You are on page 1of 182

‫‪.

‬‬

‫عنوان الكتاب ‪ :‬قضايا نسائية‪ ..‬قراءة يف تراث اآلل واألصحاب ‪.‬‬


‫اسم املؤلف ‪ :‬وصال تقة‪.‬‬
‫عدد الصفحات ‪180 :‬‬ ‫ــ‬ ‫نوع املطبوع ‪ :‬كتاب ـ ـ الطبعة ‪ :‬األوىل‬
‫السلسلة ‪ :‬تراث اآلل واألصحاب (‪)13‬‬
‫الناشر ‪ :‬مربة اآلل واألصحاب‪.‬‬
‫ص‪ .‬ب‪ 12421 .‬الشامية ـ الرمز الربيدي ‪ 716555‬ـ ـ ت ‪2560203 :‬‬

‫ردمك‪ 9 :‬ـ ‪ 51‬ـ ‪ 64‬ـ ‪ 99966‬ـ ‪ISBN 978‬‬

‫م‬
‫حقوق الطبع حقوظة لمبرة الآل والآصحاب‬
‫إال لمن أراد التوزيع الخيري بشرط عدم التصرف في المادة العلمية‬

‫الطبعة األوىل‬
‫‪ 1440‬ـه ـ ‪2019‬م‬

‫هاتف‪ 22560203 :‬ــ ‪ 22552340‬فاكس‪22560346 :‬‬


‫ص‪ .‬ب‪ 12421 :‬الشامية الرمز البريدي ‪ 71655‬الكويت‬
‫‪ mail: almabarrh@gmail. com‬ــ ‪E‬‬
‫‪www. almabarrah.net‬‬
.
‫فهرس الكتاب‬

‫فهرس الكتاب‬

‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬
‫مقدمة مبرة اآلل واألصحاب‪7 ......................................‬‬
‫تقريظ‪11 ......................................................‬‬
‫مقدمة ‪13 ......................................................‬‬
‫حقوق المرأة في اإلسالم ‪21 .......................................‬‬
‫الحقوق المالية ‪23 ...............................................‬‬
‫‪ 1‬ــ سن الرشد وحصول أول العلم به؛ شرطَا تسلُّ ِمها مالَها‪23 ...... .‬‬
‫‪ 2‬ــ حقها في اإلرث ‪24 ....................................‬‬
‫‪ 3‬ــ الصداق حقها وركن من أركان الزواج ‪30 ...................‬‬
‫‪ 4‬ــ حقها في النفقة ‪38 .....................................‬‬
‫‪ 5‬ــ مفهوم الطاعة ومظاهرها ‪43 ..............................‬‬
‫‪ 6‬ــ معنى الدرجة التي فضل اهلل ‪ ‬بها الرجل على المرأة ‪48 .......‬‬
‫‪ 7‬ــ النفقة ال تسقط عن الرجل بامتالك المرأة المال ‪49 ............‬‬
‫الحقوق المعنوية للمرأة في اإلسالم ‪54 ...............................‬‬
‫‪ 1‬ــ الحقوق السياسية ‪54 ...................................‬‬
‫‪ 2‬ــ حق العمل ‪58 ........................................‬‬
‫(‪ )1‬بين سعة الشريعة وضيق بعض أتباعها ‪58 ...................‬‬
‫(‪ )2‬مبدأ في الحياة أومن به ج ًّدا‪( :‬تعلم كل ما تظن أنك من‬
‫يوما) ‪63 ................................‬‬ ‫الممكن أن تحتاجه ً‬
‫‪5‬‬
‫فهرس الكتاب‬

‫(‪ )3‬لتختر المهنة التي تؤدي عبرها رسالتها وال تخالف طبيعتها‬
‫وأنوثتها وشرع ربها! ‪65 ....................................‬‬
‫)‪ (4‬زوجها وأطفالها وبيتها أولى مسؤولياتها باالهتمام ‪68 ...........‬‬
‫(‪ )5‬حق اهلل أولى أن يصان‪69 .............................. .‬‬
‫(‪ )6‬تحقيق الذات ليس مشروطا بالخروج إلى العمل‪ ،‬والتطوير ال‬
‫يقف ضده مكوث بالبيت ‪70 .................................‬‬
‫ضوابط االختالط‪76 .......................................‬‬
‫حق اختيار الزوج ورفض من ال تريده ‪80 .......................‬‬
‫هل يجب على المرأة خدمة زوجها؟ ‪89 .......................‬‬
‫ضرب المرأة بين التعسف والعالج ‪95 .........................‬‬
‫هل وصف النساء بناقصات عقل ودين‪ :‬إساءة للنساء وانتقاص من‬
‫كرامتهن؟ ‪103 ...........................................‬‬
‫قراءة في حديث‪> :‬إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة‬
‫شيطان‪ <...‬الحديث ‪109...................................‬‬
‫هل المرأة في حاجة إلى المساواة مع الرجل؟ ‪112 ......................‬‬
‫االستقاللية؛ قوة في الحق أم تمرد واستئساد؟ ‪117 ......................‬‬
‫التعدد‪ ،‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟ ‪125 .....................‬‬
‫الطالق والترمل والعنوسة‪ ،‬وصمات عار على جبين المرأة المعاصرة ‪143 .....‬‬
‫هل الطالق كسر أم انتصار؟ ‪149 .............................‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة ‪153 ....................‬‬
‫خاتمة الكتاب ‪172 ..............................................‬‬
‫ثبت المراجع ‪176 ...............................................‬‬
‫‪6‬‬
‫مقدمة مبرة اآلل واألصحاب‬

‫مقدمة مبرة الآل والآصحاب‬


‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وصلى اهلل وسلم وبارك على نبيِّنا محم ٍد‬
‫وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين الغر الميامين‪ ،‬أما بعد؛‬
‫أثرا بالغ األهمية في االرتقاء بحياة‬
‫فال ريب أن للقدوات الصالحة ً‬
‫األمم والشعوب؛ وذلك أنهم هم الذين يقدمون الدليل الواقعي والتطبيق‬
‫العملي للتعاليم التي تم ّثل منظومة القيم واألخالق التي تشكّل هوية تلك‬
‫األمم‪ ،‬وتعتبر مثالها السامي الذي تستهدف احتذاء حذوه واالهتداء بهديه‪.‬‬
‫وقد ّنبه القرآن الكريم على ذلك المعنى وأشاد به في آيات كثيرة‪،‬‬
‫فضل االقتداء باألنبياء والصالحين‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ‬ ‫مبي ًنا َ‬
‫ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ} [األحزاب‪:‬‬
‫‪ ،]21‬وقال ‪{ :‬ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ} [الممتحنة‪،]4 :‬‬
‫وقال سبحانه‪{ :‬ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ}‬
‫صفوة من رسله وأنبيائه‪{ :‬ﲻ ﲼ ﲽ‬ ‫ٍ‬ ‫[الممتحنة‪ ،]6 :‬وقال عقب ذكر‬
‫عز ِمن قائل‪{ :‬ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ‬ ‫ﲾﲿ ﳀ ﳁ} [األنعام‪ ،]90 :‬وقال ّ‬

‫‪7‬‬
‫مقدمة مبرة اآلل واألصحاب‬

‫ﲾ ﲿ ﳀ} [األحقاف‪ ،]35 :‬وغير ذلك مما يفهم من النصوص بأدنى‬


‫تأمل‪.‬‬
‫ّ‬
‫والواجب على أمتنا اإلسالمية أن تصوغ رؤيتها األخالقية والقيمية‬
‫والحضارية انطال ًقا من الوحي قرآ ًنا وسن ًة‪ ،‬في تناغم مع معطيات العلم‬
‫في جميع المجاالت‪ ،‬ومواكبةٍ لمستجدات العصر الذي نعيش فيه وما‬
‫يزخز به من تحديات عظيمة‪ .‬فال يحسن أن نقتصر في تدبرنا للوحي على‬
‫مجرد األمور الدينية العبادية المحضة‪ ،‬فإن الوحي قد أنزله اهلل هدى ونو ًرا‬
‫لإلنسانية تنتفع به في معاشها ومعادها‪ ،‬وإن كان مقصوده األساس الفالح‬
‫األخروي وما يقرب إليه؛ إال أنه ال شك في كونه يرشدنا بهداياته في‬
‫جميع مناحي الحياة العملية‪ ،‬ولو في صورة ضوابط ومعايير وقيم كلية‬
‫نافعة‪ ،‬نستلهم منه ما يرضي ربنا ويحقق فالحنا في الدنيا‪ ،‬مع عدم إغفال‬
‫البحث والعلم في جميع المجاالت بأدواتها ووسائلها‪.‬‬
‫ونحن إذا ذهبنا نستلهم قيم الوحي على مختلف األصعدة العلمية‬
‫خيرا مما نجده عن صحابة‬
‫وتفعيال؛ ً‬
‫ً‬ ‫امتثاال وتطبي ًقا‬
‫والسلوكية؛ لم نجد ً‬
‫النبي ‪ ‬األخيار وأهل بيته األطهار‪ ،‬فهم الذين انتهجوا الوحي‬
‫كتا ًبا وسنة في جميع جوانب حياتهم‪ ،‬فسادوا وقادوا‪ ،‬وصاروا أئمة‬
‫أعالما هداة‪.‬‬
‫ً‬
‫وقد أخذت (مبرة اآلل واألصحاب) ــ كعادتها ــ على عاتقها مهم َة‬
‫تفعي ِل ذلك المعنى‪ ،‬وتقديمه في صورة بحثية توعوية منضبطة؛ لكونها‬

‫‪8‬‬
‫مقدمة مبرة اآلل واألصحاب‬

‫مؤسسة متخصصة في تراث اآلل واألصحاب حتى صار لها ــ بفضل اهلل ــ‬
‫الريادة في ذلك المجال‪.‬‬
‫وقد كان أصل هذا المشروع الذي بين أيدينا فكر ًة من قِبل رئيس‬
‫مجلس إدارة المبرة د‪ .‬عبدالمحسن الجاراهلل الخرافي تتضمن توسيع‬
‫لتضم مجاالت جديدة ورحا ًبا‬ ‫ّ‬ ‫نطاق األبحاث المتعلقة باآلل واألصحاب‬
‫أوسع وال تقتصر على الموضوعات الدينية المألوفة‪ ،‬ثم أوعز بهذه الفكرة‬
‫وبعض عناصرها إلى مركز البحوث والدراسات بالمبرة؛ فقام المركز‬
‫مشكو ًرا مأجو ًرا بوضع خطة طموحة تتضمن العديد من الموضوعات‬
‫الهادفة‪ ،‬العلمية والعملية؛ التي نستهدف أن نستضيء فيها بتراث اآلل‬
‫واألصحاب‪ ،‬ونكشف عن مالمح تطبيقهم الوحي على جميع األصعدة‬
‫واألنحاء‪ ،‬بشكل يتجلّى فيه الجانب اإلبداعي من تخصص المبرة في‬
‫خدمة تراث اآلل واألصحاب‪ ،‬و>التخصص يقود إلى اإلبداع< بحمد اهلل‬
‫وتوفيقه‪ ،‬بحيث نقدم للمكتبة العلمية والدعوية تجمي ًعا غير مسبوق لبعض‬
‫الجوانب الدقيقة في تراث اآلل واألصحاب؛ و ِمن ثَ َّم َّنسق المركز مع‬
‫مجموعة من الباحثين ليقدموا جهودهم في تحويل تلك األفكار‬
‫والموضوعات إلى أبحاث علمية وفق منهجية مركز البحوث والدراسات‬
‫المنضبطة‪ ،‬القائمة على التحقيق العلمي‪ ،‬واالستدالل الصحيح‪،‬‬
‫واالسترشاد بكتب أهل العلم السابقين والمعاصرين‪ ،‬واستمر جهد المركز في‬
‫متابعة األبحاث ومراجعتها وتعديل ما يحتاج منها إلى تعديل‪ ،‬عبر خلية عمل‬

‫‪9‬‬
‫مقدمة مبرة اآلل واألصحاب‬

‫تفرغت للمشروع تحت إشراف رئيس مركز البحوث والدراسات الشيخ‬


‫محمد سالم الخضر مباشرة‪ ،‬فالشكر موصول لجميع الباحثين الكرام في‬
‫المركز‪.‬‬
‫ثم تضافرت جهود أقسام المبرة األخرى كقسم اإلعالم في إتمام العمل‬
‫بتنسيق الكتب وإخراجها؛ فكانت هذه السلسلة من الموضوعات‪ ،‬التي‬
‫تندرج في سلسلة (تراث اآلل واألصحاب)؛ ثمر ًة لهذا التعاون المبارك‪.‬‬
‫وقد أرفقنا في ذيل هذا الكتاب قائم ًة بعناوين هذه المجموعة‬
‫المتكاملة من الموضوعات الدقيقة والمهمة في تراث اآلل واألصحاب‪.‬‬
‫صا لوجهه‬‫نرجو من اهلل ‪ ‬أن يوفقنا في مسعانا‪ ،‬وأن يجعله خال ً‬
‫الكريم‪ ،‬وأن يجمع لنا األجرين‪ :‬أجر االجتهاد وأجر الصواب‪ ،‬إنه ولي‬
‫ذلك والقادر عليه‪.‬‬

‫مبرة الآل والآصحاب‬

‫‪10‬‬
‫تقريظ‬

‫تقريظ‬
‫‪ ‬بقلم‪ :‬د‪.‬ابلشيرعضاماملراكيش‬

‫بسم اهلل الرحمن الرحيم الحمد هلل‪ ،‬والصالة والسالم على رسول اهلل‪،‬‬
‫وآله وصحبه‪.‬‬
‫تمجها المطابع كل سنة‪ ..‬وقليلة هي الكتب‬‫كثيرة هي الكتب التي ّ‬
‫التي تنشأ من حاجة للفرد أو المجتمع أو األمة‪ ،‬ثم هي تسعى لسد هذه‬
‫الحاجة بالبيان الذي يبث الوعي‪ ،‬وينشر المعرفة بين الناس‪ .‬وأقل القليل‬
‫من بين هذه الكتب‪ :‬تلك التي تحقق هذه الغاية‪ ،‬لجمعها بين صحة‬
‫المضمون‪ ،‬وجمال األسلوب‪ .‬وإنني أحسب أن كتاب األستاذة الباحثة‬
‫األديبة وصال تقة‪ ،‬الموسوم بـ>قضايا نسائية<‪ ،‬يحتل من ضمن هذه النخبة‬
‫عليا‪ ،‬ومرتبة سامقة‪ .‬أما تميز هذا الكتاب في المضمون‪،‬‬
‫المختارة‪ ،‬مكا ًنا ًّ‬
‫فألن المؤلفة القديرة استطاعت أن تحقق فيه التوسط بين األطراف‬
‫المتناقضة في هذا المجال؛ وهو توسط عسير المأخذ‪ ،‬ال يتأتى إال لمن‬
‫طالت خبرته‪ ،‬وع ُظمت حكمته‪ .‬وذلك أن قضايا المرأة اليوم صارت‬
‫تتجاذبها أهواء متفرقة‪ ،‬ما بين علماني أو الديني يريد من خاللها هدم‬
‫الدين وتقويض أسسه؛ وتنويري يقصد إلى تحريف الشرائع لتوافق الثقافة‬
‫‪11‬‬
‫تقريظ‬

‫حكرا على النساء)‬‫الغربية المهيمنة؛ وأنثوية (أو أنثوي ــ فليست األنثوية ً‬


‫تسعى إلى نصب حلبة >صراع البقاء< بين المرأة والرجل؛ وقَ َّصاص أو‬
‫واعظ يترك طريقة العلماء في التفقه‪ ،‬ويفزع إلى التحريم بمحض الذرائع‬
‫مع التمسح بغيرة الرجال التي ال تنضبط (وإذا رأيت المتحدث يترك الفقه‬
‫ويلجأ إلى مثل هذا‪ ،‬فاعلم أن الحجة أعوزته)؛ وجاهل تشبع بخطاب‬
‫الوعظ ــ في بيئة تجعل الواعظ على قدم المساواة مع الفقيه في استنباط‬
‫وضيق وتعنت‪ ،‬واستلهم األعراف والتقاليد ليكمل بها‬ ‫فشدد ّ‬ ‫األحكام ــ ّ‬
‫الخانات الفارغة في بنائه المعرفي؛ وآخرين كثيرين يرون الكالم عن المرأة‬
‫كأل مستبا ًحا لكل أحد‪ ،‬ولو بالرأي الفطير‪ ،‬والفكرة الساذجة‪ .‬وأما تميزه‬
‫أنامل األديب؛ فكيف حين‬ ‫تدبجه ُ‬‫في األسلوب‪ ،‬فكذا يكون الفقه حين ّ‬
‫نسائيا<‪ ،‬يفيض رقة‪ ،‬ويتدفق عذوبة؟!‬ ‫أدبيا > ًّ‬ ‫يكون ــ فوق ذلك ــ أسلو ًبا ًّ‬
‫هذا شيء نادر في الكتابة الفقهية‪ ..‬وهو لندرته اليوم‪ ،‬حقيق بأن يشجع‬
‫ويُتمثل ويُقتدى به‪ .‬وقد كان األدب قدي ًما يُدرس مع العلوم الشرعية‪،‬‬
‫صنوا لها يرفدها من ُروائه وبهائه‪ ،‬ويستم ّد من انضباطها وصرامتها؛ قبل‬ ‫ً‬
‫فقهيا جافًّا‬
‫أن يقع الفصام العصري القبيح بين المجالين‪ ،‬فنرى خطا ًبا ًّ‬
‫سائال متف ّل ًتا‪ ،‬هائ ًما في كل وا ٍد! وإنني ألرجو‬
‫أدبيا ً‬ ‫خش ًنا ركي ًكا‪ ،‬وخطا ًبا ًّ‬
‫أن تكون األستاذة وصال تقة من الذين يجمعون بين اإللمام الشرعي‬
‫حري بأن يتبوأ‬
‫الجيد‪ ،‬والتميز األدبي الباذخ‪ .‬وكتابُها هذا نموذج واضح‪ّ ،‬‬
‫في المكتبة اإلسالمية العصرية‪ ،‬مكانة شامخة‪ .‬واهلل الموفق‪.‬‬
‫ك‬
‫د‪ .‬البشبر عصام المرا شي‬

‫‪12‬‬
‫مقدمة‬

‫مقدمة‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على المبعوث رحمة‬


‫للعالمين‪ ،‬وعلى آله وأصحابه وأزواجه األطهار الميامين‪ ،‬وعلى من تبعهم‬
‫بإحسان إلى يوم الدين‪.‬‬
‫ودعب‪،‬‬
‫المحاضرات في موضوع‬
‫ُ‬ ‫الكتب و ُتقام‬
‫ُ‬ ‫فقد جرت العادة أن تصنَّ َف‬
‫خولها لها اإلسالم؛ ر ًّدا على األبحاث‬ ‫المرأة تعري ًفا بحقوقها التي َّ‬
‫العلمانية أو االستشراقية‪ ،‬التي تتخذ من واقع المسلمين المعاصر مطي ًة‬
‫للتطاول على اإلسالم‪ ،‬وتستقي أحكامها مما تطالعهم به الصحف‬ ‫ُ‬
‫والمجالت‪ ،‬والمحاكم واألسواق‪ ،‬والمدارس والشوارع‪ ،‬من سوء‬
‫أحوال المرأة على أغلب األصعدة‪ ،‬واإلجحاف بها وظلمها بشتى أنواع‬
‫الحيف التي صنعت منها ضحية مستلبة‪ ،‬لوقوعها ــ من جهة ــ بين أيدي‬
‫وعاظ غير مؤهلين ــ إال من رحم اهلل ــ ومتصدرين للدعوة‪ ،‬قد انطلقوا‬
‫من مفاهيم خاصة بالنوع ــ وهي التي تسمى الذكورية‪ ،‬وهو مفهوم ملتبس‬
‫ٍ‬
‫واستقراء ضعيف‬ ‫ضا ــ كما سنتعرض له الح ًقا ــ ونظرة قاصرة ضيقة‪،‬‬ ‫أي ً‬
‫‪13‬‬
‫مقدمة‬

‫لألحداث حولهم‪ ،‬وتشبعوا ح َّد التقديس بعادات وتقاليد بيئاتهم المتزمتة‬


‫البعيدة عن روح اإلسالم السمحة‪ ،‬وتعاليمه الطيبة‪ ،‬ولضعف نضج‬
‫إدراكهم‪ ،‬وضيق اطالعهم على ما يتعلق بطبيعة المرأة وجبلتها ونفسيتها‪،‬‬
‫ومن فهوم كثير منهم السقيمة لألحكام الشرعية ولمناطاتها‪ ،‬والفتقادهم‬
‫تخولهم الخلوص إلى نتائج صحيحة‪ ،‬وبالتالي‬ ‫ألدوات البحث التي ِّ‬
‫إصدار أحكام منطقية معالجة للحاالت المعروضة أمامهم‪ ،‬بل تطاولهم‬
‫على دور المتخصص النفسي واالجتماعي‪ ،‬دون أدنى اطالع على فحوى‬
‫فقيدوا حركة المرأة‪ ،‬وحركوها بخيوط جعلتها ال تنظر إال‬ ‫خطاباتهما‪َّ ،‬‬
‫من خالل زاوية تصوراتهم‪ ،‬وألزموها بما ُتلزم به العادات والتقاليد‬
‫الخانقة‪ ،‬وق َّزموا دورها حتى صيروها مجرد آلة عليها أن تستجيب ألوامر‬
‫مبرمجها‪ ،‬فعطلوا دورها الطالئعي في تكوين العقول‪ ،‬والسهر على إخراج‬
‫أجيال واعية‪ ،‬بمسؤوليتها وما تنتظره منها أمتها‪ ،‬فكانت خالصة حالها‪ ،‬ما‬
‫نراه اليوم في الشوارع‪ ،‬والمقاهي‪ ،‬والمدارس‪ ،‬والمنشئات العامة‪ ،‬من‬
‫تسيب األبناء وانحرافهم‪ ،‬وميوعتهم‪ ،‬وانسالخهم عن الدين‪ ،‬وحرصهم‬
‫على تقليد الوافدات في تسريحات الشعر والمالبس والسمت الظاهر‪،‬‬
‫دون حرص على اإلبداع والبناء واالبتكار‪ ،‬إال من رحم ربي‪.‬‬
‫ووقعت المرأة من جهة أخرى بين أيدي الحركات اليسارية‪ ،‬وأدعياء‬
‫التحرر‪ ،‬الذين فطنوا لهذا الحيف‪ ،‬وتنبهوا إلى اإلجحاف الذي يمارس‬
‫عليها من خالل الخطاب الديني المتحجر‪ ،‬فانتفضوا كي يعيدوا لها‬
‫ــ زعموا ــ حقوقها المسلوبة‪ ،‬فأخطأوا المسار‪ ،‬وحادوا عن ُسبل التقويم‪،‬‬
‫‪14‬‬
‫مقدمة‬

‫وشنوا هجوماتهم الشنيعة على اإلسالم‪ ،‬ظنًّا منهم أن تلك الممارسات‬


‫المستهجنة التي يودون تغييرها إنما هي من الشرع‪.‬‬
‫نفسها متقاذفة بين ناطق رسمي باسم الدين‪،‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬وجدت المرأة َ‬
‫يهدم الشريعة بسوء فهمه‪ ،‬فيهدم كيانها‪ ،‬ويهدم المجتمع الذي تمثل‬
‫نصفه‪ ،‬وتهيئ نصفه‪ ،‬ويقيد حريتها وإبداعها بتعميمات خاطئة‪ ،‬وبين‬
‫ضا الشريعة‪ ،‬ويدعو إلى نبذ المرجعية الدينية‬ ‫مدافع عنها يهدم أي ً‬
‫بالتأويالت الغريبة‪ ،‬واالستقطاعات المشينة‪ ،‬تنتهي به إلى إثبات حيف‬
‫اإلسالم على المرأة‪ ،‬وبالتالي هبوبه كي يخل ِّصها من قضبان سجنها‪،‬‬
‫فاتضح من غير شك وال ارتياب أنه ال يدافع عن حقها‪ ،‬وإنما يدافع عن‬
‫حقه فيها‪ .‬فتجد المرأة نفسها متجاذبة بينهما‪ ،‬فإما منساقة للخطاب‬
‫ودور التعليم‬ ‫المتزمت‪ ،‬خو ًفا من المآالت المحذر منها في المواعظ ُ‬
‫الديني‪ ،‬متخلي ًة عن دورها المنوط بها في المجتمع‪ ،‬منكمشة خلف‬
‫الفتاوى الصادحة بتضييق الخناق عليها‪ ،‬المانعة لها من كل نشاط ثقافي‬
‫تصب كلها في إلزامها باالنحسار‪ ،‬أو‬‫أو علمي أو أدبي‪ ،‬بدعاوى مختلفة ُّ‬
‫متمردة قد أدت الضغوط إلى انفجارها‪ ،‬ووجدت في الجمعيات الن ِّ ْسوية‬ ‫ّ‬
‫الحضن الذي يستوعب طاقاتها وإمكاناتها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫المتطرفة وأدعياء التحرر؛‬
‫ِ‬
‫شعارات العداوة على نديمها‬ ‫فمارست الندية‪ ،‬ونادت بالمساواة‪ ،‬ورفعت‬
‫الرجل‪ ،‬وعطلت دورها األنثوي في قيادة المجتمعات‪ ،‬فكان أن صارت‬
‫مس ًخا‪ ،‬وق َّدمت ألمتها نس ًخا منها‪ ،‬ال تقل عنها تق ُّز ًما؛ ما فتئ المجتمع‬
‫يعاني من انسالخها وبنيها من أدوارهم المنوطة بهم‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫مقدمة‬

‫ولعلي في هذا الكتاب المختصر أخوض محاولة إلعادة نفخ الروح‬


‫في بعض القضايا والحقوق التي تخص المرأة؛ ليس ر ًّدا على المتعصبين‬
‫من غير المسلمين ممن انبروا للقدح في اإلسالم انطال ًقا من موضوعات‬
‫المرأة المختلَقة المثارة في كل مرة على قنواتهم وفي صحفهم وكتبهم‪،‬‬
‫والتي ما يفتأ المثقفون من أبناء المسلمين يتشبعون بها لنهجها في ظاهرها‬
‫نه ًجا يخاطب العقل ويعكس الواقع‪ ،‬وال إنصا ًفا لها من غير بني جلدتها‬
‫وديانتها فقط‪ ،‬وإنما انتصا ًرا لها على نفسها‪ ،‬وعلى أختها المرأة‪ ،‬وعلى من‬
‫تصدروا لهدايتها‪ ،‬وحجروا على وعيها وثقافتها الدينية‪ ،‬وممن راموا إنقاذها‬
‫ممن تعسفوا عليها‪ ،‬فهدوها إلى ما فيه حتفها‪ ،‬وحتف المجتمع حولها‪.‬‬
‫ولن أطيل المكوث في هذه المقدمة إلعادة تعريف المعرفات‪،‬‬
‫وتوضيح الواضحات‪ ،‬وال ألن أذ ِّكر بمكانة المرأة في اإلسالم‪ ،‬وما حباها‬
‫اهلل من حقوق‪ ،‬وال إلعادة تدوير ما تزخر به الكتب والمصنفات التي‬
‫عنيت بموضوعاتها‪ ،‬فأتصدى للحديث عن المسار التاريخي لتحريرها‪،‬‬
‫والجهود المبذولة إلنصافها‪ ،‬وإنما سأقفز على كل هذه المقدمات‪،‬‬
‫تخصها في‬
‫وسأشرع مباشرة في الحديث عن بعض القضايا الكبرى التي ُّ‬
‫الحديث عنها في عصر العولمة‪ ،‬وتكررت‬‫ُ‬ ‫واقعنا المعاصر‪ ،‬والتي طال‬
‫األسئلة عنها بح ًثا عن الفيصل فيها‪.‬‬
‫ولعل ما دعاني إلى محاولة مقاربة مشاكل المرأة وقضاياها‪ ،‬سواء‬
‫في هذا الكتاب‪ ،‬أو في غيره مما سبق لي كتابته‪ ،‬أو سيأتي بحول اهلل؛‬
‫‪16‬‬
‫مقدمة‬

‫ليس ادعائي أن آتي فيما أرقمه بما لم يسبقني أحد إليه‪ ،‬وال بتفردي‬
‫بإيجاد الحلول‪ ،‬أو على األقل تحليل اإلشكاليات المتعلقة بها؛ وإنما‬
‫لرغبتي في مشاركة القارئ هموم المرأة التي تبدو في عيون الكثيرين‬
‫بسيط ًة‪ ،‬ولكنها في الحقيقة عميقة بعمق ما تكابده أمتنا من شروخ‪،‬‬
‫وبحجم هذه المعاناة التي ما سلم منها زوج وال ابن وال هي قبلَهما‪،‬‬
‫ولتوقِي إلى أن أسل ِّط بعض الضوء على ما ينتظر المجتمع برمته من‬ ‫َ‬
‫ولح ْملِي‬
‫وج ْعلِها ُت ْنصف َمن َح ْولَها‪َ ،‬‬ ‫ٍ‬
‫تحديات‪ ،‬من أجل إنصاف المرأة‪َ ،‬‬
‫يمارس إما باسم الشريعة‪ ،‬أو‬
‫َه َّم هذا التطاول على الحقوق الذي أصبح َ‬
‫باسم الحرية والمساواة‪.‬‬
‫ولعل َح ْس َبنا لتقرير هذا الواقع‪ ،‬أن نعرض ما آلت إليه أوضاع المرأة‬
‫في عصر العولمة والتشدق بالحقوق؛ على عصر اآلل واألصحاب رضوان‬
‫اهلل عليهم‪ ،‬ونُ ْس ِقط أحوالَها المزرية على أحوالهن‪ ،‬وما كن يَ ْرفُ ْلن فيه من‬
‫النساء اليوم‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حقو ٍق حقيقية‪ ،‬وصيانة ورفعة ُ‬
‫وسؤدد‪ ،‬قلَّ َما تحظى به‬
‫لنمك َِّن أعينَنا من االنبهار بما وصلت إليه المرأ ُة حينها من مكانةٍ ِعلمية‬
‫حوادث‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫وفقهية وأدبية‪ ،‬ومن قيمةٍ ثابتة ال تغيِّ ُرها خطابات‪ ،‬وال تزعزعها‬
‫و ِم ْن كرامةٍ مصونة‪ ،‬وعقل مب َّجل‪ ،‬وثراء معرفي ملهِم‪ .‬ويكفينا انبها ًرا أن‬
‫نعلم أ َّن مكانة كثير منهن كانت تفوق مكانة كثير من الرجال‪ ،‬بل حتى‬
‫مكانة بعض الخلفاء‪ .‬ويكفينا تشري ًفا أن تكون من ّأمهاتنا إلى يوم الدين‪:‬‬
‫خديجة الكمال‪ ،‬التي أثنى الشرع على عقلها‪ ،‬وحكمتها‪ ،‬ورصانتها‪،‬‬
‫وحنانها‪ ،‬واجتمعت فيها من الصفات ما جعل ذكراها العبقة خالد ًة مخلدة‬
‫‪17‬‬
‫مقدمة‬

‫ومثاال للمرأة الطموحة التي علمت كيف تدير أمر تجارتها‬


‫إلى يوم الدين‪ً ،‬‬
‫ومالها‪ ،‬وللزوجة الصابرة الحنون التي كان الرسول ‘ ال يتحرج من‬
‫التدثر بحضنها في أصعب ما َّمر عليه من نواميس الوحي وبدايات التنزيل‪،‬‬
‫وعائشة ‪ ،‬الحصان الرزان‪ ،‬سليلة المجد واألدب‪ ،‬والفطنة والذكاء‪،‬‬
‫وأم سلمة التي أفتت الرسول ‘‪ ،‬وباقي أمهاتنا الطاهرات‪ ،‬والصحابيات‬
‫المبجالت‪ ،‬الالتي سطرن مالحم خالدة لإلنسانية‪ ،‬تمتزج فيها الطبيعة‬
‫البشرية بالفطرة األنثوية بالفهم الصحيح العميق الدقيق لروح اإلسالم‬
‫وتعاليمه‪.‬‬
‫ولعل َح ْسبنا كي نعلم الدور الحقيقي للمرأة‪ ،‬وخطورة االرتجال في‬
‫َّ‬
‫تنشئتها‪ ،‬أو وعظها واالستهتار بحقوقها؛ أن ندرك مرامي هذا الزخم‬
‫والثراء والتنويع في خطابات الشارع الحكيم؛ لها من جهة؛ وللقائمين‬
‫على أمرها من جهة أخرى‪ ،‬والتي تتلخص في تحويطها وصيانتها من‬
‫حيف الرجل واضطهاده لها‪ ،‬وجور المرأة من جنسها عليها‪ ،‬وتكالب‬
‫العادات والتقاليد والمستجدات وتقلبات المجتمعات وانتكاس ال ِف َطر‪،‬‬
‫واندثار األخالق‪ ،‬وغياب العدل‪ ،‬وغيرها من المسلَّمات‪ ،‬عليها‪.‬‬
‫فإن نقطة االنطالق لهذا العمل هي التفطن في مواطن الكرامة‬
‫والمسؤولية ــ م ًعا ــ للمرأة في تراثنا اإلسالمي‪ ،‬الذي كان الصحابة وأهل‬
‫مقتصرا بالنسبة إلينا على مجرد االستقراء‬
‫ً‬ ‫البيت أئم َة قدواتِه‪ .‬وليس هذا‬
‫مجاال غير‬
‫ً‬ ‫واإلحصاء‪ ،‬واالستشهاد التاريخي أو النقلي؛ إلن لهذا‬
‫وروا ًدا غير الرواد‪ ،‬وإنما أتوخى أن أنطلق من وحي هذه القيم‬‫المجال‪ّ ،‬‬
‫‪18‬‬
‫مقدمة‬

‫العظيمة‪ ،‬والمبادئ السامية؛ لمناقشة واق ِعنا ومستجداته ونوازله‪ ،‬وما آل‬
‫الم ْفرِط في الشريعة‪ ،‬وجهة‬
‫إليه من إشكاالت على الجهتين‪ ،‬جهة التشدد ُ‬
‫المفرط فيها‪.‬‬
‫االنفالت ِّ‬
‫تشبعت‬ ‫ولعل حسبنا كي نعيد للمرأة االعتبار‪ ،‬سواء تلك التي َّ‬
‫بالخطاب الذكوري المجحف‪ ،‬فصارت لديها قناعة بأن فحواه هو الحق‬
‫الملزم لها‪ ،‬وما عليها إال االمتثال والخضوع له‪ ،‬وإن كان يصادم فطرتها‬
‫تشبعت‬
‫وتكوينتها النفسية‪ ،‬ويعطل دورها في االستخالف‪ ،‬أو تلك التي َّ‬
‫بأفكار النسوية المتمردة‪ ،‬فصارت ترى في الخطاب الديني‪ ،‬كيفما كان‪،‬‬
‫خطا ًبا يدمر نفسيتها‪ ،‬ويقعدها عن دورها وانطالقها في الحياة‪ ،‬فيتم إعادة‬
‫بناء وعيهما (أي كال النوعين من النساء) على حد سواء بتعليمهما حقوقهما‬
‫التي تفضل عليهما به دينُنا الحنيف‪ ،‬وتحديد مسؤوليتهما وواجباتهما‪،‬‬
‫وربطهما بما كانت عليه الصحابيات وأمهات المؤمنين من خالل الصحيح‬
‫من السنة المطهرة‪ .‬وإعادة بناء وتشكيل وعي الرجل من نفس المنطلق‪،‬‬
‫وإحالته على الواقع في العهد النبوي من خالل الوقائع واألحداث التي‬
‫ترشده إلى دوره المشترك مع المرأة في االستخالف‪ ،‬وواجباته تجاهها‪،‬‬
‫وحدود حقوقه‪ ،‬وتبرز الدور الطالئعي للمرأة في عصر النبوة‪ ،‬والذي قد‬
‫تجاوزه الخطاب المجحف بقصد أو بغير قصد‪ ،‬فكان ما نراه اآلن من‬
‫ضياع وتشرذم ومعاناة حقيقة داخل البيوتات‪ ،‬جراء الحيف والتسلط‪،‬‬
‫والقمع والتهميش الممارس من الرجال تجاه من َّ‬
‫والهم اهلل أمرهم‪ ،‬ومن‬
‫تحد وصراعات قائمة على النوع‪ ،‬وعلى محاولة استرداد الحقوق‪ ،‬بترك‬
‫‪19‬‬
‫مقدمة‬

‫الواجبات من طرف النساء‪.‬‬


‫ونعبد‬
‫فننصفها بذلك من ظلمات الجهل والظلم التي تتخبط فيها؛ ِّ‬
‫أمامها ُس َبل اإلصالح والتقويم‪ ،‬ونمدها بالمصابيح والبوصالت التي‬
‫ودنيويا‪ ،‬مرو ًرا‬
‫ًّ‬ ‫دينيا‬
‫تتلمس بها الطريق‪ ،‬ابتداء من توعيتها وتثقيفها ًّ‬
‫خول لها دينُها ومنحها إياها ربُّها‪ ،‬ال فضل‬
‫بتعريفها حقوقَها‪ ،‬تلك التي َّ‬
‫وال منة ألح ٍد عليها فيها‪ .‬فنطلعها على تراث اآلل واألصحاب‪ ،‬وبشكل‬
‫خاص نوعيها باألدوار الطالئعية الجليلة للصحابيات وأمهات المؤمنين‬
‫ونساء أهل البيت‪ ،‬من أجل نُصرة اإلسالم‪ ،‬وتحقيق َه ْدي القرآن الكريم‪،‬‬
‫ومبادئ السنة المطهرة‪.‬‬
‫باب‪ ،‬ونَ ْس ُبر أغوار الشخصية الحقوقية‬
‫الع َ‬
‫فعلى بَ َركة اهلل نَ ْم ُخر ُ‬
‫وسداده وتوفي َقه‪.‬‬
‫َ‬ ‫وفتحه‪،‬‬
‫للمرأة المسلمة‪ ،‬نسأل اهلل عونَه َ‬

‫‪‬املؤلفة‬

‫‪20‬‬
‫حقوق املرأة في اإلسالم‬

‫وقحقارملأةفاإلالسم‬
‫جاء اإلسالم إلى شبه الجزيرة العربية‪ ،‬و ِذكر المرأة العربية تتضوع‬
‫به األشعار‪ ،‬فتطفح بالغزل والنسيب‪ ،‬بل ال يكاد يخلو مطلع قصيدة وال‬
‫معلقة من ذكر محاسنها‪ ،‬والتصريح بافتتان الشاعر بها‪ ،‬وصدح األلسنة‬
‫ومساماتها مع الرجل في الكثير من المواقف‪،‬‬ ‫باالفتخار بها‪ ،‬وبتمجيدها‪ُ ،‬‬
‫ذاكرا‬
‫حتى ما طابت للعربي بطولة‪ ،‬وال نصر‪ ،‬إال بتمادحه إلى النساء‪ً ،‬‬
‫بسالته وقوته ومفاخره‪ ،‬مستشه ًدا المرأة على نبله وجسارته‪ ،‬ومكارم أخالقه‪،‬‬
‫معتبرا انبهارها بصنيعه أكبر جائزة له‪ ،‬تفوق ما حازه من نصر وتبجيل‪.‬‬
‫ً‬
‫أسماء نساء برقت‬
‫َ‬ ‫التاريخ العربي بمدا ٍد من فخر ورفعة‬
‫ُ‬ ‫وقد د َّون‬
‫في شتى الميادين من شعر وخطابة وفصاحة‪ ،‬وقوة وشجاعة وشرف‬
‫وحكمة وغيرها‪ .‬لكنها في مقابل كل هذا االحتفاء وهذا التبجيل‪ ،‬لم‬
‫ضا من الحيف والظلم‪ ،‬فكانت طائر شؤم عند بعض القبائل‪،‬‬ ‫تسلم أي ً‬
‫ومجلبة نحس وعار وشنار‪ ،‬وضحية الوأد أو اإلرث أو االسترقاق‪ .‬فعمل‬
‫توغُّل اإلسالم إلى القبائل على ترسيخ المبادئ الجميلة‪ ،‬والتشجيع على‬
‫مكارم األخالق السائدة وتكريسها‪ ،‬وعلى تصحيح أو نبذ العادات‬
‫الجاهلية الممقوتة‪ ،‬وتعويضها بتعاليم سمحة‪ ،‬تحفظ للمرأة إنسانيتها‬
‫وكرامتها وحقوقها‪ ،‬وتصونها من تسلط وعنجهية المجتمع حولها‪ .‬فأمر‬
‫الرجل أن ينظر إليها من حيث النشأة كما ينظر ألخيه الرجل‪ ،‬فقد ُخلقا‬‫َ‬
‫‪21‬‬
‫حقوق املرأة في اإلسالم‬

‫وحرم عليه‬ ‫س واحدة‪ ،‬ومنع عنه وأدها خو ًفا من عار أو من إمالق‪َّ ،‬‬ ‫من نف ٍ‬
‫أن يرثها كما يرث المال والمتاع‪ ،‬وأعطاها حق الميراث في المقابل أُ ًّما‬
‫صا لها‪،‬‬ ‫كانت أو زوجة أو أخ ًتا أو ابنة‪ ،‬وأعطاها حق المهر‪ ،‬وجعله خال ً‬
‫ال يمتنع عن تسليمه زوج‪ ،‬وال يسلبه منها أب أو ولي‪ ،‬ولم يحدده بقدر‪،‬‬
‫أمره للعادات وألعراف المثالء‪ ،‬ومنحها كامل الحرية في‬ ‫بل َو َك َل َ‬
‫ترض هي‬ ‫َ‬ ‫التصرف في مالها‪ ،‬دون حجر من الرجل‪ ،‬أو تدخل منه‪ ،‬ما لم‬
‫كامال في أحوال‬ ‫بذلك وتسمح عن طيب خاطر‪ ،‬وشرع لها دستو ًرا ً‬
‫زواجها وطالقها‪ ،‬وإرضاعها وعقمها‪ ،‬وح َّدد لها حقوقها وواجباتها على‬
‫وجه الدقة في الحدود والعبادات والمعامالت‪ ،‬وكلَّف وليها باإلحسان‬
‫إليها‪ ،‬ورعايتها والحرص على تربيتها‪ ،‬وتعليمها واإلنفاق عليها‪ ،‬سواء‬
‫كانت فقيرة أو ذات مال‪ ،‬إلى أن تنتقل المهمة إلى زوجها‪ ،‬وجعل لها‬
‫حرية اختيار الزوج من غير إرغام أو إلزام من الولي‪.‬‬
‫رفع اإلسالم مكانتها وبوأها أسمى الدرجات‪ ،‬وجعل مقامها أُ ًّما‬
‫مفض ًال على مقام األب بثالث درجات‪ ،‬وواساها عن حملها الواهن‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وتوجها زوج ًة؛‬ ‫مقابال لهذا اإلرضاع‪َّ ،‬‬
‫ً‬ ‫وإرضاعها المتعب‪ ،‬وجعل لها‬
‫سك ًنا للروح‪ ،‬ومها ًدا للفؤاد‪ ،‬وحض ًنا آم ًنا‪ ،‬ومرفأ يحسن اإليواء‪ ،‬فيه ُترمى‬
‫كل الحمول‪ ،‬و ُتنسى ألواء الطريق‪ .‬وأكرمها بشتى الحقوق المعنوية‬
‫والمادية والمدنية التي ميزتها عن باقي نساء المجتمعات األخرى‪ ،‬ال‬
‫األحكام‪ ،‬وأن ُت َرشَّ د‬
‫ُ‬ ‫النصوص‪ ،‬وأن تف َّعل‬
‫ُ‬ ‫تطبق في حقها‬ ‫ينقصها سوى أن َّ‬
‫نصف بما أنصفها به موالها من المجتمع حولها‪،‬‬ ‫االستنباطات‪ ،‬وأن ُت َ‬
‫نفسها قبل كل شيء‪.‬‬ ‫ومن الخطابات الموجهة إليها‪ ،‬ومن أختها المرأة‪ ،‬ومن ِ‬

‫‪22‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫اوقحلقااملليةرمللأةفاإلالسم‬
‫َ‬
‫ِسن الرشد وحصول أو ِل العلم به؛ شرط تسل ِمها مالها‪:‬‬
‫البرزخ بين مرحلة الصبا ومرحلة النضج‪،‬‬
‫َ‬ ‫جعل اإلسالم س َّن الرشد‬
‫واالنطالقة الكبرى لرؤية الحياة بعيون الكبار‪ ،‬والتصرف فيها تصرف‬
‫ذكرا كان أو‬
‫العاقلين المكلفين‪ .‬فجعله شر ًطا لتسليم المال لمستحقه‪ً ،‬‬
‫أنثى دون تفريق‪ ،‬فما دام قد حصل أول العلم برشدهما؛ فإنه يدفع إليهما‬
‫مالهما دون تراخ وال مطل‪ ،‬وقد جاء القرآن الكريم بذلك‪ ،‬في آية‬
‫محكمة‪ ،‬يقول اهلل تعالى‪{ :‬ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ‬
‫ﲽ ﲾ ﲿ ﳀﳁ ﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇﳈ ﳉ ﳊ ﳋ‬
‫ﳌﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ} [النساء‪ .]6 :‬وقد جاء تفسيرها‬
‫عن حبر األمة وترجمان القرآن‪ ،‬الصحابي الجليل‪ ،‬وابن عم النبي ‘‬
‫ــ فهو جامع من هذه الحيثية بين الصحبة والقرابة ــ‪ ،‬فقال ابن عباس‪:‬‬
‫{ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ}‪ ،‬قال‪ :‬في حالهم‪ ،‬واإلصالح في أموالهم(‪.)1‬‬
‫لربات البيوت‪ ،‬ومدبرات‬
‫يفوض عاد ًة ّ‬
‫فيفوض الشر ُع للبنت ما َّ‬
‫ِّ‬
‫أموره‪ ،‬ومديرات شؤونه‪ ،‬والعالمات بما يصلح ألحوالهن‪ ،‬حسب‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري‪.)406/6( ،‬‬
‫‪23‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫تماما كما يسلمه للذكر‪ .‬ويترك لها‬


‫أعرافهن وبيئاتهن التي يعشن فيها‪ً ،‬‬
‫حرية التصرف فيه دون حجر أو استيالء أو استمتاع به دون رغبته‪.‬‬

‫حقها في اإلرث‪:‬‬
‫أنعم اهلل على إمائه بإنصافهن من أحكام الجاهلية الجائرة‪ ،‬ففرض‬
‫ضا من كل خير‪ ،‬يالئم طبيعتها األنثوية‪ ،‬وحاجاتها‬ ‫نصيبا مفرو ً‬
‫للمرأة ً‬
‫النفسية‪ ،‬فبعدما كانت المرأة في الجاهلية تورث وال ترث‪ ،‬و ُتمنع من‬
‫وتعس ًفا واحتقا ًرا‪ ،‬ويحاكمونها إلى أعرافهم‬
‫حقها في مال ذويها؛ ظل ًما ُّ‬
‫البائدة‪ ،‬وأحكامهم الجائرة‪ ،‬التي اقتضت ّأال يُ ْع َطى إال َم ْن قاتل على‬
‫وضارب بالسيف‪ ،‬وحاز الغنيمة؛ جاء‬ ‫َ‬ ‫وطاعن بالرمح‪،‬‬
‫َ‬ ‫ظهور الخيل‪،‬‬
‫ذات ِذ َّمة مالية قد تفوق‬
‫عطيها من مال اهلل‪ ،‬وأصبحت َ‬ ‫اإلسالم ُلي ِ‬
‫نص َفها ويُ َ‬ ‫ُ‬
‫أكثر منه‪ ،‬أو ترث وال يرث هو‪ ،‬أو ترث‬ ‫الرجل‪ ،‬فتر ُِث َ‬
‫َ‬ ‫فيها أحيا ًنا كثير ًة‬
‫أقل منه‪ ،‬فتحتفظ بمالها‪ ،‬وتدخره‪ ،‬وينفق عليها مما ورثه هو‪.‬‬ ‫َّ‬
‫وجعل معايير اإلرث ال تخضع لذكورة وال ألنوثة‪ ،‬وإنما تنظمها‬
‫معايير أخرى‪ ،‬متمثلة في درجة القرابة‪ ،‬وقوامة الرجل الوارث‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ومسؤوليته عن الوارثات معه من النساء‪ ،‬وغيرها من المعايير المنطقية‬
‫الموضوعية‪ ،‬التي ال يتحكم فيها ميل لجنس دون جنس‪.‬‬
‫فعن عن ابن عباس ‪ ‬في قوله‪{ :‬ﲃ ﲄ ﲅ ﲆﲇ ﲈ‬
‫‪24‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫ﲉ ﲊ ﲋ} [النساء‪ ]11 :‬قال‪ :‬وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي‬


‫فرض اهلل فيها ما فرض للولد الذكر واألنثى واألبوين كرهها الناس أو‬
‫بعضهم‪ ،‬وقالوا‪ُ :‬تعطى المرأة الربع والثمن‪ ،‬وتعطى االبنة النصف‪،‬‬
‫ويعطى الغالم الصغير‪ ،‬وليس من هؤالء أحد يقاتل القوم‪ ،‬وال يحوز‬
‫الغنيمة‪ ،‬اسكتوا عن هذا الحديث‪ ،‬لعل رسول اهلل ‘ ينساه‪ ،‬أو نقول‬
‫له فيغيره‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬أنعطي الجارية نصف ما ترك‬
‫أبوها‪ ،‬وليست تركب الفرس‪ ،‬وال تقاتل القوم‪ ،‬ونعطي الصبي الميراث‪،‬‬
‫وليس يغني شي ًئا؟ وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية‪ ،‬ال يعطون الميراث‬
‫إال من قاتل‪ ،‬ويعطونه األكبر فاألكبر(‪.)1‬‬
‫{ﱁ‬ ‫قال صاحب التحرير والتنوير ‪ ‬في تفسير اآلية الكريمة‪:‬‬
‫ﱂﱃﱄﱅﱆﱇﱈﱉﱊﱋﱌﱍ‬
‫ﱎ ﱏ ﱐ ﱑﱒ ﱓ ﱔ} [النساء‪:]7 :‬‬
‫>ومناسبة تعقيب اآلي السابقة بها‪ :‬أنهم كانوا قد اعتادوا إيثار األقوياء‬
‫واألشداء باألموال‪ ،‬وحرمان الضعفاء‪ ،‬وإبقاءهم عالة على أشدائهم حتى‬
‫يكونوا في مقادتهم‪ ،‬فكان األولياء يمنعون عن محاجيرهم أموالهم‪ ،‬وكان‬
‫أكبر العائلة يحرم إخوته من الميراث معه‪ ،‬فكان أولئك لضعفهم يصبرون‬
‫على الحرمان‪ ،‬ويقنعون العائلة بالعيش في ظالل أقاربهم‪ ،‬ألنهم إن‬
‫نازعوهم أطردوهم وحرموهم‪ ،‬فصاروا عالة على الناس‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)458/6‬‬
‫‪25‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫وأخص الناس بذلك النساء فإنهن يجدن ضع ًفا من أنفسهن‪ ،‬ويخشين‬


‫عار الضيعة‪ ،‬ويتقين انحراف األزواج‪ ،‬فيتخذن رضا أوليائهن ُع َّد ًة لهن‬
‫من حوادث الدهر‪ ،‬فلما أمرهم اهلل أن يؤتوا اليتامى أموالهم‪ ،‬أمر عقبه‬
‫نصيبا مما ترك الوالدان واألقربون‪.‬‬
‫بأمرهم بأن يجعلوا للرجال والنساء ً‬
‫فإيتاء مال اليتيم تحقيق إليصال نصيبه مما ترك له الوالدان واألقربون‪،‬‬
‫ُ‬
‫وتوريث القرابة إثبات لنصيبهم مما ترك الوالدان واألقربون‪ ،‬وذكر النساء‬
‫ُ‬
‫هناك تمهي ًدا لشرع الميراث‪ ،‬وقد تأيد ذلك بقوله‪ { :‬ﱖ ﱗ ﱘ‬
‫ﱙ ﱚ ﱛ} [النساء‪ ،]8 :‬فإن ذلك يناسب الميراث‪ ،‬وال يناسب‬
‫إيتاء أموال اليتامى‪.‬‬
‫وال جرم أن من أهم شرائع اإلسالم الميراث‪ ،‬فقد كانت العرب‬
‫في الجاهلية يجعلون أموالهم بالوصية لعظماء القبائل‪ ،‬ومن تلحقهم‬
‫باالنتساب إليهم حسن األحدوثة‪ ،‬وتجمعهم بهم صالت الحلف‪ ،‬أو‬
‫االعتزاز والود‪ ،‬وكانوا إذا لم يوصوا أو تركوا بعض مالهم بال وصية‪،‬‬
‫يُصرف ألبناء الميت الذكور‪ ،‬فإن لم يكن له ذكور‪ ،‬فقد ُحكي أنهم‬
‫يصرفونه إلى عصبة من أخوة وأبناء عم‪ ،‬وال تعطى بناته شي ًئا‪ ،‬أما الزوجات‬
‫فكن موروثات ال وارثات!!‬
‫وكانوا في الجاهلية ال يورثون بالبنوة‪ ،‬إال إذا كان األبناء ذكو ًرا‪،‬‬
‫طاعن‬
‫فال ميراث للنساء؛ ألنهم كانوا يقولون‪ :‬إنما يرث أموالنا من َ‬
‫بالرمح‪ ،‬وضرب بالسيف‪ .‬فإن لم تكن األبناء الذكور‪ ،‬ورث أقرب‬
‫‪26‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫العصبة‪ :‬األب ثم األخ ثم العم وهكذا‪ ،‬وكانوا يورثون بالتبني‪ ،‬وهو أن‬
‫يتخذ الرجل ابن غيره ابن ًا له‪ ،‬فتنعقد بين المتبني والمتبنى جميع أحكام‬
‫األبوة‪.‬‬
‫ضا بال ِح ْلف‪ ،‬وهو أن يرغب رجالن في الخلة بينهما‪،‬‬ ‫ويورثون أي ً‬
‫فيتعاقدا على أن دمهما واحد ويتوارثان‪ ،‬فلما جاء اإلسالم لم يقع في‬
‫مكة تغيير ألحكام الميراث بين المسلمين؛ لتعذر تنفيذ ما يخالف أحكام‬
‫سكانها‪ ،‬ثم لما هاجر رسول اهلل ـ ‘ ـ‪ ،‬وبقي معظم أقارب المهاجرين‬
‫المشركون بمكة‪ ،‬صار التوريث بالهجرة‪ ،‬فالمهاجر يرث المهاجر‪،‬‬
‫وبالحلف‪ ،‬وبالمعاقدة‪ ،‬وباألخوة التي آخاها الرسول ـ ‪ ‬ـ بين‬
‫المهاجرين واألنصار‪ ،‬ونزل في ذلك قوله تعالى‪ { :‬ﲯ ﲰ ﲱ‬
‫ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ}‪ ،‬اآلية من هاته السورة‪ .‬وشرع اهلل وجوب‬
‫الوصية للوالدين واألقربين بآية سورة البقرة‪ ،‬ثم توالد المسلمون‪ ،‬ولحق‬
‫بهم آباؤهم وأبناؤهم مؤمنين‪ ،‬فشرع اهلل الميراث بالقرابة‪ ،‬وجعل للنساء‬
‫حظو ًظا في ذلك‪ ،‬فأتم الكلمة‪ ،‬وأسبغ النعمة‪ ،‬وأومأ إلى أن حكمة‬
‫الميراث صرف المال إلى القرابة بالوالدة وما دونها‪.‬‬
‫وقد كان قوله تعالى‪{ :‬ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ} أ َّو َل‬
‫إعطاء لِ َح ِّق اإلرث للنساء في العرب‪.‬‬
‫ولكون هذه اآلية كالمقدمة‪ ،‬جاءت بإجمال الحق والنصيب في‬
‫الميراث وتاله تفصيله‪ ،‬لقصد تهيئة النفوس‪ ،‬وحكمة هذا اإلجمال حكمة‬
‫‪27‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫ورود األحكام المراد نسخها إلى أثقل‪ ،‬لتسكن النفوس إليها بالتدريج‪.‬‬
‫روى الواحدي‪ ،‬في أسباب النزول‪ ،‬والطبري‪ ،‬عن عكرمة‪ ،‬وأحدهما‬
‫يزيد على اآلخر ما حاصله‪ :‬إن أوس بن ثابت األنصاري توفي وترك امرأة‬
‫يقال لها أم كحة‪ ،‬فجاءت رسول اهلل ـ ‘ ـ فقالت‪ :‬إن زوجي قُتل معك‬
‫يوم أحد‪ ،‬وهاتان بنتاه‪ ،‬وقد استوفى عمهما مالهما‪ ،‬فما ترى يا رسول‬
‫اهلل؟ فواهلل ما تنكحان أب ًدا إال ولهما مال‪ .‬فقال رسول اهلل ـ ‘ ـ‪ :‬يقضي‬
‫اهلل في ذلك‪ .‬فنزلت سورة النساء‪ ،‬وفيها {ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ}‪ .‬قال‬
‫جابر بن عبد اهلل‪ :‬فقال لي رسول اهلل‪ :‬ادع لي المرأة وصاحبها‪ .‬فقال‬
‫لعمهما‪ :‬أعطهما الثلثين‪ ،‬وأعط أمهما الثمن‪ ،‬وما بقي فلك‪ .‬ويروى‪ :‬أن‬ ‫ِّ‬
‫ابني عمه سويد وعرفطة‪ ،‬وروي أنهما قتادة وعرفجة‪ ،‬وروي أن النبيء‬
‫ـ ‘ ـ لما دعا العم أو ابني العم قال‪ ،‬أو قاال له‪ :‬يا رسول اهلل ال نعطي‬
‫من ال يركب فر ًسا‪ ،‬وال يحمل َك ًّال‪ ،‬وال ينكي عد ًّوا‪ .‬فقال‪ :‬انصرف أو‬
‫انصرفا‪ ،‬حتى أنظر ما يحدث اهلل فيهن‪ .‬فنزلت آية {ﲙ ﲚ}‬
‫اآلية‪ .‬وروي أنه لما نزلت هاته اآلية أرسل النبيء ـ ‘ ـ إلى ولي البنتين‬
‫نصيبا<(‪ )1‬اهـ‪.‬‬
‫فقال‪ :‬ال تفرق من مال أبيهما شي ًئا‪ ،‬فإن اهلل قد جعل لهن ً‬
‫وتعتبر آية {ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ} من أكثر اآليات التي اتخذها‬
‫أعداء اإلسالم مطية للتشنيع عليه‪ ،‬والطعن في أحكامه‪ ،‬واالعتضاد بها‬
‫ألجل إثارة الشبهات‪ ،‬والخلوص إلى أن اإلسالم دين ذكوري‪ ،‬وشر ُع‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬التحرير والتنوير‪ 248/4( ،‬ــ ‪.)249‬‬
‫‪28‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫تمايُ ٍز وإجحاف للمرأة‪ ،‬واعتبارها أقل شأ ًنا وأهلية من الرجل‪ ،‬ولو أنهم‬
‫ر ُّدوا األمر إلى الفقهاء‪ ،‬وأولي العلم بالقرآن واإلسالم؛ لعلموا أن هذا‬
‫عاما‪ ،‬وال قاعدة مطردة‪ ،‬وبأنها خاصة بحاالت معينة‪ .‬فكون‬ ‫الحكم ليس ًّ‬
‫ميراث المرأة نصف ميراث الذكر ليس على إطالقه‪ ،‬بل هناك حاالت‬
‫تكون المرأة مساوية له‪ ،‬بل وقد يزيد إرثها عليه‪ ،‬بل وقد ترث هي وال‬
‫يرث الرجل‪ ..‬انظر إلى إرث األم إن كان للوارث ولد‪ ،‬أليست ترث‬
‫السدس مثلها مثل ميراث األب؟ وانظر إلى حالة الكاللة‪ ،‬أال ترث‬
‫األخت السدس مثلها مثل األخ؟ وانظر إلى الحالة التي ترث فيها البنت‬
‫عماها إن كانا اثنين‪ ،‬ولم يكن لها من يعصبها (البنت‬ ‫ضعف ما يرثه َّ‬
‫وعماها الربع لكل واحد)‪.‬‬
‫النصف َّ‬
‫والحاصل‪ :‬أنه في أربع حاالت فقط‪ :‬ترث المرأة نصف ميراث‬
‫الرجل‪ ،‬في حين في أضعاف هذا الرقم تكون إما وارثة مثله‪ ،‬أو أكثر‬
‫منه‪ ،‬أو مستفردة باإلرث دونه‪.‬‬
‫وحتى في الحاالت التي ترث فيها أقل منه؛ فإنها تكون تحت رعايته‬
‫وقوامته‪ ،‬لها مال إرثها يخصها وحدها‪ ،‬وعليه اإلنفاق عليها‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫الصداق حقها وركن من أركان الزواج‪:‬‬


