You are on page 1of 232

‫الكينونة المتناغمة‬

‫عبداهلل حميد الدين‬


‫الكتاب‪ :‬الكينونة المتناغمة‬
‫ت�أليف‪ :‬عبداهلل حميد الدين‬
‫الت�صنيف‪:‬‬
‫النا�شر‪ :‬دار مدارك للن�شر‬
‫الطبعة‪ :‬الطبعة الأولى ‪2012‬‬
‫الرقم الدويل املت�سل�سل للكتاب‪:‬‬

‫‪www.mdrek.com - read@mdrek.com‬‬
‫دبـي‪:‬‬
‫جممع �إعمار للأعمال‪� ،‬شارع ال�شيخ زايد‪ ،‬دبي ‪ -‬الإمارات العربية املتحدة‬
‫‪P. O. Box:‬‬ ‫‪333577‬‬ ‫‪Dubai -‬‬ ‫‪UAE‬‬
‫‪Tel.: 00971 4 361‬‬ ‫‪5177‬‬ ‫‪- Fax: 00971 4‬‬ ‫‪361 5178‬‬
‫بريوت‪:‬‬
‫فرن ال�شباك‪ ،‬الطريق العام‪� ،‬سنرت غاريو�س‪ ،‬بريوت ‪ -‬لبنان‬
‫‪P. O. Box:‬‬ ‫‪50074‬‬ ‫‪Forn Elchebbak - Lebanon‬‬
‫‪T e l . : 00961‬‬ ‫‪1 282075‬‬ ‫‪- Fax : 00961 1 282074‬‬
‫جميع حقوق الطبع و�إعادة الطبع والن�شر والتوزيع حمفوظة لـ مدارك‪.‬‬
‫ال ي�سمح ب�إعادة �إ�صدار هذا الكتاب �أو �أي جزء منه‪� ،‬أو تخزينه يف نطاق‬
‫ا�ستعادة املعلومات �أو نقله ب�أي �شكل من الأ�شكال‪ ،‬دون �إذن خطي من مدارك‪.‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫الكينونة المتناغمة‬
‫المحتويات‬
‫مدخل الطبعة الثانية‪23.............................................................‬‬
‫مقدمة‪29..................................................................................‬‬
‫خريطة البحث‪36.....................................................................:‬‬
‫لماذا نتفل�سف؟ ‪41.....................................................................‬‬
‫�أ�شكال ال�س�ؤال الفل�سفي ‪55.........................................................‬‬
‫بين النزعة الأخالقية والحكم الأخالقي ‪58................................‬‬
‫الفل�سفة والم�شاعر ‪67................................................................‬‬
‫حول فل�سفات ال�سعادة ‪71...........................................................‬‬
‫وعود فل�سفات ومناهج ال�سعادة ‪80..............................................‬‬
‫تقريب طريق ال�سعادة ‪86...........................................................‬‬
‫الحالة الإن�سانية وال�سعادة ‪91.....................................................‬‬
‫‪91.........................................................................‬‬ ‫�أفعال غيرنا‬
‫تقاطع االختيارات ‪94.................................................................‬‬
‫تعريف الحالة الإن�سانية ‪99........................................................‬‬
‫ما هو الفعل؟ ‪108........................................................................‬‬
‫عنا�صر الحالة الإن�سانية‪111........................................................‬‬
‫�أ‪ .‬وحدة متعددة الأبعاد ‪112.........................................................‬‬
‫‪114......................................................‬‬ ‫تعريف مادي وغير مادي‬
‫عالم حر وخالق وواعي مقابل ُم�س َّبب و ُمنف ِعل و�أ�صم ‪115..............‬‬
‫�أبعاد الإن�سان ‪116.......................................................................‬‬
‫ب‪ .‬لنا قدرات علمية وعملية محدودة ‪130.....................................‬‬
‫لذات وكماالت وحاجات ذاتية كما لنا غرائز ‪131............‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬لنا َّ‬
‫لذاتنا وكماالتنا ‪135....................................................................‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬نعي�ش في عالمين‪ :‬ذهني وخارجي‪152.................................‬‬
‫ما الفعل؟ ‪159.............................................................................‬‬
‫الكينونة المتناغمة ‪164................................................................‬‬
‫الكينونة‪164................................................................................‬‬
‫�آثار الكينونة‪ :‬القيمة الذاتية ‪164..................................................‬‬
‫التناغم ‪166...............................................................................‬‬
‫ر�ؤية الذات لقيمتها ب�إزاء ما حولها ‪168........................................‬‬
‫الم�ساحة المتاحة زمني ًا واجتماعي ًا ‪171.......................................‬‬
‫تنظيم م�ساحة الحركة االجتماعية ‪173.........................................‬‬
‫الوعي باهلل ‪174..........................................................................‬‬
‫حول معرفة اهلل ‪174...................................................................‬‬
‫احت�ضان ال�شك ‪177.....................................................................‬‬
‫‪180................................................‬‬ ‫ماذا لو لم يكن اهلل موجود ًا؟‬
‫لماذا ال�س�ؤال؟ ‪184......................................................................‬‬
‫ال�س�ؤال قبل الجواب ‪187..............................................................‬‬
‫الأ�سئلة الذاتية واهلل تعالى ‪190....................................................‬‬
‫كيف يمكن البدء؟ ‪196.................................................................‬‬
‫ال‪ :‬اهلل والذهنية الواقعية‪198................................................. :‬‬ ‫�أو ً‬
‫الذهنية ال�سحرية ‪199.................................................................‬‬
‫الذهنية االنف�صالية ‪201..............................................................‬‬
‫الذهنية الواقعية ‪201...................................................................‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬من عالقة الممكن بالممكن �إلى عالقة الممكن بالواجب ‪206...‬‬
‫ثالث ًا‪� :‬إثارة العقل بحيث يندمج مع المعلومات ‪210........................‬‬
‫رابع ًا‪ :‬المعرفة ال�شعورية ‪211.......................................................‬‬
‫من الح�ضور الذهني �إلى ال�شعور‪214...........................................:‬‬
‫مقومات ال�شعور ‪216....................................................................‬‬
‫الم�سافة بين الحالة الإدراكية قبل وبعد ‪220..................................‬‬
‫توقع الفعل ‪221............................................................................‬‬
‫الوعي باهلل تعالى ‪223.................................................................‬‬
‫ماذا بعد؟ ‪225.............................................................................‬‬
‫خاتمة ‪229..................................................................................‬‬
‫في االيام القليلة الما�ضية تدافع كثير من نا�س للطلب بدم حمزة‬
‫ك�شغري رغم انه قد تاب عما بدر منه ولكنهم رف�ضوا توبته‪ .‬لي�س فقط‬
‫رف�ضها ق�ضائيا وانما حتى رف�ضها دينا‪ .‬يلعنونه ويتعر�ضون له‪.‬‬
‫ثم بدا االمر يتجه لغير حمزة وبد�أت هجمة منظمة �ضدي من‬
‫الح�ضيف ومن خ�ضر بن �سند‪ .‬واهلل كافيهما في الدنيا او في الآخرة‬
‫او فيهما معا‪.‬‬
‫لم �أتفاجا برد الفعل ال�سيء وقلت ر�أيي في المذكورين وفي من‬
‫تابعهم ووافقهم‪.‬‬
‫وقد ن�صحني احد الأخوة بن�شر روابط تف�سير الفاتحة وكتاب‬
‫الكينونة واي�ضا اللقاء مع د علي ابو الح�سن عن رم�ضان ولكن ف�ضلت‬
‫ال�سكوت لغر�ض في نف�سي‪.‬‬
‫ولتو�ضيح االمر‪ ،‬من يريد معرفة اعتقادي فيمكنه االطالع على‬
‫كتابي الكينونة المتناغمة وتف�سير الفاتحة‪ .‬الن فيهما عبرت عما �أومن‬
‫به‪ .‬ما �سوى ذلك فبع�ضه جاء على نمط (وانا او �إياكم لعلى هدى او في‬
‫�ضالل مبين) وبع�ضه على نمط (هذا ربي هذا اكبر) وبع�ضه على نمط‬
‫(�أنى يحيي اهلل هذه بعد موتها) وبع�ضه �أ�سئلة وا�ست�شكاالت قائمة غير‬
‫مجاب عنها وبع�ضه على منهج ال�شك الغزالي وبع�ضه عبارات مجتزاة‬
‫‪9‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫من حوارات وجداالت وبع�ضه تحليل اجتماعي �سيا�سي اكاديمي وغير‬


‫ذلك من ال�سياقات المختلفة والتي �أتت من خاللها كل ما ي�ستعر�ضونه‪.‬‬
‫والتي تعني و تق�صد غير ما ارادوه‪.‬‬
‫اما عن نف�سي فما قلقت من اول االمر الن الم�سالة �أو�ضح من نور‬
‫ال�شم�س لمن تكلف ع�شرة دقايق من البحث على االنترنت ليعرف ان‬
‫اكبر همي هو ان يبقى اهلل حيا في قلوبنا في هذا العالم القلق المليء‬
‫بالتحديات واال�شكاالت والأ�سئلة‪.‬‬
‫غفر اهلل لمن تابع على غير ب�صيرة فهو وان �أ�ساء اال ان طبيعة‬
‫الأج��واء قد تدفع لنحو ذلك‪ .‬ولكن ال �أ�سامح من بادر وحر�ض ال في‬
‫الدنيا وال في الآخرة النهم عملوا ما عملوا رغبة في الأذى وهم قادرون‬
‫لو كان فيهم م�سكة خير على معرفة الحقيقة‪.‬‬
‫اما الح�ضيف وبن �سند ف�سيتم رفع ق�ضايا عليهم محليا وخارجيا‬
‫بتهمة التحري�ض وعالقاتهم باالرهاب الديني‪.‬‬
‫وال�سالم على اهله‬
‫عبداهلل حميدالدين‬
‫‪ ١٣‬فبراير ‪٢٠١٢‬‬

‫‪10‬‬
‫تلك ن�ص ر�سالة كتبتها �إثر ت�صاعد حملة �ضدي تتهمني بن�شر‬
‫الإلحاد والزندقة وببث ال�شك بين �شباب و�شابات جدة‪ .‬بل تدعي علي‬
‫ب�أني قمت بخلق خاليا نائمة في مناطق مختلفة من جدة لذلك الغر�ض‪.‬‬
‫و�إمعان ًا في الخيال البولي�سي فقد تم ت�سمية الحركة الإلحادية التي‬
‫�أتزعمها بحركة �أو ن�شاط �أو مجموعة الكينونة‪ .‬ن�سبة لهذا الكتاب الذي‬
‫بين �أيديكم والذي لم يقر�أه �أي من الذين �أ�س�سوا التهمة �أو ن�شروها �أو‬
‫�صدقوها‪.‬‬
‫والتهمة ب��د�أت بعد �أي��ام من تغريدات لل�صديق العزيز حمزة‬
‫ك�شغري ن�شرها في يوم مولد �سيد الأولين والآخرين وال��ذي وافق ‪٤‬‬
‫فبراير ‪ ٢٠١٢‬وقال فيها‪:‬‬
‫«في يوم مولدك لن �أنحني لك ‪ ،‬لن �أق ّبل يديك ‪� ،‬س�أ�صافحك‬
‫م�صافحة الند للند ‪ ،‬و�أبت�سم لك كما تبت�سم لي و�أتحدث معك ك�صديق‬
‫فح�سب»‪.‬‬
‫«في يوم مولدك �أجدك في وجهي �أينما اتجهت‪� .‬س�أقول �أنني‬
‫�أحببت �أ�شياء فيك ‪ ،‬وكرهت �أ�شياء �أخرى ولم �أفهم الكثير من الأ�شياء‬
‫االخرى‪ ،‬لن ا�صلي عليك»‪.‬‬
‫كتب حمزة هذه التغريدات منطلق ًا من ت�صور له عن النبي عليه‬
‫‪11‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫ال�سالم وعما يليق به‪ ،‬ولكنه �سرعان ما �شعر �أنه �أ�ساء في حق الر�سول‬
‫فن�شر بعد ذلك اعتذار ًا وتوبة وحذف تغريداته ال�سابقة‪.‬‬
‫«يزعمون �أنني تطاولت عليك و�أن��ا ال��ذي �أ�ستح�ضرك دائما‬
‫كقدوة»‪،‬‬
‫«واهلل لم �أكتب ما كتبت �إال بدافع الحب لك لكنني اخط�أت‬
‫و�أتمنى �أن يغفر اهلل خط�أي‪ ،‬و�أن ي�سامحني كل من �شعر بالإ�ساءة»‪.‬‬
‫لم تنفع ك�شغري تغريدات التوبة واالعتذار‪ .‬فقد مثلت التغريدات‬
‫الأولى فر�صة لتيارات متطرفة في ال�سعودية‪ .‬فلم تَقبل توبة حمزة ور�أت‬
‫�أنه يجب �أن يعتقل و�أن ُيعدم‪ .‬وفي م�ساء الأحد ‪ ٥‬فبراير ظهر لنا �أحد‬
‫م�شايخهم على اليوتيوب وهو يبكي مما قام به حمزة ويحذر ال�سعودية‬
‫�شعب ًا وحكومة من العواقب الأمنية الوخيمة التي �ست�صيب هذا البلد‬
‫�إذا ما ُترك حمزة و�أمثال حمزة من التنويريين والمفكرين والناقدين‪.‬‬
‫و�شن حملة �شعواء مطالب ًا ب�إقامة حد اهلل على كل �أولئك‪.‬‬
‫توالت الحملة �ضد حمزة وتو�سعت ف�سافر خوف ًا على حياته من‬
‫�أن يتعدى عليه �أحد �أولئك‪ .‬ثم �أمر خادم الحرمين ال�شريفين الملك‬
‫عبداهلل بن العزيز ب���أن يتم القب�ض عليه‪ .‬وه��ذا ما تم في تفا�صيل‬
‫من�شورة‪.‬‬
‫من اليوم الأول للحملة ظهر لي ولكثير من المتابعين �أن حمزة‬
‫�سيكون �أو ًال ولكنه لن يكون �آخر ًا‪ .‬كان وا�ضح ًا �أن النية �إن�شاء محاكم‬
‫تفتي�ش معا�صرة تقوم بمالحقة وقتل كل من يقدم ر�ؤية فكرية لت�أ�سي�س‬
‫‪12‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫مجتمع مدني حديث‪ .‬بل كان كالم ال�شيخ الباكي وا�ضح ًا في �أنه ال يريد‬
‫حمزة فح�سب‪ ،‬بل ال ير�ضى �إال بجميعهم‪ .‬وبد�أ بع�ضهم يك ِّون الئحة‬
‫ت�شمل �أ�سماء كافة المطلوبين للتحقيق في دينهم‪ .‬بل كتب الدكتور‬
‫عبدالعزيز ال�سعيد مقا ًال �شكر فيه الملك عبداهلل حيث �إن الملك ‪ -‬على‬
‫حد زعم ال�سعيد ‪� -‬أعاد �إلى الذاكرة ديوان الزنادقة‪ .‬وديوان الزنادقة‬
‫هو مثل محاكم التفتي�ش في �أوروبا وقد �أن�ش�أه �أبو جعفر المن�صور لتتبع‬
‫الزنادقة والمالحدة وقتلهم‪ .‬والكاتب يفخر بذلك ال�صنيع ويعتبره من‬
‫محا�سن �أبي جعفر‪ .‬وظهر لي �أن الأمر م�س�ألة وقت قبل �أن يتوجهوا‬
‫� ّإلي‪ .‬وفع ًال في نهاية ذلك الأ�سبوع بد�أ كل من خ�ضر بن �سعد الغامدي‬
‫ومحمد الح�ضيف ي�شددان على �أهمية �إح�ضار من كان خلف حمزة‬
‫ومن كان �سبب «�ضالل» حمزة على حد دعواهما‪ .‬ثم وجهوا اتهامهم‬
‫لي مبا�شرة �ضمن ق�صة من ن�سيج خيالهم باعتباري الأب الروحي‬
‫للإلحاد في جدة‪ .‬وكان م�ستندهم الأ�سا�سي في التهمة مجموعة من‬
‫التغريدات التي تعبر عن حالة �إيمانية ال توافق ر�ؤيتهم الإيمانية‪� .‬أو‬
‫تعبر عن ت�سا�ؤالت وحوارات تدور‪ .‬كما ا�ستندوا �إلى عبارات مقتطعة‬
‫من �سياقها بحيث �صار لها معنى غير ما كنت �أق�صده‪ .‬وقد ت�صاعدت‬
‫الحملة وا�شتدت وو�صل الحال �أن ا�ستلمت ع�شرات التهديدات بالقتل‪.‬‬
‫وفي كل ذلك كنت متقين ًا �أن �أحد ًا ال يعرف حقيقة ما �أقول‪ ،‬ولكن لم يكن‬
‫مهم ًا ذلك‪ .‬المهم كان ما يريده الطرف الآخر من �أغرا�ض و�أهداف‬
‫�أبعد من �شخ�ص حمزة و�شخ�صي وغيري من الأ�صدقاء الذين تم‬
‫‪13‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫تناولهم‪ .‬وقد رفعت دعوى احت�سابية �ضدي و�ضد الدكتور تركي الحمد‬
‫الذي لم ين�سوا له ما قاله بالرغم من مرور العقود على ذلك‪ ،‬وبالرغم‬
‫من �أنه واجه لجنة ق�ضائية بخ�صو�ص تهم موجهة �إليه‪ ،‬وبالرغم من‬
‫مكانته و�س ِّنه‪ .‬وبين كل عبارات التكفير والت�شويه ف�إن �أ�شد ما قر�أت كان‬
‫تغريدة لمحمد الح�ضيف يقول فيها �صراحة‪:‬‬
‫�أحب �إلى �أن �أواجه ربي (مخطئا)في حق �أحدهم‪..‬و�أنا �أدافع‬
‫عن ذاته �سبحانه وجناب ر�سوله‪ ،‬من �أن �أواجهه ناك�صا‪ ،‬محجما‪،‬‬
‫َ‬
‫متميعا‪..‬حذر �أن ُيقال مت�شدد‬
‫�أي لي�س لديه مانع من ان يقتل اح��د او ت�شوه �سمعته‪ .‬وهذه‬
‫هي اخالق محاكم التفتي�ش التي عرفتها اوروبا واخالق الم�ستبدين‬
‫الذين يقتلون بالتهمة وهي اي�ضا اخالق االرهابيين الذين ال يهمهم دم‬
‫البريء ما داموا يحققون �أهدافهم‪ .‬ويذكرني قوله هذا بقول اليهود‬
‫«لي�س علينا في الأميين �سبيل»‪ .‬ولكن الحكم اهلل والموعد ‪ .‬القيامة‪.‬‬
‫وال زالت الحملة تتوالى �إلي تاريخ كتابة هذه ال�سطور‪ .‬وبطبيعة‬
‫الحال فالأمر ال عالقة بالمقد�س و�إنما �صراعات �سيا�سية واحتقانات‬
‫اجتماعية‪ .‬الأولى تبحث عن ميدان للمواجهة‪ .‬والثانية تبحث عن مجال‬
‫للتنفي�س‪ .‬والدين لدينا كان دائم ًا لهذا وذاك‪.‬‬
‫�إن ما ح�صل محاولة لإجها�ض م�شروع فكري ثقافي ديني بد�أ‬
‫يبرز في مدينة ج��دة‪ .‬ففكرة الكينونة لم تكن كتاب ًا فح�سب‪ ،‬و�إنما‬
‫منهج ًا وطريقة لخلق حوار حر ومفتوح في �أ�شد الق�ضايا ح�سا�سية‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫حوار يهدف �إلى طرح كافة الأ�سئلة من دون خوف‪ ،‬ومن دون و�صاية‪،‬‬
‫ومن دون وعظ‪ ،‬ومن دون حكم‪.‬‬
‫لقد كانت لقاءات الكينونة المتناغمة تجربة لخلق ف�ضاء حواري‬
‫مفتوح‬
‫فالحياة بيننا تقوم على تبادل الأفكار‪ .‬وكافة �أبعاد حياتنا ما‬
‫هي �إال مح�صلة لمجموعة �أفكار التقت‪� .‬سواء نتج عن اللقاء اندماج �أو‬
‫ت�ضاد �أو تقاطع‪ .‬في النهاية ال نعي�ش �إال من خالل �أفكار‪ .‬و�أفكارنا التي‬
‫نعي�ش بها لي�ست �إال ح�صيلة تفاعالت مع �أفكار �أخرى‪ .‬والو�سائل التي‬
‫يتم من خاللها تبادل الأفكار ال ح�صر لها‪ .‬التعليم الجدال النقا�ش‬
‫التربية القراءة الخطبة التب�شير الإقناع التفاو�ض ‪� ...‬إلخ‪ .‬و�أغلب هذه‬
‫الو�سائل تطمح �إلى �أن يكون لفكرة ما ت�أثير على فكرة �أخرى‪� ،‬أو على‬
‫الأق��ل ت�سعى لنقل فكرة من طرف �إلى �آخ��ر‪ .‬ففي الجدل مثال يكون‬
‫هناك واحد يريد �أن يقنع ثانيا ب�أنه على �صواب‪� .‬أو �أن يتبنى الثاني ر�أي‬
‫الأول‪� .‬أو �أن يخرج الثاني وقد �شعر �أن فكرته لي�ست بالر�صانة التي كان‬
‫يظن‪ .‬التفاو�ض مثال فغر�ضه �أن يخرج الطرفان وقد خلقا فكرة جديدة‬
‫�أخذت من هذا ومن ذاك بطريقة تر�ضي الطرفين‪ .‬التعليم غر�ضه‬
‫تو�ضيح �أو تلقين �أفكار من �صاحب علم �إلى �آخر متلق ومتعلم‪ .‬وكل‬
‫و�سيلة بالتالي تخلق ف�ضاءها الخا�ص ذات الآليات والطرق المالئمة‪.‬‬
‫لن �أزيدكم من التفا�صيل و�إنما ذكرته لأقابله بنوع �آخر من تبادل الأفكار‬
‫له غر�ض مختلف اختالفا نوعيا‪ .‬هذا النوع الآخر غر�ضه تحديدا «فهم‬
‫‪15‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫المرء لنف�سه وتفهمه لأفكار الآخرين»‪ .‬نوع ال يهدف �إلى نقل فكرة من‬
‫�أحد �إلى �آخر‪ .‬وال يوجد فيه غر�ض ت�أثير فكرة على �آخر‪ .‬من يخو�ض‬
‫هذه التبادالت ي�ستفيد من فكرة الآخر وي�ستفيد من وجود الآخر ال في‬
‫ما ي�ضيفه �إلى نف�سه من �أفكار‪ .‬و�إنما فيما يفهمه عن نف�سه‪ .‬وهناك‬
‫فائدة �أخرى لهذا النوع من التبادل الفكري وهو تفهم منطلقات الآخر‬
‫حتى لو اختلفت معها‪.‬‬
‫�إن وجود ف�ضاء يوفر هذا النوع من التبادل مهم في كل الأحوال‬
‫ولكنه �أهم في المرحلة التاريخية التي نحن فيها‪ .‬مرحلة انفتاح غير‬
‫م�سبوق على العالم‪ .‬مرحلة تحوالت متعددة بين ال�شباب‪ .‬ومرحلة‬
‫تطوير الهوية الوطنية من خالل مبادرات مختلفة �أهمها مبادرة الحوار‬
‫الوطني‪ .‬ال يعني هذا �أن الف�ضاءات الأخ��رى غير �ضرورية‪ .‬بل كلها‬
‫�ضروري‪ .‬وكلها يكمل بع�ضها البع�ض‪.‬‬
‫قبل �أربعة �سنوات تقريبا بد�أ م�شروع يهدف تحديد ًا �إلى خلق‬
‫مثل ذلك الف�ضاء‪ .‬بد�أ بجهود �شباب و�شابات مهتمين بتطوير وتعميق‬
‫فهمهم للق�ضايا الحيوية التي تم�سهم وت�ؤثر على حياتهم الخا�صة‬
‫والعامة‪ .‬فانطلقت لقاءات لتركز على الق�ضية الدينية وعالقتنا باهلل‬
‫تعالى باعتبار �أن اهلل والدين محوري الحياة لدى من ي�سكن في المملكة‬
‫بل لدى �أكثر الم�سلمين في العالم‪ .‬وقد كان �أغلب �أعمار الح�ضور‬
‫تترواح ما بين ‪� 25-20‬سنة‪ ،‬وكانوا من ذوي خلفيات متنوعة اجتماعيا‬
‫واقت�صاديا وفكري ًا ومن حيث التجربة الدينية والحياتية ب�شكل عام‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫هذا التنوع �أثرى اللقاء ب�شكل جميل جدا وانعك�س على الأفكار التي‬
‫كان يتم تبادلها ومناق�شتها‪ .‬فكنت ترى في �ساحة النقا�ش توجهات‬
‫و�أفكار يمينية وي�سارية ومتو�سطة‪ .‬معتدلة ومتطرفة‪ .‬م�ؤمنة وم�شككة‬
‫وم�ستفهمة‪ .‬علمية وروحية‪ .‬عقلية وعاطفية‪ .‬مجردة وعملية‪� .‬أي�ض ًا‬
‫كانت الأ�ساليب الفردية لتبادل الأفكار تختلف‪ .‬بين المجادل والم�ستمع‬
‫والمناق�ش والمحاور والم�ستفهم والمعلم‪ .‬وبين كل ذلك التنوع والتفاوت‬
‫واالخ��ت�لاف ك��ان الجميع يجتهد في تقديم تجربته ور�ؤي��ت��ه و�أفكاره‬
‫بطريقته الخا�صة‪.‬‬
‫ومع �أن اللقاءات كانت تنطلق من كتاب «الكينونة المتناغمة» �إال‬
‫�أنها لم تكن تعود �إليه‪ .‬فكان الح�ضور يتابع الكتاب لي�س متابعة قراءة‬
‫و�إنما باعتباره مثيرا َومعلما للأفكار التي �سيتم مناق�شتها‪ .‬فلم يكن‬
‫الغر�ض قراءة الكتاب‪ ،‬وال َفهم ما فيه‪ ،‬وال مناق�شة ما �أفكاره‪ ،‬وطبعا وال‬
‫االتفاق على م�ضمونه‪ ،‬وال �أي �شيء من الأ�شياء التي تح�صل عندما يكون‬
‫هناك كتاب تدور حوله اللقاءات‪ .‬كان غر�ض اللقاء وهدف الح�ضور‬
‫هو مناق�شة الق�ضية الدينية‪ ،‬وكانوا بحاجة �إلى نقا�ش ثري وعام وغير‬
‫مقيد‪ ،‬ولكن في الوقت نف�سه كانوا يريدون نقا�شا مرتبا وذات خطوات‪.‬‬
‫فتم اعتبار الكتاب و�سيلة �إثارة للتفكير وفي الوقت نف�سه و�سيلة لترتيب‬
‫م�سار اللقاءات‪� .‬أي�ض ًا لم يتم التعامل مع المتكلم الرئي�سي في اللقاء‬
‫على �أن��ه محا�ضر‪ ،‬بقدر ما هو من�سق للقاء‪ .‬يثير الأف��ك��ار ثم يدير‬
‫الحوار‪ .‬فال يوجد ملقي ومتلقي‪ .‬وال يوجد عالم ومتعلم‪ .‬بل مجموعة‬
‫‪17‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫تريد �أن تتبادل الأفكار بينها بطريقة مفتوحة ومثرية‪ .‬بل حتى ال يوجد‬
‫متكلم رئي�سي‪.‬‬
‫�أ�سلوب اللقاء خلق �شعورا بالحيرة لدى الكثير ممن ح�ضر‪.‬‬
‫كانوا يرون كتابا ومتكلما ونقا�شا وبالتالي كانوا يتوقعون در�سا كبقية‬
‫الدرو�س‪ .‬ربما در���س بم�ضمون ومنهجية مختلفة‪ ،‬ولكن في النهاية‬
‫كانوا يتوقعون در�سا يقدم معلومات ويحل مع�ضالت ويوفر �إجابات‪ .‬ثم‬
‫يتفاج�أون‪ .‬ال توجد عالقة مع مدر�س �إنما عالقة �أفقية بين مجموعة‬
‫من ا�صحاب الأفكار والتجارب المتفاوتة‪ .‬ال يوجد حلول للمع�ضالت وال‬
‫�إجابات حا�سمة بل طرح للأ�سئلة‪� .‬أهم من هذا ال يوجد تراكم معرفي‬
‫وا�ضح‪ .‬فمن كان يح�ضر اعتاد على لقاءات تخلق تراكما معرفيا من‬
‫خالل قراءة كتاب مثال �أو ا�ستماع �إلى محا�ضرات‪ .‬ولكن هذا كله لم‬
‫يكن موجودا‪ ،‬وقد بقي البع�ض �أكثر من �سنة حتى ا�ستطاع التكيف مع‬
‫هذا الأ�سلوب من اللقاءات‪.‬‬
‫مع الوقت بد�أت فكرة اللقاءات تت�ضح‪ .‬وبد�أ الأغلب يدرك �أن‬
‫هذا لي�س لقاء بغر�ض �إي�صال فكرة من طرف �إلى �آخر‪ .‬وبالتالي لم‬
‫يكن معيار نجاحها قدر التراكم المعرفي الذي يح�صل بمرور الزمن‬
‫والم�شاركة‪ .‬وبد�أ �أغلب الح�ضور يقدرون �أهمية وجود مثل هذا الف�ضاء‬
‫الحر والمطلق لمناق�شة ق�ضية حرجة و�شخ�صية ومهمة �سواء على‬
‫الم�ستوى الفردي �أو على الم�ستوى العام‪.‬‬
‫مع الوقت �أي�ضا بد�أ البع�ض يدرك فائدة من فوائد اللقاءات وهو‬
‫‪18‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫�أن يفهم كل واحد من الح�ضور �أفكاره بطريقة �أعمق‪ .‬بات الآن وا�ضحا‬
‫�أن اللقاءات لم تكن لكي ي�ستقبل الح�ضور فكرا من �آخر بقدر ما كانت‬
‫لكي يفهم الحا�ضر فكر نف�سه‪ .‬يفهمها من خالل محاولته ل�شرحها ومن‬
‫خالل تعري�ضها للنقد والتقييم‪ .‬يفهمها وبغير حاجة لأن يتحول عنها‬
‫�أو يتغير فيها �أو يتبني �أفكار غيره‪ .‬و�إ�ضافة �إلى هذا �صار الحا�ضرون‬
‫�أقدر على تفهم �أفكار الآخرين وتقدير منطلقاتهم الفكرية والنف�سية‪.‬‬
‫وهذا وذاك يجعالن المرء في �سالمة مع نف�سه ومع �أفكاره وفي �سالمة‬
‫مع االخرين ومع �أفكارهم‪.‬‬
‫لذلك كان اللقاء يتحول �إلى ما ي�شبه الحالة التفكيكية‪ .‬لي�س‬
‫بالمعنى الفل�سفي المعا�صر للكلمة‪ ،‬و�إنما بمعنى �أن كل �أحد كان يفكك‬
‫الق�ضايا الأ�سا�سية لديه ثم ي�شرحها ويحللها وي�ستمع �إل��ى النقد �أو‬
‫الت�أييد �أو اال�ستي�ضاح‪ .‬ولم يكن هناك �أي محاكمة لأي �شخ�ص ب�سبب‬
‫�أفكاره‪ .‬ولذلك كانت نتيجة اللقاءات �أن الحا�ضر يبقى على �أفكاره‬
‫ولكن بر�ؤية �أ�شمل‪ ،‬وبروح �أرحب‪ ،‬وب�أفق �أ�شرح‪.‬‬
‫و�أتذكر كيف �أننا تناولنا مو�ضوع الإعجاز العلمي في القر�آن‬
‫بطريقة لم تقنع �أحدا من الحا�ضرين بتغيير موقفه ولكن جعلت كل‬
‫واحد يفهم ر�أيه بطريقة �أح�سن‪ .‬والموا�ضيع التي تناولناها متعددة‬
‫طبعا وال ي�سع ذكر �أمثلة �أخرى الآن‪.‬‬
‫ومما يلفت هو �أن �سعة ال�صدر الوا�سعة التي ات�سم بها الح�ضور‬
‫نحو بع�ضهم البع�ض في قبول وا�ستماع الآراء المتناق�ضة كانت تفاجيء‬
‫‪19‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫من يح�ضر لأول مرة‪ .‬يتفاج�أ من وجود هذا التنوع الكبير وفي الوقت‬
‫نف�سه القبول الوا�سع‪ .‬يتفاج�أ لما يجد كافة الأطياف تتحدث بكل �صدق‬
‫و�أمانة وجر�أة ولكن في الوقت نف�سه بمحبة و�صداقة و�أخوة‪ .‬يتفاج�أ لما‬
‫ي�سمع �أنه لي�س مطلوبا وال م�ستهدفا �أن نخرج باتفاق‪ .‬ويتفاج�أ لما يجد‬
‫البع�ض يخرجون مختلفين �أ�شد االختالف‪ ،‬ولكن مع ذلك يخرجون وقد‬
‫فهموا �أنف�سهم وذلك من خالل محاولة فهم ما يقوله المناق�ض له‪ .‬بل‬
‫البع�ض كان ي�ستغرب من كون الجميع ي�شعر ب�أمان مهما كان مختلفا‪ .‬و‬
‫يعجب لما يجد �أنه ال توجد �إ�صدار �أحكام‪ ،‬وال يوجد ا�ستخفاف بالآراء‪.‬‬
‫لقاءات الكينونة المتناغمة كانت تجربة ال زالت تتطور‪ .‬تجربة‬
‫في خلق ف�ضاء تبادلي حر يعطي للأفكار التي ت��دور بين المجتمع‬
‫ال�شبابي ال�سعودي مجاال للتفاعل ال�صحي مع نظيرها من الأفكار‪ .‬وهذا‬
‫يعطي �صاحب الفكرة قدرة �أكبر على التعاطي مع كافة االختالفات‬
‫في ال�سعودية وفي غيرها‪ .‬ويعزز من القدرة على تفهم وقبول ومحبة‬
‫الآخ��ر‪ .‬ويقلل من التطرف ب�شقيه التطرف الإ�سالمي �أو التطرف‬
‫اليبرالي‪ .‬و�أهم من هذا وذاك في �إعطاء �صاحب الفكرة ال�شعور بحقه‬
‫الطبيعي في التعبير عن نف�سه وذاته‪.‬‬
‫هذا النمط من اللقاءات لم يرق للبع�ض‪ .‬فقامت هيئة الأمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر بالهجوم على �أحد الجل�سات‪ .‬ليتم تعطيل‬
‫اللقاءات لفترة �إثر ذلك‪ .‬ثم كانت الحملة هذه الأخيرة‪ .‬وال �أدري ما‬
‫�سيكون الآن‪� .‬إن غياب مثل هذه اللقاءات لهو خ�سارة كبيرة للمملكة‬
‫‪20‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫التي تواجه تحديات ثقافية هائلة والتي هي �أحوج ما يكون �إلى مثل تلك‬
‫الأجواء التي كان يتم تكوينها‪.‬‬
‫‪ ٢٠‬فبراير ‪٢٠١٢‬‬

‫‪21‬‬
‫مدخل الطبعة الثانية‬
‫«اللهم �ساعدني على التحرر من خ�شية الخط�أ في محاولة‬
‫معرفتك‪.‬‬
‫وثبت في قلبي الإيمان ب ِغناك عني وعن الإ�صابة في حقك وب�أنك‬
‫ال تبالي �إن �أخط�أت فيك‪.‬‬
‫و�ساعدني على التذكر ب�أنك العالم بمحدودتي وعجزي‪.‬‬
‫وعلمني �أن الخطيئة هي في ت�سليم عقلي و�إرادتي لغيري‪»...‬‬

‫الحياة المعا�صرة �سيالة‪ .‬لي�س لها �شكل ثابت‪ .‬قلقة‪ .‬مليئة‬


‫بال�شك والتوقع‪ .‬تحذرنا من �أن نغفل �أو ننع�س �أو نبطيء‪ .‬حياة تخبرنا‬
‫�أنها متغيرة‪ ،‬و�أن تغيرها �سريع‪ ،‬و�أن ال�سبيل �إلى النجاح فيها هو في‬
‫فن «الترك»‪ .‬حياة فيها فن التخلي �أهم من فن التحلي‪ .‬حياة تحثنا‬
‫على �أن ال ُنثقل �أنف�سنا بما ال نحتاجه في المرحلة التالية‪ ،‬لأن تلك‬
‫المرحلة ت�أتي علينا �أ�سرع من قدرتنا على التخلي عما لدينا‪ .‬حياة‬
‫اليوم �صارت حياة النهايات ولي�س حياة البدايات‪ .‬حياة فن النهايات‬
‫ال�سريعة والخفيفة بحيث يمكن البدء من جديد ب�سرعة‪ .‬لقد فقدت‬
‫‪23‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫الم�ؤ�س�سات قدرتها �أن تكون مرجعية لأنها غير قادرة على الت�شكل بما‬
‫يتوافق مع تنوعات ال�سيولة‪ .‬لم تعد الم�ؤ�س�سات االجتماعية قادرة على‬
‫الإجابة على �أ�سئلة الفرد وال تلبية حاجاته وبالتالي تفر�ض عليه �إيجاد‬
‫الأمر بنف�سه‪� .‬إنها حياة تتطلب من الأفراد �أن يكونوا مرنين وقادرين‬
‫على التكيف‪ ،‬واال�ستعداد المتوا�صل‪ ،‬واتخاذ تكتيكات ق�صيرة المدى‪،‬‬
‫وبالتخلي عن االلتزامات والوالءات بغير ندم‪ ،‬ومالحقة الفر�ص على‬
‫ح�سب ما تتوفر‪ .‬حياة تفر�ض على الفرد �أن يت�صرف ويخطط �أعماله‬
‫ويح�سب المكا�سب والخ�سارات المحتملة للت�صرف �أو لعدم الت�صرف‬
‫تحت �شروط من عدم اليقين الم�ست�شري‪.‬‬
‫التحول من الحياة الجامدة �إلى الحياة ال�سيالة خلق م�شاكل من‬
‫نوع جديد وتحديات لم يعرفها الب�شر من قبل‪ .‬فالإن�سان �أو وعي الإن�سان‬
‫يت�شكل من خالل عالقاته ومن خالل التزاماته واليوم نجد مجتمع ًا‬
‫الفرد فيه غير ق��ادر على الحفاظ على الثبات ال��ذي يع ِّرف هويته‪.‬‬
‫فالهوية تحتاج �إلى ا�ستقرار عالقات و�صالت ولكن اليوم ال ا�ستقرار‪.‬‬
‫العالقة بين الفرد والمجتمع‪ ،‬بين الخا�ص والعام‪ ،‬كلها تحتاج �إلى نوع‬
‫من اال�ستقرار لتت�شكل وتتكون‪ ،‬واليوم ال ا�ستقرار‪ ،‬وال يقين‪ ،‬و�إنما قلق‬
‫و�شك‪ .‬اللغة الم�شتركة بين النا�س تتطلب �أي�ض ًا اال�ستقرار بحيث تت�شكل‬
‫�سياقات م�شتركة تعين على خلق لغة م�شتركة‪ .‬المفاهيم الأ�سا�سية التي‬
‫يتوا�صل من خاللها النا�س مثل‪ :‬الخال�ص‪ ،‬الفردية‪ ،‬الزمان‪ ،‬المكان‪،‬‬
‫العمل‪ ،‬المجتمع‪ ،‬الحرية‪ ،‬الخالق‪ ،‬الحق‪ ،‬الباطل‪ ،‬العدل‪ ،‬الظلم‪ ،‬هذه‬
‫‪24‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫وغيرها يتغير فهمنا لها ب�سرعة بحيث نفقد القدرة على التوا�صل مع‬
‫الآخرين‪ ،‬ونفقد القدرة على �أن نك ِّون م�شترك ًا للحياة‪ .‬بل فقدنا القدرة‬
‫على التوا�صل بين الأجيال المتتابعة‪ .‬فلم يعد الجيل ال�سابق قادر‬
‫على التوا�صل مع الجيل التالي‪ .‬لم يعد �صراع الأجيال كما كان �صراع‬
‫م�صالح بل �صراع وت�صادم بين هياكل ثابتة وبين هياكل �سيالة‪ .‬كما‬
‫�ضاق مدى ما نعده جي ًال‪ .‬فلم يعد الجيل هو من الأباء �إلى الأبناء‪ ،‬بل‬
‫من عقد �إلى عقد‪.‬‬
‫فقدان الهوية وفقدان اللغة الم�شتركة �سمح لوجود مجموعة‬
‫كبيرة من الم�شاكل‪ .‬بع�ضها م�شاكل وجدت دوم ًا ولكننا اليوم نعاني‬
‫منها بكم �أكبر وبكيف يختلف‪ .‬الطالق كان موجود ًا على الدوام‪ ،‬ولكنه‬
‫اليوم موجود �أكثر‪ ،‬كما �إن تجربة الطالق اختلفت‪ .‬معاناة الطالق‬
‫اختلفت‪ .‬النظرة �إل��ى الطالق اختلفت‪ .‬كما ظهرت م�شاكل من نوع‬
‫خا�ص‪ .‬م�شاكل لم يعهدها العالم القديم‪ .‬لقد �أ�صبح لدينا ظاهرة‬
‫الحياة ال�ضائعة‪ .‬مهجرون ومرفو�ضون‪ ،‬ومنبوذون‪ .‬واقعنا ال�سيال يت�سم‬
‫بالوحدة‪ ،‬العنف‪ ،‬التفكك الأ�سري‪ ،‬الفقر‪ ،‬البطالة‪� ،‬أزمة الهوية‪� ،‬ضياع‬
‫الذات‪� ،‬صراع الأجيال‪ ،‬االغتراب‪ ،‬الهرولة دون معنى‪ .‬العدمية‪ ،‬نفي‬
‫الثابت‪ ،‬وزحزحة اليقينيات و�سقوط المرجعيات‪ .‬ا�ضمحالل م�ساحة‬
‫الحياة االجتماعية الحميمية الأليفة على ح�ساب �صعود القيم التجارية‬
‫النفعية الم�صلحية‪ .‬ثقافة اال�ستهالك‪ ،‬والنزعة ال�سلعية‪ ،‬وت�أثيرها‬
‫على االنق�سامات االجتماعية‪ ،‬وال�شراكات‪ ،‬والمجتمعات‪ ،‬وبناء الهوية‪،‬‬
‫‪25‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫�إنتاج وا�ستعمال المعرفة والتف�ضيالت القيمية‪.‬‬


‫هذا الواقع ال�سيال يعيد تعريف الإن�سان ب�شكل جذري بطريقة‬
‫�ضاغطة على كافة الت�صورات الموروثة التي ال تتنا�سب مع الواقع‬
‫الحديث‪ .‬يجعل العالقة مع الموروث م�شكلة بحد ذاتها‪ .‬ال ل�شيء �إال لأن‬
‫الموروث تم تكوينه في بيئة وظروف مختلفة‪.‬‬
‫الت�صورات التي نملكها عن اهلل تعالى لي�ست بعيدة عن هذا‬
‫الت�أثير‪ .‬فعالقتنا باهلل هي بوا�سطة مجموعة من المفاهيم التي نملكها‬
‫عن اهلل وع��ن �أنف�سنا وع��ن الوجود وع��ن موقعنا في ال��وج��ود‪ .‬وهذه‬
‫المفاهيم كلها ما ت�شكلت �إال من خالل مجموعة من المعارف مت�أثرة‬
‫ب�أحوال �سيا�سية ونف�سية واجتماعية‪ .‬بمعنى �آخر ف�إن الزمن مكون‬
‫�أ�سا�سي من المفاهيم التي نملكها عن اهلل تعالى وبالتالي عن عالقاتنا‬
‫ب��ه‪ .‬وا�ستمرار �أو دوام �أو ا�ستقرار عالقتنا بالمفاهيم يعتمد على‬
‫ا�ستمرار الزمن ال�سابق �إلى الوقت الحالي‪ .‬فمن كان زمانه م�شابها‬
‫للزمن التي تكونت فيه المفاهيم تلك ف�إنه ي�شعر وك�أنه مع تلك المفاهيم‬
‫في ظرف واح��د‪ .‬ولكن من تغير زمانه ف�إنه �سيبتعد ق�سر ًا عن تلك‬
‫المفاهيم‪ .‬هذا االبتعاد له درجات‪ .‬يبد�أ باالبتعاد عن تلك المفاهيم‬
‫و�صوال �إلى االح�سا�س باالنف�صال عنها و�صوال �إلى ال�شعور باالغتراب‬
‫عنها‪ .‬كل ذلك بح�سب درجة الوعي بالذات وبالزمن‪ .‬ورد الفعل نحو‬
‫ذلك ال�شعور هو القلق الإيماني الم�ؤدي �إلى تطرف مفرط في اليقين‪.‬‬
‫�أو القلق الفل�سفي الم�ؤدي �إلى الإنف�صال عن الإيمان ال�سابق‪� .‬أو محاولة‬
‫‪26‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫الإت�صال من جديد‪ .‬واالت�صال ممكن‪ .‬ولكنه يتطلب تفكيك المفاهيم‬


‫ال�سابقة وتحليل عالقاتها بالزمان التي كانت فيه و�إعادة تركيبها في‬
‫زمننا هذا مراعين النقلة الزمانية‪.‬‬
‫وهذا غر�ض البحث‪� .‬إنه محاولة في �إعادة و�صلنا وو�صل الزمان‬
‫الذي نحن فيه باهلل تعالى‪ .‬يحاول �أن يقترح ت�صور ًا لعالقة مع اهلل‬
‫تتالءم مع الواقع الجديد الذي نحن فيه �أو على الأقل يفكر في هذا‪.‬‬
‫وقد انتهيت من البحث في �صيغته الأولية قبل ‪� ٤‬سنوات تقريبا‬
‫والآن �أج��د نف�سي قد تغيرت خالل الحوارات التي دارت خالل هذه‬
‫الفترة‪ .‬و�صرت محتاج ًا لأن �أغير ما فيه ليعك�س بدقة �أكبر ت�صوراتي‪.‬‬
‫ولم �أغير كل �شيء‪ .‬فال زال في الكتاب بع�ض الأفكار التي �صرت غير‬
‫واثق منها‪ .‬ولكن تركتها لأن هدفي الأ�سا�س هو �إثارة التفكير في هذه‬
‫الق�ضية ولي�س تقديم منظومة نظرية متكاملة‪�.‬أي�ض ًا لأنني قد �أعود‬
‫و�أجد نف�سي �أراجع ما قلته �أو ًال واتبنى ما تغيرت عنه ما�ضي ًا‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫‪28‬‬
‫مقدمة‬
‫وقفت بال�صدفة على كلمة لأليوت يقول فيها‪« :‬لن نتوقف عن‬
‫اال�ستك�شاف‪ .‬ونتيجة ا�ستك�شافنا �أنْ ن�صل �إلى حيث بد�أنا �أو ًال لنجد �أننا‬
‫نعرف المكان للمرة الأولى»‪.‬‬
‫وهذه عملية ا�ستك�شافية‪ .‬محاولة في ا�ستك�شاف �أقرب �شيء �إلى‬
‫ذاتنا‪ .‬ا�ستك�شاف الـ«�أنا» التي بداخل كل منا‪ ،‬الـ«�أنا» التي ال تتغير وال‬
‫تتبدل‪ ،‬والتي ِع ْلمنا بما يعر�ض عليها وما تقوم به �أكثر مما نعلم عنها‪.‬‬
‫محاولة لي�ست �إال حلقة �صغيرة من ماليين الحلقات التي بد�أت منذ‬
‫�آالف ال�سنين‪ ،‬جي ًال بعد جيل‪ ،‬و�إذا ما انتهت ف�إنما انتهت ب�أن عدنا �إلى‬
‫حيث بد�أنا‪ .‬عدنا �إلى �أنف�سنا‪ ،‬ولكن لنجد �أننا نعلمها بطريقة مختلفة‪،‬‬
‫وك�أننا نعلمها للمرة الأول��ى‪ .‬عملية متوا�صلة‪ ،‬في حلقة دائرية ولكن‬
‫مت�صاعدة على الدوام‪ .‬نبد�أ في نقطة وندور لنجد �أنف�سنا في نقطة‬
‫�أخرى فنرى �أننا بتنا نعلم ما لم نكن نعلمه‪� ،‬أو نعود لندرك �أننا �صرنا‬
‫نجهل ما كنا نظن �أننا نعلمه‪.‬‬
‫وقد كنت �أكتبها تدريج ًا‪ ،‬وعلى �شكل ر�ؤو�س �أقالم‪ .‬ثم عر�ضتها‬
‫على بع�ض الأخ����وة والأخ�����وات وا���س��ت��ف��دت ك��ث��ي��ر ًا م��ن مالحظاتهم‬
‫‪29‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫ومداخالتهم‪ .‬وبقيت �أتو�سع فيها م�ضيف ًا فكرة هنا و�أخ��رى هناك‪،‬‬


‫من هذا البحث �أو ذلك الكتاب‪ .‬ولكن لم �أجد نف�سي في �أي وقت من‬
‫الأوقات م�ستعد ًا لأن �أحولها �إلى مادة للن�شر بل كنت �أف�ضل �أن �أناق�شها‬
‫وذلك ل�صعوبة التعبير عما كنت �أريده‪� .‬أي�ض ًا لأنَّ خير و�سيلة �أقترب‬
‫فيها من �أفكاري‪ ،‬و�أفهم من خاللها نف�سي‪ ،‬و�أ�شارك ما لدي غيري‪،‬‬
‫و�أطور فكري ونف�سي‪ ،‬هو ب�أن �أتناق�ش مع �آخرين من مختلف الخلفيات‪.‬‬
‫ولذلك بقيت مو�ضوع نقا�ش فترة ثم ر�أي��ت �أن �أ�ضع ما يمكن على‬
‫�شكل مقالة مك َّثفة ومو�سعة تعر�ض مجموعة من المفاهيم الأ�سا�سية‬
‫وت�شرحها ب�شكل محدود على �أمل �أن تت�سع دائرة المطلعين على هذه‬
‫الأفكار وبالتالي تتح�سن فر�ص تطور الفكرة ونموها من خالل النقد‬
‫والتقويم والمراجعة من ِق َبل من يهتم بهذا ال�ش�أن‪ .‬وكنت م�ؤم ًال �أن‬
‫يكون ح��وار ًا مفتوح ًا‪ ،‬ي�أخذ م�شاركات القراء من خالل المرا�سلة �أو‬
‫من خالل مدونة خا�صة بهذا البحث‪ ،‬ولكن ما تي�سر �إلى الآن‪ .‬وهذا‬
‫تق�صير مني لأن �أي بحث من هذا النوع ال يمكن �إال و�أن يكون حوار ًا‪.‬‬
‫فهو يتناول بالتحليل �أعمق ما ن�ؤمن به ونفكر فيه‪ ،‬ومثل هذا ال يكون‬
‫�أب��د ًا من خالل ق��راءة خا�صة بل من خالل نقا�ش و�أخ��ذ ورد‪ ،‬ونق�ض‬
‫وت�أييد‪ .‬و�أملي الأكبر �أن يثير هذا البحث تفكير من يقر�أه‪ .‬و�س�أ�سعى‬
‫لتحقيق �أملي هذا من خالل �إثارة مجموعة من الق�ضايا التي بجملتها‬
‫جعلتني في و�ضعية ت�سا�ؤل من نوع معين و�أت�صور �أنها �ست�ضع القاريء‬
‫في و�ضعية مماثلة �أو �شبيهة‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫وقد بد�أت البحث هذا وفي ذهني مجموعة م�سلمات �أهمها‪:‬‬


‫الم�سلمة الأول��ى‪� :‬إننا بحاجة �إلى معرفة واقعية‪ :‬معرفة‬
‫تك�شف لنا العالم كما هو‪ ،‬بحالوته ومرارته‪ ،‬بما يفتح من �آف��اق �أو‬
‫ُي�ض ِّيق من �آمال‪ .‬ت�سعى لأن تكون عالقتنا بالعالم من خالل معرفتنا‬
‫به‪ ،‬ولي�س �أن تكون معرفتنا بالعالم من خالل عالقتنا به‪ .‬معرفة ت�سعى‬
‫لأن تطابق الواقع ولي�س معرفة ت�سعى لأن تطابق مرادنا من العالم‪.‬‬
‫و�أرى �أن مثل هذه المعرفة ت�ضعنا في �أول طريق طويل لبناء عالقتنا‬
‫بهذا العالم‪ ،‬و�أي�ض ًا لخلق عوالم �ضمن هذا العالم‪ ،‬عوالم تقوم هي بعد‬
‫ذلك ب�إعادة ترتيب عالقتنا بالعالم وتو�صلنا �إلى تجارب وم�شاعر لم‬
‫نكن لنعلمها لوال ذلك‪.‬‬
‫وهذه المعرفة الواقعية تقابل �أو تت�ضاد مع المعرفة «العاطفية»‬
‫للعالم‪ .‬معرفة عن وردية العالم مهما كان فيه من معاناة و�آالم‪� ،‬أو عن‬
‫�سوئه مهما كان فيه من الخير والجمال‪ .‬فالن�سبة للمعرفة العاطفية‬
‫فالعالم هو كما نريده‪ ،‬والمطلوب لكي نعي�ش فيه �أن نغير تفكيرنا‬
‫عنه ليتوافق مع مرادنا‪ .‬واختلف مع هذا الت�صور و�إن كنت �أتفق معه‬
‫جزئي ًا‪� .‬أتفق في جزئية �أن عالقتنا بالعالم تت�أثر بعمق بكيفية ر�ؤيتنا‬
‫للعالم‪ .‬وهذا يكاد يكون بديهي ًا‪ ،‬وال يحتاج �إلى �أن يذكر‪ .‬و�أتفق �أي�ض ًا‬
‫في �أن عالقتنا بالعالم ممكن �أن ت�ؤثر على كيف نرى العالم‪ .‬فمن‬
‫يعي�ش فقير ًا �أو غني ًا منعم ًا �أو معذب ًا قد يرى العالم من ذلك المنظار‪.‬‬
‫من منظار التجربة الخا�صة التي يعي�شها‪ .‬و�أتفق في �أن ما نريده من‬
‫‪31‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫العالم �أي�ض ًا ت�ؤثر على ر�ؤيتنا له‪� .‬أو ربما من الأدق القول ب�أن ما نريده‬
‫من العالم ي�شكل ر�ؤيتنا له بحيث يجعلنا نرى ما يتوافق مع ما نريد‬
‫�أكثر من ر�ؤيتنا لما هو موجود في الواقع‪ .‬ولأن بع�ضنا يخت�صر العالم‬
‫فيما يراه‪ ،‬ف�إن هذا قد يعني اخت�صار العالم فيما يريده‪� .‬أتفق مع كل‬
‫ذلك من المنطلقات للمعرفة العاطفية‪ .‬ولكن �أرى �أن ر�ؤيتنا للعالم �أو‬
‫جزء كبير من ذلك يمكن �أن ت�ستقل من عالقتنا به �أو �إرادتنا منه‪ .‬بل‬
‫�أرى �أن ال�سعي للمعرفة الواقعية للعالم حتى لو لم تكن دقيقة ف�إنها‬
‫يجب �أن ت�شكل المر�ساة التي ترتكز عليها بقية معارفنا عن العالم‪.‬‬
‫بمعنى �آخر يمكن �أن �أقبل المعرفة العاطفية ولكن ب�شرط �أن تكون‬
‫خطوة ثانية للمعرفة الواقعية‪ .‬يجب �أن نحاول �أوال ر�ؤية العالم كما‬
‫هو ثم ر�ؤية العالم كما نريد‪ .‬و�أ�شعر �أن المعرفة العاطفية �إذا كانت‬
‫وحدها ف�إن هذا ي�ؤدي �إلى تزييف الواقع‪� .‬أكثر من ذلك ف�إنها ت�ضر‬
‫بعالقتنا بالعالم وتف�سح المجال لظهور ال�شخ�صيات المقد�سة والتي‬
‫بقدرتها على ت�صريف عواطفنا تقوم �أي�ض ًا بت�صريف ر�ؤيتنا للعالم‬
‫خدمة لم�صالحها ال�صغيرة �أو الكبيرة‪ .‬كتاب «ال�سر» من الأمثلة‬
‫الجيدة للمعرفة العاطفية‪ .‬ومع مرور فترة على �صدوره �إال �أن �أفكاره‬
‫�صارت متداولة‪ .‬العالم في منظور كتاب ال�سر هو تمام ًا وفق ما نري �أو‬
‫يمكنه �أن يكون كذلك‪ .‬وبقدر ما نفكر �سيكون‪ .‬وهذا من �أ�شد الزيف في‬
‫ت�صوري‪ .‬هذا مع تقديري لمن يوافق كتاب ال�سر‪ .‬وهناك �أفكار �أخرى‬
‫�شبيهة تنطلق من الت�صور ب�أنه «�إذا غيرت نظرتك للوجود ف�إن حياتك‬
‫‪32‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫�ستتغير» وهي �شائعة ومتعدد ال�صيغ‪ .‬هذه الأفكار و�إن كان غر�ضها‬
‫م�ساعدة النا�س للتعامل مع واقع قا�س‪� ،‬إال �أنها �أي�ض ًا تحرمنا من ر�ؤية‬
‫�أ�شمل للعالم �أو للوجود‪ ،‬ر�ؤية تخلق لنا تجربة مختلفة وربما تنتج �آثار ًا‬
‫�أكثر �إيجابية‪ .‬العالم وما فيه �أكبر بكثير منا ومما نريد‪ .‬ومن يدري لعل‬
‫فيما ال نريد ما يحقق لنا �سعادة �أكبر �أو يدفع عنا �شرورا �أو �أ�ضرارا‬
‫�أكثر‪ .‬و�أنا م�ؤمن تماما ب�ضرورة معرفة تمكننا من الم�ضي ب�إيجابية في‬
‫هذا العالم‪ ،‬ولكن مرتكزات هذه المعرفة يجب �أن تكون العالم كما هو‪،‬‬
‫ولي�س كما نريده‪.‬‬
‫الم�سلمة الثانية‪ :‬ا�ست�شكافنا لأنف�سنا وما حولنا لها قيمة‬
‫ذاتية ووظيفية‪ :‬ا�ستك�شافنا لأنف�سنا وما حولنا ٌ‬
‫غر�ض لذاته لما فيه‬
‫من قيمة نجدها في �أعماق �أنف�سنا بقطع النظر عن �أي �شيء �آخر‪.‬‬
‫مثل القيمة الذاتية للمعرفة‪� .‬أو للفنون‪ .‬وهذه الق�ضية م�شكلة نوع ًا‬
‫ما‪ .‬فل�سنا كلنا ن�ؤمن ب�أن للمعرفة قيمة ذاتية‪ .‬وبع�ضنا ي�ستغرب ممن‬
‫ينفق عمره في البحث عن �شيء ال طائل وراءه �سوى العلم‪ .‬بل بع�ضنا‬
‫ي�ستهزئ به‪ .‬المليارات التي ُتنفق على ا�ستك�شافات ف�ضائية �أو فلكية‬
‫ُتعتبر هدر ًا بالن�سبة للبع�ض‪ .‬والأمر نف�سه‪ ،‬بل �أكثر‪ ،‬بالن�سبة للفنون‪.‬‬
‫ف�إذا كان هناك من ي�شكك في جدوى الإنفاق في بع�ض مجاالت العلوم‬
‫الطبيعية فلك �أن تتخيل الأمر بالن�سبة للفنون‪ .‬وربما �أكون �أكثر دقة لو‬
‫قلت �إن اال�ستك�شاف الذاتي يحقق قيمة يجدها «بع�ضنا» ولي�س كلنا‪.‬‬
‫وفعال �أ�سمع من �أكثر من �أحد ب�أنه ال يوجد قيمة لمعرفة ذواتنا‪ .‬و�أظن‬
‫‪33‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫�أن من ينفي قيمة معرفة الذات �إنما يقولها لأنه لم يجربها‪ .‬وهذا كل‬
‫ما يمكن �أن �أقوله له �أو حتى لي‪ .‬فال �أملك دلي ًال بالمعنى الدقيق يمكن‬
‫�أن يقنع �أحد ًا ب�أن معرفته لذاته قيمة‪ .‬يمكن �أن �أتحدث عن تجربتي‬
‫ال�شخ�صية �أو يمكن �سرد تجارب �آخرين يقولون الأمر نف�سه ولكن هذه‬
‫التجارب ال تعني �أن الأمر �صحيح ًا‪ .‬لأنه يمكن �أن ي�أتي �آخر ويقول �إن‬
‫تجربته في معرفة ذاته كانت �سيئة للغاية‪� .‬أو �أنها م�ضيعة للوقت‪ .‬وهذا‬
‫تمام ًا مثل االختالف حول التجربة الجمالية لمنظر �أو ل�صوت‪ .‬فهل‬
‫�أ�ستطيع بالبرهان �أن �أقنع �أحد ًا بجمال لوحة �أو م�شهد طبيعي؟ كلما‬
‫ما �أ�ستطيع هو الإ�شارة �إلى ذلك‪ .‬والحديث عنه بما قد يثير الح�سا�س‬
‫الجمالي ذاته لدى الطرف الآخر‪ .‬والأمر كذلك بالن�سبة لمعزوفة �أو �أي‬
‫�شيء ذوقي‪ .‬والت�أمل في مو�ضوع الجمال والتفاوت في تقديره في غاية‬
‫الأهمية‪ .‬والتفكير في الأ�سئلة المختلفة التي يثيرها مو�ضوع الجمال‬
‫ي�ساعد على فهم التنوع الكبير للقيمة الذاتية لبع�ض المعارف‪ .‬فمثال‬
‫هل نحن نتعلم تجربة جمال ال�شيء؟ �أم ن�ستك�شفها؟ ل َّما �أجد نف�سي‬
‫عا�شق ًا لفن ما‪ ،‬هل هذا لأنني تعلمت �شيئ ًا في طفولتي وما بعدها جعل‬
‫من ذلك النوع من الفن جمي ًال؟ �أو جعل ذلك النوع من الفن ج�سر ًا‬
‫للجمال؟ ن�سمع كثير ًا �أن بع�ض �أ�شكال الذوق مكت�سبة‪ ،‬فهل معناها �أنه‬
‫يمكن تذوق �أي �شيء ب�شكل جمالي من قبل �أي �أحد؟ �أو �أن الذوق ظاهرة‬
‫فيزيولوجية مثلها مثل الب�صر واال�ستماع؟ ال�س�ؤال نف�سه يقع على القيمة‬
‫الذاتية للمعرفة‪ .‬فهل هي �أي�ض ًا �أمور نتعلمها؟ �أم ن�ستك�شفها؟ �أي ًا كان‪،‬‬
‫‪34‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫يبقى �أنني غير قادر على �إثبات القيمة الذاتية لهذا الأمر ولكن يمكنني‬
‫و�صفها‪ .‬ويبقى لمن ي�ستمع �أن يقتنع بالو�صف‪� ،‬أو يت�أثر به‪ ،‬فيحاول كما‬
‫حاولت‪� ،‬أو يرى �أن الم�س�ألة �إ�ضاعة تامة للوقت‪ ،‬ووهم �أعي�شه �أو يعي�شه‬
‫من يقول مثلي‪ .‬وال �أدعي �أن هذا �أمر له قيمة على من لم يجرب‪.‬‬
‫ولكن �إ�ضافة للقيمة الذاتية التي �أراها ال�ستك�شاف الذات‪ ،‬ف�إن‬
‫لها قيمة وظيفية وهي االقتراب من ِفهم مقومات �سعادتنا في هذه‬
‫الحياة‪ .‬وكما يمكن مناق�شة القيمة الذاتية ال�ستك�شاف الذات‪ ،‬يمكن‬
‫�أي�ض ًا مناق�شة هذه القيمة الوظيفية �إذ �إن الكثير قد يم�ضي في حياته‬
‫بغير الت�أمل العميق في ذاته‪ .‬والكثير يعي�ش حياة هنيئة بغير هذا كله‪.‬‬
‫فهل �أحكم على حياته بنق�ص �أو حرمان؟ قطعا ال‪ .‬ولكن قد �أقول �إنه‬
‫فوت على نف�سه فر�صة لتجارب حياتية جميلة للغاية‪� .‬أو يقول غيري‬
‫في المقابل �إنه �أراح نف�سه من �صداعات متكررة‪� .‬أي ًا كان‪ ،‬فهذه طبيعة‬
‫حياتنا‪ .‬م�سارات متعددة‪ ،‬ومعارف مختلفة وعلينا االختيار‪ .‬وال �أظن‬
‫�أن �أحد ًا يملك حق الحكم لما هو �أح�سن‪ .‬ولكن �أنا �شخ�صي ًا �أت�صور �أن‬
‫معرفة ذواتنا تعطينا فر�صة �أح�سن لمعرفة كيف نتفاعل مع الأمور من‬
‫حولنا‪ ،‬وكيف يمكن تحقيق بع�ض الهناء لها‪ .‬بل لو عدنا �إلى ذلك الذي‬
‫لم يفكر مطلقا في هذه التفا�صيل لوجدنا �أنه يعي�ش حياته وفق �أفكار‬
‫�صاغها و�أخرجها غيره‪ .‬وال يوجد اليوم من ال يت�أثر بفكرة حول ذاته‬
‫في ت�شكيل حياته‪ .‬الأمر هو في م�صدر الفكرة‪ .‬ت�أمله الذاتي؟ �أو نقده‬
‫لأفكار غيره؟‬
‫‪35‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫الم�سلمة الثالثة‪ :‬ال يوجد الطريق التام والكامل‪ :‬فالمناهج‬


‫متعددة في هذا المجال‪ ،‬والأ�ساليب تتنوع‪ ،‬وال يمكن لأحد �إال �أن ُيقدِّ م‬
‫مجموعة من الأفكار غير المكتملة وغير الكاملة بهدف �إثارة دفائن‬
‫العقول‪ ،‬ولي�س تقديم الحلول ال�شاملة‪ .‬والتف�صيل في هذا �سي�أتي‪.‬‬

‫هذه الم�سلمات وجهت البحث ب�شكل جذري‪ .‬و�أما البحث نف�سه‬


‫ف�س�أعر�ضه من خالل �أربعة محاور �أ�سا�سية‪:‬الأول �أهمية الفل�سفة في‬
‫البحث عن ال�سعادة‪ ،‬الثاني الق�ضايا العامة في فل�سفات ال�سعادة‬
‫‪ ،‬الثالث معرفة الحالة الإن�سانية وتحقيق ال�سعادة‪ ،‬و�أخ��ي��ر ًا الفعل‬
‫الإن�ساني المقرب �إلى ال�سعادة وال��ذي �سميته بالكينونة المتناغمة‪.‬‬
‫و�ضمن هذه المحاور هناك مجموعة من الق�ضايا التي عالجتها والتي‬
‫�آمل بمجموعها �أن ت�ضع القاريء في مناخ فكري منا�سب ال�ستفزاز‬
‫تفكيره وا�ستثارة روحه‪.‬‬

‫خريطة البحث‪:‬‬
‫البحث له هدفان منف�صالن عن بع�ضهما البع�ض‪:‬‬
‫الأول��ى طرح فكرة التو�سع الر�أ�سي باعتبارها و�سيلة لتحقيق‬
‫الكينونة الفردية التي تتناغم مع الوجود االجتماعي للفرد‪ .‬وقد تدرج‬
‫البحث لي�صل �إلى هذه الفكرة من خالل مجموعة من الخطوات‪.‬‬
‫الثانية طرح فكرة �أن اهلل تعالى هو طرف �أ�سا�سي في معادلة‬
‫‪36‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫الكينونة المتناغمة‪� .‬أي �إن ا�ستح�ضار اهلل يحقق التو�سع الر�أ�سي‪.‬‬


