You are on page 1of 3

‫الزخرفة اإلسالمية بين الرمز والداللة‬

‫معصوم محمد خلف‬


‫مجلة حراء ‪ , -‬ثقافة وفن ‪ -‬العدد ‪29/01/2017 - 27‬‬

‫برع المسلمون في استعمال الخطوط الهندسية وصياغتها في أشكال فنية رائعة‪ ،‬فظهرت المضلعات المختلفة واألشكال‬
‫النجمية والدوائر المتداخلة‪ .‬وقد زينت هذه الزخرفة المباني كما وشحت التحف الخشبية والنحاسية ودخلت في صناعة‬
‫األبواب وزخرفة السقوف‪ .‬ولئن كانت هذه الزخارف دليالً على موهبة فنية عظيمة‪ ،‬فهي أيضًا دليل على علم متقدم‬
‫بالهندسة العملية‪.‬‬
‫والزخرفة الهندسية ذات أهمية خاصة في الفن اإلسالمي‪ ،‬ولعل أهميتها تلك نتيجة مطابقتها‪ H‬للمواصفات التي يقبلها‬
‫المنهج اإلسالمي‪ ،‬وهذا ما يفسر لنا ذلك األثر الكبير الذي تفرضه على كل الفن اإلسالمي‪ ،‬إذ أصبح األسلوب الهندسي‬
‫واحدًا من األساليب التي طبعت الزخرفة النباتية نفسها بأسلوبها‪ ،‬فكثي ًرا ما جاءت هذه الزخرفة بإخراج هندسي عجيب‪،‬‬
‫بل إن الكتابة نفسها ‪-‬وهي الفن اإلسالمي‪ H‬اآلخر‪ -‬كثي ًرا ما تفنن في إخراجها الفنان المسلم فجاءت في قوالب هندسية‬
‫متنوعة األشكال‪ .‬لقد استطاعت الهندسة أن تفرض سيادتها في الفن اإلسالمي‪ ،‬وذلك بغلبتها على شبق األشكال كما‬
‫يقول “جارودي”‪H.‬‬
‫وال يفوتنا هنا‪ ،‬أن نذكر ما كان للفرجار‪ H‬من دور‪ H‬في تقدم هذه الزخرفة وسيادتها‪ H.‬فقد كان للدائرة دور كبير في هذا‬
‫العطاء غير المحدود من األشكال‪ ،‬يؤكد‪ H‬هذا ويوسع مساحته ملء بعض المساحات وترك غيرها فارغة‪.‬‬

