You are on page 1of 86

‫كراسات فجر عاشوراء االلكترونية ‪10‬‬

‫تاليف‪ :‬الشيخ عبد اهلل دشتي‬


‫منشورات مركز فجر عاشوراء الثقايف‬
‫التابعللعتبةاحلسينةاملقدسةـقسمالنشاطاتالعامة‬
‫‪ 2020‬ـ ‪1441‬ه‍‬
‫ممثليةقماملقدسة‬
‫العراق ـ النجف األرشف ـ‬
‫مقابل شارع الرسول ‪‬‬
‫هاتف‪+964 7728220543 : ‬‬
‫‪fajrashura@fajrashura.com‬‬

‫‪ : ‬هتمة الرشك‪ ،‬مناقشة الفكر الوهايب يف حتريفه‬


‫عنوان االصدار‬
‫ملقاييس الرشك والتوحيد‬

‫الشيخ عبد اهلل دشتي‬ ‫تاليف‬

‫اعداد ‪ :‬د‪ .‬السيد حسني البدري‬

‫االصدار االلكرتوين ـ عام ‪2020‬‬ ‫‪:‬‬ ‫االصدار‬

‫الكرتوين ـ ‪PDF‬‬ ‫نوع االصدار ‪: ‬‬

‫النارش ‪ : ‬مركز فجر عاشوراء الثقايف‬

‫املوقع ‪fajrashura.com : ‬‬


‫مجيع احلقوق حمفوظة © ملركز فجر عاشوارء الثقايف‪ُ ،‬يسمح بالنَّرش غري النفعي االلكرتوين ويسمح باالقتباس مع ذكر‬
‫املصدر وال يسمح بتغيري جزء من اجزاء هذا امللف او طباعته يف املطابع دون اذن رسمي من املركز‬
‫رين‬
‫اه َ‬‫الط ِ‬
‫الم َعلى ُم َح َّم ٍد َو ِآل ِه ّ‬
‫الس ُ‬
‫الة َو َّ‬
‫الص ُ‬
‫َو َّ‬

‫ملاذا أصبح جيش العدو الصهيوين أقل خطرا بحيث‬


‫تكالبت هذه الفئة عىل الشعب املسلم يف العراق بنسائه‬
‫وأطفاله وشيوخه؟ هل ألن جيش العدو الصهيوين أصبح‬
‫كتابيا بينام الشعب العراقي شعب مرشك؟!!‬
‫لقد تم حشو عقول هؤالء الشباب بمقولة إن العراق‬
‫أصبح موطنا للرشك واملرشكني بحيث مل يعد جمتمعا‬
‫مسلام‪ ،‬وهذا األمر مل يكن ليكتب له النجاح لوال وجود‬
‫رواد هلذا الفكر التكفريي املضلل سعوا وبكل جهدهم‬
‫لتحريف مقاييس الرشك والتوحيد عند الشباب املغرر‬
‫هبم‪ ،‬ومل يتوقف التضليل عند هذا احلد بل تعداه إىل مقولة‬
‫إنه ال فرق يف جواز القتل بني الكبري والصغري والشيخ‬
‫والطفل والرجل واملرأة‪ ،‬فلم حتفظ حرمة ألحد كام‬
‫حفظها اإلسالم‪ ،‬فأصبحت هذه الضاللة هي أكرب منبع‬
‫ورافد ملا نجده يف ساحتنا السياسية من جمازر وفظائع‬
‫متارس ضد املسلمني خاصة واإلنسانية عامة وباسم‬
‫اإلسالم !!‬

‫‪3‬‬
‫مقدمة املركز ‪6...................................‬‬
‫مقدمة املؤلف ‪9..................................‬‬
‫التكفري بتهمة الرشك ‪13.............................‬‬
‫عوامل انتشار الفكر التكفريي‪17....................‬‬
‫متهيد ‪20........................................‬‬
‫عرض للرؤية التكفريية ‪20..........................‬‬
‫ما املقصود بتوحيد الربوبية؟‪20......................‬‬
‫ما املقصود بتوحيد األلوهية؟‪21.....................‬‬
‫تعليق عىل هذا التمييز ‪21............................‬‬
‫كيف حكم التكفرييون عىل جل األمة بالرشك؟ ‪22...‬‬
‫نتيجة الدعويني املدمرة ‪23...........................‬‬
‫منهج البحث ‪24....................................‬‬
‫تنبيه ‪25.............................................‬‬
‫الفصل األول‪ :‬حقيقة توحيد املرشكني باهلل يف‬
‫الربوبية ‪27......................................‬‬
‫أدلتهم عىل توحيد املرشكني يف الربوبية‪27............‬‬
‫مناقشة هذا الرأي ‪29................................‬‬
‫األمر األول اآليات والروايات ترصح بأهنم كانوا‬
‫يعتقدون بأن آهلتهم ترض وتنفع ‪29...................‬‬
‫أوال اآليات الكريمة ‪29.............................‬‬
‫ثانيا األخبار ‪31.....................................‬‬
‫األمر الثاين االعتقاد بوجود أبناء وبنات هلل من مسلامت‬
‫عقائد املرشكني‪33...................................‬‬
‫األمر الثالث استدالل القرآن بدليل التامنع القائم عىل‬
‫افرتاض وجود قدرتني مستقلتني ‪35.................‬‬
‫إذن ما حقيقة ذلك اإلقرار بالربوبية يف جواب‬
‫‪4‬‬
‫املرشكني؟ ‪39.......................................‬‬
‫الرأي األول إنه جواب الفطرة‪40....................‬‬
‫الرأي الثاين إنه إقرار بالربوبية دون التوحيد بذلك‪42.‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬هل وقع املسلمون يف رشك‬
‫األلوهية؟ ‪45....................................‬‬
‫العبادات املدعى وقوعها عند القبور ‪46..............‬‬
‫املبحث األول ـ الذبح والنذر‪46..................‬‬
‫املبحث الثاين ـ الدعاء ‪49........................‬‬
‫اآليات املستدل هبا ‪50...............................‬‬
‫البحث األول معنى الدعاء يف اآليات املستدل هبا ‪53.‬‬
‫إقرارهم بأن الدعاء ينقسم إىل دعاء عبادة ودعاء‬
‫مسألة‪56............................................‬‬
‫هل اآليات تتحدث عن دعاء العبادة أو دعاء املسألة؟ ‬
‫‪58‬‬
‫وخالصة ‪66........................................‬‬
‫هل هناك تالزم بني دعاء املسألة والعبادة؟ ‪67........‬‬
‫البحث الثاين تقييد رشكية دعاء املسألة بام ال يقدر عليه‬
‫إال اهلل ‪68...........................................‬‬
‫انتقال من دعاء العبادة إىل املسألة خروج عن بحث‬
‫األلوهية ‪74.........................................‬‬
‫هل سيصبح دعاء املسألة عبادة بتقييده بام ال يقدر عليه‬
‫إال اهلل؟‪76..........................................‬‬
‫دعاء املسألة يمكن أن يصبح رشكا يف أحد الفرضني‬
‫التاليني ‪77..........................................‬‬
‫التوحيد والرشك يعرفان بالعقل وال مدخل للنصوص‬
‫فيها‪79..............................................‬‬
‫تنبيهان ال بد منهام ‪81............................‬‬
‫التنبيه األول ال ربط للشفاعة بالرشك ‪81.............‬‬
‫التنبيه الثاين ال عالقة للتوسل بالرشك أيضا ‪82.......‬‬

‫‪5‬‬
‫مقدمة املركز‬

‫احلمد هلل رب العاملني والصالة والسالم عىل‬


‫ارشف األنبياء واملرسلني حممد وآله الطاهرين‪.‬‬
‫وبعد فإن فتنة التطرف والتكفري متثل أحد أبرز‬
‫األخطار التي هتدد املجتمعات اإلسالمية‬
‫وجيدد املتطرفون‬
‫ّ‬ ‫والدينية فام من يوم يمر إال‬
‫فيه إساءهتم ملقدسات املسلمني ويضيفوا إىل‬
‫سجلهم األسود املزيد من جرائم إراقة الدماء‬
‫الزكية وهدم األماكن املقدسة والتي تعترب رمز‬
‫هويتهم‪ ،‬ويستندون يف نرش أفكارهم إىل قراءة‬
‫مغلوطة ومشوهة عن موازين التوحيد والرشك‬
‫والسنة والبدعة وإشاعتها بني الشباب‪ ،‬فام مل يتم‬
‫اهلدامة التي ُح ِّرفت‬
‫الوقوف بوجه تلك األفكار ّ‬
‫فيها املقاييس التي أرساها اإلسالم سوف تتعمق‬
‫ال ُفرقة بني املسلمني ويتحطم بنياهنم املرصوص‬
‫وتتبدد طاقاهتم يف مواجهة التحديات الكبرية‬
‫التي يمرون هبا‪.‬‬
‫وبعد البحث والتمحيص عن كتاب خمترص‬
‫‪6‬‬
‫يعرضالفكرةبصورةسهلةوبعبارةسلسة؛وقع‬
‫االختيار عىل كتاب «تطهري املناهج من التكفري»‬
‫لسامحة العالمة الشيخ عبد اهلل دشتي املطبوع‬
‫سنة ‪1428‬ه‍‪2008/‬م ؛ وقد تم إعادة تسميته‬
‫بعد استجازة املؤلف ليحمل عنوان‪« :‬هتمة‬
‫الرشك ـ مناقشة للفكر الوهايب يف حتريفه ملقاييس‬
‫التوحيدوالرشك»‪.‬‬
‫ومن أهم مميزات هذا البحث‪:‬‬
‫‪ .1‬تيسري تناول األفكار بلغة سهلة مع احلفاظ‬
‫عىلالعمقالعلمي‪.‬‬
‫‪ .2‬اتباع املنهج العلمي الرصني من خالل‬
‫االستناد إىل نصوص الكتاب العزيز والسنة‬
‫املطهرةوحترياملدركاتالعقلية‪.‬‬
‫‪ .3‬تفحص مناشئ القول بالتكفري عن طريق‬
‫مراجعةدقيقةألفكارومتونالقائلنيبالتكفري‪.‬‬
‫‪ .4‬بيان حال اخللط الفكري احلاصل عند‬
‫املكفرين يف املقارنة بني مرشكي زمن اجلاهلية‬
‫الذين قاتلهم النبي ‪ ‬مع عموم املسلمني‬
‫القائلنيبجوازالتوسلوالشفاعة‪.‬‬
‫‪ .5‬البيان العلمي لثالثة أمور اشتبهت عىل‬
‫املكفرين‪ ،‬هي‪ :‬الذبح‪ ،‬النذر‪ ،‬والدعاء‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫‪ .6‬الكشف عن االشتباه واخللط العميق‬
‫احلاصل عند املكفرين يف مسألة التوسل‬
‫والشفاعة حني جعلوها مرتبطة بمسائل الرشك‬
‫واحلال أهنا من مسائل السنة والبدعة‪.‬‬
‫ختاما نشكر املؤلف عىل جهوده الكبرية يف رفد‬
‫الساحة الفكرية والثقافية بمثل هذه األبحاث‬
‫القيمة يف رد الشبهات عن الدين احلنيف‪،‬‬
‫ونناشد املعنيني بالثقافة والفكر والرتبية القيام‬
‫بنرش هذا الكراس عىل أوسع نطاق إليقاف‬
‫زيادة وقوع الشباب املسلم يف الزيف والتلبيس‪.‬‬
‫واحلمد هلل رب العاملني‪ ،‬وصىل اهلل عىل أرشف‬
‫األنبياءواملرسلنيحممدوآلهالطيبنيالطاهرين‪.‬‬

‫د‪ .‬السيد حسني البدري‬


‫مسؤول وحدة األبحاث العلمية واإلصدارات العامة‬
‫‪25‬ذو احلجة ‪ 1441‬هجرية‬
‫املوافق لـ ‪2020/8/15‬‬
‫قم املرشفة‬

‫‪8‬‬
‫مقدمة املؤلف‬

‫ال شك بأن الوحدة ونبذ التنازع هدف يصبو‬


‫إليه كل مسلم يريد اخلري لإلسالم واملجتمعات‬
‫اإلسالمية‪ ،‬والوحدة ال تعني إلغاء التنوعات‬
‫املوجودة يف جمتمعاتنا اإلسالمية بل تعني‬
‫التالقيوالتفاهمبنياملجاميعاملتنوعةواملختلفة‬
‫يف رؤاها داخل اإلطار اإلسالمي العام بحيث‬
‫تعرتف كل طائفة ومجاعة منها بانطباق عنوان‬
‫اإلسالم عىل األخرى‪.‬‬
‫وعليه ليس كل حديث عن االختالف‬
‫واملختلفني يعني إثارة الكراهية والبغضاء بل‬
‫قد يقصد منه عكس ذلك أي ترسيخ املحبة‬
‫واملودة بني أولئك املختلفني‪ ،‬وذلك اعتامدا عىل‬
‫أصلني‪ ،‬األول أهنم إخوة مسلمون أمحل هلم‬
‫كل املحبة يف قلبي‪ ،‬واآلخر أهنم أصحاب رأي‬
‫ِقوامه األدلة التي قامت عندهم‪ ،‬فأحرتم رأهيم‬
‫وإن خطأهتم‪ ،‬واحلصيلة أن املهم واملطلوب مع‬
‫َ َْ ُ ْ‬
‫التنوعواالختالفالعملبقولهتعاىل﴿ واعت ِصموا‬
‫‪9‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِبَبْ ِل اهللِ َج ًِيعا َوال َت َف َّرقُوا ﴾ آلعمران‪ 103:‬وقوله عز وجل‬
‫َ َََ َُ ََْْ َ ُ ََْ ْ َ َ ُ ُ‬
‫ك ْم ﴾ األنفال‪.46:‬‬ ‫﴿ وال تنازعوا فتفشلوا وتذهب رِيح‬
‫فال يمكن ألحد جتاهل اختالف الرؤى بني‬
‫املسلمني فهو أمر واقع ال حميص عنه‪ ،‬بل رصح‬
‫القرآن بأن حياة البرش قائمة عىل االختالف‬
‫َ َ ْ َ َ ُّ َ َ َ َ َ َّ َ ُ ً‬
‫اس أ َّمة واح َِدةً َوال‬‫فقال تعاىل ﴿ولو شاء ربك لعل انل‬
‫َ ُ َ ُ ْ َ َ َّ َ ْ َ َ َ ُّ َ‬
‫ك َو ِلل َِك َخلَ َق ُه ْم َو َت َّم ْ‬
‫ت‬ ‫يزالون متلِفِني * إِال من رحِم رب‬
‫ال َّنةِ َوانلَّ ِ َ ْ َ َ‬
‫اس أجعِني﴾ هود‪:‬‬
‫َ َ ُ َ ّ َ َ ْ َ َّ َ َ َّ َ َ ْ‬
‫ك ِمة ربِك ألمألن جهنم مِن ِ‬
‫‪118‬ـ ‪ ،119‬وليس هو أمر متحقق بني الطوائف فقط‬
‫بل حتى يف الطائفة الواحدة كام هو واضح وجيل‬
‫ونلمسه يف واقعنا املعاش‪.‬‬
‫واملشكلة الكبرية التي نريد الرتكيز عليها هنا‬
‫أن هذه الوحدة املنشودة تصبح غري ممكنة مع‬
‫وجود طرف ال يرى أن هناك جماال للتالقي مع‬
‫اآلخرين‪ ،‬بل ويتجاوز هذه املرحلة إىل اهتام‬
‫األطراف األخرى (التي يفرتض أهنا تشاركه‬
‫مسمى الدين اإلسالمي والعيش املشرتك) أهنا‬
‫ليست من اإلسالم يف يشء‪ ،‬فيحمل راية التكفري‬
‫واإلخراج من امللة‪ ،‬وهنا يطل شيطان التنازع‬
‫والفشل برأسه بكل ما حيمل من خماطر ونتائج‬
‫مدمرة عىل األمة‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫إن وجود هذه الفئة وما حتمله من أفكار هدامة‬
‫سيجر األمة إىل الرصاع الداخيل بل االقتتال‬
‫فيشكل أرضية هامة وأساسية للتدخالت‬
‫األجنبية التي نلمسها اليوم ونلمس اآلالم‬
‫واملآيس التي جلبتها لألمة وعمت اجلميع ومل‬
‫َ َّ ُ ْ‬
‫ختتص بفئة دون أخرى‪ ،‬ولنا يف قوله تعاىل ﴿ واتقوا‬
‫اعلَ ُموا ْ أَ َّن اهللَ‬
‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ ً َّ ُ َ َّ َّ َ َ َ ْ‬
‫ِين ظل ُموا مِنك ْم خاصة و‬ ‫ف ِتنة ال ت ِصيب ال‬
‫َ ُ ْ َ‬
‫اب ﴾ األنفال‪ 25:‬عربة‪.‬‬
‫شدِيد العِ ِ‬
‫ق‬
‫ولكن ما زال يف هذه األمة خملصون من أبنائها‬
‫هم إماطة األذى عنها ويعمل عىل‬ ‫ممن حيمل ّ‬
‫نرش روح املحبة واملودة بني خمتلف الكيانات‬
‫والطوائفاإلسالمية‪.‬‬
‫ونعتقد أن اخلطوة السابقة يف السري باجتاه الوحدة‬
‫بالنسبة ملثل هذه الفئة املكفرة هو بيان خطأها يف‬
‫التكفري وضاللتها‪ ،‬وهنا يتلخص اخلري الذي‬
‫نقصده وتكمن الفائدة املرجوة من كتابة هذه‬
‫األسطر‪.‬‬
‫وصحيح أن جزءا من مشاكل اخلالف‬
‫واالختالف بني املسلمني تتم معاجلتها من‬
‫خالل الدعوات املتكررة للوحدة اإلسالمية‬
‫والتآلف بني املسلمني وإقامة املؤمترات املباركة‬

‫‪11‬‬
‫هبذا االجتاه‪ ،‬ولكن ال أعتقد أن مثل هذه‬
‫الدعوات وتلك املؤمترات جمدية جتاه هذه الفئة‬
‫التكفريية‪ ،‬إذ ما الفائدة يف املطالبة بالوحدة‬
‫والتآلف ومواجهة العدو الواحد املشرتك مع‬
‫من يكفرك ويعتربك مرشكا؟ فكأن لسان حاله‬
‫يقول‪ :‬أتريدين أن أضع يدي يف أيديكم وأنتم‬
‫أجىل مصاديق الكفر والرشك عندي؟ هل أضع‬
‫يدي يف يد مرشك ملواجهة كافر؟! إن خطرا من‬
‫هذا القبيل ال يعالج إال ببيان مواطن اخللل يف‬
‫رؤيتهم للكفر واإليامن والرشك والتوحيد‪.‬‬
‫وخالصة ليس مكمن اخلطر الذي يواجه‬
‫املجتمعات اإلسالمية يف جمرد االختالف‪،‬‬
‫بل عىل العكس من ذلك إذ يعرب عن حالة‬
‫طبيعية وصحية‪ ،‬وإنام مكمن اخلطر ينحرص يف‬
‫الفئات اإلقصائية التي تريد أن تفرض رؤيتها‬
‫اخلاصة عىل اآلخرين ممن يعيشون معهم يف‬
‫نفس املجتمع‪ ،‬وأخطر األدوار التي يامرسوهنا‬
‫تتلخص يف اعتبار من خيالفهم يف بعض الرؤى‬
‫كافرا خارجا عن ملة اإلسالم‪.‬‬
‫بل إن الكفر بمعناه املجرد أمر هني‪ ،‬إذ إن من‬
‫أنواعه الكتايب وهو الذي قد حفظ له اإلسالم‬

‫‪12‬‬
‫ذمته‪ ،‬كام هو احلال بالنسبة لليهود والنصارى‪،‬‬
‫ولكن أسوأ أنواع التكفري وأخطره هو التجرؤ‬
‫باحلكم عىل أن املسلم الذي يشهد الشهادتني‬
‫مرشك‪ ،‬فالرشك باهلل أسوأ الضالالت البرشية‬
‫َ‬
‫ش َك بهِ َو َي ْغفِرُ‬
‫اهلل ال َي ْغفِ ُر أ ْن ي ُ ْ َ‬
‫كام قال عز وجل ﴿ إ َّن َ‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ْ ً‬ ‫ََ َْ‬ ‫ُ َ َ َ ْ َ ُ ََ ْ ُْ ْ‬
‫شك بِاهللِ فق ِد افتى إِثما‬
‫ما دون ذل ِك ل ِمن يشاء ومن ي ِ‬
‫ً‬
‫َع ِظيما ﴾ النساء‪ ،48 :‬وأخطر ما يرتبونه عىل الكفر‬
‫الرشكي هو احلكم هبدر دم من يكفرون وإباحة‬
‫ماله‪.‬‬
‫التكفريبتهمةالرشك‪:‬‬
‫إن األمر الذي نود تفصيله يرتبط بإبراز فهم‬
‫خاطئ وشاذ للتوحيد والرشك‪ ،‬بل رؤية خطرية‬
‫تنترش بني الشباب املسلم ‪ -‬السيام يف اخلليج‬
‫واجلزيرة العربية ‪ -‬تقلب خارطة العامل السياسية‬
‫حيث ُترج جل املسلمني املقرين بالشهادتني‬
‫عن اإلسالم باعتبارهم مرشكني‪.‬‬
‫إهنا دعوى عظيمة بحق مسلمني يشهدون‬
‫الشهادتني يقشعر منها بدن كل سليم الفطرة‪،‬‬
‫والسؤال‪ :‬كيف آمن هبذه الدعوى هذا العدد‬
‫الكبري من الشباب املسلم؟!‬
‫بل األنكى كيف تم إقناع بعضهم بمامرسة أبشع‬
‫‪13‬‬
‫جرائم العرص احلديث واملتمثلة باملفخخات‬
‫التي نراها عىل نحو شبه يومي عىل شاشات‬
‫الفضائيات؟!‬
‫ملاذا أصبح جيش العدو الصهيوين أقل خطرا‬
‫بحيث تكالبت هذه الفئة عىل الشعب املسلم‬
‫يف العراق بنسائه وأطفاله وشيوخه؟ هل ألن‬
‫جيش العدو الصهيوين أصبح كتابيا بينام الشعب‬
‫العراقي شعب مرشك؟!!‬
‫لقد تم حشو عقول هؤالء الشباب بمقولة إن‬
‫العراق أصبح موطنا للرشك واملرشكني بحيث‬
‫مل يعد جمتمعا مسلام‪ ،‬وهذا األمر مل يكن ليكتب‬
‫له النجاح لوال وجود رواد هلذا الفكر التكفريي‬
‫املضلل سعوا وبكل جهدهم لتحريف مقاييس‬
‫الرشك والتوحيد عند الشباب املغرر هبم‪ ،‬ومل‬
‫يتوقف التضليل عند هذا احلد بل تعداه إىل مقولة‬
‫إنه ال فرق يف جواز القتل بني الكبري والصغري‬
‫والشيخ والطفل والرجل واملرأة‪ ،‬فلم حتفظ‬
‫حرمةألحدكامحفظهااإلسالم‪،‬فأصبحتهذه‬
‫الضاللة هي أكرب منبع ورافد ملا نجده يف ساحتنا‬
‫السياسية من جمازر وفظائع متارس ضد املسلمني‬
‫خاصة واإلنسانية عامة وباسم اإلسالم!!‬

