You are on page 1of 769

‫التاريخ السياسي‬

‫للوطن العربي‬

‫‪1‬‬
2
‫الدكتور خليل حسني‬

‫التاريخ السياسي‬
‫للوطن العربي‬

‫قدم له‬
‫الدكتور محمد املجذوب‬
‫رئيس اجلامعة اللبنانية سابق ًا‬

‫منشورات احللبي احلقوقية‬

‫‪3‬‬
‫منشورات احللبي احلقوقية‬
‫‪AL - HALABI‬‬
‫‪LEGAL - PUBLICATIONS‬‬

‫‪ISBN 978-614-401-276-5‬‬

‫جميع احلقوق محفوظة‬


‫الطبعة األولى‬
‫‪9‬‬ ‫‪786144 012765‬‬
‫© ‪2012‬‬

‫ال يجوز نسخ أو استعمال أي جزء من هذا الكتاب‬ ‫‪All rights reserved‬‬
‫في أي شكل من األشكال أو بأية وسيلة من الوسائل‬
‫‪ -‬سواء التصويرية أم اإللكترونية أم امليكانيكية‪ ،‬مبا‬
‫في ذلك النسخ الفوتوغرافي والتسجيل على أشرطة‬ ‫تنضيد وإخراج‬
‫أو سواها وحفظ املعلومات واسترجاعها ‪ -‬دون إذن‬
‫‪MECA‬‬
‫خطي من الناشر‪.‬‬ ‫‪P.O. BOX 113-5096 BEIRUT - LEBANON‬‬
‫‪Tel. & Fax 961-1-362370, Cellular 961-3-918120‬‬
‫ان جميع ما ورد في هذا الكتاب من ابحاث فقهية‬ ‫‪E - mail meca@cyberia.net.lb‬‬
‫وآراء وتعليقات وقرارات قضائية وخالصاتها‪ ،‬هي‬
‫من عمل املؤلف ويتحمل وحده مسؤوليتها وال يتحمل‬
‫الناشر أية مسؤولية لهذه اجلهة‪ .‬كما ان الناشر غير‬ ‫منشورات احللبي احلقوقية‬
‫مسؤول عن األخطاء املادية التي قد ترد في هذا‬
‫املؤلف وال عن اآلراء املقدمة في هذا اإلطار‪.‬‬
‫فرع اول‪ :‬بناية الزبن ‪ -‬شارع القنطاري‬
‫قرب تلفزيون أخبارية املستقبل‬
‫هاتف‪)+961-1( 364561 :‬‬
‫© ‪All rights reserved‬‬
‫‪)+961-3( 640544 - 640821‬‬ ‫هاتف خليوي‪:‬‬
‫‪AL - HALABI Legal Publications‬‬ ‫ثان‪ :‬سوديكو سكوير‬
‫فرع ٍ‬
‫‪)+961-1( 612632‬‬ ‫هاتف‪:‬‬
‫‪No part of this publication may be trans-‬‬
‫فاكس‪)+961-1( 612633 :‬‬
‫‪lated, reproduced, distributed in any form‬‬
‫‪or by any means, or stored in a data base‬‬ ‫ص‪.‬ب‪ 11/0475 .‬بيروت ـ لبنان‬
‫‪or retrieval system, without the prior‬‬ ‫‪E - mail elhalabi@terra.net.lb‬‬
‫‪written permission of the publisher.‬‬
‫‪www.halabi-lp.com‬‬

‫‪4‬‬
‫اإلهداء‬

‫إلى شقيقتي فاطمة‪...‬‬


‫شهيدة عروبة لبنان وقضاياه‬

‫‪5‬‬
6
‫تقدمي‬

‫الدكتور محمد املجذوب‬


‫رئيس اجلامعة اللبنانية سابق ًا‬

‫يتميز الباحثون في العلوم السياسية‪ ،‬إل��ى جانب اهتمامهم‬


‫بالتقميش والتجميع وال�ع��رض‪ ،‬بنزعة التعليل والتحليل‪ ،‬ومحاولة‬
‫ال��رب��ط ب�ين األح��داث‪ ،‬وال�ت�ع�رّف إل��ى املسبّبات‪ ،‬واستنتاج الدروس‬
‫وال��عِ �ب��ر‪ .‬وت�ل��ك م�ي��زة ت�ل�ازم زميلنا ال��دك�ت��ور خليل ح�س�ين‪ ،‬صاحب‬
‫املجلدين عن التاريخ السياسي ألقطار الوطن العربي‪ ،‬وعن القضايا‬
‫واملشكالت والهموم وعوامل التغيير والصراع في هذا الوطن‪.‬‬

‫فالوطن العربي كان قبل نهاية احلرب العاملية األول��ى‪ ،‬وعلى‬


‫ال��رغ��م م��ن خضوعه لإلمبراطورية العثمانية‪ ،‬شبه م��وحّ ��د‪ ،‬تراثياً‬
‫وجغرافياً واجتماعياً‪ .‬غير أن عوامل التفكيك والتشتيت والتجزئة‬
‫عمّته بعد ذلك وفرّقته وباعدت بني أقطاره‪.‬‬

‫وإذا كانت ال�ق�ي��ادات وال��زع��ام��ات العربية تتحمل قسطاً من‬


‫املسؤولية املترتّبة على هذا التخلف أو االنحطاط أو التقهقر املزري‪،‬‬
‫فإن أصحاب احلمالت واملؤامرات واألحقاد واألطماع االستعمارية‬
‫الغربية تتحمل معظم األقساط الباقية‪ .‬فالغرب االستعماري الذي‬

‫‪7‬‬
‫فوجئ بوصول اجليش العثماني إل��ى أس��وار مدينة ڤيينا‪ ،‬وبتم ّدد‬
‫ال �ع��رب ف��ي األن��دل��س ب�ج��ام�ع��ات�ه��م وم��راك��زه��م ال�ع�ل�م�ي��ة ومبادئهم‬
‫وتعاليمهم الروحية واإلنسانية‪ ،‬تناسى ثمار الرسالة احلضارية التي‬
‫حملها العرب إليه لتكون مدماكاً وح��اف��زاً لنهضته وت�ط��وره‪ ،‬وقرر‬
‫االنتقام ممّن أحسن إليه ونقل إليه علوم الدنيا آنذاك‪ .‬وكانت نتيجة‬
‫ن�ك��ران اجلميل سلسلة م��ن احل��روب الصليبية الغاشمة‪ ،‬وحمالت‬
‫طرد وتعذيب وإبادة في األندلس‪ ،‬ومحاوالت تدمير وتشويه وتسفيه‬
‫للمبادئ والقيم واللغة العربية‪.‬‬

‫وكانت احلرب العاملية األولى الفرصة املناسبة لإلفصاح عن‬


‫املكنون واملضمر من األحقاد‪ ،‬وإجناز ما استُعصي على الغرب‪ ،‬من‬
‫قبل‪ ،‬من احتالل وهيمنة ونهب للثروات‪ .‬ومتثل كل ذل��ك في وعد‬
‫بلفور‪ ،‬واتفاقيات سايكس ‪ -‬بيكو‪ ،‬وتعزيز نظام احلماية والوصاية‪،‬‬
‫وفرض نظام االنتداب‪ .‬وكلها‪ ،‬في النهاية‪ ،‬أنظمة مستمدة من أحشاء‬
‫االستعمار واإلذالل‪.‬‬

‫ودراس���ة ال��زم�ي��ل ال��دك �ت��ور خليل ح�س�ين ت�ش�ي��ر‪ ،‬إل��ى املؤامرة‬


‫الكبرى التي شنّها الغرب االستعماري على األم��ة العربية‪ ،‬والتي‬
‫أثمرت جتزئة وانقسامات وخالفات ومنازعات بني األقطار العربية‪.‬‬
‫وكان هذا العرب‪ ،‬كلما الحت في األفق بارقة أمل في حتقيق وحدة‬
‫عربية‪ ،‬شاملة أو جزئية أو مرحلية‪ ،‬يتص ّدى لها بكل ما ميلك من‬
‫ق��وة للحؤول دون قيامها‪ .‬ول�ع��لَّ التفسير املبسّ ط لهذا امل��وق��ف أو‬
‫التصرف الغربي إزاء كل محاولة أو مبادرة وحدوية عربية يكمن في‬
‫فكرة واحدة‪ ،‬هي اخلوف أو الهلع من وحدة العرب‪.‬‬

‫واحلقيقة أن فكرة قيام احتاد يضم األقطار العربية في إطار‬


‫تنظيم فدرالي سياسي واحد ليست سوى رغبة تتجاوب مع طموح‬

‫‪8‬‬
‫العرب‪ ،‬وترتبط بفكرة التالحم الطبيعي والعضوي والقومي الذي‬
‫يجب أن يسود بني دول تعيش في وطن مشترك‪ ،‬وتنتمي إلى قومية‬
‫واحدة‪ ،‬وتتحدث لغة واحدة‪ ،‬ومتلك تراثاً فكرياً وحضارياً وروحياً‬
‫مشتركاً‪ ،‬وتتقاسم مصالح مشتركة‪ ،‬وتواجه مصيراً وعقبات وأخطاراً‬
‫مشتركة‪.‬‬

‫والوحدة العربية‪ ،‬كمشروع وهدف‪ ،‬تعرّضت حلمالت من التجريح‬


‫أو التنكيل أو اإلحباط تستهدف التشكيك في إمكان حتقيقها‪ .‬غير‬
‫أن الشعب في كل األقطار العربية لم يتخلَّ يوماً‪ ،‬على الرغم من‬
‫امل��ؤام��رات والتجارب امل��ري��رة‪ ،‬عن ه��ذا األم��ل امل��رجت��ى‪ ،‬ول��م يتوقف‬
‫يوماً عن املطالبة بإجنازه‪ .‬والعواطف اجلياشة التي يُبديها‪ ،‬في كل‬
‫املناسبات واألزمات وإزاء احلركات والتيارات واألغنيات واألناشيد‬
‫القومية (ومنها نشيد «بالد العرب أوطاني»‪ ،‬وأغنية «احللم العربي»)‬
‫شاهد إثبات على مشاعره وآماله وتطلعاته الصادقة‪.‬‬

‫وتطلّع الشعب أو املواطن العربي إلى الوحدة ينطلق من عدة‬


‫مفاهيم أو حقائق تمُ ثّل في وجدانه القومي مكاسب وفوائد من شأنه‬
‫مساعدته على استعادة األمجاد‪ ،‬وإثبات الذات‪ ،‬ومواكبة التطورات‬
‫العلمية واحلضارية والتقدمية في العالم‪ ،‬واإلسهام في ضخّ املزيد من‬
‫الروحانيات واألخالقيات والقيم السامية في العالقات واملعامالت‬
‫الدولية‪ .‬ويتجلّى كل ذلك في أمور عدة‪ ،‬أهمها‪:‬‬

‫‪ - 1‬إن كل قطر عربي عاجز‪ ،‬مبفرده‪ ،‬ولو ملك الثروات الطائلة‬


‫وال�ك�ف��اي��ات الهائلة‪ ،‬ع��ن مواجهة األخ�ط��ار والصعوبات‬
‫الداخلية واخلارجية‪ ،‬وحتقيق التنمية الكاملة والشاملة‪،‬‬
‫واالستفادة من العقول املبدعة واالختراعات املتالحقة‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪ - 2‬إن البعث احل �ض��اري ل�لأم��ة ال�ع��رب�ي��ة‪ ،‬ف��ي عصر الدول‬
‫والتكتالت واألطماع العمالقة‪ ،‬ال ميكن أن يتم ويُؤتي أ ُكله‬
‫إ َّال بالوحدة‪ ،‬فقوى الغرب‪ ،‬املتمثّلة بتجمعاته اإلقليمية‬
‫الواسعة‪ ،‬تسعى دائ�م�اً إلجهاض كل نهضة عربية ووأد‬
‫ك��ل وح ��دة ع��رب�ي��ة‪ ،‬ألن �ه��ا ت ��درك أن ال��وح��دة ت�ع�ن��ي قيام‬
‫دولة عربية قادرة‪ ،‬مبا متلك من كثافة سكانية وطاقات‬
‫إب��داع�ي��ة وث ��روات طبيعية وم��واق��ع إستراتيجية وتراث‬
‫فكري وحضاري‪ ،‬على تطوير قدراتها وجتنيد طاقاتها‬
‫وتعزيز مكانتها وتغيير موازين القوى في العالم‪.‬‬

‫‪ - 3‬إن ال��وح��دة ليست ع��ودة إل��ى ذك��ري��ات امل��اض��ي املجيد‪،‬‬


‫ال نضالياً مرحلياً‪ ،‬وليست مجرد تعاون بني‬ ‫وليست عم ً‬
‫األقطار العربية في بعض امليادين‪ ،‬وإمنا هي عمل ثوري‬
‫يُعبّر األوض��اع والعقليات ويتفاعل مع هدف ثوري آخر‪،‬‬
‫ه��و االن �خ��راط ف��ي عالم الدميقراطية التي تهدف إلى‬
‫تركيز السلطة في يد الشعب‪ ،‬وضمان احلقوق واحلريات‬
‫للجميع دون أي تفرقة أو متييز‪ ،‬واعتبار أن الدميقراطية‬
‫لم تعد ذات مضمون سياسي فقط‪ ،‬بل أصبحت أيضاً‬
‫ذات مضمون اقتصادي واجتماعي وثقافي‪.‬‬

‫‪ - 4‬إن الوحدة ليست حترّراً مادياً أو اقتصادياً فقط‪ ،‬وإمنا هي‬


‫أيضاً حترر نفسي وأخالقي‪ ،‬وانطالق حضاري وإبداعي‬
‫مناقض آلف��ة التجزئة وم��ا أفرزته من عقليات متحجرة‬
‫وعالقات متوترة وأوضاع سياسية واجتماعية متخلّفة‪.‬‬

‫‪ - 5‬إن الوحدة ليست‪ ،‬في النهاية‪ ،‬وحدة الدول العربية فقط‪،‬‬


‫وإمنا هي في الدرجة األولى وحدة املواطنني العرب في‬

‫‪10‬‬
‫هذه الدول‪ ،‬الذين يرغبون في التواصل والتعاون واملشاركة‬
‫في رسم السياسة واستشراف املستقبل وحماية الوجود‬
‫وال �ع��زة وال �ش��رف‪ ،‬وال�ت�ص��دي مجتمعني للمخاطر التي‬
‫تتعرض لها أمتهم‪.‬‬

‫‪ - 6‬إن التجارب علّمت الشعب العربي ع��دم اإلص��رار على‬


‫حتقيق الوحدة الفوريّة الشاملة‪ ،‬ألن الظروف واألوضاع‬
‫والرواسب التي خلفتها عصور االنحطاط والقهر ورعتها‬
‫ق��وى االستعمار‪ ،‬لم تعد تسمح إ َّال بوحدة على مراحل‬
‫وفي إطار احتادي (فدرالي)‪.‬‬

‫‪ - 7‬إن ال��وح��دة‪ ،‬ف��ي ال �ظ��روف ال�ق��اس�ي��ة ال�ت��ي مت��ر ب�ه��ا األمة‬


‫العربية‪ ،‬أصبحت ض��رور ًة تاريخي ًة وانتفاض ًة مصيريةً‪،‬‬
‫فإستراتيجية املستعمرين كانت تهدف دوماً إلى منع قيام‬
‫أية وحدة عربية‪ ،‬ألن هذه الوحدة‪ ،‬إن حتقّقت‪ ،‬ستكون ثورة‬
‫مزدوجةً‪ :‬ثورة في الوجود العربي من شأنه إيجاد احللول‬
‫اجلذرية ملعظم التناقضات احمللية أو الطائفية أو العرقية‬
‫التي تعرقل تقدمه‪ ،‬وثور ًة على أطماع القوى االستعمارية‬
‫والصهيونية‪ ،‬م��ن شأنها قلب م��وازي��ن ال�ق��وى ف��ي العالم‪،‬‬
‫واإلسهام في تغيير الواقع العربي املتردي‪ ،‬محلياً ودولياً‪.‬‬

‫وحتدث زميلنا في دراسته عن احلرب األهلية التي اكتوى لبنان‬


‫بنارها مدة خمس عشرة سنة‪ ،‬والتي أذهلت العالم بفجورها وأهوالها‪،‬‬
‫والتي انتهت بتوقيع وثيقة الطائف وتوقّف العمليات احلربية‪ .‬وميكننا‪،‬‬
‫في هذه املناسبة‪ ،‬إبداء بعض املالحظات السريعة‪:‬‬

‫�أت بحل نهائي ل�لأزم��ة الكبرى‬


‫‪ - 1‬إن وثيقة الطائف ل��م ت� ِ‬

‫‪11‬‬
‫التي عصفت بالبالد‪ ،‬بل كانت تسوي ًة سياسي ًة تتضمن‬
‫ال صاحلاً للبحث السلمي في احلل‬ ‫إطاراً عاماً أو مدخ ً‬
‫النهائي‪ .‬ومع ذلك فإن البعض يخشى أن تشكّل الوثيقة‬
‫هدن ًة توفّر ملن أضناهم التقاتل فرص ًة اللتقاط األنفاس‬
‫واإلع��داد جل��والت دموية أخ��رى‪ .‬واخلشية نابعة من أن‬
‫النظام السياسي في لبنان قائم على توازنات في احلكم‬
‫وال ينطوي على قواعد وآليات وضوابط‪ ،‬ثابتة ومحددة‪،‬‬
‫ت �س �م��ح ب��إق��ام��ة دول� ��ة ت��رت �ك��ز ع �ل��ى م��ؤس �س��ات وأجهزة‬
‫وشخصيات عادلة ونزيهة‪.‬‬

‫‪ - 2‬إن الوثيقة صيغة ال تخلو من بصمات أو خلفيات طائفية‪.‬‬


‫بل إن البعض يرى فيها عملية تكريس دستوري للوضع‬
‫الطائفي في لبنان‪ .‬وسئل أحد الزعماء السياسيني يوماً‬
‫عن رأيه في وثيقة الطائف فأجاب بسرعة بأنها تكرّس‬
‫الطائفية أكثر من ميثاق العام ‪ .1943‬وصحيح أن الوثيقة‬
‫تضمنت وعداً بإلغاء الطائفية السياسية بعد فترة غير‬
‫محددة من الزمن‪ ،‬وبعد جناح خطة مرحلية غير واضحة‬
‫املعالم والنتائج‪ ،‬إ َّال أنها ناقضت نفسها عندما دعت‬
‫إل��ى اس�ت�ح��داث مؤسسة كبرى (مجلس ال�ش�ي��وخ) تتمثل‬
‫فيها جميع العائالت الروحية (أي الطوائف) وتنحصر‬
‫صالحياتها ف��ي القضايا املصيرية (دون إي��راد حتديد‬
‫لهذه القضايا)‪.‬‬

‫�ظ بالتأييد الكامل من كل األطراف‪.‬‬ ‫‪ - 3‬إن الوثيقة لم حت� َ‬


‫لقد كانت منذ البداية موضع اعتراض أو حتفّظ ما لبث‬
‫أن انقلب إلى موضع شكوى وتذمّر على صعيد التطبيق‬
‫واملمارسة‪ .‬فهناك فئات تكتفي‪ ،‬عند حتليلها لها‪ ،‬باملآخذ‬

‫‪12‬‬
‫والسلبيات وهناك فئات أخرى تجُ ري مقارن ًة بني املكتوب‬
‫وامل �ط �ل��وب‪ ،‬ف�تُ�ق� ّر بأهمية ال�ص�ي��غ وال�ن�ص��وص املكتوبة‪،‬‬
‫ولكنها ترى أن أهميتها ال ميكن‪ ،‬بأي حال من األحوال‪،‬‬
‫أن تُعادل أهمية الوفاق النابع من القلب‪ ،‬واملرتكز على‬
‫حسن النيّة وإرادة العيش املشترك والدائم واخلالي من‬
‫العصبية الطائفية‪ .‬وف��ي رأي�ه��ا أن ال�س��واب��ق ف��ي مجال‬
‫الوفاق الوطني ال توحي بالثقة واالطمئنان‪.‬‬

‫ُرض طموح األجيال الصاعدة‪ .‬فمتطلبات‬ ‫‪ - 4‬إن الوثيقة لم ت ِ‬


‫القوى الشابة في كل مجتمع ال تنسجم‪ ،‬غالباً أو بالضرورة‪،‬‬
‫مع تطلعات األجيال املاضية أو الهرمة‪ .‬إن لكل جيل همومه‬
‫وآماله وآفاقه‪ .‬والصيغ التي يضعها ساس ًة لم يكونوا في‬
‫ماضيهم على مستوى املسؤولية تأتي بعيد ًة وغريب ًة عن‬
‫تطلعات الشباب‪ ،‬وحافل ًة باملصالح الشخصية‪ .‬ولهذا لم‬
‫يكن من املستغرب وقوف القوى الشابة الواعية من وثيقة‬
‫الطائف‪ ،‬أو من أي وثيقة أخرى مماثلة‪ ،‬موقف الرافض‪،‬‬
‫أو موقف الالمبالي على األقل‪.‬‬

‫إن الشاب اللبناني عانى من شتّى ضروب اإلهمال واحلرمان‪،‬‬


‫وخصوصاً خالل احلرب األهلية وهو يعيش اليوم في عصر التحوّالت‬
‫السريعة والعميقة واملتالحقة‪ ،‬وفي خض ّم القلق النفسي والوجودي‬
‫الرهيب الذي أصبح سم ًة من سمات العصر‪ ،‬وهو يسمع ويشاهد ما‬
‫يجري في مختلف أقطار الدنيا من انتفاضات وث��ورات ضد القهر‬
‫والظلم‪ ،‬ومن مظاهرات صاخبة تطالب باملزيد من احلقوق واحلريات‬
‫والضمانات االجتماعية (وما يجري حالياً في بعض األقطار العربية‬
‫من انتفاضات واحتجاجات ثورية يثبت ذلك)‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫ثم إن املجتمع الذي يتحرك فيه شباب اليوم ليس سوى مجتمع‬
‫مضطرب‪ ،‬حافل بالتناقضات والتحديات وامل��آس��ي‪ ،‬ويتناوب على‬
‫حكمه ج�ي� ٌل بعد جيل م��ن ال��زع��ام��ات ال�ت��ي ال ت��ري��د أن تتطور‪ ،‬وال‬
‫تسمح لألجيال الشابة بأن تتطور‪ .‬فكيف بعد ذلك‪ ،‬نريد من هذه‬
‫األجيال أن تُبارك صيغ ًة وفاقي ًة حت ّد من طموحها وتُ َعزّم أحالمها؟‬
‫وإذا كانت احلرب األهلية قد اتّسمت (أو أريد لها أن تتسم) بطابع‬
‫طائفي‪ ،‬فلماذا تبدو فترة ما بعد احلرب عاجز ًة عن إنقاذ نفسها من‬
‫هذه اآلف��ة واالجت��اه نحو الهموم واملعضالت االجتماعية واألخطار‬
‫اخلارجية‪ ،‬ما دام اجلميع يعترفون بأن الصراع االجتماعي واخلطر‬
‫اخلارجي أخطر من أيّ صراع سياسي؟‪.‬‬

‫وحتدث الزميل أيضاً في دراسته القيمة عن القضايا العربية‬


‫املعاصرة‪ .‬وأهم قضية فيها هي قضية الصراع العربي ‪ -‬اإلسرائيلي‬
‫ومحاوالت إجراء مفاوضات مع العدو اإلسرائيلي بغرض االعتراف‬
‫به ومساومته على إنشاء دولة فلسطينية مصغّرة بحدود العام ‪،1967‬‬
‫يسير من أرض فلسطني‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫أي على جزءٍ‬

‫نحن نعتقد أنها مناورة أو حيلة أو خدعة مدبّرة للوصول إلى‬


‫إنهاء القضية الفلسطينية واالع�ت��راف ال��واض��ح والصريح بالكيان‬
‫الصهيوني‪ ،‬أي التخلّي الكامل عن األجزاء املتبقية من فلسطني التي‬
‫اغتصبها ذلك الكيان بالتواطؤ والعنف واملجازر والتشريد‪.‬‬

‫وهنا يُطرح تساؤل‪ :‬هل يحقّ ألية دولة أو منظمة أو حكومة أو‬
‫جماعة عربية اإلقدام‪ ،‬بإرادتها املنفردة‪ ،‬على مثل هذا التصرف؟‪.‬‬

‫إن ال�ص��راع القائم ب�ين ال�ع��رب‪ ،‬أص�ح��اب احل��ق الطبيعي في‬


‫األرض الفلسطينية كلها‪ ،‬وبني اإلسرائيليني املغتصبني جلزء عزيز‬

‫‪14‬‬
‫من هذه األرض‪ ،‬ليس نزاعاً عادياً بني دول��ة ودول��ة‪ ،‬أو بني أنظمة‬
‫عربية وكيان إسرائيلي‪ .‬إنه صراع قومي متثل األمة العربية‪ ،‬بتاريخها‬
‫الطرف‬
‫َ‬ ‫الطويل وتراثها احلضاري وثقلها البشري وثرواتها الطائلة‪،‬‬
‫األصيل واألوحد فيه‪.‬‬

‫وعندما تكون األمة العربية بأسرها هي الطرف األصيل في‬


‫هذا الصراع املتعلق مبصيرها القومي‪ ،‬فإن كل محاولة إلدخال أي‬
‫تعديل على أس��اس ه��ذا ال�ص��راع أو م�س��اره يجب أن تتم برضاها‬
‫الكامل‪ .‬وه��ذا يعني أن ليس في وس��ع أي زعيم أو حاكم أو نظام‬
‫عربي‪ ،‬مهما يق ّل شأنه وتتكدّ س إجنازاته وتضحياته‪ ،‬أن يتصرّف‬
‫مبصير أية قضية قومية دون الرجوع إلى األمة‪.‬‬

‫إن األم��ة العربية‪ ،‬وليس احل�ك��ام وح��ده��م‪ ،‬ه��ي التي رفضته‬


‫منذ ال�ب��داي��ة وحتى اآلن‪ ،‬زرع ال��وج��ود الصهيوني ف��ي قلب الوطن‬
‫العربي‪ .‬إن هذه األمة‪ ،‬وليست األنظمة السياسية وحدها‪ ،‬هي التي‬
‫رفضت الهزمية واالستسالم‪ ،‬وضحّ ت بالشباب والثروات‪ ،‬وحتمّلت‬
‫بصبر أيوب في أيام الشدائد‪ ،‬ورضيت بالصمود في أحلك الساعات‬
‫إن ه��ذه األم��ة ال��واح��دة‪ ،‬ضميراً ومصيراً‪ ،‬وليست دولها املتعددة‪،‬‬
‫هي التي فرضت‪ ،‬في مؤمتر اخلرطوم الشهير للعام ‪ ،1967‬شعار‬
‫الالءات الثالث بعدم االعتراف‪ .‬ولهذا فإن التخلّي عن هذا الشعار‬
‫القومي الثابت ال يمُ �ك��ن أن ي�ت� ّم (إذا ُق�� ّدر ل��ه أن ي�ت��م) إ َّال مبحض‬
‫إرادتها‪.‬‬

‫ال من اختصاص‬ ‫إن التخلّي عن جزء من أرض األمة ليس عم ً‬


‫ال‬
‫احلكام‪ ،‬إن��ه من صميم صالحيات األم��ة‪ .‬والتخلّي ال يصبح عم ً‬
‫مشروعاً ومقبوالً إ َّال عندما توافق عليه األمة مبحض إرادتها وكامل‬
‫وعيها القومي‪ ،‬ولهذا فإن كل اعتراف بحق الصهيونيني في احتالل‬

‫‪15‬‬
‫أرض عربية هو خروج على إرادة األمة‪.‬‬

‫إن األمم أو ال�ش�ع��وب تُستفتى ع ��اد ًة لتقرير أم��ور ف��ي غاية‬


‫البساطة‪ ،‬كتغيير السير من اليمني إلى اليسار‪ ،‬أو إجراء تعديل في‬
‫م��ادة دستورية‪ ،‬أو إدخ��ال تغييرات طفيفة على تقسيمات إدارية‪.‬‬
‫وإذا كان األمر كذلك‪ ،‬أفال يحق لألمة التي اغتُصبت جزء عزيز من‬
‫أرضها أن تُفصح‪ ،‬في استفتاء دميقراطي حرّ‪ ،‬عن رأيها في دعوة‬
‫البعض إلى االعتراف بعدوها والتخلّي له عن جزء من أرضها؟‪.‬‬

‫في العام ‪ .1972‬حتدث املناضل القومي املرحوم فايز صايغ عن‬


‫موضوع التنازل فكتب يقول‪« :‬إن سلطة التنازل عن أي أرض عربية‬
‫ال ميلكها أي شعب عربي‪ ،‬أو أي جيل من أجيال األمة العربية‪ .‬بل إن‬
‫الشعب الفلسطيني ال ميلك سلطة التنازل عن أرض فلسطني (ناهيك‬
‫عن أيّ أرض عربية)‪ ،‬ألن أرض كل قطر في الوطن العربي هي ملك‬
‫األمة العربية جمعاء‪ ،‬على امتداد أجيالها مدى التاريخ‪ ،‬وبالتالي ان‬
‫ادعاء أي قطر عربي‪ ،‬بحق مقايضة مصير جزء من األرض العربية‬
‫مبصير جزء آخر إمنا هو اعتداء على تراث األمة العربية جمعاء‪،‬‬
‫ال عن‬‫وعلى حقوق أجيالها املتعاقبة في كامل التراب العربي‪ ،‬فض ً‬
‫كونه اعتدا ًء على حقوق أبناء اجلزء املتنازل عنه»‪.‬‬

‫وعندما زار الرئيس املصري الراحل‪ ،‬أنور السادات‪ ،‬إسرائيل‬


‫في العام ‪ ،1977‬وأعلن اعترافه بالعدو القومي للعرب‪ ،‬أذاع قادة‬
‫فصائل ال�ث��ورة الفلسطينية وثيق ًة تضمنت‪ ،‬أوالً مناهضة جميع‬
‫قراري‬
‫ٍ‬ ‫احل�ل��ول االستسالمية الصهيونية الرجعية‪ ،‬وث��ان�ي� ًا رف��ض‬
‫مجلس األمن ‪ 242‬و‪ ،338‬وجميع ق��رارات املؤمترات الدولية التي‬
‫تقوم على أساس هذين القرارين‪ .‬وثالث ًا التركيز على حق إقامة دولة‬
‫فلسطينية مستقلة على أي جزء يتم حتريره من األرض الفلسطينية‬

‫‪16‬‬
‫احملتلة‪ ،‬دون صلح أو تفاوض أو اعتراف‪.‬‬

‫إن اإلصرار الدائم لبعض العرب‪ ،‬أنظم ًة وباحثني‪ ،‬على اللجوء‬


‫إلى املنظمة العاملية (األمم املتحدة) للبحث في أروقتها ودهاليزها‬
‫عن ح ّل عادل لقضايانا القومية‪ ،‬وفي طليعتها القضية الفلسطينية‬
‫دليل واضح على أننا ال نريد أن نتعظ ونعتبر ونقتنع بأن القرارات‬
‫الصادرة عن هذه املنظمة ليست سوى توصيات عابرة وعاجزة كلياً‬
‫عن ح ّل أيّ ص��راع قومي ومصيري‪ ،‬وب��أن حسم كل ص��راع يتوقّف‪،‬‬
‫أوالً وأخيراً‪ ،‬على مدى ما ميلكه الطرف الراغب في احلسم واحلل‬
‫من إرادة وعزم وقوة‪.‬‬

‫ال من القرارات‬
‫لقد أصدرت األمم املتحدة‪ ،‬حتى اآلن‪ ،‬عدداً هائ ً‬
‫املتعلقة بقضية فلسطني‪ ،‬فبقيت كلها تقريباً حبراً على ورق‪ .‬ولم‬
‫يحدث ي��وم�اً أن متكن ق��رار دول��ي م��ن ف��رض ح� ّل ع��ادل‪ .‬فاملقاومة‬
‫الصامدة احلافلة باإلميان كانت وما زالت أصدق أنبا ًء من أي قرار‬
‫دولي‪ ،‬ولو صدر باإلجماع‪.‬‬

‫وال ��درس ال��ذي تعلّمته اجلماهير ال�ع��رب�ي��ة‪ ،‬بعد ك��ل جتاربها‬


‫املريرة مع أجهزة األمم املتحدة‪ ،‬هو أن القوانني واألحكام والقرارات‬
‫واالجتهادات الدولية عاجزة كل العجز‪ ،‬في عالم يسوده منطق القوة‬
‫والهيمنة ومعيار النفاق والتحيّز‪ ،‬عن حتقيق أي شرط من شروط‬
‫احلق والعدالة‪.‬‬

‫ألم تتجاوز اجلمعية العامة صالحياتها امليثاقية في العام ‪1947‬‬


‫عندما اتخذت قراراً بتقسيم فلسطني؟ فماذا كانت النتيجة؟‪،‬‬

‫ألم تتحمس تلك اجلمعية في العام ‪ 1948‬وتصدر قراراً بعودة‬


‫الالجئني والتعويض عليهم؟ فماذا ح ّل بهذا القرار؟‪،‬‬

‫‪17‬‬
‫ألم يتخذ مجلس األمن باإلجماع في العام ‪ 1967‬القرار ‪242‬؟‬
‫فماذا كان مصير هذا القرار بعد أكثر من أربعة عقود؟‪.‬‬

‫ألم تتخاذل اجلمعية العامة وتتراجع في العام ‪ 1991‬عندما‬


‫ذكر‬
‫أقدمت‪ ،‬ألول مرة في تاريخها‪ ،‬على اتخاذ قرار‪ ،‬دون حيثيات أو ٍ‬
‫ينص على‬
‫للمبررات‪ ،‬بإلغاء قرار سابق صادر عنها في العام ‪ّ ،1975‬‬
‫أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري؟ فماذا‬
‫كان موقف الدول الكبرى والصغرى‪ .‬وخصوصاً الدول العربية‪ ،‬من‬
‫هذا التصرّف املشني والتالعب املزاجي بالقرارات الدولية؟‪.‬‬

‫نب اجلمعية العامة‪ ،‬بأغلبية ساحقة في العام ‪،2004‬‬ ‫ألم تت َ‬


‫الفتوى التي صدرت بطلب منها عن محكمة العدل الدولية‪ ،‬وأوصت‬
‫ال‬
‫بوجوب هدم اجلدار العنصري الفاصل في فلسطني باعتباره عم ً‬
‫مخالفاً ألحكام القانون الدولي؟ فماذا كان موقف األمم املتحدة من‬
‫إسرائيل (العضو الوحيد فيها الذي قُبلت عضويته بشروط) بعد أن‬
‫رفضت االستجابة واستمرت في ارتكاب املخالفة؟‪،‬‬

‫إن االعتماد على العوامل اخلارجية أو املساعدات الدولية أو‬


‫املتغيرات املفاجئة ال يحسم وحده أمراً وال يحل مشكلة‪ .‬واللجوء إلى‬
‫األمم املتحدة‪ ،‬في الظروف واألوض��اع الدولية الراهنة‪ ،‬دليل عجز‬
‫وفقدان ثقة بالنفس‪ ،‬فليس بوسع هذه املنظمة‪ ،‬إن حسُ نت النيات‪،‬‬
‫مت‬
‫إ َّال القيام مبحاولة التوفيق بني األطراف املتنازعة‪ .‬والتوفيق‪ ،‬إن َّ‬
‫ال عادالً للمعضالت‬
‫برضانا‪ ،‬لن يعني إ َّال التسوية‪ .‬والتسوية ليست ح ً‬
‫القومية واحلقوق الثابتة‪.‬‬

‫واحل��ق في املجاالت الدولية ال يتحقق إ َّال من خ�لال النضال‬


‫والصمود واالنتصار‪ .‬والعدالة ال تخرج من زنزانتها الدولية إ َّال على‬

‫‪18‬‬
‫رؤوس احل��راب‪ .‬وإذا كنا نعتقد أن ق��رارات األمم املتحدة هي التي‬
‫ك� ّرس��ت وج��ود إسرائيل وأض�ف��ت عليها الشرعية‪ ،‬فنحن واهمون‪.‬‬
‫إن إسرائيل وُجدت بإرادة اإلمبريالية العاملية ومساندتها املستمرة‬
‫خلدمة مصاحلها‪ .‬وبني إسرائيل وهذه اإلمبريالية‪ ،‬املجسّ دة اليوم‬
‫بالواليات املتحدة‪ ،‬ارتباط عضوي ومصير مشترك‪ .‬ولنتذكّر دائماً أن‬
‫الشعب الفلسطيني قد استمدَّ شرعيته من كفاحه املسلح ومناصرة‬
‫الشعوب احملبة للسالم والعدالة‪ ،‬ال من قرارات املنظمات الدولية‪.‬‬
‫وحرية اجلزائر املستقلة وُلدت في ساحة املعركة وليس فوق منابر‬
‫ملل‪ ،‬ملدة‬
‫كلل أو ٍ‬ ‫الهيئات الدولية‪ .‬والفيتناميون الذين حاربوا‪ ،‬دون ٍ‬
‫ثالثني سنة‪ ،‬عمالقة اإلمبريالية والطغيان في العصر احلديث لم‬
‫حاجة إلى تكريس شرعية حقوقهم وكفاحهم عن‬ ‫ٍ‬ ‫يشعروا يوماً بأدنى‬
‫طريق األمم املتحدة‪.‬‬

‫إن ال �ص��راع ال�ق��ائ��م بيننا وب�ين الصهيونيني وأس �ي��اده��م هو‪،‬‬


‫في احلقيقة والواقع‪ ،‬ص��راع مصير ووج��ود ال ميكن أن ينتهي‪ ،‬إذا‬
‫تصفّحنا ك�ت��اب ال�ت��اري��خ‪ ،‬إ َّال بهزمية إح��دى القوتني املتصارعتني‪،‬‬
‫قد يهدأ الصراع حيناً‪ ،‬كما جرى في احل��روب الصليبية‪ ،‬اللتقاط‬
‫األنفاس وإعادة النظر في املخططات‪ .‬وقد تتخللّه هدنات ونكسات‪،‬‬
‫وق��د يتنكّر ل��ه بعض امل�س��ؤول�ين ال�ع��رب فيتخاذلون وينسحبون من‬
‫دائ��رة ال�ص��راع‪ .‬ولكن ج��ذوة ال�ص��راع ستبقى ملتهبة ما دام هناك‬
‫كيان عنصري غريب في أرضنا يهدد وجودنا احلضاري باخلطر‪،‬‬
‫وما دام هناك عربي واحد قادر على التص ّدي ومؤمن بحق أمته في‬
‫العيش بكرامة‪.‬‬

‫يستسهل البعض بسذاجة عملية االعتراف والصلح مع الكيان‬


‫الصهيوني‪ ،‬ويعتبرها مسألة شكلية وموقتة باستطاعة العرب أن‬
‫يتجاهلوها ويتعايشوا معها إل��ى أن يصبحوا ق��ادري��ن على إزالة‬

‫‪19‬‬
‫إسرائيل من الوجود‪.‬‬

‫إن ه��ذا التفكير م�ج��رد وه��م خ��ادع‪ ،‬أوالً ألن إص��رارن��ا حتى‬
‫اآلن على رفض االعتراف بإسرائيل هو العنصر الشرعي والقانوني‬
‫واملعنوي الوحيد املتبقي لنا للدفاع ع��ن حقنا والكفاح م��ن أجله‪.‬‬
‫وث��ان�ي� ًا ألن توقيع معاهدة صلح م��ع إس��رائ�ي��ل سيُسفر ع��ن ظهور‬
‫وثيقة دول�ي��ة مكتوبة تطلع عليها دول العالم‪ .‬وه��ذه ال��دول ليست‬
‫على استعداد في املستقبل لتقبّل مبرّراتنا إذا ما عنّ لنا أن نُخ ّل‬
‫بالتزاماتنا الدولية‪ .‬ثم أنه ليس من الشهامة والفروسية في شيء أن‬
‫نعترف اليوم بحق إسرائيل في الوجود بيننا وفوق أرضنا ثم نتنكّر‬
‫غداً لهذا االعتراف‪ ،‬معلنني ندمنا على ما بدر منًا‪.‬‬

‫إن أجدادنا مروا بظروف مشابهة‪ ،‬ولكنهم لم يفرطوا في حق‬


‫ولم يتخاذلوا أم��ام الصعاب‪ .‬لقد اضطروا أحياناً إلى اجل�لاء عن‬
‫أرض‪ ،‬ولكنهم لم يفكروا أبداً في توقيع وثيقة رسمية تُثبت تنازلهم‬
‫ٍ‬
‫عن حقهم في األرض‪ .‬واملؤرخون يروون عن آخر امللوك العرب في‬
‫األندلس أنه‪ ،‬بعد هزميته واستسالمه‪ ،‬رفض التوقيع على وثيقة يعلن‬
‫مبوجبها تخلّي ساللته العربية عن ك ّل حق لها في هذه البالد‪ .‬لقد‬
‫أبى‪ ،‬في احلقيقة‪ ،‬أن يتنازل عن حق ليس من صالحياته التصرف‬
‫به‪ .‬ولعل فكرة االحتكام إلى األجيال القادمة واالعتماد عليها في‬
‫استرداد ما قص ّر جيله في االحتفاظ به هي التي خامرته عندما‬
‫فضل عدم إلزام بني قومه بوثيقة مصيريّة ترهن مستقبلهم‪.‬‬ ‫ّ‬

‫ومن ناحية ثانية‪ ،‬وكما كتب املرحوم الدكتور هشام شرابي‪،‬‬


‫فإن «مصير الشعوب ال تقرره العالقات وموازين القوى اآلنية‪ ،‬بل‬
‫القوى املوضوعية وجدلية التاريخ على مراحل زمنية معيّنة‪ .‬إن حجم‬
‫إسرائيل ف��ي حقيقته املوضوعية أصغر بكثير ممَّ ��ا يبدو ف��ي هذه‬

‫‪20‬‬
‫اللحظة العابرة‪ .‬وما يحدّ د هذا احلجم ليس العالقات اخلارجية‪،‬‬
‫وال التقنيّة املتفوقة مؤقتاً‪ ،‬بل املوارد البشرية واملادية واحمليط الذي‬
‫توجد فيه»‪.‬‬

‫‪ ...‬واملواضيع التي تطرق إليها الزميل الكرمي في املجلدين من‬


‫كتابه أكثر وأشمل من املسائل التي اخترناها وألقينا نظرة عجلى‬
‫عليها‪ .‬وال يسعنا‪ ،‬بعد اإلطالع على الكتاب‪ ،‬إ َّال أن نُثني على اجلهود‬
‫احلميدة التي بذلها م��ن أج��ل إع��داد كتاب يشتمل‪ ،‬ول��و باختصار‬
‫أحياناً‪ ،‬على التطور السياسي ال��ذي م� َّر به الوطن العربي‪ .‬وعلى‬
‫القضايا العربية املعاصرة وامللحة التي ت��ؤرق جفون العرب وتهدد‬
‫قصروا في إيجاد‬‫وجودهم ومستقبلهم باخلطر في حال تهاونوا أو ّ‬
‫احللول احلاسمة والعادلة‪.‬‬

‫ومرة أخرى نُوجّ ه إلى زميلنا حتية إكبار حلرصه الدائم على‬
‫معاجلة القضايا العربية والدولية مبوضوعية وجترّد‪ ،‬وبأسلوب يتّسم‬
‫باملرونة والبساطة‪ .‬وكل ذلك من أجل تقدمي معلومات‪ ،‬واستخراج‬
‫عبر‪ ،‬وخدمة قضايا الوطن‪ ،‬والدفاع عن احلقوق واحلريات في كل‬
‫بلد‪ .‬ورجاؤنا أن يستمر في هذا النهج القومي والسليم إلغناء املكتبة‬
‫العربية باملزيد من الدراسات الفكرية املفيدة‪.‬‬

‫بيروت‪2001/8/11 :‬‬

‫‪21‬‬
22
‫مقدمة‬

‫ل��م ت�ع��ان ام��ة ف��ي ال�ت��اري��خ امل�ع��اص��ر م��ا عانته األم��ة العربية‪.‬‬
‫فرزحت حتت استعمار عثماني أربعة قرون من الزمن‪ ،‬كانت مبثابة‬
‫الدهور الطويلة التي أثقلت هممها‪ .‬فغاصت في أتون الصراعات‬
‫والنزاعات والفرقة‪ .‬أيقظتها فكرة القومية العربية للخروج من وضع‬
‫مزر تتخبط به لكنها لم توفق حتى اآلن‪.‬‬

‫لكن التاريخ أيضا لم يرحمها‪ ،‬فوقع معظم املناطق العربية حتت‬


‫انتداب فرنسي ‪ -‬بريطاني‪ ،‬بعدما شرعن متزيقها وتفتيتها‪ .‬فكانت‬
‫موجة ث��ورات االستقالل الثانية‪ ،‬بعدما فشلت األول��ى إب��ان احلكم‬
‫العثماني‪ .‬استقل بعض املناطق العربية وشكلت بنيان دول‪ ،‬فيما‬
‫ظل البعض حتت االحتالل أو الوصاية كاجلزائر وبعض اإلمارات‬
‫واملشيخات اخلليجية‪.‬‬

‫ظن بعض العرب ان جامعة الدول العربية ستكون مالذاً آمناً‬


‫للوحدة‪ .‬فتحوّلت منذ البداية مرتعاً للتعاون بدل الوحدة‪.‬وزاد الشرخ‬
‫واالنقسام فيما بعد للعديد من األسباب الذاتية واملوضوعية املتعلقة‬

‫‪23‬‬
‫بكل قطر عربي‪.‬‬

‫كانت النكبة األولى عام ‪ 1948‬بخسارة فلسطني‪ ،‬وتالها نكبات‬


‫ونكسات كثيرة في إطار الصراع مع إسرائيل‪ .‬بُنيت أنظمة عربية‬
‫ال وموضوعاً ومواقف‪.‬لكن مبجملها‬ ‫على قواعد وأسس متباينة شك ً‬
‫اجتمعت على بنى متخلفة متحكمة ومتسلطة‪ .‬غابت قضايا حقوق‬
‫اإلنسان وفي طليعتها قضايا احلرية والدميوقراطية‪ ،‬وحل مكانها‬
‫االستبداد والقهر‪ .‬ظهرت وسائل التمسك بالسلطة وغاب تداولها‪.‬‬
‫تغنى ال�ع��رب بقوميتهم العربية‪ ،‬وح��ل مكانها احل��ذر واخل��وف من‬
‫أقليات فرضت عليها عنوة‪ ،‬واستغلها اخلارج أفضل استغالل‪.‬‬

‫لا للكثير م��ن قضايانا‪ ,‬ووقفنا وراء‬


‫ل��م جن��د نحن ال�ع��رب ح� ً‬
‫خلفية امل��ؤام��رة رغ��م صحتها‪ ،‬لكن لم نفعل شيئاً يذكر ملواجهتها‪،‬‬
‫بل اعتبرناها أم��راً مقضياً‪ ،‬فاستسلمنا لواقعنا وغرقنا في سيل‬
‫مشاكلنا‪.‬‬

‫حكمتنا أنظمة ل��م ت�ع��رف ال��رح�م��ة ي��وم �اً‪ ،‬فكانت مجتمعاتنا‬


‫عرضة للمذلة والقهر من الداخل واخلارج‪ ،‬فاجأتنا ثورات شبابية‬
‫ال أحد يعرف حتى اآلن من حركها والى أين ستصل‪.‬‬

‫باختصار‪،‬غرقنا وغرقت معنا قضايانا‪ ،‬وبتنا نتلمس دروب‬


‫اخلالص وكأنها ضرباً من اخليال‪ ،‬فما العمل؟ باختصار أيضاً‪ ،‬إن‬
‫أمة تختزن معالم احلضارة والثروة واالمكانات البشرية‪ ،‬لن تعجز‬
‫يوما عن إعادة صياغة تاريخها والعمل على بنيان دولتها القادرة ‪-‬‬
‫العادلة‪.‬‬

‫كان هذا املؤلف املتواضع‪ ،‬لبنة متواضعة لسد ثغرات في واقعنا‬


‫املعاصر‪ .‬عاجلنا فيه التاريخ السياسي لوطننا العربي محاولني‬

‫‪24‬‬
‫تلمس هذا التاريخ وان كان مبعظمه لم يرض مجتمعاتنا‪ ،‬علَّ وعسى‬
‫االتعاظ من املآزق التي أوقعنا بها‪.‬‬

‫ن��أم��ل م��ن خ�لال ه��ذا امل��ؤل��ف األك��ادمي��ي‪ ،‬ان ن�ك��ون ق��د القينا‬
‫ال�ض��وء على كنه مشاكلنا‪ ،‬وأس�ب��اب تفاقمها‪ .‬كما نأمل م��ن خالل‬
‫بعض الرؤى واملقترحات ان نسهم في حل بعضها‪ ،‬آملني ان نقتضي‬
‫نحن العرب بتجارب كثير من األمم التي سبقتنا في وحدتها وبناء‬
‫دولتها الفاعلة بني دول وأمم شعوب األرض‪.‬‬

‫أخيراً‪ ،‬أتوجه بالشكر واالمتنان الكبيرين‪ ،‬الستاذنا الدكتور‬


‫محمد املجذوب‪ ،‬السبّاق في رعايته لنا علمياً وأكادميياً‪ .‬ويستحضرني‬
‫اليوم بعد مضي ربع قرن من الزمن‪ ،‬موقف ال زال ينبض في مشاعري‬
‫وفكري وعقلي‪ ،‬عندما استمزجت رأيه مبوضوع أطروحة الدكتوراه‬
‫حول نظام احلياد في القانون الدولي وم��دى مناسبته للبنان‪ ،‬كان‬
‫جوابه حازماً وحاسماً‪ ،‬نظام احلياد ال يناسب لبنان بالنظر للعديد‬
‫من االعتبارات‪ ،‬وأبرزها عدم قدرته في االبتعاد عن قضايا امتنا‬
‫العربية‪ .‬ال زالت وصيته ماثلة في ذهني‪ ،‬وال زلت أسمع منه‪ ،‬عن‬
‫نشيد «بالد العرب أوطاني»‪.‬‬

‫خليل حسني‬

‫بيروت‪2011/8/17 :‬‬

‫‪25‬‬
26
‫اجلزء األول‬
‫تاريخ لبنان السياسي‬

‫‪27‬‬
28
‫الباب األول‬
‫التاريخ املعاصر والقرارات الدولية‬

‫الفصل األول‪ :‬تاريخ لبنان احلديث واملعاصر‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬لبنان ومسلسل القرارات الدولية‪.‬‬

‫ ‬

‫‪29‬‬
30
‫الفصل األول‬
‫تاريخ لبنان احلديث واملعاصر‬

‫استوطن العرب الكنعانيون في بالد الشام قادمني إليها من شبه‬


‫اجلزيرة العربية‪ .‬وقد استقروا على ساحل البحر املتوسط‪ ،‬فأنشئوا‬
‫مدناً كثيرة منها بيروت وصيدا‪ ،‬وعرفوا باسم الفينيقيني‪ ،‬وشكلوا‬
‫ممالك ومدن مستقلة‪ .‬واهتم الفينيقيون بالزراعة والصناعة والتجارة‪،‬‬
‫ف��ازده��رت أح��وال�ه��م‪ ،‬وبلغت سفنهم التجارية مختلف أرج��اء البحر‬
‫املتوسط‪ .‬فأسسوا عدة محطات جتارية لبضائعهم أصبحت فيما بعد‬
‫مدنا كبيرة مشهورة وفي مقدمتها «قرطاجة» في تونس‪ .‬والتي غدت‬
‫فيما بعد دولة قوية نافست الرومان في السيطرة على البحر املتوسط‪.‬‬
‫كما نقل الفينيقيون جتارتهم إلى مختلف أنحاء العالم‪ ،‬كذلك نقلوا‬
‫أبجديتهم التي اخترعوها والتي تعد أقدم أبجدية في التاريخ‪ .‬تعرضت‬
‫ه��ذه البالد لغزوات آشورية وفارسية حتى ج��اء اإلسكندر املقدوني‬

‫‪31‬‬
‫حوالي ‪ 350‬ق‪ .‬م‪ .‬ثم انتقلت السيطرة إلى اإلمبراطورية الرومانية‬
‫حوالي ‪ 64‬ق‪ .‬م‪ .‬وتركوا عدة آثار ضخمة‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬العهد اإلسالمي‬

‫بعد وفاة النبي محمد ([) عام (‪ 11‬هـ ‪ 632‬م) بدأت اجليوش‬
‫اإلسالمية ب��االجت��اه شماالً وش��رق�اً لنشر الدين اإلس�لام��ي‪ ،‬وتوجه‬
‫اجليش اإلسالمي لفتح بالد الشام الذي قاده خالد بن الوليد حيث‬
‫انتصر على الروم في معركة اليرموك‪ ،‬التي كانت بوابة العبور إلى‬
‫منطقة بالد الشام(((‪.‬‬

‫مت إخضاع هذه البالد للخالفة اإلسالمية واستمرت في العهد‬


‫األم��وي والعهد العباسي األول‪ .‬وف��ي العهد العباسي الثاني الذي‬
‫متيز بالضعف ونشوء الدويالت‪ ،‬فقد كانت هذه البقعة تتبع دويالت‬
‫مختلفة كاإلخشيديني واحلمدانيني واأليوبيني والزنكيني واملماليك‬
‫حتى مجيء العثمانيني‪ ،‬حيث ان�ت�ص��روا على املماليك ف��ي معركة‬
‫مرج دابق قرب حلب عام ‪1516‬م‪ .‬فدخلوا بالد الشام‪ ،‬وأخضعوها‬
‫حلكمهم ال��ذي استمر مل��دة ‪ 400‬سنة‪ .‬وقامت في جبل لبنان عدة‬
‫ثورات مناهضة للوجود العثماني كان أهمها حركة فخر الدين املعني‬
‫الثاني‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬أحداث لبنان ‪ 1868‬واالستقالل الذاتي‬

‫بعد فشل حملة إبراهيم باشا بن محمد علي والي مصر على‬
‫توجه معاوية بن أبي سفيان على رأس قوة من اجليش لفتح املدن الساحلية على البحر‬ ‫((( ‬
‫املتوسط ب��دءاً من ص��ور وصيدا وبيروت وطرابلس‪ .‬كما توجه أب��و عبيدة بن اجلراح‬
‫ويرافقه خالد بن الوليد لفتح دمشق ومنها نحو سهل البقاع فبعلبك ومدينة حمص‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫بالد الشام في عام ‪ ،1841‬ظهر تنافس حاد بني فرنسا وبريطانيا‪،‬‬
‫أدى إلى حوادث دامية بني (‪ .)1860 1845‬وبدأت احلوادث عندما‬
‫عمد كل من قناصل الدول األربع (إنكلترا وروسيا والنمسا وفرنسا)‬
‫إلى نشر الدسائس بني السكان كل ملصلحته‪ ،‬واتخاذ الدين وسيلة‬
‫لذلك‪ ،‬فقد اعتمد قنصل إنكلترا على الطائفة ال��درزي��ة‪ ،‬واعتمد‬
‫ممثل روسيا على الطائفة األرثوذكسية‪ ،‬وممثل النمسا على املوارنة‬
‫الكاثوليك منافساً بذلك الفرنسيني الذين كانوا يعتمدون على هؤالء‪.‬‬
‫أما الدولة العثمانية فقد بسطت سيطرتها املباشرة على املنطقة‪.‬‬

‫ونتيجة الصدامات بني الدروز واملسيحيني‪ ،‬أقيم نظام إداري‬


‫جديد في جبل لبنان قضى على نظام اإلمارة اإلقطاعي‪ ،‬والذي حل‬
‫محله نظام القائمقاميتني‪ ،‬وازدادت املنافسة بني إنكلترا إلى جانب‬
‫ال��دروز وفرنسا إلى جانب املوارنة ونشبت االضطرابات ثانية عام‬
‫‪ ،1845‬وعمد وزير اخلارجية العثماني شكيب أفندي على اإلبقاء‬
‫على هذا النظام مع تغيير في اإلدارة الذي انتقص من قوة زعماء‬
‫اإلقطاع‪.‬‬

‫وفي عام ‪ 1857‬نشبت ث��ورة الفالحني املوارنة (ضد اإلقطاع)‬


‫في كسروان وبعض مناطق شمالي جبل لبنان‪ ،‬بدعم من رجال الدين‬
‫املوارنة‪ ،‬وامتدت إلى املناطق الدرزية في عام ‪ ،1860‬حيث حتولت إلى‬
‫فتنة طائفية‪ ،‬وامتدت موجتها إلى دمشق‪ ،‬فكانت ضحاياها في جبل‬
‫لبنان مروعه‪ ،‬وكادت أن تتزايد لوال تدخل بعض العقالء واملخلصني من‬
‫الطرفني (املسيحيني واملسلمني)‪ .‬هذه األحداث حفزت الباب العالي‬
‫والدول الكبرى إلى العمل إلنهائها‪ .‬فأبحرت السفن احلربية األجنبية‬
‫إلى املياه السورية‪ .‬وقام الوالي العثماني بفصل جبل لبنان عن بقية‬
‫بالد الشام‪ ،‬حيث وضع نظام حكم جديد متيّز باعتماده على أسس‬
‫واسعة من احلكم الذاتي‪ .‬وأعلنت الدول األجنبية (فرنسا وبريطانيا‬

‫‪33‬‬
‫والنمسا وروسيا وبروسيا وإيطاليا) ضمانها لهذا النظام وب��دأت كل‬
‫منها تعمل على بسط نفوذها السياسي والثقافي فيه‪ ،‬سواء عن طريق‬
‫اإلرساليات التبشيرية والتعليمية أو االمتيازات االقتصادية‪.‬‬

‫وهكذا قامت متصرفية جبل لبنان مبوجب بروتوكول ‪1861‬‬


‫واملعدل عام ‪ 1864‬وتألفت هذه املتصرفية من سبعة أقضية هي‪:‬‬
‫الكورة والبترون وكسروان واملنت والشوف وجزين وزحلة باإلضافة‬
‫إلى مديريتي دير القمر والهرمل‪.‬‬

‫أما والية بيروت فكانت والية عثمانية ملحقة بسوريا ويتبعها‬


‫صيدا وص��ور ومرجعيون كما تبعها أي�ض�اً طرابلس وال�لاذق�ي��ة في‬
‫الشمال وعكا ونابلس في اجلنوب‪ .‬فيما البقاع أحلق بوالية دمشق‪.‬‬
‫وكان مكوّناً من أربعة أقضية‪ :‬بعلبك وراشيا وحاصبيا والبقاع الغربي‪.‬‬
‫أما بالنسبة ملوقف اللبنانيني من الدولة العثمانية فقد انقسم عبر‬
‫اجلمعيات الثقافية التي أنشأت‪ .‬وعمل بعض هذه اجلمعيات سراً‬
‫كاجلمعية العربية الفتاة والقحطانية‪ ،‬وبعضها اآلخ��ر عمل علناً‬
‫كجمعية بيروت اإلصالحية‪ ،‬وح��زب الالمركزية اإلداري��ة العثماني‬
‫وجمعية العهد‪ .‬وق��د ظهر اجت��اه��ان متباينان هما‪ :‬األول دع��ا إلى‬
‫الالمركزية‪ ،‬أي منح لبنان استقالالً ذاتياً مع بقاء ارتباطه بالدولة‬
‫العثمانية‪ .‬والثاني إلى االستقالل التام عن الدولة العثمانية‪.‬‬

‫إال أن حكم االستقالل الذاتي الذي منح ملتصرفية اجلبل سرعان‬


‫ما ألغيَّ بقرار من الدولة العثمانية عقب اندالع احلرب العاملية األولى‬
‫في ‪ 5‬آب ‪ ،1914‬فازدادت النقمة على الدولة العثمانية بعد انتهاء‬
‫احلرب وهزمية األملان وحلفاءهم األتراك‪ ،‬بعدما إزدادت الضائقة‬
‫االقتصادية وانتشار األمراض واألوبئة‪ ،‬وقيام محكمة عالية ودمشق‬

‫‪34‬‬
‫العرفية التي شكلها جمال باشا التي رافقتها حملة اعتقاالت واسعة‬
‫وتلتها أحكام باإلعدام على رموز املعارضة في ‪ 20‬آب ‪ 1915‬و‪6‬‬
‫أيار ‪ ،1916‬األمر الذي س َّرع باندالع الثورة العربية الكبرى‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬الثورة العربية الكبرى‬

‫بعد شهر من تنفيذ أحكام اإلعدام في كل من بيروت ودمشق‪،‬‬


‫كانت استعدادات الشريف حسني قد اكتملت في مكة‪ ،‬باالتفاق مع‬
‫البريطانيني (حسب مراسالت حسني ‪ -‬مكماهون) وتفاهم الشريف‬
‫مع شيوخ القبائل‪ ،‬واستدعى ابنه األمير فيصل من دمشق‪ ،‬وأتفق‬
‫على تاريخ ‪ 5‬حزيران ‪ 1916‬موعداً النطالق الثورة من املدينة املنورة‬
‫حيث أعلن استقالل العرب عن احلكم العثماني‪.‬‬

‫اندلعت ال�ث��ورة فسقطت مكة وصمدت املدينة‪ ،‬وراح��ت مدن‬


‫احلجاز تسقط الواحدة تلو األخرى‪ ،‬وسار فيصل إلى الشمال باجتاه‬
‫ب�لاد الشام بعدما ح��رر شمالي احلجاز بالكامل ون��ودي بالشريف‬
‫حسني ملكاً على البالد العربية في أوائل سنة ‪.1917‬‬

‫دخ��ل فيصل مدينة العقبة وأرس��ل اب��ن عمه الشريف ناصر‬


‫ب��اجت��اه س��وري��ا ف��وص��ل ف��ي ‪ 30‬أي �ل��ول ‪ 1918‬إل��ى ض��واح��ي دمشق‬
‫فاستقبلته حكومة مؤقتة ك��ان��ت ق��د تألفت ب��رئ��اس��ة األم�ي��ر سعيد‬
‫اجلزائري للمحافظة على األمن واستمرت ثالثة أيام فقط ورفعت‬
‫األعالم العربية في دمشق‪ .‬وكلف فيصل رضا الركابي بتأليف أول‬
‫ال وحاكماً‪ ،‬فعني‬
‫حكومة وبعث الفريق شكري األيوبي إلى بيروت ممث ً‬
‫حبيب باشا السعد حاكماً على لبنان بعد قسم اليمني وال ًء للشريف‬

‫‪35‬‬
‫حسني‪ ،‬وارتفع العلم العربي فوق سراي بعبدا وسراي بيروت(((‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬االحتالل الفرنسي‬

‫في ‪ 8‬تشرين األول ‪ 1918‬أنزل األسطول الفرنسي في بيروت‬


‫بقيادة الكولونيل «دي بياباب» فتسلم مقاليد األمور في بيروت وأنزل‬
‫العلم العربي عن سراي بعبدا وبيروت‪ ،‬ورفع العلم الفرنسي‪ .‬وقسَّ م‬
‫الفرنسيون سوريا إلى ثالث مناطق هي‪:‬‬

‫‪ - 1‬امل�ن�ط�ق��ة اجل �ن��وب �ي��ة‪ :‬ومت �ث��ل ف�ل�س�ط�ين م��ن ح���دود مصر‬
‫جنوباً إل��ى الناقورة شماالً ونهر األردن شرقاً ويديرها‬
‫البريطانيون‪.‬‬

‫‪ - 2‬املنطقة الشرقية‪ :‬وتشمل والية سوريا ومعان‪ ،‬ومتتد إلى‬


‫ال �ف��رات ش �م��االً‪ .‬وي��دي��ره��ا األم�ي��ر فيصل (اب��ن الشريف‬
‫حسني)‪.‬‬

‫‪ - 3‬املنطقة الغربية‪ :‬وتضم متصرفية جبل لبنان وواليات‬


‫ب �ي��روت وط��راب �ل��س وال�لاذق �ي��ة واإلس �ك �ن��درون‪ ،‬ويديرها‬
‫الفرنسيون‪.‬‬

‫في هذا الوقت راح الفرنسيون يسعون إلى ترسيخ اخلالفات‬


‫الطائفية وب��ث روح ال �ع��داء ب�ين ال�ط��وائ��ف‪ .‬م��ا أدى إل��ى تباين في‬
‫موقف اللبنانيني جلهة لتقرير مصير بالدهم‪ :‬فاألكثرية الساحقة‬
‫م��ن املسلمني واألرث��وذك��س طالب باالنضمام إل��ى ال��وح��دة السورية‬
‫لم تطل األمور على هذه احلالة‪ ،‬إذ في ‪ 8‬تشرين األول كانت القوات الفرنسية حتتل‬ ‫(( (‬
‫شواطئ بيروت وتنزل علم احلكومة العربية وترفع علمها‪ .‬وهكذا دخلت املنطقة حتت‬
‫احلكم األجنبي تنفيذاً لالتفاقية التي جرى توقيعها بني فرنسا وبريطانيا (سايكس ‪-‬‬
‫بيكو) والتي قسّ مت البالد العربية إلى دويالت مستعمرة لكلتا الدولتني‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫بقيادة األمير فيصل‪ .‬فيما األكثرية الساحقة من املسيحيني وخاصة‬
‫امل��وارن��ة طالبت باستقالل لبنان املوسّ ع بحدوده التاريخية ورفض‬
‫الوحدة مع سوريا(((‪.‬‬

‫أدت اخل�لاف��ات ال��واس�ع��ة ب�ين الطرفني إل��ى إرس��ال جلنة من‬


‫مؤمتر الصلح عرفت بلجنة كينغ كراين للوقوف على آراء اللبنانيني‪،‬‬
‫رغم معارضة الفرنسيني والبريطانيني الذين لم ينتظروا نتائج اللجنة‬
‫وسارعوا إلى تطبيق اتفاقية سايكس بيكو‪ .‬حيث عُينّ اجلنرال غورو‬
‫قائداً للجيش الفرنسي في الشرق ومفوضاً سامياً في بيروت ‪،‬فنزل‬
‫فيها في ‪ 18‬تشرين الثاني ‪ .1919‬وفي ‪ 8‬آذار ‪ 1920‬اجتمع املؤمتر‬
‫السوري وأعلن قيام امللكية واستقالل سوريا ومن ضمنها لبنان الذي‬
‫احتفظ بحدوده السابقة‪ ،‬فأغضب ذلك الفرنسيني‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬مؤمتر سان رميو‬

‫سارع الفرنسيون مع البريطانيون‪ ،‬إلى عقد مؤمتر في مدينة‬


‫سان رميو اإليطالية بني ‪ 18‬و ‪ 26‬نيسان ‪ 1920‬إلى جانب إيطاليا‬
‫واليابان وصدر في ‪ 5‬أيار ‪ 1920‬املقررات التالية‪:‬‬

‫‪ - 1‬إقرار االنتداب الفرنسي على سوريا ولبنان‪.‬‬

‫‪ - 2‬إقرار االنتداب البريطاني على العراق وفلسطني وشرقي‬


‫األردن‪.‬‬

‫‪ - 3‬إعطاء إيطاليا نفوذاً في جنوب غربي األناضول‪.‬‬


‫حتدث األمير فيصل في مؤمتر الصلح باسم الفريق األول‪ .‬أما الفريق الثاني فقد حترك‬ ‫((( ‬
‫عن طريق إرس��ال وفد إلى مؤمتر الصلح لطرح مطالبه باالستقالل التام واملساعدة‬
‫الفرنسية (عبر االنتداب)‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫‪ - 4‬إع��ط��اء ح �ص��ة م��ن ن �ف��ط امل��وص��ل ف��ي ال� �ع ��راق لفرنسا‬
‫(‪.)5%‬‬

‫‪ - 5‬االلتزام بتنفيذ وعد بلفور الصادر عن احلكومة البريطانية‬


‫في ‪ 2‬تشرين الثاني سنة ‪.1917‬‬

‫عمد اجلنرال غورو بعد هذه القرارات إلى القضاء على حكومة‬
‫فيصل ف��ي دم�ش��ق ووج��ه إن ��ذاراً لها ف��ي ‪ 20‬مت��وز ‪ 1920‬للدخول‬
‫إلى سوريا‪ ،‬ولم ينتظر اجلنرال الفرنسي رد األمير فيصل‪ ،‬بل أمر‬
‫قواته بالتوجه إلى دمشق فتصدى له وزير الدفاع السوري يوسف‬
‫العظمة‪ ،‬يدعمه بعض الوزراء واحلركات الشعبية‪ .‬والتقى اجليشان‬
‫في ميسلون على بعد ‪ 35‬كلم من دمشق؛ فكانت معركة غير متكافئة‬
‫انتهت باستشهاد يوسف العظمة ومئات املقاتلني معه في ‪ 24‬متوز‬
‫‪ 1920‬فدخل الفرنسيون دمشق‪ .‬أما األمير فيصل فغادر إلى حيفا‬
‫ومن هناك أقلته باخرة بريطانية إلى إيطاليا ومنها إلى بريطانيا‬
‫حيث مكث حتى عام ‪ 1921‬عندما عوَّضت عليه بريطانيا خسارته‬
‫لسوريا بتعيينه ملكاً على العراق‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬إعالن دولة لبنان الكبير ‪ 31‬آب ‪1920‬‬

‫استعملت فرنسا في ال��دول العربية املستعمرة سياسة فرِّق‬


‫تسد‪ .‬فأصدر اجلنرال غورو في ‪ 31‬آب ‪ 1920‬عدة قرارات هدفت‬
‫إلى إنشاء دوي�لات صغيرة كانت ضمن بالد الشام املوحدة سابقاً‬
‫وهي‪ :‬دولة دمشق ودول��ة العلويني ودول��ة ال��دروز ودول��ة حلب ودولة‬
‫لبنان الكبير بعد توسيع متصرفية جبل لبنان بضم األقضية األربعة‬
‫إليها وهي‪ :‬حاصبيا وراشيا وبعلبك والبقاع‪ .‬ووالية بيروت وملحقاتها‬
‫وتقسيم هذه الدولة إلى أربع متصرفيات ومدينتني ممتازتني‪:‬‬

‫‪38‬‬
‫متصرفية لبنان الشمالي ومركزها زغرتا‪ .‬متصرفية جبل لبنان‬
‫ومركزها بعبدا‪ .‬متصرفية البقاع ومركزها زحلة‪ .‬متصرفية لبنان‬
‫اجلنوبي ومركزها صيدا‪ .‬مدينة بيروت املمتازة‪ .‬مدينة طرابلس‬
‫املمتازة‪ .‬وأصبحت مساحة لبنان الكبير ‪ 10452‬كلم ‪ 2‬بعد أن كانت‬
‫املساحة إبان املتصرفية ‪ 3500‬كلم ‪ .2‬قد تولى حكم لبنان في هذه‬
‫الفترة ثالثة مفوضني عسكريني‪:‬‬

‫‪ - 1‬اجلنرال غورو (‪ :)1923 1920‬الذي واجهته الثورات‪،‬‬


‫وخاصة في جبل عامل وحوران‪ ،‬وتعرض حملاولة اغتيال‬
‫على يد أح��د أبطال املقاومة (أده��م خنجر) وطلب من‬
‫حكومته مده بالقوة الالزمة فرفض طلبه‪ ،‬فاستقال من‬
‫منصبه ‪.‬‬

‫ اجلنرال ويغان (‪ :)1924 1923‬الذي هدأت األحوال‬ ‫‪-2‬‬


‫في عهده بعض الشيء خاصة وأنه وعد اللبنانيون بدراسة‬
‫مطالبهم‪.‬‬

‫‪ - 3‬اجلنرال ساراي (‪ :)1925 1924‬ففي سنة ‪ 1924‬تسلم‬


‫اليساريون احلكم في فرنسا فعزلوا ويغان وعني بدالً عنه‬
‫اجلنرال «س��اراي»‪ .‬وف��ي عهده نشبت الثورة في سوريا‬
‫سنة ‪ 1925‬ف��ي جبل ال ��دروز‪ ،‬م��ا أدى إل��ى إن�ه��اء عهده‬
‫وعهد احلكم العسكري‪.‬‬

‫بدأت مرحلة جديدة من احلكم عني لها مفوض سامي جديد‬


‫غير عسكري هنري دي جوفنيل سعياً لتهدئة األوضاع‪ .‬وكانت سلطته‬
‫مطلقة وهيمن على السلطة القضائية والتشريعية‪ .‬كما استبد في‬
‫تطبيق األحكام وتعسّ ف في فرض القرارات‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫سابع ًا‪ :‬املجلس التمثيلي والدستور اجلديد‬

‫أجرت املفوضية الفرنسية عام ‪ 1921‬إحصا ًء سكانياً واتخذته‬


‫كأساس لتوزيع مقاعد نيابية بني الطوائف‪ .‬وفي ‪ 8‬آذار ‪ 1922‬صدر‬
‫قرار عن املفوضية الفرنسية بإنشاء مجلس متثيلي منتخب أعطي‬
‫صالحيات تشريعية‪ .‬وتألف من ‪ 30‬عضواً‪ .‬وتعاقب على رئاسته كل‬
‫من حبيب باشا السعد ثم نعوم لبكي (‪ )1923‬وإميل إده (‪.)1924‬‬

‫وفي أوائل سنة ‪ 1925‬أقدم اجلنرال ساراي على حل املجلس‬


‫التمثيلي مسايرة للمعارضة اللبنانية‪ ،‬وعني موعداً إلجراء االنتخابات‬
‫ف��ي شهر مت��وز‪ .‬التي ج��رت م��ا ب�ين ‪ 28‬ح��زي��ران و‪ 12‬مت��وز ‪1925‬‬
‫وتألف املجلس اجلديد من ‪ 30‬عضواً‪.‬‬

‫شهد هذا املجلس والدة الدستور اللبناني‪ ،‬وحتول في ‪ 25‬أيار‬


‫‪ 1926‬إل��ى مجلس للنواب وفقا للدستور اللبناني‪ ،‬كما شهد هذا‬
‫املجلس والدة اجلمهورية اللبنانية التي كانت أول جمهورية لبنانية‬
‫وأول جمهورية عربية(((‪.‬‬

‫بعد ثالثة أيام من إعالن الدستور في ‪ 23‬أيار‪ ،‬دعي مجلس‬


‫ال �ن��واب ومجلس الشيوخ النتخاب رئ�ي��س للجمهورية ف��ي ‪ 26‬أيار‬
‫‪ ،1926‬وكانت سلطات االنتداب قد أعدت مرشحها سلفاً وهو أحد‬
‫الذين أشرفوا على والدة الدستور‪ ،‬مدير العدل آنذاك شارل دباس‬
‫وهو مسيحي أرثوذكسي‪ ،‬ثم جدد له لثالث سنوات أخرى حتى عام‬
‫‪ ،1931‬وظهرت منافسة قوية بني املرشحني إميل إده وبشارة اخلوري‬
‫أما جلهة وضع الدستور اللبناني‪ ،‬فقد انتخب مجلس النواب جلنة تألفت من ‪ 12‬عضواً‬ ‫((( ‬
‫ستة من النواب وستة من األعيان‪ .‬وقامت هذه اللجنة باستشارة عدد كبير من رجال‬
‫الفكر والسياسة والدين واملوظفني حول األسس التي يجب أن تعتمد في وضع الدستور‬
‫(ما شكل احلكومة البرملان من مجلس أو مجلسني)‬

‫‪40‬‬
‫وك��ان اخل��وري يتمتع بتأييد نيابي واس��ع‪ .‬فلما أيقن إده أن املعركة‬
‫خاسرة أعلن تأييده للشيخ محمد اجلسر‪ ،‬وحيال هذا الوضع وإزاء‬
‫تخوف سلطات االنتداب من تطور األم��ور صدر ق��رار عن املفوض‬
‫السامي بوقف العمل بالدستور وحل املجلس النيابي‪ ،‬وإقالة الوزارة‪،‬‬
‫وعني الدباس من جديد رئيساً للبالد‪ .‬وأواخر سنة ‪ 1933‬استقال‬
‫شارل دباس فعني املفوض السامي اجلديد دي مارتيل حبيب باشا‬
‫السعد رئيساً للبالد ملدة سنة ثم جُ دد له ثانية‪ ،‬ودعي مجلس نيابي‬
‫استثنائي النتخاب رئيس جديد‪.‬‬

‫ثامن ًا‪ :‬عهد إميل إده‬

‫ترشّ ح ملنصب الرئاسة كل من حبيب السعد وإميل إده وبشارة‬


‫اخل��وري‪ ،‬وفاز إده بأغلبية ضئيلة‪ ،‬وتزعم اخل��وري املعارضة‪ .‬وفي‬
‫عهده وقعت معاهدة ‪ 1936‬التي اعترفت فيها فرنسا باستقالل‬
‫لبنان‪ ،‬مقابل أن حتتفظ بقوات عسكرية على األراض��ي اللبنانية‬
‫وادارة السياسة اخلارجية‪ .‬وفي ‪ 4‬كانون الثاني ‪ 1937‬صدر قرار‬
‫عن املفوض السامي بالعودة إل��ى العمل بالدستور‪ .‬وعقب اندالع‬
‫احلرب العاملية الثانية سنة ‪ 1939‬علق الدستور ثانية وأقيلت حكومة‬
‫عبد الله اليافي وثُ�ب��ت إده رئيساً بالتعيني ال باالنتخاب وقُلصت‬
‫صالحياته‪.‬‬

‫تاسع ًا‪ :‬لبنان وحكومة فيشي‬

‫بعد أقل من عام وفي ‪ 10‬أيار ‪ ،1940‬دخلت إيطاليا احلرب‬


‫إلى جانب أملانيا التي زحفت بسرعة فائقة واحتلت فرنسا‪ ،‬وتشكّلت‬
‫حكومة فيشي املوالية ل�لأمل��ان ‪،‬ف��ي ح�ين ت��رأس املعارضة اجلنرال‬
‫ديغول ال��ذي انتقل إلى لندن وأعلن من هناك قيام حكومة فرنسا‬
‫احلرة ومواصلة احلرب ضد األملان‪ .‬وترأس املعارضة‪ .‬أما في لبنان‬

