Professional Documents
Culture Documents
1
احملتوايت
تقدمي...................................................................................................
القسم الول :الإطار النظري لسوس يولوجيا الرتبية
الفصل الول :من مفهوم سوس يولوجيا الرتبية اإىل الاجتاهات النظرية ........................
أول :وقفة مع مفهوم سوس يولوجيا الرتبية ............................................................
اثنيا :الاجتاهات النظرية يف سوس يولوجيا الرتبية...................................................
الاجتاه الانسانوي "دوراكمي" منوذجا..................................................... -1
الاجتاه املاركيس والنيوماركيس...................................................... -2
الاجتاه البنيوي الوظيفي.............................................................. -3
الاجتاه الفينومينولويج وعمل اجامتع الرتبية ادجديد................................ -4
الاجتاه النقدي الرادياكيل ،جنو رؤية جديدة لوضاع الرتبية والتعلمي................ -5
خالصات واس تنتاجات عامة.............................................................. -6
الفصل الثاين :املنظومات الرتبوية العربية بني مظاهر الازمة وحتدايت املس تقبل..........
-1يف تشخيص أزمة املنظومات الرتبوية العربية ،بني الزنعة الاخزتالية والرؤية
النقدية............................................................................................
2
-2يف جتليات ومس تتبعات الزمة الرتبوية عىل النس يج اجملمتعي و املعريف و
القميي.......
-3يف رصد بعض العوامل والس باب املغذية لس مترار تأزم املنظومات الرتبوية
العربية.............................................................................................
-4بعض مداخل الإصالح الرتبوي ابلوطن العريب رهاانت وحتدايت....................
البيبليوغرافيا.......................................................................................
3
تقدمي
تعترب املسأةل الرتبوية ،جزء من املأسةل الاجامتعية ،اإل أن املالحظ أنه وقع هتميش
للبحث السوس يولويج الرتبوي ابملغرب ،وذكل لس باب سوس يواترخيية جد مركبة- ،ليس
اجملال مناس با للخوض فهيا -،لكن مع التغيري اذلي طال التكوين اخلاص بشعب عمل
الاجامتع يف هذا املومس ،فاإن ذكل ما يعد يف نظران تصحيحا ملسار التكوين والتأهيل يف
هذه الشعبة .لنه يف –اعتقادي -ليس من املالمئ حرمان الطلبة من ختصص معريف
أصبح اليوم مطلواب يف جمال بناء الس ياسات العمومية املرتبطة ابحلقل التعلميي .وقد بينت
التجارب السابقة اليت مر مهنا املغرب –خصوصا بعد مرحةل امليثاق الوطين للرتبية
والتكوين -أن هناك العديد من الاشاكلت والإشاكليات ،مرتبطة أساسا بتغييب اخلربة
السوس يولوجية عىل مس توى بناء التصورات واملرجعيات أو عىل مس توى املصاحبة
والتدخل أو حىت عىل مس توى التقومي والتتبع .وإاذا اكن من حضور فهو عريض
ومناوليت وليس حضورا وازان وفاعال ومؤثرا .بيد أن المر أكرب من هذه التجربة - ،اليت
مل نسقها اإل للتذليل عىل ملحاحية حضور املقاربة السوس يولوجية يف جمال الرتبية
والتعلمي -،لنه يرتبط بتكوين خنب علمية ومعرفية وأاكدميية ،تشلك خلفية دامعة للمشاريع
الرتبوية اليت تطبق يف املغرب وغريه ،سواء من خالل نوعية التكوين املأمول حتققه يف
ادجامعة املغربية ،أو عىل مس توى ترامك خربات ميدانية تكون قريبة من الواقع وتكون عىل
وعيبأمه الإشاكليات اليت تعرتض تطبيق تكل املشاريع الطموحة.
ولعل الطموح اذلي يمتلكنا يف هذه املسامهة ،ليس الوقوف عند جمرد التكوين املعريف
للطلبة ،بقدر ما يدفعنا طموح أآخر ،مرتبط أساسا بتطوير البحث السوس يولويج يف
جمال الرتبية والتعلمي ،وذكل ابلنظر اإىل ضعف املواكبة السوس يولوجية للك ما يعج به هذا
احلقل السوس يولويج من ظواهر ومظاهر وتفاعالت وتشاباكت وعالئق وتبادلت،....
تريخ بظاللها عىل املشهد الرتبوي برمته وعىل اجملمتع بشلك عام .مما يقتيض مواكبة علمية
دقيقة متتح من خمتلف التخصصات املعرفية ،اكلنرثوبولوجياوالسوس يولوجياوالس يكولوجيا
4
والبيداغوجيا والسوس يولسانيات .ورمغ أننا ل ندعي أبدا أية اإحاطة شامةل بلك هذه
التخصصات ،فاإنه حسبنا أن نثري الاهامتم والقلق الفكريني عند القارئ.
تتوزع مورفولوجية هذا الكتاب ،حول قسمني ،يضم الول منه ،وقفة مع أمه الاجتاهات
النظرية يف سوس يولوجيا الرتبية.
فامي خيص القسم الثاين ،فقد سعينا ليكون تطبيقيا ومعليا ،وذكل يف تنامغ مع القسم الول
النظري .وهكذا يشمل هذا القسم عىل فصل وحيد ،وهو عبارة عن دراسة س بق أن
نرشانها يف جمةل "معران" للعلوم الاجامتعية والانسانية اليت تصدر عن املركز العريب
لالحباث ودراسة الس ياسات ،بتارخي أكتوبر .2014وقد أضفنا اإلهيا مبحثا جديدا
خصصناه للحديث عن أمه مداخل الاصالح الرتبوي ابلوطن العريب .ولالشارة فاإن
ادلراسة تقدم تشخيصا مستندا جملموعة من ادلراسات والاحباث حول وضعية التعلمي
ابلوطن العريب ،مع الرتكزي بشلك خاص عىل املغرب .هذا عالوة عىل تتبع خمتلف
التداعيات السوس يوثقافية اليت أحدهثا تراجع املس توى املعريف للمنظومات الرتبوية ابلرقعة
العربية .واخريا توقفنا عند أمه العوامل املركبة اليت ل زالت تغذي حاةل الرتدي يف هذه
املنظومات ،واليت حددانها يف ثالثة عوامل أساس ية :السوس يوساس ية ،والسوس يوثقافية
،والسوس يوتمنوية.
أميل أن جيد خمتلف القراء :طالبات وطالب وابحثني وهممتني ونقاد ...ما يطمحون اإليه،
وما يروي عطشهم املعريف يف هذا التخصص العزيز علينا .و طمويح اثنيا ،هو تقدمي
مرشوع أويل ،ل أشك أنه حيتاج اإىل املزيد من التنقيح والتصويب والإضافة ،لكنه يشلك
أداة ملموسة لفتح هذا النقاش الاكدميي مع لك املتتبعني .لنه كام يقول ابشالر " :ليس
العمل سوى مسرية تصحيح أخطائه".
5
القسم الول :الإطار النظري لسوس يولوجيا الرتبية
عىل سبيل الاس هتالل
ساد يف الآونة الخرية يف ختصصات العلوم الاجامتعية ،خطاب ينحو حنو التقليل من قمية
البناء النظري ومن خمتلف النظرايت الفكرية ،عىل اعتبار أن الاهامتم هبذا ادجانب ليس
سوى اإعادة اجرتار ما كتب من قبل من طرف الرواد الالكس يكيني أو احملدثني أو حىت
املعارصين .ولعل الوقوف عند هذه الفرضية ،جتعلنا جنازف ابلقول أنه وقع انزايح يف
املقاربة السوس يولوجية يف الس نوات الخرية يف ادجامعة املغربية وحتديدا ختصص شعب
السوس يولوجيا .وقد بدا ذكل جليا يف انهتاج مقارابت أكرث امربيقية وجتريبية مهنا عىل ما
هو نظري فكري وتصوري .ولعل س ياق ذكل مرتبط ابلساس بضعف املتابعة الاكدميية
ملا ينرش من كتاابت وأوراق وأحباث يف الساحة العاملية .وأيضا لغلبة طلبات اخلربة
املدفوعة الجر من قبل املنظامت ادلولية واملؤسسات احلكومية وغري احلكومية واليت ل
هيمها تطوير التفكري النظري ،بقدر ما تسعى ،اإما لتشخيص واقع سوس يولويج ما
أوملسح تبس يطي لظاهرة مركبة ما ،أو ملعرفة بعض "الاختاللت" اليت تطبع سري مرفق
من مرافق اجملمتع ،سواء اكن مدرسة أو جامعة أو مؤسسة تعلميية معينة خاصة أو معومية.
وإاذا أردان أن نفهم رس هذا التحول ،فهو يف اعتقادان يرجع اإىل همينة اخلطاابت النيوليربالية
اليت تبحث عن الاس تقرار والتوازن بدل البحث عن اخللفيات احلقيقية لالس تغالل
وللهمينة .ولهذا ل نس تغرب اإذا ما وجدان أن الباحثني العرب وغريمه بدأوا يامتهون مع
مفاهمي وبراديغامت جديدة ،اكحلاكمة والتمنية والعوملة واقتصاد السوق والاسالم الس ياي
وادجندرة ...هذا ما تأكيدان عىل أن اقتحام هذه املفاهمي ليس عيبا يف حد ذاته ،بل اإن ما
نود التعبري عنه ،هو التغايض –سواء بوعي أو بدونه -عن ادليناميات اخلفية اليت ل زالت
تعمتل يف اجملمتعات العربية ،من اس تغالل وتسلط وهمينة وإاعادة اإنتاج الوضاع واحلفاظ
6
عىل نفس املسلكيات اليت تضمن :السلطة والرثوة واملعرفة والقمي .ولهذا نفهم جيدا ما عرب
عنه أحد الباحثني العرب (قباجني ،)2011 ،عندما قال " :لقد بسط مفهوم "النيو
ليربالية" أجنحته املتعددة عىل جمالت الاقتصاد ،ورشوط العمل ،والثقافة ،والتعلمي،1
واحلقوق واحلرايت ،واحلمك ورضورة ترش يده .وبذكل قبع يف الظل لك ما ل يتفق مع
اإطار التفكري هذا ،وسفه ابلتايل من اس متر يتحدث عن مفهوم الاس تغالل بدل مفردة
الفساد وحدها ،وعن رضورة توزيع ادلخل وبسط امحلاية الاجامتعية ،مقابل تأكيد الاجناز
والاس تجابة لرشوط السوق ،وعن الرأساملية الريعية اإىل جانب العوملة واحلمك الرش يد،
وعن الطبقات ورصاعها عندما يمت احلديث عن النخب ،وعن تعارض رشط املواطنة مع
اس مترار هدر احلرايت واحلقوق ."2اإذن انطالقا من هذه املقوةل ،ميكن أن نتبني أننا –
وحنن نعد لهذا املوضوع -طرحت السؤال التايل :ما فائدة التأطري النظري يف سوس يولوجيا
الرتبية؟ وهل س ميكننا هذا التأطري من اإبداع يشء جديد؟ أم أنه فقط اجرتار لنفس
املقولت اليت س بق وأن طرهحا كبار املنظرين يف حقل السوس يولوجيا معوما ،ويف
ختصص سوس يولوجيا الرتبية حتديدا؟
طبعا ،لك متتبع ملا يكتب يف ختصص سوس يولوجيا الرتبية ،جيد أن أغلب الكتاب
والباحثني يرجعون اإىل هذه النظرايت ،لكن هناك فرق شاسع بني اإعادة تكرار ما تقوهل
النظرايت ،وبني أن تقرأ هذه النظرايت يف ضوء املعطيات الواقعية اليت تعمتل يف احلقل
1لفهم جيد لهذا التوجه يف احلقل الرتبوي واملعريف ،ميكن الاشارة اإىل ما حصل يف مجموعة من دول اخلليج العريب ،من استامثر
كبري يف بناء وتشييد مؤسسات ومعاهد عليا "ذات امخلس جنوم" بأسامء غربية "اكلرسبون" وغريها ،وذكل ظنا من صانع القرار
الرتبوي هبذه املنطقة ،أنه يقدم أجود اخلدمات التعلميية واملعرفية للمجمتع ،ابلنقل احلريف للتجارب الغربية ،وذكل بعزلها عن
س ياقها الفكري واجملمتعي وكن هذه اخلدمات سلع تباع وتشرتى ،وقد نيس هؤلء أن الرتبية والتعلمي ليس تا سلع بقدر ما يه
تفكري خالق ومبدع وتنظري وتأسيس علمي ومعريف منبثق من الرتبة اجملمتعية ،ولهذا حنتاج اإىل التأطري النظري يف لك بناء
تربوي أو غريه ،ليك نؤسس خللفيات فكرية وليس أداتية عن هذه القضااي.
2جاك قباجني( ،ملاذا فاجأتنا انتفاضتا تونس ومرص :مقاربة سوس يولوجية) ،جمةل (اإضافات) ،عدد،14،س نة ،2011 ،بريوت،
لبنان ،ص.4 ،
7
الرتبوي ويف بقية احلقول الخرى .ولهذا فعندما نريد أن نس تدعي هذه الطر النظرية،
فاإمنا بغرض اإقامة جتارس بني الفكر والواقع وبني النظرية واملامرسة .وعالوة عىل ذكل،
هناك خلفية حمكتين وأن أقدم هذه النظرايت ،ويه أنه لكام أردان –كباحثني وهممتني -فهم
وحتليل ورشح بعض الظواهر السوس يوتربوية ،بدون الرجوع اإىل الطر النظرية ،اإل
وحتولنا اإىل" همندسني اجامتعيني" وهو ما يضيع علينا اإماكنية فهم خمتلف هذه الظواهر يف
مشوليهتا وتركيبيهتا.
ابملوازاة مع ذكل ،يتبدى يل أن هناك مغالطة فكرية ،يقع فهيا البعض –سواء بوعي أو
بدونه -ويه أننا نعيش زمن "هنايةالنظرايت الكربى " ،لكون هذه النظرايت ل تس تطيع
أن تقدم لنا تفسريات منطقية ومعقوةل عن الواقع ،وقد يكون يف هذا الاعرتاض بعضا من
الوجاهة ،خصوصا اإذا ما اس تحرضان النقاش الابس متولويج اذلي دش نه العديد من
املنظرين السوس يولوجيني حول الفرق بني النظرايت العامة والوس يطة والتعماميت
الامبرييقية .3لكن المر اذلي قد يغيب عن البعض هو أنه عىل الرمغ من أمهية النقاش
السابق ،فاإنه ل يلغي مطلقا اإماكنية معاودة النظر يف ما نظر هل املنظرون وما خلص اإليه
الباحثون من براديغات ومن مناذج تفسريية ،حنن عىل يقني أهنا تساعدان يف الاقرتاب أكرث
من الظواهر السوس يوتربوية.
بعد هذه التوطئة اليت اكن ل بد مهنا ،نشري اإىل الفصل الول من هذا القسم ،يتضمن
احلديث عن مفهوم سوس يولوجيا الرتبية ،مث عن أمه الاجتاهات النظرية يف هذا
التخصص ،واليت حددانها يف ست اجتاهات كربى .بيامن الفصل الثاين ،يقربنا من
اإشاكلية املرشوع اجملمتعي واملدرسة :أية عالئق وترابطات؟ حيث ل ختفى عىل أحد أمهية
3انظر عىل سبيل املثال ،ااين كريب،النظرية الاجامتعية من ابرنسونز اإىل هابرماس ،ترمجة ،محمد حسني غلوم ،مراجعة ،محمد
عصفور ،اجمللس الوطين للثقافة والفنون والآداب ،الكويت ،سلسةل عامل املعرفة ،العدد ،244 ،س نة( .1999،خصوصا
الفصل األول).
8
حساس ية هذا املوضوع ،لكونه يقدم التصور العام لعالقة املدرسة ابلهداف املعلنة
واملضمرة لغاايت الرتبية ،واليت تتقاطع مع العديد من احلقول ،اكحلقل الاقتصادي
والس ياي والاجامتعي والسوس يوثقايف .وحنن نعتقد أن اإدراج هذا الفصل مضن الإطار
النظري ،هل ما يربره من الناحية الإجرائية ،عىل اعتبار أن اخللفيات املرجعية لي
مرشوع جممتعي ،يه ابلساس نظرية فكرية.
أما الفصل الثالث من هذا القسم ،خفصصناه للحديث عن الوظائف الاساس ية اليت تقوم
هبا مؤسسة املدرسة ،ويه الوظيفة التنش ئوية والتثقيفية والتأهيلية وأخريا الوظيفة
التنويرية والتحريرية.
9
الفصل الول :من مفهوم سوس يولوجيا الرتبية اإىل الاجتاهات
النظرية
أول :وقفة مع مفهوم سوس يولوجيا الرتبية
"خيتص بوضع الاسس العادةل اليت بناء علهيا تنتقى املعرفة ،وتنظم وتوزع داخل املدرسة،
وكيف ميكن أن تعمل أآليات الرصاع الاجامتعي خارج املدرسة عىل تقويض هذه الاسس
ما جيعل من املعرفة الرتبوية مسأةل اجامتعية وس ياس ية ،وليست مسأةل فنية وموضوعية
فقط.
وقد ركزت النظرية النقدية لعمل الاجامتع الرتبية ،عىل دراسة أوضاع الفئات الاجامتعية
املقهورة ،وتعرية أآليات توظيف املعرفة اجامتعيا بوصفها سالحا أيديوجيا هبدف حتقيق
الس يطرة ،وتربير ممارسات السلطة ،وترس يخ النظام القامئ وإاعادة اإنتاجه .وعالجا لهذا
اخللل الاجامتعي ذي الاساس املعريف :تسعى املدرسة النقدية لعمل الاجامتع اإىل
اس تحداث أساليب بديةل للفكر ،وأشاكل جديدة للفهم ،وامناط خمتلفة للسلوك ،وأبعاد
جديدة للمعرفة مغايرة لتكل اليت تساندها نظم الرتبية واملوالية للسلطة احلامكة» نبيل عيل،
العقل العريب ،ج،1،ص.188،
"يرى هرني جان «ALAIN Gras: sociologie de ( »Henri Janne
)l’éducationأن الرتبية تشلك ابلرضورة يف نظر السوس يولويج معلية مثاقفة.
وتأسيسا عىل ذكل فاإن لك املياكنزيمات الوظيفية لترشيب القمي ،وترس يخ السلواكت،
ولك الاساليب والطرائق اليت بواسطهتا تسعى البنيات اإىل اإدماج واحتواء الافراد ،ولك
التنظاميت اليت تعمل بواسطهتا أنظمة احلمك-بشلك علين أو مضمر -عىل إارشاط هؤلء
الافراد عىل احرتام الرتاتبات الاجامتعية ،لك ذكل يتضمن ظواهر تعكس فعل التكوين
والرتبية .وهذه الظواهر غذا تتعدى الانشطة املعلنة للمدرسة ابملعىن الوسع انتشارا»
«دراسة املؤسسات والرتابطات الاجامتعية يف عالقهتا ابلرتبية» املدرسة واجملمتع.
10
« اإن سوس يولوجيا الرتبية يه ذكل الفرع السوس يولويج التخصيص اذلي يتخذ مكوضوع
للمقاربة وادلراسة مجمل الظواهر ،والفعال ،واملامرسات ،والعالقات ،واملؤسسات الرتبوية
ابعتبارها ممأسسة اجامتعيا ،أي يدرسها ابإحالهتا اإىل مرجعياهتا الاجامتعية ،لريصد عالقاهتا
ابلبناء اللكي للمجمتع ،وبلك بنياته ومؤسساته الفرعية :الارسة ،والفئات ،والرشاحئ،
والطبقات الاجامتعية . ...ومن مث لريبطها بعالقات توزيع السلطة والنفوذ الاجامتعي،
وبتوزيع الفوائد واملواقع الاقتصادية ،وأيضا بتوزيع القمي والرموز والدوار الثقافية داخل
اجملمتع كلك» حمسن ،املساةل الرتبوية ،ص.139-134 ،
"ل جمال خلندقة ختصص اكلسوس يولوجيا داخل تعريف واحد ووحيد ،عىل اعتبار أنه
ختصص تتجدد تعريفاته بصفة مس تدميه ،من خالل رصد مواضيع جديدة ،ودراسة
سريورات ظلت اإىل عهد قريب حمط اإغفال أو اإهامل ،وكذكل من خالل اخللخة ادلامئة
للحدود مع ختصصات جماورة كعمل النفس وعمل النفس الاجامتعي والاقتصاد
والانرثوبولوجيا . ...ابملقابل اإذا اكن احلقل املمكن للسوس يولوجيا يمتزي ابنفتاحه الكبري،
فاإن نظرة الباحث السوس يولويج اإىل الواقع الاجامتعي ل تندرج يف خانة النوعية ،اإذ
يتعلق المر بنظرة تتوىخ املوضوعية ،من حيث كون الباحث يعمل عىل تاليف اإصدار
أحاكم قمية ،ويسعى اإىل اس تجالء الآليات اليت تنتج الظواهر الاجامتعية ،ومن مث فاإن
المر ل يتعلق بصياغة أحاكم ،وإامنا بوصف حقائق ووقائع اجامتعية ،وابلسعي اإىل
اس تكناه تشالكهتا» غريب ،ص،سوس يولوجيا الرتبية.6 ،
من الصفحة 665اإىل 674يف كتاب :النظرية املعارصة يف عمل الاجامتع :متدد أآفاق
النظرية الالكس يكية" ،رث والاس ،ألسون وولف ،ترمجة ،محمد عبد الكرمي احلوراين،
دار جمدلوي للنرش ،عامن ،الردن.2011 ،
أول :سوس يولوجيا الرتبية من التعريف اإىل الاجتاهات
-1سوس يولوجيا الرتبية يف حماوةل للتعريف
11
مل يفتأ النقاش حول ختصص سوس يولوجيا الرتبية ،يتوقف بني العديد من الباحثني
واملهمتني ابحلقل السوس يولويج معوما ،فأول صعوبة اإمثولوجيةوس امينطيقية طرحت مع
املفهوم ،حيث برزت اختالفات كبرية بني اللغات الوطنية يف أوراب ،بني احلرف الالتيين
" "educereوبني احلرف الاجنلزيي والفرنيس والملاين " Die Soziologie Der
."Erziehung4وهذا ما يعكس يف العمق الصعوابت الابستميولوجية اليت واهجت
ميالد هذا التخصص .وميكن اعتبار اجملهود العلمي اذلي بذهل "دوراكمي" ،مؤسسا يف اجتاه
تبلور ختصص "سوس يولوجيا الرتبية" .لكن هذا ل يعين أن الآابء املؤسسني
للسوس يولوجيا( ،اكرل ماركس ،ماكس فيرب )...مل هيمتوا ابملوضوع اإطالقا .فقد ذكر
الباحث( ،الرشقاوي)1986 ،أن اكرل ماركس ،وهو يكتب كتابه الشهري "الرأسامل" ،مل
يفته أن ينتقد تداعيات النظام املدري اذلي يعمل عىل اإنتاح وإاعادة اإنتاج أوضاع
الالمساواة والامتيز الطبقي ،واذلي يفيض اإىل اإنشاء عالقات جممتعية غري متاكفئة بني أبناء
الطبقات العاملية والطبقات املالكة لوسائل الانتاج .وقد اس تعمل مفهوم "كوات.Gotha ،
لدللةل عىل معلية الاصطفاء اليت يقوم هبا النظام الرأساميل."5
وابملثل فاإن "ماكس فيرب" ،اكن قد انتبه اإىل أمهية الرتبية وأبعادها اجملمتعية ،يف بناء نظام
من العالقات الرتاتبية ،وهذا ما يظهر يف كتبه "الاقتصاد واجملمتع" و "سوس يولوجيا
الداين" .خصوصا يف اإبراز الامتثل القامئ يف الامنذج املثالية بني النظام الس ياي و النسق
الرتبوي .ولهذا فقد بني أن هناك ثالثة مناذج مثالية تصلح لفهم ش بكة العالقات
الاجامتعية يف املدرسة ،ويه الاكريزما ،والمس الزيل ،والعقلنة.6
4
Cherkaoui, op, cit, p, 3.
5
Ibid., p p, 5-6.
6
Ibid, p, 6, avec une légère modification.
12
بيد أن ما يثري الانتباه ف يف مسارات ختلق هذا التخصص ،هو أنه مرورا هبذه احلقبة،
ويف الفرتة املمتدة من بداية القرن العرشين اإىل حدود احلرب العاملية الثانية ،ل نعرث عىل
دراسات امبرييقية او نظرية يف موضوع سوس يولوجيا الرتبية ،اللهم اإذا اس تثنينا ،دراسات
لك من دوراكمي ،وسوروكني وبول ليب " Paul Lapieو( )Veblenوالباحث (
،)Wallerخصوصا تكل اليت اهمتت ابحلراك الاجامتعي .و لهذا يؤكد (الرشقاوي) أنه
جيب أن ننتظر هناية احلرب العاملية الثانية ،ليك تربز من جديد العديد من ادلراسات
والحباث مراكز البحث يف أوراب وأمرياك ،لعل من بيهنا تأسيس كري للبحث يف
سوس يولوجيا الرتبية ،واذلي أرشف عليه الباحث "اكرل ماهنامي" س نة ،1945بلندن."7
طبعا بعد هذه املرحةل العصيبة يف اترخي هذا التخصص ،ستشهد مرحةل ما بعد احلرب
العاملية الثانية ،وفرة يف ادلراسات والاحباث عىل املس توى النظري والامبرييقي ،واليت
تس تحق التوقف عندها من أجل الاس تفادة مهنا ،وهذا ما س نحاول أن نقدمه يف هذا
الاجتاه .اإل أنه جيمل بنا قبل الانتقال اإىل رصد تكل الاجتاهات الكربى يف هذا
التخصص ،أن نتوقف عند بعض التعاريف اليت بلورها العديد من الباحثني لتوصيف
طبيعة هذا التخصص ،هذا مع التأكيد عىل الصعوابت املهنجية اليت تنتصب أمام هذه
العملية.
مفن خالل الاش تغال عىل أمه ادلراسات اليت كتبت يف املوضوع ،نعرث عىل هذا
التعريف اذلي وضعه الباحث "الرشقاوي" ،حيث يؤكد "أن سوس يولوجيا الرتبية هتم
ابلظواهر الاجامتعية يف عالقة ذكل ب مكؤسسة تربوية ،وبقية املؤسسات الاجامتعية
الخرى ،اكلرسة ،والس ياس ية والاقتصاد .هذا عالوة عىل كون هذا التخصص هيمت،
بدراسة الانساق الرتبوية الخرى ،اكلتالميذ واملدرسني والادارة وما اإىل ذكل.
7
Ibidem.
13
والتوهجات الس ياس ية والنقابية .ومعلية نقل املعرفة والقمي ،والامنذج البيداغوجية ونظام
التقومي .وأيضا تراتبية املعارف (أديب ،علمي) ،و املعايري الظاهرة واخلفية يف معلية
الاصطفاء ،ومرتتباهتا عىل البناء اجملمتعي العام ."8وخيلص الباحث الرشقاوي ،اإىل القول
بأن سوس يولوجيا الرتبية كتخصص سوس يولويج ،جد واسع ول ميكن الاحاطة بلك ما
هيمت به من قضااي وظواهر وموضوعات وتاميت وما اإىل ذكل ،لكن ميكننا مهنجيا احلديث
عن ثالث مس توايت ويه:
-1معلية نقل املعايري والاعراف والقمي واملعارف عرب املؤسسة التعلميية،9
-2الامنذج البيداغوجية املطبقة يف املنظومات الرتبوية،
-3أنظمة التقومي اليت تنهتجها هذه املنظومات الرتبوية.10
ابلرمغ من اإقراران املس بق ،بأن مقاربة "الرشقاوي" لتعريف سوس يولوجيا الرتبية ،تبقى
ذات أمهية قصوى ،لكن املس تجدات اليت طالت هذا احلقل وغريه من احلقول ،جتعلنا
نقف عىل مسافة نقدية لهذا التعريف ،معتربين أنه يدخل يف تكل التعريفات الالكس يكية
اليت اكنت تقرص الظواهر الرتبوية يف ما هو داخل النسق الرتبوي ،دومنا القدرة عىل
الانفتاح عىل مجمل الامتدادات اليت تكتنف هذا احلقل ،وعليه ،فاإن الاشارة اإىل
التعريف اذلي وضعه الباحث( ،)2011 ،Hallinanيبني صدقية ما ندعيه .اإذ يشري
هذا الخري اإىل أن "احلدود يف سوس يولوجيا الرتبية تدعو اإىل اسرتاتيجية جديدة جريئة
لإجراء البحوث يف عمل الاجامتع ،للتأكد من أن للحقل اإسهاما ت ابرزة دلراسة املدارس،
اليت عىل الباحثني بدء املشاريع فهيا ،واليت تأخذ يف الاعتبار العوامل الاجامتعية
8
Cherkaoui, op, cit, p p, 3-4.
9وحنسب أن موضوع أطروحتنا ،ينصب أساسا حول هذا املس توى ،كشفا عن املضامني املبثوثة يف املقررات ادلراس ية ،ومدى
تضمهنا لقمي املواطنة ،وأيضا من هجة اثنية مدى متثلها من طرف املتعلمني ،واملدرسني عىل السواء.
10
Cherkaoui, op, cit, p,4.
14
والس ياس ية والاقتصادية،و ادلينية،اليت تتألف مهنا برسعة وبشلك جذري املدارس.
