌ :كاالمر والنهي ،والثواب والعذاب ،والرتغيب والرتهيب ،والتسبيح والتحميد،
واخلوف والرجاء اىل آخره. .
وايضا كما ان لفظ اجلالل اشارة اىل الصفات العينية والتنزيهية؛ كذلك "الرحيم" امياء اىل
عني والغريٌ؛ اذ
الصفات الغريية الفعلية؛ و"الرمحن" رمز اىل الصفات السبع اليت هي ال ٌ
تكرر الوجود .والوجود يستلزم
"الرمحن" مبعىن الرزاق ،وهو عبارة عن اعطاء البقاء .والبقاءُ ُ
صة وصفة ُم َؤثَِّرة ،وهي العلم واالرادة والقدرة .والبقاء الذي هو مثرة
صَ
ِ
صفة ممَُيِّزة وصفة ُخمَ ّ
اعطاء الرزق يقتضي عُرفاً ثبوت البصر والسمع والكالم؛ اذ البد للرزاق من البصر لريى
حاجة املرزوق إن مل يَطلب ،ومن السمع ليستمع كالمه إن طلب ،ومن الكالم ليتكلم مع
الواسطة إن كانت .وهذه الست تستلزم السابعة اليت هي احلياة.
_____________________
1ان االفعال املذكورة املتعلقة بالباء ،تق ّدر مؤخراً للحصر ليتضمن االخالص والتوحيد (ت:
)10
2اى بسبب عالقة القدرة االزلية وتعلّقها بانواع الكائنات وافرادها (ت)10 :
ان قلت :تذييل "الرمحن" الدال على النِ َع ِم العظيمة بـ "الرحيم" الدال على النعم الدقيقة
التديل .والبالغة يف صنعة الرتقِّي من االدىن اىل االعلى؟
يكون صنعة ّ
تذييل للتتميم كاالهداب للعني واللجام للفرس ..وايضا ملا توقفت العظيمةُ على قلتٌ :
الدقيقة ،كانت الدقيقة ارقى كاملفتاح للقفل واللسان للروح ..وايضا ملا كان هذا املقام مقام
ِ
االمتنان التنبيه على مواقع النِ َع ِم كان األخفى أجدر بالتنبيه ،فيكون صنعةُ ِّ
التديل يف مقام
التعداد صنعةَ الرتقِّي يف مقام التنبيه.
و ِ
قلت :هي حكمة املتشاهبات 2؛ وهي التنزالت االهلية اىل عقول البشر؛ لتأنيس االذهان
صيب مبا يألفه ويأنس به .فان اجلمهور من الناس جيتنون معلوماهتم
وتفهيمها ،كمن تكلم مع ّ
عن حمسوساهتم وال ينظرون اىل احلقائق احملضة اال يف مرآة متخيالهتم ومن جانب مألوفاهتم..
وايضا املقصود من الكالم :افادةُ املعىن ،وهي التتم اال بالتأثري يف القلب واحلس ،وهو
وب مألوف املخاطب وبه يستعد القلب للقبول. الحيصل اال بإلباس احلقيقة اسل َ
(احلَ ْم ُد)
وجه النظم مع ما قبله :ان "الرمحن" و"الرحيم" ملا دلّتا على النِ َعم استوجبتا تعقيب احلمد .مث
ان (احلمد هلل) قد ُكِّرَرت يف أربع ُس َوٍر من القرآن ،1كل واحدة منها ناظرة اىل نعمة من
0
النعم االساسية اليت هي :النشأة االوىل ،والبقاء فيها؛ والنشأة االُخرى ،والبقاء بعدها.
_____________________
1اى :إن قصد اإلنعام الذي هو نتيجة والزم ملعىن حقيقتهما (ت)16 :
2الىت حمال استعمال معناها احلقيقي حبقه تعاىل ،كاليد (ت)16 :
4قال ابو اسحق االسفرايىن رمحه هللا :يف سورة "األنعام " كل قواعد التوحيد .وملا كانت نعمه
تعاىل مما تفوت احلصر إالّ اهنا ترجع امجاالً اىل اجياد وابقاء يف النشأة االوىل ،واجياد وابقاء يف
النشأة اآلخرة .وقد اشري يف "الفاحتة " "الكهف " اىل االبقاء االول ،ويف "سبأ " اىل االجياد
الثاىن ،ويف "فاطر " اىل االبقاء الثاىن ،فلهذا ابتدأت هذه السور اخلمس بالتحميد (حاشية
شهاب على سورة االنعام ج 0ص()2ب)
وحتقيقه :ان هللا سبحانه خلق االنسان وجعله نسخة جامعة للكائنات ،وفهرستة 1لكتاب
العا َمل املشتمل على مثانية عشر الف عا َمل ،وأودع يف جوهره امنوذجاً من كل عا َمل جتلى فيه
ماخلِ َق ألجله ايفاءً للشكر ِ
صرف االنسا ُن كل مااُنع َم عليه اىل ُ
اسم من امسائه تعاىل .فاذا َ ٌ
كل
العريف -الداخل حتت احلمد -وامتثاالً للشريعة اليت هي جالء لصدأ الطبيعة ،يصريُ ُّ
امنوذج مشكاةً لعالَ ِم ِه ومرآةً له وللصفة املتجلية فيه واالسم املتظاهر منه .فيكون االنسان
ٍ
بروحه وجسمه خالصةَ عامل ْي الغيب والشهادة ،ويتجلى فيه ما جتلى فيهما.
َ
فباحلمد يصري االنسان مظهراً للصفات الكمالية االهلية .يدل على هذا قول حمي الدين
اخلَْل َق لِيَـ ْع ِرفُوين) 9أي :فخلقت اخللق
ت ْ ِ
ت َكْنـَزاً خمَْفيًّا فَ َخلً ْق ُ
0
العريب يف بيان حديث ( ُكْن ُ
ليكون مرآ ًة ِ
أشاه ُد فيها مجايل.
_____________________
5ال يعرف له سند صحيح وال ضعيف ،االّ ان علي القارئ قال :ولكن معناه صحيح،
مستفاد من قوله تعاىل(وما خلقت اجلن واالنس إالّ ليعبدون) اى ليعرفوىن ،كما فسره ابن
عباس رضى هللا عنهما (باختصار عن كشف اخلفاء .)112/2
ني) الياء والنون إما :عالمة لالعراب فقط كـ "عشرين وثالثني" ..أو للجمعية؛ ألن ِ
(الْ َعالَم َ
اجزاء العامل َعوامل ..أو العاملُ ليس منحصراً يف املنظومة الشمسية .قال الشاعر:
_____________________
واملراد من (ال ّدين) ّإما اجلزاء ،أي يوم جزاء األعمال اخلريية والشرية ،أو احلقائق الدينية ،أي
يوم طلوعها وظهورها وغلبة دائرة االعتقاد على دائرة االسباب؛ ألن هللا عز وجل أودع
مبشيئته يف الكائنات نظاماً يربط االسباب باملسببات وأجلأ االنسان بطبيعته وومهه وخياله اىل
وجه كل شئ اليه وتَـنَـَّزه عن تأثري االسباب يف ُملكه.
ان يراعي ذلك النظام ويرتبط به .وكذا ّ
وكلّف االنسان اعتقاداً وامياناً بان يراعي تلك الدائرة بوجدانه وروحه ويرتبط هبا .ففي الدنيا
دائرة االسباب غالبة على دائرة االعتقاد؛ ويف األُخرى تتجلى حقائق العقائد غالبة على دائرة
االسباب.
واعلم! ان ٍ
لكل من هاتني الدائرتني مقاماً معيناً وأحكاماً خمصوصة ،فالبد ان يُعطى كلٌّ
ح ّقه .فمن نظر يف مقام دائرة االسباب بطبيعته وومهه وخياله ومقاييس
_____________________
االسباب ،اىل دائرة االعتقاد اضطر اىل االعتزال .ومن نظر يف مقام االعتقاد ومقاييسه بروحه
ووجدانه اىل دائرة االسباب أنتج له توكال تَـْنبَلِياً 1ومترداً يف مقابلة املشيئة النظامة.
(اِيَّ َ
اك نـَ ْعبُ ُد) يف "الكاف" نكتتان:
2
احدامها :تضمن اخلطاب بسر االلتفات لالوصاف الكمالية املذكورة ،اذ ذكرها شيئاً شيئاً
حيرك الذهن ويُع ّده وميألُهُ شوقاً ويهزه للتوجه اىل املوصوف .فـ"اياك" أي :يامن هو موصوف
ّ
هبذه الصفات.
واالخرى :ان اخلطاب يشري اىل وجوب مالحظة املعاين يف مذهب البالغة ليكون املقروء
ك َكأَن َ
َّك كاملْنـَزل ،فينجر طبعاً وذوقاً اىل اخلطاب .فـ "ايّاك" يتضمن االمتثال بـ(أ ُْعبُ ْد َربَّ َ
ُ 1
تَـَراهُ).
وذرات هذا العامل الصغري -وهو أنا -بالشكر العريف الذي هو
أي نعبد حنن معاشر أعضاء ّ
املوحدين نعبدك باطاعة شريعتك ..وحنن معاشر إطاعة ٍ
كل ملا أُمر به ..وحنن معاشر ّ
الكائنات نعبد شريعتك الكربى الفطرية 0ونسجد باحلرية واحملبة حتت عرش عظمتك
وقدرتك.
وجه النظم :ان "نعبد" بيان وتفسري لـ "احلمد" ونتيجة والزم لـ (مالك يوم الدين).
واعلم! ان تقدمي "اياك" لالخالص الذي هو روح العبادة .وان يف خطاب الكاف رمزاً اىل
علة العبادة الن من اتصف بتلك االوصاف الداعية اىل اخلطاب استحق العبادة.
_____________________
1التنبل والتنبال :البليد الكسالن .ج تنابلة .واملقصود هنا مذهب اجلربية.
2االلتفات :هو العدول عن الغيبة اىل اخلطاب او التكلم ،او على العكس (التعريفات).
3اصل احلديث رواه البخارى ومسلم ،وفيه :ما االحسان؟ قال :ان تعبد هللا كأنك تراه فإن
مل تكن تراه فانه يراك (متفق عليه) ورواية الطرباىن :اُعبدهللا كأنك تراه .وهو حديث صحيح
(صحيح اجلامع الصغري )1401
ِ
املوحدين ومعاشر الكائنات نطلب منك التوفيق واالعانة
اي حنن معاشر االعضاء ومعاشر ّ
على كل احلاجات واملقاصد اليت أمهها عبادتك.
(اِ ْه ِدنَا)
تنوع مفعوله اىل اهلادينواعلم! ان "اهدنا" بسبب تعدد مراتب معانيه -بناء على ّ
واملستهدين واملستزيدين وغريهم -كأنه مشتق من املصادر االربعة لفعل اهلداية .فاهدنا
باعتبار معشر "ثبّتنا" ،وبالنظر اىل مجاعة "زدنا" ،وبالقياس اىل طائفة "وفّقنا" واىل فرقة
(أعطَى ُك َّل َش ْيء َخ ْل َقهُ ُمثَّ َه َدى) 1هدانا بإعطاء
"اَ ْعطنا" ..وأيضا ان هللا تعاىل حبكم ْ
احلواس الظاهرة والباطنة ،مث هدانا بنصب الدالئل اآلفاقية واألنفسية ،مث هدانا بارسال الرسل
وانزال الكتب ،مث هدانا أعظم اهلداية بكشف احلجاب عن احلق فظهر احلق حقا والباطل
باطال.
اجتِنَابَهُ. ِ ِ ِِ
اعهُ َواَ ِرنَا الْبَاط َل بَاطالً َو ْارُزقْـنَا ْ اللَّ ُه َّم اَ ِرنَا ْ
احلَ َّق َحقًّا َو ْارُزقْـنَا اتّبَ َ
_____________________
توضيحه:
لكنه تعاىل -حبكمته املقتضية لتَك ُّمل البشر بسر املسابقة -مل حي ِّدد بالفطرة تلك القوى
َّدها بالشريعة؛ ألهنا تنهي عن االفراط والتفريط كما حدد قوى سائر احليوانات ،وإن حد َ
ت) .1وبعدم التحديد الفطري حيصل ِ وتأمر بالوسط ،يصدع عن هذا (فَ ِ
استَق ْم َكما أُم ْر َ
ْ
مراتب ثالث :مرتبة النقصان وهي التفريط ،والزيادة وهي االفراط ،والوسط وهي العدل.
فتفريط القوة العقلية الغباوة والبالدة ،وافراطها اجلربزة 2اخلادعة والتدقيق يف سفاسف االمور،
1
ْمةَ فَـ َق ْد اُ ِويتَ َخ ْرياً َكثِرياً) ووسطها احلكمة( .ومن يـ ْؤت ِْ
احلك َ ََ ْ ُ َ
اعلم! انه كما تنوع اصل هذه القوة اىل تلك املراتب ،كذلك كل فرع من فروعها يتنوع اىل
ط اجلرب واالعتزال ،0ويفمذهب أهل السنة وس ُ
ُ هذه الثالث .مثال :يف مسألة َخلق االفعال:
القياس.
ُ مذهب التوحيد وسط التعطيل والتشبيه ..وعلى هذه
ُ االعتقاد:
_____________________
4اجلربية :افراط حيث حيرم االنسان من العمل .واملعتزلة تفريط حيث مينح التأثري لالنسان.
اما اهل السنة فهو الوسط ،حيث مينح بداية تلك االفعال اىل االرادة اجلزئية وهناياهتا اىل
االرادة الكلية (ت)20 :
وتفريط القوة الشهوية اخلمودة وعدم االشتياق اىل شئ ،وافراطها الفجور بأن يشتهي ما
صادف َح َّل أو َح ُرَم ،ووسطها العفةُ بأن يرغب يف احلالل ويهرب عن احلرام .وقس على
االصل كل فرع من فروعاته من االكل والشرب واللبس وأمثاهلا.
العمل بـ
ظلم واالوساط الثالثة هي العدل الذي هو الصراط املستقيم ،اي ُ فاالطراف الستة ٌ
مر على هذا الصراط مير على الصراط املمتد على النار.
ومن َّ
2 ِ (فَ ِ
ت) َ استَق ْم َكما اُم ْر َ
ْ
ت َعلَْي ِه ْم) ِ َّ ِ
ين اَنْـ َع ْم َ
(صَرا َط الذ َ
اعلم! ان نظم درر القرآن ليس خبيط واحد بل النظم -يف كث ٍري -نقوش حتصل من نسج
ِ
خطوط ٍ
نسب متفاوتة قُرباً وبُعداً ،ظهوراً وخفاء .الن أساس االعجاز بعد االجياز هذا
النقش .مثال :صراط الذين انعمت عليهم يناسب:
و(الرمحن الرحيم) الن املنعم عليهم -اعين االنبياء والشهداء والصاحلني -رمحةٌ للعاملني
ومثال ظاهر للرمحة..
1الناموس :ما حيميه الرجل من امسه وصيته وشرفه .ويف (التعريفات) :هو الشرع الذى شرعه
هللا.
و(الصراط املستقيم) لظهور احنصار الطريق املستقيم يف مسلكهم .هذا مثال لك فقس عليه.
.
ويف لفظ "الصراط" إشارة اىل ان طريقهم مسلوكة حمدودة االطراف َمن سلكها الخيرج عنها.
ب العني
صَويف لفظ "الذين" -بناء على انه موصول ،ومن شأن املوصول ان يكون معهوداً نَ ْ
للسامع -اشارة اىل علو شأهنم وتأللؤهم يف ظلمات البشر ،كأهنم معهودون نصب العني
يتحر ومل يطلب ..ويف مجعيته رمز اىل إمكان االقتداء هبم وحقانية لكل سامع وإن مل َّ
اع ِة) ..1
اجلَ َم َ
مسلكهم بسر التواتر اذ (يَ ُد هللا َم َع ْ
ويف صيغة "انعمت" اشارة اىل وسيلة طلب النعمة ..ويف نسبتها شافع له كأنه يقول :يااهلي!
علي وان مل استحق.. ِ
ت بفضلك ،فأنْع ْم ّأنعم َ
االنعام وقد ْ
ُ من شأنك
ويف "عليهم" اشارة اىل شدة اعباء الرسالة ومحل التكليف ،وامياء اىل اهنم كاجلبال العالية
تتلقىاعباء الرسالة ومحل التكليف ،وامياء اىل اهنم كاجلبال العالية تتلقى شدائد املطر إلفاضة
َّ ِ
ين اَنْـ َع َم هللا َعلَْي ِه ْم الصحارى .وما أمجل يف (الذين انعمت عليهم) يفسره (فَاُولئِ َ
ك َم َع الذ َ
الص ِّد ِيقني والشُّه َداء و َّ ِِ
ِ ِ
ني) 2اذ القرآن يفسر بعضه بعضا. الصاحل َ يني و ّ َ َ َ م َن النَّبِ ِّ َ
ان قلت :مسالك االنبياء متفاوتة وعباداهتم خمتلفة؟
قيل لك :ان التبعية يف اصول العقائد واالحكام؛ الهنا مستمرة ثابتة دون الفروعات اليت من
شأهنا التغري بتبدل الزمان .فكما ان الفصول االربعة ومراتب عمر االنسان تؤثر يف تفاوت
االدوية والتلبّس ،فكم من دواء يف وقت يكون داء يف آخر؛ كذلك مراتب عمر نوع البشر
تؤثر يف اختالف فروعات االحكام اليت هي دواء االرواح وغذاء القلوب.
_____________________
1
وحسنه بلفظ" :يد هللا على اجلماعة" (كشف اخلفاء )111/2
ّ ي الرتمذ
و اىن
ربالط اه
و ر
وصححه حمقق اجلامع الصغري ( )7121وعزاه للحاكم والبيهقى يف االمساء عن ابن عمر
رضى هللا عنهما وابن عاصم عن اسامة بن شريك.
ض ِ
وب َعلَْي ِه ْم ََ). ( َغ ِْري الْ َم ْغ ُ
وجه النظم :اعلم! ان هذا املقام لكونه مقام اخلوف والتخلية يناسب املقامات السابقة؛
فينظر بنظر احلرية والدهشة اىل مقام توصيف الربوبية باجلالل واجلمال ،وبنظر االلتجاء اىل
مقام العبودية يف "نعبد" ،وبنظر العجز اىل مقام التوكل يف "نستعني" ،وبنظر التسلي اىل رفيقه
الدائمي أعين مقام الرجاء والتحلية ،اذ ّاول ما يتولد يف قلب من يرى أمراً هائال ِح ُّ
س احلرية
كل عند العجز مث التسلي بعد ذلك االمر. ميل الفرار مث التو ُ
مث ُ
ان قلت :ان هللا عز وجل حكيم غين فما احلكمة يف خلق الشر والقبح والضاللة يف العامل؟
قيل لك :اعلم! ان الكمال واخلري واحلسن يف الكائنات هي املقصودة بالذات وهي
الكليات؛ وان الشر والقبح والنقصان جزئيات بالنسبة اليها قليلة تبعية مغمورة يف اخللقة،
خلقها خالقها منتشرة بني احلسن والكمال ،ال لذاهتا ،بل لتكون مقدمة ،وواحداً قياسياً،
لظهور -بل لوجود -احلقائق النسبية للخري والكمال.
الشر اجلزئي؟
ان قلت :فما قيمة احلقائق النسبية حىت اُستُحسن ألجلها ّ
قيل لك :ان احلقائق النسبية هي الروابط بني الكائنات ..وهي اخلطوط املنسوج منها
يد ٍ
بألوف نظامها ..وهي االشعة املنعكس منها وجود واحد النواعها .وان احلقائق النسبية أز ُ
لذات لو كانت سبعة كانت احلقائق النسبية من احلقائق احلقيقية؛ اذ الصفات احلقيقية ٍ
سبعمائة .فالشر القليل يـُ ْغتَـ َفر بل يُ ْستَ ْح َسن الجل اخلري الكثري؛ الن يف ترك اخلري الكثري -
الن فيه شراً قليالً -شراً كثرياً .ويف نظر احلكمة اذا قابل الشر القليل شراً كثرياً صار الشر
القليل حسناً بالغري ،كما تقرر يف االصول يف الزكاة واجلهاد.
وما اشتهر من" :ان االشياء امنا تُـ ْعَرف باضدادها" معناه :ان وجود الضد سبب لظهور
ووجود احلقائق النسبية للشئ .مثال :لو مل يوجد القبح ومل يتخلل بني احلسن ملا تظاهر وجود
احلسن مبراتبه الغري 1املتناهية.
_____________________
1يقول البغدادى" :ال تدخل األلف والالم على (غري)؛ الن املقصود من ادخال (أل) على
النكرة ختصيصها بشئ معني .فإذا قيل (الغري) اشتملت هذه اللفظة على ما ال حيصى ،ومل
تتعرف بـ(أل) كما اهنا مل تتعرف باالضافة ،فلم يكن إلدخال (أل) عليها من فائدة ".
وجاء يف املصباح املنري ،يف مادة (غري) مانصه" :يكون وصفاً للنكرة ،تقول :جاءىن رجل
غريك ،وقوله تعاىل( :غري املغضوب عليهم) امنا وصف هبا املعرفة ،ألهنا اشبهت املعرفة
باضافتها اىل املعرفة ،فعوملت معاملتها .ومن هنا اجرتأ بعضهم فأدخل عليها األلف والالم؛
ألهنا ملا شاهبت املعرفة ،باضافتها اىل املعرفة ،جاز ان يدخلها ما يعاقب االضافة ،وهو
ّ
االلف والالم...
وارتضى مؤمتر اجملمع اللغوى ،املنعقد بالقاهرة يف دورته اخلامسة والثالثني ،يف شهر شباط
(فرباير) 1161الرأى القائل" :ان كلمة غري الواقعة بني متضادين تكتسب التعريف من
املضاف اليه املعرفة ،ويصح يف هذه الصورة ،الىت تقع فيها بني متضادين ،وليست مضافة،
ان تقرتن بـ(أل) ،فتستفيد التعريف "( .باختصار عن معجم االخطاء الشائعة حملمد
العدناىن).
إشارات اإلعجاز -ص16 :
اسم ٍ
فاعل ،يف: ٍ
ان قلت :ما وجه تفاوت هذه الكلمات الثالث :فعالً ،واسم مفعول ،و َ
"انعمت" و "املغضوب" و "الضالني"؟
وأيضاً ما وجه التفاوت يف ذكر :صفة الفرقة الثالثة ،وعاقبة الصفة يف الفرقة الثانية ،وعنوان
صفة الفرقة االوىل باعتبار املآل؟
قيل لك :اختار عنوان النعمة؛ الن النعمة لذةٌ متيل النفس اليها ..وفعالً ماضيا لالشارة اىل
ان الكرمي املطلق شأنه ان اليسرتد مايعطى ..وأيضاً رمز اىل وسيلة املطلوب بإظهار عادة
علي. ِ
ت فأنْعم ّأنع ْم َ
املنعم ،كأنه يقول :ألن من شأنك االنعام وقد َ
أما (غري املغضوب) فاملراد منه :الذين جتاوزوا بتجاوز القوة الغضبية فظلموا ،وفسقوا برتك
االحكام كتمرد اليهود .وملا كان يف نفس الفسق والظلم لذة منحوسة وعزة خبيثة ال تتنفر
نفس وهي نزول غضبه تعاىل ..واختار االسم كل ٍمنه النفس ذَ َكَر القرآ ُن عاقبته اليت تُـنَـ ِّفر َّ
الذي من شأنه االستمرار اشارة اىل ان العصيان والشر امنا يكون مسة اذا مل ينقطع بالتوبة
والعفو.
ّأما (وال الضَّالني) فاملراد منه :الذين ضلوا عن الطريق بسبب غلبة الوهم واهلوى على العقل
نفس صفتهم
والوجدان ووقعوا يف النفاق باالعتقاد الباطل كسفسطة النصارى .اختار القرآن َ
نفس الضاللة أَ َملٌ ،ينفر النفس وجيتنب منه الروح وإن مل َير النتيجة ..وإمساً ألن الضاللة
الن َ
1
امنا تكون ضاللة اذا مل تنقطع.
_____________________
فباهلل عليك كيف حال هذا الشخص ان مل يعتقد باملبدأ واملعاد والصانع واحلشر؟ أتظن
أحرق لروحه؟ فإن له حالة تركبت من اخلوف واهليبة والعجزأشد عليه من حاله و َجهنم َّ
والرعشة والقلق والوحشة واليتم واليأس؛ ألنه اذا راجع قدرته يراها عاجزة ضعيفة؛ واذا توجه
اىل تسكني حاجاته يراها التسكت؛ واذا صاح واستغاث اليُ ْس َمع وال يُغاث فيظن كل شئ
عدواً ،ويتخيل كل شئ غريبا فال يستأنس بشئ؛ وال ينظر اىل دوران االجرام االّ بنظر اخلوف
والدهشة والتوحش املزعجة للوجدان.
وروحه بنور
مث تأمل يف حال ذلك الشخص اذا كان على الصراط املستقيم واستضاء وجدانهُ ُ
االميان ،كيف ترى انه اذا وضع قدمه يف الدنيا وفتح عينيه فرأى هتاجم العاديات اخلارجية
يرى اذاً "نقطة استناد" يستند اليها يف مقابلة تلك العاديات ،وهي معرفة الصانع فيسرتيح .مث
اذا فتش عن استعداداته وآماله املمتدة اىل األبد يرى "نقطة استمداد" يستمد منها آماله
وتتشرب منها ماء احلياة وهي معرفة السعادة االبدية .واذ يرفع رأسه وينظر يف الكائنات
يستأنس بكل شئ وجتتين عيناه من كل زهرة اُنسية وحتبّبا ،ويرى يف حركات األجرام حكمةَ
ويتنزه بسريها وينظر نظر العربة والتفكر .كأن الشمس تناديه :أيها األخ! التتوحش
خالقها ّ
مين فمرحبا بقدومك! حنن كالنا خادمان ٍ
لذات واحد ،مطيعان ألمره .والقمر والنجوم
كل منها بلسانه اخلاص وترمز اليه :بأهالً وسهالً ،أما تعرفنا ؟ كلنا
والبحر وأخواهتا يناجيه ٌ
مشغولون
_____________________
1قنابل وقذائف.
خبدمة مالكك فال تضجر وال تتوحش وال ختف من هتديد الباليا بنعراهتا ،فان جلام ٍ
كل بيد
خالقك.
فذلك الشخص يف احلالة االوىل حيس يف أعماق وجدانه أملاً شديداً فيضطر للتخلص منه
وهتوينه وابطال حسه بالتسلي ،بالتغافل ،باالشتغال بسفاسف األمور ،ليخادع وجدانه وينام
روحه؛ واال احس بأ ٍمل عميق حيرق أعماق وجدانه .فبنسبة البُـ ْع ِد عن الطريق احلق يتظاهر
ُ
تأثري ذلك االمل.
وحرك
وأما يف احلالة الثانية فهو حيس يف قعر روحه لذ ًة عالية وسعادة عاجلة كلما أيقظ قلبه َّ
أحس روحه استزاد سعادة واستبشر بفتح أبواب جنات روحانية له. وجدانه و ّ
اط الْ ُم ْستَ ِقي ِم. ِ اَللَّه َّم ِحبرم ِة ِ
الصر ِ
ِ ِ هذهِ ُّ
الس َورةِ ا ْج َع ْلنَا م ْن اَ ْه ِل َّ ُ ُْ َ
***
ان قلت :ان يف القرآ ن املوجز املعجز أشياء مكررة تكراراً كثرياً يف الظاهر كالبسملة و"فبأي
آالء" اخل ..و"ويل يومئذ" اخل ..وقصة موسى وأمثاهلا ،مع ان التكرار ُميِ ُّل وينايف البالغة.
"ما ُك ُّل َما يَـتَألْألُ ُْحي ِر ُق" فان التكرار قد ُميِ ُّل ،ال مطلقاً .بل قد يُستحسن وقد
قيل لكَ :
فكما أن يف غذاء االنسان ماهو قُوت كلما تكرر حال وكان آنس ،وما هو تف ّكه ان يُسأمَ .
وقوة لالفكار وغذاء ِ
تكرر ُم َّل وان جتدد اُستُل ّذ ،كذلك يف الكالم ما هو حقيقة وقوت ّ
لالرواح كلما استعيد اُستحسن واستؤنس مبألوفه كضياء الشمس .وفيه ماهو من قبيل الزينة
وتلون لباسه. ِ
والتفكه ،لذتُه يف جت ّدد صورته ّ
وقوة للقلوب الميَُ ُّل على التكرار بل
قوت ّ
اذا عرفت هذا فاعلم! انه كما ان القرآن مبجموعه ٌ
2
يُستحلى على اإلكثار منه ،كذلك يف القرآن ماهو روح لذلك القوت كلما تكرر تألأل
أس األساس والعقدة احلياتية وفارت اشعة احلق واحلقيقة من اطرافه ،ويف ذلك البعض ماهو ّ
الرِحْيم) .فيا هذا شاور مذاقك ان كنت (بس ِم هللا َّ
الر ْمحَن َّ ٍ
والنور املتجسد جبسد سرمدي كـ ْ
ذا مذاق!..
هذا بناء على تسليم التكرار ،واالّ فيجوز ان تكون قصة موسى مثال مذكورة يف كل ٍ
مقام
1
لوجه مناسب من الوجوه املشتملة هي عليها .فان قصة موسى أجدى من تفاريق العصا ٍ
أخ َذها القرآن بيده البيضاء فضةً فصاغتها ذهباً ،فخرت سحرةُ البيان ساجدين لبالغته.
_____________________
1عن اىب أمامة الباهلى رضى هللا عنه ،قال :مسعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول:
اقرأوا القرآن ،فانه يأتى يوم القيامة شفيعاً الصحابه ،اقرأوا الزهراوين :البقرة وسورة آل
عمران...اخل احلديث .رواه مسلم.
للميداىن).
وكذا يف "البسملة" جهات :من االستعانة والتربك واملوضوعية بل الغايتية والفهرستية للنقط
االساسية يف القرآن.
وأيضا فيها مقامات :كمقام التوحيد ومقام التنزيه ومقام الثناء ومقام اجلالل واجلمال ومقام
االحسان وغريها.
وايضا فيها احكام ضمنية :كاالشارة اىل التوحيد والنبوة واحلشر والعدل اعين املقاصد االربعة
املشهورة ،مع ان يف اكثر السور يكون املقصود بالذات واحداً منها ،والباقي استطراديا .فلِ َم
الجيوز ان يكون جلهة او ُحك ٍم او مقام منها مناسبة خمصوصة لروح السورة وتكون موضوعاً
للمقام بل فهرستة امجالية باعتبار تلك اجلهات واملقامات؟
***
امل 1
املبحث االول:
ان االعجاز قد تن ّفس من اُفق (امل) ألن االعجاز نور يتجلى من امتزاج ملعات لطائف
فجر صادق.دق لكن الكل ٌ البالغة .ويف هذا املبحث لطائف كل منها وإن َّ
ومنها :ان القرآن كرر من املأخوذ ماهو اَيْ َس ُر على األلسنة كاأللف والالم.
1
ومنها :انه ذكر املقطّعات يف رأس تسع وعشرين سورة عدة احلروف اهلجائية.
ينصف كل ازواج أجناس طبائع احلروف من املهموسة واجملهورة ومنها :ان النصف املأخوذ ّ
والشديدة والرخوة واملستعلية واملنخفضة واملنفتحة وغريها ،واما االوتار فمن الثقيل القليل
2
كالقلقلة؛ ومن اخلفيف الكثري كالذالّقة.
ألطف سجيةً.
ومنها :ان النصف املأخوذ من طبائعها ُ
ومنها :ان القرآن اختار طريقاً يف املقطعات من بني اربعة ومخسمائة احتمال ،ال ميكن
تنصيف طبائع احلروف اال بتلك الطريق ،الن التقسيمات الكثرية متداخلة ومشتبكة
كل غرابة عجيبة. ومتفاوتة .ففي تنصيف ٍ
_____________________
2فذكر من (املهموسة) وهي ما يضعف االعتماد على خمرجه ،وجيمعها (ستشحثك خصفه)
نصفها وهي احلاء واهلاء والصاد والسني والكاف .ومن البواقي (اجملهورة) نصفها جيمعه (لن
يقطع أمر) ومن (الشديدة) الثمانية اجملموعة يف (اجدت طبقك) اربعة جيمعها .ومن البواقي
(الرخوة) عشرة جيمعها (محس على نصره) ومن املطبقة اليت هي الصاد والضاد والطاء والظاء
نصفها .ومن البواقي (املنفتحة) نصفها .ومن (القلقلة) وهي حروف تضطرب عند خروجها
وجيمعها (قد طبج) نصفها االقل لقلتها .ومن (اللينتني) الياء ألهنا أقل ثقالً ،ومن
(املستعلية) وهي اليت يتصعد الصوت هبا يف احلنك االعلى وهي سبعة :القاف والصاد والطاء
واخلاء والغني والضاد والظاء نصفها االقل ،ومن البواقي (املنخفضة) نصفها( ...تفسري
البيضاوي).
املبحث الثاين:
منها :ان التهجي وتقطيع احلروف يف االسم اشارة اىل جنس ما يتولد منه املسمى.
ومنها :ان التهجي بالتقطيع تلميح اىل إراءة مادة الصنعة؛ كإلقاء القلم والقرطاس ملن
يعارضك يف الكتابة .كأن القرآن يقول" :أيها املعاندون امل ّدعون! انكم امراء الكالم ،هذه
املادة اليت بني أيديكم هي اليت أصنع فيها ما أصنع".
ومنها :ان التقطيع املرمز اىل االمهال عن املعىن يشري اىل قطع حجتهم بـ "إنّا النعرف احلقائق
والقصص واالحكام حىت نقابلك" .فكأن القرآن يقول" :ال أطلب منكم إالّ نظم البالغة
فجيئوا به مفرتيات".
ومنها :ان التعبري عن احلروف بامسائها من رسوم أهل القراءة والكتابة ،1ومن يسمعون منه
الكالم ّام ّي مع حميطه ،فنظراً اىل السجية -مع ان اول ما يتلقاهم خالف املنتظر -يرمز
إىل" :ان هذا الكالم اليتولد منه بل يُلقى اليه".
ومنها :ان التهجي أساس القراءة ومبدؤها 2فيومئ اىل أن القرآن مؤسس لطريق خاص
ألميني.
ومعلم ّ
دق البعض -فهو دخيل يف صنعة
ومن مل ير نقشاً عالياً من انتساج هذه اخليوط -وإن ّ
البالغة فليقلِّد فتاوى أهلها.
_____________________
1كالتعبري عن احلروف (أ ،ل) بألف الم ،فهذا التعبري بامساء احلروف هو من اصول اهل
القراءة والكتابة (ت)10 :
املبحث الثالث:
أساسي االعجاز.
ان (الــم) إشارة إىل هناية االجياز ،الذي هو ثاين َ
وفيه لطائف:
منها :ان (الــم) يرمز ويشري ويومئ ويـُلَ ِّوح ويلَ ِّمح بالقياس التمثيلي املتسلسل اىل" :ان هذا
كالم هللا األزيل نزل به جربيل على حممد عليهما الصالة والسالم" .النه كما ان االحكام
املفصلة يف جمموع القرآن قد ترتسم يف سورة طويلة إمجاال؛ وقد تتمثل سورة طويلة يف قصرية
إشارة؛ وقد تندرج سورة قصرية يف آية رمزاً؛ وقد تندمج آية يف كالم واحد تلوحياً؛ وقد
يتداخل كالم يف كلمة تلميحاً ،وقد ترتاءى تلك الكلمة اجلامعة يف حروف مقطعة ،كـ "سني
الرِحْيم" و "بس ِم هللا َّ
الر ْمحَن َّ الم ميم" ..كالقرآن يف البقرة ،والبقرة يف الفاحتة ،والفاحتة يف ْ
الرِحْيم" يف البسملة املنحوتة 1؛ كذلك جيوز ذلك يف (الــم) أيضا. "بس ِم هللا َّ
الر ْمحَن َّ ْ
فباالستناد اىل هذا القياس التمثيلي املتسلسل ،وباشارة (ذلك الكتاب) يتجلى من (الــم):
"هذا كالم هللا األزيل نزل به جربيل على حممد عليهما الصالة والسالم".
ومنها :ان احلروف املقطعة كالشفرة اإلهلية أبرقها اىل رسوله الذي عنده مفتاحها .ومل يتطاول
يد فكر البشر اليه بعد.
ُ
2
املنزل عليه رمزاً اىل ان الرمز له كالتصريح.
ومنها :ان (الــم) اشارة اىل شدة ذكاوة َ
ومنها :ان التقطيع اشارة اىل ان قيمة احلروف ليست يف معانيها فقط بل بينها مناسبات
كش َفها علم أسرار احلروف.
فطرية كمناسبة االعدادَ ،
ومنها :ان (الــم) خاصة ،اشارة بالتقطيع اىل املخارج الثالثة من احللق والوسط والشفة ،وترمز
تلك االشارة اىل إجبار الذهن للدقة ،وشق حجاب األُلفة؛ ليلجأ اىل مطالعة عجائب ألوان
نقش خلقة احلروف.
_____________________
ِ
قطعات هذه اللطائف وانظرها واحدة ،واستمع ،لتقرأ فيا من صبغ يده بصنعة البالغة! رّكِب
عليك" :هذا َكالَ ُم هللا".
املبحث الرابع:
ان (الــم) مع أخواهتا ملا برزت بتلك الصورة كانت كأهنا تنادى" :حنن االئمة؛ ال نقلد أحداً
وما اتبعنا إماماً ،وأُسلوبنا بديع ،وطرزنا غريب".
وفيه لطائف:
منها :ان من ديدن اخلطباء والفصحاء التأسي مبثال والنسج على منوال والتمشي يف طريق
مسلوكة ،مع اهنا مل يطمثهن قبله إنس وال جان.
***
مـقـدمـة
اعلم! ان من اساس البالغة الذي به يربق حسن الكالم جتاوب اهليئات وتداعي القيود
كل بق ْد ِر الطاقة للمقصد ،الذي هو كمجمع االودية وتآخذها على املقصد االصلي ،وامداد ٍّ
او احلوض املتشرب من اجلوانب ،بأن تكون مصداقاً ومتثاالً ملا قيل:
املوجه للنظر
فان شئت تأمل يف ال َق َسم بـ (الــم) إذ إنه كما يؤكد ،كذلك يشعر بالتعظيم ّ
املوجب النكشاف ماحتته من اللطائف املذكورة ليربهن على الدعوى املرموز اليها.
_____________________
وانظر االشارة يف (ذلك) املختصة بالرجوع اىل الذات مع الصفات لتعلم اهنا كما تفيد
املبشر به يف التوراة واالجنيل -كذلك
التعظيم -الهنا اما اشارة اىل املشار اليه بـ "الــم" او ّ
تلوح بدليلها؛ اذ ما أعظم ما أقسم به! وما أكمل ما بشَّر به التوراة واالجنيل! ..مث أمعن ّ
النظر يف االشارة احلسية اىل األمر املعقول لرتى اهنا كما تفيد التعظيم واالمهية؛ كذلك تشري
كل على اجملِرب ِ
خليال ٍ األنظار ْ اىل ان القرآن كاملغناطيس املنجذب اليه األذها ُن ،واملتزاحم عليه
ُ
االشتغال به .فتظاهر بدرجة -تراه العيون من خلفها اذا راجعت اخليال -يرمز بلسان
وتربيه عن الضعف واحليلة الداعيني اىل التسرت ..مث تف ّكر يف البُعدية
احلال اىل وثوقه بصدقه ّ
علو الرتبة املفيد لكماله؛ كذلك تومئ اىل دليله بأنه املستفادة من "ذلك"؛ اذ اهنا كما تفيد ّ
بعيد عن ما سلك عليه أمثاله .فإما حتت ك ٍل وهو باطل باالتفاق ،فهو فوق الكل.
مث تدبر يف "ال" (الكتاب)؛ الهنا كما تفيد احلصر العريف املفيد للكمال؛ تفتح باب املوازنة
ِ
وتلمح هبا اىل ان القرآن كما مجع حماسن الكتب قد زاد عليها فهو أكملها..
ّ
االم ّي َّ الذي
يلوح بأن الكتاب اليكون من مصنوع ّ
مث قف على التعبري بـ "الكتاب" كيف ّ
ليس من أهل القراءة والكتابة.
فعلى االول -كما عليه املفتاح - 1يكون مبعىن يقيناً ،وبال شك ،فيكون جهة وحتقيقا
الثبات كماله.
وعلى الكل يناجي من حتت "الريب" بـ (وان كنتم يف ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة
من مثله) ويرمز اىل دليله اخلاص..
_____________________
( 1مفتاح العلوم) للعالمة سراج الدين اىب يعقوب يوسف بن اىب بكربن حممد بن علي
السكاكى املتوىف سنة 626هـ .ويع ّد كتابه هذا اوسع ما كتب يف البيان يف زمانه ،وله شروح
كثرية.
( 2الكشاف عن حقائق التنزيل) لالمام العالمة اىب القاسم جارهللا حممود بن عمر الزخمشري
اخلوارزمي املتويف سنة 919هـ.
إشارات اإلعجاز -ص07 :
ويف ظرفية (فيه) والتعبري بـ "يف" بدل أخواهتا اشارة اىل انفاذ النظر يف الباطن .واىل ان حقائقه
األوهام املتوضعة على سطحه بالنظر الظاهر.
َ وتطري
تطرد ّ
الكل عن ٍ
كل! انظر نظرة واحدة فيا من آنس قيمة الرتكيب من جانب التحليل ،وأدرك فرق ّ
كل حصته اىل املقصد املشرتك مع دليله اخلاص،
اىل تلك القيود واهليئات لرتى كيف يلقي ٌ
نور البالغة من اجلوانب.
وكيف يفور ُ
اعلم! انه مل يربط بني مجل "الــم ..ذلك الكتاب ..الريب فيه ..هدى للمتقني" حبلقات
كل حبجز سابقتها وذيل الحقتها .فان كل العطف لشدة االتصال والتعانق بينها ،و ِ
أخذ ٍ
لكل واحدة جبهة اخرى .ولقد انتقش لكل جبهة؛ كذلك نتيجة ِدليل ٍ
واحدة كما اهنا ٌ
االعجاز على هذه اآلية بنسج اثين عشر من خطوط املناسبات املتشابكة املتداخلة..
(الــم) فاهنا تومئ باملآل اىل" :هذا متحدًّى به ،ومن يربز اىل امليدان؟" مث تلوح بأنه معجز..
منور بنور
مث تدبر يف (الريب فيه) فاهنا كما تُفصح عن انه ليس حمال للشك تعلن بأنه ّ
اليقني..
مث انظر يف (هدى للمتقني) اذ اهنا كما هتدى اليك انه يُري الطريق املستقيم؛ تفيدك انه قد
جتسم من نور اهلداية.
فكل منها باعتبار املعىن األول برهان لرفقائها وباعتبار املعىن الثاين نتيجة لكل منها.
_____________________
ونذكر على وجه املثال ثالثا من الروابط الثنيت عشرة لتقيس عليها البواقي:
فـ (الـم) أي :هذا يتح ّدى كل معارض ،فهو أكمل الكتب ،فهو يقيين؛ اذ كمال الكتاب
جمسم اهلداية للبشر..
باليقني ،فهو َّ
مث (ذلك الكتاب) اي :هو ازداد على أمثاله فهو معجز -او -اي :هو ممتاز ومستثىن؛ إذ
السوي للمتقني..
ّ الشك فيه؛ اذ إنه يُري السبيل
مث (هدى للمتقني) اي :يرشد اىل الطريق املستقيم ،فهو يقيين ،فهو ممتاز ،فهو معجز..
وعليك باستنباط البواقي.
أما (هدى للمتقني) فاعلم! ان منبع حسن هذا الكالم من أربع نقط:
االوىل :حذف املبتدأ ،اذ فيه اشارة اىل ان حكم االحتاد مسلَّم .كأن ذات املبتدأ يف نفس
اخلرب .حىت كأنه التغاير بينهما يف الذهن أيضا.
جتس َم فصار نفس جوهر
والثانية :تبديل اسم الفاعل باملصدر ،اذ فيه رمز اىل ان نور اهلداية َّ
ِ 1
القرآن؛ كما يتجسم لو ُن احلمرة فيصري ْقرمزاً.
والثالثة :تنكري (هدى) اذ فيه إمياء اىل هناية دقة هداية القرآن حىت اليُكْتنه ُكْنهها ،واىل غاية
الحياط هبا علماً .اذ املنكورية إما بالدقة واخلفاء ،وإما بالوسعة الفائتة عن
وسعتها حىت ُ
االحاطة .ومن هنا قد يكون التنكري للتحقري وقد يكون للتعظيم.
والرابعة :االجياز يف (للمتقني) بدل "الناس الذين يصريون متقني به" أوجز باجملاز االول اشارة
اىل مثرة اهلداية وتأثريها ،ورمزاً اىل الربهان "ا ِإلِّينّ" 2على وجود اهلداية .فان السامع يف عصر
يستدل بسابقه كما يستدل به الحقه.
ان قلت :كيف تتولد البالغة اخلارجة عن طوق البشر بسبب هذه النقط القليلة املعدودة؟
_____________________
ان قلت :من شأن اهلداية والبالغة البيان والوضوح وحفظ االذهان عن التشتت ،فما بال
املفسرين يف امثال هذه اآلية اختلفوا اختالفاً مشتتاً ،واظهروا احتماالت خمتلفة ،وبينوا وجوه
تراكيب متباينة ،وكيف يعرف احلق من بينها؟
قيل لك :قد يكون الكل حقاً بالنسبة اىل سام ٍع فسام ٍع؛ اذ القرآن ما نزل ألهل عص ٍر فقط
بل ألهل مجيع األعصار ،وال لطبقة فقط بل جلميع طبقات االنسان ،وال لصنف فقط بل
لكل فيه حصة ونصيب من الفهم .واحلال أن فهم نوع البشر خيتلف جلميع أصناف البشر .و ٍ
درجة درجة ..وذوقَه يتفاوت جهة جهة ..وميلَه يتشتت جانباً جانباً ..واستحسانه يتفرق
وجهاً ًَ وجهاً ..ولذته تتنوع نوعاً نوعاً ..وطبيعته تتباين قسما قسما .فكم من أشياء
نظر طائفة دون طائفة ،وتستلذها طبقة وال تتنزل اليها طبقة .وقس!..يستحسنها ُ
كل مقتضى ذوقه ِ
فألجل هذا السر واحلكمة أ ْكثَـَر القرآ ُن من حذف اخلاص للتعميم ليق ّدر ٌ
واستحسانه .ولقد نظم القرآن ُمجَله ووضعها يف مكان ينفتح من جهاته وجوه حمتملة ملراعاة
كل فه ٍم حصته .وقس! ..فإذاً جيوز أن يكون الوجوه بتمامها مرادة االفهام املختلفة ليأخذ ُ
بشرط أن ال تردها علوم العربية ،وبشرط ان تستحسنها البالغة ،وبشرط ان يقبلها علم
أصول مقاصد الشريعة.
فظهر من هذه النكتة ان من وجوه اعجاز القرآن نظمه وسبكه يف اسلوب ينطبق على افهام
عصر فعصر ..وطبقة فطبقة.
***
اما وجه "الذين" مع "املتقني" فتشييع التخلية بالتحلية اليت هي رفيقتها أبداً؛ اذ التزيني بعد
التنزيه ،أال ترى ان التقوى هي التخلي عن السيئات وقد ذكرها القرآن مبراتبها الثالث ،وهي:
ترك الشرك ،مث ترك املعاصي ،مث ترك ماسوى هللا .والتحلية فعل احلسنات :إما بالقلب او
القالب او املال .فشمس االعمال القلبية "االميان" ،والفهرستة اجلامعة لالعمال القالبية
"الصالة" اليت هي عماد الدين ،وقطب االعمال املالية "الزكاة" اذ هي قنطرة االسالم.
اعلم! ان (الذين يؤمنون بالغيب) مع انه اذا نظرت اىل مقتضى احلال اجياز ،اال انه اذا
وازنت بينه وبني مرادفه وهو "املؤمنون" تظنه إطنابا؛ فأبدل "ال" بـ"الذين" الذي من شأنه
االشارة اىل الذات بالصلة فقط ،1كأنه الصفة له اال هي للتشويق على االميان ،والتعظيم
له؛ والرمز اىل ان االميان هو املنار على الذات قد تضاءلت حتته سائر الصفات ..وأبدل
"مؤمنون" بـ "يؤمنون" لتصوير وإظها ِر تلك احلالة املستحسنة يف نظر اخليال ،ولالشارة اىل
جتدده باالستمرار وجتلّيه برتادف الدالئل اآلفاقية واألنفسية ،فكلما ازدادت ظهوراً ازدادوا
إميانا.
(بالغيب) أي بالقلب ،اي باالخالص بال نفاق .ومع الغائبية ..وبالغائب ..وبعامل الغيب..
_____________________
1ألن "الذين" من االمساء املبهمة ،لذا فان صلته هى الىت متيّزه وتعينه (ت)01 :
واعلم! ان االميان هو النور احلاصل بالتصديق جبميع ما جاء به النيب عليه السالم تفصيال يف
ضروريات الدين وامجاال يف غريها.
ان قلت :اليقتدر على التعبري عن حقائق االميان من العوام من املائة اال واحد؟
قيل لك :ان عدم التعبري ليس َعلَماً على عدم الوجود .فكما ان اللسان كثرياً ما يتقاصر عن
ان يرتجم عن دقائق مايف تصورات العقل؛ كذلك قد اليرتاءى بل يتغامض عن العقل سرائر
مايف الوجدان ،فكيف يرتجم عن كل مافيه؟ أال ترى ذكاء السكاكي 1ذلك االمام الداهي
2
بدوي آخر؟ فبناء على ذلك،
ّ او ، قد تقاصر عن اجتناء دقائق ماأبرزته سجية امرئ القيس
االستدالل على وجود االميان يف العامي يثبت باالستفسار واالستيضاح منه .بأن تستفسر
املردد بني النفي واالثبات هكذا :أيها العامي! أميكن يف عقلك أن يكون
العامي بالسؤال ّ
ّ من
الصانع الذي كان العامل جبهاته الست يف قبضة تصرفه أن يتم ّكن 1يف جهة من جهاته أو
كاف .وقس على هذا.. ال؟ فإن قال :ال .فنفي اجلهة ثابت يف وجدانه ،وذلك ٍ
ٌ
فسره السعد - 0نور يقذفه هللا تعاىل يف قلب من يشاء من عباده ،أي مث ان االميان -كما ّ
بعد صرف اجلزء االختياري .فاالميان نور لوجدان البشر وشعاع من مشس االزل يضئ دفعةً
ملكوتيةَ الوجدان بتمامها .فينشر اُنسية له مع كل الكائنات ..ويؤسس مناسبة بني الوجدان
وبني كل شئ ..ويلقي يف القلب قوة معنوية يقتدر هبا االنسان ان يصارع مجيع احلوادث
واملصيبات ..ويعطيه ُو ْسعةً
_____________________
1ابو يعقوب يوسف بن ايب بكر (ت 626هـ1229 /م) من اعالم البالغة ،مؤلف كتاب
«املفتاح» الذي يعد أوسع ما كتب يف البيان يف زمانه وله شروح كثرية .وضع علوم البالغة يف
قالبها العلمي .مولده ووفاته خبوارزم .
909 - 017( 2م) هو امرؤ القيس بن ُحجر بن احلارث الكندي ،اشهر شعراء العرب
على االطالق ،مياين االصل ،مولده بنجد ووفاته يف انقرة ،وقد ُمجع بعض ما ينسب اليه من
الشعر يف ديوان صغري( .االعالم .)12/2
3يتحيز يف مكان.
4هــو مسـعـود بــن عمر بن عـبـد هللا ،ولد بتفـتـازان خبراسان فـي ( 712أو 727هــ) وتـويف
يف سـمرقـنـد 711هــ ..إمام يف العربية واملنطق والفقه ،،سعى إلحياء العلوم االسالمية بعد
كسوفها بغزو املغول فألف كثرياً من امهات الكتب .حىت انه يعد احلد الفاصل بني العلماء
املتأخرين واملتقدمني .من كتبه (هتذيب املنطق) و(شرح املقاصد) و (شرح العقائد النسفية) و
(املطول) ..وكتابه (التلويح يف كشف حقائق التنقيح) يف االصول شرح فيه كتاب (التوضيح
يف حل غوامض التنقيخ) للعالمة عبيد هللا ابن مسعود احملبويب (ت707هـ)
يقتدر هبا ان يبتلع املاضي واملستقبل .وكما ان االميان شعاع من مشس األزل 1؛ كذلك ملعة
من السعادة االبدية أي احلشر .فينمو بضياء تلك اللمعة بذور كل اآلمال ،ونواة كل
االستعدادات املودعة يف الوجدان ،فتنبت ممتدة اىل االبد ،فتنقلب نواة االستعداد كشجرة
طوىب.
الصلوَة)
يمو َن َّ ِ
(ويُق ُ
َ
اعلم! ان وجه النظم أظهر من الشمس يف رابعة النهار .وان يف ختصيص "الصالة" من بني
وم ْعكسها .كالفاحتة للقرآن،
حسنات القالب إشارة اىل أهنا فهرستة كل احلسنات وامنوذجها َ
واالنسان للعامل .الشتماهلا على نوع ٍ
صوم وحج وزكاة وغريها ،والشتماهلا على انواع عبادات
املخلوقات ،الفطرية واالختيارية من املالئكة الراكعني الساجدين القائمني ،ومن احلجر
الساجد ،والشجر القائم ،واحليوان الراكع..
مث انه أقام "يقيمون" مقام "املقيمني" إلحضار تلك احلركة احلياتية الواسعة واالنتباه الروحاين
اإلهلي يف العامل االسالمي اىل نظر السامع .ووضع تلك الوضعية املستحسنة واحلالة املنتظمة
للتأسي؛ إذ من تأملِ
من نواحي نوع البشر نصب عني اخليال ،ليهيج ويوقظ ميالن السامع ّ
يف تأثري النداء باآللة املعروفة 2يف نفرات العسكر املنتشرين املغمورين بني الناس وحتريك
النداء هلم دفعة ،والقاء انتباه فيهم ،وافراغهم يف وضع مستحسن ،ومجعهم حتت نظام
احملمدي بني االنسان يف
مستملح يرى يف نفسه اشتياقا ألن ينساب اليهم .فهكذا االذان َّ
االعلَى)..
صحراء العامل (وهلل املثَ ُل ْ
َ
وإمنا مل يقتصر يف مسافة االجياز على "يصلّون" بل امتها بـ (يقيمون الصالة) لالشارة اىل
امهية مراعاة معاين "االقامة" يف الصالة من تعديل االركان ،واملداومة ،واحملافظة ،واجلد،
وتروجيها يف سوق العامل .تأمل!
مث ان الصالة نسبة عالية ،ومناسبة غالية ،وخدمة نزيهة بني العبد وسلطان االزل ،فمن شأن
تلك النسبة ان يعشقها كل روح ..وأركاهنا متضمنة لألسرار اليت شرحها
_____________________
1
جل جالله املنور لكل شئ يف االدب الرتكى والفارسى خبالف
ّ هللا حبق مألوف تعبري
االدب العرىب.
2البوق العسكرى.
أمثال "الفتوحات املكية" ،فمن شأن تلك األسرار أن حيبها كل وجدان ..واهنا دعوة صانع
االزل اىل سرادق حضوره مخس دعوات يف اليوم والليلة ملناجاته اليت هي يف حكم املعراج.
فمن شأهنا ان يشتاقها كل قلب ..وفيها ادامة تصور عظمة الصانع يف القلوب وتوجيه
العقول اليها لتأسيس اطاعة قانون العدالة االهلية ،وامتثال النظام الرباين .واالنسان حيتاج اىل
ويل من تركها! وياخسارة من تلك االدامة من حيث هو إنسان النه مدينّ بالطبع ..فيا َ
وتفاً ِ 1
لنفس َمن مل تكاسل فيها! وياجهالة من مل يعرف قيمتها! فسحقاً وبعداً وافّاً ًّ
يستحسنها.
ان اليسرف املتصدق فيقعد ملوماً ..وان اليأخذ من هذا ويعطي لذاك؛ بل من مال نفسه..
المين فيستكثر ..وان الخياف من الفقر ..وان اليقتصر على املال ،بل بالعلم والفكر
وان ّ
والفعل أيضا ..وان اليصرف اآلخذ يف السفاهة ،بل يف النفقة واحلاجة الضرورية.
ف ِإلحسان هذه النكت ،واحساس هذه الشروط تصدَّق القرآن على األفهام بإيثار (ومما
رزقناهم ينفقون) على "يتصدقون" او "يزّكون" وغريمها؛ إذ أشار بـ "من" التبعيض اىل رد
االسراف ..وبتقدمي (مما) اىل كونه من مال نفسه ..وبـ"رزقنا" اىل قطع املنة .أي :ان هللا هو
ف ِم ْن ِذي الْ َع ْر ِش اِقْالَالً) ..2
املعطي وانت واسطة ..وباالسناد اىل "نا" اىل( :الَ َختَ ْ
وباالطالق اىل تعميم التصدق للعلم والفكر
_____________________
1االف والتف :وسخ االذن واالظفار ،مث استعمال عند كل شئ يُضجر منه (الزاهر
لالنباري).
2اصل احلديث :عن عبد هللا بن مسعود رضى هللا عنه ،قال :دخل النيب صلى هللا عليه
عد ذلك ألضيافك.صربة من متر ،فقال" :ما هذا يا بالل؟ " قال :اُ ُّ
وسلم على بالل وعنده ُ
ختش من ذي العرش
قال" :أما ختشى ان يكون لك ُدخان يف نار جهنم؟! انفق بالل! وال َ
اقالالً ".
قال املنذري يف الرتغيب والرتهيب :رواه البزار باسناد حسن والطرباين يف الكبري وذكر فيه
وحسنه احلافظ ابن حجر.
زيادة .واحلديث اورده اهليثمي يف اجملمع وقال :اسناده حسنّ ،
واحلديث صحيح بطرقه (صحيح اجلامع الصغري رقم 1949وصحيح الرتغيب برقم ،112
واملشكاة برقم )1999ومع هذا ضعفه العراقي رمحه هللا تعاىل.
وغريمها .ومبادة (ينفقون) اىل شرط صرف اآلخذ يف النفقة واحلاجات الضرورية.
َسرتيح اَنَا". ِ ِ
انت أل َ
ب َ
ت آل ُك َل اَنَا .واتْـ َع ْ
ب اَنْ َ
والثـاني ــة" :ا ْكتَس ْ
فالكلمة االوىل الغدارة النَ ِه َمة الشنعاء هي اليت زلزلت العامل االنساينَّ فاشرف على اخلراب.
القاطع لعرق تلك الكلمة ليس االّ "الزكاة".و ُ
والكلمة الثانية الظاملة احلريصة الشوهاء هي اليت هارت برتقِّيات البشر فأوشك أن تنهار هبا
ِ
املستأص ُل والدواء لتلك الكلمة ليس إالّ "حرمة الربا" .فتأمل!..