‫‪41‬‬
‫فقد انحاز املفوض الفرنسي بيو إل��ى حكومة فيشي‪ .‬وع�ين كاترو‬
‫ال لديغول في القاهرة الذي وعد اللبنانيني باالستقالل في حال‬‫ممث ً‬
‫مساعدتهم حلكومة فرنسا احلرة‪ .‬وعينت حكومة فيشي دانتز بدالً‬
‫من بيو‪ ،‬الذي يعتبر من املتشددين جتاه اللبنانيني‪ ،‬وأدت سياسته‬
‫إل��ى استقالة إميل إده أوائ��ل نيسان ‪ ،1941‬فعينّ دان�ت��ز القاضي‬
‫ألفرد نقاش رئيساً للدولة‪.‬‬

‫أقنع اجلنرال كاترو البريطانيني بضرورة مواجهة حكومة فيشي‬


‫في سوريا ولبنان‪،‬بعدما عملت هذه احلكومة على تقدمي املساعدات‬
‫لثورة الكيالني في العراق ضد البريطانيني‪ ،‬حيث بدأ الزحف في‬
‫أواسط حزيران ‪ .1941‬وقد استطاعت هذه القوات االنتصار على‬
‫دول احملور وحكومة فيشي بعد معارك ضارية في بيروت ومرجعيون‬
‫والدامور‪.‬‬

‫عادت سلطة االنتداب الفرنسي من جديد للمندوب السامي‬


‫كاترو الذي حدد ‪ 26‬تشرين الثاني ‪ 1941‬موعداً لالستقالل‪ .‬وفي‬
‫املوعد احملدد أعاد كاترو تعيني الفريد النقاش واعتبر لبنان دولة‬
‫ذات سيادة مستقلة‪.‬‬

‫عاشراً‪ :‬املعارضة اللبنانية‬

‫اع �ت �ب��رت امل �ع��ارض��ة ال�ل�ب�ن��ان�ي��ة وب �خ��اص��ة ال�ك�ت�ل��ة الدستورية‬


‫برئاسة بشارة اخلوري‪ ،‬أن هذا االستقالل مزيفا ومجحفاً‪ ،‬وتوالت‬
‫االع�ت��راض��ات م��ن قبل ري��اض الصلح وم��ن البطرك عريضة الذي‬
‫أغضب كاترو مساندة ال��دول العربية ملطلب االستقالليني وخاصة‬
‫مصطفى النحاس باشا‪ .‬وبعد معركة العلمني‪ ،‬وتراجع روم��ل؛ قرر‬
‫اجلنرال كاترو إجراء االنتخابات النيابية؛ فعمد إلى إقالة النقاش‬

‫‪42‬‬
‫ورئيس حكومته سامي الصلح‪ ،‬وعني أيوب ثابت رئيساً للدولة في ‪18‬‬
‫آذار ‪ 1943‬وكانت مهمته األساسية اإلعداد لالنتخابات النيابية‪.‬‬

‫أصدر ثابت مرسوماً تشريعياً حدَّ د فيه املقاعد النيابية بـ ‪54‬‬


‫مقعدا‪ ،‬وأص� َّر على إعطاء املهاجرين حق التصويت ومعظمهم من‬
‫املسيحيني‪ ،‬فاختل توزيع املقاعد بني الطوائف‪ ،‬فجرت احتجاجات‬
‫عنيفة من الطوائف اإلسالمية‪ ،‬فأقيل أيوب ثابت واختير خلفاً له‬
‫بترو ط��راد في ‪ 21‬متوز ‪ .1943‬وتوسّ ط رئيس احلكومة املصرية‬
‫مصطفى النحاس باشا فصدر ق��رار بتحديد ع��دد املقاعد ب�ـ ‪55‬‬
‫موزعة ‪ 30‬للمسيحيني و‪ 25‬للمسلمني‪.‬‬

‫حادي عشر‪ :‬عهد االستقالل‬

‫في ‪ 21‬أيلول ‪ 1943‬انتخب بشارة اخلوري لرئاسة اجلمهورية‬


‫فكلف رياض الصلح تشكيل احلكومة‪ ،‬وبدأت األزمة مع الفرنسيني‬
‫بعدم قيام الوزارة اجلديدة بزيارة املندوب السامي‪ .‬كما قدم رئيس‬
‫ال��وزراء برنامج عمل ال��وزارة ال��ذي تضمن تعديل الدستور‪ ،‬وجعل‬
‫التشريع من حق املجلس النيابي وح��ده‪ ،‬وجعل اللغة العربية اللغة‬
‫الرسمية الوحيدة فيه‪ .‬وأقر املجلس هذا البرنامج رغم حتذيرات‬
‫امل �ن��دوب الفرنسي‪ ،‬فما ك��ان منه إال أن اعتقل رئ�ي��س اجلمهورية‬
‫ورئ�ي��س ال ��وزراء وأودع�ه�م��ا ف��ي قلعة راش�ي��ا‪ ،‬وع�ين رئيساً جديداً؛‬
‫إال أن بعض أعضاء احلكومة الذين جنوا من االعتقال (حبيب أبو‬
‫شهال ومجيد أرس�لان) اجتمعوا في بلدة بشامون وشاركهم رئيس‬
‫املجلس النيابي صبري حمادة وعدد من النواب ودعوا إلى العصيان‬
‫امل��دن��ي‪ ،‬فسقط العديد من الشهداء واجل��رح��ى نتيجة الصدامات‬
‫بني الطرفني‪ .‬وأحتجّ ت البالد العربية‪ ،‬فتراجعت فرنسا وأعادت‬
‫احلكومة الشرعية إلى احلكم في ‪ 22‬تشرين الثاني ‪ .1943‬وعدَّ هذا‬

‫‪43‬‬
‫اليوم العيد الوطني للبنان‪ .‬وبعد مفاوضات بني احلكومة اللبنانية‬
‫الوطنية وبني سلطة االنتداب تق َّرر سحب القوات الفرنسية وإعالن‬
‫اجلالء في ‪ 31‬كانون األول ‪.1946‬‬

‫ثاني عشر‪ :‬عهد بشارة اخلوري (‪)1952 1943‬‬

‫يعتبر «امليثاق الوطني» م��ن أه��م إجن��ازات ه��ذا العهد‪ ،‬الذي‬


‫ق � َّرب ب�ين مشاعر الوطنيني املسلمني واملسيحيني ممثلني برياض‬
‫الصلح وبشارة اخل��وري‪ .‬فتبلور هذا االتفاق في عزم املسلمني عن‬
‫ترك فكرة الوحدة مع سوريا وكذلك املسيحيني ترك فكرة الوصاية‬
‫ال ح��راً ذا وجه‬
‫الفرنسية‪ .‬والتشديد على جعل لبنان وطناً مستق ً‬
‫عربي يتساوى فيه اجلميع‪ .‬وفي ‪ 22‬أيار ‪ 1949‬مت تعديل املادة ‪49‬‬
‫من الدستور ومت التمديد للرئيس بشارة اخلوري والية ثانية‪.‬‬

‫وف��ي مت��وز ‪ 1949‬ن� َّف��ذ احل��زب ال�ق��وم��ي ال �س��وري االجتماعي‬


‫انقالباً‪ ،‬فشل االن�ق�لاب‪ ،‬وجل��أ أنطون سعادة إل��ى س��وري��ا‪ ،‬غير أن‬
‫الرئيس السوري حسني الزعيم سلَّم سعادة للحكومة اللبنانية التي‬
‫أعدمته مع ستة من أنصاره‪.‬‬

‫وفي أواخر عهد الرئيس بشارة اخلوري‪ ،‬ع َّم الفساد واحملسوبيات‬
‫في اإلدارات العامة‪ .‬ومنيَّ العهد بنكسة جتلت في اغتيال الرئيس‬
‫رياض الصلح في عمان على يد أحد القوميني السوريني في ‪ 16‬متوز‬
‫‪ ، 1951‬ففقد بشارة اخلوري نصيراً قوياً‪ .‬ووعد الشيخ بشارة بتنفيذ‬
‫برنامج إصالحي ووالى رئيس وزرائه سامي الصلح املعارضة‪ ،‬حيث‬
‫تفجَّ ر الوضع باستقالة رئيس احلكومة في ‪ 9‬أيلول ‪ 1952‬وعجز‬
‫الرئيس اخلوري عن تأليف وزارة جديدة‪ ،‬ونتيجة لضغط املعارضة‬
‫واإلضرابات الشعبية قدَّ م استقالته في ‪ 18‬أيلول ‪.1952‬‬

‫‪44‬‬
‫ثالث عشر ‪ :‬عهد الرئيس كميل شمعون (‪)1958 1952‬‬

‫عمل كميل شمعون منذ انتخابه على حتقيق اإلصالحات اإلدارية‪،‬‬


‫ونالت حكومته األولى برئاسة خالد شهاب سلطات استثنائية لوضع‬
‫قوانني‪ .‬إصالحية‪ .‬إال أن نفوذ شمعون طغى على رئيس احلكومة‪،‬‬
‫فلم يسمح ألح��د مشاركته ف��ي ال �ق��رار‪ ،‬فانقطع تفاهمه م��ع كمال‬
‫جنبالط الذي كان طالب باملشاركة في وضع سياسة العهد‪ .‬ولم مير‬
‫بعض الوقت على عهد شمعون حتى خاصم جميع الزعماء املسلمني‬
‫واملسيحيني‪ ،‬األمر الذي س َّرع بإشعال ثورة ‪ ،1958‬خاصة أن الوطن‬
‫العربي كان يعيش حراكاً ال سابق له إبان عهد الرئيس جمال عبد‬
‫الناصر بعد خروج مصر من العدوان الثالثي عليها منتصرة‪.‬‬

‫رفض الرئيس كميل شمعون مسايرة مصر في قطع العالقات‬


‫مع بريطانيا وفرنسا‪ ،‬فاستاء رئيس احلكومة عبد الله اليافي ووزير‬
‫الدولة صائب س�لام واستقاال من احلكم‪ .‬فمال شمعون إل��ى جهة‬
‫العراق واألردن وانضم إلى حلف بغداد‪ ،‬إال أن األوض��اع الداخلية‬
‫اشتعلت ض��د احل�ك��م وخ��اص��ة عقب ث��ورة مت��وز ف��ي ال �ع��راق وتسلم‬
‫الضباط الوطنيني احلكم األمر الذي أدى إلى إنزال الواليات املتحدة‬
‫قوات املارينز على السواحل اللبنانية في ‪ 15‬متوز ‪.1958‬‬

‫رابع عشر ‪ :‬عهد اللواء فؤاد شهاب (‪)1964 1958‬‬

‫استطاع قائد اجليش اللواء فؤاد شهاب أن يبقي اجليش بعيداً‬


‫عن الصراعات التي حدثت في عهد الرئيس كميل شمعون ما رفع‬
‫ال مرضياً ملختلف الفئات‬
‫رصيده للرئاسة‪ .‬وقد أتى انتخاب شهاب ح ً‬
‫اللبنانية‪ ،‬حيث شكَّل الرئيس رشيد كرامي حكومته األولى من أقطاب‬
‫املعارضة السابقة واحملايدين‪ ،‬وأعلن البدء بقطف ثمار ثورة ‪،1958‬‬
‫فحاول الطرف املقابل القيام بحركة مضادة فتدخل الرئيس شهاب‬

‫‪45‬‬
‫واستطاع بعد عدة مشاكل‪ ،‬أن يرأب الصدع‪ .‬فشكل الرئيس رشيد‬
‫كرامي وزارة ثانية اتخذت شعار «ال غالب وال مغلوب» فاستكانت‬
‫األمور‪ .‬وعمل العهد على االهتمام باملناطق النائية‪ ،‬واستطاع القيام‬
‫مبا عجز عنه العهدان السابقان من اإلصالح اإلداري‪.‬‬

‫أما السياسة اخلارجية فقد بدأها الرئيس فؤاد شهاب باجتماع‬


‫مع الرئيس جمال عبد الناصر على احل��دود اللبنانية ‪ -‬السورية‪،‬‬
‫ال حيال الفئة اليسارية وساير التيار‬ ‫وأبدى الرئيس اجلديد تساه ً‬
‫العربي دون اإلس ��اءة إل��ى التيار اآلخ��ر‪ .‬واس�ت�ط��اع إق�ن��اع الواليات‬
‫املتحدة األمريكية بسحب قواتها من السواحل اللبنانية‪.‬‬

‫خامس عشر‪ :‬عهد الرئيس شارل احللو (‪)1970 1964‬‬

‫فاز وزير التربية شارل احللو بانتخابات الرئاسة عام ‪،1964‬‬


‫وعمل على متابعة اإلص�لاح��ات اإلداري ��ة‪ ،‬وق��د واج�ه��ت ال�ب�لاد في‬
‫عهده مشاكل اقتصادية أهمها قضية بنك انترا‪ ،‬حيث حترك املجلس‬
‫النيابي لوضع تشريعات تضمن الودائع املصرفية‪ .‬وفي ‪ 1969‬وقعت‬
‫عدة صدامات بني املقاومة الفلسطينية وبني اجليش اللبناني‪ ،‬فجرت‬
‫مفاوضات بني الطرفني برعاية مصرية بغية التوصل إلى حل‪ ،‬ووقع‬
‫الطرفان في ‪ 3‬تشرين الثاني ‪« 1969‬اتفاق القاهرة» ال��ذي سمح‬
‫للفدائيني الفلسطينيني بحرية العمل ضمن منطقة محددة في جنوب‬
‫لبنان برعاية الرئيس املصري جمال عبد الناصر‪ .‬وقبل انتهاء مدة‬
‫شارل احللو‪ ،‬انتخب املجلس النيابي وزير االقتصاد سليمان فرجنية‬
‫رئيساً للبالد‪ ،‬فتسلم سلطاته الدستورية في ‪ 23‬أيلول ‪.1970‬‬

‫سادس عشر‪ :‬عهد الرئيس سليمان فرجنية (‪)1976 1970‬‬

‫عمل الرئيس فرجنية على حتسني األوض��اع االجتماعية التي‬

‫‪46‬‬
‫كانت تهدد بالثورة نتيجة الغنب الالحق بشريحة كبيرة من الشعب‬
‫اللبناني‪ .‬كما زاد الفلسطينيون من نشاطهم وكثرت عملياتهم ضد‬
‫االح �ت�لال اإلس��رائ�ي�ل��ي ف��ي ش�م��ال��ي فلسطني‪ .‬ك�م��ا ك�ث��رت وتوسعت‬
‫مكاتب املقاومة في العديد من املناطق اللبنانية‪ ،‬األم��ر ال��ذي أدى‬
‫إلى استفزازات بسيطة كانت حتل سريعاً‪ ،‬لكنها اخفت أثراً كبيراً‬
‫ل��م يظهر إل��ى العلن إال م��ع ب��داي��ة احل��رب األهلية‪،‬فكانت الشرارة‬
‫األول��ى في ‪ 13‬نيسان ‪ 1975‬عندما أطلقت ق��وات ح��زب الكتائب‬
‫النار على حافلة تقل ع��دداً من الفلسطينيني واللبنانيني‪ ،‬ما أدى‬
‫إل��ى سقوطهم ب�ين قتيل وج��ري��ح‪ ،‬وس��رع��ان م��ا انتقلت امل�ع��ارك إلى‬
‫بعض املناطق األخرى في بيروت وجبل لبنان‪ ،‬حيث إنقسمت املناطق‬
‫بشكل سريع ب�ين ال�ف��رق��اء‪ .‬إث��ر ذل��ك ق��ام الرئيس سليمان فرجنية‬
‫بالطلب من الرئيس ال�س��وري حافظ األس��د بدخول ق��وات اجليش‬
‫السوري إلى لبنان للفصل بني املتقاتلني‪ ،‬خاصة بعد ورود األنباء عن‬
‫حشد عسكري للقوات الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات واألحزاب‬
‫الوطنية اللبنانية التي يتزعمها كمال جنبالط رئيس احلزب التقدمي‬
‫االشتراكي‪ ،‬وعن نية هذه القوات بالدخول إلى املناطق املسيحية بعد‬
‫عمليات القتل والتشريد التي حصلت داخ��ل املنطقة بحق سكان‬
‫مخيمات تل الزعتر والكرنتينا والنبعة‪.‬‬

‫وفي ‪ 31‬أيار ‪ 1976‬دخلت القوات السورية ‪،‬إلى لبنان وعلى‬


‫الفور فكت حصار الفلسطينيني وقوات األحزاب الوطنية عن املناطق‬
‫املسيحية ب��دءاً مبدينة زح�ل��ة‪ ،‬حيث وق�ع��ت اشتباكات عنيفة على‬
‫طريق بيروت دمشق وفي ميناء صيدا‪ .‬هذا التدخل مكَّن املسيحيني‬
‫من التحوّل إلى الهجوم‪ ،‬وخصوصاً ضد اجليوب الفلسطينية في‬
‫مناطقهم السيما مخيم تل الزعتر‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫سابع عشر‪ :‬عهد الرئيس إلياس سركيس ‪1982-1976‬‬

‫رغ��م محاوالته احلثيثة ل��م يستطيع الرئيس ال�ي��اس سركيس‬


‫إي �ق��اف ن��ار احل��رب امل�س�ت�ع��رة‪ ،‬ح�ي��ث ل��م يستطع إي �ق��اف املليشيات‬
‫املسيحية عن القيام بأي عمل ما أضعفه‪.‬‬

‫عكس التدخل السوري في لبنان إلى جانب املسيحيني وضد‬


‫الفلسطينني صدمة كبيرة لدى الرؤساء العرب الذين تنادوا إلى لقاء‬
‫قمة عربية عقدت في الرياض عام ‪ ،1976‬اتفق في خاللها على‬
‫تشكيل قوات عربية مشتركة تكون القوات السورية عمودها الفقري‬
‫لوقف احلرب األهلية في لبنان‪ ،‬ودخلت القوات السورية إلى مناطق‬
‫تواجد الفلسطينيني والقوى الوطنية التي توزعت في مختلف املناطق‪،‬‬
‫فكانت الصدمة األكبر عندما ب��دأت إسرائيل بتمويل حلفائها في‬
‫املناطق املسيحية مبختلف أنواع األسلحة؛ وفي خضم هذه األجواء‬
‫امللبدة مت اغتيال كمال جنبالط في ‪ 16‬أذار ‪ 1977‬الذي كان رمز‬
‫احلركة الوطنية وقائدها‪.‬‬

‫وحت��ت عنوان حماية املستعمرات اإلسرائيلية قامت القوات‬


‫اإلسرائيلية في ‪ 14‬آذار ‪ 1978‬باجتياح لبعض القرى اللبنانية في‬
‫اجلنوب‪ ،‬وسرعان ما صدر قرار عن األمم املتحدة حمل الرقم ‪425‬‬
‫دعا إسرائيل إلى االنسحاب الكامل غير املشروط من لبنان‪ .‬فيما‬
‫كان الوضع في بيروت مأساوياً‪ ،‬فقد انقسمت إلى منطقتني حيث‬
‫انتشر املقاتلون‪ ،‬وانتشر معهم املوت والرعب‪ ،‬فكانت عمليات القتل‬
‫والقنص ال ترحم أحداً‪ ،‬وازدادت حدة مع موجة القتل الطائفي‪.‬‬

‫ثامن عشر‪ :‬االجتياح اإلسرائيلي وسقوط بيروت‬

‫حاولت ميليشيا القوات اللبنانية بقيادة بشير اجلميل املتحالفة‬

‫‪48‬‬
‫مع إسرائيل وضع يدها على مدينة زحلة في البقاع األمر الذي أدى‬
‫إلى نشوب معارك قوية مع القوات السورية التي أجبرته على اخلروج‬
‫من املدينة‪ ،‬غير أن الطائرات اإلسرائيلية تدخلت وأسقطت مروحيتني‬
‫سوريتني كانتا تنقالن املؤن واإلم��دادات‪ ،‬فحرك السوريون صواريخ‬
‫أرض جو من نوع سام إلى البقاع وب��دأت أزم��ة الصواريخ السورية‬
‫‪ -‬اإلسرائيلية ف��ي ال�ب�ق��اع؛ وف��ي ‪ 6‬ح��زي��ران ‪ 1982‬ق��ام��ت القوات‬
‫اإلسرائيلية وبحجة إطالق النار من قبل الفلسطينيني على السفير‬
‫اإلسرائيلي في لندن‪،‬شلومو آرغوف‪ ،‬باجتياح لبنان وخالل ‪ 40‬ساعة‬
‫كانت القوات اإلسرائيلية قد احتلت معظم جنوب لبنان وأجبرت قوات‬
‫منظمة التحرير الفلسطينية واحلركة الوطنية اللبنانية االنسحاب‬
‫باجتاه بيروت‪ .‬وأقدمت القوات اإلسرائيلية يدعمها قصف مدفعي‬
‫من البر والبحر وغارات جوية كثيفة بالهجوم على املواقع السورية‬
‫والفلسطينية والسكنية في ضواحي بيروت وعلى التالل املطلة على‬
‫العاصمة وضربت حصاراً على بيروت استمر تسعة أسابيع‪.‬‬

‫وحت��ت الضغط اإلسرائيلي ‪ -‬األمريكي خ��رج ف��ي أول أيلول‬


‫‪ 1982‬املقاتلون ال�س��وري��ون والفلسطينيون م��ن ب�ي��روت‪ .‬وف��ي هذه‬
‫مت انتخاب بشير اجلميل قائد ميليشيا ال�ق��وات اللبنانية‬ ‫األث�ن��اء َّ‬
‫رئيساً للبنان‪ ،‬ذلك برعاية إسرائيلية‪ ،‬غير أنه وقبل أن يتسلم سدة‬
‫الرئاسة اغتيل في ‪ 14‬أيلول ‪ ،1982‬وج��اء هذا االغتيال مناسبة‬
‫استغلها آرييل شارون وزير احلرب الصهيوني ليدير مذبحة مخيمي‬
‫صبرا وشاتيال بحجة مزدوجة‪ :‬الثأر لبشير اجلميل‪ ،‬واستمرار وجود‬
‫املقاتلني الفلسطينيني في املخيمات‪.‬‬

‫تاسع عشر‪ :‬عهد الرئيس أمني اجلميل ‪1988 - 1982‬‬

‫اجتمع مجلس النواب عقب مقتل بشير اجلميل واختار شقيقه‬

‫‪49‬‬
‫أمني اجلميل‪ ،‬فزار دمشق والتقى الرئيس السوري حافظ األسد‪ .‬إال‬
‫أن ضغط وزير اخلارجية األمريكي جورج شولتز‪ ،‬أجبر لبنان على‬
‫خ��وض محادثات منفردة مع اجلانب اإلسرائيلي‪ ،‬وم��ن ثم التوقيع‬
‫رغماً عنه على اتفاقية ‪ 17‬أيار ‪ 1983‬التي سلخت لبنان عن محيطه‬
‫العربي‪ ،‬بل وجعلته محمية إسرائيلية‪.‬‬

‫فشلت الواليات املتحدة األمريكية عبر الضغط على الرئيس‬


‫حافظ األسد للموافقة على هذه االتفاقية‪ ،‬وتشكلت بدعم سوري‬
‫جبهة اإلن �ق��اذ ال��وط�ن��ي ف��ي ب �ي��روت امل�ن��اه�ض��ة ل�ه��ذا االت �ف��اق والتي‬
‫استطاعت إسقاطه بعد انتفاضة ‪ 6‬شباط ‪.1984‬‬

‫ب ��دأت ف��ي ب �ي��روت ع�م�ل�ي��ات امل �ق��اوم��ة ال �ن��وع �ي��ة ض��د اجليش‬
‫اإلسرائيلي الذي أجبر على االنسحاب من مناطق واسعة في اجلنوب‬
‫والبقاع الغربي‪ ،‬كما اندلعت معارك حامية بني اجليش اللبناني (الذي‬
‫كان يتبع الطرف اليميني بزعامة أمني اجلميل) وبني قوات حركة‬
‫أمل املوالية لسوريا‪ ،‬واستطاعت هذه القوات من إجبار اجليش على‬
‫اخلروج من مناطقها‪ ،‬وجاءت أحداث الشوف عقب اندحار القوات‬
‫اإلسرائيلية من اجلبل ومعارك الشحار الغربي‪ ،‬التي قامت بها قوات‬
‫احلزب التقدمي االشتراكي بدحر القوات اللبنانية املوالية إلسرائيل‬
‫وإخراجها من اجلبل‪ .‬وهكذا ب��دأت األم��ور متيل إل��ى جانب قوات‬
‫احلركة الوطنية املوالية لسوريا وبدأت إسرائيل تزداد تراجعاً عن‬
‫املناطق التي احتلتها‪ ،‬وكانت عمليات املقاومني اللبنانيني تتعقب‬
‫قواتها طيلة عام ‪.1984‬‬

‫وبحلول ع��ام ‪ 1985‬انسحبت إسرائيل إل��ى منطقة حدودية‬


‫سمّتها «احل ��زام األم �ن��ي» ف��ي ج�ن��وب ل�ب�ن��ان‪ ،‬وأق��ام��ت فيه ميليشيا‬
‫لبنانية تابعة لها وأوك �ل��ت قيادتها إل��ى ض��اب��ط س��اب��ق ف��ي اجليش‬

‫‪50‬‬
‫اللبناني‪ ،‬الرائد سعد حداد‪ .‬كما تعرّضت القوة البحرية األمريكية‬
‫لعملية أودت بحياة ‪ 241‬جندياً أمريكياً من قوات املارينز‪ ،‬كذلك‬
‫هوجمت القوات الفرنسية بعملية مماثلة أدت إلى سقوط ‪ 56‬جندياً‬
‫فرنسياً‪ ،‬يذكر أن هذه القوات دخلت إلى بيروت في إطار القوات‬
‫الدولية املتعددة للفصل بني اإلسرائيليني وبني اللبنانيني وهي قوات‬
‫ال عالقة لها بهيئة األمم املتحدة‪.‬‬

‫وهكذا متكنت قوات احلركة الوطنية بدعم من القوات السورية‪،‬‬


‫من بسط نفوذها بعد انسحاب القوات اإلسرائيلية والقوات املتعددة‬
‫اجلنسيات‪ ،‬فاضطر الرئيس اللبناني‪ ،‬أمني اجلميل في ‪ 29‬شباط‬
‫‪ 1984‬للسفر إلى دمشق لالجتماع بالرئيس السوري حافظ األسد‬
‫ليعلن عن استعداده إللغاء اتفاقية ‪ 17‬أيار مع إسرائيل‪.‬‬

‫عشرون‪ :‬العودة مجدد ًا للحرب األهلية‬

‫اندلعت في بيروت وبعض املناطق اشتباكات بني الفلسطينيني‬


‫املوالني إلى ياسر عرفات واملناوئني له‪ ،‬وأسفرت هذه املعارك عن‬
‫سقوط حوالي ‪ 1000‬قتيل و‪ 4‬آالف جريح‪ ،‬وخرج أنصار عرفات من‬
‫بيروت‪ .‬وعلى الساحة املسيحية انتفض سمير جعجع في ‪ 12‬آذار‬
‫‪ 1985‬من داخل القوات اللبنانية على التقارب الذي كان بدأه حزب‬
‫الكتائب (احل��زب األم للقوات اللبنانية) مع ق��ادة احلركة الوطنية‬
‫بدعم من سوريا‪ .‬لكن بعد شهرين قاد إلياس حبيقة انتفاضة على‬
‫االنتفاضة‪ ،‬وأصبح الرجل األقوى على الساحة املسيحية واستقبل‬
‫رسمياً في دمشق في ‪ 9‬أيلول ‪.1985‬‬

‫إال إن التأزم انتقل إلى بيروت الغربية حيث بدأ حلفاء األمس‬
‫(أمل والتقدمي) بصراع عسكري على السيطرة‪ ،‬فاستطاعت دمشق‬

‫‪51‬‬
‫اجلمع بني الطرفني عبر «جبهة الوحدة الوطنية»‪ .‬وفي أوائل أيلول‬
‫‪ 1985‬دخل اجليش السوري مدينة زحلة نتيجة إحل��اح من وجهاء‬
‫املدينة‪ ،‬وفي أواخر الشهر نفسه دخل مدينة طرابلس فارضاً على‬
‫األصوليني املسلمني (حركة التوحيد اإلس�لام��ي) تسليم أسلحتهم‬
‫الثقيلة بعد معارك عنيفة‪ .‬وهكذا بدا الوضع وكأنه جاهز لتوقيع‬
‫اتفاق سالم بني مختلف األطراف في لبنان‪.‬‬

‫وق��ع ه��ذا االت �ف��اق (ال ��ذي س�م��ي االت �ف��اق ال�ث�لاث��ي) أو «اتفاق‬
‫دمشق» في ‪ 28‬كانون األول ‪ 1985‬في دمشق‪ :‬الياس حبيقة (عن‬
‫القوات اللبنانية)‪ ،‬وليد جنبالط (احلزب التقدمي االشتراكي)‪ ،‬نبيه‬
‫بري (حركة أمل) وعدد كبير من الشخصيات الفاعلة على الساحتني‬
‫اإلسالمية واملسيحية‪ .‬وقد نص هذا االتفاق على إنهاء حالة احلرب‬
‫وإق��ام��ة ت ��وازن ف��ي ال�س�ل�ط��ات ب�ين املسيحيني وامل�س�ل�م�ين‪ ،‬ع�ل��ى ان‬
‫يصار بعدها إلى إلغاء الطائفية السياسية وإج��راء إصالحات في‬
‫املؤسسات‪.‬‬

‫إال أن هذا االتفاق ما لبث أن ضاع بعد نحو أسبوعني فقط‪،‬‬


‫إذ رفض رئيس اجلمهورية أمني اجلميل االنضمام إليه‪ ،‬وقاد سمير‬
‫جعجع في ‪ 13‬كانون الثاني ‪ 1986‬انتفاضته الثانية‪ ،‬املوجهة ضد‬
‫إلياس حبيقة واالت�ف��اق ال��ذي وقعه‪ ،‬فوقعت معارك داخ��ل املناطق‬
‫املسيحية أودت بحياة حوالي ‪ 300‬قتيل ُه��زم فيها الياس حبيقة‬
‫وغادر إلى سوريا‪.‬‬

‫ع��اد ال��وض��ع إل��ى ت��أزم��ه‪ ،‬عبر م��وج��ة م��ن ال�س�ي��ارات املفخخة‬


‫جعلت من بيروت جحيماً‪ ،‬إضافة إلى االشتباكات العنيفة التي وقعت‬
‫بني األح��زاب الوطنية املسيطرة على بيروت خاصة بني حركة أمل‬
‫واحلزب التقدمي االشتراكي وبني أمل واملرابطون (حركة ناصرية)‪،‬‬

‫‪52‬‬
‫وازدادت حدة املعارك في عام ‪ 1987‬بني هذه األحزاب ولم تتوقف‬
‫إال بعودة اجليش السوري إلى بيروت في ‪ 22‬شباط ‪ 1987‬ومعاجلته‬
‫بحزم بعد طلب رسمي من احلكومة اللبنانية‪.‬‬

‫واحد وعشرون‪ :‬عهد احلكومتني في لبنان‬

‫تركز االهتمام على املوعد املقرر النتخاب رئيس جديد خلفا‬


‫للرئيس أمني اجلميل‪،‬الذي تنتهي واليته في ‪ 23‬أيلول ‪ ،1988‬والذي‬
‫قاطعته سوريا بسبب مسؤوليته عن إفشال االتفاق الثالثي‪ .‬ولم جتر‬
‫االنتخابات الرئاسية بعدما ضغطت القوات املهيمنة على املنطقة‬
‫الشرقية على النواب املسيحيني ومنعتهم من حضور جلسة االنتخاب‬
‫فعطلتها‪ ،‬فعمد أمني اجلميل في ربع الساعة األخيرة من عهده إلى‬
‫تكليف قائد اجليش العماد ميشيل عون بتشكيل حكومة عسكرية‪،‬‬
‫بينما كان الرئيس سليم احلص رئيساً للحكومة في املنطقة املقابلة‬
‫(في آخر عهد اجلميل قدم احلص استقالة حكومته للرئيس اجلميل‬
‫لكنه لم يقبلها)‪ ،‬وهكذا قامت في البلد حكومتان‪ .‬إال أن حكومة‬
‫عون لم يشارك فيها الضباط املسلمني الذين اختارهم عون ملشاركته‬
‫في احلكومة‪ ،‬فأعلن عون «حرب التحرير» ضد القوات السورية في‬
‫‪ 14‬آذار ‪ ،1989‬فقامت ح��رب مدفعية طويلة امل��دى بني الطرفني‬
‫أدت إلى وقوع خسائر جسيمة في صفوف املدنيني‪.‬‬

‫أثارت هذه املعارك ردود فعل عربية وأجنبية عديدة فتشكلت‬


‫جلنة وساطة عربية ثالثية (السعودية املغرب اجلزائر) إال أن هذه‬
‫اللجنة ل��م تتوصل إل��ى ح��ل ل�لأزم��ة‪ .‬فعملت السعودية وب��دع��م من‬
‫ال��والي��ات املتحدة على جمع ‪ 62‬نائباً لبنانياً ف��ي مدينة الطائف‬
‫السعودية للقيام مبحادثات لبنانية لبنانية لتصحيح الوضع الدستوري‬
‫في البلد بشكل يساوي بني الطوائف وذل��ك في ‪ 30‬أيلول ‪.1989‬‬
‫وأسفرت هذه احملادثات عن «اتفاقية الطائف»‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫اثنان وعشرون‪ :‬عهد «الطائف» اجلمهورية الثانية‬

‫أع�ل��ن رئ�ي��س احل�ك��وم��ة العسكرية ال�ع�م��اد ميشال ع��ون نفسه‬


‫رئيساً لـ «لبنان احلر» في ‪ 7‬تشرين الثاني ‪ 1989‬أي بعد أسبوعني‬
‫من توقيع اتفاق الطائف وأعلن عن حل املجلس النيابي (الذي وقع‬
‫اتفاق الطائف في ‪ 4‬تشرين األول ‪ .)1989‬إال أن النواب اجتمعوا‬
‫في شتورة وانتخبوا رينيه معوض رئيساً للبالد إال إن��ه اغتيل في‬
‫‪ 22‬تشرين الثاني‪ ،‬فعاد النواب اللبنانيني وانتخبوا إلياس الهراوي‬
‫مباشرة ليتسلم زمام الرئاسة‪.‬‬

‫ف��ي ه��ذه األث�ن��اء ك��ان ال��وض��ع ال��داخ�ل��ي ف��ي املناطق املسيحية‬


‫متأزماً بني الطرفني (املتسلمني لزمام األم��ور) سمير جعجع قائد‬
‫القوات اللبنانية‪ ،‬وميشال عون قائد اجليش ورئيس احلكومة في‬
‫املنطقة‪ ،‬فأعلن األخير «حرب اإللغاء» في ‪ 15‬كانون الثاني ‪1990‬‬
‫ضد «القوات اللبنانية» فاندلعت معارك طاحنة بني الفريقني أسفرت‬
‫عن سقوط أكثر من ألف قتيل وهروب أكثر من ‪ 200‬ألف مسيحي‬
‫إلى املناطق اإلسالمية‪ ،‬فكان القرار احلازم من رئاسة اجلمهورية‬
‫وهو القيام بحركة عسكرية مبساعدة اجليش السوري إلنهاء حالة‬
‫مترد العماد ميشال عون‪.‬‬

‫في ‪ 13‬تشرين األول ‪ 1991‬حتركت القوات السورية وقوات‬


‫اجليش اللبناني باجتاه اجليب الذي سيطر عليه عون (وهو ال يتعدى‬
‫‪ 267‬كلم ‪ )2‬خرج عون من القصر اجلمهوري إلى السفارة الفرنسية‬
‫طالباً اللجوء السياسي إلى فرنسا‪ ،‬وهكذا بسطت الشرعية اللبنانية‬
‫كامل سيطرتها على األراضي اللبنانية‪ .‬وبدأت بعملية فرض هيبتها‬
‫فكانت البداية بحل امليليشيات العسكرية وتسليم أسلحتها للدولة‬
‫اللبنانية‪ .‬وف��ي ‪ 22‬أي��ار ‪ 1991‬وق��ع لبنان وسوريا معاهدة األخوة‬

‫‪54‬‬
‫والتعاون والتنسيق بني البلدين‪ ،‬التي نظمت السياسات اخلارجية‬
‫واالمنية والعسكرية واالقتصادية‪.‬‬

‫ث�لاث وع �ش��رون‪ :‬ع�ه��د ال��رئ�ي��س ال �ي��اس ال �ه��راوي ‪-1989‬‬


‫‪1998‬‬

‫كان عهد الرئيس الياس الهراوي بداية اجلمهورية الثانية عقب‬


‫اغتيال الرئيس رينيه معوض‪ ،‬فعمدت حكومة العهد األولى برئاسة‬
‫عمر كرامي إلى حل امليليشيات العسكرية وتسلم األسلحة الثقيلة‬
‫واخلفيفة منها‪ ،‬وج�م��ع جميع ش�ب��اب األح ��زاب ف��ي معسكر إعادة‬
‫تأهيل إلدخالهم في اجليش الوطني اللبناني‪ ،‬الذي سلمت قيادته‬
‫إلى العماد إميل حلود الذي أثبت حنكة ودراية واستطاع بناء جيش‬
‫موحد وطني‪ ،‬ومنع انقسام املؤسسة العسكرية ذلك بعد إنهاء مترد‬
‫العماد ميشال عون في ‪ 1990/10/13‬بدعم من القوات السورية‪.‬‬
‫وللمرة األول��ى بعد احل��رب األهلية ف��ي ال �ب�لاد‪ ،‬ج��رت االنتخابات‬
‫النيابية في عام ‪ ،1992‬وجاءت بوجوه جديدة إلى البرملان‪ ،‬وتشكلت‬
‫حكومة جديدة برئاسة رجل األعمال اللبناني رفيق احلريري‪.‬‬

‫كان ملجيء احلريري على رأس احلكومة صدى إيجابي وخاصة‬


‫ع�ل��ى امل�س�ت��وى االق �ت �ص��ادي واالج�ت�م��اع��ي‪ .‬فعلى الصعيد الداخلي‬
‫حتسّ نت األوضاع االقتصادية‪ ،‬وانتعشت قيمة الليرة اللبنانية‪ ،‬كما‬
‫وضعت مخططات املشاريع اإلمنائية ملختلف املناطق اللبنانية وخاصة‬
‫في ضواحي بيروت احملرومة‪ ،‬فأعيد لبنان إلى اخلارطة السياحية‬
‫في العالم‪ .‬وب��دأت أكبر ورش��ة إعمار في الشرق األوس��ط استعاد‬
‫لبنان بفضلها بعضاً من عافيته ومركزه االقتصادي في املنطقة‪.‬‬
‫وعاد لبنان قبلة املستثمرين العرب واألجانب‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫اس�ت�م��ر احل��ري��ري ع�ل��ى رأس ال�س�ل�ط��ة التنفيذية مل��دة خمس‬
‫سنوات‪ ،‬حيث مت التمديد للرئيس الياس الهراوي عندما انتهت مدة‬
‫واليته في تشرين األول ‪ ،1995‬فمدد له ملدة ثالثة سنوات‪.‬‬

‫أربع وعشرون‪ :‬الغضب اإلسرائيلي واملقاومة الباسلة‬

‫ف��ي ظ��ل ه��ذه ال �س �ن��وات‪ ،‬ك��ان االح �ت�لال اإلس��رائ �ي �ل��ي يواصل‬
‫اعتداءاته املباشرة على لبنان واللبنانيني عبر غاراته اجلوية وقصفه‬
‫املدفعي املتواصل‪ ،‬األمر الذي أدى إلى وقوع العديد من اخلسائر‬
‫في صفوف املواطنني املدنيني‪ ،‬غير أن املقاومة اللبنانية (وباألخص‬
‫حزب الله) ال��ذي أوج��ع إسرائيل بعملياته العسكرية النوعية التي‬
‫كانت تصيبها بخسائر مادية وبشرية جسيمة للغاية‪ ،‬األم��ر الذي‬
‫أب�ق��ى على ال��وض��ع غير املستقر ف��ي اجل �ن��وب‪ ،‬حتى أن الطائرات‬
‫اإلسرائيلية غالباً ما كانت تقصف مواقع ح��زب الله في الداخل‬
‫اللبناني في مدينة «بعلبك» إضافة إلى قصف املنشآت احلديثة في‬
‫البلد‪ .‬وخاصة محطات التوليد الكهربائية‪.‬‬

‫جتسدت الغطرسة اإلسرائيلية في عملية «عناقيد الغضب»‬


‫العسكرية في ‪ 13‬نيسان ‪ 1996‬والتي تواصت على م��دى خمسة‬
‫عشر يوماً كامالً‪ ،‬األم��ر ال��ذي أدى إلى ن��زوح عدد هائل من سكان‬
‫اجلنوب اللبناني إلى بيروت وباقي املناطق‪ .‬إال أن وق��وف الشعب‬
‫ال�ل�ب�ن��ان��ي م�ت�ك��ات�ف�اً م��ع ال��دول��ة وداع� �م� �اً ل�ل�م�ق��اوم��ة أف �ش�لا اخلطة‬
‫اإلسرائيلية وخاصة عقب وقوع «مجزرة قانا» عندما قامت إسرائيل‬
‫بقصف أحد املواقع التابعة للقوات الدولية في اجلنوب حيث جلأ‬
‫إل�ي��ه املدنيني األم��ر ال��ذي أدى إل��ى س�ق��وط ‪ 105‬ش�ه��داء معظمهم‬
‫من النساء واألطفال وكبار السن‪ ،‬ما أثار حفيظة املجتمع الدولي‬
‫بأكمله‪ ،‬واض�ط��رت إسرائيل بعد ذل��ك إل��ى توقيع اتفاق نيسان مع‬

‫‪56‬‬
‫لبنان وسوريا برعاية أمريكية وفرنسية‪ ،‬وفيه اعتراف دولي كامل‬
‫بشرعية املقاومة اللبنانية وعدم شرعية قصف املدنيني اللبنانيني‬
‫من قبل الطائرات اإلسرائيلية‪.‬‬

‫شكَّل هذا االتفاق مبثابة «درع واقي» بالنسبة للمقاومة (حزب‬


‫الله) الذي عرف كيف يوجه ضرباته املوجعة جلنود االحتالل الذين‬
‫أصيبوا بالهلع واخل��وف واإلح �ب��اط‪ ،‬وب��دأ الشعب اليهودي يطالب‬
‫حكوماته باالنسحاب من املستنقع اللبناني وإنقاذ أوالدهم من املوت‬
‫احملتم على أي��دي رج��ال املقاومة‪ ،‬الذين راح��وا يصورون عملياتهم‬
‫ويقومون ببثها إلى العالم‪ ،‬األمر الذي أظهر مدى اجلنب واخلوف‬
‫واإلح�ب��اط ال��ذي يعاني منه اجلنود اإلسرائيليني‪ ،‬مقابل التصميم‬
‫والعزمية وحب اجلهاد واالستشهاد الذي يتحلى به رجال املقاومة‬
‫اللبنانية‪.‬‬

‫خمس وعشرون‪ :‬عهد الرئيس إميل حلود ‪2007 - 1998‬‬

‫ف��ي تشرين األول ‪ 1998‬مت ان�ت�خ��اب ق��ائ��د اجل�ي��ش اللبناني‬


‫العماد إميل حلود رئيساً للجمهورية اللبنانية بأغلبية ساحقة من‬
‫أصوات النواب في جلسة انتخاب تاريخية‪ .‬وتسلم الرئيس اجلديد‬
‫الذي حظى بشعبية كبيرة‪ ،‬مقاليد احلكم من الرئيس السابق الياس‬
‫الهراوي في القصر اجلمهوري وفق الدستور‪.‬‬

‫أجرى الرئيس استشارات نيابية لتعيني رئيس جديد للحكومة‬


‫األول��ى للعهد اجل��دي��د‪ .‬وك��ان��ت الغالبية ت��ؤي��د ع��ودة الرئيس رفيق‬
‫احل��ري��ري‪ ،‬إمن��ا وبعد لغط حصل ج��راء قيام بعض ال�ن��واب بتجيير‬
‫أصواتهم للرئيس حلود ليختار هو من يريد‪ .‬فكان اعتراض الرئيس‬
‫احلريري حول دستورية هذا األمر‪ ،‬ورفض عملية جتيير األصوات‬

‫‪57‬‬
‫لرئيس ال�ب�لاد‪ ،‬فاعتذر عن تشكيل احلكومة‪ ،‬فأعاد حل��ود عملية‬
‫االستشارات النيابية التي ج��اءت هذه امل��رة ملصلحة الرئيس سليم‬
‫احلص املعارض األول حلكومات احلريري السابقة‪ .‬فشكَّل حكومة‬
‫تكنوقراط‪ ،‬جلها من املعارضة وغابت عنها األسماء السياسية الكبيرة‬
‫وممثلي األحزاب اللبنانية‪.‬‬

‫عملت هذه احلكومة على هدف واحد وهو تخفيف عبء الدين‬
‫الذي ترتب على كاهل البالد جراء الفساد الذي رافق عمليات البناء‬
‫واألع�م��ار ف��ي خ�لال حكومات الرئيس احل��ري��ري‪ ،‬وح��اول��ت حتسني‬
‫األوض ��اع االق�ت�ص��ادي��ة‪ ،‬غير أن األم��ور س��ارت على غير م��ا أرادت‬
‫احل �ك��وم��ة‪،‬ج��راء م�ح��ارب��ة ال��رئ�ي��س احل��ري��ري للسياسة االقتصادية‬
‫واملالية التي اتبعها الرئيس احلص‪.‬‬

‫ست وعشرون‪ :‬االنسحاب اإلسرائيلي من جنوب لبنان‬

‫بسبب تزايد العمليات النوعية للمقاومة اللبنانية على اجليش‬


‫اإلسرائيلي وعمالئه «قوات جيش لبنان اجلنوبي بقيادة انطوان حلد)‬
‫زاد الضغط على احلكومة اإلسرائيلية بشأن سحب قواتها من لبنان‪،‬‬
‫فأعلن رئيس الوزراء اإلسرائيلي إيهود باراك أنه قرر سحب جيشه‬
‫من اجلنوب اللبناني في شهر متوز من عام ‪ .2000‬غير أنه وخالفاً‬
‫لكل التوقعات‪ ،‬وحتت ضربات املقاومة الباسلة قام اجليش اإلسرائيلي‬
‫بتفكيك مواقعه في اجلنوب وسحب جيوشه تباعاً من املنطقة في‬
‫بداية شهر أي��ار‪ ،‬األمر الذي أدى إلى حالة هلع شديد في صفوف‬
‫جيش العمالء ال��ذي��ن ت��رك��وا بيوتهم وممتلكاتهم وف��روا م��ع اجليش‬
‫اإلسرائيلي طالبني الهروب من لبنان املقاوم‪ .‬ودخل الشعب اللبناني‬
‫تؤازره املقاومة إلى القرى اجلنوبية احملررة في ‪ 25‬أيار ‪ 2000‬في‬
‫«يوم املقاومة والتحرير» الذي أعلن عيداً رسمياً في لبنان‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫لبنان ومسلسل القرارات الدولية‬

‫رمب ��ا ي�ن�ف��رد ل�ب�ن��ان ب�ين دول ال �ع��ال��م ب�ح�ج��م االه �ت �م��ام وعدد‬
‫القرارات الدولية املتعلقة به‪ ،‬وغريب املفارقات أن غالبية القرارات‬
‫ال �ص��ادرة ع��ن مجلس األم��ن ال سيما ف��ي الفترة األخ�ي��رة وحتديدا‬
‫منذ القرار ‪ 1559‬شكلت بيئة مناسبة جلعل لبنان رأس حربة في‬
‫تفجير النزاعات اإلقليمية والدولية فضال عن جعله ساحة مكشوفة‬
‫لالبتزاز السياسي واألمني الداخلي وقاعدة ارتكاز ابتزازية جتاه‬
‫دول إقليمية ال متاشي السياسات األمريكية في املنطقة‪.‬‬

‫ثمة العديد من القرارات الدولية الصادرة عن مجلس األمن‬


‫ورئيسه مرورا بالعديد من التقارير املتعلقة بتنفيذ القرارات‪،‬وعليه‬
‫سنعالج في بحثنا بعض القرارات التي تشكل داللة خاصة في الواقع‬
‫اللبناني واإلقليمي والدولي‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬القرار ‪1559‬‬

‫إن امل��راج�ع��ة الدقيقة للمواقف ال�ت��ي أطلقها م�ن��دوب��و الدول‬

‫‪59‬‬
‫األع�ض��اء في مجلس األم��ن ل��دى مناقشتهم مشروع ال�ق��رار ‪1559‬‬
‫الصادر في ‪ 2004/9/2‬تظهر تناقضات كثيرة بني الدول املتدخلة‬
‫ف��ي ل�ب�ن��ان‪ .‬فبعضها اع �ت��رض ع�ل��ى ال�ت��دخ��ل ال �س��وري ف��ي الشؤون‬
‫اللبنانية مبا يعارض القانون الدولي وطالب برفعه بهدف حتقيق‬
‫السيادة اللبنانية‪ .‬وبعضهم اآلخر اعترض على القرار ذاته واعتبر‬
‫األم��ر مسألة داخلية لبنانية ال يحق ملجلس األم��ن الدولي التدخل‬
‫فيها وفقاً مليثاق األمم املتحدة ذاته‪ .‬إال أن هذا التعارض في اآلراء‬
‫لم مينع املجلس من االتفاق على إصدار القرار ‪ 1559‬وإن بأكثرية‬
‫غير مريحة آنذاك‪.‬‬

‫حقيقة األم��ر أن ه��ذا ال �ق��رار‪ ،‬شأنه ش��أن ال �ق��رارات األخرى‬


‫العديدة التي عُدلت في بعض العبارات لكي تصبح أكثر شمولية‬
‫لا ‪،‬إذ أن ه��ذه العبارات‬‫وأق��ل ن�ف��وراً مم��ا ك��ان امل�ش��روع امل�ق��دم أص� ً‬
‫ميكن تفسيرها على أكثر من وجه بحيث ترضي املندفع إلى القرار‬
‫واملعترض عليه ف��ي آن‪ .‬وق��د عمد الدبلوماسيون املعتمدون لدى‬
‫األمم املتحدة إلى تسمية هذا الغموض املصطنع بـ «الغموض البناء»‪.‬‬
‫ال عن «الوحدة اإلقليمية واالستقالل السياسي» للبنان‬ ‫فاحلديث مث ً‬
‫ليس جديداً وإمنا كان وال يزال يتردد في عشرات القرارات السابقة‬
‫ح��ول لبنان منذ القرار ‪ 425‬لعام ‪ .1978‬واحلديث عن انسحاب‬
‫«ال�ق��وات املسلحة األجنبية منه» ليس جديداً أيضاً‪ .‬وبالتالي فإن‬
‫القرار ميكن فهمه من خالل الظروف التي رافقته أو التي أعقبته‬
‫أي االستحقاق الرئاسي اللبناني وليس من خالل عباراته التي وردت‬
‫في متنه‪ .‬ومن هنا اقتضى األمر ضرورة أجراء قراءتني لهذا القرار‪:‬‬
‫قانونية وسياسية في آن معاً‪.‬‬

‫يستند القرار ‪ 1559‬إلى الفصل السادس من ميثاق األمم‬ ‫‪ -‬‬


‫املتحدة‪ .‬واملعروف إن جميع قرارات مجلس األمن ملزمة‬

‫‪60‬‬
‫مبدئياً باعتبار أن امل��ادة (‪ )25‬من ميثاق األمم املتحدة‬
‫تطالب ال��دول بدعمها‪ .‬ولكن هذه القرارات ال تنفذ إال‬
‫مبوافقة الدول املعنية بها‪ .‬فإذا رفضت هذه الدول تطبيق‬
‫ق��رارات الفصل ال�س��ادس ميكن ملجلس األم��ن‪ ،‬عندئذ‪،‬‬
‫أن ي��ذ ِّك��ر ال��دول مبضمونها ت �ك��راراً ولكن على املستوى‬
‫نفسه كما فعل في التذكير املتواصل بالقرار ‪ 425‬على‬
‫سبيل امل�ث��ال؛ كما ميكن لهذا املجلس أن يرفع املستوى‬
‫إلى الفصل السابع امللزم بحد ذاته وبصرف النظر عن‬
‫قبول الدول املعنية‪ ،‬كما صعّد قراره ‪ 731‬الذي كان قد‬
‫اتخذه بحق ليبيا في مسألة لوكربي‪ ،‬إلى القرار ‪748‬‬
‫الذي رتَّب عقوبات غير عسكرية عليها مبوجب الفصل‬
‫السابع‪ .‬وعليه إن األم��ر عائد ملجلس األم��ن نفسه في‬
‫اتخاذ اإلجراء والتوصيف القانوني الذي ميليه من دون‬
‫أية قيود وال حتى معايير موضوعية‪.‬‬

‫يتضمن ال �ق��رار ‪ 1559‬أرب�ع��ة مطالب ع��ام��ة ت�ن��درج في‬ ‫‪ -‬‬


‫إطار احترام سيادة لبنان ووحدته اإلقليمية واستقالله‬
‫ال�س�ي��اس��ي حت��ت السلطة ال�ش��ام�ل��ة وال��وح �ي��دة للحكومة‬
‫اللبنانية ضمن حدوده املعترف بها دولياً‪:‬‬

‫‪ - 1‬انسحاب كل ما تبقى من القوات األجنبية من لبنان‪.‬‬

‫‪ - 2‬تفكيك ونزع سالح كل امليليشيات اللبنانية وغير اللبنانية‪.‬‬

‫‪ - 3‬دعم توسيع سلطة حكومة لبنان على كامل اإلقليم اللبناني‪.‬‬

‫‪ - 4‬دعم عملية انتخابية حرة وعادلة في لبنان وفقاً لقواعد‬


‫دستورية متخذة من دون تدخل وال نفوذ أجنبي‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫وال��واض��ح هنا أن البند ال��راب��ع هو ال��ذي دف��ع املجلس آنذاك‬
‫إلى التحرك مبناسبة تعديل الدستور اللبناني لتمديد والية رئيس‬
‫اجلمهورية إميل حلود ثالث سنوات جديدة‪ .‬وإذا كانت البنود الثالثة‬
‫ال مبوعد زمني محدد فإن البند الرابع قد‬ ‫األولى غير مرتبطة أص ً‬
‫أصبح آنذاك وراء القرار ‪ 1559‬من الناحية العملية‪ .‬ولعل اجلهود‬
‫اإلقليمية والدولية تركِّز على تطبيق البنود الثالثة األولى‪،‬وتستغله‬
‫ملناسبة انتخاب خلف للرئيس إميل حلود‪.‬‬

‫جت��در اإلش��ارة هنا إل��ى إن البند األخير ك��ان صعب التحقيق‬


‫اساساً‪ :‬فهل ثمة مجال للقول أن أكثرية املجلس النيابي اللبناني‬
‫التي عدلت الدستور كانت واقعة حتت الضغط والتدخل والنفوذ‪.‬‬
‫وإذا ج��رى التصويت وفقاً للقواعد الدستورية فهل ميكن التأكيد‬
‫أن هذا أدلى بصوته نتيجة إغ��راء معني أو أن ذلك أدلى به نتيجة‬
‫تهديد مبطن؟ ومن يحقق بهذا األم��ر؟ وهل أن هذا االقتراح بعيد‬
‫ع��ن املجالس األخ��رى ب��دءاً م��ن الدميقراطيات الغربية؟ وه��ل ثمة‬
‫شك أساسي بكل الذين انتخبوا للمجلس النيابي اللبناني؟ وهل‬
‫يقتصر التدخل أو النفوذ على دولة أو سفارة دون سواها؟ الواقع‬
‫إن ثمة تساؤالت كثيرة جتعل مسألة التحقق من هذا املوضوع صعبة‬
‫التأكيد في الناحية القانونية مع أنها واضحة املعالم من الناحية‬
‫السياسية‪ .‬ولهذا السبب كان املندوب الباكستاني لدى مجلس األمن‬
‫محقاً عندما قال إن هذا البند صعب التحقيق‪.‬‬

‫لقد قامت هيئة األمم املتحدة في األساس على مبدأ املساوة‬


‫بني الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية‪ ،‬وهذا ما نص امليثاق‬
‫علية صراحة في الفقرة األول��ى للمادة الثانية‪ ،‬وكذلك في الفقرة‬
‫السابعة لنفس املادة والتي تنص حرفيا على‪« :‬ليس في هذا امليثاق‬
‫ما يسوغ لألمم املتحدة أن تتدخل في الشؤون الداخلية التي تكون‬

‫‪62‬‬
‫من صميم السلطان الداخلي لدولة م��ا‪ »..‬وبداية وفي هذا النص‬
‫حتديدا هل ميكن أن يكون التعديل الدستوري في أي دول��ة وفقا‬
‫ألسس التعديل ال��واردة في متنه مخالفا للقانون الدولي وأم��ر من‬
‫شأنه زعزعة األمن والسلم الدوليني لكي يبرر مجلس األمن تدخله‬
‫وإص ��دار ال �ق��رار املناسب بحق ه��ذه ال��دول��ة أو ت�ل��ك؟ أم أن تعديل‬
‫الدساتير وإج��راء العمليات الدستورية أصبح أم��را من صالحيات‬
‫واختصاص مجلس األمن؟ رمبا يكون ذلك في زمن استئثار واشنطن‬
‫في قيادة النظام العاملي ومبجلس األمن الذي يعكس بشكل أو بآخر‬
‫ال �ت��وازن��ات ال��دول�ي��ة القائمة إن وج��د ه��ذا ال �ت��وازن أص�لا ف��ي هذه‬
‫املرحلة بالذات‪.‬‬

‫وإذا ك��ان امل �ن��اخ ال��دول��ي ي�ب��دو ب�ه��ذا الشكل ف��ي التعاطي مع‬
‫األم��ور الداخلية وإعطائها أشكاالً وأحجاماً دولية فما هي عالقة‬
‫االستحقاق الرئاسي بالقرار ‪ 1559‬وملا هدف إليه؟ فمن الناحية‬
‫الدستورية ميكن تسجيل العديد من النقاط أبرزها‪:‬‬

‫يعتبر الدستور اللبناني من الدساتير القابلة للتعديل شأنه‬ ‫‪ -‬‬


‫في ذلك شأن كل دساتير العالم‪ ،‬رغم عدم مرونته بسبب‬
‫األغلبية املوصوفة ‪ -‬ثلثا عدد أعضاء املجلس النيابي ‪-‬‬
‫وعليه إن أي عملية تعديل وفقاً للسياق الدستوري هو‬
‫أمر دستوري‪.‬‬

‫إن االستحقاق الرئاسي إن ك��ان انتخاباً أو مت��دي��داً أو‬ ‫‪ -‬‬


‫جت��دي��داً ه��و أم��ر لبناني ص��رف ت�ق��رره إرادة اللبنانيني‬
‫وحدهم ومن ميثلهم في السلطات الدستورية‪.‬‬

‫إن أمر االحتجاج بعدم دستورية التمديد من بعض القوى‬ ‫‪ -‬‬

‫‪63‬‬
‫اخلارجية‪ ،‬أمر غير مبرر جلهة العالقات الدبلوماسية‬
‫بني الدول في األساس‪ ،‬وأمر يتناقض مع مواقف سابقة‬
‫لها‪ ،‬لسابقة لبنانية في ه��ذا املجال‪ ،‬وم��ن هنا يبدو إن‬
‫األمر متعلق مبصالح‪ ،‬وليس له أي عالقة مببادئ أو بقيم‬
‫تطالب بها هذه الدول‪.‬‬

‫وإذا كانت حجة بعض ه��ذه ال��دول وبالتحديد الواليات‬ ‫‪ -‬‬


‫املتحدة وفرنسا وبريطانيا ب��أن التدخل اخل��ارج��ي قد‬
‫لعب دورا حاسما في التمديد‪،‬فان نفس املنطق يقود إلى‬
‫مت انتخاب رئيس‬ ‫التساؤل أين كانت هذه الدول عندما َّ‬
‫للبنان برعاية اسرائيلية مباشرة في العام ‪ ،1982‬وأين‬
‫كانت احلَميّة والغيرة على الدميوقراطية اللبنانية‪.‬‬

‫كان االستحقاق الرئاسي اللبناني ال يعدو كونه محطة ومرتكزاً‬


‫لواشنطن وباريس وتل أبيب ملمارسة الضغوط على العديد من دول‬
‫املنطقة في محاولة لتحقيق العديد من األم��ور التي لم تتمكن من‬
‫حتقيقه ول��و ف��ي ق��رارات سابقة متكنت م��ن إص��داره��ا ف��ي مجلس‬
‫األمن‪ ،‬وهذا ما يستدعي إلقاء الضوء على خلفيات القرار ‪1559‬‬
‫فمن الناحية السياسية ميكن تسجيل التالي‪:‬‬

‫لم تتمكن واشنطن حتى من إغ�لاق امللف العراقي وفقاً‬ ‫‪ -‬‬


‫للكيفية التي رسمتها‪ ،‬بل زادت حدة مشاكلها وتورطها األمر‬
‫الذي جعلها تبحث عن أي مخرج يخفف وطأة الفشل الذي‬
‫تلصقه بشكل مباشر بالتدخل اخلارجي بالشأن العراقي‪،‬‬
‫وحتديداً بسوريا وإيران‪ ،‬ما عجَّ ل التوقيت بصدور القرار‬
‫وحتديد املهل الزمنية لقطف الثمار السياسية وتثميرها‬
‫في االنتخابات الرئاسية األمريكية‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫وعلى الرغم من تراجع مصطلح الشرق األوسط الكبير‬ ‫‪ -‬‬
‫وما يعنيه من دعائم للسياسة اإلمبراطورية األمريكية‪،‬‬
‫ف��ان��ه ل��م ي��زل ف��ي ص�ل��ب م�ش��اري��ع ال�س�ي��اس��ة اخلارجية‪،‬‬
‫وبالتالي إن حتقيقه يستدعي البدء في استكمال املربع‬
‫اجلغرافي املمتد من إيران مرورا بالعراق وسوريا وصوالً‬
‫إلى لبنان‪ ،‬األمر الذي يستلزم إث��ارة املشاكل والضغوط‬
‫على هذه ال��دول للي ذراعها ووص��ل املنطقة املمتدة من‬
‫أفغانستان وما قبلها إلى املغرب العربي‪ ،‬مبواجهة أوروبا‬
‫وروسيا شماالً‪.‬‬

‫أما ما يختص بفرنسا‪ ،‬فاألمر يبدو تقاطعاً في املصالح‬ ‫‪ -‬‬


‫مع واشنطن وحتديدا في قضية االستحقاق للتذكير بأن‬
‫ال‬
‫«األم احلنون ال تنسى رعاية االبن القاصر» كما انه مدخ ً‬
‫لتذكير واشنطن ب��أن أوروب��ا القدمية والهرمة ال زالت‬
‫قادرة على «املشاغبة» في حال تناسيها‪ ،‬ومن هنا الرغبة‬
‫الفرنسية اجلامحة للدخول على اخل��ط اللبناني عبر‬
‫القرار ‪ ،1559‬هذا إذا استثنينا أيضاً لعبة «الزواريب»‬
‫اللبنانية الصغيرة في إطار دعم جهة ما مبواجهة جهة‬
‫أخرى!‪.‬‬

‫وفيما يتعلق بتل أبيب فهي ال زالت بصدد تصدير مشاكلها‬ ‫‪ -‬‬
‫ال��داخ �ل �ي��ة ع�ب��ر ال �ه��روب إل��ى األم���ام م��ن ض��رب��ات ممن‬
‫تبقى في املقاومة واالنتفاضة‪ ،‬حيث تبحث عن النتائج‬
‫السياسية لغزو العراق واستثمارها بسلسلة ضغوط على‬
‫سوريا وإيران ولبنان‪ ،‬وهذا ما جعل ارئيل شارون آنذاك‬
‫اعتبار القرار ‪« 1559‬شأناً عظيماً»‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫وإذا كانت تلك هي اخللفيات والظروف فما هي التداعيات‬
‫والنتائج وم��ا هي سبل مواجهتها؟ فعلى الرغم من العبارات التي‬
‫أع��ادت صياغة مشروع ال�ق��رار وص��وال إل��ى ال�ق��رار‪ ،‬وم��ا حُ ��ذف من‬
‫تعابير حادة متيل إلى التحذير والوعيد وحتديد املواعيد‪ ،‬فان ما‬
‫في القرار من مضامني يجعله «شأن عظيم» بحسب تقييم شارون‪،‬‬
‫وميكن تسجيل أمور كثيرة من بينها‪:‬‬

‫تدويل الوضع اللبناني حيث تدعو احلاجة ووفقاً للتوقيت‬ ‫‪ -‬‬


‫األمريكي ‪ -‬اإلسرائيلي‪.‬‬

‫وضع لبنان خ��ارج إط��ار الشرعية الدولية وهدفاً قريب‬ ‫‪ -‬‬


‫املدى لالنقضاض عليه‪.‬‬

‫الطلب إلى لبنان البدء بتحضير أج��واء الفنت الداخلية‬ ‫‪ -‬‬


‫وصوالً إلى ضرب السلم والوحدة الوطنية‪ ،‬عبر نزع ما‬
‫اسماه القرار سالح امليليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ‪-‬‬
‫سالح املقاومة وسالح املخيمات الفلسطينية‪.‬‬

‫حشر لبنان وسوريا مبهلة زمنية ال تتعدى الثالثني يوماً‬ ‫‪ -‬‬


‫بهدف إثبات حسن النوايا في التطبيق‪.‬‬

‫إن املرحلة القادمة ستشهد ضغوطا شديدة على سوريا‬ ‫‪ -‬‬


‫وإي��ران بهدف حتجيم ال��دور اإلقليمي لهما في العديد‬
‫من امللفات الشرق األوسطية السيما في مجال الصراع‬
‫العربي ‪ -‬اإلسرائيلي وامللف العراقي‪.‬‬

‫أم��ا ال �ب �ن��ود ال �ث�لاث��ة األول���ى فيمكن إب���داء ب�ع��ض املالحظات‬


‫حولها‪:‬‬

‫‪66‬‬
‫فالبند املتعلق بانسحاب القوات األجنبية إنطبق على القوات‬
‫السورية بالتأكيد ولكنه ينطبق أيضاً على القوات «اإلسرائيلية» التي‬
‫ال تزال محتلة مزارع شبعا والتالل الثالث األخرى في محيطها‪.‬‬

‫وال��واق��ع أن ال�ق��رار ‪ 1559‬استند ف��ي حيثياته إل��ى القرارين‬


‫‪ 425‬و‪ 426‬املتعلقني بانسحاب «إسرائيل» من األراض��ي اللبنانية‬
‫حتى احلدود املعترف بها دولياً‪ .‬وهذه احلدود معترف بها «إسرائيلياً»‬
‫أيضاً بدليل توقيعها على اتفاق الهدنة عام ‪ .1949‬واملادة اخلامسة‬
‫من هذا االتفاق تؤكد على احلدود الدولية بني لبنان وفلسطني ومن‬
‫ضمنها ‪ -‬طبعاً مزارع شبعا‪ ،‬ثم أن األمني العام لألمم املتحدة أعلن‬
‫أن «اخل��ط األزرق» ميثل خط االنسحاب من دون أن يشكل وال أن‬
‫يعدل احلدود املعترف بها دولياً‪.‬‬

‫أما فيما يتعلق بالبندين اآلخرين نزع سالح امليليشيات اللبنانية‬


‫وغير اللبنانية وبسط نفوذ احلكومة اللبنانية على كامل إقليمها‪،‬‬
‫فهذا أمر يحتمل أكثر من وج��ه‪ ،‬ولكنه محكوم باعتبارات إقليمية‬
‫أخرى‪ .‬ذلك ألن املقاومة ضد االحتالل مشروعة في القانون الدولي‬
‫ال��ذي يحظر إره��اب األف��راد وإره��اب الدولة في آن معاً‪ .‬وبالتالي‬
‫فإن تشبث احلكومة اللبنانية بحق الدفاع املشروع عن النفس ميثل‬
‫التزاما بالقانون ال��دول��ي وليس تناقضاً معه‪ .‬وق��د سبق للواليات‬
‫املتحدة ولـ «إسرائيل» معاً أن اعترفتا بهذا احلق املشروع في الدفاع‬
‫عن النفس وذلك في إطار «تفاهم نيسان» منذ عام ‪.1996‬‬

‫واليوم ميكن لـ «امليليشيا» اللبنانية أن تنزع سالحها إذا طبق‬


‫البند األول أي انسحاب القوات األجنبية من كامل اجلنوب اللبناني‬
‫وبانتظار ذلك ميكن للجيش والقوات النظامية اللبنانية األخ��رى أن‬
‫تنسق مع هذه املقاومة وان توجه حتركها وتتعاون معها لهذا الغرض‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫أما مسألة نزع سالح امليليشيات األخرى غير اللبنانية فهذا‬
‫م��وض��وع إق�ل�ي�م��ي يتعلق مب�س��أل��ة ال�لاج�ئ�ين الفلسطينيني عموماً‪.‬‬
‫واحل�ك��وم��ة اللبنانية يجب أن تعتبر ه��ذا الطلب ملصلحتها إذا مت‬
‫التعجيل بحل هذه املسألة وبتمكني احلكومة من استعادة نفوذها‬
‫الكامل في هذا اإلطار‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬القرار ‪1595‬‬

‫رمب��ا يظهر ال �ق��رار ‪ 1595‬وم�ن��درج��ات��ه للوهلة األول��ى عادية‬


‫وال يختلف عن غيره من ق��رارات مجلس األم��ن املتعلق بلبنان‪ ،‬إال‬
‫أن القراءة املتأنية له وربطه مبا سبق فيما يتعلق بجرمية اغتيال‬
‫الرئيس رفيق احلريري‪ ،‬تظهر العديد من النقاط التي يجب التوقف‬
‫عندها وإلقاء الضوء عليها‪ ،‬ملا ميكن أن تشكل من نقاط ستعتبر‬
‫سوابق قانونية وسياسية على الصعيد ال��دول��ي‪ .‬فالقرار وان أتى‬
‫ملتبساً بهدف تلبية بعض مطالب الدولة اللبنانية‪ ،‬المس في بعض‬
‫فقراته وفي أسلوب صياغة بعض نصوصه قضايا تطرح العديد من‬
‫التساؤالت ح��ول خلفياته وأب�ع��اده‪ .‬وف��ي ه��ذا اإلط��ار ميكن تسجيل‬
‫العديد من النقاط أبرزها‪:‬‬

‫ففي الشكل أراد مجلس األمن تصوير القرار وكأنه متخذ‬ ‫‪ -‬‬
‫وفقاً لصالحياته املنصوص عليها في الفصل السادس من‬
‫ميثاق األمم املتحدة‪ ،‬أي في اجلانب املتعلق بحل القضايا‬
‫بالطرق السلمية وب��إرادة وتعاون الدولة اللبنانية‪ ،‬بينما‬
‫التدقيق ف��ي حيثياته ومستنداته تظهر تصميم وعزم‬
‫مجلس األم��ن تطبيق وتنفيذ م��ا أت��ى ف��ي ال �ق��رار وفقا‬
‫للفصل السابع من ميثاق املنظمة‪ ،‬أي استعمال القوة لكل‬
‫من سيعرقل أعمال اللجنة التي أنشأها‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫ولتسهيل ه��ذا السياق م��ن العمل التنفيذي احمل��دد في‬ ‫‪ -‬‬
‫ف �ق��رات ال �ق��رار أع �ط��ى مجلس األم ��ن ص�لاح�ي��ة متابعة‬
‫األمور اإلنشائية والتنفيذية للجنة التحقيق الدولية إلى‬
‫األم�ين العام ل�لأمم املتحدة وذل��ك بهدف إيجاد الرابط‬
‫القانوني املالئم لنقل تنفيذ مندرجات القرار من الفصل‬
‫السادس إلى الفصل السابع في أي مرحلة من مراحل‬
‫التحقيق التي تقوم بها اللجنة وبصرف النظر عن النقطة‬
‫التي وصلت إليها‪ ،‬وهذا ما ظهر في امل��ادة (‪« )8‬وتأذن‬
‫لألمني العام بأن ميدد عمل اللجنة لفترة أخرى ال تتعدى‬
‫ثالثة أشهر‪ ،‬إذا ارتأى ضرورة لذلك لتمكني اللجنة من‬
‫إجن��از حتقيقها»‪ ،‬ف��إن�ش��اء اللجنة وم��دة عملها ه��و من‬
‫صالحية مجلس األمن وليس األمني العام كما أن متديد‬
‫عمل اللجنة ينبغي أن تسند إل��ى السلطة التي أنشأت‬
‫اللجنة وليس إلى أي مرجع غيرها‪ .‬كما أن لألمني العام‬
‫صالحية تقدمي التقارير الشفوية كل شهرين أو «بشكل‬
‫أكثر تواتراً إذا لزم األمر» كما ورد في املادة (‪ )9‬يظهر‬
‫نية مجلس األمن عدم ترك هوامش كبيرة للوقت الضائع‬
‫في تنفيذ عمل جلنة التحقيق‪ ،‬وعلى الرغم من أن إعطاء‬
‫بعض الصالحيات لالمني العام يعتبر أم��راً شائعاً في‬
‫طريقة عمل املجلس إال أن التشديد على هذه اآللية تؤكد‬
‫أي�ض�اً نية املجلس عملية النقل ف��ي أي وق��ت صالحية‬
‫التنفيذ إلى الفصل السابع‪.‬‬

‫لقد لبى القرار بعض مطالب الدولة اللبنانية كالسيادة‬ ‫‪ -‬‬


‫ك�م��ا ورد ف��ي ال��دي �ب��اج��ة» دع��وت��ه إل��ى االح �ت��رام الكامل‬
‫لسيادة لبنان»‪ ،‬كما حدد مدة عمل اللجنة بثالثة اشهر‬

‫‪69‬‬
‫قابلة للتمديد ملرة واحدة كما طالب لبنان وبدعم وجهد‬
‫روسي‪ ،‬إال أن املجلس لم يوافق على إلغاء كلمة «اإلرهاب»‬
‫التي أورده��ا ست مرات في القرار‪ ،‬األمر الذي ينطوي‬
‫على تأكيد املجلس استناده بشكل أساسي على التوصيف‬
‫الذي أتى به البيان الرئاسي الصادر عن مجلس األمن‬
‫ب�ت��اري��خ ‪ 2005/2/15‬ف��ي ال�ف�ق��رة الثالثة جلهة إدراج‬
‫عملية االغتيال كعمل إره��اب��ي وينطبق عليه مندرجات‬
‫القرار ‪ 1566‬لعام ‪.2004‬‬

‫لقد حدد مجلس األمن خارطة الطريق التي ينبغي للجنة‬ ‫‪ -‬‬
‫التحقيق املضي بها عبر تبنيه ملا ج��اء في تقرير جلنة‬
‫تقصي احلقائق‪ ،‬و«إذ يالحظ مع القلق ما خلصت إليه‬
‫بعثة تقصي احل�ق��ائ��ق» و«ق��د درس تقرير بعثة تقصي‬
‫احلقائق» و«إذ يالحظ أي�ض�اً ف��ي ه��ذا السياق م��ا رأته‬
‫البعثة» ال�ف�ق��رات ‪ 3‬و‪ 4‬و‪ 5‬م��ن دي�ب��اج��ة ال �ق��رار‪ ،‬إذ أن‬
‫عملية تبني موقف التقرير جاء بصيغة جازمة بالدرس‬
‫واملالحظة والرأي الذي خلصت إليه جلنة التقصي وهو‬
‫بطبيعة األمر موقف مسبق لعمل جلنة التحقيق‪.‬‬

‫أم��ا جلهة مضمون ال �ق��رار وأب �ع��اده ففيه الكثير م��ن النقاط‬
‫امللتبسة التي تتناقض وتتعارض مع مظاهر السيادة اللبنانية التي‬
‫لا وك��ذل��ك جل�ه��ة ح��دود ص�لاح�ي��ة ع�م��ل جلنة‬
‫اح�ت��رم�ه��ا ال �ق��رار ش�ك� ً‬
‫التحقيق إن كان في لبنان أو خارجه وميكن تسجيل النقاط التالية‪:‬‬

‫فالفقرة األول��ى م��ن امل��ادة (‪ )3‬ينبغي للجنة «ان تتمتع‬ ‫‪ -‬‬


‫بتعاون السلطات اللبنانية تعاوناً تاماً مبا في ذلك إتاحة‬

‫‪70‬‬
‫فرص الوصول بشكل كامل إلى جميع املعلومات واألدلة‬
‫الوثائقية واملادية وال��واردة في شهادة الشهود‪ ،‬التي في‬
‫حوزتها والتي ترى اللجنة أنها ذات أهمية في التحقيق»‬
‫وكذلك الفقرة الثالثة من نفس امل��ادة «أن تتمتع بحرية‬
‫التنقل في جميع أنحاء األراضي اللبنانية‪ ،‬مبا في ذلك‬
‫الوصول إلى جميع املواقع واملرافق التي ترى اللجنة أنها‬
‫ذات أهمية ف��ي التحقيق»؛ ف��أي أالم��اك��ن التي ستطلب‬
‫ال�ل�ج�ن��ة ال��وص��ول إل�ي�ه��ا‪ ،‬وم ��اذا ل��و طلبت ال��وص��ول إلى‬
‫آماكن سيادية مثل القصر اجلمهوري أو وزارة الدفاع أو‬
‫الداخلية‪ ،‬ولو ذهبنا إلى ابعد من ذلك وطالبت بالوصول‬
‫إلى آماكن متعلقة بعمل املقاومة فكيف سيتم التعامل مع‬
‫ه��ذه املطالب؟ وكيف ميكن التوفيق بني السيادة وهذه‬
‫املطالب؟‪ .‬وما هي طبيعة شهادة الشهود التي في حوزتها‬
‫وم��ا هي وم��ن أي��ن أت��ت بها؟ وإذا ك��ان املقصود شهادات‬
‫وردت ف��ي ت�ق��ري��ر جل�ن��ة ت�ق�ص��ي احل �ق��ائ��ق ال �ب��ال��غ ‪300‬‬
‫صفحة فلماذا لم تنشر مع امللخص التنفيذي ال��ذي لم‬
‫يتضمن سوى ‪ 20‬صفحة أي ‪ 7%‬من اصل التقرير رغم‬
‫أن فيه من استنتاجات تصل إلى حد ليس توجيه االتهام‬
‫بل تأكيده لبعض اجلهات األمنية اللبنانية والسورية‪.‬‬

