Professional Documents
Culture Documents
www.mdrek.com - read@mdrek.com
دبـي:
جممع �إعمار للأعمال� ،شارع ال�شيخ زايد ،دبي -الإمارات العربية املتحدة
P. O. Box: 333577 Dubai - UAE
Tel.: 00971 4 361 5177 - Fax: 00971 4 361 5178
بريوت:
فرن ال�شباك ،الطريق العام� ،سنرت غاريو�س ،بريوت -لبنان
P. O. Box: 50074 Forn Elchebbak - Lebanon
T e l . : 00961 1 282075 - Fax : 00961 1 282074
جميع حقوق الطبع و�إعادة الطبع والن�شر والتوزيع حمفوظة لـ مدارك.
ال ي�سمح ب�إعادة �إ�صدار هذا الكتاب �أو �أي جزء منه� ،أو تخزينه يف نطاق
ا�ستعادة املعلومات �أو نقله ب�أي �شكل من الأ�شكال ،دون �إذن خطي من مدارك.
عبداهلل حميد الدين
الكينونة المتناغمة
المحتويات
مدخل الطبعة الثانية23.............................................................
مقدمة29..................................................................................
خريطة البحث36.....................................................................:
لماذا نتفل�سف؟ 41.....................................................................
�أ�شكال ال�س�ؤال الفل�سفي 55.........................................................
بين النزعة الأخالقية والحكم الأخالقي 58................................
الفل�سفة والم�شاعر 67................................................................
حول فل�سفات ال�سعادة 71...........................................................
وعود فل�سفات ومناهج ال�سعادة 80..............................................
تقريب طريق ال�سعادة 86...........................................................
الحالة الإن�سانية وال�سعادة 91.....................................................
91......................................................................... �أفعال غيرنا
تقاطع االختيارات 94.................................................................
تعريف الحالة الإن�سانية 99........................................................
ما هو الفعل؟ 108........................................................................
عنا�صر الحالة الإن�سانية111........................................................
�أ .وحدة متعددة الأبعاد 112.........................................................
114...................................................... تعريف مادي وغير مادي
عالم حر وخالق وواعي مقابل ُم�س َّبب و ُمنف ِعل و�أ�صم 115..............
�أبعاد الإن�سان 116.......................................................................
ب .لنا قدرات علمية وعملية محدودة 130.....................................
لذات وكماالت وحاجات ذاتية كما لنا غرائز 131............ ثاني ًا :لنا َّ
لذاتنا وكماالتنا 135....................................................................
ثالث ًا :نعي�ش في عالمين :ذهني وخارجي152.................................
ما الفعل؟ 159.............................................................................
الكينونة المتناغمة 164................................................................
الكينونة164................................................................................
�آثار الكينونة :القيمة الذاتية 164..................................................
التناغم 166...............................................................................
ر�ؤية الذات لقيمتها ب�إزاء ما حولها 168........................................
الم�ساحة المتاحة زمني ًا واجتماعي ًا 171.......................................
تنظيم م�ساحة الحركة االجتماعية 173.........................................
الوعي باهلل 174..........................................................................
حول معرفة اهلل 174...................................................................
احت�ضان ال�شك 177.....................................................................
180................................................ ماذا لو لم يكن اهلل موجود ًا؟
لماذا ال�س�ؤال؟ 184......................................................................
ال�س�ؤال قبل الجواب 187..............................................................
الأ�سئلة الذاتية واهلل تعالى 190....................................................
كيف يمكن البدء؟ 196.................................................................
ال :اهلل والذهنية الواقعية198................................................. : �أو ً
الذهنية ال�سحرية 199.................................................................
الذهنية االنف�صالية 201..............................................................
الذهنية الواقعية 201...................................................................
ثاني ًا :من عالقة الممكن بالممكن �إلى عالقة الممكن بالواجب 206...
ثالث ًا� :إثارة العقل بحيث يندمج مع المعلومات 210........................
رابع ًا :المعرفة ال�شعورية 211.......................................................
من الح�ضور الذهني �إلى ال�شعور214...........................................:
مقومات ال�شعور 216....................................................................
الم�سافة بين الحالة الإدراكية قبل وبعد 220..................................
توقع الفعل 221............................................................................
الوعي باهلل تعالى 223.................................................................
ماذا بعد؟ 225.............................................................................
خاتمة 229..................................................................................
في االيام القليلة الما�ضية تدافع كثير من نا�س للطلب بدم حمزة
ك�شغري رغم انه قد تاب عما بدر منه ولكنهم رف�ضوا توبته .لي�س فقط
رف�ضها ق�ضائيا وانما حتى رف�ضها دينا .يلعنونه ويتعر�ضون له.
ثم بدا االمر يتجه لغير حمزة وبد�أت هجمة منظمة �ضدي من
الح�ضيف ومن خ�ضر بن �سند .واهلل كافيهما في الدنيا او في الآخرة
او فيهما معا.
لم �أتفاجا برد الفعل ال�سيء وقلت ر�أيي في المذكورين وفي من
تابعهم ووافقهم.
وقد ن�صحني احد الأخوة بن�شر روابط تف�سير الفاتحة وكتاب
الكينونة واي�ضا اللقاء مع د علي ابو الح�سن عن رم�ضان ولكن ف�ضلت
ال�سكوت لغر�ض في نف�سي.
ولتو�ضيح االمر ،من يريد معرفة اعتقادي فيمكنه االطالع على
كتابي الكينونة المتناغمة وتف�سير الفاتحة .الن فيهما عبرت عما �أومن
به .ما �سوى ذلك فبع�ضه جاء على نمط (وانا او �إياكم لعلى هدى او في
�ضالل مبين) وبع�ضه على نمط (هذا ربي هذا اكبر) وبع�ضه على نمط
(�أنى يحيي اهلل هذه بعد موتها) وبع�ضه �أ�سئلة وا�ست�شكاالت قائمة غير
مجاب عنها وبع�ضه على منهج ال�شك الغزالي وبع�ضه عبارات مجتزاة
9
عبداهلل حميد الدين
10
تلك ن�ص ر�سالة كتبتها �إثر ت�صاعد حملة �ضدي تتهمني بن�شر
الإلحاد والزندقة وببث ال�شك بين �شباب و�شابات جدة .بل تدعي علي
ب�أني قمت بخلق خاليا نائمة في مناطق مختلفة من جدة لذلك الغر�ض.
و�إمعان ًا في الخيال البولي�سي فقد تم ت�سمية الحركة الإلحادية التي
�أتزعمها بحركة �أو ن�شاط �أو مجموعة الكينونة .ن�سبة لهذا الكتاب الذي
بين �أيديكم والذي لم يقر�أه �أي من الذين �أ�س�سوا التهمة �أو ن�شروها �أو
�صدقوها.
والتهمة ب��د�أت بعد �أي��ام من تغريدات لل�صديق العزيز حمزة
ك�شغري ن�شرها في يوم مولد �سيد الأولين والآخرين وال��ذي وافق ٤
فبراير ٢٠١٢وقال فيها:
«في يوم مولدك لن �أنحني لك ،لن �أق ّبل يديك � ،س�أ�صافحك
م�صافحة الند للند ،و�أبت�سم لك كما تبت�سم لي و�أتحدث معك ك�صديق
فح�سب».
«في يوم مولدك �أجدك في وجهي �أينما اتجهت� .س�أقول �أنني
�أحببت �أ�شياء فيك ،وكرهت �أ�شياء �أخرى ولم �أفهم الكثير من الأ�شياء
االخرى ،لن ا�صلي عليك».
كتب حمزة هذه التغريدات منطلق ًا من ت�صور له عن النبي عليه
11
عبداهلل حميد الدين
ال�سالم وعما يليق به ،ولكنه �سرعان ما �شعر �أنه �أ�ساء في حق الر�سول
فن�شر بعد ذلك اعتذار ًا وتوبة وحذف تغريداته ال�سابقة.
«يزعمون �أنني تطاولت عليك و�أن��ا ال��ذي �أ�ستح�ضرك دائما
كقدوة»،
«واهلل لم �أكتب ما كتبت �إال بدافع الحب لك لكنني اخط�أت
و�أتمنى �أن يغفر اهلل خط�أي ،و�أن ي�سامحني كل من �شعر بالإ�ساءة».
لم تنفع ك�شغري تغريدات التوبة واالعتذار .فقد مثلت التغريدات
الأولى فر�صة لتيارات متطرفة في ال�سعودية .فلم تَقبل توبة حمزة ور�أت
�أنه يجب �أن يعتقل و�أن ُيعدم .وفي م�ساء الأحد ٥فبراير ظهر لنا �أحد
م�شايخهم على اليوتيوب وهو يبكي مما قام به حمزة ويحذر ال�سعودية
�شعب ًا وحكومة من العواقب الأمنية الوخيمة التي �ست�صيب هذا البلد
�إذا ما ُترك حمزة و�أمثال حمزة من التنويريين والمفكرين والناقدين.
و�شن حملة �شعواء مطالب ًا ب�إقامة حد اهلل على كل �أولئك.
توالت الحملة �ضد حمزة وتو�سعت ف�سافر خوف ًا على حياته من
�أن يتعدى عليه �أحد �أولئك .ثم �أمر خادم الحرمين ال�شريفين الملك
عبداهلل بن العزيز ب���أن يتم القب�ض عليه .وه��ذا ما تم في تفا�صيل
من�شورة.
من اليوم الأول للحملة ظهر لي ولكثير من المتابعين �أن حمزة
�سيكون �أو ًال ولكنه لن يكون �آخر ًا .كان وا�ضح ًا �أن النية �إن�شاء محاكم
تفتي�ش معا�صرة تقوم بمالحقة وقتل كل من يقدم ر�ؤية فكرية لت�أ�سي�س
12
الكينونة المتناغمة
مجتمع مدني حديث .بل كان كالم ال�شيخ الباكي وا�ضح ًا في �أنه ال يريد
حمزة فح�سب ،بل ال ير�ضى �إال بجميعهم .وبد�أ بع�ضهم يك ِّون الئحة
ت�شمل �أ�سماء كافة المطلوبين للتحقيق في دينهم .بل كتب الدكتور
عبدالعزيز ال�سعيد مقا ًال �شكر فيه الملك عبداهلل حيث �إن الملك -على
حد زعم ال�سعيد � -أعاد �إلى الذاكرة ديوان الزنادقة .وديوان الزنادقة
هو مثل محاكم التفتي�ش في �أوروبا وقد �أن�ش�أه �أبو جعفر المن�صور لتتبع
الزنادقة والمالحدة وقتلهم .والكاتب يفخر بذلك ال�صنيع ويعتبره من
محا�سن �أبي جعفر .وظهر لي �أن الأمر م�س�ألة وقت قبل �أن يتوجهوا
� ّإلي .وفع ًال في نهاية ذلك الأ�سبوع بد�أ كل من خ�ضر بن �سعد الغامدي
ومحمد الح�ضيف ي�شددان على �أهمية �إح�ضار من كان خلف حمزة
ومن كان �سبب «�ضالل» حمزة على حد دعواهما .ثم وجهوا اتهامهم
لي مبا�شرة �ضمن ق�صة من ن�سيج خيالهم باعتباري الأب الروحي
للإلحاد في جدة .وكان م�ستندهم الأ�سا�سي في التهمة مجموعة من
التغريدات التي تعبر عن حالة �إيمانية ال توافق ر�ؤيتهم الإيمانية� .أو
تعبر عن ت�سا�ؤالت وحوارات تدور .كما ا�ستندوا �إلى عبارات مقتطعة
من �سياقها بحيث �صار لها معنى غير ما كنت �أق�صده .وقد ت�صاعدت
الحملة وا�شتدت وو�صل الحال �أن ا�ستلمت ع�شرات التهديدات بالقتل.
وفي كل ذلك كنت متقين ًا �أن �أحد ًا ال يعرف حقيقة ما �أقول ،ولكن لم يكن
مهم ًا ذلك .المهم كان ما يريده الطرف الآخر من �أغرا�ض و�أهداف
�أبعد من �شخ�ص حمزة و�شخ�صي وغيري من الأ�صدقاء الذين تم
13
عبداهلل حميد الدين
تناولهم .وقد رفعت دعوى احت�سابية �ضدي و�ضد الدكتور تركي الحمد
الذي لم ين�سوا له ما قاله بالرغم من مرور العقود على ذلك ،وبالرغم
من �أنه واجه لجنة ق�ضائية بخ�صو�ص تهم موجهة �إليه ،وبالرغم من
مكانته و�س ِّنه .وبين كل عبارات التكفير والت�شويه ف�إن �أ�شد ما قر�أت كان
تغريدة لمحمد الح�ضيف يقول فيها �صراحة:
�أحب �إلى �أن �أواجه ربي (مخطئا)في حق �أحدهم..و�أنا �أدافع
عن ذاته �سبحانه وجناب ر�سوله ،من �أن �أواجهه ناك�صا ،محجما،
َ
متميعا..حذر �أن ُيقال مت�شدد
�أي لي�س لديه مانع من ان يقتل اح��د او ت�شوه �سمعته .وهذه
هي اخالق محاكم التفتي�ش التي عرفتها اوروبا واخالق الم�ستبدين
الذين يقتلون بالتهمة وهي اي�ضا اخالق االرهابيين الذين ال يهمهم دم
البريء ما داموا يحققون �أهدافهم .ويذكرني قوله هذا بقول اليهود
«لي�س علينا في الأميين �سبيل» .ولكن الحكم اهلل والموعد .القيامة.
وال زالت الحملة تتوالى �إلي تاريخ كتابة هذه ال�سطور .وبطبيعة
الحال فالأمر ال عالقة بالمقد�س و�إنما �صراعات �سيا�سية واحتقانات
اجتماعية .الأولى تبحث عن ميدان للمواجهة .والثانية تبحث عن مجال
للتنفي�س .والدين لدينا كان دائم ًا لهذا وذاك.
�إن ما ح�صل محاولة لإجها�ض م�شروع فكري ثقافي ديني بد�أ
يبرز في مدينة ج��دة .ففكرة الكينونة لم تكن كتاب ًا فح�سب ،و�إنما
منهج ًا وطريقة لخلق حوار حر ومفتوح في �أ�شد الق�ضايا ح�سا�سية.
14
الكينونة المتناغمة
حوار يهدف �إلى طرح كافة الأ�سئلة من دون خوف ،ومن دون و�صاية،
ومن دون وعظ ،ومن دون حكم.
لقد كانت لقاءات الكينونة المتناغمة تجربة لخلق ف�ضاء حواري
مفتوح
فالحياة بيننا تقوم على تبادل الأفكار .وكافة �أبعاد حياتنا ما
هي �إال مح�صلة لمجموعة �أفكار التقت� .سواء نتج عن اللقاء اندماج �أو
ت�ضاد �أو تقاطع .في النهاية ال نعي�ش �إال من خالل �أفكار .و�أفكارنا التي
نعي�ش بها لي�ست �إال ح�صيلة تفاعالت مع �أفكار �أخرى .والو�سائل التي
يتم من خاللها تبادل الأفكار ال ح�صر لها .التعليم الجدال النقا�ش
التربية القراءة الخطبة التب�شير الإقناع التفاو�ض � ...إلخ .و�أغلب هذه
الو�سائل تطمح �إلى �أن يكون لفكرة ما ت�أثير على فكرة �أخرى� ،أو على
الأق��ل ت�سعى لنقل فكرة من طرف �إلى �آخ��ر .ففي الجدل مثال يكون
هناك واحد يريد �أن يقنع ثانيا ب�أنه على �صواب� .أو �أن يتبنى الثاني ر�أي
الأول� .أو �أن يخرج الثاني وقد �شعر �أن فكرته لي�ست بالر�صانة التي كان
يظن .التفاو�ض مثال فغر�ضه �أن يخرج الطرفان وقد خلقا فكرة جديدة
�أخذت من هذا ومن ذاك بطريقة تر�ضي الطرفين .التعليم غر�ضه
تو�ضيح �أو تلقين �أفكار من �صاحب علم �إلى �آخر متلق ومتعلم .وكل
و�سيلة بالتالي تخلق ف�ضاءها الخا�ص ذات الآليات والطرق المالئمة.
لن �أزيدكم من التفا�صيل و�إنما ذكرته لأقابله بنوع �آخر من تبادل الأفكار
له غر�ض مختلف اختالفا نوعيا .هذا النوع الآخر غر�ضه تحديدا «فهم
15
عبداهلل حميد الدين
المرء لنف�سه وتفهمه لأفكار الآخرين» .نوع ال يهدف �إلى نقل فكرة من
�أحد �إلى �آخر .وال يوجد فيه غر�ض ت�أثير فكرة على �آخر .من يخو�ض
هذه التبادالت ي�ستفيد من فكرة الآخر وي�ستفيد من وجود الآخر ال في
ما ي�ضيفه �إلى نف�سه من �أفكار .و�إنما فيما يفهمه عن نف�سه .وهناك
فائدة �أخرى لهذا النوع من التبادل الفكري وهو تفهم منطلقات الآخر
حتى لو اختلفت معها.
�إن وجود ف�ضاء يوفر هذا النوع من التبادل مهم في كل الأحوال
ولكنه �أهم في المرحلة التاريخية التي نحن فيها .مرحلة انفتاح غير
م�سبوق على العالم .مرحلة تحوالت متعددة بين ال�شباب .ومرحلة
تطوير الهوية الوطنية من خالل مبادرات مختلفة �أهمها مبادرة الحوار
الوطني .ال يعني هذا �أن الف�ضاءات الأخ��رى غير �ضرورية .بل كلها
�ضروري .وكلها يكمل بع�ضها البع�ض.
قبل �أربعة �سنوات تقريبا بد�أ م�شروع يهدف تحديد ًا �إلى خلق
مثل ذلك الف�ضاء .بد�أ بجهود �شباب و�شابات مهتمين بتطوير وتعميق
فهمهم للق�ضايا الحيوية التي تم�سهم وت�ؤثر على حياتهم الخا�صة
والعامة .فانطلقت لقاءات لتركز على الق�ضية الدينية وعالقتنا باهلل
تعالى باعتبار �أن اهلل والدين محوري الحياة لدى من ي�سكن في المملكة
بل لدى �أكثر الم�سلمين في العالم .وقد كان �أغلب �أعمار الح�ضور
تترواح ما بين � 25-20سنة ،وكانوا من ذوي خلفيات متنوعة اجتماعيا
واقت�صاديا وفكري ًا ومن حيث التجربة الدينية والحياتية ب�شكل عام.
16
الكينونة المتناغمة
هذا التنوع �أثرى اللقاء ب�شكل جميل جدا وانعك�س على الأفكار التي
كان يتم تبادلها ومناق�شتها .فكنت ترى في �ساحة النقا�ش توجهات
و�أفكار يمينية وي�سارية ومتو�سطة .معتدلة ومتطرفة .م�ؤمنة وم�شككة
وم�ستفهمة .علمية وروحية .عقلية وعاطفية .مجردة وعملية� .أي�ض ًا
كانت الأ�ساليب الفردية لتبادل الأفكار تختلف .بين المجادل والم�ستمع
والمناق�ش والمحاور والم�ستفهم والمعلم .وبين كل ذلك التنوع والتفاوت
واالخ��ت�لاف ك��ان الجميع يجتهد في تقديم تجربته ور�ؤي��ت��ه و�أفكاره
بطريقته الخا�صة.
ومع �أن اللقاءات كانت تنطلق من كتاب «الكينونة المتناغمة» �إال
�أنها لم تكن تعود �إليه .فكان الح�ضور يتابع الكتاب لي�س متابعة قراءة
و�إنما باعتباره مثيرا َومعلما للأفكار التي �سيتم مناق�شتها .فلم يكن
الغر�ض قراءة الكتاب ،وال َفهم ما فيه ،وال مناق�شة ما �أفكاره ،وطبعا وال
االتفاق على م�ضمونه ،وال �أي �شيء من الأ�شياء التي تح�صل عندما يكون
هناك كتاب تدور حوله اللقاءات .كان غر�ض اللقاء وهدف الح�ضور
هو مناق�شة الق�ضية الدينية ،وكانوا بحاجة �إلى نقا�ش ثري وعام وغير
مقيد ،ولكن في الوقت نف�سه كانوا يريدون نقا�شا مرتبا وذات خطوات.
فتم اعتبار الكتاب و�سيلة �إثارة للتفكير وفي الوقت نف�سه و�سيلة لترتيب
م�سار اللقاءات� .أي�ض ًا لم يتم التعامل مع المتكلم الرئي�سي في اللقاء
على �أن��ه محا�ضر ،بقدر ما هو من�سق للقاء .يثير الأف��ك��ار ثم يدير
الحوار .فال يوجد ملقي ومتلقي .وال يوجد عالم ومتعلم .بل مجموعة
17
عبداهلل حميد الدين
تريد �أن تتبادل الأفكار بينها بطريقة مفتوحة ومثرية .بل حتى ال يوجد
متكلم رئي�سي.
�أ�سلوب اللقاء خلق �شعورا بالحيرة لدى الكثير ممن ح�ضر.
كانوا يرون كتابا ومتكلما ونقا�شا وبالتالي كانوا يتوقعون در�سا كبقية
الدرو�س .ربما در���س بم�ضمون ومنهجية مختلفة ،ولكن في النهاية
كانوا يتوقعون در�سا يقدم معلومات ويحل مع�ضالت ويوفر �إجابات .ثم
يتفاج�أون .ال توجد عالقة مع مدر�س �إنما عالقة �أفقية بين مجموعة
من ا�صحاب الأفكار والتجارب المتفاوتة .ال يوجد حلول للمع�ضالت وال
�إجابات حا�سمة بل طرح للأ�سئلة� .أهم من هذا ال يوجد تراكم معرفي
وا�ضح .فمن كان يح�ضر اعتاد على لقاءات تخلق تراكما معرفيا من
خالل قراءة كتاب مثال �أو ا�ستماع �إلى محا�ضرات .ولكن هذا كله لم
يكن موجودا ،وقد بقي البع�ض �أكثر من �سنة حتى ا�ستطاع التكيف مع
هذا الأ�سلوب من اللقاءات.
مع الوقت بد�أت فكرة اللقاءات تت�ضح .وبد�أ الأغلب يدرك �أن
هذا لي�س لقاء بغر�ض �إي�صال فكرة من طرف �إلى �آخر .وبالتالي لم
يكن معيار نجاحها قدر التراكم المعرفي الذي يح�صل بمرور الزمن
والم�شاركة .وبد�أ �أغلب الح�ضور يقدرون �أهمية وجود مثل هذا الف�ضاء
الحر والمطلق لمناق�شة ق�ضية حرجة و�شخ�صية ومهمة �سواء على
الم�ستوى الفردي �أو على الم�ستوى العام.
مع الوقت �أي�ضا بد�أ البع�ض يدرك فائدة من فوائد اللقاءات وهو
18
الكينونة المتناغمة
�أن يفهم كل واحد من الح�ضور �أفكاره بطريقة �أعمق .بات الآن وا�ضحا
�أن اللقاءات لم تكن لكي ي�ستقبل الح�ضور فكرا من �آخر بقدر ما كانت
لكي يفهم الحا�ضر فكر نف�سه .يفهمها من خالل محاولته ل�شرحها ومن
خالل تعري�ضها للنقد والتقييم .يفهمها وبغير حاجة لأن يتحول عنها
�أو يتغير فيها �أو يتبني �أفكار غيره .و�إ�ضافة �إلى هذا �صار الحا�ضرون
�أقدر على تفهم �أفكار الآخرين وتقدير منطلقاتهم الفكرية والنف�سية.
وهذا وذاك يجعالن المرء في �سالمة مع نف�سه ومع �أفكاره وفي �سالمة
مع االخرين ومع �أفكارهم.
لذلك كان اللقاء يتحول �إلى ما ي�شبه الحالة التفكيكية .لي�س
بالمعنى الفل�سفي المعا�صر للكلمة ،و�إنما بمعنى �أن كل �أحد كان يفكك
الق�ضايا الأ�سا�سية لديه ثم ي�شرحها ويحللها وي�ستمع �إل��ى النقد �أو
الت�أييد �أو اال�ستي�ضاح .ولم يكن هناك �أي محاكمة لأي �شخ�ص ب�سبب
�أفكاره .ولذلك كانت نتيجة اللقاءات �أن الحا�ضر يبقى على �أفكاره
ولكن بر�ؤية �أ�شمل ،وبروح �أرحب ،وب�أفق �أ�شرح.
و�أتذكر كيف �أننا تناولنا مو�ضوع الإعجاز العلمي في القر�آن
بطريقة لم تقنع �أحدا من الحا�ضرين بتغيير موقفه ولكن جعلت كل
واحد يفهم ر�أيه بطريقة �أح�سن .والموا�ضيع التي تناولناها متعددة
طبعا وال ي�سع ذكر �أمثلة �أخرى الآن.
ومما يلفت هو �أن �سعة ال�صدر الوا�سعة التي ات�سم بها الح�ضور
نحو بع�ضهم البع�ض في قبول وا�ستماع الآراء المتناق�ضة كانت تفاجيء
19
عبداهلل حميد الدين
من يح�ضر لأول مرة .يتفاج�أ من وجود هذا التنوع الكبير وفي الوقت
نف�سه القبول الوا�سع .يتفاج�أ لما يجد كافة الأطياف تتحدث بكل �صدق
و�أمانة وجر�أة ولكن في الوقت نف�سه بمحبة و�صداقة و�أخوة .يتفاج�أ لما
ي�سمع �أنه لي�س مطلوبا وال م�ستهدفا �أن نخرج باتفاق .ويتفاج�أ لما يجد
البع�ض يخرجون مختلفين �أ�شد االختالف ،ولكن مع ذلك يخرجون وقد
فهموا �أنف�سهم وذلك من خالل محاولة فهم ما يقوله المناق�ض له .بل
البع�ض كان ي�ستغرب من كون الجميع ي�شعر ب�أمان مهما كان مختلفا .و
يعجب لما يجد �أنه ال توجد �إ�صدار �أحكام ،وال يوجد ا�ستخفاف بالآراء.
لقاءات الكينونة المتناغمة كانت تجربة ال زالت تتطور .تجربة
في خلق ف�ضاء تبادلي حر يعطي للأفكار التي ت��دور بين المجتمع
ال�شبابي ال�سعودي مجاال للتفاعل ال�صحي مع نظيرها من الأفكار .وهذا
يعطي �صاحب الفكرة قدرة �أكبر على التعاطي مع كافة االختالفات
في ال�سعودية وفي غيرها .ويعزز من القدرة على تفهم وقبول ومحبة
الآخ��ر .ويقلل من التطرف ب�شقيه التطرف الإ�سالمي �أو التطرف
اليبرالي .و�أهم من هذا وذاك في �إعطاء �صاحب الفكرة ال�شعور بحقه
الطبيعي في التعبير عن نف�سه وذاته.
هذا النمط من اللقاءات لم يرق للبع�ض .فقامت هيئة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر بالهجوم على �أحد الجل�سات .ليتم تعطيل
اللقاءات لفترة �إثر ذلك .ثم كانت الحملة هذه الأخيرة .وال �أدري ما
�سيكون الآن� .إن غياب مثل هذه اللقاءات لهو خ�سارة كبيرة للمملكة
20
الكينونة المتناغمة
التي تواجه تحديات ثقافية هائلة والتي هي �أحوج ما يكون �إلى مثل تلك
الأجواء التي كان يتم تكوينها.
٢٠فبراير ٢٠١٢
21
مدخل الطبعة الثانية
«اللهم �ساعدني على التحرر من خ�شية الخط�أ في محاولة
معرفتك.
وثبت في قلبي الإيمان ب ِغناك عني وعن الإ�صابة في حقك وب�أنك
ال تبالي �إن �أخط�أت فيك.
و�ساعدني على التذكر ب�أنك العالم بمحدودتي وعجزي.
وعلمني �أن الخطيئة هي في ت�سليم عقلي و�إرادتي لغيري»...
الم�ؤ�س�سات قدرتها �أن تكون مرجعية لأنها غير قادرة على الت�شكل بما
يتوافق مع تنوعات ال�سيولة .لم تعد الم�ؤ�س�سات االجتماعية قادرة على
الإجابة على �أ�سئلة الفرد وال تلبية حاجاته وبالتالي تفر�ض عليه �إيجاد
الأمر بنف�سه� .إنها حياة تتطلب من الأفراد �أن يكونوا مرنين وقادرين
على التكيف ،واال�ستعداد المتوا�صل ،واتخاذ تكتيكات ق�صيرة المدى،
وبالتخلي عن االلتزامات والوالءات بغير ندم ،ومالحقة الفر�ص على
ح�سب ما تتوفر .حياة تفر�ض على الفرد �أن يت�صرف ويخطط �أعماله
ويح�سب المكا�سب والخ�سارات المحتملة للت�صرف �أو لعدم الت�صرف
تحت �شروط من عدم اليقين الم�ست�شري.
التحول من الحياة الجامدة �إلى الحياة ال�سيالة خلق م�شاكل من
نوع جديد وتحديات لم يعرفها الب�شر من قبل .فالإن�سان �أو وعي الإن�سان
يت�شكل من خالل عالقاته ومن خالل التزاماته واليوم نجد مجتمع ًا
الفرد فيه غير ق��ادر على الحفاظ على الثبات ال��ذي يع ِّرف هويته.
فالهوية تحتاج �إلى ا�ستقرار عالقات و�صالت ولكن اليوم ال ا�ستقرار.
العالقة بين الفرد والمجتمع ،بين الخا�ص والعام ،كلها تحتاج �إلى نوع
من اال�ستقرار لتت�شكل وتتكون ،واليوم ال ا�ستقرار ،وال يقين ،و�إنما قلق
و�شك .اللغة الم�شتركة بين النا�س تتطلب �أي�ض ًا اال�ستقرار بحيث تت�شكل
�سياقات م�شتركة تعين على خلق لغة م�شتركة .المفاهيم الأ�سا�سية التي
يتوا�صل من خاللها النا�س مثل :الخال�ص ،الفردية ،الزمان ،المكان،
العمل ،المجتمع ،الحرية ،الخالق ،الحق ،الباطل ،العدل ،الظلم ،هذه
24
الكينونة المتناغمة
وغيرها يتغير فهمنا لها ب�سرعة بحيث نفقد القدرة على التوا�صل مع
الآخرين ،ونفقد القدرة على �أن نك ِّون م�شترك ًا للحياة .بل فقدنا القدرة
على التوا�صل بين الأجيال المتتابعة .فلم يعد الجيل ال�سابق قادر
على التوا�صل مع الجيل التالي .لم يعد �صراع الأجيال كما كان �صراع
م�صالح بل �صراع وت�صادم بين هياكل ثابتة وبين هياكل �سيالة .كما
�ضاق مدى ما نعده جي ًال .فلم يعد الجيل هو من الأباء �إلى الأبناء ،بل
من عقد �إلى عقد.
فقدان الهوية وفقدان اللغة الم�شتركة �سمح لوجود مجموعة
كبيرة من الم�شاكل .بع�ضها م�شاكل وجدت دوم ًا ولكننا اليوم نعاني
منها بكم �أكبر وبكيف يختلف .الطالق كان موجود ًا على الدوام ،ولكنه
اليوم موجود �أكثر ،كما �إن تجربة الطالق اختلفت .معاناة الطالق
اختلفت .النظرة �إل��ى الطالق اختلفت .كما ظهرت م�شاكل من نوع
خا�ص .م�شاكل لم يعهدها العالم القديم .لقد �أ�صبح لدينا ظاهرة
الحياة ال�ضائعة .مهجرون ومرفو�ضون ،ومنبوذون .واقعنا ال�سيال يت�سم
بالوحدة ،العنف ،التفكك الأ�سري ،الفقر ،البطالة� ،أزمة الهوية� ،ضياع
الذات� ،صراع الأجيال ،االغتراب ،الهرولة دون معنى .العدمية ،نفي
الثابت ،وزحزحة اليقينيات و�سقوط المرجعيات .ا�ضمحالل م�ساحة
الحياة االجتماعية الحميمية الأليفة على ح�ساب �صعود القيم التجارية
النفعية الم�صلحية .ثقافة اال�ستهالك ،والنزعة ال�سلعية ،وت�أثيرها
على االنق�سامات االجتماعية ،وال�شراكات ،والمجتمعات ،وبناء الهوية،
25
عبداهلل حميد الدين
27
عبداهلل حميد الدين
28
مقدمة
وقفت بال�صدفة على كلمة لأليوت يقول فيها« :لن نتوقف عن
اال�ستك�شاف .ونتيجة ا�ستك�شافنا �أنْ ن�صل �إلى حيث بد�أنا �أو ًال لنجد �أننا
نعرف المكان للمرة الأولى».
وهذه عملية ا�ستك�شافية .محاولة في ا�ستك�شاف �أقرب �شيء �إلى
ذاتنا .ا�ستك�شاف الـ«�أنا» التي بداخل كل منا ،الـ«�أنا» التي ال تتغير وال
تتبدل ،والتي ِع ْلمنا بما يعر�ض عليها وما تقوم به �أكثر مما نعلم عنها.
محاولة لي�ست �إال حلقة �صغيرة من ماليين الحلقات التي بد�أت منذ
�آالف ال�سنين ،جي ًال بعد جيل ،و�إذا ما انتهت ف�إنما انتهت ب�أن عدنا �إلى
حيث بد�أنا .عدنا �إلى �أنف�سنا ،ولكن لنجد �أننا نعلمها بطريقة مختلفة،
وك�أننا نعلمها للمرة الأول��ى .عملية متوا�صلة ،في حلقة دائرية ولكن
مت�صاعدة على الدوام .نبد�أ في نقطة وندور لنجد �أنف�سنا في نقطة
�أخرى فنرى �أننا بتنا نعلم ما لم نكن نعلمه� ،أو نعود لندرك �أننا �صرنا
نجهل ما كنا نظن �أننا نعلمه.