يف نار اهلَْرج وامل ْرج .و
َ
اعلم! ان شرط انتظام اهليئة االجتماعية ان ال تتجاىف طبقات االنسان ،وان التتباعد طبقةُ
اخلواص عن طبقة العوام ،واألغنياء عن الفقراء بدرجة ينقطع خيط الصلة بينهم .مع ان
بامهال وجوب الزكاة وحرمة الربا انفرجت املسافة بني الطبقات ،وتباعدت طبقات اخلواص
عن العوام بدرجة ال صلة بينهما ،وال يفور من الطبقة
_____________________
1اورده اهليثمي يف اجملمع ( )62/1وقال :رواه الطرباين يف الكبري واالوسط ورجاله موثقون
إالّ بقية مدلس وهو ثقة ،واورده املنذري يف الرتغيب والرتهيب ( )917/1وقال :رواه
الطرباين ...وفيه ابن هليعة ،والبيهقي وفيه بقية بن الوليد .واحلديث ضعفه حمقق اجلامع
الصغري برقم 1111يف ضعيف اجلامع الصغري.
إشارات اإلعجاز -ص99 :
السفلى اىل العليا إالّ صدى االختالل ،وصياح احلسد ،وأنني احلقد والنفرة بدال عن االحرتام
و االطاعة والتحبب ،وال يفيض من العليا على السفلى بدل املرمحة واالحسان والتلطيف إالّ
نار الظلم والتحكم ،ورعد التحقري .فأسفاً! ..ألجل هذا قد صارت "مزيةُ اخلواص" اليت هي
و"فقر العوام" اللذان مها
"عجز الفقراء" ُ
للتكرب والغرور .وصار ُ
سبب التواضع والرتحم سبباً ّ
سببا املرمحة عليهم واالحسان اليهم سبباً ألسارهتم وسفالتهم ..وانشئت شاهداً فعليك
بفساد ِ
ورذالة حالة العامل املدينّ ،فلك فيه شواهد كثرية .وال ملجأ للمصاحلة بني الطبقات ِ
والتقريب بينها االّ جعل الزكاة -اليت هي ركن من اركان االسالمية -دستوراً عالياً واسعاً يف
تدوير اهليئة االجتماعية.
***
ان البالغة هي مطابقة مقتضى احلال .واحلال :ان املخاطبني بالقرآن على طبقات متفاوتة،
نوع
ويف اعصار خمتلفة .فلمراعاة هذه الطبقات ،وجملاورة هذه االعصار ،ليستفيد خماطب كل ٍ
ماقُ ِّد َر له من حصته ،حذف القرآ ُن يف كث ٍري للتعميم والتوزيع ،واطلق يف كث ٍري للتشميل
والتقسيم ،وارسل النظم يف كثري لتكثري الوجوه ،وتضمني االحتماالت املستحسنة يف نظر
كل ذه ٍن مبقدار ذوقه .فتأمل!..
البالغة واملقبولة عند العلم العريب ليفيض على ِ
مث ان وجه نظم هذه اآلية بسابقتها :التخصيص بعد التعميم .ليعلن على رؤوس االشهاد
لريد يد استغناء اهله يف أفواههم ،وليأخذ يد امثال "عبد
شرف َم ْن آمن من اهل الكتاب ،و ّ
َ
قس َمي املتقني 2للتصريح
ْ على التنصيص أيضا و به.. يأمت الن غريه قِ
ويشو
ّ ، 1
هللا بن سالم"
بشمول هداية القرآن لكافة االمم ،والتلويح لعموم رسالة حممد عليه السالم لقاطبة امللل..
ص َدف يؤمنون بالغيب اذ دل وايضا التفصيل بعد االمجال لشرح اركان االميان املندجمة يف َ
على الكتب والقيامة صراحة ،وعلى الرسل واملالئكة ضمنا.
مث ان القرآن مل يوجز هنا بنحو (واملؤمنني بالقرآن) لرتصيع هذا املعىن بلطائف وتزيني ذيوله
بنكت ،فآثر (والذين يؤمنون مبا أُنزل اليك).
_____________________
1صحايب ،أسلم عند قدوم النىب صلى هللا عليه وسلم املدينة ،وكان امسه (احلصني) فسماه
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عبدهللا .شهد مع عمر رضى هللا عنه فتح بيت املقدس
واجلابية ،وأقام باملدينة اىل ان تويف سنة 01هـ( .االصابة ،0729االستيعاب .)192/2
اذ يف "الذين" رمز اىل ان وصف االميان هو مناط احلكم وان الذات مع سائر الصفات تابعة
1
له ومغمورة حتته.
ويف (يؤمنون) بدل "املؤمنني" الدال على الثبوت يف زمان ،تلويح اىل جتدد االميان بتواتر
النزول وتكرر الظهور مستمرا.
ويف "ما" االهبام ،إمياء اىل ان االميان جممال قد يكفي ،واىل تشميل االميان للوحي الظاهر
والباطن وهو احلديث.
ويف (انُزل) باعتبار مادته اشارة اىل ان االميان بالقرآن هو االميان بنزوله من عند هللا .كما ان
االميان باهلل هو االميان بوجوده ،وباليوم اآلخر هو االميان مبجيئه .وبالنظر اىل صيغته املاضوية
-مع انه مل يتم النزول اذ ذاك -اشارة اىل حتققه املنزلة مبنزلة الواقع مع ان مضارعية
"يؤمنون" تتالىف مايف ماضويته .2بل الجل هذا التنزيل ترى يف اساليب التنزيل كثريا ما يبتلع
بزي املاضي ،اذ فيه بالغة لطيفة .الن من مسع املاضي الزمان املاضي املستقبل ويتزيا املضارع ّ
فيما مل ميض بالنسبة اليه اهتز ذهنه ،وتيقظ انه ليس وحده ،وتذكر ان خلفه غريه من
الصفوف مبسافات .حىت كأن االعصار مدارج واالجيال صفوف قاعدون خلفها .وتنبّه ان
العلو يسمعه كل االجيال .وهو خطبة اهلية اخلطاب والنداء املوجه اليه بدرجة من الشدة و ّ
كل الصفوف يف كل االعصار .فاملاضي حقيقة يف الكثري -يف أكثر األزمان - انصت هلا ُّ
وجماز يف القليل -يف أقلها - 1ومراعاة االكثر أوىف حلق البالغة.
ٌ
ويف (اليك) بدل "عليك" رمز اىل ان الرسالة وظيفة ُكلِّف هبا النيب عليه السالم َّ
وحتملها جبزئه
وعلو
شم اضطرار ّ االختياري ..وإمياء اىل علّوه خبدمة جربائيل بالتقدمي اليه؛ اذ يف "على" ّ
واسطة النزول ..ويف خطاب "اليك" بدل "اىل حنو حممد" تلويح اىل ان حممداً عليه السالم
ماهو إالّ خماطب والكالم كالم هللا ..وايضا معىن اخلطاب تأكيد وتصوير ملعىن النزول الذي
هو الوحي الذي هو القرآن
_____________________
2اى ماضوية "اُنزل " .مبعىن ان الذى مل يتم نزوله ،ان مل يكن داخالً ضمن مشولية "اُنزل "
فهو ضمن مشولية "يؤمنون " (ت)92 :
3فاملاضى حقيقة ثابتة لدى كثري من الناس يف اغلب االزمان ،بينما يكون جمازاً لدى القليلني
يف اقل االزمان.
إشارات اإلعجاز -ص99 :
الذي هو خطاب هللا معه الذي هو اخلاصة النافذة يف الكل .فكشف هذا اجلزء احلجاب
عن حصته من تلك اخلاصة .فظهر ان هذا الكالم بالنظر اىل اشتماله على هذه اللطائف
املذكورة يف هناية االجياز.
اعلم! ان امثال هذه التوصيفات تتضمن تشويقاً ،يتضمن أحكاما انشائية .كآمنوا كذا وكذا
وال تفرقوا.
إحداها:
عطف املدلول على الدليل .اي" :ياأيها الناس اذا آمنتم بالقرآن فآمنوا بالكتب السابقة
ني يَ َديْ ِه) .1 ايضا ،اذ القرآن مص ِّدق هلا وشاهد عليها" بدليل (م ِ ِ
ص ّدقاً ل َما بَـ ْ َ
َُ
والثانية:
عطف الدليل على املدلول ،أي" :ياأهل الكتاب اذا آمنتم باالنبياء السابقني والكتب
بشروا به ،وألن مدار
السالفة لزم عليكم ان تؤمنوا بالقرآن ومبحمد عليه السالم ،الهنم قد ّ
صدقهم ،ونزوهلا ومناط نبوهتم يوجد حبقيقته وبروحه يف القرآن بوجه اكمل ويف حممد عليه
السالم بالوجه األظهر .فيكون القرآن كالم هللا بالقياس االَْولَ ِويَّ ،
وحممد عليه الصالة
والسالم رسوله بالطريق األوىل".
والثالثة:
ان فيه اشارة اىل ان مآل القرآن -اعين االسالمية الناشئة يف زمان السعادة -كشجرة أصلها
ثابت يف أعماق املاضي ،منتشرة العروق متشربة عن منابع حياهتا وقوهتا ،وفرعها يف مساء
االستقبال ناشرة أغصاهنا مثمرة .أي اخذت االسالمية بقرين املاضي واالستقبال.
_____________________
والرابعة:
ان فيه اشارًة اىل تشويق اهل الكتاب على االميان وتأنيسهم ،والتسهيل عليهم .كأنه يقول:
"اليشقن عليكم الدخول يف هذا السلك ،اذ الخترجون عن قشركم باملرة بل امنا تكملون
ّ
ِ
ومكمل يف االصول ِ
معتقداتكم ،وتبنون على ماهو مؤسس لديكم" اذ القرآن مع ّدل ّ
ِ
مؤسس يف
والعقائد ،وجامع جلميع حماسن الكتب السابقة واصول الشرائع السالفة .إال انه ّ
التفرعات اليت تتحول بتأثري تغري الزمان واملكان؛ فكما تتحول االدوية وااللبسة يف الفصول
االربعة ،وطرز الرتبية والتعليم يف طبقات عمر الشخص؛ كذلك تقتضي احلكمة واملصلحة
تبدل االحكام الفرعية يف مراتب عمر نوع البشر .فكم من حكم فرعي كان مصلحة يف
زمان ،ودواء يف وقت طفولية النوع ،اليبقى مصلحة يف آخر ،ودواء عند شبابية النوع .وهلذا
سخ القرآن بعض الفروع .اي ّبني انقضاء اوقات تلك الفروع ودخول وقت آخر. السر نَ َ
اعلم! انه ما من كلمة يف التنزيل يأىب عنها مكاهنا ،أو مل يرض هبا ،أو كان غريُها أوىل به.
مرص ٍع مرصوص متماسك بروابط املناسبات؛ فان بل مامن كلمة من التنزيل إال وهي كد ٍّر َّ
شئت مثاال تأمل يف( :من قبلك) كيف ترى اللطائف املتطايرة من جوانب هذه اآلية
توضعت على هذه الكلمة الفذة.
ّ
بت وتلونت ُ -فرت ِّشح وتُرمز خبمس لطائف -املناسبات املنعكسة من فان (من قبلك) تشر ْ
املقاصد اخلمسة املندجمة يف مسألة النبوة املسوقة هلا هذه اآلية.
اما املقاصد املندجمة فهي :ان حممداً عليه السالم نيب ،وانه اكمل االنبياء ،وانه خامت االنبياء،
وانه مرسل لكافة االقوام ،وان شريعته ناسخة جلميع الشرائع ،وجامعة حملاسنها.
ان "من قبلك" امنا يقال اذا احتد املسلك وكان الطريق واحداً .فكأن هذه الكلمة ترتشح:
بأن احلجج على نبوة َمن قبله وصدق كتبهم ،حجةٌ مبجموعها بتنقيح املناط 1وحتقيق املناط
بالقياس األوىل على نبوة حممد عليه السالم ونزول كتابه .فكأن مجيع معجزاهتم معجزة فذة
على صدق حممد عليه السالم.
_____________________
1اصطالح اصوىل يف مباحث العلة :فتنقيح املناط :هتذيب العلة مما علق هبا من االوصاف
الىت ال مدخل هلا يف العلية .اما حتقيق املناط :فهو االجتهاد يف حتقيق العلة الثابتة بالنص او
باالمجاع او بأي مسلك آخر ،يف واقعة غري الىت ورد فيها النص.
استقر
ان "من قبلك" بسر قاعدة "ان الواحد اذا تكثَّر تس ْل َس َل اليسكن ،وان الكثري اذا احت ّد ّ
الينقطع" وبامشام املفهوم املخالف تلمح بانه عليه السالم خامت االنبياء.
ان "من قبلك" املومية من "من" اىل "اىل" ،ومن "اىل" اىل االغناء .2اي "انتهت الرسالة
ت شريعتُك" ترمز بأن شريعته عليه السالم ناسخة باالنتهاء وجامعةبقدومك اذ اَ ْغنَ ْ
باالغناء.
_____________________
1وامشل (ش).
2اى :ان "من " يفيد معىن االبتداء ،واالبتداء البد له من انتهاء -اى "اىل " -واالنتهاء
يدل على عدم احلاجة او االغناء (ت)96 :
واعلم! ان االمارة لنظر البالغة على تشرب هذه الكلمة هلؤالء اللطائف هي:
ان هذه املقاصد اخلمسة كاالهنار اجلارية حتت هذه اآليات ،حىت يفور هذا بكماله يف آية..
بشَراشريه يف آخرة .فأدىن ِّ
1
ترش ٍح على السطح وينبع ذاك بتمامه يف أُخرى ..ويتجلى ذلك َ
يومي بتماس عروق الكلمة هبا .وايضا تتسنبل هذه املعاين يف آيات مسوقة هلا.
ان احلشر حق؛ الن يف الكائنات نظاماً اكمل قصدياً ..وان يف اخللقة حكمة تامة ..وان ال
عبثية يف العامل ..وان ال اسراف يف الفطرة ..واملزكي هلؤالء الشواهد االستقراء التام جبميع
شاهد صدق على نظام نوع موضوعه ..وايضا ان يف كثري من االنواع الفنون اليت كل منها ُ
مثل اليوم والسنة وغريمها قيامة مكررة نوعية ..وايضا جوهر استعداد البشر يرمز اىل احلشر..
وايضا عدم تناهي آمال البشر وميوله يشري اليه ..وايضا رمحة الصانع احلكيم تلوح به..
يصرح به ..وأيضا بيان القرآن املعجز يف أمثال
وايضا لسان الرسول الصادق عليه السالم ّ
(وقَ ْد خلَ َق ُكم اَطْواراً) ( 1وما ربُّك بِظَالٍَّم لِْلعبِ ِ
يد) 0يشهد له .تلك عشرة كاملة ،مفاتيح َ ََ َ َ َ َ ْ َ
للسعادة االبدية وأبواب لتلك اجلنة.
اما بيان الربهان االول :فهو انه لو مل تنجر الكائنات اىل السعادة االبدية لصار ذلك النظام
الذي اتقن فيه صانعُه اتقاناً َحيَّـَر فيه العقول صورةً ضعيفة خادعة ،ومجيع املعنويات والروابط
والنسب يف النظام هباء منثوراً .فليس نظام ذلك النظام االّ اتصاله بالسعادة ،اي ان النكت
واملعنويات يف ذلك النظام امنا تتسنبل يف عامل اآلخرة .واالّ
_____________________
1بشراشريه :بأمجعه.
2هذه الرباهني مذكورة يف رسالة "السيما" من املثنوى العرىب النورى ومفصلة يف الكلمة
التاسعة والعشرين وموضحة بنور جتليات االمساء احلسىن يف الكلمة العاشرة (احلشر).
وأما الربهان الثاين :فهو ان متثال العناية االزلية الذي هو احلكمة التامة ،اليت هي رعاية
املصاحل واحلِ َكم يف كل نوع ،بل يف كل جزئي -بشهادة كل الفنون -يبشر بقدوم السعادة
االبدية .واالّ لَ ِزم انكار هذه احلكم والفوائد اليت اجربتنا البداهةُ على االقرار هبا؛ اذ حينئذ
تكون الفائدة ال فائدة ..واحلكمة غري حكمة ..واملصلحة عدم مصلحة .وإن هذا االّ
سفسطة.
واما الربهان الثالث املفسر للثاين :فهو ان الفن يشهد ايضا ان الصانع اختار يف كل شئ
الطريق االقصر ،واجلهة االقرب ،والصورة األخف واألحسن .فيدل على ان العبثية .فيدل
على انه ج ّدي حقيقي .وماهو اال مبجئ السعادة االبدية .واالّ لتنزل هذا الوجود منزلة العدم
ت هذا َعبَثاً.
الصرف .وحتول كل شئ عبثاً حمضاً ..سبحانك ماخلَ ْق َ
أما الربهان الرابع املوضح للثالث :فهو ان ال اسراف يف الفطرة بشهادة الفنون .فان تقاصر
ِذ ْهنُك عن ادراك ِح َكم االنسان االكرب وهو "العامل" فأمعن النظر يف العامل االصغر وهو
"االنسان" .فان فن منافع االعضاء قد شرح واثبت :ان يف جسد االنسان تقريبا ستمائة
كل لفائدة ..ومائة واربعة وعشرين ألف ٍ
كل ملنفعة ..وستة آالف عصب هي جمار للدم ّ عظم ّ
كوة للحجريات اليت تعمل يف كل منها مخس قوى من اجلاذبة والدافعة واملمسكة مسامة و ّ
املصورة واملولّدة كل منها ملصلحة .واذا كان العا َملُ االصغر كذا فكيف يكون االنسان االكرب
و ّ
انقص منه؟ واذا كان اجلسد الذي ال امهية له بالنسبة اىل لبّه بتلك الدرجة من عدم االسرافَ
اف كل آثاره من املعنويات واآلمال واالفكار؟ اذ لوالفكيف يُتصور امهال جوهر الروح؟ واسر ٌ
السعادة االبدية لتقلصت كل املعنويات وصارت اسرافاً .فباهلل عليك أميكن يف العقل ان
بصدفها وغالفها حىت الختلي ان يصل الغبار اليه ،مثيكون لك جوهرة قيمتها الدنيا ،فتهتم َ
فتكسرها شذراً مذراً 1ومتحو آثارها؟ كال مث كال!
تأخذ اجلوهرة ّ
_____________________
1شذراً مذراً :اى ذهبوا يف كل وجه ،فاملراد املبالغة يف الكسر والتجزئة (ش).
واما الربهان اخلامس واحلدس املرمز اىل القصد :فهو ان وجود نوع قيامات مكررة نوعية يف
كثري من االنواع يشري اىل القيامة العظمى وان شئت متثُ َل الرم ِز يف مثال ،فانظر يف ساعتك
العادة واحدة
االسبوعية ،فكما ان فيها دواليب خمتلفة دوارة متحركة حمركة لالبر واالَ ْميال ّ
ومعلنة حلركة ميل الساعات. منها للثواين .وهي مقدمة وخمربة حلركة ابرة الدقائق .وهي ُمع ّدة ُ
وهي حمصلة ومؤذنة حلركة االبرة اليت تعد ايام االسبوع .فامتام دورة السابقة يشري بأن اختها
االفالك تع ّد أمياهلا االيام
ُ الالحقة تتم دورها؛ كذلك ان هلل تعاىل ساعةً كربى دواليبُها
والسنني وعمر البشر وبقاء الدنيا ،نظري الثواين والدقائق والساعات وااليام يف ساعتك.
فمجئ الصبح بعد كل ليلة ،والربيع بعد كل شتاء -بناء على حركة تلك الساعة -يشري
اشارة خفية ويرمز رمزا دقيقا بتولد صبح ربيع احلشر من تلك الساعة الكربى.
ان قلت :القيامة النوعية الحتشر االشخاص باعياهنم فكيف ترمز بالقيامة الكربى لعود
االشخاص هناك باعياهنم؟
قيل لك :ان شخص االنسان كنوع غريه ،اذ نور الفكر اعطى آلمال البشر وروحه ُو ْسعة
وانبساطاً بدرجة ِ
وس َعت االزمنة الثالثة ،لو ابتلع املاضي واملستقبل مع احلال مل متتلء آماله؛
صري ماهيته علوية ،وقيمته عمومية ،ونظره كلياً ،وكماله غري حمصور ،ولذته الن نور الفكر ّ
دائمية ،وأمله مستمراً .اما فرد النوع اآلخر فماهيته جزئية ،وقيمته شخصية ،ونظره حمدود،
دفعي ،فوجود نوع قيامة يف االنواع ،كيف اليشري بالقيامة
وكماله حمصور ،ولذته آنية ،وأمله ّ
الشخصية العمومية لالنسان؟
امللوح :فهو عدم تناهي استعدادات البشر .نعم ان تصورات البشر واما الربهان السادس ّ
وافكاره اليت التتناهى ،املتولدة من آماله الغري املتناهية ،احلاصلة من
ميوله الغري املضبوطة ،الناشئة من قابلياته الغري احملدودة ،املسترتة يف استعداداته الغري احملصورة،
املزروعة يف جوهر روحه الذي كرمه هللا تعاىل؛ كل منها يشري يف ماوراء احلشر اجلسماين
باصبع الشهادة اىل السعادة االبدية ومتد نظرها اليه .فتأمل!
وأما الربهان السابع املبشر :فهو ان رمحة الرمحن الرحيم تبشر بقدوم اعظم الرمحة اعين
السعادة االبدية؛ اذ هبا تصري الرمحة رمحة ،والنعمة نعمة .وهبا ختلص الكائنات من النياحات
روح
املصري للنعم نقماً .اذ لو مل جيئ ُالعمومي املتولد من الفراق االبدي ّ
ّ املرتفعة من املأمت
النِ َعم أعين السعادة االبدية ،لتحول مجيع النعم نقما؛ وللزم املكابرة يف انكار الرمحة الثابتة
بشهادة عموم الكائنات بالبداهة وبالضرورة..
فيا ايها احلبيب الشفيق 1العاشق! انظر اىل ألطف آثار رمحة هللا أعين احملبة والشفقة
والعشق؛ مث راجع وجدانك لكن بعد فرض تعقب الفراق االبدي واهلجران الاليزايل عليها،
كيف ترى الوجدان يستغيث ..واخليال يصرخ ..والروح يضجر من انقالب تلك احملبة
والشفقة -اللتني مها أحسن وألطف انواع الرمحة والنعمة -اعظم مصيبة عليك واشد بالء
فيك؟ أفيمكن يف العقل ان تساعد تلك الرمحة الضرورية هلجوم الفراق االبدي واهلجران
ايل على احملبة والشفقة؟ ال! بل من شأن تلك الرمحة ان تسلِّط الفر َ
اق االبدي على الاليز ّ
ايل على الفراق االبدي والعدم عليهما.
الاليزيل ،واهلجران الاليز ّ
ّ اهلجران
املصرح :فهو لسان حممد عليه السالم الصادق املصدوق ،ولقد فتحواما الربهان الثامن ّ
كالمه أبواب السعادة االبدية ،على ان إمجاع االنبياء من آدمهم اىل خامتهم عليهم السالم
على هذه احلقيقة حجة حقيقية قطعية على هذا املدعى .وألمر ّما اتفقوا.
واما الربهان التاسع :فهو اخبار القرآن املعجز؛ اذ التنزيل املصدق اعجازه بسبعة اوجه 2يف
ثالثة عشر عصرا دعواه عني برهاهنا .فاخباره كشاف للحشر اجلسماين ومفتاح له.
_____________________
(وقَ ْد
واما الربهان العاشر ،املشتمل على ألوف من الرباهني اليت تضمنها كثري من اآليات مثل َ
عديل" خلَ َق ُكم أطْواراً) املشري اىل "قياس متثيلي" .و(وما ربُّ ِ ٍ ِ
ك بظَالّم ل ْل َعبيد) املشري اىل "دليل ّ
ََ َ َ َ ْ
ٍ 1
وغريمها .فلقد فتح القرآن يف أكثر اآليات ُك ّوات ناظرة اىل احلشر.
فانظر يف وجود االنسان فانه ينتقل من طور اىل طور ..من النطفة اىل العلقة ..ومنها اىل
لكل من تلك االطوار قواننياملضغة ..ومنها اىل العظم واللحم ..ومنه اىل اخللق اجلديد .و ٍّ
كل منها عن ٍ
قصد وارادةٍ واختيا ٍر ..مث يشف ٌّ
خمصوصة ،ونظامات معيّنة ،وحركات مطّردة ّ
تأمل يف بقائه فإن هذا الوجود جيدد لباسه يف كل سنة ،ومن شأهنالتحلل والرتكب .اي
انقضاض احلجريات وتعمريها ببدل ما يتحلل من املادة اللطيفة املوزعة على نسبة مناسبة
االعضاء اليت حيضرها صانعُها بقانون خمصوص .مث تأمل يف أطوار تلك املادة اللطيفة احلاملة
ألرزاق االجزاء .كيف تنتشر يف اقطار البدن انتشاراً حتري فيه العقول .وكيف تنقسم بقانون
التقسيم املعني على مقدار حاجات االعضاء؛ بعد ان تلخصت تلك املادة بنظام ثابت،
ودستور معني ،وحركة عجيبة من اربع مصفاتات ،وانطبخت يف اربعة مطابخ بعد اربعة
انقالبات عجيبة؛ املأخوذة تلك املادة من القوت احملصل من املواليد املنتشرة يف عامل العناصر
بدستور منتظم؛ ونظام خمصوص ،وقانون معني .وكل من القوانني والنظامات يف تلك االطوار
ٍ
وحكمة .كيف ال ،ولو تأملت من قافلة تلك املادة اللطيفة يف ذرة ٍ
وقصد يشف عن ٍ
سائق
مثال ،مسترتة يف عنصر اهلواء تصري باآلخرة جزءاً من سواد عني "احلبيب"؛ لعلمت ان تلك
عني هلا؛ اذ لو
الذرة وهي يف اهلواء معيّنة كأهنا موظفة مأمورة بالذهاب اىل مكاهنا الذي ُ ّ
فين تيقنت ان ليست حركتها "اتفاقية عمياء" "بتصادف اعمى" ،بل تلك نظرت إليها بنظر ّ
الذرة ما دخلت يف مرتبة اال تبعت نظاماهتا املخصوصة ،وماتدرجت اىل طور اال عملت
بقوانينه املعينة ،وما سافرت اىل طبقة اال وهي تساق حبركة عجيبة منتظمة .فتمر على تلك
االطوار حىت تصل اىل موضعها .مع اهنا التنحرف قطعا مقدار ذرة عن هدف مقصدها.
_____________________
واحلاصل :ان من تأمل يف النشأة االوىل مل يبق له تردد يف النشأة االخرى ،ولقد قال النيب
عليه الصالة والسالم (عجباً ملن يرى النشأة االوىل كيف ينكر النشأة االخرى).
فرقة أ ُِذ َن هلم باالسرتاحة واالنتشار اذا دعوا باآللة املعروفة - نعم! كما ان مجع نفر ِ
ات عسك ِر ٍ
َ
فيتسللون عن كل طرف ومكمن ،فيجتمعون متحدين حتت لوائهم -يكون أسهل وأسهل
مجع الذرات اليت حصلت بينها من جلبهم أول االمر اىل االنتظام حتت السالح؛ كذلك ان َ
بصور اسرافيل فينساب الكل من كل وجود و ٍ املؤانسة واملناسبة باالمتزاج يف ٍ
نوديت ُ
ْ احد اذا
فج عميق ملبِّية ألمر خالقها يكون أسهل وأمكن يف العقل من انشائها وتركيبها أول املرة.
أما بالنسبة اىل القدرة فأعظم االشياء كأصغرها .مث الظاهر ان املعاد يعاد باجزائه االصلية
1
قص االظفار واالشعار
والفضولية معا .كما يشري اليه كرب أجسام اهل احلشر وكراهة ّ
للجنُب ،وسنّية دفنها .2والتحقيق :ان عجب ال َذنَب يكفي ان يكون بذراً وماد ًةوحنوها ُ
1
لتشكله.
عمره يف غاية الطيبمير ُفاعلم! أنّا كثرياً ما نرى الظامل الفاجر الغ ّدار يف غاية التنعم ،و ّ
والراحة .مث نرى املظلوم الفقري املتدين احلسن اخللق ينقضي عمره يف غاية الزمحة 0والذلة
املوت فيساوي بينهما .وهذه املساواة بال هناية تُري ظلماً .والعدالة
واملظلومية ،مث جيئ ُ
منزهتان عن الظلم؛ فالبد من جمم ٍع آخر الكائنات ّ
ُ واحلكمة اإلهليتان اللتان شهدت عليهما
لريى االول جزاءه والثاين ثوابه فيتجلى العدالة اإلهلية .وقس على هاتني اآليتني نظائرمها.
هذا..
_____________________
1عن اىب هريرة رضى هللا عنه قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :ضرس الكافر -أو
ناب الكافر -مثل أحد وغلظ جلده مسرية ثالث .رواه مسلم (.)2191/0
2ادفنوا ماءكم واشعاركم واظفاركم ،التلعب هبا السحرة» مسند الفردوس .142/1وانظر
الفتح الكبري .179/2كنز العمال .17209مجع اجلوامع رقم 999.
3عن اىب هريرة رضى هللا عنه قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :كل ابن آدم يأكله
الرتاب االّ عجب الذنب ،منه ُخلق ومنه يرّكب .رواه مسلم وابو داود وابن ماجه .والعجب:
اصل الذنب.
فاعلم! ان مناط النكت" :الواو" ،مث تقدمي "باآلخرة" مث االلف والالم فيها ،مث التعبري هبذا
العنوان ،مث ذكر "هم" ،مث ذكر "يوقنون" بدل "يؤمنون".
واما "الواو" ففيها التخصيص بعد التعميم ،للتنصيص على هذا الركن من االميان ،اذ هو
أحد القطبني اللذين تدور عليهما الكتب السماوية.
واما تقدمي (باالخرة) ففيه حصر ،ويف احلصر تعريض بأن أهل الكتاب بناء على قوهلم (لن
النار اِالّ أيّاماً َم ْع ُدود ًة) 1ونفيهم اللذائذ اجلسمانية ،آخرهتم آخرة جمازية امسية ،ماهي
متسنا ُ
َّ
حبقيقة اآلخرة.
واما االلف والالم فللعهد .اي اشارة اىل املعهود بالدوران على ألسنة كل الكتب السماوية..
ملح اىل اهنا حق واشارة اىل احلقيقة املعهودة احلاضرة بني اهداب العقول بسبب ويف العهد ٌ
الدالئل الفطرية املذكورة ..ويف العهد حينئذ رمز اىل اهنا حقيقة ..واما التعبري بعنوان "اآلخرة"
الناعتة للنشأة فلتوجيه الذهن اىل النشأة االوىل ،لينتقل اىل امكان النشأة االخرى.
واما (هم) ففيه حصر ويف احلصر تعريض بأن إميان من مل يؤمن مبحمد عليه الصالة والسالم
من أهل الكتاب ليس بيقني ،بل امنا يظنونه يقينا.
وأما ذكر (يوقنون) بدل "يؤمنون" مع ان االميان هو التصديق مع اليقني ،فليضع االصبع
على مناط الغرض قصداً إلطارة الشكوك؛ اذ القيامة حمشر الريوب ..وايضا بالتنصيص ينسد
طرق التعلل بـ "انا مؤمنون فليؤمن من مل يؤمن".
***
_____________________
منها :السؤال عن املثال،كأن السامع بعدما مسع ان القرآن من شأنه اهلداية الشخاص من
أحب أن يراهم وهم بالفعل تلبسوا بتلك ٍ
بأوصافَّ ، شأهنم -بسبب اهلداية -االتصاف
االوصاف متكئني على ارائك اهلداية .فأجاب ُمريئاً للسامع بقوله (اولئك على هدى من
رهبم).
ومنها :السؤال عن العلة ،كأن السائل يقول :ما بال هؤالء استحقوا اهلداية واختصوا هبا؟
فأجاب :بأن هؤالء الذين امتزجت واجتمعت فيهم تلك االوصاف -إن تأملت -جلديرون
بنور اهلداية.
ومنها :السؤال عن نتيجة اهلداية ومثرهتا ،والنعمة واللذة فيها .كأن السامع يقول :ما اللذة
والنعمة؟ فاجاب بأن فيها سعادة الدارين .أي ان نتيجة اهلداية نفسها
_____________________
ومثرهتا عينها ،اذ هي بذاهتا نعمة عظمى ولذة وجدانية ،بل جنة الروح؛ كما ان الضاللة
جهنمها .مث بعد ذلك تثمر الفالح يف اآلخرة.
واما احملسوسية يف (اولئك) فاشارة اىل ان ذكر االوصاف الكثرية سبب للتجسم يف الذهن،
واحلضور يف العقل ،واحملسوسية للخيال .فمن العهد ِ 1
الذكري ينفتح باب اىل العهد
اخلارجي ،ومن العهد اخلارجي ينتقل اىل امتيازهم ،وينظر اىل تأللئهم يف نوع البشر كأنه من
رفع رأسه وفتح عينيه ال يرتاءى له اال هؤالء.
واما البُعدية يف (اولئك) مع قُربيتهم يف اجلملة فلالشارة اىل تعايل رتبتهم؛ اذ الناظر اىل
البعداء ال يرى اال اطوهلم قامة ،مع ان حقيقة البعد الزماين واملكاين اقضى حلق البالغة؛ اذ
هذه اآلية كما ان عصر السعادة لسان ذاكر هلا وهي تنزل ،كذلك كلٌّ من االعصار
االستقبالية كأنه لسان ذاكر هلا ،وهي شابة طرية كأهنا اذ ذاك نزلت ال اهنا نزلت مث
حكيت.فاوائل الصفوف املشار اليهم بـ "اولئك" يرتاؤن من بـُ ْع ٍد .وألجل الرؤية مع بُعدهم
وعلو رتبتهم.
يُعلم عظمتهم ّ
صري اكثر االمور كاملرايا اليت ترتاءى يف
واما لفظ (على) فاعلم! ان سر املناسبة بني االشياء َّ
أنفسها؛ هذه يف تلك وتلك يف هذه .فكما ان قطعة زجاجة تريك صحراء واسعة؛ كذلك
كثرياً ماتذ ّكِرك كلمةٌ ٌَ فذة خياال طويال ،ومتثل نصب عينيك هيئة كلمة حكاية عجيبة.
"بارَز" يفتح لك معركة احلرب ،ولفظ وجيول بذهنك كالم يف عامل املثال املثايل .كما ان لفظ َ
"مثرة" يف اآلية يفتح لك باب اجلنة وقس! فعلى هذا لفظ "على" للذهن كال ُك َّوة اىل اسلوب
اق إهلي أهداه للمؤمنني ليسلكوا ،وهم عليه يف الطريق املستقيم متثيلي هو ان هداية القرآن بُر ٌ
سائرين اىل عرش الكماالت.
واما التنكري يف (هدى) فيشري اىل انه غري (هدى للمتقني) اذ املن ّكر املكرر غري االول يف
االغلب .2فذاك مصدر وهذا حاصل باملصدر ..وهو صفة حمسوسة قارة 1كثمرة االول.
_____________________
2حيث ان النكرة اذا كررت بصورة معرفة ،فتلك املعرفة هى عني تلك النكرة ،اما اذا ذكرت
النكرة نكرة فال تكون عني النكرة يف االغلب (ت)67 :
3قارة :ثابتة.
إشارات اإلعجاز -ص74 :
1
واما لفظ (من) فيشري اىل ان اخللق والتوفيق يف اهتدائهم -املكسوب هلم -من هللا.
واما لفظ الـ "رب" فيشري اىل ان اهلداية من شأن الربوبية فكما يربيهم بالرزق يغذيهم
باهلداية.
اما العطف فمبين على املناسبة؛ اذ كما ان (اولئك) االول اشارة اىل مثرة اهلداية من السعادة
العاجلة؛ فهذه اشارة اىل مثرهتا من السعادة اآلجلة .مث انه مع ان كالً منهما مثرة لكل ما مر،
اال ان األَوىل أَن (اولئك) االول يرتبط ِع ْرقُه بـ(الذين) االول ،الظاهر اهنم املؤمنون من
األميني ،ويأخذ قوته من اركان االسالمية ،وينظر اىل ماقبل (وباآلخرة هم يوقنون) .و
(اولئك) الثاين ينظر برمز خفي اىل (الذين) الثاين ،الظاهر اهنم مؤمنو اهل الكتاب .ويكون
مأخذه اركان االميان واليقني باآلخرة .فتأمل!
واما تكرار (اولئك) فاشارة اىل استقالل كل من هاتني الثمرتني يف العلة الغائية للهداية
والسببية لتميزهم ومدحهم ،اال ان األوىل ان يكون (اولئك) الثاين اشارة اىل االول مع
مكرم.
حكمه كما تقول :ذلك عامل وذلك ّ
واما ضمري الفصل فمع انه تأكيد احلصر الذي فيه تعريض بأهل الكتاب الذين مل يؤمنوا
بالنيب عليه السالم ،فيه نكتة لطيفة وهي :ان توسط (هم) بني املبتدأ واخلرب من شأنه أن ّ
وحيال الباقية على اخليال؛ الن
البعض ُ
ُ حيول املبتدأ للخرب الواحد موضوعاً الحكام كثرية يُذ َكر
ويشوقه على حتري االحكام املناسبة .فكما انك تضع ِ
(هم) ينَبّه اخليال على عدم التحديد ّ
زيداً بني عيين السامع فتأخذ تغزل منه االحكام قائال :هو عامل ،هو عامل ،هو كذا وكذا .مث
تقول قس! كذلك ملا قال (اولئك) مث جاء (هم) هيّج اخليال الن جيتين ويبتين بواسطة
الضمري أحكاماً مناسبة
_____________________
1اذ االهتداء ،اى سلوك طريق الصواب ،هو ضمن اختيارهم وداخل كسبهم ،مع ان اهلداية
الىت هى صفة ثابتة ،فهى من هللا تعاىل (ت)67 :
لصفاهتم،كـ :اولئك هم على هدى ..هم مفلحون ..هم فائزون من النار ..هم فائزون
باجلنة ..هم ظافرون برؤية مجال هللا تعاىل اىل آخره.
وأما األلف والالم فلتصوير احلقيقة.كأنه يقول :ان أحببت أن ترى حقيقة املفلحني ،فانظر
يف مرآة (اولئك) لتمثل لك ..أو لتمييز ذواهتم ،كأنه يقول :الذين مسعت أهنم من أهل
الفالح ان أردت ان تعرفهم فعليك بـ (اولئك) فهم هم ..او لظهور احلكم وبداهته نظري
"والده العبد" اذ كون والده عبداً معلوم ظاهر..
وأما إطالق "مفلحون" فللتعميم؛ اذ خماطب القرآن على طبقات مطالبهم خمتلفة .فبعضهم
يطلب الفوز من النار ..وبعض إمنا يقصد الفوز باجلنة ..وبعض امنا يتحرى الرضاء االهلي..
جرا ..فاطلق هنا لتعم مائدة احسانه فيجتين كلٌّ
وبعض ماحيب اال رؤية مجاله ..وهلم ّ
مشتهاه.
***
إشارات اإلعجاز -ص72 :
ين َك َف ُروا َس َواءٌ َعلَْي ِه ْم ءَاَنْ َذ ْرتَـ ُه ْم اَْم َملْ تُـْن ِذ ْرُه ْم اليـُ ْؤِمنُو َن 6 ِ َّ ِ
ا ًّن الذ َ
وجه النظم:
pان قلت :فلِ َم مل يعطف هنا كما عطف يف (اِ َّن االبْـَر َار لَِفي نَعِي ٍم _ َواِ َّن الْ ُف َّج َار لَِفي
َج ِحي ٍم) .1؟
قيل لك :ان حسن العطف ينظر اىل حسن املناسبة ،وحسن املناسبة خيتلف باختالف
الغرض املسوق له الكالم .وملا اختلف الغرض هنا وهنالك ،مل يستحسن العطف هنا؛ اذ
مدح املؤمنني منجر ومقدمة ملدح القرآن ،ونتيجة له ،وسيق له .وأما ذم الكافرين فللرتهيب
ُ
اليتصل مبدح القرآن.
أما (إ ّن) فان من شأهنا ان تثقب السطح نافذة اىل احلقيقة ،وتوصل احلكم اليها؛ كأهنا عرق
احلكم وهذه الدعوى ليست خيالية والُ الدعوى اتصلت باحلق .مثال :ان هذا كذا ..أي
مبتدعة وال اعتبارية وال مستحدثة؛ بل هي من احلقائق اجلارية الثابتة .وما يقال من أن "إ ّن"
للتحقيق فعنوان هلذه احلقيقة واخلاصية .والنكتة اخلصوصية هنا هي أن "إ ّن" الذي شأنه رد
الشك واالنكار مع عدمهما يف املخاطب لالشارة اىل شدة حرص النيب عليه السالم على
امياهنم.
واما (الذين) فاعلم! ان "الذي" من شأنه االشارة اىل احلقيقة اجلديدة اليت أحس هبا العقل
قبل العني ،وأخذت يف االنعقاد ومل تشتد ،بل تتولد من امتزاج أشياء وتآخذ أسباب مع نوع
غرابة .وهلذا ترى من بني وسائط االشارة والتصوير يف االنقالب اجملدد للحقائق لفظ "الذي"
أسري على االلسنة وأكثر دورانا .فلما ان جتلى مؤسس احلقائق وهو القرآن ،اضمحل أنواعٌَ
ونقضت فصوُهلا وتشكلت انواع اُخر وتولدت حقائق اخرى .اما ترى زمان اجلاهلية كيف
تشكلت االنواع على الروابط امللّية وتولدت احلقائق االجتماعية على العصبيات القومية؟
فلما ان جاء القرآن قطع تلك الروابط وخرب تلك احلقائق فأسس بدالَ عنها انواعاً ،فصوهلا
الروابط الدينية .فتأمل! ..فلما أشرق القرآن على نوع البشر تزاهر بضيائه وامثر بنوره قلوب
فتحصلت حقيقة نورانية هي فصل نوع املؤمنني .مث خلبث بعض النفوس تعفنت يف مقابلة
النفوس فتولدت حقيقة مسّية هي خاصة نوع َمن كفر ..1
ُ الضياء تلك
2
وايضا بني "الذين" و"الذين" تناسب.
اعلم! ان املوصول كااللف والالم يستعمل يف مخسة معان اشهرها العهد .فـ"الذين" هنا
اشارة اىل صناديد الكفر امثال ايب جهل وايب هلب وأُمية بن خلف وقد ماتوا على الكفر.
ملعات يتولد منها نوعٌ من االعجاز من
فعلى هذا يف اآلية إخبار عن الغيب .وامثال هذا ٌ
االنواع االربعة لالعجاز املعنوي.
واما لفظ (كفروا) فاعلم! ان الكفر ظلمة حتصل من انكار شئ مما عُلِ َم ضرورًة جمئ الرسول
عليه السالم به.
_____________________
2ألن كالً منهما يدالن على حقيقة مضادة لالخرى (ت)72 :
والثالثة" :معناه املراد هذا"؛ فان كان ُْحم َكماً أو مفسراً فاالميان به واجب بعد االطالع،
واالنكار كفر .وان كان ظاهراً ،او نصاً حيتمل معىن آخر ،فاالنكار بناء على التأويل -دون
التشهي -ليس بكفر .1ومثل اآلية احلديث املتواتر؛ اال ان يف انكار القضية االوىل من
ّ
2
احلديث تأمال.
ان قلت :الكفر جهل ويف التنزيل (يَـ ْع ِرفُونَهُ َك َما يَـ ْع ِرفُو َن اَبْـنَ ُ
اءه ْم) 1فما التوفيق؟
جهلي ِ
ينكر ألنه ال يعلم .والثاين جحودي متردي يعرف لكن اليقبل ،يتي ّقن لكن اليعتقد، ّ
يص ِّدق لكن اليـذعن وجدانُه .فتأمل!..
قيل لك :ال ،اذ حبكم صنعته الفطرية يشتغل قلبُه دائما باالضالل ويتصور عقلُه دائماً الكفر
للتلقني فال ينقطع هذا الشغل ،وال يزول ذلك التصور عن عقله حىت تتمكن فيه املعرفة.
_____________________
4القبعة.
ان قلت :االخبار عن متردهم يستلزم امتناع امياهنم فيكون التكليف باحملال؟
قيل لك :ان االخبار وكذا العلم واالرادة ال تتعلق بكفرهم مستقال مقطوعاً عن السبب ،بل
امنا تتعلق بكفرهم باختيارهم .كما يأتيك تفصيله .ومن هنا يقال" :الوجوب باالختيار ال
ينايف االختيار".
1 2
الكالمي".؟
ّ االصم "اجلذر يشبه عقلي
ّ حمال ان قلت :امياهنم بعدم امياهنم
مث يف ايراد (كفروا) فعالً ماضياً ،اشارة اىل اهنم اختاروا الكفر بعد تبني احلق فلذا اليفيد
االنذار.
واما (سواء) فمجاز عن" :انذارك كعدم االنذار يف عدم الفائدة او يف صحة الوقوع" اي
الموجب لالنذار وال لعدمه.
واما (عليهم) ففيه امياء اىل اهنم اخلدوا اىل االرض فال يرفعون رؤوسهم وال يصغون اىل كالم
(ما َعلَى
آمرهم ..وفيه أيضا رمز اىل انه ليس سواء عليك ،الن لك اخلري يف التبليغ؛ اذ َ
الرس ِ
ول إالّ البَالغُ) .0 َّ ُ
_____________________
1اذ ميكنهم ان يقولوا مل نبلّغ بالتكليف وال علم لنا به ،ويكون هذا مدار جناهتم من اجلزاء
(ت)70 :
3مغلطة اجلذر االصم هى هذه :قيل ان اجتماع النقيضني واقع ،النه لو قال قائل كل
كالمي يف هذه الساعة كاذب واحلال انه مل يقل يف تلك الساعة غري هذا الكالم ،فال خيلو
من ان يكون هذا الكالم ،صادقاً أوكاذباً .وعلى التقديرين يلزم اجتماع النقيضني .اما اذا
كان صادقاً فيلزم كذب كالمه يف تلك الساعة ،وهذا الكالم مما تكلم به يف تلك الساعة ومل
يتكلم بغريه؛ فيلزم كذب كالمه .والتقدير انه صادق فيلزم اجتماع النقيضني وان كان كاذباً
يلزم ايضاً اجتماع النقيضني النه يلزم ان يكون بعض افراد كالمه صادقاً يف تلك الساعة لكن
ما وجد عنه يف تلك الساعة سوى هذا الكالم فيلزم صدقه ،واملفروض كذبه فيلزم اجتماع
النقيضني .وهذه املغلطة مشهورة حتري مجيع العلماء يف حلّها(.ب)
واما (ءَاَنذرهتم ام مل تنذرهم) فاهلمزة واَْم هنا يف حكم "سواء حريف" ،تأكيد لسواء االول .أو
تأسيس نظراً اىل اقتسامهما املعنيني املذكورين للمساواة.
ان قلتِ :ملَ ذكر (ام مل تنذرهم) مع ان عدم فائدة عدم االنذار ظاهر؟
قيل لك :كما قد ينتج االنذار اصراراً ،كذلك قد جيدي السكوت انصاف املخاطب.
قيل لك :اذ الرتهيب هو املناسب للكفر ،والن دفع املضار أوىل من جلب املنافع وأشد
تأثرياً ،وألن الرتهيب هنا يهز ِعطف اخليال ويوقظه الن يتلقى وجيتين بعد قوله (اليؤمنون)
"أبشرهتم ام مل تبشرهم".
ّ
مث اعلم! كما ان لكل حك ٍم معىن حرفياً ومقصدا خفياً؛ كذلك هلذا الكالم معان طيارة
بتأسيه
ومقصد سيق له هو ختفيف الزمحة ،وهتوين الشدة عن النيب عليه السالم ،وتسليته ّ
بالرسل السالفني .اذ خوطب اكثرهم مبثل هذا اخلطاب ،حىت قال نوح بعده (ال تَ َذ ْر َعلَى
ين َديَّاراً) ..1مث ألن آيات القرآن كاملرايا املتناظرة ،وقصص االنبياء كاهلالة ِ االَر ِ ِ
ض م َن الْ َكافر َ ْ
اهلي
فطري ّ
للقمر تنظر اىل حال النيب عليه السالم؛ كان كأن هذا الكالم يقول :هذا قانون ّ
جيب االنقياد له.
_____________________
ان جمموع هذه اآلية اىل (وهلم عذاب عظيم) سيقت :مشريًة بعقودها اىل تقبيح الكفر
وترذيله ،والتنفري منه والنهي الضمين عنه ،وتذليل أهله ،والتسجيل عليهم ،والرتهيب عنه،
وهتديدهم ..منادية 1بكلماهتا بأن يف الكفر مصائب عظيمة ،وفوات نِ َعم جسيمة ،وتولد
آالم شديدة ،وزوال لذائذ عالية ..مصرحةً جبملها بأن الكفر أخبث االشياء وأضرها.
اذ أشار بلفظ (كفروا) بدل "مل يؤمنوا" اىل اهنم بعدم االميان وقعوا يف ظلمة الكفر الذي هو
مصيبة تفسد جوهر الروح وايضا هو معدن اآلالم.
وبلفظ (اليؤمنون) بدل "اليرتكون الكفر" اىل اهنم مع تلك اخلسارة سقط من ايديهم االميان
الذي هو منبع مجيع السعادات.
وبلفظ (ختم هللا على قلوهبم) اىل ان القلب والوجدان -الذي حياته وفرحه وسروره وكماالته
بتجلي احلقائق االهلية بنور االميان -بعدما كفروا صار كالبناء املوحش الغري املعمور املشحون
باملضرات واحلشرات ،فاُْق ِفل واُْم ِهر 2على بابه ليُجتَنب ،وتُرك مفوضاً للعقارب واالفاعي.
وبلفظ (وعلى مسعهم) اىل فوات نعمة عظيمة مسعية بسبب الكفر؛ اذ السمع من شأنه -اذا
نور االميان واستند اليه -االحتساس بنداء كل العامل وفهم اذكارها، استقر خلف صماخه ُ
ليسمع من ترمنات هبوب الريح،
ُ السمع
َ ومسع صياح الكائنات وتفهم تسبيحاهتا ..حىت ان
ومن نعرات رعد الغيم ،ومن نغمات امواج البحر ،ومن صرخات دقدقة احلجر ،ومن
هزجات نزول املطر ،ومن سجعات غناء الطري كالماً ربانياً ،ويفهم تسبيحا علويا ،كأن
الكائنات موسيقية عظيمة له ،هتيّج يف قلبه حزناً علوياً وعشقاً روحانياً فيحزن بتذكر
األحباب واالنيس فيكون احلزن لذة؛ ال بعدم االحباب فيكون غماً ..واذا اظلم ذلك السمع
بالكفر صار اصم من تلك االصوات اللذيذة ،واليسمع من الكائنات إال نياحات املأمت
ونعيات املوت ،فال يلقي
_____________________
2اى ختم على بابه .واملهر -بالضم -هو اخلتم الذى يطبع ويوقع به .والكلمة اعجمية
استعملها تفنناً .وله من احلسن مقام(ش)
يف القلب اال غم اليتمة -اي عدم االحباب -ووحشة الغربة -اي عدم املالك واملتعهد -
فبناء على هذا السر أحل الشرع بعض االصوات وهو ماهيّج عشقاً علوياً وحزناً عاشقياً،
فميِّْزه بتأثريه يف
وحرم بعضها وهو ما انتج اشتهاء نفسياً وحزناً يتمياً ،ومامل يُِرَك الشرع َ
ّ
روحك ووجدانك.
(وعلى ابصارهم غشاوة) اىل زوال نعمة جسيمة بسبب الكفر؛ اذ البصر من شأنه وبكلمة َ
اذا استضاء نوره واتصل بنور االميان الساكن خلف ُشبيكته ممداً وحمركاً له كان كل الكائنات
كجنة مزينة بالزهر واحلور ،ويصري نور العني حنال تطري عليها فتجتىن من تلك االزاهري عصارة
العربة والفكرة واالنسية واالستيناس والتحبب والتهنئة ،فتأخذ محيلتها فتتخذ يف الوجدان
البصر بالكفر طمس ،وصارت الدنيا يف شهد الكماالت ..واذا أظلم -العياذ باهلل -ذلك ُ
نظره سجناً ،وتسرتت عنه احلقائق وتوحشت عليه الكائنات وتلقى اىل قلبه آالماً حتيط
بوجدانه من الرأس اىل القدم..
وبلفظ (وهلم عذاب عظيم) اىل مثرة شجرة زقوم الكفر يف العامل االخروي من عذاب جهنم
ومن نكال الغضب االهلي .هذا.
***
اعلم! انه لزمنا ان نقف هنا حىت نستمع ملا يتكلم به املتكلمون؛ اذ حتت هذه اآلية حرب
عظيمة بني اهل االعتزال واهل اجلرب واهل السنة واجلماعة .ومثل هذه احلرب تستوقف
النُظّار .فناسب ان نذكر اساسات لتستفيد منها:
ان مذهب اهل السنة واجلماعة هو الصراط املستقيم ،وماعداه إما افراط او تفريط.
1
منها :انه قد حتقق "اَ ْن ال ُم َؤثَِّر ِيف الْ َك ْو ِن اِالّ هللا" فإذاً ال تفويض.
ومنها" :ان هللا حكيم" فال يكون الثواب والعقاب عبثني فحينئذ ال اضطرار .فكما ان
التوحيد يدفع يف صدر االعتزال؛ كذلك التنزيه يضرب على فم اجلرب.
ومنها :ان لكل شئ جهتني :جهة ُملكية هي قد تكون حسنة وقد تكون قبيحة تتوارد عليها
االشكال كظهر املرآة .وجهة ملكوتية تنظر اىل اخلالق .وتلك شفافة يف كل شئ كوجه املرآة.
فخلق القبيح ليس قبيحاً؛ اذ اخللق من جهة امللكوتية حسن ،والن خلقه لتكميل احملاسن
ُ
فيحسن بالغري .فال تصغ اىل سفسطة االعتزال!
قار خملوق جامد ال يشتق منه الصفات .1واما املصدر 2
ومنها :ان احلاصل باملصدر أمر ٌ
اهل
اعتباري يشتق منه الصفات .فال يكون خالق القتل قاتال ..فَ َذ ْر َ
ّ نسيب
فمكسوب ّ
االعتز ِال يف خوضهم يَـ ْل َعبُون!..
الظاهري يف االغلب نتيجة الفعال متسلسلة منتهية اىل ميالن النفس الذي
ّ ومنها :ان الفعل
يسمى "باجلزء االختياري" .فتدور املنازعات على هذا االساس.
ّ
_____________________
3اى اليشتق من اجلامد اسم الفاعل كما هو معلوم يف علم الصرف (ت)94 :
ومنها :ان االرادة الكلية االهلية ناظرة بعادته تعاىل اىل االرادة اجلزئية للعبد ،فال اضطرار.
ومنها :ان العلم تابع للمعلوم ،فال يتبعه املعلوم حىت يدور .فال يُتعلل يف العمل باحالة
مقاييسه على القدر.
ومنها :ان خلق احلاصل باملصدر متوقف على كسب املصدر جبريان عادة هللا تعاىل باشرتاطه
به .والنواة يف كسب املصدر والعقدة احلياتية فيه هي امليالن ،فبحلّه تنحل عقدة املسألة.
ومنها :ان الرتجح بال مرجح حمال دون الرتجيح بال مرجح فال تُعلّ ُل أفعالُه تعاىل باالغراض؛
بل اختياره تعاىل هو املرجح.
ومنها :ان االمر املوجود البد له من مؤثر وإال لزم الرتجح بال مرجح وهو حمال كما مر .واما
االمر االعتباري 1فتخصصه بال خمصص ال يلزم منه احملال.
ومنها :ان املوجود جيب ان جيب مث يوجد .2واما االمر االعتباري فالرتجح بال انتهاء اىل حد
الوجوب كاف فال يلزم ممكن بال مؤثر.
ومنها :ان العلم بوجود شئ اليستلزم العلم مباهيته ،وعدم العلم باملاهية اليستلزم العدم.
فعدم التعبري عن ُك ِنه االختيار الينايف قطعية وجوده.
فنحن معاشر اهل السنة واجلماعة نقول :يا اهل االعتزال! ان العبد ليس خالقاً للحاصل
باملصدر كاحلاصل من املصدر ،1بل هو مصدر املصدر فقط 0؛ اذ "ال مؤثر يف الكون اال
هللا" ،والتوحيد هكذا يقتضي .مث نقول :يا اهل اجلرب! ليس العبد مضطراً بل له جزء اختياري
الن هللا حكيم .وهكذا يقتضي التنزيه.
_____________________
2اى ال يأتى اىل الوجود شئ مامل يكن وجوده واجباً .فعند تعلق االرادتني اجلزئية والكلية يف
شئ يكون وجود الشئ واجباً ،فيوجد حاالً (ت)94 :
3اى ليس خالقاً لألثر احلاصل باملصدر ،وهو الذى يطلق عليه الكسب (ت)91 :
اوالً :ان الوجدان والفطرة يشهدان ان بني االمر االختياري واالضطراري امرا خفيا فارقا،
وجوده قطعي .فال علينا ان ِّ
النعرب عنه. ُ
وثانياً :نقول ان امليالن ان كان امراً موجوداً -كما عليه االشاعرة -فالتصرف فيه امر
اعتباري بيد العبد 1؛ وان كان امليالن امرا اعتباريا -كما عليه املاتريدية -فذلك االمر
االعتباري ثبوته وختصصه اليستلزم العلة التامة املوجبة 2فيجوز التخلف .1فتأمل!
واحلاصل :ان احلاصل باملصدر موقوف عادة على 0املصدر الذي اساسه امليالن الذي هو
-او التصرف فيه -ليس موجوداً حىت يلزم 9من ختصصه مرة هذا ومرة ذاك ممكن بال
مؤثر ،او ترجح بال مرجح ..والمعدوماً ايضاً حىت اليصلح ان يكون شرطا خللق احلاصل
باملصدر او سبباً للثواب والعقاب.
6
ان قلت :العلم االزيل واالرادة االزلية ينحيان على االختيار بالقلع؟
_____________________
2حبيث ال تبقى احلاجة اىل االرادة الكلية (ت )91 :والعلة التامة :هى مجلة ما يتوقف عليه
وجود الشئ (التعريفات).
7الن املؤثر هو القدرة وليس العلم الذى هو تابع للمعلوم (ت)92 :
املراد عن االرادة عندهم ..واما اهل السنة واجلماعة فيقولون :نتوقف ونسكت؛ اذ فرض
عدم السبب يستلزم فرض عدم تعلق االرادة والعلم باملسبب ايضا ،اذ التعلق واحد .فهذا
الفرض احملال جاز ان يستلزم حماال .فتأمل!