وهذا ما يدفع اإىل حتفزي علامء الاجامتع لإجراءالبحوث اليت من شأهنا أن تساعد رامسي
الس ياسات يف املس تقبل القريب .لن لك تعريف لسوس يولوجيا الرتبية ل يس تحرض
التغريات اجملمتعية اللكية وعىل املس توى ادجزيئ اليت حتدث يف الوقت احلارض ،يكون
تعريفا قارصا ،وخصوصا وحنن نعاينالثراذلي يتوقع أن حيصل يف املدارس ،واذلي جيب
أنيكومنحسوسافيالس نوااتلقليةلاملقبةل.11
ويضيف يف موضع أآخر ،أن سوس يولوجيا الرتبية أصبح لها منظورعاملي ابلغ المهية لفهم
العملية التعلميية.لن التعلمي هو عىل وشك الس يطرة وحتويل اجملمتع العاملي.
لهذاالسبب،كاميقولعلامءالاجامتعيجبعىل الباحثني يف هذا التخصص،أن يعملوا عىل متلكفهم
معيقادلللتلهذاالتحول .واذلي يقع يف أرضية الحداث العامليةاحلالية ،واليت توحض بشلك
كبري مدى الرتابط يف اجملمتع املعارص بني الرتبية وبقية الانساق اجملمتعية الخرى .إان هذا
التخصص (أي سوس يولوجيا الرتبية) ،يسمح لنا أن نرى،سواء خصائص البدل،مثل
ش باكهتا املهنية والاجامتعية،و نظام الطبقات،أو سوق العمل،وتأثري ذكل عىل فرص
الطالب للتعمل .والوعي ابلآاثر العوملية عىل التعلمي ،واليت ينبغي أن تؤدي اإىل صياغة
أس ئةل جديدة حول دور املدارس يف تعزيز البعاد املعرفية والاجامتعية و السلوكية للتعمل
عند الطلبة وإاعدادمه للمشاركة يف اجملمتع املدين .ولهذا فالوعي العاملي يؤكد أيضا عىل
المهية املزتايدة للبحث عرب الوطنية (أي دراسات مناطقية)عىل التعلمي.12
11
Maureen T.Hallinan, Frontiers in sociology of education, Springer Dordrecht Heideberg,
London, New York,2011, p, 2.
12
Ibidem.
15
ويف هذا الس ياق ،نتذكر مقوةل جد معربة لبري بورديو عندما قال" :أظن اليوم أنه بغري
الاماكن فهم ما السلطة ول انتقالها يف لك اجملمتعات املتقدمة يف الغرب كام يف الرشق
الورويب دون الخذ بعني الاعتبار فعل املدرسة."13
اإذا عدان اإىل بعض التعاريف اليت بلورها بعض الباحثني العرب ،جند أنفس نا أمام مس توين
من التعريف ،فهناك التعريف النقدي اذلي حنته (نبيل عيل ،)2009 ،وهناك التعريف
الالكس ييك واذلي س بق أن أشار اإليه ،الباحث( ،مصطفى حمسن .)2002،ففامي خيص
التعريف الول ،نقرأ ما ييل " :اإن سوس يولوجيا الرتبية ختتص بوضع الاسس العادةل اليت
بناء علهيا تنتقى املعرفة ،وتنظم وتوزع داخل املدرسة ،وكيف ميكن أن تعمل أآليات
الرصاع الاجامتعي خارج املدرسة عىل تقويض هذه الاسس ما جيعل من املعرفة الرتبوية
مسأةل اجامتعية وس ياس ية ،وليست مسأةل فنية وموضوعية فقط" .ويضيف يف معرض
أآخر ،أانلنظرية النقدية لعمل الاجامتع الرتبية ،ركزت عىل دراسة أوضاع الفئات الاجامتعية
املقهورة ،وتعرية أآليات توظيف املعرفة اجامتعيا بوصفها سالحا أيديوجيا هبدف حتقيق
الس يطرة ،وتربير ممارسات السلطة ،وترس يخ النظام القامئ وإاعادة اإنتاجه .وعالجا لهذا
اخللل الاجامتعي ذي الاساس املعريف :تسعى املدرسة النقدية لعمل الاجامتع اإىل
اس تحداث أساليب بديةل للفكر ،وأشاكل جديدة للفهم ،وامناط خمتلفة للسلوك ،وأبعاد
جديدة للمعرفة مغايرة لتكل اليت تساندها نظم الرتبية واملوالية للسلطة احلامكة.14
ل شك أن هذا التعريف ،اذلي عرب عنه الباحث العريب اخملتص يف تكنولوجيا املعلومات،
ينسجم مع التوهجات ادجديدة اليت عرفها حقل السوس يولوجيا معوما ،وسوس يولوجيا
13عبد السالم فراعي ،حنو سوس يولوجيا نقدية للرتبية والتمنية ،مقارابت(،جمةل العلوم الانسانية) ،العدد العارش ،اجملدل اخلامس،
،2012فاس ،ص59،
جم
14نبيل عيل ،العقل العريب و متع املعرفة :مظاهر الزمة واقرتاحات ابحللول ،ج ،1،سلسةل عامل املعرفة ،منشورات اجمللس
الوطين للثقافة والفنون والآداب ،عدد ،37 ،دجنرب ،2009 ،ص188،
16
الرتبية بشلك خاص .وهذا املنحى ،كام يؤكد الباحث (فراعي ،)2012،هو" نتيجة للرتامك
املعريف احلاصل يف امليدان السوس يولويج الرتبوي ،وهو اذلي أمىل ابلرضورة تناول
املؤسسة التعلميية ابعتبارها :أداة أساس ية للتمنية السوس يواقتصادية ،بل أكرث من ذكل،
فهيي تشلك أداة للتحولت الاجامتعية والثقافية الرضورية للتمنية."15
فامي خيص التعريف الثاين ،اذلي ميكن التوقف عنده يف هذا الس ياق ،واذلي أطلقنا عليه
وصف "الكس ييك" ،فهو للباحث "حمسن" واذلي يعرف ختصص سوس يولوجيا الرتبية
كام ييل" :يه ذكل الفرع السوس يولويج التخصيص اذلي يتخذ مكوضوع للمقاربة وادلراسة
مجمل الظواهر ،والفعال ،واملامرسات ،والعالقات ،واملؤسسات الرتبوية ابعتبارها ممأسسة
اجامتعيا ،أي يدرسها ابإحالهتا اإىل مرجعياهتا الاجامتعية ،لريصد عالقاهتا ابلبناء اللكي
للمجمتع ،وبلك بنياته ومؤسساته الفرعية :الارسة ،والفئات ،والرشاحئ ،والطبقات
الاجامتعية . ...ومن مث لريبطها بعالقات توزيع السلطة والنفوذ الاجامتعي ،وبتوزيع الفوائد
واملواقع الاقتصادية ،وأيضا بتوزيع القمي والرموز والدوار الثقافية داخل اجملمتع كلك».»16
وإاذا كنا نقدر أن هذه التعاريف –وغريها مما مل يتسع اجملال لس تحضاره يف هذا الس ياق-
فاإننا نعتقد أن لك منحى حنو الوصول اإىل تعريف انجز ومكمتل لهذا التخصص ،فهو معل
يبدو يف غاية الصعوبة واخلطورة ،لن العمل يتطور من خالل املفاهمي ،واملفهوم اذلي
نعطيه دلةل اليوم ،قد يتغري يف الغد .وابلتايل ،فاإذا اكن من خالصة ميكن الوقوف
عندها ،هو أن هذه التعاريف ل تعدو أن تكون مساعدة لنا يف حتديد تعريف اإجرايئ
ميكننا من متكل انصية موضوع أطروحتنا .ولهذه الاعتبارات وغريها ،فنحن نتفق مع ما
عرب عنه الباحث (غريب ،)2009 ،عندما اعترب أنه "ل جمال خلندقة ختصص
15
فراعي ،م ،س ،ذ ،ص.68 ،
16مصطفى حمسن ،يف املسأةل الرتبوية :حنو منظور سوس يولويج منفتح" املركز الثقايف العريب ،ادلار البيضاء ،لبنان ،ط ،الثانية،
،2002ص ص.135-134 ،
17
اكلسوس يولوجيا 17داخل تعريف واحد ووحيد ،عىل اعتبار أنه ختصص تتجدد تعريفاته
بصفة مس تدميه ،من خالل رصد مواضيع جديدة ،ودراسة سريورات ظلت اإىل عهد
قريب حمط اإغفال أو اإهامل ،وكذكل من خالل اخللخة ادلامئة للحدود مع ختصصات
جماورة كعمل النفس وعمل النفس الاجامتعي والاقتصاد والانرثوبولوجيا . ...ابملقابل اإذا اكن
احلقل املمكن للسوس يولوجيا يمتزي ابنفتاحه الكبري ،فاإن نظرة الباحث السوس يولويج اإىل
الواقع الاجامتعي ل تندرج يف خانة النوعية ،اإذ يتعلق المر بنظرة تتوىخ املوضوعية ،من
حيث كون الباحث يعمل عىل تاليف اإصدار أحاكم قمية ،ويسعى اإىل اس تجالء الآليات
اليت تنتج الظواهر الاجامتعية ،ومن مث فاإن المر ل يتعلق بصياغة أحاكم ،وإامنا بوصف
حقائق ووقائع اجامتعية ،وابلسعي اإىل اس تكناه تشالكهتا.»18
-2الامنذج التفسريية يف سوس يولوجيا الرتبية :حنو طرح اإجرايئ نقدي
ميكن اإجامل احلديث عن مخس مناذج تفسريية يف سوس يولوجيا الرتبية ،19ويه المنوذج
الانسانوي ادلوراكميي ،والمنوذج الرصاعي املاركيس والنيوماركيس ،مث المنوذج الوظيفي
البنيوي ،والمنوذج الفيمنومينولويج ،وأخري المنوذج ادجديد يف سوس يولوجيا الرتبية.
ولالشارة فاإننا سنسعى لتقدمي أمه الفاكر اليت طرحهتا هذه الامنذج ،مبا يس تقمي مع موضوع
أطروحتنا ،وحىت تشلك لنا رؤية نظرية وتفسريية ،نس تطيع من خاللها دراسة املوضوع
بشلك مهنجي.
17نعتقد أن الباحث يقرص حديثه عىل"سوس يولوجيا الرتبية" وليس عىل السوس يولوجيا معوما ،نظرا لن الكتاب يتناول
"سوس يولوجيا املدرسة" كتخصص فرعي من ختصصات سوس يولوجيا الرتبية.
18عبد الكرمي غريب ،سوس يولوجيا املدرسة ،منشورات ،عامل الرتبية ،ادلار البيضاء ،2009 ،املغرب ،ص.6 ،
19وجبت الاشارة اإىل أنه ل ميكن الاقتصار عىل هذه الامنذج يف ختصص سوس يولوجيا الرتبية ،بل توجد مناذج تفسريية كثرية
ومتعددة ،كنظرية الرأسامل البرشي أو نظرية التحديث ،واللتان انبثقتا عن النظرية الوظيفية -البنيوية ،اإل أنه لعتبارات تقنية
خاصة هبذا الفصل ،وحىت ل نقع يف توسعة قد تكون غري مطلوبة ،فاإننا س نقترص عىل الامنذج امخلس املذكورة.
18
أول :المنوذج الاصاليح الانسانوي لميل دوراكمي
هناك ش به اجامع من طرف الباحثني السوس يولوجيني ،أن أول من دشن احلديث عن
سوس يولوجيا الرتبية ،هو "اإميل دوراكمي" ،يف بداية القرن العرشين،)1903-1902( ،
وإان اكن بطريقة غري واعية،اإذ املطلع عىل كتبه املؤلفة يف هذا الصدد ،20يتنب أهنا اكنت يف
العمق دراسات سوس يولوجية حول قضااي الرتبية يف عالقهتا ابجملمتع وابملرشوع اجملمتعي
اذلي اكن ينادي به ،هذا مع العمل أن هذه ادلراسات اعتربها البعض يف ختصص
البيداغوجيا ،لهنا اكنت عبارة عن حمارضات موهجة للطالب ادجامعيني يف فرنسا يف هذه
املرحةل.
لعل من أمه املؤلفات اليت عرب فهيا "دوراكمي" عن تصوره للرتبية من وهجة نظر
سوس يولوجية ،جند كتاب " الرتبية والسوس يولوجيا ."21ويعد هذا املؤلف ثورة يف جمال
ادلراسات السوس يولوجية يف موضوع الرتبية ،اإذ أنه قبل هذا املؤلف ،اكن التعاطي مع
املسأةل الرتبوية ،يمت مبقارابت فلسفية وأخالقية و"وعظية" ،بيامن "دوراكمي" ،اعترب أن أمه
مسأةل وجب احلسم فهيا ،ويه أن الرتبية معلية ميارسها الكبار عىل الصغار هبدف
الادماج يف احلياة اجملمتعية ،وهذه الرتبية هتدف اإىل تمنية مجموعة من املواصفات يف الطفل،
ثقافية وأخالقية وجسدية اليت يتطلهبا اجملمتع الس ياي والبيئة اخلاصة اليت ينمتي اإلهيا.22
ونظرا لمهية هذا التعريف ،فاإن الباحث "الرشقاوي" ،س يعترب من هجته ،أن بروز مفهوم
"التنش ئة" مل يتبلور اإل مع "دوراكمي" ،ويف طيات هذا املفهوم ،ميكننا أن نس توعب جيدا
التحولت اليت عرفهتا اجملمتعات املعارصة ،حيث حلت مؤسسة املدرسة ،مكؤسسة
حديثة ،بدأت تقوم بأدوار جد طالئعية ،ومهنا نقل الثقافة والقمي اجملمتعية ،يف ظل تراجع
أو أوفول مؤسسات قدمية ،اكلرسة والكنيسة (ادلين) .23ما يتضح من هذا الس ياق
التحلييل ،هو أن "دوراكمي" اس تطاع أن خيلص مفهوم الرتبية ،من محولته الفلسفية
20
Voir les notes de bas pages n°, 1-2-3.
21
Emile Durkheim, Education et sociologie, op, cit.
22
Ibid. p,9.
23
Charkaoui, op, cit, p, 39.
19
والاخالقية والتأملية ،اإىل معاين سوس يولوجية قابةل للقياس واملالحظة .ولهذا اعترب
"فراعي" ،أن" التعريف ادلوراكميي للرتبية ،ظل الإطار املرجعي امللهم واملوجه ملعظم
الكتاابت السوس يولوجية الرتبوية ،جبانب مرجعيات نظرية أخرى مثل املاركس ية اليت تنظر
اإىل الرتبية كعملية تفتح وتطور شامل للفرد غايهتا حتقيق الانسان الاجامتعي اللكي يف ظل
نظام جممتعي تندمج املدينة ابلبادية والتعلمي ابلنتاج والعمل اليدوي ابلعمل الفكري."24
وعند التأمل جيدا يف مفهوم التنش ئة الاجامتعية اذلي وظفه دوراكمي ،جنده يعين –
حسب الرشقاوي -حتويل ونقل الفرد من اكئن ل إاجامتعي ( )asocialاإىل اكئن اجامتعي،
محمل مبجموعة من القمي الاخالقية وأنساق الفكر واملعتقدات والعراف والقمي املهنية
والطبقية ،واليت ميكن اعتبار أن جزء مهنا ،يصطحبه الفرد يف حياته لكها ،والبعض الآخر
يطاهل التغيري والتحويل والتبديل."25
مل يكن هذا التوقف عند املفهوم ادجديد اذلي بلوره "دوراكمي" ليحجب عنا ما حنن
بصدده يف هذه الفقرات ،وهو اإبراز المنوذج الانسانوي الاصاليح عند "دوراكمي" ،يف
جمال "سوس يولوجيا الرتبية" .وربط ذكل مبوضوع أطروحتنا .اإذ أننا نعتقد ،أن الاقرتاب
من هذا التصور ،يساعدان –بدون شك -يف فهم بعض احلقائق واملعطيات اليت تعمل ول
زالت تعمتل يف احلقل الرتبوي العاملي ،واملغريب بصفة خاصة .فكيف ميكن توضيح ذكل؟
جيمل بنا قبل ادلخول يف املوضوع ،أن نزيل لبسا قد يعرتض القارئ لهذه الطروحة،
وهو أنه جرى يف العادة ،يف الكتاابت السوس يولوجية ،أهنا عندما تريد أن تتحدث عن
مسامهة "دوراكمي" يف سوس يولوجيا الرتبية ،أن تقحمه يف مصفوفة التوجه الوظيفي-
البنيوي ،عىل اعتبار أنه من مؤسيس التيار الوظيفي .26لكن ابلرمغ من وجاهة هذا
الطرح ،لكنه ل خيلو من جمازفات ابستميولوجية ،اإذ الواحض أن مقاربة دوراكمي" بغض
النظر عن كوهنا متتح من الطر النظرية للوظيفية ،فاإهنا اختذت لنفسها مسارا اإصالحيا و
أكرث مشوليا ويتجاوز حدود الزمان واملاكن ،وهذا ما نعنيه ابلجتاه الانسانوي املثايل عند
24
فراعي ،م ،س ،ذ ،ص.67 ،
25
Cherkaoui, op, cit, p,39.
26انظر عيل سبيل املثال ل احلرص ،محدي عىل أمحد" ،عمل اجامتع الرتبية" ،دار املعرفة ادجامعية ،القاهرة ،مرص ،1997 ،حيث
أحقم هذا الباحث ،مقاربة دوراكمي مضن الاجتاه الوظيفي.
20
دوراكمي .وهذا ل يعين أن دوراكمي مل يبق وفيا للطر النظرية للوظيفية ،بدليل أنه عندما
يتحدث عن الرتبية وعالقهتا ابجملمتع ،يعتقد أن عىل ادلوةل أن تتدخل بقوة يف مسار اإرساء
منوذج تربوي مركزي ،وأنه يف غياب هذا ادلور ادلوليت ،فاإننا ل نتحدث عن جممتع وعن
انسجام بني مكوانته .وهذا لعمري من أمه ما ميزي الوظيفية اكإطار نظري لهنا دامئا تسعى
لتفسري الظواهر الاجامتعية ،انطالقا من البنية النسقية ومن الوظائف اليت يقوم هبا
خمتلف الفاعلني للحفاظ عىل التوازن والاس تقرار.
ولبراز هذا التوجه ،فاإن "دوراكمي" يرى "أن للنظام الرتبوي وظيفة عامة يف جتانس
اجملمتع .حيث يشري اإىل أن اجملمتع يس تطيع البقاء فقط اإذا وجد بني أعضائه درجة من
التجانس ،والنظام الرتبوي يف اجملمتع يدمع هذا التجانس ،وذكل بغرسه يف الطفل منذ
البداية تكل الامتثالت اليت حتتاهجا احلياة امجلعية ،وانه بدون هذه الامتثالت ادجوهرية يصبح
من املس تحيل وجود التعاون والتضامن الاجامتعي يف اجملمتع ،بل يس تحيل معها قيام احلياة
الاجامتعية" .ولهذا ركز عىل أمه الوظائف اليت تقوم هبا املدرسة احلديثة ،ويه:
-مفهوم «التضامن الاجامتعي»،
-الانامتء «،»l’appartenance
-التجانس بني أفراد اجملمتع،
-الرتبية العقالنية والعلامنية (أي اليت تقطع مع لك تفكري ديين ول هويت)27
ولهذا جنده يتحدث عن وظيفة املدرسة يف اجملمتعات املعارصة :بكوهنا أداة للفرز بني ما
هو تقليدي وما هو علامين حدايث.
ويؤكد دوراكمي عىل أمهية املدرس يف نقل القمي الاخالقية يف املدرسة ،واملدرسون اإمنا
ميثلون ادلوةل الرمسية.
وهكذا تتلخص رؤية دوراكمي يف أن املدارس والنظام التعلميي يعمل عىل غرس القمي
املشرتكة اليت تعد الاساس الرضوري للتجانس الالزم لبقاء اجملمتع ،كذكل املهارات اخلاصة
اليت تشلك التنوع الرضوري للتعاون الاجامتعي اذلي تتطلبه وحدة اجملمتع املركب،
27
يمكن االحالة إلى االنتقاد الذي وجهه "طه عبد الرحمان" لهذا التوجه :انظر بؤس الدهرانية"
21
ومتاسكه عىل أساس التفاق القميي ( )value consensusوتقس مي متخصص للعمل يف
احلياة الاجامتعية".28
ونظرا "خلطورة" الرتبية يف النسق اجملمتعي املعارص ،فاإن دوراكمي ،شدد عىل أمهية ودور
املدرس مكمثل لدلوةل وللقمي الخالقية ابجملمتع ،وذلكل فدوره يتطلب التأكيد عىل القمي
واملبادئ الاساس ية يف اجملمتع ،ومساعدة التلميذ عىل اكتساهبا ،فادلوةل مسؤوةل عن
حتديد الاساس يات اليت ترى أن املدرسة علهيا أن نؤكدها .والاهداف اليت ينبغي
للمدرسة أن حتققها .فادلوةل مسؤوةل عن نتاجئ الرتبية من خالل املتابعة والارشاف.
فاملدرسة –كام يتصورها دوراكمي -قادرة عىل تشكيل الفرد وإاعداده للحياة الاجامتعية،
فالطفل يتعمل يف املدرسة عن طريق الرتبية الاخالقية النظام وضبط اذلات .فاملدرسة
تساعد الطفل عىل اس تدماج قمي ومعتقدات جممتع حبيث تصبح جزء من نسقه القميي
ونسقه العقدي"29
ولالقرتاب أكرث من هذا المنوذج التفسريي يف عالقته ابلرتبية ،فاإن الباحث "حمسن"،
بني أن دوراكمي ،عندما تفطن لالبعاد وادلللت والوظائف الاجامتعية للرتبية ،فاإنه ظل
يبحث يف اإطار تصور اإصاليح اإنسانوي ومثايل عن منوذج تربوي ()Prototype
يتجاوز حدود الزمان واملاكن ،وحيقق تربية أخالقية صاحلة للك الفراد وللك
اجملمتعات ."30اإذن من خالل هذه املقوةل ،ميكننا أن نفهم التوجه الإصاليح اذلي اكن
يدافع عنه "دوراكمي" ،خصوصا وحنن نعمل أن الس ياق اذلي حتمك يف اإنتاج هذا التصور،
اكن حمكوما ابلرصاع مع املؤسسة الكنس ية ومع التقاليد ادلينية ،يف أحقية من يتوىل التحمك
يف مصادر اإنتاج وإاعادة اإنتاج القمي اجملمتعية :هل الكنيسة أم املدرسة؟ ولعل يف اإجابة
دواكمي ما يزيك الطرح الالئيك املتوجه حنو التعويل عىل املؤسسة احلديثة يف اجملمتع العلامين
الفرنيس ،ويه املدرسة .يف هذا الس ياق ،يؤكد "دوراكمي" أن "النظام الرتبوي يكسب
الفراد املهارات النوعية الرضورية والالزمة للمهنة اليت سوف يقومون هبا يف املس تقبل،
وهذه الوظيفة رضورية يف اجملمتع الصناعي اذلي يمتزي بزتايد تقس مي العمل املعقد .أما يف
28محدي عيل أمحد ،م ،س ،ذ ،ص ص.126-125 ،
29
Durkheim, Education et Sociologie, op, cit, p p, 13-14.
30مصطفى حمسن ،يف املسأةل الرتبية ،م ،س ،ذ ،ص ص.42-41 ،
22
اجملمتعات قبل الصناعية اليت ل تمتزي بتقس مي العمل ،فاإن مثل هذه املهارات تنقل اإىل
الفراد عن طريق الوادلين ،المر اذلي ل حيتاج اإىل شلك رمسي للتعلمي .ففي اجملمتعات
الصناعية ،جند أن الامتسك الاجامتعي يعمتد أساسا عىل تباين العديد من املهارات
املتخصصة." 31
لعل ما يس توقفك وأنت تطالع أفاكر وتصورات "دوراكمي" حول الرتبية ،هو أنه سعى اإىل
بلورة تصور علامين "لئيك" مفصول عن لك توجه ديين او ل هويت كيفام اكن ،وذكل
لقامة جممتع حدايث عقالين ومتنور ،تقدم هل املؤسسة التعلمية- ،ابعتبارها أمه املؤسسات
يف اجملمتعات املعارصة -قامي ومناذج للتفكري والسلوك والاجتاهات ،تنسجم مع هذه الرؤية.
لكن السؤال اذلي يطرح يف هذا الس ياق :اإىل أي حد ميكن اعتبار ما توصل اإليه
"دوراكمي" صاحلا لالس تلهام يف اجملمتعات املعارصة ،ومهنا بطبيعة احلال املغرب؟
هذا مع التذكري أنه تفصلنا عن كتاابت "دوراكمي" أكرث من قرن من الزمن ،وهو المر
اذلي يعين حصول ثورات يف مجموع نسقنا اجملمتعي العام .فهل ما زالت حتتفظ املدرسة
بلك تكل الرساميل الرمزية واملعرفية والقميية ،لرتس يخها يف نفوس وعقول ووجدان
التالميذ؟ أمل نعاين ميالد مؤسسات جديدة زامحت بشلك ملفت للنظر دور املدرسة،
بل أزاحت جل أدوارها ،حىت ل نقول لك أدوارها؟ أمل يعد –اليوم -الاعالم مكؤسسة
املؤسسات يف تربية اجملمتع؟ هذه الاس ئةل وغريها ،جتعلنا نأخذ مسافة نقدية من تصورات
"دوراكمي"- ،هذا عىل الرمغ من تأكيدها عىل حمورية أفاكره يف سوس يولوجيا الرتبية.
وإان هذه الانقتادات يه اليت تدفعنا للوقوف أكرث عند بعض املالحظات اليت أبداها
العديد من الباحثني حول تصورات "دوراكمي" للرتبية ،مفثال بورديو ،وابرسون،
وإازامبريجتاميت ( ،)Isambert- Jamatiو"بريثيلو" ( " ،)Berthelotاعتربوا أن بعض
املفاهمي املس تعمةل يف خطاب سوس يولوجيا الرتبية :اكلتنش ئة الاجامتعية والرتبية والتثقيف
والمتدرس ،غري واحضة وفهيا من العموميات اليشء الكثري ." 32لكن أمه انتقاد اذلي ميكن
توجهيه لرؤية دوراكمي للرتبية ،هو كونه بىن تصوره للرتبية وكهنا يشء انجز و صا ح للك
31
محدي عيل أمحد ،م ،س ،ذ ،ص.129 ،
32فراعي ،م ،س ،ذ ،ص.67 ،
23
زمان وماكن ،وأن ما يصلح للمجمتع الفرنيس قد يصلح لباقياجملمتعات ،واحلاصل أن هناك
فروقات شاسعة بني هذه اجملمتعات .أو من خالل حديثه عن التصور الانسانوي ،دومنا
القدرة عىل اإبراز الاختالفات اليت تكتنف مجمل الظواهر والانساق الرتبوية ،وذكل يف
عالقهتا ابلنظمة الاجامتعية والس ياقات السوس يوثقافيةوالسوس يواقتصادية .وأخري ،فاإن
التصور ادلوراكميي ،ل يساعدان كثريا يف فهم خمتلف ادليناميات الرصاعية اليت تطبق لك
احلقول ،وعىل رأسها احلقل الرتبوي ،ابعتباره حقال رصاعيا ابمتياز ،لنه جمال للتحمك يف
امه مورد ،وهو املعرفة.
وعىل لك حال ،فاإنه ابلرمغ من املالحظات والانتقادات اليت وهجها الباحثون قبلنا
دلوراكمي ،أو اليت ميكننا أن نتقدم هبا ،فاإن المنوذج التفسريي النظري اذلي بىن عليه
"دوراكمي" تصوره للرتبية ،يبقى همام وصاحلا لفهم ش بكة الرتابطات والعالئق اليت جتمع بني
الرتبية واجملمتع ،بل أكرث من ذكل ،فاإن ما جاء به دوراكمي ،و اذلييعترب حبق جتديدا يف
حينيه ،هو حديثه عن الرتبية يف بعدها الشمويل ،خصوصا عندماأقام جتارسا بني وظيفة
املدرسة و اإس ناد املرشوع اجملمتعي اذلي يتوافق حوهل اجملمتع .ولعل يف صلب هذه
الاشاكلية ميكننا أن جنازف ابلقول ،اإن أمه ما يعيق تطور بعض النظمة الرتبوية يف
املنطقة العربية ،هو مدى التوافق حول رؤية جممتعية ،تكون مبثابة خارطة طريق لجناهحذه
املنظومات .ولهذا فاإذا اكن "دوراكمي" قد اندى برضورة اإقامة جممتع عىل أسس عقالنية
لئكية ،تتخذ من املدرسة مرتكزا لتدعمي قمي احلرية والعقالنية والنقد والتفكري اخلالق،
فاإن ذكل ما جيعلنا نتساءل اليوم :هل حسمت العديد من ادلول يف اختياراهتا وفلسفهتا
الرتبوبة ابلشلك اذلي طرحه دوراكمي؟ أم أن العديد من هذه املنظومات ل زالت تتخبط
بني املراوحة بني القمي التقليدية /احملافظة وبني القمي احلداثية التثويرية والتجديدية وهو حال
أغلب اجملمتعات العربية والاسالمية واملغرب واحد مهنا؟
اثنيا :المنوذج التفسريي الوظيفي البنيوي (ابرسونز منوذجا)
انطالقا من مقوةل ابشالر "العمل مسرية تصحيح أخطائه" ،فاإن بروز النظرية الوظيفية-
البنوية ،شلك حلظة ابس ميولوجية ذات دللت معيقة .فاإذا اكن "دوراكمي" قد دشن
ميالد الوظيفية ،اإل أن الرتس مي الفعيل لهذه النظرية مل ينطلق اإل مع ثةل من الباحثني
24
المريكيني ،أمثال' :ابرنسونز ،ومريتون ،واذلين أضفوا عىل هذه النظرية طابعا عاما
وشامال ،حبيث ميكن القول اإهنا نظرية تصلح لتفسري العديد من الظواهر والقضااي ،وذكل
ما عرب عنه "لزرسفيدل" ،33اكلرسة واحلزب والسوق والامة" .وبطبيعة احلال النسق
الرتبوي ،كحد الانساق الاجامتعية اليت تقوم بوظائف عديدة داخل البناء اجملمتعي كلك.