‫‪14‬‬
‫ولألسف الشديد فإن اخلطر األهم واألعظم أن‬
‫البعض ممن حيارب اإلرهاب خملصا يف حربه هلا‬
‫وقع حتت طائلة هذه الرؤية اخلطرية من حيث‬
‫ال يشعر‪ ،‬حيث ترسبت إىل أهم مراكز املجتمع‬
‫التعليمية(املدراسومناهجهاالتعليمية)‪،‬فنجد‬
‫أنه بدال من أن يدرس فيها ما يعرضه القرآن‬
‫الكريم والسنة النبوية الطاهرة من مقاييس‬
‫للتوحيد والرشك تم تدريس تلك الرؤية الضالة‬
‫واخلاطئة هلؤالء التكفرييني وفهمهم اخلاطئ‬
‫للتوحيدوالرشك‪.‬‬
‫ونكتفي بعرض نموذجني لذلك عىل سبيل‬
‫املثال ال احلرص‪:‬‬
‫أوهلام‪ :‬فقرات من منهج الرتبية اإلسالمية‬
‫للصف التاسع‪ ،‬حيث نقرأ فيه حتت عنوان‬
‫(معنىالعبادةومنيستحقها)‪:‬‬
‫«من دعا غري اهلل أو ذبح أو نذر لغري اهلل أو استعان‬
‫أو استغاث بميت أو غائب أو بحي حارض فيام‬
‫ال يقدر عليه إال اهلل فقد أرشك الرشك األكرب‪،‬‬
‫وسواء رصف هذا النوع من العبادة لصنم أو‬
‫شجر أو حلجر أو لنبي من األنبياء أو لويل من‬
‫األولياء‪ ،‬فهذا كله رشك واهلل عز وجل ال يرىض‬

‫‪15‬‬
‫أن يرشك معه يف عبادته أحد‪ ،‬ال مقرب قوم وال‬
‫َّ‬
‫نبي مرسل وال ويل وال غريهم‪ ،‬قال تعاىل ﴿ إِن‬
‫َ َ ْ ُ َْ ُْ َ َ ََْ ُ ُ َ‬
‫ون ذل َِك ل َِم ْن ي َ ُ‬
‫شاء َو َمنْ‬ ‫اهلل ال يغفِر أن يشك بِهِ ويغفِر ما د‬
‫ً‬ ‫ْ ً‬ ‫ْ‬
‫ش ْك بِاهللِ َف َق ِد اف َتى إِثما َع ِظيما ﴾‪ ،‬وقال عز وجل‬ ‫ي ِ‬
‫ُْ‬
‫َ َ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َّ ْ‬
‫﴿ وأن المسا ِجد ِلِ فال تدعوا مع اهللِ أحدا﴾‪ ،‬وقال‬
‫ً‬ ‫َ َ ُْ ُ‬
‫شكوا بِهِ َشيْئا ﴾‪.‬‬ ‫َ ُُْ‬
‫سبحانه ﴿واعبدوا اهلل وال ت ِ‬
‫ومع األسف الشديد فقد اختذت القبور يف بعض‬
‫البالد أوثانا تعبد من دون اهلل‪ ،‬يذهب إليها الناس‬
‫يطلبون من أصحاهبا قضاء حوائجهم بحجة‬
‫أهنم أناس صاحلون وهلم جاه عند اهلل‪ ،‬وقد‬
‫نسوا أن هذا ‪ -‬واهلل ‪ -‬هو قول املرشكني كام ذكره‬
‫ََُُْ َ ْ ُ‬
‫يف القرآن يف قوله تعاىل ﴿ ويعبدون مِن د ِ‬
‫ون اهللِ ما‬
‫ْ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫ُ ُ َ ُ‬ ‫َْ‬ ‫َ ُ ُّ ُ‬
‫ضه ْم َوال َينف ُع ُه ْم َو َيقولون هؤالءِ شفعاؤنا عِن َد اهللِ‬ ‫ال ي‬
‫َْ‬ ‫اهلل بما ال َي ْعلَ ُم ف َّ‬ ‫ُْ َُّ ُ َ‬
‫ون َ‬ ‫َ‬
‫ماوات َوال ِف األر ِض‬ ‫ِ‬ ‫الس‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫قل أتنبِئ‬
‫َ‬ ‫َ َّ ُ ْ ُ َ‬ ‫ُ ْ َُ ََ‬
‫شكون﴾ وقوله عز وجل ﴿أال ِلِ‬ ‫سبحانه وتعاىل عما ي ِ‬
‫ّ ُ ْ ُ َ َّ َ َّ َ ُ ْ ُ َ ْ َ َ ْ ُ ُ ُ ْ َّ‬
‫ادلِين الال ِص والِين اتذوا مِن دونِهِ أو ِلاء ما نعبدهم إِال‬
‫ُ‬ ‫لُ َق ّر ُبونا إ َل اهلل ُزلْىف إ َّن َ َ ْ ُ ْ‬
‫اهلل يك ُم بَي َن ُه ْم ِف ما ه ْم فِيهِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َ‬ ‫ََْ ُ َ‬
‫اهلل ال َي ْهدِي َم ْن ُه َو اكذ ٌِب ك َّفار ﴾(((‪.‬‬ ‫ون إ َّن َ‬
‫يتل ِف ِ‬
‫وثانيهام من منهج الرتبية اإلسالمية للصف‬
‫العارش‪ ،‬وصياغته أخطر ألنه يرصح بأن حكم‬
‫((( الرتبية اإلسالمية للصف التاسع يف دولة الكويت ص ‪،23 -22‬‬
‫الطبعة الثانية‪ 1423‬هـ‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫هؤالء هو القتل‪ ،‬فكُتب يف املنهج حتت عنوان‬
‫نواقض التوحيد‪« :‬الرشك نوعان‪ :‬أ‪ -‬الرشك‬
‫األكرب‪ :‬وهو رصف يشء من أنواع العبادة لغري‬
‫اهلل سبحانه وتعاىل كالدعاء لغري اهلل عز وجل أو‬
‫التقرب بالذبائح والنذور لغري اهلل عز وجل من‬
‫القبور واجلن والشياطني واخلوف من املوتى أو‬
‫غريهم أن يرضوه أو يمرضوه وعبادة غري اهلل‬
‫كالذين عبدوا العجل والكواكب واألحجار‬
‫ََُُْ َ ْ ُ‬
‫ون اهللِ ما ال‬‫واألصنام قال تعاىل ﴿ويعبدون مِن د ِ‬
‫َ ُ ُّ ُ ْ َ َ ْ َ ُ ُ ْ َ َ ُ ُ َ ُ ُ َ ُ‬
‫عاؤنا عِنْ َد اهللِ ﴾»‪.‬‬ ‫يضهم وال ينفعهم ويقولون هؤالءِ شف‬
‫ثم يضع جدوال يفرق فيه بني حكم الرشك األكرب‬
‫والرشك األصغر فيذكر أنه من حيث العقيدة‬
‫الرشك األكرب خيرج من ملة اإلسالم‪ ،‬ومن‬
‫حيث العقوبة فعقوبة الرشك األكرب هي إباحة‬
‫دم املرشك وماله وخلوده يف النار(((‪ ،‬هذا بعد أن‬
‫تعلموا أن زوار القبور من املرشكني‪.‬‬
‫عواملانتشارالفكرالتكفريي‪:‬‬
‫املهم أن هذا الفكر أصبح مستوعبا لعدد كبري‬
‫من الشباب املسلم يف اخلليج واجلزيرة العربية‪،‬‬

‫((( الرتبية اإلسالمية للصف العارش يف دولة الكويت ص ‪،45 -44‬‬


‫الطبعة الثانية‪ 1423‬هـ‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫و الشك بأن فيهم املخلص لإلسالم وأمته‪،‬‬
‫ويرجع ذلك االنتشار إىل عاملني أساسيني‪:‬‬
‫األول‪ :‬القدرة املالية‪ :‬فال شك بأن لوجود‬
‫القدرة املالية عند املتبنني لتلك الرؤية دورا كبريا‬
‫يف انتشارها وبلوغها مناطق بعيدة من العامل‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬التلبيس القرآين‪ :‬إن املتتبع ملا كتبه مؤسسو‬
‫تلك الرؤية وعلامؤها يرى أن هناك عامال آخر‬
‫غري القدرة املالية ال ينبغي إغفاله كان له دور مهم‬
‫يف جذب الشباب وأدى إىل ازدياد أتباع تلك‬
‫الرؤية للتوحيد والرشك وانتشارهم يف بالد‬
‫املسلمني‪.‬‬
‫وخالصته أهنم ألبسوا عقيدهتم ورؤيتهم لباسا‬
‫قرآنيا من خالل االستناد عىل بعض اآليات التي‬
‫ادعوا أهنا حمكمة يف رؤيتهم للتوحيد والرشك‪،‬‬
‫وغدت مادهتم التعليمية والرتبوية قائمة عىل‬
‫تلك القراءة اخلاصة لتلك اآليات‪ ،‬فكان هلذه‬
‫الصبغة اإلعالمية القرآنية دور كبري يف انتشار‬
‫ذلك الفهم اخلاطئ وتلك الرؤية الضالة‪.‬‬
‫ولذا فإن لبيان خطأهم وخللهم يف قراءة اآليات‬
‫وفهمها الدور األكرب واألساس يف مواجهة هذه‬

‫‪18‬‬
‫الضاللة الكبرية التي نخرت ومازالت تنخر يف‬
‫اجلسداإلسالمي‪.‬‬
‫وهذا البحث هيدف لبيان مدى اخللل الكبري‬
‫الذي وقعوا فيه يف قراءهتم وفهمهم لآليات التي‬
‫استندوا إليها‪ ،‬وهذا البيان من شأنه ‪ -‬بإذن اهلل ‪-‬‬
‫العمل عىل إنقاذ الشباب من براثن هذه الرؤية‬
‫اخلطرية‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫متهيد‬
‫عرضللرؤيةالتكفريية‪:‬‬
‫تقوم الرؤية التكفريية التي نتحدث عنها عىل‬
‫أساس التفريقبنينوعنيمن التوحيدمهاتوحيد‬
‫الربوبيةوتوحيداأللوهيةومنثميقابلهامنوعان‬
‫من الرشك مها رشك الربوبية ورشك األلوهية‬
‫(و ُيعرب عنه أحيانا برشك العبادة)‪ ،‬وتتقوم‬
‫رؤيتهم آليات التوحيد والرشك يف القرآن هبذا‬
‫التنويع‪.‬‬
‫مااملقصودبتوحيدالربوبية؟‬
‫توحيد الربوبية هو إفراد اهلل عز وجل باخللق‬
‫وامللك والتدبري‪ ،‬وينطلق هذا االصطالح من‬
‫املعنى اللغوي لكلمة الرب‪ ،‬قال ابن فارس‪:‬‬
‫«الراء والباء يدل عىل أصول‪ ،‬فاألول‪ :‬إصالح‬
‫اليشء والقيام عليه‪ ،‬فالرب‪ :‬املالك واخلالق‬
‫والصاحب‪ ،‬والرب‪ :‬املصلح لليشء‪ ...‬واهلل‬

‫‪20‬‬
‫جلثناؤهالربألنهمصلحأحوالخلقه‪.(((»...‬‬
‫مااملقصودبتوحيداأللوهية؟‬
‫توحيد األلوهية (ويعرب عنه أحيانا بتوحيد‬
‫العبادة) هو إفراد اهلل عز وجل بالعبادة(((‪،‬‬
‫فسجودك وصالتك جيب أن يكونا هلل وليس‬
‫ألي موجود آخر‪ ،‬وهذا أيضا ينطلق من املعنى‬
‫اللغوي لكلمة اإلله‪ ،‬قال ابن فارس‪« :‬إله اهلمزة‬
‫والالم واهلاء أصل واحد وهو التعبد فاإلله‬
‫اهلل تعاىل وسمي بذلك ألنه معبود ويقال‪ :‬تأله‬
‫الرجل إذا تعبد‪ ،(((»...‬وبناء عىل هذا الفارق‬
‫اللغوي سيتضح الفرق بني كلمتي رب وإله يف‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُْ َ ُ ُ‬
‫ِك‬
‫اس * مل ِ‬ ‫سورة الناس‪ ،‬قال تعاىل ﴿ قل أعوذ بِر ِ‬
‫ب انل ِ‬
‫انلَّ ِاس * إِهلِ انلَّ ِاس ﴾ الناس‪.3-1:‬‬
‫تعليقعىلهذاالتمييز‪:‬‬
‫إن هذا التمييز بني املفردتني غري مرفوض من‬
‫الناحية النظرية‪ ،‬ولكن من الناحية العملية يرى‬
‫املتتبع أن األديان قامت عىل التالزم بني هذين‬
‫األمرين‪ ،‬فهو األصل عند مجيع الديانات حتى‬

‫((( معجم مقاييس اللغة ص ‪.378‬‬


‫((( القول املفيد عىل كتاب التوحيد ج‪ 1‬ص ‪.14‬‬
‫((( معجم مقاييس اللغة ص ‪.69‬‬
‫‪21‬‬
‫املنحرفةمنهاواملرشكة‪.‬‬
‫ونقصد هبذا التالزم أن أتباع الديانات املختلفة‬
‫إذا اعتقدوا بربوبية موجود ما ‪ -‬بمعنى أن له‬
‫قدرته الذاتية واملستقلة يف النفع والرض‪ -‬عبدوه‪،‬‬
‫كام أهنم إذا عبدوا موجودا ما ‪ -‬بمعنى قصدوه يف‬
‫طقوسهم وعباداهتم ‪ -‬فهذا يعني أهنم يرون أن‬
‫له شأنا يف الربوبية‪.‬‬
‫لكن هذا ال يمنع وال ينفي فرضية وجود بعض‬
‫من خالف هذا األصل فعبد من ال يعتقد بربوبيته‬
‫أي تأثريه املستقل يف شئون الكون أو بعضها‪،‬‬
‫فتقوم عقيدته عىل التفكيك بني األمرين خالفا‬
‫ألصل القائم عىل املالزمة عند جل البرش‪.‬‬ ‫ل َ‬
‫كيــف حكــم التكفرييــون عــى جــل األمــة‬
‫با لــر ك ؟‬
‫وبعد التمييز السابق ادعى أصحاب هذه الرؤية‬
‫اخلاصة دعويني رئيسيني حكموا من خالهلام‬
‫برشك مجع كبري من املسلمني‪ ،‬مها‪:‬‬
‫الدعوى األوىل‪ :‬إن املشركني مل يشركوا يف‬
‫الربوبية‪ ،‬يركز أصحاب هذه الرؤية عىل أن‬
‫مرشكي البرش ومنهم مرشكو قريش مل يرشكوا‬
‫باهلليفالربوبيةبلكانوايوحدونهيفهذااجلانب‪،‬‬
‫‪22‬‬
‫وكان رشكهم يقترص عىل رشك األلوهية‪ ،‬وقد‬
‫استدلوا بآيات عدة يروهنا رصحية يف الداللة عىل‬
‫دعواهم هذه‪.‬‬
‫الدعوى الثانية‪ :‬إن املسلمني اليوم يشركون باهلل‬
‫يف األلوهية‪ ،‬ويف هذه الدعوى يعترب هؤالء أن‬
‫بعض األعامل التي يقوم هبا املسلمون اليوم هي‬
‫من الرشك يف األلوهية‪ ،‬فريون أن النذر والذبح‬
‫والدعاء من مجلة العبادات التي رصفها بعض‬
‫املسلمني لغري اهلل‪ ،‬وقصد غري اهلل هبذه العبادات‬
‫موجب للوقوع يف رشك األلوهية‪.‬‬
‫نتيجةالدعوينياملدمرة‪:‬‬
‫وينتج من الدعويني أن املسلمني الذين يقومون‬
‫بتلك األعامل املنافية ‪ -‬وفق وجهة نظر تلك الفئة‬
‫‪ -‬لتوحيد األلوهية أرشكوا باهلل كام أرشك من‬
‫كان قبلهم‪ ،‬وعليه تستباح دماء أولئك املسلمني‬
‫وأمواهلم كام استبيحت دماء وأموال املرشكني‬
‫من قبل ألنه ال فرق بينهم فكلهم مرشك يف‬
‫األلوهية وإن وحد اهلل يف ربوبيته !!!‬
‫فال ينبغي أن نستغرب إذن من مشاعر احلامس‬
‫لدى بعض الشباب املضلل الناجتة من هذه‬
‫الرؤية اخلاطئة واهلدامة جتاه املسلمني املقرين‬
‫‪23‬‬
‫بالشهادتني‪ ،‬تلك املشاعر التي أصبحت نفس‬
‫املشاعر جتاه مرشكي قريش يف جزيرة العرب‪،‬‬
‫وهذا يكشف لك جزءا من احلقد األسود الذي‬
‫يقف خلف املفخخات ويفرس لك حقيقة ما‬
‫جيري يف العراق الدامي حيث متزق أجساد‬
‫األبرياء‪.‬‬
‫منهجالبحث‪:‬‬
‫واملهم عندنا أن نتناول بموضوعية اآليات التي‬
‫اس ُتدل هبا عىل الدعويني مبينني الفهم السليم هلا‬
‫وبالتايل تتبني حقيقة اخللل الذي جر الويالت‬
‫وما زال جير أعظم املخاطر بل وهيدد أصل‬
‫اإلسالم‪ ،‬وسنقسم البحث إىل فصلني‪ ،‬مها‪:‬‬
‫الفصل األول‪ :‬حقيقة ما ادعي من توحيد‬
‫املرشكني يف الربوبية‪:‬‬
‫سنتناولفيهالدعوىاألوىلإذسنناقشفيهاألدلة‬
‫القرآنية التي استظهروا منها إقرار املرشكني‬
‫بتوحيد الربوبية‪ ،‬وسيتبني أن الواضح من‬
‫النصوص الرشعية وقوع الرشك يف الربوبية عند‬
‫املرشكني قبل اإلسالم كام أرشكوا يف األلوهية‪.‬‬
‫الفصل الثاين‪ :‬حقيقة ما ادعي من رشك املسلمني‬
‫يف األلوهية‪:‬‬
‫‪24‬‬
‫سنتناول فيه الدعوى الثانية إذ سنناقش فيه‬
‫اآليات التي يستدل هبا أصحاب تلك الرؤية‬
‫للحكم عىل جل املسلمني بالوقوع يف رشك‬
‫األلوهية‪ ،‬وسيتبني أن الدعوى الثانية ليست‬
‫إال مغالطة وتلبيسا للباطل باحلق وفهام خاطئا‬
‫آليات القرآن الكريم‪.‬‬
‫تنبيه‪:‬‬
‫وال بد يف املقام من التنبيه عىل أن لب مشكلتهم‬
‫يرتكز يف الفصل الثاين‪ ،‬فالدعوى األوىل أي‬
‫جمرد قرص رشك املرشكني عىل رشك األلوهية ال‬
‫يوجب هتمة املسلمني بيشء من الرشك‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى نقول حتى لو سلمنا بصحة‬
‫دعواهم األوىل‪ ،‬وأن املرشكني وحدوا اهلل يف‬
‫الربوبية وأرشكوا يف األلوهية فقط‪ ،‬فذلك‬
‫ال يعني أهنم استطاعوا أن يثبتوا بذلك وقوع‬
‫املسلمني يف الرشك‪ ،‬بل جوهر خللهم ينصب‬
‫يف أهنم وضعوا معايري خاطئة لرشك األلوهية‬
‫وطبقوها عىل املسلمني كام سيتبن لك يف الفصل‬
‫الثاين‪.‬‬
‫وتبقى الفائدة املرجوة عندهم من احلديث عن‬
‫عدم وقوع املرشكني يف رشك الربوبية تتلخص‬
‫‪25‬‬
‫يف حتضري نفس املستمع كي تتكون عنده ‪ -‬جتاه‬
‫املسلمني املتهمني ‪ -‬نفس املشاعر التي تكونت‬
‫جتاه املرشكني زمن النبي ‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫الفصل األول‪:‬‬
‫حقيقة توحيد املرشكني‬
‫باهلل يف الربوبية‬
‫أدلتهم عىل توحيد املرشكني يف الربوبية‪:‬‬
‫ذكرنا فيام سبق أن هؤالء ادعوا أن املرشكني‬
‫موحدون هلل يف الربوبية‪ ،‬وإنام كان رشكهم‬
‫يقترص عىل رشك األلوهية‪ ،‬وقد استدلوا عىل‬
‫هذه الدعوى باآليات التي تفيد إقرار املرشكني‬
‫بخالقية اهلل وتدبريه‪ ،‬ومنها اآليات التالية‪:‬‬
‫ماوات َواأل ْر َض َو َس َّخرَ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ْ َ ََْ ُ ْ َ ْ َ َ‬
‫ِ‬ ‫‪ ﴿ .1‬ولئِن سألهم من خلق الس‬
‫اهلل يَبْ ُسطُ‬ ‫ون * ُ‬ ‫َّ ْ َ َ ْ َ َ َ َ َ ُ ُ َّ ُ َ َ َّ ُ ْ َ ُ َ‬
‫الشمس والقمر لقولن اهلل فأن يؤفك‬
‫َ َ ْ ُ َ ُ َّ َ ُ ّ َ‬ ‫الر ْز َق ل َِم ْن ي َ ُ‬
‫ش ٍء‬ ‫اهلل بِك ِل ْ‏‬ ‫شاء م ِْن عِبادِه ِ ويقدِر ل إِن‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫ْ‬ ‫ََ‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ٌ َ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َّ َ‬
‫عل ِيم * ولئِن سألهم من نزل مِن السماءِ ماء فأحيا‬
‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ْ َ ْ َ َ ُ ُ َّ ُ ُ ْ‬ ‫َْ َ‬
‫بِهِ األرض مِن بع ِد موت ِها لقولن اهلل ق ِل المد ِلِ بل‬
‫َ ْ َُُ ْ َ ْ ُ َ‬
‫أكثهم ال يعقِلون ﴾ العنكبوت‪.63- 61:‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َْ ُُ ُ‬
‫السماءِ َواأل ْر ِض أ َّم ْن َي ْمل ِك‬ ‫ك ْم م َِن َّ‬ ‫‪ ﴿ .2‬قل من يرزق‬
‫خرجُ‬ ‫َّ ْ َ َ َ ْ َ َ َ ْ ُ ْ ُ ْ َ َّ َ ْ َ ّ َ ُ ْ‬
‫ت وي ِ‬ ‫السمع واألبصار ومن ي ِرج الح مِن المي ِ ِ‬
‫ْ َ ّ َ َ ْ َ َ َ ْ ُ َ ّ َ ْ َ َ َ ُ ُ َ ُ َ ُ ْ ََ‬
‫ح ومن يدب ِ ُر األم َر فسيقولون اهلل فقل أفال‬ ‫الميِت مِن ال ّ‬
‫ِ‬
‫‪27‬‬
‫َ َّ ُ َ‬
‫ون ﴾ يونس‪.31:‬‬ ‫تتق‬
‫َ َ َ ُ ُ‬
‫ماوات َواأل ْرض لَقول َّن‬‫ِ‬ ‫﴿ ولَئ ْن َس َأ ْلَ ُه ْم َم ْن َخلَ َق َّ‬
‫الس‬ ‫‪َ .3‬‬
‫ِ‬
‫اهلل‪ ﴾ ...‬لقامن‪.25:‬‬ ‫ُ‬
‫ْ ُْ َ َ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُْ‬
‫‪ ﴿ .4‬قل ل َِم ِن األ ْرض َو َم ْن فِيها إِن كن ُت ْم ت ْعل ُمون *‬
‫ُ ْ َ َ َ َ َّ ُ َ‬
‫ون * قُ ْل َم ْن َر ُّب َّ‬ ‫ُ ُ َ‬
‫ماوات‬
‫ِ‬ ‫الس‬ ‫َس َيقولون ِلِ قل أفال تذكر‬
‫ُْ ََ َ ُ َ‬ ‫ُ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫السبْعِ َو َر ُّب ال َع ْر ِش ال َع ِظي ِم * َس َيقولون ِلِ قل أفال ت َّتقون‬ ‫َّ‬
‫ُْ َ ْ َ َ َ ُ ُ ُّ َ ْ َ ُ َ ُ ُ َ ُ ُ َ ْ‬
‫ار َعليْهِ إِن‬ ‫يري وال ي‬ ‫ش ٍء وهو ِ‬‫ك ‏‬ ‫* قل من بِي ِده ِ ملكوت ِ‬
‫ُ ْ َ َ َّ ُ ْ َ ُ َ‬ ‫ُ ُْ ْ َ ْ َ ُ َ َ َُ ُ َ‬
‫كنتم تعلمون  * سيقولون ِل ِ قل فأن تسحرون ﴾ املؤمنون‪:‬‬