***
مـقـدمـة اخـرى
اعلم! ان الطبيعيني يقولون :ان لالسباب تأثرياً حقيقياً . .واجملوس يقولون :ان للشر خالقاً
آخر ..واملعتزلة ي ّدعون :ان احليوان خالق إلفعاله االختيارية .وأساس هذه الثالثة مبنية على
باطل ،وخطأ حمض ،وجتاوز عن احلد وقياس مع الفارق ،خدعهم وشبطهم 1؛ اذ ذهبوا وه ٍم ٍ
الشرك .وان شئت التفصيل فاستمع ملسائل تطرد ذلك ظناً منهم اىل التنزيه فوقعوا يف َشرك ِ
َ
الوهم:
منها :انه كما ان استماع االنسان وتكلمه ومالحظته وتفكره جزئية تتعلق بشئ فشئ على
سبيل التعاقب؛ كذلك مهتُه جزئية التشتغل باالشياء إال على سبيل التناوب.
ومنها :ان قيمة االنسان بنسبة ماهيته ..وماهيته بدرجة مهته ..ومهته مبقدار امهية املقصد
الذي يشتغل به.
توجه يفىن فيه وينحبس عليه .ومن هذه النقطة ترى الناس -
ومنها :ان االنسان اىل اي شئ ّ
يف عرفهم -اليسندون شيئا خسيساً وأمراً جزئيا اىل شخص عظيم ٍ
وذات عال؛ بل اىل
الوسائل ظناً ًَ منهم ان االشتغال باالمر اخلسيس اليناسب وقاره ،وهو اليتنزل له وال يسع
االمر احلقري مهته العظيمة ،وال يوازن االمر اخلفيف مع مهته العظيمة.
ومنها :ان من شأن االنسان -اذا تفكر يف شئ حملاكمة احواله -ان يتحرى مقاييسه
وروابطه واساساته ،أوالً يف نفسه ،مث يف ابناء جنسه ..وان مل جيد ففي جوانبه من املمكنات.
حىت ان واجب الوجود الذي اليشبه املمكنات بوجه من الوجوه اذا تفكر فيه االنسان تلجؤه
القوة الوامهة الن جيعل هذا الوهم السئ املذكور دستوراً ،والقياس اخلادع منظاراً له .مع ان
الصانع جل جالله الينظر اليه من هذه النقطة؛ اذ ال احنصار لقدرته.
_____________________
1
ط) مبعىن :أفرط
لقد وردت هذه الكلمة مصروفة يف عدة مواضع من الكتاب ،ولعلها( :ش ّ
وتباعد عن احلق ،او (شيّط) من شاط اى :هلك.
االعلى -شاملةومنها :ان قدرته وعلمه وارادته جل جالله كضياء الشمس -وهلل الْ َمثَ ُل ْ
لكل شئ ،وعامة لكل امر .فال تقع يف االحنصار والجتئ يف املوازنة .فكما تتعلق باعظم
االشياء كالعرش؛ تتعلق باصغرها كاجلوهر الفرد ..وكما خلق الشمس والقمر؛ كذلك خلق
عيين الربغوث والبعوضة ..وكما اودع نظاماً عالياً يف الكائنات؛ كذلك اوقع نظاماً دقيقاً يف َ
امعاء احليوانات (اخلردبينية) ..وكما ربط االجرام العلوية والنجوم املعلَّقة بقانونه املسمى
1
باجلاذب العمومي؛ كذلك نظّم اجلواهر الفردة بنظري ذلك القانون كأنه مثال مصغر هلا .اذ
العجز تتساوى يف قدرته االشياء ،اذ
بتداخل العجز تتفاوت مراتب القدرة .فمن امتنع عليه ُ
العجز ضد القدرة الذاتية .فتأمل!
ومنها :ان اول ماتتعلق به القدرة ملكوتية االشياء وهي ش ّفافة حسنة يف الكل كما مر .فكما
جملى ووجه القمر مستضيئا؛ كذلك صري ملكوتية الليل
انه جل جالله جعل وجه الشمس ً
والغيم حسنة منرية.
ذهن البشر،
ومنها :ان مقياس عظمته تعاىل وميزان كماالته وواسطة حماكمة اوصافه اليسعها ُ
وال ميكن له اال بوجه ،2بل امنا هو مبا يتحصل من مجيع مصنوعاته ..ومبا يتجلى من جمموع
آثاره ..ومبا يتلخص من كل افعاله .نعم الذرة تكون مرآةً وال تكون مقياساً.
واذا تفطنت هلذه املسائل فاعلم! ان الواجب تعاىل اليقاس على املمكنات ،اذ الفرق من
الثرى اىل الثريا .أال ترى اهل الطبيعة واالعتزال واجملوس -بناء على تسلط القوة الوامهة هبذا
القياس على عقوهلم -كيف التجأوا اىل اسناد التأثري احلقيقي اىل االسباب ،وخلق االفعال
وتنزهه كيف
للحيوان ،وخلق الشر لغريه تعاىل؟ يظنون ويتومهون ان هللا تعاىل بعظمته وكربيائه ّ
يتنزل هلذه االمور اخلسيسة واالشياء القبيحة؟ فسحقاً هلم! كيف صريوا العقل اسرياً هلذا
الوهم الواهي هـذا؟ ..ياهذا ! هذا الوهم قد يتسلط على املؤمن ايضا من جهة الوسوسة
فتجنَّب!.
***
_____________________
2اى الميكن لالنسان ان يستوعب اوصافه اجلليلة االّ مبا يتحصل له من مشاهدة مصنوعاته
سبحانه وتعاىل.
فاعلم! ان ربط (ختم) بـ "اليؤمنون" وتعقيبه به نظري ترتب العقاب على العمل .كأنه يقول
ملا افسدوا اجلزء االختياري ومل يؤمنوا عوقبوا خبتم القلب وس ّده .مث لفظ "اخلتم" يشري اىل
استعارة مركبة تومئ اىل اسلوب متثيلي يرمز اىل ِ
ضرب َمثَ ٍل ِّ
يصور ضاللتهم؛ اذ املعىن فيه منع
نفوذ احلق اىل القلب .فالتعبري باخلتم يصور القلب بيتاً بناه هللا تعاىل ليكون خزينة اجلواهر،
مث بسوء االختيار فسد وتعفن وصار ما فيه مسوما فاُغلق واُمهر ليُجتنب.
واما (هللا) فاعلم! ان فيه التفاتاً من التكلم اىل الغيبة .ومع نكتة االلتفات ففي مناسبة لفظ
"هللا" مع متعلق "اليؤمنون" يف النية ،أعين لفظ "باهلل" ،اشارة اىل لطافة ،هي انه ملا جاء نور
معرفة هللا اليهم فلم يفتحوا باب قلبهم له توىل عنه مغضباً واغلق الباب عليهم.
واما (على) فاعلم! ان فيه -بناء على كون اخلتم متعدياً بنفسه -اشارة اىل تضمني ختم
"وسم" ،كأنه يقول :جعل هللا اخلتم ومساً وعالمةً على القلب يتومسه املالئكة ..ويف "على"
أيضا امياء اىل ان املسدود الباب العلوي من القلب ال الباب السفلي الناظر اىل الدنيا.
واما (قلوهبم) ق ّدمه على السمع والبصر النه هو حمل االميان ..والن اول دالئل الصانع
يتجلى من مشاورة القلب مع نفسه ،ومراجعة الوجدان اىل فطرته ،النه اذا راجع نفسه حيس
بعجز شديد يلجؤه اىل نقطة استناد ،ويرى احتياجاً شديداً لتنمية آماله فيضطر اىل نقطة
استمداد ،وال استناد وال استمداد اال باالميان ..مث ان املراد بالقلب اللطيفة الربانية اليت مظهر
حسيّاهتا الوجدان ،ومعكس افكارها الدماغ ،ال اجلسم الصنوبري .فاذاً يف التعبري بالقلب رمز
اىل ان اللطيفة الربانية ملعنويات االنسان كاجلسم الصنوبري جلسده .فكما ان ذلك اجلسم
ماكينة حياتية تنشر ماء احلياة ألقطار البدن ،واذا انسد وسكن مجد اجلسد؛ كذلك تلك
اللطيفة تنشر نور احلياة احلقيقية القطار اهليئة اجملسمة من معنوياته واحواله وآماله .واذا زال
كشبح الحراك به واظلم
نور االميان -العياذ باهلل -صارت ماهيته اليت يصارع هبا الكائنات ٍ
عليه.
كل بنوع من الدالئل .فالقلب بالدالئل واما وعلى (مسعهم) كرر "على" لالشارة اىل استقالل ٍ
العقلية والوجدانية .والسمع بالدالئل النقلية واخلارجية ،وللرمز اىل ان ختم السمع ليس من
جنس ختم القلب ..مث ان يف افراد السمع مع مجع جانبيه اجيازاً ورموزاً اىل ان السمع
سمع فرد ..وان املسموع للكل فرد ..وانه يسمع فرداً مصدر ،لعدم اجلفن له ..واىل ان امل ِ
ُ
فرداً ..والشرتاك الكل كأن امساعهم باالتصال صارت فرداً ..والحتاد اجلماعة وتشخصها
يتخيل هلا مسع فرد ..واىل اغناء مسع الفرد عن استماع الكل فحق السمع يف البالغة االفراد..
لكن القلوب واالبصار خمتلفة متعلقاهتما ،ومتباينة طرقهما ،ومتفاوتة دالئلهما ،ومعلمهما
على انواع ،ومل ّقنهما على اقسام .فلهذا توسط املفرد بني اجلمعني .وع ّقب القلب بالسمع
اب مللكاته ،واقرب اليه ،ونظريه يف تساوي اجلهات الست عنده. الن السمع ٌ
واما (وعلى ابصارهم غشاوة) فاعلم! ان يف تغيري االسلوب باختيار اجلملة االمسية اشارة اىل
ان جنا َن البصر اليت جيتين منها دالئله ثابتة دائمة خبالف حدائق السمع والقلب؛ فاهنا
متجددة ..ويف اسناد اخلتم اىل هللا تعاىل دون الغشاوة اشارة اىل ان اخلتم جزاء كسبهم،
والغشاوة مكسوبة هلم ،ورمز اىل ان يف مبدأ السمع والقلب اختياراً ،ويف مبدأ البصر اضطراراً
وحمل االختيار غشاوة التعامي .ويف عنوان الغشاوة اشارة اىل ان للعني جهة واحدة .وتنكريها
للتنكري ،أي التعامي حجاب غري معروف حىت يـُتَحفظ منه ..ق ّدم (على ابصارهم) ليوجه
العيون اىل عيوهنم اذ العني مرآة سرائر القلب.
وأما (وهلم عذاب عظيم) فاعلم! انه كما اشار بالكلمات السابقة اىل حنظالت تلك
الشجرة امللعونة الكفرية يف الدنيا؛ كذلك اشار هبذه اىل حنظلة جانبها املمتد اىل اآلخرة
وهي زقّوم جهنّم..
مث ان سجية االسلوب تقتضي (وعليهم عقاب شديد) .ففي ابدال "على" بالالم و"العقاب"
توبيخي
ّ نوع هتكم
بالعذاب و"الشديد" بالعظيم ،مع ان كال منها يليق بالنعمة رمز اىل ِ
يضي؛ كأنه ينعي هبم :ما منفعتهم ،وال لذهتم ،وال نعمتهم العظيمة اال العقاب؛ نظري تعر ّ
1
ذاب اَلِي ٍم)
ب وِجيع) .و(فَـب ِّشرُهم بِع ٍ
َ ْ ْ َ ض ْر ٌ َ ُ
نهم َ
َِ
(حتيَّةُ بَـْي ْ
_____________________
اذ الالم لعاقبة العمل وفائدته .فكأنه يتلو عليهم"خذوا اجرة عملكم".
ويف لفظ "العذاب" رمز خفي اىل ان يذكرهم استعذاهبم واستلذاذهم باملعاصي يف الدنيا
فكأنه يقرأ عليهم "ذوقوا مرارة حالوتكم".
ويف لفظ الـ "عظيم" اشارة خفية اىل تذكريهم حال صاحب النعمة العظيمة يف اجلنة فكأنه
يلقنهم :انظروا اىل ماضيعتم على انفسكم من النعمة العظيمة ،وكيف وقعتم يف االمل االليم.
مث ان "عظيم" تأكيد لتنوين "عذاب".
قيل لك :مع تسليم عدم تناهي اجلزاء ،ان الكفر يف زمان متناهٍ جناية غري متناهية بست
جهات:
منها :ان من مات على الكفر لو بقي أبدا لكان كافراً أبداً لفساد جوهر روحه ،فهذا القلب
الفاسد استعد جلناية غري متناهية.
ومنها :ان الكفر وان كان يف زمان متناه لكنه جناية على غري املتناهي ،وتكذيب لغري
املتناهي أعين عموم الكائنات اليت تشهد على الوحدانية.
ومنها :ان الكفر جناية يف مقابلة الغري املتناهي وهو الذات والصفات االهلية.
ومنها :ان وجدان البشر -بسر حديث (الَ يَ َسعُين اَْر ِضي َوال َمسائي) - 1وان كان يف
الظاهر وامللك حمصوراً ومتناهياً لكن ملكوتيته باحلقيقة نشرت ومدت عروقها اىل األبد .فهو
من هذه اجلهة كغري املتناهي وبالكفر تلوث واضمحل.
_____________________
1احلديث (ما وسعين مسائي وال ارضي ولكن وسعين قلب عبدي املؤمن) .ذكره يف االحياء
بلفظ مقارب .قال العراقي يف خترجيه :مل ار له أصالً (كشف اخلفاء للعجلوين 119/2
باختصار) .وقال السيوطي يف الدرر املنتثرة :قلت اخرج االمام امحد يف الزهد عن وهب بن
منبه :ان هللا فتح السموات حلزقيل حىت نظر اىل العرش فقال حزقيل :سبحانك ما اعظمك
يارب! فقال هللا :ان السموات واالرض ضعفن ان يسعنين ووسعين قلب املؤمن الوادع اللني»
اهـ .قال ابن حجر اهليتمي يف الفتاوى احلديثية :وذكر ٍ
مجاعة له من الصوفية ال يريدون ُ
حقيقة ظاهره من االحتاد واحللول ألن كالً منهما كفر ،وصاحلو الصوفية اعرف الناس باهلل
وما جيب له وما يستحيل عليه ،وامنا يريدون بذلك ان قلب املؤمن يسع االميان باهلل وحمبته
ومعرفته .ا هـ .
ومنها :ان الضد وان كان معانداً لضده لكنه مماثل له يف أكثر األحكام .فكما ان االميان
يثمر اللذائذ األبدية ،كذلك من شأن الكفر ان يتولد منه اآلالم األبدية.
فمن مزج هذه اجلهات الست يستنتج ان اجلزاء الغري املتناهي امنا هو يف مقابلة اجلناية الغري
املتناهية وما هو إالّ عني العدالة.
ان قلت :طابق العدالة 1لكن اين احلكمة الغنية عن وجود الشرور املنتجة للعذاب؟
قيل لك :كما قد مسعت مرة أخرى انه اليُرتك اخلري الكثري لتخلل الشر القليل ألنه شر كثري.
اذ ملا اقتضت احلكمة االهلية تظاهر ثبوت احلقائق النسبية اليت هي أزيد بدرجات من احلقائق
احلقيقية -وال ميكن هذا التظاهر اال بوجود الشر؛ وال ميكن توقيف الشر على ح ّده ومنع
طغيانه اال بالرتهيب؛ وال ميكن تأثري الرتهيب حقيقة يف الوجدان اال بتصديق الرتهيب
وحتقيقه بوجود عذاب خارجي؛ اذ الوجدان ال يتأثر حق التأثر -كالعقل والوهم -بالرتهيب
اال بعد ان يتحدس باحلقيقة اخلارجية األبدية بتفاريق االمارات -فمن عني احلكمة بعد
التخويف من النار يف الدنيا وجود النار يف اآلخرة.
قلت :ال يتصور يف حقهم إالّ العدم أو الوجود يف العذاب ،والوجود -ولو يف جهنم -
مرمحةٌ وخريٌ بالنسبة اىل العدم إن تأملت يف وجدانك؛ اذ العدم شر حمض ،حىت ان العدم
مرجع كل املصائب واملعاصي ان تفكرت يف حتليلها .واما الوجود فخري حمض فليكن يف
جهنم ..وكذا ان من شأن فطرة الروح -اذا علم ان العذاب جزاء مزيل جلنايته وعصيانه -
ان يرضى به لتخفيف محل خجالة اجلناية ويقول :هو حق ،وانا مستحق .بل حباً للعدالة قد
يلتذ معىن! وكم من صاحب ناموس يف الدنيا يشتاق اىل اجراء احلد على نفسه ليزول عنه
حجاب خجالة اجلناية .وكذا ان الدخول وان كان اىل خلود دائم وجهنم بيتهم أبدا ،لكن
بعد مرور جزاء العمل دون االستحقاق حيصل هلم نوع اُلفة وتطبّع مع ختفيفات كثرية مكافأ ًة
ألعماهلم اخلريية .اشارت اليها األحاديث .فهذا مرمحة هلم مع عدم لياقتهم.
***
_____________________
وجه النظم:
انه كما يُعطف املفرد على املفرد لالشرتاك يف احلكم ،واجلملة على اجلملة لالحتاد يف املقصد؛
كذلك قد تُعطف القصة على القصة للتناسب يف الغرض .ومن األخري عطف قصة املنافقني
على الكافرين .أي عطف ملخص اثنيت عشرة آية على مآل آيتني؛ اذ ملا افتتح التنزيل بثناء
ذلك الكتاب فاستتبع مثرات ثنائه من مدح املؤمنني ،فاسرتدف ذم اضدادهم بسر "امنا تعرف
ب تعقيب املنافقني تكميال لالقسام. ناس َ
األشياء باضدادها" ولتتم حكمة االرشادَ ،
ان قلتِ :ملَ أوجز يف حق الكافرين كفراً حمضاً بآيتني واطنب يف النفاق باثنيت عشرة آية؟
اضر .واذا كان خمنساً كان أخبث .واذا كان كذاباً كان
العدو اذا مل يـُ ْعَرف كان َّ
منها :ان ّ
أشد فساداً .واذا كان داخلياً كان أعظم ضرراً؛ اذ الداخلي يفتت الصالبة ويشتِّت القوة
خبالف اخلارجي فانه يتسبب لتشدد الصالبة العصبية .فأسفاً! ان جناية النفاق على االسالم
عظيمة جداً .وما هذه املشوشية 1االّ منه .وهلذا أكثر القرآن من التشنيع عليهم.
ومنها :ان املنافق الختالطه باملؤمنني يستأنس شيئاً فشيئاً ،ويألف باالميان قليال قليال،
ويستعد ألن يتنفر عن حال نفسه بسبب تقبيح أعماله وتشنيع حركاته؛ فتتقطر كلمة
التوحيد من لسانه اىل قلبه.
ٍ
جنايات اُ َخر كاالستهزاء واخلداع والتدليس واحليلة ومنها :ان املنافق يزيد على الكفر
والكذب والرياء.
_____________________
صريه مضطرباً.
شوش االمر :خلطهّ ،
ّ
1
إشارات اإلعجاز -ص91 :
ومنها :ان املنافق يف األغلب يكون من أهل الكتاب ومن أهل اجلربزة الومهية فيكون حيّاال
دساساً ذا ذكاء شيطاينّ ،فاالطناب يف حقه أعرق يف البالغة.
ّ
(من) على وجه. ِ
أما حتليل كلمات هذه اآلية ،فاعلم! ان (من الناس) خرب مقدم لـ َ
بديهي....؟
ٌّ ان قلت :كون املنافق انسانا
قيل لك :اذا كان احلكم بديهياً يكون الغرض واحداً من لوازمه وهنا هو التعجيب .كأنه
مكرم ،ليس من شأنه ان يتنزل اىل هذه
يقول كون املنافق الرذيل انساناً عجيب؛ اذ االنسان ّ
الدركة من اخلسة.
قيل لك :من شأن انشاء التعجب الصدارة وليتمركز النظر على صفة املبتدأ اليت هي مناط
ومر اىل اخلرب.
الغرض وإال النتظر ّ
مث ان عنوان (الناس) يرتشح منه لطائف:
منها :انه مل يفضحهم بالتعيني ،بل سرتهم حتت عنوان "الناس" إمياءً اىل ان سرتهم وعدم
النيب عليه السالم؛ اذ لو فضحهم كشف احلجاب عن وجوههم القبيحة أنسب بسياسة ّ
بالتشخيص لتوسوس املؤمنون؛ اذ اليـُ ْؤَمن من دسائس النفس .والوسوسة تنجر اىل اخلوف
عليه السالم واخلوف اىل الرياء والرياء اىل النفاق ..وألنه لو شنّعهم بالتعيني لقيل ان النيب ِ
مرتدد اليثق باتباعه ..والن بعضا من الفساد لو بقي حتت احلجاب النطفأ شيئاً فشيئاً
تستَ ِح فَافْـ َع ْل َما ِ
واجتهد صاحبُه يف اخفائه ولو ُرفع احلجاب -فبناءً على ما قيل "اذا ملْ ْ
ت" - 1لَيقول فليكن ما كان ،ويأخذ يف النشر وال يبايل. ِ
شْئ َ
ومنها :ان التعبري بـ (الناس) يشري اىل انه مع قطع النظر عن سائر الصفات املنافية للنفاق
الرذالة.
فأعم الصفات أعين :االنسانية أيضاً منافية له؛ اذ االنسان مكرم ليس من شأنه هذه َ ّ
_____________________
1هذا املثل اصله حديث نبوى رواه البخارى عن اىب مسعود عقبة بن عمرو االنصارى رضى
الناس من كالم النبوة االوىل:
هللا عنه قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :ان مما ادرك ُ
اذا مل تستح فاصنع ما شئت).
ومنها :انه رمز اىل ان النفاق ال خيتص بطائفة وال طبقة بل يوجد يف نوع االنسان أية طائفة
كانت.
اظهار ان املتكلم مع الغري متكلم وحده فـ "يقول" :للتلفظ وحده و"آمنا" ألنه مع الغري يف
احملكي بوجهني،
ّ احلكم ..مث ان هذا حكاية عن دعواهم ففي صورة احلكاية اشارة اىل رد
احملكي اشارة اىل قوته جبهتني؛ اذ "يقول" يرمز مبادته اىل ان قوهلم ليس عن
ّ كما ان يف
اعتقاد وفعل ،بل يقولون بأفواههم ما ليس يف قلوهبم ..وبصيغته يومئ اىل ان سبب استمرار
مدافعتهم وادعائهم مراآة الناس الحمرك وجداين ..ويف الدعوى امياء منهم بصيغة املاضي اىل:
"إنّا معاشر أهل الكتاب قد آمنا قبل فكيف النؤمن اآلن" ..ويف لفظ "نا" رمز منهم اىل:
كذب". "انّا مجاعة متحزبون لسنا كفرد ي ِ
كذب أو يُ ََّ
احملكي بعينه ،أو يتصرف فيه بأخذ
ّ وأما (باهلل وباليوم اآلخر) فاعلم! ان للتنزيل ان يأخذ
مآله ،أو تلخيص عبارته :فعلى األول ذكروا األول واآلخر من أركان االميان اظهاراً للقوي،
وملا هو أقرب ألن يُقبَل منهم ،وأشاروا اىل سلسلة األركان بتكرار الباء مع القرب .وعلى
الثاين بأن يكون كالمه تعاىل؛ ففي ذكر القطبني فقط اشارة اىل ان أقوى ما ي ّدعونه أيضاً
ليس باميان؛ اذ ليس امياهنم هبما على وجههما .وكرر الباء للتفاوت؛ اذ االميان باهلل اميان
مر.
بوجوده ووحدته ،وباليوم اآلخر حبقيته وجميئه كما ّ
قيل لك :لئال يُتوهم التناقض صورة ،1ولئال يرجع التكذيب اىل نفس "آمنا" الظاهر انشائيته
املانعة من التكذيب .بل لريجع النفي والتكذيب اىل اجلملة الضمنية املستفادة من "آمنا"،
وهي "فنحن مؤمنون" ..وأيضا ليدل بامسية اجلملة على دوام نفي االميان عنهم.
قيل لك :ان النفي معىن احلرف الكثيف ،والدوام معىن اهليئة اخلفيفة ،فالنفي أغمس وأقرب
اىل احلكم.
***
_____________________
1اي بني "آمنا" الىت جاءت يف اآلية ،وبني "وما آمنوا" املذكورة يف السؤال.
ين َآمنُوا َوَما َخيْ َدعُو َن اِالَّ اَنْـ ُف َس ُه ْم َّ ِ ِ
ُخيادعُو َن هللا َوالذ َ
يموما ي ْشعرو َن 1يف قُـلُوهبِِم مرض فَـزادهم هللا مرضا وَهلم ع َذ ِ
اب اَل ٌ
ْ َ َ ٌ َ َ ُ ُ َ َ ً َ ُْ َ ٌ َ َ َ ُُ
ِمبا كانُوا يك ِ
ْذبُو َن 14 َ َ
اعلم! ان وجه النظم :اشارات مجلها :اىل التوبيخ على النفاق ..مث تشنيعه ..مث تقبيحهم..
مث التهديد عليه ..مث ترهيبهم ..مث التعجب منهم ..مث بيان مقصدهم من قوهلم املذكور ...مث
بيان علة قوهلم ..مث بيان أول اجلنايات األربع الناشئة من النفاق وهي اخلداع ،واالفساد،
وتسفيه املؤمنني ،واالستهزاء هبم ..مث متثيل جناياهتم وحيلهم باسلوب استعارة متثيلية هكذا:
صور معاملتهم مع احكام هللا تعاىل ومع النيب عليه السالم واملؤمنني -باظهارهم االميان
بان ّ
ألغراض دنيوية مع تبطّن الكفر ،ومعاملة هللا والنيب واملؤمنني معهم باجراء أحكام املؤمنني
عليهم استدراجا ،مع اهنم أخبث الكفرة عند هللا -بصورة خداع شخصني ،أو الصياد مع
1
الصيد الذي حيس الصياد باخلروج عن القاصعاء مث يفر من النافقاء.
أما نظم مجل اجلناية األوىل من (خيادعون) اىل (مبا كانوا يكذبون) فانظر اىل ما تضمنت من
النتائج املتسلسلة املرتتبة يف اجلمل السبع ،وهي :حتميقهم بطلب احملال ..مث تسفيههم باضرار
أنفسهم بنية املنفعة ..مث جتهيلهم بعدم التمييز بني الضر والنفع ..مث ترذيلهم خببث الطينة
ومرض معدن الصحة وموت منبع احلياة ..مث تذليلهم بتزييد املرض يف طلب الشفاء ..مث
هتديدهم بأمل حمض يولد أملاً صرفاً ..مث تشهريهم بني الناس بأقبح العالمات أعين الكذب.
اتساق وانتظام تلك اجلمل السبع وانصباب احلكم فيما بينها فهو :أنك كما اذا اردت
ُ وأما
زجر واحد عن شئ ونصحه تقول له اوالً :ياهذا! ان كان لك عقل فهذا حمال ..مث :ان
حس فلِ َم المتيز بني الضر والنفع؟ .مث :إن
كنت حتب نفسك فهذا يضرها ..مث :ان كان لك ّ
مل يكن لك اختيار فال اقل من ان تعرف فساد سجيتك،
_____________________
حيرف احلقيقة ،ويريك احللو مراً ..مث :ان تطلب الشفاء فهذا يزيد مرضك وفيها مرض ِّ
طري نعاسه
واليشفي ،مثلك كمثل من ابتلى بداء السهر فاجتهد يف النوم فانتج له قلقا ّ
1
فاغتم لوجود املصيبة حىت صري املصيبة مصيبتني..
ّ أيضا ،أو كمن أصيب قلبه بداء "املرق"
تتحر اللذة فهذا فيه أمل شديد ينتج أملاً أشد ليس كأمثاله اليت فيها لذة مزخرفة ..مث:
مث :ان َّ
يوسم على خرطومك بوسم قبيح ،وتُعلَن بني الناس ملنع ان مل تنتبه ومل تنزجر ال يبقى اال ان َ
سراية فسادك اىل الناس؛ كذلك ان هللا تعاىل قال لزجر املنافقني (خيادعون هللا) بدل
النيب مبلِّغ عن هللا تعاىل،
النيب عليه السالم و ّ
النيب" لتحميقهم ،أي :كيف خيادعون ّ "خيادعون ّ
فحيلتهم راجعة اىل هللا ،واالحتيال مع هللا تعاىل حمال ،وطلب احملال محق .ومثل هذا احلمق
مما يُتعجب منه ..مث اتبعه (وما خيدعون اال انفسهم) لتسفيههم ،أي :ليس يف فعلكم نفع
بل فيه ضرر ،وضرره يعود على أنفسكم ،فكأنكم ختادعون أنفسكم ..مث ع ّقبه (وما
أضل من احليوان ،كاالحجار اجلامدة يشعرون) لتجهيلهم أي :ايّها اجلهالء! قد صرمت ّ
الحتسون بالفرق بني الضر والنفع ..مث اردفه (يف قلوهبم مرض) لرتذيلهم بانفساد اجلوهر،
أي :ان مل يكن لكم اختيار فال أقل من أن تعرفوا املرض مرضاً ًَ ،وان سجيتكم فسدت.
وان النفاق واحلسد مرض يف الروح من شأنه حتريف احلقيقة وتغيريها حىت تظنون احللو مراً
املر حلواً والسوداء بيضاء واألبيض أسود فال تتبعوه ..مث زاد (فزادهم هللا مرضاً) لتذليلهم، وّ
أي :إن كنتم تطلبون هبذا الدواء والتشفي من غيظكم وحسدكم فهذا داء ال يزيدكم اال
فضربَه بتلك اليد املكسورة فازداد
يده فأراد االنتقام َسر اح ٌد َمرضا على مرض .فأنتم كمن َك َ
كسراً على كسر ..مث قال (وهلم عذاب أليم) لتهديدهم ،أي :ان تتحروا اللذة فما نفاقكم
هذا اال فيه أمل شديد عاجل ينتج أملاً أشد آجال ،ليس كسائر املعاصي اليت فيها نوع من
اللذة السفلية العاجلة ..مث أمته بقول (مبا كانوا يكذبون) لتوسيمهم بأشنع الوسم ،أي :ان مل
تنتبهوا ومل تنتهوا مل يبق اال ان تُ َش َّهروا بني الناس بالكذب املانع لالعتماد لئال يتعدى
مرضكم.
_____________________
ان يف التعبري عن عملهم باخلداع مع املضارعية ،السيما من باب املشاركة ،خصوصاً مع
النيب واقامة "الذين آمنوا" مقام "املؤمنني" تنصيصاً وتصرحياً مبحاليةاقامة لفظة "هللا" مقام ّ
غرضهم من حيلتهم ،وجعل احملالية نصب العني بصورة تتنفر عنها النفوس وترتعد ،اذ فيما
يف اخلداع من االستعارة التمثيلية ما يوقظ النفرة ..وفيما يف املضارعية من التصوير مع
(وجَزاؤا سيِّئَ ٍة َسيِّئَةٌ ِ ِ
االستمرار ما يَ ْش َمئّز منه القلب ..وفيما يف املشاركة من املشاكلة نظري َ
ِمثْـلُ َها) 1ما ينتج عدم انتاج حيلتهم؛ اذ يف باب املشاركة فعل الفاعل سبب لفعل املفعول،
وهنا فعل املفعول صار سبباً لعقم خداع الفاعل وعدم تأثريه ،بل جعل اخلداع صورة واهية
ٍ كانعكاس املقصد فيما اذا استهزيت ٍ
مستبطن علماً ومستخف استهزاءً ٌ بأحد جلهله ،مع أنه َ
بك ..وفيما يف التصريح بلفظة "هللا" من التنصيص على حمالية الغرض -اذ خداع النيب عليه
احليلة ..وما يف "الذين آمنوا" من جعل الصلة السالم ينجر اليه تعاىل -ما يشيط العقل عن ِ
َ
مداراً ،اشارة اىل ان املنافقني يتحببون اليهم بصفة االميان ويهيِّجون عرق امياهنم للتحبب
والتداخل فيهم ..وفيه امياء أيضا اىل ان مجاعة املؤمنني املنورين عقوهلم بنور االميان ال تتسرت
عنهم احليلة فينتج أيضا عقم حيلتهم..
ان يف هذا احلصر اشارة اىل كمال سفاهتهم بعكس العمل يف معاملتهم كمن رمى حجراً اىل
جدار فانثىن لكسر رأسه؛ اذ رشوا النبال لضرر املؤمنني فاُصيبت أنفسهم فكأهنم خيادعون
بالذات ذواهتم ..ويف تبديل "يضرون" بـ (خيدعون) اشارة اىل هناية سفاهتهم ،اذ يوجد يف
أهل العقل من يضر نفسه قصداً وال يوجد من خيادع نفسه عمداً اال ان يكون محاراً يف
ظ نفساينّ صورة انسان .ويف عنوان "انفسهم" رمز خفي اىل أن نفاقهم وحيلتهم ملا كان حل ّ
نفسي انتج نقيض مطلوهبم لنفسهم.
وغرض ّ
_____________________
ان قلت :هذا احلصر يومئ اىل ان خداعهم ما ضر االسالم واملسلمني مع ان االسالم ما
كالسم يف عناصر العامل
رأى من شئ ضرراً مثل ما رأى من أنواع النفاق وشعباته املنتشرة ّ
االسالمي؟
ّ
السم الساري امنا هو من طبيعتهم املتفسدة وفطرهتم
قيل لك :وما تراه من الضرر املتعدي و ّ
املتفسخة ووجداهنم املتعفن نظري سراية املرض؛ وليس نتيجة حيلتهم وخداعهم باختيارهم اذ
يريدون خداع هللا والنيب ومجاعة املؤمنني ،وهللا عامل بكل شئ والنيب عليه السالم يوحى اليه،
ومجاعة املؤمنني التستطيع احليلة ان تتسرت عنهم مدة مديدة فهم الينخدعون .فثبت اهنم ال
خيدعون اال أنفسهم فقط.
أي جتهيل هلم ،ألهنا تشعر بأهنم إن كانوا عقالء فهذا ليس من
ان يف هذه الفذلكة جتهيال ّ
شأن العقل ،وإن كانوا حيوانات يتحركون مبيل نفساينّ فشأهنم ان حيسوا ويشعروا مبثل هذا
الضرر احملسوس .فثبت اهنم صاروا مثل مجادات ال اختيار هلا.
اهنم حينما مل يعرفوا انه مرض حىت يتجنبوا منه بل طلبوه مستحسنني له زادهم هللا تعاىل؛ اذ
"من طلب َو َجد" ..ويف "الفاء" اليت هي للتعقيب السبيب -مع ان وجود املرض ليس سببا َ
رمز اىل اهنم ملا مل يشخصوا املرض فلم يتحروا وسائل الشفاء بل توسلوا بأسباب لزيادته ٌ -
الزيادة كمن يضارب خصماً غالباً بيده العليلةصاروا كأهنم طلبوا الزيادة فزادهم هللا مرضاً
بقلب أملهم يأساً مزعجا ،بسبب ظفر املؤمنني ،وقلب خصومتهم حقداً حمرقاً للقلب بسبب ِ
مرضي اليأس واحلقد داء اخلوف وعلة الضعف ومرض الذلة
غلبة املؤمنني ،فتولد من َ
فاستولت على القلب.
الباطين
ّ مث ان هللا تعاىل مل يقل "فزاد هللا مرضهم" بل جعل املفعول متييزاً لإلشارة اىل ان املرض
القليب سرى اىل الظاهر أيضاً وتعدى اىل مجيع األفعال ،فكأن هذا الداء اخلبيث استوىل على ّ
1
وجودهم فكأن وجودهم نفس الداء فزيادة جراحات املرض ونفطاته زيادة لنفس ذواهتم؛ اذ
ت ناراً" يفيد ان النار سرت اىل متام البيت حىت كأن متام الْبَـْيت نار تلتهب ِ
"ا ْشتَـ َع َل الْبَـْي ُ
أي جانب كان. ِ ِ
لت نَ ُار الْبَـْيت" فانه يصدق بتلهب النار من ّ
خبالف "ا ْشتَـ َع َ
ويف السادسة :أعين مجلة (وهلم عذاب اليم) هو:
ان "الالم" اليت هي للنفع ،اشارة اىل انه لو كان هلم منفعة لكانت البتة أملاً معذباً دنيوياً ،أو
عذاباً اخروياً مؤملاً ،وكونه منفعة من احملال ،فمحال هلم املنفعة ..ويف وصف العذاب باألليم
أي املتأمل ،مع ان األليم هو الشخص رمز اىل ان العذاب استوىل على وجودهم وأحاط
بذواهتم ونفذ يف بواطنهم حبيث حتولوا بنفس العذاب ،وصار العذاب عني ذواهتم ،كانقالب
2
الفحم مجرة نار بنفوذ النار .فاذا نظر اخليال اىل صورة العذاب واستمع من جوانبه أنيناً
يئن ويتأمل.
وتأملاً وعويالً تتولد من احلياة املتجددة حتت العذاب يتخيل ان العذاب هو الذي ّ
فما أشد التهديد ملن تأمل!. .
_____________________
1نفطاته :بثراته.
ان يف تعليق العذاب من بني جناياهتم املذكورة بالكذب فقط اشارة اىل شدة شناعة الكذب
سم الكذب؛ اذ الكذب أساس وقبحه ومساجته .وهذه االشارة شاهد صدق على شدة تأثري ّ
الكفر ،بل الكفر كذب ورأس الكذب ،وهو األُوىل من عالمات النفاق .وما الكذب اال
خرب األخالق العالية ..وهو افرتاء على القدرة االلـهية ،وضد للحكمة الربانية ..وهو الذي ّ
السم يف االسالم ..وبه اختلت
صري التشبثات العظيمة كالشبحات املنتنة ..وبه انتشر ّ الذي ّ
احوال نوع البشر ..وهو الذي قيّد العامل االنساين عن كماالته ،واوقفه عن ترقياته ..وبه وقع
أمثال مسيلمة الكذاب يف أسفل سافلي اخلسة ..وهو احلمل الثقيل على ظهر االنسان
فيعوقه عن مقصوده ..وهو االب للرياء واألم للتصنع ..فلهذه األسباب اُختص بالتلعني
والتهديد والنعي النازل من فوق العرش..
فيا أيّها الناس! السيما ايّها املسلمون! ان هذه اآلية تدعوكم اىل ال ّدقة!
قيل لكم :اذا كانت املصلحة ضروريةً قطعية ،مع انه عذر باطل؛ اذ تقرر يف اصول الشريعة:
ان األمر الغري املضبوط (أي الذي اليتحصل بسبب كونه قابال لسوء االستعمال) ال يصري
علة ومداراً للحكم ،كما ان املشقة لعدم انضباطها ما صارت علة للقصر ،بل العلةُ السفر.
ولئن سلّمنا فغلبة الضرر على منفعة شئ تفىت بنَسخه وتكون املصلحةُ يف عدمه .وما ترى
من اهلَْرج واملرج يف حال العامل شاهد على غلبة ضرر عذر املصلحة .اال ان التعريض والكناية
لزوم ِ َ
الكذب .فالسبيل مثْـىن :إما السكوت؛ اذ "اليلزم من ِ
قول ِّ
كل قول ُ كل ٍصدق ِّ ليسا من
ََ
صدق" .وإما الصدق؛ اذ الصدق هو أساس االسالمية ،وهو خاصة االميان ،بل االميان
صدق ورأسه ..وهو الرابط لكل الكماالت ..وهو احلياة لألخالق العالية ..وهو العرق
الرابط لألشياء باحلقيقة ..وهو جتلّي احلق يف اللسان ..وهو حمور ترقي االنسان ..وهو نظام
العامل االسالمي ..وهو الذي يُسرع بنوع البشر يف طريق الرتقي -كالربق -اىل كعبة
أصحاب
ُ تفوق
أعز من السالطني ..وبه ّ
يصري امخد الناس وافقره ّ
الكماالت ..وهو الذي ّ
اهلامشي" عليه الصالة
ّ "سيّدنا حممد
النيب عليه الصالة والسالم على مجيع الناس ..وبه ارتفع َ
ّ
والسالم اىل أعلى عليي مراتب البشر.
ان هللا تعاىل ملا ذكر األُوىل من اجلنايات الناشئة عن نفاقهم وهي ظلمهم أنفسهم وجتاوزهم
على حقوق هللا تعاىل بنتائجها املتسلسلة املذكورة ،ع ّقبها بثانية اجلنايات؛ وهي جتاوزهم على
حقوق العباد وايقاعهم الفساد بينهم مع تفرعاهتا..
مث ان (اذا قيل) كما انه مربوط باعتبار القصة بـ "يقول" يف "ومن الناس من يقول" وباعتبار
املآل بـ "خيادعون"؛ كذلك يرتبط باعتبار نفسه بـ "يكذبون" .وتغري األسلوب من احلِملية اىل
الشرطية امارة ورمز خفي اىل مقدَّر بينهما كأنه يقول" :هلم عذاب اليم مبا كانوا يكذبون؛ إذ
إذا كذبوا فتنوا ،واذا فتنوا أفسدوا ،واذا نوصحوا مل يقبلوا ،واذا قيل هلم التفسدوا اخل".
وأما وجه النظم بني اجلمل الصرحية والضمنية يف هذه اآلية :فهو عني النظم والربط يف ما
أمثّل لك وهو:
انك اذا رأيت أحداً يسلك يف طريق تنجر اىل هالكه ،فاوالً تنصحه قائال له :مذهبك هذا
ينهار بك يف البوار فتجنَّب .وان مل ينته بنُهاه تعود عليه بالزجر والنهي والنعي وتؤيد هنيَك
وتدميَه يف ذهنه إما بتخويفه بنفرة العموم ،واما برتقيق قلبه بالشفقة اجلنسية كما سيأتيك
بياهنما .فان كان ذلك الشخص متعنتا جلوجاً مصراً َّ
ألد راكباً منت اجلهل املرّكب فهو
اليسكت بل يدافع عن نفسه ،كما هو شأن كل مفسد يرى فساده صالحا؛ اذ االنسانية ال
ختلى ان يرتكب الفساد من حيث هو فساد ..مث يستدل ويدعي بأن طريقي هذا حق،
ومعلوم انه كذلك؛ فال حق لك يف النصيحة فال احتياج اىل نصيحتك ..بل انت حمتاج اىل
السوي إالّ سبيلنا ،فال تعرض بوجود طريق أصوب ..وان كان ذلك ّ التعلم ..فما السبيل
الشخص اللجوج ذا
إشارات اإلعجاز -ص11 :
الوجهني يكون كالمه ذا اللسانني؛ يداري الناصح إللزامه بوجه ،ويتحفظ على مسلكه بآخر
فيقول :أنا مصلح أي ظاهراً كما تطلب وباطناً كما اعتقد ..مث من شأنه تأييد وتأكيد دعواه
بأن الصالح من صفيت املستمرة ،ال اين كنت صاحلا اآلن بعد فسادي قبل ..مث اذا كان
ذلك الشخص متمرداً ومتنمراً 1ومصراً يف نشر مذهبه ،وترويج مسلكه ،وتزييف ناصحه
وتعريض أهل احلق هبذه الدرجة ،ظهر انه الجيدي له دواء ،ومل يبق إال آخر الدواء ،أعين:
املعاجلة لعدم السراية وما هذه املعاجلة اال تنبيه الناس واعالمهم بانه مفسد ال صالح فيه؛ اذ
ال يستعمل عقله وال يستخدم شعوره حىت حيس هبذا الشئ الظاهر احملسوس.
فاذا تفهمت احللقات املسردة يف هذا املثال تفطنت ما بني اجلمل املنصوصة واملرموزة اليها
حيمر 2من حتته
بالقيود يف واذا قيل هلم اىل آخره .فان فيما بينها نظما فطريا باجياز ّ
االعجاز.
فاعلم! ان مجلة (واذا قيل هلم ال تفسدوا يف األرض) القطعية يف (اذا) اشارة اىل لزوم النهي
عن املنكر ووجوبه..
وبناء املفعول يف (قيل) رمز اىل ان النهي فرض كفاية على العموم..
ويف الم (هلم) امياء اىل ان النهي البد ان يكون على وجه النصيحة دون التحكم ،والنصيحة
على وجه اللطف دون التقريع..
و (التفسدوا) فذلكة وخالصة لصورة قياس استثنائي 1أي ال تفعلوا هكذا ،واالّ نشأ منه
فتنحل رابطة االتفاق ،فيتولد منه
ّ اهلَْرج وامل ْرج ،فينقطع خيط االطاعة ،فيتشوش نظام العدالة،
َ
الفساد ،فال تفعلوا لئال تفسدوا..
ولفظ (يف األرض) تأييد وتأكيد للنهي وادامة للزجر ،اذ هنى الناصح موقت البد من ادامته
يف ذهن املنصوح بتوكيل وجدانه ليزجره دائما من حتته .وهو اما
_____________________
1اي غضباً ،غري ان ظاهر السياق واملذاق متنمرداً ،اي كائناً كالنمرود (ش).
يشع ويضئ.
ّ
2
بتحريك عرق الشفقة اجلنسية ،واما بتهييج عرق التنفر من نفرة العموم ..و(يف األرض) هو
الذي يوقظ العرقني وينعشهما؛ اذ لفظ (يف االرض) يناجيهم بان فسادكم هذا يسري اىل
فأي حقد وغيظ لكم على مجيع الناس الذين فيهم املعصومون والفقراء والذين
نوع البشر ّ
التعرفوهنم ،أفال تتوجعون هلم وملَ الترتمحون هبم؟ هب ان ليست لكم تلك الشفقة اجلنسية
فال أقل من أن تالحظوا ان حركتكم هذه جتلب عليكم معىن نفرة العموم.
وأما مجلة (قالوا امنا حنن مصلحون) ففي "قالوا" بدل "اليقبلون النصيحة" الظاهر من السياق
اشارة اىل اهنم ي ّدعون ويدعون اىل مسلكهم.
االوىل :ان مدخوله البد ان يكون معلوماً حقيقة أو ادعاء .ففيها رمز اىل تزييف الناصح
واظهار ثباهتم على جهلهم املركب.
والثانية :احلصر ففيها اشارة اىل ان صالحهم اليشوبه فساد فليسوا كغريهم؛ ففي االشارة رمز
اىل التعريض باملؤمنني.
ويف امسية (مصلحون) بدل "نصلح" اشارة اىل ان الصالح صفتنا الثابتة املستمرة فحالنا هذه
عني االصالح باالستصحاب ..مث اهنم ينافقون يف هذا الكالم أيضا اذ يتبطنون خالف
مايظهرون فباطناً يدعون فسادهم صالحاً وظاهراً يراؤن أن عملهم لصالح املؤمنني
ومنفعتهم.
_____________________
وأما مجلة (أال اهنم هم املفسدون ولكن اليشعرون) فاعلم! اهنم ملا ادرجوا يف معاطف اجلملة
السابقة معاين :من ترويج مسلكهم ودعوى ثبوت الصالح هلم ،وان الصالح صفتهم
املستمرة ..واهنم منحصرون عليه ..وان الفساد اليشوب صالحهم ..وان هذا احلكم ظاهر
معلوم ..ومن تعريضهم باملؤمنني ومنتجهيلهم للناصح؛ أجاهبم القرآن الكرمي هبذه اجلملة
ٍ
ألحكام من اثبات الفساد هلم ،واهنم متحدون مع حقيقة املفسدين ..وان الفساد املتضمنة
منحصر عليهم ..وان هذا احلكم حقيقة ثابتة ..ومن تنبيه الناس على شناعتهم ..ومن
جتهيلهم بنفي احلس عنهم كأهنم مجادات .وان شئت فانظر:
اىل (أال) اليت للتنبيه كيف تزيِّف بتنبيهها تروجيَهم الناشئ من دعواهم املرتشح من "قالوا"..
واىل "إ ّن" اليت للتحقيق كيف ترد دعواهم املعلومية بـ "امنا" ،كأن "إ ّن" تقول حاهلم يف احلقيقة
والباطن فساد ،فال جيديهم الصالح ظاهراً.
واىل ولكن (اليشعرون) كيف يدافع تزييفهم الناصح واهنم ليسوا مستحقني للنصيحة بدعوى
املعلومية .فتأمل!
***
اس قالُوا أَنـُ ْؤِم ُن َكما َآم َن ُّ واِذَا قِيل َهلم ِ
الس َفهاءُ ُ ّالن ن
َ آم
َ ماكَ ا
و ن
ُ آم َ َ ُْ
الس َفهاءُ َولكِ ْن اليَـ ْعلَ ُمو َن 11 ِ
َّه ْم ُه ُم ُّ
أَال انـ ُ
اعلم! ان وجه نظم هذا النوع بالنوع األول:
من حيث اهنما نصيحة وارشاد؛ عطف األمر باملعروف والتحلية والرتغيب ،على النهي عن
املنكر والتخلية والرتهيب..
ومن حيث اهنما من اجلناية؛ عطف تسفيههم للمؤمنني وغرورهم على افسادهم ،كما ربط
افسادهم بفسادهم الاليت كل منها غصن من شجرة زقّوم النفاق.
فاعلم! انه ملا قيل( :واذا قيل هلم آمنوا كما آمن الناس) وأشري هبيئاهتا اىل وجوب النصيحة
على سبيل الكفاية باميان خالص اتباعا للجمهور الذين هم الناس ال ُك ّمل ليأمرهم الوجدان
دائما هبذا االمر ،حكى وقال( :قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) اشارة اىل متردهم وغرورهم
ودعواهم اهنم على احلق كما هو شأن كل مبطل يرى باطله حقا ويعلم جهله علما؛ اذ
التفسد متردوا ،وحبكم
وميل افساد ،وحبكم ّغرور ُ
تفسد قلبُهم ،وبالفساد نشأ ٌ بالنفاق َّ
االفساد يقول بعضهم لبعض متناجيا باالضالل ،وحبكم الغرور يرون شدة الديانة وكمال
االميان املقتضيني لالستغناء والقناعة سفالة وسفاهة وفقراً .مث حبكم النفاق ينافقون يف
كالمهم هذا أيضاً؛ اذ ظاهره :كيف نكون كالسفهاء ولسنا جمانني وحنن أخيار كما تطلبون؟
1
وباطنه كيف نكون كاملؤمنني الذين أكثرهم فقراء وهم يف نظرنا سفهاء حتزبوا من اَْوباش
االقوام؟ وعليك التطبيق بني دقائق اجلزئني من الشرطية .مث القمهم احلجر بقوله( :أال اهنم
هم السفهاء)؛ اذ من كان متمرداً هبذه الدرجة وجاهال جبهله فحقهم االعالن بني اخللق
وتشهريهم باحنصار السفاهة وانه من احلقائق الثابتة ،وان تسفيههم لسفاهة أنفسهم ..مث
قال( :ولكن اليعلمون) اشارة اىل اهنم جاهلون جبهلهم
_____________________
فيكون جهال مركباً فال جيديهم النصيحة ،فالبد ان يعرض عنهم صفحاً؛ اذ ال يفهم
النصيحة اال من يعلم جهلَه.
ففي مجلة (واذا قيل هلم آمنوا كما آمن الناس) لفظ (اذا) جبزميته رمز اىل لزوم االرشاد باالمر
باملعروف ..وبناء املفعول يف (قيل) امياء اىل ان وجوب النصيحة على سبيل الكفاية كما
مر..
ولفظ (آمنوا) بدل "اخلصوا يف اميانكم" اشارة اىل ان االميان بال إخالص ليس باميان..
ولفظ (كما آمن) تلويح باألسوة احلسنة وحسن املثال ليخلصوا على منواله..
ويف لفظ (الناس) نكتتان :ومها السبب يف جعل الوجدان آمراً باملعروف دائما؛ اذ (كما آمن
السفهاء) يرتشح بـ "فاتبعوا مجهور الناس اذ خمالفة اجلمهور خطأ من شأن القلب ان ال يقدم
عليه" ،وأيضا يلوح باهنم هم الناس فقط كأن من عداهم ليسوا بانسان اال صورة ،إما برتقى
هؤالء يف الكماالت واحنصار حقيقة االنسانية عليهم وإما بتدين اولئك عن مرتبة االنسانية.
اما مجلة (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) اليت مآهلا :ال نقبل النصيحة كيف نكون كهؤالء
األذالّء؛ اذ هم يف نظرنا سفهاء وال نقاس حنن معاشر أهل اجلاه عليهم ..ففي لفظ (قالوا)
رمز اىل تربئة النفس وترويج املسلك واالستغناء عن النصيحة والغرور والدعوى ..ويف لفظ
االنكاري اشارة اىل شدة متردهم يف جهلهم املركب ،كأهنم بصورة
ّ (أنؤمن) باالستفهام
ردنا.؟ مث ان يف
االستفهام يقولون :ايها الناصح راجع وجدانك هل ترى انصافك يقبل ّ
متعلق "قالوا" وجوهاً ثالثة مرتتبة؛ أي :قالوا ألنفسهم ،مث ألبناء جنسهم ،مث ملرشدهم ،كما
هو شأن كل متنصح اذا نصحه الناصح ،فاول األمر يشاور مع نفسه ،مث حياور مع ابناء
جنسه ،مث يراجعك بنتيجة حماكمتهم .فعلى هذا ملا قيل هلم ما قيل راجعوا قلوهبم املتفسدة
ووجداهنم املتفسخ فاشارت عليهم باالنكار ،فقالوا مرتمجني عما يف ضمريهم ،مث راجعوا بنظر
االفساد اىل اخواهنم ،فاشاروا عليهم أيضاً باالنكار فأخذوا بنجواهم
وحماورهتم ،مث رجعوا بطريق االعتذار والسفسطة اىل الناصح فشاغبوا وقالوا" :بيننا فرق
وتصوفهم باالضطرار .اماالنقاس عليهم إذ هم فقراء مضطرون جمبورون فشدهتم يف الديانة ّ
حنن فأهل عزة وجاه" فبحكم الغرور حييلون الناصح على انصافه .وحبكم اخلداع واحليلة
يتكلمون بكالم ذي لسانني ،أي ايها املرشد! التظننا سفهاء والنكون كالسفهاء يف نظركم،
بل نفعل كما يفعل املؤمنون اخللص .مع ان مرادهم باطناً :النكون كهؤالء املؤمنني الفقراء؛
خفي اىل فسادهم وافسادهم وغرورهم اذ ال اعتداد هبم يف نظرنا .ففي هذا اللفظ رمز ّ
ونفاقهم..
(كما آمن السفهاء) أي الذين تظنوهنم الناس الكاملني هم يف نظرنا اذالء فقراء جمبورون مع
كل منهم سفيهُ قوم .ففي دعواهم الفرق يف القياس اشارة اىل ان االسالمية كهف كثرهتمٌ ،
التكرب ،وما
املساكني وملجأ الفقراء وحامية احلق وحافظة احلقيقة ومانعة الغرور وقامعة ّ
مقياس الكمال واجملد االّ هي ..وأيضاً يف الفرق اشارة اىل ان سبب النفاق يف األغلب هو
الرأْ ِي) .1 ِ ِ ـك اتَّـبـ َع َ ِ َّ ِ
ي َّك االَّ الذي َن ُه ْم اََراذلُنَا بَاد َ الغرض والغرور والتكرب كما يفسره( :وما نَريـ َ َ
وأيضاً يف الفرق اشارة خفية اىل ان االسالمية التصري وسيلة التحكم والتغلب يف أيدي أهل
الدنيا واجلاه؛ بل امنا هي واسطة ِإلحقاق احلق يف أيادي أهل الفقر والضرورة خالف سائر
يخ.
األديان .ويشهد على هذه احلقيقة التأر ُ
أما مجلة (أال اهنم هم السفهاء) فاعلم! ان القرآن الكرمي امنا أكثر من التشديد والتشنيع على
النفاق ألجل ان أكثر بليات العامل االسالمي من أنواع النفاق ..مث ان لفظ (أال) للتنبيه
وتشهري سفاهتهم على رؤوس األشهاد ،والستشهاد فكر العموم على سفاهتهم .وأصل معىن
(أال) أال تعلمون اهنم سفهاء؟ أي :فاعلموا ..مث ان "ا ّن" مرآة احلقيقة ووسيلة اليها كأنه
يقول :راجعوا احلقيقة لتعلموا ان سفسطتهم الظاهرية ال أصل هلا .مث لفظ "هم" للحصر لرد
تربئة أنفسهم ،ودفع تسفيههم للمؤمنني الذي اشاروا اليه بـ (كما آمن السفهاء) أي ان
2
السفيه َمن ترك اآلخرة بالغرور والغرض واللذة الفانية دون من أشرتى الباقي برتك اهلوسات
الفانية .مث ان
_____________________
2اهلوس :طرف من اجلنون وخفة العقل واملقصود هنا االغراض النفسية وامانيها.
األلف والالم يف "السفهاء" لتعريف احلكم أي معلوم اهنم سفهاء .وللكمال أي كمال
السفاهة فيهم.
احداها:
ان متييز احلق عن الباطل وتفريق مسلك املؤمنني عن مسلكهم حمتاج اىل نظر وعلم ،خبالف
افسادهم وفتنتهم ،فانه ظاهر حيس به َمن له أدىن شعور .وهلذا ذيّل اآلية األوىل بـ (ولكن ال
يشعرون).
والثانية:
ان (اليعلمون) وأمثاهلا من فواصل اآليات من (اليعقلون) و(اليتفكرون) و(اليتذكرون)
وغريها تشري اىل ان االسالمية مؤسسة على العقل واحلكمة والعلم .فمن شأهنا ان يقبلها كل
عقل سليم ال كسائر األديان املبنية على التقليد والتعصب .ففي هذه االشارة بشارة كما
ذكرت يف موضع آخر.
والثالثة:
اإلعراض عنهم وعدم االهتمام هبم ،اذ النصيحة ال جتديهم ،اذ اليعلمون جهلَهم حىت
يتحروا زوالَه.
ّ
***
ٍ
استناد عن اآلالم ونقطة وان وجه النظم بني مجلها هو انه :كما ان لالميان الذي هو نقطة
استمداد لآلمال ثالث خواص حقيقية:
التنزل للتذلّل.
إحداها :عزة النفس الناشئة من "نقطة االستناد" ،ومن شأن عزة النفس عدم ّ
والثانية :الشفقة اليت من شأهنا عدم التذليل والتحقري.
والثالثة :احرتام احلقائق ومعرفة قيمتها ،ألن صاحب غايل القيمة ذو حقيقة ،وعنده اجلوهر
اضداد
ُ الفريد ،وعدم االستخفاف باحلقيقة ألنه أيضاً رزين؛ كذلك لضد االميان ،أعين النفاق
خو ِ
اصه الثالث ،فخواص النفاق الناشئة منه :ذلة النفس ،وميل ا ِإلفساد ،والغرور بتحقري
الغري.
مث ملا كان النفاق جهال تردديا انتج تذبذب الطبيعة وهو عدم الثبات وهو عدم املسلك وهو
عدم األمنية هبم وهو جيربهم على جتديد عهدهم ،أشار اىل هذه السلسلة بلفظ (قالوا إنّا
معكم)..