‫إكراما لها‪ ،‬لقول اهلل تعالى‪:‬‬
‫من حقوق المرأة على زوجها صداقُها ً‬
‫{ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ}‪ ،‬بل هو ركن من أركان صحة الزواج‪،‬‬
‫عند أكثر العلماء‪.‬‬
‫>والص ُدقات جمع صدقة ــ بضم الدال ــ والصدقة‪ :‬مهر المرأة‪،‬‬
‫مشتقة من الصدق ألنها عطية يسبقها الوعد بها فيصدقه المعطي‪..‬‬
‫والنحلة ــ بكسر النون ــ العطية بال قصد عوض<(‪.)1‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ}‪.‬‬
‫وفي الحديث الصحيح‪ :‬أ َّن رسول اهلل ـ ‘ ـ رأى على عبد الرحمن‬
‫بن عوف درع زعفران‪ ،‬فقال النبي ـ ‘ ـ‪ :‬مهيم؟ فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪،‬‬
‫تزوجت امرأة‪ .‬فقال‪> :‬ما أصدقتها؟<‪ ،‬قال‪ :‬وزن نواة من ذهب‪ .‬فقال‪:‬‬
‫>بارك اهلل لك‪ ،‬أولِم ولو بشاة<(‪.)2‬‬
‫سترا؛ فقد وجب‬
‫وعن علي ـ ‪ ‬ـ أنه قال‪> :‬من أصفق با ًبا وأرخى ً‬
‫الصداق والعدة<(‪.)3‬‬
‫وعن ابن عباس أنَّه‪> :‬يكره أن يدخل بامرأته حتى يعطيها شي ًئا<(‪.)4‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫التحرير والتنوير‪.)230/4( ،‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫أخرجه البخاري‪( ،‬رقم‪ ،)2048 /‬ومسلم‪( ،‬رقم‪.)1427 /‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫>سنن سعيد بن منصور<‪( ،‬رقم‪> ،)761 /‬مصنف ابن أبي شيبة<‪( ،‬رقم‪ ،)16698 /‬و‬ ‫(‪)3‬‬
‫>السنن الكبرى<‪( ،‬رقم‪.)14483 /‬‬
‫>سنن سعيد بن منصور<‪( ،‬رقم‪.)748 /‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫‪30‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫وعن علي بن حسين قال‪ :‬قال لي‪> :‬أُرخي عليك الستر‪ ،‬وأُغلِق‬
‫عليك الباب؟ قلت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬وجب عليك الصداق<(‪.)1‬‬
‫فهذه النصوص الشرعية‪ ،‬متضافرة مع فقهها وفهمها من أئمة العلم‬
‫من السلف الصالح‪ ،‬من الصحابة الكرام‪ ،‬وأهل البيت األبرار؛ تثبت هذا‬
‫الحق وتدل عليه‪.‬‬
‫وجالها‬
‫وقد أ ّكد تفسير المحققين من أهل العلم على تلك المعاني‪ّ ،‬‬
‫في أوضح بيان‪ ،‬قال الطاهر بن عاشور ‪ ‬في تفسير هذه اآلية‪:‬‬
‫>والمخاطب باألمر في أمثال هذا كل من له نصيب في العمل‬
‫بذلك‪ ،‬فهو خطاب لعموم األمة على معنى تناوله لكل من له فيه يد من‬
‫األزواج واألولياء‪ ،‬ثم والة األمور الذين إليهم المرجع في الضرب على‬
‫أيدي ظلمة الحقوق أربابها‪ .‬والمقصود بالخطاب ابتداء هم األزواج‪،‬‬
‫لكيال يتذرعوا بحياء النساء‪ ،‬وضعفهن‪ ،‬وطلبهن مرضاتهم‪ ،‬إلى غمص‬
‫حقوقهن في أكل مهورهن‪ ،‬أو يجعلوا حاجتهن للتزوج ألجل إيجاد كافل‬
‫لهن ذريعة إلسقاط المهر في النكاح‪ ،‬فهذا ما يمكن في أكل مهورهن‪،‬‬
‫وإال فلهن أولياء يطالبون األزواج بتعيين المهور‪ ،‬ولكن دون الوصول‬
‫إلى والة األمور متاعب وكلف قد يملها صاحب الحق فيترك طلبه‪ ،‬وخاصة‬
‫النساء ذوات األزواج‪ .‬وإلى كون الخطاب لألزواج ذهب ابن عباس‪،‬‬
‫وقتادة‪ ،‬وابن زيد‪ ،‬وابن جريج‪ ،‬فاآلية على هذا قررت دفع المهور وجعلته‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪> )1‬سنن سعيد بن منصور<‪( ،‬رقم‪.)764 /‬‬
‫‪31‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫شر ًعا‪ ،‬فصار المهر رك ًنا من أركان النكاح في اإلسالم‪ ،‬وقد تقرر في عدة‬
‫آيات كقوله‪{ :‬ﱞ ﱟ ﱠ} وغير ذلك‪.‬‬
‫والمهر عالمة معروفة للتفرقة بين النكاح وبين المخادنة‪ ،‬لكنهم في‬
‫الجاهلية كان الزوج يعطي ما ًال لولي المرأة‪ ،‬ويسمونه ُحلوا ًنا ــ بضم‬
‫الحاء ــ‪ ،‬وال تأخذ المرأة شي ًئا‪ ،‬فأبطل اهلل ذلك في اإلسالم بأن جعل‬
‫المال للمرأة بقوله‪{ :‬ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ}‪...‬‬
‫وس ِّميت الصدقات نِحل ًة إبعا ًدا للصدقات عن أنواع األعواض‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ضا عن منافع المرأة عند‬ ‫وتقريبا بها إلى الهدية‪ ،‬إذ ليس الصداق عو ً‬ ‫ً‬
‫التحقيق‪ ،‬فإن النكاح عقد بين الرجل والمرأة قصد منه المعاشرة‪ ،‬وإيجاد‬
‫آصرة عظيمة‪ ،‬وتبادل حقوق بين الزوجين‪ ،‬وتلك أغلى من أن يكون لها‬
‫جزيال ومتجد ًدا بتجدد المنافع‪،‬‬
‫ً‬ ‫عوض مالي‪ ،‬ولو جعل لكان عوضها‬
‫وامتداد أزمانها‪ ،‬شأن األعواض كلها‪ ،‬ولكن اهلل جعله هدي ًة واجب ًة على‬
‫إكراما لزوجاتهم‪ ،‬وإنما أوجبه اهلل ألنه تقرر أنه الفارق بين النكاح‬
‫األزواج ً‬
‫وبين المخادنة والسفاح‪ ،‬إذ كان أصل النكاح في البشر اختصاص الرجل‬
‫بامرأة تكون له دون غيره‪ ،‬فكان هذا االختصاص ينال بالقوة‪ ،‬ثم اعتاض‬
‫الناس عن القوة بذل األثمان ألولياء النساء ببيعهن بناتهن ومولياتهن‪ ،‬ثم‬
‫ارتقى التشريع وكمل عقد النكاح‪ ،‬وصارت المرأة حليلة الرجل شريكته‬
‫في شئونه‪ ،‬وبقيت الصدقات أمارات على ذلك االختصاص القديم‪ُ ،‬تميِّز‬
‫عقد النكاح عن بقية أنواع المعاشرة المذمومة شر ًعا وعادة‪ ،‬وكانت‬
‫‪32‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫المعاشرة على غير وجه النكاح خالية عن بذل المال لألولياء‪ ،‬إذ كانت‬
‫تنشأ عن الحب أو الشهوة من الرجل للمرأة على انفراد وخفية من أهلها‪،‬‬
‫فمن ذلك الزنى الموقت‪ ،‬ومنه المخادنة‪ ،‬فهي زنى مستمر‪ ،‬وأشار إليها‬
‫القرآن في قوله‪{ :‬ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ}‪ ،‬ودون‬
‫ذلك البغاء وهو الزنا باإلماء بأجور معينة‪ ،‬وهو الذي ذكر اهلل النهي عنه‬
‫بقوله‪{ :‬ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ‬
‫ﱾ}‪ ،‬وهنالك معاشرات أخرى‪ ،‬مثل الضماد وهو أن تتخذ ذات الزوج‬
‫خليال لها في سنة القحط لينفق عليها مع نفقة زوجها‪ ،‬فألجل ذلك‬ ‫رجال ً‬
‫ً‬
‫سمى اهلل الصداق نحلة‪ ،‬فأبعد الذين فسروها بالزم معناها فجعلوها كناية‬
‫عن طيب نفس األزواج أو األولياء بإيتاء الص ُدقات‪ ،‬والذين فسروها بأنها‬
‫عطية من اهلل للنساء فرضها لهن‪ ،‬والذين فسروها بمعنى الشرع الذي‬
‫ينتحل أي يتبع<(‪ .)1‬اهـ‬
‫وقال البغوي ‪ ‬في تفسير اآلية نفسها‪> :‬قال الكلبي ومجاهد‪ :‬هذا‬
‫الخطاب لألولياء‪ ،‬وذلك أن ولي المرأة كان إذا ز َّوجها فإن كانت معهم‬
‫كثيرا‪ ،‬وإن كان ز َّوجها غريب ًا‬
‫قليال وال ً‬
‫في العشيرة لم يعطها من مهرها ً‬
‫حملوها إليه على بعير‪ ،‬ولم يعطوها من مهرها غير ذلك‪ ،‬فنهاهم اهلل عن‬
‫ذلك‪ ،‬وأمرهم أن يدفعوا الحق إلى أهله‪.‬‬
‫قال الحضرمي‪ :‬كان أولياء النساء يعطي هذا أخته على أن يعطيه‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬التحرير والتنوير‪ 229/4( ،‬ــ ‪ ،)231‬باختصار‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫اآلخر أخته‪ ،‬وال مهر بينهما‪ ،‬فنُهوا عن ذلك‪ ،‬وأُمروا بتسمية المهر في‬
‫العقد‪ .‬أخبرنا أبو الحسن السرخسي‪ ،‬أنا زاهر بن أحمد‪ ،‬أنا أبو إسحاق‬
‫الهاشمي‪ ،‬أنا أبو مصعب‪ ،‬عن مالك عن نافع‪ ،‬عن عبد اهلل بن عمر ‪:‬‬
‫أن رسول اهلل ‘ >نهى عن الشغار<‪.‬‬
‫والشغار‪ :‬أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوج الرجل اآلخر ابنته‪،‬‬
‫وليس بينهما صداق<(‪ .)1‬اهـ‬
‫وهذا الشارع الحكيم الذي جعل في صداق المرأة تكريم ًا لها‪،‬‬
‫وتفريق ًا في عالقتها بزوجها بين النكاح الحالل الطيب والمخادنة‪ ،‬وجعله‬
‫ُركن ًا من أركان الزواج الذي ال يصح إال بوجوده؛ قد خبر اختالف‬
‫العادات‪ ،‬وعلم تباين المجتمعات‪ ،‬فكانت الحكمة أال يحدد المهر‬
‫وسماه في‬‫بمقدار‪ ،‬وإنما جعل ذلك محتكم ًا إلى العرف والعادات‪َّ ،‬‬
‫مهر ال ِمثيلة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫حاالت َ‬
‫ولعل من عجيب ما ترسخ في أذهان الرجال‪ ،‬أن الفتاة الملتزمة‬
‫تزف بمهر هزيل‪ ،‬مقارنة مع بنات جنسها من‬ ‫يفترض أن ترضى دائ ًما بأن َّ‬
‫غير الملتزمات! ويُرجعون ذلك ــ ظلم ًا وعدوان ًا وقلة علم ــ إلى الشرع‪،‬‬
‫ويقرنون بين الزهد وحسن التدين وبين استقالل المهر‪ ،‬يحاولون أن‬
‫يفرضوا عليها فرض ًا أن تكون زاهدة وأن تقبل بشظف العيش مع المتقدم‬
‫لها‪ ،‬وإن كانت قلة ذات يده بسبب تقصيره في طلب الرزق‪ ،‬أو بسبب‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬تفسير البغوي‪.)565/1( ،‬‬
‫‪34‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫اقتناعه بوجوب تخلّيها عن مهر مثيالتها‪ ،‬واالكتفاء بما يجود به عليها من‬
‫قروش‪ ،‬فإن أبت؛ اتهمها في ديانتها وأخالقها!‬
‫ولو كان الصداق محدد ًا بال ِقلة؛ لما ّميزه اهلل بالقنطار في كتابه‬
‫الحكيم‪ ،‬ولما هدى من لم يستطع الطول (أي القدرة والسعة) إلى أن‬
‫ينكح من ملك اليمين‪ ،‬وإال لكان أمر النساء بالتنازل عن المهور أو‬
‫التخفيف منها قدر استطاعة الخاطب المعوز‪ ،‬فال َّطول يستلزم المقدرة‬
‫على المناولة‪ ،‬ومادامت هذه المقدرة مفقودة مع صنف من النساء‪،‬‬
‫فليبحث عند غيرهن‪.‬‬
‫صحيح أن أيسرهن صداقا أكثرهن بركة‪ ،‬لكن ليس هناك نهي صريح‬
‫ظاهر عن اشتراط صداق معقول يشابه مثيالتها‪ ،‬وليس هناك أمر بأن‬
‫يعتنقن الزهد‪ ،‬ويتنازلن عما يرينه ح ًّقا لهن‪.‬‬
‫ولست هنا بصدد الدفاع عن المغاالة في المهور‪ ،‬وال التحريض‬
‫على عدم القناعة‪ ،‬ولكن أبين خطأ يقع فيه بعض الرجال بفهمهم أن‬
‫العروس الملتزمة هي التي يلفها والدها هدي ًة‪ ،‬ويسلمها للخاطب‪ ،‬ال‬
‫لشيء‪ ،‬إال ألنه ملتزم‪ ،‬أو ألنه سينقذها من العنوسة‪ .‬في حين أن اهلل‬
‫كثيرا كثرة‬
‫سبحانه قد أشار في محكم كتابه إلى أن هذا المهر قد يكون ً‬
‫غير متعارفة وال محددة‪...{ :‬ﱇ ﱈ ﱉ} ــ اآلية‪،‬‬
‫ويستحيل أن يمثِّل اهلل بما ال يرضاه شرع ًا‪ ،‬فلو طُلب من الزوج أن يؤتي‬
‫زوجته قنطار ًا‪ ،‬وكان مقتدر ًا على منحه موافق ًا عليه‪ ،‬فإنه يصبح في حقه‬
‫‪35‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫واجب ًا بذله‪ ،‬ألن أولى العقود بالوفاء ما استحلت به الفروج‪ ،‬واألمر‬


‫خاضع لرفض أو قبول‪ ،‬ومادام قد قَب َِل فيلزمه‪.‬‬
‫وقد فطنت الصحابية ‪ ‬لهذا المعنى ــ معنى عدم تحديد قدر‬
‫المهر‪ ،‬وأنه ال ينبغي تحجير المباح ــ فنبهت إليه عمر ‪ ‬بعد نزوله من‬
‫منبره وقد نهى عن المغاالة في المهور‪ ،‬فقالت‪ :‬يا أمير المؤمنين كتاب‬
‫اهلل أحق أن يتبع أو قولك؟ قال‪ :‬بل كتاب اهلل‪ .‬بم ذلك؟ قالت‪ :‬إنك‬
‫نهيت الناس آن ًفا أن يغالوا في صداق النساء‪ ،‬واهلل يقول في كتابه‪:‬‬
‫{ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ}‪ .‬فقال عمر‪ :‬كل أحد‬
‫أفقه من عمر‪ .‬وفي رواية قال‪ :‬امرأة أصابت‪ ،‬وأمير أخطأ‪ ،‬واهلل‬
‫المستعان‪ .‬ثم رجع إلى المنبر فقال‪ :‬إني كنت نهيتكم أن تغالوا في‬
‫صدقات النساء‪ ،‬فليفعل كل رجل في ماله ما شاء(‪.)1‬‬
‫قد تكون هناك بعض العلل في النصح بعدم المغاالة في المهور‪،‬‬
‫مثل تيسير الحالل‪ ،‬وإغالق المنافذ على الحرام‪ ،‬وعدم الشق على‬
‫الشباب‪ ،‬وتخفيض نسبة العنوسة‪ ،‬وغيرها من العلل التي يمكن االستئناس‬
‫بها من أجل التنفير من المغاالة‪ ،‬لكن دون أن يصل األمر إلى تحجير على‬
‫المباح‪ .‬فاألمر متروك ــ كما تركه الشارع الحكيم ــ إلى أعراف الناس‪،‬‬
‫فيقدر صداق المرأة بصداق مماثالتها من النساء‪ ،‬قريبات كن أو مشتركات‬
‫معها في الصفات والمكانة‪ ،‬روى اإلمام أحمد عن عبد اهلل بن عتبة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فسئل عن رجل تزوج امرأة‪ ،‬ولم يكن سمى لها‬ ‫أُتي عبد اهلل بن مسعود‪ُ ،‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬السنن الكبرى للبيهقي‪ ،)2333/7( ،‬وانظر‪ :‬تفسير ابن كثير‪.)244/2( ،‬‬
‫‪36‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫صداق ًا‪ ،‬فمات قبل أن يدخل بها‪ ،‬فلم يقل فيها شيئ ًا‪ ،‬فرجعوا‪ ،‬ثم أتوه‬
‫فسألوه؟ فقال‪ :‬سأقول فيها بجهد رأيي‪ ،‬فإن أصبت‪ ،‬فاهلل ‪ ‬يوفقني‬
‫لذلك‪ ،‬وإن أخطأت‪ ،‬فهو منِّي‪ :‬لها صداق نسائها‪ ،‬ولها الميراث‪ ،‬وعليها‬
‫العدة‪ ،‬فقام رجل من أشجع‪ ،‬فقال‪ :‬أشهد على النبي ‘ أنه قضى بذلك‪،‬‬
‫قال‪ :‬هلم من يشهد لك بذلك؟ فشهد أبو الجراح بذلك(‪.)1‬‬
‫خول لها الشرع أن تطالب بالتفريق (عند الشافعية ما لم يدخل‬
‫بل قد َّ‬
‫بها) بينها وبين زوجها لإلعسار بالصداق‪ ،‬وفي أقل األحوال فإن لها منع‬
‫والنظرة إلى ميسرة‪ ،‬ولها كامل نفقتها (كما هو الحال عند‬ ‫نفسها منه‪ّ ،‬‬
‫الحنفية)‪ .‬وفي األمر تفصيالت وتفريعات وشروط(‪ )2‬يضيق المقام‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ (1‬مسند اإلمام أحمد‪ ،‬ح (‪.)4099‬‬
‫(‪ )2‬يشترط لل ّتفريق باإلعسار شروط‪ ،‬هي‪:‬‬
‫ال‪ ،‬كأن‬
‫الزوج وجوب ًا حا ًال‪ :‬فإذا لم يكن واجب ًا عليه أص ً‬‫الصداق واجب ًا على ّ‬ ‫أ ــ أن يكون ّ‬
‫ال كأن يشترط في العقد تأجيله‪ ،‬لم يكن‬ ‫مؤج ً‬
‫كان العقد فاسد ًا ولم يدخل بها‪ ،‬أو كان وجوبه ّ‬
‫افعية قوالن‪:‬‬
‫فللش ّ‬
‫لها طلب ال ّتفريق بسبب ذلك‪ ،‬فإن سلّم البعض وأعسر بالبعض الباقي‪ّ ،‬‬
‫المالكية والحنابلة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫األقوى منهما‪ :‬جواز ال ّتفريق‪ ،‬وهو مذهب‬
‫الزوجة قد رضيت بتأجيل المهر قبل العقد‪ ،‬أو بعده بطريق ال ّداللة‪ ،‬فإذا‬ ‫ب ــ أن ال تكون ّ‬
‫تزوجته عالم ًة بإعساره بالمهر لم يكن لها طلب ال ّتفريق بذلك‪ ،‬وكذلك إذا علمت بإعساره‬ ‫ّ‬
‫حق في طلب ال ّتفريق لإلعسار‬ ‫بعد العقد وسكتت أو رضيت به صراح ًة‪ ،‬فإ ّنه ال يكون لها ّ‬
‫العنة‪.‬‬
‫بالمهر بعد ذلك قياس ًا على ّ‬
‫وقد ا ّتفق القائلون بال ّتفريق لإلعسار بالمهر على أ ّن ال ّتفريق ال ب ّد فيه من حكم قاض به‪ ،‬أو‬
‫الرفع إليهما‪ ،‬فإن عجزت عن‬ ‫الزوجة على ّ‬ ‫محكّم‪ ،‬أل ّنه فصل مجتهد فيه‪ ،‬هذا إن قدرت ّ‬
‫افعية‪ .‬وإن ثبت إعساره طلّق القاضي عليه‬ ‫الش ّ‬ ‫نص عليه ّ‬
‫للضرورة‪ّ ،‬‬
‫وفرقت بنفسها جاز ّ‬ ‫ذلك‪ّ ،‬‬
‫فور ًا‪ ،‬وقيل‪ :‬ينظره م ّد ًة يراها مناسبة‪ ،‬وإن لم يثبت إعساره أنظره‪ ،‬وقيل‪ :‬يسجنه ح ّتى يدفع‬
‫المهر‪ ،‬أو يظهر ماله فين ّفذه عليه‪ ،‬أو يثبت إعساره فيطلّق عليه‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫بسردها كاملة هنا‪ ،‬فليس الغرض عرض أقوال المذاهب والتحريرات‬


‫الفقهية في المسألة‪ ،‬فذاك يُبحث عنه في مظانه‪ ،‬وإنما مجرد اإلشارة إلى‬
‫أنه من حق المرأة ليس المطالبة بمهر مثيالتها فحسب؛ وإنما طلب‬
‫التفريق بسبب المماطلة في أدائه ولو بسبب إعسار‪ .‬وليس ألحد أن‬
‫يقيم أخالقها وتدينها من خالل هذا المباح‪.‬‬
‫يرغمها على الزهد‪ ،‬وال أن ّ‬
‫ومن العقل أن ينصرف الرجل المعسر‪ ،‬أو الذي ال يجد في نفسه رغبة‬
‫في أن يغدق عليها من واسع ما أتاه اهلل إلى غيرها ممن تقبل بوضعه أو‬
‫موسع‪.‬‬
‫بمبدئه‪ ،‬من غير تشنيع وال تطاول‪ ،‬وال تحجير َّ‬

‫حقها في النفقة و(معنى القوامة والدرجة التي فضل هللا بها‬


‫الرجال على النساء)‪:‬‬
‫أوال عن معاني القوامة؛‬
‫يجرنا إلى الحديث ً‬
‫إن الحديث عن النفقة ُّ‬
‫العلة التي بموجبها شرعت النفقة على النساء‪ٍ ،‬‬
‫بنات ُك َّن أو أخوات‪ ،‬أو‬
‫أمهات أو زوجات‪.‬‬
‫وقد جرت العادة واإللف‪ ،‬وساهمت في ذلك ما تروجه وسائل‬
‫اإلعالم واألفالم والقصص والروايات‪ ،‬على إنتاج مزيج غير متجانس من‬
‫المفاهيم المغلوطة‪ ،‬والقواميس المخترعة‪ ،‬عن القوامة وعن الدرجة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫افعية والحنابلة إلى أ ّنها‬
‫الش ّ‬‫المالكية إلى أ ّن الفرقة لإلعسار بالمهر طالق بائن‪ ،‬وذهب ّ‬
‫ّ‬ ‫ذهب‬
‫فسخ‪ ،‬ال طالق‪ .‬اهـ (الموسوعة الفقهية الكويتية‪ )58/29( ،‬بتصرف يسير)‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫المروج لها باسم الدين‪ ،‬والدين منها براء‪ ،‬فجعلت القوامة مرادفة للتسلط‬
‫والتسيد واالستئثار بالرأي‪ ،‬بل وبالعيش! فأعطت للرجل عموما‬
‫ُّ‬ ‫والتجبر‪،‬‬
‫أحقية إلقاء األوامر‪ ،‬وأفهمته أن دور المرأة مقتصر على تلبية رغباته‪ ،‬دون‬
‫أن تكون لها رغبات وتطلعات وآراء قد تكون مخالفة لرأيه ولنظرته‬
‫للحياة‪ ،‬وارتأى أن دوره كرجل يقتصر على أخذ حقوقه‪ ،‬وبأن الحياة‬
‫األسرية أحادية القطب‪ ،‬يبدو فيه دور المرأة باه ًتا‪ ،‬بل ال وجود لها وال‬
‫قيمة‪ ،‬ما لم يتكرم ويمنحها فرصة إثباتها‪ ،‬ولخص دورها في أن تكون‬
‫َأمة ذليلة‪ ،‬تعيش ألجل لقمتها وكسوتها‪ ،‬إن وجدت‪ ،‬وألجل أن تسهر‬
‫على راحته وأبنائه في مقابل ذلك‪.‬‬
‫نبيه‬
‫وكرمه‪ ،‬وأمر ُّ‬
‫والحق أن اهلل سبحانه حاشاه أن يهين خلق ًا خلقه َّ‬
‫باإلحسان إليه‪ ،‬بل إن اعتبار القوامة تسل ًطا قدح في حكمة الحكيم‬
‫سبحانه‪ ،‬وفي عدله ‪.‬‬
‫فما القوامة؟ وبم فسرها العلماء؟‬
‫>القوام والقيم بمعنى واحد‪ ،‬والقوام أبلغ وهو القائم بالمصالح‬
‫والتدبير والتأديب<(‪ ،)1‬قاله البغوي ‪.‬‬
‫>أي يقومون بالنفقة عليهن والذب عنهن<(‪ ،)2‬قاله القرطبي ‪.‬‬
‫القوام‪ :‬الذي يقوم على شأن شيء ويليه ويصلحه‪ ،‬يقال‪ :‬قوام وقيام‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬تفسير البغوي‪.)611/1( ،‬‬
‫(‪ )2‬تفسير القرطبي‪.)168/5( ،‬‬
‫‪39‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫وقيوم‪ ،‬ألن شأن الذي يهتم باألمر ويعتني به أن يقف ليدير أمره‪ ،‬فأطلق‬
‫على االهتمام (القيام) بعالقة اللزوم‪ ،‬أو شبه المهتم بالقائم لألمر على‬
‫طريقة التمثيل‪ ،...،‬وقيام الرجال على النساء هو قيام الحفظ والدفاع‪،‬‬
‫وقيام االكتساب واإلنتاج المالي<(‪ .)1‬قاله ابن عاشور ‪.‬‬
‫فالقوامة إذًا مسئولية‪ ،‬وإدارة‪ ،‬وقيام بالمصالح‪ ،‬وتدبير للحياة‪،‬‬
‫ونفقة وذب‪ ،‬ووالية وإصالح‪.‬‬
‫وعلى هذا االعتبار‪ ،‬ومن هذا المنطلق‪ :‬يكون إنفاق األب على‬
‫ال‬
‫ابنته‪ ،‬واألخ على أخته‪ ،‬واالبن على أمه‪ ،‬والزوج على زوجته؛ داخ ً‬
‫في قوامته {‪ ...‬ﱋ ﱌ}‪ ،‬بل إنه يأتي يوم القيامة بحق مه َدر‪ ،‬وأمانة‬
‫أمورهن‪ .‬فقوامته وقيوميته‬ ‫مضيعة‪ ،‬إن قرر عدم اإلنفاق على من َّ‬
‫واله اهلل َ‬
‫عليها تقتضي إنفاقه عليها‪ .‬وما كان تفضيل اهلل له عليها؛ إال لتلك المزية‬
‫الجبلية التي تستلزم احتياجها له لحمايتها ولإلنفاق عليها‪ ،‬ال يتغير ذلك‬
‫بتغير زمان وال مكان‪ ،‬وال بتطور في األحوال المجتمعية‪ ،‬وال بامتالكها‬
‫خصها اهلل به‪ ،‬فنخوة الرجل‬‫راتب ًا تشقى وتك ّد للحصول عليه‪ ،‬أو ما ًال قد ّ‬
‫س راضية‪ ،‬ولو ِمن قليل ما آتاه اهلل‪،‬‬ ‫في كرمه وفي قيامه بمتطلباتها بنف ٍ‬
‫وكمال أنوثتها في صبرها على ضيق ذات يده‪ ،‬وإعانتها له بصبرها‬
‫ورضاها‪ ،‬وتدبيرها على نوائب األيام‪ ،‬بل إن هذه النفقة واجبة عليه حتى‬
‫في حال الشقاق‪ ،‬فتجب عليه النفقة والسكنى للحامل المطلقة طالق ًا‬
‫رجعي ًا‪ ،‬أو بائن ًا‪ ،‬حتى تضع حملها‪ ،‬وذلك باتفاق الفقهاء؛ لقوله تعالى‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬التحرير والتنوير‪.)38/5( ،‬‬
‫‪40‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫{ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ} ‪.‬‬
‫{ﱌ ﱍ ﱎ‬ ‫وقد جاء في تفسير اآلية؛ عن ابن عباس‪ ،‬في قوله‪:‬‬
‫فيبت‬
‫ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ}‪ :‬فهذه المرأة يطلقها زوجها‪ّ ،‬‬
‫طالقها وهي حامل‪ ،‬فيأمره اهلل أن يسكنها‪ ،‬وينفق عليها حتى تضع‪ ،‬وإن‬
‫أرضعت فحتى تفطم‪ ،‬وإن أبان طالقها‪ ،‬وليس بها حبل‪ ،‬فلها السكنى‬
‫حتى تنقضي عدتها وال نفقة‪ ،‬وكذلك المرأة يموت عنها زوجها‪ ،‬فإن كانت‬
‫ال أنفق عليها من نصيب ذي بطنها إذا كان ميراث‪ ،‬وإن لم يكن ميراث‬
‫حام ً‬
‫أنفق عليها الوارث حتى تضع وتفطم ولدها‪ ،‬كما قال اهلل ‪{ :‬ﲼ ﲽ‬
‫ال‪ ،‬فإن نفقتها كانت من مالها(‪.)1‬‬
‫ﲾ ﲿ}‪ ،‬فإن لم تكن حام ً‬
‫>وقد اتفق الفقهاء على أن المطلقة طالق ًا رجعي ًا لها السكنى والنفقة‬
‫ال‪ ،‬لبقاء آثار‬
‫ال أم حائ ً‬‫والكسوة‪ ،‬وما يلزمها لمعيشتها‪ ،‬سواء أكانت حام ً‬
‫الزوجية مدة العدة‪.‬‬
‫كما اتفقوا على وجوب السكنى للمعتدة من طالق بائن إذا كانت‬
‫ال حتى تضع حملها‪.‬‬ ‫حام ً‬
‫ال‪ ،‬كما اختلفوا‬
‫واختلفوا فيما لو كانت المعتدة من طالق بائن حائ ً‬
‫في وجوب السكنى والنفقة للمعتدة عن وفاة‪.‬‬
‫فعن إبراهيم‪ ،‬قال‪ :‬كان عمر وعبد اهلل بن مسعود يجعالن للمطلقة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري (‪.)62/23‬‬
‫‪41‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫ثالث ًا السكنى والنفقة(‪.)1‬‬


‫وعن علي بن الحسين أنه كان يقول في المطلقة ثالث ًا‪ :‬لها السكنى‪،‬‬
‫والنفقة‪ ،‬والمتعة؛ فإن خرجت من بيتها فال سكنى وال نفقة وال متعة(‪.)2‬‬
‫ومن ترك اإلنفاق الواجب المرأته مد ًة لم يسقط بذلك‪ ،‬وكان دين ًا‬
‫في ذمته‪ ،‬سواء تركه لعذر أو لغير عذر‪ ،‬أل ّنه مال يجب على سبيل البدل‬
‫بمضي الزمان‪ ،‬كالثمن واألجرة والمهر<(‪.)3‬‬
‫ّ‬ ‫في عقد معاوضة‪ ،‬فال يسقط‬
‫بل إ ّن من حقها إن غال السعر أن تطالبه بأن يزيد في الفرض‪.‬‬
‫ومما يذكره الفقهاء في باب ما يجب على الرجل من نفقة زوجته‪:‬‬
‫قولهم‪> :‬يجب على الزوج ما ال غنى لزوجته عنه<(‪ ،)4‬وقد علق‬
‫العالمة البهوتي ‪ ‬على هذا فقال‪> :‬ينبغي وجوب القهوة لمن اعتادتها‪،‬‬
‫ال بالعرف<‪.‬‬
‫لعدم غنائها عنها عادة‪ ،‬وعم ً‬
‫وهذه النفقة واجبة لها عليه ما لم تخرج عن طاعته ألن النفقة تسقط‬
‫بالنشوز‪.‬‬
‫و>أصل النشوز في اللغة االرتفاع‪ ،‬ومن معانيه‪ :‬عصيان المرأة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫سنن سعيد بن منصور‪ ،‬ح (‪.)1361‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫تفسير الطبري (‪.)62/23‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫انظر الموسوعة الفقهية الكويتية‪.)46 /34( ،‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫دليل الطالب (‪.)289‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫‪42‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫زوجها‪ ،‬وترك الرجل زوجته‪ .‬وفي اصطالح جمهور الفقهاء ــ المالكية‬


‫والشافعية والحنابلة ــ‪ :‬هو خروج الزوجة عن طاعة زوجها<(‪.)1‬‬
‫فما حدود هذه الطاعة التي إن لم تتحقق اعتبرت المرأة ناش ًزا؟‬

‫مفهوم الطاعة ومظاهرها‪:‬‬


‫الطاعة انقياد لربان سفينة قد كلفه اهلل بمقتضى قوامته التي تعني من‬
‫وذبا‪،‬‬
‫بين ما تعنيه‪ :‬مسئولية وإدارة وقيام بالمصالح‪ ،‬وتدبير للحياة‪ ،‬ونفقة ًّ‬
‫ووالية وإصالح‪ .‬مواصفات تكليفية ال تشريفية‪ ،‬تحتاج ممن تولى أمرهم‬
‫أن يعينوه على أداء مهمته في قيادة السفينة إلى بر األمان‪ ،‬والمجيء يوم‬
‫القيامة بحقوق محفوظة‪ ،‬وأمانات غير مضيعة‪.‬‬
‫كرمها ربُّها‪،‬‬
‫تطيعه‪ ،‬ال ألنها األدنى‪ ،‬وال ألنها األقل شأن ًا‪ ،‬بل قد َّ‬
‫نبيها‪ ،‬وجعل من بين ما استوصى بها فيه أن يعتني بها الرجل‪،‬‬ ‫وأوصى بها ُّ‬
‫وأن ينفق عليها‪ ،‬وأن يحميها ويحقق لها السكن‪ ،‬ويحمل عنها ما ال‬
‫تتحمله طبيعتها األنثوية الرقيقة‪ ،‬وبنيتها الجسمانية الضعيفة‪ .‬وفي‬
‫المقابل‪ ،‬تسهل عليه مأموريته بأال تقف أمام فوهة البركان فترفض طلباته‬
‫التي ال تتنافى مع الشرع‪ ،‬ومع ال ُخلق القويم‪ ،‬ومع حدود الطاقة‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬الموسوعة الفقهية الكويتية‪ 129/30( ،‬ــ ‪.)130‬‬
‫‪43‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫فتطيعه في فراشه في حدود الشرع‪ ،‬وفي خروجها‪ ،‬فال تخرج إال‬


‫بإذنه‪ ،‬ما لم يمكنها من إذن مطلق غير منتهي الصالحية‪.‬‬
‫وال ُتدخل إلى بيته من يكرهه‪ ،‬ولو كان من أهلها‪( ،‬وليس هنا مجال‬
‫مباحثة حل وسط لهذا األمر في هذا المقام‪ ،‬وإنما الحديث عنه في عمومه‬
‫قبل إيجاد الحلول)‪.‬‬
‫وتطيعه في زينتها‪ ،‬فال تتزين إال بما يحب‪ ،‬على األقل أمامه‪ ،‬وفي‬
‫حضوره‪ ،‬وإال بما تعلم يقي ًنا أنه سيسعد قل ِبه‪ ،‬وسيمأل عينه‪ ،‬وسيزيدها‬
‫قرب ًا منه‪.‬‬
‫وتطيعه في أمور تربية أوالدهما‪ ،‬وتدبير معيشتهما‪ ،‬وإنفاق ماله‪.‬‬
‫فعن أبي هريرة‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‘‪> :‬خير النساء التي إذا‬
‫غبت عنها حفظتك‬ ‫سرتك‪ ،‬وإذا أمرتها أطاعتك‪ ،‬وإذا َ‬ ‫نظرت إليها َّ‬
‫َ‬
‫في نفسها ومالها<‪ ،‬قال‪ :‬وتال هذه اآلية‪{ :‬ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ}‪،‬‬
‫[النساء‪ ]34 :‬إلى آخر اآلية(‪.)1‬‬
‫وفي حديث جابر بن عبد اهلل في صفة حجة النبي ‘‪( :‬فاتقوا اهلل‬
‫في النساء‪ ،‬فإنكم أخذتموهن بأمان اهلل‪ ،‬واستحللتم فروجهن بكلمة اهلل‪،‬‬
‫ولكم عليهن أال يوطئن فرشكم أحد ًا تكرهونه‪ ،‬فإن فعلن ذلك فاضربوهن‬
‫ضرب ًا غير مبرح‪ ،‬ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)(‪.)2‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه سعيد بن منصور في سننه‪ ،‬ح (‪ ،)2444‬والطبري في تفسيره (‪.)693/6‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم في صحيحه‪ ،‬ح (‪.)1218‬‬
‫‪44‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫وفي حديث آخر‪( :‬أال إن لكم على نسائكم ح ّق ًا‪ ،‬ولنسائكم عليكم‬
‫ح ّق ًا‪ ،‬فأما حقكم على نسائكم فال يوطئن فرشكم من تكرهون‪ ،‬وال يأذ ّن‬
‫في بيوتكم لمن تكرهون‪ ،‬أال وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن‬
‫وطعامهن)(‪.)1‬‬
‫وعدم طاعته وعصيانه في هذه األمور هو ما اصطلح عليه بالنشوز‪.‬‬
‫والطاعة ال تعني الخنوع والسلبية واالنقياد األعمى‪ ،‬وال االنسالخ من‬
‫الشخصية‪ ،‬بل ليست مطالبة بأن تطيعه في كل ما يأمر به‪ ،‬وال من حقه‬
‫أن يحركها بآلة تحكم‪ ،‬فال ترى إال ما يراه‪ ،‬وال تنطق إال بعباراته‪ ،‬بل‬
‫لها حرية الرأي‪ ،‬وحرية التعبير وحرية التصرف في مالها‪ ،‬دون وصاية‬
‫منه‪ ،‬وال تسلط عليه‪ ،‬ولها كل الحريات التي ال تتنافى مع الشرع‪ ،‬ومع‬
‫طبيعتها األنثوية‪ .‬وإنما الطاعة الواجبة التي تأثم إن لم تقم بها؛ في ما تم‬
‫اإلشارة إليه‪ ،‬وهي مع هذه الطاعة الواجبة‪ ،‬منصوحة بأن تكون لينة هينة‪،‬‬
‫تبرع في قراءة عينيه والتذلل له‪ .‬فخفض الجناح تواضع ومسارعة إلى‬
‫تلبية طلبات الشريك في غير ما معصية‪ ،‬وتذلل ولين له حتى ال تمتنع‬
‫من شيء يريده ويحبه‪ .‬وليس في هذا أدنى مهانة لها‪ ،‬وال هو خنوع أو‬
‫سلبية أو انعدام شخصية‪ .‬وهو أمر مطلوب في الرجل أيض ًا‪ ،‬إذ ال معنى‬
‫ألجل استقرار العالقة الزوجية أن يكون الضغط أو الميل على طرف‬
‫واحد من الطرفين‪ ،‬فبقدر األخذ يكون العطاء‪ ،‬وبقدر التشوف إلى ما‬
‫ضا إلى إسعاده‪ ،‬وإدخال السرور عليه‪.‬‬ ‫يمنحه الشريك‪ ،‬تكون المسارعة أي ً‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه الترمذي في سننه‪ ،‬ح (‪ ،)1163‬وقال‪ :‬حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫فالسفينة الزوجية تحتاج إلى الرقة والبذل‪ ،‬والتضحيات والتفاني‪ ،‬والعطاء‬


‫المتبادل‪ ،‬وال تمخر العباب فقط بالحقوق والواجبات‪ ،‬وإنما يرجع في‬
‫حدود الحقوق والواجبات عند التخاصم‪ ،‬وعدا ذلك فبر األمان والسعادة‬
‫وقوده التفاني في اإلسعاد‪ .‬والرجل القوام َمن علم بدقة مسؤوليته‪ ،‬فقام‬
‫بها على أتم وجه‪ ،‬وساعد بذلك زوجته على أن تطيعه‪ ،‬بل أال تتحرك‬
‫ال‪.‬‬‫حب ًا وطواعي ًة‪ ،‬وخفض ًا للجناح وتذل ُّ ً‬
‫وال تتنفس إال بوجوده وأنفاسه‪ّ ،‬‬
‫والمرأة الذكية َمن فهمت أنوثتها‪ ،‬ومعاني حسن التبعل‪ ،‬وعلمت أن في‬
‫الطاعة وخفض الجناح‪ ،‬وفي اإلكثار من المدح والثناء والتحبب‪ ،‬إشباع ًا‬
‫لرجولته الجوعى لكلمة >حاضر<‪ ،‬و>نعم<‪ ،‬و>حا ًال<‪ ،‬و>من عيني<‪.‬‬
‫تحترمه‪ ،‬وتبالغ في اإلطراء والثناء عليه‪ ،‬وتغدق عليه من األدعية والكلمة‬
‫الطيبة ما يأسره‪ .‬تعلم متى ُت ْق ِدم ومتى ُت ْح ِجم‪ ،‬وكيف تتفادى إغضابه‬
‫وكيف تسعده‪ ،‬ومتى تكون طفلته المدللة‪ ،‬أو أمه الرؤوم‪ ،‬أو صديقته‬
‫الوفية‪.‬‬
‫وأصل الخلقة أن هناك أنثى وهناك رجل‪ ،‬وكل واحد منهما قد ُخلق‬
‫لسعي مختلف عن اآلخر‪ ،‬وبشكل ومؤهالت مختلفة‪ .‬فأن يمنع الرجل‬
‫الخروج إال بإذن منه؛ هو شيء‬
‫ُ‬ ‫يحق لها‬
‫زوجته من الخروج‪ ،‬أو أال َّ‬
‫مستساغ عند ذوي ال ِف َطر السليمة‪ ،‬هي تحتاج إلى من يخاف عليها‪ ،‬وهو‬
‫المسؤول عن هذا الخوف‪ ،‬وداخل في قوامته‪ .‬ثم إنها مطالبة باالمتثال‪،‬‬
‫بحكم انتمائها لدين االسالم‪ ،‬ألمر ربها ونبيها اللذين أمراها أال تخرج‬
‫موافقتها على الزواج‬
‫َ‬ ‫إال بإذنه‪ ،‬وأال ُتدخل لبيته أحد ًا إال بإذنه‪ ،‬وجعل‬
‫‪46‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫ضمنيا على‬
‫ًّ‬ ‫منه موافق ًة ضمنية على هذه المعاهدة‪ ،‬تمام ًا كما يوافق هو‬
‫أن يرعاها‪ ،‬ويقوم بشؤونها‪ ،‬ويحقق لها السكن كي تؤدي مهمتها التي‬
‫خلقت ألجلها‪.‬‬
‫متى يقع الخلل في هذا األمر؟ ومتى يخلق إشكا ًال ويجعل المرأة‬
‫حق ألحد أن‬
‫تتحدث عن حريتها‪ ،‬وعن أنها شخص ناضج مكلف‪ ،‬وال ّ‬
‫يأمرها أو ينهاها؟‬
‫* عند اختالل موازين الفطرة‪ ،‬فتطالب المرأة بالندية‪ ،‬وترى أنه‬
‫أمرها إلى رجل‪ ،‬في حين أنها لوال عنادها العترفت‬ ‫من الظلم أن يوكل ُ‬
‫بأن هذه الوصاية مهمة لها كأنثى كي تشعر باألمان‪.‬‬
‫األمر في التسلط عليها‪ ،‬كي يثبت لها‬
‫الرجل هذا َ‬
‫ُ‬ ‫* حينما يستغل‬
‫أنها ليس سوى امرأة وهو الذكر‪.‬‬
‫* عند عدم الفهم الصحيح لمناطات األحكام الشرعية‪ ،‬إما بسبب‬
‫نفسه لضعف في االستيعاب‪ ،‬أو من خالل ما يروجه بعض‬ ‫من الشخص ِ‬
‫المتصدرين للفتوى وللموعظة من أخطاء بسبب فهومهم القاصرة‪.‬‬
‫* عند عدم معرفة حدود ما ال يمكن مناقشته أو ر ُّده من الشرع‪،‬‬
‫بمعنى حينما ال يفهم الشخص أنه عندما يناقش أمر ًا ثابت ًا بالنص الصحيح‪،‬‬
‫أكثر من َر ِّد‬
‫يفعل َ‬
‫ويحاول رده‪ ،‬وتجاوزه الى األحكام الوضعية؛ فإنه ال ُ‬
‫ُحكمِ اهلل‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫معنى الدرجة التي فضل هللا ‪ ‬بها الرجل على املرأة‪:‬‬


‫أما الدرجة التي ما يفتأ أعداء الدين يستغلونها كي يروجوا ألفكارهم‬
‫المسمومة القادحة في اإلسالم بأنه دين ذكوري قد جعل المفاضلة بين‬
‫أهله على أساس الجنس‪ ،‬وما يزال بعض الذكوريين من المنتسبين‬
‫لإلسالم يتشدقون بها‪ ،‬ويجعلونها مطية للتسلط على النساء‪ ،‬والتعالي‬
‫يسول لهم هواهم‪ ،‬وعما دونت لهم‬
‫عليهن؛ فإن معناها أبعد ما يكون عما ِّ‬
‫قواميسهم المخترعة‪.‬‬
‫قال ابن جرير ‪ ‬في تفسير قوله تعالى‪{ :‬ﲎ ﲏ ﲐ}‪:‬‬
‫>وأولى هذه األقوال بتأويل اآلية ما قاله ابن عباس وهو أن الدرجة‬
‫التي ذكر اهلل تعالى ذكره في هذا الموضع‪ :‬الصفح من الرجل المرأته عن‬
‫بعض الواجب عليها‪ ،‬وإغضاؤه لها عنه‪ ،‬وأداء كل الواجب لها عليه‪.‬‬
‫وذلك أن اهلل تعالى ذكره قال‪{ :‬ﲎ ﲏ ﲐ}‪ ،‬عقب قوله‪:‬‬
‫{ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ}‪ ،‬فأخبر تعالى ذكره أن على الرجل من‬
‫ترك ضرارها في مراجعته إياها في أقرائها الثالثة‪ ،‬وفي غير ذلك من‬
‫أمورها وحقوقها‪ ،‬مثل الذي له عليها من ترك ضراره في كتمانها إياه ما‬
‫خلق اهلل في أرحامهن‪ ،‬وغير ذلك من حقوقه‪ ،‬ثم ندب الرجال إلى األخذ‬
‫عليهن بالفضل إذا تركن أداء بعض ما أوجب اهلل لهم عليهن‪ ،‬فقال تعالى‬
‫ذكره‪{ :‬ﲎ ﲏ ﲐ}‪ ،‬بتفضلهم عليهن‪ ،‬وصفحهم لهن عن‬
‫بعض الواجب لهم عليهن‪ ،‬وهذا هو المعنى الذي قصده ابن عباس بقوله‪:‬‬
‫‪48‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫>ما أحب أن أستنظف جميع حقي عليها<‪ ،‬ألن اهلل تعالى ذكره يقول‪:‬‬
‫{ﲎ ﲏ ﲐ}‪ ،‬ومعنى >الدرجة<‪ ،‬الرتبة والمنزلة‪..‬‬
‫وهذا القول من اهلل تعالى ذكره‪ ،‬وإن كان ظاهره ظاهر الخبر‪ ،‬فمعناه‬
‫معنى ندب الرجال إلى األخذ على النساء بالفضل‪ ،‬ليكون لهم عليهن‬
‫فضل درجة<(‪.)1‬‬

‫النفقة ل تسقط عن الرجل بامتالك املرأة املال‪:‬‬


‫كون المرأة ذات راتب أو حصة من إرث‪ ،‬أو مدخول مالي من‬
‫القائم عليها من‬
‫َ‬ ‫تجارة أو أشغال يدوية‪ ،‬أو وظيفة‪ ،‬أو غيرها؛ ال ُت ْع ِفي‬
‫واجب إنفاقه عليها‪ ،‬وال يعطيه الحق في التسلط على هذا المال‪،‬‬
‫واحتكاره ومنعها من حرية التصرف فيه‪ ،‬أو استعماله من غير إذنها‬
‫ويتخوضون‬
‫َّ‬ ‫ورضاها‪ ،‬وإن فعل‪ ،‬يكون إذن في عداد من يأكلون السحت‪،‬‬
‫في مال غيرهم بغير حق‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وعلى آله وصحبه‪:‬‬
‫يتخوضون في مال اهلل بغير حق فلهم النار يوم القيامة)‪ ،‬قال‬ ‫رجاال ّ‬
‫(إ ّن ً‬
‫يتصرفون‬
‫حق)‪ ،‬أي ّ‬ ‫يتخوضون في مال اهلل بغير ّ‬ ‫الحافظ ابن حجر ‪ّ (> :‬‬
‫في مال المسلمين بالباطل<(‪.)2‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬تفسير الطبري‪.)536/4( ،‬‬
‫(‪ )2‬فتح الباري‪.)178/7( ،‬‬
‫‪49‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫ومن حديث عبد اهلل بن عمر ‪ ‬أن رسول اهلل ‘ قال‪( :‬ال يحلبن‬
‫أحد ماشية امرئ بغير إذنه‪ ،‬أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته‬
‫فينتقل طعامه؟ فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم‪ ،‬فال يحلبن‬
‫أحد ماشية أحد إال بإذنه)(‪.)1‬‬
‫البر‪> :‬في هذا الحديث النهي عن أن‬ ‫قال اإلمام الحافظ ابن عبد ّ‬
‫يأكل أحد أو يشرب أو يأخذ من مال أخيه شي ًئا إال بإذنه‪ ،‬وذلك عند أهل‬
‫العلم محمول على ما ال تطيب نفسه‪.‬‬
‫قال‪ :‬وفي هذا الحديث أيض ًا ما يدل على أن من حلب من ضرع‬
‫الشاة أو البقرة أو الناقة بعد أن يكون في حرز؛ ما يبلغ قيمته ما يجب فيه‬
‫القطع‪ ،‬أن عليه القطع؛ ألن الحديث قد أفصح بأن الضروع خزائن‬
‫للطعام‪ ،‬ومعلوم أن من فتح خزانة غيره أو كسرها‪ ،‬فاستخرج من المال‬
‫أو الطعام أو غيره ما يبلغ ثالثة دراهم أنه يقطع‪.)2(<...‬‬
‫وقال اإلمام الحافظ البغوي ‪> :‬والعمل على هذا عند أكثر أهل‬
‫العلم أنه ال يجوز أن يحلب ماشية الغير بغير إذنه‪ ،‬فإن اضطر في مخمصة‬
‫غير حاضر‪ ،‬فله أن يحلبها ويشرب ويضمن للمالك‪ ،‬وكذا سائر‬‫ومال ُكها ُ‬
‫األطعمة‪.)3(<...‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬ح (‪ ،)2435‬ومسلم‪ ،‬ح (‪.)1726‬‬
‫(‪ )2‬التمهيد‪ 206/14( ،‬ــ ‪ ،)212‬باختصار‪.‬‬
‫(‪ )3‬شرح السنة للبغوي‪ ،)233/8( ،‬حديث (‪.)2168‬‬
‫‪50‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫وعن أبي حميد الساعدي أن النبي ‘ قال‪> :‬ال يحل المرئ أن‬
‫يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه<(‪ ،)1‬قال >ذلك لشدة ما حرم اهلل من‬
‫مال المسلم على المسلم< بل ال حق للقائم على شأنها في أن يلزمها بدفع‬
‫حصة من مالها لمصاريف البيت إن لم يكن ذلك بطيب خاطرها‪ ،‬فعن‬
‫أبي حرة الرقاشي‪ ،‬عن عمه أن النبي صلى اهلل عليه وآله وسلم قال‪> :‬ال‬
‫يحل مال امرئ مسلم إال عن طيب نفس<(‪.)2‬‬
‫فهذا الذي يستحوذ على بطاقتها البنكية‪ ،‬فيمنعها من التصرف في‬
‫عمن يرغمها على أن توقع له‬‫فضال ّ‬‫أموالها حسب إرادتها بالمعروف‪ً ،‬‬
‫الشيكات بما يريده من مال‪ ،‬ويسحب بها مالها من غير إذنها وال رضاها‪،‬‬
‫آكال للسحت؟ ألن‬ ‫بل وقد يساومها على ذلك ببقاء عيشها معه‪ ،‬أليس ً‬
‫راتبها الذي يستحوذ عليه ــ من غير طيب خاطرها‪ ،‬بل يضطرها إلى‬
‫جهال‪ ،‬بأنها ليست عاصية إذا ما منعته‬
‫ذلك إما خو ًفا منه‪ ،‬أو حيا ًء‪ ،‬أو ً‬
‫حقها ــ هو من السحت‪ ،‬فكم من زوج هو أقرب إلى السارق منه إلى‬
‫القوام‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد (‪ ،)23605‬وابن حبان (‪ ،)5978‬والطحاوي (‪ ،)2822‬وصححه الشيخ‬
‫األلباني والشيخ شعيب‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه الدارقطنى (‪ ،)2886‬وأبو يعلى (‪ ،)1570‬والبيهقى (‪ ،)11545‬وصححه األلباني‬
‫في إرواء الغليل (‪.)1459‬‬
‫‪51‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫حقها في التصرف في مالها‪:‬‬