وقد كنت �أكتبها تدريج ًا ،وعلى �شكل ر�ؤو�س �أقالم .ثم عر�ضتها
على بع�ض الأخ����وة والأخ�����وات وا���س��ت��ف��دت ك��ث��ي��ر ًا م��ن مالحظاتهم
29
عبداهلل حميد الدين
العالم �أي�ض ًا ت�ؤثر على ر�ؤيتنا له� .أو ربما من الأدق القول ب�أن ما نريده
من العالم ي�شكل ر�ؤيتنا له بحيث يجعلنا نرى ما يتوافق مع ما نريد
�أكثر من ر�ؤيتنا لما هو موجود في الواقع .ولأن بع�ضنا يخت�صر العالم
فيما يراه ،ف�إن هذا قد يعني اخت�صار العالم فيما يريده� .أتفق مع كل
ذلك من المنطلقات للمعرفة العاطفية .ولكن �أرى �أن ر�ؤيتنا للعالم �أو
جزء كبير من ذلك يمكن �أن ت�ستقل من عالقتنا به �أو �إرادتنا منه .بل
�أرى �أن ال�سعي للمعرفة الواقعية للعالم حتى لو لم تكن دقيقة ف�إنها
يجب �أن ت�شكل المر�ساة التي ترتكز عليها بقية معارفنا عن العالم.
بمعنى �آخر يمكن �أن �أقبل المعرفة العاطفية ولكن ب�شرط �أن تكون
خطوة ثانية للمعرفة الواقعية .يجب �أن نحاول �أوال ر�ؤية العالم كما
هو ثم ر�ؤية العالم كما نريد .و�أ�شعر �أن المعرفة العاطفية �إذا كانت
وحدها ف�إن هذا ي�ؤدي �إلى تزييف الواقع� .أكثر من ذلك ف�إنها ت�ضر
بعالقتنا بالعالم وتف�سح المجال لظهور ال�شخ�صيات المقد�سة والتي
بقدرتها على ت�صريف عواطفنا تقوم �أي�ض ًا بت�صريف ر�ؤيتنا للعالم
خدمة لم�صالحها ال�صغيرة �أو الكبيرة .كتاب «ال�سر» من الأمثلة
الجيدة للمعرفة العاطفية .ومع مرور فترة على �صدوره �إال �أن �أفكاره
�صارت متداولة .العالم في منظور كتاب ال�سر هو تمام ًا وفق ما نري �أو
يمكنه �أن يكون كذلك .وبقدر ما نفكر �سيكون .وهذا من �أ�شد الزيف في
ت�صوري .هذا مع تقديري لمن يوافق كتاب ال�سر .وهناك �أفكار �أخرى
�شبيهة تنطلق من الت�صور ب�أنه «�إذا غيرت نظرتك للوجود ف�إن حياتك
32
الكينونة المتناغمة
�ستتغير» وهي �شائعة ومتعدد ال�صيغ .هذه الأفكار و�إن كان غر�ضها
م�ساعدة النا�س للتعامل مع واقع قا�س� ،إال �أنها �أي�ض ًا تحرمنا من ر�ؤية
�أ�شمل للعالم �أو للوجود ،ر�ؤية تخلق لنا تجربة مختلفة وربما تنتج �آثار ًا
�أكثر �إيجابية .العالم وما فيه �أكبر بكثير منا ومما نريد .ومن يدري لعل
فيما ال نريد ما يحقق لنا �سعادة �أكبر �أو يدفع عنا �شرورا �أو �أ�ضرارا
�أكثر .و�أنا م�ؤمن تماما ب�ضرورة معرفة تمكننا من الم�ضي ب�إيجابية في
هذا العالم ،ولكن مرتكزات هذه المعرفة يجب �أن تكون العالم كما هو،
ولي�س كما نريده.
الم�سلمة الثانية :ا�ست�شكافنا لأنف�سنا وما حولنا لها قيمة
ذاتية ووظيفية :ا�ستك�شافنا لأنف�سنا وما حولنا ٌ
غر�ض لذاته لما فيه
من قيمة نجدها في �أعماق �أنف�سنا بقطع النظر عن �أي �شيء �آخر.
مثل القيمة الذاتية للمعرفة� .أو للفنون .وهذه الق�ضية م�شكلة نوع ًا
ما .فل�سنا كلنا ن�ؤمن ب�أن للمعرفة قيمة ذاتية .وبع�ضنا ي�ستغرب ممن
ينفق عمره في البحث عن �شيء ال طائل وراءه �سوى العلم .بل بع�ضنا
ي�ستهزئ به .المليارات التي ُتنفق على ا�ستك�شافات ف�ضائية �أو فلكية
ُتعتبر هدر ًا بالن�سبة للبع�ض .والأمر نف�سه ،بل �أكثر ،بالن�سبة للفنون.
ف�إذا كان هناك من ي�شكك في جدوى الإنفاق في بع�ض مجاالت العلوم
الطبيعية فلك �أن تتخيل الأمر بالن�سبة للفنون .وربما �أكون �أكثر دقة لو
قلت �إن اال�ستك�شاف الذاتي يحقق قيمة يجدها «بع�ضنا» ولي�س كلنا.
وفعال �أ�سمع من �أكثر من �أحد ب�أنه ال يوجد قيمة لمعرفة ذواتنا .و�أظن
33
عبداهلل حميد الدين
�أن من ينفي قيمة معرفة الذات �إنما يقولها لأنه لم يجربها .وهذا كل
ما يمكن �أن �أقوله له �أو حتى لي .فال �أملك دلي ًال بالمعنى الدقيق يمكن
�أن يقنع �أحد ًا ب�أن معرفته لذاته قيمة .يمكن �أن �أتحدث عن تجربتي
ال�شخ�صية �أو يمكن �سرد تجارب �آخرين يقولون الأمر نف�سه ولكن هذه
التجارب ال تعني �أن الأمر �صحيح ًا .لأنه يمكن �أن ي�أتي �آخر ويقول �إن
تجربته في معرفة ذاته كانت �سيئة للغاية� .أو �أنها م�ضيعة للوقت .وهذا
تمام ًا مثل االختالف حول التجربة الجمالية لمنظر �أو ل�صوت .فهل
�أ�ستطيع بالبرهان �أن �أقنع �أحد ًا بجمال لوحة �أو م�شهد طبيعي؟ كلما
ما �أ�ستطيع هو الإ�شارة �إلى ذلك .والحديث عنه بما قد يثير الح�سا�س
الجمالي ذاته لدى الطرف الآخر .والأمر كذلك بالن�سبة لمعزوفة �أو �أي
�شيء ذوقي .والت�أمل في مو�ضوع الجمال والتفاوت في تقديره في غاية
الأهمية .والتفكير في الأ�سئلة المختلفة التي يثيرها مو�ضوع الجمال
ي�ساعد على فهم التنوع الكبير للقيمة الذاتية لبع�ض المعارف .فمثال
هل نحن نتعلم تجربة جمال ال�شيء؟ �أم ن�ستك�شفها؟ ل َّما �أجد نف�سي
عا�شق ًا لفن ما ،هل هذا لأنني تعلمت �شيئ ًا في طفولتي وما بعدها جعل
من ذلك النوع من الفن جمي ًال؟ �أو جعل ذلك النوع من الفن ج�سر ًا
للجمال؟ ن�سمع كثير ًا �أن بع�ض �أ�شكال الذوق مكت�سبة ،فهل معناها �أنه
يمكن تذوق �أي �شيء ب�شكل جمالي من قبل �أي �أحد؟ �أو �أن الذوق ظاهرة
فيزيولوجية مثلها مثل الب�صر واال�ستماع؟ ال�س�ؤال نف�سه يقع على القيمة
الذاتية للمعرفة .فهل هي �أي�ض ًا �أمور نتعلمها؟ �أم ن�ستك�شفها؟ �أي ًا كان،
34
الكينونة المتناغمة
يبقى �أنني غير قادر على �إثبات القيمة الذاتية لهذا الأمر ولكن يمكنني
و�صفها .ويبقى لمن ي�ستمع �أن يقتنع بالو�صف� ،أو يت�أثر به ،فيحاول كما
حاولت� ،أو يرى �أن الم�س�ألة �إ�ضاعة تامة للوقت ،ووهم �أعي�شه �أو يعي�شه
من يقول مثلي .وال �أدعي �أن هذا �أمر له قيمة على من لم يجرب.
ولكن �إ�ضافة للقيمة الذاتية التي �أراها ال�ستك�شاف الذات ،ف�إن
لها قيمة وظيفية وهي االقتراب من ِفهم مقومات �سعادتنا في هذه
الحياة .وكما يمكن مناق�شة القيمة الذاتية ال�ستك�شاف الذات ،يمكن
�أي�ض ًا مناق�شة هذه القيمة الوظيفية �إذ �إن الكثير قد يم�ضي في حياته
بغير الت�أمل العميق في ذاته .والكثير يعي�ش حياة هنيئة بغير هذا كله.
فهل �أحكم على حياته بنق�ص �أو حرمان؟ قطعا ال .ولكن قد �أقول �إنه
فوت على نف�سه فر�صة لتجارب حياتية جميلة للغاية� .أو يقول غيري
في المقابل �إنه �أراح نف�سه من �صداعات متكررة� .أي ًا كان ،فهذه طبيعة
حياتنا .م�سارات متعددة ،ومعارف مختلفة وعلينا االختيار .وال �أظن
�أن �أحد ًا يملك حق الحكم لما هو �أح�سن .ولكن �أنا �شخ�صي ًا �أت�صور �أن
معرفة ذواتنا تعطينا فر�صة �أح�سن لمعرفة كيف نتفاعل مع الأمور من
حولنا ،وكيف يمكن تحقيق بع�ض الهناء لها .بل لو عدنا �إلى ذلك الذي
لم يفكر مطلقا في هذه التفا�صيل لوجدنا �أنه يعي�ش حياته وفق �أفكار
�صاغها و�أخرجها غيره .وال يوجد اليوم من ال يت�أثر بفكرة حول ذاته
في ت�شكيل حياته .الأمر هو في م�صدر الفكرة .ت�أمله الذاتي؟ �أو نقده
لأفكار غيره؟
35
عبداهلل حميد الدين
خريطة البحث:
البحث له هدفان منف�صالن عن بع�ضهما البع�ض:
الأول��ى طرح فكرة التو�سع الر�أ�سي باعتبارها و�سيلة لتحقيق
الكينونة الفردية التي تتناغم مع الوجود االجتماعي للفرد .وقد تدرج
البحث لي�صل �إلى هذه الفكرة من خالل مجموعة من الخطوات.
الثانية طرح فكرة �أن اهلل تعالى هو طرف �أ�سا�سي في معادلة
36
الكينونة المتناغمة
هي التو�سع الوجودي .ولكن يرافق هذه الفر�ضية فر�ضية �أخ��رى �أن
طبيعتنا الوجودية لها �أكثر من بعد� ،أكثر هذه الأبعاد هو البعد غير
المادي �أو كما الروحي .و�أن التو�سع في هذا البعد �ضروري .هذا التو�سع
ي�ؤدي �إلى زيادة قيمتنا الوجودية .وعند هذه النقطة تبد�أ ق�ضية اهلل
تعالى .فالفر�ضية هي �أن القيمة الوجودية لنا تعتمد على االت�صال باهلل
تعالى �أو على ا�ستح�ضاره في حياتنا .ومنها �أدخل في �أنواع الإيمان باهلل
المطلوب لتحقيق هذا.
ومع ترابط البحث �إال �أنه يمكن �أن ُيقر�أ ب�أي ترتيب �أو ت�سل�سل فهي
كما قلت �أو ًال �إثارة لأفكار وتفكير ب�صوت عال .وممكن اعتبار الكالم
هنا �ضمن التحليل الفل�سفي� .أقول ممكن لأنه ال يرقى �إلى م�ستوى ما
�آمله من التفل�سف .لذا ربما الأدق �أن �أقول ب�أنه محاولة للت�أمل والذي
يعد بداية التفل�سف ،فال فل�سفة بغير ت�أمل ،بل لعله ال لذة لغير المت�أمل.
هي محاولة ت�أملية تعتمد على تحاور مع ذهن القارئ وبالتالي �أُ ْجمل وال
ف�صل ،و�أحاول �أن �أثير �أ�سئلة وق�ضايا على �أمل وحلم �أن ُيغنيها ويغتني �أُ ِّ
بها قارئها وقارئتها.
�أخير ًا ،ما بين �أيديكم يتناول ق�ضية �شخ�صية للغاية ،وال يمكن
لأحد �أن يفر�ض ر�أيه على �أحد مدعي ًا �أن فيه الحل النهائي .بل الحل
النهائي هو لمن يعي�ش ويجرب وي�شعر ويفكر لنف�سه وبنف�سه .واطالعي
ال�شخ�صي محدود ج��د ًا ج��د ًا ،وظروفي الخا�صة �شكلت الكثير من
طريقة تناولي لهذه الق�ضية ،و�أولوياتي في الحياة �أثرت على اختياري
38
الكينونة المتناغمة
39
لماذا نتفل�سف؟
�إذا كان البحث �أ�سا�س ًا عن ال�سعادة فلماذا نتفل�سف؟ قد يرى
بع�ضنا �أن ال �صلة ذات جدوى بين الفل�سفة ومو�ضوع حيوي و�شخ�صي
مثل ال�سعادة .بل الق�ضايا الفل�سفية تبدو لكثير منا منف�صلة عن
حياتنا اليومية ،وبما �أنها كذلك فهي مملة وغير مثيرة .وربما م�ستفزة
ي�ستعملها �أحدنا لت�سفيه �آخر�« .أنت تتفل�سف»� .أي� :أنت تقول كالم ًا ال
داعي له .وربما ي�ضيف البع�ض :فلت�صمت!
ولو نظرنا فيما حولنا لوجدنا �أننا نختلف كثير ًا في تقييم ما
ي�ستحق اهتمامنا �أو جهدنا �أو مالنا �أو وقتنا ،خ�صو�ص ًا في تلك الأمور
التي لي�س من ورائها منفعة ملمو�سة �أو فورية �أو قابلة للقيا�س� .أقرب
مثال لهذا هو الفن .فالمنفعة منه غير ملمو�سة وال فورية وال تقا�س.
فكيف يمكن قيا�س �أثر الوقوف �أمام لوحة من لوحات مونيت مث ًال؟
وكيف ن�ضع ثمن ًا لتدريب الأطفال على تقدير الفنون وممار�ستها؟
الفل�سفة مثل هذا.
ولكنها في نظر من ي�شعر بالحاجة �إلى جوهرها� ،أي الت�أمل،
غير ذلك .من ي�شعر بالحاجة �أو الرغبة �أو اللذة في الت�أمل في كل ِّيات
41
عبداهلل حميد الدين
وتفا�صيل حياته يرى الفل�سفة مثيرة وممتعة و ُم ْر�ضية للغاية .بل الفل�سفة
لكل من ي�ؤمن بنف�سه تعتبر �إ�ضافة �أ�سا�سية لحياته.
قديم ًا قيل�« :إن الحياة الغير مت�أمل فيها ال ت�ستحق �أن ُتعا�ش».
را�ض خير من �أن تكون بل قيل �أكثر من هذا�« :أن تكون �إن�سان ًا غير ٍ
را�ض على �أن تكون َ
�سقراط غير ٍ خنـزير ًا را�ضي ًا� .أف�ضل لك �أن تكون
را�ض .و�إذا كان للخنـزير �أو للغبي ر� ٌأي مختلف فلأنهما ال يعرفان غبي ًا ٍ
�إال جانبهما من الق�ضية� .أما الآخ��ر ،فلعلمه بطرفي الق�ضية يمكنه
�أن يقوم بالمقارنة ».القائل الأول هو �سقراط ،و�أما الثاني فهو جون
�ستيوارت ميل.
ومثل هذه الأقوال كثيرة ولعلك تذكر غيرها مما ي�سعى لتمجيد
التفكير والت�أمل والتفل�سف .ولكن نعرف �أنها لن ُتح ِّفز �أحد ًا نحو ذلك،
�إال ما ندر.
نعم! قد ت�ستفز هذا ،و ُت�شعر ذاك بالإهانة ،وقد ُتح ِّفز البع�ض
الآخر على التمثيل �أو التمظهر ،ولكن التفل�سف الحقيقي ال ي�أتي ر َّد ٍّ
فعل
على ذم من ال يتفل�سف .الت�أمل والتفل�سف ال ي�أتي من خارج الفرد بل
ال بد من �أن ينبع من ذاته .ما لم يملك المرء الرغبة في فهم الحياة
ف�إنه لن يقوم بذلك .قد ي�سعى لحفظ بع�ض عبارات هذا وذاك ،وا�سم
هذا الفيل�سوف وذل��ك المفكر ،واال�ست�شهاد ببع�ض �أقوالهم ،رعاي ًة
واهم ،ولكن ذلك لي�س بفل�سفة. ل�ضرورات اجتماعية ،و�إ�شباع لغرو ٍر ِ
الفل�سفة لي�ست حفظ �أقوال و�أ�سماء وت�أريخ الأفكار والمفكرين .حتى
42
الكينونة المتناغمة
�أ�ستاذ الفل�سفة وم�ؤرخها ومن ي�ؤلف فيها قد ال يكون فيل�سوف ًا .الفل�سفة
في جوهرها هي الحالة النف�سية والذهنية التي تجعل من �صاحبها في
بحث متوا�صل عن الفهم والتف�سير والتعليل .تجعله في حالة من عدم
االعتياد وعدم الألفة� ،أو بعبارة �أحد القدماء تجعل المرء «في ده�شة
متتابعة» .تجعلنا نرى ال�شيء جديد ًا بمجرد تغير فهمنا له ،ونظرنا
�إليه ،و�إن كان في جوهره وفي ذاته هو هو .بل ما هو ال�شيء بالن�سبة لنا
�سوى نظرتنا �إليه؟
وربما �أحتاج �إل��ى تعديل ه��ذه العبارة ،لأق��ول الفل�سفة تجعل
المرء في حالة نف�سية تتكرر معها الده�شة بين الحين والآخر .ولي�س
�أن الفل�سفة تجعل الإن�سان في حالة ده�شة متوا�صلة لأن الده�شة
المتوا�صلة ال تت�أتى .الده�شة حالة انفعالية ،وهذه الحاالت م�ؤقتة دائم ًا
وال ت�ستمر .ولكن ال ي�شعر بالده�شة �إال من يت�أمل ب�شكل متوا�صل في
الواقع الذي يحيط به �أو ال يحيط به .والتكرار قد يكون مرة في اليوم
�أو في الأ�سبوع ،بل ربما مرة في ال�شهر .ولكن الده�شة كالنافذة �إلى
الوجود .نحن ال ننظر �إلى الم�شاهد الجميلة دائما ولكن لما نريد ذلك
نحتاج �إلى نوافذ .وكل ده�شة بمثابة �إطاللة جديدة على الوجود.
ولعلها� ،أي الفل�سفة ،تن�ش�أ من ال�شعور بعدم االت�ساق .وهو �شعور
ي�أتي لمن لديه ح�سا�سية عالية للوجود بحيث يرى الفروقات ال�صغيرة
التي تغيب عن �أو ال تلتفت لها �أنظار غيره .ح�سا�سية تجعل المرء يدرك
عدم االت�ساق في ما حوله ،وبالتالي ال�سعي لإيجاد تف�سير لذلك� ،أو
43
عبداهلل حميد الدين
تحليله للتعمق في النظر و�صو ًال �إلى م�ستوى تكون فيه الأمور مت�سقة من
جديد .وين�سب لأفالطون قوله �إن الفل�سفة هي البحث عن االت�ساق في
ما يظهر �أنه مختلف� .أو البحث عن الم�شترك في المختلف.
ولكن قد �أذهب خطوة �أخرى لأدرك �أن عدم االت�ساق ال يوجد
ب�سبب ما حولي و�إنما ب�سبب رغبتي في انتظام الأمور .وبالتالي �أعود
لأكت�شف �أن عدم االت�ساق فيني �أنا ولي�س فيما حولي .لتكون الفل�سفة
كا�شفة وهم االت�ساق ،ومبينة كيف �أنه ال يوجد �إال في ذهن الإن�سان،
ولتك�شف كيف يعمل الإن�سان على �إ�سقاط حاجاته على العالم حتى لو
لم تكن فيه� .إن العالم فيه الخير وال�شر ،والكبير وال�صغير ،والرفيع
والو�ضيع ،والجميل والقبيح ،والحكمة والعبث ،والتدبير والفو�ضى،
وهذه لي�ست �إال �أو�ضح �أمثلة عدم االت�ساق .ومن ي�صل �إلى هنا ويدرك
وهم االت�ساق �سيرى الجميل الذي ال يكون جمي ًال ،والقبيح الذي ال
يكون قبيح ًا ،والعبث الذي يكون �ضروري ًا ،والفو�ضى التي تعد منظمة،
وال�صغار الذي ي�ؤدي �إلى العظمة ،والألم الذي يغذي الحب ،والعطاء َّ
الذي ي�ضر ،وال َبالدة التي تنطق حكمة ...وكلما فكرنا قلي ًال كلما ظهرت
لنا �أ�شكال �أخرى من عدم االت�ساق بع�ضها يقترب منا بدرجة تلح علينا
�أن نجد لها جواب ًا .وقد يكون جوابها هو �أن نقبلها كما هي ،و�أن ال نحاول
البحث عن �شيء وراءها� .أي قد تكون الفل�سفة غر�ضها مقاومة الحاجة
النف�سية لالت�ساق والتي تكون تابعة لحاجات عملية براغماتية ،ولي�س
تابعة من واقع وجودي خارجي .فالإن�سان لكي ي�ستطيع �أن يم�ضي في
44
الكينونة المتناغمة
الحياة اليومية يظن �أنه بحاجة لأن يقلل من المجاهيل غير المتوقعة
من خالل التنظيم ،فيفتر�ض بعد ذلك �أن الحياة كلها محكومة بنظام.
في حين �أن العالم في الواقع مترابط ،متفاعل ،متكامل ،ولكن ال منظم
وال فو�ضوي.
ولعل الأمر غير البحث عن االت�ساق.
مهما كان ف�إن جوهر الفل�سفة والتفل�سف هو المحاولة المتوا�صلة
للت�أمل والفهم .وفيما يتعلق ب�أنف�سنا ف�إننا وفق عبارة �أليوت ال نكت�شف
�شيئ ًا جديد ًا ولكننا نكت�شف ما كنا فيه وحو َله.
�أغلب النا�س ال تحب الفل�سفة ،وقليل منهم يمار�سها ،وكثير منهم
م�ضيعة للوقت وهدر للحياة وتفويت لما فيها من متعة ،بل ي�شعرون �أنها ْ
�سيقولون �إنها �أخذ للحياة بجدية زائدة .وكما قلت �أو ًال فكلنا قد �سمع �أو
حتى ا�ستعمل عبارة «يتفل�سف» للإ�شارة �إلى من يجادل� ،أو يقول كالم ًا
ال معنى له� ،أو يعقد ما هو ب�سيط و ُيبهم ما هو وا�ضح .وهذا غير من
�سيحكم عليها بال�ضالل واالنحراف .وما �أكثر ه�ؤالء.
وهذا م�ؤ�سف في نظر البع�ض .وغير م�ؤ�سف في نظر �آخرين .كل
ذلك اعتماد ًا على موقفنا الم�سبق من �أهمية الت�أمل والفهم� .أنا �أراه
م�ؤ�سف ًا ،ولكن الذي يرى الفل�سفة م�ضيعة للوقت ي�سعد بموقف النا�س
النافر منها .وهذا الموقف نجده ممن يهتم ب�أمور التغيير االجتماعي
حيث يرى �أن ما ال ينعك�س على الواقع مبا�شرة ال قيمة له وم�ضيعة
لموارد مهمة يجب �أن تتجه نحو �أمور �أجدى و�أنفع .طبع ًا نجد موقف
45
عبداهلل حميد الدين
رف�ض الفل�سفة ب�شكل �أ�شد ممن يراها هرطقة وتجديف ًا! ولعلي لم
�أن�صف موقف النافر هذا ،ولكن ق�صدت الإ�شارة �إليه ولي�س تو�صيفه
بدقة.
ولكن ما هو الذي يجعل �أحد ًا يتفل�سف في حين �أنَّ �آخر ال؟ �أو
ما هو الذي يجعل �أحدنا ذا ح�سا�سية حالية لالت�ساق وغيرنا ال؟ �أو ما
الذي يجعلنا نبحث عن عدم االت�ساق؟
ال �أع��رف كيف �أجيب على ه��ذا ال�����س���ؤال .فالواحد منا يت�أثر
بمجموعة متعددة من العوامل .من التكوين الفيزيولوجي� ،إلى التربية،
والقيم التي اعتدنا عليها ،والمبادئ التي ُغر�ست فينا .بل حتى المحن
التي نتعر�ض لها والنعم التي نتقلب فيها ت�ؤثر كثير ًا على ال�شكل الذي
ن�صبح عليه .طبع ًا تبقى اختياراتنا الم�ؤثر الأعمق والأكبر في حياتنا
والتي ال يمكن تف�سيرها ب�أي عامل �سوى ذاتها؛ هذا لمن ي�ؤمن ب�أنه لي�س
ظاهرة فيزيائية �أو اجتماعية فقط .لأن من ي�ؤمن �أنه كذلك ال يمكنه
قبول فكرة االختيار الفردي .فالإن�سان بالن�سبة �إما تفاعالت كيميائية
�أو تفاعالت اجتماعية .وال يوجد الإن�سان الفرد.
�إذ ًا عوامل مختلفة تن ِّوع من ح�سا�سية المرء تجاه الوجود ،وتجاه
ذاته ،وتجاه ما حوله.
وما قلته عن القيمة الذاتية لمعرفة النف�س ينطبق هنا .و�أ�ضيف
�إن الواحد منا حتى لو وجد نف�سه ال ي�شعر بالحاجة �إلى الفل�سفة ،ف�إنه
يمكن �أن يخلقها في نف�سه .من لم يدخن ال ي�شعر �أنه محتاج للتدخين.
46
الكينونة المتناغمة
صال و�أنا من �أنا؟ وما قدر المعرفة الممكنة به؟ كيف يريد مني �شيئ ًا �أ� ً
تختلف معرفتي باهلل عن معرفتي بنف�سي �أو بالموجودات من حولي؟
هل العالم ُودِّي؟ هل ممكن توقع كل �شيء؟ �إلى �أي مدى يعلب المجهول
في العواقب غير المق�صودة لأفعال دور ًا في حياتي؟ �إلى �أي مدى ت�ؤ ِّثر ّ
مق�صودة؟ ما هي عالقتي بالوجود؟ وما هو ت�أثير اختياراتي فيه؟ وهل
ت�أثيري يتنا�سب مع فعلي؟ من �أنا في هذا الكون الوا�سع؟ ما �أنا بين هذه
المجرات التي تكاد تكون ال نهائية؟ هل �أنا �أكثر من ذرة في مجرة؟ ...
�أ�سئلة في نظر الفيل�سوف من الأهمية بمكان ،في حين �إن كثير ًا
منا قد يرى �أنها ال ت�ستحق �أن تتحول �إلى مو�ضوع درا�سة .ربما اعتدنا
على هذه الق�ضايا �أو بع�ضها ،ولم ي�صبح التفكير فيها يمثل التفكير في
جديد �أو مثير .ربما ت�شك َّلت حياتنا بحيث �أنها ال تن�سجم مع �أغلب تلك
الق�ضايا ،فال ن�شعر �أن حياتنا تتعلق بها مطلق ًا .بل في ت�صوري ف�إنَّ
هذا الأخير هو ال�سبب الأعمق الن�صرافنا عن الفل�سفة .لقد ت�شكلت
حياتنا بحيث �أ�صبحت مجموع لحظات منف�صلة نكون فيها من�صرفين
عن �أنف�سنا �إلى ما حولنا بفعل اقت�صاد المالهي وثقافة اال�ستهالك.
الحياة المعا�صرة تقوم على اال�ستهالك وعلى الإث���ارة المتوا�صلة
وال�سريعة والمتحولة .ومثل هذه الحياة ال تترك للمرء مجا ًال للتفكر
والت�أمل .الفرد فيها يبحث عن المثير ال�سريع ،وما �إن ينته منه حتى
يبحث عن �آخر وهكذا .والفل�سفة ال تمنح هذا� .إنها تتطلب و�صل الأمور
بع�ضها ببع�ض .تتطلب الوقوف .التفكير .الهدوء .المراجعة .النقد.
50
الكينونة المتناغمة
�ألم �شديد ،مر�ض ،خ�سارة حبيب ،تحطم عالقة زوجية ،طروء حاجة
مادية ملحة ونحو ذلك من اللحظات التي ت�ضع الإن�سان �أمام �ضعفه
وعجزه في �آن واح��د� :ضعف ذاته وعجزها عن تغيير �شيء .مواقف
تعيدنا �إلى �أنف�سنا لتذكرنا �إننا في النهاية �أفرا ٌد منف�صلون بعيدون عما
حولنا مما كنه نعده م�ضيفا لنا .مواقف ت�ؤكد لنا �أن ذواتنا هي وحدها
حقيقة ما نحن ولي�س ما نملكه �أو نعلقه بنا� .إدراك قد ي�صيب بع�ضنا
بالوح�شة بحيث نهرب �إلى الأمام بحث ًا عن �أ�شكال �أخرى من التعلق �أو
الملكية �أو عن �أنماط من الن�سيان .في المقابل يعيدنا خطوة �إلى الوراء
بحيث ننظر �إلى �أنف�سنا من جديد.
محطات حياة تتركنا في �ساحة كبيرة خالية ال يمكن الخروج
منها �إال بالت�أمل في ما ال نراه فيها� .أو قد ال لتعيدنا �إلى �أنف�سنا ولكن
ُتغ ِّير من موقع ر�ؤيتنا لأنف�سنا ولما حولنا .تخ َّيل حالك بعد �أن ُي�ضرب
ر�أ�سك بقوة :كيف تبدو الأمور مختلفة لوهلة؟ ربما تلك الأ�شكال التي
تراها ور�أ�سك يدور هي الأ�شكال الحقيقية للموجودات من حولنا؟ ربما
�شكلها بعد ما يزول �أثر ال�ضربة هو غير الحقيقي؟ �أي ًا كان الأمر ف�إن
هزة الر�أ�س هذه غيرت من موقع نظرتك .وكذلك بع�ض هزات الحياة؛
ف�إما ن�ستمر في النظر من موقعنا الجديد� ،أو نعود �إلى حيث كنا.
بع�ضنا يهمل الفل�سفة لما يطلع على ق�ضاياها و�أ�سئلتها قائال
لنف�سه �إذا كانت هذه الفل�سفة ف�أنا فيل�سوف �أ� ً
صال� .أنا �أملك �أجوبة على
تلك الأ�سئلة .بل لعل الحقيقة �أن كلنا لديه فل�سفة و�إنما نتفاوت في
52
الكينونة المتناغمة
قدرتنا على التعبير عنها و�صياغتها ب�شكل دقيق� .أو ربما هناك من
احتكر و�صف الفل�سفة على منهج وطريقة محددة .لي�س غر�ضي الجدل
حول �صحة �إطالق الو�صف ،ولكن �أت�صور �أن التفل�سف يتحقق لما يكون
هناك ت�سا�ؤل بوعي .معرفة الجواب بغير �س�ؤال يحقق معلومة منف�صلة
عنا ،وال ُت�ضحي جواب ًا �أو معلومة مت�صلة بنا �إال �إذا كنا نملك الت�سا�ؤل.
و�س�ؤال بغير وعي لي�س �إال ترديد ًا لفظي ًا .فلي�س الأمر امتالك الفل�سفة
�أو الر�أي و�إنما امتالك التفل�سف.
ولكن هل تلك الأ�سئلة ت�ستحق البحث؟ �أو هل ي�صعب الإجابة
عليها؟ بل �أال نملك الأج��وب��ة من م�صادرنا الدينية؟ ربما كل هذا
�صحيح .ربما نعرف الأج��وب��ة ال�صحيحة ولكن المعرفة الم�سبقة
بالأجوبة ال تعني �أن البحث غير مهم .فالبحث لي�س دائم ًا من �أجل
الح�صول على الأجوبة بل قد يكون عن الأ�سئلة .وعندما يكون كذلك
ف�إن الغر�ض هو �إعادة ال�س�ؤال �إلى �أنف�سنا� ،أن نعيد ات�صالنا بالفكرة
التي انف�صلت عنا� .إننا �أحوج ما نكون �إلى ما يحيى فينا الت�سا�ؤل ليرجع
فينا ال�شعور ب�أهمية تلك الأ�سئلة وعالقتنا بها� .أو بالأحرى عالقتها
بنا .لأننا و�إن كنا نملك الأجوبة �إال �أن تلك الأجوبة �أ�صبحت معلومات
معزولة عنا� .أفكار م�ستقرة في خانة المحفوظات في �أدمغتنا ،وبعيدة
عن نقاط االت�صال بحياتنا .ولي�س مهما �أن �أ�ؤم��ن باهلل فقط مث ًال،
و�إنما �أن �أعرف �إن للإيمان باهلل في حياتي ت�أثير �إيجابي .في النهاية
�أنا معيار الأهمية .وما ال ي�ضيف �إلي ال �أحتاجه.