ورخصوا غايل القيمة لعدم قيمتهم،مث ملا احتاجوا اىل االعتذار استخ ّفوا باحلقيقة خلفتهمّ ،
وأهانوا بالعايل هلون نفسهم وضعفها الذي ينشأ منه الغرور فقال( :قالوا امنا حنن
مستهزؤن)..
مث بينما كان السامع منتظراً من انصباب الكالم مقابلةَ املؤمنني هلم رأى ان هللا قابلهم بدالً
عن املؤمنني اشارة اىل تشريفهم ،ورمزاً اىل ان استهزاءهم يف مقابلة جزاء هللا تعاىل كالعدم،
وامياءً اىل محقهم وزجرهم وردهم؛ اذ كيف يُستَـ ْهزأُ مبن كان هللا حاميه؟ فقال تعاىل( :هللا
يستهزئ هبم) أي يعاقبهم على استهزائهم أشد جزاء بصورة استخفاف وهتك ٍم هبم يف الدنيا ُ
التجددي ..ومجلة (وميدهم يف طغياهنم يعمهون) كشف وتفصيل
ّ واآلخرة مع االستمرار
وتصوير جلزاء استهزائهم بطرز االستهزاء.
فاعلم! ان مجلة (اذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) اليت سيقت يف مداهنتهم؛ قطعية (اذا) فيها
امياءٌ اىل اجلزم والتعمد والقصد ،أي عزموا بعمد وقصد مالقاهتم ..ولفظ (لقوا) امياء اىل اهنم
تعمدوا مصادفتهم يف الطرق بني ظهراين الناس ..ولفظ (الذين امنوا) بدل "املؤمنني" اشارة
اىل مباشرهتم معهم ومتاسهم هبم ،واىل ان ارتباطهم معهم بصفة االميان ،واىل ان مدار النظر
بني أوصاف املؤمنني صفة االميان فقط ..ولفظ (قالوا) تلويح اىل اهنم يقولون بأفواههم
ماليس يف قلوهبم ،وان قوهلم للتصنع والرياء واملداهنة ودفع التهمة واحلرص على جلب منافع
املؤمنني واالطالع على أسرارهم ..ولفظ (آمنا) بال تأكيد مع اقتضاء املقام اياه ،وبايراده
مجلة فعلية ،اشارة اىل ان ليس يف قلوهبم مشوق وعشق حمرك ليتشددوا ويتجلدوا يف
كالمهم ..وأيضاً ان يف ترك التأكيد امياء اىل تشددهم يف دفع التهمة عنهم ،كأهنم يقولون:
انكاركم ليس يف موقعه بل يف منزلة العدم ،اذ لسنا أهالً
للتهمة ..وأيضاً فيه رمز اىل ان التأكيد اليروج عنهم ..وأيضا فيه ملح اىل ان هذا احلجاب
الرقيق الضعيف على الكذب اذا شدد متزق ..وأيضا يف فعليته اشارة اىل انه الميكن هلم ان
يدعوا الثبات والدوام ،وامنا غرضهم من هذا التصنع االشرتاك يف منافع املؤمنني واالطالع
على اسرارهم بادعاء حدوث االميان.
وأما مجلة (واذا خلوا اىل شياطينهم قالوا انا معكم) فـ "الواو" اجلامعة يف (واذا) امياء اىل ان
هذا الكالم سيق لبيان ان المسلك هلم ،ولبيان تذبذهبم املفصل هباتني الشرطيتني ..واجلزمية
يف (اذا) رمز اىل اهنم حبكم الفساد واالفساد يرون االلتجاء وظيفةً ضرورية ..ولفظ (خلوا)
اشارة اىل اهنم حبكم اخليانة يتخوفون ،وحبكم اخلوف يتسرتون ..ولفظ (اىل) بدل "مع"
املناسب لِـ"خلوا" اشارة اىل اهنم حبكم العجز والضعف يلتجئون ،وحبكم الفتنة واالفساد
يوصلون اسرار املؤمنني اىل الكافرين ..ولفظ "الشياطني" اشارة اىل ان رؤساءهم كالشياطني
متسرتون موسوسون ،واىل اهنم كالشياطني يضرون ،واىل اهنم على مذهب الشياطني
اليتصورون االّ الشر.
وأما مجلة (قالوا إنّا معكم) املسوقة لتربئة ذمتهم وجتديد عهدهم وثباهتم يف مسلكهم ،فاعلم!
انه أكد مع غري املنِكر هنا ،وترك التأكيد مع املنِكر هناك 1اشارًة وداللةً على عدم الشوق
احملرك يف قلب املتكلم هناك ووجوده هنا .أما امسية هذا وفعلية ذاك ،فألن املقصود اثبات
الثبوت والدوام يف ذا ،واحلدوث يف ذلك.
أما (امنا حنن مستهزؤن) فاعلم! انه مل يعطف ،اذ الوصل امنا هو بالتوسط بني كمال
بدل جبهة وتأكيد جبهة ومها من كمالاالتصال وكمال االنقطاع .مع ان هذه اجلملة ٌ
اب سؤ ٍال مقدَّر جبهة أخرى ،وهو من كمال االنقطاع خلربية اجلواب وانشائية االتصال ،وجو ُ
السؤال يف األغلب ..أما وجه التأكيد ويقرب منه البدل فهو :ان مآهلا اهانة احلق وأهله
فيكون تعظيما للباطل وأهله وهو مآل (إنّا معكم) ..وأما وجه اجلوابية للسؤال املقدر فكأن
شياطينهم يقولون هلم" :ان كنتم معنا ويف مسلكنا فما بالكم توافقون املؤمنني؟ فإما انتم يف
مذهبهم او المذهب لكم" فاعت َذروا جميبني بـ (إمنا حنن مستهزؤن) فصرحوا باهنم ليسوا من
االسالم يف شئ ،وأشاروا
_____________________
وأما مجلة (هللا يستهزئ هبم) فاعلم! اهنا مل توصل بسوابقها بل فصلت فصال؛ ألهنا لو
عطفت فإما على (منا حنن مستهزؤن) وهو يقتضي ان تكون هذه أيضاً تأكيداً لـ (انا
معكم) ..وإما على (قالوا) وهو يقتضي ان تكون هذه أيضاً مقوال هلم ..وإما على (قالوا)
وهو يقتضي ان تكون هذه أيضاً مقيدة بوقت اخللوة مع ان استهزاء هللا بالدوام ..وإما على
(اذا خلوا) وهو يقتضي ان تكون هذه من تتمة صفة تذبذهبم ..وإما على (اذا لقوا) وهو
يستلزم ان يكون الغرض منهما واحداً ًَ .مع ان األول لبيان العمل ،والثاين للجزاء ،واللوازم
باطلة ،فالوصل اليصح .فلم يبق اال ان تكون مستأنفة جواباً لسؤال مق ّدر .مث ان يف هذا
االستيناف امياءً ورمزاً اىل ان شناعتهم وخباثتهم بلغت درجة جترب روح كل سام ٍع ور ٍاء ان
يسأل بـ"كيف جزاء َمن هذا عمله؟".
مث ان االفتتاح بلفظة (هللا) مع ان ذهن السامع كان منتظراً لتلقي مقابلة املؤمنني معهم،
اشارة اىل تشريف املؤمنني وترمحه عليهم ،اذ قد قابل بدال عنهم ..وأيضاً رمز اىل زجرهم؛ اذ
اليُستهزأ مبن استناده بعالّم الغيوب ..وأيضاً امياء باالقتطاع وعدم النظر اىل تقرر استهزائهم
اىل ان استهزاءهم كالعدم بالنظر اىل جزائه ..مث ان التعبري عن نكايات هللا تعاىل معهم
باالستهزاء -الذي اليليق بشأنه تعاىل -للمشاكلة يف الصحبة ،وللرمز اىل ان النكاية جزاء
لالستهزاء ونتيجة والزمة له ،مع أن املراد الزم االستهزاء ،أعين التحقري ..وأيضاً امياء اىل ان
استهزاءهم الذي ال يفيد بل يضر عني استهزاء هللا تعاىل معهم؛ كمن يظن انه يستهزئ بك
مع انك تراه كاجملنون تريد ان يتكلم ولو بشتمك لتضحك منه ،فاستهزاؤه بعض استهزائك.
مث يف (يستهزئ) مضارعا مع ان السابق (مستهزؤن) اسم فاعل اشارة اىل ان نكايات هللا
يقل تأثريه بل
تعاىل وحتقرياته تتجدد عليهم ليحسوا باألمل ويتأثروا به؛ اذ ما استمر على نسق ّ
قد يعدم .ولذا قيل شرط االحساس االختالف.
إشارات اإلعجاز -ص114 :
أما (وميدهم يف طغياهنم يعمهون) أي توسلوا بأسباب الضاللة وطلبوها فأعطاهم هللا تعاىل..
رد اجلرب ،أي
تضمن "ميد" لالستمداد امياء اىل ّ
ففي لفظ "ميد" رمز اىل رد اإلعتزال ،ويف ّ
اختاروا بسوء اختيارهم واستمدوا ،فأم ّدهم هللا تعاىل وأرخى عناهنم ..ويف اضافة الطغيان اىل
"هم" أي ان هلم فيه اختياراً رمز اىل رد عذرهم باجملبورية ..ويف الطغيان اشارة اىل ان ضررهم
متعد استغرق احملاسن كالسيل وهدم أساس الكماالت فلم يبق االّ غثاء أحوى .و( يعمهون)
أي :يتحريون ويرتددون .وفيه اشارة اىل انه المسلك هلم وليس هلم مقصود معني.
***
ان هذه اآلية فذلكة وامجال للتفاصيل السابقة ،وتصوير هلا بصورة عالية مؤثرة .وختصيص
ومرها
اسلوب التجارة للتمثيل ،ألجل ان املخاطبني يف الصف األول قد ذاقوا حلو التجارة ّ
برحليت الصيف والشتاء.
ووجه املناسبة هو أن نوع البشر اُرسل اىل الدنيا ال للتوطن فيها ،بل ليتّجروا يف رأس ماهلم
من االستعدادات والقابليات ليزرعوا مث يتصرفوا يف غالّهتا.
فلفظ (اولئك) موضوع الحضار احملسوس البعيد :أما اإلحضار فإشارة اىل أن من شأن كل
سامع اذا مسع تلك اجلنايات املذكورة ان حيصل شيئاً فشيئاً يف قلبه نفرة وغيظ يتشدد تدرجياً
حبيث يريد ان يراهم ليتش ّفى الغيظ منهم ،ويقابلهم بالنفرة والتحقري ..وأما احملسوسية فرمز
جيسمهم يف الذهن حىت صاروا حمسوسني نصب اىل أن االتصاف هبذه االوصاف العجيبة ّ
اخليال .ومن احملسوسية رمز اىل علة احلكم بسر إجنرار املعصية اىل املعصية ..وأما البُعدية
فاشارة اىل شدة بُعدهم عن الطريق احلق ،ذهبوا اىل حيث اليرجعون ،فالذهاب يف أيديهم
دون اإلياب.
ولفظ (اشرتوا) اشارة اىل رد اعتذارهم بـ "ان فطرتنا هكذا" .فكأن القرآن الكرمي يقول هلم:
مال ،وأودع يف روحكم استعداد الكمال ،وغرس ال! .ولقد أعطاكم هللا أنفاس العمر رأس ٍ
َ َ
يف وجدانكم نواة احلقيقة وهي اهلداية الفطرية لتشرتوا السعادة فاشرتيتم بدهلا -بل برتكها -
اللذائذ العاجلة واملنافع الدنيوية فاخرتمت بسوء اختياركم مسلك الضاللة على منهج اهلداية،
فافسدمت اهلداية الفطرية ،وضيعتم رأس مالكم.
ولفظ (الضاللة باهلدى) فيه اشارة اىل اهنم خسروا خسارة على خسارة .اذ كما خسروا
بالضاللة؛ كذلك خسروا برتك النعمة العظيمة اليت هي اهلداية.
أما مجلة (فما رحبت جتارهتم) فاعلم! ان يف ختصيص نفي الربح -مع اهنم كما قد خسروا
فقد أضاعوا رأس املال أيضاً -اشارة اىل من شأن العاقل ان اليقدم على جتارة الربح فيها،
فضالً عما فيها خسارة واضاعة رأس املال ..مث يف اسناد الفعل اىل التجارة مع ان األصل
"فما رحبوا يف جتارهتم" اشارة اىل ان جتارهتم هذه جبميع أجزائها وكل أحواهلا وقاطبة وسائطها
ال فائدة فيها ال جزئياً وال كليا؛ ال كبعض التجارات اليت اليكون يف حمصلها وفذلكتها ربح،
فشر حمض وضرر حبت. ولكن يف أجزائها فوائد ،ولوسائط خدمتها استفادات ..أما هذه ّ
"نام لَْيـلُهُ"بدل "نام يف الليل"؛ اذ األول يفيد ان ليله أيضا ساكن وساكت
ونظري هذا االسناد َ
ميوجه طارق. كالنائم ال ِّ
حيرك ليلته شئ وال ِّ
وأما مجلة (وما كانوا مهتدين) أي كما خسروا وأضاعوا املال؛ كذلك قد اضلوا الطريق،
خفي اىل "هدى للمتقني" يف
فرتشيح وتزيني كسابقتها ألسلوب "اشرتوا" ..وأيضاً فيها رمز ّ
رأس السورة .كأنه يقول :اعطى القرآن الكرمي اهلداية فما قبل هؤالء.
***
توخي
فاألول :كالآللئ املنثورة والزينة املنشورة والنقش املرصع .ومعدنه الذي يتحصل منه هو ّ
املعاين النحوية احلرفية فيما بني الكلم ،كإذابة الذهب بني أحجار فضة .ومثرات هذا النوع
هي اللطائف اليت تعهد بياهنا فن املعاين..
والقسم الثاين :هو كلباس عال وحلة فاخرة ق ّدت من اسلوب على مقدار قامات املعاين،
وخيطت من قطعات خيطاً منتظماً فيلبس على قامة املعىن أو القصة أو الغرض دفعة.
وصناع هذا القسم واملتكفل به فن البيان ..ومن أهم مسائل هذا القسم التمثيل .ولقد أكثر
القرآن الكرمي من التمثيالت اىل ان بلغت األلف؛ ألن يف التمثيل سراً لطيفاً وحكمة عالية؛
اذ به يصري الوهم مغلوباً للعقل ،واخليال جمبوراً لالنقياد للفكر ،وبه يتحول الغائب حاضراً،
واملعقول حمسوساً ،واملعىن جمسماً ،وبه جيعل املتفرق جمموعاً ،واملختلط ممتزجا ،واملختلف
متحداً ،واملنقطع متصال ،واألعزل مسلّحا .وان شئت التفصيل فاستمع معي ملا يرتمن به
صاحب دالئل االعجاز يف أسرار بالغته 1؛ حيث قال:
_____________________
1اسرار البالغة لعبد القاهر اجلرجاىن (املتويف 071هـ) .طبع عدة طبعات منها يف مطبعة
االستقامة سنة 1109مبصر وكتب حواشيه االستاذ امحد مصطفى املراغي ،والفصل املذكور
هو يف ص 129من الطبعة املذكورة.
إشارات اإلعجاز -ص110 :
اعلم! ان مما اتفق العقالء عليه :ان التمثيل اذا جاء يف أعقاب املعاين أو برزت هي باختصار
يف معرضه ،ونقلت عن صورها األصلية اىل صورته،كساها اهبةً ،وكسبها منقبةً ،ورفع من
أقدارها ،وشب من نارها ،وضاعف قواها يف حتريك النفوس هلا ،ودعا القلوب اليها ،واستثار
هلا من أقاصي األفئدة صبابة وكلفاً ،وقسر الطباع على أن تعطيها حمبة وشغفاً.
ع لإللف، فان كان مدحاً كان أهبى وأفخم ،وأنبل يف النفوس وأعظم ،و َّ ِ
أهز للعطْف ،وأسر َ َ َ َ
بغر املواهب
ب شفاعة للمادح ،واقضى له ّ
أوج َ
أغلب على املمتدح ،و َ
أجلب للفرح ،و َ
و َ
أجدر.
اذكر ،وأوىل بان تعلقه القلوب و َ
أسري على األلسن و َ
واملنائح ،و َ
وإن كان ذماَْ كان م ُّسه أوجعِ ،
وميسمه أل َذع ،ووقعه أشدَّ ،وحدُّه احدَّ. َ َ ً
اقهر ،وبيانه اهبَر.
انور ،وسلطانه َ
وإن كان حجاجاً كان برهانه َ
ابعد ،وشرفه اجدَّ ،ولسانه ألدَّ.
وإن كان افتخاراً كان شأوه َ
اسل ،ولغرب الغضبأخلب ،وللسخائم ّاقرب ،وللقلوب َ وإن كان اعتذاراً كان اىل القلوب َ
أبعث .وإن كان وعظاً كان أشفى للصدر، انفث ،وعلى حسن الرجوع َ افل ،ويف عُ َقد العقود َ
َّ
وادعى اىل الفكر ،وأبلغ يف التنبيه والزجر ،وأجدر بأن َْجيلي الغياية ( ، )1ويبصر الغاية،
ويربئ العليل ،ويشفي الغليل ...وهكذا احلكم اذا استقريت فنون القول وضروبه ،وتتبعت
أبوابه وشعوبه( .انتهى)..
مث ان يف اآليات اآلتية دالئل اعجاز واسرار بالغة فذكرناها هنا ملناسبتها ملسائل املقدمة
اآلتية.
فمثال التمثيل يف مقام املدح ما ذكره القرآن الكرمي يف وصف الصحابة من:
( )1الغياية :ضوء شعاع الشمس ،قعر البئر ،وكل ما أظل اإلنسان كالسحابة والغربة.
(مثَل الذين ُمحّلوا التورية ث)( )2و َ ب ان َْحت ِمل َعلَيه يَـ ْل َه ْ
ث أو تَـ ْرتْكه يَـ ْل َه ْ (فَمثَـلُهُ َكمثَ ِل الْ َك ْل ِ
َ َ
مث مل حيملوها َك َمثَ ِل احلِما ِر َْحي ِم ُل أسفاراً)( )1و (اِنَّا َج َع ْلنَا يف اَ ْعنَاقِ ِه ْم اَ ْغالَالً فَ ِه َي اِ َىل
ان فَـ ُه ْم ُم ْق َم ُحو َن)( )0وقس. االْ ْذقَ ِ
ومثَ ُل ِ (مثَلهم كمثل الذي استَوقَ َد ناراً) و (او َكصيِ ٍ ِ
مات اىل آخره و َ ب من السماء فيه ظُلُ ٌ َّ َ
الذين كفروا َك َم ِثل الذي يَـْنعِق مبا ال يسمع االّ دعاءً ونداءً)( )9و (مثل الذين اختذوا ِمن
فسالت أوديةٌ ِ دون هللا اولياءَ ِ
ْ اختذت بيتاً)( )6و (أنزل من السماء ماءً
ْ العنكبوت كمثل
حلية أو متاع َزبَ ٌد ِمثْـلُه)()7
ب َق َدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه يف النار ابتغاء ٍ
َ ُ َ
ِ
ورجالً َسلَما لَر ُج ٍل هل يستويان مثال)()9 ِ
ب هللا مثالً رجالً فيه شركاءُ ُمتَشاكسون ُ (ضَر َ
و َ
وقس عليه.
يسم افتخاراً -بيان عظمته تعاىل وكماالته اإلهلية قوله تعاىل: ونظري مثال االفتخار -وان مل ّ
ات بِيَ ِمينِ ِه
ات مطويّ ٌ
ِ
يوم القيامة والسمو ُ
ضتُه َ (وما قَ َد ُروا هللا َح َّق قَ ْد ِره واأل ُ
رض َمجيعاً قَـْب َ
سبحانه وتعاىل عما يشركون)( )1وقس عليه.
ومثال التمثيل يف مقام االعتذار اليوجد اال حكايات أهل األعذار الباطلة لالحتجاج عليهم
كقوله:
فراً مث يكون ُحطاماً)( )1و (أَ َمل تَـَر ان (كمثل َغي ٍ
صّ هيج فرتيــه ُم ْ
ب الكفار نـَبَاتُه مث يَ ُ
أع َج َ
ث ْ ْ
ِج ِبه َزْرعا ُخمتلفاً ألوانُه)( )2و (اِنّا
األرض مث ُخير ُِ ينابيع يف ِ
انزل من السماء ماءً فَ َسلكه َ
هللا ِ
َ
أشفقن ِمنها َ ِ األرض و ِ
ات و ِ ضنا األمانةَ على السمو ِ
ومحَلَها ني أ ْن َْحيم ْلنَها و َ اجلبال فأَبَـ ْ َ َعَر ْ
ص ِّدعاً ِ
ا ِإلنسا ُن إِنه كا َن ظَلُوماً َج ُهوالً)( )1و (لو أنزلْنا هذا القرآ َن على َجبَ ٍل لرأيتَهُ خاشعاً ُمتَ َ
للناس لَ َعلَّ ُهم يَـتَـ َف َّكرو َن)( )0و (فَما َهلُ ْم َعن التَذْكِ ِرةِ
ض ِرُهبا ِ االمثال نَ ْ
ُ ِمن َخ ْشيَ ِة هللا وتِ َ
لك
َ
ت ِمن قَ ْس َورة)( )9و (مثل الذين يُ ِنفقو َن أَموا َهلُ ْم يف ِ
ني _ َكأهنُم َمحٌُر ُمستَـْنفرةٌ _ فَـَّر ْ ِ
ُم ْع ِرض َ
كل ُسْنبلة مائةُ َحبَّة)( )6و (كمثل َجنَّة بَِربْوة ٍ
سنابل يف َِّ ت َسْب َع سبيل هللا َك َم ِثل َحبة اَنْـبَتَ ْ
اَصاهبا وابل)(.. )7
ِ (أَيـوُّد أَح ُد ُكم أن تكون له جنةٌ ِمن َخن ٍيل وأ َْع ٍ
األهنار له فيها من ِّ
كل ُ ناب جتري من حتتها ََ َ
الذين ِ ِ
و(مثل َ
ُ ت)()9 فاحتَـَرقَ ْ
نار ْ إعصار فيه ٌ
ٌ فأصاهبا
َ ض َعفاء
الث ََّمرات وأَصابَه الكبَـ ُر وله ذُريةٌ ُ
قدرو َن ِمما َكسبوا على ٍ
شيء عاصف الي ِ
ٍ ماد اشتدت به الريح يف ٍ
يوم َك َفروا بِرّهبِِم اعما ُهلم َكر ٍ
َ َ َ ُ ْ َ َ ْ
البعيد)(. )1
الضالل ُ ُ ذلك هو
ومن الشعر:
اعلم! ان املتكلم كما يفيد املعىن مث يـُ ْقنِع العقل بواسطة الدليل؛ كذلك يلقي اىل الوجدان
يات بواسطة صور التمثيل فيحرك يف القلب امليل أو النفرة ويهيئُه للقبول .فالكالم البليغ حس ٍ
ِ
ّ
ما استفاد منه العقل والوجدان معاً ،فكما يتداخل اىل العقل يتقطر اىل الوجدان أيضا.
التمثيل؛ اذ هو يتضمن قياساً وينعكس به يف مرآة املمثل القانون ُ واملتكفل هلذين الوجهني
املندمج يف املمثل به .فكأنه دعوى مدلَّل .كما تقول يف رئيس يكابد الباليا لراحة رعيته:
وختضر من حتته األودية).
ّ مشاق الثلج والبَـَرد،
يتحمل ّ
(اجلبل العايل ّ
حس النفرة أو الرغبة أو امليالن أو
مث ان أساس التمثيل هو التشبيه .ومن شأن التشبيه حتريك ّ
الكراهية أو احلرية أو اهليبة؛ فقد يكون للتعظيم أو التحقري أو الرتغيب أو التنفري أو التشويه
احلس ٍ
مبيل أو نفرة. أو التزيني أو التلطيف اىل آخره ...فبصورة األسلوب يوقَظ الوجدان وينبَّه ُّ
( )1قائله ابن النبيه املصرى يف مدح االيوبيني تويف سنة 611هـ.
( )1الكهرباء.
املسألة األوىل:
ان منشأ نقوش البالغة امنا هو نظم املعاين دون نظم اللفظ كما جرى عليه اللفظيون
املتصلفون ،وصار حب اللفظ فيهم مرضاً مزمناً اىل ان رد عليهم عبد القاهر اجلرجاين( )1يف
دالئل االعجاز واسرار البالغة ،وحصر على املناظرة معهم أكثر من مائة صحيفة.
ونظم املعاين :عبارة عن توخي املعاين النحوية فيما بني الكلمات .اي اذابة املعاين احلرفية بني
ُ
الطبيعي لألفكار
ّ الكلم لتحصيل النقوش الغريبة .وان أمعنت النظر لرأيت ان اجملرى
واحلسيات امنا هو نظم املعاين .ونظم املعاين هو الذي يشيّد بقوانني املنطق ..وأسلوب املنطق
هو الذي يتسلسل به الفكر اىل احلقائق ..والفكر الواصل اىل احلقائق هو الذي ينفذ يف
دقائق املاهيات ونسبها ..ونسب املاهيات هي الروابط للنظام األكمل ..والنظام األكمل هو
للحسن اجملرد الذي هو منبع كل حسن ..واحلسن اجملرد هو الروضة ألزاهري البالغة الص َدف ُ
َ
املسماة
ويتنزه فيها البالبل ّ
اليت تسمى لطائف ومزايا ..وتلك اجلنة املزهرة هي اليت جيول ّ
بالبلغاء وعشاق الفطرة ..واولئك البالبل نغماهتم احللوة اللطيفة امنا تتولد من تقطيع الصدى
الروحاين املنتشر من أنابيب نظم املعاين.
(( )1ت 071هـ 1479 /م) اِمام يف اللغة والبالغة ،له مصنفات منها :كتاب املغين (14
جملد) املقتصد ( 1جملدات) اعجاز القرآن ،املفتاح ،دالئل االعجاز ،اسرار البالغة.
تذييل :تزيني اللفظ امنا يكون زينة اذا اقتضته طبيعةُ املعاين .وشعشعة صورة املعىن امنا تكون
استعداد املقصود.
ُ حشمةً له اذا أ َِذن به املآل .وتنوير االسلوب امنا يكون جزالة اذا ساعده
تأسست على مناسبة املقصود وارتضى به املطلوب. ولطافة التشبيه امنا تكون بالغة اذا ّ
وعظمةُ اخليال وجوالنُه امنا تكون من البالغة اذا مل تؤمل احلقيقةَ ومل تثقل عليها ويكون اخليال
مثاال للحقيقة متسنبال عليها .وان شئت األمثلة اجلامعة لتلك الشرائط فعليك بتلك اآليات
التمثيلية املذكورة.
املسألة الثانية:
ِِ
الرضاب ()1
ف ُ ف َماءَهُ َر ْش َ تَ َش َّكى االْ ْر ُ
ض َغْيبَتَهُ الَْيه َوتَـ ْر ُش ُ
تصوت األرض اليابسة بنزول املطر بعد تأخر .والبد يف كل فهذه الصورة امنا تسنبلت على ّ
خيال من نواة من احلقيقة نظري هذا املثال ،والبد يف زجاجة كل جماز من سراج احلقيقة ،واالّ
كانت بالغته اخليالية خرافة بال عرق ال تفيد االّ حرية.
املسألة الثالثة:
وقد الح يف الصبح الثريا ملن رأى كعنقود مالحيّه حني ّنورا
جيدون من الصور احلاضرة بسبب الصنعة أو التوغل أو األلفة أو األحتياج ،وال أقل من ِّ
لف
ٍ
منديل من تلك الصنعة برأسه ،أو االنصباغ بلون ّما .وما جتده يف ديباجة الكتب من براعة
االستهالل من اظهر امثلة هذه املسألة.
مث ان اسلوب الكالم قد يكون باعتبار خيال املخاطَب كما يف أساليب القرآن الكرمي فال
ارق من النسيم اذا سرى يرمز اليه هبيئات
تنس .مث ان مراتب االسلوب متفاوتة فبعضها ّ َ
الكالم .وبعضها اخفى من دسائس احلرب اليشمه االّ ذو دهاء يف احلرب؛ كاستشمام
"من يربز اىل امليدان" .وان ِ ِ ِ
يم)( )2اسلوب َ (م ْن ُْحييي الْعظَ َام َوه َي َرم ٌ
الزخمشري( )1من َ
شئت فتأمل يف اآليات املذكورة تر فيها مصداق هذه املسائل بألطف وجه .وان شئت ُزِر
"ر َجتَتَهُ"( )0باسلوب احلكيم يف قوله:
البوصريي( )1وانظر كيف كتب َ
َّ االمام
َ
َت ِم َن الْ َم َحا ِرِم َوالْ ِزْم ِمحْيَةَ الن ََّدم واستـ ْفرِغ الدَّمع ِمن ع ٍ ِ
ني قَد ْامتَأل ْ
ْ َ ْ َْ َ َْ
ورمز اىل االسلوب بلفظ احلمية .او استمع هدهد سليمان كيف أومأ اىل هندسته( )9بقوله:
ات و ِ
االرض)(. )6 السمو ِ
بءَ يف َّ َ (االّ يَ ْس ُج ُدوا هلل الَّ ِذي ُخيْرِج ْ
اخلَ ْ
املسألة الرابعة:
اعلم! ان الكالم امنا يكون ذا ّقوة وقدرة اذا كان اجزاؤه مصداقا ملا قيل:
(619 - 649( )1هـ) حممد بن سعيد بن محاد بن عبدهللا البوصريي املصري .شاعر،
حسن الديباجة ،مليح املعاين ،له ديوان شعر مطبوع ،واشهر شعره الربدة املشهورة بـ "بردة
املديح " (كشف الظنون 299/1االعالم .)111/6
كل ب َق َد ِره
كل بيد اآلخر ويظاهره ،وميد ٌ
بان تتجاوب قيودات الكالم ونظمه وهيئته ،ويأخذ ٌ
الكلي مع مثراته اخلصوصية .كأن الغرض املشرتك حوض يتشرب من جوانبه الرطبة، الغرض ِّ
َ
فيتولد من هذه اجملاوبة املعاونةَ ،ومنها االنتظام ،ومنه التناسب ،ومنه احلسن واجلمال الذايت.
وهذا السر من البالغة يتألأل من جمموع القرآن ال سيما يف (الـم _ ذلك الكتاب الريب فيه
مستهم نفحةٌ من عذاب ربك)(. )1 هدى للمتقني) كما مسعتَه مع التنظري بقوله( :ولئن َّ
املسألة اخلامسة:
اعلم! ان غناء الكالم وثروته ووسعته هو انه كما أن أصل الكالم يفيد أصل املقصد؛ كذلك
كيفياته وهيئاته ومستتبعاته تشري وترمز وتلوحاىل لوازم الغرض وتوابعه وفروعه ،فكأمنا ترتاءى
طبقة بعد طبقة ومقاما خلف مقام .وان شئت مثاال تأمل يف (واذا قيل هلم التفسدوا يف
املفسر سابقا.
االرض) اىل آخره .و(واذا لقوا الذين آمنوا) اىل آخره ،على الوجه َّ
املسألة السادسة:
اعلم! ان املعاين اجملتناة من خريطة الكالم املأخوذة املنقوشة "ب ُفوطُ ْغراف" التلفظ على أنواع
س به واليُرى ..وبعضها كالبخار يُرى وال يـُ ْؤخذ..
خمتلفة ومراتب متفاوتة .فبعضها كاهلواء ُحي ّ
وبعضها كاملاء يُؤخذ والينضبط ..وبعضها كالسبيكة ينضبط واليتعني ..وبعضها كال ّد ّر
املنتظم والذهب املضروب يتشخص ،مث بتأثري الغرض واملقام قد يتصلب اهلوائي .وقد تعتور
على املعىن الواحد احلاالت الثالث .أال ترى انه اذا أثر أمر خارجي يف وجدانك يتهيج
ميول ،مث يتحصل بعضها ،مث يتشكل من عان هوائية فيتولد ٌقلبك؟ فيثري احلسيات فيتطاير م ٍ
ُ
ذلك البعض قسم ،مث ينعقد من ذلك القسم بعض .ففي كل من هذه الطبقات يتوضع
وينعقد البعض ،ويبقى البعض اآلخر معلّقا كمعلقية بعض الصوت عند تشكل احلروف،
الغرض
ُ والتنب عند انعقاد احلبوب .فمن شأن البليغ ان يفيد بصريح الكالم ما تعلق به
واقتضاه املقام ،وطلبه املخاطب .مث حييل الطبقات األُخر -مبقدار نسبة درجة القرب من
الغرض -على داللة القيود ،واشارة الفحوى ،ورمز الكيفيات ،وتلويح مستتبعات
( )1سورة االنبياء.06 :
الرتاكيب ،وتلميح األساليب ،وإمياء أطوار املتكلم .مث ان من تلك املعاين املعلقة معاين حرفية
هوائية ليس هلا ألفاظ خمصوصة ،وال هلا وطن معني بل كالسيَّاح السيَّار؛ قد يسترت يف كلمة
ِ
عصرت تقطَّر .كالتحسر يف (اِين َو َ
ض ْعتُها َ وقد يتشربه كالم وقد يتداخل يف قصة ،فان
اب ..اخل) .واالشتياق والتمدح واخلطاب واالشارة والتأمل ت الشَّبَ َ
اُنْثى)( )1والتأسف يف (لَْي َ
والتحري والتعجب والتفاخر وغري ذلك .مث ان شرط حسن املعاشرة بني تلك املعاين املتزامحة
االساسي .وان شئت مثاالً هلذه املسألة
ّ تقسيم العناية واالهتمام على نسبة خدمتها للغرض
فمن رأس السورة اىل هنا مثال ّبني على الوجه املشروح سابقاً.
املسألة السابعة:
اعلم! ان اخليال املندمج يف اسلوب البد ان يتسنبل على نواة حقيقة ،ويكون كاملرآة يف ان
انني والعلل املندرجة يف سلسلة اخلارجيات.
ينعكس به -يف املعنويات -القو ُ
وفلسفة النحو اليت هي املناسبات املذكورة يف كتبه أيضاً من هذا القبيل؛ كما يقال :الرفع
للفاعل ألن القوي يأخذ القوي .وقس عليه..
املسألة الثامنة:
( )2هو عمر بن عثمان ،امام حناة البصرة ،ولد بالبيضاء من مدن شرياز نشأ بالبصرة ودرس
النحو على اخلليل الفراهيدى ،ورد بغداد فناظر امام حناة الكوفة الكسائى فحكم بانتصاره
عليه ،فأسف وعاد اىل موطنه ،وألف كتابه الذى يع ّد اصل النحو ،تويف سنة 716هـ.
( )1والعني :عني الشمس ،وعني الشمس :شعاعها الذى ال تثبت عليه العني .وقيل :العني
الشمس نفسها ،يقال :طلعت العني ،وغابت العني( .لسان العرب البن منظور).
املسألة التاسعة:
علو الكالم أن يكون كشجرة النسب يتسلسل متناسال اىل املقاصد اليتوأيضاً من أسباب ّ
تتدىل على املقام والغرض ..وأيضاً من أسباب رفعة طبقة الكالم أن يكون مستعداً الستنباط
كثري من الفروع والوجوه كقصة موسى على نبينا وعليه السالم.
املسألة العاشرة:
وح ْلوه هو ان تكون املعاين واحلسيات املندجمة فيه
اعلم! ان سالسة الكالم املنتجة للطافته ُ
كز
ممتزجة تتحد أو خمتلفة تنتظم؛ لئال تتشرب اجلوانب ّقوة االفادة والغرض ،بل جيذب املر ُ
القوَة من األطراف ..وأيضاً من السالسة ان يتعني املقصد ..وأيضاً منه ان يتظاهر ملتقى
ّ
األغراض.
وقوته هي :ان يكون الكالم حبيث يشري اىل اعلم! ان سالمة الكالم اليت هي سبب صحته ّ
املبادئ والدالئل ،ويرمز اىل اللوازم والتوابع ،وبقيود املوضوع واحملمول وكيفياهتما يومئ اىل رد
االوهام ودفع الشبهات؛ كأن كل قيد جواب لسؤال مق ّدر .وان شئت مثاال فعليك بفاحتة
الكتاب.
( )1من املعلوم ان امساء اخللفاء الراشدين االربعة تبدأ حبرف "العني" وقد استلهم بعض
اخلطاطني نقشاً بديعاً استعمل فيه حرف "العني" مشرتكاً بني امسائهم.
أحدها:
االسلوب اجملرد ،الذي لونه واحد ،وخاصته االختصار والسليقية والسالمة واالستقامة فهو
أملس سوي ،وحمل استعماله املعامالت واحملاورات والعلوم اآللية .وان شئت مثاال سلساً منه
فعليك بكتب السيّد اجلرجاين.
والثاين:
االسلوب املزين ،وخاصته التزيني والتنوير ،وهتييج القلب بالتشويق أو التنفري .واملقام املناسب
حتريت املثال املزيّن فادخل يف
له اخلطابيات كاملدح والذم وغريمها واالقناعيات ونظائرمها .واذا ّ
دالئل االعجاز واسرار البالغة َتر فيهما جناناً مزينة.
والثالث:
***
مث اعلم! ان مدار النظر يف آيتنا هذه ،وهي (مثلهم كمثل الذي استوقد) اخل:..
ّأوالً :نظمها بسابقها ..وثانياً :النظم بني مجلها ..وثالثاً :نظم كيفية مجلة مجلة؛ فمع
استحضار مامضى:
إحداها :تأنيس اخليال الذي هو أطوع للمتخيالت من املعقوالت ،وتأمني اطاعة الوهم
الذي شأنه التشكيكات ومعارضة العقل وانقياده باظهار الوحشي بصورة املأنوس ،وتصوير
الغائب بصورة الشاهد.
واعلم! ان مآل مجل هذه اآلية كما يناسب مآل جمموع قصة املنافقني؛ كذلك يناسب آيةً
آيةً منها .أال ترى ان مآل القصة اهنم آمنوا صورةً للمنافع الدنيوية ..مث تبطنوا الكفر ..مث
يتحروا احلق ..مث مل يستطيعوا الرجوع فيعرفوا .وما أنسب هذا حبال من حتريوا وترددوا ..مث مل ّ
انطفأت ..مث اُظلموا ..مث اليرتاءى هلم
ْ أوقدوا هلم ناراً أو مصباحاً ..مث مل حيافظوا عليها ..مث
صم ،ولتعامي الليل
شئ حىت يكون كل شئ معدوماً يف حقهم! .فلسكون الليل كأهنم ّ
مي ،ولعدم وجود املخاطَب واملغيث اليستغيثون كأهنم بُكم ،ولعدم وانطفاء أنواره كأهنم عُ ٌ
استطاعة الرجوع كأهنم أشباح جامدة ال أرواح هلا.
مث ان يف املشبَّه به نقطاً أساسية تناظر النقط األساسية يف املشبه .مثال :الظلمة تنظر اىل
الكفر ،واحلرية اىل التذبذب ،والنار اىل الفتنة .وقس!..
ان قلت :ان يف التمثيل نوراً فأين نور املنافق حىت يتم تطبيق التمثيل؟.
قيل لك :ان مل يكن يف الشخص نور ففي حميطه ميكن له االستنارة ..وان مل ،ففي قومه
ميكن االستضاءة ..وان مل ،ففي نوعه ميكن له االستفادة ..وان مل ،ففي فطرته كان ميكن له
االستفاضة كما مر ..وان مل تقنع ،ففي لسانه بالنظر اىل نظر غريه أو بالنظر اىل نفسه
لرتتب املنافع الدنيوية ..وان مل ،فباعتبار البعض من الذين آمنوا مث ارتدوا ..وان مل ،فيجوز
ان يكون النور اشارة اىل ما استفادوا كما ان النار اشارة اىل الفتنة ..وان مل ترض هبذا أيضاً،
فبتنزيل امكان اهلداية منزلة وجودها كما أشار اليه اشرتوا الضاللة باهلدى فانه هو اجلار
اجلنب للتمثيل.
أما وجه النظم بني اجلمل :فاعلم! ان نظم مجلة (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً) مناسبتُها
للموقع.
(فلما أضاءت ما حوله ذهب هللا بنورهم) .اعلم! ان هذه "الفاء" تشري اىل اهنم أوقدوا النار
ليستضيؤا فاضاءت فاطمأنوا باالستضاءة فتعقبهم اخليبة وسقطوا يف أيديهم .وما أشد تأثري
العدم عليهم يف آن انتظار احلصول! .مث ان هذه الشرطية تستلزم استلزام االضاءة لذهاب
النور .وخفاء هذا االستلزام يشري اىل تقدير ما يظهر
أحس (ش)
( )1و ّ
به اللزوم هكذا :فلما اضاءت استضاؤا هبا فاشتغلوا ..فلم حيافظوا ..فلم يهتموا هبا ،ومل
يعرفوا قدر النعمة فيها ..فلم ميدوها ..فلم يدميوها؛ فانطفأت .ألنه ملا كانت الغفلة عن
الوسيلة لالشتغال بالنتيجة -بسر (اِ َّن االْ َِنْ َسا َن لَيَطْغَى _ اَن َرآهُ اِ ْستَـ ْغ َىن)( - )1سبباً
نفس االضاءة سبب لذهاب النور. لعدم اإلدامة املستلزم لالنطفاء كان كأن َ
أما مجلة (وتركهم يف ظلمات) فبعدما أشار اىل خسراهنم بذهاب النعم بزوال النور عقبه
خبذالهنم بنزول النقم بالسقوط يف الظلمات.
أما مجلة (ال يبصرون) فاعلم! ان االنسان اذا اظلم عليه وأضل السبيل فقد يسكن ويتسلى
برؤية رفقائه ومرافقه ،واذا مل يبصرمها كان السكون مصيبة عليه كاحلركة بل أوحش.
عمي فهم ال يرجعون) فاعلم! ان االنسان اذا وقع يف مثل هذا البالء قد
بكم ٌ
(صم ٌأما ٌ
يتسلى ويأمل ويرجو النجاة من جهات أربع مرتتبة:
وح ٍل
ورابعاً :اليبقى له االّ ان جيهد يف الرجوع ،وملا أحاط به الظلمة كان كمن دخل يف ْ
باختياره وامتنع عليه اخلروج .نعم ،كم من أم ٍر تذهب اليه باختيار مث يُسلَب عنك االختيار
يف الرجوع عنه ختلّيه انت وال خيليك هو ،فقال تعاىل :فهم
(ال يرجعون) لسد هذا الباب عليهم وقطع آخر احلبل الذي يتمسكون به ،فسقطوا يف
ظلمات اليأس والتوحش والسكونة واخلوف.
أما اجلهة الثالثة ،أعين :
نظم قيودات مجلة مجلة ،فانظر اىل (مثلهم كمثل الذ ِي استوقد ناراً) كيف تتطاير شرارات
النكت من قيوداهتا.
أما لفظ "املثل" فاشارة اىل غرابة حال املنافقني وان قصتهم اعجوبة؛ اذ املثَل هو الذي جيول
َ
أخص صفاته الغرابة .مث الندماج قاعدة على األلسنة ويتناقله الناس لتضمنه لغرابة؛ اذ ّ
أساسية يف األمثال يقال هلا" :حكمة العوام" و "فلسفة العموم" .فاملراد باملثل هنا صفتهم
الغريبة وقصتهم العجيبة وحاهلم الشنيعة .ففي التعبري باملثَل جمازاً اشارة اىل الغرابة ،ويف
َ
االشارة رمز اىل ان من شأن صفتهم أن تدور على لسان النفرة والتلعني كضرب املثل.
وأما "الكاف":
قيل لك :األبلغ يف هذا املقام ذكره ،اذ التصريح به يوقظ الذهن بان ينظر اىل املثال تبعياً
فينتقل عن كل نقطة مهمة منه اىل نظريها من املشبه .واال فقد يتوغل فيه قصداً فتفوت منه
دقائق التطبيق.
وأما "املثَل" الثاين فاشارة اىل ان حال املستوقد بغرابته ووجوده يف حس العموم كان يف حكم
َ
ضرب املثل.
وأما "الذي":
قيل لك :اذا تساوى اجلزء والكل والفرد واجلماعة ومل يؤثر االشرتاك يف صفة الفرد زيادة
ونقصانا جاز الوجهان مثل (كمثل احلمار) ففي افراده اشارة اىل استقالل كل فرد يف متثل
الدهشة وتصوير شناعتهم ،أوكان "الذي" "الذين" فاختُصر.
إشارات اإلعجاز -ص114 :
وأما (استوقد) فسينُه اشارة اىل التكلف والتحري .ويف افراده مع مجع الضمري يف "نورهم" رمز
ٍ
جلماعة .ولقد ألطف يف اإلفراد إيقاداً واجلمع استنارة. يوقد
لطيف اىل أن فرداً ُ
وأما (ناراً) بدل "املصباح" أو غريه فاشارة اىل املشقة يف نور التكليف ،ورمز اىل اهنم يوقدون
نار فتنة .وأما تنكريه فامياء اىل شدة احتياجهم حىت اهنم يرضون بأية نار
حتت النور الظاهري َ
كانت.
ِ
مث اَج ِل َ
النظر فيما حول مجلة (فلما أضاءت ما حوله ذهب هللا بنورهم) لرتى كيف تضئ
قيودا ُهتا على ظلمات الدهشة اليت هي الغرض األساسي .ولقد مسعت يف املسألة الرابعة ان
قوة الكالم بتجاوب القيود:
أما "الفاء" فإمياء اىل ان هجوم اليأس املطلق تعقب كمال الرجاء.
وأما (ملا) فلتضمنه قياساً استثنائياً مستقيماً مع داللته على حتقق املقدم ينتج حتقق التايل
وقطع التسلي.
وأما (أضاءت) فاشارة اىل ان االيقاد لالستنارة ال لالصطالء .وفيه رمز اىل شدة الدهشة اذ
ما أفاد هلم االضاءة إال رؤية املهالك والعلم بوجودها .ولوالها ألمكن مغالطة النفس
وتسكينها.
وأما (ما حوله) فاشارة اىل احاطة الدهشة من اجلهات األربع ،واىل لزوم التحفظ باالضاءة
عن هجوم الضرر عن اجلهات الست.
وأما (ذهب) فألنه جزاء الشرط ،ال بد ان يكون الزماً .وخلفاء اللزوم -كما مر -يرمز اىل
اهنم مل يتعهدوها ومل يعرفوا قَ ْد َر النعمة فيها فبنفس االضاءة اُخذوا عن أنفسهم وأنساهم
تعهدها فأخذها هللا عنهم.. البطر والفرح ّ
وأما اسناد "ذهب" اىل (هللا) فاشارة اىل قطع رجاءين :رجاء التعمري ورجاء الرمحة؛ ألنه يشري
اىل ان اآلفة مساوية التقبل التعمري ،ويرمز اىل انه جزاءٌ لقصور املرء ،وهلذا يأخذه هللا تعاىل.
فينقطع املتمسك به عند انقطاع األسباب وهو أمل الرمحة ،اذ اليستعان من احلق على ابطال
احلق.
وأما "النور" ففيه امياء لطيف اىل تذكر حاهلم على الصراط.
ناره فقط
وأما االضافة يف (هم) املفيدة لالختصاص فاشارة اىل شدة تأثرهم؛ اذ َمن انطفأت ُ
مع ان نار الناس تلتهب أشد تأملا.
الكلي،
در التنزيل ما ألطفه يف فنون البالغة! أمل تر كيف توجهت هيئاهتا اىل الغرض ّ
وهلل ّ
أعين الدهشة مع اليأس ،كاحلوض يف ملتقى األودية؟.
أما "الواو" فاشارة اىل اهنم مجعوا بني اخلسارتني؛ ُسلبوا ضياءً وأُلبسوا ظلمةً.
لب .فمن
أما "تَـَرك" بدل "أبقى" أو غريه فاشارة اىل اهنم صاروا كجسد بال روح وقشر بال ّ
شأهنم ان يُرتكوا سدى ويُلقوا ظهريا.
وأما (يف) فرمز اىل انه انعدم يف نظرهم كل شئ ومل يبق االّ عنوان العدم وهو الظلمة فصارت
ظرفاً وقرباً هلم.
وأما مجع (ظلمات) فامياء اىل ان َسواد الليل وظلمة السحاب أولَدتا يف روحهم ظلمة اليأس
واخلوف ،ويف مكاهنم ظلمة التوحش والدهشة ،ويف زماهنم ظلمة السكون والسكوت،
فأحاطت هبم ظلمات متنوعة ..وأما تنكريها فامياء اىل اهنا جمهولة هلم مل يسبق هلم الُْفة
مبثلها فتكون أشد وقعا.
وأما (اليبصرون) فتنصيص على اساس املصائب ،اذ َمن مل ير كان ارأى للباليا ،وبفقد
البصر يبصر أخفى املصائب .وأما املضارعية فلتصوير ومتثيل حاهلم نصب عني اخليال لريى
السامع دهشتهم فيتحسس بوجدانه أيضاً.
وأما ترك املفعول فللتعميم ،أي اليرون منافعهم ليحافظوها ،وال يبصرون املهالك كي جيتنبوا
عنها .وال يرتاءى الرفقاء ليستأنسوا هبم ،فكأن كل واحد فرد برأسه.
مث انظر اىل مجل (صم بكم عمي فهم اليرجعون) لتسمع ما تتناجى به؛ اذ هذه األربعة ٌّ
حد
مشرتك بني املمثل واملمثل به ،وبرزخ بينهما ومتوجهة اليهما؛ تتكلم عن حال الطرفني .ومرآة
هلما تريك شأهنما .ونتيجة هلما تسمعك قصتهما.
منج،
فاعلم! ان من سقط يف مثل هذه املصيبة يبقى له رجاء النجاة باستماع جنوى ٍ
فاستلزمت ابكمية الليلة اصميته ..مث امساع مغيث فاقتضت اصمية الليل ابكميته ..مث اهلدى
بدء فانسد عليه الباب كمن سقط يفبرؤية نار أو نري فانتج تعامي الليل عميه ..مث العود اىل ٍ
ّ
وحل كلما حترك انغمس..
فاوالً:
ّ
كان عليهم ان يرفعوا رؤسهم ويستمعوا اىل احلق ويصغوا اىل ارشاد القرآن ،لكن ملا صارت
غلغلة ( )1اهلوى مانعة ألن خيلُص صدى القرآن اىل صماخهم ،وأخذ التهوس بآذاهنم جاراً
هلم عن تلك الطريق ،نعى عليهم القرآن بقوله( :صم) اشارة اىل انسداد هذا الباب ورمزاً اىل
ان آذاهنم كأهنا قطعت وبقيت ثقبات مشوهة أو قطعات متدلية يف جوانب رؤسهم.
وثانياً:
البد هلم ان خيفضوا رؤسهم ويشاوروا وجداهنم فيسألوا عن احلق والصراط ،لكن ملا اخذ
العناد على يد لساهنم وجره احلقد من خلف اىل اجلوف ،ألقمهم القرآن احلجر بقوله:
(بكم) اشارًة اىل انسداد هذا الباب أيضا يف وجوههم ورمزاً اىل اهنم بالسكوت عن االقرار
باحلق كانوا كمن قلع لسانه فبقي الفم ككهف خال عن ساكنه مشوهاً للوجه.
وثالثاً:
***
اعلم! ان مدار النظر يف هذه اآلية ايضا من ثالثة وجوه ،نظمها بسابقتها ،والنظم بني
العادة للساعات
االميال ّمجلها ،مث النظر بني هيئات مجلة مجلة .مثلها يف االرتباط كمثل ْ
والدقائق والثواين.
أما وجه النظم بينها وبني سابقتها فهو :انه كرر التمثيل واطنب يف التصوير اشارًة اىل احتياج
تصوير حال املنافقني يف دهشتهم وحريهتم اىل نوعني منه ،إذ:
ان املنافق يظن ان العا َمل بأجزائه ينعي عليه مبصائبه ويهدده ببالياه ويصيح عليه حبادثاته
وحييط به بنوازله كأن األنواع اتفقوا على عداوته فانقلب النافع ضاراً .وما هذه احلالة اال لعدم
نقطيت االستمداد واالستناد كما مر .واين هذا من حال املؤمن الذي يسمع باالميان
تسبيحات الكائنات وتبشرياهتا؟..
وأيضاً تكرار التمثيل امياء اىل انقسام املنافقني اىل الطبقة السفلية العامية املناسبة للتمثيل
االول واىل الطبقة املتكربة املغرورة املوافقة للتمثيل الثاين.
وأما مناسبة هذا التمثيل ملقامه بالنظر اىل السامع فهي :ان الصف األول من خماطيب القرآن
ابناء الفيايف يفرتشون الصحارى ويتخيّمون بفسطاط السماء .وما منهم اال وقد رأى بنفسه
حس العموم؛ حبيث تؤثّر فيه
أو مسع من أبناء جنسه مثل هذه احلادثة حىت استأنس هبا ُّ
كضرب املثل.
وأما مناسبته للتمثيل األول فأظهر من ان خيفى ،اذ هو كالتكملة والتتمة له مع االحتاد يف
كثري من النقط.
ومنها :وقوعهما يف شدة اخلوف حىت يتخيل كل من املشبه واملشبه به ،ان املوجودات اتفقت
على عداوته وال يأمن من بقائه يف كل دقيقة.
ومنها :وقوعهما يف شدة الدهشة املنتجة الختبال العقل حىت ان كالً منهما يتبلّه .كمثل من
يرى برق السيوف فيتحفظ بغمض بصره أو يسمع تقتقة البنادق فيتجنب عن اجلرح بسد
مسعه .أو كمثل من ال حيب غروب الشمس فيمسك دوالب ساعته لئال يدور جرخ الفلك
الربق احملرق اليرتحم عليهم ِّ
بغض الدوار ،فما أخبلهم! ..اذ الصاعقةُ ال تنثين بسد االمساع ،و ُ
ّ
األبصار .ومن هنا يُرى ان مل يبق هلم ممسك.
ومنها :ان الشمس واملطر والضياء واملاء كما إهنا منابع حياة األزاهري وتربية النباتات ،وسبب
موقعهما املنتظر هلما
تعفن امليتات وننت القاذورات؛ كذلك ان الرمحة والنعمة اذا مل تصادفا َ
والعارف بقيمتهما ،تنقلبان زمحة ونقمة.
ومنها :انه كما يوجد التناسب بني املآلني الذي هو األصل يف انعقاد االستعارة التمثيلية بال
نظر اىل تطبيق األجزاء؛ كذلك يوجد مناسبات هنا بني أجزائهما؛ اذ الصيِّب حياة النباتات
كما ان االسالمية حياة األرواح ،والربق والرعد يشريان اىل الوعد والوعيد ،والظلمات تريك
شبهات الكفر وشكوك النفاق.
فاعلم! ان التنزيل ملا قال (أو كصيب من السماء) مشرياً اىل اهنم كالذين اضطروا اىل السفر
مصائب تصيب مرماها
ُ يف صحراء موحشة يف ليلة مظلمة حتت مطر شديد،كأن قطراتِه
اجلو بكثرهتا؛ استيقظ ذهن السامع منتظراً لبيان السبب يف ان صار بصوهبا وقد مألت ّ َ
ب الذي هو يف األصل رمحة مرغوبة مصيبةً هائلة فقال مصوراً لدهشته( :فيه ظلمات) الصيّ ُ
مشرياً اىل ان املطر كما هو ظرف لظلمة السحاب ولكثافته؛ كذلك ألجل عمومه وكثرته
ات مسود ًة بني قطراته ..مث ما من سامع يسمع (فيه واحاطته كأنه ظرف للّيلة املتَـ َفتِتَة قطر ٍ
ُ
ظلمات) اال وينتظر لبيان .كأن املتكلم مسع صدى الرعد من ذهن السامع فقال( :ورعد)
مشرياً اىل هتويل احلال وتشديدها بان السماء أمرية املوجودات عزمت على اهالكهم ،وتصيح
عليهم برعدها؛ اذ املصاب املدهوش يتخيل من الكائنات املتعاونة على اضراره حركة مزعجة
توهم اهنا تتكلم مبا يهدده وتصيح حتت سكوهنا ،ونطقاً مهيباً حتت سكوهتا .فاذا مسع الرعد َّ
عليه؛ اذ باخلوف حيسب كل صيحة عليه ..مث ان السامع اليسمع الرعد االّ ويستهل فيربق
الدائمي ،ولذلك قال( :وبرق) مشرياً بالتنكري اىل انه غريب عجيب .نعم! هو ّ يف ذهنه رفيقه
يف نفسه عجيب؛ اذ بتولده ميوت عاملٌ من الظلمات فتطوى وتلقى اىل العدم ،ومبوته فجأة
حيىي وحيشر عامل من الظلمات .كأنه نار حينما تنطفئ تورث ملء الدنيا دخاناً .ومن شأن
املصاب هبا ان ميعن النظر وال مير بنظر سطحي بناء على االلفة واملناسبة حىت يتكشف عن
دقائق صنع القدرة ..مث بعد هذا التصوير كأن ذهن السامع يتحرك سائال :كيف يعملون؟
ِوِبَ يتشبثون؟ فقال( :جيعلون أصابعهم يف اذاهنم من الصواعق حذر املوت) مشرياً اىل ان
المناص وال ملجأ وال منجى هلم حىت اهنم كالغريق يتمسكون مبا اليـُتَ َمسك به .فمن
التدهش يستعملون األصابع موضع األنامل كأن الدهشة تضرب على أيديهم فيدخلون
األصابع من الوجع يف اآلذان ومن التبله اهنم يسدون اآلذان لئال تصيبهم الصواعق ..مث بعد
خصت ُفريجى؟ فقال( :وهللا حميط أعمت املصيبة أم ّ ذهن السامع سائالّ : هذا يتحرى ُ
بالكافرين) مشرياً اىل ان هذه املصيبة جزاءٌ لكفراهنم النعمة .يؤاخذهم هللا تعاىل به لشذوذهم
عن القانون االهلي املودع يف اجلمهور .مث ملا مسع شدة الرعد حي ّدث نفسه بـ "أال يفيدهم
الربق بأراءة الطريق"؟ فقال:
مث ان هذه القصة ملا احتوت على نقاط يتلوح من معاطفها استطراداً :العظمة والقدرة االهلية
وتصرفه تعاىل يف الكائنات ،وال سيما يتذكر السامع تبعا يف تالفيفها عجائب الرعد والربق
والسحاب ،كان من حق السامع املتيقظ وجدانُه ان يعلن ويقول :سبحانه ما أعظم قدرَة َم ْن
هذه الكائنات جتلِّي هيبته وهذه املصيبات جتلِّي غضبه .فقال( :ان هللا على كل شيء
قدير).