‫الحسابات الهندسية عند المسلمين‬

‫فالزخارف‪ H‬اإلسالمية الهندسية بلغت ذروة نضوجها الفني بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر الميالديين‪ ،‬حيث‬
‫كانت موضع دراسة علمية نشرت في مجلة “العلم والحياة” الفرنسية ملخصًا عنها في شهر أبريل من عام ‪.2007‬‬
‫واستنا ًدا‪ H‬إلى تلك الدراسة التي أعدها العالمان “بيتر لومن” من جامعة هارفرد‪ H‬و”بول ستاينهاردت” من جامعة‬
‫برنستون‪ ،‬فإن الفنانين المسلمين اعتمدوا في تصميم‪ H‬هذه الزخارف على حسابات هندسية لم يتوصل إليها العلماء‬
‫الغربيون إال في سبعينيات القرن العشرين‪.‬‬
‫ورأى‪ H‬العالمان األمريكيان‪ ،‬أن االنطالق من شكل هندسي‪ H‬بسيط في رسم‪ H‬امتدادات له‪ ،‬تتقاطع وتتشابك‪ H‬لتشكل جملة‬
‫أشكال ال تتكرر أكثر من مرة في رسم‪ ،‬يبقى محافظًا‪ H‬على وحدته وتجانسه‪.‬‬
‫وقد‪ H‬استطاع المسلمون استخراج أشكال هندسية متنوعة من الدائرة‪ ،‬منها المسدس والمثمن والمعشر‪ H،‬وبالتالي المثلث‬
‫والمربع‪ H‬والمخمس‪ .‬ومن تداخل هذه األشكال مع بعضها وملء بعض المساحات وترك‪ H‬بعضها فار ًغا‪ ،‬نحصل على ما‬
‫ال حصر‪ H‬له من تلك الزخرفات‪ H‬البديعة التي تستوقف العين لتنقل بها رويدًا روي ًدا‪ H‬من الجزء إلى الكل‪ ،‬ومن كل جزئي‬
‫إلى كل أكبر‪.‬‬
‫ولقد كان “هنري فوسيون”‪ H‬دقيق التعبير عميق المالحظة حينما قال‪“ :‬ما أخال شيئًا يمكنه أن يجرد الحياة من ثوبها‬
‫الظاهر وينقلنا إلى مضمونها الدفين‪ ،‬مثل التشكيالت الهندسية للزخارف‪ H‬اإلسالمية‪ .‬فليست هذه التشكيالت سوى‪ H‬ثمرة‬
‫لتفكير قائم على حساب دقيق قد يتحول إلى نوع من الرسوم البيانية ألفكار‪ H‬فلسفية ومعان روحية‪ ،‬غير أنه ينبغي أال‬
‫يفوتنا أنه خالل هذا اإلطار التجريدي‪ H،‬تنطلق حياة متدفقة عبر الخطوط‪ H‬فتؤلف بينها تكوينات تتكاثر‪ H‬وتتزايد‪ ،‬متفرقة‬
‫مرة ومجتمعة مرات‪ ،‬وكأن هناك روحًا هائمة هي التي يصلح ألكثر من تأويل يتوقف‪ H‬على ما يصوب عليه المرء‬
‫نظره ويتأمله منها وجميعها‪ ،‬تخفى وتكشف في الواحد عن سر ما تتضمنه من إمكانات وطاقات بال حدود”‪H.‬‬

‫زخرفة تنبع من الدين والتراث‬

‫للزخرفة اإلسالمية مزاياها وأشكالها الخاصة التي تميزها عن سواها من زخرفة غربية أو آسيوية أو أفريقية‪ .‬وال غر َو‬
‫وإن هذه الزخرفة المستمدة من تراث شرقي‪-‬عربي قديم‪ ،‬غلب عليها منذ مجيء اإلسالم الطابع الديني وما زال حتى‬
‫صا‪ H‬وأنه تطبع باألشكال واأللوان والمواد المستعملة التي كانت‬
‫يومنا‪ .‬وهذا الطابع ال يخضع لمنظومة موحدة‪ ،‬خصو ً‬
‫سائدة في العالم الذي دخله اإلسالم‪ ،‬وهذا العالم كبير يمتد من الصين حتى األطلسي‪.‬‬
‫حيث ترتكز‪ H‬الزخرفة اإلسالمية على أسس عميقة الجذور تنبع من الدين والتقاليد المتوارثة‪ .‬وقد هدف البناؤون‬
‫والفنانون المسلمون في أعمالهم‪ ،‬إلى إبراز خصوصية هذه التقاليد التي غلب عليها اإلسالم منذ أن جاء‪ .‬من هنا نرى‬
‫العالقة الحميمة بين اإلسالم وفن العمارة والزخرفة وبناء المدن ‪-‬رغم االختالفات السطحية التي نشاهدها‪ -‬فهي بمجملها‬
‫تعكس روح الدين والخطوط‪ H‬الكبرى التي رسمها لحياة المسلم إجماالً والعربي تحديدًا‪.‬‬