‫‪.89- 84‬‬
‫قالواإنهذهاآلياترصحيةيفإقراراملرشكنيبأن‬
‫اهلل هو اخلالق املدبر وهو يعني نفي هذه الصفات‬
‫عن آهلتهم‪ ،‬وهذا هو حقيقة توحيد الربوبية‪ ،‬فال‬
‫يبقى سبب العتبارهم مرشكني إال رشكهم يف‬
‫األلوهية(العبادة)‪.‬‬
‫واحلصيلة إن كل آهلة املرشكني غري اهلل ال حول‬
‫هلا وال قوة يف نظر هؤالء املرشكني إال التوسط‬
‫والتشفع عند اهلل لقضاء احلوائج فليس هلا تأثري‬
‫مبارش يف قضائها‪.‬‬
‫وكمثال عىل استدالل أصحاب هذه الرؤية عىل‬
‫توحيد املرشكني يف الربوبية باآليات‪ ،‬قال الشيخ‬
‫حممد بن عبد الوهاب‪ ...« :‬أن الكفار الذين‬
‫‪28‬‬
‫قاتلهم رسول اهلل ‪ ‬كانوا مقرين هلل بتوحيد‬
‫الربوبية يشهدون أن اهلل هو اخلالق الرازق املحي‬
‫املميت املدبر جلميع األمور ومل يدخلهم ذلك يف‬
‫ُ ُ‬
‫اإلسالم والدليل قوله تعاىل ﴿ قل َم ْن يَ ْر ُزقك ْم م َِن‬
‫صار َو َم ْن ُيْرجُ‬ ‫الس ْم َع َواألَب ْ َ‬ ‫السماءِ َواألَ ْر ِض أَ َّم ْن َي ْمل ُِك َّ‬
‫َّ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ت م َِن الْ َ‬ ‫خر ُج ال ْ َم ّي َ‬
‫ْ َ َّ َ ْ َ ّ َ ُ ْ‬
‫ح َو َم ْن يُ َدبّ ُر األ ْمرَ‬
‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت وي ِ‬ ‫الح مِن المي ِ ِ‬
‫َ‬
‫َ َ َ ُ ُ َ ُ َ ُ ْ َ َ َّ ُ َ‬
‫ون‪ ﴾ ...‬يونس‪.»31:‬‬ ‫فسيقولون اهلل فقل أفال تتق‬

‫مناقشة هذا الرأي‪:‬‬


‫إن من الغريب حقا اعتبار هذا الفهم من‬
‫املسلامت والواضحات مع وجود ثالثة أمور‬
‫واضحة يف اآليات واألخبار تتناىف مع ذلك‬
‫الفهم وتتعارض معه‪ ،‬وإليك بياهنا‪:‬‬
‫األمــر األول‪ :‬اآليــات والروايــات تــرح بأهنــم‬
‫كانــوا يعتقــدون بــأن آهلتهــم تــر وتنفــع‪:‬‬
‫فهناك العديد من النصوص التي ترصح باعتقاد‬
‫املرشكني بأن آهلتهم ترض وتنفع‪ ،‬ويمكننا‬
‫تقسيمهاإىلالقسمنيالتاليني‪:‬‬
‫أوال‪ :‬اآليات الكريمة‪:‬‬
‫َّ‬
‫ْ َُ‬ ‫ُ‬
‫اع َت َاك َب ْع ُض آل َِهتِنا ب ِ ُسو ٍء‪ ﴾ ...‬هود‪،54 :‬‬
‫ْ‬
‫‪ ﴿ .1‬إِن نقول إِال‬
‫فهذه اآلية رصحية الداللة عىل اعتقاد املرشكني‬
‫‪29‬‬
‫بأن آهلتهم رضت نبي اهلل هودا ‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َُ ْ ُ‬ ‫َّ‬
‫ون اهللِ آل َِه ًة ِلَكونُوا ل ُه ْم ع ًِّزا ﴾ مريم‪،81:‬‬
‫‪ ﴿ .2‬واتذوا مِن د ِ‬
‫فاآلية ظاهرة الداللة عىل أن املرشكني عبدوا غري‬
‫اهلل ألن آهلتهم املعبودة حتقق العز والنرص بنفسها‬
‫وذلك ملا متلك من قدرة خارقة وفق عقيدهتم‬
‫الباطلة‪.‬‬
‫َ ْ ً َ َ ْ ُ ُ َ ْ ً َّ‬ ‫َّ َ ْ ُ ُ َ ْ ُ‬
‫ون اهللِ أوثانا وتلقون إِفاك إِن‬ ‫‪ ﴿ .3‬إِنما تعبدون مِن د ِ‬
‫ًَ ُ‬ ‫ُ َ َ ُ‬ ‫َّ َ َ ْ ُ ُ َ ْ ُ‬
‫ون اهللِ ال َي ْمل ِكون لك ْم رِ ْزقا فابْ َتغوا‬
‫الِين تعبدون مِن د ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ َ‬ ‫َْ‬
‫الر ْزق َواع ُب ُدوهُ َواشك ُروا ُل إِلْهِ ت ْر َج ُعون ﴾‬
‫عِند اهللِ ِ‬
‫العنكبوت‪ ،17 :‬وهذه اآلية تشري إىل أهنم يعتقدون أن‬
‫آهلتهم ترزق إذ من غري املعقول أن يقال ملن يعتقد‬
‫أن الرزق بيد اهلل وأن اآلهلة ليست إال وسيطا يف‬
‫ُ َ‬ ‫َّ َّ َ َ ْ ُ ُ َ ْ ُ‬
‫ون اهللِ ال َي ْمل ِكون‬
‫رزق اهلل‪ ... ﴿ :‬إِن الِين تعبدون مِن د ِ‬
‫َ ُ‬
‫ك ْم ر ْزقا ً فَابْ َت ُغوا عِنْ َد اهللِ ّ‬
‫الر ْز َق ﴾ ألن رد ذلك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬
‫سيكون واضحا إذ سيقولون‪ :‬نحن نعرف أهنا ال‬
‫ترزق والذي يرزق هو اهلل ونبتغي الرزق من اهلل‬
‫وهذه اآلهلة فقط تتوسط عند اهلل كي يرزقنا‪.‬‬
‫ِين مِنْ‬‫ك ب َّال َ‬ ‫ََُْ َُ َ ُّ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ‬
‫كاف عبده ويخوِفون ِ‬ ‫ٍ‬ ‫‪ ﴿ .4‬أليس اهلل ب ِ‬
‫ُ َ َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫اهلل فما ُل‬ ‫اهلل فما ُل م ِْن ها ٍد * َو َم ْن َي ْه ِد‬ ‫دونِهِ َو َم ْن يُضل ِِل‬
‫اهلل ب َعزيز ذِي انْتِقام * َولَئ ْن َس َأ ْلَ ُه ْم َمنْ‬ ‫ض ّل َألَيْ َس ُ‬ ‫ْ ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ْ ِ ِ ٍ‬ ‫مِن م ِ ٍ‬
‫َ َ ْ َ َ َ ُ ُ َّ ُ ُ ْ َ َ َ َ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ‬ ‫َخلَ َق َّ‬
‫ماوات واألرض لقولن اهلل قل أفرأيتم ما تدعون‬ ‫ِ‬ ‫الس‬

‫‪30‬‬
‫ُ ُ ّ َ‬ ‫ض َه ْل ُه َّ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫ْ ُ‬
‫ضه ِ أ ْو‬ ‫ِفات‬‫ش‬‫اك‬ ‫ن‬ ‫اهلل ب ُ ّ‬
‫ن ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ون اهللِ إِن أ ِ‬
‫راد‬ ‫مِن د ِ‬
‫ُ َ َْ ُْ َ ْ َ ُ َ َ‬ ‫َ َ َ َْ َْ ُ‬
‫اهلل عليْهِ‬ ‫ح ٍة هل ه َّن ُم ْمسِاكت رحتِهِ قل حس ِب‬ ‫أراد ِن بِر‬
‫َ َ َ َّ ُ ْ ُ َ َ ّ ُ َ‬
‫ون ﴾ الزمر‪ 36 :‬ـ ‪ ،38‬ووجه االستدالل‬ ‫يتوك المتو ِك‬
‫باآلية أهنا ترصح بأن املرشكني خيوفون‬
‫الرسول ‪ ‬بآهلتهم‪ ،‬قال البغوي يف تفسري‬
‫ك ب َّال َ‬
‫ِين م ِْن ُدونِهِ‪ ﴾...‬وذلك أهنم‬ ‫َُ َ ُّ َ َ‬
‫اآلية‪ ...﴿ :‬ويخوِفون ِ‬
‫خوفوا النبي ‪ ‬معرة معاداة األوثان‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫«لتكفن عن شتم آهلتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو‬
‫جنون»(((‪ ،‬فكالمهم رصيح بنسبة اإلرضار إىل‬
‫آهلتهم‪.‬‬
‫ثانيا‪:‬األخبار‪:‬‬
‫‪ .1‬روى ابن هشام يف سريته قال‪« :‬حدثني‬
‫بعض أهل العلم أن عمرو بن حلي خرج من‬
‫مكة إىل الشام يف بعض أموره‪ ،‬فلام قدم مآب‬
‫من أرض البلقاء وهبا يومئذ العامليق‪ ...‬رآهم‬
‫يعبدون األصنام‪ ،‬فقال هلم‪ :‬ما هذه األصنام التي‬
‫أراكم تعبدون؟ قالوا له‪ :‬هذه أصنام نعبدها‪،‬‬
‫فنستمطرها فتمطرنا‪ ،‬ونستنرصها فتنرصنا‪،‬‬
‫فقال هلم‪ :‬أال تعطوين منها صنام فأسري به إىل‬
‫أرض العرب فيعبدونه‪ ،‬فأعطوه صنام يقال له‬
‫((( تفسري البغوي ج ‪ 4‬ص ‪69‬‬
‫‪31‬‬
‫هبل‪ ،‬فقدم به مكة فنصبه‪ ،‬وأمر الناس بعبادته‬
‫وتعظيمه»(((‪ ،‬فقوهلم‪« :‬فتمطرنا ونستنرصها‬
‫فتنرصنا «رصيح يف الداللة عىل أهنم ينسبون‬
‫تلك األفعال إىل آهلتهم‪ ،‬وليس ذلك إال ألهنم‬
‫اعتقدوا بوجود قدرة ذاتية هلا عىل ذلك‪.‬‬
‫َ َ ُ َ َ‬
‫﴿ و ُيخ ّوِفونك‬ ‫‪ .2‬روى الطربي يف تفسري قوله تعاىل‬
‫ب َّال َ‬
‫ِين م ِْن ُدونِهِ‪ ﴾ ...‬عن قتادة أنه قال‪« :‬بعث رسول‬ ‫ِ‬
‫اهلل ‪ ‬خالد بن الوليد إىل شعب بسقام ليكرس‬
‫العزى‪ ،‬فقال سادهنا وهو قيمها‪ :‬يا خالد أنا‬
‫أحذركها إن هلا شدة ال يقوم إليها يشء‪ ،‬فمشى‬
‫إليها خالد بالفأس فهشم أنفها»(((‪ ،‬فعبارهتم‬
‫رصحية يف أن هلا شدة بنفسها ال من خالل‬
‫االستعانةبقوةأخرى‪.‬‬
‫‪ .3‬قال السهييل عند احلديث عن مبدأ قصة‬
‫األوثان يف قوم نوح ورواية البخاري لذلك‪:‬‬
‫«وذكر الطربي هذا املعنى وزاد أن سواعا كان‬
‫ابن شيث وأن يغوث كان ابن سواع وكذلك‬
‫يعوق ونرس كلام هلك األول صورت صورته‪،‬‬
‫وعظمت ملوضعه من الدين وملا عهدوا يف‬
‫دعائه من اإلجابة فلم يزالوا هكذا حتى خلفت‬
‫((( سرية ابن هشام ج ‪ 1‬ص ‪ 94‬ـ ‪95‬‬
‫((( تفسري الطربي مج ‪ 12‬ج ‪ 24‬ص ‪9‬‬
‫‪32‬‬
‫اخللوف وقالوا‪ :‬ما عظم هؤالء آباؤنا إال ألهنا‬
‫تزرق وتنفع وترض واختذوها آهلة»(((‪.‬‬
‫توضيح‪ :‬إن تنايف هذه النصوص مع توحيد‬
‫املرشكني يف الربوبية واضح حيث أهنم لو كانوا‬
‫موحدين يف الربوبية ملا اعتقدوا بأن آهلتهم ترض‬
‫وتنفع إذ إن وجود آهلة ترض وتنفع ومستقلة يف‬
‫قدرهتا عىل ذلك يتناىف مع وحدة املدبر يف العامل‪.‬‬
‫األمــر الثــاين‪ :‬االعتقــاد بوجــود أبنــاء وبنــات هلل‬
‫مــن مســلامت عقائــد املرشكــن‪:‬‬
‫إن أعظم آيات التوحيد يف القرآن الكريم هي‬
‫سورة التوحيد أي قوله عز وجل ﴿ قُ ْل ُه َو ُ‬
‫اهلل‬
‫ُ َّ َ ُ َ ْ َ ْ َ َ ْ ُ َ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ ُ ُ ُ ً‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أحد  * اهلل الصمد * لم ي ِل ولم يول * ولم يكن ل كفوا‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أحد ﴾ سورة التوحيد وهي تتحدث عن أحد أهم‬
‫منافيات التوحيد أي االعتقاد بوجود ولد هلل‪،‬‬
‫فهل تتحدث هذه اآليات عن أمر نظري مل حيدث‬
‫يف الواقع‪ ،‬فلم يوجد من املرشكني من اعتقد‬
‫بوجود أوالد وبنات هلل؟! أليس االعتقاد بوجود‬
‫بنات هلل أهم عقائد املرشكني وخاصة مرشكي‬
‫اجلزيرةالعربية؟!‬
‫وقد حتدث عنها القرآن بنحو جيل وواضح يف‬
‫((( الروض االنف ج‪ 1‬ص‪.168‬‬
‫‪33‬‬
‫موارد عدة‪:‬‬
‫َ ْ َ‬ ‫َ ُ َّ َ َ ُ َ ً‬
‫اهلل َولا ُسبْحان ُه بَل ُل ما ِف‬ ‫منها قوله تعاىل ﴿ وقالوا اتذ‬
‫َ َْ ْ ُ ٌّ َ ُ ُ َ‬ ‫َّ‬
‫ماوات واألر ِض ك ل قان ِتون ﴾ البقرة‪ ، 116 :‬وقوله عز‬ ‫ِ‬ ‫الس‬
‫َ ُ ْ َ َّ َ ُ َّ َ َ ُ َ ً‬
‫اهلل َولا ﴾ الكهف‪.4:‬‬ ‫وجل ﴿ وينذِر الِين قالوا اتذ‬
‫أمل يعترب القرآن ادعاء الولد هلل أقبح مقاالت‬
‫َ ُ َّ َ َ َّ ْ‬
‫الرح ُن‬ ‫مرشكي العرب فقال عز وجل ﴿ وقالوا اتذ‬
‫ُ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ً َ َ ْ ْ ُ ْ َ ْ ً ًّ َ‬
‫ماوات َي َتف َّط ْرن‬ ‫كاد َّ‬
‫الس‬ ‫جئتم شيئا إِدا * ت‬ ‫ولا * لقد ِ‬
‫ْ َ َ ْ َّ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ َ َ ُّ ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ َ َ ْ َ ُّ‬
‫ِلرح ِن‬ ‫البال ه ًّدا * أن دعوا ل‬ ‫مِنه وتنشق األرض وتِر ِ‬
‫َ‬ ‫َّ ْ َ ْ َ َّ َ َ َ ً ْ ُ ُّ‬ ‫ْ‬ ‫َ ً‬
‫ْ‬
‫خذ ولا * إِن ك من ِف‬ ‫َولا * َوما يَن َب ِغ ل ِلرح ِن أن يت ِ‬
‫َْ ً‬ ‫َّ ْ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬
‫ماوات واألر ِض إِال ِآت الرح ِن عبدا ﴾ مريم‪88 :‬ـ‪98‬؟!‬ ‫ِ‬ ‫الس‬
‫أال تعني اآلية األخرية أهنم اعتقدوا بأن هناك يف‬
‫الساموات واألرض أبناء هلل ليسوا عبيدا له؟!‬
‫وقد حددت آيات سورة النجم أسامء آهلتهم التي‬
‫َ َ َ َ ْ ُ ُ َّ‬
‫الالتَ‬ ‫اعتقدوا أهنا بنات اهلل فقال تعاىل ﴿ أفرأيتم‬
‫َ َ ُ ُ َّ َ ُ َ َ ُ ْ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ ُ ْ‬ ‫ْ‬
‫الة األخرى * ألكم اذلكر ول األنىث *‬ ‫َوال ُع َّزى * ومناة اثل ِ‬
‫ماء َس َّميْ ُت ُموها َأنْ ُتمْ‬ ‫َّ َ‬
‫ال أ ْس ٌ‬ ‫ضزيى * إ ِ ْن ِ َ‬ ‫ْ َ ً ْ ٌ‬
‫ت ِلك إِذا ق ِس َمة ِ‬
‫ه إِ‬
‫ْ ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ُ ْ َََْ‬
‫طان‪ ﴾ ...‬النجم‪.2319:‬‬ ‫وآباؤكم ما أنزل اهلل بِها مِن سل ٍ‬
‫فهل هؤالء األوالد جمرد شفعاء ومل يكن هلم أي‬
‫تأثري يف الكون؟! إن كان هذا هو املراد فلامذا إذن‬
‫عنونوا بعنوان أبناء اهلل وبناته؟! أال يدل ذلك‬
‫عىل اعتقادهم بوجود نوع احتاد وجتانس بني‬

‫‪34‬‬
‫األب اإلله واألبناء اآلهلة؟‪ ،‬فاالبن له بعض‬
‫قدرات األب‪ ،‬إن االعتقاد بوجود أبناء هلل يعني‬
‫رشك الربوبية‪ ،‬فاآلهلة األوالد هم أرباب كام أن‬
‫اإلله األب رب‪ ،‬وال معنى للتجانس بني االبن‬
‫واألب إال ذلك‪.‬‬
‫وهذا ما رصح به القرطبي بقوله‪« :‬ومن أجاز أن‬
‫تكون املالئكة بنات اهلل فقد جعل املالئكة شبها‬
‫هلل ألن الولد من جنس الوالد وشبهه»(((‪.‬‬
‫األمــر الثالــث‪ :‬اســتدالل القــرآن بدليــل‬
‫التامنــع القائــم عــى افــراض وجــود قدرتــن‬
‫مســتقلتني ‪:‬‬
‫لقد واجه القرآن عقيدة املرشكني بتعدد اآلهلة‬
‫بدليل التامنع يف موارد متعددة (ومفاده‪ :‬لو‬
‫كان يف السموات واألرض آهلة غري اهلل لبطلتا‬
‫وفسدتا‪ ،‬ملا سيقع بينهم من االختالف والتضاد‬
‫ال ُ‬ ‫َ ٌ َّ‬ ‫َْ َ‬
‫اهلل‬ ‫والتامنع) منها قوله تعاىل ﴿ لو اكن فِي ِهما آل ِهة إ ِ‬
‫َ َّ َ ُ َ‬ ‫َ ّ ْ‬ ‫ََ َ َ َ ُ ْ َ‬
‫صفون ﴾ األنبياء‪:‬‬
‫ي ِ‬ ‫ب ال َع ْر ِش عما‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫هلل‬‫ا‬ ‫حان‬ ‫لفسدتا فسب‬
‫َ‬ ‫َ َّ َ َ ُ ْ َ‬
‫ل َوما اكن َم َع ُه م ِْن‬‫‪ 22‬وقوله تعاىل ﴿ ما اتذ اهلل مِن َو ٍ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ً َ َ َ َ ُ ُّ‬
‫ب ك إ ِ ٍهل بِما خل َق َول َعال َب ْعض ُه ْم ع َب ْع ٍض‬ ‫إ ِ ٍهل إِذا له‬
‫َّ َ َ‬
‫ب َوالشهادة ِ ف َتعاىل‬ ‫ون * اعلِم الْ َغيْ‬‫َ َّ َ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ُسبْحان اهللِ عما ي ِصف‬
‫ِ‬ ‫ِ‬