‫إن الفقرة الثانية في املادة (‪ )3‬تعتبر األكثر التباساً في‬ ‫‪ -‬‬


‫نص القرار»إجراء مقابالت مع جميع املسؤولني وغيرهم‬
‫من األشخاص في لبنان‪ ،‬ممن ترى اللجنة أن لهم أهمية‬
‫في التحقيق»‪ .‬فمن هم األشخاص املسؤولني ‪ -‬واملقصود‬
‫بهم الرسميون هنا ‪ -‬ال��ذي��ن سيتم االس�ت�م��اع لهم؟ هل‬
‫هم موظفون إداريون امنيون؟ أم ذات صفات سياسية أو‬

‫‪71‬‬
‫سيادية؟ وكيف سيتم التعامل مع هذه الفئات جميعها؟‬
‫وف��ي املقلب اآلخ��ر م��ن الفقرة م��ن املقصود ب�ـ «غيرهم‬
‫من األشخاص» وهنا املقصود غير املسؤولني الرسميني‪،‬‬
‫فهل سيكونون رؤساء أحزاب وحركات ومنظمات لبنانية؟‬
‫وكيف سيتم التعامل مع هذه الفقرة إذا ربطت لسبب ما‬
‫بالفقرة الثالثة من مقدمة القرار «وإذ يدين ما أعقبها‬
‫من هجمات في لبنان» بعد جرمية االغتيال‪ ،‬فهل املقصود‬
‫التفجيرات األمنية التي حدثت في بعض املناطق اللبنانية‬
‫أم أن استنتاجات التحقيق الالحق ميكن أن يُربط بأعمال‬
‫وأفعال جرت قبل جرمية االغتيال؟ وهل ميكن أن متتد‬
‫إلى مفعول رجعي إلى قبل اتفاق الطائف وبعده؟‪.‬‬

‫إن ما ورد في املادة (‪« )7‬يطلب إلى جميع الدول وجميع‬ ‫‪ -‬‬
‫األط ��راف أن ت�ت�ع��اون ت�ع��اون�اً ت��ام�اً م��ع اللجنة ‪ »...‬فمن‬
‫امل�ق�ص��ود ه�ن��ا ب��ال��دول سيما وان ال��دول��ة اللبنانية قد‬
‫ورد ذكرها صراحة في القرار؟ فهل سوريا هي املعنية‬
‫بهذه الفقرة أو غيرها؟ في الواقع هو كذلك‪ ،‬وه��ذا ما‬
‫أكدته تصريحات بعض املسؤولني في وزارة اخلارجية‬
‫الفرنسية‪ ،‬وما يؤكد ذلك أيضاً ما ورد في تقرير جلنة‬
‫تقصي احل�ق��ائ��ق ح��ول ط�ل��ب اللجنة مل��وع��د م��ع الرئيس‬
‫السوري الستيضاحه عن أمور واجهت عملها حيث رفض‬
‫الطلب‪ .‬فهل سيكون من بني مهام جلنة التحقيق الدولية‬
‫توسيع عملها إلى خارج األراضي اللبنانية؟‬

‫إن م��ا ورد ف��ي ب�ع��ض م��واد ال �ق��رار سيشكل س��واب��ق قانونية‬
‫وسياسية كثيرة تضاف إل��ى منهج عمل مجلس األم��ن ال��دول��ي في‬
‫تعاطيه مع قضايا حساسة تتطلب دراية كبيرة بأوضاع بعض املناطق‬

‫‪72‬‬
‫في العالم‪ ،‬فالقرار ‪ 1595‬شكل سابقة قانونية جلهة اعتبار جرمية‬
‫ال إرهابياً يتطلب ال��ول��وج في عملية‬‫اغتيال الرئيس احل��ري��ري عم ً‬
‫كشف املخططني واملنفذين له اللجوء إلى الفصل السابع من ميثاق‬
‫املنظمة‪ ،‬وهي صالحية مناطة مبجلس األمن في حال تعرّض األمن‬
‫والسلم الدوليني للخطر‪ .‬كما يعتبر ال�ق��رار سابقة جلهة معاجلة‬
‫جرمية اغتيال سياسية بقرار من مجلس األم��ن مستنداً إلى قرار‬
‫سابق ه��و ال�ـ ‪ 1566‬وب��ذل��ك يكون ال�ق��رار األخ�ي��ر ق��د وض��ع موضع‬
‫التطبيق والتنفيذ للمرة األولى منذ صدوره‪.‬‬

‫كما إن حت��دي��د عمل جلنة التحقيق ال��دول�ي��ة جلهة التوقيت‬


‫واملدد الزمنية سيكون مترافقاً مع القانون األمريكي لـ «حترير لبنان‬
‫وس��وري��ا» وال��ذي أج��از للرئيس األمريكي العمل عبر مجلس األمن‬
‫ال��دول��ي سياسياً ومالياً واقتصادياً وحتى عسكرياً لتنفيذه‪ .‬فهل‬
‫ميكن أن تكتمل القراءة القانونية للقرار من دون املقاربة السياسية‬
‫للموضوع برمته؟‬

‫إن خلفيات القرار ‪ 1595‬وأب�ع��اده السياسية في املنطقة لم‬


‫تأت من الفراغ بل تهيأت له البيئة القانونية سلفاً بدءاً من القرار‬
‫‪ 1373‬و ‪ 1559‬مروراً بالـ ‪ 1566‬وصوالً إلى البيان الرئاسي وتقرير‬
‫جلنة تقصي احلقائق‪ ،‬فهل سيقتصر األمر على جالء حقيقة جرمية‬
‫االغتيال؟ إن القراءة املتأنية ملا يرسم للمنطقة تشير إلى أن جلنة‬
‫التحقيق الدولية ستكون كسيف دموقليس املوجه على رق��اب دول‬
‫املنطقة‪ ،‬فبقدر ما تكون االستجابات والتنازالت كثيرة سيكون ضغط‬
‫اللجنة مخففاً‪.‬‬

‫إن جلرمية اغتيال الرئيس احلريري أبعادا تتعدى حجم لبنان‬


‫وقدرته على حتمل نتائجها بل إن تداعياتها ستشمل نهجاً سيطال دوالً‬

‫‪73‬‬
‫كثيرة في املنطقة‪ ،‬فهل نحن أمام جلنة حتقيق دولية كلجنة امنوفيك‬
‫في العراق وهل سيضطر رئيسها يوماً التصريح عن الضغوط التي‬
‫مورست عليه كما فعل بليكس يوماً بعد سقوط بغداد؟‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬القرار ‪1636‬‬

‫بات واضحاً أن ص��دور القرار ‪ 1636‬بهذا الشكل واملضمون‬


‫لم يكن سوى قيمة إضافية للبيئة القانونية والسياسية التي رسمتها‬
‫مجموعة القرارات الصادرة قبالً‪ ،‬بدءاً بالقرار ‪ 1373‬و‪ 1566‬مروراً‬
‫بالـ ‪ 1559‬و‪ 1595‬وص��والً إل��ى ‪ ،1614‬كما أصبح م��ن ب��اب أولى‬
‫تفسير صيغة القرار األخير على انه مقدمة لسلسلة قرارات ترجمت‬
‫الصيغة التنفيذية خلارطة الطريق األمريكية التي رسمتها للمنطقة‬
‫بعد احتالل كل من أفغانستان والعراق بحيث لم يعد سوى سوريا‬
‫ولبنان وامل�ل��ف ال�ن��ووي اإلي��ران��ي خ��ارج أط��ار النفوذ الفعلي ملشروع‬
‫الشرق األوسط الكبير‪ .‬وعليه فإن القرار ‪ 1636‬بدا مشروعاً متطابقاً‬
‫للعديد من احملاوالت األمريكية السابقة كقانون العقوبات على سوريا‬
‫وصوال إلى مشروع القانون األمريكي لتحرير لبنان وسوريا الذي أقر‬
‫في الكونغرس األمريكي‪ .‬وعلى الرغم من أن األهداف املعلنة للقرار‬
‫هي ج�لاء احلقيقة جلرمية اغتيال الرئيس احل��ري��ري‪ ،‬وه��و مطلب‬
‫يُجمع اللبنانيون عليه كما العالم بأسره‪ ،‬فإن خلفياته ومراميه البعيدة‬
‫املدى من الصعب فصلها عما يؤسس للمنطقة وبوتيرة متسارعة‪ ،‬فما‬
‫هي املعطيات التي ساهمت في صدور القرار بهذا الشكل؟ وما هي‬
‫ال ومضموناً؟ وإلى أي مدى ميكن أن يساعد‬ ‫الصيغ الواردة فيه شك ً‬ ‫ِ‬
‫في كشف احلقيقة وبالتالي إلى أين تسير املنطقة؟‪.‬‬

‫ثمة جملة اع�ت�ب��ارات وع��وام��ل مختلفة ومتنوعة أسهمت في‬


‫إي�ص��ال األم��ور إل��ى م��ا وصلت إل�ي��ه‪ ،‬ب��دءاً بالضغوط امل�ت��وات��رة على‬

‫‪74‬‬
‫املنطقة م ��روراً ب��ال�س�ي��اس��ات ال�س��وري��ة امل�ع�ت�م��دة ف��ي ب�ع��ض امللفات‬
‫األساسية والفرعية وصوالً إلى اثر هذه السياسات وإسقاطاتها في‬
‫الساحة اللبنانية وما نتج عنها الحقاً بعد جرمية االغتيال‪ ،‬وفي هذا‬
‫اإلطار ميكن تسجيل العديد من املالحظات منها‪:‬‬

‫لم تعد أهداف وثيقة األمن القومي األمريكي خافية على‬ ‫‪ -‬‬
‫احد فهي وان بوشر في تنفيذها علنا بعد ‪ 11‬أيلول ‪2001‬‬
‫إال أن جذورها تعود إلى ما قبل والية جورج بوش االبن‪،‬‬
‫وبهذا املعنى إن الضغوط التي تراكمت على املنطقة منذ‬
‫منتصف تسعينيات القرن املاضي تعبّر بشكل أو بآخر‬
‫ع��ن فشل م�ش��روع ال�ش��رق أوسطية ال��داع��ي إل��ى إدخال‬
‫إس��رائ �ي��ل ض�م��ن ن �ظ��ام إق�ل�ي�م��ي ينهي ال�ن�ظ��ام اإلقليمي‬
‫ال �ع��رب��ي‪ ،‬وب �ه��ذا امل�ع�ن��ى أي �ض �اً أت ��ى امل��ش��روع األمريكي‬
‫مواز‬
‫ٍ‬ ‫ل�لإص�لاح ون�ش��ر ال��دمي��وق��راط�ي��ة ف��ي إط��ار مسعى‬
‫ملشروع الشرق األوسط الكبير الذي مانعته كل من سوريا‬
‫وإيران ولبنان؛ األمر الذي دفع واشنطن للعمل بقوة إلزالة‬
‫العقبات بدءاً بالضغوط السياسية واالقتصادية وصوالً‬
‫إلى التلميح بقلب األنظمة ولو عسكرياً إذا اقتضى األمر‬
‫كما ح��دث في أفغانستان وال�ع��راق وم��ا يعمل عليه اآلن‬
‫للدول املمانعة‪.‬‬

‫وعلى الرغم من وضوح السياسات األمريكية في املنطقة‬ ‫‪ -‬‬


‫ظلت ال�ق��وى الرئيسة ف��ي املنطقة تعمل ف��ي نفس عدة‬
‫الشفل إذا ج��از التعبير رغ��م تغيّر ال �ظ��روف واملوازين‬
‫وم��ن تلك القوى س��وري��ا‪ .‬وبصرف النظر عن ال�ق��درة أو‬
‫الرغبة في حتسني وتطوير أساليب العمل في العالقات‬
‫الدولية واإلقليمية وبخاصة في الساحة اللبنانية فان‬

‫‪75‬‬
‫دمشق استمرت في تعاطيها مع امللفات اللبنانية بطريقة‬
‫يسهل استغاللها لغير مصلحتها‪ ،‬أي مبعنى إن الكثير‬
‫من امللفات التي تضررت منها ولم تكن مستفيدة أيضاً‬
‫منها أ ُلصقت نتائجها بها وفي مقدمها جرمية االغتيال‬
‫وتداعياتها املختلفة كخسارة الورقة اللبنانية وما لها من‬
‫ثقل استراتيجي في السياسة اخلارجية السورية‪.‬‬

‫وفي لبنان املعني الرئيس بنتائج هذه السياسات وآثارها‪،‬‬ ‫‪ -‬‬


‫ف�ق��د جت� ّم�ع��ت ع�ل��ى م��دى ث�لاث��ة ع�ق��ود أخ �ط��اء م��ا يكفي‬
‫إليجاد بيئة قوية لقلب موازين قوى حاولت دمشق جاهدة‬
‫فرضها منذ ال�ع��ام ‪ ،1991‬حتى أت��ت ج��رمي��ة االغتيال‬
‫لتكون الشعرة التي قَسَ مّت ظهر البعير‪ ،‬ورغم التموضع‬
‫السياسي الناشيء فقد اجتمع اللبنانيون على وجوب‬
‫كشف حقيقة االغتيال ورمب��ا سيفترقون ح��ول خلفيات‬
‫االغتيال ومن بينها املواقف من القرار ‪.1636‬‬

‫وفي املقلب اآلخ��ر حيث إسرائيل املعتادة على استثمار‬ ‫‪ -‬‬


‫أخطاء العرب متكّنت هذه املرة أيضاً من استثمار فرصة‬
‫العمر بوضع نفسها فوق الشبهات في جرمية االغتيال‬
‫بل باتت مصدراً موثوقاً للمعلومات ومكاناً ال حتوم حوله‬
‫الشبهات‪.‬‬

‫وإذا كانت هذه املعطيات التي أسهمت في صدور القرار فما‬


‫ال ومضموناً‪ ،‬وم��ا هي آث��اره��ا العملية في كل من‬
‫هي حيثياته شك ً‬
‫سوريا ولبنان‪ ،‬وفي هذا اإلطار ميكن إدراج بعض النقاط أبرزها‪:‬‬

‫بعد سلسلة مشاورات إقليمية ودولية منها العربي ومنها‬ ‫‪ -‬‬

‫‪76‬‬
‫ال��روس��ي واإلي ��ران ��ي وال �ص�ين مل��ا ل�ه��ا م��ن ع �ق��ود نفطية‬
‫تقدر بسبعني مليار دوالر‪ ،‬جت��اوز مجلس األم��ن صيغة‬
‫وتوصل إلى قرار لم يصل إلى حد فرض‬ ‫ّ‬ ‫القرار األصلي‪،‬‬
‫العقوبات على دمشق وإمنا أبقى السيف مسلطاً ومرهونا‬
‫مبدى التعاون السوري الذي يجب أن يكون غير مشروط‬
‫وفقاً ملتطلبات قرار مجلس األمن‪.‬‬

‫ورغم أن العقوبات لم ترد في نص القرار إال أن الصياغة‬ ‫‪ -‬‬


‫التي أتت بها بعض البنود تشير إلى تهديد يُستشف منه‬
‫أن املتابعة الالحقة ستكون اش��د قسوة وأك�ث��ر فعالية‪.‬‬
‫فالقرار وفقاً ملنطوقه أتى ضمن الفصل السابع من امليثاق‬
‫الذي يستوجب تطبيقه بالقوة إذا لزم األمر وال يتطلب‬
‫موافقة الدولة صاحبة العالقة به‪ ،‬وعلى الرغم من أن‬
‫الصيغة األساسية كانت قد استندت في الفقرة األخيرة‬
‫على أن هذا القرار يستند إلى املادة ‪ 41‬من امليثاق‪ ،‬أي‬
‫التدرج في العقوبات ب��دءاً من االقتصادية م��روراً بقطع‬
‫االت�ص��االت البرية والبحرية واجل��وي��ة وص��والً إل��ى قطع‬
‫العالقات الدبلوماسية‪ ،‬فإن الصيغة األصلية أيضاً والتي‬
‫صرف النظر عنها كانت ترمي بشكل أو بآخر إلى املادة‬ ‫ُ‬
‫‪ 42‬م��ن امل�ي�ث��اق‪ ،‬أي استعمال ال�ق��وة للتنفيذ وه��ي اشد‬
‫أنواع التنفيذ ضد أي دولة تهدد السلم واألمن الدوليني‬
‫كما جاء في العديد من فقرات القرار‪.‬‬

‫وللتأكيد على ما سبق جلهة نية مجلس األمن التشدد في‬ ‫‪ -‬‬
‫هذا املجال ما استند إليه القرار كذلك في ديباجته من‬
‫اإلش��ارة إلى القرارين ‪ 1373‬لعام ‪ 2001‬و‪ 1566‬لعام‬
‫‪ 2004‬املتعلقني باألعمال اإلرهابية وتهديد األمن والسلم‬

‫‪77‬‬
‫الدوليني‪ ،‬واللذين يجبرا جميع الدول املنضمة إلى األمم‬
‫املتحدة كما التي خارجها وج��وب تقدمي كل التسهيالت‬
‫املمكنة لتطبيق أي عقوبات ميكن أن تُفرض استناداً إلى‬
‫هذين القرارين‪.‬‬

‫لقد صدر القرار بإجماع أصوات الدول اخلمسة عشرة‬ ‫‪ -‬‬


‫رغم ما قيل عن معارضة كل من بكني وموسكو ملشروع‬
‫القرار األساسي‪،‬وعلى الرغم من موافقة هاتني األخيرتني‬
‫في التصويت إال أن األمر كان مشروطاً بوجوب التعاون‬
‫السوري مع جلنة التحقيق ودون ش��روط‪ ،‬ما يشير إلى‬
‫عدم إمكانية استمرار الدعم الروسي والصيني لسوريا‬
‫الحقا‪.‬‬

‫إن املدة املمنوحة عملياً لدمشق في هذا السياق هي مهلة‬ ‫‪ -‬‬


‫وجيزة ال تتجاوز اخلامس عشر من كانون األول‪ ،‬وهي‬
‫مهلة ضاغطة بحيث يصعب ت�ص�وّر أي تضييع للوقت‬
‫وس��ط ضغوط البنود الباقية ومطالباتها الدقيقة التي‬
‫ال حتتمل التأويل أو التفسير‪ ،‬كما أن املهلة نفسها رمبا‬
‫تكون أقصر من ذلك في حال كان تقييم سلوك سوريا‬
‫سلبياً من قبل اللجنة وعلى أي ح��ال فهو مبثابة إنذار‬
‫أخير‪.‬‬

‫لقد وض��ع ه��ذا ال�ق��رار سوريا في عني العاصفة بعدما‬ ‫‪ -‬‬


‫تبنى مجلس األمن تقرير جلنة التحقيق الدولية وما أتى‬
‫ب��ه‪ ،‬جلهة االشتباه ال��ذي يصل إل��ى ح��د االت�ه��ام وبذلك‬
‫يعتبر القرار مبثابة القرار الظني الذي يستوجب املتابعة‬
‫من إج��راءات حتقيق وغيره كما ورد في امل��ادة الثانية‪،‬‬

‫‪78‬‬
‫ورغم ذلك فالقرار أشار في الفقرة الرابعة من الديباجه‬
‫«أن التحقيق لم يتم االنتهاء منه بعد»‪.‬‬

‫إن اخطر ما ورد في القرار وضع سوريا في طريق التدويل‬ ‫‪ -‬‬


‫املتقاطع مع مظاهر نزع السيادة‪ ،‬ذلك ما ورد في الفقرة‬
‫(أ) من املادة الثالثة عبر إقامة شكل من أشكال االنتداب‬
‫اللبناني على سوريا‪ ،‬فهو إذ يطالب مبنع سفر أشخاص‬
‫أو جتميد أموالهم يحيل حتديد هوية هؤالء إلى «اللجنة»‬
‫أو «احلكومة اللبنانية» وه��و ما يعتبر أيضاً رب��ط نزاع‬
‫ي�ض��اف إل��ى سلسلة م�ش��اري��ع اإلش �ك��االت ف��ي العالقات‬
‫اللبنانية ‪ -‬السورية القائمة حالياً‪.‬‬

‫وم��ن مظاهر إمكانية اخ�ت��راق السيادة أو األم��اك��ن ذات‬ ‫‪ -‬‬


‫الطابع السيادي‪ ،‬ما ورد في املادة احلادية عشرة السيما‬
‫الفقرة (ب)‪« :‬يكون للجنة‪ ،‬في عالقاتها بسوريا‪ ،‬نفس‬
‫احل�ق��وق والسلطات امل��ذك��ورة ف��ي ال�ف�ق��رة ‪ 3‬م��ن القرار‬
‫‪ ،2005 / 1595‬أي «ف��ي سبيل ضمان فاعلية اللجنة‬
‫خ�ل�ال اض�ط�لاع�ه��ا مب�ه�م��ات�ه��ا‪ ،‬ي�ج��ب أن حت�ظ��ى اللجنة‬
‫بالتعاون الكامل م��ن السلطات ال�س��وري��ة‪ ،‬مب��ا ف��ي ذلك‬
‫ال��وص��ول ‪ ‬الكامل إل��ى ك��ل املعلومات واألدل ��ة م��ن وثائق‬
‫وإف ��ادات ومعلومات وأدل��ة حسية م�ت��واف��رة ف��ي حوزتها‬
‫وتعتبرها اللجنة ذات صلة بالتحقيق» و«مت�ل��ك اللجنة‬
‫س�ل�ط��ة ج�م��ع أي م�ع�ل��وم��ات وأدل� ��ة إض��اف �ي��ة‪ ،‬م��ن وثائق‬
‫ومعلومات وأدل��ة حسية على حد س��واء‪ ،‬ذات صلة بهذا‬
‫العمل اإلرهابي‪ ،‬وكذلك مقابلة كل املسؤولني واألشخاص‬
‫اآلخرين في سوريا‪ ،‬عندما ترى اللجنة أن املقابلة ذات‬
‫صلة بالتحقيق» و«تتمتع اللجنة بحرية التنقل في كامل‬

‫‪79‬‬
‫األراضي السورية‪ ،‬مبا في ذلك الوصول إلى كل األماكن‬
‫واملنشآت التي ترتئي اللجنة أنها ذات صلة بالتحقيق»‪.‬‬

‫إن مقاربة النصوص الواردة في القرارين ‪ 1595‬و‪1636‬‬ ‫‪ -‬‬


‫تظهر التشدد الواضح في الثاني مقارنة ب��األول‪ ،‬عالوة‬
‫على أن األول قد حفظ ولو شكلياً احترام السيادة اللبنانية‬
‫في معرض تنظيم عمل اللجنة‪ ،‬فيما الثاني لم يشر إلى‬
‫هذا املوضوع ال من قريب وال من بعيد‪ ،‬بل اكتفى بتحديد‬
‫كيفية التعاون من قبل سوريا مع اللجنة عبر اإلحالة إلى‬
‫امل��ادة الثالثة م��ن ال�ق��رار ‪ 1595‬م��ع إس�ق��اط أي اعتبار‬
‫للسيادة‪.‬‬

‫ومن حيث الصالحيات التي تعتبر استثنائية على حساب‬ ‫‪ -‬‬


‫السيادة السورية ما أعطيَّ للجنة‪ ،‬وهي بوصفها جلنة‬
‫ال نظام داخلي لها وال آلية عمل محددة بل فريق عمل‬
‫اشهرهم رئيسه‪ ،‬ما يعزز االنطباع بأن سلوك اللجنة رمبا‬
‫يكون مرتبطاً بأمور أخرى ورمبا تخرج أيضاً عن نطاق‬
‫حتكّمها أو التأثير فيها‪.‬‬

‫لقد رتّب القرار سنداً هاماً للبنان في تغيير البيئة األمنية‬ ‫‪ -‬‬
‫والقضائية التي سادت قبالً‪ ،‬فقد اق َّر في الفقرة السادسة‬
‫من الديباجة توصية جلنة التحقيق جلهة «احلاجة إلى‬
‫استمرار تقدمي املساعدة الدولية إلى السلطات اللبنانية‬
‫ومعاونتها على كشف ك��ل خفايا ه��ذا العمل اإلرهابي»‬
‫وتضيف نفس الفقرة‪« :‬بأنه من الضروري أن يقوم املجتمع‬
‫الدولي بجهد متواصل إلقامة برنامج للمساعدة والتعاون‬
‫مع السلطات اللبنانية في ميدان األمن والعدالة»‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫ُحكمة ومتشددة بحيث يصعب التفلّت‬ ‫ٍ‬ ‫بصيغ م‬
‫ٍ‬ ‫لقد أتي القرار‬
‫من االلتزامات املفروضة فيه جلهة التعاون واملدة‪ ،‬وعليه إن التعاطي‬
‫مع كيفية التنفيذ ونوعية التعاون تتطلب حكمة وتبصراً بالغتني‬
‫باعتبار أن مرامي ال�ق��رار رمب��ا تكون له أب�ع��ادا كثيرة غير معلنة‪،‬‬
‫وإذا كان هناك ثمة وجهة نظر سورية تتوافق مع التوجّ س من هذه‬
‫اخللفيات‪ ،‬فان إبعاد األخطار تستوجب التعامل بطرق مختلفة عما‬
‫اع�ت��ادت عليها دمشق سابقاً؛ فال ال�ظ��روف اإلقليمية وال الدولية‬
‫مهيأة لتقدمي املزيد من الفرص‪ ،‬كما إن الوضع السوري ليس مبوقع‬
‫قادر على تغيير موازين قوى أو فرض تسويات‪.‬‬

‫وفي اجلانب اللبناني املعني األساس باألهداف احلقيقية للقرار‬


‫وهي كشف مالبسات اجلرمية‪ ،‬يبدو أن األمر يستلزم دقة متناهية في‬
‫التعاطي مع مندرجات القرار‪ ،‬بحيث ال يُسمح لالستثمار السياسي‬
‫ال في االستفادة من تقاطع النية في كشف اجلرمية‬ ‫أن يكون فاع ً‬
‫م��ع املطالبة ف��ي االق�ت�ص��اص م��ن س��وري��ا على مواقفها وسياساتها‬
‫اإلقليمية‪ ،‬فالدول الصغيرة غالبا ما تدفع الثمن في حسابات الكبار‬
‫دون اإللتفات إلى مصاحلها اخلاصة حتى وان كانت مبستوى جرمية‬
‫اغتيال الرئيس رفيق احلريري وما له من وزن دولي فاق حجم لبنان‬
‫واملنطقة‪.‬‬

‫إن سياسة حفة الهاوية املعتمدة في املنطقة منذ زم��ن بعيد‬


‫مرشحة لالستمرار مبزيد من الضغوط املترجمة ب�ق��رارات دولية‬
‫كالقرار ‪ 1636‬وما سيستتبعه الحقاً‪ ،‬وحتى ال يصبح هذا القرار‬
‫ال لفوضى بناءة في العديد من دول املنطقة على املعنيني به‬ ‫مدخ ً‬
‫بتأن‪ ،‬وترجمة هذه القراءة مبواقف مدروسة توصل‬ ‫وجوب قراءته ٍ‬
‫إلى حقيقة االغتيال وتبعد فِ نت االقتتال‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫رابع ًا‪ :‬القرار ‪1644‬‬

‫إن م��ا أت��ى ب��ه ال�ق��رار ‪ 1644‬ك��ان اق��ل م��ن طموح البعض في‬
‫وقت لم يالمس خشية وخوف البعض اآلخر‪ ،‬لذا كان القرار اقرب‬
‫إل��ى ال�ن��ص ال�ق��اب��ل للتأويل والتظهير بحسب م��ا يستفيد منه كل‬
‫طرف داخلي أم خارجي‪.‬وفي هذا اإلطار ميكن تسجيل العديد من‬
‫املالحظات أبرزها‪:‬‬

‫صدر القرار باإلجماع كغيره من القرارات ذات الصلة‪ ،‬إال‬ ‫‪ -‬‬


‫أن اجلديد باإلجماع كان اقل كلفة‪ ،‬جهداً ووقتاً بخالف‬
‫احل ��االت ال�س��اب�ق��ة‪ ،‬رغ��م أن م �ش��روع ال �ق��رار الفرنسي‬
‫امل��دع��وم أم��ري �ك �ي �اً وب��ري�ط��ان�ي�اً أوح ��ى ب��إم�ك��ان�ي��ة حصول‬
‫مداوالت صعبة قبل صدوره‪ ،‬ومرد ذلك املوقف الروسي‬
‫‪ -‬الصيني الناجم عن قدرة إي��ران وسوريا في استثمار‬
‫القضايا االقتصادية واملالية وغيرها في تأمني مظلة ما‬
‫لسوريا ولو في حدود معينة‪.‬‬

‫ج��اء ن��ص ال �ق��رار ب�ع�ب��ارات وص�ي��اغ��ات دبلوماسية دقيقة‬ ‫‪ -‬‬


‫بحيث لم تُستعمل لغة احلزم أو اجلزم في مواضع يُفترض‬
‫استعمالها‪ ،‬واك�ت�ف��ى مبصطلحات ال تنم ب��ال �ض��رورة عن‬
‫التشدد لكنها ليست مرنة بحيث يُ�س��اء فهمها‪ .‬فالقرار‬
‫وان لم يرفض صراحة بعض املطالب فهو لم يتبناها علناً‬
‫وأب�ق��اه��ا مل �ش��اورات الح�ق��ة‪ ،‬ورغ��م أن ال �ق��رار ل��م يستعمل‬
‫قصر مهل املتابعة‬ ‫عبارات التشدد في مجال التأكد فقد َّ‬
‫واملالحقة وبذلك أبقى السيف مسلطاً دون الضرب فيه‪.‬‬

‫لقد استعمل مجلس األم��ن ع�ب��ارة «ي��أخ��ذ علماً» خمس‬ ‫‪ -‬‬

‫‪82‬‬
‫مرات‪ ،‬ثالث في الديباجة ومرتني في املادتني (‪ )3‬و (‪)6‬‬
‫من ال�ق��رار‪ ،‬وه��ي عبارة مخففة في اللغة الدبلوماسية‬
‫تفيد بعدم اإلدراج ضمن األوليات ولو كان األمر معاكسا‬
‫لت َّم استعمال أن املجلس «يسجل» بدل األخذ بالعلم وهو‬
‫مصطلح اشد سبكاً‪ .‬وفي السياق نفسه يأتي استعمال‬
‫عبارتي إن املجلس «يلحظ» كما ورد في الديباجة و«يشير»‬
‫كما وردت في الفقرة (‪ )4‬من القرار ال��ذي يأتي طبعا‬
‫في إطار الفصل السابع من ميثاق املنظمة الذي ينبغي‬
‫صياغة فقراته بحنكة متناهية ملا يُرتب من نتائج مبعزل‬
‫عن أرادات الدول وقبولها له‪.‬‬

‫أن ترحيب املجلس بالتقرير الثاني للجنة وفقاً للمادة‬ ‫‪ -‬‬


‫(‪ )1‬من القرار تعني موافقته الضمنية على مجمل ما ورد‬
‫في التقرير رغم عدم التبني بشكل واضح وصريح وما‬
‫يؤيد ذلك ما ورد في الفقرة (‪ )4‬من الديباجة من تهنئة‬
‫اللجنة ورئيسها على العمل املتفاني من اجل العدالة في‬
‫التحقيق‪ ،‬وكذلك ما ورد في امل��ادة (‪ )3‬من أن املجلس»‬
‫يؤكد استنتاجات اللجنة»‪.‬‬

‫إن ق ��رار امل�ج�ل��س مت��دي��د ع�م��ل جل�ن��ة التحقيق الدولية‬ ‫‪ -‬‬


‫ملدة ستة اشهر كما ورد في املادة (‪ )2‬ليس متطابقاً مع‬
‫طلب احلكومة اللبنانية بالتمديد ملدة ستة اشهر قابلة‬
‫للتمديد‪ ،‬ذلك بعطفه على آلية التمديد كما وردت في‬
‫ال �ق��رار ‪ 2005/1595‬ف��ي امل��ادة (‪ )8‬ال�ت��ي تنص على‪:‬‬
‫«ويخول األمني العام متديد عمل اللجنة فترة إضافية ال‬
‫تتعدى الثالثة اشهر‪ ،‬إذا اعتبر أن هذا ضروري للسماح‬
‫للجنة بإكمال التحقيق»‪ .‬وكذلك في املادة (‪ )8‬من القرار‬

‫‪83‬‬
‫‪« :2005/1636‬يرحب في هذا الصدد بقرار األمني العام‬
‫بأن ميدد والي��ة اللجنة حتى ‪ 15‬كانون األول‪ /‬ديسمبر‬
‫‪ ،2005‬حسب ما أذن به مجلس األمن في قراره ‪1595‬‬
‫(‪ )2005‬ويقرر أنه سيمدد هذه الوالية مرة أخ��رى إذا‬
‫أوصت اللجنة بذلك وطلبته احلكومة اللبنانية»‪ .‬فالتمديد‬
‫هنا ليس مرتبطا بطلب احلكومة اللبنانية وحدها لكن‬
‫الشرط اإلضافي هو تقرير اللجنة واألمني العام لوجوب‬
‫ذلك وهذا معروف بطبيعة األمر‪ ،‬إال أن املسألة مرتبطة‬
‫بتحديد تقدمي تقارير اللجنة حول تقدم عملها والتعاون‬
‫ال�س��وري في ه��ذا املجال احمل��دد بثالثة اشهر وأق��ل من‬
‫ذلك إذا رأت اللجة ضرورة لذلك كما ورد في املادة (‪)13‬‬
‫من القرار ‪.2005/1636‬‬

‫وعلى الرغم من عدم وجود شيء اسمه «محكمة ذات طابع‬ ‫‪ -‬‬
‫ُنشأة للمحاكم‬
‫دولي» في القانون الدولي وفي السوابق امل ِ‬
‫ال��دول�ي��ة إن ك��ان��ت م�ح��اك��م دول �ي��ة خ��اص��ة ك��ال�ت��ي أنشأت‬
‫لقضيتي يوغسالفيا وروان��دا أو احملاكم املختلطة كالتي‬
‫أنشأت لكل من سيراليون وكمبوديا وتيمور الشرقية‪ ،‬أو‬
‫احملكمة اجلنائية الدولية املوضوعة موضع التطبيق منذ‬
‫متوز العام ‪ ،2002‬فقد اخذ املجلس علما بطلب احلكومة‬
‫اللبنانية ولم يتخذ موقفاً محدداً بل اكتفى باإلشارة إلى‬
‫الطلب كما ورد في املادة (‪« )6‬من األمني العام مساعدة‬
‫احلكومة اللبنانية على حتديد طبيعة ونطاق املساعدة‬
‫الدولية املطلوبة بهذا الصدد‪ ،‬كما يطلب من األمني العام‬
‫رفع التقارير إليه بشكل سريع حول املسألة»‪ .‬فاملجلس‬
‫لم يرفض ولم يتبنى وترك األمر أوال لألمني العام بأن‬

‫‪84‬‬
‫يساعد احلكومة اللبنانية على حتديد طبيعة احملكمة أي‬
‫نوعيتها إذا ما كان اآلمر يستدعي اللجوء إلى السوابق‬
‫ال�س��ال�ف��ة ال��ذك��ر أو حت��دي��د محكمة أخ ��رى مبواصفات‬
‫معينة بذاتها‪ ،‬كما أن اآلمر متعلق بحدود املساعدة في‬
‫هذا اإلطار؛ ورغم عمومية املوقف وضبابيته فقد طُ لب‬
‫من األمني العام حتديد ذلك بتقارير سريعة دون حتديد‬
‫التوقيت كما ج��رى سابقاً وف��ي ه��ذا ال�ق��رار جت��اه بعض‬
‫األمور املتعلقة بالتعاون واحملددة كما أسلفنا بثالثة اشهر‪.‬‬
‫مبعنى إن مجلس األم��ن ورغ��م تسرّع احلكومة اللبنانية‬
‫بالطلب ملثل تلك احملاكم غير احملددة أصال في الطلب‪،‬‬
‫ترك الباب مفتوحاً على مشاورات كثيرة قابلة لالستثمار‬
‫السياسي الالحق بني الواقعني اللبناني واإلقليمي على‬
‫قضايا م�ت�ع��ددة ليست ب��ال �ض��رورة لها ع�لاق��ة بالقضية‬
‫األساس‪.‬‬

‫إن طلب احلكومة اللبنانية توسيع مهام اللجنة احلالية أو‬ ‫‪ -‬‬
‫إنشاء جلنة دولية أخرى للتحقيق في اجلرائم احلاصلة‬
‫منذ ‪ 2004/10/1‬كما ورد في الفقرة (‪ )2‬من الديباجة‪،‬‬
‫حاول املجلس إيجاد مخارج لها في املادة (‪ )7‬من القرار‬
‫عبر اجتاهني بعد رفض تشكيل جلنة دولية أخرى‪:‬‬

‫‪ - 1‬األول ال �س �م��اح ل�ل�ج�ن��ة ب �ع��د ط �ل��ب احل �ك��وم��ة اللبنانية‬


‫«بتقدمي املساعدة الفنية التي تراها مناسبة للسلطات‬
‫اللبنانية ف��ي التحقيقات ح��ول االع��ت��داءات اإلرهابية‬
‫التي وقعت ف��ي لبنان منذ ‪ »2004/10/1‬وه��ذا يعني‬
‫إن أمر املساعدة الفنية وان لم تكن محددة جلهة النوع‬
‫أو الطبيعة أو الكيفية هي مرتبطة في األساس بتقدير‬

‫‪85‬‬
‫اللجنة وليس احلكومة ف��ي م��دى مساهمتها ف��ي كشف‬
‫مالبسات اجلرائم وعمليات املتابعة لها‪،‬إضافة إلى ذلك‬
‫فلو افترضنا أن احلكومة اللبنانية طلبت مساعدة ما ولم‬
‫ترى اللجنة ض��رورة لذلك فمن هو املرجع الصالح حلل‬
‫تلك املسائل‪ ،‬إن العودة إلى البروتوكول املوقع بني اللجنة‬
‫وب�ين احلكومة اللبنانية بتاريخ ‪ 2005/6/13‬ال سيما‬
‫امل��ادة (‪ )5‬التي تنص على «ميكن أن تشارك اللجنة في‬
‫أي حتقيق له صلة بالقضية‪ ،‬سواء مت بناء لطلبها أم ال‪.‬‬
‫ويحق لها إعطاء التوجيهات للسلطات املختصة بشأن أي‬
‫عمل يجب‪ ،‬أو ال يجب‪ ،‬القيام به خالل هذه التحقيقات‬
‫بهدف احل�ف��اظ على األدل��ة أو احل�ص��ول عليها»‪ .‬وهذا‬
‫دليل آخر على أن اللجنة تبقى هي املرجع األول واألخير‬
‫في حتديد األمور وقيمتها العملية سيما وان النص أعطى‬
‫احلق للجنة إعطاء التوجيهات للسلطات اللبنانية حول‬
‫م��ا يجب عمله أو ال يجب عمله‪ ،‬إض��اف��ة إل��ى ذل��ك إن‬
‫أي خ�لاف ح��ول تفسير أي نص في البروتوكول خاضع‬
‫ملفاوضات ثنائية كما ورد في املادة (‪ )11‬من البروتوكول‬
‫نفسه دون حتديد مرجعية دولية محددة بذاتها‪.‬‬

‫‪ - 2‬أما االجتاه الثاني واملتعلق بتوسيع نطاق صالحيات اللجنة‬


‫لتشمل اجل��رائ��م األخ��رى فقد أناطها ال�ق��رار ف��ي املادة‬
‫(‪ )7‬نفسها باألمني العام عبر «توصيات» بعد التشاور‬
‫مع اللجنة واحلكومة وه��ي بطبيعة األم��ر ليست ملزمة‬
‫ملجلس األمن بكونها توصية ميكن األخذ بها أو جتاهلها‪،‬‬
‫وبذلك هي مرتبطة مبواقف أعضاء مجلس اآلمن وليس‬
‫بأي جهة أخرى‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫لقد عالج املجلس اجلانب املتعلق بسوريا بثالث مواد‪،‬‬ ‫‪ -‬‬
‫فعلى الرغم من اإلشارة إلى سوريا وباالسم فقد حاول‬
‫التخفيف من حدة عدم التجاوب الكلي غير املشروط كما‬
‫يطلبه القرار ‪1636‬؛ ففي املادة (‪ )3‬من القرار ‪1644‬‬
‫«يأخذ علماً بارتياح بالتقدم الذي أحرزه التحقيق منذ‬
‫تقرير اللجنة األخير‪ »....‬ويلحظ بقلق بالغ أن التحقيق‬
‫وبالرغم من انه لم يكتمل بعد‪ ،‬يؤكد استنتاجات اللجنة‬
‫السابقة‪ ،‬وب��أن احلكومة ال�س��وري��ة ل��م ت�ق��دم بعد للجنة‬
‫ال �ت �ع��اون ال �ك��ام��ل وغ �ي��ر امل� �ش ��روط»‪ ،‬ف��ال�ق�ل��ق م��وج��ه إلى‬
‫استنتاجات التقرير وليس إل��ى س��وري��ا‪ ،‬وم��ا يؤكد هذه‬
‫الصيغة التخفيفية ما ورد في املادة (‪ )4‬من أن املجلس‬
‫«يشير إلى واجب سوريا وتعهدها التعاون» أي أن التعاون‬
‫ورد بصيغة الواجب وليس الوجوب املفروض‪ ،‬رغم مطالبة‬
‫سوريا صراحة بالتجاوب بشكل ف��وري ال لبس فيه في‬
‫املسائل التي يشير إليها قاضي التحقيق وبتلبية أي طلب‬
‫قد تقدّ مه اللجنة في املستقبل بدون إبطاء» كما ورد في‬
‫املادة عينها‪.‬‬

‫إن ما توصل إليه مجلس األمن في القرار ‪ 1644‬يعتبر عودة‬


‫لدبلوماسية حفة الهاوية في معاجلة القضايا‪ ،‬فالقرار ه� ّدأ روّع‬
‫اللبنانيني إلى حد كبير بعد التموضع السياسي على قاعدة التعجّ ل‬
‫ف��ي احملكمة ال��دول�ي��ة وت��دوي��ل م��ا يخطر وال يخطر على ب��ال‪ ،‬كما‬
‫يُعتبر محاولة لضبط إيقاع احلراك السياسي الداخلي واستثماراته‬
‫املتنوعة بانتظار أش�ي��اء تُطبخ ف��ي املنطقة‪ ،‬وبالتالي التأكيد مرة‬
‫أخ��رى أن حجم أي قضية مهما بلغت تبقى رهناً بتقاطع مصالح‬
‫الكبار ومدى االستفادة من التعجيل بحلها‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫في بداية العقد األخير من القرن املاضي لم يكن ه َّم أميركا‬
‫حترير الكويت من غزوة صدام حسني‪ ،‬بقدر ما كان اله ّم األساس‬
‫في كيفية استثمار هذه اخلطيئة الكبرى‪ ،‬على قاعدة تصوير هزمية‬
‫ن�ظ��ام ال �ع��راق آن ��ذاك ه��زمي��ة ل�ك��ل ال�ع��رب‪،‬وب��ال�ت��ال��ي دف�ع�ه��م لتقدمي‬
‫تنازالت مجانية إلسرائيل‪ ،‬فكانت اتفاقات وادي عربة واوسلو وواي‬
‫ال‬
‫ريفر وكامب دايفيد وغيرها‪ ،‬فهل جرمية االغتيال ستكون مدخ ً‬
‫إليجاد البيئة املناسبة خ�لال الفترة القادمة لذلك‪ ،‬إن لبنان كما‬
‫املنطقة يعج بأسباب االنفجارات الكبرى فهل نعي ذلك؟ّ!‬

‫راب�ع� ًا‪ :‬ال�ق��رار ‪ 1680‬والعالقات الدبلوماسية اللبنانية‬


‫السورية‬

‫شكلت املطالبة بإقامة عالقات دبلوماسية بني لبنان وسوريا‬


‫وجهاً من وجوه التأكيد على استقالل لبنان وسيادته‪ ،‬وظلت مقياساً‬
‫لنوعية العالقات بني البلدين بعد االستقالل عن فرنسا‪ .‬وفي ترجمة‬
‫منقحة لتذبذب العالقة بني البلدين شجَّ ع القرار الدولي ‪ 1680‬تاريخ‬
‫‪ 2006/5/18‬في امل��ادة الرابعة منه «احلكومة السورية بقوة على‬
‫االستجابة ملطلب احلكومة اللبنانية الداعي‪ ،‬متاشيا مع التفاهمات‬
‫التي مت التوصل إليها في احلوار الوطني اللبناني‪ .....،‬إلى إقامة‬
‫عالقات دبلوماسية كاملة ومتثيل دبلوماسي‪ ،‬مع اإلش��ارة إل��ى أن‬
‫من شأن هذه اإلج��راءات أن تشكِّل خطوة مهمة نحو تأكيد سيادة‬
‫لبنان وسالمة أراضيه واستقالله السياسي‪ ،‬وحتسني العالقات بني‬
‫البلدين‪ ،‬ما يُقدِّ م مساهمة إيجابية لالستقرار في املنطقة‪ ،‬ويحث‬
‫كال الطرفني على القيام بجهود عبر حوار ثنائي إضافي لتحقيق هذا‬
‫الغرض‪ ،‬مستذكرين أن إقامة عالقات دبلوماسية بني الدول‪ ،‬وبعثات‬
‫دبلوماسية دائمة‪ ،‬يت ُّم مبوافقة متبادلة»‪ .‬فما هي ح��دود التوافق‬
‫امل�ت�ب��ادل وعالقته بقاعدة ال��رض��ا إلق��ام��ة ال�ع�لاق��ات الدبلوماسية؟‬

‫‪88‬‬
‫وبالتالي هل ثمة إل��زام بني ال��دول إلقامة عالقات دبلوماسية حتى‬
‫ولو كان هناك اعتراف بينها؟ في هذا اإلطار ميكن تسجيل العديد‬
‫من املالحظات أبروها‪:‬‬

‫إن املعيار األس��اس إلق��ام��ة ال�ع�لاق��ات الدبلوماسية بني‬ ‫‪ -‬‬


‫ال��دول هو متتع الدولة باالستقالل والسيادة‪ ،‬وبالتالي‬
‫متتعها مبيزة حق التبادل الدبلوماسي‪ .‬وعليه ف��ان كل‬
‫من لبنان وسوريا يتمتعان بهذه امليزة وبالتالي لكل منهما‬
‫احلق بذلك‪ ،‬إال أن الرغبة شيء والواقع شيء آخر‪.‬‬

‫إن مبدأ االعتراف الدولي بأي حالة جديدة تطرأ على‬ ‫‪ -‬‬
‫دولة ما (حكومة جديدة نتيجة ثورة أو انقالب أو تغيّر‬
‫م��وازي��ن ق��وى داخ �ل �ي��ة وخ��ارج �ي��ة أو إن �ه��اء ل��وض��ع قائم‬
‫ب�ين ب�ل��دي��ن) يشكل ش��رط �اً الزم� �اً ق�ب��ل إق��ام��ة العالقات‬
‫الدبلوماسية‪ ،‬إال أن ذل��ك ال يعني ب��ال�ض��رورة أن يؤدي‬
‫إلى املباشرة في التبادل الدبلوماسي‪ .‬إن واقع العالقة‬
‫بني البلدين قد تغيرت بعد انسحاب اجليش السوري من‬
‫لبنان ف��ي ‪ ،2005/4/26‬وه��ذا م��ا اع�ت��رف ب��ه البلدان‬
‫وكذلك املجتمع الدولي‪.‬‬

‫وإذا كان االعتراف الضمني والواقعي ي��ؤدي إلى إقامة‬ ‫‪ -‬‬


‫نوع من العالقات التجارية واالقتصادية أو غيرها فذلك‬
‫ال يعني بالضرورة وصولها لعالقات دبلوماسية‪ .‬وإذا كان‬
‫شرط االعتراف الصريح ضرورياً للوصول لتلك احلالة‬
‫فإن اتفاق الدول يعتبر شرطاً الزماً للتعبير عن رغبتها‬
‫وإرادتها في إقامة العالقات الدبلوماسية بينها‪ .‬وعليه‬
‫ف��ان االع �ت��راف باملتغيرات احل��اص�ل��ة ينبغي أن يستتبع‬

‫‪89‬‬
‫اتفاق البلدين على إقامة العالقات الدبلوماسية كتعبير‬
‫عن هذه اإلرادة والرغبة بينهما‪ .‬أي إن املوضوع ال يرتبط‬
‫بجهة واحدة وإمنا باجلهتني اللبنانية والسورية‪.‬‬

‫إن إقامة العالقات الدبلوماسية بني الدول ال تقام إال بالرضا‬


‫امل�ت�ب��ادل باعتبارها أرق��ى وأرف ��ع أن ��واع ال�ع�لاق��ات ال��دول �ي��ة‪ ،‬وقيام‬
‫البعثات الدبلوماسية ال��دائ�م��ة يتطلب ث�لاث��ة ش ��روط‪ ،‬الشخصية‬
‫القانونية الدولية واالع�ت��راف واالتفاق املتبادل بني ال��دول املعنية‪،‬‬
‫وهذا ما أكدته اتفاقية ڤيينَّا للعالقات الدبلوماسية للعام ‪ 1961‬في‬
‫مقدمتها وكذلك في املادة الثانية منها‪ .‬وبذلك تكون االتفاقية قد‬
‫أخذت بطريق غير مباشر مببدأ حق التمثيل واعترفت به لكل دولة‬
‫تتمتع بحق املساواة في السيادة وفقاً للفقرة األولى من املادة الثانية‬
‫من ميثاق األمم املتحدة التي تنص على «أن الهيئة تقوم على مبدأ‬
‫املساواة في السيادة بني جميع أعضائها»‪ .‬واستناداً إلى ما سبق‬
‫تكون اتفاقية ڤيينَّا للعام ‪ 1961‬لم تأخذ باملفهوم القائل انه مبجرد‬
‫حصول االعتراف بني الدول يصبح التبادل الدبلوماسي أمراً تلقائياً‪.‬‬
‫فاالتفاقية أكدت إن إقامة العالقات الدبلوماسية ليس ملزماً بني‬
‫ال��دول وبذلك اعتبرت أن حق التمثيل شيء وممارسته شيء آخر؛‬
‫ويظهر ذل��ك ف��ي ع��دم رغبة بعض ال��دول ف��ي التبادل الدبلوماسي‬
‫مع دول أخ��رى ألسباب عديدة ومتنوعة من بينها‪ ،‬انتظار الدولة‬
‫لبعض الوقت لتتضح صورة عالقاتها مع الدولة املعنية‪ ،‬أو االنتظار‬
‫السترخاء العالقة بعد توترها‪ ،‬أو االنتظار الستقرار الوضع القائم‬
‫اجلديد في الدولة املعنية‪ ،‬وفي الواقع ثمة أسباب كثيرة من الصعب‬
‫حصرها ذلك يعود لطبيعة العالقة القائمة بني الدولتني‪ ،‬وفي احلالة‬
‫اللبنانية السورية ثمة أمور كثيرة ميكن أن تقال في هذا اإلطار‪.‬‬

‫كما أن اتفاقية ڤيينَّا للعالقات الدبلوماسية قد ميَّزت أيضاً‬

‫‪90‬‬
‫بني إقامة عالقات دبلوماسية وإرسال بعثات دبلوماسية دائمة‪،‬فقد‬
‫نصت املادة الثانية على أن «إقامة العالقات الدبلوماسية وإرسال‬ ‫ّ‬
‫البعثات الدبلوماسية الدائمة يت ُّم بالرضا املتبادل» أي أن احلالة‬
‫األولى إقامة العالقات ال تستتبع بالضرورة إرسال البعثات الدائمة‪،‬‬
‫وإذا كانت احلالة األول��ى تتطلب ش��رط الرضا ف��ان الثانية تتطلب‬
‫أي �ض �اً ش��رط ال��رض��ا واالت �ف��اق امل�ت�ب��ادل ع�ل��ى تعيني ال�ب�ع�ث��ات جلهة‬
‫املستوى ودرجة التمثيل والشكل جلهة إذا ما كانت دائمة أو مؤقتة‬
‫أو متعددة أو غير مقيمة في الدولة املعنية‪.‬‬

‫إن االتفاق القائم على عنصر الرضا املتبادل هو من الناحية‬


‫القانونية شرط ضروري والزم إلقامة العالقات الدبلوماسية وإرسال‬
‫البعثات أو استقبالها‪ ،‬كما تأكد هذا االجتاه عبر التمييز بني التبادل‬
‫نصت اتفاقية البعثات‬ ‫الدبلوماسي الدائم واملؤقت واخلاص‪ ،‬حيث ّ‬
‫اخلاصة لعام ‪ 1969‬على أن الدول بإمكانها إيفاد البعثات اخلاصة‬
‫فيما بينها ش��رط االت �ف��اق املسبق ب�ص��رف النظر إذا م��ا ك��ان ثمة‬
‫عالقات دبلوماسية أو قنصلية بينهما أم ال‪.‬‬

‫وبالعودة إلى القرار ‪ 1680‬وما أتى فيه جلهة التشجيع على‬


‫إقامة العالقات الدبلوماسية بني البلدين فيمكن تسجيل التالي‪:‬‬

‫ل��م يستعمل ال �ق��رار ل�غ��ة ج��ازم��ة ك�م��ا ج��رت ال �ع��ادة في‬ ‫‪ -‬‬
‫سلسلة القرارات ذات الصلة بني البلدين واملتخذة سابقاً‪،‬‬
‫واكتفى في معرض معاجلته للطلب اللبناني بإقامة عالقة‬
‫دبلوماسية إلى استعمال تعبير «يشجع» بدالً من أي تعبير‬
‫ال كصيغة آمرة‪.‬‬ ‫آخر كـ «الطلب» مث ً‬

‫ت �ط��رق ال �ق��رار إل��ى م��وض��وع ال�ع�لاق��ة ال��دب�ل��وم��اس�ي��ة بني‬ ‫‪ -‬‬

‫‪91‬‬
‫مت التوصل إليها في‬ ‫البلدين من باب «التفاهمات التي َّ‬
‫مؤمتر احلوار اللبناني» وبذلك يعتبر القرار وسيلة متابعة‬
‫ملا اتفق عليه أط��راف احل��وار‪ .‬وليس باعتباره موضوعاً‬
‫أتى من خارج التداول السياسي الداخلي اللبناني‪ .‬ورغم‬
‫أن القرار ذكر أن العالقات الدبلوماسية تقوم على مبدأ‬
‫املوافقة املتبادلة إال أن هذا املوضوع مرتبط بأمور أخرى‬
‫من وجهة النظر السورية‪ ،‬أبرزها ترييح العالقة املتأزمة‬
‫القائمة حالياً وه��و مطلب مشروع من الناحية العملية‬
‫فالعالقات الدبلوماسية من املستحيل أن تنشأ بني الدول‬
‫ف��ي ال�س�ج��االت السياسية واإلع�لام �ي��ة وف��ي ظ��ل أجواء‬
‫االتهامات املتبادلة‪.‬‬

‫كما أتى القرار واضحاً ودقيقاً جلهة نوعية العالقة على‬ ‫‪ -‬‬
‫أنها «كاملة» وجلهة املتابعة أي «التمثيل» وجلهة الصفة‬
‫أي «الدائمة»‪ ،‬وبذلك حدد النوعية والكيفية‪ .‬وفي هذا‬
‫اإلطار وان كان لألمم املتحدة وفقاً مليثاقها العمل على‬
‫تنمية العالقات الودية بني الدول‪ ،‬إال انه من غير الطبيعي‬
‫أو الشرعي حتديد نوعية وشكل العالقات املفترضة بني‬
‫الدول‪ ،‬فللدول احلق أوالً وأخيراً حتديد أو إذا كانت تود‬
‫إقامة العالقات الدبلوماسية بني بعضها البعض أوال‪،‬‬
‫وحتديد النوعية والكيفية ثانياً‪.‬‬

‫لقد رب��ط ال �ق��رار ب�ين إق��ام��ة ال�ع�لاق��ة الدبلوماسية بني‬ ‫‪ -‬‬


‫البلدين ومساهمتها االيجابية لالستقرار في املنطقة‪،‬‬
‫وهو أمر واقعي من الناحية املنطقية والعملية في الظروف‬
‫العادية‪ ،‬إال أن إثارته ومحاولة فرضه في ظروف معينة‬
‫لن يخدم املبتغى الذي برره القرار بل من املمكن أن تكون‬

‫‪92‬‬
‫إث��ارت��ه سبباً لتأزم األم��ور وتعقيدها ب��دالً من تبسيطها‬
‫و تلطيفها ‪.‬‬

‫ثمة من يذهب ابعد من ذلك ويقول‪ ،‬أن متابعة مجلس‬ ‫‪ -‬‬


‫األمن ملوضوع العالقات الدبلوماسية اللبنانية السورية‬
‫في صيغة القرار ‪ 1680‬يُعتبر سابقة في تاريخ العالقات‬
‫الدبلوماسية بني الدول‪ ،‬جلهة إمكانية إجبار الدول على‬
‫إقامة عالقات دبلوماسية فيما بينها‪ ،‬أو إجبار الدول‬
‫على قطع ع�لاق��ات دبلوماسية قائمة ب�ي�ن�ه��ا‪.‬إن صيغة‬
‫ال �ق��رار وان أت��ت ح��ذرة حت��دي��داً ل�ه��ذه اجل�ه��ة م��ن خالل‬
‫التذكير مببدأ املوافقة املتبادلة بني ال��دول‪ ،‬إال ان��ه من‬
‫الناحية املوضوعية تعتبر املرة األولى التي يصيغ مجلس‬
‫األمن مثل هذه القرارات ومن املمكن أن تشكل سابقة في‬
‫صياغات أخرى الحقة في ظل انكسار التوازنات الدولية‬
‫وانفراد الواليات املتحدة األمريكية بالتحكم في مسار‬
‫القرارات الدولية‪.‬‬

‫إن مسألة ال�ع�لاق��ات الدبلوماسية ب�ين لبنان وس��وري��ا تعتبر‬


‫م��ن اع�ق��د األم��ور العالقة منذ إن�ش��اء الكيانني اللبناني والسوري‬
‫واستقاللهما عن االنتداب الفرنسي‪ ،‬وفي الواقع ثمة حجج ومواقف‬
‫كثيرة ومتنوعة تدعم وجهتي النظر الداعية إل��ى إقامة العالقات‬
‫الدبلوماسية بني البلدين أو عدمها؛ إال أن الشيء الثابت في كال‬
‫احلالني ضرورة أن تبقى العالقة في أحسن حالها وأحوالها‪ ،‬كما ينبغي‬
‫التذكر دائما في معرض املطالبة باحترام سيادة لبنان واستقالله انه‬
‫لوال موقف الكتلة الوطنية في سوريا في العام ‪ 1936‬ملا كان هناك‬
‫كيان لبناني‪ ،‬فموقف الكتلة الوطنية آنذاك هو الذي اقنع املسلمني‬
‫اللبنانيني بالتخلي عن فكرة الوحدة اللبنانية السورية‪ ،‬ذل��ك كان‬

‫‪93‬‬
‫في فترة كانت القيادتان اللبنانية والسورية تنظران إل��ى العالقة‬
‫املفترضة مبوضوعية متناهية‪،‬كم نحن اليوم بحاجة إلى مثل تلك‬
‫املواقف؟ فلبنان وسوريا توأمان سياميان من الصعب فصلهما دون‬
‫تشوهات اجتماعية وسياسية بنيوية‪ ،‬وإذا كان ثمة دواع لعالقات‬
‫ما نتيجة متغيرات حاصلة فان األفضل البحث دائماً عن احللول‬
‫الوسط التي تكفل عالقة تهدّ ئ روع بعض اللبنانيني املتوجّ سني من‬
‫رواس��ب ال�ع�لاق��ات اللبنانية ال�س��وري��ة ف��ي احلقبة السابقة‪ .‬وتبدد‬
‫هواجس سوريا ومخاوفها احملقة‪.‬‬

‫وإذا كانت املظاهر السلبية في العالقات اللبنانية السورية في‬


‫احلقبة السابقة تشكل حجر الرحى للمطالبة في إقامة عالقات‬
‫دبلوماسية حالياً‪ ،‬فإن التهيئة لظروفها تشكل أس��اس جناحها في‬
‫املستقبل‪ ،‬إذ أن جميع اللبنانيني مبن فيهم األط��راف التي لم تكن‬
‫ت��رغ��ب ف��ي إق��ام��ة ع�لاق��ات دبلوماسية مقتنعة ال�ي��وم بنوعية هذه‬
‫العالقة وال تعرقلها‪ ،‬كما إن الظروف اإلقليمية والدولية تأخذ جميع‬
‫األطراف اللبنانية بهذا االجتاه‪ ،‬وعليه فان جملة مواقف ميكن أن‬
‫تريِّح العالقة وتساعد في إقامة العالقات والتمثيل الدبلوماسي بني‬
‫البلدين وم��ن بني ه��ذه امل��واق��ف‪ ،‬وق��ف احلمالت اإلعالمية‪ ،‬وفصل‬
‫بعض القضايا امللتهبة عن مسألة العالقات كقضية التحقيق باغتيال‬
‫ال��رئ�ي��س احل��ري��ري‪ ،‬وإي �ج��اد بيئة تسوية منطقية وعملية لترسيم‬
‫احلدود في مراحل الحقة وبخاصة األراضي التي ال زالت محتلة من‬
‫قبل إسرائيل‪ .‬فهل ثمة من يجيد قراءة القرار ‪ 1680‬لقد بات ذلك‬
‫أمراً ملحاً قبل انفالت األمور من عقالها الحقاً‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬القرار ‪1701‬‬

‫بعد شهر م��ن ال �ع��دوان اإلس��رائ�ي�ل��ي على لبنان ص��در القرار‬

‫‪94‬‬
‫‪ 1701‬بصيغ سيشكل سابقة ف��ي التعامل ال��دول��ي م��ع الكثير من‬
‫القضايا التي تهدد السلم واألمن الدوليني‪ ،‬ذلك للعديد من النقاط‬
‫ال ومضموناً؛ وف��ي ك�لا احل��ال�ين ثمة‬
‫واالع�ت�ب��ارات ال ��واردة فيه شك ً‬
‫العديد من عالمات االستفهام التي تطرح إن كانت جلهة ما يهدف‬
‫إليه القرار في املرحلة احلالية أو جلهة النتائج املترتبة على العدوان‪،‬‬
‫أو مبعنى آخر ثمة أسئلة كثيرة ستطرح حول ما بعد العدوان والتي‬
‫ستشكل مأزقاً للوضع اللبناني كما اإلسرائيلي‪ ،‬اقل ما يقال فيها‬
‫أنها تسوية املمكن محلياً وإقليمياً ودولياً‪ .‬في الشكل ميكن تسجيل‬
‫العديد من املالحظات منها‪:‬‬

‫لقد جاء القرار بعد مضي شهر كامل على العدوان وتخلي‬ ‫‪ -‬‬
‫مجلس األمن عن صالحياته املنصوص عليها في ميثاق‬
‫األمم املتحدة ونظامه الداخلي جلهة وجوب عمله على‬
‫حفظ األمن والسلم الدوليني‪.‬‬

‫كان القرار مبثابة مشروع التسوية املمكنة بني أطراف‬ ‫‪ -‬‬


‫بعضهم ميلكون احلل والربط في املوضوع وبعضهم اآلخر‬
‫فاوضوا بالوكالة ورمبا سيجنون مكاسب سياسية أكثر‬
‫من األطراف األساسيني أنفسهم‪.‬‬

‫ثمة تخبط وتأويل واضح في صياغة العديد من فقرات‬ ‫‪ -‬‬


‫ال�ق��رار جلهة إب��راز مطالب األط��راف املعنية باملوضوع‪،‬‬
‫م��ا سيجعل ال�ق��رار نفسه مناسبة للخالف على تفسير‬
‫العديد من الفقرات الواردة فيه‪.‬‬

‫مت عطف القرار على العديد من القرارات السابقة املتعلقة‬


‫َّ‬ ‫‪ -‬‬
‫بالوضع اللبناني ومنها القرار ‪ 425‬و‪ 520‬و‪ 1559‬و‪1680‬‬

‫‪95‬‬
‫واتفاقية الهدنة ما يدخل أطراف إقليميني ودوليني رمبا‬
‫تعقد أس��اس املوضوع وتعلق تطبيقه إلى آج��ال مرتبطة‬
‫بحل بعض القضايا اإلقليمية العالقة بدء من مواضيع‬
‫ال �ص��راع العربي اإلس��رائ�ي�ل��ي وص��والً إل��ى امل�ل��ف النووي‬
‫اإليراني‪.‬‬

‫لا وال‬
‫ل��م ي��أت ال �ق��رار بغالبية ف �ق��رات��ه م �ت��وازن �اً ال ش �ك� ً‬ ‫‪ -‬‬
‫مضموناً‪ ،‬فيستعمل تعابير مختلفة في الشدة «إذ يعرب‬
‫عن قلقه الشديد» الفقرة (‪ )2‬في معرض حتميل حزب‬
‫الله مسؤولية العدوان‪« ،‬إذ يش ّدد على احلاجة» في الفقرة‬
‫(‪ )3‬ف��ي م�ع��رض م�ع��اجل��ة « اإلف ��راج غ�ي��ر امل �ش��روط عن‬
‫اجلنديَّني اإلسرائيليني املخطوفَني»‪ ،‬في املقابل استعمال‬
‫تعابير مخففة جدا ملعاجلة املطالب اللبنانية «يأخذ في‬
‫االع�ت�ب��ار» و«يشجع اجل�ه��ود» عند اإلش��ارة إل��ى موضوع‬
‫السجناء اللبنانيني املعتقلني في إسرائيل؛ وكذلك في‬
‫الفقرة (‪« )5‬إذ يرحب بجهود رئيس ال��وزراء اللبناني»‬
‫و«يرحب بالتزام احلكومة اللبنانية بتواجد قوة دولية»‪.‬‬

‫إن القرار بشكله ومضمونه لن يكون نهائياً جلهة مساراته‬ ‫‪ -‬‬


‫ذل��ك مب��ا ورد ف��ي الفقرة التنفيذية (‪ )17‬ال�ت��ي عهدت‬
‫لالمني العام تقدمي تقرير ملجلس األمن عن تطبيق القرار‬
‫خالل أسبوع ومن ثم دوري �اً دون ذكر امل��دة الالحقة‪ ،‬ما‬
‫سيجعل بنوده وتفسيراته بشكل عام عرضة للتغيير وفقا‬
‫للتقارير الالحقة‪.‬‬

‫وإذا كان شكل القرار يبدو بداية حلفلة خالفات قوية في املستقبل‬
‫فإن مضمونه ال يقل خطورة‪ ،‬ألسباب واعتبارات كثيرة منها‪:‬‬

‫‪96‬‬
‫ك�م��ا ه��و واض ��ح م��ن ت�ص��ري�ح��ات األط� ��راف ذات الصلة‬ ‫‪ -‬‬
‫بالقضية بأن القرار اتخذ وفقاً للفصل السادس من ميثاق‬
‫األمم املتحدة‪ ،‬ف��ان كنه القرار ومسار تنفيذه وأهدافه‬
‫وحتى نص بعض الفقرات فيه تدل على انه يقع ضمن‬
‫الفصل السابع‪ ،‬وعليه إن تنفيذ القرار مرتبط باستعمال‬
‫القوة بصرف النظر عن رغبة ورضا األطراف ذات الصلة‬
‫ال ما جاء في الفقرة التنفيذية (‪...« )12‬‬ ‫باملوضوع‪ .‬فمث ً‬
‫يسمح لقوات «اليونيفيل» القيام بكل التحركات الضرورية‬
‫في مناطق نشر قواتها وفي إطار قدراتها‪ ،‬للتأكد من أن‬
‫مناطق عملياتها ال تستخدم لألعمال العدائية بأي شكل‪،‬‬
‫وم�ق��اوم��ة احمل ��اوالت ع�ب��ر وس��ائ��ل ال �ق��وة ملنعها م��ن أداء‬
‫مهماتها بتفويض من مجلس األم��ن»‪ .‬إن كل التحركات‬
‫الضرورية تعني ما تقرر هذه القوة لتنفيذ مهامها دون‬
‫أي حدود واضحة‪ ،‬كما أن إجازة استعمال القوة كما هو‬
‫وارد في النص هو مرتبط بالتفويض من مجلس االمن‬
‫والذي يعتمد في األساس على منطوق القرار ‪ 425‬لعام‬
‫‪ 1978‬املتعلق باليونيفل‪ ،‬وم��ن املعروف أن ذل��ك القرار‬
‫يتمتع بفرادة خاصة جلهة اعتباره انه أعلى من الفصل‬
‫السادس وأقل من الفصل السابع ملا ورد في متنه إن مهام‬
‫قوة اليونفيل هي «تثبيت السلم واألمن» وليس «حفظ» أو‬
‫«فرض» األمر الذي يوحي بأن التفويض هو في الفصل‬
‫السابع وليس السادس‪ .‬عالوة على ذلك ما استند إليه‬
‫القرار ‪ 1701‬في الفقرة (‪ )5‬جلهة عطفه على اتفاقية‬
‫الهدنة والصادرة ضمن الفصل السابع للميثاق‪ .‬وكذلك‬
‫الفقرة التمهيدية (‪« )10‬اإلقرار بأن التهديد الذي يتعرض‬
‫له لبنان يشكل تهديداً للسالم واألمن العامليني» وهي من‬

‫‪97‬‬
‫املواضيع التي يجب على مجلس األمن اتخاذ قراراته في‬
‫الفصل السابع حلماية األمن والسلم الدوليني‪.‬‬

‫وب��دالً من اإلع�لان ال�ف��وري إلط�لاق النار دع��ا إل��ى وقف‬ ‫‪ -‬‬


‫ال�ه�ج�م��ات م��ن ج��ان��ب ح ��زب ال �ل��ه ووق ��ف ك��ل العمليات‬
‫الهجومية العسكرية م��ن ج��ان��ب إس��رائ�ي��ل‪ ،‬األم��ر الذي‬
‫يستشف منه على األقل في املرحلة الراهنة غير محددة‬
‫التوقيت بقاء إسرائيل في األماكن التي حتتلها دون إعطاء‬
‫فرصة مجابهتها من املقاومة واال اعتبر هذا العمل خرقاً‬
‫للقرار من جانب املقاومة‪.‬‬

‫لم يدع القرار إلى انسحاب اجليش اإلسرائيلي وربطه‬ ‫‪ -‬‬


‫بنشر اجليش اللبناني وق��وات اليونفيل بالتوازي وفقاً‬
‫ال‬
‫للفقرة التنفيذية (‪ )11‬األمر الذي ميكن أن يكون مؤج ً‬
‫ومرتبطا بتجهيز قوة اليونفيل‪ ،‬وهو أمر مرهون أيضاً‬
‫بالعديد من االعتبارات منها موافقة بعض ال��دول على‬
‫امل�ش��ارك��ة ف��ي ه��ذه ال �ق��وات وس��رع��ة حتركها وانتشارها‬
‫لا ع�م��ا مي�ك��ن أن ينشأ م��ن ع�ق�ب��ات ل�ه��ذا االنتشار‬
‫ف�ض� ً‬
‫الحقاً‪ ،‬ما يعني أن قوة االحتالل في األراض��ي اللبنانية‬
‫وفقاً ملنظور مجلس األمن غير محددة عملياً‪.‬‬

‫ثمة تناقض واض��ح بني الفقرتني التنفيذيتني(‪ )4‬و(‪)5‬‬ ‫‪ -‬‬


‫للخط‬
‫ّ‬ ‫في األول��ى «يجدد دعمه القوي لالحترام الكامل‬
‫األزرق» وفي الثانية «يجدد أيضاً دعمه القوي‪ ....‬لسالمة‬
‫أراضي لبنان وسيادته واستقالله السياسي ضمن حدوده‬
‫املعترف بها دولياً‪ ،‬كما هو منصوص عليه في اتفاق الهدنة‬
‫العام بني لبنان وإسرائيل في ‪ 23‬آذار ‪ »1949‬وهو خلط‬

‫‪98‬‬
‫ولبس جلهة توصيف وتكييف وترسيم وحتديد احلدود‬
‫الدولية‪ .‬فوفقاً للخط األزرق اعتبر مجلس األمن الدولي‬
‫أن إسرائيل طبقت القرار ‪ 425‬وأخرجت م��زارع شبعا‬
‫من نطاقه‪ ،‬فيما اتفاقية الهدنة تدعو للهدنة وبالتالي ال‬
‫تنهي األعمال العسكرية وحالة احلرب املرتبطة باتفاقات‬
‫ال عن أن مزارع‬ ‫الحقة كاتفاقيات سالم أو ما شابه‪ .‬فض ً‬
‫شبعا كانت خاضعة التفاق الهدنة (‪ )1949‬قبل احتالل‬
‫قسم منها في العام ‪ 1967‬وفي مراحل تالية‪.‬‬

‫ثمة مسائل ملتبسة في الفقرة التنفيذية (‪« )9‬دعم اجلهود‬ ‫‪ -‬‬


‫لتأمني في أسرع وقت ممكن اتفاقات مبدئية بني حكومة‬
‫لبنان وحكومة إسرائيل على قاعدة وعناصر حل طويل‬
‫األمد كما ورد رابعاً في الفقرة ‪ 8‬ويعبر عن نيته في ان‬
‫يكون معنياً بشكل فاعل» فما هي هذه االتفاقات املبدئية‬
‫وما هي حدودها ومضمونها هل هي أمنية بحتة كما هو‬
‫ظاهر أو معلن في الفقرة (‪ )8‬ام ثمة قضايا أخرى تابعة‬
‫ميكن ان تكون جزءاً من تلك القضايا املبدئية متتد الى‬
‫اتفاقات سياسية الحقة‪.‬‬

‫سيت َّم إعادة نشر قوات اليونفيل بعد زيادة عددها وعدتها‬ ‫‪ -‬‬
‫في األراضي اللبنانية فقط ودون أن تكون موازية للجهة‬
‫املقابلة‪ ،‬مع تسجيل أمور الفتة لوظيفتها وطبيعة عملها‪.‬‬
‫فوفقاً للفقرة التنفيذية ( ‪« )12‬دع�م�اً لطلب احلكومة‬
‫اللبنانية نشر قوة دولية ملساعدتها على ممارسة سلطتها‬
‫على كامل األراض��ي‪ ،‬يسمح ل�ق��وات «اليونيفيل» القيام‬
‫بكل التحركات الضرورية في مناطق نشر قواتها وفي‬
‫إطار قدراتها‪ ،‬للتأكد من أن مناطق عملياتها ال تستخدم‬

‫‪99‬‬
‫لألعمال العدائية ب��أي شكل‪ ،‬ومقاومة احمل��اوالت عبر‬
‫وسائل القوة ملنعها من أداء مهماتها بتفويض من مجلس‬
‫األم ��ن» فكيف ميكن ال�ت��أك��د م��ن األع �م��ال ال�ع��دائ�ي��ة في‬
‫اجلانب اإلسرائيلي‪،‬وما هي الطرق والسب والكيفية التي‬
‫ستحدد فيها هذه القوات حتديد األعمال العدائية في‬
‫مناطق تواجدها؟ وما هي حدود القوة التي ستستعملها؟‬
‫أس �ئ �ل��ة ك �ث �ي��رة ت �ط��ول ب �ط��ول األه� ��داف غ �ي��ر امل�ع�ل�ن��ة في‬
‫القرار‪.‬‬

‫إشراك قوة اليونفيل من الناحية العملية بأمور سيادية‬ ‫‪ -‬‬


‫لبنانية كمراقبة املطارات واملوانئ وفقاً للفقرة التنفيذية‬
‫(‪ )11‬كما وردت مكررة في الفقرة (‪ )14‬للتأكيد على‬
‫املهمة‪.‬‬

‫إن أخ�ط��ر م��ا ف��ي احل��ال��ة السابقة إع�ط��اء دور تقريري‬ ‫‪ -‬‬
‫وت�ن�ف�ي��ذي ل �ق��وات ال�ي��ون�ف�ي��ل مب��ا ه��و مم �ن��وع أو مسموح‬
‫إدخاله إلى لبنان ذلك ما ورد في املقطع (ب) من الفقرة‬
‫(‪« )14‬غير إن هذا املنع ال يطبق على األسلحة واملعدات‬
‫املتصلة والتدريب أو املساعدة التي تسمح بها احلكومة‬
‫اللبنانية أو «اليونيفيل» كما تنص عليه الفقرة ‪.»11‬‬
‫فورود «أو» قد سمح لهذه القوات حتديد حاالت املنع أو‬
‫السماح بشكل صريح ال لبس فيه ذلك مبعزل عن طلب‬
‫احلكومة اللبنانية‪ .‬األمر الذي يضع لبنان حتت سلطة إن‬
‫لم يكن حتت وصاية دولية فعلية‪.‬‬

‫إن مت��دي��د ان �ت��داب ق��وة اليونفيل إل��ى سنة ق��ادم��ة وفقاً‬ ‫‪ -‬‬
‫للفقرة التنفيذية (‪ )16‬وفقاً لعزم مجلس األمن «إعطاء‬

‫‪100‬‬
‫دع��م إض��اف��ي ل�ه��ذا االن �ت��داب ول�ل�خ�ط��وات األخ ��رى ‪»...‬‬
‫يعطي االنطباع بأن مهامها ستكون واسعة وشاملة أمور‬
‫مت فيها‬
‫غير منظورة في القرار او متعلقة بالظروف التي َّ‬
‫اتخاذ القرار‪ .‬سيما وأن القرار انتهى بفقرة اخذ مجلس‬
‫االمن على عاتقه ابقاء املوضوع قيد نظره الفعلي‪.‬‬

‫إن أولى نتائج هذا القرار على الصعيد الداخلي إطالق‬ ‫‪ -‬‬
‫رص��اص��ة الرحمة على مؤمتر احل��وار الوطني اللبناني‬
‫بعدما استنفد العدوان اغلب مواضيعه وقضاياه‪.‬‬

‫وعلى الرغم من التساؤالت واملالحظات العديدة التي اوردناها‬


‫ثمة ايجابيات ميكن النظر إليها في مضمون القرار وهي تعبير عن‬
‫حالة التراجع األمريكي واإلسرائيلي عن الكثير من املطالب السابقة‬
‫التي وردت في املشروع األمريكي الفرنسي األول ومنها‪:‬‬