‫وكلها تعتمد على ما أسماه بعض مؤرخي الفن اإلسالمي؛ السكينة والراحة الروحية والجسدية والتأمل والبساطة‪ .‬ومن‬
‫هنا نرى كم اعتمد فن الزخرفة اإلسالمي على األلوان والضوء ووسع المساحات‪.‬‬
‫إن عناصر الزخرفة اإلسالمية فيمكن اختصارها بستة عناصر هي‪ :‬فن الخط‪ ،‬الهندسة‪ ،‬الرسوم‪ H‬الطبيعية‪ ،‬الحيوانات‪،‬‬
‫الضوء‪ ،‬الماء‪ .‬وكلها عناصر جالبة للراحة والسكينة والهدوء أكثر من كونها تعتمد على العظمة الفردية كتصوير‬
‫األشخاص البارزين أو العظمة المعمارية‪ ،‬حيث ترتفع القصور‪ H‬الشامخة ودُور‪ H‬العبادة الضخمة المزينة بكل أنواع‬
‫الرسوم‪ H‬والتماثيل والمدافن المرتفعة المقامة تخليدًا للقابعين في األرض‪ .‬وقد كتب في هذا المجال المعماري البريطاني‬
‫“أون جونز” في القرن التاسع عشر‪ ،‬أن المبدأ األساس في فن العمارة هو زخرفة المبنى ال بناء الزخرفة وهذا ما‬
‫اعتمده البناؤون المسلمون‪ .‬وكما يضيف “جونز”‪ H:‬ال نجد إطالقًا زخرفة فاقدة الهدف أو زائدة أو غير ضرورية في‬
‫الفن الزخرفي اإلسالمي‪ ،‬إنها زخرفة طبيعية وواقعية‪.‬‬