وجيب أن ل ننىس وحنن نعرض للنظرية الوظيفية البنائية ودورها يف تعزيز املسار التحويل
اذلي عرفته اجملمتعات الوربية والمريكية حتديدا ،حيث أن "التغيريات يف الاقتصادات
واجملمتعات املتقدمة النابعة من الثورة الصناعية قد حمتت نقال ملسؤوليات من أجل تعلمي
الش باب وتأهيلهم ،يف اس تقطاب واحض لدلور اذلي اكنت تقوم به املؤسسات التقليدية،
اكلرسة والكنيسة .اإن املدارس يه الآن مؤسسة كبرية ،تعىن بتثقيف الغالبية العظمى من
الطفال والش باب يف العامل املتقدم .واليت تقوم بدور حمرك أساي للتغري يف تطوير ادلول.
عىل الرمغ من أن التعلمي جيلب التغيريات يف اجملمتع كلك وكذكل يف الفراد،وتتأثر أيضا
املدارس ابدلور اذلي تقوم به خمتلف القوى الاجامتعية .ويف هذا الصدد ،تأيت النظرايت
السوس يولوجية لفهم هذه الدوار املركزية اليت تلعهبا املدارس يف اجملمتع املعارص ،ولعل من
بني أمه النظرايت اليت قدمت إا جاابت عن هذه الدوار ادجديدة للمؤسسة التعلميية ،جند
34
الوظيفية".
وحىت ميكننا تقريب بعض املعامل الكربى للنظرية البنائية الوظيفية عند ابرنسونز ،كام
يرشح ذكل الباحث (جرموين ،)201435 ،فاإننا حنيل عىل المنذجة الوظيفية الرابعية اليت
اعتربها حامكة للرشط الإنساين ،هذه الوظائف يه :وظيفة التكيف(وظيفة الإقتصاد)،
ووظيفة حتقيق الهدف(وظيفة الس ياسة) ،ووظيفة احلفاظ عىل القمي( أو ما ميكن تسميته
مبكون المناط الاكمنة) ،وأخريا وظيفة الإندماج ،36وعليه تشلك الوظيفتان الوليان
33
Paul Lazarsfeld, Qu’est-ce que la Sociologie ?, Gallimard, France, 1971, p, 107-108-109.
34
Anna Strassmann, Education, the blackwell encyclopedia of sociology, edited by, George
Ritzer,Blackwell Publishing, 2007, Malden, USA, Oxford, UK, Victoria, Australia, p, 1323.
35رش يد جرموين ،يف النقد املتعدد البعاد :قراءة أولية يف املرشوع الفكري للسوس يولويج املغريب مصطفى حمسن ،سلسةل،
مقارابت ،العدد ،اخلامس عرش ،اجملدل الثامن ،2014 ،فاس( ،اململكة املغربية).
36
CF.TalcottParsons : The social system, Free press ; New-york,1964.
25
املغذي الساس للقمي يف اجملمتع ،بيامن حتقق الوظيفتان الثانيتان النتاجئ املرجوة ،وهام حتقيق
الاندماج لفراد اجملمتع واحلفاظ وضامن اس مترارية املنظومة القميية .وهذا يعين أن للك نسق
وسائطه اخلاصة لتوجيه العالقات التبادلية ،املال يف النسق الاقتصادي مثال ،السلطة يف
النسق الس ياي ،التأثري والسلطة يف النسق الإجامتعي مجلاعة ما ،الإلزتامات
القميية" "value commitmentsيف النسق الثقايف للنسق الإجامتعي ."37وإاذا ما حاولنا
أن نس تلهم هذا المنوذج التفسريي ليك نطبقه عىل النسق الرتبوي ،فاإن ذكل ما يعد يف
نظران مسأةل يف غاية المهية .اإذ جند أن بنية النسق الرتبوي ،تقوم ابلوظائف الاربعة
السابقة حسب الس ياقات الاجامتعية والاس تعدادات القبلية للمجمتع .مفثال ،عندما تقع
أزمة يف املنظومة الاقتصادية لبدل ما ،فاإن أول ما يمت الانتباه اإليه ،هو وظيفة املؤسسات
التعلميية والعلمية ومراكز البحث ومس تودعات الفكر ،هل يه يف اس تجابة للتحولت
اليت يعرفها هدا احلقل أم ل .ولهذا يسارع صناع القرار اإىل اختاذ الاجرءات الالزمة
للتكيف مع التحولت الطارئة يف العامل .أما وظيفة حتقيق الهدف ،ويه وظيفة س ياس ية
ابلساس ،تمتثل يف كيفية تعامل صانع القرار الس ياي مع املس تجدات اليت تطرأ عىل
احلقول اجملمتعية ،ومن بيهنا احلقل الرتبوي ،فلكام اكتشفت اختاللت معينة ذات طبيعة
بنيوية اإل واكنت الاس تجابة لتدارك ما ميكن تداركه .أما وظيفة احلفاظ عىل القمي،
فبدورها تربز يف احلقل الرتبوي ،يف أهبيى صورها ،اإد أن أي نظام تربوي ،اإل ويسعى
لرتس يخ مجموعة من القمي والاعراف وأمناط السلوك وغريها من الرموز الثقافية ،واليت ل
- Talcott Parsons : The structure of social action,free press, New-york,1968.
.من املهم اإلشارة إىل أن بارنسونز حيدد أنساقا مرجعية كربى،وأخرى فرعية ،ففي املستوى األول جنده يتحدث عن مجيع
األنساق احلية ،وثانيا نسق الفعل ،وثالثا األنساق الفرعية للفعل وتشمل أنساق الشخصية وأنساق الثقافة والعضوية
واالجتماعية ،ويف املستوى الرابع يتحدث عن األنساق الفرعية لألنساق الفرعية ،أو ما مساه " « sous- système
” socialوهي الرباعية املشار إليها يف النص ..
37نيكالسلومان"،مدخل إىل نظرية األنساق" ،ترمجة يوسف فهمي حجازي،
منشوراتاجلمل،كولونيا،أملانيا،2010،ص،ص.49/50
26
ميكن حتقيقها اإل ابنهتاج رؤية جممتعية لهدا احلقل .وأخريا ،هناك وظيفة التاكمل ،واليت
تعين يف هذا الس ياق مدى حتقيق احلقل الرتبوي للامتسك الاجامتعي يف جتارس اتم مع
ابيق احلقول ادلولتية الخرى.38
وميكن اإجامل أمه املنطلقات اليت توجه النظرية الوظيفية يف دراسة النظمة الرتبوية ،يف
سؤالني:
-1ما يه الوظائف اليت يقوم هبا النظام التعلميي للمجمتع؟ (حاجات النسق)
-2ما العالقات الوظيفية اليت تربط النظام التعلميي ابلنظم الاجامتعية الخرى املكونة
للنسق الاجامتعي الكرب؟
أما عن مالمح التحليل الوظيفي للنساق الرتبويةفهيي تمتثل يف الشلك التايل:
-1حتديد العنارص البنائية للنساق الرتبوية العامة والفرعية واخلصائص والسامت اليت متزي
لك تكل العنارص،
-2حتليل العالقات اليت تربط تكل العنارص ببعضها مكونةالنساق الفرعية،
-3حتليل طبيعة العالقة بني الرتبية والتنظاميت الاجامتعية الخرى،
-4الكشف عن الطريقة اليت ميكن هبا توقع سلوك الفراد داخل الوضاع الرتبوية،
-5الاسهام الرتبوي لبلوغ الوضع الاجامتعي وتمنيته،
-6املعوقات الوظيفية للنساق الرتبوية وما يرتبط هبا من مشالكت تربوية".
ما ميكن اس تخالصه من هذه الوظائف اليت بلورهتا النظرية الوظيفية للمدرسة ،هو أهنا
تنظر لهذه البنية كنسق متاكمل ،فيه مجموعة من الوحدات ،لك وحدة تقوم بوظيفة
معينة ،وانه اإذا ما تعطلت وظيفة من الوظائف اإل وجب التدخل لصالح هذا
الاعوجاج والاختالل ،واحملافظة عىل النسق العام ،من أي أعطاب تلحقه .ولعل التأمل
38انظر ملزيد من التفصيل يف هذه المنذجة ،رش يد جرموين ،مقرتب أويل للمؤسسات الس ياس ية :سوس يولوجيا ادلوةل منوذجا،
مقرر جمزوءة ،املؤسسات الس ياس ية ،الفصل الثاين ،شعبة عمل الاجامتع ،ادلورة الربيعية ،املومس ادجامعي،2015-2014 ،
جامعة مولي اإسامعيل ،لكية الآداب والعلوم الانسانية( ،مطبوع).
27
يف طبيعة التدخالت اليت جترهيا العديد من احلكومات يف مقاربة مشالكت التعلمي ،39اإمنا
يلحظ وجود هذه اخللفية –سواء بشلك واع أو بغريه -يف الاس تجابة لبعض التوعاكت
والاختاللت اليت تطال احلقل الرتبوي .وهنا معطى أآخر ،ميكن جتليته ،وهو أن هذه
النظرية- ،حبمك اهنا ازدهرت يف الولايت املتحدة المريكية ،فاإهنا تتعامل مع احلقل
الرتبوي ،ابعتباره مصنعا أو مؤسسة كبرية ،ميكن فهم مساراته انطالقا من مجموعة من
املدخالت لتتحول اإىل خمرجات حمددة .أليست هذه نظرة اخزتالية حلقل يعج ابلعديد من
التشاباكت والتعقيدات ،مما يس تحيل معه الاستسالم لهذه الرؤية الليربالية الاخزتالية يف
فك شفراهتا امللغزة أحياان ،واليت تتطلب قدرة عىل فهم طبيعة الاشاكلت يف معقها
وليس يف بساطهتا.
اثلثا :المنوذج النظري الرصاعي (املاركيس) يف احلقل الرتبوي ،وحدوده
التفسريية
اإذا اكن من مالحظات ميكن اإبداؤها حوللمنوذج التفسريي الوظيفي البنيوي ،هو كونه
منوذج سكوين وحمافظ ،ول يس تحرض خمتلف ادليناميات املتشعبة للحقول الرتبوي ،فاإن
المنوذج التفسريي املاركيس ،ميكن اعتباره مكنوذج ثوري يف سوس يولوجيا الرتبية .اإذ
اس تطاع هذا المنوذج- ،عرب مجموعة من الرواد -أن يقدم قراءة جد نقدية للوضاع الرتبوية
يف العديد من التجارب الوربية والمريكية .حيثتنطلق الرؤية املاركس ية ،يف حتليل
التعلمي ،من الافرتاض الاساس اذلي تستند اإليه هذه النظرية وهود وجود تأثري بني منط
39ميكن الاشارة يف هذا الصدد ،اإىل ما وقع يف املغرب ،عندما تعرث أجرأة امليثاق الوطين للرتبية والتكوين ،دجأ صانع القرار اإىل
اإحدى ماكتب اخلربة الجنبية لطلب خطة حسرية للخروج من دوامة التخبط ،وهكذا مسيت الوثيقة اليت أنتجها مكتب اخلربة،
ابخملطط الاس تعجايل .2012-2008 :وقد تبني فامي بعد ارتباك هذه اخلطة ،أثناء تزنيلها ،حيث تعرثت أغلب مكوانهتا ،نظرا لهنا
مل تس تحرض الطبيعة املركبة للقضية التعلميية ،واليت يتداخل فامي ما هو داخيل مبا هو خاريج ،وما هو أفقي مبا هو معودي ،وما
هو جممتعي مبا هو اقتصادي وما هو قميي مبا هو ثقايف .انظر للمزيد حول هذا املوضوع :رش يد جرموين(" ،احلاكمة يف املنظومة
الرتبية املغربية) ،جمةل ،عامل الرتبية ،عدد ،21 ،منشورات عامل الرتبية ،ادلارالبيضاء.2012،
28
عالقات الانتاج يف اجملمتع (البنية التحتية )Basic structureعىل مجمل مظاهر البناء
الفويق مبا يتضمنه من فكر وقمي وتعلمي .وإان هذا التأثري هو احملدد الاساس يف بلورة
وظيفة التعلمي يف جممتع ما هبدف اإعادة اإنتاج العالقات الاقتصادية والاجامتعية السائدة
فيه .ومن مث فاإن مصري الفراد وموقعهم يف البناء الاجامتعي يتحدد بناء عىل وضعهم
الطبقي ،فالطبقة يه احملرك الخري للمتيزي الاجامتعي ،التعلمي هو أداة للتصنيف والانتقاء
لضفاء الرشعية عىل الوضاع اليت س بق حتديدها طبقيا ومن مث تعكس الاوضاع الطبقية
نفسها عىل النظم التعلميية ونتاجئها ."40انطالقا من هذا التحليل ،س يقدم العديد من
الباحثني املاركس يني والنيوماركس يني (أمثال ،لويس ألتوسري ،غراميش ،وبورديووابرسون)
العديد من ادلراسات واملفاهمي اليت تعزز فكرة أن املدارس يف اجملمتعات الرأساملية ،ل
تزود الطالب ابخلربة الالزمة ملامرسة همنة معينة وحسب ،ولكهنا حتدد أيضا مس توايت
طموحاهتم وتوقعاهتم».بل أكرث من ذكل ،فاإن أحصاب هذا التيار ،يرون أن التعلمي أآلية من
أآليات الرصاع داخل اجملمتع ،وهو رصاع يتجسد أساسا يف من ميتكل املعرفة .وابلتايل،
فاإن ذكل مقدمة لمتكل الرثوة والسلطة .ولهذا نفهم ملاذا أصبح حتليل النسق الرتبوي ،ل
يمت بلك منعزل عن ابيق احلقول ،بل أصبح يلك بؤرة للعديد من التقاطبات والرهاانت
والرهاانت املضادة.
أما عن مرتكزات هذه املدرسة التحليلية ،فاإهنا تقوم عىل ما ييل:
"-1تزمع أن املؤسسات الرتبوية يف اكفة اجملمتعات تسهم يف توليد عالقات القوة الراهنة،
وتعترب معلية اإعادة الانتاج هذه-من وهجة هذه النظرية -وظيفة لعمليتني:
أ -فرض معاين ثقافية بعيهنا والادوات املس تخدمة لفرض هذه املعاين"
ب-حتديد حمتوى املعاين الثقافية والتوزيع املتبادل لها عىل الافراد اخملتلفني واليت حتول
املعرفة ابعتبارها رأس مال ثقايف .ولهذا ترتمج عدم التاكفؤ يف القوة اإىل عدم تاكفؤ
ثقايف."41
40
محدي عيل أمحد ،م ،س ،ذ ،ص.148 ،
41
نفسه ،ص.150 ،
29
ونظرا للطابع التحمكي اذلي متارسه ادلوةل يف النظام الرأساميل عىل املؤسسات التعلميية،
فاإن ترس يخ قمي هذه ادلوةل ،يبقى هو الرهان الول والخري ،يف سبيل ضامن اس تجابة
املواطنني لهذه القمي ،ولمنوذج احلمك املتبع .طبعا ،جند أن نظرية الرصاع يف سوس يولوجيا
الرتبية ،جد شاسعة ومتعددة الرؤى واملشارب ،وحنن ل ميكننا يف هذا العمل تتبع لك
تكل الرؤى واملواقف ،لهذا سرنكر عىل واحد من الرواد (بورديو) عىل اعتبار أنه شلك
انعطافة جديدة يف النظرية املاركس ية أو النيوماركس ية ،بنحته للعديد من املفاهمي (اليت ل
زالنا نس تعملها اإىل الآن) ،وأيضا بقدرته عىل املزاوجة بني ما هو نظري وما هو امربيقي
ميداين .مفايه أمه الطروحات اليت يدافع عهنا هذا السوس يولويج؟ وكيف أعطى
لسوس يولوجيا الرتبية نفسا جديدا يف حتليل الوضاع الرتبوية؟ وهل هذه النظرية تبقى
صاحلة لقراءة الوضع يف جممتعنا املعارص ،خصوصا يف فهم أوضاع املؤسسة التعلمية اليوم؟
بداية نشري اإلىأنبورديو "تأثر ابخللفية الس يولوجيةدلوراكمي ،أي ادجوانب احلقيقة للثقافة
السائدة تنتقل للك أعضاء اجملمتع ،لكن بروديو اهمت ابلكيفية اليت عن طريقها يمت اإعادة
اإنتاج ثقافة املس يطر.وتكشف دراسة بورديووابرسون ،عن وظيفة النظام التعلميي ودوره
الفعال يف اإعادة اإنتاج البناء الطبقي للمجمتع الصناعي ،فالهرم الاجامتعي الطبقي ليس جمرد
جمرد حمصةل لبناء عالقات القوى املرتبط بتوزيع الس يطرة يف اجملال الاقتصادي ،بل اإن
ظروف اإعادة اإنتاج هذا النظام هل صةل وثيقة ومبارشة ابملؤسسات الرتبوية.
ولعل ادلور الرئييس للنظام التعلميي هو العمل عىل حتقيق «اإعادة الانتاج الثقايف» ،ول
يعين ذكل نقل تراث اجملمتع وقميه وثقافته ،كام يذهب ذلكل دوراكمي ،وإامنا نقل ثقافة الطبقة
املس يطرة واس مترارية همينهتا الفكرية .حيث متتكل هذه الطبقة القدرة عىل فرض أفاكرها
وتصوراهتا ابعتبارها رشعية ومناذج مثىل للترصف ،ومن مث جيب اختاذها أساسا للمعرفة
يف النسق التعلميي.»42ولعطاء فكرة-ولو خمترصة -عن طبيعة التحليل اذلي انهتجه
"بورديو" يف اإثبات نظرية اإعادة الانتاج الثقايف أو همينة الرأسامل الرمزي لبعض الفئات
عىل حساب فئات أخرى من اجملمتع ،فاإن كتبه اليت ألفها يف هذا الصدد( ،الورثة ،اإعادة
42
Voir à ce propos l’ouvrage du Bourdieu et de Jean-Claude Passeron, intitulé, « les
héritiers, les étudiants et la culture, les éditions de Minuit, Paris, 1964. Ou bien «la
reproduction : éléments pour une théorie du système d’enseignement, 1970.
30
الانتاج ،الانسان الاكدميي) ،لكها تبني ذكل بوضوح .ورمغ أهنا تركز –من حيث العينات
املدروسة عىل التجربة الفرنس ية -فاإن ذكل ل مينع من اجملازفة ابلقول اإن تكل النظرية تبقى
صاحلة لفهم كثري من القضااي الالمساواة يف املنظومات الرتبوية العاملية ،ومهنا بطبيعة
احلال ،التجربة املغربية .43وابلعودة اإىل "بورديو" فاإننا نقرأ –مثال -يف كتابه "الانسان
الاكدميي ،أن الوصول اإىل همنة أس تاذ جامعي يف ختصصات الطب والقانون ،تبقى حكرا
عىل الفئات الرس تقراطية واملرفهة ،واليت متتكل رساميل مادية وثقافية ورمزية اليشء
الكثري ،بيامن نوعية الاساتذة اذلين يلجون لكيات العلوم والآدب ،فاإهنم ينحدرون من
أوساط شعبية ويف غالب الحيان فاإهنم اتبعوا دراساهتم الولية والاساس ية يف املدارس
العمومية عىل عكس الفئة الوىل."44ولتأكيد هذه املقوةل ،ميكن التوقفعند كتابه "الورثة"،
حيث نقرأ نفس املعطيات ،لكن هذه املرة ،تكل اليت ختص حظوظ أبناء الطبقات
الاجامتعية يف الوصول اإىل التعلمي العايل.
حيث توصل لك من "بورديو ،وابرسون" ،من خالل أحباهثام امليدانية ،اإىل منذجة
تتألف من أربع مس توايت:
-1الفئة غري احملظوظة ،واليت ل يس تطيع أبناؤها الوصول اإىل التعلمي العايل ،بنس بة
،100/5
-2الفئة املتوسطة ادلنيا ،أبناء املس تخدمني والعامل ،والصناع التقليديون والتجار الصغارـ
ترتاوح النس بة ما بني 10و،100/15
-3الفئات املتوسطة العليا ،تصل اإىل 100/30
43انظر يف هذا الصدد لدلراسة الهامة اليت أجنزهتا "املندوبية السامية للتخطيط" ،حتت عنوان" ،احلركية املدرس ية عرب
الاجيال"La Mobilité scolaire intergénérationnelle au Maroc, 2013, voir le site ( ،
،web,www.hcp.ma.وهذه ادلراسة تبني أنه "اإذا أخذان طفلني ،أحدهام لب مس تواه التعلميي مل يتجاوز الاساي
(الابتدايئ) ،وأآخر وصل أبوه اإىل مس توى التعلمي العايل ،فاإن حظوظ الثاين لولوج املس توى العايل تفوق حظوظ الول ب 69
ضعفا" (انظر ،رش يد جرموين ،املنظومات الرتبوية العربية بني مظاهر الزمة وحتداي املس تقبل" ،جمةل ،معران ،للعلوم الاجامتعية
والانسانية ،العدد ،10 ،اجملدل الثالث ،خريف ،2014 ،املركز العريب لالحباث ودراسة الس ياسات ،قطر ،بريوت ،ص.)91 ،
44
Pierre Bourdieu, Homo academicus, les éditions de Minuit, Paris, 2012, p p, 61-62-63-64-
65, avec quelques modifications.
31
-4الفئة الخرية ،ويه اليت تمتوضع يف الطبقة العليا واليت تمتزي بكوهنا متهتن املهن احلرة
الليربالية وتتقدل مس توايت من الوظائف العليا والسامية ،فاإن حظوظ أبناهئا –بطبيعة
احلال -تصل اإىل .45100/60
اإن ما يضفي جدة يف طرح "بورديووابرسون" هو كوهنام مل يقترصا عىل ما هو ميداين
واختباري يف تعزيز نظريهتام حول "اإعادة الانتاج" ،بل ذهبا بعيدا يف اس تخالص أمه
املقومات اليت يستند اإلهيا النظام احلامك او الطبقة املس يطرة يف "رشعنة" الامتيزات الطبقية،
وذكل عن طريق:
-1انتقاء اجامتعي بطريقة انمعة،
-2فرز طبقي وهو ما يظهر يف متكن فئات حمظوظة من احتالل مواقع رايدية يف اجملمتع،
-3الامتحان والهدف منه –بطبيعة احلال -هو إاضفاء الرشعية عىل الوضاع غري
املتساوية أصال.
ولعطاء فكرة عامة حول نظرية "بورديو ،وابرسون" ،ميكن الوقوف عند العنارص التالية:
"-1تقدم نظرية بورديو معطيات امبرييقية تؤكد أن اجملمتع الطاليب ليس حميطا متجانسا
من الناحية الثقافية والاجامتعية( .دراسة الاصول السوس يواجامتعيةللمبحوثني).
-2أسهمت النظرية يف الكشف عن دور املدرسة واملؤسسات التعلميية يف تدعمي اإعادة
الانتاج الاجامتعي وأوضاع عدم املساواة الاجامتعية والاقتصادية (الامر اذلي يشكك
يف مقوةل حيادية املؤسسات التعلميية ابعتبارها تعمل عىل اإنشاء جممتع ادجدارة-كام تقرر
الوظيفية ،يف اإطار تاكفؤ الفرص).
-3التأكيد عىل دور العوامل البنائية يف التحليل الرتبوي ،حيث أعادت تكل النظرية
«راس املال الثقايف» التحليل الرتبوي اإىل ماكنه الطبيعي من الإطار الس ياي
والاقتصادي والاجامتعي ،حيث كشفت النظرية عن الارتباط الوثيق بني الرصاع
الاقتصادي والرصاع الثقايف ومياكنزيمات العالقة بني الاس مترارية الاجامتعية والثقافية."46
45
Bourdieu et de Jean-Claude Passeron, « les héritiers… », op, cit, p p, 11-12.
46محدي أمحد ،م ،س ،ذ ،ص ص.128-127 ،
32
ما ميكن اس تخالصه من هذه النظرية الرصاعية و-اليت بصمت مبفاهميها وأطرها النظرية
ختصص سوس يولوجيا الرتبية ،حيث أهلمت العديد من الباحثني لس تلهام منوذهجا املعريف
يف فهم أوضاع الرتبية والتعلمي ،-هو أهنا نظرية انطلقت من مفاهمي املاركس ية ،مكقوةل
الرصاع ،ومعلت عىل جتديد أطرها النظرية ،حىت أصبحت تسمى ابلنظرية النيوماركس ية.
لكن ابلتأمل جيدا يف هذه النظرية ،يظهر أهنا وقعت يف نزعة سوس يولوجوية
" ،"Sociologismeأو ما ميكن تسميته جبربية صمنية ،وذكل لتجاهلها لالختيارات
الفردية وللعوامل احملايثة والسابقة عىل النشاط التعلمي ،ونعين بذكل العوامل الاجامتعية
والاقتصادية واملادية والثقافية ،واليت ترشط السلوك الانساين اإىل حد بعيد ،وتؤثر يف
اختياراته واسرتاجتياته .ولعل جزء من هذه الانتقادات ،هو ما دفع ابلباحث
السوس يولويج( ،راميونبودون ،)471973 ،من تأليف كتاب همم يناقش مسأةل الالتاكفؤ
يف الفرص ،لكن من وهجة نظر خمالفة ملا ذهب اإليه "بورديو" .فاإذا اكن هذا الاخري،
يؤكد عىل الطابع القهري للنسق الرتبوي يف اإدامة الامتيزات ،وإاعادة اإنتاج الوضاع
السابقة ،فاإن بودون من خالل معهل امليداين ،بني أن مسأةل الالمساواة أوسع من
املؤسسة التعلميية ،بل اإهنا تطال العديد من احلقول والنساق اجملمتعية ،اكلرسة والرشوط
الاجامتعية والاقتصادية اليت مير مهنا الفرد ،ويه اليت تؤثر عىل مساره التعلميي ،اإما
بتحقيق تريق اإجامعي أو العكس .وهو يرفض ذكل الربط املياكنييك بني الإرث الاجامتعي
( )héritage socialوالالمساوة يف التعلمي ،لنه يعترب مثل هذا التحليل قارصا عىل فهم
خمتلف ادليناميات والاسرتاتيجية الفردية وامجلاعية اليت تؤثر عىل املسار ادلراي
للشخص "48وهكذا ميكن القول" ،اإن التفاعل بني عامل داخيل للمدرسة (نوع معني من
الثقافة املدرس ية) ،وعامل خارج عهنا (نوع معني من الثقافة الارسية) ،يشلك مبدء
رئيس يا حلظوظ متفاوتة جدا يف النجاح أو الفشل ابلنس بة لي مس توى دراي ،تبعا
47
Raymond Boudon, « L’inégalité des chances : la mobilité sociale dans les sociétés
industrielles », Armand Colin, collection, U ,Paris, 1973.
وجبت الاشارة اإىل أن الباحث "الرشقاوي" وجه بدوره نقدا علميا لنظرية اإعادة الانتاج ولنظرية الالمساواة يف Ibid. p, 3.
48
33
لطبقة الانامتء الاجامتعي الاصيل ،وابلفعل فاملدرسة ل تسجل اختالفات متواجدة بصفة
قبلية حفسب ،بل تقوم بتحويلها اإىل تفاواتت دراس ية ،مبعىن أن هناك انتقاء اجامتعي."49
بغض النظر عىل املالحظات والانتقادات الكثرية اليت وهجت للنظرية املاركس ية أو
النيوماركس ية يف سوسويلوجيا الرتبية ،وبشلك خاص ،للمنوذج التفسريي اذلي حنته
"بورديو" (مفهوم اإعادة الانتاج) ،أو ملقوةل "الالمساوة يف التعلمي" لبودون ،فاإن ما هيمنا
يف هذه الطروحة ،هو اإبراز مدى صالحية هذه الامنذج التفسريية ،يف فهم كيفية حتمك
ادلوةل أو صانع القرار الرتبوي والس ياي يف بناء املناجه الرتبوية وتزنيلها يف املدرسة
العمومية ،مبا يتوافق مع الاختيارات الإيدولوجية والفكرية والعقدية لدلوةل .ولهذا فاإذا
اكنت مقوةل "اإعادة الانتاج" أو بصفة عامة الاطر النظرية للامركس ية ،وخاصة ما يتعلق
مبقوةل "الايديولوجية املس يطرة" ،تنطبق عىل بعض الامنذج الغربية يف س ياقاهتا
السوس يواترخيية اخلاصة ،ونقصد بذكل حتديدا توفرها عىل مرشوع جممتعي واحض املعامل
والرؤى واملواقف ،فاإن المر خمتلف متاما ابلنس بة للتجربة املغربية .اإذ لو اكن ملقوةل اإعادة
الانتاج" الصالحية التفسريية يف فهم خبااي املسأةل التعلمية ابملغرب ،ملا اضطر الفاعل
الرمسي يف مثانينيات القرن املايض( ،املكل احلسن الثاين) ،من اإدخال تغيريات جذرية عىل
النظام الرتبوي ،وذكل حبذف تدريس مادة الفلسفة يف الاسالك الثانوية ،وتقزمي
حضورها يف مجموعة من املعاهد وادجامعات املغربية ،بدوى أن هذه املادة ،اكنت من بني
الاس باب اليت غذت احلراك الاجامتعي وقيام انتفاضات شعبية يف مجموعة من املدن
املغربية .ولبراز هذا املعطى التارخيي ،يكن التوقف مليا مع هذا النص اذلي رصح به
(املكل احلسن الثاين) يف خطاب رمسي موجه للمة ،قائال :ليس أخطر عىل ادلوةل من
متصلب مثقف ،واكن من الوىل أن يبقى هؤلء أميني."50ولعل هذه احلادثة تبني جبالء
أن كثريا مما خيطط هل املتحمك يف مقاليد المور ،قد يتحقق وقد ل يتحقق .يف هذا
الس ياق ،فقد أوحض فامي قبل ،الباحث "حمسن" هذا المر وهو يناقش "مفهوم اإعادة
49غريب ،م ،س ،ذ.