‫إ َّن من النِّعم التي ح ِظيت بها المرأة في اإلسالم‪ :‬أن حباها اهلل ‪‬‬
‫والتصرف‪ ،‬وجعل لها حق‬
‫ُّ‬ ‫شخصية استقاللية‪ ،‬وحرية في التفكير والتعبير‬
‫تدبير أمورها الشخصية‪ ،‬واالكتساب الحالل‪ ،‬وصرف موارده كما تحب‬
‫ألب وال ألخ وال لزوج أن يحجر عليها‬ ‫حق ٍ‬ ‫وتختار مادام ُمقن ًنا بالشرع‪ .‬ال َّ‬
‫حق التجارة والتعاقد من بيع وشراء وإيجار‪ ،‬وقرض ورهن‪،‬‬ ‫في ذلك‪ .‬لها ُّ‬
‫وغيرها من العقود المباحة‪ ،‬والوالية واإلشراف على أموالها‪ .‬مهرها خالص‬
‫لها‪ ،‬وراتبها خالص لها‪ ،‬وإرثها ال يخص أح ًدا غيرها‪ ،‬تتصرف فيها برشد‬
‫مناسبا‬
‫ً‬ ‫كما تشاء‪ .‬تتصدق بما تختاره‪ ،‬وتنفق على نفسها بالقدر الذي تراه‬
‫وتدخر القدر الذي تريده‪ ،‬وتنفق على زوجها وولدها متى شاءت‪ .‬فهذه‬
‫رائطة امرأة ابن مسعود ‪ ‬قد كانت امرأة صناع اليد‪ ،‬فكانت تنفق عليه‬
‫وعلى ولده من صنعتها‪ .‬وهذا نبينا عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصالة‬
‫والتسليم يبيح للمرأة المطلقة أن تباشر عملها‪ ،‬عساها تتصدق منه‪ ،‬أو تفعل‬
‫تجد‬
‫به معرو ًفا‪ .‬فعن جابر بن عبد اهلل ‪ ‬قال‪ :‬طَلقت خالتي‪ ،‬فأرادت أن ّ‬
‫فجدي‬‫نخلها‪ ،‬فزجرها رجل أن تخرج‪ ،‬فأتت النبي ‘‪ ،‬فقال‪> :‬بلى ّ‬
‫تصدقي أو تفعلي معروف ًا<(‪ ،)1‬فلم يُ ِشر من قريب‬‫نخلك‪ ،‬فإنك عسى أن ّ‬
‫أو بعيد بأنها تحتاج إلى إذن وليها كي تنفقه‪.‬‬
‫وهذه أمنا زينب رضي اهلل عنها وأرضاها كانت تعمل وتتصدق من‬
‫عمل يدها‪ ،‬وهي التي أشار إليها الرسول ‘ في الحديث المشهور بأنها‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم (‪ ،)1483‬ومعنى تجدي نخلك‪ :‬تقطعي ثمره‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫الحقوق املالية للمرأة في اإلسالم‬

‫أسرع نسائه لحو ًقا به ألنها أطولهن ي ًدا‪ ،‬فعن عائشة ‪ ‬قالت‪ :‬قال رسول‬
‫اهلل ‘‪> :‬أسرعكن لحاق ًا بي أطولكن يد ًا<‪ ،‬فكن يتطاولن أيتهن أطول‬
‫يد ًا‪ .‬قالت‪ :‬فكانت أطولهن يد ًا زينب ‪ ،‬ألنها كانت تعمل بيدها‬
‫وتتصدق‪ ،‬وإنها كانت امرأة قصيرة‪ ،‬ولم تكن أطولنا<(‪ ،)1‬ولكنها كانت‬
‫أطولهن ي ًدا‪ ،‬ليس بمقاييس الطول وإنما بما تتصدق به‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم (‪.)2452‬‬
‫‪53‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫ل‬
‫اوقحلقا معنويةرمللأةفاإلالسم‬
‫الحقوق السياسية‪:‬‬
‫هل من حق المرأة ممارسة السياسة؟ هل كفل لها الدين اإلسالمي‬
‫هذا الحق؟‬
‫هذا واحد من جملة الموضوعات التي ألهبت الساحات الفكرية‬
‫والبحوث األيديولوجية المتخصصة في حقوق المرأة في اإلسالم‪ ،‬ولم‬
‫ضا من مضيِّقين حرموا المرأة من أي مشاركة سياسية كيفما كان‬ ‫يسلم أي ً‬
‫نوعها‪ ،‬واعتبروها ندي ًة للرجل‪ ،‬وتطاو ًال على شرع اهلل‪ ،‬وممن جعلوا من‬
‫نضاليا‪ ،‬يمارسون من خالله البحث عن حريتها وكرامتها‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫الموضوع ح ْق ًال‬
‫وحقوقها المزعومة‪ ،‬ويتخذون من تمثيلية النساء في الحقل السياسي‬
‫أساسيا لتحقيق الديموقراطية‪ ،‬وللترويج لبرامجهم السياسية‪،‬‬ ‫ًّ‬ ‫شر ًطا‬
‫والتهام اإلسالم بالتعسف في حق المرأة‪.‬‬

‫واإلسالم الذي لم يغفل للمرأة حقًّا‪ ،‬وال منعها من ممارسةٍ ُّ‬


‫تعس ًفا؛‬
‫قد كفل لها حق المشاركة السياسية المعتدلة‪ ،‬وجعل لها منها جز ًءا من أنشطتها‬
‫التي ال تقل أهمي ًة عن دورها المنوط بها‪ ،‬وربأ بها أن تنغمس بالكلية في مجال‬
‫يحتاج إلى الكثير من القوة البدنية‪ ،‬ورجاحة الرأي‪ ،‬والحكمة والخداع‬
‫‪54‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫مجاال أن تضع فيه بصمتها‪ ،‬لكن دون أن تنتهجه‬ ‫أحيا ًنا كثيرة‪ ،‬فترك لها ً‬
‫بالشكل الذي يعيقها عن أداء مسؤولياتها‪ .‬فالمرأة في صدر اإلسالم التي‬
‫النداء‪ ،‬واختارت عن طواعية وطيب‬‫َ‬ ‫سمعت منادي الهجرة؛ قد ّلبت‬
‫قرارها السياسي واالستراتيجي في ترك موطنها قصد االستيطان في‬ ‫خاطر َ‬
‫مكان قد حدده لها النبي ‘‪ ،‬سواء في الهجرة األولى إلى الحبشة‪ ،‬أو‬
‫الثواب على ذلك سواسية مع الرجل‬
‫َ‬ ‫الهجرة إلى المدينة‪ .‬فر ّتب لها الشر ُع‬
‫({ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍﱎ‬
‫ﱏ ﱐ ﱑﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ‬
‫ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ‬
‫ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ} [آل عمران‪ ،]195 :‬قال‬
‫صاحب التحرير والتنوير ‪ ‬في تفسير اآلية‪> :‬ووجه الحاجة إلى هذا‬
‫البيان هنا أن األعمال التي أتوا بها أكبرها اإليمان‪ ،‬ثم الهجرة‪ ،‬ثم الجهاد‪،‬‬
‫ولما كان الجهاد أكثر تكر ًرا خيف أن يتوهم أن النساء الحظ لهن في‬
‫تحقيق الوعد الذي وعد اهلل على ألسنة رسله‪ ،‬فدفع هذا بأن للنساء حظهن‬
‫في ذلك‪ ،‬فهن في اإليمان والهجرة يساوين الرجال‪ ،‬وهن لهن حظهن في‬
‫ثواب الجهاد؛ ألنهن يقمن على المرضى‪ ،‬ويداوين الكلمى‪ ،‬ويسقين‬
‫الجيش‪ ،‬وذلك عمل عظيم‪ ،‬به استبقاء نفوس المسلمين‪ ،‬فهو ال يقصر عن‬
‫القتال الذي به إتالف نفوس عدو المؤمنين<(‪.)1‬‬
‫وهي نفسها المرأة التي سارعت إلى مبايعة نبيها عليه أفضل الصلوات‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬التحرير والتنوير‪.)203/4( ،‬‬
‫‪55‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫والتسليم بعد صلح الحديبية‪ ،‬والمبايعة كما أخبر عنها ابن حجر ‪ ‬في‬
‫ميت بذلك تشبي ًها بالمعاوضة المالية<(‪،)1‬‬ ‫الفتح‪> :‬عبارة عن المعاهدة‪ُ ،‬س ْ‬
‫الع ْهد على‬
‫وقال عنها ابن خلدون في >مقدمته<‪> :‬اعلم أ َّن البيعة هي َ‬
‫الطاعة‪ ،‬كأن المبايع يعا ِهد أميره على أنه يسلم له النَّ َظر في أمر نفسه وأمور‬
‫من األمر‬
‫المسلمين‪ ،‬ال ينازعه في شيء من ذلك‪ ،‬ويطيعه فيما يكلفه به َ‬
‫والم ْك َره‪ ،‬وكانوا إذا بايعوا األمير وعقدوا عهده‪ ،‬جعلوا‬ ‫الم ْن َش ِط َ‬
‫على َ‬
‫فسمي‬ ‫ِ‬
‫أيديَهم في يده تأكي ًدا للعهد‪ ،‬فأشبه ذلك ف ْعل البائع والمشتري‪ُ ،‬‬
‫وصارت البيع ُة مصافَحة باأليدي‪ ،‬هذا مدلولها في‬ ‫ِ‬ ‫بيعة‪ ،‬مصدر باع‪،‬‬
‫ُعرف اللغة ومعهود الشرع‪ ،‬وهو المراد في الحديث في بيعة النبي ـ ‘ ـ‬
‫ليلة العقبة وعند الشجرة‪ ،‬وحيثما ورد هذا اللفظ<(‪ .)2‬فهي إذن ميثاق‬
‫بين رئيس مطالب بالحكم بالكتاب والسنة والنصح للمسلمين‪ ،‬وبين‬
‫مرؤوس ملزم بحسن الطاعة في المعروف دون شقاق وال منازعة‪.‬‬
‫وهي نفسها المرأة التي أشارت على نبيها بحل راجح ناجع بعد‬
‫ُصلح الحديبية‪ ،‬متمثلة في أم سلمة رضي اهلل عنها وأرضاها‪ ،‬والتي قال‬
‫عنها ابن حجر ـ ‪ ‬ـ في اإلصابة‪> :‬وكانت أم سلمة موصوفة بالجمال‬
‫البارع‪ ،‬والعقل البالغ‪ ،‬والرأي الصائب‪ ،‬وإشارتها على النبي ـ ‘ ـ يوم‬
‫الحديبية تدل على وفور عقلها‪ ،‬وصواب رأيها<(‪ ،)3‬فأفتت زوجها‬
‫ورسولها ‪ ‬أن ينحر ويحلق فيتبعه الناس على ذلك‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬فتح الباري‪.)64/1( ،‬‬
‫(‪ )2‬تاريخ ابن خلدون‪.)261/1( ،‬‬
‫(‪ )3‬اإلصابة‪.)406/8( ،‬‬
‫‪56‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫وهي نفسها المرأة التي حافظت على سرية الدعوة‪ ،‬وخاطرت‬


‫بنفسها في سبيل تبليغها‪ ،‬والثبات عليها‪ ،‬والمشاركة العامة في تفاصيل‬
‫الشؤون السياسية‪ .‬فهذه ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر ‪ ‬قد‬
‫أسهمت في تنفيذ الخطة األساسية في الهجرة‪ ،‬فقد تكفلت بتزويد الرسول‬
‫‘ بالمؤونة وبأخبار مكة وهو بغار ثور‪ ،‬متحملة بذلك مخاطر هذا القرار‪.‬‬
‫وهي التي ساهمت في أخطر التحوالت السياسية التي عرفتها‬
‫الخالفة الراشدة بمقتل عثمان ‪‬؛ في تهدئة الناس وكفهم عن القتال‪،‬‬
‫فهذه عائشة ‪ ‬تجتهد وتتأول من أجل اإلصالح بين الناس‪ ،‬وتتخذ‬
‫سياسيا بالمشاركة في تهدئة األوضاع‪.‬‬
‫ًّ‬ ‫قرا ًرا‬
‫قرارها السياسي في خوض‬
‫وهي نفسها التي أخذت خالل الغزوات َ‬
‫المعارك‪ ،‬ومشاركة الرجل الدفاع عن حوزة اإلسالم‪ ،‬فكانت تخلف‬
‫الرجال في رحالهم‪ ،‬وتداوي الجرحى‪ ،‬وتصنع الطعام‪ ،‬وتسقيهم الماء‪.‬‬
‫فقد روى مسلم في صحيحه عن أنس ‪ ‬قال‪> :‬كان رسول اهلل ‘ يغزو‬
‫بأم سليم ونسوة من األنصار معه إذا غزا‪ ،‬فيسقين الماء‪ ،‬ويداوين‬
‫الجرحى<(‪ .)1‬وعن أم عطية ‪ ‬قالت‪> :‬غزوت مع رسول اهلل ‘ سبع‬
‫غزوات‪ ،‬أخلفهم في رحالهم‪ ،‬فأصنع لهم الطعام‪ ،‬وأداوي الجرحى‪ ،‬وأقوم‬
‫على المرضى<(‪.)2‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم (‪.)1810‬‬
‫(‪ )2‬صحيح مسلم (‪.)1812‬‬
‫‪57‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫ضا بسيفها أحيا ًنا‪ ،‬وتدافع عن نبيها‪ ،‬بل تهب‬


‫بل وكانت تغزو أي ً‬
‫حياتها وكل ما تملك هلل ورسوله‪.‬‬
‫فهذه أم عمارة نَسيبة بنت كعب المازنية النجارية األنصارية‪،‬‬
‫المجاهدة المحتسبة‪ ،‬تشهد أغلب المواقع والغزوات‪ ،‬وتستميت في‬
‫الدفاع عن النبي ‘‪ ،‬وتفعل األفاعيل‪ ،‬وتبلي البالء الحسن‪> ،‬وكانت‬
‫تراها يومئذ تقاتل أشد القتال‪ ،‬وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها‪ ،‬حتى‬
‫جرحت ثالثة عشر جر ًحا؛ وكانت تقول‪ :‬إني ألنظر إلى ابن قمئة وهو‬
‫يضربها على عاتقها ــ وكان أعظم جراحها ــ‪ ،‬فداوته سنة‪ .‬ثم نادى منادي‬
‫رسول اهلل ‘‪ :‬إلى حمراء األسد‪ ،‬فشدت عليها ثيابها‪ ،‬فما استطاعت‬
‫من نزف الدم رضي اهلل عنها ورحمها<(‪.)1‬‬

‫حق العمل‪:‬‬
‫‪ 1‬ــ بين سعة الشريعة وضيق بعض أتباعها‪:‬‬
‫جميل أن تكون المرأ ُة مصون ًة مقدسة‪ ،‬يتعب الرجل ويشقى كي‬
‫ينفق عليها‪ ،‬ويوفر لها حاجياتها‪ ،‬بل وينفق على من يخدمها‪ ،‬ويخدم‬
‫أبناءها‪ .‬أميرة متوجة في بال ِط كري ٍم شهم قوام‪ُ .‬‬
‫نؤوم الضحى‪ ،‬تستيقظ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬سير أعالم النبالء‪ ،‬الصحابة‪ ،‬أم عمارة‪.)279/2( ،‬‬
‫‪58‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫متى أرادت‪ ،‬وتنام حينما تود ذلك‪ ،‬وتمضي وقتها ترعى أنوثتها‪ ،‬وحق‬
‫من حولها عليها‪ .‬أو لربما بانشغالها بطلب العلم‪ ،‬وبصقل مواهبها‪،‬‬
‫وتثقيف نفسها‪ ،‬ورعاية أنوثتها وجمالها‪ ،‬فتتفرغ بذلك للتحصيل‬
‫ضا أن‬
‫ولإلنجاز‪ ،‬وتحقيق ذاتها وأداء رسالتها‪ ،‬وإن لم تخرج‪ .‬وجميل أي ً‬
‫يكون الرجل ممن يقدرون مساهمة المرأة في بناء المجتمع‪ ،‬وخدمة األمة‪،‬‬
‫بما حباها اهلل من مؤهالت علمية وشخصية‪ ،‬تمنحها فرصة اإلسهام في‬
‫اإلنجاز واإلبداع‪ ،‬ما دامت محافظة على حجابها الشرعي‪ ،‬وعلى حيائها‪،‬‬
‫وال تعطي القيمة لعملها أو دراستها على حساب حقوق من حولها‪ ،‬وما‬
‫سيسألها اهلل سبحانه عنه يوم القيامة‪.‬‬
‫جميلة ج ًّدا هذه المراعاة لظروف وميوالت كل شخص‪ ،‬ما دام ال‬
‫يخرج باختياره عما شرع اهلل‪ ،‬وال يتعدى حدوده‪ .‬لكن المؤسف في‬
‫مقاربة موضوعات المرأة بصفة خاصة‪ :‬إما هذا االنحالل الذي يرفع‬
‫قويا‬
‫شعارات حرية المرأة‪ ،‬ومساواتها للرجل‪ ،‬فيجعل منها َر ُجلة ون ًّدا ًّ‬
‫له‪ ،‬أو هذا التزمت والورع البارد المميت الذي ينم عن ضحالة فكر‪،‬‬
‫وسوء فهم لألحكام ولمناطاتها‪ ،‬وعن قَ ْد ٍح ِضمني في حكمة اهلل سبحانه‬
‫الذي أبدع خلقه مذ أنشأهم‪ ،‬في اختالف وتباين وتنوع‪ ،‬بل وتناقض‬
‫ضا‪ .‬ناهيك عن اختالف البيئات‪ ،‬واختالف العادات‪ ،‬ومقابلتها بتعميم‬ ‫أي ً‬
‫األحكام‪ ،‬انطال ًقا من زاوية رؤية المفتي أو المتصدر لهذه الموضوعات‪.‬‬
‫لست هنا كي أتحدث عن تفصيل ُحكم عمل المرأة شر ًعا‪ ،‬فخالصة‬
‫‪59‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫كافيا بالشرع والتاريخ‪ ،‬أو تأثر‬


‫األمر ال يناقش فيه إال من لم يحط عل ًما ً‬
‫بواقع معين‪ ،‬فاألمر كما جزم به العلماء على اإلباحة بشروط وضوابط‬
‫ولعل نظر ًة خاطفة ألحوال‬
‫صا‪َّ .‬‬‫عموما والمرأة خصو ً‬
‫ً‬ ‫شرعية تخص العمل‬
‫النساء من عهد اآلل واألصحاب لكفيلة بالتأكيد على أن المرأة كانت‬
‫تخرج لحاجتها‪ ،‬وكانت تخرج للعمل‪ ،‬فمن ممرضة تداوي ال َك ْل َمى في‬
‫الغزوات‪ ،‬ومن ساقية ومطعمة(‪ ،)1‬ومن مشتغلة بالزراعة‪ .‬ففي الصحيحين‬
‫عن أسماء بنت أبي بكر ‪ ،‬قالت‪> :‬تزوجني الزبير‪ ،‬وما له في األرض‬
‫من مال وال مملوك‪ ،‬وال شيء غير ناضح وغير فرسه‪ ،‬فكنت أعلف‬
‫فرسه‪ ،‬وأستقي الماء‪ ،‬وأخرز غربه وأعجن‪ ،‬ولم أكن أحسن أخبز‪ ،‬وكان‬
‫يخبز جارات لي من األنصار‪ ،‬وكن نسوة صدق‪ ،‬وكنت أنقل النوى من‬
‫أرض الزبير التي أقطعه رسول اهلل ‘ على رأسي‪ ،‬وهي مني على ثلثي‬
‫فرسخ‪ ،)2(<...‬فها هي سليلة الرضوان‪ ،‬وبنت ِحب رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وعلى آله وصحبه وسلم تخرج كي تسقي الماء‪ ،‬وتسوس الفرس‪،‬‬
‫وتنقل النوى من مكان ليس بالقريب‪ ،‬وتشتغل خارج بيتها بما يصلحها‬
‫ويصلح زوجها وأوالدها‪ .‬وهذه خالة جابر ‪ ‬كانت تشتغل بقطع التمر‪.‬‬
‫وغيرهن كثيرات ممن ُك َّن يشتغلن خارج بيوتهن‪ ،‬منضبطات بضوابط‬
‫الشرع‪ ،‬فما حجر عليهن ولي‪ ،‬وال نهاهن واعظ‪ ،‬بل حتى إن زجرها‬
‫أحد‪ ،‬فإن النبي ‘ لزجره بالمرصاد‪ ،‬كما وقع مع خالة جابر ‪ ‬والرجل‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫قريبا‪.‬‬
‫(‪ )1‬تق َّدم ذكر هذه الشواهد ً‬
‫(‪ )2‬صحيح البخاري‪ ،)3151( ،‬وصحيح مسلم‪.)2182( ،‬‬
‫‪60‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫الذي نهاها عن َج ِّد نخلها وقطع ثماره‪.‬‬


‫لكن هدفي من هذا البسط بإذن اهلل‪ :‬محاولة مقاربة األمر من جهات‬
‫عدة‪ ،‬تحتاج المرأة المسلمة أن تعرفها‪ ،‬كي ال تسقط في إطالق الحكم‬
‫بإباحته أو منعه‪ ،‬دون بحث وتدقيق‪ ،‬ومعرفة تفصيلية لما لها وما عليها‪.‬‬
‫عم ُمو األحكام في العنت أو الحرج‪ ،‬ويضيقوا عليها‬ ‫وكي ال يسقطها ُم ِّ‬
‫واس ًعا قد أباحه اهلل لها‪ ،‬وجعله ــ في أقل أحواله ــ وسيلتها لطلب العيش‬
‫الكريم‪.‬‬
‫يحضرني في هذا المقام حوار متعب دار بيني وبين متصدرة‬
‫حراما من غير‬
‫للموعظة ولإلرشاد‪ ،‬عن عمل المرأة ودراستها الذي تراه ً‬
‫قيد وال شرط‪ ،‬وترى من تقوم به شاردة مارقة من الدين‪ ،‬وتعيب بشدة‬
‫على من تدرس أو تترك بناتها يدرسن‪.‬‬
‫أرهقني إقناعها بأن تعليم الفتاة أصبح ضرورة‪ ،‬وبأن عمل المرأة‬
‫شرا‪ ،‬وبأن األصل في عملها اإلباحة‪ ،‬ما دامت ملتزمة بحدود‬ ‫ليس كله ًّ‬
‫اهلل في ملبسها ومنطقها وتعامالتها‪ ،‬وما دامت قادرة على الموازنة بين‬
‫مصالح بيتها واحتياجات زوجها وأبنائها؛ وبين متطلبات العمل‪ ،‬لكن‬
‫تعنتها جعلها تصم أذنيها عن سماع حججي ووعيِها‪ .‬أخبر ُتها أن بعض‬
‫وظائف النساء رسالة على عاتقهن‪ ،‬ومسؤولية أمام اهلل‪ ،‬ثم أمام المجتمع‪،‬‬
‫ضا مزم ًنا ــ أول ما تفعله لما تفاجئها األزمة؛‬
‫وبأنها ــ وهي المريضة مر ً‬
‫أن تطرق باب عيادة الطبيبة المختصة‪ ،‬فكيف صارت هذه الطبيبة إلى ما‬
‫‪61‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫صارت إليه لوال أنها درست وتفوقت‪ ،‬وأخذت على عاتقها مساعد َة‬
‫واجبا في حقها في بعض الحاالت‪ ،‬كوفاة‬ ‫العمل ً‬
‫ُ‬ ‫الناس؟ وبأنه قد يصبح‬
‫المعيل‪ ،‬أو انفصالها عن زوجها‪ ،‬فتجد حينها شهاداتها المدرسية أو‬ ‫ُ‬
‫سببا ومو ِر ًدا لرز ٍق يُغنيها عن التك ُّفف‪ ،‬ولوظيفةٍ محترمة تساعدها‬
‫الجامعية ً‬
‫على مواجهة الحياة‪.‬‬
‫ثم ها هي األيام تمر ألجدها تتعاطف مع أرامل ومطلقات‪ ،‬وتبارك‬
‫عملهن في البيوتات‪ ،‬وامتهانهن ــ الحتياجهن ــ لغسل أدراج العمارات‪،‬‬
‫ومساعدة ربات البيوت في عملهن‪ ،‬وتحملهن في سبب ذلك أذى بعض‬
‫المتسلطات ــ بل والمتسلطين منعدمي المروءة ــ‪ ،‬وإهانتهن مقابل بضع‬
‫المنطق األعوج‪ ،‬والتعنت القاتل‪ ،‬والتزمت والتنطع‪،‬‬
‫َ‬ ‫فاتهمت‬
‫ُ‬ ‫دريهمات‪،‬‬
‫الذي أصبح عند بعض الدعاة وسيلته‪ ،‬ليقنعك بالتزامه وتمسكه بالدين‪،‬‬
‫ألف عالمةِ استفهام‪.‬‬
‫وربما ليضع أمام التزامك أنت َ‬
‫لألسف‪ ،‬ما زلنا منهمكين في مقاربة قضايا المرأة؛ في محاولة‬
‫توصيف الداء‪ ،‬وما زلنا ندور حول نفس القرص الذي تبنته الخطابات‬
‫التوعوية مذ نشوء الحركات اإلسالمية التحررية‪ ،‬وما زال الدواء بعيد ًا‬
‫عن أن يقوم بدوره العالجي‪ ،‬ما دامت هناك خطابات‪ ،‬كلما ظننا أن وعي‬
‫المرأة قد تطور‪ ،‬تعود به إلى الصراعات التي ِخ ْلنا لفترة أنه قد تم الحسم‬
‫فيها‪ .‬فنجد أنفسنا مضطرين لتوضيح الواضحات‪ ،‬ومحاولة إعادة بناء‬
‫وعي المرأة‪ ،‬الذي تكالبت عليه مثبطات من نفسها‪ ،‬ومن نوعية الخطابات‬
‫‪62‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫الموجهة إليها‪ ،‬والتي تركز إما على تسليعها‪ ،‬أو على الحفاظ عليها من‬
‫التسليع بالتعليب‪ ،‬وحصر كل الخطاب لها في كونها فتنة‪.‬‬

‫‪ 2‬ــ مبدأ في الحياة أومن به ج ًّدا‪( :‬تعلم كل ما تظن أنك من الممكن‬


‫أن تحتاجه يو ًما)‪.‬‬
‫إلي‬
‫قلت البنتي أن تحاول أن تعجن خب ًزا بيدها‪ ،‬نظرت َّ‬‫يوم أن ُ‬
‫نظرة استغراب‪ ،‬تحاول فهم بعد ما أرمي إليه‪ ،‬بادرتني ممازحة‪ :‬ولكن‪،‬‬
‫لِ َم أُتعب نفسي واآللة تقوم عني باألمر على الدوام؟‬
‫فطنَ ْت لما كان من الممكن أن أجيبها به‪ ،‬كما أفعل في مواقف‬
‫مشابهة من أنه عليها أن تتعلم وتتأهل إلدارة مملكتها بعد الزواج‪،‬‬
‫فأردفَ ْت‪> :‬ثم أنا لن أقبل إال بمن سيوفر لي ما يعفيني من التعب<‪ .‬فقلت‬
‫لها‪ :‬ال بأس‪ ..‬تعلمي فقط‪ ،‬وحتى إن لم يفعل هو‪ ،‬فسأهديك إن أطال‬
‫اهلل العمر كل آلة كفيلة بمساعدتك وتحريرك كي تتفرغي ألشياء أخرى‬
‫أهم‪ ،..‬تعلمي ليوم تقطع فيه الكهرباء‪ ،‬ويتعذر عليك ألي سبب‬
‫الحصول على خبز من الخارج<‪.‬‬
‫لعل الفكرة قد وصلت‪.‬‬
‫الدراسة والحصول على الشهادات شيء مهم للفتاة‪ ،‬فراعية بيت‬
‫‪63‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫المستقبل‪ ،‬ومؤسسة لبنة المجتمع‪ ،‬وبانية العقول والشخصيات؛ لن‬


‫تتمكن أن تواكب المستجدات‪ ،‬خاصة في عصرنا هذا؛ وهي أمية جاهلة‪،‬‬
‫غير واعية بما يدور حولها‪ .‬البد أن تدرس وتحصل على شهادات علمية‪،‬‬
‫من جهة ألجل توسيع مداركهن‪ ،‬وتكوين شخصياتهن‪ ،‬وتصحيح نظرتهن‬
‫للعالم حولهن‪ ،‬وقبلها لتصحيح عبادتهن‪ ،‬وهذه هي الخطوة األولى‬
‫لتكوين األجيال المستقبلة‪ ،‬ومن جهة كي تخول لها الشهادة الحصول‬
‫على عمل شريف‪ ،‬إذا ما رماها الزمان إلى أضيق الطرق‪ ،‬فوجدت نفسها‬
‫من غير معيل‪.‬‬
‫ماذا لو مات الوالد‪ ،‬أو مرض‪ ،‬أو تعذر عليه العمل‪ ،‬ألي سبب من‬
‫األسباب؟‬
‫ماذا لو مات الزوج‪ ،‬أو انفصال‪ ،‬أو جرعها نغب القهر والتسلط‬
‫واالستبداد؟‬
‫ماذا لو لم تتزوج‪ ،‬وبقيت من غير معيل؟‬
‫هل الحل أن تتكفف الناس‪ ،‬أعطوها أو منعوها‪ ،‬خاصة في عص ٍر‬
‫قلما يفهم فيه ويطبق مبدأ القوامة؟ أم الحل أن تخرج للعمل بالبيوتات‪،‬‬
‫أو بالمقاهي‪ ،‬والمطاعم‪ ،‬والمصانع‪ ،‬بأزهد المال؟ وال أحد يخفى عليه‬
‫ما يحصل من امتهان هذه المهن إال من حفظ اهلل‪.‬‬
‫أليس من العقل أن تستثمر شبابها وفراغها فيما يعود في كل األحوال‬
‫‪64‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫بالنفع عليها؟‬
‫القوام الذي يشترط عليها عدم العمل‪ ،‬ورأت فيه‬ ‫إن جاءها َّ‬
‫مواصفات قد ال تجدها في غيره‪ ،‬ووعدها بأنه سيكرم مثواها‪ ،‬وسيكفيها‬
‫َه َّم الخروج والتعب‪ ،‬فالشهادة إن حملتها معها لبيتها؛ فلن تثقل عليها‪.‬‬
‫ولن تحتاج منها إلى طعام وال إلى شراب أو فائق عناية‪ .‬ووظيفتها‪ :‬يكفيها‬
‫منها استقالة كي تستع َّد لحياتها الجديدة‪.‬‬
‫وإن جاءها من يريدها موظفة ألي سبب من األسباب؛ فشهادتها أو‬
‫وظيفتها معها‪.‬‬
‫وإن قدر اهلل فرا ًقا من زوج‪ ،‬بسبب موت أو طالق‪ ،‬وغاب السند‬
‫من األهل؛ فشهادتها تخول لها بإذن اهلل العمل والعيش الكريم‪.‬‬
‫فلتتعلم ولتتفوق‪ ،‬ولتحصل على أعلى الشهادات والمراتب‪،‬‬
‫ولتجعل لها من دراستها رسالة في الحياة‪.‬‬

‫‪ 3‬ــ لتختر المهنة التي تؤدي عبرها رسالتها‪ ،‬وال تخالف طبيعتها‬
‫وأنوثتها وشرع ربها!‬
‫دور المرأة في المجتمع دور حساس‪ ،‬فهي جيل‪ ،‬وهي صانعة أجيال‪.‬‬
‫فلتكن موسوعية‪ ،‬ولتجعل بحثها واهتمامها بكل ما يدور حولها من‬
‫‪65‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫علوم وآداب‪ ،‬وليتسع أفقها بالمطالعة‪ ،‬يتسع معه عمقها في التفكير‪،‬‬


‫ولتعلم أن ثقافتها واطالعها إن لم يكن ليقودها إلى ربها؛ فإنما تزرع‬
‫الوبال‪ ،‬وهو ما ستحصده‪.‬‬
‫إن وجدت من يكفيها َه َّم طلب الرزق؛ أو اختارت من ذات نفسها‬
‫أال تعمل‪ ،‬فلتتفرغ لحفظ القرآن‪ ،‬وتدبره‪ ،‬وتعلم تجويده وتعليمه ألبنائها‪،‬‬
‫أو لغيرها من النساء‪ ،‬ولدراسة الفقه والشريعة والعقيدة‪ ،‬حتى تستطيع‬
‫فهم ما لها وما عليها‪ ،‬وحتى تتمكن من تلقين أوالدها وتعليمهم‬
‫ومساعدتهم في شق طريقهم في الحياة‪ ،‬ولتثقيف نفسها‪ ،‬وممارسة‬
‫هواياتها‪ ،‬وما به تحسن التبعل لمن جعل اهلل لها في طاعته وإسعاده با ًبا‬
‫من أبواب الجنة‪.‬‬
‫اله َّم‪ ،‬أو ارتأت في نفسها‬ ‫وإن كانت ال تجد من يحمل عنها ذلك َ‬
‫قدر ًة على إعمار المجتمع‪ ،‬وإفادته من خبراتها‪ ،‬ولديها طاقة لنفع َمن‬
‫حولها‪ ،‬وقدرة على الموازنة بين بيتها وعملها‪ ،‬مع إعطاء األولوية لزوجها‬
‫وأوالدها؛ فلتختر من المهن ما يناسب أنوثتها وفطرتها‪ ،‬ودورها المنوط‬
‫أستغرب‬
‫ُ‬ ‫رجل ًة أو َم ْس ًخا‪.‬‬
‫بها في الحياة‪ ،‬ولتبتعد عن كل مهنة تصنع منها ُ‬
‫ج ًّدا بل أُشفق على من درست وسهرت الليالي كي تكون مضيفة طيران!‬
‫حاال‪ ،‬فهي لم تسهر الليالي‪،‬‬ ‫وأرى النادلة بمقهى أو مطعم أحسن منها ً‬
‫اإلنجاب‪،‬‬
‫َ‬ ‫ولم ترهق نفسها بحفظ وال مراجعة‪ ،‬ولم يحرمها عملُها‬
‫وليست مضطرة إلى أن تمضي حياتها في األجواء‪ .‬وأشفق على من اختارت‬

‫‪66‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫أن تتسمر بالشارع الساعات الطوال تنظم قوافل السير‪ ،‬أو تلك التي‬
‫اختارت أن تكون سكرتيرة خاصة لرجل‪ ،‬أو تلك التي زاحمت الرجال‬
‫في ورشة بناء‪ ،‬أو غيرها من األعمال التي تنافي طبيعة األنثى الرقيقة‬
‫المعطاء‪ ،‬وتجعلها مجرد شكل ال جوهر لها وال ُك ْن َه‪ ،‬وال رسالة حقيقية‬
‫تؤديها عبر عملها ذاك‪ ،‬يخدم المجتمع‪ ،‬ويستثمر العقول‪ ،‬ويقرب زلفى‬
‫من اهلل‪.‬‬

‫إن عزمت دراسة الطب أو التمريض؛ فلتختر أول ما تختاره تلك‬


‫التخصصات التي تحتاجها النساء‪ ،‬كي تكفيهن الكشف عند الرجال‪،‬‬
‫األمر رسال ًة‬
‫ولتحتسب عملها وتعبها هلل‪ .‬وإن اختارت التدريس؛ فلتجعل َ‬
‫قبل أن يكون مورد رزق‪ .‬هي أمام عقول تستطيع تشكيلها كما تريد‪ ،‬من‬
‫جهة بأن تكون القدوة لهم‪ ،‬ومن جهة بتمرير المبادئ واألخالق والقيم‬
‫وأصول الدين األساسية‪ ،‬وبتكوين شخصياتهم‪ ،‬وتصحيح تصوراتهم‪،‬‬
‫وحثهم على أن يكونوا فاعلين في المجتمع‪ .‬وأيا ما كانت المهنة التي‬
‫ستختارها‪ ،‬فلتراعي فيها كل ما سبق‪ ،‬ولتكن همتها تناطح السماء‪،‬‬
‫فتنشغل بالمشاريع التي تدوم‪ ،‬تلك التي ال تقطف ثمارها إال وكتابها‬
‫باليمين‪ ،‬وقدمها على باب الجنان‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫‪ 4‬ــ زوجها وأطفالها وبيتها أولى مسؤولياتها باالهتمام‪:‬‬


‫فهي لن ُتسأل يوم القيامة عن شهادة علمية لم تحصلها‪ ،‬وال عن‬
‫ٍ‬
‫ذات لم تحققها‪ ،‬وال عن وظيفة لم تحصلها‪ ،‬أو تخلّت عنها‪ ،‬لكنها ستسأل‬
‫عن زوج ضيعت حقوقه‪ ،‬وعن أطفال قصرت في رعايتهم وتربيتهم‪ ،‬وعن‬
‫أنوثة استلبتها الندية واالسترجال‪.‬‬
‫حينما تدرك المرأة وتقتنع بأن مسؤوليتها الحقيقية التي ُخلقت‬
‫تحقيق السكن لزوجها‪ ،‬وتهيئ األجواء له‪ ،‬كي يحسن أداء‬ ‫ُ‬ ‫ألجلها‬
‫مسؤولياته‪ ،‬وتربية النشء التربية اإلسالمية الصحيحة‪ ،‬والحرص على أن‬
‫يخدموا مجتمعاتهم‪ ،‬وأال يكونوا عالة مجرمين منحرفين‪ ،‬وبأن تزيد في‬
‫سواد هذه األمة َم ْن يَ ُس ُّرها أن يباهي به رسولها عليه أفضل الصالة والتسليم‬
‫األُ َم َم يوم القيامة‪ ،‬وبأن عملها خارج البيت هو ضرورة فرضتها قساوة‬
‫الحياة‪ ،‬وبأن ما يالئم طبيعتها األنثوية‪ :‬السكون والوقار‪ ،‬واالطمئنان‬
‫واالبتعاد عما يرهق جسدها‪ ،‬ويفسد فطرتها‪ ،‬ويسلبها حقها في الراحة‬
‫والتنعم بأنوثتها‪ ،‬وبتثقيف نفسها وبممارسة هواياتها‪ ،‬وحينما تفلح في‬
‫التفريق قبل كل شيء بين حقوقها في الثقافة والعلم والتحصيل‪ ،‬وبين‬
‫اإلجهاد العملي الذي يستنزف ويقيد ويح ُّد من طموحاتها العلمية‬
‫والثقافية‪ ،‬ويجعلها في الكثير من األحيان مخلو ًقا خارج السياق‪ ،‬أو كائ ًنا‬
‫حق له في أن يتعب‪ ،‬أو على األقل أن يلقى الراحة إذا ما تعب‪.‬‬ ‫آليا ال َّ‬
‫ًّ‬
‫وحينما تقتنع بأن العمل في أصله وسيلة للتكسب الحالل‪ ،‬ولطلب العيش‬
‫‪68‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫الكريم‪ ،‬وإلعمار الوقت بما ينفعها‪ ،‬وينفع الناس حولها‪ ،‬وبأنه ال يعدو‬
‫أن يكون وسيلة‪ ،‬وليس غاية في ذاته‪ ،‬وبأن تنسف تلك األفكار المستوردة‬
‫التي مفادها أنه مناسبة لتحقيق الذات‪ ،‬ولصقل الشخصية‪ ،‬ووسيلتها‬
‫لمنافسة الرجل في ميادينه‪..‬‬
‫حينما ستقتنع بكل هذا‪ ،‬وبأن مسؤوليتها أشرف وأنبل من أن تضعها‬
‫في الميزان مع العمل؛ سترتاح وتريح‪ ،‬وستنتج أفضل‪ ،‬وستحتسب أكثر‪،‬‬
‫وستصنع مجتم ًعا يستحق االستخالف‪.‬‬

‫‪ 5‬ــ حق اهلل أولى أن يصان‪:‬‬


‫خروج المرأة إلى العمل حقُّها‪ ،‬لكن حق اهلل أولى أن يصان‪.‬‬
‫ملزمة هي‪ ،‬في كل األحوال‪ ،‬سواء خرجت إلى العمل‪ ،‬أو إلى‬
‫التبضع‪ ،‬أو إلى االستشفاء‪ ،‬أو إلى غيرها من األغراض‪ ،‬أن تلتزم بمالبسها‬
‫الشرعية‪ ،‬غير متزينة‪ ،‬وال متعطرة‪ ،‬وال ُمبدية ما يُطمع الرجال فيها‪ ،‬أو‬
‫يثير استشراف الشيطان‪ ،‬وأن تستصحب‪ ،‬أينما حلت وارتحلت؛ حياءها‪،‬‬
‫والغض من بصرها‪ ،‬واالبتعاد عن الميوعة‪ ،‬والخضوع في الكالم‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وتقوى اهلل وخشيته‪ ،‬في كل حركة وسكنة‪ ،‬واالبتعاد عن االختالط‬
‫الحديث والمزاح ولو مع زميالتها النساء في‬
‫َ‬ ‫المذموم‪ .‬وعلى أال ُتكثر‬
‫حضور الرجال‪ ،‬فيطمع الذي في قلبه مرض‪ ،‬وأال تعمل باألماكن‬
‫‪69‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫المشبوهة‪ ،‬أو بالوظائف المحرمة‪ ،‬وأن تستشعر رقابة المولى لها في كل‬
‫خطواتها‪ ،‬واألمانة التي عليها رعايتها‪ ،‬وماء وجه زوجها الذي عليها أن‬
‫تحفظه‪ ،‬أو الثقة التي منحها إياها والداها بهذا الخروج‪.‬‬
‫هذه جملة من ضوابط‪ ،‬إن استطاعت المرأة االلتزام بها؛ فقد مارست‬
‫حقها‪ ،‬ولم تأت اهلل يوم القيامة بحقوق مهضومة‪ ،‬وأمانات مضيعة‪.‬‬

‫‪ 6‬ــ تحقيق الذات ليس مشرو ًطا بالخروج إلى العمل‪ ،‬والتطوير ال‬
‫يقف ضده مكوث بالبيت‪:‬‬
‫الخروج إلى العمل أو المكوث بالبيت يحدده باألساس ــ كما سلف ــ‬
‫اختيار المرأة‪ ،‬وموازناتها المؤطرة بالضوابط الشرعية‪ ،‬فليس المكوث‬
‫بالبيت في نفسه مزية‪ ،‬وال الخروج مظنة للفاعلية وتحقيق مبادئ‬
‫االستخالف‪ ،‬وإنما مناط األمر فيما ستؤديه هذه المرأة من موقعيها‪،‬‬
‫وكيف ستتعامل مع الظروف المحيطة بها‪ ،‬كي ال تضيع ح ّق ًا‪ ،‬وال تصنع‬
‫بحطام ما ستسأل عنه يوم القيامة‪.‬‬
‫مجد ًا‪ُ ،‬‬
‫ولعل ربط تحقيق الذات والطموحات بالخروج إلى العمل‪ ،‬إطالق‬
‫لحكم يفترض أن تقننه الوسائل واألهداف والنتائج‪ ،‬فتحدده درجة يقظة‬
‫المرأة‪ ،‬وفهمها لحاجياتها الروحية والفكرية‪ ،‬وحدود طاقتها‪ ،‬ووعيها‬
‫بمآالت ومقاصد دورها‪ ،‬وأيض ًا بتحديدها بدقة معنى >تحقيق الذات<‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫فالكثير من المناصب الوظيفية التي تشغلها المرأة طمع ًا في تحقيق ذاتها‪،‬‬


‫هي نفسها ما تخرجها عن طبيعتها وفطرتها‪ ،‬وتقعدها عن دورها في‬
‫االستخالف‪ ،‬وال يمكنها بحال أن تتطور وتترقى عبرها‪.‬‬
‫وكذا وصم المرأة بالسطحية والغباء والجهل بسبب مكوثها ببيتها‪،‬‬
‫إجحاف في حقها‪ ،‬فقد يكون أسمى ما ستقدمه للمجتمع؛ من موقعها‬
‫ذاك‪ ،‬وقد يساعدها هذا المكوث على التزكية والترقي في مدارج الكمال‪،‬‬
‫ويكون محف ًزا لها لتعهد روحها وفكرها‪.‬‬
‫وقد تجد المرأة نفسها في بيتها‪ ،‬أو في قطاع يخول لها ما تزكي به‬
‫نفسها‪ ،‬وتنمي مواهبها‪ ،‬وتجدد إنتاجها؛ لكنها ال تفعل لقطيعتها مع‬
‫ذاتها‪ ،‬وجهلها بحاجياتها‪ ،‬وانعدام وعيها بمآالت ومقاصد مهمتها‪ ،‬فال‬
‫تعتبر وظيفتها سوى وسيلة لدر المال بشكل آلي‪ ،‬خال من الروح‪ ،‬ومبعد‬
‫عن اإلبداع واالبتكار والحركة‪ .‬أو تذوب في مهام البيت‪ ،‬وتنسحق في‬
‫ال من الرواء‬
‫روتينية التنظيف والترتيب‪ ،‬دون أن تجعل لروحها وفكرها كف ً‬
‫ال إلى أن هذه األدوار هي مجرد وسائل‬ ‫والتزكية‪ ،‬بل قد ال تفطن أص ً‬
‫وليست أهدا ًفا في نفسها‪ ،‬وبأن دورها في الحياة أسمى من أن يكون مجرد‬
‫تنظيف وترتيب‪ ،‬فهي المربية‪ ،‬وال يخفى على أحد دورها في تهييئ‬
‫األجيال وبنائهم‪ ،‬وما يحتاج ذلك من وعي‪ ،‬وحسن اطالع‪ ،‬ومواكبة‬
‫لمستجدات العصر‪ ،‬حتى تضمن ــ بإذن اهلل ــ أن تقدم لهم التربية‬
‫السليمة‪ ،‬وتهيئ لهم البيئة الكفيلة باستثمار كفاءاتهم‪ .‬فإن كانت األمومة‬
‫‪71‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫كعاطفة ال تحتاج إلى شواهد وإجازات‪ ،‬باعتبارها فطرة وجبلة‪ ،‬فإن‬


‫ال إلى قدر كبير من الوعي‪ ،‬ومن العلم‪ ،‬ومن الحكمة‪.‬‬ ‫التربية تحتاج فع ً‬
‫وبون شاسع بين العاطفة وبين منهج التربية السليمة المطلوبة والمسؤول‬
‫عنها أمام اهلل‪.‬‬
‫فهل تكفي المشاعر والعاطفة واألحضان وفقط‪ ،‬لبناء جيل متوازن‬
‫خالق يخدم دينه ووطنه؟ أم نحن في حاجة إلى قدر من الوعي‪ ،‬ألجل‬
‫مواكبة مستجدات الواقع الذي نعيشه؟‬
‫نحتاج‪ ،‬من أجل إعمار األرض‪ ،‬إلى ذات الدين‪ ،‬والدين نتعلمه‪،‬‬
‫وال يمكن أن نعرف المطلوب منا إال بطلبه في مظانه‪ ،‬وإال لما كانت‬
‫الحاجة إلى إرسال الرسل‪ ،‬وإنزال الكتب‪ ،‬لو كان التلقي يعوضه الحدس‬
‫والطفرات‪ .‬فكيف سنعرف الحالل والحرام إن لم يكن بتعلمه؟ وهل‬
‫ذات الدين يقصد بها فقط تلك التي امتثلت بتحقيق شروط الحجاب‪ ،‬أو‬
‫النقاب‪ ،‬وانحسرت في بيتها‪ ،‬وانحسر معها العطاء‪ ،‬وهي ذي المحكوم‬
‫عليها بالتدين فقط‪ ،‬ألنها اختارت أو ألزمت بوضع اختياره هو من شأنها‬
‫في األساس‪ ،‬أم أن الدين سلوكيات ومنهج معرفي وسلوكي‪ ،‬يحتاج إلى‬
‫علم وبحث وتشمير؟‬
‫تحتاج إذن إلى أن تتعلم‪ ،‬ببيتها أو بالخارج‪ ،‬وأن تجتهد في إعمار‬
‫األرض من موقعها ومكانتها‪ ،‬وأن تهيئ لذلك األسباب المعينة لها على‬
‫ذلك‪ .‬فإن اختارت أو اضطرت إلى الخروج‪ ،‬نظمت حولها أمورها‪،‬‬
‫‪72‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫ورتبت أولوياتها‪ ،‬وعهدت بأبنائها إلى األكفاء الذين يخلفونها في غيابها‪.‬‬


‫ربما سيكون كالمي صادم ًا في جزئية منه بخصوص حاجة الطفل‬
‫إلى صدر أمه‪ ،‬وإلى رضاعها هي‪ ،‬بالضبط إن قلت‪ :‬بل هو محتاج إلى‬
‫صدر امرأة‪ ،‬ورضاع طبيعي‪ ،‬وإن لم يكن من أمه‪ ،‬وليس في ذلك أي‬
‫إجحاف به‪ ،‬وال تشويه لشخصيته‪ ،‬وال حرمان له‪ .‬والمطلع على أحوال‬
‫العرب يفطن إلى أن الناس كانوا يسترضعون أبناءهم بالبوادي ليشبوا‬
‫أقوياء فصحاء‪ ،‬بل نبينا ‘ استرضع‪ ،‬وقصة رضاعه مشهورة‪ .‬ولما جاء‬
‫اإلسالم لم يلغ هذه العادة لما فيها من فوائد‪ ،‬وقد كان العربي يفتخر بأنه‬
‫سببا في نبوغه وقوته وفصاحته‪.‬‬
‫استرضع بالبادية‪ ،‬وبأن ذلك كان ً‬
‫قال اإلمام السهيلي في توضيحه لمسألة‪:‬‬
‫لم كانت قريش تدفع أوالدها إلى المراضع‪:‬‬
‫>أما دفع قريش وغيرهم من أشراف العرب أوالدهم إلى المراضع‪،‬‬
‫فقد يكون ذلك لوجوه‪ ،‬أحدها‪ :‬تفريغ النساء إلى األزواج‪ ،‬كما قال عمار‬
‫بن ياسر ألم سلمة ـ ‪ ‬ـ‪ ،‬وكان أخاها من الرضاعة‪ ،‬حين انتزع من‬
‫حجرها زينب بنت أبي سلمة‪ ،‬فقال‪ :‬دعي هذه المقبوحة المشقوحة‪ ،‬التي‬
‫ضا لينشأ الطفل في‬ ‫آذي ِ‬
‫ت بها رسول اهلل ـ ‘ ـ‪ ،‬وقد يكون ذلك منهم أي ً‬
‫األعراب‪ ،‬فيكون أفصح للسانه‪ ،‬وأجلد لجسمه‪ ،‬وأجدر أن ال يفارق‬
‫الهيئة المعدية‪ ،‬كما قال عمر ‪ :‬تمعددوا وتمعززوا واخشوشنوا [رواه‬
‫رأيت‬
‫ابن أبي حدرد]‪ .‬وقد قال ـ ‪ ‬ـ ألبي بكر ـ ‪ ‬ـ حين قال له‪ :‬ما ُ‬
‫‪73‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫أفصح منك يا رسول اهلل‪ .‬فقال‪ :‬وما يمنعني‪ ،‬وأنا من قريش‪ ،‬وأُرضعت‬
‫في بني سعد؟ فهذا ونحوه كان يحملهم على دفع الرضعاء إلى المراضع‬
‫األعرابيات‪ .‬وقد ُذكر أن عبد الملك بن مروان كان يقول‪ :‬أضر بنا حب‬
‫الوليد‪ ،‬ألن الوليد كان ل َّحا ًنا‪ ،‬وكان سليمان فصي ًحا‪ ،‬ألن الوليد أقام مع‬
‫أمه‪ ،‬وسليمان وغيره من إخوته سكنوا البادية‪ ،‬فتعربوا‪ ،‬ثم أُدبوا فتأدبوا‪،‬‬
‫وكان من قريش أعراب‪ ،‬ومنهم َح َضر‪ ،‬فاألعراب منهم بنو األدرم‪ ،‬وبنو‬
‫محارب‪ ،‬وأحسب بني عامر بن لؤي كذلك‪ ،‬ألنهم من أهل الظواهر‪،‬‬
‫وليسوا من أهل البطاح< اهـ(‪.)1‬‬
‫إذن فدعوى أن األم تجحف بابنها إن هي سلمته لغيرها ألجل‬
‫التنشئة‪ ،‬إن اختارت العمل‪ ،‬أو الدراسة خارج البيت؛ دعوى باطلة‬
‫مبتورة‪ ،‬مشروطة بأن تكون لم تحسن اختيار المربية‪ ،‬ولم تفطن للتوازنات‬
‫تحرت فال لوم عليها‪،‬‬
‫والتنازالت التي عليها أن تخوضها بحكمة‪ .‬أما إن َّ‬
‫ولو كان باألمر ما يعيبها‪ ،‬أو ما يجعلها تخالف الشرع أو الفطرة‪ ،‬لكان‬
‫سباق ًا إلى نهيها عن ذلك‪ ،‬بل قد جعل اهلل عند تعسر الحياة بين‬
‫اإلسالم ّ‬
‫الزوجين‪ ،‬وتعاسرهما في مسألة اإلرضاع‪ ،‬أن ترضع له أخرى‪ ،‬ولم يلم‬
‫األم إن رفضت اإلرضاع‪.‬‬
‫الشاهد‪ ،‬لست هنا بصدد تشجيع األمهات على عدم إرضاع أبنائهن‪،‬‬
‫وال عن استغنائهن عن أحضانهن لهم‪ ،‬وإنما أنا بصدد تصحيح مفهوم من‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬الروض األنف (‪.)168/2‬‬
‫‪74‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫جعل أن غياب األم عن بيتها في حالة طلب رزق‪ ،‬أو علم‪ ،‬أو حتى‬
‫وجرمها؛ ألنها‬
‫الهتمام بأمورها الشخصية أو الزوجية؛ مجح ًفا باألبناء‪ّ ،‬‬
‫سلمت تربيتهم لغيرها‪ .‬ستكون ظالمة لهم مقصرة معهم إن لم تحسن‬
‫اختيار من يتولى المهمة في غيابها‪ ،‬وليس ألنها اختارت لهم المربيات‪.‬‬
‫عهدنا في مجتمعاتنا‪ ،‬واألمر قائم إلى حد اآلن‪ ،‬أن يعهد بتربية األوالد‬
‫حتى في وجود األم بالبيت إلى >الدادا<‪ ،‬وفي مجتمعات بعينها يتم اختيار‬
‫يوما على‬
‫المربية بمواصفات معينة‪ ،‬كي تحسن هذه التربية‪ ،‬ولم يعب أحد ً‬
‫أب وال على أم أن فعال ذلك‪ .‬ثم في سن معينة‪ ،‬يسلم األطفال إلى‬
‫ال‬
‫>المؤ ِّدبين< الذين يعلمونهم مبادئ الحياة‪ ،‬والسلوكيات القويمة‪ ،‬فض ً‬
‫عن تلقينهم العلوم المختلفة‪ ،‬لكن دأب بعض المتصدرين للدعوة على‬
‫دغدغة المشاعر بتجريم المرأة إن هي اختارت أن تجعل ألبنائها من‬
‫يرعاهم في غيابها‪ ،‬ولجأوا إلى االبتزاز العاطفي‪ ،‬كي يروجوا لفكرتهم‪،‬‬
‫واختيارهم لذويهم من النساء عدم االنخراط في العمل أو التعلم‪ ،‬بدعوى‬
‫سد الذرائع‪ ،‬ليخرجوها في النهاية مقصرة مارقة من الدين‪.‬‬
‫العمل بريء من االتهامات الملحقة به؛ والشهادة األكاديمية لم‬
‫تجرم في شيء‪ ،‬وال يمكن بحال أن نمنع المرأة من التعلم‪ ،‬ومن تحقيق‬
‫طموحاتها‪ ،‬فقط للخوف من التقصير‪ ،‬وس ًّدا للذرائع‪ ،‬وإنما دورنا أن‬
‫نعلمها كيف توازن بين المسئوليات‪ ،‬وأن نمدها بما يعلمها حقوقها‬
‫وواجباتها أمام اهلل‪ ،‬ونساعدها على عدم السقوط في تضييع األمانات‪.‬‬
‫‪75‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫تستطيع بما حباها اهلل من قدرات أن تجمع بين الكثير من األشغال‪ ،‬ومن‬
‫الرساالت‪ ،‬دون إفراط أو تفريط‪ .‬إن نحن نجحنا في جعلها تميز بين‬
‫األولويات‪ ،‬وربيناها على تقوى اهلل وخشيته بالغيب‪ ،‬وعلى استشعار أنها‬
‫مسئولة على ما استرعاها موالها‪ ،‬وفتحنا أمامها المجال كي تبدع‪ ،‬وكي‬
‫تيم ًنا بأمهات المؤمنين ونساء‬
‫تخدم مجتمعها بما أوتيت من مؤهالت‪ّ ،‬‬
‫اآلل واألصحاب‪ ،‬وربيناها على ثقافة الحق والواجب‪ ،‬فقد كسبناها وكسبنا‬
‫مجتم ًعا متواز ًنا ال قمع فيه لجنسها‪ ،‬وال هضم فيه لحقها في العطاء‪ ،‬وال‬
‫تهميش لدورها الفعال الذي لن تتقنه إال إن استرجعت ثقتها في مقوماتها‪،‬‬
‫وفي دورها في االستخالف الفعال‪.‬‬
‫إن أزمة هوية المرأة‪ ،‬وتحقيق ذاتها‪ ،‬هي أزمة وعي قبل كل شيء‪،‬‬
‫وأزمة خطاب يرى الحل في تقوقعها‪ ،‬وفصلها عن الواقع‪ ،‬وعن األدوار‬
‫الطالئعية‪ ،‬التي تميزت بها نساء اآلل واألصحاب رضوان اهلل عليهن‪.‬‬