‫((( تفسري القرطبي‪ ،‬جملد‪ ،8‬ج‪ ،16‬ص‪.66‬‬


‫‪35‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َّ ُ ْ‬
‫ون ﴾ املؤمنون‪ 91 :‬ـ ‪ ، 92‬وهذا يعني ‪ -‬بشكل‬ ‫شك‬
‫عما ي ِ‬
‫واضح ‪ -‬أن املرشكني كانوا يعتقدون بوجود‬
‫مؤثرين يف الكون حيث كان الرد القرآين رصحيا‪:‬‬
‫أنه لو كان هناك موجودان يؤثران يف الكون وكل‬
‫منهام إله لفسدت السموات واألرض والهنار‬
‫نظامالكوناملتسق‪.‬‬
‫فهل يعقل أن يكون هذا الرد القرآين لعقيدة‬
‫املرشكني رد عىل مرشكني يعتقدون بأن اخلالق‬
‫املالك املدبر واحد؟! لو كان املرشكون موحدين‬
‫يف الربوبية ‪ -‬كام ذهب إليه أصحاب هذه الرؤية‬
‫‪-‬ألجابواوبكلسهولةبأهنماليعتقدونبوجود‬
‫إهلني هلام تأثري يف الكون‪ ،‬بل نحن نعتقد بأن املؤثر‬
‫واحد واآلخر جمرد إله للعبادة والشفاعة !!‬
‫وآيات سورة املؤمنون ذكرت دليل التامنع لكنها‬
‫أضافت احلديث عن أمرين آخرين مها إقرارهم‬
‫بخالقية اهلل وزعمهم وجود أبناء له بام يكشف أن‬
‫عقيدة هؤالء املرشكني املقرين بأن اهلل هو اخلالق‬
‫املدبر تتضمن وترتافق مع االعتقاد بوجود أبناء‬
‫مستقلني يف التأثري ببعض جوانب الكون‪ ،‬فهناك‬
‫ثالثة حماور يف اآليات تكشف حقيقة عقيدة‬
‫هؤالء‪:‬‬
‫‪36‬‬
‫األول‪ :‬إقرار املرشكني بخالقية اهلل وتدبريه‬
‫للكون‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬اعتقادهم بوجود أبناء هلل‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬اعتقادهم بوجود تأثري مستقل لآلهلة‬
‫عن اهلل‪ ،‬لذا رد عليهم بدليل التامنع‪.‬‬
‫وإليك اآليات بمحاورها الثالث‪ ،‬قال تعاىل يف‬
‫سورة املؤمنون ﴿ قُ ْل ل َِمن األَ ْر ُض َو َم ْن فِيها إ ْن ُكنْ ُتمْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون * قُ ْل َم ْن َربُّ‬ ‫ُ ْ َ َ َ َ َّ ُ َ‬ ‫ُ ُ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ت ْعل ُمون * َس َيقولون ِلِ قل أفال تذكر‬
‫ُْ‬ ‫ُ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫السبْعِ َو َر ُّب ال َع ْر ِش ال َع ِظي ِم * َس َيقولون ِلِ قل‬ ‫ماوات َّ‬‫ِ‬ ‫َّ‬
‫الس‬
‫ش ٍء َو ُه َو ُيريُ‬ ‫ك َ ‏ْ‬ ‫َ َ َ َّ ُ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ ُ ُ ُ ّ‬
‫ِ‬ ‫أفال تتقون * قل من بِي ِده ِ ملكوت ِ‬
‫ُ ْ َ ََّ‬ ‫ُ ُ َ‬ ‫َ ُ ُ َ ْ ُْ َ َ َ‬
‫ار َعليْهِ إِن كن ُت ْم ت ْعل ُمون * َس َيقولون ِلِ قل فأن‬ ‫وال ي‬
‫اتَ َذ ُ‬ ‫ُ ْ َ ُ َ َ ْ َ ْ ُ ْ ْ َ ّ َّ ُ ْ َ ُ َ َ َّ‬ ‫َ‬
‫اهلل‬ ‫تسحرون * بل أتيناهم بِال ِق ِإَونهم لاكذِبون * ما‬
‫َ َ َ‬ ‫ً َ َ َ َ ُ ُّ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫ب ك إ ِ ٍهل بِما خل َق َول َعال‬ ‫ل َوما اكن َم َع ُه م ِْن إ ِ ٍهل إِذا له‬ ‫مِن َو ٍ‬
‫ب‬ ‫ون * اعلِم الْ َغيْ‬ ‫َ َّ َ ُ َ‬
‫ف‬ ‫ص‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ِ‬ ‫هلل‬‫ا‬
‫ُ ْ َ‬
‫حان‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ض‬ ‫َب ْع ُض ُه ْم َع َب ْ‬
‫ع‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َ َّ ُ ْ ُ َ‬ ‫هادة ِ َف َ‬
‫َ َّ َ‬
‫ون ﴾ املؤمنون‪ 84:‬ـ‪.92‬‬ ‫شك‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫عاىل‬ ‫ت‬ ‫والش‬
‫فكام ترى بدأت اآليات بذكر إقرارهم باهلل‬
‫وخالقيته‪ ،‬ثم كشفت عن التناقض بني ادعائهم‬
‫بربوبية اهلل وبني ادعاء الولد له والذي مقتضاه‬
‫تعدد املؤثرين يف تسيري شئون الكون وإدارته‪،‬‬
‫لذا ردت عليهم بدليل التامنع القائم عىل فرضية‬
‫وجود قدرتني مستقلتني يف التأثري‪ ،‬معتربا‬

‫‪37‬‬
‫اعتقادهم بوجود ولد هلل عني القول بتعدد اآلهلة‬
‫املستقلةيفالتأثري‪.‬‬
‫وهناك كلمة البن كثري يف هذا املقام تؤكد ما نقوله‬
‫ً َ َ َ َ ُ ُّ‬
‫ب ك إ ِ ٍهل بِما‬ ‫هنا إذ قال يف تفسري قوله تعاىل ﴿ إِذا له‬
‫َ‬
‫َخل َق‪« :﴾ ...‬ينزه تعاىل نفسه عن أن يكون له ولد‬
‫أو رشيك يف امللك والترصف والعبادة‪ ،‬فقال‬
‫ً َ َ َ َ ُ ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ َ ُ ْ َ‬
‫ب ك إ ِ ٍهل‬ ‫ل َوما اكن َم َع ُه م ِْن إ ِ ٍهل إِذا له‬
‫﴿ ما اتذ اهلل مِن َو ٍ‬
‫َ َ‬
‫بِما َخل َق َول َعال َب ْع ُض ُه ْم َع َب ْع ٍض ﴾ أي لو ُق ِّدر تعدد‬
‫اآلهلة النفرد كل منهم بام خلق فام كان ينتظم‬
‫الوجود‪ ،‬واملشاهد أن الوجود منتظم متسق كل‬
‫من العامل العلوي والسفيل مرتبط بعضه ببعض‬
‫حن مِن َت َف ُ‬
‫او ٍت ﴾‬ ‫﴿ ما تَ َرى ف َخلْق َّ‬
‫الر ْ َ‬ ‫يف غاية الكامل َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لكان كل منهم يطلب قهر اآلخر وخالفه‪،‬‬
‫فيعلو بعضهم عىل بعض واملتكلمون ذكروا‬
‫هذا املعنى‪ ،‬وعربوا عنه بدليل التامنع‪ ،‬وهو أنه‬
‫لو فرض صانعان فصاعدا فأراد واحد حتريك‬
‫جسم واآلخر أراد سكونه‪ ،‬فإن مل حيصل مراد كل‬
‫منهام كانا عاجزين‪ ،‬والواجب ال يكون عاجزا‬
‫ويمتنع اجتامع مرادهيام للتضاد‪ ،‬وما جاء هذا‬
‫املحال إال من فرض التعدد‪ ،‬فيكون حماال‪ ،‬فأما‬
‫إن حصل مراد أحدمها دون اآلخر‪ ،‬كان الغالب‬

‫‪38‬‬
‫هو الواجب واآلخر املغلوب ممكنا‪ ،‬ألنه ال يليق‬
‫بصفة الواجب أن يكون مقهورا‪ ،‬وهلذا قال تعاىل‬
‫َ َّ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ََ‬
‫ون ﴾أي‬ ‫﴿ ول َعال َب ْعض ُه ْم ع َب ْع ٍض ُسبْحان اهللِعما ي ِصف‬
‫عام يقول الظاملون يف دعواهم الولد أو الرشيك‬
‫ْ َ ْ َ َّ َ‬
‫هادةِ ﴾ أي يعلم ما‬ ‫ب والش‬ ‫علوا كبريا ﴿ اعل ِ ِم الغي ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫يغيب عن املخلوقات وما يشاهدونه ﴿ ف َتعاىل ع َّما‬
‫ُْ ُ َ‬
‫ون ﴾ أي تقدس وتنزه وتعاىل وعز وجل عام‬ ‫شك‬
‫ي ِ‬
‫يقولالظاملونواجلاحدون»(((‪.‬‬
‫إذن مــا حقيقــة ذلــك اإلقــرار بالربوبيــة يف‬
‫جــواب املرشكــن؟‬
‫بعدوضوحذلكيبقىعليناأننفرستلكاآليات‬
‫التي ظاهرها إقرار املرشكني بربوبية اهلل وهناك‬
‫رأيان نجدمها يف كلامت املفرسين‪ ،‬مقتىض األول‬
‫أنه إقرار حقيقي بالتوحيد‪ ،‬لكنه جواب العقل‬
‫الباطن والفطرة السليمة‪ ،‬ومقتىض الثاين أنه‬
‫إقرار بربوبية اهلل وخالقيته دون توحيده يف ذلك‬
‫وإنام اقترصوا عىل ذكر اهلل يف اجلواب ألنه األب‬
‫واإلله األكرب الذي تنتهي إليه علة املوجودات‪،‬‬
‫وإليككلامتاملفرسين‪:‬‬

‫((( تفسري ابن كثري ج‪ 3‬ص‪.264‬‬


‫‪39‬‬
‫الرأي األول‪ :‬إنه جواب الفطرة‪:‬‬
‫يرى أصحاب هذا الرأي أن اإلقرار املذكور‬
‫يف اآلية ليس اعتقادا للمرشكني وإنام هو إقرار‬
‫بلسان الفطرة أو لوضوحه للعقل وضوحا ال‬
‫يمكن معه اإلنكار‪ ،‬أو هو معلق عىل اإلنصاف‪.‬‬
‫َ ُ ُ َ‬
‫ـ عرض القرطبي رأين يف تفسري ﴿ ف َس َيقولون‬
‫اهلل‪ ﴾ ...‬قال‪« :‬ألهنم كانوا يعتقدون أن اخلالق هو‬ ‫ُ‬

‫اهلل أو فسيقولون هو اهلل إن فكروا وأنصفوا»(((‪،‬‬


‫والثاين هو ما نقصده هنا‪.‬‬
‫ـقالابنعطيةيفتفسريقولهتعاىليفسورةيونس‬
‫ون ُ‬‫َ َ َُ ُ َ‬
‫اهلل‪« :﴾ ...‬ال مندوحة هلم عن ذلك وال‬ ‫﴿ فسيقول‬
‫متكنهماملباهتةبسواه»(((‪.‬‬
‫ـ قال البيضاوي يف تفسري قوله تعاىل يف سورة‬
‫ون ُ‬‫َ َ َُ ُ َ‬
‫اهلل‪« :﴾ ...‬إذ ال يقدرون عىل‬ ‫يونس ﴿ فسيقول‬
‫املكابرة والعناد يف ذلك لفرط وضوحه «‪ ،‬وقال‬
‫َ ُ ُ َ‬
‫﴿ س َيقولون‬ ‫يف تفسري قوله تعاىل يف سورة املؤمنون‬
‫ُ ْ َ َ َ َّ ُ َ‬ ‫َ َُ ُ َ‬ ‫ُ ْ َ َ َ َ َّ ُ َ‬
‫ِلِ قل أفال تذكرون *‪ ...‬سيقولون ِلِ قل أفال تتقون *‪....‬‬
‫ُ ْ َ َ َّ ُ ْ َ ُ َ‬ ‫َ َُ ُ َ‬
‫ون ِلِ قل فأن تسحرون ﴾‪« :‬ألن العقل‬ ‫سيقول‬
‫الرصيح قد اضطرهم بأدنى نظر إىل اإلقرار بأنه‬

‫((( تفسري القرطبي جملد ‪ 4‬ج ‪ 8‬ص ‪.247‬‬


‫((( املحرر الوجيز ج ‪ 9‬ص ‪.38‬‬
‫‪40‬‬
‫خالقها»(((‪.‬‬
‫َ ُ ُ َ‬
‫ـ وقال الثعالبي يف سورة يونس‪ ﴿« :‬ف َس َيقولون‬
‫اهلل ﴾ أي ال مندوحة هلم عن ذلك وال متكنهم‬ ‫ُ‬

‫املباهتة بسواه»‪ ،‬وقال يف سورة املؤمنون‪« :‬أمر‬


‫اهلل تعاىل نبيه ‪ ‬بتوقيفهم عىل هذه األشياء التي‬
‫ال يمكنهم إال اإلقرار هبا ويلزم من اإلقرار هبا‬
‫توحيد اهلل»(((‪.‬‬
‫َ ُ ُ َ‬
‫ـ وقال الشوكاين يف سورة يونس‪ ﴿« :‬ف َس َيقولون‬
‫اهلل ﴾ أي سيكون قوهلم يف جواب هذا االستفهام‬ ‫ُ‬

‫إن الفاعل هلذه األمور هو اهلل سبحانه إن أنصفوا‬


‫وعملوا ما يوجبه الفكر الصحيح والعقل‬
‫َ ُ ُ َ‬
‫﴿س َيقولون‬ ‫السليم»‪ ،‬وقال يف سورة املؤمنون‪« :‬‬
‫ِلِ ﴾ أي ال بد هلم أن يقولوا ذلك ألنه معلوم‬
‫ببدهيةالعقل»(((‪.‬‬
‫ـ ويف تراث أهل البيت ‪ ‬يكفي أن ننقل ما رواه‬
‫الكليني بسند حسن بل صحيح عن زرارة عن‬
‫أيب جعفر الباقر ‪ ‬قال‪« :‬قال رسول اهلل ‪ ‬كل‬
‫مولود يولد عىل الفطرة‪ ،‬يعني املعرفة بأن اهلل عز‬
‫﴿ ولَئ ْن َس َأ ْلَ ُه ْم َمنْ‬
‫وجل خالقه‪ ،‬كذلك قوله تعاىل َ‬
‫ِ‬

‫((( أنوار التنزيل ج ‪ 1‬ص ‪ ،434‬ج ‪ 2‬ص ‪.110‬‬


‫((( اجلواهر احلسان ج‪ 2‬ص ‪ ،96‬ج‪ 2‬ص ‪.431‬‬
‫((( فتح القدير ج‪ 2‬ص‪ ،504‬ج‪ 3‬ص ‪.586‬‬
‫‪41‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ماوات َواأل ْر َض لَ ُقول َّن ُ‬ ‫َخل َق َّ‬ ‫َ‬
‫اهلل‪.(((﴾ ....‬‬ ‫ِ‬ ‫الس‬

‫الــرأي الثــاين‪ :‬إنــه إقــرار بالربوبيــة دون التوحيد‬


‫بذلــك‪:‬‬
‫وهذا ما قرره السيد الطباطبائي(رمحه اهلل) يف‬
‫تفسريه لآليات ‪ 36 - 31‬من سورة يونس حينام‬
‫اعترب إقرارهم بأن اهلل هو املدبر إقرارا حقيقيا‬
‫باعتبار عدم تنافيه يف نظرهم مع تدبري اآلهلة‬
‫الصغرية لبعض شئون الكون‪ ،‬قال‪« :‬فاحلجة‬
‫األوىل تسلك من الطريق الذي يعتربه الوثنيون‬
‫وعبدةاألصنامفإهنمإناميعبدونأرباباألصنام‬
‫بأصنامهم من جهة تدبريهم للكون‪......‬‬
‫فاهلل سبحانه يلقن نبيه ‪ ‬احلجة عىل توحيده‬
‫بالربوبية‪ ،‬فأمر بقوله ( ُق ْل) أن يقول هلم يف سياق‬
‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ َْ ُُ ُ‬
‫ك ْم م َِن َّ‬
‫السماءِ واألر ِض‪......‬‬ ‫االستفهام ﴿ من يرزق‬
‫َ َ َُ ُ َ‬
‫ون ُ‬
‫اهلل ﴾ اعرتافا بأنه الذي ينتهي إليه مجيع‬ ‫فسيقول‬
‫هذه التدبريات يف اإلنسان وغريه ألن الوثنيني‬
‫يعتقدونذلك»(((‪.‬‬
‫فكام ترى يعترب إقرارهم املرصح به يف اآليات هو‬
‫إقرار بربوبية اهلل عز وجل وليس إقرارا بتوحيده‬

‫((( الكايف ج ‪ 2‬ص ‪ 12‬ـ ‪.13‬‬


‫((( امليزان ج ‪ 11‬ص ‪ 47‬ـ ‪.51‬‬
‫‪42‬‬
‫يف ذلك وإنام يذكرون اهلل دون غريه من آهلتهم‬
‫املؤثرة ألنه األكرب أو ألنه الذي تنتهي إليه مجيع‬
‫هذه التدبريات باعتبار أنه اإلله األب يف نظرهم‬
‫خالفا لألوالد املزعومني‪.‬‬
‫نعمهناكمناملتقدمنيمنفرساإلقراربامفرسهبه‬
‫أصحابهذه الرؤية‪،‬فقدذهب إىلذلك الطربي‬
‫َ‬
‫من القدماء‪ ،‬فقال يف تفسري قوله تعاىل ﴿ فال‬
‫َْ ً ََُْ ْ َ ْ َ ُ َ‬ ‫َ ُ‬
‫تْ َعلوا ِلِ أندادا وأنتم تعلمون ﴾ البقرة‪« ،22 :‬وأحسب‬
‫أن الذي دعا جماهدا إىل هذا التأويل وإضافة‬
‫ذلك إىل أنه خطاب ألهل التوراة واإلنجيل‬
‫دون غريهم الظن منه بالعرب أهنا مل تكن تعلم‬
‫أن اهلل خالقها ورازقها بجحودها وحدانية رهبا‬
‫وإرشاكها معه يف العبادة غريه‪ ،‬وإن ذلك لقول‪،‬‬
‫ولكن اهلل جل ثناؤه قد أخرب يف كتابه عنها أهنا‬
‫كانت تقر بوحدانيته غري أهنا كانت ترشك يف‬
‫ََ‬
‫﴿ ولئِن‬ ‫عبادته ما كانت ترشك فيها فقال جل ثناؤه‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ْ َ ُ َّ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ ُ ُ‬
‫سألهم من خلقهم لقولن اهلل ﴾‪ ،...‬فالذي أوىل‬
‫ََُْ ْ َ ْ َ ُ َ‬
‫بتأويل قوله ﴿ وأنتم تعلمون ﴾ إذ كان ما كان عند‬
‫العرب من العلم بوحدانية اهلل وإنه مبدع اخللق‬
‫وخالقهم ورازقهم‪ ...‬أن يكون تأويله ما قاله ابن‬
‫عباس وقتادة من أنه يعني بذلك كل مكلف عامل‬

‫‪43‬‬
‫بوحدانية اهلل وأنه ال رشيك له يف خلقه يرشك معه‬
‫يف عبادته غريه»(((‪.‬‬
‫وقد بينا بطالن هذا الرأي فيام سبق‪ ،‬ولكن حتى‬
‫لو سلمنا هبذا الرأي وقبلنا به‪ ،‬فإن اهتام أصحاب‬
‫تلك الرؤية املضللة للمسلمني بالرشك ال يبتني‬
‫عىل هذه املقدمة‪ ،‬إذ ال مدخل هلا يف موجب‬
‫احلكم برشك املسلم يف معايريهم وإنام يذكرونه‬
‫توطئة(((‪ ،‬فسواء أثبت أن املرشكني يقرون‬
‫بوحدانية اهلل يف الربوبية أم مل يثبت فأصحاب‬
‫تلك الرؤية يرون أن الرشك هو رشك األلوهية‪،‬‬
‫وهو يقع من كافر ال يشهد الشهادتني ومن مسلم‬
‫يشهد الشهادتني‪ ،‬وكل هؤالء إنام يرشكون من‬
‫حيث األلوهية فقط دون الربوبية‪ ،‬وعىل هذا‬
‫سنبحث يف الفصل التايل حقيقة ما ادعوه من‬
‫حتقق رشك األلوهية عند املسلمني‪.‬‬

‫((( تفسري الطربي‪ ،‬جملد ‪ ،1‬ج ‪ 1‬ص ‪.238‬‬


‫((( راجع ما ذكرناه يف التمهيد حتت عنوان ‹ تنبيه›‪.‬‬
‫‪44‬‬
‫الفصل الثاين‪:‬‬
‫هل وقع املسلمون يف‬
‫رشك األلوهية؟‬

‫يدور البحث يف هذا الفصل حول لب اخللل‬


‫الذي وقعت فيه تلك الفئة‪ ،‬وهذا اخللل يرتبط‬
‫برشك األلوهية (رشك العبادة) الذي يدعي‬
‫أصحاب هذه الرؤية أنه واقع بني املسلمني‪،‬‬
‫وهي دعوى مل يسبق إليها أحد قبل القرن الثامن‬
‫اهلجري حني نشأت بذور الفكرة عند ابن تيمية‪.‬‬
‫إن اآليات التي تتحدث عن العبادة ورضورة‬
‫توحيد اهلل يف العبادة وعدم عبادة موجودات‬
‫أخرى معه تتكرر يف القرآن فهي من مسلامت‬
‫ََُُْ َ ْ ُ‬
‫القرآن وحمكامته‪ ،‬قال تعاىل ﴿ ويعبدون مِن د ِ‬
‫ون اهللِ‬
‫ْ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫ُ ُ َ ُ‬ ‫َْ‬ ‫َ ُ ُّ ُ‬
‫ضه ْم َوال َينف ُع ُه ْم َو َيقولون هؤالءِ شفعاؤنا عِن َد‬ ‫ما ال ي‬
‫اهللِ‪ ﴾ ...‬يونس‪ ،18 :‬وهكذا يظهر أنه أصل يف دعوة‬
‫ُ ّ ُ َّ َ ُ ً‬ ‫َََ ْ ََْ‬
‫ك أم ٍة رسوال‬
‫ِ‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫نا‬‫األنبياء كام يف قوله تعاىل ﴿ ولقد بعث‬
‫َ َ ْ َ ُ َّ ُ‬
‫اغوتَ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ‬
‫أ ِن اعبدوا اهلل واجتنِبوا الط ‪ ﴾ ....‬النحل‪.36:‬‬

‫‪45‬‬
‫العبادات املدعى وقوعها عند القبور‪:‬‬
‫غري أن السؤال املهم املوجه إىل تلك الفئة يف هذا‬
‫البحث هو التايل‪ :‬كيف تتهمون املسلمني بأهنم‬
‫يعبدون غري اهلل عند قبور األولياء يف حني أهنم‬
‫يصلون هلل عندها ويصومون هلل‪ ،‬وإذا حجوا‪،‬‬
‫حجوا هلل؟ فأين العبادة التي مارسها املسلمون‬
‫عند قبور األولياء لغري اهلل سبحانه حتى يقال‪:‬‬
‫إهنم أرشكوا باهلل يف العبادة؟‬
‫ورد يف تراث هؤالء ذكر ثالثة عبادات ادعوا إن‬
‫املسلمنيقصدواهباغرياهلل‪،‬وهيالدعاءوالذبح‬
‫والنذر‪ ،‬وسوف نتناول الذبح والنذر يف املبحث‬
‫األول من هذا الفصل والدعاء يف املبحث الثاين‪.‬‬

