Professional Documents
Culture Documents
برع المسلمون في استعمال الخطوط الهندسية وصياغتها في أشكال فنية رائعة ،فظهرت المضلعات المختلفة واألشكال
النجمية والدوائر المتداخلة .وقد زينت هذه الزخرفة المباني كما وشحت التحف الخشبية والنحاسية ودخلت في صناعة
األبواب وزخرفة السقوف .ولئن كانت هذه الزخارف دليالً على موهبة فنية عظيمة ،فهي أيضًا دليل على علم متقدم
بالهندسة العملية.
والزخرفة الهندسية ذات أهمية خاصة في الفن اإلسالمي ،ولعل أهميتها تلك نتيجة مطابقتها Hللمواصفات التي يقبلها
المنهج اإلسالمي ،وهذا ما يفسر لنا ذلك األثر الكبير الذي تفرضه على كل الفن اإلسالمي ،إذ أصبح األسلوب الهندسي
واحدًا من األساليب التي طبعت الزخرفة النباتية نفسها بأسلوبها ،فكثي ًرا ما جاءت هذه الزخرفة بإخراج هندسي عجيب،
بل إن الكتابة نفسها -وهي الفن اإلسالمي Hاآلخر -كثي ًرا ما تفنن في إخراجها الفنان المسلم فجاءت في قوالب هندسية
متنوعة األشكال .لقد استطاعت الهندسة أن تفرض سيادتها في الفن اإلسالمي ،وذلك بغلبتها على شبق األشكال كما
يقول “جارودي”H.
وال يفوتنا هنا ،أن نذكر ما كان للفرجار Hمن دور Hفي تقدم هذه الزخرفة وسيادتها H.فقد كان للدائرة دور كبير في هذا
العطاء غير المحدود من األشكال ،يؤكد Hهذا ويوسع مساحته ملء بعض المساحات وترك غيرها فارغة.
فالزخارف Hاإلسالمية الهندسية بلغت ذروة نضوجها الفني بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر الميالديين ،حيث
كانت موضع دراسة علمية نشرت في مجلة “العلم والحياة” الفرنسية ملخصًا عنها في شهر أبريل من عام .2007
واستنا ًدا Hإلى تلك الدراسة التي أعدها العالمان “بيتر لومن” من جامعة هارفرد Hو”بول ستاينهاردت” من جامعة
برنستون ،فإن الفنانين المسلمين اعتمدوا في تصميم Hهذه الزخارف على حسابات هندسية لم يتوصل إليها العلماء
الغربيون إال في سبعينيات القرن العشرين.
ورأى Hالعالمان األمريكيان ،أن االنطالق من شكل هندسي Hبسيط في رسم Hامتدادات له ،تتقاطع وتتشابك Hلتشكل جملة
أشكال ال تتكرر أكثر من مرة في رسم ،يبقى محافظًا Hعلى وحدته وتجانسه.
وقد Hاستطاع المسلمون استخراج أشكال هندسية متنوعة من الدائرة ،منها المسدس والمثمن والمعشر H،وبالتالي المثلث
والمربع Hوالمخمس .ومن تداخل هذه األشكال مع بعضها وملء بعض المساحات وترك Hبعضها فار ًغا ،نحصل على ما
ال حصر Hله من تلك الزخرفات Hالبديعة التي تستوقف العين لتنقل بها رويدًا روي ًدا Hمن الجزء إلى الكل ،ومن كل جزئي
إلى كل أكبر.
ولقد كان “هنري فوسيون” Hدقيق التعبير عميق المالحظة حينما قال“ :ما أخال شيئًا يمكنه أن يجرد الحياة من ثوبها
الظاهر وينقلنا إلى مضمونها الدفين ،مثل التشكيالت الهندسية للزخارف Hاإلسالمية .فليست هذه التشكيالت سوى Hثمرة
لتفكير قائم على حساب دقيق قد يتحول إلى نوع من الرسوم البيانية ألفكار Hفلسفية ومعان روحية ،غير أنه ينبغي أال
يفوتنا أنه خالل هذا اإلطار التجريدي H،تنطلق حياة متدفقة عبر الخطوط Hفتؤلف بينها تكوينات تتكاثر Hوتتزايد ،متفرقة
مرة ومجتمعة مرات ،وكأن هناك روحًا هائمة هي التي يصلح ألكثر من تأويل يتوقف Hعلى ما يصوب عليه المرء
نظره ويتأمله منها وجميعها ،تخفى وتكشف في الواحد عن سر ما تتضمنه من إمكانات وطاقات بال حدود”H.