50
NéjibBouderbala, « les classes moyennes comme moteur de l’ascenseur social :
l’hypothèse des classes moyennes », Prospective Maroc 2030, Actes du Forum 2,
permanences, changements et enjeux pour l’avenir( Rabat, Royaume du Maroc, Haut-
commissariat au plan), 2005.p.108.
34
الانتاج" ،قائال" :اإن النظام الرتبوي يف أي بدل ،وانطالقا من وظيفته الاجامتعية املعلنة
واملقصودة مكجال للتنش ئة والاعداد الاجامتعيني ،ابملعىن الواسع ملضمون التنش ئة
والاعداد ،ل بد وان يراد هل –بوعي أو بدونه ،علنا أو مضنا -أن يقوم بدور الاسهام يف
اإدامة وتأبيد التشكيةل الاجامتعية والاقتصادية القامئة ،ومنط الثقافة والايديولوجيا
السائدتني ،والنسق القميي املهمين برمته .اإل أن هذه الوظيفة ل تمت يف لك اجملمتعات
بكيفيات مامتثةل ،بل يرشطها منط السلطة القامئة ،والثقافة السائدة ،وخصوصية البناء
الاجامتعي احملدد مبا يتضمنه من عالقات وتفاعالت معينة".51
بيد أنه ابلرمغ من وجاهة هذا التحليل ،اذلي بسطه الاس تاذ "حمسن" حول قصور
مفهوم اإعادة الانتاج عىل تفسري الوضع الرتبوي ببالدان ،فاإن ذكل ل مينع من التأكيد عىل
مسأةل جد هامة –فامينعتقد -ويه أن ادلوةل أو اخملزن ،قام جبهود حثيثة لرتس يخ الوضع
القامئ وتأبيده وإاعادة اإنتاج نفس الاوضاع ،بدليل ما حاكه قيدوم الباحثني املغاربة "أمحد
شفيق" يف مذكراته ،عندما لكفه القرص املليك يف عهد احلسن الثاين ،ابإجناز دراسة
ميدانية حول مناجه التعلمي ابملدارس العتيقة .وقد معل (شفيق) بلك جدية وأمانة علمية يف
اإجناز تقرير يقدم صورة واقعية عن هذا التعلمي ،وبشلك خاص عن مضمونه وغاايته
وأهدافه .حيث توصل اإىل أن هذا النوع من التعلمي ،يسامه يف اإنتاج وإاعادة اإنتاج قمي
اخلنوع والتبعية والسلبية والقديرية ،وبشلك خاص ،يسامه يف ترس يخ نظام امللكية .وقد
اعترب الباحث أنه اإذا مل يمت تغيري هذه املناجه فاإننا –يف املغرب -س نفشل يف ركوب مسار
التحديث .لكن املفاجأة هو أنه ملا وصل هذا التقرير اإىل املكل ،فرح فرحا كبريا واعرتته
نشوة ليس بعدها نشوة ،وقال :فيطمنئ قليب عىل مس تقبل امللكية يف هذا البدل."52
اإن هذا الس ياق ،يبني أن مسأةل اإعادة الانتاج للقمي واملعتقدات والرؤى والتصورات
للكون ولذلات والاخر وللسلطة وادلميقراطية وحقوق الانسان وقمي املواطنة ...وغريها
35
كثري من املفاهمي اليت تروج يف املضامني واملقررات ادلراس ية واملناجه املس ترتة ،تعتورها
العديد من املفارقات والصعوابت وادجدليات اليت ل تتوفق.
فاإذا اكن البعض يبني أن هناك عالقة مياكنية بني بلورة مهناج تربوي ما وتطبيقه يف
املدرسة ،يعين حصول حتولت يف منظومة القمي عند التالميذ .فاإن البعض الآخر ،يرى
أن املسأةل مركبة وتتداخل فهيا عدة حيثيات وعوامل ظاهرة أو خفية واعية وغري واعية،
يه اليت ترشط السلوك الانساين ،وجتعهل يتخذ اسرتاتيجية ومسلكيات يف تبين وترشب
وتذويت (من التذاوت ،أي الاستبطان) هذه القمي أو تكل .ولعل ما جيعل من موضوع
أطروحتنا بعضا من الوجاهة ،هو كوننا س نحاول أو نبحث يف هذه الفرضية (مس توى
ومسلكيات ترشب قمي املواطنة) ومدى حتققها يف أرض الواقع.
رابعا :المنوذج الفينومينولويج ،حنو منوذج تفسريي أكرث مطابقة
اإذا اكنت الامنذج السابقة يف سوس يولوجيا الرتبية ،ادلوراكميي ،الوظيفي-البنيوي ،املاركيس-
الرصاعي ،قد قدمت اليشء الكثري لهذا التخصص ،وذكل عرب بلورهتا للعديد من املفاهمي
واملقولت والنظرايت التفرسية ،كام س بق رشحه .لكن ذكل مل مينع من بروز مجموعة من
الانتقادات الابس متولوجية اليت وهجت للامنذج السابقة ،لعل من أمهها ،هو تعاطهيا مع
الظواهر الرتبوية وغريها ،بنوع من الاخزتال وبشلك خاص ابلرتكزي عىل املقارابت اللكية
والتغايض عن ما يقع يف العلبة السوداء ونقصد هبا حتديدا (الفصل ادلراي) ،من
تفاعالت وديناميات ،يصعب دراس هتا انطالقا من رؤية مكية اإحصائية .وقد تظافرت
العديد من احليثيات –ليس اجملال مناس با للوقوف عندها -لكن ذكل ل مينع من الاشارة
الرسيعة ،اإىل أن النظرية " الفينومينولوجية ،شلكت بديال نظراي لجتاهات جعزت عن
الوفاء مبتطلبات السلوك الانساين وحتليل املعاين اليت ينطوي علهيا ،خاصة تكل
الاجتاهات املرتبطة ابلزنعات الوضعية والروافد املعارصة لها ،فهو اجتاه يعارض الاجتاه
المكي الاحصايئ ويتجه اإىل دراسة احلياة اليومية وعالقات التفاعل بني الفراد من وهجة
نظر الفراد أنفسهم وتقيميهم للموقف الاجامتعي اذلي يمت داخهل التفاعل .فالفينومينولوجيا
مدخل هيمت بوصف وحتليل املوضوعات كام تبدو يف وعي الفراد وصفا مبارشا يساعد عىل
36
اإدراك جوهرها وإادراك حقيقهتا ،فهيي توجه الاهامتم للفاعلني أنفسهم وللمعاين اليت يضفهيا
الفراد عىل واقعهم وحياولوا وصفها وتكويهنا داخل خرباهتم"53
ويعترب "ألفرد شوتز" » ،«Alfred Schutzمن بني الباحثني اذلين طوروا هذا
املقرتب ،حيث اهمت يف كتابه "الفلسفة الظاهراتية للعامل الاجامتعي"( ،)1972ابلتنظري
للمقاربة الفينومينولوجية.اإذ حاول أن يدرس الإنسان اذلي يعيش يف عامل لكه معاين ،أو ما
سامه "س ياقات املعىن" ،ويه مجموعة من املعايري اليت ننظم بواسطهتا مدراكتنا احلس ية،
وحنولها اإىل عامل ذي معىن وإاىل ذخرية من املعرفة ،وهكذا يصبح اهامتمنا عىل أفعال الوعي
وليس عىل الفعل يف العامل ،والعامل الإجامتعي هو يشء خنلقه سواي.54
وهذا يعين من الناحية املهنجية والنظرية ،تغيري الرباديغم التفسريي يف سوس يولوجيا
الرتبية ،فبعدما اكنت القضااي الكربى ذات الطابع العام والشمويل (كعالقة الرتبية ابلبناء
الايديولويج لدلوةل ،وببايق احلقول اجملمتعية ،أو الاهامتم ابلرتبية مكسأةل نسق يف عالقته
ببايق الانساق الاخرى ،أو ابعتبار املؤسسات التعلميية ،مكؤسسات لعادة الانتاج
وترس يخ الاوضاع الهمينة للطبقات املتحمكة ،)...فاإن التوجه ادجديد سريكز عىل قضااي
ميكروسوس يولوجية( ،اكلعالقات البينية داخل الفصل ادلراي ،مسأةل نقل املعرفة،
متثالت التالميذ ملادة دراس ية ما ،طريقة تقومي التالميذ من طرف الاساتذة ،)..واليت
تكشف عن الوجه اخلفية يف الظواهر الرتبوية .55وعليه ،فعىل خالف النظرايت
الوظيفية واملاركس ية ،اليت هتمت بتكل القضااي الاجامتعية الكربى ذات العالقة بني التعلمي
والنظم الاجامتعية الخرى ،هتمت الاجتاهات الفينومينولوجية ابلقضااي احملددة النطاق،56
53محدي عيل أمحد ،عمل اجامتع الرتبية ،م ،س ،ذ ،ص.173 ،
54اإاين كريب" ،النظرية الاجامتعية من ابرنسونز اإىل هابرماس" ،ترمجة ،م محد حسني غلوم ،مراجعة محمد عصفور ،سلسةل عامل
املعرفة ،عدد ،244سلسةل صادرة عن اجمللس الوطين للثقافة والفنون والآداب ابلكويت، ،1999. ،ص.150،
55وجب أن نسجل مالحظة نقدية عىل مجموعة من ادلراسات والحباث اليت تنجز حول الرتبية والتعلمي ببالدان ،واليت تفتقد يف
جزء مهنا ،لطر نظرية مامتسكة ،وإاىل مفاهمي سوسويلوجية معربة ،وخنص ابذلكر ،مدى الاس تفادة من املقاربة الفينومينولوجية
يف هذه ادلراسات .ولهذا اإذا اكنت من خالصة ميكن اس تخالصها من هذا التأطري النظري لطروحتنا ،فهيي استثارة الباحثني
لركوب هذه املغامرة الابس متولوجية مس تقبال.
56
Berger Peter, Luckmann Thomas, « la construction sociale de la réalité »,
Armand Colin(France), 2006.p.25.
37
وتركز بشلك مبارش عىل الداء داخل الفصل ادلراي"" .فاإذا اكن الاهامتم الاساس لعمل
اجامتع الرتبية القدمي قد انصب عىل قضااي أصبحت هامش ية يف اإطار فرع يتخذ من
اس تخدام املعرفة وإادارهتا جمال رئيس يا لالهامتم.
وميكن تلخيص أمه الاجتاهات النظرية يف التحليل الفينومينولويج اكلآيت:
-1التفاعلية :دراسة احلياة الاجامتعية يف الفصل ادلراي
"لقد ركزت التفاعلية دراس هتا عىل عالقة الفراد معا ،فليك نفهم سلوك الفراد جيب أن
يركز البحث عن الكيفية اليت يس تطيع هبا الفراد التحمك يف مواقعهم"
ويلخص "هربرتبلومر" القضااي الاساس ية للتفاعلية يف ثالثة قضااي:
-أ-القضية الوىل :أن الاكئنات الانسانية تسكل إازاء الاش ياء يف ضوء ما تنطوي عليه
هذه الاش ياء من معاين ظاهرة.
-ب-أن هذه املعاين يه نتاج التفاعل الاجامتعي للمجمتع الانساين.
-ج -يه أن هذه املعاين تتعدل وتتشلك خالل معلية التفسري والتأويل اليت يس تخدهما
لك فرد يف تعامهل مع الرموز اليت تواهجه.57
اإن هذه املقاربة ادجديدة واليت انبثقت عن التوهجات ادجديدة يف السوس يولوجيا
المريكية -،املسامة ابلتفاعلية الرمزية والفينومينولوجياالسوس يولوجيةوسوس يولوجيا املعرفة،
واليت جاءت كرد فعل ضد التوهجات البنوية الوظيفية وأيضا نظرية اإعادة الانتاج ،وذكل
ابلرتكزي عىل "العلبة السوداء" داخل املدارس ،واملتعلق ابملناجه واملعارف املدرس ية ،-اإمنا
تعكس يف العمق خمتلف الرهاانت والرهاانت املتعارضة بني النخب والاحزاب والهيئات
وادلوةل ومجعيات أآابء وأولياء التالميذ واملدرسني والإدارة وغريمه من املتدخلني
(الفاعلني)"58
ول ختفى أمهية هذا التخصص ادجديد واذلي جاء اس تجابة جملموعة من التحولت الرتبوية
واجملمتعية ،مما اس تدعى الاس تجابة لها من خالل بلورة مؤسسات أاكدميية تعىن بتتبع
57
محدي عيل أمحد ،عمل اجامتع الرتبية ،م ،س ،ذ.178 ،
58
Ali Boulahcen, sociologie de l’éducation, op, cit, p, 47.
38
الربامج واملناجه واملقررات ادلراس ية اليت مترر داخل املدرسة الربيطانية ففي س نوات 60
من القرن املايض.
يف هذا الاجتاه ،حاول الباحثون الفرنس يون اس تلهام هذه النظرية ،وتطبيقها يف املدرسة
الفرنس ية ،وذكل من خالل سؤالني أساس يني :س ياس ية وابس متولوجية
-1ما يه نوعية املعرفة اليت وجب أن تأمهنا املدرسة لنوعية خاصة من املواطنني ،هل يه
معرفة ترخس قمي املساواة أم تفرز خنبا جديدة؟
-2كيف ميكن للمقررات ادلراس ية أن تس تحرض التعدد املعريف وتس تجيب للتحولت يف
هذا التخصص؟
لقد أصبح هذا التخصص (سوس يولوجيا املناجه) منطلقا للعديد من ادلراسات املناطقية،
كام حصل يف الاحتاد الورويب ،حيث ابرش الباحث " "John Egglestonحبثا،
منطلقا من مجموعة من الفرضيات :مايه املتغريات الايديولوجية اليت وجب اس تحضارها
أثناء بناء املناجه؟ وهل هذه املناجه وجب أن تبقى حمافظة عىل الرتاث الثقايف أم أهنا
وجب أن تعكس التغريات والتحولت اليت تعرفها جممتعات أوراب؟ وهل املناجه وجب أن
تكون متضمنة ملقررات قارة وخمتارة ،أم أهنا تعكس قدرا من املرونة يف اختيار برامج
حسب الطلب الاجامتعي علهيا؟
-هل املهناج هو انعاكس للمرشوع اجملمتعي؟ أم هو مشوع للتغيري اجملمتعي؟
هناك ابحثني أآخرين من حتدثوا عن الكوريكولوم ،من حيث غاايته ،يف هذا الس ياق مزي
" "Mysgraveبني ثالث مس توايت للكوروكولمي ،ويه:
-كام هو (أي ما هو مبثوت يف املقررات وادلورس)...
39
-كام ينبغي أن يكون ليناسب التغريات الاجامتعية والثقافية.
-كام ينبغي أن يكون ليك حيدث التغريات الاجامتعية املتوخاة.
وكخالصة لهذه التوهجات الإجنلزيية اليت تبلورت مع ختصص سوس يولوجياالكولوكيلوم ،اإمنا
تس تلهم بشلك أو بأآخر املقولت الفيبريية ،واليت تؤكد أن "الرتبية تعكس يف العمق
الاجتاهات الثقافية للرشاحئ الاجامتعية املهمينة .59وجيب أنال ننىس أن املهناج يعكس
رصاعات خفية بني الاطراف املتحمكة يف السلطة ،أو أنه يعكس اتفاقا بني هذه
الاطراف ،حول ما هو نوع اخملرجات اليت نسعى لتحقيقها ،هل يه مامتش ية مع المنوذج
الاقتصادي؟ أ م مس تجيبة للتحولت العاملية.
بيد أن السؤال الاساس اذلي يطرح يف هذا السايق":اإذا اكنت التفاعلية تتخذ من
التفاعل أساسا يف دراس هتم للسلوك وللحياة الاجامتعية ،فكيف تدرس النظام التعلميي؟
"لقد أوحض التفاعليون أن التالميذ واملدرسني يقميون "أنساقهم ذات املعىن" أي طريقهتم
اخلاصة يف فهم بعضهم البعض من خالل توقعات ادلور ،فاملدرس حياول أن يفرض حتديده
للموقف بعابرة "أان املسؤول" ويبقى عىل التالميذ داخل الفصل أن يكتشفوا ما يريده
املدرس وما جيب أن يصدره .لقد أكدت ادلراسات عىل أن الطريقة اليت يدرك هبا
املعلمون تالميذمه ،أو الصورة ،60اليت يصدروهنا عهنم لها تأثري يكون يف كثري من
الاحيان أكرب من تأثري الطبقة اليت ينمتون اإلهيا او اخللفية الرسية هلم ،عىل أن هذا ليعين
حمو تأثري الطبقة الاجامتعية مكصدر مؤثر عىل الطالب يف حتصيلهم وتكيفهم ،لكنه تعميق
تفصييل لتأثري الطبقة وما يصاحبه من عوامل تزيد حدته أو ختفف منه ،فاإذا اكن املعلمون
يعتقدون أن أبناء الطبقة العامةل أقل قدرة عىل التعمل من غريمه من أبناء املثقفني ،مفعىن
هذا أن أبناء الطبقة العامةل مقدر علهيم أن ل ينالوا أي شعور ابلرضا خالل اإجنازمه
املدري ويؤدي اإحباطهم اإىل فشلهم".
59
Ibid.p.49.
60محدي ،م،س،ذ ،صص.184-183 ،
40
اإذا اكن البعد الول ،قد اهمت داخل الاجتاهات الفينومينولوجية ،بدراسة التفاعل
وديناميته داخل الفصل ادلراي ،وبتفكيك املقولت واملفاهمي املس تخدمة داخل الفصل،
وذكل يف ضوء القواعد املمزية للوعي والشعور ،فاإانلبعد الخر لهذا الاجتاه اذلي انطلق
أيضا من ادلراسات الفينومينولوجية جاء مركزا أساسا عىل املعرفة الرتبوية ،مفا ذا يقصد
هبذا املفهوم؟
"غدت قضية مضمون املعرفة الرتبوية واملفاهمي ادلراس ية وأساليب التقومي ،واليت ظلت
لفرتة طويةل قضااي هامش ية يف معادجات عمل اجامتع الرتبية الالكس ييك ،حمورا أساس يا من
حماور ادلراسة يف عمل اجامتع الرتبية ادجديد .وتشلك هذه القضااي ومنوذهجا املعريف البنايئ
يف ارتباطها بتوجهيات الاجتاهات الفينومينولوجية اليت هتمت بتبادل ممارسات احلياة اليومية
يف املؤسسات التعلميية."61
وإاذا اكن من مالحظة ميكن اس تجالؤها من هذا البعد املعريف ،فهو أننا يف أطروحتنا
هذه ،س ننشغل بشلك أساس حول مضمون املعرفة املدرس ية عرب الكشف عن مدى
حضور قمي املواطنة يف مقررات ومناجه التعلمي ابملغرب ،ومدى متثلها من طرف املتعلمني.
وذلكل فالوقوف عند هذا املس توى يبدو وجهيا من هذه الناحية .لكن جيمل بنا قبل
الانتقال اإىل مس توى أآخر من التحليل ،أن نعرج –ولو يف حدود معينة -اإىل احلديث عن
نشأة هذا التخصص داخل النظرية الكربى ،ويه الفينومينولوجيا ،فكيف ميكن توضيح
ذكل؟
"ارتبطت نشأة هذا الاجتاه من الاجتاهات الفينومينولوجية يف أوائل الس بعينيات من
خالل النظرية اليت طرهحا "مايلك يوجن" واليت تؤرخ ظهور ما عرف ابمس عمل اجامتع
الرتبية ادجديد واذلي ربطه بعمل اجامتع املعرفة .ويعد كتاب "يوجن" "املعرفة والضبط"
( )1971مجموعة من املقالت اليت حاولت أن تفرس وحتلل مشالك النظام التعلميي كام
تعرف علهيا رجال التعلمي ،ويدعو اإىل معاودة النقاش والنقد يف لك الاقوال واملسلامت
والفاكر ادجاهزة"
61
نفسه.
41
ومن بني الفاكر املهمة اليت عرب عهنا "يوجن" يف نظريته ،يه مسأةل اعتباره الرتبية "ليست
ميداان لنتاج السلع ولكهنا جمال لنتاج وتنظمي املعرفة يف زمن معني يتضمن اختيارات
واعية وغري واعية ،كام يعيب عىل ادلراسات السائدة يف جمال املناجه معادجهتا ملا يمت تعلمه
داخل املدرسة ل يشلك أي مشلكة تربوية ،فهذا الاجتاه يعكس يف رأيه ،الاعتقاد
الشائع يف "موضوعية املعرفة املتضمنة يف املناجه" ويف واقع المر فاإن هذه املعرفة تتكون
اجامتعيا واترخييا وفقا للس ياق الاجامتعي والزمين احمليط هبا ،ويؤدي اإغفال التحليل
الاجامتعي للمعرفة الرتبوية اإىل اعتبار دور "املهنج" يف حتقيق التاكفؤ الاجامتعي دورا
اثنواي."62
وميكن اإجامل تلخيص أمه الفاكر اليت جاء هبا "يوجن" ،حيث بني أن العالقة بني
التدرج الاجامتعي وتصنيف املعرفة ،تكل العالقة ،ترتكز حول ثالث قضااي أساس ية:
العالقة بني بناء القوة واملهنج -كيف تتشلك املعرفة؟ -مث معرفة وظائفها يف المناط املتباينة
للمجموعات.
"وبوجه عام ،فاإن نظرية "يوجن" يف تصنيف املعرفة القامئة عىل عمل اجامتع املعرفة تطرح
ثالثة أس ئةل:
-1كيف يمت –يف اجملمتعات اخملتلفة -اإضفاء قمي اجامتعية عىل امليادين والاجتاهات اخملتلفة
للمعرفة ووفقا لية معايري؟ وبطبيعة احلال تتطور هذه املعايري يف اإطار اترخيي اجامتعي
حمدد.
-2كيف ميكن تفسري ارتباط املؤسسات الرتبوية ومعليات ضبط احلصول عىل املعرفة بنظام
املؤسسات الس ياس ية السائدة ابلس تعانة ابلسس واملعايري املس تخدمة يف تطبيقها؟
-3ما اذلي ميكن اعتباره معرفة مدرس ية؟ وملاذا تعترب املعرفة املدرس ية هامة وبعضها أقل
أمهية؟
62
نفسه ،ص.186 ،
42
"واخلالصة أن نظرية "يوجن" يف دميقراطية املهنج تقرر أن املعرفة املتضمنة يف املناجه
املدرس ية تشلك اختيارات ثقافية واعية أو غري واعية تتطابق مع القمي واملعتقدات دلى
امجلاعات الاجامتعية القامئة يف زمان حمدد."63.
ل نبالغ اإذا قلنا بأن المنوذج التفسريي الفينومنولويج ،يقدم تصورا جديدا لقضااي الرتبية
والتعلمي ،اإذ أن الرتكزي عىل مس توى التفاعالت اليت حتصل يف الفصل ادلراي بني
املدرس واملتعلمني ،تعد يف نظران ذات قمية معرفية هامة .لن املرحةل احلامسة اليت يمت فهيا
بناء ادلرس ،تمت داخل "العلبة السوادء" ،وكثري من الامنذج التفسريية يف سوس يولوجيا
الرتبية ،ل تس تطيع أن تصل اإىل ما يعمتل يف الفصل ادلراي ،نظرا لن املقارابت المكية
يف السوس يولوجية ،تقدم لنا معطيات وأرقام لكهنا صامء .بيامن املقاربة الفينومنولوجية واليت
تركز عىل كيفية صنع املعىن بني خمتلف املتدخلني يف العملية الرتبوية ،تبقى مغيبة أو
هامش ية يف أحسن الحوال.
وإاذا اكن البعد الول يكتيس أمهية ابلغة ،فاإن اس تحضار البعد املعريف ،ويه الطريقة اليت
من خاللها يمت اإنتاج وإاعادة اإنتاج املعرفة ،يبقى بدوه حاسام يف اإكامل الصورة عن الوضع
التعلميي برمته .ذكل أن معلية نقل املعرفة أو بناهئا ،ليس ابلمر الهني ،فهو يدخل يف
ختصصات متعددة ومتنوعة ،مهنا البيداغوجيا .لكن املقاربة الفيمنينولوجية–واليت طورها
الباحثون املنتس بون لهذه املدرسة -تبقى ذات اإضافة نوعية بلك تأكيد.
ولعل هذا املقرتب جيران للحديث عن نوعية العالئق اليت جتمع هذا التخصص
بتخصصات أخرى حمايثة هل ،كسوس يولوجيا الثقافة ،يف هذا الس ياق يتحدث (حمسن)،
عن ذكل قائال" :مبا أن املقاربة السوس يولوجية للثقافة أو اخلطاابت املدرس ية ترتبط ،يف
مفاهميها وتوهجاهتا النظرية واملهنجية ،بسوس يولوجيا الثقافة بشلك عامsociologie de :
،la cultureوأيضا بسوس يولوجيا الرتبية بشلك خاص sociologie de
،l’éducationفاإنه من املفيد أن نعرف ،هنا ،هبذين اجملالني السوس يولوجيني املتداولني
يف حتليل النساق الثقافية والرتبوية .وذكل متهيدا لإعطاء منظور أويل عام حول شلك
63
نفسه ،ص.189 ،
43
حضور الثقافة املدرس ية يف البحث الرتبوي ابملغرب ،منطلقني من الإطار السوس يولويج
اذلي نعمتده ،ومركزين عىل املالمح الكربى لمناط البحث الرتبوي اذلي اهمت بتحليل هذه
الثقافة".64
وإاضافة يف التوضيح ،فاإن مفهوم الثقافة" ،يصف الفاكر واملعتقدات والقمي الراخسة يف
وجدان الفراد ويف الطريقة اللكية حلياة امجلاعة اليت ينمتون اإلهيا .ولكن تتضارب أحياان
الطرق الراخسة يف فهم العامل مجلاعة ما مع طرق جامعة أخرى ،ما يؤدي يف معظم الحيان
اإىل العنف والقتل .ذلكل فالثقافة ابلغة المهية يف الشؤون الانسانية" ...،ل ترتبط
القضااي الثقافية ابلعدائية واملعارضة دامئا ،فهيي ترتبط ابلنسجام النس يب وعالقات التعاون
بني البرش أحياان .فالعوامل الثقافية مثل الفاكر واملعتقدات والقمي يه اليت حتدد هوية
الفرد وخشصييته . "65أوليس البعد الثقايف والقميي هو رهان الفرس يف المنوذج التفسريي
الفيمننولويج؟
رغبة منا يف حماوةل اس تجالء بعض العنارص اخلاصة هبذه املقاربة ،ميكن الاشارة اإىل دور
املدرس يف املنظومة التعلميية .فال شك أن"من بني أمه الدوار اليت تضطلع هبا هذه الفئة،
يه املسامهة يف نرش العمل واملعرفة وحتقيق املقدرات الالزمة ملواهجة التحدايت املعرفية
والتكنولوجية والتقنية اليت تواجه العديد من التجمعات البرشية ،هذا ابلإضافة اإىل أن
أخطر ما يتحمهل املدرسون ،وهو معلية نقل وإاعادة نقل القمي اجملمتعية من جيل لآخر."66
و"لشك أن لك اجملمتعات واعية هبذين التحديني الذلين يواهجان البرشية الآن :التحدي
املعريف والقميي ،اإل أن اس تجابة ادلول ختتلف من بدل اإىل أآخر ،حبسب درجة وعي
اجملمتعات ابلهتديدات اليت بدأت حتلق منظوماهتا املعرفية والقميية" .ولهذا فاإذا اكنت
الفيمننولوجيا تركز عىل التفاعل ،فأول تفاعل يقع بني التالميذ واملدرس ،يرتكز أساسا عىل
64
حمسن ،م ،س ،ذ( ،املسأةل الرتبوية) ،ص.130 ،
65ديفيد اإنغلزي ،جون هيوسون ،مدخل اإىل سوس يولوجيا الثقافة ،ترمجة ،ملا نصري ،املركز العريب لالحباث دراسة الس ياسات،
قطر ،بريوت ،2013 ،ص ص.15-14 ،
66رش يد جرموين( ،املدرسون وحتدايت جممتع املعرفة) ،جريدة ،هيسربيس الالكرتونية ،انظر املوقع
التايل ،www.hespress.com/writers/90829.html:اترخي الاستشارة.2015/07/12 ،
44
مدى وعي هذا الخري حبجم التحولت اليت يعرفها احلقل الرتبوي ،واليت حددها الباحث
(جرموين) يف مسألني :التحدي املعريف والقميي ،فكيف يرشح الباحث ذكل؟
"جيب الاعرتاف أول أن همنة التدريس تزداد يوما عن يوم تعقيدا وتركيبا ،ليس فقط يف
جممتعاتنا العربية والإسالمية ،بل حىت يف ادلول الغربية والس يوية ،وغريها من الشعوب
واحلضارات .فالتحدايت النامجة عن التحولت العميقة اليت تقع يف عامل املعرفة ومس تجداهتا
ورهاانهتا ،بدأت تفرض نفسها لتطوير أداء املنظومات الرتبوية ،لتكون أكرث ابتاكرا
وجتديدا وإاحداث النقالت النوعية املطلوبة .لن جممتعات املعرفة اليوم ،تعمل عىل
التوظيف اذليك للتقنيات التكنولوجية العالية ادجودة ،اكلتعلمي عن بعد ،والاعامتد عىل
اخملتربات امجلاعية ،وأيضا تقنيات التعلمي اليت تركب الفضاءات الافرتاضية ،وإانشاء
ش باكت التعلمي املتجدد ،وغريها من املؤهالت اليت يفرتض أن يكون املدرسون أقدر عىل
توظيفها يف همنهتم املركبة ."67مبعىن أآخر اإذا اكن التحول املعريف اذلي شهده اجملمتع املعارص،
منذرا بتحول يف براديغامت الفهم والتلقي والبناء والرتكيب والتحليل ،فاإن ادلور الكرب يقع
عىل أمه فاعل يف املنظومات الرتبوية وهو املدرس.