‫مت األخذ بالعديد من النقاط السبعة الواردة في مشروع‬ ‫‪ -‬‬


‫احلكومة اللبنانية وان لم تكن في الترتيب كما وردت أو‬
‫بنفس القوة التي طرحت‪.‬‬

‫ثمة تراجع اميركي إسرائيلي كبير عن بعض القضايا‬ ‫‪ -‬‬


‫وان ال ت�ص�ن��ف ف��ي ال �ق �ض��اي��ا االس �ت��رات �ي �ج �ي��ة كموضوع‬
‫األسيرين‪.‬‬

‫ثمة تفهم دولي لبعض القضايا اللبنانية احملقة وان أشير‬ ‫‪ -‬‬
‫لها في القرار بطريق غير مباشر كمزارع شبعا واألسرى‬
‫وغيرها‪.‬‬

‫ثمة وعود دولية كما في السابق إلنشاء بيئة حلل أزمات‬ ‫‪ -‬‬

‫‪101‬‬
‫املنطقة عندما ذكره للقرارين ‪ 242‬و‪.338‬‬

‫ثمة اعتراف دولي لوزن بعض القوى في املنطقة كإيران‬ ‫‪ -‬‬


‫وسوريا في حل بعض القضايا وان لم يذكرا باالسم‪.‬‬

‫وفي احملصلة وفي هذه القراءة السريعة للقرار ميكن القول‬


‫فيه انه اتفاق املمكن‪ ،‬لم يسجل نصرا وال هزمية ألحد أطرافه‪ .‬إال‬
‫أن غريب املفارقات في هذا القرار انه لم يأت معبرا عن االستثمار‬
‫السياسي للعدوان‪ ،‬فرغم أن إسرائيل لم تتمكن من حتقيق أي نصر‬
‫عسكري على األرض قابل لالستثمار سيفسر انه ملصلحتها‪ ،‬وعلى‬
‫الرغم من أن املقاومة متكنت من الصمود بوجه خامس قوة عسكرية‬
‫في العالم ستتحمل أوزار ع��دوان ال تقوى دول كبرى على حتمله‪.‬‬
‫إن أصعب القرارات وأخطرها ما ميكن أن تتضمنه من أم��ور غير‬
‫معلنة فهل تفاهم نيسان ال زال قائما حتى اآلن؟ وما هي أسئلة ما‬
‫بعد العدوان التي ستنتشر كالنار في الهشيم؟ أسئلة يصعب اإلجابة‬
‫عليها !‬

‫خامس ًا‪ :‬تداعيات القرار ‪ 1701‬وآفاق املستقبل‬

‫من مفارقات القرار ‪ 1701‬صدوره وسط مشاريع كانت حتضر‬


‫للمنطقة برمتها‪ ،‬إال أن تداعيات ونتائج العدوان اإلسرائيلي على‬
‫لبنان أعاد خلط أوراق كثيرة محلية وإقليمية ودولية‪ ،‬ما أثر بشكل‬
‫واضح على القرار وكيفية التعامل معه‪ ،‬فما هي تداعياته؟ وما هي‬
‫آفاقه املستقبلية في لبنان واملنطقة؟‬

‫فالقرار الذي يعتبر من أشد القرارات الدولية دقة وحنكة في‬


‫الصياغة وبالتالي توليف األهداف والغايات املبتغاة منه‪ ،‬ترك آثاراً‬
‫الفتة لبنانياً وإقليماً ودولياً بحيث متكن كل طرف من أطرافه من‬

‫‪102‬‬
‫أخذ ما يريد منه وتأويله وفقاً للكيفية القانونية والسياسية التي‬
‫تناسبه فيما أهمل ج��وان��ب كثيرة تعتبر م��ن صلب األه��داف التي‬
‫حاول الوصول إليها‪.‬‬

‫لبنانيا‪ ،‬متكنت املقاومة بشكل واض��ح م��ن ترتيب أولوياتها‪،‬‬


‫املتمثلة باحلفاظ على السالح دون املس به أو التعرض له عملياً‪ ،‬بل‬
‫أن تصريحات قياداتها تؤكد زيادة السالح كما ونوعاً‪ ،‬فيما االنتشار‬
‫العسكري للقوات الدولية مع اجليش اللبناني في جنوب الليطاني‬
‫لم يؤثر عملياً على فعالية املقاومة وسالحها‪ .‬والالفت في ذلك أن‬
‫ع��دداً م��ن اخل��روق واالس �ت �ف��زازات اإلسرائيلية ق��د حصلت‪ ،‬إال أن‬
‫رداً من املقاومة لم يحصل‪ ،‬ذلك بفعل القراءة السياسية الدقيقة‬
‫للقيادة السياسية للمقاومة التي تدرك حدود التحرك وكيفيته زمناً‬
‫ومكاناً‪.‬‬

‫في املقلب اللبناني اآلخر ثمة تباين واضح في تقييم العدوان‬


‫ونتائجه ومفاعيله‪ ،‬ففيما اعتبرت املقاومة وفريق املعارضة أن نصراً‬
‫موصوفاً وغير مسبوق في تاريخ الصراع العربي اإلسرائيلي قد حتقق‬
‫وباعتراف إسرائيلي واض��ح‪ ،‬متسك فريق امل��واالة بحجم اخلسائر‬
‫املادية التي حلقت بلبنان لتقويض النصر وحتجيمه‪ ،‬األمر الذي أدى‬
‫إلى شرخ واضح أرخى بظالله على مختلف القضايا اللبنانية ومنها‬
‫كيفية التعاطي مع القرار ‪ 1701‬ومندرجاته‪.‬‬

‫أن أبرز نقاط القرار من وجهة النظر اللبنانية هو موضوع التوصل‬


‫إلى وقف إلطالق النار الذي لم ينص عليه القرار وربطه بأمور أخرى‬
‫واكتفى آنذاك بوقف األعمال العدائية‪ ،‬ما يثير جملة تساؤالت حول‬
‫مستقبل تطبيقه من وجهة النظر اإلسرائيلية حتديداً‪ ،‬وبالتالي بقاء‬
‫املوضوع مرتبط بالكيفية التي ستسير بها األمور مستقبالً‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫إسرائيلياً‪ ،‬وان كان القرار مبثابة حفظ ماء الوجه السياسي‬
‫إلسرائيل‪ ،‬إال أن تداعيات نتائج احلرب قد أتت عملياً على الصف‬
‫العسكري وبعض القيادات السياسية‪ ،‬ذلك أن التدقيق في ما توصل‬
‫له تقرير فينوغراد يثبت بشكل أو بآخر تخبط القيادات السياسية‬
‫والعسكرية في إدارة العدوان وبالتالي عدم متكنها عملياً من قطف‬
‫النتائج السياسية املتوخاة في القرار ‪ 1701‬سيان أثناء التفاوض‬
‫على صياغته أو ترجمة تطبيقاته الحقاً‪.‬‬

‫إن ق��راءة موضوعية مل�س��ار ال �ق��رار بثبت عملياً أن إسرائيل‬


‫وللمرة األول��ى حتى اآلن لم تعرف طريق االستفادة منه في تاريخ‬
‫تعاطيها مع القرارات الدولية‪ ،‬فمن املتعارف عليه قدرة إسرائيل في‬
‫ال أم آجالً‪،‬‬
‫امتصاص وهضم أي قرار دولي وجتييره ملصلحتها عاج ً‬
‫فيما تعاطيها مع القرار ‪ 1701‬لم يحدث أي اختراق حتى معنوي‬
‫ملصلحتها‪ ،‬بل استخدم في أماكن حساسة خالل التحقيقات التي‬
‫أنتجت تقرير فينوغراد ال��ذي كان مبثابة صك الهزمية السياسية‬
‫والعسكرية اإلسرائيلية في لبنان‪.‬‬

‫إقليمياً وحت��دي��داً إي��ران�ي�اً وس��وري �اً‪ ،‬فعلى ال��رغ��م م��ن كونهما‬


‫العبني أساسيني غير مباشرين في إنتاج البيئة التي أدت إلى صدور‬
‫القرار‪ ،‬إال أنهما معنيان أساسيان في تنفيذ بعض بنوده ال سيما‬
‫املتعلق ب�س�لاح امل�ق��اوم��ة ودع�م�ه��ا امل��ادي وامل�ع�ن��وي‪ .‬ورغ��م اإلصرار‬
‫اإلسرائيلي وال��دول��ي على ه��ذه النقطة حت��دي��داً وعمل الكثير من‬
‫الضغوط امل�ب��اش��رة وغ�ي��ر امل�ب��اش��رة‪ ،‬ل��م تتمكن إس��رائ�ي��ل م��ن إثبات‬
‫ادعائها حول تسليح املقاومة ومترير السالح عبر احلدود السورية‪،‬‬
‫بل على العكس إن مجريات األمور في املنطقة وحتديداً في العراق‬
‫وفلسطني قد ساعد كل من طهران ودمشق على تثمير قراءة القرار‬
‫ملصلحتهما واالستفادة منه عملياً في إجبار واشنطن على املرور في‬

‫‪104‬‬
‫دمشق بحثاً عن حلول ملشاكلها املتعاقبة في املنطقة‪ ،‬واجللوس مع‬
‫طهران مرغمة للتفاوض على كثير من أزماتها من أفغانستان مروراً‬
‫بالعراق وصوالً إلى لبنان‪.‬‬

‫دولياً‪ ،‬وبخاصة املوقفني الفرنسي واألمريكي من القرار‪ ،‬لم‬


‫لا في‬
‫تتمكن ب��اري��س ف��ي عهد الشيراكية م��ن أن ت�ك��ون الع�ب�اً ف��اع� ً‬
‫القرار رغم الزخم الذي أبدته في تشكيل القوة الدولية وحتى آليات‬
‫عملها املعززة واضطرت مرغمة على الوقوف على مسافة واحدة بني‬
‫مختلف أطرافه‪ ،‬بل بحثت عن قنوات اتصال مع قيادات املقاومة‬
‫عبر سفيرها في بيروت لدواعي متعلقة بآلية عمل قوات الطوارئ‬
‫في جنوب الليطاني‪ .‬فيما عهد الساركوزية قرأ النتائج بتأن واضح‬
‫على ما يبدو وأتخذ مساراً مختلفاً أكثر مرونة مع الواقع اللبناني‬
‫القائم‪.‬‬

‫وف��ي املقلب األمريكي اآلخ��ر ثمة ق��راءة متأنية آللية تطبيق‬


‫القرار‪ ،‬جلها عمل دبلوماسي في مجلس األمن الدولي عبر بيانات‬
‫رئاسية حتدد املسارات دون اخلوض بتفاصيلها‪ ،‬مدركة أن تطبيق‬
‫القرار أوالً وأخيراً يستلزم مرونة في التعاطي مع أطراف إقليمية‬
‫منها دمشق وطهران‪.‬‬

‫وإذا ك��ان��ت م��واق��ف األط ��راف املعنية ب�ه��ذا ال�ق��رار ت�ب��دو بهذه‬
‫احلنكة واحلذاقة الالفتة‪ ،‬فهل ستتمكن من املتابعة في هذه القراءة‬
‫لفترات أطول؟ وبالتالي ما هو مستقبل متطلباته األساسية؟‬

‫إن مستقبل التعاطي اللبناني واإلقليمي وال��دول��ي مع القرار‬


‫مرتبط بشكل أساسي مبجمل تطورات املنطقة‪ ،‬فالوضع اللبناني‬
‫برمته مرتبط بشكل مباشر مبسار ما يجري في العراق واملشاريع‬

‫‪105‬‬
‫األمريكية فيه وحوله‪ ،‬وبالتالي إن احد األه��داف التي سعى إليها‬
‫العدوان اإلسرائيلي بدعم وحتريض أمريكي واضحني‪ ،‬كان مشروع‬
‫ال�ش��رق األوس��ط اجل��دي��د ال��ذي أعلنته وزي��رة اخلارجية األمريكية‬
‫كونداليسا رايس في بدء العدوان‪ ،‬وعلى الرغم من تراجع مكونات‬
‫ومقومات املشروع فإن إصراراً أمريكياً إسرائيلياً ال زال ظاهراً في‬
‫هذا املجال‪.‬‬

‫بيد أن ذلك ال يعني بالضرورة بقاء الوضع على ما هو عليه‪،‬فعلى‬


‫الرغم من قدرة الالعبني األساسيني فيه على ضبط البيئة احمليطة‬
‫بالقرار وبآليات عملها‪ ،‬فإن ثمة مفاجآت ممكنة احلصول‪ ،‬ميكن‬
‫أن تقلب م�س��ارات بعينها وحت��ول ال�ق��رار وق��وات�ه��ا إل��ى ط��رف قابل‬
‫لالستثمار السياسي ف��ي املنطقة‪،‬ومن ب�ين تلك املظاهر م��ا حدث‬
‫للقوات األسبانية ضمن القوات الدولية‪.‬‬

‫رمبا أن ما يُحمّل للقرار ‪ 1701‬أكثر من قدرته على احلمل‪،‬لكن‬


‫ت��داخ��ل امل�ص��ال��ح اللبنانية باإلقليمية وال��دول�ي��ة يعطيه ه��ذه امليزة‬
‫بصرف النظر عن إيجابياته أو سلبياته‪ ،‬لكن املهم في املوضوع أن‬
‫ه��ذا ال�ق��رار ميكن أن يشكل بداية حل ألزم��ات كبيرة في املنطقة‪،‬‬
‫ب�ق��در م��ا ميكن أن ي�ك��ون سببا ف��ي إش�ع��ال ح��روب ف��ي املنطقة من‬
‫الصعب تقدير تداعياتها ونتائجها‪ ،‬ولذلك من الواضح أن تعاطي كل‬
‫األطراف مع القرار يظهر دقة متناهية في قراءة أي سلوك متعلق‬
‫به‪ ،‬تفادياً لردَّات فعل غير مرغوبة أو محسوبة النتائج‪.‬‬

‫س��ادس�� ًا‪ :‬األب �ع��اد ال�ق��ان��ون�ي��ة وال�س�ي��اس�ي��ة ل �ل �ق��رار ‪1757‬‬


‫وتداعياته‬

‫توَّج القرار ‪ 1757‬سلسلة قرارات دولية وضعت قضية اغتيال‬

‫‪106‬‬
‫الرئيس رفيق احلريري على مفترق طرق‪،‬متعدد االحتماالت ومتنوع‬
‫الوسائل‪ ،‬ورغم أن الهدف املعلن على األقل هو واحد‪ ،‬فإن ما ينذر‬
‫وي�ل��وح ف��ي األف��ق رمب��ا ي�ك��ون غير ذل��ك‪ ،‬ف�م��اذا ف��ي ال �ق��رار ‪1757‬؟‬
‫وم��ا ه��ي بيئته القانونية والسياسية ؟ وم��ا ه��ي تداعياته احمللية‬
‫واإلقليمية؟ وه��ل ستتمكن احملكمة في النهاية من تقدمي إجابات‬
‫وبالتالي أحكام على سيل من األسئلة امللتبسة الطويلة واملتنوعة‬
‫بتنوع األطراف املشاركني فيها؟‪ .‬ففي الشكل أوال ميكن تسجيل عدة‬
‫مالحظات أبرزها‪:‬‬

‫أت ��ى ال��ق��رار ‪ 1757‬م�ق�ت�ض�ب�اً وم��رت �ك��زاً ع�ل��ى س�ي��ل من‬ ‫‪ -‬‬
‫ال �ق��رارات الدولية ذات الصلة باملوضوع األس��اس بدءاً‬
‫بالقرار ‪ 1595‬الذي أنشأ جلنة التحقيق الدولية‪ ،‬مروراً‬
‫بالقرارات ‪ 1636‬و‪ 1644‬و‪ 1664‬وص��والً إل��ى ‪،1748‬‬
‫إضافة إلى عدد من املذكرات واملراسالت والتقارير ما‬
‫يوحي أن ثمة محاولة للربط والوصل بني جميع عناصر‬
‫ال�ق�ض�ي��ة م��ن وس��ائ��ل إج��رائ �ي��ة وم��وض��وع �ي��ة ت �ه��دف في‬
‫النهاية لتكوين شبكة دفاع قانونية للبيئة التي ستنطلق‬
‫منها احملكمة جلهة التأسيس والتكوين وصوالً لإلجراءات‬
‫واألحكام‪.‬‬

‫حاول نص القرار أن يكون متوازناً جلهة االرتكاز القانوني‬ ‫‪ -‬‬


‫في الشق اللبناني املتعلق باألسباب املوجبة لنقل موضوع‬
‫ال �ق��رار إل��ى مجلس األم��ن وبالتحديد الفصل السابع‪،‬‬
‫فالقرار أشار «إلى اإلحاطة التي ق ّدمها املستشار القانوني‬
‫‪ -‬لألمني العام لألمم املتحدة ‪ -‬في الثاني من أيار ‪2007‬‬
‫والتي الحظ فيها أنّ إنشاء احملكمة عن طريق العملية‬
‫الدستورية تواجه معوقات جدية‪ ،‬لكنه الحظ أيضاً أن‬

‫‪107‬‬
‫جميع األطراف املعنية جددّت تأكيد اتفاقها املبدئي على‬
‫إنشاء احملكمة»‪ .‬فالقرار وإن أقر بإجماع اللبنانيني على‬
‫مبدأ إنشاء احملكمة لم يشر إلى األسباب احلقيقية لعدم‬
‫إق��راره��ا في املؤسسات الدستورية اللبنانية إال عرضاً‬
‫عند اإلشارة إلى مذكرة األغلبية النيابية مع إغفال تام‬
‫للمذكرة املقابلة املتعلقة بتحفظات املعارضة على مشروع‬
‫النظام األس��اس��ي للمحكمة‪ ،‬كما أن ثمة لغط والتباس‬
‫كبيرين حصال في موضوع عرض مذكرة رئيس اجلمهورية‬
‫على مجلس األم��ن في أثناء امل��داوالت التي جرت قبيل‬
‫صدور القرار ‪.1757‬‬

‫مت إعادة التركيز على ذكر االرتكاز على الفصل السابع‬ ‫َّ‬ ‫‪ -‬‬
‫في ص��دور ال�ق��رار «‪ ..‬يتصرف مبوجب الفصل السابع‬
‫من ميثاق األمم املتحدة‪ ،‬وي �ق��رر‪ ،»..‬رغ��م استناده على‬
‫صنفت ضمن الفصل السابع‪،‬‬ ‫مجموعة ق��رارات سابقة ُ‬
‫ذلك في معرض التأكيد على لزوم ما ال يلزم‪.‬‬

‫ثمة تعد ٌّد في تسمية احملكمة في نص القرار رغم اختالف‬ ‫‪ -‬‬


‫أنواعها وسبل تشكيلها وتكوينها وآثارها‪ ،‬فتارة تورد حتت‬
‫اسم « إنشاء محكمة ذات طابع دولي «وتارة تذكر» إنشاء‬
‫محكمة خاصة للبنان» وتارة أخرى «احملكمة اخلاصة»‪.‬‬
‫ولكل واحدة منها دالالتها وخلفياتها اخلاصة‬

‫وفي الشكل أيضاً لكن له من ال��دالالت الكثيرة الفارقة‬ ‫‪ -‬‬


‫أن القرار لم يصدر بإجماع أعضاء مجلس األمن الدولي‬
‫وهي سابقة في هذه القضية بالذات‪ ،‬فجميع القرارات‬
‫السابقة وكذلك بيانات رئاسة مجلس األمن ذات الصلة‬

‫‪108‬‬
‫صدرت باإلجماع‪ ،‬عالوة على أن ثمة إصرار واضح قد‬
‫جرى على اإلجماع باستثناء هذا القرار الذي يبدو وكأنه‬
‫ُرت��ب على عج ّل‪ ،‬ففي حسبة بسيطة تظهر أن اخلمس‬
‫دول التي لم تصوِّت على القرار تشكّل عملياً نصف سكان‬
‫الكرة األرضية‪.‬‬

‫وإذا كان ثمة مالحظات في الشكل على نص القرار‪ ،‬فإن العديد‬


‫منها ميكن أن تسجل ف��ي مضمون ال �ق��رار وال�ت��ي سترتّب مظاهر‬
‫وتداعيات وسلوكيات لبنانية وإقليمية مختلفة الحقاً‪ ،‬ما يؤثر على‬
‫جوهر القضية نفسها وهي كشف قتلة الرئيس رفيق احلريري‪،‬ومن‬
‫بني هذه املالحظات‪:‬‬

‫لقد و ُِص �ف��تْ جرمية االغ�ت�ي��ال بالعمل «اإلره��اب��ي» وهي‬ ‫‪ -‬‬


‫وردت أربع مرات في منت القرار‪ .‬وعلى الرغم من أن هذه‬
‫اجلرمية تعتبر من أبشع اجلرائم وأكثرها أثرا وتداعيات‪،‬‬
‫فثمة خالف دولي واضح وفي األمم املتحدة حتديدا على‬
‫التعريف والتوصيف والتكييف القانوني للعمل اإلرهابي‪،‬‬
‫فكيف ميكن توصيف ه��ذه اجلرمية باإلرهابية استناداً‬
‫إلى معايير غير موجودة في األساس أو غير مُتفق عليها‬
‫في األعراف والقوانني الدولية ذات الصلة‪.‬‬

‫وعلى الرغم من حجم ودور وموقع الرئيس رفيق احلريري‬ ‫‪ -‬‬


‫في السياسات احمللية واإلقليمية والدولية‪ ،‬ثمة مفارقة‬
‫وسابقة أن اتخذ مجلس األمن الدولي قراراً وفي الفصل‬
‫السابع حتديدا ودون إجماع أعضاء املجلس اعتبر فيه‪:‬‬
‫«أنّ ه��ذا العمل اإلره��اب��ي واآلث ��ار املترتبة عليه يشكّل‬
‫تهديداً للسالم واألمن الدوليني»‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫لقد جت��اوز مجلس األم��ن لكثير م��ن األه ��داف واملبادئ‬ ‫‪ -‬‬
‫التي قامت عليها األمم املتحدة وبخاصة الفقرة (‪ )7‬من‬
‫املادة (‪ )2‬التي تنص على أن‪« :‬ليس في هذا امليثاق ما‬
‫يسوغ لألمم املتحدة أن تتدخّ ل في الشؤون التي تكون من‬
‫صميم السلطان الداخلي لدولة ما‪ ،‬وليس فيه ما يقتضي‬
‫األع�ض��اء أن يعرِّضوا مثل ه��ذه املسائل ألن حتل بحكم‬
‫هذا امليثاق»‪ .‬وتأسيساً على االتفاق املوقع بني احلكومة‬
‫اللبنانية واألمم املتحدة حول مشروع النظام األساسي‬
‫للمحكمة‪ ،‬فان صاحب الصالحية والسلطان في إقرارها‬
‫األساسي هي آليات محددة في الدستور اللبناني‪ ،‬وإذا‬
‫ك��ان ثمة ظ��روف سياسية معروفة ق��د اعترضت طريق‬
‫اإلق ��رار ال��دس �ت��وري ف��ي ل�ب�ن��ان‪ ،‬فليس ثمة م��ا يجبر أو‬
‫يفرض على مجلس األم��ن إق��راره��ا ف��ي الفصل السابع‬
‫سيما وأن آليات القرار في الفصل السابع لها محددات‬
‫خاصة ليس ثمة إجماع عليها في مجلس األمن واملتعلقة‬
‫بتعريض األمن والسلم الدوليني للخطر‪ .‬عالوة على ذلك‬
‫إن هذا اإلجراء أي اإلقرار هو مخالف لنص وروح املادة‬
‫(‪ )102‬من ميثاق األمم املتحدة التي تعتبر األمانة العامة‬
‫مبثابة املستودع التي ت��ودع فيه االتفاقات الدولية بعد‬
‫إبرامها بني الدول واألمم املتحدة وفقاً لألصول القانونية‬
‫والدستورية املعتمدة في كل دولة‪ .‬كما انه ليس في هذا‬
‫امليثاق ما يجبر أو يحدد املواقيت أو اآلليات التي يفترض‬
‫إتباعها إلبرام االتفاقات بني الدول واألمم املتحدة على‬
‫ق��اع��دة ح�ف��ظ س �ي��ادات ال ��دول ع�ل��ى سلطانها الداخلي‬
‫واخلارجي إال في ح��االت محددة وهي غير متوفرة في‬
‫هذه القضية وليس عليها إجماع داخلي لبناني أو إقليمي‬

‫‪110‬‬
‫أو دول��ي جلهة اللجوء للفصل السابع باعتبارها قضية‬
‫تهدد األمن والسلم الدوليني‪.‬‬

‫ال في الفصل‬ ‫ثمة لبس في توصيف القرار على ان��ه فع ً‬ ‫‪ -‬‬


‫السابع أم ال‪ ،‬ففي النص يصنف مجلس األمن القرار نفسه‬
‫في الفصل السابع الذي ال يستلزم موافقة األطراف املعنية‬
‫فيه لتطبيقه‪ ،‬بينما في بعض الصياغات يتم اللجوء الى‬
‫عبارات ومصطلحات يبقي للحكومة اللبنانية أمر البت‬
‫في بعض املسائل على سبيل املثال الفقرة (ب) من املادة‬
‫(‪ ...« : )1‬إذا أبلغ األم�ين العام أنّ اتفاق املقر لم يبرم‬
‫‪ ،....‬فإنه يحدد موقع مقر احملكمة بالتشاور مع احلكومة‬
‫اللبنانية‪ ،‬ويكون ذل��ك ره��ن بإبرام اتفاق مقر بني األمم‬
‫املتحدة والدولة التي ستستضيف احملكمة»‪.‬فمن جهة إن‬
‫حتديد املقر سيتم «بالتشاور» أي ثمة رأي للدولة اللبنانية‬
‫وان لم يكن ملزماً وهذا ما يتناقض مع مرامي وغايات‬
‫الفصل السابع للميثاق األممي‪ ،‬بيد انه في املقابل ربط‬
‫موضوع مقر احملكمة باتفاق بني األمم املتحدة والدولة‬
‫املضيفة مبعنى أن عملية التشاور ميكن أن تبقى قائمة‬
‫حتى إب��رام االتفاق بني األمم املتحدة والدولة املضيفة‪.‬‬
‫وفي نفس السياق أيضاً املادة (‪ )2‬التي تشير إلى‪« :‬يطلب‬
‫إلى األمني العام أن يتخذ‪ ،‬بتنسيق مع احلكومة اللبنانية‬
‫ع�ن��د االق �ت �ض��اء‪ ،‬اإلج� ��راءات وال�ت��داب�ي��ر ال�لازم��ة إلنشاء‬
‫احملكمة اخلاصة في موعد قريب» أي «التنسيق» و«عند‬
‫االقتضاء» وهي اقل مرتبة من التشاور إذ أن التنسيق يت ُّم‬
‫مت إقرارها في األساس‬ ‫عادة في املسائل اإلجرائية التي َّ‬
‫وكذلك االقتضاء إذا كان ثمة حاجة لذلك‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫وع �ط �ف �اً ع�ل��ى م��ا س�ب��ق ق��ول��ه‪ ،‬إن إق ��رار ال �ق��رار ‪1757‬‬ ‫‪ -‬‬
‫وف�ق�اً للفصل السابع يشكل سابقة جلهة حلول مجلس‬
‫األمن محل السلطات التشريعية للدول في مجال إبرام‬
‫املعاهدات الدولية‪ ،‬وهي قضية مخالفة للميثاق األممي‪،‬‬
‫وأمر من شأنه حيازة مجلس األمن في الوقت نفسه على‬
‫مسارين ينبغي أن يكونا غير مرتبطني في جهة واحدة‬
‫وهما اتخاذ أمرين تقريري وتنفيذي في آن معا‪ .‬إذ أن‬
‫إجراء كهذا أمر من شأنه التدخّ ل في مسائل من صميم‬
‫سيادات الدول ومجالسها وبخاصة القضايا التشريعية‬
‫توصف في علم القانون الدستوري‬ ‫وإبرام املعاهدات والتي ّ‬
‫على أن ه��ذه املجالس التشريعية تعتبر أم املؤسسات‬
‫الدستورية في الدول وتسمو على ما عداها من سلطات‬
‫باعتبارها متثيل مباشر للشعب‪ .‬وعندها ستفسح املجال‬
‫أمام عرف يقضي بالتدخل إلقرار قوانني ومعاهدات ولو‬
‫اختلف عليها أصحاب الشأن الداخليني‪.‬‬

‫وإذا كانت ه��ذه املالحظات السالفة الذكر توجّ ه إل��ى القرار‬


‫ال ومضموناً‪ ،‬فما هي خلفياته وتداعياته املستقبلية؟ وفي هذا‬ ‫شك ً‬
‫اإلطار ندرج بعض أهمها‪:‬‬

‫أنّ مسألة نظام احملكمة مفصولة من الناحية الوظيفية‬ ‫‪ -‬‬


‫عن االتفاقية الثنائية املوقعة بني احلكومة اللبنانية واألمم‬
‫املتحدة املطلوب إبرامها فاألمران مرتبطان بهدف واحد‬
‫وهو جالء احلقيقة وتبيانها في قضية اغتيال الرئيس‬
‫رفيق احل��ري��ري‪ ،‬فصحيح أن نظام احملكمة ه��ي مبثابة‬
‫اآللية التي ميكن إص��داره��ا بطريقة أخ��رى غير مقررة‬
‫ف��ي األس ��اس ح �ص��راً ب��امل��ؤس�س��ات ال��دس�ت��وري��ة اللبنانية‬

‫‪112‬‬
‫وهذا ما انطوت عليه جملة القرارات الصادرة واملؤسسة‬
‫للمحكمة ونظامها األساسي كالقرارات ‪ 1595‬و‪1644‬‬
‫و‪ 1664‬وجميعها ُم ّدرجة ضمن الفصل السابع‪ .‬وصحيح‬
‫أي �ض �اً أنَّ إق ��رار احملكمة ف��ي الفصل ال�س��اب��ع ميكن أن‬
‫يكون متدرِّجا وليس بالضرورة البدء في املادة (‪ )42‬وما‬
‫يليها أي استعمال ال�ق��وة ب��وج��ه م��ن يعرقل سير عملها‬
‫أو ال يتجاوب مع متطلباتها أو آليات إجراءاتها‪ .‬إال أن‬
‫الصحيح أيضاً أن التدرّج في فرض العقوبات الزاجرة‬
‫في الفصل السابع أت��ى في سياق «حتمي» ال اختياري‬
‫أو استنسابي وهو مرتبط أوالً وأخيراً باملزاج السياسي‬
‫الدولي ومن يتحكّم به في دهاليز مجلس األمن الدولي‪.‬‬
‫إذ ليس ثمة سابقة دولية اتخذت في مجلس األمن وفقاً‬
‫ال والقاضية باحلصار البحري والبري‬ ‫للمادة (‪ )41‬مث ً‬
‫وقطع العالقات الدبلوماسية إال واستكملت بإجراءات‬
‫عقابية عسكرية الحقة‪ ،‬وكأنه ميكن القول أن املادة (‪)41‬‬
‫وضعت اللتقاط األنفاس وتنظيم األوضاع واألجواء قبل‬
‫اللجوء إلى العقوبات العسكرية وفقا للمادة (‪.)42‬وعليه‬
‫ميكن القول إن املآل األخير لهذه اخلطوة ليست برأينا‬
‫س��وى مقدمة إلمكانية استعمال ال�ق��وة ض��د م��ن يعنيهم‬
‫األمر‪.‬‬

‫وإن بدا مجلس األمن قد حافظ على الصيغة األساسية‬ ‫‪ -‬‬


‫لنظام احملكمة التي لم تُقر في األطر الدستورية اللبنانية‪،‬‬
‫فان املضيَّ به وفقاً لهذا الشكل من اإلق��رار يعني فيما‬
‫يعنيه إب�ق��اء آلية التنفيذ الالحقة غير م�ح��ددة عملياً‪،‬‬
‫ال إجبار طرف لبناني أو غير لبناني لن‬ ‫فكيف ميكن مث ً‬

‫‪113‬‬
‫يتعاون أو يتجاوب مع متطلبات احملكمة على الرضوخ؟‬
‫إن اجلواب ببساطة استعمال القوة فمن سيستعملها في‬
‫هذه احلالة السلطات اللبنانية أم غيرها؟ وإذا كان األمر‬
‫متعلقا بلبنانيني وتطال رموزاً معينة كيف سيت ُّم التعامّل‬
‫مع ه��ذه القضيّة؟ وإذا ك��ان األم��ر متعلقاً بغير لبنانيني‬
‫ه��ل ستكون السلطات اللبنانية ه��ي م�ش��روع ِص��دام مع‬
‫دول أخ��رى؟ وإذا ك��ان ثمة نية باستعمال األمم املتحدة‬
‫لا وسيلة متاحة‬ ‫لقواتها امل��وج��ودة ف��ي ج�ن��وب لبنان م�ث� ً‬
‫لتنفيذ متطلبات احملكمة فما ه��و مصير ه��ذه القوات‬
‫نفسها وكيف سيكون التعامل معها من بعض األطراف‬
‫اللبنانيني؟‬

‫بات من الواضح جداً أن اإلس��راع في نقل احملكمة إلى‬ ‫‪ -‬‬


‫مجلس األم��ن وإق��راره��ا ضمن الفصل السابع في هذه‬
‫ال �ظ��روف حت��دي��داً ه��و ت��دوي��ل ال��وض��ع ال�ل�ب�ن��ان��ي برمته‪،‬‬
‫وفتحه على احتماالت كثيرة من الصعب التنبؤ بنتائجها‬
‫وتداعياتها القريبة والبعيدة إال أن أق��ل ما يقال فيها‬
‫وضع لبنان على الئحة االستثمارات السياسية اإلقليمية‬
‫والدولية وإعادته إلى أجواء سنوات احلرب املاضية التي‬
‫باتت محفورة في ذاكرة اللبنانيني‪.‬‬

‫إن إقرار احملكمة بهذا الشكل يعني أنَّ القوى اخلارجية‬ ‫‪ -‬‬
‫الفاعلة في ه��ذه القضية وضعت اللبنانيني أم��ام مبدأ‬
‫الغالب واملغلوب وهي صيغة غالباً ما كلّفت لبنان أزمات‬
‫وطنية حادة كانت مبثابة الوقت املستقطع لتمرير أمور‬
‫إقليمية أخرى ال عالقة للبنانيني بها‪ .‬فجميع األطراف‬
‫الدولية واإلقليمية لها مصلحة حقيقية في تقطيع الوقت‬

‫‪114‬‬
‫عبر احملكمة بهدف ال��وص��ول إل��ى مبادئ عامّة ملشاريع‬
‫حلول لقضايا أكبر من لبنان وأكبر من األه��داف التي‬
‫أ ُنشأت من أجلها احملكمة‪.‬‬

‫إن إق��رار احملكمة على توقيت االستحقاقات الداخلية‬ ‫‪ -‬‬


‫اللبنانية عالمة فارقة في نية القوى الدولية تهريب هذه‬
‫االستحقاقات ووض��ع اللبنانيني أم��ام خ �ي��ارات أحالها‬
‫مر‪،‬فانتخابات الرئاسة مرتبطة بالتوافق الداخلي الذي‬
‫ل��م يكن ينقصه س��وى ه��ذا االن�ق�س��ام احل��اد على إقرار‬
‫نظام احملكمة‪.‬‬

‫إن امل�ع�ن��ي ال��رئ �ي��س ب �ه��ذا اإلق� ��رار ه��و س��وري��ا حتديداً‪.‬‬ ‫‪ -‬‬
‫فسوريا ال�ت��ي تعاونت وب��اع�ت��راف رئ�ي��س جلنة التحقيق‬
‫ال��دول �ي��ة س �ي��رج ب��رام��رت��ز ف��ي ت �ق��اري��ره ال�س��اب�ق��ة‪ ،‬أكدت‬
‫على لسان مسؤوليها سابقاً أنها ليست معنية مبوضوع‬
‫احملكمة واعتبرتها مشروع اتفاقية لم تشارك بها‪ ،‬ويأتي‬
‫هذا اإلقرار في الفصل السابع ليلزم سوريا مبا ستؤول‬
‫إل�ي��ه األم��ور الح �ق �اً‪ ،‬سيما وان االن�ف�ت��اح األم��ري�ك��ي على‬
‫ال‬
‫سوريا حالياً يستلزم بعض الكوابح الضرورية مستقب ً‬
‫في عمليات االبتزاز السياسي‪ ،‬إذ أن احملكمة وإجراءاتها‬
‫بحسب رأي البعض ستكون عدة الشّ غل الالزمة للحوار‬
‫أو مبعنى أدق التفاوض بني دمشق وواشنطن على قضايا‬
‫ع��دي��دة ومتنوعة م��ن بينها لبنان وال �ع��راق وال�ع�لاق��ة مع‬
‫إي ��ران وع�ل��ى رأس ه��ذه امل��واض�ي��ع كلها ملفات الصراع‬
‫العربي ‪ -‬اإلسرائيلي بتفاصيله اململة‪.‬‬

‫إن إقرار احملكمة وآلية تنفيذ إجراءاتها الحقاً ستنشئ‬ ‫‪ -‬‬

‫‪115‬‬
‫أجوا ًء تصادمية داخلية وخارجية لن تتمكن السلطة من‬
‫القيام بها منفردة‪ ،‬األم��ر ال��ذي سيستدعي اللجوء إلى‬
‫خيارات أخ��رى على األرج��ح ستكون ق��وات اليونفيل من‬
‫بينها بعد تعزيز مقومات حتركها من الناحية القانونية‬
‫وف�ق�اً للقرار ‪ ،1701‬وم��ا يعزز ه��ذا االحتمال م��ا أقدم‬
‫عليه م��ؤخ��راً مجلس األم ��ن ف��ي ق ��رار رئ��اس��ي بتشكيل‬
‫بعثة لتقصي احلقائق بني لبنان وسوريا‪ ،‬وبذلك ستكون‬
‫اخلطوات الدولية متالزمة ومترافقة مع بعضها البعض‬
‫في ه��ذا االجت��اه ما يُنذر بإمكانية تغيّرات دراماتيكية‬
‫سريعة ميكن أن تعيد خلط األوراق في املنطقة كلها‪.‬‬

‫ثمة توجّ س وخوف كبيرين بأن إقرار احملكمة في الفصل‬ ‫‪ -‬‬


‫السابع سينسحب على الوضع القانوني لقوات الطوارئ‬
‫في جنوب لبنان‪ ،‬ربطاً بسوابق مماثلة على الصعيد الدولي‬
‫وان اختلفت تسمية ونوعية احملاكم‪ .‬فجميع القوات التي‬
‫أنشأت في يوغسالفيا السابقة وراوندا وتيمور الشرقية‬
‫والتي ترافقت مع محاكم دولية خاصة ومختلطة أنشأت‬
‫استناداً إلى الفصل السابع‪ ،‬بتبريرات متنوعة ومختلفة‬
‫وبخاصة حماية حقوق اإلنسان وحتقيق العدالة في جرائم‬
‫غير مماثلة‪ .‬إن احلاالت السابقة السالفة الذكر لم متكن‬
‫أصحابها م��ن ال��وص��ول إل��ى األه��داف امل��رج��وة وبخاصة‬
‫في قضية سلوفودان ميلوسوفيتش‪ ،‬فيوغسالقيا قُسمت‬
‫قبل أن يتوفى ه��ذا األخ�ي��ر ف��ي سجنه وقبل ص��دور أي‬
‫حكم بحقه‪ .‬فهل سيكون الوضع في لبنان متشابها أو‬
‫مماثالً؟‪.‬‬

‫إن قدر الدول الصغيرة أن تبقى دائما فريسة سهلة لألهواء‬

‫‪116‬‬
‫واألنواء اإلقليمية والدولية‪ ،‬فهل سيكون إقرار احملكمة في الفصل‬
‫السابع بداية لفصول سوداء أخرى في تاريخ لبنان السياسي املعاصر‪،‬‬
‫وأمر من شأنه فتح مصير لبنان على بدايات ال يعرف أحد نهاياتها؟‬
‫إن استقراء تاريخ محاوالت الوصول للعدالة الدولية يؤكد ذلك!‪.‬‬

‫سابع ًا‪ :‬مالحظات واستنتاجات‬

‫حتى يومنا هذا ثمة ما يقرب من ألفي قرار صادر عن مجلس‬


‫األم��ن ال��دول��ي وأك�ث��ر م��ن نصفها يتعلق مب��ا يحيط ب��ال��دول العربية‬
‫وقضاياها‪ ،‬وحوالي ثلثها متعلق بلبنان بشكل أو بآخر‪،‬إال انه ميكن‬
‫القول أن ليس ثمة قرار منها قد نفذ باملعنى احلقيقي للكلمة‪ ،‬وإذا‬
‫مت تنفيذ بعض اجلوانب لبعض القرارات فهذا يعود ليس لقوة‬ ‫ما َّ‬
‫املنظمة الدولية وال لرضا القوى الفاعلة فيها ال سيما في مجلس‬
‫األم��ن‪ ،‬وإمن��ا يتعلق بظروف املنطقة والقوى اللبنانية التي فرضت‬
‫بعض اجلوانب كتمكن املقاومة من إجبار إسرائيل على االنسحاب‬
‫من غالبية األراضي اللبنانية احملتلة حتت وطأة الضغط العسكري‬
‫ال السياسي أو الدبلوماسي التي حاولت وحت��اول بعض األطراف‬
‫تظهيره وتصويره‪ ،‬وعليه ميكن إدراج العديد من املالحظات املتعلقة‬
‫ب��ال �ق��رارات ال��دول �ي��ة ال �ص��ادرة ع��ن مجلس األم��ن واملتعلقة بلبنان‬
‫ومنها‪:‬‬

‫إن جميع القرارات املتعلقة بالصراع العربي اإلسرائيلي‬ ‫‪ -‬‬


‫والتي كان للبنان جزءاً أساسياً فيها بدءاً من القرار ‪425‬‬
‫وحتى ‪ 1701‬وما تبعه‪ ،‬لم تنفذ بفضل رغبة مجلس األمن‬
‫وال بفضل رهبته وهيبته الدولية‪ ،‬بل أن القراءة الدقيقة‬
‫واملوضوعية تظهر أن مجلس األمن كان في غالبية مقاربته‬
‫لهذه القرارات يسلك مسلك املفسر واملؤكد للقرار بقرار‬

‫‪117‬‬
‫آخر‪ ،‬وبالتالي لم يكن له دور فعلي في حتريك أي آلية‬
‫لتنفيذ ما ينبغي تنفيذه إال في ح��االت معينة ومحددة‬
‫بذاتها وهي متعلقة بطبيعة احلال مبصلحة إسرائيل ال‬
‫لبنان‪.‬‬

‫إن موقع لبنان وم��ا يحيط بواقعه الداخلي واخلارجي‬ ‫‪ -‬‬


‫من تعقيدات مختلفة ومتنوعة جعله دائم احلضور على‬
‫مشرحة القرارات الدولية ليس اهتماماً به أو تأكيدا لدوره‬
‫وموقعه‪ ،‬وإمنا من باب ضبط إيقاع أالزمات الناشئة منه‬
‫ال ناجعاً‬
‫أو عنه‪ ،‬وبالتالي إن غالبية القرارات لم تقدم ح ً‬
‫مانعاً ملشاكله بقدر ما كانت ضبطاً ملسارات أزماته التي‬
‫لها أبعاداً خارجية مؤثرة‪.‬‬

‫إن طريقة وأسلوب التعاطي مع جرمية اغتيال الرئيس‬ ‫‪ -‬‬


‫رفيق احلريري قد وضع لبنان في تقاطع مع األهداف‬
‫اإلقليمية وال��دول�ي��ة ف��ي املنطقة‪ ،‬وك��رس سابقة ملجلس‬
‫األم��ن ف��ي ال�ت�ع��اط��ي م��ع األم ��ور ال�ت��ي تعتبر م��ن مسائل‬
‫السيادة الوطنية‪ ،‬األم��ر ال��ذي جعل لبنان منصة ارتكاز‬
‫مل��ا ميكن أن ي�ص��در م��ن ق ��رارات دول�ي��ة ظ��اه��ره��ا معالج‬
‫ملشاكل لبنان وأزماته وباطنها منصات إطالق جتاه الدول‬
‫املمانعة للسياسات األمريكية في املنطقة‪.‬‬

‫إن القراءة الدقيقة ملجمل القرارات الدولية املتعلقة باغتيال‬ ‫‪ -‬‬


‫الرئيس رفيق احلريري تظهر أن ثمة نية وخلفية حملاكمات‬
‫سياسية ال قانونية متعلقة بسياسات إقليمية ودولية ليس‬
‫للبنان تقاطع مباشر فيها بالضرورة‪ ،‬وإمنا يستعمل فيها‬
‫كأداة قابلة لالستثمار السياسي اإلقليمي والدولي‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫ثمة ازدواجية واضحة في التعامل مع القضايا املتشابه‬ ‫‪ -‬‬
‫دولياً وإقليمياً من قبل مجلس األمن‪ ،‬ففي جميع قراراته‬
‫املتعلقة مبصالح الدول العربية ليس ثمة قرار واحد يقع‬
‫في الفصل السابع وجميعها مقرة وفقا للسادس أي ما‬
‫يعني عدم القدرة على تنفيذها‪ ،‬فيما املواضيع والقضايا‬
‫املتعلقة بالعقوبات أو غزو أراضي بعض الدول العربية‬
‫كل القرارات قد اتخذت وفقاً للفصل السابع‪.‬‬

‫إن غريب املفارقات أن تصبح املنظمة الدولية التي أنشأت‬


‫بهدف حفظ السلم واألم��ن الدوليني وسيلة وأداة لتأجيج األزمات‬
‫اإلقليمية وال��دول�ي��ة‪ ،‬وإط ��اراً ومحتوى لتنظيم الفنت الداخلية في‬
‫ال��دول املنضمة إليها‪ ،‬طبعاً ك��ل ذل��ك بفضل بعض ال��دول املتنفذة‬
‫فيها‪ ،‬فإلى متى سيبقى الوضع على ما هو عليه؟ وإلى متى ستتجاهل‬
‫الدول التي تلعب مبصير األمم املتحدة وقراراتها أن نفس األسلوب‬
‫مت التعامل به في خالل عهد عصبة األمم أدى إلى انفراط‬ ‫ال��ذي َّ‬
‫عقدها وإشعال احلرب العاملية الثانية؟ وبالتالي هل نحن سائرون‬
‫نحو احلرب العاملية الثالثة بفضل قرارات األمم املتحدة في الفترة‬
‫األخ�ي��رة؟ أم أنها تكرس نتائج ح��رب عاملية ثالثة وقعت ول��م يعلن‬
‫عنها؟ أسئلة كثيرة حتتاج إلى إجابات محددة قبل فوات األوان‪ ،‬لكن‬
‫على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟‪.‬‬

‫‪119‬‬
120
‫الباب الثاني‬
‫تاريخ لبنان في حروب متواصلة‬

‫احلرب األهلية في لبنان‪.‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬‬

‫نظام القائمقاميتني واحل��رب األهلية‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬‬


‫الثانية (‪.)1845 - 1842‬‬

‫احلرب األهلية الثالثة ودور االنتماءات‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬‬


‫ال�ط�ب�ق�ي��ة ‪ -‬ث���ورة ال �ف�لاح�ين وح���وادث‬
‫الستني (‪.)1860 - 1858‬‬

‫إرس � � � ��اء ن � �ظ� ��ام امل� �ت� �ص ��رف� �ي ��ة وت ��رس� �ي ��خ‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬‬
‫الطائفية‪.‬‬

‫الفصل اخلامس‪ :‬الدستور اللبناني واحلرب األهلية‪.‬‬

‫الفصل السادس‪ :‬امليثاق الوطني واحلرب األهلية‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫الفصل السابع‪ :‬أزمة ‪ 1958‬والتهيئة حلرب أهلية‪.‬‬

‫الفصل الثامن‪ :‬احلرب األهلية في لبنان (‪.)1975‬‬

‫الفصل التاسع‪ :‬البُ عد الداخلي للحرب األهلية‪.‬‬

‫أث���ر ب �ن �ي��ة ال �ن �ظ��ام ف ��ي ت��أج �ي��ج احل ��رب‬ ‫الفصل العاشر‪ :‬‬
‫األهلية‪.‬‬

‫الفصل احلادي عشر‪ :‬ال�ن�خ�ب��ة ال�س�ي��اس�ي��ة ‪ -‬الطائفية‬


‫واحلرب األهلية اللبنانية‪.‬‬

‫أثر االقتصاد اللبناني في احلرب‬ ‫الفصل الثاني عشر‪ :‬‬


‫األهلية‪.‬‬

‫ال��بُ �ع��د اإلقليمي للحرب األهلية‬ ‫الفصل الثالث عشر‪ :‬‬


‫اللبنانية‪.‬‬

‫ال��دور ال��دول��ي ف��ي احل��رب األهلية‬ ‫الفصل الرابع عشر‪ :‬‬


‫اللبنانية‪.‬‬

‫الفصل اخلامس عشر‪ :‬احل���رب األه �ل �ي��ة ال�ل�ب�ن��ان�ي��ة قبيل‬


‫اتفاق الطائف‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫الفصل األول‬
‫احلرب األهلية األولى في لبنان‬

‫بعد خ��روج املصريني من لبنان‪ ،‬إثر تدخّ ل القوى الكبرى‪ ،‬حدث‬


‫العديد من املواجهات بني الطائفتني املارونية وال��درزي��ة‪ .‬ما لبثت أن‬
‫تفان‪ ،‬استمر من عام ‪ 1845‬إلى عام ‪ ،1860‬الذي‬ ‫حتولت إلى صراع ٍ‬
‫اشتهر مبذابحه‪« :‬حوادث الستني»‪ .‬ونشطت القوى‪ ،‬الداخلية واخلارجية‪،‬‬
‫املوجِّ هة لتاريخ لبنان‪ ،‬بعد ‪ 3‬أيلول‪/‬سبتمبر ‪ ،1840‬وتولّي األمير بشير‬
‫الثالث اإلمارة اللبنانية‪ .‬وميكن حصر هذه القوى في ما يلي‪:‬‬

‫‪ - 1‬القوى الداخلية‪ :‬األمير احلاكم‪ ،‬بشير الثالث‪ .‬واجلبهة‬


‫ال��درزي��ة‪ ،‬مبا فيها من انقسامات‪ ،‬جنبالطية ويزبكية‪.‬‬
‫واجلبهة املارونية‪ ،‬مبا فيها من انقسامات وقوى موجِّ هة‪،‬‬
‫(اإلكليروس املقاطعجية)‪.‬‬

‫‪ - 2‬السلطة العثمانية الباب العالي‪ .‬ووالة الدولة العثمانية‪،‬‬


‫في دمشق وبيروت‪ ،‬ومن يبعث بهم الباب العالي‪ ،‬لإلسهام‬
‫في توجيه األمور‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫‪ - 3‬احلكومات األوروب�ي��ة‪ ،‬وقناصلها في الشام‪ ،‬وسفراؤها‬
‫في اآلستانة‪ ،‬ال سيما سفراء بريطانيا وفرنسا والنمسا‬
‫وروسيا وقناصلها‪.‬‬

‫‪ - 4‬الهيئات التبشيرية‪ :‬كاملبشرين البروتستانت و«اجلزويت»‪.‬‬

‫أصبحت اإلمارة الشهابية ميداناً لسياسات متضاربة‪ ،‬بعضها‬


‫ال عن‬
‫محلي‪ ،‬وبعضها عاملي‪ ،‬ومجاالً لتيارات‪ ،‬تقدمية ورجعية‪ .‬فض ً‬
‫«عدم الثقة» بني مختلف األطراف‪ .‬مما زاد املسألة تعقيداً‪ ،‬ودفعها‬
‫من سيئ إلى أسوأ‪ .‬في وقت‪ ،‬بدا فيه لبنان عاجزاً عن اختيار زعيم‬
‫ق��وي ق��ادر على أن يرتفع ف��وق كل ه��ذه التيارات‪ ،‬وعلى أن ميسك‬
‫بكافة خيوط امل�س��أل��ة‪ .‬ك��ل ه��ذه ال�ع��وام��ل‪ ،‬دفعت بلبنان نحو طرق‬
‫وعرة‪ ،‬متعددة‪ ،‬وقادتْه إلى صراع مختلف الوجوه‪ :‬صراع طائفي‪ ،‬بني‬
‫املوارنة والدروز‪ .‬وصراع طبقي بني الفالحني واإلقطاعيني‪.‬‬

‫اشتد التنافس األوروبي في لبنان‪ ،‬إبان احلرب األهلية األولى‪،‬‬


‫في إطار ما عُرف بـ «ح��وادث الستني»‪ ،‬عام ‪1860‬؛ إذ إن الكارثة‬
‫التي نزلت بلبنان‪ ،‬خالل تلك الفترة‪ ،‬تزامنت مع عهد من التنافس‬
‫بني الدول األوروبية‪ .‬فبالنسبة إلى بريطانيا‪ ،‬أصبحت صاحبة اليد‬
‫العليا‪ ،‬في إعادة الشام إلى السلطان العثماني‪ ،‬وكانت قد حصلت‬
‫منه على معاهدة بلطة ليمان‪ ،‬عام ‪ ،1839‬التي فتحت واليات الدولة‬
‫العثمانية أمام التجار اإلنكليز‪ ،‬الذين خُ ففت عن جتارتهم الضرائب‬
‫اجل�م��رك�ي��ة‪ ،‬ف�ت��د ّف��ق اإلن �ت��اج اإلن�ك�ل�ي��زي إل��ى داخ ��ل ه��ذه الواليات‪.‬‬
‫واستوعبت السوق الشامية كميات متزايدة منه‪ ،‬حتى إن عدد السفن‬
‫البريطانية‪ ،‬التي تفرغ حمولتها في املوانئ اللبنانية‪ ،‬أصبح أكبر‬
‫من عدد سفن الدول األوروبية األخرى مجتمعة‪ .‬وال شك أن وجود‬
‫األمير بشير الثالث في احلكم‪ ،‬وهو الذي توالّه بتوصية من اإلنكليز‪،‬‬

‫‪124‬‬
‫كان مفيداً جداً لتنمية هذا التفوق التجاري البريطاني‪.‬‬

‫أث��ار ت�ف�وّق بريطانيا ف��ي مصر وال �ش��ام؛ ولكل منهما آمالها‪،‬‬
‫الدينية واالستعمارية‪ ،‬إزاء فرنسا‪ ،‬حفيظة باريس نحو اإلمبراطورية‬
‫ال�ت��ي ال تغيب عنها ال�ش�م��س‪ ،‬وال سيما أن ك�ث�ي��راً م��ن أج��زاء هذه‬
‫اإلمبراطورية‪ ،‬كانت مستعمرات فرنسية‪ .‬وأصبح على فرنسا‪ ،‬أن‬
‫تبذل مجهوداً شاقاً‪ ،‬لعلها تستطيع أن تعيد بناء إمبراطورية لها‬
‫فيما وراء البحار‪ .‬وكان طبيعياً أن يواجَ ه النشاط الفرنسي مبقاومة‬
‫بريطانيا ومنافستها‪ ،‬وكذلك روسيا والنمسا؛ إذ كان أمل ڤيينا‪ ،‬أن‬
‫حتل محل فرنسا في حماية كاثوليك الدولة العثمانية‪.‬‬

‫ولم يخفف موقف فرنسا السلبي إزاء وضع املوارنة‪ ،‬إبّان احلكم‬
‫العثماني املصري‪ ،‬من عاطفتهم الدينية املذهبية جتاه باريس‪ .‬بل‬
‫إنهم حينما ك��ان��وا ف��ي أش��د احل��اج��ة إل��ى ال�س�لاح وال��ذخ��ائ��ر‪ ،‬وكان‬
‫اإلنكليز مي��دون�ه��م بهما‪ ،‬ك��ان��ت الكنيسة امل��ارون�ي��ة راف�ض��ة للسالح‬
‫اإلنكليزي‪ .‬كما رفض أميرهم حيدر أبي اللمع‪ ،‬بشدة‪ ،‬فكرة طلب‬
‫احلماية البريطانية‪.‬‬

‫واستعر الكره بني اإلنكليز واملوارنة‪ ،‬حني استشعر نصارى جبل‬


‫لبنان سعْي الدولة األنكليكانية إلى التمهيد للمبشرين البروتستانت‬
‫في لبنان‪ ،‬حيث تكاثر املبشرون اإلنكليز واألمريكيون‪ ،‬في ثالثينيات‬
‫ال �ق��رن ال�ت��اس��ع عشر وأرب�ع�ي�ن�ي��ات��ه‪ ،‬مم��ا أث��ار رج��ال ال��دي��ن املوارنة‬
‫و«اجلزويت»‪ ،‬وكذلك الروم األرثوذكس‪ .‬واتخذ البطريرك املاروني‬
‫إجراءات شديدة‪ ،‬ضد املبشرين البروتستانت‪ .‬ومع أن اإلنكليز كانوا‬
‫يسعون لتكون عالقاتهم باملوارنة وال��دروز‪ ،‬متوازنة‪ ،‬إال أن العالقة‬
‫اخل��اص��ة ب�ين ن�ص��ارى اجلبل وفرنسا‪ ،‬كانت تبعد بريطانيا عنهم‪،‬‬
‫وتشد إليها ال��دروز‪ ،‬الباحثني عن دول��ة كبرى‪ ،‬ي��وازن��ون بها عالقة‬

‫‪125‬‬
‫فرنسا باملوارنة‪ ،‬ويواجهون بها اجلبهة املارونية‪ ،‬التي كان زعماؤها‬
‫يصرحون بأنهم لم يتخلصوا من التفوّق الدرزي فقط‪ ،‬بل إنهم باتوا‬
‫هم أصحاب البالد‪ .‬وكانت املؤسسات اجلزويتية تدعو إلى إقامة‬
‫وطن قومي للموارنة‪ ،‬وتؤكد لهؤالء‪ ،‬أنهم لو متسكوا بهذا الهدف‪،‬‬
‫وقاتلوا من أجْ له‪ ،‬فإن الدول األوروبية الكبرى‪ ،‬لن تتخلى عنهم‪ ،‬حتى‬
‫يحصلوا على استقاللهم‪ ،‬مثلما حدث مع اليونانيني‪.‬‬

‫وكان خطر هذه التيارات‪ ،‬في نظر السلطات العثمانية‪ ،‬يتعدى‬


‫الوجود والسيادة العثمانيني على اجلبل‪ .‬بيد أنها رأت‪ ،‬أ ّال تتخذ‬
‫أي إج��راءات مباشرة‪ ،‬لفرْض حُ كمها املباشر على اجلبل؛ حتى ال‬
‫تثير ثائرة السلطات اإلنكليزية‪ ،‬التي أصبحت متسلطة على عدن‬
‫واخلليج العربي‪ ،‬وحفيظة السلطات الفرنسية‪ ،‬التي أمست مستعمرة‬
‫اجلزائر‪ .‬وآثرت أن تضرب نطاقاً حول اإلمارة الشهابية‪ ،‬وتزيد من‬
‫قوة املراقبة العثمانية عليها‪ .‬ولهذا‪ ،‬عمدت إلى تعديالت إدارية‪،‬‬
‫حتقيقاً ألهدافها‪ ،‬فضمت طرابلس إلى والية صيدا‪ ،‬وجعلت بيروت‬
‫عاصمة لهذه الوالية‪.‬‬

‫‪ - 1‬الصراع بني الدروز واملوارنة‬

‫مت � ّث��ل ال��دول��ة ال�ع�ث�م��ان�ي��ة‪ ،‬ف��ي ن�ظ��ر ال� ��دروز‪ ،‬ال�س�ل�ط��ة العليا‪،‬‬
‫صاحبة احلق الشرعي في البالد‪ ،‬في إطار احلفاظ على امتيازاتهم‬
‫التقليدية‪ .‬ولكن هزائمها على يد اجليش املصري‪ ،‬وع��دم قدرتها‬
‫على إخراج املصريني من الشام‪ ،‬إال مبساعدة األسطول اإلنكليزي‪،‬‬
‫أضعفا مكانتها‪ ،‬لدى الدروز‪.‬‬

‫واعتقد ال��دروز أنهم هم أصحاب الفضل الكبير في إخراج‬


‫املصريني من الشام‪ ،‬مبا اضطلعوا به من ث��ورات‪ ،‬تكبدوا‪ ،‬خاللها‪،‬‬

‫‪126‬‬
‫خسائر فادحة‪ ،‬في األرواح واألم��وال‪ ،‬وشُ �رِّد العديد من زعمائهم‪،‬‬
‫ونُفِ ي بعضهم إلى سنار‪ .‬ولهذا‪ ،‬كانوا يتوقعون من السلطات العثمانية‪،‬‬
‫أ ّال تكتفي بالوفاء مبا سبق أن وعدتهم به‪ ،‬من إعادة اإلقطاعيات‪،‬‬
‫التي كان األمير بشير قد سلبهم إياها‪ ،‬وبإعفائهم من الضرائب‪،‬‬
‫ال‬
‫ملدة ثالث سنوات‪ ،‬بل أصبحوا ينتظرون املكافآت السخية‪ ،‬فض ً‬
‫عن استعادتهم لتفوّقهم على بقية طوائف اجلبل‪ .‬وإذا بهم يواجَ هون‬
‫بظروف مختلفة‪ ،‬تتّسم باخلطر‪.‬‬

‫فبعد عودة الزعماء الدروز من منفاهم‪ ،‬وجدوا أن األمير بشيراً‬


‫الثالث ُمعْرِ ض عنهم‪ .‬ثم شرع يعاملهم معاملة سيئة‪ ،‬وتقاعس‪ ،‬عامداً‪،‬‬
‫عن إعادة ما كان لهم من إقطاعيات‪ .‬وكان األمير الشهابي يخطط‬
‫لتوجيه ضربة إلى اإلقطاعيني‪ ،‬ال��دروز‪ .‬ال ألنه كان مارونياً‪ ،‬يكره‬
‫ال��دروز وعقيدتهم‪ ،‬وإمن��ا النتهاجه السياسة عينها‪ ،‬التي انتهجها‬
‫سلفه األمير بشير الشهابي الكبير‪ ،‬في القضاء على اإلقطاعيني‪،‬‬
‫حتى يخلو باحلكم‪.‬‬

‫ولكن األدهى‪ ،‬أن زعماء الدروز‪ ،‬أصبحوا هدفاً لبشير الثالث‪،‬‬


‫وكأنهم على شاكلة طبقة املماليك‪ ،‬احلاكمة في مصر‪ ،‬التي استعصى‬
‫أمر إصالحها‪ ،‬وأصبح اخلالص منها يستدعي حتوالً حضارياً؛ إذ‬
‫دبر األمير بشير مذبحة لهم‪ ،‬على غرار مذبحة املماليك‪ ،‬على يد‬
‫محمد علي‪ .‬ولكن م��ن حُ سن ح��ظ ال ��دروز‪ ،‬ح�ي�ن��ذاك‪ ،‬أن القنصل‬
‫الفرنسي‪ ،‬كان ال يزال يسعى إلى كسب ُودّهم‪ ،‬نكاية في األمير بشير‬
‫الثالث الذي أصبح‪ ،‬في رأيه‪ ،‬أداة طيّعة في يد القنصل البريطاني‪.‬‬
‫فحذر القنصل الفرنسي الزعماء الدروز مما يدبَّر لهم‪.‬‬

‫أما الكنيسة املارونية‪ ،‬فقد اتخذت إجراءات‪ ،‬تؤدي إلى تقويض‬


‫نفوذ الزعامات الدرزية اإلقطاعية‪ ،‬إذ بعث البطريك مبنشور إلى‬

‫‪127‬‬
‫امل��وارن��ة‪ ،‬ف��ي ك��ل قرية حت��ت السيطرة ال��درزي��ة‪ ،‬أن ي�خ�ت��اروا عنهم‬
‫وكيالً‪ ،‬يتولى أمورهم‪ ،‬دون اإلقطاعي الدرزي‪ .‬واستقبل املوارنة هذا‬
‫املنشور باالبتهاج واحلبور‪ ،‬وبادروا إلى التظاهر‪ ،‬أمام دُور الدروز‪.‬‬
‫وانبروا يرددون أن الدروز مجرد أقلية تابعة لهم‪ ،‬وأنهم لن يتورعوا‬
‫عن طرْدهم من البالد‪ .‬وبدا للدروز‪ ،‬أن أيامهم قد ولّت‪ ،‬وأن عليهم‬
‫أن يكافحوا‪ ،‬ال من أجْ ��ل ما كان لهم من امتيازات‪ ،‬ولكن من أجْ ل‬
‫احلفاظ على كيانهم املهدّ د‪ ،‬خاصة أن األمير بشيراً الثالث‪ ،‬يعمل‬
‫على تص ُّدع اجلبهة ال��درزي��ة‪ ،‬من خ�لال ض��رب الزعامات الدرزية‬
‫بعضها ببعض‪.‬‬

‫وفضل الدروز‪ ،‬على الرغم من متادي األمير بشير الثالث في‬ ‫ّ‬
‫اضطهادهم‪ ،‬أن يعرضوا األمر على السلطات العثمانية‪ ،‬حتى تكون‬
‫على بيِّنة مما يعانونه ويدبَّر لهم‪ .‬فبعثوا بشكوى إلى الباب العالي‪،‬‬
‫ف��ي ح��زي��ران ‪ /‬يونيو ‪ ،1841‬تضمنت‪ :‬أن األم�ي��ر ب�ش�ي��راً الكبير‪،‬‬
‫كان قد حتوّل إلى النصرانية‪ .‬ومع هذا‪ ،‬كان يعامل الدروز معاملة‬
‫كرمية‪ ،‬على عكس ما يفعله خليفته‪ ،‬بشير الثالث‪ ،‬الذي يضطهدهم‪،‬‬
‫التنصر؛ وهو ما لن يحدُث‪ ،‬وسيقاومونه بكل إصرار‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إلرغامهم على‬
‫واعتراف الدروز بأنهم مسْ لمون‪.‬‬

‫سعى الدروز إلى إبعاد األمير بشير الثالث عن احلُكم‪ ،‬بل كانوا‬
‫يسعون إلى التخلص من حُ كم البيت الشهابـي كلـه‪ .‬ولكـن الظروف‪،‬‬
‫ال تسمح لهم باإلقدام على هذا اخلطوة الكبيرة‪ ،‬إذ هم ال يزالون في‬
‫خطواتهم األول��ى‪ ،‬لتثبيت أقدامهم في بالدهم‪ .‬ومن ناحية أخرى‪،‬‬
‫ك��ان األم�ي��ر بشير الثالث مستنداً إل��ى تأييد القنصل البريطاني‪،‬‬
‫الذي كان هو نفسه أمل الدروز‪ ،‬في موازنة التقارب املتصاعد‪ ،‬بني‬
‫املوارنة والقنصل الفرنسي‪ .‬فحاول زعماؤهم إحالل أمير شهابي‬
‫مسلم‪ ،‬محل األمير احلاكم‪ .‬واختاروا األمير سلمان شهاب‪ ،‬الذي‬

‫‪128‬‬
‫أضير‪ ،‬هو اآلخر‪ ،‬بسبب تعاونه السابق مع الزعماء الدروز‪ ،‬على يد‬
‫األمير بشير الثالث‪.‬‬

‫غير أن القنصل اإلنكليزي‪ ،‬رأى أن يستمر األمير بشير الثالث‪،‬‬


‫حل �ك��م‪ .‬وع�ل��ى ال��رغ��م م��ن م�ح��اول��ة القنصل‬
‫على س��وء إدارت ��ه‪ ،‬ف��ي ا ُ‬
‫الفرنسي‪ ،‬دي ميلواز‪ ،‬إقناع البطريرك بضرورة إبعاد بشير الثالث‬
‫عن احلُكم‪ ،‬أبدى البطريرك املاروني متسُّ كه املؤقت باألمير الشهابي‪،‬‬
‫لألسباب الرئيسية التالية‪:‬‬

‫‪ - 1‬إن حاكِ م اجلبل‪ ،‬يجب أن يكون مسيحياً‪.‬‬

‫ال دون تفاهم‬‫‪ - 2‬إن بشيراً الثالث‪ ،‬يُ� َع� ّد‪ ،‬على ضعفه‪ ،‬حائ ً‬
‫ال��دروز مع السلطات العثمانية‪ ،‬حول إسناد املهمة إلى‬
‫حاكِ م تركي‪.‬‬

‫‪ - 3‬إن مساوئ األمير بشير الثالث‪ ،‬ستتضاعف‪ ،‬مبرور األيام‪،‬‬


‫ليصبح مرفوضاً‪ .‬فيمكِ ن‪ ،‬في هذه احلالة‪ ،‬أن يعود األمير‬
‫بشير الشهابي الكبير إلى احلُكم‪.‬‬

‫لم يقتصر التبرّم ببشير الثالث على الدروز‪ ،‬الساخطني على‬


‫البيت الشهابي‪ ،‬بل تعداهم إلى بعض اإلقطاعيني املوارنة‪ ،‬مثل آل‬
‫ال عن سأم املسؤولني‬‫اخلازن‪ ،‬الذين عملوا على كسر شوكتهم‪ .‬فض ً‬
‫اإلنكليز من هذا األمير‪ ،‬املثير للمشاكل‪.‬‬

‫‪ - 2‬احلرب األهلية‬

‫أمَا وقد طال انتظار الزعماء الدروز لتحرك عثماني إيجابي‪،‬‬


‫فقد عزموا على أن يحققوا‪ ،‬بالقوة‪ ،‬ما فشلوا في حتقيقه‪ ،‬بااللتماسات‬

‫‪129‬‬
‫والشكاوى‪ .‬فبادرت قواتهم‪ ،‬بزعامة أوالد بشير جنبالط‪ ،‬في الثالث‬
‫عشر من تشرين األول ‪ /‬أكتوبر ‪ ،1841‬إلى محاصرة «دير القمر»‪،‬‬
‫إي��ذان�اً ببدء احل��رب األهلية األول��ى‪ .‬وعلى ال��رغ��م م��ن استعدادات‬
‫املوارنة وادعاءاتهم مبا سيفعلونه بالدروز‪ ،‬عندما تقع احلرب‪ ،‬حتوّل‬
‫القتال إل��ى كارثة مروعة‪ ،‬نزلت بهم في دي��ر القمر‪ ،‬إذ دب��ت فيهم‬
‫الفوضى‪ ،‬فأصبحوا أهدافاً سهلة للقوات الدرزية‪.‬‬

‫وم��ا إن سمع ال�ب�ط��ري��رك مب��ا ح��دث ل��دي��ر ال�ق�م��ر‪ ،‬حتى أغلق‬


‫الكنائس‪ ،‬وطلب من كل مسيحي‪ ،‬أن يحمل السالح‪ .‬وهاجمت القوات‬
‫املارونية بعض املواقع الدرزية املتفرقة‪ ،‬لينتشر لهيب احلرب األهلية‪،‬‬
‫بسرعة‪ ،‬في البالد‪ .‬وتبادل الطرفان إحراق القرى وسل ْب األموال‪،‬‬
‫والتمثيل باألسرى والقتلى‪ .‬ولكن كفة ال��دروز كانت هي الراجحة‪،‬‬
‫فبعد أن سيطروا على املناطق املارونية في اجلنوب‪ ،‬شرعوا يدقون‬
‫أبواب النصف الشمالي املاروني‪ ،‬عبْر نهر الكلب‪.‬‬

‫وخ�ل�ال ه��ذه احل ��رب األه �ل �ي��ة‪ ،‬وق��ف األرث ��وذك ��س إل��ى جانب‬
‫الدروز‪ ،‬العتقادهم أن تفوّق املوارنة‪ ،‬سيعرضهم الضطهاد ماروني‪،‬‬
‫ال لهم على ترْك عقيدتهم‪ .‬وحينما اشتد الضغط الدرزي على‬ ‫ح ْم ً‬
‫املوارنة‪ ،‬وثبت لهؤالء أن احلرب تسير في مصلحة خصومهم‪ ،‬وأن‬
‫اجلبهة امل��ارون�ي��ة ه�ش��ة‪ ،‬مفككة؛ إذ ك��ان رج��ال ال��دي��ن امل��وارن��ة في‬
‫جانب‪ ،‬واإلقطاعيون في جانب آخ��ر‪ ،‬ناهيك بتعدد اخلالفات بني‬
‫الزعامات املارونية سارع املوارنة إلى السلطات العثمانية‪ ،‬والقناصل‬
‫األوروبيني‪ ،‬خاصة القنصل الفرنسي‪.‬‬

‫أس�ف��رت احل��رب ع��ن موافقة البطريرك امل��ارون��ي على إبعاد‬


‫األمير بشير الصغير عن احلُكم‪ ،‬على أن يحل محله األمير بشير‬
‫الكبير (تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪ ،)1841‬األم��ر ال��ذي ت��رك انطباعاً‬

‫‪130‬‬
‫سيئاً ل��دى القنصل اإلنكليزي عن رج��ال الدين امل��وارن��ة‪ .‬ولكن‪ ،‬لم‬
‫يصغِ العثمانيون إل��ى رغبة البطريرك‪ .‬وانتهزوا مِ حنته‪ ،‬فقبضوا‬
‫عليه‪ ،‬لدى مغادرته «دير القمر» إلى بيروت‪ ،‬وأرسلوه إلى اآلستانة‪.‬‬
‫بينما كلّف الباب العالي مصطفى باشا‪ ،‬بأن يتولّى مهمة إعادة األمن‬
‫إلى نِصابه‪ ،‬والعمل على حتقيق هدف العثمانيني‪ ،‬إنهاء حُ كم بيت‬
‫شهاب‪.‬‬

‫كانت مهمة مصطفى باشا صعبة‪ ،‬وواجهت ظروفاً معقدة‪ .‬بل‬


‫إن جنوده أنفسهم‪ ،‬أضافوا إلى املشكلة تعقيداً آخر؛ إذ إن أوضاعهم‬
‫ال عمّا أشيع من أن القوات العثمانية‪،‬‬‫االقتصادية‪ ،‬كانت متردية‪ ،‬فض ً‬
‫ما جاءت إال لتشد أزر الدروز‪ ،‬ولتوجِّ ه الضربات إلى املوارنة‪ .‬وكان‬
‫قد أ ُشيع‪ ،‬من قبْل‪ ،‬أن سليم باشا‪ ،‬وال��ي صيدا‪ ،‬وزع السالح على‬
‫الدروز واملوارنة‪ ،‬ليؤجِّ ج املوقف‪ ،‬حتى يثبِت للعالَم‪ ،‬أن احلُكم التركي‪،‬‬
‫هو املالئم لهذه املنطقة‪ ،‬التي ال يعرف أهلها كيف يتولون أمورهم‬
‫بأنفسهم‪ .‬ولكن األمور في لبنان تفاقمت‪ ،‬حتى استعصى على سلطة‬
‫واحدة‪ ،‬أن تنفرد مبعاجلتها‪.‬‬

‫‪ - 3‬العالقة التاريخية بني املوارنة وفرنسا‬

‫أسخطت احلرب األهلية الدوائر الفرنسية‪ ،‬احلكومية والشعبية‪،‬‬


‫إذ رأتها حرب إبادة‪ ،‬يشنها املتعصبون ضد املوارنة‪ ،‬أصدقاء فرنسا‪،‬‬
‫وتوالت على الفرنسيني استنجادات املوارنة‪ ،‬وتقارير قنصلهم‪ ،‬حتثهم‬
‫على عمل إيجابي‪ ،‬ينقذ املوارنة من اإلبادة‪ .‬أما صورة الدروز‪ ،‬لدى‬
‫الفرنسيني‪ ،‬على اختالف مستوياتهم‪ ،‬فكانت سيئة‪ ،‬ومشوَّهة‪.‬‬

‫وحفاظاً على مكانتها بني املوارنة‪ ،‬وحرصاً على كرامتها؛ إذ‬


‫إن هزميتهم‪ ،‬توحي بأنها هزمية فرنسا في الشام عمدت احلكومة‬

‫‪131‬‬
‫الفرنسية إلى إرسال وحدات من بحْ ريتها إلى السواحل اللبنانية‪.‬‬
‫وما إن وصلت‪ ،‬حتى اجتاحت املوارنة موجة من الفرح‪ .‬ورُفع العل َم‬
‫الفرنسي فوق بعض األدي��رة‪ .‬ووزع��ت القنصلية الفرنسية السالح‬
‫عليهم‪ ،‬بكثافة‪ .‬وب��ذل��ك‪ ،‬أعلن الفرنسيون انحيازهم الكامل إلى‬
‫املوارنة‪ ،‬ففقدوا ال��دور الذي كان من املمكِ ن أن ي��ؤدوه في التوفيق‬
‫بني املتنازعني‪ .‬بينما انزعج الدروز والعثمانيون واإلجنليز من هذه‬
‫اإلج���راءات‪ ،‬وم��ن ص��داه��ا ب�ين امل��وارن��ة‪ ،‬حتى وص��ل الضيق ببعض‬
‫اإلنكليز‪ ،‬أن سعوا إلى عزل البطريرك‪ .‬ولكنهم جتنبوا هذه اخلطوة‪،‬‬
‫لمِ ا كان سيترتب عليها من تعقيدات جديدة‪ .‬وكان طبيعياً‪ ،‬في مواجَ هة‬
‫هذه التطورات‪ ،‬أن ي��زداد التقارب ال��درزي اإلنكليزي‪ ،‬ال��ذي انتقل‬
‫إلى مرحلة جديدة من التخطيط والتنسيق‪ ،‬إذ توصل الطرفان‪ ،‬في‬
‫أيلول‪/‬سبتمبر ‪ ،1841‬إلى تفاهم‪ ،‬قوامه‪:‬‬

‫‪ - 1‬أن يدافع اإلنكليز عن مصالح الدروز‪.‬‬

‫‪ - 2‬أن ي�ت�ع�ل��م أب��ن��اء ال � ��دروز ف��ي امل �ع��اه��د اإلن �ك �ل �ي��زي��ة‪ ،‬في‬
‫إنكلترا‪.‬‬

‫‪ - 3‬أن تطلق حرية املبشِّ رين البروتستانت ف��ي العمل‪ ،‬في‬


‫املناطق الدرزية‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬عادت اإلم��ارة إلى سياسة احمل��اور‪ ،‬ولكن بشكل أشد‬