للزخرفة اإلسالمية مزاياها وأشكالها الخاصة التي تميزها عن سواها من زخرفة غربية أو آسيوية أو أفريقية .وال غر َو
وإن هذه الزخرفة المستمدة من تراث شرقي-عربي قديم ،غلب عليها منذ مجيء اإلسالم الطابع الديني وما زال حتى
صا Hوأنه تطبع باألشكال واأللوان والمواد المستعملة التي كانت
يومنا .وهذا الطابع ال يخضع لمنظومة موحدة ،خصو ً
سائدة في العالم الذي دخله اإلسالم ،وهذا العالم كبير يمتد من الصين حتى األطلسي.
حيث ترتكز Hالزخرفة اإلسالمية على أسس عميقة الجذور تنبع من الدين والتقاليد المتوارثة .وقد هدف البناؤون
والفنانون المسلمون في أعمالهم ،إلى إبراز خصوصية هذه التقاليد التي غلب عليها اإلسالم منذ أن جاء .من هنا نرى
العالقة الحميمة بين اإلسالم وفن العمارة والزخرفة وبناء المدن -رغم االختالفات السطحية التي نشاهدها -فهي بمجملها
تعكس روح الدين والخطوط Hالكبرى التي رسمها لحياة المسلم إجماالً والعربي تحديدًا.
وكلها تعتمد على ما أسماه بعض مؤرخي الفن اإلسالمي؛ السكينة والراحة الروحية والجسدية والتأمل والبساطة .ومن
هنا نرى كم اعتمد فن الزخرفة اإلسالمي على األلوان والضوء ووسع المساحات.
إن عناصر الزخرفة اإلسالمية فيمكن اختصارها بستة عناصر هي :فن الخط ،الهندسة ،الرسوم Hالطبيعية ،الحيوانات،
الضوء ،الماء .وكلها عناصر جالبة للراحة والسكينة والهدوء أكثر من كونها تعتمد على العظمة الفردية كتصوير
األشخاص البارزين أو العظمة المعمارية ،حيث ترتفع القصور Hالشامخة ودُور Hالعبادة الضخمة المزينة بكل أنواع
الرسوم Hوالتماثيل والمدافن المرتفعة المقامة تخليدًا للقابعين في األرض .وقد كتب في هذا المجال المعماري البريطاني
“أون جونز” في القرن التاسع عشر ،أن المبدأ األساس في فن العمارة هو زخرفة المبنى ال بناء الزخرفة وهذا ما
اعتمده البناؤون المسلمون .وكما يضيف “جونز” H:ال نجد إطالقًا زخرفة فاقدة الهدف أو زائدة أو غير ضرورية في
الفن الزخرفي اإلسالمي ،إنها زخرفة طبيعية وواقعية.
وأبرز Hعناصر الزخرفة اإلسالمية هو فن الخط العربي .فكل كلمة عربية ملفوظة أو مكتوبة منذ أن نزل القرآن،
أصبحت كلمة هللا ،وبالتالي Hاعتمدها الفنانون في أعمالهم الزخرفية أو التجميلية .فما من بناء أو صرح إسالمي يغيب
إن على حجارة البناء أو الخشب المستعمل أو عنه فن الخط ،فالبد من آيات تكتب على المدخل وفي القاعات والغرفْ H،
في الرسوم ،وغالبًا ما تضاف Hإلى اآليات أسماء أصحاب البناء وتاريخ اإلنشاء والذين صمموا أو نفذوا العمل ،وقد
يُكتفى أحيانًا بذكر اسم هللا سبحانه وتعالى مكتوبًا Hومكررًا أو اسم الرسول Hالكريم محمد صلى هللا عليه وسلم Hمكتوبًا
ومكررًاH.