‫املبحث األول ـ الذبح والنذر(((‪:‬‬

‫إن اخللل الذي وقعت فيه تلك الفئة بالنسبة‬


‫للذبح والنذر ليس خلال فكريا عقديا‪ ،‬وإنام‬
‫كفروا املسلمني بناء عىل معلومات مغلوطة‬
‫نبعت من فهم خاطئ لترصفات بعض املسلمني‬
‫أو كذب وتشنيع من بعض هؤالء عىل من‬
‫((( مجعنا الذبح والنذر يف مبحث واحد نظرا لوحدة املشكلة املرتبطة هبام‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫خيالفهم يف الرأي‪ ،‬واملهم أنه عىل ضوء تلك‬
‫املعلومات اخلاطئة واملغلوطة تصور أتباع تلك‬
‫الفئة أن هناك من املسلمني من ينذر لغري اهلل أو‬
‫يذبح لغري اهلل‪ ،‬وهذا ادعاء باطل غري صحيح‬
‫أبدا‪:‬‬
‫ـ فأما بالنسبة للذبح فقد كان رد املرجع الكبري‬
‫الشيخ جعفر كاشف الغطاء يف رسالته لألمري‬
‫عبد العزيز بن سعود رصحيا وواضحا ودافعا‬
‫لكل شك ولبس‪ ،‬فقد كتب إليه‪« :‬ال يشك أحد‬
‫مناملسلمنييفأنمنذبحلغرياهللذبحالعبادةكام‬
‫يذبح أهل األصنام ألصنامهم حتى يذكروا عىل‬
‫الذبايح أسامءهم وهيلون هبا لغري اهلل خارج عن‬
‫ربقة املسلمني سواء اعتقدوا آهليتهم أو قصدوا‬
‫أن يقربوهم زلفى ألن ذلك عبادة لغري اهلل‪.‬‬
‫وأما من ذبح عن األنبياء واألوصياء واملؤمنني‬
‫ليصل الثواب إليهم كام نقرأ القرآن وهندي إليهم‬
‫ونصيل هلم وندعو هلم ونفعل مجيع اخلريات‬
‫عنهم‪ ،‬ففي ذلك أجر عظيم وليس قصد أحد‬
‫من الذابحني لألنبياء أو لغري اهلل سوى ذلك‪،...‬‬
‫وإين والذي نفيس بيده منذ عرفت نفيس إىل يومي‬
‫هذا ما رأيت وال سمعت أحدا من املسلمني ذبح‬

‫‪47‬‬
‫أو نحر ذاكرا السم نبي أو ويص أو عبد صالح‪،‬‬
‫وإنام يقصدون إهداء الثواب إليهم‪ ،‬فإن كان يف‬
‫أطرافكم قبل تسلطكم مثل ذلك فصاحب الدار‬
‫أدرى بالذي فيها»(((‪.‬‬
‫ـأماماخيتصبالنذرفقدأوضحالشيخحممدأمني‬
‫زين الدين ‪ -‬أحد كبار علامء النجف املعارصين‬
‫‪ -‬احلقيقة قائال‪« :‬ال جيوز النذر لغري اهلل سبحانه‬
‫من رسول أو نبي أو ويل أو ملك أو عبد صالح‬
‫وال جيوز للكعبة واملشاهد واملساجد واملعابد‪...‬‬
‫والنذر نحو من أنحاء العبادة‪ ،‬ومن أجل ذلك‬
‫فال بد فيه من القربة‪ ...‬ولذلك كله فال جيوز‬
‫النذر لغري اهلل تعاىل‪.‬‬
‫واألنبياء واألولياء‪ ...‬واملساجد‪ ...‬إنام هي‬
‫وجوه من القربات التي يتقرب بتكريمها إىل اهلل‬
‫فيصح للعبد أن ينذر شيئا هلل‪ ...‬عىل أن يرصف‬
‫املنذور يف بعض هذه الوجوه املقربة‪.‬‬
‫والفارق كبري وواضح جدا بني أن ينذر اإلنسان‬
‫هلل وحده متقربا إليه ويعني يف نذره رصف ما‬
‫نذره هلل يف بعض هذه الوجوه املقربة إىل اهلل‪- ...‬‬
‫وهذا هو ما يفعله خاصة الشيعة وعامتهم حتى‬

‫((( منهج الرشاد ملن أراد السداد ص ‪ 92‬ـ ‪.94‬‬


‫‪48‬‬
‫اجلهلة منهم باألحكام‪ ،‬وهذا ما يقصدونه يف‬
‫نذرهم حتى من يغلط منهم يف التعبري ‪ -‬وبني أن‬
‫ينذرها للنبي أو الويل أو املعبد أو املشهد أنفسها‪،‬‬
‫فال ينعقد النذر وال جيوز ألنه لغري اهلل‪ ،‬وهذا ما‬
‫ترصح كتب علامء الشيعة بعدم جوازه»(((‪.‬‬

‫املبحث الثاين ـ الدعاء‪:‬‬

‫إن دعوى هؤالء املتعلقة بالدعاء وكونه عبادة‬


‫هي أساس عملية التكفري ولب املسألة التي نريد‬
‫إيضاحها يف هذا الفصل‪ ،‬واخلطأ الذي وقعوا‬
‫فيه هنا خطأ علمي يف فهم اآليات التي يتكرر‬
‫فيها ذكر دعاء غري اهلل كأحد حماور الرشك‪ ،‬وهو‬
‫خطأ نبع غالبا من قصور يف فهم مفردات اآليات‬
‫املستدل هبا‪ ،‬ولكن تشعر يف بعض األحيان‬
‫بالتعمد ووضع الكلم يف غري مواضعه‪.‬‬
‫لقد صور أصحاب هذه الرؤية أن دعاء غري اهلل‬
‫بمعنى مسألة غريه عبادة لذلك الغري وبالتايل‬
‫أصبح من يدعو غري اهلل ويطلب من ذلك الغري‬
‫مرشكا يف األلوهية‪ ،‬وعدوا هذا األمر من‬
‫((( كلمة التقوى ج‪ 6‬ص‪ 422‬ـ ‪.423‬‬
‫‪49‬‬
‫واضحات القرآن الكريم‪ ،‬ويسوقون آيات‬
‫عديدة يف هذا الصدد‪.‬‬
‫اآليات املستدل هبا‪:‬‬
‫استدل هؤالء عىل دعواهم بآيات عديدة‪ ،‬أمهها‪:‬‬
‫َ َ ً َ‬
‫وأنَّ ُه لَماَّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َّ ْ‬
‫جد ِلِ فال تدعوا مع اهللِ أحدا *‬‫‪ ﴿ .1‬وأن المسا ِ‬
‫ً ُ ْ َّ‬ ‫ُ ُ َ ََ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫قام عبْ ُد اهللِ يَد ُعوهُ اكدوا يَكونون عليْهِ لِ َدا * قل إِنما‬
‫َْ ُ َّ َ ُْ ُ َ َ ً‬
‫شك بِهِ أحدا ﴾ اجلن‪ 19:‬ـ‪.20‬‬
‫أدعوا ر ِب وال أ ِ‬
‫َ‬
‫ك م ِْن دِين فَال أ ْع ُبدُ‬‫ُ ْ َ ُّ َ َّ ُ ْ ُ ْ ُ ْ َ ّ‬
‫ِ‬ ‫‪ ﴿ .2‬قل يا أيها انلاس إِن كنتم ِف ش ٍ‬
‫َ َْ ُ ْ ُ‬ ‫َّ َ َ ْ ُ ُ َ ْ ُ‬
‫ون اهللِ ما ال‬ ‫ون‪ ......‬وال تدع مِن د ِ‬ ‫الِين تعبدون مِن د ِ‬
‫َ ْ َ ُ َ َ َ ُ ُّ َ َ ْ َ َ ْ َ َ َّ َ ً َ َّ‬
‫الظالِم َ‬
‫ني ﴾‬ ‫ِ‬ ‫ينفعك وال يضك فإِن فعلت فإِنك إِذا مِن‬
‫يونس‪ 104:‬ـ‪.106‬‬
‫ك ْم إ َّن َّالِينَ‬ ‫ََْ ْ َ ُ‬ ‫اد ُ‬‫َ َ َ ُّ ُ ُ ْ‬
‫ِ‬ ‫جب ل‬ ‫ون أست ِ‬ ‫ِ‬ ‫ع‬ ‫‪ ﴿ .3‬وقال ربكم‬
‫َ ُ‬ ‫ُ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ ْ ُ َ َ‬
‫ين‪ ...‬ه َو‬ ‫بون ع ْن عِباد ِت َس َي ْدخلون َج َه َّن َم داخ ِِر‬ ‫يستك ِ‬
‫ب‬ ‫ِين ْ َ‬
‫ال ْم ُد ِلِ َر ّ‬ ‫ادل َ‬‫ني َ ُل ّ‬
‫اد ُعوهُ ُمْل ِص َ‬
‫ِ‬
‫َ َّ ُ َ َ ْ‬
‫ف‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ال‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫هل‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ال‬ ‫ُّ‬
‫ح‬ ‫الْ َ‬
‫ِ‬
‫ْ َ َ ُ ْ ّ ُ ُ َ ْ َ ْ ُ َ َّ َ َ ْ ُ َ ْ ُ‬
‫ون اهللِ‬ ‫العال ِمني * قل إ ِ ِن ن ِهيت أن أعبد الِين تدعون مِن د ِ‬
‫َ‬ ‫َ َّْ ُ ْ َ ّ َُ ْ ُ َ ْ ُ ْ َ َ ّ ْ َ‬ ‫ل َ َّ‬
‫ب العال ِمني ﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِر‬ ‫ل‬ ‫ِم‬ ‫ل‬‫س‬‫أ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ِر‬
‫م‬ ‫أ‬‫و‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫نات‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫جاء‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫غافر‪ 60:‬ـ‪.66‬‬
‫ُ ْ َ َ َ ْ ُ ْ ُ َ َ ُ ُ َّ َ َ ْ ُ َ ْ ُ‬
‫‪ ﴿ .4‬قل أرأيتم شاكءكم الِين تدعون مِن د ِ‬
‫ون اهللِ‬
‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َُ َ َْ َْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ماوات ﴾‬
‫ِ‬ ‫ون ما ذا خلقوا مِن األر ِض أم لهم ِشك ِف الس‬
‫أر ِ‬
‫فاطر‪.40:‬‬
‫﴿ و َم ْن أَ َض ُّل م َِّم ْن يَ ْد ُعوا م ِْن ُدون اهللِ َم ْن ال ي َ ْس َتجيبُ‬
‫‪َ .5‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪50‬‬
‫ش انلَّ ُ‬ ‫ْ ُ َ‬
‫ون * ِإَوذا ُح ِ َ‬ ‫َُ َ ِْ ْ َ ُ َ ُ‬
‫اس‬ ‫يامةِ َوه ْم ع ْن داعئ ِ ِهم اغف ِل‬ ‫ل إِىل يوم القِ‬
‫بادتِه ْم اكف ِر َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َُ ْ َ ْ ً َ ُ‬
‫ين ﴾ األحقاف‪ 5 :‬ـ ‪.6‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫اكنوا لهم أعداء واكن ِ‬
‫ب‬ ‫وا‬
‫ُ َ َ ْ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ ْ ُ َّ َ َ‬
‫ِين َزع ْم ُت ْم م ِْن دونِهِ فال َي ْمل ِكون كشف‬ ‫‪ ﴿ .6‬ق ِل ادعوا ال‬
‫َ ُ َ‬ ‫ك َّال َ‬ ‫ُّ ّ َ ْ ُ ْ َ َ ْ ً ُ َ‬
‫ِين يَ ْد ُعون يَبْ َتغون إِىل‬ ‫الض عنكم وال توِيال * أولئ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ َ‬ ‫ون َر ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ ّ ُ َ َ ُّ ُ ْ ْ َ ُ َ َ ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ح َت ُه َو َيخافون َعذابَ ُه‬ ‫رب ِ ِهم الوسِيلة أيهم أقرب ويرج‬
‫ً‬ ‫َّ َ َ َ ّ َ َ َ‬
‫اكن مْ ُذورا ﴾ اإلرساء‪ 56:‬ـ‪.57‬‬ ‫إِن عذاب ربِك‬
‫فكام ترى فإن مجيع هذه اآليات تدل وبرصاحة‬
‫عىل أن رشك املرشكني كان يف دعاء اآلهلة التي‬
‫عبدوها من دون اهلل‪ ،‬وهل هناك حاجة ألدلة‬
‫أرصح من هذه اآليات؟!!‬
‫قال الشيخ سليامن حفيد ابن عبد الوهاب يف‬
‫رشحه لكتاب جده التوحيد‪« :‬الدعاء عبادة من‬
‫أجل العبادات بل هو أكرمها عىل اهلل‪ ...‬فإن مل‬
‫يكن اإلرشاك فيه رشكا فليس يف األرض رشك‬
‫وإن كان يف األرض رشك فالرشك يف الدعاء أوىل‬
‫أن يكون رشكا من اإلرشاك يف غريه من أنواع‬
‫العبادة بل اإلرشاك يف الدعاء هو أكرب رشك‬
‫املرشكني الذين بعث إليهم رسول اهلل ‪ ‬فإهنم‬
‫يدعون األنبياء والصاحلني واملالئكة ليشفعوا‬
‫هلم عند اهلل‪ ،‬وهلذا خيلصون يف الشدائد هلل‬

‫‪51‬‬
‫وينسون ما يرشكون»(((‪.‬‬
‫وحتى تصبح املناقشة علمية وتامة جيب‪:‬‬
‫أوال‪ :‬حتديد املقصود بالدعاء املوجب للوقوع يف‬
‫رشكالعبادة‪،‬فهلللكلمةاستعاملواحديفاللغة‬
‫والقرآن أم تتعدد معانيها واستعامالهتا؟ وبعبارة‬
‫أخرى هل احلديث القرآين عن رشكية دعاء غري‬
‫اهلل تنطبق عىل ما يدعيه هؤالء من وقوع املسلمني‬
‫يف دعاء غري اهلل أم احلديث القرآين عن دعاء غري‬
‫اهلل يقصد به أمر آخر غري الدعاء والطلب الذي‬
‫قد يقع عند أرضحة األولياء‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬احلديث عن رشكية دعاء غري اهلل بمعنى‬
‫الطلب من غري اهلل نراه مقيدا يف كلامهتم‬
‫بخصوص طلب ما ال يقدر عليه إال اهلل‪ ،‬يف حني‬
‫أن كل اآليات التي يستدلون هبا ال تشري إىل هذا‬
‫التفصيل والتقييد‪ ،‬فام هو الوجه يف هذا التقييد‬
‫مع إطالق اآليات املستدل هبا؟‬
‫وهناك تساؤالت وحقائق عديدة أخرى ستتبني‬
‫فيامبعد‪.‬‬
‫املهم‪ ،‬بمالحظة النقطتني األخريتني سينقسم‬
‫املوضوع إىل بحثني‪.‬‬
‫((( دعاوى املناوئني ص ‪ 348 - 347‬عن تيسري العزيز احلميد باختصار‬
‫يسري‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫البحــث األول‪ :‬معنــى الدعــاء يف اآليــات املســتدل‬
‫هبــا‪:‬‬
‫وينبغي أن نبدأ بعرض معاين كلمة الدعاء يف‬
‫كتب اللغة واستعامالت القرآن‪ ،‬وأهم املعاين‬
‫التي استعملت فيها كلمة الدعاء وانعكست يف‬
‫القرآن هي املعاين التالية‪:‬‬
‫‪ )1‬جمرد النداء‪ :‬بمعنى أن يصيح عليه بام ينبه‬
‫لاللتفات أو احلذر أو املجيء كام يف قولنا ادعوا‬
‫ْ َ َ ُ‬ ‫َّ َ َ ُ‬
‫زيدا‪ ،‬ومنه قوله تعاىل ﴿ إِنك ل ت ْس ِم ُع ال َم ْوت َول ت ْس ِم ُع‬
‫ُ‬
‫ين ﴾ النمل‪ ،80:‬وقوله تعاىل ﴿ ث َّم‬ ‫ادل َعء إ َذا َول َّ ْوا ُم ْدبر َ‬ ‫ُّ‬
‫الص َّم ُّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ َ َ ُ ْ َ ْ ً ّ َ َْ‬
‫إِذا دعكم دع َوة مِن الر ِض ﴾ الروم‪ ، 25 :‬وقوله تعاىل‬
‫ُْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫يبوا ْ ِلِ َول َّ‬
‫ِلر ُسو ِل إِذا د َعكم ل َِما ييِيك ْم ﴾‬ ‫﴿ اس َتج ُ‬
‫ْ‬
‫ِ‬
‫األنفال‪.24:‬‬
‫‪ )2‬التسمية واالدعاء‪ :‬مثل دعوت املولود زيدا‬
‫أي سميته زيدا‪ ،‬وهبذا املعنى استعملت يف قوله‬
‫َ َ ُ َّ َ َ ُ َ َ َ َّ ْ َ ْ ُ َ َ َ ُّ ْ َ ْ ُ‬
‫تعاىل ﴿ تكاد السماوات يتفطرن مِنه وتنشق الرض‬
‫ً‬ ‫َ َ ُّ ْ َ ُ َ ًّ َ َ َ ْ َّ ْ َ َ َ‬
‫البال هدا * أن دعوا ل ِلرح ِن ولا ﴾ مريم‪ 90 :‬ـ ‪ ،91‬أي‬‫وتِر ِ‬
‫ا ّدعوا زورا أن هلل ولدا‪ ،‬قال ابن اجلوزي‪« :‬قوله‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫تعاىل ﴿ أن دعوا ﴾‪ ...‬قال أبو عبيدة‪ :‬معناه‪ :‬أن‬
‫جعلوا‪ ،‬وليس هو من دعاء الصوت‪.(((»...‬‬

‫((( زاد املسري ج ‪ 5‬ص ‪.196‬‬


‫‪53‬‬
‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫ِين ل يَ ْد ُعون َم َع اهللِ إِل ًها آخ َر َول‬ ‫ومنه قوله تعاىل ﴿ وال‬
‫ْ ْ‬ ‫َ ْ ُ ُ َ َّ ْ َ َّ َ َّ َ ُ ّ ْ َ َ ُ َ‬
‫ال ّ ِق َوليَ ْزنون َو َمن َيف َعل‬ ‫يقتلونانلفسال ِتحرماهللإِلب ِ‬
‫ْ َ‬
‫َذل َِك يَل َق أثَ ًاما ﴾ الفرقان‪ ،68 :‬فجاء الدعاء هنا بمعنى‬
‫االختاذ واجلعل وهاتان املفردتان أي االختاذ‬
‫واجلعل جاء ذكرمها يف القرآن عند احلديث عن‬
‫َ َْ ُ‬
‫﴿ وال ت َعلوا َم َع‬ ‫عقيدة املرشكني كام يف قوله تعاىل‬
‫ًَ َ َ ّ َ ُ‬
‫كم ّمِنْ ُه نَذ ٌِير ُّمبِ ٌني ﴾ الذاريات‪ 51 :‬وقوله‬ ‫اهللِ إِلها آخر إ ِ ِن ل‬
‫ً ّ ُ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َّ َ ُ‬
‫ون اهللِ آل َِهة ِلَكونوا ل ُه ْم ع ًِّزا ﴾‬ ‫ِ‬ ‫د‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫وا‬ ‫ذ‬ ‫عز وجل ﴿ وات‬
‫مريم‪ 81 :‬ويدل عىل ذلك ما رواه البخاري يف سبب‬
‫نزول آية الفرقان عن عبد اهلل بن مسعود (رض)‬
‫قال‪« :‬سألت أو سئل رسول اهلل ‪ :‬أي الذنب‬
‫عند اهلل أكرب؟‪ ،‬قال‪ :‬أن جتعل هلل ندا وهو خلقك‪،‬‬
‫قلت‪ :‬ثم أي؟ قال‪ :‬ثم أن تقتل ولدك خشية أن‬
‫يطعم معك‪ ،‬قلت‪ :‬ثم أي؟ قال‪ :‬أن تزين بحليلة‬
‫جارك‪ ،‬قال‪ :‬ونزلت هذه اآلية تصديقا لقول‬
‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ َ َ‬
‫ِين ل يَ ْد ُعون َم َع اهللِ إِل ًها آخ َر َول‬ ‫رسول اهلل ‪ ﴿ ‬وال‬
‫اهلل إ ِ َّل ب ْ َ‬
‫ال ّ ِق ﴾(((‪.‬‬ ‫ون انلَّ ْف َس َّالت َح َّر َم ُ‬ ‫َُُْ َ‬
‫يقتل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ )3‬الطلب واالستغاثة‪ :‬وهذا كثري يف القرآن مثل‬
‫ب ِل مِن‬ ‫﴿ ه َنال َِك َد َع َز َكر َّيا َر َّب ُه قَ َال َر ّب َه ْ‬ ‫ُ‬
‫قوله تعاىل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ ُ ْ َ ُ ّ َّ ً َ ّ َ ً َّ َ‬
‫ادل َعء ﴾ آلعمران‪ ،38:‬وكذلك‬ ‫يع ُّ‬ ‫ك َس ِم ُ‬ ‫لنك ذرِية طيِبة إِن‬

‫((( صحيح البخاري ج ‪ 6‬ص ‪137‬ـ ‪.138‬‬


‫‪54‬‬
‫َ َ َ ْ ُ َ َّ ْ َ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ‬
‫يما َوال‬‫جيبت دعوتكما فاستقِ‬‫قوله تعاىل ﴿ قال قد أ ِ‬
‫َ َّ َ ّ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ُ َ‬
‫ون ﴾ يونس‪ ،89:‬وانطالقا من‬‫آن سبِيل الِين ال يعلم‬
‫تتبِع ِ‬
‫هذا املعنى تستعمل مفردة الدعاء يف الطلب من‬
‫ْ‬
‫اهلل واالستغاثة به كام هو ظاهر قوله تعاىل ﴿ بَل‬
‫َّ ُ َ ْ ُ َ َ َ ْ ُ َ َ ْ ُ َ َ ْ ْ َ َ َ َ َ‬
‫نس ْون َما‬ ‫إِياه تدعون فيكشِ ف ما تدعون إِلهِ إِن شاء وت‬
‫َّ‬ ‫َ ً‬ ‫َ ْ‬ ‫ُْ ُ َ‬
‫﴿ واد ُعوهُ خ ْوفا َو َط َم ًعا إِن‬ ‫ون ﴾ األنعام‪ ،41 :‬وقوله‬ ‫شك‬
‫ت ِ‬
‫ْ‬ ‫ت اهللِ قَر ٌ‬ ‫َر ْ َ‬
‫يب ّم َِن ال ُم ْح ِسن ِ َني ﴾ األعراف‪ ،56 :‬وهذا‬ ‫ِ‬
‫ح َ‬