‫خطراً‪:‬محور درزي إنكليزي‪ .‬ومحور ماروني فرنسي‪ .‬أما العثمانيون‪،‬‬
‫فكانوا يحاولون التمسك بالشرعية‪ ،‬مُدَّ عني أنهم فوق احملاور‪ .‬ولكن‬
‫قدرتهم على التفوق‪ ،‬كانت محدودة‪ ،‬بل كانوا يقدِ مون على خطوات‬
‫كفيلة‪ ،‬ال بتعقيد امل��وق��ف أمامهم فحسب‪ ،‬ب��ل بإضعافهم ع��ن حل‬
‫القضية‪ ،‬بطريقة أو بأخرى‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫رأت السلطات العثمانية‪ ،‬في تلك التطورات‪ ،‬فرصتها لفرض‬
‫نظام احلكم املباشر على اجلبل‪ ،‬على أساس أنه يحُ ول دون عودة‬
‫االقتتال الطائفي‪ .‬فعقد مصطفى باشا اجتماعاً‪ ،‬حضره زعماء‬
‫لبنان‪ .‬استعرض فيه النكبات‪ ،‬التي أمل ّت بالبالد‪ ،‬خالل حكم البيت‬
‫الشهابي‪ ،‬وأعلن إنهاء حُ كم الشهابيني‪ .‬وتال فرماناً‪ ،‬يعهد باحلكم‬
‫إلى عمر باشا النمساوي‪.‬‬

‫قابل الدروز اإلجراءات العثمانية بالترحيب والرضا‪ ،‬وزادهم‬


‫ال لها‪ ،‬أن احلاكم اجلديد‪ ،‬قد اعتنق اإلس�لام‪ .‬بينما امتعض‬ ‫تهلي ً‬
‫املوارنة‪ ،‬ألن اإلكليروس املاروني‪ ،‬كان متمسكاً بأن يحكم اجلبل أمير‬
‫مسيحي‪ ،‬وأن األمير بشيراً الكبير‪ ،‬هو املالئم لهذا احلكم؛ إذ إنه‬
‫يستطيع أن يفرض كلمته‪ ،‬على ما كان يعتقده املوارنة‪ ،‬على اإلمارة‬
‫كلها‪ .‬وتركزت مهمة عمر باشا النمساوي في األهداف التالية‪:‬‬

‫‪ - 1‬ال �ق �ض��اء ال �ت��ام ع �ل��ى ف �ك��رة ع ��ودة ال �ب �ي��ت ال �ش �ه��اب��ي إلى‬


‫ا حلُكم‪.‬‬

‫‪ - 2‬إقناع األط��راف املتنازعة كافة‪ ،‬بقيمة احلُكم العثماني‬


‫ووضع البطريرك املاروني أمام األمر الواقع‪.‬‬
‫ْ‬ ‫املباشر‪،‬‬

‫‪ - 3‬إرضاء الزعامات الدرزية‪.‬‬

‫‪ - 4‬إرضاء اإلقطاعيني املوارنة‪.‬‬

‫ح��رص احل��اك��م اجل��دي��د ع�ل��ى أن يكسب ال ��دروز إل��ى جانبه‪.‬‬


‫فأعاد إليهم أموالهم وأراضيهم‪ ،‬وبعض نفوذهم‪ .‬كما سعى ألن يثبت‬
‫لكافة اجلهات املعنية بأوضاع لبنان‪ ،‬أن حُ كمه‪ ،‬أي احلُكم العثماني‬
‫املباشر‪ ،‬هو املقبول من األهالي‪ .‬فحثهم على توقيع عريضة بهذا‬

‫‪133‬‬
‫املعنى‪ ،‬وأنهم يرغبون في تثبيت عمر باشا في احلُكم‪.‬‬

‫ونشط م�لاّك األراض��ي ف��ي جمع التوقيعات‪ .‬وإزاء معارضة‬


‫البطريرك املاروني‪ ،‬وإكليروس الكنيسة املارونية‪ ،‬عمد عمر باشا إلى‬
‫الوعد والوعيد‪ ،‬للحصول على توقيعات املوارنة‪ .‬حتى إن بطريركهم‪،‬‬
‫شعر بأن حياته‪ ،‬قد أصبحت في خطر‪ .‬ونصحه القنصل الفرنسي‬
‫باحلذر مما يدبّره له عمر باشا‪ ،‬ففرّ‪ ،‬عام ‪ ،1842‬إلى معقل منيع‬
‫في اجلبل‪.‬‬

‫غير أن عالقات عمر باشا احلسنة‪ ،‬باجلانب الدرزي‪ ،‬لم تدم‬


‫طويالً؛ فإذا به يستعدي الدروز‪ ،‬إلى جانب عدائه للموارنة‪ .‬والواقع‪،‬‬
‫أن الظروف واملالبسات‪ ،‬التي أدت إلى تصادم الدروز وعمر باشا‪ ،‬ال‬
‫تزال غامضة‪ .‬ولعل من أسبابها ما يلي‪:‬‬

‫أ ‪ -‬ال ش��ك أن العثمانيني ك��ان��وا يعملون ع�ل��ى التحكم في‬


‫أمور الطائفتني‪ ..‬ولكن زعماء الدروز‪ ،‬استذكروا جتربة‬
‫سابقة‪ ،‬عندما دفعهم العثمانيون إلى مهاجمة املوارنة‪،‬‬
‫تنصلوا من املؤامرة‪.‬‬
‫عام ‪ .1841‬وبعد أن انتهت املعارك‪ّ ،‬‬
‫فإذا أرادوا تكرار هذا العمل؛ وكان الدروز يودّون تكراره‪،‬‬
‫فعلى العثمانيني‪ ،‬أن يضعوا في يد الـدروز فرمانـاً بذلك‪،‬‬
‫حتى ال يتحمل الدروز‪ ،‬وحدهم‪ ،‬وزر هذا العمل‪ .‬وما كان‬
‫العثمانيون ليوافقوا على الطلب الدرزي‪.‬‬

‫ب ‪ -‬حاول عمر باشا إرغام الدروز على إعادة ما سبق أن نهبوه‬


‫من املوارنة‪ ،‬خالل احلرب األهلية األولى‪ .‬ولكنهم ه ّددوه‬
‫بأنهم سيفشون سر التواطؤ‪ ،‬بينهم وبني العثمانيني‪ ،‬عام‬
‫‪ ،1841‬ضد املوارنة‪ ،‬إذا استمر في هذه السياسة‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫ج ‪ -‬أثيرت قضية الهوية الدينية للدروز‪ ،‬إذ كان العثمانيون‬
‫يرون أنهم مسلمون‪ ،‬بينما كان الدروز يرون أنهم أصحاب‬
‫عقيدة خاصة‪ .‬ودار جدل وضغط لتأكيد إسالم الدروز‪،‬‬
‫األم��ر ال��ذي جعل ه��ؤالء يوجسون خيفة م��ن وراء ذلك‪،‬‬
‫فازدادت الهوة عمقاً‪ ،‬بينهم وبني عمر باشا‪.‬‬

‫ومما يذكر أن األهداف العثمانية الرئيسية‪ ،‬كانت غير مقبولة‪،‬‬


‫ال لدى املوارنة‪ ،‬وال لدى الدروز‪ ،‬وال سيما منها فرض احلكم املباشر‪،‬‬
‫ال��ذي يسلب الطرفني‪ ،‬ال��درزي وامل��ارون��ي‪ ،‬الكثير م��ن امتيازاتهما‬
‫وسلطاتهما‪ ،‬ويحُ ول دون أن يحقق امل��وارن��ة تفوّقهم ال��واع��د‪ ،‬ودون‬
‫أن يستعيد الدروز تفوّقهم السابق‪ .‬وهكذا كانت األطراف الثالثة‪،‬‬
‫تتنافس ف��ي ش��يء واح��د‪ :‬اليد العليا ف��ي أم��ور ال�ب�لاد‪ .‬ومِ �ث��ل هذا‬
‫التنافس‪ ،‬في مِ ثل تلك الظروف‪ ،‬ال يحسمه سوى السالح‪.‬‬

‫استخدم عمر باشا اخلديعة‪ ،‬وسيلة للقبض على كبار زعماء‬


‫ال��دروز‪ ،‬وجنح في ذل��ك‪ .‬ولكن أحدهم‪ ،‬وهو يوسف عبد امللك‪ ،‬لم‬
‫يقع في الفخ‪ ،‬فتولّى قيادة الثورة ضد العثمانيني‪ .‬وجنح في أن يثير‬
‫النفوس‪ ،‬مبا كان يردّده‪ ،‬وينشره‪ ،‬على أوسع نطاق‪ ،‬من أن العثمانيني‬
‫ينوون نزع سالح اجلبل‪ ،‬متهيداً لسَ وق الشباب إلى اجلندية العثمانية‬
‫الرهيبة‪ .‬وازدادت ثورة دروز لبنان ح ّدة‪ ،‬على أثر انضمام دروز حوران‬
‫إليهم‪ ،‬بقيادة شبلي العريان (تشرين األول‪/‬أكتوبر ‪ ،)1842‬الذي‬
‫عُرف بشدته وصالبته‪ ،‬خالل الثورة الدرزية على احلكم املصري‪.‬‬
‫واشترط الدروز على العثمانيني‪ ،‬إذا أرادوا جتنّب التصادم‪ :‬إطالق‬
‫املعتقلني من زعماء ال��دروز‪ .‬وع �زْل عمر باشا النمساوي‪ .‬وإعفاء‬
‫الدروز من اجلندية‪ .‬وامتناع السلطات العثمانية عن جمْع السالح‬
‫منهم‪ .‬وهي مطالب لم يكُن من املمكِ ن تنفيذ معظَ مها؛ إذ رأى فيها‬
‫العثمانيون تعارضاً م��ع اخل��ط السياسي العثماني ال�ع��ام‪ .‬وهكذا‪،‬‬

‫‪135‬‬
‫أصبح العثمانيون اخلصم املشترك لكلٍّ من الدروز واملوارنة‪ .‬بيد أن‬
‫اخلطر املشترك‪ ،‬لم ميكِ نه حمْلهما على التضامن في وجْ ه اآلستانة‪،‬‬
‫على غرار ما فعلوه عام ‪ ،1840‬إذ كانت خالفاتهما قد استحكمت‪،‬‬
‫بل رمبا أمسى اخلصام املاروني الدرزي أشد من اخلصام املاروني‬
‫العثماني‪ .‬ولم يكن ق��ادراً على احل ّد من هذا اخلصام‪ ،‬سوى قبول‬
‫الدروز بتولي حاكم مسيحي اإلمارة اللبنانية‪ ،‬وهو ما كانوا يرفضونه‬
‫متاماً‪.‬‬

‫خاض الدروز املعركة‪ ،‬وحدهم‪ .‬وشن العثمانيون عليهم حملة‬


‫عنيفة‪ ،‬ضربت معاقلهم في «املختارة» و»بعقلني» و»جديدة الشوف»‬
‫وغيرها‪ .‬وأحرقت ودمرت عدداً من قراهم‪ .‬وعلى الرغم من ذلك‪،‬‬
‫ص�م��د ال� ��دروز ض��د ق ��وات ع�م��ر ب��اش��ا ال �ن �م �س��اوي‪ ،‬ح�ت��ى ي�ئ��س من‬
‫الوصول إلى نصر حاسم‪ .‬وشرع اإلنكليز ينتقدون‪ ،‬بشدة‪ ،‬إجراءات‬
‫العنف ت�ل��ك‪ ،‬ف��ي ال��وق��ت ال��ذي ك��ان فيه س�ف��راء ال��دول الكبرى في‬
‫اآلستانة‪ ،‬يتباحثون مع الباب العالي في نظام حُ كم للبنان‪ ،‬يتالءم‬
‫وضعه‪ ،‬ومع األهداف األوروبية‪ .‬وأخيراً‪ ،‬عزل العثمانيون عمر‬ ‫مع ْ‬
‫باشا النمساوي‪ ،‬وسعى الباب العالي وسفراء الدول األوروبية‪ ،‬إلى‬
‫تطبيق نظام القائمقاميتَني‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫َ‬
‫القائمقاميتني‬ ‫نظام‬

‫واحلرب األهلية الثانية (‪)1845 - 1842‬‬

‫منذ انسحاب القوات املصرية من الشام‪ ،‬وما أعقب ذلك من‬


‫حرب أهلية‪ ،‬وال��دول األوروبية الكبرى دائبة في إيجاد نظام حُ كم‬
‫للبنان‪ ،‬يستعيد احلكم العثماني املباشر‪ ،‬ويحقق رغبتَي الطرفني‪،‬‬
‫الدروز واملوارنة‪ ،‬ويتماشى مع أهداف الدول الكبرى‪ ،‬في املنطقة‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬وجدت الدولة العثمانية نفسها أمام حتالف أوروبي‪ ،‬يعمل‬
‫على فرض حل عليها‪ ،‬وإ ْن اختلفت الدول األوروبية في كيفية هذا‬
‫احل��ل‪ ،‬مم��ا أدى إل��ى ظ�ه��ور ال�ع��دي��د م��ن امل �ش��روع��ات واملشروعات‬
‫املضادّة‪ ،‬ومن أبرزها ما قدّ مه العثمانيون والفرنسيون والنمساويون‪.‬‬
‫أمّا املسؤولون اإلنكليز‪ ،‬فكانوا قد كوَّنوا فكرة معيّنة عن نظام احلُكم‪،‬‬
‫املالئم للبنان وللمصالح البريطانية‪ .‬ولكنهم سعوا ألن يظهر هذا‬
‫وضع «اجلماعة األوروبية»‪ .‬وبذلك‪ ،‬تكون القضية‬ ‫النظام‪ ،‬وكأنه من ْ‬
‫ال دولياً‪ ،‬رسمياً‪.‬‬ ‫اللبنانية‪ ،‬قد أخذت شك ً‬

‫‪137‬‬
‫وض �ع��ت ال�س�ل�ط��ات ال�ع�ث�م��ان�ي��ة‪ ،‬أم ��ام س �ف��راء ال ��دول الكبرى‪،‬‬
‫مشروعاً‪ ،‬ال يخرج عن األساليب التقليدية‪ ،‬التي كانت تلجأ إليها‬
‫اآلستانة‪ .‬إذ جعل لبنان‪ ،‬كلية‪ ،‬حتت احلُكم العثماني املباشر‪ ،‬وأصبح‪،‬‬
‫مبوجبه‪ ،‬تابعاً لوالي صيدا‪ .‬ولكن السفراء األجانب‪ ،‬رفضوا املشروع‬
‫العثماني‪ ،‬جملة وتفصيالً؛ إذ إنهم كانوا ضد عودة احلُكم العثماني‬
‫املباشر إلى لبنان؛ ورمبا كان هذا االجتاه‪ ،‬هو الشيء الوحيد‪ ،‬الذي‬
‫لم يختلف فيه سفراء الدول الكبرى‪.‬‬

‫وقدّ م الفرنسيون مشروعاً‪ ،‬يُ َع ّد‪ ،‬هو اآلخر‪ ،‬رجوعاً بأوضاع لبنان‬
‫إلى ما كانت عليه‪ ،‬قبْل وقوع أحداث ‪ .1841‬إذ تبنّى هذا املشروع‬
‫وجهة نظر البطريرك املاروني‪ ،‬إلى ح ّد كبير‪ ،‬خاصة رغبته في أن‬
‫يحكم اجلبل كله أمير مسيحي‪ ،‬على نحو ما كان عليه احلال‪ ،‬أيام‬
‫األمير الشهابي‪ ،‬بشير الثاني الكبير‪ .‬غير أن احلكومة البريطانية‪،‬‬
‫رفضت املشروع الفرنسي؛ ألنها كانت ضد عودة الشهابي الكبير‪،‬‬
‫من جهة‪ ،‬وألن الدروز‪ ،‬أصدقاء بريطانيا‪ ،‬ال يقبَلون أن يتولى عليهم‬
‫ال عن معارضتهم الشديدة لعودة الشهابيني إلى‬ ‫حاكم مسيحي‪ ،‬فض ً‬
‫احلكم‪.‬‬

‫وكان األمير ميترينخ‪ ،‬وزير خارجية ومستشار النمسا‪ ،‬صاحب‬


‫م�ش��روع مبنيّ على النظرة الواقعية إل��ى لبنان‪ ،‬ق��وام��ه االعتراف‬
‫باحلقيقة الطائفية في هذا البلد‪ ،‬إذا أريد التوصل إلى نظام حُ كم‪،‬‬
‫يكون مقبوالً من الطرفني املتنازعَ ني‪ ،‬املوارنة والدروز‪ ،‬في إطار من‬
‫االعتراف بالسيادة العثمانية‪ .‬فدعا املستشار النمساوي إلى تقسيم‬
‫اجلبل‪ ،‬بإنشاء وحدتَني إداريتَني‪ ،‬قائمقاميتَني‪ .‬إحداهما درزية‪ ،‬في‬
‫نصفه اجلنوبي‪ ،‬ويحكمها حاكم درزي‪ .‬والثانية مارونية‪ ،‬حتت حاكم‬
‫ماروني‪ ،‬في النصف الشمالي من اجلبل‪ .‬وقد حصل هذا املشروع‬

‫‪138‬‬
‫على موافقة الدول الكبرى (‪ 15‬أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪ .)1842‬و ُع ّد ذلك‬
‫نصراً كبيراً للدبلوماسية األوروبية على الباب العالي‪ .‬وكان املشروع‬
‫النمساوي‪ ،‬في األساس‪ ،‬مشروعاً بريطانياً؛ إذ عكس وجهة النظر‬
‫اإلنكليزية‪ ،‬على النحو التالي‪:‬‬

‫‪ - 1‬استبعد املشروع عودة آل شهاب إلى احلُكم‪ .‬فهو يغاير‬


‫ه��وى الفرنسيني واإلك �ل �ي��روس امل��ارون��ي‪ .‬بينما مياشي‬
‫وجهة النظر الدرزية‪ ،‬التي يعمل اإلنكليز على أخذها في‬
‫احلسبان‪.‬‬

‫‪ - 2‬أعطى املشروع املوارنة كياناً قائماً بذاته‪ ،‬في حني أعطى‬


‫الدروز‪ ،‬كذلك‪ ،‬كياناً قائماً بذاته‪ ،‬فجنّبهم الوقوع حتت‬
‫حكم أمير مسيحي‪.‬‬

‫‪ - 3‬اتَّهم جيزو‪ ،‬رئيس الوزارة الفرنسية‪ ،‬احلكومة النمساوية‪،‬‬


‫بأنها أخ��ذت بوجهة النظر اإلن�ك�ل�ي��زي��ة‪ ،‬لتكسب تأييد‬
‫بريطانيا لها‪ ،‬على السيادة على روما وإيطاليا‪.‬‬

‫‪ - 4‬استبعد املشروع دور روسيا من املشكلة اللبنانية‪ .‬لتزداد‬


‫حسرتها الناجمة عن خروجها من األزمة العثمانية املصرية‬
‫(‪ ،)1840 - 1831‬خاسرة‪ ،‬مع أنها هي التي بادرت إلى‬
‫مساعدة ال��دول��ة العثمانية ع��ام ‪1833‬؛ إذ إن بريطانيا‪،‬‬
‫قضت على هذه امل�ب��ادرة‪ ،‬وأغلقت املضايق العثمانية في‬
‫وجْ ��ه ال�س�ف��ن احل��رب �ي��ة‪ ،‬مم��ا ح��ال دون وص ��ول األسطول‬
‫الروسي إلى املياه الدافئة‪ ،‬وذل��ك من خالل فرضها على‬
‫اآلستانة اتفاقية املضايق‪ ،‬في ‪ 13‬متوز‪/‬يوليو ‪ .1841‬فلما‬
‫سعت روسيا إلى دور في حل املشكلة اللبنانية‪ ،‬بادعائها‬

‫‪139‬‬
‫املدافعة ع��ن طائفة ال��روم األرث��وذك��س‪ ،‬ل��م يكن مسعاها‬
‫فاعالً‪ .‬واضطرت إلى قبول مشروع القائمقاميتَني للجبل‪،‬‬
‫من دون ذكر للروم األرثوذكس‪ .‬وهذا ما كانت تريده الدول‬
‫األوروبية‪ ،‬وال سيما بريطانيا وفرنسا والنمسا‪ ،‬على أساس‬
‫أن طائفة الروم األرثوذكس‪ ،‬هي هدف البعثات التبشيرية‪،‬‬
‫الكاثوليكية والبروتستانتية‪ ،‬على ح ّد سواء‪.‬‬

‫قبلت السلطات العثمانية‪ ،‬على م�ض��ض‪ ،‬م��ا ي�ف��رض عليها‪.‬‬


‫ولكنها حاولت‪ ،‬حفاظاً على م��اء وجهها‪ ،‬أن تظهر وكأنها صاحبة‬
‫املشروع‪ ،‬بل منفِّذته‪.‬‬

‫‪ - 1‬تطبيق ن �ظ��ام ال�ق��ائ�م�ق��ام�ي� َ�ت�ين‪ ،‬وامل �ش��اك��ل الناجمة‬


‫عنه‬

‫عُهِ د بتطبيق نظام القائمقاميتَني إلى أسعد باشا‪ ،‬والي صيدا‬


‫اجلديد‪ .‬وكان عليه أن يعالج املسائل الرئيسية التالية‪:‬‬

‫أ ‪ -‬حدود القائمقاميتَني‪.‬‬

‫ب ‪ -‬اختيار قائمقام درزي‪ ،‬وآخر ماروني‪.‬‬

‫ج ‪ -‬اجل�ه��ة ال�ت��ي يتبعها امل��وارن��ة ف��ي القائمقامية الدرزية‪،‬‬


‫والدروز في القائمقامية النصرانية‪.‬‬

‫وك��ان حل املسألة األول��ى يسيراً‪ ،‬إذ ك��ان من املتفق عليه‪ ،‬أن‬


‫لا ب�ين القائمقاميتَني‪ .‬أما‬
‫يكون طريق ب�ي��روت دم�ش��ق‪ ،‬ح � ّداً ف��اص� ً‬
‫املسألة الثانية‪ ،‬فلم تخ ُل من الصعوبات‪ .‬إذ ك��ان اختيار قائمقام‬
‫درزي أش��د حرجاً من اختيار القائمقام امل��ارون��ي‪ ،‬النقسام الدروز‬

‫‪140‬‬
‫إلى جنبالطيني ويزبكيني‪ .‬ورأى أسعد باشا ض��رورة احلفاظ على‬
‫وحدة اجلبهة الدرزية‪ ،‬على أساس أنها األقرب إلى العثمانيني‪ ،‬وأنها‬
‫قبضتهم في ضرب املوارنة‪ ،‬املسؤولني‪ ،‬من وجهة نظر اآلستانة‪ ،‬عن‬
‫تدويل املشكلة اللبنانية‪ ،‬وفتْح أبواب البالد أمام التدخل األجنبي‪،‬‬
‫الذي ميكِ ن أن يضر بالعالم اإلسالمي‪ .‬وكان أكثر املرشحني ترجيحاً‬
‫للمنصب‪ ،‬هو سعيد بك جنبالط؛ إذ إن القنصل البريطاني‪ ،‬روز‪،‬‬
‫ال ع��ن أن أسعد باشا ي�ح� ّب��ذه‪ ،‬إال أن��ه ك��ان يخشى‬
‫مييل إل�ي��ه‪ .‬فض ً‬
‫أمرَين‪ ،‬إذا تولى سعيد بك منصب القائمقام‪:‬‬

‫أ ‪ -‬أن ينفصل ال�ي��زب�ك�ي��ون‪ ،‬وي�ص�ب�ح��وا أداة ف��ي ي��د خصوم‬


‫العثمانيني‪.‬‬

‫ب ‪ -‬أن يزداد تأثير القنصل البريطاني في مرشحه‪ ،‬الزعيم‬


‫اجلنبالطي‪ ،‬وفي توجيه مقدرات القائمقامية الدرزية‪.‬‬
‫وكانت السلطات العثمانية‪ ،‬جتهد في التقليل من التدخل‬
‫األجنبي في الشؤون الداخلية لوالياتها‪.‬‬

‫ال أحمد أرسالن‪،‬‬ ‫مفض ً‬


‫ّ‬ ‫ولهذا‪ ،‬استبعد أسعد باشا سعيد بك‪،‬‬
‫ب�ع��د ت��زك�ي��ة زع �م��اء ال� ��دروز ل��ه‪ ،‬م�ق��اب��ل ح�ف��اظ��ه ع�ل��ى امتيازاتهم‪،‬‬
‫مبقتضى اتفاق بينهما (كانون األول‪/‬ديسمبر ‪ .)1842‬وسرعان ما‬
‫أدى االخ�ت�لاف في صالحيات القائمقام‪ ،‬إل��ى تصادم وال��ي صيدا‬
‫والقائمقام اجلديد‪ .‬وما لبث أسعد باشا أن قبض على أحمد أرسالن‪.‬‬
‫ولم يطلقه‪ ،‬إ ّال بعد تدخّ ل قناصل الدول األوروبية الكبرى‪.‬‬

‫أما بالنسبة إلى منصب قائمقام املوارنة‪ ،‬فقد اخْ تِير له حيدر‬
‫أبي اللمع‪ ،‬الذي طاملا سعى عمر النمساوي إلى تعيينه نائباً له‪ .‬وواجه‬
‫القائمقام اجل��دي��د معارضة قوية م��ن اإلقطاعيني امل��وارن��ة‪ ،‬الذين‬

‫‪141‬‬
‫ا ّدع��وا أنه ال ميتلك الصفات اإلداري��ة‪ ،‬التي يتطلبها هذا املنصب‪.‬‬
‫بيد أن السبب الرئيسي ملعارضة اإلقطاعيني‪ ،‬دروزاً كانوا أم موارنة‪،‬‬
‫أنهم يرون في منصب القائمقام‪ ،‬وهم مُحقون‪ ،‬تهديداً لسلطاتهم‬
‫وامتيازاتهم‪ .‬وعلى أي حال‪ ،‬استطاعت جهود أسعد باشا‪ ،‬والقنصل‬
‫الفرنسي‪ ،‬بوريه‪ ،‬أن تقنع اإلقطاعيني املوارنة بتأييد القائمقام‪ ،‬من‬
‫ال نهائياً‪.‬‬
‫دون أن حتل املشكلة بينه وبينهم ح ً‬

‫وأخ �ي��راً‪ ،‬ش��رع أس�ع��د ب��اش��ا يعالج امل�س��أل��ة الشائكة‪ ،‬املتعلقة‬


‫بتحديد تبعية القُرى وامل��دن املختلطة‪ .‬وميكِ ن تقسيم هذه املشكلة‬
‫إلى قسمني‪ :‬األول‪ ،‬يتعلق بـ «دير القمر» و«بالد جبيل»‪ .‬والثاني‪ ،‬وهو‬
‫األشد خطراً‪ ،‬يتعلق باملناطق املختلطة‪ ،‬املتناثرة في القائمقاميتَني‪.‬‬

‫كانت دير القمر‪ ،‬في ذلك الوقت‪ ،‬تضم خمسة آالف نسمة‪،‬‬
‫منهم أربعة آالف ماروني واأللف الباقي من ال��دروز‪ .‬إال أنها كانت‬
‫ال تاريخياً ل �ل��دروز‪ ،‬وع��اص�م��ة ل�ه��م‪ ،‬وت�ق��ع ف��ي قلب منطقتهم‪.‬‬
‫معق ً‬
‫ولذلك‪ ،‬رأوا‪ ،‬يؤيدهم الكولونيل روز‪ ،‬أن إخراج هذه املدينة من دائرة‬
‫صالحيات قائمقام ال��دروز‪ ،‬يُ َع ّد حتدياً صارخاً للتقاليد‪ ،‬وللحقوق‬
‫الشرعية الدرزية‪.‬‬

‫أم��ا وج�ه��ة نظر امل��وارن��ة ف��ي ه��ذه القضية‪ ،‬فتتمثل ف��ي رأي‬
‫البطريرك املاروني‪ ،‬يؤيده القنصل الفرنسي‪ ،‬أنه ال ب ّد من احترام‬
‫األغلبية العددية املارونية في املدينة؛ إذ إن األمر الواقع أقوى من‬
‫أي حقوق تاريخية‪ .‬غير أنه إذا كان املوارنة قد أضيروا‪ ،‬في غير‬
‫مكان‪ ،‬على يد الدروز‪ ،‬خالل احلرب األهلية األولى (‪ ،)1841‬فإن‬
‫موارنة دير القمر‪ ،‬كانوا األكثر ِض��رراً‪ ،‬وإنه يجب حمايتهم من أي‬
‫تعديات‪ ،‬قد يتعرضون لها‪ ،‬وهم يعيشون في محيط درزي‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫وتوالت املشروعات‪ ،‬الفرنسية واإلنكليزية‪ ،‬حلل هذه القضية‪.‬‬
‫حتى أمكن التوصل‪ ،‬في أيلول‪/‬سبتمبر ‪ ،1844‬إلى حل وسط‪ ،‬على‬
‫يد أسعد باشا‪ ،‬والي صيدا‪ ،‬وخليل باشا‪ ،‬قائد األسطول العثماني‪،‬‬
‫الراسي أمام سواحل لبنان‪ ،‬واملكلف بتسوية مشكلته‪ .‬ويقضي هذا‬
‫احلل مبا يلي‪:‬‬

‫أ ‪ -‬متنح دي��ر القمر حكماً ذات �ي �اً‪ ،‬ي�ت��واله وكيل درزي وآخر‬
‫ماروني‪.‬‬

‫ب ‪ -‬تختار كل طائفة وكيلها‪.‬‬

‫ج ‪ -‬يتبع ال��وك�ي��ل ال ��درزي القائمقام ال ��درزي‪ ،‬ويتبع نظيره‬


‫املاروني القائمقام املسيحي‪.‬‬

‫أما بالنسبة إلى بالد جبيل‪ ،‬ذات األغلبية املسيحية‪ ،‬ومن أهم‬
‫ال عن ميناء جبيل‪ :‬البترون والفتوح والكورة فقد رأى‬ ‫توابعها‪ ،‬فض ً‬
‫أسعد باشا‪ ،‬وه��و امل�ع��روف بتفهمه ملطالب امل��وارن��ة‪ ،‬وميله إل��ى حل‬
‫مشاكلهم‪ ،‬أنها غير داخلة ضمن القائمقامية املسيحية‪ ،‬مستنداً في‬
‫ذلك إلى أن أمراء الشهابيني‪ ،‬كانوا يحصلون عليها بااللتزام من والي‬
‫صيدا‪ .‬وم��ن ثَ �مّ‪ ،‬يحق للوالي أن يستعيد سيطرته املباشرة عليها‪.‬‬
‫ف��أث��ار أس�ل��وب وال��ي ص�ي��دا‪ ،‬سخط امل��وارن��ة؛ إذ إن��ه سيفقدهم كتلة‬
‫بشرية‪ ،‬لها وزنها‪ ،‬ومنطقة اقتصادية مهمة‪ ،‬ومنفذاً بحرياً‪ ،‬ويظهرهم‬
‫مبظهر املستسلمني للسلطات العثمانية‪ .‬وتدخّ ل القناصل في املشكلة‪،‬‬
‫وتشاوروا فيها‪ ،‬حتى توصلوا إلى حل‪ ،‬مييل إلى مصلحة املورانة‪ .‬وهو‬
‫منح القائمقام املسيحي بالد جبيل‪ ،‬على نحو ما كان عليه احلال في‬
‫عهد األميرَين الشهابيَّني‪ ،‬يوسف وبشير الثاني الكبير‪.‬‬

‫كذلك‪ ،‬أ ُدخل بعض املناطق الساحلية‪ ،‬ذات األغلبية املارونية‪،‬‬

‫‪143‬‬
‫ضمن قائمقامية املوارنة‪ ،‬بإيعاز من الكولونيل اإلنكليزي روز‪ ،‬حرصاً‬
‫على أمالك صديقه‪ ،‬األمير بشير الثالث‪ ،‬الشاسعة‪ ،‬والواقعة حتت‬
‫حُ كم الدروز‪ ،‬الذين سيدمرونها‪ ،‬ال محالة‪.‬‬

‫ال لقضية‬
‫ال شام ً‬ ‫إال أن تنفيذ تلك االتفاقات‪ ،‬كان يتطلب ح ً‬
‫ال عن التوصل إلى تفاهم حول التعويضات‬ ‫املناطق املختلطة‪ .‬فض ً‬
‫الباهظة‪ ،‬التي يطالب املوارنة بأن يدفعها إليهم الدروز‪ ،‬لمِ ا أقدموا‬
‫عليه من تعديات عليهم‪ ،‬خالل احلرب األهلية األولى‪.‬‬

‫‪ - 2‬محاولة حل مشكلة املناطق املختلطة‬

‫في محاولة لوضع أساس مقبول حلل مشكلة املناطق املختلطة‪،‬‬


‫ت��وص��ل ال�ب��اب ال�ع��ال��ي‪ ،‬ف��ي ‪ 2‬أيلول‪/‬سبتمبر ‪ ،1844‬إل��ى الصيغة‬
‫التالية‪:‬‬

‫أ ‪ -‬أن تتبع املناطق املختلطة‪ ،‬في القائمقامية الدرزية‪ ،‬القائمقام‬


‫الدرزي‪.‬‬

‫ب ‪ -‬أن تتبع امل�ن��اط��ق املختلطة‪ ،‬ف��ي القائمقامية املسيحية‪،‬‬


‫القائمقام املسيحي‪.‬‬

‫ج ‪ -‬أن يكون لكل قرية مسيحية‪ ،‬في قائمقامية الدروز‪ ،‬وكيل‬


‫عنها‪.‬‬

‫د ‪ -‬أن يكون لكل قرية درزية‪ ،‬في القائمقامية املسيحية‪ ،‬وكيل‬


‫عنها‪.‬‬

‫هـ ‪ -‬أن يدفع ال ��دروز تعويضات إل��ى املسيحيني‪ ،‬ع��ن حوادث‬


‫‪.1841‬‬

‫‪144‬‬
‫رحّ ��ب القنصل اإلن�ك�ل�ي��زي بتلك ال�ت�س��وي��ة‪ .‬وأي��ده��ا‪ ،‬إل��ى ح ّد‬
‫ما‪ ،‬ال��دروز‪ .‬بينما رفضها‪ ،‬بشدة متفاوتة‪ ،‬قناصل فرنسا وروسيا‬
‫والنمسا‪ .‬وعارضها امل��وارن��ة‪ ،‬بشدة‪ ،‬بلغت ح ّد الدعوة اللجوء إلى‬
‫القوة‪ ،‬بل إن منهم من رأى أن ال خالص للموارنة في بالد الدروز‪،‬‬
‫إال بالهجرة إلى بيروت وكسروان‪.‬‬

‫ووس��ط ه��ذا التوتر الشديد‪ ،‬أخ��ذ القنصل الفرنسي‪ ،‬يوجني‬


‫ب��وج��اد‪ ،‬م��وق�ف�اً إل��ى ج��ان��ب امل�ع��ارض��ة امل��ارون �ي��ة‪ ،‬إذ ق��دَّ م مشروعاً‪،‬‬
‫يتعارض مع تسوية أيلول‪/‬سبتمبر ‪ ،1844‬واستهدف استبعاد أي‬
‫سيطرة درزية على املوارنة‪ ،‬في القائمقامية الدرزية‪ .‬كما استهدف‬
‫عودة الشهابيني إلى حُ كم «كل لبنان»‪ .‬وكان بوجاد يرى‪ ،‬أن الباب‬
‫العالي‪ ،‬الذي وافق على أن تكون مصر وراثية‪ ،‬في أ ُسرة محمد علي‬
‫باشا‪ ،‬ميكنه أن يوافق على توارث الشهابيني حُ كم لبنان‪ ،‬خاصة أن‬
‫جرم محمد علي‪ ،‬في نظر بوجاد‪ ،‬يفوق كثيراً جرم بشير الشهابي‬
‫الثاني الكبير‪ ،‬في حق السلطان‪.‬‬

‫وسعت الدبلوماسية الفرنسية إلى موافقة احلكومة البريطانية‬


‫ال عن موافقة أسعد باشا وخليل باشا عليه‪.‬‬
‫على مشروع بوجاد‪ ،‬فض ً‬
‫ولكن‪ ،‬تضافرت عدة عوامل على فشل املشروع الفرنسي‪:‬‬

‫أ ‪ -‬ك��ان ال�ب��اب ال�ع��ال��ي‪ ،‬وه��و ف��ي ص��دد إح�ك��ام قبضته على‬


‫والياته‪ ،‬يعارض عودة الشهابيني إلى احلُكم‪ ،‬على أساس‬
‫أن ذلك يشبه منح لبنان حكماً ذاتياً‪ ،‬لن يلبث أن يؤدي‬
‫إلى االستقالل‪.‬‬

‫ب ‪ -‬ك��ان��ت احل �ك��وم��ة ال�ب��ري�ط��ان�ي��ة غ �ي��ر م��واف �ق��ة ع �ل��ى عودة‬


‫الشهابيني‪ ،‬الذين سيصبحون‪ ،‬من وجهة نظرها‪ ،‬أدوات‬

‫‪145‬‬
‫طيّعة ف��ي ي��د القنصل الفرنسي‪ .‬إال أن�ه��ا ك��ان��ت توافق‬
‫على إعادة الوحدة إلى اجلبل‪ ،‬على أن تكون حتت حاكم‬
‫ع�ث�م��ان��ي‪ .‬وح ��اول ال�ف��رن�س�ي��ون إق�ن��اع�ه��ا بقيمة التمسك‬
‫ب��وح��دة اجل�ب��ل‪ .‬وعملوا على إرض��ائ�ه��ا‪ ،‬باستبعاد عودة‬
‫األمير بشير الشهابي الثاني الكبير‪ ،‬مرشحني لإلمارة‬
‫ابنه‪ ،‬األمير أميناً‪ .‬ولكن الشهابي املرشح‪ ،‬الذي كان قد‬
‫اعتنق املذهب الكاثوليكي‪ ،‬ما لبث أن ارت ّد إلى اإلسالم؛‬
‫وما كان املوارنة ليقبلوا أميراً مسلماً على كل لبنان‪.‬‬

‫ج ‪ -‬كان األمير حيدر أبي اللمع‪ ،‬قائمقام املوارنة‪ ،‬ضد عودة‬


‫الشهابيني إلى احلكم‪ .‬ولم يُفلح القنصل الفرنسي في‬
‫إغرائه باملناصب‪ ،‬ليثنيه عن موقفه‪.‬‬

‫د ‪ -‬ك��ان بعض األ ُسَ ��ر املسيحية اإلقطاعية القوية‪ ،‬تعارض‬


‫ع��ودة األمير بشير الشهابي الثاني الكبير إل��ى احلُكم‪،‬‬
‫وعلى رأسها آل اخلازن‪ ،‬وآل حبيش‪.‬‬

‫هـ ‪ -‬كان احلزب الدرزي اليزبكي‪ ،‬يؤيد عودة األُسْ رة الشهابية‬


‫إل��ى احل �ك��م‪ ،‬ول�ك�ن��ه ك��ان دون ن�ظ�ي��ره اجلنبـالطي قـوة‪،‬‬
‫املعارض‪ ،‬بشدة‪ ،‬لهذه العودة‪ ،‬واملتمسك بتنفيذ تسويـة‬
‫‪ 2‬أي�ل��ول‪/‬س�ب�ت�م�ب��ر ‪ .1844‬وك ��ان ال�ق�ن�ص��ل اإلنكليزي‪،‬‬
‫الكولونيل روز‪ ،‬يشد أَزْر اجلنبالطيني في موقفهم‪.‬‬

‫و ‪ -‬تشبث كلٌّ من الدروز واملوارنة مبوقفه‪ .‬ورفض املوارنة أن‬


‫يخضعوا للقائمقام الدرزي‪ .‬وتدفقت األسلحة واألموال‬
‫إل��ى امل��وارن��ة‪ ،‬وص��درت إليهم التعليمات امل�ش��ددة بوقف‬
‫التعامل مع الدروز‪ ،‬وإ ّال تعرّضوا للعقاب‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫وهكذا‪ ،‬وصلت األم��ور إلى طريق مسدود‪ .‬وانبرى الطرفان‪،‬‬
‫الدرزي واملاروني‪ ،‬يستعدان حلل اخلالفات بالقوة‪ .‬ولم يكن أي من‬
‫اجلبهتني كتلة واح��دة‪ ،‬متماسكة‪ .‬فقد كان ثمة خالفات داخ��ل كلٍّ‬
‫منهما‪ .‬وميكِ ن أن يحدد ذلك التفكك‪ ،‬على النحو التالي‪:‬‬

‫أ ‪ -‬ص� ��راع دم� ��وي ب�ي�ن أ ُسْ � ��رتَ� ��ي «ال� ��دح� ��داح» و«حبيش»‪،‬‬
‫املارونيتَني‪.‬‬

‫ب ‪ -‬توزُّع أ ُسْ رة آل اخلازن بني أكثر من تكتل داخلي‪.‬‬

‫ج ‪ -‬نزاع عميق‪ ،‬بني حيدر أبي اللمع واإلقطاعيني الدروز‪.‬‬

‫د ‪ -‬اقتتال الزعامات الدرزية‪ ،‬بني احلني واآلخر‪.‬‬

‫هـ ‪ -‬حتاسد اجلنبالطيني واليزبكيني‪.‬‬

‫وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬كان اندالع الصراع املسلح‪ ،‬بني املوارنة‬


‫والدروز‪ ،‬يخفف حدّ ة اخلالفات الداخلية‪ ،‬لتعلو صيحات التضامن‬
‫والتكاتف‪ ،‬ضد اخلطر األكبر‪ ،‬وال سيما لدى الدروز‪.‬‬

‫‪ - 3‬تصادم املوارنة وال��دروز‪ ،‬ودخول بقية الطوائف في‬


‫الصراع‬

‫عقد زعماء ال��دروز‪ ،‬في ‪ 2‬شباط ‪ /‬فبراير ‪ ،1845‬مؤمتراً‬


‫م��وس�ع�اً‪ ،‬ف��ي «امل �خ �ت��ارة»‪ ،‬خ�ط�ط��وا ف�ي��ه ل�ل�ح��رب‪ ،‬ح�ض��ره وك�ل�اء عن‬
‫اليزبكيني‪ .‬بينما استعدت امل��دن وال�ق��رى امل��ارون�ي��ة جلولة جديدة‪،‬‬
‫واتخذ املوارنة «عبيه» قاعدة عسكرية لهم‪.‬‬

‫وفي هذا الوقت احل��رِ ج‪ ،‬استدعت السلطات العثمانية أسعد‬

‫‪147‬‬
‫باشا من والية صيدا‪ ،‬رمبا بإيعاز من اإلنكليز‪ ،‬الذين كانوا يتهمونه‬
‫بامليل إلى جانب املوارنة‪ .‬بينما ذهب خليل باشا‪ ،‬في رحلة تفتيشية‪،‬‬
‫إلى طرابلس‪ .‬وبذلك‪ ،‬ابتعد هذان الرجالن‪ ،‬العارفان ببواطن األمور‪،‬‬
‫عن املنطقة‪ ،‬مما أحدث فراغاً‪ ،‬في هذا الظرف الدقيق‪ ،‬الذي كان‬
‫ال عسكرياً‪ ،‬ملنع التصادم املنتظر‪ .‬فلقد كانا يعتقدان‪ ،‬أنه‬
‫يتطلب تدخ ً‬
‫من الضروري استخدام القوة‪ ،‬لفرض احلل املالئم‪ .‬ولكن السلطات‬
‫العثمانية‪ ،‬واحلكومات األوروب �ي��ة‪ ،‬رفضت استخدام القوة لفرض‬
‫حل ما‪ ،‬مما أعطى الفرص الواسعة‪ ،‬ألن يلجأ الطرفان املتنازعان‪،‬‬
‫املوارنة والدروز‪ ،‬إلى السالح‪ ،‬في غياب قوة ردع مالئمة‪.‬‬

‫بينما املصادر‪ ،‬البريطانية والعثمانية‪ ،‬تتجه إلى حتميل املوارنة‬


‫مسؤولية البدء باحلرب‪ ،‬وأنهم أعلنوها حرباً صليبية‪ ،‬تهدف‪ ،‬في‬
‫ما تهدف إليه‪ ،‬إلى إعادة بشير الشهابي الثاني الكبير إلى احلُكم‪،‬‬
‫كانت األمور قد وصلت إلى ح ّد‪ ،‬ال ميكن السيطرة فيه على أي من‬
‫الطرفني‪ ،‬فاحلرب واقعة‪ ،‬ال محالة‪ .‬إذ هاجمت القوات املارونية‪،‬‬
‫ف��ي ن�ي�س��ان ‪ /‬أب��ري��ل ‪ ،1845‬وك ��ان ج��زء منها ب�ق�ي��ادة اإلكليروس‬
‫املاروني‪ ،‬بعض القُرى الدرزية‪ ،‬وأحرقتها‪ .‬فردّت القوات الدرزية‪،‬‬
‫هي األخرى‪ ،‬مبهاجمة القُرى واملدن املارونية‪ .‬وما كاد القتال يبدأ‪،‬‬
‫حتى دخل ال��روم األرث��وذك��س املعركة‪ ،‬إلى جانب ال��دروز‪ .‬وشجعهم‬
‫على ذلك القنصل الروسي‪ ،‬بازيل‪ .‬فقد كانوا يعتقدون‪ ،‬أن املوارنة‪،‬‬
‫لو كسبوا احلرب‪ ،‬وتسلطوا عليهم‪ ،‬فسيعملون على إرغامهم‪ ،‬بكافة‬
‫ال��وس��ائ��ل‪ ،‬على ال��دخ��ول ف��ي مذهبهم أو ف��ي الكاثوليكية‪ .‬وكذلك‪،‬‬
‫انضم إلى الدروز جماعات‪ ،‬من السُّ نة والشيعة‪.‬‬

‫وملا اشتد القتال‪ ،‬بدا واضحاً‪ ،‬أن كفة ال��دروز هي الراجحة‪.‬‬


‫وتوالت هزائم املوارنة‪ ،‬في «عبيه» و«دير القمر» و«جزين» و«زحلة»‬
‫و«ح��اص�ب�ي��ا»‪ .‬ف �ب��ادروا إل��ى استنجاد القناصل‪ .‬ول�ك��ن وج�ي��ه باشا‪،‬‬

‫‪148‬‬
‫وال��ي صيدا‪ ،‬رف��ض التدخل في ال�ص��راع‪ ،‬متهماً امل��وارن��ة بأنهم هم‬
‫املسؤولون عن نشوب القتال وانتشاره‪ ،‬في مت��وز ‪ /‬يوليو ‪.1845‬‬
‫وإذا كانت السلطات العثمانية راضية عما أصاب هذه املنطقة من‬
‫فوضى‪ ،‬ليثبت للدول األوروبية الكبرى‪ ،‬أن هؤالء الناس‪ ،‬ال ميكنهم‬
‫أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم‪ ،‬وأن احلكم العثماني املباشر‪ ،‬هو املالئم‬
‫لهم‪ ،‬إ ّال أنه كان ال بدّ لها أن تتدخل‪ ،‬لتوقف املذابح الطائفية‪ ،‬أوالً‪،‬‬
‫ولتفرض سيطرتها الفعلية املباشرة‪ ،‬ثانياً‪.‬‬

‫ولهذا بعث الباب العالي شكيب أفندي‪ ،‬أحد كبار املسؤولني‬


‫العثمانيني‪ ،‬لتنفيذ سياسة تؤدي إلى االستقرار‪ ،‬وأن يكون حاسماً‬
‫ف��ي م��ا يتخذه م��ن إج ��راءات‪ ،‬م��ع م��راع��اة م��ا ت��وص��ل إل�ي��ه األطراف‬
‫املعنيـون مـن حلول‪ ،‬خاصـة ما يتعلق بالقائمقاميتَني‪ .‬وبـذلك‪ ،‬يتنكر‬
‫شكيب أفندي لتسويـة ‪ 2‬أيلول‪/‬سبتمبر ‪.1844‬‬

‫وقد أعلن املبعوث العثماني‪ ،‬في متوز‪/‬يوليو ‪ ،1845‬خطته‪،‬‬


‫على النحو التالي‪:‬‬

‫أ ‪ -‬امتناع القناصل عن التدخل في شؤون البالد‪ ،‬على أساس‬


‫أنهم يتحملون جانباً رئيسياً من مسؤولية االضطرابات‬
‫ال��دم��وي��ة‪ ،‬وال�ع�ق�ب��ات ال �ع��دي��دة ال �ت��ي وض �ع��ت ف��ي طريق‬
‫الوصول إلى تسوية ما‪.‬‬

‫ب ‪ -‬االنصراف عن تسوية ‪ 2‬أيلول‪/‬سبتمبر ‪.1844‬‬

‫ج ‪ -‬سيطرت القوات العثمانية على اجلبل‪ ،‬وجتريدها سكانه‬


‫من األسلحة‪.‬‬

‫د ‪ -‬دفع جزء من التعويضات إلى املوارنة‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫هـ ‪ -‬إع� ��ادة ت�ن�ظ�ي��م اإلدارة واألم � ��ور ال �ق �ض��ائ �ي��ة ف��ي اجلبل‬
‫وتطويرها‪.‬‬

‫ومع أن الدروز واملوارنة والقنصل الفرنسي‪ ،‬قابلوا مجيء شكيب‬


‫أف�ن��دي‪ ،‬ال��ذي تدعمه قطع بحرية حربية عثمانية‪ ،‬بحذر شديد‪،‬‬
‫إ ّال أنه مضى في مهمته‪ ،‬فألقى القبض على القائمقامَني‪ ،‬الدرزي‬
‫واملاروني‪ ،‬ووزع التعويضات على بعض املؤسسات الكاثوليكية‪ ،‬ثم‬
‫قدَّ م مشروعه إلدارة اجلبل‪ ،‬ذلك املشروع الذي نسب إليه‪ .‬ويتضمن‬
‫مشروع شكيب أفندي القواعد الرئيسية التالية‪:‬‬

‫أ ‪ -‬أن يستمر نظام القائمقاميتَني‪.‬‬

‫ب ‪ -‬أن يكون لكل قائمقامية مجلس‪ ،‬على شاكلة املجالس‬


‫امل��وج��ودة ف��ي س��ائ��ر أن �ح��اء ال��دول��ة ال�ع�ث�م��ان�ي��ة‪ ،‬ملعاونة‬
‫القائمقام‪.‬‬

‫ج ‪ -‬أن يضم مجلس القائمقامية‪ :‬وكيل القائمقام‪ .‬قاضياً‬


‫مسلماً سُ � ِّن�ي�اً‪ .‬ق��اض�ي�اً درزي� �اً‪ .‬ق��اض�ي�اً م��ارون �ي �اً‪ .‬قاضياً‬
‫أرثوذكسياً‪ .‬قاضياً كاثوليكياً‪ .‬مستشاراً مسلماً سُ نِّياً‪.‬‬
‫مستشاراً درزياً‪ .‬مستشاراً مارونياً‪ .‬مستشاراً أرثوذكسياً‪.‬‬
‫مستشاراً كاثوليكياً‪ .‬مستشاراً شيعياً‪.‬‬

‫وقد حتددت مسؤولية كل مجلس‪ ،‬بتوزيع الضرائب املفروضة‬


‫على ال�ب�لاد‪ ،‬والنظر في شكاوى األه��ال��ي ودع��اواه��م‪ .‬وق��د وضعت‬
‫ترتيبات م�ح��ددة‪ ،‬للنظر ف��ي ه��ذه القضايا‪ .‬ويعكس ن�ظ��ام شكيب‬
‫أفندي الوقائع التالية‪:‬‬

‫أ ‪ -‬أنه خلق إدارة ذاتية‪ ،‬في قسمَي اجلبل‪ ،‬وإ ْن أبقى للسلطات‬

‫‪150‬‬
‫العليا العثمانية اليد العليا فيهما‪.‬‬

‫ب ‪ -‬أن��ه محاولة لعبور األزم��ة الطائفية‪ ،‬م��ن طريق مجلس‬


‫مختلط‪ ،‬يضم عناصر من مختلف الطوائف‪ ،‬فرض عليها‬
‫أن تعمل متعاونة فيما بينها‪.‬‬

‫ج ‪ -‬أن��ه ن �ظ��ام ي��رسّ ��خ ال�ط��ائ�ف�ي��ة‪ ،‬ع�ل��ى ال��رغ��م م��ن محاولته‬


‫التخفيف من حدّ ة األزمة الطائفية‪.‬‬

‫ال جذرياً‪.‬‬
‫د ‪ -‬أنه لم يحل مشكلة املناطق املختلطة ح ً‬

‫هـ ‪ -‬أن ه��ذا ال �ن��وع م��ن اإلدارة ك��ان ض��رب��ة ق��اس�ي��ة للنظام‬
‫اإلقطاعي‪ ،‬ونفوذ اإلقطاعيني‪.‬‬

‫ومهما كانت عيوب نظام شكيب أفندي‪ ،‬فإنه استطاع أن يعطي‬


‫للجبل فرصة واسعة من الهدوء‪ ،‬ونوعاً من االستقرار املؤقت؛ إذ‬
‫إن كافة األطراف‪ ،‬كانت تنظر إلى هذا النظام بعني الريبة والشك‪.‬‬
‫وما تقبّلها له إ ّال إلرهاقها ونفاد طاقاتها‪ .‬كذلك‪ ،‬ساعدت الظروف‬
‫الدولية على استقرار نظام شكيب أفندي‪ ،‬فترة طويلة‪ .‬فبعد مرور‬
‫ع��امَ�ين على تطبيقه‪ ،‬شهدت أوروب��ا سلسلة ث��ورات (‪ ،)1848‬في‬
‫فرنسا وأملانيا وإيطاليا والنمسا واملجر وبولندا‪ .‬ول��م تلبث حرب‬
‫القرم أن وقعت (‪ 28‬آذار‪/‬مارس ‪ 1 - 1854‬شباط‪/‬فبراير ‪،)1856‬‬
‫تلك احلرب التي دخلتها فرنسا وإنكلترا إلى جانب الدولة العثمانية‪،‬‬
‫ضد روسيا‪ ،‬فكان طبيعياً أن تخف ح ّدة التدخل األوروبي في شؤون‬
‫الدولة العثمانية‪ ،‬على األق��ل ريثما تنتهي تلك احل��رب؛ إذ كان من‬
‫مصلحة بريطانيا وفرنسا‪ ،‬أن تتهيأ للدولة العثمانية‪ ،‬خ�لال تلك‬
‫احلرب‪ ،‬أوسع الفرص لتجميع قواها‪ ،‬ضد روسيا‪ ،‬العدو املشترك‪.‬‬
‫فهدأ نشاط القناصل اإلنكليز والفرنسيني وسكنت‪ ،‬إل��ى ح� ّد ما‪،‬‬

‫‪151‬‬
‫التحريضات الصليبية‪ ،‬التي كان يتبناها العديد من األجانب‪ .‬ومن‬
‫ناحية أخرى‪ ،‬كان الدروز‪ ،‬واملسلمون بصفة عامة‪ ،‬قد رأوا أن احلرب‬
‫الروسية العثمانية‪ ،‬تتطلب منهم التكاتف مع الدولة العثمانية‪.‬‬

‫ولكن‪ ،‬بينما كانت قائمقامية الدروز أكثر هدوءاً‪ ،‬خالل حرب‬


‫القرم وفي أعقابها‪ ،‬كانت األمور تتطور‪ ،‬داخل القائمقامية املارونية‪،‬‬
‫تطوراً جديداً‪ ،‬أدى إلى ما عُرف بثورة الفالحني ضد اإلقطاعيني‬
‫(‪ ،)1858‬تلك الثورة التي ستؤدي إلى «ح��وادث الستني» أو مذابح‬
‫الستني‪ ،‬بني املسلمني واملسيحيني‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫احلرب األهلية الثالثة‬

‫ودور االنتماءات الطبقية‬

‫ثورة الفالحني وحوادث الستني (‪)1860 - 1858‬‬

‫كانت أحوال اجلبل‪ ،‬في القائمقاميتَني‪ ،‬هادئة‪ ،‬في أعقاب تطبيق‬


‫نظام شكيب أفندي‪ ،‬ومتتُّع القائمقامَني‪ ،‬املاروني والدرزي‪ ،‬بنوع من‬
‫ال جذرياً‪.‬‬
‫احلكم الذاتي‪ .‬ومع أن مشكلة املناطق املختلطة‪ ،‬لم حتَل ح ً‬
‫إال أن هذا احلكم الذاتي‪ ،‬أعطى اجلبل فترة من الراحة والهدوء‪،‬‬
‫ساعدت على منو اقتصاده‪ ،‬وأت��اح��ت فرصاً للتأمل في أوضاعه‪،‬‬
‫السياسية واالجتماعية‪ ،‬مما أسفر عن انحسار املشكلة‪ ،‬السياسية‬
‫والطائفية‪ ،‬إلى حني‪ ،‬وظهور التيارات االجتماعية واالقتصادية‪.‬‬

‫وق ��د ت �ع��رض��ت امل �ن �ط �ق��ة ل �ت �ط��ورات اق �ت �ص��ادي��ة م �ه �م��ة‪ ،‬خالل‬


‫خمسينيات القرن التاسع عشر‪ .‬إال أن هذه التطورات‪ ،‬كانت أكثر‬
‫وضوحاً في القائمقامية املسيحية‪ ،‬منها في القائمقامية الدرزية؛ إذ‬

‫‪153‬‬
‫كانت األولى أكثر تقدماً وانفتاحاً‪ ،‬واستطراداً‪ ،‬أكثر تأثراً بالتطورات‪،‬‬
‫االقتصادية واالجتماعية والسياسية‪.‬‬

‫كان نظام القائمقامية يضع احلُكم في يد القائمقام والديوان‬


‫(املجلس)‪ .‬ومب��وت القائمقام املاروني‪ ،‬حيدر أبي اللمع‪ ،‬تطلع إلى‬
‫املنصب اثنان من األ ُسْ ��رة عينها‪ ،‬هما بشير عساف وبشير أحمد‪.‬‬
‫واستطاع ثانيهما أن يفوز باملنصب‪ ،‬يدعمه القنصل الفرنسي‪ ،‬دو‬
‫ليسبس‪ .‬بينما كان القنصل اإلنكليزي‪ ،‬مور‪ ،‬يدعم بشير عساف‪.‬‬

‫شعر بشير أحمد بأن سلطاته‪ ،‬ستظل مقيدة‪ ،‬ما دام اإلقطاعيون‬
‫متمتعني بامتيازاتهم‪ .‬وشعر هؤالء‪ ،‬بدورهم‪ ،‬أن هذا النظام‪ ،‬يهدد‬
‫مكانتهم وسلطاتهم‪ .‬وبذلك‪ ،‬بدأ صراع بني الطرفني‪ ،‬كان يتبع الطرق‬
‫السلمية‪ ،‬أول األمر‪ ،‬عبْر رفْع الشكاوى إلى والي صيدا العثماني‪.‬‬
‫ال قوياً‪ ،‬ولم يكن آل اخلازن‪ ،‬كبرى األ ُسَ ر‬
‫ولكن بشير أحمد‪ ،‬كان رج ً‬
‫اإلقطاعية في ك�س��روان‪ ،‬بأقل منه صالبة‪ ،‬إذ كانوا يدافعون عن‬
‫مواقع أقدامهم‪ ،‬التي اهتزت‪ ،‬من قبْل‪ ،‬غير مرة‪ .‬ومبعنى آخر‪ ،‬ميثل‬
‫الصراع بني القائمقام واإلقطاعيني‪ ،‬ص��ورة من صور االنتقال من‬
‫احلُكم اإلقطاعي‪ ،‬إلى احلُكم الفردي املستبد‪ .‬وكان بشير أحمد‪،‬‬
‫ف�ع�لاً‪ ،‬م��ن احل�ك��ام الساعني إل��ى تركيز السلطة ف��ي أيديهم‪ ،‬وإلى‬
‫إشعار الرعية‪ ،‬أنه صاحب اليد العليا في احلكم واإلدارة‪.‬‬

‫وبحثاً عن قوة ضاربة‪ ،‬يستطيع كل من الطرفني استخدامها‪،‬‬


‫إلح��راج مركز اآلخ��ر‪ ،‬عمد القائمقام واإلقطاعيون إل��ى استخدام‬
‫الفالحني‪ .‬وبدا اإلقطاعيون في مكانة أقوى‪ ،‬بسبب كراهية الفالحني‬
‫القائمقام‪ ،‬لتش ُّدده في جمْع األموال األميرية منهم‪ ،‬في وقت كانت‬
‫فيه البالد تعاني أزمة اقتصادية‪ ،‬أثقلت كواهلهم‪ ،‬وزادت من تدهور‬
‫أوضاع اإلقطاعيني االقتصادية‪ ،‬في حني منت البورجوازية في املدن‬

‫‪154‬‬
‫واملوانئ‪ .‬ولهذا‪ ،‬اجته اإلقطاعيون إلى تعويض خسائرهم املادية‪ ،‬من‬
‫طريق زيادة الضغط على الفالحني‪ ،‬بل صادروا دخولهم احملدودة‪.‬‬

‫وإذا كان اإلقطاعيون قادرين‪ ،‬مبا كان لديهم من سلطات‪ ،‬على‬


‫حتريك الفالحني ضد القائمقام‪ ،‬بشير أحمد‪ .‬فقد كان القائمقام‪،‬‬
‫بدوره‪ ،‬يستطيع أن يحرك قطاعات‪ ،‬لها قدرتها‪ ،‬ضد اإلقطاعيني‪،‬‬
‫ال ما كان يعانيه الفالحون من جراء التقاليد اإلقطاعية‪ ،‬التي‬
‫مستغ ً‬
‫كان يتمسك بها اإلقطاعيون‪ ،‬ومن أهمها‪:‬‬

‫‪ - 1‬ت�ق��دمي ال�ه��داي��ا وال��هِ �ب��ات إل��ى اإلق�ط��اع�ي�ين‪ ،‬ف��ي املواسم‬


‫واألعياد‪.‬‬

‫‪ - 2‬الرسوم اإلضافية‪ ،‬التي يجبيها اإلقطاعيون من الفالحني‪.‬‬


‫وه��ي إن كانت مقبولة‪ ،‬قبْل القرن التاسع عشر‪ ،‬فإنها‬
‫أصبحت مرفوضة‪ ،‬لعدة تطورات حدثت في ذلك القرن‪،‬‬
‫وأه�م�ه��ا م�ب��دأ امل �س��اواة‪ ،‬ال��ذي طبقته اإلدارة املصرية‪،‬‬
‫وس��ارت عليه الدولة العثمانية‪ ،‬بإصدارها خط كلخانه‬
‫(‪ )1839‬واخلط الهمايوني (‪.)1856‬‬

‫‪ - 3‬أن ي�ك��ون ل�لإق�ط��اع��ي‪ ،‬وألُسْ ��رت��ه‪ ،‬ن��وع م��ن ال�س�ي��ادة على‬


‫الفالحني‪ ،‬قد تصل إلى ح ّد عالقة السيد بالتابع‪ ،‬وهو‬
‫ما لم يقبَله الفالحون‪ ،‬خالل تلك الفترة‪.‬‬

‫في هذه الظروف‪ ،‬أصبح الفالحون أدوات في يد القائمقام‬


‫واإلقطاعيني‪ ،‬لتحقيق أهدافهما اخلاصة‪ ،‬من دون مراعاة ملصالح‬
‫الفالحني‪ ،‬ال��ذي��ن س��اءت أوضاعهم االقتصادية‪ ،‬مم��ا حملهم على‬
‫إعادة النظر في دورهم‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫أدى اعتماد القائمقام واإلق�ط��اع�ي�ين‪ ،‬ف��ي منازعاتهما‪ ،‬على‬
‫الفالحني‪ ،‬إل��ى إش�ع��ار ه��ؤالء بقوّتهم‪ ،‬وبحقوقهم‪ ،‬التي كفلها لهم‬
‫ال�ق��ان��ون العثماني‪ :‬امل �س��اواة واحل��ري��ة االجتماعية‪ .‬وه �ك��ذا‪ ،‬بدأت‬
‫األمور تخرج من أيدي الطرفني املتنازعَ ني‪ ،‬وبدأت الثورة االجتماعية‬
‫تتأجج‪.‬‬

‫وأس �ف��ر االن �ف �ت��اح االق �ت �ص��ادي ع�ل��ى أوروب� ��ا‪ ،‬ع��ن من��و الطبقة‬
‫ال��ب��ورج��وازي��ة‪ ،‬وان �ت �ع��اش ب��ي��روت وب �ع��ض امل���دن ال �ص �غ �ي��رة‪ .‬ورأت‬
‫ه��ذه الطبقة ال�ب��ورج��وازي��ة الرأسمالية‪ ،‬املعروفة بعدائها الشديد‬
‫لإلقطاعيني‪ ،‬في نقمة الفالحني على ه��ؤالء‪ ،‬فرصة للقضاء على‬
‫االمتيازات اإلقطاعية‪ ،‬فبادرت إلى التعاون مع هؤالء الناقمني‪.‬‬

‫وال شك أن املستوى الثقافي‪ ،‬الذي بل َغته البورجوازية احلديثة‪،‬‬


‫كان من العوامل اجلوهرية‪ ،‬التي ساعدت على منو روح الثورة لدى‬
‫الفالحني؛ إذ كانت الثقافة الغربية قد انتشرت بني تلك البورجوازية‪،‬‬
‫ومن أبرز ممثليها‪ ،‬حينذاك‪ ،‬ناصيف اليازجي‪ ،‬وبطرس البستاني‪،‬‬
‫واجلمعيات‪ ،‬األدبية والفكرية‪ ،‬التي أخذت تظهر في املدن الرئيسية‪.‬‬
‫وم��ع أنها ل��م ت��د ُع إل��ى م�ب��ادئ ث��وري��ة‪ ،‬إال أنها نبّهت األذه��ان للقِ يم‬
‫اإلنسانية اجلديدة‪ ،‬التي حتترم اإلنسان‪ ،‬وتق ّدس حريته‪ ،‬وتنادي‬
‫مببدأ املساواة‪ ،‬على الطريقة الفرنسية‪.‬‬

‫وم ��ع ش �ع��ور ال �ف�لاح�ين ب �ق��درت �ه��م ع �ل��ى ال �ت �ح��رك‪ ،‬دف��اع��اً عن‬
‫مطالبهم‪ ،‬تهيّأ املناخ العام‪ ،‬لظهور نوع من القيادات‪ ،‬والتجمعات‬
‫القيادية‪ ،‬لتتولى مسؤولية ذلك التحرك‪ .‬ولقد سبق للفالحني أن‬
‫اختاروا وكالء عن كل قرية‪ .‬فكان ذلك سابقة حذا حذوها الثوار‬
‫الفالحون‪ ،‬عام ‪ .1858‬فاختارت زحلة شيخ شباب‪ ،‬وشكلت مجلساً‬
‫بلدياً‪ ،‬وامتنعت عن طاعة اإلقطاعيني اللمعيني‪ .‬ومثلها فعلت غزير‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫واستشرت الفكرة‪ ،‬حتى أصبحت احلركة في حاجة إلى قائد‪.‬‬

‫كان الفالحون قادرين على إفراز قيادة‪ ،‬حتاور اإلقطاعيني‪ .‬كذلك‪،‬‬


‫كانت البورجوازية الصغرى مستعدة لتقدمي الزعامة‪ ،‬التي تستطيع أن‬
‫تقف موقف الند أمام اإلقطاعيني‪ ،‬وحتظى‪ ،‬في الوقت عينه‪ ،‬باحترام‬
‫الفالحني‪ ،‬كزعامة صالح جرجس صفير‪ ،‬من عجلتون‪ ،‬وحبيب اخلوري‬
‫العقيقي‪ ،‬من كفرذبيان‪ .‬ولكن االنتماء الطبقي البورجوازي‪ ،‬جعل هذه‬
‫الزعامة معتدلة‪ ،‬وغير مستعدة لقيادة الثورة الفالحية إل��ى أقصى‬
‫مطالبها‪ ،‬بل آثرت احللول الوسط‪ .‬ومثل هذه الزعامة‪ ،‬ميكِ ن أن ينجح‬
‫في اجتاهاته املعتدلة‪ ،‬إذا ما وجد لدى خصومه اإلقطاعيني شيئاً من‬
‫اللني‪ ،‬والقدرة على تفهّم حقيقة األوضاع اجلديدة‪ .‬إال أن اإلقطاعيني‪،‬‬
‫شأنهم شأن غيرهم من األرستقراطية التقليدية‪ ،‬كانوا غير قادرين على‬
‫إدراك حقيقة التغير االجتماعي‪ ،‬ومتسكوا مبا يرونه حقوقاً موروثة‪،‬‬
‫مما أدى إلى دفْع احلركة الفالحية إلى التطرف‪ ،‬وإفراز زعامة فالحية‬
‫صعبة املراس‪ ،‬ال تعترف لإلقطاعيني بأي امتيازات‪ ،‬وتطالب بحقوق‬
‫الفالحني القانونية‪ ،‬بل ترى أن املمتلكات اإلقطاعية‪ ،‬هي حق من حقوق‬
‫الشعب‪ ،‬اغتصبها هؤالء اإلقطاعيون‪ .‬ولهذا‪ ،‬مهد فشل صالح جرجس‬
‫صفير وحبيب اخلوري العقيقي‪ ،‬في التوصل إلى تسوية معتدلة مع آل‬
‫اخلازن‪ ،‬على الرغم من اتساع نطاق الثورة الفالحية على اإلقطاعيني‪،‬‬
‫إذ شملت «ريفون» و«القليعات» و«عشقوت» و«داريا» و«جعيتا» و«غزير»‬
‫وغيرها مهد الطريق نحو انتقال زعامة احلركة إلى طانيوس شاهني‪،‬‬
‫من ريفون‪ ،‬وكان معروفاً بشدة عدائه للمشايخ اإلقطاعيني‪.‬‬

‫‪ - 1‬دور الكنيسة املارونية في حل األزمة‬

‫سعت الكنيسة املارونية‪ ،‬أو اإلكليروس املاروني‪ ،‬الذي كان على‬


‫رأسه‪ ،‬حينذاك‪ ،‬البطريرك بولس مسعد‪ ،‬إلى وضع ح ّد لألزمة بني‬

‫‪157‬‬
‫الفالحني واإلقطاعيني‪ ،‬من طريق التوصل إلى حل وسط‪ .‬لقد كان‬
‫الفالحون يتطلعون‪ ،‬فعالً‪ ،‬إلى اإلكليروس املاروني‪ ،‬ليكون وسيطاً‬
‫بينهم وبني اإلقطاعيني‪ .‬ولكن هؤالء تشبثوا مبا اعتادوا من سلطات‪،‬‬
‫ففشلت الوساطة‪ .‬وثمة من يرى أن اإلكليروس‪ ،‬كان مرتاحاً لتلك‬
‫الثورة الفالحية‪ ،‬ألنها ستقضي على زعامات البيوت القدمية‪ ،‬مما‬
‫يتيح للكنيسة االنفراد بالتوجيه السياسي للمنطقة‪ ،‬فتصبح مقدراتها‬
‫في يد اإلكليروس‪.‬‬

‫ك��ان رج��ال الدين امل��وارن��ة‪ ،‬أق��در على التفاهم مع الفالحني‪،‬‬


‫ملقاومة األ ُسْ ر اإلقطاعية ومناوأتها لهم‪ .‬وبدا من الطبيعي تعاطف‬
‫اإلكليروس مع الفالحني‪ .‬بل إن وقوف الكنيسة‪ ،‬خالل تلك األزمة‪،‬‬
‫ب�ين اإلقطاعيني وال�ق��ائ�م�ق��ام‪ ،‬بشير أح�م��د‪ ،‬يعني أن�ه��ا تسعى إلى‬
‫حتطيم اإلقطاع‪ ،‬إذ من مصلحتها أن تكون البالد حتت حكم واحد‬
‫مسيطر‪ ،‬وليس حتت قوى حاكمة متعددة‪ ،‬تعرّض املنطقة خلالفات‪،‬‬
‫حتدّ من نشاط اإلكليروس؛ فاملستقبل للحُ كم األكثر دميوقراطية‪،‬‬
‫والذي يراعي مصالح الفالحني‪ ،‬ويزيل معوّقات االتصال املباشر بني‬
‫الكهنوتيني والشعب(((‪.‬‬
‫وليس معنى هذا‪ ،‬أن الكنيسة املارونية‪ ،‬كانت راغبة في ثورة فالحية‪ .‬وإمنا هي تسعى إلى‬ ‫((( ‬
‫التوفيق بني الفالحني واإلقطاعيني‪ ،‬بشكل يحفظ للفالح حقوقه‪ ،‬ويبقي لألُسَ ر العريقة‬
‫نوعاً من التفوّق االجتماعي التقليدي‪ ،‬حتى ميكِ ن تطويق األزمة‪ ،‬واحليلولة دون انفجار‬
‫ثوري‪ ،‬ال ميكِ ن السيطرة عليه‪ ،‬واستطراداً‪ ،‬احلفاظ على متاسك اجلبهة املارونية‪ .‬ومع‬
‫أن وكالء الفالحني‪ ،‬كانوا أكثر استجابة جلهود اإلكليروس التوفيقية‪ ،‬فإن اإلقطاعيني‬
‫أخذوا على الكنيسة املارونية‪ ،‬أنها لم تعلن انحيازها الكامل إليهم‪ ،‬ناسية أن كثيراً من‬
‫ال عن أياديهم البيضاء عليها؛ إذ طاملا اضطلع آل‬‫ممتلكاتها‪ ،‬كانت بفضل ِهباتهم‪ ،‬فض ً‬
‫اخلازن بدور حُ ماة الكنيسة‪ .‬أما وقد وقعوا في ورطة‪ ،‬فعلى الكنيسة أن تنحاز إليهم‪،‬‬
‫اعترافاً بدورهم‪ .‬ولكن اإلكليروس املاروني‪ ،‬كان يدرك أن عصر اإلقطاع واإلقطاعيني قد‬
‫ولّى‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫ت��وال��ت االج��ت �م��اع��ات‪ ،‬ال �ت��ي ع �ق��ده��ا اإلك��ل��ي��روس م��ع وكالء‬
‫الفالحني‪ ،‬ومع اإلقطاعيني‪ .‬وعلى الرغم من أن مطالب الفالحني‬
‫ك��ان��ت متواضعة‪ ،‬فقد رفضها اإلق�ط��اع�ي��ون‪ .‬وإث��ر بعض احلوادث‬
‫املتفرقة بني اجلانبني‪ ،‬أدرك آل اخل��ازن وغيرهم من اإلقطاعيني‪،‬‬
‫خطر التكتل الفالحي الذي يواجههم‪ .‬فجمعوا صفوفهم‪ ،‬واتخذوا‬
‫من «غوسطا»‪ ،‬قاعدة لهم‪ ،‬متهيداً لشن هجوم على مَعاقِ ل الفالحني‪،‬‬
‫وعلى القُرى التي رفضت طاعتهم‪ .‬وأصبحت املواجهة العسكرية‬
‫أمراً‪ ،‬ال مف َّر منه‪ ،‬فبات التطرف من جانب «وكالء» القُرى هو طابع‬
‫احل��رك��ة ال�ف�لاح�ي��ة‪ .‬ومت � َّث��ل ذل��ك ف��ي ت��و ِّل��ي ط��ان�ي��وس ش��اه�ين قيادة‬
‫قطاعات مسلحة من الفالحني‪ ،‬استطاعت أن تطرد آل اخلازن من‬
‫كسروان‪ ،‬وأن تستولي على أراضيهم‪ .‬فدخلت األزمة‪( ،‬أواخر ‪1858‬‬
‫أوائل ‪ ،)1859‬في طور جديد‪.‬‬

‫وكان طانيوس شاهني‪ ،‬على الرغم مما نُعِ تَ به من عنف وقسوة‪،‬‬


‫على بيِّنة من بعض املبادئ‪ ،‬ذات الطابع الدميوقراطي‪ ،‬إذ كان يرى‬
‫أن الوقت قد حان ألن يكون «اجلمهور» هو صاحب الكلمة العليا في‬
‫البالد‪ ،‬وأن يرفع اإلقطاعيون‪ ،‬نهائياً‪ ،‬يدهم عن الفالحني‪.‬‬

‫ومن أهم الوثائق‪ ،‬التي تكشف طبيعة أهداف حركة الفالحني‪،‬‬


‫رسالة بعث بها بعض القُرى الثائرة إلى البطريرك‪ ،‬بولس مسعد‪،‬‬
‫في ‪ 17‬كانون الثاني‪/‬يناير ‪ ،1859‬حدد فيها الثوار مطالبهم‪ ،‬التي‬
‫عكست عدداً من الوقائع‪ ،‬من أهمها‪:‬‬

‫أ ‪ -‬إن الفكر الدميوقراطي‪ ،‬القائم على أساس املشاركة الشعبية‪،‬‬


‫كان واضحاً في أذهان الثوار‪ ،‬وخاصة املطالبة بوضع وكيل‪،‬‬
‫أو وكيل َني‪ ،‬للعمل إل��ى جانب امل��أم��ور‪ ،‬وامل�س��اواة واحلرية‪،‬‬
‫وإلغاء كافة الرسوم غير القانونية‪ ،‬أو اإلقطاعية‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫ب ‪ -‬إن الثوار كانوا معتدلني‪ ،‬إذ حافظوا على بعض امتيازات‬
‫املشايخ‪ .‬ولكنهم أصروا على أن واحداً فقط من األ ُسْ رة‬
‫اإلقطاعية‪ ،‬هو «امل��أم��ور»‪ .‬وأن��ه هو‪ ،‬وح��ده‪ ،‬يتمتع‪ ،‬بنوع‬
‫من االم�ت�ي��ازات‪ .‬والباقون تسري عليهم القوانني‪ ،‬التي‬
‫وضعتها الدولة‪.‬‬

‫ج ‪ -‬إن الفالحني اعترفوا بقيمة اإلصالحات العثمانية‪.‬‬

‫د ‪ -‬إن هذه الوثيقة‪ ،‬ق ِّدمت إلى البطريرك املاروني‪ ،‬اعترافاً‬


‫من زعماء الثوار‪ ،‬بأنه فوق املنازعات القائمة‪.‬‬

‫وعلى أي حال‪ ،‬فقد توصلت الكنيسة املارونية إلى اتفاق مع‬


‫الفالحني‪ ،‬أدى إلى عودة آل اخلازن إلى كسروان‪ ،‬ولكن بعد أن كانت‬
‫الضربة‪ ،‬التي وجِّ �ه��ت إل��ى سلطاتهم اإلقطاعية‪ ،‬قوية إل��ى درجة‪،‬‬
‫تهاوت معها‪ ،‬بسرعة‪ ،‬منذ ذل��ك التاريخ‪ ،‬بقايا النظام اإلقطاعي‪،‬‬
‫لتحل محله البورجوازية الرأسمالية احلديثة‪.‬‬