‫ضوابط الختالط‪:‬‬
‫هل صار ذكر >عدم االختالط< كضابط من ضوابط عمل المرأة‬
‫المتحدث إليه وخز ُة الضمير كي يقنع نفسه بأنه‬
‫َ‬ ‫مجرد ِذكر صوري‪ ،‬يدفع‬
‫َ‬
‫قد قال على كل حال ما يجب أن يقال‪ ،‬وأزاح عنه َه َّم األمر بالمعروف‪،‬‬
‫ضا إلى ضابط‪ ،‬وإعادة‬ ‫والنهي عن المنكر؟ أم أن هذا الضابط يحتاج أي ً‬
‫‪76‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫تعريف‪ ،‬ودقة في َو ْضع َح ِّده‪ ،‬فال يدخل فيه من المفردات ما ليس منه؟‬
‫وهل إطالق الحديث عن ضبط إباحة عمل المرأة بعدم االختالط؛‬
‫بالمفهوم المطلق لالختالط؛ سائغ واق ًعا‪ ،‬خاصة في عصرنا الذي‬
‫تضاعفت فيه الكثافة السكانية‪ ،‬وتغيرت مناهج الحياة‪ ،‬وتكاثرت‬
‫الوظائف‪ ،‬وازدادت الحاجة إلى وجود المرأة في مجاالت متعددة‪ ،‬هي‬
‫تحر ًزا من اللجوء إلى الرجل فيها؟‬
‫من تخصصها‪ ،‬أو ُّ‬
‫ضا‪ ،‬في مقابل مجتمع نِسوي‬
‫ذكوريا مح ً‬
‫ًّ‬ ‫هل نستطيع أن نصنع مجتم ًعا‬
‫محض‪ ،‬بكل مرافقه‪ ،‬وشوارعه‪ ،‬ومنشئاته‪ ،‬ومصانعه‪ ،‬ومستشفياته‪،‬‬
‫ومدارسه‪ ،‬ودكاكينه‪ ،‬وإداراته‪ ،‬وأسواقه‪...‬؟؟‬
‫لو استطعنا فعل ذلك‪ ،‬فسيكفينا ساعتها الحديث عن االختالط‬
‫المذموم‪ ،‬وأضراره وحدوده وما إلى ذلك‪.‬‬
‫إنما نحن نتعامل مع قضايا مجتمعاتنا بما هو كائن‪ ،‬موجود‪ ،‬سائد‪،‬‬
‫مثاليا‪،‬‬
‫ال بما ينبغي أن يكون‪ .‬ومجتمع أفالطون المثالي يبقى على الدوام ًّ‬
‫فلنكف عن المناداة بالمثالية والخيال‪،‬‬
‫َّ‬ ‫وال فرصة له أن يُ ْن َجز على الواقع‪،‬‬
‫ولنتعامل مع القضايا بما يفرضه علينا الواقع‪ ،‬وبما جاءنا من أحكام شرعية‬
‫وتسي َبها‪.‬‬
‫تنظم الحياة‪ ،‬وتقنِّن فوضويتها ُّ‬
‫مجتمع النبي ‘ كان مختل ًطا‪ ،‬بمعنى أن المرأة كانت تخرج لحاجتها‬
‫بقدر الحاجة‪ ،‬وكان الرجل يصادفها في طريقه‪ ،‬فحثهما الشرع على ضبط‬
‫‪77‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫تعاملهما مع هذا االحتكاك غير المباشر االضطراري‪ ،‬فأمره بالغض من‬


‫البصر‪ ،‬وحثها على الحياء‪ ،‬وعلى الحجاب‪ ،‬وعلى القصد في مشيتها‪ ،‬وعلى‬
‫ضا‪ .‬تصادفه في المسجد‪ ،‬فتتخذ الصفوف الخلفية‪،‬‬ ‫الغض من بصرها أي ً‬
‫وتتحرى أن تكون في خيرها آخرها‪ ،‬ويسارع هو للتبكير إلى المسجد‪ ،‬كي‬
‫يحظى بالصفوف األمامية‪ ،‬ولم يمنعها الشارع من الصالة بمسجد فيه رجال‪،‬‬
‫وال منعها من شهود الجماعة‪ ،‬وال أمر ببناء مسجد منفصل خاص بها‪ .‬تشاركه‬
‫ضا‪ .‬جعلهما الواقع‬‫حروبه‪ ،‬وتسعف الجرحى‪ ،‬وتشجع‪ ،‬بل وتحارب أي ً‬
‫واألحداث في مكان واحد‪ ،‬ولكن أرشد كل واحد منهما إلى أن يلزم‬
‫حدوده‪ ،‬وأن يعلم ما يمكنه فعله في كل حالة تعرض عليه‪.‬‬
‫مدارسنا وجامعاتنا اآلن مختلطة‪ ،‬ومستشفياتنا‪ ،‬وإداراتنا العمومية‪،‬‬
‫وأسواقنا‪ ،‬وشوارعنا‪ ،‬و و و ‪ ،‬وال إمكانية ألحد أن يغير هذا الوضع‪،‬‬
‫أو أن يأتي بحل بديل‪ ،‬فهل نُ ْح ِجم عن الدراسة‪ ،‬أو االستطباب‪ ،‬أو‬
‫قضاء مصالحنا‪ ،‬لهذا السبب؟‬
‫لسنا مطالبين بالتقوقع داخل البيوتات‪ ،‬وال بإنشاء دويلة داخل‬
‫الدولة‪ ،‬وال أن نتخلى عن مصالحنا‪ ،‬وإنما المطلوب منا أن نضبط تصرفاتنا‬
‫وعالقاتنا بما ضبطه لنا الشرع‪:‬‬
‫* الحياء‪ ،‬والغض من البصر‪ ،‬وعدم الخضوع بالقول‪.‬‬
‫* تحجيم العالقات مع الجنس اآلخر‪ ،‬وتقنينها‪ ،‬وعدم التوسع‬
‫فيها‪ ،‬واالحتفاظ فيها بما تلح الضرورة عليه‪.‬‬
‫‪78‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫* االبتعاد عن المجالسة في مكان واحد بشكل دوري راتب متكرر‪،‬‬


‫بحيث يكون هذا االعتياد‪ ،‬وهذا التكرار لوقت طويل‪ ،‬مدعاة لتحرك‬
‫المشاعر والشهوات‪.‬‬
‫* االبتعاد عن االختالط الذي بمعنى التمازج والتداخل‪ ،‬الذي‬
‫يفضي إلى المالصقة والمالمسة‪ ،‬وهذا أمره واضح ّبين‪.‬‬
‫* االبتعاد عن االستئناس بالحديث‪ ،‬والضحك‪ ،‬والتنكيت‪،‬‬
‫والتسامر‪ ،‬ورفع الكلفة‪ .‬فإن كان لها من حاجة تخص عملها‪ ،‬سألته في‬
‫احترام‪ ،‬ومن غير خضوع في القول‪ ،‬وإن كان السؤال منه؛ وجب عليه‬
‫نفس الشيء‪ ،‬وعليها أن تفرض عليه احترامها‪ ،‬وأال تسمح له بتجاوز‬
‫حدوده معها‪ ،‬وأال تعطه فرصة معاملتها كأنثى‪ ،‬إنما كموظفة لها دور‬
‫ورسالة عليها تأديتها‪ .‬فالعالقة بين الرجال والنساء في التصور الشرعي‬
‫مبنية على التضييق‪ ،‬وليس على التوسعة‪ ،‬وعلى فهم المباح منها وغير‬
‫المباح‪ .‬فال يشدد كما يفعل بعضهم اليوم‪ ،‬بحيث يحجرون على المباح‬
‫س ًّدا للذرائع كما يزعمون‪ ،‬فيتشددون فيما حاله التيسير‪ ،‬فيؤدي ضغطهم‬
‫إلى االنفجار‪ ،‬وال يميعون األحكام الشرعية حتى يصير المحظور مبا ًحا‪،‬‬
‫ضا صنف آخر من الناس‪ ،‬إنما نقنع الناس بأن عالقة المرأة‬ ‫كما يفعل أي ً‬
‫بالرجل الغريب ال يمكن بحال أن تكون كعالقتها مع مماثلتها المرأة‪ ،‬أو‬
‫كأحد محارمها‪ .‬وكذا الرجل‪.‬‬
‫* االبتعاد عن الخلوة‪ ،‬فال تجتمع بزميلها أو مرؤوسها في مكان‬
‫مغلق‪ ،‬ال يراهما الناس فيه‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫* استشعار رقابة المولى قبل كل شيء‪ ،‬وكره أن يطلع عليهما وهما‬


‫يعصيانه فيما حرمه عليهما مما مضى ذكره‪.‬‬
‫بهذا وبغيره؛ ينضبط االختالط‪ ،‬وتقنن التعامالت‪ ،‬وال تحرم‬
‫المباحات س ًّدا لذريعة محتملة‪ ،‬فإن التضييق فيها والضغط ال يفعل أكثر‬
‫من أن يولد االنفجار‪.‬‬

‫حق اختيارالزوج ورفض َمن ل تريده‪:‬‬


‫إن من بين أسمى درجات بلوغ الكمال اإلنساني بعد العبودية هلل؛‬
‫التحام األرواح‪ ،‬وامتزاج العواطف‪ ،‬وارتواء األجساد والنفوس‪ ،‬في ظل‬
‫رباط غليظ مقدس‪ ،‬يعزف ترانيم المودة والرحمة‪ ،‬ويزف الروح إلى‬
‫توأمها‪ ،‬ويألم النفس بما يكملها‪ ،‬ويُبث من هذا التكامل رجال كثير‬
‫ونساء‪.‬‬
‫ولما كان هذا الميثاق علة في استمرار النوع البشري‪ ،‬وفي تحقيق‬
‫لزاما على‬
‫السكن والراحة النفسية‪ ،‬وفي التعاون على بناء المجتمع؛ كان ً‬
‫المقبل على عقده أن يتحرى ما من شأنه أن يحقق له هذا الكمال‪ .‬حياة‬ ‫ُ‬
‫سترتب‪ ،‬ومملكة ستدشن‪ ،‬وروح ستضطر إلى الذوبان في أخرى‪،‬‬ ‫جديدة ُ‬
‫البد إذن من التمهل والروية في انتقاء الشريك‪ ،‬حتى ال يكون ذاك الذوبان‬
‫‪80‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫سببا في إزهاقها‪.‬‬
‫ً‬
‫يفضل جن ًسا على آخر‪،‬‬ ‫دين عدل وإنصاف‪ ،‬لم ِّ‬ ‫اإلسالم َ‬
‫ُ‬ ‫ولما كان‬
‫ّ‬
‫يفرق بين الذكر واألنثى في األحكام الشرعية العامة‪ ،‬عدا ما يختص‬ ‫ولم ِّ‬
‫به نوع دون آخر للفطرة والجبلة الخلقية والرسالة في الحياة‪ ،‬فقد أعطى‬
‫المرأة الحق في اختيار الزوج‪ ،‬والقبول به أو رفضه‪ ،‬حسب األحوال‪،‬‬
‫خول ذلك للرجل‪ ،‬ولم يحجر على اختياراتها وال ألزمها ــ كما‬ ‫تماما كما َّ‬
‫ً‬
‫ص معين‪،‬‬ ‫يحلو للكثير أن يلصقوه بالدين‪ ،‬والدين منه براء ــ بقبول شخ ٍ‬
‫بحجة الخشية عليها من الفتنة‪ ،‬أو إلزامها بالقبول بأول متق ِّدم‪ ،‬وإن كان‬
‫ال يمأل عينها‪ ،‬ولم ترتح له‪ ،‬ولم تتقبل شكله أو روحه‪ ،‬وجعلوها آثمة رادة‬
‫لشرع اهلل‪ ،‬باطرة للنعمة‪ ،‬إن هي رفضته‪ ،‬وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه‬
‫بالحديث المتداول ــ وهو ضعيف ــ‪:‬‬

‫> ِإ َذا َخ َط َب ِإل َ ْي ُك ْم َم ْن َت ْر َض ْو َن دِينَ ُه َو ُخلُ َق ُه فَ َز ِّو ُج ُ‬


‫وه‪ِ ،‬إ َّال َت ْف َعلُوا َت ُك ْن‬
‫ض‪َ ،‬وفَ َساد َعرِيض<(‪.)1‬‬ ‫ِف ْتنَة ِفي األَ ْر ِ‬
‫ولست هنا في مقام تحقيق الحديث‪ ،‬وليس ذلك من اختصاصي‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه الترمذي‪ ،)1085 ،1084( ،‬وابن ماجه‪ ،)1967( ،‬من حديث أبي هريرة وأبي حاتم‬
‫المزني‪ ،‬ونقل الترمذي كالم البخاري على حديث أبي هريرة أن المحفوظ فيه أنه مرسل‪.‬‬
‫وكذا حديث أبي حاتم المزني مرسل‪ ،‬وفي إسناده مجهول‪ .‬انظر‪ :‬العلل الكبير للترمذي‪،‬‬
‫وبين أبو الحسن القطان ضعفه من جميع طريقه‪ ،‬من حديث أبي هريرة وأبي حاتم‬
‫(‪ّ .)263‬‬
‫المزني‪ ،‬في بيان الوهم واإليهام‪ 202/5( ،‬ــ ‪ ،)205‬وضعفه األلباني في إرواء الغليل‪،‬‬
‫(‪ ،)1868‬وقال إنه حسن لغيره‪.‬‬
‫‪81‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫ضا‪ ،‬إنما يُرجع في ذلك إلى أهل الصنعة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬وبغض النظر عن‬ ‫أي ً‬
‫صحته أو ضعفه؛ فإنه ال يفيد الوجوب‪ ،‬وال يلزم المرأة بقبول من لم تتقبل‬
‫غيرها من‬
‫شكله‪ ،‬أو مستواه الفكري‪ ،‬أو المادي‪ ،‬أو االجتماعي‪ ،‬أو َ‬
‫المواصفات التي ال تحبذها في شريك حياتها‪ ،‬وترى أنه لن يمأل عينها وال‬
‫قلبها‪ ،‬وال يناسبها وال يوافقها‪.‬‬
‫فالدين اإلسالمي الذي جعل من الزواج سك ًنا لألرواح‪ ،‬ومها ًدا‬
‫للتآلف‪ ،‬ولتحقيق السكينة وإشباع العواطف‪ ،‬وصرف القلب والنظر عن‬
‫الحرام‪ ،‬يستحيل أن يعضل المرأة ــ وكذا الرجل ــ على العيش مع من ال‬
‫يحقق لها ما ألجله شرع الزواج‪ .‬فالكفاء ُة بين الزوجين معتبرة عند الفقهاء‪،‬‬
‫كما أن المرأة إذا لم تطمئن للخاطب ولم ترتح له؛ لم يجبرها الولي على‬
‫الزواج به‪ ،‬وليس ألحد أن يجبرها على ذلك‪ ،‬وأن يضع تدينها وخوفها من‬
‫المولى في الميزان لهذا السبب‪.‬‬
‫ولعل امرأة تشفَّع عندها رسول اهلل ــ صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم ــ‬
‫المتيم بها‪ ،‬المكلوم على فراقها‪ ،‬فرفضت أن تبقى معه؛‬ ‫رحم ًة بزوجها ّ‬
‫ألبلغ مثال على عظمة هذا الدين الذي منح المرأة واسع النظر‪ ،‬وكامل‬
‫الحرية في اختياراتها التي ال تخالف الشرع‪ .‬جارية‪ ،‬قد كانت منذ لحظات‬
‫ترفل في قيود االستعباد‪ ،‬بمجرد ما حصلت على عتقها‪ ،‬وعلمت أنها في‬
‫زواجها بالخيار ــ بمقتضى الشرع ــ بين أن تبقى على ذمة زوجها العبد‬
‫وكل مبررِها؛ ّأال حاجة‬
‫المملوك‪ ،‬وبين أن تتركه؛ اختارت نفسها وتركته‪ُّ ،‬‬
‫‪82‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫اآلن لها به‪.‬‬


‫ونسوق الحديث فعن ابن عباس ‪ ‬أن زوج بريرة كان عب ًدا يقال له‬
‫مغيث‪ ،‬كأني أنظر إليه يطوف خلفها‪ ،‬يبكي ودموعه تسيل على لحيته‪ ،‬فقال‬
‫النبي ‘ لعباس‪> :‬يا عباس أال تعجب من حب مغيث بريرة‪ ،‬ومن بغض‬
‫بريرة مغي ًثا؟<‪ ،‬فقال النبي ‘‪> :‬لو راجع ِته<‪ .‬قالت‪ :‬يا رسول اهلل تأمرني؟‬
‫قال‪> :‬إنما أنا أشفع<‪ ،‬قالت‪ :‬ال حاجة لي فيه(‪.)1‬‬
‫قد َّ‬
‫رق النبي عليه أفضل الصالة والتسليم لحال طليقها‪ ،‬وغلبته جبلته‬
‫البشرية وهو يرى دموع >مغيث< تسقي زقاق المدينة تحته‪ ،‬وتشهد كل‬
‫حبة رمل في الشعاب بأنه ذاك اليتيم من دون >بريرة<‪ ،‬وذاك المبعثر في‬
‫مقتفيا أثرها في قارعة‬
‫غيابها‪ ،‬حتى إنه لم يخجل من أن يهيم على وجهه ً‬
‫الطريق‪ ،‬ورابعة النهار‪ ،‬وتحت أعين الرجال‪ .‬كفاها ر ًّدا عليه ـ ‘ ـ أن‬
‫أمرا من الشرع لها كي تستسلم وتخضع‪ ،‬فلما‬ ‫تدخلُه ً‬
‫تعلم فقط ْإن كان ُّ‬
‫أخبرها بأنه ‘ مجرد شفيع؛ ما ترددت وال تحيرت وال تراجعت عن‬
‫يخوله الشر ُع لها من حرية قرار واختيار‪ ،‬من غير‬
‫قرارها‪ ،‬بل تمتعت بما ِّ‬
‫تكلف وال مجاملة‪ .‬اعتذرت للمشرع ـ ‪ ‬ـ من غير تحرج‪ ،‬وما زاد ‪‬‬
‫عما قالت بكلمة‪ ،‬وال حاول إقناعها‪ ،‬أو إلزامها‪ ،‬أو إحراجها‪ ،‬وإنما أقرها‬
‫على ما يقرها عليه الشرع‪ ،‬ولم يلزمها بما ليست ملزمة به‪ ،‬وال ألجأها إلى‬
‫االستحياء منه‪ ،‬كما يفعل الكثير من الناس اليوم ممن تولوا أمر النساء‪،‬‬
‫أو تصدروا لوعظهن‪ ،‬فيلزمونهن بما ال يلزمهن‪ ،‬ويجعلون أخالقهن‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬البخاري‪.)5283( ،‬‬
‫‪83‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫وديانتهن في الميزان لرفضهن من ال يالئمهن‪ ،‬ويضعون ألف عالمة‬


‫استفهام على اختياراتهن وقراراتهن التي ال تخالف الشرع في قبول أو‬
‫رفض‪ ،‬أو خلع أو طالق‪.‬‬
‫وما زالت المرأة في عهد النبوة الطاهرة تضرب لنا أسمى األمثلة في‬
‫قوة الشكيمة‪ ،‬ورباطة الجأش وصالدة الرأي‪ ،‬ورجاحة العقل‪ ،‬وحرية‬
‫االختيار‪ ،‬بل وتعل ِّم النساء ممن هن حولها‪ ،‬وممن بعدها‪ ،‬إلى أن يرث اهلل‬
‫األرض وما عليها؛ مبادئ الصالبة والشجاعة‪ ،‬والجرأة والحكمة‪،‬‬
‫والكرامة والحرية واإلباء‪ ،‬حتى إن الفتاة منهن لترفض أن يمارس عليها‬
‫اإلكراه والتعسف‪ ،‬ولترفع أمرها إلى من يأخذ حقها‪ ،‬ولتبرع في تحليل‬
‫األسباب النفسية التي أ َّز ْت وليها على التسلط والعضل‪ ،‬واإلجبار على‬
‫الزواج‪ ،‬دون أخذ رأيها‪ ،‬ثم لتدون بمداد من قوة شخصية‪ ،‬وبُ ْعد نظر‬
‫وحكمة‪ ،‬ورصانة مقولة‪ ،‬قد دخلت مدونة التاريخ لعمقها وأبعادها‪،‬‬
‫اء أَ ْن‬ ‫ِ‬
‫وأهدافها التربوية والتوجيهية والتنويرية‪َ > :‬ولَك ْن أَ َر ْد ُت أَ ْن َت ْعلَ َم الن ِّ َس ُ‬
‫ل َ ْي َس ِإلَى ْاآلبَ ِاء ِم ْن ْاألَ ْمرِ َش ْيء<‪.‬‬
‫اء ْت فَ َتاة ِإلَى النَّب ِِّي ‘‪ ،‬فَ َقال َ ْت‪ِ :‬إ َّن‬ ‫>فعن بُ َر ْي َد َة بن الحصيب قال‪َ :‬ج َ‬
‫ِ‬
‫أَبِي َز َّو َج ِني ْاب َن أَخيه ِ لِ َي ْرفَ َع بِي َخ ِس َ‬
‫يس َت ُه‪.‬‬

‫فَ َج َع َل ْاألَ ْم َر ِإل َ ْي َها‪.‬‬

‫اء أَ ْن ل َ ْي َس‬ ‫ِ‬


‫فَ َقال َ ْت‪ :‬قَ ْد أَ َج ْز ُت َما َصنَ َع أَبِي‪َ ،‬ولَك ْن أَ َر ْد ُت أَ ْن َت ْعلَ َم الن ِّ َس ُ‬
‫‪84‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫ِإلَى ْاآلبَ ِاء ِم ْن ْاألَ ْمرِ َش ْيء<(‪.)1‬‬


‫فليس لآلباء من أمرهن ــ والمقصود اإلجبار من غير رضاها ــ شيء‪،‬‬
‫وال للوعاظ والقصاص الذين مألوا الساحة الدعوية نصائح وتوجيهات‪ ،‬بل‬
‫تماما كما ليس لغيرهم أن يمارسوا عليهن الحجر‪ .‬نعم‪،‬‬‫إلزامات مسمومة‪ً ،‬‬
‫الدين والخلق معياران أساسيان‪ ،‬لكن ليسا هما فقط المعتمد عليهما‪،‬‬
‫فأطراف المعادلة لم تكتمل بعد‪ .‬القبول الشكلي‪ ،‬واالرتياح النفسي‪،‬‬
‫وتناسب الطباع وتوافقها‪ ،‬وكفاءة النسب والوسط االجتماعي‪ ،‬والمستوى‬ ‫ُ‬
‫التعليمي‪ ،‬والقدرة المادية‪ ،‬كل هاته المعايير وغيرها تمتزج لتخلص في‬
‫األخير إلى قبول أو إلى رفض‪ .‬أما هذا الشائع في مجتمعاتنا من أن معياري‬
‫الدين والخلق كافيان ج ًّدا‪ ،‬وأن رفض الرجل الديِّن الخلوق‪ ،‬لعدم موافقة‬
‫التصور الشخصي للفتاة عمن سيمأل عينها وقلبها‪ ،‬وسيحقق لها السكن؛‬
‫بطر نعمة؛ فال أساس له من‬‫صور َة المتقدم لها؛ يعتبر مرو ًقا من الدين‪ ،‬أو َ‬
‫الصحة‪ .‬فاعتبار الدين والخلق كمعياري أساس‪ ،‬ال يعني أن نسقط‬
‫غيرهما من االعتبارات‪ ،‬فهناك من سيفسدها الفقر‪ ،‬وهناك من ستغيب عنها‬
‫معاني السكن مع زوج قليل جمال أو معدومه‪ ،‬وهناك من ستشعر بدونيته‪ ،‬وال‬
‫نسبا‪ ،‬أو وس ًطا‬
‫تستشعر قوامته وقيوميته عليها؛ ألنه أقل منها تعلي ًما‪ ،‬أو ً‬
‫اجتماعيا‪ ،‬وهناك من ستفتقد لمعاني المودة والرحمة مع زوج صلف‬ ‫ًّ‬
‫شديد‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬سنن ابن ماجه‪ ،)1874( ،‬من حديث بريدة‪ ،‬وأحمد‪ ،)25043( ،‬والنسائي‪)5390( ،‬‬
‫من حديث عائشة‪ .‬وصححه شعيب األرنؤوط‪.‬‬
‫‪85‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫فإن كان الزواج قد ُشرع في األصل لتحقيق السكن والراحة النفسية‪،‬‬


‫فإن غياب هاته المعايير ستعطل الحكمة من مشروعيته‪ .‬ثم إن هذه المعايير‬
‫نِسبية‪ ،‬تختلف من شخص آلخر‪ ،‬وتخضع في اعتبارها إلى تربية الشخص‪،‬‬
‫وبيئته‪ ،‬وثقافته‪ ،‬وتصوراته‪ ،‬وأبعاد معاني الزواج عنده‪ ،‬وأهدافه منه‪،‬‬
‫وغيرها من االعتبارات‪ ،‬وسيكون من العته والسذاجة أن نعمم األحكام‪،‬‬
‫أو أن نعتمد فيها على طرف واحد من أطراف المعادلة‪ ،‬فنلزم به كل‬
‫حكاما عليهن في اختياراتهن ومعاييرهن‪،‬‬
‫النساء‪ ،‬أو أن ننصب أنفسنا قضاة ً‬
‫وأن نحجر عليهن في رفض أو قبول‪.‬‬
‫إذن‪ :‬من حق المرأة رفض الفقير‪ ،‬وليس ألحد أن يتهمها باالستكبار‪،‬‬
‫أو أن يقدح في تدينها‪.‬‬
‫فإن فاطمة بنت قيس ‪ ‬لما طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص‪،‬‬
‫وأمرها النبي ‘ أن تخبره ّلما تنتهي عدتها‪ ،‬فلما أتت إليه بعد أن حلّت‪،‬‬
‫وذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم قد خطباها‪ ،‬قال رسول اهلل‬
‫‘‪> :‬أما أبو جهم فال يضع عصاه عن عاتقه‪ ،‬وأما معاوية فصعلوك ال‬
‫مال له<(‪.)1‬‬
‫فهذان صحابيان‪ ،‬ورغم ذلك لم يشجعها النبي ‘ على الزواج من‬
‫أحدهما‪ ،‬فقط ألنهما من الصحابة‪ ،‬من غير نظر إلى اعتبارات أخرى‪،‬‬
‫سببا وجي ًها للرفض‪ ،‬وشدة الطبع في اآلخر‪،‬‬
‫بل جعل الفقر في أحدهما ً‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم‪.)1480( ،‬‬
‫‪86‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫ضا للرفض‪ .‬وإن اجتمعت فيهما‬ ‫سببا أي ً‬


‫ضرا ًبا للنساء‪ً ،‬‬
‫بحكم كونه ّ‬
‫مواصفات أخرى؛ فهذه وحدها كافية لرفضهما‪ .‬ثم هداها إلى نكاح أسامة‬
‫بن زيد لما علمه من دينه وفضله‪ ،‬وحسن طرائفه‪ ،‬وكرم شمائله‪ ،‬فنصحها‬
‫بذلك‪.‬‬
‫وأسامة ‪ ‬هو نفسه ابن زيد بن حارثة ‪ ‬الذي اختارت زوجته‬
‫زينب بنت جحش ‪ ‬االنفصال عنه للتباين الطبقي بينهما‪ ،‬والختالف‬
‫أنسابهما‪ ،‬فهي الشريفة الهاشمية ــ رضي اهلل عنها وأرضاها ــ سليلة‬
‫الحسب والنسب والشرف‪ ،‬وزيد ‪ ‬من الموالي‪ ،‬قد كان من الرقيق‪،‬‬
‫حياته‪ ،‬فتعاظمت عليه‪ ،‬ولم تستطع أن تكمل المسير معه‪،‬‬
‫ووصم ذلك َ‬
‫وال استطاع هو ذلك‪ ،‬لهذا البون بينهما في النسب‪ ،‬فكان الفراق الذي‬
‫أيده الشارع العتبارات ليست هي مجال بحثنا هنا‪ ،‬وإنما كانت اإلشارة‬
‫إلى أن الفارق الطبقي قد يسبب الشقاقات‪ ،‬ويطرد المودة والسكن من‬
‫سببا وجي ًها في الرفض أو االنفصال‪.‬‬
‫عش الزوجية‪ ،‬ويكون ً‬
‫ضا معتبر في القبول أو الرفض عند النساء‪ ،‬وليس ألحد‬ ‫الشكل أي ً‬
‫أن يفهمها بأنها قليلة حياء‪ ،‬أو بأنها تبطر النعمة‪ ،‬أو بأنها تعيب َخ ْل َق اهلل‬
‫إن اشترطته‪ ،‬هي أيضا تحتاج إلى من يمأل عينها وقلبها‪ ،‬ويرتاح إليه‬
‫وجدانها‪ ،‬كي تنعم بالسكن وبمعاني المودة‪ .‬وكما سلف‪ ،‬فمعايير‬
‫االختيار نِسبية ودقيقة‪ ،‬وتختلف من شخص آلخر‪ ،‬لذلك فمن الظلم أن‬
‫نرغمها على أن تريد من نريده نحن‪ ،‬أو نراه صال ًحا لها‪.‬‬
‫‪87‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫جميلة بنت عبد اهلل بن أبي ـ ‪ ‬ـ لما أتت النبي ‘ تخبره ببغضها‬
‫لزوجها من غير سبب يُذكر‪ ،‬سوى أنها رأته مع غيره من الرجال‪ ،‬فنفرته‬
‫روحها(‪ ،)1‬وهو خطيب األنصار‪ ،‬البليغ المفوه‪ ،‬جهير الصوت‪ ،‬وأحد‬
‫نجباء أصحاب النبي ـ ‘ ـ‪ ،‬وممن شهدوا أُح ًدا وبيعة الرضوان‪ ،‬وممن‬
‫قال عنهم الرسول عليه أفضل الصالة والتسليم‪> :‬نِعم الرجل<(‪ ،)2‬وهو‬
‫محب الجمال الذي قال من بين ما قاله للرسول ‘ وهو يبثه خشيته أن‬
‫يكون قد هلك‪ ...> :‬وإني امرؤ أحب الجمال<(‪ ،)3‬ومع اجتماع كل هذه‬
‫المواصفات فيه‪ ،‬إال أ ّن أمر القلب عجيب‪ ،‬وشأن الروح غريب‪ ،‬تألف‬
‫من غير قوانين‪ ،‬وكذا تفعل إذا ما أَنِ َفت ونفرت‪.‬‬
‫لم يناقشها في أسباب طلبها الفراق‪ ،‬وال ذ ّكرها بمناقبه وصفاته التي‬
‫قلَّما اجتمعت في شخص‪ ،‬وال نهرها أوعاتبها على ازدراء خلق اهلل‪،‬‬
‫وإنما سألها أن تختلع‪ ،‬وترد على زوجها ماله‪ ،‬بفطنة المحنك في أحوال‬
‫األرواح والقلوب‪ ،‬التي قال عنها فيما قاله عليه أفضل الصالة والتسليم‪:‬‬
‫مجندة‪ ،‬فما تعارف منها ائتلف‪ ،‬وما تناكر منها اختلف<(‪،)4‬‬
‫األرواح جنود ّ‬
‫ُ‬ ‫>‬
‫وبرحمة الولي الحريص على أال تضطر موليته إلى أن تعاشر على مضض من‬
‫تأنفه روحها‪ ،‬وتزدريه عينُها‪ ،‬أو أن يضطر شريكها أن يعيش معها وهي‬
‫حال للمعضالت‪.‬‬ ‫التطيقه‪ ،‬وبكل البساطة التي جعل ألجلها الفراق ًّ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ابن ماجه‪.)2056( ،‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫الترمذي‪.)3797( ،‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫معجم الطبراني الكبير‪.)67/2( ،‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫مسلم‪ ،)2638( ،‬وأبو داود‪.)4834( ،‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫‪88‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫هل يجب على املرأة خدمة زوجها؟‬


‫الزواج‪ ،‬وجعله سك ًنا وأُن ًسا‪ ،‬وراحة نفسية لألزواج؛‬
‫َ‬ ‫ّلما شرع اهللُ‬
‫مبنيا على استنظاف الحقوق‪ ،‬والبحث الدائم عن استيفائها‪،‬‬ ‫لم يجعله ً‬
‫وال على مقايضة التعامالت‪ ،‬واشتراط اإلحسان باإلحسان‪ ،‬وإنما جعله‬
‫مودة ورحمة‪ ،‬ومسارعة إلسعاد الشريك‪ ،‬من أجل تحقيق سعادته‪ ،‬ونيل‬
‫الحظوة عنده‪.‬‬
‫ولم يجعله معركة وال مغالبة‪ ،‬وال حلبة لتحقيق االنتصارات‪ ،‬وإنما‬
‫نظم الحقوق والواجبات‪ ،‬وجعل التضحيات واإلحسان‪ ،‬والتودد بالكلمة‬
‫الطيبة‪ ،‬وبالعمل الحسن‪ ،‬عربون محبة‪ ،‬ووسيلة إلشباع العواطف‪،‬‬
‫ولتحقيق االستقرار والعشرة بالمعروف‪ ،‬التي أمر اهلل بها بين الجيران‬
‫فضال عنها بين األزواج‪ .‬وجعل االحتكام في الكثير من‬ ‫واألجانب‪ً ،‬‬
‫القضايا التي تخصهما‪ ،‬وتنظم الحياة بينهما‪ ،‬راجعة للعادات وللعرف‪،‬‬
‫ولم يجعل الرجوع إلى حد الواجب والحق إال في حاالت الشقاق والتنازع‪،‬‬
‫واالحتكام إلى من يفصل بينهما‪ ،‬ويحدد لهما حقوقهما وواجباتهما على‬
‫وجه الدقة والتفصيل‪ .‬وحرص على توصية الزوجة باإلحسان إلى زوجها‪،‬‬
‫تماما‪ ،‬كما أمر الزوج بذلك‪ .‬واهتم الفقهاء بتحرير مسائل النزاع التي‬ ‫ً‬
‫تحصل عادة بسبب عدم الركون إلى البذل‪ ،‬واالقتصار على الواجب‪،‬‬
‫كي يلزموهما بالواجبات التي ال تبرأ الذمة أمام اهلل إال بأدائها دون زيادة‬
‫فضل‪.‬‬
‫‪89‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫واجبا على من اشترطت‬


‫فبينوا ــ من بين ما بينوه ــ أن أمر الخدمة ليس ً‬
‫ّ‬
‫ذلك قبل الزواج فوافق الخاطب‪ ،‬أو على من كانت عادتها في بيت أهلها‬
‫عدم الخدمة‪.‬‬
‫جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية‪> :‬ال خالف بين الفقهاء في أن‬
‫الزوجة يجوز لها أن تخدم زوجها في البيت‪ ،‬سواء أكانت ممن تخدم‬
‫نفسها‪ ،‬أو ممن ال تخدم نفسها‪ .‬إال أنهم اختلفوا في وجوب هذه الخدمة‪:‬‬
‫فذهب الجمهور (الشافعية والحنابلة وبعض المالكية) إلى أن خدمة الزوج‬
‫ال تجب عليها‪ ،‬لكن األولى لها فعل ما جرت العادة به‪ .‬وذهب الحنفية‬
‫إلى وجوب خدمة المرأة لزوجها ديانة ال قضاء‪ ،‬ألن النبي ‘ قسم‬
‫األعمال بين علي وفاطمة ‪ ،‬فجعل عمل الداخل على فاطمة‪ ،‬وعمل‬
‫الخارج على علي‪ .‬ولهذا فال يجوز للزوجة ــ عندهم ــ أن تأخذ من‬
‫أجرا من أجل خدمتها له<(‪.)1‬‬
‫زوجها ً‬
‫ضا‪ ...> :‬إال أن تكون من أشراف‬
‫وفي بيان مذهب المالكية جاء أي ً‬
‫الناس؛ فال تجب عليها الخدمة‪ ،‬إال أن يكون زوجها فقير الحال<(‪.)2‬‬
‫إال أن العادة ُمحكَّمة‪ ،‬كما يقول األصوليون‪ ،‬وقد جرت‬
‫المجتمعات على إدارة المرأة شئون بيتها‪ ،‬مما ال يسع الزوج القيام به‬
‫بسبب عمله خارج البيت‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬الموسوعة الفقهية الكويتية‪.)44/19( ،‬‬
‫(‪ )2‬المصدر السابق‪.)126/30( ،‬‬
‫‪90‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫ويتأكد القول بلزوم الخدمة على المرأة إذا جرت العادة به‪،‬‬
‫وتزوجت دون أن تشترط ترك الخدمة؛ ألن زواجها كذلك يعني قبولها‬
‫الخدمة؛ ألن المعروف عر ًفا كالمشروط شر ًطا‪ ،‬وقد رجح جماعة من‬
‫أهل العلم القول بوجوب خدمة الزوجة لزوجها‪ ،‬وهو مذهب الحنفية‬
‫وجمهور المالكية كما تقدم‪ ،‬وذكروا أدلة ذلك‪.‬‬
‫قال ابن تيمية ‪> :‬وتجب خدمة زوجها بالمعروف من مثلها لمثله‪،‬‬
‫ويتنوع ذلك بتنوع األحوال‪ ،‬فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية‪،‬‬
‫وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة‪ .‬وقاله الجرجاني من أصحابنا‪ ،‬وأبو‬
‫بكر بن أبي شيبة<(‪.)1‬‬
‫وقال ابن القيم ‪> :‬فصل في حكم النبي ‘ في خدمة المرأة‬
‫لزوجها‪ :‬قال ابن حبيب في >الواضحة<‪ :‬حكم النبي ‘ بين علي بن أبى‬
‫طالب ‪ ،‬وبين زوجته فاطمة ‪ ‬حين اشتكيا إليه الخدمة‪ ،‬فحكم على‬
‫فاطمة بالخدمة الباطنة‪ ،‬خدمة البيت‪ ،‬وحكم على علي بالخدمة الظاهرة‪،‬‬
‫ثم قال ابن حبيب‪ :‬والخدمة الباطنة‪ :‬العجين‪ ،‬والطبخ‪ ،‬والفرش‪ ،‬وكنس‬
‫البيت‪ ،‬واستقاء الماء‪ ،‬وعمل البيت كله‪ .‬فاختلف الفقهاء في ذلك‪،‬‬
‫فأوجب طائفة من السلف والخلف خدمتها له في مصالح البيت‪ ،‬وقال أبو‬
‫ثور‪ :‬عليها أن تخدم زوجها في كل شيء‪ .‬ومنعت طائفة وجوب خدمته‬
‫عليها في شيء‪ ،‬وممن ذهب إلى ذلك مالك‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وأبو حنيفة‪،‬‬
‫وأهل الظاهر‪ ،‬قالوا‪ :‬ألن عقد النكاح إنما اقتضى االستمتاع‪ ،‬ال االستخدام‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬اختيارات ابن تيمية للبعلي‪ ،‬ضمن الفتاوى الكبرى‪.)233/3( ،‬‬
‫‪91‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫وبذل المنافع‪ ،‬قالوا‪ :‬واألحاديث المذكورة إنما تدل على التطوع ومكارم‬
‫األخالق‪ ،‬فأين الوجوب منها؟ واحتج من أوجب الخدمة بأن هذا هو‬
‫المعروف عند من خاطبهم اهلل سبحانه بكالمه‪ ،‬وأما ترفيه المرأة‪ ،‬وخدمة‬
‫الزوج‪ ،‬وكنسه‪ ،‬وطحنه‪ ،‬وعجنه‪ ،‬وغسيله‪ ،‬وفرشه‪ ،‬وقيامه بخدمة‬
‫البيت‪ ،‬فمن المنكر‪ ،‬واهلل تعالى يقول‪{ :‬ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ}‬
‫[البقرة‪ ،]228 /‬وقال‪{ :‬ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ} [النساء‪ ،]34 :‬وإذا لم‬
‫ضا‪ :‬فإن‬‫تخدمه المرأة‪ ،‬بل يكون هو الخادم لها‪ ،‬فهي القوامة عليه‪ .‬وأي ً‬
‫المهر في مقابلة البضع‪ ،‬وكل من الزوجين يقضي وطره من صاحبه‪ ،‬فإنما‬
‫أوجب اهلل سبحانه نفقتها وكسوتها ومسكنها في مقابلة استمتاعه بها‬
‫ضا‪ :‬فإن العقود المطلقة إنما‬ ‫وخدمتها‪ ،‬وما جرت به عادة األزواج‪ .‬وأي ً‬
‫تنزل على العرف‪ ،‬والعرف خدمة المرأة‪ ،‬وقيامها بمصالح البيت الداخلة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وقولهم‪ :‬إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبر ًعا وإحسا ًنا ير ّده أن فاطمة‬
‫كانت تشتكي ما تلقى من الخدمة‪ ،‬فلم يقل لعلي‪ :‬ال خدمة عليها‪ ،‬وإنما‬
‫هي عليك‪ ،‬وهو ‘ ال يحابى في الحكم أح ًدا‪ ،‬ولما رأى أسماء والعلف‬
‫على رأسها‪ ،‬والزبير معه‪ ،‬لم يقل له‪ :‬ال خدمة عليها‪ ،‬وإن هذا ظلم لها‪،‬‬
‫بل أقره على استخدامها‪ ،‬وأقر سائر أصحابه على استخدام أزواجهم مع‬
‫علمه بأن منهن الكارهة والراضية‪ ،‬هذا أمر ال ريب فيه‪ .‬وال يصح التفريق‬
‫بين شريفة ودنيئة‪ ،‬وفقيرة وغنية‪ ،‬فهذه أشرف نساء العالمين كانت تخدم‬
‫زوجها‪ ،‬وجاءته ‘ تشكو إليه الخدمة‪ ،‬فلم يشكها‪ ،‬وقد سمى النبي‬
‫‘ في الحديث الصحيح المرأة عانية‪ ،‬فقال‪> :‬اتقوا اهلل في النساء‪،‬‬
‫‪92‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫فإنهن عوا ٍن عندكم<‪ ،‬والعاني‪ :‬األسير‪ ،‬ومرتبة األسير خدمة من هو تحت‬


‫يده‪ ،‬وال ريب أن النكاح نوع من الرق‪ ،‬كما قال بعض السلف‪ :‬النكاح‬
‫رق‪ ،‬فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته‪ ،‬وال يخفى على المنصف‬
‫الراجح من المذهبين‪ ،‬واألقوى من الدليلين<(‪.)1‬‬
‫وأيا ما كان الحكم؛ فإن الحياة‬
‫وأيًّا ما كان خالف الفقهاء في األمر‪ًّ ،‬‬
‫الزوجية ــ كما سبق ــ ال تنبني على استنظاف الحقوق‪ ،‬وعلى الواجب‬
‫فقط‪ ،‬وإنما ينكهها الفضل واإلحسان‪ ،‬والمودة والعشرة الحسنة‪ ،‬وإال‬
‫فإن هذه المرأة التي ستطالب زوجها بعدم خدمته‪ ،‬فإنها تجر على نفسها‬
‫أن يفرض عليها عدم رعايتها وتطبيبها‪ ،‬في حالة مرضها‪ ،‬بمنطق الحق‬
‫والواجب‪ .‬فقد ذهب جمهور الفقهاء من المذاهب األربعة إلى أن الزوج‬
‫ال يجب عليه نفقة العالج والدواء لزوجته‪ .‬ومنهم من علل ذلك بأنه ليس‬
‫من الحاجات الضرورية المعتادة‪ ،‬بل هو أمر طارئ‪.‬‬
‫قال اإلمام الشافعي ‪> :‬وليس على رجل أن يضحي المرأته‪ ،‬وال‬
‫يؤدي عنها أجر طبيب وال حجام<(‪.)2‬‬
‫وقال البهوتي ــ من علماء الحنابلة ــ‪> :‬وال يلزمه دواء وال أجرة‬
‫طبيب إن مرضت؛ ألن ذلك ليس من حاجتها الضرورية المعتادة‪ ،‬بل‬
‫لعارض فال يلزمه<(‪.)3‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬زاد المعاد‪ 169/5( ،‬ــ ‪.)170‬‬
‫(‪ )2‬األم‪.)337/8( ،‬‬
‫(‪ )3‬شرح منتهى اإلرادات‪.)227/3( ،‬‬
‫‪93‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫وما أحسن ما قاله اإلمام ابن قدامة‪ ،‬جام ًعا زبدة المسألة‪ ،‬إذ يقول‪:‬‬
‫>ولهذا ال يجب على الزوج القيام بمصالح خارج البيت‪ ،‬وال الزيادة على‬
‫ما يجب لها من النفقة والكسوة‪ ،‬ولكن األولى لها فعل ما جرت العادة‬
‫بقيامها به؛ ألنه العادة‪ ،‬وال تصلح الحال إال به‪ ،‬وال تنتظم المعيشة‬
‫بدونه<(‪.)1‬‬
‫فخالصة األمر‪ ،‬أن تكون العشرة مبنية على الفضل واإلحسان‪،‬‬
‫والتضحيات واالهتمامات المتبادلة‪ .‬وكما ذهب بعض العلماء إلى وجوب‬
‫خدمتها زوجها‪ ،‬فقد جعلوا في مقابل ذلك وجوب نفقة العالج على‬
‫الزوج؛ ألن ذلك داخل في المعاشرة بالمعروف‪ ،‬وألن الحاجة إلى الدواء‬
‫قد ال تقل عن الحاجة للطعام والشراب‪.‬‬
‫قال الدكتور وهبة الزحيلي‪> :‬قرر فقهاء المذاهب األربعة أن الزوج‬
‫ال يجب عليه أجور التداوي للمرأة المريضة‪ ،‬من أجرة طبيب‪ ،‬وحاجم‪،‬‬
‫وفاصد‪ ،‬وثمن دواء‪ ،‬وإنما تكون النفقة في مالها إن كان لها مال‪ ،‬وإن‬
‫لم يكن لها مال وجبت النفقة على من تلزمه نفقتها‪ ،‬كاالبن واألب‪ ،‬ومن‬
‫يرثها من أقاربها؛ ألن التداوي لحفظ أصل الجسم‪ ،‬فال يجب على‬
‫مستحق المنفعة‪ ،‬كعمارة الدار المستأجرة‪ ،‬تجب على المالك ال على‬
‫المستأجر‪ ،...‬ويظهر لي أن المداواة لم تكن في الماضي حاجة أساسية‪،‬‬
‫غالبا إلى العالج‪ ،‬ألنه يلتزم قواعد الصحة والوقاية‪،‬‬
‫فال يحتاج اإلنسان ً‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬المغني‪.)296/7( ،‬‬
‫‪94‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫فاجتهاد الفقهاء مبني على عرف قائم في عصرهم‪ .‬أما اآلن فقد أصبحت‬
‫الحاجة إلى العالج كالحاجة إلى الطعام والغذاء‪ ،‬بل أهم؛ ألن المريض‬
‫غالبا ما يتداوى به على كل شيء‪ ،‬وهل يمكنه تناول الطعام وهو‬
‫يفضل ً‬
‫يشكو ويتوجع من اآلالم واألوجاع التي تبرح به‪ ،‬وتجهده وتهدده‬
‫بالموت؟! لذا فإني أرى وجوب نفقة الدواء على الزوج كغيرها من‬
‫النفقات الضرورية‪ ،...‬وهل من ُحسن العشرة أن يستمتع الزوج بزوجته‬
‫حال الصحة‪ ،‬ثم يردها إلى أهلها لمعالجتها حال المرض؟<(‪.)1‬‬

‫ضرب املرأة بين التعسف والعالج‪:‬‬


‫لما أتته ــ بأبي هو وأمي ــ فاطمة بنت قيس تؤذنه بانقضاء عدتها‪،‬‬
‫وأخبرته بخطبة أبي جهم لها؛ ما ارتضاه لها‪ ،‬وهداها لغيره‪ ،‬لسبب وجيه‬
‫ضراب للنساء‪ ،‬ال يضع عصاه عن عاتقه‪ .‬صلى اهلل على من كان أخير‬ ‫أنه ّ‬
‫خيرا‪.‬‬
‫الناس لنسائه‪ ،‬واستوصى بالنساء ً‬
‫وتعس ًفا في حقها‪ ،‬وإيذاء لها‪ ،‬من‬
‫ُّ‬ ‫إيالما للمرأة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ال شيء أكثر‬
‫استخدام الرجل قوامته فيما يهينها‪ ،‬ويجرح مشاعرها‪ ،‬وإقامته المباحات‬
‫مقام الفروض‪ ،‬وتعامله مع كل أصناف النساء‪ ،‬ومع كل أصناف المشاكل‪،‬‬ ‫َ‬
‫بنفس وسيلة العالج‪ .‬وإن اهلل ‪ ‬قد خلق من النساء أصنا ًفا‪ ،‬فالرقيقة‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬الفقه اإلسالمي وأدلته‪.)7381/10( ،‬‬
‫‪95‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫الحساسة التي تخدشها النظرة قبل الكلمة وقبل الفعل‪ ،‬والتي ترعوي من‬ ‫ّ‬
‫مجرد التنبيه‪ ،‬والتي تحتاج إلى المواعظ كي تستفيق كلما أ َّز بها ضع ُفها‬
‫إلى األخطاء المتكررة‪ ،‬والتي ترتدع بالهجر فال تطيق األرض تحتها ْإن‬
‫زوجها فعل‪ ،‬والمستعصية العنيدة المتجبرة التي ال يردعها إال الحزم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫هذا إن ارتدعت! واهلل سبحانه بحكمته‪ ،‬كما َّفرق بين خلقه؛ ّفرق في‬
‫التدرجات حتى مع المرأة المستعصية الناشز‪،‬‬ ‫وسائل التعامل‪ ،‬وأعطى ُّ‬
‫فق َّدم الموعظة والتذكير بخشية اهلل‪ ،‬وبما له عليها من حقوق‪ ،‬والتخويف‬
‫بعقابه سبحانه للعاصية‪ ،‬ثم ثنَّى بالهجر في المضجع‪ ،‬وهذا على المرأة‬
‫السوية أشد من أي عقاب آخر‪ ،‬ففطرتها اقتضت أن تحب أن تكون مرغوبة‬
‫ال يُ َو َّالها ظ َْهر‪ ،‬وال يُقطع عنها ُود أو كالم‪ ،‬فإن حصل؛ ُكسرت وضاقت‬
‫عليها األرض بما رحبت‪ ،‬واتهمت أنوثتها‪ .‬فكان ذلك أدعى لها أن تبحث‬
‫عن حل لمعضلتها‪ ،‬وأن تسارع للتودد لزوجها‪ ،‬ولإلقالع عن نشوزها‪.‬‬
‫ضرب إصال ٍح‪ ،‬من أجل إقامة العشرة بين‬ ‫َ‬ ‫الضرب‪ ،‬وجعله‬
‫َ‬ ‫وأخ َر‬‫َّ‬
‫تجبر المرأة وعصيانها الذي يستحيل معه أن تستقيم‬ ‫الزوجين‪ ،‬في حال ُّ‬
‫الحياة الزوجية‪ ،‬بل أخبر رأي العلماء أن هذا الضرب خاص بمن أتت‬
‫مغبةِ النشوز من جهة‪،‬‬ ‫بفاحشة‪ .‬وقد حكمه الشارع الحكيم بحصول سوء َّ‬
‫مبر ًحا من جهة‬ ‫وبالترتيب من بعد الموعظة والهجر من جهة‪َّ ،‬‬
‫وبأال يكون ِّ‬
‫ثالثة‪ ،‬وبأن يكون بقدر رجوعها إلى الطاعة من بعد النشوز‪ ،‬وعدا هذا‬
‫الكي للمستشفي‪ ،‬والذي هو‬ ‫ِّ‬ ‫فهو اعتداء‪ .‬ولعل هذا الضرب هو بمثابة‬
‫آخر العالج‪ .‬وقد ذكر بعض العلماء أن هذا الضرب جائز عند من دأبوا‬
‫‪96‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫عليه‪ ،‬دون أن يعتبر عندهم اعتداء على المرأة‪.‬‬