فاعلم! ان "أو" يف (او كصيب) اشارة اىل انقسام حال املمثل اىل قسمني ،ورمز اىل حتقيق
املناسبة بني التمثيلني وبينهما وبني املمثل له وامياء اىل مسلّمية املشاهبة ..وأيضا متضمن لـ
"بل" الرتقية؛ اذ التمثيل الثاين اش ّد َه ْوالً .وان "كصيب" لعدم مطابقته للمثل يقتضي تقدير
الزم ،والسكوت عن اظهار املقدر لالجياز ،واالجياز يف اللفظ الطناب املعىن باحالته على
خيال السامع باالستمداد من املقام .فبعدم املطابقة كأنه يقول :أو كالذين سافروا يف صحراء
خالية وليلة مظلمة فاصابتهم مصائب بصيب .وان العدول عن لفظ املطر املأنوس املألوف
اىل الصيب رمز اىل أن قطرات ذلك املطر كمصائب ترمى اليهم بقصد فتصيبهم مع فقد
الساتر عليهم.
وان ذكر (من السماء )مع بداهة ان املطر ال جيئ االّ من جهتها امياء بالتخصيص اىل
ِ
األرض وال طائر يطري (وما ِم ْن دابٍّة يف
التعميم وبالتقييد اىل االطالق نظري التقييد يف َ
جبناحيه)( )1أي مطبق آخذ بآفاق السماء .وما استدل بعض املفسرين بلفظ من السماء
جبال فيها ِمن بَـَرٍد)( )2على نزول املطر من جرم السماء
السماء من ٍِ هنا ويف آية (ويـُنَـِّزُل من
فنظر البالغة اليرى عليه سكةَ احلقيقة .بل حىت ختيل "بعض" وجود حبر حتت السماءُ ،
املعىن :من جهة السماء .والتقييد ملا عرفت .وقد قيل السماء ما عالك ،فالسحاب كاهلواء
مساء.
اجلهات أي ميكن النزول من أية جهةُ وحتقيق املقام :هو انك ان نظرت اىل القدرة تتساوى
ِ
املؤسسة للنظام األحسن يف األشياء املستل ِزم حملافظة
كانت .وان نظرت اىل احلكمة االهلية ّ
ِ
املرجحة ألقرب الوسائل فاملطر امنا هو من تكاثف البخار املائي املنتشر يف
املوازنة العمومية ّ
املائي املنتشر يف أعماقها.
كرة اهلواء اليت احد أجزائها العشرة ذلك البخار ّ
كل ،ويتسللن من األطراف ومن كل فج
وتوضيحه :ان ذراته اذا امرهتا االرادة االهلية ،يتمثل ٌ
بعض فتصري قطر ٍ
ات تأخذها تكاثف ٍ حزبن سحاباً هامراً .مث بارادة آمرها يشت ّد
عميق .فيت َّ
ُ
بعض بعضاً
بأيديهم املالئكةُ الذين هم ممثلو القوانني ومعكس النظامات لئال يزاحم ويصادم ٌ
فيضعوهنا على األرض .وألجل حمافظة املوازنة يف اجلو البد من ِ
بدل ما يتحلل بالتقطر، ّ
فم ْحمله انه تصور
مساوي َ
ّ بخر البحر واألرض فيمأل منازهلا .وأما ختيل ٍ
بعض وجود حبر فيُ َّ
اجلو لون البحر ،والحتواء اجلو على ماء أكثر من البحر احمليط
اجملاز حقيقةً؛ اذ الراءة خضرة ّ
ما استبعد تشبيهه بالبحر.
(وينزل من السماء من جبال فيها من برد) فاعلم! ان اجلمود على الظاهر مع التوقد يف أما ّ
استعارهتا مجود بارد ومخود ظاهر .اذ كما تضمن (قَـ َوا ِر َير ِم ْن فِض ٍَّة)( )1استعارة بديعة؛
(م ْن ِجبَ ٍال فيها ِم ْن بَـَرٍد) على استعارة بديعة عجيبة مستملحة .فكما ان كذلك حيتوي ِ
ظروف اجلنة مل تكن من الزجاجة والمن الفضة بل يف شفافية الزجاج وبياض الفضة ومن
حيث ان الزجاجة التكون من الفضة لتخالف
"من" ،كذلك (من جبال فيها من برد) متضمنة النوعني اشار اىل االستعارة باالضافة بذكر ِ
شعري بالنظر اىل السامع .وذلك اخليال مبين على مالحظة ّ الستعارتني مؤسستني على خيال
السفلي .وتلك املالحظة مبنية على
ّ العلوي وتشكل العامل
ّ املشاهبة واملماثلة بني متثل العامل
اجلو يف لبس الصور من يد القدرة كأن األرض ملا برزت تصور املسابقة والرقابة بني األرض و ّ
جبباهلا الالبسة للبيض من حلل الثلج والبَـَرد يف الشتاء ،واملتعممة هبا يف الربيع .مث تزينت يف
الصيف ببساتينها املتلونة فأظهرت يف نظر احلكمة بانقالباهتا معجزة القدرة االهلية ،قابلَها
جو السماء حماكياً هلا مسابقاً معها إلظهار معجزة العظمة االهلية فربز متربقعاً ومتقمصاً ُّ
بالسحاب املتقطع جباال وأطواداً وأودية ،واملتلون بألوان خمتلفة مصورة لبساتني األرض،
ملوحا ذلك اجلو بأجلى دالئل العظمة وأجلها .فبناء على هذه الرؤية واملشاهبة والتوهم
الصيفي باجلبال والسفن والبساتني
ّ اخليايل استحسن اسلوب العرب تشبيه السحاب السيما ّ
واألودية وقافلة اإلبل كما تسمع من العرب يف خطبهم .فيخيل اىل نظر البالغة ان قطعات
هز عصا بَرقه السحاب الصيفي سيارة وسبّاحة يف اجلو ،كأن الرعد راعيها وحاديها كلما ّ
على رؤسهم يف البحر احمليط اهلوائي اهتزت تلك القطعات وارجتت ،وتراءت جباال صادفت
احلشر ،أو سفنا يلعب هبا يد العاصفة ،أو بساتني ترججها من حتتها الزلزلة ،أو قافلة شردت
من هجوم قطاع الطريق .ومع ذلك يسريون وجيرون بأمر خالقهم حىت كأن كل ذرة من
نت يف مكاهنا ّاوال ساكتة ساكنة منتظرة ألمر خالقها .وملا ناداها
تكم ْ
ذرات ذلك البخار َّ
ـ"ح َّي على االجتماع واالحتاد!" تسارعوا من منازهلم
الرعد -كاآللة املعروفة يف العسكر -ب َ
ُ
مهطعني اىل داعيهم فيحشرون سحابا .مث بعد ايفاء الوظيفة وأمرهم باالسرتاحة يطري كل اىل
وكره ..فبناء على هذه املناسبة اخليالية ،وعلى اجملاورة بني السحاب واجلبال -إذ اجلبل
جلذب الرطوبة يتظاهر ويتشكل السحاب عليه مبقداره ويلبس لباسه -وعلى تلون السحاب
بنظري بياض الثلج والربد وتكيفه برطوبتهما وبرودهتما ،وعلى وجود األخوة بينهما ومبادلة
الصورة واللباس هلما يف كثري من مواضع القرآن ومصافحتهما يف منازل التنزيل كمحاورهتما
ومعانقتهما يف كثري من سطور صحيفة األرض من كتاب
العامل فرتى السحاب متوضعا على اجلبل ويصري اجلبل كأنه مرسى لسفن السحاب ترسى
عليه ،أو جملس تتشاور عليه ،أو وكر تطري اليه -استحق حبكم اجملاورة يف نظر البالغة ان
فيعرب عن السحاب باجلبل -مع تناسي التشبيه .فاذا قد عرفت ما يتبادال ويستعريا لوازمهما ّ
أي من جهة السماء" .من جبال" أي من مسعت من املناسبات فـ (يُ ّنزل من السماء) ْ
سحاب كاجلبال" .من برد" أي يف لونه ورطوبته وبرودته.
فيا هذا! ما أجربك مع وجود هذا التأويل الذي تقبله البالغة على اعتقاد نزول املطر بدقيقتني
من مسافة مخس مائة سنة املخالف حلكمة هللا الذي اتقن كل شئ صنعاً.
أما هيئات مجلة( :فيه ظلمات) املسوقة للتهويل؛ فتقدمي (فيه) اشارة اىل ان خيال املصاب
املدهوش والسامع املستحضر خياله لتلك احلال يتوهم ان ظلمات الليايل الكثرية افرغت
بتمامها يف تلك الليلة .وأما الظرفية مع ان الصيب مظروف فرمز اىل ان املتدهش بتلك
املصيبة يظن فضاء العامل حوضا قد ملئ من املطر ،فما الليل اال مظروف مفتت بني أجزائه.
وأما مجع "الظلمات" فامياء اىل تنوعها من ظلمة سواد السحاب وكثافته وانطباقه ،ومن
تقارب دفعات املطر وتكاثف قطره ،ومن تضاعف ظلمة الليل .وأما تنكري (ظلمات)
فلالستنكار ،وجلهل املخاطب فهو تأكيد (ظلمات).
وأما مجلة (ورعد وبرق) فاعلم! ان املقصد تصوير حريهتم ودهشتهم ،وان املصاب املتحري
جيمع متام دقته ونظره اىل أدىن حادث .فإلمعان النظر يتفطنون ملا يف الرعد والربق من
االنقالبات العجيبة والتحول الغريب .اذ بينما يرى املصابون ظلمة استولت على الكائنات
املييت؛ اذ يرون ِ
اليتمي والسكوت ّّ بالغم
وابتلعت املوجودات -نظري العدم -فتنقلب حريُهتم ّ
اظهر دالئل الوجود ،وهو تكلم العلويات ،مث ظهورها بكشف احلجاب فينقلب نظرهم اىل
نظر املدهوش املتحري اخلائف؛ اذ كما اهنم اذا رأوا ظلمات غري حمصورة يف فضاء غري متناه،
ضعف فيه ٍ
جبانب يُبقي هلم أمالً ،ينظرون نظر اليأس؛ كذلك اذا فاجأهم بغتة انعدام َ ال
يأسهم املطلق اىل رجاء.
الظلمات بان افرغت من الفضاء ،وملئ بدهلا نوراً ينقلب ُ
فاعلم! اهنا جواب لسؤال مقدر واستيناف حسن؛ اذ السامع ملا توجه اىل هذه القصة احلسية
التصوير
َ كمل التصوير
التمثيلية حصل له ميالن شديد لكشف حال املصيبة .مث بعد ان ّ
وقضى منه الوطر انثىن جمرى امليالن اىل كشف حال املصاب .فكأنه يقول السائل :كيف
حال املصاب حينئذ وِب يتشبث للنجاة؟ فأجاب القرآن بقوله( :جيعلون اصابعهم) ..اخل.
أي المناص هلم ،امنا هم كالغرقى يتمسكون بغري متمسك فرييدون التحفظ من جمانيق()1
حمال ،فال سبب.
السماويني بسد األمساع .وكونه سبباً ٌ
وأما لفظ (جيعلون) بدل "يدخلون" فامياء اىل اهنم حتروا األسباب فما صادفوا اال ماسببيته
جبعلهم وظنهم فقط ..وصورة املضارع املستحضرة للحال فرمز
اىل ان السامع يف مثل هذا املقام املهيج للحرية حيضر خبياله زمان الواقعة ومكان احلادثة .مث
يف املضارع استمرار جتددي .ويف استمراره امياء اىل تواتر تقتقة السحاب.
وأما (أصابعهم) بدل "أناملهم" فاشارة اىل شدة احلرية باستعمال األصابع موضع األنامل.
وأما يف (اذاهنم) فامياء اىل شدة اخلوف من صدى الرعد حىت خييل اليهم انه لو دخل الرعد
لطري األرواح من أبواب األفواه .وفيه رمز لطيف اىل اهنم ملا مل يفتحوا آذاهنم
يف شبكة اآلذان ّ
لنداء احلق والنصيحة عوقبوا من تلك اجلهة بنعرات الرعد ،فسدوا هنا ما سدوا هناك ،كمن
فيدخل ميني الندامة يف فيه ويضع يسار اخلجالة اخرج كالما شنيعا ِمنِ ِ
ضَرب على فمه ُ
فيه يُ ْ
على عينه.
وأما (من الصواعق) فاشارة اىل احتاد الرعد والربق على اضراره؛ اذ الصاعقة صوت شديد
معه نار حمرقة تصرع من صادف.
وأما (حذر املوت) فاشارة اىل ان البالء ج ّذ ( )1اللحم اىل العظم ،وجاز األحوال اىل
احلياة ،فما يعنيهم االّ غم املوت وحفظ احلياة.
فاعلم! ان "الواو" تقتضي املناسبة ،وما املناسبة اال بني هذه وبني التابع ملآل السابقة .فكأن
هذه "الواو" تقرأ عليهم" :هم قوم فروا من العمارة ونفروا من احلضارة وعصوا قانون كون
الليل سباتا ومل يطيعوا نصيحة الناصح فظنوا النجاة باخلروج اىل الصحراء فخابوا وأحاط هبم
بالء هللا".
وأما لفظ (هللا) فرمز اىل قطع آخر رجائهم؛ اذ املصاب امنا يلتجئ ويتسلى اوالً وآخراً اىل
رمحة هللا ،فحني استحقوا غضب هللا تعاىل انطفأ ذلك الرجاء.
وأما لفظ (حميط) فامياء اىل ان هذه املصائب احمليطة آثار غضبه تعاىل ،فكما ان السماء
هتجم عليهم من اجلهات الست؛ كذلك غضبه تعاىل وبلياته والسحاب والصيّب والليل ُ
حميطة هبم ..وأيضاً علمه تعاىل وقدرته حميطان بكل الكائنات ،وأمره
شامل لكل الذرات .فكأن (حميط) يتلو عليهم :التنفذون من أقطار السموات واألرض،
فثم وجه هللا ))1(.
(فأينما تولوا َّ
وأما تعلق "الباء" فرمز اىل اهنم وقعوا فيما هربوا عنه فصاروا هدفا للسهام.
وأما التعبري بالكافرين فاشارة اىل اراءة متثال املمثل -أعين املنافقني -يف مرآة التمثيل ،لئال
يتوغل فيه ذهن السامع فينسى املقصد ..ورمز اىل ان املشاهبة وصلت اىل درجة ،وتضايق
املسافة بينهما اىل ح ّد يرتاءيان معا ،فتمتزج احلقيقة باخليال ..وأيضاً امياء اىل ظلمة قلوهبم اذ
وجداهنم أيضاً يعذهبم لقصورهم وجنايتهم؛ اذ من رأى جزاء جنايته اليسرتيح وجدانه.
وأما هيئات مجلة( :يكاد الربق خيطف أبصارهم) فاستينافها يشري اىل ان السامع يقول :أال
ُجيب بأهنم خيافون من الضرر فضالً عن
ينتفعون بالربق املخفف لبالء الظلمة عنهم؟ فأ َ
الفائدة.
وأما (يكاد)( )2فيشري باعتبار خاصته املشهورة اىل وجود سبب زوال البصر لكن مل يزل
لوجود مانع.
وأما (خيطف) باعتبار استعماله كاختطفته الغُول والعُقاب ففيه بالغة لطيفة تربق للذهن
مير هو
وتشري اىل ان الربق يسابق شعاع العني من قبل ان يصل اىل األشياء ليأخذ صورها ّ
عليه فيقطعه ويضرب على جفنه فيذهب بنوره .كأن نور العني ملا خرج من بيته مسرعاً
ألجتناء صور األشياء يسارع الربق الذي هو شعاع عني الليل ،فيأخذ من يد شعاع العني
صورته قبل ايصاله اىل املخزن ،أي خيتلس الربق صورته من يده.
وأما (أبصارهم) فرمز -بناء على كوهنا مرآة للقلوب -اىل عمل بصائر املنافقني املتعامية
عن الرباهني القاطعة القرآنية.
وأما هيئات مجلة (كلما أضاء هلم مشوا فيه واذا اظلم عليهم قاموا) فاستينافها يشري اىل ان
السامع حينما رأى اختالف املصيبة وتغريها سأل عن شأهنم يف احلالتني فأجيب بذلك.
وأما (كلما) يف االضاءة و "اذا" يف االظالم فاشارة اىل شدة حرصهم على الضياء ينتهزون
ادىن الضياء فرصة .وأيضا "كلما" متضمن لقياس مستقيم استثنائي.
وأما (اضاء هلم) بالم االَ ْجلية والنفع فرمز اىل ان املصاب املدهوش يستغرق يف حاجة نفسه
حىت يظن الضياء الذي تنشره يد القدرة يف العامل آلالف ِحك ٍم كلية أنه املراد به خاصة ،ويد
القدرة امنا ارسلته ألجله.
واما (مشوا) مع اقتضاء الفرصة السري السريع فاشارة اىل ان املصيبة اقعدهتم فما سريهم
السريع االّ مشي وحركة على مهل.
واما (فيه) فاشارة اىل ان مسافة حركتهم الضياءُ الذي هو لون الزمان فكأنه حيدد هلم املكان.
واما (واذا) فـ "الواو" رمز اىل جتديد املصيبة لتشديد التأثري .واما االمهال واجلزئية يف "اذا"
عكس "كلما" فاشارة اىل شدة نفرهتم وتعاميهم ،فتأخذهم وهم منغمسون يف آن الفرصة.
وأما (اظلم) باالسناد اىل الربق فاشارة اىل ان الظلمة بعد الضياء اشد .وامياء اىل ان خيال
املصاب ملا رأى الربق طرد الظلمة مث ذهب وامتأل موضعه بالظلمات يتخيل انه انطفأ واورث
دخاناً.
استثنائي غري مستقيم .أي عدم املشيئة علة لعدم ذهاهبما؛ كما
ّ وأما (لو) فمتضمنة لقياس
ان عدم الذهاب دليل على العلم بعدم املشيئة بذهاهبما .وأيضاً رمز اىل ان السبب بلغ
النهاية.
وأما (شاء) فاشارة اىل ان الرابط بني السبب واملسبَّب امنا هي املشيئة واالرادة اإلهلية .فالتأثري
للقدرة ،وما االسباب إال حجاب العزة والعظمة لئال تباشر يد القدرة باألمور اخلسيسة يف
ظاهر نظر العقل.
وأما التصريح بلفظة (هللا) فاشارة اىل زجر الناس عن ا ِإلبتالء باألسباب واالنغماس فيها.
وأيضا لدعوة األذهان اىل رؤية يد القدرة خلف كل األسباب ..وأما حذف مفعول "شاء"
وان كان واجبا بالقاعدة املطردة فيجوز بقرينة اخواته ان يكون امياء اىل عدم تأثر املشيئة
واالرادة االهلية بأحوال الكائنات وعدم تأثري األشياء يف الصفات االهلية كما تتأثر ارادة البشر
حبسن األشياء وقبحها وعظمتها وصغرها.
واما (لذهب) فاشارة اىل ان األسباب ليست مسلطة ومستولية على املسببات حىت اذا ُرفعت
بقيت املسببات يف جوف العدم تلعب هبا يد التصادف وتشتّتها باالتفاق ،بل يد القدرة
يد احلكمة االهلية بقانون املوازنة
حاضرة خلف األسباب .اذا أخرجت األشياءَ تأخذها ُ
خربت بُنية املاء ،فبالنظام
واالنتظام ،ترسلها اىل مواقع اُخر والهتملها .كما ان احلرارة اذا ّ
املندمج يف اهلواء يذهب البخار يف جمرى معني ويسوقه صانعه اىل موقع معني ..وكذا يف
"ذهب" رمز اىل ان احلواس اخلمس الظاهرة ليست متولدة عن الطبيعة وال الزمة لتجاويف
السمع والبصر ،بل امنا هي هداياه تعاىل وعطاياه .وما التجاويف واألسباب االّ شرائط
عادية.
وأما التعدية بالباء بدل اهلمزة فامياء اىل ان يد القدرة ال تطلق األشياء عن حبل األسباب،
ازمتها بيد نظام.
َغارُهبا على عنقها ( )1بل تضع ّ
واما افراد "السمع" مع مجع "البصر" فاشارة اىل افراد املسموع وتعدد املبصر ،اذ الف رجل
يسمعون شيئاً واحداً مع ختالف املبصرات.
بك .والغارب :اعلى السنام .وهذا كناية عن الطالق ،اى: ( )1اصل املثلِ :
حبلك على غار ِ
اذهىب حيث ِ
شئت (جممع االمثال).
وأما هيئات مجلة (ان هللا على كل شيء قدير) فاعلم! اهنا فذلكة لتحقيق الدهشة يف
التمثيل واملمثل له تشري اىل انه كما ال هتمل دقائق أحوال املصابني املتمثلة جلزئيات أحوال
املنافقني؛ كذلك يُرى يف كل ذرة تصرف القدرة االهلية.
واما (ان) فمع اشارهتا اىل ان هذا احلكم من احلقائق الراسخة ،رمز اىل عظمة املسألة
للرتدد يف ِ
ووسعتها ودقتها ،وعجز البشر وضعفه وقصوره عنها املولّدة لألوهام املنتجة ّ
اليقينيات.
واما التصريح بلفظة (هللا) فامياء اىل دليل احلكم ،اذ القدرة التامة الشاملة الزمة لاللوهية.
وأما (كل) فاشارة اىل ان آثار األسباب ،واحلاصل باملصدر من األفعال االختيارية أيضا
بقدرته تعاىل.
وأما لفظ (شيء) مبعىن مشئ أي ما تعلقت به املشيئة ،فاشارة اىل ان املوجودات بعد
وجودها التستغين عن الصانع بل تفتقر يف كل آن لبقائها -الذي هو تكرر الوجود -اىل
تأثري الصانع.
وأما لفظ (قدير) بدل "قادر" فرمز اىل ان القدرة ليست على مقدار املقدورات فقط ،واهنا
ذاتية ال تغري فيها ،والزمة التقبل الزيادة والنقصان لعدم امكان ختلل ضدها حىت ترتتب شدة
ونقصانا ..وتلويح اىل ان القدرة كاجلنس وكميزان الصرف ،أعين( :فَـ َع َل) جلميع األوصاف
الفعلية من الرزاق والغفار واحمليي واملميت وغريها .تفكر فيما مسعت حق التفكر!.
ِ
وملَكة؛ اذ األمور الوجدانية والعقلية ترسخ العقائد وتُ ِّ
صريها حاال َ اعلم! ان العبادة هي اليت ّ
آثارها وتأثرياهتا ِ ِ
تنمها وترّهبا العبادة -اليت هي امتثال األوامر واجتناب النواهي -تكن ُ
إن مل ّ
ضعيفة .وحال االسالم 1احلاضرة شاهدة.
واعلم أيضاً! ان العبادة سبب لسعادة الدارين ..وسبب لتنظيم املعاش واملعاد ..وسبب
النوعي ..وهي النسبة الشريفة العالية بني العبد وخالقه.
الشخصي و ّ
ّ للكمال
أما وجه سببيتها لسعادة الدنيا اليت هي مزرعة اآلخرة فمن وجوه:
منها :ان االنسان ُخلق ممتازاً ومستثىن من مجيع احليوانات مبزاج لطيف عجيب ،انتج ذلك
وميل الزينة ،وميَالناً فطرياً اىل ان يعيش وحيىي مبعيشة
وميل األحسن َ
ميل االنتخاب َ املزاج فيه َ
وكمال الئقني باالنسانية ..مث ألجل تلك امليول احتاج االنسان يف حتصيل حاجاته يف مأكله
وملبسه ومسكنه اىل تلطيفها واتقاهنا بصنائع مجة ال يقتدر هو بانفراده على كلها .وهلذا
احتاج اىل االمتزاج مع أبناء جنسه ليتشاركوا ،فيتعاونوا ،مث يتبادلوا مثرات سعيهم .لكن ملا مل
فطري لتأمني ترقّيهم َبزْمبَـَرِك ٍ
الصانع احلكيم قوى البشر الشهوية والغضبية والعقلية حب ّد ّ
ُ حيدد
االختياري -ال كاحليوانات اليت ُحددت قواها -حصل اهنماك وجتاوز ..مث الهنماكّ 2اجلزء
القوى وجتاوزها -بسر عدم التحديد -حتتاج اجلماعة اىل العدالة يف تبادل مثرات السعي..
مث ألن عقل كل احد اليكفي يف درك العدالة احتاج النوع اىل عقل كلي للعدالة يستفيد منه
كلي ،وما هو إالّ
عقل العموم .وما ذلك العقل االّ قانون ّ
_____________________
2النابض.
مقنن وصاحب ومبلّغ ومرجع ،وما الشريعة ..مث حملافظة تأثري تلك الشريعة وجرياهنا البد من ِّ
النيب الدامة حاكميته يف الظواهر والبواطن ويف العقول النيب عليه السالم ..مث ان ّ
هو االّ ّ
وخلُقاً .وحيتاج أيضاً اىل
والطبائع حيتاج اىل امتياز وتفوق ماد ًة ومعىن ،سريًة وصورةَ ،خ ْلقاً ُ
دليل على قوة املناسبة بينه وبني مالك امللك صاحب العامل ،وما الدليل اال املعجزات ..مث
لتأسيس اطاعة األوامر وتأمني اجتناب النواهي حيتاج اىل ادامة تصور عظمة الصانع
وصاحب امللك يف االذهان وما هو اال جتلي العقائد ..مث الدامة التصور ورسوخ العقائد
حيتاج اىل مذ ّكِر مكرر وعمل متجدد ،وما املذ ّكِر املكرر اال العبادة.
ومنها :ان العبادة لتوجيه األفكار اىل الصانع احلكيم .والتوجه لتأسيس االنقياد .واالنقياد
ل ِإليصال اىل االنتظام األكمل واالرتباط به .واتباع النظام لتحقيق سر احلكمة .واحلكمة
يشهد عليها اتقان الصنع يف الكائنات.
ومنها :ان االنسان كالشجر الذي علق على ذروته كثري من خطوط اآللة الربقية ،قد الت ّفت
على رأسه رؤوس نظامات اخللقة ،وامتدت مشرعة اليه قوانني الفطرة ،وانعكست متمركزة فيه
اشعة النواميس االهلية يف الكائنات .فالبد للبشر ان يتممها ويربطها وينتسب اليها ويتشبث
باذياهلا ليسري باجلريان العمومي حىت ال يُزلق واليُطرد وال يُلقى عن ظهر هذه الدواليب
املتحركة يف الطبقات .وما هي اال بالعبادة اليت هي امتثال األوامر واجتناب النواهي.
نسب كثرية اىل مراتب عديدة يفومنها :ان بامتثال األوامر واجتناب النواهي حيصل لالنسان ٌ
كنوع؛ اذ كثري من األوامرالسيما اليت هلا متاس بالشعائر
اهليئة االجتماعية ،فيصري الشخص ٍ
واملصاحل العمومية كاخليط الذي نيط به حيثيات ونظُم فيه حقوق ،لواله لتمزقت وتطايرت.
ومنها :ان االنسان املسلم له مناسبات ثابتة وارتباط قوي مع كل املسلمني .ومها سببان
الخوة راسخة وحمبة حقيقية بسبب العقائد االميانية وامللكات االسالمية .أما سبب ظهور
تلك العقائد وتأثريها وصريورهتا َملَكة راسخة فامنا هي العبادة.
النفسي فاعلم!
ّ وأما جهة الكمال
ان االنسان مع صغر جرمه وضعفه وعجزه وكونه حيواناً من احليوانات ينطوي على روح غال
وحيتوي على استعداد كامل ،ويتبطن ميوال الحصر هلا ويشتمل على آمال ال هناية هلا ،وحيوز
افكاراً غري حمصورة ويتضمن قوى غري حمدودة مع ان فطرته عجيبة كأنه فهرستة لألنواع
والعوامل .فالعبادة هي السبب النبساط روحه وجالء قيمته ..وأيضاً هي العلة النكشاف
منوه ليناسب السعادة األبدية ..وكذا هي الذريعة لتهذيب ميوله ونزاهتها ..وهي
استعداده و ّ
الوسيلة لتحقيق آماله وجعلها مثمرة ريانة ..وكذلك هي الواسطة لتنظيم أفكاره وربطها..
الصْيقل َلريْن الطبيعة على أعضائه
وأيضاً هي السبب لتحديد قواه وإجلامها ..وأيضا هي َ
املادية واملعنوية اليت كل منها كأنه منفذ اىل عامل خمصوص ونوع اذا شف ..وأيضا هي
املوصل للبشر اىل شرفه الالئق وكماله املقدر ،اذا كانت بالوجدان والعقل والقلب والقالب..
وكذلك هي النسبة اللطيفة العالية ،واملناسبة الشريفة الغالية بني العبد واملعبود .وتلك النسبة
هي هناية مراتب كمال البشر.
مث ان االخالص يف العبادة هو :ان تفعل ألنه أُمر هبا ،وان اشتمل كل أمر على ِح َكم ،كل
منها يكون علة لالمتثال ،اال ان االخالص يقتضي ان تكون العلةُ هي األمر ،فان كانت
مرجحة فجائزة. ِ
احلكمةُ علةً فالعبادة باطلة ،وان بقيت ّ
***
مث ان املخاطبني ملا مسعوا (يا ايها الناس اعبدوا) استفسروا بلسان احلال :ما احلكمة؟ وِملَ؟ وما
وألي شئ؟
اجملبورية؟ ّ
أما احلكمة فقد مسعت يف املقدمة .وأما العلة فأجاب القرآن الكرمي باثبات الصانع وتوحيده
النبوة بقوله( :وان كنتم يف ريب مما نزلنا) ..اخل.
بقوله( :ربكم الذي خلقكم) ..اخل .واثبات ّ
اعلم! ان الربهان إما "لِ ّمي" وهو االستدالل باملؤثر على األثر .وإما "اِ ّينّ" وهو االستدالل
باألثر على املؤثر ،وهذا أسلم .1وهو إما "إمكاينّ باالستدالل" بتساوي الطرفني على
وجد ..وكل منها اما باعتبار املرجح ،واما "حدوثي باالستدالل" بالتحول والتب ّدل على امل ِِ
ُ ّ ّ ّ
ذوات االشياء أو باعتبار صفاهتا ..وكل منها إما باعطاء الوجود أو بادامة البقاء ..وكل منها
عناييت" .وهذه اآلية اشارة اىل هذه األنواع ،فامللخص منها
ّ اعي" أو "دليل
إما "دليل اخرت ّ
هنا ،وقد فصلناه يف كتاب آخر.
تلوح به هذه اآلية ،هو" :النظام املندمج يفأما دليل العناية على اثبات الصانع الذي ِّ
الكائنات"؛ اذ النظام خيط نيط به املصاحل واحلكم .فجميع اآليات القرآنية اليت تعد منافع
نساجةٌ هلذا الدليل ،ومظاهر لتجلِّي هذا الربهان؛ اذ النظام ِ
األشياء وتذكر ح َكمها امنا هي ّ
املرعي به املصاحل واحلكم كما يثبت وجود نظّام ،كذلك يدل على قصد الصانع وحكمته
وهم التصادف األعمى واالتفاقية العمياء.
وينفي من البني َ
ياهذا! ان مل حيط نظرك هبذا النظام العايل املزيَّن بفصوص احل َكم ،والتقتدر على االستقراء
التام؛ فانظر جبواسيس الفنون -اليت هي احلواس لنوعك -احلاصلة من تالحق األفكار -
كل فن من فنون
الذي هو يف ُحكم فكر النوع -لرتى نظاماً يبهر العقول ،وتعلم ان ّ
كشاف بكلية قواعده عن اتساق وانتظام اليعقل أكمل منهما؛ اذ كل نوع من الكائنات ّ
الكائنات اما تش ّكل فيه فن أو يقبل ان يتشكل .والفن عبارة عن قواعد كلية .وكلية القاعدة
تدل على حسن النظام؛ اذ ما النظام له الجتري فيه الكلية .أال ترى ان قولنا "كل عامل فهو
ذو عمامة بيضاء" امنا يصدق كلية ،اذا كان يف ذلك النوع انتظام .فانتج أن كل فن من
الفنون الكونية بسبب كلية قواعده ينتج باالستقراء التام نظاماً كامال شامال ،وان كل فن
برهان ّنري يشري اىل املصاحل والثمرات املتدلية كالعناقيد يف حلقات سالسل املوجودات ،ويل ِّوح
اعالم الشهادة على ِ
اىل احل َكم والفوائد املسترتة يف معاطف انقالبات األحوال .فرتفع الفنو ُن َ
قصد الصانع وحكمته،كأن كل فن جنم ثاقب يف طرد شياطني األوهام.
_____________________
1كداللة النار على الدخان وداللة الدخان على النار ،وهذا اسلم من الشبهات (ت)16 :
إشارات اإلعجاز -ص191 :
املكروسكويب الذي ال يُرى بالعني بال واسطة ،اشتملت صورته الصغرية على
ّ ان احليوان
ماكينة دقيقة بديعة إهلية .فبالضرورة والبداهة ان تلك املاكينة املمكنة يف ذاهتا وصفاهتا ما
وجدت بنفسها بال علة إلمكان ذاهتا وصفاهتا وأحواهلا .واملمكن متساوي الطرفني ككفيت
مرجحة ..ومنِ
امليزان ،ولو وجد الرتجح لكان يف العدم .فباتفاق العقالء البد هلا من علة ّ
احملال ان تكون العلة أسبابا طبيعية؛ اذ ما فيها من النظام الدقيق يقتضي هناية علم وكمال
شعور الميكن تصورمها يف تلك األسباب ،اليت خيادعون أنفسهم هبا .مع اهنا أسباب بسيطة
قليلة جامدة مل يتعني جماريها ،ومل يتحدد حماركها مع ترددها بني ألوف من اإلمكانات اليت ال
اولوية لبعضها .فكيف جتري يف جمرى معني ،وتتحرك على حمرك حمدود ،وكيف يرتجح بعض
وجوه اإلمكانات حىت يتولد هذه املاكينة العجيبة املنتظمة اليت حريت العقول يف دقائق
1
ذرة شعور "افالطون" نفسك وتطمئن بتولدها منها ان اعطيت لكل ّ ح َكمها ،بل امنا تقنع ُ
اعتقدت بني تلك الذرات خمابرة عمومية .وما هذه االّ سفسطةَ وحكمة "جالينوس" 2و
السوفسطائي .مع أن أس األسباب املادية وجود القوة اجلاذبة والقوة الدافعة معا
ّ خيجل منها
يف جزء اليتجزأ واجلوهر الفرد ،وان هذا كاجتماع الضدين.
نعم ،قانون اجلاذبة والدافعة وأمثاهلما امساء لقوانني عادات هللا تعاىل وشريعته الفطرية املسماة
بالطبيعة .فهذه القوانني مقبولة بشرط ان التنتقل من القاعدية اىل الطبيعية ،وان الخترج من
الذهنية اىل اخلارجية ،وان التتحول من االعتبارية اىل احلقيقية ،وان ال ترتقى من اآللتية اىل
املؤثرية.
فاذا تفهمت ما يف هذا املثال ورأيت عظمته مع صغره ووسعته مع ضيقه؛ فارفع رأسك وانظر
يف الكائنات تر وضوح دليل العناية وظهوره مبقدار درجة وسعة
_____________________
107 - 027 1ق.م) من مشاهري فالسفة اليونان ،تلميذ سقراط ومعلم ارسطو .من
مؤلفاته (اجلمهورية) و(احملاورات).
244 - 114( 2م) طبيب وكاتب يوناين ،ولد يف برجامون وعمل جراحاً ملدرسة املصارعني
هبا بعد ان امت دراسته يف بالد اليونان وآسيا الصغرى واالسكندرية مث اقام بروما حيث ذاع
صيته وينسب اليه مخسمائة مؤلف اغلبها يف الطب والفلسفة.
"ان قلت :فمع هذه الشهادة القاطعة كيف يعتقد االنسان بأمثال ضالالت ازلية املادة
وحركتها؟.
_____________________
التبعي فيقبله اضطراراً؛ ألنه ملا تغافل عن النظام الذي هو خيط احلِ َكم،
السطحي ّ
ّ بل بنظره
وتعامى عن ضدية احلركة واملادة لالزلية احتمل عند نظره التبعي اسناد هذا النقش البديع
"اجلسري" 1يف َم ْن دخل
ّ والصنعة العجيبة اىل التصادف األعمى واألتفاق األعور .كما قال
قصراً مزينا مشتمالً على آثار املدنية ،من انه حينما اليرى صاحبه فيعتقد عدمه يضطر
الطبيعي.
ّ ِإلسناد زينته وأساساته اىل االتفاق والتصادف وناموس االنتخاب
وأيضاً ملا تعامى وتغافل عن شهادة كل احلكم والفوائد يف نظام العامل على اختيار تام وعلم
شامل وقدرة كاملة احتمل يف نظره التبعي اثبات تأثري حقيقي هلذه األسباب اجلامدة.
فيا هذا! مع قطع النظر عن دقائق صنعته جل جالله تأمل يف اظهر اآلثار اليت تسمى
"طبيعة" وهو االرتسام -بشرط ان متزق حجاب االلفة -كيف تقنع نفسك ويقبل عقلك
ان خاصية وجه املرآة علة مؤثرة مناسبة لكشط وجه السماء وجلب صورة ارتفاعها ونقشها
املسمى باجلاذب
الومهي يف احلقيقة ّ
بنجومها يف زجيجتها؟ .وكيف يقنع عقلك بأن األمر ّ
العمومي علة مؤثرة كخيط املنجنيق ِإلمساك األرض والنجوم وحتريكها وتدويرها بانتظام
ّ
حمكم؟
احلاصل :ان االنسان اذا نظر نظراً سطحياً تبعيّاً اىل األمر الباطل احملال ومل ير العلة احلقيقية
احتمل صحته عنده .اال انه اذا نظر اليه قصداً وبالذات وحتراه مشرتياً له الميكن ان يقبل
شيئاً من تلك املسائل اليت يطنطنون هبا يف احلكميات ،االّ ان يتبلّه بفرض عقل احلكماء
الذرات.
وحكمة السياسيّني يف ّ
" ان قلت :فما الطبيعة والنواميس وال ُق َوى اليت يدمدمون هبا ويسلّون أنفسهم هبا؟
_____________________
احلاصل :ان الطبيعة صنعة هللا تعاىل وشريعته الفطرية .واما نواميسها فمسائلها .وأما قواها
فأحكام تلك املسائل.
3الىب العتاهية يف ديوانه وينسب اىل االمام علي كرم هللا وجهه .ونسبه إبن كثري يف مقدمة
تفسريه اىل إبن املعتز.
أوصاف نشأت من إمكان ماهيات الكائنات وهو وكذلك انه تعاىل مقدس عن لوازم و ٍ
سبحانه واجب الوجود ليس كمثله شئ جل جالله .ولقد أشار اىل هاتني احلقيقتني بقوله:
(فال جتعلوا هلل أنداداً).
***
ولنشرع يف نظم هذه اآلية باعتبار نظم جمموعها مبا قبلها ،مث نظم مجلها بعض مع بعض ،مث
نظم هيئات كل مجلة مجلة.
_____________________
فاعلم! ان القرآن ملا ّبني أقسام البشر وأنواع املكلَّفني من املؤمنني املتّقني والكافرين املعاندين
واملنافقني املذبذبني توجه اليهم كافة خماطبا بقوله( :يا أيها الناس اعبدوا) ع ّقبه ورتّبه على
سابقه ترتيب البناء على اهلندسة ،واألمر والنهي بالعمل على قانون العلم ،والقضاء على
القدر ،واالنشاء واالجياد على القصة واحلكاية؛ اذ ملا ذكر مباحث الفرق الثالث ،وذكر
كل هتيأ املوضع وانتبه السامع فالتفت خماطبا بذلك اخلطاب ..مث ان يف كل وعاقبة ٍّخاصة ٍ
هذا االلتفات -أعين ذكرهم أوالً بالغيبة مث اخلطاب معهم هنا -نكتة عمومية يف اسلوب
البيان وهي :انه اذا ذكر حماسن شخص أو مساويه شيئاً فشيئاً يتزايد حبكم االيقاظ والتهييج
ميالن استحسان أو ميل نفرة .ويتقوى ذلك امليل شيئاً فشيئاً اىل أن جيرب صاحبه على
املشافهة مع ذلك الشخص ،وبالنظر اىل املقام يقتضي ميوالت السامعني ألوصافه ان حيضر
املتكلم ذلك الشخص وجيره اىل حضورهم فيتوجه اليه باخلطاب..
وفيه نكتة خصوصية هنا :وهي ختفيف أعباء التكليف بلذة اخلطاب ..وفيه أيضاً اشارة اىل
ان ال واسطة يف العبادة بني العبد وخالقه.
وأما نظم اجلمل فـ (يا أيها الناس اعبدوا) خطاب لكل انسان من الفرق الثالث يف األزمنة
الثالثة من كل طبقات الفرق .أي :ايها املؤمنون الكاملون اعبدوا على صفة الثبات والدوام..
وأيها املتوسطون اعبدوا على كيفية االزدياد ..وأيها الكافرون افعلوا العبادة مع شرطها من
االميان والتوحيد ..وايها املنافقون اعبدوا على كيفية اإلخالص .فالعبادة هنا كاملشرتك املعنوي
فتأمل!.
تذييل :يف (ربكم) رمز دقيق اىل دليل امكان الذوات .ويف (جعل لكم األرض فراشا) اىل
دليل امكان الصفات .ويف (الذي خلقكم والذين من قبلكم) اىل دليل حدوث الذوات
الغين وانتم الفقراء)
ينص على دليل امكان الذوات قوله تعـاىل Lوهللا ّ
والصفات .والذي ّ
عدو يل إالّ رب العاملني) 2وكذلك (قل هللا مث َذ ْرهم
ّ (فاهنم ا
ً أيض
و 1
وايضا اىل ربك املنتهى
يف
_____________________
وأما مجلة (الذي خلقكم) فاعلم! ان هللا تعاىل ملا أمر بالعبادة وهي تقتضي ثالثة أشياء:
فدالئل الوجود قسمان :آفاقي وأنفسي .واألنفسي نوعان :نفسي وأصويل .فاشار اىل
النفسي األقرب األوضح بقوله( :الذي خلقكم) واىل االصويل بقوله :والذين من قبلكم.
وأما نظم (لعلكم تتقون) فاعلم! ان القرآن الكرمي ملا علق العبادة على خلقهم وآبائهم
اقتضى ترتيب العبادة على خلق البشر نقطتني:
إحدامها :ان تكون خلقتهم باستعداد العبادة ،وجبليتهم على قابلية التقوى؛ حىت من يرى
ذلك االستعداد يأمل ويرجو منهم العبادة كمن يرى املخالب يأمل االفرتاس.
والثانية :ان يكون املقصد من خلقتهم ووظيفتهم اليت هم مأمورون هبا وكماهلم الذي
يتوجهون اليه هو التقوى الذي هو كمال العبادة.
(ولعلكم تتقون) أي املقصد من خلقكم وكمالكم والذي هيئ له استعدادكم امنا هو التقوى.
وأما مجلة (جعل لكم األرض فراشا) فاشارة اىل أقرب الدالئل اآلفاقية على وجوده تعاىل. .
وأيضاً فيها رمز اىل رد التأثري احلقيقي لألسباب الذي هو منشأ لنوع شرك .أي متهيد األرض
جبعله تعاىل ال بالطبيعة.
_____________________
وأما (والسماء بناء) فإشارة -بذكر السماء اليت هي لصيق األرض -اىل أعلى الدالئل
اآلفاقية البسيطة.
مث اشار بقوله (وأنزل من السماء) اىل وجه داللة املركبات واملواليد على وجود صانعها.
يلوح بالوحدة.مث ان كل من اجلمل السابقة كما تدل على اثبات الوجود؛ كذلك اجملموع ّ
وصورة الرتتيب املشري اىل النظام امللوح بالنعم مع داللة (رزقا لكم) تثبت استحقاقه تعاىل
اجب .ويف (رزقا لكم) اشارة اىل انه كما ان االرض واملواليد ختدم ِ
للعبادة ،ألن شكَْر املُْنعم و ٌ
لك البد ان ختدم ملن سخرها لك.
وأما نظم (فال جتعلوا هلل انداداً) فاعلم! انه قد امتدت من نظمها خطوط اىل (يا ايها الناس
اعبدوا ربكم) واىل (الذي خلقكم) واىل (الذي جعل لكم) واىل (وانزل) .أي :اذا عبدمت
ربكم فال تشركوا له ألنه هو الرب ،وألنه هو اخلالق لكم ولنوعكم فال جيعل بعضكم بعضا
أرباباً من دون هللا ،وألنه هو الذي خلق األرض وفرشهاومهدها لكم ،وألنه هو الذي خلق
السماء وجعلها سقفا لبنائكم فال تعتقدوا تأثرياً حقيقياً لألسباب الطبيعية اليت هي منشأ
الوثنية ،وألنه هو الذي أرسل املاء اىل األرض لرزقكم ومعيشتكم ،وال نعمة اال منه فال شكر
وال عبادة االّ له.
وأما نظم كيفيات وهيئات مجلة مجلة ،فاعلم! ان كلمة (يا أيها) يف مجلة "يا ايها الناس
اعبدوا" قد أكثر التنزيل من ذكرها لنكت دقيقة ولطائف رقيقة ،اذ هذا اخلطاب مؤكد بوجوه
ثالثة:
فاخلطاب هنا رمز اىل فوائد ثالث :مقابلة مشقة التكليف بلـذة اخلطاب ..وان ترقى االنسان
من حضيض الغيبة اىل مقام احلضور امنا هو بواسطة العبادة ..1وأيضاً اشارة اىل ان
املخاطب مكلف جبهات ثالث :باعتبار قلبه بالتسليم واالنقياد ،ومن جهة عقله باالميان
والتوحيد ،وبالنظر اىل قالبه بالعمل والعبادة..
وأيضاً امياء اىل ان املخاطبني ثالث فرق ..2وأيضاً تلويح اىل الطبقات الثالث من اخلواص
واملتوسطني والعوام..
_____________________
وأيضاً تلميح اىل الطرز املألوف والنسق املأنوس وهو ان املرء اوال ينادي أحداً فيوقفه .مث
1
يتومسه فيوجهه .مث خياطبه فيخدمه.
فبناء على هذه النكت تكون التأكيدات يف اخلطاب مؤسسة من تلك اجلهات.
أما النداء يف "يا" فألن املنادى هو الناس املشتمل على الطبقات املختلفة من الغافلني
والغائبني والساكنني واجلاهلني واملشغولني واملعرضني واحملبني والطالبني والكاملني يكون هذا
النداء للتنبيه ،وكذا ل ِإلحضار ،وكذا للتحريك ،وكذا للتعريف ،وكذا للتفريغ ،وكذا للتوجيه،
هلز العطف..
وكذا للتهييج ،وكذا للتشويق ،وكذا لالزدياد ،وكذا ّ
وأما البُعد يف "يا" مع ان املقام مقام القرب ،فاشارة اىل جاللة وعظمة امانة التكليف..
وأيضاً امياء اىل بُعد درجة العبودية عن مرتبة االلوهية ..وأيضاً رمز اىل بُعد اعصار املكلفني
حمل ِ
وزمان ظهور اخلطاب .وأيضاً تلويح اىل شدة غفلة البشر. عن ِّ
"أي" املوضوع للتوسم من العموم فرمز اىل ان اخلطاب لعموم الكائنات .فيخصص من
وأما ّ
جتاوز حلق
بينها االنسان بتحمل األمانة على طريق فرض الكفاية .فاذاً قصور االنسان ٌ
2
جمموع الكائنات ..مث يف "أي" جزالة االمجال مث التفصيل.
وأما "ها" فمع كونه عوضاً عن املضاف اليه ،اشارة اىل تنبيه من حضر بـ "يا".
وأما (الناس) فاشارة -حبكم تلميح الوصفية األصلية -اىل العتاب ،أي "ايها الناس كيف
تنسون امليثاق األزيل"؟ وأيضاً اىل العذر أي "ايها الناس البد ان يكون قصوركم عن السهو
والنسيان ال بالعمد واجلد"!.
أما (اعبدوا) فبحكم جوابيته للنداء العام مناداه للطبقات املذكورة يدل على االطاعة ،ويشري
اىل االخالص ،ويرمز اىل الدوام ،ويلوح اىل التوحيد .أي اطيعوا ..واخلصوا ..واثبتوا..
وازدادوا ..ووحدوا.
_____________________
1فيستخدمه (ب)
اي» إمجال وإهبام حيث ذكرت غري مضافة ،االّ ان كلمة «الناس» تزيل
ألن يف كلمة « ّ
2
وأما (ربكم) فإشارة إىل ان العبادة كما ينبغي ان يرغّب فيها ألهنا نسبة شريفة ومناسبة
عالية؛ كذلك البد ان تطلب ألهنا شكر وخدمة ملن هو يربيكم وحتتاجون اليه.
فاعلم! ان (الذي) الذي جهة معلوميته الصلة 1يشري اىل ان معرفة هللا تعاىل امنا تكون
بأفعاله وآثاره ال بكنهه.
"خلَق" املمتاز عن االجياد واالنشاء بكونه على وجه مقدر مستو ،اشارة اىل ان استعداد وان َ
البشر مسدَّد للتكليف ..وأيضاً رمز اىل ان العبادة وظيفة ،ألهنا نتيجة اخللقة واجرهتا .فما
الثواب االّ من حمض فضل هللا تعاىل.
وان (الذين) بناءً على اهبامه امياء اىل ان الذين سبقوكم انقرضوا فماتوا فذهبوا ..فلم يبق
منهم جهة املعلومية اال كوهنم خملوقني قبلكم ..فأنتم على شفا جرف القرب ..فاعتربوا ..فال
تغرتوا بالدنيا ..فتشبثوا بأذيال العبادة اليت هي وسيلة السعادة االبدية.
أما كيفيات (لعلكم تتقون) فاعلم! ان "لعل" للرجاء ففي املرغوب يقال اطماع ويف املكروه
حمال .فهو اما باعتباره لكن جمازاً ،واما باعتبار
اشفاق .فالرجاء يف حق املتكلم هنا حقيقةً ٌ
املخاطب ،واما باعتبار املشاهدين والسامعني:
وأما باعتبار املخاطب فكأنه يقول :اعبدوا حال كونكم راجني للتقوى ومتوسطني بني الرجاء
واخلوف .ويف هذا االعتبار اشارة اىل انه البد ان اليعتمد االنسان على
_____________________
1فاذا قيل مثالً " :الذى جاءك" فجهته املعلومة لديك هى اجملئ اليك .اما سائر جهاته
فمجهولة (ت)114 :
عبادته ..وكذا امياء اىل انه البد ان اليكتفي مبا هو فيه بل لزم ان يكون مصداقا لـ"عليك
باحلركة غري السكون" فينظر يف كل مرتبة اىل ما فوقها.
واما باعتبار املشاهدين والسامعني فكأن من شاهد البشر جمهزاً ومسلحاً باستعدادات يأمل
ويرجو منه العبادة ،كمن يرى خمالب حيوان وأنيابه يأمل منه االفرتاس ..وكذلك اشارة اىل ان
العبادة مقتضى الفطرة.
اما لفظ (تتقون) فاشارة -حبكم ترتبه على عبادة الطبقات املذكورة -اىل مراتب التقوى
وهي :التقوى عن الشرك .مث التقوى عن الكبائر .مث التقوى حبفظ القلب عما سواه تعاىل..
وكذا التقوى بالتجنب عن العقاب ..وايضاً التقوى بالتحرز عن الغضب ..وكذا رمز اىل ان
العبادة باالخالص تكون عبادة ..وايضاً امياء اىل ان العبادة مقصودة بالذات ال وسيلة
حمضة ..وكذلك رمز اىل ان العبادة البد ان التكون ألجل الثواب والعقاب.
اما هيئات آية (الذي جعل لكم االرض فراشا والسماء بناء) فاعلم! اهنا اشارة اىل التهييج
على العبادة ببيان عظمة قدرة الصانع ،واىل التشويق عليها باالمتنان .كأنه يقول :ايها
االنسان! ان الذي سخر لك االرض والسماء يستحق ان تعبده ..وكذا امياء اىل فضيلة
وعلو قيمته ومكرميته عند هللا ،كأنه يقول :ان الذي اكرمكم بأن هيّأ االجرام العلوية
البشر ّ
والسفلية بعظمتها الستفادتكم ،البد أن تظهروا لياقتكم للكرامة بعبادته ..وكذا تلميح اىل رد
ِ
وقصد التصادف واالتفاق وتأثري الطبيعة .أي ان كل ما ترون بصفاهتا امنا هي ِ
جبعل جاعل
خمصص ونظ ِم نظَّام جلّت حكمته ..وكذا تلويح اىل رد مذهب اهل الطبيعة ِ ِ
وختصيص ّ قاصد
ومذهب الصابئني املولد ملذهب الوثنيني ..وايضاً تنبيه اىل ان صفات األجسام بإمكاهنا تدل
على الصانع؛ اذ االجسام متساوية ذرا ُهتا يف قابلية األحوال والكيفيات العمومية فكل صفة
ممكنة مرتددة بني احتماالت كثرية فكل جسم باعتبار كل صفة وكيفية حيتاج اىل قصد
ِ ِ
خمصص.
وختصيص ّ وحكمة
اما تقدمي (لكم) فاشارة اىل ان تفريش االرض ألجل االنسان ،ال ان املفرتش واملستفيد هو
االنسان فقط ،حىت يكون الزائد عبثاً ،فتأمل!.
اما (والسماء بناءً) فاشارة اىل انه تعاىل ملا جعل لكم السماء سقفا وبناء صارت جنومها
قناديل لكم فال يتوهم التصادف يف تفريق تلك القناديل وانتشارها كما يتوهم التصادف يف
وضعية اجلواهر اليت ترمى على األرض منتثرة.
مر ألجل ُوسعة روح االنسان وتبسط عقله وانبساط قيل لك :نعم! ولكن مع كل ما ّ
استعداده وكثرة وانتشار استفادته من الكائنات ..وايضاً ألجل عدم املزامحة والتجزي واملدافعة
يف جهة االستفادة كنسبة الكلي اىل جزئياته -اذ الكلي بتمامه موجود يف كل من جزئياته
المزامحة وال جتزء -جعل القرآن الكرمي جهة استفادة البشر اليت هي غاية فذة من الوف
الوف غايات السماء واألرض يف منزلة العلة الغائية كأهنا هي العلة بالنظر اىل االنسان .اي
ان االنسان يستفيد من األرض عرصةً لبيته والسماء سقفا له والنجوم قناديل والنباتات
فحق لكل فرد ان يقول :مشسي ومسائي وأرضي .فتأمل وعقلك معك! ذخائرّ ،
_____________________
اما كيفيات (وانزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم) فاعلم! ان نسبة انزل
اىل الضمري اشارة اىل ان القطرات امنا تُ َنزل مبيزان قصد وتُرسل حبكمة ،حىت ان كل قطرة
حمفوفة بنظام خمصوص بأمارة عدم مصادمتها ألخواهتا يف تلك املسافة البعيدة مع تلعب
اهلواء هبا .فيؤذن ان ليست غوارهبا على اعناقها ،1بل زمام كل يف يد ملَك ممثِّل لنظام
ومعكس له.
أما (من السماء) فاشارة باقامة الظاهر مقام الضمري اىل ان الغرض من هذه السماء جهتها
2
ال ِجرمها املخصوص.
اما (ماء) مع ان املنزل ثلج وبَـَرد ومطر ،فاشارة اىل املنشأ القريب لالستفادة (وجعلنا من املاء
كل شئ حي) .1أما تنكريه فاشارة اىل انه ماء عجيب شأنه ،غريب نظامه ،جمهول لكم
امتزاجاته الكميوية.
أما فاء (فاخرج) املوضوعة للتعقيب بال مهلة مع املهلة بني نزول املاء وخروج الثمر فتلويح
اىل فـ"اهتزت األرض وربت واخضرت وانبتت من كل زوج هبيج فاخرج" .أما نسبة "اخرج"
اىل الضمري فاشارة اىل ان خروج الثمار ليس بتولد وتركب فقط ،بل الصانع احلكيم ينشؤها
ويرتبها بصفات وخواص التوجد يف مادهتا.
أما (به) فبسبب تشرب املعىن احلقيقي -وهو االلصاق -للسببية رمز اىل لطافة طراوة
الثمار ،فيعلو اليها املاء -خالف طبيعته -بوساطة "اآلثار الشعرية" فيمأل أقداح الثمرات
ملصقاً هبا.
أما (من الثمرات) فلعدم خلوها من معىن االبتداء عند (سيبويه) يشري اىل مفعول يتنوع بتعني
فهم السامع ،أي ان من الثمرات أنواعاً كما تشتهون.
أما تنوين (رزقاً) فاشارة اىل انه رزق جمهول لكم أسباب حصوله فيجئ من حيث ال
حيتسب.
_____________________
1الصحيح" :حبلها على غارهبا" ..راجع الكتب الفقهية يف حبث كنايات الطالق واملعاجم
اللغوية يف مادة "غرب" (ب)
2ألن املقام مقام الضمري ،فاذا عدل عنه اىل الظاهر يكون املراد به غري االول( ...ب)
أما (لكم) فاشارة اىل تأكيد معىن االمتنان ..وأيضاً امياء اىل ان الرزق ألجلكم فال بأس من
استفادة غريكم منه تبعاً ..وكذا رمز اىل انه تعاىل كما خصكم بالنعم فخصوه بالشكر.
أما نظم هيآت (فال جتعلوا هلل اندادا) فالفاء ،ينظر اىل الفقرات األربعة :أي ألنه هو املعبود
فال تشركوا،وألنه هو القادر املطلق واألرض والسماء يف قبضته فال تعتقدوا له شريكا ،والنه
املنعم فال تشركوا يف شكره ،وألنه هو خالقكم فال تتخيلوا له شريكا.
أما (جتعلوا) بدل تعتقدوا فاشارة اىل معىن (ان هي اال امساء مسيتموها) 1أي امساء ال معىن
هلا تتخيلون هلا وجوداً جبعلكم.
أما تقدمي (هلل) فمع االهتمام جبعله نصب العني امياء اىل ان منشأ النهي كون الشريك هلل.
اما (اندادا) فلفظ الند مبعىن :املثل ،ومثله تعاىل يكون عني ضده ،وبينهما تضاد ،ففيه امياء
لطيف اىل ان الند ّبني البطالن بنفسه ..أما اجلمع فاشارة اىل هناية جهالة املشركني وامياء اىل
التهكم هبم ،أي كيف جتعلون هلل الذي ال شبيه له بوجه ما ،مجاعة من أمثال واضداد؟.
وكذا رمز اىل رد كل أنواع الشرك أي ال شريك له يف ذاته وال يف صفاته وال يف افعاله..
وتلويح اىل رد طبقات املشركني من الوثنيني والصابئني وأهل التثليث وأهل الطبيعة املعتقدين
بالتأثري احلقيقي لألسباب.
تذييل :منشأ الوثنية واألصنام إما تأليه النجوم أو ختيل احللول أو توهم اجلسمية.
أما (وانتم تعلمون) فمع اخواهتا من الفواصل اشارة اىل ان منشأ االسالمية هو العلم
وأساسها العقل ،فمن شأنه ان يقبل احلقيقة ويرد سفسطة االوهام .مث انه أطنب باجياز ترك
املفعول ،أي وانتم تعلمون :ان المعبود حقيقياً وال خالق وال قادر مطلقاً وال منعم اال هو..