53
عبداهلل حميد الدين
والأمر ال يقف هنا .فالواقع �أن تلك ق�ضايا معقدة ولو لم يكن
من الت�أمل والتفل�سف �إال �إدراك تعقيدها لكفى وذلك لكي نبتعد عن
التب�سيط المبالغ في تعاملنا مع ق�ضايا كبرى كتلك ولكي ندرك �أن
الحقيقة لي�ست وا�ضحة و�ضوح ال�شم�س .فتلك الأ�سئلة تتناول ق�ضايا
ت�ؤثر على كافة �أنحاء حياتنا ولكنها ق�ضايا غائبة �إلى حد كبير لي�س
فقط عن �أحا�سي�سنا ولكن �أي�ض ًا عن مداركنا وكثير ًا ما نب�سطها مما
ينعك�س على تقييمنا لمن ال يتفق معنا حيث نحكم عليهم بالجهل �أو
المكابرة �أو التع�صب .ولكن ما �إن نرى �صعوبة المو�ضوع حتى ندرك
�ضرورة مراعاة مواقف الآخرين لي�س لأنهم على �صواب بل لأننا ال
ن�ستطيع التيقن من �صوابنا �أو لأننا ندرك �أنَّ الأمر رمادي برمته �أو في
جله� .إ�ضافة �إلى هذا من ف�إن �إدراكنا عدم و�ضوح تلك الق�ضايا يفتح
لنا �آفاق نف�سية .ف�أحيان ًا نت�ساءل ولكن نفر�ض على �أنف�سنا البحث عن
اليقين من جديد .والبحث عن اليقين ي�ضيق علينا الخيارات في حين
�إن البحث في الم�ساحات المتو�سطة الرمادية رحب ووا�سع .و�س�آتي
الحق ًا على فكرة «احت�ضان ال�شك» ،وهو نتيجة طبيعية لقبول التعقيد
في هذه الق�ضايا.
ولو لم يكن في الفل�سفة �إال فهم ما يقوله الآخرون لكفى .كثير ًا
ما نقلل من �ش�أن �أ�سئلة ثقافات �أخرى� ،أو �أ�شخا�ص �آخرين في محيطنا.
البحث الفل�سفي ي�ساعدنا على تقديرها و�إدراك ما وراء تلك الأ�سئلة:
لماذا �س�ألوها ولي�س غيرها؟ ما هي ظروفهم الحياتية التي جعلتهم
54
الكينونة المتناغمة
ينظرون �إلى ق�ضايا دون غيرها؟ ولنفهم لماذا �أجابوا بما �أجابوا.
وباقترابنا من فهم ما يقوله الآخ��رون ف�إننا نقترب من �أنف�سنا لأننا
�سنكت�شف �أننا نفهم �أنف�سنا ولكن من زاوية مختلفة� .إنا نكت�شف القرب
بيننا كب�شر ،ون�شعر بت�شابه الق�ضايا التي تهمنا ،وت�صير ق�ص�ص
الآخرين عن الوجود و�سيلة لإ�ضاءة ق�صتنا الخا�صة� ،أو دوافعنا الخا�صة
في �صياغة ق�صتنا .وهذا يف�سح مجال للتوا�صل الح�ضاري القائم على
التقدير واالحترام .فكلنا لديه ميثولوجيا عن الوجود والحياة وبقدر ما
تختلف ف�إنها تت�شابه .وفهم االختالف والت�شابه يثري فهمنا لوجودنا
الإن�ساني الخا�ص والم�شترك.
وقد ال تكون الفل�سفة من �أجل العلم بال�شيء بقدر ما تكون لنعرف
كيف نعي�ش بال معرفة .فالعدمية حالة نف�سية م�ؤلمة وكثير ًا ما تن�ش�أ من
العجز المعرفي �أمام الوجود؛ العجز عن تف�سيره وفهمه والإحاطة به
وب�أغرا�ضه .وفي �أغلب الأوقات نحتاج �إلى �أن نتعلم العي�ش بالجهل لأننا
�سنبقى جاهلون ب�أكثر ما هو حولنا.
طبيعة الأ�سئلة مختلفة تمام ًا .فالبحث فيما هو كائن يكاد يكون
و�صف ًا لما هو موجود .و�أما البحث في ما يجب فيقترح خلق �شيء غير
موجود .والبحث في العواقب يحاول ربط الأحداث بنتائج لم تح�صل
بعد.
وكل نوع من هذه الق�ضايا الثالثة له منهجية خا�صة في الإثبات.
فالإجابة على �أ�سئلة الوجود (ما هو كائن) تحتاج �إل��ى منهج بحث
يختلف عن الإج��اب��ة عن �أ�سئلة الأخ�لاق (م��ا يجب �أن يكون) وهما
يختلفان كثير ًا عن متطلبات الإجابة على �أ�سئلة العواقب (ما �سيكون).
ومع �أن الأ�سئلة الثالثة مختلفة �إال �أن الق�ضايا فيها ت�ؤثر على
ب�ضعها البع�ض فـ:
ما �سيكون ما يجب �أن يكون ما هو كائن
والت�أثير يكون �أو�ضح ما يكون عندما نتناول ق�ضايا ما يجب �أن
يكون .لأنه ال تكاد توجد �إال وهي تت�ضمن فر�ضيات حول كل من ما هو
كائن و�أي�ض ًا حول ما �سيكون �أو العواقب .مث ًال كتاب ال�سر عندما اقترح
التفكير الإيجابي ف�إنه كان يبحث فيما يجب �أن يكون وفيما يجب �أن
نعمل .هو يطلب منك �أن تفكر بطريقة معينة .ولكن هذا االقتراح لم
ي�أت من فراغ .بل �أتى من ر�ؤية خا�صة للوجود .فعندما يقول لك �إذا
فكرت بطريقة معينة ف�إن كذا وكذا �سيح�صل فهذا يعني �إنه يقدم �أي�ض ًا
تف�سير ًا للعالقات ال�سببية بين الموجودات ،تف�سير من النوع الذي يعطي
التفكير الإيجابي الت�أثير المن�سوب له .والبحث في العالقات ال�سببية
57
عبداهلل حميد الدين
في الوجود من �أبحاث ما هو كائن .وفي الوقت نف�سه ف�إن الكتاب ذكر
العواقب التي �ستنتج من وراء هذا وهي عواقب تتعلق بحياة �أح�سن �أو
حياة تتوافق مع �أحالم وطموحات الفرد الذي يطبق اقتراحات الكتاب.
وهذا النوع من الوعد هو من �أبحاث ما �سيكون.
لمن يخالف .والثاني غير مكتوب وال توجد عليه عواقب لمن يخالف.
بل يمكن �أخذ الأمر �أبعد والقول ب�أن لدينا نزعة �أخالقية لي�س معناها
�أنه يجب �أن نكون �أخالقيين .فمجرد وجود ال�ضمير ال يعني وجوب �أن
نكون �أخالقيين� .أو هل يعني؟ ال�ضمير يعني �أنني �أميل �أو �أريد ب�شدة.
�أ�سئلة �أتركها مفتوحة�.أيا كان الأمر فالبحث في النزعة الأخالقية من
بحث ما هو كائن.
الحكم الأخ�لاق��ي هو نتيجة الإج��اب��ة على ما يجب �أن نعمل.
ولكن �إلى �أي حد يت�أثر الجواب بالموقف من وجود وطبيعة النزعة
الأخالقية؟ كيف يت�أثر الحكم الأخالقي بفكرة ال�ضمير؟ مث ًال قد �أقول
�إن فكرة ال�ضمير تفتح الباب للإيمان ب�أنه يكفي ت�سويغا لفعل ما �أن
يكون منطلق ًا من �أو مر�ضي ًا لهذا ال�ضمير .وهذا ما ن�سميه الخير للخير
�أو ترك ال�شر لأنه �سيء� .أما نفي ال�ضمير فال يترك مجا ًال لهذا� .أي
�إن «ما هو كائن» -وجود النزعة الأخالقية في هذه الحالة � -أ َّثر على
ما يجب بطريقة غير مبا�شرة .هو لم يحدد ما يجب �إنما غير طريقة
التفكير فيه .فعندما ن�س�أل �أنف�سنا :كيف نحدد ما هو الواجب فعله؟ وما
م�صادر معرفة هذا؟ ف�إن القول بوجود نزعة �أخالقية �أو رف�ضها �سيغير
�أو �سي�ؤثر على الإجابات.
وفي ممار�ستنا للتفكير الأخالقي دائم ًا ندخل «ما هو كائن» على
«ما يجب �أن يكون» .وال بد من التفكيك بينهم حال التحليل .لأنه في
كثير من الأحيان نت�صرف وك�أن الأخ�لاق تت�أ�س�س على هو ما كائن.
59
عبداهلل حميد الدين
القول ب�أن كوننا مت�ساوين في الخلق يعني �أنه ال يوجد لأحد ا�ستحقاق
ذاتي وبالتالي فال ي�صح لأحد �أن ي�ؤلم �أو يظلم �أحد ًا .هذا غير وجوب
الت�ساوي .والت�ساوي يمكن ا�سناده �إلى معايير �أخرى.
مثال �آخر عن العالقة بين ما هو كائن وبين ما يجب �أن يكون هو
ما يتعلق بر�ؤيتنا لطبيعة عالقتنا بالوجود وت�أثيره على ر�ؤيتنا الأخالقية.
فلو �أخذنا ثالثة �أحوال من الوجود وقارنا بين نتائجها الأخالقية فما
�سنجد؟
لن�أخذ �أحدا ي�ؤمن ب�أن الكون قا�س و�أننا غرباء فيه و�أننا وحدنا
فيه و�أننا �ضحايا للوجود .هذا ال�شخ�ص كيف �سيكون معياره للخير �أو
ال�شر؟ كيف �سيجيب على ما يجب �أن �أعمل؟ �أو ما هي الق�ضايا التي
�سيرى �أنها ت�ستحق الت�أمل او التفكير .ال �أ�ستطيع �أن �أجيب بح�سم لأنني
لم �أ�س�أل كل من ي�ؤمن هكذا .وال �أطرح المو�ضوع هنا و�أنا لدي افترا�ض
م�سبق عما �سيقوله� .أنا فقط �أ�س�أل من باب االفترا�ض� .شخ�ص �آخر
ي�ؤمن ب�أن الكون ر�ؤوف وحنون و�أننا هنا نتيجة هذه الر�أفة والمحبة،
فكيف �سيتعامل مع الق�ضية الأخالقية؟ كيف �سيف�سر الحب والرحمة.
وهل تف�سيره للحب والرحمة �سي�شبه تف�سير الأول� .شخ�ص ثالث ي�ؤمن
ب�أن الكون عادل ومن�صف .فكيف �سيكون �س�ؤال الأخالق بالن�سبة �إليه؟
فبين ه�ؤالء الأ�شخا�ص الثالثة كيف �ستختلف النظرة �إلى الرحمة و�إلى
العطف؟ �إلى الت�ضحية و�إلى العطاء؟ �إلى الإن�صاف و�إلى العدل؟ وما
�أريد القول هنا ب�أن طبيعة الإيمان بالكون و�أ�صله لم تملي على �أحد
61
عبداهلل حميد الدين
من الثالثة ر�ؤية اخالقية محددة ،ولكن ربما �أثرت على ما يمكن �أن
يتبناه كل واحد منهم� .أقول ربما لأن الجواب على هذا يعتمد على �س�ؤال
النا�س ولي�س على االفترا�ض من وراء جدار .هذا �أنني كثيرا ما �أقوم
بافترا�ضات من وراء الجدر.
و�أي ًا كان ال�صواب ،فما �أردت الت�أكيد عليه هنا هو �ضرورة االلتفات
�إلى الفرق بين ال�س�ؤالين و�إلى �إ�شكالية العالقة بينهما .هذه العالقة
الم�شكلة بين ما هو كائن وبين ما يجب جعلت البع�ض يدخلون عامل
ما �سيكون .و�إذا تابعت مثال الت�ساوي ف�س�أقول �إن الت�ساوي له م�آالت
جيدة وعدم الت�ساوي له م�آالت �سيئة .فيتم الإ�شارة �إلى ال�سخط والتوتر
الم�ؤدي �إلى تفكك العالقات االجتماعية وال��ذي قد يكون له عواقب
�سيئة على الفرد� .أو �إلى ال�سعادة والرفاه الذي ينتج من اال�سترخاء
في العالقات االجتماعية .وبالتالي ي�صبح وجوب الت�ساوي مرتكز ًا على
تجنب العواقب ال�سيئة �أو على جلب الم�صالح .وبطبيعة الحال فالبحث
في العواقب �سي�ستند �إلى التاريخ �أو �إلى درا�سات �إح�صائية علمية ولكن
�أحيان ًا �إلى افترا�ضات.
م�شكلة هذا النوع من التحليل هو �أنه يجب �أن تتوفر لنا �أو ًال معايير
لما هو �سيء وما هو جيد .فما م�صدرها؟ و�إال فكيف �سنعرف العواقب
التي يجب البحث فيها؟ وكيف �سن�شخ�ص ال�ضرر؟ وكيف �سنوازي بين
المت�ضررين؟ خ�صو�صا لما يتطلب الأم��ر اختيار ًا بين �أف��راد �أو بين
الفرد والمجتمع .من الأول��ى؟ الفرد �أو المجتمع؟ الأكثر �أو الأقلية؟
62
الكينونة المتناغمة
فبع�ض الأمور ال ت�ضر �إال الفرد ،وبع�ضها ي�ضر المجتمع .منع التدخين
في الأماكن العامة يراعي المجتمع .رفع ال�ضرائب على التدخين �أي�ض ًا
يراعي المجتمع .فالفرد الذي يهمل نف�سه يح ِّمل المجتمع م�س�ؤوليات
معينة وبالتالي فال�ضريبة و�سيلة لأخذ منه .ولكن �ضرر التدخين يدخل
�ضمن العواقب المحتملة .فمتى يحق لنا �أن نقيد �سلوك الفرد بناء على
عواقب محتملة؟ وهل يحق للمجتمع �أن يقيد �سلوك فرد ال ي�ؤذي �سواه؟
وهل فورية العواقب عامل م�ؤثر؟ هل حجم العاقبة فيها فقط و�إنما
�أي�ض ًا في توقيت ح�صولها؟ فمثال عاقبة التدخين تكون بعد �سنوات من
المتعة ،وت�أتي بالتدريج .فهل هذه ب�سوء عاقبة ا�ستخدام مخدر خطير
له �أثر فوري؟ وهل مبا�شرة العواقب عامل م�ؤثر؟ فبع�ض عواقب �أعمالنا
مبا�شرة مثل قطع �شارع ب�إهمال مما ي�ؤدي �إلى حادث �سيارة ال ي�صيبني
و�إنما ي�صيب غيري .فما الموقف الأخالقي والقانوني هنا؟ وهذا مثال
وا�ضح و�إال في الواقع ف���إن �أغلب ت�صرفاتنا لها عواقب على الغير،
ونحن ال ننتبه لذلك ولكن عي�شنا بين غيرنا وتفاعل وتقاطع �أفعالنا
مع م�صائر وحياة الآخرين يفر�ض ذلك .ثم كيف نقي�س العواقب؟ ومن
يحدد طرق القيا�س والإح�صاء؟ وهل �أح�صينا ق�ص�ص الف�شل بقدر ما
نح�صي ق�ص�ص النجاح؟ � ...إلخ من الإ�شكاالت.
هذه التقاطعات بين ما هو كائن وما يجب �أن يكون وما �سيكون
موجودة على ال��دوام في كافة الكتب التي تبحث في حياة الإن�سان.
فالكتب التي تبحث في عالقاتنا الإن�سانية ،و�أنواعها من �صداقة ،وحب،
63
عبداهلل حميد الدين
الأخالق الفردية ،ف�أنا �أت�صور �أن البحث يجب �أن يبد�أ منا نحن .ذكرت
�أو ًال �أن هناك من يرى �أن علينا معرفة النظام الكوني الموجود ثم ننظم
حياتنا وفقه� .أنا �أميل �إلى الر�أي المعاك�س .علينا �أن نعرف من نحن
ثم ننظم حياتنا في هذا الوجود وفقنا نحن .علينا �أن نبد�أ من �أنف�سنا
ولي�س من الواقع ،ونحن معيار ما يجب والفو�ضى والنظام يبد�آن من
عندنا .وللر�أيين عالقة ع�ضوية بت�صورات الألوهية ف�س�أتركه �إلى �آخر
البحث مكتفي ًا هنا بالقول �أنني �أنطلق من فر�ضية �أن معرفتنا ب�أنف�سنا
ت�ؤدي �إلى معرفتنا بما يجب القيام به �أو على الأقل بما يجب تجنبه.
وبالتالي ف�إنني �س�أبد�أ من تناول �أنف�سنا بغر�ض �أن يقربنا �إلى الفعل
الذي �إذا قمنا به اقتربنا �إلى ال�سعادة �أو �إلى اليكنونة المتناغمة.
65
الفل�سفة والم�شاعر
�أختم هذا المحور حول الفل�سفة وال�سعادة بذكر ما هو وا�ضح
من �أنَّ الفل�سفة لي�ست ع�ص ًا �سحرية .التفل�سف �سيزيد من �إن�سانيتنا،
لأن ت�أملنا من �إن�سانيتنا .والت�أمل مما يفرقنا عن غيرنا من الأحياء
التي تملك التفكير وال تملك الت�أمل .هي ال يمكنها �أن تنظر �إلى نف�سها
وتق ِّيم حياتها وق�ضاياها ،ولكننا نملك ذلك .الفل�سفة تقوم ب�أمور كثيرة
ولكن معرفتها لن تحل م�شاكلنا تلقائي ًا .بل قدرتنا على �إدارة م�شاعرنا
وانفعاالتنا من �أهم �شروط تحقيق ال�سعادة والهناء في هذه الحياة.
الفل�سفة ت�ساعد على تطوير هذه القدرات ولكنها ال تطورها بذاتها.
و�أهمية �إدارة الم�شاعر ت�صل �إل��ى الحد ال��ذي جعل البع�ض ي�ؤ�س�س
فل�سفة حياة كاملة على هذا الأمر .و�أي مراقب لم�شاعره يدرك مدى
تعقيدها و�أي�ض ًا جودة الحياة التي يمكن �أن ينالها بمجرد �أن يملك
هذه القدرة .ولن�أخذ الغ�ضب كمثال من الم�شاعر ال�شائعة التي تكدر
وتدمر وتف�سد .فالغ�ضب �شعور نا�شيء من �إدراك تلقائي بتهديد على
الذات وما يهم الذات :حياتها ،كرامتها ،م�صالحها ...ولأن الغ�ضب
يتعلق بالإدراك التلقائي ف�إن موقف ًا م�شترك ًا قد يثير غ�ضب ًا لدى �أحد وال
67
عبداهلل حميد الدين
يثيره لدى �آخر لمجرد �أنهما يختلفان في الربط التلقائي بين الموقف
وبين التهديد .بعد ال�شعور بالغ�ضب نجد �أن البع�ض ممن يغ�ضب ينفعل
ب�صراخ والبع�ض ينفعل بكالم والبع�ض ي�صمت ويكتم والبع�ض يتعدى
بيده .الكل غا�ضب ولكن هناك تفاوت في االنفعاالت .القدرة على �إدارة
الإدراكات التلقائية ت�ضبط م�شاعر الغ�ضب ،ثم �إن القدرة على �إدارة
االنفعاالت ت�ضبط االنفعاالت بعد ظهور م�شاعر الغ�ضب والفل�سفة
لن تح�سن ب�شكل مبا�شر � ٍّأي من القدرتين .ونرى حولنا بل وفينا من
يملك �أرقى الفل�سفات تفا�ؤ ًال حول الحياة ولكن يعي�ش �أتع�س ممن يملك
فل�سفة �أ�ش َّد ت�شا�ؤمية لمجرد �أن الأول ال يملك قدرات �إدارة الم�شاعر
واالنفعاالت في حين �أن الثاني يملك ذلك .الأول لن ي�ستطيع �أن يعي�ش
وفق فل�سفته ال�سامية لأنه م�شغول باالنفعاالت التي ت�أتيه يومي ًا من هنا
وهناك .م�شغول بغ�ضبه وحزنه وتقلبات مزاجه وال ي�ستطيع تجاوزها.
يعي�ش وفق متطلباتها وك�أنه ال يملك فكر ًا وال يملك ر�ؤية حول الحياة.
فل�سفته في جانب وم�شاعره في جانب �آخر .وهو م�شغول بها لأنه ـ مثلنا
كلنا ـ لم ي� ِأت �إلى الفل�سفة �إال بعد �أن اكتمل تكوينه ال�شعوري ون�ضجت
بتباين بين
ٍ ق��درات �إدارت��ه النفعاالته .ولذلك فمن الطبيعي �أن نبد�أ
الفل�سفة والم�شاعر .والنموذجي �أن نطور فل�سفتنا من خالل ت�أملنا
وتجربتنا ،وفي الوقت نف�سه نقوم بتحليل �آليات عمل م�شاعرنا والتي تم
ت�شكيلها منذ طفولتنا المبكرة والتي ال تتغير �إال بعد ممار�سة جهد بالغ.
ولنعد �إلى الغ�ضب� :إننا نتعلم ما هو تهديد في طفولتنا لدرجة �أن كلمة
68
الكينونة المتناغمة
م�ستفزة وم�ستنفرة .في كل الأح��وال هذه الإ�شارة فقط �أردت بها �أن
�أعيدنا �إلى ما قلته في البدء من عالقة الأح��وال النف�سية بالتفكير.
�أعظم الفال�سفة قد يكون اكثر النا�س اكتئاب ًا .بل القر�آن يحكي لنا
ق�صة اكتئاب النبي يعقوب مقدما نموذج ًا مهم ًا ل�شخ�ص مت�صل باهلل
�أعلى درجات االت�صال الب�شري ،ومع ذلك ي�صاب باالكتئاب لفقدان
ابنه .الم�سالة �أكثر تعقيد ًا مما نت�صور �أو يحاول البع�ض �أن ي�صور.
70
حول فل�سفات ال�سعادة
هناك من لديه ح�سا�سية من كلمة «�سعادة» .ينظرون �إليها بنوع
من الريبة� .أمر ينتمي لعالم الخيال وال يتحدث به �إال من يريد �أن يبيع
الأوهام للنا�س .البع�ض يرى �أنها �أ�ستهلكت لدرجة �أنها فقدت معناها.
ا�ستهلكت عبر �أكثر من �ألفين �سنة من اال�ستعمال .هناك من يرى �أنها
ال تعبر بما فيه الكفاية .وهناك من يرى �أنها م�ستوردة من �سياق ثقافي
غير ديني وبالتالي يرتاب من �إيحاءاتها .هنا �أ�ستخدمها بمعنى وا�سع
جد ًا لت�شير �إلى الحاالت المرغوبة لدينا .ف�إذا لم تكن تعجبك الكلمة
فيمكنك ا�ستخدام غيرها مما يقوم بالأمر نف�سه بالن�سبة لك �شخ�صي ًا.
ربما تف�ضل الر�ضا� ،أو النجاح� ،أو الهناء� .أي�� ًا كان المهم الحاالت
التي ت�شير �إليها و�أظن �أن الكثير هنا �سيتفق على �أنها حاالت نرغبها
جميع ًا .الحب ،الفرح ،االنجاز ،الحرية ،الإلهام ،المتعة ،ال�سالم،
الر�ضا ،القدرة ،الأمل ،الإ�شباع ،الراحةَ .منْ منا ال يريد هذه ،كلها �أو
بع�ضها؟ قد نختلف في �أهمية بع�ضها ولكن ال �أظن �أننا �سنختلف في
�أنها كلها مهمة .وفي مقابل هذه الحاالت هناك �أمور �أو حاالت وم�شاعر
ال نريدها ،وهي تعكر �صفونا من نحو :ال�شك ،الملل ،الحقد ،الغ�ضب،
71
عبداهلل حميد الدين
واختيار ًا وفع ًال ،بل اكت�شفنا اليوم �أننا ذرة ت�سبح في مجرة ،بل �أقل
من الذرة ...وكل ت�أمل في حالتنا رافقتها محاولة للإجابة على �أ�سئلة
ال�سعادة .من نحو :ما هي؟ وكيف يمكن الو�صول �إليها؟ وهل ال�سعادة
لحظة؟ �أو حالة؟ وهل يمكن وج��ود حياة �سعيدة؟ ولو تحقق لأحدنا
الأم��ن ،والكفاية ،والعافية ،والحب ،وال�شعور باالنجاز؛ هل �سي�شعر
بال�سعادة؟ وهل �ستدوم له تلك الم�شاعر؟ هل �ستزول عنه م�شاعر
التعا�سة؟ �إلخ من الأ�سئلة والتي �سبق �أن ذكرت بع�ضها.
وقد تنوعت الأجوبة بدرجة جعلت البع�ض ي�شعر �أن��ه ال يوجد
�إجابة لها� .أو �أن ال�سعادة هدف متحول .بع�ض الإجابات نجحت في
التحول �إلى ثقافة متوارثة تتجلى في الأمثلة ال�شائعة مثل تلك التي ترفع
من �ش�أن القناعة �أو المحبة �أو الأخ�لاق والقيم .والبع�ض منا يكتفي
بها لير�شد حياته ويعي�ش هني ًا .بع�ض الإجابات �أ�صبح فل�سفة نا�ضجة
ومتطورة كما نجد في فل�سفات �أفالطون و�أر�سطو وابن م�سكويه والغزالي
وكا ْنت وبنتثام وغيرهم من الفال�سفة ال�شرقيين والغربيين الذين كتبوا
في ال�سعادة وبطريقة توحي �أنهم �أ�صحاب م�شروع فكري متوا�صل �أكثر
من كونهم حاالت منف�صلة زمان ًا �أو مكان ًا .بع�ض الإجابات تطور �إلى
مناهج حياة �شاملة كما نجد في الأديان ال�سماوية وغير ال�سماوية �أو
الفل�سفات التي تطورت �إلى مناهج للحياة مثل البوذية �أو الكنفو�شية.
وبع�ض الإجابات لم تتجاوز ال�صفحات التي كتبت فيها �أو اللقاءات التي
�شوركت فيها .والأمر لم يتوقف �إلى اليوم .فال زالت الأجوبة تتوالى ،وال
73
عبداهلل حميد الدين
زال النا�س في جدل وجذب حول هذا المو�ضوع .وربما ب�شكل �أكثر مما
�سبق و�أي�ض ًا ربما بحدة �أ�شد .فمع الإعالم المعا�صر ،ومع االحتكاك
المكثف بين ال�شعوب في العالم برز التفاوت الهائل بين النا�س ،وظهر
�إلى �أي حد هناك من يعي�ش في �أو�ضاع نكدة ،و�صار �س�ؤال ال�سعادة
ق�ضية �سيا�سية واقت�صادية ولي�س فقط ق�ضية كمالية.
ولكن بين كل ذلك التنوع �سنجد �أن �أغلب الب�شرية اتفقت على
وجود حالة مرغوبة ا�سمها «�سعادة»� .أقول «�أغلب» لأن هناك من يقول �إن
ال�سعادة و�أخواتها َو ْهم غير موجود .ومن يقول هذا يطلب منا مراجعة
حياتنا وحياة غيرنا ليقول لنا �إن الحياة ما هي �إال �سل�سلة من اللحظات
الأليمة تتخللها �أوقات هادئة .وال�سعادة ما هي �إال تكثيف الهدوء ولكن
لي�س الو�صول �إلى �شيء محدد .ومن يدري .ربما هذا ال�صواب!
�إ�ضافة �إل��ى التفاوت في التعامل مع ال�سعادة يبدو �أن هناك
ق�ضايا مركزية �شغلت �أغلب من تناولها هي:
اللذة وال�سعادة :بع�ض من يتحدث في الأولى :التفريق بين َّ
ال�سعادة ُيم ِّيز بين الحاالت الإيجابية التي ن�شعر بها ب�سبب امتالك
�أمر لم نكن نملكه ،مثل امتالك :المال� ،أو ال�شهرة� ،أو الحبيب� ،أو
الأوالد مقابل الحاالت الإيجابية التي م�صدرها الإن�سان نف�سه :مث ًال
طريقة تفكيره عن الحياة وعن ما لديه .في�سمي الأولى َّلذات في حين
ي�سمي الثانية �سعادة .وال�سبب لو�ضع هذا التمييز هو لفت االنتباه �إلى
�أن ال�سعادة التي ت�أتي من الداخل ال حدود لها� .أي�ض ًا ربما و�ضع هذا
74
الكينونة المتناغمة
التق�سيم لتف�سير واقع �أغلب الب�شر الذين ال يملكون �شيئ ًا محرز ًا ومع
ذلك يعي�شون حاالت يمكن اعتبارها �سعيدة.
ه��ذا التق�سيم ي��راع��ي ال��ف��رق بين ال��ح��االت المرغوبة الآنية
والحاالت المرغوبة المتوا�صلة .فكثير ًا ما نخلق حاالت مرغوبة من
خالل �أعمال محددة ولكنها حاالت �آنية ال تدوم ،وم�صادر خلقها �أي�ض ًا
ال تدوم ،بل وت�أثير تلك الم�صادر في خلق تلك الحاالت ال يدوم .مث ًال
اللذة من طعم تفاحة ال ت��دوم �أكثر من اللحظات الأول��ى .والتفاحة
نف�سها ال تدوم .ولكن �أي�ض ًا من اعتاد على طعام معين ف�إن ا�ستمتاعه
به ال يدوم �أي�ض ًا ،فالتفاحة رقم 1000لن يكون طعمها �أو اللذة من
�أكلها مثل التفاحة الأولى .وهذا ين�سحب على �أغلب اللذات الح�سية.
ومن يميز بين اللذة وال�سعادة يبحث عن تلك الحالة التي ال تزول ،وعن
م�صدرها الذي يدوم.
و�ضمن البحث عن ال�سعادة من داخل الذات ين�ش�أ ال�س�ؤال كيف
يكون ذلك؟ هل يكون من خالل امتالك ر�ؤية ما عن الحياة؟ �أو من
خالل ا�ستك�شاف كوامن في النف�س و�إبرازها؟ �أو من خالل ا�ستك�شاف
الذات الأ�صيلة فينا وتحقيقها؟ �أو االن�سجام معها؟
في المقابل هناك من يرى �أن البحث عن تلك الحالة هو من
البحث عن المعدوم ،فنحن ال نملك �إال الحاالت الآنية التي نخلقها في
�أنف�سنا ،وعلينا �أن ال ن�ض ِّيع �أوقاتنا في البحث عما �سواها .وال�سعادة
وفق هذه الت�صور الناقد هي م�سيرة متوا�صلة �أو قفز متوا�صل بين
75
عبداهلل حميد الدين
لحظة و�أخرى .و�أنه ال يوجد �شيء ا�سمه ذات .فال ذات �إال تلك الذات
التي ن�صنعها .ال كامن فينا .نحن فينا ا�ستعدادات لي�س �إال .وبالتالي
فال معنى للحديث عن الإن�سجام مع ال��ذات .ف���إذا كان هناك �شكل
م�سبق لنا فيمكن �أن نتحدث عن الر�سم وفقها .ولكن �إذا لم يكن هناك
�شكل �سابق فال خيار للمرء �إال الر�سم من الخيال. .
ويبقى هناك من ال يهتم بهذا الجدل ولكن في الوقت نف�سه
يدفع بر�ؤيته �صامت ًا .وهذا هو جهاز الت�سويق واال�ستهالك .حيث �صار
اال�ستهالك وال�سعادة مقترنين بقوة .ف�أنت تكون �أنت بقدر ما ت�ستهلك.
وبقدر ما تجدد ا�ستهالكك.
اللذة الم�ؤقتة مقابل اللذة الدائمة :هذه �إحدى الثانيةَّ :
الق�ضايا الأخرى التي �شغلت فكر وعاطفة كل من ت�أمل في �أمر ال�سعادة
�أو طلبها .ولي�س منا �أحد �إال وقد واجه هذا الأمر .فعندما نقرر القيام
نربي �أو نن�صح غيرنا� ،أو عندما تواجهنا مغريات،ب�أمر ما� ،أو عندما ِّ
في كل هذه الحاالت يطر�أ ال�س�ؤال« :الآن؟» و�إن كان هناك احتمال
ذهاب الـ»ما بعد؟» اللذة الآنية مقابل اللذة الم�ؤجلة؟ هل نعمل كل ما
نريده ونرغبه فور توفره؟ هل نفكر في اال�ستمتاع باللذات حال توفرها؟
�أم نح�سب حال اللحظات التي لم ت�أت؟ هل نعي�ش اللحظة مطلق ًا؟ �أم
نعي�شها بطريقة ال ت�ؤثر على اللحظات التالية؟ وكم ع�شنا هذه اللحظة
عندما نوازن بين متطلبات الدرا�سة والعمل �أو متطلبات الراحة واللعب
والدعة .ولكن الم�س�ألة �أعم من هذا .فنوع الأكل الذي ن�أكله يندرج
76
الكينونة المتناغمة
تحت هذا .نمط الحياة البيئية التي نعي�شها .بل حتى حياة اليوم مقابل
حياة ما بعد الموت بالن�سبة .ولي�س ل�س�ؤال «الآن �أو غد ًا؟» �إجابة واحدة.
�أحيان ًا الحكمة �أو ال�سعادة في الت�أجيل ،و�أحيان ًا في التعجيل .ثم هناك
لذات ت�ستحق التعجيل ولو على ح�ساب خ�سارات م�ستقبلية .و�أحيان ًا
توجد لذات ت�ستحق الحرمان الآني مقابل الح�صول عليها م�ستقب ًال.
و�أحيان ًا توجد لذات ي�ستحق من �أجلها �أثمان كبيرة .والوحيد الذي
يمكنه اتخاذ هذا القرار وو�ضع المعادلة المالئمة لهذا هو ال�شخ�ص
في اللحظة التي يواجه ال�س�ؤال.