‫وننقل هذا البحث ــ على طوله ــ من كالم العالمة الطاهر ابن عاشور‪،‬‬
‫لنفاسته‪ ،‬ولما فيه من جمع بين القراءة الشرعية‪ ،‬واالجتماعية الواقعية‪.‬‬
‫قال صاحب التحرير والتنوير في تفسير قوله ‪{ :)1(‬ﱘ ﱙ‬

‫ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟﱠ ﱡ ﱢ‬
‫ﱣ ﱤ ﱥ ﱦﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ} [النساء‪:]34 :‬‬
‫>{ﱘ ﱙ ﱚ}‪ :‬هذه بعض األحوال المضادة‬
‫للصالح‪ ،‬وهو النشوز‪ ،‬أي الكراهية للزوج‪ ،‬فقد يكون ذلك لسوء ُخلُق‬
‫المرأة‪ ،‬وقد يكون ألن لها رغب ًة في التزوج بآخر‪ ،‬وقد يكون لقسوة في‬
‫خلق الزوج‪ ،‬وذلك كثير‪ .‬والنشوز في اللغة الترفع والنهوض‪ ،‬وما يرجع‬
‫إلى معنى االضطراب والتباعد‪ ،‬ومنه نشز األرض‪ ،‬وهو المرتفع منها‪.‬‬
‫قال جمهور الفقهاء‪ :‬النشوز عصيان المرأة زوجها‪ ،‬والترفع عليه‪،‬‬
‫وإظهار كراهيته‪ ،‬أي إظهار كراهية لم تكن معتادة منها‪ ،‬أي بعد أن‬
‫عاشرته‪ ،‬كقوله‪{ :‬ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ}‪ .‬وجعلوا‬
‫مرتبا على هذا العصيان‪ ،‬واحتجوا‬
‫اإلذن بالموعظة‪ ،‬والهجر‪ ،‬والضرب‪ً ،‬‬
‫بما ورد في بعض اآلثار من اإلذن للزوج في ضرب زوجته الناشز‪ ،‬وما‬
‫ورد من األخبار عن بعض الصحابة أنهم فعلوا ذلك في غير ظهور‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬التحرير والتنوير‪ 41/5( ،‬ــ ‪ ،)44‬باختصار‪.‬‬
‫‪97‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫الفاحشة‪ ،‬وعندي أن تلك اآلثار واألخبار محمل اإلباحة فيها أنها قد‬
‫روعي فيها ُع ْر ُف بعض الطبقات من الناس‪ ،‬أو بعض القبائل‪ ،‬فإن الناس‬
‫متفاوتون في ذلك‪ ،‬وأهل البدو منهم ال يعدون ضرب المرأة اعتدا ًء‪ ،‬وال‬
‫ضا اعتدا ًء‪ ،‬قال عامر بن الحارث النمري الملقب بجران‬ ‫النساء أي ً‬
‫ُ‬ ‫تع ُّده‬
‫العود‪:‬‬
‫وللكيس أمضى في األمور وأنجح‬ ‫ــت جرانــه‬
‫فالتحي ُ‬
‫ْ‬ ‫عمــدت لعــود‬
‫ُ‬
‫رأيت جـران العـود قـد كـاد يَ ْصـلُ ُح‬ ‫خـــذا حـــذ ًرا يـــا خلتـــي فـــإنني‬
‫قشرت‪ ،‬أي قَ َد ْد ُت‪ ،‬بمعنى‪ :‬أنه أخذ جل ًدا من باطن عنق‬
‫ُ‬ ‫الت َح ْي ُت‪:‬‬
‫َ‬
‫بعير‪ ،‬وعمله سو ًطا ليضرب به امرأتيه‪ ،‬يهددهما بأن السوط قد جف‬
‫وصلح ألن يضرب به‪.‬‬
‫معشر المهاجرين‬
‫وقد ثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب قال‪ :‬كنَّا َ‬
‫األنصار قوم تغلبهم نساؤهم‪ ،‬فأخذ نساؤنا يتأدبن‬
‫ُ‬ ‫نساءنا‪ ،‬فإذا‬
‫قوما نغلب َ‬‫ً‬
‫بأدب نساء األنصار‪ .‬فإذا كان الضرب مأذو ًنا فيه لألزواج دون والة‬
‫األمور‪ ،‬وكان سببه مجرد العصيان والكراهية دون الفاحشة؛ فال جرم أنه‬
‫أذن فيه لقوم ال يعدون صدوره من األزواج إضرا ًرا‪ ،‬وال عا ًرا‪ ،‬وال بد ًعا‬
‫من المعاملة في العائلة‪ ،‬وال تشعر نساؤهم بمقدار غضبهم إال بشيء من‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وقوله‪{ :‬ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ}؛ مقصود‬
‫منه الترتيب‪ ،‬كما يقتضيه ترتيب ِذ ْكرها‪ ،‬مع ظهور أنه ال يراد الجمع بين‬
‫‪98‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫الثالثة‪ ،‬والترتيب هو األصل والمتبادر في العطف بالواو‪ ،‬قال سعيد بن‬


‫جبير‪ :‬يعظها‪ ،‬فإن قبلت‪ ،‬وإال هجرها‪ ،‬فإن هي قبلت‪ ،‬وإال ضربها‪،‬‬
‫ونُقل مثله عن علي‪.‬‬
‫واعلم أن الواو هنا مراد بها التقسيم باعتبار أقسام النساء في النشوز‪.‬‬
‫وقوله‪{ :‬ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ}‪ ،‬احتمال ضمير‬
‫الخطاب فيه يجري على نحو ما تقدم في ضمائر {ﱙ} وما بعده‪،‬‬
‫والمراد الطاعة بعد النشوز‪ ،‬أي إن رجعن عن النشوز إلى الطاعة‬
‫المعروفة‪ .‬ومعنى‪{ :‬ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ}‪ ،‬فال تطلبوا طري ًقا إلجراء‬
‫تلك الزواجر عليهن‪ ،‬والخطاب صالح لكل من ُج ِعل له سبيل على‬
‫الزوجات في حالة النشوز على ما تقدم‪...‬‬
‫ومعنى‪{ :‬ﱙ ﱚ}‪ ،‬تخافون عواقبه السيئة‪ .‬فالمعنى‬
‫أنه قد حصل النشوز مع مخائل قصد العصيان والتصميم عليه‪ ،‬ال مطلق‬
‫المغاضبة أو عدم االمتثال‪ ،‬فإن ذلك قلما يخلو عنه حال الزوجين‪ ،‬ألن‬
‫المغاضبة والتعاصي يعرضان للنساء والرجال‪ ،‬ويزوالن‪ ،‬وبذلك يبقى‬
‫معنى الخوف على حقيقته من توقع حصول ما يضر‪ ،‬ويكون األمر بالوعظ‬
‫والهجر والضرب مراتب‪ ،‬بمقدار الخوف من هذا النشوز‪ ،‬والتباسه‬
‫بالعدوان‪ ،‬وسوء النية‪ .‬والمخاطب بضمير {ﱙ}‪ :‬إما األزواج‪،‬‬
‫فتكون تعدية (خاف) إليه على أصل تعدية الفعل إلى مفعوله‪ ،‬نحو‪{ :‬ﱗ‬
‫ﱘ ﱙ}‪ ،‬ويكون إسناد فعظوهن واهجروهن واضربوهن على‬
‫‪99‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫حقيقته‪ .‬ويجوز أن يكون المخاطب مجموع من يصلح لهذا العمل من والة‬


‫األمور واألزواج؛ فيتولى كل فريق ما هو من شأنه‪ ،...،‬وبهذا التأويل‬
‫أخذ عطاء إذ قال‪ :‬ال يضرب الزوج امرأته‪ ،‬ولكن يغضب عليها‪ .‬قال ابن‬
‫العربي‪ :‬هذا من فقه عطاء‪ ،‬وفهمه الشريعة‪ ،‬ووقوفه على مظان االجتهاد؛‬
‫علم أن األمر بالضرب هنا أمر إباحة‪ ،‬ووقف على الكراهية من طريق‬
‫أخرى‪ ،‬كقول النبيء ـ ‘ ـ‪> :‬ولن يضرب خياركم<‪ .‬وأنا أرى لعطاء‬
‫نظرا أوسع مما رآه له ابن العربي‪ :‬وهو أنه وضع هاته األشياء مواضعها‬ ‫ً‬
‫بحسب القرائن‪ ،‬ووافقه على ذلك جمع من العلماء‪ ،‬قال ابن الفرس‪:‬‬
‫وأنكروا األحاديث المروية بالضرب‪ .‬وأقول‪ :‬أو تأولوها‪ .‬والظاهر أن‬
‫اإلذن بالضرب لمراعاة أحوال دقيقة بين الزوجين‪ ،‬فأذن للزوج بضرب‬
‫امرأته ضرب إصالح‪ ،‬لقصد إقامة المعاشرة بينهما؛ فإن تجاوز ما تقتضيه‬
‫حالة نشوزها كان معتد ًيا‪.‬‬
‫ولذلك يكون المعنى‪{ :‬ﱘ ﱙ ﱚ}‪ ،‬أي تخافون‬
‫سوء مغبة نشوزهن‪ ،‬ويقتضي ذلك بالنسبة لوالة األمور أن النشوز رفع‬
‫إليهم بشكاية األزواج‪ ،‬وأن إسناد {ﱛ} على حقيقته‪ ،‬وأما إسناد‬
‫{ﱜ ﱝ ﱞ} فعلى معنى إذن األزواج بهجرانهن‪ ،‬وإسناد‬
‫{ﱟ} كما علمت‪.‬‬
‫والحاصل أنه ال يجوز الهجر والضرب بمجرد توقع النشوز قبل‬
‫حصوله اتفا ًقا‪ ،‬وإذا كان المخاطب األزواج كان إذ ًنا لهم بمعاملة أزواجهم‬
‫‪100‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫النواشز بواحدة من هذه الخصال الثالث‪ ،‬وكان األزواج مؤتمنين على‬


‫توخي مواقع هذه الخصال‪ ،‬بحسب قوة النشوز‪ ،‬وقدره في الفساد‪ ،‬فأما‬
‫الوعظُ فال حد له‪ ،‬وأما الهجر فشرطه أن ال يخرج إلى حد اإلضرار بما‬
‫تجده المرأة من الكمد‪ ،‬وقد قدر بعضهم أقصاه بشهر‪.‬‬
‫وأما الضرب فهو خطير‪ ،‬وتحديده عسير‪ ،‬ولكنه أذن فيه في حالة‬
‫ظهور الفساد‪ ،‬ألن المرأة اعتد ْت حينئذ‪ ،‬ولكن يجب تعيين حد في ذلك‪،‬‬
‫يبين في الفقه‪ ،‬ألنه لو أ ُطلق لألزواج أن يتولوه‪ ،‬وهم حينئذ ي ْش ُفون‬
‫غضبهم؛ لكان ذلك مظنة تجاوز الحد‪ ،‬إذ قل من يعاقب على قدر‬
‫الذنب‪ ،‬على أن أصل قواعد الشريعة ال تسمح بأن يقضي أحد لنفسه لوال‬
‫الضرورة‪ ،‬بيد أن الجمهور قيدوا ذلك بالسالمة من اإلضرار‪ ،‬وبصدوره‬
‫ممن ال يعد الضرب بينهم إهانة وإضرا ًرا‪ .‬فنقول‪ :‬يجوز لوالة األمور إذا‬
‫علموا أن األزواج ال يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعها‪ ،‬وال‬
‫الوقوف عند حدودها‪ :‬أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة‪،‬‬
‫ويعلنوا لهم أن من ضرب امرأته عوقب‪ ،‬كيال يتفاقم أمر اإلضرار بين‬
‫األزواج‪ ،‬ال سيما عند ضعف الوازع<‪.‬‬
‫وقد ّبوب البخاري ‪ ‬في صحيحه فقال‪ :‬باب ما يُكره من ضرب‬
‫النساء‪ ،‬وقول اهلل‪{ :‬ﱟ}‪ ،‬أي ضر ًبا غير مبرح‪.‬‬
‫حدثنا محمد بن يوسف‪ ،‬حدثنا سفيان‪ ،‬عن هشام‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن‬
‫عبد اهلل بن زمعة‪ ،‬عن النبي ‘ قال‪( :‬ال يجلد أحدكم امرأته جلد العبد‬
‫‪101‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫ثم يجامعها في آخر اليوم)(‪.)1‬‬


‫قال ابن حجر في شرح الحديث‪ ...> :‬وفي سياقه استبعاد وقوع‬
‫األمرين من العاقل‪ :‬أن يبالغ في ضرب امرأته‪ ،‬ثم يجامعها من بقية يومه‬
‫أو ليلته‪ ،‬والمجامعة أو المضاجعة إنما تستحسن مع ميل النفس‪،‬‬
‫غالبا ينفر ممن جلده‪ ،‬فوقعت اإلشارة‬ ‫والرغبة في العشرة‪ ،‬والمجلود ً‬
‫إلى ذم ذلك‪ ،‬وأنه إن كان وال ب َّد؛ فليكن التأديب بالضرب اليسير‪،‬‬
‫بحيث ال يحصل منه النفور التام‪ ،‬فال يفرط في الضرب‪ ،‬وال يفرط في‬
‫التأديب‪ ،...،‬وقد جاء النهي عن ضرب النساء مطل ًقا‪ ،‬فعند أحمد وأبي‬
‫داود والنسائي‪ ،‬وصححه ابن حبان والحاكم‪ ،‬من حديث إياس بن عبد‬
‫اهلل بن أبي ذباب‪> :‬ال تضربوا إماء اهلل<‪ ،‬فجاء عمر فقال‪ :‬قد َذئِر النساء‬
‫على أزواجهن‪ ،‬فأ ِذن لهم فضربوهن‪ ،‬فأطاف بآل رسول اهلل ‘ نساء‬
‫كثير‪ ،‬فقال‪> :‬لقد أطاف بآل رسول اهلل ‘ سبعون امرأة‪ ،‬كلهن يشكين‬
‫أزواجهن‪ ،‬وال تجدون أولئك خياركم<‪ ،‬وله شاهد من حديث ابن عباس‬
‫في صحيح ابن حبان‪ ،‬وآخر مرسل من حديث أم كلثوم بنت أبي بكر‬
‫عند البيهقي‪ ،‬وقوله‪َ > :‬ذئِر< بفتح المعجمة‪ ،‬وكسر الهمزة‪ ،‬بعدها راء‪:‬‬
‫أي نشز بنون ومعجمة وزاي‪ ،‬وقيل معناه غضب واستب‪ ،‬قال الشافعي‪:‬‬
‫يحتمل أن يكون النهي على االختيار‪ ،‬واإلذن فيه على اإلباحة‪ ،‬ويحتمل‬
‫أن يكون قبل نزول اآلية بضربهن‪ ،‬ثم أذن بعد نزولها فيه‪ ،‬وقوله‪> :‬لن‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪.)5204( ،‬‬
‫‪102‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫يضرب خياركم<‪ ،‬داللة على أن ضربهن مباح في الجملة‪ ،‬ومحل ذلك‬


‫تأديبا‪ ،‬إذا رأى منها ما يكره فيما يجب عليها فيه طاعته‪ ،‬فإن‬
‫أن يضربها ً‬
‫اكتفى بالتهديد ونحوه كان أفضل‪ ،‬ومهما أمكن الوصول إلى الغرض‬
‫باإليهام‪ ،‬ال يعدل إلى الفعل‪ ،‬لما في وقوع ذلك من النفرة المضادة‬
‫لحسن المعاشرة المطلوبة في الزوجية‪ ،‬إال إذا كان في أمر يتعلق بمعصية‬
‫اهلل‪ .‬وقد أخرج النسائي في الباب حديث عائشة‪> :‬ما ضرب رسول اهلل‬
‫خادما قط‪ ،‬وال ضرب بيده شي ًئا قط‪ ،‬إال في سبيل‬ ‫ً‬ ‫‘ امرأة له‪ ،‬وال‬
‫اهلل‪ ،‬أو تنتهك حرمات اهلل فينتقم هلل‪.)1(<...‬‬

‫هل وصف النساء بناقصات عقل ودين‪ :‬إساءة للنساء‪ ،‬وانتقاص‬


‫من كرامتهن؟‬
‫اهلل الذي خلق الرجل والمرأة من جنسين مختلفين‪ ،‬وجعل سعيهما‬
‫كل واحد منهما بمقومات تكمل نقص الطرف اآلخر‪ ،‬في تناغم‬ ‫شتى؛ م َّد َّ‬
‫بديع‪ ،‬وانسجام معجز‪ .‬أم َّد الرجل على العموم بالقوة البدنية ــ وإن كانت‬
‫بعض النساء قد تفوقت على بعض الرجال في هذه القوة ــ‪ ،‬كي يحملوا‬
‫عنهن األعباء والمسؤوليات المتعبة‪ ،‬وحباهم القدرة على استخدام‬
‫العقل‪ ،‬في حين أم َّد النساء بقوة العاطفة‪ ،‬كي يمارسن مهامهن األنثوية‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬فتح الباري‪ 303/9( ،‬ــ ‪ ،)304‬باختصار‪.‬‬
‫‪103‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫من حمل‪ ،‬ورضاعة‪ ،‬ورعاية لألطفال‪ ،‬وتهذيب لفطرة الرجل الجافة‪،‬‬


‫وخلق التكامل‪ ،‬والتوازن في الحياة‪ .‬وكم من امرأة عاقلة حكيمة تفوقت‬
‫بعقلها على آحاد الرجال‪ .‬والتاريخ يشهد لمريم عليها وعلى نبينا وآله‬
‫وصحبه السالم بالكمال‪ ،‬وآلسية وخديجة ‪ ‬وفاطمة عليها وعلى أبيها‬
‫موقف أم سلمة ورجاحة عقلها‪ ،‬وحكمتها‬ ‫السالم‪ ،‬وخلَّد ب ِمداد من فخر َ‬
‫وهي تفتي الرسول ‘‪ ،‬وقد ذكر لها ما لقي من الناس‪> :‬اخرج‪ ،‬ثم ال‬
‫تكلم أحد ًا منهم كلمة حتى تنحر بُ ْدنك<(‪ ،)1‬فخرج فنحر بُ ْدنه‪ ،‬ودعا‬
‫حالقه فحلقه‪ .‬فكانت نِعم المشورة‪ ،‬ونعم الرأي‪.‬‬
‫وواقعنا اليوم يشهد أن النساء قد برعن في الفهم والتحليل‬
‫واالستنباط‪ ،‬وفي الهندسة والرياضيات‪ ،‬وعلوم الفلك والفيزياء‪ ،‬وغيرها‬
‫من العلوم التي تستدعي قوة عقلية وذهنية عالية‪ .‬وال تعارض بين هذا‬
‫أذهب للُ ِّب‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫ناقصات عق ٍل ودين‬ ‫وبين حديث النبي ‘‪( :‬ما رأيت من‬
‫الرجل الحازم من إحداكن)‪ ،‬قلن‪ :‬وما نقصان دي ِننا وعقلِنا يا رسول اهلل؟‬
‫مثل نصف شهادة الرجل؟)‪ ،‬قلن‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫قال‪( :‬أليس شهاد ُة المرأة َ‬
‫صل ولم َت ُص ْم؟)‪ ،‬قلن‪:‬‬
‫(فذلك من نقصان عقلها‪ ،‬أليس إذا حاضت لم ُت ِّ‬
‫بلى‪ ،‬قال‪( :‬فذلك من نقصان دي ِنها)(‪.)2‬‬
‫فالنقص المقصود قد َّبينه ‘‪ ،‬وأجاب عنه بما ينفي اللبس‪ ،‬فهو‬
‫خاص بالشهادة في سياق البيوع والمعامالت التجارية التي هي في العموم‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪.)2731( ،‬‬
‫(‪ )2‬البخاري‪ ،)304( ،‬مسلم‪.)79( ،‬‬
‫‪104‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫من اهتمامات الرجال‪ .‬وحتى إن ُو ِج َدت المرأة المهتمة بذلك‪ ،‬المحترفة‬


‫في هذا المجال‪ ،‬فإن ذلك ليس قيا ًسا وال قاعدة عامة‪ ،‬فغيرها من النساء‬
‫كثيرات ال يُ ْح ِس َّن ذلك‪ ،‬وال ينشغلن به لطبيعتهن‪ ،‬ولتأثرهن بعواطفهن‪،‬‬
‫وبفطرتهن في عدم اإلبانة في الخصام‪ .‬والعبرة باألغلبية‪ ،‬فالنادر ال حكم‬
‫له‪ .‬وهذا سبب رفض جمهور الفقهاء شهادة المرأة الواحدة في القصاص‬
‫ماديا‪ ،‬وإنما لتلبسه‬
‫تكوينيا وال ًّ‬
‫ًّ‬ ‫والحدود واألموال‪ .‬ثم إن هذا النقص ليس‬
‫بالعاطفة‪ ،‬ولسيطرة المشاعر واألحاسيس على المرأة في الغالب‪ ،‬حتى‬
‫فيما يحكمه العقل‪ .‬وفي مقابل هذا فالرجل يغل ِّب عقله‪ ،‬ونجده يفعل‬
‫ذلك في مواقف كثيرة من المفترض أن يكون فيها للعاطفة الغلبة‪ .‬فهذا‬
‫َخ ْل ُق اهلل‪ ،‬وهذه فطرته التي فطر عليها عباده‪ ،‬وهي فطرة كما سبق ألجل‬
‫خلق التوازن في الحياة‪ ،‬وإال غلب عليها الجفاء والجفاف‪ ،‬إن لم يكن‬
‫السلطان سوى للعقل‪ ،‬أو غلبت عليها المشاعر والميوالت النفسية‪ ،‬إن‬
‫لم يكن األمر سوى للعاطفة‪.‬‬
‫ولعل ربط نقص العقل عند المرأة في الحديث بنقص الدين قد‬
‫تكون له داللة سببية‪ ،‬وهي ارتباط هذا النقص حتى بالنسبة للمرأة الذكية‬
‫قوية العقل والفهم واالستنباط بمرحلة نقص الدين‪ ،‬وهي مرحلة الحيض‬
‫والنفاس وما يصاحبها من تغيرات هرمونية‪ ،‬ونفسية‪ ،‬وآالم‪ ،‬وخمول‪،‬‬
‫وتغير مزاج‪ ،‬وهي أمور البد مؤثرة على الصفاء العقلي‪ ،‬وعلى العطاء‪.‬‬
‫وقد فسر العلماء هذا النقص العقلي بنقص الضبط‪ ،‬والذي سببه‬
‫واقعيا انقطاعها ــ على العموم ــ عن العالم الخارجي‪ ،‬وبُعدها عن الميادين‬
‫ًّ‬
‫‪105‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫وتحليال‪.‬‬
‫ً‬ ‫التي تستدعي تركي ًزا وضب ًطا وفه ًما‬
‫قال النووي ‪ ‬في شرح الحديث‪> :‬قال اإلمام أبو عبد اهلل المازري‬
‫ـ ‪ ‬ـ‪ :‬قوله ـ ‘ ـ‪( :‬أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة‬
‫رجل)؛ تنبيه منه ـ ‘ ـ على ما وراءه‪ ،‬وهو ما َّنبه اهلل تعالى عليه في‬
‫كتابه بقوله تعالى‪{ :‬ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ}‪ ،‬أي أنهن‬
‫قليالت الضبط‪ .‬قال‪ :‬وقد اختلف الناس في العقل ما هو؟ فقيل‪ :‬هو‬
‫العلم‪ ،‬وقيل‪ :‬بعض العلوم الضرورية‪ ،‬وقيل‪ :‬قوة يميز بها بين حقائق‬
‫المعلومات‪ .‬هذا كالمه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬واالختالف في حقيقة العقل وأقسامه كثير معروف‪ ،‬ال حاجة‬
‫هنا إلى اإلطالة به‪ ،‬واختلفوا في محله‪ .‬فقال أصحابنا المتكلمون‪ :‬هو في‬
‫القلب‪ ،‬وقال بعض العلماء‪ :‬هو في الرأس‪ .‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫وأما وصفه ـ ‘ ـ النساء بنقصان الدين لتركهن الصالة والصوم في‬
‫زمن الحيض؛ فقد يُ ْس َتشكل معناه‪ ،‬وليس بمشكل‪ ،‬بل هو ظاهر؛ فإن‬
‫الدين واإليمان واإلسالم مشتركة في معنى واحد‪ ،‬كما قدمناه في مواضع‪،‬‬
‫ضا في مواضع أن الطاعات تسمى إيما ًنا ودي ًنا‪ ،‬وإذا ثبت‬
‫وقد قدمنا أي ً‬
‫هذا‪ ،‬علمنا أن من كثرت عبادته زاد إيمانه ودينه‪ ،‬ومن نقصت عبادته‬
‫نقص دينه‪ .‬ثم نقص الدين قد يكون على وجهٍ يأثم به‪ ،‬كمن ترك الصالة‪،‬‬
‫أو الصوم‪ ،‬أو غيرهما من العبادات الواجبة عليه‪ ،‬بال عذر‪ ،‬وقد يكون‬
‫على وجه ال إثم فيه كمن ترك الجمعة‪ ،‬أو الغزو‪ ،‬أو غير ذلك مما ال‬
‫‪106‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫يجب عليه‪ ،‬بال عذر‪ ،‬وقد يكون على وجه هو مكلف به‪ ،‬كترك الحائض‬
‫الصالة والصوم‪ .‬فإن قيل‪ :‬فإن كانت معذورة‪ ،‬فهل تثاب على الصالة في‬
‫زمن الحيض‪ ،‬وإن كانت ال تقضيها‪ ،‬كما يثاب المريض المسافر‪ ،‬ويكتب‬
‫له في مرضه وسفره مثل نوافل الصلوات التي كان يفعلها في صحته‬
‫وحضره؟ فالجواب أن ظاهر هذا الحديث أنها ال تثاب‪ .‬والفرق أن‬
‫المريض والمسافر كان يفعلها بنية الدوام عليها مع أهليته لها‪ .‬والحائض‬
‫ليست كذلك‪ ،‬بل نيتها ترك الصالة في زمن الحيض‪ ،‬بل يحرم عليها نية‬
‫الصالة في زمن الحيض‪ .‬فنظيرها مسافر أو مريض كان يصلي النافلة في‬
‫وقت‪ ،‬ويترك في وقت‪ ،‬غير ناو الدوام عليها‪ ،‬فهذا ال يكتب له في سفره‬
‫ومرضه في الزمن الذي لم يكن ينتفل فيه‪ .‬واهلل أعلم<(‪.)1‬‬
‫فليس الحديث إذن تقري ًعا‪ ،‬وال قد ًحا في المرأة‪ ،‬وال إهانة لها‪،‬‬
‫بقدر ما هو بيان لطبيعتها وفطرتها التي فطرها اهلل عليها‪ ،‬بل مجرد قياسها‬
‫خصه اهلل‬
‫على فطرة الرجل‪ ،‬ومقارنتها به‪ ،‬والطمع في مساواتها به‪ ،‬فيما َّ‬
‫به‪ ،‬هو القدح في جمال خصوصيتها‪ .‬فعاطفتها جمال‪ ،‬وضعفها الفطري‬
‫استرجاال ون ًقصا في أنوثتها‬
‫ً‬ ‫جمال‪ ،‬ورقتها جمال‪ .‬وأي نقص في هذا يعد‬
‫التي فطرها اهلل عليها‪ ،‬لخلق التوازن والتنويع‪ .‬بل إنها مع كل ما يعتريها‬
‫من ضعف‪ ،‬ومن تغيرات‪ ،‬ومن نقص؛ فإنها بكل هذا الضعف قد صنعت‬
‫ش الرجل‬ ‫مفارقة عجيبة مذهلة معجزة‪ ،‬إذ تهزم ــ وهي كما هي ــ رباط َة جأ ِ‬
‫الحازم المحترز‪ ،‬الذي يُ ْض َرب به المثل في العقل والرصانة والقوة‪،‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬شرح النووي على مسلم‪ 67/2( ،‬ــ ‪.)68‬‬
‫‪107‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫طفال عاج ًزا‪ ،‬يحتاج إلى أن‬


‫وتسلُب ل ُ َّبه‪ ،‬فيغيض حزمه‪ ،‬ويصير بين يديها ً‬
‫تهتم بتفاصيله الصغيرة‪ ،‬عالة على حبها واحتوائها‪ ،‬واهتمامها وتقديرها‪،‬‬
‫وعلى حضنها الذي يلقي فيه بكل ضعفه‪ ،‬وكل بشريته‪ .‬وكأنها إشارة لها‬
‫بأن قوتها في ضعفها‪ ،‬وكمال أنوثتها في فهم تلك المفارقة العجيبة من‬
‫الضعف في قوة‪ ،‬واالنكسار في شموخ‪ ،‬والخضوع في أنفة‪ ،‬وبأنها إن‬
‫أحسنت استعمال هذه المفارقة؛ فإنها حت ًما ستتملك الرجل‪ .‬فال ُت ْح ِسن‬
‫أن تكون ضعيفة ــ ذلك الضعف الذي هو فطرة‪ ،‬والذي ال يمنع أن تكون‬
‫حاضرة الشخصية‪ ،‬والنبوغ‪ ،‬واإلبداع‪ ،‬من غير استضعاف نفس‪ ،‬وال‬
‫مسكنة‪ ،‬وال استكانة‪ ،‬أو خنوع سلبي‪ ،‬وأن تحسن استعمال ضعفها ــ؛‬
‫إال كاملة أنوثة‪ ،‬وال يُ ْح ِسن أن يفهم ضعفها إال كامل رجولة‪.‬‬
‫ليس بالصراخ‪ ،‬وال باالستقواء‪ ،‬وال باالسترجال‪ ،‬تهزمه وتمتلك‬
‫قلبه‪ ،‬إنما بنقصها الفطري‪ ،‬وضعفها المحبب‪ .‬فاألنوثة في أدق وأجمل‬
‫معانيها‪ :‬ذوق وذكاء‪ ،‬وإبداع وجمال‪ ،‬وروح ورقة‪ ،‬وعاطفة واحتواء‪،‬‬
‫وضعف في شموخ‪ ،‬وخفض جناح‪.‬‬
‫فإن عانقت الرصانة والحكمة مع كل ذاك طفولة قلبها؛ فاعلم أنك‬
‫أمام منبع أنوثة‪ ،‬ال ينضبه شيب‪ ،‬وال يعيث فيه عبث السنين‪ ،‬وال يخطئ‬
‫لب الرجل الحازم‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫قراءة في حديث‪> :‬إن املرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة‬


‫شيطان‪ <...‬الحديث‪.‬‬
‫إن الجهل باللغة العربية وبيانها وصورها البالغية من أكثر ما جعل‬
‫الجهال يتطاولون حتى على المحكم من الكتاب والسنة الشريفة‪ ،‬بغية‬
‫تشويه اإلسالم بتشويه نصوصه‪.‬‬
‫وقد فطن العربي القديم إلى هذه البالغة‪ ،‬وتنبه لمعجزتها‪ ،‬فما ثبت‬
‫ــ وهو أهل البيان والفصاحة ــ أن عثر على تناقض في اآلي أو الحديث‪،‬‬
‫وشعرا‪ .‬لكن ابتلي العالم‬
‫ً‬ ‫سحرا‬
‫سمى القرآن ً‬ ‫بل من اندهاشه من إحكامه َّ‬
‫اإلسالمي اليوم ُبب ْع ٍد مميت عن اللغة‪ ،‬واكتفاء بالظاهر من الكالم‪ ،‬دون‬
‫قدرة على فهم األبعاد‪ ،‬والغوص في الصور البالغية‪ ،‬مما جعل بعض‬
‫المتطفلين على النصوص الشرعية يفهم األشياء على غير مراداتها‪،‬‬
‫وقلبا فار ًغا‪ ،‬فتمكنت‬
‫وصادف ذلك شهوة في نفسه‪ ،‬وضع ًفا في لغته‪ً ،‬‬
‫الشبهة منه‪ ،‬وطفق ــ فر ًحا بالغنيمة ــ يوزع من المعاني القدحية ما يخدم‬
‫فكرته اإلقصائية ألحكام اإلسالم‪ ،‬خاصة منها تلك التي تتعلق بالمرأة‪،‬‬
‫متعل ًقا بأستار المواثيق الدولية‪ ،‬والدساتير العالمية‪ ،‬المدافعة عن المرأة‬
‫المنددة بالحيف ضدها‪ ..‬يقرأ قوله ‘‪( :‬إن المرأة تقبل في صورة‬
‫شيطان وتدبر في صورة شيطان‪ ،‬فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله‪ ،‬فإن‬
‫ذلك يرد ما في نفسه)(‪ ،)1‬فيطير فر ًحا بالشق الذي يروج لفكرته‪ ،‬ويكتفي‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم‪.)1403( ،‬‬
‫‪109‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫بما يتبادر عادة إلى األذهان عند ٍ‬


‫قراءة أوليةٍ للنص‪ ،‬فيوري َزنَد هذا الفهم‬
‫السطحي‪ ،‬ويخرج منه بكل جسارة وجرأة بأن النص الحديثي الصحيح‬
‫يُهين المرأة ويحتقرها‪ ،‬ويلحقها بأبشع المخلوقات‪.‬‬
‫ولعل قراء ًة متمهلة متأنية متعمقة‪ ،‬كفيلة بتحليل المعنى المراد بربط‬
‫َّ‬
‫السياق باللحاق‪ ،‬وربط مقدمة التصور بخاتمتها‪.‬‬
‫إن المرأة ُتقبل و ُتدبر في صفة من صفات الشيطان‪ ،‬وهي الوسوسة‬
‫والتحريك النفسي للشهوة‪ .‬فهي مرفأ السكن‪ ،‬ومالذ الروح التائهة‪ ،‬وهي‬
‫بجمال خلقتها‪ ،‬وبهاء صورتها‪ ،‬وما حباها اهلل من سحر‪ ،‬وبما جعل اهلل‬
‫للرجل من ميل فطري لها‪ ،‬ل َ َت َق ُع موقِ ًعا من قلبه‪ ،‬ول َ ُت َح ِّرك فيه ميله الطبيعي‬
‫الفطري‪ ،‬فيكون ذلك فتنة له‪ ،‬إن لم يستعصم بما جعل اهلل له من وقايات‪،‬‬
‫كالغض من البصر‪ ،‬والبعد عن مواطن الفتن‪ ،‬وإتيان األهل‪ ،‬إن وقع في‬
‫نفسه ما وقع‪ ،‬كبديل يرد ما في نفسه‪ .‬فإن لم يتحصن؛ أقبلت عليه بزخرفة‬
‫الشيطان وإغرائه‪ ،‬وتصويره لها في أجمل ما تهفو نفسه إلى الحصول‬
‫عليه‪ ،‬يزيد ذلك وطأة انقياد النفس البشرية إلى الرغبة في كل ممنوع‬
‫عنها‪ ،‬وتحسرها على فواته‪ .‬فهل كان الحديث ليقدح في المرأة وينعتها‬
‫يؤصل ألمر جمالها ورقتها وداللها‪ ،‬الذي هو أصل‬ ‫بالقبح‪ ،‬وهو أسا ًسا ِّ‬
‫فتنة الرجل؟ فلن تعلق الروح إال بما يبهجها‪ ،‬ولن ُتؤسر العين إال بما‬
‫تستلذه‪ ،‬ولن يؤمر الرجل عن صرف بصره‪ ،‬وحفظ قلبه‪ ،‬من مسخ مشوه‪.‬‬
‫وقد باغت نبينا عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصالة والتسليم‬
‫‪110‬‬
‫الحقوق املعنوية للمرأة في اإلسالم‬

‫مليا المرأة وضيئة من خثعم‬‫الفضل بن العباس ‪ ،‬وهو رديفه‪ ،‬ينظر ًّ‬ ‫َ‬
‫تستفتيه ‘‪ ،‬فطفق يصرف وجهه إلى الشق اآلخر(‪ ،)1‬وقد علم أمر الفتنة‬
‫فخشي عليه منها‪ ،‬وهو البصير ‘ بما ُر ِّكب في الرجال من ميل للنساء‪،‬‬
‫وإعجاب وافتتان بهن‪ .‬ولهذا السبب أيض ًا أمر النبي عليه وعلى آله وصحبه‬
‫عليا ‪ ‬أال يُ ْتبِع النظر َة النظر َة(‪ ،)2‬فنظرة الفجاءة ال‬
‫أفضل التسليم ًّ‬
‫يحاسب عليها اإلنسان؛ ألنها غير مقصودة‪ ،‬لكنه محاسب على التي تليها‪.‬‬
‫ولعل هذه المرأة التي أقبلت بتلميع الشيطان لصورتها‪ ،‬وأدبرت‬
‫الرجل‬
‫ُ‬ ‫بكشف ضعف الرجل أمام طيفها‪ ،‬فكانت جز ًءا من داء يتحمل‬
‫النصيب األوفر فيه إن استرسل مع تخيالته‪ ،‬وما ينمق الشيطان ويزين من‬
‫َ‬
‫وم َالذ سكينته‪ ،‬بأن يصلها‬‫صورتها؛ لعلها هي نفسها الدواء والبلسم‪َ ،‬‬
‫بالحالل‪ ،‬أو بأن يأتي أهله‪ ،‬فإن معها مثل الذي معها‪ .‬وهي نفسها‪ ،‬التي‬
‫إن قيل لها بأن سحرها قد أفل‪ ،‬وبهاءها قد محل‪ ،‬ولم تعد تغري الرجال‪،‬‬
‫فتقبل وتدبر بما يمدها الشيطان من تسطيع وزخرفة؛ لكان ذلك َش ًّجا‬
‫وس َّبة في حقها‪.‬‬
‫ألنوثتها‪ ،‬وقد ًحا في كمالها‪ُ ،‬‬
‫فهل الحديث تقزيم لها‪ ،‬وتشبيه لها بالمسوخ‪ ،‬أم إثبات ضمني‬
‫لصفاتها األنثوية الساحرة؟‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري‪.)6228 ،1855 ،1854( ،‬‬
‫(‪ )2‬لفظ الحديث‪> :‬يا َعلِي ال ُت ْتب ِْع النَّظْر َة النَّظْر َة‪ ،‬فَ ِإ َّن ل َ َك األُولَى‪َ ،‬ولَيس ْت ل َ َك ِ‬
‫اآلخ َر ُة<‪ ،‬رواه‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُّ‬
‫الترمذي‪ ،)2701( ،‬وانظر‪ :‬صحيح الجامع‪ ،‬رقم (‪.)7953‬‬
‫‪111‬‬
‫هل املرأة في حاجة إلى املساواة مع الرجل؟‬

‫هلارملأةفاحجةإىلااسملواةعمارللج؟‬
‫إن الدعاوى المتزايدة إلى هدم الخصوصية بين جنسي الذكور‬
‫القا من أن الدين‬‫واإلناث‪ ،‬وإلى تكريس المساواة المطلقة بينهما‪ ،‬انط ً‬
‫اإلسالمي متحيز ضد النساء‪ ،‬واختزال كل هموم المرأة ومعاناتها‬
‫ال ممسوخ ًا‬
‫وحاجياتها في ضرورة مساواتها مع الرجل‪ ،‬قد أفرزت لنا جي ً‬
‫مشوه ًا من النساء‪ ،‬قد غابت عنهن المرجعية الشرعية في استقاء األحكام‪،‬‬
‫ّ‬
‫وانطلت عليهن قيمة أدوارهن في المجتمع‪ ،‬ونظرن إلى أي اختالف بينهن‬
‫وبين الرجل سواء في األحكام الشرعية‪ ،‬أو في المسؤوليات الموزعة‬
‫بينهما‪ ،‬أو التخصصات التي يتفرد بها جنس دون جنس‪ ،‬بل وحتى الفطر‬
‫التي شاء اهلل لها أن تكون مختلفة متباينة ألجل التكامل = حي ًفا في‬
‫ال للرجل عليهن‪ ،‬فصارت الحياة البشرية والزوجية بشكل‬ ‫حقهن‪ ،‬وتفضي ً‬
‫خاص حلبة للصراعات‪ ،‬ومرت ًعا للمقارنات‪ ،‬ومناسبة لالستئساد والتمرد‬
‫والتطاول على المهمات‪.‬‬
‫ولعل نظر ًة متع ِّقلة لكل المتباينات حولنا‪ ،‬كفيلة بأن تجعلنا نفهم‬
‫َّ‬
‫الحكمة من هذا االختالف‪ ،‬وبالتالي الخلوص إلى أن أية دعوة مطالبة‬
‫بتسوية المختلفين‪ ،‬وتوحيد األنداد‪ ،‬هي دعوات رعناء‪ ،‬تفتقر للحكمة‬
‫والتعقل‪ ،‬فشأنها شأن من يطالب بأن تكون النار من جنس الماء‪ ،‬وأن‬
‫‪112‬‬
‫هل املرأة في حاجة إلى املساواة مع الرجل؟‬

‫يكون للظالم نفس خواص الضياء‪ ،‬وأن يصبح لألبيض ولألسود نفس‬
‫الصبغة‪ ،‬ونفس المنظر‪ ،‬ونفس االستعماالت‪ ،‬ولو شاء اهلل لخلق جنس ًا‬
‫واحد ًا‪ ،‬ولما خلق من كل شيئين زوجين اثنين‪ ،‬ينشدان التكامل بينهما‪،‬‬
‫ويمتاز كل واحد منهما بحكمه لمعنى خاص قام به دون نظيره‪ .‬فلخلق‬
‫‪ ‬إما صنف الرجال‪ ،‬وإما جنس النساء‪ ،‬ولما جعل في الحياة سعيين‬
‫متفرقين‪ ،‬وشكلين متباينين‪ ،‬وفطرتين مختلفتين‪ ،‬وحاجيات ال تلبى إال‬
‫في وجود الجنس اآلخر‪ .‬لكن حكمته ‪ ،‬اقتضت أن يكون هناك رجل‪،‬‬
‫له خصائص بيولوجية‪ ،‬وأحكام تكليفية‪ ،‬منها ما يشترك فيها مع المرأة‪،‬‬
‫ومنها ما يتفرد بها دون ًا عنها‪ ،‬ومنها ما تتفرد به دو ًنا عنه‪ .‬وهناك امرأة‪،‬‬
‫شكلها البيولوجي‪ ،‬وحاجياتها‪ ،‬وفطرتها‪ ،‬وطاقة تحملها‪ ،‬تختلف اختالف ًا‬
‫فطري ًا ِج ِبلي ًا طبيعي ًا عنه‪ .‬فيساوى بينهما في مكان الخلقة والتكوين‪ ،‬وفي‬
‫التنشئة والرعاية‪ ،‬ثم تبدأ التفردات تكبر بينهما‪ ،‬رويد ًا رويد ًا‪ ،‬إلى أن‬
‫يصبح له من سمات الرجولة ما يميزه عن سماتها األنثوية‪ ،‬التي يأبى‬
‫العقل والميزان الشرعي والقدري أن يقبل أي تسا ٍو بينهما‪ .‬ويباين بينهما‬
‫في األحكام الفتراقهما فيما يوجب الحكم أو يمنعه‪ .‬بل لو خلقهما‬
‫سبحانه ــ وال اعتراض على مراده لو كان قدر ًا ــ بشكلين مختلفين‪،‬‬
‫وبأحكام متطابقة‪ ،‬حذو القدة بالقدة‪ ،‬لغابت معاني الحكمة عن هذا‬
‫الخلق المتباين‪ ،‬تعالى وتنزه سبحانه عن أن تغيب حكمته عن إرادته‪ .‬بل‬
‫ال ببنية فيسيولوجية‬‫لكان ظلم ًا في حق أحدهما‪ .‬فهذا الرجل الذي خلق مث ً‬
‫وسيكولوجية غير مهيأة للحمل والوالدة‪ ،‬لو أُمر‪ ،‬في إطار المطالبة‬
‫بالمساواة‪ ،‬أن يحمل ويضع ويرضع ويسهر ويراعي‪ ،‬لكان ذلك حيف ًا‬
‫‪113‬‬
‫هل املرأة في حاجة إلى املساواة مع الرجل؟‬

‫وظلم ًا في حقه‪ ،‬بل لكان مطالبة بالمستحيل‪ .‬ونفس الشيء بالنسبة للمرأة‬
‫التي ال تفتأ تطالب بالمساواة‪ .‬فقد جربت امتهان ِح َرف الرجال‪ُ ،‬‬
‫وامتحنت‬
‫خصهم اهلل به‪ ،‬فما جنت على نفسها غير الوبال والتعب‪،‬‬ ‫بخوض ما َّ‬
‫واإلرهاق النفسي والجسدي‪ ،‬والتوتر والتشنج واألمراض‪ ،‬وشربت من‬
‫سموم التفلت بدعاوى التحرر‪ ،‬ومن الكدح والتعب والمشقة بدعاوى‬
‫مضاهاة الرجل‪.‬‬
‫ولو أن المرأة فهمت أن هذه المطالبة بالتسوية رفض ضمني لحكم‬
‫اهلل الذي اقتضى بحكمته ومشيئته أن يجعلها أنثى مساوية للرجل في معاني‬
‫العبودية‪ ،‬وفي الجزاء والثواب والعقاب‪ ،‬مخالفة له فيما عدا ذلك‪ ،‬وبأن‬
‫تكليفها بما ُكلف به الرجل دو ًنا عنها؛ ظلم وحيف في حقها لالعتبارات‬
‫فضل اهلل الرجل عليها في أحوال معروفة؛‬ ‫السابقة‪ ،‬ونظرت إلى أن ما ّ‬
‫بمقتضى مفهوم القوامة اآلنف الذكر في باب سابق‪ ،‬هو محض تكليف‬
‫مستقال متفرد ًا بحاجياته‬
‫ًّ‬ ‫وليس تشريف ًا له عليها‪ ،‬ووعت أنها ليست كيان ًا‬
‫وحياته‪ ،‬منعز ًال عن باقي مكونات المجتمع‪ ،‬بل شطر من شطري النوع‬
‫اإلنساني المكلف بإعمار األرض‪ ،‬واالمتثال لعبودية القهر‪ ،‬وعبودية‬
‫التكليف‪ ،‬ولبنة من لبناته‪ ،‬وركيزة من ركائزه‪ ،‬ومصلحتها ال تشوبها‬
‫األنانية‪ ،‬وال يغلفها حب الذات؛ الرتاحت‪ ،‬وعوض أن تتحدث عن‬
‫المساواة التي هي ظلم في حقهما م ًعا؛ ألنها ليست في مكانها المطلوب‪،‬‬
‫المكرسة للعدل‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الستماتت من أجل تفعيل وأجرأة النصوص التشريعية‬
‫المطالبة للرجل بقوامته وبسهره على حمايتها‪ ،‬والذوذ عنها‪ ،‬والتعب‬
‫‪114‬‬
‫هل املرأة في حاجة إلى املساواة مع الرجل؟‬

‫ألجل راحتها‪ ،‬وتحقيق حاجياتها‪ .‬والستنفذت جهدها‪ ،‬ولخاضت معاركها‬


‫بحنكة في أن يعاد لها حقها الذي خوله لها الشرع في أن يعطى االعتبار‬
‫لفطرتها ولجبلتها‪ ،‬وأن يمنح لها مجال اإلبداع والتميز والعطاء بما منحها‬
‫اهلل من أنوثة‪ ،‬وفطرها عليه من ذكاء‪ ،‬وعاطفة‪ ،‬وتضحيات‪ ،‬وصبر‪.‬‬
‫ولعل الصحابية ــ رضي اهلل عنها وأرضاها ــ قد فطنت إلى أمر هذا‬
‫وحز في نفسها أن يكون قد بسط له‬ ‫التباين بين مهمات الرجال والنساء‪ّ ،‬‬
‫حصل به مرضاة اهلل‪ ،‬وما يرقى به في معارج الكمال‪،‬‬ ‫من المجاالت ما يُ ّ‬
‫تبلُّغ ًا بها للجنة‪ ،‬فخشيت أن تحرم‪ ،‬وهي األنثى غير المكلفة بما ُك ّلف‬
‫وجاهته‬
‫ُ‬ ‫به‪ ،‬وبما سيزيده تكليفه تشريف ًا وحظوة عند المولى‪ .‬لم تغرها‬
‫تحسرت على ما يحصله من مال‪ ،‬أو سعادة دنيوية‪،‬‬ ‫االجتماعية‪ ،‬وال ّ‬
‫وإنما كان همها أن تغلَق في وجهها أبواب للتزلف للمولى‪ ،‬وأن تنحسر‬
‫في دور ال يُم ّكنها من هذه القربى‪ ،‬فهرعت إلى نبي الهدى تختصم إليه‬
‫في شأنها‪ ،‬وشأن من تكفلت بتمثيلهن أمامه صلى اهلل عليه وعلى آله‬
‫وصحبه وسلم‪ ،‬وتسأله من معين ما تميز به أخوها الرجل‪.‬‬
‫فعن العباس بن وليد بن مزيد قال‪ :‬حدثنا أبو سعيد الساحلي ــ وهو‬
‫عبداهلل بن سعيد ــ‪ ،‬عن مسلم بن عبيد؛ عن أسماء بنت يزيد بن السكن‬
‫قالت‪:‬‬
‫أتيت رسول اهلل ‘ وهو جالس مع أصحابه‪ ،‬فقلت‪ :‬يا رسول اهلل‪،‬‬‫> ُ‬
‫إني وافدة النساء إليك‪ ،‬إنه ليس من امرأة سمعت بمخرجي إليك إال‬
‫وهي على مثل رأيي‪ ،‬وإن اهلل تبارك وتعالى بعثك إلى الرجال والنساء؛‬
‫‪115‬‬
‫هل املرأة في حاجة إلى املساواة مع الرجل؟‬

‫فآمنا بك وبالهدى الذي جئت به‪ ،‬وإن اهلل قد فضلكم علينا ــ معشر‬
‫الرجال ــ بالجماعة‪ ،‬والجمعة‪ ،‬وعيادة المرضى‪ ،‬واتباع الجنائز‪ ،‬وأفضل‬
‫من ذلك الجهاد في سبيل اهلل‪ ،‬وإن أحدكم إذا خرج غازي ًا‪ ،‬أو حاج ًا‪ ،‬أو‬
‫معتمر ًا؛ حفظنا أموالكم‪ ،‬وغزلنا أثوابكم‪ ،‬وربينا لكم أوالدكم‪ ،‬وإنا‬
‫ــ معشر النساء ــ مقصورات‪ ،‬محصورات‪ ،‬قواعد بيوتكم‪ ،‬أفما نشارككم‬
‫في هذا األجر؟ فأقبل رسول اهلل ‘ على أصحابه بوجهه كله فقال‪:‬‬
‫>سمعتم بمثل مقالة هذه المرأة؟<‪ ،‬قالوا‪ :‬ما ظننا أن أحد ًا من النساء‬
‫تهتدي إلى مثل ما اهتدت إليه هذه المرأة! فقال رسول اهلل ‘‪:‬‬
‫>اعلمي ــ وأعلمي من وراءك من النساء ــ أن ُح ْس َن َت َب ُّعل المرأة‬
‫لزوجها‪ ،‬واتباعها موفقته ومرضاته؛ يعدل ذلك كله<‪.‬‬
‫فانطلقت تهلل وتكبر وتحمد اهلل ‪ ‬استبشارا<(‪.)1‬‬
‫هكذا هي الهمم حينما تعلو‪ ،‬وحينما تسمو النفوس الكوثرية‬
‫الفردوسية عن صلصال الدنيا ونعيمها اآلفل‪ ،‬وتحلق بعي ًدا عن أوحال‬
‫المادية واألنانية‪ ،‬وطلب خلود اللذة في مواطن الذبول‪ ،‬فتسأل عن حقها‬
‫تحصله بالبدائل‪ .‬ليس ر ّد ًا لحكم اهلل‪ ،‬وال مراجعة‬
‫في األجر‪ ،‬كيف ِّ‬
‫ألمره‪ ،‬وال منافسة للرجل في المناصب أو األشغال‪ ،‬وإنما تشو ًفا لما‬
‫أجر أخيها الرجل‬‫يجعلها تحرز‪ ،‬من موقعها ومكانها ومهمتها الموكلة بها‪َ ،‬‬
‫الذي تنوعت عنده أبواب تحصيل غنائم اآلخرة‪ ،‬وجوائز االمتثال‬
‫والعبودية‪ ،‬ورتب الشارع له عنها األجور العظيمة والفوز الخالد‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه بحشل في تاريخ واسط‪ ،)75( ،‬وأبو نعيم في المعرفة‪.)7512( ،‬‬
‫‪116‬‬
‫الستقاللية‪ :‬قوة في الحق أم تمرد واستئساد؟‬

‫االالقتسلية‬
‫قوة في الحق‪ ،‬أم تمرد واستئساد؟‬
‫هل االســتقاللية‪ ،‬بمفهومها الشــائع المراد تكريســه من مناصــرات‬
‫النســـوية‪ ،‬مرادفة لحضـــور الشـــخصـــية‪ ،‬وحرية التصـــرف‪ ،‬أم للندية‬
‫واالسترجال‪ ،‬أم لالستغناء المطلق عن الرجل؟‬
‫وهل تأتي كمقابل لالستعمار‪ ،‬أم للخنوع والمسكنة واالستضعاف‪،‬‬
‫أم للتبعية واالنهزامية‪ ،‬أم للتشارك والتعاون؟‬
‫يفضل المرأة المتمردة المستأسدة؟‬
‫هل الرجل ِّ‬
‫وهل المرأة الخنوع السلبية هي المثال المنشود لمقابلة التمرد؟‬
‫وهل نستطيع الحديث عن استقاللية مطلقة‪ ،‬واستبداد في اتخاذ‬
‫القرارات‪ ،‬وبناء لعالم موا ٍز لعالم الشريك في شراكة تستلزم من بين ما‬
‫تستلزمه‪ ،‬الشورى والتعاون‪ ،‬وتبادل اآلراء‪ ،‬وتشارك المسؤوليات‪،‬‬
‫واالنصهار أحيا ًنا من أجل بلوغ الرقي؟‬
‫في المعنى اللغوي لالستقاللية‪:‬‬
‫‪ 1‬ــ استقل باألمر‪ :‬انفرد بتدبيره‪.‬‬
‫‪117‬‬
‫الستقاللية‪ :‬قوة في الحق أم تمرد واستئساد؟‬

‫‪ 2‬ــ استقل برأيه‪ :‬استب ّد به‪ ،‬ولم يشرك فيه غيره‪.‬‬


‫وفيما جرى عليه االصطالح‪ ،‬في عصر تكالبت فيه المشاكل‬
‫والمدلهمات على المرأة‪ ،‬وتجاذبتها قوى متباينة األهداف‪ ،‬كل منها‬
‫يدعي البحث عن مصلحتها فيما سبق التطرق إليه‪ ،‬فوجدت نفسها‬
‫مضطرة إلى الدفاع عن كيانها‪ ،‬واسترجاع كرامتها؛ اعتبرت فئة من النساء‬
‫االستقاللية في مفهومها العام؛ عدم االعتماد على الرجل‪ ،‬واالنعتاق مما‬
‫يمكنه تقديمه لها في إطار ما تفترضه عليه قوامته‪ ،‬واالعتماد على‬
‫استقالليتها المادية‪ ،‬ومحاولة تحقيق متطلباتها بنفسها‪ ،‬واستفرادها باتخاذ‬
‫القرارات وتدبير األمور‪ ،‬واستبدادها برأيها‪ ،‬وعدم قبول بمشاركة الغير‬
‫فيه‪.‬‬
‫فلم تجد هذه الفئة من النساء ّإال التمرد‪ ،‬وقلب الموازين‪ ،‬وكسر‬
‫وتقيد‬
‫القيود‪ ،‬والتحرر من ربقة تحجم دورها‪ ،‬وتحجر على آرائها‪ّ ،‬‬
‫حركتها‪ ،‬فأساءت من حيث أرادت اإلصالح‪ ،‬ونزعت يد ًا من بيعة‪،‬‬
‫انتقام ًا ومحاولة لرد االعتبار‪ ،‬وتحدي ًا للرجل الذي أراد قمعها وتهميشها‪.‬‬
‫فانسلخت بذلك من قيد لتقبع داخل سجن بنته بنفسها‪ ،‬وجعلت لنفسها‬
‫عال ًما مواز ًيا للرجل‪ ،‬يعمره التحدي‪ ،‬ويتحرك بالندية‪ ،‬واختالق المعارك‪.‬‬
‫فما الذي يجعل امرأ ًة متشبعة بهذا الفكر تقبل الزواج الذي هو‬
‫شراكة وتشاور وتعاون؟‬
‫وما الذي يجعل الرجل يقبل بزوجة بهذا الفكر‪ ،‬إال إن كان يطمع‬
‫‪118‬‬
‫الستقاللية‪ :‬قوة في الحق أم تمرد واستئساد؟‬