‫وكفرع لهذا الأمر طرحت ت�صور عن اهلل يتالءم مع فكرة الكينونة‪ .‬لأن‬
‫الت�صورات ال�سائدة ال تعطي المجال للتو�سع الأفقي بقدر ما تعزز فكرة‬
‫ال�ضبط الإرادي‪.‬‬
‫الفكرتان م�ستقلتان عن بع�ضهما البع�ض‪ .‬بل كثير من �أفكار‬
‫الكتاب م�ستقلة عن بع�ضها البع�ض‪ .‬فال يوجد عالقة ع�ضورية ومنطقية‬
‫�ضرورية بين المقدمات والنتائج‪ .‬على �سبيبل المثال يمكن قبول �إن‬
‫التو�سع الرا�سي �ضروري‪ ،‬ولكن نفي الحاجة �إلى اهلل‪ ،‬واعتبار �أن الفن‬
‫مثال بديال مالئما لهذا الأمر‪.‬‬
‫�س�أبد�أ بالحديث عن الحدث وعن التجربة‪ .‬وهنا كان غر�ضي‬
‫الأ�سا�سي ان �ألفت �إلى �ضرورة التمييز بينهما‪ .‬فالحياة بالن�سبة لنا‬
‫لي�ست فقط �أحداث و�إنما تجارب‪ .‬والتجربة هي تفاعل الحدث مع الوعي‬
‫الذي نملكه‪ .‬ثم �سانتقل من هذا �إلى بيان �أهمية الفل�سفة باعتبارها‬
‫�أداة خلق ونقد الوعي‪ .‬ومنها �أنتقل �إلى فل�سفات ال�سعادة المختلفة‪.‬‬
‫وهنا �أقول كالم ًا يكاد ينفي الحاجة �إلى مثل هذا الكتاب‪ .‬وهي تعدد‬
‫الفل�سفات‪ ،‬وتعدد الظروف‪ ،‬ونفي وج��ود حبة �سحرية‪ .‬لذلك �أقول‬
‫ابتداء هذا البحث ال يقدم حلو ًال و�إنما يقدم �أفكار ًا يمكن �أن ت�ساعد‬
‫في �إيجاد الحلول‪ .‬ولكن في هذه النقطة �أب��د�أ ب�أن �أوك��د ب�أن تدخلنا‬
‫في تحقيق �سعادتنا يعتمد على معرفتنا للثابت الإن�ساني‪ .‬نتيجة هذه‬
‫المعرفة هو �أنها تو�صلنا �إلى �أن حاجة �أ�سا�سية من الحاجات الإن�سانية‬
‫‪37‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫هي التو�سع الوجودي‪ .‬ولكن يرافق هذه الفر�ضية فر�ضية �أخ��رى �أن‬
‫طبيعتنا الوجودية لها �أكثر من بعد‪� ،‬أكثر هذه الأبعاد هو البعد غير‬
‫المادي �أو كما الروحي‪ .‬و�أن التو�سع في هذا البعد �ضروري‪ .‬هذا التو�سع‬
‫ي�ؤدي �إلى زيادة قيمتنا الوجودية‪ .‬وعند هذه النقطة تبد�أ ق�ضية اهلل‬
‫تعالى‪ .‬فالفر�ضية هي �أن القيمة الوجودية لنا تعتمد على االت�صال باهلل‬
‫تعالى �أو على ا�ستح�ضاره في حياتنا‪ .‬ومنها �أدخل في �أنواع الإيمان باهلل‬
‫المطلوب لتحقيق هذا‪.‬‬
‫ومع ترابط البحث �إال �أنه يمكن �أن ُيقر�أ ب�أي ترتيب �أو ت�سل�سل فهي‬
‫كما قلت �أو ًال �إثارة لأفكار وتفكير ب�صوت عال‪ .‬وممكن اعتبار الكالم‬
‫هنا �ضمن التحليل الفل�سفي‪� .‬أقول ممكن لأنه ال يرقى �إلى م�ستوى ما‬
‫�آمله من التفل�سف‪ .‬لذا ربما الأدق �أن �أقول ب�أنه محاولة للت�أمل والذي‬
‫يعد بداية التفل�سف‪ ،‬فال فل�سفة بغير ت�أمل‪ ،‬بل لعله ال لذة لغير المت�أمل‪.‬‬
‫هي محاولة ت�أملية تعتمد على تحاور مع ذهن القارئ وبالتالي �أُ ْجمل وال‬
‫ف�صل‪ ،‬و�أحاول �أن �أثير �أ�سئلة وق�ضايا على �أمل وحلم �أن ُيغنيها ويغتني‬ ‫�أُ ِّ‬
‫بها قارئها وقارئتها‪.‬‬
‫�أخير ًا‪ ،‬ما بين �أيديكم يتناول ق�ضية �شخ�صية للغاية‪ ،‬وال يمكن‬
‫لأحد �أن يفر�ض ر�أيه على �أحد مدعي ًا �أن فيه الحل النهائي‪ .‬بل الحل‬
‫النهائي هو لمن يعي�ش ويجرب وي�شعر ويفكر لنف�سه وبنف�سه‪ .‬واطالعي‬
‫ال�شخ�صي محدود ج��د ًا ج��د ًا‪ ،‬وظروفي الخا�صة �شكلت الكثير من‬
‫طريقة تناولي لهذه الق�ضية‪ ،‬و�أولوياتي في الحياة �أثرت على اختياري‬
‫‪38‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫للمو�ضوع و�أي�ض ًا على محاور وزواي��ا التناول‪ .‬وبالتالي فعندما �أقطع‬


‫علي ولي�س على غيري‪ .‬وما‬
‫و�أتيقن في بع�ض المواطن ف�إنه قطع ويقين ّ‬
‫�آمله لي�س �أن يقدم لك ح ًال و�إنما �أن ي�ستفز فكرك‪ .‬لي�س �أن يعطيك‬
‫الأجوبة و�إنما �أن ي�ستثير روحك‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫لماذا نتفل�سف؟‬
‫�إذا كان البحث �أ�سا�س ًا عن ال�سعادة فلماذا نتفل�سف؟ قد يرى‬
‫بع�ضنا �أن ال �صلة ذات جدوى بين الفل�سفة ومو�ضوع حيوي و�شخ�صي‬
‫مثل ال�سعادة‪ .‬بل الق�ضايا الفل�سفية تبدو لكثير منا منف�صلة عن‬
‫حياتنا اليومية‪ ،‬وبما �أنها كذلك فهي مملة وغير مثيرة‪ .‬وربما م�ستفزة‬
‫ي�ستعملها �أحدنا لت�سفيه �آخر‪�« .‬أنت تتفل�سف»‪� .‬أي‪� :‬أنت تقول كالم ًا ال‬
‫داعي له‪ .‬وربما ي�ضيف البع�ض‪ :‬فلت�صمت!‬
‫ولو نظرنا فيما حولنا لوجدنا �أننا نختلف كثير ًا في تقييم ما‬
‫ي�ستحق اهتمامنا �أو جهدنا �أو مالنا �أو وقتنا‪ ،‬خ�صو�ص ًا في تلك الأمور‬
‫التي لي�س من ورائها منفعة ملمو�سة �أو فورية �أو قابلة للقيا�س‪� .‬أقرب‬
‫مثال لهذا هو الفن‪ .‬فالمنفعة منه غير ملمو�سة وال فورية وال تقا�س‪.‬‬
‫فكيف يمكن قيا�س �أثر الوقوف �أمام لوحة من لوحات مونيت مث ًال؟‬
‫وكيف ن�ضع ثمن ًا لتدريب الأطفال على تقدير الفنون وممار�ستها؟‬
‫الفل�سفة مثل هذا‪.‬‬
‫ولكنها في نظر من ي�شعر بالحاجة �إلى جوهرها‪� ،‬أي الت�أمل‪،‬‬
‫غير ذلك‪ .‬من ي�شعر بالحاجة �أو الرغبة �أو اللذة في الت�أمل في كل ِّيات‬
‫‪41‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫وتفا�صيل حياته يرى الفل�سفة مثيرة وممتعة و ُم ْر�ضية للغاية‪ .‬بل الفل�سفة‬
‫لكل من ي�ؤمن بنف�سه تعتبر �إ�ضافة �أ�سا�سية لحياته‪.‬‬
‫قديم ًا قيل‪�« :‬إن الحياة الغير مت�أمل فيها ال ت�ستحق �أن ُتعا�ش»‪.‬‬
‫را�ض خير من �أن تكون‬ ‫بل قيل �أكثر من هذا‪�« :‬أن تكون �إن�سان ًا غير ٍ‬
‫را�ض على �أن تكون‬ ‫َ‬
‫�سقراط غير ٍ‬ ‫خنـزير ًا را�ضي ًا‪� .‬أف�ضل لك �أن تكون‬
‫را�ض‪ .‬و�إذا كان للخنـزير �أو للغبي ر� ٌأي مختلف فلأنهما ال يعرفان‬ ‫غبي ًا ٍ‬
‫�إال جانبهما من الق�ضية‪� .‬أما الآخ��ر‪ ،‬فلعلمه بطرفي الق�ضية يمكنه‬
‫�أن يقوم بالمقارنة‪ ».‬القائل الأول هو �سقراط‪ ،‬و�أما الثاني فهو جون‬
‫�ستيوارت ميل‪.‬‬
‫ومثل هذه الأقوال كثيرة ولعلك تذكر غيرها مما ي�سعى لتمجيد‬
‫التفكير والت�أمل والتفل�سف‪ .‬ولكن نعرف �أنها لن ُتح ِّفز �أحد ًا نحو ذلك‪،‬‬
‫�إال ما ندر‪.‬‬
‫نعم! قد ت�ستفز هذا‪ ،‬و ُت�شعر ذاك بالإهانة‪ ،‬وقد ُتح ِّفز البع�ض‬
‫الآخر على التمثيل �أو التمظهر‪ ،‬ولكن التفل�سف الحقيقي ال ي�أتي ر َّد ٍّ‬
‫فعل‬
‫على ذم من ال يتفل�سف‪ .‬الت�أمل والتفل�سف ال ي�أتي من خارج الفرد بل‬
‫ال بد من �أن ينبع من ذاته‪ .‬ما لم يملك المرء الرغبة في فهم الحياة‬
‫ف�إنه لن يقوم بذلك‪ .‬قد ي�سعى لحفظ بع�ض عبارات هذا وذاك‪ ،‬وا�سم‬
‫هذا الفيل�سوف وذل��ك المفكر‪ ،‬واال�ست�شهاد ببع�ض �أقوالهم‪ ،‬رعاي ًة‬
‫واهم‪ ،‬ولكن ذلك لي�س بفل�سفة‪.‬‬ ‫ل�ضرورات اجتماعية‪ ،‬و�إ�شباع لغرو ٍر ِ‬
‫الفل�سفة لي�ست حفظ �أقوال و�أ�سماء وت�أريخ الأفكار والمفكرين‪ .‬حتى‬
‫‪42‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫�أ�ستاذ الفل�سفة وم�ؤرخها ومن ي�ؤلف فيها قد ال يكون فيل�سوف ًا‪ .‬الفل�سفة‬
‫في جوهرها هي الحالة النف�سية والذهنية التي تجعل من �صاحبها في‬
‫بحث متوا�صل عن الفهم والتف�سير والتعليل‪ .‬تجعله في حالة من عدم‬
‫االعتياد وعدم الألفة‪� ،‬أو بعبارة �أحد القدماء تجعل المرء «في ده�شة‬
‫متتابعة»‪ .‬تجعلنا نرى ال�شيء جديد ًا بمجرد تغير فهمنا له‪ ،‬ونظرنا‬
‫�إليه‪ ،‬و�إن كان في جوهره وفي ذاته هو هو‪ .‬بل ما هو ال�شيء بالن�سبة لنا‬
‫�سوى نظرتنا �إليه؟‬
‫وربما �أحتاج �إل��ى تعديل ه��ذه العبارة‪ ،‬لأق��ول الفل�سفة تجعل‬
‫المرء في حالة نف�سية تتكرر معها الده�شة بين الحين والآخر‪ .‬ولي�س‬
‫�أن الفل�سفة تجعل الإن�سان في حالة ده�شة متوا�صلة لأن الده�شة‬
‫المتوا�صلة ال تت�أتى‪ .‬الده�شة حالة انفعالية‪ ،‬وهذه الحاالت م�ؤقتة دائم ًا‬
‫وال ت�ستمر‪ .‬ولكن ال ي�شعر بالده�شة �إال من يت�أمل ب�شكل متوا�صل في‬
‫الواقع الذي يحيط به �أو ال يحيط به‪ .‬والتكرار قد يكون مرة في اليوم‬
‫�أو في الأ�سبوع‪ ،‬بل ربما مرة في ال�شهر‪ .‬ولكن الده�شة كالنافذة �إلى‬
‫الوجود‪ .‬نحن ال ننظر �إلى الم�شاهد الجميلة دائما ولكن لما نريد ذلك‬
‫نحتاج �إلى نوافذ‪ .‬وكل ده�شة بمثابة �إطاللة جديدة على الوجود‪.‬‬
‫ولعلها‪� ،‬أي الفل�سفة‪ ،‬تن�ش�أ من ال�شعور بعدم االت�ساق‪ .‬وهو �شعور‬
‫ي�أتي لمن لديه ح�سا�سية عالية للوجود بحيث يرى الفروقات ال�صغيرة‬
‫التي تغيب عن �أو ال تلتفت لها �أنظار غيره‪ .‬ح�سا�سية تجعل المرء يدرك‬
‫عدم االت�ساق في ما حوله‪ ،‬وبالتالي ال�سعي لإيجاد تف�سير لذلك‪� ،‬أو‬
‫‪43‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫تحليله للتعمق في النظر و�صو ًال �إلى م�ستوى تكون فيه الأمور مت�سقة من‬
‫جديد‪ .‬وين�سب لأفالطون قوله �إن الفل�سفة هي البحث عن االت�ساق في‬
‫ما يظهر �أنه مختلف‪� .‬أو البحث عن الم�شترك في المختلف‪.‬‬
‫ولكن قد �أذهب خطوة �أخرى لأدرك �أن عدم االت�ساق ال يوجد‬
‫ب�سبب ما حولي و�إنما ب�سبب رغبتي في انتظام الأمور‪ .‬وبالتالي �أعود‬
‫لأكت�شف �أن عدم االت�ساق فيني �أنا ولي�س فيما حولي‪ .‬لتكون الفل�سفة‬
‫كا�شفة وهم االت�ساق‪ ،‬ومبينة كيف �أنه ال يوجد �إال في ذهن الإن�سان‪،‬‬
‫ولتك�شف كيف يعمل الإن�سان على �إ�سقاط حاجاته على العالم حتى لو‬
‫لم تكن فيه‪� .‬إن العالم فيه الخير وال�شر‪ ،‬والكبير وال�صغير‪ ،‬والرفيع‬
‫والو�ضيع‪ ،‬والجميل والقبيح‪ ،‬والحكمة والعبث‪ ،‬والتدبير والفو�ضى‪،‬‬
‫وهذه لي�ست �إال �أو�ضح �أمثلة عدم االت�ساق‪ .‬ومن ي�صل �إلى هنا ويدرك‬
‫وهم االت�ساق �سيرى الجميل الذي ال يكون جمي ًال‪ ،‬والقبيح الذي ال‬
‫يكون قبيح ًا‪ ،‬والعبث الذي يكون �ضروري ًا‪ ،‬والفو�ضى التي تعد منظمة‪،‬‬
‫وال�صغار الذي ي�ؤدي �إلى العظمة‪ ،‬والألم الذي يغذي الحب‪ ،‬والعطاء‬ ‫َّ‬
‫الذي ي�ضر‪ ،‬وال َبالدة التي تنطق حكمة‪ ...‬وكلما فكرنا قلي ًال كلما ظهرت‬
‫لنا �أ�شكال �أخرى من عدم االت�ساق بع�ضها يقترب منا بدرجة تلح علينا‬
‫�أن نجد لها جواب ًا‪ .‬وقد يكون جوابها هو �أن نقبلها كما هي‪ ،‬و�أن ال نحاول‬
‫البحث عن �شيء وراءها‪� .‬أي قد تكون الفل�سفة غر�ضها مقاومة الحاجة‬
‫النف�سية لالت�ساق والتي تكون تابعة لحاجات عملية براغماتية‪ ،‬ولي�س‬
‫تابعة من واقع وجودي خارجي‪ .‬فالإن�سان لكي ي�ستطيع �أن يم�ضي في‬
‫‪44‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫الحياة اليومية يظن �أنه بحاجة لأن يقلل من المجاهيل غير المتوقعة‬
‫من خالل التنظيم‪ ،‬فيفتر�ض بعد ذلك �أن الحياة كلها محكومة بنظام‪.‬‬
‫في حين �أن العالم في الواقع مترابط‪ ،‬متفاعل‪ ،‬متكامل‪ ،‬ولكن ال منظم‬
‫وال فو�ضوي‪.‬‬
‫ولعل الأمر غير البحث عن االت�ساق‪.‬‬
‫مهما كان ف�إن جوهر الفل�سفة والتفل�سف هو المحاولة المتوا�صلة‬
‫للت�أمل والفهم‪ .‬وفيما يتعلق ب�أنف�سنا ف�إننا وفق عبارة �أليوت ال نكت�شف‬
‫�شيئ ًا جديد ًا ولكننا نكت�شف ما كنا فيه وحو َله‪.‬‬
‫�أغلب النا�س ال تحب الفل�سفة‪ ،‬وقليل منهم يمار�سها‪ ،‬وكثير منهم‬
‫م�ضيعة للوقت وهدر للحياة وتفويت لما فيها من متعة‪ ،‬بل‬ ‫ي�شعرون �أنها ْ‬
‫�سيقولون �إنها �أخذ للحياة بجدية زائدة‪ .‬وكما قلت �أو ًال فكلنا قد �سمع �أو‬
‫حتى ا�ستعمل عبارة «يتفل�سف» للإ�شارة �إلى من يجادل‪� ،‬أو يقول كالم ًا‬
‫ال معنى له‪� ،‬أو يعقد ما هو ب�سيط و ُيبهم ما هو وا�ضح‪ .‬وهذا غير من‬
‫�سيحكم عليها بال�ضالل واالنحراف‪ .‬وما �أكثر ه�ؤالء‪.‬‬
‫وهذا م�ؤ�سف في نظر البع�ض‪ .‬وغير م�ؤ�سف في نظر �آخرين‪ .‬كل‬
‫ذلك اعتماد ًا على موقفنا الم�سبق من �أهمية الت�أمل والفهم‪� .‬أنا �أراه‬
‫م�ؤ�سف ًا‪ ،‬ولكن الذي يرى الفل�سفة م�ضيعة للوقت ي�سعد بموقف النا�س‬
‫النافر منها‪ .‬وهذا الموقف نجده ممن يهتم ب�أمور التغيير االجتماعي‬
‫حيث يرى �أن ما ال ينعك�س على الواقع مبا�شرة ال قيمة له وم�ضيعة‬
‫لموارد مهمة يجب �أن تتجه نحو �أمور �أجدى و�أنفع‪ .‬طبع ًا نجد موقف‬
‫‪45‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫رف�ض الفل�سفة ب�شكل �أ�شد ممن يراها هرطقة وتجديف ًا! ولعلي لم‬
‫�أن�صف موقف النافر هذا‪ ،‬ولكن ق�صدت الإ�شارة �إليه ولي�س تو�صيفه‬
‫بدقة‪.‬‬
‫ولكن ما هو الذي يجعل �أحد ًا يتفل�سف في حين �أنَّ �آخر ال؟ �أو‬
‫ما هو الذي يجعل �أحدنا ذا ح�سا�سية حالية لالت�ساق وغيرنا ال؟ �أو ما‬
‫الذي يجعلنا نبحث عن عدم االت�ساق؟‬
‫ال �أع��رف كيف �أجيب على ه��ذا ال�����س���ؤال‪ .‬فالواحد منا يت�أثر‬
‫بمجموعة متعددة من العوامل‪ .‬من التكوين الفيزيولوجي‪� ،‬إلى التربية‪،‬‬
‫والقيم التي اعتدنا عليها‪ ،‬والمبادئ التي ُغر�ست فينا‪ .‬بل حتى المحن‬
‫التي نتعر�ض لها والنعم التي نتقلب فيها ت�ؤثر كثير ًا على ال�شكل الذي‬
‫ن�صبح عليه‪ .‬طبع ًا تبقى اختياراتنا الم�ؤثر الأعمق والأكبر في حياتنا‬
‫والتي ال يمكن تف�سيرها ب�أي عامل �سوى ذاتها؛ هذا لمن ي�ؤمن ب�أنه لي�س‬
‫ظاهرة فيزيائية �أو اجتماعية فقط‪ .‬لأن من ي�ؤمن �أنه كذلك ال يمكنه‬
‫قبول فكرة االختيار الفردي‪ .‬فالإن�سان بالن�سبة �إما تفاعالت كيميائية‬
‫�أو تفاعالت اجتماعية‪ .‬وال يوجد الإن�سان الفرد‪.‬‬
‫�إذ ًا عوامل مختلفة تن ِّوع من ح�سا�سية المرء تجاه الوجود‪ ،‬وتجاه‬
‫ذاته‪ ،‬وتجاه ما حوله‪.‬‬
‫وما قلته عن القيمة الذاتية لمعرفة النف�س ينطبق هنا‪ .‬و�أ�ضيف‬
‫�إن الواحد منا حتى لو وجد نف�سه ال ي�شعر بالحاجة �إلى الفل�سفة‪ ،‬ف�إنه‬
‫يمكن �أن يخلقها في نف�سه‪ .‬من لم يدخن ال ي�شعر �أنه محتاج للتدخين‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ولكن من دخن ف�إنه يغير من تركيبته الفيزيولوجية بحيث ي�صير الدخان‬


‫حاجة بالن�سبة له‪ .‬مثال �أقرب هو الحاجة �إلى المو�سيقى الكال�سيكية‪.‬‬
‫هذا �أمر قطع ًا ال يحتاجه الكل‪ ،‬بل البع�ض يراه �سامج ًا ومم ًال وتافه ًا‪.‬‬
‫في المقابل الحاجة �إلى مو�سيقى الراب‪ .‬من لم يجربها لن ي�شعر �أنه‬
‫بحاجة �إليها‪ .‬لذلك ف�إن من لم ين�ش�أ على الحاجة �إلى معرفة المعنى �أو‬
‫�إلى التعمق في ما وراء الأمور لن يبحث عن الفل�سفة‪ ،‬ولن تعجبه‪ .‬من‬
‫لم ين�ش�أ معتاد ًا على البحث عن تجارب جديدة‪� ،‬أو عن ا�ستك�شاف �آفاق‬
‫مختلفة في ذاته‪ ،‬لن يرى �أن الفل�سفة �ضرورية كما لن يرى �أنها ت�ستحق‬
‫اال�ستك�شاف‪ .‬اال�ستمتاع بالفل�سفة ال بد من �أن تكت�سب‪ ،‬وال يمكن ذلك‬
‫�إال بالتجربة‪ ،‬وال بد من �أن ي�سبقها قناعة بجدوى التجربة‪ .‬ويمكن لمن‬
‫لم يجربها �أن يمار�سها ليكت�شف فيها بع�ض �أروع ما في الحياة‪� ،‬أو لينفر‬
‫منها تمام ًا‪ .‬بال�ضبط كما ي�ستك�شف الفرد المو�سيقى ب�أ�شكالها‪.‬‬
‫�أي ًا كان الأمر‪� ،‬إذا كنت ممن ال ُيحب هذه الأمور‪ ،‬فلعلك تمنح‬
‫الأم��ر فر�صة‪ .‬قطع ًا وقتُك ملكك وهو �أغلى من �أن تنفقه في �أمر ال‬
‫تعتقد فيه فائدة ولكن اختيار التجربة قد يكون مفيد ًا حتى لو كان في‬
‫محاولة �أولية ال تمثل الفل�سفة بكل روعتها‪.‬‬
‫ما ي�ساعد على تقدير الفل�سفة االلتفات �إلى �أن تجربة الحياة‬
‫تعتمد على الوعي بالحدث ولي�س على الحدث ر�أ�س ًا‪ .‬نجد �شخ�صين‬
‫امام لوحة فنية �أو في قاعة مو�سيقية‪ ،‬يعي�شون الحدث نف�سه‪ ،‬ولكنهم‬
‫يجربون الحدث بطريقة مختلفة‪� .‬أحدهم �سيعتبر المو�سيقى �إزعاج ًا‬
‫‪47‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫ول��وح��ة النجوم خرب�شة‪ ،‬والآخ���ر �ست�سحره المو�سيقى و�ستده�شه‬


‫الر�سمة‪ .‬والفرق بينهم هو فرق في الوعي‪� .‬أقرب من هذا �شربي للماء‬
‫في لحظة ما ووعيي كله من�صب على عمل �أو على حوار �أو على حبيب‪.‬‬
‫�أو �أ�شرب الماء ووعي كله في الماء في لحظة ال�شرب‪ .‬الحدث الذي‬
‫ع�شته واحد‪ ،‬ولكن تجربة الحدث اختلفت‪ .‬حتى المعاناة والألم يمكن‬
‫تجربتهما بطريقة مختلفة‪� .‬أت�ألم وكل تركيزي من�صب على نقطة الألم‪.‬‬
‫�أو �أت�ألم ووعيي موجه نحو �أمور �أخرى‪� .‬أعاني و�أنا �أرى �أن هذا م�صيري‬
‫الأبدي الأزلي الذي ال خروج منه‪� .‬أو �أعاني و�أنا �أرى �أن هذه لحظات‬
‫�ستنجلي و�سيكون بعده �ضوء م�شرق‪� .‬أكون في ظلمة ال نور في �آخرها‪.‬‬
‫�أو في ظلمة �أتخيل �إمكانية النور‪ .‬ما �أقوله هو �إن مع كل حدث نعي�شه‬
‫هناك وعي مرافق‪ .‬لذلك لي�س بعيد ًا �أن �أقول �إننا نت�صل بالحياة من‬
‫خالل وعينا ولي�س من خالل �أحا�سي�سنا �أو من خالل عي�شنا المجرد‬
‫فيها‪ .‬والوعي هذا الذي هو ج�سرنا �إلى الحياة مك َّون فل�سفي‪ .‬الوعي‬
‫يت�أ�س�س بالتفل�سف والت�أمل‪ ،‬ثم الوعي ي�شكل جوهر عالقتنا بالحياة‪.‬‬
‫بالوعي تتكون عالقتنا بما حولنا‪ .‬وفي ت�صوري ف�إن هذه الوظيفة الأولى‬
‫للفل�سفة‪ ،‬تو�سيع وعينا والذي به تت�سع وتتعمق تجربتنا للحياة‪ .‬وهذا ال‬
‫يتنافى مع القول ب�أننا نتفل�سف لأجل الده�شة‪ .‬مع يتكامل معه‪.‬‬
‫البع�ض ينجذب �أو ينفر من الفل�سفة لما ينظر �إل��ى �أ�سئلتها‪.‬‬
‫واحد منا �سيقول ال�صواب كان ترك مثل هذه التعقيدات‪� .‬آخر �سيندفع‬
‫�أكثر نحو المو�ضوع‪� .‬أي قد ُت�شفق على �أولئك الذين ينفقون �أعمارهم‬
‫‪48‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫في البحث عن �إجابات لهذه الأ�سئلة �أو قد تن�ضم �إليهم‪.‬‬


‫�أ�سئلة تتناول �أم��ور ًا نعي�شها كلنا مهما كان موقعنا االجتماعي‬
‫�أو ال�سيا�سي �أو االقت�صادي �أو المعرفي �أو غير ذلك من الت�صنيفات‬
‫والتق�سيمات التي نحب �أن نق�سم بع�ضنا من خاللها‪ .‬ربما فكرنا في‬
‫بع�ضها �أو كلها‪ ،‬حاولنا �أن نجيب عنها �أو �أهملناها‪� ،‬صار لدينا قناعات‬
‫حول بع�ضها �أو بقينا محتارين في �أمرها‪ .‬في المقابل قد تجد نف�سك‬
‫نافر ًا منها لكونها تتناول ق�ضايا بديهية ـ في ظاهرها ـ ُتعر�ض وك�أنها‬
‫م�شكالت �أ�صيلة! وهذا من �إ�شكاالت الفل�سفة‪� .‬أن جزء كبير منها يتناول‬
‫اليومي‪ .‬وجزء �آخر يتطلب الت�شكيك باليومي‪ .‬الأول يجعل البحث فيها‬
‫ي�شبه البحث في ما هو بديهي‪ .‬والثاني يجعل البحث فيها بمثابة تعقيد‬
‫ما هو وا�ضح‪.‬‬
‫فلماذا ولدتُ ؟ ولماذا �س�أموت؟ لم يموت البع�ض منا في �شبابه‬
‫�أو طفولته؟ ماذا �سيح�صل لي بعد الموت؟ ما هي قيمة الحياة؟ ما هي‬
‫مح�صلة حياتي؟ ما هو الذي له �ش�أن؟ ولماذا �أحتاج �إلى �أن ن�س�أل مثل‬
‫صال؟ لم �أ�شعر �أن كثير ًا من الأجوبة التي �أطرحها غير‬
‫هذه الأ�سئلة �أ� ً‬
‫جواب منا�سب و�آخر ال؟ كيف‬ ‫منا�سبة؟ ما هي ال�شروط التي تجعل من ٍ‬
‫�أ�شعر بالر�ضا منها؟ وقبل ذلك ما هي الأ�سئلة التي �أحاول تجنبها؟‬
‫قمت‬
‫ما هي الأمور التي لم �أعملها؟ وما هي الأمور التي �أعتز ب�أنني ُ‬
‫بها؟ لماذا �أعتز بتلك الق�ضايا؟ لماذا الندم على ما قد م�ضى؟ ما هو‬
‫الذي �أعرف من نف�سي؟ من هو اهلل تعالى؟ وماذا يريد مني؟ بل ِل َم‬
‫‪49‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫صال و�أنا من �أنا؟ وما قدر المعرفة الممكنة به؟ كيف‬ ‫يريد مني �شيئ ًا �أ� ً‬
‫تختلف معرفتي باهلل عن معرفتي بنف�سي �أو بالموجودات من حولي؟‬
‫هل العالم ُودِّي؟ هل ممكن توقع كل �شيء؟ �إلى �أي مدى يعلب المجهول‬
‫في العواقب غير المق�صودة لأفعال‬ ‫دور ًا في حياتي؟ �إلى �أي مدى ت�ؤ ِّثر ّ‬
‫مق�صودة؟ ما هي عالقتي بالوجود؟ وما هو ت�أثير اختياراتي فيه؟ وهل‬
‫ت�أثيري يتنا�سب مع فعلي؟ من �أنا في هذا الكون الوا�سع؟ ما �أنا بين هذه‬
‫المجرات التي تكاد تكون ال نهائية؟ هل �أنا �أكثر من ذرة في مجرة؟ ‪...‬‬
‫�أ�سئلة في نظر الفيل�سوف من الأهمية بمكان‪ ،‬في حين �إن كثير ًا‬
‫منا قد يرى �أنها ال ت�ستحق �أن تتحول �إلى مو�ضوع درا�سة‪ .‬ربما اعتدنا‬
‫على هذه الق�ضايا �أو بع�ضها‪ ،‬ولم ي�صبح التفكير فيها يمثل التفكير في‬
‫جديد �أو مثير‪ .‬ربما ت�شك َّلت حياتنا بحيث �أنها ال تن�سجم مع �أغلب تلك‬
‫الق�ضايا‪ ،‬فال ن�شعر �أن حياتنا تتعلق بها مطلق ًا‪ .‬بل في ت�صوري ف�إنَّ‬
‫هذا الأخير هو ال�سبب الأعمق الن�صرافنا عن الفل�سفة‪ .‬لقد ت�شكلت‬
‫حياتنا بحيث �أ�صبحت مجموع لحظات منف�صلة نكون فيها من�صرفين‬
‫عن �أنف�سنا �إلى ما حولنا بفعل اقت�صاد المالهي وثقافة اال�ستهالك‪.‬‬
‫الحياة المعا�صرة تقوم على اال�ستهالك وعلى الإث���ارة المتوا�صلة‬
‫وال�سريعة والمتحولة‪ .‬ومثل هذه الحياة ال تترك للمرء مجا ًال للتفكر‬
‫والت�أمل‪ .‬الفرد فيها يبحث عن المثير ال�سريع‪ ،‬وما �إن ينته منه حتى‬
‫يبحث عن �آخر وهكذا‪ .‬والفل�سفة ال تمنح هذا‪� .‬إنها تتطلب و�صل الأمور‬
‫بع�ضها ببع�ض‪ .‬تتطلب الوقوف‪ .‬التفكير‪ .‬الهدوء‪ .‬المراجعة‪ .‬النقد‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫�إنها تتطلب كل ما يتنافى مع ثقافة اللحظة والإثارة‪� .‬أي�ض ًا من طبيعة‬


‫هذا الزمن هو �أن نظام الحوافز �صار قائم ًا على المنافع المبا�شرة‬
‫الفورية والمتالزمة مع الفعل‪ ،‬ولي�س على المكا�سب �أو الآثار البعيدة‪.‬‬
‫الفل�سفة تعتمد على تكوين نف�سي يتعامل مع الحوافز بح�سب الم�آالت‬
‫بقدر ما يعتمد على الحوافز بح�سب النتائح المبا�شرة‪ .‬الفل�سفة مراجعة‬
‫للوعي‪ ،‬وهذه المراجعة بطيئة وهادئة وتراكمية‪ .‬فكيف يمكن التفل�سف‬
‫في زمن �صارت فيه الأم��ور التي ال تح�س بعيدة عن االهتمام؟ �أ�سو�أ‬
‫من هذا ف�إن الحياة المعا�صرة غيرت الإن�سان بحيث جعلت وعيه بذاته‬
‫مرتبط ًا بقدر وعيه بما يملك وبما ي�ستهلك‪� .‬أنا = ما �أملك‪� .‬أنا = ما‬
‫�أ�ستهلك‪ .‬الحياة في هذه الحالة ت�صير �سعيا متوا� ً‬
‫صال لزيادة ما �أملك‬
‫وما �أ�ستهلك‪ .‬ثقافة �سرعة ال تحتمل التفكير والتحليل‪ .‬ثقافة الوجبات‬
‫الجاهزة ال تتالءم مع التفكيك والتركيب والتبني ثم �إعادة كل ذلك‪.‬‬
‫وهناك من يرى �أن هذا من ح�سنات الحياة المعا�صرة‪ ،‬حيث �أ�ضافت‬
‫للإن�سان ُبعد ًا لم يكن يملكه‪ ،‬وبالتالي منحته َّلذات ما كانت مت�صورة‬
‫في �أزمنة �سابقة‪� .‬شخ�صي ًا ال �أرى هذا‪ .‬بل �أرى �أننا خلقنا لأنف�سنا غربة‬
‫عن �أنف�سنا ال مثيل لها في تاريخ الب�شرية‪.‬‬
‫ولكن بالرغم طبيعة الحياة المعا�صرة ال�صارفة لنا عن �أنف�سنا‬
‫ف�إننا نبقى «نحن»‪ :‬كائنات �ضعيفة قلقة ه�شة‪ .‬لذلك ن�صادف دائم ًا‬
‫مواقف ت�صدم ثقتنا ب�أنف�سنا‪ .‬بع�ضها ي�صل �إلى حد الهزة التي تجبرنا‬
‫على �إعادة النظر في تلك الأمور‪ .‬والهزة ت�أتي من �أمور كثيرة‪ :‬حادث‪،‬‬
‫‪51‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫�ألم �شديد‪ ،‬مر�ض‪ ،‬خ�سارة حبيب‪ ،‬تحطم عالقة زوجية‪ ،‬طروء حاجة‬
‫مادية ملحة ونحو ذلك من اللحظات التي ت�ضع الإن�سان �أمام �ضعفه‬
‫وعجزه في �آن واح��د‪� :‬ضعف ذاته وعجزها عن تغيير �شيء‪ .‬مواقف‬
‫تعيدنا �إلى �أنف�سنا لتذكرنا �إننا في النهاية �أفرا ٌد منف�صلون بعيدون عما‬
‫حولنا مما كنه نعده م�ضيفا لنا‪ .‬مواقف ت�ؤكد لنا �أن ذواتنا هي وحدها‬
‫حقيقة ما نحن ولي�س ما نملكه �أو نعلقه بنا‪� .‬إدراك قد ي�صيب بع�ضنا‬
‫بالوح�شة بحيث نهرب �إلى الأمام بحث ًا عن �أ�شكال �أخرى من التعلق �أو‬
‫الملكية �أو عن �أنماط من الن�سيان‪ .‬في المقابل يعيدنا خطوة �إلى الوراء‬
‫بحيث ننظر �إلى �أنف�سنا من جديد‪.‬‬
‫محطات حياة تتركنا في �ساحة كبيرة خالية ال يمكن الخروج‬
‫منها �إال بالت�أمل في ما ال نراه فيها‪� .‬أو قد ال لتعيدنا �إلى �أنف�سنا ولكن‬
‫ُتغ ِّير من موقع ر�ؤيتنا لأنف�سنا ولما حولنا‪ .‬تخ َّيل حالك بعد �أن ُي�ضرب‬
‫ر�أ�سك بقوة‪ :‬كيف تبدو الأمور مختلفة لوهلة؟ ربما تلك الأ�شكال التي‬
‫تراها ور�أ�سك يدور هي الأ�شكال الحقيقية للموجودات من حولنا؟ ربما‬
‫�شكلها بعد ما يزول �أثر ال�ضربة هو غير الحقيقي؟ �أي ًا كان الأمر ف�إن‬
‫هزة الر�أ�س هذه غيرت من موقع نظرتك‪ .‬وكذلك بع�ض هزات الحياة؛‬
‫ف�إما ن�ستمر في النظر من موقعنا الجديد‪� ،‬أو نعود �إلى حيث كنا‪.‬‬
‫بع�ضنا يهمل الفل�سفة لما يطلع على ق�ضاياها و�أ�سئلتها قائال‬
‫لنف�سه �إذا كانت هذه الفل�سفة ف�أنا فيل�سوف �أ� ً‬
‫صال‪� .‬أنا �أملك �أجوبة على‬
‫تلك الأ�سئلة‪ .‬بل لعل الحقيقة �أن كلنا لديه فل�سفة و�إنما نتفاوت في‬
‫‪52‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫قدرتنا على التعبير عنها و�صياغتها ب�شكل دقيق‪� .‬أو ربما هناك من‬
‫احتكر و�صف الفل�سفة على منهج وطريقة محددة‪ .‬لي�س غر�ضي الجدل‬
‫حول �صحة �إطالق الو�صف‪ ،‬ولكن �أت�صور �أن التفل�سف يتحقق لما يكون‬
‫هناك ت�سا�ؤل بوعي‪ .‬معرفة الجواب بغير �س�ؤال يحقق معلومة منف�صلة‬
‫عنا‪ ،‬وال ُت�ضحي جواب ًا �أو معلومة مت�صلة بنا �إال �إذا كنا نملك الت�سا�ؤل‪.‬‬
‫و�س�ؤال بغير وعي لي�س �إال ترديد ًا لفظي ًا‪ .‬فلي�س الأمر امتالك الفل�سفة‬
‫�أو الر�أي و�إنما امتالك التفل�سف‪.‬‬
‫ولكن هل تلك الأ�سئلة ت�ستحق البحث؟ �أو هل ي�صعب الإجابة‬
‫عليها؟ بل �أال نملك الأج��وب��ة من م�صادرنا الدينية؟ ربما كل هذا‬
‫�صحيح‪ .‬ربما نعرف الأج��وب��ة ال�صحيحة ولكن المعرفة الم�سبقة‬
‫بالأجوبة ال تعني �أن البحث غير مهم‪ .‬فالبحث لي�س دائم ًا من �أجل‬
‫الح�صول على الأجوبة بل قد يكون عن الأ�سئلة‪ .‬وعندما يكون كذلك‬
‫ف�إن الغر�ض هو �إعادة ال�س�ؤال �إلى �أنف�سنا‪� ،‬أن نعيد ات�صالنا بالفكرة‬
‫التي انف�صلت عنا‪� .‬إننا �أحوج ما نكون �إلى ما يحيى فينا الت�سا�ؤل ليرجع‬
‫فينا ال�شعور ب�أهمية تلك الأ�سئلة وعالقتنا بها‪� .‬أو بالأحرى عالقتها‬
‫بنا‪ .‬لأننا و�إن كنا نملك الأجوبة �إال �أن تلك الأجوبة �أ�صبحت معلومات‬
‫معزولة عنا‪� .‬أفكار م�ستقرة في خانة المحفوظات في �أدمغتنا‪ ،‬وبعيدة‬
‫عن نقاط االت�صال بحياتنا‪ .‬ولي�س مهما �أن �أ�ؤم��ن باهلل فقط مث ًال‪،‬‬
‫و�إنما �أن �أعرف �إن للإيمان باهلل في حياتي ت�أثير �إيجابي‪ .‬في النهاية‬
‫�أنا معيار الأهمية‪ .‬وما ال ي�ضيف �إلي ال �أحتاجه‪.‬‬
‫‪53‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫والأمر ال يقف هنا‪ .‬فالواقع �أن تلك ق�ضايا معقدة ولو لم يكن‬
‫من الت�أمل والتفل�سف �إال �إدراك تعقيدها لكفى وذلك لكي نبتعد عن‬
‫التب�سيط المبالغ في تعاملنا مع ق�ضايا كبرى كتلك ولكي ندرك �أن‬
‫الحقيقة لي�ست وا�ضحة و�ضوح ال�شم�س‪ .‬فتلك الأ�سئلة تتناول ق�ضايا‬
‫ت�ؤثر على كافة �أنحاء حياتنا ولكنها ق�ضايا غائبة �إلى حد كبير لي�س‬
‫فقط عن �أحا�سي�سنا ولكن �أي�ض ًا عن مداركنا وكثير ًا ما نب�سطها مما‬
‫ينعك�س على تقييمنا لمن ال يتفق معنا حيث نحكم عليهم بالجهل �أو‬
‫المكابرة �أو التع�صب‪ .‬ولكن ما �إن نرى �صعوبة المو�ضوع حتى ندرك‬
‫�ضرورة مراعاة مواقف الآخرين لي�س لأنهم على �صواب بل لأننا ال‬
‫ن�ستطيع التيقن من �صوابنا �أو لأننا ندرك �أنَّ الأمر رمادي برمته �أو في‬
‫جله‪� .‬إ�ضافة �إلى هذا من ف�إن �إدراكنا عدم و�ضوح تلك الق�ضايا يفتح‬
‫لنا �آفاق نف�سية‪ .‬ف�أحيان ًا نت�ساءل ولكن نفر�ض على �أنف�سنا البحث عن‬
‫اليقين من جديد‪ .‬والبحث عن اليقين ي�ضيق علينا الخيارات في حين‬
‫�إن البحث في الم�ساحات المتو�سطة الرمادية رحب ووا�سع‪ .‬و�س�آتي‬
‫الحق ًا على فكرة «احت�ضان ال�شك»‪ ،‬وهو نتيجة طبيعية لقبول التعقيد‬
‫في هذه الق�ضايا‪.‬‬
‫ولو لم يكن في الفل�سفة �إال فهم ما يقوله الآخرون لكفى‪ .‬كثير ًا‬
‫ما نقلل من �ش�أن �أ�سئلة ثقافات �أخرى‪� ،‬أو �أ�شخا�ص �آخرين في محيطنا‪.‬‬
‫البحث الفل�سفي ي�ساعدنا على تقديرها و�إدراك ما وراء تلك الأ�سئلة‪:‬‬
‫لماذا �س�ألوها ولي�س غيرها؟ ما هي ظروفهم الحياتية التي جعلتهم‬
‫‪54‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ينظرون �إلى ق�ضايا دون غيرها؟ ولنفهم لماذا �أجابوا بما �أجابوا‪.‬‬
‫وباقترابنا من فهم ما يقوله الآخ��رون ف�إننا نقترب من �أنف�سنا لأننا‬
‫�سنكت�شف �أننا نفهم �أنف�سنا ولكن من زاوية مختلفة‪� .‬إنا نكت�شف القرب‬
‫بيننا كب�شر‪ ،‬ون�شعر بت�شابه الق�ضايا التي تهمنا‪ ،‬وت�صير ق�ص�ص‬
‫الآخرين عن الوجود و�سيلة لإ�ضاءة ق�صتنا الخا�صة‪� ،‬أو دوافعنا الخا�صة‬
‫في �صياغة ق�صتنا‪ .‬وهذا يف�سح مجال للتوا�صل الح�ضاري القائم على‬
‫التقدير واالحترام‪ .‬فكلنا لديه ميثولوجيا عن الوجود والحياة وبقدر ما‬
‫تختلف ف�إنها تت�شابه‪ .‬وفهم االختالف والت�شابه يثري فهمنا لوجودنا‬
‫الإن�ساني الخا�ص والم�شترك‪.‬‬
‫وقد ال تكون الفل�سفة من �أجل العلم بال�شيء بقدر ما تكون لنعرف‬
‫كيف نعي�ش بال معرفة‪ .‬فالعدمية حالة نف�سية م�ؤلمة وكثير ًا ما تن�ش�أ من‬
‫العجز المعرفي �أمام الوجود؛ العجز عن تف�سيره وفهمه والإحاطة به‬
‫وب�أغرا�ضه‪ .‬وفي �أغلب الأوقات نحتاج �إلى �أن نتعلم العي�ش بالجهل لأننا‬
‫�سنبقى جاهلون ب�أكثر ما هو حولنا‪.‬‬

‫�أ�شكال ال�س�ؤال الفل�سفي‬


‫الأ�سئلة التي تطرح في البحث الفل�سفي �أن���واع كثيرة‪� .‬أحد‬
‫التق�سيمات التقليدية التي تعجبني هو التق�سيم الذي ي�ضع الأ�سئلة في‬
‫دائرتين �أ�سا�سيتين‪ :‬دائرة ما هو كائن ودائرة ما يجب �أن يكون‪ .‬ويمكن‬
‫�إ�ضافة دائرة ثالثة هي دائرة ما �سيكون‪ .‬ويالحظ مبا�شرة لي�س فقط‬
‫‪55‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫اختالف ال�س�ؤال بل �أي�ض ًا اختالف طبيعة العاطي مع كل من ال�س�ؤال‬


‫والجواب‪.‬‬
‫ما هو كائن‪� :‬أ�سئلة الوجود والحياة‪� :‬أ�صلهما و�أ�صلنا وم�آلنا‬
‫و�سبب وجودنا ومعنى حياتنا‪ .‬والبحث في الوجود غير البحث في‬
‫الموجود‪� .‬أ�سئلة الوجود تبحث في خا�صية الوجود التي يملكها كل‬
‫موجود‪ .‬البحث في الموجود يبحث في �شكل وجود �شيء محدد وهذا‬
‫مو�ضوعه العلوم الطبيعية والريا�ضيات‪ .‬فقد �أنظر �إلى الكتاب و�أفكر‬
‫في خوا�صه المختلفة وعالقة ه��ذه الخوا�ص بما ح��ول الكتاب من‬
‫موجودات‪ .‬خا�صية الورق‪ .‬عالقة الورق بنوع الرطوبة المحيطة‪ .‬وزنه‪.‬‬
‫حجمه‪� .‬إلخ‪ .‬وقد �أفكر فيه من حيث �إنه كائن موجود‪ .‬كائن خرج من‬
‫العدم‪ .‬كائن منف�صل عني‪ .‬وفي الوقت نف�سه كائن بيني وبينه عالقة‪.‬‬
‫فمن حيث كونه خليط من الذرات فهو م�ستقل عني تمام ًا‪ .‬ومن حيث‬
‫كونه كتاب ًا فهو مت�صل بي لأني �أنا الذي خلقه بهذا ال�شكل‪ .‬ووعي به‬
‫جزء من وجوده بالن�سبة لي‪.‬‬
‫ما يجب �أن يكون‪ :‬بمعنى ما يجب �أن يكون منا‪� ،‬أو ما يجب �أن‬
‫نفعله‪� ،‬أو‪ :‬ما هو �شكل الحياة النموذجية؟ وما هي الطرق التي يجب �أن‬
‫ن�سكلها؟ ما هو المنهج الذي يجب �أن ن�سير عليه؟ وما الذي يجب �أن‬
‫ن�سعى �إليه؟‬
‫�أم��ا ما �سيكون‪ :‬يبحث في ال��م���آالت والعواقب لأعمالنا �سواء‬
‫العواقب المفتر�ضة �أو العواقب المقا�سة‪.‬‬
‫‪56‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫طبيعة الأ�سئلة مختلفة تمام ًا‪ .‬فالبحث فيما هو كائن يكاد يكون‬
‫و�صف ًا لما هو موجود‪ .‬و�أما البحث في ما يجب فيقترح خلق �شيء غير‬
‫موجود‪ .‬والبحث في العواقب يحاول ربط الأحداث بنتائج لم تح�صل‬
‫بعد‪.‬‬
‫وكل نوع من هذه الق�ضايا الثالثة له منهجية خا�صة في الإثبات‪.‬‬
‫فالإجابة على �أ�سئلة الوجود (ما هو كائن) تحتاج �إل��ى منهج بحث‬
‫يختلف عن الإج��اب��ة عن �أ�سئلة الأخ�لاق (م��ا يجب �أن يكون) وهما‬
‫يختلفان كثير ًا عن متطلبات الإجابة على �أ�سئلة العواقب (ما �سيكون)‪.‬‬
‫ومع �أن الأ�سئلة الثالثة مختلفة �إال �أن الق�ضايا فيها ت�ؤثر على‬
‫ب�ضعها البع�ض فـ‪:‬‬
‫ما �سيكون‬ ‫ما يجب �أن يكون‬ ‫ما هو كائن‬
‫والت�أثير يكون �أو�ضح ما يكون عندما نتناول ق�ضايا ما يجب �أن‬
‫يكون‪ .‬لأنه ال تكاد توجد �إال وهي تت�ضمن فر�ضيات حول كل من ما هو‬
‫كائن و�أي�ض ًا حول ما �سيكون �أو العواقب‪ .‬مث ًال كتاب ال�سر عندما اقترح‬
‫التفكير الإيجابي ف�إنه كان يبحث فيما يجب �أن يكون وفيما يجب �أن‬
‫نعمل‪ .‬هو يطلب منك �أن تفكر بطريقة معينة‪ .‬ولكن هذا االقتراح لم‬
‫ي�أت من فراغ‪ .‬بل �أتى من ر�ؤية خا�صة للوجود‪ .‬فعندما يقول لك �إذا‬
‫فكرت بطريقة معينة ف�إن كذا وكذا �سيح�صل فهذا يعني �إنه يقدم �أي�ض ًا‬
‫تف�سير ًا للعالقات ال�سببية بين الموجودات‪ ،‬تف�سير من النوع الذي يعطي‬
‫التفكير الإيجابي الت�أثير المن�سوب له‪ .‬والبحث في العالقات ال�سببية‬
‫‪57‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫في الوجود من �أبحاث ما هو كائن‪ .‬وفي الوقت نف�سه ف�إن الكتاب ذكر‬
‫العواقب التي �ستنتج من وراء هذا وهي عواقب تتعلق بحياة �أح�سن �أو‬
‫حياة تتوافق مع �أحالم وطموحات الفرد الذي يطبق اقتراحات الكتاب‪.‬‬
‫وهذا النوع من الوعد هو من �أبحاث ما �سيكون‪.‬‬

‫بين النزعة الأخالقية والحكم الأخالقي‬


‫مثال �أدق للعالقة بين ما هو كائن وبين ما يجب �أن يكون هو‬
‫البحث في العالقة بين النزعة الأخالقية وبين الحكم الأخالقي‪.‬‬
‫فالنزعة الأخالقية هي ال�شعور ب�أن هناك �أمر يح�سن �أن نقوم به‪� .‬أو‬
‫ما ن�سميه بال�ضمير‪ .‬نحن نميز بال�ضرورة بين‪ :‬يجب �أن �آكل و يجب‬
‫�أن �أعدل ويجب �أن �أ�ستمتع ويجب �أن ال �أقطع الإ�شارة الحمراء؟ هذه‬
‫من نوع «يجب �أن يكون» ولكننا ن�شعر ب�أن جملة «يجب �أن �أعدل» تحمل‬
‫داللة مختلفة عن غيرها‪ .‬داللة �أخالقية‪ .‬القدرة على �إدراك هذا النوع‬
‫من الوجوب وتمييزه عن غيره من الواجبات هو ما يجعلنا نقول بوجود‬
‫النزعة الأخالقية‪ .‬طبع ًا هناك من يجادل في هذا ويقول �إن النزعة‬
‫الأخالقية ال وجود لها‪ .‬الموجود هو االن�ضباط للمجتمع وهذا االن�ضباط‬
‫ي�صل �إلى مرحلة نتعامل معه وك�أنه �أمر مميز‪ .‬ولكن في نهاية الأمر‬
‫بالن�سبة له�ؤالء ال فرق بين �أقول‪ :‬يجب �أن يكون لدي رخ�صة لمزاولة‬
‫مهنة بيع الرمان‪ ،‬وبين �أن �أقول يجب �أن �أح�سن للم�سكين‪ .‬الجملتان‬
‫ذات داللة خ�ضوع �أو اتباع لعرف اجتماعي‪ .‬الأول مكتوب وعليه عواقب‬
‫‪58‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫لمن يخالف‪ .‬والثاني غير مكتوب وال توجد عليه عواقب لمن يخالف‪.‬‬
‫بل يمكن �أخذ الأمر �أبعد والقول ب�أن لدينا نزعة �أخالقية لي�س معناها‬
‫�أنه يجب �أن نكون �أخالقيين‪ .‬فمجرد وجود ال�ضمير ال يعني وجوب �أن‬
‫نكون �أخالقيين‪� .‬أو هل يعني؟ ال�ضمير يعني �أنني �أميل �أو �أريد ب�شدة‪.‬‬
‫�أ�سئلة �أتركها مفتوحة‪�.‬أيا كان الأمر فالبحث في النزعة الأخالقية من‬
‫بحث ما هو كائن‪.‬‬
‫الحكم الأخ�لاق��ي هو نتيجة الإج��اب��ة على ما يجب �أن نعمل‪.‬‬
‫ولكن �إلى �أي حد يت�أثر الجواب بالموقف من وجود وطبيعة النزعة‬
‫الأخالقية؟ كيف يت�أثر الحكم الأخالقي بفكرة ال�ضمير؟ مث ًال قد �أقول‬
‫�إن فكرة ال�ضمير تفتح الباب للإيمان ب�أنه يكفي ت�سويغا لفعل ما �أن‬
‫يكون منطلق ًا من �أو مر�ضي ًا لهذا ال�ضمير‪ .‬وهذا ما ن�سميه الخير للخير‬
‫�أو ترك ال�شر لأنه �سيء‪� .‬أما نفي ال�ضمير فال يترك مجا ًال لهذا‪� .‬أي‬
‫�إن «ما هو كائن» ‪ -‬وجود النزعة الأخالقية في هذه الحالة ‪� -‬أ َّثر على‬
‫ما يجب بطريقة غير مبا�شرة‪ .‬هو لم يحدد ما يجب �إنما غير طريقة‬
‫التفكير فيه‪ .‬فعندما ن�س�أل �أنف�سنا‪ :‬كيف نحدد ما هو الواجب فعله؟ وما‬
‫م�صادر معرفة هذا؟ ف�إن القول بوجود نزعة �أخالقية �أو رف�ضها �سيغير‬
‫�أو �سي�ؤثر على الإجابات‪.‬‬
‫وفي ممار�ستنا للتفكير الأخالقي دائم ًا ندخل «ما هو كائن» على‬
‫«ما يجب �أن يكون»‪ .‬وال بد من التفكيك بينهم حال التحليل‪ .‬لأنه في‬
‫كثير من الأحيان نت�صرف وك�أن الأخ�لاق تت�أ�س�س على هو ما كائن‪.‬‬
‫‪59‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫بل البع�ض يعتبر �أن فل�سفة الوجود هي المرتكز الأ�سا�سي للفل�سفة‬


‫الأخ�لاق��ي��ة‪ .‬وو�صل الأم��ر �إل��ى درج��ة القول ب���أن الأخ�ل�اق ما هي �إال‬
‫التماهي مع م�ستوى معين من م�ستوى الوجود بمعنى �أن هناك عالم‬
‫الغيب‪ ،‬والأخالق هي �أن نعي�ش وفقه �أو ن�ستن�سخه في حياتنا‪ .‬وفكرة‬
‫وجود المثال الذي يجب �أن نحتذيه ك�أر�ضية للأخالق �سائدة لدرجة‬
‫كبيرة‪ .‬قد يكون بالن�سبة للبع�ض مثال في عالم الغيب‪ ،‬وللبع�ض الآخر‬
‫مثال في التاريخ‪ .‬وفي الحالتين الم�س�ألة هي �أخذ ما هو كائن �أ�سا�س ًا‬
‫مبا�شر ًا لما يجب �أن يكون‪.‬‬
‫م��ن �أمثلة ه��ذا ال��ت��داخ��ل ه��و طريقة �إثباتنا وج��وب التعامل‬
‫بالت�ساوي‪ .‬فنحن نقول �إننا مت�ساويين في الخلق ـ �سواء انطلقنا من‬
‫الإيمان ب���أن اهلل خلقنا كذلك �أو قلنا نحن وجدنا كذلك ـ ولما كنا‬
‫مت�ساويين في الخلق فهذا يعني بال�ضرورة وج��وب �أن نتعامل مع ًا‬
‫بالت�ساوي‪� .‬أو مث ًال نقول �إن كون المر�أة عاطفية يعني وجوب �أن تعمل في‬
‫المجاالت التي تتطلب عطاءا �إن�ساني ًا �أكثر؛ مدر�سة �أو ممر�ضة مثال‪.‬‬
‫في الحالتين بنينا ما يجب على ما هو كائن‪ .‬وفي الحالتين يمكن �إثارة‬
‫�إ�شكاليات على هذا الت�سل�سل‪ .‬فكيف �صار كوننا مت�ساوين في الخلق‬
‫يعني وجوب الت�ساوي في المعاملة‪ .‬ولم القول ب�أن طبيعة المر�أة تملي‬
‫عليها �أدوار ًا محددة؟ �أت�صور �أن �أق�صى ما يمكن هو �أن نقول �إن ما‬
‫هو كائن يغير �آفاق التفكير فيما يجب كما قلت �أوال في ت�أثير الإيمان‬
‫بالنزعة الأخالقية على الحكم الأخالقي‪ .‬ففي المثال الأول يمكن‬
‫‪60‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫القول ب�أن كوننا مت�ساوين في الخلق يعني �أنه ال يوجد لأحد ا�ستحقاق‬
‫ذاتي وبالتالي فال ي�صح لأحد �أن ي�ؤلم �أو يظلم �أحد ًا‪ .‬هذا غير وجوب‬
‫الت�ساوي‪ .‬والت�ساوي يمكن ا�سناده �إلى معايير �أخرى‪.‬‬
‫مثال �آخر عن العالقة بين ما هو كائن وبين ما يجب �أن يكون هو‬
‫ما يتعلق بر�ؤيتنا لطبيعة عالقتنا بالوجود وت�أثيره على ر�ؤيتنا الأخالقية‪.‬‬
‫فلو �أخذنا ثالثة �أحوال من الوجود وقارنا بين نتائجها الأخالقية فما‬
‫�سنجد؟‬
‫لن�أخذ �أحدا ي�ؤمن ب�أن الكون قا�س و�أننا غرباء فيه و�أننا وحدنا‬
‫فيه و�أننا �ضحايا للوجود‪ .‬هذا ال�شخ�ص كيف �سيكون معياره للخير �أو‬
‫ال�شر؟ كيف �سيجيب على ما يجب �أن �أعمل؟ �أو ما هي الق�ضايا التي‬
‫�سيرى �أنها ت�ستحق الت�أمل او التفكير‪ .‬ال �أ�ستطيع �أن �أجيب بح�سم لأنني‬
‫لم �أ�س�أل كل من ي�ؤمن هكذا‪ .‬وال �أطرح المو�ضوع هنا و�أنا لدي افترا�ض‬
‫م�سبق عما �سيقوله‪� .‬أنا فقط �أ�س�أل من باب االفترا�ض‪� .‬شخ�ص �آخر‬
‫ي�ؤمن ب�أن الكون ر�ؤوف وحنون و�أننا هنا نتيجة هذه الر�أفة والمحبة‪،‬‬
‫فكيف �سيتعامل مع الق�ضية الأخالقية؟ كيف �سيف�سر الحب والرحمة‪.‬‬
‫وهل تف�سيره للحب والرحمة �سي�شبه تف�سير الأول‪� .‬شخ�ص ثالث ي�ؤمن‬
‫ب�أن الكون عادل ومن�صف‪ .‬فكيف �سيكون �س�ؤال الأخالق بالن�سبة �إليه؟‬
‫فبين ه�ؤالء الأ�شخا�ص الثالثة كيف �ستختلف النظرة �إلى الرحمة و�إلى‬
‫العطف؟ �إلى الت�ضحية و�إلى العطاء؟ �إلى الإن�صاف و�إلى العدل؟ وما‬
‫�أريد القول هنا ب�أن طبيعة الإيمان بالكون و�أ�صله لم تملي على �أحد‬
‫‪61‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫من الثالثة ر�ؤية اخالقية محددة‪ ،‬ولكن ربما �أثرت على ما يمكن �أن‬
‫يتبناه كل واحد منهم‪� .‬أقول ربما لأن الجواب على هذا يعتمد على �س�ؤال‬
‫النا�س ولي�س على االفترا�ض من وراء جدار‪ .‬هذا �أنني كثيرا ما �أقوم‬
‫بافترا�ضات من وراء الجدر‪.‬‬
‫و�أي ًا كان ال�صواب‪ ،‬فما �أردت الت�أكيد عليه هنا هو �ضرورة االلتفات‬
‫�إلى الفرق بين ال�س�ؤالين و�إلى �إ�شكالية العالقة بينهما‪ .‬هذه العالقة‬
‫الم�شكلة بين ما هو كائن وبين ما يجب جعلت البع�ض يدخلون عامل‬
‫ما �سيكون‪ .‬و�إذا تابعت مثال الت�ساوي ف�س�أقول �إن الت�ساوي له م�آالت‬
‫جيدة وعدم الت�ساوي له م�آالت �سيئة‪ .‬فيتم الإ�شارة �إلى ال�سخط والتوتر‬
‫الم�ؤدي �إلى تفكك العالقات االجتماعية وال��ذي قد يكون له عواقب‬
‫�سيئة على الفرد‪� .‬أو �إلى ال�سعادة والرفاه الذي ينتج من اال�سترخاء‬
‫في العالقات االجتماعية‪ .‬وبالتالي ي�صبح وجوب الت�ساوي مرتكز ًا على‬
‫تجنب العواقب ال�سيئة �أو على جلب الم�صالح‪ .‬وبطبيعة الحال فالبحث‬
‫في العواقب �سي�ستند �إلى التاريخ �أو �إلى درا�سات �إح�صائية علمية ولكن‬
‫�أحيان ًا �إلى افترا�ضات‪.‬‬
‫م�شكلة هذا النوع من التحليل هو �أنه يجب �أن تتوفر لنا �أو ًال معايير‬
‫لما هو �سيء وما هو جيد‪ .‬فما م�صدرها؟ و�إال فكيف �سنعرف العواقب‬
‫التي يجب البحث فيها؟ وكيف �سن�شخ�ص ال�ضرر؟ وكيف �سنوازي بين‬
‫المت�ضررين؟ خ�صو�صا لما يتطلب الأم��ر اختيار ًا بين �أف��راد �أو بين‬
‫الفرد والمجتمع‪ .‬من الأول��ى؟ الفرد �أو المجتمع؟ الأكثر �أو الأقلية؟‬
‫‪62‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫فبع�ض الأمور ال ت�ضر �إال الفرد‪ ،‬وبع�ضها ي�ضر المجتمع‪ .‬منع التدخين‬
‫في الأماكن العامة يراعي المجتمع‪ .‬رفع ال�ضرائب على التدخين �أي�ض ًا‬
‫يراعي المجتمع‪ .‬فالفرد الذي يهمل نف�سه يح ِّمل المجتمع م�س�ؤوليات‬
‫معينة وبالتالي فال�ضريبة و�سيلة لأخذ منه‪ .‬ولكن �ضرر التدخين يدخل‬
‫�ضمن العواقب المحتملة‪ .‬فمتى يحق لنا �أن نقيد �سلوك الفرد بناء على‬
‫عواقب محتملة؟ وهل يحق للمجتمع �أن يقيد �سلوك فرد ال ي�ؤذي �سواه؟‬
‫وهل فورية العواقب عامل م�ؤثر؟ هل حجم العاقبة فيها فقط و�إنما‬
‫�أي�ض ًا في توقيت ح�صولها؟ فمثال عاقبة التدخين تكون بعد �سنوات من‬
‫المتعة‪ ،‬وت�أتي بالتدريج‪ .‬فهل هذه ب�سوء عاقبة ا�ستخدام مخدر خطير‬
‫له �أثر فوري؟ وهل مبا�شرة العواقب عامل م�ؤثر؟ فبع�ض عواقب �أعمالنا‬
‫مبا�شرة مثل قطع �شارع ب�إهمال مما ي�ؤدي �إلى حادث �سيارة ال ي�صيبني‬
‫و�إنما ي�صيب غيري‪ .‬فما الموقف الأخالقي والقانوني هنا؟ وهذا مثال‬
‫وا�ضح و�إال في الواقع ف���إن �أغلب ت�صرفاتنا لها عواقب على الغير‪،‬‬
‫ونحن ال ننتبه لذلك ولكن عي�شنا بين غيرنا وتفاعل وتقاطع �أفعالنا‬
‫مع م�صائر وحياة الآخرين يفر�ض ذلك‪ .‬ثم كيف نقي�س العواقب؟ ومن‬
‫يحدد طرق القيا�س والإح�صاء؟ وهل �أح�صينا ق�ص�ص الف�شل بقدر ما‬
‫نح�صي ق�ص�ص النجاح؟ ‪� ...‬إلخ من الإ�شكاالت‪.‬‬
‫هذه التقاطعات بين ما هو كائن وما يجب �أن يكون وما �سيكون‬
‫موجودة على ال��دوام في كافة الكتب التي تبحث في حياة الإن�سان‪.‬‬
‫فالكتب التي تبحث في عالقاتنا الإن�سانية‪ ،‬و�أنواعها من �صداقة‪ ،‬وحب‪،‬‬
‫‪63‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫وزواج‪ ،‬و�أ�سرة وغيرها‪� .‬أو التي تبحث في م�شاعرنا من حيث تكونها‬