الثالثة� :سعادة الفرد من �إ�سعاد الآخرين :محور �آخر من محاور
�أبحاث ال�سعادة هي العالقة بين �إ�سعاد الغير وبين �سعادتي ال�شخ�صية.
تجربة �أغلبنا ال�شخ�صية وم�شاهداتنا ال�شخ�صية تخبرنا ب�أننا نميل نحو
منح غيرنا �سعادة �أو لذة .و�أن حياتنا لي�ست فقط تراكم جهد لإ�سعاد
�أنف�سنا فح�سب .فمن منا لم يمار�س ت�ضحية وعطاء ًا و�إيثار ًا �سواء في
�أمور كبرى �أو �صغرى .من منا لم يعطي ريا ًال واحد ًا بال توقع �أي مقابل؟
والريال والمليون هنا �سي�ستويان �إذا كانا عطاء بال مقابل ظاهر .ومع �أنه
قد يبدو للوهلة الأولى �أن الأمر له عالقة بالكمية فقط ولكن ب�شكل �أعمق
هو متعلق بحالة �أن �أعطي غيري بال مقابل .وكلنا يقوم بهذا دائم ًا .من
مال �أو وقت �أو جهدِ .ل َم �أق�ضي ولو دقيقة في اال�ستماع لم�شكلة �شخ�ص
ال عالقة لي به؟ لماذا �أ�ضيع دقيقة من عمري معه؟ ولكننا نقوم بهذا.
ثم ن�شعر بالر�ضا من هذا الفعل .ثم كلنا ي�سمع ويردد ما ُيقال في هذه
77
عبداهلل حميد الدين
ي�ؤمن ب�آخرة وال بعو�ض؟ ه�ؤالء �أي�ض ًا ي�شعرون بالر�ضا من هذا ولي�س
لديهم �أي �إيمان ب�أن هناك عو�ض� .صحيح �أنهم قلة ،ولكن مع ذلك
موجودون .لماذا نرغب في تلك الحالة ال�شعورية التي ت�أتينا من وراء
العطاء و�إن كان ذلك على ح�ساب متعتنا؟ بل لماذا الرحمة؟ التوا�ضع؟
ال�شفقة؟ لماذا �إنكار الذات؟ لماذا ال نكتفي ب�أن نهتم بما يخ�صنا فقط
دون �أي اعتبار للغير؟ لماذا ننظر �إلى �صورة طفل في الأخبار ،ونحن ال
نعرفه ولن نعرفه ومع ذلك ن�شفق عليه ونر�سل له تبرع ًا؟
بع�ض المعا�صرين �أراد تب�سيط الأم��ر باعتبارها مجرد تطور
بيولوجي ع�شوائي .بمعنى �آخر ف�إن جيناتنا �أدركت �أن هذه الم�شاعر
�أنفع للبقاء فخلقتها فينا .هل ه��ذا التف�سير ممكن؟ هل الجينات
تتعلم؟ �أم تتغير ع�شوائي ًا؟ �أي ًا كان هذه كلها �أ�سئلة في غاية الأهمية
وفهمها يعيننا على فهم ق�ضية من �أهم ق�ضايا االجتماع الإن�ساني .لأن
الأمر يتعدى ال�سعادة �إلى الأخالق وم�صدر الفعل الأخالقي الإن�ساني.
و�شخ�صي ًا �أرى �أن ه��ذا ال�س�ؤال يفتح لي نافذة مهمة على التكوين
الإن�ساني .بالن�سبة لي ف�إن وجود العطاء المطلق لدى الإن�سان حتى وهو
محدود في قدره يدل على �أن فينا ُبعد �إلهي .و�أننا �أكثر من جينات.
ولهذا الكالم مو�ضع �آخر في البحث.
التفكير في هذه المحاور الثالثة ي�ؤثر على النتائج التي يمكن
الخروج بها من �أي بحث عن ال�سعادة .و�ستجد �أنني اتخذت مواقف
نحو الأ�سئلة في كل محور �شك َّلت ر�ؤيتي للمو�ضوع برمته.
79
عبداهلل حميد الدين
ولو فر�ضنا ذلك ال�شخ�ص و َن َقل المنهج �إلينا ب�شكل كامل فلن
ي�ستطيع كل فرد منا �أن يطبق كل ما هو مطلوب منه .فقد نفهم كل ما
يقال ،ولكن ال يعني هذا اننا �سنطبق كل ما يقال� ،أو �سنربط بكل ما
يقال بتفا�صيل حياتنا .فنحن ال نعقل �أنف�سنا �إال وقد عملت فينا عوامل
متعددة ال دخل لنا فيها .نولد لنجد �أنف�سنا في تقاطع من تقاطعات
هذه الحياة بغير �أن يكون لنا �أي اختيار في ذلك .نجد �أننا ت�ش َّكلنا
بطرق تتواءم مع مناهج حياة وتتناق�ض مع مناهج �أخرى .وهذه كلها
ظروف ت�ؤثر على قدرتنا تطبيق �أي منهج �أو طريقة .فتخيل �شخ�ص ًا
ن�ش�أ على البخل �أو الحر�ص �أو الجبن ،مثل هذا �سيتطلب منه جهود ًا
جبارة ليتجاوز هذه الم�شكلة .ولعله ي�ستهلك �أغلب جهده في �إ�صالح
هذه ال�سمة من حياته .ولو فر�ضنا وجود بع�ض الأفراد الذين �سيطبقون
ف�إن هذا يعني نجاح المنهج على م�ستوى الأفراد ،ولي�س على م�ستوى
المجتمعات .وقد يذكر البع�ض �أمثلة من التاريخ القريب �أو البعيد
لأ�شخا�ص يفتر�ض �أنهم طبقوا المنهج كام ًال وعا�شوا ال�سعادة تمام ًا.
�أنا ا�ست�شكل مثل هذه الأقوال ال ل�شيء �إال لكوننا ال نعرف �إال �أقل القليل
عن حياة �أولئك .وفي القر�آن الكريم لدينا ق�صة ذات داللة عميقة حول
مو�ضوع ال�سعادة والإن�سان الكامل .و�أت�صور �أنه توجد مثل هذه الق�صة
في �أديان �أخرى .فالنبي يعقوب عليه ال�سالم رجل مت�صل باهلل وتام في
�أخالقه و�سلوكه ووعيه وعقله ،ولكنه مع ذلك يمر بتجربة حزن �شديدة
�أ�شبه بما ن�سميه اليوم اكتئاب وذلك ب�سبب فقدانه البنه� .إيمانه باهلل
82
الكينونة المتناغمة
ننظر �إلى التوجهات المختلفة حول ال�سعادة لوجدنا �أنها انطلقت من
اعتبارات متباينة حول الوجود ،والإن�سان ،والمعرفة .وعلى �ضوء تلك
االعتبارات المتعددة اعتنت بجانب دون �آخر� ،أي لم تغطي كل �شيء،
و�إنما اعتبرت �شيئ ًا هو الأ�سا�س والباقي ي�صلح ب�صالحها .مث ًال ،هناك
ما ركز بعمق على الروح ،ومنها ما ح�صر عنايته بالج�سد ،ومنها ما
ركز على الأخ�لاق والأعمال .ومنها ما اهتم بالجميع فكان �شمولي ًا
في �أنه اهتم بالروح والج�سد والأخ�لاق .ولكن لأنه كان �شمولي ًا فهو
ا�ضطر �أن يوزع تركيزه بحيث �أعطى قدر ًا �أقل من العناية لكل منها.
وهذه مع�ضلة .ال يمكن التركيز على كل �شيء ب�أق�صى قدر .ولما تتعدد
الأوليات تختلف الأ�سئلة .فمن يركز على الروح ف�إنه �سيجيب على �أ�سئلة
الروح :م�صدرها ،عالقتها بذلك الم�صدر ،تو�سعها ،منغ�صاتها� ...إلخ
ولن يركز مثال على الأ�سئلة ذات ال�صلة بالج�سد بالقدر نف�سه .بل حتى
�ضمن التركيز على بعد واحد �سنجد �أن لهذا البعد �أبعاد .وال بد من
ترتيب الأولويات �ضمن ذلك .فمن ركز على الج�سد مث ًال� ،سيجد �أن
لذة الطعام ال تتحقق �إال على ح�ساب �أمور �أخرى من ال�صحة ،والمال،
والوقت .وبالتالي ف�إنه م�ضطر لالختيار بين اللذة العاجلة على ح�ساب
العواقب الآجلة �أو العك�س .وال يمكن الجمع بينهما .والقاعدة هي �أنه:
ال يمكن �أق�صى لذة مطلق ًا ب�أقل عواقب مطلق ًا .بل بمجرد ما تدخل
العواقب في المعادلة ف�إن �أق�صى لذة تتقيد تلقائي ًا .بعبارة �أخرى ال
يمكن تحقيق حياة متوازنة بين العاجل والآجل بغير حرمان .و�إ�ضافة
84
الكينونة المتناغمة
�إلى �صعوبة التوزان ف�إن حاجاتنا متطورة ولي�ست قارة .فما كنا بحاجة
�إليه في مرحلة عمرية معينة لي�س هو ما نحن بحاجة �إليه في مرحلة
تالية .والبرنامج المالئم عليه �أن ي�ستوعب هذه التنوعات .وهذا ال
�أت�صور �أنه ممكن.
�أخير ًا� ،إنه في كثير من الحاالت ف�إن طرق ال�سعادة معتمدة على
تجارب �أفراد ولي�ست مجرد اكت�شاف �أو تنظير .والتجارب مهما تكررت
نجاحا ُتها في الما�ضي ومهما كان لها عمق تاريخي ف�إنها تبقى محدودة
فيما َت ِعد به م�ستقب ًال .ف�أن يجد �إن�سان �سعادة في طريقة ما ال تعني �أبد ًا
�أن يجدها �آخر .لأنَّ من المحتمل �أن تكون �سعادة الأول ب�سبب تفاعل
طريقته مع طبيعته ال�شخ�صية �أو مع ظروفه االجتماعية .بل �سعادة
�أحدنا في مرحلة من حياته لها �شروط ومقومات غيرها في مرحلة
�أخرى.
والخال�صة من كل هذا هي :بع�ض البرامج جيدة لبع�ض النا�س
في بع�ض الأوقات لمعالجة بع�ض التحديات ...و�إيجاد التو�أم التام بين
هذه :برنامج = النا�س = �أوقات = تحديات؛ هو من التحديات التي
ي�صعب تجاوزها .ال ي�ستحيل ولكن ي�صعب على عامة النا�س الم�شغولة
ب�أ�سا�سيات حياتها :تعليم وظيفة �أ�سرة �أ�صدقاء �صحة دوائر حكومية...
�إلخ .يعني لو فر�ضنا �شخ�ص ترك العالم وذهب وعا�ش في دير لربما
حقق بع�ض هذه الأم��ور .ولكنه �سيحرم نف�سه �أي�ض ًا من �أمور .وهكذا
فغاية ما يمكن �أن نعمل لأنف�سنا هو �أن نفكر ،و�أن نحاول ،و�أن نبذل
85
عبداهلل حميد الدين
�أو القوة والنفوذ ،بل ه�ؤالء قد يذهبون ويقولون �إن كل م�ساعي الإن�سان
واع نحو ذلك ال�شيء .من الكتابات ما جعلها ما هي �إال �سعي غير ٍ
�إيجاد معنى للحياة وهدف ًا يعمل المرء نحوه ولكن ب�شرط �أن يكون هذا
الهدف متجاوز ًا نف�سه وخ��ارج ذات��ه� .أن يعمل المرء من �أجل ق�ضية
كبيرة �أو �صغيرة .محلية �أو عالمية .ثم هناك من من جعل ال�سعادة
على العك�س من ذلك� ،أي اعتبرها في ال�سعي نحو الال�شيء �أو ال�سعي
نحو الال�سعي ،والتخل�ص من كافة التعلقات ،ومقاومة الذات ولذاتها.
ال�سعادة وفق هذا الر�أي تتحقق �إذا نزع الإن�سان من نف�سه �أي رغبة
لأي �شيء .فم�صدر الحزن وفق هذا الر�أي هو عدم تحقق الرغبات،
ف�إذا تخل�ص الإن�سان من الرغبة تخل�ص من وجود الحزن .وهناك من
اخت�صر الأمر �أكثر وقال �إن ال�سعادة من �أ�صلها م�س�ألة ن�سبية ،وال يمكن
و�ضع قاعدة لها ،وكل فرد منا يجب �أن يبحث عنها في حياته بطرقه
الخا�صة ووفق ظروفه الخا�صة .بل حتى من يرى �أن ال�سعادة وهم ًا و�أن
كل ما هو موجود هي التعا�سة قدم و�صفته الخا�صة .ف�إذا كان كل ما
هناك تعا�سة �أو معاناة فالحل هو التكيف معها و�إدارة الم�شاعر بحيث
ال تنك�سر �أمام تكاثر التعا�سات .مثل هذا ال�شخ�ص �سيهتم ب�أن نطور ما
نملكه من مهارات� ،أو �أن نرعى العافية� ،أو �أن ن�صرف �أقل مما ننتج� ،أو
ن�ستخدم الأدوية �إذا و�صلت التعا�سة مبلغ ًا ال ُيطاق .فالحياة في م�سيرة
قا�س ال تتوقف �إال بالموت.
تكيف متوا�صلة مع واقع ٍ
�أخير ًا هناك من يرى �أن الحزن هو اللذة والمتعة ومنه الإبداع
87
عبداهلل حميد الدين
والحياة واالت�صال مع الذات .قد ال �أقول �إن في الحزن لذة �إال �إذا كنت
�س�أعيد تعريف ما هو لذة �أو �أدخل في جدل ال نهاية له حول تعريف
هذه الكلمة التي ال مو�ضوع لها في الخارج و�إنما هي تجربة ذاتية
وخا�صة لكل واحد منا .يمكن �أن �أفهم كيف �إن الحزن يفتق الإبداع لأنه
م�شاهد .طبع ًا من دون �أن �أعمم .فال �أقول �إن كل حزن يفتق الإبداع مع
كل �أحد� .إذ كما �سمعنا ق�ص�ص الحزينين الذين �أبدعوا ف�إننا لم ن�سمع
ق�ص�ص الع�شرات ممن ماتوا بحزنهم ولي�س لهم �إال الألم والمعاناة لهم
ولمن حولهم �أي�ض ًا من �أزواجهم و�أبنائهم و�أ�سرهم .ويمكن �أن �أقبل �أن
الحزن يقرب الإن�سان من نف�سه وذلك لأن الحزن يذكر الإن�سان بمدى
وحدته الوجودية .فمهما كنت قريب ًا من غيري فال ي�ستطيع �أحد �سواي
�إدراك ما �أنا في من حزن �أو �ألم .ثم �إن الحزن والألم يقلل من انتباه
الإن�سان لما حوله ويلفته �إلى نف�سه ولكن �أقول لي�س لكل النا�س .وفي
النهاية �أت�صور �أن الحزن ينفع البع�ض ،ولكن ال ينفع �إال �إذا كان الحزن
بقدر محتمل .و�إال ف�إنه ي�ؤدي �إلى �شلل ،واحيان ًا �إلى انتحار.
وفي الأخير ف�إني �أذهب �إلى �أن لل�سعادة طرق ًا متعددة للغاية بحيث
ال يمكن ال�سير عليها كلها في هذه الحياة .كما �إنها ال تالئم ظروف كل
واحد ،وال ميوله ،وال مراحله العمرية .ولذلك ما قلته �أو ًال من �أنه مفيد
لكل �أحد �أن ي�صنع لنف�سه نوافذ على الوجود من خالل الت�أمل والتفكير
في ما كتبه وقاله الغير .نوافذ قد ال تحقق �سعادة بالمعنى الدقيق،
ولكنها توفر للإن�سان فر�صة لينظر �إلى الحياة بطريقة مختلفة .نحن
88
الكينونة المتناغمة
كائنات محدودة بحاجة �إلى االنفتاح على العوالم التي نعي�ش فيها،
واالنفتاح على �أو�ضاع غيرنا ،واالت�صال بمعاناتهم و�آالمهم ،والت�أمل في
�أثر �أعمالنا على غيرنا و�أثر غيرنا علينا ،والإقرار بالمحدودية الذاتية
لأنف�سنا ،وبقبول الخط�أ والق�صور فينا .والإق��رار ب�أن بع�ض الق�صور
فينا ال يمكن تجاوزه .و�أنه ال يوجد ما �سيحل م�شاكلنا كاملة .ربما ُتحل
بع�ضها ،ولفترات محدودة.
�إن القراءة في فل�سفات ال�سعادة لي�س من �أجل و�صفات لحل
الم�شاكل �أو لإزالة العقد المتراكمة فينا ،و�إنما لمنحنا مادة نفكر
فيها ،ت�ساعدنا على مقاومة التحديات التي يمكن �أن ت�سقطنا،
وتمنحنا �أفق ًا نتم�سك به �إذا ما وقعنا ،وتخفف معاناتنا الذهنية
والتي ُتعد من �أ�شد �أنواع المعاناة .مادة تثير تفكيرنا حول وجودنا
و�أبعاده المختلفة وحول الوجود الخا�ص بنا :بك وبي .و�أكرر �أني ال
�أهون من �صعوبة الم�سيرة في الحياة .بل الدنيا لن تكون رحلة �سهلة
و�سيتخللها الكثير من ال�صعاب مهما كنا فال�سفة وفقط في الحياة
الأخرى �سنجد راحة مطلقة.
طبع ًا لو توقف الأمر عند تكوين نوافذ لربما ما كان في الأمر �أي
فائدة .فال بد من العمل على تغيير العالم �سواء عالمنا او عالم غيرنا
�إذا �أردنا اال�ستفادة التامة من النوافذ .وقد �أ�شرت او ًال �إلى �أنني ال �أتفق
مع من ي�شدد على انفعاالت النف�س �إزاء العالم ولي�س تغيير العالم .ولعل
�أهم �أ�سباب وجود مثل هذه الفكرة هي الإيمان ب�أن كل ما في العالم
89
عبداهلل حميد الدين
مر�سوم �سلف ًا �أو مكتوب ومقدر ،وبالتالي فما �أمام المرء �إال تغيير رد
فعله عليه .ما وقع و�سيقع ـ وفق هذه النظرة ـ ال بد منه وال يمكن الفرار
منه .الممكن فح�سب هو تغيير رد الفعل نحو ما وقع و�سيقع .ونجد كثير ًا
من كتب ال�سعادة تركز ح�صر ًا على تغيير التفكير لأنها تنطلق من هذا
الت�صور عن النظام الكوني .ولكنني �أنطلق من �أنه ال يوجد �شيء ا�سمه
مكتوب وال مقدر ،و�أن لدي اختيار ًا ،و�أن ما يقع علي لي�س بال�ضرورة
فعل فاعل من الغيب ،وعليه ف�أرى �أرى �أن جزء ًا �أ�سا�سي ًا من ال�سعادة
يقع في تغيير العالم� .إن الأحداث ال�سيئة نتيجة لتخطيط ب�شري �سيء،
ولي�س نتيجة لحكمة عليا ،وبالتالي فال يمكن تحقيق �سعادة فردية �إذا
ما كان العالم يت�صرف وفق نظام خاطيء .والنوافذ التي �أق�صدها هي
فع ًال تغير من انفعاالتي نحو العالم ،ولكن الأهم من هذا تفتح لي �آفاق
وجودية وتر�سم لي �أحالم ًا للمكن من العالم الذي �أريده.
90
الحالة الإن�سانية وال�سعادة
حياتنا = الحالة الإن�سانية × �أفعالنا × �أفعال غيرنا × تقاطع
االختيارات
معادلة حياتية ب�سيطة ومعقدة في �آن واحد .تقوم على فكرة �إن
حياتنا نتيجة تفاعل ثوابت مع متغيرات .الثوابت هي الحالة الإن�سانية
بعنا�صرها المتعددة .المتغيرات هي �أفعالنا االختيارية ،و�أفعال غيرنا
االختيارية فينا ،وتقاطع اختياراتنا مع اختيارات غيرنا .والثابت
الوحيد في هذه المعادلة هو الحالة الإن�سانية .ولكن �إمعان ًا في التعقيد
ف�إن هذا الثابت يكاد يكون متحرك ًا.
�أفعال غيرنا
�س�أبد�أ ب�أفعال غيرنا .فتح�سين حياتنا يتطلب فهم الحالة
الإن�سانية ،ثم تحديد الأفعال التي بتفاعلها مع الحالة الإن�سانية يمكن
�أن نقترب مما نريده� .أحيان ًا يتم اختزال الأفعال في تلك ال�صادرة عن
الفرد نف�سه .ولكن يغيب في هذا االختزال �أفعال غيرنا فينا .والأغلب
�أن يغيب تقاطع االختيارات فال يكاد يتم ذكره مع �أنها ذات ت�أثير بالغ.
91
عبداهلل حميد الدين
في المقابل هناك من يبالغ في ت�أثير �أفعال الغير فيه �إلى درجة �أنه
يلغي ت�أثير فعله .الوالدة تظهر �إلى حد كبير ت�أثير غيرنا فينا .ف�أنا لم
�أوجد �إال نتيجة فعل من غيري .اختيار لزواج و�إنجاب ،ولواله َل َما ُولدت
وال ُكنت .فوجودي بخ�صو�صياته الزمانية والمكانية واالجتماعية من
علي من التربية المنزلية فعل غيري .ثم تتتابع ت�أثيرات الآخرين ّ
�إلى المدر�سة �إلى الجيران والأه��ل والأق��ارب والأ�صدقاء والزمالء
والمناف�سين� ...إلخ .و�أي ت�أمل ب�سيط في حياتنا ُيظهر ت�أثير �آخرين
على حياتنا .وهو ت�أثير ي�صعب الحكم عليه بال�سلب �أو بالإيجاب،
�أو الخير وال�سوء ،لأن كل ت�أثير ،حتى المزعج منها ،يفتح �أبواب ًا
وطرق ًا وال نعرف �أي الطرق كان �سي�ؤدي �إلى واقع �أف�ضل .موظف
�سيء الخلق يعيق معاملتي لاللتحاق في بعثة درا�سية على ح�ساب
الحكومة .هو في ذاته �سيء .ونيته لم تكن ح�سنة .وفعله كان في
منتهى الل�ؤم .ولكن حتى هذا الفعل الذي �ض َّيق لي طريق ًا ربما فتح
طرق ًا �أخرى .مثل البقاء مع الأ�سرة� .إيجاد عمل حيث �أنا موجود.
وربما لم يفتح طرق ًا �أح�سن .بل لعل الطرق التي تلت هي عطالة،
و�ضيق في الفر�ص المعي�شية .وربما فتح طرق ًا �أح�سن ولكن لم �أرها
�أو لم �أبذل الجهد لأراها .ما �أق�صده هو �أ َّننا ال نعرف حقيقة العواقب
للفعل .و�إنما نحكم على الفعل من خالل نية الفاعل الآخر و�أي�ض ًا من
خالل ت�أثير الفعل علينا لحظة وقوعه .والحديث عن �أفعال الآخرين
يمكن تعميمه بحيث ي�شمل فاعلين عاقلين و�أي�ض ًا غير عاقلين.
92
الكينونة المتناغمة
فالأمور الطبيعية ت�ؤثر علينا .مطر ي�ؤخرنا على موعد .زلزالل يق�ضي
على كل ما عمرناه .ح َّمى تقعدني عن متابعة فر�صة حيوية.
وال مفر من طبيعة ت�أثير �أفعال الآخرين علي ،وغاية ما يمكن
العمل �إزائها هو تعميم �أنظمة �أخالقية واجتماعية تقيد تلك الأفعال
بحيث تحد من �صدور بع�ضها ،وتخلق نوع ًا من االن�ضباط في الأفعال
التي ي�صح �أن ت�صدر ،وتوفر لنا حماية �أو رعاية مما ي�صيبنا .فالموظف
الذي يريد �أن ي�سيء لي يمكن تقييد فعله من خالل نظام �شبه محايد
بحيث يقل ت�أثير �شخ�صه علي .نظام يمنعه تمام ًا من القيام ب�أمور،
ويوجب عليه القيام ب�أمور �أخرى ،وي�ضع نطاق لل�صالحيات التي يملكها،
و�أي�ض ًا ي�ضع نظام ردع يعاقبه لما يتجاوز .وهذا ما تقوم به الم�ؤ�س�سات
في المجتمعات المعقدة .تنقل العالقة من كونها بين �شخ�ص و�آخر� ،إلى
عالقة بين فرد و�أنظمة .ومع ما في هذا الأمر من برود في العالقات
الإن�سانية ولكن في الوقت نف�سه توفر حماية وا�ستقرار للتفاعالت
الب�شرية .والمفارقة �أنه الأنظمة نف�سها التي يتم و�ضعها هي نف�سها من
و�ضع �آخرين .القوانين والأنظمة في النهاية مجموعة قواعد و�ضعها
ب�شر ليحكموا �أنف�سهم وليحكموا ب�شر ًا غيرهم� .أما الطبيعة فال يمكن
�إال و�ضع �آليات للتعامل معها ،ولكن لي�س ال�سيطرة عليها .وبالنظر �إلى
ما يحققه العلم قد ال تكون هذه العبارة دقيقة .لعل الأ�صوب القول ب�أنه
ال بد من و�ضع �آليات للتعامل مع ت�أثيراتها والدفع باتجاه طرق �أكثر
تطور ًا في ت�سخيرها وال�سيطرة عليها وتجاوز فعلها.
93
عبداهلل حميد الدين
تقاطع االختيارات
ت�أثير تقاطع االختيارات خفي �إلى حد كبير .ولكن عميق بدرجة
غير مت�صورة .فكل يوم نقوم باختيارات وغيرنا يقوم باختيارات،
وكل يوم تتقاطع بع�ض اختياراتنا مع اختيارات غيرنا في مكان وزمان
ما .التقاطع نف�سه ال يكون مق�صود ًا بال�ضرورة لأي من الفاعلين .مع
ذلك ف�إن �آثار ذلك التقاطع على حياتنا قد تكون كبيرة .بل بالنظر
�إلى الكم الكبير للتقاطعات في حياتنا فيمكن القول ب�أن التقاطعات
المق�صودة تكاد ت�ضمحل بين التقاطعات غير المق�صودة .لذلك
ف�أغلب محطات حياتنا الأ�سا�سية لم تكن مق�صودة بذاتها لأحد و�إن
كانت جميع الخطوات المو�صلة �إليها مق�صودة تمام ًا .الأمر يت�ضح
بمثال مثل الزواج .رجل وامر�أة يت�صادفان في مكان ما .يتحدثان.
ويتطور الأمر �إلى زواج .لنفتر�ض �أن اللقاء ح�صل بينهم في ف�صل
درا�سي في الجامعة� ،أو لنقل في مقهى .لو نظرت �إلى اللقاء الأول
بينهم يمكن ان �أق��ول ب���أن وج��ود الرجل في ذل��ك المكان مق�صود
لذاته .ربما ذهب للقاء �صديق له� ،أو لمجرد اال�سترخاء� ،أو موعد
عمل .في النهاية يمكن القول ب�أنه ق�صد المقهى في ذلك الوقت
تحديد ًا .وكذلك بالن�سبة للمر�أة .يمكن �أن �أقول �إن وجودها �أي�ض ًا
اختيار ومق�صود منها .ذهبت لدرا�سة �أو لقاء �أحد .ولكن لقاءهما،
�أو «تقاطع اختياراتهم» لم يكن مق�صود ًا وال متوقع ًا .وجودهما في
المقهى في ذلك الوقت مع بع�ض لم يكن مق�صود ًا .هذا بخالف
94
الكينونة المتناغمة
لو التقيا بناء على موعد م�سبق ومحدد منهما مع ًا .لقاء عمل �أو
تعارف �أو �أي�� ًا كان .مثل هذه التقاطعات موجودة في كل زاوي��ة من
زوايا حياتنا .و�أغلبها ال ي�ؤدي �إلى �شيء .يومي ًا تتقاطع اختياراتي مع
اختيارات الآخرين ،ولكن التقاطعات التي يتم ا�ستيعابها في حياتي
الفردية قليلة جد ًا� .أحيان ًا ن�سميها �صدفة ولكن �آثرت الحديث عنها
من هذه الزاوية لأنني �أريد �إبراز دور االختيار الواعي فيها.
فمع اعتماد حياتنا ب�شكل كبير على نوع االختيارات التي نقوم
بها �إال �إنها لي�ست العامل الوحيد الذي ي�صنع حياتنا ،وال العامل الوحيد
في الح�صول على �سعادتنا� .إننا وفي �أي لحظة من لحظات حياتنا
واقعون في �شبكة من االختيارات :اختياراتنا لأنف�سنا ،اختيارات غيرنا
لأنف�سنا ،تقاطع اختياراتنا مع اختيارات غيرنا ،وتقاطع اختياراتنا مع
�أحداث طبيعية� .أنا �أريد الذهاب �إلى الحديقة .هذا اختياري� .شخ�ص
يريد �أن يزورني في الوقت نف�سه .هذا اختياره .و�صل �إلي في اللحظة
التي �أريد فيها الخروج .اختياره تقاطع مع اختياري مما �سي�ؤثر علي .لن
يلغي اختياري ولكنه �سي�ؤثر عليه حتم ًا .فهل �أذهب �أم ال؟ ويبد�أ عقلي
يح�سب المكا�سب والخ�سارات من البقاء �أو الذهاب .هل هو ذات �سلطة
�أو م�صلحة بحيث يكون اختياره �أهم من اختياري؟ هل له مكانة لدي
بحيث �أحر�ص على م�شاعره �أكثر من رغبتي؟ قد يكون مجيئه محطة
حياة .ربما �أختار البقاء فيفتح مو�ضوع ًا في غاية النفع لي �أو ي�ؤخرني
عن حادث محتوم كان �سيقع لو ذهبت .وربما �أختار الذهاب ف�أخ�سره
95
عبداهلل حميد الدين
تمام ًا وال �أجده حيث �أحتاجه .وقد يكون مجيئه تقاطع عابر ال �أثر له
بعد تلك اللحظة .وعلى هذا النحو كثير من مواقف حياتنا.
ربما قررت الذهاب ف�أخذت الطريق المعتاد .وجدت زحمة في
الطريق فت�أخرت .الزحمة لي�ست اختيار �أحد .الكل في ال�شارع اختار
الذهاب �إلى مكان ما والكل اختار ال�شارع نف�سه .فالزحمة نتيجة غير
مق�صودة الختيارات مجتمعة .ولكنها نتيجة م�ؤثرة جد ًا .وهكذا كثير
من �أم��ور حياتنا تح�صل علينا و�إن كان ال يق�صدها �أح��د� .أ�صل �إلى
الحديقة و�أم�ضي �إلى مركزها حيث النافورة ف�أجد هناك �شخ�ص ًا ال
�أعرفه� .أنا اخترت وهو اختار وتقاطعت اختياراتنا في مكان وزمان
محددين .هذا حدث ال يمكن اعتباره نتيجة الختياري �أو الختياره،
و�إنما نتيجة غير مق�صودة لنا .ما يح�صل على �ضوء اللقاء هو نتيجة
اختيارنا ب�شكل مبا�شر .فقد �أنظر �إليه فح�سب ،وربما �أكتفي بالتحية،
وقد �أفتح حوار ًا ،وقد نتحول بعدها �إلى �شركاء عمل� ،أو ن�صبح �أعداء ًا.
احتماالت متعددة تعتمد على ما نختاره في اللحظة التالية� .أعود من
الحديقة فتمطر ال�سماء وترعد وتبرق وي�صيبني برق يكاد يق�ضي علي.
�أنا اخترت الذهاب �إلى الحديقة واخترت العودة فما ح�صل لي لي�س
خارج ًا عن نطاق اختياري .فلو لم اختر الطريق والوقت الذي عدت
فيه لما �أ�صابني البرق .نعم �إ�صابتي خارج م�س�ؤوليتي وال يمكن لأحد
�أن يلمني عليها ،ولكن �إ�صابتي مك َّونة من اختياري ولي�ست بعيدة عنه.
وخال�صة الأمر �إننا بقدر ما تقوم االختيارات بت�شكيل حياتنا �إال �أنَّ
96
الكينونة المتناغمة
حال اللقاء �صار هو الأهم .ولو ما �أح�سنت الت�صرف وقتها لربما فاتت
فر�صة مهمة لحياتي .بمعنى �آخر بقدر ما يكون التخطيط مهم ،ف�إن
القدرة على التعامل الفوري مع الموقف بقدر الأهمية .ولكن لالنتباه
لهذا �أهمية �أخرى وهو معرفة ما كان يمكن تجنبه .فكل تقاطع كان
يمكن �أن ال يح�صل .وكونه التقاطع خارج االختيار ال يعني �أن الخطوات
الم�ؤدية �إليه خارجه .ولن�أخذ مثال حادث �سيارة� :سائق يقطع �إ�شارة
حمراء في�صدم رج ًال في ال�شارع .من حيث الم�س�ؤولية واللوم والعتاب
ف�إننا ال نتحدث �إال عن ال�سائق .ولكن من حيث فهم ما ح�صل ،فال بد
من التعامل مع طرفي المعادلة .ال�سائق اختار �أن يقطع اال�شارة ،ولكن
الرجل اختار �أن يقف حيث وقف و�أن يم�شي في تلك اللحظة .فتقاطع
االختياران و�صار ما �صار .وكان اال�صطدام نتيجة غير مق�صودة لأفعال
مق�صودة .ومع �أن اللوم على ال�سائق �إال �أن التجنب على الطرفين .ولعل
�أهم ق�ضية هنا هي �أن لي�س كل فعل فينا نا�شيء من اختيار ،ولي�س كل
�أثر مق�صود تحديد ًا .فالتقاطع لي�س اختيار �أحد .و�أثره لي�س مق�صود ًا
من �أحد .ولما ننظر �إلى الأمر بهذا ال�شكل نوفر على �أنف�سنا الكثير من
اللوم الذي نوزعه هنا وهناك.