وكذا وانتم تعلمون ان اآلهلة واألصنام ليست بشئ ،ال تقتدر على شئ واهنا خملوقة جمعولة
تتخيلوهنا ،فتدبر!.
_____________________
اعلم! انه كما اثبتت اآلية السابقة ّاول املقاصد األساسية القرآنية وهو التوحيد؛ كذلك تثبت
حممد عليه الصالة والسالم بأكمل معجزاته
نبوة ّ
هذه اآلية ثاينَ املقاصد األربعة وهو اثبات ّ
نبوته يف كتاب آخر فلنلخص
الذي هو التح ّدي باعجاز القرآن الكرمي .ولقد فصلنا دالئل ّ
بعضها هنا يف ست 1مسائل:
املسألة األوىل:
املسألة الثانية:
اعلم! ان كل حال من احواله وكل حركة من حركاته عليه السالم -وان مل يكن خارقاً -
يلَ ِّوح باملبدأ على صدقه وباملنتهى على حقانيته .أال ترى انه عليه السالم كيف كان حاله يف
أمثال واقعة الغار اليت انقطع -حبسب العادة -أمل اخلالص،
_____________________
1يف سبع مسائل (ش)
اعلم! ان الزمان املاضي واحلال -أي عصر السعادة -واالستقبال اتفقت على تصديق
نبوته .ولنطالع هذه الصحف األربع:
نبوته كما ان ذاته دليل على ّ
ّ
تصور أربع نكت:
فأوالً :نتربك مبطالعة ذاته عليه السالم .والبد ّأوالً من ّ
التصنعي -ولو كانا على أكمل
ُ الصنعي و
ُ كالتكحل" أي اليصل
ّ الكحل
ُ إحداها :انه "ليس
هيئة حر ِ
كة الصنعي ِ
غلطات ِ فلتات
الفطري وال يقوم مقامه ،بل ُ
الطبيعي و ّ
ّ الوجوه -مرتبة
تومئ مبزخرفيته.
والثانية :ان االخالق العالية امنا تتصل بأرض احلقيقة باجلدية ،وان ادامة حياهتا وانتظام
جمموعها امنا هي بالصدق .ولو ارتفع الصدق من بينها صارت كهشيم تذروه الرياح.
والثالثة :هي انه كما يوجد امليل واجلذب يف األمور املتناسبة ،كذلك يوجد الدفع والتنافر يف
األمور املتضادة.
_____________________
والكذب بينها .أال ترى ان الشخص املشتهر بالشجاعة فقط ال يتنزل للكذب االّ بعسر؟
فكيف باجملموع؟ فثبت ان ذاته عليه السالم كالشمس دليل لنفسه..
وأيضاً اذا تأملت يف حاله عليه السالم من األربع اىل اربعني -مع ان من شأن الشبابية
وتوقد احلرارة الغريزية ان تظهر ما خيفى وتلقي اىل الظاهر ما استرت يف الطبيعة من احليل -
تراه عليه السالم قد تدرج يف سنينه وعاشر بكمال استقامة وهناية متانة وغاية عفة واطراد
حال من أحواله اىل حيلة ،السيما يف مقابلة املعاندين األذكياء .وبينما تراه وانتظام .ما اومأ ٌ
عليه السالم كذلك اذ تنظر اليه وهو على رأس اربعني سنة -الذي من شأنه جعل احلاالت
تكشف عليه السالم عن شخص خارق قد اوقع َملَكة والعادات طبيعة ثابتة ال ختالف -قد ّ
يف العامل انقالباً عظيماً عجيبا .فما هو االّ من هللا.
املسألة الرابعة:
صص األنبياء املذكورة على لسانه عليه السالم يف
اعلم! ان صحيفة املاضي املشتملة على قَ َ
نبوته مبالحظة أربع نكت.
القرآن الكرمي برهان على ّ
إحداها :إن من يأخذ أساسات ف ٍن ويعرف العقد احلياتية فيه وحيسن استعماهلا يف مواضعها
مث يبين م ّدعاه عليها؛ يدل ذلك على مهارته وحذاقته يف ذلك الفن.
النكتة الثانية :هي انك ان كنت عارفا بطبيعة البشر ال ترى أحداً يتجاسر وبال تردد وبال
كذب ولو صغرياً ..يف قوم ولو قليلني ..يف دعوى ولو حقرية.. مباالة بسهولة على ٍ
خمالفة و ٍ
حبيثية ولو ضعيفة .فكيف مبن له حيثية يف غاية العظمة ..ويف دعوى يف غاية اجلاللة ..يف
امي مل يقرأ ..يبحث عن أمور القوم يف غاية الكثرة ..يف مقابلة عناد يف غاية الشدة مع انه ّ
يستقل فيها العقل ويظهرها بكمال اجلدية ،ويعلنها على رؤوس األشهاد .أفال يدل هذا على
صدقه وانه ليس منه بل من هللا؟
املسألة اخلامسة:
يف بيان صحيفة عصر السعادة ال سيما مسألة جزيرة العرب .فها هنا أيضاً أربع نكت:
احداها :انك اذا تأملت يف العامل ترى انه قد يتعسر ويستشكل رفع عادة ولو حقرية يف قوم
هبمة ولو ِ
ولو قليلني .أو خصلة ولو ضعيفة ..يف طائفة ولو ذليلني ..على ملك ولو عظيماّ ..
شديدة .يف زمان مديد بزمحة كثرية .1فكيف انت مبن مل يكن حاكما ،تشبث يف زمان قليل
ٍ
عادات َوَرفَ َع أخالقاً قد استقرت بتمام الرسوخ هبمة جزئية -بالنسبة اىل املفعول َ -وقَـلَ َع
واستؤنس هبا هناية استيناس واستمرت غاية استمرار ،فغرس فجأة بدهلا عادات وأخالقاً
تكملت دفعة عن قلوب قوم يف غاية الكثرة وملألوفاهتم يف هناية التعصب .أفال تراه خارقاً
للعادات؟..
تدرجيي كنمو الطفل ،وغلَبتُها للدولة النكتة الثانية :هي ان الدولة شخص معنويُّ .
تشكلُها
ّ ّ
أحكامها كالطبيعة الثابتة مللتها -متمهلة .أفال
ُ العتيقة -اليت صارت
_____________________
النكتة الرابعة :هي ان تدوير أفكار العموم وارشادها حبيل الرتهيب والرتغيب واخلوف
والتكليف امنا يكون تأثريها جزئيا سطحياً موقتا يس ّد طريق احملاكمة العقلية يف زمان .أما من
نفذ يف أعماق القلوب بارشاده ،وهيج دقائق احلسيات ،وكشف اكمام االستعدادات ،وأيقظ
األخالق ،وأظهر اخلصائل املستورة ،وجعل جوهر انسانيتهم فواراً ،وأبرز قيمة ناطقيتهم؛ فامنا
هو مقتبس من شعاع احلقيقة ومن اخلوارق للعادة .بينما ترى شخصا يف قساوة قلبه يقرب بنته
يرتحم على حنو النمل ،ويتأمل بأمل
حيةً وال يتأمل وال يتأثر اذ تراه بعد يوم -وقد اسلم ّ -
حيوان .فباهلل عليك أينطبق هذا االنقالب احلسي على قانون؟.
عمومي،
ّ يد امنا هو الذي اقتدر على انعاش استعداد الداهي الفر َ
َ ان تاريخ العامل يشهد ان
حسا
عمومي؛ اذ َمن مل يوقظ هكذا ّ ّ حس
وايقاظ خصلة عمومية ،والتسبب النكشاف ّ
نائما يكون سعيُه هباء موقتا ولو كان جليال يف نفسه ..وأيضا ان التاريخ يرينا ان أعظم
ِ
احلسيات العمومية :كحس احلمية الناس هو املوفَّق اليقاظ واحد أو اثنني أو ثالث من هذه ّ
امللّية ،وحس االخوة ،وحس احملبة ،وحس احلرية اخل .أفال يكون اذاً ايقاظ الوف من
ويني منتشرين يف جزيرة العرب ِ
احلسيات -املستورة العالية ،وجعلها ّفوارة منكشفة يف قوم بَ َد ّ
ّ
تلك الصحراء الوسيعة -من اخلوارق؟ ..نعم !.1هو من ضياء مشس احلقيقة.
_____________________
1لعله بلى" (ش)
فيا هذا! من مل يُدخل يف عقله هذه النقطة نُ ْد ِخل جزيرَة العرب يف عينه .فهذه جزيرة بعد
ثالثة عشر عصراً وبعد ترقي البشر يف مدارج التمدن!ِ ..
فانتخب ايها املعاند من أكمل
حممد العريب عليه
الفالسفة مائة ،فليسعوا مائة سنة فان فعلوا جزءاً من مائة جزء مما فعله ّ
الصالة والسالم بالنسبة اىل زمانه ...1فان مل تفعل -ولن تفعل -فاتّق عاقبة العناد! نعم،
هذه احلالة خارقة للعادة وان هي االّ معجزة من معجزاته عليه الصالة والسالم.
ومعارفَة مع
واعلم أيضاً :ان من اراد التوفيق يلزم عليه ان يكون له مصافاة مع عادات هللاَ ،
قوانني الفطرة ،ومناسبة مع روابط اهليئة االجتماعية .واالّ ،أجابته الفطرة بعدم املوفَّقية جو َ
اب
إسكات..
العمومي .واالّ،
ّ وأيضاً َمن حترك مبسلك يف اهليئة االجتماعية يلزمه ان ال خيالف حركة اجلريان
طريه ذلك الدوالب عن ظهره فيسقط يف يده .فاذاً من ساعده التوفيق يف ذلك اجلريان ّ
كمحمد عليه السالم يثبت انه متمسك باحلق.ّ
فاذا تفهمت هذا ،تأمل يف حقائق الشريعة مع تلك املصادمات العظيمة واالنقالبات
العجيبة ،ويف هذه األعصار املديدة تَـَرها قد حافظت على موازنة قوانني الفطرة وروابط
االجتماعيات الاليت بدقتها ال ترتاءى للعقول مع كمال املناسبة واملصافاة معها .فكلما امتد
الفطري لنوع
ّ الزمان تظاهر االتصال بينها .ويتظاهر من هذه احلالة؛ ان االسالمية هي الدين
رق .أال ترى ان الرتياق الشايف للسموم القاتلة يف اهليئة
البشر واهنا حق ،هلذا الينقطع ان ّ
االجتماعية امنا هو أمثال "حرمة الربا ووجوب الزكاة" اللتني مها مسألتان يف ألوف مسائل
تلك الشريعة.
اهلامشي عليه الصالة
ّ فاذا عرفت هذه النكت األربع مع هذه النقط الثالث ،اعلم! ان حممداً
والسالم مع انه ّام ّي مل يقرأ ومل يكتب ،ومع عدم قوته الظاهرية وعدم حاكميته له أو لسلفه،
وعدم ميل حتكم وسلطنة ،قد تشبث بقلبه بوثوق واطمئنان يف موقع يف غاية اخلطر ويف مقام
مهم ،بأمر عظيم فغلب على األفكار ،وحتبب اىل األرواح ،وتسلط على الطبائع ،وقلع من
أعماق قلوهبم العادات واألخالق الوحشية املألوفة الراسخة املستمرة الكثرية .مث غرس يف
موضعها يف غاية ا ِإلحكام والقوة -
_____________________
كأهنا اختلطت بلحمهم ودمهم -أخالقا عالية وعادات حسنة ،وقد بدل قساوة قلوب قوم
خامدين يف زوايا الوحشة حبسيات رقيقة وأظهر جوهر انسانيتهم .مث أخرجهم من زاوية
وصريهم معلِّمي عالَمهم ،و َّ
أسس هلم دولةً ابتلعت الدول الوحشة َورقي هبم اىل اوج املََدنية ّ
اجلوالة والنور النّوار فاحرقت روابط الظلم
كعصا موسى فلما ظهرت صارت كالشعلة ّ
الغرب .أفال تدل هذه احلالة
الشرق و َ
والفساد ،وجعل سرير تلك الدولة الدفعية يف زمان قليل َ
على ان مسلكه حقيقة وانه صادق يف دعواه؟
املسألة السادسة:
يف صحيفة املستقبل السيما "مسألة الشريعة" .والبد من مالحظة أربع نكت يف هذه
املسألة:
احداها :ان شخصاً ولو خارقاً امنا يتخصص ويصري صاحب ملَكة يف أربعة فنون او مخسة
فقط.
النكتة الثانية :إن كالماً واحداً قد يتفاوت بصدوره عن متكلمني ،فكما يدل على سطحية
أحد وجهله ..يدل على ماهرية اآلخر وحذاقته مع ان الكالم هو الكالم؛ اذ احدمها ملا نظر
اىل املبدأ واملنتهى ،والحظ السياق والسباق ،واستحضر مناسبته مع أخواته ،ورأى موضعاً
مناسبا فأحسن االستعمال فيه ،وحترى أرضا منبتة فزرعه فيها؛ ظهر منه انه خارق وصاحب
ملكة فيما هذا الكالم منه .وكل فذلكات القرآن الكرمي من الفنون وملتقطاته امنا هي من
هذا القبيل.
النكتة الثالثة :هي ان كثرياً من االمور العادية اآلن -بسبب تكمل املبادئ والوسائط حىت
يلعب هبا الصبيان -لو كانت قبل هذا بعصرين لع ّدت من اخلوارق .فما حيافظ شبابيته
وطراوته وغرابته على هذه االعصار املديدة يكون البتة من خوارق العادات والعادات اخلارقة.
النكتة الرابعة :هي ان االرشاد امنا يكون نافعا اذا كان على درجة استعداد أفكار اجلمهور
األكثر .واجلمهور -باعتبار املعظم -عوام .والعوام ال يقتدرون على رؤية احلقيقة عريانةً وال
صور القرآ ُن
يستأنسون هبا اال بلباس خياهلم املألوف .فلهذه النكتة ّ
الكرمي تلك احلقائق مبتشاهبات وتشبيهات واستعارات وحفظ اجلمهور الذين مل يتكملوا عن
الظاهري -
ّ اجلمهور -باحلس
ُ الوقوع يف ورطة املغلطة .فأبْـ َه َم وأمهَ َل يف املسائل اليت يعتقد
خالف الواقع ضروريا ،لكن مع ذلك أومأ اىل احلقيقة بنصب امارات.
العقلي
ّ فاذا تفطنت هلذه النكت ،اعلم! ان الديانة والشريعة االسالمية املؤسسة على الربهان
ملخصة من علوم وفنون تضمنت العقد احلياتية يف مجيع العلوم األساسية :من فن هتذيب
وفن تدبري اجلسد ،وعلم تدوير املنزل ،وفن
الروح ،وعلم رياضة القلب ،وعلم تربية الوجدانّ ،
سياسة املدنية ،وعلم نظامات العامل ،وفن احلقوق ،وعلم املعامالت ،وفن اآلداب
فسرت وأوضحت يف مواقع اللزوم االجتماعية ،وكذا وكذا وكذا ...اخل .مع ان الشريعة ّ
امجلت
ْ ومظان االحتياج ،وفيما مل يلزم او مل يستعد له االذها ُن او مل يساعد له الزما ُن
بفذلكة ووضعت أساسا احالت االستنباط منه وتفريعه ونشو منائه على مشورة العقول.
واحلال ان كل هذه الفنون بل ثلثها بعد ثالثة عشر عصرا -مع انبساط تالحق األفكار
وتوسع نتائجها ،وكذا يف املواقع املتمدنة ،وكذا يف األذكياء -اليوجد يف شخص .فمن زيّن
وجدانه باالنصاف يصدق بان حقيقة هذه الشريعة خارجة عن طاقة البشر دائما السيما يف
ذلك الزمان ،ويص ّدق مبآل (مل تفعلوا ولن تفعلوا).
_____________________
1توماس كاراليل ( )1991 - 1719كاتب ومؤرخ وفيلسوف انكليزي ،اراد والده البنّاء
مر مبعاناة نفسية ان يكون إبنه قسيساً إالّ ان كثرة شكوكه حول الدين حالت دون ذلكّ ،
دامت زهاء سبع سنوات ،انتهى به املطاف باالستقرار على مسائل االميان .ألقى سلسلة من
وبني انه النيب
احملاضرات ،تناول يف احداها عظمة الرسول صلى هللا عليه وسلم ،وأثىن عليه ّ
احلق ودحض افرتاءات كثرية .مجع تلك احملاضرات يف كتابه املشهور «االبطال» .اوصى
بتوزيع ثرواته اىل الطالب الفقراء ،وايداع مكتبته يف جامعة هارفرد االمريكية .ترك آثاراً عميقة
يف ثقافة االنكليز ونظرهتم اىل العامل(باختصارمن LUGAT YENIعن دائرة املعارف الرتكية).
2جوهان فولف جانج فون ( )1912 - 1701كاتب وشاعر وروائى وناقد أملاين .ولد يف
اسرة ثرية وتعلم الالتينية واليونانية وااليطالية واالنكليزية والعربية وحصل الفرنسية عام ،1مث
انتقل اىل مدينة ليبزنج لتعلم احلقوق مث انصرف اىل التأليف مث توىل مناصب قضائية وادارية
ووضع خالل ذلك مسرحيات وكتباً تناول فيها تأمالته يف احلياة.
احملققون اآلن مستفيدون جبهة من تلك الدائرة .مث قال الناقل :ملا طلعت حقائق القرآن
فح َّق له؛ اذ الحيصل شئ من
اجلوالة وابتعلت سائر االديانُ ، الكرمي صارت كالنار ّ
سفسطيات النصارى وخرافات اليهود .فص ّدق ذلك الفيلسوف مآل (فأتوا بسورة من مثله..
فان مل تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار).
ِ
مفسره -أعين احلديث -امنا اخذ من كل فن فذلكة،
فان قلت :ان القرآن الكرمي وكذا ّ
ٍ
فذلكات كثرية ممكنة لشخص. واحاطةَ
قيل لك :ان الفذلكة حبسن االصابة يف موقعها املناسب ،واستعماهلا يف أرض منبتة مع أمور
تشف كالزجاجة عن ملكة تامة يف
مرموزة غري مسموعة -قد اشرنا اليها يف النكتة الثانية ّ -
ذلك الفن واطالع تام يف ذلك العلم فتكون الفذلكة يف حكم العلم وال ميكن لشخص
أمثال هذه.
ان شخصاً اليتخصص يف فنون كثرية ..وان كالما واحداً يتفاوت من شخصني ،يكون
بالنظر اىل واحد ذهباً واىل اآلخر فحماً ..وان الفنون نتيجة تالحق األفكار وتتكمل مبرور
الزمان ..وان كثرياً من النظريات يف املاضي صارت بديهية اآلن ..وان قياس املاضي على هذا
الزمان قياس مثبط مع الفارق ..وان أهل الصحراء التسرت بساطتهم وصفوهتم احليل
والدسائس اليت ختتفي حتت حجاب املدنية ..وان كثرياً من العلوم امنا يتحصل بتلقني
العادات والوقوعات وبتدريس األحوال لطبيعة البشر باعداد الزمان واحمليط ..وان نور نظر
البشر الينفذ يف املستقبل وال يرى الكيفيات املخصوصة ..وانه كما ان حلياة البشر عمراً
طبيعي ينتهي البتة ..وان للمحيط الزماين واملكاين تأثرياً
ّ طبيعياً ينقطع؛ كذلك لقانونه عمر
عظيماً يف أحوال النفوس ..وان كثرياً من اخلوارق املاضية تصري عادية بتكمل املبادئ ..وان
كالصيب يتدرج.
ّ الذكاء ولو كان خارقاً ال يقتدر على اجياد ف ٍن وتكميله دفعةً بل
ما خاط لك ذلك الزمان من األفكار ،مث انظر يف تلك الصحراء الوسيعة! .فأول ما يتجلى
لعينك :انك ترى انسانا وحيدا ال معني له وال سلطنة يبارز الدنيا برأسه ..ويهجم على
اجل من كرة االرض ..وأخذ بيده شريعة هي كافلة العموم ..ومحل على كاهله حقيقة ّ
لسعادة الناس كافة ..وتلك الشريعة كأهنا زبدة وخالصة من مجيع العلوم االهلية والفنون
بنمو استعداد البشر
احلقيقية ..وتلك الشريعة ذات حياة ال كاللباس بل كاجللد ،تتوسع ّ
ئلت قوانينُها من
وتثمر سعادة الدارين ،وتنظم أحوال نوع االنسان كأهل جملس واحد .فإن ُس ْ
األزيل ونرافق فكر البشر اىل األبد،
اين اىل اين؟ لقالت بلسان اعجازها :جنئ من الكالم ّ
فبعد قطع هذه الدنيا نفارق صورةً من جهة التكليف ولكن نرافق دائما مبعنوياتنا واسرارنا
التعجيزي يف
َّ األمر
فنغذي روحهم ونصري دليلهم ..فيا هذا أفال يتلو عليك ما شاهدت َ
(فأتوا بسورة من مثله ..فان مل تفعلوا ولن تفعلوا)..اخل.
مث اعلم ان آية (وان كنتم يف ريب مما نزلنا)...اخل :تشري اىل ان ناساً -بسبب الغفلة عن
مقصود الشارع يف ارشاد اجلمهور وجهلهم بلزوم كون االرشاد بنسبة استعداد األفكار -
وقعوا يف شكوك وريوب منبعها ثالثة امور:
احدها :اهنم يقولون :وجود املتشاهبات واملشكالت يف القرآن الكرمي ٍ
مناف إلعجازه املؤسس
ووضوح االفادة.
ِ على البالغة املبنية على ظهور البيان
والثالث :اهنم يقولون :ان بعض ظواهر القرآن الكرمي اميل اىل خالف الدليل العقلي فيحتمل
خالف الواقع وهو خمالف لصدقه.
اجلواب -وباهلل التوفيق -ايها املشككون اعلموا! .ان ما تتصورونه سبباً للنقص امنا هو
شواهد صدق على سر اعجاز القرآن الكرمي.
فاعلم! ان ارشاد القرآن الكرمي لكافة الناس ،واجلمهور األكثر منهم عوام ،واألقل تابع
لألكثر يف نظر االرشاد .واخلطاب املتوجه حنو العوام يستفيد منه اخلواص
ويأخذون حصتهم منه ..ولو عكس لبقي العوام حمرومني ،مع ان مجهور العوام ال جيردون
اذهاهنم عن املألوفات واملتخيالت ،فال يقتدرون على درك احلقائق اجملردة واملعقوالت الصرفة
نظرهم على نفساالّ مبنظار متخيالهتم وتصويرها بصورة مألوفاهتم .لكن بشرط ان اليقف ُ
الصورة حىت يلزم احملال واجلسمية او اجلهة بل مير نظرهم اىل احلقائق.
مثال :ان اجلمهور امنا يتصورون حقيقة التصرف االهلي يف الكائنات بصورة تصرف السلطان
الذي استوى على سرير سلطنته .وهلذا اختار الكناية يف (الرمحن على العرش استوى) 1واذا
يق االرشاد
منهج البالغة ويستلزمه طر ُ
كانت حسيات اجلمهور يف هذا املركز فالذي يقتضيه ُ
رعايةَ افهامهم واحرت َام حسياهتم ،ومماشاة عقوهلم ومراعاة أفكارهم .كمن يتكلم مع صيب
فهو يتصىب يف كالمه ليفهمه ويستأنس به .فاألساليب القرآنية يف أمثال هذه املنازل املرعي
فيها اجلمهور تسمى بـ"التنزالت ا ِإلهلية اىل عقول البشر" ،فهذا التنزل لتأنيس اذهاهنم .فلهذا
صور املتشاهبات منظاراً على نظر اجلمهور .أال ترى كيف أكثر البلغاء من االستعارات وضع َ
لتصور املعاين الدقيقة ،أو لتصوير املعاين املتفرقة! فما هذه املتشاهبات اال من أقسام
االستعارات الغامضة ،اذ اهنا صور للحقائق الغامضة.
أما كون العبارة ُمشكالً؛ فإما لدقة املعىن وعمقه ،واجياز االسلوب وعلويته ،فمشكالت
القرآن الكرمي من هذا القبيل ..وإما ِإلغالق اللفظ وتعقيد العبارة املنايف للبالغة ،فالقرآن
الكرمي مربأ منه .فيا أيها املرتاب! أفال يكون من عني البالغة تقريب مثل هذه احلقائق
العميقة البعيدة عن أفكار اجلمهور اىل أفهام العوام بطريق سهل؟ اذ البالغة مطابقة مقتضى
احلال فتأمل..
أما اجلواب عن الريب الثاين ،وهو اهبام القرآن يف حبث تشكل اخللقة على ما شرحته الفنون
اجلديدة:
_____________________
مثال :لو قال القرآن الكرمي" ايها الناس انظروا اىل سكون الشمس 1وحركة األرض واجتماع
اجلمهور إما يف التكذيب واما يف
َ مليون حيوان يف قطرة ،لتتصوروا عظمة الصانع" أل َْوقع
الظاهري -أو غلط احلس -يرى
ّ املغالطة مع أنفسهم واملكابرة معها بسبب ان حسهم
املشاهدة .واحلال ان تشويش االذهان -ال
سطحية األرض ودوران الشمس من البديهيات َ
لتشهي بعض أهل زماننا ٍ -
مناف ملنهاج االرشاد وروح البالغة. سيما يف مقدار عشرة أعصر ِّ
يا هذا! ال تظنن قياس أمثاهلا على النظريات املستقبلة من أحوال اآلخرة ..2اذ احلس
الظاهري ملا مل يتعلق جبهة منها بقيت يف درجة االمكان فيمكن االعتقاد واالطمئنان هبا
فحقها الصريح التصريح هبا .لكن ما حنن فيه ملا خرج من درجة االمكان واالحتمال يف
نظرهم -حبكم غلط احلس -اىل درجة البداهة عندهم فحقه يف نظر البالغة االهبام
واالطالق احرتاما حلسياهتم وحفظاً الذهاهنم من التشويش .ولكن مع ذلك اشار القرآن
الكرمي ورمز و ّلوح اىل احلقيقة ،وفتح الباب لألفكار ودعاها للدخول بنصب امارات وقرائن.
فيا هذا ! ان كنت من املنصفني اذا تأملت يف دستور "كلِّم الناس على قدر عقوهلم" ورأيت
ان أفكار اجلمهور لعدم اعداد الزمان واحمليط ال تتحمل والهتضم التكليف مبثل هذه األمور
-اليت امنا تتولد بنتائج تالحق األفكار -لعرفت ان ما اختاره القرآن الكرمي من االهبام
واالطالق من حمض البالغة ومن دالئل اعجازه.
اما اجلواب عن الريب الثالث ،وهو امالة بعض ظواهر اآليات اىل منايف الدالئل العقلية وما
كشفه الفن:
_____________________
1قد سنح ىل يف املرض بني النوم واليقظة يف والشمس جترى ملستقر هلا اى يف مستقرها،
الستقرار منظومتها ،اى جرياهنا لتوليد جاذبتها النظامة للمنظومة الشمسية ،ولو سكنت
لتناثرت (هذه احلاشية النومية دقيقة لطيفة) -املؤلف.
2اى ال تظنن ان امور اآلخرة واحواهلا الىت هى جمهولة لنا كتلك النظريات الىت يكشف عنها
املستقبل (ت)111 :
ارشاد اجلمهور اىل أربعة اساسات هي :اثبات األصلي يف القرآن الكرمي ُ
ّ فاعلم! ان املقصد
تبعي
فذكر الكائنات يف القرآن الكرمي امنا هو ّ النبوة ،واحلشر ،والعدالةُ ..
الصانع الواحد ،و ّ
1
ذكر
َ امنا بل ، ادي لالستدالل؛ اذ ما نزل القرآن لدرس اجلغرافيا والقوزموغرافيا
واستطر ّ
الكائنات لالستدالل بالصنعة ا ِإلهلية والنظام البديع على النظّام احلقيقي جل جالله .واحلال
ان اثر الصنعة والعمد والنظام يرتاءى يف كل شئ .وكيف كان التشكل فال علينا؛ اذ ال يتعلق
باملقصد األصلي ،فحينئذ ما دام انه يبحث عنها لالستدالل ،وما دام انه جيب كونه معلوما
تأنيس
االرشاد والبالغةُ َ
ُ قبل املدعى ،وما دام انه يستحسن وضوح الدليل ..كيف ال يقتضي
معتقداهتم احلسية ،ومماشاة معلوماهتم األدبية بامالة بعض ظواهر النصوص ،اليها ،ال ليدل
عليها بل من قبيل الكنايات او مستتبعات الرتاكيب مع وضع قرائن وامارات تشري اىل
احلقيقة ألهل التحقيق.
مثال :لو قال القرآن الكرمي يف مقام االستدالل":ايها الناس! تف ّكروا يف سكون الشمس مع
حركتها الصورية ،وحركة األرض اليومية والسنوية مع سكوهنا ظاهراً ،وتأملوا يف غرائب
العمومي بني النجوم ،وانظروا اىل عجائب االلكرتيك واىل االمتزاجات الغري املتناهية
ّ اجلاذب
بني العناصر السبعني ،واىل اجتماع الوف الوف حيوانات يف قطرة ماء لِتعلموا ان هللا على
اشكل بدرجات من املدعى .وإ ْن هذا االّ
اغمض و َ
كل شئ قدير! "..لكان الدليل اخفى و َ
مناف لقاعدة االستدالل .مث ألهنا من قبيل الكنايات ال يكون معانيها مدار صدق وكذب.
أال ترى ان لفظ "قال" ألفه يفيد خفة سواء كان أصله واوا أو قافا أو كافا.
احلاصل :ان القرآن الكرمي ألنه نزل جلميع االنسان يف مجيع األعصار يكون هذه النقط
ادق الثالث دالئل اعجازه .والذي علّم القرآ َن ِ
املعجَز ا ّن نظر البشري النذير وبصريته الن ّق َادة ّ
احلق أغىن
أجل وأجلى وأنفذ من ان يلتبس او يشتبه عليه احلقيقة باخليال ،وان مسلكه ّ و ّ
وأعلى وأنزه وأرفع من ان يدلِّس أو يغالط على الناس!.
_____________________
1علم الفلك.
املسألة السابعة:
اعلم! ان كتب السري والتاريخ قد ذكرت كثرياً من معجزاته احملسوسة ،واخلوارق الظاهرة
التفصيل على
َ املشهورة عند اجلمهور ،وقد فسرها احملققون .فألن تعليم املعلوم ضائع ،اَ َح ْلنا
كتبهم فلنجمل بذكر األنواع:
فاعلم! ان اخلوارق الظاهرة وان كان كل فرد منها آحاديا غري متواتر لكن اجلنس وكثرياً من
األنواع متواتر باملعىن .مث ان انواعها ثالثة:
األول :االرهاصات املتنوعة كانطفاء نار اجملوس ،ويبوسة حبر ساوة ،وانشقاق ايوان كسرى،
النيب عليه الصالة
وبشارات اهلواتف .حىت كأنه يتخيل لالنسان ان العصر الذي ولد فيه ّ
باحلس قبل الوقوع. فبشر بقدومه والسالم صار حساساً ذا كر ٍ
امة ّ
ّ ّ
النوع الثاين :االخبارات الغيبية الكثرية من فتح كنوز كسرى وقيصر ،وغلبة الروم ،وفتح مكة،
املعني واملكان املش ّخص ،فجال يف جوانب
مزق قيد الزمان ّ اجملرد الطيّار ّ
وأمثاهلا .كأن روحه ّ
املستقبل فقال لنا كما شاهد.
النوع الثالث :اخلوارق احلسيَّة اليت أظهرها وقت التح ِّدي والدعوى .كتكلم احلجر ،وحركة
الشجر وشق القمر ،وخروج املاء .وقد قال الزخمشري :بلغ هذا النوع إىل الف .وأصناف من
هذا النوع متواترة باملعىن حىت ان (وانْ َش َّق الْ َق َم ُر) مل يتصرف يف معناه من أنكر القرآن الكرمي
أيضاً.
قيل لك :فإلختالف املطالع ،ووجود السحاب ،وعدم الرتصد للسماء كما يف هذا الزمان،
ولكونه يف وقت الغفلة ،ولوجوده يف الليل ،ولكون االنشقاق آنياً ..اليلزم ان يراه كل الناس
أو أكثرهم .على انه قد ثبت يف الروايات انه قد رآه كثري من القوافل الذين كان مطلعهم
ذلك املطلع.
مث أن رئيس هذه املعجزات هو القرآن املبني املربهن اعجازه جبهات سبع أُشري اليها يف هذه
اآلية.
واذ تفهمت هذه املسائل فاستمع ملا يتلى عليك من نظم اآلىة بوجوهها الثالثة؛ من نظم
اجملموع مبا قبله ،ونظم اجلمل بعضها مع بعض ،ونظم هيئات وقيود مجلة مجلة.
أما النظم األول فمن وجهني:
| األول :انه ملا قال (يا ايها الناس) إلثبات التوحيد -على تفسري ابن عباس -اثبت هبذه
النبوة
نبّوة حممد عليه الصالة والسالم الذي هو من اظهر دالئل التوحيد .مث ان اثبات ّ
ادق وجوه اعجاز القرآن ما يف بالغة نظمه .مث انه
باملعجزات .وأعظم املعجزات هو القرآن .و ّ
اتفق االسالم على ان القرآن ِ
معجز ..االّ ان احملققني اختلفوا يف طرق االعجاز ،لكن
كل اختار جهةً من جهاته .فعند بعض اعجازه :اخباره التزاحم بني تلك الطرق ،بل ٌ
بالغيوب ..وعند بعض :مجعه للحقائق والعلوم ..وعند بعض :سالمته من التخالف
والتناقض ..وعند بعض :غرابة اسلوبه وبديعيته يف مقاطع ومبادئ اآليات والسور ..وعند
بعض :ظهوره من ّامي مل يقرأ ومل يكتب ..وعند بعض :بلوغ بالغة نظمه اىل درجة خارجة
عن طوق البشر .وكذا وكذا ..اخل.
مث اعلم! ان معرفة هذا النوع من االعجاز تفصيال امنا حتصل مبطالعة أمثال هذا التفسري،
وامجاالً يـُ ْعرف بثالث طرق( .كما حققها عبد القاهر اجلرجاين شيخ البالغة والزخمشري
والسكاكي واجلاحظ ).1
_____________________
969 - 779( 1م) عمر بن حبر ،كاتب ولد ومات بالبصرة ،كان من اسرة فقرية مات ابوه
وهو صغري فاضطر اىل احرتاف بيع اخلبز والسمك اىل جانب مواصلة التعليم يف الكتاب
واملسجد واحللقات واالطالع على كل ما تقع عليه يداه .ألف اكثر من ( )194كتاباً اشهر
كتبه " احليوان" و "البيان والتبيني" و" البخالء".
والطريق الثاين :هو ان اهل العلم والتدقيق واهل التنقيد الذين يعرفون خواص الكالم ومزاياه
ولطائفه تأملوا يف القرآن سورًة سورًة ،وعشراً عشراً ،وآيةً آيةً ،وكلمةً كلمةً؛ فشهدوا بانه
جامع ملزايا ولطائف وحقائق الجتتمع يف كالم بشر .فهؤالء الشهداء الوف الوف .والذي
حتوالً عظيما ،واسس ديانة
يدل على صدق شهادهتم هو ان القرآن أوقع يف العامل االنساين ّ
شب ،وكلما واسعة ،وادام على وجه الزمان ما اشتمل عليه من العلوم .فكلما شاب الزما ُن ّ
تكرر حال .فاذاً (ان هو اال وحي يوحى) .1
والطريق الثالث 0 :كما حققه اجلاحظ :هو ان الفصحاء والبلغاء مع شدة احتياجهم اىل
النيب عليه السالم ،ومع شدة حقدهم وعنادهم له تركوا املعارضة باحلروفإبطال دعوى ّ
ِ
األطول ِ
األصعب ألسهل ،والتجأوا اىل املقارعة بالسيوف الطر ِيق األقرب وا
َ األسلم و َ
َ يق
الطر َ
املشكوكة العاقبة الكثرية املخاطر؛ وهم بدرجة من الذكاء
_____________________
1
وتكرب من
اليافوخ :املوضع الذى يتحرك من رأس الطفل ،واملقصود هنا :من عال قدره ّ
البلغاء.
السياسي ،ال ميكن ان خيفى عليهم التفاوت بني هذين الطريقني .فمن ترك الطريق األول لو
وروحه يف املهالك فهو إما
امكن -مع انه أشد إبطاال لدعواه -واختار طريقاً أوقع مالَه َ
سفيه ،وهو بعيد ممن ساسوا العامل بعد ان اهتدوا ..وإما انه أحس من نفسه العجز عن
السلوك يف الطريق األول فاضطر للطريق الثاين.
ناس لتحريك أعصاهبم هلا .ولو طمعوا لفعلوا لشدةامكنت لطمع فيها ٌ
ْ قيل لك :لو
احتياجهم .ولو عارضوا لتظاهرت للرغبة وكثرة األسباب للظهور .ولو تظاهرت لوجد من
يلتزمها ويدافع عنها ويقول :انه قد عورض ال سيما يف ذلك الزمان .ولو كان هلا ملتزمون
ومدافعون ولو بالتعصب الشتهرت الهنا مسألة مهمة .ولو اشتهرت لنقلتها التواريخ كما
نقلت هذيانات مسيلمة بقوله( :الفيل ما الفيل وماادراك ما الفيل صاحب ذَنَب قصري
وخ ْرطوم طويل).
ُ
فان قلت :مسيلمة كان من الفصحاء فكيف صار كالمه َم ْسخرة وأضحوكة بني الناس؟
قيل لك :ألنه قوبل مبا فاقه بدرجات كثرية .أال ترى ان شخصا ولو كان حسناً اذا قوبل
بيوسف عليه السالم لصار قبيحاً ولو كان مليحا .فثبت ان املعارضة الميكن؛ فالقرآن
معجز.
فان قلت :للمرتابني كثري من االعرتاضات والشكوك على تراكيب القرآن وكلماته مثل (إن
هذان) 1و (الصابئون) 2و (الذي استوقد ناراً) وامثاهلا من االعرتاضات النحوية؟
قيل لك :عليك خبامتة مفتاح السكاكي فانه ألقمهم احلجر بـ"أفال يتفطنون ان من كرر كالمه
يف زمان مديد مع انه فصيح باالتفاق كيف الحيس بالغلطات اليت تظهر لنظر هؤالء
احلمقاء"؟.
_____________________
ومن وجوه النظم ايضا ان القرآن ملا اثىن على نفسه جبملة (ذلك الكتاب الريب فيه هدى
للمتقني) مث استتبع مدحه مدح املؤمنني ،مث استطرد مدح املؤمنني ذم الكافرين واملنافقني ،مث
استعقب األمر بالعبادة والتوحيد ..عاد القرآن اىل األول بالنظر اىل (الريب فيه) أي :أما
القرآن فليس قابال للشك والريب؛ فما ريوبكم االّ من مرض قلوبكم وسقامة طبعكم .كما:
س ِمن رم ٍد ويـْنـ َفر طَعم اْ ِ
ملاء ِم ْن َس َق ٍم َّم ِ ْ َ َ َ ُ ُ ْ ُ ض ْوءُ الش ْ
قَ ْد يـُْن َك ُر َ
وأما نظم (فأتوا بسورة من مثله) فاعلم! ان هذه جزاء الشرط ،وجزاء الشرط يلزم ان يكون
الزماً لفعل الشرط .وملا كان األمر تعجيزيا استلزم تقدير "تشبثوا" .وملا كان األمر انشاء
واالنشاء اليصري الزما ،يلزم اَن يكون الزم األمر جزاء .وهو الوجوب الذي هو من أصول
معاين األمر ،مث وجوب التشبث أيضاً اليظهر لزومه للريب فاقتضى تقدير مجل مطوية حتت
اجياز اآلية .فالتقدير "ان كنتم يف ريب انه كالم هللا جيب عليكم ان تتعلموا اعجازه ،فان
وحممد عليه السالم بشر ،وان أردمت ظهور اعجازه ِّ
فجربوا املعجز اليكون كالم البشر ّ
أنفسكم ليظهر عجزكم ،فيجب عليكم التشبث باتيان سورة من مثله".
أحدها :اهنم يقولون عجزنا ال يدل على عجز البشر ..فافحمهم بقوله( :وادعوا شهداءكم)
أي كرباءكم ورؤساءكم.
والثاين :اهنم يزعمون :انّا لو عارضنا فمن يلتزمنا ويدافع عنا؟ فألقمهم احلجر بانه ما من
مسلك االّ وله متعصبون ولو عارضتم لظهر لكم شهداء يذبّون عنكم.
وأما نظم (فان مل تفعلوا) فظاهر ،اذ التقدير "فان جربتم فانظروا فان مل تقدروا ظهر عجزكم
ومل تفعلوا".
وأما نظم (ولن تفعلوا) فكأنه ملا قال مل تفعلوا ..قيل من جانبهم :عدم فعلنا فيما مضى
اليدل على عجز البشر فيما سيأيت .فقال :ولن تفعلوا ،فرمز اىل االعجاز بثالثة اوجه.
احدها :االخبار بالغيب وكان كما اخرب .أال ترى ان املاليني من الكتب العربية مع التمايل
اىل تقليد اسلوب التنزيل وكثرة املعاندين لو فتشتها؛ مل يوافقه شئ منها .كأن نوعه منحصر
يف شخصه .فأما هو حتت الكل وهو باطل باالتفاق .فما هو اال فوق الكل.
والوجه الثاين :ان القطع واجلزم بعدم فعلهم مع التقريع عليهم وحتريك أعصاهبم يف هذا املقام
املشكل ويف هذه الدعوى العظيمة عالمة صادقة على انه واثق امني مطمئن مباله ومقاله.
والوجه الثالث :ان القرآن كأنه يقول :اذا كنتم امراء الفصاحة وأشد الناس احتياجاً اليها ومل
تقتدروا مل يقتدر عليه البشر .وكذا فيه اشارة اىل ان نتيجة القرآن اليت هي االسالمية كما مل
يقتدر على نظريها الزمان املاضي؛ كذا يعجز عن مثلها الزمان املستقبل.
وأما نظم (فاتقوا النار اليت وقودها الناس واحلجارة) فاعلم! ان تعقيب "ان مل تفعلوا"
بـ"فاتقوا" يقتضي يف ذوق البالغة تقديراً هكذا :ان مل تفعلوا ولن ..ظهر انه معجز ،فهو
كالم هللا ،فوجب عليكم االميان به وامتثال أوامره ...ومن األوامر يا ايها الناس اعبدوا لتتقوا
النار فاتقوا النار .فاوجز فاعجز.
وأما نظم (اليت وقودها الناس واحلجارة) فاعلم! ان املقصد من (فاتقوا) هو الرتهيب ،ومعىن
فهوله بـ(وقودها الناس) اذ النار اليت حطبها كان انسانا الرتهيب امنا يؤكد بالتهويل والتشديد ّ
احلجر أشد تأثرياً ..مث أشار اىل
أخوف وأدهش ..مث شدده بعطف احلجارة؛ اذ ما حترق َ
الزجر عن عبادة األصنام :أي لو مل تتمثلوا أمر هللا ،وعبدمت أحجاراً لدخلتم ناراً تأكل العُبّاد
ومعبوداهتم.
وأما نظم (اعدت للكافرين) فهو اهنا توضيح وتقرير لزوم جزاء الشرط لفعله :أي هذه املصيبة
ليست كالطوفان وسائر املصائب اليت التصيب الظاملني خاصة بل تعم األبرار واألخيار؛ فامنا
الكفر السبيل للنجاة اال امتثال القرآن.
جيرها ُ
هذه ختتص باجلانني ّ
مث اعلم! ان (اُع ّدت) اشارة اىل ان جهنم خملوقة موجودة اآلن ال كما زعمت املعتزلة ..مث ان
مما يدلك ويفيد حدسا لك على أبدية جهنم انك اذا تفكرت يف العامل بنظر احلكمة ترى
النار خملوقة عظيمة مستولية غالبة ،كأهنا عنصر أساس يف العلويات والسفليات .وتفهمت
وجود رأس عظيم ومثرة عجيبة تدلت اىل األبد .أال ترى ان من رأى عرقا ممتداً تفطن لوجود
بطيخ مثال يف رأسه؛ وكذلك من رأى اخللقة النارية تفطن ِإلنتهائها اىل حنظلة جهنم .وكذا
من رأى النعم واحملاسن واللذائذ حيدس بأن مصبها وخملصها وروضها اجلنة.
نعني موضعها.
قيل لك :حنن معاشر أهل السنة واجلماعة نعتقد وجودها اآلن لكن ال ّ
فان قلت :ان ظواهر األحاديث تدل على اهنا حتت األرض .ويف حديث :ان نارها أشد
أحر من نار الدنيا مبائيت دفعة .وان الشمس أيضا تدخل يف جهنم؟
و ّ
فان قلت :ما يف جوف األرض ومظروفها صغري فكيف تسع جهنم اليت تسع السموات
واالرض؟
قيل لك :نعم باعتبار املِلك واملطويتية وان كانت مظروفة لألرض لكن بالنظر اىل العامل
األُخروي بالغة يف العظمة اىل درجة تسع الُوفا من أمثال هذه األرض .بل ان عامل الشهادة
وسرها
كحجاب مان ٍع الرتباط تلك النار بسائر أغصاهنا .فما يف جوف األرض االّ مركزها ّ
امثرت أغصا ُهنا أو قلب عفريتها .وأيضاً ال تستلزم التحتية اتصاهلا باألرض ،اذ شجرةُ ِ
اخللقة ْ
بني األغصان اين أرضني أخرى .فما حتت الثمرة يشمل ما َأرضنا و َ النجوم و َ
القمر و َ
الشمس و ََ
ٍ
حديث جهنم ال تُـَرُّد .ويف
سافرت ُ
ْ فأين
فملك هللا تعاىل واسع ،وشجرة اخللقة منتشرة َ كانُ .
َّم َمطْ ِويَّةٌ) فيمكن ان تكون بيضة ألرضنا الطيارة مىت ميتزق حجاب امللك ينفتقن ه ج َّ
ن (اِ
َ َ َ
2
ألهل العصيان .وحيتمل ان ماشبط أهل االعتزال أسناهنا ِ
تلك البيضة وتتظاهر هي كاشرةً َ
وأوقعهم يف الغلط بعدم وجودها اآلن امنا هو هذه املطويتية.
_____________________
1عن اىب هريرة رضى هللا عنه قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :اشتكت النار اىل
نفس يف الشتاء ونفس يف
رهبا ،فقالت" :يا رب! أكل بعضي بعضاً ،فجعل هلا نفسنيٌ .
الصيف .فش ّدة ما جتدون من الربد من زمهريرها ،وشدة ما جتدون من احلر من مسومها " رواه
البخارى -كتاب االميان ،ابن ماجه 0111والرتمذي 2912وعن اىب هريرة رضى هللا عنه
ان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال" :هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم " رواه امحد
( 160/20الفتح الرباىن) واورده اهليثمى يف اجملمع 197/1وقال :رواه امحد ورجاله رجال
الصحيح.
2االظهر :شيط.
فاعلم! ان مجلة (وان كنتم يف ريب مما نزلنا على عبدنا) الواو فيها بناء على املناسبة بني
املتعاطفني تومئ اىل :تقدير "كما علّمكم القرآن" ..وايراد (اِ ْن) الرتددية يف موضع "اذا" اليت
هي للقطع مع ان ريبهم جمزوم به اشارة اىل انه ألجل ظهور أسباب زوال الريب شأنه ان
يكون مشكوك الوجود بل من احملال يفرض فرضا .مث ان الشك يف (إ ْن) بالنظر اىل االسلوب
ال بالقياس اىل املتكلم تعاىل ..وايراد (كنتم يف ريب) بدل ارتبتم مع انه اقصر اشارة اىل ان
منشأ الريب طبعهم املريض وكوهنم .وظرفية الريب هلم مع انه مظروف لقلبهم امياء اىل ان
ظلمة الريب انتشرت من القلب فاستولت على القالب ،فاظلم عليه الطرق ..وتنكري (ريب)
أي نوع من أنواع الريب ترتابونه فاجلواب واحد وهو :ان هذا معجز وحق. للتعميم أيّ :
السطحي خطأ فال يلزم لكل ريب جواب خاص .أال ترى ان من رأى ّ فتخطئتكم بالنظر
رأس عني وذاقه عذبا فراتا ال حيتاج اىل ذوق كل جدول وفرع قد تشعب منه ..و"من" يف
(مما نزلنا) امياء اىل تقدير لفظ "يف شئ مما" ولفظ (نزلنا) اشارة اىل ان منشأ شبهتهم هو
(نزلنا) الدال على النزول تدرجيا على صفة النزول .فاجلواب القاطع اثبات النزول فقط .وايثار ّ
"انزلنا" الدال عليه دفعة اشارة اىل ان ما يتحججون به قوهلم :لوال انزل عليه دفعة .بل على
مقتضى الواقعات تدرجياً نوبة نوبة جنماً جنماً سورة سورة ..وايثار العبد على "النيب" و "حممد"
اشارة اىل تعظيم النيب ،وامياء اىل علو وصف العبادة ،وتأكيد ألمر "اعبدوا" ورمز اىل دفع
النيب عليه السالم أعبد الناس وأكثرهم تالوة للقرآن الكرمي .فتفكر!. ٍ
أوهام بان ّ
وان مجلة (فأتوا بسورة من مثله) األمر يف (فأتوا) للتعجيز ،وفيه التح ِّدي والتقريع والدعوة اىل
املعارضة والتجربة ليظهر عجزهم ..ولفظ (بسورة) اشارة اىل هناية افحام ،وشدة تبكيت،
وغاية إلزام؛ إذ:
ان يقال :فأتوا مبثل متام القرآن حبقائقه وعلومه واخباراته الغيبية مع نظمه العايل من شخص
ّامي !
ان مل تفعلوا كذا فأتوا هبا مفرتيات لكن بنظم بليغ مثله.
ورابعتها:
انه ان مل يتسري لكم هذا أيضاً فأتوا مبقدار سورة مطلقا ولو أقصر كـ انا اعطيناك من شخص
امي مثله.
ّ
وسادستها:
انه ان تعسر عليكم هذا أيضاً فليعاون بعضكم بعضا على اإلتيان.
وثامنتها:
انه ان مل تفعلوا فاستعينوا بكافة ا ِإلنس واجلن واستمدوا من جمموع نتائج تالحق افكارهم من
آدم اىل قيام الساعة ،ونتائج افكارهم هي مابني ايديكم من هؤالء الكتب على االسلوب
العريب مع شوق التقليد وعناد املعارضة؛ ففضالً عن أهل التحقيق لو تصفحها َم ْن له ادىن
مسكة ولو جاهل لقال :ليس فيها مثله ،فإما هو حتت الكل وهو باطل باالتفاق واما فوق
مر الزمان، الكل وهو املطلوب كما مر آنفاً .نعم ،مل يعارض يف ثالثة عشر عصراً هكذا ّ
مير اىل يوم القيامة.
وهكذا ّ
وتاسعتها:
ان يقال ال تتحججوا بان ليس لنا شهداء وانتم ال تشهدون لنا .أال فادعوا شهداءَكم
واملتعصبني لكم فلرياجعوا وجداهنم هل يتجاسرون على تصديق دعواكم املعارضة.
واذا تفهمت هذه الطبقات فانظر اىل القرآن كيف أعجز بان أوجز فأشار اىل هذه املراتب،
ِِ
فألقمهم احلجر وأرخى هلم العنان .مث اعلم ان عجز البشر عن معارضة أقصر سورة انيّتُهُ
بديهية .واما ملِيَّتُهُ فقيل هي :ان هللا تعاىل صرف القوى عن املعارضة .واملذهب األصح يف
اللِّ ِميَّة ما عليه عبدالقاهر اجلرجاين والزخمشري والسكاكي .وهو :ان قدرة البشر ال تصل اىل
درجة نظمه العايل .مث ان السكاكي اختار ان االعجاز ذوقي اليعرب عنه واليشرح بل يذاق
ذوقا .وأما صاحب دالئل االعجاز فاختار انه ميكن التعبري عنه .وحنن على مذهبه يف هذا
البيان.
وايثار (سورة) على جنم أو طائفة أو نوبة اشارة اىل الزامهم يف منشأ شبهتهم وهي :لوال انزل
عليه دفعة واحدة؟ أي فهاتوا انتم ولو بنوبة فذة ..وأيضاً امياء اىل تضمن تسوير التنزيل سورة
سورة لفوائد مجة بيّنها الزخمشري ،واىل تضمن هذا االسلوب الغريب للطائف ..ولفظ (من
املنزل ،أو من مثل املنزل عليه .اعلم! ان حق العبارة على األول
مثله) فيه معنيان أي مبثل َ
"مثل سورة منه" لكن عدل اىل (من مثله) لالمياء اىل مالحظة االحتمال الثاين ،أي امنا
تكون معارضتكم مبطلة لدعواه لو جاءت من مثله يف عدم التعلم ..وكذا اشارة اىل ان
املعارضة امنا تبطل االعجاز لو كان املعارض به من جمموع مثل ..وكذا رمز اىل توجيه
االذهان اىل امثال القرآن يف النزول من الكتب السماوية ليوازن ذهن السامع بينها فيتفطن
لعلوه.
وان مجلة (وادعوا شهداءكم من دون هللا) ايثار "ادعوا" فيها على "استعينوا" او "استمدوا"
ويذب عنهم اليفقدهم بل حاضر ال حيتاجون اال اىل ندائه ..ولفظ امياء اىل ان من يلبيهم ّ
"شهداء" جامع لثالثة معان :اي كرباءكم يف الفصاحة ..ومن يشهد لكم ..وآهلتكم .فنظراً
اىل األول إلزام هلم ،يقطع حتججهم بان عدم قدرتنا اليدل على عدم قدرة كربائنا .ونظراً إىل
الثاين افحام هلم ،يقطع تعللهم بأن ليس لنا شهداء بانه ال مسلك االّ له ذابون وشهداء.
ونظراً اىل الثالث تبكيت هلم وهتكم هبم بان اآلهلة اليت ترجون منها النفع ودفع الضر كيف
يهمكم؟ ..واضافة "شهداء" اىل "كم" املفيدة لالختصاص التعينكم يف هذا األمر الذي ّ
تقوي عضد املعىن األول :بان الكرباء حاضرون معكم ،وبينكم اختصاص لو اقتدروا
لعاونوكم البتة .وتصل جناح املعىن الثاين بانا نقبل شهادة من يلتزمكم ويتعصب لكم فاهنم
أيضا ال
وان مجلة (ان كنتم صادقني) اشارة اىل قوهلم :لو شئنا لقلنا مثل هذا ..وكذا تعريض بانكم
لستم من أهل الصدق اال ان يفرض فرضا ،بل من أهل السفسطة ،ما وقعتم يف الريب من
طريق طلب احلق بل طلبتم فوقعتم فيه ..مث ان جزاء هذا الشرط حمصل ما قبله أي فافعلوا.
أما مجلة (فان مل تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار) اىل آخره .فاعلم! ان (ان كنتم صادقني)
احتجاج القرآن عليهم بقياس استثنائي استثىن نقيض التايل النتاج نقيض املقدم.
تلخيصه :ان كنتم صادقني تفعلوا املعارضة وتأتوا بسورةٍ لكن ما تفعلون ولن تفعلوا ،فانتج
النيب عليه السالم صادقا فالقرآن معجز ،فوجب فلم تكونوا صادقني فكان خصمكم وهو ّ
عليكم االميان به لتتقوا من العذاب ...انظر كيف اوجز التنزيل فاعجز .مث انه ذكر موضع
استثناء نقيض التايل وهو "لكن ماتفعلون" لفظ (ان مل تفعلوا) مشرياً بتشكيك "ان" اىل
جماراة ظنهم ،وبالشرطية اىل استلزام نقيض التايل لنقيض املقدم .مث ذكر موضع النتيجة وهي
نقيض املقدم أعين فلم تكونوا صادقني علة الزم الزم الزمها وهي قوله (فاتقوا النار) لتهويل
الرتهيب والتهديد .1
_____________________
أما (ان مل تفعلوا) املاضي بالنظر إىل "مل" واملستقبل بالقياس إىل "ان" فلتوجيه الذهن إىل
املذهبة أتساويه أو تدانيه أو
ماضيهم كأنه يقول هلم" :أنظروا إىل خطبكم املزيّنة ومعلقاتكم ّ
تقع قريبا منه؟".
أما (ولن تفعلوا) فاعلم! ان التأكيد والتأبيد يف (لن) امياء اىل القطعية وهي اشارة اىل ان
القائل مطمئن ج ّدي ،الريب له يف احلكم .وهذا رمز اىل ان ال حيلة ..أما (فاتقوا) بدل
"جتنبوا" فلالمياء اىل ما ناب عنه اجلزاء من آمنوا واتقوا الشرك الذي هو سبب دخول النار..
أما تعريف (النار) فللعهد أي النار اليت عهدت واستقرت يف أذهان البشر بالتسامع عن
األنبياء من آدم اىل اآلن ..وأما توصيفها بـ(اليت) املوصولة مع ان من شأهنا ان تكون معلومة
ّاوالً ،فألجل نزول (ناراً وقودها الناس واحلجارة) 1قبل هذه اآلية فاملخاطبون قد مسعوا تلك،
فاملوصولية يف موقعها ..وأما وقودها الناس واحلجارة فالغرض كما مر آنفاً الرتهيب ،والرتهيب
فهول بلفظ "الناس" كما قرع به ،وشدد "باحلجارة" كما وبخ هبا. يؤكد بالتهويل والتشديد ّ
أي ماترجون منه النفع والنجاة وهو االصنام يصري آلة لتعذيبكم.
واما مجلة (اعدت للكافرين) فاعلم! ان املوضع موضع "اعدت لكم" لكن القرآن يذكر
الفذلكة والقاعدة الكلية يف األغلب يف آخر اآليات ليشري اىل كربى دليل احلكم؛ اذ اصل
الكالم" :اعدت لكم ان كفرمت ألهنا اع ّدت للكافرين" .فلهذا اقيم املظهر مقام املضمر..
وأما ماضية (اع ّدت) فاشارة كما مر اىل وجود جهنم اآلن.