‫‪« - 2‬حوادث الستني» (‪)1860‬‬

‫أ ‪ -‬دور القوى الكبرى في إثارة الطائفية‬

‫م��ا ك ��ادت ث ��ورة ال �ف�لاح�ين ت�خ�ب��و‪ ،‬ح�ت��ى اس �ت �ع��رت ن��ار الفتنة‬


‫الطائفية‪ ،‬بني الدروز واملوارنة؛ إذ تبينَّ للدول األوروبية‪ ،‬أن الدولة‬
‫العثمانية أضعف من أن تقف في وجْ ه الضغوط املتصاعدة‪ ،‬سواء‬
‫من اخل��ارج أو من الداخل‪ .‬ول��وال بريطانيا وفرنسا‪ ،‬النهارت على‬
‫ي��د روس �ي��ا‪ ،‬خ�لال ح��رب ال�ق��رم (‪ .)1856 - 1854‬أم��ا السلطات‬
‫العثمانية‪ ،‬فسارعت إلى إص��دار اخلط الهمايوني (‪ ،)1856‬عساه‬
‫يرفع نُظُ مها إلى مستوى العصر‪ ،‬فتعامِ لها الدول األوروبية باحترام‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫إ ّال أن الضغوط األوروبية‪ ،‬استمرت على واليات الدولة العثمانية‪،‬‬
‫ال على حكومتها املركزية‪ ،‬وذلك بسبب تصاعد املصالح واألطماع‬‫فض ً‬
‫األوروبية املتضاربة فيها‪.‬‬

‫ف �ق��د ك��ان��ت ف��رن �س��ا ق��د دخ �ل��ت ف��ي ع �ه��د ج��دي��د‪ ،‬م��ن اآلمال‬
‫التوسعية‪ ،‬منذ ارتقى عرشها نابليون الثالث ‪ ،Napoleon III‬الذي‬
‫ك��ان يعاني معارضة احل��زب اإلكليريكي‪ ،‬في داخ��ل فرنسا‪ .‬فسعى‬
‫إلى أن يتطرف في أعمال‪ ،‬تثبت حرصه على الكاثوليكية‪ ،‬فيكسب‬
‫تأييد ه��ذا احل��زب ال �ق��وي‪ .‬ل��ذل��ك‪ ،‬ي��رى بعضهم‪ ،‬أن��ه ل��و ل��م يفتعل‬
‫نابليون الثالث حتريض املوارنة ضد ال��دروز‪ ،‬لوجد في صراعهما‪،‬‬
‫على األقل‪ ،‬فرصته‪ ،‬ليظهر في دور املدافع عن حقوق املسيحيني في‬
‫الشرق‪ .‬بل إن ثمة مَن اتَّهمه بإثارة مشكلة كبرى في الشرق‪ ،‬أهدر‬
‫فيها الكثير من دماء املسيحيني‪ ،‬مع أنه كان من املمكن جتنّبها‪.‬‬

‫ومِ �ث��ل ه��ذه ال�س�ي��اس��ة ال�ف��رن�س�ي��ة‪ ،‬ال ي�ن�ظ��ر إل�ي�ه��ا‪ ،‬ع ��ادة‪ ،‬من‬
‫زاوي �ت �ه��ا االق �ت �ص��ادي��ة ف�ح�س��ب‪ ،‬وإمن ��ا إل��ى ك��ون�ه��ا مت �ه �ي��داً منطقياً‬
‫الستيالء الفرنسيني على مصر‪ ،‬كذلك‪ ،‬وهو ما حالت دونه املعارضة‬
‫البريطانية الشديدة‪ .‬فكان مشروع شق قناة السويس من املشروعات‬
‫العمالقة‪ ،‬التي حملت كثيراً من مؤيدي السياسة الفرنسية على‬
‫االعتقاد‪ ،‬أن‪ ،‬البحر األبيض املتوسط‪ ،‬سيصبح بحيرة فرنسية‪ ،‬وأن‬
‫على فرنسا أن تضطلع بدورها احلضاري في الشرق العربي‪ .‬كان‬
‫هذا‪ ،‬وفرنسا تنتقل من نصر إلى نصر‪ .‬فبعد حرب القرم‪ ،‬خاضت‬
‫حرب الوحدة اإليطالية‪ ،‬إلى جانب اإليطاليني‪ ،‬ضد اإلمبراطورية‬
‫النمساوية‪ ،‬وخرجت منتصرة (‪ .)1859‬وأخذت أقدام فرنسا تتوطد‬
‫في البحر األحمر‪ ،‬عند جيبوتي‪.‬‬

‫استغل نابليون الثالث الفرص املتاحة كافة‪ ،‬للظهور مبظهر‬

‫‪161‬‬
‫ال�ب�ط��ل‪ ،‬ف��ي نظر شعبه‪ ،‬املتطلع إل��ى زع�ي��م ب�ط��ل‪ .‬فتلقّف العالقة‬
‫اخل��اص��ة ب�ين امل ��وارن ��ة وف��رن �س��ا‪ ،‬ال �ق��ائ �م��ة ع �ل��ى ال �ف �ك��ر الصليبي‪،‬‬
‫والرغبة في أن تعود الشام كلها‪ ،‬يوماً م��ا‪ ،‬إل��ى مسيحيي أوروبا‪.‬‬
‫وكان قناصل فرنسا‪ ،‬يرون أن املوارنة‪ ،‬هم مفتاح العودة إلى الشام‪.‬‬
‫وكانت الشواهد‪ ،‬السياسية والعسكرية‪ ،‬ترسّ خ هذه االجتاهات لدى‬
‫القناصل الفرنسيني‪ ،‬ولدى بعض أعضاء الكنيسة املارونية‪ .‬فلقد‬
‫استولت فرنسا على اجلزائر‪ ،‬ونفت أميرها‪ ،‬عبدالقادر اجلزائري‪،‬‬
‫إل��ى دم�ش��ق‪ ،‬وت�ق��دم��ت مب�ش��روع ش��ق ق�ن��اة ال�س��وي��س‪ ،‬وحصلت على‬
‫موافقة خديوي مصر عليه (‪.)1856 - 1854‬‬

‫دفع النشاط الفرنسي‪ ،‬الواسع النطاق‪ ،‬املؤيدين لفرنسا‪ ،‬في‬


‫لبنان والشام‪ ،‬إلى اإلقدام على خطوات مشحونة بالتعصب للمسيحية‪،‬‬
‫مستندين إل��ى ق��وة باريس ومساعدتها لهم ومدافعتها عنهم‪ ،‬عند‬
‫ال �ل��زوم‪ .‬ول�ق��د ك��ان��ت امل��ؤس�س��ات الدينية‪ ،‬والسيما «اجل��زوي��ت»‪ ،‬أو‬
‫اليسوعيني‪ ،‬ال تترك فرصة‪ ،‬من دون أن تستغلها في ترسيخ الفكر‬
‫الصليبي بني امل��وارن��ة‪ .‬وك��ان اإلكليروس امل��ارون��ي‪ ،‬قد أصبح بابويَّ‬
‫التعليم والثقافة‪ .‬ومن ثَم‪ ،‬كان كثير من رجاله مستعدين لقبول الفكر‬
‫الصليبي‪ ،‬على أس��اس أنه حجر الزاوية في حتديد مستقبلهم في‬
‫املنطقة‪ .‬وهكذا‪ ،‬كانت الطائفية ت��زداد عمقاً‪ ،‬حينما أصبح اجلبل‬
‫يتمتع بنوع من احلكم الذاتي‪.‬‬

‫وم��ن ال�ن��اح�ي��ة االق �ت �ص��ادي��ة‪ ،‬ك��ان لفرنسا م�ص��ال��ح متصاعدة‬


‫األهمية‪ .‬وزاد من دفعها نحو املنطقة تق ُّدمها االقتصادي‪ ،‬إذ باتت‬
‫جت�ن��ي ث�م��ار ال �ث��ورة ال�ص�ن��اع�ي��ة‪ ،‬ال�ت��ي ب��دأت�ه��ا ف��ي أع �ق��اب احلروب‬
‫النابليونية‪ .‬حقيقة‪ ،‬أن السبق‪ ،‬في الثورة الصناعية‪ ،‬كان لبريطانيا‪،‬‬
‫وأن ب��اري��س دخلتها م�ت��أخ��رة ع��ن ل�ن��دن‪ .‬ول�ك��ن اق�ت�ص��ادي��ات فرنسا‬
‫املتوازنة‪ ،‬وإطاللتها على البحر األبيض املتوسط‪ ،‬وكونها أكبر دولة‬

‫‪162‬‬
‫في حوضه‪ ،‬ورسوخ إحدى قدمَيها في اجلزائر‪ ،‬ومتهيدها لألخرى‬
‫في مصر والشام كل ذلك‪ ،‬جعل منطقة «لبنان» مجاالً حيوياً للسياسة‬
‫التجارية‪ ،‬وللتطلعات االحتكارية الفرنسية‪.‬‬

‫وأسفرت هذه السياسة عن منافسة قوية‪ ،‬بني فرنسا وبريطانيا‪،‬‬


‫حول خطوط املواصالت العاملية‪ ،‬عبْر املشرق العربي‪ .‬ودخلت فرنسا‬
‫طرفاً في مشروعات اخلطوط البرية‪ ،‬بني ساحل الشام والعراق‪ ،‬في‬
‫مواجَ هة مشروعات بريطانية مضادّة‪.‬‬

‫وكانت هذه التطلعات االقتصادية وراء الدعوات العديدة‪ ،‬التي‬


‫ت��ردَّدت في الدوائر الفرنسية‪ ،‬إلى إنشاء إمبراطورية عربية‪ ،‬في‬
‫املشرق العربي‪ ،‬تكون برئاسة األمير عبدالقادر اجلزائري‪ .‬ولكن‪،‬‬
‫يصعب على فرنسا أن حتقق أهدافها‪ ،‬إال إذا وط��دت نفوذها في‬
‫الشام‪ ،‬بدعم امل��وارن��ة‪ ،‬مادياً وثقافياً وعسكرياً‪ .‬واس�ت�ط��راداً‪ ،‬كان‬
‫استمرار تصعيد اخلطر الدرزي‪ ،‬بصفة خاصة‪ ،‬واإلسالمي‪ ،‬بصفة‬
‫عامة‪ ،‬يحمل امل��وارن��ة على زي��ادة اعتمادهم على فرنسا‪ ،‬وم��ن ثم‪،‬‬
‫إتاحة فرص أوسع لها‪ ،‬كي تضع ق َدمها في الشام‪.‬‬

‫وكانت احلكومة اإلنكليزية‪ ،‬تقف باملرصاد للتحركات الفرنسية‪،‬‬


‫السياسية واالقتصادية واالجتماعية‪ ،‬في منطقة الشرق األوسط‪.‬‬
‫فقاومت مشروع الدولة العربية‪ ،‬ومشروع شق قناة السويس‪ ،‬وزادت‬
‫ارتباطها بالدروز‪.‬‬

‫وم� ْه�م��ا ك��ان��ت أوجْ ��ه ن �ش��اط ه��اتَ�ين ال��دول �تَ�ين االستعماريتَني‬
‫املتنافستَني‪ ،‬فإن اهتزاز الوضع‪ ،‬االجتماعي والسياسي واالقتصادي‪،‬‬
‫في منطقة اجلبل‪ ،‬ك��ان العامل الرئيسي وراء فتح أب��واب التدخل‬
‫اخلارجي‪ .‬أما العوامل‪ ،‬التي جعلت املنطقة برميل بارود‪ ،‬فأهمها‪:‬‬

‫‪163‬‬
‫توافر السالح في أيدي أهل اجلبل‪ ،‬وحتوُّل بيروت إلى مركز ناشط‬
‫لالتجّ ار فيه‪ .‬وال�ص��راع الطائفي ك��ان قد خبا‪ .‬ولكن‪ ،‬أمكن الفكر‬
‫الطائفي إعادة استعاره‪ ،‬بتضخيم األزمات‪ ،‬واستخدام الفكر الديني‬
‫في املنازعات احمللية‪ ،‬مما يثير العامة‪ ،‬وإسناد القيادات احمللية إلى‬
‫املتطرفني‪ ،‬مما يعقد املوقف‪.‬‬

‫وكانت السلطات احلاكمة‪ ،‬سواء القائمقاميتان أو السلطات‬


‫العثمانية هي املسؤولة عن تالفي مثل هذا االنفجار املتوقع‪ ،‬بالعمل‬
‫�ا م��ن هاتَني‬
‫ع�ل��ى اق �ت�لاع ج ��ذور ال�ف�ت�ن��ة‪ ،‬ق�ب��ل أن ت�ت�ف��رع‪ .‬ول�ك��ن ك�ل ًّ‬
‫السلطتَني‪ ،‬ك��ان ي�ع��وزه��ا‪ :‬ال �ق��وة املسلحة‪ ،‬ال�ت��ي متكّنها م��ن تنفيذ‬
‫خطتها‪ .‬واالحترام الالزم‪ ،‬لكسب ثقة الناس؛ إذ أظهر الصراع بني‬
‫القائمقام املاروني‪ ،‬بشير أحمد‪ ،‬واإلقطاعيني املوارنة‪ ،‬أن القائمقام‬
‫ضعيف‪ ،‬إزاء تفوّق خصومه‪.‬‬

‫وك��ان وال��ي صيدا‪ ،‬خورشيد باشا‪ ،‬محيطاً مبا ك��ان ي��دور في‬
‫اجلبل‪ .‬وه َّم‪ ،‬غير مرة‪ ،‬بالتدخل في النزاع‪ ،‬بني الفالحني واملشايخ‪،‬‬
‫ولكنه خشي أن يتّهمه األوروبيون بانتهاك االستقالل الذاتي للجبل‪،‬‬
‫بتدخله في شؤونه‪ .‬وهكذا‪ ،‬بدا القائمقام ووالي صيدا‪ ،‬السلطتان‬
‫الشرعيتان‪ ،‬عاجزتَني عن حُ كم املوارنة‪ .‬وعلى العكس من ذلك‪ ،‬كانت‬
‫قائمقامية الدروز هادئة‪.‬‬

‫ب ‪ -‬دور السلطة العثمانية في توتر العالقة بني الدروز‬


‫واملوارنة‬

‫تضمنت تقارير القناصل األوروب �ي�ين العديد م��ن االتهامات‪،‬‬


‫املوجَّ هة إلى املوظفني األت��راك‪ ،‬بأنهم مسؤولون عن تزايد األزمات‬
‫بني ال��دروز وامل��وارن��ة‪ ،‬ومبعاملتهم امل��وارن��ة معاملة غير طيبة‪ ،‬كر ّد‬

‫‪164‬‬
‫فعل للمشاعر اإلس�لام�ي��ة‪ ،‬الساخطة على النشاط التبشيري في‬
‫ال�ب�لاد العربية‪ ،‬وال�ت��دخ��ل األوروب���ي‪ ،‬ف��ي مصلحة املسيحيني‪ ،‬في‬
‫ال��دول��ة العثمانية‪ ،‬وت��وال��ي الضغط االستعماري على ه��ذه الدولة‬
‫والبالد اإلسالمية‪ .‬وكانت السلطات العثمانية ت��رى األزم��ات‪ ،‬بني‬
‫ال على أن‬‫الفالحني واإلقطاعيني‪ ،‬في القائمقامية امل��ارون�ي��ة‪ ،‬دلي ً‬
‫احلُكم العثماني املباشر‪ ،‬هو احلُكم املالئم لهذه املنطقة‪.‬‬

‫ف��ي ه��ذه ال �ظ��روف‪ ،‬وق�ع��ت ال�ت�ص��ادم��ات األول ��ى‪ ،‬ب�ين املوارنة‬


‫وال��دروز‪ ،‬قرب بيروت‪ ،‬بينما كانت اجلهود تكلَّل بالنجاح‪ ،‬للتوفيق‬
‫بني الفالحني الثوار واإلقطاعيني املوارنة‪ .‬وجاء في تقرير للقنصل‬
‫اإلنكليزي‪ ،‬مور‪ ،‬إلى السفير البريطاني‪ ،‬في اآلستانة‪ ،‬في ‪ 31‬أيار‪/‬‬
‫مايو ‪« :1860‬إن القتال بدأ بهجوم فريق من مسيحيي املنت‪ ،‬على‬
‫قريتَي «صليما» «وقرنايل»‪ ،‬املختلطتَي السكان‪ ،‬وط��ردوا سكانهما‬
‫ال��دروز‪ .‬أم��ا ال��دروز‪ ،‬ف��أغ��اروا على قرية بيت م��ري‪ ،‬وأح��رق��وا دار‬
‫األم�ي��ر‪ .‬وف��ي اليوم التالي‪ ،‬أض��رم��وا النار في ع��دة ُق��رى‪ ،‬في املنت‬
‫وسهل بيروت‪ .‬ومن الشائع‪ ،‬أن اجلنود األتراك‪ ،‬اشتركوا في النهب‬
‫والسلب‪ ،‬واالعتداء على املسيحيني‪ .‬وقد أحرقت أيضاً دُور الشهابيني‬
‫‪ ...‬إن كل «املنت»‪ ،‬وهو أكثر أنحاء لبنان ثراء‪ ،‬وأكثرها سكاناً‪ ،‬قد‬
‫أكلته نار املسيحيني والدروز»‪.‬‬

‫وإذا ك��ان��ت امل�ش��اع��ر ال�ط��ائ�ف�ي��ة امل�ت��أج�ج��ة‪ ،‬ه��ي امل �س��ؤول��ة عن‬


‫التصادم الطائفي‪ ،‬فإن الصراع الطبقي‪ ،‬كان مسؤوالً‪ ،‬كذلك‪ ،‬عن‬
‫انتشار الصراع الطائفي‪ .‬فحينما تناهت أنباء األزمة بني الفالحني‬
‫واإلق�ط��اع�ي�ين امل��وارن��ة‪ ،‬إل��ى أس�م��اع ال ��دروز‪ ،‬ف��ي «ال �ش��وف»‪ ،‬خشوا‬
‫من ث��ورة مماثلة‪ ،‬في منطقتهم‪ .‬وما لبثت العالقات أن توترت بني‬
‫اإلقطاعيني ال��دروز و َم��ن في بالدهم من امل��وارن��ة‪ ،‬الذين أصبحوا‬
‫يتطلعون إل��ى التخلص م��ن ال�ق�ي��ود اإلق�ط��اع�ي��ة‪ ،‬وإل��ى إع�ل�ان ثورة‬

‫‪165‬‬
‫فالحية ضد االستبداد اإلقطاعي الدرزي‪.‬‬

‫كانت املعارك دموية‪ .‬واتسع نطاق التخريب والتدمير‪ .‬وامتدت‬


‫األحداث من لبنان إلى دمشق‪ .‬وجاء من حوران وحدات درزية قوية‪،‬‬
‫لشد أزْر دروز اجلبل‪ .‬فأمسى موقف املوارنة حرِ جاً‪ ،‬حتى أصبحت‬
‫احل ��وادث‪ ،‬ف��ي نظر القناصل‪ ،‬م��ذاب��ح للمسيحيني‪ ،‬ب��ل إن بعضهم‬
‫سماها‪« :‬م��ذاب��ح الستني»‪ .‬وبينما ك��ان القناصل يحتجون‪ ،‬بشدة‪،‬‬
‫على موقف خورشيد باشا‪ ،‬والي صيدا‪ ،‬السلبي‪ ،‬أحياناً‪ ،‬واملعادي‬
‫للمسيحيني‪ ،‬أحياناً أخرى‪ ،‬كانت اجلبهة املارونية تتدهور بسرعة‪.‬‬
‫بيد أن خورشيد باشا‪ ،‬ب��ادر إل��ى حث الطرفني على وق��ف القتال‪،‬‬
‫وجنح في التوصل إلى صلح‪ ،‬وقعه عدد محدود من أعيان الطرفني‪،‬‬
‫في ‪ 6‬متوز ‪ /‬يوليو ‪ ،1860‬ينص على‪:‬‬

‫(‪ )1‬وقف القتال‪ ،‬من دون تأخير‪ .‬وعودة الوئام بني الطائفتَني‪.‬‬
‫وعدم مطالبة أي طرف بتعويضات‪.‬‬

‫(‪ )2‬احترام النظام اإلداري املطبّق في اجلبل‪ .‬وكذلك‪ ،‬احترام‬


‫موظفي القائمقاميتَني‪ ،‬حتى يتأتّى لهم القيام بواجبهم‪.‬‬

‫وهكذا يكون خورشيد باشا‪ ،‬قد حرص على أن يحافظ على‬


‫الوضع الرسمي القائم‪ ،‬من دون أن يقدِ م على حل جذري للقضية؛‬
‫ال عن كونه متهماً باملشاركة في تلك‬
‫إذ إن��ه ال يستطيع ذل��ك‪ ،‬فض ً‬
‫األحداث‪ ،‬إلى جانب الدروز‪ .‬ولكن احلكومة العثمانية‪ ،‬كلفت وزير‬
‫خارجيتها‪ ،‬فؤاد باشا‪ ،‬بأن يسرع‪ ،‬على رأس جيش قوي‪ ،‬إلى السيطرة‬
‫على املوقف‪.‬‬

‫وما كان إرسال فؤاد باشا‪ ،‬على عَ جَ ل‪ ،‬إ ّال إحباطاً للحملة‪ ،‬التي‬
‫اعتزمت ال��دول األوروبية إرسالها إلى الشام‪ .‬وهي خطة تزعمتها‬

‫‪166‬‬
‫فرنسا‪ ،‬وطرحتها‪ ،‬بكل قوة‪ ،‬على املجتمع األوروبي‪ ،‬الذي كان يرحب‬
‫بذلك الدور‪ .‬وعلى الرغم من التباين في مواقف الدول األوروبية‪،‬‬
‫فإنها كانت متوافقة على أ ّال تعود السيطرة العثمانية املباشرة إلى‬
‫اجلبل‪ ،‬وأنه ال بدّ من إجراء أوروبي ضد املسلمني في الشام‪.‬‬

‫وأجرت الدول األوروبية الكبرى مشاوراتها (إنكلترا ‪ -‬فرنسا‬


‫‪ -‬روسيا ‪ -‬النمسا ‪ -‬بروسيا)‪ ،‬في شأن احلملة العسكرية الفرنسية‪،‬‬
‫لتسكني األح��وال في الشام‪ .‬وكانت مناورات بريطانيا‪ ،‬خالل هذه‬
‫املشاورات‪ ،‬متركزة في احلؤول دون حصول فرنسا على أي مكاسب‪،‬‬
‫تتأتّى من جهدها العسكري في الشام‪ .‬ولذلك‪ ،‬وافقت لندن‪ ،‬للتحكم‬
‫في عمل احلملة الفرنسية‪ ،‬املزمع إرسالها إلى الشام‪ ،‬على‪:‬‬

‫(‪ )1‬أن يكون استدعاؤها‪ ،‬في حالة عجز القوات العثمانية‪،‬‬


‫حتت قيادة فؤاد باشا‪ ،‬عن السيطرة على املوقف‪.‬‬

‫(‪ )2‬أن ترسل القوات (األوروبية) إلى الشام‪ ،‬بناء على اتفاقية‬
‫دولية‪ ،‬توقعها الدول األوروبية الكبرى‪.‬‬

‫(‪ )3‬أ ّال تبقى القوات (األوروب�ي��ة)‪ ،‬التي تستخدم في تسكني‬


‫األم��ور في ال�ش��ام‪ ،‬أكثر من ستة أشهر‪ ،‬حتى ال تتحول‬
‫تلك املساعدة العسكرية إلى احتالل فرنسي‪.‬‬

‫وأدت املفاوضات‪ ،‬في نهاية األم��ر‪ ،‬إل��ى اتفاق‪ ،‬وقعته الدول‬


‫الكبرى‪ ،‬في شأن حتديد أسلوب عمل القوة األوروبية (الفرنسية)‬
‫في الشام‪ ،‬على النحو التالي‪:‬‬

‫(‪ )1‬إرسال قوة أوروبية إلى الشام‪ ،‬يكون نصف عديدها من‬
‫الفرنسيني‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫(‪ )2‬اتفاق قائد احلملة‪ ،‬عقب وصولها إلى الشام‪ ،‬مع القائد‬
‫العثماني‪ ،‬على أسلوب التحرك والعمل‪.‬‬

‫(‪ )3‬تعهد الدول األوروبية الكبرى (فرنسا ‪ -‬روسيا ‪ -‬إنكلترا‬


‫‪ -‬بروسيا ‪ -‬النمسا)‪ ،‬بدعم احلملة‪.‬‬

‫(‪ )4‬بقاء احلملة في الشام‪ ،‬ال يزيد على ستة أشهر‪ ،‬على أن‬
‫يقدِّ م إليها الباب العالي املساعدات والتسهيالت‪.‬‬

‫وقد عنى ذلك أن احلملة‪ ،‬التي تقرر إرسالها إلى الشام‪ ،‬ليست‬
‫حملة فرنسية‪ ،‬من الوجهة الرسمية‪ ،‬وإمنا هي حملة أوروبية‪ .‬وبذلك‪،‬‬
‫أ ُرض�ي��ت فرنسا‪ ،‬ب��أن أعطيت الفرصة لتتولى ه��ي إع��داده��ا؛ وهو‬
‫اعتراف ضمني بأن لها مطالب خاصة في الشام‪ ،‬تفُوق ما لغيرها‬
‫من الدول األوروبية‪ .‬كما أ ُرضيت بريطانيا بكون احلملة غير مقتصرة‬
‫على فرنسا‪ ،‬وأن حتركاتها‪ ،‬قُيدت بالتفاهم بني قيادتها والسلطات‬
‫العسكرية العثمانية‪ ،‬األمر الذي يح ّد من سلطة القادة الفرنسيني‪.‬‬
‫ال عن أنه أصبح من املستبعد ج��داً‪ ،‬أن يتمكن الفرنسيون من‬ ‫فض ً‬
‫حتويل مهمة هذه احلملة‪ ،‬إلى قوات احتالل‪.‬‬

‫وما أن وصلت احلملة الفرنسية إلى بيروت‪ ،‬حتى بدأ قائدها‪،‬‬


‫بوفور‪ ،‬اتصاالته مع فؤاد باشا‪ ،‬في دمشق‪ .‬وسرعان ما دب اخلالف‬
‫بني الرجل َني؛ إذ كان بوفور متعالياً‪ ،‬يتصرف وكأنه أصبح صاحب‬
‫األمر والنهي في املنطقة‪ ،‬وأن على اجلميع أن يطيعوا أوامره‪ ،‬مبن‬
‫فيهم وزير اخلارجية العثمانية نفسه‪ ،‬فؤاد باشا‪ ،‬بينما كان املطلوب‬
‫أن ينسق عملياته مع الوزير العثماني‪ .‬فكان أن بدأ التصادم بينهما‪،‬‬
‫منذ البداية؛ إذ عمل ف��ؤاد باشا على أن يلتزم بوفور ح��دوده‪ ،‬وأن‬
‫يقنعه بأنه ال يعمل على أرض فرنسية‪ .‬فاقترح أن يتحرك القائد‬

‫‪168‬‬
‫الفرنسي في ديار املوارنة فقط‪ ،‬في حني يتحرك الوزير العثماني‬
‫في ديار الدروز‪ .‬وكان فؤاد باشا يهدف من وراء ذلك إلى‪:‬‬

‫(‪ )1‬إبعاد اجليش الفرنسي عن التصادم مع الدروز‪ ،‬حتى ال‬


‫تشتعل احلرب الطائفية‪.‬‬

‫(‪ )2‬قصر نشاط اجليش الفرنسي على ديار املوارنة‪.‬‬

‫ف��ر ّد بوفور على ذل��ك‪ ،‬ب��أن مهمة احلملة‪ ،‬هي تأديب الدروز‬
‫فقط‪ .‬وأن��ه ال بدّ من مالحقتهم‪ ،‬وهو ما يعني أن احلملة‪ ،‬ستصل‬
‫إلى «حوران»‪ ،‬وقد تصل إلى مشارف دمشق‪.‬‬

‫‪169‬‬
170
‫الفصل الرابع‬
‫إرساء نظام املتصرفية وترسيخ الطائفية‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬تسوية طائفية‪ ،‬في مصلحة املسيحيني‬

‫في اخلامس من تشرين أول‪/‬أكتوبر ‪ ،1860‬شُ كلت جلنة دولية‪،‬‬


‫متثل ال��دول األوروب �ي��ة الكبرى‪ ،‬اخل�م��س‪ :‬فرنسا وإنكلترا وروسيا‬
‫والنمسا وبروسيا‪ ،‬برئاسة فؤاد باشا‪ ،‬مندوب السلطان العثماني‪،‬‬
‫ووزير خارجيته‪ .‬مهمتها التحقيق في «حوادث الستني»‪ ،‬واحليلولة‬
‫ووض��ع نظام‬
‫ْ‬ ‫دون جت��دده��ا‪ ،‬ورأب الصدع بني طوائف جبل لبنان‪،‬‬
‫جديد حلُكمه‪.‬‬

‫وب� �ع ��د أن ع� �ق ��دت ال �ل �ج �ن��ة ع� ��دة اج� �ت� �م ��اع ��ات‪ ،‬ف ��ي بيروت‬
‫والقسطنطينية‪ ،‬درست‪ ،‬خاللها‪ ،‬مختلف الشؤون‪ ،‬انتهت إلى عدة‬
‫قرارات‪ .‬كان أهمها إلغاء نظام القائمقاميتَني‪ ،‬ووضع نظامَني حلُكم‬
‫جبل لبنان‪ .‬تألف أحدهما من ‪ 47‬م��ادة‪ ،‬والثاني من ‪ 17‬م��ادة‪ .‬ثم‬
‫رفعت األمر إلى الباب العالي وسفراء الدول الكبرى‪ ،‬اخلمس‪ ،‬في‬
‫اآلستانة‪ ،‬للدراسة‪ ،‬وإقرار األصلح‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫ثم شكل الباب العالي مجلساً‪ ،‬الختيار النظام األصلح‪ .‬تألف‬
‫من علي باشا‪ ،‬الصدر األعظم‪ ،‬عن الدولة العثمانية‪ ،‬وممثلني للدول‬
‫اخلمس‪ .‬واجتمع املجلس في ‪ 30‬أيار ‪ /‬مايو ‪ ،1861‬فحبّذ الصدر‬
‫األعظم إقرار النظام األول‪ ،‬الذي يقسم لبنان‪ ،‬مبوجبه‪ ،‬إلى ثالث‬
‫قائمقاميات درزي��ة ومارونية وأرثوذكسية‪ .‬وأت��اح هذا النظام خلق‬
‫موطئ ق َدم لروسيا‪ ،‬من خالل إنشاء قائمقامية أرثوذكسية‪ ،‬بينما‬
‫رأى اجلانب العثماني‪ ،‬أن��ه يؤكد سلطة دولته على لبنان‪ .‬غير أن‬
‫فرنسا‪ ،‬استطاعت أن تقنِع احلكومة الروسية‪ ،‬بالعدول عن التمسك‬
‫بفكرة التقسيم الثالثي‪ .‬وبذلك‪ ،‬تغلّب اجلانب املنادي بنبْذ سياسة‬
‫التقسيم الطائفي‪ ،‬وال��داع��ي إل��ى توحيد اجلبل حتت حُ كم واحد‪.‬‬
‫ونزل علي باشا على رغبة األغلبية‪ ،‬فأُقر النظام الثاني‪.‬‬

‫وعند البحث في ديانة احلاكم ومَذهبه‪ ،‬تقرر أن يكون مسيحياً‪،‬‬


‫ينتمي إلى مَذهب أكثرية السكان‪ .‬وبينما كان الصدر األعظم يرى‬
‫اختيار حاكم أجنبي‪ ،‬طالب السفير الفرنسي أن يكون لبنانياً‪ .‬ثم‬
‫انتهى ال��رأي إل��ى تنصيب ح��اك��م عثماني‪ ،‬غير لبناني‪ ،‬مل��دة ثالث‬
‫وقتئذ‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫سنوات‪ ،‬على سبيل التجربة‪ ،‬ومينَح لقب متصرف‪ .‬وأ ُعلن‪،‬‬
‫في إستانبول‪ ،‬تنظيم جديد ألقاليم السلطنة العثمانية‪ ،‬قسمها إلى‬
‫واليات ومتصرفيات وقائمقاميات‪ .‬ومن ذلك يتضح‪ ،‬أن املتصرف‪،‬‬
‫كان أدنى مرتبة من الوالي‪ ،‬وإ ْن كان سفراء الدول الكبرى‪ ،‬اخلمس‪،‬‬
‫قد اشترطوا‪ ،‬عند تعديل النظام‪ ،‬أن مينح متصرف جبل لبنان‪ ،‬عند‬
‫تعيينه‪ ،‬رتبتَي الوزارة واملشيرية‪ ،‬وهما أعلى ُرتَب الدولة العثمانية‪.‬‬

‫أ ُقر النظام اجلديد‪ ،‬بعد تداول سفراء الدول الكبرى‪ ،‬اخلمس‪،‬‬


‫مع الباب العالي‪ .‬وهو يقضي بإنشاء نظام حُ كم جديد في جبل لبنان‪،‬‬
‫يعيد تنظيم إدارة اجلبل‪ ،‬ملدة ثالث سنوات‪ ،‬على سبيل االختبار‪ .‬ثم‬
‫جرى تعديله‪ ،‬عام ‪.1864‬‬

‫‪172‬‬
‫ومبوجب هذا النظام‪ ،‬تولّى إدارة جبل لبنان متصرف مسيحي‪،‬‬
‫نصبه الباب العالي‪ .‬وه��و مسؤول أمامه مباشرة‪ ،‬وت��و ّل��ى السلطة‬
‫التنفيذية ك��ام�ل��ة‪ .‬وك��ان م��ن اختصاصه تعيني ال�ق�ض��اة‪ ،‬ومأموري‬
‫اإلدارة احمللية‪ ،‬ومن حقه رئاسة املجلس اإلداري‪ ،‬ال��ذي تألف من‬
‫اثني عشر عضواً‪ ،‬مبعدل اثنني لكل من املوارنة والدروز والكاثوليك‬
‫واألرثوذكس واملتاولة (الشيعة) واملسلمني‪ .‬وقد تولى هذا املجلس‬
‫توزيع الضرائب‪ ،‬وبيان الوارد واملنصرف‪ ،‬وإبداء الرأي في املسائل‪،‬‬
‫التي كان يعرِ ضها املتصرف عليه‪.‬‬

‫وقد قسمت املادة الثالثة جبل لبنان إلى ست مقاطعات إدارية‪.‬‬


‫ي�ع�َّي�نَّ ف��ي ك��ل منها م��أم��ور إداري‪ ،‬م��ن قِ �ب��ل امل�ت�ص��رف‪ .‬ويُ�خ�ت��ار من‬
‫الطائفة ذات األكثرية العددية في املقاطعة‪ ،‬أو التي متتلك فيها‬
‫نصت على تكوين‬ ‫األمالك العقارية األكبر‪ .‬أما املادة الرابعة‪ ،‬فقد ّ‬
‫مجلس إدارة محلي‪ ،‬في كل مقاطعة‪ ،‬برئاسة مديرها‪ .‬ويضم بني‬
‫ثالثة وستة أعضاء‪ ،‬ميثلون طوائف السكان‪ ،‬ومصالح امللكية العقارية‬
‫في املقاطعة‪.‬‬

‫وطبقاً ملا جاء في املادة اخلامسة من النظام‪ ،‬قُسمت املقاطعات‬


‫ال منها شيخ‪.‬‬
‫نواح‪ ،‬قُسمت‪ ،‬بدورها‪ ،‬إلى قُرى‪ ،‬رأس ك ًّ‬‫إلى ٍ‬

‫وح��دد بعض م��وا ّد النظام ماهية القضاء‪ ،‬وكيفية التقاضي‪.‬‬


‫ويبدو واضحاً‪ ،‬أن التقسيم الطائفي للسكان‪ ،‬وضع بصماته على‬
‫السلطة القضائية‪ ،‬كذلك‪ .‬ففي كل ناحية‪ ،‬قاضي صلح لكل طائفة‪،‬‬
‫ومجلس قضائي ابتدائي‪ ،‬في كل مقاطعة‪ ،‬متثَّل فيه الطوائف الدينية‬
‫الست‪ ،‬على غ��رار مجلس اإلدارة‪ ،‬مع إضافة عضو‪ ،‬ميثّل املذهب‬
‫املتقاضني‬
‫ِ‬ ‫البروتستانتي‪ ،‬وآخر ميثِّل الديانة اليهودية‪ ،‬إذا كان أحد‬
‫بروتستانتياً أو يهودياً‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫نظامني في جبل لبنان‬
‫َ‬ ‫ثاني ًا‪ :‬تعميق الطائفية‪ ،‬ووجود‬

‫استمر اختبار ذلك النظام ملدة ثالثة أعوام‪ ،‬كتب املتصرف‪ ،‬في‬
‫نهايتها‪ ،‬تقريراً في شأن إدارته خاللها‪ ،‬ضمّنه آراءه‪ ،‬بالنسبة إلى‬
‫تعديل النظام‪ .‬وكانت أول مالحظة للمتصرف ترى‪ ،‬أن تطبيق بعض‬
‫امل��وادّ‪ ،‬أدى إل��ى تعميق النعرة الطائفية‪ ،‬وإث��ارة كثير من األحقاد‪،‬‬
‫وعرقلة سير اإلدارة‪.‬‬

‫واحلق‪ ،‬أن طبيعة األرض اللبنانية‪ ،‬جعلت من جبالها ملجأ لكثير‬


‫من األقليات الدينية‪ ،‬التي عمدت إلى التقوقع على نفسها‪ ،‬بعيداً‬
‫عن هذا احلُكم أو ذاك‪ .‬إال أن التنوع الطائفي‪ ،‬على ما انطوى عليه‬
‫من اختالفات مذهبية‪ ،‬لم مينع من نشوء زعامات إقطاعية‪ ،‬قادت‬
‫جتمعات طائفية مختلفة‪ ،‬مما جعل الطابع االقتصادي االجتماعي‪،‬‬
‫يتعدى احل��دود الطائفية‪ ،‬وه��و م��ا ك��ان ي��ؤدي إليه تنافس األمراء‬
‫وكبار املشايخ‪ .‬وه��و ما ك��ان يتأكد‪ ،‬كذلك‪ ،‬حني يتضامن الزعماء‬
‫اإلقطاعيون‪ ،‬من أجْ ل مواجَ هة عد ّو مشترك‪ ،‬وكلما احتد الفالحون‪،‬‬
‫من دروز ومسيحيني ومسلمني‪ ،‬دفاعاً عن قضية إقطاعية‪.‬‬

‫غير أن ذلك كان ميثل ظواهر اجتماعية طارئة؛ إذ استمرت‬


‫كل طائفة‪ ،‬دينية أو مذهبية‪ ،‬تعيش في معزل عن األخرى‪ ،‬الطّ راد‬
‫منو العوامل الطائفية وتعددها‪ ،‬بعد أن افتقدت الزعامات الطائفية‬
‫القدرة على التفاهم‪ ،‬نظراً إلى تعدد االجتاهات الطائفية‪ ،‬واشتد‬
‫ال عن‬ ‫التعصب الطائفي‪ ،‬حتى جنحت كل طائفة إلى التطرف‪ ،‬فض ً‬
‫ازدياد املفاهيم الطائفية‪ .‬ومما زاد التباعد بني الطوائف‪ ،‬أن بعضها‬
‫متلكت خصائص‪ ،‬ميّزتها عن غيرها‪ .‬فبينما جند أن البيئة اجلبلية‪،‬‬
‫أث��رت في َم��ن جل��أوا إليها‪ ،‬من الشيعة وال��دروز وامل��وارن��ة‪ ،‬فجعلت‬
‫منهم قوماً أشداء‪ ،‬ذوي نزعات فردية‪ ،‬غذتها العصبيات العشائرية‪،‬‬

‫‪174‬‬
‫ك��ان ال��سُّ �ن��ة وال ��روم‪ ،‬س�ك��ان م��دن‪ ،‬يختلفون‪ ،‬بالطبيعة‪ ،‬ع��ن سكان‬
‫اجلبل‪ .‬ولدى انتقال املفاهيم الطائفية إلى الصراع الطبقي‪ ،‬في ظل‬
‫اإلقطاع‪ ،‬ب��دأت ال��دول األجنبية تتدخل في ش��ؤون لبنان الداخلية‪،‬‬
‫ال إلى حتقيق مآربها‪ ،‬خاصة أن األصول‬ ‫معتمدة على الطائفية‪ ،‬سبي ً‬
‫اإلقطاعية‪ ،‬تأثرت ت��أث��راً كبيراً بتمتع كل منطقة مبناعة طبيعية‪،‬‬
‫جتعلها تشكل ما يشبه الوطن احمللي الصغير‪.‬‬

‫ولم تكن مسألة تعميق النعرة الطائفية‪ ،‬هي املالحظة الوحيدة‪،‬‬


‫التي أب��داه��ا متصرف لبنان على نظام ‪ ،1861‬في تقريره املشار‬
‫إليه‪ .‬وإمنا كان هناك مآخذ أخرى‪ ،‬ناقشها سفراء الدول الكبرى‪،‬‬
‫اخل�م��س‪ ،‬ف��ي م��ؤمت��ره��م‪ ،‬ف��ي اآلس�ت��ان��ة‪ ،‬ع��ام ‪ ،1864‬ال��ذي عقدوه‬
‫للنظر في حاجة نظام ‪ 1861‬إلى التعديل‪ ،‬إلى جانب مهام أخرى‪،‬‬
‫تتعلق بحُ كم جبل لبنان‪ .‬كما بحث املؤمتر مسألة تقسيم املقاطعات‬
‫نواح‪ ،‬تقطن بها جماعات متجانسة‪ ،‬ما أمكَن التجانس‪ُ ،‬تقسم‪،‬‬ ‫إلى ٍ‬
‫بدورها‪ ،‬إلى قُرى‪ ،‬ال يق ّل عدد سكان الواحدة منها عن ‪ 500‬نسمة‪.‬‬
‫ويرأسها شيخ‪ ،‬ينتخبه سكانها‪ ،‬ويعيّنه املتصرف‪ .‬بينما في القُرى‬
‫املختلطة‪ ،‬يكون لكل طائفة وافية العدد من السكان‪ ،‬شيخ خاص‪،‬‬
‫ال شأن له إال بأبناء طائفته‪ .‬وانتهى البحث إلى إلغاء هذه الفقرة‬
‫من نظام ‪ .1861‬ولتخفيف ح ّدة الطائفية‪ ،‬أقر مبدأ انتخاب أهالي‬
‫القرية الكبيرة شيخاً واح��داً‪ ،‬من أبناء الطائفة األكثر ع��دداً‪ .‬أما‬
‫القرية الصغيرة‪ ،‬فيعينّ شيخها املتصرف نفسه‪.‬‬

‫كذلك‪ ،‬رأى املؤمترون إلغاء مبدأ تعيني قاضي صلح لكل طائفة‪،‬‬
‫ال‬
‫في كل ناحية؛ إذ إنه يستدعي تعيني عدد كبير من القضاة‪ ،‬فض ً‬
‫عن أنه يرسخ الطائفية في البالد‪ .‬ومع االتفاق على تخويل شيخ‬
‫القرية بعض املسؤوليات القضائية‪ ،‬أ ُقر مبدأ تعيني أعضاء احملاكم‪،‬‬
‫بدالً من انتخابهم من قِ بل رؤساء الطوائف‪ .‬كما وافق السفراء على‬

‫‪175‬‬
‫تطبيق مبدأ التحكيم في املنازعات‪ ،‬التي كانت تنشب بني سكان‬
‫اجلبل واألج��ان��ب‪ ،‬تخفيفاً إلج��راءات الترافع أم��ام محكمة بيروت‬
‫التجارية‪.‬‬

‫كما عدّ ل املؤمتر توزيع أعضاء مجلس اإلدارة‪ ،‬بشكل يراعي‬


‫النسبة العددية للموارنة‪ .‬فتقرر أن يضم املجلس اثني عشر عضواً‪،‬‬
‫بينهم مارونيان‪ ،‬ينوبان عن قائمقاميتَي كسروان والبترون‪ .‬وثالثة‬
‫أع �ض��اء ع��ن قائمقامية ج��زي��ن‪ ،‬أح��ده��م م��ارون��ي‪ ،‬وال �ث��ان��ي مسلم‪،‬‬
‫والثالث درزي‪ .‬وأرب�ع��ة عن قائمقامية امل�تن‪ ،‬أحدهم من املوارنة‪،‬‬
‫والثاني من الروم‪ ،‬والثالث من الدروز‪ ،‬والرابع من املتاولة (الشيعة)‪.‬‬
‫وعضو درزي عن قائمقامية الشوف‪ .‬وآخر من الروم األرثوذكس عن‬
‫قائمقامية الكورة‪ .‬وثالث من الروم الكاثوليك عن مديرية زحلة‪ .‬ثم‬
‫فصل اجلزء الشمالي من لبنان (جبّة بشري والزاوية وبالد البترون)‬ ‫ِ‬
‫ليشكل قائمقامية قائمة بذاتها‪ ،‬يحكمها قائمقام ماروني‪.‬‬

‫ويؤخذ على هذا النظام‪ ،‬أنه جعل حاكم البالد غريباً عنها‪.‬‬
‫غير أن الظروف‪ ،‬التي سادت بعد «ح��وادث الستني»‪ ،‬حتمت ذلك‪.‬‬
‫فلم يكُن في وسع ال��دول الكبرى‪ ،‬اخلمس‪ ،‬أو الباب العالي‪ ،‬تعيني‬
‫حاكم لبناني‪ ،‬ينتمي إلى أي من الطوائف املتصارعة‪ .‬كما أن فكرة‬
‫وقتئذ‪ ،‬بالنظر إلى أن‬
‫ٍ‬ ‫تعيني حاكم عربي‪ ،‬غير لبناني‪ ،‬لم تكن واردة‪،‬‬
‫حتقيق ِحي َدة هذا احلاكم‪ ،‬في رأي أهل البالد‪ ،‬كان أمراً صعباً‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬موقف ال��دول األوروب�ي��ة وال��دول��ة العثمانية‪ ،‬من‬


‫نظام املتصرفية‬

‫َم َّر لبنان مبجموعة من املراحل‪ ،‬قاد كل منها إلى األخرى‪ .‬فقد‬
‫ك��ان لبنان حتت سيادة الباب العالي‪ ،‬وك��ان يعرف باسم «اجلبل»‪،‬‬

‫‪176‬‬
‫الذي متتع بنوع من احلكم الذاتي‪ .‬واستمر هذا الوضع حتى نهاية‬
‫‪ ،1840‬حني انتقل لبنان إلى مرحلة جديدة‪ ،‬عاش‪ ،‬خاللها‪ ،‬في ظل‬
‫ال للدولة‪ ،‬على الرغم‬
‫نوع من احلكم‪ ،‬يخضع فيه الفرد خضوعاً كام ً‬
‫من متتعه باحلكم الذاتي‪ .‬غير أن هذا اخلضوع‪ ،‬أصبح محدوداً‪،‬‬
‫بعد ‪ .1840‬ثم تأكد ذلك‪ ،‬بصدور بروتوكول عام ‪ ،1861‬لتستمر‬
‫هذه املرحلة اجلديدة نحو نصف قرن‪ ،‬متتع لبنان‪ ،‬إبّانها‪ ،‬مبؤسسة‬
‫دميوقراطية‪ ،‬متثلت في مجلس اإلدارة‪ ،‬ويرعاها ضمان أوروبي‪.‬‬
‫وفي هذه املرحلة‪ ،‬أ ُرسيت أ ُسُ س السياسات الطائفية‪ ،‬التي متيزت‬
‫بها الدميوقراطية اللبنانية‪.‬‬

‫وكان للسياسات الدولية ثقلها‪ ،‬في توجيه كل مرحلة من مراحل‬


‫التطور في لبنان‪ .‬ففي عام ‪ ،1840‬دأبت الدول األوروبية الكبرى‪،‬‬
‫وفي مقدمتها فرنسا‪ ،‬على التدخل في شؤونه الداخلية‪ .‬واعتمد‬
‫عليها لبنان‪ ،‬بدوره‪ ،‬للتخلص من املصريني‪ .‬كما كان لهذه السياسات‬
‫أثرها في الدولة العثمانية‪ ،‬منذ عهد سليم الثالث‪ ،‬وخليفته محمود‬
‫الثاني؛ إذ اطّ ��ردت حركة التطور‪ ،‬واتسعت اإلصالحات‪ ،‬التعليمية‬
‫والعسكرية واإلدارية‪ .‬ناهيك عن ازدياد املركزية‪ .‬وفي الوقت نفسه‪،‬‬
‫�وال من والة الدولة العثمانية‪،‬‬
‫تخطّ ى لبنان كونه سنجقية‪ ،‬تابعة ل� ٍ‬
‫وبات ينعم باستقالل ذاتي‪ ،‬تضمنه الدول األوروبية الكبرى‪.‬‬

‫ارتأى سفراء الدول األوروبية الكبرى‪ ،‬املؤمترون في اآلستانة‪،‬‬


‫عام ‪ ،1864‬دعم نفوذ الطائفة املارونية‪ ،‬في النواحي اإلدارية‪ ،‬نظراً‬
‫إلى غالبيتها العددية‪ .‬غير أنهم وجدوا أن نزع الصفة الطائفية عن‬
‫دوائ��ر االنتخاب‪ ،‬يضمن أكثرية مارونية‪ ،‬األم��ر ال��ذي لم يتفق مع‬
‫اجتاه بعض ال��دول املمثلة في املؤمتر‪ .‬فتقرر إع��ادة تشكيل مجلس‬
‫اإلدارة‪ ،‬بشكل سمح باشتراك أربعة من املوارنة في عضويته‪ ،‬وثالثة‬
‫من الدروز‪ ،‬واثنني من الروم األرثوذكس‪ ،‬وواحد من الروم الكاثوليك‪،‬‬

‫‪177‬‬
‫وآخرين‪ ،‬سُ ني وشيعي‪ .‬كذلك ضوعف قضاء كسروان‪ ،‬مركز املوارنة‪،‬‬
‫مبا يسمح بتعيني قائمقام ماروني آخر‪ ،‬في مناصب اإلدارة العليا‪.‬‬
‫يضاف إلى ذلك تعيني وكيل أو نائب‪ ،‬لدى مجلس اإلدارة‪ ،‬ينتخب‬
‫من املوارنة‪.‬‬

‫لم يكُن تعميق الطائفية في مصلحة سكان البالد‪ .‬إذ آثر كل‬
‫من املؤمترين مصلحته على مصلحة اللبنانيني‪ .‬فسعى إلى االعتماد‬
‫ال إل��ى م � ّد ن�ف��وذ ب�ل�اده‪ ،‬وترسيخه في‬
‫على إح��دى ال�ط��وائ��ف‪ ،‬سبي ً‬
‫لبنان‪ .‬فانتصر اإلنكليز للدروز‪ ،‬في تطرف شديد‪ ،‬ال يق ّل عن تعصب‬
‫الفرنسيني للموارنة‪.‬‬

‫وبينما سعت فرنسا‪ ،‬في عقب «ح��وادث الستني»‪ ،‬إلى إنشاء‬


‫دولة عربية‪ ،‬حتت زعامة عبد القادر اجلزائري‪ ،‬ونشطت إلى ظهور‬
‫كيان سياسي عربي‪ ،‬منفصل عن الدولة العثمانية‪ ،‬فكرت احلكومة‬
‫اإلنكليزية‪ ،‬على الرغم من سعيها إلى احلفاظ على األمالك العثمانية‬
‫موحَّ دة‪ ،‬في أن تصبح سورية شبه مستقلة‪ ،‬على غ��رار مصر‪ ،‬وأن‬
‫يطبق في جبل لبنان نظام خاص من احلُكم‪ ،‬على أن يكون ذلك في‬
‫إطار التبعية للدولة العثمانية‪ .‬غير أن احلكومة العثمانية‪ ،‬رفضت‬
‫هذا االجتاه‪ .‬وتزداد الصورة وضوحاً‪ ،‬بالنظر إلى تلك الفكرة‪ ،‬التي‬
‫ر ّوج��ت لها روسيا‪ ،‬في تلك األث�ن��اء‪ ،‬وموقف ف��ؤاد باشا منها‪ .‬ذلك‬
‫أن روس�ي��ا‪ ،‬حاولت انتهاز التضارب بني باريس ولندن واآلستانة‪،‬‬
‫فطرحت فكرة إنشاء قائمقامية أرثوذكسية‪ ،‬سعياً إلى إيجاد موطئ‬
‫قدم لها في لبنان‪ ،‬أسوة بإنكلترا وفرنسا‪ .‬إال أن الفكرة الروسية لم‬
‫تتحقق‪ ،‬على الرغم من موافقة فؤاد باشا عليها‪.‬‬

‫وقد حاولت فرنسا‪ ،‬خالل الفترة من ‪ 1861‬إلى ‪ ،1914‬أن‬


‫تكون صاحبة اليد الطولى‪ ،‬في إطار ما سمي بسياسة اإلمبريالية‬

‫‪178‬‬
‫وقتئذ‪ ،‬توجِّ ه احلكم والسياسة الداخلية في‬
‫ٍ‬ ‫اجلماعية‪ ،‬التي كانت‪،‬‬
‫لبنان‪ ،‬مما أظهر تياراً قوياً‪ ،‬ضد قوى اإلمبريالية األوروبية‪ ،‬تبنّاه‬
‫السلطان العثماني‪ ،‬عبد احلميد الثاني‪ ،‬وجمعية االحتاد والترقي‪.‬‬
‫وكان لبنان هدفاً لسياسة هذا التيار‪ .‬فخالل حُ كم هذا السلطان‪،‬‬
‫كان نظام املتصرفية‪ ،‬ال ي��زال يتلمس طريقه إلى االستقرار‪ .‬غير‬
‫أن السلطات العثمانية‪ ،‬جهدت في سعيها إلى إعادة قبْضتها على‬
‫لبنان‪ ،‬حتى وق��ع ان�ق�لاب ع��ام ‪ ،1908‬ال��ذي ق��وب��ل بترحيب كبير‪،‬‬
‫في مختلف والي��ات الدولة العثمانية‪ ،‬ألنه نادى باملساواة املطلقة‪،‬‬
‫وبإحياء النظام البرملاني‪ ،‬الذي كان قد دعا إليه مدحت باشا‪ ،‬عام‬
‫‪ .1876‬وهو يقضي بأن ينتخب العثمانيون نواباً في مجلس األعيان‬
‫ومجلس املبعوثني‪ ،‬العثمانيَّني‪ .‬غير أن الكنيسة املارونية‪ ،‬قاومت‬
‫هذا االجتاه‪ ،‬بشدة‪ .‬كما أيدت احلكومات األوروبية لبنان‪ ،‬على أن‬
‫يكون مبعزل عن التمثيل في مجلس البرملان العثماني‪ ،‬بل إن سكان‬
‫املتصرفية‪ ،‬استبعدوا فكرة حمْل هوية عثمانية‪.‬‬

‫وع�ق��ب ان ��دالع احل ��رب ال�ع��امل�ي��ة األول���ى‪ ،‬وق �بْ��ل دخ ��ول الدولة‬
‫العثمانية طرفاً فيها‪ ،‬وبينما كان كل من أملانيا وفرنسا وبريطانيا‪،‬‬
‫تتملّق إستانبول‪ ،‬بادرت احلكومة العثمانية‪ ،‬في تشرين أول ‪ /‬أكتوبر‬
‫‪ ،1914‬إلى إلغاء البروتوكول املطبّق منذ عام ‪ ،1861‬واستبدلت به‬
‫النظام امل َّتبَع في الواليات العثمانية‪.‬‬

‫رابع ًا‪ِ :‬‬


‫القوى اللبنانية‬

‫استقبل اللبنانيون بروتوكول ‪ 1861‬باالستياء؛ إذ اقتطع جزءاً‬


‫كبيراً من أرض لبنان‪ ،‬كما أنه أقر تعيني حاكم أجنبي عليهم‪ .‬وقد‬
‫رفض الزعيم املاروني‪ ،‬يوسف كرم‪ ،‬شيخ إهدن‪ ،‬في لبنان الشمالي‪،‬‬
‫االعتراف بهذا البروتوكول‪ ،‬ورفع لواء الثورة‪ ،‬عام ‪.1866‬‬

‫‪179‬‬
‫وبدأت الصراعات بني القوى‪ ،‬احمللية والدولية‪ ،‬حول اختيار‬
‫حاكم مسيحي جلبل لبنان‪ .‬وتبنّت فرنسا مرشحني‪ :‬مجيد شهاب‬
‫وي��وس��ف ك��رم‪ .‬ورفضهما القنصل اإلن�ك�ل�ي��زي‪ ،‬ألن تعيني الشهابي‬
‫متصرفاً‪ ،‬ونفوذ الشهابيني‪ ،‬سيؤديان إل��ى منو مكانة فرنسا‪ .‬أما‬
‫يوسف كرم‪ ،‬فكان قد عمل مع قوات احلملة الفرنسية‪ ،‬التي وصلت‬
‫إل��ى ب�ي��روت‪ ،‬بقيادة ب��وف��ور‪ ،‬إث��ر «أح��داث الستني»‪ .‬ناهيك عالقته‬
‫الوطيدة بالكنيسة املارونية‪ .‬كما أنه كان يلقَى املساندة من جانب‬
‫اليسوعيني‪ ،‬أو «اجلزويت»‪ .‬غير أن بوفور‪ ،‬كان ضد تعيني يوسف‬
‫كرم متصرفاً‪ ،‬إذ اعتقد أن حاكم اجلبل‪ ،‬يجب أن يبتعد بنفسه عن‬
‫التعصب الديني‪.‬‬

‫وك ��ان ي��وس��ف ك��رم ق��د ت��و ّل��ى‪ ،‬ع��ام ‪ ،1860‬م�ن�ص��ب قائمقام‬
‫املسيحيني‪ ،‬وأصبح يتطلع إلى منصب حاكم لبنان‪ .‬غير أن فرنسا‪،‬‬
‫كانت تشعر أن تعيينه في ذلك املنصب‪ ،‬لن يحقق مصاحلها‪ ،‬خاصة‬
‫أن موقفه أصبح معقداً‪ ،‬منذ أن بدأت القالقل في كسروان‪ ،‬على‬
‫يد مؤيدي طانيوس شاهني‪ ،‬ال��ذي احت��د مع األمير مجيد شهاب‪،‬‬
‫الطامع في احللول محل يوسف كرم‪ ،‬في منصب قائمقام املسيحيني‪.‬‬
‫فاستخدم القائمقام القوة ضد رجال شاهني‪ ،‬مما وضعه في موقف‬
‫املناوئ لفرنسا‪ ،‬التي كانت متيل إلى إحياء اإلمارة الشهابية‪ .‬فاستقال‬
‫يوسف كرم‪ ،‬ثم اتُّفق على تعيني داود باشا‪ ،‬مرشح الدولة العثمانية‪،‬‬
‫متصرفاً على لبنان‪ .‬وب��دأت‪ ،‬بذلك‪ ،‬مرحلة تاريخية جديدة‪ ،‬كانت‬
‫ال�ق��وى املتحكمة ف��ي توجيهها‪ ،‬تتمثل ف��ي م�ح��اوالت ال�ب��اب العالي‬
‫التخلص من نظام املتصرفية‪ ،‬وموقف متصرفي لبنان من القناصل‬
‫ال عن ذلك‪ ،‬واجَ ه تطبيق نظام املتصرفية مشاكل‬ ‫األوروبيني‪ .‬وفض ً‬
‫عدة‪ ،‬آثارها يوسف كرم‪ ،‬والكنيسة املارونية‪ ،‬وبيت شهاب‪ ،‬في إطار‬
‫العصبيات املذهبية‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫‪ - 1‬انقسام طائفي حول اختيار املتصرف‬

‫اختير داود باشا متصرفاً للبنان‪ .‬وكان السفير الفرنسي أول‬


‫يواجه بعض املسائل ذات احلساسية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫من أيد اختياره‪ .‬وكان عليه أن‬
‫منها أنه هو نفسه‪ ،‬كان أرمنياً كاثولكياً‪ ،‬فهو يخشى أ ّال يتعاون معه‬
‫املسلمون‪ .‬كما أن العصبيات املسيحية‪ ،‬حاولت أن تضطلع بدور‬
‫في اختيار أول حاكم مسيحي‪ ،‬من داخ��ل البالد‪ .‬ولذلك‪ ،‬رأت أن‬
‫املتصرف حاكم عثماني‪ ،‬أجنبي‪ ،‬يَحسُ ن التخلص منه‪ .‬أما احلكومة‬
‫العثمانية‪ ،‬وهي التي رشحته لهذا املنصب‪ ،‬فكانت تواقة إلى القضاء‬
‫على بروتوكول ‪ ،1861‬حتى يعود لبنان إلى سيطرتها‪.‬‬

‫ولكن قناصل ال��دول األوروب�ي��ة‪ ،‬كانوا يحبّذون تنصيب حاكم‬


‫مسيحي‪ ،‬ال يدين بالوالء ألي دولة أوروبية كبرى‪ .‬وكان داود باشا‪،‬‬
‫يدرك ذلك متاماً‪ .‬بيد أنه كان يدرك‪ ،‬كذلك‪ ،‬أنه تولّى منصبه بعد‬
‫تدخّ ل أوروبي ذي طابع فرنسي‪ ،‬مما يعطي أولوية متوقعة للقنصل‬
‫ال عمّا للقنصل من‬
‫الفرنسي‪ ،‬في توجيه دفة األمور في البالد‪ ،‬فض ً‬
‫ِصالت قوية بالكنيسة املارونية‪ ،‬والزعامات املارونية‪ .‬بينما ضعفت‬
‫ال عن هجرة‬ ‫ارتباطات القنصل اإلنكليزي بالزعامات الدرزية‪ ،‬فض ً‬
‫كثير من الزعماء ال��دروز إل��ى ح��وران‪ ،‬و َم��ن بقي منهم في اجلبل‪،‬‬
‫كانت أوضاعهم االقتصادية متردّية‪.‬‬

‫وكان على داود باشا مواجَ هة نتائج «حوادث الستني»‪ .‬والتدخل‬


‫العسكري الفرنسي‪ ،‬واألزمة التي نشبت بني املوارنة‪ ،‬الذين ساءهم أن‬
‫يساويهم بروتوكول ‪ 1861‬بسائر العصبيات‪ ،‬وبني الروم‪ ،‬الكاثوليك‬
‫واألرمن‪ .‬وهو ما يفسر الريبة‪ ،‬التي ملسها داود باشا‪ ،‬عندما استقبلته‬
‫طوائف اجلبل‪ ،‬وبخاصة املوارنة‪ ،‬حني تسلُّمه مقاليد احلكم‪ .‬بل إن‬
‫الروم‪ ،‬بفرعَ يهم‪ ،‬األرثوذكس والكاثوليك‪ ،‬لم يروا في داود باشا إال‬
‫موظفاً عثمانياً‪ ،‬ينتمي إلى األمة األرمنية املناوئة لهم‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫‪ - 2‬دور املوارنة وكنيستهم‬

‫كانت الكنيسة املارونية ضد داود باشا‪ .‬وكانت حتدوها رغبة‬


‫أكيدة في تعيني متصرف مرشح من قِ بلها‪ .‬هذا على الرغم من أن‬
‫امل�ف��اوض��ات‪ ،‬التي انتهت إل��ى توقيع ب��روت��وك��ول ‪ ،1861‬كانت متثل‬
‫انتصاراً للسياسة الفرنسية‪ ،‬الساعية‪ ،‬منذ عام ‪ ،1840‬إلى إيجاد‬
‫سلطة مسيحية واحدة في اجلبل‪ ،‬تتمتع باالستقالل عن والي صيدا‬
‫ووالي دمشق‪ ،‬وترتبط مباشرة باآلستانة‪ ،‬وتضمنها الدول األوروبية‬
‫الكبرى‪ ،‬اخلمس‪ .‬فإن فرنسا رأت أن موارنة اجلبل‪ ،‬سوف تُهضم‬
‫حقوقهم‪ ،‬في والي��ة مترامية األط��راف‪ ،‬يحكمها حاكم مسلم‪ .‬كما‬
‫أدى تعيني داود باشا حاكماً على اجلبل‪ ،‬إلى رضا املسيحيني عن‬
‫اآلستانة‪ ،‬خاصة أنه منح رتبة مشير‪ .‬وكان لذلك رد فعل معاكس بني‬
‫املسلمني‪ .‬وبحصوله على لقب مشير‪ ،‬أصبح موقفه قريباً من موقف‬
‫حكام الواليات‪ .‬كما أن ارتباطه مباشرة بالباب العالي‪ ،‬أنقذ البالد‬
‫من جتاوزات املوظفني العثمانيني وتعسفهم‪.‬‬

‫وإزاء مخاوف الكنيسة املارونية من ع��ودة احلكم العثماني‪،‬‬


‫واجل�ن��ود العثمانيني‪ ،‬إل��ى اجلبل؛ تلك امل�خ��اوف‪ ،‬التي أحسَ ن داود‬
‫ب��اش��ا استغاللها اس�ت�ك��ان امل��وارن��ة‪ ،‬راض�ي�ن ب��ذل��ك االم �ت �ي��از‪ ،‬الذي‬
‫أح��رزوه مبقتضى نظام املتصرفية‪ ،‬إضافة إلى أن كنيستهم‪ ،‬كانت‬
‫مسيطرة على مقدرات النصف الشمالي من لبنان‪ .‬ومع أن املتصرف‬
‫أَخفق في أن يكتسب ثقة الكنيسة املارونية؛ إذ كان متهماً مبماألة‬
‫ال وسطاً بني عودة الصراع‬ ‫العثمانيني‪ ،‬إال أن وج��وده‪ ،‬كان ميثل ح ً‬
‫الطائفي‪ ،‬ومتتع لبنان بنوع من اإلدارة اخلاصة‪.‬‬

‫ولكن موقف املتصرف‪ ،‬على ال��رغ��م م��ن ذل��ك‪ ،‬ك��ان أق��وى من‬
‫موقف الكنيسة؛ إذ إنه ميثّل حكومة‪ ،‬حتتوي جبل لبنان‪ ،‬وال ميثّل‬

‫‪182‬‬
‫طائفة بعينها‪ .‬وبذلك‪ ،‬لم يكن عسيراً عليه‪ ،‬أن يتَّهم خصومه من‬
‫املوارنة‪ ،‬بأنهم كانوا يرغبون في وجود قائمقامية طائفية مارونية‪،‬‬
‫جتعل البالد عرضة لصراع جديد‪ .‬بينما كان املتصرف يعمل من أجل‬
‫املتصرفية‪ ،‬ككل‪ .‬وقد اتخذ خطوات تدعم موقفه‪ ،‬منها ‪ ‬في مصلحة‬
‫أهل البالد عامة‪ ،‬مثل اعتراضه على إخضاع ص��ادرات البالد من‬
‫التبغ‪ ،‬لنُظُ م االحتكارات العثمانية‪.‬‬

‫وعلى الرغم من أن رستم باشا‪ ،‬متكّن من تنظيم اإلدارة على‬


‫ال��وج��ه األك �م��ل‪ ،‬ف��إن��ه ل��م يستطع القضاء على ت��دخّ ��ل الكنيسة في‬
‫شؤون البالد‪ .‬وكان حريصاً على مراعاة امتيازاتها‪ .‬إال أنه حينما‬
‫رأى أن يقتصر نشاط األساقفة على رسالتهم الروحية‪ ،‬ثارت الثائرة‬
‫ض��ده‪ .‬وق��د استغل مطران دي��ر القمر‪ ،‬بطرس البستاني‪ ،‬ومطران‬
‫بيروت‪ ،‬يوسف الدبس‪ ،‬وقوف البطريرك إلى جانب املتصرف‪ ،‬إلثارة‬
‫املشاغبات ضد املتصرف والبطريرك معاً‪ .‬وظَ ل اخلالف يتفاقم‪ ،‬حتى‬
‫استهلت السنة اخلامسة من والية رستم باشا‪ ،‬حني بدأ البستاني‬
‫يثير العامة‪ ،‬عسى أن تستبدل اآلستانة املتصرف‪ .‬ولدى استفحال‬
‫اخلطر في املناطق املختلطة‪ ،‬بني املوارنة والدروز‪ ،‬طلب رستم باشا‬
‫من الباب العالي إبعاد البستاني‪ .‬فسمح بنفْيه إلى القدس‪.‬‬

‫كان إبعاد املطران املاروني‪ ،‬بطرس البستاني‪ ،‬سابقة في اجلبل‪.‬‬


‫فكان طبيعياً أن يحدِ ث ذلك رد فعل قوياً عند بعض األهالي‪ ،‬الذين‬
‫تثيرهم العصبيات املذهبية‪ .‬أما اإلكليروس املاروني‪ ،‬فقد عَ ّد نفْي‬
‫املطران البستاني‪ ،‬ضربة موجَّ هة إلى نفوذه‪.‬‬

‫واحل��ق‪ ،‬أن��ه لو طبق املتصرف بروتوكول اجلبل‪ ،‬مع القوانني‬


‫املتعلقة به‪ ،‬وتلك السارية في السلطنة العثمانية‪ ،‬حلرمت الكنيسة‬
‫ورجالها من جميع االمتيازات‪ .‬وكان املطارنة على علم بهذا األمر‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫غير أن أساليب اإلث��ارة‪ ،‬وكتابة الشكاوى اجلماعية‪ ،‬واملنشورات‪،‬‬
‫جعلت احلكومة العثمانية تعيد النظر ف��ي إب�ع��اد امل �ط��ران‪ .‬وكانت‬
‫الكنيسة املارونية‪ ،‬تطالب مبنْح احلرية للمطران املبعَد‪ ،‬وبعودته إلى‬
‫دير القمر‪ .‬وتفاقم األم��ر‪ ،‬إلى حد اضطر احلكومة إلى استدعاء‬
‫رستم باشا إلى اآلستانة‪ ،‬في ‪ 3‬شباط ‪ /‬فبراير ‪ ،1879‬للتداول في‬
‫وضع حدّ للصعوبات‪ ،‬التي آثارها نفْي البستاني‪ .‬ويبدو أن مساعي‬
‫فرنسا‪ ،‬في العاصمة العثمانية‪ ،‬اجتهت نحو عزْل املتصرف؛ إذ كان‬
‫عليها أن تختار بني إرضائه وإغضاب اإلكليروس املاروني‪ .‬وأخيراً‬
‫عاد املطران املبعَد‪ ،‬مبوجب قرار‪ ،‬اتخذه رستم باشا‪ ،‬في ‪ 10‬أبريل‬
‫‪ ،1879‬أثناء وجوده في اآلستانة‪.‬‬

‫وكان ال بدّ من وضع حدّ بني السلطة الزمنية وسلطة الكنيسة‪،‬‬


‫وتنظيم املسألة الكنسية املعقدة‪ .‬فنزع نظام ‪ 1864‬من املؤسسات‬
‫الكهنوتية حق حماية العلمانيني أو رج��ال ال��دي��ن‪ ،‬الذين تالحقهم‬
‫النيابة العامة‪ .‬غير أن النظام نفسه‪ ،‬أبقى على استقالل الكهنة‬
‫ال�ق�ض��ائ��ي‪ ،‬باستثناء احل��ال��ة‪ ،‬ال�ت��ي ي�ك��ون أح��د أط��راف�ه��ا علمانياً‪،‬‬
‫إذ أوج��ب أن تنظر فيها احملكمة امل��دن�ي��ة‪ .‬إ ّال أن ه��ذا االستقالل‬
‫القضائي‪ ،‬جعل الكنيسة دولة داخل الدولة‪ ،‬ووفّر لها قوة منظمة‪،‬‬
‫في مواجَ هة السلطة املدنية‪ ،‬خاصة أن دائرة األوقاف‪ ،‬اتّسعت إلى‬
‫حدّ أنها أصبحت تشكل خطراً على اقتصاد البالد‪ ،‬فأغرت الكهنة‬
‫بالدخول في صراعات مع حاكم اجلبل‪.‬‬

‫‪ - 3‬الــدروز‬

‫أما ال��دروز‪ ،‬فكانوا قد يئسوا من استعادة سيادتهم السابقة‪،‬‬


‫واستكانوا لتردي إمكاناتهم االقتصادية‪ .‬فاكتفوا باستمرار زعامتهم‬
‫احمللية‪ ،‬التي تركزت في بعض األُسَ ر الدرزية الكبرى‪ ،‬وبعدم املساس‬

‫‪184‬‬
‫بتقاليدهم‪ ،‬املذهبية واالجتماعية‪.‬‬

‫ال جوهرياً‪ ،‬في فصل منطقة حوران‬ ‫وكان نظام املتصرفية عام ً‬
‫الدرزية عن دروز لبنان‪ .‬ففقدوا الدور القيادي‪ ،‬الذي مارسوه من قبْل‪،‬‬
‫في عهد اإلدارة املصرية‪ ،‬وفي خالل «حوادث الستني»‪ .‬ولذا‪ ،‬لم يظهر‬
‫لهم دور واضح في تطور أحداث لبنان‪ ،‬خالل عهد املتصرفية‪.‬‬

‫أما العامل الثاني ال��ذي قلّل من شأن ال��دروز‪ ،‬فهو انخفاض‬


‫املستوى الثقافي‪ .‬إلى جانب ما كتبه املوارنة عن أنفسهم‪ ،‬وقِ لة من‬
‫كتب عن الدروز‪.‬‬

‫وظل وج��ود ال��دروز في اجلبل مقصوراً على منطقة الشوف‪،‬‬


‫باستثناء دير القمر‪ ،‬التي طُ ردوا منها نهائياً‪ .‬أما في شمالي اجلبل‪،‬‬
‫فظلوا في مَواقعهم التقليدية‪ ،‬في منطقة عاليه وما حوْلها‪.‬‬

‫واضطر الدروز إلى مسايرة داود باشا‪ ،‬ألسباب عدة‪ .‬أهمها‬


‫الفرقة بينهم وبني املسيحيني‪ ،‬بعد «حوادث الستني»‪ .‬وقضاء نظام‬
‫املتصرفية ع�ل��ى ن�ظ��ام اإلق �ط��اع‪ ،‬ال��ذي ك��ان��وا‪ ،‬ف��ي ظ�ل��ه‪ ،‬مستقلني‬
‫ع��ن اآلس�ت��ان��ة‪ .‬وق�ض��اء النظام اجل��دي��د على م��رك��زه��م‪ ،‬االجتماعي‬
‫والعسكري‪ ،‬في اجلبل‪ .‬إضافة إلى أنهم أصبحوا مجزّئي األوصال؛‬
‫إذ خرجوا من احلرب األهلية بال قيادة‪ ،‬بعد نفْي أغلب زعمائهم‪،‬‬
‫وف�ق��دوا كيانهم السياسي‪ ،‬القائمقامية ال��درزي��ة‪ ،‬وب��ات عليهم أن‬
‫يخضعوا‪ ،‬في ظل نظام املتصرفية‪ ،‬حلاكم مسيحي‪ .‬ومما زاد في‬
‫ضيقهم الدفني‪ ،‬متتُّع الكاثوليك واألرثوذكس مبا متتَّع به املوارنة‪،‬‬
‫وهم الذين كانوا يقفون في وجههم موقف الند للند‪.‬‬

‫‪ - 4‬الشيعة‬

‫فصلهم‬
‫طاملا شعر الشيعة بأن نظام املتصرفية قد ظلمهم‪ ،‬إذ َ‬

‫‪185‬‬
‫عن متصرفية لبنان‪ .‬بيد أن شيعة البقاع أَنِسوا إلى خروجهم من‬
‫نظام حُ كم‪ ،‬يرأسه مسيحي‪ .‬ولكن‪ ،‬خالل النصف الثاني من القرن‬
‫التاسع عشر‪ ،‬بات الشيعة يعانون ضغط احلُكم السُّ ني‪ ،‬العثماني‪.‬‬
‫وك��راه�ي�ت�ه��م ل�ن�ظ��ام احل �ك��م ال�ع�ث�م��ان��ي‪ ،‬ول�ل��رئ��اس��ة املسيحية لنظام‬
‫املتصرفية‪ ،‬حملتهم‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬على رفض ضمهم إلى دول��ة لبنان‬
‫الكبير‪ ،‬بل طالبوا بنوع من االستقالل عن نظام االنتداب‪.‬‬

‫‪ - 5‬الروم األرثوذكس‬

‫أم��ا ال��روم األرث��وذك��س‪ ،‬فقد كانوا في مستوى ثقافي‪ ،‬أق � ّل مما‬


‫ك��ان عليه امل��وارن��ة‪ .‬كما أنهم ل��م يتمتعوا مبظاهرة دول��ة ك�ب��رى‪ ،‬كما‬
‫املوارنة‪ .‬لذلك‪ ،‬فقد استكانوا لنظام املتصرفية‪ ،‬لعجزهم عن مقاومته‪،‬‬
‫من ناحية‪ ،‬وألنه لم يتعرض لتقاليدهم االجتماعية‪ ،‬من ناحية أخرى‪.‬‬
‫إال أنهم أصبحوا عرضة لنشاط اجلمعيات التبشيرية‪ ،‬البروتستانتية‬
‫والكاثوليكية‪ .‬وجنحت اجلمعيات التبشيرية البروتستانتية في حتويل‬
‫عدد منهم إلى املذهب البروتستانتي‪ .‬يضاف إلى ذلك‪ ،‬أن روسيا فتحت‬
‫قنوات معهم‪ ،‬وإن كان ذلك على نطاق محدود‪ ،‬بالنسبة إليهم‪ .‬إال أن ذلك‬
‫لم يجعل منهم قوة معادلة للموارنة‪ .‬ولذلك‪ ،‬لم يكن لهم دور في مقاومة‬
‫نظام املتصرفية‪ ،‬إال بالقدر الذي يح ّد من التفوق املاروني فقط‪.‬‬