طبع ًا يمكن �إثارة مو�ضوع االختيار نف�سه .فهل هو موجود حقيقة؟
�أم �أنه وهم؟ هل �أفعالنا كلها هي �أفعال غيرنا فينا؟ فبع�ض المت�ألهين
يعتبرون �أن الفاعل الحقيقي والوحيد في هذا الوجود هو اهلل وبالتالي
ال معنى للحديث عن �أي فاعل �آخر �سوى اهلل .و�آخرون يرون �أن �أفعالنا
98
الكينونة المتناغمة
�أنني ال �أ�ستطيع �إال التفاعل معها ولي�س الت�أثير عليها .مثل الكون بما
فيه .ثابت مطلق .النظام الفيزيائي الذي يحكم تفاعالت الكون بما في
ذلك الج�سم والدماغ .الجاذبية والقوة المغناطي�سية .هذه كلها ثوابت
ال عالقة بها بوجودنا الإن�ساني وال حتى وجودي الخا�ص .حقائق ووقائع
كانت قبل �أن نكون ،وبعدما كنا ا�ستمرت كما كانت ،و�سنذهب وهي
باقية كما هي .وقائع ال تدرك حتى وجودنا في هذا الكون .غير معنية
بنا .نعلم القليل القليل عن هذه الثوابت ونجهل الأغلب الأعم .والحقائق
الفيزيولوجية والنف�سية الخا�صة م�شمولة بهذه الثوابت .فكون الوعي
الذي �أملكه مقيد بج�سم .كوني ال �أ�ستطيع �أن �أكون خارج هذه الم�ساحة
ال�ضيقة المحدودة مكان ًا وزمان ًا .كوني �أعلم و�أجهل و�أق��در و�أعجز،
و�أجوع و�أ�شبع ،و�أت�ألم و�أ�ستمتع ،و�أحب و�أكره .كل ذلك ثوابت مطلقة.
�أغلب ت�أثير الثوابت المطلقة خارج نطاق وعينا .العلم يحاول �أن
يك�شف عنها فح�سب .ونحن يومي ًا تحت ت�أثير �آالف العوامل التي ال نعرف
�إال القليل منها ،و�أغلبنا يم�ضي حياته جاه ًال بها ومتفاع ًال مع �آثارها
الظاهرة .نعرف �أن ما نلقيه في الهواء �سي�سقط ،ونعطي لهذه الظاهرة
ا�سم ًا هو الجاذبية ،ولكننا نم�ضي في الحياة بغير معرفة الكثير عن هذا
الأمر الذي عليه يقوم توازن الأفالك وا�ستقرار الكون الذي نعلمه ب�أكمله.
ن�أكل ون�شرب ونعلم �أن هناك عملية ما تجري في �أج�سامنا ،ولكن نجهل
�أغلب تفا�صيل هذه العملية ونعي�ش ب�شكل جيد .وغاية ما يقوم به �أغلبنا هو
نر�سم دائرة لما يح�سن �أن نعمله ولما يح�سن تجنبه.
100
الكينونة المتناغمة
قلته بخ�صو�ص المكان والزمان .فغريزة الأب لحماية �أو رعاية �أبنائه
جزء من تركيبنا الدماغي وبالتالي هي ثابت مطلق ،ولكن ال�شكل الذي
تتجلى عليه ثابت ن�سبي .ف�أن �أملك غريزة تدفعني لرعاية وحماية ابني
�شيء ،ولكن �أن نقول �إن هذه الرعاية والحماية واجبة �شيء �آخر .كافة
التوقعات نحو الأب ب�أن يقوم برعاية وحماية �أبنائه لي�س معلق ًا فقط
على غريزته ومحبته .ولذلك نجد بع�ض المجتمعات تلزم الأباء الذين
تخلو عن م�شاعرهم نحو �أبنائهم بتحمل م�س�ؤوليتهم .هذه تتكون من
خالل الأعراف والقوانين وتطور الوعي الإن�ساني والعالقات العاطفية
لديه .وللوهلة الأول��ى قد يظن الأب الذي يقوم بهذا ال��دور ب�أن هذا
الإح�سا�س بالواجب طبيعي .ولد وهو كذلك و�سيموت وهو كذلك.
وبع�ض الثوابت الن�سبية تعتمد في ا�ستمرارها على الوعي الجمعي
ولي�س الفردي� .أي وجودها يمكن �أن يبد�أ بفرد �أو جماعة ،ولكنها بعد
ذلك تت�شكل بحيث ي�صير م�صدر ا�ستمرارها وبالتالي م�صدر تغييرها
الوعي الجمعي .وبقدر �صعوبة تغيير الوعي الجمعي بقدر ما تكون
ثابت .وهذا مثل الأعراف .فتكوينها بد�أ من فرد �أو �أفراد ،ولكنها بعد
ذلك �صارت جزء من الوعي الجمعي لمجتمع ما ،و�صار ا�ستمرارها
غير معتمد على �شخ�ص بعينه .جيل يموت وجيل يلد وت�ستمر الأعراف.
بل هكذا الأنظمة االجتماعية كلها ن�صنعها نحن ،ولكن بعد �صناعتها
ت�ستقل عن الأف��راد فينا .بل تت�صرف وك�أنها م�ستقلة عنا ،ونتحدث
عنها وك�أنه كائن �آخ��ر خ��ارج عنا .مثال نتكلم عن القانون �أو الدين
102
الكينونة المتناغمة
الثابت المحيط بي .فمن يعي�ش في منطقة حارة ي�ستعمل مكيف .داخل
منزله الجو مالئم له .خارج المنزل الجو �سيء .من يعي�ش في مجتمع
�أبوي يمكنه �أن يخلق م�ساحة �شخ�صية له يحمي نف�سه مما يجري من
حوله .م�صدر �إمكانية الت�أثير الم�شروط هو القدرة على �أن نفعل .فنحن
نعي�ش بين ثوابت ولكن فعلنا يبقى في �أيدينا.
وكما لدينا م�ساحة للتعامل مع هذه الثوابت لدينا �أي�ض ًا م�ساحة
للدخول �ضمن ت�أثيرها .فمثال من ينتقل للعي�ش في بيئة حارة و�ضع
نف�سه تحت ت�أثير الثابت المناخي الخا�ص بتلك البيئة .ويمكنه الخروج
باالنتقال �إلى بيئة باردة� .أو يمكنه خلق م�ساحة تحميه من ت�أثير ذلك
الثبات كما نعمل ب�صناعة المكيفات على �سبيل المثال .من يقرر توقيع
عقد مثل عقد زواج �أو عقد تجاري �سيدخل �ضمن نطاق ثوابت �أخرى.
من يعي�ش في مجتمع وتحكمه �أعراف ال يريدها يمكنه يغادره �أو يغيره،
نظري ًا على الأقل باعتبار �أن الخروج �أو التغيير يتعذر لكون كلفته �أعلى
بكثير مما يمكن �أن تحمله.
هذه الثوابت مرتبطة بوجودنا الإن�ساني بقطع النظر عن �أي
عار�ض يعر�ض علينا .فالكبير وال�صغير ،والذكي والبليد ،والرفيع
والو�ضيع ،والما�ضي والحا�ضر ،والغني والفقير ،والذي يفعل وال يفعل،
و�أي �إن�سان في الدنيا بمجرد كونه �إن�سان ًا ف�إن هذه الأمور فيه وحوله.
فعندما �أق��ول الحالة الإن�سانية هذا ما �أق�صد .ومن المهم االلتفات
�إليها لأنها �سياق �أفعالنا التي هي �أو�ضح ما تفكر فيه .فهي ال�سياق الذي
104
الكينونة المتناغمة
تنطلق منه �أفعالنا و�أفعال غيرنا وتقع فيه .ف�أفعالنا جميع ًا ال ت�أتي من
ف��راغ ،كما �إنها ال ت�سقط في ف��راغ� .إنها ت�أتي من �أُنا�س لديهم �شكل
ُم�سبق ،وتقع على �أُنا�س لديهم خ�صائ�ص َق ْبلية .عندما تفعل �أنت فع ًال
ف�أنت فاعل ذو �شخ�صية محددة �سلف ًا ،ولديك ظروف خا�صة ،وتملك
طبيعة من نوع ما .و�صدور الفعل منك �إنما كان وفق ما �أنت عليه ،وت�أثير
الفعل عليك �سيكون �أي�ض ًا وفق ما �أنت عليه ،ووقوعه فعلك على غيرك
�سيعتمد على ما هم عليه .بعبارة �أخرى الفعل ي�صدر منك و�أنت لك
حالة ،ويقع على غيرهم وهم لهم حالة .وكلما �أدركنا نوع العالقة بين
�أفعالنا وبين الحالة الإن�سانية كلما اقتربنا من فهم واقعنا.
لنعد �إلى المعادلة المذكورة �أعاله:
حياتنا = الحالة الإن�سانية × �أفعالنا × �أفعال غيرنا ×
تقاطع االختيارات
الفكرة من المعادلة كانت �أنه لكي نعرف ما علينا عمله و�صو ًال
�إلى حياة �سعيدة �أو هنية فال بد من معرفة الأمور المحيطة ب�أفعالنا.
فحياتنا لي�ست فقط �أعمالنا و�إنما تفاعل �أعمالنا مع غيرها .معرفة
الأم��ور المحيطة ال يجعل الأم��ر �سه ًال ،فقط ي�ضع للتفكير �إط��ارات
مفيدة .مجرد البحث عن االختيار ال�شخ�صي الذي بتفاعله مع تلك
الحالة ي���ؤدي �إلى حياة �سعيدة� ،أو �إح�صاء �أن��واع الأفعال التي يمكن
للغير �أن يقوم بها وي�ؤثر على �سعادتي �سلب ًا �أو �إيجاب ًا� ،أو القيام بهذا
واجتناب ذاك� ،أو تحفيز الم�ؤثرين نحو �أمر وتثبيطهم نحو غيره لأن �أي
105
عبداهلل حميد الدين
و�أي خط�أ �أو تنوع في هذا �سي�ؤدي �إلى خط�أ �أو تنوع مماثلين في تحديد
الفعل الذي �سنختاره .والأم��ر �أ�صعب عندما ن�أتي �إلى ر�سم خريطة
لأنف�سنا .وهذه �صعوبات �أو�صلت البع�ض �إلى �إنكار �إمكانية �أي معرفة.
وال يقف الأمر عند فهم الحالة الإن�سانية بل يتجاوزها لفهم
ما يبدو للوهلة الأولى �أنه وا�ضح .فالقول ب�أنَّ لنا �أفعا ًال لي�س بديهي ًا،
�إذ نجد الكثير ممن ينكر ذلك ويرى �أننا خا�ضعون �إلى �أقدار �إلهية
�أو تفاعالت فيزيولوجية في الدماغ .وبالتالي فال يمكن �أن يكون
للمعادلة معنى �إذا لم يكن الختيارنا معنى .وحتى بين من يرى �أن
للإن�سان فع ًال واختيار ًا فهناك اختالف كبير في ت�شخي�ص مفهوم
تقاطع االختيارات والعواقب غير المق�صودة بين من يقلل �ش�أنها �إلى
الحد الذي ال يرى �أن لها ت�أثير ًا ،وبين من يرفع �ش�أنها بحيث يلغي �أي
فاعلية الختيار الفرد.
تلك �صعوبات على م�ستوى الفهم فح�سب .ثم �إذا تقدمنا �إلى
خطوة �إيجاد المواءمة بين الحالة الإن�سانية وبين الفعل المنا�سب
لإيجاد �سعادة ف�إن الأمر يتعقد �أكثر و�أكثر .و�أما خطوة التطبيق فهي
ق�ضية بحد ذاتها.
تلك التحديات تجعل البحث �أكثر �أهمية� .إننا لن نقترب من
الحل ونحن مبتعدون عن الخو�ض في الم�شكالت .وحتى لو �أخط�أنا،
ف���أن نخطئ ونحن نحاول �أن ن�صنع ال�سعادة لأنف�سنا ،خير من «�أن
ن�صيب» ونحن في مكاننا.
107
عبداهلل حميد الدين
�أنا �أتحرك من فر�ضية �أن معرفة الحالة مهم لتحقيق �شيء من
ال�سعادة لأنف�سنا .وفي ما ي�أتي �س�أحاول تف�صيل الحالة الإن�سانية ،ثم
في الق�سم الذي يليه �أتحدث عن الفعل الموائم الذي به يمكن �أن نحقق
�شيئ ًا من ال�سعادة .ثم اهلل في كل هذا .مع مراعاة �أن كل ما �سبق وما
ي�أتي مبني على �إمكانية معرفة الوجود من حولنا ومعرفة �أنف�سنا .و�إن
كنت �أقر ب�صعوبة هذا الأمر .كما �أرى �أهمية العمل وفق المعادلة �أعاله.
و�أرى �أنه يوجد ثابت �إن�ساني م�شترك بين جميع الب�شر بقطع النظر
عن كافة التنوعات الموجودة بينهم .و�أن لنا �أفعا ًال اختيارية �صادرة
عنا تمام ًا .و�أنَّ بع�ض �أعمالنا لها نتائج غير مق�صودة ،بل ربما �أكثر
�أعمالنا ،ولكن ت�أثير تلك النتائج يتفاوت بتفاوت قدراتنا على �إدارة
المفاج�آت وعلى تنويع اللقاءات غير المق�صودة.
ما هو الفعل؟
النقطة الأخيرة هنا �س�أذكرها عابر ًا على �أهميتها البالغة.
فعندما �أقول الفعل
الأفعال ف�أنا ال �أق�صد الحركات التي نقوم بها .قطع ًا الحركات
جزء من الفعل ،ولكن الفعل �أعم من الحركة .فالحركة نف�سها التي
نقوم بها ونحن نيام قد ال ن�سميها فع ًال لأنها فقدت �أهم عنا�صر الفعل
وهو الق�صد .الم�شي لي�س تحريك الأرجل بالطريقة المنظمة التي تتم
عليها ،بل هو حركة تلك الأرجل بق�صد االنتقال من مكان �إلى �آخر.
108
الكينونة المتناغمة
التلويح باليد قد �أ�سميه تلويح ًا �إذا ق�صدت الإ�شارة �إلى �أحد بعيد .وقد
�أ�سميه ريا�ضة �إذا ق�صدت تمرين الع�ضالت .فالحركة نف�سها ولكن
الفعل اختلف باختالف الق�صد .الحركات المختلفة التي نقوم بها ال
تملك معنى لنا وال لغيرنا �إال من خالل ما وراءه��ا .ونحن ال نتفاعل
في الحقيقة �إال مع المقا�صد ،لي�س مع الحركة ،ولذلك ف�إن كل رد فعل
لنا ي�ضمر تف�سير ًا ما لق�صد ما .عندما �أرى التلويح ف�إني �س�أت�صرف
�إزاءه بح�سب الق�صد الذي �أتوقع �أنه كان مرافق ًا للفعل .ولما �أتحدث
عن الأفعال هنا ف�إني في الواقع �أتحدث عن المقا�صد .لما �أقول الفعل
المطلوب �أعني تحديدا الق�صد المطلوب.
109
عبداهلل حميد الدين
110
عنا�صر الحالة الإن�سانية
الحالة الإن�سانية هي الثابت �سواء المطلق �أم الن�سبي� .س�أحاول
-و�أ�شدد على �س�أحاول -فيما يلي التف�صيل فيها بذكر مكوناتها.
وبطبيعة الحال ف�إن تعقيد الإن�سان وتعدد �أبعاد عالقته بالوجود من
حوله ي�صعب فهم �أي �شيء عن نف�سه �أو عما حوله� .أي�ض ًا الحالة
الإن�سانية ال يمكن اختزالها في عدد محدود من المكونات ،لذا ما
�أذكره يمثل ما �أت�صوره �أهم العنا�صر فح�سب التي �أت�صور �إنها تف�سر
�أهم �أبعاد الحالة الإن�سانية وهي:
�1 .1إننا ِوح��دة متعددة الأبعاد متدرجة الت�أثير والت�أثر في
ذاته وفي الوجود من حوله ولنا ق��درات علمية وعملية
محدودة.
2 .2لنا َّلذات وحاجات وكماالت ذاتية.
3 .3نعي�ش في عالمين :ذهني وخارجي.
هذه الحقائق الثالثة تتفاعل مع ما نفعله بحيث ينتج ال�شكل
الذي تظهر عليه حياتنا.
111
عبداهلل حميد الدين
�أو ًال� :إننا ِوحدة متعددة الأبعاد متدرجة الت�أثير والت�أثر في
ذاته وفي الوجود من حوله ولنا قدرات علمية وعملية محدودة
مبا�شرة بالعالم �أم �أنها تحتاج �إلى و�سيط لذلك؟ وكيف نفهم ت�أثر نظام
العالم الفيزيائي ب�أمر يقع خارجه؟ �أي كيف يمكن لكائن غير فيزيائي �أن
ي�ؤثر على كائن فيزيائي والعك�س؟ كيف يمكن �أن يكون هناك عالقة ت�أثير
وت�أثر بين �أبعادنا الفيزيائية وغير الفيزيائية؟
وما �أهمية مثل هذه الأ�سئلة هى حياتنا الأخالقية؟ و�سلوكنا
اليومي؟
�أ�سئلة مختلفة ومتداخلة حول تكويننا .وكلما فكرت في هذا
المو�ضوع �أو ناق�شته كلما زادت قناعتي با�ستحالة الح�سم فيه .مع
ذلك فال بد من التفكير فيه والخروج بر�ؤية لن تكون �صحيحة ولكن
�سيمكنها �أن تعطينا ر�ؤية عن �أنف�سنا م�ستمدة من الواقع و�إيجابية في
الوقت نف�سه.
ال�سائد ـ على الأقل �ضمن المنظومة الثقافية الدينية ـ �أن الإن�سان
روح في ج�سم .قد نجد بع�ض المتخ�ص�صين �أو الأف��راد من العلماء
من ذوي الآراء الأخ��رى ،ولكن �أغلب النا�س تذهب �إلى �أننا كائن في
�آخر .ولكل منهما طبيعة مختلفة وحاجات مختلفة وخ�صائ�ص مختلفة.
الروح تو�صف ب�أنها كائن غير مادي و�أنها �أ�سمى .والج�سم يو�صف ب�أنه
كائن مادي و�أنه الأقل �سمو ًا �أو �أنه دنيء وترابي .و�أنه �إذا ذهب الج�سم
ف�إن الروح تبقى .في المقابل هناك من يقول �إننا كائن واحد فح�سب.
نحن هذا الج�سم ال غير .وال نملك �إال خ�صائ�ص الأج�سام فح�سب .و�إذا
ذهب الج�سم ذهبنا تمام ًا .وال يوجد دليل على غير هذا الج�سم .لكل
113
عبداهلل حميد الدين
نعلمها .وهذا يعني �أننا ال نعلم الكفاية عما هو غير مادي بقدر ما نعلم
ما ننفيه عنه .غير المادي لي�س كذا وكذا .لي�س له حيز .ال ت�ؤثر فيه
الجاذبية .ال يفنى .فمث ًال الفكرة ال حيز لها .ال تت�أثر بالجاذبية .وال
تفنى مع الوقت .فنقول عنها �إنها غير مادية.
و�أحيان ًا نفرق بين المادي وغير المادي ب�أن الأول ما يدرك ح�س ًا
والثاني ما ال يدرك ح�س ًا� .أو ما يخ�ضع للتجربة مقابل ما ال يخ�ضع لها.
ومع �أن هذا التفريق فيه وجه� ،إال �أنه في النهاية ي�ؤول �إلى التق�سيم
ال�سابق ،لأننا ندرك ح�س ًا ما يخ�ضع للنظام الفيزيائي.
يمكن �أن ي�أتي �أحد ويقول ما معنى عبارة غير خا�ضع للنظام
الفيزيائي؟ �ألي�ست القوانين الفيزيائية هي نف�سها علمنا عن الكون؟
فكيف �إذا يمكن تق�سيم العالم �إلى فيزيائي وغير ذلك؟ ك�أننا نقول
العالم مق�سم �إلى ما نعرفه وما ال نعرفه .ومثل هذه الجملة ال تقدم
الكثير� .أو يقول �أحد ندرك ظواهر ال تخ�ضع للنظام الذي نعرفه ولكن
في الوقت نف�سه ال نعرف الكثير عن تلك الظواهر .هذا الإ�شكال وجيه
ولذلك �س�أحاول ا�ستخدام التق�سيم بحذر.
الم�شاهد وفق ما نعرف ال يملك حرية .كل حركة فيه تقع في �سل�سلة
من الأ�سباب ال�سابقة وهو بدوره يخلق �سل�سلة الأ�سباب التالية .عالم
منفعل وغير خالق .الفعل ال يبد�أ من ال�شيء و�إنما يمر عبره �إذا �صح
التعبير .فالنار مث ًال نتيجة �سل�سلة �أ�سباب .والإحراق كذلك .وال�سقوط
كذلك .والكهرباء .وك�أن هناك حدث �أول ت�صبح كافة الأحداث التالية
تجليات مختلفة له .حدث يتحرك منذ الإنفجار الأول يمر عبر هذه
المظاهر .في مقابل االنفعال هناك الحرية والخلق .هناك حدث ين�ش�أ
من فاعل بغير �أن يكون قبله �سبب �سوى �إرادة الفاعل .فعل لم يتولد
انفعا ًال .ويمكن �أخذ هذا خطوة �إلى الأمام وتق�سيم العالم �إلى واع/غير
واع .الواعي هو القادر على �إدراك ذاته وحاله وغيره .وغير الواعي هو
الذي ال يملك ذلك.
العالم الوعي الحر الخالق هو العالم الذي ال يخ�ضع للقوانين
الفيزيائية .والعالم الأ�صم الم�سبب المنفعل هو ما يخ�ضع لها.
�أبعاد الإن�سان
في الجدل الدائر حول وجود بعد �آخر للإن�سان �أت�صور �أن كل
الأطراف مخطئة في جانب ،بما فيه �أنا .االخت�صار �إلى طبيعة فيزيائية
خط�أ .والقول بطبيعتين مختلفتين خط�أ.
فالطرف الأول لما يخت�صر الإن�سان في الج�سم �أو في البعد
الفيزيائي ف�إنه يعقد �أو يحيل فهم �أمور مثل الوعي وحرية االختيار،
116
الكينونة المتناغمة
�أو يتعامل معها ككليات .الخط ال يوجد في الخارج .ال يوجد �شيء له
بعد واحد فقط كالخط ،وال �سمك له .هو كائن خلقناه .المثلث المربع
النقطة هذه كلها كائنات في العقل ال وجود لها في الواقع الخارجي.
كيف يمكن تف�سيرها فيزيائي ًا.
انتقاد الطرف الأول ال يعني بحال �صوابية الطرف الثاني
القائل ب�أننا كائن في �آخر .روح في ج�سم .ف�إذا قلت �إننا �أكثر من
الج�سم الفيزيائي فح�سب فال يعني هذا �إننا �أ�شياء متعددة .ل�سنا
روح وج�سم ،كل منهما ذات طبيعة مغايرة تمام ًا .هذا تجزيء للواحد
منا والتعامل معه وك�أنه كائن مركب من اجتماع عنا�صر متباينة في
و�سموها ودوافعها وحاجاتها .مخلوقة من �أ�صول مختلفة جوهرها ُ
تمام ًا ،تم و�ضعها مع ًا .الروح هي الأ�سمى والج�سد هو الأدنى .الروح
تميل نحو الخير والجمال والكمال في حين �أن الج�سد يميل نحو
اال�ستهالك واال�ستمتاع .طبائع مختلفة� .أ�صول مختلفة .حاجات
مختلفة� .آثار مختلفة.
هذا الت�صور يحل الإ�شكاالت التي كانت على الت�صور المادي �أو
الفيزيائي ولكن يخلق مع�ضالت �أخرى .الأولى والأهم هو المنظومة
الأخالقية المالئمة .فالأخالق ارتكزت هنا على الموازنة بين حاجات
مختلفة .وربما يقول قائل ،يمكن الحفاظ على الت�صور ال�صارم للثنائية
والتخلي فقط عن الأخالق التي ن�ش�أت عنه والتخلي عن فكرة الأ�صل
ال�سامي والأ�صل الداني .ولهذا الكالم وجه.
118
الكينونة المتناغمة
بين الحقيقة والأثر ال�صادر .ف�إذا كان لدي �آثار مختلفة فهذا يعني �أن
لدي حقائق مختلفة� .أو يعني ب�أن لدي طبائع مختلفة .وبالتالي يمكن �أن
يكون كالم من ي�ؤمن بالثنائية ال�صارمة �صواب ًا .وهذا �إ�شكال حقيقي
وقوي .وال �أعرف كيف �أتعامل معه .م�شكلتي �أنني �أ�شعر بالوحدة في
ذاتي .ف�إذا وجدت «طبائع» متفاوتة فيني فهي موجودة بطريقة ال تنفي
�شعوري بالوحدة .م�شكلة �أخ��رى هي �أن الت�شكيك ب�شعوري بالوحدة
ي�ؤدي �إلى الت�شكيك ب�أي معرفة .ف�أنا ممكن �أن �أخطيء في �أمور كثيرة،
و�أتوهم �أمورا كثيرة� .أرى القريب �صغير ًا ،في حين �أنه كبير� .أتوهم �أن
رجال يم�شي في حين �أنه �ضباب �أو �سراب .ولكن لو ت�أملنا لوجدنا �أن
في هذه العمليات هناك خطوتين .الخطوة الأولى �أن ي�صل �إلى ذهني
�شيء ما ،والثاني �أن �أعرف ما في ذهني� .أنا ال �أخطيء في الثانية.
�أنا ال �أخطئ في معرفة ما في ذهني .الخط�أ �إنما يح�صل في الأولى.
ولذلك ال يمكن �أن �أخطيء �أو �أ�شكك في معرفة ذهني بنف�سه و�إال
�شككت في كل الأم��ور .ال يمكن �أن �أ�شكك ب�شعوري بالوحدة الذاتية.
هذه الم�شكالت تجعلني غير قادر على قبول الثنائية المح�ضة بالرغم
من وجود ما يدعم موقفها .ف�إذا كنا ذات طبائع متعددة فال بد من
التوفيق بين هذا وبين �شعورنا بالوحدة.
وبناء على هذه الوحدة الممتدة هناك وحدة في الوعي وبالتالي
وحدة في الحاجة والمكانة .فكل حاجاتنا المختلفة هي حاجة للذات
الواحد ،ولي�س حاجة لبعد دون �آخر .فالحاجة �إلى الأخالق هي حاجة
121
عبداهلل حميد الدين
لي �أنا ،ولي�ست حاجة لروحي .والحاجة �إلى الطعام هي حاجة لي �أنا
ولي�ست حاجة لج�سدي .وكذلك ال يوجد ما هو �أح�سن وما هو �أ�سو�أ.
فكرة ال�سمو والدنو غير موجودة هنا.
و�أبعادنا المتعددة تتدرج بين ما ن�سميه الروح �إلى ما ن�سميه
الج�سد .و ح��د ٌة ممتد ٌة بين ُبعد غير فيزيائي و �آ خ��ر فيزيائي.
ا ل��روح هنا لي�ست منقطعة عن الج�سد ،وال الج�سد غريب عن
الروح .هما طرفان لأمر واحد ممتد .وهذا االمتداد من خارج
العالم المادي �إلى داخله .فوجود حرية االختيار المطلقة يعني
�أ ن��ن��ي م��و ج��ود خ��ارج ال��ن��ظ��ام ال��م��ادي .ووج���ود ج��زء مني مقيد
بنظام ا ل��م��ادة يعني �أن��ي �أي�ض ًا موجود داخ��ل النظام المادي.
�أنا في العالم الفيزيائي وخارجه .وهذا يجعلني �أتخيلني على
�أنني �شيء ذات بعد واح��د ممتمد من خ��ارج العالم الفيزيائي
�إلى داخله ،متدرج في اال�ستقالل عن العالم وفي الوقت نف�سه
متدرج في الت�أثير عليه والت�أثر به .امتداد مت�صل ك�ضوء يبد�أ
من نقطة المعة وينتهي بنقطة دام�سة.
�أي تق�سيم ل��ه��ذا االم��ت��داد �أو و���ض��ع ح���دود ل��ه ف��ي وج��وده
الممتد �سيكون اعتباطيا ولي�س قائما على وجود نقاط انف�صال
حقيقية .وعندما �أق�سمه ف�إنني �ساقوم بما نقوم به حين نق�سم
�ألوان الطيف .ف�ألون الطيف تبد�أ بلون وتنتهي ب�آخر وبين اللونين
�ألوان ال نهائية .ولكننا نق�سمه �إلى عدد محدود من الألوان بالرغم
122
الكينونة المتناغمة
من وجود الماليين منها ،ونر�سم ح��دود ًا بين لون و�آخ��ر بالرغم
من ع��دم وج��ود ذل��ك الحد في ال��واق��ع .والتق�سيم والحد لأل��وان
الطيف خا�ضعان لثقافاتنا لي�س �إال .فهناك ثقافات تق�سمه �إلى
�سبعة �أو �ستة �أو خم�سة �أل��وان ،وكل ذلك ال ي�ستند في ذلك �إلى
واقع فيزيائي معين �أو �إلى اختالف فيزيولوجي في العين و�إنما
�إلى تنوع ثقافي وح�ضاري يجعل بع�ضنا يلتفت �إلى الفروقات بين
بع�ض الألوان ويجعل غيرنا يهمل تلك الفروقات .وفي الواقع ف�إن
اغلب تق�سيمات ال��وج��ود لدينا هي تق�سيمات ثقافية� .أن��ت الآن
تقر�أ فتق�سم الورقة �إلى م�ساحة بي�ضاء و�أخرى فيها خطوط .ولو
كان هناك خطوط على الورقة لق�سمتها �إلى م�ساحة بي�ضاء وخط
مكتوب وخطوط .ولكن طريقة التق�سيم يقوم بها العقل بناء على
ثقافة ما .لما ي�شترك �أحدنا في موقع ف�إنه ي�أتيه حروف مكتوبة
بطريقة م�شوهة وبين مجموعة من الخطوط .الذي يعرف لغة تلك
الخطوط �سيعرف كيف يميز بين الخرابي�ش وبين الحروف ،ومن
ال ف�إنه �سيراها كلها مع ًا .ولو �أتيت ب�صورة فوتغرافية لمكان غريب
عن ثقافة ما ،ف�إن الم�شاهد لها قد ال ي�ستطيع �أن يميز بين ما في
ال�صورة .لو فيها طاولة وعلى الطاولة هاتف وعلى الطاولة ر�سمة.
ف�إن من يعرف الهاتف �سيراه منف�صال عن الطاولة ومن ال يعرف
الهاتف �سيعتبره لطخة على الطاولة.
وكذلك عندما ننظر �إلى �أنف�سنا نت�صور �أج��زاء ًا فينا ،ون�ضع
123
عبداهلل حميد الدين
منها قريب �إلى الج�سد في الت�أثر .ولكن �أحيانا يح�صل �أن تتعود �إلى
درجة ت�صبح النف�س وك�أنها �شبه ج�سد .هذه الخا�صية تخلق احتمال
عزل روحنا بقطع ال�صلة بينه وبين النف�س .فعالقة الت�أثير من الروح
�إلى النف�س تقوم على المبد�أ ال�سابق ذكره «من ال يت�أثر ال ي�ستطيع
�أن ي�ؤثر تمام ًا ،ومن يت�أثر كلية ال ي�ستطيع �أن يت�صل بمن ال يت�أثر
مطلق ًا».
فالنف�س لكي تت�صل بالروح والج�سد تحتاج �إلى توازن دقيق .من
جهة تحتاج �إلى �أن ال ت�ستقل تمام ًا عن الت�أثير ،ولكن من جهة �أخرى
تحتاج �إلى ال ت�صبح مت�أثرة كلية .فكلما كان هناك تباين في الت�أثير
والت�أثر كلما �ضعفت العالقة بين ال��روح والنف�س .فت�أثير ال��روح غير
المت�أثرة مطلق ًا يعتمد على درجة ا�ستقالل النف�س .وكما �أن الروح ال
ت�ستطيع �أن ت�ؤثر في المادة ب�سبب البعد بين التوافق في اال�ستقالل
والخ�ضوع للأ�سباب ،فكذلك لو ت َّدنى ا�ستقالل النف�س �إلى درجة بحيث
ت�صبح �أقرب �إلى الخ�ضوع ال ِّن�سبي ف�إن ت�أثير الروح فيها ي�ضعف كثير ًا.
معادلة معقدة .فالنف�س من جهة تحتاج �إل��ى �أن تكون م�ستقلة لكي
ت�ستطيع التوا�صل مع الروح ،ولكن في الوقت نف�سه ف�إنها تحتاج �إلى
تكون خا�ضعة لكي يمكنها التوا�صل مع الج�سد .وتحقيق التوازن الذي
ُيعطي للنف�س عالقة متوازنة مع الروح ومع الج�سد هو من المع�ضالت
الإن�سانية.
وتر�سخت عاداتها بحيث ت�صبح �أ�شبه بع�ضو ولو اعتادت النف�س َّ
126
الكينونة المتناغمة
من �أع�ضاء الج�سد ف�إن الروح ت�صبح �شبه معزولة .وعندما يح�صل هذا
ي�صبح �صدور بع�ض الأفعال عنا وك�أنها �أفعال انفعالية غير اختيارية.