‫االستعامل هو ما اص ُط ِلح عليه بدعاء املسألة‪.‬‬


‫‪ )4‬العبادة‪ :‬وهو املذكور يف قول األزهري‪« :‬وقد‬
‫َّ‬
‫يكون الدعاء عبادة ومنه قول اهلل جل وعز ﴿ إِن‬
‫َ ٌ ََْ ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ َ َ ْ ُ َ‬
‫ك ْم ﴾ أي الذين‬ ‫ون اهللِ عِباد أمثال‬
‫ِ‬ ‫د‬ ‫ِن‬
‫م‬ ‫ون‬ ‫الِين تدع‬
‫تعبدون من دون اهلل»(((‪ ،‬بل أكثر استعامالت‬
‫القرآن قصد منها هذا املعنى‪ ،‬فقد قرر الشوكاين‬
‫استدالل البعض بقوله‪« :‬الدعاء يف أكثر‬
‫استعامالت الكتاب العزيز هو العبادة»(((‪ ،‬وهذا‬
‫االستعامل هو ما اص ُط ِلح عليه بدعاء العبادة كام‬
‫سيأيت‪.‬‬
‫وقد خلص أبو البقاء املعاين املتعددة للدعاء‬
‫مستشهدا بآيات القرآن الكريم‪ ،‬قال‪« :‬والدعاء‪:‬‬

‫((( هتذيب اللغة ج ‪ 3‬ص ‪.76‬‬


‫((( فتح القدير ج ‪ 4‬ص ‪.571‬‬
‫‪55‬‬
‫ُ‬ ‫َ َ َْ ُ‬
‫ون اهللِ‬ ‫ِ‬ ‫د‬ ‫ِن‬‫م‬ ‫ع‬ ‫الرغبة إىل اهلل والعبادة نحو ﴿ وال تد‬
‫َ ْ ُ ْ‬ ‫َ َ َ َ ُ َ َ َ‬
‫ال يَ ُ ُّ‬
‫ض َك ﴾‪ ،‬واالستعانة نحو ﴿ وادعوا‬ ‫ما ال ينفعك و‬
‫ب‬ ‫﴿ اد ُعون أَ ْس َتج ْ‬
‫ْ‬
‫اءكم ﴾‪ ،‬والسؤال نحو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ش َه َد‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َْ ُ ْ َ ُ ْ َ َ َ‬ ‫َ ُ‬
‫حانك‬ ‫لك ْم ﴾(((‪ ،‬والقول نحو ﴿ دعواهم فِيها سب‬
‫ُ‬
‫الله َّم ﴾‪ ،‬والنداء نحو ﴿ يَ ْو َم يَ ْد ُعوك ْم ﴾‪ ،‬التسمية‬ ‫ُ‬

‫ضكم‬
‫ُ‬ ‫ََْ ُ َ ُ َ ْ‬ ‫﴿ ل َتْ َعلُوا ُد َعء َّ‬
‫الر ُسو ِل بينك ْم كدعء َبع ِ‬
‫َ‬
‫نحو‬
‫َب ْع ًضا ﴾(((‪.‬‬
‫وعليه جيب علينا حينام نستدل بآية من اآليات‬
‫التي استعملت فيها كلمة الدعاء أن نحدد‬
‫أي املعاين املتعددة التي عرضنا هو املقصود‬
‫وامللحوظ يف اآلية‪.‬‬
‫إقرارهــم بــأن الدعــاء ينقســم إىل دعــاء عبــادة‬
‫ودعــاء مســألة‪:‬‬
‫واحلق إن أصحاب هذه الرؤية يقرون بانقسام‬
‫الدعاء إىل نوعني دعاء عبادة ودعاء مسألة‪ ،‬فهو‬
‫أمر واضح يف تراثهم‪.‬‬
‫قال الشيخ حممد بن صالح العثيمني‪« :‬الدعاء‬
‫ينقسمإىلقسمني‪:‬‬
‫األول‪ :‬دعاء عبادة مثاله الصوم والصالة‪...‬‬

‫((( سيأيت أن الصحيح إن ادعوين هنا بمعنى اعبدوين‪.‬‬


‫((( الكليات ص ‪.447‬‬
‫‪56‬‬
‫وهذا القسم كله رشك‪....‬‬
‫الثاين‪ :‬دعاء املسألة فهذا ليس كله رشكا بل فيه‬
‫تفصيل‪ ،‬فإن كان املخلوق قادرا عىل ذلك فليس‬
‫برشك‪ ،...‬وأما من دعا املخلوق بام ال يقدر عليه‬
‫إال اهلل فإن دعوته رشك خمرج عن امللة»(((‪.‬‬
‫وقال الشيخ صالح الفوزان‪« :‬أما الدعاء فهو‬
‫أعم من االستغاثة ـ كام سبق ‪ -‬هو نوعان‪ :‬دعاء‬
‫عبادة ودعاء مسألة‪ ،‬دعاء العبادة هو الثناء عىل‬
‫اهلل سبحانه وتعاىل بأسامئه وصفاته ودعاء املسألة‬
‫هو طلب احلاجات من اهلل سبحانه وتعاىل»(((‪.‬‬
‫والسؤالالكبرياملهمأنهيرتتبعىلذلكاستفهام‬
‫كبري وأسايس‪ ،‬هل اآليات التي استعملت فيها‬
‫عبارة يدعون من دون اهلل تتحدث عن دعاء‬
‫العبادة أي النوع األول أو دعاء املسألة وهو النوع‬
‫الثاين أو عن كليهام أو بعضها عن األول وبعضها‬
‫اآلخر عن الثاين؟!‬
‫ومن الواضح أن املسلمني املتهمني بالرشك‬
‫من قبل هؤالء هم متهمون بدعاء غري اهلل دعاء‬
‫املسألة ال دعاء العبادة قطعا‪.‬‬
‫وعليه االستدالل باآليات عىل رشكية دعاء غري‬
‫((( القول املفيد عىل كتاب التوحيد ج ‪ 1‬ص ‪ 120‬ـ ‪.121‬‬
‫((( إعانة املستفيد ج ‪ 1‬ص ‪.267‬‬
‫‪57‬‬
‫اهلل دعاء املسألة مرهون بأن يقصد منها دعاء‬
‫املسألة‪ ،‬وأما إن كان احلديث يف اآليات عن دعاء‬
‫العبادة لن يبقى دليل عىل رشكية دعاء املسألة‪،‬‬
‫فاملطلوب منهم إثبات أن اآليات تتحدث عن‬
‫دعاء املسألة حتى نقول بعدها أن القرآن حكم‬
‫بكفر من يدعو غري اهلل دعاء مسألة‪.‬‬
‫واحلصيلة عن أي املعنيني تتحدث اآليات؟ هذا‬
‫ما سنبحثه فيام ييل‪.‬‬
‫هــل اآليــات تتحــدث عــن دعــاء العبــادة أو دعــاء‬
‫املســألة؟‬
‫بعد أن بينا املعاين املختلفة للفظة الدعاء يف‬
‫اللغة والقرآن بل يف تراث أصحاب هذه الرؤية‬
‫وانقسامه عىل نحو أسايس إىل دعاء عبادة ودعاء‬
‫مسألة‪ ،‬أصبح من املمكن فهم آيات القرآن‬
‫الكريم التي تتكلم عن الدعاء أكثر‪ ،‬فلننظر‬
‫أتقصد اآليات دعاء املسألة أم دعاء العبادة؟‬
‫وإليك تفسري أربعة نامذج أساسية من اآليات‬
‫التيتتضمنكلمةالدعاء‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََْ ُ َ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ََ ْ َ ُ ُ ْ َ َ َ ْ ُ َ‬
‫ون اهللِوأدعو ر ِب عس‬ ‫تلكم وما تدعون مِن د ِ‬ ‫‪ ﴿ .1‬وأع ِ‬
‫َ َّ َ ُ َ ُ َ َ ّ َ ًّ َ َ َّ ْ َ َ َ ُ ْ َ َ َ ْ ُ ُ َ‬
‫أل أكون بِدعء ر ِب شقِيا * فلما اعتلهم وما يعبدون مِن‬
‫َ َ َْ َُ ْ َ َ‬
‫اق َو َي ْع ُق َ‬ ‫ُ‬
‫وب ﴾ مريم‪..49  -48:‬‬ ‫ون اهللِ وهبنا ل إسح‬
‫د ِ‬
‫‪58‬‬
‫هذه اآلية التي تنقل قول إبراهيم ‪ ‬هي أوضح‬
‫آيةتدلعىلالرتادفبنيكلمتي(يدعو)و(يعبد)‬
‫يف القرآن‪ ،‬فال شك أن اآلية حينام بدأت بقوله‬
‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ََ ْ َ ُ ُ ْ َ َ َ ْ ُ َ‬
‫ون اهللِ ﴾ ثم أعق َبت‬ ‫تلكم وما تدعون مِن د ِ‬ ‫﴿ وأع ِ‬
‫ون ِمن د ِ‬
‫ون اهللِ‪)...‬‬ ‫بقوله ﴿  َف َل َّم ا ْع َت َز َل ُ ْم َو َما َي ْع ُب ُد َ ُ‬
‫أثبتت الرتادف بني يدعون من دون اهلل ويعبدون‬
‫نحو مل يالحظ فيه معنى الطلب‬ ‫من دون اهلل عىل ٍ‬
‫واملسألة‪.‬‬
‫َ َْ ُ ُ ََْ َْ ُ َ ُ‬ ‫َ‬
‫ون اهللِ ﴾‬
‫تلكم وما تدعون مِن د ِ‬ ‫قال البغوي‪ ﴿« :‬وأع ِ‬
‫أي أعتزل ما تعبدون من دون اهلل‪ ،‬قال مقاتل‪:‬‬
‫كان اعتزاله إياهم أنه فارقهم من كوثى(((‪،‬‬
‫ََْ ُ َ ّ‬
‫فهاجر منها إىل األرض املقدسة ﴿ وأدعو ر ِب ﴾‬
‫ًّ‬ ‫َ َ َ َّ َ ُ َ ُ َ َ ّ َ‬
‫أي أعبد ريب ﴿ عس أل أكون بِدعء ر ِب شقِيا ﴾ أي‬
‫عسى أال أشقى بدعائه وعبادته كام أنتم تشقون‬
‫بعبادةاألصنام»(((‪.‬‬
‫وقال ابن اجلوزي وديدنه استقصاء اآلراء يف‬
‫َْ ُ َ‬
‫ون ﴾ قوالن‪ :‬أحدمها‪:‬‬ ‫تفسريه‪« :‬ويف معنى ﴿ تدع‬
‫تعبدون‪ ،‬والثاين‪ :‬أن املعنى وما تدعونه ربا‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ َّ َ ُ َ‬ ‫ََْ ُ َ ّ‬
‫﴿ وأدعو ر ِب ﴾ أي وأعبده ﴿ عس أل أكون بِدعء‬
‫َر ّ ِب َشقِ ًّيا ﴾ أي أرجو أن ال أشقى بعبادته كام شقيتم‬
‫((( كوثى‪ :‬البلدة التي نشأ هبا إبراهيم ‪.‬‬
‫((( تفسري البغوي ج ‪ 3‬ص ‪.166‬‬
‫‪59‬‬
‫أنتم بعبادة األصنام»(((‪ ،‬فنالحظ أنه مل يذكر‬
‫الطلب كأحد االحتامالت‪ ،‬بل تردد املعنى عنده‬
‫بنييعبدونويسمون‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ َْ ُ ُ‬
‫تلك ْم َو َما ت ْد ُعون مِن‬‫وقال ابن كثري‪« :‬وقوله ﴿ وأع ِ‬
‫ََْ ُ َ ّ‬ ‫ُ‬
‫ون اهللِ وأدعو ر ِب ﴾ أي أجتنبكم وأتربأ منكم ومن‬ ‫د ِ‬
‫ََْ ُ َ ّ‬
‫آهلتكم التي تعبدوهنا من دون اهلل ﴿ وأدعو ر ِب ﴾‬
‫أي وأعبد ريب وحده ال رشيك له»(((‪.‬‬
‫َ َّ َ ً‬ ‫َّ َ ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫‪ ﴿ .2‬إِن يَ ْد ُعون مِن دونِهِ إِال إِناثا ِإَون يَ ْد ُعون إِال شيْ َطانا‬
‫َّم ِر ًيدا ﴾ النساء‪.117:‬‬
‫وقد استعملت مفردة الدعاء يف هذه اآلية بمعنى‬
‫العبادة‪ ،‬والدليل عىل ذلك قوله تعاىل ﴿ ِإَون‬
‫َ ْ ُ َ َّ‬
‫ون إِال َشيْ َطانًا َّم ِر ًيدا ﴾ فال جمال لتفسري اآلية‬ ‫يدع‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫إال بعبادة الشيطان املذكورة يف قوله تعاىل ﴿ أل ْم‬
‫َّ ْ َ َ َّ ُ َ ُ‬
‫كمْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ ْ َ ْ ُ ْ َ َ َ َ َ َّ َ‬
‫أعهد إِلكم يا ب ِن آدم أن ل تعبدوا الشيطان إِنه ل‬
‫َع ُد ٌّو ُّمبِ ٌني ﴾ يس‪ ،60 :‬إذ إن مرشكي قريش مل يكونوا‬
‫يدعون الشيطان دعاء املسألة ويطلبون منه شيئا‬
‫بل الدعاء هنا هو العبادة التي حقيقتها بالنسبة‬
‫للشيطانطاعتهواتباعه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫قال البغوي‪« :‬قوله تعاىل ﴿ إِن يَ ْد ُعون مِن دونِهِ إِال‬
‫إِنَاثًا ﴾ نزلت يف أهل مكة‪ ،‬أي‪ :‬ما يعبدون كقوله‬
‫((( زاد املسري ج ‪ 5‬ص ‪ 176‬ـ ‪.177‬‬
‫((( تفسري ابن كثري ج ‪ 3‬ص ‪.130‬‬
‫‪60‬‬
‫َّ‬ ‫َ َ َ َ ُّ ُ ُ ْ‬
‫اد ُ‬
‫ون ﴾ بدليل قوله تعاىل ﴿ إِن‬ ‫ِ‬ ‫ع‬ ‫تعاىل ﴿ وقال ربكم‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ‬
‫بون ع ْن ع َِباد ِت ﴾‪ ،‬قوله ﴿ مِن دونِهِ ﴾‬ ‫الِين يستك ِ‬
‫َ ْ ُ َ َّ‬
‫ون إِال َشيْ َطانًا َّم ِر ًيدا ﴾ أي‬ ‫من دون اهلل‪ِ ﴿ ...‬إَون يدع‬
‫وما يعبدون إال شيطانا مريدا‪ ،‬ألهنم إذا عبدوا‬
‫األصنام فقد أطاعوا الشيطان»(((‪.‬‬
‫ََْ ْ َ ُ‬
‫ك ْم إ َّن َّالِينَ‬ ‫َ َ َ َ ُّ ُ ُ ْ‬
‫اد ُ‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ج‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫س‬‫أ‬ ‫ون‬‫ِ‬ ‫ع‬ ‫‪ ﴿ .3‬وقال ربكم‬
‫َْ َ ْ ُ َ َ ْ َ َ َ َْ ُ ُ َ‬
‫ون َج َه َّن َم َداخِر َ‬
‫ين ﴾‬ ‫ِ‬ ‫يستك ِبون عن عِباد ِت سيدخل‬
‫غافر‪.60:‬‬
‫يدعي هؤالء بأن هذه اآلية واضحة يف احلديث‬
‫عن الدعاء بمعنى الطلب (دعاء املسألة)‪ ،‬قالوا‬
‫َّ َّ َ َ ْ َ ْ ُ َ‬
‫ون َع ْن ع َِب َاد ِت ﴾ يدل عىل‬‫وذيلها ﴿ إِن الِين يستك ِب‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ولكن الذي نراه يف كلامت اللغويني واملفرسين‬
‫أهنم فرسوا كلمة الدعاء هنا بالعبادة عىل أهنا‬
‫مرادفة هلا‪ ،‬ال أهنا استعملت بمعنى الطلب‬
‫والطلب من مصاديق العبادة كام ختيل هؤالء‬
‫َ‬ ‫َّ َّ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ‬
‫بون ع ْن ع َِباد ِت ﴾‬‫استئناسا بذيلها ﴿ إِن الِين يستك ِ‬
‫ْ‬ ‫ََْ ْ َ ُ‬
‫أو بقوله ﴿ أست ِجب لكم ﴾‪ ،‬فاحلق إن كلمة الدعاء‬
‫يف املقطع األول من اآلية قصد هبا العبادة‪ ،‬ال أن‬
‫كلمة العبادة يف املقطع الثاين يقصد هبا الدعاء‬

‫((( تفسري البغوي ج ‪ 1‬ص ‪ 383‬ـ ‪.384‬‬


‫‪61‬‬
‫كمصداق للعبادة كام فهم هؤالء‪.‬‬
‫فمفردة الدعاء يف اآلية فرست بالعبادة يف‬
‫أثر صحيح مروي عن بعض الصحابة‪ ،‬فقد‬
‫روى احلاكم النيسابوري عن جرير بن عبد اهلل‬
‫﴿ اد ُعون أَ ْس َتجبْ‬
‫ْ‬
‫البجيل ‪ ‬يف قول اهلل عز وجل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ُ‬
‫ك ْم ﴾ قال‪« :‬اعبدوين استجب لكم»‪.‬‬ ‫ل‬
‫قال احلاكم‪« :‬هذا حديث صحيح عىل رشط‬
‫مسلم ومل خيرجاه»‪ ،‬قال الذهبي‪« :‬عىل رشط‬
‫مسلم»(((‪.‬‬
‫ونجد هذا رصحيا يف خرب آخر صحيح روي عن‬
‫رسول اهلل ‪ ‬فهم منه املفرسون ما نقوله هنا ال‬
‫ََ َ‬
‫﴿ وقال‬ ‫ما فهمه هؤالء‪ ،‬قال القرطبي‪« :‬قوله تعاىل‬
‫ْ‬ ‫َ ُّ ُ ُ ْ ُ َ ْ َ ْ َ ُ‬
‫ون أست ِجب لكم ﴾ اآلية‪ ،‬روى النعامن‬ ‫ربكم ادع ِ‬
‫بن بشري قال‪ :‬سمعت النبي ‪ ‬يقول‪ :‬الدعاء‬
‫اد ُعون أَ ْس َتجبْ‬ ‫َ َ َ َ ُّ ُ ُ ْ‬
‫هو العبادة‪ ،‬ثم قرأ ﴿ وقال ربكم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ْ َّ َّ َ َ ْ َ ْ ُ َ َ‬
‫بون ع ْن ع َِباد ِت َس َي ْدخلون َج َه َّن َم‬‫لكم إِن الِين يستك ِ‬
‫ين ﴾‪ ،‬قال أبو عيسى(((‪« :‬هذا حديث حسن‬ ‫َداخِر َ‬
‫ِ‬
‫صحيح‪ ،‬فدل هذا عىل أن الدعاء هو العبادة‪،‬‬
‫وكذا قال أكثر املفرسين‪ ،‬وأن املعنى‪ :‬وحدوين‬

‫((( املستدرك عىل الصحيحني ج ‪ 2‬ص ‪.301‬‬


‫((( املقصود به الرتمذي صاحب السنن‪.‬‬
‫‪62‬‬
‫واعبدوين أتقبل عبادتكم وأغفر لكم»(((‪.‬‬
‫قال األزهري‪« :‬قال أبو إسحاق يف قول اهلل جل‬
‫َ‬ ‫ُ ُ َ ْ َ َ َّ ِ َ َ‬
‫وعز ﴿ أ ِجيب دعوة ادلاع إِذا دع ِن ﴾ البقرة‪186 :‬‬
‫يعني الدعاء هلل عىل ثالثة أرضب‪ ،‬فرضب منها‬
‫توحيده والثناء عليه كقولك‪ :‬يا اهلل ال إله إال‬
‫أنت‪ ،‬وكقولك‪ :‬ربنا لك احلمد‪ ،‬إذا قلته فقد‬
‫دعوته بقولك ربنا ثم أتيت بالثناء والتوحيد‪،‬‬
‫َ َ َ َ ُّ ُ ُ ْ ُ َ ْ َ ْ َ ُ‬
‫كمْ‬ ‫جب ل‬‫ون أست ِ‬‫ومثله قوله تعاىل ﴿ وقال ربكم ادع ِ‬
‫َّ َّ َ َ ْ َ ْ ُ َ‬
‫ون ﴾»(((‪.‬‬ ‫إِن الِين يستك ِب‬
‫فمن الواضح إذن أن الدعاء يف اآلية دعاء العبادة‬
‫وليس دعاء املسألة‪ ،‬فكيف يستدل باآلية عىل أن‬
‫دعاء املسألة عبادة؟!‬
‫ب َلك ُْم) يف‬‫وال ينبغي ادعاء أن كلمة ( َأ ْس َت ِج ْ‬
‫اآلية قرينة واضحة عىل أن املقصود دعاء املسألة‪،‬‬
‫ألن من الواضح أن البرش مارسوا عباداهتم‬
‫وطقوسهم ‪ -‬والتي عرب عنها يف القرآن بالدعاء ‪-‬‬
‫كي يتقربوا إىل اآلهلة ويكونوا حمظوظني عندهم‬
‫مستجايب الدعاء‪ ،‬فلذا من الطبيعي أن يقال‬
‫هلم اعبدوا اهلل وحده بمعنى اذكروه وصلوا له‬