ويضيف الباحث (جرموين) ،أن التحدي الثاين ،القميي ل يقل أمهية عن الول ،حيث
يؤكد يف هذا الصدد" :عالوة عىل التحدي املعريف ،هناك حتدي ل يقل أمهية عنه ،وهو
املمتثل يف الإشاكلية القميية ،وذكل ابلنظر اإىل معق التحولت اليت هزت العامل ،وبشلك
خاص ،جممتعاتنا العربية ،فصدمة التحديث وقرسيته ورسعته ،خلقت جفوات حقيقية بني
الجيال .وليك نعطي مثال حيا عىل نوعية هذه التحولت القميية ،اليت دامهت جممتعاتنا –
واليت ل نعهيا حق الوعي -مسأةل احلرية ،فالكثري من املدرسني يعانون الآن يف فصوهلم
بسبب تغري يف العقليات واملسلكيات والاجتاهات اليت حيملها التالميذ والطلبة ،فاإذا اكن
جيل المس (الس بعينيات أو ما قبهل) يعترب أن سلطة املدرس من سلطة الب ،وأن
جناح العملية الرتبوية رهني بوجود السلطة الرتبوية ،فاإن جيل التسعينيات واللفية الثالثة،
مل يعد يستس يغ مثل هذه الفاكر ،ولهذا فهو ل يقبل بوجود سلطة تربوية كيفام اكنت،
67
نفسه.
45
ولعلين أجازف (نظرا لغياب دراسات علمية حول املوضوع) ،بكون أغلب حالت العنف
اليت تقع يف املؤسسات التعلميية ،مردها لهذه الفجوة القميية اليت حدثت –وفق رشوط
موضوعية -لكن مع لك أسف ليس هناك وعي اكف هبا ،مما خيلق نوعني من الردود،
الكهام غري جمد ،احلنني اإىل ماض مالئيك (الطاعة العمياء) ،أو فسح اجملال حلرية أوسع،
اليشء اذلي يعيق معلية تدبري الفصول ادلراس ية وضامن سري العملية التعلميية ابلشلك
املطلوب."68
لكن السؤال اذلي يطرح يف هذا الصدد ،ما يه مس تتبعات هذين التحديني؟ وهل
ميكن القول اإن المنوذج الفينومنولويج يصلح كآلية للتفسري ولفك السحر عن الظاهرة كام
يقول السوس يولوجني؟
جييب الباحث (جرموين) قائال :اإذا ما حاولنا أن نفرس بعضا من مس تتبعات هذين
التحديني :املعريف والقميي ،عىل سلوك املدرسني ابملنظومة الرتبوية ابملغرب ،فاإن بعض
املعطيات املتوفرة –سواء من خالل حبوث أو اسقصاءات أو ما اإىل ذكل -تسمح لنا
بتشكيل صورة-ولو جزئية -عن واقع همنة التدريس ببالدان .فاإذا ما أخذان طريقة التدريس
مثال ،جند أن أغلب التقارير (سواء الوطنية أو ادلولية ،) 69تتحدث عن وجود حاةل من
العجز والعقم يف معلية اإنتاج وإاعادة اإنتاج املعرفة ،فالغالب يف ممارسات هذه الفئة ميلها اإىل
احللول السهةل والساذجة.حيث يطغى الإمالء والرسد واحلشو بدون فائدة ،وتقل فرص
النقاش وبناء املفاهمي وتدريب التالميذ عىل وضعيات حيرض فهيا اذلاكء واليقظة املعرفيني.
ولهذا فقوةل املفكر الإيطايل "غراميش" تنطبق عىل هذه الفئة ،عندما اعتربها كعينة من
املثقفني التقليديني ،اكلكهنة واملوظفني التنفيذيني اذلين يواصلون فعل الش ياء نفسها من
68
نفسه.
69
Voir à ce propos, le rapport suivant :les clés du succès des systèmes
scolaires les plus performants, Mckinsey and Company, septembre,
2007.http://www.mckinsey.com/App_Media/Images/pages_Images/offices/soci
alsector/PDF/How worlds best performing French.PDF.
46
جيل اإىل أآخر" ،أو كام سامها بورديو ،هبابيتوس" أي العادة " .يه اليت تتحمك يف هذه
الفئة ،ولهذا ترامه يكرهون ادجديد يف املسلكيات واملهنجيات وتغيري املقررات وايقاعات
ادلراسة ،أو تكثيف الزايرات الرتبوية ،أو احلضور للتكوينات اليت تقام بني الفينة
والخرى ،...اإىل غري ذكل من املظاهر السلبية ،واليت تكشف اإىل أي حد ،يصبح ادجسم
التعلميي ،هو الكرث ختلفا عن الركب ،بعدما اكن املأمول منه هو قيادة التحولت واقتحام
العقبات وختطي الصعاب( .طبعا ل ميكن أن حنمل مسؤولية هذا الوضع ،للمدرسني
وحدمه ،فالمر أكرب من ذكل ،اإذ هيم من بني ما هيم الرشوط اجملمتعية لإنتاج وإاعادة اإنتاج
هذه القمي)."70
اإن هذه الوقفة مع هذا التحليل اذلي توصل اإليه الباحث (جرموين) ،يبني مدى أمهية
التسلح ابملقارابت النظرية السوس يولوجية لفهم جزء مما يعمتل يف النسق الرتبوي .وحنن
بدورها مل يكن عرضنا للنظرية الفينومنولوجية ،من ابت الرتف والتأثيت واحلشو الزائد،
بقدر ما هو اختيار مهنجي واع ومقصود هبدف وضع الإشاكلية والفرضيات اليت ننطلق
مهنا يف هذا البحث يف قالب تأطريي مامتسك –حسب ما نعتقد.-
خامسا :الاجتاه النقدي ،رؤية نقدية لوضاع التعلمي
ابلرمغ من القمية التفسريية للامنذج التفسريية اليت سقنا أآنفا ،فاإن الانفتاح عىل الطر
النظرية احلديثة واليت شلكت منعطفا ابس متولوجيا يف اترخي السوس يولوجيا ،يعد –يف
نظران -أمرا ملحا .وعليه ،فقد اس تقر رأينا –بعد قراءات متنوعة ومكثفة جملموعة من
املراجع ،أن نس تلهم التوهجات ادجديدة يف مدرسة فرانكفورت ،واليت أعطت مفاهمي
وأطر نظرية جديدة لفهم الظاهرة الرتبوية يف مشوليهتا وتشاباكهتا وأبعادها العالئقية .يف هذا
الس ياق ،نتوقف أول عند الاس باب التارخيية مليالد هذه املدرسة ،مث بعد ذكل نعطي حملة
عامة عن مقوماهتا يف عالقة ابلظاهرة الرتبوية.
70جرموين ،م،س،ذ.
47
فقد شلكت "الانتقاضات الاجامتعية والتحولت اليت عرفهتا أوراب والولايت املتحدة
والانتفاضات الطالبية ...بروز النظرية النقدية عرب مدرسة "فرانكفورت" "71والواقع أن
النظرية النقدية تنطوي عىل مدلولني متالزمني ،يشري املدلول الول اإىل ذكل الراكم
النظري اذلي خلفه الفالسفة واملنظرون اذلين ينمتون للمدرسة السابقة ،أمثال "اريك
فروم" و"هربرمتاركيوز" "وتيودور أدرنو" و"هربماس" فهيي وإان اكنت ل تعرب بأي حال
من الحوال عن فلسفة واحدة منشقة ،اإل أن لك فالسفة النظرية النقدية ،قد انطلقوا يف
تنظرياهتم من الإطار الفكري للنظرية املاركس ية حيث تركز نشاط أولئك الفالسفة عىل
حماولت فردية لعادة النظر يف مفهوم "حترير الانسان" .أما املدلول الثاين ،فيتصل ابلنقد
اذلايت الواعي اذلي يقود اإىل التغيري الاجامتعي وحترير الانسان ،حيث أكدت املدرسة
أمهية التفكري النقدي لعتباره أساسا جوهراي لزما لتحقيق التغري الاجامتعي. "72
يقربنا الس ياق السوس يواترخيي مليالد مدرسة فرانكفورت ،من مجةل أمور:
أولها :أن النظرية قامت لرد الاعتبار للفاعل الانساين يف مواهجة اتمة للك ما ميكنه أن
يشيئه لوعي أو بدونه .فاملالحظ هو الزنعة الوضعية اليت س يطرت عىل الاجيال
السوس يولوجية ،خلقت ترااث يف التعامل مع الظواهر الاجامتعية بنوع من العلموية الفجة،
اليشء اذلي أفقد هذه الظواهر الكثري من اإنسانيهتا ودللهتا العميقة .ولهذا اكنت هذه
املدرسة كجواب نقدي عن الوضع القامئ ،خصوصا يف حقل الرتبية املفعم ابلنسانية
وابملعاين.
اثنيا :اإضفاء بعد اترخيي يف حتليل الظواهر الاجامتعية –مبا فهيا الظاهرة الرتبوية ، -اإذ
احلاصل مع النظرايت السابقة ،خصوصا ذات النفس الإمربيقي الاخزتايل ،أهنا ويه
تدرس خمتلف الظواهر ،تتغافل –بوعي او بدونه -عن اس تحضار خمتلف الس ياقات
السوس يواترخيية اليت تفعل فعلها يف الظاهرة .مفثال ل ميكن فهم مكوانت اخلطاب الرتبوي
71ميكن اعتبار البداية الفعلية لهذه املدرسة س نة ،1924حيث مث اإنشاء معهد البحوث الاجامتعية مبدينة فرانكفورت الملانية،
عىل يد ثةل من الباحثني :أدورنو ،هواكمير ،ماركيوز (ادجيل الول) ،أما ادجيل الثاين( ،هابرماس) .وقد طور هؤلء الباحثون
براديغام نقداي جديدا ملقاربة الظواهر السوس يولوجيةوالسوس يوس ياس ية وغريهام من الظواهر .انظر للمزيد حول هذه املدرسة :توم
بومتور ،مدرسة فرانكفورت ،ترمجة ،سعد جهرس ،دار أواي ،طرابلس ،ليبيا ،بريوت ،لبنان.2004 ،
72
حمدي علي ،م ،س ،ذ ،ص.190 ،
48
اليوم ابملغرب مكثال ،اإل ابلرجوع اإىل استنطاق الوقائع السوس يواترخية اليت تفاعلت
وأثرت بشلك مبارش عىل مورفولوجيته.
اثلثا :اس تتباعا ملا س بق ،فاإن ما ميزي مدرسة "فرانكفورت' ،هو طابعها النقدي ،واذلي ل
يعين النقد كام يفهم يف احلس املشرتك ،بل اإن النقد يتخذ أبعادا مشولية ،عندما يذهب
بعيدا يف حفص وتقليب أوجه النظر يف خمتلف زوااي النظر .وللتوضيح أكرث ميكن التوقف
مع التحليل اذلي طرحه الباحث 'جاك قباجني" عندما حاول ان يفهم ملاذا فاجئت
الثورات العربية النخب العلمية والس ياس ية والااكدميية؟ مقدما جوااب نعتقد أنه يتسم بنوع
من احلس النظري السوس يولويج املرهف ،حيث يقول" " :فالنظر العلمي يف هذه احلاةل
هذه وهجته فكرة اس تقرت طويال يف ذهن واضعي الس ياسات يف مراكز الس يطرة
العاملية ،ويه اليت متثلت بأولوية الاس تقرار عىل التغيري ،اس تقرار يسمح ابس مترار
التوازانت الاقلميية الكربى( عىل صعيد الرصاع العريب الارسائييل وتأمينا ملصادر النفط
وإامداداته مثال) يف ما يتصل بأولوايت الولايت املتحدة المريكية وأوراب ."73...ويرجع
الباحث السبب يف حصول هذا التحول العلمي يف
الرباديغاملسوس يولوجيوالسوس يوس يولويج ،ابلتأثر الامعى بنظرية "فيرب" دومنا القدرة عىل
التدقيق النقدي جململ تصورهتا ومفاهميها ومدى صالحيهتا للس ياق اذلي تنقل اإليه.
وينهتيي الباحث يف نقده للمجموعة العلمية يف الوطن العريب ،اإىل اإغفالها البحث يف
"ادليناميات والقوى الاجامتعية والرصاع الاجامتعي خارج نطاق التعارض بني السلطة
والنخب" .ويتحرس الباحث –مرة أخرى" ، -أنه ملاذا غابت مشالكت اكنت حارضة يف
اهلم البحيث يف س تينيات وس بعينيات وبعض مثانينيات القرن املايض ،عىل الرمغ من أن
الرشوط التارخيية اليت أفرزهتا ما زالت قامئة ."74اإن هذا املثال اذلي اس تحرضانه يف
س ياق حتليل أمه مرتكزات النظرية النقدية ،يأيت لتقدمي توضيحات اإضافية عن طبيعة
النقد اذلي تتخذه املدرسة مكرتكز أساي يف دراس هتا ،ويف تناولها للظواهر الاجامتعية
بصفة عامة.
73جاك قباجني ،ملاذا فاجأتنا انتفاضتا تونس ومرص ،م ،س ،ذ ،ص.12 ،
74نفسه ،ص.13 ،
49
رابعا :اإذا اكن النقد –كام يتبدى يف التحليل السابق -ذو منحى ابس متولويج ،فاإنه يتخذ
أبعادا "حتزيية ،"75ولهذافاإهنذا النقاش هو اذلي س يدفع يف اجتاه اإعادة النظر يف الرباديغم
احلامك للنظرية الوضعية وملسلامهتا ولفرضياهتا ،فالنظرية املاركس ية وجدت نفسها يف مأزق
تفسريي كبري ،حيث أن احلياد أو املوضوعية ادجامدة والتخيل عن القمي قد يؤدي اإىل
ضياع حقوق الطبقات الاكدحة واملضطهدة ذلكل دعت اإىل "حتزي قميي اإديولويج" .فاكرل
ماركس "وبعض املاركس يني املتأخرين ،وأيضا ابيق أصناف علامء ادجناح اليساري ،يبحثون
عن اجملموعات اليت يكون منظورها اخلصويص أكرث قدرة عىل الكشف،revealing
ومينح ولوجا امتيازاي privilegedللحقيقة حول اجملمتع .وبعبارات أخرى :بدل من تأكيد
الكونية ،فاإهنم يؤكدون بعض ،ما ميكن افرتاضه عىل أنه خصوصية منفتحة .وقد متخض
هذا الوعي عن وجود مقرتحني .الول يعمل عىل فضح مواقف املهمينني ،اذلين ميارسون
المتيزي والظمل ضد الطبقات الاكدحة ،حيث يعري debunkأيديولوجياهتم .أما التوجه
الثاين فقد س بق أن عرب عنه الرتاث الالكس ييك منذ ماركس نفسه ،ومتت بلورته بشلك
أكرث وضوحا ،من طرف جورج لواكش Georgy Lukacsيف كتاب"التارخي والوعي
الطبقي " ، (Lukacs 1971( History and Class Consciousnessعندما
اعترب أن عىل عامل الإجامتع ،أن يتبىن وهجة نظر الربوليتاراي .وأعضاء هذه الطبقة ،اذلين
مه الكرث اضطهادا ،واس تغالل ومزنوعي الإنسانية يف النظام الرأساميل " ليس دلهيم ما
خيرسون ما عدا ترابطهم" كام وضع ذكل ماركس واجنلز يف البيان الش يوعي (Marx and
75رمغ أن التحزي مرض بعملية الفهم يف الظواهر السوس يولوجية ،لكننا نس تخدمه هنا مبعىن اختاذ مواقف من القضية الاجامتعية
لبعض الفئات ولبعض الطبقات ولبعض الايدولوجيات واملذهبيات اليت حتتاج اإىل س ند علمي يف مراحل من سريورهتا التارخيية،
انظر يف هذا الصدد ،ل :محمد مصباح ،العودة اإىل القمي يف النظرية السوس يولوجية"PiotrSztompka, THE RETURN ،
TO VALUES IN RECENT SOCIOLOGICAL THEORY, In Peter Hedstrom, Bjorn Wittrock
(edited by), Frontiers of sociology, 2009, (Annals of the International Institute of Sociology,
11), Leiden.
( ،2013لبنان) (،21-خريف وش تاء ، - 2012 ،اجملةل العربية لعمل الاجامتع ،العددان(20،اإضافات)ترمجة محمد مصباح )
50
،CommunistManifesto)Engels 1848/1998إاذن فهم ل ميتلكون أي مصلحة
يف اإخفاء حقائق الواقع الإضطهادية.76
بعدما حاولنا أن نقدم بعض التصورات واملرتكزات النظرية اليت انبىن علهيا المنوذج
النقدي ،نتساءل كيف وظف هذه املفاهمي والطروحات يف الاقرتاب من الظاهرة الرتبوية
يف اجملمتعات املعارصة؟
عندما ننتقل" ،اإىل مفهوم النظرية النقدية ورؤيهتا للنظام الرتبوي يف اجملمتع ،فاإننا جند يف
البداية اهامتما ابلغا يربط الرتبية ابملصا ح الاجامتعية والاقتصادية ،فاملعرفة العلمية تنشأ
وتتكون اجامتعيا وترتبط من حيث يه كذكل –ابملقاصد والغاايت الانسانية -اإن مفهوم
املعرفة كتكوين اجامتعي للتالميذ يف املدارس تنطوي عىل اإماكنية اس تخداهما كتربير،
وحمرر متكن اس تخداهما يف توضيح املصا ح الاجامتعية والس ياس ية ،رمغ ما يبدو علهيا من
خلو من قمي."77
وتسعى النظرية النقدية يف املقام الول ،اإىل حترير الانسان من القهر اذلي متارسه النظم
الرتبوية يف اجملمتع.
يف هذا الس ياق النظري واملفاهميي ،ميكننا قراءة بعض العامل اليت صدرت متاهيا مع هذا
التوجه ،نذرك عىل سبيل املثال ل احلرص ،أعامل "اإيفان ايليتش" وادلاعي اإىل جممتع بدون
مدرسة ( .)Deschooling78Societyولعل الفكرة ادجوهرية اليت طرهحا هذا الباحث،
تمتثل يف كونه يرى "أن املدرسة اليوم ،ابعتبارها مؤسسة تربوية حتولت يف لك اجملمتعات
بدون اس تثناء اإىل أداة تطويع تسلب الانسان لك أسلحته اليت متكنه من احلياة احلرة
الكرمية ،لتجعل منه اكئنا بال إارادة وبال اختيار يقبل لك ما يعرض عليه يف سلبية وجعز
اتمني .وهكذا تتحول املدرسة من مؤسسة منوط هبا يف الاصل أن تمني الافراد وتعدمه
لتحمل مسؤولية اجملمتع يف املس تقبل اإىل أداة تعرقل هذا المنو وتسزتف طاقات اجملمتع ل
80 79
لتحقيق أهدافه ،وإامنا لتحقق نتاجئ سلبية ،تناقض وأهداف املدرسة ".
76مصباح ،مرجع سابق الذكر،ص.18،
77
حمدي علي ،م ،س ،ذ ،ص.191 ،
78
مما يالحظ على بعض الكتابات االتربوية باللغة العربية المغربية تحديدا ،هو أنها عملت –بدون وعي – على استلهام
هذا المفهوم ومحاولة اقحامه في التجربة المغربية ،كما هو الشأن لمؤلف "مجتمع بدون مدرسة" لمصطفى اللحية( ،
79
حمدي علي ،م ،س ،ذ ،ص.196 ،
51
من هجة أخرى ،جند أن "النظرية النقدية،هتمت بدراسة مواقف الفئات الاجامتعية
املقهورة ،ففي اجملمتع الرأساميل حيث تسود عالقات قوى ،وس يطرة معينة ،واثنيا هتمت هذه
النظرية بوضع افرتاضات عن كيفية تشكيل هؤلء املقهورين ملعرفة تتناسب مع اكرث أبعاد
ثقافاهتم الطبقية .وعليه فالنظرية يف حتليلها للمعرفة العلمية وكذكل يف دراس هتا املدرس ية
تدعو اإىل النظر اإلهيا نظرة نقدية ابس تخدام املهنج ادجديل اذلي يساعد عىل دراسة
الثقافات الطبقية املقهورة وأشاكل النضال املتضحة فهيا ،يف سعي لكتشاف اإماكانت
املعارضة الرتبوية ،والس ياس ية يف احلارض" وبدون شك يف املس تقبل .وليك نقرتب من
هذا املبدأ اذلي تدعو اإليه هذه النظرية ،ميكن التساؤل عن مدى حتقق احلرية يف
املؤسسات الرتبوية ببالدان؟ وهل تسمح الرشوط املؤسساتية يف تبلور وعي حر ونقدي
اجتاه العديد من املسلكيات ،ومهنا بشلك خاص ترشب قمي املواطنة اليت حنن بصدد
حتليلها؟
يصعب من الناحية املهنجية ،تقدمي جواب عن السؤال ،لن هذا الامر يقتيص منا دراسة
مس تقةل ،لكن حسبنا أن نشري اإىل بعض العنارص الولية يف املوضوع.
بداية جند أنه رمغ وجود خطاب رمسي ومتوافق بشأنه بأن املدرسة فضاء للتفتح وحتقيق
اذلات واحلرية واملسؤولية ،وهذا ما جنده يف لك الرؤى واملواثيق اليت أنتجها العقل امجلعي
للمغاربة طيةل الس نوات الخريى .لكن واقع احلال ،يبني أننا إازاء واقع يتسم ابلقهر
وابلكبت وابلعنف الرمزي كام قال بذكل "بورديو" .وللتدليل عىل هذه الفرضية ،ميكن
تأمل العنارص التالية
-1تضخمي البند ادجزايئ ،واملتجيل يف املراقبات والامتحاانت ،وفرض املواد عىل التلميذ،
وتواطؤ املدرسة مع أولياء المور يف ترس يخ هذه ادجزاءات.
-2اعامتد املعدل احلسايب ،واذلي يسجن املتعلمني يف عنق الزجاجة .ويعيش" الطالب
يعيش اترخيه الاكديميي مرتعدا ،املعدل احلسايب س يفا مسلطا فوق رأسه الطالب ليك ل
80
نفسه ،ص.191 ،
52
يسمح هذا الاخري لنفسه بفرتات ارختاء يف الانضباط والعمل .أو حىت من خالل
(التقومي املس متر)"81
-3تعمل املؤسسة التعلميية ،عىل فرض النظام ادلاخيل للمؤسسة 82وتلزم املتعلمني
بتطبيقة رمغ أهنم مل يسامهوا يف بلورته ول حىت الاطالع عليه .ولك من خالف هذا
النظام يكون مصريه ،الرسوب أو الطرد أو يف احسن احلالت التشويش عىل صورته
داخل املؤسسة ،من خالل تروجي بعض الحاكم المنطية اليت تبقى لصقة يف ذهن التلميذ
طيةل مساره ادلراي (مشاغب ،كسول)..
اإن ثقافة احلرية حتتاج ابلتأكيد اإىل قوانني ،ليك ل تتحول اإىل فوىض وتسيب واس هتتار،
لكهنا حباجة أيضا اإىل مس توايت من الفهم والتزنيل والارشاك للتالميذ والتلميذات وأولياء
المور بشلك قبيل ودامئ .وليس يف املناس بات القليةل واحملتشمة .ولعل حديثنا عن قمي
املواطنة يف هذه الاطروحة ،يتقاطع مع بعض من عنارص التحليل اذلي سقناه قبال،
وهذا ما يدل عىل أن اس تدعاءان للطر النظرية ،هل ما يربره من الناحية املهنجية والعملية.
81انظر ادلراسة القمية ،لنخةل وهبة ،جودة ادجودة يف الرتبية ،منشورات جمةل علوم الرتبية ،العدد ،6 ،ادلار البيضاء ،املغرب،
،2005امللحق رمق ،3،ص ص.140-127 ،
82لعل يف الامس دلةل قوية عىل العنف اللغوي اذلي متارسه هذه التسمية عىل وعي وخميال التالميذ ،قبل تطبيق بنوده ،وهذا
جمال لدلراسة ميكن للباحثني التقاط بعض من عنارصه لالش تغال عليه يف املس تقبل.
53
القسم الثاين
املنظومات الرتبوية ابلوطن العريب
بني مظاهر الازمة وحتدايت املس تقبل
54
على سبيل االستهالل :السياق والدواعي والمقاربة
هناك صراع حمموم دخله العامل أمجع ،بفعل التطورات املدهشة اليت يعرفها وسيعرفها جمال
املعرفة ،ولعل هذا ما حدا ببعض الباحثني العرب 83للحديث عن داروينية املعرفة ،نسبة إىل
الرباديغم العلمي الذي أبدعه العامل "تشارلز داروين" ،حول أصل األنواع ،وحتمية الصراع
الذي مييز الكائنات احلية ،وقد استدمج هذا املفهوم يف حقل العلوم اإلنسانية للداللة على
شراسة الصراع الذي يرتبط بإنتاج املعرفة ،واحتكارها والسبق إليها .وهلذا مل يكن مستغربا أن
يتحدث تقرير التنمية البشرية األخري ( ،)2013عن التحول المعرفي الذي حصل بني بلدان
الشمال وبلدان اجلنوب ،حيث أشار التقرير إىل ما حتقق يف بعض دول اجلنوب (الصني واهلند
والربازيل وكوريا اجلنوبية وتركيا )...من حتوالت يف مؤشراهتا التنموية ،واليت تتمظهر يف "ارتفاع
نصيب الفرد من الدخل القومي ،ويف مؤشري الصحة والتعليم ،وهذه املؤشرات هي اليت
مسحت هلذه الدول بأن تتبوأ مكانة متصدرة يف االقتصاد العاملي ،واليت ستؤثر يف مستقبل
الكون ،وستعطي إمكانية هلذه الدول لكي تقود البشرية يف جماالت الصناعة الدقيقة
والتكنولوجيات احلديثة ويف غريها من اجملاالت وامليادين."84
وحنن عندما نستحضر هذا السياق العاملي /الكوين ،فإمنا لنفهم أن جمتمعاتنا العربية ليست
معفاة من هذا الصراع ،وأهنا إن مل تتملك شروطه ومداخله احلقيقية ،فإهنا ستحكم على
83نبيل علي ،احلاصل على دكتوراه يف هندسة الطريان ،ورائد "تكنولوجيا املعلوميات باللغة العربية" ،واملؤلف للكثري من
الكتب واملسامهات العلمية القيمة يف جمال "جمتمع املعرفة واقتصادياهتا" ،نذكر منها على سبيل املثال " ،العقل العريب وجمتمع
املعرفة يف جزأين.
84انظر تقرير التنمية البشرية لسنة ،2013حتت عنوان" :هنضة اجلنوب :تقدم بشري يف عامل متنوع" ،والصادر عن برنامج
األمم املتحدة اإلمنائي ( ،) UNDPوميكن االطالع على التقرير كامال يف املوقع اإللكوروين
التايلhttp://hdr.undp.org:
55
نفسها باملوت والزوال .85وهلذا فإن السياق يفرض علينا أن نتوقف عند أهم عامل حاسم يف
النهوض مبجتمع املعرفة يف املنطقة العربية ،وهو املنظومة الوربوية والتعليمية - ،بكل ما حتمله
من دالالت ومعاين ومبادئ وقيم وأطر نظرية وتطبيقية ،-وقفة تأمل ونقد واستشراف
للمستقبل .ألن املتمعن يف جتارب األمم املتقدمة - ،واليت حققت نواتج يف رصيدها العلمي
واملعريف ،-خيلص إىل أن الوركيز على املنظومة الوربوية ،يشكل أوىل األولويات اليت ميكن من
خالهلا بناء النموذج التنموي املنشود.