لي�س بمعنى �أننا مجبرون عليها ،ذلك �أن اعتياد النف�س ال ي�صل مطلق ًا
�إلى عزل الروح عنها مطلق ًا وبالتالي يبقى االختيار دائم ًا ،فال يمكن
لأي فعل �أن ي�صدر عنا �إال ونحن قادرون على منعه ،كما �إننا على الدوام
قادرون على فعل �أمور ما مهما اعتدنا على خالفها.
وت��ل��ك ال���ع���ادات تت�شكل ل��ع��وام��ل ع��دي��دة �أ���ش��ده��ا ال��ن��ظ��ام
االجتماعي وذلك من خالل و�سائل التربية والقهر والتجارب والتي
�سعت �إلى خلق عادات را�سخة من �أجل �أغرا�ض ال�سيطرة والفاعلية
االنتاجية .والنتيجة كانت عزل ال��روح عن فاعليتها ،لي�س عز ًال
مطلق ًا ذلك �أن الروح ال تفقد فعلها ولكن ي�صبح �أمر فعلها �أ�صعب
ب�سبب �أن النف�س اعتادت على اال�ستجابة الفورية �شبه الآلية بما
ي�شبه اال�ستجابة بين الأ�سباب والم�سببات مما يعيق قدرة الروح
على الت�أثير عليها.
الت�أمل في �سل�سلة الت�أثير والت�أثر بين الروح والنف�س وبين النف�س
وما حولها يعيننا على معالجة ظاهرة االغتراب الروحي الذي يح�صل
حين ي�شعر الفرد فينا �أنه فقد �أغلب دوره الت�أثيري على حياته ،وابتعد
كثير ًا عن تحقيق حاجاته الأعمق .وخير عالج هو ب�أن نقلل من القيود
التي ن�ضعها على �أنف�سنا ،قيود التربية والأعراف والتقاليد ،و�إطالق
النف�س في كل ما ال ي�ضر الغير ،وفي كل ما احتمال �ضرره محدود على
127
عبداهلل حميد الدين
النف�س.
�أما الت�أمل في بعدنا المتدرج في�ؤثر على وعينا ب�أنف�سنا ب�شكل
كبير .فنحن نعي من �أنف�سنا الـ»�أنا الخال�صة» ،م�صدر �شعورنا �أننا في
العالم وخارجه في �آن واحد ،في العالم بما ن�ؤثر فيه ،وخارج العالم بما
ن�ستقل عن ت�أثيره فينا� .أي�ض ًا نعي من �أنف�سنا الـ»�أنا المختلطة» المختلطة
بالم�ؤثرات من حولها� ،أو الأن��ا الخال�صة �إ�ضافة �إل��ى الأن��ا النف�سية
والج�سدية .هي مختلطة لأننا نعي �أنف�سنا و�أج�سادنا من خالل ات�صالها
بغيرها .فنعي النف�س لما تحب �أو تكره ،نعيها بات�صالها بمو�ضوع حبها
�أو كرهها .ونعي الج�سد لما يت�صل بغيره ،نعيه من خالل نقطة االت�صال
الح�سية المبا�شرة للغير .ولذلك فبقدر ما �أت�صل بالعالم ف�إنني في
الحقيقة �أت�صل ب�أبعاد مني �أنا ولكن �أحيان ًا يبتعد الوعي بحيث يكون
كله وعي بالأنا المختلطة ،بل ي�صل �إلى �أن يكون فقط بالعالم وتغيب
الأنا وي�صبح حبي لزوجتي وعي بها ولي�س بي ،وغ�ضبي من خ�صمي
وعي به ولي�س بي ،ولم�سي لطاولة وعي بها ولي�س بيدي ،ور�ؤيتي لفرا�شة
وعي بها ولي�س لعيني ،و�شربي للماء وعي به ولي�س لل�ساني ،و�سماعي
لنغمة وعي بها ولي�س لأذني.
وكما قلت �أو ًال هناك م�شكالت كثيرة يمكن طرحها على هذا
الت�صور� .أقلها �أنه كله افترا�ض قائم على ما ال �أعرف ،ولي�س على ما
�أعرف.
م�شكلة �أخرى هي عالقتنا بالج�سد .فنحن ال نجد �أنف�سنا �إال في
128
الكينونة المتناغمة
�أج�ساد ،ولكن في الوقت نف�سه ممكن �أن يتغير ج�سمنا بغير �أن نتغير
نحن .ينقطع بغير �أن ننق�ص .فما نقول وقتها؟ هل الج�سد جزء من
هذا البعد الممتد؟ فلم ال يتغير وعينا ب�أنف�سنا بتغير ج�سدنا؟ �أمر �آخر
عالقتنا ب�أج�سادنا بعيدة� ،إلى درجة �أنها تعمل من دون عودة �إلينا.
فالقلب والدم والتنف�س هذه كلها ت�شتغل بغير �أن يكون لوعينا �أي دور
فيها .الطبيب ممكن �أن يعرف عن ج�سمي �أكثر مما �أعرفه �أنا .وهو
نف�سه ي�شتغل ج�سمه بغير حاجة �إلى وعيه.
م�شكلة اخ��رى هي ت�شخي�ص مو�ضع الم�شاعر فينا .هل هي
نف�س؟ �أم م��اذا؟ ما هو الحب؟ ما هو الكره؟ ما هو الغ�ضب؟ ما
هو ال�شفقة؟ هذه الم�شكالت تدفعني �أحيانا لترك التق�سيم �أ� ً
صال.
والتعامل مع �أنف�سنا على �أنها وحدة ،ثم محاولة فهم هذه الوحدة
بالطرق المختلفة.
وفي كل الأح��وال ف�أهم ما في الأم��ر هو الحفاظ على عن�صر
ال��وح��دة لأن��ه يقدم حلو ًال حتى �أخالقية .فبمجرد ما �أت��ج��اوز فكرة
التعددية في الذات ،ف�إنني على الأقل �أتعامل مع نف�سي وحاجاتها على
�أنها �شيء واحد .لم يعد مكان هنا للحرب بين الروح والج�سم والنف�س.
لم يعد الحديث عن عن التوازن بين حاجات مختلفة .بل �صار الحديث
عن التوازن بين عواقب مختلفة .وهذا يغير من الذهنية الأخالقية
تمام ًا� .أنا �أريد الخمر ،ولي�س ج�سمي مث ًال .و�صراعي لي�س مع ج�سمي
و�إنما مع عواقب �أفعالي .وبمجرد ما تتحول الأخ�لاق من �صراع مع
129
عبداهلل حميد الدين
ف�إننا نعود �إلى عجز ن�سبي مع وعي عال بعجزنا .وفي �أح�سن �أحوالنا
ف�إن �أج�سامنا تتطلب �أم��ور ًا خارجة عنها لكي تحافظ على بقائها
وتزيد من نموها مثل الطعام وال�شراب والم�سكن .كما �إننا نمر�ض
ونت�ألم ونهرم ونموت .وهذه كلها من مظاهر المحدودية فينا� .أنف�سنا
�ضعيفة في مقابلة الأحزان والتحديات .نحزن ونغ�ضب ونحب ونكره
ونخاف وننفر .وال فرق بين �سبب تافه و�آخر في ت�أثيره على حياتنا.
فل�شدة ه�شا�شة وجودنا ف�إننا قد نتلف من انزالقة �أو من جرثومة
�صغيرة �أو من خط�أ تافه كالتفاتة في غير محلها �أو �سهو �أو غفلة
�أو جهل لأمر ب�سيط .لي�س كذلك فح�سب بل نحن تحت رحمة �آالف
الأ�سباب التي ال نملك ال�سيطرة عليها ،و�آالف الأ�سباب التي ال يمكن
توقعها ،وال يمكن توقع نتيجة تفاعالتها.
ولعل �أخطر مظاهر المحدودية فينا هي �سهولة وقوعنا في مزلة
فعل ال�شر والظلم للآخرين .خ�صو�صا ال�شر والظلم ال��ذي ال يمكن
تجنبهما .بل من �أ�صعب ما نواجه �ضرورة �إيالم البع�ض من �أجل البقاء
�أو من �أجل نفع ذلك المت�ضرر .هل يمكن التربية بغير توبيخ �أو �إيذا
الطفل �أيا كان االيذاء؟ وهل يمكن تحرير نا�س بغير �إيذاء �آخرين؟ وهل
يمكن مواجهة مجرم بغير التحول �إلى مجرم ولكن مجرم م�شروع؟
وهل يمكن معالجة مري�ض نف�سي بغير حجزه؟ وهل يمكن العي�ش بغير
قتل حيوان؟
ثاني ًا :لنا َّ
لذات وكماالت وحاجات ذاتية كما لنا غرائز
131
عبداهلل حميد الدين
غريزة .ويمكن �أن �أ�شبع بغير �أن التذ كما يمكن �أن �آكل بغير جوع .مث ًال
�آكل وانا ا�شاهد فيلم ًا �أو مندمج ًا في حديث بحيث ال �أدري ما �آكل،
ال �ألتذ به .بل عندما ينقطع التركيز و�ألتفت �إلى الأكل �أبد�أ �أنتبه �إلى
لذة الطعام �أو �إلى عدم لذته� .أو �آكل بغير جوع ،لمجرد تجربة طعام
ما ،فالأكل هنا غير غريزي ولكن هناك التذاذ .فااللتذاذ ال يتحقق �إال
بالوعي �أي با�ستح�ضار التفكير في حال الأكل .ولذلك توجد م�سافة بين
بين �إ�شباع الغريزة وبين اللذة ،م�سافة يخلقها الوعي بالفعل.
وقد نجد حدث ًا واحد ًا ذا �أثر مختلف تمام ًا باختالف نوع الوعي
المقارن لها .لم�س عدو له �أثر يختلف عن لم�س حبيب مع �أن الفعل من
جانبه الح�سي واحد �إال �أن ما رافقهما من لذة �أو نفور اختلف باختالف
الوعي.
ول��و ت�أملنا في الغريزة ونظرنا �إليها من غير اعتبار لوعينا
لوجدنا �أن �إ�شباعها ب�شكل كامل لي�س م�شكلة .الم�شكلة في كون اللذة
تابعة للوعي الذي يح ِّول الغريزة الب�سيطة المحدودة بحدود الإ�شباع
المادي �إل��ى �أم��ر معقد محدود بحدود الخيال الإن�ساني .مما يعني
�أن ج��زءا كبيرا من ان�صرافنا نحو �إ�شباع غرائزنا هو في الحقيقة
ان�صراف نحو �إ�شباع وعينا .ولأنَّ قدر ًا كبير ًا من متعتنا يعتمد على نوع
الوعي المرافق للفعل ف�أغلب ان�سياقنا ال�شرهي للذات التي ت�أتي من
الح�س تابع لخيالنا ولي�س لغريزتنا ،لي�س لأمر طبيعي َخ ْلقي فينا و�إنما
لأمر نخلقه .وهذا يعيدني �إلى مو�ضوع الت�سويق الذي ذكرته �أو ًال والذي
134
الكينونة المتناغمة
يلعب على هذا الوتر لخلق حاجات غير موجودة� ،أو لت�ضخيم حاجات
�أخرى .لذلك فما ن�سمعه �أحيان ًا من االن�سياق لل�شهوات �أو للغرائز هو
في الواقع ان�سياق للخيال والوعي .وبالتالي فالعالج لي�س كبت ال�شهوات
�أو �إدارة الغرائز بقدر ما هو معالجة للوعي والخيال.
لذاتنا وكماالتنا
بناء على م�شاهدات �شخ�صية وعلى �أبحاث من �آخرين �أت�صور
�أن ما يلي ي�شمل �أهم اللذات والكماالت الإن�سانية :االرتباط مع موجود
مطلق؛ االرتباط مع الخلود والأبد؛ المعرفة؛ تجل وجودنا في الحياة
بالعطاء والإب��داع؛ ال�شعور بالجمال والتعبير عنه؛ الترابط الب�شري
العام؛ الترابط الب�شري الحميم؛ الممار�سة الأخالقية ،تجل وجودنا
في الحياة بال�سيطرة عليها ،البقاء المطلق ،واللعب .واللذة الأ�سا�سية
والحاجة التي تكاد تكون خلف كل لذة و�أ�سا�س لكل حاجة هي �إثبات
وت�أكيد وزي��ادة وجودنا .وفيما يلي تف�صيل لبع�ض �أبعادها المختلفة
و�سلوكياتها المقترنة مع مالحظة �أنه لي�س الغر�ض تقديم عر�ض علمي
ومف�صل لكل حاجة وب�شكل دقيق .و�إنما �إث��ارة التفكير حولها بحيث
نتقدم في البحث في �أجواء هذا .ولي�س �ضروريا �أن �أ�صيب �أو �أن �أتفق
معكم و�إنما �أن �أثير ،كما ال �أتوقع �إال �أن �أ�شارك في �أفكار ظاهرة وغير
�شاملة وتكتمل �أو ت�صحح من قراءة القارئ:
البقاء المطلق :هذه �أول الحاجات و�أظهرها فينا .ف�أن نحافظ
135
عبداهلل حميد الدين
على وجودنا حاجة �أ�سا�سية ،وخا�صة وجودنا المادي .وفي كثير من
الحاالت تطغى هذه الحاجة على غيرها من الحاجات التي �سي�أتي ذكرها
بحيث ُتخت�صر حياة واحد منا في البحث عن البقاء .ولما تقترن هذه
الحاجة بوعينا لمحدوديتنا وب�إدراكنا لطبيعة العالم الفو�ضوي ف�إنها
تخلق فينا توتر ًا �شديد ًا ،وتبرز فينا نزعات ال�سيطرة ،وتخلق نظام ًا
�أخالقي ًا خا�ص ًا بها .كل هذا بقدر ما ندرك فو�ضوية العالم من حولنا.
فكلما وعينا لمحدوديتنا كلما �شعرنا بعجزنا عن تحقيق هذه ب�شكل
متوا�صل وهذا ي�ؤدي �إلى ال�سعي على اال�ستحواذ ما �أمكن .وال�سيطرة
و�سيلة لهذا اال�ستحواذ .وكلما زاد �إدراكنا للفو�ضى من حولنا زاد قلقنا
�أي�ض ًا لأن الفو�ضى تعيق قدرتنا على التنبوء والتوقع مما يزيد من وعينا
بالعجز العلمي الذي نحن فيه .وعندما ت�شتد نزعات ال�سيطرة ف�إنها
ت�أخذ �شكلين� .أحدها �سعينا ل�سيطرة على غيرنا ،والأخ��رى قبولنا
ل�سيطرة غيرنا علينا لما يمنحه ذلك من ا�ستقرار نحن بحاجة �إليه.
نحن نريد �أن نقدر على التوقع لنقلل من �أثر العلم المحدود ،والنظام
�سبيل �إلى ذلك ،وهو ي�أتي من خالل ال�سيطرة .بل هذه ت�ؤثر على وعينا
بذاتنا بحيث ي�صل الحال �أن ال ندرك من �أنف�سنا �إال حاجة البقاء ونهمل
الحاجات الأخرى .فالوعي يت�شكل ح�سب ما يركز عليه .ومع�ضلة هذه
الحاجة �أنها ال ت�شبع �أبد ًا بل ت�ستمر وت�ستمر وتدفع الإن�سان دفع ًا نحو
ال�سيطرة والتخلي عن حريته .بل تدفع �أي�ض ًا نحو نظام �أخالقي �شر�س
�إلى حين ي�صل يدمر المجتمع نف�سه .لأن الأخالق التي يختارها الإن�سان
136
الكينونة المتناغمة
ب�شيء ال حدود له .والمو�سيقى تقدم هذا كما تقدمها كثير من الفنون
الذي تخلق تلك االيحاءات .ال يعني هذا �أن المطلق موجود .فالحاجة
�إلى �شيء لي�ست دلي ًال على وجود ذلك ال�شيء.
االرتباط مع الخلود والأب��د :هذه اي�ضا حاجة عليها جدل.
فحين �أقول �أنا �إن الأن�سان يحتاج �أن يرتبط بالأبد في المقابل �أجد من
ينفيها تماما ،ويعتبرها حاجة مختلقة من ِقبل الم�ؤ�س�سة الذينية لت�سويغ
ا�ستمرارها لأن �أهم محفز للتدين يكاد يكون �إدارة الحياة بعد الموت.
الدين يكاد يكون الجهاز الذي ي�أتي ليوفر للإن�سان فل�سفة للبقاء بعد
الموت .ولكن �أت�صور �أن الحاجة �أ�صيلة وكون الأديان �أو بع�ضها لعبت بهذه
الحاجة لم�صالحها ال يعني �أنها غير موجودة .بل نكاد ندرك من حالنا
�أننا �أبد ِّيون وال ن�شعر �أن الفناء يمكن �أن يطالنا بالرغم من اليقين ب�أننا
�سنموت ومن م�شاهدة الماليين تموت يومي ًا .نعلم �أن وجودنا عار�ض
غير �ضروري ،ولكن ال ن�شعر �أننا �سنفنى ،ونريد البقاء �إلى ما ال نهاية.
وكلنا ي�����س���أل نف�سه م���اذا ب��ع��د؟ ح��ي��اة �أخ����رى؟ �أم ع���ودة متوا�صلة
�إل��ى ه��ذه ال��ح��ي��اة؟ وكيف �سيكون ال��خ��ل��ود؟ وم��ا ن��وع عالمه؟ وكيف
ي��م��ك��ن االرت���ب���اط ب���ه؟ وال �أن��ف��ي وج����ود ال��ك��ث��ي��ر م��م��ن ال ي��ف��ك��ر في
ال��خ��ل��ود �أو ال��ب��ق��اء ب��ه��ذا ال�شكل ،ول��ك��ن ال ي��وج��د �أو ال ي��ك��اد يوجد
م��ن ال يهمه �أم���ره بعد ال��م��وت� .أو ال ينجذب لفكرة خ��ل��ود ا�سمه.
وتتجلى هذه الحاجة في حياتنا اليومية بطرق مختلفة� .أبرزها �سعينا
للقيام ب�أعمال باقية دائمة �أو البحث عن ال�شهرة؛ �أو �إحياء ذكرى من
138
الكينونة المتناغمة
على م�ستوى وج����ودي� .إذ نعي�ش ف��ي ع��ال��م ق��ائ��م بغيرنا ،وك��ل ما
حولنا م�ستغن وجودي ًا ع َّنا ،حتى الأف��راد من حولنا الذي نظن �أنهم
يعتمدون علينا مثل �أبنائنا هم في الحقيقة م�ستقلون عنا .وكذلك
وج��ودن��ا م�ستقل عما حولنا .و�أق�����ص��د باال�ستقالل ال��وج��ودي ذلك
ال��ذي على م�ستوى �أن �أك��ون �أو ال �أك��ون .ولي�س على م�ستوى الحاجة
لل�شيء .ف�أنا م�ستقل عن هذه الوجبة وجودي ًا .ولكنني بحاجة له من
جهة �أخ��رى .م�ستقل عن ابني وجودي ًا ،ولكنني بحاجة �إليه من جهة
�أخ��رى .من جهة ثانية :ف�إننا ال ن�ستطيع �أو ال نقبل لأنف�سنا �أن نكون
مجرد م�شاهدين في هذا العالم ،بل نحتاج �إلى �أن نكون م�شاركين.
�إذ ًا الأ�شياء م�ستقلة عنا في الوقت الذي نريدها �أن تعتمد علينا� ،أو
�أن ن�شارك في وجودها .والتفاعل بين «�إدراكنا ال�ستقالل ما حولنا»
وبين «�إدراك��ن��ا للحاجة �إل��ى �أن نتفاعل معه» ُين�شئ مجموعة من
التناق�ضات في ال��ذات ،تجعل الإن�سان في �سعي متوا�صل لحلها من
خالل الم�شاركة بالعطاء ال��ذي ُي�ش ِّكل العالم المادي واالجتماعي:
م�شاركة من خ�لال البناء الح�ضاري� ،أو من خ�لال العمل المنتج،
�أو من خ�لال الأع��م��ال التطوعية وغير ذل��ك من الأم���ور التي ن�سعى
م��ن ورائ��ه��ا تحقيق ح��اج��ات الغير وتمكينهم م��ن تحقيق لذاتهم.
وعدم �إ�شباع هذه الحاجة يتجلى على �شكل �أزمة وجودية :ال�شعور ب�أن
وجود المرء ال قيمة له .وهذه ت�ؤدي �إلى م�شاكل نف�سية و�سلوكية متعددة،
منها البحث عن القيمة بطرق وهمية مثل ال�شهرة �أو ال�سيطرة.
141
عبداهلل حميد الدين
نف�سه ليكون مقبو ًال .طبع ًا يمكن �أن يتحول البحث عن القبول �إلى غاية
فيفقد معناه ويتحول �إلى عبء على حرية وخ�صو�صية الفرد .ولكن
حقيقة الحال �أنه ال توجد �سلوك �إال ويحقق م�صلحة ما� ،إما للفرد و�إما
للجماعة والمجتمعات تتطور لما تجد بع�ض �أعمالها ال تحقق �أهدافها.
من ال�سلوكيات الأخ��رى المرتبطة بهذا ال�سلوط هو ال�سعي لإعالء
ال�ش�أن .حيث قد يجد المرء نف�سه في ظروف ال يمكنه التوا�صل مع
الغير والح�صول على قبولهم �إال �إذا كان ذا �ش�أن .و�أحيان ًا نتيه ون�ضيع
ونحن في �سعي متوا�صل لتحقيق �ش�أن ثم ال نجد ما نريد.
ال��ت��راب��ط الب�شري الحميم :ال��ح��اج��ة �إل���ى ت��راب��ط حميم
مع �أ�صدقاء ،زم�لاء� ،أ���س��رة� ،أط��ف��ال ،وزوج ويـجد �أ�صله في �شعور
الإن�����س��ان ب��ال��ح��اج��ة �إل���ى م��ن ُي�� َّك��م��ل��ه و�إل����ى م��ن يكت�شف نف�سه من
خالله .وهناك ط��رق مختلفة للتعبير عن ه��ذه الحاجة بح�سب نوع
ال��ع�لاق��ة والثقافة االجتماعية ال�����س��ائ��دة .منها م��ج��رد المحادثة،
ومنها الم�صافحة �أو المعانقة �أو ال ُقبلة �أو ال��ع�لاق��ة الج�سدية.
وللحاجة �إلى الترابط عموم ًا مع�ضلة �أ�سا�سية �سببها كوننا نعي�ش حالة
انف�صال ذاتية عمن حولنا يرافقها ا�ستقالل ذاتي في فعلنا .فال يوجد
ما يربطنا ببع�ض على الحقيقة �إذ �إنَّ ارتباطنا بالغير ال يوجد �إال في
الذهن ولي�س في الواقع .وال �أق�صد باالنف�صال �أو االت�صال الح�سي منه.
ف�أنا ال �أت�صل بالغير �أو انف�صل عنهم بالم�س .فقد �أكون حا�ضنا ابني
ولكنني مع ذلك في حال انف�صال تام عنه .ف�أنا مث ًال ال �أ�شكل �سبب ًا
143
عبداهلل حميد الدين
نتيجة الفعل خ�سارة محتملة �أو جهد متوقع .الآثار الإيجابية العميقة
للمار�سة الأخالق ت�صل �إلى درجة �أنها تعو�ض لدى البع�ض فقدانهم
الإيمان بالمطلق �أو بالأبد� .أو على الأقل هكذا �أحاول �أن �أف�سر غياب
الحاجة للمطلق والأبد لدى بع�ض الأخالقيين الذين ال ي�ؤمنوا بهما.
والفعل الأخالقي قد ينطلق من الحاجة �إلى نزعة عامة للإح�سان وعدم
الإ�ضرار ،وبالتالي ترجع �إلى حاجة التجلي في الوجود .وقد تنطلق من
النزعة الأخالقية؛ �أي ال�شعور ب�أن ذلك الإح�سان يجب .و�أن��ه ح�سن
لذاته .وقد تعود �إلى الحاجة للحفاظ على تما�سك المجتمع وبالتالي
ترجع �إلى الحاجة للترابط العام .وفي الأغلب ف�إنها تكون خليط ًا من
هذا وذاك .فالفعل الأخالقي مثل �أي فعل متعدد الدوافع والجذور.
فر�ض ال��ذات :ه��ذه من �أعمق الحاجات و�أو�سعها من حيث
التجليات و�أخطرها من حيث العواقب .وهي ت�شبه الحاجة �إلى تجل
وجودنا في الحياة ،بل تكاد تكون وجهها الآخر .الفرق �أن تلك ت�سعى
�أ�سا�س ًا لأن تعطي الوجود ،و�أما هذه فت�سعى بالدرجة الأولى لأن ت�أخذ
من الوجود وتتحكم به .هذه ت�سعى لأن يكون للفرد وجود في العالم
وف��ي حياة الآخ��ري��ن بقطع النظر ع��ن �شكل وطبيعة ه��ذا ال��وج��ود.
وكنت �أت�صور �أنها تكون فيمن ال ي�ستطيع �أن ي�شارك في حياة االخرين
نحو تلك الم�شاركة الإيجابية .وبالتالي كنت افتر�ض �أن��ه ي�ستعي�ض
عن ذلك العجز بال�سعي �إلى ال�سيطرة وامتالك ما يحتاجه الآخرون
بناء على افترا�ض �أن��ه لعجزه عن �أن يكون ذا قيمة ل��دى الآخرين
145
عبداهلل حميد الدين
مهما تو�سعنا في الفر�ض �أننا ال يمكن �أن نكون �أحرار ًا تمام ًا لأننا ال يمكن
�إال �أن نخ�ضع بنحو من الأنحاء لأمر خارج ذواتنا .فكما ال ن�ستطيع فر�ض
�إرادتنا كما ن�شاء ،ف�إننا ال ن�ستطيع التحرر من فر�ض �إرادة الغير علينا.
حياتنا مع ا�ستقاللها الوجودي �إال �إنها بحاجة دائمة �إلى غيرها .قد
تكون حاجة �إلى �إن�سان يعين على الح�صول على طعام� ،أو قد تكون مجرد
الحاجة �إلى الطعام .نحن فينا حاجة ونق�ص ذاتيين ال يجبرهما �شيء
وال يمكن الفرار منهما وال يمكن تخفيف ثقلها علينا .ويمكن القول ب�أننا
ال نعي هذا الأمر وبالتالي ال نت�أثر �سلب ًا .ومرة �أخرى ربما �أحاول هنا كما
�س�أحاول في مواطن كثيرة ر�سم �صورة تخدم الهدف النهائي من البحث.
على فر�ض �صحة هذا ف�إن هذا ال�شعور ي�شتد عندما يكون الخ�ضو ُع خ�ضو َع
أفراد بع�ضهم لبع�ض .عندما ال يكون منا�ص من �أن يتنازل المرء عن � ٍ
فرديته من �أجل البقاء مع غيره .و�أ�شد منه هو الخ�ضوع ل�سلطة .ففيها
لند ،و�شدتها ت�أتي لي�س فقط من التنازل و�إنما من كون الخ�ضوع تنازل ِن ٍّد ٍّ
لمن يريد التعالي .و�أ�سو�أ �أ�شكال هذا التنازل هو الخ�ضوع ل�سلطة جائرة.
لذلك ف�إن ال�سلطات المتوازنة تخفف من �أثر هذا التنازل من خالل
�إعطاء مكا�سب عالية يحتاجها الفرد .فال�سلطة �أيا كان �شكلها مرهقة،
وال بد من وجود منفعة ت�سوغ خ�ضوع طرف لآخر .قد يكون الأمن �أحد
تلك المنافع .وقد تكون فر�ص معي�شية .وقد تكون فر�ص لتجلي الفرد
في المجتمع بطريقة منظمة� ..أيا كان �إن لم ت�ستمر تلك المنفعة ف�إن
ال�سلطة تفقد معناها بالن�سبة للفرد الخا�ضع لها� ،أو ت�ضيع �شرعيتها.
150
الكينونة المتناغمة
والحاجة �إلى الغير ت�ؤثر على نمط تكوين العالقات االجتماعية .ف�أن
تكون في ذات��ك مريد ًا لل�سيطرة ،في حين �أن��ك في ذات��ك محتاج ًا
حاجة لغيرك يخلق تناق�ض ًا داخلي ًا ُيترجم �إلى توتر اجتماعي ما لم
يتم معالجته بوعي .التناق�ض هو لأن ال�سيطرة تتنافى مع الحاجة.
من الأمثلة الجيدة هي الحاجة �إل��ى الجن�س .فالحاجة �إليه حاجة
وعميقة وملحة ،وفي الوقت نف�سه حاجة ال يمكن تلبيتها �إال من خالل
نوع مقابل .وقد �أ َّثر هذا على طريقة المجتمعات في ت�شكيل عالقات ٍ
اجتماعية متوترة بين الذكر والأن��ث��ى �أب��رزه��ا ال�سيطرة الذكورية
ال�سائدة ،و�أي�ض ًا النظر �إلى ال�سيطرة على المر�أة على �أنه انت�صار من
االنت�صارات .وذكرت هذا المثال لأن عمق الحاجة �إليه و�إلحاحها يلعب
�أدوا ًر �أكبر مما نت�صور في ت�شكيل عالقاتنا االجتماعية .ولو ت�أملنا �إلى
اللعبة االجتماعية لفترة كافية لوجدنا كيف �أن هذا الدافع ي�شكل الكثير
من ال�سلوكيات .ت�صرفات مدفوعة بهذا الأمر قد ت�ؤدي في النهاية �إلى
نتائج غير جن�سية تمام ًا ،ولكن مع ذلك ال يمكن التقليل من دور هذا.
من االمثلة الظاهرة هي الح�ضور لبع�ض اللقاءات المختلطة .هناك
دافع جن�سي خفي �أنكرناه �أو اعترفنا به .ولكن ال يعني هذا �أن نتيجة
اللقاء �ستكون لقاء في ال�سرير .فهناك قواعد تحكم اللعبة .ولكن مجرد
الح�ضور قد يفتح �آفاق ًا لم تكن من قبل� .إذا كان اللقاء فكري �أو تجاري
�أو اجتماعي �أو ح�سب...
الحاجة �إل��ى اللعب :ه��ذا �آخ���ر م��ا �أذك���ره ه��ن��ا .فاللعب
151
عبداهلل حميد الدين
ال تزاحم فيه وال تناهي وال محدودية .عالم فيه مجال لحركة حرة
متوا�صلة ال ت�ضاد فيه مع �أحد وال ت�صادم.
العالم الذهني� :إ�ضافة �إلى العالم الخارجي الذي نعي�ش فيه
ف�إننا �أي�ض ًا نعي�ش في عوالم يخلقها ذهننا .والعوالم الذهنية هو نقطة
االت�صال الأ�سا�سية بالعالم الخارجي .فنحن ال نعي�ش فيه مبا�شرة و�إنما
من خالل �إدراكنا الذهني له .هذا الإدراك الذهني قد يكون مطابق ًا
للواقع الموجود ،وقد يكون غير ذلك .والعوالم التي في �أذهاننا ثالثة:
عالم المحيط االجتماعي :نحن نعي�ش بين ب�شر لهم اختيارات
مثلنا ولهم وعي مثلنا .هذا يخلق مجموعة من التوقعات المتبادلة
والقيود على الفعل .ومجموع هذه التوقعات والقيود هي بمثابة عالم
موازٍ تعي�ش فيه اختياراتنا و�أفعالنا ،وقد تكون مطابقة للواقع �أو غير
مطابقة .فقد �أتوقع من النا�س من حولي الخير والحب �أو ال�شر والكره.
وكل مجموعة توقعات �ست�شكل عالم ذهني حول المجتمع الذي �أعي�ش
فيه.
ع��ال��م المحيط ال��رم��زي :نحن نخلق حولنا مجموعة من
االعتبارات والتي تتحول �إلى عالم موازٍ .الأعياد واالحتفاالت وال�شعائر
االجتماعية كلها تخلق عالم خا�ص بها .والأم��ر ال يقت�صر عليها بل
بع�ض ما نظنه حقيقي ًا هو في الحقيقة عالم رمزي .فعالقات الأخوة،
وال��زواج ،والحقوق الملكية هذه كلها ال واقع لها �إال في عالم رمزي
نخلقه ليعيننا على الحياة االجتماعية .و�أ�شبه ما تكون باللعبة التي بها
153
عبداهلل حميد الدين
ف�إذا كنت �أريد �أن �أتحرك في العالم المادي فعلي �أن �أعرف القوى
المادية التي �س�أواجهها .و�إذا �أردت الحركة في العالم االجتماعي فعلي
�أن �أعرف القوى االجتماعية التي ت�ؤثر على قراري وم�صالحي.
ويمكن ت�صنيف �أنواع معرفتنا حول العوالم الثالثة �إلى:
معرفة فاعليتنا و�آث��ار اختيارنا� :أي معرفتنا ب���أن لنا فعل
ومعرفتنا ب�أن لنا اختيار� ،أو عك�سه.
المعرفة ب�أنظمة العوالم الثالثة :معرفتنا بالآليات التي
تحكم كل عالم .فالعالم الطبيعي له نظام �سببي غير ما هو في العالم
االجتماعي وغير ما هو في العالم الرمزي.
المعرفة بحاجاتنا الذاتية الأعمق� :أي المعرفة بالحاجات
التي تم عر�ضها �سالف ًا.
المعرفة بما يهدد بقاءنا ويحقق حاجاتنا� :أي تقييمنا
للم�صادر التي تهدد وج��ودن��ا وب��ق��اءن��ا ،وت���ؤث��ر �سلب ًا على تحقيقنا
لحاجاتنا� .إ�ضافة �إلى معرفتنا لم�صادر و�أ�ساليب تحقيقنا لحاجاتنا.
بالمحد ِّدات� :إدراكنا لما يقيد حركتنا و ُيبطئها� .سواء المعرفة ُ
كانت المحددات ظروف ًا مادية �أو اجتماعية.