‫((( اجلامع ألحكام القرآن مج ‪ 8‬ج ‪ 15‬ص ‪ ،292‬قال حمقق الطبعة‪:‬‬


‫إسناده صحيح رواه الرتمذي يف التفسري (‪.)2969‬‬
‫((( هتذيب اللغة ج‪ 3‬ص ‪.76‬‬
‫‪63‬‬
‫كي يستجيب لكم ويقيض حوائجكم‪ ،‬فإنام‬
‫يستجابللمصيلالصائماملزكي‪.‬‬
‫َ ُّ‬ ‫َ‬
‫﴿ و َم ْن أضل م َِّمن‬
‫وكذلك يقال يف مثل قوله تعاىل َ‬
‫َ َّ َ ْ َ ُ َ ُ َ َ ِ ْ َ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َْ ُ‬
‫امةِ َوه ْم‬ ‫جيب ل إِل يوم القِي‬
‫ون اهللِ من ل يست ِ‬
‫يدعو مِن د ِ‬
‫َ ُ َ ْ َ ُ َ‬
‫ون ﴾ األحقاف‪ 5  :‬فاملعنى ومن أضل‬ ‫عن دعئ ِ ِهم غف ِل‬
‫ممن يعبد من دون اهلل من ال حتدث عبادته أي‬
‫ردة فعل عند املعبود‪ ،‬فال يكون هذا العابد حمظيا‬
‫مستجاب الدعاء عند املعبود ألنه مجاد غافل عن‬
‫عبادتهله‪.‬‬
‫وما روي عنه ‪« :‬من رسه أن يستجاب له عند‬
‫(((‬
‫الكرب والشدائد فليكثر الدعاء يف الرخاء»‬
‫يقرب ما نريده قوله هنا‪ ،‬فهو يستجاب له يف‬
‫الشدائد أي عندما تضيق عليه األمور وتشتد‬
‫عليه احلاجة ولكن برشط أن يكون يف حال‬
‫الرخاء منشغال بعبادته اهلل يف حال الرخاء وهو‬
‫ما عرب عنه يف اخلرب فليكثر الدعاء حال الرخاء‪.‬‬
‫وبمعناه ما رواه الكايف عن الصادق ‪« :‬من‬
‫تقدم يف الدعاء استجيب له إذا نزل به البالء‬
‫وقالت املالئكة صوت معروف ومل حيجب عن‬
‫السامء‪ ،‬ومن مل يتقدم يف الدعاء مل يستجب له إذا‬
‫((( املستدرك عل الصحيحني ج‪ 1‬ص‪ 729‬قال احلاكم‪ :‬حديث صحيح‬
‫اإلسناد‪،‬ووافقهالذهبي‪.‬‬
‫‪64‬‬
‫نزل البالء وقالت املالئكة‪ :‬إن هذا الصوت ال‬
‫نعرفه»(((‪.‬‬
‫﴿ وأَ َّن ال ْ َم َساج َد ِلِ فَ َل تَ ْد ُعوا َم َع اهللِ أَ َح ًدا * َو َأنَّ ُه لَماَّ‬
‫‪َ .4‬‬
‫ِ‬
‫ُ ْ َّ‬ ‫ُ ُ َ ََ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ َ‬
‫ام عبْ ُد اهللِ يَد ُعوهُ كدوا يَكونون عليْهِ لِ َ ًدا * قل إِن َما‬ ‫ق‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ ُ َّ ََ ْ‬
‫ُ‬
‫شك بِهِ أحدا ﴾ اجلن‪ 18:‬ـ‪.20‬‬ ‫أدعو ر ِب ول أ ِ‬
‫ومفردة الدعاء يف هذه اآلية جاءت بمعنى‬
‫العبادة ال الطلب واملسألة‪ ،‬فالرصاع بني رسول‬
‫اهلل ‪ ‬وقريش كان عىل وحدانية اهلل يف العبادة‬
‫ومل ُيقصد من كلمة يدعو إال ذلك‪ ،‬ولذا انتهت‬
‫ُ‬ ‫ُ ْ َّ َ َ ْ ُ َ ّ َ َ ُ ْ‬
‫شك بِهِ‬ ‫اآليات بقوله تعاىل ﴿ قل إِنما أدعو ر ِب ول أ ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أحدا ﴾‪.‬‬
‫قالالطربي‪«:‬يقولتعاىلذكرهلنبيهحممد ‪...:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َّ ْ‬
‫جد ِلِ فل تدعوا ﴾ أهيا الناس ﴿ مع اهللِ‬ ‫﴿ وأن المسا ِ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أحدا ﴾ وال ترشكوا به فيها شيئا‪ ،‬ولكن أفردوا له‬
‫﴿ و َأنَّ ُه لَماَّ‬‫التوحيد وأخلصوا له العبادة‪ ...‬وقوله َ‬
‫َْ ُ ُ َ ُ َ ُ ُ َ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ون َعليْهِ لِ َ ًدا ﴾ يقول‪:‬‬ ‫ام عبْ ُد اهللِ يدعوه كدوا يكون‬ ‫ق‬
‫وأنه ملا قام حممد رسول اهلل ‪ ‬يدعو اهلل يقول‪ :‬ال‬
‫َ ُ َ ُ ُ َ َ‬
‫ون َعليْهِ لِ َ ًدا ﴾‪...‬‬ ‫إله إال اهلل ﴿ كدوا يكون‬
‫َ ُ‬ ‫َ َّ ُ َ َّ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ام عبْ ُد اهللِ يَ ْد ُعوهُ كدوا‬ ‫عن ابن عباس قوله ﴿ وأنه لما ق‬
‫َ ُ ُ َ ََ‬
‫عليْهِ لِ َ ًدا ﴾ يقول‪ :‬ملا سمعوا النبي ‪‬‬ ‫يكونون‬
‫((( الكايف ج‪ 2‬ص ‪ ،472‬وصححه املجليس يف مرآة العقول ج‪ 12‬ص‬
‫‪.22‬‬
‫‪65‬‬
‫يتلو القرآن‪ ......‬عن سعيد بن جبري عن ابن‬
‫َ َّ َ َ َ‬
‫ام عبْ ُد‬ ‫عباس قال‪ :‬قول اجلن لقومهم ﴿ لما ق‬
‫َْ ُ ُ َ ُ َ ُ ُ َ َ‬
‫ون َعليْهِ لِ َ ًدا ﴾ قال‪ :‬ملا رأوه‬ ‫اهللِ يدعوه كدوا يكون‬
‫يصيل وأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون‬
‫بسجوده‪.(((»...‬‬
‫عبْ ُد اهللِ﴾ يعني النبي ‪‬‬ ‫َ َّ َ َ َ‬
‫قال البغوي‪ ﴿«:‬لما قام‬
‫﴿ يَ ْد ُعوهُ ﴾ يعني يعبده ويقرأ القرآن‪ ،‬وذلك حني‬
‫كان يصيل ببطن نخلة ويقرأ القرآن»(((‪.‬‬
‫وخالصة‪:‬‬
‫يتضح من العرض السابق أن كلمة الدعاء يف‬
‫القرآن الكريم تأيت يف كثري من املوارد بمعنى‬
‫العبادة بل هي يف أكثر املوارد هبذا املعنى كام يف‬
‫تقرير الشوكاين الستدالل البعض «الدعاء يف‬
‫أكثر استعامالت الكتاب العزيز هو العبادة»(((‪،‬‬
‫ومن هنا حيق لنا أن نتساءل‪ :‬كيف ُي ّدعى وضوح‬
‫القرآن الكريم يف اعتبار الدعاء عبادة بنحو مطلق‬
‫يف حني أن اآليات التي تتحدث عن الرشك‬
‫تتحدث عن خصوص دعاء العبادة وال تقصد‬

‫((( تفسري الطربي مج ‪ 14‬ج ‪ 29‬ص ‪ 144‬ـ ‪.146‬‬


‫((( تفسري اللغوي ج‪ 4‬ص‪.373‬‬
‫((( فتح القدير ج‪ 4‬ص‪.571‬‬
‫‪66‬‬
‫دعاء املسألة بوجه؟!‬
‫هل هناك تالزم بني دعاء املسألة والعبادة؟‬
‫هناك دعوى جتدها يف بعض كلامهتم حصيلتها أن‬
‫دعاء املسألة يتضمن دعاء العبادة‪ ،‬قال الفوزان‪:‬‬
‫«والعالقة بني دعاء العبادة ودعاء املسألة‪ ،‬أن‬
‫دعاء العبادة مستلزم لدعاء املسألة‪ ،‬فإذا قال‪:‬‬
‫ِك يَ ْو ِم‬ ‫َ‬ ‫الر ْحن َّ‬
‫الرحِي ِم * مل ِ‬ ‫ني * َّ‬ ‫ِ‬ ‫َْ‬
‫﴿ ال ْم ُد هللِ َر ّب الْ َعالَم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِين ﴾ يلزم من هذا أنه يسأل اهلل سبحانه وتعاىل‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ادل ِ‬
‫ودعاء املسألة متضمن لدعاء العبادة بمعنى أن‬
‫دعاء العبادة داخل يف دعاء املسألة‪ ،‬فالذي يسأل‬
‫اهلل حوائجه يتضمن هذا أنه يعبد اهلل بذلك»(((‪.‬‬
‫والقول بأن دعاء العبادة مستلزم لدعاء املسألة‬
‫ودعاء املسألة متضمن لدعاء العبادة كالم غري‬
‫واضح بل غري معقول‪ ،‬واملعقول منه أن من يرى‬
‫موجودا ما مستحقا لدعاء عبادة ال شك أنه يراه‬
‫أهال ألن يسأل دعاء مسألة‪ ،‬وأما إذا قصدوا أن‬
‫دعاء العبادة حينام حيدث يلزم منه حدوث دعاء‬
‫مسألة فغري صحيح‪ ،‬إذا قد يسبح املرء ربه وليس‬
‫يف ذلك دعاء مسألة حتى يقال لزم من دعاء‬
‫العبادة دعاء املسألة‪ ،‬فال أعرف كيف لزم من‬
‫((( إعانة املستفيد ج‪ 1‬ص ‪.268‬‬
‫‪67‬‬
‫قول ﴿ احلمد هلل رب العالمني ﴾ دعاء مسألة؟!!‬
‫والقول بأن دعاء املسألة متضمن لدعاء العبادة‬
‫أبعد عن التعقل‪ ،‬فهل املقصود أن كل من يدعو‬
‫دعاء مسألة ففعله هذا يتبطن دعاء عبادة للمدعو‬
‫أو املسئول؟! بمعنى إذا سألت حاجة من أخيك‬
‫فدعاء املسألة هذا يتضمن دعاء عبادة له‪ ،‬أو أن‬
‫َ ْ َ َ َّ‬
‫اس َتغاث ُه الِي‬ ‫ما ذكره عز وجل يف قوله تعاىل ﴿ ف‬
‫ِيعتِهِ ﴾ القصص‪ 15 :‬وهو دعاء مسألة يعنى أن‬ ‫مِن ش َ‬

‫استغاثة الذي من شيعته تضمنت دعاء عبادة‬


‫ملوسى ‪‬؟!‬
‫نعم حيتمل وجود من يعبد اهلل بدعائه دعاء مسألة‬
‫كام نعبد اهلل نحن بالصالة والصيام‪،‬لكن أين مثل‬
‫هذا اإلنسان يف الواقع اخلارجي؟! فالذي يسأل‬
‫اهلل حوائجه يسأله ألنه رب قادر عىل كل يشء‪،‬‬
‫وال يقصد عبادة اهلل بذلك أبدا‪ ،‬كام ال يتضمن‬
‫سؤال غريه شيئا من العبادة لذلك الغري‪.‬‬
‫هل ملقولتهم تلك معنى معقول؟! ال أعرف‪،‬‬
‫عىل أصحاب هذه الرؤية توضيح األمر !!‬
‫البحــث الثــاين‪ :‬تقييــد رشكيــة دعــاء املســألة بــا‬
‫ال يقــدر عليــه إال اهلل‪:‬‬
‫كام رأيت هم يقرون بأن دعاء املسألة لغري اهلل‬
‫‪68‬‬
‫ليس رشكا بصورة مطلقة بل هو مقيد بام لو‬
‫دعا وسأل أمرا ال يقدر عليه إال اهلل‪ ،‬وكلامت‬
‫مشاخيهم رصحية يف ذلك‪ ،‬قال حممد بن صالح‬
‫العثيمني‪«:‬الدعاءينقسمإىلقسمني‪:‬‬
‫األول‪ :‬دعاء عبادة مثاله الصوم والصالة‪...‬‬
‫وهذا القسم كله رشك‪....‬‬
‫الثاين‪ :‬دعاء املسألة فهذا ليس كله رشكا بل فيه‬
‫تفصيل‪ ،‬فإن كان املخلوق قادرا عىل ذلك فليس‬
‫برشك‪ ،...‬وأما من دعا املخلوق بام ال يقدر عليه‬
‫إال اهلل فإن دعوته رشك خمرج عن امللة»(((‪.‬‬
‫وأصل التقييد جتده يف كلامت ابن عبدالوهاب يف‬
‫رد إشكال أورده قال‪« :‬وهلم شبهة أخرى وهو‬
‫ما ذكر النبي ‪ ‬أن الناس يوم القيامة يستغيثون‬
‫بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى‬
‫فكلهم يعتذر حتى ينتهوا إىل رسول اهلل ‪‬‬

‫قالوا‪ :‬فهذا يدل عىل أن االستغاثة بغري اهلل ليست‬


‫رشكا‪.‬‬
‫واجلواب أن نقول‪ :‬سبحان من طبع عىل قلوب‬
‫أعدائه‪ ،‬فإن االستغاثة باملخلوق فيام يقدر عليه‬
‫ال ننكرها‪ ،‬كام قال اهلل تعاىل يف قصة موسى‬

‫((( القول املفيد عىل كتاب التوحيد ج ‪ 1‬ص ‪ 120‬ـ ‪.121‬‬


‫‪69‬‬
‫َ َّ‬ ‫َّ‬
‫ِيعتِهِ َع الِي م ِْن َع ُد ّوِهِ ﴾‪ ،‬وكام‬
‫اس َت َغاثَ ُه الِي مِن ش َ‬
‫﴿ فَ ْ‬

‫يستغيث اإلنسان بأصحابه يف احلرب أو غريه‬


‫يف أشياء بقدر عليها املخلوق‪ ،‬ونحن أنكرنا‬
‫استغاثة العبادة التي يفعلوهنا عند قبور األولياء‬
‫أو يف غيبتهم يف األشياء التي ال يقدر عليها إال‬
‫اهلل»(((‪ ،‬وعبارهتم ظاهرة يف أن الرشك خيتص‬
‫بام إذا كان األمر املسئول واملطلوب من اخلوارق‬
‫التي ال يمكن أن تصدر إال من اهلل خالق الكون‪.‬‬
‫واإلشكال األساس الذي يرد عليهم أننا نقطع‬
‫بأن هناك أمورا هي من قبيل األمور التي ال‬
‫يقدر عليها إال اهلل ‪ -‬أي اخلوارق ‪ -‬مكن منها‬
‫بعض خملوقاته الكريمة كاملالئكة وبعض عباده‬
‫الصاحلني املخلصني‪ ،‬فأصبحوا قادرين عىل‬
‫فعلها‪.‬‬
‫ويكفيمثاالعىلذلكقدرةاملسيح ‪‬عىلإحياء‬
‫املوتى إبراء األكمه واألبرص بإذن اهلل‪ ،‬وال شك‬
‫أن املسلم ال يطلب مثل تلك األمور التي هي يف‬
‫مقدور اهلل أصالة إال إذا اعتقد أن املدعو أعطي‬
‫القدرة من اهلل عز وجل ومكن بإذنه كالقدرة‬
‫التي أعطيت للمسيح ‪ ‬واملذكورة يف قوله‬

‫((( رشح كشف الشبهات ص ‪ 125‬ـ ‪.126‬‬


‫‪70‬‬
‫َ َ ْ َ َّ ْ َ َ ُ ُ‬ ‫كم ّم َِن ّ‬ ‫َّ َ ُُْ َ ُ‬
‫ي فأنفخ‬ ‫ِ‬ ‫الط‬ ‫ة‬
‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫ي‬ ‫ه‬‫ك‬ ‫ني‬
‫ِ‬ ‫الط‬
‫ِ‬ ‫تعاىل ﴿ أ ِن أخلق ل‬
‫األك َم َه واألَب ْ َر َص َوأُ ْ‬
‫َُْ ُ ْ‬ ‫ََ ُ ُ َ ًْ ْ‬
‫ح ِي‬ ‫يا بِإِذ ِن اهللِ وأب ِرئ‬ ‫فِيهِ فيكون ط‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ ُ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َُ‬ ‫ْ َ ْ‬
‫ال َم ْوت بِإِذ ِن اهللِ َوأن ّب ِ ُئكم ب ِ َما تأكلون َو َما ت َّدخ ُِرون ِف‬
‫ِك ْم ﴾ آل عمران‪ ،49 :‬وهكذا بالنسبة لسليامن ‪‬‬ ‫ُُ ُ‬
‫بيوت‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َّ ْ َ َ ُ ّ َ َ ْ‬
‫يح ت ِري بِأ ْم ِره ِ ُرخاء َحيْث‬ ‫إذ قال تعاىل ﴿ فسخرنا ل ِ‬
‫الر‬
‫اب ﴾ ص‪ ،63 :‬فوجود مثل تلك القدرات أمر‬ ‫أَ َص َ‬

‫مرصح به يف القرآن‪ ،‬فكيف يمكن تكفري مسلم‬


‫العتقاده بذلك أو ترتيبه األثر عىل تلك العقيدة‬
‫وطلب األمر املعجز من ذلك النبي‪ ،‬وهل يعقل‬
‫أن يقال وبكل بساطة‪ :‬إن دعاء املرىض الذين‬
‫عاشوا يف زمن املسيح ‪ ‬وطلبهم منه الشفاء‬
‫أمر موجب للرشك‪ ،‬فلو طلب األكمه واألبرص‬
‫الشفاء من عيسى ‪ ‬لكان مرشكا؟!‬
‫وإذا أراد مكابر أن يدعي ذلك‪ ،‬نقول‪ :‬يكفيك أن‬
‫الذي عنده علم من الكتاب أتى بعرش ملكة سبأ‬
‫َ َ‬
‫بطلب من سليامن ‪ ‬كام يف قوله تعاىل ﴿ قال يَا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ َ َ َْ َ َُْ‬ ‫َ ُ َ ُّ ُ َ ْ‬
‫المل أيك ْ‬‫َأ ُّي َها َ‬
‫ون مسل ِ ِمني ﴾‬
‫ِ‬ ‫ت‬‫أ‬ ‫ي‬ ‫ن‬‫أ‬ ‫ل‬‫ب‬ ‫ق‬ ‫ا‬‫ِه‬
‫ش‬ ‫ر‬‫ع‬ ‫ب‬
‫ِ ِ‬‫ِين‬ ‫ت‬ ‫أ‬ ‫ي‬ ‫م‬
‫النمل‪ ،38 :‬فاستجاب الذي عنده علم من الكتاب‬
‫لطلب سليامن ‪ ‬وقام بذلك كام يف قوله تعاىل‬
‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ٌْ ّ َ ْ َ ََ‬ ‫َ َ َّ‬
‫اب أنا آتِيك بِهِ قبْل أن‬ ‫ِ‬ ‫ِت‬‫ك‬ ‫ال‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ِل‬‫ع‬ ‫ه‬‫ِند‬
‫ع‬ ‫ِي‬‫ال‬ ‫﴿ قال‬
‫َ َ َ َ َ‬ ‫ُ َ ََ‬ ‫َ َ َ‬
‫ِندهُ قال هذا مِن‬ ‫يَ ْرت َّد إِلْك َط ْرفك فل َّما َرآهُ ُم ْس َتقِ ًّرا ع‬

‫‪71‬‬
‫ل َرب ﴾ النمل‪ ،40 :‬فهل أرشك نبي اهلل سليامن ‪‬‬
‫ّ‬ ‫َ ْ‬
‫فض ِ‬ ‫ِ‬
‫بطلبههذا؟!‬
‫بل امليت يمكن أن يمكّن من بعض األمور‪ ،‬فقد‬
‫ُمكِّن رسول اهلل ‪ ‬من رد السالم عىل املؤمنني‬
‫وهو ميت يف قربه‪ ،‬فقد روي بسند صحيح‬
‫قوله ‪« :‬ما من أحد يسلم عيل إال رد اهلل عيل‬
‫روحي حتى أرد عليه السالم»(((‪.‬‬
‫ولوضوح األمر أقر الشيخ ابن عبد الوهاب بأن‬
‫الطلب ممن مكّنه اهلل عىل اخلوارق ليس رشكا‪،‬‬
‫فقال‪« :‬وهلم شبهة أخرى وهي قصة إبراهيم ‪‬‬

‫ملا ألقي يف النار اعرتض له جربيل يف اهلواء فقال‪:‬‬


‫ألك حاجة؟ فقال إبراهيم‪ :‬أما إليك فال‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫فلو كانت االستغاثة بجربيل رشكا مل يعرضها‬
‫عىلإبراهيم‪.‬‬
‫فاجلواب‪ :‬إن هذا من جنس الشبهة األوىل‪ ،‬فإن‬
‫جربيل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه‪ ،‬فإنه‬
‫َ ُ ْ‬
‫ِيد ال ُق َوى ﴾‪ ،‬فلو أذن اهلل‬
‫كام قال اهلل تعاىل فيه ﴿ شد‬
‫له أن يأخذ نار إبراهيم وما حوهلا من األرض‬
‫واجلبال ويلقيها يف املرشق أو املغرب لفعل‪ ،‬ولو‬
‫أمره أن يضع إبراهيم يف مكان بعيد عنهم لفعل‪،‬‬

‫((( ذكره األلباين يف السلسلة الصحيحة ج‪ 5‬ص ‪.338‬‬


‫‪72‬‬
‫ولو أمره أن يرفعه إىل السامء لفعل»(((‪.‬‬
‫وعىل هذا جيب عليهم أن يعدلوا يف قيود دعاء‬
‫املسألة املوجب للرشك فيقولون‪ :‬هو أن يطلب‬
‫اإلنسان من موجود ما أمرا ال يقدر عليه إال اهلل‬
‫ومل يكن ذلك املوجود حيا كان أو ميتا ممن مكنه‬
‫اهلل عىل مثل ذلك األمر‪.‬‬
‫وهنا سندخل يف مشكلة أخرى إذ ختتلف آراء‬
‫املسلمني حول متكني اهلل لبعض عباده املكرمني‬
‫بسبب االختالف يف صحة بعض األحاديث‬
‫وضعفها‪ ،‬فسيكون االختالف من قبيل اخلالف‬
‫يف بدعية عمل ما وسنيته‪ ،‬فإذا ثبت متكني اهلل له‬
‫وثبت جواز الطلب منه بدليل معترب فلن يكون‬
‫بدعة بل هو سنة جائزة بالدليل‪ ،‬وأما إذا مل يثبت‬
‫متكينه أو ثبت ولكن مل يثبت جواز الطلب منه‬
‫بدليل معترب فسيكون بدعة ال سنة‪ ،‬وعليه‬
‫ستخرج املسألة عن بحث التوحيد والرشك إىل‬
‫بحثالسنةوالبدعة‪.‬‬
‫وهل جيوز يف هذه اخلالف النابع من اخلالف‬
‫يف تقييم بعض األحاديث أن يتهموا املسلمني‬
‫بالرشك مستحلني بذلك دماءهم وأمواهلم؟!‬