‫و�إدارتها وتغييرها‪� .‬أو العمل‪ :‬حاجتنا المعنوية والمعي�شية �إليه‪ ،‬وما‬
‫يرافقه من تحديات من والدة‪ ،‬موت‪ ،‬نمو‪ .‬تحديات الأخالقية‪� ...‬إلخ‪.‬‬
‫لوجدنا �أنها تتناول الأمور الثالثة دائم ًا‪ .‬والقراءة الناقدة والفاح�صة‬
‫لها تتطلب معرفة طرق ترتيب الق�ضايا فيها‪ .‬مثال الكتب التي تتحدث‬
‫على البحث على الذات تقدم فر�ضيتين وهي �أن لكل فرد ذات ًا و�أن عليه‬
‫البحث عنها‪ .‬الفر�ضية الأولى هي من نحو ما هو كائن‪ ،‬والثانية من نحو‬
‫صال في تلك الكتب بل يتم افترا�ضهما‬ ‫ما يجب‪ ،‬وهما ال يتم �إثباتهما �أ� ً‬
‫وافترا�ض العالقة بينهما‪ .‬ولكن يمكن دائما الت�سا�ؤل‪ :‬فهل هناك ذات‬
‫ثابتة للإن�سان؟ و�إذا وجدت فهل يجب �أن ي�سعى الإن�سان لتحقيقها؟‬
‫ربما ال�سعادة هي في تجاوزها؟‬
‫وه��ذا البحث هو كذلك‪ .‬خليط من الأ�سئلة‪ .‬و�إن ك��ان �أغلبه‬
‫يحاول �أن يبقى �ضمن ال�س�ؤال حول ما هو كائن‪ .‬لي�س ما هو كائن خارج‬
‫وجودنا الخا�ص‪ ،‬و�إنما ما هو كائن فينا‪ .‬ولكن لي�س غر�ضي من البحث‬
‫في هذا مجرد معرفة ما هو كائن‪ ،‬و�إنما اعتبر �أن هذا و�سيلة لمعرفة‬
‫ما يجب‪ .‬فمع وجود ه�شا�شة في العالقة بين ما هو كائن وبين ما يجب‪،‬‬
‫�إال �أنها تبقى من وجهة نظري و�سيلة مهمة لمعرفة م�ساحات مختلفة‬
‫من الأفعال التي يجب �أن نقوم بها‪� .‬أو لأكون �أكثر دقة تعطينا الإطار‬
‫العام الذي يحدد �أفعالنا‪ .‬بعد ذلك يمكن للبحث في العواقب �أن يلعب‬
‫دور ًا �أكثر‪ .‬ولكن بخالف البحث في الوجود الخارجي كم�صدر لمعرفة‬
‫‪64‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫الأخالق الفردية‪ ،‬ف�أنا �أت�صور �أن البحث يجب �أن يبد�أ منا نحن‪ .‬ذكرت‬
‫�أو ًال �أن هناك من يرى �أن علينا معرفة النظام الكوني الموجود ثم ننظم‬
‫حياتنا وفقه‪� .‬أنا �أميل �إلى الر�أي المعاك�س‪ .‬علينا �أن نعرف من نحن‬
‫ثم ننظم حياتنا في هذا الوجود وفقنا نحن‪ .‬علينا �أن نبد�أ من �أنف�سنا‬
‫ولي�س من الواقع‪ ،‬ونحن معيار ما يجب والفو�ضى والنظام يبد�آن من‬
‫عندنا‪ .‬وللر�أيين عالقة ع�ضوية بت�صورات الألوهية ف�س�أتركه �إلى �آخر‬
‫البحث مكتفي ًا هنا بالقول �أنني �أنطلق من فر�ضية �أن معرفتنا ب�أنف�سنا‬
‫ت�ؤدي �إلى معرفتنا بما يجب القيام به �أو على الأقل بما يجب تجنبه‪.‬‬
‫وبالتالي ف�إنني �س�أبد�أ من تناول �أنف�سنا بغر�ض �أن يقربنا �إلى الفعل‬
‫الذي �إذا قمنا به اقتربنا �إلى ال�سعادة �أو �إلى اليكنونة المتناغمة‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫الفل�سفة والم�شاعر‬
‫�أختم هذا المحور حول الفل�سفة وال�سعادة بذكر ما هو وا�ضح‬
‫من �أنَّ الفل�سفة لي�ست ع�ص ًا �سحرية‪ .‬التفل�سف �سيزيد من �إن�سانيتنا‪،‬‬
‫لأن ت�أملنا من �إن�سانيتنا‪ .‬والت�أمل مما يفرقنا عن غيرنا من الأحياء‬
‫التي تملك التفكير وال تملك الت�أمل‪ .‬هي ال يمكنها �أن تنظر �إلى نف�سها‬
‫وتق ِّيم حياتها وق�ضاياها‪ ،‬ولكننا نملك ذلك‪ .‬الفل�سفة تقوم ب�أمور كثيرة‬
‫ولكن معرفتها لن تحل م�شاكلنا تلقائي ًا‪ .‬بل قدرتنا على �إدارة م�شاعرنا‬
‫وانفعاالتنا من �أهم �شروط تحقيق ال�سعادة والهناء في هذه الحياة‪.‬‬
‫الفل�سفة ت�ساعد على تطوير هذه القدرات ولكنها ال تطورها بذاتها‪.‬‬
‫و�أهمية �إدارة الم�شاعر ت�صل �إل��ى الحد ال��ذي جعل البع�ض ي�ؤ�س�س‬
‫فل�سفة حياة كاملة على هذا الأمر‪ .‬و�أي مراقب لم�شاعره يدرك مدى‬
‫تعقيدها و�أي�ض ًا جودة الحياة التي يمكن �أن ينالها بمجرد �أن يملك‬
‫هذه القدرة‪ .‬ولن�أخذ الغ�ضب كمثال من الم�شاعر ال�شائعة التي تكدر‬
‫وتدمر وتف�سد‪ .‬فالغ�ضب �شعور نا�شيء من �إدراك تلقائي بتهديد على‬
‫الذات وما يهم الذات‪ :‬حياتها‪ ،‬كرامتها‪ ،‬م�صالحها‪ ...‬ولأن الغ�ضب‬
‫يتعلق بالإدراك التلقائي ف�إن موقف ًا م�شترك ًا قد يثير غ�ضب ًا لدى �أحد وال‬
‫‪67‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫يثيره لدى �آخر لمجرد �أنهما يختلفان في الربط التلقائي بين الموقف‬
‫وبين التهديد‪ .‬بعد ال�شعور بالغ�ضب نجد �أن البع�ض ممن يغ�ضب ينفعل‬
‫ب�صراخ والبع�ض ينفعل بكالم والبع�ض ي�صمت ويكتم والبع�ض يتعدى‬
‫بيده‪ .‬الكل غا�ضب ولكن هناك تفاوت في االنفعاالت‪ .‬القدرة على �إدارة‬
‫الإدراكات التلقائية ت�ضبط م�شاعر الغ�ضب‪ ،‬ثم �إن القدرة على �إدارة‬
‫االنفعاالت ت�ضبط االنفعاالت بعد ظهور م�شاعر الغ�ضب والفل�سفة‬
‫لن تح�سن ب�شكل مبا�شر � ٍّأي من القدرتين‪ .‬ونرى حولنا بل وفينا من‬
‫يملك �أرقى الفل�سفات تفا�ؤ ًال حول الحياة ولكن يعي�ش �أتع�س ممن يملك‬
‫فل�سفة �أ�ش َّد ت�شا�ؤمية لمجرد �أن الأول ال يملك قدرات �إدارة الم�شاعر‬
‫واالنفعاالت في حين �أن الثاني يملك ذلك‪ .‬الأول لن ي�ستطيع �أن يعي�ش‬
‫وفق فل�سفته ال�سامية لأنه م�شغول باالنفعاالت التي ت�أتيه يومي ًا من هنا‬
‫وهناك‪ .‬م�شغول بغ�ضبه وحزنه وتقلبات مزاجه وال ي�ستطيع تجاوزها‪.‬‬
‫يعي�ش وفق متطلباتها وك�أنه ال يملك فكر ًا وال يملك ر�ؤية حول الحياة‪.‬‬
‫فل�سفته في جانب وم�شاعره في جانب �آخر‪ .‬وهو م�شغول بها لأنه ـ مثلنا‬
‫كلنا ـ لم ي� ِأت �إلى الفل�سفة �إال بعد �أن اكتمل تكوينه ال�شعوري ون�ضجت‬
‫بتباين بين‬
‫ٍ‬ ‫ق��درات �إدارت��ه النفعاالته‪ .‬ولذلك فمن الطبيعي �أن نبد�أ‬
‫الفل�سفة والم�شاعر‪ .‬والنموذجي �أن نطور فل�سفتنا من خالل ت�أملنا‬
‫وتجربتنا‪ ،‬وفي الوقت نف�سه نقوم بتحليل �آليات عمل م�شاعرنا والتي تم‬
‫ت�شكيلها منذ طفولتنا المبكرة والتي ال تتغير �إال بعد ممار�سة جهد بالغ‪.‬‬
‫ولنعد �إلى الغ�ضب‪� :‬إننا نتعلم ما هو تهديد في طفولتنا لدرجة �أن كلمة‬
‫‪68‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ب�سيطة ت�صبح تهديد ًا بالن�سبة لنا ومثيرة لحنقنا ومدمرة لعالقاتنا‪.‬‬


‫وكل واحد منا ر�أى في نف�سه المواقف التي يت�صرف فيها وفق م�شاعره‬
‫في حين �أن كل عقله يقول له عك�س ذلك‪� .‬إنَّ علينا العمل المتوا�صل‬
‫لفهم الخريطة الم�شاعرية التي تك َّونت فينا وذلك من �أجل فهم �آليات‬
‫عمل م�شاعرنا‪ .‬هذا الفهم �سيمكننا �أن نهد�أ و�أن نبرد خواطرنا و�أن‬
‫نعطي فر�صة لأفكارنا �أن ت�ؤثر على �إرادتنا‪ .‬وعلى وجه الخ�صو�ص علينا‬
‫فهم �آليات م�شاعرنا االجتماعية التي ت�ؤثر على عالقاتنا بمن حولنا‪.‬‬
‫ف�أفكارنا قد توجد فينا �أفراد ًا ولكننا ال نوجد �إال بين مجتمعات‪ ،‬و�إذا‬
‫لم ندرك كيفية عمل م�شاعرنا بين غيرنا ف�إن �أفكارنا �ستبقى حبي�سة‬
‫عقولنا‪� .‬إذا لم نفهم كيف نح�سد ونغار ونخ�شى ون�ضطرب ونناف�س‬
‫ونقارن ونراقب فلن نفهم ت�صرفاتنا مع غيرنا ولن ن�ستطيع �أن نمار�س‬
‫قيمنا و�أن نعي�ش وفق فكرنا‪� .‬إذا لم ن�ستطع �أن ن�ضع م�سافة بين الوعي‬
‫وبين الذات بحيث يتحول الوعي من م�شارك �إلى مراقب‪ .‬وعلينا �أن‬
‫ندرك �صعوبة هذا الأمر و�أن ال نب�سطه ال علينا وال على غيرنا‪ .‬ولعل‬
‫بع�ض ال�شعائر التي تت�سم بالزحام مثل �أ�شكال الحج المتنوعة ت�شير‬
‫�إلى هذا التنا�شز بين العي�ش وفق الأفكار وبين العي�ش وفق الم�شاعر‪.‬‬
‫�إنها تك�شف لنا التحدي في الجمع بين الروحانية وبين ال�ضيق المعي�شي‬
‫ال�شديد‪ .‬في �أن نعي�ش القيم الروحية ال�سامية ونحن في زحمة عالية‬
‫وفي �ضيق مكاني ومحدودية زمانية‪ .‬ربما الغر�ض �أن ننظر �إلى �أنف�سنا‬
‫و�إلى حفاظنا على ما نملك في قلوبنا وعقولنا عندما تكون م�شاعرنا‬
‫‪69‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫م�ستفزة وم�ستنفرة‪ .‬في كل الأح��وال هذه الإ�شارة فقط �أردت بها �أن‬
‫�أعيدنا �إلى ما قلته في البدء من عالقة الأح��وال النف�سية بالتفكير‪.‬‬
‫�أعظم الفال�سفة قد يكون اكثر النا�س اكتئاب ًا‪ .‬بل القر�آن يحكي لنا‬
‫ق�صة اكتئاب النبي يعقوب مقدما نموذج ًا مهم ًا ل�شخ�ص مت�صل باهلل‬
‫�أعلى درجات االت�صال الب�شري‪ ،‬ومع ذلك ي�صاب باالكتئاب لفقدان‬
‫ابنه‪ .‬الم�سالة �أكثر تعقيد ًا مما نت�صور �أو يحاول البع�ض �أن ي�صور‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫حول فل�سفات ال�سعادة‬
‫هناك من لديه ح�سا�سية من كلمة «�سعادة»‪ .‬ينظرون �إليها بنوع‬
‫من الريبة‪� .‬أمر ينتمي لعالم الخيال وال يتحدث به �إال من يريد �أن يبيع‬
‫الأوهام للنا�س‪ .‬البع�ض يرى �أنها �أ�ستهلكت لدرجة �أنها فقدت معناها‪.‬‬
‫ا�ستهلكت عبر �أكثر من �ألفين �سنة من اال�ستعمال‪ .‬هناك من يرى �أنها‬
‫ال تعبر بما فيه الكفاية‪ .‬وهناك من يرى �أنها م�ستوردة من �سياق ثقافي‬
‫غير ديني وبالتالي يرتاب من �إيحاءاتها‪ .‬هنا �أ�ستخدمها بمعنى وا�سع‬
‫جد ًا لت�شير �إلى الحاالت المرغوبة لدينا‪ .‬ف�إذا لم تكن تعجبك الكلمة‬
‫فيمكنك ا�ستخدام غيرها مما يقوم بالأمر نف�سه بالن�سبة لك �شخ�صي ًا‪.‬‬
‫ربما تف�ضل الر�ضا‪� ،‬أو النجاح‪� ،‬أو الهناء‪� .‬أي�� ًا كان المهم الحاالت‬
‫التي ت�شير �إليها و�أظن �أن الكثير هنا �سيتفق على �أنها حاالت نرغبها‬
‫جميع ًا‪ .‬الحب‪ ،‬الفرح‪ ،‬االنجاز‪ ،‬الحرية‪ ،‬الإلهام‪ ،‬المتعة‪ ،‬ال�سالم‪،‬‬
‫الر�ضا‪ ،‬القدرة‪ ،‬الأمل‪ ،‬الإ�شباع‪ ،‬الراحة‪َ .‬منْ منا ال يريد هذه‪ ،‬كلها �أو‬
‫بع�ضها؟ قد نختلف في �أهمية بع�ضها ولكن ال �أظن �أننا �سنختلف في‬
‫�أنها كلها مهمة‪ .‬وفي مقابل هذه الحاالت هناك �أمور �أو حاالت وم�شاعر‬
‫ال نريدها‪ ،‬وهي تعكر �صفونا من نحو‪ :‬ال�شك‪ ،‬الملل‪ ،‬الحقد‪ ،‬الغ�ضب‪،‬‬
‫‪71‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫الخوف‪ ،‬القلق‪ ،‬الحزن‪ ،‬الخجل‪ ،‬ال�شعور بالذنب‪ ،‬التوتر‪ ،‬الحنق‪،‬‬


‫الغيرة‪ ،‬الح�سد‪ .‬فال�سعادة �أو �أي كلمة �أخرى تتحدث عن الح�صول على‬
‫الحاالت الأولى وعن تجنب الحاالت الثانية‪.‬‬
‫ال يوجد دين �إال ويعد بال�سعادة �أو ما ي�شبهها‪ .‬بل الأدي��ان �أو‬
‫�أغلبها ذهب �أكثر من هذا فقدمت وعودها بال�سعادة لما بعد هذه‬
‫الحياة‪ .‬الفل�سفات �أي�ض ًا بحثت في تعريفها وتحديد و�سائلها‪ .‬والق�صائد‬
‫والأغاني تحن �إليها‪ ،‬وكثير من الق�ص�ص الخيالية تجعلها خاتمتها‪،‬‬
‫والأحبة يعدون �أنف�سهم بها‪ ،‬بل حتى بع�ض الد�ساتير ال�سيا�سية تجعلها‬
‫من الحقوق الأ�سا�سية‪ ،‬واليوم �صارت الر�أ�سمالية تغرينا بها �إذا‬
‫ا�ستهلكنا ما فيه الكفاية‪.‬‬
‫والتفكير في ال�سعادة بد�أ قديم ًا‪ .‬ولعله رافق اكت�شاف التفكير‬
‫والت�أمل‪ .‬فحينها وجد الوعي الإن�ساني نف�سه يعي�ش الم�شاكل والهموم‪.‬‬
‫ووجد نف�سه �أمام مع�ضلة كبيرة‪ .‬وهي �أنه كلما �أردنا �شيئ ًا و�سعينا �إليه‬
‫ثم ح�صلنا عليه‪ ،‬نظرنا �إلى ما هو �أكثر منه و�أبعد‪ .‬اكت�شفنا �أننا نرغب‬
‫بما ما ال نملكه ويملكه غيرنا‪ ،‬و�أننا نخ�شى نجاحات الغير بقدر ما‬
‫نخ�شى فقدان ما لدينا‪ .‬و�أن رغباتنا تزيد وال تنق�ص‪ ،‬في جوع متوا�صل‬
‫وال ت�شبع‪ .‬ثم �صرنا مع تطور �أ�شكال الحياة االجتماعية واالقت�صادية‬
‫نفكر في الم�ستقبل ونقلق منه‪ .‬و�صار المجهول زمان ًا يخيفنا �أكثر مما‬
‫يخيفنا المجهول مكان ًا‪ .‬و�صرنا نح�سب ح�ساب ما لم يقع خ�شية �أن يقع‪.‬‬
‫عدم يملك وعي ًا‬
‫لظل‪ ،‬و�شب ُه ٍ‬ ‫ومع تطور الوعي �أكثر و�أكثر �أدركنا �أننا ظ ٌل ٍ‬
‫‪72‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫واختيار ًا وفع ًال‪ ،‬بل اكت�شفنا اليوم �أننا ذرة ت�سبح في مجرة‪ ،‬بل �أقل‬
‫من الذرة‪ ...‬وكل ت�أمل في حالتنا رافقتها محاولة للإجابة على �أ�سئلة‬
‫ال�سعادة‪ .‬من نحو‪ :‬ما هي؟ وكيف يمكن الو�صول �إليها؟ وهل ال�سعادة‬
‫لحظة؟ �أو حالة؟ وهل يمكن وج��ود حياة �سعيدة؟ ولو تحقق لأحدنا‬
‫الأم��ن‪ ،‬والكفاية‪ ،‬والعافية‪ ،‬والحب‪ ،‬وال�شعور باالنجاز؛ هل �سي�شعر‬
‫بال�سعادة؟ وهل �ستدوم له تلك الم�شاعر؟ هل �ستزول عنه م�شاعر‬
‫التعا�سة؟ �إلخ من الأ�سئلة والتي �سبق �أن ذكرت بع�ضها‪.‬‬
‫وقد تنوعت الأجوبة بدرجة جعلت البع�ض ي�شعر �أن��ه ال يوجد‬
‫�إجابة لها‪� .‬أو �أن ال�سعادة هدف متحول‪ .‬بع�ض الإجابات نجحت في‬
‫التحول �إلى ثقافة متوارثة تتجلى في الأمثلة ال�شائعة مثل تلك التي ترفع‬
‫من �ش�أن القناعة �أو المحبة �أو الأخ�لاق والقيم‪ .‬والبع�ض منا يكتفي‬
‫بها لير�شد حياته ويعي�ش هني ًا‪ .‬بع�ض الإجابات �أ�صبح فل�سفة نا�ضجة‬
‫ومتطورة كما نجد في فل�سفات �أفالطون و�أر�سطو وابن م�سكويه والغزالي‬
‫وكا ْنت وبنتثام وغيرهم من الفال�سفة ال�شرقيين والغربيين الذين كتبوا‬
‫في ال�سعادة وبطريقة توحي �أنهم �أ�صحاب م�شروع فكري متوا�صل �أكثر‬
‫من كونهم حاالت منف�صلة زمان ًا �أو مكان ًا‪ .‬بع�ض الإجابات تطور �إلى‬
‫مناهج حياة �شاملة كما نجد في الأديان ال�سماوية وغير ال�سماوية �أو‬
‫الفل�سفات التي تطورت �إلى مناهج للحياة مثل البوذية �أو الكنفو�شية‪.‬‬
‫وبع�ض الإجابات لم تتجاوز ال�صفحات التي كتبت فيها �أو اللقاءات التي‬
‫�شوركت فيها‪ .‬والأمر لم يتوقف �إلى اليوم‪ .‬فال زالت الأجوبة تتوالى‪ ،‬وال‬
‫‪73‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫زال النا�س في جدل وجذب حول هذا المو�ضوع‪ .‬وربما ب�شكل �أكثر مما‬
‫�سبق و�أي�ض ًا ربما بحدة �أ�شد‪ .‬فمع الإعالم المعا�صر‪ ،‬ومع االحتكاك‬
‫المكثف بين ال�شعوب في العالم برز التفاوت الهائل بين النا�س‪ ،‬وظهر‬
‫�إلى �أي حد هناك من يعي�ش في �أو�ضاع نكدة‪ ،‬و�صار �س�ؤال ال�سعادة‬
‫ق�ضية �سيا�سية واقت�صادية ولي�س فقط ق�ضية كمالية‪.‬‬
‫ولكن بين كل ذلك التنوع �سنجد �أن �أغلب الب�شرية اتفقت على‬
‫وجود حالة مرغوبة ا�سمها «�سعادة»‪� .‬أقول «�أغلب» لأن هناك من يقول �إن‬
‫ال�سعادة و�أخواتها َو ْهم غير موجود‪ .‬ومن يقول هذا يطلب منا مراجعة‬
‫حياتنا وحياة غيرنا ليقول لنا �إن الحياة ما هي �إال �سل�سلة من اللحظات‬
‫الأليمة تتخللها �أوقات هادئة‪ .‬وال�سعادة ما هي �إال تكثيف الهدوء ولكن‬
‫لي�س الو�صول �إلى �شيء محدد‪ .‬ومن يدري‪ .‬ربما هذا ال�صواب!‬
‫�إ�ضافة �إل��ى التفاوت في التعامل مع ال�سعادة يبدو �أن هناك‬
‫ق�ضايا مركزية �شغلت �أغلب من تناولها هي‪:‬‬
‫اللذة وال�سعادة‪ :‬بع�ض من يتحدث في‬ ‫الأولى‪ :‬التفريق بين َّ‬
‫ال�سعادة ُيم ِّيز بين الحاالت الإيجابية التي ن�شعر بها ب�سبب امتالك‬
‫�أمر لم نكن نملكه‪ ،‬مثل امتالك‪ :‬المال‪� ،‬أو ال�شهرة‪� ،‬أو الحبيب‪� ،‬أو‬
‫الأوالد مقابل الحاالت الإيجابية التي م�صدرها الإن�سان نف�سه‪ :‬مث ًال‬
‫طريقة تفكيره عن الحياة وعن ما لديه‪ .‬في�سمي الأولى َّلذات في حين‬
‫ي�سمي الثانية �سعادة‪ .‬وال�سبب لو�ضع هذا التمييز هو لفت االنتباه �إلى‬
‫�أن ال�سعادة التي ت�أتي من الداخل ال حدود لها‪� .‬أي�ض ًا ربما و�ضع هذا‬
‫‪74‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫التق�سيم لتف�سير واقع �أغلب الب�شر الذين ال يملكون �شيئ ًا محرز ًا ومع‬
‫ذلك يعي�شون حاالت يمكن اعتبارها �سعيدة‪.‬‬
‫ه��ذا التق�سيم ي��راع��ي ال��ف��رق بين ال��ح��االت المرغوبة الآنية‬
‫والحاالت المرغوبة المتوا�صلة‪ .‬فكثير ًا ما نخلق حاالت مرغوبة من‬
‫خالل �أعمال محددة ولكنها حاالت �آنية ال تدوم‪ ،‬وم�صادر خلقها �أي�ض ًا‬
‫ال تدوم‪ ،‬بل وت�أثير تلك الم�صادر في خلق تلك الحاالت ال يدوم‪ .‬مث ًال‬
‫اللذة من طعم تفاحة ال ت��دوم �أكثر من اللحظات الأول��ى‪ .‬والتفاحة‬
‫نف�سها ال تدوم‪ .‬ولكن �أي�ض ًا من اعتاد على طعام معين ف�إن ا�ستمتاعه‬
‫به ال يدوم �أي�ض ًا‪ ،‬فالتفاحة رقم ‪ 1000‬لن يكون طعمها �أو اللذة من‬
‫�أكلها مثل التفاحة الأولى‪ .‬وهذا ين�سحب على �أغلب اللذات الح�سية‪.‬‬
‫ومن يميز بين اللذة وال�سعادة يبحث عن تلك الحالة التي ال تزول‪ ،‬وعن‬
‫م�صدرها الذي يدوم‪.‬‬
‫و�ضمن البحث عن ال�سعادة من داخل الذات ين�ش�أ ال�س�ؤال كيف‬
‫يكون ذلك؟ هل يكون من خالل امتالك ر�ؤية ما عن الحياة؟ �أو من‬
‫خالل ا�ستك�شاف كوامن في النف�س و�إبرازها؟ �أو من خالل ا�ستك�شاف‬
‫الذات الأ�صيلة فينا وتحقيقها؟ �أو االن�سجام معها؟‬
‫في المقابل هناك من يرى �أن البحث عن تلك الحالة هو من‬
‫البحث عن المعدوم‪ ،‬فنحن ال نملك �إال الحاالت الآنية التي نخلقها في‬
‫�أنف�سنا‪ ،‬وعلينا �أن ال ن�ض ِّيع �أوقاتنا في البحث عما �سواها‪ .‬وال�سعادة‬
‫وفق هذه الت�صور الناقد هي م�سيرة متوا�صلة �أو قفز متوا�صل بين‬
‫‪75‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫لحظة و�أخرى‪ .‬و�أنه ال يوجد �شيء ا�سمه ذات‪ .‬فال ذات �إال تلك الذات‬
‫التي ن�صنعها‪ .‬ال كامن فينا‪ .‬نحن فينا ا�ستعدادات لي�س �إال‪ .‬وبالتالي‬
‫فال معنى للحديث عن الإن�سجام مع ال��ذات‪ .‬ف���إذا كان هناك �شكل‬
‫م�سبق لنا فيمكن �أن نتحدث عن الر�سم وفقها‪ .‬ولكن �إذا لم يكن هناك‬
‫�شكل �سابق فال خيار للمرء �إال الر�سم من الخيال‪. .‬‬
‫ويبقى هناك من ال يهتم بهذا الجدل ولكن في الوقت نف�سه‬
‫يدفع بر�ؤيته �صامت ًا‪ .‬وهذا هو جهاز الت�سويق واال�ستهالك‪ .‬حيث �صار‬
‫اال�ستهالك وال�سعادة مقترنين بقوة‪ .‬ف�أنت تكون �أنت بقدر ما ت�ستهلك‪.‬‬
‫وبقدر ما تجدد ا�ستهالكك‪.‬‬
‫اللذة الم�ؤقتة مقابل اللذة الدائمة‪ :‬هذه �إحدى‬ ‫الثانية‪َّ :‬‬
‫الق�ضايا الأخرى التي �شغلت فكر وعاطفة كل من ت�أمل في �أمر ال�سعادة‬
‫�أو طلبها‪ .‬ولي�س منا �أحد �إال وقد واجه هذا الأمر‪ .‬فعندما نقرر القيام‬
‫نربي �أو نن�صح غيرنا‪� ،‬أو عندما تواجهنا مغريات‪،‬‬‫ب�أمر ما‪� ،‬أو عندما ِّ‬
‫في كل هذه الحاالت يطر�أ ال�س�ؤال‪« :‬الآن؟» و�إن كان هناك احتمال‬
‫ذهاب الـ»ما بعد؟» اللذة الآنية مقابل اللذة الم�ؤجلة؟ هل نعمل كل ما‬
‫نريده ونرغبه فور توفره؟ هل نفكر في اال�ستمتاع باللذات حال توفرها؟‬
‫�أم نح�سب حال اللحظات التي لم ت�أت؟ هل نعي�ش اللحظة مطلق ًا؟ �أم‬
‫نعي�شها بطريقة ال ت�ؤثر على اللحظات التالية؟ وكم ع�شنا هذه اللحظة‬
‫عندما نوازن بين متطلبات الدرا�سة والعمل �أو متطلبات الراحة واللعب‬
‫والدعة‪ .‬ولكن الم�س�ألة �أعم من هذا‪ .‬فنوع الأكل الذي ن�أكله يندرج‬
‫‪76‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫تحت هذا‪ .‬نمط الحياة البيئية التي نعي�شها‪ .‬بل حتى حياة اليوم مقابل‬
‫حياة ما بعد الموت بالن�سبة‪ .‬ولي�س ل�س�ؤال «الآن �أو غد ًا؟» �إجابة واحدة‪.‬‬
‫�أحيان ًا الحكمة �أو ال�سعادة في الت�أجيل‪ ،‬و�أحيان ًا في التعجيل‪ .‬ثم هناك‬
‫لذات ت�ستحق التعجيل ولو على ح�ساب خ�سارات م�ستقبلية‪ .‬و�أحيان ًا‬
‫توجد لذات ت�ستحق الحرمان الآني مقابل الح�صول عليها م�ستقب ًال‪.‬‬
‫و�أحيان ًا توجد لذات ي�ستحق من �أجلها �أثمان كبيرة‪ .‬والوحيد الذي‬
‫يمكنه اتخاذ هذا القرار وو�ضع المعادلة المالئمة لهذا هو ال�شخ�ص‬
‫في اللحظة التي يواجه ال�س�ؤال‪.‬‬
‫الثالثة‪� :‬سعادة الفرد من �إ�سعاد الآخرين‪ :‬محور �آخر من محاور‬
‫�أبحاث ال�سعادة هي العالقة بين �إ�سعاد الغير وبين �سعادتي ال�شخ�صية‪.‬‬
‫تجربة �أغلبنا ال�شخ�صية وم�شاهداتنا ال�شخ�صية تخبرنا ب�أننا نميل نحو‬
‫منح غيرنا �سعادة �أو لذة‪ .‬و�أن حياتنا لي�ست فقط تراكم جهد لإ�سعاد‬
‫�أنف�سنا فح�سب‪ .‬فمن منا لم يمار�س ت�ضحية وعطاء ًا و�إيثار ًا �سواء في‬
‫�أمور كبرى �أو �صغرى‪ .‬من منا لم يعطي ريا ًال واحد ًا بال توقع �أي مقابل؟‬
‫والريال والمليون هنا �سي�ستويان �إذا كانا عطاء بال مقابل ظاهر‪ .‬ومع �أنه‬
‫قد يبدو للوهلة الأولى �أن الأمر له عالقة بالكمية فقط ولكن ب�شكل �أعمق‬
‫هو متعلق بحالة �أن �أعطي غيري بال مقابل‪ .‬وكلنا يقوم بهذا دائم ًا‪ .‬من‬
‫مال �أو وقت �أو جهد‪ِ .‬ل َم �أق�ضي ولو دقيقة في اال�ستماع لم�شكلة �شخ�ص‬
‫ال عالقة لي به؟ لماذا �أ�ضيع دقيقة من عمري معه؟ ولكننا نقوم بهذا‪.‬‬
‫ثم ن�شعر بالر�ضا من هذا الفعل‪ .‬ثم كلنا ي�سمع ويردد ما ُيقال في هذه‬
‫‪77‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫ال�سلوكيات من مدح ورفع �ش�أن �سواء من الن�صو�ص الدينية �أو من الثقافة‬


‫ال�شعبية المتوارثة‪ ،‬و�سواء بين من ي�ؤمن بدين و�أجر وثواب وكمال �أو من ال‬
‫ي�ؤمن ب�أي �شيء وراء هذا الج�سد‪.‬‬
‫فلماذا وكيف نجد لذة �أو متعة في ذلك؟ ما هو الذي يف�سر هذا؟‬
‫ما الذي يف�سر �أن يحرم الإن�سان نف�سه من �شيء ل�صالح �إن�سان �آخر؟‬
‫بل ما الذي يف�سر �أن �أ�شعر بالر�ضا بعد هذا؟ هل ن�سعد حق ًا من �إ�سعاد‬
‫الآخرين؟ �أم �أننا نعمل ذلك �أم ًال في الح�صول على مقابل منهم �أو‬
‫من غيرهم؟ هناك من يرى �أنه ال يوجد �إال الأنانية‪ ،‬والإن�سان ال يمكنه‬
‫�إال �أن يكون كذلك‪ .‬وعندما يعمل من �أجل �سعادة الآخرين ف�إنه في‬
‫الحقيقة يعمل لنف�سه ال غير‪ .‬فمث ًال عندما يعطي ف�إنه يعطي لأن اهلل �أو‬
‫المجتمع �أو غير ذلك �سيكافئه‪.‬‬
‫م�شكلة هذه الفكرة �أنها ال تف�سر لذة العطاء �أو �إ�سعاد الغير ب�شكل‬
‫عام‪� .‬صحيح �أنها قد تف�سر دافع العطاء �أو الإ�سعاد‪ ،‬فقد �أعطي لمجرد‬
‫�أني �أتوقع �شيء في المقابل‪ ،‬ولكن ما م�صدر ال�شعور بالر�ضا المرافق‬
‫لهذا؟ العطاء �أمر ولكن لذة العطاء �أمر �آخر تمام ًا‪ .‬وقد �أف�سر العطاء‬
‫بالإحالة �إلى منفعة م�ؤجلة‪ ،‬ولكن ال �أ�ستطيع �أن �أف�سر اللذة المرافقة‬
‫لها بذلك‪ .‬هل الأمر هو لذة ترقب ال ِعو�ض؟ �أنا �أعلم من حالي �أن الأمر‬
‫�أكثر من هذا‪ .‬ولعل الأمر نف�سه بالن�سبة لك بل بالن�سبة لكثير ممن‬
‫ي�ؤمن ب�أن �إ�سعاد الآخرين غر�ض لذاته‪ .‬نعلم �أننا نلتذ بالعطاء ذاته‪،‬‬
‫ولي�س بالترقب‪� .‬أي�ض ًا ف�إن تلك الفكرة ال تف�سر عطاء من ُيعطي وهو ال‬
‫‪78‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ي�ؤمن ب�آخرة وال بعو�ض؟ ه�ؤالء �أي�ض ًا ي�شعرون بالر�ضا من هذا ولي�س‬
‫لديهم �أي �إيمان ب�أن هناك عو�ض‪� .‬صحيح �أنهم قلة‪ ،‬ولكن مع ذلك‬
‫موجودون‪ .‬لماذا نرغب في تلك الحالة ال�شعورية التي ت�أتينا من وراء‬
‫العطاء و�إن كان ذلك على ح�ساب متعتنا؟ بل لماذا الرحمة؟ التوا�ضع؟‬
‫ال�شفقة؟ لماذا �إنكار الذات؟ لماذا ال نكتفي ب�أن نهتم بما يخ�صنا فقط‬
‫دون �أي اعتبار للغير؟ لماذا ننظر �إلى �صورة طفل في الأخبار‪ ،‬ونحن ال‬
‫نعرفه ولن نعرفه ومع ذلك ن�شفق عليه ونر�سل له تبرع ًا؟‬
‫بع�ض المعا�صرين �أراد تب�سيط الأم��ر باعتبارها مجرد تطور‬
‫بيولوجي ع�شوائي‪ .‬بمعنى �آخر ف�إن جيناتنا �أدركت �أن هذه الم�شاعر‬
‫�أنفع للبقاء فخلقتها فينا‪ .‬هل ه��ذا التف�سير ممكن؟ هل الجينات‬
‫تتعلم؟ �أم تتغير ع�شوائي ًا؟ �أي ًا كان هذه كلها �أ�سئلة في غاية الأهمية‬
‫وفهمها يعيننا على فهم ق�ضية من �أهم ق�ضايا االجتماع الإن�ساني‪ .‬لأن‬
‫الأمر يتعدى ال�سعادة �إلى الأخالق وم�صدر الفعل الأخالقي الإن�ساني‪.‬‬
‫و�شخ�صي ًا �أرى �أن ه��ذا ال�س�ؤال يفتح لي نافذة مهمة على التكوين‬
‫الإن�ساني‪ .‬بالن�سبة لي ف�إن وجود العطاء المطلق لدى الإن�سان حتى وهو‬
‫محدود في قدره يدل على �أن فينا ُبعد �إلهي‪ .‬و�أننا �أكثر من جينات‪.‬‬
‫ولهذا الكالم مو�ضع �آخر في البحث‪.‬‬
‫التفكير في هذه المحاور الثالثة ي�ؤثر على النتائج التي يمكن‬
‫الخروج بها من �أي بحث عن ال�سعادة‪ .‬و�ستجد �أنني اتخذت مواقف‬
‫نحو الأ�سئلة في كل محور �شك َّلت ر�ؤيتي للمو�ضوع برمته‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫وعود فل�سفات ومناهج ال�سعادة‬


‫عندما �أق��ر�أ �أي بحث �أو ر�ؤي��ة حول ال�سعادة والح�صول عليها‬
‫�سواء كان ديني �أو فل�سفي �أو ثقافي ف�إني �أتعامل معها كمادة للتفكير‬
‫واال�ستلهام ولي�س لالتباع‪� .‬أحاول من خاللها �أن �أ�صنع لنف�سي نافذة‬
‫في جدار الوجود‪ .‬نافذة ت�سمح لي ب�أن �أرى �أبعد و�أعمق و�أ�شمل‪ .‬وك�أي‬
‫نافذة ف�إنها تفتح نف�سها على الجميل والقبيح الذي هناك‪ .‬ولأنها نافذة‬
‫علي الكثير لكي تتحول النافذة �إلى م�صدر �إ�ضاءة �أو �إلى �إطاللة‬ ‫يبقى ّ‬
‫على الجميل‪ .‬وهكذا �أتعامل مع هذا البحث‪ .‬وهكذا �صممته‪ .‬حاولت �أن‬
‫�أ�ضم فيه مجموعة من الأفكار مرتبة بطريقة ت�سهم في ت�شكيل نافذة‬
‫لك ولي �أي�ض ًا‪.‬‬
‫�إذ ًا ما �أقدمه نافذة ال �أكثر‪ .‬وال �أتفق مع الفل�سفات ومناهج‬
‫الحياة التي تدعي نتائج كبيرة مثل الوعد بال�سعادة الكاملة �إذا ما‬
‫اتبعنا منهجها وطريقها‪ .‬واختلف خ�صو�صا مع تلك التي تح�صر‬
‫الفائدة فيها دون غيرها‪� .‬سبب اختالفي هو �أنني �أت�صور �أن تعدد‬
‫�أبعاد حياتنا و�شدة تعقيدها تجعل الأمر �أكثر �صعوبة بحيث ال يمكن‬
‫�إعطاء مثل تلك الوعود‪� .‬أي�ض ًا �أختلف لأنني �أف�ضل �أن �أمنح نوافذ ولي�س‬
‫و�صايا‪ .‬و�أريد �أن ُتترك لي م�ساحة كبيرة للتفكير والقرار‪ .‬ولكن ال�سبب‬
‫الأ�سا�سي لالختالف هو لأنه ي�صعب بل ي�ستحيل تف�صيل منهج يعالج‬
‫ب�شكل مبا�شر كل التحديات وال�صعوبات في حياتنا‪ ،‬وي�ستخرج كل‬
‫‪80‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫الطاقات واالمكانات الكامنة فينا‪ ،‬ويوازن بين جميع الثنائيات التي‬


‫نعي�شها‪ .‬وبغير هذا فال يمكن �ضمان النتيجة ال�سعيدة‪.‬‬
‫لن�أخذ على �سبيل المثال مجموعة من الثنائيات التي ت�ؤثر على‬
‫حياتنا‪ :‬الحق‪/‬االمتياز‪ ،‬المو�ضوعي‪/‬الذاتي‪ ،‬الحا�ضر‪/‬الم�ستقبل‪،‬‬
‫ال��روح‪/‬ال��ج�����س��د‪ ،‬الأن��ا‪/‬ال��غ��ي��ر‪ ،‬الفرد‪/‬المجتمع‪ ،‬ال��ت��م��ن��ي‪/‬الإرادة‪،‬‬
‫الرغبة‪/‬الحاجة‪ ،‬القيمة‪/‬الثمن‪ ،‬الرفاه‪/‬الر�ضا‪ ،‬الحقيقة‪/‬المظهر‪،‬‬
‫الم�ساواة‪/‬العدالة‪ ،‬الأذى‪/‬الإه��ان��ة‪ ،‬الألم‪/‬المعاناة‪ .‬هذه مجموعة‬
‫من الثنائيات التي ت�ؤثر على �سلوكنا‪ ،‬والتي نحتاج �إلى تحقيق توازن‬
‫فيها ليمكن لنا �أن نحقق بع�ض �أبعاد ال�سعادة الأ�سا�سية‪ .‬ويمكن �أن‬
‫نتخيل مدى �صعوبة تحقيق ذلك بطريقة ن�ستوعبها ونعرف �صحتها‪.‬‬
‫يعني مجرد تعريفات تلك الق�ضايا تحير‪ ،‬فكيف بالبحث في �أ�سبابها‬
‫وموانعها وعوار�ضها‪� ...‬إلخ‪.‬‬
‫ول��و فر�ضنا وج��ود ذل��ك المنهج فلن نجد �شخ�ص ًا يمكنه �أن‬
‫ي�ستوعبه تمام ًا‪ .‬لأن هذا معناه �شخ�ص عبقري فذ للغاية‪ .‬محيط‬
‫بتفا�صيل ال ُتح�صى‪ .‬ولكن لو فر�ضنا وجود ذلك ال�شخ�ص‪ ،‬نبي مث ًال �أو‬
‫فيل�سوف نادر الوجود‪ ،‬فلن ي�ستطيع �أن ينقله كام ًال �إلينا بطريقة مقنعة‬
‫لكل �أح��د‪� :‬إما لمحدودية فيه �أو لمحدودية في حجته‪� ،‬أو لمحدودية‬
‫المتلقي ومحدودية قدراته ومحدودية ر�ؤيته المعرفية‪� ،‬أو لمحدودية‬
‫و�سائل االت�صال المثالي‪ .‬فكمال ال�شخ�ص ال يعني كمال االت�صال وال‬
‫كمال التلقي‪.‬‬
‫‪81‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫ولو فر�ضنا ذلك ال�شخ�ص و َن َقل المنهج �إلينا ب�شكل كامل فلن‬
‫ي�ستطيع كل فرد منا �أن يطبق كل ما هو مطلوب منه‪ .‬فقد نفهم كل ما‬
‫يقال‪ ،‬ولكن ال يعني هذا اننا �سنطبق كل ما يقال‪� ،‬أو �سنربط بكل ما‬
‫يقال بتفا�صيل حياتنا‪ .‬فنحن ال نعقل �أنف�سنا �إال وقد عملت فينا عوامل‬
‫متعددة ال دخل لنا فيها‪ .‬نولد لنجد �أنف�سنا في تقاطع من تقاطعات‬
‫هذه الحياة بغير �أن يكون لنا �أي اختيار في ذلك‪ .‬نجد �أننا ت�ش َّكلنا‬
‫بطرق تتواءم مع مناهج حياة وتتناق�ض مع مناهج �أخرى‪ .‬وهذه كلها‬
‫ظروف ت�ؤثر على قدرتنا تطبيق �أي منهج �أو طريقة‪ .‬فتخيل �شخ�ص ًا‬
‫ن�ش�أ على البخل �أو الحر�ص �أو الجبن‪ ،‬مثل هذا �سيتطلب منه جهود ًا‬
‫جبارة ليتجاوز هذه الم�شكلة‪ .‬ولعله ي�ستهلك �أغلب جهده في �إ�صالح‬
‫هذه ال�سمة من حياته‪ .‬ولو فر�ضنا وجود بع�ض الأفراد الذين �سيطبقون‬
‫ف�إن هذا يعني نجاح المنهج على م�ستوى الأفراد‪ ،‬ولي�س على م�ستوى‬
‫المجتمعات‪ .‬وقد يذكر البع�ض �أمثلة من التاريخ القريب �أو البعيد‬
‫لأ�شخا�ص يفتر�ض �أنهم طبقوا المنهج كام ًال وعا�شوا ال�سعادة تمام ًا‪.‬‬
‫�أنا ا�ست�شكل مثل هذه الأقوال ال ل�شيء �إال لكوننا ال نعرف �إال �أقل القليل‬
‫عن حياة �أولئك‪ .‬وفي القر�آن الكريم لدينا ق�صة ذات داللة عميقة حول‬
‫مو�ضوع ال�سعادة والإن�سان الكامل‪ .‬و�أت�صور �أنه توجد مثل هذه الق�صة‬
‫في �أديان �أخرى‪ .‬فالنبي يعقوب عليه ال�سالم رجل مت�صل باهلل وتام في‬
‫�أخالقه و�سلوكه ووعيه وعقله‪ ،‬ولكنه مع ذلك يمر بتجربة حزن �شديدة‬
‫�أ�شبه بما ن�سميه اليوم اكتئاب وذلك ب�سبب فقدانه البنه‪� .‬إيمانه باهلل‬
‫‪82‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫وات�صاله به تعالى لم تمنع من الإ�صابة باالكتئاب‪ .‬هذا مع �أن الق�صة‬


‫القر�آنية ت�أتي من منظومة فكرية تفتر�ض �أن غاية ال�سعادة ومنتهاها‬
‫هي باالت�صال باهلل ومع ذلك فلم يمنع ذلك االت�صال الو�صول �إلى تلك‬
‫الحالة‪ .‬وربما �ساعده �إيمانه على التعامل مع حالته بحيث لم تقهره‬
‫�أو تك�سره ولكنه اكتئب بالرغم من ذلك‪ .‬وال ينق�ص منه �أن �أقول �إنه‬
‫كان مكتئب ًا لأن هذا لي�س قدح ًا فيه وال في �إيمانه‪ .‬فالإيمان والأخالق‬
‫م�صدرهما غير الحزن واالكتئاب‪ .‬االكتئاب �أل��م مثل بقية الآالم‪.‬‬
‫ال�صداع �ألم وك�سر الرجل �ألم والحمى �ألم واالكتئاب �ألم �أخر‪ .‬الفرق‬
‫�أن �أ�سبابها تختلف‪ .‬وبع�ضها هرموني‪ ،‬وبالتالي ال يمكن للإيمان �أن‬
‫يعالجها‪ .‬وبع�ضها ذات �صلة بعوار�ض عاطفية وهذه �أي�ض ًا ال يتدخل‬
‫الإيمان في عالجها‪ .‬الإيمان ربما ي�ؤثر على التعاطي معها‪ .‬فال�شعور‬
‫بح�ضور اهلل‪� ،‬أو بالثواب والعو�ض في الآخرة‪ ،‬هذه كلها تقوي ال�شخ�ص‬
‫في التعامل مع ما ي�صيبه‪ .‬ولذلك ال �أتفق مع من يرى �أن الإ�صابة‬
‫باالكتئاب م�ؤ�شر على �ضعف العالقة مع اهلل‪� .‬أيا كان الأمر ما �أردت‬
‫قوله هو �أن الحالة الفل�سفية للفرد و�إن كانت ت�ؤثر على تجربته ولكن ال‬
‫يعني هذا بال�ضرورة �أنها تقلل من الألم الذي يعاني منه‪ ،‬وقد �أ�شرت‬
‫�إلى بع�ض هذا �أو ًال في الكالم عن الفل�سفة والم�شاعر‪.‬‬
‫�أمر �آخر يجعلني �أ�شك في �إمكانية �أي ر�ؤية �أن تقدم كافة الحلول‬
‫هو �إنه لكي يح�صل ذلك فال بد من ا�ستيعاب جميع �أ�سئلة الإن�سان‬
‫ثم تكوين �أجوبة مالئمة‪ .‬وهذا التوازن بحد ذاته معقد‪ ،‬ذلك �أننا �إذ‬
‫‪83‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫ننظر �إلى التوجهات المختلفة حول ال�سعادة لوجدنا �أنها انطلقت من‬
‫اعتبارات متباينة حول الوجود‪ ،‬والإن�سان‪ ،‬والمعرفة‪ .‬وعلى �ضوء تلك‬
‫االعتبارات المتعددة اعتنت بجانب دون �آخر‪� ،‬أي لم تغطي كل �شيء‪،‬‬
‫و�إنما اعتبرت �شيئ ًا هو الأ�سا�س والباقي ي�صلح ب�صالحها‪ .‬مث ًال‪ ،‬هناك‬
‫ما ركز بعمق على الروح‪ ،‬ومنها ما ح�صر عنايته بالج�سد‪ ،‬ومنها ما‬
‫ركز على الأخ�لاق والأعمال‪ .‬ومنها ما اهتم بالجميع فكان �شمولي ًا‬
‫في �أنه اهتم بالروح والج�سد والأخ�لاق‪ .‬ولكن لأنه كان �شمولي ًا فهو‬
‫ا�ضطر �أن يوزع تركيزه بحيث �أعطى قدر ًا �أقل من العناية لكل منها‪.‬‬
‫وهذه مع�ضلة‪ .‬ال يمكن التركيز على كل �شيء ب�أق�صى قدر‪ .‬ولما تتعدد‬
‫الأوليات تختلف الأ�سئلة‪ .‬فمن يركز على الروح ف�إنه �سيجيب على �أ�سئلة‬
‫الروح‪ :‬م�صدرها‪ ،‬عالقتها بذلك الم�صدر‪ ،‬تو�سعها‪ ،‬منغ�صاتها‪� ...‬إلخ‬
‫ولن يركز مثال على الأ�سئلة ذات ال�صلة بالج�سد بالقدر نف�سه‪ .‬بل حتى‬
‫�ضمن التركيز على بعد واحد �سنجد �أن لهذا البعد �أبعاد‪ .‬وال بد من‬
‫ترتيب الأولويات �ضمن ذلك‪ .‬فمن ركز على الج�سد مث ًال‪� ،‬سيجد �أن‬
‫لذة الطعام ال تتحقق �إال على ح�ساب �أمور �أخرى من ال�صحة‪ ،‬والمال‪،‬‬
‫والوقت‪ .‬وبالتالي ف�إنه م�ضطر لالختيار بين اللذة العاجلة على ح�ساب‬
‫العواقب الآجلة �أو العك�س‪ .‬وال يمكن الجمع بينهما‪ .‬والقاعدة هي �أنه‪:‬‬
‫ال يمكن �أق�صى لذة مطلق ًا ب�أقل عواقب مطلق ًا‪ .‬بل بمجرد ما تدخل‬
‫العواقب في المعادلة ف�إن �أق�صى لذة تتقيد تلقائي ًا‪ .‬بعبارة �أخرى ال‬
‫يمكن تحقيق حياة متوازنة بين العاجل والآجل بغير حرمان‪ .‬و�إ�ضافة‬
‫‪84‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫�إلى �صعوبة التوزان ف�إن حاجاتنا متطورة ولي�ست قارة‪ .‬فما كنا بحاجة‬
‫�إليه في مرحلة عمرية معينة لي�س هو ما نحن بحاجة �إليه في مرحلة‬
‫تالية‪ .‬والبرنامج المالئم عليه �أن ي�ستوعب هذه التنوعات‪ .‬وهذا ال‬
‫�أت�صور �أنه ممكن‪.‬‬
‫�أخير ًا‪� ،‬إنه في كثير من الحاالت ف�إن طرق ال�سعادة معتمدة على‬
‫تجارب �أفراد ولي�ست مجرد اكت�شاف �أو تنظير‪ .‬والتجارب مهما تكررت‬
‫نجاحا ُتها في الما�ضي ومهما كان لها عمق تاريخي ف�إنها تبقى محدودة‬
‫فيما َت ِعد به م�ستقب ًال‪ .‬ف�أن يجد �إن�سان �سعادة في طريقة ما ال تعني �أبد ًا‬
‫�أن يجدها �آخر‪ .‬لأنَّ من المحتمل �أن تكون �سعادة الأول ب�سبب تفاعل‬
‫طريقته مع طبيعته ال�شخ�صية �أو مع ظروفه االجتماعية‪ .‬بل �سعادة‬
‫�أحدنا في مرحلة من حياته لها �شروط ومقومات غيرها في مرحلة‬
‫�أخرى‪.‬‬
‫والخال�صة من كل هذا هي‪ :‬بع�ض البرامج جيدة لبع�ض النا�س‬
‫في بع�ض الأوقات لمعالجة بع�ض التحديات‪ ...‬و�إيجاد التو�أم التام بين‬
‫هذه‪ :‬برنامج = النا�س = �أوقات = تحديات؛ هو من التحديات التي‬
‫ي�صعب تجاوزها‪ .‬ال ي�ستحيل ولكن ي�صعب على عامة النا�س الم�شغولة‬
‫ب�أ�سا�سيات حياتها‪ :‬تعليم وظيفة �أ�سرة �أ�صدقاء �صحة دوائر حكومية‪...‬‬
‫�إلخ‪ .‬يعني لو فر�ضنا �شخ�ص ترك العالم وذهب وعا�ش في دير لربما‬
‫حقق بع�ض هذه الأم��ور‪ .‬ولكنه �سيحرم نف�سه �أي�ض ًا من �أمور‪ .‬وهكذا‬
‫فغاية ما يمكن �أن نعمل لأنف�سنا هو �أن نفكر‪ ،‬و�أن نحاول‪ ،‬و�أن نبذل‬
‫‪85‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫جهودنا‪ ،‬ولكن ال نتوقع من �أنف�سنا لأنف�سنا الكمال والتمام‪ ،‬وال نلوم‬


‫�أنف�سنا حين نجد �أننا ننك�سر �أمام بع�ض �شدائد الحياة‪ ،‬وال ن�شكك في‬
‫�إيماننا �أو قناعاتنا‪ .‬و�أهم من هذا ال نقلل من �أهمية التفل�سف والتفكير‬
‫وذلك لأنه بدونها ف�إن الإنك�سار �سيكون �أ�شد والواقع �أكثر مرارة‪ .‬وربما‬
‫�أهم ما يمكن �أن نعمله هو �إبقاء الثقة ب�أن وجودنا خير من عدمنا‪ .‬و�أنه‬
‫مهما و�صل حال الحرمان ف�إنه ال ي�صل �إلى الحد الذي يلغي متعة الوجود‬
‫المجرد‪ .‬و�س�آتي لهذه الفكرة �أكثر الحق ًا‪ .‬وما �أريد �أن �أخل�ص �إليه هو‬
‫�إن ما �أقدمه هنا ال يتجاوز كونه مثير ًا للتفكير في ق�ضايا ال�سعادة ولي�س‬
‫منهج ًا متكام ًال ب�أي حال من الأحوال‪.‬‬

‫تقريب طريق ال�سعادة‬


‫الم�س�ألة معقدة �شديدة التعقيد ولكن كذلك حياتنا ت�ؤثر فيها‬
‫عوامل متعددة وال يمكن اختزالها لمجرد رغبة في التب�سيط‪ .‬ولكونها‬
‫كذلك ربما ذهبت كثير من الكتابات لتقريب الأم��ر وذل��ك باقتراح‬
‫مجموعة من الخطوات التي ت�ضمن تحقيق جزء ًا مهم ًا من ال�سعادة‬
‫بقطع النظر عن الظروف ال�شخ�صية والزمنية واالجتماعية‪ .‬بع�ض‬
‫الكتابات جعلت لل�سعادة خطوات محددة �أو «خارطة طريق لل�سعادة»‪.‬‬
‫وب�سط حياتك‪،‬‬‫خطوات من نحو‪ :‬كن متفائ ًال‪ ،‬وابحث عن معنى للحياة‪ِّ ،‬‬
‫وحافظ على �صحتك‪ ،‬وكن ممتن ًا بما تملكه ولمن �أ�سدى �إليك معروف ًا‪...‬‬
‫�إلخ‪ .‬منها ما اختار �شيئ ًا واحد ًا �أ�سا�سي ًا به تتحقق ال�سعادة مثل الجن�س‬
‫‪86‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫�أو القوة والنفوذ‪ ،‬بل ه�ؤالء قد يذهبون ويقولون �إن كل م�ساعي الإن�سان‬
‫واع نحو ذلك ال�شيء‪ .‬من الكتابات ما جعلها‬ ‫ما هي �إال �سعي غير ٍ‬
‫�إيجاد معنى للحياة وهدف ًا يعمل المرء نحوه ولكن ب�شرط �أن يكون هذا‬
‫الهدف متجاوز ًا نف�سه وخ��ارج ذات��ه‪� .‬أن يعمل المرء من �أجل ق�ضية‬
‫كبيرة �أو �صغيرة‪ .‬محلية �أو عالمية‪ .‬ثم هناك من من جعل ال�سعادة‬
‫على العك�س من ذلك‪� ،‬أي اعتبرها في ال�سعي نحو الال�شيء �أو ال�سعي‬
‫نحو الال�سعي‪ ،‬والتخل�ص من كافة التعلقات‪ ،‬ومقاومة الذات ولذاتها‪.‬‬
‫ال�سعادة وفق هذا الر�أي تتحقق �إذا نزع الإن�سان من نف�سه �أي رغبة‬
‫لأي �شيء‪ .‬فم�صدر الحزن وفق هذا الر�أي هو عدم تحقق الرغبات‪،‬‬
‫ف�إذا تخل�ص الإن�سان من الرغبة تخل�ص من وجود الحزن‪ .‬وهناك من‬
‫اخت�صر الأمر �أكثر وقال �إن ال�سعادة من �أ�صلها م�س�ألة ن�سبية‪ ،‬وال يمكن‬
‫و�ضع قاعدة لها‪ ،‬وكل فرد منا يجب �أن يبحث عنها في حياته بطرقه‬
‫الخا�صة ووفق ظروفه الخا�صة‪ .‬بل حتى من يرى �أن ال�سعادة وهم ًا و�أن‬
‫كل ما هو موجود هي التعا�سة قدم و�صفته الخا�صة‪ .‬ف�إذا كان كل ما‬
‫هناك تعا�سة �أو معاناة فالحل هو التكيف معها و�إدارة الم�شاعر بحيث‬
‫ال تنك�سر �أمام تكاثر التعا�سات‪ .‬مثل هذا ال�شخ�ص �سيهتم ب�أن نطور ما‬
‫نملكه من مهارات‪� ،‬أو �أن نرعى العافية‪� ،‬أو �أن ن�صرف �أقل مما ننتج‪� ،‬أو‬
‫ن�ستخدم الأدوية �إذا و�صلت التعا�سة مبلغ ًا ال ُيطاق‪ .‬فالحياة في م�سيرة‬
‫قا�س ال تتوقف �إال بالموت‪.‬‬
‫تكيف متوا�صلة مع واقع ٍ‬
‫�أخير ًا هناك من يرى �أن الحزن هو اللذة والمتعة ومنه الإبداع‬
‫‪87‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫والحياة واالت�صال مع الذات‪ .‬قد ال �أقول �إن في الحزن لذة �إال �إذا كنت‬
‫�س�أعيد تعريف ما هو لذة �أو �أدخل في جدل ال نهاية له حول تعريف‬
‫هذه الكلمة التي ال مو�ضوع لها في الخارج و�إنما هي تجربة ذاتية‬
‫وخا�صة لكل واحد منا‪ .‬يمكن �أن �أفهم كيف �إن الحزن يفتق الإبداع لأنه‬
‫م�شاهد‪ .‬طبع ًا من دون �أن �أعمم‪ .‬فال �أقول �إن كل حزن يفتق الإبداع مع‬
‫كل �أحد‪� .‬إذ كما �سمعنا ق�ص�ص الحزينين الذين �أبدعوا ف�إننا لم ن�سمع‬
‫ق�ص�ص الع�شرات ممن ماتوا بحزنهم ولي�س لهم �إال الألم والمعاناة لهم‬
‫ولمن حولهم �أي�ض ًا من �أزواجهم و�أبنائهم و�أ�سرهم‪ .‬ويمكن �أن �أقبل �أن‬
‫الحزن يقرب الإن�سان من نف�سه وذلك لأن الحزن يذكر الإن�سان بمدى‬
‫وحدته الوجودية‪ .‬فمهما كنت قريب ًا من غيري فال ي�ستطيع �أحد �سواي‬
‫�إدراك ما �أنا في من حزن �أو �ألم‪ .‬ثم �إن الحزن والألم يقلل من انتباه‬
‫الإن�سان لما حوله ويلفته �إلى نف�سه ولكن �أقول لي�س لكل النا�س‪ .‬وفي‬
‫النهاية �أت�صور �أن الحزن ينفع البع�ض‪ ،‬ولكن ال ينفع �إال �إذا كان الحزن‬
‫بقدر محتمل‪ .‬و�إال ف�إنه ي�ؤدي �إلى �شلل‪ ،‬واحيان ًا �إلى انتحار‪.‬‬
‫وفي الأخير ف�إني �أذهب �إلى �أن لل�سعادة طرق ًا متعددة للغاية بحيث‬
‫ال يمكن ال�سير عليها كلها في هذه الحياة‪ .‬كما �إنها ال تالئم ظروف كل‬
‫واحد‪ ،‬وال ميوله‪ ،‬وال مراحله العمرية‪ .‬ولذلك ما قلته �أو ًال من �أنه مفيد‬
‫لكل �أحد �أن ي�صنع لنف�سه نوافذ على الوجود من خالل الت�أمل والتفكير‬
‫في ما كتبه وقاله الغير‪ .‬نوافذ قد ال تحقق �سعادة بالمعنى الدقيق‪،‬‬
‫ولكنها توفر للإن�سان فر�صة لينظر �إلى الحياة بطريقة مختلفة‪ .‬نحن‬
‫‪88‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫كائنات محدودة بحاجة �إلى االنفتاح على العوالم التي نعي�ش فيها‪،‬‬
‫واالنفتاح على �أو�ضاع غيرنا‪ ،‬واالت�صال بمعاناتهم و�آالمهم‪ ،‬والت�أمل في‬
‫�أثر �أعمالنا على غيرنا و�أثر غيرنا علينا‪ ،‬والإقرار بالمحدودية الذاتية‬
‫لأنف�سنا‪ ،‬وبقبول الخط�أ والق�صور فينا‪ .‬والإق��رار ب�أن بع�ض الق�صور‬
‫فينا ال يمكن تجاوزه‪ .‬و�أنه ال يوجد ما �سيحل م�شاكلنا كاملة‪ .‬ربما ُتحل‬
‫بع�ضها‪ ،‬ولفترات محدودة‪.‬‬
‫�إن القراءة في فل�سفات ال�سعادة لي�س من �أجل و�صفات لحل‬
‫الم�شاكل �أو لإزالة العقد المتراكمة فينا‪ ،‬و�إنما لمنحنا مادة نفكر‬
‫فيها‪ ،‬ت�ساعدنا على مقاومة التحديات التي يمكن �أن ت�سقطنا‪،‬‬
‫وتمنحنا �أفق ًا نتم�سك به �إذا ما وقعنا‪ ،‬وتخفف معاناتنا الذهنية‬
‫والتي ُتعد من �أ�شد �أنواع المعاناة‪ .‬مادة تثير تفكيرنا حول وجودنا‬
‫و�أبعاده المختلفة وحول الوجود الخا�ص بنا‪ :‬بك وبي‪ .‬و�أكرر �أني ال‬
‫�أهون من �صعوبة الم�سيرة في الحياة‪ .‬بل الدنيا لن تكون رحلة �سهلة‬
‫و�سيتخللها الكثير من ال�صعاب مهما كنا فال�سفة وفقط في الحياة‬
‫الأخرى �سنجد راحة مطلقة‪.‬‬
‫طبع ًا لو توقف الأمر عند تكوين نوافذ لربما ما كان في الأمر �أي‬
‫فائدة‪ .‬فال بد من العمل على تغيير العالم �سواء عالمنا او عالم غيرنا‬
‫�إذا �أردنا اال�ستفادة التامة من النوافذ‪ .‬وقد �أ�شرت او ًال �إلى �أنني ال �أتفق‬
‫مع من ي�شدد على انفعاالت النف�س �إزاء العالم ولي�س تغيير العالم‪ .‬ولعل‬
‫�أهم �أ�سباب وجود مثل هذه الفكرة هي الإيمان ب�أن كل ما في العالم‬
‫‪89‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫مر�سوم �سلف ًا �أو مكتوب ومقدر‪ ،‬وبالتالي فما �أمام المرء �إال تغيير رد‬
‫فعله عليه‪ .‬ما وقع و�سيقع ـ وفق هذه النظرة ـ ال بد منه وال يمكن الفرار‬
‫منه‪ .‬الممكن فح�سب هو تغيير رد الفعل نحو ما وقع و�سيقع‪ .‬ونجد كثير ًا‬
‫من كتب ال�سعادة تركز ح�صر ًا على تغيير التفكير لأنها تنطلق من هذا‬
‫الت�صور عن النظام الكوني‪ .‬ولكنني �أنطلق من �أنه ال يوجد �شيء ا�سمه‬
‫مكتوب وال مقدر‪ ،‬و�أن لدي اختيار ًا‪ ،‬و�أن ما يقع علي لي�س بال�ضرورة‬
‫فعل فاعل من الغيب‪ ،‬وعليه ف�أرى �أرى �أن جزء ًا �أ�سا�سي ًا من ال�سعادة‬
‫يقع في تغيير العالم‪� .‬إن الأحداث ال�سيئة نتيجة لتخطيط ب�شري �سيء‪،‬‬
‫ولي�س نتيجة لحكمة عليا‪ ،‬وبالتالي فال يمكن تحقيق �سعادة فردية �إذا‬
‫ما كان العالم يت�صرف وفق نظام خاطيء‪ .‬والنوافذ التي �أق�صدها هي‬
‫فع ًال تغير من انفعاالتي نحو العالم‪ ،‬ولكن الأهم من هذا تفتح لي �آفاق‬
‫وجودية وتر�سم لي �أحالم ًا للمكن من العالم الذي �أريده‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫الحالة الإن�سانية وال�سعادة‬
‫حياتنا = الحالة الإن�سانية × �أفعالنا × �أفعال غيرنا × تقاطع‬
‫االختيارات‬
‫معادلة حياتية ب�سيطة ومعقدة في �آن واحد‪ .‬تقوم على فكرة �إن‬
‫حياتنا نتيجة تفاعل ثوابت مع متغيرات‪ .‬الثوابت هي الحالة الإن�سانية‬
‫بعنا�صرها المتعددة ‪ .‬المتغيرات هي �أفعالنا االختيارية‪ ،‬و�أفعال غيرنا‬
‫االختيارية فينا‪ ،‬وتقاطع اختياراتنا مع اختيارات غيرنا‪ .‬والثابت‬
‫الوحيد في هذه المعادلة هو الحالة الإن�سانية‪ .‬ولكن �إمعان ًا في التعقيد‬
‫ف�إن هذا الثابت يكاد يكون متحرك ًا‪.‬‬