بيد أن املتأمل يف وضعية املنظومات الوربوية العريب ،يلحظ كيف أهنا تعاين من جمموعة من
املفارقات اليت تصيب باحلرية والدهشة ،إذ يف الوقت الذي ارتفعت فيه ميزانيات التعليم يف
السنوات األخرية يف العديد من البلدان العربية ،86فإن الواقع ال زال ينذر باستفحال واقع هذه
85يذكر الباحث العريب واخلبري الدويل يف جمال العلوم والتقنيات ،أنطوان زحالن" أن جمموعة من الدول األسيوية واإلفريقية،
تعرضت ألضرار عظيمة خالل القرن التاسع عشر ،نتيجة جهلها باملستجدات العلمية والتكنولوجية اليت كانت تتحقق يف
أماكن أخرى من العامل ،انظر مؤلفه" :العلم والسيادة :التوقعات واإلمكانات يف البلدان العربية" ،مركز دراسات الوحدة
العربية ،ترمجة ،حسن الشريف ،ط األوىل ،2012،ص ،29 ،بريوت ،لبنان.
86يذكر "أنطوان زحالن " ،أن العديد من الدول العربية ازدادت خمصصاهتا للتعليم العايل من 3،77ماليري دوالر إىل
16،26مليار دوالر ،ما بني 1998إىل سنة . 2000ولإلشارة فهذه االحصائيات تعود لسنة ،2009انظر :أنطوان
زحالن "،العلم والسيادة :التوقعات واإلمكانات يف البلدان العربية" ،م ،س ،ذ ،ص.115 ،لكن بالرغم من ذلك تبقى هذه
امليزانيات اليت هتم املنطقة العربية أقل بكثري من حجم االنفاق يف دولة مثل مجهورية كوريا ،واليت ازدادت حصتها على
"البحث والتطوير تساوي ضعف حصتها من الناتج احمللي االمجايل" .وتبني األرقام التالية حجم التباين بني املنطقة العربية
ومجهورية كوريا ،حيث يف الوقت الذي جند فيه أن الدول العربية ،أنفقت على البحث والتطوير لكل باحث يف سنة ،2007
ما مقداره ( 68.7آالف دوالر أمريكي) ،فإن مجهورية كوريا ،أنفقت ما مقداره ( 186.3آالف دوالر أمريكي) .انظر
"تقرير اليونسكو عن العلوم لعام :2010الوضع احلايل للعلوم يف خمتلف أحناء العامل" ،امللخص التنفيذي (باللغة العربية)،
التايل: الرابط انظر ،12 ،2010ص، اليونسكو، منشورات
.http://unesdoc.unesco.org/images/0018/001899/189958e.pdfوجتدب الاشارة،
أنه رمغ وجود هذه الفوارق بني ادلول العربية ومجهورية كوراي ،فاإن ذكل ل مينع من التأكيد عىل أن بعض ادلول العربية-منفردة-
قد ضاعفت من خمصصاهتا املالية للبحث العلمي ،لكن ذكل مل يؤثر بشلك كبري يف نوعية خمرجاهتا ،وهو ما يؤكد الفرضية اليت
56
املنظومات ،أو ما مساه البيان املشهور لوزراء العرب ،ب"مشهد التدهور" .إال أن أهم
األعطاب -يف نظرنا ،-و اليت ال زالت تشرط املنظومة الوربوية ،تتعدى ما هو مادي وكمي،
كضعف التعلمات وارتفاع نسبة اهلدر املدرسي ،أو الالتطابق بني خمرجات التعليم وسوق
الشغل أو ارتفاع أعداد األميني أو غريها من املظاهر اليت سنأيت على بعضها يف سياق هذه
الورقة ،إىل ما هو أكرب وأعم ،وهو تراجع األدوار الريادية لمؤسسات التربية والتعليم،
والبحث العلمي والجامعات ،عن أداء مهماتها في نقل المجتمعات العربية من حالة
التردي والتبعية والذيلية إلى حالة العافية والندية واالستقالل واالعتماد على الذات ،ومن
ثم إلى خلق مجتمع المعرفة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
إن هذه املفارقة أو لنقل املفارقات اليت تسم الوضعني التعليمي والعلمي بربوع الوطن العريب،
جتعلنا نتساءل :ملاذا تستمر منظوماتنا التعليمية العربية يف إنتاج وإعادة إنتاج األزمة بكل
جتلياهتا ومظاهرها؟ هل هي أزمة منظومات تعليمية ،أم هي أزمة جمتمعات عربية يف أبعادها
التنموية الكلية والشمولية؟ كيف ميكن أن نفهم سر هذه املفارقة اليت تسم الوضع التعليمي
العريب ،حيث ترتفع فيه حجم امليزانيات ويف نفس الوقت توراجع فيه النواتج املنتظرة؟ وهل
منظوماتنا التعليمية حتتاج فقط إىل إصالح أم أهنا حتتاج إىل تغيري يف رؤيتها ومبادئها
ومنطلقاهتا وآليات اشتغاهلا؟ وأخريا ما هي اآلفاق املستقبلية اليت ميكن التفكري فيها لربح
رهانات التحديات املعرفية والعلمية؟
تلك األسئلة ،أو لنقل اإلشكاالت اليت سنحاول يف هذه املسامهة املتواضعة أن نالمسها،
معتمدين على منهج نقدي ،ال يقف عند حلظة التشخيص حلال املنظومات التعليمية العربية،
ننطلق مهنا يف هذا املقال ،واليت ل ترجع تردي الوضاع العلمية يف الوطن العريب ،فقط اإىل هو مادي رصف ،بقدر ما هناك
عوامل مركبة تتداخل لتسم الوضع العريب العام.
57
بقدر ما يسعى إىل جتاوزها إىل حلظة التفكري يف اجوراح احللول أو املداخل املمكنة لتجاوز
"مشهد التدهور" .وحنن نعتقد أن هذه املقاربة املتواضعة ،كفيلة بأن تستنهض مهم الباحثني
87
اليت ستحدث أو احملدثة ،لكي يتم استدعاء هذا والفاعلني اجلدد ،واملؤسسات البحثية
النقاش العلمي واألكادميي ،يف دائرة التفكري املستقبلي حلال ومآل املنظومات الوربوية العربية،
مستحضرين يف اآلن نفسه ،أن العامل مير مبرحلة انتقالية شديدة التعقيد والوركيب ،واليت من
بني ميزاهتا البحث عن التكتالت االقتصادية والعلمية واملعرفية واألمنية.
ساد يف اآلونة األخرية يف خطابات النخب والقادة وحىت بعض املختصني يف حقل الوربية
والتعليم ،منظور اختزايل لواقع أزمة املنظومات الوربوية العربية ،وذلك بالوقوف عند حالة األمية
اليت ال زالت تعيق عملية اإلقالع املعريف احلقيقي ،88أو عندما يتم احلديث عن حالة
87نتصور أن مجموعة من املؤسسات البحثية الرمسية أو اخلاصة اليت أنشئت أو اليت س تنشأ مس تقبال ميكن أن تقوم بدور رايدي
يف الهنوض ابلوضع التعلميي واملعريف والبحيث ابلوطن العريب .وميكن أن نذكر عىل سبيل املثال ،مؤسسة "محمد بن راشد أآل
مكثوم" ،أو من خالل املؤسسات الاكدميية ،مكؤسسة احلسن الثاين للعلوم والتكنولوجيا ابملغرب ،أو أاكدميية العلوم للبحث
والتكنولوجيا مبرص ،أو من خالل "أاكدميية العرب للعلوم بلبنان ،أو الااكدميية الفلسطينية للعلوم والتكنولوجيا .ولكها مؤسسات
لها من اإلمكانيات والقدرات البشرية والمعرفية الشيء الكثير ،والذي يمكن أن يوجه النقاش العلمي والمعرفي والبحثي
في ربوع الوطن العربي.
88حسب آخر املعطيات املتوفرة ،وصل عدد األميني بالوطن العريب بلغ 97.2مليون شخص من أصل حوايل 340مليون
نسمة ،أي نسبة 27.9يف املائة من جمموع السكان حسب ما توصلت إليه المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم
(األلسكو) ،شتنبر .2013 ،وتجدر اإلشارة إلى أن تقرير "المعرفة العربي لسنة ،2011تحدث عن رقم أقل من
السابق ،حيث ذكر أن عدد األميين بالوطن العربي يصل إلى 60مليون أمي ،ثلثاهم من النساء(،انظر تقرير المعرفة
العربي لسنة ،2011الفصل الثالث،ص .)88،والمالحظ هو الفرق الكبير بين الرقمين ،مما يثير عدة عالمات
58
الالتطابق بني خمرجات التكوين ،وبني ما حتتاجه األسواق الوطنية واإلقليمية والدولية ،من
كفاءات مؤهلة ،89أو حىت عندما يتم الوقوف عند غياب االلتقائية بني برامج ومناهج
التعليم وبني منظورات التنمية .والواقع أن "أغلب البلدان العربية أصبحت تواجه مشاكل مركبة
يف األنظمة التعليمية ،يزيد من تعقيدها ما تولد عن الكشوف اليت نتجت عن ثورة تقنيات
املعلومات .فأصبحت املطالب مضاعفة واختلطت فيها حتديات األمس بتحديات اليوم
والغد" .90وقد سبق أن حتدث الكثري من الباحثني واملهتمني باحلقل الوربوي ،عن طبيعة األزمة
اليت تسم املنظومات الوربوية العربية ،حيث شخصها البعض يف كوهنا تعرف أزمة مركبة،
و"مشولية ومتعددة العوامل ،ومتسمة بتشابك عالئقي مركب منتظم ألبعادها وعناصرها
املختلفة ،إهنا :أزمة انطالقة ،وأزمة اشتغال و سريورة ،وأزمة مآل."91
تأسيسا على ما سبق ،نتساءل ما هي أهم مظاهر األزمة الوربوية يف الوطن العريب؟ وما هي
مستتبعات مظاهر األزمة األكثر تأثريا يف حال ومآل تلك املنظومات؟ و أخريا ما هي أهم
استفهام أيهما نتبع :الرقم األول أم الثاني؟ ولعنا من خالل هذا التضارب في المؤشرات ،نريد أن نؤكد على مسألة
هامة ،وهي ضرورة توحيد وتحيين المعلومات والمؤشرات الرقمية الخاصة بالوطن العربي في أفق الوصول إلى نتائج
أكثر دقة وموضوعية ،حتى تتضح الرؤية --أكثر وحتى نكون في قراءتنا للوضع العربي أكثر إنصافا ،بدل الوقوع
في متاهات التضارب باألرقام ،والتي تؤثر في مصداقية بعض هذه المؤسسات اإلقليمية.
89يتحدث آخر تقرير ملنظمة الوربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) ،املوسوم ب (تعليم املهارات) ،أن الوطن العريب يفتقر فيه
الشباب ملؤهالت مهارية لالندماج يف سوق الشغل ،حيث جند أن " واحد من كل مخسة أشخاص يفتقرون على أبسط
املهارات األساسية"( ،انظر ملخصا عن التقرير يفEFA GLOBAL MONITORING :
REPORT,YOUTH AND SKILLS: Putting education to work,
UNESCO,2012.www.efareport.unesco.org
90انظر تقرير املعرفة يف العامل العريب" ،النشء وجمتمع املعرفة" ،إعداد األجيال الناشئة جملتمع املعرفة ،مؤسسة حممد بن راشد
آل مكتوم ،وبرنامج األمم املتحدة اإلمنائي ،2011/2010 ،الفصل الثالث،ص.87،
91مصطفى حمسن" ،اخلطاب اإلصالحي الوربوي :بني أسئلة األزمة وحتديات التحول احلضاري (رؤية سوسيولوجية نقدية)"،
املركز الثقايف العريب ،بريوت ،لبنان ،الدار البيضاء ،الطبعة األوىل ،1999 ،ص.20،
59
العوامل البنيوية اليت ال زالت تعيد إنتاج نفس األوضاع املتأزمة؟ وهل من سبيل للخروج من
هذا النفق؟
لعل من بني البديهيات األساسية اليت ال حتتمل التأويل أو املغالطة ،هو مدى حتقيق
املنظومات الوربوية يف املنطقة العربية ،هلدف التعميم املدرسي على كل الفئات واملستويات
واجملاالت؟ لكن املتأمل يف املعطيات اليت توفرها بعض مراكز الدراسات الدولية أو املؤسسات
القطرية ،تبني إىل أي حد ال زالت العديد من هذه الدول ،قاصرة على حتقيق هذا اهلدف.
وميكن أن نذكر على سبيل املثال ،أنه حلد الساعة ،ال زال أكثر من 9ماليين طفل في سن
التمدرس خارج المنظومة التربوية .92هذا على الرغم من التقدم امللحوظ الذي حتقق طيلة
السنوات األخرية ،لكن ع ندما نتفحص هذا الرقم ،جنده مقلقا من عدة جوانب :فهو أوال
مؤشر على فشل اجملتمعات العربية يف القضاء النهائي على األمية ،وثانيا ،فهو مؤشر على
إعادة إنتاج نفس أوضاع التخلف السابقة يف املستقبل ،فكون تسعة ماليني طفل خارج
مؤسسات التعليم ،فهذا يعين أننا نلقي هبذه األعداد إىل جماالت الشغل املبكر ،مما يضرب يف
العمق قدرة الدول العربية على حتقيق األهداف التنموية العاملية واليت حددت كأجل لذلك
سنة . 2015ومن جهة ثالثة ،فهذا الرقم يعيدنا إىل نقطة الصفر يف عدم القدرة على كسب
رهان وحتدي جمتمع املعرفة .93وعندما ندقق يف بعض املعطيات التفصيلية ،جند أن هناك تفاوتا
بينا بني الوسطني احلضري والقروي ،من حيث االستفادة املتكافئة من خدمات تعميم
92انظر تقرير املعرفة العريب الثاين ،م ،س ،ذ ،ص.88 ،
93يتحدث التقرير السنوي الذي صدر عن "اجمللس االقتصادي واالجتماعي والبيئي" باململكة املغربية ،لسنة ،2013عن
إخفاق املغرب عن حتقيق تعميم متدرس األطفال من اجلنسني يف التعليم األوىل مل يتجاوز 60,3باملائة خالل املوسم
الدراسي ،2013/2012وبالتايل خيلص إىل أن هدف التعميم يبقى بعيد املنال ويتطلب جهودا حثيثة( .انظر للمزيد:
التقرير السنوي ،المجلس االقتصادي واالجتماعي والبيئي ،WWW.CESE.MA ،ص).33،
60
التمدرس ،فعلى سبيل املثال ،تشري األرقام واملعطيات املستخلصة من اململكة املغربية ،أن نسبة
تعميم التعليم األويل يف الوسط القروي ،مل تتجاوز 56,7باملائة .94هذا مع إحجامنا عن
احلديث عن مضمون هذا التعليم ،وهل تتوفر فيه الشروط واملعايري املقبولة للحديث عن تعليم
أويل ،أم هو فقط "حبس" التالميذ لفورة معينة بدون تطوير لقدراهتم العقلية والذهنية
واإلدراكية واحلس-حركية؟
أما من حيث قدرة األنظمة الوربوية على حتقيق تعميم للتمدرس يف املستويات املتقدمة
(الثانوي والعايل) ،فإن جل هذه األنظمة ال زالت متأخرة باملقارنة مع اجملهودات اليت بذلت يف
السنوات األخرية ،وهكذا فإن معدل االلتحاق باملستوى الثانوي يتباين يف أربع جمموعات من
الدول العربية" ،فالبحرين ،والكويت وليبيا وقطر ،حتقق معدالت التحاق خام تقورب من حد
اإلشباع ( %90أو أكثر) ،بينما تبتعد عنه بشكل كبري (معدالت التحاق أقل من )%65
يف تسع دول ،وهي :اجلزائر ،واليمن ،واملغرب ،والعراق ،وسوريا ،وجزر القمر ،والسودان،
وموريطانيا ،وجيبويت .وتقع يف منزلة بني املنزلتني (معدالت بني 65و 90باملائة) سبع
دول ."95هذا مع العلم ،أن التعليم الثانوي له دور حموري يف صقل شخصية التالميذ ويف
امدادهم باملهارات والكفايات والقدرات األساسية القتحام عاملي الشغل و البحث العلمي،
لكن املؤشرات تتحدث عن احنسار متباين بني الدول العربية يف حتقيق التعميم الكلي أو شبة
الكلي.
وهناك مالحظة تستحق التوقف يف هذا الصدد ،هي املؤشرات اليت تبني ضعف التحاق
الشباب بالتعليم العايل يف جل الدول العربية" ،إذ ال تبلغ النسبة حد اإلشباع يف أي من
94نفسه.
95تقرير املعرفة العريب الثاين ،م ،س ،ذ ،ص.97 ،
61
الدول العربية ،وتوراوح هذه املعدالت بني ( %56يف ليبيا ،يليها لبنان ،وفلسطني ،واألردن
(بني %46و ،)%40ومصر ،والبحرين ،وتونس ،والسعودية (بني %35و ،)%29مث
تنكفئ بني %23و %15يف كل من اإلمارات ،واجلزائر ،وقطر ،والكويت ،وعمان،
والعراق ،وسوريا ،بينما ال يزال االلتحاق هبذا املستوى من التعليم من حظ خنبة قليلة العدد
جدا (معدالت التحاق تقل عن )%11يف كل من املغرب ،واليمن ،والسودان ،وموريتانيا،
وجيبويت ،وجزر القمر" .96ولعل هذه املؤشرات كافية لرسم صورة جد قامتة عن الوضع
التعليمي باملنطقة العربية ،واليت ال نتحدث فيها عن مدى حصول جودة التعلمات أم ال،
بقدر ما نرصد هل مؤسسات الوربية والتعليم قادرة على استيعاب األعداد املتزايدة من األطفال
والشباب ،خصوصا يف منطقة تعرف ارتفاعا من حيث عدد الفئات الشابة .وإذا ما قارنا هذا
الوضع بالسنوات املاضية (الثمانينيات من القرن املاضي) واآلن (األلفية الثالثة) ،جند أنه وقع
تطور كمي ال بأس به ،لكنه ما زال قاصرا عن حتقيق احلاجات املتزايدة للمعرفة عند أبناء
الوطن العريب.
إذا كانت بعض مظاهر أزمة التعليم يف الوطن العريب ،اليت أتينا على ذكرها يف الفقرة السابقة،
واملتعلقة بضعف القدرة االستيعابية ملؤسسات الوربية والتكوين لألعداد املتزايدة من األطفال
والشباب ،فإن املظهر الثاين واألشد "خطورة" يف نظرنا املتواضع ،هو تواضع التعلمات
األساسية التي تقدمها هذه المؤسسات ،ولعل دليلنا يف ذلك ،هو جمموعة من التقوميات
اليت باشرها العديد من املؤسسات واملعاهد ومراكز التفكري الدولية يف املنطقة العربية .من ذلك
النتائج اليت توصلت إليها "اجلمعية الدولية للتقومي والتحصيل الدويل » ، « IEAاخلاص
96نفسه،ص.97،
62
مبؤشر القراءة » ، « PIRLSواملؤشر اخلاص بالعلوم (الرياضيات والنشاط العلمي والفيزياء
وعلوم احلياة واألرض» ،)« TIMSSوهذان املؤشران يهمان املستويني الدراسيني :الرابع
ابتدائي والثامن إعدادي "97.فما هي أهم النتائج املتوصل إليها من خالل سنتني مرجعيتني:
2007و2011؟ وما داللتها بالنسبة لبقية الدول املشاركة؟ وهل وقع تطور اجيايب أم سليب
يف نتائج هذه التقييمات الدولية بالنسبة للمنظومات العربية"98؟
فيما خيص النتائج اخلاصة بالدول العربية ،نشري إىل أنه مع اإلعالن عن بعض النتائج ،واليت
شاركت فيها عشر دول عربية لسنة ،2007حول أداء التالميذ للسنة الثامنة من التعليم
األساسي يف الرياضيات والعلوم ،وقع نقاش كبري بني املهتمني والباحثني وصناع القرار الوربوي
والتعليمي هبذه الدول" ،حيث أظهرت النتائج أن املعدالت العامة يف ماديت الرياضيات والعلوم
للتالميذ املشاركني ،تدينا ملحوظا عن املعدل الدويل العام .وهكذا فقد احتلت الدول العربية
املراتب املوراوحة (بني 30و 51من أصل ،)51والعلوم (بني 22و 50من أصل ،)9951
وكذلك يف الصف الرابع يف الرياضيات (بني 31و 38من أصل ،)38والعلوم (بني 33
و 38من أصل .)38ومل يقورب من املعدالت الدولية بعض الشيء إال تالميذ إمارة ديب/
اإلمارات العربية املتحدة يف االختبارات األربعة" .100أما النتائج اليت توصلت إليها اجلمعية
الدولية للتحصيل الدراسي ،لسنة ،2011فلم ختتلف عن سابقتها ،حيث احتفظت دولة
"97الدراستان الدوليتان حول تقومي التحصيل الدراسي :تيمس ، 2011وبريلز ،2011نتائج املغرب ،واقع احلال وممكنات
املآل"،تقرير ،مجعية أماكن ،اجلمعية املغربية لتحسني جودة التعليم ،مارس ،2013ص.2،
98رش يد جرموين" ،املغرب واملعضةل الرتبوية :مالحظات وتساؤلت" ،مقتطفات من مقال منشور ابدجريدة الالكرتونية املغربية "هيسربيس"
،www.hespress.maبتارخي/9 :مارس (أآذار).2013 /
99يؤشر العدد على الدول املشاركة يف التقومي.
100تقرير املعرفة العريب ،م ،س ،ذ ،ص.95 ،
63
اإلمارات بالصدارة بني الدول العربية املشاركة يف الروائز ،حيث حصلت يف اختبارات "بريلز"
(القراءة) ،على 439نقطة ،تليها اململكة العربية السعودية ب ،430مث قطر ،ب،425
وعمان ،ب ،391ويف املرتبة ما قبل األخرية أحرز التالميذ املغاربة على 310نقطة.101
ويتنب من خالل هذه النتائج ،أهنا بعيدة عن املعدل الدويل ،والذي يتحدد يف 500نقطة،
كمتوسط عام .بل أكثر من ذلك جند أن بعض الدول عرفت تراجعا يف هذا املؤشر ،كحالة
املغرب ،والذي فقد ما يناهز 40نقطة ما بني الرائز الذي مت يف سنة ( ،2001حصل على
معدل 350نقطة) ،و يف سنة 323( ،2006ن) ،بينما اخنفضت النتائج احملصل عليها يف
سنة ،2011إىل( 310ن)".102
101تقرير مجعية أماكن لتحسني جودة التعليم ،م ،س ،ذ ،ص.6 ،
102
نفسه.
103رغم اجلهود املبذولة (برنامج تيسري :وهو برنامج تدخلي داعم لألسرة املعوزة يف املناطق النائية واهلامشية ،بتخصيص مبلغ
مايل عن كل طفل /طفلة تتابع دراستها باملؤسسات التعلمية االبتدائية) ،للحد من ظاهرة اهلدر املدرسي باملغرب ،فإن العدد
االخري ،وصل إىل 300ألف منقطع عن الدراسة ،خالل السنوات األخرية ،2013/2012/2011 :حسب إفادة بعض
مسؤويل وزارة الوربية الوطنية املغربية( ، 2014،مديرية التخطيط االسوراتيجي واالحصاء ،بوزارة الوربية الوطنية والتكوين املهين
باملغرب ،غري منشورة ،مع اإلذن باالستفادة) .ومن خالل هذه املعطيات ،يتبني حجم األزمة الوربوية يف اململكة املغربية،
ونظرا لغياب معطيات حديثة عن بقية الدول العربية ،فإننا نشري فقط إىل نسب األمية – عند فئة األطفال واملراهقني ،اليت ال
64
وباإلضافة إىل ما سبق ،فإن من بني مظاهر ضعف احلكامة يف املنظومات الوربوية العربية ،هي
املراتب املتدنية اليت حتتلها اجلامعات العربية .فحسب التقييم الذي تسهر عليه جامعة
"شنغاي" الصينية والذي يضم مخسة آالف جامعة عاملية" ،صنف الباحثون الصينيون 16
جامعة عربية يف مراتب تراوحت بني املرتبة ( 638جامعة امللك فهد للبورول واملعادن يف
الظهران) ،وجامعة القاضي عياض يف املغرب (اليت جاءت يف املرتبة 16بني اجلامعات
العربية) ،وكانت يف املرتبة 3962بني اجلامعات .104"5000ورغم التغيري الذي طال هذا
الورتيب يف السنوات األخرية ،إذ توصل آخر ترتيب لنفس اجلامعة ألحسن 500جامعة
عاملية ،إىل أن هناك جامعتني سعوديتني ،105األوىل جامعة "امللك سعود" اليت احتلت الرتبة
األوىل عربيا ،وما بني 151و 200عامليا ،بينما حصلت جامعة "امللك فهد للبورول
واملعادن" على نفس الورتيب األول عربيا ،وما بني 300و 400عامليا .106فإننا عندما نقارن
هذه النتائج مع باقي اجلامعات العاملية املرموقة ،خنجل من هذا الورتيب ،ألنه كما هو معروف
عندما يصل الورتيب إىل ،400ال ميكن احلديث عن جامعات باعتبارها رائدة يف البحث
العلمي ،بل هي أقرب إىل مدارس لتجمع الطلبة ،وتلقني الدروس بطريقة تقليدية مغرقة يف
التخلف .وجتب اإلشارة إىل أن الورتيب العاملي "جلامعة شنغاي" ،عندما يضع التصنيف
ألحسن 200جامعة على مستوى العلوم االجتماعية والعلوم االقتصادية ،ال نعثر على أي
زالت مرتفعة يف بعض الدول ،واليت تعد مؤشرا كافيا ال براز عجز هذه املنظومات عن الوفاء بالتزاماهتا اجتاه مواطنيها ،وضمان
حقهم يف التعلم.
104أنطون زحالن ،م ،س،ذ ،ص.129،
105وجبت الإشارة اإىل أنه ابلعودة لتقرير "اليونسكو عن العلوم لعام ،"2010جند أن عدد الباحثني للك مليون نسمة ،أو حىت
عدد الاحباث للك مليون نسمة ،يف اململكة العربية السعودية ،حيث جند رمق ،)42(:واذلي يقل بشلك كبري عن نظريه املوجود
ابلردن ،)1952(:وتونس )1588( :واملغرب (( ،)647نظر التقرير السابق (اللغة الإجنلزيية ،ص .)280 ،مما يطرح ألف عالمة
اس تفهام حول املهنجية املعمتدة يف ترتيب ادجامعات ،واليت نعتقد أهنا حباجة اإىل مهنجية أكرث تركيبة مهنا رقمية ،حىت نفك السحر
عن التضارب املوجود يف هذه التقارير.
106
http://www.shanghairanking.com/Academic Ranking of World
Universities,2013.
65
جامعة عربية ضمن اجلامعات املرتبة عامليا .107مما جيعلنا نستنتج أن أغلب الدول العربية ،ال
زال أمامها الكثري من التحديات املعرفية والعلمية وحىت التدبريية ملواجهة هذا التأخر املالحظ.
ومن بني اإلشكاالت اليت ال زالت تؤرق الباحثني ،هو حجم اإلنفاق على مثل هذه
اجلامعات واملعاهد العليا من أموال وميزانيات واعتمادات .وهلذا فالبحث عن األسباب ،ميكن
أن يقودنا لفهم جزء مما يكتنف اجلوانب املسكوت عنها يف معضلة احلكامة الوربوية يف البلدان
العربية .فليس غريبا أن يتحدث تقرير "منظمة الشفافية العالمية" عن كون أهم أزمة تواجه
املنظومات الوربوية العربية ،هو تفشي الفساد بأوجهه املظلمة ،حيث يصبح ضارا باجملتمع
ككل ،ويكرس لقبول اجملتمع للفساد ،خصوصا يف مراحل عمرية مبكرة .ألن الصغار نادرا ما
تعهد إليهم القدرة على طرح التساؤالت حول قواعد إدارة الفصل .ويصبح بإمكاهنم تبين
واعتناق آراء فاسدة حول املطلوب من أجل حتقيق النجاح .واألخطر ،هو أن هؤالء األطفال
ينتقلون هبذه الرؤى إىل اجملتمع عندما يصبح هذا األمر معيارا جمتمعيا ،تبدأ دورته يف جديد مع
كل جيل ."108ومن خالل هذه النتيجة اليت توصل إليها التقرير العاملي حول الفساد يف
التعليم ،نفهم عجز السياسات الوربوية العربية ،عن إقامة حكامة حقيقية يف هذا القطاع،
خصوصا يف ظل وجود عقليات متكلسة ال تريد التغيري ،وتعمل كل ما يف وسعها إلفشال
أي مشروع هنضوي بالقطاع .وقد ال نأيت جبديد إذا ما حتدثنا عن فساد مرتبط بالوالءات
السياسية لألحزاب أو الشخصيات املدبرة للقطاع ،حيث تسود قيم الزبونية واحملاباة
والوساطات ،مما حيرم اجملتمع من خرية أطره وخنبه اليت ميكنها أن تلعب دورا حموريا يف إصالح
هذه املنظومات .وهلذا فاإلدمان على هذه املعوقات يسبب االنتحار التنموي" كما قال
بذلك كبري الباحثني العرب" ،أنطوان زحالن".
107
Ibidem.