المعرفة بمحدوديتنا� :سبقت الإ�شارة �إلى �أن محدوديتنا
من الحالة الإن�سانية ،وطبيعة المعرفة بها ي�سهم في تكون عالم
المعرفة.
المعرفة بالكمال :نحن ال نعلم �أنف�سنا فقط و�إنما نعلم ما يمكن
155
عبداهلل حميد الدين
بذاتها .وقد ن�شعر بحاجاتنا ولكن ال نعرف كيف نحدد متطلباتها .لأنَّ
بع�ض الحاجات ال تعبر عما تريده ،و�إنما تَظهر فينا على �شكل ملل �أو
�إحباط .وغالب ًا ما نترجم الملل �أو الإحباط على �أنها حاجات �أخرى،
ونبقى في حلقة مفرغة من الحاجات الثانوية.
تقاطع عنا�صر الحالة الإن�سانية يخلق كثير ًا من الم�شاعر
ال�سلبية التي ن�شعرها .مث ًال الغيرة هي خليط من ال�شعور بالخوف،
والنق�ص ،والرغبة في ال�سيطرة ،وعمق حاجتنا لمن نغار عليه/عليها.
هذا الخليط ك َّثف الم�شاعر المقترنة بهذا ال�شعور وجعلته كما هو عليه.
ولذلك تختلف الغيرة من �أحد لآخر ح�سب درجة وجود تلك العنا�صر.
وكذلك الأمر لكثير من الم�شاعر التي ن�شعرها� .إنها خليط من الم�شاعر
المفردة وتحليلها وتفكيكها يعيننا على التعامل معها.
158
الكينونة المتناغمة
ما الفعل؟
نحن ذات بعد واح��د متدرج في الت�أثير والت�أثر بالوجود من
حوله ،ونملك قدرات علمية وعملية ،ومحدودون في ذاتنا وفي قدراتنا،
ولنا َّلذات وحاجات وكماالت ذاتية ،نعي�ش في عالمين :ذهني وخارجي.
هذه هي الخطوط العري�ضة للحالة الإن�سانية ،وهي خطوط عري�ضة
اخت�ص َرت الكثير الكثير .والتحدي التالي هو تحديد الفعل الذي
يتفاعل مع هذه الحالة بحيث ينتج حالة ال�سعادة التي نريدها .وهذا
التحديد في غاية ال�صعوبة �إذ ذلك الفعل يجب �أن يجمع بين مجموعة
من ال�سمات:
يحيي فينا اال�ستقالل المطلق :هذا اال�ستقالل هو من مقومات
جوهر �إن�سانيتنا ،وبالتالي ف�أي فعل يجب �أن يبقي هذا الحانب حي ًا.
يلتفت �إلى اللذات والحاجات التي ال ُتبرز نف�سها بو�ضوح :فهناك
لذات وحاجات ُتظهر نف�سها على �شكل �ضيق �أو �شعور بالخواء ونحو
ذلك من حاالت االنزعاج النف�سي؛ فتُعلن عن وجودها ولكن ال ت�شير
�إلى مطلبها .وهناك حاجات تظهر على �شكل انفعاالت ج�سدية معلن ًة
عن وجودها وم�شيرة �إلى مطلبها بو�ضوح .حاجات �صامتة ،و�أخرى
159
عبداهلل حميد الدين
ناطقة .الفعل الذي يتم اختياره يجب �أن يعرف كيف يقر�أ ال�صمت
بقدر ما ي�سمع النطق.
يكون في نطاق �أهم ما ي�ؤثر علينا :فنحن لن ن�ستطيع �أن نعمل
كل ما نريد فعله ،وبالتالي يجب �أن نحدد �أم��ر ًا �أ�سا�سي ًا ن�سعى �إليه
ومجموعة من الأمور الفرعية.
يراعي الخ�صو�صيات الفردية :فال ن�ستطيع �أن نغفل عن حقيقة
اختالفاتنا والتي ت�ؤثر على تقييمنا لما هو مهم و ُم ْر�ضي لنا .اختالفات
تعود �إلى الطبيعة� ،أو التربية� ،أو المرحلة ال ُعمرية� ،أو الظروف الآنية.
على �سبيل المثال قد يكون �أحدنا �أكثر مي ًال �إلى التعلقات الأ�سرية في
حين �آخر يميل �إلى الأمور المعرفية.
يتوافق مع المعرفة التي التي نملكها عن العالم :فمن يرى �أن
م�صيره هو نتيجة لأعماله واختياراته �سيفعل �أفعا ًال تختلف عن ذلك
الذي يرى �أن م�صيره مح�سوم �سلف ًا من قوى �أخرى غيبية �أو ظاهرة.
ومن المفارقات هي �أنه يمكن تحقيق بع�ض النجاحات في هذه الحياة
حتى لو ع�شنا وفق ر�ؤية غير �صحيحة عن العالم.
يكون �ضمن حدود قدراتنا العادية ولي�س المميزة :فاقتراح
كر�ست حياتها له� ،أو ملكت �إرادة فعل ال يمكن القيام به �إال من قلة قليلة َّ
متميزة للثبات عليه� ،أو لديها الذكاء العالي للتفكير العميق فيه؛ �إن
اقتراح مثل هذا الفعل لن ينفع �إال �أقل القليل من النا�س .ف�أنا �أرى �أنَّ
ال�سعادة الن�سبية غير مح�صورة بمن لديه قدرات ب�شرية غير عادية.
160
الكينونة المتناغمة
يمكن لأح��د �أن ُيعطي �آخ�� َر و�صفة مف�صلة ،بل ال بد من �أن يجرب
الإن�سان بنف�سه ،فالخيارات متعددة وال ح�صر لها.
�شخ�صي ًا �أرى �ضرورة التركيز على زيادة المرء في وجوده والذي
يتحقق ب�أحد طريقين:
�أن يزيد الإن�سان من وجوده من خالل �إطالق روحه نحو المطلق
والتعلق به ،ومن خالل العي�ش في �أفق الأبد.
�أو من خالل �إطالق �إرادته لتفر�ض وجودها على ما حولها.
الطريق الأول هو النموذجي والمثالي والأكثر �إ�شباع ًا للإن�سان.
لأنه �إطالق في عالم ال حدود له ،عالم ال مناف�س لك فيه ،وال مزاحم،
عالم ال يقف �إال في حدود ما �أنت تقف عليه .ولكن ح�صر الم�سير فيه
غير واقعي بالنظر �إلى طبيعة الب�شر.
الطريق الثاني هو الأكثر �شيوع ًا وهو الأكثر م�سار ًا ،ولكن فيه
قمة التنا�شز مع الآخرين ،و�أي�ض ًا مع الذات .لأن الإرادة ال يمكن �إال و�أن
تتحرك في هذا العالم المحدود ،والحركة الوا�سعة في م�سحة �ضيقة ال
يمكن �إال و�أن تنتج تنا�شز ًا وتنافر ًا وتهار�ش ًا.
و�إذا كان الأول هو المثالي ،والثاني ال بد منه؛ فما الحل؟
الحل هو في �أن ُتطلق الروح في عالمها ،و�أن ُتط َلق الإرادة في
عالمها .ولكن بما �أن �إط�لاق الإرادة ي���ؤدي �إل��ى تنا�شز ،فال بد من
طريقة لتخفيف ذلك التنا�شز .ال بد من حركة للإرادة بطريقة تتناغم
مع حركة الآخرين.
162
الكينونة المتناغمة
163
عبداهلل حميد الدين
الكينونة المتناغمة
الكينونة
الكينونة هي �أن يزيد الإن�سان من وجوده من خالل االنطالق
نحو المطلق والأبد والتعلق به .و�أهم ما يحققها هو الوعي باهلل تعالى،
ولها �آثار على الإن�سان �أهمها �أنها تزيد من ر�ؤية الإن�سان لقيمة نف�سه،
وبالتالي ت�صغير ما حوله من الموجودات التي تتعلق به والتي يتعلق بها.
التوكل على �أنه وجود قوة �أعظم منا �ستحل ق�ضايانا المادية وترعى
م�صالحنا لأن همنا البحث عمن يحل م�شاكلنا المحدودة .و�أما حين
نفهم التوكل على �أن��ه ر�ؤي��ة اهلل قبل وبعد كل �شيء ،فهنا تو�سعت
مداركنا لترى الوجود كله ،و�صارت الأمور �صغيرة بحيث لم تعد ذو
صال .بل ي�صبح التوكل م�صدر قوتنا ووقوفنا �أمام وعينا �ش�أن لنا �أ� ً
بحجمنا في هذا الوجود.
التناغم
ال يمكن للإن�سان بما �أنه مخلوق مادي �أن يكتفي بالكينونة .قد
ي�صح الأمر لأفراد عبر التاريخ ولكن لي�س للغالبية ال�ساحقة من النا�س.
فال بد من حركة بين النا�س وفي العالم المادي.
وللحركة عنا�صر متعددة مثل :اتجاهها ،قوة اندفاعها ،مكانها،
عني ح�صر ًا بعن�صر
بدايتها ،احتكاكها بما حولها� ...إلخ .والتناغم ف َم ٌ
االحتكاك؛ ي�سعى لتخفيف االحتكاك ب�أكثر قدر ممكن ويترك بقية
عنا�صر الحركة للخ�صو�صيات التي يجدها كل فرد في نف�سه .كما
يطمح التناغم �إلى حركة تكاملية بين �أفراد المجتمع ،ولكنه يجعلها
نتيجة تلقائية ولي�س هدف ًا مق�صود ًا بحد ذاته.
وحركة الإن�سان في هذا العالم تح�صل على م�ستويات ثالثة:
حركته في ذات��ه ،وحركته بين الآخ��ري��ن من النا�س ،وحركته في
الطبيعة.
166
الكينونة المتناغمة
168
الكينونة المتناغمة
فلو �أدركنا �أنف�سنا بطريقة تجعلنا ننظر �إلى �أنف�سا بحجم �أكبر
من العالم كله ف�إن هذا يقل�ص حجم ت�أثير العالم فينا .وكلما وجدنا
�أنف�سنا �أكبر كلما كان ت�أثير ما نح�صل عليه من الحياة �أقل.
�أما �إذا وجدنا �أننا ل�سنا فقط �أكبر ،و�إنما �أي�ض ًا «غير» ف�إن
ت�أثير العالم من حولنا �سيكون �شبه معدوم لأننا �سنراه غير ذات
جدوى ابتدا ًء .عندما ندرك �أننا في الأ�سا�س كائن غير مادي ،و�أن
المادة كلها ال يمكن �أن تزيد في مثقالنا ذرة ،فعندها �ستختلف
المعادلة من �أ�صلها.
وكل ما �سبق ال يتحقق �إال من خالل التعلق بالمطلق والذي يفتح
المجال للكينونة.
القدرة على خلق م�ساحات و�آفاق جديدة .ثم ب�أن نقلل من االفترا�ضات
حول توقعات الآخرين .فما �أتوقعه من ردود فعل الغير بمثابة القيود
على الفعل .وكلما قللت من تلك التوقعات كلما و�سعت من م�ساحة الفعل
لي.
الوعي باهلل
�إلى هنا اقترحت الكينونة المتناغمة طريق ًا لل�سعادة .وذكرت
�أنها ال تتحقق بغير االت�صال �أو ا�ستح�ضار اهلل تعالى .ولكن لي�س �أي
معرفة يمكنها �أن ت�سهم في تحقيق التو�سع الوجودي� .أغلب معارفنا
باهلل تعالى تحقق ما يمكن اعتباره ال�ضبط الإرادي .الإله الذي يعاقب
ويثيب .وبالتالي دوره في حياتنا هو في �ضبط �إرادتنا .وما �سي�أتي �إ�شارة
�إلى الخطوط العري�ضة لهذه الق�ضية.
المعارف الأخرى .ومن �أهم ما �أ�شير �إليه هنا هو ت�أثير الواقع النف�سي
واالجتماعي عليها .فنحن ال نعرف اهلل فح�سب و�إنما نك ِّون �صورته لدينا
بح�سب حاجاتنا وم�صالحنا .نحن ال نعرف اهلل من خالل مجال�س
فكرية فل�سفية نظرية .و�إنما من خالل تفاعالت حياتية مختلفة.
الق�ضية الثالثة هي �أن القر�آن الكريم لي�س م�صدر ًا �أ�سا�سي ًا في
معرفة اهلل .بل القر�آن �إلى حد كبير يت�أثر بالمعارف ال�سابقة لدينا
ويتوجه بها� .صحيح �أن بع�ض المعارف ال�سابقة ال يمكن تطبيقها على
القر�آن بغير بع�ض الق�سر ،ولكن طبيعة الن�ص اللغوي وطبيعة الن�ص
القر�آني تحديد ًا يجعل من انتزاع معان مختلفة منه ممكن ًا.
الق�ضية الرابعة هي �أن التجارب ال�شخ�صية ال ي�صح �أي�ض ًا �أن
تكون م�صد ًا للمعرفة الإلهية .بما في ذلك الإلهامات .ولتو�ضيح هذه
النقطة �أحتاج �أن �أ�ضع حد ًا وا�ضح ًا بين التجربة وبين التعبير عنها.
قد �أ�شعر م�شاعر معينة ف�أقول �إنها حب �أو �إنها �إعجاب �أو �إنها تقدير
�أو �إنها �شهوة .تجربة واحدة �أو لأقل حالة واحدة ولها �أكثر من ت�سمية.
التجربة �أو الحالة ال تو�صف ب�أنها �صحيحة �أو مخطئة .هي كما هي.
موجودة .ولكن التو�صيف يمكن القول ب�أنه خط�أ .و�أن��ا و�أن��ت عندما
نقوم بالتو�صيف ف�إننا ن�ستخدم الر�صيد الثقافي واللغوي الذي لدينا.
ولذلك يمكن القول ب�أن التجارب �شخ�صية .ولكن التعبير عنها دائم ًا
اجتماعي .فلو قال �أحد �إنه مر بتجربة ما �أثبتت له �أن اهلل تعالى كذا
وكذا .لقلت له .لديك تجربة .ولديك تو�صيف �أو تعبير عنها .التجربة
175
عبداهلل حميد الدين
يمكن �أن تكون �أي �شيء .ولن �أج��ادل وجودها .و�أم��ا التو�صيف فهو
ي�ستند على الثقافة التي تنتمي �إليها �أو الثقافة التي كونتها لنف�سك.
فيمكن �أن �أناق�ش التعبير .و�أحد الأمثلة الوا�ضحة لذلك هي التجارب
الروحية التي تح�صل خالل الطقو�س ال�صوفية ونحوها .هذه الطقو�س
تخلق تجربة في �أنف�س حا�ضريها .ولكن التعبير عنها �سيتفاوت بتفاوت
الثقافة التي ينتمي �إليها الح�ضور .فلو كانوا �صوفية م�سلمين لقالوا غير
ما �سيقوله �صوفيه م�سيحيين �أو يهود �أو هندو�س .بل �صوفية من ال�شرق
�ستقول غير ما تقوله �صوفية من الغرب.
لكل ذلك �أعود و�أقول �إنه ال منا�ص من الحوار الجمعي والنقا�ش
العام في مو�ضوع معرفة اهلل .ال بد للنقا�ش من �أن ي�ستمد مادته من
الفكر والفل�سفة وعلم الكالم والعلوم االجتماعية ،ولكن ال بد �أي�ض ًا من
�أن يتعامل مع تعاطي النا�س للق�ضية ب�شكل جدي .كما ال بد من التخلي
عن لغة الدليل والحجة واالل���زام واالث��ب��ات ،والتم�سك بلغة الحوار
المفتوح المتوا�صل .ولغة القفزات الإيمانية.
�إن الإي��م��ان ب��اهلل ومعرفة اهلل تعالى ال ت�ؤخذ �إيمان ًا فح�سب
ولكنها �أي�ض ًا ال ت�ؤخذ عق ًال فح�سب .هي ت�ؤخذ من خالل العقل الجمعي
الم�شترك الذي يتم تكوينه من خالل الحوار المتوا�صل والذي يقر ب�أن
قفزة الإيمان في الحقيقة ما هي �إال عودة �إلى ذات مك َّونة .ذات تريد
�أن ت�صدق ما �ألفته �أو ما تحتاجه .و�أن نقبل هذه القفزة الذاتية بعد �أن
نمار�س عمليات تحليلية نقدية جماعية.
176
الكينونة المتناغمة
احت�ضان ال�شك
ه��ذه ق�ضية خام�سة ذات �صلة بمعرفة اهلل تعالى .وه��و �أن
علينا �أن ال نخ�شى من ال�شك .فالمو�ضوع نف�سه يحتمل ال�شك بدرجة
عالية ،ومن لم ي�شك لم يعرف .بمعنى �أن من ظن اليقين دوم ًا هو
في الحقيقة ال يعرف مو�ضوع بحثه .اليقين لي�س ممكن ًا وال مطلب ًا.
المطلوب هو التفكير بمنهجية والحوار ب�إن�صاف والتحلي بتوا�ضع
معرفي .وربما �أ�ضيف التحلي ب�شك منظم ولي�س �شك ع�شوائي .فلكل
�شك نطاق و ولكل �شك مدى .هناك �شك يطال م�سائل دون �أخرى،
فال �أجعل �شكي في ق�ضية ين�سحب على جميع الق�ضايا .كما �إن لكل
�شك م��دى ،فهناك �شك متو�سط وهناك �شك �شديد وهناك �شك
عميق .ال�شك مثل نقطة �سوداء في لوحة جميلة .والمتفكر هو مثل
المت�أمل في لوحة رائعة الجمال .الت�أمل يبرز ما في اللوحة من نقاط
�سوداء هنا وهناك ،ولكنه ال يلغي جمالها ويقلل من روعة ما فيها.
المت�أمل في اللوحة �سيحت�ضن جمال اللوحة بما فيها ،ويقبلها كما
هي بما لها وما عليها ،وهذا غاية القبول .وبمثل ذلك فالتفكر ُيبرز
ق�ضايا ال جواب لها ،ال منطق فيها ،ولكن ال ُيمحي ما في الوجود من
جمال وحكمة وروعة.
177
عبداهلل حميد الدين
يرى اهلل �أ�صل الوجود ويجعل التعريف الوجودي للإن�سان قائم ًا على
افترا�ض وجود اهلل تعالى.
ومن المنا�سب �أن �أ�ؤكد هنا على �أهمية التحلي بالتوا�ضع و�إدراك
محدوديتنا ونحن نتاول هذه الق�ضايا و�أن ن�ؤكد �أهمية المعرفة المنهجية
و���ض��رورة فتح قلوبنا على الآخ��ري��ن بالتراحم والت�سامح والتعاطف
والحب وال�شكر ،وذلك لكي يكون لهذه الق�ضايا م�ساحة في حياتنا وال
تبقى مجرد �أفكار في عقولنا.
لماذا ال�س�ؤال؟
ن�ش�أ ه��ذا ال�س�ؤال ـ ما ذا لم لو يكن اهلل م��وج��ود ًا؟ ـ ب�سبب
�شعو ٍر باالنف�صال عن اهلل تعالى ،و�شعو ٍر بعدم المالءمة �أو الن�شاز.
عدم مالءمة ون�شاز لأمر غير ظاهر .وكان ال�شعور يت�أكد ل َّما �أجد
لدي �أكثر من غيره .وكنت �أ�شعر عندها �أن الجواب الثاني حا�ضر ًا ّ
العالقة الم�صالحية مع اهلل تعالى غير الئقة به و�سطحية للغاية.
غير الئقة لأنني ح َّولت اهلل تعالى �إلى و�سيلة وجعلت ما يعطينيه اهلل
هي المعبود على الحقيقة� :صرت �أعبد المكاف�أة ال اهلل .و�سطحية
لأنني كنت �أ�شعر �أنَّ طبيعة وجودي من المحدودية بحيث �إن الإيمان
باهلل يجب �أن يعيد تعريف نف�سي �أمام نف�سي .فكوني ال �شيء ،وكوني
ات�صلت باهلل تعالى ال بد من يغير من ال �شيئتي .ولكن في العالقة
الم�صالحية ف�إنني �أن��ا وال �أتغير �سواء فقدت اهلل �أم وجدته ،وما
184
الكينونة المتناغمة
الحياة الذي يجب �أن �أعي�شه؛ عن طريقة ال بد منها للو�صول �إلى اهلل.
كنت �أبحث عما هو خارج وكنت �أغفل عن الباحث نف�سه ،عني �أنا .كنت
غاف ًال عن �أن البداية في معادلة �أي عالقة هو المتع ِّلق ،ولي�س المتع َّلق
ب��ه؛ هو الإن�سان ال��ذي يتعلق ب��اهلل ولي�س اهلل تعالى ال��ذي نتعلق به.
و�أخذت �أذهب �إلى �أن الـ «�أنا» هي بداية معرفة �إمكانية االت�صال باهلل.
من �أ�صلها .فمن ال يجد في نف�سه �س�ؤا ًال يتطلب اهلل جواب ًا ال يمكنه
�أن يت�صل باهلل تعالى .وفي المقابل ف�إن من يجد �س�ؤا ًال يتطلب اهلل
جواب ًا ولكنه ال يعرف اهلل بطريقة تجعله جواب ًا �سيبقى في حيرة
و�ضياع وفراغ .قد يعرف اهلل ولكنه ال يعرف منه ما ي�شبع �س�ؤاله .بل
لو ر�أينا اهلل ُمع ِّرف ًا لنا ولكن �شعوري ًا لم نراه مجيب ًا �سنبقى �أي�ض ًا في
حيرة .فالعالقة مع اهلل تعتمد على الموائمة بين ت�صورات الإن�سان
عن نف�سه ،وت�صوراته عن اهلل تعالى ،وقدرة الفرد على الربط بين
الت�صورين .وه��ذا المبد�أ عام في كل العالقات� .إذ �أن �أي عالقة
مع �أي �أحد تعتمد على ت�صوري لنف�سي ،وت�صوري للآخر وت�صوري
للعالقة التي بيني وبنيه.
في درجة الوعي الأول نكون مت�صلين ات�صا ًال مبا�شر ًا وقوي ًا
بالحاجات المادية واالجتماعية التي تفر�ض نف�سها علينا .وال�س�ؤال
الذي ي�أتي هنا هو �أين م�صادر تلك الحاجات؟ وكيف نحمي �أنف�سنا
من هذا الواقع؟ حتى الأعمال الأخالقية مثل ال�شكر والوفاء تت�شكل
من خالل هذا البعد .فت�صبح كلها و�سائل للح�صول على منافع.
الوعي بالعالم االجتماعي وع�شوائيته خطوة قريبة �إل��ى الأم��ام،
ولكنها خطوة ت�ضعنا �أم��ام ع�شوائية النا�س �إ�ضافة �إل��ى ع�شوائية
الواقع الطبيعي و�صعوبته .لذلك نطلب هنا �سلطة عليا ت�ضمن لنا
حقوقنا.
ثم ن�أخذ نت�صل بالجوانب المعنوية فينا .الجوانب التي تت�صل
بالأبعاد الأخالقية فينا والتي تنجذب �إل��ى العطاء والخير والعدل
والحكمة والجمال وتنفر من المنع وال�شر والظلم والعبث والقبيح .هذه
193
عبداهلل حميد الدين
ثم نتقدم ونت�صل بالإمكان فينا ،ونعي معنى كوننا عدم خرج �إلى
الوجود ،ومعنى وجود قريب من العدم ،و�أن �أفعالنا مهما عظمت فهي
عدم من عدم.
ثم نتطور لن�صل فندرك �أننا متعلقون ال غير .وك�أننا فكرة في
عقل �أح��د .ونبد�أ بال�س�ؤال حول �صحة �أن نفتر�ض لنا هوية ووج��ود ًا
قائم ًا م�ستق ًال .وي�صبح البحث هنا عمن ي�ؤمننا ويعو�ضنا �شعور فقدان
�أنف�سنا.
وهكذا يتطور وعي الإن�سان بالحالة الإن�سانية وتتغير الأ�سئلة لديه
تبع ًا لذلك .ومع كل �س�ؤال جديد ف�إن الجواب ال�سابق ي�صبح منف� ً
صال
عنه ،وغير مالئم ل��ه ،ويكون هناك حاجة �إل��ى ج��واب جديد .ف�إما
يكون الجواب موجود ًا ،و�إما ال يكون .وفي بع�ض الحاالت تكون الأجوبة
موجودة ،ولكن بغير �أ�سئلة .وفي هذه الحالة ف�إن الأجوبة ت�صبح وك�أنها
طريق هناك ،طريق ف َّكرنا فيه ،ولكن لـ َّما ن�شعر بالحاجة
معالم على ٍ
�إليه بعد .فمث ًال لما نكون مت�صلين بحاجة البقاء والأمن من ع�شوائية
المجتمع فينا ف�إن قيمة اهلل بالن�سبة لنا هي في ما ُيحققه في هذا
ال ُبعد .وتعلقنا باهلل تعالى يكون بقدر ما يحقق لنا هذا البعد .ولذلك
نجد �أن القيمة العليا هلل تعالى هنا هي الكم .كم يعطينا زيادة ،كم
يحمينا زيادة ،و�أ�صبحت القيمة العليا هلل تعالى هي المعطي الم�ش ِّرع
المعاقب المثيب .وقد يبقى ت�صورنا الذي نت�صل به مع اهلل في ذلك
الحدود ،مع كوننا ندرك �أنَّ اهلل تعالى �أكثر من مجرد ذاك .ولكن ذلك
195
عبداهلل حميد الدين
هي مو�ضوع خاتمة هذا البحث .و�س�أنظر فيها من خالل �أربعة ق�ضايا:
�أو ًال :ال بد من تجاوز الذهنية ال�سحرية التي �شكلت ر�ؤيتنا هلل
فيما �سبق .لأن تلك الذهنية تقيد ر�ؤيتنا هلل تعالى ب�شكل جذري فال
ت�سمح لنا �إال بر�ؤية من نوع خا�ص وتحجب عنا ر�ؤى �أخرى .نحتاج �إلى
ذهنية واقعية تف�سح لنا ر�ؤية هلل تعالى كما هو.
ثاني ًا :تجاوز مفاهيمنا عن العالقات وبناء مفاهيم عالقات
جديدة .فكل عالقة نن�شئها تعتمد على مجموعة من التوقعات المتبادلة
بين طرفي العالقة .هذه التوقعات ننتزعها من الواقع الذي ع�شناه �أو
من الت�أمل والتفكير .فعالقاتنا مع م�صادر العطف �أو القوة �أو ال�سلطة
�أو التربية �أو الحكمة تت�ضمن مجموعة من التوقعات التي تك ِّونت من
خالل عالقاتنا الأولى مع والدينا �أو غيرهم من م�صادر تلك الأمور.
وه��ذه التوقعات متطورة غير م�ستقرة .فكل تجربة اجتماعية تطور
معادالت التوقعات لدينا .وفي عالقتنا باهلل تعالى ف�إننا �أي�ض ًا ن�صيغ
م�ضمون عالقتنا من خالل تجاربنا في عالقاتنا االجتماعية ،فن�سقط
عليه ما نتوقعه من غيره .وال بد من �إدراك هذا فينا ثم تجاوزها.
ثالث ًا :هناك مجموعة من المفاهيم الفل�سفية التي نحتاجها
للتعامل مع م�ستويات �أ�شمل لوجودنا وللتعامل مع مفاهيم �أعمق عن
اهلل تعالى.
رابع ًا :تطوير قدرتنا على المعرفة ال�شعورية بالق�ضايا المعنوية.
فقد تعودنا �أن نربط معرفتنا ال�شعوري بالأمور من خالل �إح�سا�سنا
197
عبداهلل حميد الدين
بها .وب�شيء من الت�أمل �سندرك �أ َّننا يمكن �أن ن�شعر بالق�ضايا المعنوية
�شعور ًا قائم ًا على الفكر المو�ضوعي ولي�س بعيد ًا عنه.
الذهنية ال�سحرية
�أغلب الأجوبة انطلقت من هذه ذهنية .وهي ذهنية ح�سا�سة
للغاية وعاطفية ولها �سمات �أهمها �أنها ال تحتمل ال�شعور باالنف�صال
عن العالم من حولنا ،وتربط التقدي�س والتعظيم بالتقدي�س ،وت�سعى
لأن تندمج مع النظام الكوني الغيبي ،وت�سعى لأن ترفع من قيمتنا في
هذا الوجود .لكل ذلك فقد �شخ�صنت العالم من حولها و�أ�سقطت
199
عبداهلل حميد الدين
الذهنية االنف�صالية
في مقابل تلك الذهنية كان هناك ما يمكن ت�سميته الذهنية
االنعزالية .وه��ي ذهنية تقبل انف�صالها عن ال��واق��ع من حولها وال
تبحث ع��ن �إي��ج��اد �صلة .ول��ذل��ك فهي ال تعطي ال��ق��وى الطبيعية �أي
�سمات �شخ�صية .هي قوى ال تتدخل في �ش�ؤون الب�شر و�إن كانت ت�ؤثر
على حياتهم ،وهي قابلة للتحديد والمراقبة ،منعزلة عن الب�شر ،قابلة
للتنبوء ،غير مبالية بل ال نية لها �أ� ً
صال ،ومطردة ،وغير قابلة للتغيير.
الذهنية الواقعية
الذهنية ال�سحرية كانت ت�ؤمن بوجود ات�صال وعالقة ثنائية
االتجاه بين الب�شر وبين القوى .وكانت ت�ؤمن �أن المعرفة هي م�صدر
التعظيم والتقدي�س .وبقدر ما عرفنا عن الوجود بقدر ما �أمكن �أن
نربط المعنى به .فكانت ت�ؤدي ِبمن يفكر من خاللها عالم ًا يمنحنا
معنى ،عالما يعطينا م�ساحة للتدخل ،عالم ًا ينظر �إلينا بقدر ما ننظر
201
عبداهلل حميد الدين
�إليه ،يفكر فينا بقدر ما نفكر فيه ،عالم ًا نقترب منه بقدر ما نعرف
عنه .الم�شكلة كانت في :كيفية ذلك التدخل الم�سموح لنا ،وو�سائله،
و�آثاره على حياتنا االجتماعية .ولذلك وجدنا ال�شعائر الب�شرية تتنوع
بقدر تنوع الإجابة على :كيف يكون تدخلنا؟
الذهنية االنف�صالية ر�سمت عالقة �أح��ادي��ة االت��ج��اه �إم��ا ِمن
الإن�سان نحو العالم ِفهم ًا �أو ت�سخير ًا ،و�إما ِمن العالم نحو الإن�سان ت�أثير ًا
ووقوع ًا .وبهذا منحتنا عالم ًا ال ُيقلق ،و�إن كان ُمخيف ًا .ال ُيقلق لأنه قابل
للفهم والتنبوء ،ولأنه غير ع�شوائي .في المقابل كان هذا العالم بغير
معنى ،نعي�ش فيه كائنات �أجنبية عنه منف�صلين عن كل �شيء وكل �شيء
منف�صل عنا ،ومتميزين عنه بخ�صائ�صنا الإن�سانية الخا�صة.
بين الذهنيتين هناك ما يمكن ت�سميته الذهنية الواقعية.
كانت ترف�ض تمام ًا الذهنية ال�سحرية ،وت�ؤمن جزئي ًا بر�ؤية الذهنية
االنف�صالية �إذ اختلفت معها في �أنها كانت ت�ؤمن �أن خروجنا �إلى
الوجود لم يكن ال �إرادي ًا في �أ�صله وال عبثي ًا في م�آله وال مهم ًال في
م�ساره .وبالتالي ف�إنها �آمنت بتدخل� ،أم��ا مدى هذا التدخل فقد
تفاوت وفق التف�سيرات لمعنى �أنه تعالى غني حكيم رحيم قهار رب
وغير ذلك من �صفات الإله العلي القدير .والذهنية الواقعية �أو�صلتنا
�إلى �إله م�صدر العالم وم�صدر القوى الأخرى التي فيه و�إله يتدخل
في �أمورنا وبالتالي كانت هذه الذهنية �أ�صل ومن�ش�أ الر�ؤية التوحيدية
للوجود.
202
الكينونة المتناغمة
.6ق�سوة اللهجة القر�آنية يجب تقييدها بالظرف الذي نزل فيه،
وه��و ظ��رف ك��ان يعني الحياة �أو الموت للدعوة من �أ�صلها �أو
لأتباعها.
وبكل ذلك �سيكون الوحي محور حياة ،يدور حوله الجميع ،ولكن �ضمن
�أفالك متعددة ولي�س فلك ًا واحد ًا.
بع�ض �أتباع الوحي فقد متابعة هذا الم�سار الدقيق وبالتالي
ملنا نحو التوحيد ال�سحري في قراءة الوحي .ولوال �أن بع�ض الآيات
تتعار�ض طبيعة مع الم�ضمون ال�سحري ،ولوال التواتر في حفظ بع�ض
الوحي مثل ال��ق��ر�آن لربما �ضاع م�ضمون الوحي تمام ًا .وم��ن �أجل
ذلك فال يمكن ق��راءة �أي وحي بدقة �إال من خالل معرفة الذهنية
ال�سحرية ،لأنها الذهنية التي �شكلت كثير ًا من الخلفية المفاهيمية
التي نزل الوحي �ضمنها .وكما ال يمكن قراءة الوحي ـ بل �أي ن�ص
ـ بغير عودة �إلى الخلفية اللغوية له ،ال يمكن فهمه بغير عودة �إلى
الخلفية المفاهيمية له .على �سبيل المثال لنفهم فكرة «الأحد» في
القر�آن ال بد �أو ًال �أن نفهم �أنه كان جواب ًا على �س�ؤال ،و�أن ال�س�ؤال �أتى
ممن من ي�ؤمن ب�إله واحد غير متوازن وغير مطرد� ،إله م�ضطرب
ومتذبذب .لم يكن الأحد لو�صف وحدة الذات �أو ال�صفات بل وحدة
راع للخير .لقد ف�صلنا ال�شخ�صية� .إله �أحد �أي متوازن مطرد واحد ٍ
التوحيد عن جميع م�صادر القوة الأخرى ،وبذلك �سمح لنا �أن نكون
�أحرار ًا و�أن ننمو؛ �إذا ما �أردنا.