‫�أفعال غيرنا‬
‫�س�أبد�أ ب�أفعال غيرنا‪ .‬فتح�سين حياتنا يتطلب فهم الحالة‬
‫الإن�سانية‪ ،‬ثم تحديد الأفعال التي بتفاعلها مع الحالة الإن�سانية يمكن‬
‫�أن نقترب مما نريده‪� .‬أحيان ًا يتم اختزال الأفعال في تلك ال�صادرة عن‬
‫الفرد نف�سه‪ .‬ولكن يغيب في هذا االختزال �أفعال غيرنا فينا‪ .‬والأغلب‬
‫�أن يغيب تقاطع االختيارات فال يكاد يتم ذكره مع �أنها ذات ت�أثير بالغ‪.‬‬
‫‪91‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫في المقابل هناك من يبالغ في ت�أثير �أفعال الغير فيه �إلى درجة �أنه‬
‫يلغي ت�أثير فعله‪ .‬الوالدة تظهر �إلى حد كبير ت�أثير غيرنا فينا‪ .‬ف�أنا لم‬
‫�أوجد �إال نتيجة فعل من غيري‪ .‬اختيار لزواج و�إنجاب‪ ،‬ولواله َل َما ُولدت‬
‫وال ُكنت‪ .‬فوجودي بخ�صو�صياته الزمانية والمكانية واالجتماعية من‬
‫علي من التربية المنزلية‬ ‫فعل غيري‪ .‬ثم تتتابع ت�أثيرات الآخرين ّ‬
‫�إلى المدر�سة �إلى الجيران والأه��ل والأق��ارب والأ�صدقاء والزمالء‬
‫والمناف�سين‪� ...‬إلخ‪ .‬و�أي ت�أمل ب�سيط في حياتنا ُيظهر ت�أثير �آخرين‬
‫على حياتنا‪ .‬وهو ت�أثير ي�صعب الحكم عليه بال�سلب �أو بالإيجاب‪،‬‬
‫�أو الخير وال�سوء‪ ،‬لأن كل ت�أثير‪ ،‬حتى المزعج منها‪ ،‬يفتح �أبواب ًا‬
‫وطرق ًا وال نعرف �أي الطرق كان �سي�ؤدي �إلى واقع �أف�ضل‪ .‬موظف‬
‫�سيء الخلق يعيق معاملتي لاللتحاق في بعثة درا�سية على ح�ساب‬
‫الحكومة‪ .‬هو في ذاته �سيء‪ .‬ونيته لم تكن ح�سنة‪ .‬وفعله كان في‬
‫منتهى الل�ؤم‪ .‬ولكن حتى هذا الفعل الذي �ض َّيق لي طريق ًا ربما فتح‬
‫طرق ًا �أخرى‪ .‬مثل البقاء مع الأ�سرة‪� .‬إيجاد عمل حيث �أنا موجود‪.‬‬
‫وربما لم يفتح طرق ًا �أح�سن‪ .‬بل لعل الطرق التي تلت هي عطالة‪،‬‬
‫و�ضيق في الفر�ص المعي�شية‪ .‬وربما فتح طرق ًا �أح�سن ولكن لم �أرها‬
‫�أو لم �أبذل الجهد لأراها‪ .‬ما �أق�صده هو �أ َّننا ال نعرف حقيقة العواقب‬
‫للفعل‪ .‬و�إنما نحكم على الفعل من خالل نية الفاعل الآخر و�أي�ض ًا من‬
‫خالل ت�أثير الفعل علينا لحظة وقوعه‪ .‬والحديث عن �أفعال الآخرين‬
‫يمكن تعميمه بحيث ي�شمل فاعلين عاقلين و�أي�ض ًا غير عاقلين‪.‬‬
‫‪92‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫فالأمور الطبيعية ت�ؤثر علينا‪ .‬مطر ي�ؤخرنا على موعد‪ .‬زلزالل يق�ضي‬
‫على كل ما عمرناه‪ .‬ح َّمى تقعدني عن متابعة فر�صة حيوية‪.‬‬
‫وال مفر من طبيعة ت�أثير �أفعال الآخرين علي‪ ،‬وغاية ما يمكن‬
‫العمل �إزائها هو تعميم �أنظمة �أخالقية واجتماعية تقيد تلك الأفعال‬
‫بحيث تحد من �صدور بع�ضها‪ ،‬وتخلق نوع ًا من االن�ضباط في الأفعال‬
‫التي ي�صح �أن ت�صدر‪ ،‬وتوفر لنا حماية �أو رعاية مما ي�صيبنا‪ .‬فالموظف‬
‫الذي يريد �أن ي�سيء لي يمكن تقييد فعله من خالل نظام �شبه محايد‬
‫بحيث يقل ت�أثير �شخ�صه علي‪ .‬نظام يمنعه تمام ًا من القيام ب�أمور‪،‬‬
‫ويوجب عليه القيام ب�أمور �أخرى‪ ،‬وي�ضع نطاق لل�صالحيات التي يملكها‪،‬‬
‫و�أي�ض ًا ي�ضع نظام ردع يعاقبه لما يتجاوز‪ .‬وهذا ما تقوم به الم�ؤ�س�سات‬
‫في المجتمعات المعقدة‪ .‬تنقل العالقة من كونها بين �شخ�ص و�آخر‪� ،‬إلى‬
‫عالقة بين فرد و�أنظمة‪ .‬ومع ما في هذا الأمر من برود في العالقات‬
‫الإن�سانية ولكن في الوقت نف�سه توفر حماية وا�ستقرار للتفاعالت‬
‫الب�شرية‪ .‬والمفارقة �أنه الأنظمة نف�سها التي يتم و�ضعها هي نف�سها من‬
‫و�ضع �آخرين‪ .‬القوانين والأنظمة في النهاية مجموعة قواعد و�ضعها‬
‫ب�شر ليحكموا �أنف�سهم وليحكموا ب�شر ًا غيرهم‪� .‬أما الطبيعة فال يمكن‬
‫�إال و�ضع �آليات للتعامل معها‪ ،‬ولكن لي�س ال�سيطرة عليها‪ .‬وبالنظر �إلى‬
‫ما يحققه العلم قد ال تكون هذه العبارة دقيقة‪ .‬لعل الأ�صوب القول ب�أنه‬
‫ال بد من و�ضع �آليات للتعامل مع ت�أثيراتها والدفع باتجاه طرق �أكثر‬
‫تطور ًا في ت�سخيرها وال�سيطرة عليها وتجاوز فعلها‪.‬‬
‫‪93‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫تقاطع االختيارات‬
‫ت�أثير تقاطع االختيارات خفي �إلى حد كبير‪ .‬ولكن عميق بدرجة‬
‫غير مت�صورة‪ .‬فكل يوم نقوم باختيارات وغيرنا يقوم باختيارات‪،‬‬
‫وكل يوم تتقاطع بع�ض اختياراتنا مع اختيارات غيرنا في مكان وزمان‬
‫ما‪ .‬التقاطع نف�سه ال يكون مق�صود ًا بال�ضرورة لأي من الفاعلين‪ .‬مع‬
‫ذلك ف�إن �آثار ذلك التقاطع على حياتنا قد تكون كبيرة‪ .‬بل بالنظر‬
‫�إلى الكم الكبير للتقاطعات في حياتنا فيمكن القول ب�أن التقاطعات‬
‫المق�صودة تكاد ت�ضمحل بين التقاطعات غير المق�صودة‪ .‬لذلك‬
‫ف�أغلب محطات حياتنا الأ�سا�سية لم تكن مق�صودة بذاتها لأحد و�إن‬
‫كانت جميع الخطوات المو�صلة �إليها مق�صودة تمام ًا‪ .‬الأمر يت�ضح‬
‫بمثال مثل الزواج‪ .‬رجل وامر�أة يت�صادفان في مكان ما‪ .‬يتحدثان‪.‬‬
‫ويتطور الأمر �إلى زواج‪ .‬لنفتر�ض �أن اللقاء ح�صل بينهم في ف�صل‬
‫درا�سي في الجامعة‪� ،‬أو لنقل في مقهى‪ .‬لو نظرت �إلى اللقاء الأول‬
‫بينهم يمكن ان �أق��ول ب���أن وج��ود الرجل في ذل��ك المكان مق�صود‬
‫لذاته‪ .‬ربما ذهب للقاء �صديق له‪� ،‬أو لمجرد اال�سترخاء‪� ،‬أو موعد‬
‫عمل‪ .‬في النهاية يمكن القول ب�أنه ق�صد المقهى في ذلك الوقت‬
‫تحديد ًا‪ .‬وكذلك بالن�سبة للمر�أة‪ .‬يمكن �أن �أقول �إن وجودها �أي�ض ًا‬
‫اختيار ومق�صود منها‪ .‬ذهبت لدرا�سة �أو لقاء �أحد‪ .‬ولكن لقاءهما‪،‬‬
‫�أو «تقاطع اختياراتهم» لم يكن مق�صود ًا وال متوقع ًا‪ .‬وجودهما في‬
‫المقهى في ذلك الوقت مع بع�ض لم يكن مق�صود ًا‪ .‬هذا بخالف‬
‫‪94‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫لو التقيا بناء على موعد م�سبق ومحدد منهما مع ًا‪ .‬لقاء عمل �أو‬
‫تعارف �أو �أي�� ًا كان‪ .‬مثل هذه التقاطعات موجودة في كل زاوي��ة من‬
‫زوايا حياتنا‪ .‬و�أغلبها ال ي�ؤدي �إلى �شيء‪ .‬يومي ًا تتقاطع اختياراتي مع‬
‫اختيارات الآخرين‪ ،‬ولكن التقاطعات التي يتم ا�ستيعابها في حياتي‬
‫الفردية قليلة جد ًا‪� .‬أحيان ًا ن�سميها �صدفة ولكن �آثرت الحديث عنها‬
‫من هذه الزاوية لأنني �أريد �إبراز دور االختيار الواعي فيها‪.‬‬
‫فمع اعتماد حياتنا ب�شكل كبير على نوع االختيارات التي نقوم‬
‫بها �إال �إنها لي�ست العامل الوحيد الذي ي�صنع حياتنا‪ ،‬وال العامل الوحيد‬
‫في الح�صول على �سعادتنا‪� .‬إننا وفي �أي لحظة من لحظات حياتنا‬
‫واقعون في �شبكة من االختيارات‪ :‬اختياراتنا لأنف�سنا‪ ،‬اختيارات غيرنا‬
‫لأنف�سنا‪ ،‬تقاطع اختياراتنا مع اختيارات غيرنا‪ ،‬وتقاطع اختياراتنا مع‬
‫�أحداث طبيعية‪� .‬أنا �أريد الذهاب �إلى الحديقة‪ .‬هذا اختياري‪� .‬شخ�ص‬
‫يريد �أن يزورني في الوقت نف�سه‪ .‬هذا اختياره‪ .‬و�صل �إلي في اللحظة‬
‫التي �أريد فيها الخروج‪ .‬اختياره تقاطع مع اختياري مما �سي�ؤثر علي‪ .‬لن‬
‫يلغي اختياري ولكنه �سي�ؤثر عليه حتم ًا‪ .‬فهل �أذهب �أم ال؟ ويبد�أ عقلي‬
‫يح�سب المكا�سب والخ�سارات من البقاء �أو الذهاب‪ .‬هل هو ذات �سلطة‬
‫�أو م�صلحة بحيث يكون اختياره �أهم من اختياري؟ هل له مكانة لدي‬
‫بحيث �أحر�ص على م�شاعره �أكثر من رغبتي؟ قد يكون مجيئه محطة‬
‫حياة‪ .‬ربما �أختار البقاء فيفتح مو�ضوع ًا في غاية النفع لي �أو ي�ؤخرني‬
‫عن حادث محتوم كان �سيقع لو ذهبت‪ .‬وربما �أختار الذهاب ف�أخ�سره‬
‫‪95‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫تمام ًا وال �أجده حيث �أحتاجه‪ .‬وقد يكون مجيئه تقاطع عابر ال �أثر له‬
‫بعد تلك اللحظة‪ .‬وعلى هذا النحو كثير من مواقف حياتنا‪.‬‬
‫ربما قررت الذهاب ف�أخذت الطريق المعتاد‪ .‬وجدت زحمة في‬
‫الطريق فت�أخرت‪ .‬الزحمة لي�ست اختيار �أحد‪ .‬الكل في ال�شارع اختار‬
‫الذهاب �إلى مكان ما والكل اختار ال�شارع نف�سه‪ .‬فالزحمة نتيجة غير‬
‫مق�صودة الختيارات مجتمعة‪ .‬ولكنها نتيجة م�ؤثرة جد ًا‪ .‬وهكذا كثير‬
‫من �أم��ور حياتنا تح�صل علينا و�إن كان ال يق�صدها �أح��د‪� .‬أ�صل �إلى‬
‫الحديقة و�أم�ضي �إلى مركزها حيث النافورة ف�أجد هناك �شخ�ص ًا ال‬
‫�أعرفه‪� .‬أنا اخترت وهو اختار وتقاطعت اختياراتنا في مكان وزمان‬
‫محددين‪ .‬هذا حدث ال يمكن اعتباره نتيجة الختياري �أو الختياره‪،‬‬
‫و�إنما نتيجة غير مق�صودة لنا‪ .‬ما يح�صل على �ضوء اللقاء هو نتيجة‬
‫اختيارنا ب�شكل مبا�شر‪ .‬فقد �أنظر �إليه فح�سب‪ ،‬وربما �أكتفي بالتحية‪،‬‬
‫وقد �أفتح حوار ًا‪ ،‬وقد نتحول بعدها �إلى �شركاء عمل‪� ،‬أو ن�صبح �أعداء ًا‪.‬‬
‫احتماالت متعددة تعتمد على ما نختاره في اللحظة التالية‪� .‬أعود من‬
‫الحديقة فتمطر ال�سماء وترعد وتبرق وي�صيبني برق يكاد يق�ضي علي‪.‬‬
‫�أنا اخترت الذهاب �إلى الحديقة واخترت العودة فما ح�صل لي لي�س‬
‫خارج ًا عن نطاق اختياري‪ .‬فلو لم اختر الطريق والوقت الذي عدت‬
‫فيه لما �أ�صابني البرق‪ .‬نعم �إ�صابتي خارج م�س�ؤوليتي وال يمكن لأحد‬
‫�أن يلمني عليها‪ ،‬ولكن �إ�صابتي مك َّونة من اختياري ولي�ست بعيدة عنه‪.‬‬
‫وخال�صة الأمر �إننا بقدر ما تقوم االختيارات بت�شكيل حياتنا �إال �أنَّ‬
‫‪96‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫هناك الكثير مما ال يختاره �أحد ي�ؤثر علينا ب�شكل كبير‪.‬‬


‫والكالم في تقاطع االختيارات مثل الحديث عن ت�أثير �أفعال‬
‫غيرنا فينا‪ .‬المختلف هنا هو �أنه يتم �إبراز العن�صر غير المق�صود لأي‬
‫من الفاعلين‪ .‬فالتقاطع نتيجة غير مختارة لفعل اختياري‪ .‬الفعالن‬
‫المتقاطعان تم اختيارهما ب�شكل م�ستقل وبعيد عن الآخ���ر‪ ،‬ولكن‬
‫التقاطع الذي ح�صل لم يختاره �أحد‪ .‬ال الطرف الأول وال الثاني اختار‬
‫اللقاء‪ .‬وقطع ًا ربما يح�صل التقاطع من �أفعال غير اختيارية �أو على‬
‫الأقل لم يخترها من وقع في التقاطع‪ .‬مث ًال �شخ�صان ُيلقى بهما في‬
‫ال�سجن يح�صل بينهم لقاء وتقاطع لي�س الختيارهما ولكن لمن اختار‬
‫لهما ال�سجن‪.‬‬
‫ولكن �إذا كان التقاطع من حيث هو خارج نطاق االختيار بوجه ما‪،‬‬
‫فلم الحديث عنه؟ ربما لأن االلتفات �إليها‪ ،‬و�إلى ما تحمله من فر�ص �أو‬
‫من انتكا�سات مهم في هذا الزمن الذي تكثر فيه مجاالت هذه اللقاءات‬
‫خ�صو�ص ًا من خالل ال�شبكات االجتماعية التي �ضاعفت �إلى ما ال نهاية‬
‫فر�ص اللقاء الع�شوائي وبالتالي تقاطع االختيارات وبالتالي النتائج‬
‫غير المق�صودة‪ .‬فمع �أننا ال ن�ستطيع التحكم بنوع اللقاء الذي يح�صل‪،‬‬
‫ولكن يمكن تطوير �آليات ت�سمح بكثرة اللقاءات غير المق�صودة‪� .‬أي�ض ًا‬
‫االلتفات �إليها يبين �أهمية القرارات المبا�شرة وغير المفكر فيها‪.‬‬
‫فقرار الذهاب �إلى المقهى مث ًال �أخذ من تفكيري حيز ًا ما‪ ،‬وح�سبت‬
‫له �أكثر من ح�ساب بين ق��رارات �أخ��رى‪ .‬ولكن القرار ال��ذي �أتخذته‬
‫‪97‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫حال اللقاء �صار هو الأهم‪ .‬ولو ما �أح�سنت الت�صرف وقتها لربما فاتت‬
‫فر�صة مهمة لحياتي‪ .‬بمعنى �آخر بقدر ما يكون التخطيط مهم‪ ،‬ف�إن‬
‫القدرة على التعامل الفوري مع الموقف بقدر الأهمية‪ .‬ولكن لالنتباه‬
‫لهذا �أهمية �أخرى وهو معرفة ما كان يمكن تجنبه‪ .‬فكل تقاطع كان‬
‫يمكن �أن ال يح�صل‪ .‬وكونه التقاطع خارج االختيار ال يعني �أن الخطوات‬
‫الم�ؤدية �إليه خارجه‪ .‬ولن�أخذ مثال حادث �سيارة‪� :‬سائق يقطع �إ�شارة‬
‫حمراء في�صدم رج ًال في ال�شارع‪ .‬من حيث الم�س�ؤولية واللوم والعتاب‬
‫ف�إننا ال نتحدث �إال عن ال�سائق‪ .‬ولكن من حيث فهم ما ح�صل‪ ،‬فال بد‬
‫من التعامل مع طرفي المعادلة‪ .‬ال�سائق اختار �أن يقطع اال�شارة‪ ،‬ولكن‬
‫الرجل اختار �أن يقف حيث وقف و�أن يم�شي في تلك اللحظة‪ .‬فتقاطع‬
‫االختياران و�صار ما �صار‪ .‬وكان اال�صطدام نتيجة غير مق�صودة لأفعال‬
‫مق�صودة‪ .‬ومع �أن اللوم على ال�سائق �إال �أن التجنب على الطرفين‪ .‬ولعل‬
‫�أهم ق�ضية هنا هي �أن لي�س كل فعل فينا نا�شيء من اختيار‪ ،‬ولي�س كل‬
‫�أثر مق�صود تحديد ًا‪ .‬فالتقاطع لي�س اختيار �أحد‪ .‬و�أثره لي�س مق�صود ًا‬
‫من �أحد‪ .‬ولما ننظر �إلى الأمر بهذا ال�شكل نوفر على �أنف�سنا الكثير من‬
‫اللوم الذي نوزعه هنا وهناك‪.‬‬
‫طبع ًا يمكن �إثارة مو�ضوع االختيار نف�سه‪ .‬فهل هو موجود حقيقة؟‬
‫�أم �أنه وهم؟ هل �أفعالنا كلها هي �أفعال غيرنا فينا؟ فبع�ض المت�ألهين‬
‫يعتبرون �أن الفاعل الحقيقي والوحيد في هذا الوجود هو اهلل وبالتالي‬
‫ال معنى للحديث عن �أي فاعل �آخر �سوى اهلل‪ .‬و�آخرون يرون �أن �أفعالنا‬
‫‪98‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ما هي �إال نتيجة تفاعالت فيزيائية وكيميائية في الطبيعة وفي �أدمغتنا‪.‬‬


‫�أي نحن ل�سنا �إال تفاعالت كيميائية �أو فيزيائية والحديث عن االختيار‬
‫وهم كبير‪ .‬لن �أخو�ض في الجدل الطويل حول هذا المو�ضوع‪.‬‬ ‫هو مجرد ْ‬
‫و�أنا �شخ�صي ًا �أت�صور �أن البحث عن ال�سعادة ال يتواءم �إال مع من ي�ؤمن‬
‫ب�أنه مختار ب�شكل حقيقي‪.‬‬

‫تعريف الحالة الإن�سانية‬


‫�أعود الآن �إلى العن�صر الأول في المعادلة‪ :‬الحالة الإن�سانية‪.‬‬
‫عبارة «الحالة الإن�سانية» متعددة المعاني‪ .‬يح�ضرني منها الآن معنى‬
‫ال�سمة العامة لتجربة الإن�سان الحياتية‪� :‬سمة المعاناة والحزن وال�ضعف‬
‫والنجاح والف�شل والمر�ض والعافية‪� .‬أنا هنا �أق�صد بها الثوابت التي‬
‫نعي�ش �ضمن �سياقها‪ .‬ثوابت خ��ارج �إرادة �أي �إن�سان‪ .‬ثوابت تجعل‬
‫الإن�سان يعي�ش بالطريقة التي نعي�ش فيها‪ ،‬وبالتالي تكاد تكون قدره‪.‬‬
‫ويمكن تق�سيم الثوابت �إلى �أربعة �أق�سام ح�سب طبيعة الثبات‪ .‬فهناك‬
‫الثوابت المطلقة‪ ،‬وهناك الثوابت الن�سبية‪ ،‬والثوابت الم�شروطة‪،‬‬
‫وهناك المتغيرات‪.‬‬
‫الثوابت المطلقة‪ :‬هي الموجودات الم�ستقلة عن وعينا �سواء‬
‫تلك كانت تلك الموجودات والأنظمة حولنا �أو فينا‪ .‬تلك التي وجدت‬
‫بغير فعل منا‪ ،‬وت�ستمر بقطع النظر عن عالقتنا بها‪ ،‬و�أي�ض ًا ال يعنيها‬
‫�أمري مطلق ًا‪ ،‬وفي الوقت نف�سه ت�ؤثر فيني بطريقة جذرية‪ ،‬في حين‬
‫‪99‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫�أنني ال �أ�ستطيع �إال التفاعل معها ولي�س الت�أثير عليها‪ .‬مثل الكون بما‬
‫فيه‪ .‬ثابت مطلق‪ .‬النظام الفيزيائي الذي يحكم تفاعالت الكون بما في‬
‫ذلك الج�سم والدماغ‪ .‬الجاذبية والقوة المغناطي�سية‪ .‬هذه كلها ثوابت‬
‫ال عالقة بها بوجودنا الإن�ساني وال حتى وجودي الخا�ص‪ .‬حقائق ووقائع‬
‫كانت قبل �أن نكون‪ ،‬وبعدما كنا ا�ستمرت كما كانت‪ ،‬و�سنذهب وهي‬
‫باقية كما هي‪ .‬وقائع ال تدرك حتى وجودنا في هذا الكون‪ .‬غير معنية‬
‫بنا‪ .‬نعلم القليل القليل عن هذه الثوابت ونجهل الأغلب الأعم‪ .‬والحقائق‬
‫الفيزيولوجية والنف�سية الخا�صة م�شمولة بهذه الثوابت‪ .‬فكون الوعي‬
‫الذي �أملكه مقيد بج�سم‪ .‬كوني ال �أ�ستطيع �أن �أكون خارج هذه الم�ساحة‬
‫ال�ضيقة المحدودة مكان ًا وزمان ًا‪ .‬كوني �أعلم و�أجهل و�أق��در و�أعجز‪،‬‬
‫و�أجوع و�أ�شبع‪ ،‬و�أت�ألم و�أ�ستمتع‪ ،‬و�أحب و�أكره‪ .‬كل ذلك ثوابت مطلقة‪.‬‬
‫�أغلب ت�أثير الثوابت المطلقة خارج نطاق وعينا‪ .‬العلم يحاول �أن‬
‫يك�شف عنها فح�سب‪ .‬ونحن يومي ًا تحت ت�أثير �آالف العوامل التي ال نعرف‬
‫�إال القليل منها‪ ،‬و�أغلبنا يم�ضي حياته جاه ًال بها ومتفاع ًال مع �آثارها‬
‫الظاهرة‪ .‬نعرف �أن ما نلقيه في الهواء �سي�سقط‪ ،‬ونعطي لهذه الظاهرة‬
‫ا�سم ًا هو الجاذبية‪ ،‬ولكننا نم�ضي في الحياة بغير معرفة الكثير عن هذا‬
‫الأمر الذي عليه يقوم توازن الأفالك وا�ستقرار الكون الذي نعلمه ب�أكمله‪.‬‬
‫ن�أكل ون�شرب ونعلم �أن هناك عملية ما تجري في �أج�سامنا‪ ،‬ولكن نجهل‬
‫�أغلب تفا�صيل هذه العملية ونعي�ش ب�شكل جيد‪ .‬وغاية ما يقوم به �أغلبنا هو‬
‫نر�سم دائرة لما يح�سن �أن نعمله ولما يح�سن تجنبه‪.‬‬
‫‪100‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫الثوابت الن�سبية‪ :‬هي الأمور التي اعتمدت في وجودها على‬


‫وجود الإن�سان الواعي‪ ،‬وتعتمد في ا�ستمرارها على ا�ستمرار الوعي‪،‬‬
‫�أي�ض ًا تعتمد في �شكلها على نوع الوعي‪ .‬مثال فكرة الزمان‪ .‬لوال وجود‬
‫الوعي الإن�ساني لما كان هناك �شيء ا�سمه الزمان‪ .‬فال يوجد زمان‬
‫بغير وعي �إن�ساني‪ .‬العقل هو الذي خلق هذه الفكرة لي�ستطيع التعامل‬
‫مع الأح���داث ولخلق عالقات بينها بح�سب ترتيب تعاقبها‪ .‬المكان‬
‫�أي�ض ًا يمكن القول �إنه ال يوجد �إال بالإن�سان‪ .‬المكان لي�س ال�شيء‪ ،‬لي�س‬
‫الج�سم‪ .‬بل المكان فكرة تتعلق �أي�ض ًا بالعالقات بين الأ�شياء‪ .‬وهذا �أمر‬
‫ينتجه الوعي‪� .‬أمر �أو�ضح من هذا هي الأع��راف والقوانين والأنظمة‬
‫االجتماعية‪ .‬فهذه لوال وج��ود الإن�سان لما كانت مطلق ًا‪ .‬لوال الوعي‬
‫الب�شري لما وجدت‪ .‬ولو انتهى الوعي النتهت‪.‬‬
‫ما يجعل هذه الثوابت ن�سبية م�ستقرة و�شبه دائمة و�شاملة �إلى‬
‫حد �أنها تكاد تكون ثوابت هو �أن وجود بع�ضها يعتمد على طريقة تكوين‬
‫الدماغ فينا مثل الزمان والمكان‪ .‬فيبدو �أننا مركبون بطريقة تخلق‬
‫هذين الأمرين‪ ،‬وال يمكن االنفكاك منهما اطالق ًا‪ .‬وبالتالي يمكن القول‬
‫�إن الحاجة �إلى النظر �إلى الأمور من منظور متعاقب ون�سبي �أمر ثابت‬
‫مطلق ًا‪ ،‬ولكن الطريقة التي تجلى بها في خلق فكرتي الزمان والمكان‬
‫ثابت ن�سبي‪� .‬أي الأ�صل ثابت مطلق‪ ،‬وال�شكل ثابت ن�سبي‪ .‬وبالتالي يمكن‬
‫ت�صور �أ�شكال �أخرى من العالقات المكانية �أو الزمانية‪ .‬ومن ذلك بع�ض‬
‫الغرائز العاطفية التي لدينا‪ .‬مثل الأبوة والأمومة‪ .‬والأمر هنا ي�شبه ما‬
‫‪101‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫قلته بخ�صو�ص المكان والزمان‪ .‬فغريزة الأب لحماية �أو رعاية �أبنائه‬
‫جزء من تركيبنا الدماغي وبالتالي هي ثابت مطلق‪ ،‬ولكن ال�شكل الذي‬
‫تتجلى عليه ثابت ن�سبي‪ .‬ف�أن �أملك غريزة تدفعني لرعاية وحماية ابني‬
‫�شيء‪ ،‬ولكن �أن نقول �إن هذه الرعاية والحماية واجبة �شيء �آخر‪ .‬كافة‬
‫التوقعات نحو الأب ب�أن يقوم برعاية وحماية �أبنائه لي�س معلق ًا فقط‬
‫على غريزته ومحبته‪ .‬ولذلك نجد بع�ض المجتمعات تلزم الأباء الذين‬
‫تخلو عن م�شاعرهم نحو �أبنائهم بتحمل م�س�ؤوليتهم‪ .‬هذه تتكون من‬
‫خالل الأعراف والقوانين وتطور الوعي الإن�ساني والعالقات العاطفية‬
‫لديه‪ .‬وللوهلة الأول��ى قد يظن الأب الذي يقوم بهذا ال��دور ب�أن هذا‬
‫الإح�سا�س بالواجب طبيعي‪ .‬ولد وهو كذلك و�سيموت وهو كذلك‪.‬‬
‫وبع�ض الثوابت الن�سبية تعتمد في ا�ستمرارها على الوعي الجمعي‬
‫ولي�س الفردي‪� .‬أي وجودها يمكن �أن يبد�أ بفرد �أو جماعة‪ ،‬ولكنها بعد‬
‫ذلك تت�شكل بحيث ي�صير م�صدر ا�ستمرارها وبالتالي م�صدر تغييرها‬
‫الوعي الجمعي‪ .‬وبقدر �صعوبة تغيير الوعي الجمعي بقدر ما تكون‬
‫ثابت‪ .‬وهذا مثل الأعراف‪ .‬فتكوينها بد�أ من فرد �أو �أفراد‪ ،‬ولكنها بعد‬
‫ذلك �صارت جزء من الوعي الجمعي لمجتمع ما‪ ،‬و�صار ا�ستمرارها‬
‫غير معتمد على �شخ�ص بعينه‪ .‬جيل يموت وجيل يلد وت�ستمر الأعراف‪.‬‬
‫بل هكذا الأنظمة االجتماعية كلها ن�صنعها نحن‪ ،‬ولكن بعد �صناعتها‬
‫ت�ستقل عن الأف��راد فينا‪ .‬بل تت�صرف وك�أنها م�ستقلة عنا‪ ،‬ونتحدث‬
‫عنها وك�أنه كائن �آخ��ر خ��ارج عنا‪ .‬مثال نتكلم عن القانون �أو الدين‬
‫‪102‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ونن�سب �إليهما �أفعال مع �أنهما في �أول الأمر و�آخره �صناعة من وعينا‪.‬‬


‫بل �أكثر من هذا تعود هذه الأنظمة االجتماعية لت�صنعنا وتفر�ض نف�سها‬
‫علينا‪ .‬عندما نقول المجتمع ي�ؤثر علينا‪ ،‬ف�إننا في الواقع نتحدث عن‬
‫كائن �صنعه الوعي �أي‪ :‬المجتمع‪ ،‬وهذا الكائن �صار ي�صنعنا‪ .‬ولذلك‬
‫فتفكيك هذه الأنظمة يعتمد على تفكيك الوعي الجماعي‪ .‬وه��ذا ال‬
‫يت�أتى �إال تدريجي ًا ومن خالل عمليات مراجعة ونقد للوعي‪� .‬أو �أحداث‬
‫كبيرة كثورة دموية �أو حرب كبيرة‪ .‬فحينها تح�صل انهيارات جذرية في‬
‫الأنظمة االجتماعية الرا�سخة لأن وقع الثورات والحروب قوي بدرجة‬
‫تهز الوعي العام‪ ،‬ويف�سح المجال لتفككها‪ .‬ولذلك �صعوبة الإ�صالح‬
‫االجتماعي الجذري لأن الو�صول �إلى الوعي العام يكون �صعب ًا‪ ،‬حتى لو‬
‫تم الو�صول �إلى الزعامة ال�سيا�سية‪.‬‬
‫الثوابت الم�شروطة‪ :‬ال ن�ستطيع االنفكاك من الثوابت المطلقة‬
‫وكذلك �إلى حد بعيد ال يمكننا تجاوز الثوابت الن�سبية‪ .‬ما يمكننا عمله‬
‫هو اختيار بع�ض �أ�شكال فر�ض نف�سها علينا‪ .‬الطيران مثال محاولة‬
‫لتجاوز ثوابت �أج�سامنا والطبيعة‪ .‬واالت�صاالت كذلك‪ .‬نتجاوز بها‬
‫محدودياتنا ال�سمعية والب�صرية والزمانية والمكانية‪ .‬الكتابة �أي�ض ًا‬
‫تجاوز لمحدوديات الذاكرة ونقل المعرفة‪ .‬وم�ساحة االختيار هذه‬
‫وا�سعة وال يمكن تحديدها ب�شكل من الأ�شكال‪ .‬من كان يتخيل الإن�سان‬
‫يطير؟ �أو يتوا�صل كما اليوم؟‬
‫ولأن الت�أثير م�شروط فيمكن احيان ًا �إيجاد و�سائل لتخفيف �أثر‬
‫‪103‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫الثابت المحيط بي‪ .‬فمن يعي�ش في منطقة حارة ي�ستعمل مكيف‪ .‬داخل‬
‫منزله الجو مالئم له‪ .‬خارج المنزل الجو �سيء‪ .‬من يعي�ش في مجتمع‬
‫�أبوي يمكنه �أن يخلق م�ساحة �شخ�صية له يحمي نف�سه مما يجري من‬
‫حوله‪ .‬م�صدر �إمكانية الت�أثير الم�شروط هو القدرة على �أن نفعل‪ .‬فنحن‬
‫نعي�ش بين ثوابت ولكن فعلنا يبقى في �أيدينا‪.‬‬
‫وكما لدينا م�ساحة للتعامل مع هذه الثوابت لدينا �أي�ض ًا م�ساحة‬
‫للدخول �ضمن ت�أثيرها‪ .‬فمثال من ينتقل للعي�ش في بيئة حارة و�ضع‬
‫نف�سه تحت ت�أثير الثابت المناخي الخا�ص بتلك البيئة‪ .‬ويمكنه الخروج‬
‫باالنتقال �إلى بيئة باردة‪� .‬أو يمكنه خلق م�ساحة تحميه من ت�أثير ذلك‬
‫الثبات كما نعمل ب�صناعة المكيفات على �سبيل المثال‪ .‬من يقرر توقيع‬
‫عقد مثل عقد زواج �أو عقد تجاري �سيدخل �ضمن نطاق ثوابت �أخرى‪.‬‬
‫من يعي�ش في مجتمع وتحكمه �أعراف ال يريدها يمكنه يغادره �أو يغيره‪،‬‬
‫نظري ًا على الأقل باعتبار �أن الخروج �أو التغيير يتعذر لكون كلفته �أعلى‬
‫بكثير مما يمكن �أن تحمله‪.‬‬
‫هذه الثوابت مرتبطة بوجودنا الإن�ساني بقطع النظر عن �أي‬
‫عار�ض يعر�ض علينا‪ .‬فالكبير وال�صغير‪ ،‬والذكي والبليد‪ ،‬والرفيع‬
‫والو�ضيع‪ ،‬والما�ضي والحا�ضر‪ ،‬والغني والفقير‪ ،‬والذي يفعل وال يفعل‪،‬‬
‫و�أي �إن�سان في الدنيا بمجرد كونه �إن�سان ًا ف�إن هذه الأمور فيه وحوله‪.‬‬
‫فعندما �أق��ول الحالة الإن�سانية هذا ما �أق�صد‪ .‬ومن المهم االلتفات‬
‫�إليها لأنها �سياق �أفعالنا التي هي �أو�ضح ما تفكر فيه‪ .‬فهي ال�سياق الذي‬
‫‪104‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫تنطلق منه �أفعالنا و�أفعال غيرنا وتقع فيه‪ .‬ف�أفعالنا جميع ًا ال ت�أتي من‬
‫ف��راغ‪ ،‬كما �إنها ال ت�سقط في ف��راغ‪� .‬إنها ت�أتي من �أُنا�س لديهم �شكل‬
‫ُم�سبق‪ ،‬وتقع على �أُنا�س لديهم خ�صائ�ص َق ْبلية‪ .‬عندما تفعل �أنت فع ًال‬
‫ف�أنت فاعل ذو �شخ�صية محددة �سلف ًا‪ ،‬ولديك ظروف خا�صة‪ ،‬وتملك‬
‫طبيعة من نوع ما‪ .‬و�صدور الفعل منك �إنما كان وفق ما �أنت عليه‪ ،‬وت�أثير‬
‫الفعل عليك �سيكون �أي�ض ًا وفق ما �أنت عليه‪ ،‬ووقوعه فعلك على غيرك‬
‫�سيعتمد على ما هم عليه‪ .‬بعبارة �أخرى الفعل ي�صدر منك و�أنت لك‬
‫حالة‪ ،‬ويقع على غيرهم وهم لهم حالة‪ .‬وكلما �أدركنا نوع العالقة بين‬
‫�أفعالنا وبين الحالة الإن�سانية كلما اقتربنا من فهم واقعنا‪.‬‬
‫لنعد �إلى المعادلة المذكورة �أعاله‪:‬‬
‫حياتنا = الحالة الإن�سانية × �أفعالنا × �أفعال غيرنا ×‬
‫تقاطع االختيارات‬
‫الفكرة من المعادلة كانت �أنه لكي نعرف ما علينا عمله و�صو ًال‬
‫�إلى حياة �سعيدة �أو هنية فال بد من معرفة الأمور المحيطة ب�أفعالنا‪.‬‬
‫فحياتنا لي�ست فقط �أعمالنا و�إنما تفاعل �أعمالنا مع غيرها‪ .‬معرفة‬
‫الأم��ور المحيطة ال يجعل الأم��ر �سه ًال‪ ،‬فقط ي�ضع للتفكير �إط��ارات‬
‫مفيدة‪ .‬مجرد البحث عن االختيار ال�شخ�صي الذي بتفاعله مع تلك‬
‫الحالة ي���ؤدي �إلى حياة �سعيدة‪� ،‬أو �إح�صاء �أن��واع الأفعال التي يمكن‬
‫للغير �أن يقوم بها وي�ؤثر على �سعادتي �سلب ًا �أو �إيجاب ًا‪� ،‬أو القيام بهذا‬
‫واجتناب ذاك‪� ،‬أو تحفيز الم�ؤثرين نحو �أمر وتثبيطهم نحو غيره لأن �أي‬
‫‪105‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫تغيير حياتنا �سيكون بتغيير �أفعالنا و�إقناع الآخرين بتغيير �أفعالهم‪...‬‬


‫مجرد �أن ن�صل �إلى هذا تبد�أ ال�صعوبة والتعقيد‪.‬‬
‫�أنا �أفتر�ض �أن معرفة الفعل المالئم يعتمد على معرفة الحالة‬
‫الإن�سانية‪ .‬وربما يتوافق هذا الت�صور مع �سلوك كثير منا‪ .‬فلما نحلل‬
‫اختياراتنا نجد �أنها من نوع‪�« :‬أنا �أقوم بهذا لأنني كذا‪ ،‬ولأنني كذا ف�إن‬
‫قيامي بهذا �سي�ؤدي �إلى حياة �أف�ضل»‪ .‬عبارة (لأنني كذا) ن�ستعملها‬
‫لأننا نعلم �أنه ال يمكن اختيار فعل من الأفعال بغير �إحالته �إلى �أمر‬
‫فينا‪ .‬والبحث في الحالة الإن�سانية ما هو �إال بحث في ذلك الأمر الذي‬
‫فينا بحيث يكون علمنا به مطرد ًا ودقيق ًا‪ .‬ولكن مع ذلك ربما تكون‬
‫هذه الفر�ضية خاطئة‪ .‬بل ربما ال يوجد �شيء ا�سمه ثابت �إن�ساني‪ .‬ربما‬
‫الإن�سان ذو طبيعة �سيالة تت�شكل وفق �إرادت��ه �أو ظروفه االجتماعية‬
‫�أو واقعه االقت�صادي‪� .‬أو ربما ال وج��ود للوعي الفردي �إال من خالل‬
‫الفعل االجتماعي‪ .‬وبالتالي ال معنى للحديث عن حالة �إن�سانية‪ ،‬و�إنما‬
‫ال�ضروري الحديث عن الأف��ع��ال في وق��ت ومكان محددين ي�شكالن‬
‫الإن�سان في مرحلة تاريخية محددة‪ .‬لذلك قد ال تكون فكرة المعادلة‬
‫بهذا ال�شكل �سليمة من �أ�صلها‪.‬‬
‫ولكن حتى لو قبلنا المعادلة ف�إن معرفة الحالة الإن�سانية م�شكل‬
‫في حد ذاته‪ .‬فمعرفة خريطة هذا الوجود ومعرفة خريطة �أنف�سنا ال‬
‫ي�أتيان تلقائي ًا‪ .‬فالوجود ال يك�شف عن نف�سه ب�سهولة وي�سر كما �إن له‬
‫�أوجه ًا متعددة‪ .‬وبالتالي ف�إن الخط�أ والتنوع في ر�سمه وارد كل الورود‪.‬‬
‫‪106‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫و�أي خط�أ �أو تنوع في هذا �سي�ؤدي �إلى خط�أ �أو تنوع مماثلين في تحديد‬
‫الفعل الذي �سنختاره‪ .‬والأم��ر �أ�صعب عندما ن�أتي �إلى ر�سم خريطة‬
‫لأنف�سنا‪ .‬وهذه �صعوبات �أو�صلت البع�ض �إلى �إنكار �إمكانية �أي معرفة‪.‬‬
‫وال يقف الأمر عند فهم الحالة الإن�سانية بل يتجاوزها لفهم‬
‫ما يبدو للوهلة الأولى �أنه وا�ضح‪ .‬فالقول ب�أنَّ لنا �أفعا ًال لي�س بديهي ًا‪،‬‬
‫�إذ نجد الكثير ممن ينكر ذلك ويرى �أننا خا�ضعون �إلى �أقدار �إلهية‬
‫�أو تفاعالت فيزيولوجية في الدماغ‪ .‬وبالتالي فال يمكن �أن يكون‬
‫للمعادلة معنى �إذا لم يكن الختيارنا معنى‪ .‬وحتى بين من يرى �أن‬
‫للإن�سان فع ًال واختيار ًا فهناك اختالف كبير في ت�شخي�ص مفهوم‬
‫تقاطع االختيارات والعواقب غير المق�صودة بين من يقلل �ش�أنها �إلى‬
‫الحد الذي ال يرى �أن لها ت�أثير ًا‪ ،‬وبين من يرفع �ش�أنها بحيث يلغي �أي‬
‫فاعلية الختيار الفرد‪.‬‬
‫تلك �صعوبات على م�ستوى الفهم فح�سب‪ .‬ثم �إذا تقدمنا �إلى‬
‫خطوة �إيجاد المواءمة بين الحالة الإن�سانية وبين الفعل المنا�سب‬
‫لإيجاد �سعادة ف�إن الأمر يتعقد �أكثر و�أكثر‪ .‬و�أما خطوة التطبيق فهي‬
‫ق�ضية بحد ذاتها‪.‬‬
‫تلك التحديات تجعل البحث �أكثر �أهمية‪� .‬إننا لن نقترب من‬
‫الحل ونحن مبتعدون عن الخو�ض في الم�شكالت‪ .‬وحتى لو �أخط�أنا‪،‬‬
‫ف���أن نخطئ ونحن نحاول �أن ن�صنع ال�سعادة لأنف�سنا‪ ،‬خير من «�أن‬
‫ن�صيب» ونحن في مكاننا‪.‬‬
‫‪107‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫�أنا �أتحرك من فر�ضية �أن معرفة الحالة مهم لتحقيق �شيء من‬
‫ال�سعادة لأنف�سنا‪ .‬وفي ما ي�أتي �س�أحاول تف�صيل الحالة الإن�سانية‪ ،‬ثم‬
‫في الق�سم الذي يليه �أتحدث عن الفعل الموائم الذي به يمكن �أن نحقق‬
‫�شيئ ًا من ال�سعادة‪ .‬ثم اهلل في كل هذا‪ .‬مع مراعاة �أن كل ما �سبق وما‬
‫ي�أتي مبني على �إمكانية معرفة الوجود من حولنا ومعرفة �أنف�سنا‪ .‬و�إن‬
‫كنت �أقر ب�صعوبة هذا الأمر‪ .‬كما �أرى �أهمية العمل وفق المعادلة �أعاله‪.‬‬
‫و�أرى �أنه يوجد ثابت �إن�ساني م�شترك بين جميع الب�شر بقطع النظر‬
‫عن كافة التنوعات الموجودة بينهم‪ .‬و�أن لنا �أفعا ًال اختيارية �صادرة‬
‫عنا تمام ًا‪ .‬و�أنَّ بع�ض �أعمالنا لها نتائج غير مق�صودة‪ ،‬بل ربما �أكثر‬
‫�أعمالنا‪ ،‬ولكن ت�أثير تلك النتائج يتفاوت بتفاوت قدراتنا على �إدارة‬
‫المفاج�آت وعلى تنويع اللقاءات غير المق�صودة‪.‬‬

‫ما هو الفعل؟‬
‫النقطة الأخيرة هنا �س�أذكرها عابر ًا على �أهميتها البالغة‪.‬‬
‫فعندما �أقول الفعل‬
‫الأفعال ف�أنا ال �أق�صد الحركات التي نقوم بها‪ .‬قطع ًا الحركات‬
‫جزء من الفعل‪ ،‬ولكن الفعل �أعم من الحركة‪ .‬فالحركة نف�سها التي‬
‫نقوم بها ونحن نيام قد ال ن�سميها فع ًال لأنها فقدت �أهم عنا�صر الفعل‬
‫وهو الق�صد‪ .‬الم�شي لي�س تحريك الأرجل بالطريقة المنظمة التي تتم‬
‫عليها‪ ،‬بل هو حركة تلك الأرجل بق�صد االنتقال من مكان �إلى �آخر‪.‬‬
‫‪108‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫التلويح باليد قد �أ�سميه تلويح ًا �إذا ق�صدت الإ�شارة �إلى �أحد بعيد‪ .‬وقد‬
‫�أ�سميه ريا�ضة �إذا ق�صدت تمرين الع�ضالت‪ .‬فالحركة نف�سها ولكن‬
‫الفعل اختلف باختالف الق�صد‪ .‬الحركات المختلفة التي نقوم بها ال‬
‫تملك معنى لنا وال لغيرنا �إال من خالل ما وراءه��ا‪ .‬ونحن ال نتفاعل‬
‫في الحقيقة �إال مع المقا�صد‪ ،‬لي�س مع الحركة‪ ،‬ولذلك ف�إن كل رد فعل‬
‫لنا ي�ضمر تف�سير ًا ما لق�صد ما‪ .‬عندما �أرى التلويح ف�إني �س�أت�صرف‬
‫�إزاءه بح�سب الق�صد الذي �أتوقع �أنه كان مرافق ًا للفعل‪ .‬ولما �أتحدث‬
‫عن الأفعال هنا ف�إني في الواقع �أتحدث عن المقا�صد‪ .‬لما �أقول الفعل‬
‫المطلوب �أعني تحديدا الق�صد المطلوب‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫‪110‬‬
‫عنا�صر الحالة الإن�سانية‬
‫الحالة الإن�سانية هي الثابت �سواء المطلق �أم الن�سبي‪� .‬س�أحاول‬
‫‪ -‬و�أ�شدد على �س�أحاول ‪ -‬فيما يلي التف�صيل فيها بذكر مكوناتها‪.‬‬
‫وبطبيعة الحال ف�إن تعقيد الإن�سان وتعدد �أبعاد عالقته بالوجود من‬
‫حوله ي�صعب فهم �أي �شيء عن نف�سه �أو عما حوله‪� .‬أي�ض ًا الحالة‬
‫الإن�سانية ال يمكن اختزالها في عدد محدود من المكونات‪ ،‬لذا ما‬
‫�أذكره يمثل ما �أت�صوره �أهم العنا�صر فح�سب التي �أت�صور �إنها تف�سر‬
‫�أهم �أبعاد الحالة الإن�سانية وهي‪:‬‬
‫‪�1 .1‬إننا ِوح��دة متعددة الأبعاد متدرجة الت�أثير والت�أثر في‬
‫ذاته وفي الوجود من حوله ولنا ق��درات علمية وعملية‬
‫محدودة‪.‬‬
‫‪2 .2‬لنا َّلذات وحاجات وكماالت ذاتية‪.‬‬
‫‪3 .3‬نعي�ش في عالمين‪ :‬ذهني وخارجي‪.‬‬
‫هذه الحقائق الثالثة تتفاعل مع ما نفعله بحيث ينتج ال�شكل‬
‫الذي تظهر عليه حياتنا‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫�أو ًال‪� :‬إننا ِوحدة متعددة الأبعاد متدرجة الت�أثير والت�أثر في‬
‫ذاته وفي الوجود من حوله ولنا قدرات علمية وعملية محدودة‬

‫�أ‪ .‬وحدة متعددة الأبعاد‬


‫ال�س�ؤال الأ�سا�سي هنا‪ :‬ما �أنا؟ ما �أنت؟ ما نحن؟ هل �أنت و�أنا‬
‫ظاهرة فيزيائية؟ �أم فينا ُبعد غير فيزيائي؟‬
‫و�إذا فينا �أبعاد �أخرى فما طبيعتها؟ وهل يمكن تناولها بالح�س �أم‬
‫�أنها تتجاوزه ؟ ثم ما عالقة هذه الأبعاد �إن وجدت ب�أبعادنا الفيزيائية؟‬
‫وهل تتعدد مثال �إلى ما ن�سميه روح ونف�س ووعي وعقل �أم �أنها واحدة‬
‫فقط؟ و�إذا تعددت فما الفرق بينها؟ وما عالقتها ببع�ض؟‬
‫و�إذا لم نكن �سوى ظاهرة فيزيائية فكيف نف�سر وعينا وحبنا‬
‫وكرهنا وم�شاعرنا؟ هل كل ذلك مجرد تفاعالت كيميائية في دماغ‬
‫متطور ومعقد؟ كيف نف�سر الإبداع؟ بل كيف نف�سر القدرة على تخيل‬
‫ما لي�س موجود ًا؟‬
‫وفي الحالتين ـ ظاهرة فيزيائية فقط �أو مع بعد �آخر ـ كيف تتكون‬
‫عالقتنا بالعالم من حولنا؟ ما هي نقاط االت�صال بيننا وبين العالم؟ هل‬
‫هي حوا�سنا فقط؟ وبالتالي كل ما يخرج عن الحوا�س ال يمكن االت�صال‬
‫به؟ �أم �أنه يمكن االت�صال بالعالم ب�أكثر من الحوا�س؟ ثم كيف ي�ؤثر العالم‬
‫على �أبعادنا غير الفيزيائية؟ �أم �أنه ال ي�ؤثر؟ وكيف يمكن لتلك الأبعاد �أن‬
‫ت�ؤثر على العالم؟ هل الت�أثير مبا�شر �أم غير مبا�شر؟ فمث ًال هل ت�ؤثر الروح‬
‫‪112‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫مبا�شرة بالعالم �أم �أنها تحتاج �إلى و�سيط لذلك؟ وكيف نفهم ت�أثر نظام‬
‫العالم الفيزيائي ب�أمر يقع خارجه؟ �أي كيف يمكن لكائن غير فيزيائي �أن‬
‫ي�ؤثر على كائن فيزيائي والعك�س؟ كيف يمكن �أن يكون هناك عالقة ت�أثير‬
‫وت�أثر بين �أبعادنا الفيزيائية وغير الفيزيائية؟‬
‫وما �أهمية مثل هذه الأ�سئلة هى حياتنا الأخالقية؟ و�سلوكنا‬
‫اليومي؟‬
‫�أ�سئلة مختلفة ومتداخلة حول تكويننا‪ .‬وكلما فكرت في هذا‬
‫المو�ضوع �أو ناق�شته كلما زادت قناعتي با�ستحالة الح�سم فيه‪ .‬مع‬
‫ذلك فال بد من التفكير فيه والخروج بر�ؤية لن تكون �صحيحة ولكن‬
‫�سيمكنها �أن تعطينا ر�ؤية عن �أنف�سنا م�ستمدة من الواقع و�إيجابية في‬
‫الوقت نف�سه‪.‬‬
‫ال�سائد ـ على الأقل �ضمن المنظومة الثقافية الدينية ـ �أن الإن�سان‬
‫روح في ج�سم‪ .‬قد نجد بع�ض المتخ�ص�صين �أو الأف��راد من العلماء‬
‫من ذوي الآراء الأخ��رى‪ ،‬ولكن �أغلب النا�س تذهب �إلى �أننا كائن في‬
‫�آخر‪ .‬ولكل منهما طبيعة مختلفة وحاجات مختلفة وخ�صائ�ص مختلفة‪.‬‬
‫الروح تو�صف ب�أنها كائن غير مادي و�أنها �أ�سمى‪ .‬والج�سم يو�صف ب�أنه‬
‫كائن مادي و�أنه الأقل �سمو ًا �أو �أنه دنيء وترابي‪ .‬و�أنه �إذا ذهب الج�سم‬
‫ف�إن الروح تبقى‪ .‬في المقابل هناك من يقول �إننا كائن واحد فح�سب‪.‬‬
‫نحن هذا الج�سم ال غير‪ .‬وال نملك �إال خ�صائ�ص الأج�سام فح�سب‪ .‬و�إذا‬
‫ذهب الج�سم ذهبنا تمام ًا‪ .‬وال يوجد دليل على غير هذا الج�سم‪ .‬لكل‬
‫‪113‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫من الطرفين ما يدعم موقفه و�أي�ض ًا عليهما مع ًا ما ي�ضعف موقفهما‪.‬‬


‫�أنا �أذهب �إلى �أننا وحدة‪ ،‬ولكنها وحدة متعددة الخ�صائ�ص‪.‬‬
‫ففيني ما خ�صائ�صه فيزيائية وفيني ما خ�صائ�صه غير فيزيائية‬
‫ولكنني �شيء واح��د ول�ست روح في ج�سم‪ .‬وعندما ب��د�أت �أفكر في‬
‫المو�ضوع لم يكن منطلقي الأدل��ة المو�ضوعية على الموقفين‪ .‬و�إنما‬
‫�إ�شكالية �أخالقية و�أخرى ذات �صلة بالوعي‪.‬‬
‫القول ب�أني ج�سم فيزيائي فقط تلغي �إمكانية الأخالق والوعي‪.‬‬
‫الثنائية تخلق م�شكلة في نوع الأخالق التي نمار�سها وفي طبيعة الوعي‬
‫الذي �سنكون به‪� .‬أخالقنا �ستكون قائمة على الت�ضاد والكبت‪ ،‬و�سيكون‬
‫وعينا ُمجز�أً‪� .‬سيكون هناك �أكثر من �أنا‪ .‬النظرة �إلى نف�سي ب�أنني وحدة‬
‫متعددة الخ�صائ�ص ي�سهم في تخفيف غربة الروح والحفاظ على وعيي‬
‫بالـ»�أنا الخال�صة»‪ .‬الـ»�أنا» التي ت�ستمر معي طوال حياتي مهما تغيرت‬
‫وتبدلت‪ .‬لذلك ال �أدع��ي المو�ضوعية التامة في ابتعادي عن كل من‬
‫الموقفين والميل �إلى موقف �آخر‪.‬‬

‫تعريف مادي وغير مادي‬


‫�أحيان ًا نقول «م��ادي» ونق�صد به ما يقع �ضمن نطاق النظام‬
‫الفيزيائي �أو ما يت�أثر بالجاذبية وله �أبعاد وح ِّيز‪ .‬هذا مع االنتباه �إلى �أن‬
‫هناك اختالف في كون الحيز والأبعاد خا�صية فيزيائية‪ .‬في المقابل‬
‫ما نقول عنه غير مادي نعني به �أنه ال يخ�ضع لقوانين الفيزياء التي‬
‫‪114‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫نعلمها‪ .‬وهذا يعني �أننا ال نعلم الكفاية عما هو غير مادي بقدر ما نعلم‬
‫ما ننفيه عنه‪ .‬غير المادي لي�س كذا وكذا‪ .‬لي�س له حيز‪ .‬ال ت�ؤثر فيه‬
‫الجاذبية‪ .‬ال يفنى‪ .‬فمث ًال الفكرة ال حيز لها‪ .‬ال تت�أثر بالجاذبية‪ .‬وال‬
‫تفنى مع الوقت‪ .‬فنقول عنها �إنها غير مادية‪.‬‬
‫و�أحيان ًا نفرق بين المادي وغير المادي ب�أن الأول ما يدرك ح�س ًا‬
‫والثاني ما ال يدرك ح�س ًا‪� .‬أو ما يخ�ضع للتجربة مقابل ما ال يخ�ضع لها‪.‬‬
‫ومع �أن هذا التفريق فيه وجه‪� ،‬إال �أنه في النهاية ي�ؤول �إلى التق�سيم‬
‫ال�سابق‪ ،‬لأننا ندرك ح�س ًا ما يخ�ضع للنظام الفيزيائي‪.‬‬
‫يمكن �أن ي�أتي �أحد ويقول ما معنى عبارة غير خا�ضع للنظام‬
‫الفيزيائي؟ �ألي�ست القوانين الفيزيائية هي نف�سها علمنا عن الكون؟‬
‫فكيف �إذا يمكن تق�سيم العالم �إلى فيزيائي وغير ذلك؟ ك�أننا نقول‬
‫العالم مق�سم �إلى ما نعرفه وما ال نعرفه‪ .‬ومثل هذه الجملة ال تقدم‬
‫الكثير‪� .‬أو يقول �أحد ندرك ظواهر ال تخ�ضع للنظام الذي نعرفه ولكن‬
‫في الوقت نف�سه ال نعرف الكثير عن تلك الظواهر‪ .‬هذا الإ�شكال وجيه‬
‫ولذلك �س�أحاول ا�ستخدام التق�سيم بحذر‪.‬‬

‫عالم حر وخالق وواعي مقابل ُم�س َّبب و ُمنف ِعل و�أ�صم‬


‫هناك تق�سيم �آخر للعالم‪ .‬بعيد عن التق�سيم �إلى مادي وغير‬
‫مادي فيزيائي وغير فيزيائي وهو تق�سيم العالم �إلى‪ :‬حر وغير حر‪.‬‬
‫من�ضبط ل�سل�سلة الأ�سباب خارج �سل�سلة الأ�سباب‪ .‬منفعل وخالق‪ .‬فالعالم‬
‫‪115‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫الم�شاهد وفق ما نعرف ال يملك حرية‪ .‬كل حركة فيه تقع في �سل�سلة‬
‫من الأ�سباب ال�سابقة وهو بدوره يخلق �سل�سلة الأ�سباب التالية‪ .‬عالم‬
‫منفعل وغير خالق‪ .‬الفعل ال يبد�أ من ال�شيء و�إنما يمر عبره �إذا �صح‬
‫التعبير‪ .‬فالنار مث ًال نتيجة �سل�سلة �أ�سباب‪ .‬والإحراق كذلك‪ .‬وال�سقوط‬
‫كذلك‪ .‬والكهرباء‪ .‬وك�أن هناك حدث �أول ت�صبح كافة الأحداث التالية‬
‫تجليات مختلفة له‪ .‬حدث يتحرك منذ الإنفجار الأول يمر عبر هذه‬
‫المظاهر‪ .‬في مقابل االنفعال هناك الحرية والخلق‪ .‬هناك حدث ين�ش�أ‬
‫من فاعل بغير �أن يكون قبله �سبب �سوى �إرادة الفاعل‪ .‬فعل لم يتولد‬
‫انفعا ًال‪ .‬ويمكن �أخذ هذا خطوة �إلى الأمام وتق�سيم العالم �إلى واع‪/‬غير‬
‫واع‪ .‬الواعي هو القادر على �إدراك ذاته وحاله وغيره‪ .‬وغير الواعي هو‬
‫الذي ال يملك ذلك‪.‬‬
‫العالم الوعي الحر الخالق هو العالم الذي ال يخ�ضع للقوانين‬
‫الفيزيائية‪ .‬والعالم الأ�صم الم�سبب المنفعل هو ما يخ�ضع لها‪.‬‬

‫�أبعاد الإن�سان‬
‫في الجدل الدائر حول وجود بعد �آخر للإن�سان �أت�صور �أن كل‬
‫الأطراف مخطئة في جانب‪ ،‬بما فيه �أنا‪ .‬االخت�صار �إلى طبيعة فيزيائية‬
‫خط�أ‪ .‬والقول بطبيعتين مختلفتين خط�أ‪.‬‬
‫فالطرف الأول لما يخت�صر الإن�سان في الج�سم �أو في البعد‬
‫الفيزيائي ف�إنه يعقد �أو يحيل فهم �أمور مثل الوعي وحرية االختيار‪،‬‬
‫‪116‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ومبد�أ الوجوب الأخالقي‪ ،‬والت�ضحية‪ ،‬والح�س الجمالي‪� .‬إذ ال يمكن‬


‫فهمها فيزيائي ًا‪ .‬هذا الطرف يرى انه ما لم يمكن الحديث عن �شيء‬
‫بلغة فيزيائية ف�إنه غير موجود‪ .‬وقد ا�ضطر بعد الفال�سفة للقول فع ًال‬
‫ب�أن الحرية والوعي والإبداع �أوهام‪.‬‬
‫وحرية االختيار وهما لأن الإيمان بنظام فيزيائي فقط �سيفتر�ض‬
‫�أن كل ما يقع هو حلقة في �سل�سلة محكمة ومترابطة من الأ�سباب‬
‫والم�سببات مما يلغي �أي �إمكانية للإيمان بحرية االختيار‪ .‬الإب��داع‬
‫وهم �أي�ض ًا‪ .‬لأن الإن�سان وفق الت�صور الفيزيائي منفعل ولي�س خالق‪.‬‬
‫وبطبيعة الحال ت�صبح حاالت الإب��داع م�شكلة بالن�سبة لهذا الت�صور‬
‫المادي ال�صارم‪ .‬فكيف يمكن للإن�سان �أن يخلق مفاهيم عن �أمور‬
‫ال وجود لها؟ مثل الحرية نف�سها‪ .‬كيف ا�ستطاع الإن�سان �أن يفكر في‬
‫ق�ضايا ال وجود لها في واقعه؟ ف�إذا كان بع�ض �أنواع االبداع هو تركيب‬
‫لأمور في محيط التجربة‪ ،‬فكيف يمكن التفكير �أو الحديث �أو الحنين �أو‬
‫الحب ل�شيء ال وجود له على االطالق؟ ثم �إن الإبداع �إ�ضافة للعالم‪ ،‬في‬
‫حين �إن القوانين الفيزيائية تتحدث عن عالم متوازن ال �إ�ضافات فيه‪.‬‬
‫عن عالم فعل ورد فعل‪ .‬عالم يكرر نف�سه‪.‬‬
‫حتى الريا�ضيات يمكن اعتبارها حالة �إبداعية ‪.‬ف���إذا اخذنا‬
‫ظاهرة الأرقام فقط لوجدناها كائنات ال وجود لها �إلى في الذهن‪ .‬ال‬
‫يوجد رقم خارج‪ .‬يوجد طاولة �أو رجل �أو رجل جنب رجل‪ .‬ولكن ال يوجد‬
‫رجالن‪ .‬وال يوجد طاوالت‪ .‬عقلنا يجمع هذه ال�صور ثم ي�ضع لها �أرقام ًا‬
‫‪117‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫�أو يتعامل معها ككليات‪ .‬الخط ال يوجد في الخارج‪ .‬ال يوجد �شيء له‬
‫بعد واحد فقط كالخط‪ ،‬وال �سمك له‪ .‬هو كائن خلقناه‪ .‬المثلث المربع‬
‫النقطة هذه كلها كائنات في العقل ال وجود لها في الواقع الخارجي‪.‬‬
‫كيف يمكن تف�سيرها فيزيائي ًا‪.‬‬
‫انتقاد الطرف الأول ال يعني بحال �صوابية الطرف الثاني‬
‫القائل ب�أننا كائن في �آخر‪ .‬روح في ج�سم‪ .‬ف�إذا قلت �إننا �أكثر من‬
‫الج�سم الفيزيائي فح�سب فال يعني هذا �إننا �أ�شياء متعددة‪ .‬ل�سنا‬
‫روح وج�سم‪ ،‬كل منهما ذات طبيعة مغايرة تمام ًا‪ .‬هذا تجزيء للواحد‬
‫منا والتعامل معه وك�أنه كائن مركب من اجتماع عنا�صر متباينة في‬
‫و�سموها ودوافعها وحاجاتها‪ .‬مخلوقة من �أ�صول مختلفة‬ ‫جوهرها ُ‬
‫تمام ًا‪ ،‬تم و�ضعها مع ًا‪ .‬الروح هي الأ�سمى والج�سد هو الأدنى‪ .‬الروح‬
‫تميل نحو الخير والجمال والكمال في حين �أن الج�سد يميل نحو‬
‫اال�ستهالك واال�ستمتاع‪ .‬طبائع مختلفة‪� .‬أ�صول مختلفة‪ .‬حاجات‬
‫مختلفة‪� .‬آثار مختلفة‪.‬‬
‫هذا الت�صور يحل الإ�شكاالت التي كانت على الت�صور المادي �أو‬
‫الفيزيائي ولكن يخلق مع�ضالت �أخرى‪ .‬الأولى والأهم هو المنظومة‬
‫الأخالقية المالئمة‪ .‬فالأخالق ارتكزت هنا على الموازنة بين حاجات‬
‫مختلفة‪ .‬وربما يقول قائل‪ ،‬يمكن الحفاظ على الت�صور ال�صارم للثنائية‬
‫والتخلي فقط عن الأخالق التي ن�ش�أت عنه والتخلي عن فكرة الأ�صل‬
‫ال�سامي والأ�صل الداني‪ .‬ولهذا الكالم وجه‪.‬‬
‫‪118‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫�إ�شكال �آخ��ر هو �شرح العالقة الت�أثيرية بين ُبعد غير خا�ضع‬


‫للنظام الفيزيائي و�آخر خا�ضع له‪ .‬ف�إرادتي ت�ؤثر حتم ًا على العالم‪.‬‬
‫تغير فيه‪ .‬مجرد �أنني �أحرق �أو �أرفع طاولة‪� .‬أو �أكتب‪ .‬هذا كله ت�أثير‬
‫في هذا العالم الفيزيائي‪ .‬والت�أثير بين �أمرين ي�ستلزم تقاربا بينهما‬
‫في الطبيعة‪ .‬ولكن ما ال يخ�ضع مطلق ًا لنظام الأ�سباب يختلف تمام ًا‬
‫عما يخ�ضع مطلق ًا لنظام الأ�سباب‪ .‬الإرادة تختلف مطلق ًا عن الج�سم‬
‫�أو الطاولة‪ .‬وبالتالي ف�إن القول بت�أثير الروح مث ًال على الج�سم ومن ثم‬
‫على العالم فيه م�شكلة‪.‬‬
‫ •من ال يت�أثر بنظام الأ�سباب ال ي�ستطيع �أن ي�ؤثر تمام ًا على‬
‫من يت�أثر تمام ًا بنظام الأ�سباب‪.‬‬
‫ •من يت�أثر كلية بنظام الأ�سباب ال ي�ستطيع �أن يت�صل بمن ال‬
‫يت�أثر مطلق ًا‪.‬‬
‫�إ�شكال ثالث هو تجزئة الوعي �أو �إلغاء الج�سم‪ .‬فعندما �أقول �أني‬
‫ثنائي وفي الوقت نف�سه لكل بعد حاجة ومتطلبات‪ ،‬فهذا معناه �أنني‬
‫مجز�أ الوعي‪� .‬أنني لما �أحتاج �إلى ال�صالة مثال ف�أنا هنا �أت�صرف من‬
‫روحي‪ .‬ولما �أحتاج �إلى الطعام ف�أنا �أت�صرف من ج�سمي‪ .‬ولكن حقيقة‬
‫الحال �أني �أ�شعر بوحدة على ال��دوام‪ .‬بع�ضهم حل الم�شكلة ب�أن قال‬
‫الج�سم لي�س �إال مركب ال غير وبالتالي الوعي هو فقط للج�سم‪.‬‬
‫الت�صور الأول يلغي �إمكانية الحرية والإب��داع والوعي‪ .‬الت�صور‬
‫الثاني ي�شكك في وحدة الوعي ويخلق فيني �أزمة ال�سمو والدنو وال�صراع‬
‫‪119‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫بينهما‪� .‬أي�ضا ال ي�شرح العالقة بين غير الفيزيائي والفيزيائي‪ .‬فما‬


‫الحل؟‬
‫الحل �أن نقول �إننا حقيقة واحدة مت�صلة غير منف�صمة‪ .‬حقيقة‬
‫واحدة محكومة بقوانين مختلفة وذات �آثار متنوعة‪ .‬حقيقة ممتدة من‬
‫خارج عالم الفيزياء �إلى داخله‪.‬‬
‫قد ي�شكل علي �أنه كيف يمكن �أن تقول حقيقة واح��دة وفي‬
‫الوقت نف�سه تخ�ضع لقوانين مختلفة؟ �ألي�س اختالف القوانين‬
‫م�ؤ�شر على تعدد الحقيقة؟ فهل ما ال ينطبق عليه الجاذبية هو‬
‫نف�سه ما ينطبق عليه الجاذبية؟ الحقيقة انا ال �أملك الجواب‪.‬‬
‫ولكن �أ�ستطيع �أن �أقول �إن القوانين التي ن�ستخل�صها ال يمكن �أن‬
‫تكون معيار ًا لمعرفة طبيعة الحقائق الوجودية لأن القوانين تمثل‬
‫نظرة جزئية للوجود‪ .‬القانون يمثل ما عرفت‪ .‬وال يمكن �أن يتحول‬
‫القانون �إلى معيار لما هو وج��ود‪ .‬يجب �أن �أع��رف كيف ا�ستخدم‬
‫القانون‪ ،‬ولكن ال �أ�ستطيع �أن �أ�شخ�ص �أ�شكال الوجود على �ضوئه‪.‬‬
‫�أ�ستطيع �أن �أعرف �أن في الوجود �أكثر مما ينطبق عليه الجاذبية‪،‬‬
‫ولكن ال �أعرف �أكثر من ذلك‪.‬‬
‫�إ�شكال �آخر على ما �أدعيه هو �أن الأثر ال�صادر عن �أمر يتجان�س‬
‫مع ذلك الأمر‪ .‬ف�إذا �صدرت «�س» من «�ص» فهذا يوجب �أن بين «�س»‬
‫و»�ص» تجان�س في الطبيعة‪� .‬أو بعبارة �أخرى كل حقيقة ي�صدر عنها �أثرا‬
‫مالئما لها‪ .‬والعالقة ال�سببية تفتر�ض تجان�س ًا بين ال�سبب والم�سبب؛‬
‫‪120‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫بين الحقيقة والأثر ال�صادر‪ .‬ف�إذا كان لدي �آثار مختلفة فهذا يعني �أن‬
‫لدي حقائق مختلفة‪� .‬أو يعني ب�أن لدي طبائع مختلفة‪ .‬وبالتالي يمكن �أن‬
‫يكون كالم من ي�ؤمن بالثنائية ال�صارمة �صواب ًا‪ .‬وهذا �إ�شكال حقيقي‬
‫وقوي‪ .‬وال �أعرف كيف �أتعامل معه‪ .‬م�شكلتي �أنني �أ�شعر بالوحدة في‬
‫ذاتي‪ .‬ف�إذا وجدت «طبائع» متفاوتة فيني فهي موجودة بطريقة ال تنفي‬
‫�شعوري بالوحدة‪ .‬م�شكلة �أخ��رى هي �أن الت�شكيك ب�شعوري بالوحدة‬
‫ي�ؤدي �إلى الت�شكيك ب�أي معرفة‪ .‬ف�أنا ممكن �أن �أخطيء في �أمور كثيرة‪،‬‬
‫و�أتوهم �أمورا كثيرة‪� .‬أرى القريب �صغير ًا‪ ،‬في حين �أنه كبير‪� .‬أتوهم �أن‬
‫رجال يم�شي في حين �أنه �ضباب �أو �سراب‪ .‬ولكن لو ت�أملنا لوجدنا �أن‬
‫في هذه العمليات هناك خطوتين‪ .‬الخطوة الأولى �أن ي�صل �إلى ذهني‬
‫�شيء ما‪ ،‬والثاني �أن �أعرف ما في ذهني‪� .‬أنا ال �أخطيء في الثانية‪.‬‬
‫�أنا ال �أخطئ في معرفة ما في ذهني‪ .‬الخط�أ �إنما يح�صل في الأولى‪.‬‬
‫ولذلك ال يمكن �أن �أخطيء �أو �أ�شكك في معرفة ذهني بنف�سه و�إال‬
‫�شككت في كل الأم��ور‪ .‬ال يمكن �أن �أ�شكك ب�شعوري بالوحدة الذاتية‪.‬‬
‫هذه الم�شكالت تجعلني غير قادر على قبول الثنائية المح�ضة بالرغم‬
‫من وجود ما يدعم موقفها‪ .‬ف�إذا كنا ذات طبائع متعددة فال بد من‬
‫التوفيق بين هذا وبين �شعورنا بالوحدة‪.‬‬
‫وبناء على هذه الوحدة الممتدة هناك وحدة في الوعي وبالتالي‬
‫وحدة في الحاجة والمكانة‪ .‬فكل حاجاتنا المختلفة هي حاجة للذات‬
‫الواحد‪ ،‬ولي�س حاجة لبعد دون �آخر‪ .‬فالحاجة �إلى الأخالق هي حاجة‬
‫‪121‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫لي �أنا‪ ،‬ولي�ست حاجة لروحي‪ .‬والحاجة �إلى الطعام هي حاجة لي �أنا‬
‫ولي�ست حاجة لج�سدي‪ .‬وكذلك ال يوجد ما هو �أح�سن وما هو �أ�سو�أ‪.‬‬
‫فكرة ال�سمو والدنو غير موجودة هنا‪.‬‬
‫و�أبعادنا المتعددة تتدرج بين ما ن�سميه الروح �إلى ما ن�سميه‬
‫الج�سد‪ .‬و ح��د ٌة ممتد ٌة بين ُبعد غير فيزيائي و �آ خ��ر فيزيائي‪.‬‬
‫ا ل��روح هنا لي�ست منقطعة عن الج�سد‪ ،‬وال الج�سد غريب عن‬
‫الروح‪ .‬هما طرفان لأمر واحد ممتد‪ .‬وهذا االمتداد من خارج‬
‫العالم المادي �إلى داخله‪ .‬فوجود حرية االختيار المطلقة يعني‬
‫�أ ن��ن��ي م��و ج��ود خ��ارج ال��ن��ظ��ام ال��م��ادي‪ .‬ووج���ود ج��زء مني مقيد‬
‫بنظام ا ل��م��ادة يعني �أن��ي �أي�ض ًا موجود داخ��ل النظام المادي‪.‬‬
‫�أنا في العالم الفيزيائي وخارجه‪ .‬وهذا يجعلني �أتخيلني على‬
‫�أنني �شيء ذات بعد واح��د ممتمد من خ��ارج العالم الفيزيائي‬
‫�إلى داخله‪ ،‬متدرج في اال�ستقالل عن العالم وفي الوقت نف�سه‬
‫متدرج في الت�أثير عليه والت�أثر به‪ .‬امتداد مت�صل ك�ضوء يبد�أ‬
‫من نقطة المعة وينتهي بنقطة دام�سة‪.‬‬
‫�أي تق�سيم ل��ه��ذا االم��ت��داد �أو و���ض��ع ح���دود ل��ه ف��ي وج��وده‬
‫الممتد �سيكون اعتباطيا ولي�س قائما على وجود نقاط انف�صال‬
‫حقيقية‪ .‬وعندما �أق�سمه ف�إنني �ساقوم بما نقوم به حين نق�سم‬
‫�ألوان الطيف‪ .‬ف�ألون الطيف تبد�أ بلون وتنتهي ب�آخر وبين اللونين‬
‫�ألوان ال نهائية‪ .‬ولكننا نق�سمه �إلى عدد محدود من الألوان بالرغم‬
‫‪122‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫من وجود الماليين منها‪ ،‬ونر�سم ح��دود ًا بين لون و�آخ��ر بالرغم‬
‫من ع��دم وج��ود ذل��ك الحد في ال��واق��ع‪ .‬والتق�سيم والحد لأل��وان‬
‫الطيف خا�ضعان لثقافاتنا لي�س �إال‪ .‬فهناك ثقافات تق�سمه �إلى‬
‫�سبعة �أو �ستة �أو خم�سة �أل��وان‪ ،‬وكل ذلك ال ي�ستند في ذلك �إلى‬
‫واقع فيزيائي معين �أو �إلى اختالف فيزيولوجي في العين و�إنما‬
‫�إلى تنوع ثقافي وح�ضاري يجعل بع�ضنا يلتفت �إلى الفروقات بين‬
‫بع�ض الألوان ويجعل غيرنا يهمل تلك الفروقات‪ .‬وفي الواقع ف�إن‬
‫اغلب تق�سيمات ال��وج��ود لدينا هي تق�سيمات ثقافية‪� .‬أن��ت الآن‬
‫تقر�أ فتق�سم الورقة �إلى م�ساحة بي�ضاء و�أخرى فيها خطوط‪ .‬ولو‬
‫كان هناك خطوط على الورقة لق�سمتها �إلى م�ساحة بي�ضاء وخط‬
‫مكتوب وخطوط‪ .‬ولكن طريقة التق�سيم يقوم بها العقل بناء على‬
‫ثقافة ما‪ .‬لما ي�شترك �أحدنا في موقع ف�إنه ي�أتيه حروف مكتوبة‬
‫بطريقة م�شوهة وبين مجموعة من الخطوط‪ .‬الذي يعرف لغة تلك‬
‫الخطوط �سيعرف كيف يميز بين الخرابي�ش وبين الحروف‪ ،‬ومن‬
‫ال ف�إنه �سيراها كلها مع ًا‪ .‬ولو �أتيت ب�صورة فوتغرافية لمكان غريب‬
‫عن ثقافة ما‪ ،‬ف�إن الم�شاهد لها قد ال ي�ستطيع �أن يميز بين ما في‬
‫ال�صورة‪ .‬لو فيها طاولة وعلى الطاولة هاتف وعلى الطاولة ر�سمة‪.‬‬
‫ف�إن من يعرف الهاتف �سيراه منف�صال عن الطاولة ومن ال يعرف‬
‫الهاتف �سيعتبره لطخة على الطاولة‪.‬‬
‫وكذلك عندما ننظر �إلى �أنف�سنا نت�صور �أج��زاء ًا فينا‪ ،‬ون�ضع‬
‫‪123‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫بينها ح��دود ًا كل ذلك ح�سب ثقافتنا والح�ضارة التي ننتمي �إليها‪.‬‬