‫في كسرها‪ ،‬وتحديها‪ ،‬واالنتصار عليها‪ ،‬وإقناعها بأن الذكورية قادرة على‬
‫اإلخضاع‪ ،‬أو أنه راغب في تغييرها‪ ،‬فيمضي عمره في تعديل ما ال ينعدل؟‬
‫وفي كال الحالتين‪ :‬فشل ذريع‪ ،‬وزواج ال تتحقق فيه السكينة‪،‬‬
‫وتغيب عنه المودة والرحمة‪ ،‬وال يؤدي ما ألجله شرع الزواج‪.‬‬
‫إن مفهوم االستقاللية‪ ،‬كما كل المفاهيم المستحدثة التي ترد على‬
‫مجتمعاتنا المسلمة‪ ،‬البد من عرضها على ميزان الشرع‪ ،‬وعلى مجتمعات‬
‫اآلل واألصحاب‪ ،‬لكي ال نخرج من ظلم إلى حيف أشد‪ ،‬وكي ال نسقط‬
‫في مشاكل جديدة ونحن نبحث عن حل لألزمات المستشرية‪.‬‬
‫تحتاج المرأة إلى حريتها ألجل اإلبداع‪ ،‬وإلى استقالليتها ألجل‬
‫مواكبة تطور المجتمع‪ ،‬وألجل استطاعة أداء مهمتها المنوطة بها‪ ،‬لكن‬
‫هذه الحرية وهذه االستقاللية ليست انتقائية‪ ،‬بل وحده الشرع من يكفلها‬
‫لها‪ ،‬ويقننها بالشكل الذي يخدمها‪ ،‬ويخدم مجتمعها‪ ،‬فحياتها مرتبطة‬
‫بالمجتمع‪ ،‬وتحركاتها تحكمها من بين ما تحكمها ليس فقط الخصوصيات‪،‬‬
‫ضا المساحات المشتركة‪ ،‬فال تطغى إحداها على األخرى‪ ،‬وال‬ ‫وإنما أي ً‬
‫تلغي األولى دور الثانية‪.‬‬
‫استقالليتها؛ قوة في الحق‪ ،‬وفي فهم دورها‪ ،‬وحدود مسؤولياتها‪،‬‬
‫وتوفيقها بين حقوقها وواجباتها بمقتضى الشرع‪ ،‬وتصالحها مع ذاتها‪،‬‬
‫واستيعابها للتوازن في مختلف شؤونها‪ ،‬والتوفيق بين متطلباتها الشخصية‪،‬‬
‫وحاجيات من حولها‪ ،‬وتطوير وعيها وشخصيتها‪ ،‬وصقل مواهبها‬
‫‪119‬‬
‫الستقاللية‪ :‬قوة في الحق أم تمرد واستئساد؟‬

‫وإبداعاتها‪ ،‬وتدريبها منذ الصغر على االختيار‪ ،‬والمشاركة في اتخاذ‬


‫القرارات‪ ،‬وتحديد ما تريده‪ ،‬وعلى الكرامة‪ ،‬والعدل‪ ،‬والثقة بالنفس‪،‬‬
‫وتسيير أمورها من غير استرجال‪ ،‬وال استقواء‪ ،‬وال ندية‪ ،‬وال معاداة‬
‫للرجل‪ ،‬وال مطالبة بالمساواة ألجل قلب األدوار‪.‬‬
‫وقد فطنت الصحابية من الرعيل األول إلى المعنى الحقيقي‬
‫لالستقاللية‪ ،‬فمارست اختياراتها دون شن حروب‪ ،‬وطالبت بحقوقها‬
‫دون تنكيل أو إجحاف بمن لهم عليها حقوق‪ .‬وقد تم اإلشارة في موضع‬
‫سابق إلى قوة قرار حبيبة بنت سهل ‪ ‬التي كانت تحت الصحابي‬
‫الجليل ثابت بن قيس بن شماس‪ ،‬والتي اختارت الخلع‪ ،‬ومضت فيه‬
‫دون تخوف مما سيقال عنها من المجتمع‪ ،‬ودون إضرار به أو تنكيل‪،‬‬
‫فاستشارت الرسول ‘‪ ،‬وسلمت ثابت ًا ‪ ‬ما له عندها‪ ،‬فسطرت بذلك‬
‫مثا ًال يحتدى به في قوة الشكيمة‪ ،‬وقوة القرار‪ ،‬والمضي في اختيارها‬
‫بكل قوة وحرية واستقاللية‪.‬‬
‫وهذه أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي ‪ ‬قد دافعت بكل قوة‬
‫عن مبدئها في حماية من استجار بها‪ ،‬ووقفت ضد إرادة أخيها‪ ،‬واستقلت‬
‫باختيارها‪ ،‬واستماتت في الدفاع عن قرارها‪ ،‬فكان أن وافقها النبي ‘‬
‫فيما ذهبت إليه‪ ،‬فأجار من أجارت‪ .‬تروي ذلك فتقول‪:‬‬
‫>ذهبت إلى رسول اهلل ‘ عام الفتح‪ ،‬فوجد ُته يغتسل‪ ،‬وفاطمة‬‫ُ‬
‫فسلمت عليه‪ ،‬فقال‪ :‬من هذه؟ فقلت‪ :‬أنا أ ُّم هانئ بنت أبي‬
‫ُ‬ ‫ابنته تستره‪،‬‬
‫‪120‬‬
‫الستقاللية‪ :‬قوة في الحق أم تمرد واستئساد؟‬

‫مرحبا بأم هانئ‪ .‬فلما فرغ من غسله‪ ،‬قام فصلى ثماني‬‫ً‬ ‫طالب‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ابن أمي علي‬
‫فقلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬زعم ُ‬
‫ركعات ملتح ًفا في ثوب واحد‪ُ ،‬‬
‫ال قد أجر ُته؛ فالن بن هبيرة‪ ،‬فقال رسول اهلل ‘‪ :‬قد أجرنا‬
‫أنه قاتل رج ً‬
‫ِ‬
‫أجرت يا أ َّم هانئ<(‪.)1‬‬ ‫من‬
‫وقد بوب البخاري على هذا فقال‪> :‬باب أمان النساء وجوارهن<‪.‬‬
‫وهذه خنساء بنت خذام األنصارية قد زوجها والدها وهي ثيب‪،‬‬
‫فكرهت ذلك‪ ،‬فصدحت به لرسول اهلل ‘‪ ،‬واشتكت له أباها‪ ،‬ورفضها‬
‫حجره عليها الزواج ممن ال تريد‪ ،‬فرد النبي ‘ زواجها(‪.)2‬‬
‫وقد شاركت المرأة‪ ،‬بمحض اختيارها‪ ،‬في الهجرة سواء إلى مكة‬
‫أو إلى المدينة‪ ،‬في معزل عن قرارات محارمها‪ ،‬وقد رفض النبي ‘‬
‫ردهن إلى ذويهن من المشركين‪.‬‬
‫وقد سبق التعرض في فقرة سابقة إلى حديث الفتاة التي رفضت‬
‫مبدئي ًا أن يفرض عليها أبوها الزواج‪ ،‬فتركت مقولتها الشهيرة التي تنم عن‬
‫رجاحة عقل‪ ،‬وقوة شخصية‪ ،‬واستقاللية في القرار‪> :‬قَ ْد أَ َج ْز ُت َما َصنَ َع‬
‫اء أَ ْن ل َ ْي َس ِإلَى ْاآلبَ ِاء ِم ْن ْاألَ ْمرِ َش ْيء<‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أَبِي‪َ ،‬ولَك ْن أَ َر ْد ُت أَ ْن َت ْعلَ َم الن ِّ َس ُ‬
‫وقد نقلناها وعلَّقنا عليها في موضع سابق‪.‬‬
‫وليس بخاف موقف أسماء ـ ‪ ‬ـ من الحجاج‪ ،‬وقد ن َّكل بابنها‪،‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري‪.)3171( ،‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري‪.)5138( ،‬‬
‫‪121‬‬
‫الستقاللية‪ :‬قوة في الحق أم تمرد واستئساد؟‬

‫وأراد إرغام أنفها‪ ،‬فما كان منها إال أن وقفت أمام ظلمه بكل عنفوان‬
‫وكبرياء‪ ،‬غير مبالية ببطشه‪.‬‬
‫َع ْن أَبِي نَ ْوفَ ٍل‪ ،‬قال‪َ :‬رأَ ْي ُت َع ْب َد اهلل ِ ْب َن ال ُّزبَ ْيرِ َعلَى َع َق َبةِ ا ْل َم ِدينَةِ‪،‬‬
‫اس‪َ ،‬ح َّتى َم َّر َعلَ ْيه ِ َع ْب ُد اهلل ِ ْب ُن ُع َم َر‪،‬‬ ‫قَ َال‪ :‬فَ َج َعلَ ْت قُ َر ْيش َت ُم ُّر َعلَ ْيه ِ‪َ ،‬والنَّ ُ‬
‫الس َال ُم َعلَ ْي َك أَبَا ُخ َب ْي ٍب‪،‬‬ ‫الس َال ُم َعلَ ْي َك‪ ،‬أَبَا ُخ َب ْي ٍب َّ‬ ‫فَ َوقَ َف َعلَ ْيه ِ فَ َق َال‪َّ :‬‬
‫الس َال ُم َعلَ ْي َك أَبَا ُخ َب ْي ٍب‪ ،‬أَ َما َواهلل ِ ل َ َق ْد ُك ْن ُت أَ ْن َها َك َع ْن َه َذا‪ ،‬أَ َما َواهلل ِ ل َ َق ْد‬ ‫َّ‬
‫ُك ْن ُت أَ ْن َها َك َع ْن َه َذا‪ ،‬أَ َما َواهلل ِ ل َ َق ْد ُك ْن ُت أَ ْن َها َك َع ْن َه َذا‪ ،‬أَ َما َواهلل ِ ِإ ْن ُك ْن َت‪،‬‬
‫وال لِ َّلر ِحمِ‪ ،‬أَ َما َواهلل ِ َألُ َّمة أَ ْن َت أَ َش ُّر َها َألُ َّمة‬ ‫َما َعلِ ْم ُت‪َ ،‬ص َّو ًاما‪ ،‬قَ َّو ًاما‪َ ،‬و ُص ً‬
‫اج َم ْوقِ ُف َع ْب ِد اهلل ِ َوقَ ْول ُ ُه‪،‬‬ ‫َخ ْير‪ ،‬ثُ َّم نَ َف َذ َع ْب ُد اهلل ِ ْب ُن ُع َم َر‪ ،‬فَ َبلَ َغ ا ْل َح َّج َ‬
‫فَأَ ْر َس َل ِإل َ ْيه ِ‪ ،‬فَأُ ْنز َِل َع ْن ِجذْ ِعه ِ‪ ،‬فَأُ ْل ِقي ِفي قُبو ِر ا ْل َي ُهودِ‪ ،‬ثُ َّم أَ ْر َس َل ِإلَى أُ ِّمه ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ول‪ :‬ل َ َت ْأتِ َينِّي أَ ْو‬
‫الر ُس َ‬ ‫ت أَبِي بَ ْك ٍر‪ ،‬فَأَبَ ْت أَ ْن َت ْأتِ َي ُه‪ ،‬فَأَ َع َاد َعلَ ْي َها َّ‬ ‫اء بِ ْن ِ‬
‫أَ ْس َم َ‬
‫يك َح َّتى‬ ‫ك‪ ،‬قَ َال‪ :‬فَأَبَ ْت َوقَال َ ْت‪َ :‬واهلل ِ َال آتِ َ‬ ‫ك بِ ُق ُرونِ ِ‬‫ك َم ْن يَ ْس َحب ِ‬
‫ُ‬
‫َألَ ْب َع َث َّن ِإل َ ْي ِ‬
‫َت ْب َع َث ِإل َ َّي َم ْن يَ ْس َح ُب ِني بِ ُق ُرونِي‪ ،‬قَ َال‪ :‬فَ َق َال‪ :‬أَ ُرونِي ِس ْب َت َّي فَأَ َخ َذ نَ ْعلَ ْيه ِ‪ ،‬ثُ َّم‬
‫ا ْن َطلَ َق يَ َت َوذ َُّف‪َ ،‬ح َّتى َد َخ َل َعلَ ْي َها‪ ،‬فَ َق َال‪َ :‬ك ْي َف َرأَ ْي ِت ِني َصنَ ْع ُت بِ َع ُد ِّو اهلل ِ؟‬
‫ول‬ ‫آخ َر َت َك‪ ،‬بَلَ َغ ِني أَنَّ َك َت ُق ُ‬ ‫قَال َ ْت‪ :‬رأَي ُت َك أَ ْفس ْد َت َعلَيه ِ ُد ْني ُاه‪َ ،‬وأَ ْفس َد َعلَي َك ِ‬
‫َ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫ات النِّطَاقَ ْي ِن‪ ،‬أَ َّما أَ َح ُد ُه َما فَ ُك ْن ُت أَ ْرفَ ُع‬ ‫ات النِّطَاقَ ْي ِن‪ ،‬أنا َواهلل ِ َذ ُ‬ ‫ل َ ُه‪ :‬يَا ْاب َن َذ ِ‬
‫اب‪َ ،‬وأَ َّما ْاآل َخ ُر فَ ِنطَ ُاق‬ ‫بِه ِ ط ََع َام َر ُسو ِل اهلل ِ ‘‪َ ،‬وط ََع َام أَبِي بَ ْك ٍر ِم َن ال َّد َو ِّ‬
‫يف‬ ‫ول اهلل ِ ‘ َح َّدثَنَا‪> ،‬أَ َّن ِفي ثَ ِق ٍ‬ ‫ا ْل َم ْرأَ ِة ال َّ ِتي َال َت ْس َت ْغ ِني َع ْن ُه‪ ،‬أَ َما ِإ َّن َر ُس َ‬
‫‪122‬‬
‫الستقاللية‪ :‬قوة في الحق أم تمرد واستئساد؟‬

‫َك َّذا ًبا َو ُمب ًِيرا<‪ ،‬فَأَ َّما ا ْل َك َّذ ُ‬


‫اب فَ َرأَ ْينَ ُاه‪َ ،‬وأَ َّما ا ْل ُمب ُِير فَ َال ِإ َخال ُ َك ِإ َّال ِإيَّ ُاه‪ ،‬قَ َال‪:‬‬
‫اج ْع َها(‪.)1‬‬‫فَ َق َام َع ْن َها َول َ ْم يُ َر ِ‬
‫فيا أيتها المرأة الداعية إلى االستقاللية بمفهومها السلبي‪:‬‬
‫إن كانت االستقاللية في قانونك تعني االنفراد بالرأي‪ ،‬والقرارات‪،‬‬
‫والتصرفات‪ ،‬والتحركات‪ ،‬بدافع االستقواء والتمرد‪ ،‬وإلغاء دور الرجل‬
‫في حياتك‪ ،‬فال تتزوجي‪ ،‬ألن الزواج تشارك وتعاون وتشاور‪.‬‬
‫إن كانت االستقاللية في دستورك تعني حمل سالحك على الرجل‪،‬‬
‫ومحاولة إخضاعه‪ ،‬وجعله خات ًما في أصبعك‪ ،‬تحركينه كما شئت‪ ،‬فال‬
‫تتزوجي‪.‬‬
‫إن كانت حياتك سعيدة وأنت تستمتعين بالحرية المطلقة‪ ،‬وترين‬
‫في خدمة بيتك‪ ،‬والسهر على راحة زوجك وأوالدك‪ ،‬شيئ ًا متجاوز ًا؛‬
‫فبيتك أو بيت والديك أوسع لك‪.‬‬
‫إن كنت ترين في استئذانه مساس ًا بحريتك‪ ،‬وفي طاعته التي حدد‬
‫لك المولى تعدي ًا على شخصيتك‪ ،‬فال تعودي في الكفر بعد اإليمان‪،‬‬
‫والزمي عزوبيتك‪ ،‬فالمجتمع في غنى عن مزيد مشاكل وتشوهات‪.‬‬
‫إن كنت ترين في قوامته التي شرعها المولى بفهم المنصفين من‬
‫أهل العلم قيد ًا النطالقك‪ ،‬ودحر ًا الستقالليتك‪ ،‬فال تتزوجي‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم‪.)2545( ،‬‬
‫‪123‬‬
‫الستقاللية‪ :‬قوة في الحق أم تمرد واستئساد؟‬

‫إن كان عملك وانشغاالتك أولى أولوياتك‪ ،‬فبملكك القرار‪،‬‬


‫ووحدك من عليك االختيار‪ :‬ال تتزوجي‪.‬‬
‫وأخير ًا إن كانت هذه قناعاتك واختياراتك‪ ،‬فرجاء احتفظي بها‬
‫لنفسك‪ ،‬وال تجعلي للنساء منها قاعدة تتهمين بالضعف والرجعية من‬
‫اختارت غير طريقك‪.‬‬
‫من حقك االستقالل‪ ،‬ومن واجبك في حالتك عدم الزواج‪ ،‬ومن‬
‫الواجب عليك أكثر؛ عدم الترويج الستثنائك على أنه القاعدة‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫ادعتلد‬
‫إهانة للمرأة‪ ،‬أم حرص على مصلحتها؟‬
‫بين من شيطنوه‪ ،‬وجعلوه موضو ًعا للهجوم على اإلسالم‪ ،‬واعتباره‬
‫دي ًنا ذكوريًّا‪ ،‬وأعلنوه شعا ًرا للدفاع عن حقوق المرأة‪ ،‬وإلنقاذها من‬
‫التسلُّط والحيف‪ ،‬الذي يمارسه عليها هذا التشريع ــ زعموا ــ‪ ،‬وبين من‬
‫توسعوا في حكمه‪ ،‬وجعلوه من اإلباحة إلى االستحباب‪ ،‬وجعلوا منه‬ ‫َّ‬
‫طلبا لألجر‬
‫لخطَبهم‪ ،‬ولحمالتهم التوعوية‪ ،‬للتشجيع عليه؛ ً‬ ‫موضو ًعا ُ‬
‫وإلحياء السنة = تتم مقاربة التعدد‪.‬‬
‫وصب جام حنقه على من يرى مشروعيته‬ ‫َّ‬ ‫فريق عطَّل الحكمة منه‪،‬‬
‫ِ‬
‫االتهامات للمرأة الثانية‪ ،‬وألحق بها أشنع‬ ‫ال‪ ،‬فحاربه‪ ،‬وكال‬‫قو ًال أو فع ً‬
‫التوصيفات‪ ،‬وسماها ــ في أفضل أحوالها ــ سارق ًة للرجال‪ ،‬والم األولى‪،‬‬
‫التعدد‪ ،‬ونظر‬
‫َ‬ ‫زوجها‬
‫واتهمها بالتقصير‪ ،‬وبعدم الكفاءة‪ ،‬وإال لما اختار ُ‬
‫إليها ككائن متجاوز‪ ،‬وجرد الرجل من إنسانيته‪ ،‬واعتبره فارغ العين‪،‬‬
‫منابر‬
‫خائ ًنا للعشرة‪ ،‬نه ًما عديم الوفاء‪ .‬واتخذ من الدراما‪ ،‬ومن اإلعالم‪َ ،‬‬
‫يأل جه ًدا في ص ِّدهم عنه‪،‬‬
‫لتشويه صورته‪ ،‬وللتلبيس على الناس‪ ،‬ولم ُ‬
‫وتشكيكهم في مشروعيته‪ ،‬والقدح في غائيته‪ ،‬واعتبر الزنا والعالقات غير‬
‫‪125‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫ألف ُعذر لتشويه‬


‫المشروعة أهو َن منه‪ ،‬وامتطى صهوته‪ ،‬كي يجد لنفسه َ‬
‫اإلسالم‪ ،‬والقدح في أحكامه‪.‬‬
‫وفريق أفرط من حيث أراد اإلصالح‪ ،‬وسقط في التعنت من حيث‬
‫مستحبا مطل ًقا‪ ،‬يستحق فاعله الثواب‪ ،‬بل‬ ‫ًّ‬ ‫نوى ر َّد االعتبار له‪ ،‬فجعله‬
‫سنة مؤكدة‪ ،‬وفلسف الترويج له‪ ،‬فأسرف في جرد مناقبه‪ ،‬وض َّخم دوره‪،‬‬
‫أجرا فقط‬
‫بل جعله عالمة على قوة التدين واالمتثال‪ ،‬ور َّتب للمع ِّدد ً‬
‫لمجرد التعدد‪ ،‬وأغاظ به النساء‪ ،‬وجعله شوك َة ميزا ِن تدينها‪َّ ،‬‬
‫فجرم منهن‬
‫فعرضها بذلك‬‫تحملَه‪ ،‬وإن كانت توقن بأنه من الشرع‪َّ ،‬‬ ‫من لم تستطع ُّ‬
‫للفتنة‪ ،‬وتواطأ على تجريم غيرتها الفطرية‪ ،‬وحكم عليها بالنقص في‬
‫الديانة‪ ،‬وألزمها بما ال يلزمها‪ ،‬وفرض عليها الصبر‪ ،‬بل رتب لها األجر‬
‫على سعيها في تزويج زوجها‪ ،‬وأسس لذلك الجمعيات والحمالت على‬
‫مواقع التواصل‪ ،‬تحث من خاللها المرأة أختها المرأة على تزويج زوجها‪،‬‬
‫وهميا‪ ،‬لمشاكل العوانس والمطلقات‬ ‫ًّ‬ ‫وحال‬
‫ًّ‬ ‫وجعله خدعة نفسية‪،‬‬
‫واألرامل‪ ،‬وإن كان الواقع يشي بأنهن أقل الفئات المطلوبة‪ ،‬فالسبق‬
‫وتوجوا كل ذاك بتشويه صورته بممارساتهم الخاطئة‬ ‫لألبكار الصغيرات‪َّ .‬‬
‫له في بيوتاتهم‪.‬‬
‫وكال الفريقين غابت عنه المرجعية النهائية‪ ،‬وترنح عنده النموذج‬
‫اإلدراكي‪ ،‬الذي ينتج المفاهيم وبالتالي اختلطت عنده اإلشكاالت‬
‫وتداخلت‪ ،‬وتم مقاربة هذا الموضوع بسطحية وذاتية وتعسف‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫هل التعدد تعسف وظلم وقهر للمرأة؟ وهل ُشرِع مراعا ًة لفطرة‬
‫الرجل‪ ،‬دون مراعاة فطرة المرأة في الغيرة‪ ،‬وفي ُك ْر ِهه؟‬
‫إ ّن دي ًنا يبني أحكامه الشرعية على علَّةٍ دفعت إلى التشريع‪ ،‬وحكمة‬
‫مقصودة أو متغياة‪ ،‬سواء ارتبطت العلة بالحكمة أو استقلتا؛ ال يمكن أن‬
‫يستثني من ذلك ُحك ًما دو ًنا عن باقي األحكام‪ .‬تشريع التعدد غير مستثنى‬
‫ضا‪ ،‬ومراعاة فوارق‬ ‫من هذه األساسيات‪ ،‬فالعلة موجودة‪ ،‬والحكمة أي ً‬
‫غيبة‪ ،‬بل إ َّن اشتراك المرأة في هذا الميل كزوجة رديفة يبرره‪.‬‬
‫الميول غير ُم َّ‬
‫فالشرع قد راعى حاجة الرجل إلى التعدد‪ ،‬ألن ميله إلى المرأة‪ ،‬وإلى‬
‫تعديد عالقاته بالنساء‪ ،‬وعدم اكتفائه في الغالب بواحدة‪ ،‬سواء لحاجة‬
‫الواقع‬
‫ُ‬ ‫حسية‪ ،‬أو معنوية؛ شيء فطري‪ ،‬ال يناقش فيه إال مكابر‪ ،‬يفند‬
‫اعتراضه‪ ،‬فجاء التعدد كحل حال ٍل لهذا األمر‪ .‬والشارع الحكيم الذي‬ ‫َ‬
‫وكع ْو ٍن على فطرته‪ ،‬كي ال يقع في‬
‫حال لميول الرجل للنساء‪َ ،‬‬ ‫جعل التعدد ًّ‬
‫الحرام؛ لم يغفل حاجة المرأة إلى الزواج‪ ،‬ولو بشكل مشترك‪ ،‬وإلى‬
‫تكوين أسرة‪ ،‬والحصول على فرصة لإلنجاب‪ ،‬وإشباع أمومتها‪ ،‬وعلى‬
‫االهتمام والرعاية التي تحتاجها‪ ،‬فأباح لها الزواج من رجل متزوج‪ .‬ولم‬
‫يتجاهل حاجة الزوجة األولى إلى االستقرار‪ ،‬وعدم التعرض إلى الظلم‪،‬‬
‫فجعل العدل شر ًطا فيه وقي ًدا‪ ،‬وأسس له ضوابط وشرو ًطا‪ ،‬ور َّتب‬
‫عقوبات لمن يخوضه بغير حقه‪ ،‬فال يراعي حق كل الزوجات‪ .‬وهو نفسه‬
‫حق طلب الطالق‪ ،‬في حالة‬ ‫خول للزوجة السابقة َّ‬
‫الشارع الحكيم الذي َّ‬
‫عدم إطاقتها أمر زواج زوجها‪ ،‬وأباح لها االشتراط عليه قبل العقد أال‬
‫‪127‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫يتزوج عليها‪ .‬فجمع بذلك بين إباحة ما يرضي رجولة الرجل‪ ،‬ويساعد‬
‫فطرته‪ ،‬كي ال يقع في الزلل‪ ،‬وبين كفالة حق األولى في االستقرار‬
‫والعدل‪ ،‬وحق الالحقة في أن تحظى بزوج‪.‬‬
‫التعدد إذن كشرع‪ ،‬قد اجتمعت فيه الحكم ُة والغاية‪ ،‬وانتفى عنه‬
‫الظلم والقهر‪ ،‬وإنما ينبعث الظلم من ممارسيه‪ ،‬لقلة ديانتهم‪ ،‬وإيمانهم‪،‬‬
‫وأخالقهم‪ ،‬ومروءتهم‪ ،‬ولجهلهم أو تجاهلهم معاني القوامة‪ ،‬ولعدم العدل‬
‫بين الزوجات‪ ،‬واالعتماد على صبر األولى وصمتها‪ ،‬أو على تضحيات‬
‫وبدنيا وماديًّا لزواج جديد‪ ،‬أو الفتقادهم‬
‫ًّ‬ ‫نفسيا‬
‫الثانية‪ ،‬أو لعدم التأهل ًّ‬
‫وسائل إدارة تحديات التعدد‪ ،‬وتف ُّهم غيرة المرأة الجبلية‪ ،‬وانعدام‬
‫الحكمة وقوة الشخصية في إدارة المشاكل وحلها‪ ،‬وجعل السكينة تستتب‬
‫في كال البيتين‪ ،‬وعدم فهم للمسؤولية التي تنتظرهم أمام اهلل‪.‬‬
‫وغيرة المرأة فطرة فيها‪ ،‬ومقدارها يتفاوت من امرأة ألخرى‪ .‬فقادرة‬
‫وم ْن تجد حلَّها األمثل كي تستقيم‬
‫على الالمباالة والتعايش مع الوضع‪َ ،‬‬
‫إحداهن حماقاته أو متطلباته‪ ،‬وغيورة‬
‫ُ‬ ‫حياتها مع زوجها أن تقتسم معها‬
‫ج ًّدا ال تستطيع تقبل فكرة أن يشاركها غيرها في زوجها‪.‬‬

‫صحيح أ َّن َو ْق َع ذلك على القلب يُذْ ِهب َّ‬


‫اللب‪ ،‬ويجعل المرأة أحيا ًنا‬
‫الحق حق‪ ،‬والحكمة مطلوبة ج ًّدا في هذا األمر‪.‬‬‫بحمق‪ ،‬لك َّن َّ‬ ‫تتصرف ُ‬
‫فإن كانت ال تطيق ذلك‪ ،‬وترى أنها ستضيع حقوق ربها؛ فلتختلع‪ ،‬أو‬
‫تطلب الطالق‪.‬‬
‫‪128‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫وإن ارتأت أنها ال تستطيع الفراق ألي سبب من األسباب؛ فلتحاول‬


‫أن تسيطر على الوضع‪ ،‬وعلى غيرتها بالدرجة األولى‪ ،‬وأن تتعايش مع‬
‫هذه الحياة الجديدة‪ .‬وكل ما عليها إن ابتليت به‪ ،‬وال تريد االنفصال‪ :‬أن‬
‫تعالج غيرتها‪.‬‬
‫ولو سلمت من هذه الغيرة أنثى؛ لسلمت منها أمهات المؤمنين‬
‫رضوان اهلل عليهن‪ ،‬ولسلمت منها قبلهن سارة زوجة الخليل ‪،..‬‬
‫وكما في كل أقطار المعمور‪ ،‬هناك المرأة التي تستطيع أن تذبح زوجها‬
‫ألنه تزوج‪ ،‬وهناك من تطلب الطالق‪ ،‬وهناك من تتقبل األمر على مضض‬
‫وتتعايش معه‪ ،‬وهناك من ال تسأل سوى العدل‪ ،‬وهذا ال يمنعها الغيرة‪،‬‬
‫وهناك من تسارع إلى أن تخطب له ضرتها‪ .‬وقد كانت من زوجات النبي‬
‫ليلتها لغيرها من نسائه رضوان اهلل عليهن‪ ،‬في مقابل أن‬
‫‘ من َت َه ُب َ‬
‫كتب السيرة والحديث‪.‬‬ ‫تبقى أُ ًّما للمؤمنين‪ ،‬ومنهن من تناقلت غيرتها ُ‬
‫فسودة بنت زمعة رضي اهلل عنها وأرضاها وهبت ليلتها لعائشة ‪ ‬في‬
‫مقابل أن يمسكها النبي ‘‪.‬‬
‫رسول اهلل ِ‬
‫ُ‬ ‫ود ُة ْأن يُ َطل ِّ َقها‬
‫خشيت َس َ‬
‫ْ‬ ‫فقد روى ابن عباس‪ ،‬قال‪> :‬‬
‫واجعل يومي لعائش َة‪ ،‬ففعل‪ ،‬فنزلت‬ ‫ْ‬ ‫مس ْك ِني‪،‬‬
‫‘‪ ،‬فقالت‪ :‬ال ُتطلِّ ْق ِني‪ ،‬وأَ ِ‬
‫{ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏﱐ ﱑ ﱒ} [النساء‪،]128 :‬‬
‫شيء فهو جائز<(‪ .)1‬فهذا نموذج شريف من أهل‬ ‫فما اصطلحا عليه من ٍ‬
‫البيت أمهات المؤمنين الصحابيات‪ ،‬نجد فيه المرأة تختار عن طيب نفس‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬انظر‪ :‬تفسير الطبري‪ ،‬وانظر‪ :‬سنن الترمذي‪.)3040( ،‬‬
‫‪129‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫أن تبقى على ذمة زوجها‪ ،‬وال تمانع أن تهب نصيبها منه إلى أخرى‪ ،‬لما‬
‫تراه من مصلحتها الدينية والدنيوية في البقاء مع هذا الزوج‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬نجد فيه الزوجة‬
‫و ّثمة نموذج آخر‪ ،‬من البيت النبوي الشريف أي ً‬
‫إباء من يرفضه بالكلية‪ ،‬وال من ينكر‬
‫تغار‪ ،‬وإن كانت ال تأبى التعدد َ‬
‫إباحة اهلل له‪ ،‬والحكمة الجليلة في تشريعه‪ .‬وذلك في حديث قصعة الثريد‬
‫مع أم المؤمنين عائشة ‪.‬‬
‫فعن أنس‪ ،‬قال‪َ :‬كا َن النَّبِي ‘ ِع ْند بعض نِ َسائِه ِ‪ ،‬فَ ْأرسلت ِإ ْح َدى‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين بصحفة ف َيها ط ََعام‪ ،‬فَضربت ال َّ ِتي النَّبِي ‘ في بَ َ‬
‫يتها يَد‬ ‫أُ َّم َهات ا ْل ُمؤم ِن َ‬
‫ا ْل َخادِم‪ ،‬فَ َس َقطت الصحفة فانفلقت‪ ،‬فَجمع النَّبِي ‘ فلق الصحفة‪َّ ،‬‬
‫ثم‬
‫جعل يجمع ِف َيها الطَّ َعام ال َّ ِذي َكا َن ِفي الصحفة‪َ ،‬ويَ ُقول‪> :‬غارت أم ُكم<‪،‬‬
‫ِ‬
‫يتها‪ ،‬فَدفع‬‫ثم حبس ا ْل َخادِم َح َّتى أَ َتى بصحفةٍ من ِع ْند ال َّ ِتي ُه َو في بَ َ‬ ‫َّ‬
‫ورة ِفي بَيت‬ ‫الص ِح َ‬
‫يحة ِإلَى ال َّ ِتي ُكسرت صحفتها‪َ ،‬و ْأمسك ا ْل َم ْك ُس َ‬ ‫الصحفة َّ‬
‫ال َّ ِتي كسرت(‪.)1‬‬
‫وما تصريح عائشة بغيرتها من خديجة رضي اهلل عنهما وأرضاهما‬
‫بمغفول عنه‪.‬‬
‫فعن َعائِ َش َة ‪ ‬قَال َ ْت‪َ :‬ما ِغ ْر ُت َعلَى ْام َرأَة لِلنَّبِي َما ِغ ْر ُت َعلَى‬ ‫ْ‬
‫يج َة‪َ ،‬هلَ َك ْت قَ ْب َل أَ ْن يَ َت َز َّو َج ِني‪ ،‬لِ َما ُك ْن ُت أَ ْس َم ُع ُه يَذْ ُك ُر َها‪َ ،‬وأَ َم َر ُه اهللُ أَ ْن‬
‫َخ ِد َ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬البخاري‪ ،)5225( ،‬أبو داود‪.)3567( ،‬‬
‫‪130‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫الشا َة فَ ُي ْه ِدي ِفي َخالَئِلِ َها ِم ْن َها َما‬


‫يُ َبش َر َها بِ َب ْيت ِم ْن قَ َصب‪َ ،‬و ِإ ْن َكا َن ل َ َيذْ بَ ُح َّ‬
‫يَ َس ُع ُه َّن(‪.)1‬‬
‫وقد ُوجد في التاريخ أن من ُك َّمل الرجال من كان يعدد الزوجات‪،‬‬
‫ويُكثر من ذلك‪ ،‬بفطرته وسجيته‪ ،‬ورغبته في المباح الحالل‪ ،‬من غير‬
‫أجل تلك األمثلة‪ ،‬من سادات أهل البيت النبوي‬ ‫ظلم وال معصية‪ .‬ومن ِّ‬
‫الكرام‪ ،‬ومن الصحابة الفضالء‪ :‬الحسن بن علي ‪ ،‬فقد اشتهر في‬
‫التاريخ أنه كان يُكثر الزواج والطالق‪ ،‬ومع ذلك؛ فلم يكن ذلك صار ًفا‬
‫للرجال عن تزويجه بناتهم‪ ،‬لما له من شرف‪ ،‬وسجايا محمودة‪ ،‬وعدل‬
‫علي بن أبي طالب‬‫وإنصاف‪ ،‬حتى ورد‪ ،‬من رواية جعفر الصادق؛ أن ّ‬
‫ــ والد الحسن ــ كان يقول على المنبر‪> :‬يا أهل الكوفة‪ ،‬ال تزوجوا الحسن‬
‫لنزوجنه‪ ،‬فما‬
‫ّ‬ ‫بن علي‪ ،‬فإنه رجل مطالق<‪ ،‬فقال رجل من همدان‪ :‬واهلل‬
‫رضي أمسك‪ ،‬وما كره طلق(‪ .)2‬ومع ذلك فقد قال علي بن الحسين ــ‬
‫زين العابدين ــ‪ ،‬وهو ابن الحسين‪ ،‬فالحسن عمه‪ ،‬وجميعهم من السادة‬
‫أهل البيت األشراف‪> :‬كان الحسن بن علي مطالق ًا للنساء‪ ،‬وكان ال يفارق‬
‫امرأة إال وهي تحبه<(‪ .)3‬وقال عبداهلل بن حسن‪> :‬إ ّن الحسن كثير النكاح‪،‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬البخاري‪ ،)3816( ،‬ومسلم‪.)2434( ،‬‬
‫(‪ )2‬تاريخ دمشق البن عساكر‪ ،)78/14( ،‬وسير أعالم النبالء‪ ،)262/3( ،‬والبداية والنهاية‬
‫البن كثير‪.)38/8( ،‬‬
‫(‪ )3‬تاريخ دمشق‪ ،)79/14( ،‬وتهذيب الكمال للمزي‪ ،)592/2( ،‬والبداية والنهاية‪،‬‬
‫(‪.)38/8‬‬
‫‪131‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫وقل من تزوجها إال أحبته‪ ،‬وصبت به<(‪ ،)1‬وما‬


‫وقل من حظيت عنده‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫ذلك إال لشريف خصاله وطباعه وأخالقه‪ ،‬حتى روي أنه طلق امرأتين‪،‬‬
‫فأرسل إلى كل واحدة منهما زقا ًقا من عسل‪ ،‬وعشرة آالف درهم‪ ،‬فقالت‬
‫إحداهما‪> :‬متاع قليل من حبيب مفارق<(‪.)2‬‬
‫والمرأة التي تضطرها الحياة إلى القبول بزواج زوجها؛ ليس عليها‬
‫أن تحاول التغلب على الغيرة ألجل التخلص منها؛ ألنها لن تفلح في‬
‫ذلك‪ ،‬بل كل ما عليها أن تحاول التعايش مع وضعها الذي يقتضي وجود‬
‫امرأة أخرى في حياة زوجها‪ ،‬واكتساب المهارة والحنكة في التعامل مع‬
‫المواقف التي تثير غيرتها‪ ،‬وهي أمام هذا األمر إما‪:‬‬
‫* قد أفهمتها الخطابات الشائعة السطحية أنها إن عبرت عن غيرتها‬
‫أو رفضت بفطرتها قبول من تشاركها زوجها؛ فقد عصت اهلل‪ ،‬ور َّدت‬
‫حكمه‪ ،..‬وبأن لها األجر إن هي قبلت وسارعت الى خطبة زوجة‬
‫لزوجها‪ ،‬وبأنها بذلك تصعد درجة في اإليمان وفي الصبر‪ ،..‬وألنها‬
‫تشبعت بالفكرة‪ ،‬وخشيت أن تمرق من الدين‪ ،‬إن عبرت عن رفضها‪ ،‬أو‬
‫تألمت وحزنت لهذا األمر‪ ،‬ولم تطقه؛ فقد بادرت بنفسها >لتنال األجر<‪،‬‬
‫وربما فلسفت األمر وأعطته أبعا ًدا أخرى جانبية منها أنها تساعد امرأة‬
‫على الزواج‪ ،‬وتأخذ أجر غض بصر زوجها‪ ،‬ونحو ذلك من األفكار‪..‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬سير أعالم النبالء‪ ،)274/3( ،‬وتاريخ الخلفاء‪.)146( ،‬‬
‫(‪ )2‬تاريخ دمشق‪ ،)77/14( ،‬وتهذيب الكمال للمزي‪.)592/2( ،‬‬
‫‪132‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫* وإما زوجة قد سئمت من زوجها‪ ،‬وال حيلة لها في فراقه‪ ،‬فهي‬


‫تبقيه ُمنف ًقا ال زوج ًا‪ ،‬تقتسم معه بهجة الحياة‪ ،‬وتسارع الى أن تحضر له‬
‫من تريحها منه‪ ،‬ولو ليلة بليلة‪..‬‬
‫عدا هذا‪ ،‬فالغيرة في النساء طبيعية في األمر‪ ،‬ورفضهن إنما هو‬
‫رفض لأللم الذي يسببه لهن‪ ،‬وليس لشرع اهلل‪ ،‬كما أفهموهن‪ .‬فعائشة‬
‫‪ ‬حين كانت تغار‪ ،‬وقد ذكرنا بعض أمثلة ذلك‪ ،‬لم تكن تنكر شر ًعا‪،‬‬
‫وال حقًّا‪ ،‬وإنما تتصرف بمحض طبيعتها‪ ،‬في مساحة دنيوية‪ ،‬تختلف عن‬
‫المساحة الدينية‪ ،‬وأحكام التشريع والمنع واإلباحة‪.‬‬

‫هل األصل في الزواج التعدد؟ وهل هو مستحب وإحياء سنة‪ ،‬كما‬


‫هو شائع؟‬
‫المتأمل في المجتمعات التي يغلب عليها التعدد‪ ،‬وتضخيم الحديث‬
‫عبر عنه بالملتزمين؛‬
‫غالبا في مجتمع ما يُ َّ‬
‫عنه؛ يخلص إلى أنه يك ُثر ً‬
‫العتقادهم استحبابه أو ُس ّن َيته‪ ،‬ولحرصهم على موافقة السنة‪ ،‬وظنهم أن‬
‫المع ِّد َد ُمثاب‪ ،‬وترويجهم لفكرة أنه ــ أي التعدد ــ األصل في الزواج‪.‬‬
‫غالبا في تلك المسألة‪،‬‬
‫قوال واح ًدا‪ ،‬وال ً‬
‫والواقع أن هذا الرأي ليس ً‬
‫فالتعدد عند جمهور الفقهاء جائز مشروع فقط‪ ،‬بل هو عند الحنابلة ليس‬
‫مستحبا‪ ،‬بل خالف األولى‪ ،‬إذ األولى المستحب عندهم ــ في‬ ‫ً‬ ‫سنة‪ ،‬وال‬
‫‪133‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫(‪)1‬‬
‫كثيرا ما نالحظ أن‬
‫المعتمد ــ االقتصار على واحدة ال يزيد عليها ‪ .‬بل ً‬
‫هؤالء الذين يفعلون التعدد متذرعين بمجرد السنية وإحياء السنة؛ إذا‬
‫سرا‪ ،‬ولم يخبروا عنه حتى أقرب المقربين؛‬ ‫أرادوا أن يعددوا؛ فعلوا ًّ‬
‫توخيا لعدم إشعار زوجاتهم‪ ،‬ولم يصبغوا فعلهم بتسنن وال باستحباب‪،‬‬ ‫ً‬
‫وال شك أن هذا مخالف لما يُ َّدعى أنه إحياء السنة‪ ،‬فإن إحياء الشعائر ال‬
‫يكون بالسر‪ ،‬فهذا يدل أن ذلك التصرف ال يكون منهم في الغالب إال‬
‫نزوة عابرة‪ ،‬أو مجرد رغبة أكيدة جبلية في الزواج من أكثر من امرأة‪،‬‬
‫فينبغي أن يقتصر توصيف الحالة على ذلك المعنى ــ وهو معنى مباح في‬
‫الشريعة‪ ،‬ليس ممنو ًعا ما دام يتوخى العدل فيه ــ دون ادعاء التلبس‬
‫السنَّة‪.‬‬
‫بشعارات كاالقتداء أو إحياء ُّ‬

‫ًّ‬
‫هل التعدد حقا حل للعنوسة؟‬
‫نظريا‪ ،‬يعتبر التعدد من أنجع الحلول للعنوسة‪ ،‬ولحاالت الطالق‪،‬‬
‫ًّ‬
‫ٍ‬
‫مجتمعات لم‬ ‫عمليا في‬
‫حال ًّ‬
‫والترمل‪ ،‬بل قد كان على مدار قرون خلت ًّ‬ ‫ُّ‬
‫الرئيس؛ تدعو إليه في خطب الجمعات‬‫َ‬ ‫تجعل منه موضو َع خطاباتها‬
‫واألعياد‪ ،‬وتقيم ألجله حلقات علم ومذاكرة‪ ،‬وفي نفس الوقت‪ ،‬لم تنظر‬
‫واقعيا‪ ،‬أصبح التعدد‪ ،‬كغيره من‬
‫ًّ‬ ‫ألطراف التعدد النظرة إليه اليوم‪ .‬ولكن‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬انظر‪ :‬اإلنصاف للمرداوي‪.)16/8( ،‬‬
‫‪134‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫الحلول المقترحة للمشكالت المثارة في أوساط الملتزمين‪ ،‬والمعالجةِ‬


‫معالج ًة َع َر ِضية‪ِ ،‬مثل عمل المرأة‪ ،‬واالختالط‪ ،‬وقيادة السيارة‪ ،‬ونحوها؛‬
‫وتخديرا لهما؛ لتمرير فكرة‬
‫ً‬ ‫تزيي ًفا للواقع‪ ،‬وخدا ًعا للنفس وللمجتمع‪،‬‬
‫عمليا في الواقع‪ .‬فهذا الذي يجلس على‬‫اإلصالح‪ ،‬دون إجرائه وتفعيله ًّ‬
‫ويروج لفكرة ُسنيته أو استحبابه‪،‬‬
‫منبره‪ ،‬يتحدث عن مناقب التعدد‪ِّ ،‬‬
‫ويض ِّخم شأنَه‪ ،‬وأنه الحل األوحد واألمثل للمشاكل اآلنفة الذكر؛ قد‬
‫يكون في واقعه أسوأ مثال على ممارسة هذا المباح‪ ،‬ولو عرض عليه من‬
‫المطلقات أو األرامل أو العوانس َمن يطبق معهن ما يُنظِّر له؛ لكان أول‬
‫بديال! بل لو استفتوه لكان‬‫الرافضين‪ ،‬ولما ابتغى عن الصغيرة البكر ً‬
‫جوابه‪ ،‬كما تلك األجوبة المغلفة الجاهزة التي يستقطعونها من السنة‬
‫بكرا تالعبها‬
‫وتبريرا الختياراتهم‪( :‬أال ً‬
‫ً‬ ‫النبوية الشريفة‪ ،‬خدم ًة ألغراضهم‪،‬‬
‫وتالعبك)(‪.)1‬‬
‫فصحيح أن التعدد حل ناجع لهذه المشاكل‪ ،‬إلى جانب حلول‬
‫أخرى ال مجال لجردها في هذا المقام؛ لكن نحتاج إلى وقت طويل‪،‬‬
‫العقول والنفوس لهذا المطلب‪ ،‬وكي‬
‫َ‬ ‫وخطاب سديد ناصح‪ ،‬كي نهيئ‬
‫واقعيا‪ ،‬ال مجرد خطب عصماء يبرر بها خوض التجربة‪.‬‬
‫يطبق ًّ‬
‫حال َّ‬
‫يصبح ًّ‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،)2967( ،‬ومسلم‪.)715( ،‬‬
‫‪135‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫هل عدم قبول املرأة للتعدد يقدح في دينها؟‬


‫األحكام الشرعية التي َّبينها اهللُ ‪ ‬في محكم كتابه‪ ،‬أو عن طريق‬
‫نبيه عليه أفضل الصالة والتسليم؛ ليس ألح ٍد أن يعترض عليها‪ ،‬وال أن‬
‫يغيِّ َرها‪ ،‬وال أن يقدح فيها‪ ،‬سواء علِم الحكمة منها‪ ،‬أو لم يعلم‪ .‬ومن‬
‫زعم أن األصلح في خالفها‪ ،‬أو أنها لم تعد صالحة لزماننا‪ ،‬فقد قدح في‬
‫إيمانه وعقيدته‪.‬‬
‫والمرأة في عدم قبولها التع ُد َد بين أمرين‪ :‬إما أنها ترى ــ كحال‬
‫متعسف‬
‫بعض النِّسويات ــ أنه لم يعد صال ًحا لهذا الزمان‪ ،‬أو أنه شرع ِّ‬
‫في حق المرأة‪ ،‬وأنه متجاوز‪ ،‬وأنه خراب بيوت ــ ولو علم اهلل ‪ ‬أنه‬
‫سوء التعامل معه‪ ،‬ومع‬ ‫البيوت ُ‬
‫َ‬ ‫يخرب البيوت لما أباحه‪ ،‬وإنما يخرب‬
‫ضوابطه وشروطه ــ‪ ،‬وهي في هذه الحالة قد أتت عظي ًما قاد ًحا في إيمانها‬
‫برد شرع اهلل‪ ،‬والتقول عليه‪.‬‬
‫وإما أنها تعتقد مشروعيته‪ ،‬وإنما رفضها ليس للحكم الشرعي؛ بل‬
‫لزواج زوجها عليها‪ ،‬خو ًفا من االفتتان في دينها‪ ،‬وغلبة الغيرة عليها‪ ،‬أو‬
‫لعدم تمكنها من إعانة زوجها على العدل‪ ،‬ومعرفتها المسبقة بأن حالها‬
‫لن يستقيم في وجود ضرة في حياتها‪ ،‬وهي في كل هذا معذورة‪ .‬بل من‬
‫حقها أن تطلب الطالق‪ ،‬أو أن تختلع‪ ،‬أو أن تشترط عليه قبل الزواج‬
‫عدم الزواج عليها‪ ،‬وهو اشتراط غير باطل عند كثير من الفقهاء‪ ،‬وحكم‬
‫ذلك مبسوط في كتب الفقه‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫هل لها أن تشترط عليه قبل الزواج عدم التعدد؟‬


‫اختلف أهل العلم في صحة اشتراط المرأة على زوجها في عقد‬
‫الزواج ّأال يتزوج عليها‪ ،‬بين مؤيد معضد لتأييده بالحديث‪( :‬أحق الشروط‬
‫أن يوفى به؛ ما استحللتم به الفروج)(‪ ،)1‬ومعارض معتمد في معارضته‬
‫على الحديث‪( :‬كل شرط ليس في كتاب اهلل؛ فهو باطل)(‪.)2‬‬
‫والراجح أنه يصح هذا الشرط‪ ،‬ولكن هذا ال يعني أن الزوج إذا أخل‬
‫أخ َّل بالشرط‪.‬‬
‫بالشرط بطل العقد‪ ،‬بل يعني أنه من حق الزوجة الفسخ إن َ‬
‫وقد وضح ابن رشد هذا االختالف فقال‪:‬‬
‫>سبب اختالفهم معارضة العموم للخصوص‪ ،‬فأما العموم‪ :‬فحديث‬
‫عائشة ‪ ‬أن رسول اهلل ‘ خطب الناس فقال في خطبته‪ :‬كل شرط‬
‫ليس في كتاب اهلل فهو باطل‪ ،‬ولو كان مائة شرط‪ .‬وأما الخصوص‪ :‬فحديث‬
‫عقبة بن عامر أن النبي ‘ قال‪ :‬أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم‬
‫به الفروج‪ .‬والحديثان متفق عليهما‪ ،‬إال أن المشهور عند األصوليين‬
‫القضاء بالخصوص على العموم‪ ،‬وهو لزوم الشرط<(‪.)3‬‬
‫وقد َّبين ابن قدامة ـ ‪ ‬ـ ذلك فقال‪:‬‬
‫أقساما ثالثة‪:‬‬
‫ً‬ ‫(وجملة ذلك أن الشروط في النكاح تنقسم‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬متفق عليه من حديث عقبة بن عامر‪ .‬البخاري‪ ،)2421( ،‬ومسلم‪.)1418( ،‬‬
‫(‪ )2‬متفق عليه من حديث عائشة‪ .‬البخاري‪ ،)456( ،‬مسلم‪.)1504( ،‬‬
‫(‪ )3‬بداية المجتهد ونهاية المقتصد‪.)81/3( ،‬‬
‫‪137‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫أحدها‪ :‬ما يلزم الوفاء به‪ ،‬وهو ما يعود إليها نفعه وفائدته‪ ،‬مثل أن‬
‫يشترط لها ّأال يخرجها من دارها‪ ،‬أو بلدها‪ ،‬أو ال يسافر بها‪ ،‬أو ال يتزوج‬
‫عليها‪ ،‬وال يتسرى عليها‪ ،‬فهذا يلزمه الوفاء لها به‪ ،‬فإن لم يفعل‪ ،‬فلها‬
‫فسخ النكاح‪.‬‬
‫يروى هذا عن عمر بن الخطاب ـ ‪ ‬ـ‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص‪،‬‬
‫ومعاوية‪ ،‬وعمرو بن العاص ـ ‪ ‬ـ‪ ،‬وبه قال شريح‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز‪،‬‬
‫وجابر بن زيد‪ ،‬وطاوس‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬وإسحاق‪.‬‬
‫وأبطل هذه الشروط‪ :‬الزهري‪ ،‬وقتادة‪ ،‬وهشام بن عروة‪ ،‬ومالك‪،‬‬
‫والليث‪ ،‬والثوري‪ ،‬والشافعي‪ ،‬وابن المنذر‪ ،‬وأصحاب الرأي‪...‬‬
‫ولنا قول النبي ‘‪> :‬إن أحق ما وفيتم به من الشروط‪ ،‬ما استحللتم‬
‫به الفروج<‪ ،‬رواه سعيد‪ ،‬وفي لفظ‪> :‬إن أحق الشروط أن توفوا بها‪ ،‬ما‬
‫ضا قول النبي ‘‪> :‬المسلمون‬ ‫استحللتم به الفروج<‪ ،‬متفق عليه‪ ،‬وأي ً‬
‫سمينا من الصحابة<(‪.)1‬‬
‫قول َمن َّ‬
‫على شروطهم<‪ ،‬وألنه ُ‬
‫وقال ابن تيمية‪> :‬ومقاصد العقالء إذا دخلت في العقود‪ ،‬وكانت‬
‫عفوا‪ ،‬ولم تهدر رأ ًسا‪،‬‬
‫من الصالح الذي هو المقصود؛ لم تذهب ً‬
‫كاآلجال في األعواض‪ ،‬ونقود األثمان المعينة ببعض البلدان‪ ،‬والصفات‬
‫في المبيعات‪ ،‬والحرفة المشروطة في أحد الزوجين‪ ،‬وقد تفيد الشروط‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬المغني البن قدامة‪.)93/7( ،‬‬
‫‪138‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫ما ال يفيده اإلطالق بل ما يخالف اإلطالق<(‪.)1‬‬