_____________________
أما األول :فاعلم! ان ملآهلا ارتباطات متفاوتة مع اآليات السابقة ،وخطوطا ممتدة باالختالف
اىل اجلمل السالفة .أال ترى ان القرآن الكرمي ملا أثىن يف رأس السورة على نفسه وعلى املؤمنني
باالميان والعمل الصاحل كيف أشار هبذه اآلية اىل نتيجة االميان ومثرة العمل الصاحل ..وكذا ملا
ذم الكفار وشنع على املنافقني وبني طريقهم املنجر اىل الشقاوة األبدية ّلوح هبذه اآلية اىل
نور السعادة األبدية ،فأراهم ليزيدوا حسرة على حسرة بفوات هذه النعمة العظمى ..مث ملا
كلف بـ (يا ايها الناس اعبدوا) -مع ان يف التكليف مشقة وكلفة وترك اللذائذ العاجلة -
فتح هلم ابواب اآلجلة؛ فاراهم هبذه اآلية تطمينا لنفوسهم وتأمينا هلم ..مث ملا اثبت التوحيد
-الذي هو أول اركان االميان الذي هو أساس التكليف -صرح يف هذه اآلية بثمرة التوحيد
النبوة -ثانية أركان
وعنوان الرمحة وديباجة الرضاء بإراءة اجلنة والسعادة األبدية ..مث ملا أثبت ّ
االميان -باالعجاز بقوله (وان كنتم يف ريب)..اخل ،أشار هبذه مع املطوي قبلها اىل وظيفة
النيب وهي :ا ِإلنذار والتبشري بلسان القرآن ..مث ملا اوعد وأرهب وانذر يف
النبوة ومكلفية ّ
ّ
وبشر هبذه اآلية بسر ان التضاد مناسبة ..وأيضاً ان الذي يُطيع
سابقتها القريبة وعد ورغب ّ
1
وحس
ّ اخلوف حس
ّ هتييج
ُ العقل؛ حلكم مطيعا ن الوجدا ويصري
ّ االطاعة ويدمي ، النفس
َ
الشوق معا جبمع الرتغيب والرتهيب؛ اذ حكم العقل وامره موقّت فالبد من وجود حمرك آمر
دائمي يف الوجدان ..وكذا ملا أشار بالسابقة اىل احد شقي اآلخرة كمل هبذه اآلية الشق
ّ
اآلخر وهو منبع السعادة االبدية ..وكذا ملا لوح هناك بالنار اىل جهنم صرح هنا باجلنة.
_____________________
مث اعلم! ان اجلنة وجهنم مثرتان تدلّتا اىل االبد من شجرة اخللقة ،ونتيجتان لسلسلة
الكائنات ،وخمزنان النصباب الكائنات ،وحوضان للكائنات اجلارية اىل األبد .نعم! تتمخض
الكائنات وختتلط حبركة عنيفة فتتظاهر اجلنة وجهنم فتمتلئان.
تدق
وايضاحه :هو ان هللا جل جالله ملا اراد ان يبدع عاملاً لالبتالء واالمتحان حلكم كثرية ّ
وحتوله حلِ َكم؛ مزج الشر باخلري وادرج الضر يف النفع، عن العقول ،واراد تغيري ذلك العامل ّ
وادمج القبح يف احلسن؛ فوصلها جبهنم وأمدها هبا .وساق احملاسن والكماالت تتجلى يف
اجلنة .وأيضاً ملا اراد جتربة البشر ومسابقتهم ،وأراد وجود اختالفات وتغريات فيهم يف دار
االبتالء خلط األشرار باألبرار .مث ملا انقضى وقت التجربة وتعلقت االرادة بأبديتهم جعل
ِ
تلطيف (و ْامتَ ُازوا اْليَـ ْوَم اَيـُّ َها الْ ُم ْج ِرُمو َن) .1وصري األبرار مظهر
األشرار مظهر خطاب َ
دين) 2وملا امتاز النوعان تص ّفت الكائنات فانسلّت مادة الضر ِ
وها َخال َوتشريف (فَ ْاد ُخلُ َ
والشر عن عنصر النفع واخلري والكمال فاختارت جانبا.
واحلاصل :انه لو امعن النظر يف الكائنات صودف فيها عنصران أساسان وعرقان ممتدان اذا
حتصال وتأبدا صارا جنة وجهنم.
مـقـدم ـ ــة
هذه اآلية مع ما قبلها اشارة اىل القيامة واحلشر ،فمدار النظر يف هذه املسألة أربع نقط:
والثانية :وقوعه..
والرابعة :وقوعه..
_____________________
أج ٌل
طبيعي ..فله َ
ّ فاعلم! ان الشئ الداخل حتت قانون التكامل ففيه نشوء ومناء ..فله عمر
فطري؛ الخيلص من حكم املوت؛ بدليل استقراء أكثر أفراد األنواع .فكما ان االنسان عامل
ّ
صغري ال خالص له من اخلرابية؛ كذلك العامل انسان كبري المناص له من املوت البتة .وكما
ان الشجر نسخة من الكائنات يعقبها التخريب واالحنالل؛ كذلك سلسلة الكائنات من
خارجي
ّ عرض عاصفةٌ او مرض
شجرة اخللقة المناص هلا من يد التخريب للتعمري .ولئن مل يَ ْ
جئ بالضرورة وعلى كل حال
خيرهبا صانُعها قبلَه لَيَ ُالفطري ،ومل ّ
ّ باالرادة األزلية قبل العمر
ِ
ت _ واذا النجوم انكدرت) .1و (اذا س ُك ِّوَر ْ
الش ْم ُ
يوم يتحقق فيه (اذا ّ
الفين ٌ
حىت باحلساب ّ
السماء انشقت) .2فيتظاهر يف الفضاء سكرات االنسان الكبري خبرخرة 1عجيبة وصوت
هائل.
أما وقوعه:
وحتوِل ِ
تغري وتب ّدل ّ
فبامجاع كل االديان السماوية ،وبشهادة كل فطرة سليمة ،وباشارة ّ
الكائنات .وان شئت ان تتصور سكرات العامل وخرخرته فاعلم! ان الكائنات قد ارتبطت
علوي دقيق ،واستمسكت بروابط عجيبة فاذا صار جسم من االجرام العلوية مظهر بنظام ّ
خطاب " ُكن" او "اُ ْخ ُرج َع ْن ِ ْحم َ
ورك" ترى العامل يشرع يف السكرات ،وترى النجوم تتصادم،
وتتالطم االجرام فرتعد وتصيح يف الفضاء الغري املتناهي ،ويضرب بعض وجه بعض ،وترمي
حمص ُل ماليني َمرامي مدافع بشرر كأرضنا هذه بل أكرب .فكيف انت خبرخرة ٍ
موت صوُهتا َّ
رصاصتُها الصغرى أكرب من األرض؟ ..فبهذا املوت تتمخض اخلِلقة وتتميز الكائنات فتمتاز
جهنم بعشريهتا ومادهتا ،وتتجلى اجلنة جامعة لطائفتها مستمدة من عناصرها.
قيل لك :ان احلكمة والعناية االزليتني ملا اقتضتا التجربة واالبتالء ،والنشوء والنماء يف
االستعدادات ،وظهور القابليات ،وظهوراحلقائق النسبية اليت تصري يف اآلخرة
_____________________
حقائق حقيقية ،ووجود مراتب نسبية ،وحكم كثرية التدركها العقول؛ جعل الصانع جل
املضار ممزوجة باملنافع ،والشرور متداخلة بني اخلري ،واملقابح جمتمعة
الطبائع خمتلطةً ،و ّ
َ جالله
يد القدرة االضداد ختمرياً فصريت الكائنات تابعة لقانون التبدل والتغري فخمرت ُ
مع احملاسنّ ،
والتحول والتكامل .فلما انسد ميدان االمتحان وانقضى وقت االبتالء وجاء وقت احلصاد؛
أراد الصانع جل جالله بعنايته تصفية االضداد املختلطة للتأبيد ،ومتييز أسباب التغري ،وتفريق
مواد االختالف؛ فتحصل جهنم جبسم حمكم مظهراً خلطاب (وامتازوا) وجتلى اجلنة جبسم
مؤبد مشيد مع أساساهتا ..بسر ان املناسبة شرط االنتظام ،والنظام سبب الدوام .مث انه
تعاىل اعطى بقدرته الكاملة لساكين هاتني الدارين األبديتني وجوداً مشيداً السبيل لالحنالل
والتغري اليه ،على ان التغري هنا املنجر اىل االنقراض امنا هو بتفاوت النسبة بني الرتكيب وما
يتحلل .وأما هناك فالستقرار النسبة جيوز التغري بال اجنرار اىل االحنالل.
العقلي فراجع اىل ما بيّنا بقدر الطاقة يف تفسري (وباآلخرة هم يوقنون) حاصله :ان النظام
ّ أما
والرمحة والنعمة امنا تكون نظاماً ورمحة ونعمة ان جاء احلشر..
للعقلي
ّ النقلي مع الرمز
النقلي فقول كل االنسان مع حكم القرآن املعجز بوقوعه .وأما ّ واما ّ
فراجع هذا املوضع من تفسري فخر الدين الرازي 2فانه ع ّدد اآليات املثبتة للحشر.
واحلاصل :انه ما من متأمل يف نظائ ِر وأشباهِ و ِ
أمثال احلشر يف كثري من االنواع االّ ويتحدس
من تفاريق االمارات اىل وجود احلشر اجلسماين والسعادة األبدية.
_____________________
1حيث ان صحة الدالئل النقلية -القرآن واحلديث -مرتبطة بصحة النبوة وصدقها ،فإذا
ما اثبتت النبوة ايضاً بالدالئل النقلية ،يلزم احملال وهو الدور والتسلسل ،لذا أشار القرآن...
اخل (ت)61 :
1241 - 1101( 2م) متكلم وفيلسوف ومفسر القرآن ،لقب بشيخ االسالم وانقطع يف
اواخر ايامه للوعظ وتالوة القرآن منصرفاً عن اجملادالت الكالمية ،له مصنفات كثرية امهها
«مفاتيح الغيب» تفسري للقرآن الكرمي و«لباب االشارات» و«شرح ديوان سقط الزند» الىب
العالء املعري.
أما نظم مجلها بعض مع بعض ،فاعلم! ان السلك الذي نُظم فيه جواهر مجل هذه اآلية
وسلسلتها هي :ان السعادة األبدية قسمان:
والثاين :السعادة اجلسمانية وهي باملسكن واملأكل واملنكح ومتممها ومكملها مجيعاً هو
الدوام واخللود.
1
مث ان أقسام االول مستغنية عن التفصيل أو غري قابلة.
وأما أقسام الثاين :فاملسكن ،ألطفه ما جيري املاء بني نباتاته .أال ترى ان ملهم الشعر
ومفيض العشق يف القلوب امنا هو خشخشة 2املاء وخريره وكشكشة 1االهنار وصفريها
حتت القصور وبني البساتني..
واملأكل الرزق وألنه تفكه يكون كمال لذته فيما حصل به األُلفة واالنسية ،وألنه تفكه يكون
علو النعمة وتفوقها على
كمال لذته يف التجدد من جهة؛ اذ حبكم املألوفية يُعرف درجة ّ
نظريها .وكذا من مكمالت اللذة ان يُعرف انه جزاء عمله ..ومنها ان يكون منبعه وخمزنه
حاضراً نصب العني لتحصل لذة االطمئنان..
وأما املنكح ،فاعلم! ان من اش ّد حاجات االنسان وجود قلب مقابال لقلبه ملداولة احملبة
ومبادلة العشق واملؤانسة والتشارك يف اللذة ،بل التعاون يف أمثال احلرية والتفكر .أال ترى ان
من رأى ما يتحري فيه أو يتفكر يف أمر عجيب يدعو ولو ذهنا من يعينه يف حتمل احلرية .مث
ومكمل
الروحي ّّ احرها قلب القسم الثاين .مث ان متمم االمتزاج
ا ّن ألطف القلوب وأشفقها و ّ
الصوري كون القسم الثاين مربأة ومطهرة من األخالق ّ القليب ،ومصفى االختالط
االستيناس ّ
السيئة والعوارض املنفرة.
فإن قلت :ان األكل لبقاء الشخص؛ اذ به حيصل تعمري ما يتحلل ،وان النكاح لبقاء النوع
مع ان األشخاص يف اآلخرة مؤبّدون ال يقع فيهم التحويل واالحنالل وكذا التناسل يف
اآلخرة؟
_____________________
3صوت جلد احلية حني املرور ،استعمله املؤلف لصوت مرور املاء كاحلية (ش)
إشارات اإلعجاز -ص116 :
قيل لك :ان فوائد األكل والنكاح ليست منحصرة يف البقاء والتناسل بل فيهما لذة عظيمة
األملي .وكيف اليكون فيهما يف عامل السعادة واللذة لذات عالية منزهة؟
يف هذا العامل ّ
فان قلت :ان اللذة هنا دفع األمل؟
أما اخللود ودوام اللذة ،فاعلم! ان اللذة امنا تكون لذة حقيقيةِ ان مل ينغّصها الزو ُال؛ اذ كما
تصوُر زو ِال اللذةِ أملٌ أيضاً .حىت ان
سبب هلا ،كذلك زوال اللذة أمل بل ّ
دفع االمل لذةٌ أو ٌ ان َ
جمموع اشعار العشاق اجملازيني امنا هي انني ونياح من هذا األمل .وان ديوان كل عاشق غري
حقيقي امنا هو بكاء وعويل من هذا األمل الناشئ من تصور زوال احملبوب ..نعم ،ان كثرياً
من اللذائذ املوقّتة اذا زالت امثرت آالما مستمرة كلما تذكرها 1يفور ِمن فيه" :ايواه!"
واأسفا! املرتمجَ ْ ِ
ني عن هذا األمل الروحاينّ .وان كثرياً من اآلالم اذا انقضت اولدت ل ّذات
مستمرة كلما تذكرها الشخص وهو قد جنا يتكلم بـ"احلمد هلل" ِّ
امللوح لنعمة معنوية.
أجل! ان االنسان خملوق لألبد فامنا حتصل له اللذة احلقيقية يف األمور األبدية كاملعرفة االهلية
واحملبة والكمال والعلم وأمثاهلا.
واحلاصل :ان اللذة والنعمة امنا تكونان لذة ونعمة ان كانتا خالدتني.
1حديقة خورخور :مكان يقع حتت قلعة مدينة «وان» وفيها مدرسة املؤلف.
( 2ليس يف الدنيا ممايف اجلنة اال االمساء) او الفاظ مقاربة واملعىن واحد ،انظر تفسري ابن كثري
،61/1تفسري القرطىب ،204/1الطربى 119/1فتاوى ابن تيمية ،29/1املطالب
العالية البن حجر برقم ،0612فتح القدير للشوكاىن 99./1
3تذكرها االنسان.
أما مجلة (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصاحلات) فاعلم! انه تعاىل ملا كلف الناس ،وأثبت
النيب بالتبليغ أمره بالتبشري تأميناً المتثال التكليف الذي فيه مشقة وترك للّذائذ
النبوة ،وكلف ّّ
الدنيوية .فكما انه مأمور باالنذار؛ كذلك مأمور بالتبشري برضاء هللا تعاىل وتلطيفه وقربيته
وبالسعادة األبدية.
وأما مجلة (ان هلم جنات جتري) فاعلم! كما مر ان ّاول حاجات االنسان الضرورية -ألنه
جسم -املكان واملسكن؛ وان أحسن املكان هو املشتمل على النباتات واألشجار ،وان
الطفه هو الذي يتسلل بني خضراواته املاء ،وان اكمله هو الذي جتري بني أشجاره وحتت
قصوره األهنار بكثرة .فلهذا قال (جتري من حتتها األهنار) ..مث ان اشد احلاجات كما مسعت
آنفاً بعد املكان واكمل اللذائذ اجلسمانية هو االكل والشرب اللذين يشري اليهما اجلنة
والنهر ..مث ان اكمل الرزق هو ان يكون مألوفاً ومأنوساً ليعرف درجة تفوقه على نظريه..
وأل ّذ الفاكهة ان تكون متجددة ..وان اصفى اللذة هو أن يكون املقتطَف معلوماً وقريباً..
وان أل ّذها ان يعرف اهنا مثرة عمله .فلهذا قال( :كلما رزقوا منها من مثرة رزقاً قالوا هذا الذي
رزقنا من قبل) أي يف الدنيا أو قبل هذا اآلن.
وأما (وأتوا به متشاهبا) فاعلم! ان يف احلديث :ان صورهتا واحدة والطعم خمتلف .1فتشري
اآلية اىل لذة التجدد يف الفاكهة ..وان كمال اللذة ان يكون الشخص خمدوما يؤتى اليه.
وأما مجلة (وهلم فيها أزواج مطهرة) فاعلم! كما رأيت يف السلك ان االنسان حمتاج لرفيقة
وقرينة يسكن اليها وينظر بعينها وتنظر بعينه ويستفيد من احملبة اليت هي ألطف ملعات الرمحة.
أال ترى ان األنسية التامة هنا هبن؟ وأما مجلة (وهم فيها خالدون) فاعلم! ان االنسان اذا
صادف نعمة او اصاب لذة فأول ما يتبادر لذهنه :أتدوم أم تُـنَـغَّص بزوال؟ فلهذا أشار اىل
تكميل النعمة خبلود اجلنة ودوامهم وازواجهم فيها ودوام اللذائذ واستمرار االستفادة بقوله:
(وهم فيها خالدون).
_____________________
(وبشر الذين آمنوا وعملوا الصاحلات) الواو فيها -بسر املناسبة بني املتعاطفني -فجملة ّ
"بشر" فرمز اىل ان اجلنة بفضله تعاىل
اشارة اىل "انذر" الذي يتقطر من أنف السابقة ..وأما ّ
ال واجب عليه ..وكذا اىل ان البد ان ال يكون العمل ألجل اجلنة ..وأما صورة األمر يف
"بشر" فامياء اىل "بلّغ مبشراً" فانه مكلَّف بالتبليغ..
ّ
مر يف رأس السورة ليكونواما (الذين آمنوا) بدل "املؤمنني" األقصر فتلويح اىل "الذين" الذي ّ
تفصيله هناك مبيِّنا ملا امجل هنا ..واما ايراد "آمنوا وعملوا" على صيغة املاضي هنا ،مع ايراد
"يؤمنون" و "ينفقون" هناك بصيغة املضارع فلإلشارة اىل ان مقام املدح والتشويق على اخلدمة
شأنه املضارع .وأما مقام املكافأة واجلزاء فاملناسب املاضي ،اذ االجرة بعد اخلدمة..
وأما واو (وعملوا) فاشارة بسر املغايرة اىل ان العمل ليس داخال يف االميان كما قالت املعتزلة.
واىل ان االميان بغري عمل ال يكفي .ولفظ العمل رمز اىل ان ما يبشر به كاالجرة..
وأما مجلة (ان هلم جنات جتري من حتتها األهنار) فاعلم! ان هيئاهتا -من حتقيق "ا ّن"
وختصيص "الالم" وتقدمي "هلم" ومجع "اجلنة" وتنكريها وذكر اجلريان وذكر "من" مع "حتت"
2
االساسي الذي هو
ّ الغرض امداد على وتتجاوب تتعاون - يفهر وتع وختصيص "هنر"
كزي .ألن (ا ّن) اشارة
السرور ولذة املكافأة كاألرض النشفة الرطبة ترشح جبوانبها احلوض املر ّ
اىل ان البشارة مبا هو يف هذه
_____________________
1149 - 1901( 1م) حممد عبده بن حسن خريهللا من آل الرتكماين ،مفىت الديار
املصرية .ولد يف شنرا (من قرى الغربية مبصر) ،وتعلم باجلامع االمحدى بطنطه مث باالزهر
وعمل يف التعليم ،وكتب يف الصحف .اصدر مع مجال الدين االفغاين جريدة "العروة الوثقى
" يف باريس مث عاد اىل بريوت ،فاشتغل بالتدريس والتأليف ،دفن يف القاهرة ،له "تفسري
القرآن الكرمي " مل يتمه ،و "رسالة التوحيد " و "شرح هنج البالغة "( ..االعالم )292/6
الدرجة من العظمة يرتدد فيها العقل فتحتاج اىل التأكيد ..وأيضاً من شأن مقام السرور طرد
األوهام؛ اذ طََريان ادىن وهم يكسر اخليال ويطري السرور ..وكذا امياء اىل ان هذا ليس وعداً
صرفا بل حقيقة من احلقائق .والم (هلم) اشارة اىل االختصاص والتملك واالستحقاق
الفضلي لتكميل اللذة وزيادة السرور .واالّ فكثرياً ما يضيف َملِ ٌ
ك مسكيناً ..وتقدمي (هلم) ّ
اشارة اىل اختصاصهم بني الناس باجلنة ،اذ مالحظة حال أهل النار سبب لظهور قيمة لذة
اجلنة ..ومجع (جنّات) اشارة اىل تعدد اجلنان وتنوع مراتبها على نسبة تنوع مراتب األعمال..
وكذا رمز اىل ان كل جزء من اجلنة جنة ..وكذا امياء اىل ان ما يصيب حصة كل -لوسعته
-كأنه كاجلنة بتمامها ال كأنه يساق جبماعتهم اىل موضع ..وتنكري (جنّات) يتلو على ذهن
السامع" :فيها ما ال عني رأت ،وال اذن مسعت ،وال خطر على قلب بشر" .1وكذا حييل
كل على الطرز الذي يستحسنه ..وكذا كأن التنوين بدل على أذهان السامعني حىت يتصورها ٌ
س) .2وأما (جتري) فاعلم! ان أحسن الرياض ما فيها ماء .مث أحسنها ِِ ِ
(وف َيها َما تَ ْشتَهيه االَنْـ ُف ُ
ما يسيل ماؤها .مث أحسنها ما استمر السيالن .فبلفظ (جتري) أشار اىل تصوير دوام
اجلريان ..واما (من حتتها) فاعلم! ان أحسن املاء اجلاري يف اخلضراوات ان ينبع صافيا من
تلك الروضة ،ومير ُمتَ َخ ْرِخراً حتت قصورها ،ويسيل منتشراً بني أشجارها فاشار بـ (من حتتها)
اىل هذه الثالثة ..وأما (األهنار) فاعلم! ان أحسن املاء اجلاري يف اجلنان ان يكون كثرياً .مث
أحسنه ان تتالحق األمثال من جداوله .فان بتناظر األمثال يتزايد احلسن على قيمة األجزاء.
مث أحسنه ان يكون املاء عذباً فراتا لذيذاً كما قال ٍ
(ماء َغري ِ
آس ٍن) 1فبلفظ "هنر" ومجعه ْ
وتعريفه أشار اىل هذه.
أما مجلة (كلما رزقوا منها من مثرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) فاعلم! ان هيئاهتا
تتضمن كثرية من اجلمل الضمنية .فاستينافها جواب لسؤال مقدر.
_____________________
1عن اىب هريرة رضى هللا عنه ،قال :قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :قال هللا عز وجل:
اعددت لعبادى الصاحلني ما العني رأت وال أُذن مسعت وال خطر على قلب بشر ،واقرأوا ان
ُ
شئتم فال تعلم نفس ما اخفي هلم من قرة اعني (السجدة .)17 :رواه البخارى ومسلم برقم
2920ومل يذكر اآلية ،والرتمذي ( 1119حتقيق امحد شاكر) وزاد نسبته يف صحيح
اجلامع الصغري 0191ألمحد والنسائي وابن ماجه.
وذلك السؤال ممزوج من مثانية اسئلة متسلسلة؛ اذ ملا بشروا مبسكن هكذا عال يتبادر لذهن
السامع :أفيه رزق أم ال ؟ واذا كان فيه رزق فمن اين جيئ وحيصل ؟ واذا حصل من تلك
اجلنة فمن أي شئ منها ؟ واذا كان من مثرهتا فهل هي تشبه مثار الدنيا ؟ واذا شاهبتها فهل
يشبه بعضها بعضا ؟ واذا تشاهبت فهل ختتلف طعومها ؟ واذا اختلفت وقد قطعت فهل
تنقص ام ميتلء موضعها؟ واذا تبدلت بأخرى فهل يدوم األكل منها؟ واذا دام فما حال
اآلكلني أفال يستبشرون؟ واذا استبشروا فماذا يقولون؟ واذ تفطنت هلذه األسئلة فانظر كيف
أجاب القرآن الكرمي عن هذه األسئلة املتسلسلة هبيئات هذه اجلملة..
أما لفظ كلما فاشارة اىل الدوام والتحقيق ..وماضوية رزقوا اشارة اىل حتقيق الوقوع ..وكذا
امياء اىل
أما لفظ (كلما) فاشارة اىل الدوام والتحقيق ..وماضوية (رزقوا) اشارة اىل حتقيق الوقوع..
وكذا امياء اىل اخطار نظريه من رزق الدنيا اىل ذهنهم ..وايراده على بناء املفعول اشارة اىل
عدم املشقة واهنم خمدومون يؤتى اليهم ..وايثار (منها من مثرة) على "من مثراهتا" للتنصيص
على جوابني عن سؤالني من األسئلة املذكورة .وتنكري (مثرة) املفيد للتعميم اشارة اىل انه أية
مثرة كانت فهي رزق ..وتنكري (رزقا) اشارة اىل انه ليس من الرزق الذي تعلمونه لدفع
اجلوع ..ولفظ (قالوا) أي يتقاولون بعضهم لبعض امياء اىل االستبشار واالستغراب الالزمني
للحكم.
أما مجلة (هذا الذي رزقنا من قبل) فاعلم! ان هذا االطالق يتضمن أربعة معان:
أحدها :ان هذا ما رزقنا من العمل الصاحل يف الدنيا فبشدة االرتباط بني العمل واجلزاء كأن
العمل جتسم يف اآلخرة ثواباً .ومن هنا االستبشار.
والثاين :ان هذا ما رزقنا من األطعمة يف الدنيا مع هذا التفاوت العظيم بني طعميهما .ومن
هنا االستغراب.
والثالث :ان هذا مثل ما أكلنا قبل هذا اآلن مع احتاد الصورة واختالف املعىن جلمع ل ّذ َيت
االلفة والتجدد .ومن هنا االبتهاج.
والرابع :ان هذه اليت على أغصان الشجرة هي اليت أكلناها اذ ينبت بدهلا دفعة فكأهنا اياها.
ومن هنا يعرف اهنا ال تنقص.
وأما مجلة (وأتوا به متشاهبا) فاعلم! اهنا فذلكة وتذييل واعرتاضية لتصديق احلكم السابق
وتعليله ..وبناء املفعول يف (اُتوا) اشارة اىل ان هلم َخ َد َمة ..ويف متشاهبا ما عرفت من االشارة
اىل مجع اللذتني:
وأما مجلة (وهلم فيها أزواج مطهرة) فاعلم! ان الواو بسر املناسبة العطفية اشارة اىل اهنم كما
حيتاجون اىل املسكن ألجسامهم يفتقرون اىل السكن ألرواحهم( ..وهلم) اشارة اىل
االختصاص والتملك ،ورمز اىل التخصيص واحلصر ،وامياء اىل ان هلم غري النساء الدنيوية
حوراً عيناً خلقن ألجلهم ..و(فيها) اشارة اىل ان تلك األزواج الئقة بتلك اجلنة فعلى نسبة
علو درجاهتا يفوق حسنهن ..وكذا فيها امياء خفي اىل أن اجلنة تزينت وتربجت هبن ..1 ّ
رهن ونزههن يد القدرة؟ ..وكذاطه ُ و(مطهرة) اشارة اىل أن ِّ
مطهراً طهرهن ،فما ظنك مبن ّ
امياء بالتعدية ان نساء الدنيا يطهرن ويصفني فيصرن حساناً كاحلور العني املتطهرات يف
أنفسهن.
وأما مجلة (وهم فيها خالدون) فاشارة اىل اهنم ،وكذا أزواجهم ،وكذا لذائذ اجلنة ،وكذا اجلنة
كافةً؛ أبدية.
***
_____________________
وعنوان "ازواج " اشارة اىل اهنن على حسن اخللق وطيب الطبيعة الذى هو رأس االلفة
واساس االزدواج ..وايضاً فيه رمز لطيف اىل اهنن على وفق قاماهتم .ومجع "أزواج " امياء اىل
لكل ازواجاً كثرية -كما بينه احلديث -ال واحدة او اثنتني .وتنكريها اشارة اىل اهننان ٍ
مر
حلسنهن وطهرهن حريّات باسم االزواج .وكذا احالة على ذوق السامع واشتهائه نظري ما ّ
يف "جنات " .وكذا كأن التنوين بدل عُرباً اتراباً (ش).
ين َك َف ُروا فَـيَـ ُقولُو َن َّ ِ فَاََّما الَّ ِذين آمنُوا فَـيـعلَمو َن اَنَّه ْ ِ ِ
احلَ ُّق م ْن َرّهب ْم َواََّما الذ َ َ َ َْ ُ ُ
ِِ ِ ِِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ما َذا اََر َاد هللا هب َذا َمثَالً يُض ُّل بِه َكثرياً َويـَ ْهدي بِه َكثرياً َوَما يُض ُّل بِه االَّ الْ َفاسق َ
ني
اعلم! ان يف هذه اآلية أيضاً الوجوه الثالثة النظمية وان مآل اجملموع ينظر اىل سوابقه واىل
لواحقه واىل جمموع القرآن الكرمي.
وأما نظمها بالنظر الىلواحقها فاعلم! ان القرآن ملا مثّل بالذباب والعنكبوت وحبث عن النمل
والنحل انتهز الفرصةَ -لالعرتاض -اليهود واَهل النفاق و ِ
الشرك فتحمقوا وقالوا :أيتنزل هللا ُ ُ
تعاىل مع عظمته اىل البحث عن هذه األمور اخلسيسة اليت يستحي من حبثها أهل الكمال؟
فضرب القرآن هبذه اآلية ضرباً على أفواههم.
وايضاحه :ان هلم شبهات واهية منشؤها أوهام متسلسلة مبناها مغالطات:
احداها :القياس مع الفارق ومنشؤه اهنم ينظرون اىل كل شئ مبرآة مألوفهم .فحينما يرون
االنسان ذهنه جزئي وفكره جزئي ولسانه جزئي ومسعه جزئي؛ ال يتعلق
واحلاصل :ان الذرات واألمور اخلسيسة ملا كانت خملوقة له تعاىل كانت معلومة له بالضرورة،
شاحة بالبداهة أن يبحث عنها .وعلى هذا السر قال (أال يعلم من خلق وهو اللطيف فال ُم ّ
اخلبري) 1فكيف ال يبحث عنها وال يتكلم هبا َم ْن َعلِم وهو العزيز احلكيم.
وثانية املغالطات :هي اهنم يزعمون اهنم يرون يف اسلوب القرآن خلف املتكلم متثال انسان،
بدليل البحث عن هذه األشياء احلقرية واألمور العادية كأسلوب حماورة البشر .أفال يتذكر
هؤالء املتجاهلون ان الكالم كما ينظر اىل متكلمه جبهة؛ كذلك
_____________________
ينظر اىل املخاطب به جبهات ،على ما تقتضيه البالغة للتطبيق على مقتضى حال املخاطب.
اسلوب
َ فلما كان املخاطب بشراً وكان البحث عن أحواله واملقصد تفهيمه ،لبس القرآن
ـ"التنزالت االهلية اىل عقول البشر" للتأنيس ..أال تراك اذا
البشر املمزوج حبسيّاته املسمى ب ّ
تتصىب له؟
صيب ّحاورت مع ّ
فان قلت :ان حقارة األشياء وخساستها تنايف عظمة القدرة ونزاهة الكالم؟
قيل لك :ان احلقارة واخلساسة والقبح وأمثاهلا امنا هي بالنظر اىل ُملك األشياء وجهتها
السطحي .وقد ُوضعت األسباب الظاهرية للتوسط يف هذه ّ الناظرة الينا وبالنظر اىل نظرنا
اجلهة لتنزيه العظمة .وأما بالنظر اىل ملكوتية األشياء فكلها ش ّفافة عالية .وهذه اجلهة هي
حمل تعلق القدرة ،الخيرج من التعلق شئ؛ فكما اقتضت العظمة وضع األسباب يف الظاهر
لكل واحاطة الكالم به؛ على ان القرآن املكتوبكذلك تستلزم الوحدة والعزة مشول القدرة ٍ
ذرة باجلواهر الفردة ليس بأقل جزالةً من القرآن املكتوب على صحيفة السماء مبداد على ّ
النجوم ،وان خلقة الذباب ليست بأدىن صنعا من خلقة الفيل .فالكالم كالقدرة.
وثالثة املغالطات :اهنم يقولون ما احلاجة اىل امثال هذه التمثيالت املومئة اىل العجز عن
اظهار احلقيقة؟.
اجلواب :ملا كان املقصد من انزال التنزيل ارشاد اجلمهور ،واجلمهور عوام ،والعوام اليرون
احلقائق احملضة واجملردات الصرفة عراة عن متخيالهتم ـ ألبس هللا تعاىل بلطفه واحسانه احلقائق
سر املتشاهبات.
لباس مألوفاهتم لتحسن الُفتهم كما عرفت يف ّ
أما نظم اجلمل بعض مع بعض ،فاعلم! أن (ان هللا ال يستحيي ان يضرب مثال ما بعوضة
فما فوقها) ردٌّ وطرد العرتاضات متسلسلة .كأهنم يقولون أية حكمة يف مكاملة هللا تعاىل مع
البشر ،وعتابه عليهم ،والتش ِّكي منهم؛ فاهنا عالمة ان لالنسان أيضاً تصرفاً آخر يف العامل؛
السيما كاحملاورة اجلارية بني الناس فاهنا عالمة انه كالم البشر ..والسيما يرتاءى من خلف
الكالم متثال انسان ..والسيما بتصويرات ومتثيالت فاهنا عالمة العجز عن اظهار احلقيقة..
والسيما اذا كانت التمثيالت عادية فاهنا عالمة احنصار ذهن املتكلم ..وال سيما بأمور
حقرية فاهنا عالمة خفة املتكلم ..والسيما اذا كانت مما ال اضطرار اليه وكان تركه أوىل..
العزة عن البحث عنه ..والسيما اذا كان أهل ّ والسيما اذا كان بعض تلك األمور مما يستحي ُ
الباحث ذا العظمة واجلالل ..فأجاب القرآن هدما هلذه السلسلة من املبدأ اىل املنتهى بضربة
واحدة فقال (ان هللا اليستحيي )...اخل؛ الن جهة امللكوتية ال تنايف العظمة واجلالل فال
يرتكها وال يهملها؛ اذ االلوهية تقتضي كذلك .فاذاً ميثَّل باألمور احمل ّقرة للمعاين احمل ّقرة؛ اذ
حكمته مع سر البالغة هكذا تقتضي ..فاذاً يذكر التمثيالت العادية بناء على اهنا املوافقة
يصور احلقائق بتمثيالت -بناء على ما تقتضيه العناية مع التنزالت للرتبية واالرشاد . .فاذاً ّ
االهلية ..فاذاً خيتار اسلوب حماورة البشر بعض مع بعض بناء على ما تقتضيه الربوبية مع
الرتبية ..فاذاً يتكلم مع الناس بناءً على ماتقتضيه احلكمة مع النظام.
واحلاصل :ان هللا تعاىل ملا أودع يف االنسان جزءاً اختيارياً وجعله مصدراً لعامل األفعال ،أرسل
كالمه لينظم ذلك العامل.
وان نظم مجلة (فاما الذين آمنوا فيعلمون انه احلق من رهبم) هو :انه ملا ذكر يف األوىل
املدعى ،أشار هبذه اىل طريق دليله .وكذا رمز وأومأ اىل وجه دفع األوهام ،أي من نظر بنور
االميان ومن جانب هللا تعاىل ومن جهة قدرته جاعال حكمته وعنايته وربوبيته نصب العني،
علم انه حق وبالغة .واما من نظر من جانب حضيض نفسه ،ومن جهة املمكنات ،فال
جرم ستهوي به األوهام ..ومثلهما كمثل شخصني صعدا منحدراً رأيا جداول ماء .أما
أحدمها فيصعد ويرى رأس العني ويذوق فيعلم ان املاء كله عذب؛ فكلما يصادف قطعة ماء
من تفرعات اجلداول
يتفطن -ولو بامارة ضعيفة -انه عذب ،فال تقدر األوهام ولو قوية على تغليطه .وأما
اآلخر فيتسفل وينظر من جانب التفرعات وال يرى منبع العني فيحتاج ملعرفة عذوبة كل
قطعة ماء اىل دليل قطعي .فأدىن وه ٍم يُورطه يف الشبهة .أو كمثال شخصني بينهما مرآة
امللون.
ينظر أحدمها اىل الوجه الش ّفاف ،واآلخر اىل الوجه ّ
واحلاصل :انه البد يف النظر اىل صنعه تعاىل ان ينظر اليه من جانبه تعاىل مع مالحظة عنايته
وربوبيته وليس هذا النظر اال بنور االميان والتكون األوهام حينئذ -ولو قوية -إال أوهن من
بيت العنكبوت .ولو نظر اليه من جهة املمكنات بنظر املشرتي وبفكره اجلزئي لقويت يف
اجلودي. ٍ
بعوضة رؤية العني جلبل جناح
ّ األوهام الضعيفة فيتسرت عنه احلقيقةُ كما مينع ُ
ُ عينه
وان نظم مجلة( :وأما الذين كفروا )..اخل هو :انه ملا ارى طريق فهم حكمة اسلوب
التمثيالت -وهي النظر بنور االميان من جانب الواجب الوجود ّ -بني هنا الطريق املقابل
الذي هو منشأ األوهام والتعلالت بأن ينظر من طرف نفسه بظلمة الكفر اليت تصور كل
اخف َوْهم .مث يضل طريق احلق مث يرتدد مث
شئ مظلما مع مرض القلب الذي يثقل به ّ
يستفهم مث ينكر .فالقرآن باالجياز والكناية أورد -اشارًة اىل استفهامهم االنكاري -قوله:
(ماذا أراد هللا هبذا مثال) بدل "اليعلمون" مع انه املطابق للسابق ظاهراً.
وان نظم مجلة( :يضل به كثرياً ويهدي به كثرياً) هو :اهنا جواب عن صورة استفهامهم فلغاية
االجياز نزلت الغاية والعاقبةُ منزلة العلة الغائية كأهنم يسألون ويقولون :ألي شئ كان هكذا؟
وِملَ مل يكن اعجازه بديهيا؟ وِملَ مل يكن كونه كالم هللا ضرورياً؟ وِملَ صار معرض األوهام
بسبب هذه األمثال؟ فأجاب القرآن بقوله( :يضل به كثرياً ويهدي به كثرياً) أي :ألجل ان
من تفكر فيه بنور االميان ازداد نوراً .ومن تفكر بظلمة الكفر والتنقيد ازداد ظلمة ..وهذا
نظري ليس بديهياً ..وهذا ألجل تفريق األرواح الصافية العلوية عن األرواح الكدرة ألجل انه ّ
السفلية ..وهذا ألجل متييز االستعدادات العالية بالنشوء والنماء عن االستعدادات اخلبيثة..
وهذا ألجل متييز الفطرة الصحيحة بالتكمل واجملاهدة واالجتهاد عن الفطرة املتفسخة
الفاسدة ..وهذا ألجل ان أمتحان البشر يستلزمه ..وهذا ألجل ان االبتالء يقتضيه..
وهذا ألجل ان سر التكليف لتكميل البشر وسعادته يستلزمه .فأوجز التنزيل يف اجلواب.
ان قلت :قد قلت ان التكليف لتأمني سعادة البشر مع انه يكون سببا لوقوع األكثر يف
الشقاوة ،ولواله ملا صار التفاوت هبذه الدرجة؟.
فان قلت :سعادة القليل مع شقاوة الكثري كيف تكون مظهراً لسعادة النوع حىت تكون
الشريعة رمحة ،مع ان سعادة النوع امنا تكون بالكل او األكثر؟
قيل لك :اذا كان لك مائة بيضة ووضعتها حتت طري ،فافرخت عشرين وأفسدت مثانني؛ أفال
تقول قد تكمل هذا النوع؟ اذ حياة عشرين تساوي ألوف ٍ
بيضة .أو كان لك مائة نواة متر
فأسقيتها باملاء فصار عشرون منها خنالت باسقات وتفسخ مثانون ،أفال تقول :املاء سعادة
هلذا النوع؟ او كان لك معدن فسلطت عليه النار فأصفت ُمخسه ذهبا وصريت الباقي فحماً
ورماداً ،افال تكون النار سبب كماله وسعادته؟ وقس على هذا! ..فاذاً نشوء احلسيات
منو األخالق امنا هو باجملاهدة ،وتكمل األشياء امنا هو مبقابلة األضداد ومزامحتها.
العالية و ّ
أالترى ان حكومة اذا جاهدت ينمو فيها اجلسارة واذا تركت انطفأت ..تأمل!..
وان نظم مجلة (وما يضل به االّ الفاسقني) هو :انه ملا اهبم يف (يضل به كثرياَ) انتبه ذهن
السامع وخاف فاستفسر قائالً :من هم الضالون؟ وما السبب؟ وكيف جتئ الظلمة من نور
القرآن؟ ..فأجاب :بأهنم الفاسقون ،وان االضالل جزاء لفسقهم ،وبالفسق ينقلب النور يف
حق الفاسق ناراً والضياء ظلمة .أال ترى ان ضياء الشمس يعفن ما استقذرت مادته .وان
وجه التوصيف بقوله (الذين ينقضون عهد هللا من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر هللا به أن
يوصل ويفسدون يف األرض) هو انه شر ٌح وكشف للفسق اذ الفسق عدول عن احلق وجتاوز
عن احلد وخروج من القشر احلصني .وان الفسق امنا هو باالفراط أو التفريط يف القوى
القوة العقلية والغضبية والشهوية ..وان االفراط والتفريط سببان للعصيان يف
الثالث اليت هي ّ
مقابلة الدالئل اليت كالعهود االهلية يف الفطرة ..وكذا وسيلتان ملرض احلياة النفسية وأشري اىل
هذا بالصفة األوىل ..وكذلك ِّ
حمركان للعصيان يف مقابلة احلياة االجتماعية ومتزيق الروابط
والقوانني االجتماعية وأشري اىل هذا بالصفة الثانية ..وأيضا مها سببان للفساد واالختالل
املنجر اىل فساد نظام األرض وأشري اىل هذا بالصفة الثالثة .نعم! ان الفاسق بتجاوز القوة
العقلية عن حد االعتدال يكسر رابطة العقائد وميزق القشر احلصني اي احلياة األبدية..
وبتجاوز القوة الغضبية ميزق قشر احلياة االجتماعية ..وبتجاوز القوة البهيمية واتباع اهلوى
يزيل عن قلبه الشفقة اجلنسية فيفسد ويورط الناس فيما تورط فيه فيكون سببا لضرر النوع
وفساد نظام األرض.
وان نظم مجلة (أولئك هم اخلاسرون) هو :انه ملا ذكر جنايات الفاسق ورهب هبا أكد
التهديد بنتيجتها وجزائها ليؤثر الرتهيب .فقال :هم الذين خسروا ببيع اآلخرة بالدنيا
1
واستبدال اهلدى باهلوى..
ولنشرع يف نظم هيئات مجلة مجلة ،فاعلم! ان اآليات ومجلها وهيئاهتا كأميال الساعة اليت
ِ
الساعات ،فكلما يثبت هذا شيئاً يؤيده ذاك بدرجته وميده ذلك الدقائق و
تع ّد الثواين و َ
بنسبته ،وكذا اذا اراد هذا شيئاً عاونه ذاك وساعده اآلخر حبيث ُخيطر احلال ما قيل:
_____________________
_____________________
فوقها يف قيمة البالغة أو يف الصغر أيضا فالتعبري بـ (مافوقها) اشارة اىل ان الصغري اغرب
بالغة وأعجب خلقة.
وأما هيئات مجلة (فأما الذين آمنوا فيعلمون انه احلق من رهبم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا
أراد هللا هبذا مثال) فاعلم! ان الفاء للتفريع ،والتفريع اشارة اىل دليل ضمين ينتج هذه اجلملة
ذات الشقني :أي اليرتك التمثيل ألن البالغة تقتضيه؛ فمن انصف يعرف انه بليغ وحق
وكالم هللا تعاىل .ومن نظر بالعناد اليعلم احلكمة فيرتدد ..فيسأل ..فينكر ..فيستحقر.
فانتج :ان املؤمن -ألنه منصف -يصدق انه كالم هللا ،والكافر -ألنه معاند -يقول ما
الفائدة فيه؟ وان "اما" فالهنا شرطية لزومية يف الوضع اشارة اىل ان اخلرب الزم للمبتدأ
وضروري له ،يعين من شأن املبتدأ هذا اخلرب ..وان ايراد (الذين آمنوا) بدل "املؤمنني" اشارة
ّ
اىل التنصيص على ان االميان هو سبب العلم حبقيته وان العلم حبقيته اميان ..1وان (انه
احلق) بدل "انه البليغ" األنسب باملقام اشارة اىل آخر نتيجة اعرتاضهم اذ غرضهم نفى كونه
كالم هللا ..وان حصر "انه احلق" اشارة اىل ان هذا هو املستحسن الذي ال يستقبح خبالف
ما يزعمون اذ السالمة من العيب التثبت الكمال ..وان (من رهبم) اشارة اىل ان هدف
غرضهم انكار النزول ..وان "اما" يف "واما الذين كفروا" للتأكيد والتحقيق والتفصيل ..وان
ايراد (الذين كفروا) بدل "الكافرين" األوجز امياء كما مر اىل ان انكارهم جيئ من الكفر
ويذهب اىل الكفر ..وان ايثار (فيقولون) على "فال يعلمون" مع انه الظاهر كما مر فالختيار
طريق الكناية لالجياز أي :من كفر اليعرف احلقيقة فينجر اىل الرتدد ..فينجر اىل االنكار..
فينجر اىل االستحقار بصورة االستفهام ..وأيضاً يف "يقولون" رمز اىل أهنم كما كانوا ضالّني،
كذلك كانوا مضلني بأقواهلم.
_____________________
1الظاهر :ان ههنا حذفاً من نسيان النساخ -كما انه نسي حتليل ماذا اراد هللا هبذا مثالً
برمته -مع االسف -يُعلم من عدم ارتباط الكالم ،ومن فقد كلمة "فيعلمون " ومن عديله
"الذين كفروا " مع االحالة هناك على ما هنا .فاقول بدالً عن املؤلف على نسق ما يأيت،
فعلي:
حل حمله فبها واالّ ّ
فان ّ
ان ايراد الذين آمنوا بدل "املؤمنني " االوجز امياء اىل ان انصافهم جيئ من االميان ،ويذهب
اىل االميان ..وان ايثار "فيعلمون " على "فيقولون " االنسب مبا يأيت اشارة اىل التنصيص
على ان االميان هو سبب العلم حبقيقته ،وان العلم حبقيقيته اميان (ش).
وأما هيئات مجلة (يضل به كثرياً ويهدي به كثرياَ) فاعلم! ان الرتتيب يقتضي تقدمي الثانية
أهم .أما ِ ِ ِ
املرتدد املستفهم املستنكر املستقبح كان (يضل) ّ
رد اعرتاض ّ لكن ملا كان الغرض ّ
العدول عن "الضاللة واهلداية" املناسبتني للسؤال اىل صورة الفعل املضارع فاشارة اىل ان
كفرهم يتكاثف ظلمة على ظلمة بنسبة تزايد النزول جتدداً؛ كما ان املؤمن يتزايد اميانه
بدرجات النزول نوراً على نور ..وكذا يف الفعل -بناء على كونه جوابا -رمز اىل بيان حال
الفريقني وبيان السبب .وأما (كثرياً) ففي األُوىل كمية وعدداً ،ويف الثانية قيمة وكيفية .نعم!
سر كون القرآن رمحة للبشر
ان كرام الناس كثريون وان قلّوا .فالتعبري بالكثري يف الثانية رمز اىل ّ
.1تأمل..
وأما مجلة (وما يضل به االّ الفاسقني) فاعلم! انه ملا ذكر الكثري يف االوىل دفع الوسوسة
واخلوف والرتدد وهتمة النقص يف القرآن ببيان :ان الضالني من هم؟ وان منشأ الضاللة
فسقهم ،وان سببها كسبهم ،وان القصور منهم ال من القرآن ،وان خلق الضاللة جزاء
لفعلهم..
مفسرة بالحقتها
كشافة لسابقتها؛ كذلك َّ
مث اعلم! ان كل واحدة من هذه اجلمل كما اهنا ّ
كأهنا دليل للسابقة نتيجة لالحقة.
إحداها هكذا :انه اليستحي ..ألنه اليرتك ..ألنه بليغ ...ألنه حق ..ألنه كالم هللا ..الن
املؤمن يعلمه.
والثانية هكذا :انه اليستحي كما يقول املنكر ..ألهنم يقولون يلزم تركه ..ألهنم اليعلمون
حكمته ..ألهنم يقولون ما الفائدة فيه ..ألهنم ينكرونه ..ألهنم يستحقرونه ..ألهنم يقعون يف
الضاللة بسماعه ..ألهنم يضلهم القرآن ..ألهنم هم الذين فسقوا وخرجوا عن قشرهم..
ألهنم نقضوا عهد هللا ..ألهنم مزقوا ما اتصل بأمر التكوين والتشريع ..ألهنم يفسدون النظام
االهلي يف االرض .فاذاً هم اخلاسرون يف الدنيا باضطراب الوجدان وبقلق القلب وبتوحش ّ
األبدي وبغضب هللا ،فتأمل يف سالسة السلسلتني!)2(..ّ الروح ،ويف اآلخرة بالعذاب
_____________________
1اِذ من لطف القرآن ومشول رمحته للناس اظهار فضائل املهتدين القليلني كثريًة ،وبيان ان
صاحب فضلية وهداية اوىل" من ٍ
الف من احملرومني منها ،لذا فالكرام كثريون وان قلّوا (ت:
)116
( )2جزاك هللا خرياً كثرياً لقد أحسنت يف فهم السلسلتنب وتفهيمهما( خبط املؤلف على
نسخة مطبوعة)
وأما هيئات مجلة (الذين ينقضون عهد هللا من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر هللا به ان يوصل
ويفسدون يف األرض) فاعلم! ان توصيف الفاسقني املشككني يف اعجازه ونظمه هبذه
األوصاف يف هذا املقام ،امنا هو ملناسبة لطيفة عالية .كأن القرآن يقول :ليس ببعيد من
الفساق -الذين مل يروا اعجاز القدرة يف نظام الكائنات اليت هي القرآن األكرب -ان
يرتددوا وجيهلوا اعجاز نظم القرآن؛ اذ كما يرون نظام الكائنات تصادفيا ،والتحوالت املثمرة
عبثا اتفاقية فتسرت عنهم -لفساد روحهم ِ -ح َك َمه؛ كذلك بفطرهتم السقيمة وهتوسهم
مرة.
الفاسد رأوا النظم املعجز مشوشا ومقدماته عقيمة ومثراته ّ
اما مجلة (ينقضون عهد هللا) فألن النقض لغةً تفريق خيوط احلبل ومتزيقها اشارة اىل اسلوب
عال،كأن عهده تعاىل حبل نوراين فتل باحلكمة والعناية واملشيئة فامتد من االزل اىل ان
اتصل باألبد .فتجلى يف الكائنات بصورة النظام العمومي وأرسلت تلك السلسلة سالسلها
اىل األنواع وامت ّد أ َْع ُجبُها 1اىل نوع البشر فاورثت وامثرت يف روح البشر بذور استعدادات
يعي ،أي الدالئل النقلية .فوفاء
االختياري املعدَّل باألمر التشر ّ
ّ وقابليات تسقى وتتزاهر باجلزء
العهد صرف االستعدادات فيما وضعت له؛ ونقض العهد خالفه وتفريقه ،كاالميان ببعض
األنبياء وتكذيب بعض ..وقبول بعض األحكام ورد بعض ..واستحسان بعض اآليات
واستنكار بعض ..فانه خيل بالنظام والنظم واالنتظام.
يعي
وأما مجلة (ويقطعون ما أمر هللا به أن يوصل) فاعلم! ان هذا األمر عام لألمر التشر ِّ
التكويين املندمج يف القوانني الفطرية والعادات االهلية .فالقطع ملا أمر بوصله شرعاً
ِّ واألمر
كقطع صلة الرحم وقطع قلوب املؤمنني بعض عن بعض .وعلى هذا القياس! ..وتكويناً
كقطع العمل عن العلم ..وقطع العلم عن الذكاء ..وقطع الذكاء عن االستعداد .وقطع
معرفة هللا عن العقل ..وقطع السعي عن القوة ..وقطع اجلهاد عن اجلسارة وهكذا! ..اذ
إعطاء القوة أمر معنوي تكويين بالسعي ،وإعطاء الذكاء أمر معنوي بالعلم ..اىل آخره...
وأما مجلة (ويفسدون يف األرض) فاعلم! ان من فسد وتورط يف الوحل يطلب أن يكون له
عمت البلية
رفقاء متورطون ليتخفف عنه دهشة احلال بسر "اذا ّ
_____________________
pفان قلت :كيف يؤثر فساد فاسق يف عموم األرض املشار اليه بلفظ يف األرض؟
قيل لك :الذي فيه نظام ففيه موازنة ،حىت ان النظام مبين على املوازنة فتداخل شئ حقري
بني دواليب ماكينة تتأثر به ،وان مل ُحيس .وامليزان الذي يف كفتيه جبالن يتأثر بوضع جوزة
على كفة..
وأما مجلة (اولئك هم اخلاسرون) فاعلم! ان حق العبارة "هم خاسرون يف عدم اهلداية به "
االطالق لنكت:
ُ يف و
فلفظ "اولئك" ولفظ "هم" والتعر ُ
***
ف تَ ْك ُف ُرو َن بِاهلل َوُكْنتُ ْم اَْم َواتاً فَاَ ْحيا ُك ْم ُمثَّ ُميِيتُ ُك ْم ُمثَّ ُْحييِي ُك ْم
َكْي َ
وأما نظم اجلمل ،فاعلم! ان هنا إلتفاتاً من الغيبة اىل اخلطاب؛ اذ حكى عنهم ّاوالً مث
خاطبهم ،لنكتة معلومة يف البالغة وهي:
انه اذا ذكر مساوئ شخص شيئاً فشيئاً تزيد احل ّدة عليه ،اىل ان يلجئ املتكلم -لو كان
انساناً -اىل املشافهة واملخاطبة معه ..وكذا اذا ذكرت حماسن أحد درجة درجة يتقوى ميل
املكاملة معه اىل أن يلجئ إىل التوجه اليه واخلطاب معه .فلنزول القرآن على أسلوب العرب
التفت فقال( :كيف تكفرون) خماطباً هلم.
مث اعلم! انه ملا كان املقصد هنا سرد الرباهني على األصول السابقة من االميان والعبادة ،ورد
الكفر ومنع كفران النعمة .مث ان أوضح الدالئل هو الدليل املستفاد من سلسلة أحوال البشر،
وان أكمل النعم هي النعم املتدلّية يف أنابيب تلك السلسلة
واملندجمة يف عقدها؛ قال( :وكنتم أمواتا فأحياكم مث مييتكم مث حيييكم مث اليه ترجعون) اشارة
اىل تلك السلسلة العجيبة املرتتبة ذات العقد اخلمس اليت تدلت من أنابيبها عناقيد النعم.
حلل تلك العقد.
فلنمهد مخس مسائل ّّ
املسألة األوىل :يف (وكنتم أمواتا).
pفان قلت :املوت عدم احلياة وزواهلا وال حياة فيها حىت تزول؟
قيل لك :اختار اجملاز العداد الذهن لقبول العقدة الثالثة والرابعة.
أعجب معجزات القدرة وادقّها احلياةُ ..وكذا هي أعظم كل النعم وأظهر كلَ اعلم! ان
الرباهني على املبدأ واملعاد.
ان ادىن أنواع احلياة حياة النبات ،وان ّأول درجاهتا تنبه العقدة احلياتية يف احلبة .وهذا التنبه
مع شدة ظهوره وعمومه وااللفة به من زمان آدم اىل اآلن قد بقي مستوراً عن نظر حكمة
البشر.
ان اجلسم الذي الحياة فيه ليس له مناسبة إالّ مع مكانه املشخص وما به خيتلط فيكون
يتيماً منفرداً ولو كان جبال .لكن اذا رأيت جسما ولو صغرياً كالنحل مثال وقع
_____________________
حيق له أن
مناسبات مع عموم الكائنات وجتارة مع األنواع حىت ّ ٌ فيه احلياة حصل له دفعةً
يقول" :مكاين الكائنات وهي كملكي" .اذ اذا انتقل إىل احلياة احليوانية تراه جيول حبواسه
ويتصرف هبا يف أطراف الكائنات فيحصل بينه وبني أنواعها اختصاص ومبادلة وحمبة ..وال ّ
يتصرف يف العامل
سيما اذا ترفع إىل طبقة االنسانية تراه بنور العقل جيول يف عوامل .فكما ّ
اجلسماين جيول يف العامل الروحاين ،ويطوف يف العامل املثايل .وكما يسافر هو اىل تلك العوامل؛
كذلك تسافر هي اليه بالتمثل يف مرآة روحه حىت يستحق أن يقول" :ان العامل خملوق
ألجلي بفضل هللا تعاىل" ..فتتنوع حياته وتنبسط اىل احلياة املادية واملعنوية واجلسمانية
والروحانية اليت يشتمل كل منها على طبقات .فحق أن يقال :كما ان الضياء سبب لظهور
األلوان واألجسام؛ كذا ان احلياة كشافة لكافة املوجودات وسبب لظهورها ،وان احلياة هي
ذرة كعامل .وان احلياة هي الوسيلة ِإلحسان جمموع العامل لذي حياة برأسه مع عدم تصري ّ
اليت ّ
املزامحة واالنقسام إالّ يف أقل قليل بني البشر.
وأما وجه كوهنا أظهر الدالئل على الصانع وكذا على احلشر:
فاعلم! ان انتقال بعض ذرات جامدة وانقالهبا دفعة اىل هيئة ووضعية ختالف الوضعية األوىل
أي برهان .حىت ان احلياة لكوهنا أشرف احلقائق
-بال توسط سبب معقول -برهان ّ
وأنزهها ،ال خسة فيها ٍ
بوجه وال َريْن عليها ،ال يف جهة امللك وال يف جهة امللكوت ،فكال ّ
وجهيها لطيفان ،حىت ان حياة أخس حيوان جزئي أيضاً عالية .وهلذا السر( )1مل يتوسط
ظاهري؛ اذ مباشرهتا ال تنايف عزة القدرة ،مع ان وضع األسباب
ّ بينها وبني يد القدرة سبب
الظاهرية -كما مر -حملافظة عزة القدرة يف مباشرة األمور اخلسيسة يف ظاهر النظر.
وأما وجه كوهنا أظهر الدالئل على املبدأ واملعاد فقد مسعت آنفا ،فلنلخص لك وهو:
ان من نظر يف هذه احلياة وتدرج بنظره اىل األطوار املرتتبة إىل أبسط صور اجلسم يرى أجزاء
منتثرة يف عامل الذرات .مث يبصرها قد تلبس يف عامل العناصر صوراً أخرى .مث يصادفها يف
عامل املواليد يف وضعية أخرى ..مث يالقيها يف نطفة مث يف
علقة مث يف مضغة .مث يراها دفعة بانقالب عجيب قد لبست صورة ويرى يف هذه االنقالبات
حركات منتظمة على دساتري معينة يرتاءى منها :ان كل ذرة كانت معينة يف أول األطوار
كأهنا موظفة للذهاب إىل املوضع املناسب من جسد احلي ،فيتفطن الذهن اهنا بقصد تُساق
وحبكمة تُرسل ،وكانت احلياة الثانية يف نظره أهون وأسهل وأمكن بدرجات فيقنع هبا قلبه
بالطريق األَوىل .فهذه اجلملة كالدليل لالحقتها والكل معا برهان على االنكار املستفاد من
"كيف".