‫فعندما �أقول �إننا روح ونف�س وج�سد فهذا ر�سم لحدود بين الوحدة‬
‫الممتدة التي ت�شكلنا لي�س �إال‪ .‬ولكن هذا �أمر غير الحديث عن كون‬
‫لها طبائع مختلفة‪.‬‬
‫فمثال ممكن ان �أقول �إن الروح تنتمي �أو هي �إ�شارة �إلى ال ُبعد‬
‫الم�ستقل عن الت�أثر المطلق عن َمنْ وما حوله‪ .‬والج�سد ف�إ�شارة �إلى‬
‫البعد المت�أثر مطلق ًا بما ومن حوله فيخ�ضع تمام ًا لما حولنا بحيث‬
‫ال يمكن له �أن ي�ستقل مهما ك��ان‪ .‬وفي الو�سط نجد النف�س التي‬
‫لديها ا�ستقالل ن�سبي‪ .‬م�ساحة بين الأمرين‪ ،‬ولكن لها جهتين‪.‬‬
‫جهة مفتوحة على ال��روح‪ .‬وجهة مفتوحة على الج�سد‪ِ .‬من جــهة‬
‫انفت ــاحها على ال��روح فلديها قابلية اال�ستقالل واالن�سجام مع‬
‫الروح ب�شكل كامل‪ .‬ومن جهة انفتاحها على الج�سد فلديها ق ــابلية‬
‫الت ـ�أثر بمـا في العالم من حولنا‪ .‬وهذه الخا�صية تجعلها و�سيط ًا‬
‫بين الروح وبين العالم‪ .‬والحفاظ على هذه الخا�صية ي�صبح مطلب ًا‬
‫�أخالقي ًا ‪.‬‬
‫ف�أنا افتر�ضت �سابق ًا �إنه بقدر ما ي�ستقل ُبعد عن الت�أثر بقدر ما‬
‫يبتعد عن الت�أثير‪ ،‬والروح م�ستقلة عن الت�أثر من العالم الفيزيائي‪،‬‬
‫ولذلك ت�أثيرها معدوم‪ .‬و�أما النف�س فبين الأمرين‪ .‬فهي من جهة‬
‫قابلة للت�أثر وبالتالي قادرة على الت�أثير‪ .‬وهي من جهة �أخرى ال تت�أثر‬
‫ذاتي ًا و�إنما بح�سب ما ُعودت عليه‪.‬‬
‫‪124‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ويمكن و�ضع هذا على نحو‪:‬‬


‫ا�ستقالل المطلق – ا�ستقالل الن�سبي – خ�ضوع ن�سبي – خ�ضوع مطلق‬
‫ـ الــجـ�ســــد‬ ‫النف�س‬ ‫ـ‬ ‫الروح‬
‫فالروح تعمل في النف�س‪ ،‬والنف�س تعمل بدورها في الج�سد‪.‬‬
‫والج�سد ي�ؤثر على النف�س‪ ،‬والعك�س بالعك�س‪ .‬كما �إنَّ الج�سد ي�ؤثر ويت�أثر‬
‫بالعالم‪ .‬وتبقى الروح م�ؤثرة غير مت�أثرة‪ .‬والت�أثير لم يكن باتجاه واحد‪،‬‬
‫فقدرتنا على الت�أثير في العالم فتحت نافذة مفتوحة من الجهتين‪:‬‬
‫ف�صرنا نفعل في العالم و�صار هو يفعل فينا �إلى درجة �أن ا�ستقاللنا‬
‫الن�سبي على م�ستوى النف�س قد ي�صبح خ�ضوع ًا ن�سبي ًا‪.‬وهذا يحقق لنا‬
‫عالقة متوازنة بالعالم‪ .‬فكون عالقات الت�أثير والت�أثر تقوم على ت�شابه‬
‫بين الم�ؤ ِّثر والمت�أ ِّثر يعني �أن الج�سد الأقدر على الت�أثير عليه‪ ،‬و�أي�ض ًا‬
‫الأكثر ت�أثر ًا به ونحن ال ن�سيطر �إال على القليل القليل من ت�صرفاته‪ ،‬في‬
‫حين �أنه يت�أثر بكل ما حوله من نظام الأ�سباب‪ .‬في المقابل ف�إن الروح‬
‫�أقل ت�أثير ًا في العالم وت�أثر ًا به‪ .‬فال يمكن الت�أثير عليها من هذا العالم‬
‫صال وال يمكن لها �أن تعمل مبا�شرة على عالم خا�ضع ب�شكل مطلق‬ ‫�أ� ً‬
‫للأ�سباب والم�سببات المادية‪ .‬لذلك ف�إن ت�أثير الروح في العالم ال يكون‬
‫�إال بتو�سط م�ساحة النف�س‪.‬‬
‫ولكي ت�ستمر النف�س في خلق �صلة بين الروح وبين الج�سد‪ ،‬ف�إن‬
‫عليها ان تحافظ على خا�صيتها الثنائية‪� .‬أن يكون ق�سم منها �أقرب‬
‫�إلى الروح في �أنه فوق الأ�سباب �أو قليل الت�أثر بها‪ .‬و�أن يكون ق�سم‬
‫‪125‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫منها قريب �إلى الج�سد في الت�أثر‪ .‬ولكن �أحيانا يح�صل �أن تتعود �إلى‬
‫درجة ت�صبح النف�س وك�أنها �شبه ج�سد‪ .‬هذه الخا�صية تخلق احتمال‬
‫عزل روحنا بقطع ال�صلة بينه وبين النف�س‪ .‬فعالقة الت�أثير من الروح‬
‫�إلى النف�س تقوم على المبد�أ ال�سابق ذكره «من ال يت�أثر ال ي�ستطيع‬
‫�أن ي�ؤثر تمام ًا‪ ،‬ومن يت�أثر كلية ال ي�ستطيع �أن يت�صل بمن ال يت�أثر‬
‫مطلق ًا»‪.‬‬
‫فالنف�س لكي تت�صل بالروح والج�سد تحتاج �إلى توازن دقيق‪ .‬من‬
‫جهة تحتاج �إلى �أن ال ت�ستقل تمام ًا عن الت�أثير‪ ،‬ولكن من جهة �أخرى‬
‫تحتاج �إلى ال ت�صبح مت�أثرة كلية‪ .‬فكلما كان هناك تباين في الت�أثير‬
‫والت�أثر كلما �ضعفت العالقة بين ال��روح والنف�س‪ .‬فت�أثير ال��روح غير‬
‫المت�أثرة مطلق ًا يعتمد على درجة ا�ستقالل النف�س‪ .‬وكما �أن الروح ال‬
‫ت�ستطيع �أن ت�ؤثر في المادة ب�سبب البعد بين التوافق في اال�ستقالل‬
‫والخ�ضوع للأ�سباب‪ ،‬فكذلك لو ت َّدنى ا�ستقالل النف�س �إلى درجة بحيث‬
‫ت�صبح �أقرب �إلى الخ�ضوع ال ِّن�سبي ف�إن ت�أثير الروح فيها ي�ضعف كثير ًا‪.‬‬
‫معادلة معقدة‪ .‬فالنف�س من جهة تحتاج �إل��ى �أن تكون م�ستقلة لكي‬
‫ت�ستطيع التوا�صل مع الروح‪ ،‬ولكن في الوقت نف�سه ف�إنها تحتاج �إلى‬
‫تكون خا�ضعة لكي يمكنها التوا�صل مع الج�سد‪ .‬وتحقيق التوازن الذي‬
‫ُيعطي للنف�س عالقة متوازنة مع الروح ومع الج�سد هو من المع�ضالت‬
‫الإن�سانية‪.‬‬
‫وتر�سخت عاداتها بحيث ت�صبح �أ�شبه بع�ضو‬ ‫ولو اعتادت النف�س َّ‬
‫‪126‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫من �أع�ضاء الج�سد ف�إن الروح ت�صبح �شبه معزولة‪ .‬وعندما يح�صل هذا‬
‫ي�صبح �صدور بع�ض الأفعال عنا وك�أنها �أفعال انفعالية غير اختيارية‪.‬‬
‫لي�س بمعنى �أننا مجبرون عليها‪ ،‬ذلك �أن اعتياد النف�س ال ي�صل مطلق ًا‬
‫�إلى عزل الروح عنها مطلق ًا وبالتالي يبقى االختيار دائم ًا‪ ،‬فال يمكن‬
‫لأي فعل �أن ي�صدر عنا �إال ونحن قادرون على منعه‪ ،‬كما �إننا على الدوام‬
‫قادرون على فعل �أمور ما مهما اعتدنا على خالفها‪.‬‬
‫وت��ل��ك ال���ع���ادات تت�شكل ل��ع��وام��ل ع��دي��دة �أ���ش��ده��ا ال��ن��ظ��ام‬
‫االجتماعي وذلك من خالل و�سائل التربية والقهر والتجارب والتي‬
‫�سعت �إلى خلق عادات را�سخة من �أجل �أغرا�ض ال�سيطرة والفاعلية‬
‫االنتاجية‪ .‬والنتيجة كانت عزل ال��روح عن فاعليتها‪ ،‬لي�س عز ًال‬
‫مطلق ًا ذلك �أن الروح ال تفقد فعلها ولكن ي�صبح �أمر فعلها �أ�صعب‬
‫ب�سبب �أن النف�س اعتادت على اال�ستجابة الفورية �شبه الآلية بما‬
‫ي�شبه اال�ستجابة بين الأ�سباب والم�سببات مما يعيق قدرة الروح‬
‫على الت�أثير عليها‪.‬‬
‫الت�أمل في �سل�سلة الت�أثير والت�أثر بين الروح والنف�س وبين النف�س‬
‫وما حولها يعيننا على معالجة ظاهرة االغتراب الروحي الذي يح�صل‬
‫حين ي�شعر الفرد فينا �أنه فقد �أغلب دوره الت�أثيري على حياته‪ ،‬وابتعد‬
‫كثير ًا عن تحقيق حاجاته الأعمق‪ .‬وخير عالج هو ب�أن نقلل من القيود‬
‫التي ن�ضعها على �أنف�سنا‪ ،‬قيود التربية والأعراف والتقاليد‪ ،‬و�إطالق‬
‫النف�س في كل ما ال ي�ضر الغير‪ ،‬وفي كل ما احتمال �ضرره محدود على‬
‫‪127‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫النف�س‪.‬‬
‫�أما الت�أمل في بعدنا المتدرج في�ؤثر على وعينا ب�أنف�سنا ب�شكل‬
‫كبير‪ .‬فنحن نعي من �أنف�سنا الـ»�أنا الخال�صة»‪ ،‬م�صدر �شعورنا �أننا في‬
‫العالم وخارجه في �آن واحد‪ ،‬في العالم بما ن�ؤثر فيه‪ ،‬وخارج العالم بما‬
‫ن�ستقل عن ت�أثيره فينا‪� .‬أي�ض ًا نعي من �أنف�سنا الـ»�أنا المختلطة» المختلطة‬
‫بالم�ؤثرات من حولها‪� ،‬أو الأن��ا الخال�صة �إ�ضافة �إل��ى الأن��ا النف�سية‬
‫والج�سدية‪ .‬هي مختلطة لأننا نعي �أنف�سنا و�أج�سادنا من خالل ات�صالها‬
‫بغيرها‪ .‬فنعي النف�س لما تحب �أو تكره‪ ،‬نعيها بات�صالها بمو�ضوع حبها‬
‫�أو كرهها‪ .‬ونعي الج�سد لما يت�صل بغيره‪ ،‬نعيه من خالل نقطة االت�صال‬
‫الح�سية المبا�شرة للغير‪ .‬ولذلك فبقدر ما �أت�صل بالعالم ف�إنني في‬
‫الحقيقة �أت�صل ب�أبعاد مني �أنا ولكن �أحيان ًا يبتعد الوعي بحيث يكون‬
‫كله وعي بالأنا المختلطة‪ ،‬بل ي�صل �إلى �أن يكون فقط بالعالم وتغيب‬
‫الأنا وي�صبح حبي لزوجتي وعي بها ولي�س بي‪ ،‬وغ�ضبي من خ�صمي‬
‫وعي به ولي�س بي‪ ،‬ولم�سي لطاولة وعي بها ولي�س بيدي‪ ،‬ور�ؤيتي لفرا�شة‬
‫وعي بها ولي�س لعيني‪ ،‬و�شربي للماء وعي به ولي�س لل�ساني‪ ،‬و�سماعي‬
‫لنغمة وعي بها ولي�س لأذني‪.‬‬
‫وكما قلت �أو ًال هناك م�شكالت كثيرة يمكن طرحها على هذا‬
‫الت�صور‪� .‬أقلها �أنه كله افترا�ض قائم على ما ال �أعرف‪ ،‬ولي�س على ما‬
‫�أعرف‪.‬‬
‫م�شكلة �أخرى هي عالقتنا بالج�سد‪ .‬فنحن ال نجد �أنف�سنا �إال في‬
‫‪128‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫�أج�ساد‪ ،‬ولكن في الوقت نف�سه ممكن �أن يتغير ج�سمنا بغير �أن نتغير‬
‫نحن‪ .‬ينقطع بغير �أن ننق�ص‪ .‬فما نقول وقتها؟ هل الج�سد جزء من‬
‫هذا البعد الممتد؟ فلم ال يتغير وعينا ب�أنف�سنا بتغير ج�سدنا؟ �أمر �آخر‬
‫عالقتنا ب�أج�سادنا بعيدة‪� ،‬إلى درجة �أنها تعمل من دون عودة �إلينا‪.‬‬
‫فالقلب والدم والتنف�س هذه كلها ت�شتغل بغير �أن يكون لوعينا �أي دور‬
‫فيها‪ .‬الطبيب ممكن �أن يعرف عن ج�سمي �أكثر مما �أعرفه �أنا‪ .‬وهو‬
‫نف�سه ي�شتغل ج�سمه بغير حاجة �إلى وعيه‪.‬‬
‫م�شكلة اخ��رى هي ت�شخي�ص مو�ضع الم�شاعر فينا‪ .‬هل هي‬
‫نف�س؟ �أم م��اذا؟ ما هو الحب؟ ما هو الكره؟ ما هو الغ�ضب؟ ما‬
‫هو ال�شفقة؟ هذه الم�شكالت تدفعني �أحيانا لترك التق�سيم �أ� ً‬
‫صال‪.‬‬
‫والتعامل مع �أنف�سنا على �أنها وحدة‪ ،‬ثم محاولة فهم هذه الوحدة‬
‫بالطرق المختلفة‪.‬‬
‫وفي كل الأح��وال ف�أهم ما في الأم��ر هو الحفاظ على عن�صر‬
‫ال��وح��دة لأن��ه يقدم حلو ًال حتى �أخالقية‪ .‬فبمجرد ما �أت��ج��اوز فكرة‬
‫التعددية في الذات‪ ،‬ف�إنني على الأقل �أتعامل مع نف�سي وحاجاتها على‬
‫�أنها �شيء واحد‪ .‬لم يعد مكان هنا للحرب بين الروح والج�سم والنف�س‪.‬‬
‫لم يعد الحديث عن عن التوازن بين حاجات مختلفة‪ .‬بل �صار الحديث‬
‫عن التوازن بين عواقب مختلفة‪ .‬وهذا يغير من الذهنية الأخالقية‬
‫تمام ًا‪� .‬أنا �أريد الخمر‪ ،‬ولي�س ج�سمي مث ًال‪ .‬و�صراعي لي�س مع ج�سمي‬
‫و�إنما مع عواقب �أفعالي‪ .‬وبمجرد ما تتحول الأخ�لاق من �صراع مع‬
‫‪129‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫الذات �إلى تعامل مع العواقب ف�إن الذهنيات تتطور وتتغير‪.‬‬


‫وربما هذا �أهم نتيجة من بحث هذا الأمر‪ .‬محاولة �إزاحة فكرة‬
‫بغر�ض فتح �آفاق للتفكير‪ .‬وترك فكرة الثنائية يعمل هذا‪.‬‬

‫ب‪ .‬لنا قدرات علمية وعملية محدودة‬


‫مع �أن كل ما ذكرت �أو ًال بديهي ومعروف‪� ،‬إال �أن هذا �أظهر‬
‫و�أو�ضح‪ .‬فلم التعر�ض له؟ هذا يعيدني �إلى التذكير بغر�ض هذا‬
‫البحث‪� .‬إنه ال يقدم معلومات بقدر ما يحاول �أن يثير التفكير في‬
‫اتجاهات مختلفة تحقيقا لغر�ض واحد‪ .‬وتلك االتجاهات تختلف‬
‫عمق ًا وو�ضوحا وب�ساطة‪ .‬وه��ذا من الأم��ور الب�سيطة‪ ،‬ولكنه من‬
‫ال�ضروري التفكير فيه بقدر الإمكان‪ .‬لأنه على ظهوره يخفى علينا‪.‬‬
‫فمع �أن المحدودية تكاد تكون ال�سمة الأ�سا�سية لكافة �أبعاد وجودنا‬
‫�إال �أننا نعي�ش وك�أنها لي�ست كذلك‪ .‬نعم لدينا ق��درات مختلفة‪:‬‬
‫علمية‪ ،‬وفكرية‪ ،‬و�إبداعية‪ ،‬وفنية‪ ،‬ونف�سية‪ ،‬وج�سدية‪ ..‬ولكنها كلها‬
‫محدودة‪.‬‬
‫من وعينا ب�أنف�سنا‪� ،‬إلى معرفتنا بالعالم من حولنا عبر نظام‬
‫الأ�سباب والم�سببات‪ .‬فال ن�ستطيع �أن نعلم كل �شيء‪ .‬كما ال ن�ستطيع‬
‫�أن نعمل كل �شيء‪ .‬في مراحل حياتنا الأول��ى ف�إننا نكون عاجزين‬
‫وبحاجة �إلى رعاية تامة من البالغين‪ ،‬وفي الحياة المتو�سطة ف�إننا‬
‫نواجه ق�ضايا �أكبر بكثير من قدراتنا ومعارفنا‪ ،‬وفي �آخر حياتنا‬
‫‪130‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ف�إننا نعود �إلى عجز ن�سبي مع وعي عال بعجزنا‪ .‬وفي �أح�سن �أحوالنا‬
‫ف�إن �أج�سامنا تتطلب �أم��ور ًا خارجة عنها لكي تحافظ على بقائها‬
‫وتزيد من نموها مثل الطعام وال�شراب والم�سكن‪ .‬كما �إننا نمر�ض‬
‫ونت�ألم ونهرم ونموت‪ .‬وهذه كلها من مظاهر المحدودية فينا‪� .‬أنف�سنا‬
‫�ضعيفة في مقابلة الأحزان والتحديات‪ .‬نحزن ونغ�ضب ونحب ونكره‬
‫ونخاف وننفر‪ .‬وال فرق بين �سبب تافه و�آخر في ت�أثيره على حياتنا‪.‬‬
‫فل�شدة ه�شا�شة وجودنا ف�إننا قد نتلف من انزالقة �أو من جرثومة‬
‫�صغيرة �أو من خط�أ تافه كالتفاتة في غير محلها �أو �سهو �أو غفلة‬
‫�أو جهل لأمر ب�سيط‪ .‬لي�س كذلك فح�سب بل نحن تحت رحمة �آالف‬
‫الأ�سباب التي ال نملك ال�سيطرة عليها‪ ،‬و�آالف الأ�سباب التي ال يمكن‬
‫توقعها‪ ،‬وال يمكن توقع نتيجة تفاعالتها‪.‬‬
‫ولعل �أخطر مظاهر المحدودية فينا هي �سهولة وقوعنا في مزلة‬
‫فعل ال�شر والظلم للآخرين‪ .‬خ�صو�صا ال�شر والظلم ال��ذي ال يمكن‬
‫تجنبهما‪ .‬بل من �أ�صعب ما نواجه �ضرورة �إيالم البع�ض من �أجل البقاء‬
‫�أو من �أجل نفع ذلك المت�ضرر‪ .‬هل يمكن التربية بغير توبيخ �أو �إيذا‬
‫الطفل �أيا كان االيذاء؟ وهل يمكن تحرير نا�س بغير �إيذاء �آخرين؟ وهل‬
‫يمكن مواجهة مجرم بغير التحول �إلى مجرم ولكن مجرم م�شروع؟‬
‫وهل يمكن معالجة مري�ض نف�سي بغير حجزه؟ وهل يمكن العي�ش بغير‬
‫قتل حيوان؟‬
‫ثاني ًا‪ :‬لنا َّ‬
‫لذات وكماالت وحاجات ذاتية كما لنا غرائز‬

‫‪131‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫مفهوم اللذة من المفاهيم التي ي�صعب تعريفها لكونها تتناول‬


‫م�س�ألة ذاتية غير مو�ضوعية‪ .‬فلو كنا نريد تعريف البرودة با�ستخدام‬
‫تقييمنا ال�شخ�صي الختلفنا في تحديد البارد والحار والمتو�سط‪.‬‬
‫ولكن لوجود معاير مو�ضوعية م�ستقلة �صار يمكننا االت��ف��اق على‬
‫تحديد مقيا�س للحرارة وترك تقييم الحرارة والبرودة لكل �شخ�ص‪.‬‬
‫ولكن اللذة ذاتية و�شخ�صية تمام ًا‪ .‬وال يوجد �إلى الآن على الأقل ما‬
‫يمكن �أن يقي�س اللذة‪.‬‬
‫وكلنا يعرف ما هي اللذة وكلنا يتكلم عن اللذة مع بع�ضنا وك�أننا‬
‫نفهم من الآخر ما يريد �أن يقول‪ .‬فالذي يقول لي هذا لذيذ يتحدث عن‬
‫تجربة �شخ�صية في داخله ولكن مع ذلك �أ�ستطيع �أن �أفهم ما يريد‪ .‬ال‬
‫�أ�ستطيع �أن �أ�شعر بما ي�شعر‪ ،‬ولكن قد �أ�سعد له‪ .‬و�إذا تحدث �إنه يت�ألم‬
‫قد �أحزن له‪ ،‬و�إن كنت في الحالتين ال �أقترب �إلى تجربته مطلق ًا‪ ،‬و�إنما‬
‫�أفهمها و�أقارنها بتجربتي �أنا‪.‬‬
‫الكماالت هي ما يمكن �أن ن�صل �إليه‪ .‬فنحن يمكن �أن نكون‬
‫اكثر مما نحن عليه نوعي ًا ولي�س كمي ًا‪ .‬نحن نتحول ونتغير ويمكن �أن‬
‫نحقق ذوات ًا لم تكن موجودة‪ ،‬ولكل ذات هناك لذات �أخرى‪ .‬على �سبيل‬
‫المثال �س�آخذ الفن مرة �أخرى‪� .‬إذا كنت �أرى �أن الإن�سان له كماالت‬
‫فيمكن القول �إن تذوق الفن بطريقة ما هو انعكا�س لتحول في الذات‬
‫بحيث �صارت تدرك الفن بطريقة مختلفة‪ .‬و�إذا كنت �أرى هذا ف�إنه‬
‫حينها �س�أعمل على ا�ستك�شاف تلك الأبعاد المختلفة و�أخرجها من حال‬
‫‪132‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫الكمون �إلى حال الفعل‪.‬‬


‫الغرائز هي البرمجات التي عليها �أج�سامنا‪ ،‬مثل الجوع عند‬
‫نق�ص الغذاء‪ ،‬واالنفعال حال �إدارك الخطر‪ ،‬واالنجذاب عند ر�ؤية نوع‬
‫مقابل‪.‬‬
‫الحاجة لي�ست �أمر ًا م�ستق ًال‪ .‬و�إنما هي الوعي بفرق‪ .‬وعي بلذة‬
‫�أو كمال غير متحقق �أو غريزة غير م�شبعة �أو ربما �أ�ضيف �أي�ض ًا الوعي‬
‫بما ي�صرف ال�شر �أو يديم البقاء‪ .‬وبح�سب الفرق بين الحال وبين‬
‫ما يتم الوعي به تكون الحاجة �شديدة �أو خفيفة‪ .‬لذلك ف�إن الحاجة‬
‫مرتبط بالمعرفة‪ .‬فمن ال يعرف �أنه يحتاج �إلى �شيء‪ ،‬لن ي�شعر بها‪.‬‬
‫ولأن كماالتنا كامنة ففي كثير من الحاالت ال نعرف �أننا بحاجة ل�شيء‬
‫�إال لما ينتقل المرء �إلى مرحلة وجودية مختلفة يكون فيها ذلك الكمال‬
‫بارز ًا‪ .‬هذا يخلق مع�ضلة في كيفية �إقناع من ال ي�شعر بالحاجة ل�شيء‬
‫�أنه قد ي�ستفيد من ذلك ال�شيء‪.‬‬
‫وك��ون الحاجة حالة وع��ي وكونها مرتبطة ب����إدراك الفرق هو‬
‫م�صدر قوة ال�شركات التي تعمل على الت�سويق‪ .‬فغر�ضها �أوال خلق وهم‬
‫ال�شعور بالحاجة‪.‬‬
‫والوعي مق ِّوم �أ�سا�سي في تعريفات اللذة والكمال والحاجة وفي‬
‫تمييزها عن الغريزة‪ .‬والفعل الخالي من الوعي لن يحقق َّلذة‪ ،‬والفعل‬
‫الذي يقترن به وعي �سلبي لن يحقق لذة‪ .‬قد ُي�شبعا غريزة ولكن �إ�شباع‬
‫الغريزة غير تحقيق اللذات �أو الو�صول �إل��ى الكماالت‪ .‬مث ًال الأك��ل‬
‫‪133‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫غريزة‪ .‬ويمكن �أن �أ�شبع بغير �أن التذ كما يمكن �أن �آكل بغير جوع‪ .‬مث ًال‬
‫�آكل وانا ا�شاهد فيلم ًا �أو مندمج ًا في حديث بحيث ال �أدري ما �آكل‪،‬‬
‫ال �ألتذ به‪ .‬بل عندما ينقطع التركيز و�ألتفت �إلى الأكل �أبد�أ �أنتبه �إلى‬
‫لذة الطعام �أو �إلى عدم لذته‪� .‬أو �آكل بغير جوع‪ ،‬لمجرد تجربة طعام‬
‫ما‪ ،‬فالأكل هنا غير غريزي ولكن هناك التذاذ‪ .‬فااللتذاذ ال يتحقق �إال‬
‫بالوعي �أي با�ستح�ضار التفكير في حال الأكل‪ .‬ولذلك توجد م�سافة بين‬
‫بين �إ�شباع الغريزة وبين اللذة‪ ،‬م�سافة يخلقها الوعي بالفعل‪.‬‬
‫وقد نجد حدث ًا واحد ًا ذا �أثر مختلف تمام ًا باختالف نوع الوعي‬
‫المقارن لها‪ .‬لم�س عدو له �أثر يختلف عن لم�س حبيب مع �أن الفعل من‬
‫جانبه الح�سي واحد �إال �أن ما رافقهما من لذة �أو نفور اختلف باختالف‬
‫الوعي‪.‬‬
‫ول��و ت�أملنا في الغريزة ونظرنا �إليها من غير اعتبار لوعينا‬
‫لوجدنا �أن �إ�شباعها ب�شكل كامل لي�س م�شكلة‪ .‬الم�شكلة في كون اللذة‬
‫تابعة للوعي الذي يح ِّول الغريزة الب�سيطة المحدودة بحدود الإ�شباع‬
‫المادي �إل��ى �أم��ر معقد محدود بحدود الخيال الإن�ساني‪ .‬مما يعني‬
‫�أن ج��زءا كبيرا من ان�صرافنا نحو �إ�شباع غرائزنا هو في الحقيقة‬
‫ان�صراف نحو �إ�شباع وعينا‪ .‬ولأنَّ قدر ًا كبير ًا من متعتنا يعتمد على نوع‬
‫الوعي المرافق للفعل ف�أغلب ان�سياقنا ال�شرهي للذات التي ت�أتي من‬
‫الح�س تابع لخيالنا ولي�س لغريزتنا‪ ،‬لي�س لأمر طبيعي َخ ْلقي فينا و�إنما‬
‫لأمر نخلقه‪ .‬وهذا يعيدني �إلى مو�ضوع الت�سويق الذي ذكرته �أو ًال والذي‬
‫‪134‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫يلعب على هذا الوتر لخلق حاجات غير موجودة‪� ،‬أو لت�ضخيم حاجات‬
‫�أخرى‪ .‬لذلك فما ن�سمعه �أحيان ًا من االن�سياق لل�شهوات �أو للغرائز هو‬
‫في الواقع ان�سياق للخيال والوعي‪ .‬وبالتالي فالعالج لي�س كبت ال�شهوات‬
‫�أو �إدارة الغرائز بقدر ما هو معالجة للوعي والخيال‪.‬‬

‫لذاتنا وكماالتنا‬
‫بناء على م�شاهدات �شخ�صية وعلى �أبحاث من �آخرين �أت�صور‬
‫�أن ما يلي ي�شمل �أهم اللذات والكماالت الإن�سانية‪ :‬االرتباط مع موجود‬
‫مطلق؛ االرتباط مع الخلود والأبد؛ المعرفة؛ تجل وجودنا في الحياة‬
‫بالعطاء والإب��داع؛ ال�شعور بالجمال والتعبير عنه؛ الترابط الب�شري‬
‫العام؛ الترابط الب�شري الحميم؛ الممار�سة الأخالقية‪ ،‬تجل وجودنا‬
‫في الحياة بال�سيطرة عليها‪ ،‬البقاء المطلق‪ ،‬واللعب‪ .‬واللذة الأ�سا�سية‬
‫والحاجة التي تكاد تكون خلف كل لذة و�أ�سا�س لكل حاجة هي �إثبات‬
‫وت�أكيد وزي��ادة وجودنا‪ .‬وفيما يلي تف�صيل لبع�ض �أبعادها المختلفة‬
‫و�سلوكياتها المقترنة مع مالحظة �أنه لي�س الغر�ض تقديم عر�ض علمي‬
‫ومف�صل لكل حاجة وب�شكل دقيق‪ .‬و�إنما �إث��ارة التفكير حولها بحيث‬
‫نتقدم في البحث في �أجواء هذا‪ .‬ولي�س �ضروريا �أن �أ�صيب �أو �أن �أتفق‬
‫معكم و�إنما �أن �أثير‪ ،‬كما ال �أتوقع �إال �أن �أ�شارك في �أفكار ظاهرة وغير‬
‫�شاملة وتكتمل �أو ت�صحح من قراءة القارئ‪:‬‬
‫البقاء المطلق‪ :‬هذه �أول الحاجات و�أظهرها فينا‪ .‬ف�أن نحافظ‬
‫‪135‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫على وجودنا حاجة �أ�سا�سية‪ ،‬وخا�صة وجودنا المادي‪ .‬وفي كثير من‬
‫الحاالت تطغى هذه الحاجة على غيرها من الحاجات التي �سي�أتي ذكرها‬
‫بحيث ُتخت�صر حياة واحد منا في البحث عن البقاء‪ .‬ولما تقترن هذه‬
‫الحاجة بوعينا لمحدوديتنا وب�إدراكنا لطبيعة العالم الفو�ضوي ف�إنها‬
‫تخلق فينا توتر ًا �شديد ًا‪ ،‬وتبرز فينا نزعات ال�سيطرة‪ ،‬وتخلق نظام ًا‬
‫�أخالقي ًا خا�ص ًا بها‪ .‬كل هذا بقدر ما ندرك فو�ضوية العالم من حولنا‪.‬‬
‫فكلما وعينا لمحدوديتنا كلما �شعرنا بعجزنا عن تحقيق هذه ب�شكل‬
‫متوا�صل وهذا ي�ؤدي �إلى ال�سعي على اال�ستحواذ ما �أمكن‪ .‬وال�سيطرة‬
‫و�سيلة لهذا اال�ستحواذ‪ .‬وكلما زاد �إدراكنا للفو�ضى من حولنا زاد قلقنا‬
‫�أي�ض ًا لأن الفو�ضى تعيق قدرتنا على التنبوء والتوقع مما يزيد من وعينا‬
‫بالعجز العلمي الذي نحن فيه‪ .‬وعندما ت�شتد نزعات ال�سيطرة ف�إنها‬
‫ت�أخذ �شكلين‪� .‬أحدها �سعينا ل�سيطرة على غيرنا‪ ،‬والأخ��رى قبولنا‬
‫ل�سيطرة غيرنا علينا لما يمنحه ذلك من ا�ستقرار نحن بحاجة �إليه‪.‬‬
‫نحن نريد �أن نقدر على التوقع لنقلل من �أثر العلم المحدود‪ ،‬والنظام‬
‫�سبيل �إلى ذلك‪ ،‬وهو ي�أتي من خالل ال�سيطرة‪ .‬بل هذه ت�ؤثر على وعينا‬
‫بذاتنا بحيث ي�صل الحال �أن ال ندرك من �أنف�سنا �إال حاجة البقاء ونهمل‬
‫الحاجات الأخرى‪ .‬فالوعي يت�شكل ح�سب ما يركز عليه‪ .‬ومع�ضلة هذه‬
‫الحاجة �أنها ال ت�شبع �أبد ًا بل ت�ستمر وت�ستمر وتدفع الإن�سان دفع ًا نحو‬
‫ال�سيطرة والتخلي عن حريته‪ .‬بل تدفع �أي�ض ًا نحو نظام �أخالقي �شر�س‬
‫�إلى حين ي�صل يدمر المجتمع نف�سه‪ .‬لأن الأخالق التي يختارها الإن�سان‬
‫‪136‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫تتعلق �إلى حد كبير بالم�ساحة المتاحة لالبتعاد عن هذه الحاجة‪ .‬فكلما‬


‫وجدت الم�ؤ�س�سات التي تقلل من حاجة الإن�سان لرعاية نف�سه �شخ�صيا‬
‫كلما تعززت هذه‪ .‬فالعي�ش في هذا الم�ستوى يعزز من قيمة االنتقام‬
‫مثال ال�سلبية ولكن �أي�ض ًا من قيمة الحلم الإيجابية‪ .‬ال يعني �أن هذه‬
‫غير مهمة ولكنها في �سياقات �أخرى يكون لها قيمة مختلفة‪ .‬وعالقة‬
‫الأخالق بالنظام االجتماعي مهمة‪ .‬فقدرة ممار�سة �أخالق تعتمد على‬
‫توفير الحد الأدنى من الأمان الجماعي‪ .‬وبقدر ما يتوفر هذا بقدر ما‬
‫يمكن تطوير نظام �أخالقي مالئم لإن�سانيتنا‪ .‬ولذلك فالمدنية �شرط‬
‫لهذا‪ .‬بل هي �شرط تكون الوعي �أ� ً‬
‫صال‪.‬‬
‫االرتباط مع موجود مطلق‪ :‬مطلق القدرة‪ ،‬مطلق العلم‪ ،‬مطلق‬
‫الح�ضور‪ ،‬مطلق الحكمة‪ ،‬مطلق العدل‪ .‬وهذا يكاد يكون من الم�سلمات‬
‫بين جميع الأديان وطائفة كبيرة من الفال�سفة‪ .‬والبع�ض يف�سر به ن�شوء‬
‫الأدي��ان وفكرة التقدي�س‪ .‬والخالف هو في تحديد من �أو ما هو هذا‬
‫المطلق؟ وما �صفاته؟ وهل يريد منا �شيئ ًا؟ وكيف يمكن معرفته؟ وكيف‬
‫يمكن االرتباط به؟ ‪� ...‬إلخ من الأ�سئلة‪ .‬ولكن كما قلت �أوال ف�إن بع�ض‬
‫الحاجات مختلف عليها‪ .‬والبع�ض يجادل في حقية هذه الحاجة‪ ،‬وهل‬
‫هي فعال موجودة‪� .‬أم �أنها وهم‪ .‬والبع�ض يرى �أن الأديان لكي تحافظ‬
‫على قيمتها بين النا�س تحاول �أن تديم هذا الخطاب الذي يدعي وجود‬
‫هذه الحاجة‪ .‬لعل �أقرب حاجة �إلى هذه هي الحاجة الى الفن واالندماج‬
‫مع ان��واع منه مثل المو�سيقى‪ .‬مما يوحي ب�أن فينا ما يريد االت�صال‬
‫‪137‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫ب�شيء ال حدود له‪ .‬والمو�سيقى تقدم هذا كما تقدمها كثير من الفنون‬
‫الذي تخلق تلك االيحاءات‪ .‬ال يعني هذا �أن المطلق موجود‪ .‬فالحاجة‬
‫�إلى �شيء لي�ست دلي ًال على وجود ذلك ال�شيء‪.‬‬
‫االرتباط مع الخلود والأب��د‪ :‬هذه اي�ضا حاجة عليها جدل‪.‬‬
‫فحين �أقول �أنا �إن الأن�سان يحتاج �أن يرتبط بالأبد في المقابل �أجد من‬
‫ينفيها تماما‪ ،‬ويعتبرها حاجة مختلقة من ِقبل الم�ؤ�س�سة الذينية لت�سويغ‬
‫ا�ستمرارها لأن �أهم محفز للتدين يكاد يكون �إدارة الحياة بعد الموت‪.‬‬
‫الدين يكاد يكون الجهاز الذي ي�أتي ليوفر للإن�سان فل�سفة للبقاء بعد‬
‫الموت‪ .‬ولكن �أت�صور �أن الحاجة �أ�صيلة وكون الأديان �أو بع�ضها لعبت بهذه‬
‫الحاجة لم�صالحها ال يعني �أنها غير موجودة‪ .‬بل نكاد ندرك من حالنا‬
‫�أننا �أبد ِّيون وال ن�شعر �أن الفناء يمكن �أن يطالنا بالرغم من اليقين ب�أننا‬
‫�سنموت ومن م�شاهدة الماليين تموت يومي ًا‪ .‬نعلم �أن وجودنا عار�ض‬
‫غير �ضروري‪ ،‬ولكن ال ن�شعر �أننا �سنفنى‪ ،‬ونريد البقاء �إلى ما ال نهاية‪.‬‬
‫وكلنا ي�����س���أل نف�سه م���اذا ب��ع��د؟ ح��ي��اة �أخ����رى؟ �أم ع���ودة متوا�صلة‬
‫�إل��ى ه��ذه ال��ح��ي��اة؟ وكيف �سيكون ال��خ��ل��ود؟ وم��ا ن��وع عالمه؟ وكيف‬
‫ي��م��ك��ن االرت���ب���اط ب���ه؟ وال �أن��ف��ي وج����ود ال��ك��ث��ي��ر م��م��ن ال ي��ف��ك��ر في‬
‫ال��خ��ل��ود �أو ال��ب��ق��اء ب��ه��ذا ال�شكل‪ ،‬ول��ك��ن ال ي��وج��د �أو ال ي��ك��اد يوجد‬
‫م��ن ال يهمه �أم���ره بعد ال��م��وت‪� .‬أو ال ينجذب لفكرة خ��ل��ود ا�سمه‪.‬‬
‫وتتجلى هذه الحاجة في حياتنا اليومية بطرق مختلفة‪� .‬أبرزها �سعينا‬
‫للقيام ب�أعمال باقية دائمة �أو البحث عن ال�شهرة؛ �أو �إحياء ذكرى من‬
‫‪138‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫فقدناهم ِمن خالل المرا�سم وال�شعائر االجتماعية‪ .‬كل هذه الأعمال‬


‫محاوالت للبقاء بطرق مختلفة‪ .‬البحث عن ال�شهرة محاولة في ا�ستمرار‬
‫الوجود في ذكريات الآخرين‪ .‬وربما يقول �أحد �إنها و�سيلة للح�صول‬
‫على حاجات �أ�سا�سية‪ .‬فال�شهرة هي فقط �أداة للو�صول �إلى ما لدى‬
‫الآخرين‪� .‬أو �إن ال�شهرة جزء من الأمان الذي ي�شعره االن�سان من االنتباه‬
‫المتوا�صل‪ .‬وهذا �صحيح‪ .‬ولكن هذا ال يلغي كونها حاجة م�ستقلة و�شعور‬
‫من نوع م�ستقل‪ .‬وقد نجادل ونقول �إن ال�شهرة �أ� ً‬
‫صال ال عالقة لها بالخلود‪.‬‬
‫�أي ًا كان‪ ،‬فهذه الحاجة قد ت�ؤدي �إلى �أزمات في الذات‪� ،‬أو في ذات من‬
‫يعي�شها ب�شدة‪ .‬فعندما �أعي �أن وجودي في هذه الحياة محدود جد ًا‪،‬‬
‫و�أع��ي محدودية الحاجات التي يمكنني ان �أحققها‪ ،‬و�أع��ي ق��در ما‬
‫يفوتني في هذه الحياة‪ ،‬ثم �أعي �أن حاجتي للأبد غير متناهية‪ ،‬ف�إن‬
‫هذه كلها معا تولد �شعور ًا بالإحباط ال�شديد لدى من ال ي�ستطيع �أن‬
‫يرتبط بالخلود لك ْو ِنه ال ي�ؤمن به‪� .‬أي من يريد �أن يخلد ولكنه ال ي�ؤمن‬
‫به‪ .‬ويخلق فراغ ًا �شديد ًا في روح من ي�ؤمن بالخلود ولكن ال يرتبط به‪.‬‬
‫وهو من ي�ؤمن به ولكن ال يعمل ما يربطه بالخلود‪ .‬في�شعر الأول ب�أنه‬
‫يمد يده في الظالم‪ ،‬وي�شعر الثاني �أنه يحجم عن القفز في الماء وهو‬
‫عط�شان‪ .‬ولكل من الإحباط والفراغ �آثار وانعكا�سات �سلوكية متنوعة‬
‫ي�صعب ح�صرها لكونها تت�أثر ب�شخ�صية وج��ر�أة المرء‪ .‬فالم�شترك‬
‫الإحباط �أو الفراغ‪ ،‬و�أما ال�سلوك فيتنوع‪ .‬فمثال قد يميل من ي�ؤمن �أنه‬
‫�سيفنى بعد الموت �إلى جمع �أكبر قدر من اللذات �أو �إلى االنكما�ش على‬
‫‪139‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫نف�سه‪ .‬والفرق يعتمد على التكوين ال�شخ�صي‪ .‬و�أختلف مع من يرى �أن‬


‫هناك عالقة طردية بين الإيمان بالفناء وبين الحياة العبثية‪ .‬فالحياة‬
‫العبثية ت�أتي نتيجة مجموعة مركبة من العوامل ولي�س نتيجة عامل‬
‫واحد‪ .‬وعدم الإيمان بالخلود قد يكون واحد ًا منها �أو من �أهمها ولكنه‬
‫لي�س الوحيد‪ .‬بل تجد من ي�ؤمن بالخلود ولكن مع ذلك يعي�ش فراغ ًا‬
‫هائ ًال‪ .‬في حين تجد من ال ي�ؤمن به يعي�ش نوع ًا من الر�ضا وال�سالم‬
‫الداخلي‪ .‬بطبيعة الحال هذا الكالم مبني على تقييمات �شخ�صية‪،‬‬
‫وبالتالي ال يمكن الحكم الحا�سم بها‪.‬‬
‫معرفية‪ :‬حاجة امتالك المعرفة وا�ضحة‪ .‬تتجلى من خالل ما‬
‫ن�شاهده من ف�ضول متوا�صل لمعرفة كل �شيء حول �أي �شيء‪ .‬وهي من‬
‫�أو�ضح الحاجات التي ن�شاهدها فينا وفي من حولنا‪� .‬أي�ض ًا قد يجادل‬
‫البع�ض في كونها حاجة لأن لي�س الجميع ي�شعر بها‪ .‬وقلت �أو ًال �أن عدم‬
‫حاجة البع�ض لها ال يعني �أنها لي�ست حاجة لبع�ض م�ستوياتنا الكمالية‪.‬‬
‫تجل وجودنا في الحياة‪ :‬هذه قد تكون �أبرز حاجاتنا و�أعمقها‬
‫�أثر ًا‪ .‬نحتاج �إلى �أن نكون ذا قيمة للغير‪ .‬فنحن موجودون لأنف�سنا وفي‬
‫حدود �أنف�سنا‪ ،‬ولكننا في وجودنا هذا نريد �أن نكون موجودين �أي�ض ًا لغيرنا‪،‬‬
‫موجودين خارج �أنف�سنا‪ .‬وهذه حاجة مالزمة لوجودنا وال يمكن االنفكاك‬
‫عنها‪ .‬ف�إما تتجلى ب�شكل مالئم‪ ،‬و�إما تظهر م�شوهة‪ .‬وهي تخلق مع�ضلة‪:‬‬
‫فمن جهة‪ :‬الأ�شياء من حولنا ت�ستقل في وجودها عنا ونحن م�ستقلون‬
‫عنها‪ .‬فال يوجد �أي عالقة اعتماد متبادلة بيننا وبين كل ما حولنا‬
‫‪140‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫على م�ستوى وج����ودي‪� .‬إذ نعي�ش ف��ي ع��ال��م ق��ائ��م بغيرنا‪ ،‬وك��ل ما‬
‫حولنا م�ستغن وجودي ًا ع َّنا‪ ،‬حتى الأف��راد من حولنا الذي نظن �أنهم‬
‫يعتمدون علينا مثل �أبنائنا هم في الحقيقة م�ستقلون عنا‪ .‬وكذلك‬
‫وج��ودن��ا م�ستقل عما حولنا‪ .‬و�أق�����ص��د باال�ستقالل ال��وج��ودي ذلك‬
‫ال��ذي على م�ستوى �أن �أك��ون �أو ال �أك��ون‪ .‬ولي�س على م�ستوى الحاجة‬
‫لل�شيء‪ .‬ف�أنا م�ستقل عن هذه الوجبة وجودي ًا‪ .‬ولكنني بحاجة له من‬
‫جهة �أخ��رى‪ .‬م�ستقل عن ابني وجودي ًا‪ ،‬ولكنني بحاجة �إليه من جهة‬
‫�أخ��رى‪ .‬من جهة ثانية‪ :‬ف�إننا ال ن�ستطيع �أو ال نقبل لأنف�سنا �أن نكون‬
‫مجرد م�شاهدين في هذا العالم‪ ،‬بل نحتاج �إلى �أن نكون م�شاركين‪.‬‬
‫�إذ ًا الأ�شياء م�ستقلة عنا في الوقت الذي نريدها �أن تعتمد علينا‪� ،‬أو‬
‫�أن ن�شارك في وجودها‪ .‬والتفاعل بين «�إدراكنا ال�ستقالل ما حولنا»‬
‫وبين «�إدراك��ن��ا للحاجة �إل��ى �أن نتفاعل معه» ُين�شئ مجموعة من‬
‫التناق�ضات في ال��ذات‪ ،‬تجعل الإن�سان في �سعي متوا�صل لحلها من‬
‫خالل الم�شاركة بالعطاء ال��ذي ُي�ش ِّكل العالم المادي واالجتماعي‪:‬‬
‫م�شاركة من خ�لال البناء الح�ضاري‪� ،‬أو من خ�لال العمل المنتج‪،‬‬
‫�أو من خ�لال الأع��م��ال التطوعية وغير ذل��ك من الأم���ور التي ن�سعى‬
‫م��ن ورائ��ه��ا تحقيق ح��اج��ات الغير وتمكينهم م��ن تحقيق لذاتهم‪.‬‬
‫وعدم �إ�شباع هذه الحاجة يتجلى على �شكل �أزمة وجودية‪ :‬ال�شعور ب�أن‬
‫وجود المرء ال قيمة له‪ .‬وهذه ت�ؤدي �إلى م�شاكل نف�سية و�سلوكية متعددة‪،‬‬
‫منها البحث عن القيمة بطرق وهمية مثل ال�شهرة �أو ال�سيطرة‪.‬‬
‫‪141‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫ال�شعور بالجمال والتعبير عنه‪ :‬هي ل��ذة م�ستقلة ويدركها‬


‫كل واحد منا‪ .‬وتكاد تكون مرتبطة باالت�صال بالمطلق‪ .‬ف�أعمق �أنواع‬
‫الجمال هي تلك التي تن�ش�أ من الإنبهار ب�أمور عظيمة ُت�شعر المرء‬
‫بات�صاله بها و�صغره �أمامها في �آن واحد‪ .‬ولل�شعور بالجمال �أ�شكال‬
‫مختلفة‪ .‬فقد يكون جمال �شكل‪ ،‬وقد يكون جمال �صوت‪ ،‬وقد يكون‬
‫جمال َطعم‪ ،‬وقد يكون جمال لم�س‪ .‬كما له م�ستويات متعددة من العمق‬
‫�أو ال�شمول ح�سب ح�ضور وعي الإن�سان فيما يدركه وح�سب ح�سا�سيته‬
‫لإدراك جوانب الجمال‪.‬‬
‫الترابط الب�شري العام‪ :‬الحاجة �إل��ى الترابط مع الإن�سان‬
‫في �أي مكان‪ .‬ويجد �أ�صله في نزعات التعاطف الإن�ساني العام حيث‬
‫ي�شعر �إن�سان نحو �آخر بطريقة تجعله يرغب الخير للآخر‪� ،‬أو يت�ألم‬
‫لألم الآخر‪� ،‬أو يتجه نحو عمل �شيء ل�صالح �إن�سان �آخر ال ل�شيء �سوى‬
‫اال�شتراك في الإن�سانية‪ .‬وتظهر هذه النزعة من خالل �أمور متعددة‬
‫بع�ضها وا�ضح ومبا�شر مثل الت�ضحية والعطاء‪ .‬ولكن بع�ضها بعيد مثل‬
‫البحث عن القبول االجتماعي‪ .‬فهذا ال�سلوك ال�شائع قد يكون مدفوعا‬
‫بالحاجة للترابط مع الآخرين‪� .‬إذ �أن الأخير يتطلب تتطلب �أحيان ًا �أن‬
‫نكون مقبولين من الغير وبالتالي ن�سعى �إليه من حيث كونه و�سيلة ال من‬
‫حيث كونه غاية‪ .‬و�سيلة للترابط ولي�س غاية بذاته‪ .‬ولأن القبول �شرط‬
‫مهم للترابط ف�إنه �أحيانا يتعار�ض مع حاجة �أخرى هي التفرد‪ ،‬وبالتالي‬
‫يظهر الإن�سان وك�أنه ال يريد الترابط في حين �أنه ال يريد يفرط في‬
‫‪142‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫نف�سه ليكون مقبو ًال‪ .‬طبع ًا يمكن �أن يتحول البحث عن القبول �إلى غاية‬
‫فيفقد معناه ويتحول �إلى عبء على حرية وخ�صو�صية الفرد‪ .‬ولكن‬
‫حقيقة الحال �أنه ال توجد �سلوك �إال ويحقق م�صلحة ما‪� ،‬إما للفرد و�إما‬
‫للجماعة والمجتمعات تتطور لما تجد بع�ض �أعمالها ال تحقق �أهدافها‪.‬‬
‫من ال�سلوكيات الأخ��رى المرتبطة بهذا ال�سلوط هو ال�سعي لإعالء‬
‫ال�ش�أن‪ .‬حيث قد يجد المرء نف�سه في ظروف ال يمكنه التوا�صل مع‬
‫الغير والح�صول على قبولهم �إال �إذا كان ذا �ش�أن‪ .‬و�أحيان ًا نتيه ون�ضيع‬
‫ونحن في �سعي متوا�صل لتحقيق �ش�أن ثم ال نجد ما نريد‪.‬‬
‫ال��ت��راب��ط الب�شري الحميم‪ :‬ال��ح��اج��ة �إل���ى ت��راب��ط حميم‬
‫مع �أ�صدقاء‪ ،‬زم�لاء‪� ،‬أ���س��رة‪� ،‬أط��ف��ال‪ ،‬وزوج ويـجد �أ�صله في �شعور‬
‫الإن�����س��ان ب��ال��ح��اج��ة �إل���ى م��ن ُي�� َّك��م��ل��ه و�إل����ى م��ن يكت�شف نف�سه من‬
‫خالله‪ .‬وهناك ط��رق مختلفة للتعبير عن ه��ذه الحاجة بح�سب نوع‬
‫ال��ع�لاق��ة والثقافة االجتماعية ال�����س��ائ��دة‪ .‬منها م��ج��رد المحادثة‪،‬‬
‫ومنها الم�صافحة �أو المعانقة �أو ال ُقبلة �أو ال��ع�لاق��ة الج�سدية‪.‬‬
‫وللحاجة �إلى الترابط عموم ًا مع�ضلة �أ�سا�سية �سببها كوننا نعي�ش حالة‬
‫انف�صال ذاتية عمن حولنا يرافقها ا�ستقالل ذاتي في فعلنا‪ .‬فال يوجد‬
‫ما يربطنا ببع�ض على الحقيقة �إذ �إنَّ ارتباطنا بالغير ال يوجد �إال في‬
‫الذهن ولي�س في الواقع‪ .‬وال �أق�صد باالنف�صال �أو االت�صال الح�سي منه‪.‬‬
‫ف�أنا ال �أت�صل بالغير �أو انف�صل عنهم بالم�س‪ .‬فقد �أكون حا�ضنا ابني‬
‫ولكنني مع ذلك في حال انف�صال تام عنه‪ .‬ف�أنا مث ًال ال �أ�شكل �سبب ًا‬
‫‪143‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫لوجوده وهذا انف�صال‪ .‬كما �إنني ال �أ�شعر بم�شاعره وهذا انف�صال‪.‬‬


‫و�إرادتي ال تت�صرف ب�أفعاله مبا�شرة وهذا انف�صال‪ .‬و�أحيان ًا لكي ن�ؤكد‬
‫االت�صال بيننا ف�إننا نت�صرف وك�أننا ن�ؤثر على بع�ض �سببيا �أو ن�شعر‬
‫ببع�ض �أو نتبع اعمال بع�ض‪ .‬ولكن هذا ت�صور ذهني غير واقعي‪ .‬لذلك‬
‫فنحن نخلق خيوط ات�صال ذهنية تعو�ض عن فقدان خيوط االت�صال‬
‫الواقعية‪ .‬ولكن هذه الخيوط تقيدنا وتفقدنا جزء ًا من اال�ستقالل الذي‬
‫ملكناه في حالة االنف�صال التام‪ .‬فما �إن �أريد �أن اظهر االت�صال ب�أحد‬
‫حتى �أت�صرف وك�أن �إرادته م�ؤثرة علي‪ .‬و�إذا خالفت ذلك فك�أني �أعلن‬
‫االنف�صال عنه‪ .‬ف�إذا طلب مني �شيئا ولم �ألبي قد يفهم منه �أنني اخالف‬
‫�شرط االت�صال‪ .‬طبع ًا الواقع اكثر تعقيدا ونحن نتعلم كيف نميز بين‬
‫�أ�شكال مختلفة من قواعد االت�صال واالنف�صال‪ .‬ولكن في نهاية التحليل‬
‫ف�إن االرتباط يعني حتم ًا �أن ُنم ِّلك �آخرين �أنداد ًا لنا بع�ض جوانب حياتنا‬
‫حتى لو كان هذا الند حبيب ًا‪ .‬لذلك ف�إن االت�صال والترابط الناجح هو‬
‫الذي يقوم على �أ�سا�س م�شاعر التعاطف والمحبة �إذ �إنها تخفف من‬
‫ال�شعور بحرمان اال�ستقاللية‪ ،‬بل تعو�ض عنها‪.‬‬
‫الممار�سة الأخالقية‪ :‬يجد الإن�سان في نف�سه الحاجة �إلى �أن‬
‫يمار�س �أخالق ًا ما‪ ،‬ويتجنب �أخالق ًا �أخرى‪� .‬أن يمار�س ال�صدق والأمانة‬
‫والعفة والمحبة والكرم‪ .‬و�أن يتجنب البخل‪ ،‬والل�ؤم‪ ،‬والكذب‪ ،‬والح�سد‪،‬‬
‫والكبر‪ .‬ونمار�س هذه الأعمال لأننا ن�شعر بالر�ضا عن �أنف�سنا واالن�سجام‬
‫الذاتي مع �أنف�سنا ومع الوجود من حولنا ل َّما نقوم بذلك حتى لو كان‬
‫‪144‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫نتيجة الفعل خ�سارة محتملة �أو جهد متوقع‪ .‬الآثار الإيجابية العميقة‬
‫للمار�سة الأخالق ت�صل �إلى درجة �أنها تعو�ض لدى البع�ض فقدانهم‬
‫الإيمان بالمطلق �أو بالأبد‪� .‬أو على الأقل هكذا �أحاول �أن �أف�سر غياب‬
‫الحاجة للمطلق والأبد لدى بع�ض الأخالقيين الذين ال ي�ؤمنوا بهما‪.‬‬
‫والفعل الأخالقي قد ينطلق من الحاجة �إلى نزعة عامة للإح�سان وعدم‬
‫الإ�ضرار‪ ،‬وبالتالي ترجع �إلى حاجة التجلي في الوجود‪ .‬وقد تنطلق من‬
‫النزعة الأخالقية؛ �أي ال�شعور ب�أن ذلك الإح�سان يجب‪ .‬و�أن��ه ح�سن‬
‫لذاته‪ .‬وقد تعود �إلى الحاجة للحفاظ على تما�سك المجتمع وبالتالي‬
‫ترجع �إلى الحاجة للترابط العام‪ .‬وفي الأغلب ف�إنها تكون خليط ًا من‬
‫هذا وذاك‪ .‬فالفعل الأخالقي مثل �أي فعل متعدد الدوافع والجذور‪.‬‬
‫فر�ض ال��ذات‪ :‬ه��ذه من �أعمق الحاجات و�أو�سعها من حيث‬
‫التجليات و�أخطرها من حيث العواقب‪ .‬وهي ت�شبه الحاجة �إلى تجل‬
‫وجودنا في الحياة‪ ،‬بل تكاد تكون وجهها الآخر‪ .‬الفرق �أن تلك ت�سعى‬
‫�أ�سا�س ًا لأن تعطي الوجود‪ ،‬و�أما هذه فت�سعى بالدرجة الأولى لأن ت�أخذ‬
‫من الوجود وتتحكم به‪ .‬هذه ت�سعى لأن يكون للفرد وجود في العالم‬
‫وف��ي حياة الآخ��ري��ن بقطع النظر ع��ن �شكل وطبيعة ه��ذا ال��وج��ود‪.‬‬
‫وكنت �أت�صور �أنها تكون فيمن ال ي�ستطيع �أن ي�شارك في حياة االخرين‬
‫نحو تلك الم�شاركة الإيجابية‪ .‬وبالتالي كنت افتر�ض �أن��ه ي�ستعي�ض‬
‫عن ذلك العجز بال�سعي �إلى ال�سيطرة وامتالك ما يحتاجه الآخرون‬
‫بناء على افترا�ض �أن��ه لعجزه عن �أن يكون ذا قيمة ل��دى الآخرين‬
‫‪145‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫بما هو عليه‪ ،‬ي�سعى لو�ضع يده على ما يحتاجه الآخ��رون‪ .‬م�ستعمال‬


‫ال�سيطرة باعتبارها الطريق الأ�سهل المتالك �شعور بالم�شاركة‪.‬‬
‫ولكن تبين لي �أنني كنت �أق��ول هذا لأتجنب القول ب���أن الإن�سان فيه‬
‫ا�ستعداد على ال�شر الخال�ص‪ .‬وكنت �أق���ول �أن علينا ر�ؤي���ة واقعية‬
‫تقدم لي العالم كما هو ولي�س كما �أري��د‪ .‬ووا�ضح لي �أنني في �أكثر‬
‫من موقع انزلقت �إل��ى و�صف العالم كما �أري��د‪ .‬الآن ال �أ�ستطيع �أن‬
‫�أف�سرها بغياب القدرة على العطاء الإيجابي‪ .‬يبدو لي �أن جزء منا‬
‫يريد �أن يكون �إلها بالعطاء وجزء �آخر يريد �أن يكون �إله ًا بالحكم‪.‬‬
‫في كل الأح��وال هذه نزعة فينا وكلنا يمار�سها بدرجات‪ .‬في المنزل‬
‫مع الأبناء �أو مع الموظف �أو مع الزوجة �أو مع �أي �شخ�ص ي�ضع نف�سه‬
‫في لحظة �أمامنا‪ .‬نمار�سها لأننا ن�ستطيعها‪ .‬ولهذه الحاجة مظاهر‬
‫متعددة‪:‬‬
‫‪1 .1‬ربما من ذلك البحث عن القبول‪ .‬فقد يكون له عالقة بهذه الحاجة‬
‫كما كان له عالقة بالحاجة �إلى االرتباط‪ .‬فنحن �إذ نريد �أن نفر�ض‬
‫ذواتنا نحتاج �أن ن�سعى في البدء للقبول‪ .‬ولكن �أحيان ًا لكثرة ما‬
‫ن�سعى للقبول نن�سى �أن لنا ذوات ًا م�ستقلة ونتماهى مع ال�سعي للقبول‪.‬‬
‫‪2 .2‬النـزعة للفردية قد تندرج هنا �أي�ض ًا‪ .‬فنحن �إذ نريد �أن نفر�ض‬
‫�أنف�سنا فال نريد من �أحد �أن يفر�ض علينا نف�سه‪ .‬ولذلك قد ي�صل‬
‫رف�ض فر�ض الآخرين �إلى درجة الالمباالة بقبولهم �أو ر�أيهم �أو حتى‬
‫التمرد على عاداتهم و ِق َيمهم‪ .‬والفردية لي�ست �سيئة بال�ضرورة‪.‬‬
‫‪146‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫فرف�ض قيود الآخرين �أو التعبير عن الذات بقطع النظر عن ر�أي‬


‫الآخرين لي�سا �سيئين بذاتهما ما دام ال يوجد فيهما �أذى للآخرين‪.‬‬
‫ما �أريد قوله �أن الفردية قد تنطلق من �أكثر من من�ش�أ‪ .‬و�إذا كان‬
‫هذا هو من�ش�أوها فيتوقع منها �أن تفرز بع�ض �أ�شكال العنف‪ ،‬لأنه‬
‫فر�ض الذات على الآخرين ال يمكن �إال بنوع من �أنواع العنف‪ .‬عنف‬
‫نف�سي �أو ج�سدي‪.‬‬
‫‪3‬وثقافة االن�سجام ت�أتي من هنا �أي�ض ًا‪ .‬ففي مقابل الفردية نجد‬ ‫‪.3‬‬
‫�أن �أفراد المجتمع يريدون فر�ض �إراداتهم على غيرهم‪ ،‬في�صبح‬
‫المطلوب من كل فرد في المجتمع �أن ال يعبر عن نف�سه �إال من‬
‫خالل التعبير عن ال�سائد بين �أفراد مجتمعه‪ .‬وهذا بطبيعة الحال‬
‫يخلق �صراعات اجتماعية متعددة ن�شاهدها في جميع م�ستويات‬
‫المجتمع‪ ،‬وفي مختلف مراحل الحياة من الطفولة ف�إلى المراهقة‬
‫ف�إلى مراحل الر�شد المختلفة‪ .‬فنجد �أتباع الثقافات المختلفة‬
‫تحاول فر�ض طريقتها على غيرهم‪ ،‬ونجد الوالدين يحاولون‬
‫فر�ض طريقتهم على �أبنائهم‪ ،‬والأ�سرة �أو الع�شيرة على �أفرادها‪،‬‬
‫والحي على �ساكنيه‪ .‬طبع ًا ثقافة االن�سجام معقدة جدا وال يمكن‬
‫اخت�صارها في �أ�صل واح��د‪ .‬خ�صو�ص ًا و�أن��ه��ا �أحيانا تن�ش�أ من‬
‫الحاجة �إلى التنب�ؤ ب�أفعال الآخرين‪ .‬فالمجتمع المن�سجم ي�ستطيع‬
‫ذلك بقدر �أعلى من المجتمع الفردي‪ ،‬والتنبوء �ضروري جدا لخلق‬
‫عالقات اجتماعية �آمنة‪ .‬وبذلك يمكن اعتبار االن�سجام �أي�ض ًا‬
‫‪147‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫نا�شئ ًا من الحاجة للبقاء‪.‬‬