العنصر Hالثاني هو الفن الهندسي الذي أدخل عليه المهندسون المعماريون المسلمون نماذج لم تكن معروفة أو معتمدة من
قبل ،وهذه النماذج واألنماط Hتُظهر حب المسلم إلى التناسق Hالهندسي والتكرار واستنباط أنماط جديدة أو استحضارH
الماضي البعيد السابق لإلسالم .وليس من شك أن الفنان المسلم ،عرف كيف يمازج بين المساحات واألجزاء وبين
إن في العمارة نفسها أو في الفرش الذي اعتمده. الجمال الهندسي والضوء واللونْ ،
أما العنصر الثالث -أي الرسوم Hالطبيعية -فالفنانون المسلمون اعتمدوا إلى حد كبير في أعمالهم الزخرفية على الرسومH
المنقولة من الطبيعة بدقة وإتقان بار َزين ،فقد رسموا Hالنباتات واألزهار Hعلى الجدران واألقمشة وأشياء أخرى عديدة.
وقد Hبرز هذا العنصر فيما سمي عالمًي‚ًّHا بـ”األرابسك” Hأو “الزخرفة النباتية الهندسية” التي تُظهر النباتات من أشجار
وجنبات وأعشاب على طبيعتها من دون إضافات أو تبديل .فنحن نرى شجرة نامية تتشعب أغصانها وتبرز أوراقها
بألوانها Hالطبيعية وتتفتح أزهارها التي ال تذبل.
لم يشجع اإلسالم الفنان المسلم على رسم اإلنسان أو الحيوان ،لذلك ال نرى إال القليل من رسوم Hيبدو فيها حيوان أو
إنسان .فهذان المخلوقان المتحركان هما -في ضمير المسلم ومعتقده -من خلق هللا ،وبالتالي يستحب تجنب إعادة خلقهما
في الرسوم Hواألعمال الزخرفية.
أما الضوء فهو Hبالنسبة للمسلم عامة وللناطقين بالعربية بنوع خاص رمز الوحدة اإللهية ،فضالً عن أن الطبيعة التي
يعيش في كنفها تمتلئ نورًا وضو ًءا أكثر من أي طبيعة أخرى .من هنا كان الضوء عامالً مه ‚ًHمًّا في الزخرفة المعمارية
اإلسالمية ،أن في شكل البناء وما يتخلله من فسحات كبيرة وفناءان ،وأن في الداخل حيث غلبت األلوان الفاتحة أو
الزاهية في طالء الجدران وفي الفرش من مقاعد وسجاد ومتكئاتH.
الح ّر على أكثر البلدان العربية واإلسالمية ،من هنا ركز المعماريون وفنانو الزخرفة كثيرًا على أن تشمل الماء يغلب َ
-بر ًكا داخلية أو صو ًرا Hجدارية للجداول واألنهار -المباني التي صمموها قدي ًما Hوحديثًا .فكانوا بذلك يتجاوبون مع
تعطش العربي والمسلم للماء ،فإذا هو فقدها فعالً بسبب شحتها فال بأس أن يمتع النظر بزخرفة تجلب إليه هذه المسرة.
هذا وتعد الزخرفة والتزيين واحدة من أهم الفنون اإلسالمية عراقة ،حيث تشكل سيمفونية شرقية حالمة األلوان متناغمة
األلحان ،نستشف من ألقها الصلة الحميمية بينها وبين فن الخط في محور Hتكاملي يمثل القاعدة السليمة لجوهر Hالفن
اإلسالمي.
ضا بمواصفات محدودة ومقاسات مضبوطة ،وهي مجموعة من الباقات التي يتم هذا وتتمتع الزخرفة اإلسالمية أي ً
توزيعها على ساحة العمل الفني من كتاب أو مخطوط Hأو زاوية من إحدى الزوايا ،كما أنها عمل تنسيقي يعطي للمتلقي
أولوية االطالع والبحث في أروقة تلك اللوحة من جهة ،ومن جهة أخرى يضعك أمام حديقة غناء تنبعث من أرجائهاH
عالمات الطمأنينة والعظمة والوقار H.وإن أول عمل نستطيع أن ننظر إليه بتمعن ،هي الزخرفة التي تضفي على العمل
الفني قداسة وألقًا وضيا ًء. .