205
عبداهلل حميد الدين
ثاني ًا :من عالقة الممكن بالممكن �إلى عالقة الممكن بالواجب
الإن�سان يفهم معنى العالقة بينه وبين غيره بل بين �أي طرفين
من خالل تجربته ال�شخ�صية في العالقات .و�أول عالقات الإن�سان
هي عالقاته فترة الر�ضاعة والتي تت�سم بالب�ساطة ولكن في الوقت
نف�سه ت�شكل �أر�ضية العالقات الم�ستقبلية .فهو في تلك المرحلة يعي�ش
حاجات ال يمكن تلبيتها بنف�سه ،ويعاني من تلك الحاجات فيعبر عن تلك
المعاناة بالبكاء �إما لي�ستجاب له فور ًا ،و�إما ليهمل فترة .في المرحلة
التي يبد�أ الطفل بوعي حاجاته ،ووعي �أنه غير قادر على تلبيتها بنف�سه،
ووعي الجهة التي يمكنها �أن تلبي له حاجته تح�صل نقلة .هناك تتكون
مجموعة من م�شاعر الأمان والخوف والحاجة والمحبة مجتمعة لدى
طرف واحد وفي وقت واحد .الأم هنا م�صدر الأمان وهي �أي�ض ًا م�صدر
الخوف .رحمتها و�شفقتها ت�صبح نموذج الرحمة وال�شفقة .ا�ستجابتها
ونفورها ي�صبحان نموذج ا�ستجابة ونفور من يلبي الحاجات �سواء
حاجات الأمن �أو حاجات الغذاء .ثم تتطور عالقات الإن�سان بتنوعها.
فيكت�شف �أنماط ًا �أخرى من النفور واال�ستجابة ،من الخوف �أو الأمان.
وفي كل مرحلة ينطلق فيها الإن�سان لبناء عالقة جديدة ف�إنه �سيفتر�ض
فيها ما كان موجود ًا في العالقات ال�سابقة .فالطفل الذي يتعرف على
الغريب �سيتعامل معه �أو ًال وفق تعامله مع من عرف �سابق ًا ،و�سيتوقع
معه ما توقعه ممن �سبق �إل��ى �أن يكت�شف بنف�سه خط�أ هذا �أو يعلمه
والديه �أمر ًا �آخر ًا عن التعامل مع الغرباء.
206
الكينونة المتناغمة
هذه القوة بحيث يت�أكد ويتحقق من نوع العالقة التي يجب �أن تت�شكل مع
هذه القوة� .أي�ض ًا �سي�سقط الحاالت النف�سية التي يتخيلها في الآخرين
على هذه القوة .ولهذا ي�أتي �شكل الإله في كثير من الديانات وبين كثير
من الأفراد وك�أنه �أحد منا ولكن بقوى عليا� .أي�ض ًا نجد هذا في قراءتنا
للن�صو�ص الدينية .فكل دين ير�سم خريطة عالقات بين اهلل تعالى
وبين النا�س يتحدث عن عالقة حب ،وكره ،وغ�ضب ،ورحمة ،وعطاء،
ومنع ،وات�صال ،وانف�صال ،ور���ض��ا ،و���س��خ��ط�...إل��خ .ه��ذه الخريطة
العالقاتية �إما ُتقر�أ كما نقر�أ عالقاتنا و�إما نقر�أوها بطريقة مختلفة.
في الأغلب نقر�أوها كما نقر�أ عالقاتنا .فعالقات الحب والغ�ضب
والعبودية والخ�ضوع والدعاء واال�ستجداء وغيرها نقر�أها من خالل
�أنف�سنا ونعمل فيها ما نعمله مع �أنف�سنا وبالتالي نقر�أ الن�صو�ص الدينية
وفق ذلك .وربما هذا ي�صح لو كانت القوة العليا الغائبة عنا مثلنا في
الحاجة والمحدودية وال�ضعف وما �إلى ذلك .لأن الأر�ضية التي خلقت
الحاالت النف�سية التي نمر بها والتي ت�شكل عالقاتنا هي تلك الحاالت
الوجودية التي تندرج تحت م�صطلح «الإمكان» .ف�أطراف العالقة التي
كانت �أنا ـ عالقة ـ �آخر هي التي �صنعت لنا مفاهيم العالقة ،مفهوم
العالقة انتزع منها .واالنتزاع كان من طرفين فيما الإمكان ،وبالتالي
ف�إن مفهوم العالقة كما نعرفه قائم على الإمكان .وفي حال بناء عالقة
مع اهلل تعالى ف�إن الأمر �سيختلف تمام ًا لأنه تعالى غير محتاج وغير
محدود .هو الغني المطلق وهو واجب الوجود.
208
الكينونة المتناغمة
ن�ضمن الكلمة
فعندما نقول �إن اهلل يحبنا ماذا نعني بحبه؟ هل ِّ
الحب الذي عهدنا في حياتنا؟
ن�ضمن الطاعة التي
وعندما نقول �إن اهلل يريدنا �أن نطيعه؟ هل ِّ
عرفناها من ذوي ال�سلطة في حياتنا؟ بل عندما يقول �شخ�ص عا�ش
ثقافة فردية�« :أنا �أطيع اهلل» هل يقولها كما يقولها من عا�ش في ثقافة
توافقية ان�سجامية؟ الأول فهم الطاعة في حياته على �أنها توافقية وعلى
�أنها تخدمه �أو ًال ثم تخدم غيره ثاني ًا .الثاني فهم الطاعة على �أنها
ان�صهار في كل ،ذوبان وجوده الجزئي في الوجود الكبير الذي حوله.
وعندما نقول اهلل يغ�ضب علينا هل نفهم منها الغ�ضب الذي
نراه من �أنف�سنا ومن غيرنا؟ وعندما نقول علينا �أن نخ�ضع هلل تعالى
هل نفهم منها الخ�ضوع الذي يطلبه الب�شر المتكبرون منها؟ وعندما
نقول علينا التذلل هلل تعالى هل نفهم ذلك التذلل الذي ن�ضعه بين
�أي��دي من هو مثلنا؟ وعندما نلح على اهلل بالدعاء فهل نقوم بذلك
كما نقوم عندما نلح على ب�شر لكي نر�ضي غروره �أو نك�سر مقاومته؟
�أم لكي ن�ستخرج كوامن �أنف�سنا بحيث تن�سجم مع ما تدعوه؟ وهكذا
كل عبارة تت�ضمن عالقة باهلل تعالى تحتاج �إلى ت�أمل ،وتدعونا �إلى �أن
ن�س�أل �أنف�سنا :هل م�ضامينها هي تلك الم�ضامين التي عهدناها؟ �أم �أن
اختالف اهلل عنا يعني اختالف ًا في ما ي�صح �أن ن�سقطه على العالقة مع
اهلل تعالى؟ والم�شكلة هي كيفية تجاوز العالقة بين ممكنين �إلى عالقة
صال ت�صور عالقة بين ممكن وواجب؟ بين ممكن وواجب .وهل يمكن �أ� ً
209
عبداهلل حميد الدين
بين ظل وبين قائم بذاته؟ بين �شبه عدم وبين مطلق الوجود؟ وبغير
�أن نلتفت �إلى �أننا نتعامل مع اهلل كما نتعامل مع الممكن ،و�أنه علينا
تجاوز هذا �إلى التعامل مع الواجب ف�إننا �سنبقى �أ�سرى وعي محدود
باهلل تعالى.
فيه النملة مع �أكبر مجرة� .إنهما في الحقيقة وجودان مت�ساويان تمام ًا
من حيث الم�سافة مع العدم ،وبالتالي مت�ساويان بالن�سبة لقدرة اهلل
تعالى» .فهذه �أي�ض ًا حقائق نحتاج �إلى �أن نتذوقها لكي يمكن �أن نتفاعل
معها.
الذهن .ونتيجتها �أن الإن�سان يقبل �أن بع�ض ال�صور الذهنية التي في
عقله ال وج��ود لها ،وبع�ضها موجودة فع ًال .ومع �أنها خطوة متقدمة
�إال �أنها �أي�ض ًا �ضعيفة بع�ض ال�شيء .هي تعطي المعارف اللفظية
بع�ض الم�صداقية ولكنها ال تزيد كثير ًا من ت�أثيرها .بل في بع�ض
ال��ح��االت ال تقلل من ت�أثير ما تنفيه .فقد ينفي العقل فكرة ت�أثير
القط الأ���س��ود ،ولكن �شدة البرمجة اللفظية تجعله يتوج�س تلقائي ًا
كلما ر�أى ذلك القط �أم��ام منـزله لي ًال� .أي�ض ًا ف�إن هذه المعرفة قد
ال تندمج بال�ضرورة مع م�شاعر الإن�سان بحيث ت�ؤثر على �إرادت��ه.
و�شرط وج��ود هذه المعرفة العقلية هو التفات الإن�سان �إل��ى معارفه
واعتماده منهج ًا مو�ضوعي ًا لتقييمها ،ون�ضوج عقله بحيث يمكنه �أن ينقد
ما اعتاد عليه من معارف لفظية .وجدير بالذكر �أن كثير ًا من الإلحاد
�أو ال�شك باهلل �سببه ال�شك والإلحاد باللفظ وال�صورة الذهنية ولي�س
باهلل تعالى .هو رف�ض للبرمجة ،ولكن بغير انتقال �إلى الإثبات العقلي.
و�إذا عدت �إلى مثال الجن ،ف�إن العقل هنا �سيبحث في االفترا�ضات
الذهنية الموجودة ،و�سيقيم مدى وجودها في الواقع .ف�سي�س�أل هل
فع ًال هناك ات�صال واقعي بين �إن�سان وجني؟ هل فع ًال ي�ؤثر الجن على
حياة النا�س؟ وبالتحليل العقلي �سي�صل �إلى نتيجة مفادها �أن الجن
معزولون عن الب�شر وال عالقة لهم ببع�ض مطلق ًا �إال في حدود معجزة
النبي �سليمان فح�سب.
المعرفة ال�شعورية :وهي عندما عندما يتجاوز الإن�سان اللفظة
213
عبداهلل حميد الدين
•ما المماثلة والفرق بين معرفتنا بالماء �أمامنا �أو بالماء ونحن
منغم�سون فيه؟
•ما الفرق والمماثلة بين معرفتنا باهلل تعالى وبين معرفتنا بوجود
ماء �أمامنا؟ �أو مائة متر تحت الأر���ض؟ �شعورنا باهلل �أو �شعورنا
بالماء؟
•لماذا ن�شعر �أن الماء �أكثر ح�ضور ًا من اهلل تعالى؟
البحث ف��ي ه��ذا الأم���ر �سيحيلنا �إل���ى فل�سفة المعرفة �أو
االب�ستمولوجيا ،وهي من �أو�سع و�أهم مو�ضوعات الفل�سفة والتي دار
حولها جدل قديم لم ُيح�سم بالرغم مما يقرب من � 3000سنة من
البحث فيه .و�إنْ دل ذلك الجدل على ال�شيء ف�إنه يدل على عظمة
اهلل تعالى حيث وهبنا هذا الغنى في التفكير والخيال والتحليل
والقبول والرف�ض .كما يدل على محدودية ذواتنا والتي لم ت�ستطع
�أن تح�سم �أم��ر ًا بهذه الأهمية .وفي الوقت نف�سه تدل على روعة
حريتنا الفكرية التي لم يكن لأي �إن�سان �أن يح َّدها مهما كان له
�أنْ يح َّد من حياتنا المادية والج�سدية .والإب�ستمولوجيا مت�صلة
تمام ًا بحياتنا اليومية و�إن كنا ال ننتبه �إلى ذلك� .إذ تجيب على
�أ�سئلة حيوية من نحو :ما الذي يمكن �أن نعلمه؟ وكيف يمكن �أن
نعلم؟ وهل ما هو موجود في �أذهاننا مطابق لما هو موجود في
خارجها؟ وهي �أ�سئلة تهيء لنا االنتقال من نوع المعرفة اللفظية
�إلى المعرفة العقلية ف�إلى المعرفة ال�شعورية .ومن ال يطرحها على
215
عبداهلل حميد الدين
مقومات ال�شعور
ال�شعور ب�آخر مكون من ثالثة �أط��راف :معرفة (�أو انطباع في
الذهن مقترن بحكم عقلي) ـ االرتباط ـ الح�ضور .ولكل طرف منها
عنا�صر .وما يلي عر�ض موجز لها:
المعرفة
المعرفة انطباع في الذهن مقترن بحكم من العقل .االنطباع
الذهني ُي�سببه �أمر �آخر .فالذهن ك�أنه �صحيفة بي�ضاء ت�ؤثر فيه م�ؤثرات
معينة تطبعه ب�صور مختلفة .وهذه الم�ؤثرات ت�صل �إلى الذهن بوا�سطة
�أدوات الإدراك المختلفة .ولها خا�صية مهمة وهي �أنها ال �إرادية .بمجرد
ات�صال �أدوات الإدراك ب�شيء ف�إنها تطبع الذهن بال�صور المت�صلة به
بغير اختيار لنا في ذلك.
الحكم العقلي هو كون العقل يقول ب�أن هذا االنطباع هو نا�شيء
من �أمر موجود خارج الذهن �أو ينفيه .وهو �أي�ض ًا �إدراك العقل لنوعية
العالقة بين ال�صورة الذهنية وبين ما �أ َّثر فيها .مث ًال عالقة الموافقة
والمخالفة بين االنطباع الذهني وبين الأمر الموجود خارج الذهن.
فالقمر نراه �صغير ًا ،ولكن العقل يعلم �أنه �أكبر.
•�إذ ًا معرفتي بـ«�أن محمد ًا �أمامي» تنحل �إلى:
216
الكينونة المتناغمة
•انطباع في الذهن.
•�س َّببه وجود محمد �أمامي.
•وح�صل هذا االنطباع بوا�سطة حا�سة الب�صر وتحليالت الدماغ.
ولكنها في هذه المرحلة لي�ست �إال �صورة لمحمد ،لي�ست معرفة
بعد� .إنها ت�صبح معرفة عندما تح�صل مجموعة من الأمور:
•يحكم عقلي ب���أن هذه ال�صورة لمحمد لم تكن لتن�ش�أ لوال وجود
م�سبب لها :وبالتالي يبد�أ العقل بااللتفات �إلى هذا الم�سبب ليعرف
�أين هو؟
•ثم يدرك عقلي �أن الم�سبب لهذه ال�صورة هو �أمر خارج الذهن
ولي�س من الذهن نف�سه .فعقلي يعلم �أن �صورة العنقاء في ذهني
فح�سب وال حقيقة لها خارجه .وهو �سيدرك �أن �صورة محمد ن�ش�أت
بفعل �أمر خارج الذهن.
•ثم يدرك عقلي �أن هذه ال�صورة تتطابق بنحو ما محمد.
� ...إلخ من التحليالت العقلية التي لوالها لما تجاوزت �صورة
محمد كونها �صورة .وهي تحليالت معقدة تجري في عقولنا ب�سرعة
عالية للغاية ،وفهمها يعيننا على ت�صحيح معرفتنا.
ومن المهم �أن نتن َّبه �إلى ثالثة �أمور:
الأول :ح�صول االنطباع ال �إرادي ،فال ن�ستطيع �أن نمنع ح�صول
االنطباع بعد ات�صال �شيء خارج الذهن ب�أدوات الإدراك .ولكن تهيئة
�أدوات الإدراك لتلقي االنطباعات يمكن �أن يت�أثر ب�إرادتنا.
217
عبداهلل حميد الدين
نعطل الحكم العقلي �أو الثاني :حكم العقل �إرادي �إذ ن�ستطيع �أن ِّ
ن�ؤ ِّثر عليه .ولهذا نقبل الت�صديق بخرافات ال �أ�صل لها لأننا �أ َّثرنا على
الحكم العقلي� ،أو عطلناه .فالمعرفة ال يمكن �أن تتحقق وتكتمل بغير
فعل �إرادي .يمكن لالنطباع �أن يتكون ال �إرادي ًا ،و�أما المعرفة فال.
الثالث :العالقة ال�سببية هي التي تربط بين ال�شيء خارج الذهن
وبين الذهن .ف���أدوات الإدراك هي الو�سيط ،ولكن ال�سببية هي التي
ت�ؤدي �إلى وجود االنطباع في الذهن .ف�أي انطباع في الذهن هو في
نهاية التحليل �صورة ُم�س َّببة.
االرتباط
الطرف الثاني من �أطراف ال�شعور هو االرتباط ،ويعني �إدراك
لعالقة الت�أثير �أو الحاجة بين ال�شيء المعروف وبين الذات .فلو نظرت
�إلى قلم ،ومفتاح ،وكتاب ،وك�أ�س ماء ،ومحمد ،وزيد في لحظة كنت
بحاجة ما�سة �إلى محمد ف�إن ارتباطي الذهني بمحمد �سيختلف عن
ارتباطي بغيره .والأمر نف�سه لو كنت خائف ًا من محمد� ،أو راجي ًا له� ،أو
ب�شكل عام لو كنت �أ�شعر �أن محمد ًا يمكنه �أن ي�ؤثر َّ
في.
واالرتباط هو مثل االنطباع من حيث �إنه ال �إردي .ولكن نقاء
االرتباط يعتمد على معرفة الفرد بالعالقة الت�أثيرية بين الآخر والذات.
وهذا يعني معرفة ما للذات من �صفات وخ�صائ�ص .و�أي�ض ًا معرفة ما
للذات من حاجات و�ضعف .والح�صول على هذه المعرفة �إرادي .فهي
ال ت�أتي �إال ب�إعمال الفكر والت�أمل ،وهو �إرادي .ولأن االرتباط �شرط في
218
الكينونة المتناغمة
ال�شعور فهو �أي�ض ًا يحدد نوع ال�شعور .فمعرفتي بنف�سي ومعرفتي باهلل
تحدد نوع ال�شعور الذي �سيكون لدينا.
الح�ضور
هو الطرف الثالث من �أطراف ال�شعور ،وي�صعب تعريفه ولكن
يمكن الإ�شارة �إليه .فلو حدثني �أحد عن محمد ،ثم ترا�سلت معه ،ثم
تكلمت معه هاتفي ًا ،ثم ر�أيته ،ثم �صافحته لوجدت �أن هناك تدرج ًا في
خا�صية االنطباع الذي تكون في الذهن .تلك الخا�صية هي ما �أق�صدها
بالح�ضور.
الماء الذي �أ�ضع يدي فيه حا�ضر �أكثر من الماء الذي �أتخيله �أو
�أراه .وهناك م�سافة هائلة ي�شعرها كل واحد منا بين ح�ضور ال�صورة
الذهنية وبين ح�ضور التجربة .بين ح�ضور �صورة عوالم من الطعام
وبين تجربة تذوق ملعقة واحدة منه .وفهم �سبب وجود هذه الم�سافة
يعيننا على فهم الح�ضور.
ولكي نقترب �أكثر من الم�شكلة علينا �أن نالحظ �أن �أي �صورة ذهنية
هي في نهاية الأمر �صورة م�سببة من �أمر خارج الذهن .فر�ؤيتي للماء
ت�ؤدي �إلى �صورة ذهنية له ،ور�ؤيتي للماء مع لم�سي له ت�ؤدي �إلى �صورة له.
وال�صورتان مت�ساويتان وال فرق بينهما على االطالق في الذهن .ال يمكن
�أن �أقول �أن �صورة الماء الذي �ألم�سه و�آراه و�أتذوقه �أكثر «مائي ًة» من الماء
الذي �أتخيله .ومع ذلك ف�إن ح�ضور ال�صورة المقترنة بالر�ؤية وباللم�س
�أكثر من ح�ضور ال�صورة المقترنة بالر�ؤية فقط.
219
عبداهلل حميد الدين
وا�ضح �أن الأمر ذات �صلة بعدد الإدراكات الح�سية التي �أدت �إلى
االنطباع ،ولكن ال�س�ؤال الذي �أحاول �أن �أجيب عليه هو :ما هي العملية
التي �أثارتها كثرة الحوا�س بحيث نتج زيادة ح�ضور؟ قد يكون الجواب
ب�أنه ال يوجد �شيء زائد على كثرة الحوا�س ،وبذلك يقف ال�س�ؤال ويتوقف
�أمر ال�شعور على الحوا�س ويكون �أي مدرك غير ح�سي بعيد تمام ًا عن
اال�ست�شعار .ولكن قد نجد �أن الحوا�س �أثارت عملية ما ،تلك العملية
هي التي �أدت �إلى زيادة الح�ضور .و�إذا و�صلنا �إلى هذا ف�إننا �سن�س�أل
عندها :هل يمكن �أن تح�صل تلك العملية بغير ات�صال ح�سي؟
االلتفات
الذي �أظنه �أن التفاوت في درجة الح�ضور يعود �إلى �سبب �أ�سا�سي
وهو مدى االلتفات �إلى ال�صورة الذهنية .وااللتفات بدوره يعتمد على
�أحد �أمرين :الم�سافة بين الحالة الإدراكية قبل وبعد ،وتوقع الفعل.
االلتفات ،على التفات الذهن �إلى المو�ضوع الذي يثير فيها انطباعات.
وبالتالي ف�إن الح�س وكثرته �إنما ي�ؤثر على الم�سافة بين الحالة الإدراكية
قبل وبعد االت�صال الح�سي؛ وهذه الم�سافة هي ت�ؤثر على �شدة االلتفات
وبالتالي درجة الح�ضور� .أي ت�أثير الح�س في الح�ضور هو ت�أثير عار�ض
ولي�س �أ�صيل .ولذلك نجد �أن ح�ضور ما يح�ضر في الأحالم يكاد ي�ساوي
ح�ضور ال�شيء في اليقظة ،بل يزيد �أحيان ًا .و�إن دل على �شيء فيدل على
�أن الح�ضور لي�س ح�سي ًا فح�سب.
لذلك ف�إن االلتفات النا�شيء من الح�س عار�ض وزائل .فما �إن
يح�صل ات�صال بالماء ف�إن الذهن يلتفت �إلى هذا االنطباع بطريقة
كبيرة ،ولكن بعد لحظات من ذلك االت�صال نجد �أن ح�ضور الماء �أ�صبح
�أقل .وذلك لأن الحالة الإدراكية ا�ستقرت الآن في نقطة جديدة ،وبذلك
�ضعف الت�أثير على االلتفات .وهذا ُيخبرنا �أن الم�س�ألة ذات �صلة بتوجه
الذهن .اللحظة الأولى من اللم�س تلفت ب�شدة لأن الإح�سا�س انتقل من
«ال لم�س» �إلى «لم�س» مبا�شرة� .أما بعد بقاء اليد في الماء ف�إن الذهن
يعود ليلتفت �إلى �أمور �أخرى.
توقع الفعل
الأمر الثاني الذي ي�ؤثر على االلتفات هو توقع الفعل.
ف�إن التفاتي لمحمد الذي �آراه �أكثر من الماء الذي �أراه .والفرق
بينهما �أنني �أ�ستطيع �أن �أتوقع من محمد �أن يكون منه فعل ب�إزائي
221
عبداهلل حميد الدين
بخالف الماء .و�ألتفت �إلى محمد الذي �أراه ويراني �أكثر من محمد
الذي �أراه وال يراني .وال�سبب �أن الفعل المتوقع من الحالتين مختلف.
�أخير ًا ف�إنني لو توقعت من محمد �أن يق�ضي علي ف�إن التفاتي �إليه غير ما
لو توقعت �أنه �سيبت�سم لي� .إذا االختالف في درجة التوقع ،واالختالف
في نوع الفعل ال ُمتَوقع ي�ؤثران على االلتفات.
و ع��ل��ى ه��ذا ا لأ ���س��ا���س يمكن �أن ي��ك��ون م��وج��ود غ��ي��ر ح�سي
حا�ضر ًا لدينا بقدر ح�ضور موجود ح�سي �إذا ما ا�ستطعنا �أن
نلتفت �إليه با�ستخدام طرق غير الح�س ،و�إذا توقعنا منه فع ًال
ب�إزائنا.
فالخال�صة هي:
ال�سببية هي التي �أوجدت االنطباع عن محمد في الذهن.
الحكم العقلي هو الذي نقل �صورة محمد من كونها �صورة �إلى
كونها تعبير ًا عن حقيقة وجودية خارجية.
الت�أثير المحتمل �أو الم�ؤكد هو التي �شدني �إل��ى �صورة محمد
وخلقت بيني وبينها عالقة تختلف عن العالقة بيني وبين بقية ال�صور
في الذهن.
الم�سافة الإدراك��ي��ة لفتت انتباه ذهني �إل��ى محمد بقدر تلك
الم�سافة ،ولكن لفترة محدودة للغاية.
توقعي فعل محمد لفت انتباهي �إلى محمد بقدر �شدة التفات
محمد � ِّإلي ،وبقدر نوع الفعل الذي �أتوقعه من محمد.
222
الكينونة المتناغمة
خال�صة التحليل �أنه يمكن �أن نعمق ال�شعور باهلل من خالل الت�أمل
في الأ�سا�س ال�سببي لأي معرفة والتي �ستقلل من ربط ال�شعور بالح�س
224
الكينونة المتناغمة
ماذا بعد؟
االنتقال �إل��ى الذهنية الواقعية ،االنتقال ِم��ن عالقة الممكن
بالممكن �إلى عالقة الممكن بالواجب� ،إثارة العقل بحيث يندمج مع
المعلومات ،بناء المعرفة ال�شعورية؛ هذه بع�ض المقدمات ال�ضرورية
لت�شكيل عالقة مع اهلل تحقق التو�سع الوجودي.
ولأحد �أن يقول ب�أنني بما �سبق و�إن ثبت الإيمان بوجود اهلل تعالى
ولكني فتحت الباب لإبعاد الفرد عن اهلل تعالى .فاهلل وفق الت�صور
الذي �أطرحه �أبعد من التفا�صيل اليومية في حياة الفرد وبذلك فالفرد
�أقل حاجة �إليه.
ولكن ال �أظن ذلك .فربما �أبعدت الفرد من الت�صور ال�سحري
عن اهلل تعالى .ولكن في المقابل حاولت �أن �أ�ضع اهلل في �أعمق حاجة
�أت�صورها .واهلل هنا ي�ؤثر بمجرد الوعي به .ال ي�شترط ت�أثير اهلل هنا �أي
ات�صال من نوع خا�ص .مجرد ا�ستح�ضار حالتي الوجودية وا�ستح�ضار
اهلل يحقق الحالة الذهنية التي �أ�شعر �أنها تو�سع من كينونة الإن�سان.
225
عبداهلل حميد الدين
على الغير� .إن كل تجربة وا�ستك�شاف ذاتي هو خير .وكل تجربة تقوم
على �إيذاء الغير هي �سيئة .و اهلل تعالى �أجل و�أكرم و�أحكم و�أغنى من
�أن يعاقبنا على «المع�صية».
228
الكينونة المتناغمة
خاتمة
ٌ
ا�ستك�شاف ذاتي ،غر�ضه الأ�سا�سي االقتراب من ما �سبق تفكير �أو
نف�سي �أو حتى �إيجاد نف�سي .وال يمكن االت�صال ب�أبعاد في الذات بغير
االت�صال بالغير .فكل ات�صال يبرز جانب فينا .واالت�صال باهلل يبزر
البعد الوجودي في .وهو البعد الذي �أ�سعى لإيجاده .االت�صال بالغير هو
ات�صال بالذات من ال ُبعد الذي يح�صل فيه االت�صال .واالت�صال باهلل
هو ات�صال بالذات من بعدها الوجودي .واالنقطاع عن اهلل انقطاع
عن هذا البعد .وخ�سارة للنف�س التي هي �أ�شد الخ�سارات .والتي تعني
خ�سارة االت�صال بالأبعاد المتعددة التي فيني .وتبد�أ خ�سارة النف�س ب�أن
يتحول ات�صالنا بالغير من ا�ستك�شاف لأنف�سنا �إلى ا�ستك�شاف لغيرنا.
�إن �أكل تفاحة قد يكون ا�ستك�شاف ًا للتفاحة كما قد يكون ا�ستك�شاف ًا
للتفاحة فينا .و�إن معرفة اهلل قد تكون معرفة له هو كما يمكن �أن تكون
ات�صا ًال بي �أنا.
لذلك كان ال بد من ا�ستك�شاف عالقة مختلفة مع اهلل .كنت �أ�شعر
في الما�ضي �أن عالقتي باهلل �أ�شبه ب�إلقاء ق�صيدة م�شحونة بالعواطف.
قد ال �أب��ال��ي بمعنى الق�صيدة و�أعتني بكيفية تح�سين �أداء الإلقاء
229
عبداهلل حميد الدين
فح�سب ،مكتفي ًا بعلمي �أن الق�صيدة على االجمال غر�ضها الحب �أو
التعظيم �أو ال�شكر �أو المدح ...وقد �أهتم بفهم معنى الق�صيدة ،ولكنه
لمعنى �صدر عن غيري ولي�س مني .وكنت �أريد �أن �أفكر ً �سيبقى فهم
في طرح الق�صيدة جانب ًا باعتبارها ال تعبر عما يجي�ش في نف�سي بل
ما يجي�ش في نف�س كاتبها� .أطرحها جابن ًا و�أغو�ص في نف�سي للبحث
عن الم�شاعر التي تجي�ش فيها ،ثم �أعبر عنها بما يمكنني من كلمات
ف�صيحة �أو غير ذلك .وكنت �أرى �أن العبادة ب�شكلها العام ق�صيدة
�ألقيها في ح�ضرة اهلل تعالى؛ ف�إما عبادة �أهتم ب�أدا�ؤها مثل اهتمامي
ب�أركان ال�صالة وفروعها ،واجباتها و�سننها ،م�ستحباتها ونوافلها،
�أنواعها و�أوقاتها� ...أو مثل اهتمامي بتحري االبتعاد عن المفطرات
الح�سية والمعنوية في ال�صيام ،وتكثير الطاعات في رم�ضان .و�إما
�أهتم بمعناها ،ف�أبحث عن معنى القيام والركوع وال�سجود والفاتحة
والت�سبيح والت�شهد ،و�أبحث عن معنى االبتعاد عن الطعام وال�شراب.
�أبحث في كل ذلك تحري ًا للمعنى الذي �أراده َمن �ش ِّرعها .و�إما �أبد�أ
بالبحث في نف�سي ،وا�ستخراج م�شاعر العبادة التي توجد في �أعماقها،
ومن ثم البحث عن و�سائل للتعبير عما هو موجود في تلك الأعماق .هذا
البحث محاولة في ا�ستك�شاف الق�صيدة الكامنة فينا ،بحيث ت�صبح
عالقتنا باهلل ق�صيدة نكتبها تعبير ًا عن �أنف�سنا .عالقة �ستغير من
موقع اهلل في حياتنا الفردية واالجتماعية ب�شكل جذري .وكنت �أرى
�أن اهلل في العالقة معه غاية ولي�س و�سيلة �إلى غيره .حتى لو كنت �أريد
230
الكينونة المتناغمة
المنافع التي بيد اهلل ـ و�س�أبقى على الدوام بحاجة �إليها ـ ف�إننا �سنريد
اهلل تعالى لذاته و�سن�أمل �أن يمنحنا مما لديه ك�أمر �إ�ضافي� .إن اهلل
في هذه العالقة يعيد من نظرة �أنف�سنا �إلى �أنف�سنا .ويعيدها بطريقة
ت�ؤثر ال فقط على حياتنا ال�شخ�صية بل على حياتنا االجتماعية .ذلك
�إن ت�أثيرها على �أنف�سنا �سيبلغ �إلى حد تغيير نظرتنا للمنع والأخذ وهذا
يغير ديناميكية العالقات االجتماعية ب�شكل عميق .فبد ًال من تكون
عالقاتنا مع الآخرين مت�أثرة بالثواب والردع والعقاب فح�سب ،ف�إنها
�أي�ض ًا �ستت�أثر بهذه النظرة الجديدة التي تزيل ِقيم المنع والأخذ وتخلق
فر�صة لأن يكون للعطاء قيمة ذاتية.
وال �أدري هل بهذا �أكون قد �أكملت ما كنت عازم ًا على الم�شاركة
فيه؟ هل �أنا �أختم �أم �أبد�أ؟ هل عدت من حيث بد�أت؟ �أم تهي�أت النطالقة
جديدة؟ �أم ال�ستك�شاف �آخر؟
�س�ألني �أح��د؟ هل نفعك الكتاب؟ �أو هل نفعتك الأفكار هنا؟
هل تعي�ش هذا الأمر؟ ال اعرف كيف �أجيب على هذا� .أنا قلت في �أول
البحث �إنه ال يوجد حبة �سحرية ت�صلح حياتنا .فال �أ�ستطيع ان �أقول �إن
حياتي �صارت وردية لمجرد �أني �أتكلم بهذه الأمور .هل حياتي �أح�سن؟
هناك جوانب في حياتي تتح�سن ،وهناك جوانب تتدهور ،وهناك �أ�سئلة
و�شكوك يرافقها قلق �شديد ،ولكن هناك �أي�ض ًا جوانب ُت�ضاء ،و�شعور
بعمق روحي .وفي كل الأحوال ال �أ�ستطيع قيا�س نتيجة فكرة في حياتي
من خالل تح�سن مبا�شر :واحد بواحد ،لأن العوامل التي ت�ؤثر على
231
عبداهلل حميد الدين
232