You are on page 1of 5

‫‪:‬الخطبة األولى‬

‫‪ ‬‬
‫الحمد هلل الذي من اتقاه رزقه ويسر له األسباب‪ ،‬أحمده ‪-‬سبحانه‪ -‬وأشكره وهو الملك‬
‫‪.‬الوهاب‬
‫‪ ‬‬
‫وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ال شريك له رب األرباب‪ ،‬ومسبب األسباب‪ ،‬وأشهد‪ .‬أن‬
‫محمداً عبده ورسوله‪ ،‬القانت الخاشع األواب‪ ،‬سيد البشر يوم الحساب‪ ،‬اللهم صل وسلم‬
‫على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم‬
‫‪.‬الدين‬
‫‪ ‬‬
‫أما بعد‪ :‬فاتقوا هللا عباد هللا‪ ،‬فإن تقواه الوصية األُولى أِل ُولي العقول واأللباب‪ ،‬قال‬
‫ين أُوتُوا ْال ِكتَ َ‬
‫اب‬ ‫ص ْينَا الَّ ِذ َ‬
‫ض َولَقَ ْد َو َّ‬ ‫ت َو َما فِي اأْل َرْ ِ‬ ‫‪-‬سبحانه وتعالى‪َ ( :-‬وهَّلِل ِ َما فِي ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫ت َو َما فِي اأْل َرْ ِ‬
‫ض َو َك َ‬
‫ان‬ ‫اوا ِ‬ ‫ِم ْن قَ ْبلِ ُك ْم َوإِيَّا ُك ْم أَ ِن اتَّقُوا هَّللا َ َوإِ ْن تَ ْكفُرُوا فَإ ِ َّن هَّلِل ِ َما فِي ال َّس َم َ‬
‫‪.‬هَّللا ُ َغنِيًّا َح ِمي ًدا) [النساء‪]131:‬‬
‫‪ ‬‬
‫عباد هللا‪ :‬إن ذهاب الشهور واألعوام‪ ،‬إيذان لكم بقرب االرتحال من دنيا الممر إلى دار‬
‫المقر والدوام‪ ،‬ولقد كان السلف‪ .‬الصالح ‪-‬رحمهم هللا‪ -‬يغتنمون الشهور واألعوام‪ ،‬بما‬
‫‪.‬يقربهم إلى ربهم الملك العالم‬
‫‪ ‬‬
‫بل إنهم يغتنمون الليالي واأليام‪ ،‬فال يمر عليهم يوم وال ليلة بال فائدة وال كسب مثمر‪،‬‬
‫طرحوا عنهم اللهو‪ .‬واللعب وإضاعة األوقات فيما ال فائدة فيه وال نفع‪ ،‬فهم ما بين علم‬
‫يتعلمونه‪ ،‬وجهاد في سبيل هللا وطاعة وعبادة‪ ،‬وقيام بحقوق األسرة‪ ،‬وصلة رحم‪،‬‬
‫‪-.‬وزيارة مريض‪ ،‬ودعوة إلى هللا ‪-‬عز وجل‬
‫‪ ‬‬
‫إن قدوتهم في ذلك رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬الذي كان يقوم بذلك كله‪ ،‬مع أن هللا‬
‫‪-‬عز وجل‪ -‬غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر‪ ،‬فقد جاهد في سبيل هللا حق جهاده‪ ،‬وأوذي‪.‬‬
‫في سبيل هللا فصبر واحتسب‪ ،‬حتى أظهره هللا على أعدائه ونصره عليهم‪ ،‬وأعز به‬
‫‪.‬الكلمة الوثقى‪ ،‬وأذل به كلمة الكفر السفلى‬
‫‪ ‬‬
‫وقد كان يقوم بعبادة ربه‪ ،‬ويشد على نفسه في ذلك‪ ،‬ففي الصحيح‪ ،‬عن المغيرة ‪-‬رضي‬
‫هللا عنه‪ -‬قال‪ :‬إن كان النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬ليقوم أو ليصلي حتى تتورم قدماه أو‬
‫‪".‬ساقاه‪ ،‬فيقال له‪ ،‬فيقول‪" :‬أفال أكون عبداً شكوراً؟‬
‫‪ ‬‬
‫وصح عنه ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أنه قال‪" :‬وجُعلت قرة عيني في الصالة‪ ،".‬فكان ‪-‬عليه‬