‫((( رشح كشف الشبهات ص ‪ 129‬ـ ‪.130‬‬


‫‪73‬‬
‫فكيف يمكن احلكم عىل مسلم بالرشك ملجرد أنه‬
‫أخطأ يف ختيل صحة خرب أثبت متكني اهلل ملخلوق‬
‫كريم من خملوقاته ودعاه دعاء مسألة بناء عىل‬
‫ذلك؟!‬
‫انتقــال مــن دعــاء العبــادة إىل املســألة خــروج عــن‬
‫بحــث األلوهيــة‪:‬‬
‫االنتقال من دعاء العبادة إىل املسألة خروج‬
‫عن بحث األلوهية لكن اخللل كل اخللل يف‬
‫أهنم جعلوا الرشك نوعني رشك ربوبية ورشك‬
‫ألوهية‪ ،‬ثم جاءوا إىل أمر مل يتضح دخوله يف النوع‬
‫األول أو الثاين ومع ذلك اعتربوه رشكا‪ ،‬ونقصد‬
‫به دعاء املسألة الذي حتدثنا عنه قبل قليل‪.‬‬
‫وبتقريب آخر نقول‪ :‬ال شك بأن املسلم لو دعا‬
‫غري اهلل دعاء عبادة عد مرشكا‪ ،‬ولكن مشكلة‬
‫أصحاب هذا الرأي أهنم أقاموا دعواهم بأن‬
‫املسلمني وقعوا يف رشك األلوهية ‪ -‬التي هي‬
‫الرشك يف العبادة ‪ -‬عىل فرضية اعتبار الدعاء‬
‫أحد أجىل مصاديق العبادة‪ ،‬ثم قسموا الدعاء إىل‬
‫دعاء عبادة ودعاء مسألة بام ظاهره خروج دعاء‬
‫املسألة عن عنوان العبادة‪ ،‬فكان عليهم بيان وجه‬
‫بقائهـدعاءاملسألة‪-‬حتتعنوانرشكالعبادةبعد‬
‫‪74‬‬
‫ذلك‪ ،‬فلم يفعلوا بل اقترصوا عىل تقييده بطلب‬
‫ما ال يقدر عليه إال اهلل‪ ،‬وجمرد تقييده بذلك ال‬
‫يدخله يف سلك العبادة كام هو واضح‪.‬‬
‫والنتيجة مع خروج دعاء املسألة عن عنوان‬
‫األلوهية والعبادة أو عىل األقل عدم اتضاح‬
‫اندراجه حتت ذلك العنوان‪ ،‬كيف يمكن إدراج‬
‫دعاء غري اهلل دعاء مسألة حتت رشك األلوهية‬
‫والعبادة؟!‬
‫وعليه إذا أردنا أن نحكم برشكية دعاء غري اهلل‬
‫دعاء مسألة فإما أن نبني وجه دخوله يف العبادات‬
‫أو نخضعه للنوع اآلخر من الرشك أي رشك‬
‫الربوبية ‪ -‬بعد أن نبني الوجه والدليل عىل دخوله‬
‫حتت النوع اآلخر ‪ -‬وإن مل يفلحوا يف إثبات يشء‬
‫من ذلك لن يكون دعاء املسألة من الرشك يف‬
‫يشء‪.‬‬
‫وأما أن يقروا بأن دعاء املسألة غري دعاء العبادة‬
‫ومع ذلك يرصون عىل إبقائه حتت عنوان رشك‬
‫األلوهية ورشك العبادة دون بيان الوجه والدليل‬
‫عىل ذلك فهذا العجب الذي صدر من هؤالء‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫هــل ســيصبح دعــاء املســألة عبــادة بتقييــده بــا ال‬
‫يقــدر عليــه إال اهلل؟‬
‫نعم كام قلنا هم وضعوا لدعاء املسألة الرشكي‬
‫قيدا وهو أن يتعلق السؤال والطلب بام ال يقدر‬
‫عليه إال اهلل‪ ،‬لكن السؤال املهم هل هذا التقييد‬
‫يرجع دعاء املسألة إىل حظرية رشك األلوهية‬
‫والعبادة ويعد بمجرد ذلك عبادة؟!‬
‫أبدا‪ ،‬فلن يرجع البحث إىل بحث العبادة‬
‫واأللوهية هبذا القيد ما مل يتحقق مع هذا الدعاء‬
‫قصد اخلضوع العبادي اخلاص الذي نجده يف‬
‫الصالة وغريه من العبادات‪ ،‬وهذا كام قلنا ال‬
‫واقع له يف اخلارج فليس دعاء املسألة عبادة كام‬
‫الصالة عبادة عىل نحو يتقرب به إىل اهلل تقربنا‬
‫نحن بالصالة والصيام‪ ،‬نعم يمكن ختيل أن‬
‫يقصد أحد بذلك العبادة ولكنها فرضية غري‬
‫متحققةيفالواقع‪.‬‬
‫ومن غري الواضح إدخاهلم إياه يف بحث رشك‬
‫الربوبية وإال ألدرجوه هناك‪ ،‬نعم يمكن أن‬
‫يدخل يف رشك الربوبية لو افرتضنا أن من يسأل‬
‫دعاء املسألة ينطلق من االعتقاد بالقدرات‬
‫الذاتية للمسئول واملدعو عىل نحو مستقل عن‬
‫‪76‬‬
‫قدرة اهلل عز وجل ودون إذنه‪.‬‬
‫وعىل ذلك سيضيع املعيار الذي حكموا عىل‬
‫أساسه برشك من يدعو غري اهلل دعاء املسألة‪،‬‬
‫فهل أخل الداعي بتوحيد األلوهية أو توحيد‬
‫الربوبية؟! هذا ما ال يمكن حتديده يف كومة‬
‫كلامهتم‪.‬‬
‫دعــاء املســألة يمكــن أن يصبــح رشكا يف أحــد‬
‫الفرضــن التاليــن‪:‬‬
‫بناء عىل ما سبق ال ننفي إمكان دخول دعاء‬
‫املسألة حتت عنوان الرشك‪ ،‬ولكن ليس بمجرده‬
‫بل إذا صاحب دعاء املسألة أمر آخر يدخله يف‬
‫رشك الربوبية أو رشك األلوهية‪ ،‬والعقل هو‬
‫الذي يستقل يف احلكم برشكيته بسبب ما الزمه‪،‬‬
‫وذلك عند حتقق ضابطة أحد نوعي الرشك إما‬
‫رشك الربوبية أو رشك األلوهية‪.‬‬
‫فهو يدخل يف رشك الربوبية إذا اعتقد الداعي‬
‫السائل أن هذا املوجود سواء أكان صنام أم غري‬
‫ذلك قادر عىل قضاء حاجاته بشكل مستقل عن‬
‫اهلل ويف عرض قدرة اهلل تعاىل‪ ،‬فهذا رشك بال‬
‫شك‪ ،‬فلو سأل أحدهم غري اهلل أمرا ال يقدر عليه‬
‫إال اهلل واعتقد أنه بمقدور ذلك الغري من دون‬
‫‪77‬‬
‫أن يمكنه اهلل بل بقدرته الذاتية املستقلة عن اهلل‬
‫أصبح مرشكا رشك ربوبية‪ ،‬وسبب الرشك هنا‬
‫يف احلقيقة ليس دعاء املسألة وإنام اعتقاد السائل‬
‫الذي يرجع إىل رشك الربوبية ال األلوهية‪.‬‬
‫وهذامايدلعليهالقرآنرصحيا‪،‬فتقييدنالرشكية‬
‫دعاء املسألة باالعتقاد بربوبية املدعو الذاتية‬
‫َّ َ ْ‬
‫خلُقُ‬ ‫املستقلة عن اهلل مرصح به يف قوله تعاىل ﴿ أ ِن أ‬
‫ََ ُ ُ َ ًْ ْ‬ ‫َ ُ ّ َ ّ َ َ ْ َ َّ ْ َ َ ُ ُ‬
‫ي فأنفخ فِيهِ فيكون طيا بِإِذ ِن‬ ‫ني كهيئةِ الط ِ‬ ‫الط ِ‬
‫لكم مِن ِ‬
‫َْ َ َ ْ َْ ْ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُْ ُ ْ‬
‫ن اهللِ ﴾ آل‬‫اهللِ وأب ِرئ األكمه واألبرص وأح ِي الموت بِإِذ ِ‬
‫عمران‪ ،49 :‬فمن الواضح من اآلية الكريمة أن تقييد‬
‫القدرات اخلارقة للعادة بإذن اهلل أي بتمكني اهلل‬
‫وعدم استقالليته كان السبب األسايس يف عدم‬
‫اعتبار ذلك رشكا‪ ،‬وبالتايل إذا مل يكن االعتقاد‬
‫بقدرة ذلك املسئول ‪ -‬عىل فعل اخلوارق ‪ -‬مقيدا‬
‫بإذن اهلل‪ ،‬كام لو اعتقد استقالليته يف ذلك أصبح‬
‫رشكا يف الربوبية‪.‬‬
‫وبناء عىل ما سبق فالصحيح أن يقال‪ :‬إن من‬
‫رشك الربوبية أن يطلب اإلنسان من موجود غري‬
‫اهلل قضاء حاجته انطالقا من االعتقاد بأنه قادر‬
‫عىل ذلك بذاته وبدون إذن اهلل‪ ،‬وأما إذا اعتقد أنه‬
‫بإذن اهلل كام هو حال املسيح ‪ ‬فهذا اإلنسان مل‬

‫‪78‬‬
‫يرشك رشك ربوبية ألنه يعتقد بأن اخلالق املدبر‬
‫هو اهلل وما املسيح ‪ ‬إال عبد مكنه اهلل من بعض‬
‫اخلوارق وهو ليس برشك حتى لو سأله وطلب‬
‫منه ذلك األمر اخلارق الذي ال يقدر عليه إال اهلل‬
‫أصالة‪.‬‬
‫نعم قد يكون مبتدعا إذا مل يعتمد عىل دليل‬
‫معترب يف ذلك‪ ،‬وخمطئا إذا اعتمد عىل دليل باطل‬
‫ختيل صحته‪ ،‬وقد يكون مصيبا إذا أفاد الدليل‬
‫الصحيح ثبوت ذلك ألحد عباده املكرمني كام‬
‫أفادت اآليات ثبوت ذلك للمسيح ‪.‬‬
‫ويمكن أن يدخل دعاء املسألة حتت عنوان رشك‬
‫األلوهية إذا رافق الدعاء القصد العبادي اخلاص‬
‫يعني اعترب الداعي دعاءه ‪ -‬دعاء املسألة ‪ -‬عبادة‬
‫مثل الصالة والصوم يتقرب به إىل اهلل ويعبده‬
‫هبذا السؤال والطلب‪ ،‬وهذا بعيد فال نجد بني‬
‫البرش من يعترب دعاء املسألة عبادة فضال عن أن‬
‫يتخذ كذلك من قبل بعض املسلمني‪.‬‬
‫التوحيــد والــرك يعرفــان بالعقــل وال مدخــل‬
‫للنصــوص فيهــا‪:‬‬
‫واحلقيقة تكمن يف أن العقل بنفسه يعرف بطالن‬
‫االعتقاد بوجود إله آخر مع اهلل مستقل يف تأثريه‬
‫‪79‬‬
‫عىل الكون وهو ما يعرف برشك الربوبية‪ ،‬كام أنه‬
‫مستقل يف معرفة بطالن أن يقصد اإلنسان غري‬
‫اهلل بالعبادات أي ما يعرف برشك األلوهية‪.‬‬
‫وعليه إذا أدرك العقل حتقق ضابطة رشك أكرب‬
‫يف مورد سواء كان رشكا يف الربوبية أو رشكا يف‬
‫األلوهية فال يمكن أن يأيت النص كي جييز ذاك‬
‫َ َ َُْ ُ ْ َ‬
‫الرشك كيف وقد قال عز وجل ﴿ وال يأم َركم أن‬
‫َ َّ ُ ْ ْ َ َ َ َ َ ّ ّ ْ َ َ ْ َ ً َ َ ْ ُ ُ ُ ْ ُ‬
‫ك ْفر َب ْعدَ‬
‫ِ‬ ‫خذوا المالئِكة وانلِبِيِي أربابا أيأمركم بِال‬
‫تت ِ‬
‫ْ َ ُ ُّ ْ ُ َ‬
‫إِذ أنتم مسلِمون ﴾ آل عمران‪ ،80 :‬كام إنه استقل بعدم‬
‫حتقق ضابطة الرشك ال رشك ربوبية وال رشك‬
‫ألوهية ال يمكن للنص الرشعي أن جيعله رشكا‪.‬‬
‫ففي مثل موردنا إذا استقل العقل باحلكم عىل‬
‫أن دعاء املسألة ليس من الرشك يف يشء‪ ،‬فال‬
‫يمكن أن يأيت بعد ذلك دليل أو نص يعتربه‬
‫رشكا يف خصوص ما ال يقدر عليه املدعو دون‬
‫ما يقدر عليه‪ ،‬وإذا استقل باحلكم عىل أن دعاء‬
‫املسألة رشك فال يمكن أن يأيت الدليل وجييزه يف‬
‫خصوص ما يقدر عليه املدعو‪ ،‬كام هو احلال يف‬
‫دعاء العبادة الذي ال يمكن أن جييزه الرشع يف أية‬
‫حالة ما دام العقل متحققا من رشكيته‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫تنبيهان ال بد منهام‬
‫التنبيه األول‪ :‬ال ربط للشفاعة بالرشك‪:‬‬
‫قد يتصور البعض أن اختاذ الشفعاء يعد من‬
‫موجبات الرشك كام قد يفهم من قوله تعاىل‬
‫ُ ُ َ‬ ‫َ َ َ ُ ُّ ُ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ََُُْ َ‬
‫ضه ْم َوال يَنف ُع ُه ْم َو َيقولون‬ ‫ون اهللِ ما ال ي‬
‫﴿ ويعبدون مِن د ِ‬
‫ُ َ َ ُ‬
‫اؤنَا ع َ‬ ‫َُ‬
‫ِند اهللِ ﴾ يونس‪ 18 :‬وقوله تعاىل ﴿‬ ‫هؤالء شفع‬
‫ُ َ ْ َ َ َ ْ ُ ُ ُ ْ َّ ُ َ ّ ُ َ َ‬ ‫َ َّ َ َّ َ ُ‬
‫ِين اتذوا مِن دونِهِ أو ِلاء ما نعبدهم إِل ِلق ِربونا إِل‬ ‫وال‬
‫ْ‬
‫اهللِ ُزل َف﴾ الزمر‪ ،3 :‬غري أن االعتقاد بالشفاعة يعترب‬
‫من مسلامت الدين اإلسالمي احلنيف‪ ،‬فقد بني‬
‫القرآن عقيدة الشفاعة يف العديد من آياته‪ ،‬قال‬
‫َ‬
‫حنُ‬ ‫اع ُة إ َّل َم ْن أذ َِن َ ُل َّ‬
‫الر ْ َ‬ ‫َ ْ َ َّ َ َ ُ َّ‬
‫الش َف َ‬ ‫تعاىل ﴿ يومئ ِ ٍذ ل تنفع‬
‫ِ‬
‫ََ َ َ ً‬
‫ض ُل قَ ْول ﴾ طه‪ ،109 :‬وقال متحدثا عن شفاعة‬ ‫ور ِ‬
‫َ ْ َ ُ َ ََْ َْ ْ َ َ َ َْ ُ ْ ََ َ ْ َ ُ َ‬
‫املالئكة ﴿ يعلم ما بي أيدِي ِهم وما خلفهم ول يشفعون‬
‫َّ َ ْ َ َ َ ُ ّ ْ َ ْ َ ُ ْ ُ َ‬
‫ون ﴾ األنبياء‪،28 :‬‬ ‫إِل ل ِم ِن ارتض وهم مِن خشيتِهِ مشفِق‬
‫وهبذا ال ربط للرشك باالعتقاد بالشفاعة ال من‬
‫قريب وال من بعيد‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ََُُْ َ‬
‫ون اهللِ‬ ‫وأما بالنسبة لقوله تعاىل ﴿ ويعبدون مِن د ِ‬
‫اؤنَا ع َ‬ ‫ُ َ َ ُ‬ ‫ُ ُ َ َُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ ُ ُّ ُ‬
‫ِند‬ ‫ضه ْم َوال يَنف ُع ُه ْم َو َيقولون هؤالء شفع‬ ‫ما ال ي‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َّ َ َّ َ ُ‬
‫ِين اتذوا مِن دونِهِ أ ْو ِلَاء َما‬ ‫اهللِ ﴾ وقوله تعاىل ﴿ وال‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫َن ْع ُب ُد ُه ْم إِل ِلُ َق ّ ِر ُبونَا إِل اهللِ ُزل َف ﴾ فالرشك املتحقق‬
‫عند أولئك مل يكن من جهة االعتقاد بالشفاعة‬
‫‪81‬‬
‫وإنام كان من جهة عبادهتم لغري اهلل‪ ،‬وأما الشفاعة‬
‫أمر اعتقدوه يف األوالد‬‫املذكورة يف اآليتني فهي ٌ‬
‫زائد عىل عبادهتم هلا‪ ،‬فقد ختيلوا أن‬
‫املزعومني ٌ‬
‫إكرام أبناء الرب بعبادهتا يقرب من اإلله األكرب‬
‫ويرضيه ويوجب قبول شفاعتها فيام خيتص به‬
‫اإللهاألكربمنقدرات‪،‬واآليتانغريناظرتنيإىل‬
‫ممارساهتم األخرى مع تلك اآلهلة من قبيل طلب‬
‫قضاء احلوائج منها باعتبار أهنم كانوا يعتقدون‬
‫بقدرهتا عىل الرض والنفع بذاهتا وبشكل مستقل‬
‫عن اإلله األكرب فيام ال خيتص به من قدرات‪.‬‬
‫التنبيه الثاين‪ :‬ال عالقة للتوسل بالرشك أيضا‪:‬‬
‫حقيقة التوسل أن يتوجه العبد هلل ويدعوه ولكن‬
‫يذكر يف دعائه صفاته اجلليلة التي تقتيض قضاء‬
‫حاجة العبد كسعة رمحته وغفرانه‪ ،‬فيتوسل‬
‫هبذه الصفات‪ ،‬وقد يتوسل باملكانة اخلاصة التي‬
‫لألنبياء والصاحلني عنده من عباده‪ ،‬وقد توسل‬
‫عمر بعم النبي العباس بن عبد املطلب كام يف‬
‫صحيح البخاري فقال‪« :‬اللهم إنا كنا نتوسل‬
‫إليك بنبينا فتسقينا‪ ،‬وإنا نتوسل إليك بعم نبينا‬
‫فاسقنا»(((‪.‬‬
‫((( صحيح البخاري ج‪ 1‬ص ‪.342‬‬
‫‪82‬‬
‫فاختاذالوسائلاملقربةإىلاهللمنرضوراتالدين‬
‫ومسلامته‪،‬فقدعلمنااهللعزوجلاملناسكورشع‬
‫لنا أعامال نتقرب هبا إليه‪ ،‬ولقد ذكرها بعبارة عامة‬
‫َ َ ُّ َ َّ َ َ ُ ْ َّ ُ ْ َ َ ْ َ ُ ْ َ‬
‫يف قوله تعاىل ﴿ يا أيها الِين آمنوا اتقوا اهلل وابتغوا إِلهِ‬
‫َ َ َّ ُ ْ ُ ْ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ََ‬
‫ون ﴾ املائدة‪.35:‬‬ ‫ال َوسِيلة َو َجاه ُِدوا ِف َسبِيلِهِ لعلكم تفل ِح‬
‫ومن تلك الوسائل الصالة واحلج وتقبيل احلجر‬
‫األسود وشد الرحال إىل املساجد الثالثة بل‬
‫زيارة قرب النبي ‪ ‬ودعاء اهلل عند قربه كام رشع لنا‬
‫دعاءه عز وجل يف كل مكان بل رشع لنا السالم‬
‫عليه ‪ ‬أينام كنا‪ ،‬فيتقرب املسلم إىل اهلل بالسالم‬
‫عىل خاتم الرسل وحتصيل رده ألن روحه ترد‬
‫عليه ‪ ‬فريد السالم كام يف اخلرب الصحيح الذي‬
‫مر ذكره‪.‬‬
‫وهذه كلها قربات هي من صلب التوحيد وال‬
‫متت إىل الرشك بصلة إال إذا قصد املتقرب عبادة‬
‫الرسول أو القرب أو صاحب القرب‪ ،‬وهذا ما مل يقع‬
‫فيهمسلمشهدالشهادتني‪.‬‬
‫نعم يمكن أن يدخل بحث الوسيلة يف بحث‬
‫السنة والبدعة فام هو ثابت يف الرشع يدخل يف‬
‫السنة وما هو غري ثابت يعترب بدعة‪ ،‬وال يمكن‬
‫اعتبار الثابت وغري الثابت يف الرشع هنا من‬

‫‪83‬‬
‫الرشك والتوحيد بأي وجه‪.‬‬
‫وهناك عبارة جامعة البن تيمية هي رصحية يف‬
‫عدم ارتباط بحثي الشفاعة والتوسل بالرشك‬
‫والتوحيد قال يف كتابه (قاعدة جليلة يف التوسل‬
‫والوسيلة)‪:‬‬
‫«وقد ذكر علامء اإلسالم وأئمة الدين األدعية‬
‫الرشعية وأعرضوا عن األدعية البدعية فينبغي‬
‫إتباع ذلك واملراتب يف هذا الباب ثالث‪:‬‬
‫إحداها‪ :‬أن يدعو غري اهلل وهو ميت أو غائب‬
‫سواء كان من األنبياء والصاحلني أو غريهم‬
‫فيقول‪ :‬يا سيد فالن أغثني‪ ...‬أو انرصين عىل‬
‫عدوي‪ ...‬فهذا رشك هبم وإن كان يقع كثري من‬
‫الناس يف بعضه‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن يقال للميت أو الغائب من األنبياء‬
‫والصاحلني‪ :‬ادع اهلل يل أو ادع لنا ربك أو اسأل‬
‫اهلل لنا‪ ،...‬فهذا أيضا ال يسرتيب عامل أنه غري‬
‫جائز وأنه من البدع التي مل يفعلها أحد من سلف‬
‫األمة‪...‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن يقال‪ :‬أسألك بفالن أو بجاه فالن‬
‫عندك ونحو ذلك الذي تقدم عن أيب حنيفة وأيب‬
‫يوسف وغريمها أنه منهي عنه‪ ،‬وتقدم أيضا أنه‬

‫‪84‬‬
‫هذا ليس بمشهور عن الصحابة‪.(((»...‬‬
‫وكام ترى فإنه اعترب فقط دعاء امليت مبارشة‬
‫وكأنه القادر عىل قضاء احلوائج هو املوجب‬
‫للرشك‪ ،‬وأما االحتامالن اآلخران ‪ -‬أي طلب‬
‫الشفاعة من غري اهلل يف املرتبة الثانية والتوسل‬
‫بمكانة شخص يف املرتبة الثالثة ‪ -‬فقد أدخلهام‬
‫يف بحث السنة والبدعة‪ ،‬واعترب األول منهام من‬
‫البدع وتردد يف بدعية اآلخر‪.‬‬

‫‪‬‬

‫((( قاعدة جليلة يف التوسل والوسيلة ص ‪.168 -164‬‬


‫‪85‬‬
fajrashura.com

86

You might also like