تقرير منظمة الشفافية العاملي حول التعليم لسنة ،2012 ،املوقع اإللكوروينwww.transparency.org « Global :
108
66
من بني مظاهر األزمة احلقيقة اليت أصبحت تسم الوضع الوربوي يف البلدان العربية يف السنوات
العشر األخرية ،هو ترسيخها ملبدأ ال تكافؤ الفرص بني أبناء اجملتمع الواحد .فإذا كان من بني
الغايات اليت يسعى لتحقيقها التعليم هو ضمان عدالة تربوية أو تقاسم للمعرفة بشكل متساو
ومنصف ،فإن األوضاع السوسيو-اقتصادية اليت تفاعلت من خالل األزمات املالية وسياسة
الريع االقتصادي- ،اليت ال زالت مستفحلة يف أغلب البلدان العربية ،-هو خلق متايزات
سوسيو-اجتماعية أثرت على دخل األسر بشكل جد مفارق ،حيث جند أسرا تعيش أوضاعا
اقتصادية جد مرفهة ،بينما األغلبية الساحقة من اجملتمع تعيش إكراهات مادية حقيقة .وحيث
أن املؤسسات الوربوية موكول هلا القيام بتقدمي خدمات تربوية للجميع ،فإن الوراجع يف
مستوى وجودة هذه اخلدمات ،خلق واقعا يتسم مبا مساه السوسيولوجي الفرنسي ،بورديو" ،
بإعادة االنتاج" ،مبعىن آخر مل تعد املدرسة جماال لتحقيق الدمقرطة بني اجلميع ،بل أصبح أداة
لالصطفاء واالنتخاب ،109فكيف ميكن شرح ذلك؟
تقدم نتائج الدراسة اليت أنتجتها املندوبية السامية للتخطيط (املغرب) ،منوذجا معربا عن واقع
"إعادة اإلنتاج" الذي حتدث عنه " بورديو" .فاملعطيات اليت أسفر عنها البحث الوطين حول
مستوى معيشة األسر ،لسنة ،2007تبني أنه إذا أخذنا طفلني أحدمها ألب مستواه
التعليمي مل يتجاوز األساسي ،وآخر وصل أباه إىل املستوى العايل ،فإن حظوظ الثاين
تتضاعف إىل 69مرة عن األول لولوج املستوى العايل من التعليم .وتربز املفارقات احلادة بني
الوسطني احلضري والقروي وبني الذكور واإلناث من جهة أخرى .فمثال مل يتحسن مستوى
نسبة الشرحية العمرية اليت تقل عمرها عن 20سنة يف مستوياهتا الدراسية ،خصوصا اجلامعية
منها إال ب %7,1سنة ،2007بعدما كانت 2,4سنة .1985وللتدقيق أكثر فإن
الوسط القروي مل حيقق إال تطورا حمتشما بل جد ضعيف ،حيث انتقل من %1سنة 1985
109انظر للمزيد من التفصيل يف هذه النظرية اهلامة ،الكتاب األملعي لبيري بورديو وجون كلود باسرون ،واملوسوم ب "إعادة
اإلنتاج :يف سبيل نظرية عامة لنسق التعليم" ،ترمجة ،ماهر ترميش ،املنظمة العربية للورمجة ،لبنان ،بريوت .2007،أو من
خالل املؤلف املميز للباحث الوربوي ،األستاذ عبد الكرمي غريب ،واملوسوم ،ب "سوسيولوجيا املدرسة" ،منشورات ،عامل
الوربية" الدار البيضاء ،املغرب ،2009،خصوصا يف الفصل الثاين.
67
إىل 4,2سنة 2007يف نسبة الذين يتوفرون على مستوى الثانوي من الفئة العمرية اليت تقل
سنها عن 20سنة.110
خنلص مما سبق عرضه ،أن واقع املؤسسات الوربوية العربية ،ليس خمتلفا عن حالة املغرب،111
فيما خيص تراجع دورها يف حتقيق تكافؤ الفرص بني مجيع أبناء الوطن .وهلذا فقد حتدث
الباحث اللبناين "جاك قبانجي " عن هذا املعطى ،مفسرا به حالة االختناق اليت عمت الوطن
العريب ،جراء التمايزات السوسيو-اجتماعية اليت خلقتها السياسيات الوربوية .حيث يقول
"سيزداد احلراك عرب اجلامعات الوطنية ،لكنه مع ذلك سيواجه حبدود "موضوعية" ،ففي أرجح
االحتماالت ،سيستمر األشخاص احلائزون درجات علمية من اخلارج يف احلصول على أفضل
حظوظ االستخدام ضمن أقسام التكنوقراطية من النخبة السياسية .كما أن النخبة املتمكنة
ستستم ر يف إرسال أبنائها وبناهتا إىل اجلامعات يف اخلارج .أو تلك العاملة وفق املناهج الغربية
داخل بالدها ،ألن ذلك هو وسيلة إلعادة إنتاج نفسها ."112قد حيصل أن بعض احلاالت
تستطيع يف ظل هذه الظروف اليت حتدثنا عنها- ،واقع أزمة املدرسة العمومية بالوطن العريب،-
أن حيقق ترقيا اجتماعيا ،لكنه ال يشكل القاعدة.
110انظر ،رشيد جرموين(،املدرسة املغربية ومفهوم إعادة االنتاج) ،املنشور مبجلة (علوم الوربية) ،عدد،53
أكتوبر،2012،الدار البيضاء ،ص .108،أما الدراسة اليت اشتغلنا عليها فهي موسومة ب " « la mobilité
scolaire intergénérationnelle, les cahiers du plan,
n°33,janvier/février,2011,Casablanca, Haut-commissariat au plan, Royaume
du Maroc. ».
111ل شك أن الاطالع عىل مجمل الورقة ،ينب أهنا ل تتحدث عن جتربة املغرب يف جمال الرتبية والتعلمي والبحث العلمي ،لكهنا
حتاول أن ترصد أكرب عدد ممكن من التجارب اليت تتشابه يف مجموعة من اخلصائص ،ومن بيهنا خاصية "اإعادة الانتاج" اليت
حتدثنا عهنا يف النص الاساس ،وما اللجوء اإىل جيل جديد من ادجامعات واملؤسسات التعلميية ذات امخلسة جنوم اإل دليل عىل
ما ندعيه من "تعممي جمازف" .اإل أنه بقدر ما نؤكد ذكل ،فاإننا ل نريد أن نعلن عن رأي حدي يف املوضوع ،فرمبا تكون هناك
جتارب عربية أخرى ،ل تعرف هذه الظاهرة ،أو أن جحم حضورها غري مؤثر يف اخملرجات اللكية ملنظوماهتا الرتبوية.
112جاك قباجني(،ملاذا فاجأتنا انتفاضتا تونس ومصر :مقاربة سوسيولوجية) ،جملة (إضافات) ،عدد،14،سنة،2011 ،
بريوت ،لبنان ،ص ص.18-17،
68
تعترب إشكالية املناهج الدراسية ،من أعقد اإلشكاليات اليت تواجه األنظمة الوربوية يف العامل
بأسره ،وليس فقط يف الدول العربية ،وذلك نظرا حملوريتها يف العملية الوربوية ،ولكوهنا تشكل
قطب الرحى يف أي نظام تربوي كيفما كان .وإذا كنا غري معنيني يف هذا السياق بالكشف
عن تفاصيل التفاصيل يف هذه اإلشكالية ،فإننا الختيارات منهجية ،سنركز على ما يهم
املنطقة العربية.
لالقوراب من بعض التشخيصات اليت أجرهتا بعض الدراسات املسحية حول املناهج التعليمية
الوربوية بالوطن العريب ،ميكن أن نقف عند بعض املالحظات املنهجية التالية :طغيان
الجوانب النظرية على حساب الجوانب العملية والتطبيقية ،وأخرى مرتبطة بفلسفة
" املضامني املروجة ،حيث حتدث الباحث "ضياء الدين زاهر" ،عن معضلة "التنميق
،"bricolageإذ أن "حمتوى التعليم ما زال يعرب عن تفكري ترقيعي /تنميقي ،ويتمثل يف
الصراع املستمر بني القدمي واجلديد من املفاهيم واالجتاهات واألنظمة وكل الثنائيات
واالزدواجيات املعروفة .113" .ورغم أن هذا التوصيف ذكر يف العقد األخري من القرن املاضي،
فإن الوضع مل خيتلف يف العقد األول من القرن احلايل ،حيث توقف الباحث العريب "نبيل
علي " على إحدى مظاهر التخلف يف اجملتمعات العربية ،واليت ال زالت تشكل كاحبا أماما
انطالقها حنو جمتمع املعرفة والعلم ،وهي املناهج وحمتوى التعليم .حيث يقول يف هذا الصدد:
"ما زالت جذور التعليم بالتلقني مورسخة ومستقرة يف صلب منظومتنا الوربوية العربية ،بل جتد
من يدافع عنها بقوة ،ومن غايات تربية جمتمع املعرفة اليت أمجعت عليها اآلراء ،وهي تعلم
لتعرف ،وتعلم لتعمل ،وتعلم لتكون ،وتعلم لتشارك اآلخرين ،انصب اجلهد على الغايتني
األوليني يف حني أغفلت بصورة شبه تامة الغايتان األخريان ،ومها األكثر طلبا على التفكري
النقد ."114،ولعل من بني االنتقادات اليت وجهت للمناهج التعليمية العربية ،هي ما عرب
113ضياء الدين زاهر "،كيف تفكر النخبة العربية يف تعليم املستقبل؟" ،تنسيق،سعد الدين إبراهيم ،مشروع مستقبل التعليم
يف الوطن العريب ،منتدى الفكر العريب ،عمان ،األردن،1990،ص ص.49،
114نبيل علي "،العقل العريب وجمتمع املعرفة :مظاهر األزمة واقوراحات باحللول" (اجلزء الثاين) ،سلسلة عامل املعرفة ،منشورات
اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب ،عدد ،37دجنرب ،2009،الكويت،ص.17،
69
عنه الباحث "املسريي"" ،بالموضوعية المتلقية" ويقصد بذلك كثرة النقول واإلطناب واحلشو
دون فائدة تذكر ،وقد نبه هلذه اآلفة ألن هلا تداعيات خطرية على مصري التعليم العمومي،
وفسر هبا األسباب اليت تدفع األسر للجوء إىل التعليم اخلصوصي ."115هذا باإلضافة إىل
األعطاب البنيوية األخرى،كإلشكاالت اإلبستيمولوجية املعرفية ،كإشكالية القيم :أية قيم ألي
جمتمع .وإشكالية اللغة ،وإشكالية فلسفة الوربية يف الوطن العربية ،...كل ذلك ،وغريه مما مل
نستطع استحضاره يف هذه املسامهة ،يؤشر على وجود معضلة املناهج يف املنظومات الوربية
العربية ،واليت تعترب أس اإلشكاليات.
-7في تراجع الدور الريادي للمدرسين وتأثير ذلك على مخرجات منظومات التربية
والتكوين بالوطن العربي:
رمبا لسنا يف حاجة ،إىل التذكري بالدور احليوي ،الذي يضطلع به املدرسون يف العملية
الوربوية ،لكن الذي يهمنا يف هذه املسامهة ،هو نوعية التحديات املستجدة يف واقعنا املعاصر،
حيث ميكن اإلشارة إىل نوعني من هذه التحديات ،بدءا يشرطان أدوار املدرسني ،ومها
:التحدي املعريف و القيمي .فاألول يعين وجود حتول يف منط التفكري- ،الذي كان سائدا
قبال ،-والذي كان خيتزل دور املدرس يف عدد املعارف اليت ميتلكها ،إىل أسئلة أكثر تعقيدا
وتركيبا ،من مثل :هل تعرف كيف تفعل ذلك؟ وأين جتد املعرفة املطلوبة؟ وكيف جتدها ؟ وما
قيمة امل عرفة املتوفرة لديك؟ وما هي االستخدامات املمكنة هلا؟ وما إىل ذلك من الكفايات
واملهارات اليت يتعني على املدرس /اخلبري يف الوطن العريب أن يستبطنها ،لتهيئ األجيال املقبلة
عليها.
أما الثاين ،والذي ال يقل أمهية عنه ،وهو املتمثل يف اإلشكالية القيمية ،وذلك بالنظر إىل
عمق التحوالت اليت هزت العامل ،وبشكل خاص ،جمتمعاتنا العربية ،فصدمة التحديث
وقسريته وسرعته ،خلقت فجوات حقيقية بني األجيال .وهذا املعطى أصبح مبثابة متغري مالزم
115عبد الوهاب املسريي"،دفاع عن اإلنسان :دراسات نظرية وتطبيقية يف النماذج املركبة" ،دار الشروق ،مصر ،القاهرة ،ط،
الثانية،2006 ،ص.293 ،
70
للعلمية الوربوية برمتها ،حيث أنه يف ظل وجود هذه الفجوات القيمية بني جيل املدرسني
واملتمدرسني ،أصبحت علمية التدريس أكثرا تعقيدا وتركيبا من السابق ،الشيء الذي يتطلب
تغيريا جذريا يف أسلوب ومنهح التدريس ."116
إذا ما حاولنا أن نفسر بعضا من مستتبعات هذين التحديني :املعريف والقيمي ،على سلوك
املدرسني باملنظومة الوربوية بالوطن العريب ،فإن بعض املعطيات املتوفرة –سواء من خالل حبوث
أو اسقصاءات أو ما إىل ذلك -تسمح لنا بتشكيل صورة-ولو جزئية -عن واقع مهنة
التدريس بالوطن العريب ،وباملغرب حتديدا .117فإذا ما أخذنا طريقة التدريس مثال ،جند أن
أغلب التقارير (سواء الوطنية أو الدولية ) ،تتحدث عن وجود حالة من العجز والعقم يف
عملية إنتاج وإعادة إنتاج املعرفة ،فالغالب يف ممارسات هذه الفئة ميلها إىل احللول السهلة
والساذجة .حيث يطغى اإلمالء والسرد واحلشو بدون فائدة ،وتقل فرص النقاش وبناء املفاهيم
وتدريب التالميذ على وضعيات حيضر فيها الذكاء واليقظة املعرفيني .وهلذا فقولة املفكر
اإليطايل "غرامشي" تنطبق على هذه الفئة ،عندما اعتربها كعينة من املثقفني التقليديني،
كالكهنة واملوظفني التنفيذيني الذين يواصلون فعل األشياء نفسها من جيل إىل آخر ،"118أو
كما مساها بورديو ،بهابيتوس" أو ما ميكن أن نطلق عليه جزافا ب "امللكات املورسبة."119
116انظر للمزيد،رش يد جرموين "،املدرسون وحتدايت جممتع املعرفة" ،مقال حصفي نرش ،مبجةل (هيسربيس ،الالكرتونية)،
بتارخي 8أكتوبر(ترشين) ،2013 ،انظر الرابط. www.hespress.ma" :
117جتدر اإلشارة إىل أن اجمللس األعلى للتعليم والبحث العلمي باملغرب ،كان قد أطلق دراسة علمية حول واقع ومهنة
التدريس ،أشرف على إجنازها الباحث :عبد اهلل اخلياري ،وذلك سنة ،2010نأمل أن تشكل هذه الدراسة سندا نوعيا لكل
الفاعلني من أجل النهوض بوضعية التدريس واملدرسني ب بالدنا .باإلضافة إىل ذلك ،هناك مقال لنفس الباحث (عبد اهلل
اخلياري) ،موسوم ب" معارف املدرسني :أصنافها ومصادرها" ،منشور مبجلة "املدرسة املغربية" ،عدد ،5/4:أكتوبر.2012 ،
118خنلة وهبة" ،جودة اجلودة يف الوربية" ،منشورات ،جملة "علوم الوربية" ( ،)6الرباط ،املغرب ،الطبعة األوىل ،2005 ،ص،
.124
119كام هو معلوم يثري مفهوم "الهابيتوس" عند بورديو العديد من الإشاكلت ،يف معلية الرتمجة ،وحنن نس تعمهل يف هذه الورقة،
مبعىن "طاقة توليدية قوية قادرة عىل اإعادة التشكيل" انظر للمزيد ،أمحد موىس بدوي" ،ما بني الفعل والبناء الاجامتعي :حبث
يف نظرية املامرسة دلى بيري بورديو" ،جمةل( ،اإضافات) ،اجملةل العربية لعمل الاجامتع ،العدد ،الثامن ،خريف ،2009،لبنان،
71
وهي اليت تتحكم يف هذه الفئة ،وهلذا تراهم يكرهون اجلديد يف املسلكيات واملنهجيات وتغيري
املقررات وايقاعات الدراسة ،أو تكثيف الزيارات الوربوية ،أو احلضور للتكوينات اليت تقام بني
الفينة واألخرى ،...إىل غري ذلك من املظاهر السلبية ،واليت تكشف إىل أي حد ،يصبح
اجلسم التعليمي ،هو األكثر ختلفا عن الركب ،بعدما كان املأمول منه هو قيادة التحوالت
واقتحام العقبات وختطي الصعاب."120
ال شك أن التحوالت القيمية اليت جتري يف اجملتمع املعاصر ،هلا من التبعات الشيء الكثري
على واقع املؤسسات التعليمية والوربوية ،وعلى سري العمليات التعليمية بالشكل املطلوب .وإذا
كنا قد توقفنا يف الفقرة السابقة عند رصد مظهر من مظاهر هذه التحوالت القيمية - ،واليت
بينا أن عواملها كثرية ،-فإن ما يستحثنا ملعانقة هذه اإلشكالية ،هو وجود ضبابية يف القيم
اجملتمعية املتفق بشأهنا ،واليت مترر داخل املؤسسات التعليمية ،أو بسبب وجود هذه القيم،
لكن مستوى التوافق حوهلا فيه ضعف كبري ،مما يطرح عدة تداعيات على هذا احلقل املفعم
بالقيم واألخالق .ولعل من بني الظواهر السلبية 121اليت بدأت تزحف على الوسطني املدرسي
واجلامعي ،هو وجود حالة من اإلحباط العام السيكولوجي المدمر ،لعل من أبرز مظاهره
بريوت ،ص .13،ومن هجة وجب التذكري أن هذه الرتمجة تعود لقرتاح احملمكني للمقال من جمةل "معران" ،وبعد املراجعة املتأنية
للمفهوم اس تقر رأينا عىل اس تخدامه يف هذا الس ياق.
رش يد جرموين" ،املدرسون وحتدايت جممتع املعرفة" ،م ،س ،ذ.
120
121نظرا لضعف وقلة الدراسات السوسيولوجية والسيكولوجية حول العديد من هذه املظاهر السلبية اليت أصبحت بارزة يف
الوسطني املدرسي واجلامعي ،فإننا اكتفينا برصد بعض العناصر أو االنطباعات العامة ،واليت حتتاج بدورها جملموعة من
الدراسات املستقبلية اليت تنهل من حقل العلوم اإلنسانية ،كعلمي النفس والسوسيولوجيا.
72
الكربى ارتفاع نسب تعاطي املخدرات ،والكحول والتدخني ،هذا إضافة إىل االرمتاء يف
أحضان "العنف العشوائي ،أو السياسي املوجه ...واالتسام بالكثري من مظاهر الالمباالة،
والسلبية ،والعزوف عن املشاركة االجتماعية والسياسية والثقافية ..أو التعبري يف ممارسات
الشباب اليومية ،عن شىت مظاهر السخط على األوضاع القائمة واالحتجاج عليها ،باحثني –
على مستوى عاملهم القيمي -عن هوية ممزقة ضائعة ،وعن مرجعية ثقافية وقيمية وحضارية
وعقدية موجهة ،ومشكلني يف اآلن ذاته قنابل موقوتة قابلة إما لالستغالل اإليديولوجي
والسياسي ،وإما لالنفجار أو التفجري حسب الظروف واملالبسات"122
شكل حدث الثورة العربية ،باعتباره فعال سوسيولوجيا مميزا ،مناسبة لتناسل العديد من
القراءات والتفسريات واملقاربات ووجهات النظر ،اليت حاولت أن تشرح اخللفيات العميقة
اليت تشكلت وتفاعلت يف جسم الوطن العريب .وقد كان من بني التفسريات اليت القت
قبوال عند العديد من الباحثني ،هو الربط امليكانيكي بني فشل املنظومات الوربوية
التعليمية ،وقيام الثورة ،خصوصا يف البلدان اليت تعرف انتقاال دميوغرافيا ،عنوانه العريض
ارتفاع فئة الشباب املتمدرس واملتوفر على شواهد جامعية .وقد غذى هذا التحليل التقرير
الذي صدر عن منظمة اليونسكو يف حبر سنة ،2011واملوسوم ب "األزمة اخلفية
النزاعات املسلحة والتعليم .1232011 ،إذ توصل التقرير إىل "أن فرص التعليم ال
122مصطفى حمسن" ،اخلطاب االصالحي الوربوي :بني أسئلة األزمة وحتديات التحول احلضاري ،رؤية سوسيولوجية نقدية"،
املركز الثقايف العريب،الدار البيضاء /املغرب،لبنان ،بريوت،الطبعة األوىل ،1999 ،ص ص.52-51 ،ال حنب أن تفوتنا هذه
املناسبة للتأكيد على أن حركة اإلرهاب اليت تصاعدت أخري (التوترات يف سوريا) ،شكلت مسرحا الستقطاب العديد من
الفئات الشابة ،والتغرير هبا للذهاب لسوريا "حتت مسمى اجلهاد" ،وقد سبق لنا أن نشرنا مقاال (الشباب واإلرهاب) ،نشر
يف املواقع اإلكورونية والصحف الوطنية املغربية ،نشرح فيه هذه اإلشكالية ،واليت تعترب-يف نظرنا املتواضع -من النتائج السلبية
للمنظومات التعليمية اليت مل تستطع استيعاب جمموعة من الفئات وعلى رأسها املراهقني ،ودجمها يف النسيج اجملتمعي ،انظر
للمزيد :رشيد جرموين « الشباب واالرهاب :يف حدود وممكنات إصالح احلقل الديين" ،جريدة "هيسربيس" ليوم 2دسنرب/
دجنرب ،2013،انظر الرابط التايلwww.hespress.com/writers/95348.html:
123انظر للمزيد التقرير كامال على املوقع اإللكوروينwww.unesco.org/education/efa:
73
زالت حمدودة جدا أمام ماليني من األطفال العرب .كما أن ماليني آخرين يتخرجون من
املدارس واجلامعات دون احلصول على املهارات الالزمة للنجاح يف أسواق العمل ،واليت
تعاين بدورها من سوء اإلدارة االقتصادية .وقد كانت النتيجة هي وجود سكان من ذوي
التعليم العايل يبحثون عن وظائف ال وجود هلا ،وليس من قبيل الصدفة أن احلركتني
الشعبيتني يف تونس ومصر كانت بقيادة شباب متعلمني ."124هلذا وجدنا من بني
الباحثني الذين خصصوا حيزا مهما هلذه اإلشكالية (عالقة أزمة التعليم بالثورات)،
الباحث "مصطفى حمسن" يف كتاب املوسوم ب"بيان يف الثورة ."..حيث حتدث عن
التبعات السلبية اليت تعتمل يف الوطن العريب ،جراء استمرار مشهد التدهور يف التعليم،
سواء على مستوى اخلسائر املادية والتنموية واملعنوية والرمزية.125
بيد أن إشكالية الوربية والتكوين بالوطن العريب ،كانت من بني إحدى املواضيع اليت
استأثرت باهتمام الباحثني ،وهل هي من بني أسباب حدوث احلراك العريب ،سواء يف
شقها السليب ،عندما ال حتقق هذه املنظومات نتائجها املرجوة ،أو يف شقها اإلجيايب،
الذي يعين أن التحوالت العميقة اليت شهدها الوطن العريب ،إمنا كانت بفعل الثورة الوربوية
واليت استفادت منها أجيال من الشباب املتعلم ؟ ولعل هذه اجلدلية ،كانت من بني
القضايا اليت انتبه إليها(سعد الدين إبراهيم) ،عندما طرح فرضية ،تقول أنه "حسب برنامج
األمم املتحدة اإلمنائي ،فإن كل األقطار العربية قد حققت معدالت من النمو
االقتصادي ،توراوح بني 3و 7يف املائة سنويا خالل العقد احلادي والعشرون
( ،)2009/2000أي أن العرب إمجاال كانوا يف هناية ذلك العقد أعلى دخوال ،وأكثر
تعليما وصحة وتغذية" 126وليس كما ذهب البعض اآلخر ،من أن احلرمان من االستفادة
124
نفسه.
125مصطفى حمسن" ،بيان يف الثورة ،هوامش سوسيولوجية على منت الربيع العريب" ،منشورات ،ضفاف واختالف ،/اجلزائر،
ومنشورات دار األمان ،الرباط .2012،ولإلشارة فقد سبق لنا أن قدمنا (رشيد جرموين) ،قراءة عن هذا املنجز يف
"إضافات" اجمللة العربية لعلم االجتماع ،بريوت ،لبنان ،عدد .2013 ،24/23
126سعد الدين إبراهيم( :عوامل قيام الثورات العربية) ،وردت ضمن ملف "الثورة واالنتقال الدميقراطي يف الوطن العريب ،حنو
خطة طريق ،مركز دراسات الوحدة العربية ،جملة (املستقبل العريب) ،عدد ،399أيار،2012،ص.126،ولإلشارة فإن
74
املثلى م ن التعليم كانت سببا من بني أسباب وعوامل أخرى حلودث الثورة .وهلذا اعترب
"سعد الدين إبراهيم" أن ما عانت منه الدول العربية هو "حرمان نسيب" وليس "حرمانا
مطلقا" وعليه فإن هذه الشعوب عندما تقارن وضعها مع دول أخرى ،حيصل هلا نوع من
"الشعور بالظلم" ،أو اإلحباط ،مما يدفعها للتغيري،إال أن ذلك ال حيدث إال إذا كان هناك
وعي مبا تقوم به."127
وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع كال املنظورين ،فإن املؤكد هو أن منظومات الوربية والتعليم
باملنطقة العربية ،مل تستطع أن تشكل رافدا حقيقيا الستثمار الكتلة احلرجة من الشباب
العريب ،والذي ميكن أن يشكل وقودا ألية رهانات مستقبلية غري حمسوبة العواقب
والنتائج ،واليت هلا من األكالف الشيء الكثري على املنطقة العربية برمتها.
ارتباطا مبا سبق عرضه من مستتبعات مظاهر األزمة الوربوية باملنطقة العربية ،فإن الوقوف
عند أحد املظاهر السلبية اليت تؤثر يف عملية النهوض احلضاري للمجتمعات العربية ،وهي
ما يطلق عليه ب "التصحر المعرفي" ،أصبحت حاجة ملحة للجميع ،لتفسري كيف أن
غياب الرؤية الواضحة يف جمال التعليم ،يؤدي إىل وقوع كوارث جد خطرية على مصري
ومآل املنظومات العربية ككل .يف هذا السياق ،يتوقف الباحث العريب" ،نبيل علي" عند
هذا املظهر ،متحدثا عن بعض أعراضه ،قائال" :إذا كان غرينا يشكو من جدب معريف،
فقد أصبحنا حنن نعاين ما ميكن أن نطلق عليه تصحرا معرفيا .وحيتل العرب حاليا ذيول
معظم قوائم مؤشرات إنتاج املعرفة اليت تصدرها املنظمات الدولية ،من النشر العلمي إىل
اإلنتاج اإلبداعي ،ومن تأليف الكتب وترمجتها ومعدالت قراءهتا ،إىل تسجيل براءات
الباحثان "كورباج"و 'طود" يتقاطعان مع التحليل السابق- -،انظر للمزيد« The transformation of :
Musilm Societies Around The World :A Convergence of
Civilizations ;Columbia University Press, New York,2011.
نفسه،ص.131،
127
75
االخوراع ،واقتناء وإصدار تراخيص استخدام املعرفة يف أعمال التطوير واإلنتاج" .ويتساءل
الباحث عن مفارقة هذا الوضع ،قائال ":وبالرغم من االستثمارات الضخمة اليت أنفقت
على مشاريع التنمية لنقل التكنولوجيا ،فإهنا مل تنجح بالفعل يف دفع حركة اإلنتاج العلمي
والتطوير التكنولوجي ،والشاهد ضمن شواهد أخرى كثرية ،أن العرب ،بعد مرور ما يزيد
عن ستني عاما منذ اكتشاف النفط ،مل يسهموا ،ولو بقدر ضئيل ،يف هذا اجملال احليوي،
ويتكرر املشهد نفسه يف جماالت استثمارية أخرى ،مثل املعمار واهلندسة املدنية."128
ويتحسر "زحالن" عن ضعف اهتمام العرب ببعض اجملاالت احليوية يف البحث العلمي،
ومنها البحوث يف الطاقة الشمسية( ،يف بلد الشمس) ،حيث مل تتطور بالشكل
املطلوب ،حيث أنه –حسب معطيات البحثية املتوفرة ،مل يصدر يف سنة 2000أية
ورقة حبثية باملنطقة العربية ،ويف سنة ،2005ستصدر ورقتان :األوىل ملصر والثانية لدولة
اإلمارات العربية املتحدة."129
128نبيل علي" ،العقل العريب وجمتمع املعرفة ،"..اجلزء األول ،م ،س ،ذ ،ص.76
أنطوان زحالن ،م ،س ،ذ ،ص ص.93-92،
129
130ليس من اليسري أن نتوقف عند جممل العوامل اليت سامهت وتساهم يف إنتاج وإعادة إنتاج نفس األوضاع املأزمية
لواقع املنظومات الوربوية العربية ،لكن حسبنا يف هذا السياق ،أن نلقي بعضا من الضوء ،على أهم هذه العوامل
واألسباب ،وحماولة تقدمي تفسريات معقولة لذلك .وعليه ،فنحن من خالل قراءتنا لبعض ما كتب يف املوضوع ،نستطيع
أن ندعي أن بعضا من هذه العوامل يتوزع على ثالثة مستويات :سوسيو-سياسية ،وسوسيو-ثقافية ،وسوسيو-تنموية.