‫الصالة والسالم‪ -‬ال يمل من عبادة ربه وال يتضجر‪ ،‬ومع هذا كان يحث أمته على القصد‪.‬‬
‫في العبادة‪ ،‬والتيسير على النفس‪ ،‬حتى ال تمل وال تنقطع؛ ألن النفس يعتريها الملل‪،‬‬
‫‪.‬وتعتريها السآمة‬
‫‪ ‬‬
‫من أجل ذلك‪ .‬أرشد ‪-‬عليه الصالة‪ .‬والسالم‪ -‬أمته إلى القصد في النوافل‪ ،‬واإلقالل منها‪،‬‬
‫والمداومة عليها‪ ،‬وبيّن أن المداومة‪ .‬مع التقليل خير من االنقطاع مع الكثير‪ ،‬فقال ‪-‬عليه‬
‫الصالة والسالم‪" :-‬سددوا وقاربوا‪ ،‬واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة‪ ،‬وأن أحب‬
‫‪".‬األعمال أدومها‪ ،‬وإن قل‬
‫‪ ‬‬
‫وسئل ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ :-‬أي األعمال أحب إلى هللا؟ فقال‪" :‬أدومها‪ ،‬وإن قل"‪ ،‬وقال‬
‫"اكلفوا من العمل ما تطيقون"؛ وما ذاك‪ .‬إال رحمة بأمته‪ ،‬وشفقة عليهم‪ ،‬وما أرسل إال‬
‫ين) [األنبياء‪]107:‬‬‫اك إِاَّل َرحْ َمةً لِ ْل َعالَ ِم َ‬
‫‪.‬كذلك‪ ،‬قال ‪-‬سبحانه‪َ ( :-‬و َما أَرْ َس ْلنَ َ‬
‫‪ ‬‬
‫وكان ‪-‬عليه الصالة‪ .‬والسالم‪ -‬مع اجتهاده في العبادة‪ .‬وجهاده في سبيل هللا‪ ،‬يقوم على أهله‬
‫‪.‬وينظر في مصالحهم‪ ،‬وينفق عليهم‪ ،‬ويخدم في بيته‬
‫‪ ‬‬
‫بل جاء في سنن الترمذي‪ :‬عن عائشة ‪-‬رضي هللا عنها‪ -‬قالت‪ :‬قال رسول هللا‪-  ‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪" :-‬إن من أكمل المؤمنين إيمانا ً أحسنهم خلقا ً وألطفهم بأهله"‪ ،‬أي‪ :‬أرفقهم‬
‫وأبرهم بنسائه وأوالده وأقاربه‪ .‬وجاء في سنن الترمذي ‪-‬أيضاً‪ -‬عن عائشة ‪-‬رضي هللا‬
‫عنها‪ -‬قالت‪ :‬قال رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪" :-‬خي ُركم خيركم ألهله‪ ،‬وأنا خيركم‬
‫‪".‬ألهلي‬
‫‪ ‬‬
‫وأمر النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬المسافر إذا‪ .‬قضي حاجته من سفره وأدرك وطره منه‪،‬‬
‫أن يعجل بالعودة‪ .‬إلى أهله وال يبطئ عنهم‪ ،‬وما ذاك إال لحاجة أهله إليه ليقوم بواجبه‬
‫نحوهم‪ ،‬فال يجوز أن يترك أهله همالً‪ ،‬فقال ‪-‬عليه الصالة والسالم‪" :-‬السفر قطعة من‬
‫‪".‬العذاب‪ ،‬يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه‪ ،‬فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله‬
‫‪ ‬‬
‫وبين ‪-‬عليه الصالة‪ .‬والسالم‪ -‬لعبد هللا بن عمرو ‪-‬رضي هللا عنهما‪ -‬أن ألهله عليه حقا ً فال‬
‫يحل له ترك هذا الحق‪ ،‬حتى ولو كان سببُ تركه طاعةَ هللا ‪-‬عز وجل‪ ،-‬ففي الحديث‬