‫هل التعدد إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬


‫سبق وذكرنا أنه إن كان للرجل ميل نفسي وفطري إلى التعدد؛ فإن‬
‫التشريع اإلسالمي لم يغفله‪ ،‬وفي المقابل‪ ،‬لم يغفل طبيعة المرأة في كل‬
‫أحوالها‪ ،‬ولم يغل ِّب مراعاة حال دون حال‪ .‬فالمرأة في أحوالها األربعة‬
‫إما متزوجة‪ ،‬أو مطلقة‪ ،‬أو أرملة‪ ،‬أو بكر لم تتزوج بعد‪ .‬وهي في كل‬
‫أحوالها‪ ،‬تحتاج إلى الزواج‪ ،‬بالفطرة‪ ،‬وللحاجة النفسية أو البيولوجية‪،‬‬
‫أو لما ألجله ُشرعت القوامة للرجل‪ ،‬من رعاية وإنفاق‪ ،‬وذود وحفظ‬
‫حقوق‪ ،‬وغيرها‪ .‬والمجتمع الذي يسود فيه التعدد؛ يعمل فيه قانون‬
‫العرض والطلب‪ ،‬فتراعى حاجيات المرأة النفسية‪ ،‬وتتاح لها فرصة الزواج‬
‫في كل أحوالها‪ .‬فهي كعزباء‪ ،‬أو مطلقة‪ ،‬أو أرملة؛ ضمن لها فرصة إضافية‬
‫في الحصول على زوج‪ ،‬وإن كان متزو ًجا‪ ،‬وكزوجة سابقة؛ ضمن لها‬
‫حماية حقوقها وحقوق أوالدها بالعدل‪ ،‬وعدم الميل إلى واحدة دون‬
‫أخرى أو أخريات‪.‬‬
‫وإنما قد تسرب مفهوم اإلهانة إليها من التشويهات التي يتعرض لها‬
‫التعدد‪ ،‬سواء من مناهضي اإلسالم‪ ،‬أو من ممارسي هذا المباح بشكل‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬نظرية العقد البن تيمية ــ وهو كتاب العقود ــ‪.)211( ،‬‬
‫‪139‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫تعسفي‪ ،‬قد جعلوا منه وسيلتهم لإلزراء بها‪ ،‬ولظلمها‪ ،‬ولممارسة الذكورية‪،‬‬
‫والتسلط عليها‪ ،‬وسال ًحا يرفع في وجهها من أجل التنكيد عليها‪ ،‬وتكدير‬
‫صفو حياتها‪ ،‬وإرغام أنفها‪ ،‬وإشعال لهيب غيرتها‪ ،‬وعدم أمانها‪.‬‬
‫صحيح أ ّن َو ْق َع ذلك على القلب يُذ ِهب اللُّ َّب‪ ،‬ويجعل المرأ َة أحيا ًنا‬
‫الحق حق‪ ،‬والحكمة مطلوبة ج ًّدا في هذا األمر‪.‬‬ ‫لكن َّ‬
‫بحمق‪ّ ،‬‬ ‫تتصرف ُ‬
‫َّ‬
‫فال تخلو الحال من أن تكون‪:‬‬
‫ال تطيق ذلك‪ ،‬وترى أنها ستضيع حقوق ربها؛ فعليها أن تختلع‪،‬‬
‫أو تطلب الطالق‪.‬‬
‫أو ارتأت أنها ال تستطيع الفراق ألي سبب من األسباب؛ فلتحاول‬
‫أن تسيطر على الوضع‪ ،‬وعلى غيرتها بالدرجة األولى‪ ،‬وأن تتعايش مع‬
‫هذه الحياة الجديدة‪.‬‬

‫وخالصة األمر‬
‫مستحب‪ ،‬بل‬
‫ّ‬ ‫* أ َّن التع ُّد َد ِمن شرع اهلل‪ ،‬وهو ُمباح‪ ،‬ال سنة وال‬
‫مجرما‪ ،‬والزوجة الثانية ليست‬
‫ً‬ ‫تعتريه األحكام الخمسة‪ .‬ومن يع ِّد ْد ليس‬
‫خاطفة‪ ،‬وال سارقة‪ ،‬وال عديمة أصل ووفاء‪ ،‬كما يحلو للمجتمع أن‬
‫ينعتها به‪ ،‬بل تمارس حقها الذي شرعه اهلل لها في الحصول على زوج‪،‬‬
‫متجاوزة‪.‬‬
‫َ‬ ‫واألولى ليست بالضرورة مقصرة‪ ،‬وال‬
‫‪140‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫تدميرا‬
‫ً‬ ‫* الشارع الحكيم ال يبيح شي ًئا ويجعله َخ َرا ًبا للبيوت‪ ،‬أو‬
‫للنفسيات‪ ،‬بل ال يشرع إال ما يصلح المجتمع‪ ،‬من غير محاباة جنس‬
‫على حساب جنس‪ ،‬وإنما جاء اإلزراء من الممارسات الخاطئة له‪،‬‬
‫وتحامل وسائل اإلعالم عليه‪ ،‬وإن كان‬ ‫ُ‬ ‫والتعسفات في حق المرأة بسببه‪،‬‬
‫ُّ‬
‫مصغرا لما يحصل في بيوت‬ ‫ً‬ ‫في الكثير من األحيان إنما يقدم نموذ ًجا‬
‫المع ِّددين ممن ال يحسنون التعامل معه‪.‬‬
‫ضا منه‪ ،‬أليست‬
‫* هذا التشريع لم يُ ِه ِن المرأ َة باعتبار استفادتها أي ً‬
‫ضا؟ أم أن كلمة >امرأة< ال يقصد بها سوى‬ ‫الثانية والثالثة والرابعة نساء أي ً‬
‫الزوجة األولى؟‬
‫* الحكمة من تشريعه‪ ،‬إذ راعت حاجة الرجل الفطرية إليه؛ راعت‬
‫ضا حاجة الزوجة الرديفة في الحصول على فرصة إضافية للزواج‪ ،‬وراعت‬ ‫أي ً‬
‫حق المرأة السابقة في العدل‪ ،‬وفي مراعاة غيرتها‪ ،‬وأخذها بعين االعتبار‪.‬‬
‫* مفاسد منع الرجل من التعدد أعظم من الغيرة التي تجدها المرأة‪،‬‬
‫ومنع لحق امرأة أخرى في الحصول على زوج‪ .‬ففطرتها الغيرة‪ ،‬وفطرته‬
‫التعدد‪ ،‬فليتعلم كالهما كيف يتعامل مع فطرته‪ ،‬دون مساس بفطرة الشريك‪.‬‬
‫التعسف ض َّد فطرة أخرى‪،‬‬
‫* فرق بين الغيرة التي هي فطرة‪ ،‬وبين ُّ‬
‫وهي فطرة الرجل في التعدد (فطرة تحارب فطرة)‪.‬‬
‫تهذ ُب الفطر ُة لتوا ِك َب الشر َع‪.‬‬
‫* التعدد شرع‪ ،‬والغيرة فطرة‪ ،‬وإنما َّ‬
‫* الغيرة وسيل ُة المرأة في التعبير عن حبها لزوجها‪ .‬فامرأة ال تغار‬
‫‪141‬‬
‫التعدد‪ :‬إهانة للمرأة أم حرص على مصلحتها؟‬

‫على زوجها؛ مدعية للمحبة‪ ،‬لكن لتكن غيرتها >عليه<‪ ،‬ال >من< ضرتها‪.‬‬
‫* إثابة الرجل إنما هو على الحرص على شرع اهلل‪ ،‬وعلى إقامة‬
‫العدل‪ ،‬والحرص على أال يأتي يوم القيامة بشق أعوج‪ ،‬وليس على التعدد‬
‫في حد ذاته‪.‬‬
‫لحكم اهلل‪ ،‬وبُغضها‬
‫* َم ْن ال تقبل بزواج زوجها عليها ليست را َّد ًة ُ‬
‫ليس للتشريع‪ ،‬وإنما لزواج زوجها عليها‪.‬‬
‫* حمالت > َز ِّو ِجي َز ْو َجك<‪ ،‬دعوة إلى جحود فطرة المرأة في‬
‫الغيرة‪ ،‬وربما إلى جعلها آل ًة جامدة‪ ،‬غير متفاعلة مع الحدث المؤلم‪،‬‬
‫خاصة في غياب النضج والقدرة على تحليل األمر بعقل‪ .‬فلو استطاعت‬
‫أن تستفرد بالسعادة حين وجوده معها‪ ،‬وأن تقنع نفسها أنها ليس عليها‬
‫الحجر على رغباته‪ ،‬وأنه حينما يخرج من بيتها فال تملك من أمره شي ًئا‬
‫كثيرا بأمره مع غيرها ما دام في الحالل‪ ،‬وما دام‬
‫وأنه ليس عليها أن تنشغل ً‬
‫يضمن لها حقها‪ ،‬وال يقصر معها في شيء‪ ،‬ويعدل بينها وبين ضرتها‪.‬‬
‫التعدد حل لمشاكل عديدة في المجتمع‪ ،‬وهو حل أمثل للعنوسة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫*‬
‫ولزواج المطلقات واألرامل‪ ،‬لكن يبقى هذا الحل مجرد مأمول ال يجد‬
‫تطبي ًقا على أرض الواقع‪ ،‬حتى ممن ينادون به‪ ،‬ويمارسونه‪ ،‬اعتقا ًدا في‬
‫استحبابه أو ُسنيته‪.‬‬
‫* الغيرة فطرية في المرأة‪ ،‬وليس ألحد أن يعيب عليها فطرتها‪ ،‬أو‬
‫أن يلزمها بما لم يلزمها به الشرع‪.‬‬
‫‪142‬‬
‫الطالق والترمل والعنوسة‬

‫ُّ‬
‫وارتلموالعنوسة‬ ‫االطلق‬
‫وصمات عارعلى جبين املرأة املعاصرة‬
‫كم كانت صدمتها قوي ًة وهي تح ِّد ُث صديقتها عن مشاريعها‪ ،‬وعن‬
‫طموحاتها‪ ،‬وعن تخطيطها‪ ،‬مستعين ًة باهلل‪ ،‬ألن تحقق فيمن حولها ما لم‬
‫يُق َّدر أن يتحقق لها هي‪ ،‬وعن إرادتها الحقيقية في االنطالق‪ ،‬وفي تلوين‬
‫ما تبقى من حياتها بألوان القوس؛ فإذا بها تر ُّد عليها‪ ،‬وكأنها تعاتبها على‬
‫إخالفها وع َدها مع األحزان‪:‬‬
‫خيرا فيهم<‪.‬‬
‫> َك ِّرسي ما تبقى من حياتك ألبنائك‪ ،‬عوضك اهلل ً‬
‫ترتيب أورا ٍق بعثرها ُ‬
‫دعاء‬ ‫َ‬ ‫يومها‪ ،‬غرِقت في ل ُ َجج الصمت‪ ،‬تحاول‬
‫صديق ِتها‪ ..‬تف ِّكك َش َع َث ما اختلط في أعماقها‪ ،‬والحيرة تلجم لسانها‪...‬‬
‫أتتظاهر بعدم سماع ذلك الدعاء‪ ،‬وهو دعاء‪ ،‬وتعفي نفسها من سبر أغوار‬
‫مرامي صديقتها‪ ،‬وما يحمله أبعاد الكالم؟ أم ُت َؤ ِّمن عليه‪ ،‬وهي تفهم ما‬
‫يعنيه أن تكون ذات استقاللية في الحياة‪ ،‬وذات طموحات‪ ،‬ومشاريع‪،‬‬
‫وأحالم شخصية‪ ،‬فكيف سترضى أن تجعل كل نجاحها‪ ،‬وعوضها‪،‬‬
‫ومنتهى آمالها‪ ،‬رهي ًنا بما سينتج فقط من أبنائها‪ ،‬وما ستثمره سنوات ك َدها‬
‫فعال تحتاج إلى نجاح أبنائها كي تحس بالنجاح؟‬ ‫ألجلهم؟ هل المرأة ً‬
‫‪143‬‬
‫الطالق والترمل والعنوسة‬

‫هل يكون قيامها بواجبها أمام اهلل معهم‪ ،‬وتضحياتها وتفانيها ألجلهم‪،‬‬
‫َمدعاة النتظار تحقيق ذاتها عبرهم؟ ألم يخلقها اهلل مستقلة عنهم‪ ،‬كما هم‬
‫مستقلون عنها؟ نعم‪ ،‬تحب تفوقهم ونجاحهم‪ ،‬وتحثهم على ذلك‪،‬‬
‫غر ِسها وسقيها بتحقيق ذواتهم‪،‬‬
‫ثمار ْ‬
‫وتتفانى ألجلهم‪ ،‬ويسعدها أن ترى َ‬
‫ولكن ال يجب بحال أن تتجرد منها بالكلية ألجلهم‪ ،‬وال أن تجعل كل‬
‫همها‪ ،‬ومبلغ آمالها‪ ،‬ومنتهى طموحاتها‪ ،‬نجاحهم هم‪.‬‬
‫فيا ليتهم يك ّفون عن بعث هاته الرسائل السلبية لها‪ ،‬والتي مفادها‪:‬‬
‫(قد انتهت حياتك فيك أنت‪ ،‬وإنما بقاؤك واستمرارك‪ :‬فيهم وألجلهم‪...‬‬
‫وفقط‪ ،)...‬والحق أن حياتها تنتهي بخروج الروح‪ ،‬ال بتغير األحوال‬
‫الشخصية‪ ،‬وإنما أحالمها وطموحاتها ونجاحاتها رهينة بها‪ ،‬وليس ألحد‬
‫أن يحجر عليها في تحقيقها‪.‬‬
‫وتضحيات‪ ،‬ونذرت عمرها والجفون‬‫ٍ‬ ‫صبرا‬
‫م َّزعت روحها‪ ،‬ونثرتها ً‬
‫تصيرها أخادي َد‬
‫كي تألم ُص ُدو ًعا في بيتها‪ ،‬أبت الظروف حولها إال أن ّ‬
‫وفجا ًجا تبتلع الفؤاد‪ ،‬ومقابر موحشة لدفن ما تبقى من الروح‪ .‬هطلت‬
‫ضا صلداء ُم ْج ِدبة‪ ،‬حتى إذا ما‬
‫بكل ما في سمائها من مطر‪ ،‬تسقي أر ً‬
‫استفرغت كل قطرها‪ ،‬وطال انتظارها للطلع‪ ،‬فلم تجد غير ذات الشوك‬
‫كوم خلف الكثبان‪ ،‬وأغصان العوسج المتناثرة قرب الصخر‪،‬‬ ‫الم َت ِّ‬
‫ُ‬
‫استجمعت كل أنفاسها‪ ،‬ومخزون الصبر المتيبس بين أضالعها‪ ،‬فرحلت‬
‫تكفكف أحالمها‪ ،‬وبريق عينيها قد غاب بين رديم األشواق‪.‬‬
‫‪144‬‬
‫الطالق والترمل والعنوسة‬

‫استنزفت ــ هبا ًء ــ من أجل ترميم ما يجب ترميمه‪ ،‬وبذلت قصارى‬


‫ُ‬
‫جهدها في إعادة تعبيد الطريق‪ ،..‬وطرقت كل األبواب الممكنة‪ ،‬وغير‬
‫الممكنة‪ ،‬ونازلت المستحيل كي ُترجع القطار المترنح إلى السكة‪،‬‬
‫أخيرا على تحويل المسار‪،‬‬
‫وفرغت يداها مما يمكنها التضحية به‪ ،‬فعزمت ً‬
‫وعلى تغيير الرصيف والقطار‪.‬‬
‫قررت ذات مرة قرا ًرا حاس ًما أن ترفع الراية البيضاء‪ ،‬وأن تحمل‬
‫حقائبها وأن تلوح بمناديل الوداع‪..‬‬
‫الصبر‪ ،‬وكسرها االنتظار‪ ،‬وعلَّمتها الغلظة والجفاء أن تبحث‬ ‫ُ‬ ‫ل َف َظها‬
‫عن نفسها‪ ،‬وقبل ذاك خشيت أن تسيء الطاعة‪ ،‬وأن يعلمها األذى أال‬
‫حدود اهلل‪ ...‬لم تر ُجنا ًحا ــ كما ع ّلمها ربها ــ أن تفتدي وأن تنسحب‬
‫َ‬ ‫تقيم‬
‫الكفر في اإلسالم‪ ،‬وخافت‬
‫في صمت‪ ،‬وأن تحتسب رحيلها هلل‪ ..‬خشيت َ‬
‫أال تقيم حدود اهلل مع من ال يعينها على أداء حقه‪ ،‬اختلعت وافتدت‪ ،‬أو‬
‫سألت الطالق وفرت من حياة الضنك التي كانت أسيرة في أقبائها‪...‬‬
‫وألن الحياة ال تنتهي إال بخروج الروح‪ ،‬لم تمانع من فتح أبوابها‬
‫للقادم الجميل‪..‬‬
‫وحث بها‬
‫َّ‬ ‫انفتحت أبواب السماء على خير وفير‪ ،‬ونعمة استبطأتها‪،‬‬
‫خيرا‪.‬‬
‫ال ُخ َطى دعاؤها الدائم المكرور؛ أن يعوضها ربها في دنياها ً‬
‫أتاها من ترضى دينه وخلقه‪ ،‬ومن ارتأت فيه ُحض ًنا داف ًئا يُنسيها‬
‫صقيع الوحدة في كنف زواجها السابق‪ ،‬أو لموت من كان يرعاها‪...‬‬ ‫َ‬
‫‪145‬‬
‫الطالق والترمل والعنوسة‬

‫كل‬‫وألنها ظنَّت أ َّن َم ْن حولها قلو ًبا رحيمة مشفقة‪ ،‬ال تحب لغيرها إال َّ‬
‫انتظرت أن يباركوا لها عودتها للحياة‪ ،‬وأن يعزفوا لها مقاطع‬ ‫ْ‬ ‫خير‪،‬‬
‫ضا عن ذلك مليو َن‬ ‫لكنهن أل َّ ْف َن ِع َو ً‬
‫ّ‬ ‫الفرحة‪ ،‬ومعزوفات التبريكات‪...‬‬
‫قصة عن هذا الزواج‪ ...‬خائنة هي في عيونهن‪ ،‬قد خانت عهدها مع‬
‫األحزان‪ ...‬أنانية‪ ،‬ألنها فكرت في نفسها‪ ،‬وسلَّمت لطليقها األوالد‪،‬‬
‫وما حكم الشرع سوى انتقال الحضانة إلى الوالد‪ ،‬إذا ما تم للطليقة الزواج‪.‬‬
‫ات‪ ،‬ولم ترحمها النظرات‪ ،‬وال بارك خطاها من‬ ‫الو ْش َو َش ُ‬
‫لم تعذرها َ‬
‫مفعوال بها ال فاعل‪ ...‬مطلَّقة ال مختلعة‪ ،‬متخلى‬
‫ً‬ ‫اعتادوا أن يروا المرأة‬
‫عنها ال متخلية‪ ...‬ألفوا أساطير في أسباب الفراق‪ ،‬وأرجعوا سبب الخلع‬
‫أو الطالق إلى رعونتها ونزقها‪ ،‬وإلى خلوها من صفات تجعل زوجها‬
‫يتحسن ألجلها‪ ...‬اخترعوا األسباب‪ ،‬وخمنوا النتائج‪ ،‬وسفهوا حلمها‪،‬‬
‫نبينا ‘ ــ بأبي هو وأمي ــ على‬
‫مهب الريح‪ ...‬ما عاب ُّ‬ ‫وجعلوا سمعتها َّ‬
‫امرأة ثابت(‪ )1‬ما جاءت تسأله‪ ،‬وال استنطقها عن تفاصيل األسباب‪ ،‬ولكن‬
‫هداها إلى الحلول العملية بعدما فهم أن األمر فوق ما تطيقه‪ ،‬وأن األولى‬
‫لها أال تعود في الكفر بعد اإلسالم‪..‬‬
‫إن كان من َه ْدي؛ فبه ــ عليه أفضل الصالة والتسليم ــ فلنهت ِد‪،‬‬
‫ولندع الشزرات تؤنس من ال يملك من دنياه غيرها‪ ،‬وال يتقن من الحديث‬
‫سوى الوشوشات‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬سبقت اإلشارة إلى قصتها في نقطة سابقة‪.‬‬
‫‪146‬‬
‫الطالق والترمل والعنوسة‬

‫وو َكلها للوحدة‬


‫عبء البنين ومسئولية البنات‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫زوجها وأورثها‬
‫مات ُ‬
‫ُتذبل جفونها‪ ،‬ولنظرة اإلشفاق ممن حولها‪ ،‬تسلبها فرصتها في أن تكمل‬
‫الحياة بشكل عادي؛ مثلها مثل كل أولئك النساء الالئي ليس لهن من‬
‫الزواج سوى وثيقة رسمية تثبت حالتهن االجتماعية‪ ،‬وأشبا ًحا تغدو‬
‫يوما‬
‫وتروح دون أن يحققن في وجودهم معاني الزواج‪ .‬أشرق الصبح ً‬
‫فيها على أمل في تعويض ما فات‪ ،‬وإعمار فراغ وجودها بشريك يبحث‬
‫ــ كما هي ــ عن السكينة‪ ،‬وعن المودة‪ ،‬وعن احتواء ضعفها‪ ،‬وحمل‬
‫أعباء الحياة‪ ،‬وتبديد غول الوحدة عنها‪...‬‬
‫لم تقتل زوجها‪ ،‬وال بيدها قدر الموت والحياة‪ ...‬لكن‪ ،‬لم ترحمها‬
‫نظرات التخوين‪ ،‬وألسنة حداد تتلقى اتهامها بعدم الوفاء‪ .‬اخترعوا‬
‫األسباب‪ ،‬وخمنوا النتائج‪ ،‬وسفهوا حلمها‪ ،‬ونصبوا محكمتهم يقاضونها؛‬
‫ألنها ــ افتروا ــ عديمة أصل‪ ،‬وقليلة وفاء!‬
‫>كانت تنتظر بفارغ الصبر رحيله ــ وشوشوا ــ كي تستأنف الحياة‪.<...‬‬
‫سرا وعل ًنا على الشاب الذي واراه‬
‫وهمشوها‪ ،‬وتحسروا ًّ‬
‫شزروها‪ّ ،‬‬
‫التراب‪ ،‬وترك خلفه من ستستمتع من بعده وفي غيابه بالحياة‪.‬‬
‫َو ْلولوا‪ ،‬وتوعدوا‪ ،‬وهددوا بضياع أوالدها‪ ،‬وبتضييع األمانة التي‬
‫في عنقها‪ ،‬وبأن حسابها شديد إن فكرت بقليل أنانية في حياتها‪...‬‬
‫وأعلنوا حربهم على أن يكتمل نصفها بمن سيعيد في أعماقها الحياة‪.‬‬
‫لقد كانت سبيعة ‪ ،‬تحت سعد بن خولة ــ وكان ممن شهد بد ًرا ــ‬
‫‪147‬‬
‫الطالق والترمل والعنوسة‬

‫فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل‪ ،‬فلم تنشب أن وضعت حملها‬
‫للخ ّطاب‪ ،‬فدخل عليها أبو‬
‫تجملت ُ‬‫بعد وفاته‪ ،‬فلما تع ّلت من نفاسها ّ‬
‫السنابل بن بعكك فقال لها‪ :‬ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح‪،‬‬
‫إنك واهلل ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر‪ .‬قالت سبيعة‪:‬‬
‫علي ثيابي حين أمسيت‪ ،‬فأتيت رسول اهلل‬
‫فلما قال لي ذلك جمعت َّ‬
‫ـ ‘ ـ فسألته عن ذلك‪ ،‬فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي‪،‬‬
‫وأمرني بالتزويج إن بدا لي(‪.)1‬‬
‫هكذا! بكل ما في األمر من عفوية وبساطة واتباع للفطرة‪ ،‬انتهت‬
‫فتجملت لل ُخطّاب‪ ،‬وفتحت أبوابها لرز ٍق قد يجعل اهلل لها فيه‬ ‫ّ‬ ‫عدتها‬
‫العوض‪ .‬انتهت حياة زوجها على األرض بموته‪ ،‬بل هو حي عند ربه‬
‫يرزق‪ ،‬لكن حياتها لم تنته‪ ،‬ولم ُت َقبر معه أنوثتها‪ ،‬وال انقضى عنها اسم‬
‫بالترمل‪ ،‬وال عابتها فطرتها التي فطرها اهلل عليها من احتياج للسكن‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫ٍ‬
‫امرأة‬
‫ورغبة في األنس‪ ،‬واضطرار للمعيل‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬بكل البساطة التي ُجعلت كي تستمر الحياة البشرية‪ ،‬وكي‬
‫يتحقق االستقرار والسكينة‪ ،‬يُفتيها نبي الرحمة ــ عليه وعلى آله وصحبه‬
‫أفضل الصالة والتسليم ــ أن تتزوج إن بدا لها ذلك‪ .‬وحتى تعقيب أبي‬
‫أصال كان من‬
‫السنابل لم يكن عن رغبتها في الزواج في حد ذاتها‪ ،‬فهو ً‬
‫ُخطَّابه‪ ،‬وإنما كان تحفظه في مقام تحديد مدة انتهاء عدتها‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪ ،)3770‬ومسلم (‪.)1484‬‬
‫‪148‬‬
‫الطالق والترمل والعنوسة‬

‫تز َّوج الصحابة رضوان اهلل عليهم من األرامل والمطلقات‪ ،‬وما‬


‫تزوج نبينا صلى اهلل عليه وعلى آله وسلم من نسائه التسع رضوان اهلل‬
‫بكرا عدا عائشة‪ .‬ولم تتحرج المرأة من‬ ‫عليهن ــ الالتي مات عنهن ــ ً‬
‫يزوجها‪ ،‬وال وجدت ُجنا ًحا أن تتزيَّن وتتهيأ لل ُخ َّطاب بعد ِع َّدة‬
‫توسيط َم ْن ِّ‬
‫وفاة أو طالق‪ .‬وال الحقتها األلسن ُة حينما قررت الخلع‪ ،‬أو طلبت‬
‫الطالق‪ ،‬لفارق مادي‪ ،‬أو في النسب والوجاهة االجتماعية‪ .‬بل كان‬
‫الصحابي يتزوج طليقة صاحبه‪ ،‬وأرملة أخيه أو جاره‪ ،‬ويع ِّدد دون أن‬
‫هم األولى بالنقص‪ ،‬أو الثانية بنهب الرجال‪ .‬ما لحق المرأ َة األذى إال‬ ‫ُت َّت َ‬
‫حينما صارت األنوثة في حقها ُس َّب ًة و ُتهمة‪ ،‬وأصبحت حياتها رهينة‬
‫أعراف المجتمع المتنصل من أحكام الشرع‪ ،‬تلغي حاجياتها الفطرية‪،‬‬
‫وتحجر على رغباتها ومشاعرها واختياراتها‪ ،‬وتلزمها بما ال يلزمها‪.‬‬

‫هل الطالق كسرأم انتصار؟‬


‫لن يكون حديثي هنا عن الشعور بالكسر الذي يتملك المطلقة التي‬
‫هجرها زوجها ظلم ًا وحيف ًا‪ ،‬أو استأثر بقرار رآه صائب ًا يناسب حالته‪ ،‬ولم‬
‫بلم شملها‪ ،‬أو خوف ًا من المستقبل المجهول‬‫يراع حالتها‪ ،‬وتمسكها به‪ ،‬أو ِّ‬
‫الذي يجعل العديدات يتمسكن بأسمال حياة مدمرة متآكلة‪ ،‬وال حتى عن‬

‫‪149‬‬
‫الطالق والترمل والعنوسة‬

‫ذلك الشعور الذي يصاحب المطلقة الظالمة المستأسدة‪ ،‬بعد أن يستنفذ‬


‫مضطر ًا إلى‬
‫ّ‬ ‫معها زوجها كل حيلته وطاقته في جعلها ترعوي‪ ،‬فيجد نفسه‬
‫تطليقها‪ ،‬فيصاحبها الكسر والحسرة على ما كان يصدر منها‪ ،‬وتتمنى يوم ًا‬
‫من أيام زواجها‪ ،‬بعد أن تشتت شملها‪ ،‬وقابلها أهلها بالجفاء واللوم‪،‬‬
‫لمعرفتهم بطبعها‪ .‬فالكسر الذي يصحب الطالق قد جاء في الحديث‬
‫الصحيح الذي رواه أبو هريرة ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‘‪( :‬إن المرأة‬
‫خلقت من ِضلَع‪ ،‬لن تستقيم لك على طريقة‪ ،‬فإن استمتعت بها استمتعت‬
‫وكسرها طالقُها)(‪.)1‬‬
‫ُ‬ ‫بها وبها عوج‪ ،‬وإن ذهبت تقيمها كسرتها‪،‬‬
‫وإنما حديثي عن تلك التي كان الطالق قرا ًرا منها‪ ،‬واختيا ًرا بعد‬
‫أن عانت األمرين من زوج يعصى اهلل‪ ،‬وال يحفظ العشرة‪ ،‬ويسيء إليها‪،‬‬
‫وال يريد االعتراف بأخطائه وإصالحها‪ ،‬وبعد أن استنفذت كل الطرق في‬
‫اإلصالح‪ ،‬واستنزفت نفسها تنتظر أن يحصل التغيير‪ ،‬وقامت بدورها‬
‫ال كزوجة وأم ومسؤولة أمام اهلل عن رعيتها‪ ،‬واتبعت الخطوات‬ ‫كام ً‬
‫المسنونة في اإلصالح‪ ،‬من تحكيم الحكمين‪ ،‬وتعديل من طبعها كي‬
‫تحد من المشاكل‪ ،‬وإحسان التبعل طيلة فترة زواجها‪ ،‬ثم حينما أغلقت‬
‫في وجهها السبل‪ ،‬وتيقنت من أنها تحرث الصخر‪ ،‬ومن أن الوضع‬
‫المأزوم بينهما سيطال أبناءها‪ ،‬فكرت ووازنت‪ ،‬واستشارت واستخارت‪،‬‬
‫ثم هزمت الخوف من المجهول بتفويض أمرها لموالها‪ ،‬وطلبت الطالق‬
‫أو اختلعت‪ ،‬ولم تهضمه حقوقه‪ ،‬ولم تمنعه أوالده‪ ،‬وكان فراقها له على‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬متفق عليه‪ ،‬رواه البخاري‪ ،)3331( ،‬ومسلم‪ )1468( ،‬واللفظ له‪.‬‬
‫‪150‬‬
‫الطالق والترمل والعنوسة‬

‫األقل من جهتها بالمعروف‪ ،‬هذه وحدها من تستطيع أن تتحدث عن‬


‫االنتصار‪ ،‬وعن نشوة الفراق‪ ،‬وفرحة الخارجين من سجون الغاشمين‪،‬‬
‫ال حقيقية غير مفتعلة‪ ،‬بل ال تجد‬
‫وحسن االختيار والقرار‪ ،‬وتكون فرحتها فع ً‬
‫سعادتها وإنجازاتها إال في مبعد عن الجو المكهرب الذي كان يستنزفها‪.‬‬
‫أما مدعيات االنتصار‪ ،‬الصادحات بالفرحة والنشوة‪ ،‬وهن يعلمن‬
‫يقي ًنا أنهن سبب ما ِإ ْل َن إليه‪ ،‬يدارين إحساسهن بالفشل‪ ،‬وبأنهن صرن‬
‫متجاوزات بإعالن احتفائهن واحتفالهن بالطالق‪ ،‬هؤالء سرعان ما‬
‫تكشفهن الحياة‪ ،‬وسرعان ما يدخلن في حاالت اكتئاب حادة‪ ،‬وسرعان‬
‫ما يعترفن بأن ما كان من الصدح بفرحتهن بعيد الطالق‪ ،‬إنما كانت‬
‫طريقتهن لتجاوز األزمة‪ ،‬واإلحساس الفظيع بالفشل والحزن‪.‬‬

‫ملاذا نستطيع الحديث عن أن الطالق في حالت بعينها = انتصار‬


‫ونجاح؟‬
‫قرار االنفصال في حد ذاته ليس باألمر السهل‪ ،‬وال من المتيسر‬
‫لكل من يعاني من الطرفين أن يتخذه‪ ،‬رغم علمه ويقينه في الغالب بأنه‬
‫الحل الوحيد‪ .‬خاصة حينما يتعلق األمر بتجاوزات دينية وأخالقية‪ ،‬أو‬
‫بعنف جسدي أو نفسي متكرر‪ ،‬أو حينما يتعلق األمر باستنزاف عاطفي‪،‬‬
‫أو عدم احترام وقلة اهتمام‪ ،‬أو عدم قيام بالواجبات عن قصد وتمرد‬
‫‪151‬‬
‫الطالق والترمل والعنوسة‬

‫وظلم‪ ،‬أو ربما الجتماعها كلها وغيرها مما ينكد على الحياة الزوجية‪،‬‬
‫ال‪.‬‬
‫ويجعل االستمرار مستحي ً‬
‫عوامل كثيرة تجعل القرار يتأخر‪ ،‬وإن كان صاحبه مدر ًكا بأنه سيكون‬
‫تأزما‪ :‬عادات حياتية كثيرة ستتأثر‬
‫يوما ما ال محالة ما دامت األمور تزيد ً‬
‫ً‬
‫باالنفصال‪ ،‬وإقدام على مجهول‪ ،‬إن لم يكن صاحبه متسل ًحا بالصبر‪،‬‬
‫وبالرضا باألقدار‪ ،‬وباليقين والثقة فيما عند اهلل‪ ،‬فسيصبح فريسة للتوجس‬
‫والخوف‪ ،‬والفوضى وعدم االستقرار واالكتئاب‪ .‬عالقات ستتغير ولألبد‬
‫طريقة إدارتها‪ ،‬نظام حياتي جديد سيخضع له األطفال‪ ،‬وقواعد مستحدثة‬
‫ستخضع لها العالقة مع عائلة الطرف اآلخر‪ ،‬واألصدقاء المشتركين‪،‬‬
‫وخصوصيات ستصبح طي الذكريات‪ ،‬وذكريات يفترض التخلص منها‬
‫ألجل إقامة الحداد على هذا الزواج‪...‬‬
‫القرار سليم‪ ،‬واتخاذه هو الحل األسلم‪ ،‬لكن حيثياته وتبعاته تحتاج‬
‫إلى قوة إيمان وتقوى وصالبة ودرجة عالية من الوعي‪ ،‬والثقة بالنفس‪،‬‬
‫والعدل واإلنصاف‪ ،‬والقدرة على مواجهة المجتمع‪ ،‬وتحمل أذاه (خاصة‬
‫بالنسبة للمرأة)‪.‬‬
‫اتخاذ هذا القرار إذن والمضي فيه‪ ،‬من غير حسرة وال ندامة‪،‬‬
‫والقدرة على استئناف الحياة بتفاؤل = انتصار‪ ،‬بل هو النجاح في هذه‬
‫الحالة؛ ألن االستمرار في وضع مستنزف غير صحي‪ ،‬وعدم القدرة على‬
‫الحسم فيه هو الفشل بعينه‪.‬‬
‫‪152‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫ل‬ ‫ه‬‫مف‬ ‫ه‬‫مف‬


‫وماألونيةوااقتلؤهعم ومازلوجةااصل حة‬

‫ما األنوثة؟‬
‫ما ماهيتها؟ وما حقيقتها؟ ومن أي جذر لغوي خرجت هذه العبارة؟‬
‫وهل تخضع ــ شأنها شأن المصطلحات المراد شرحها ــ إلى معنى لغوي‬
‫وآخر اصطالحي؟ أم أن مجرد كلمة >أنثى< توحي بكنهها‪ ،‬وتحدد معالم‬
‫هويتها؟‬
‫جاء في لسان العرب‪:‬‬
‫أنَث الشيء‪ :‬الن‪ .‬وأنَّث في األمر‪ :‬تساهل‪ .‬وامرأَة أُ ْن َثى‪ :‬كاملة‬
‫األُنوثة(‪.)1‬‬
‫وعرف معجم اللغة العربية المعاصر األنوثة‪ :‬بـ >مجموعة الصفات‬
‫التي تميِّز األنثى<(‪.)2‬‬
‫عرجت في بحثي عن معنى هذه العبارة‪ ،‬بما يقابلها في اللغة‬
‫ُ‬ ‫وقد‬
‫الفرنسية‪ ،‬فخلصت إلى ما يلي‪:‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬انظر‪ :‬لسان العرب‪.)112/2( ،‬‬
‫(‪ )2‬انظر‪ :‬معجم اللغة العربية المعاصرة‪.)128/1( ،‬‬
‫‪153‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫‪Féminité : Ensemble des caractères correspondant à‬‬


‫‪une image biologique et sociale (charme, douceur…) de la‬‬
‫)‪femme ( contraire virilité‬‬

‫وترجمة هذا التعريف‪:‬‬


‫أنوثة‪ :‬مجموعة من السمات المقابلة لصورة بيولوجية واجتماعية‬
‫(جاذبية‪ ،‬نعومة‪ )...‬للمرأة (مقابل فحولة)‪.‬‬
‫فما التعريف إذن الذي يليق بكيانها المتضوع من عطر الجمال‪،‬‬
‫المتكفل بإظهار صفات الجمال والجالل بقالب جمالي؟‬
‫ما الذي يشكل هويتها ويحددها ويغيرها؟ بل ما الذي يكشفها؟‬
‫لعلنا لسنا في حاجة إلى من يملي علينا جوا ًبا لهاته األسئلة‪ ،‬فوحده‬
‫الجذر اللغوي الذي تنحدر منه كلمة أنثى كفيل بأن يصنع لنا بوصلة تنير‬
‫طريقنا في بحثنا عن هوية األنثى الحقيقية‪ :‬أَنَث أي الن‪ .‬ولعل أجمل‬
‫وأعذب وأبلغ مرادفات هذه الكلمة‪:‬‬
‫ش‪َ ،‬ت َب َّس َم‪،‬‬ ‫أَ ْذ َع َن‪ ،‬أَطَا َع‪ ،‬أَ ْم َك َن‪ْ ،‬اب َت َس َم‪ْ ،‬اس َت ْسلَ َم‪ْ ،‬ام َت َث َل‪ ،‬ا ْن َ‬
‫قاد‪ ،‬بَ َّ‬
‫َت َي َّس َر‪َ ،‬خ َض َع‪َ ،‬د ُم َث‪َ ،‬ر ُغ َد‪َ ،‬رفُ َه‪َ ،‬س َك َن‪َ ،‬سلُ َس‪َ ،‬سلِ َس‪َ ،‬س ُم َح‪َ ،‬س ُه َل‪،‬‬
‫ِي‪ ،‬فَ ِك َه‪ ،‬قَ ُر َب‪ ،‬ل َ ُد َن‪َ ،‬م ُر َن‪َ ،‬ملُ َس‪ ،‬نَ ُع َم‪،‬‬ ‫طاب‪َ ،‬طر َ‬ ‫َس َّه َل‪َ ،‬ض ُع َف‪َ ،‬‬
‫اه َل‪َ ،‬ت َس َام َح‪َ ،‬ت َملَّ َس‪َ ،‬ر َخا‪.‬‬‫نَ ِع َم‪َ ،‬ه َدأَ‪ ،‬يَ ُس َر‪ ،‬يَ َّس َر‪ ،‬اِ ْس َت ْرخى‪َ ،‬ت َس َ‬
‫نستطيع إذن أن نكتفي بهذا القدر‪ ،‬فالمعاجم قد وضعت أرجلنا‬
‫‪154‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫بالضبط على خطوة تحديد معالم كينونة األنثى‪ .‬وما سيأتي‪ ،‬فإنما هو‬
‫تأكيد وتحليل للمفردات‪ .‬وتحديد لحقيقة أزمة المرأة المسلمة‪ ،‬والمتمثلة‬
‫في وضوح معالم هويتها‪ :‬ما قيمتها؟ ما دورها؟ ما التحديات التي‬
‫تواجهها؟ وكيف تستعيد مشعل االستخالف في األرض الذي كلفت به‬
‫ال مع الرجل؟‬‫تكام ً‬
‫إن حديثنا عن األنوثة من منظور إسالمي‪ ،‬ال يمكن مقاربته في‬
‫معزل عن الحديث عن الصالح‪.‬‬
‫فكيف تحقق األنثى أنوثتها الحقة؟‬
‫وما الصالح؟ وما معناه كمعيار على أساسه ُتختار الشريكة؟ وما‬
‫الذي على المرأة أن تكونه كي تعتبر صالحة؟‬
‫الصالح بأنه ضد الفساد‪ ،‬قال صاحب اللسان‪:‬‬ ‫َ‬ ‫عرف اللغويون‬ ‫َّ‬
‫>الصالح ضد الفساد‪ ،‬تقول‪َ :‬صلَح الشيء يَ ْصلُح ُصلو ًحا‪ ،‬واإلصالح‪:‬‬
‫نقيض اإلفساد<(‪.)1‬‬
‫الصالح جام ًعا لكل خير‪،‬‬
‫َ‬ ‫واعتبر شيخ اإلسالم ابن تيمية ـ ‪ ‬ـ‬
‫مستغر ًقا فيه‪ ،‬فقال‪> :‬فإذا أطلق الصالح تناول جميع الخير‪ ،‬وكذلك‬
‫الفساد يتناول جميع الشر<(‪.)2‬‬
‫الصالح في >أصول عظيمة من‬
‫َ‬ ‫في حين قرن الشيخ السعدي ـ ‪ ‬ـ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬لسان العرب‪.)516/2( ،‬‬
‫(‪ )2‬مجموع الفتاوى‪ ،)83/7( ،‬كتاب اإليمان‪.‬‬
‫‪155‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫فأن تكون‬
‫قواعد اإلسالم< بالكمال واالعتدال‪ ،‬حيث قال‪َّ > :‬أما الصالح‪ْ ،‬‬
‫األمور كلها ظاهرها وباطنها‪ ،‬دينها ودنيويها‪ ،‬معتدل ًة كاملة مكملة‪،‬‬
‫ُ‬
‫ال لها من األوصاف الصالحة‪ ،‬والنُّعوت المصلحة‪ ،‬ما يُوصلها إلى‬‫حاص ً‬
‫الصالح الحقيقي‪ ،‬وبذلك ينتفي عنها الفساد<(‪.)1‬‬
‫فإن كان الصالح في عموم معناه يناقض الفساد‪ ،‬ويتناول الخير‬
‫والكمال واالعتدال‪ ،‬فإنه بإضافته توصي ًفا للمرأة ال يبتعد عن هذا المعنى‪،‬‬
‫بل يستغرقه ويزيد عنه في التفاصيل والخصوصية‪ .‬فيأتي مراد ًفا للطاعة‬
‫ومقابال للنشوز‪ .‬وهو ما أشار إليه المفسرون في تفسير‬‫ً‬ ‫وطلب الرضى‪،‬‬
‫آية‪{ :‬ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ} [النساء‪ .]34 :‬قال‬
‫القرطبي ـ ‪ ‬ـ‪> :‬ومقصوده األمر بطاعة الزوج والقيام بحقه في ماله وفي‬
‫نفسها في حال غيبة الزوج<(‪.)2‬‬
‫وقال صاحب البحر المحيط‪ :‬قال ابن عباس‪ :‬الصالحات المحسنات‬
‫أحس َّن ألزواجهن فقد صلح حالهن معهم‪ .‬وقال ابن‬
‫ألزواجهن‪ ،‬ألنهن إذا َ‬
‫المبارك‪ :‬المعامالت بالخير‪ .‬وقيل‪ :‬الالئي أصلحهن اهلل ألزواجهن‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪{ :‬ﲱ ﲲ ﲳ}‪ .‬وقيل‪ :‬اللواتي أصلحن أقوالهن‬
‫وأفعالهن‪ .‬وقيل‪ :‬الصالح الدين هنا‪ .‬وهذه األقوال متقاربة‪ ،‬والقانتات‪:‬‬
‫المطيعات ألزواجهن‪ ،‬أو هلل تعالى في حفظ أزواجهن‪ ،‬وامتثال أمرهم‪،‬‬
‫أو هلل تعالى في كل أحوالهن‪ ،‬أو قائمات بما عليهن لألزواج‪ ،‬أو‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬أصول عظيمة من قواعد اإلسالم‪)67( ،‬‬
‫(‪ )2‬تفسير القرطبي‪)170/5( ،‬‬
‫‪156‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫المصليات‪ ،‬أقوال‪ ،‬آخرها للزجاج‪ .‬حافظات للغيب‪ :‬قال عطاء والسدي‪:‬‬


‫يحفظن ما غاب عن األزواج‪ ،‬وما يجب لهن من صيانة أنفسهن لهم‪ ،‬وال‬
‫يتحدثن بما كان بينهم وبينهن‪ .‬وقال ابن عطية‪ :‬الغيب‪ ،‬كل ما غاب عن‬
‫يعم حال غيبة الزوج‪ ،‬وحال حضوره‪.‬‬
‫علم زوجها مما استتر عنه‪ ،‬وذلك ُّ‬
‫وقال الزمخشري‪ :‬الغيب خالف الشهادة‪ ،‬أي حافظات لمواجب الغيب‬
‫إذا كان األزواج غير شاهدين لهن‪ ،‬حفظن ما يجب عليهن حفظه في حال‬
‫الغيبة من الزوج والبيوت واألموال<(‪.)1‬‬
‫صالح المرأة فقال‪،...> :‬‬
‫َ‬ ‫وعرف صاحب التحرير والتنوير ـ ‪ ‬ـ‬ ‫ّ‬
‫فوصف اهلل الصالحات منهن وص ًفا يفيد رضاه تعالى‪ ،‬فهو في معنى‬
‫التشريع‪ ،‬أي ليكن صالحات‪ .‬والقانتات‪ :‬المطيعات هلل‪ .‬والقنوت‪ :‬عبادة‬
‫اهلل‪ ،‬وق ّدمه هنا وإن لم يكن من سياق الكالم‪ ،‬للداللة على تالزم خوفهن‬
‫اهلل‪ ،‬وحفظ حق أزواجهن‪ ،‬ولذلك قال‪ :‬حافظات للغيب‪ ،‬أي حافظات‬
‫أزواجهن عند غيبتهم<(‪.)2‬‬
‫وقد أخبرت السنة المطهرة عن أحوال الصالحة وصفاتها‪ .‬فعن أبي‬
‫نظرت إليها‬
‫َ‬ ‫هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ـ ‘ ـ‪> :‬خير النساء امرأة إذا‬
‫غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك‪.‬‬ ‫أمرتها أطاعتك‪ ،‬وإذا َ‬
‫سر ْتك‪ ،‬وإذا َ‬
‫َّ‬
‫قال‪ :‬ثم قرأ رسول اهلل ـ ‘ ـ‪{ :‬ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ} اآلية(‪.)3‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬البحر المحيط البن حيان‪.)624/3( ،‬‬
‫(‪ )2‬التحرير والتنوير البن عاشور‪.)40/5( ،‬‬
‫(‪ )3‬مسند البزار‪.)8537( ،‬‬
‫‪157‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫ُّتسره إذا نظر إلى ملبسها وزينتها‪ ،‬ومبسمها وخفة روحها‪ ،‬وأخالقها‪.‬‬
‫ال للطلب‪،‬‬ ‫طلبا‪ ،‬بل ال تحوجه أص ً‬
‫وتطيعه ما لم يأمرها بإثم‪ ،‬فال ترد له ً‬
‫وإنما تقرأ ذلك ــ بفطنتها وذكائها الذي جبلها اهلل عليه ــ في عينيه‪،‬‬
‫مضطرا‬
‫ًّ‬ ‫ال عما سأله ــ ولم يجد نفسه‬
‫فتسارع إلى تلبية ما لم يسأله ــ فض ً‬
‫إلى طلبه تصري ًحا أو تلمي ًحا‪ .‬تقترب من مساحة تفكيره‪ ،‬وتعلم ــ بفطنتها‬
‫وحنكتها ــ ما يريده وما يزعجه‪ ،‬دون أن تضطره إلى المباشرة في الكالم‪،‬‬
‫فالرجل يكره أن يوضح الواضحات‪ ،‬ويمل من لعب دور المدرس أو‬
‫الموجه أو الواعظ‪.‬‬
‫وتحفظه إن غاب في نفسها وماله‪ ،‬فال تهدر ماء وجهه فيما ال ترضاه‬
‫رجولته ونخوته‪ ،‬وغيرته وقوامته‪ ،‬وال تقبله على نفسها ُحرة‪ .‬وال تبذِّر‬
‫ماله فيما يأنفه وال يصلح حاله‪ ،‬وحال أوالده‪ .‬وال ُت ْر ِعي سمعها لصديقات‬
‫السوء‪ ،‬وجارات األذى‪ ،‬وقريبات التحايل والنصائح المسمومة؛ بأن‬
‫تؤمن مستقبلها ومستقبل أوالدها بالسرقة من ماله‪ ،‬واالدخار من حقه‪،‬‬ ‫ِّ‬
‫خو ًفا على نفسها في حالة طالق أو موت‪ .‬أو بأن تبذر ماله‪ ،‬وتنقش‬
‫مستأمنة‬
‫َ‬ ‫ريشه‪ ،‬وتكسر جناحيه‪ ،‬كي ال يقوى على الطيران إلى غيرها‪.‬‬
‫هي على فتات الخبز الذي ببيتها‪ ،‬وعلى القرش األزرق الذي يأتمنها‬
‫عليه‪ .‬ال حق لها في االدخار منه‪ ،‬وال في إهدائه‪ ،‬وال حتى الصدقة منه‪،‬‬
‫ما دام ماله وحقه وعرق جبينه‪ ،‬إال بإذنه‪ .‬وتحسن إليه وتصلح أقوالها‬
‫وأفعالها‪ ،‬فإذا فعلت ذلك؛ صلح حالها معه‪ ،‬وصلح حاله معها‪.‬‬
‫فكل أمورها‪ ،‬ظاهرها وباطنها‪ ،‬دينها ودنيويها‪ ،‬معتدلة كاملة مكملة؛‬
‫‪158‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫حاصل لها من األوصاف الصالحة‪ ،‬والنعوت المصلحة‪ ،‬ما يوصلها إلى‬


‫الصالح‪ ،‬فينفي عنها الفساد‪.‬‬
‫تقوم بما له عليها من حقوق‪ ،‬فيتالزم عندها خوف اهلل‪ ،‬ومراقبته‪،‬‬
‫وخشية أن تأتيه يوم القيامة مضيعة لألمانة؛ بحفظ حقوق زوجها‪.‬‬
‫ولعل هذا ما يفسر حث النبي ‘ الشباب على الظفر بذات الدين(‪،)1‬‬
‫فهذه التي َح ُسن دينُها‪ ،‬ال يمكنها إال أن تكون راعية مستأمنة على أوامر‬
‫اهلل من جهة‪ ،‬الذي أمرها أن تكون صالحة‪ ،‬وحدد لها الصالح فيما يرضيه‬
‫سبحانه‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬بما يرضي زوجها عنها بأن تكون راعية‬
‫مستأمنة في بيته وعلى أوالدهما‪ ،‬غير مضيعة لألمانة التي كلفها اهلل بها‪.‬‬
‫وهذا الصالح الذي توصف به المرأة؛ يتعداها من صالح نفسها‬
‫إلى اإلحسان إلى غيرها‪.‬‬
‫فهي صالحة هي في أمر عبادتها‪ ،‬لها و ِْرد من قرآنها‪ ،‬ومن أذكارها‪،‬‬
‫طلبا وزكاة‪ .‬تجعل االطال َع على الفقه‬‫ومن صيامها‪ ،‬ومن حلق العلم‪ً ،‬‬
‫أولى أولوياتها؛ كي تعلم أمور طهارتها‪ ،‬وصالتها‪ ،‬وصيامها‪ ،‬وحجها‪،‬‬
‫وكل أمور عباداتها‪ ،‬وتل ِّقنها ألبنائها‪ ،‬ولمن حولها من النساء غير‬
‫التشبع من كتب العقيدة منهلها‪ ،‬وموردها العذب‬ ‫َ‬ ‫العارفات‪ ،‬وتتخذ‬
‫الزالل‪ ،‬تتحرى بها عدم السقوط فيما يقدح في عقيدتها‪ ،‬وتفهم من‬
‫خاللها كيف تربط بين ما تعلمته‪ ،‬وبين واقعها واألحداث المحيطة بها‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬متفق عليه من حديث أبي هريرة‪ ،‬رواه البخاري‪ ،)5090( ،‬ومسلم‪.)1466( ،‬‬
‫‪159‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫فتتعلم أركان اإليمان‪ ،‬ومعاني التوحيد والخشية‪ ،‬والتعامل مع أقدار اهلل‬


‫وأقضيته‪ ،‬وما يصرفها عن الشركيات والرياء‪ ،‬والبدع والكبائر‪ ،‬وما‬
‫يجعلها تستقيم على أمر اهلل‪ ،‬فتبتعد عن الفواحش والمعاصي‪ .‬وتجعل‬
‫من تفسير القرآن‪ ،‬وشروح األحاديث نبرا ًسا لها في فهم كالم ربها‪ ،‬وسنة‬
‫مناسبا لدرجة‬
‫ً‬ ‫نبيها ‘‪ .‬ثم تزيد على ذلك كل ما تستطيعه وتراه‬
‫استيعابها‪ ،‬ولمحو أميتها في أمر دينها‪ .‬وال يكفيها التعلم‪ ،‬بل عليه أن‬
‫ينعكس على عالقتها مع زوجها‪ ،‬وعلى أوالدها‪ ،‬وكل من حولها‪ .‬فما‬
‫نفعها قيام‪ ،‬وال صيام‪ ،‬وال أوراد‪ ،‬وال حلق دروس‪ ،‬وهي ال تحفظ‬
‫لسانها مع زوجها‪ ،‬بذيئة‪ ،‬سيئة العشرة‪ ،‬عنيدة‪ ،‬مستكبرة‪ ،‬مسترجلة‪.‬‬
‫وهي صالحة في أمر دنياها‪ ،‬ومعيشتها ومعيشة زوجها‪ ،‬وأبنائها‪ .‬قد‬
‫أخذت على عاتقها تمرير مبادئها وأخالقها إلى َم ْن حولها‪ ،‬وجعلت‬
‫رسالتها في إسعاد زوجها‪ ،‬وتنشئة أبنائها تنشئ ًة سليمة‪ ،‬تغرس فيهم روح‬
‫الدين الحنيف‪ ،‬ومبادئه القويمة‪ ،‬وتحرص على عقيدتهم‪ ،‬وديانتهم‪ ،‬وأمر‬
‫أخراهم‪ ،‬أكثر من حرصها على شهاداتهم‪ ،‬ومراتب جاههم‪ ،‬ومواردهم‬
‫المادية‪ .‬تعلم جي ًدا واجباتِها‪ ،‬والمسئولية التي تنتظرها ألجل إسعاد‬
‫خوله الشرع لها في ما بعد‬
‫زوجها‪ ،‬وتربية أبنائها‪ ،‬وتعلم حقوقها‪ ،‬وما َّ‬
‫عن أفكار وعادات المجتمع السقيمة‪ ،‬وعن األفكار النسوية المتحررة‪،‬‬
‫جرت عليها وعلى األسرة سوى الهالك‪.‬‬ ‫التي ما َّ‬
‫وهي صالحة في أمر روحها‪ ،‬وغذاء فكرها‪ ،‬تبرع في دراستها‪،‬‬
‫وتتفوق في تخصصها‪ ،‬وتنوع مطالعاتها‪ ،‬وتطلع على المستجدات حولها‪،‬‬
‫‪160‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫وتهتم بكل ما يخصها كامرأة‪ ،‬وكزوجة‪ ،‬وكأم‪ ،‬وكفاعلة ف ّعالة في‬


‫وتكون بذلك فلسفتها الخاصة التي ستنعكس أنوارها على‬ ‫ِّ‬ ‫المجتمع‪،‬‬
‫تخطيطاتها في إدارة بيتها‪ ،‬وتربية أبنائها‪ ،‬وتهييئهم لمعالي األمور‪ .‬ترفع‬
‫عنها سخمة الجهل‪ ،‬وتتسلح ضد األفكار المسمومة الهدامة التي أخذت‬
‫على عاتقها تعطيل طاقاتها بسبب ــ من جهة ــ األفكار الخفاشية الظالمية‬
‫من أدعياء االلتزام‪ ،‬والتصدر للدعوة‪ ،‬من غير مؤهالت‪ ،‬الذين ال يفهمون‬
‫األحكام ومناطاتها‪ ،‬وال يستطيعون استيعاب التوازن في تربيتها وتعليمها‪،‬‬
‫فرأوا أن الحل في إبعادها عن الدراسة وعن العلم والتنوير‪ ،‬ونظروا إلى‬
‫فشيؤوها‪،‬‬‫صاحبة الفكر والثقافة كمارقة تستحق الجلد والتعزير‪َّ ،‬‬
‫واقتصروا على اختزال كل ظهور لها في المجتمع في فتنة الرجل‪ ،‬وتعطيل‬
‫مهماته ومسؤولياته‪ ،‬والزج به في المعاصي‪ ،‬وفصلوها عن المجتمع‪ ،‬ولم‬
‫ذكاءها وفطنتها وتفوقها في التعلم؛ استرجال‬
‫يألوا جه ًدا في إقناعها بأن َ‬
‫ومنافسة مقيتة للرجل‪ ،‬ونقص في أنوثتها‪ ،‬وحددوا رسائل خطاباتهم لها‬
‫عقال‪ ،‬وال يبني بي ًتا‪ ،‬وال يربِّي‬
‫في كل ما هو سطحي شكلي‪ ،‬ال يؤسس ً‬
‫نش ًئا‪ ،‬وال يستطيع حل أبسط المشكالت‪ ،‬فاختزلوه في التهديد بالسخط‪،‬‬
‫ولعنة المالئكة‪ ،‬وعدم شم ريح الجنة‪ ،‬من أجل تلبية رغباتهم الذكورية‪،‬‬
‫دون اهتمام بكيانها‪ ،‬وطموحاتها‪ ،‬وإسهامها الخالق في الرقي بالمجتمع‪،‬‬
‫ودون مراعاة لنفسيتها وال لطاقتها‪ ،‬ومن غير تحرير دقيق لمعنى الطاعة‬
‫المطلوبة منها‪ ،‬وتحديد له بما حدده اهلل ورسوله‪ .‬ومن جهة أخرى‪،‬‬
‫بسبب األفكار >التنويرية< العلمانية المعادية لكل ما له عالقة بالدين‪،‬‬
‫‪161‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫الهادفة إلى تشييئها‪ ،‬وجعلها كدمية تخدم مصالحها‪ ،‬ونزعتها الذكورية‬