اعلم! ان آية (خلق املوت واحلياة) 1تدل على ان املوت ليس إعداماً وعدماً صرفاً ،بل
تصرف ،وتبديل موضع ،واطالق للروح من احملبس .وكذا ان ما وجد يف نوع البشر اىل اآلن
وجنَ َم من اشارات غري حمدودة؛ القت اىل األذهان قناعة وحدسامن امارات غري معدودةَ ،
بأن ا ِإلنسان بعد املوت يبقى جبهة ،وان الباقي منه هو الروح .فوجود هذه اخلاصة الذاتية يف
فرد يكون دليال على وجودها يف متام النوع للذاتية .ومن هنا تكون املوجبة الشخصية
عدم
عدم علتُه ُ
مستلزمة للموجبة الكلية ،فحينئذ يكون املوت معجزة القدرة كاحلياة .ال انه ٌ
شرائط احلياة.
فإن قلت :كيف يكون املوت نعمة حىت نُ ِظّم يف سلك النِ َعم؟
ّأوال :فألنه مقدمة للسعادة األبدية ،وملقدمة الشئ حكم الشئ ُحسنا وقبحاً؛ اذ مايتوقف
عليه الواجب واجب وما ينجر إىل احلرام حرام..
ورابعا :فألنه باعتبار بعض األشخاص نعمة مطلوبة اذ بسبب العجز والضعف ال يتحمل
تكاليف احلياة وضغط البليات وعدم شفقة العناصر ،فاملوت باب فوزه.
_____________________
pفإن قلت :اذا اُحرق انسان واُعطي رماده للهواء كيف يتصور فيه احلياة القربية؟
قيل لك :ان البنية ليست شرطا للحياة عند أهل السنة واجلماعة فيمكن تعلق الروح ببعض
الذرات.
pفإن قلت :كيف يتصور عذاب القرب مع انه لو وضعت بيضة على صدر جنازة بأيام ال
حيس فيها أدىن حركة فكيف احلياة والعذاب؟
_____________________
2مرض الزكام.
إشارات اإلعجاز -ص211 :
املسألة اخلامسة :يف (مث اليه ترجعون) آخر العقد من تلك السلسلة.
اعلم! ان اخلالق جلّت قدرته مزج االضداد يف عامل الكون والفساد حلِِ َكم دقيقة ووضع أسبابا
ظاهرية ووسائط اظهاراً لعزته فرتتبت سلسلة العلل واملعلوالت .مث ملا تص ّفت الكائنات
ومتيزت وحتزبت يف احلشر ارتفعت األسباب واُسقطت الوسائط فارتفع احلجاب وُكشف
صانعه ويعرف مالكه احلقيقي.
الغطاء فريى كلٌّ َ
تذييل خلالصة نظم اجلمل :اعلم! انه تعاىل ملا أنكر كفرهم الواقع بطريق االستفهام
االستخباري يف "كيف" ودعا الناس اىل التعجب منه؛ برهن عليه مبا بعد الواو احلالية أي
ّ
باراءة أربعة انقالبات عظيمة كلها وكل منها شاهد على وجوب االميان .مث ان كل انقالب
ومع ّدة لالنقالب الذي يليه فمن الطور االول من
منها مشتمل على أطوار ومراتب ،ومقدمة ُ
أصل جسد احلي دائما فيلقى
االنقالب األول إىل الطور اآلخر من االنقالب اآلخر يتجدد ُ
قشراً ويلبس األكمل مث خيلعه ويلبس صورة أعلى مث يلقيها أيضاً فيلبس صورة أحسن وهلم
جرا! ..فهو دائماً يف استبدال صورة بأخرى كاملة إىل أن يصل إىل أعلى األعايل فيستقر
معني وقانون منتظم .فأشار إىل أول االنقالبات بقوله
بتقرر السعادة األبدية ،وكلها بنظام ّ
(وكنتم أمواتا) وهذا مشتمل على أطوار آخر األطوار ينتج مآل (فأحياكم) الدال على
االنقالب الثاين الذي هو أعجب حقائق العامل املشتمل على أطوار آخرها تنتهي بانقالب
(مث مييتكم) املشتمل أيضاً على أطواره الربزخي اليت تتم بانقالب (مث حيييكم) املشتمل على
أطواره القربية مث احلشرية املختومة بقوله (مث اليه ترجعون) .فمن أمعن يف هذه االنقالبات
كيف يتجاسر على االنكار؟
مر اىل شدة الغضب ومل يقل "التؤمنون" اشارة اىل ش ّدة متردهم اذ يرتكون االميان الذي عليه
الدالئل ويقبلون الكفر الذي على بطالنه الرباهني .و واو احلالية يف (وكنتم) تشري إىل مقدر،
اذ اجلملتان ماضيتان .واألُخريان مستقبلتان كالمها اليوافق قاعدة مقارنة احلال لعامل ذي
1
احلال ،فاذاً التقدير "واحلال انكم تعلمون".
فإن قلت :اهنم وان علموا باملوت واحلياة األُوىل لكنهم اليعلمون اهنما من هللا ،وكذلك
اليقرون باحلياة الثانية واليصدقون بالرجوع اليه تعاىل؟
قيل لك :من البالغة تنزيل اجلاهل منزلة العامل عند ظهور دالئل ازالة اجلهل .فلما كان
التفكر يف أطوار املوت األول واحلياة األُوىل ملجأ اىل االقرار بالصانع وكان العلم هبا مقنعا
للذهن بوقوع احلياة الثانية؛ كانوا كأهنم عاملون هبذه السلسلة .واخلطاب يف (كنتم) اشارة اىل
أجسادهم
َ ان هلم يف عامل الذرات أيضاً وجوداً وتعينا .ال ان الذرات كيفما اتفقت صارت
املعينة بالتصادف .وإيثار (أمواتا) على مجاد 2أو ذرات امياء اىل مآل ( َملْ يَ ُك ْن َشْيئاً َم ْذ ُكوراً)
.1
فان قلت :الفاء للتعقيب واالتصال مع ختلل تلك األطوار وتوسط مسافة طويلة اىل احلياة؟
قيل لك :الفاء لإلشارة إىل منشأ دليل الصانع وهو ان انقالهبا من اجلمادية اىل احليوانية
دفعةً من غري توسط سبب معقول يُلجئ الذهن اىل االقرار بالصانع .وكذا ان األطوار يف
حالة املوات ناقصة غري ثابتة شأهنا التعقيب .وإيثار (أحياكم) على "صرمت أحياء" للتصريح،
أي صرمت أحياء والميكن ذلك بغري قدرة الصانع .فانتج ان هللا تعاىل هو الذي أحيا.
وأما مجلة (مث مييتكم) بدل "متوتون" فإشارة كما مر اىل أن املوت تصرف عظيم للقدرة
الطبيعي مث انتهى إىل
ّ مبقياس القدر .أال ترى ان من استوىف عمره
_____________________
األجل اق ُّل قليل .فيتيقظ الذهن اىل ان املوت ليس نتيجة طبيعية .فاملوت احنالل اجلسد ال
فناء الروح بل اطالقه.
وأما مجلة (مث حيييكم) فـ "مث" اشارة اىل توسط عامل الربزخ ذي العجائب.
وأما مجلة (مث اليه ترجعون) فـ "مث" اشارة اىل توسط الغطاء العظيم .و"ترجعون" اشارة اىل
كشف الغطاء وطرد األسباب واسقاط الوسائط.
بعض
توهم ٌ
فإن قلت :الرجوع اىل هللا تعاىل يقتضي ان يكون اجملئ منه ّاوال ،ومن هنا َ
االتصال واشتبه بعض أهل التصوف.
َ
قيل لك :ان يف الدنيا وجوداً وبقاء وكذا يف اآلخرة وجود وبقاء .فالوجود يف الدنيا يصدر من
يد القدرة بال واسطة وأما البقاء احملفوف بالتحليل والرتكيب والتصرف والتحول يف عامل
الكون والفساد فيتداخل بينه العلل وتتوسط األسباب للحكمة املذكورة سابقا .وأما يف
كل شئاآلخرة فالوجود وكذا البقاء بلوازمه وتركيباته يظهر بالذات من يد القدرة ويعرف ُّ
مال َكه احلقيقي .فاذا تأملت يف هذا علمت معىن الرجوع.
***
أما نظم اجملموع بالسابق فهو :ان يف اآلية األوىل انكار الكفر والكفران بالدالئل االنفسية
وهي أطوار البشر ،ويف هذه اآلية اشارة اىل الدالئل اآلفاقية ..وكذا يف األوىل اشارة اىل نعمة
الوجود واحلياة ،ويف هذه اآلية اىل نعمة البقاء ..وكذا يف تلك دليل على الصانع ومقدمة
للحشر ،ويف هذه اشارة اىل حتقيق املعاد وازالة الشبه كأهنم يقولون :اين لإلنسان هذه
القيمة؟ وكيف له تلك األمهية؟ وما موقعه عند هللا حىت يقيم القيامة ألجله؟ فقال القرآن
باشارات هذه اآلية :ان لإلنسان قيمة عالية بدليل ان السموات واألرض مسخرة الستفادته،
وكذا ان له أمهية عظيمة بدليل ان هللا مل خيلق االنسان للخلق بل خلق اخللق له ،وان له عند
خالقه ملوقعا بدليل ان هللا تعاىل مل يوجد العامل لذاته بل اوجده للبشر وأوجد البشر لعبادته.
فانتج ان االنسان مستثىن وممتاز ال كاحليوانات فيليق أن يكون مظهراً جلوهرةِ (مث اليه
ترجعون).
وأما نظم مجلة مجلة ،فاعلم! ان لفظ "مجيعا" يف اجلملة األوىل ولفظ "مث" يف الثانية ولفظ
"سبع" يف الثالثة تقتضي حتقيقاً .فلنتكلم عليها يف ثالث مسائل:
املسألة األوىل:
ان قلت :ان هذه اآلية تدل على أن مجيع ما يف األرض الستفادة البشر فكيف يتصور
استفادة (زيد) مثال من كل جزء من أجزاء األرض؟ و(حبيب وعلي) 2كيف يستفيدان من
حجر يف قعر جبل يف وسط جزيرة يف البحر احمليط الكبري؟ وكيف يكون مال (زيد) الستفادة
اجلميع ال التوزيع .وكذا كيف تكون عمرو؟ مع ان اآلية باشارات أخواهتا تشري أن لكل ٍ
فرد
َ
الشمس والقمر وغريمها مع
_____________________
( 1ش).
تلك العظمة لزيد وعمرو والعلة الغائية فيها الفائدة اجلزئية هلما؟ وكيف تكون املضرات
الستفادة البشر مع انه ال جمازفة يف القرآن والتليق املبالغة ببالغته احلقيقية؟
والثانية :ان يف العامل كما علمت نظاما ثابتا واتساقا حمكما ودساتري عالية وقوانني أساسية
سن من
مستمرة فيكون العامل كساعة أو ماكينة منتظمة .فكما ان كل دوالب منها بل كل ّ
دخل ولو جزئيا يف نظام املاكينة ،وكذا له تأثري يف
سن له ٌ
كل دوالب بل كل جزء من كل ّ
فائدة املاكينة ونتيجتها بواسطة نظامها؟ كذلك لوجوده دخل يف فائدة أهل احلياة الذين
سيّدهم ورئيسهم البشر.
والثالثة :انه -كما قرع مسعك فيما مضى -ال مزامحة يف وجوه االستفادة ،فكما ان
الشمس بتمامها لزيد وان ضياءها روضة وميدان لنظره؛ كذلك بتمامها ُملك لعمرو وجنة له.
فزيد مثال لو كان يف العامل وحده كيف تكون استفادته؛ كذلك اذا كان مع كل الناس ال
1
ينقص منها شئ اال فيما يعود اىل الغارين.
والرابعة :ان الكائنات ليس هلا وجه رقيق فقط ،بل فيها وجوه عمومية خمتلفة طبقا على طبق،
ولفوائدها جهات كثرية عمومية متداخلة ،وطرق االستفادة متعددة متنوعة .مثالً :اذا كان
لك روضة تستفيد منها جبهة ويستفيد الناس جبهة أخرى ،كاالستلذاذ بالقوة الباصرة .والجرم
ان استفادة االنسان حتصل حبواسه اخلمس الظاهرة وحبواسه الباطنة وجبسمه وبروحه وكذا
بعقله وقلبه وكذا يف دنياه ويف آخرته وكذا من جهة العربة وقس عليها ..فال مانع من
استفادته بوجه من هذه الوجوه من كل ما يف األرض بل العامل.
واخلامسة :انه:
_____________________
قيل لك :ان املستفيد يفىن يف جهة استفادته وينحصر ذهنُه يف طريقها وينسى ما عداها
وينظر اىل كل شئ لنفسه وحيصر العلة الغائية على ما يتعلق به .فاذاً ال جمازفة يف الكالم
ِ
أللوف ملوجه اىل ذلك الشخص يف مقام االمتنان بأن يقال :ان زحل الذي أبدعه خالقه ا َّ
ٍ
مستفيد العلة الغائية يف إبداعه ألوف
جهات ،ويف كل جهة ُ ٍ ِح َك ٍم ،ويف كل حكمة ُ
ألوف
جهة استفادة ذلك الشخص.
كلي
ئي ّوالسادسة - :وقد نبهت عليه -ان االنسان وان كان صغرياً فهو كبري ،فنفعه اجلز ّ
فال عبثية.
ك ِ
األرض بـَ ْع َد ذل َ
اعلم! ان هذه اآلية تدل على أن خلق األرض قبل السماء ،وان آية (و َ
نامهَا) 2تدل 1
َدحيـ َـها) تدل على ان خلق السماء قبل االرض ،وان آية ( َكانَـتَا َرتْقاً فَـ َفتَـ ْق ُ
على اهنما خلقتا معا وانشقتا من مادة..
واعلم ثانيا :ان نقليات الشرع تدل على ان هللا تعاىل خلق ّاوال جوهرةً -أي مادة -مث
جتلى عليها فجعل قسما منها خبارا وقسما مائعا .مث تكاثف املائع بتجلِّيه فأزبد .مث خلق
األرض أوسبع كرات من األرضني من ذلك الزبد فحصل لكل أرض منها مساء من اهلواء
فسوى منها مسوات زرع فيها النجوم فانعقدت السموات مي .مث بسط املادة البخارية ّ
النسي ّ
مشتملة على نويات النجوم .وان فرضيات احلكمة اجلديدة ونظرياهتا حتكم بأن املنظومة
الشمسية أي مع مسائها اليت تسبح فيها كانت جوهراً بسيطاً مث انقلب إىل نوع خبار مث حتصل
ناري مث تصلب بالتربد منه قسم مث ترامى ذلك املائع الناري بالتحرك شرارات
من البخار مائع ّ
وقطعات انفصلت فتكاثفت فصارت سيّارات منها أرضنا هذه.
_____________________
فإذا مسعت هذا جيوز لك التطبيق بني هذين املسلكني ألنه ميكن أن يكون آية (كانتا رتقا
ففتقنامها) اشارة اىل ان األرض مع املنظومة الشمسية كانت كعجني عجنته يد القدرة من
"مادة االَثِري" اليت هي كاملاء السيّال بالنسبة اىل املوجودات فتنفذ جارية
جوهر بسيط أعين ّ
بينها .وآية (وكا َن عرشه علَى الْ ِ
ماء) 1اشارة اىل هذه املادة اليت هي كاملاء .و"االثري" بعد َ َْ ُ ُ َ
اهر فرد ًة مث جعل ِ
صريه جو َألول جتلّي الصانع باالجياد ،اي فخلق "األثري" مث ّ خلقه ،هو املركز ّ
البعض كثيفاً ،مث خلق من الكثيف سبع كرات مسكونة منها ارضنا .مث ان األرض بالنظر اىل
كثافتها وتصلبها قبل الكل وتعجيلها يف لبس القشر وصريورهتا من زمان مديد منشأ احلياة
مع بقاء كثري من االجرام السماوية اىل اآلن مائعة نارية تكون خلقتها وتشكلها من هذه
اجلهة قبل خلق السموات .وملا كان تكمل منافعها ودحوها -أي بسطها ومتهيدها لتعيّش
اسبق من هذه اجلهة مع
نوع البشر -بعد تسوية السموات وتنظيمها تكون السموات َ
االجتماع يف املبدأ .فاآليات الثالث تنظر اىل النقاط الثالث.
اجلواب الثاين :ان املقصد من القرآن الكرمي ليس درس تاريخ اخللقة ،بل نزل لتدريس معرفة
الصانع .ففيه مقامان :ففي مقام بيان النعمة واللطف واملرمحة وظهور الدليل تكون األرض
اقدم ،ويف مقام دالئل العظمة والعزة والقدرة تكون السموات اسبق ..مث ان "مث" كما تكون َ
2
للرتاخي الذايتّ جتئ للرتاخي الرتيب فـ (مث استوى) أي مث اعلموا وتفكروا انه استوى.
_____________________
2اى للرتاخى التفكرى ،مبعىن :ان خلق السموات مع انه أسبق إالّ ان التفكر فيه يأتى باملرتبة
الثانية .ومع ان خلق االرض بعد السموات االّ ان التفكر فيه اسبق ،اي يلزم التفكر يف خلق
االرض قبل السموات (ت.)216 :
كالسماك تسبح .واحلديث يدل على ان "السماء موج مكفوف" 1وحتقيق هذا املذهب
َّ
احلق يف ست مقدمات.
والثانية :ان رابطة قوانني األجرام العلوية وناشر قوى أمثال الضياء واحلرارة وناقلها مادة
موجودة يف الفضاء مالئة له.
والثالثة :ان مادة األثري مع بقائها اثرياً هلا كسائر املواد تشكالت خمتلفة وتنوعات متغايرة
كتشكل البخار واملاء واجلمد.
والرابعة :انه لو أمعن النظر يف االجرام العلوية يُرى يف طبقاهتا ختالف .أال ترى ان هنر السماء
املسمى بـ " َكه َكشان" 2املرئي يف صورة لطخة سحابية امنا هو ماليني ٍ
جنوم أخذت يف َ ّ ْ
االنعقاد .فصورةُ األثري اليت تنعقد تلك النجوم فيها ختالف طبقة الثوابت البتة ،وهي أيضاً
ختالف طبقات املنظومة الشمسية باحلدس الصادق وهكذا اىل سبع منظومات.
واخلامسة :انه قد ثبت حدسا واستقراء انه اذا وقع التشكيل والتنظيم والتسوية يف مادة تتولد
منها طبقات خمتلفة كاملعدن يتولد منه الرماد والفحم واألملاس ..وكالنار تتميز مجراً وهلبا
ودخانا ،وكمزج مولّد املاء مع مولّد احلموضة 1يتشكل منه ماء ومجد وخبار.
والسادسة :ان هذه االمارات تدل على تعدد السموات .والشارع الصادق قال هي سبعة،
فهي سبعة على ان السبع والسبعني والسبع مائة يف أساليب العرب ملعىن الكثرة.
_____________________
2درب التبانة.
3اهليدروجني واالوكسجني.
إشارات اإلعجاز -ص227 :
اعلم! انك اذا تفكرت يف ُو ْسعة خطابات القرآن الكرمي ومعانيه ومراعاته الفهام عامة
الطبقات من أدىن العوام اىل أخص اخلواص ترى أمراً عجيباً .مثالً :من الناس من يفهم من
(سبع مسوات) طبقات اهلواء النسيمية ..ومنهم من يفهم منه الكرات النسيمية احمليطة بأرضنا
هذه وأخواهتا ذوات ذوي احلياة ..ومنهم من يفهم منه السيّارات السبع املرئية للجمهور..
ومنهم من يفهم منه طبقات سبعة اثريية يف املنظومة الشمسية ..ومنهم من يفهم منه سبع
منظومات مشوسية أوالها منظومة مشسنا هذه ..ومنهم من يفهم منه انقسام األثري يف
التشكل اىل طبقات سبعة كما مر آنفا ..ومنهم من يرى مجيع ما يُرى مما ُزيّن مبصابيح
الشموس والنجوم الثوابت مساء واحدة .هي السماء الدنيا وفوقها ست مسوات اُخر الترى..
ومنهم من اليرى احنصار سبع مسوات يف عامل الشهادة فقط بل يتصورها يف طبقات اخللقة
يف العوامل الدنيوية واألٌخروية والغيبية ..فكل يستفيض بقدر استعداده من فيض القرآن
ويأخذ حصته من مائدته فيشتمل على كل هذه املفاهيم.
واعلم! ان اجلملة األوىل :أعين (هو الذي خلق لكم ما يف األرض مجيعاً) نظمها خبمسة
أوجه:
األول :ان اآلية األوىل اشارة اىل نعمة احلياة والوجود ،وهذه تشري اىل نعمة البقاء وأسبابه.
والثاين :انه ملا اثبتت األوىل للبشر أعلى املراتب أعين الرجوع اليه تعاىل تنبه ذهن السامع
للسؤال بـ "اين هلذا االنسان الذليل استعداد هلذه املرتبة العالية إالّ ان يكون بفضله تعاىل
وجذبه؟" .فكأن هذه اجلملة تقول جميبة عن ذلك السؤال ان ل ِإلنسان عند خالقه الذي
سخر له مجيع الدنيا ملوقعا عظيما.
والثالث :انه ملا أشارت األوىل اىل وجود احلشر والقيامة للبشر ذهب السامع اىل سؤال :ما
أمهية البشر حىت تقوم القيامة ألجله وخيرب العامل لسعادته؟ فكأن هذه اجلملة جتيبه بـ "ان
وس ّخر له األنواع له أمهية عظيمة تشري اىل انه هو
من ُهيّ َئ مجيع ما يف األرض الستفادته ُ
النتيجة للخلقة".
إشارات اإلعجاز -ص229 :
والرابع :ان األوىل اشارت بـ (اليه ترجعون) اىل رفع الوسائط واحنصار املرجعية فيه تعاىل.
واحلال ان للبشر يف الدنيا مراجع كثرية ،فهذه اجلملة تقول أيضاً ان األسباب والوسائط
األسباب
ُ تشف عن يد القدرة ،وان املرجع احلقيقي يف الدنيا امنا هو هللا تعاىل وامنا توسطت
ّ
حلِ َكم فانه تعاىل هو الذي خلق ل ِإلنسان كل ما حيتاج اليه.
واخلامس :ان األوىل ملا اشارت اىل السعادة األبدية أشارت هذه اىل ِ
سابقة ٍ
فضل يستلزم تلك
حلقيق بأن يعطى له السعادة
الفضل أي من اُحسن اليه مجيع ما يف األرض ٌ
ُ السعادة ذلك
األبدية.
والرابع :ان هذه اجلملة تشري اىل ان فائدة البشر ال تنحصر على األرض بل السماء أيضاً
مسخرة الستفادته.
أحدمها :اهنا دليل لِ ّمي على التنظيم السابق كما ان التنظيم السابق دليل اِ ّينّ عليها؛ اذ
االتساق واالنتظام يدالن على وجود العلم الكامل كما ان العلم يفيد االنتظام.
واآلخر :ان اجلملة األوىل تدل على القدرة الكاملة وهذه على العلم الشامل.
أما نظم هيئآت مجلة مجلة :ففي اجلملة األوىل االستيناف وتعريف اجلزئني وتعريف اخلرب والم
"لكم" وتقدمي "لكم" ولفظ "يف" ولفظ "مجيعا":
أما االستيناف فإشارة إىل أسئلة مقدرة وأجوبة قد نبهت عليها يف االوجه اخلمسة لنظم
اجلملة األوىل ..وأما تعريف اجلزئني 1فاشارة اىل التوحيد واحلصر الذي هو دليل على احلصر
يف تقدمي "اليه" يف (مث اليه ترجعون) ..وأما تعريف اخلرب فاشارة اىل ظهور احلكم ..2وأما الم
النفع يف (لكم) فاشارة اىل أن األصل يف األشياء االباحة وامنا تعرض احلرمة للعصمة :كمال
اآلدمي .أو للضرر :كالسم .أو لالستقذار :كبلغم الغري .أو
ّ الغري .أو للحرمة :كلحم
للنجاسة :كامليتة ..وكذا رمز اىل وجود النفع يف كل شئ ،وان للبشر ولو جبهة من اجلهات
استفادة ولو بنوع من األنواع ولو يف أحقر األشياء وال أقل من نظر العربة ،وكذا امياء اىل انه
كم من خزائن للرمحة مكنوزة يف جوف األرض تنتظر أبناء املستقبل ..وأما تقدمي (ولكم)
فاشارة اىل أن جهة استفادة البشر أقدم الغايات وأوالها وأوهلا ..وأما (ما) املفيدة للعموم
حتري النفع يف كل شئ ..وأما (يف األرض) بدل "على األرض" مثال ،فاشارة فللحث على ِّ
حتري ما يف جوفها ..ويدل تدرج اىل وجود أكثر املنافع يف بطن األرض ،وكذا تشجيع على ِّ
البشر يف االستفادة من معادن األرض وموادها على انه ميكن أن يكون يف ضمنها مواد
ط تكاليف احلياة من الغذاء وغريه ..واما وعناصر ختفف عن كاهل أبناء االستقبال ضغ َ
(مجيعا) فلرد األوهام يف عبثية بعض األشياء.
وأما ( مث) يف اجلملة الثانية فاشارة اىل سلسلة من أفعاله تعاىل وشؤونه بعد خلق األرض إىل
تنظيم السماء ..وكذا رمز اىل تراخي رتبة التنظيم يف نفع البشر عن خلقة األرض ..وكذا امياء
يسوي ..وكذا فيه جماز أي كمن
اىل تأخره عنها .واما (استوى) ففيه اجياز ،أي :أراد أن ّ
يسدد قصده اىل شئ ال ينثين مينةً ويسرًة .و(اىل السماء) أي اىل مادهتا وجهتها .واما فاء
(فسويــهن) فبالنظر اىل جهة
_____________________
" 1هو " :مبتدأ ،و "الذى " مع صلته :خرب (ت)221 :
2حيث ان اصل اخلرب نكرة ،االّ ان جميئه معرفةً اشارة اىل ظهور احلكم ،وهو :ان هللا خالق
االرض مبا فيها .وهو امر معلوم ظاهر (ت.)221 :
التفريع نظري ترتب "فيكون" على "كن" ،وتعلق القدرة على تعلق االرادة والقضاء على
"ونوعها ونظّمها ودبّر األمر بينها
القدر .واما بالقياس اىل جهة التعقيب فامياء اىل تقدير ّ
"سوى" أي خلقها منتظمة مستوية متساوية يف أن أعطى كالّ ما يناسب فسويهن" اخل .واما ّّ
استعداده ويساوي قابليته .واما "هن" فامياء اىل تنوع مواد السموات .وأما (سبع) فيتضمن
الكثرة واملناسبة مع الصفات السبع ومع األدوار السبعة يف تشكالت األرض .و(مسوات) أي
السيارات ومزرعة حلبّات النجوم. ِ
الاليت هن رياض ألزاهري الدراري وحبار لسماك ّ
أما مجلة (وهو بكل شيء عليم) فواو العطف املقتضية للمناسبة اشارة اىل "وهو على كل
شئ قدير فهو اخلالق هلذه االجرام العظيمة ،وهو بكل شئ عليم فهو النظّام املتقن للصنعة
فيها" .وباء االلصاق اشارة اىل عدم انفكاك العلم عن املعلوم .واما "كل" فهو العام الذي مل
ص منه البعض" واالّ لكانت
خيص منه البعض .وقد خص قاعدة "وما من عام االّ وقد ُخ َّ
الكالمي" ولفظ "شيء"
ّ هذه القاعدة حبيث اذا صدقت ك ّذبت نفسها نظري "اجلذر األصم
الشائي واملشيءَ وما ليس هبذا وال بذاك كاملمتنع .و "عليم" أي ذات ثبت له الزماً منه
ّ يعم
العلم.
***
مـقـدمـ ــة
اعلم! ان التصديق بوجود املالئكة أحد أركان االميان .ولنا هنا مقامات..
املقام األول:
ان من نظر اىل األرض وقد امتُلئت بذوي األرواح مع حقارهتا ،وتأمل يف انتظام العامل
واتقانه ،حتدس بوجود سكان يف هذه الربوج العالية .فَ َمثَ ُل َم ْن مل يص ّدق بوجود املالئكة
ملوثة باملزخرفات مشحونة
َك َمثَل رجل ذهب اىل بلدة عظيمة وصادف دارا صغرية عتيقة ّ
بالناس .ورأى عرصاهتا مملوءة من ذوي األرواح وحلياهتم شرائط خمصوصة كالنباتات
السماك .مث رأى اُلوفا من القصور العالية اجلديدة قد ختلّلت بينها ميادين النزهة فيعتقد ِ
و ّ
خلوها عن السكان لعدم جريان شرائط حياة هذه الدار يف تلك القصور .ومثل املعتقد
بوجودهم َك َمثَل َم ْن اذا رأى هذا البيت الصغري وقد امتأل من ذوي األرواح ورأى انتظام
البلدة ،جزم بأن لتلك القصور املزيَّنة أيضاً سكانا يناسبوهنا وتوافقهم وهلم شرائط حياة
خمصوصة فعدم مشاهدهتم -لبعدهم وترفعهم -ال يدل على عدمهم .فامتالء األرض من
اخلفي املبين على
وي املؤسس على القياس ّ ذوي احلياة ينتج بالطريق االْوىل وبالقياس االْولَ ّ
االنتظام املطرد -امتالء هذه الفضاء الوسيعة بربوجها وجنومها ومساواهتا من ذوي األرواح
الذي يدعوهم الشرع باملالئكة املنطوية على أجناس خمتلفة فتأمل!..
املقام الثاين:
اعلم -كما مر -ان احلياة هي الكشافة للموجودات بل هي النتيجة هلا ،فاذاً كيف ختلو
هذه الفضاء الوسيعة من ساكنيها وتلك السموات من عامريها .ولقد
أمجع العقالء إمجاعا معنويا -وان اختلفوا يف طرق التعبري -على وجود معىن املالئكة
اال ْشراقِيّني
اجملردة الروحانية لألنواع ،و ِ
عربوا عنهم باملاهيات َّ
املشائيني ّ
وحقيقتهم ،حىت ان ّ
عربوا عنها بالعقول وأرباب األنواع ،وأهل األديان مبلَك اجلبال وملَك البحار وملك االمطار ّ
مثال .حىت ان املاديني الذين عقوهلم يف عيوهنم مل يتيسر هلم انكار معىن املالئكة بل نظروا
اليهم يف القوات السارية يف نواميس الفطرة.
فان قلت :أفال يكفي الرتباط الكائنات وحيويتها هذه النواميس وتلك القوانني اجلارية يف
اخللقة؟
قيل لك :ما تلك النواميس اجلارية والقوانني السارية اال أمور اعتبارية بل ومهية ال يتعني هلا
وم ْن هو آخذ برأس خيوطها وان هي إالّ ِ
وجود وال يتشخص هلا ُهويّة اال مبمثّالهتا ومعاكسها َ
املالئكة ..وأيضاً قد اتفق احلكماء والعقل والنقل على عدم احنصار الوجود يف عامل الشهادة
الظاهر اجلامد الغري املوافق لتشكل األرواح .فعامل الغيب املشتمل على عوامل -املوافق
مظهر حلياة عامل الشهادة ..فاذا شهدت لك هذه ، 1
للسماك -مشحون هبا لألرواح كاملاء ِ
ٌ
األمور األربعة على وجود معىن املالئكة فأحسن صور وجودهم اليت ترضى هبا العقول
السليمة ماهو إالّ ماشرحه الشرع من ّاهنم عباد مكرمون ال خيالفون مايؤمرون ،وكذا اهنم
أجسام لطيفة نورانية ينقسمون إىل أنواع خمتلفة.
املقام الثالث:
اعلم ان مسألة املالئكة من املسائل اليت يتحقق الكل بثبوت جزء واحد ،ويُعلم النوع برؤية
الكل .مث كما انه حمال عندك -ايقظك هللا -أن جيمع
أحد األشخاص ،اذ من أنكر أنكر َّ
أهل كل األديان يف كل األَعصار من آدم اىل اآلن على وجود املالئكة وثبوت احملاورة معهم
وثبوت مشاهدهتم والرواية عنهم كمباحثة الناس طائفة عن طائفة ،بدون رؤية فرد بل أفراد
منهم وبدون ضرورة وجود شخص بل أشخاص منهم ،وبدون االحساس بالضرورة
بوجودهم؛ كذلك حمال أن يقوم َوْهم كذلك يف عقائد البشر ويستمر هكذا ويبقى يف
االنقالبات بدون حقيقة يتسنبل عليها وبدون مبادئ ضرورية مولِّدة لذلك االعتقاد
العمومي .فإذاً ليس سند هذا
ّ
_____________________
1اى باملالئكة.
االمجاع االّ حدس تولَّد من تفاريق امارات حصلت من واقعات مشاهدات نشأت من
مبادئ ضرورية .وليس سبب هذا االعتقاد العمومي اال مبادئ ضرورية تولدت من رؤيتهم
كرات تفيد قوة التواتر املعنوي .واالّ رفع األمن من يقينيات معلومات البشر.ومشاهدهتم يف ّ
فاذا حتقق وجود واحد من الروحانية يف زمان ّما حتقق وجود هذا النوع .واذا حتقق هذا النوع،
كان كما ذكره الشرع وبيّنه القرآن الكرمي.
مث ان نظم مآل هذه اآلية بسابقها من أربعة وجوه:
األول :انه ملا كانت هذه اآليات يف تعداد النعم العظام ،واشارت األوىل إىل أعظمها -من
كون البشر نتيجة للخلقة وكون مجيع ما يف األرض مسخراً له يتصرف فيها على ما يشاء -
اشارت هذه اىل ان البشر خليفة األرض وحاكمها.
والثاين :ان هذه اآلية بيان وتفصيل وايضاح وحتقيق وبرهان وتأكيد ملا يف اآلية األوىل من أن
أزمة سالسل ما يف األرض يف يد البشر.
والثالث :ان تلك ملا بيّنت بناء املسكنني من األرض والسماء اشارت هذه اىل ساكنيهما من
البشر وامللَك ،واهنا رمزت اىل سلسلة اخللقة ،وأومأت هذه اىل سلسلة ذوي األرواح.
والرابع :اهنا ملا صرحت بأن البشر هو املقصود من اخللقة وان له عند خالقه ملوقعاً عظيما،
اختلج يف ذهن السامع انه كيف يكون للبشر هذه القيمة مع كثرة شروره وفساده؟ وهل
تستلزم احلكمة وجوده للعبادة والتقديس له تعاىل؟ فأشارت هذه اىل ان تلك الشرور
السر املودع فيه ،وان هللا غين عن عبادته اذ له تعاىل من املالئكة واملفاسد تُغتفر يف جنب
ّ ُ
املسبِّحني واملق ِّدسني ما ال حيصر بل حلكمة يف علم عالّم الغيوب.
تنصب بناء على اقتضاء "اذ" رديفا هلا ،وعطفه على (وهو بكل شيء عليم) -إىل ُّ ان اآلية
تقدير 1إذ خلق ما خلق منتظما متقنا هكذا واذ قال ربك للملئكة اخل ،وانه تعاىل ملا
سر احلكمة ولتعليم
خاطب مع املالئكة -ليستفسروا ّ
_____________________
أما نظم هيئات مجلة مجلة ،فاعلم! ان الواو يف (واذ قال ربك للملئكة اين جاعل يف األرض
خليفة) وكذا يف (واذ قال ربك للملئكة اين خالق بشراً من صلصال) 1يف آية أخرى بسر
ِ ِ
ره ْم بِ َذل َ
ك" املناسبة العطفية اشارة اىل "اذ واذ" كما مر .وكذا -بسر ان الوحي يتضمن "ذَ ّك ُ
اشارة اىل "واذكر هلم اذ" اخل..
وان (اذ) املفيد للزمان املاضي لتسيري األذهان يف األزمنة املتسلسلة املاضوية ورفع وجلب
واحضار هلا اىل ذلك الزمان لتنظره فتجتين ما وقع فيه ..وان (ربك) اشارة اىل احلجة على
كملك وجعلك مرشداً للبشر إلزالة فسادهم أي "انت احلسنة الكربى اليت املالئكة أي ربّاك و ّ
ترجحت وغطت على تلك املفاسد" ..وان (للملئكة) اشارة يف هذه املقاولة الكائنة على
صورة املشاورة اىل ان لسكان السموات أعين املالئكة مزيد ارتباط وعالقة وزيادة مناسبة مع
وح َفظة وَكتَبَة على هؤالء فح ّقهم االهتمام
موكلني َ
سكان األرض أعين البشر .فان من اولئك ُ
بشأهنم .وان "ان" بناء على كوهنا لرد الرتدد املستفاد من "أجتعل" اشارة اىل عظمة املسألة
وأمهيتها .وان ياء املتكلم وحده هنا مع "نا" للمتكلم مع الغري يف "قلنا" يف اآليات اآلتية
اشارة اىل ان ال واسطة يف اجياده وخلقه كما توجد يف خطابه وكالمه .ومما يدل على هذه
النكت آية (انا انزلنا اليك الكتاب باحلق لتحكم بني الناس مبا اريك هللا) 2فقال "انزلنا"
بنون العظمة لوجود الواسطة يف الوحي وقال "أريك هللا"
_____________________
مفرداً لعدم الواسطة يف إهلام املعىن .وان ايثار (جاعل) على "خالق" اشارة اىل ان مدار
الشبهة واالستفسار اجلعل(. )1والتخصيص لعمارة األرض ال اخللق واالجياد ،ألن الوجود
خري حمض واخللق فعله الذايتّ ال يُسأل عنه .وان ايثار "يف" يف (يف األرض) على "على" مع
ان البشر على األرض الخيلو من االمياء اىل ان البشر كالروح املنفوخ يف جسد األرض ،فمىت
األرض وماتت .وان (خليفة) اشارة اىل انه قد وجد قبل َهتئ األرض ُ خرج البشر خربت
األوليةُ لألرض وهذا هو
ط حياته االدو ُار ّ خملوق ُم ْد ِرك ساعدت شرائ َ
لشرائط حياة اإلنسان ٌ
األوفق لقضية احلكمة .واملشهور ان ذلك املخلوق امل ْد ِرك كان نوعا من اجلن فأفسدوا
ُ
فاستُخلفوا با ِإلنسان.
اما هيئات مجلة (قالوا أجتعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) فاعلم! ان استيناف
(قالوا) اشارة اىل ان توجيه خطابه تعاىل اىل املالئكة يلجئ السامع اىل السؤال بـ "كيف
بيت وأيرضون هبم قرناء وما رأيهم فيهم؟" فقال" :قالوا" .وان وجه كونه
بيت َيتل ّقون جرياهنم َ
جزاء لـ "اذ" هو :ان حكم هللا تعاىل جبعل البشر خليفة يف األرض -اليت وّكل عليها املالئكة
-مع انه ال مشري له تعاىل وال وزير يستلزم اظهار كيفية تلقيهم هلم .وان صورة القول اشارة
اىل اسلوب املقاولة على صورة املشاورة لتعليم الناس مع تنزهه تعاىل عنها .وان استفهام
(أجتعل) فلتحقق اجلعل باخباره تعاىل متتنع حقيقتُه فيتولد منه التعجب الناشئ عن خفاء
السبب فيتولد منه االستفسار -أي ما حكمة اجلعل؟ فاستفهم عن املسبب بدال عن
السبب وليس ل ِإلنكار لعصمتهم .2وان اجلعل رمز اىل ان شؤون البشر ونسبه االعتبارية
ووضعياته ليست من لوازم الطبيعة وال من ضروريات الفطرة بل كل منها جبعل اجلاعل .وان
(فيها) مع "فيها" مع قصر املسافة فللتنصيص واالمياء اىل معىن :ما حكمة جعل البشر روحا
منفوخا يف جسد األرض حلياهتا مع وجود الفساد واالماتة من حيث األحياء؟ .وان التعبري بـ
(م ْن) اشارة اىل انه ال يعنيهم شخصية البشر وامنا يثقل عليهم عصيان خملوق هلل تعاىل .وانَ
ايراد (يفسد) بدل "يعصي" اشارة اىل ان العصيان ينجر اىل فساد نظام العامل .وان صورة
املضارع اشارة اىل ان
_____________________
( )2ان القصد من استفهام املالئكة ليس اعرتاضاً على اجلعل ،اذ حتقق باخباره تعاىل،
والهنم ال يعصون هللا ما امرهم ،وامنا هو استفسار عن حكمة اجلعل ،وذلك خلفاء السبب
عنهم (ت.)212 :
املستنكر جتدد العصيان واستمراره .وقد علموا ذلك اما باعالمه تعاىل أو مبطالعة اللوح أو
مبعرفة فطرهتم من عدم حتديد القوى املودعة فيهم .فبتجاوز الشهوية حيصل الفساد وبتعدي
الغضبية ينشأ السفك والظلم .و(فيها) أي مع أهنا كانت مسجداً اُسس على التقوى .وان
موقع "الواو" اجلمع بني الرذيلتني مبناسبة اجنرار الفساد اىل سفك الدم .وان ايثار (يسفك)
على "يقتل" ألن السفك هو القتل بظلم .ومن القتل ما هو جهاد يف سبيل هللا وكذا قتل
الفرد لسالمة اجلماعة كقتل الذئب لسالمة الغنم .واما الدماء فتأكيد ملا يف السفك من الدم
لتشديد شناعة القتل.
وأما هيئات (وحنن نسبح حبمدك ونقدس لك) فواو احلال اشارة اىل استشعارهم االعرتاض
عليهم بـ "اما يكفيكم حكمة عبادة البشر وتقديسه له تعاىل؟" (وحنن) أي معاشر املالئكة
املعصومني من املعاصي ..وامسية اجلملة اشارة اىل ان التسبيح كالسجية هلم والالزم لفطرهتم
وهم له .أما (نسبح حبمدك) فكلمة جامعة أي نعلنك يف الكائنات بأنواع العبادات..
ونعتقد تنزهك عما ال يليق جبنابك بتوصيفك بأوصاف اجلالل وما هو اال من نعمك احملمود
عليها .ونقول "سبحان هللا وحبمده" .وحنمدك ونصفك بأوصاف اجلالل واجلمال .ونقدس
لك أي نقدسك ،أو نطهر أنفسنا وأفعالنا من الذنوب وقلوبنا من االلتفات اىل غريك .فالواو
للجمع بني الفضيلتني أي امتثال األوامر واجتناب النواهي ،فيكون حذاء الواو األول.
واما هيئات (قال اين اعلم ما التعلمون) فاستينافها اشارة اىل السؤال بـ "ماذا قال هللا تعاىل
بني السبب مزيال لتعجبهم ،وما احلكمة يف ترجيح البشر عليهم؟" جميبا الستفسارهم ،وكيف ّ
فقال "قال" مشرياً إىل جواب امجايل مث فصل بعض التفصيل باآلية التالية .و" ان" يف (اين
اعلم) للتحقيق ورد الرتدد والشبهة وهو امنا يكون يف حكم نظري ليس مبسلّم مع بداهة
ومسلّمية علم هللا تعاىل مبا ال يعلم اخللق وحاشاهم عن الرتدد يف هذا .فحينئذ يكون "ان"
مناراً على سلسلة مجل خلصها القرآن الكرمي وأمجلها وأوجزها بطريق بياينّ مسلوك .أي :ان
يف البشر مصاحلَ وخرياً كثريا تغمر يف جنبها معاصيه اليت هي شر قليل ،فاحلكمة تنايف ترك
ذلك هلذا .وان يف البشر لسراً ّاهله للخالفة غفلت عنه املالئكة وقد علمه خالقه..
وان فيه حكمة رجحته عليهم اليعلموهنا ويعلمها من خلق .وأيضاً قد يتوجه معىن "ان" اىل
احلكم الضمين املستفاد من واحد من قيود مدخوهلا أي ال تعلمون بالتحقيق ..وأيضاً (اعلم
ما ال تعلمون) من قبيل ذكر الالزم وارادة امللزوم أي يوجد ما ال تعلمون ،اذ علمه تعاىل الزم
لكل شئ فنفى العلم دليل على عدم املعلوم كما قال تعاىل (مبا ال يعلم) أي ال ميكن
واليوجد ،ووجود العلم دليل على وجود املعلوم ..مث انه قد ذكر يف حتقيق هذا اجلواب
االمجايل ان هللا عليم حكيم .الختلو أفعاله تعاىل عن حكم ومصاحل ،فاملوجودات ليست
حمصورة يف معلومات اخللق فعدم العلم ال يدل على العدم ،وان هللا تعاىل ملا خلق اخلري
احملض أعين املالئكة ،والشر احملض أعين الشياطني ،وما الخري عليه وال شر أعين البهائم،
اقتضت حكمة الفيّاض املطلق وجود القسم الرابع اجلامع بني اخلري والشر .إن انقادت القوة
الشهوية والغضبية للقوة العقلية فاق البشر على املالئكة بسبب اجملاهدة ،وان انعكست
انزل من البهائم لعدم العذر.
القضية صار َ
***
يم 12قَ َال يا َاد ُم اَنْبِْئـ ُه ْم بِاَ ْمسائِ ِه ْم َّك اَنْتَ الْعلِيم ْ ِ َّ ِ
احلَك ُ َما َعل ْمتَنا ان َ َ َ َ ُ
السمو ِ
ات ِِ ِ ِِ
ب َّ َفَـلَ َّما اَنْـبَاَ ُه ْم باَ ْمسائه ْم قَ َال اَ َملْ اَقُ ْل لَ ُك ْم ا ّين اَ ْعلَ ُم َغْي َ
َواالْ ْر ِ
ض َواَ ْعلَ ُم َما تَـْب ُدو َن َوما ُكْنتُ ْم تَكْتُ ُمو َن 11
مـقـدم ــة
اعلم! ان هذه معجزة آدم حت ِّديت هبا املالئكة بل معجزة نوع البشر يف دعوى اخلالفة .ان يف
ص لعرباً .مث اين نظراً اىل ان (وال رطب واليابس اال يف كتاب مبني) 1ومستنداً اىل ان
القص َ
َ
2
ألفهم من اشارات
التنزيل كما يفيدك بدالالته ونصوصه؛ كذلك يعلّمك باشارته ورموزهُ ،
التشجيع للبشر على
َ التشويق و
َ صص األنبياء ومعجزاهتم استاذية اعجاز القرآن الكرمي يف قَ َ
التوسل للوصول إىل أشباهها .كأن القرآن بتلك القصص يضع اصبعه على اخلطوط
األساسية ونظائر نتايج هنايات مساعي البشر للرتقي يف االستقبال الذي يُبىن على مؤسسات
املاضي الذي هو مرآة املستقبل .وكأن القرآن ميسح ظهر البشر بيد التشويق والتشجيع قائال
له :اسع واجتهد يف الوسائل اليت توصلك اىل بعض تلك اخلوارق! أفال ترى ان الساعة
والسفينة أول ما أهدهتما للبشر يد املعجزة .وان شئت فانظر اىل (وعلّم آدم االمساء كلها)
جبال ّأويب معه والطري وألنّا له احلديد) 1واىل (ولسليمن
داود منّا فضال يا ُ واىل (ولقد اتينا َ
ني
أس ْلنا له َع َ
دوها شهر ورواحها شهر و َ الريح غُ ّ
_____________________
نار كوين برداً وسالما) 0واىل (لوال ان َرا برها َن ربه) 9أي صورة
وكذا انظر اىل قوله تعاىل (يا ُ
(ياجبال ّأويب معه) يح يوسف) 6واىل ِ
ُ يعقوب عاضا على اصبعه يف رواية ،واىل (اين ألَجد ر َ
واىل (عُلِّمنا منطق الطري) 7واىل (أنا اتيك به قبل ان يرت ّد اليك طرفُك) 9وأمثاهلا ،مث تأمل
فيما كشفه البشر من مرتبة النار اليت الحترق ومن الوسائط اليت متنع ا ِإلحراق ،وفيما اخرتعه
من الوسائل اليت جتلب الصور واألصوات من مسافات بعيدة وحتضرها اليك قبل ان يرتد
اليك طرفك ،وفيما أبدعه فكر البشر من اآلالت الناطقة مبا تتكلم ،ويف استخدامه ألنواع
الطيور واحلمامات وقس عليها ،لرتى بني هذين القسمني مالءمة حيق هبا ان يقال يف هذه
رموز اىل تلك.
_____________________
وكذا تأمل يف خاصية املعجزة الكربى اليت هي خاصية الناطقية اليت هي خاصية االنسانية
يريب روح البشر وألطف ما يص ِّفي وجدانه
وهي األدب والبالغة ،مث تدبر يف ان أعلى ما ِّ
وأحسن ما يزيِن فكره وأبسط ما ِ
يوسع قلبه امنا هو نوع من األدبيات .وألمر ّما ترى هذا ّ
النوع أبسط الفنون وأوسعها جماال وأنفذها وأشدها تأثرياً وألصقها بقلوب البشر حىت كأنه
سلطاهنا .فتأمل!..
األول :ان التنزيل ملا ذكر يف اآلية األوىل يف بيان حكمة خلقة االنسان ما هو ّاول االجوبة
وأوالها وأعمها للكل وأيسرها وأسهلها اقناعاً وأمجلها امجاال وأوجزهاّ ،بني هبذه اآلية جوابا
تفصيليا يطمئن به العوام واخلواص.
والثاين :انه ملا صرح يف تلك مبسألة اخلالفة للبشر برهن هبذه على تلك الدعوى مبعجزة ذلك
النوع يف مقابلة املالئكة.
والثالث :انه ملا أشار بتلك اىل ترجح البشر على امللَك رمز هبذه اىل لِميّة الرجحان.
والرابع :انه ملا ّلوح هبا اىل مظهرية هذا النوع للخالفة الكربى يف األرض ملح هبذه احتجاجا
عليها اىل ان االنسان هو النسخة اجلامعة واملظهر االمتّ لكل التجليات لتنوع استعداداته
وتكثر طرف استفاداته وعلمه فيحيط بالكائنات حبواسه اخلمس الظاهرة والباطنة ال سيما
بوجدانه الذي ال قعر له .أفال تراه يعلم أمثال حالوة العسل بوجهني بل بوجوه خالف امللَك
فتأمل!
_____________________
1لقد جاءت اىل لساين -دون اختيا ٍر مين -هذه اآلية الكرمية يف ختام معظم "الكلمات "
و "املكتوبات " من رسائل النور ،واآلن فقط ادركت ان تفسريي هذا قد اُختتم ايضاً هبذه
اآلية الكرمية .فجميع "الكلمات " اذاً ما هي االّ تفسري حقيقي هلذه اآلية الكرمية ،وجدول
رقراق ينساب من حبرها مث يصب فيه يف خامتة املطاف .حىت لكأن كل " كلمة " من
"الكلمات " تنبع من هذه اآلية الكرمية .فانا اذاً مل استكمل منذ ذلك الوق تفسري هذه اآلية
كي اشرع يف اجلزء الثاين من التفسري.
_____________________
2حيث هناك تغليب الذكور على االناث ،وتغليب العقالء على غريهم .اما اجملاز فهو يف
رجوع «هم» اىل انواع اجلمادات (ت.)201:
بامسه سبحانه
كــلم ــة
لستة من طالب النور
لقد درسنا على استاذنا الفاضل قسماً من تفسريه املوسوم "اشارات االعجاز" الذي ألّفه قبل
اربعني سنة اثناء احلرب العاملية االوىل ،حينما كان يؤدي فريضة اجلهاد يف اخلط االمامي
لساحة القتال واحياناً كان على صهوة جواده.
وحنن مع قصر فهمنا بدقائق اللغة العربية واسرار البالغة ،فقد ادركنا عندما قرأنا هدا التفسري
على يد استاذنا الفاضل انه تفسري بديع وخارق للعادة ،فرأينا من االنسب ان نذكر النقاط
االربع اآلتية حول بيان هذا التفسري لالعجاز النظمي فحسب من وجوه االعجاز للقرآن
الكرمي:
النقطة االوىل:
ان معاىن القرآن الكرمي معاىن شاملة كلية وعامة ال تقتصر على طائفة معينه او على معىن
جزئي ،بل يقدم اطيب االغذية طراً وألذها طعماً اىل الوف الطبقات املتباينة من اجلن
واالنس ،فيويف حاجة افكارهم ويشبع عقوهلم ويغذى قلوهبم وينمي ارواحهم ،كل مبا يليق
به؛ وذلك النه وحي مساوي وخطاب صمداين خياطب هللا سبحانه مجيع طبقات البشر
املصطفني خلف االعصار ،فيجيب عن اسئلة واستفسارات مجيع الطوائف ويليب حاجاهتم
كلها؛ فال غرو انه كالم رب العاملني ،صادر من ارفع مراتب الربوبية املطلقة.
النقطة الثانية:
ان الفاظ القرآن الكرمي اليت هي مبثابة االصداف لنفائس آللئ املعاين الكلية الشاملة ،واليت
نزلت من صفة الكالم االزيل وخاطبت مجيع االعصار ومجيع البشرية ،ال ريب اهنا كلية
جامعة .وقد ملسنا يف هذا التفسري قسماً من االعجاز -القطعي الثبوت -يف كل حرف من
حروف ذلك الكتاب احلكيم واليت يثمركل
النقطة الثالثة:
ان احلسن واجلمال اللذين يلمعان يف جمموع الشئ ،ال يتحريان يف كل جزء من اجزائه ،وال
يع ّد نقصاً ما مل يشاهد ذلك اجلمال يف اجلزء .ومع هذا فان االعجاز النظمى الذي نراه يف
مجيع سور القرآن الكرمي ويف آياته نراه بنمط آخر عندما ندقق وحنلل هيئات وكيفيات كلماته
ومجله .وهذا التفسري املؤلف بالعربية يبني منبعاً من املنابع السبعة العجاز الكتاب احلكيم،
اال وهو اجلزالة اخلارقة يف الفاظه مبيناً ادق فروعه واخفى اسراره .فال شك انه ال يعد اسرافاً
-بل هو حقيقة -اهتمام "اشارات االعجاز" بكل حرف من حروف القرآن العظيم اليت
يثمر كل منها عشراً من احلسنات بل يرتقى الثواب ثالثني الفاً يف بعض االوقات.
النقطة الرابعة:
ان معاىن القرآن احلكيم هلا جامعية واسعة وكلية شاملة وذلك لصدوره من الكالم االزىل
وخطابه مجيع الطبقات البشرية يف مجيع االعصار لذا ال تنحصر تلك املعاين على مسألة
واحدة كما هي يف االنسان بل هي كالعني الباصرة تنظر اىل اوسع املدى .فيضم الكالم
االزىل ضمن نظره احمليط مجيع االزمان ومجيع البشرية بطوائفها كافة.
فبناء على ما اسلفناه نقول :ان مجيع الوجوه اليت اوردها املفسرون يف كتبهم الىت تفوق العد
وما استنبطوه من املعاين املشتمل عليها الكتاب الكرمي صراحة او اشارة او رمزاً او امياءً او
تلوحياً او تلميحاً مرادة ومقصودة بالذات من الكتاب الكرمي ،شريطة ان ال تردها العلوم
العربية وان تستحسنها البالغة وان يقبلها علم اصول مقاصد الشريعة.
وبه ثقيت
احلمد هلل رب العاملني والصالة والسالم على سيد اخللق حممد وعلى آله وصحبه امجعني.
وبعد فقد كان رائدنا العظيم االستاذ املناضل العالمة "بديع الزمان النورسي" منذ ان تفتحت
امام عينيه آفاق شاسعة من دنيا العلم والعرفان وخاض عباب الكتاب العزيز يتطلع دائما
(كما كتبه االستاذ يف افادة املرام) اىل انتهاض جلنة مؤلفة من كبار العلماء املتخصصني ،كل
يف ناحية من نواحي العلم ،تقوم تلك اللجنة بدراسات طويلة يف شىت نواحي الكتاب الكرمي
حىت يتحصل ويتولد من حمهوداهتم الكثرية ودراساهتم الطويلة تفسريٌ جامع للقرآن املبني،
يستجيب حلاجات القرن العشرين ،واستمر لديه ذلك التطلع والرتقب اىل بداية زمن احلرب
العاملية االوىل.
فردد الطرف اوال يف حتليله املنوط بآية (ومن الناس من يقول امنا
وان كنت يف ريب مما نقول ّ
باهلل وباليوم االخر وما هم مبؤمنني) او املنوط بآية (ختم هللا على قلوهبم وعلى مسعهم وعلى
أبصارهم غشاوة) اخل او بآية (ومما رزقناهم ينفقون)
إشارات اإلعجاز -ص206 :
او بأي آية اخرى من االيات املشروحة يف ذلك التفسري وبعد ذلك طالع يف عني هاتيك
اآليات السالفة الذكر سائر التفاسري ،مث ليتكلم ضمريُك احلر املطلق من قيد التعصب.
خالصة القول :ان يف عباراته عذوبة وحالوة وطالوة بديعة وتدقيقاً خارقاً جداً يف حتليل آي
املنزل .انه بني جهة مناسبة اآليات بعضها ببعض ،وتناسب اجلمل وتناسقها ،وكيفية الوحي ّ
جتاوب هيآت اجلمل وحروفها حول املعين ملراد معتمداً يف ذلك على أدق قواعد علم البالغة
وعلى اصول النحو والصرف وقوانني املنطق ودسابري علم اصول الدين وسائر ما له عالقة
بذلك من خمتلف العلوم .حىت انه ليبحث عن اخفى مناسبات البالغة الذي ال يكشف
عادة باجملهر املعنوي املركز يف الدماغ البشري.
واعجب من الكل انه وجد ذلك التدقيق البالغ والبحث العميق حينما كان ينصب ويتقاطر
على املـؤلف من جهاته االربع شابيب رصاص بنادق اجليوش السوفيتية ،فكان االستاذ
يناضل ويطلق بندقيته يف صدور االعداء من جهة ويضع يف مصنع دماغه قنبلة اعجاز القرآن
الذرية ليحطم هبا بنيان الكفر والضالل من جهة اخرى فيا سبحان هللا من ذكاء اهلي خارق،
جمهز ببطولة عجيبة وثبات قلب زائد .ان ذلك الوقت العصيب واملوقف الرهيب مل يُدهش
املؤلف ومل ي ِ
ذهل فكره الثاقب عن اجلوالن يف مناحي اعجاز القرآن املبني .وها حنن تالمذة ُ
رسائل النور يسرنا ان نضع هذا الكتاب بني يدي االنسانيني من البشر ليدرس دراسة جمردة
عن االغراض بعيدة عن االهواء والتعصب الذميم .ان يف ذلك لذكرى ملن كان له قلب او
القى السمع وهو شهيد .وهللا أسأل ان ينفع به الناس ويهديهم سواء السبيل.
1179هـ