‫التناسق الهندسي واستنباط أنماط جديدة‬

‫وأبرز‪ H‬عناصر الزخرفة اإلسالمية هو فن الخط العربي‪ .‬فكل كلمة عربية ملفوظة أو مكتوبة منذ أن نزل القرآن‪،‬‬
‫أصبحت كلمة هللا‪ ،‬وبالتالي‪ H‬اعتمدها الفنانون في أعمالهم الزخرفية أو التجميلية‪ .‬فما من بناء أو صرح إسالمي يغيب‬
‫إن على حجارة البناء أو الخشب المستعمل أو‬ ‫عنه فن الخط‪ ،‬فالبد من آيات تكتب على المدخل وفي القاعات والغرف‪ْ H،‬‬
‫في الرسوم‪ ،‬وغالبًا ما تضاف‪ H‬إلى اآليات أسماء أصحاب البناء وتاريخ اإلنشاء والذين صمموا أو نفذوا العمل‪ ،‬وقد‬
‫يُكتفى أحيانًا بذكر اسم هللا سبحانه وتعالى مكتوبًا‪ H‬ومكررًا أو اسم الرسول‪ H‬الكريم محمد صلى هللا عليه وسلم‪ H‬مكتوبًا‬
‫ومكررًا‪H.‬‬
‫العنصر‪ H‬الثاني هو الفن الهندسي الذي أدخل عليه المهندسون المعماريون المسلمون نماذج لم تكن معروفة أو معتمدة من‬
‫قبل‪ ،‬وهذه النماذج واألنماط‪ H‬تُظهر حب المسلم إلى التناسق‪ H‬الهندسي والتكرار واستنباط أنماط جديدة أو استحضار‪H‬‬
‫الماضي البعيد السابق لإلسالم‪ .‬وليس من شك أن الفنان المسلم‪ ،‬عرف كيف يمازج بين المساحات واألجزاء وبين‬
‫إن في العمارة نفسها أو في الفرش الذي اعتمده‪.‬‬ ‫الجمال الهندسي والضوء واللون‪ْ ،‬‬
‫أما العنصر الثالث ‪-‬أي الرسوم‪ H‬الطبيعية‪ -‬فالفنانون المسلمون اعتمدوا إلى حد كبير في أعمالهم الزخرفية على الرسوم‪H‬‬
‫المنقولة من الطبيعة بدقة وإتقان بار َزين‪ ،‬فقد رسموا‪ H‬النباتات واألزهار‪ H‬على الجدران واألقمشة وأشياء أخرى عديدة‪.‬‬
‫وقد‪ H‬برز هذا العنصر فيما سمي عالمًي‚‪ًّH‬ا بـ”األرابسك”‪ H‬أو “الزخرفة النباتية الهندسية” التي تُظهر النباتات من أشجار‬
‫وجنبات وأعشاب على طبيعتها من دون إضافات أو تبديل‪ .‬فنحن نرى شجرة نامية تتشعب أغصانها وتبرز أوراقها‬
‫بألوانها‪ H‬الطبيعية وتتفتح أزهارها التي ال تذبل‪.‬‬
‫لم يشجع اإلسالم الفنان المسلم على رسم اإلنسان أو الحيوان‪ ،‬لذلك ال نرى إال القليل من رسوم‪ H‬يبدو فيها حيوان أو‬
‫إنسان‪ .‬فهذان المخلوقان المتحركان هما ‪-‬في ضمير المسلم ومعتقده‪ -‬من خلق هللا‪ ،‬وبالتالي يستحب تجنب إعادة خلقهما‬
‫في الرسوم‪ H‬واألعمال الزخرفية‪.‬‬
‫أما الضوء فهو‪ H‬بالنسبة للمسلم عامة وللناطقين بالعربية بنوع خاص رمز الوحدة اإللهية‪ ،‬فضالً عن أن الطبيعة التي‬
‫يعيش في كنفها تمتلئ نورًا وضو ًءا أكثر من أي طبيعة أخرى‪ .‬من هنا كان الضوء عامالً مه ‚‪ًH‬مًّا في الزخرفة المعمارية‬
‫اإلسالمية‪ ،‬أن في شكل البناء وما يتخلله من فسحات كبيرة وفناءان‪ ،‬وأن في الداخل حيث غلبت األلوان الفاتحة أو‬
‫الزاهية في طالء الجدران وفي الفرش من مقاعد وسجاد ومتكئات‪H.‬‬
‫الح ّر على أكثر البلدان العربية واإلسالمية‪ ،‬من هنا ركز المعماريون وفنانو الزخرفة كثيرًا على أن تشمل الماء‬ ‫يغلب َ‬
‫‪-‬بر ًكا داخلية أو صو ًرا‪ H‬جدارية للجداول واألنهار‪ -‬المباني التي صمموها قدي ًما‪ H‬وحديثًا‪ .‬فكانوا بذلك يتجاوبون مع‬
‫تعطش العربي والمسلم للماء‪ ،‬فإذا هو فقدها فعالً بسبب شحتها فال بأس أن يمتع النظر بزخرفة تجلب إليه هذه المسرة‪.‬‬
‫هذا وتعد الزخرفة والتزيين واحدة من أهم الفنون اإلسالمية عراقة‪ ،‬حيث تشكل سيمفونية شرقية حالمة األلوان متناغمة‬
‫األلحان‪ ،‬نستشف من ألقها الصلة الحميمية بينها وبين فن الخط في محور‪ H‬تكاملي يمثل القاعدة السليمة لجوهر‪ H‬الفن‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫ضا بمواصفات محدودة ومقاسات مضبوطة‪ ،‬وهي مجموعة من الباقات التي يتم‬ ‫هذا وتتمتع الزخرفة اإلسالمية أي ً‬
‫توزيعها على ساحة العمل الفني من كتاب أو مخطوط‪ H‬أو زاوية من إحدى الزوايا‪ ،‬كما أنها عمل تنسيقي يعطي للمتلقي‬
‫أولوية االطالع والبحث في أروقة تلك اللوحة من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى يضعك أمام حديقة غناء تنبعث من أرجائها‪H‬‬
‫عالمات الطمأنينة والعظمة والوقار‪ H.‬وإن أول عمل نستطيع أن ننظر إليه بتمعن‪ ،‬هي الزخرفة التي تضفي على العمل‬
‫الفني قداسة وألقًا وضيا ًء‪. .‬‬

You might also like