‫‪4 .4‬ومن مظاهر هذه الحاجة هي عدم قبول الآخر المختلف‪ .‬ويمكن‬
‫اعتباره نوع ًا من االنزعاج ممن يعبر عن �آراء �أو �سلوكيات �أو �أذواق‬
‫تخالف الذات‪.‬‬
‫‪5 .5‬الإ�صرار على الر�أي يندرج هنا‪ .‬فعندما �أجد نف�سي �ضمن مجموعة‬
‫تتناق�ش وتختلف قد �أجد �أن دافع االختالف لي�س مو�ضوعية الآراء‪،‬‬
‫بل رغبتي �أن �أعبر عن نف�سي من خالل ر�أيي حتى لو لم �أكن مقتنع ًا‬
‫بذلك الر�أي‪ .‬هناك دافع لفر�ض الذات يتجلى في الجدال‪.‬‬
‫‪�6 .6‬أحيان ًا العمل يدخل هنا‪ .‬فالإن�سان يعمل ليعبر عن ذاته‪ ،‬ليفر�ض‬
‫وجوده من خالل انتاجه‪.‬‬
‫‪7 .7‬و�ضمن هذه الحاجة ت�أتي الرغبة في النظام‪ .‬فالإرادة ل َّما تريد �أن‬
‫تعبر عن نف�سها في عالم متزاحم تعلم �أنها لن تنجح �إال من خالل‬
‫�أمرين‪:‬‬
‫ •الأول‪ :‬انتظام الأمور‪.‬‬
‫ •الثاني ك��ون الأم��ور خا�ضعة للتوقع‪ .‬والأع���راف‪ ،‬والتقاليد‪،‬‬
‫والقوانين تحقق الأمرين مع ًا‪ .‬ومبادئ اجتماعية من نحو‬
‫«لكل مكان وزمان �سلوكه ولب�سه وممار�سته» �أحد �أبرز الأمثلة‬
‫على ذلك‪� .‬إنها قاعدة لل�سيطرة في الدرجة الأول��ى‪ .‬ولكن‬
‫لي�س بال�ضرورة �سيئة‪.‬‬
‫‪8 .8‬و�أحيانا �أت�صور �أن اختالق الخرافات �أي�ضا ذات �صلة بالحاجة‬
‫‪148‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫�إلى النظام‪ .‬فالحياة كانت مليئة بالأمور والأحداث غير المنتظمة‬


‫والع�شوائية في ظاهرها‪ .‬فربما ن�ش�أت الخرافات لتف�سيرها‪.‬‬
‫وذكرت هذا من باب الإ�شارة �إلى �أن االختالق ال ين�ش�أ فقط ب�سبب‬
‫البحث عن مقد�س‪� ،‬أو ب�سبب البحث عن تف�سير بل �أي�ض ًا ين�ش�أ بحث ًا‬
‫عن نظام‪ .‬ولذا نجد كيف �أنه يتم يتخلى عن التف�سير الخرافي‬
‫بمجرد ما ي�أتي تف�سير �آخر يقوم بدور تنظيم الوجود‪ .‬ومتابعة‬
‫تطور التدين في المجتمعات التي انت�شر فيها التفكير العلمي تحكي‬
‫�أ�شكا ًال من ت�أثيرات �سلبية للعلم على التدين وهذا قد يكون �أحدها‪.‬‬
‫‪9 .9‬بل لعل فكرة المقد�سات ذات �صلة بهذا‪ .‬فك�أن �أف��راد المجتمع‬
‫ل�شدة �شعورهم ب�سعي كل فرد منهم �إلى فر�ض نف�سه على الآخر‬
‫�سعوا لخلق م�ساحات ال يجوز لأحدهم تناولها والتعدي عليها‪.‬‬
‫من مع�ضالت هذه الحاجة �أننا ال يمكن مهما �أردنا �أو حاولنا �أن‬
‫ن�صيغ العالم كما نريد‪ ،‬ال يمكن �أن نعبر عن �أنف�سنا �إلى الحد الذي‬
‫نريده‪ ،‬وال يمكن �أن نفر�ض �أنف�سنا بالقدر الذي ُي�شبعنا‪ .‬فنحن نريد‬
‫�أن نفر�ض مطلق ًا‪ ،‬ولكننا نعي�ش في المحدود‪ ،‬ومهما حاولنا الفر�ض‬
‫المطلق �ضمن المحدود ف�إننا �سنف�شل‪ .‬وهذا الف�شل يرتد على �شكل‬
‫�إحباط وانكما�ش عن الفر�ض‪ .‬و�أحيان ًا �أخ��رى يرتد على �شكل �شر ٍه‬
‫ورغب ٍة بالتو�سع وفر�ض الإرادة بقطع النظر عن م�صالح �أو م�شاعر‬
‫الآخرين‪ ،‬وبالتالي التعالي على النا�س والطغيان‪.‬‬
‫ولعل �أكبر مع�ضلة هذه الحاجة وكابو�سها الأعظم هو �أننا نعلم‬
‫‪149‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫مهما تو�سعنا في الفر�ض �أننا ال يمكن �أن نكون �أحرار ًا تمام ًا لأننا ال يمكن‬
‫�إال �أن نخ�ضع بنحو من الأنحاء لأمر خارج ذواتنا‪ .‬فكما ال ن�ستطيع فر�ض‬
‫�إرادتنا كما ن�شاء‪ ،‬ف�إننا ال ن�ستطيع التحرر من فر�ض �إرادة الغير علينا‪.‬‬
‫حياتنا مع ا�ستقاللها الوجودي �إال �إنها بحاجة دائمة �إلى غيرها‪ .‬قد‬
‫تكون حاجة �إلى �إن�سان يعين على الح�صول على طعام‪� ،‬أو قد تكون مجرد‬
‫الحاجة �إلى الطعام‪ .‬نحن فينا حاجة ونق�ص ذاتيين ال يجبرهما �شيء‬
‫وال يمكن الفرار منهما وال يمكن تخفيف ثقلها علينا‪ .‬ويمكن القول ب�أننا‬
‫ال نعي هذا الأمر وبالتالي ال نت�أثر �سلب ًا‪ .‬ومرة �أخرى ربما �أحاول هنا كما‬
‫�س�أحاول في مواطن كثيرة ر�سم �صورة تخدم الهدف النهائي من البحث‪.‬‬
‫على فر�ض �صحة هذا ف�إن هذا ال�شعور ي�شتد عندما يكون الخ�ضو ُع خ�ضو َع‬
‫أفراد بع�ضهم لبع�ض‪ .‬عندما ال يكون منا�ص من �أن يتنازل المرء عن‬ ‫� ٍ‬
‫فرديته من �أجل البقاء مع غيره‪ .‬و�أ�شد منه هو الخ�ضوع ل�سلطة‪ .‬ففيها‬
‫لند‪ ،‬و�شدتها ت�أتي لي�س فقط من التنازل و�إنما من كون الخ�ضوع‬ ‫تنازل ِن ٍّد ٍّ‬
‫لمن يريد التعالي‪ .‬و�أ�سو�أ �أ�شكال هذا التنازل هو الخ�ضوع ل�سلطة جائرة‪.‬‬
‫لذلك ف�إن ال�سلطات المتوازنة تخفف من �أثر هذا التنازل من خالل‬
‫�إعطاء مكا�سب عالية يحتاجها الفرد‪ .‬فال�سلطة �أيا كان �شكلها مرهقة‪،‬‬
‫وال بد من وجود منفعة ت�سوغ خ�ضوع طرف لآخر‪ .‬قد يكون الأمن �أحد‬
‫تلك المنافع‪ .‬وقد تكون فر�ص معي�شية‪ .‬وقد تكون فر�ص لتجلي الفرد‬
‫في المجتمع بطريقة منظمة‪� ..‬أيا كان �إن لم ت�ستمر تلك المنفعة ف�إن‬
‫ال�سلطة تفقد معناها بالن�سبة للفرد الخا�ضع لها‪� ،‬أو ت�ضيع �شرعيتها‪.‬‬
‫‪150‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫والحاجة �إلى الغير ت�ؤثر على نمط تكوين العالقات االجتماعية‪ .‬ف�أن‬
‫تكون في ذات��ك مريد ًا لل�سيطرة‪ ،‬في حين �أن��ك في ذات��ك محتاج ًا‬
‫حاجة لغيرك يخلق تناق�ض ًا داخلي ًا ُيترجم �إلى توتر اجتماعي ما لم‬
‫يتم معالجته بوعي‪ .‬التناق�ض هو لأن ال�سيطرة تتنافى مع الحاجة‪.‬‬
‫من الأمثلة الجيدة هي الحاجة �إل��ى الجن�س‪ .‬فالحاجة �إليه حاجة‬
‫وعميقة وملحة‪ ،‬وفي الوقت نف�سه حاجة ال يمكن تلبيتها �إال من خالل‬
‫نوع مقابل‪ .‬وقد �أ َّثر هذا على طريقة المجتمعات في ت�شكيل عالقات‬ ‫ٍ‬
‫اجتماعية متوترة بين الذكر والأن��ث��ى �أب��رزه��ا ال�سيطرة الذكورية‬
‫ال�سائدة‪ ،‬و�أي�ض ًا النظر �إلى ال�سيطرة على المر�أة على �أنه انت�صار من‬
‫االنت�صارات‪ .‬وذكرت هذا المثال لأن عمق الحاجة �إليه و�إلحاحها يلعب‬
‫�أدوا ًر �أكبر مما نت�صور في ت�شكيل عالقاتنا االجتماعية‪ .‬ولو ت�أملنا �إلى‬
‫اللعبة االجتماعية لفترة كافية لوجدنا كيف �أن هذا الدافع ي�شكل الكثير‬
‫من ال�سلوكيات‪ .‬ت�صرفات مدفوعة بهذا الأمر قد ت�ؤدي في النهاية �إلى‬
‫نتائج غير جن�سية تمام ًا‪ ،‬ولكن مع ذلك ال يمكن التقليل من دور هذا‪.‬‬
‫من االمثلة الظاهرة هي الح�ضور لبع�ض اللقاءات المختلطة‪ .‬هناك‬
‫دافع جن�سي خفي �أنكرناه �أو اعترفنا به‪ .‬ولكن ال يعني هذا �أن نتيجة‬
‫اللقاء �ستكون لقاء في ال�سرير‪ .‬فهناك قواعد تحكم اللعبة‪ .‬ولكن مجرد‬
‫الح�ضور قد يفتح �آفاق ًا لم تكن من قبل‪� .‬إذا كان اللقاء فكري �أو تجاري‬
‫�أو اجتماعي �أو ح�سب‪...‬‬
‫الحاجة �إل��ى اللعب‪ :‬ه��ذا �آخ���ر م��ا �أذك���ره ه��ن��ا‪ .‬فاللعب‬
‫‪151‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫حاجة �أ�سا�سية للإن�سان للخروج من نمط حياته الجادة‪ ،‬ولخلق‬


‫عوالم �أخ��رى يعي�شها‪ ،‬عوالم ال تحكمها معايير النجاح والف�شل‬
‫ال�صارمة‪ ،‬ولي�س لها «حكمة» من وراء كل عمل‪ ،‬وال �ضرورة فيها‬
‫للتقيد ب�أعراف وقيود اجتماعية‪ .‬الإن�سان يحتاج ذلك لي�سترخي‬
‫عقله وتتن�شط �إرادته و ُت�شحن طاقاته الإبداعية‪ .‬ولي�س للعب �شكل‬
‫محدد‪ .‬مجرد اتخاذ قرار الخروج من نمط الن�ضباط �إلى نمط‬
‫العفوية يعد لعب ًا‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬نعي�ش في عالمين‪ :‬ذهني وخارجي‬


‫يتميز الإن�سان عن غيره من الأحياء �أنه يعي�ش ويتفاعل �ضمن‬
‫عالمين‪ :‬العالم الخارجي والعالم الذهني‪.‬‬
‫العالم الخارجي‪ :‬هو الوجود من حولنا يفعل فينا ونفعل فيه‪.‬‬
‫وهو نوعان‪ :‬مادي وغير مادي بالمعنى ال�سابق لهذين الم�صطلحين‪.‬‬
‫العالم المادي‪ :‬عالم محدود مقيد بنظام �أ�سباب وم�سببات‬
‫مادية والم�سير فيه ال يمكن �إال من خالل بع�ض القيود‪ .‬عالم تزاحم‪ ،‬ال‬
‫يمكن الحركة فيه �إال بالت�صادم مع الغير‪ .‬عالم ال يمكن توقع كل �شيء‬
‫فيه‪ ،‬وال ال�سيطرة على كل �شيء فيه‪ ،‬وال االت�ساق في كل �شيء‪ .‬وهذا‬
‫العالم هو كل ما ن�شاهده بداية من �أج�سادنا ونهاية ب�أبعد المجرات من‬
‫حولنا‪.‬‬
‫العالم غير المادي‪ :‬عالم بغير قيود‪ ،‬مطلق غير محدود‪ .‬عالم‬
‫‪152‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ال تزاحم فيه وال تناهي وال محدودية‪ .‬عالم فيه مجال لحركة حرة‬
‫متوا�صلة ال ت�ضاد فيه مع �أحد وال ت�صادم‪.‬‬
‫العالم الذهني‪� :‬إ�ضافة �إلى العالم الخارجي الذي نعي�ش فيه‬
‫ف�إننا �أي�ض ًا نعي�ش في عوالم يخلقها ذهننا‪ .‬والعوالم الذهنية هو نقطة‬
‫االت�صال الأ�سا�سية بالعالم الخارجي‪ .‬فنحن ال نعي�ش فيه مبا�شرة و�إنما‬
‫من خالل �إدراكنا الذهني له‪ .‬هذا الإدراك الذهني قد يكون مطابق ًا‬
‫للواقع الموجود‪ ،‬وقد يكون غير ذلك‪ .‬والعوالم التي في �أذهاننا ثالثة‪:‬‬
‫عالم المحيط االجتماعي‪ :‬نحن نعي�ش بين ب�شر لهم اختيارات‬
‫مثلنا ولهم وعي مثلنا‪ .‬هذا يخلق مجموعة من التوقعات المتبادلة‬
‫والقيود على الفعل‪ .‬ومجموع هذه التوقعات والقيود هي بمثابة عالم‬
‫موازٍ تعي�ش فيه اختياراتنا و�أفعالنا‪ ،‬وقد تكون مطابقة للواقع �أو غير‬
‫مطابقة‪ .‬فقد �أتوقع من النا�س من حولي الخير والحب �أو ال�شر والكره‪.‬‬
‫وكل مجموعة توقعات �ست�شكل عالم ذهني حول المجتمع الذي �أعي�ش‬
‫فيه‪.‬‬
‫ع��ال��م المحيط ال��رم��زي‪ :‬نحن نخلق حولنا مجموعة من‬
‫االعتبارات والتي تتحول �إلى عالم موازٍ ‪ .‬الأعياد واالحتفاالت وال�شعائر‬
‫االجتماعية كلها تخلق عالم خا�ص بها‪ .‬والأم��ر ال يقت�صر عليها بل‬
‫بع�ض ما نظنه حقيقي ًا هو في الحقيقة عالم رمزي‪ .‬فعالقات الأخوة‪،‬‬
‫وال��زواج‪ ،‬والحقوق الملكية هذه كلها ال واقع لها �إال في عالم رمزي‬
‫نخلقه ليعيننا على الحياة االجتماعية‪ .‬و�أ�شبه ما تكون باللعبة التي بها‬
‫‪153‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫مجموعة من القواعد والأنظمة التي تحكم عالقات الالعبين بع�ضهم‬


‫ببع�ض‪.‬‬
‫عالم المحيط المعرفي‪ :‬نحن ال نعي�ش في العالم الخارجي �أو‬
‫في العالم الذهني كما هو فح�سب‪ ،‬ولكننا نعي�ش فيه كما هو و�أي�ض ًا كما‬
‫نعرفه‪ .‬فنحن نجيب على �أ�سئلة محددة حول العالم ونتعامل معه وفق‬
‫تلك الأجوبة‪� .‬أ�سئلة من نحو‪ :‬هل العالم هذا مادي فقط؟ �أم مادي وغير‬
‫مادي؟ هل هو فو�ضوي �أم منظم؟ هل هو عادل �أم ظالم؟ هل يتفاعل‬
‫مع �أعمالنا وينفعل لها �أم محايد تمام ًا؟ هل قابل للتنبوء �أم ع�شوائي؟‬
‫هل �أحداثه فينا مق�صودة منا �أم بع�ض �أحداثه غير مق�صودة؟ والعالم‬
‫المعرفي قد يطابق العالم �أو ال يطابقه‪.‬‬
‫ه��ذه العوالم الذهنية بمثابة م�ساحات لها �أح��ك��ام وقوانين‬
‫مختلفة‪ .‬ووجودها في ذهننا ي�ؤثر على حركتنا في الحياة ِمن جهتين‪:‬‬
‫تحدد لنا الممكن‪ :‬فتحدد ما هو الفعل الم�ستحيل‪ ،‬وما هو الفعل‬
‫ال�صعب‪ ،‬وما هو الفعل الممكن بي�سر‪ .‬فكون الأمر في الواقع الخارجي‬
‫م�ستحي ًال �أو �صعب ًا �أو ممكن ًا �شيء‪ ،‬وما نعتقده �شيئ ًا �آخر‪ .‬وهذا من�ش�أ‬
‫�إحجام البع�ض عما هو ممكن و�إقدام �آخرين لما هو م�ستحيل �أو �صعب‪.‬‬
‫�إن الأمر يعود لما يرونه عن الواقع ولي�س للواقع نف�سه‪.‬‬
‫تر�سم لنا خارطة الحركة‪ :‬فتحدد لنا مراكز القوة والت�أثير‬
‫والتي ال بد من التعامل معها‪ .‬كما يحدد لنا ال�سبل المالئمة لتحقيق ما‬
‫نريده‪ .‬فالحركة في �أي م�ساحة تتطلب معرفة ت�ضاري�س تلك الم�ساحة‪.‬‬
‫‪154‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ف�إذا كنت �أريد �أن �أتحرك في العالم المادي فعلي �أن �أعرف القوى‬
‫المادية التي �س�أواجهها‪ .‬و�إذا �أردت الحركة في العالم االجتماعي فعلي‬
‫�أن �أعرف القوى االجتماعية التي ت�ؤثر على قراري وم�صالحي‪.‬‬
‫ويمكن ت�صنيف �أنواع معرفتنا حول العوالم الثالثة �إلى‪:‬‬
‫معرفة فاعليتنا و�آث��ار اختيارنا‪� :‬أي معرفتنا ب���أن لنا فعل‬
‫ومعرفتنا ب�أن لنا اختيار‪� ،‬أو عك�سه‪.‬‬
‫المعرفة ب�أنظمة العوالم الثالثة‪ :‬معرفتنا بالآليات التي‬
‫تحكم كل عالم‪ .‬فالعالم الطبيعي له نظام �سببي غير ما هو في العالم‬
‫االجتماعي وغير ما هو في العالم الرمزي‪.‬‬
‫المعرفة بحاجاتنا الذاتية الأعمق‪� :‬أي المعرفة بالحاجات‬
‫التي تم عر�ضها �سالف ًا‪.‬‬
‫المعرفة بما يهدد بقاءنا ويحقق حاجاتنا‪� :‬أي تقييمنا‬
‫للم�صادر التي تهدد وج��ودن��ا وب��ق��اءن��ا‪ ،‬وت���ؤث��ر �سلب ًا على تحقيقنا‬
‫لحاجاتنا‪� .‬إ�ضافة �إلى معرفتنا لم�صادر و�أ�ساليب تحقيقنا لحاجاتنا‪.‬‬
‫بالمحد ِّدات‪� :‬إدراكنا لما يقيد حركتنا و ُيبطئها‪� .‬سواء‬ ‫المعرفة ُ‬
‫كانت المحددات ظروف ًا مادية �أو اجتماعية‪.‬‬
‫المعرفة بمحدوديتنا‪� :‬سبقت الإ�شارة �إلى �أن محدوديتنا‬
‫من الحالة الإن�سانية‪ ،‬وطبيعة المعرفة بها ي�سهم في تكون عالم‬
‫المعرفة‪.‬‬
‫المعرفة بالكمال‪ :‬نحن ال نعلم �أنف�سنا فقط و�إنما نعلم ما يمكن‬
‫‪155‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫�أن ن�صل �إليه ونكون عليه‪.‬‬


‫و�أي منا له تلك العوالم الثالثة كما �إن معرفته بها مك َّونة من تلك‬
‫العنا�صر ال�سبعة‪ .‬قد نختلف في م�ضمونها‪ ،‬في كيفية �إجابة كل واحد‬
‫منا عليها ولكن كلنا نملكها‪ .‬وكل معرفة قد تكون مطابقة وقد تكون غير‬
‫مطابقة‪ ،‬قد تكون قارة وقد تكون مت�سعة‪ .‬و�أثر عدم المطابقة يختلف‪.‬‬
‫فمن ي�ؤمن �أنه ي�ستطيع الطيران �إذا ما ع َّلق في رقبته تميمة �سيجد �أثر‬
‫عدم المطابقة �سريع ًا‪ .‬ولكن من ي�ؤمن �أن هناك رجال في المريخ قد‬
‫ال يت�أثر بذلك‪ .‬فمن ال يعرف وجود حياة �أخرى لن يجد نتيجة معرفته‬
‫هذه �إال بعد حين‪ .‬ومن ي�ؤمن �أنه متلب�س بجني �سيعمل �أمور ًا غير من‬
‫ي�ؤمن �أنه مري�ض نف�سي ًا‪ .‬والأمثلة ال ح�صر لها‪.‬‬
‫ختام ًا‪ ،‬عر�ضت فيما �سبق مجموعة م��ن ال��ل��ذات والق�ضايا‬
‫ال�سلوكية المرتبطة بكل لذة على حداها‪ ،‬ولكن هذه ال توجد وحدها بل‬
‫تتداخل ولذلك �أريد �أن �أختم بذكر مجموعة من ال�سلوكيات المرتبطة‬
‫بمجموع تفاعل تلك اللذات مع ًا‪:‬‬
‫اختيارات الإن�سان فيها عن�صران‪ :‬عن�صر �أخالقي وعن�صر‬
‫معرفي‪ .‬العن�صر الأخالقي هو اختيار الإن�سان �أن يكون عاد ًال �أو ظالم ًا‪،‬‬
‫ح�سن ًا �أو قبيح ًا‪� ،‬صادق ًا �أو كاذب ًا‪ .‬وهذا الجزء من االختيار ال عالقة له‬
‫بالمعرفة التي يملكها عن العالم‪� .‬أما كيفية ممار�سة الفعل بعد اختيار‬
‫الوجهة الأخالقية له فتت�أثر بالعالم المعرفي لديه‪ .‬فقد يفعل الإن�سان‬
‫فع ًال يظنه �صدق ًا في حين �أنه كذب‪ .‬وقد يفعل فع ًال يظن �أنه عد ًال‬
‫‪156‬‬
‫قا�ض في حكمه‪ .‬وقد‬ ‫في حين �أنه ظلم ًا مثلما يح�صل عندما يخطئ ٍ‬
‫ال يبالي �إن�سان بظلمه وهو عالم به وبالتالي يخلو فعله من �أي عن�صر‬
‫�أخالقي‪.‬‬
‫الإن�����س��ان يرتب ل َّ��ذات��ه بح�سب �أول��وي��ات��ه‪ .‬ه��ذا الترتيب يجعل‬
‫اللذة الثانوية تابعة للذة الأ�سا�سية‪ .‬فمث ًال �إذا كان االرتباط بالمطلق‬
‫لذة �أ�سا�سية ف�إن االرتباط بالغير ي�صبح تابع ًا باعتبار �أنه ي�سهم في‬
‫�إكمال النق�ص الوجودي في الإن�سان‪ ،‬وو�سيلة لإطالق الذات‪� ،‬إذ يحتاج‬
‫الإن�سان �إلى الإرتباط بغيره لكي يك�شتف الكثير من �أبعاد وجوده‪ .‬حتى‬
‫العالقات الج�سدية ت�صبح في هذا ال�سياق و�سيلة لإطالق كوامن الذات‬
‫وا�ستك�شاف خباياها‪� .‬أما �إذا كان البقاء حاجة �أ�سا�سية ف�إن االرتباط‬
‫بالغير ي�صبح حاجة عملية لخدمة البقاء‪ ،‬ولي�س حاجة �أ�صيلة‪ .‬ولذلك‬
‫تتحول العالقات كلها �إلى عالقات ذرائعية وال يجد المرء فيها قيمة‬
‫عميقة‪.‬‬
‫وع��ي الإن�سان بذاته ي�ؤثر على ترتيب الأول��وي��ات‪ .‬فقد ال يعي‬
‫الإن�سان من �أبعاده �إال �أقلها وبالتالي ال ي�سعى �إلى َّلذاتها‪ .‬قد ال يعي‬
‫الإن�سان كماالته وبالتالي ال يكمل نف�سه‪ .‬قد يكون وعيه مح�صور ًا‬
‫بمحدوديته وبالتالي يبقى همه البقاء بمقاومة هذه المحدودية‪ .‬فمعرفة‬
‫هذه الأمور ال يعني �أننا �سنعرف ما يجب �أن نقوم به‪� ،‬أو �أننا �سنقوم بما‬
‫يجب �أن نقوم به‪ .‬حتى لو عرفناها قد ال نكون مت�صلين بذواتنا بالقدر‬
‫الذي ي�سمح لنا �أن ن�ست�شعرها‪ .‬فبع�ض الحاجات تكون كامنة وال تظهر‬
‫‪157‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫بذاتها‪ .‬وقد ن�شعر بحاجاتنا ولكن ال نعرف كيف نحدد متطلباتها‪ .‬لأنَّ‬
‫بع�ض الحاجات ال تعبر عما تريده‪ ،‬و�إنما تَظهر فينا على �شكل ملل �أو‬
‫�إحباط‪ .‬وغالب ًا ما نترجم الملل �أو الإحباط على �أنها حاجات �أخرى‪،‬‬
‫ونبقى في حلقة مفرغة من الحاجات الثانوية‪.‬‬
‫تقاطع عنا�صر الحالة الإن�سانية يخلق كثير ًا من الم�شاعر‬
‫ال�سلبية التي ن�شعرها‪ .‬مث ًال الغيرة هي خليط من ال�شعور بالخوف‪،‬‬
‫والنق�ص‪ ،‬والرغبة في ال�سيطرة‪ ،‬وعمق حاجتنا لمن نغار عليه‪/‬عليها‪.‬‬
‫هذا الخليط ك َّثف الم�شاعر المقترنة بهذا ال�شعور وجعلته كما هو عليه‪.‬‬
‫ولذلك تختلف الغيرة من �أحد لآخر ح�سب درجة وجود تلك العنا�صر‪.‬‬
‫وكذلك الأمر لكثير من الم�شاعر التي ن�شعرها‪� .‬إنها خليط من الم�شاعر‬
‫المفردة وتحليلها وتفكيكها يعيننا على التعامل معها‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ما الفعل؟‬
‫نحن ذات بعد واح��د متدرج في الت�أثير والت�أثر بالوجود من‬
‫حوله‪ ،‬ونملك قدرات علمية وعملية‪ ،‬ومحدودون في ذاتنا وفي قدراتنا‪،‬‬
‫ولنا َّلذات وحاجات وكماالت ذاتية‪ ،‬نعي�ش في عالمين‪ :‬ذهني وخارجي‪.‬‬
‫هذه هي الخطوط العري�ضة للحالة الإن�سانية‪ ،‬وهي خطوط عري�ضة‬
‫اخت�ص َرت الكثير الكثير‪ .‬والتحدي التالي هو تحديد الفعل الذي‬
‫يتفاعل مع هذه الحالة بحيث ينتج حالة ال�سعادة التي نريدها‪ .‬وهذا‬
‫التحديد في غاية ال�صعوبة �إذ ذلك الفعل يجب �أن يجمع بين مجموعة‬
‫من ال�سمات‪:‬‬
‫يحيي فينا اال�ستقالل المطلق‪ :‬هذا اال�ستقالل هو من مقومات‬
‫جوهر �إن�سانيتنا‪ ،‬وبالتالي ف�أي فعل يجب �أن يبقي هذا الحانب حي ًا‪.‬‬
‫يلتفت �إلى اللذات والحاجات التي ال ُتبرز نف�سها بو�ضوح‪ :‬فهناك‬
‫لذات وحاجات ُتظهر نف�سها على �شكل �ضيق �أو �شعور بالخواء ونحو‬
‫ذلك من حاالت االنزعاج النف�سي؛ فتُعلن عن وجودها ولكن ال ت�شير‬
‫�إلى مطلبها‪ .‬وهناك حاجات تظهر على �شكل انفعاالت ج�سدية معلن ًة‬
‫عن وجودها وم�شيرة �إلى مطلبها بو�ضوح‪ .‬حاجات �صامتة‪ ،‬و�أخرى‬
‫‪159‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫ناطقة‪ .‬الفعل الذي يتم اختياره يجب �أن يعرف كيف يقر�أ ال�صمت‬
‫بقدر ما ي�سمع النطق‪.‬‬
‫يكون في نطاق �أهم ما ي�ؤثر علينا‪ :‬فنحن لن ن�ستطيع �أن نعمل‬
‫كل ما نريد فعله‪ ،‬وبالتالي يجب �أن نحدد �أم��ر ًا �أ�سا�سي ًا ن�سعى �إليه‬
‫ومجموعة من الأمور الفرعية‪.‬‬
‫يراعي الخ�صو�صيات الفردية‪ :‬فال ن�ستطيع �أن نغفل عن حقيقة‬
‫اختالفاتنا والتي ت�ؤثر على تقييمنا لما هو مهم و ُم ْر�ضي لنا‪ .‬اختالفات‬
‫تعود �إلى الطبيعة‪� ،‬أو التربية‪� ،‬أو المرحلة ال ُعمرية‪� ،‬أو الظروف الآنية‪.‬‬
‫على �سبيل المثال قد يكون �أحدنا �أكثر مي ًال �إلى التعلقات الأ�سرية في‬
‫حين �آخر يميل �إلى الأمور المعرفية‪.‬‬
‫يتوافق مع المعرفة التي التي نملكها عن العالم‪ :‬فمن يرى �أن‬
‫م�صيره هو نتيجة لأعماله واختياراته �سيفعل �أفعا ًال تختلف عن ذلك‬
‫الذي يرى �أن م�صيره مح�سوم �سلف ًا من قوى �أخرى غيبية �أو ظاهرة‪.‬‬
‫ومن المفارقات هي �أنه يمكن تحقيق بع�ض النجاحات في هذه الحياة‬
‫حتى لو ع�شنا وفق ر�ؤية غير �صحيحة عن العالم‪.‬‬
‫يكون �ضمن حدود قدراتنا العادية ولي�س المميزة‪ :‬فاقتراح‬
‫كر�ست حياتها له‪� ،‬أو ملكت �إرادة‬ ‫فعل ال يمكن القيام به �إال من قلة قليلة َّ‬
‫متميزة للثبات عليه‪� ،‬أو لديها الذكاء العالي للتفكير العميق فيه؛ �إن‬
‫اقتراح مثل هذا الفعل لن ينفع �إال �أقل القليل من النا�س‪ .‬ف�أنا �أرى �أنَّ‬
‫ال�سعادة الن�سبية غير مح�صورة بمن لديه قدرات ب�شرية غير عادية‪.‬‬
‫‪160‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ومن ي�ؤمن �أن ال�سعادة حق لفئة محدودة من النا�س ف�إنه لن يتفق‬


‫مع هذا ال�شرط‪ .‬ومن المهم �أن �أ�ضيف هنا �أن كون هذا الأمر �ضمن‬
‫قدراتنا العادية ال يعني �أن ال جهد فيه‪ .‬و�إن كنت �أظن �أنه ما لم تندمج‬
‫مثل هذه الأفكار في م�ؤ�س�ساتنا وخا�صة التعليمية منها ف�إن اال�ستفادة‬
‫�ستكون فردية ال لأنها خارج قدراتنا العادية بل لأننا �سن�سعى لها بعد‬
‫�أن ت�أخرنا زمان ًا‪.‬‬
‫يجب �أن يكون ما لو عمل به كل �أحد ل�سعد النا�س جميع ًا‪:‬‬
‫فهناك �أفعال لو قام بها جميع النا�س لأف�سدت على جميع النا�س‪.‬‬
‫واال�ستهالك المادي مثال وا�ضح على ه��ذا‪ .‬لو ا�ستهلك كل من في‬
‫الكوكب الأر�ضي القدر نف�سه من ا�ستهالك �شخ�ص متو�سط الثروة في‬
‫الواليات المتحدة الحتجنا كوكب ًا غير هذه الأر�ض‪.‬‬
‫وتحديد فعل يجمع هذه ال�سمات في غاية ال�صعوبة‪ ،‬ف� ً‬
‫ضال عن‬
‫القيام به‪ .‬وهذا �أحد الفروق المهمة بين الأفعال التي تحقق لنا ال�سعادة‬
‫الن�سبية وتلك التي ت�ؤهلنا لل�سعادة المطلقة �أو ال�سعادة التي ت�أتي من‬
‫اهلل تعالى‪ .‬فما يريده اهلل تعالى منا وا�ضح كل الو�ضوح و�سهل للغاية‬
‫مقارنة بما يتطلب فعله للح�صول على ال�سعادة الن�سبية‪ .‬و�أي�� ًا كانت‬
‫الإجابة فعلى كل منا �أن ُيع ِّمق وعيه بنف�سه وبالعالم من حوله باعتبار‬
‫هذا الوعي �شرط �أ�سا�سي لمعرفة الجواب‪ .‬ثم عليه �أن يقوم بترجيحاته‬
‫واختياراته بنف�سه متحم ًال �أخطاءه‪ ،‬ومتقب ًال نق�صه‪ ،‬ومحت�ضن ًا ذاته‪،‬‬
‫ومقدر ًا لحظات النجاح باعتبارها كنوز ًا ال تت�أتَّى دائم ًا‪ .‬وال �أرى �أنه‬
‫‪161‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫يمكن لأح��د �أن ُيعطي �آخ�� َر و�صفة مف�صلة‪ ،‬بل ال بد من �أن يجرب‬
‫الإن�سان بنف�سه‪ ،‬فالخيارات متعددة وال ح�صر لها‪.‬‬
‫�شخ�صي ًا �أرى �ضرورة التركيز على زيادة المرء في وجوده والذي‬
‫يتحقق ب�أحد طريقين‪:‬‬
‫�أن يزيد الإن�سان من وجوده من خالل �إطالق روحه نحو المطلق‬
‫والتعلق به‪ ،‬ومن خالل العي�ش في �أفق الأبد‪.‬‬
‫�أو من خالل �إطالق �إرادته لتفر�ض وجودها على ما حولها‪.‬‬
‫الطريق الأول هو النموذجي والمثالي والأكثر �إ�شباع ًا للإن�سان‪.‬‬
‫لأنه �إطالق في عالم ال حدود له‪ ،‬عالم ال مناف�س لك فيه‪ ،‬وال مزاحم‪،‬‬
‫عالم ال يقف �إال في حدود ما �أنت تقف عليه‪ .‬ولكن ح�صر الم�سير فيه‬
‫غير واقعي بالنظر �إلى طبيعة الب�شر‪.‬‬
‫الطريق الثاني هو الأكثر �شيوع ًا وهو الأكثر م�سار ًا‪ ،‬ولكن فيه‬
‫قمة التنا�شز مع الآخرين‪ ،‬و�أي�ض ًا مع الذات‪ .‬لأن الإرادة ال يمكن �إال و�أن‬
‫تتحرك في هذا العالم المحدود‪ ،‬والحركة الوا�سعة في م�سحة �ضيقة ال‬
‫يمكن �إال و�أن تنتج تنا�شز ًا وتنافر ًا وتهار�ش ًا‪.‬‬
‫و�إذا كان الأول هو المثالي‪ ،‬والثاني ال بد منه؛ فما الحل؟‬
‫الحل هو في �أن ُتطلق الروح في عالمها‪ ،‬و�أن ُتط َلق الإرادة في‬
‫عالمها‪ .‬ولكن بما �أن �إط�لاق الإرادة ي���ؤدي �إل��ى تنا�شز‪ ،‬فال بد من‬
‫طريقة لتخفيف ذلك التنا�شز‪ .‬ال بد من حركة للإرادة بطريقة تتناغم‬
‫مع حركة الآخرين‪.‬‬
‫‪162‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ولذلك فما �أقترحه هنا هو الكينونة المتناغمة‪:‬‬


‫كينونة‪� :‬أن يتحرك من �أجل زيادة وجوده ولكن في بعده الروحي‪.‬‬
‫متناغمة ب���أن ي�سعى للتخفيف من االحتكاكات �أثناء حركته‬
‫الإرادية‪.‬‬
‫�إنها حركة في اتجاهين‪ ،‬ولكن في االتجاه الأول هناك �سعي‬
‫لتفعيل هذه الحركة‪ ،‬و�أم��ا في االتجاه الثاني فهناك �سعي للتخفيف‬
‫من �آثارها‪ .‬وذلك ب�أن ال يكون التفاعل بين وجودنا وبين وجود الآخر‬
‫ن�شاز ًا‪� .‬أن ال يتحرك المرء في هذه الحياة بطريقة تت�ضارب ب�شدة مع‬
‫وجود غيره‪� .‬أقول ب�شدة لأن الت�ضارب المحدود في الأبعاد المادية من‬
‫حياة الإن�سان ال منا�ص منه‪ .‬فالدار كما ي�سميها البع�ض دار التزاحم‪.‬‬
‫ع��ب��ارة «ال��ك��ي��ن��ون��ة المتناغمة» ق��د ا�ستخدمت ول��ك��ن �أغ��ل��ب‬
‫ا�ستعماالتها تتحدث عن الكينونة باعتبارها حالة قارة مع نف�سه ومع‬
‫غيره‪ ،‬و�أن المتغير هو التناغم �أو عدمه‪ .‬في�صبح المعنى وفق تلك‬
‫اال�ستعماالت‪� :‬أن يعي�ش الإن�سان في تناغم مع غيره‪ .‬وما �أق�صده هنا‬
‫يختلف عن ذلك‪ .‬هنا الكينونة حالة متحركة غير ثابتة �إذ الإن�سان في‬
‫حركة وجودية متوا�صلة‪ .‬وفيما يلي تو�ضيح �أكثر لها‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬
‫الكينونة المتناغمة‬
‫الكينونة‬
‫الكينونة هي �أن يزيد الإن�سان من وجوده من خالل االنطالق‬
‫نحو المطلق والأبد والتعلق به‪ .‬و�أهم ما يحققها هو الوعي باهلل تعالى‪،‬‬
‫ولها �آثار على الإن�سان �أهمها �أنها تزيد من ر�ؤية الإن�سان لقيمة نف�سه‪،‬‬
‫وبالتالي ت�صغير ما حوله من الموجودات التي تتعلق به والتي يتعلق بها‪.‬‬

‫�آثار الكينونة‪ :‬القيمة الذاتية‬


‫الإن�سان الذي ينطلق في م�سيرة الكينونة يرى نف�سه كما هي‪.‬‬
‫ف�أو ًال يرى �أنه موجود انتقل من العدم المطلق �إلى الوجود‪ .‬ثم يدرك �أن‬
‫وجوده الذي انتقل �إليه هو وجود مقيد وعار�ض‪ .‬ف�إذا ت�أمل في هذا �شعر‬
‫بالم�سافة الالنهائية التي قطعها لكي ي�صل �إلى هنا‪� ،‬إذ الم�سافة بين‬
‫العدم والوجود م�سافة ال متناهية مهما كان الوجود مقيد ًا‪ .‬وفي الوقت‬
‫نف�سه �شعر بالمحدودية الهائلة التي هو فيها واله�شا�شة التامة التي‬
‫هو عليها‪� .‬شعوران متناق�ضان �أحدهما يزيد من نظرته لذاته والآخر‬
‫يقللها‪ .‬ثم ينظر مرة �أخرى لنف�سه لينتبه �إلى كونه فع ًال هلل المطلق‪.‬‬
‫هذا الإدراك يقدم ح ًال للتناق�ض ال�سابق‪ .‬فكون اهلل تعالى التفت �إليه‬
‫يعطيه قيمة عليا‪ .‬فكوننا محدودي الوجود يعالجها �أننا موجودون باهلل‬
‫تعالى‪ .‬ثم ينظر مرة �أخرى ليرى �أن مع ه�شا�شة وجوده �إال �أنه �سيبقى‬
‫�إلى الأبد ولن يفنى‪.‬‬
‫‪164‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫وه��ذه ال��ر�ؤي��ة تعيد ترتيب ال���ذات �أم���ام نف�سها وتعيد ترتيب‬


‫عالقاتها بكل متعلقاتها‪ .‬فمن جهة لم تعد ذلك المخلوق ال�صغير‬
‫الفاني فح�سب‪ .‬و�إنما هي المخلوق المتعلق باهلل تعالى الباقي �إلى الأبد‬
‫ب�إبقاء اهلل تعالى‪ .‬من جهة �أخرى ف�إن الذات ترى نف�سها وكل ما ت�سعى‬
‫للتعلق به من اله�شا�شة بحيث ال ت�شعر الذات ب�أنها �صارت �شيئ ًا مختلف ًا‬
‫بها‪ .‬الذات فقاعة �صابون من حيث اله�شا�شة‪ ،‬وفقاعة ال�صابون لن‬
‫ت�صبح �أكثر من ذلك حتى لو اجتمعت مع �آالف الفقاعات‪ .‬وال فرق‬
‫بين فقاعة كبيرة و�أخ��رى �صغيرة من حيث اله�شا�شة‪ .‬ويتطور وعي‬
‫الذات بنف�سها كما ي�سير �شعاع ال�ضوء من نقطة الظالم الدام�س �إلى‬
‫ال�شم�س الباهرة �إلى �أن يدرك الإن�سان �أنه بالن�سبة لم�صدر وجوده كما‬
‫لو كان فكرة في «عقل»‪ .‬وهذا الم�ستوى من التفكير في الوقت الذي‬
‫يقل�ص �شعور الإن�سان بوجوده ف�إنه يقلل �أي�ض ًا من قيمة كل ما يتعلق به‪،‬‬
‫ويجعله يرى الأمور من منظار واحد‪ ،‬و�أي�ض ًا يفتح له �أفق ر�ؤية عظمة‬
‫اهلل وجالله‪.‬‬
‫ما �أريد �أن �أقوله �إن هذه الم�سيرة تو�سع من حجم وجود الإن�سان‬
‫وتر�سخه وتزيد من قيمته �أمام نف�سه‪� .‬إنها م�سيرة من العدم �إلى �أن‬
‫يكون‪ :‬منحة من اهلل‪� ،‬أبدية‪� ،‬إرادته المحدودة موافقة لإرادة المطلق‬
‫الوجود‪.‬‬
‫وكلما كبرت ال���ذات �أم���ام نف�سها كلما �صغر م��ا حولها من‬
‫المتعلقات الفانية المحدودة‪ .‬وه��ذا هو غاية التوكل‪ .‬نحن نفهم‬
‫‪165‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫التوكل على �أنه وجود قوة �أعظم منا �ستحل ق�ضايانا المادية وترعى‬
‫م�صالحنا لأن همنا البحث عمن يحل م�شاكلنا المحدودة‪ .‬و�أما حين‬
‫نفهم التوكل على �أن��ه ر�ؤي��ة اهلل قبل وبعد كل �شيء‪ ،‬فهنا تو�سعت‬
‫مداركنا لترى الوجود كله‪ ،‬و�صارت الأمور �صغيرة بحيث لم تعد ذو‬
‫صال‪ .‬بل ي�صبح التوكل م�صدر قوتنا ووقوفنا �أمام وعينا‬ ‫�ش�أن لنا �أ� ً‬
‫بحجمنا في هذا الوجود‪.‬‬

‫التناغم‬
‫ال يمكن للإن�سان بما �أنه مخلوق مادي �أن يكتفي بالكينونة‪ .‬قد‬
‫ي�صح الأمر لأفراد عبر التاريخ ولكن لي�س للغالبية ال�ساحقة من النا�س‪.‬‬
‫فال بد من حركة بين النا�س وفي العالم المادي‪.‬‬
‫وللحركة عنا�صر متعددة مثل‪ :‬اتجاهها‪ ،‬قوة اندفاعها‪ ،‬مكانها‪،‬‬
‫عني ح�صر ًا بعن�صر‬
‫بدايتها‪ ،‬احتكاكها بما حولها‪� ...‬إلخ‪ .‬والتناغم ف َم ٌ‬
‫االحتكاك؛ ي�سعى لتخفيف االحتكاك ب�أكثر قدر ممكن ويترك بقية‬
‫عنا�صر الحركة للخ�صو�صيات التي يجدها كل فرد في نف�سه‪ .‬كما‬
‫يطمح التناغم �إلى حركة تكاملية بين �أفراد المجتمع‪ ،‬ولكنه يجعلها‬
‫نتيجة تلقائية ولي�س هدف ًا مق�صود ًا بحد ذاته‪.‬‬
‫وحركة الإن�سان في هذا العالم تح�صل على م�ستويات ثالثة‪:‬‬
‫حركته في ذات��ه‪ ،‬وحركته بين الآخ��ري��ن من النا�س‪ ،‬وحركته في‬
‫الطبيعة‪.‬‬
‫‪166‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫والمطلوب تحقيق التناغم في جميع الم�ستويات وخ�صو�ص ًا‬


‫حركته ف��ي ذات��ه‪ .‬فالإن�سان فيه �صفة بحيث يكون ثنائي ًا‪ ،‬وه��ذه‬
‫ال�صفة �أ�سا�سية فيه وت�شكل جزءا من �إن�سانيته ولكن في الوقت نف�سه‬
‫ت�ؤدي �إلى م�شاكل متعددة �إذا لم ي�ستطع التعامل مع نف�سه‪� .‬أال نجد‬
‫�أنف�سنا ن�شعر بالذنب نحو �أنف�سنا‪� ،‬أو �أعمالنا‪� ،‬أو عدم �أعمالنا‪ ،‬نعي�ش‬
‫حياتنا وك�أنها م�أ�ساة‪ ،‬نتخيل الأ�سو�أ‪ ،‬ال نعترف بما ننجزه‪ ،‬ن�ؤذي من‬
‫يقترب منا ومن يحبنا‪ ،‬ال نرتاح بالبقاء مع �أنف�سنا‪ .‬كما يجد كل‬
‫واحد منا نف�سه في مواجهة مجموعة من المع�ضالت الأخالقية‪� ،‬أو‬
‫م�شكالت موائمة التجربة مع االعتقاد‪� ،‬أو �صراع العقل مع العاطفة‪،‬‬
‫�أو �أزمة المعنى �أو الهدف من الحياة‪� ،‬أو البحث عن هوية فردية‪� ،‬أو‬
‫التوتر النا�شئ من التغيير‪� ،‬أو عدم القدرة على تحقيق الأهداف‪� ،‬أو‬
‫التغيرات التي ت�صيبنا في منت�صف �أعمارنا‪� ،‬أو �صعوبة التعامل مع‬
‫م�شاعرنا‪� ،‬أو عجزنا عن التكيف مع فكرة الموت‪� ،‬أو �ألم التعاطي‬
‫مع الأحالم التي كنا نريدها‪� ،‬أو الندم وجلد الذات‪ ،‬ولوم الآخرين‬
‫�أو عدم قبول �أنف�سنا ب�سبب نق�ص كمالنا‪ ...‬وغيرها من الق�ضايا‬
‫التي تثير �أزمة في داخل الإن�سان وما تلبث �أن تتحول �إلى �صراعات‬
‫خارجية‪.‬‬
‫لذلك ف���أول من يجب التناغم معه هو ال��ذات ثم غيرها‪ ،‬و�إذا‬
‫تناغم الإن�سان مع ذاته وعالج الإن�سان �أمر نف�سه مع نف�سه �أمكنه �أن‬
‫يعالج �أمور نف�سه مع غيره بدرجة عالية جد ًا‪.‬‬
‫‪167‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫ومثل �أي حركة ف�إن تخفيف االحتكاك يكون �إما‪:‬‬


‫بو�ضع عازل بين المتحرك وبين ما يتحرك عليه‪ :‬في حق الإن�سان‬
‫ف�إن ذلك العازل هو االلتفات �إلى ذاته كما هي واالنطالق في ذلك‬
‫االتجاه‪ ،‬وهذا يتحقق من خالل ر�ؤية الإن�سان لقيمة نف�سه‪.‬‬
‫زيادة الم�سافة بين المتحركين‪ :‬فللإن�سان م�ساحتان يتحرك‬
‫فيهما‪ :‬م�ساحة زمنية و�أخرى اجتماعية‪ ،‬وال بد من تو�سيعهما‪.‬‬
‫تنظيم الحركة‪ :‬بعد الأول والثاني تبقى مجاالت تحتاج �إلى‬
‫تنظيم من الغير‪.‬‬

‫ر�ؤية الذات لقيمتها ب�إزاء ما حولها‬


‫عند الحديث عن الكينونة �أ�شرت �إلى �أن من �آثارها �أن تزيد‬
‫قيمة الذات �أمام نف�سها‪ .‬هنا �أريد �أن �أبين كيف ي�ؤثر هذا على عالقة‬
‫الذات مع نف�سها ومع غيرها‪.‬‬
‫�إن ال��ذات تحتاج �إلى �أن تنظر �إلى نف�سها على �أنها ذو قيمة‪.‬‬
‫و�ست�سعى للح�صول على قيمة �إذا �شعرت �أنها دون ما تريد‪.‬‬
‫والذات تق ِّيم نف�سها وفق المعادلة‪:‬‬
‫قيمة الذات الأ�صلية ‪ +‬الأ�شياء العار�ضة = قيمتها النهائية‬
‫وهذه المعادلة تقول �إنه كلما ازدادت القيمة الأ�صلية للذات‪ ،‬كلما‬
‫كان دور الأ�شياء العار�ضة ثانوي ًا في زيادة القيمة النهائية‪ .‬ففي المعادلة‪:‬‬
‫‪9 =3 + 6‬‬

‫‪168‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ف�إن دور الـ «‪ »3‬في القيمة النهائية «‪ »9‬يمثل ‪ .33%‬ولكن في‬


‫المعادلة‬
‫‪1.000.003 = 3 + 1.000.000‬‬
‫ف�إن دور الـ «‪ »3‬ال يمثل �شيئ ًا ي�ستحق الذكر‪.‬‬
‫والأمر نف�سه في معادلة قيمة الذات‪ .‬فما ندركه من حجمنا ي�ؤثر‬
‫على عالقتنا بالوجود كله‪ .‬فكلما كان �إدراكنا بحجمنا �أكبر‪ ،‬كلما كانت‬
‫قيمة ما حولنا بالن�سبة لنا �أقل‪.‬‬
‫ثم لو اعتبرنا الـ «‪ »6‬قيمة �أحد‪ ،‬ف�إن ذلك ال�شخ�ص �سيتم�سك‬
‫بالـ «‪� »3‬أكثر بكثير مما �سيتم�سك بها من قيمته «‪ .»1.000.000‬وبالتالي‬
‫فبقدر ما ترى ال��ذات قيمتها �أقل فبقدر ما ي�سبب لها هذا �أزم��ة مع‬
‫نف�سها‪ ،‬ويجعلها تتم�سك بما حولها وت�صارع عليه �إذا لزم الأمر‪ ،‬بل‬
‫وت�أخذ ما لدى غيرها‪ .‬والنتيجة هي �شدة التنا�شز والتنافر‪ .‬فعندما‬
‫ت�صبح الأ�شياء هي كل �شيء‪ ،‬ون�صبح نحن ال �شيء‪ ،‬ي�صبح البحث‬
‫عن القيمة من خالل الأ�شياء‪ ،‬وهذا في غاية الخطورة لأنه ي�ؤدي �إلى‬
‫طغيان �أو �إلى �إحباط‪ .‬طغيان على الآخرين في �سبيل الح�صول على‬
‫�أكبر قدر من القيمة‪ ،‬و�إحباط حال الف�شل‪.‬‬
‫ثم �إن النا�س بطبيعتها تتفا�ضل‪ .‬ولكن بقدر ما تتفا�ضل على‬
‫�أ�سا�س قيمتها الذاتية بقدر ما تتوا�ضع لبع�ض‪ .‬و�سبب التوا�ضع هو �أنها‬
‫تعلم �أن م�صدر تلك القيمة هو اهلل‪ ،‬هي لم تفعل �شيئ ًا لتملك ما تملكه‪،‬‬
‫وما لديها موجود لدى الآخرين حتى لو لم يروه �أو يدركوه‪ .‬بل كلما‬
‫‪169‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫�أدركت قيمتها �أدركت ال �شيئتها وبالتالي لم تجد في نف�سها ما تتفا�ضل‬


‫به على غيرها‪.‬‬
‫وبقدر ما تتفا�ضل على �أ�سا�س قيمتها العار�ضة بقدر ما‬
‫تتعالى على بع�ض‪ .‬والنا�س ال تتفا�ضل على �أ�سا�س قيمتها العار�ضة‬
‫�إال �إذا كان لتلك القيمة �أثر على قيمتها النهائية‪ .‬و�سبب التعالي‬
‫�أنها ت�شعر ب�أنها ملكت ما لم يملكه غيرها‪ ،‬و�أنها ملكته بجهدها‬
‫وفعلها‪.‬‬
‫�إن �شعورنا ب�أننا كائنات ممكنة وم��ح��دودة ف��ي وج��وده��ا من‬
‫الأ�س�س الكبرى في نظامنا الأخالقي‪ .‬قد ال ن�ستطيع �أن ن�شيد �أخالق ًا‬
‫بناء على ما يجب فعله‪ ،‬ولكننا حتم ًا قادرون على ت�شييد �أخالق ًا بناء‬
‫على ما يجب تركه‪ .‬على وجوب ترك الظلم والإ�ساءة والتعالي والتف�سيه‬
‫والظلم‪ .‬وهذه الأخيرة تجد جذورها الرا�سخة في �إدراكنا لما نحن‪� .‬إن‬
‫هذا الإدراك هو خير وقاية من عقلية اال�ستحقاق الذاتي التي تقع في‬
‫عمق م�صائبنا وتعدي بع�ضنا على الآخر‪.‬‬
‫ولأهمية �أثر قيمة ما يملكه الإن�سان على عالقاته بالغير �سعت‬
‫كثير من الأديان والمدار�س الأخالقية �إلى معالجة هذه المع�ضلة‪.‬‬
‫منهم من لج�أ �إلى اعتبار �أن كل ما لدى الإن�سان هو ق�سمة �أزلية ال‬
‫عالقة لفعل الإن�سان فيها‪ .‬ومع �أن هذا فيه ما فيه‪� ،‬إال �أنه ال يعالج‬
‫الم�س�ألة من جذرها‪ .‬ما يعالجها هو �أن ال تعود تلك الأمور مما يق ِّيم‬
‫الإن�سان �أ� ً‬
‫صال‪.‬‬
‫‪170‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫فلو �أدركنا �أنف�سنا بطريقة تجعلنا ننظر �إلى �أنف�سا بحجم �أكبر‬
‫من العالم كله ف�إن هذا يقل�ص حجم ت�أثير العالم فينا‪ .‬وكلما وجدنا‬
‫�أنف�سنا �أكبر كلما كان ت�أثير ما نح�صل عليه من الحياة �أقل‪.‬‬
‫�أما �إذا وجدنا �أننا ل�سنا فقط �أكبر‪ ،‬و�إنما �أي�ض ًا «غير» ف�إن‬
‫ت�أثير العالم من حولنا �سيكون �شبه معدوم لأننا �سنراه غير ذات‬
‫جدوى ابتدا ًء‪ .‬عندما ندرك �أننا في الأ�سا�س كائن غير مادي‪ ،‬و�أن‬
‫المادة كلها ال يمكن �أن تزيد في مثقالنا ذرة‪ ،‬فعندها �ستختلف‬
‫المعادلة من �أ�صلها‪.‬‬
‫وكل ما �سبق ال يتحقق �إال من خالل التعلق بالمطلق والذي يفتح‬
‫المجال للكينونة‪.‬‬

‫الم�ساحة المتاحة زمني ًا واجتماعي ًا‬


‫�إن ر�ؤي��ت��ن��ا للم�ساحة المتاحة لنا تغير م��ن م��ع��ادالت الربح‬
‫والخ�سارة ب�شكل تام‪ .‬ومن �أ�شد ما يدمر الفرد هو �ضيق الم�ساحة التي‬
‫يراها متاحة له‪ .‬وهناك م�ساحتان �أ�سا�سيتان‪:‬‬
‫الأولى الم�ساحة الزمنية‪ :‬ويحدد حجمها الر�ؤية للوجود الزمني‬
‫لنا‪ :‬هل هو محدود في الفترة التي ندركها؟ �أم يتجاوزها؟ كم �سيعي�ش‬
‫المرء؟‬
‫الثانية الم�ساحة االجتماعية‪ :‬ما هو ال�سلوك المتاح للفرد؟ ما هو‬
‫الذي ي�صح فعله وما ال ي�صح؟‬
‫‪171‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫فلو كانت م�ساحة الفعل المتاحة �أمامنا هي هذا العالم فقط‪،‬‬


‫ف�إن هذا غير لو كانت م�ساحة الفعل لنا هي هذا الأبد‪ .‬ولو كانت م�ساحة‬
‫الفعل المتاحة �أمامنا هي كل ما نريده‪ ،‬ف�إن هذا يختلف عما لو كانت‬
‫م�ساحة الفعل هي مجرد ما يريده الآخرون‪.‬‬
‫وتو�سيع الم�ساحة الزمنية ي�أتي من خالل التعلق بالأبد‪ .‬وف� ً‬
‫ضال‬
‫عن كونها تمنح الإن�سان قيمة �أعلى ف�إنها �أي�ض ًا تجعله ينظر �إلى الأمور‬
‫من موقع مختلف‪� .‬إنَّ من لديه الأبد ليعي�ش فيه لن يقلقه �أن تفوته بع�ض‬
‫�سنين هنا وهناك‪ .‬ومن لديه م�صادر ال نهائية من الخير والعطايا‬
‫الآتية لن يقلقه فوات هذا وذاك‪.‬‬
‫كما �إن التعلق بالأبد �ضمن منظور ال ِع َو�ض الإلهي هو تعلق بالأمل‬
‫ب�أنَّ هذه الحياة لي�ست كل �شيء‪ ،‬و�أن م�شقة الحياة ومعاناتها لي�سا قدرنا‬
‫الوحيد �أي بعبارة �أخرى هو الإيمان ب�أن هذه الحياة لي�ست عبث ًا‪� .‬إنَّ �أي‬
‫نفي لحياة �أخرى و�سم للحياة هذه بالعبثية‪ .‬فما معنى �أن نعي�ش هذه‬
‫العي�شة المليئة بالأحزان والأالم لو كانت هي كل �شيء؟ ولكن مجرد‬
‫الإيمان ب�إله حكيم ورحيم وعادل يناق�ض �أي افترا�ض لعبثية الحياة‪.‬‬
‫بل مجرد النظر �إلى نجمة في ليل‪� ،‬أو فرا�شة في حقل‪� ،‬أو حبة ثلج ينفي‬
‫تمام ًا احتمال العبث‪.‬‬
‫�أم��ا تو�سيع الم�ساحة المتاحة اجتماعي ًا ف��ب���أن يتم احترام‬
‫خ�صو�صية الفرد واختياراته‪ ،‬بحيث ال ي�شعر المرء �أن وجوده محا�صر‬
‫ب�إرادات الآخرين‪� .‬أي�ض ًا باحترام الإبداع بحيث ي�شعر كل فرد ب�أن له‬
‫‪172‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫القدرة على خلق م�ساحات و�آفاق جديدة‪ .‬ثم ب�أن نقلل من االفترا�ضات‬
‫حول توقعات الآخرين‪ .‬فما �أتوقعه من ردود فعل الغير بمثابة القيود‬
‫على الفعل‪ .‬وكلما قللت من تلك التوقعات كلما و�سعت من م�ساحة الفعل‬
‫لي‪.‬‬

‫تنظيم م�ساحة الحركة االجتماعية‬


‫بعد ه��ذا كله يبقى ت�صادم النا�س وارد ًا‪ .‬فقد ال يم�ضي‬
‫الجميع في طريق الكينونة‪ ،‬وقد ال يرى الكل �سعة الم�ساحة بالدرجة‬
‫ذاتها‪ ،‬ولذلك يبقى من الأهمية بمكان تنظيم م�ساحة الحركة‬
‫االجتماعية‪ .‬و�أه��م ما نحتاجه في هذا التنظيم هو �أن ي�أمن كل‬
‫فرد من الآخر‪ ،‬و�أن ي�شعر كل فرد بتكاف�ؤ الفر�ص المتاحة له في‬
‫حركته االجتماعية‪ .‬و�أي تق�صير في الأمرين هذين يخلق م�شاكل‬
‫اجتماعية ال ح�صر لها‪ ،‬وال يمكن عالجها مبا�شر ًة‪ .‬وهذا يكون من‬
‫خالل تر�سيخ قواعد تكاف�ؤ الفر�ص‪ ،‬والإن�صاف في توزيع الموارد‪.‬‬
‫وتعميم ثقافة الحقوق و�ضبط ال�سيطرة على العنف الع�شوائي وغير‬
‫الم�سوغ‪ .‬وتكثيف ال�شبكات االجتماعية و�شبكات تبادل المعلومات‪،‬‬
‫وتعميق التعاطف االجتماعي‪ .‬وبهذه الأمور يمكن �ضبط اختيارات‬
‫الغير‪ ،‬كما يمكن تخفيف احتمال تقاطع اختيارات �سلبي وتكثيف‬
‫احتماالت تقاطع االختيارات الإيجابي‪ .‬وقد تناولت ق�سم ًا منه في‬
‫بحث م�ستقل‪.‬‬
‫‪173‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫الوعي باهلل‬
‫�إلى هنا اقترحت الكينونة المتناغمة طريق ًا لل�سعادة‪ .‬وذكرت‬
‫�أنها ال تتحقق بغير االت�صال �أو ا�ستح�ضار اهلل تعالى‪ .‬ولكن لي�س �أي‬
‫معرفة يمكنها �أن ت�سهم في تحقيق التو�سع الوجودي‪� .‬أغلب معارفنا‬
‫باهلل تعالى تحقق ما يمكن اعتباره ال�ضبط الإرادي‪ .‬الإله الذي يعاقب‬
‫ويثيب‪ .‬وبالتالي دوره في حياتنا هو في �ضبط �إرادتنا‪ .‬وما �سي�أتي �إ�شارة‬
‫�إلى الخطوط العري�ضة لهذه الق�ضية‪.‬‬

‫حول معرفة اهلل‬


‫الق�ضية الأولى التي يجب �إثارتها في باب معرفة اهلل هو �أنه‬
‫ال يمكن الو�صول �إلى يقين فيها‪ .‬وذلك لأننا ال نملك و�سيلة للتحقق‬
‫من �صوابية الر�أي �أو خط�أه‪ .‬لدينا الأدوات لبناء معرفة‪ .‬يمكن لنا‬
‫�أن نقدم ت�صورات ومفاهيم مفيدة‪ .‬يمكن ا�ستك�شاف التنا�شز بين‬
‫المفاهيم واعتباره و�سيلة لت�صحيح ال�صورة الكلية‪ .‬ولكن ال يمكن‬
‫الو�صول �إلى يقين‪ .‬لذلك فال�سبيل الوحيد الممكن في هذا الأمر هو‬
‫التفكير والنقا�ش مع الآخرين ومحاولة ا�ستك�شاف �أف�ضل ما يمكن‬
‫من خالل هذا‪.‬‬
‫الأمر الثاني هو �أن معرفة اهلل تعالى مثل غيرها من المعارف‬
‫ويجب التعامل معها كذلك‪ .‬وبالتالي ينطبق عليها كل ما ينطبق على‬
‫‪174‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫المعارف الأخرى‪ .‬ومن �أهم ما �أ�شير �إليه هنا هو ت�أثير الواقع النف�سي‬
‫واالجتماعي عليها‪ .‬فنحن ال نعرف اهلل فح�سب و�إنما نك ِّون �صورته لدينا‬
‫بح�سب حاجاتنا وم�صالحنا‪ .‬نحن ال نعرف اهلل من خالل مجال�س‬
‫فكرية فل�سفية نظرية‪ .‬و�إنما من خالل تفاعالت حياتية مختلفة‪.‬‬
‫الق�ضية الثالثة هي �أن القر�آن الكريم لي�س م�صدر ًا �أ�سا�سي ًا في‬
‫معرفة اهلل‪ .‬بل القر�آن �إلى حد كبير يت�أثر بالمعارف ال�سابقة لدينا‬
‫ويتوجه بها‪� .‬صحيح �أن بع�ض المعارف ال�سابقة ال يمكن تطبيقها على‬
‫القر�آن بغير بع�ض الق�سر‪ ،‬ولكن طبيعة الن�ص اللغوي وطبيعة الن�ص‬
‫القر�آني تحديد ًا يجعل من انتزاع معان مختلفة منه ممكن ًا‪.‬‬
‫الق�ضية الرابعة هي �أن التجارب ال�شخ�صية ال ي�صح �أي�ض ًا �أن‬
‫تكون م�صد ًا للمعرفة الإلهية‪ .‬بما في ذلك الإلهامات‪ .‬ولتو�ضيح هذه‬
‫النقطة �أحتاج �أن �أ�ضع حد ًا وا�ضح ًا بين التجربة وبين التعبير عنها‪.‬‬
‫قد �أ�شعر م�شاعر معينة ف�أقول �إنها حب �أو �إنها �إعجاب �أو �إنها تقدير‬
‫�أو �إنها �شهوة‪ .‬تجربة واحدة �أو لأقل حالة واحدة ولها �أكثر من ت�سمية‪.‬‬
‫التجربة �أو الحالة ال تو�صف ب�أنها �صحيحة �أو مخطئة‪ .‬هي كما هي‪.‬‬
‫موجودة‪ .‬ولكن التو�صيف يمكن القول ب�أنه خط�أ‪ .‬و�أن��ا و�أن��ت عندما‬
‫نقوم بالتو�صيف ف�إننا ن�ستخدم الر�صيد الثقافي واللغوي الذي لدينا‪.‬‬
‫ولذلك يمكن القول ب�أن التجارب �شخ�صية‪ .‬ولكن التعبير عنها دائم ًا‬
‫اجتماعي‪ .‬فلو قال �أحد �إنه مر بتجربة ما �أثبتت له �أن اهلل تعالى كذا‬
‫وكذا‪ .‬لقلت له‪ .‬لديك تجربة‪ .‬ولديك تو�صيف �أو تعبير عنها‪ .‬التجربة‬
‫‪175‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫يمكن �أن تكون �أي �شيء‪ .‬ولن �أج��ادل وجودها‪ .‬و�أم��ا التو�صيف فهو‬
‫ي�ستند على الثقافة التي تنتمي �إليها �أو الثقافة التي كونتها لنف�سك‪.‬‬
‫فيمكن �أن �أناق�ش التعبير‪ .‬و�أحد الأمثلة الوا�ضحة لذلك هي التجارب‬
‫الروحية التي تح�صل خالل الطقو�س ال�صوفية ونحوها‪ .‬هذه الطقو�س‬
‫تخلق تجربة في �أنف�س حا�ضريها‪ .‬ولكن التعبير عنها �سيتفاوت بتفاوت‬
‫الثقافة التي ينتمي �إليها الح�ضور‪ .‬فلو كانوا �صوفية م�سلمين لقالوا غير‬
‫ما �سيقوله �صوفيه م�سيحيين �أو يهود �أو هندو�س‪ .‬بل �صوفية من ال�شرق‬
‫�ستقول غير ما تقوله �صوفية من الغرب‪.‬‬
‫لكل ذلك �أعود و�أقول �إنه ال منا�ص من الحوار الجمعي والنقا�ش‬
‫العام في مو�ضوع معرفة اهلل‪ .‬ال بد للنقا�ش من �أن ي�ستمد مادته من‬
‫الفكر والفل�سفة وعلم الكالم والعلوم االجتماعية‪ ،‬ولكن ال بد �أي�ض ًا من‬
‫�أن يتعامل مع تعاطي النا�س للق�ضية ب�شكل جدي‪ .‬كما ال بد من التخلي‬
‫عن لغة الدليل والحجة واالل���زام واالث��ب��ات‪ ،‬والتم�سك بلغة الحوار‬
‫المفتوح المتوا�صل‪ .‬ولغة القفزات الإيمانية‪.‬‬
‫�إن الإي��م��ان ب��اهلل ومعرفة اهلل تعالى ال ت�ؤخذ �إيمان ًا فح�سب‬
‫ولكنها �أي�ض ًا ال ت�ؤخذ عق ًال فح�سب‪ .‬هي ت�ؤخذ من خالل العقل الجمعي‬
‫الم�شترك الذي يتم تكوينه من خالل الحوار المتوا�صل والذي يقر ب�أن‬
‫قفزة الإيمان في الحقيقة ما هي �إال عودة �إلى ذات مك َّونة‪ .‬ذات تريد‬
‫�أن ت�صدق ما �ألفته �أو ما تحتاجه‪ .‬و�أن نقبل هذه القفزة الذاتية بعد �أن‬
‫نمار�س عمليات تحليلية نقدية جماعية‪.‬‬
‫‪176‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫وما �أطرحه هنا ت�صور يحتاج الكثير من المراجعة‪ ،‬ولكن في‬