‫الصحيح‪ ،‬عن عبد هللا بن عمرو ‪-‬رضي هللا عنهما‪ -‬قال‪ :‬قال لي رسول هللا ‪-‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪" :-‬ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار؟"‪ ،‬قلت‪ :‬إني أفعل ذلك‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫هجمت عينك‪ ،‬ونفهت نفسك‪ ،‬وإن لنفسك عليك حقاً‪ ،‬وألهلك عليك‬ ‫"فإنك‪ ،‬إذا فعلت ذلك‪َ ،‬‬
‫‪".‬حقاً؛ فصم وأفطر‪ ،‬وقم ونم‬
‫‪ ‬‬
‫ما أرحمه ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ !-‬وما أرأفه بأصحابه خصوصاً‪ ،‬وبأمته عموماً!‬
‫يوجههم ويرشدهم إلى الحقوق التي عليهم والحقوق‪ .‬التي لهم‪ ،‬يرشدهم إلى ما يذهب‬
‫السآمة عنهم والملل‪ .‬من قلوبهم‪ ،‬ويحببهم في العبادة‪ .،‬فصلوات ربي وسالمه عليه‪ ،‬وجزاه‬
‫‪.‬هللا عن أمته خير ما جزى نبيا ً عن أمته‬
‫‪ ‬‬
‫هكذا هو ‪-‬عليه الصالة‪ .‬والسالم‪ ،-‬قدوة لألمة في أقواله وأفعاله وأخالقه وهديه مع أهله‬
‫ومع صحابته ومع الناس جميعاً؛ ولهذا‪ .‬سار الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان على‬
‫هديه ‪-‬عليه الصالة‪ .‬والسالم‪ ،-‬واقتدوا‪ .‬به في أقواله وأفعاله وأخالقه‪ ،‬فصاروا أعالما ً لمن‬
‫‪.‬بعدهم يهتدى بهم‬
‫‪ ‬‬
‫ورأس الصحابة من بعده أبو بكر الصديق‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬خليفة رسول هللا‪ ،‬ورأس‬
‫المبشرين بالجنة‪ ،‬السباق إلى الطاعة‪ ،‬النهاز للمواسم الفاضلة‪ ،‬اسمعوا إلى هذا الحديث‬
‫الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬قال‪ :‬قال رسول‬
‫هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وهو يحدث أصحابه‪" :‬من أصبح منكم اليوم صائما ً؟"‪ ،‬قال‬
‫أبو بكر‪ :‬أنا‪ ،‬قال‪" :‬فمن تبع منكم اليوم جنازة؟"‪ ،‬قال أبو بكر‪ :‬أنا‪ ،‬قال‪" :‬فمن أطعم منكم‬
‫اليوم مسكينا؟"‪ ،‬قال أبو بكر‪ :‬أنا‪ ،‬قال‪" :‬فمن عاد منكم اليوم مريضا ً؟" قال أبو بكر‪ :‬أنا‪،‬‬
‫‪".‬فقال رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪" :-‬ما اجتمعن في امرئ إال دخل الجنة‬
‫‪ ‬‬
‫أسمعتم ‪-‬عباد هللا‪ -‬إلى هذا النشاط واالجتهاد والتنوع في العبادات من أبي بكر‪-‬رضي هللا‬
‫‪:        ‬عنه‪-‬؟ نعم عباد هللا‬
‫وما استعصى على قوم منال *** إذا اإلقدام كان لهم ركابا‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫هكذا كان السلف‪- .‬رحمهم هللا‪ -‬حرصا وإقداما‪ ،‬وثباتا واجتهادا‪ ،‬لم يثنهم الفقر عن‬
‫المسارعة إلى مغفرة من ربهم وجنة عرضها كعرض السماء واألرض‪ ،‬ولم يلههم الغنى‬
‫عن المسابقة والمنافسة في الخيرات واألعمال الصالحة‪ ،‬عرفوا ربهم ‪-‬جل وعال‪،-‬‬
‫وعرفوا عدوهم‪ ،‬وأدركوا‪ .‬أن العيش الحقيقي عيش اآلخرة‪ ،‬فهانت في نفوسهم الدنيا‪،‬‬
‫‪.‬وكبرت فيها اآلخرة‪ ،‬فسعوا إلى اآلخرة سعيا ً حثيثا ً‬
‫‪ ‬‬