‫اإلقصائية‪ ،‬وبسبب أفكار وقواميس أدعياء التحرر الذين يزعمون أنهم‬
‫فتبين ــ من غير شك وال ارتياب ــ أنهم إنما‬
‫يدافعون عن حقوقها‪َّ ،‬‬
‫يدافعون عن حقهم فيها‪ .‬اغتنموا فرصة معاناتها من الحيف الذي يمارسه‬
‫عليها بعض الخطاب الديني المتحجر عن طريق القائمين به‪ ،‬دون‬
‫استيعاب دقيق لمناطات الخطاب‪ ،‬فسلَّموها للنسوية المتحررة‪َّ ،‬‬
‫وجردوها‬
‫من معاني األنوثة‪ ،‬وز ُّجوا بها في صراع مرير‪ ،‬ومنافسة مقيتة مع الرجل‪.‬‬
‫واستغلوا حنقها على هذا التضييق‪ ،‬فأ ُّزوها على فرط السالسل‪ ،‬وكسر‬
‫الحواجز‪ ،‬والتحرر من عنق الزجاجة‪ ،‬إلى رحابة الحرية غير المشروطة‬
‫وال المحدودة‪ ،‬فضيعوها وضيعوا األمة معها‪.‬‬
‫وهي صالحة في أمر أنوثتها‪ ،‬تفهم طبيعتها وفطرتها التي فطرها اهلل‬
‫عليها‪ ،‬من حب زينة ونظافة وجمال‪ .‬تقدر أنوثتها‪ ،‬وتبتعد عما يخرجها‬
‫عنها‪ ،‬وينفر زوجها منها‪ .‬تتعلم كيف تحسن التبعل‪ ،‬وكيف تكون أنثى‬
‫معطاء محبوبة‪ ،‬ال يرى منها إال ما يحببها في عينه‪ ،‬فيسكن فؤاده لمرآها‪،‬‬
‫ويأنس بحضورها؛ فتتحقق له بذلك معاني السكن التي ألجلها ُشرع‬
‫الزواج‪ .‬تقديرها لذاتها‪ ،‬واحترامها لنفسها‪ ،‬أولى أولوياتها‪ ...‬نظافتها‬
‫وأناقتها‪ ،‬وثقافتها وغذاء روحها‪ ،‬طريقة كالمها‪ ،‬اختيارها للعبارات‬
‫الراقية النفاذة في مخاطبتها زوجها‪ ،‬أسلوبها في الحوار‪ ،‬وفي الرفض‪،‬‬
‫تقديرا للزوج‪.‬‬
‫وفي الطلب‪ ...‬أناقة ورقي‪ ،‬واحترام للنفس‪ ،‬قبل أن يكون ً‬
‫تعلم كيف تثبت وجودها‪ ،‬وكيف تؤكد حضورها‪ ،‬دون أن تدخل‬
‫‪162‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫في صراع مع زوجها‪ ،‬ودون أن تتعالى عليه‪ ،‬ألنها تعلم حدود مسؤوليتها‪،‬‬
‫وأهداف سعيها‪ ،‬وحدود طاقتها‪ ،‬وحدود طبيعتها األنثوية‪ .‬ال ترى فيه‬
‫خص ًما وال مناف ًسا وال نِ ًّدا‪ ،‬إنما تلزم نفسها بما ألزمها به اهلل ورسوله‪،‬‬
‫وتعفي نفسها مما أعفاها اهلل منه وكلفه هو به‪ .‬ترعي سمعها‪ ،‬و ُتعمل عقلها‬
‫فيما يدور حولها‪ ،‬وتطلق بصرها على العالم حولها في ذكاء وتوقد‪ ،‬لتعود‬
‫بمزيد أفكار‪ ،‬ومزيد خبرات‪ ،‬وما به تساير المستجدات‪.‬‬
‫تكامل بين ُحسن‬‫هكذا هي المرأة الصالحة‪ ،‬واألنثى الحقيقية‪ُ ،‬‬
‫الصورة‪ ،‬وجمال الروح‪ ،‬وعذوبة المنطق‪ ،‬ورجاحة الفكر‪ .‬ال تقبل بتلك‬
‫األفكار الهدامة التي تعطي القيمة ألحدها على حساب اآلخر‪ .‬ال لتلك‬
‫التي جعلت منها مجرد ثليجة‪ ،‬البد أن تحفظ في البراد كي ال تذوب‪،‬‬
‫أو يتراكم عليها الذباب‪ ،‬وال لتلك التي أخرجتها من رقتها وأنوثتها‪،‬‬
‫وزجت بها في معتركات الرجال‪،‬‬
‫رياضيا‪ّ ،‬‬
‫ًّ‬ ‫وألبستها سروال جينز‪ ،‬وحذاء‬
‫وحشت رأسها بالنسوية والندية‪ ،‬ودعاوى المساواة والنشوز‪ ،‬وحقها في‬
‫االسترجال‪ .‬وسط هي بين استكمال فضائل النفس‪ ،‬وترميم ثقب الروح‪،‬‬
‫تماما بما تتغذى به عقول األفذاذ من الرجال‪ ،‬وبين بهاء‬
‫وتغذية العقل‪ً ،‬‬
‫شكلها‪ ،‬وتعلمها أبجديات الزينة والنظافة والجمال‪ .‬ال يعذرها في ترك‬
‫ذلك حمل‪ ،‬وال إنجاب‪ ،‬وال تربية أوالد‪ ،‬وال غيرها مما تتحجج به عادة‬
‫بعض النساء اللواتي هجرن زينتهن‪ ،‬وغب َّن أنفسهن وأزواجهن‪ ،‬والذريعة؟‬
‫انشغال بطلب رزق‪ ،‬أو تربية أوالد‪ ،‬أو أشغال البيت والدوام‪ .‬والحق أن‬
‫مرجع إهمال أنفسهن وزينتهن في األساس‪ ،‬إلى عجز أو كسل‪ ،‬أو عزوف‬
‫‪163‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫عن طلب الجمال‪ .‬أو إلى عدم فتحهن أعينهن في بيت أهاليهن على‬
‫النموذج والمثال المنشود المتمثل في األم‪ ،‬وعلى خبرة حياتية تختصر‬
‫عليهن مسافات البحث‪ ،‬وتعفيهن من التخبط في رحلتهن‪ ،‬لنحت‬
‫تماثيلهن‪ ،‬ورسم صورهن‪ ،‬فتخبرهن ّأو ًال وقبل كل شيء بأنهن إناث‪،‬‬
‫وبأنه عليهن التضوع من عطر األنوثة‪ ،‬ومن سحر األنوثة‪ ،‬ومن غموض‬
‫األنوثة‪ ،‬ومن فطرتهن‪ ،‬ومنة المعطي سبحانه القدير‪ ،‬الذي قدر لهن أن‬
‫يكن مخالفات للرجل‪ ،‬وأن ينشئهن في الحلية‪ ،‬وفي الزينة‪ ،‬وفي حب‬
‫وطلب الجمال‪.‬‬
‫وقد أثبتت التجربة أ ّن جز ًءا من األنوثة فطري‪ ،‬وجز ًءا منها مكتسب‬
‫من الموروثات الثقافية‪ ،‬ومن تبادل الخبرات‪ ،‬ومن االجتهاد في رسم‬
‫صورة مميزة للذات‪ ،‬والرقي بها‪ ،‬كي تكون دائمة الحضور والتألق‪.‬‬
‫ولهذا‪ ،‬فحتى تلك التي لم تترعرع في بيت يحفظ لألنوثة قيمتها‪ ،‬ويعلم‬
‫بأنها منهج حياة‪ ،‬وطريقة المرأة الخاصة في تحسس العالم حولها‪،‬‬
‫واإلحساس بما يحيط بها‪ ،‬ووسيلتها إلثبات وجودها وتميزها‪ ،‬وورقة‬
‫ضغط رابحة في كسب قلب زوجها‪ ،‬حتى تلك‪ ،‬فإنها تستطيع تدارك ما‬
‫عال زوجة صالحة‪،‬‬ ‫تترب عليه‪ ،‬وتتعلم من مبادئ األنوثة ما يجعلها ِف ً‬
‫لم َّ‬
‫بكل المعايير السابقة التي تمت اإلشارة إليها‪ ،‬في تحديد معنى الصالح‬
‫الذي توصف به عادة الزوجة الصالحة‪.‬‬
‫حريصة على ترتيب األولويات‪ ،‬فال شيء يسبق المسؤولية التي‬
‫كلفها اهلل بها‪ ،‬والتي ستسأل عنها أمام ربها‪ ،‬من حسن تبعل‪ ،‬وطيب‬
‫‪164‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫عشرة‪ ،‬وحسن تربية ألوالدها‪ .‬ال عملها‪ ،‬وال مشاريعها الدعوية‪ ،‬أو‬
‫العملية‪ ،‬أو المادية‪ ،‬وال طموحاتها الشخصية‪ ،‬ال شيء من ذاك يستحق‬
‫أن تضيع ألجله كيان أسرتها‪ ،‬وال أن ترجحه‪ ،‬في حالة تعارض‪ ،‬على‬
‫مجتمعها المصغر الذي إذا انهدم‪ ،‬انهدم معه صرح المجتمع الكبير‪.‬‬
‫حريصة على نيل األجر الكبير‪ ،‬والغنيمة الباردة‪ ،‬بتعلم حسن‬
‫التدبير‪ ،‬وبراعة التخطيط‪ ،‬والتفنن في إدارة بيتها‪ ،‬وعلى اإلبداع في تعلم‬
‫صنع اللقمة التي تضعها في فيه زوجها وأبنائها‪ .‬تنفخ فيما حولها من‬
‫ألواح‬
‫َ‬ ‫روحها ومن لمساتها‪ ،‬فتصيِّر القفر جنا ًنا‪ ،‬وتصنع من الالشيء‬
‫عب ًقا‬
‫حبها له وللتفوق ولإلبداع في إرضائه؛ يضخ في أنفاسها َ‬ ‫إبداع‪ُّ .‬‬
‫جميال متجد ًدا تتجدد به عطاءا ُتها‪ ،‬ويجعلها تحب ما تفعله‪ .‬الطبخ يصبح‬
‫ً‬
‫لديها هواية جميلة‪ ،‬ووسيلة للتودد لزوجها‪ ،‬ولجعل المركبة تسير في‬
‫استقرار وأمان‪.‬‬
‫وليس المجال هنا للتحريرات الفقهية فيما إذا كان الطبخ وخدمة‬
‫الزوج من واجبات المرأة‪ ،‬وقد تقدمت اإلشارة السريعة إلى تلك المسألة‬
‫فقهيا‪ ،‬في سياق سابق من هذا الكتاب‪ ،‬ومن ثَ َّم سأكتفي بالرد على هذا‬
‫ًّ‬
‫األمر بنقطتين‪:‬‬
‫أوال‪ :‬ما دامت العادة ُمحك ََّم ًة‪ ،‬وعادة مجتمعاتنا مراعاة المرأة شؤون‬
‫ً‬
‫البيت‪ ،‬وإدارته من كل النواحي‪ ،‬بغض النظر عن مشاركة الزوج في ذلك‬
‫أو غيره؛ فإن ذلك يصبح بالعادة مسؤولية المرأة‪ ،‬ما لم يكن من عادة‬
‫‪165‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫أهلها أن يستجلبوا من يخدمهن‪ ،‬وما لم تشترط ذلك هي على زوجها‪،‬‬


‫ويقبل بشرطها قبل العقد‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬المطالبة بالعدل أو بالندية في هذه األمور التي تتباحث حدود‬
‫ً‬
‫واجبات المرأة في مراعاة الزوج؛ يقابله الحديث عن حدود واجبات‬
‫الزوج في النفقة عليها‪ .‬فكم ِمن أشياء تظنها النساء ً‬
‫واجبا عليه في اإلنفاق‬
‫عليها‪ ،‬وإنما قيامه بها من باب اإلحسان واإلنسانية‪ ،‬والعشرة والمودة‪،‬‬
‫ال من باب ما سيسأل عنه أمام ربه يوم القيامة‪ .‬والحق أن هذه األمور إنما‬
‫يُحتاج إليها‪ ،‬ويرجع إليها‪ ،‬في حالة الخصام‪ ،‬ومحاولة االحتكام‪ ،‬وإال‬
‫فإن الحياة الزوجية ال تسير فقط بالحقوق والواجبات‪ ،‬إنما بالتغافل‬
‫واإلحسان‪ ،‬والتضحيات والتودد‪ ،‬والبحث المستمر عن إرضاء الشريك‪،‬‬
‫وإسعاده وطلب األجر من الشكور سبحانه على ذلك‪.‬‬
‫فه ُم معنى الصبر اإليجابي‪ ،‬وتفرق بينه وبين الخنوع واالستكانة‬
‫َت َ‬
‫والسلبية‪ ،‬وال تجعله مطية لالستبداد والتسلط‪ .‬توقن‪ ،‬دون شك أو‬
‫ارتياب‪ ،‬أ ّن الصبر حبس للنفس عن الجزع من األقدار‪ ،‬وثبات للقلب‬
‫على األحكام القدرية والشرعية‪ ،‬وتستوعب في نفس الوقت أنها غير‬
‫مأمورة بأن تطيب لها الباليا‪ ،‬وأنه ال يعني ذلك بحال القبول بالمتاح‬
‫والصمت عن الخطأ‪ ،‬واالبتعاد عن المشاركة الوجدانية والفعلية من أجل‬
‫بناء صرح أسرة شامخة‪ .‬وهذا البحث عن التغيير‪ ،‬واالجتهاد في إيصال‬
‫عدم الموافقة على المواقف المزعجة؛ ال يعني إعالن الثورة واالنقالب‪،‬‬
‫وال السعي إلى حرب أهلية‪ .‬البحث عن التغيير ال ينافي الصبر‪ ،‬وهو‬
‫‪166‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫تشارك في مباحثة الحلول‪ ،‬وعبقرية في طرح ما يزعج ويقف حاج ًزا أمام‬
‫السعادة‪ ،‬وذكاء عاطفي وقلب واع‪ .‬ال خنوع واستكانة وسلبية‪ ،‬فذلك ال‬
‫يليق بحرة‪ ،‬وال يصحح األخطاء والمسارات‪ ،‬وال يغير الواقع‪ ،‬وال يسمو‬
‫والبحث‬
‫ُ‬ ‫التغيير الفعالي ُة واإليجابي ُة‪،‬‬
‫َ‬ ‫باألسرة ويشمخ بها‪ ،‬وإنما يحقق‬
‫تماما كما أ ّن الصبر‬
‫الدائم عن التطوير والتغيير‪ ،‬والحرص على التقويم‪ً .‬‬
‫واسترجاال‪ ،‬واعتبار بقائها على ذمته من‬ ‫ً‬ ‫ليس تسل ًطا واستبدا ًدا‪ ،‬وبذاءة‬
‫غير أن تطلب منه الطالق‪ ،‬رغم كل ما تتطاول عليه به‪ ،‬ورغم كل ما‬
‫صبرا‪.‬‬
‫ص‪ً ،‬‬ ‫ترتكبه في حقه من معا ٍ‬
‫تفرق بين االسترجال وقوة الشخصية‪ ،‬فقوة الشخصية ثقة بالنفس‪،‬‬
‫وفهم جيد لما تريده‪ ،‬وهذه اإلرادة تابعة إلرادة اهلل ورسوله من خالل‬
‫حراما‪ ،‬وال تتعدى ح ًّدا‪ ،‬وال تأخذ حقًّا بدعوى‬
‫التشريعات‪ ،‬فال تحلل ً‬
‫المساواة‪ .‬فتعلم المرأة جي ًدا ما لها وما عليها‪ ،‬فتقف عند ما ُحرم عليها‬
‫ونهيت عنه‪ ،‬ألن الشارع الحكيم جعل لها حدو ًدا إن تجاوزتها دخلت في‬
‫الندية مع الرجل‪ .‬وتميز بشكل دقيق حدود األنوثة التي إذا تجاوزتها‬
‫وقعت في االسترجال‪ ...‬حرة أبية‪ ،‬تختار حياتها بما ال يخالف الشرع‪،‬‬
‫وال يهمها في ذلك لومة الئم‪ ،‬ما دامت تعلم أنها لم تتجاوز المطلوب‬
‫منها‪ ،‬وال تنضوي تحت لواءات القواعد المجتمعية التي تخالف الشرع‪،‬‬
‫وال تسمح لآلخرين أن يختاروا ِع َو ً‬
‫ضا عنها‪ ،‬وتوقن أن قراراتها ما دام‬
‫يحكمها الشرع‪ ،‬فليس ألحد أن يملي عليها خالفها‪ ...‬تطور ذاتها‬
‫باستمرار‪ ،‬وال تستكين إال بطلب المعالي‪ ،‬إرادتها تناطح السحاب‪،‬‬
‫‪167‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫وعزيمتها على فعل الخير واالمتثال ال يحدها شيء‪ ،‬تتحمل مسؤوليتها‬


‫كاملة‪ ،‬ودائمة البحث عن التغيير والتجديد‪ ،‬والحلول وطلب الرقي‪،‬‬
‫واإلبداع‪ ،‬لذلك فهي ال تتوقف عن التفكير‪ ...‬هذا باختصار شديد ما‬
‫تعنيه قوة الشخصية‪ .‬وماعدا هذا من استقواء وبذاءة‪ ،‬إنما هو محض‬
‫استرجال‪ .‬فبعض النساء يفهمن أن التنكيد والعناد‪ ،‬ورفع راية التحدي‬
‫على أزواجهن‪ ،‬ومعاندتهم ورفع الصوت عليهم‪ ،‬والبذاءة والتمرد‪،‬‬
‫والتعالي والقسوة؛ ذكاء‪ ،‬وقوة شخصية‪ ،‬وحضور‪ ،‬وطريقة مثلى‬
‫الستجالب الحقوق! والحق أن ذلك قوة عضالت لسان‪ ،‬بل هو ضعف‬
‫شخصية متدثر بصوت عال‪ ،‬يحاول حجب االهتزاز الداخلي‪ ،‬ويعوض‬
‫انعدام الثقة بالنفس بالصراخ والتطاول‪ ...‬وهو االسترجال في أدق‬
‫يوما ما مع رجل ما‬
‫معانيه‪ .‬وحتى وإن أثبتت التجربة البئيسة أنه قد نفع ً‬
‫حب‬
‫في مجتمع ما‪ ،‬فحصلت على حقها وأكثر؛ فإنه أب ًدا لن يستجلب َّ‬
‫الزوج واحترامه لها‪ ،‬واحتواءه لها‪ ،‬وعطفه عليها‪.‬‬
‫قوة الشخصية ال تعني العناد وال الندية‪ ،‬وال منازعة الرجل رجولته‪،‬‬
‫وال تعني الصوت العالي‪ ،‬وال الجرأة التي تصرفها عن الحياء‪ ،‬ألن‬
‫األنوثة في أجمل معانيها؛ قوة في ضعف‪ ،‬وضعف في شموخ‪ ،‬وخضوع‬
‫في حضور شخصية‪ ،‬واستكانة من غير استضعاف وال مسكنة‪ ،‬واستمتاع‬
‫دالال في وجود الرجل‬
‫بالضعف الطبيعي الذي فطرها اهلل عليه‪ ،‬واعتباره ً‬
‫القوام‪ ،‬بل تر ًفا ال تحظى به إال كاملة أنوثة‪ ،‬في كنف كامل رجولة‪.‬‬
‫والرجل في الغالب يميل إلى من يرى أنها ستخضع له‪ .‬والمحظوظ‬
‫‪168‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫من وجدها ذات شخصية قوية بالمعايير المذكورة آن ًفا‪ ،‬وبعد في النظر‪،‬‬
‫وحرية في االختيارات‪ ،‬ثم النت له وخضعت في شموخ‪.‬‬
‫مفارقة ذكية ال تحسنها إال كاملة أنوثة‪ ،‬وصفة راقية ال يفقهها إال‬
‫كامل رجولة‪.‬‬
‫وهي تفرق بين الطاعة وخفض الجناح‪ ،‬وبين الخنوع والسلبية‪.‬‬
‫فالطاعة انقياد لربان سفينة‪ ،‬قد كلفه اهلل أن يقودها‪ ،‬بمقتضى قوامته التي‬
‫تعني من بين ما تعنيه‪ :‬مسئولية وإدارة‪ ،‬وقيام بالمصالح‪ ،‬وتدبير للحياة‪،‬‬
‫ونفقة وذب‪ ،‬ووالية وإصالح‪ .‬مواصفات تكليفية ال تشريفية‪ ،‬تحتاج‬
‫ممن تولى أمرهم أن يعينوه على أداء مهمته في قيادة السفينة إلى بر‬
‫األمان‪ ،‬والمجيء يوم القيامة بحقوق محفوظة‪ ،‬وأمانات غير مضيعة‪.‬‬
‫تطيعه‪ ،‬ال ألنها األدنى‪ ،‬وال ألنها األقل شأ ًنا‪ ،‬بل قد كرمها ربها‪،‬‬
‫نبيها‪ ،‬وجعل من بين ما استوصى بها فيه أن يعتني بها الرجل‪،‬‬ ‫وأوصى بها ُّ‬
‫وأن ينفق عليها‪ ،‬وأن يحميها‪ ،‬ويحقق لها السكن‪ ،‬ويحمل عنها ما ال‬
‫تتحمله طبيعتها األنثوية الرقيقة‪ ،‬وبنيتها الجسمانية الضعيفة‪ .‬وفي‬
‫المقابل‪ ،‬تسهل عليه مأموريته بأال تقف أمام فوهة البركان‪ ،‬فترفض طلباته‬
‫التي ال تتنافى مع الشرع‪ ،‬ومع الخلق القويم‪ ،‬ومع حدود الطاقة‪ .‬تطيعه‬
‫في فراشه في حدود الشرع‪ ،‬وتطيعه في خروجها‪ ،‬فال تخرج إال بإذنه ما‬
‫دخل إلى بيته من‬‫لم يمكنها من إذن مطلق غير منتهي الصالحية‪ ،‬وال ُت ِ‬
‫يكرهه‪ ،‬ولو كان من أهلها‪( ،‬وليس هنا مجال مباحثة حل وسط لهذا األمر‬
‫‪169‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫في هذا المقام‪ ،‬وإنما الحديث عنه في عمومه قبل إيجاد الحلول)‪ ،‬وتطيعه‬
‫في زينتها‪ ،‬فال تتزين إال بما يحب؛ على األقل أمامه وفي حضوره‪ ،‬وإال‬
‫بما تعلم يقي ًنا أنه سيسعد قلبه وسيمأل عينه‪ ،‬وسيزيدها قر ًبا منه‪ .‬وتطيعه‬
‫في أمور تربية أوالدهما‪ ،‬وتدبير معيشتهما‪ ،‬وإنفاق ماله‪ .‬وعدم طاعته‬
‫وعصيانه في هذه األمور هي ما اصطُلِح عليه بالنشوز‪ .‬والطاعة ال تعني‬
‫الخنوع‪ ،‬والسلبية واالنقياد األعمى‪ ،‬وال االنسالخ من الشخصية‪ ،‬بل‬
‫ليست مطالبة بأن تطيعه في كل ما يأمر به‪ ،‬وال من حقه أن يحركها بآلة‬
‫تحكم‪ ،‬فال ترى إال ما يراه‪ ،‬وال تنطق إال بعباراته‪ ،‬بل لها حرية الرأي‪،‬‬
‫وحرية التعبير‪ ،‬وحرية التصرف في مالها‪ ،‬دون وصاية منه‪ ،‬وال تسلط‬
‫عليه‪ ،‬ولها كل الحريات التي ال تتنافى مع الشرع‪ ،‬ومع طبيعتها األنثوية‪.‬‬
‫وإنما الطاعة الواجبة التي تأثم إن لم تقم بها؛ فيما تم اإلشارة إليه‪ .‬وهي‬
‫مع هذه الطاعة الواجبة‪ ،‬منصوحة بأن تكون لينة هينة‪ ،‬تبرع في قراءة‬
‫عينيه‪ ،‬والتذلل واللين له‪ ،‬حتى ال تمتنع من شيء يريده ويحبه‪ ،‬وخفض‬
‫جناحها له‪ ،‬والذي يعني من بين ما يعنيه‪ :‬التواضع والمسارعة إلى تلبية‬
‫طلباته في غير ما معصية‪ .‬وليس في هذا أدنى مهانة لها‪ ،‬وال هو خنوع‬
‫ضا‪ ،‬إذ ال‬‫أو سلبية أو انعدام شخصية‪ .‬وهو أمر مطلوب في الرجل أي ً‬
‫معنى في استقرار العالقة الزوجية؛ أن يكون الضغط أو الميل على طرف‬
‫واحد من الطرفين‪ .‬فبقدر األخذ يكون العطاء‪ ،‬وبقدر التشوف إلى ما‬
‫ضا إلى إسعاده‪ ،‬وإدخال السرور عليه‪.‬‬ ‫يمنحه الشريك‪ ،‬تكون المسارعة أي ً‬
‫فالسفينة الزوجية تحتاج إلى الرقة والبذل‪ ،‬والتضحيات‪ ،‬والتفاني‪،‬‬
‫‪170‬‬
‫مفهوم األنوثة والتقاؤه مع مفهوم الزوجة الصالحة‬

‫والعطاء المتبادل‪ ،‬وال تمخر العباب فقط بالحقوق والواجبات‪ ،‬وإنما‬


‫يرجع إلى حدود الحقوق والواجبات عند التخاصم‪ ،‬وعدا ذلك‪َ ،‬فب ُّر‬
‫وقوده التفاني في اإلسعاد‪ .‬والرجل القوام َمن َعلِم بدقة‬
‫األمان والسعادة؛ ُ‬
‫مسؤوليته‪ ،‬فقام بها على أتم وجه‪ ،‬وساعد بذلك زوجته في أن تطيعه‪،‬‬
‫ضا‬ ‫بل أال تتحرك وال تتنفس إال بوجوده وأنفاسه‪ُ ،‬ح ًّبا وطواعية‪ ،‬وخف ً‬
‫وتذلال‪ .‬والمرأة الذكية من فهمت أنوثتها‪ ،‬ومعاني حسن التبعل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫للجناح‬
‫وعلمت أن في الطاعة‪ ،‬وخفض الجناح‪ ،‬وفي اإلكثار من المدح والثناء‪،‬‬
‫حاال<‪،‬‬ ‫والتحبب‪ ،‬إشبا ًعا لرجولته الجوعى لكلمة >حاضر<‪ ،‬و>نعم<‪ ،‬و> ً‬
‫و>من عيني<‪ .‬تحترمه‪ ،‬وتبالغ في اإلطراء والثناء عليه‪ ،‬وتغدق عليه من‬
‫األدعية والكلمة الطيبة ما يأسره‪ .‬تعلم متى ُت ْق ِدم‪ ،‬ومتى ُتحجم‪ ،‬وكيف‬
‫تتفادى إغضابه‪ ،‬وكيف تسعده‪ ...‬ومتى تكون طفلته المدللة‪ ،‬ومتى تكون‬
‫أمه الرؤوم‪ ،‬ومتى تكون صديقته الوفية‪.‬‬
‫هذه هي المرأة الصالحة‪ ،‬والعبير الفواح‪ ،‬وشذى األعطيات‪ ،‬وهذه‬
‫هي مواصفاتها التي ال تحيد عنها إال جاهلة بمسؤولياتها ودورها الذي‬
‫تتشرف وتتكفل به‪ ،‬أو معاندة للطبيعة البشرية األنثوية التي أودعها اهلل‬
‫فيها‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫خاتمة الكتاب‬

‫خاتمة الكتاب‬
‫سر ربَّاني قد وضعه اهلل في نساء الرعيل األول‪ ،‬واصطفاء إلهي‬
‫لهاته الزمرة الطيبة الشريفة التي تضوعت من عطر النبوة‪ ،‬وسنت من بهاء‬
‫سيد البشر وكماله ــ عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصالة والتسليم ــ‬
‫فضربن أبهى وأعبق األمثلة في االمتثال والتسليم‪ ،‬والتضحية والتفاني‪،‬‬
‫وقوة الشكيمة‪ ،‬ورجاحة العقل‪ ،‬وصالدة الرأي‪ ،‬وحرية االختيار‪.‬‬
‫سحر جعل الصحابية تسارع إلى شق ردائها‪ ،‬وااللتحاف به‪ ،‬امتثا ًال‬
‫آلية الحجاب‪ ،‬بمجرد ما نزلت‪ ،‬فوعت أن األمر للوجوب‪ ،‬وتهرع إلى‬
‫حليها تتبرع بها تصديق ًا إلرشاد النبي ـ ‘ ـ لهن إلى كثرة الصدقات‪،‬‬
‫وتحمل السيف في جرأة وشجاعة وتحد‪ ،‬دفا ًعا عنه ــ بأبي هو وأمي ــ‬
‫فتبلي أحسن البالء‪ ،‬وتسأل عن حقوقها وواجباتها‪ ،‬وتفاصيل عبادتها‪،‬‬
‫بكل حرية‪ ،‬ال يثنيها عن ذلك خجل وال حياء‪ ،‬وتتفرد باختياراتها‬
‫وقراراتها‪ ،‬فنبي الرحمة المهداة سند وعون لها‪ ،‬ونعم الناصح المعين لها‬
‫على من يريد اإلجحاف بها‪.‬‬
‫أنوار وأسرار ال َّ‬
‫حظ للمرأة اليوم منها ما لم تهتد بهديهن‪ ،‬وما لم‬
‫تجعل من سيرتهن منارة تفيء إليها روحها المتعبة كلما حاصرتها النظرات‬
‫والشزرات‪ ،‬والتقاليد والعادات‪ ،‬أو كبلها فقه محدث‪ ،‬يفتقد ألولى‬
‫‪172‬‬
‫خاتمة الكتاب‬

‫أولويات الفقه‪ ،‬ويفتقر المشتغلون به ــ إال من رحم ربي ــ إلى أبجديات‬


‫االستنباط والتحليل والتحرير‪ ،‬واإلسقاط والتمثيل‪ .‬ويحرمها بفتاواه‬
‫الجامدة‪ ،‬وورعه البارد‪ ،‬ما حباها اهلل من حرية‪ ،‬وعقل‪ ،‬وجرأة في القرار‬
‫واالختيار‪ .‬ويحجم دورها في المجتمع‪ ،‬ويقزم كفاءاتها‪ ،‬ويحاصرها‬
‫كما من المنهيات‪ ،‬ومن المحظورات‪،‬‬ ‫بالتحريم والنهي‪ ،‬فيجعلها تواجه ًّ‬
‫ومن التضييقات‪ ،‬على ما وسعه اهلل لها‪ ،‬إما بالتمرد وفرط سالسل الوالء‪،‬‬
‫فصارت بذاك رجلة مستأسدة‪ ،‬ومسخ ًا في أبشع صور المسوخ‪ ،‬وإما‬
‫باالستكانة والخنوع واالستضعاف‪ ،‬حتى صارت مهمتها‪ ،‬في أفضل‬
‫األحوال‪ ،‬اإلنجاب والخضوع للسلطة الذكورية المروج لها عبر الخطابات‬
‫اإلقصائية‪ .‬دون تطرق حقيقي لحاجياتها واهتماماتها‪ ،‬ودورها الفعال‬
‫لقيادة المجتمع والسمو به‪ .‬بل حتى حينما تصدح في مسامعها بعض‬
‫الخطابات المدعية للتوازن؛ بأنها نصف المجتمع‪ ،‬وتنشئ نصفه اآلخر‬
‫كونه‪ ،‬فإنها ال تقدم لها برامج واضحة‪ ،‬وال مخططات متكاملة‪ ،‬ألجرأة‬‫و ُت ِّ‬
‫اإلصالح‪ ،‬وإنما تحصر كل الخطاب الموجه إليها في كونها فتنة وعورة‪،‬‬
‫ويفترض عليها بذلك أن تنحسر‪ ،‬كي تقي الرجل شر فتنتها!‬
‫حملها‪ ،‬كزوجة‪ ،‬كل المسؤولية في استقرار البيت‪،‬‬ ‫ومن جهة‪ ،‬يُ ِّ‬
‫ضا بهذا الدور‪ ،‬وغير مسؤول‬
‫وسيادة السكينة‪ ،‬وكأن الرجل غير معني هو أي ً‬
‫أمام اهلل عنها‪ ،‬وعن سعادتها‪ ،‬وعن راحتها‪ ،‬كي تستطيع أن تؤدي رسالتها‬
‫المنوطة بها‪.‬‬
‫إننا أمام تحديات كثيرة‪ ،‬كي نرجع للمرأة حضورها‪ ،‬وسؤددها‪،‬‬
‫‪173‬‬
‫خاتمة الكتاب‬

‫ورفعتها‪ ،‬وقيمتها المجتمعية‪ ،‬التي كانت عليها‪ .‬ملزمون بإعادة قراءة‬


‫تراث اآلل واألصحاب‪ ،‬وإسقاط أحوال المرأة المعاصرة عليه‪ ،‬وإعادة‬
‫النظر فيما صيرته دين ًا التقالي ُد والعادات‪ ،‬والثقافات المجتمعية السائدة‪،‬‬
‫وبعض الخطابات الدينية الجوفاء‪ ،‬والخطابات الحداثية المتخصصة في‬
‫صرف المرأة المسلمة عن دينها‪ ،‬وتشكيكها في المسلَّمات‪ ،‬واستالبها‬
‫ال بعض الخطابات الدينية المجحفة‪،‬‬ ‫انطالق ًا من شبهات قد أفرزتها فع ً‬
‫ففتحت علينا أبواب ًا نحن في غ ًنى عن فتحها‪ ،‬ويصعب جد ًا إغالقها‪ ،‬ما لم‬
‫تتكاتف الجهود لذلك‪ ،‬أو أنجبتها الرؤى الحانقة على التدين وأهله‪،‬‬
‫واإليديولوجيات المناوئة للشريعة‪.‬‬
‫ملزمون بإعادة استقراء النص الديني وفق ما فهمه الرعيل األول‪،‬‬
‫وهو بين ظهراني المشرع عليه أفضل الصالة والتسليم‪ ،‬فنعيد تصحيح‬
‫المفاهيم‪ ،‬ونؤسس من جديد للمسلَّمات‪ ،‬ونميز بين ما هو دين‪ ،‬وما هو‬
‫عادات‪ ،‬وبين الخطاب ومآالته‪ ،‬وبين أحوال المستقرئ‪ ،‬الذي ال محالة‬
‫يؤ ّثر في التفسير‪ ،‬والترويج للمفاهيم‪ ،‬وإعادة بناء شخصية المرأة المسلمة بما‬
‫ارتضى لها ربها‪ ،‬وبما تمتعت به أمهات المؤمنين والصحابيات رضوان اهلل‬
‫عليهن‪ ،‬ال بما قيدتهن به المؤتمرات النسوية‪ ،‬أو المواعظ البتراء‪.‬‬
‫إننا ملزمون ــ اآلن وقبل أي وقت مضى ــ أن نكثف الجهود‪ ،‬وأن‬
‫نتعاون‪ ،‬كل من موقعه‪ ،‬وحسب قدراته وكفاءاته‪ ،‬على إعادة االعتبار‬
‫للحقل النسوي‪ ،‬وإمداده بما من شأنه أن يكفل للمرأة حقوقها التي قد‬
‫‪174‬‬
‫خاتمة الكتاب‬

‫خولها لها الشرع‪ ،‬وليس ألحد عليها فيه منة أو جميل‪ ،‬فنلقنها ثقافة الحق‬
‫والواجب‪ ،‬فنعلمها ما لها وما عليها‪ ،‬ونربطها في ذلك بخشية المولى‬
‫وتقواه‪ ،‬ونهيئ لها المحافل التربوية التي تعنى بروحها‪ ،‬وتعزز فيها‬
‫أنوثتها‪ ،‬ونحصنها عقدي ًا وإيماني ًا ضد الواردات والثقافات الغريبة‪،‬‬
‫ونزودها بالعلوم والثقافات كي تساير عصر العولمة‪ ،‬وتتابع أبناءها في‬
‫مختلف مراحلهم العمرية‪ ،‬تلقين ًا وتربي ًة وتكوين ًا متوازن ًا‪ ،‬كي يكونوا ممن‬
‫سيباهي الرسول عليه أفضل الصالة والتسليم األمم يوم القيامة‪.‬‬
‫والبأس أن نعرج بين هذا وذاك على التأسيس لثقافة رجولية بالموازاة‪،‬‬
‫نزود الرجل من خاللها أيض ًا بثقافة الحق والواجب‪ ،‬وبمعاني القوامة التي‬
‫من دونها تضطر المرأة إلى االسترجال‪ ،‬ونروي جدب روحه بمعين‬
‫النبوة‪ ،‬وأخالق السادة‪ ،‬في التعامل مع المرأة‪ ،‬ونمثل له باألحداث التي‬
‫جعلت من اآلل واألصحاب منارات يقتدى بها‪ ،‬وبوصالت يهتدي بها‬
‫من غابت عنه معالم الطريق‪ .‬إذ ال يمكن أن نصنع مجتمع ًا نسوي ًا حافظ ًا‬
‫للحقوق‪ ،‬عالم ًا بالواجبات‪ ،‬لكنه يفتقد إلى األرضية الصالحة لزرع بذور‬
‫ما تم تلقيه‪ ،‬ويواجه من ال حظ له في معرفة ما له وما عليه‪ ،‬فيتعسف‬
‫عليها‪ ،‬ويضيع بذلك حقها‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫ثبت املراجع‬

‫ثبت املراجع‬
‫‪ 1‬ــ أحمد بن الحسين البيهقي‪ :‬السنن الكبرى ــ تحقيق‪ :‬محمد عبد القادر عطا ــ دار‬
‫الكتب العلمية ــ بيروت ــ ط‪ 3‬ــ ‪ 1424‬هـ ــ ‪2003‬م‪.‬‬
‫‪ 2‬ــ أحمد بن شعيب النسائي‪ :‬السنن الكبرى ــ تحقيق‪ :‬حسن عبد المنعم شلبي ــ مؤسسة‬
‫الرسالة ــ بيروت ــ ط‪ 1‬ــ ‪ 1421‬هـ ــ ‪ 2001‬م‪.‬‬
‫‪ 3‬ــ أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية‪ :‬مجموع الفتاوى ــ تحقيق‪ :‬عبد الرحمن بن قاسم ــ‬
‫مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ــ المدينة النبوية ــ ‪1416‬هـ ــ ‪1995‬م‪.‬‬
‫‪ 4‬ــ أحمد بن عبد الحليم بن تيمية‪ :‬الفتاوى الكبرى ــ دار الكتب العلمية ــ ط‪ 1‬ــ‬
‫‪1408‬هـ ــ ‪1987‬م‪.‬‬
‫‪ 5‬ــ أحمد بن عبد اهلل األصبهاني (أبو نعيم)‪ :‬معرفة الصحابة ــ تحقيق‪ :‬عادل بن يوسف‬
‫العزازي ــ دار الوطن للنشر ــ الرياض ــ ط‪ 1‬ــ ‪ 1419‬هـ ــ ‪ 1998‬م‪.‬‬
‫‪ 6‬ــ أحمد بن علي العسقالني (ابن حجر)‪ :‬اإلصابة في تمييز الصحابة ــ تحقيق‪ :‬عادل‬
‫أحمد عبد الموجود‪ ،‬علي محمد معوض ــ دار الكتب العلمية ــ بيروت ــ ط‪ 1‬ــ ‪ 1415‬ه‪.‬‬
‫‪ 7‬ــ أحمد بن علي العسقالني (ابن حجر)‪ :‬فتح الباري بشرح صحيح البخاري ــ أشرف‬
‫عليه‪ :‬محب الدين الخطيب ــ ومعه تعليقات العالمة عبد العزيز بن باز ــ دار المعرفة ــ بيروت‬
‫ــ ‪ 1379‬ه ــ‪.‬‬
‫‪ 8‬ــ أحمد بن علي بن المثني التميمي (أبو يعلى الموصلي)‪ :‬مسند أبي يعلى ــ تحقيق‪:‬‬
‫حسين سليم أسد ــ دار الثقافة العربية ــ دمشق ــ بيروت ــ ط‪ 2‬ــ ‪ 1412‬هـ ــ ‪ 1992‬م‪.‬‬
‫‪ 9‬ــ أحمد بن عمرو العتكي (أبو بكر البزار)‪ :‬البحر الزخار بمسند البزار ــ تحقيق‪:‬‬
‫محفوظ الرحمن زين اهلل ــ مكتبة العلوم والحكم ــ المدينة المنورة ــ ط‪ 1‬ــ ‪1418‬هـ ــ ‪1997‬م‪.‬‬
‫‪ 10‬ــ أحمد بن محمد بن حنبل‪ :‬المسند ــ تحقيق‪ :‬شعيب األرناؤوط‪ ،‬عادل مرشد‪،‬‬
‫آخرون ــ مؤسسة الرسالة ــ بيروت ــ ط‪ 1‬ــ ‪ 1421‬هـ ــ ‪ 2001‬م‪.‬‬
‫‪176‬‬
‫ثبت املراجع‬

‫‪ 11‬ــ أحمد بن محمد بن سالمة الطحاوي‪ :‬شرح مشكل اآلثار ــ تحقيق‪ :‬شعيب‬
‫األرناؤوط ــ مؤسسة الرسالة ــ بيروت ــ ط‪ 1‬ــ ‪ 1415‬هـ ــ ‪ 1994‬م‪.‬‬
‫‪ 12‬ــ أحمد مختار عبد الحميد عمر وآخرون‪ :‬معجم اللغة العربية المعاصرة ــ عالم الكتب‬
‫ــ ط‪ 1‬ــ ‪1429‬هـ ــ ‪2008‬م‪.‬‬
‫‪ 13‬ــ أسلم بن سهل الرزاز‪ :‬تاريخ واسط ــ تحقيق‪ :‬كوركيس عواد ــ عالم الكتب ــ‬
‫بيروت ــ ط‪ 1‬ــ ‪ 1406‬ه ــ‪ .‬محمد الطاهر بن محمد ابن عاشور‪ :‬التحرير والتنوير ــ الدار‬
‫التونسية للنشر ــ تونس ــ ‪1984‬م‪.‬‬
‫‪ 14‬ــ إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي‪ :‬البداية والنهاية ــ تحقيق‪ :‬عبد القادر‬
‫األرناؤوط‪ ،‬د‪ .‬بشار معروف ــ دار ابن كثير ــ دمشق ــ بيروت ــ ط‪ 1‬ــ ‪ 1428‬هـ ــ ‪ 2007‬م‬
‫‪ 15‬ــ إسماعيل بن عمر بن كثير‪ :‬تفسير القرآن العظيم ــ تحقيق‪ :‬سامي بن محمد سالمة‬
‫ــ دار طيبة للنشر والتوزيع ــ ‪1420‬هـ ــ ‪1999‬م‪.‬‬
‫‪ 16‬ــ الحسين بن مسعود البغوي‪ :‬شرح السنة ــ تحقيق‪ :‬شعيب األرناؤوط‪ ،‬زهير‬
‫الشاويش ــ المكتب اإلسالمي ــ دمشق‪ ،‬بيروت ــ ط‪ 2‬ــ ‪ 1402‬هـ ــ ‪ 1983‬م‪.‬‬
‫‪ 17‬ــ الحسين بن مسعود البغوي‪ :‬معالم التنزيل في تفسير القرآن (تفسير البغوي) ــ‬
‫تحقيق‪ :‬عبد الرزاق المهدي ــ دار إحياء التراث العربي ــ بيروت ــ ط‪ 1‬ــ ‪1420‬ه ــ‪.‬‬
‫‪ 18‬ــ سعيد بن منصور‪ :‬سنن سعيد بن منصور ــ تحقيق‪ :‬حبيب الرحمن األعظمي ــ الدار‬
‫السلفية ــ الهند ــ ط‪ 1‬ــ ‪ 1403‬ه ــ ‪ 1982‬م‪.‬‬
‫‪ 19‬ــ سليمان بن أحمد اللخمي الطبراني‪ :‬المعجم الكبير ــ تحقيق‪ :‬حمدي عبد المجيد‬
‫السلفي ــ مكتبة العلوم والحكم ــ الموصل ــ ط‪ 2‬ــ ‪ 1402‬هـ ــ ‪ 1983‬م‪.‬‬
‫‪ 20‬ــ سليمان بن األشعث السجستاني‪ :‬سنن أبي داود ــ تحقيق‪ :‬محمد محيي الدين‬
‫عبد الحميد ــ دار الفكر ــ سوريا‪.‬‬
‫‪ 21‬ــ عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي‪ :‬تاريخ الخلفاء ــ تحقيق‪ :‬حمدي الدمرداش ــ‬
‫مكتبة نزار مصطفى الباز ــ ط‪ 1‬ــ ‪1425‬هـ ــ ‪2004‬م‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫ثبت املراجع‬

‫‪ 22‬ــ عبد الرحمن بن عبد اهلل السهيلي‪ :‬الروض األنف في شرح السيرة النبوية البن هشام‬
‫ــ تحقيق‪ :‬عمر عبد السالم السالمي ــ دار إحياء التراث العربي ــ بيروت ــ ط‪ 1‬ــ ‪1421‬هـ ــ‬
‫‪2000‬م‪.‬‬
‫‪ 23‬ــ عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون‪ :‬تاريخ ابن خلدون ــ تحقيق‪ :‬خليل شحادة ــ‬
‫دار الفكر ــ بيروت ــ ط‪ 2‬ــ ‪1408‬هـ ــ ‪1988‬م‪.‬‬
‫‪ 24‬ــ عبد الرحمن بن ناصر السعدي‪ :‬أصول عظيمة من قواعد اإلسالم ــ اعتنى به‪:‬‬
‫عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر ــ من إصدارات موقع الشيخ السعدي‪.‬‬
‫‪ 25‬ــ عبد اهلل بن أحمد ابن قدامة‪ :‬المغني ــ مكتبة القاهرة ــ د‪ .‬ط ــ ‪1388‬هـ ــ ‪1968‬م‪.‬‬
‫‪ 26‬ــ عبد اهلل بن محمد بن إبراهيم العبسي (أبو بكر بن أبي شيبة)‪ :‬اإليمان ــ تحقيق‪:‬‬
‫محمد ناصر الدين األلباني ــ المكتب اإلسالمي ــ بيروت ــ ط‪ 2‬ــ ‪ 1983‬م‪.‬‬
‫‪ 27‬ــ عبد اهلل بن محمد بن إبراهيم العبسي (أبو بكر بن أبي شيبة)‪ :‬المصنف في الحديث‬
‫واآلثار ــ تحقيق‪ :‬حمد بن عبد اهلل الجمعة‪ ،‬محمد بن إبراهيم اللحيدان ــ مكتبة الرشد ــ‬
‫الرياض ــ ط‪ 1‬ــ ‪ 1425‬هـ ــ ‪ 2004‬م‪.‬‬
‫‪ 28‬ــ علي بن الحسين بن هبة اهلل (ابن عساكر)‪ :‬تاريخ دمشق ــ تحقيق‪ :‬عمرو بن غرامة‬
‫العمروي ــ دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ــ بيروت ــ ط‪ 1‬ــ ‪ 1419‬هـ ــ ‪ 1998‬م‪.‬‬
‫‪ 29‬ــ علي بن سليمان المرداوي‪ :‬اإلنصاف في معرفة الراجح من الخالف ــ دار إحياء‬
‫التراث ــ ط ‪ 2‬ــ د‪ .‬ت‪.‬‬
‫‪ 30‬ــ علي بن عمر الدارقطني‪ :‬سنن الدارقطني ــ تحقيق‪ :‬شعيب األرناؤوط‪ ،‬وآخرون‬
‫ــ مؤسسة الرسالة ــ بيروت ــ ط‪ 1‬ــ ‪ 1424‬هـ ــ ‪ 2004‬م‪.‬‬
‫‪ 31‬ــ علي بن محمد بن عبد الملك الفاسي (ابن القطان)‪ :‬بيان الوهم واإليهام في كتاب‬
‫األحكام ــ تحقيق‪ :‬الحسين آيت سعيد ــ دار طيبة ــ الرياض ــ ط‪ 1‬ــ ‪1418‬هـ ــ ‪1997‬م‪.‬‬
‫‪ 32‬ــ محمد بن أبي بكر بن أيوب (ابن القيم)‪ :‬زاد المعاد في هدي خير العباد ــ مؤسسة‬

‫‪178‬‬
‫ثبت املراجع‬

‫الرسالة ــ بيروت ــ مكتبة المنار اإلسالمية ــ الكويت ــ ط‪ 27‬ــ ‪1415‬هـ ــ ‪1994‬م‪.‬‬


‫‪ 33‬ــ محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي‪ :‬الجامع ألحكام القرآن (تفسير‬
‫القرطبي) ــ تحقيق‪ :‬أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش ــ دار الكتب المصرية ــ القاهرة ــ ط‪ 2‬ــ‬
‫‪1384‬هـ ــ ‪1964‬م‪.‬‬
‫‪ 34‬ــ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي‪ :‬سير أعالم النبالء ــ إشراف‪ :‬شعيب األرناؤوط‬
‫ــ مؤسسة الرسالة ــ ط‪ 3‬ــ ‪ 1405‬هـ ــ ‪ 1985‬م‪.‬‬
‫‪ 35‬ــ محمد بن أحمد بن محمد ابن رشد القرطبي‪ :‬بداية المجتهد ونهاية المقتصد ــ دار‬
‫الحديث ــ القاهرة ــ ‪1425‬هـ ــ ‪2004‬م‪.‬‬
‫‪ 36‬ــ محمد بن إدريس الشافعي‪ :‬األم ــ دار المعرفة ــ بيروت ــ ‪ 1410‬هـ ــ ‪ 1990‬م‪.‬‬
‫‪ 37‬ــ محمد بن إسماعيل البخاري‪ :‬صحيح البخاري ــ تحقيق‪ :‬د‪ .‬مصطفى ديب البغا ــ‬
‫دار ابن كثير ــ اليمامة ــ بيروت ــ ط‪ 3‬ــ ‪ 1407‬هـ ــ ‪ 1987‬م‪.‬‬
‫‪ 38‬ــ محمد بن جرير الطبري‪ :‬جامع البيان في تأويل القرآن (تفسير الطبري) ــ تحقيق‪:‬‬
‫أحمد محمد شاكر ــ مؤسسة الرسالة ــ بيروت ــ ط‪ 1‬ــ ‪1420‬هـ ــ ‪2000‬م‪.‬‬
‫‪ 39‬ــ محمد بن حبان الدارمي البستي‪ :‬اإلحسان في تقريب صحيح ابن حبان ــ ترتيب‪:‬‬
‫األمير عالء الدين علي بن بلبان الفارسي ــ تحقيق‪ :‬شعيب األرناؤوط ــ مؤسسة الرسالة ــ‬
‫بيروت ــ ط‪ 1‬ــ ‪ 1408‬هـ ــ ‪ 1988‬م‪.‬‬
‫‪ 40‬ــ محمد بن عيسى الترمذي‪ :‬العلل الكبير ــ تحقيق‪ :‬صبحي السامرائي‪ ،‬أبو المعاطي‬
‫النوري‪ ،‬محمود خليل الصعيدي ــ عالم الكتب ــ مكتبة النهضة العربية ــ بيروت ــ ط‪ 1‬ــ‬
‫‪ 1409‬ه ــ‪.‬‬
‫‪ 41‬ــ محمد بن عيسى الترمذي‪ :‬جامع الترمذي ــ تحقيق‪ :‬أحمد محمد شاكر وآخرون ــ‬
‫دار إحياء التراث العربي ــ بيروت‪.‬‬
‫‪ 42‬ــ محمد بن مكرم اإلفريقي (ابن منظور) ــ لسان العرب ــ دار صادر ــ بيروت ــ ط‪3‬‬
‫ــ ‪ 1414‬ه ــ‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫ثبت املراجع‬

‫‪ 43‬ــ محمد بن يزيد القزويني‪ :‬سنن ابن ماجه ــ تحقيق‪ :‬محمد فؤاد عبد الباقي ــ دار‬
‫الفكر ــ بيروت‪.‬‬
‫‪ 44‬ــ محمد بن يوسف بن علي األندلسي (أبو حيان)‪ :‬البحر المحيط في التفسير ــ‬
‫تحقيق‪ :‬صدقي محمد جميل ــ دار الفكر ــ بيروت ــ ‪1420‬ه ــ‪.‬‬
‫‪ 45‬ــ محمد ناصر الدين األلباني‪ :‬إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل ــ‬
‫المكتب اإلسالمي ــ بيروت ــ ط‪ 2‬ــ ‪1405‬هـ ــ ‪.1985‬‬
‫‪ 46‬ــ محمد ناصر الدين األلباني‪ :‬صحيح الجامع الصغير وزياداته ــ المكتب اإلسالمي‪.‬‬
‫‪ 47‬ــ مرعي بن يوسف الكرمي‪ :‬دليل الطالب لنيل المطالب ــ تحقيق‪ :‬نظر الفريابي ــ دار‬
‫طيبة ــ الرياض ط‪ 1‬ــ ‪1425‬هـ ــ ‪2004‬م‪.‬‬
‫‪ 48‬ــ مسلم بن الحجاج القشيري‪ :‬صحيح مسلم ــ تحقيق‪ :‬محمد فؤاد عبد الباقي ــ دار‬
‫إحياء التراث العربي ــ بيروت ــ ط‪ 1‬ــ ‪ 1374‬هـ ــ ‪ 1955‬م‪.‬‬
‫‪ 49‬ــ منصور بن يونس البهوتي‪ :‬دقائق أولي النهى لشرح المنتهى (شرح منتهى‬
‫اإلرادات) ــ عالم الكتب ــ ط‪ 1‬ــ ‪1414‬هـ ــ ‪1992‬م‪.‬‬
‫‪ 50‬ــ الموسوعة الفقهية الكويتية ــ وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية ــ الكويت ــ دار‬
‫السالسل ــ الكويت ــ ط‪ 2‬ــ مطابع دار الصفوة ــ مصر ــ ط‪.1‬‬
‫‪ 51‬ــ وهبة الزحيلي‪ :‬الفقه اإلسالمي وأدلته ــ دار الفكر ــ دمشق ــ ط‪ 4‬ــ د‪ .‬ت‪.‬‬
‫‪ 52‬ــ يحيى بن شرف النووي‪ :‬المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج ــ دار إحياء‬
‫التراث العربي ــ بيروت ــ ط‪ 2‬ــ ‪1392‬ه ــ‪.‬‬
‫‪ 53‬ــ يوسف بن عبد الرحمن المزي‪ :‬تهذيب الكمال في أسماء الرجال ــ تحقيق‪:‬‬
‫د‪ .‬بشار معروف ــ مؤسسة الرسالة ــ بيروت ــ ط‪ 1‬ــ ‪ 1400‬هـ ــ ‪ 1980‬م‪.‬‬
‫‪ 54‬ــ يوسف بن عبد اهلل ابن عبد البر‪ :‬التمهيد لما في الموطأ من المعاني واألسانيد ــ‬
‫تحقيق‪ :‬مصطفى بن أحمد العلوي‪ ،‬ومحمد بن عبد الكبير البكري ــ وزارة عموم األوقاف‬
‫والشؤون اإلسالمية ــ المغرب ــ ‪1387‬م‪.‬‬
‫‪180‬‬

You might also like