‫الوقت نف�سه �أت�صور �أنه يقدم مادة جيدة للتفكير في هذا الأمر‪.‬‬

‫احت�ضان ال�شك‬
‫ه��ذه ق�ضية خام�سة ذات �صلة بمعرفة اهلل تعالى‪ .‬وه��و �أن‬
‫علينا �أن ال نخ�شى من ال�شك‪ .‬فالمو�ضوع نف�سه يحتمل ال�شك بدرجة‬
‫عالية‪ ،‬ومن لم ي�شك لم يعرف‪ .‬بمعنى �أن من ظن اليقين دوم ًا هو‬
‫في الحقيقة ال يعرف مو�ضوع بحثه‪ .‬اليقين لي�س ممكن ًا وال مطلب ًا‪.‬‬
‫المطلوب هو التفكير بمنهجية والحوار ب�إن�صاف والتحلي بتوا�ضع‬
‫معرفي‪ .‬وربما �أ�ضيف التحلي ب�شك منظم ولي�س �شك ع�شوائي‪ .‬فلكل‬
‫�شك نطاق و ولكل �شك مدى‪ .‬هناك �شك يطال م�سائل دون �أخرى‪،‬‬
‫فال �أجعل �شكي في ق�ضية ين�سحب على جميع الق�ضايا‪ .‬كما �إن لكل‬
‫�شك م��دى‪ ،‬فهناك �شك متو�سط وهناك �شك �شديد وهناك �شك‬
‫عميق‪ .‬ال�شك مثل نقطة �سوداء في لوحة جميلة‪ .‬والمتفكر هو مثل‬
‫المت�أمل في لوحة رائعة الجمال‪ .‬الت�أمل يبرز ما في اللوحة من نقاط‬
‫�سوداء هنا وهناك‪ ،‬ولكنه ال يلغي جمالها ويقلل من روعة ما فيها‪.‬‬
‫المت�أمل في اللوحة �سيحت�ضن جمال اللوحة بما فيها‪ ،‬ويقبلها كما‬
‫هي بما لها وما عليها‪ ،‬وهذا غاية القبول‪ .‬وبمثل ذلك فالتفكر ُيبرز‬
‫ق�ضايا ال جواب لها‪ ،‬ال منطق فيها‪ ،‬ولكن ال ُيمحي ما في الوجود من‬
‫جمال وحكمة وروعة‪.‬‬
‫‪177‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫والحياة لوحة جميلة ولكن فيها الكثير من النقاط ال�سوداء‪� .‬أن‬


‫يعي�ش مليارات من الب�شر كما يعي�شون‪� .‬أن تقوم الحياة على التدمير‪.‬‬
‫نظام الغذاء بين الكائنات قائم على الأل��م‪ .‬بقائي قائم على الألم‬
‫لغيري‪ .‬هذه ق�ضية ترهق كل من يحاول �أن ي�ؤمن باهلل تعالى‪ .‬وعلينا‬
‫�أن نحافظ على حقنا في الإرهاق وفي الت�سا�ؤل حولها و�أن ال نكبته‪ .‬بل‬
‫م�س�ألة الوعيد �أي�ض ًا مرهقة‪ .‬لماذا يخلقنا اهلل ثم يعذبنا؟ لماذا يعذبنا‬
‫بذلك العذاب ال�شديد ال�شديد!! ولماذا يعذبنا على ق�ضايا ال يبدو �أنها‬
‫ت�ستحق هذا العذاب؟ هذه النقاط يجب �أن ال تغير من الجمال الموجود‬
‫في لوحة الوجود‪ .‬الجمال الذي هو اهلل ومن اهلل‪.‬‬
‫وال�شاك بعد �شكه يحافظ على �إيمانه ال لأنه تجاوز ال�شك بل لأنه‬
‫احت�ضنه‪ ،‬وا�ستطاع �أن يتعاي�ش معه‪ .‬بعبارة �أخرى ا�ستطاع �أن يتعاي�ش‬
‫مع محدودية ذاته ومحدودية فكره وتقبل �أنه لن يجد الجواب على كل‬
‫�شيء‪� .‬أ�سو�أ ما نعمله هو �أن نرف�ض ال�شك و�أن نقاومه‪ .‬علينا �أن نحت�ضنه‬
‫ولكن نبقيه في نطاقه‪.‬‬
‫وما �أق�صده باحت�ضان ال�شك هو �أن ندرك �أن ال�س�ؤال طبيعي و�أن‬
‫ال�شك طبيعي‪ ،‬بل و�أنه �صحي و�ضروري �أحيان ًا‪.‬‬
‫احت�ضان ال�شك هو ب�أن نتفاعل معه‪ ،‬و�أن نتعاي�ش معه �أحيان ًا‪� .‬أن‬
‫�أ�س�أل نف�سي �أ�سئلة حول ال�شك نف�سه ولي�س حول م�ضمون ال�شك‪ .‬لماذا‬
‫الآن �شككت؟ ما الذي تغير في �شخ�صيتي؟ ما هي الأحداث التي ح�صلت؟‬
‫هل الم�س�ألة ال�شجاعة على �إثارة ق�ضايا مكبوتة؟ �أم القهر؟ �أم االحباط؟‬
‫‪178‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫االحت�ضان �أي�ض ًا هو �أن ال ن�شعر بالإرهاق من حالة الال يقين‪.‬‬


‫بل نعتبر الاليقين م�صدر قوة في �أكثر الأحوال‪ .‬اليقين حيوي بالن�سبة‬
‫للم�ؤ�س�سات الدينية ولكنه لي�س بال�ضرورة �صحي بالن�سبة للحالة‬
‫الإيمانية الفردية �أو االجتماعية‪ .‬فنحن �أمام ق�ضايا كبيرة ال يمكن �إال‬
‫و�أن تثير فينا �أ�سئلة متعددة‪ .‬ويجب �أن نكون �صادقين مع انف�سنا و�أن‬
‫ال نكبت هذه الأ�سئلة و�أن نحافظ عليها‪ .‬وفي الوقت نف�سه علينا �أن‬
‫ال نن�سى حجمنا الوجودي‪ .‬فالجهل كما �إنه م�سوغ لل�شك �إال �إنه دافع‬
‫للتوا�ضع �أي�ض ًا‪ .‬والخط�أ عندما يتحول الجهل �إلى م�سوغ للكبرياء‪.‬‬
‫واالحت�ضان �أي�ض ًا يعني االحتواء‪� .‬أي ال �أترك ال�شك بحيث ينت�شر‬
‫�إلى �أكثر من نطاقها‪ .‬فالق�ضايا التي ن�ؤمن بها ذات نظاقات مختلفة‪.‬‬
‫على �سبيل المثال �أحد الباحثين يحلل الإيمان بالقر�آن فيقول ما مفاده‪:‬‬
‫لكي �أ�ؤمن �أن القر�آن كلمة اهلل فعلي �أن �أ�ؤمن بجملة من الق�ضايا منها‪:‬‬
‫ب�صحة بعثة الأنبياء وهي ق�ضية جدلية كبيرة‪ .‬ومنها تعريف النبوة‬
‫بين كونها ات�صا ًال باهلل �أو �إر�سا ًال من اهلل‪ .‬وماهية الوحي بين �أن يكون‬
‫�إلهام ًا من اهلل للنبي فح�سب وتكون �صياغة الن�ص من النبي وبين �أن‬
‫يكون الن�ص نف�سه من اهلل تعالى‪ .‬ومنها �أن العجزة عالمة نبوة‪ .‬ومنها‬
‫�أن القر�آن نف�سه معجزة‪ .‬ومنها �أن الرواية المتواترة يجب العمل بها‬
‫ويحرم بل يكفر من خالفه؛ وهذا لكي ن�ؤمن �أن القر�آن بين �أيدينا هو‬
‫ما يجب �أن ن�ؤمن به‪ .‬ومنها �أن القر�آن هو لكافة الب�شر �إلى يوم القيامة‬
‫ولي�س فقط للعرب الذي �أر�سل بينهم �سيدنا محمد‪ ...‬وغير ذلك من‬
‫‪179‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫الق�ضايا المعقدة والكبيرة والتي تجعلني �أ�ؤم��ن ب�أن من يب�سط �أمر‬


‫الإيمان ال يدري ما هو الإيمان‪ .‬وما �أردت قوله ب�أن من �شك في م�س�ألة‬
‫من هذه الفروع عليه �أن يبقي �شكه في ذلك النطاق وال يعممه‪ .‬فمث ًال لو‬
‫�شكك �أحد في ق�ضية نقل القر�آن فهذا ال يعني �أن ال لم يوحي بالقر�آن‪.‬‬
‫�أو لو ت�ساءل عن عالقة القر�آن بكافة الأزمان هذا ال يعني �أن القر�آن لم‬
‫يعد �صالح ًا بالمطلق لهذا الزمان‪.‬‬

‫ماذا لو لم يكن اهلل موجود ًا؟‬


‫ونعود �إلى ال�س�ؤال الأول‪� :‬أي وعي باهلل وكيف يتحقق؟‬
‫هناك طرق متعددة للإجابة على ذلك ال�س�ؤال اعتماد ًا على‬
‫الوجهة التي ننطلق منها‪ .‬منطلقي في الإجابة يبد�أ من �س�ؤال �آخر عن‬
‫ما هو اهلل تعالى لنا؟ ما هي مكانته في �أنف�سنا؟ لو لم يكن اهلل موجود ًا‬
‫�أو لو لم نكن ن�ؤمن باهلل تعالى فكيف �ستكون حياتنا؟ لو �ألحدنا في هذه‬
‫اللحظة فكيف �ستكون حياتنا في اللحظات التي تليها؟ هل �سن�شعر �أننا‬
‫فقدنا �أمر ًا؟ �أو ك�سبنا �أمر ًا؟ وقد طرحت هذه الأ�سئلة على مجموعة‬
‫كبيرة من النا�س وف��ي غير منا�سبة وم��ن خلفيات عمرية مختلفة‪،‬‬
‫قدر اهلل تعالى في �أنف�سنا‪.‬‬
‫ووجدت �إجابات متنوعة كل منها يعك�س ْ‬
‫البع�ض لم يجد جواب ًا لهذا ال�س�ؤال‪ ،‬بل لم يجد لل�س�ؤال معنى‬
‫فيتجنب التفكير فيه ويقول‪� :‬إنه تعالى موجود‪ ،‬و�أنا م�ؤمن به‪ ،‬والأمر هو‬
‫هكذا‪ ،‬وال �ضرورة للخو�ض في مثل هذه االفترا�ضات التي ال معنى لها‪.‬‬
‫‪180‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫البع�ض ر�أى �أنه �سيك�سب حريته‪ ،‬ولن يفقد �شيئ ًا‪.‬‬


‫البع�ض قال‪� :‬إننا �سنفقد من يثيبنا ويعاقبنا يوم القيامة‪ ،‬ومن‬
‫يعو�ضنا على ما نعانيه وين�صفنا ممن ظلمنا‪ ،‬ومن يعيننا على �أمور‬
‫الحياة‪ ،‬ومن نلج�أ �إليه حال ال�شدائد‪.‬‬
‫بع�ضنا �أج����اب ب���إن��ن��ا �سنفقد م��ع��ي��اري��ة ال��ح��ق وال��ب��اط��ل‪،‬‬
‫و�سي�ضيع لنا التمييز بين الح�سن والقبيح‪ ،‬و�ستفقد الأخ�لاق‬
‫معناها‪ ،‬و�سي�صح فعل كل �شيء و�أي �شيء‪ ،‬و�سي�ضمحل الفرق بين‬
‫الخط�أ وال�صواب‪ ،‬والواجب والممنوع‪ ،‬و�سي�ضيع الفرق النوعي‬
‫بين الإن�سانية والحيوانية‪ ،‬ولن نكون �أح�سن حا ًال من غيرنا من‬
‫الكائنات‪ .‬و�سي�ضحي ما يميزنا عن غيرنا هو مقدار ما نملكه من‬
‫ال�سيطرة‪ ،‬ولي�س �أي اعتبار معنوي‪ .‬بعبارة �أخرى �سيكون جواب‬
‫مثل هذا‪� :‬أن ال ن�ؤمن باهلل معناه �أن ال ن�ؤمن بنا‪ ،‬و�أن ال يوجد اهلل‬
‫تعالى معناه �أن ال توجد الإن�سانية ال�سامية‪.‬‬
‫�آخرون ر�أوا �أن حياة بال �إله تدور حول نف�سها‪ ،‬وال تتجه �إلى �أي‬
‫وجهة �أ�سمى و�أجمل و�أقل معانا ًة وي�صبح الوجود عبث ًا ولعب ًا‪ ،‬والحياة‬
‫�ضيقة �أفقها ومحدود مداها‪.‬‬
‫وهناك من قال �أنْ ال يكون اهلل موجود ًا معناه �أن ال نكون نحن‪،‬‬
‫صال‪ ،‬وعلى هذا الأ�سا�س ف�إن ال�س�ؤال غير ممكن‬ ‫�أن ال نكون موجودين �أ� ً‬
‫منطقي ًا؛ فاهلل تعالى �ضرورة فل�سفية ولي�س فقط �ضرورة �إيمانية �أو‬
‫نف�سية‪.‬‬
‫‪181‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫ه��ذه الأج��وب��ة تمثل عينة من الإج��اب��ات المحتملة لمثل ذلك‬


‫ال�س�ؤال‪ .‬وربما �أجد �أجوبة �أخرى لو و�س ّعت دائرة من �س�ألت‪� .‬س�ؤال‬
‫واح��د‪ ،‬تتعدد �إجابته بح�سب موقع اهلل في �أنف�سنا وفي عقولنا‪ ،‬بل‬
‫بح�سب وعينا بذواتنا ومعرفتنا بما حولنا‪ ،‬وي��دل على االت�صال �أو‬
‫الإنف�صال بيننا وبين اهلل تعالى وبين �أنف�سنا وبين الوجود‪ ،‬وعلى نوع‬
‫العالقة المت�صورة مع اهلل تعالى ومع �أنف�سنا وما حولنا‪.‬‬
‫�إن وج��ود اهلل تعالى بالن�سبة للجواب الأول يكاد يكون وج��ود ًا‬
‫صال عن الإن�سان لأنه تعالى حقيقة «هناك»‪ ،‬وال يوجد م�ساحة‬ ‫منف� ً‬
‫للتفكير في كيف يكون حقيقة «هنا»‪.‬‬
‫بالن�سبة للمجموعة الثانية فاهلل تعالى �أكثر ات�صا ًال‪ ،‬ولكنه‬
‫ات�صال خارجي‪� .‬إنَّ اهلل تعالى بالن�سبة لها م�صدر للمنافع الخارجية‬
‫التي يحتاجها الإن�سان �أو الم�ضار التي يخ�شاها‪ .‬والمنافع والم�ضار‬
‫�أمور خارجة عن الإن�سان‪ ،‬وهي �أي�ض ًا غير اهلل تعالى‪ .‬وهذا النوع‬
‫من االت�صال لي�س مح�صور ًا باهلل‪ .‬فكثير من عالقاتنا مع ما حولنا‬
‫تعتمد على الم�صالح المترتبة من وراء تلك العالقة‪ .‬لذلك ف�إن هذا‬
‫النوع من االت�صال الخارجي م�شترك بين اهلل وبين غيره مع فرق‬
‫طبع ًا في في مقدار ما يمكن �أن يحققه اهلل لنا مقابل ما يحققه غير‬
‫اهلل وفي درجة ح�ضور اهلل في مقابل �شعورنا لح�ضور غير اهلل‪ .‬فلأن‬
‫اهلل تعالى اهلل �أكثر قدرة ف�إ ِّننا نتوقع منه �أكثر‪ ،‬ولكن لأن ح�ضوره‬
‫في �إدراكنا �أقل ف�إننا نرى �أنَّ ا�ستجابته �أبعد و�أبط�أ و�أقل فورية من‬
‫‪182‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ا�ستجابة غيره من م�صادر المنافع‪ .‬ولذلك ف�إن اعتمادنا على اهلل‬


‫في �إطار هذا النوع من العالقة يكون خال�ص ًا بقدر ما انقطعت الأمال‬
‫عن غيره‪ .‬ول��و ت�أملنا ف�سنجد �أنَّ كثير ًا ممن يعبد ب��اهلل من هذه‬
‫الوجهة �سيعبد ال�شخ�صيات التي في يدها المنافع والم�ضار‪ .‬فذهنية‬
‫مثل هذا تتعلق باهلل من جهة الحاجة �إلى من يوفر لها الم�صالح‪،‬‬
‫وهذه الحاجة تتحقق نموذجي ًا من ِقبل القوي الحا�ضر الفوري في‬
‫�إجابته‪ .‬ولذلك ف�إنها متى ما قابلت من يملك ذلك ف�إنه �ستخ�ضع له‬
‫خ�ضوع ًا يقرب من خ�ضوع العبادة‪� .‬أي�ض ًا نالحظ �أن �سمات الإله في‬
‫ذهنيات من يعبد اهلل من هذه الجهة ي�شبه �إلى حد كبير �شكل الأفراد‬
‫العظماء بيننا‪ .‬فالذهنية لم ت�ؤثر على نوع عالقتنا به فح�سب‪ ،‬بل‬
‫�أي�ض ًا �أ�سهمت في ت�شكيل ت�صورنا عنه تعالى‪.‬‬
‫الثالث والرابع والخام�س من الأجوبة جعلت اهلل تعالى �أكثر‬
‫ات�صا ًال بالإن�سان ولكن �ضمن نطاقات مختلفة‪ .‬فالثالث يرى اهلل تعالى‬
‫باعتباره �أ�سا�س ًا لإدراك الخير ومنبع ًا لمعرفة القيم‪ ،‬ويجعل التعريف‬
‫الأخالقي للإن�سان قائم على الإيمان باهلل تعالى‪ .‬ف�أي افترا�ض لإن�سانية‬
‫الإن�سان‪ ،‬وبالتالي لجدوى ال ِق َيم الأخالقية يت�ضمن منطقي ًا افترا�ض‬
‫�أنه تعالى موجود‪� .‬إنه ال يمكن بناء �أي منظومة �أخالقية متكاملة ال‬
‫ت�شرح م�صدر نزعتنا الأخالقية‪ ،‬وم�آلها‪ ،‬ومن �سيرعاها حتى في �أ�شد‬
‫تعريف غير عبثي للحياة مت�ضمن ًا حكم ًا‬
‫ٍ‬ ‫ظروفها‪ .‬والرابع يجعل �أي‬
‫لوجود �إل��ه حكيم ف��اهلل �أ�صل �أي معنى في ه��ذه الحياة‪ .‬والخام�س‬
‫‪183‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫يرى اهلل �أ�صل الوجود ويجعل التعريف الوجودي للإن�سان قائم ًا على‬
‫افترا�ض وجود اهلل تعالى‪.‬‬
‫ومن المنا�سب �أن �أ�ؤكد هنا على �أهمية التحلي بالتوا�ضع و�إدراك‬
‫محدوديتنا ونحن نتاول هذه الق�ضايا و�أن ن�ؤكد �أهمية المعرفة المنهجية‬
‫و���ض��رورة فتح قلوبنا على الآخ��ري��ن بالتراحم والت�سامح والتعاطف‬
‫والحب وال�شكر‪ ،‬وذلك لكي يكون لهذه الق�ضايا م�ساحة في حياتنا وال‬
‫تبقى مجرد �أفكار في عقولنا‪.‬‬

‫لماذا ال�س�ؤال؟‬
‫ن�ش�أ ه��ذا ال�س�ؤال ـ ما ذا لم لو يكن اهلل م��وج��ود ًا؟ ـ ب�سبب‬
‫�شعو ٍر باالنف�صال عن اهلل تعالى‪ ،‬و�شعو ٍر بعدم المالءمة �أو الن�شاز‪.‬‬
‫عدم مالءمة ون�شاز لأمر غير ظاهر‪ .‬وكان ال�شعور يت�أكد ل َّما �أجد‬
‫لدي �أكثر من غيره‪ .‬وكنت �أ�شعر عندها �أن‬ ‫الجواب الثاني حا�ضر ًا ّ‬
‫العالقة الم�صالحية مع اهلل تعالى غير الئقة به و�سطحية للغاية‪.‬‬
‫غير الئقة لأنني ح َّولت اهلل تعالى �إلى و�سيلة وجعلت ما يعطينيه اهلل‬
‫هي المعبود على الحقيقة‪� :‬صرت �أعبد المكاف�أة ال اهلل‪ .‬و�سطحية‬
‫لأنني كنت �أ�شعر �أنَّ طبيعة وجودي من المحدودية بحيث �إن الإيمان‬
‫باهلل يجب �أن يعيد تعريف نف�سي �أمام نف�سي‪ .‬فكوني ال �شيء‪ ،‬وكوني‬
‫ات�صلت باهلل تعالى ال بد من يغير من ال �شيئتي‪ .‬ولكن في العالقة‬
‫الم�صالحية ف�إنني �أن��ا وال �أتغير �سواء فقدت اهلل �أم وجدته‪ ،‬وما‬
‫‪184‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫يتغير �إنما هو حال االطمئنان والثقة في هذا العالم القا�سي‪ .‬وذلك‬


‫لأنني في العالقة الم�صالحية ال �أ�ضيف نف�سي �إلى اهلل و�إنما �أ�ضيف‬
‫منافعه تعالى � ّإلي‪.‬‬
‫�إذ ًا كنت �أ�شعر �أن العالقة النموذجية مع اهلل تعالى تفر�ض علي‬
‫�أن �أغير نظرتي �إلى نف�سي‪ ،‬بل كنت �أخ�شى العالقة التي ال �أ�شعر فيها‬
‫�أنني خ�سرت �شيئ ًا في ذاتي لو فقدت اهلل تعالى‪� .‬إذ �إنَّ فقدان الراعي‬
‫والمدافع والحامي والم�ش ِّرع ال يعد فقدان للذات �أو تغير ًا فيها‪ ،‬و�إنما‬
‫تغير في �أحوالها‪ .‬ال الذات وال �أعرا�ضها يت�أثران بفقدان اهلل في هذا‬
‫النوع من العالقة فبحثت عن عالقة غير م�صالحية مع اهلل تعالى‪ ،‬عن‬
‫عالقة تعيد ت�شكيل وعيي‪ ،‬وتغير من نظرتي �إلى نف�سي‪ .‬ويمكن التعبير‬
‫عما كنت �أريده من خالل المعادلة‪:‬‬
‫�أنا = ذاتي ‪� +‬إيماني باهلل تعالى‬
‫كنت �أريد �أن �أدرك تلك المعادلة فكري ًا و�أعيها �شعوري ًا‪.‬‬
‫ولعلي كنت �أبحث عن �سراب‪ .‬فلعله وهم ًا �أن �أتوقع ب�أن نجد اهلل‬
‫راع‪ .‬وقد يكون تكلف ًا ومثالية زائفة �أن �أحكم على العالقة‬ ‫في غير كونه ٍ‬
‫تعالي الوجود الإلهي‬ ‫الم�صالحية ب�أنها غير الئقة باهلل تعالى‪ .‬ولعل َ‬
‫وتدني الوجود الإن�ساني يجعل العالقة الوحيدة الممكنة به هي العالقة‬
‫ال�سطحية‪� .‬أو لعل غاية ما يمكن هو �إدراك الأم��ر فكري ًا ولكن لي�س‬
‫�شعوري ًا؛ �أي �إدراكنا العقلي ب�أننا موجودات ُممكنات �شبه معدومات ال‬
‫تقوم �إال باهلل تعالى ولكن بغير �أن يتعدى ذلك �إلى ال�شعور‪ .‬و�أي ًا كان‬
‫‪185‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫ال�صواب فذلك من�ش�أ ال�س�ؤال‪ .‬وقد �أث��ارت الأجوبة الأربعة الأخيرة‬


‫�أ�سئلة قربتني من المعادلة المرجوة‪.‬‬
‫مع مرور �أ�سئلة �أخ��رى �شعرت �أن من�ش�أ ال�س�ؤال نف�سه لم يكن‬
‫دقيق ًا‪ .‬لقد انطلق ال�س�ؤال من فر�ضية م�سكوت عنها وهي �إنَّ حياتنا‬
‫يجب �أن تكون دوم�� ًا في البحث عن اهلل تعالى و�أن هلل قيمة حقيقية‬
‫في حياتنا‪ .‬فكنت �أرى اهلل تعالى هناك‪ ،‬وكنت على قناعة غير مت�أمل‬
‫فيها ب���أن الو�صول �إليه واالت�صال به فيهما ال�سعادة الكبرى‪ .‬وعليه‬
‫فكنت �أبحث في نف�سي عما يجب �أن �أبرزه من �أجل تحقيق تلك الو�صول‬
‫و�إن�شاء ذلك االت�صال‪ .‬وكنت �أرى �أنَّ البداية تكمن في �أن �أعرف اهلل‬
‫بطريقة تختلف عن معرفتي بدرب التبانة‪ ،‬و�أنَّ هذا �سي�ؤدي �إلى �أن‬
‫�أ�شعر باهلل بطريقة ت�شبه �شعوري بال�شم�س من حولي‪� :‬أعيها و�إن لم �أكن‬
‫ملتفت ًا لها على الدوام‪� ،‬أو مثل الجاذبية �أعيها و�أدرك �أنها التي تبقي‬
‫التوازن في هذه المجرة و�إن كنت غير ملتفت �إليها‪ ،‬و�أن �أ�شعر �أنَّ غياب‬
‫اهلل عني هو ظلمة بمثل ما يكون غياب ال�شم�س و�أنه انتهاء للتوازن في‬
‫حياتي كما الجاذبية لهذا الكون‪.‬‬
‫كنت �أفكر في كل هذا دون �أن �أقف جدي ًا لأ�س�أل نف�سي‪ :‬لماذا؟‬
‫هل الو�صول �إلى اهلل حق ًا يحقق ال�سعادة الكبرى؟ و�إذا كان الأمر كذلك‬
‫فب�أي دليل؟ ولعل الأمر هو الخلط بين اهلل وبين ما يقدمه اهلل؟ وهل‬
‫ي�صح �أن �أب��د�أ من البحث عن اهلل؟ �أم �أنه كان يجب البدء مني �أنا؟‬
‫كنت �أبحث عن �إرادة اهلل تعالى التي يجب �أن �أتكيف معها؛ عن منهج‬
‫‪186‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫الحياة الذي يجب �أن �أعي�شه؛ عن طريقة ال بد منها للو�صول �إلى اهلل‪.‬‬
‫كنت �أبحث عما هو خارج وكنت �أغفل عن الباحث نف�سه‪ ،‬عني �أنا‪ .‬كنت‬
‫غاف ًال عن �أن البداية في معادلة �أي عالقة هو المتع ِّلق‪ ،‬ولي�س المتع َّلق‬
‫ب��ه؛ هو الإن�سان ال��ذي يتعلق ب��اهلل ولي�س اهلل تعالى ال��ذي نتعلق به‪.‬‬
‫و�أخذت �أذهب �إلى �أن الـ «�أنا» هي بداية معرفة �إمكانية االت�صال باهلل‪.‬‬

‫ال�س�ؤال قبل الجواب‬


‫اهلل تعالى هو الجواب‪ ،‬والنف�س هي ال�س�ؤال‪ .‬فقبل معرفة اهلل‬
‫ال بد من معرفة النف�س‪ .‬ومعرفة �أنف�سنا تبد�أ بمعرفة الأ�سئلة فينا‪.‬‬
‫وبمعرفة ال�س�ؤال فينا �سيمكن عندها �أن يكون للجواب معنى في حياتنا‪،‬‬
‫�أن يكون هلل ات�صال بنا‪ .‬على �سبيل المثال في هذه الالئحة‪:‬‬
‫محمد‬
‫�أحمر‬
‫م�ستطيل‬
‫الع�سل‬
‫كلمات نعرف معانيها تمام ًا ‪ ..‬وفي الالئحة التالية‪:‬‬
‫من هو جارنا؟ محمد‪.‬‬
‫ما لون �سيارتك؟ حمراء‪.‬‬
‫ما هو �شكل الطاولة؟ م�ستطيل‪.‬‬
‫ما ت�ستعمل لتحلية ال�شراب؟ الع�سل‪.‬‬
‫‪187‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫الكلمات نف�سها ولكن تغيرت �إيحاءاتها بالرغم من ثبات‬


‫معناها‪ .‬عندما �أت��ت �أج��وب��ة ل�س�ؤال �أ�صبح لتلك الكلمات �إيحاء‬
‫غير ذلك عندما كانت م�ستقلة بذاتها غير مرتبطة ب�س�ؤال �أو غير‬
‫مو�ضوعة في جملة‪.‬‬
‫اهلل تعالى كذلك �إم��ا يكون جواب ًا ل�س�ؤال‪ ،‬و�إم��ا يكون غير‬
‫ذلك‪ .‬في الحالة الأول��ى عالقتنا به منف�صلة‪ ،‬في الحالة الثانية‬
‫عالقتنا به مت�صلة‪ .‬والبحث عن اهلل قبل البحث عن الإن�سان مثل‬
‫قراءة الجواب بغير معرفة ال�س�ؤال‪ .‬و�إذا لم يكن اهلل تعالى جواب ًا‬
‫ل�س�ؤال ف�إننا لن نت�صل به �إال �إدعاء ًا‪ ،‬و�إذا كان ما يقدر عليه اهلل‬
‫تعالى هو الجواب ل�س�ؤالنا فمعنى هذا �أننا مت�صلون بمقدوراته‬
‫ولي�س باهلل‪� .‬أي �إذا كنا مت�صلين باهلل لكونه يعطينا ويمنعنا مما‬
‫يقدر عليه فنحن مت�صلون بتلك الأمور ولي�س باهلل‪� .‬إذن الم�س�ألة‬
‫تعود �إلى ال�س�ؤال فينا‪ ،‬وهذا ال�س�ؤال �إما يجد جواب ًا في اهلل تعالى‬
‫�أو ال يجد‪ .‬و�أول ات�صال باهلل �سيكون االت�صال ال��ذي يجعل اهلل‬
‫تعالى جواب ًا وهذا االت�صال قد يكون له تدرجات من ال�شدة بح�سب‬
‫نوع الجواب الذي �سيكونه اهلل تعالى‪ .‬فاهلل تعالى بداية الإن�سان‬
‫وجود ًا‪ ،‬ولكن الإن�سان بداية العالقة مع اهلل تعالى‪ .‬الإن�سان يقوم‬
‫باهلل تعالى‪ ،‬ولكن عالقة الإن�سان مع اهلل تعالى تقوم بالإن�سان؛‬
‫�أو تبد�أ بالإن�سان‪ .‬ما لم نعرف �أنف�سنا لن نعرف اهلل تعالى ‪ ،‬وما‬
‫لم نعرف ال�س�ؤال فلن ن��درك دالل��ة ال��ج��واب‪ .‬وم��ن �أج��ل ه��ذا كله‬
‫‪188‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫اهتم هذا البحث با�ستعرا�ض ال�سعادة باعتبارها مطلب ًا �إن�ساني ًا‬


‫باعتبارها تمثل ال�س�ؤال الجملي الذي ن�س�أله‪ ،‬ثم خا�ض في الحالة‬
‫الإن�سانية باعتبارها ال�س�ؤال التف�صيلي فينا‪.‬‬
‫لقد كان ت�صوري الأول �أنَّ االت�صال باهلل تعالى يعتمد على‬
‫قدر ما ُينظر �إليه تعالى باعتباره مقوم ًا لنظرة الفرد لنف�سه �أو‬
‫لمعنى حياته �أو ل��وج��وده‪ .‬وه��ذا يحقق ج��زء من المعادلة ولكنه‬
‫لم يكن كافي ًا بحد ذات��ه‪ ،‬فكان ال بد من �إكمال الأم��ر من خالل‬
‫الإدراك ال�شعوري‪ .‬والإدراك ال�شعوري لم يكن ممكن ًا �إال من خالل‬
‫ال�س�ؤال الذاتي فينا‪ .‬ف�أتى الت�صور الثاني يرى �أن االت�صال باهلل‬
‫تعالى يعتمد على نوع ال�س�ؤال الذي نجده في �أنف�سنا‪ ،‬وعلى قدر ما‬
‫نجد اهلل تعالى جواب ًا على ذلك ال�س�ؤال‪ .‬وهكذا �أ�صبح الأمر �أكثر‬
‫ات�ضاح ًا‪� .‬إذا �أرت �أن �أزيل العزلة فال بد من �أمرين مختلفين ولكن‬
‫يكمل �أحدهما الآخر‪:‬‬
‫�أولهما‪ :‬تحقيق فكري‪ :‬لمعادلة �أنا = ذاتي ‪� +‬إيمان باهلل‪.‬‬
‫ثانيهما‪ :‬معرفة كيف يجيب �إيماني باهلل على الأ�سئلة الذاتية‬
‫في‪.‬‬
‫و�إ�ضافة العن�صر الثاني جعل عالقة االت�صال باهلل متحركة‬
‫غير م�ستقرة‪� .‬إذ �أنَّ تغ ُّير ت�صور الذات عن نف�سها يعني تغير الأ�سئلة‬
‫التي ن�شعر بها‪ ،‬وبالتالي تغير نوع الجواب المطلوب من الإيمان‬
‫باهلل‪ .‬بل العن�صر الثاني يجعل عالقة االت�صال باهلل غير م�ضمونة‬
‫‪189‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫من �أ�صلها‪ .‬فمن ال يجد في نف�سه �س�ؤا ًال يتطلب اهلل جواب ًا ال يمكنه‬
‫�أن يت�صل باهلل تعالى‪ .‬وفي المقابل ف�إن من يجد �س�ؤا ًال يتطلب اهلل‬
‫جواب ًا ولكنه ال يعرف اهلل بطريقة تجعله جواب ًا �سيبقى في حيرة‬
‫و�ضياع وفراغ‪ .‬قد يعرف اهلل ولكنه ال يعرف منه ما ي�شبع �س�ؤاله‪ .‬بل‬
‫لو ر�أينا اهلل ُمع ِّرف ًا لنا ولكن �شعوري ًا لم نراه مجيب ًا �سنبقى �أي�ض ًا في‬
‫حيرة‪ .‬فالعالقة مع اهلل تعتمد على الموائمة بين ت�صورات الإن�سان‬
‫عن نف�سه‪ ،‬وت�صوراته عن اهلل تعالى‪ ،‬وقدرة الفرد على الربط بين‬
‫الت�صورين‪ .‬وه��ذا المبد�أ عام في كل العالقات‪� .‬إذ �أن �أي عالقة‬
‫مع �أي �أحد تعتمد على ت�صوري لنف�سي‪ ،‬وت�صوري للآخر وت�صوري‬
‫للعالقة التي بيني وبنيه‪.‬‬

‫الأ�سئلة الذاتية واهلل تعالى‬


‫معرفتنا للأ�سئلة الذاتية تابع لمعرفة الحالة الإن�سانية‪.‬‬
‫والأم��ر هنا يتجاوز مجرد المعرفة التحليلية الفكرية �إلى المعرفة‬
‫باال�ست�شعار‪ .‬وهذه مع�ضلة‪ .‬فنحن فكري ًا قد ندرك �أننا فقاعة �صابون‬
‫�أو �أقل ولكننا ال ن�شعر ذلك‪ ،‬قد ندرك �أننا ذرة في مجرة ولكن قد ال‬
‫ن�شعر بذلك‪ ،‬قد ندرك كافة �أ�شكال المحدودية فينا ولكن ال ن�شعر‬
‫بذلك‪ .‬قد ن��درك �أننا بحاجة �إل��ى المطلق ولكن ال ن�شعر بذلك‪.‬‬
‫ف���إدراك ه��ذه الأم��ور لي�س �إال خطوة فح�سب‪ ،‬في حين �أن ال�شعور‬
‫بها هو المطلوب النهائي‪ ،‬لأنه بال�شعور فقط يمكن �أن يكون لتلك‬
‫‪190‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫المدركات �آثار على حياتنا النف�سية وال�سلوكية‪.‬‬


‫�إذن معرفتنا بالحالة الإن�سانية تخلق فينا ال�س�ؤال‪ ،‬وكل‬
‫�س�ؤال يتطلب منا جواب ًا �أو نطاق ًا من الأج��وب��ة‪ ،‬وبقدر ما يحقق‬
‫اهلل تعالى لنا الجواب بقدر ما يمكن لنا �أن نقول �إننا �سنت�صل به‪.‬‬
‫الجدول التالي يم ِّثل الأمر‪ .‬العمود الأول فيه تدرجات الوعي الذاتي‬
‫بالحالة الإن�سانية‪ .‬العمود الثاني يمثل �أح��د الأ�سئلة المحتملة‬
‫التابعة لذلك الوعي‪ .‬والعمود الثالث فيه �أحد الأجوبة الممكنة‪.‬‬
‫والت�سل�سل المذكور ال يدل بال�ضرورة على ترتيب ح�صول الوعي‬
‫لنا‪ .‬كما �إن ما ذكرته لي�س ح�صر ًا لما نعي به حالتنا الإن�سانية‪.‬‬
‫فالحالة الإن�سانية مركبة ومعقدة والوعي بها ي�أتي مختلط ًا معقد ًا‬
‫وال يكون ب�سيط ًا كما هو م��ذك��ور‪ .‬وكذلك ال�س�ؤال التابع للحالة‬
‫الإن�سانية لي�س �إال واح��د من ع��دة �أ�سئلة محتملة ولي�س ال�س�ؤال‬
‫الوحيد‪ .‬والأمر نف�سه بالن�سبة للجواب‪ ،‬ما هو �إال جواب بين �أجوبة‪،‬‬
‫وقد يكون لل�س�ؤال الواحد عدة �أجوبة‪ ،‬كما قد يتفاوت الأفراد في‬
‫تفاعلهم مع الجواب الواحد بح�سب خلفياتهم وظروفهم‪ .‬ولذلك‬
‫�أعود و�أقول �إن التفكر مفتاح �أ�سا�س في هذا‪ .‬ال بد لكل واحد منا‬
‫ممار�سة التفكر في ذاته ومع نف�سه‪ .‬وعلى واحد �أن يتعامل مع �أي‬
‫كتابة �أو فكرة على مادة للتفكر ولي�س نتيجة له‪� .‬أعود �إلى الجدول‬
‫ف�أقول مرة �أخرى �إن الغر�ض منه التمثيل و�أما في الواقع فالأمر‬
‫�أكثر تعقيد ًا واختالط ًا‪.‬‬
‫‪191‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫الجواب الذي‬ ‫الوعي بالحالة‬


‫ال�س�ؤال الذي تطرحه‬
‫يمثله اهلل‬ ‫الإن�سانية‬
‫ب�����ال�����ح�����اج�����ات م��ن يعطيني �إي���اه���ا؟ من َمن يقدر ويعطي‬
‫الأ�سا�سية والبقاء ي�ساعدني؟ م���اذا علي �أن وال ي��م��ن��ع لأن����ه‬
‫ي���م���ل���ك ك�����ل م��ا‬ ‫�أعمل؟‬
‫�أح��ت��اج��ه و�أك��ث��ر‬
‫لأن��ه غني بالغني‬
‫الكمي‬
‫ب�������ال�������ع�������ال�������م ك����ي����ف �أواج�����������ه ال����واق����ع من يثيب ويعاقب‬
‫االج�����ت�����م�����اع�����ي ال��ع�����ش��وائ��ي؟ ك��ي��ف �أح��م��ي وي�ش ِّرع‬
‫نف�سي؟‬ ‫وع�شوائيته‬

‫غ����ن����ي ب���ال���غ���ن���ى‬ ‫لماذا هناك ُقبح؟ ما م�صدر‬ ‫البعد الأخالقي‬


‫ال����ذات����ي ي��ع��ط��ي‬ ‫الح�سن؟ ماذا يف�سر الألم؟‬
‫لأنه يحب العطاء‬ ‫من م�صدر العطاء المطلق؟‬
‫كريم لأن��ه الكرم‬ ‫ك��ي��ف ي���ك���ون ل��م��م��ار���س��ت��ي‬
‫رح����م����ن رح���ي���م‬ ‫الأخالقية ات�صال بالنظام‬
‫عادل‬ ‫الكوني من حولي؟‬
‫ل���م���اذا ُوج����دن����ا؟ م���ا قيمة رب حكيم عزيز‬ ‫ال�����م�����ح�����دودي�����ة‬
‫وج��ودن��ا؟ من نحن في هذه ال ي��ع��ب��ث رح��م��ن‬ ‫الن�سبية‪ :‬ذرة في‬
‫المجرات؟ من �سيهتم ب�ش�أننا رحيم‬ ‫مجرة في حجمنا‬
‫ونحن ما نحن من ال�صغر؟‬ ‫فقاعة �صابون في‬
‫ثبات وجودنا‬
‫‪192‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫الجواب الذي‬ ‫الوعي بالحالة‬


‫ال�س�ؤال الذي تطرحه‬
‫يمثله اهلل‬ ‫الإن�سانية‬
‫ال�����م�����ح�����دودي�����ة ما م�صدر وج��ودي؟ ما هو واجب الوجود‬
‫المطلقة‪ :‬الإمكان مق ِّوم وجودي؟‬
‫ال���وج���ودي‪� :‬شبه‬
‫عدم‬
‫التعلق‪ :‬فكرة في هل ي�صح �أن �أقول «�أنا»؟ هل الأح�����د ال�صمد‬
‫ي�صح �أن �أ�شير �إلى �شيء؟ الواحد القهار‬ ‫عقل‬

‫في درجة الوعي الأول نكون مت�صلين ات�صا ًال مبا�شر ًا وقوي ًا‬
‫بالحاجات المادية واالجتماعية التي تفر�ض نف�سها علينا‪ .‬وال�س�ؤال‬
‫الذي ي�أتي هنا هو �أين م�صادر تلك الحاجات؟ وكيف نحمي �أنف�سنا‬
‫من هذا الواقع؟ حتى الأعمال الأخالقية مثل ال�شكر والوفاء تت�شكل‬
‫من خالل هذا البعد‪ .‬فت�صبح كلها و�سائل للح�صول على منافع‪.‬‬
‫الوعي بالعالم االجتماعي وع�شوائيته خطوة قريبة �إل��ى الأم��ام‪،‬‬
‫ولكنها خطوة ت�ضعنا �أم��ام ع�شوائية النا�س �إ�ضافة �إل��ى ع�شوائية‬
‫الواقع الطبيعي و�صعوبته‪ .‬لذلك نطلب هنا �سلطة عليا ت�ضمن لنا‬
‫حقوقنا‪.‬‬
‫ثم ن�أخذ نت�صل بالجوانب المعنوية فينا‪ .‬الجوانب التي تت�صل‬
‫بالأبعاد الأخالقية فينا والتي تنجذب �إل��ى العطاء والخير والعدل‬
‫والحكمة والجمال وتنفر من المنع وال�شر والظلم والعبث والقبيح‪ .‬هذه‬
‫‪193‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫الجوانب تنظر �إلى الوجود من خالل انجذابها ونفورها فتنجذب �إلى‬


‫م�صدر الأول وتنفر من م�صادر الثاني‪ .‬ولكنها في الوقت نف�سه تجد‬
‫الحياة خليط ًا منهما فت�سعى للبحث عن �أجوبة‪.‬‬
‫ثم نت�صل بالمحدودية الن�سبية فينا‪ .‬وذلك لما نعي �أو نعقل‬
‫حجمنا في ه��ذا ال��ك��ون‪ .‬ن��درك �أننا ذرة ت�سبح في مجرة‪ ،‬كائن‬
‫ه�ش �صغير من حيث الحجم‪� ،‬ضعيف بنيته‪ ،‬ي�ألم ويحزن‪ ،‬وين�سى‪،‬‬
‫ويخطئ‪ ،‬وننتقل ب�أتفه الأ�سباب من حال �إلى حال �إلى درجة �أنه‬
‫لم يعد �صحيح ًا �أن نقول �أ�سباب تافهة‪ ،‬فال�سبب التافه والجاد‬
‫مت�سويان في ت�أثيرهما علينا‪ .‬ح َّمى‪ ،‬حادث �سيارة‪ ،‬ان��زالق على‬
‫قطعة �صابون‪ ،‬مهوو�س‪� ،‬أو حيوان كلها �أ�سباب قد تغير مجرى‬
‫حياتنا نهائي ًا‪ .‬كلها تذكرنا محدوديتنا‪ ،‬ظ ِّلية وجودنا‪ ،‬اعتمادية‬
‫بقائنا‪ ،‬وحقارة حجمنا‪ .‬هذا يخلق لدينا �شعور ًا �شديد ًا بال�صغار‬
‫والتفاهة‪ .‬ويعمق فينا الحاجة لمعرفة معنى وجودنا‪ .‬كما يعمق‬
‫فينا التوا�ضع المعرفي والتوا�ضع االجتماعي‪ .‬وي�صبح �س�ؤالنا‬
‫حول �سبب وجودنا �أكثر �إلحاح ًا‪ .‬وذل��ك لما ن��درك معنى �أننا ال‬
‫نقدم �شيئ ًا هلل‪ ،‬و�أننا ال ن�ضيف �إليه �شيئ ًا‪ .‬بل ندرك كيف �أننا في‬
‫�سبيل تعظيم �أنف�سنا وجعل قيمة عليا لنا نفتر�ض �أن �إله هذا الكون‬
‫وخالقه يهمه ب�شدة �إيماننا به وعبادتنا له‪ .‬و�إذا كنا نبحث عن‬
‫القوي �أو ًال ليمنحنا م�صالح �سطحية ومنافع �آنية ف�إننا هنا نت�صل‬
‫به لنقوى على الوقوف �أمام حقيقة �أنف�سنا‪.‬‬
‫‪194‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ثم نتقدم ونت�صل بالإمكان فينا‪ ،‬ونعي معنى كوننا عدم خرج �إلى‬
‫الوجود‪ ،‬ومعنى وجود قريب من العدم‪ ،‬و�أن �أفعالنا مهما عظمت فهي‬
‫عدم من عدم‪.‬‬
‫ثم نتطور لن�صل فندرك �أننا متعلقون ال غير‪ .‬وك�أننا فكرة في‬
‫عقل �أح��د‪ .‬ونبد�أ بال�س�ؤال حول �صحة �أن نفتر�ض لنا هوية ووج��ود ًا‬
‫قائم ًا م�ستق ًال‪ .‬وي�صبح البحث هنا عمن ي�ؤمننا ويعو�ضنا �شعور فقدان‬
‫�أنف�سنا‪.‬‬
‫وهكذا يتطور وعي الإن�سان بالحالة الإن�سانية وتتغير الأ�سئلة لديه‬
‫تبع ًا لذلك‪ .‬ومع كل �س�ؤال جديد ف�إن الجواب ال�سابق ي�صبح منف� ً‬
‫صال‬
‫عنه‪ ،‬وغير مالئم ل��ه‪ ،‬ويكون هناك حاجة �إل��ى ج��واب جديد‪ .‬ف�إما‬
‫يكون الجواب موجود ًا‪ ،‬و�إما ال يكون‪ .‬وفي بع�ض الحاالت تكون الأجوبة‬
‫موجودة‪ ،‬ولكن بغير �أ�سئلة‪ .‬وفي هذه الحالة ف�إن الأجوبة ت�صبح وك�أنها‬
‫طريق هناك‪ ،‬طريق ف َّكرنا فيه‪ ،‬ولكن لـ َّما ن�شعر بالحاجة‬
‫معالم على ٍ‬
‫�إليه بعد‪ .‬فمث ًال لما نكون مت�صلين بحاجة البقاء والأمن من ع�شوائية‬
‫المجتمع فينا ف�إن قيمة اهلل بالن�سبة لنا هي في ما ُيحققه في هذا‬
‫ال ُبعد‪ .‬وتعلقنا باهلل تعالى يكون بقدر ما يحقق لنا هذا البعد‪ .‬ولذلك‬
‫نجد �أن القيمة العليا هلل تعالى هنا هي الكم‪ .‬كم يعطينا زيادة‪ ،‬كم‬
‫يحمينا زيادة‪ ،‬و�أ�صبحت القيمة العليا هلل تعالى هي المعطي الم�ش ِّرع‬
‫المعاقب المثيب‪ .‬وقد يبقى ت�صورنا الذي نت�صل به مع اهلل في ذلك‬
‫الحدود‪ ،‬مع كوننا ندرك �أنَّ اهلل تعالى �أكثر من مجرد ذاك‪ .‬ولكن ذلك‬
‫‪195‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫الإدراك بمثابة الأجوبة التي تبحث عن �س�ؤال‪ ،‬وبالتالي نبقى منف�صلين‬


‫عنها و�إن كنا قريبين منها‪.‬‬

‫كيف يمكن البدء؟‬


‫عرفت حالتي‪ ،‬فعرفت ال�س�ؤال في نف�سي‪ ،‬ثم عرفت اهلل الذي‬
‫يجيب على ذلك الجواب‪ ،‬فكيف �أت�صل به؟‬
‫عرفت �أن��ن��ي محتاج �إل��ى الأم���ن وال��غ��ذاء وال��راح��ة وال�سكن‬
‫والقوة‪ .‬وعرفت �أن ال�س�ؤال التابع هو‪ :‬ما م�صدر القوة العليا في هذا‬
‫الوجود؟ وما م�صدر القوة الأكثر ح�ضور ًا والأكثر تلبية لحاجاتي في‬
‫وجودي الخا�ص؟ وعرفت �أن الجوب هو اهلل القادر على كل �شيء‪،‬‬
‫مجيب الدعوات‪ ،‬القائم على كل نف�س‪ ،‬والرقيب على كل فعل‪ .‬فكيف‬
‫�أت�صل به؟‬
‫�أو عرفت �أنني فقاعة �صابون‪ ،‬فعرفت �أنني �أ�س�أل عمن يديمني‪،‬‬
‫ثم عرفت �أن اهلل واجب الوجود هو الذي يجيب على ذلك ال�س�ؤال‪.‬‬
‫فكيف �أت�صل باهلل تعالى من حيث �إنه واجب الوجود؟‬
‫هناك ثالثة �أطراف في عالقتي باهلل تعالى‪� :‬أنا واهلل والعالقة‬
‫بيننا‪ .‬فالخطوة الأولى هي ب�أن نعتبر �أن البدء ي�أتي من معرفة الحالة‬
‫الإن�سانية‪ .‬الخطوات التالية هي ب�أن نراجع طرق التفكير لدينا في‬
‫اهلل تعالى‪ ،‬و�أن نراجع �أنواع العالقات التي تت�شكل بيننا وبين غيرنا‪،‬‬
‫وكيفية ت�أثير تلك العالقات على ات�صالنا باهلل‪ .‬هذه الخطوات التالية‬
‫‪196‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫هي مو�ضوع خاتمة هذا البحث‪ .‬و�س�أنظر فيها من خالل �أربعة ق�ضايا‪:‬‬
‫�أو ًال‪ :‬ال بد من تجاوز الذهنية ال�سحرية التي �شكلت ر�ؤيتنا هلل‬
‫فيما �سبق‪ .‬لأن تلك الذهنية تقيد ر�ؤيتنا هلل تعالى ب�شكل جذري فال‬
‫ت�سمح لنا �إال بر�ؤية من نوع خا�ص وتحجب عنا ر�ؤى �أخرى‪ .‬نحتاج �إلى‬
‫ذهنية واقعية تف�سح لنا ر�ؤية هلل تعالى كما هو‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬تجاوز مفاهيمنا عن العالقات وبناء مفاهيم عالقات‬
‫جديدة‪ .‬فكل عالقة نن�شئها تعتمد على مجموعة من التوقعات المتبادلة‬
‫بين طرفي العالقة‪ .‬هذه التوقعات ننتزعها من الواقع الذي ع�شناه �أو‬
‫من الت�أمل والتفكير‪ .‬فعالقاتنا مع م�صادر العطف �أو القوة �أو ال�سلطة‬
‫�أو التربية �أو الحكمة تت�ضمن مجموعة من التوقعات التي تك ِّونت من‬
‫خالل عالقاتنا الأولى مع والدينا �أو غيرهم من م�صادر تلك الأمور‪.‬‬
‫وه��ذه التوقعات متطورة غير م�ستقرة‪ .‬فكل تجربة اجتماعية تطور‬
‫معادالت التوقعات لدينا‪ .‬وفي عالقتنا باهلل تعالى ف�إننا �أي�ض ًا ن�صيغ‬
‫م�ضمون عالقتنا من خالل تجاربنا في عالقاتنا االجتماعية‪ ،‬فن�سقط‬
‫عليه ما نتوقعه من غيره‪ .‬وال بد من �إدراك هذا فينا ثم تجاوزها‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬هناك مجموعة من المفاهيم الفل�سفية التي نحتاجها‬
‫للتعامل مع م�ستويات �أ�شمل لوجودنا وللتعامل مع مفاهيم �أعمق عن‬
‫اهلل تعالى‪.‬‬
‫رابع ًا‪ :‬تطوير قدرتنا على المعرفة ال�شعورية بالق�ضايا المعنوية‪.‬‬
‫فقد تعودنا �أن نربط معرفتنا ال�شعوري بالأمور من خالل �إح�سا�سنا‬
‫‪197‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫بها‪ .‬وب�شيء من الت�أمل �سندرك �أ َّننا يمكن �أن ن�شعر بالق�ضايا المعنوية‬
‫�شعور ًا قائم ًا على الفكر المو�ضوعي ولي�س بعيد ًا عنه‪.‬‬

‫وما يلي تف�صيل هذه الق�ضايا الأربعة‪:‬‬

‫�أو ًال‪ :‬اهلل والذهنية الواقعية‪:‬‬


‫م��ن �أك��ب��ر تحديات الب�شر ك��ان التعاي�ش م��ع ق��وى م��ادي��ة فينا‬
‫وحولنا غير قابلة للتنبوء‪ ،‬وغير ودية‪ ،‬وغير معتمد عليها‪ .‬وباعتبارنا‬
‫كائنات واعية بذاتها‪ ،‬كائنات تعي�ش ما�ضيها وم�ستقبلها بقدر ما تعي�ش‬
‫حا�ضرها‪ ،‬نعي�ش على الأمل و�إن كنا في �أ�سو�أ الظروف‪ ،‬كما قد يق�ضي‬
‫علينا الي�أ�س و�إن كنا في �أح�سن �أحوالنا‪ ...‬لما كنا كذلك لم يكن ممكن ًا‬
‫مجرد الم�ضي في الحياة لحظة بلحظة‪ ،‬والتكيف �أو التعامل مع ما‬
‫يطر�أ كلما طر�أ‪ .‬كان ال بد لنا من البحث عن معنى حول �سبب مجيئنا‪،‬‬
‫و�سبب كون واقعنا كما هو‪ .‬البحث عن �أ�صل وجودنا لم يكن ترف ًا فكري ًا‬
‫بل كان ذات �صلة بفهم واقعنا‪ .‬الأمل �أو الي�أ�س اعتمدا كلية على نوع‬
‫الأجوبة على �أ�سئلة من نحو‪ :‬ما هي طبيعة القوة التي �أتت بنا �إلى هنا؟‬
‫هل �أتت بنا باختيارها �أم ال؟ و�إن جئنا باختيار هذه القوة فلأي �سبب؟‬
‫ما هي �شخ�صية هذه القوة؟ وهل هي واحدة �أم �أكثر؟ و ِل َم �أتت بنا في‬
‫بيئة قا�سية كهذه؟ وهل �ست�ساعدنا في م�سيرتنا؟ �أم �سنكون وحدنا؟ هل‬
‫يهمها �ش�أننا؟ �أم �أنها غير مبالية لحالنا؟ هل يمكن االت�صال بها �أم ال؟‬
‫‪198‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫هل يمكن الت�أثير على قراراتها؟ هل هي مثلنا في نزعاتها النف�سية‪:‬‬


‫�أنانية ومت�سلطة وانفعالية وحري�صة على التفرد؟ هل هي حري�صة على‬
‫�أن نر�ضيها؟ ما هي الأفعال التي يجب �أن نفعلها لكي نر�ضيها ونت�صل‬
‫بها؟ وغير ذلك من الأ�سئلة‪.‬‬
‫ولو جل�سنا وفكرنا للحظات حول واقعنا الإن�ساني ثم ت�أملنا تلك‬
‫الأ�سئلة لوجدنا �إلى �أي حد من المهم �أن نعرف الإجابة المالئمة لها‪.‬‬
‫وعبر تاريخ الب�شرية تم طرح مجموعة من الأجوبة �سواء من‬
‫فال�سفة �أم رجال دين �أم عامة النا�س‪ ،‬بع�ضها ُطرح من �أجل تخفيف‬
‫المعاناة‪ ،‬وغيرها من �أج��ل ا�ستغالل المعاناة القائمة‪ .‬وقد تنوعت‬
‫الأجوبة تنوع ًا وا�سع ًا ولكنها مع تنوعها ا�شتركت في الخلفيات الذهنية‬
‫التي �صاغتها‪ .‬فقد كانت الإجابة على تلك الأ�سئلة تنطلق من ذهنيات‬
‫�سابقة حول الم�ستوى الظاهر من الوجود‪ .‬ذهنيات يمكن ت�سميتها‬
‫بالذهنية ال�سحرية‪ ،‬واالنف�صالية‪ ،‬والواقعية‪.‬‬

‫الذهنية ال�سحرية‬
‫�أغلب الأجوبة انطلقت من هذه ذهنية‪ .‬وهي ذهنية ح�سا�سة‬
‫للغاية وعاطفية ولها �سمات �أهمها �أنها ال تحتمل ال�شعور باالنف�صال‬
‫عن العالم من حولنا‪ ،‬وتربط التقدي�س والتعظيم بالتقدي�س‪ ،‬وت�سعى‬
‫لأن تندمج مع النظام الكوني الغيبي‪ ،‬وت�سعى لأن ترفع من قيمتنا في‬
‫هذا الوجود‪ .‬لكل ذلك فقد �شخ�صنت العالم من حولها و�أ�سقطت‬
‫‪199‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫عليه خ�صائ�صنا الب�شرية‪ .‬ف�صارت ت�ؤمن ب�أن الظواهر الطبيعية هي‬


‫�أعمال لقوى عاقلة تتحكم بحياتنا‪ ،‬ثم ذهبت �إلى وجود قوى �أخرى‬
‫غير منظورة تتحكم بمجموع �أحوالنا‪ .‬وهذه القوى بمجموعها غير‬
‫قابلة للتنبوء‪ ،‬وغير منتظمة‪ ،‬وتتدخل في �أمورنا‪ ،‬ومفاجئة‪ ،‬وغير قابلة‬
‫لل�سيطرة‪ ،‬ولها نوايا و�أهداف‪ ،‬ويمكن �إر�ضا�ؤها وتغيير وجهة قرارها‪.‬‬
‫هذه ال�سمات تمثل مجموع خ�صائ�ص هذه القوى ولي�س خ�صائ�صها‬
‫مفردة‪ .‬ف�إذا �أخذت مفردة‪ ،‬فهناك تفاوت بينها في تلك الخ�صائ�ص‪.‬‬
‫مث ًال ال�سماء وال�شم�س والبراكين كلها قوى‪ ،‬ولكل قوة خ�صائ�ص‪.‬‬
‫ولربطها التقدي�س بالغمو�ض‪ ،‬كانت تنفر من التفكير والتحليل‬
‫في الوجود خوف ًا من �أن يكون العلم به ذاهب ًا به جالله وبها�ؤه ومحي ًال‬
‫له �إلى �أمر تحت ال�سيطرة‪ .‬ورغبتها في الإندماج بالنظام الكوني جعلها‬
‫ترفع من قدر االن�ضباط والطاعة �إلى درجة كبيرة للغاية‪ .‬و�سعيها لرفع‬
‫مقامها جعلها تبالغ في قيمة طاعتها و�سوء مع�صيتها وك�أنه �أمر ي�ؤثر‬
‫على النظام الكوني العام‪.‬‬
‫هذه الذهنية ال�سحرية �شكلت �إلى حد كبير فل�سفات وديانات‬
‫الما�ضي‪ ،‬وخلقت نف�سية م�ضطربة قلقة انعك�ست على العالقات‬
‫االجتماعية‪ .‬وكلما كانت القوى التي يواجهها الإن�سان �أعظم كلما‬
‫كان اال�ضطراب �أكبر‪ .‬والأ�ساطير المختلفة التي تركها الب�شر من كل‬
‫ح�ضارة على اختالف تعقيدها ودرجات ت�أ�صيلها الفل�سفي تعك�س هذه‬
‫الذهنية بجالء‪ ،‬وتعك�س النف�سية الم�صاحبة لها‪ .‬وال �شك �أن البيئة‬
‫‪200‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫القبلية التي عا�شها الفرد في الما�ضي لعبت دور ًا �أ�سا�سي ًا في �صياغته‬


‫لر�ؤيته للوجود من حوله‪ .‬فعقلية التوافق المطلق مع رغبات القبيلة‪،‬‬
‫وعقلية التق�سيم ال�صارم للم�ستويات االجتماعية‪ ،‬والتعامل مع الواقع‬
‫المحيط على �أنه م�صدر تهديد‪ ،‬كل ذلك �أ�سهم في ال�شكل الذي ر�سمه‬
‫الفرد للوجود من حوله وفي كبح الإبداع الفل�سفي والتفكير النقدي‪.‬‬

‫الذهنية االنف�صالية‬
‫في مقابل تلك الذهنية كان هناك ما يمكن ت�سميته الذهنية‬
‫االنعزالية‪ .‬وه��ي ذهنية تقبل انف�صالها عن ال��واق��ع من حولها وال‬
‫تبحث ع��ن �إي��ج��اد �صلة‪ .‬ول��ذل��ك فهي ال تعطي ال��ق��وى الطبيعية �أي‬
‫�سمات �شخ�صية‪ .‬هي قوى ال تتدخل في �ش�ؤون الب�شر و�إن كانت ت�ؤثر‬
‫على حياتهم‪ ،‬وهي قابلة للتحديد والمراقبة‪ ،‬منعزلة عن الب�شر‪ ،‬قابلة‬
‫للتنبوء‪ ،‬غير مبالية بل ال نية لها �أ� ً‬
‫صال‪ ،‬ومطردة‪ ،‬وغير قابلة للتغيير‪.‬‬

‫الذهنية الواقعية‬
‫الذهنية ال�سحرية كانت ت�ؤمن بوجود ات�صال وعالقة ثنائية‬
‫االتجاه بين الب�شر وبين القوى‪ .‬وكانت ت�ؤمن �أن المعرفة هي م�صدر‬
‫التعظيم والتقدي�س‪ .‬وبقدر ما عرفنا عن الوجود بقدر ما �أمكن �أن‬
‫نربط المعنى به‪ .‬فكانت ت�ؤدي ِبمن يفكر من خاللها عالم ًا يمنحنا‬
‫معنى‪ ،‬عالما يعطينا م�ساحة للتدخل‪ ،‬عالم ًا ينظر �إلينا بقدر ما ننظر‬
‫‪201‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫�إليه‪ ،‬يفكر فينا بقدر ما نفكر فيه‪ ،‬عالم ًا نقترب منه بقدر ما نعرف‬
‫عنه‪ .‬الم�شكلة كانت في‪ :‬كيفية ذلك التدخل الم�سموح لنا‪ ،‬وو�سائله‪،‬‬
‫و�آثاره على حياتنا االجتماعية‪ .‬ولذلك وجدنا ال�شعائر الب�شرية تتنوع‬
‫بقدر تنوع الإجابة على‪ :‬كيف يكون تدخلنا؟‬
‫الذهنية االنف�صالية ر�سمت عالقة �أح��ادي��ة االت��ج��اه �إم��ا ِمن‬
‫الإن�سان نحو العالم ِفهم ًا �أو ت�سخير ًا‪ ،‬و�إما ِمن العالم نحو الإن�سان ت�أثير ًا‬
‫ووقوع ًا‪ .‬وبهذا منحتنا عالم ًا ال ُيقلق‪ ،‬و�إن كان ُمخيف ًا‪ .‬ال ُيقلق لأنه قابل‬
‫للفهم والتنبوء‪ ،‬ولأنه غير ع�شوائي‪ .‬في المقابل كان هذا العالم بغير‬
‫معنى‪ ،‬نعي�ش فيه كائنات �أجنبية عنه منف�صلين عن كل �شيء وكل �شيء‬
‫منف�صل عنا‪ ،‬ومتميزين عنه بخ�صائ�صنا الإن�سانية الخا�صة‪.‬‬
‫بين الذهنيتين هناك ما يمكن ت�سميته الذهنية الواقعية‪.‬‬
‫كانت ترف�ض تمام ًا الذهنية ال�سحرية‪ ،‬وت�ؤمن جزئي ًا بر�ؤية الذهنية‬
‫االنف�صالية �إذ اختلفت معها في �أنها كانت ت�ؤمن �أن خروجنا �إلى‬
‫الوجود لم يكن ال �إرادي ًا في �أ�صله وال عبثي ًا في م�آله وال مهم ًال في‬
‫م�ساره‪ .‬وبالتالي ف�إنها �آمنت بتدخل‪� ،‬أم��ا مدى هذا التدخل فقد‬
‫تفاوت وفق التف�سيرات لمعنى �أنه تعالى غني حكيم رحيم قهار رب‬
‫وغير ذلك من �صفات الإله العلي القدير‪ .‬والذهنية الواقعية �أو�صلتنا‬
‫�إلى �إله م�صدر العالم وم�صدر القوى الأخرى التي فيه و�إله يتدخل‬
‫في �أمورنا وبالتالي كانت هذه الذهنية �أ�صل ومن�ش�أ الر�ؤية التوحيدية‬
‫للوجود‪.‬‬
‫‪202‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫والتحدي الذي واجهته الذهنية الواقعية هو �أنها قدمت نف�سها‬


‫في �سياقات تاريخية ال�سحرية في الغالب وانف�صالية تارة‪ .‬ولذلك فقد‬
‫ت�أرجحت الر�ؤية التوحيدية بين توحيد �سحري �أو توحيد انف�صالي‪� :‬إما‬
‫�إيمان ب�إله يتدخل ب�شكل مبا�شر وم�ضطرب في �شخ�صيته يتم �إ�سقاط‬
‫�صفاتنا الب�شرية عليه و�إما �إيمان ب�إله واحد منف�صل تمام ًا عن الكون‬
‫ما وفيه‪.‬‬
‫ال��ر�ؤي��ة الثانية كانت في الأغلب مح�صورة على النخب‪ ،‬و�إن‬
‫�أخذت في االنت�شار بين عامة النا�س في الغرب منذ ثالثة قرون‪.‬‬
‫�أم��ا الر�ؤية ال�سحرية فكانت �شائعة ج��د ًا وال زال��ت‪ .‬وقد �شك َّلت‬
‫ُمنعطف ًا خطير ًا على النف�سية العامة للم�ؤمنين بها‪ .‬ففي حين كان الم�ؤمن‬
‫بالتوحيد االنف�صالي مطمئن ًا نوع ًا ما‪ :‬هناك �إله وال دخل لنا به‪ ،‬وال دخل له‬
‫بنا‪ .‬كان الم�ؤمن بالتوحيد ال�سحري ُمفرد ًا �أمام �إله م�ضطرب وال مناف�س‬
‫له‪ .‬ولذلك كان �صاحب التوحيد ال�سحري م�ضطرب ًا للغاية وربما في بع�ض‬
‫الحاالت �أكثر من �صاحب الذهنية ال�سحرية غير التوحيدية‪ .‬فالأخير‬
‫ي�ؤمن بعدة م�صادر للقوة فيهرب من هذه �إلى هذه‪� .‬أما الموحد فم�أزقه‬
‫�أن لي�س �أمامه �إال م�صدر واحد للقوة وهذا الم�صدر الوحيد ال �أمان في‬
‫العالقة به‪ .‬ومن ينظر �إلى العهد القديم �أو �إلى بع�ض كتب الحديث بين‬
‫الم�سلمين ويقر�أ كيف تظهر �شخ�صية الإله فيها‪ ،‬وكيف تظهر �شخ�صيات‬
‫الأنبياء ور�سل اهلل‪� ،‬سيدرك الت�أثير لمثل هذا العقل ونوع ال�شخ�صية التي‬
‫يمكن �أن تتمخ�ض عنه‪.‬‬
‫‪203‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫لذلك ف�إن الر�ؤية التوحيدية العقلية لم تكن مجرد توحيد الإله‬