‫‪:‬ولقد ص َدق عليهم قول القائل‬
‫إن هلل عباداً فطنا *** تركوا الدنيا وخافوا الفتنا‬
‫نظروا فيها فلما علموا‪ *** .‬أنها ليست لحي وطنا‬
‫جعلوها لجة واتخذوا‪ *** .‬صالح األعمال فيها سفنا‬
‫‪ ‬‬
‫وانتم ‪-‬عباد هللا‪ -‬في شهر شعبان‪ ،‬هذا الشهر الذي كان لرسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬‬
‫معه شأن… فقد ثبت في الصحيح عن عائشة‪-‬رضي هللا عنها‪ ،-‬قالت‪" :‬كان رسول هللا‬
‫‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬يصوم حتى نقول ال يفطر‪ ،‬ويفطر حتى نقول ال يصوم‪ ،‬فما رأيت‬
‫رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬استكمل صيام شهر إال رمضان‪ ،‬وما رأيته أكثر‬
‫‪".‬صياما ً منه في شعبان‬
‫‪ ‬‬
‫وقال له أسامة‪ :‬يا رسول هللا! لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان؟!‬
‫قال‪" :‬ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان‪ ،‬وهو شهر ترفع فيه األعمال إلى‬
‫‪.‬رب العالمين‪ ،‬فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" رواه النسائي في سننه‬
‫‪ ‬‬
‫وجاء في مسند اإلمام أحمد ‪-‬رحمه هللا‪ -‬أن النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬إذا‪ .‬دخل رجب‬
‫‪.‬قال‪" :‬اللهم بارك لنا في رجب وشعبان‪ ،‬وبارك لنا في رمضان"‪ ،‬الحديث‬
‫‪ ‬‬
‫هذا شأنه ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬مع شهر شعبان‪ ،‬فنسأل هللا ‪-‬سبحانه‪ -‬أن يبارك لنا في‬
‫شهر رجب وشعبان ورمضان‪ ،‬وأن يوفقنا للعمل الصالح‪ ،‬وأن يجعل حبه في قلوبنا‬
‫‪.‬ويكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان‪ ،‬ويجعلنا من الراشدين‪.‬‬
‫‪ ‬‬
‫عباد هللا‪ :‬وإن تخصيص شعبان بشيء من العبادات أو القربات أو األعمال التي لم يرد‬
‫الشرع بها أمر بدعي‪ ،‬فلم يكن النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وصحابته من بعده يخصون‬
‫‪.‬شعبان بشيء من ذلك ولم يثبت عنه ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬شيء سوى ذلك‬
‫‪ ‬‬
‫فمن خص شعبان بشيء من العبادات أو األعمال فقد وقع في االبتداع‪ ،‬والمسلم مأمور‬
‫باالتباع ومنهي عن االبتداع‪ ،‬فلنتق هللا عباد هللا ولنحرص على االتباع وتحري هدي‬
‫النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬فإن هديه خير هدي‪ ،‬وكان النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬‬
‫يقول في خطبته‪ " :‬أما بعد‪ :‬إن خير الحديث كتاب هللا‪ ،‬وخير الهدي هدي محمد‪ ،‬وشر‬
‫‪".‬األمور محدثاتها‪ ،‬وكل محدثة بدعة‪ ،‬وكل بدعة ضاللة‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬

You might also like