‫‪ - 6‬دور التعليم والبعثات التبشيرية‬

‫وص��ل إل��ى ل�ب�ن��ان‪ ،‬ف��ي أوائ ��ل ال �ق��رن ال�ت��اس��ع ع �ش��ر‪ ،‬البعثات‬
‫التبشيرية الكاثوليكية‪ ،‬وهي فرنسية‪ ،‬والبعثات التبشيرية اإلجنيلية‬
‫(البروتستانتية)‪ ،‬وهي أمريكية‪ ،‬في األغلب‪ ،‬إضافة إلى املؤسسات‬
‫التبشيرية البريطانية‪ .‬وكان لكل من هذه البعثات دورها في ترسيخ‬
‫الطائفية‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫اتّبع املبشرون األمريكيون نظاماً تبشيرياً‪ ،‬يختلف عن أمثاله‪،‬‬
‫البريطاني‪ ،‬والهولندي واألسباني؛ إذ إن البريطانيني والهولنديني‬
‫واألسبان يبعثون باملبشرين بعد اجلنود‪ ،‬بعكس املبشرين األمريكيني‪،‬‬
‫الذين اجتهوا نحو أزمير ‪ Izmir‬وغيرها‪ ،‬بعد التجار‪ ،‬دون أهداف‬
‫سياسية قوية‪ ،‬واضحة‪ .‬ومن ثَ��م‪ ،‬فقد كان الطابع الروحي‪ ،‬الذي‬
‫أ ُضفي على املبشرين األمريكيني‪ ،‬غير مشكوك فيه‪ ،‬خاصة أنهم‬
‫لا ع��ن أن‬
‫وص�ل��وا ف��ي ظ��روف ال�ت��واف��ق األوروب ��ي ف��ي املنطقة‪ ،‬ف�ض� ً‬
‫املؤسسات الروحية‪ ،‬البريطانية واألمريكية‪ ،‬كانت متشابهة إلى ح ّد‬
‫كبير‪ ،‬وأن االنفصال السياسي‪ ،‬بني األمريكيني واإلنكليز‪ ،‬لم يصاحبه‬
‫انفصال في مؤسساتهما الروحية‪.‬‬

‫وكانت البعثات التبشيرية البروتستانتية األمريكية األولى‪،‬‬


‫تهدف إلى‪:‬‬

‫‪ - 1‬إعالء شأن البروتستانت في الشرق‪.‬‬

‫‪ - 2‬حتويل املسلمني واليهود إلى البروتستانتية‪.‬‬

‫‪ - 3‬غزو العقيدة اإلسالمية في عقر دارها‪.‬‬

‫‪ - 4‬نشر البروتستانتية‪.‬‬

‫‪ - 5‬جمع املعلومات عن منطقة الشرق‪ ،‬العربي واإلسالمي‪،‬‬


‫حتى فارس‪.‬‬

‫وكانت العقبات التي وقفت في وجه نشاط البعثات التبشيرية‬


‫األمريكية‪ ،‬في املنطقة‪ ،‬تكمن في‪:‬‬

‫‪ - 1‬جهل اللغات كافة‪ ،‬املنتشرة في الشرق‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫‪ - 2‬الطوائف بعضها من بعض‪ .‬وحذرها جميعاً الفكر املذهبي‬
‫األجنبي‪ ،‬الوارد‪.‬‬

‫‪ - 3‬نظام ا ِملل َل‪ ،‬ال��ذي منح كل طائفة من الطوائف الدينية‪،‬‬


‫حق حماية نفسها من تعديات أي طائفة أخ��رى‪ ،‬األمر‬
‫الذي عوق نشاط البروتستانت‪.‬‬

‫وقد حققت اإلرسالية األرثوذكسية األمريكية بداية حسنة‪ ،‬في‬


‫حقل التعليم‪ ،‬خالل النصف األول من القرن التاسع عشر؛ إذ أنشأت‬
‫عدداً من املدارس اخلارجية‪ ،‬ومعهداً داخلياً في بيروت‪ ،‬وآخر في‬
‫عبيه‪ ،‬وبضع مدارس في أنحاء من جبل لبنان‪ ،‬انتظم فيها عدد من‬
‫التالميذ‪ ،‬يراوح بني ‪ 300‬و‪ 400‬تلميذ‪.‬‬

‫وكان األسلوب األول‪ ،‬الذي اتخذه املبشرون األمريكيون وسيلة‬


‫الستمالة أه��ل البالد‪ ،‬هو تعليم اللغة اإلنكليزية‪ .‬فأقبل التالميذ‬
‫على تعلّمها‪ ،‬فانتشر أمر النشاط البروتستانتي‪ ،‬مما دعا اإلكليروس‬
‫احمللي إل��ى مقاومته‪ ،‬فتشتت التالميذ‪ ،‬ال��ذي��ن التحقوا بالفصول‬
‫األمريكية‪ .‬واتّسع نشاط البعثة‪ ،‬على الرغم من مقاومة اإلكليروس‪،‬‬
‫املاروني واألرثوذكسي‪ ،‬على ح ّد سواء‪ .‬وبذلت اجلهود للحؤول دون‬
‫تعليم األوالد في املدرسة البروتستانتية‪ .‬غير أن تلك اجلهود باءت‬
‫بالفشل؛ إذ كان أبناء طائفة الروم األرثوذكس وتالميذها‪ ،‬أكثر جرأة‬
‫على بطريركهم من جرأة املوارنة على كبيرهم‪.‬‬

‫وقد تصوَّر بعض أعضاء البعثة التبشيرية األمريكية‪ ،‬أن جانباً‬


‫من ال��دروز‪ ،‬كان على استعداد للتحول إلى البروتستانتية‪ .‬واتخذ‬
‫املبشر األمريكي بيرد‪ ،‬من القرية الدرزية‪ ،‬عاليه‪ ،‬مركزاً للتبشير‬
‫بني ال��دروز‪ .‬كما زار املبشر سميث‪ ،‬عدة ُق��رى درزي��ة‪ ،‬ليتحقق من‬

‫‪188‬‬
‫التنصر سوى قلّة قليلة‬
‫ّ‬ ‫حاجتها إلى مدرسني‪ .‬غير أنه لم يرغب في‬
‫جداً من الدروز‪ .‬وما كان إقبال الدروز على أفراد البعثة التبشيرية‬
‫األمريكية‪ ،‬إ ّال وسيلة‪ ،‬وليس غاية‪ .‬وانتهى األمر بأن تخلّص الدروز‬
‫من املبشرين ومن املدرسني األجانب‪.‬‬

‫على الرغم من كثرة املدارس البروتستانتية األمريكية‪ ،‬وجهودها‬


‫الدائبة‪ ،‬خالل العشرينيات والثالثينيات من القرن التاسع عشر‪،‬‬
‫فإن اللبنانيني‪ ،‬الذين اعتنقوا البروتستانتية‪ ،‬كانوا قلة‪ ،‬نظراً إلى‬
‫العقبات‪ ،‬اخلارجية والداخلية‪ ،‬التي اعترضتها‪ ،‬إذ تزامنت احلربان‬
‫ال‬
‫األهليتان‪ ،‬األمريكية واللبنانية‪ ،‬فتدنّى اإلم��داد ب��األم��وال‪ .‬فض ً‬
‫عن أن بعثات تبشيرية أوروب�ي��ة ع��دي��دة‪ ،‬كاثوليكية وبروتستانتية‪،‬‬
‫بدأت‪ ،‬منذ عام ‪ ،1860‬تتوافد على البالد‪ ،‬منها البعثة الكاثوليكية‬
‫الرومانية‪ ،‬والبعثة البريطانية السورية‪ .‬وكانت «اجلزويت» أقوى تلك‬
‫البعثات‪ ،‬إذ شمل نشاطها املدن الرئيسية في لبنان‪ ،‬ابتداء من عام‬
‫‪.1831‬‬

‫أم��ا ال�ف��ات�ي�ك��ان‪ ،‬ف�ق��د خ�ش��ي ال �ن �ش��اط ال�ت�ب�ش�ي��ري األمريكي‪،‬‬


‫البروتستانتي‪ ،‬فسارع إلى حثّ البطريرك املاروني‪ ،‬والقاصد الرسولي‬
‫إلى الشام وفلسطني‪ ،‬على أن يحُ وال دون استمرار النشاط التبشيري‬
‫األم��ري �ك��ي‪ .‬وك��ذل��ك ض� ّي��ق امل��وارن��ة ع�ل��ى ن �ش��اط ال�ب�ع�ث��ة التبشيرية‬
‫األمريكية‪ ،‬على املستويات‪ ،‬احلكومية والشعبية واملذهبية‪.‬‬

‫يكف املبشر األمريكي‪ ،‬هنري جيسوب‪ ،‬عداؤه لنظام الدولة‬ ‫ولم ِ‬


‫العثمانية‪ ،‬فجاهر بعدائه لإلسالم نفسه‪ ،‬بكل تعصب وحماسة‪ .‬وفي‬
‫عام ‪ ،1879‬ألقى كلمة في «جمعية عمومية» للكنيسة‪ ،‬البرسبتارية‪،‬‬
‫في ساراتوجا‪ ،‬في الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬بلوَر فيها فلسفته‪،‬‬
‫في شأن أهداف البعثات التبشيرية‪ .‬ودعا إلى اإلفادة من الوسائل‪،‬‬

‫‪189‬‬
‫السياسية والتبشيرية والتعليمية‪ ،‬لتنصير املسلمني‪ .‬وك��ان يضع‬
‫األس��ال�ي��ب السياسية ق�بْ��ل األس��ال�ي��ب‪ ،‬التبشيرية وامل��ذه�ب�ي��ة‪ .‬وعُدَّ‬
‫ذلك تغييراً أساسياً في فلسفة التبشير‪ .‬وك��ان املبشرون ي��رون أن‬
‫ارتباط الدولة العثمانية باإلسالم‪ ،‬وجعله الدين الرسمي للدولة‪،‬‬
‫هما العقبة في طريق انتشار التبشير بني املسلمني‪ .‬ولذلك‪ ،‬دعا‬
‫جيسوب إلى «حماية بريطانية» على الواليات العثمانية اآلسيوية‪،‬‬
‫ال على التخلص من تلك العقبة؛ إذ إنه ق� ّدر أن تلك احلماية‪،‬‬ ‫عم ً‬
‫ال عن أن نشاط‬ ‫ستجعل التحول إلى النصرانية أمراً مشروعاً‪ ،‬فض ً‬
‫اجلمعيات التبشيرية‪ ،‬سيفتح الطريق أم��ام املسيحيني‪ ،‬اإلنكليز‬
‫واألمريكيني‪ ،‬إلى السيطرة‪ ،‬سياسياً‪ ،‬على البالد اإلسالمية‪ .‬وكان‬
‫هذا املبشر (‪ ،)1888‬يرى أن الشرق العربي‪ ،‬كان يقع حتت «السيادة‬
‫اإلنكليزية»‪ ،‬بينما كانت الواليات املتحدة األمريكية‪« ،‬متتلك» عقول‬
‫أهل سورية وقلوبهم‪.‬‬

‫وملّ��ا ص��درت تعليمات الباب العالي‪ ،‬بالتوسع في التعليم ذي‬


‫النظُ م احلديثة‪ ،‬ونشط العثمانيون في فتح امل��دارس‪ ،‬على اختالف‬
‫مستوياتها رأت البعثات التبشيرية ذلك خطراً شديداً على نشاطها‪.‬‬
‫وك��ان اع �ت��راض البعثات التبشيرية ش��دي��داً على امل ��ادة ‪ ،129‬من‬
‫قانون التعليم العثماني‪ ،‬إذ كانت تفرض أن يكون معلمو املدارس‪،‬‬
‫العائدة للبعثات التبشيرية‪ ،‬ذوي مؤهالت‪ ،‬تعترف بها وزارة املعارف‬
‫العثمانية‪ ،‬وأن ترسل نسخ من املناهج والكتب‪ ،‬التي تدرَّس في تلك‬
‫املدارس‪ ،‬إلى وزارة املعارف‪ ،‬أو فروعها في مراكز الواليات العثمانية‪،‬‬
‫حتى تصدر املوافقة عليها‪ ،‬أو حتذف غير املالئم منها‪ .‬وال شك أن‬
‫الهدف من وراء ذل��ك‪ ،‬متثّل في التخلص من أي مناهج‪ ،‬تتعارض‬
‫مع سياسة النظام العثماني وأخالقياته وأهدافه‪ .‬وحينما أقدمت‬
‫احلكومة العثمانية على إغالق أربع مدارس‪ ،‬تابعة للبعثة التبشيرية‬

‫‪190‬‬
‫األمريكية‪ ،‬خالفت تلك التعليمات‪ ،‬شنّ املبشرون األمريكيون حملة‬
‫شعواء‪ ،‬على ما أسموه بعدوان الدولة على بناء الكنائس واملدارس‬
‫واملستشفيات‪ .‬وحتركت القوى البروتستانتية‪ ،‬مع أن املسألة ال تزيد‬
‫على كوْنها إجراءات معتادة في الدولة العثمانية‪ ،‬وسواها من الدول‪.‬‬
‫ودعت احلكومة البريطانية إلى العمل على إيقاف «االضطهاد التركي»‬
‫للمسيحيني‪ .‬كما دعت أملانيا ودول أوروبية أخرى إلى الضغط على‬
‫ال��دول��ة العثمانية‪ ،‬م��ن أج��ل «حتقيق» حرية العقيدة «وحمايتها»‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬كان أسلوب البعثات التبشيرية في احلفاظ على مقومات‬
‫نشاطها‪ ،‬وف��ي احل �ص��ول على ام �ت �ي��ازات ج��دي��دة‪ ،‬م��ن ط��ري��ق إثارة‬
‫بصلة إلى املسألة التي كانت مثار اخلالف‪.‬‬ ‫القضايا‪ ،‬التي ال متتّ ِ‬
‫وكانت هذه القضايا تثار بذكاء‪ ،‬وتستهدف إثارة املشاعر ضد الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬في مختلف أجزاء أوروبا وأمريكا‪ ،‬حتى تضطر السلطات‬
‫العثمانية إلى الرضوخ‪.‬‬

‫وقد عمدت السلطات العثمانية إلى إغ�لاق عدد من املدارس‪،‬‬


‫التابعة للبعثة التبشيرية األمريكية‪ ،‬تنفيذاً للمادة ‪ 129‬من قانون‬
‫املدارس‪ ،‬األجنبية واخلاصة‪ ،‬ألن املبشرين األمريكيني البروتستانت‪،‬‬
‫كانوا قد عملوا على تأسيس هذه املدارس في مناطق‪ ،‬أغلبية سكانها‬
‫م��ن املسلمني‪ ،‬بينما ك��ان العثمانيون يسمحون للبعثات التبشيرية‬
‫بتأسيس مدارسها‪ ،‬في املناطق ذات األكثرية املسيحية‪ .‬وكانت البعثات‬
‫التبشيرية‪ ،‬غير األمريكية‪ ،‬تراعي تطبيق هذه السياسة‪ .‬وكان املبشرون‬
‫األم��ري�ك�ي��ون يثيرون مشاعر اإلجنليز واألم��ري�ك�ي�ين‪ ،‬ض��د م��ا أسموه‬
‫«بالتعديات العثمانية على املسيحية واملسيحيني»‪ ،‬وعلى التدخل التركي‬
‫«الشخصي»‪ ،‬في أعمال البعثات التبشيرية ونشاطها‪ ،‬مثل ادعائهم‪:‬‬

‫‪ - 1‬إب �ع��اد إح��دى ال�ب�ع�ث��ات التبشيرية ع��ن إرب��د (ش��رق نهر‬


‫األردن)‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫‪ - 2‬رفض إقامة كنيسة ثانية للبروتستانت‪ ،‬في صيدا‪.‬‬

‫‪« - 3‬إص� ��رار» األت ��راك ع�ل��ى م�ن��ع ح��ري��ة ال �ع �ب��ادة‪ ،‬بإغالقهم‬
‫مدرستَني في قريتَني‪ ،‬في منطقة بانياس‪.‬‬

‫‪ - 4‬ع��دم شرعية إغ�لاق امل��دارس امل ُقامة في ُق��رى‪ ،‬تقع بني‬


‫طرابلس وحماه‪.‬‬

‫‪ - 5‬رفض السلطات العثمانية بناء مستشفى‪ ،‬في الناصرة‪.‬‬

‫وك��ان علي باشا‪ ،‬وزي��ر خارجية احلكومة العثمانية‪ ،‬قد وجّ ه‬


‫مذكرة مسهَبة إلى بولور‪ ،‬السفير البريطاني في اآلستانة‪ ،‬في ‪30‬‬
‫تشرين الثاني ‪ /‬نوفمبر ‪ ،1865‬جاء فيها‪:‬‬

‫‪ - 1‬منح اخل��ط الهمايوني ط��وائ��ف ال��دول��ة العثمانية كافة‪،‬‬


‫ضماناً للحرية املذهبية‪ ،‬ه��و أق��وى م��ن ذل��ك الضمان‪،‬‬
‫املمنوح في بعض الدول األوروبية‪.‬‬

‫‪ - 2‬يوفر اخلط الهمايوني حماية كل طائفة من عدوان طائفة‬


‫أخرى عليها‪.‬‬

‫‪ - 3‬تُفرض عقوبات شديدة في بريطانيا على من يتعرّض‬


‫حلقيقة املسيحية‪ ،‬فلماذا حترم الدولة العثمانية احلفاظ‬
‫على عقيدتها‪ ،‬بِسَ ن التشريعات املالئمة؟‬

‫‪ - 4‬تخلّت البعثات التبشيرية عن األسلوب الهادئ‪ ،‬وعمدت إلى‬


‫استغالل احلاجات‪ ،‬االقتصادية واالجتماعية‪ ،‬في إغراء‬
‫العامة والبسطاء بالتحول عن عقيدتهم‪ ،‬وهو أسلوب كفيل‬
‫بإثارة املشكالت الطائفية‪ ،‬في كيان متع ِّدد‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫الفصل اخلامس‬
‫الدستور اللبناني واحلرب األهلية‬

‫مع تتابع األحداث التاريخية في لبنان‪ ،‬شهدت بدايات القرن‬


‫العشرين اجتاهاً نحو مزيد من ترسيخ الطائفية‪ ،‬من خالل الدستور‬
‫تبي نظام احلكم في‬‫اللبناني‪ .‬واملفارقة أن الدساتير‪ ،‬توضع لكي نِّ‬
‫دول��ة مستقلة‪ ،‬في حني‪ ،‬وضع الدستور اللبناني ليحكم دول��ة حتت‬
‫االنتداب‪ .‬وكان ال بدّ لهذه النشأة أن تترك أثرها في كيفية وضع‬
‫الدستور‪ ،‬وفي أحكامه‪ ،‬ثم في طريقة تطبيقه‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬والدة الدستور‬

‫بعد أن وضعت احلرب العاملية األولى أوزارها‪ ،‬واستقر األمر‬


‫لفرنسا في سورية ولبنان‪ ،‬إثر انتدابها من قِ بل عصبة األمم‪ ،‬لتولّي‬
‫شؤونهما‪ ،‬وفقاً ملا جرى من تقسيمات للمنطقة‪ ،‬في أروقة السياسة‬
‫الدولية بعد ذلك كله‪ ،‬عينت فرنسا أحد مواطنيها‪ ،‬هنري دو جوفنيل‪،‬‬
‫مندوباً سامياً في سورية‪ .‬وبدأ دو جوفنيل عمله بجوالت في بعض‬
‫املدن السورية الكبرى‪ .‬صرح في إحداها بضرورة قيام «دولة سورية‬

‫‪193‬‬
‫امل�ت�ح��دة»‪ .‬وأث��ار ه��ذا التصريح م�خ��اوف الطوائف املسيحية‪ ،‬على‬
‫أساس أن ذلك قد يعني فقدان لبنان ذاتيته‪ ،‬ليصبح جزءاً من دولة‬
‫سورية الكبرى‪.‬‬

‫إال أن املفوض السامي‪ ،‬اضطر‪ ،‬لدى عودته إلى لبنان‪ ،‬ووقوفه‬


‫على توتر الرأي العام اللبناني‪ ،‬إلى إصدار بيان‪ ،‬يوضح فيه أنه لم‬
‫يقصد املعنى‪ ،‬الذي أثار مخاوف اللبنانيني‪ ،‬وأنه لم يفكر في املساس‬
‫بالكيان الذاتي اللبناني‪ .‬وأضاف أنه سيدعو املجلس النيابي‪ ،‬خالل‬
‫مهلة قصيرة‪ ،‬إلى وضع دستور الدولة‪.‬‬

‫وبهذا الوعد‪ ،‬أفسح دو جوفنيل املجال أمام املجلس اجلديد‪،‬‬


‫ليجتمع‪ ،‬على الفور‪ ،‬وينتخب جلنة‪ ،‬تختص بإعداد الدستور‪ ،‬وتنسيق‬
‫بنوده‪ .‬وأوكل إليها استشارة الهيئات الرسمية‪ ،‬والشخصيات الدينية‬
‫وأص�ح��اب ال��رأي‪ ،‬م��ن كبار املوظفني والقضاة واحمل��ام�ين‪ .‬فانقلب‬
‫املجلس التمثيلي‪ ،‬منذ تلك اللحظة‪ ،‬مجلساً تأسيسياً‪ ،‬ليصبح مجلساً‬
‫نيابياً‪ ،‬بعد إع�لان الدستور‪ .‬وانتخب بترو ط��راد وميشال شيحا‪،‬‬
‫مق ِّررَين لتلك اللجنة‪ .‬فأعدّ ا أسئلة خطية‪ ،‬حول املبادئ األساسية‬
‫للدستور اجلديد‪ ،‬ونوع احلكم‪ ،‬ونظام االنتخاب والتمثيل‪ ،‬أرسالها‬
‫إل��ى املقامات امل��ذك��ورة‪ ،‬لإلجابة عنها‪ .‬وعندما استكملت األجوبة‬
‫اخلطية‪ ،‬د ُِع��ي املشار إليهم إل��ى احلضور أم��ام اللجنة‪ ،‬لالستماع‬
‫إل��ى آرائ�ه��م‪ ،‬شفهياً‪ ،‬ومناقشتهم في املوضوعات امل�ث��ارة‪ .‬فاتسعت‬
‫االستشارات اتساعاً كبيراً‪ ،‬ووضعت اللجنة مشروع الدستور‪ ،‬وأقرته‬
‫باالتفاق مع شارل دباس‪ ،‬ممثل احلكومة‪ ،‬مدير العدل‪ ،‬و«سولومياك»‬
‫مندوب املفوض السامي في لبنان‪ ،‬و«سوشيه»‪ ،‬املوظف املختص بهذه‬
‫املهمة‪ ،‬والذي أظهر تفهّماً للوضع اجلديد‪ .‬ولم يغفل القائمون على‬
‫مشروع الدستور عن نصوص حتفظ حقوق االنتداب الفرنسي‪ .‬وقد‬
‫عنى ذلك‪ ،‬أن الصفة الغالبة على طريقة وضع الدستور‪ ،‬أنه جاء من‬

‫‪194‬‬
‫طريق جمعية تأسيسية منتخَ بة‪.‬‬

‫وم��ا أن ا ُّت �ف��ق ع�ل��ى ال �ن �ص��وص ج�م�ي�ع�ه��ا‪ ،‬ح�ت��ى أع �ل��ن املفوض‬


‫السامي‪ ،‬في املجلس النيابي‪ ،‬أم��ام ممثلي الشعب‪ ،‬وأم��ام احلاكم‪،‬‬
‫ومجلس امل��دي��ري��ن‪ ،‬وك�ب��ار امل��وظ�ف�ين‪ ،‬وال�ق�ض��اة‪ ،‬ال��دس�ت��ور اللبناني‪،‬‬
‫عي‪ ،‬بقرار من املفوض السامي‪ ،‬مجلس‬ ‫ووضعه موضع التنفيذ‪ .‬ثم نّ‬
‫شيوخ‪ ،‬قوامه ستة عشر شيخاً‪ .‬وأصبح املجلس التأسيسي مجلساً‬
‫نيابياً‪ .‬ودُعي املجلسان إلى انتخاب رئيس للجمهورية‪.‬‬

‫أعلن حاكم لبنان‪ ،‬باسم املفوضية السامية‪ ،‬أن للمجلس التمثيلي‪،‬‬


‫وحده‪ ،‬احلق في وضع الدستور‪ ،‬مع االحتفاظ بحقوق الدولة املنت َدبة‪،‬‬
‫التي حتدَّ د‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬في تصريح من املفوض السامي‪ .‬وعلى الفور‪،‬‬
‫انتخب املجلس‪ ،‬من بني أعضائه‪ ،‬جلنة من اثني عشر عضواً‪ ،‬لهذه‬
‫ال�غ��اي��ة‪ .‬وه��م شلبي دم��وس‪ ،‬عمر ال��داع��وق‪ ،‬ف��ؤاد أرس�ل�ان‪ ،‬يوسف‬
‫سالم‪ ،‬جرجس زوي��ن‪ ،‬بترو ط��راد‪ ،‬ميشال شيحا‪ ،‬روك��ز أبو ناضر‪،‬‬
‫صبحي حيدر‪ ،‬عبود عبد الرازق‪ ،‬جورج ثابت ويوسف الزين‪ .‬وقرر‬
‫من��ور‪ .‬ولدى‬ ‫املجلس‪ ،‬أن تعقد اللجنة اجتماعاتها برئاسة موسى ّ‬
‫إكمالها مهمتها‪ ،‬عُرض مشروع الدستور على املجلس‪ ،‬الذي درسه‬
‫في ثالثة أيام‪ ،‬بني ‪ 18‬و‪ 21‬أيار ‪ /‬مايو ‪ ،1926‬ووافق عليه‪ ،‬وكذلك‬
‫واف��ق عليه املفوض السامي في ‪ 22‬أيار‪/‬مايو‪ ،‬ونُشر في ‪ 23‬أيار‬
‫‪ /‬مايو ‪ .1926‬فالسلطة التأسيسية‪ ،‬التي وضعت الدستور وأقرته‪،‬‬
‫انحصرت‪ ،‬أخيراً‪ ،‬في املجلس التنفيذي‪ ،‬الذي بقي‪ ،‬مبوجب املادة‬
‫‪ ،97‬متابعاً أعماله حتى انتهاء أجل نيابته‪ ،‬باسم مجلس النواب‪.‬‬

‫إن واضع الدستور‪ ،‬حقيقة‪ ،‬هو السلطة املنت َدبة‪ .‬فالفرنسيون‬


‫ان�ف��ردوا بوضع مشروعه‪ ،‬ع��ام ‪ ،1924‬ول��م يستشيروا أه��ل البالد‬
‫ف��ي ذل��ك‪ .‬وع�ل��ى ال��رغ��م م��ن تصريح «ب��ري��ان»‪ ،‬ف��ي مجلس الشيوخ‬

‫‪195‬‬
‫الفرنسي‪ ،‬عام ‪ ،1925‬بأن أهل البالد سيشتركون في وضع النظام‬
‫األساسي‪ ،‬وعلى الرغم من تأكيد ذلك من قِ بل املفوض السامي فإن‬
‫مشروع الدستور‪ ،‬ك��ان من وض��ع الفرنسيني‪ ،‬وح��ده��م‪ .‬وق��د عُرض‬
‫على املجلس التمثيلي‪ ،‬فناقشه‪ ،‬بسرعة‪ .‬ثم نشره املفوض السامي‪،‬‬
‫عام ‪ .1926‬مما يعني أن مضمون الدستور اللبناني‪ ،‬أملته سلطة‬
‫ص ْوغُه‪ ،‬فعبّر عن إرادة مشتركة‪ ،‬متثلت في املجلس‬ ‫االنتداب‪ .‬أما َ‬
‫التمثيلي واملفوض السامي معاً‪.‬‬

‫تضمنت امل��ادة األول��ى من تصريح انتداب فرنسا على سورية‬


‫ول �ب �ن��ان‪ ،‬م��ا يفيد أن امل �ف��وض ال�س��ام��ي ال�ف��رن�س��ي‪ ،‬سيضع قانوناً‬
‫أساسياً للحُ كم‪ ،‬خالل ثالث سنوات‪ ،‬منذ بدء االنتداب (‪،)1923‬‬
‫على أن تشترك بتهيئته السلطات احمللية‪ ،‬وأن يأخذ هذا القانون‬
‫ف��ي احلسبان حقوق جميع السكان‪ ،‬القاطنني ف��ي ه��ذه األراضي‪،‬‬
‫ومصاحلهم وأمانيهم‪ .‬وسيتضمن السبُل الكفيلة بتسهيل تق ُّدم سورية‬
‫ولبنان‪ ،‬بالتدريج‪ ،‬لكي يصبحا دولتَني مستقلتَني‪ .‬وفي بداية األمر‪،‬‬
‫سوَّفت سلطة االنتداب بالدستور‪ ،‬ولم يب ُد منها ما يدل على أنها‬
‫تأخذه مأخذ اجلد‪ ،‬فنشبت ثورة مسلحة‪ ،‬في كل من سورية ولبنان‪،‬‬
‫طالبت باالستقالل‪ ،‬وبوضع الدستور‪.‬‬

‫وإزاء ه��ذه ال �ث��ورة‪ ،‬اض �ط��رت ف��رن�س��ا أن ت�ع�ل��ن‪ ،‬أن�ه��ا ستتخذ‬


‫اإلج ��راءات ال�لازم��ة‪ ،‬لتمكني ممثلني منتخَ بني م��ن مناقشة النظام‬
‫الدستوري املالئم وتقريره‪ ،‬مبا ال يتعارض مع استمرار االنتداب‬
‫و«س �ع �ي��ه» إل ��ى م �س��اع��دة ال� �ب�ل�اد‪ ،‬ح �ت��ى ت�ت�م�ك��ن م��ن ب �ل��وغ رشدها‬
‫السياسي‪.‬‬

‫وع �ق��ب ذل ��ك‪ ،‬ش�ك�ل��ت ف��ي وزارة اخل��ارج �ي��ة ال�ف��رن�س�ي��ة جلنة‬
‫وضع مشروع الدستور‬ ‫ثالثية‪ ،‬برئاسة «بول بونكدر»‪ ،‬كانت مهمتها ْ‬

‫‪196‬‬
‫اللبناني‪ .‬وبادرت السلطات االنتدابية‪ ،‬متويهاً‪ ،‬إلى االتصال ببعض‬
‫رج��ال الدين وبعض كبار املوظفني‪ ،‬تسألهم آراءه��م ومقترحاتهم‪،‬‬
‫حول شكل احلُكم‪ ،‬وعالقة لبنان بفرنسا‪ .‬وكانت أجوبتهم تُرسل إلى‬
‫اللجنة الثالثية‪ ،‬في باريس‪ .‬وعلى الرغم من وجود مجلس متثيلي‪،‬‬
‫وضع الدستور‪ ،‬فإن ذلك املجلس‪ ،‬لم يُرَد له‪ ،‬في‬
‫منتخب لإلسهام في ْ‬
‫أحس‬
‫ّ‬ ‫بداية األمر‪ ،‬أن يشارك في شيء يتعلق بوضع الدستور‪ .‬ومل ّا‬
‫أعضاء املجلس بذلك التجاهل‪ ،‬اتصلوا بسلطات االنتداب‪ ،‬محتجني‬
‫وضع الدستور‪.‬‬
‫ومطالبني مبمارسة حقهم في االشتراك في ْ‬

‫حاولت سلطات االنتداب املضي في جتاهلها املجلس‪ ،‬ورأت‬


‫أن دور السلطات احمللية‪ ،‬يقتصر على استطالع رأي بعض رؤساء‬
‫الطوائف الدينية‪ ،‬وبعض ذوي املكانة من اللبنانيني‪ .‬ف��ر ّد أعضاء‬
‫املجلس بإثارة املوضوع‪ ،‬في جلسة ‪ 17‬تشرين األول‪/‬أكتوبر ‪،1925‬‬
‫ح�ين أل�ق��ى الشيخ ي��وس��ف اخل��ازن خ�ط��اب�اً‪ ،‬أخ��ذ فيه على السلطة‬
‫بوضع الدستور‪ ،‬من دون الرجوع إلى املجلس‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫الرسمية انفرادها‬
‫السلطة الرسمية الوحيدة القائمة في البالد‪.‬‬

‫ور ّد مندوب املفوض السامي‪ ،‬أنه ال يتفق مع أعضاء املجلس‪،‬‬


‫ف��ي وجهة نظرهم‪ ،‬وأن سلطات االن �ت��داب‪ ،‬أوف��ت‪ ،‬ف��ي استشارتها‬
‫بعض اللبنانيني‪ ،‬بالتزامها املنصوص عليه في صك االنتداب‪ .‬وأنها‬
‫مستعدة لسماع رأي املجلس‪ ،‬بل آراء جميع اللبنانيني‪ ،‬الراغبني في‬
‫إبداء آرائهم في املوضوع‪ .‬وعند عرض هذا االقتراح‪ ،‬أقرّه املجلس‬
‫باألغلبية‪.‬‬

‫وكان ملوقف املجلس صداه في فرنسا نفسها؛ إذ عمدت إلى‬


‫تغيير مفوضها السامي‪ ،‬العسكري‪ ،‬في سورية ولبنان‪ ،‬واستبدلت‬
‫ب��ه مفوضاً سامياً آخ��ر‪ ،‬ه��و هنري دو جوفنيل‪ ،‬ال��ذي ك��ان عضواً‬

‫‪197‬‬
‫أرسل ليهادن احلركة الوطنية‬
‫في مجلس الشيوخ الفرنسي‪ ،‬والذي ِ‬
‫واملجلس التمثيلي‪ ،‬ويعطيه دوراً أكثر وضوحاً‪ ،‬ولو في الظاهر‪ ،‬في‬
‫وضع مشروع الدستور‪.‬‬
‫ْ‬

‫ثاني ًا‪ :‬الطائفية في الدستور‬

‫نص الدستور اللبناني‪ ،‬في مبادئه األساسية‪ ،‬على املساواة بني‬


‫املواطنني اللبنانيني‪ ،‬في احلقوق والواجبات‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فهو ال يقر‬
‫الطائفية‪ ،‬وال التمييز بني املواطنني‪ ،‬على أساس انتماءاتهم الدينية؛‬
‫وإن اتسم بعض م��وادّه مبالمح طائفية‪ .‬ولكن تطبيقه‪ ،‬استند إلى‬
‫هذه املالمح‪ ،‬دون مبادئه األساسية‪ .‬وعزز التطبي َق الطائفي القوانني‬
‫االنتخابية‪ ،‬املكملة للدستور‪.‬‬

‫ولعل أه��م م��ادة ف��ي الدستور اللبناني‪ ،‬كانت وراء استشراء‬


‫الطائفية وترسيخها‪ ،‬هي امل��ادة ‪ ،95‬س��واء في أصلها‪ ،‬ال��ذي ِصيغ‬
‫عام ‪ ،1926‬أو بعد تعديلها‪ ،‬عقب االستقالل‪ ،‬تعديالً‪ ،‬لم يؤثر في‬
‫ال باملادة‬
‫نصت على ما يلي‪« :‬بصورة مؤقتة‪ ،‬وعم ً‬ ‫مضمونها‪ .‬وقد ّ‬
‫األولى من صك االنتداب‪ ،‬والتماساً للعدل والوفاق‪ ،‬تمُ ثّل الطوائف‪،‬‬
‫بصورة ع��ادل��ة‪ ،‬في الوظائف العامة‪ ،‬وف��ي التشكيل ال��وزاري‪ ،‬دون‬
‫أن ي��ؤدي ذل��ك إل��ى اإلض��رار مبصلحة ال��دول��ة»‪ .‬واقتصر تعديلها‪،‬‬
‫ال باملادة األول��ى من صك‬‫بعد االستقالل‪ ،‬على حذف عبارة‪« :‬وعم ً‬
‫االنتداب»‪ .‬وعلى ذلك‪ ،‬بقي مضمونها على حاله‪.‬‬

‫نص املادة ‪ ،95‬جعل مضمونها مؤقتاً؛ إذ إن واضعي‬ ‫ويُالحظ أن ّ‬


‫الدستور‪ ،‬رأوا أن هذه املراعاة الطائفية‪ ،‬في تشكيل الوزارة وتوزيع‬
‫الوظائف‪ ،‬إمن��ا هي مسألة مؤقتة‪ ،‬يجب تخطيها‪ ،‬فيما بعد‪ ،‬لكي‬
‫�ص عليه الدستور‪ ،‬في أحكامه العامة‪ ،‬من أن‬ ‫يصبح األص��ل ما ن� ّ‬

‫‪198‬‬
‫املواطنني اللبنانيني متساوون‪ ،‬في احلقوق والواجبات‪ .‬كما يُالحظ‬
‫أن نص هذه امل��ادة لم يعرِ ض ملنصب رئيس اجلمهورية‪ .‬وليس في‬
‫نصوص الدستور ما يشترِ ط أن يكون الرئيس من طائفة معينة‪.‬‬
‫ال عن أنه رهَ ن العدل والوفاق بني الطوائف‪ ،‬في توزيع الوظائف‬
‫فض ً‬
‫العامة واملناصب الوزارية‪ ،‬بعدم اإلضرار مبصلحة الدولة‪.‬‬

‫وإضافة إلى املادة ‪ ،95‬نص الدستور اللبناني على ضمان احترام‬


‫نظام األحوال الشخصية‪ ،‬واملصالح الدينية ألهل البلد‪ ،‬على اختالف‬
‫مِ للهم‪ .‬كما أقر للطوائف بحقها في إنشاء مدارسها اخلاصة‪ ،‬وفقاً‬
‫لألنظمة العامة‪ ،‬التي تصدرها الدولة في شأن املرافق العامة‪.‬‬

‫‪199‬‬
200
‫الفصل السادس‬
‫امليثاق الوطني واحلرب األهلية‬

‫مثّل امليثاق الوطني خالصة االتفاق‪ ،‬بني كل من الشيخ بشارة‬


‫اخلوري‪ ،‬أول رئيس للجمهورية‪ ،‬بعد االستقالل‪ ،‬ورياض الصلح‪ ،‬أول‬
‫رئيس للوزراء‪ .‬وهذا امليثاق غير مكتوب‪ ،‬فهو ُعرْف‪ .‬وأهم أحكامه‪،‬‬
‫أن يكون رئيس اجلمهورية مسيحياً مارونياً‪ ،‬ورئيس الوزراء مسلماً‬
‫سُ نياً‪ ،‬ورئيس مجلس النواب شيعياً‪.‬‬

‫يقول الشيخ بشارة اخلوري‪ ،‬عن امليثاق‪ ،‬ما يلي‪« :‬وما امليثاق‬
‫الوطني سوى اتفاق العنصرَين‪ ،‬الل َذين يتألف منهما الوطن اللبناني‪،‬‬
‫على انصهار نزعاتهما في عقيدة واح��دة‪ .‬فاستقالل لبنان التام‬
‫الناجز‪ ،‬يجب أن يتم دون االعتماد على حماية من الغرب‪ ،‬وال التطلع‬
‫إلى وحدة أو احتاد مع الشرق»‪ .‬ويضيف‪« :‬إن هذا امليثاق هو عهد‬
‫بني جميع اللبنانيني‪ ،‬على اختالف طبقاتهم وميولهم‪ .‬وه��و دعوة‬
‫خالصة لتعاون وثيق بني األقطار العربية ولبنان‪ ،‬ملصلحة اجلميع‪،‬‬
‫وعلى قدم املساواة‪ ،‬حتقيقاً لروح العدل واإلنصاف»‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫لصلة لبنان باألقطار العربية‪ ،‬فيؤكد‬ ‫يتعرض امليثاق الوطني ِ‬
‫أن لبنان «ذو وجْ ه عربي‪ ،‬يستسيغ اخلير النافع من حضارة الغرب»‪.‬‬
‫وهذه الصيغة التوفيقية‪ ،‬تعني أن لبنان‪ ،‬ليس جزءاً من األمة العربية‪،‬‬
‫وفي الوقت نفسه‪ ،‬ال يدين بالوالء لدولة غربية‪ ،‬وال سيما فرنسا‪،‬‬
‫وال يطلب حمايتها‪ .‬وقد ظن واضعو امليثاق‪ ،‬أن هذه الصيغة توفِّق‬
‫بني املطالبني بانتماء لبنان العربي‪ ،‬وأولئك املطالبني بحماية فرنسا‬
‫واالرتباط بها‪.‬‬

‫ووازن امليثاق الوطني بني الطوائف املختلفة‪ .‬فأناط رئاسة‬


‫اجلمهورية مبسيحي ماروني‪ .‬وعهِ د برئاسة الوزارة إلى مسلم سُ نِّي‪.‬‬
‫وأوكل رئاسة املجلس النيابي إلى مسلم شيعي‪ .‬واشترط أن يراعى‬
‫في تشكيل الوزارة العدد النسبي لكل طائفة‪ ،‬وأن تكون نسبة النواب‬
‫املسيحيني إلى النواب املسلمني‪ ،‬في املجلس النيابي ‪ .5 : 6‬بيد أن‬
‫التطبيق العملي للميثاق‪ ،‬لم يقتصر على املناصب الرئاسية الثالثة‪،‬‬
‫بل متادى ليشمل القيادات العسكرية واملراكز القضائية واإلدارية‪،‬‬
‫بل أمعن في متاديه ليشمل كل شيء‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬اإلطار التاريخي للميثاق‬

‫على الرغم من أن امليثاق الوطني اللبناني‪ ،‬هو اتفاق عُرفي‪،‬‬


‫فإنه ظل حجر الزاوية في احلفاظ على عالقات الطوائف الدينية‬
‫املختلفة‪ ،‬ضمن إطار الكيان اللبناني‪ .‬وكثيراً ما رُجع إليه لتهدئة‬
‫األزمات‪ ،‬التي شهدها لبنان من حني إلى آخر‪.‬‬

‫وقد انبثق امليثاق الوطني من معركة االستقالل عن فرنسا‪،‬‬


‫وما اقترنت به من ضغوط من جانب احللفاء (بريطانيا والواليات‬
‫املتحدة األمريكية) على حكومة فرنسا احلرة‪ ،‬كي تسلّم السلطات‬

‫‪202‬‬
‫إل��ى الوطنيني‪ ،‬ف��ي س��وري��ة ول�ب�ن��ان‪ ،‬م��ن دون تلكؤ‪ .‬وك��ان��ت القوات‬
‫البريطانية حتتل املركز األقوى في هاتَني الدولتَني‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬بقي‬
‫الفرنسيون يأملون أن يتبع م��وارن��ة لبنان‪ ،‬على األق��ل‪ ،‬سياستهم‬
‫القدمية‪ ،‬التي ترى في الوجود الفرنسي نوعاً من احلماية لهم‪ .‬ولكن‬
‫كثيراً من املوارنة‪ ،‬رأوا أن فرنسا أصبحت غير قادرة على أداء دورها‬
‫التقليدي‪ ،‬بعد أن هُزمت أمام األمل��ان‪ ،‬في احلرب العاملية الثانية‪،‬‬
‫فتراءى‪ ،‬لهم أنه من املمكن االعتماد على القوى األنغلوسكسونية‪،‬‬
‫للحؤول دون اندماج الكيان اللبناني في سورية‪ ،‬أو أي جتمّع عربي‪،‬‬
‫يلوح في األفق‪ .‬والحظوا أن أسلوب األنغلوسكسونيني‪ ،‬يختلف عن‬
‫أسلوب الفرنسيني‪ ،‬في أن��ه ال يتطلب سيطرة مباشرة‪ ،‬ألداء هذا‬
‫الدور‪.‬‬

‫لم يستطع امليثاق الوطني أن يوحد الطوائف حوله‪ ،‬إذ ضم كل‬


‫منها متطرفني ومعتدلني‪ ،‬لدى املسلمني واملسيحيني على السواء‪.‬‬
‫ف��امل�س�ل�م��ون امل �ت �ط��رف��ون‪ ،‬ك��ان��وا ال ي��زال��ون متعلقني ب�ط�ي��ف الدولة‬
‫العربية‪ ،‬التي نشأت في دمشق‪ ،‬عام ‪ .1920‬وي��رون أن مستقبلهم‬
‫مرتبط بسورية‪ ،‬وأن��ه ميكِ ن حتقيق ذل��ك بإعادة لبنان إل��ى حدوده‬
‫اجلغرافية‪ ،‬التي كانت موجودة عام ‪ ،1920‬وإحلاق معظم املنطقة‬
‫الساحلية‪ ،‬ذات األغلبية اإلسالمية‪ ،‬بسورية‪ ،‬كما تُ َر ّد إليها األقضية‬
‫األربعة‪ ،‬التي انتزعت منها‪ ،‬والواقعة على حدود اجلبل الشرقية‪.‬‬
‫وإما بارتباط لبنان بسورية‪ ،‬في شكل احتاد فيدرالي‪ ،‬إن لم ينجح‬
‫آنئذ‪.‬‬
‫مشروع الوحدة العربية الكبرى‪ ،‬الرائج‪ٍ ،‬‬

‫على أن فريقاً من املسلمني املعتدلني‪ ،‬اقتنعوا بصعوبة حتقيق‬


‫هذه األماني‪ .‬ورأوا أنه من املمكن التعايش مع الطوائف األخرى‪،‬‬
‫في إطار احلدود اجلغرافية القائمة‪ ،‬بشرط أن يتراجع املسيحيون‬
‫اللبنانيون عن نزعتهم القدمية‪ ،‬التي تبحث عن حماية خارجية‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫وأولى بلبنان اجلديد‪ ،‬أن يسعى إلى مسايرة حركة التجمع العربي‪،‬‬
‫بعد أن خاض‪ ،‬إلى جانب سورية‪ ،‬معركة الكفاح ضد االنتداب‪ .‬بل‬
‫إن بعض الزعماء املسلمني‪ ،‬املناصرين للوحدة العربية‪ ،‬في املاضي‪،‬‬
‫سارعوا إلى اعتناق هذه الفكرة املمكنة التحقق‪ ،‬من الناحية العملية‪.‬‬
‫وأبرز مثل على ذلك‪ ،‬هو رياض الصلح‪ ،‬الذي سبق له أن اشترك في‬
‫تأسيس احلكومة الفيصلية في دمشق‪ ،‬فأصبح يعتنق فكرة الوطن‬
‫اللبناني‪ ،‬مع اشتراط أن تكون هوية لبنان عربية‪.‬‬

‫ك��ذل��ك‪ ،‬انقسم املسيحيون إل��ى متطرفني ومعتدلني‪ .‬فأبدى‬


‫متطرفوهم استعداداً الستمرار الوجود الفرنسي‪ ،‬على شكل معاهدة‬
‫حتالف‪ .‬كما أنهم رفضوا مسايرة حركة التجمع العربي‪ ،‬خشية أن‬
‫ت��ؤدي إل��ى ذوب��ان لبنان في كيان إسالمي كبير‪ .‬ومتسّ كوا بالفكرة‬
‫القائلة‪ ،‬إن للبنان سمات ومميزات خاصة‪ ،‬جتعله مختلفاً عن جيرانه‬
‫العرب‪ .‬بل ذهب بعضهم إلى ح ّد املناداة بوطن قومي للمسيحيني‬
‫ف��ي لبنان‪ ،‬على غ��رار ال��وط��ن القومي لليهود ف��ي فلسطني‪ .‬ونادى‬
‫آخ��رون بروابط لبنان بحوض البحر األبيض املتوسط‪ ،‬مبا يضمه‬
‫م��ن ث�ق��اف��ات‪ ،‬التينية ويونانية األص��ل‪ ،‬أق��وى م��ن تلك التي تربطه‬
‫بالعالم العربي‪ .‬وكان ميثل هذا التيار‪ ،‬حتى عام ‪ ،1943‬إميل إده‪،‬‬
‫زعيم حزب الكتلة الوطنية‪ ،‬والذي ساء الفرنسيني هزميتُه في أول‬
‫انتخابات نيابية‪ ،‬جتري في عهد االستقالل‪.‬‬

‫وظهَر‪ ،‬في هذه احلقبة‪ ،‬فريق من املسيحيني‪ ،‬الذين رأوا في‬


‫لبنان وجْ هه العربي‪ ،‬وأنه من املستحيل‪ ،‬عملياً‪ ،‬عزْله عن محيطه‪.‬‬
‫ولكنهم في الوقت عينه‪ ،‬لم يرضوا بذوبان الكيان اللبناني في محيط‬
‫إسالمي‪ .‬وقد شارك هذا الفريق من املعتدلني في معركة التحرير‪،‬‬
‫بني عامَي ‪ 1941‬و‪ .1943‬وكان على رأسهم بشارة اخلوري‪ ،‬املعروف‪،‬‬
‫منذ ‪ ،1937‬مبناصرته للحريات الدستورية‪ ،‬ضد نزعة إميل إده إلى‬

‫‪204‬‬
‫احلكم الرئاسي املطلق‪ .‬وقد ساعد الوضع في سورية ولبنان‪ ،‬عام‬
‫‪ ،1943‬هذا الفريق‪ ،‬على الفوز في االنتخابات النيابية األولى‪.‬‬

‫ك��ان طبيعياً‪ ،‬أن يلتقي املعتدلون م��ن الفريقني‪ ،‬بعد التغلب‬


‫على أزمة‪ ،‬كادت تودي مبسيرة لبنان نحو االستقالل‪ ،‬ومتزق وحدته‬
‫الوطنية إل��ى األب��د‪ .‬ذل��ك أن سلطات فرنسا احل��رة‪ ،‬املسؤولة عن‬
‫اإلدارة املدنية‪ ،‬عيّنت أيوب ثابت‪ ،‬أحد املوالني لها في منصب رئيس‬
‫الدولة‪ ،‬بصفة مؤقتة‪ ،‬وحثّته على إصدار قانون انتخابي‪ ،‬من شأنه‬
‫أن يستثير سخط املسلمني‪ .‬فتتفكك احلركة الوطنية‪ ،‬خ�لال تلك‬
‫الفترة احلاسمة‪ .‬وحسب القانون االنتخابي املقترح‪ ،‬قُسِّ م لبنان‬
‫إل��ى أرب��ع وخمسني دائ��رة‪ ،‬يخص املسيحيني منها اثنتان وثالثون‪،‬‬
‫واملسلمني اثنتان وعشرون‪ ،‬وهي النسبة التي كان معموالً بها في عهد‬
‫االنتداب‪ ،‬ولم يقبلها املسلمون‪ ،‬لعدم مطابقتها لنسبتهم العددية‪.‬‬
‫وك��ان��ت الذريعة التي بُ �رِّر بها ه��ذا ال�ت��وزي��ع‪ ،‬ه��و تسجيل اللبنانيني‬
‫املهاجرين في اخلارج‪ ،‬كمواطنني‪ ،‬يحسبون في تعداد السكان‪ .‬وكان‬
‫املسلمون يتطلعون إلى مناصفة املقاعد‪ .‬كما دعا بعضهم‪ ،‬منذ ذلك‬
‫الوقت‪ ،‬إلى إلغاء التمثيل الطائفي‪.‬‬

‫وبعد وساطة مصطفى النحاس باشا‪ ،‬رئيس احلكومة املصرية‪،‬‬


‫الذي زار سورية ولبنان ‪ ،‬متهيداً إلجناح مشروع اجلامعة العربية‪،‬‬
‫الذي كان يتبنّاه‪ ،‬اتُّفق على حل وسط‪ ،‬وهو أن يُقسَّ م لبنان إلى خمس‬
‫وخمسني دائ��رة‪ ،‬يكون للمسيحيني منها ثالثون‪ ،‬وللمسلمني خمس‬
‫وعشرون‪.‬‬

‫أث�ب�ت��ت ال��وس��اط��ة امل �ص��ري��ة‪ ،‬ارت �ب��اط ل�ب�ن��ان‪ ،‬ع�م�ل�ي�اً‪ ،‬مبحيطه‬


‫العربي‪ .‬وعندما جرت االنتخابات في أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪ ،1943‬فاز‬
‫املعتدلون من كال الفريقني‪ ،‬وهو ما هيّأ الفرصة لفوز بشارة اخلوري‬

‫‪205‬‬
‫برئاسة اجلمهورية‪ .‬وقد اختار الرئيس اجلديد‪ ،‬رياض الصلح‪ ،‬كأول‬
‫رئيس وزراء في العهد اجلديد‪ .‬ومنعاً لتجدد اخلالفات الطائفية‪،‬‬
‫وملواجَ هة املؤامرات الفرنسية‪ ،‬التي حاولت أن تعيد إميل إده‪ ،‬بالقوة‪،‬‬
‫إلى السلطة اتَّفق الرجالن على حتديد العالقة بني الطوائف‪ ،‬بقصد‬
‫إقامة توازن فيما بينها‪ .‬وهكذا بُنِي امليثاق على فكرة التوازن‪ ،‬وليس‬
‫على أس��اس إلغاء الطائفية‪ .‬وقد ُع��رف هذا االتفاق الشفوي‪ ،‬من‬
‫خالل أول بيان وزاري‪ ،‬ألقاه رياض الصلح في مجلس النواب‪ .‬وهو‬
‫يتضمن املبادئ اآلتية‪:‬‬

‫‪ - 1‬لبنان جمهورية مستقلة استقالالً تاماً‪ ،‬غير مرتبط بأي‬


‫دولة أخرى‪.‬‬

‫‪ - 2‬لبنان ذو وج��ه عربي ولغة عربية‪ ،‬وه��و ج��زء من العالم‬


‫العربي‪ ،‬ذو طابع خاص‪ .‬غير أن لبنان‪ ،‬على عروبته‪ ،‬ال‬
‫يَسَ عه أن يقطع عالقاته‪ ،‬الثقافية والروحية‪ ،‬باحلضارة‬
‫الغربية‪ ،‬التي ساعدته على بلوغ درجة من الرقِ ي والتقدم‪،‬‬
‫يحسد عليها‪.‬‬

‫‪ - 3‬لبنان مدع ّو إلى التعاون مع جميع الدول العربية‪ ،‬وألن‬


‫يصبح عضواً في األ ُسْ رة العربية‪ ،‬بعد أن تكون تلك الدول‪،‬‬
‫قد اعترفت باستقالله وكيانه‪ ،‬ضمن حدوده احلاضرة‪.‬‬
‫وعلى لبنان في تعامله مع الدول العربية‪ ،‬أ ّال ينحاز إلى‬
‫فريق ضد آخر‪.‬‬

‫‪ - 4‬الوظائف كلها‪ ،‬ت��وزع‪ ،‬بالتساوي‪ ،‬بني الطوائف املعترف‬


‫بها‪ .‬أما الوظائف الفنية‪ ،‬فتعطى األولوية فيها للمهارات‬
‫الشخصية‪ ،‬من دون اعتبارات طائفية‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫وق��د جنّب امليثاق الوطني لبنان ث�لاث مشكالت‪ ،‬ه��ددت‪ ،‬في‬
‫هذه احلقبة‪ ،‬وحْ دته الوطنية وتدعيم استقالله‪.‬‬

‫املشكلة األول��ى‪ ،‬تتعلق بتخطيط احل��دود بينه وب�ين سورية‪.‬‬


‫ف��إزاء موافقة املسلمني اإلجماعية‪ ،‬من طريق نوابهم في املجلس‬
‫النيابي‪ ،‬على امليثاق الوطني‪ ،‬تراجعت سورية عن املطالبة باسترجاع‬
‫ال عن إقليم طرابلس‪ ،‬في شمالي لبنان‪ .‬وكان‬ ‫األقضية األربعة‪ ،‬فض ً‬
‫ذلك التراجع هو ما دفعته سورية‪ ،‬ثمناً النضمام لبنان إلى اجلامعة‬
‫العربية‪ .‬بل إن ميثاق اجلامعة‪ ،‬ذهب في استرضاء لبنان إلى ح ّد‬
‫إدخ��ال ن��ص‪ ،‬بناء على طلبه‪ ،‬يستثني امل�ن��ازع��ات على احل��دود من‬
‫اختصاص أي هيئة أو محكمة عدل عربية‪ ،‬تنشأ في املستقبل‪.‬‬

‫املشكلة ال�ث��ان�ي��ة‪ ،‬تتعلق بانضمام لبنان إل��ى جامعة الدول‬


‫العربية‪ .‬فقد ك��ان كثير من املسيحيني يتخوفون من ه��ذا االجتاه‪،‬‬
‫وال سيما أن فورة احلماسة األولى‪ ،‬عند مباحثات تأسيس اجلامعة‬
‫العربية‪ ،‬أظهرت الدول العربية‪ ،‬وكأنها تسير نحو احتاد فيدرالي‪.‬‬
‫وقد شارك الوفد اللبناني بنصيب في حملة التحفظات‪ ،‬التي انتهت‬
‫إلى جعل ميثاق اجلامعة العربية ثوباً فضفاضاً واهي العرى‪ .‬ولذا‪،‬‬
‫أصبح انتماء لبنان إلى اجلامعة العربية‪ ،‬ال يثير ذلك االنقسام احلا ّد‬
‫بني اللبنانيني‪ ،‬على خالف ما ظهَر عند طرح القضية‪ ،‬عام ‪.1943‬‬

‫املشكلة الثالثة‪ ،‬وه��ي التي لم يستطع امليثاق الوطني‪ ،‬أن‬


‫يعصم لبنان منها‪ ،‬إال لفترة من الوقت‪ .‬وهي تتعلق مبوضوع توزيع‬
‫املناصب‪ ،‬بني املسيحيني واملسلمني‪ ،‬بالتساوي؛ فهذه عبارة حتتمل‬
‫ال�ت��أوي��ل‪ .‬فمنذ اخلمسينيات‪ ،‬ارتفعت أص��وات كثيرة ف��ي صفوف‬
‫املسلمني‪ ،‬تؤكد أن قاعدة التساوي غير مكفولة‪ ،‬ألن التعداد‪ ،‬الذي‬
‫أ ُخذ في احلسبان‪ ،‬عام ‪ ،1943‬ينطوي على خطأين‪:‬‬

‫‪207‬‬
‫اخلطأ األول‪ :‬هو حسبان املهاجرين اللبنانيني مواطنني‪ ،‬على‬
‫الرغم من انقطاع ِصالت بعضهم بالوطن األمّ‪ .‬وي ُر ّد الطرف اآلخر‬
‫على هذه احلجة‪ ،‬بأن هؤالء املهاجرين‪ ،‬ميتلكون ثروات ضخمة‪ ،‬وأن‬
‫ع��دداً منهم‪ ،‬يرسلون ج��زءاً من ثرواتهم إل��ى ذويهم‪ ،‬فيسهمون في‬
‫رخاء البالد‪.‬‬

‫اخل�ط�ـ��أ ال �ث��ان��ي‪ :‬ه��و ح�س�ب��ان األرم ��ن ف��ي ت �ع��داد املسيحيني‬


‫اللبنانيني‪ ،‬على ال��رغ��م م��ن أن معظَ مهم ال يشعرون باالنتماء إلى‬
‫الوطن اللبناني‪ .‬وقد رحل الكثيرون منهم‪ ،‬تباعاً‪ ،‬إلى أرمينيا‪ ،‬منذ‬
‫‪ .1947‬وخالصة ذلك‪ ،‬أن النسبة في الوظائف‪ ،‬النيابية واإلدارية‪،‬‬
‫لم تكن متساوية‪.‬‬

‫أم��ا إش��ارة امليثاق الوطني إل��ى شغل الوظائف الفنية‪ ،‬حسب‬


‫امل��ه��ارات‪ ،‬ف�ق��د أدت‪ ،‬ع�ن��د ال�ت�ط�ب�ي��ق‪ ،‬إل��ى ح �ي��ازة املسيحيني على‬
‫معظَ مها‪ ،‬إما لرغبة السلطات العليا في ذل��ك‪ ،‬وإم��ا الرتفاع نسبة‬
‫املتعلمني بني املسيحيني أكثر منها بني املسلمني‪.‬‬

‫ومن املآخذ التي عابها املسلمون على النظام الدستوري‪ ،‬أنه‬


‫مينح رئيس اجلمهورية سلطات واسعة‪ ،‬مما يجعل توزيع املناصب‬
‫الرئيسية مساواة شكلية فقط بني الطوائف؛ إذ إن رئيس اجلمهورية‪،‬‬
‫الذي ينتمي إلى الطائفة املارونية‪ ،‬يتمتع بسلطات‪ ،‬أوسع من سلطات‬
‫رئيس مجلس الوزراء‪ ،‬السُّ ني‪ ،‬ورئيس مجلس النواب‪ ،‬الشيعي‪.‬‬

‫وبعد امليثاق الوطني‪ ،‬رف��ض معظَ م النواب املسيحيني تعديل‬


‫الدستور اللبناني‪ ،‬ال�ص��ادر ع��ام ‪ ،1926‬تعديالً‪ ،‬يتماشى مع روح‬
‫امليثاق‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬مالمح الطائفية في امليثاق الوطني‬

‫اتّسم امليثاق الوطني بالتوازن‪ ،‬البارز في‪:‬‬

‫‪ - 1‬تخلّي املسيحيني اللبنانيني عن طلب الضمانة األجنبية‪،‬‬


‫الفرنسية‪ ،‬الستقالل لبنان‪ ،‬مقابل تنازل املسلمني عن‬
‫الوحدة مع سورية‪ ،‬أو أي دولة عربية أخ��رى‪ .‬فاالنتماء‬
‫العربي للبنان‪ ،‬يعني إسهامه في مجال التعاون العربي‪،‬‬
‫من دون أن يصل إلى ح ّد إتباع سياسة عربية‪ ،‬تتعارض‬
‫مع وحدته الوطنية‪.‬‬

‫‪ - 2‬توزيع مناصب الدولة الرئيسية على الطوائف‪ ،‬كالتالي‪:‬‬


‫رئيس اجلمهورية مسيحي ماروني‪ ،‬ورئيس الوزراء مسلم‬
‫سُ ني‪ ،‬ورئيس مجلس النواب مسلم شيعي‪ ،‬ونائب رئيس‬
‫مجلس النواب من الروم‪ .‬ويكون للموارنة‪ ،‬كذلك‪ ،‬مناصب‬
‫قائد اجليش‪ ،‬ومدير عام األمن العام‪ ،‬ومحافظ املصرف‬
‫لا ع��ن اإلش� ��راف ع�ل��ى دوائ���ر اجل���وازات‬
‫امل��رك��زي‪ ،‬ف �ض� ً‬
‫واجلنسية‪ .‬كما تتمتع الطوائف املسيحية بأغلبية مقاعد‬
‫مجلس النواب‪ ،‬بنسبة ‪.5 :6‬‬

‫رسّ خ امليثاق الوطني الطائفية في النظام اللبناني‪ ،‬من خالل‬


‫التطبيق العملي‪ .‬فلم تقتصر على املناصب العليا‪ ،‬بل جتاوزتها إلى‬
‫املستويات الدنيا من الوظائف العامة‪ .‬وأصبح امليثاق الوطني‪ ،‬في‬
‫التطبيق‪ ،‬يعني التضحية باملصلحة العامة من أجل الطائفية‪ .‬وأسهم‬
‫في ذلك القوانني اللبنانية املتتالية‪ ،‬مثل قانون األحوال الشخصية‬
‫للطائفة ال��درزي��ة‪ ،‬ع��ام ‪ ،1948‬وق��ان��ون حتديد صالحيات املراجع‬
‫املذهبية للطوائف املسيحية‪ ،‬ع��ام ‪ .1959‬بل إن قانون االنتخاب‬

‫‪209‬‬
‫اللبناني‪ ،‬الصادر عام ‪ ،1943‬ظل محافظاً على جوهره الطائفي‪،‬‬
‫على الرغم من تعديله عدة مرات‪ ،‬إذ وزّع الدوائر االنتخابية على‬
‫أساس طائفي‪ ،‬مما قيّد حرية الناخب‪ ،‬ورسخ الوضع الطائفي‪ ،‬وعكس‬
‫استمرار عزلة الطوائف بعضها عن بعض‪ ،‬منذ عهد العثمانيني‪.‬‬

‫وال عجب‪ .‬فالدستور اللبناني نفسه‪ ،‬أرسى القواعد الطائفية‪،‬‬


‫�ص على مجموع احلقوق واحل��ري��ات العامة‪:‬‬ ‫فعلى الرغم من أن��ه ن� ّ‬
‫امل�س��اواة أم��ام القانون (امل��ادة ‪ ،)7‬واحل��ري��ة الشخصية (امل��ادة ‪،)8‬‬
‫وحرية االعتقاد (املادة ‪ ،)9‬وحرية التعليم (املادة ‪ ،)10‬وحرية إبداء‬
‫قن الوضع‬ ‫الرأي والطباعة وتأليف اجلمعيات (املادة ‪ )13‬إ ّال أنه نّ‬
‫تنص على متثيل الطوائف‪ ،‬بصورة‬ ‫الطائفي‪ ،‬في مادته (‪ ،)95‬التي ّ‬
‫مؤقتة‪ ،‬في الوظائف العامة وتشكيل الوزارة‪ ،‬من دون أن يؤول ذلك إلى‬
‫اإلضرار مبصلحة الدولة‪ .‬وهو ما رسخه‪ ،‬بعد ذلك امليثاق الوطني‪.‬‬
‫لكن «الصورة املؤقتة»‪ ،‬أصبحت دائمة‪ .‬وغدا التوازن الطائفي‪ ،‬هو‬
‫أس��اس النظام في لبنان‪ .‬ولذلك‪ ،‬كلما اختل هذا ال�ت��وازن‪ ،‬تعرّض‬
‫ال�ن�ظ��ام للخطر‪ ،‬إذ ال �ت��وازن الطائفي واك �ب��ه ت ��وازن مناطقي (بني‬
‫مختلف املناطق اللبنانية)‪ ،‬وتوازن مؤسسي (بني املؤسسات واملناصب‬
‫احلكومية العليا)‪ ،‬وتوازن عائلي (بني بعض األُسَ ر الكبيرة)‪.‬‬

‫وعلى الرغم من التعدد احلزبي‪ ،‬الواسع النطاق‪ ،‬في لبنان‪،‬‬


‫فإن هذا البلد‪ ،‬يفتقر إلى نظام تعددي؛ إذ إن من شروط هذا النظام‬
‫توزيع القوة السياسية بني عدد من اجلماعات والتنظيمات‪ ،‬ترتبط‬
‫فيما بينها بقدر من الوالءات املشتركة‪ ،‬مع وجود اتفاق عام بينها‪،‬‬
‫يعبّر عن الرضا العام في املجتمع‪ .‬وهو ما يصعب احلديث عنه‪ ،‬في‬
‫ظل الطابع الطائفي للعالقات السياسية‪ ،‬في النظام اللبناني‪.‬‬

‫ولم يصمد هذا الوضع طويالً‪ ،‬مع تعرّض املجتمع اللبناني آلثار‬

‫‪210‬‬
‫التغير االجتماعي‪ .‬وأهمها بروز قوى‪ ،‬اجتماعية وسياسية‪ ،‬جديدة‪،‬‬
‫تريد تغيير قوانني اللعبة السياسية‪ .‬وعلى سبيل املثال‪ ،‬أدى ارتفاع‬
‫نسبة املواليد بني املسلمني‪ ،‬وخاصة الشيعة‪ ،‬إلى زيادة واضحة في‬
‫أعدادهم‪ ،‬لم يواكبها أي تغير في مَوقعهم السياسي‪ .‬وال يعرف أحد‪،‬‬
‫اليوم‪ ،‬على وجه اليقني‪ ،‬عدد سكان كل طائفة من الطوائف اللبنانية‬
‫السبع عشرة‪ .‬وقد كان قانون االنتخاب األول‪ ،‬الصادر عام ‪،1943‬‬
‫قد ق��رر‪ ،‬في مادته السابعة‪ ،‬إج��راء إحصاء عام للسكان‪ ،‬في مدة‬
‫ال تتجاوز السنتني‪ .‬وقد مضت عدة عقود‪ ،‬ولم يُج َر هذا اإلحصاء‪.‬‬
‫وفي ظل غياب إحصاء رسمي‪ ،‬تبرز‪ ،‬بني احلني واآلخ��ر‪ ،‬تقديرات‬
‫عن أعداد الطوائف في لبنان‪ ،‬وأهمها تقدير اجلمعية البريطانية‬
‫للدفاع عن حقوق األقليات‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬أصبح النظام اللبناني‪ ،‬بصيغته الطائفية‪ ،‬غير قادر على‬


‫استيعاب التغيرات‪ ،‬االجتماعية والسياسية‪ ،‬التي شهدها لبنان في‬
‫خمسينيات القرن العشرين وستينياته‪ ،‬والتي واكبها املد التاريخي للحركة‬
‫الناصرية‪ ،‬ثم انطالق العمل الفدائي الفلسطيني‪ ،‬في أواخر الستينيات‪.‬‬
‫ومع ازدياد عوامل االختالل وعدم التوازن في املجتمع اللبناني‪ ،‬كان من‬
‫الطبيعي‪ ،‬أن يحدُث االنفجار‪ ،‬في صورة حرب أهلية طاحنة‪.‬‬

‫وفي احل��رب األهلية‪ ،‬التي ب��دأت في نيسان ‪ /‬أبريل ‪،1975‬‬


‫انقسم لبنان حول امليثاق الوطني‪ .‬فالذين هاجموه‪ ،‬لم يقفوا عند‬
‫التبعية الطائفية‪ ،‬وحدها‪ ،‬ولكنهم جتاوزوها إلى ض��رورة أن يؤكد‬
‫امليثاق انتماء لبنان العربي‪ ،‬مما يجعل وجود قوات عسكرية‪ ،‬تابعة‬
‫حلركة املقاومة الفلسطينية‪ ،‬أمراً مبرراً‪ ،‬وغير متعارض مع املفهوم‬
‫التقليدي السياسي في لبنان‪ .‬واشتد اخلالف في عروبة لبنان‪ ،‬وحول‬
‫املضمون االجتماعي للنظام‪ ،‬حتى بلغ ح ّد رفْض امليثاق الوطني‪ ،‬أو‬
‫على األقل تطويره‪.‬‬

‫‪211‬‬
212
‫الفصل السابع‬
‫أزمة ‪ 1958‬والتهيئة حلرب أهلية‬

‫اض�ط��رت ال �ق��وات‪ ،‬الفرنسية واإلنكليزية واإلسرائيلية‪ ،‬إلى‬


‫االن �س �ح��اب م��ن األراض� ��ي امل �ص��ري��ة‪ ،‬نتيجة ل�ل�ض�غ��وط‪ ،‬األمريكية‬
‫والسوفيتية‪ ،‬بعد حرب السويس‪ .‬وك��ان ذلك مؤشراً إلى انسحاب‬
‫الفرنسيني واإلن�ك�ل�ي��ز م��ن املنطقة كلها ان�س�ح��اب�اً ش�ب��ه ك��ام��ل‪ ،‬في‬
‫مصلحة األمريكيني‪ ،‬الذين سيباشرون عملية سيطرتهم على الشرق‬
‫األوسط‪ ،‬ليحلوا محل الدول املنتدبة أو املستعمرة‪.‬‬

‫ومهد املناخ السياسي‪ ،‬مع بداية اخلمسينيات‪ ،‬الطريق نحو‬


‫م��ا ع��رف ب��أزم��ة ‪ ،1958‬وه��ي ال�ت��ي ه��ددت‪ ،‬آن ��ذاك‪ ،‬ب�ح��رب أهلية‬
‫في لبنان‪ .‬ففي تلك الفترة‪ ،‬أعلن الرئيس األمريكي دواي��ت ديفيد‬
‫أيزنهاور ما عرف في العالم العربي بـ «مشروع أيزنهاور»‪ ،‬بحجة‬
‫«ملء الفراغ»‪ ،‬على أثر العدوان الثالثي‪ .‬وأعلنت مصر رفْضها هذه‬
‫النظرية‪ .‬أم��ا في لبنان‪ ،‬فأعلن رئيس اجلمهورية‪ ،‬كميل شمعون‪،‬‬
‫وحكومته‪ ،‬تأييدهما لهذا مشروع‪ .‬وأطلقت حملة سياسية واسعة‬
‫ض��د ال�س�ي��اس��ة ال �ن��اص��ري��ة‪ .‬وان �ض��وى ل�ب�ن��ان‪ ،‬رس�م�ي�اً إل��ى املشروع‬

‫‪213‬‬
‫املذكور‪ ،‬في ‪ 16‬آذار ‪ /‬مارس ‪ .1957‬وب��ادرت احلكومة اللبنانية‪،‬‬
‫عام ‪ ،1957‬إلى تنظيم انتخابات‪ ،‬تؤمّن أكثرية نيابية‪ ،‬تسمح لرئيس‬
‫اجلمهورية بتعديل الدستور‪ ،‬وجتديد واليته‪ ،‬التي ستنتهي في نهاية‬
‫صيف ‪ .1958‬وأسفرت هذه االنتخابات عن فشل معظَ م الزعماء‬
‫السياسيني‪ ،‬املعارضني لسياسة شمعون‪ ،‬مثل‪ :‬كمال جنبالط وأحمد‬
‫األسعد وصائب سالم وعبدالله اليافي‪.‬‬

‫وفي شباط ‪ /‬فبراير ‪ ،1958‬أ ُعلنت الوحدة بني مصر وسورية‪.‬‬


‫وأصبح جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية اجلديدة‪ ،‬التي عرفت‬
‫باسم «اجلمهورية العربية املتحدة»‪ .‬وهلّل لهذه اخلطوة فريق واسع‬
‫من اللبنانيني‪ ،‬وال سيما املسلمني‪ .‬وإذ باللبنانيني فريقني؛ واحد‬
‫مؤيد للسياسة الناصرية وللوحدة العربية‪ ،‬وآخر‪ ،‬مبا فيه السلطة‪،‬‬
‫معاد لهما‪.‬‬
‫ٍ‬

‫وت��راف��ق ه��ذا احل��دث م��ع تغيرات دمي��وغ��راف�ي��ة ف��ي لبنان‪ .‬إذ‬


‫أش ��ارت ال�ت�ق��دي��رات‪ ،‬املتعلقة ب�ع��دد ال�س�ك��ان‪ ،‬ع��ام ‪ ،1955‬إل��ى أن‬
‫عدد اللبنانيني املقيمني‪ ،‬يصل إلى ‪ 1267279‬نسمة‪ ،‬وأن بيروت‬
‫وضواحيها‪ ،‬حتتضن حوالي نصف مليون نسمة‪ ،‬وطرابلس مائة ألف‪،‬‬
‫وصيدا خمسة وأربعني ألفاً‪ ،‬وزحلة وصور‪ ،‬يضم كل منهما أكثر من‬
‫خمسة عشر ألف نسمة‪.‬‬

‫وفي ‪ 8‬أيار‪/‬مايو ‪ ،1958‬انطلقت شرارة األزمة في لبنان‪ ،‬على‬


‫أثر مقتل الصحافي التقدمي‪ ،‬نسيب املتني‪ .‬ومرة أخرى‪ ،‬كان مصير‬
‫لبنان‪ ،‬واملنطقة برمّتها‪ ،‬في مهب الريح‪ .‬وكانت احلكومة اللبنانية‬
‫تتهم اجلمهورية العربية املتحدة‪ ،‬بدعم املعارضة اللبنانية‪ ،‬بالرجال‬
‫والسالح‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫وف��ي ‪ 11‬ح��زي��ران‪/‬ي��ون �ي��و ‪ ،1958‬ص��در ق��رار مجلس األمن‬
‫الدولي الرقم ‪ ،128‬الذي ق َّرر‪ ،‬بناء على طلب احلكومة اللبنانية‪،‬‬
‫إرسال فريق من املراقبني الدوليني إلى لبنان‪ ،‬مهمته التأكد من عدم‬
‫حصول تسرب غير مشروع للرجال واألسلحة واملعدات األخرى‪ ،‬عبْر‬
‫احلدود اللبنانية‪.‬‬

‫وف��ي أث��ر ان �ق�لاب عسكري ف��ي ال �ع��راق‪ ،‬ف��ي ‪ 14‬متوز‪/‬يوليو‬


‫‪ ،1958‬أط��اح امل�ل�ك�ي��ة‪ ،‬وأق ��ام اجل�م�ه��وري��ة‪ ،‬وأع �ل��ن ق��ادتُ��ه تأييدهم‬
‫للسياسة الناصرية‪ ،‬مما قلب موازين القوى في املنطقة‪ ،‬في مصلحة‬
‫عبدالناصر واملعارضة اللبنانية‪ ،‬فسارع الرئيس شمعون‪ ،‬في اليوم‬
‫نفسه‪ ،‬إل��ى جن��دة واشنطن‪ ،‬معلناً موافقة حكومته على املساعدة‬
‫العسكرية السريعة‪ ،‬من دون الرجوع إلى مجلس النواب‪.‬‬

‫وف��ي ‪ 15‬مت��وز‪/‬ي��ول�ي��و‪ ،‬أُن��زل��ت ق��وات البحرية األم��ري�ك�ي��ة في‬


‫منطقة األوزاع��ي‪ ،‬جنوب بيروت‪ .‬واستهدف اإلن��زال احليلولة دون‬
‫سيطرة املعارضة على البالد‪ ،‬ووصول قادتِها إلى السلطة‪ ،‬مما كان‬
‫سيؤدي‪ ،‬حتماً‪ ،‬إلى تغيّر ج��ذري في اخلريطة السياسية للمنطقة‬
‫بأَسْ رها‪ .‬وبالفعل‪ ،‬كان لإلنزال األمريكي أثره في تسلسل األحداث‪.‬‬
‫ال للقوات اإلنكليزية‪ ،‬حصل في األردن‪ ،‬في‬ ‫والالفت أن إنزاالً مماث ً‬
‫اليوم عينه‪.‬‬

‫وفي ‪ 31‬متوز‪/‬يوليو ‪ ،1958‬انتُخب اللواء فؤاد شهاب‪ ،‬قائد‬


‫اجل�ي��ش اللبناني‪ ،‬رئ�ي�س�اً للجمهورية‪ .‬ث��م وض�ع��ت احل��رب األهلية‬
‫أوزارها‪ ،‬حتت شعار «ال غالب‪ ،‬وال مغلوب»‪ ،‬على أثر استالم اللواء‬
‫شهاب للسلطة في ‪ 23‬أيلول‪/‬سبتمبر ‪ ،1958‬وتأليف رشيد كرامي‬
‫حكومة «قطف ثمار الثورة»‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫ل��م تتمخض ه��ذه احل��رب األه�ل�ي��ة‪ ،‬ف��ي احلقيقة‪ ،‬إال بضمان‬
‫متثيل أفضل لإلقطاع السياسي املسلم‪ ،‬ومشاركة أكبر للبورجوازية‬
‫في إدارة البالد‪.‬‬