‫بل �أي�ض ًا انتقال من ذهنية �سحرية و�أخ��رى انف�صالية �إل��ى ذهنية‬
‫واقعية‪ .‬ولما ننظر �إلى الوحي الإلهي وو�صفه هلل تعالى وللعالقة به‬
‫معان لم تكن ظاهرة من قبل‪ .‬لقد كان‬ ‫بهذه الخلفية ف�إننا �سنجد فيه ٍ‬
‫الوحي ملتفت ًا �إلى الذهنية ال�سحرية الم�ست�شرية في عقول النا�س ولم‬
‫يكن من الممكن مخاطبة النا�س بخطاب ظاهره بعيد للغاية من ما‬
‫يدركه النا�س‪ .‬ولذلك نجد الوحي تارة يتماهى مع الذهنية ال�سحرية‪،‬‬
‫وتارة يتعالى عليها‪ .‬لقد كان الوحي محتاج ًا بتقم�ص �صورة اهلل غير‬
‫المت�أمل فيه �إذا كان له �أن يت�صل بالذهنية ال�سائدة و�إذا كان له �أن‬
‫يخاطبها‪ .‬خ�صو�ص ًا �أن الوحي موجه للعامة كما �إنه للنخبة‪ .‬في الوقت‬
‫نف�سه الوحي يريد �أن يتعالى على تلك ال�صورة الب�سيطة وال�سطحية‪.‬‬
‫وثنائية التماهي والتعالي هي �إحدى ُم�ش ِّكالت الوحي‪ .‬وبقراءة الوحي‬
‫من جهة �أنه ن�ص تماهي وتعالي ف�إننا �سيمكن �أن نقول �إن الوحي‪:‬‬
‫‪ .1‬يتماهى مع ال�شكل الموجود ولي�س مع الم�ضمون‪.‬‬
‫‪.2‬تكلم ب�سكوته بقدر ما تكلم بن�صه‪ .‬فكثير من ال�صيغ التي ا�ستثناها‬
‫وتجبنها �أر�سلت ر�سالة �أن اهلل لي�س هكذا‪.‬‬
‫‪ .3‬ث َّبت معانيه الأ�سا�سية من خالل �آياته المحكمة‪.‬‬
‫‪�.4‬أحيان ًا يقدم نقالت من �إطار فكري وثقافي وت�شريعي �إلى �إطار �آخر‪،‬‬
‫ولم يكن يقدم دائم ًا الجواب النهائي‪.‬‬
‫معلومات له‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫‪ .5‬مر�ساة للعقل وم�ستفز ًا لتفكيره �أكثر من كونه م�صدر‬
‫‪204‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫‪ .6‬ق�سوة اللهجة القر�آنية يجب تقييدها بالظرف الذي نزل فيه‪،‬‬
‫وه��و ظ��رف ك��ان يعني الحياة �أو الموت للدعوة من �أ�صلها �أو‬
‫لأتباعها‪.‬‬
‫وبكل ذلك �سيكون الوحي محور حياة‪ ،‬يدور حوله الجميع‪ ،‬ولكن �ضمن‬
‫�أفالك متعددة ولي�س فلك ًا واحد ًا‪.‬‬
‫بع�ض �أتباع الوحي فقد متابعة هذا الم�سار الدقيق وبالتالي‬
‫ملنا نحو التوحيد ال�سحري في قراءة الوحي‪ .‬ولوال �أن بع�ض الآيات‬
‫تتعار�ض طبيعة مع الم�ضمون ال�سحري‪ ،‬ولوال التواتر في حفظ بع�ض‬
‫الوحي مثل ال��ق��ر�آن لربما �ضاع م�ضمون الوحي تمام ًا‪ .‬وم��ن �أجل‬
‫ذلك فال يمكن ق��راءة �أي وحي بدقة �إال من خالل معرفة الذهنية‬
‫ال�سحرية‪ ،‬لأنها الذهنية التي �شكلت كثير ًا من الخلفية المفاهيمية‬
‫التي نزل الوحي �ضمنها‪ .‬وكما ال يمكن قراءة الوحي ـ بل �أي ن�ص‬
‫ـ بغير عودة �إلى الخلفية اللغوية له‪ ،‬ال يمكن فهمه بغير عودة �إلى‬
‫الخلفية المفاهيمية له‪ .‬على �سبيل المثال لنفهم فكرة «الأحد» في‬
‫القر�آن ال بد �أو ًال �أن نفهم �أنه كان جواب ًا على �س�ؤال‪ ،‬و�أن ال�س�ؤال �أتى‬
‫ممن من ي�ؤمن ب�إله واحد غير متوازن وغير مطرد‪� ،‬إله م�ضطرب‬
‫ومتذبذب‪ .‬لم يكن الأحد لو�صف وحدة الذات �أو ال�صفات بل وحدة‬
‫راع للخير‪ .‬لقد ف�صلنا‬ ‫ال�شخ�صية‪� .‬إله �أحد �أي متوازن مطرد واحد ٍ‬
‫التوحيد عن جميع م�صادر القوة الأخرى‪ ،‬وبذلك �سمح لنا �أن نكون‬
‫�أحرار ًا و�أن ننمو؛ �إذا ما �أردنا‪.‬‬
‫‪205‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫ثاني ًا‪ :‬من عالقة الممكن بالممكن �إلى عالقة الممكن بالواجب‬
‫الإن�سان يفهم معنى العالقة بينه وبين غيره بل بين �أي طرفين‬
‫من خالل تجربته ال�شخ�صية في العالقات‪ .‬و�أول عالقات الإن�سان‬
‫هي عالقاته فترة الر�ضاعة والتي تت�سم بالب�ساطة ولكن في الوقت‬
‫نف�سه ت�شكل �أر�ضية العالقات الم�ستقبلية‪ .‬فهو في تلك المرحلة يعي�ش‬
‫حاجات ال يمكن تلبيتها بنف�سه‪ ،‬ويعاني من تلك الحاجات فيعبر عن تلك‬
‫المعاناة بالبكاء �إما لي�ستجاب له فور ًا‪ ،‬و�إما ليهمل فترة‪ .‬في المرحلة‬
‫التي يبد�أ الطفل بوعي حاجاته‪ ،‬ووعي �أنه غير قادر على تلبيتها بنف�سه‪،‬‬
‫ووعي الجهة التي يمكنها �أن تلبي له حاجته تح�صل نقلة‪ .‬هناك تتكون‬
‫مجموعة من م�شاعر الأمان والخوف والحاجة والمحبة مجتمعة لدى‬
‫طرف واحد وفي وقت واحد‪ .‬الأم هنا م�صدر الأمان وهي �أي�ض ًا م�صدر‬
‫الخوف‪ .‬رحمتها و�شفقتها ت�صبح نموذج الرحمة وال�شفقة‪ .‬ا�ستجابتها‬
‫ونفورها ي�صبحان نموذج ا�ستجابة ونفور من يلبي الحاجات �سواء‬
‫حاجات الأمن �أو حاجات الغذاء‪ .‬ثم تتطور عالقات الإن�سان بتنوعها‪.‬‬
‫فيكت�شف �أنماط ًا �أخرى من النفور واال�ستجابة‪ ،‬من الخوف �أو الأمان‪.‬‬
‫وفي كل مرحلة ينطلق فيها الإن�سان لبناء عالقة جديدة ف�إنه �سيفتر�ض‬
‫فيها ما كان موجود ًا في العالقات ال�سابقة‪ .‬فالطفل الذي يتعرف على‬
‫الغريب �سيتعامل معه �أو ًال وفق تعامله مع من عرف �سابق ًا‪ ،‬و�سيتوقع‬
‫معه ما توقعه ممن �سبق �إل��ى �أن يكت�شف بنف�سه خط�أ هذا �أو يعلمه‬
‫والديه �أمر ًا �آخر ًا عن التعامل مع الغرباء‪.‬‬
‫‪206‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫�أط��راف العالقة هنا هي‪� :‬أنا ـ عالقة ـ �آخ��ر‪ .‬وعن�صر العالقة‬


‫في هذه المعادلة منتزع من تجربة الفرد مع غيره‪ ،‬و�أي�ض ًا منتزعه‬
‫بالقدر نف�سه بوعي الإن�سان بذاته‪ .‬فالإن�سان يع ِّرف الأم��ن والخوف‬
‫والمنع والعطاء والمحبة والكره تعريفات مختلفة ح�سب درجات وعيه‪.‬‬
‫والتجربة معتمدة على فعل ورد فعل‪ .‬على توقعات و�أفعال يقابلها �أعمال‬
‫ت�ؤكد �أو تنفي التوقعات‪ .‬وللتو�ضيح ن�أخذ بع�ض العالقات ال�سائدة مثل‬
‫عالقات‪ :‬الأمومة والتي تت�سم بالرحمة والعطاء بال مقابل‪ ،‬وعالقات‬
‫الأبوة وتت�سم بال�سلطة المقرونة بالرحمة والأمن والعطاء بال مقابل‪،‬‬
‫وعالقات ال�سلطة وتت�سم بالهيمنة المقرونة المجردة من العواطف‪...‬‬
‫فالإن�سان يفهم الرحمة كما ر�آها من �أمه‪ ،‬ويفهم الإر�شاد كما ر�آها من‬
‫�أبيه‪ ،‬ويفهم الهيمنة كما ر�آها من قائده‪ .‬وعندما عندما ي�أتي �أحدنا‬
‫ويتعرف �إلى فرد جديد ف�إنه �سي�سقط عليه �أو عليها العالقات ال�سابقة‪.‬‬
‫و�سيعلم من رد فعل ذلك الآخر دقة الإ�سقاط‪ .‬فربما يقابل �صديقة لأمه‬
‫في�سقط عليها عالقته ب�أمه ليكت�شف �أن عطاءها يختلف‪ .‬ثم �إذا ما �أتى‬
‫الإن�سان ليعي وجود قوة عليا تحكم هذا الكون‪ ،‬وي�سعى لتكوين عالقة‬
‫معها‪ ،‬ف�إنه �سي�سقط عليها العالقات ال�سابقة‪ .‬ف���إذا تخيلها رحيمة‬
‫�سيفهم رحمتها كما ر�آها من �أمه‪ ،‬و�إذا تخيل نف�سه يريد ر�ضاها ف�إنه‬
‫�سيعمل ما كان يعمله لأمه لكي ير�ضيها‪ .‬و�إذا تخيلها جبارة ف�إنه �سي�سقط‬
‫عليها عالقة ال�سلطة‪ ،‬و�إذا �أراد ر�ضاها ف�سيعمل ما يعمله ل�سلطته التي‬
‫عرفها‪ .‬طبع ًا في هذه المواقف ف�إننا لن نجد فر�صة لتجربة رد فعل‬
‫‪207‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫هذه القوة بحيث يت�أكد ويتحقق من نوع العالقة التي يجب �أن تت�شكل مع‬
‫هذه القوة‪� .‬أي�ض ًا �سي�سقط الحاالت النف�سية التي يتخيلها في الآخرين‬
‫على هذه القوة‪ .‬ولهذا ي�أتي �شكل الإله في كثير من الديانات وبين كثير‬
‫من الأفراد وك�أنه �أحد منا ولكن بقوى عليا‪� .‬أي�ض ًا نجد هذا في قراءتنا‬
‫للن�صو�ص الدينية‪ .‬فكل دين ير�سم خريطة عالقات بين اهلل تعالى‬
‫وبين النا�س يتحدث عن عالقة حب‪ ،‬وكره‪ ،‬وغ�ضب‪ ،‬ورحمة‪ ،‬وعطاء‪،‬‬
‫ومنع‪ ،‬وات�صال‪ ،‬وانف�صال‪ ،‬ور���ض��ا‪ ،‬و���س��خ��ط‪�...‬إل��خ‪ .‬ه��ذه الخريطة‬
‫العالقاتية �إما ُتقر�أ كما نقر�أ عالقاتنا و�إما نقر�أوها بطريقة مختلفة‪.‬‬
‫في الأغلب نقر�أوها كما نقر�أ عالقاتنا‪ .‬فعالقات الحب والغ�ضب‬
‫والعبودية والخ�ضوع والدعاء واال�ستجداء وغيرها نقر�أها من خالل‬
‫�أنف�سنا ونعمل فيها ما نعمله مع �أنف�سنا وبالتالي نقر�أ الن�صو�ص الدينية‬
‫وفق ذلك‪ .‬وربما هذا ي�صح لو كانت القوة العليا الغائبة عنا مثلنا في‬
‫الحاجة والمحدودية وال�ضعف وما �إلى ذلك‪ .‬لأن الأر�ضية التي خلقت‬
‫الحاالت النف�سية التي نمر بها والتي ت�شكل عالقاتنا هي تلك الحاالت‬
‫الوجودية التي تندرج تحت م�صطلح «الإمكان»‪ .‬ف�أطراف العالقة التي‬
‫كانت �أنا ـ عالقة ـ �آخر هي التي �صنعت لنا مفاهيم العالقة‪ ،‬مفهوم‬
‫العالقة انتزع منها‪ .‬واالنتزاع كان من طرفين فيما الإمكان‪ ،‬وبالتالي‬
‫ف�إن مفهوم العالقة كما نعرفه قائم على الإمكان‪ .‬وفي حال بناء عالقة‬
‫مع اهلل تعالى ف�إن الأمر �سيختلف تمام ًا لأنه تعالى غير محتاج وغير‬
‫محدود‪ .‬هو الغني المطلق وهو واجب الوجود‪.‬‬
‫‪208‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ن�ضمن الكلمة‬
‫فعندما نقول �إن اهلل يحبنا ماذا نعني بحبه؟ هل ِّ‬
‫الحب الذي عهدنا في حياتنا؟‬
‫ن�ضمن الطاعة التي‬
‫وعندما نقول �إن اهلل يريدنا �أن نطيعه؟ هل ِّ‬
‫عرفناها من ذوي ال�سلطة في حياتنا؟ بل عندما يقول �شخ�ص عا�ش‬
‫ثقافة فردية‪�« :‬أنا �أطيع اهلل» هل يقولها كما يقولها من عا�ش في ثقافة‬
‫توافقية ان�سجامية؟ الأول فهم الطاعة في حياته على �أنها توافقية وعلى‬
‫�أنها تخدمه �أو ًال ثم تخدم غيره ثاني ًا‪ .‬الثاني فهم الطاعة على �أنها‬
‫ان�صهار في كل‪ ،‬ذوبان وجوده الجزئي في الوجود الكبير الذي حوله‪.‬‬
‫وعندما نقول اهلل يغ�ضب علينا هل نفهم منها الغ�ضب الذي‬
‫نراه من �أنف�سنا ومن غيرنا؟ وعندما نقول علينا �أن نخ�ضع هلل تعالى‬
‫هل نفهم منها الخ�ضوع الذي يطلبه الب�شر المتكبرون منها؟ وعندما‬
‫نقول علينا التذلل هلل تعالى هل نفهم ذلك التذلل الذي ن�ضعه بين‬
‫�أي��دي من هو مثلنا؟ وعندما نلح على اهلل بالدعاء فهل نقوم بذلك‬
‫كما نقوم عندما نلح على ب�شر لكي نر�ضي غروره �أو نك�سر مقاومته؟‬
‫�أم لكي ن�ستخرج كوامن �أنف�سنا بحيث تن�سجم مع ما تدعوه؟ وهكذا‬
‫كل عبارة تت�ضمن عالقة باهلل تعالى تحتاج �إلى ت�أمل‪ ،‬وتدعونا �إلى �أن‬
‫ن�س�أل �أنف�سنا‪ :‬هل م�ضامينها هي تلك الم�ضامين التي عهدناها؟ �أم �أن‬
‫اختالف اهلل عنا يعني اختالف ًا في ما ي�صح �أن ن�سقطه على العالقة مع‬
‫اهلل تعالى؟ والم�شكلة هي كيفية تجاوز العالقة بين ممكنين �إلى عالقة‬
‫صال ت�صور عالقة بين ممكن وواجب؟‬ ‫بين ممكن وواجب‪ .‬وهل يمكن �أ� ً‬
‫‪209‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫بين ظل وبين قائم بذاته؟ بين �شبه عدم وبين مطلق الوجود؟ وبغير‬
‫�أن نلتفت �إلى �أننا نتعامل مع اهلل كما نتعامل مع الممكن‪ ،‬و�أنه علينا‬
‫تجاوز هذا �إلى التعامل مع الواجب ف�إننا �سنبقى �أ�سرى وعي محدود‬
‫باهلل تعالى‪.‬‬

‫ثالث ًا‪� :‬إثارة العقل بحيث يندمج مع المعلومات‬


‫لكي يمكن العقل من التعامل مع المعارف ذات �صلة بالعالقة‬
‫باهلل تعالى فال بد من �إثارة ح�سه الفل�سفي ومهاراته الت�أملية‪ ،‬و�أي�ض ًا‬
‫تطوير قدرته على التجريد وتفعيل ا�ست�شعاره للمج َّرد‪ .‬كما ال بد من‬
‫تخفيز نزعة اال�ستك�شاف المو�ضوعية والذاتية بحيث تتكون عالقتنا‬
‫بالعالم على �أ�سا�س معرفتنا المو�ضوعية به‪ ،‬ويتطور الت�سا�ؤل الواعي‬
‫لدينا‪ .‬فعندما نقول‪�« :‬إننا وجود انتقل من العدم المطلق �إلى الوجود‬
‫المقيد والعار�ض» �أو‪« :‬علينا �أن ن�شعر الم�سافة الالنهائية التي قطعناها‬
‫لكي ن�صل �إلى هنا‪ ،‬وعلينا �أن ندرك �أي�ض ًا المحدودية الهائلة التي نحن‬
‫عليها فيها واله�شا�شة التامة التي ن�سير فوقها»‪ .‬عندما نقول ذلك ف�إننا‬
‫نتحدث عن حقائق �أ�سا�سية في ت�أ�سي�س عالقة باهلل؛ ولكنها حقائق‬
‫مجردة ال تندمج ب�أرواحنا وقلوبنا �إال �إذا �أدركناها و�شعرناها‪ ،‬وهي ال‬
‫ُتدرك وال ُت�شعر �إال من خالل ملكة خا�صة ال بد من تطويرها‪ .‬مثل ذلك‬
‫عندما نقول‪�« :‬إن عالقتنا باهلل تعالى وبالوجود من حولنا تعتمد على‬
‫�إدراكنا لحجمنا الوجودي» �أو‪« :‬نحن نرى الوجود كتلة واحدة تت�ساوى‬
‫‪210‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫فيه النملة مع �أكبر مجرة‪� .‬إنهما في الحقيقة وجودان مت�ساويان تمام ًا‬
‫من حيث الم�سافة مع العدم‪ ،‬وبالتالي مت�ساويان بالن�سبة لقدرة اهلل‬
‫تعالى»‪ .‬فهذه �أي�ض ًا حقائق نحتاج �إلى �أن نتذوقها لكي يمكن �أن نتفاعل‬
‫معها‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬المعرفة ال�شعورية‬


‫في بناء عالقة مع اهلل ف�إن الأمر يتجاوز تح�صيل معرفة عن اهلل‬
‫بل ال بد معرفة من نوع خا�ص‪ .‬معرفة يمكنها �أن تندمج مع وعينا كما‬
‫تندمج معرفتنا بكثير من الظواهر الحياتية‪ .‬ولذلك ال بد من �إعطاء‬
‫هذا الجانب �أهمية خا�صة‪ .‬وما يلي �شرح لكيفية تكوين هذا الوعي‪.‬‬
‫يتكون الوعي باجتماع معرفتين‪ :‬معرفة عقلية ومعرفة �شعورية‪.‬‬
‫فالمعرفة ـ �أو ما يمكن ت�سميته مجاز ًا معرفة ـ ثالثة �أنواع‪:‬‬
‫المعرفة اللفظية‪ :‬وهي العلم بالألفاظ وال�صور الذهنية التي‬
‫نتعامل بها وت�ؤثر علينا بغير التفات �إلى ما ت�شير �إليه‪ .‬وتت�شكل عبر‬
‫التربية والغر�س‪ .‬وهي �أ�شبه ما تكون بالبرمجة حيث ترتبط � ٌ‬
‫ألفاظ‬
‫محددة ب�سلوكيات معينة‪ .‬هذا النوع من المعرفة ي�شكل �أغلب معارف‬
‫من يعرف اهلل تعالى ال��ي��وم‪ .‬وه��و �ضعيف للغاية‪ ،‬وت�أثيره محدود‪،‬‬
‫وتجاوزه �سهل للغاية‪ .‬و�إذا �أتينا و�س�ألنا �أنف�سنا ما قدر تفاوت الإح�سا�س‬
‫بوجود اهلل بين طفل وبين كثير من البالغين؟ هل الفرق كمي �أم نوعي؟‬
‫في كثير من الحاالت ف�إنَّ الفرق كمي‪ .‬ف�إدراكنا هلل مث ًال �إنما ت�أكد بفعل‬
‫‪211‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫تكثف االقتران اللفظي وت�أثير العرف االجتماعي‪ ،‬ولي�س بفعل عمليه‬


‫ت�أملية‪ .‬فما دمنا في هذه مرحلة من المعرفة وما دمنا نكتفي بت�شديد‬
‫ما هو موجود فلن تح�صل نقلة نوعية‪ .‬ويت�ضح ت�أثير المعرفة اللفظية‬
‫بالنظر �إلى �إيمان كثير من النا�س بت�أثير الجن في حياتهم‪ .‬فكثير منا‬
‫يعتقد ب�أن الجن ت�ستطيع �أن تتدخل في حياته ال�شخ�صية‪ .‬هذا االنطباع‬
‫تك َّون في ‪ % 99.99‬منا ب�سبب ما ن�سمعه من النا�س ولي�س ب�سبب ظهور‬
‫جني �أمامنا‪ .‬بل حتى الـ‪ % 0.01‬الباقية لم تر جني ًا و�إنما ر�أت �آثار ًا‬
‫ف�سرتها على �أنها �أعمال جن‪ .‬كما ال يوجد لأي واحد منا حكم عقلي �أو‬
‫رمجت‬ ‫معيار مو�ضوعي لتقييم مثل هذه المعرفة‪� .‬إنها معرفة لفظية ُب ِ‬
‫فينا ب�سبب تكرار هذا �أمامنا‪ .‬هذا مع �أنها م�ؤثرة فينا ت�أثير ًا �شديد ًا‬
‫ولدرجة �أن �أحدنا قد ي�صيبه ال�شلل الم�ؤقت لو ُطلب منه الدخول �إلى‬
‫مو�ضع ُيظن فيه جني‪ .‬ومع �أننا قطع ًا ن�ؤمن باهلل تعالى �أكثر مما ن�ؤمن‬
‫بت�أثير الجن في حياتنا‪� ،‬إال �أن ح�ضورهم في �أنف�سنا �أ�شد من ح�ضور‬
‫اهلل تعالى‪ .‬ولو طبقنا الأمر نف�سه على اهلل تعالى لوجدناه‪ .‬فالطفل‬
‫الذي يخ�شى اهلل تعالى ويحبه‪ ،‬هل يخ�شى ويحب الإله الرحيم الكريم‬
‫المتعالي القادر على كل �شيء؟ �أم يخ�شى وحيب اللفظة التي اقترنت‬
‫بتهديد وتخويف ووعد ووعيد؟‬
‫المعرفة العقلية‪ :‬هي خطوة متقدمة عن المعرفة اللفظية‪.‬‬
‫�إذ عندها يبد�أ العقل في مناق�شة الألفاظ وال�صور الذهنية الموجودة‬
‫فيه‪ .‬يناق�شها ليت�أكد من �أنها تنطبق على موجودات مو�ضوعية خارج‬
‫‪212‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫الذهن‪ .‬ونتيجتها �أن الإن�سان يقبل �أن بع�ض ال�صور الذهنية التي في‬
‫عقله ال وج��ود لها‪ ،‬وبع�ضها موجودة فع ًال‪ .‬ومع �أنها خطوة متقدمة‬
‫�إال �أنها �أي�ض ًا �ضعيفة بع�ض ال�شيء‪ .‬هي تعطي المعارف اللفظية‬
‫بع�ض الم�صداقية ولكنها ال تزيد كثير ًا من ت�أثيرها‪ .‬بل في بع�ض‬
‫ال��ح��االت ال تقلل من ت�أثير ما تنفيه‪ .‬فقد ينفي العقل فكرة ت�أثير‬
‫القط الأ���س��ود‪ ،‬ولكن �شدة البرمجة اللفظية تجعله يتوج�س تلقائي ًا‬
‫كلما ر�أى ذلك القط �أم��ام منـزله لي ًال‪� .‬أي�ض ًا ف�إن هذه المعرفة قد‬
‫ال تندمج بال�ضرورة مع م�شاعر الإن�سان بحيث ت�ؤثر على �إرادت��ه‪.‬‬
‫و�شرط وج��ود هذه المعرفة العقلية هو التفات الإن�سان �إل��ى معارفه‬
‫واعتماده منهج ًا مو�ضوعي ًا لتقييمها‪ ،‬ون�ضوج عقله بحيث يمكنه �أن ينقد‬
‫ما اعتاد عليه من معارف لفظية‪ .‬وجدير بالذكر �أن كثير ًا من الإلحاد‬
‫�أو ال�شك باهلل �سببه ال�شك والإلحاد باللفظ وال�صورة الذهنية ولي�س‬
‫باهلل تعالى‪ .‬هو رف�ض للبرمجة‪ ،‬ولكن بغير انتقال �إلى الإثبات العقلي‪.‬‬
‫و�إذا عدت �إلى مثال الجن‪ ،‬ف�إن العقل هنا �سيبحث في االفترا�ضات‬
‫الذهنية الموجودة‪ ،‬و�سيقيم مدى وجودها في الواقع‪ .‬ف�سي�س�أل هل‬
‫فع ًال هناك ات�صال واقعي بين �إن�سان وجني؟ هل فع ًال ي�ؤثر الجن على‬
‫حياة النا�س؟ وبالتحليل العقلي �سي�صل �إلى نتيجة مفادها �أن الجن‬
‫معزولون عن الب�شر وال عالقة لهم ببع�ض مطلق ًا �إال في حدود معجزة‬
‫النبي �سليمان فح�سب‪.‬‬
‫المعرفة ال�شعورية‪ :‬وهي عندما عندما يتجاوز الإن�سان اللفظة‬
‫‪213‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫�إلى مدلولها‪ ،‬وال�صورة الذهنية �إلى ما تنطبق عليها‪ ،‬ولكن بطريقة‬


‫تجعل الفرد ي�ست�شعر مدلوالت �ألفاظه ويتعامل مع م�صاديق �صوره‬
‫الذهنية‪ .‬وي�صبح تلفظه لها �إ�شارة �إلى موجود خارج ذهنه ولي�س مجرد‬
‫الحديث عن موجود ذهني‪ .‬والمعرفة العقلية �شرط للمعرفة ال�شعورية‪،‬‬
‫�إذ ال يمكن تجاوز العقل �إال �إلى �شيء موجود فع ًال‪ ،‬ال يمكن ا�ست�شعار ما‬
‫لي�س موجود ًا و�إال �أ�صبح َو ْهم ًا وهلو�سة‪ .‬وهذا النوع من المعرفة يخلق‬
‫�أزم��ة لدى �صاحبه في المراحل الأول��ى‪ .‬فالخطوة الأول��ى هي تجاوز‬
‫اللفظة‪ ،‬والخطوة التالية هي التعلق بالمدلول‪ .‬وبينهما م�سافة ال بد من‬
‫قطعها‪ .‬في �أثناء تلك الم�سافة يجد الإن�سان نف�سه خارج اللفظ ولكن‬
‫لي�س داخل المدلول في�شعر في التيه‪ .‬ف�إما يركن �إلى قوة الدليل العقلي‬
‫الذي قذف به نحو المدلول‪ ،‬و�إما ي�ست�سلم للأزمة التي يمر بها فينكر‬
‫وجود المدلول من �أ�صله‪.‬‬

‫من الح�ضور الذهني �إلى ال�شعور‪:‬‬


‫لو تخيلت ماء ًا بارد ًا لمدة دقيقة‪ ،‬ثم و�ضعت يدك فيه ف�ستجد‬
‫فرق ًا وا�ضح ًا في �شدة �إدراكك للماء البارد قبل وبعد‪ .‬الأول كان ح�ضور‬
‫الماء في الذهن‪ ،‬الثاني كان ال�شعور بالماء‪.‬‬
‫هذا يثير مجموعة من الأ�سئلة مثل‪:‬‬
‫ •ما هو ال ُمفرق بين الحالتين؟‬
‫ •ما الذي خلق فرق ًا بين الح�ضور في ال�شعور والح�ضور في الذهن؟‬
‫‪214‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ •ما المماثلة والفرق بين معرفتنا بالماء �أمامنا �أو بالماء ونحن‬
‫منغم�سون فيه؟‬
‫ •ما الفرق والمماثلة بين معرفتنا باهلل تعالى وبين معرفتنا بوجود‬
‫ماء �أمامنا؟ �أو مائة متر تحت الأر���ض؟ �شعورنا باهلل �أو �شعورنا‬
‫بالماء؟‬
‫ •لماذا ن�شعر �أن الماء �أكثر ح�ضور ًا من اهلل تعالى؟‬
‫البحث ف��ي ه��ذا الأم���ر �سيحيلنا �إل���ى فل�سفة المعرفة �أو‬
‫االب�ستمولوجيا‪ ،‬وهي من �أو�سع و�أهم مو�ضوعات الفل�سفة والتي دار‬
‫حولها جدل قديم لم ُيح�سم بالرغم مما يقرب من ‪� 3000‬سنة من‬
‫البحث فيه‪ .‬و�إنْ دل ذلك الجدل على ال�شيء ف�إنه يدل على عظمة‬
‫اهلل تعالى حيث وهبنا هذا الغنى في التفكير والخيال والتحليل‬
‫والقبول والرف�ض‪ .‬كما يدل على محدودية ذواتنا والتي لم ت�ستطع‬
‫�أن تح�سم �أم��ر ًا بهذه الأهمية‪ .‬وفي الوقت نف�سه تدل على روعة‬
‫حريتنا الفكرية التي لم يكن لأي �إن�سان �أن يح َّدها مهما كان له‬
‫�أنْ يح َّد من حياتنا المادية والج�سدية‪ .‬والإب�ستمولوجيا مت�صلة‬
‫تمام ًا بحياتنا اليومية و�إن كنا ال ننتبه �إلى ذلك‪� .‬إذ تجيب على‬
‫�أ�سئلة حيوية من نحو‪ :‬ما الذي يمكن �أن نعلمه؟ وكيف يمكن �أن‬
‫نعلم؟ وهل ما هو موجود في �أذهاننا مطابق لما هو موجود في‬
‫خارجها؟ وهي �أ�سئلة تهيء لنا االنتقال من نوع المعرفة اللفظية‬
‫�إلى المعرفة العقلية ف�إلى المعرفة ال�شعورية‪ .‬ومن ال يطرحها على‬
‫‪215‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫نف�سه �سيبقى في �إطار ما تمت برمجته عليه‪ ،‬و�سيقبل �أمور ًا غير‬


‫مو�ضوعية وال تقوم على براهين‪.‬‬

‫مقومات ال�شعور‬
‫ال�شعور ب�آخر مكون من ثالثة �أط��راف‪ :‬معرفة (�أو انطباع في‬
‫الذهن مقترن بحكم عقلي) ـ االرتباط ـ الح�ضور‪ .‬ولكل طرف منها‬
‫عنا�صر‪ .‬وما يلي عر�ض موجز لها‪:‬‬
‫المعرفة‬
‫المعرفة انطباع في الذهن مقترن بحكم من العقل‪ .‬االنطباع‬
‫الذهني ُي�سببه �أمر �آخر‪ .‬فالذهن ك�أنه �صحيفة بي�ضاء ت�ؤثر فيه م�ؤثرات‬
‫معينة تطبعه ب�صور مختلفة‪ .‬وهذه الم�ؤثرات ت�صل �إلى الذهن بوا�سطة‬
‫�أدوات الإدراك المختلفة‪ .‬ولها خا�صية مهمة وهي �أنها ال �إرادية‪ .‬بمجرد‬
‫ات�صال �أدوات الإدراك ب�شيء ف�إنها تطبع الذهن بال�صور المت�صلة به‬
‫بغير اختيار لنا في ذلك‪.‬‬
‫الحكم العقلي هو كون العقل يقول ب�أن هذا االنطباع هو نا�شيء‬
‫من �أمر موجود خارج الذهن �أو ينفيه‪ .‬وهو �أي�ض ًا �إدراك العقل لنوعية‬
‫العالقة بين ال�صورة الذهنية وبين ما �أ َّثر فيها‪ .‬مث ًال عالقة الموافقة‬
‫والمخالفة بين االنطباع الذهني وبين الأمر الموجود خارج الذهن‪.‬‬
‫فالقمر نراه �صغير ًا‪ ،‬ولكن العقل يعلم �أنه �أكبر‪.‬‬
‫ •�إذ ًا معرفتي بـ«�أن محمد ًا �أمامي» تنحل �إلى‪:‬‬
‫‪216‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ •انطباع في الذهن‪.‬‬
‫ •�س َّببه وجود محمد �أمامي‪.‬‬
‫ •وح�صل هذا االنطباع بوا�سطة حا�سة الب�صر وتحليالت الدماغ‪.‬‬
‫ولكنها في هذه المرحلة لي�ست �إال �صورة لمحمد‪ ،‬لي�ست معرفة‬
‫بعد‪� .‬إنها ت�صبح معرفة عندما تح�صل مجموعة من الأمور‪:‬‬
‫ •يحكم عقلي ب���أن هذه ال�صورة لمحمد لم تكن لتن�ش�أ لوال وجود‬
‫م�سبب لها‪ :‬وبالتالي يبد�أ العقل بااللتفات �إلى هذا الم�سبب ليعرف‬
‫�أين هو؟‬
‫ •ثم يدرك عقلي �أن الم�سبب لهذه ال�صورة هو �أمر خارج الذهن‬
‫ولي�س من الذهن نف�سه‪ .‬فعقلي يعلم �أن �صورة العنقاء في ذهني‬
‫فح�سب وال حقيقة لها خارجه‪ .‬وهو �سيدرك �أن �صورة محمد ن�ش�أت‬
‫بفعل �أمر خارج الذهن‪.‬‬
‫ •ثم يدرك عقلي �أن هذه ال�صورة تتطابق بنحو ما محمد‪.‬‬
‫‪� ...‬إلخ من التحليالت العقلية التي لوالها لما تجاوزت �صورة‬
‫محمد كونها �صورة‪ .‬وهي تحليالت معقدة تجري في عقولنا ب�سرعة‬
‫عالية للغاية‪ ،‬وفهمها يعيننا على ت�صحيح معرفتنا‪.‬‬
‫ومن المهم �أن نتن َّبه �إلى ثالثة �أمور‪:‬‬
‫الأول‪ :‬ح�صول االنطباع ال �إرادي‪ ،‬فال ن�ستطيع �أن نمنع ح�صول‬
‫االنطباع بعد ات�صال �شيء خارج الذهن ب�أدوات الإدراك‪ .‬ولكن تهيئة‬
‫�أدوات الإدراك لتلقي االنطباعات يمكن �أن يت�أثر ب�إرادتنا‪.‬‬
‫‪217‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫نعطل الحكم العقلي �أو‬ ‫الثاني‪ :‬حكم العقل �إرادي �إذ ن�ستطيع �أن ِّ‬
‫ن�ؤ ِّثر عليه‪ .‬ولهذا نقبل الت�صديق بخرافات ال �أ�صل لها لأننا �أ َّثرنا على‬
‫الحكم العقلي‪� ،‬أو عطلناه‪ .‬فالمعرفة ال يمكن �أن تتحقق وتكتمل بغير‬
‫فعل �إرادي‪ .‬يمكن لالنطباع �أن يتكون ال �إرادي ًا‪ ،‬و�أما المعرفة فال‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬العالقة ال�سببية هي التي تربط بين ال�شيء خارج الذهن‬
‫وبين الذهن‪ .‬ف���أدوات الإدراك هي الو�سيط‪ ،‬ولكن ال�سببية هي التي‬
‫ت�ؤدي �إلى وجود االنطباع في الذهن‪ .‬ف�أي انطباع في الذهن هو في‬
‫نهاية التحليل �صورة ُم�س َّببة‪.‬‬
‫االرتباط‬
‫الطرف الثاني من �أطراف ال�شعور هو االرتباط‪ ،‬ويعني �إدراك‬
‫لعالقة الت�أثير �أو الحاجة بين ال�شيء المعروف وبين الذات‪ .‬فلو نظرت‬
‫�إلى قلم‪ ،‬ومفتاح‪ ،‬وكتاب‪ ،‬وك�أ�س ماء‪ ،‬ومحمد‪ ،‬وزيد في لحظة كنت‬
‫بحاجة ما�سة �إلى محمد ف�إن ارتباطي الذهني بمحمد �سيختلف عن‬
‫ارتباطي بغيره‪ .‬والأمر نف�سه لو كنت خائف ًا من محمد‪� ،‬أو راجي ًا له‪� ،‬أو‬
‫ب�شكل عام لو كنت �أ�شعر �أن محمد ًا يمكنه �أن ي�ؤثر َّ‬
‫في‪.‬‬
‫واالرتباط هو مثل االنطباع من حيث �إنه ال �إردي‪ .‬ولكن نقاء‬
‫االرتباط يعتمد على معرفة الفرد بالعالقة الت�أثيرية بين الآخر والذات‪.‬‬
‫وهذا يعني معرفة ما للذات من �صفات وخ�صائ�ص‪ .‬و�أي�ض ًا معرفة ما‬
‫للذات من حاجات و�ضعف‪ .‬والح�صول على هذه المعرفة �إرادي‪ .‬فهي‬
‫ال ت�أتي �إال ب�إعمال الفكر والت�أمل‪ ،‬وهو �إرادي‪ .‬ولأن االرتباط �شرط في‬
‫‪218‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫ال�شعور فهو �أي�ض ًا يحدد نوع ال�شعور‪ .‬فمعرفتي بنف�سي ومعرفتي باهلل‬
‫تحدد نوع ال�شعور الذي �سيكون لدينا‪.‬‬
‫الح�ضور‬
‫هو الطرف الثالث من �أطراف ال�شعور‪ ،‬وي�صعب تعريفه ولكن‬
‫يمكن الإ�شارة �إليه‪ .‬فلو حدثني �أحد عن محمد‪ ،‬ثم ترا�سلت معه‪ ،‬ثم‬
‫تكلمت معه هاتفي ًا‪ ،‬ثم ر�أيته‪ ،‬ثم �صافحته لوجدت �أن هناك تدرج ًا في‬
‫خا�صية االنطباع الذي تكون في الذهن‪ .‬تلك الخا�صية هي ما �أق�صدها‬
‫بالح�ضور‪.‬‬
‫الماء الذي �أ�ضع يدي فيه حا�ضر �أكثر من الماء الذي �أتخيله �أو‬
‫�أراه‪ .‬وهناك م�سافة هائلة ي�شعرها كل واحد منا بين ح�ضور ال�صورة‬
‫الذهنية وبين ح�ضور التجربة‪ .‬بين ح�ضور �صورة عوالم من الطعام‬
‫وبين تجربة تذوق ملعقة واحدة منه‪ .‬وفهم �سبب وجود هذه الم�سافة‬
‫يعيننا على فهم الح�ضور‪.‬‬
‫ولكي نقترب �أكثر من الم�شكلة علينا �أن نالحظ �أن �أي �صورة ذهنية‬
‫هي في نهاية الأمر �صورة م�سببة من �أمر خارج الذهن‪ .‬فر�ؤيتي للماء‬
‫ت�ؤدي �إلى �صورة ذهنية له‪ ،‬ور�ؤيتي للماء مع لم�سي له ت�ؤدي �إلى �صورة له‪.‬‬
‫وال�صورتان مت�ساويتان وال فرق بينهما على االطالق في الذهن‪ .‬ال يمكن‬
‫�أن �أقول �أن �صورة الماء الذي �ألم�سه و�آراه و�أتذوقه �أكثر «مائي ًة» من الماء‬
‫الذي �أتخيله‪ .‬ومع ذلك ف�إن ح�ضور ال�صورة المقترنة بالر�ؤية وباللم�س‬
‫�أكثر من ح�ضور ال�صورة المقترنة بالر�ؤية فقط‪.‬‬
‫‪219‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫وا�ضح �أن الأمر ذات �صلة بعدد الإدراكات الح�سية التي �أدت �إلى‬
‫االنطباع‪ ،‬ولكن ال�س�ؤال الذي �أحاول �أن �أجيب عليه هو‪ :‬ما هي العملية‬
‫التي �أثارتها كثرة الحوا�س بحيث نتج زيادة ح�ضور؟ قد يكون الجواب‬
‫ب�أنه ال يوجد �شيء زائد على كثرة الحوا�س‪ ،‬وبذلك يقف ال�س�ؤال ويتوقف‬
‫�أمر ال�شعور على الحوا�س ويكون �أي مدرك غير ح�سي بعيد تمام ًا عن‬
‫اال�ست�شعار‪ .‬ولكن قد نجد �أن الحوا�س �أثارت عملية ما‪ ،‬تلك العملية‬
‫هي التي �أدت �إلى زيادة الح�ضور‪ .‬و�إذا و�صلنا �إلى هذا ف�إننا �سن�س�أل‬
‫عندها‪ :‬هل يمكن �أن تح�صل تلك العملية بغير ات�صال ح�سي؟‬
‫االلتفات‬
‫الذي �أظنه �أن التفاوت في درجة الح�ضور يعود �إلى �سبب �أ�سا�سي‬
‫وهو مدى االلتفات �إلى ال�صورة الذهنية‪ .‬وااللتفات بدوره يعتمد على‬
‫�أحد �أمرين‪ :‬الم�سافة بين الحالة الإدراكية قبل وبعد‪ ،‬وتوقع الفعل‪.‬‬

‫الم�سافة بين الحالة الإدراكية قبل وبعد‬


‫الح�س يقوم ب��دوره في ق�ضية الم�سافة بين الحالة الإدراكية‬
‫قبل وبعد‪ .‬ولنعتبر �أننا قبل االت�صال الح�سي بالماء في نقطة �صفر‪.‬‬
‫ثم بعد االت�صال الح�سي بالماء ب�صري ًا �أ�صبحنا في نقطة خم�سة‪ .‬ثم‬
‫بعد لم�سه �أ�صبحنا في نقطة ع�شرة‪ .‬ثم بعد االنغما�س به �أ�صبحنا في‬
‫نقطة ع�شرين‪ .‬م�سافة االنتقال من �صفر �إلى خم�سة �أقل بطبيعة الحال‬
‫من م�سافة االنتقال من خم�سة �إلى ع�شرين‪ .‬هذه الم�سافة ت�ؤثر على‬
‫‪220‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫االلتفات‪ ،‬على التفات الذهن �إلى المو�ضوع الذي يثير فيها انطباعات‪.‬‬
‫وبالتالي ف�إن الح�س وكثرته �إنما ي�ؤثر على الم�سافة بين الحالة الإدراكية‬
‫قبل وبعد االت�صال الح�سي؛ وهذه الم�سافة هي ت�ؤثر على �شدة االلتفات‬
‫وبالتالي درجة الح�ضور‪� .‬أي ت�أثير الح�س في الح�ضور هو ت�أثير عار�ض‬
‫ولي�س �أ�صيل‪ .‬ولذلك نجد �أن ح�ضور ما يح�ضر في الأحالم يكاد ي�ساوي‬
‫ح�ضور ال�شيء في اليقظة‪ ،‬بل يزيد �أحيان ًا‪ .‬و�إن دل على �شيء فيدل على‬
‫�أن الح�ضور لي�س ح�سي ًا فح�سب‪.‬‬
‫لذلك ف�إن االلتفات النا�شيء من الح�س عار�ض وزائل‪ .‬فما �إن‬
‫يح�صل ات�صال بالماء ف�إن الذهن يلتفت �إلى هذا االنطباع بطريقة‬
‫كبيرة‪ ،‬ولكن بعد لحظات من ذلك االت�صال نجد �أن ح�ضور الماء �أ�صبح‬
‫�أقل‪ .‬وذلك لأن الحالة الإدراكية ا�ستقرت الآن في نقطة جديدة‪ ،‬وبذلك‬
‫�ضعف الت�أثير على االلتفات‪ .‬وهذا ُيخبرنا �أن الم�س�ألة ذات �صلة بتوجه‬
‫الذهن‪ .‬اللحظة الأولى من اللم�س تلفت ب�شدة لأن الإح�سا�س انتقل من‬
‫«ال لم�س» �إلى «لم�س» مبا�شرة‪� .‬أما بعد بقاء اليد في الماء ف�إن الذهن‬
‫يعود ليلتفت �إلى �أمور �أخرى‪.‬‬

‫توقع الفعل‬
‫الأمر الثاني الذي ي�ؤثر على االلتفات هو توقع الفعل‪.‬‬
‫ف�إن التفاتي لمحمد الذي �آراه �أكثر من الماء الذي �أراه‪ .‬والفرق‬
‫بينهما �أنني �أ�ستطيع �أن �أتوقع من محمد �أن يكون منه فعل ب�إزائي‬
‫‪221‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫بخالف الماء‪ .‬و�ألتفت �إلى محمد الذي �أراه ويراني �أكثر من محمد‬
‫الذي �أراه وال يراني‪ .‬وال�سبب �أن الفعل المتوقع من الحالتين مختلف‪.‬‬
‫�أخير ًا ف�إنني لو توقعت من محمد �أن يق�ضي علي ف�إن التفاتي �إليه غير ما‬
‫لو توقعت �أنه �سيبت�سم لي‪� .‬إذا االختالف في درجة التوقع‪ ،‬واالختالف‬
‫في نوع الفعل ال ُمتَوقع ي�ؤثران على االلتفات‪.‬‬
‫و ع��ل��ى ه��ذا ا لأ ���س��ا���س يمكن �أن ي��ك��ون م��وج��ود غ��ي��ر ح�سي‬
‫حا�ضر ًا لدينا بقدر ح�ضور موجود ح�سي �إذا ما ا�ستطعنا �أن‬
‫نلتفت �إليه با�ستخدام طرق غير الح�س‪ ،‬و�إذا توقعنا منه فع ًال‬
‫ب�إزائنا‪.‬‬
‫فالخال�صة هي‪:‬‬
‫ال�سببية هي التي �أوجدت االنطباع عن محمد في الذهن‪.‬‬
‫الحكم العقلي هو الذي نقل �صورة محمد من كونها �صورة �إلى‬
‫كونها تعبير ًا عن حقيقة وجودية خارجية‪.‬‬
‫الت�أثير المحتمل �أو الم�ؤكد هو التي �شدني �إل��ى �صورة محمد‬
‫وخلقت بيني وبينها عالقة تختلف عن العالقة بيني وبين بقية ال�صور‬
‫في الذهن‪.‬‬
‫الم�سافة الإدراك��ي��ة لفتت انتباه ذهني �إل��ى محمد بقدر تلك‬
‫الم�سافة‪ ،‬ولكن لفترة محدودة للغاية‪.‬‬
‫توقعي فعل محمد لفت انتباهي �إلى محمد بقدر �شدة التفات‬
‫محمد � ِّإلي‪ ،‬وبقدر نوع الفعل الذي �أتوقعه من محمد‪.‬‬
‫‪222‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫الوعي باهلل تعالى‬


‫لو طبقنا ما �سبق على اهلل تعالى‪:‬‬
‫ •ال يوجد انطباع ذهني عن اهلل تعالى‪ .‬لأننا ال ندركه بالحوا�س‪.‬‬
‫ •هناك حكم عقلي ب�أن اهلل تعالى موجود‪ .‬وقوة هذا الحكم العقلي‬
‫هي بقدر قوة الحكم العقلي ب�أن محمد ًا موجود في الخارج‪ ،‬بل‬
‫�أقوى‪ .‬فلي�س لي ما يثبت �أن محمد ًا موجود �إال باالعتماد على مبد�أ‬
‫ال�سببية‪� :‬أي ال �أثر بغير �سبب منف�صل عنه‪ .‬وبما �أنه يوجد �صورة‬
‫في ذهني (�أث��ر) �إذن هناك �سبب لها‪� ...‬إلخ �إلى �أن �أ�صل �إلى‬
‫�أن محمد ًا موجود‪ .‬وب�سبب الألفة لم نعد نمار�س هذا التحليل‪.‬‬
‫وعلى نف�س الن�سق ف�إن وجود اهلل تعالى ثابت عق ًال ب�سبب المبد�أ‬
‫نف�سه‪ .‬فكما دل وجود �صورة محمد على اهلل تعالى ف�إن وجودي‬
‫�أنا دل مبا�شرة على وجود اهلل تعالى‪ .‬ووجود كل ما حولي دل على‬
‫وجود اهلل تعالى‪ .‬ولذلك ف�إن وجود اهلل �أقوى‪ ،‬لأنه مهما �شككت‬
‫في وجود ما هو خارج ذهني فال �أ�ستطيع �أن �أ�شك بوجودي‪ ،‬وما‬
‫دام وجودي قائم ًا فاهلل تعالى قطع ًا هو من �أقامه‪.‬‬
‫ •عندما ن�أتي �إلى الت�أثير المحتمل لمحمد ونقارن بينه وبين علمنا‬
‫بالت�أثير المحتمل هلل تعالى‪ ،‬نجد �أنهما عقلي ًا على ن�سق واحد �أي�ض ًا‪.‬‬
‫فالطريقة التي ع َّرفتني �أن محمد ًا ذو ت�أثير هي ذاتها التي تو�صلني‬
‫�إلى �أن اهلل تعالى ذو ت�أثير‪ .‬فكما �أدركت �صورة ذهنية عن محمد‬
‫�أدت �إلى �أن �أعرف �أن محمد ًا موجود‪ ،‬كذلك �أدركت �صورة ذهنية‬
‫‪223‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫عن �أفعال محمد وقدرته وعلمه وبالتالي عرفت ت�أثيره‪ .‬وبالطريقة‬


‫نف�سها �أدركت �أفعال اهلل تعالى وقدرته وعلمه‪ ،‬وبالتالي ت�أثيره‪.‬‬
‫�إلى هنا نجد �أن ما نعرفه عن اهلل تعالى وما نعرفه عن �أي �شيء‬
‫�آخر انطلقا من طريقة واحدة‪ .‬فمهما �آمنت بوجود �أي موجود غيري‪،‬‬
‫فال بد لي من الإيمان باهلل تعالى‪ .‬ومهما �آمنت بوجودي فال بد لي من‬
‫الإيمان باهلل تعالى‪ .‬وكلما �صدقت بوجود �شيء في الخارج فال بد لي‬
‫من الت�صديق بوجود اهلل تعالى معه‪.‬‬
‫بقي �أن ننظر في مو�ضوع الح�ضور‪:‬‬
‫ •ال يوجد ات�صال ح�سي باهلل تعالى‪ ،‬وبالتالي ال يوجد م�سافة �إدراكية‪.‬‬
‫وعليه فال يمكن للإلتفات �أن يتحقق من هذه الجهة‪ .‬يبقى ال�س�ؤال‪:‬‬
‫هل هناك طرق �أخرى للإدراك يمكن �أن تت�صل باهلل تعالى ويمكن‬
‫�أن تحقق الم�سافة؟‬
‫ •نتوقع من اهلل تعالى �أفعا ًال ب�إزائنا‪ .‬ونعلم �أنه تعالى «ملتفت»‬
‫�إلينا و�أننا م�شكوفون له تمام ًا‪ .‬ولكن الفرق �أننا لم «نجرب» فعل‬
‫اهلل تعالى المبا�شر لهذا التوقع‪ .‬فتوقعنا للفعل المجرب �أكثر من‬
‫توقعنا للفعل غير المجرب‪ .‬نحن نجد النا�س تكفر وتظلم وال‬
‫يح�صل لها �شيء‪.‬‬

‫خال�صة التحليل �أنه يمكن �أن نعمق ال�شعور باهلل من خالل الت�أمل‬
‫في الأ�سا�س ال�سببي لأي معرفة والتي �ستقلل من ربط ال�شعور بالح�س‬
‫‪224‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫وتعممه �إلى كل معروف‪ .‬ومن خالل الت�أمل في المفاهيم الوجودية‬


‫ال�سابق ذكرها والتي من خاللها �سنخلق م�سافة �إدراكية غير ح�سية‪.‬‬
‫و�أي�ض ًا من خالل �إع��ادة �صياغة مفهومنا لما نتوقعه من �أفعال اهلل‪.‬‬
‫فمجر م�شاهدة اهلل لنا هي فعل منه �إزائنا‪ ،‬وهي فعل لأن فعلنا ي�ستم‬
‫ت�سجيله وتقييده ويتم ت�شكيل حياتنا الأخرى وفق عليه‪.‬‬

‫ماذا بعد؟‬
‫االنتقال �إل��ى الذهنية الواقعية‪ ،‬االنتقال ِم��ن عالقة الممكن‬
‫بالممكن �إلى عالقة الممكن بالواجب‪� ،‬إثارة العقل بحيث يندمج مع‬
‫المعلومات‪ ،‬بناء المعرفة ال�شعورية؛ هذه بع�ض المقدمات ال�ضرورية‬
‫لت�شكيل عالقة مع اهلل تحقق التو�سع الوجودي‪.‬‬
‫ولأحد �أن يقول ب�أنني بما �سبق و�إن ثبت الإيمان بوجود اهلل تعالى‬
‫ولكني فتحت الباب لإبعاد الفرد عن اهلل تعالى‪ .‬فاهلل وفق الت�صور‬
‫الذي �أطرحه �أبعد من التفا�صيل اليومية في حياة الفرد وبذلك فالفرد‬
‫�أقل حاجة �إليه‪.‬‬
‫ولكن ال �أظن ذلك‪ .‬فربما �أبعدت الفرد من الت�صور ال�سحري‬
‫عن اهلل تعالى‪ .‬ولكن في المقابل حاولت �أن �أ�ضع اهلل في �أعمق حاجة‬
‫�أت�صورها‪ .‬واهلل هنا ي�ؤثر بمجرد الوعي به‪ .‬ال ي�شترط ت�أثير اهلل هنا �أي‬
‫ات�صال من نوع خا�ص‪ .‬مجرد ا�ستح�ضار حالتي الوجودية وا�ستح�ضار‬
‫اهلل يحقق الحالة الذهنية التي �أ�شعر �أنها تو�سع من كينونة الإن�سان‪.‬‬
‫‪225‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫ولكن م��ع ذل��ك تبقى مجموعة م��ن الإ���ش��ك��االت التي ال �أملك‬


‫الإجابة عليها الآن ب�شكل حا�سم‪ .‬فالت�صور الذي �أطرحه يقدم ت�صور ًا‬
‫عن اهلل يختلف جذري ًا عن الت�صور ال�سائد بين الم�سلمين‪ .‬فكيف يمكن‬
‫التعاطي مع فكرة التكليف؟ �أو فكرة االختبار تحديد ًا؟ فاهلل بالمعنى‬
‫الذي تكلمت عنه لي�س الإله الذي يختبر الب�شر ب�أمور يوجبها عليهم �أو‬
‫يحرمها عليهم‪ .‬وكيف يمكن التعامل مع الوعيد؟ فاهلل هنا ال يتالءم‬
‫معه نوع الوعيد الذي تتحدث فيه الأديان‪.‬‬
‫و�إذا اهتز التكليف والوعيد تهتز �أمور �أخرى ذات �صلة بالتجربة‬
‫الدينية كما نعهدها كال�شعائر والهوية الدينية‪ .‬فال�شعائر بكافة �أ�شكالها‬
‫غر�ضها و�ضع الم�ؤمن في حالة ما تربطه ب�إيمانه وتربطه بالمجتمع‬
‫الذي ي�ؤمن مثل �إيمانه‪ .‬ولكن �إذا اهتزت فكرة التكليف فيمكن لفكرة‬
‫وجوب ال�شعائر �أن تهتز‪ ،‬وهذا قد ي�ؤدي �إلى حالة من الال ا�ستقرار في‬
‫ال�شعائر بل وي�ضع ا�ستمرارها على خطر‪� .‬أي�ض ًا فكرة الهوية الدينية‬
‫�ستفقد الكثير من �أر�ضيتها‪ .‬فهي ترتكز على الإيمان ب�إله نعرفه وال‬
‫يعرفه غيرنا‪ .‬بوحي اتبعناه ولم يتبعه غيرنا‪ .‬و�إذا قلت ب�أنه ال توجد‬
‫فكرة �صحيحة بالمطلق عن اهلل فما بقي لنا؟ و�إذا افتر�ضت �أن اهلل‬
‫ال يوجب فما معنى خ�صو�صية اتباع �أو الإيمان بالوحي؟ �أي�ض ًا معنى‬
‫عبادة اهلل �أي�ضا �ستت�أثر‪ .‬فما معنى العبادة في هذا ال�سياق؟ بل لماذا‬
‫العبادة؟ لماذا العالقة مع اهلل تت�أطر �ضمن مفهوم ب�شري ج��د ًا؟‬
‫ولماذا قيم العبادة العليا وقيمها ا�ستلهمت من العالقات الإن�سانية‬
‫‪226‬‬
‫المح�ضة؟ الب�شر عندما يريد �أح��د منهم �أن يعبد يطلب الخ�ضوع‬
‫والخنوع واال�ست�سالم والذل‪ .‬ولكنه يطلبها لأنها تحقق له الأمان وتوفر‬
‫له الإح�سا�س الكاذب بالعظمة‪ .‬فهل يمكن �أفتر�ض اهلل يعمل ذلك‬
‫�أي�ض ًا؟ �إن ت�سبيح اهلل تعالى وتنزيهه يبد�أ من �أن ننفي عنه ال�صفات‬
‫«ال�شخ�صية» التي يملكها الب�شر‪ ،‬والتي طالما �أ�سقطوها عليه‪� .‬صفات‬
‫مرجعها الحاجة والنق�ص‪ .‬فهل بعد ذلك �أ�ؤ�س�س فل�سفة عبادة اهلل على‬
‫نق�ص ب�شري؟‬
‫ت�صوري عن اهلل يجعلني �أ�ؤمن ب�أن ما يريده منها هو �أن نحيا‬
‫بجميع ما �أعطانا بكافة �أبعادها‪� .‬أن نبرز الجمال والحكمة والقدرات‬
‫والإمكانات والطاقات واللذات التي نملكها ولكن بغير �أن نتعدى على‬
‫�أحد‪ .‬ت�صوري عن اهلل يوجهني للقول ب�أن الالئق بحكمة اهلل وغناه �أن‬
‫نفهم البالء واالبتالء واالختبار على �أنها و�ضع اهلل لنا في ظروف تبرز‬
‫فينا ما هو كامن فينا‪ .‬و�أن نفهم التكليف على �أنه الحث نحو ذلك‪� .‬أما‬
‫�أن �أقول ب�أن اهلل خلقنا في �أو�ضاع ما لمجرد معرفة كيف ن�ستجيب فهذا‬
‫يتنافى مع الحكمة والغنى ومع اهلل الذي �أت�صوره‪.‬‬
‫�أت�صور �أن اهلل تعالى يريد نعي�ش لأنف�سنا‪ .‬بل لعله من الخط�أ �أن‬
‫نعي�ش هلل تعالى‪ .‬لأن العي�ش لأي �شيء ال يكون �إال من حاجة وهو تعالى‬
‫ال يحتاج‪ .‬وهو لم يخلقنا لكي نعي�ش خارج �أنف�سنا‪ .‬النجاح في الآخرة‬
‫لي�ست بالحرمان من الدنيا بل كل لحظة في الدنيا ت�ستحق �أن تعا�ش‪.‬‬
‫تعد‬
‫كل تجربة ت�ستحق �أن تجرب‪ .‬ب�شرط واحد �أن ال تكون التجربة فيها ٍ‬
‫‪227‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫على الغير‪� .‬إن كل تجربة وا�ستك�شاف ذاتي هو خير‪ .‬وكل تجربة تقوم‬
‫على �إيذاء الغير هي �سيئة‪ .‬و اهلل تعالى �أجل و�أكرم و�أحكم و�أغنى من‬
‫�أن يعاقبنا على «المع�صية»‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫خاتمة‬
‫ٌ‬
‫ا�ستك�شاف ذاتي‪ ،‬غر�ضه الأ�سا�سي االقتراب من‬ ‫ما �سبق تفكير �أو‬
‫نف�سي �أو حتى �إيجاد نف�سي‪ .‬وال يمكن االت�صال ب�أبعاد في الذات بغير‬
‫االت�صال بالغير‪ .‬فكل ات�صال يبرز جانب فينا‪ .‬واالت�صال باهلل يبزر‬
‫البعد الوجودي في‪ .‬وهو البعد الذي �أ�سعى لإيجاده‪ .‬االت�صال بالغير هو‬
‫ات�صال بالذات من ال ُبعد الذي يح�صل فيه االت�صال‪ .‬واالت�صال باهلل‬
‫هو ات�صال بالذات من بعدها الوجودي‪ .‬واالنقطاع عن اهلل انقطاع‬
‫عن هذا البعد‪ .‬وخ�سارة للنف�س التي هي �أ�شد الخ�سارات‪ .‬والتي تعني‬
‫خ�سارة االت�صال بالأبعاد المتعددة التي فيني‪ .‬وتبد�أ خ�سارة النف�س ب�أن‬
‫يتحول ات�صالنا بالغير من ا�ستك�شاف لأنف�سنا �إلى ا�ستك�شاف لغيرنا‪.‬‬
‫�إن �أكل تفاحة قد يكون ا�ستك�شاف ًا للتفاحة كما قد يكون ا�ستك�شاف ًا‬
‫للتفاحة فينا‪ .‬و�إن معرفة اهلل قد تكون معرفة له هو كما يمكن �أن تكون‬
‫ات�صا ًال بي �أنا‪.‬‬
‫لذلك كان ال بد من ا�ستك�شاف عالقة مختلفة مع اهلل‪ .‬كنت �أ�شعر‬
‫في الما�ضي �أن عالقتي باهلل �أ�شبه ب�إلقاء ق�صيدة م�شحونة بالعواطف‪.‬‬
‫قد ال �أب��ال��ي بمعنى الق�صيدة و�أعتني بكيفية تح�سين �أداء الإلقاء‬
‫‪229‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫فح�سب‪ ،‬مكتفي ًا بعلمي �أن الق�صيدة على االجمال غر�ضها الحب �أو‬
‫التعظيم �أو ال�شكر �أو المدح‪ ...‬وقد �أهتم بفهم معنى الق�صيدة‪ ،‬ولكنه‬
‫لمعنى �صدر عن غيري ولي�س مني‪ .‬وكنت �أريد �أن �أفكر‬ ‫ً‬ ‫�سيبقى فهم‬
‫في طرح الق�صيدة جانب ًا باعتبارها ال تعبر عما يجي�ش في نف�سي بل‬
‫ما يجي�ش في نف�س كاتبها‪� .‬أطرحها جابن ًا و�أغو�ص في نف�سي للبحث‬
‫عن الم�شاعر التي تجي�ش فيها‪ ،‬ثم �أعبر عنها بما يمكنني من كلمات‬
‫ف�صيحة �أو غير ذلك‪ .‬وكنت �أرى �أن العبادة ب�شكلها العام ق�صيدة‬
‫�ألقيها في ح�ضرة اهلل تعالى؛ ف�إما عبادة �أهتم ب�أدا�ؤها مثل اهتمامي‬
‫ب�أركان ال�صالة وفروعها‪ ،‬واجباتها و�سننها‪ ،‬م�ستحباتها ونوافلها‪،‬‬
‫�أنواعها و�أوقاتها‪� ...‬أو مثل اهتمامي بتحري االبتعاد عن المفطرات‬
‫الح�سية والمعنوية في ال�صيام‪ ،‬وتكثير الطاعات في رم�ضان‪ .‬و�إما‬
‫�أهتم بمعناها‪ ،‬ف�أبحث عن معنى القيام والركوع وال�سجود والفاتحة‬
‫والت�سبيح والت�شهد‪ ،‬و�أبحث عن معنى االبتعاد عن الطعام وال�شراب‪.‬‬
‫�أبحث في كل ذلك تحري ًا للمعنى الذي �أراده َمن �ش ِّرعها‪ .‬و�إما �أبد�أ‬
‫بالبحث في نف�سي‪ ،‬وا�ستخراج م�شاعر العبادة التي توجد في �أعماقها‪،‬‬
‫ومن ثم البحث عن و�سائل للتعبير عما هو موجود في تلك الأعماق‪ .‬هذا‬
‫البحث محاولة في ا�ستك�شاف الق�صيدة الكامنة فينا‪ ،‬بحيث ت�صبح‬
‫عالقتنا باهلل ق�صيدة نكتبها تعبير ًا عن �أنف�سنا‪ .‬عالقة �ستغير من‬
‫موقع اهلل في حياتنا الفردية واالجتماعية ب�شكل جذري‪ .‬وكنت �أرى‬
‫�أن اهلل في العالقة معه غاية ولي�س و�سيلة �إلى غيره‪ .‬حتى لو كنت �أريد‬
‫‪230‬‬
‫الكينونة المتناغمة‬

‫المنافع التي بيد اهلل ـ و�س�أبقى على الدوام بحاجة �إليها ـ ف�إننا �سنريد‬
‫اهلل تعالى لذاته و�سن�أمل �أن يمنحنا مما لديه ك�أمر �إ�ضافي‪� .‬إن اهلل‬
‫في هذه العالقة يعيد من نظرة �أنف�سنا �إلى �أنف�سنا‪ .‬ويعيدها بطريقة‬
‫ت�ؤثر ال فقط على حياتنا ال�شخ�صية بل على حياتنا االجتماعية‪ .‬ذلك‬
‫�إن ت�أثيرها على �أنف�سنا �سيبلغ �إلى حد تغيير نظرتنا للمنع والأخذ وهذا‬
‫يغير ديناميكية العالقات االجتماعية ب�شكل عميق‪ .‬فبد ًال من تكون‬
‫عالقاتنا مع الآخرين مت�أثرة بالثواب والردع والعقاب فح�سب‪ ،‬ف�إنها‬
‫�أي�ض ًا �ستت�أثر بهذه النظرة الجديدة التي تزيل ِقيم المنع والأخذ وتخلق‬
‫فر�صة لأن يكون للعطاء قيمة ذاتية‪.‬‬
‫وال �أدري هل بهذا �أكون قد �أكملت ما كنت عازم ًا على الم�شاركة‬
‫فيه؟ هل �أنا �أختم �أم �أبد�أ؟ هل عدت من حيث بد�أت؟ �أم تهي�أت النطالقة‬
‫جديدة؟ �أم ال�ستك�شاف �آخر؟‬
‫�س�ألني �أح��د؟ هل نفعك الكتاب؟ �أو هل نفعتك الأفكار هنا؟‬
‫هل تعي�ش هذا الأمر؟ ال اعرف كيف �أجيب على هذا‪� .‬أنا قلت في �أول‬
‫البحث �إنه ال يوجد حبة �سحرية ت�صلح حياتنا‪ .‬فال �أ�ستطيع ان �أقول �إن‬
‫حياتي �صارت وردية لمجرد �أني �أتكلم بهذه الأمور‪ .‬هل حياتي �أح�سن؟‬
‫هناك جوانب في حياتي تتح�سن‪ ،‬وهناك جوانب تتدهور‪ ،‬وهناك �أ�سئلة‬
‫و�شكوك يرافقها قلق �شديد‪ ،‬ولكن هناك �أي�ض ًا جوانب ُت�ضاء‪ ،‬و�شعور‬
‫بعمق روحي‪ .‬وفي كل الأحوال ال �أ�ستطيع قيا�س نتيجة فكرة في حياتي‬
‫من خالل تح�سن مبا�شر‪ :‬واحد بواحد‪ ،‬لأن العوامل التي ت�ؤثر على‬
‫‪231‬‬
‫عبداهلل حميد الدين‬

‫حياتي �أكثر من كتاب‪ .‬و�أكثر من فكرة‪ .‬وربما ي�صيبني اكتئاب ب�سبب‬


‫ف�شل مهني �أو ف�شل في عالقة اجتماعية او ب�سبب حزن على خ�سارة‬
‫ما �أو ب�سبب عقد متراكمة لم �أ�ستطع تجاوزها‪ .‬فال ا�ستطيع �أن �ألوم‬
‫فكرة لأنها ما ا�ستطاعت �أن تحل كافة م�شاكل حياتي‪ .‬بل و�أنا �أكتب‬
‫الكتاب مررت بكافة الأحوال النف�سية بع�ضها و�أنا �أكتب فقرات كانت‬
‫في غاية الإيجابية‪ .‬ثم هناك الكثير ممن وجدتهم �سعداء‪ ،‬ثم بعد‬
‫اللقاءات الحوارية التي دارت حول بع�ض الأفكار هنا ارتبكت �أمورهم‪.‬‬
‫وكنت �أ�س�أل نف�سي‪ ،‬هل �أفيدهم؟ بع�ضهم �سعيد بما هو عليه فهل �أقةم‬
‫�أمر ًا ي�ضيف �سعادة �إليهم؟ هذا القلق لن يتوقف ولكن قطع ًا �س�أ�ستمر‬
‫في التفكير وفي ا�ستماع �أفكار الآخرين وفي م�شاركة الآخرين �أفكاري‪.‬‬
‫لعلي �أقابل اهلل وقد عرفت نف�سي وعرفته �أكثر‪.‬‬

‫‪232‬‬

You might also like