76
مهوم اجملتمع وتطلعاته التنموية ،ودليلنا يف ذلك ،أنه بعد نكسة االستعمار ،مل تستطع أي
من الدول العربية ،أن تقدم منوذجا تنمويا رائدا يعتد به يف املنطقة .ولعل الثورات العربية
اليت انطلقت مع احلراك الشبايب الثوري ،كانت معربة عن رفضها هلذه النماذج البائسة
واملشاريع املفلسة.
يذكر "عبد اإلله بلقزيز" ،أن أحد األعطاب اليت جعلت تعليمنا يف املنطقة العربية
متخلفا ،هو سياسات الدول يف هذا اجملال" :إن جتربة التعليم املتحققة يف الوطن العريب،
حىت اليوم ،مل تسفر يف حمصلتها اإلمجالية سوى عن إنتاج أمية مقنعة يف شكل تكوين
ضحل ومبتور ملن قيض هلم متابعة تعليمهم ،أو يف شكل تكوين ابتدائي بدائي للغالبية
العظمى من املتعلمني الذين توقف تعليمهم يف املراحل اإلبتدائية والثانوية .وإذا كانت
أسباب اجتماعية قاهرة حالت دون إمتام هذا اجليش العرمرم من املتعلمني تعليمهم ،فإن
للدولة نصيبا من المسؤولية في عدم إجابتها على بعض تلك األسباب ومساعدتها
من لم تسمح لهم ظروفهم بمتابعة التعليم في استكمال تعليمهم ."131ولكي نوضح
ختاذل أجهزة الدولة يف الوطن العريب يف الدفع بدينامية التعليم إىل ما هو أحسن ،نتوقف
مع حادثة تارخيية جد معربة وقعت يف املغرب ،حيث أنه إبان األحداث االحتجاجية اليت
وقعت يف الدار البيضاء (مدينة مغربية) سنة ،1965واليت كان فاعلوها هم الطلبة
والتالميذ واألساتذة واملعلمني ،فإن املغفور له "الحسن الثاني" خطب قائال " :ليس
أخطر على الدولة من متصلب مثقف ،وكان من األولى أن يبقى هؤالء أميين."132
إن هذا التصريح من أعلى هرم الدولة يف املغرب- ،ورغم ظرفيته اخلاصة -فإنه شكل ما
131عبد اإلله بلقزيز"،اإلصالح السياسي واالقتصادي والتعليمي" ،ورد يف مؤلف مجاعي حتت عنوان" :يف االجتماع السياسي
والتنمية واالقتصاد وفقه اإلصالح :مدخل لتكوين طالب العلم يف عصر العوملة" ،تقدمي :عبد العزيز القاسم ،الشبكة العربية
لألحباث والنشر ،بريوت ،لبنان ،2010 ،ص.226،
132
Néjib. Bouderbala, « les classes moyennes comme moteur de l’ascenseur social :
l’hypothèse des classes moyennes, contribution cité in « Prospective Maroc 2030, Actes du
forum 2 : la société marocaine, permanences, changements et enjeux pour
l’avenir »,Casablanca, Haut-Commissariat au Plan, Royaume du MAROC, sans date de
publication, p.108.
77
ميكن أن نطلق عليه "هابيتوس" السلطة يف تعاملها ونظرهتا للقطاع التعليمي ،فقد
هيمنت هذه النظرة التشكيكية واملتوجسة من االستثمار يف التعليم ،ألنه خيرج فقط من
سيصبح معارضا للنظام .وال شك أنه رغم كون السياق الذي سقنا فيه هذه املقولة،
أصبح خمتلفا عن سياقنا احلايل ،فإنين أزعم أن العالقة املتوترة اليت علقت يف ال وعي
السلطة وأجهزهتا ،من جهة ،ومن جهة ثانية يف عقلية اجملتمع ،جعلت عنصر فقدان الثقة
املتبادلة بني الطرفني ،يؤثر يف مسارات اإلصالحات التعليمية املتعاقبة إىل اآلن .وحىت ال
يتهمنا أحد بدعوى تعميم حالة واحدة على كل املنظومات الوربوية العربية ،نشري فقط إىل
حالة كل من ليبيا واجلزائر .ففي عهد "املعمر القدايف" ،والذي عمل على تكريس سياسية
جت هيلية للشعب اللييب ،ليس أقلها هنج سياسة تعليمية متقوقعة ومنكفئة على الذات ،مما
حرم أجياال كثرية من االستفادة واإلفادة مما تقدمه معارف العصر من تقنيات
وتكنولوجيات متقدمة .133أما حال اجلزائر فليس خمتلفا عن احلاالت السابقة ،حيث
فشل النموذج التنموي الفرنكوفوين املطبق يف اإلدارة واالقتصاد واإلعالم والصناعة وغريها
من القطاعات ،وبشكل خاص يف التعليم .يف هذا السياق ،يذكر "ناصر يوسف" ":أن
القطاعات اإلمنائية انفصلت عن حميطها العريب والقومي ،ألن القائمني على هذه
القطاعات احليوية مل يكن يشغلهم إال تعميق الروابط مع فرنسا وتأكيد والءهم املادي.
ومل يكن هلم برنامج حمدد ،بل غلبت عليهم الفوضوية يف مسريهتم اإلمنائية ،والرفض لكل
ما هو عريب وإسالمي .فلم تكن القومية العربية يف الربنامج الفرنكوفوين الفوضوي إال
133هناك مالحظة نقدية ال ختطئها العني املتفحصة لتقارير التنمية البشرية اليت يصدرها برنامج "األمم املتحدة اإلمنائي" ،حيث
تصنف ليبيا يف املراتب املتوسطة التنمية البشرية ،وهكذا ففي آخر تقاريره ،وضعها يف الرتبة 64عامليا مقارنة مع دولة
"ماليزيا" .و هنا نتساءل :كيف ميكن مقارنة مؤشرات --التنمية البشرية بني ليبيا وماليزيا مع العلم أننا نعرف جيدا أن
دينامية التنمية يف النموذج املاليزي متقدمة على ليبيا؟ .لكن عندما نقورب من املقاييس الكمية اليت ينبين عليها القياس ،يزول
العجب ،الن اعتماد الدخل القومي ،كأحد املقاييس يفقد عملية القياس ،واليت ميكن أن نطلق عليها ،املنظور الوركييب
الشمويل لسريورة التنمية .و هلذا نعتقد أن تساوي مستوى التنمية يف ليبيا مع ماليزيا ،او رجحاهنا عن املغرب (املغرب متأخر
عن ليبيا من حيث مؤشرات التنمية) ،حيتاج إىل مزيد من تعميق النظر يف هذه املقاييس ،ويدعو إىل وقفة نقدية يف سبيل بلورة
مقاييس أكثر تركيبية مما هو سائد حاليا( .انظر للمزيد :تقرير التنمية البشرية لسنة ،2013م ،س ،ذ).
78
خطابا سياسيا ،وظف للتعاطف مع القضية الفلسطينية ،أما اإلسالم فقد ظل حاضرا،
لكن اختزل يف إسالم اجلماهري ،وأقصي من الدولة واإلدارة ،وظلت القومية تشكل غطاء
أيديولوجيا لتوطيد شرعية السلطة أمام عروبة اجملتمع اجلزائري .فاالجتاه الغالب يف اجلزائر
هو االجتاه الفرنكوفوين ،الذي يراهن على مستقبل املنظومة الوربوية الفرنسية يف اجلزائر،
وأمهية تفعيل آلياهتا الثقافية والفكرية والفلسفية على مستوى القطاعات احلضارية
األخرى."134
خنلص مما سبق عرضه من مناذج دالة على حتكم العامل السياسي يف بلورة منوذج تربوي/
تنموي ناجح ،إىل أن هذا املدخل يعد من األمهية مبكان ،وأنه مبثابة الرأس بالنسبة
للجسد ،فلو توفرت اإلرادة السياسية احلقيقة ،وكان هلا وضوح يف الرؤية ،واستمرارية يف
األداء ،ملا كان واقع املنظومات الوربوية العربية يف ذيل الورتيب العاملي.
134ناصر يوسف" ،دينامية التجربة اليابانية يف التنمية املركبة :دراسة مقارنة باجلزائر وماليزيا" ،مركز دراسات الوحدة العربية،
سلسلة أطروحات الدكتوراه (،)83بريوت ،لبنان ،2010 ،ص.222 ،
79
حالة غربة حقيقية بني اجملتمع واملدرسة .مبعىن آخر إن فقدان ،أو لنقل هشاشة الثقة بني
اجملتمع ومؤسسات العلم واملعرفة ،أفضى إىل نتائج "كارثية" على األجيال املتالحقة ،إىل
درجة ميكن القول معها أننا نعيش زمن شعاره "ال مدرسة تربي المجتمع ،وال مجتمع
يربي المدرسة".
وعليه ،خنلص مما سبق عرضه من مناذج لبيئات غري متكينية لتطور املنظومات الوربوية
العربية ،واليت مل نأت إال على بعض جوانبها ،135إىل أن العوامل السوسيوثقافية ،بدورها
تشكل عائقا أمام العرب ،ملعانقة مثار التنمية املتكاملة ،وأن هناك جدلية بني ثقافة اجملتمع
والتعليم واملعرفة ،فتطوير الثقافة حيتاج إىل مؤسسات تعليمية رائدة ،والعكس صحيح،
تطوير مؤسسات املعرفة ،حيتاج إىل ثقافة تثويرية وتنويرية باملعىن العميق هلذه الكلمة .وقد
ي واجهنا أحد بقوله ،إن قضية تثوير اجملتمع تقع على عاتق املدرسة ،ألهنا هي اليت مترر
القيم النبيلة واملثالية والرائدة؟ وهذه دعوى وجيهة ،وهلا ما يربرها ،لكننا نعتقد –من
خالل خربتنا املتواضعة -أن األمر حيتاج إىل مقاربة مزدوجة ويف اجتاهني ،تطوير المجتمع
بالمدرسة ،وتطوير المدرسة بالمجتمع .ولن يتأتى ذلك إال بتضافر جهود مجيع البيئات
احملايثة للمدرسة ،من إعالم ،ومقاولة ،وجمالس بلدية ،ومجعيات اجملتمع املدين ،وأسر
ونقابات وغريها من الفاعلني املباشرين وغري املباشرين.
135لعل من بني العوامل الاكحبة لتطور املنظومات الرتبوية ابلوطن العريب ،يه معضةل الإعالم العريب ،حيث تعزز يف الآونة
الخرية ،نوعني من الإعالم(طبعا دون تعممي) ،الول ميثهل قنوات الاعالم ادليين ،اذلي يغذي أس باب التشدد ادليين ،واخلرافة،
واخلوارقية .والثاين ،مييل اإىل تروجي قمي اس هتالكية متطرفة يف بعض احلالت (وما الاقبال الهس تريي عىل الربامج املوس يقية سوى
مظهر من مظاهرها) ،مما يشلك قامي جديدة للفئات الشابة واملراهقة ،لنحث مناذج متتح من الك الاعالمني ،بعيدا عن لك متثل
اجيايب دلور املؤسسات العلمية واملعرفية ،انظر للمزيد :تقرير املعرفة العريب ،بيئات الداء املعريف العريب :توس يع احلرايت وبناء
املؤسسات" ،التقرير الثاين ،م ،س ،ذ ،ص.69 ،
80
جمتمعي ينطلق من الذات ويعود إليها .ولعل املتأمل يف جمموع التجارب التنموية ،ويف
صلبها املسألة التعليمية ،اليت طبقت يف البالد العربية منذ االستقالل إىل اآلن ،يتساءل:
ملاذا مل تستطع هذه النماذج أن خترج العرب من دائرة الذيلية والتخلف إىل دائرة التحضر
والتقدم وإىل التنمية احلقيقية؟ ويف اإلجابة عن هذا السؤال ،سنحاول أن نبسط بعض
األفكار ،علها تساعدها يف فك شفرات هذه املفارقة الشديدة التعقيد.
من خالل إطالعنا على بعض الكتابات النقدية واجلريئة يف اآلونة األخرية ،تبني لنا أن
هناك إشكال منهجي ،متعلق بطريقة استلهامنا للتنمية ،حيث حتدث اخلبري العريب
املتميز" ،رشدي الراشد "136عن هذا الوضع ،قائال ":ال يمكن توطين العلم إال بتكون
التقاليد الوطنية في البحث ،وخاصة البحث األساسي ،وهو ما يتطلب تخصيص
الموارد الالزمة ،ودعم الثقافة العلمية العامة وتشجيعها" .137وقد استطاع هذا
الباحث ،أن يفند جمموعة من الفرضيات كانت مبثابة مسلمات ،يتشبث هبا صانع القرار
السياسي والوربوي يف الوطن العريب ،إلقامة جمتمع املعرفة والعلم ،وهذه الفرضيات ميكن
حسرها يف منوذجني" :النظرة الربغماتية للعلم" ،واالعتقاد بأن "البحث التقين" سيطور
املنظومة العلمية دون االهتمام "بالبحث النظري واالستثمار فيه".138
واملتأمل يف هذه الفرضيات-اليت عمل على التقيد هبا صانع القرار السياسي يف الوطن
العريب ،-ال جيد عنتا يف التذليل على هتافتها وكسادها ،فعلى سبيل املثال تتفتق العبقرية
العربية ،يف كل مناسبة للتسويق لنموذج تنموي معني ،يكون نقال حرفيا ملا هو موجود يف
136مدير املركز الوطين للبحوث العلمية بباريس سابقا ،يعترب رائدا يف العامل العريب ،من حيث قدرته على متلك منوذج تفسريي
يقوم على مقولة" :توطني العلم" ،مبعىن استنبات التقاليد العلمية يف الوربة العربية ،دون تقليد أو استيالب .له العديد من
املؤلفات اليت تصب يف هذا اإلطار ،منها" :،تاريخ--- -الرياضيات العربية بني اجلرب واحلساب ( ،)1989ابن اهليثم :علم
اهليئة ،اهلندسة الكروية وحساب املثلثات( .انظر للمزيد :رشدي الراشد( ،الوطن العريب وتوطني العلم) ،املستقبل العريب ،مركز
دراسات الوحدة العربية ،لبنان ،بريوت ،عدد ،354 ،غشت ،السنة احلادية والثالثون.2008 ،
137نفسه ،ص.25 ،
نفسه،ص ،20 ،مع بعض التصرف.
138
81
بالد أجنبية أخرى ،وقد يكون وقع يف كساد وخيبة ،وبعد ذلك يتم اجياد املسوغات
لتقدميه للمجتمعات العربية .وتطبيق ذلك يتجلى يف الدعوة إىل إعداد تقنيني وفنيني،
يكونون يف خدمة االقتصاد األجنيب ،كتهييء التقنيني يف صناعة الطريان أو يف بعض
املهن ،اليت ال يكون تأثريها كبريا يف النهوض بالصناعات يف البلد احملتضن هلذه التقنيات،
وهو ما جند منوذجه الفاقع ،يف اململكة املغربية ،حيث سعت احلكومة( ،)2013مؤخرا
لالستثمار يف هذه التقنيات ،وتقدميها كخطة "سحرية" للخروج من أزمة ربط التعليم
بسوق الشغل .ولعل نفس احلالة تنطبق على بقية الدول العربية األخرى ،حيث يذكر
الباحث "رشدي الراشد" ،مثال أنه " ما بني سنيت ،1995و ،1997طرحت احلكومة
املصرية ،مشروعا إلعداد فنيني وتقنيني ،يف إحدى اجملاالت الصناعية ،هبدف االستجابة
ملا يطرح يف السوق العاملية ،من خربات تقنية حمضة ،وهذا مما ينعكس سلبا على تطوير
البحث العلمي وجمتمع املعرفة ."139وحنن عندما نبسط هذه األفكار والرؤى اليت تبني لنا
أن املشكل ال يكمن يف تقليد وحماكاة الدول الناجحة من طرف الدول العربية ،عن طريق
التماهي الكلي مع ما تنتجه من منتوجات صناعية وتكنولوجية حديثة ،بقدر ما جيب
عليها أن تبدع شيئا خاصا هبا .وبكلمة ليس املهم أن نصنع حاسوبا مثل احلواسيب
املوجودة يف السوق العاملية ،بقدر ما حنتاج إىل اخوراع حاسوب جديد يضاهي احلواسب
املوجودة يف شىت األبعاد.
ويبني "نبيل علي" هذا املأزق التنموي الذي انكوت به البالد العربية ،مشددا على أن
"موقفنا احلايل من التكنولوجيات املتقدمة ،سواء كان إحجاما من قبلنا ،أو حتجيما بفعل
غرينا ،هو تقاعس ال ميكن تربيره إذا ما قارناه مع ما تقوم به دول كاهلند والصني والربازيل
وجنوب إفريقيا على صعيد التكنولوجيا احليوية يف صناعة الدواء ،وما تسعى إليه الفلبني
حاليا يف جمال التكنولوجيا النانوية ،وليس هناك من تفسري هلذا التقاعس خري ما أورده ابن
خلدون يف مقدمته" :أن الصنائع تستجد وتكثر ،إذا كثر طالبها ."140وهلذا يتساءل
82
الباحث عن سر هذا املأزق قائال" :ومن أين لنا هذا يف ظل التبعية التكنولوجية
املورسخة ،وقد أنذرنا حكيمنا (يقصد ابن خلدون) "من أن البلدان إذا قاربت الخراب
انتقصت منها الصنائع" ،وها حنن نرى أن صناعة الربجميات والدواء والغذاء ،وغريها من
صناعات اقتصاد املعرفة ،141تكاد تغرب عن الديار."142
رمبا قد يواجهنا البعض مبا حيصل يف منطقة اخلليج العريب ،خصوصا يف قطر واإلمارات
العربية املتحدة ،من بوادر هنضة علمية /تنموية كبرية ،تتجلى يف بناء مراكز أحباث ضخمة
ومبيزانيات جد ضخمة كذلك وبكوادر بشرية جد مؤهلة ،وأيضا تشييد جامعات
"عمالقة" وذات "اخلمس جنوم" ،واليت حتمل "العالمات املميزة" ،وقد ظهر ذلك يف
ازدياد أعداد األوراق البحثية وبراءات االخوراع ،وكذلك بروز مبادرات نوعية غري مسبوقة
يف الوطن العريب ،فيما خيص احتضان الباحثني والنخب العلمية العربية .وهذا األمر
صحيح ،وهو عالمة على وجود يقظة حضارية تملكت صانع القرار في هذه البلدان،
مستفيدة من عائدات النفط الكثرية ،وإعادة استثمارها يف ما يسمى القوة الناعمة ،إال أنه
بقدر ما نثمن هذه املبادرات النوعية ،فإن متلك حس نقدي اجتاه هذه املبادرات ،جيعلنا
ال نتماهى كليا مع هذه اليقظة اليت حتتاج إىل مزيد من الورسيخ واالستقالل الذايت
واالعتماد على الذات .وهلذا نبه "زحالن" إىل خطورة وتداعيات هذه املعضلة ،حيث،
يؤكد ":أن ما نشهده يف بعض دول اخلليج العريب من استرياد لبعض الكوادر العربية
العلمية ،ال يعين بالضرورة متلكا لناصية املعرفة والعلم ،بقدر ما هي عملية إعالمية
واستهالكية رحبية وجتاربة ،قد يكون هلا بدون شك نواتج ،لكنها ال تقوم مقام التوطين
الحقيقي للعلم" .ويضيف قائال" :حاليا اعتمدت كل من قطر واإلمارات على زيادة
141يذكر "نبيل علي" ،أنه هناك حاليا ثالث تكنولوجيات حمورية تطغى على املشهد اجليوتكنولوجي يف جمتمع املعرفة ،وهي:
التكنولوجيا البيولوجية والتكنولوجيا النانوية وتكنولوجيا المعلومات ،ولكل من هذه التكنولوجيات الثالث منفردة قوة
فائقة ،غري أن مصدر قوهتا األكثر خطورة ،يكمن يف تلك القدرة التضاعفية اهلائلة النامجة عن اندماجها وتفاعلها" ،م ،س،
ذ ،ص.18 ،
نفسه.
142
83
استرياد أساتذة جامعيني لفورة قصرية ليقوموا بالبحث يف جامعاهتم األم مع تنسيب ذلك
إىل قطر أو اإلمارات كشركاء ،وهذا لن يكون بالضرورة مفيدا هلذين البلدين .والزيادة
املفاجئة امللحوظة يف ناتج البحث والتطوير يف اإلمارات يأخذ أصوله من هذا النشاط.
وقد حيدث ما هو غري متوقع ."143وقد انبنت مالحظة "زحالن" الذكية ،نظرا ألنه خيشى
أال تعمل هذه الدول على سياسة حقيقية لتوطني العلم واملعرفة ،و عدم القدرة على اجياد
البيئات التمكينية املدعمة لذلك.
أوال :نالحظ أن غياب سياسة علمية ومعرفية ،تأخذ مببدأ االعتماد على الذات ،إذ ال
زالت أغلب الدول العربية ،تستورد منتجاهتا التكنولوجية والعلمية واملعرفية من اخلارج،
وحىت يف تلك احلاالت اليت تسعى لتملك ناصية العلم ،ختتلف هبا السبل ،وتعمل على
تذويب الذات فيما يطرحه اآلخر .وقد ال نأيت جبديد إذا ما استحضرنا كيف تعمل
النخب احلاكمة يف البالد العربية ،على استجالب اخلربة األجنبية ،و"توكيل قراراتنا
التكنولوجية لألجنيب ،بل حىت رؤانا املستقبلية ،واسوراتيجيات التنمية يتم االعتماد فيها
على هذه اخلربة" (نبيل علي .)2009،الشيء الذي حيرمنا من القدرة على اإلبداع
واالبتكار.
ثانيا ،هناك إشكال االستقالل الفكري والتقين واملعريف ،فغين عن التذكري أن الدول
املستعمرة للمنطقة العربية ،احتفظت مبصاحلها وبرهاناهتا يف املنطقة ،عرب فرض مناذجها
84
التنموية بطريقة ناعمة وجد مؤثرة ،وقد أمكنهم ذلك من خالل بوابة اللغة والثقافة
والفكر ،وخصوصا يف تلك املستعمرات اليت كانت تابعة لالستعمار الفرنسي .وقد جتلى
ذلك يف املناهج الدراسية اليت ال زالت متأثرة بالنموذج التنموي األجنيب (املستعمر بشكل
كبري) ،مما خلق أجياال من النخب ال تفكر إال يف سياق الرباديغم االستعماري .ولعل
حاالت دول املغرب العريب ،دليل على ما ندعيه .لذلك انتفض الباحث اللساين "عبد
السالم المسدي" ،قائال" :إنه ال جمال أمام العرب اليوم لالخنراط بكفاءة واقتدار يف
املنظومة اإلنسانية بكل أبعادها إال جببهة ثقافية عتيدة ،وال ثقافة بدون هوية حضارية ،وال
هوية بدون إنتاج فكري ،وال فكر بدون مؤسسات علمية متينة ،وال علم بدون حرية
معرفية ،وال معرفة وال تواصل وال تأثري بدون لغة قومية تضرب جذورها يف التاريخ،
وتشارف حاجة العصر وضرورات املستقبل."144
ثالثا ،هناك إشكالية اإلبداع 145يف الفلسفة الوربوية و التكوينية والعلمية واملعرفية يف
املنطقة العربية ،فقد بينا من خالل العناصر السابقة ،أن املنطقة العربية ال زالت تراوح
مكاهنا منذ االستقالل إىل اآلن ،ألهنا مل تستطع أن تبلور منوذجا تنمويا خاصا هبا ،يقدم
اإلجابات املطروحة ويعانق املشاكل احلقيقية للمجتمع ويطور البالد العربية .ويظهر ذلك
أكثر ما يظهر يف السياسات الوربوية العربية .وهلذا حنتاج إىل روح إبداعية جديدة تسري
يف كل شرايني اجملتمع ،وتستلهم أجماد ماضينا التليد ،وتربطه باحلاضر الستشراف
املستقبل الواعد.
عبد السالم املسدي" ،العرب واالنتحار اللغوي" ،دار الكتاب اجلديد املتحدة ،بريوت ،لبنان ،طرابلس ،ليبيا ،2011 ،ص،
.37144
145مؤخرا أنشئ يف دولة قطر مؤسسة عاملية لإلبداع ،حتت مسمى "مؤسسة قطر" ،نأمل أن تتمخض أعماهلا وخالصات
نتائج أحباثها على نتائج تعود بالنفع على املنظومات الوربوية العربية.
85
عبد السالم املسدي" ،العرب واالنتحار اللغوي" ،دار الكتاب اجلديد املتحدة ،بريوت،
رشدي الراشد( ،الوطن العريب وتوطني العلم) ،املستقبل العريب ،مركز دراسات الوحدة
العربية ،لبنان ،بريوت ،عدد ،354 ،غشت ،السنة احلادية والثالثون.2008 ،
أمحد موىس بدوي" ،ما بني الفعل والبناء الاجامتعي :حبث يف نظرية املامرسة دلى بيري
بورديو" ،جمةل( ،اإضافات) ،اجملةل العربية لعمل الاجامتع ،العدد ،الثامن ،خريف ،2009،لبنان،
بريوت.
ناصر يوسف" ،دينامية التجربة اليابانية يف التنمية املركبة :دراسة مقارنة باجلزائر وماليزيا"،
مركز دراسات الوحدة العربية ،سلسلة أطروحات الدكتوراه (،)83بريوت ،لبنان.2010 ،
عبد اإلله بلقزيز"،اإلصالح السياسي واالقتصادي والتعليمي" ،ورد يف مؤلف مجاعي حتت
عنوان" :يف االجتماع السياسي والتنمية واالقتصاد وفقه اإلصالح :مدخل لتكوين طالب
العلم يف عصر العوملة" ،تقدمي :عبد العزيز القاسم ،الشبكة العربية لألحباث والنشر،
بريوت ،لبنان.2010 ،
سعد الدين إبراهيم( :عوامل قيام الثورات العربية) ،وردت ضمن ملف "الثورة واالنتقال
الدميقراطي يف الوطن العريب ،حنو خطة طريق ،مركز دراسات الوحدة العربية ،جملة
(املستقبل العريب) ،عدد ،399أيار.2012،
مصطفى حمسن ،بيان يف الثورة :هوامش سوسيولوجية على منت الربيع العريب" قراءة يف
كتاب ،جملة"،إضافات" اجمللة العربية لعلم االجتماع ،بريوت ،لبنان ،عدد ،24/23
.2013
" " ،------أسئلة التحديث يف اخلطاب الوربوي باملغرب :األصول واالمتدادات"،
املركز الثقايف العريب ،الدار البيضاء ،املغرب ،بريوت ،لبنان2001،
86
" ،-----اخلطاب االصالحي الوربوي :بني أسئلة األزمة وحتديات التحول احلضاري،
إبراهيم ،مشروع مستقبل التعليم يف الوطن العريب ،منتدى الفكر العريب ،عمان،
األردن.1990،
نبيل علي "،العقل العريب وجمتمع املعرفة :مظاهر األزمة واقوراحات باحللول"(اجلزء األول)،
سلسلة عامل املعرفة ،منشورات اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب ،عدد،369 ،
نونرب.2009 ،
"،-----العقل العريب وجمتمع املعرفة :مظاهر األزمة واقوراحات باحللول" (اجلزء الثاين)،
سلسلة عامل املعرفة ،منشورات اجمللس الوطين للثقافة والفنون واآلداب ،عدد،370
دجنرب ،2009،الكويت.
عبد الوهاب املسريي"،دفاع عن اإلنسان :دراسات نظرية وتطبيقية يف النماذج املركبة"،
دار الشروق ،مصر ،القاهرة ،ط ،الثانية.2006 ،
«
جاك قباجني(،ملاذا فاجأتنا انتفاضتا تونس ومصر :مقاربة سوسيولوجية) ،جملة (إضافات)،
عدد،14،سنة ،2011 ،بريوت ،لبنان.
بيري بورديو وجون كلود باسرون" ،إعادة اإلنتاج :يف سبيل نظرية عامة لنسق التعليم"،
ترمجة ،ماهر ترميش ،املنظمة العربية للورمجة ،لبنان ،بريوت.2007،
87
عبد الكرمي غريب" ،سوسيولوجيا املدرسة" ،منشورات ،عامل الوربية" الدار البيضاء،
املغرب.2009،
مجعية أماكن اجلمعية املغربية لتحسني جودة التعليم :الدراستان الدوليتان حول تقومي
التحصيل الدراسي :تيمس ، 2011وبريلز ،2011نتائج املغرب ،واقع احلال وممكنات
املآل"(،تقرير) ،مارس.2013 ،
تقرير املعرفة يف العامل العريب" ،النشء وجمتمع املعرفة" ،إعداد األجيال الناشئة جملتمع
املعرفة ،مؤسسة حممد بن راشد آل مكتوم ،وبرنامج األمم املتحدة اإلمنائي،
.2011/2010
أنطوان زحالن" ،العلم والسيادة :التوقعات واإلمكانات يف البلدان العربية" ،مركز دراسات
الوحدة العربية ،ترمجة ،حسن الشريف ،ط األوىل ،2012،بريوت ،لبنان.
تقرير التنمية البشرية لسنة ،2013حتت عنوان" :هنضة اجلنوب :تقدم بشري يف عامل
88
:مواقع إلكورونية.
: /www.unesco.org/education/efa
،WWW.CESE.MA ،)Rapport Annuel, 2012).
EFA GLOBAL MONITORING REPORT,YOUTH AND SKILLS:
Putting education to work, UNESCO,2012.www.efareport.unesco.org.
http://hdr.undp.org
http://unesdoc.unesco.org/images/0018/001899/189958e.pdf
www.hespress.com/writers/95348.htm:
89
90