‫أم��ا فريق املراقبني‪ ،‬التابع ل�لأمم املتحدة‪ ،‬فقد غ��ادر لبنان‪،‬‬


‫في ‪ 25‬تشرين األول‪/‬أك�ت��وب��ر ‪ ،1958‬بعد أن تأكد ع��ودة الهدوء‪،‬‬
‫وانسحاب القوات األمريكية من األراضي اللبنانية‪ .‬وهكذا استتب‬
‫النظام من جديد‪ ،‬وعادت احلياة الطبيعية إلى مجراها في لبنان‪،‬‬
‫وبدأت مرحلة جديدة‪.‬‬

‫إن ال �ص��راع‪ ،‬ال��ذي ان��دل��ع ف��ي ربيع ‪ ،1958‬مثّل أح��د األبعاد‬


‫التاريخية للحرب األهلية اللبنانية‪ ،‬التي تفجرت عام ‪ .1975‬كما‬
‫يُعَدّ حالة منوذجية‪ ،‬تن ّم بكيفية تأثير الطائفية في توجهات السياسة‬
‫اللبنانية‪ ،‬في عالقاتها باآلخرين‪ ،‬وبالسياسات الداخلية‪ ،‬م ّداً وجزراً‪.‬‬
‫بيد أنه كان لتعقّد البنية الداخلية اللبنانية‪ ،‬وهشاشتها‪ ،‬والديناميات‬
‫العربية العربية‪ ،‬تأثير بالغ في عالقات لبنان الدولية‪ ،‬وفي الكيفية‬
‫التي تصرفت بها ال��دول اخلارجية جتاه ذلك‪ ،‬إضافة إلى الصراع‬
‫حول السلطة‪ ،‬بني املعارضة والرئيس كميل شمعون‪ ،‬الذي كان يعمل‬
‫على ح��دوث االستقطاب ف��ي املجتمع اللبناني‪ .‬واتهمت املعارضة‬
‫ال��رئ�ي��س‪ ،‬بأنه ي�ح��اول ت��دوي��ل ال�ص��راع ال��داخ�ل��ي‪ ،‬بدعوته الواليات‬
‫املتحدة األمريكية إلى التدخل‪ ،‬عسكرياً‪ .‬وكان ذلك‪ ،‬بالضبط‪ ،‬هو‬
‫اإلستراتيجية العامة لرئيس اجلمهورية‪ ،‬ووزي��ر خارجيته‪ ،‬شارل‬
‫مالك‪ ،‬اللذين عمدا إلى تصوير املشاكل في لبنان‪ ،‬على أنها امتداد‬
‫لتخاصم الدول العظمى‪ .‬وكان لبنان قادراً‪ ،‬في ذروة احلرب الباردة‪،‬‬
‫على احل�ص��ول على معونات اقتصادية‪ ،‬وجت�ه�ي��زات عسكرية‪ ،‬من‬
‫ال��دول ال�ك�ب��رى‪ ،‬وذل��ك باستغالل االستقطاب‪ ،‬ال��ذي ش��اب النظام‬
‫الدولي‪ .‬وعملت إدارة أيزنهاور‪ ،‬في عامَي ‪ 1957‬و‪ ،1958‬بتأكيدها‬

‫‪216‬‬
‫خطر الشيوعية‪ ،‬على د ْف��ع شمعون وم��ال��ك إل��ى االع�ت�ق��اد‪ ،‬أن في‬
‫وُسعهما التعويل على دعم واشنطن‪.‬‬

‫ض��اق م�ع��ظَ ��م ال�ل�ب�ن��ان�ي�ين ب��إت �ب��اع ال��رئ �ي��س ش�م�ع��ون سياسات‪،‬‬
‫إقليمية ودولية‪ ،‬التي عُدّ ت استفزازية‪ ،‬ومثيرة لالنقسامات‪ .‬وجاءت‬
‫اجلهود األنغلو أمريكية‪ ،‬الرامية إلى تعزيز األمن الغربي‪ ،‬في الشرق‬
‫األوسط‪ ،‬من خالل عقْد مواثيق دفاعية‪ ،‬لتبرِ ز املشاعر املعادية لها‬
‫في الوطن العربي‪ ،‬ولتعمل‪ ،‬كذلك‪ ،‬على استقطابه ما بني موقفني‪:‬‬
‫موقف ال�ع��رب‪ ،‬الذين رأوا أن ت�ق� ّ ُدم املنطقة ومصيرها‪ ،‬مرتبطان‬
‫فضلوا ا ِتّباع سياسة‬
‫كل االرتباط بالغرب‪ .‬وموقف العرب‪ ،‬الذين ّ‬
‫مستقلة بني الكتلتني‪ ،‬الغربية والشرقية‪ .‬وكانت النتيجة‪ ،‬أن أحاطت‬
‫احلرب الباردة بالعالم العربي بأَسْ ره من كل جانب‪ ،‬مبا فيه لبنان‪،‬‬
‫الذي لم يستطع أن يعزل نفسه عن األحداث احمليطة به‪ .‬إن سياسة‬
‫شمعون املؤيدة للعراق‪ ،‬قادتْه إلى التفكير في االنضمام إلى حلف‬
‫بغداد‪ ،‬املعقود عام ‪ .1955‬وهو حلف عسكري‪ ،‬جمع العراق وتركيا‬
‫وباكستان وبريطانيا‪ ،‬وأثار ضغينة مصر‪ ،‬وسورية‪ ،‬التي وقفت في‬
‫صفها‪ .‬ولم تكن هذه السياسة مناقضة للميثاق الوطني لعام ‪،1943‬‬
‫الداعي إلى احلياد‪ ،‬أو عدم االنحياز‪ ،‬وإلى التعاون مع الدول العربية‬
‫الشقيقة‪.‬‬

‫أفسد قيام حلف بغداد العالقات العربية العربية‪ .‬وكان إيذاناً‬


‫ب��ان�ط�لاق السياسات اجلماهيرية ف��ي ال��وط��ن ال�ع��رب��ي‪ ،‬خ��اص��ة في‬
‫لبنان‪ .‬إذا انقسم اللبنانيون فئتَني سياسيتَني‪ .‬أوالهما‪ ،‬رفعت شعار‬
‫«لبنان امللجأ»‪ ،‬الذي يؤكد األصل الفينيقي‪ ،‬والطابع التاريخي املتميز‬
‫للبنانيني‪ .‬وهي متحالفة‪ ،‬بقوة‪ ،‬مع الدولة‪ ،‬وتعكس رؤي��ة مسيحية‬
‫راديكالية (مارونية)‪ ،‬وتتماهى‪ ،‬ثقافياً وسياسياً‪ ،‬بالغرب‪ .‬وتدعو إلى‬
‫سياسة خارجية لبنانية أكثر نشاطاً‪ ،‬وإلى حلف إستراتيجي مباشر‬

‫‪217‬‬
‫مع الدول الغربية‪ ،‬بدالً من التحالف غير املباشر مع العراق وتركيا‪.‬‬
‫إن هذه النظرة املثالية إلى الغرب‪ ،‬أدت إلى آم��ال مبالغ فيها‪ ،‬إذ‬
‫افترضت أن الغرب‪ ،‬سيقاتل حلماية «النموذج الغربي الوحيد» في‬
‫املنطقة العربية‪.‬‬

‫أما الثانية‪ ،‬أو الرأي اآلخر ‪ ،‬فهي فئة القوميني العرب‪ .‬وهم‬
‫ي�ن�ظ��رون إل��ى مصير لبنان ومستقبله ال�س�ي��اس��ي‪ ،‬ف��ي إط��ار عربي‬
‫ال‬
‫إسالمي‪ .‬ويعارضون‪ ،‬بإصرار‪ ،‬عضوية لبنان في حلف بغداد‪ِ ،‬لئَ ّ‬
‫ي��ؤدي ذل��ك إل��ى تقويض حياد لبنان‪ ،‬في الشؤون العربية العربية‪،‬‬
‫وربطه بالغرب ربطاً أشد‪ .‬وكانوا يشعرون‪ ،‬كذلك‪ ،‬بروابط عقائدية‪،‬‬
‫تربطهم بأفكار عبدالناصر‪ ،‬اآلخذة في الظهور‪ ،‬واملتعلقة باالستقالل‬
‫والوحدة وعدم االنحياز‪.‬‬

‫وإزاء الضغوط‪ ،‬الداخلية واحمللية‪ ،‬رضخت احلكومة اللبنانية‪،‬‬


‫فلم تنضم إلى حلف بغداد‪ .‬وعلى هذا النحو‪ ،‬يُ َع ّد تراجع حكومة‬
‫شمعون إشارة إلى عدم قدرة الدولة على تنفيذ سياستها‪ ،‬اإلقليمية‬
‫واخل��ارج�ي��ة‪ ،‬ف��ي مواجَ هة معارضة ق��وي��ة‪ ،‬م��ن جانب فئة القوميني‬
‫ومنذئذ‪ ،‬أصبحت سياسة لبنان اخلارجية‪ ،‬محور صراعات‬ ‫ٍ‬ ‫العرب‪.‬‬
‫ال�ل�ب�ن��ان�ي�ين‪ ،‬ف �ق � ِ ّي��دت ب��ذل��ك ح��ري��ة ال��دول��ة ف��ي ال �ع �م��ل‪ .‬وق��د برزت‬
‫صراعاتهم في‪:‬‬

‫‪ - 1‬وجود اختالفات حادّة بني الفئتَني الرئيسيتَني‪ ،‬في شأن‬


‫مَوقع لبنان السياسي‪ ،‬في املنطقة‪ ،‬وفي العالم‪.‬‬

‫‪ - 2‬تأييد كميل شمعون الهاشميني‪ ،‬في بغداد وع� ّم��ان‪ ،‬في‬


‫صراعهم ضد عبد الناصر‪ ،‬منتهكاً‪ ،‬بذلك‪ ،‬مبدأ احلياد‪،‬‬
‫الذي انبثقت منه عالقات لبنان احلسنة بجيرانه العرب‪،‬‬

‫‪218‬‬
‫فورطه بشكل أعمق في احلرب الباردة العربية العربية‪،‬‬
‫التي زادها اشتعاالً تنافس الدول العظمى‪.‬‬

‫حيال ذلك‪ ،‬حاول شمعون أن يتجنّب التهميش‪ ،‬باالنهماك في‬


‫السياسات اإلقليمية‪ ،‬وبتأكيد دور جهاز الدولة األساسي في رسم‬
‫توجه‬
‫السياسة اخلارجية وتنفيذها‪ .‬وكان مصمماً على احلفاظ على ّ ُ‬
‫لبنان نحو الغرب‪.‬‬

‫وبالنظر إلى وضع شمعون‪ ،‬والرابطة املتينة بني السياسات‪،‬‬


‫ال��داخ�ل�ي��ة واخل��ارج �ي��ة‪ ،‬ف��إن ت��ده��ور ال�ع�لاق��ات ب�ين ال ��دول الغربية‬
‫والقوميني العرب‪ ،‬كان له تأثير في توتر العالقات بني مصر وسورية‪،‬‬
‫من جهة‪ ،‬ولبنان‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬وتعميق االنقسامات الداخلية في‬
‫لبنان نفسه‪ .‬مثال ذلك تأميم شركة قناة السويس‪ ،‬عام ‪ ،1956‬وما‬
‫أعقبه من هجوم أنغلو فرنسي إسرائيلي‪ ،‬على مصر‪ .‬إن العدوان‬
‫الثالثي‪ ،‬قد هز املشرق العربي‪ ،‬وأثار فيه عاصفة من االحتجاجات‬
‫الشعبية‪ ،‬األمر الذي وضع معارضي مصر‪ ،‬من العرب‪ ،‬في موضع‬
‫الدفاع‪ ،‬وأجبر بعض أعدائها‪ ،‬مثل رئيس وزراء العراق‪ ،‬نوري السعيد‪،‬‬
‫على الوقوف إلى جانب عبدالناصر‪ .‬لم يكن األمر كذلك‪ ،‬بالنسبة‬
‫إلى شمعون‪ .‬إنه لم يعبأ بالرأي العام اللبناني‪ ،‬ورفض‪ ،‬خالفاً لطلب‬
‫رئيس ال ��وزراء‪ ،‬عبدالله اليافي‪ ،‬أن يقطع العالقات الدبلوماسية‬
‫ببريطانيا وفرنسا‪ ،‬مما عجّ ل استقالة احلكومة‪ ،‬وتوجيه االتهامات‬
‫إليه بخيانة القضية العربية‪ ،‬من قِ بل الفئة القومية اإلسالمية‪.‬‬

‫عي حكومة محافظة جديدة‪ ،‬برئاسة سامي‬ ‫بيد أن شمعون نّ‬


‫الصلح‪ ،‬تولّى فيها شارل مالك وزارة اخلارجية‪ .‬إن اختيار مالك‪،‬‬
‫وهو معجب بالغرب‪ ،‬بال حتفظ‪ ،‬وناقد الذع للشيوعية‪ ،‬جاء إمعاناً‬
‫من شمعون في التقرب من التحالف األمريكي‪ ،‬ولو أدى إلى املواجَ هة‬

‫‪219‬‬
‫مع املعارضني‪ ،‬احملليني واإلقليميني‪ .‬يضاف إلى ذلك أن مالكاً‪ ،‬وهو‬
‫عقائدي ملتزم‪ ،‬طاملا رأى أن على لبنان أن يضطلع بدور حيوي في‬
‫احل��رب الباردة‪ .‬لقد كان شمعون ومالك يرجوان تسلّم مساعدات‬
‫أمريكية‪ ،‬اقتصادية وعسكرية‪ ،‬كبيرة احلجم‪ ،‬لتعزيز سلطتهما‪ .‬بل‬
‫كانا يأمالن‪ ،‬كذلك‪ ،‬احلماية حتت مظلة الواليات املتحدة األمريكية‪،‬‬
‫ضد قوى القومية العربية املتصاعدة‪ .‬فمثالً‪ ،‬خالل األزمة األمريكية‬
‫السورية‪ ،‬ع��ام ‪ ،1957‬استقبل شمعون ومالك املبعوث األمريكي‪،‬‬
‫ل��وي ه�ن��درس��ون‪ ،‬م��ن دون اس�ت�ش��ارة س��وري��ة‪ .‬وق��د ح��ثّ مالك إدارة‬
‫أيزنهاور على إسقاط النظام السوري‪ ،‬وأخبر هندرسون‪ ،‬أن لبنان‪،‬‬
‫امل��ؤي��د للغرب‪ ،‬ال ميكِ نه التعايش م��ع س��وري��ة‪ ،‬محايدة أ ْم شيوعية‬
‫االجتاه‪ .‬وحني احتدت مصر وسورية‪ ،‬في شباط ‪ /‬فبراير ‪،1958‬‬
‫رفض شمعون‪ ،‬في البداية‪ ،‬االعتراف بالكيان اجلديد‪ ،‬اجلمهورية‬
‫العربية املتحدة‪.‬‬

‫ساعدت سياسة شمعون املعلنة‪ ،‬في تأييد الغرب‪ ،‬على تفاقم‬


‫مصاعبه‪ ،‬الداخلية واإلقليمية‪ .‬وكان الرئيس هو ووزي��ر خارجيته‪،‬‬
‫مالك‪ ،‬ورئيس وزرائه‪ ،‬سامي الصلح‪ ،‬من أشد أنصار الغرب‪ ،‬حتى‬
‫إنهم ربطوا مصالح لبنان بسياسة الواليات املتحدة األمريكية في‬
‫ال�ش��رق األوس ��ط‪ .‬وك��ان على ال��دول��ة اللبنانية أن تختار إ ّم��ا ِصلة‬
‫وثيقة بواشنطن‪ ،‬وتتعرض خلطر عدم االستقرار الداخلي‪ ،‬وللعزلة‬
‫في املنطقة‪ ،‬وإ ّم��ا مهادنة عبد الناصر وق��واه القومية‪ ،‬مما يضمن‬
‫السالم الداخلي‪ .‬وقد آثر شمعون اخليار األول‪ ،‬ألسباب‪ ،‬سياسية‬
‫ومصلحية‪ .‬إذ ك��ان ي��رى في احل��رب ال�ب��اردة‪ ،‬فرصة ذهبية‪ ،‬لوضع‬
‫لبنان على اخلريطة‪ ،‬وجتنّب التهميش‪ .‬كما أنه كان يرجو التغلب‬
‫على املعارضة‪ ،‬بجعْل سياسة لبنان اخلارجية إلى جانب الواليات‬
‫املتحدة األمريكية‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫اغتنم شمعون ومالك فرصة اإلعالن عن مبدأ أيزنهاور‪ ،‬عام‬
‫‪ ،1957‬الرامي إلى إيقاف املدّ الثوري في املنطقة‪ ،‬فطلبا مساعدات‪،‬‬
‫اقتصادية وعسكرية‪ ،‬من واشنطن‪.‬‬

‫استنكرت املعارضة موقف شمعون‪ ،‬جتاه اجلمهورية العربية‬


‫امل�ت�ح��دة‪ .‬واس�ت�ن�ك��رت‪ ،‬ك��ذل��ك‪ ،‬سياسته اخل��ارج�ي��ة‪ ،‬امل��ؤي��دة للغرب‪.‬‬
‫كانت املعارضة تعتقد‪ ،‬أن دفْع شمعون لبنان إلى الوقوف مع الغرب‪،‬‬
‫ضد مصر وسورية‪ ،‬ال ينتهك حياد لبنان التقليدي فقط‪ ،‬بل يهدد‪،‬‬
‫كذلك‪ ،‬التوازن الدقيق‪ ،‬القائم بني الطوائف اللبنانية املختلفة‪ .‬وقد‬
‫رأى اثنان من زعماء املعارضة‪ ،‬وهما كمال جنبالط والشيخ ندمي‬
‫اجل�س��ر‪ ،‬أن انتفاضة ع��ام ‪ ،1958‬كانت رداً م�ب��اش��راً على النفوذ‬
‫األجنبي‪ ،‬وعلى اعتماد لبنان على الغرب‪ .‬وقد مهدت اآلراء املتباينة‬
‫بني املؤمنني بخصوصية لبنان‪ ،‬وأولئك املؤمنني بالقومية العربية‪،‬‬
‫السبيل إلى مواجَ هة‪ ،‬يسعى فيها كل منهما إلى احلصول على الدعم‬
‫اخل��ارج��ي لتثبيت وضعه‪ .‬وف��ي حني ك��ان شمعون وم��ال��ك‪ ،‬يخطبان‬
‫و ّد واشنطن‪ ،‬كانت املعارضة‪ ،‬ترحب بالعون‪ ،‬السياسي واملادي‪ ،‬من‬
‫مصر وسورية معاً‪.‬‬

‫وعندما تزايد التوتر‪ ،‬في األشهر األولى من عام ‪ ،1958‬حاولت‬


‫تشدد على الطبيعة اخلارجية لألزمة‪ ،‬وأن تقنع‬‫ِّ‬ ‫حكومة شمعون أن‬
‫واشنطن باحلاجة إل��ى عمل حاسم‪ .‬وح�ين حوصر شمعون ومالك‬
‫في الداخل‪ ،‬تطلعا إلى الدعم من اخل��ارج‪ .‬وقد صور النزاع‪ ،‬منذ‬
‫البداية‪ ،‬على أنه صراع بني لبنان‪ ،‬املؤيد للغرب‪ ،‬والقومية العربية‬
‫الراديكالية‪ ،‬املتحالفة مع الشيوعية الدولية‪.‬‬

‫وال شك أن تدخّ ل الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬عسكرياً‪ ،‬في‬


‫ل�ب�ن��ان‪ ،‬ف��ي مت��وز‪/‬ي��ول�ي��ه ‪ ،1958‬ل��م يكن بسبب اع�ت�ق��اد املسؤولني‬

‫‪221‬‬
‫األم��ري�ك�ي�ين أن اس�ت�ق�لال ل�ب�ن��ان وس �ي��ادت��ه‪ ،‬م �ه��ددان م��ن الشيوعية‬
‫الدولية‪ ،‬بل ألهمية لبنان‪ ،‬كحلقة في السلسلة العربية‪ .‬وق��د كان‬
‫أيزنهاور متردداً في إرسال قوات أمريكية إلى بيروت‪ ،‬قبل االنقالب‬
‫العراقي‪ ،‬على الرغم من طلبات شمعون ومالك املتكررة‪ .‬وكان الرأي‪،‬‬
‫في واشنطن‪ ،‬مجمعاً على أن التدخل املسلح‪ ،‬قد تكون له مضاعفات‬
‫إقليمية‪ ،‬من شأنها أن تضر باملصالح الغربية‪ .‬ولم يكن أيزنهاور‪،‬‬
‫وال وزي��ر خارجيته‪ ،‬ج��ون فوستر داالس‪ ،‬على استعداد للمخاطرة‬
‫مبواجهة مصر وسورية‪ ،‬في شأن لبنان‪ .‬ومع أن الرئيس األمريكي‬
‫ووزير خارجيته‪ ،‬كانا اعتقدا بداية‪ ،‬أن املشكلة‪ ،‬في لبنان‪ ،‬ذات أصل‬
‫شيوعي‪ ،‬غير أن كبار املسؤولني في واشنطن‪ ،‬اعترفوا أنه لم يكن‬
‫للشيوعية دور جوهري فيها؛ فقد جاء معظَ م التأثيرات اخلارجية‬
‫م��ن س��وري��ة وم�ص��ر‪ .‬وال��واق��ع‪ ،‬أن االحت��اد السوفيتي (ال�س��اب��ق) كان‬
‫مهمشاً‪ ،‬طوال األزمة اللبنانية‪ .‬ولم تكُن لديه القدرات العسكرية‪،‬‬
‫وال الرغبة في مواجَ هة ال��والي��ات املتحدة األمريكية‪ .‬وعلى خالف‬
‫موقف السوفيت من أزمة السويس‪ ،‬فإن موقفهم من أحداث لبنان‪،‬‬
‫اتسم بضبط النفس‪ ،‬إل��ى ح� ّد كبير‪ ،‬ومبحدوديته‪ .‬وه��ذه احلقيقة‬
‫عكست هامشية هذا البلد في اإلستراتيجية السوفيتية‪ .‬وقد أثبتت‬
‫األحداث في لبنان‪ ،‬مبا ال يدع مجاالً للشك‪ ،‬أن واشنطن كانت هي‬
‫الالعب املهيمن في مشكلته‪ .‬أما دور موسكو‪ ،‬فكان ثانوياً‪.‬‬

‫إن التدخل العسكري األمريكي في لبنان‪ ،‬لم يعكس أي التزام‬


‫إستراتيجي باهتمامات الفئة املؤمنة بخصوصيته‪ ،‬أو اهتمامات‬
‫جهاز ال��دول��ة‪ .‬لقد استخدمت واشنطن لبنان ساحة إلب��راز قوّتها‬
‫العسكرية‪ ،‬وإظهار إرادتها حلماية مصاحلها اإلقليمية احليوية‪ ،‬وال‬
‫سيما اإلمدادات النفطية‪ ،‬وتأكيد استعدادها الستخدام القوة‪ ،‬عند‬
‫الضرورة في لبنان‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫الفصل الثامن‬
‫احلرب األهلية في لبنان (‪)1975‬‬

‫تفجرت احلرب األهلية اللبنانية في منتصف السبعينيات‪ ،‬إثر‬


‫اغتيال النائب معروف سعد‪ ،‬عام ‪ .1975‬وعقب حادث عني الرمانة‪،‬‬
‫ال��ذي عكس التصادم املاروني الفلسطيني‪ .‬بيد أن مناخاً متفجراً‬
‫سبق‪ ،‬احلرب وأسهم في إشعالها‪.‬‬

‫تباينت اآلراء واختلفت في بداية الصراع‪ .‬فهناك مَن رأى أن‬


‫وف��اة جمال عبد الناصر‪ ،‬في ‪ 28‬أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪ ،1970‬فتحت‬
‫األبواب الحتماالت القضاء على الوجود الفلسطيني‪ ،‬وضرب التيار‬
‫الوطني‪ ،‬على أرض لبنان‪ ،‬بعد مذابح األردن‪ .‬وثمة َم��ن ق��ال بأن‬
‫اغتيال امللك فيصل‪ ،‬في ‪ 25‬آذار ‪ /‬مارس ‪ ،1975‬هو إشارة البدء‬
‫بالقضاء على هذا التيار‪ .‬وبني هذا الرأي وذاك‪ ،‬آراء متعددة‪ ،‬لعل‬
‫أقربها إلى الصواب‪ ،‬أن أحداث عام ‪ 1973‬هي البداية‪ ،‬خاصة أن‬
‫لها جذوراً‪ ،‬متتد في املاضي‪ ،‬وفروعاً تطاول العام التالي‪،1974 ،‬‬
‫حتى وق��وع االن�ف�ج��ار م�ب��اش��رة‪ .‬ول�ع��ل أب��رز األح ��داث‪ ،‬ال�ت��ي رجّ حت‬
‫اختيار نقطة البداية في هذا العام‪ ،‬هي‪:‬‬

‫‪223‬‬
‫أيار ‪ /‬مايو ‪ ،1973‬القضاء‬ ‫‪ - 1‬محاولة اجليش اللبناني‪ ،‬في‬
‫على أرض ل�ب�ن��ان‪ ،‬أو على‬ ‫على امل�ق��اوم��ة الفلسطينية‪،‬‬
‫فشل اجليش في محاولته‪،‬‬ ‫األق��ل‪ ،‬كسر شوكتها‪ .‬وإزاء‬
‫لتضطلع مبا عجز اجليش‬ ‫تكوّنت امليليشيات احلزبية‪،‬‬
‫على أق ّل تقدير‪.‬‬ ‫عن القيام به‪ ،‬أو مساعدته‪،‬‬

‫‪ - 2‬ق ��رار م��ؤمت��ر ال�ق�م��ة ال�ع��رب�ي��ة ال �س��ادس��ة ال��رق��م ‪ ،46‬في‬


‫اجل��زائ��ر‪ ،‬ف��ي ‪ 28‬ك��ان��ون ال�ث��ان��ي ‪ /‬نوفمبر ‪ ،1973‬أن‬
‫منظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬هي املمثل الشرعي الوحيد‬
‫للشعب الفلسطيني‪ ،‬واعتراض األردن على ذلك‪ ،‬وبداية‬
‫أزمة سياسية ح��ادّة‪ ،‬أثبتت استحالة إقناع األردن برأي‬
‫األغلبية‪.‬‬

‫‪ - 3‬ت�غ� ّي��ر ال��دب�ل��وم��اس�ي��ة األم��ري�ك�ي��ة‪ ،‬ف��ي إط ��ار إستراتيجية‬


‫السياسة األمريكية في الشرق األوسط‪.‬‬

‫‪ - 4‬بداية سلسلة اعتداءات إسرائيلية‪ ،‬ذات طبيعة خاصة‪،‬‬


‫على الفلسطينيني‪ ،‬في لبنان‪.‬‬

‫‪ - 5‬ان��دالع ح��رب إعالمية عربية‪ ،‬ت��رك��زت‪ ،‬بوجه خ��اص‪ ،‬في‬


‫الصحف اللبنانية‪ .‬وقد ارتبطت بظاهرة انتشار اخلالفات‬
‫بني الدول العربية‪ ،‬التي بلغت ح ّد التهديد باستخدام القوة‬
‫بني اجليوش العربية‪ ،‬التي يجمعها اتفاق الدفاع املشترك‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬ال �ت �ص��ادم امل�س�ل��ح‪ ،‬ب�ين اجل�ي��ش ال�ل�ب�ن��ان��ي واملقاومة‬
‫ا لفلسطينية‬

‫وق��ع ت �ص��ادم م�س�ل��ح‪ ،‬ب�ين اجل �ي��ش ال�ل�ب�ن��ان��ي وق���وات املقاومة‬

‫‪224‬‬
‫الفلسطينية‪ ،‬في ‪ 2‬أيار‪/‬مايو ‪ .1973‬تبادل فيه الطرفان االتهامات‪.‬‬
‫فوزير الدفاع‪ ،‬آنذاك‪ ،‬فؤاد غصن‪ ،‬أعلن أن احلكومة‪ ،‬اعتقلت عدداً‬
‫من رجال املقاومة‪ ،‬قرب السفارة األمريكية‪ ،‬وذلك في ‪ 30‬نيسان‪/‬‬
‫أبريل ‪ .1973‬وفي أول أيار‪/‬مايو‪ ،‬اختطف عدد من الفدائيني رقيباً‬
‫في اجليش اللبناني‪ .‬وبعد ذلك بساعات‪ ،‬اختُطف رقيب آخر‪ .‬وقال‬
‫وزير الدفاع‪ ،‬إنه في أعقاب هذه االستفزازات غير املسؤولة‪ ،‬اتخذ‬
‫اجليش اللبناني إجراءات أمن استثنائية‪ ،‬في بيروت‪.‬‬

‫وفي مواجَ هة ذلك‪ ،‬أعلنت اللجنة التنفيذية ملنظمة التحرير‪،‬‬


‫في اليوم عينه‪ ،‬بياناً‪ ،‬قالت فيه‪ ،‬إن وح��دات من اجليش اللبناني‪،‬‬
‫مع َّززة بالدبابات واملصفحات‪ ،‬حتاصر منطقتَي صبرا وشاتيال‪ .‬وقد‬
‫حاولت اختراقهما‪ ،‬حتت ستار كثيف من النيران ومدفعية الدبابات‪.‬‬
‫وقد استهدف الهجوم بعض مكاتب منظمات الالجئني ومخيمَيهم‪.‬‬
‫وفي املساء‪ ،‬اتُّفق على وقْف القتال‪ ،‬إال أنه‪ ،‬في اليوم التالي‪ 3 ،‬أيار‪/‬‬
‫مايو ‪ ،1973‬قصف سالح الطيران اللبناني مخيمات الالجئني‪ ،‬في‬
‫بيروت‪.‬‬

‫وانتقلت عمليات اجليش اللبناني‪ ،‬في اليوم الثالث‪ ،‬إلى اجلنوب‪،‬‬


‫حيث قصفت وحداته‪ ،‬املدعمة بالطائرات‪ ،‬مَواقع املقاومة‪ .‬وسرعان‬
‫ما اتُّفق على وقف جديد إلطالق النار‪ .‬إال أن عدة عمليات عسكرية‬
‫غامضة‪ ،‬استهدفت إثارة االضطرابات‪ ،‬في الوقت الذي جتري فيه‬
‫احملادثات بني الطرفني إلنهاء األزمة‪ .‬إذ قام مجهولون بعدة عمليات‬
‫ومبان حكومية‪ ،‬ومراكز للمقاومة‪ .‬وقد‬
‫ٍ‬ ‫ضد مَواقع للجيش اللبناني‪،‬‬
‫أذاعت مصادر املقاومة حتذيراً من أن عمالء أردنيني‪ ،‬كانوا يطلقون‬
‫النار على اجلانبني‪ ،‬الستمرار اشتعال القتال‪.‬‬

‫وأَم � َك��ن‪ ،‬بجهود عربية‪ ،‬وت��دخّ ��ل أم�ين ع��ام اجلامعة العربية‪،‬‬

‫‪225‬‬
‫اح�ت��واء األزم��ة‪ ،‬م��ع منتصف أي��ار ‪ /‬م��اي��و‪ .‬كما أَم� َك��ن التوصل إلى‬
‫ات�ف��اق‪ ،‬ع��رف باتفاق «ملكارت» في ‪ 17‬أي��ار ‪ /‬مايو ‪ ،1973‬وأهم‬
‫ما جاء فيه‪« :،‬اعتماد امليليشيا‪ ،‬لتأمني حراسة املخيمات»‪ .‬وتعني‬
‫امليليشيا بعض الفلسطينيني‪ ،‬القاطنني في املخيم‪ ،‬وغير املنضوين‬
‫إل��ى فصائل امل�ق��اوم��ة‪ .‬كما ن��ص االت�ف��اق على إخ�لاء املخيمات من‬
‫األسلحة‪ ،‬املتوسطة والثقيلة‪ .‬وحدَّ د مَواقع متركز املقاومة‪ ،‬في نقاط‬
‫محددة‪ .‬األهم من ذلك‪ ،‬هو قرار جتميد العمليات الفدائية كافة‪،‬‬
‫من األراضي اللبنانية‪ ،‬استناداً إلى مقررات مجلس الدفاع املشترك‪.‬‬
‫كما وضع ضوابط لإلعالم الفلسطيني‪ ،‬في لبنان‪.‬‬

‫وأك��د ات �ف��اق م�ل�ك��ارت ح��ق ال�ش�ع��ب الفلسطيني ف��ي النضال‪،‬‬


‫السترداد أرضه‪ ،‬وضرورة الدفاع عن لبنان وسالمة أراضيه‪ .‬واملهم‬
‫أن «الكتائب»‪ ،‬سجلت في البيان املشترك‪ ،‬ض��رورة جتنّب الوقوع‬
‫في الفخ اإلسرائيلي‪ ،‬الهادف إلى افتعال االقتتال بني اإلخوة‪ ،‬على‬
‫األراض ��ي اللبنانية‪ ،‬تفتيتاً للكيان اللبناني‪ ،‬وتوطئة إلع��ادة رسم‬
‫خريطة املنطقة‪ .‬وأشار البيان إلى أن االعتداءات اإلسرائيلية على‬
‫جنوبي لبنان‪ ،‬ليست بسبب الوجود الفلسطيني‪ ،‬إمنا مصدرها أطماع‬
‫إسرائيل فيه‪.‬‬

‫وأهمية هذا التصادم‪ ،‬على الرغم من أنه انتهى‪ ،‬من دون تغيير‬
‫جوهري في املوقف‪ ،‬أنه أوضح كثيراً من احلقائق‪ .‬كما ترتب عليه‪،‬‬
‫كذلك‪ ،‬كثير من السياسات واملواقف‪ .‬ولعل ما يعنينا منها‪ ،‬أنه وجد‬
‫في دائ��رة السلطة احلاكمة في لبنان‪ ،‬مع بدايات األزم��ة‪ ،‬قيادات‪،‬‬
‫رفضت االل�ت��زام مبا وقّعته السلطة‪ ،‬اتفاق القاهرة في ‪ 3‬تشرين‬
‫الثاني‪/‬نوفمبر ‪ ،1969‬بني لبنان واملقاومة‪ ،‬بل ادَّعت أنها لم توافق‬
‫على االتفاق‪ ،‬على الرغم من أن املجلس النيابي وافق عليه‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫مواجهة املقاومة الفلسطينية‬
‫َ‬ ‫ثاني ًا‪ :‬حلف ماروني‪ ،‬في‬

‫منذ اللحظة األولى للوجود الفلسطيني املسلح‪ ،‬ظهر تناقضه‬


‫مع مصالح الفئة احلاكمة في لبنان‪ ،‬التي رأت في تناميه خطراً‬
‫على كل مقومات وجودها‪ .‬وأسفرت الدعوة إلى إطالق حرية العمل‬
‫الفدائي ف��ي لبنان‪ ،‬ع��ام ‪ ،1968‬التي كانت تقف خلفها «احلركة‬
‫الوطنية اللبنانية»‪ ،‬واجلماهير العربية املتعاطفة معها‪ ،‬عن نشوء‬
‫حلف ثالثي ماروني‪ ،‬من كميل شمعون وبيار اجلميل ورمي��ون إده‪،‬‬
‫استهدف‪:‬‬

‫الوقوف باملرصاد للفدائيني الفلسطينيني‪ ،‬ألن ذلك يشكل‬ ‫< ‬


‫خطراً‪ ،‬داخلياً وخارجياً‪ ،‬بالنسبة إلى إسرائيل‪.‬‬

‫ال��وق��وف في وج��ه التيار الشهابي اللبناني‪ ،‬على أبواب‬ ‫< ‬


‫االنتخابات النيابية‪ ،‬في ذلك العام‪ ،‬حتضيراً لالنتخابات‬
‫الرئاسية عام ‪.1970‬‬

‫دخلت إسرائيل على خط األزم��ة‪ ،‬بغارتها على مطار بيروت‪،‬‬


‫في ‪ 28‬كانون األول ‪ /‬ديسمبر ‪ ،1968‬حني هبطت في املطار فِ رقة‪،‬‬
‫بطائرات عمودية‪ ،‬ودمرت ‪ 13‬طائرة كانت جاثمة على أرض املطار‪،‬‬
‫تابعة لشركة ط�ي��ران ال�ش��رق األوس ��ط‪ ،‬رداً على عملية الفدائيني‬
‫الفلسطينيني‪ ،‬ف��ي م�ط��ار أث�ي�ن��ا‪ ،‬ف��ي ‪ 26‬ك��ان��ون األول ‪ /‬ديسمبر‬
‫‪.1968‬‬

‫وف��ي ‪ 18‬ش�ب��اط ‪ /‬فبراير ‪ ،1969‬أعلنت اللجنة التنفيذية‬


‫ملنظمة التحرير الفلسطينية قيام قيادة الكفاح املسلح‪ .‬وبعد أيام‪،‬‬
‫افتعلت السلطة اللبنانية تصادماً مع املقاومة‪ ،‬بهدف تقييد الوجود‬
‫ال�ع�س�ك��ري الفلسطيني‪ ،‬ف��ي ج�ن��وب��ي ل�ب�ن��ان‪ .‬إال أن غ�ض��ب الشارع‬

‫‪227‬‬
‫اللبناني‪ ،‬التي متثلت في مظاهرات‪ ،‬اصطدمت بقوات األمن‪ ،‬أدت‬
‫إل��ى استقالة رئيس ال ��وزراء‪ ،‬ورف��ض مختلف ال�ق�ي��ادات السياسية‬
‫قبول تشكيل ال��وزارة‪ ،‬مما جعل األزمة الوزارية تستمر ‪ 215‬يوماً‪.‬‬
‫وخالل ذلك‪ ،‬استمرت املناوشات التي حتولت‪ ،‬مع شهر تشرين أول ‪/‬‬
‫أكتوبر‪ ،‬إلى اصطدامات مسلحة‪ ،‬في اجلنوب‪ ،‬وعلى طول احلدود مع‬
‫سورية‪ ،‬وفي املخيمات‪ .‬ولكن انحياز فئة كبيرة من الشعب اللبناني‬
‫إلى جانب العمل الفدائي‪ ،‬إضافة إلى األزمة الوزارية‪ ،‬كل ذلك جعل‬
‫حُ كم ش��ارل حلو في مواجَ هة أزم��ة متصاعدة‪ .‬فاجليش لم يستطع‬
‫حسْ م القتال‪ ،‬ومنْع التجول لم يوقف التصادمات‪.‬‬

‫وحتت ضغوط األزمة‪ ،‬والضغط العربي‪ ،‬الرسمي والشعبي‪ ،‬طلب‬


‫لبنان وساطة مصر‪ .‬وفي ‪ 31‬تشرين الثاني ‪ /‬نوفمبر ‪ ،1969‬توصل‬
‫املفاوضون إلى اتفاق سري‪ ،‬عرف باتفاق القاهرة‪ ،‬أعطيَّ ‪ ،‬مبوجبه‪،‬‬
‫العمل واإلق��ام��ة والتنقل للفلسطينيني‪ ،‬املقيمني بلبنان‪ ،‬وق��ت توقيع‬
‫االتفاق‪ .‬ومبقتضاه‪ ،‬تُنشأ جلان محلية‪ ،‬من الفلسطينيني في املخيمات‪،‬‬
‫لرعاية مصالح الالجئني‪ ،‬وذلك بالتعاون مع السلطات احمللية‪ ،‬وضمن‬
‫نطاق السيادة اللبنانية‪ .‬مع وجود نقاط للكفاح املسلح داخل املخيمات‪،‬‬
‫تتعاون مع اللجان احمللية على تأمني حُ سْ ن العالقة بالسلطة‪ .‬وتتولّى‬
‫هذه النقاط تنظيم وجود األسلحة وحتديدها‪ ،‬في املخيمات‪ .‬واملهم‬
‫أن االتفاق انتهى إلى تأكيد الطرفني‪ ،‬أن الكفاح املسلح الفلسطيني‪،‬‬
‫هو في مصلحة لبنان‪ ،‬كما هو في مصلحة الثورة الفلسطينية والعرب‬
‫جميعهم‪ .‬وكان أهم ما انتهت إليه األزمة األولى مع املقاومة‪:‬‬

‫‪ - 1‬تثبيت مَواقع املقاومة في لبنان‪ ،‬وانطالق العمل الفدائي‬


‫منها ‪.‬‬

‫‪ - 2‬حت��دي��د ال �ق��وى‪ ،‬ال �ت��ي ت �ت �ص��دى‪ ،‬ح�ت��ى ب��ال �س�لاح‪ ،‬للعمل‬

‫‪228‬‬
‫ال �ف��دائ��ي ال�ف�ل�س�ط�ي�ن��ي‪ .‬وه��ي احل �ل��ف امل��ارون��ي وال ��دول‬
‫العربية اليمينية‪ ،‬حسب تعبير فؤاد حلود‪ ،‬وإسرائيل‪.‬‬

‫‪ - 3‬الوجود الفلسطيني في لبنان‪ ،‬أصبح ورقة في الصراع‬


‫حول احلُكم في لبنان‪ .‬واتضح ذلك من أه��داف احللف‬
‫املاروني‪.‬‬

‫‪ - 4‬أزمة حُ كم في لبنان‪ ،‬حاول كل القوى إخفاء معاملها‪.‬‬

‫وبعد ثالثة أشهر فقط‪ ،‬أي في شباط ‪ /‬فبراير ‪ ،1970‬اقتدت‬


‫السلطة األردنية بالسلطة اللبنانية‪ ،‬فافتعلت تصادماً مع املقاومة‪،‬‬
‫انتهى إل��ى مذابح أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪ ،1970‬والقضاء على الوجود‬
‫الفلسطيني املسلح في األردن‪ .‬وأدى جناح األردن في ما فشل فيه‬
‫لبنان‪ ،‬إلى تركُّز الوجود الفدائي في لبنان‪ .‬وإذا كانت أحداث عام‬
‫‪ 1973‬قد كشفت فريقاً في السلطة اللبنانية‪ ،‬رفض االلتزام باتفاق‬
‫عام ‪ 1969‬مع املقاومة‪ ،‬فإنها كشفت‪ ،‬كذلك‪ ،‬عجز اجليش اللبناني‬
‫عن االضطالع باملهمة‪ ،‬التي جنح فيها جيش األردن‪ ،‬الختالف ظروف‬
‫تركيب كلٍّ من اجليشني وتسليحه‪ .‬فمن املؤكد أن اجليش اللبناني‪،‬‬
‫استخدم كل قدراته‪ ،‬من طيران إلى مدرعات إلى مدفعية‪ ،‬في القضاء‬
‫على املقاومة‪ .‬ولكن التصادم‪ ،‬لم يؤ ِّد إلى حتقيق أهدافه‪ ،‬على الرغم‬
‫من حتقيقه بعض الكسب‪ ،‬من خالل اتفاق ملكارت‪ ،‬بفرض قدر من‬
‫القيود عليها‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬رفْ ض لبنان قرارات مؤمتر القمة العربية‪ ،‬في شأن‬
‫ا لفلسطينيني‬

‫عقد مؤمتر القمة السادس في اجلزائر‪ ،‬في الفترة من ‪ 26‬إلى‬


‫‪ 28‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر ‪ .1973‬وكانت مشكلته الرئيسية متثيل‬

‫‪229‬‬
‫الشعب الفلسطيني‪ .‬ووضح لألردن‪ ،‬في ظل نتائج حرب تشرين أول‪/‬‬
‫أكتوبر‪ ،‬عدم قبول الدول العربية متثيله الفلسطينيني‪ .‬ولذلك‪ ،‬تخلّف‬
‫امللك حسني عن املؤمتر‪ ،‬بعد أن وافق وزراء اخلارجية على توصية‪،‬‬
‫بأن منظمة التحرير هي املمثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني‪،.‬‬
‫ك��ذل��ك‪ ،‬حتفظ لبنان م��ن ال�ق��رار ال��ذي يجعل ك��ل األراض��ي العربية‬
‫حقاً إستراتيجياً للعمل ال�ف��دائ��ي‪ .‬وجمع لبنان واألردن عداؤهما‬
‫ملنظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬وح��دد إمكانات التعاون بينهما‪ ،‬في‬
‫هذا املجال‪.‬‬

‫وت��زام��ن ذل��ك كله م��ع تصعيد إس��رائ�ي��ل عملياتها االنتقامية‪،‬‬


‫ضد الفدائيني الفلسطينيني‪ ،‬في لبنان‪ .‬ففي ‪ 11‬نيسان ‪ /‬أبريل‬
‫‪ ،1973‬اقتحمت قوة كوماندوز إسرائيلية بيروت‪ ،‬حيث قتلت عدداً‬
‫من قيادات املقاومة‪ :‬محمد يوسف النجار‪ ،‬عضو اللجنة املركزية‬
‫ملنظمة «ف�ت��ح»‪ ،‬وم�س��ؤول ال�ش��ؤون السياسية ف��ي اللجنة التنفيذية‬
‫ملنظمة التحرير‪ ،‬ورئيس اللجنة السياسية الفلسطينية في لبنان‪.‬‬
‫وكمال ناصر‪ ،‬املتحدث الرسمي باسم قيادة منظمة التحرير؛ وكمال‬
‫ع��دوان‪ ،‬عضو اللجنة املركزية ملنظمة «فتح»‪ ،‬واملسؤول‪ ،‬العسكري‬
‫والتنظيمي‪ ،‬عن القطاع الغربي‪ ،‬الذي يشمل الضفة الغربية وغزة‪.‬‬

‫إزاء ذلك كله‪ ،‬استوفت احلرب أسبابها‪ ،‬وزادها سبباً حكومة‬


‫رشيد الصلح‪ ،‬التي حكمتها توازنات دقيقة جداً‪ ،‬ناهيك عن ضعف‬
‫رشيد الصلح نفسه‪ ،‬داخل موازين القوى العامة في السلطة‪ .‬إضافة‬
‫إلى تردُّد الزعامات اإلسالمية التقليدية في التصدي لـ «الكتائب»‪،‬‬
‫وسعيها إلى إطاحة حكومة الصلح‪ ،‬تغليباً ملصاحلها‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫الفصل التاسع‬
‫البعد الداخلي للحرب األهلية‬
‫ُ‬

‫مثّل البُعد الداخلي أح��د أه��م العوامل‪ ،‬احلاكمة في احلرب‬


‫األهلية اللبنانية‪ .‬فعلى الرغم من تضافر مجموعة من العوامل‪،‬‬
‫الداخلية واإلقليمية والدولية‪ ،‬إ ّال أن األسباب الداخلية‪ ،‬ك��ان لها‬
‫الصدارة بني هذه العوامل‪ .‬لعل من أهم هذه األسباب صيغة النظام‬
‫السياسي‪ ،‬والتكوين‪ ،‬الطائفي واحل��زب��ي‪ ،‬للبنان؛ إذ انبثق النظام‬
‫اللبناني من توازن دقيق‪ ،‬حلماية أوضاع اجتماعية طائفية‪ ،‬عبّر عنه‬
‫امليثاق الوطني‪ ،‬من ناحية‪ ،‬وشعار «ال غالب‪ ،‬وال مغلوب»‪ ،‬الذي رفع‬
‫ع��ام ‪ ،1958‬من ناحية أخ��رى‪ .‬إن أي اضطراب في ه��ذا التوازن‪،‬‬
‫ميكِ ن أن يؤدي إلى انفجار‪ .‬ومن ثَ�مّ‪ ،‬كانت محاولة بشارة اخلوري‬
‫تعديل الدستور‪ ،‬عام ‪ ،1952‬لكي يعطي نفسه حق إعادة الترشيح‬
‫لرئاسة اجلمهورية‪ ،‬سبباً ألزمة وعدم استقرار سياسيَّني‪ .‬وكذلك‬
‫محاولة كميل شمعون الشيء عينه‪ ،‬ع��ام ‪ ،1958‬أدت‪ ،‬مع عوامل‬
‫أخرى‪ ،‬إلى حرب أهلية‪.‬‬

‫ول�ك��ن ه��ذا ال �ت��وازن‪ ،‬أص�ب��ح ال يعبّر ع��ن ال �ظ��روف واألوضاع‬

‫‪231‬‬
‫امل�س�ت�ج��دة ف��ي املجتمع ال�ل�ب�ن��ان��ي‪ .‬ل�ق��د ت �ع �رّض ل�ب�ن��ان لعملية تغيّر‬
‫اجتماعي عميق‪ ،‬أدت إلى بروز قوى‪ ،‬اجتماعية وسياسية‪ ،‬جديدة‪،‬‬
‫تسعى إل��ى تغيير قواعد اللعبة السياسية‪ ،‬ومعها النظام اللبناني‬
‫برمَّته‪ .‬أسفرت عنها تطورات وتفاعالت عديدة‪ ،‬عبْر مدة طويلة من‬
‫الزمن‪.‬‬

‫وأعقب ذلك‪ ،‬في اخلمسينيات‪ ،‬امل ّد التاريخي حلركة القومية‬


‫العربية‪ ،‬بقيادة جمال عبد الناصر‪ ،‬الذي اجتذب إليه أعداداً متزايدة‬
‫م��ن الشباب اللبناني املسلم‪ .‬وك��ان ذل��ك‪ ،‬ف��ي ح� ّد ذات��ه‪ ،‬م��ن وجهة‬
‫ال من عوامل عدم االستقرار‪ .‬وقد ارتبط‬ ‫نظر التوازن اللبناني‪ ،‬عام ً‬
‫بذلك‪ ،‬ظهور نخبة متعلمة من املسلمني‪ ،‬طالبت بنصيب أكبر لهم في‬
‫احلُكم‪ ،‬وفي الدخل القومي‪ .‬فحاول احلكم الشهابي اإلصالح‪ ،‬من‬
‫خالل إعطاء املسلمني نصيباً أكبر من احلُكم‪ ،‬وتنمية مناطقهم‪ ،‬في‬
‫اجلنوب والبقاع وعكار‪.‬‬

‫وف��ي الستينيات‪ ،‬ج��اءت أزم��ة النظام الرأسمالي‪ ،‬ممثلة في‬


‫إف�لاس بنك أنترا‪ ،‬والتطورات السياسية‪ ،‬التي ارتبطت بالصراع‬
‫العربي اإلسرائيلي‪ ،‬وال سيما تصاعد حركة املقاومة‪ ،‬واضطالعها‬
‫بعمليات مسلحة‪ ،‬عبْر احلدود‪ ،‬وقيام إسرائيل بسلسلة من أعمال‬
‫العدوان والعمليات االنتقامية في لبنان‪ ،‬األمر الذي جعل لبنان في‬
‫أتون الصراع‪ .‬أضف إلى ذلك‪ ،‬أن االعتداءات اإلسرائيلية املستمرة‬
‫على اجلنوب‪ ،‬أدت إلى انتقال أعداد كبيرة من املسلمني الشيعة إلى‬
‫حزام الفقر اإلسالمي‪ ،‬احمليط ببيروت‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬ميكِ ن القول إن النظام اللبناني‪ ،‬نشأ‪ ،‬أصالً‪ ،‬على توازن‬


‫ماروني سُ نِّي‪ ،‬في إطار األوضاع الطائفية العشائرية السائدة‪ ،‬وإن‬
‫هذا التوازن‪ ،‬تعرّض لعوامل اختالل‪ ،‬مبعثها عدة عوامل‪:‬‬

‫‪232‬‬
‫‪« - 1‬احلركة الوطنية اللبنانية»‪ ،‬الراغبة في تأكيد املواطَ نة‬
‫اللبنانية‪ ،‬على حساب املشاعر والوالءات الطائفية‪.‬‬

‫‪ - 2‬الصعود التاريخي للشيعة‪ ،‬منذ نهاية الستينيات‪ ،‬ودخولهم‬


‫حلبة احلياة السياسية‪ ،‬حتت قيادة قوية‪ ،‬لها قدر كبير‬
‫م��ن ال�ن�ف��وذ‪ ،‬وه��ي ق �ي��ادة اإلم ��ام السيد م��وس��ى الصدر‪،‬‬
‫وتنظيمهم لعدد من احلركات‪ ،‬مثل «حركة احملرومني»‪.‬‬

‫‪ - 3‬التأثيرات اخلارجية‪ ،‬مثل ارتباط «الشارع» املسلم بحركة‬


‫القومية العربية‪ ،‬وآثار وجود حركة املقاومة الفلسطينية‪،‬‬
‫واالعتداءات اإلسرائيلية على لبنان‪ ،‬ووجود عدد ضخم‬
‫من السوريني في لبنان‪ ،‬يُقدَّ ر بثالثمائة ألف شخص‪.‬‬

‫ل��م تكُن أزم��ة النظام اللبناني أزم��ة تأليف حكومة‪ ،‬أو أزمة‬
‫تشكيل دس �ت��وري‪ ،‬ب��ل كانت أزم��ة عجز البنى السياسية‪ ،‬والطبقة‬
‫احلاكمة‪ ،‬عن التعبير عن القضايا االجتماعية املطروحة‪ ،‬وعن متثيل‬
‫القوى اجلديدة في املجتمع‪.‬‬

‫جوهر األزمة‪ ،‬إذاً‪ ،‬أن هناك قوة جديدة‪ ،‬من الشيعة واليسار‪،‬‬
‫رغبت في إصالح النظام‪ ،‬وطرحت‪ ،‬في هذا اإلطار‪ ،‬ضرورة إعادة‬
‫النظر في عدد من أساسياته وفرضياته‪ .‬وفي مواجَ هة ذلك‪ ،‬رفض‬
‫املوارنة تعديل النظام‪ ،‬وطرح عدد منهم تقسيم لبنان‪ ،‬كح ّل وحيد‪،‬‬
‫ب��دي��ل م��ن امليثاق ال��وط�ن��ي‪ ،‬أو إع��ادة النظر ف��ي ه��ذا امل�ي�ث��اق‪ .‬ففي‬
‫تصريح للرئيس سليمان فرجنية‪ ،‬ق��ال‪« :‬إن امليثاق الوطني‪ ،‬وهو‬
‫صيغة التعايش األخ��وي ب�ين اللبنانيني‪ ،‬سيظل كما ه��و‪ ،‬استجابة‬
‫إلرادة اللبنانيني‪ ،‬وتطوراً مع أمانيهم‪ ،‬في إط��ار االستقالل»‪ .‬ومن‬
‫ثَم‪ ،‬ال ميكن إعادة النظر في امليثاق‪ .‬وإمنا ميكِ ن أن يعدَّ ل الدستور‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫املوقف عينه‪ ،‬اتخذته «الكتائب»‪ ،‬التي جاء في بيان لها‪ ،‬أن امليثاق‬
‫الوطني «نابع من اتفاق كل اللبنانيني على قاسم مشترك‪ .‬فال ميكِ ن‬
‫أن يعدَّ ل أو يُلغَى‪ ،‬إال بقرار جماعي من كل اللبنانيني»‪ .‬ووافقت‬
‫«الكتائب» على إمكانية تعديل الدستور‪ ،‬شرط أن يكون ذلك بطريقة‬
‫شرعية‪ ،‬ووف�ق�اً لألحكام الدستورية‪ .‬كذلك‪ ،‬أك��د ح��زب «األحرار»‬
‫متسكه بامليثاق الوطني‪ ،‬وبالصيغة اللبنانية‪.‬‬

‫ومن قبْل‪ ،‬كانت «الرابطة املارونية»‪ ،‬قد طالبت بعدم املساس‬


‫بالصيغة اللبنانية‪ ،‬التي أرساها امليثاق الوطني‪ .‬وذكرت أن منصب‬
‫رئيس اجلمهورية‪ ،‬يتجاوز اإلط��ار اللبناني‪ ،‬ألن شاغله ميثل جميع‬
‫املوارنة في العالم العربي‪ .‬مما دفع الشيخ حسن خالد‪ ،‬مفتي لبنان‪،‬‬
‫وق�ت��ذاك‪ ،‬إل��ى القول إن امليثاق الوطني‪ ،‬ال وج��ود ل��ه‪ ،‬حقيقة‪ ،‬وإنه‬
‫ال يعدو أن يكون تفاهماً بني َرج�ل�ين‪ ،‬هما بشارة اخل��وري ورياض‬
‫الصلح‪.‬‬

‫وفي مواجَ هة ذلك‪ ،‬طرحت األحزاب والقوى التقدمية برنامجاً‬


‫شامالً‪ ،‬يتضمن تعديالت أساسية لنظام احلُكم‪ ،‬باسم «البرنامج‬
‫الوطني لإلصالح الدميوقراطي»‪ ،‬الصادر في ‪ 19‬آب ‪ /‬أغسطس‬
‫‪ ،1975‬وال��ذي ينطلق من مبدأ علمانية ال��دول��ة‪ ،‬وإلغاء الطائفية‪،‬‬
‫وإص�لاح قانون االنتخابات‪ ،‬وإع��ادة تنظيم اجليش واألح��زاب‪ .‬كما‬
‫تضمن البرنامج‪ ،‬إلغاء النصوص الطائفية من الدستور والقوانني‪،‬‬
‫واإلق�لاع عن املمارسة الطائفية في مجال السياسة‪ ،‬للوصول إلى‬
‫علمانية كاملة للنظام السياسي‪ ،‬وإدخ��ال نظام التمثيل النسبي‪،‬‬
‫ليكون لكل ‪ 10‬آالف مواطن نائب واحد‪ ،‬وخفْض السن التي تخوّل‬
‫اللبناني االنتخاب‪ ،‬إلى ‪ 18‬سنة‪ ،‬واعتماد مبدأ االستفتاء الشعبي‪،‬‬
‫وإعادة تنظيم الهيكل احلكومي‪ ،‬وضمان احلريات‪ .‬كذلك تضمن بيان‬
‫استقالة الرئيس رشيد الصلح‪ ،‬في أيار‪/‬مايو ‪ ،1975‬أن معاجلة‬

‫‪234‬‬
‫أوض��اع البالد معاجلة ج��ذري��ة‪ ،‬لن تكتسب فاعليتها‪ ،‬مرحلياً‪ ،‬إ ّال‬
‫بعد حتقيق إصالح سياسي دميوقراطي‪ ،‬وتعديل قانون االنتخاب‪،‬‬
‫وااللتزام مبقتضيات املعركة العربية املشتركة‪ ،‬وتعديل قانون تنظيم‬
‫اجليش‪ ،‬وإخضاعه للسلطات السياسية‪ ،‬وإق��رار قانون التجنس‪،‬‬
‫ومعاجلة الوضع‪ ،‬املالي واالقتصادي واالجتماعي‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬العامل الطائفي‬

‫الطائفية هي أن تتميز فئة معينة‪ ،‬بتقاليدها وتكتلها وتعصبها‬


‫ومتسكها بامتيازاتها ومطالبها‪ ،‬وإيثارها مصلحتها على املصلحة‬
‫العامة‪ .‬وإذ يتكون لبنان من طوائف عديدة‪ ،‬فإن الطائفية‪ ،‬تشكل‬
‫حجر ال��زاوي��ة في تطوره‪ ،‬االجتماعي والسياسي‪ ،‬بل االقتصادي‪،‬‬
‫كذلك‪ .‬فهو يحتضن وح��دات‪ ،‬دينية ومذهبية‪ ،‬يضرب بعضها في‬
‫أع �م��اق ال�ت��اري��خ البعيد‪ ،‬متخض بها اص �ط��راع امل��ذاه��ب املسيحية‬
‫الطويل‪ ،‬وتصارع املذاهب اإلسالمية‪ .‬وقليل من هذه الطوائف‪ ،‬هي‬
‫حديثة النشأة‪ .‬فال عجب‪ ،‬واحلال هذه‪ ،‬أن يكون العامل الطائفي‪،‬‬
‫أهم عوامل احلرب األهلية اللبنانية‪.‬‬

‫خالل العهد اإلسالمي‪ ،‬حافظ العديد من الطوائف املسيحية‬


‫على كيانها‪ ،‬لمِ َا اتَّسم به اإلسالم من حرية في العقيدة الدينية‪ .‬بيد‬
‫أن بعض ه��ذه الطوائف‪ ،‬الذت بجبال لبنان‪ ،‬التي ساعدتها‪ ،‬ليس‬
‫على احملافظة على كيانها فقط‪ ،‬بل على التعصب له‪ ،‬كذلك‪.‬وفي‬
‫إطار هذا السياق‪ ،‬ميكن تعريف الطوائف التالية‪:‬‬

‫‪ - 1‬امل��وارن��ة‪ :‬ميثلون أح��د اجل�ي��وب‪ ،‬التي تكوّنت ف��ي أواخر‬


‫العصور الوسطى وأوائل العصر احلديث‪« ،‬موارنة جبل‬
‫لبنان»‪ ،‬الذي هاجروا إليه‪ ،‬فراراً من اضطهاد مخالفيهم‬

‫‪235‬‬
‫في العقيدة من املسيحيني‪ .‬وهناك في اجلبل‪ ،‬بني زغرتا‬
‫وبشري وإهدن وكسروان‪ ،‬منت الطائفة املارونية‪ ،‬ثقافياً‬
‫ومذهبياً‪ ،‬على يد الكنيسة املارونية‪ .‬ولكن خالل احلروب‬
‫الصليبية‪ ،‬عاون املوارنة الصليبيني‪ ،‬فأخذهم املسلمون‪،‬‬
‫بقسوة‪ ،‬خالل القضاء على الوجود الصليبي وعقبه‪ ،‬في‬
‫ال�ش��ام‪ ،‬ف��ي ال�ق��رن الثالث عشر‪ .‬غير أن آمالهم‪ ،‬ظلت‬
‫معلقة بالغرب‪ ،‬ف��ي انتظار َك � َّرة صليبية ج��دي��دة‪ .‬ولكن‬
‫حكام املسلمني‪ ،‬وأدوا تلك اآلمال‪ ،‬إذ أحلوا‪ ،‬إبّان احلروب‬
‫الصليبية وفي أعقابها‪ ،‬أ ُسَ راً إسالمية سُ نِّية‪ ،‬السواحل‬
‫اللبنانية‪ ،‬لتتولى حمايتها من أي عدوان جديد‪ ،‬ولتكون‬
‫معاد من الداخل‪ .‬وال يزال معظَ م‬ ‫ٍ‬ ‫قوة رادعة ألي حترك‬
‫السُّ نيني منتشرين على طول الساحل‪ ،‬وفي مدنه‪.‬‬

‫‪ - 2‬الدروز‪ :‬وُلدت عقيدتهم في مصر‪ ،‬ثم صدرت إلى الشام‪.‬‬


‫وك��ان��ت‪ ،‬ف��ي نظر علماء املسلمني‪ ،‬خ��روج�اً على تعاليم‬
‫اإلسالم‪ .‬فعانوا كثيراً من اضطهاد احلكام لهم‪ .‬ومثلما‬
‫احتمى املوارنة بجبل لبنان الشمالي‪ ،‬تركز ال��دروز في‬
‫املناطق اجلبلية الوعرة‪ ،‬في جبل العرب‪« ،‬جبل الدروز»‪،‬‬
‫في سورية‪ ،‬والشوف ومنطقة الغرب في لبنان‪.‬‬

‫‪ - 3‬الشيعة‪ :‬يقطنون في جبل عامل‪ ،‬في جنوبي لبنان‪ ،‬وفي‬


‫س�ه��ل ال �ب �ق��اع‪ ،‬وال سيما ح��ول ب�ع�ل�ب��ك‪ .‬وه��م أق ��رب إلى‬
‫التشكيل العشائري العربي التقليدي‪ ،‬وإ ْن استطاعت‬
‫أسرة «حمادة»‪ ،‬أن متد سيطرتها من البقاع‪ ،‬إلى منطقة‬
‫املوارنة اجلبلية‪.‬‬

‫‪ - 4‬ال ��روم األرث��وذك��س‪ :‬ه��م أك�ث��ر املسيحيني تعلقاً بالعرب‬

‫‪236‬‬
‫وال�ع��روب��ة‪ .‬وق�ف��وا إل��ى جانب املسلمني ض��د الصليبيني‪.‬‬
‫كما أن رجال الدين العرب األرثوذكس الفقراء‪ ،‬قضوا‪،‬‬
‫إل ��ى ح ��دّ م ��ا‪ ،‬ع�ل��ى اإلك �ل �ي��روس ال �ي��ون��ان��ي ف��ي الكنيسة‬
‫األرثوذكسية‪ ،‬في القرن التاسع عشر‪ ،‬لتصبح ذات طابع‬
‫عربي‪ .‬ويكثُر األرثوذكس في منطقة «الكورة»‪ .‬ويبدو أن‬
‫انخفاض مستوى املعيشة بينهم‪ ،‬جعلهم هدفاً للبعثات‬
‫التبشيرية‪ ،‬التي استطاعت أن حت�وّل العديد منهم إلى‬
‫موارنة وبروتستانت وكاثوليك‪.‬‬

‫‪ - 5‬األرم��ن‪ :‬فرت أع��داد كبيرة منهم إلى لبنان‪ ،‬إثر املذابح‬


‫التي تعرّضوا لها‪ ،‬على يد األتراك‪ .‬واستقروا في بيروت‪،‬‬
‫حيث حافظوا على كيانهم الطائفي‪ ،‬إلى جانب العديد‬
‫من الطوائف الصغيرة األخ��رى‪ ،‬مثل السريان والكلدان‬
‫واليهود‪ ،‬حتى بلغ عدد الطوائف املعترف بها‪ ،‬قانوناً‪ ،‬في‬
‫لبنان‪ ،‬في الوقت احلاضر‪ 18 ،‬طائفة‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬موقع الطائفية في احلرب األهلية اللبنانية‬

‫إن احلقيقة األول��ى‪ ،‬ف��ي فهْم احل��رب األهلية اللبنانية‪ ،‬هي‬


‫الطائفية‪ ،‬مبعنى انقسام املواطنني إلى فئتَني أساسيتَني‪ ،‬إسالمية‬
‫ومسيحية‪ .‬ثم انقسام كل من هاتَني الفئتَني إلى عدد من الطوائف‪،‬‬
‫يعترف بها النظام السياسي‪ ،‬ويقرر لها عدداً من احلقوق‪ ،‬االجتماعية‬
‫والسياسية‪ .‬وال يقتصر معنى الطائفية‪ ،‬في السياق اللبناني‪ ،‬على‬
‫االنتماء الديني‪ ،‬وإمنا يتعداه إلى الواقع‪ ،‬االقتصادي واالجتماعي‪.‬‬
‫إذ الطائفة هي إطار لتنظيم العالقات‪ ،‬االجتماعية واالقتصادية‪،‬‬
‫ومركز الوالء السياسي‪ .‬ومن ثَم‪ ،‬فال ب ّد من حتليل الطائفية‪ ،‬كظاهرة‬
‫اجتماعية‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫تضرب ج��ذور الطائفية ف��ي عمق التاريخ اللبناني‪ ،‬وترتبط‬
‫بتطوراته‪ .‬وساعد على تبلورها عوامل ثالثة‪ :‬النظام ا ِمللِّي العثماني‪،‬‬
‫والنظام اإلقطاعي الصليبي‪ ،‬وطبيعة الرقعة اجلغرافية اللبنانية‪،‬‬
‫التي احتضنت جماعات وط��وائ��ف‪ ،‬تأثرت بأحد هذين النظامني‪،‬‬
‫أو بكليهما‪ ،‬ول��م يكُن بينها كثير م��ن االخ�ت�لاط‪ .‬وف��ي األربعينيات‬
‫واخلمسينيات من القرن التاسع عشر‪ ،‬شجع السلطان العثماني‪،‬‬
‫التنافس الطائفي‪ .‬وأسهمت ال��دول األوروب�ي��ة في إذكائه‪ ،‬إذ عمد‬
‫كلٌّ منها إلى حماية إحدى الطوائف‪ ،‬وكسب ودها‪ :‬فرنسا واملوارنة‪،‬‬
‫روسيا القيصرية والروم األرثوذكس‪ ،‬إنكلترا والدروز‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬أصبحت الكيانات الطائفية‪ ،‬في القرن التاسع عشر‪،‬‬


‫أ ُطُ ��راً متمايزة‪ ،‬يجري‪ ،‬داخ��ل ك��لٌّ منها‪ ،‬تفاعل سياسي واجتماعي‬
‫واقتصادي وثقافي‪ ،‬على نحو خاص‪ .‬وأمست خصائص اجتماعية‪،‬‬
‫ص�ن�ع�ت�ه��ا ع �ق��ود م��ن االض �ط �ه��اد ال��دي �ن��ي‪ ،‬واالن� �غ�ل�اق االجتماعي‪،‬‬
‫واالستقالل الذاتي في الشؤون‪ ،‬الزمنية والدينية‪ ،‬والتعامل املتباين‬
‫مع قوى خارجية استعمارية‪.‬‬

‫وعمّق االنتداب الفرنسي‪ ،‬هذه األوض��اع‪ ،‬باعتماده الطائفية‬


‫أساساً‪ ،‬في التوظيف واالستخدام‪ ،‬وفقاً للمادة ‪ 95‬من الدستور‪،‬‬
‫الباب السادس‪ ،‬التي نصت على أنه «بصورة مؤقتة‪ ،‬وحتقيقاً للعدل‬
‫والوفاق‪ ،‬متثَّل الطوائف‪ ،‬بصورة عادلة‪ ،‬في الوظائف العامة»؛ وفي‬
‫تشكيل الوزارة‪ ،‬من دون أن يؤول ذلك إلى اإلضرار مبصلحة الدولة‪.‬‬
‫كما رس��خ االن�ت��داب االنفصال بني املواطنني‪ ،‬ب��إق��رار نُظُ م مختلفة‬
‫ألحوالهم الشخصية‪ ،‬في امل��ادة التاسعة من الدستور‪ .‬أض��ف إلى‬
‫ذل��ك‪ ،‬سياسة احتضان امل��وارن��ة ومحاباتهم‪ ،‬ف��ي ال��وظ��ائ��ف العليا‪،‬‬
‫وتدعيم مدارسهم‪ ،‬وإهمال املدارس‪ ،‬اإلسالمية واملسيحية األخرى‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫إذاً‪ ،‬الطائفية في لبنان‪ ،‬ليست مسألة دينية‪ ،‬أو تعصباً دينياً‬
‫فحسب‪ ،‬بل حقيقة اجتماعية واقتصادية‪ ،‬كذلك‪ ،‬ترتبط بدالالت‬
‫اقتصادية واجتماعية‪ .‬فاخلالف الطائفي‪ ،‬يعكس صراعاً‪ ،‬اجتماعياً‬
‫واق�ت�ص��ادي�اً‪ ،‬ب�ين الغني والفقير‪ ،‬ب�ين اليسار وال�ي�م�ين‪ ،‬ب�ين القوى‬
‫احملافظة والقوى الثائرة‪ ،‬بني أنصار األم��ر ال��واق��ع‪ ،‬وال��داع�ين إلى‬
‫التغيير‪ ،‬االقتصادي واالجتماعي والسياسي‪ .‬وبالنسبة إلى أغلبية‬
‫اللبنانيني‪ ،‬فإن احلدود الطائفية‪ ،‬تتطابق مع حدود الوضع‪ ،‬االقتصادي‬
‫فالصلة وثيقة بني الطائفية والطبقية‪ .‬ويبرز‬ ‫ِّ‬ ‫واالجتماعي؛ ومن ثَم‪،‬‬
‫ذلك بروزاً صارخاً في الوضع املتميز للطائفة املارونية‪ ،‬التي حتتل‬
‫قِ مة السلم االجتماعي‪ ،‬مقابل الوضع املتردي للشيعة‪ ،‬الذين حرموا‬
‫املشاركة‪ ،‬السياسية واالقتصادية‪ ،‬في النظام‪.‬‬

‫وميكِ ن حتديد أه��م العوامل‪ ،‬التي أدت إل��ى استمرار الوضع‬


‫الطائفي في لبنان وترسيخه‪ ،‬كما يلي‪:‬‬

‫أ ‪ -‬االنفصال اجلغرافي بني الطوائف؛ فالسُّ نيون يتركزون‬


‫في بيروت والشمال‪ ،‬واملوارنة في جبل لبنان والشمال‪،‬‬
‫والشيعة في اجلنوب‪.‬‬

‫ب ‪ -‬ال�ت�ف��اوت االق �ت �ص��ادي ب�ين م�ن��اط��ق ال �ط��وائ��ف‪ ،‬وال سيما‬


‫مناطق املوارنة الغنية‪ ،‬ومناطق الشيعة الفقيرة‪.‬‬

‫ج ‪ -‬ال�ن�ظ��ام االج�ت�م��اع��ي‪ ،‬ال�ق��ائ��م ع�ل��ى ال��رواب��ط اإلقطاعية‬


‫األ ُسَ رية‪ ،‬والزعامات العشائرية‪.‬‬

‫د ‪ -‬ال �ن �ظ��ام ال �س �ي��اس��ي‪ ،‬احل��ري��ص ع �ل��ى ال �ط��اب��ع الطائفي‪،‬‬


‫واستمرار العالقات الطائفية‪.‬‬

‫‪239‬‬
‫هـ ‪ -‬الوضع التعليمي‪ ،‬املساعد على االنقسام الطائفي؛ فال‬
‫يوجد نهج موحَّ د للتعليم‪ ،‬بل ثمة عدة مؤسسات ونُظُ م‬
‫وموا ّد تعليمية مختلفة‪ ،‬تتباين مناهج التنشئة السياسية‬
‫فيها‪ ،‬والقِ يم التي تنقلها‪.‬‬

‫وه �ك��ذا‪ ،‬تتعزز الطائفية بالتنشئة امل��درس�ي��ة‪ ،‬ث��م بالعالقات‬


‫السياسية‪ ،‬القائمة على أ ُسُ س طائفية‪.‬‬

‫ث��ال �ث � ًا‪ :‬خ �ص��ائ��ص امل �ج �ت �م��ع ال �ل �ب �ن��ان��ي‪ ،‬امل �م� ِّ�ه��دة للحرب‬
‫األهلية‬

‫يتميز النموذج اللبناني ب��أن فئتَيه الكبريَني‪ ،‬مبذاهبهما‪ ،‬ال‬


‫تفوق إحداهما األخرى بأغلبية طاغية‪ .‬وبتقاطع االختالف الطائفي‪،‬‬
‫أحياناً‪ ،‬مع االختالف اللغوي‪ ،‬فثمة الشركس واألكراد أو األشوريني‬
‫والكلدانيني وال�س��ري��ان وال ��روم األرث��وذك��س وال�ك��اث��ول�ي��ك‪ .‬وبتقاطع‬
‫التوجهات السياسية‪ ،‬أحياناً أخرى‪ ،‬مع نواحي االختالف السابقة‪.‬‬

‫القيم األساسية‬
‫‪ - 1‬مؤشرات غياب االتفاق حول ِ‬

‫ا ّت�س��م املجتمع اللبناني بضيق مساحة االت�ف��اق ب�ين أطرافه‪،‬‬


‫واخ�ت�لاف�ه��م ف��ي أس��اس �ي��ات اللعبة السياسية وق��واع��ده��ا‪ ،‬ب�ع��د أن‬
‫استجدت مجموعة من العوامل‪ ،‬الشكلية (نسب الطوائف بعضها‬
‫إلى بعض)‪ ،‬أو املوضوعية (ارتباط املسلمني بحركة القومية العربية‪،‬‬
‫وتبي رجال «احلركة الوطنية» مفهوم املواطَ نة اللبنانية‪ ،‬والصعود‬ ‫نّ‬
‫التاريخي للطائفة الشيعية)‪ .‬وبناء على ذلك‪ ،‬يدافع املسيحيون دون‬
‫االنصهار في األكثرية اإلسالمية‪ .‬ويطالبون بنظام الكانتونات‪ ،‬على‬
‫غرار النظام السويسري‪ .‬لذا‪ ،‬فهُم يعارضون إجراء إحصاء جديد‬
‫للسكان‪ ،‬يغيّر نسب اإلحصاء‪ ،‬الذي أجري عام ‪ ،1932‬وأظهر أن‬

‫‪240‬‬
‫املوارنة والسُّ نة والشيعة واألرثوذكس والدروز والكاثوليك‪ ،‬يشكلون‪،‬‬
‫على التوالي‪ ،‬نسباً من إجمالي السكان بلغت‪،19% ،21% ،30% :‬‬
‫‪.6% ،7% ،10%‬‬

‫وف��ي املقابل‪ ،‬أب��ى املسلمون‪ ،‬ب��داف��ع م��ن شعورهم بالغنب‪ ،‬إال‬


‫حتريك الوضع ال��راك��د في ال�ب�لاد‪ ،‬وص��والً إل��ى ف��رص متكافئة في‬
‫شغل مناصب صنْع القرار‪ ،‬وحتقيقاً لتنمية‪ ،‬اجتماعية اقتصادية‪،‬‬
‫متوازنة‪ .‬وه��م على الرغم من اقتناعهم ب��أن وضعهم‪ ،‬على تردِّيه‪،‬‬
‫وض��ع إخوانهم في العالم العربي‪ ،‬فإنهم يتمسكون‬ ‫هو أفضل من ْ‬
‫باحلقوق‪ ،‬املترتبة على كونهم األغلبية‪ .‬إذ ورد في دراس��ة‪ ،‬أجرتها‬
‫منظمة فرنسية للتنظيم العائلي واحل ّد من النسل‪ ،‬عام ‪ ،1977‬أن‬
‫املسلمني‪ ،‬ميثلون ‪ 55%‬من السكان‪ 28% :‬شيعة و‪ 19%‬سُ نة‪ ،‬و‪8%‬‬
‫دروز‪ .‬وأن املسيحيني‪ ،‬يشكلون ‪ 45%‬من السكان‪ 24% :‬موارنة‪،‬‬
‫و‪ 9%‬روم أرثوذكس‪ ،‬و‪ 6%‬روم كاثوليك‪ ،‬و‪ 5%‬أرمن‪ ،‬و‪ 1%‬طوائف‬
‫أخرى‪.‬‬

‫‪ - 2‬فقدان احلوار الصادق‬

‫افتقر املجتمع اللبناني إلى احلوار الصريح‪ ،‬في شأن عدد من‬
‫القضايا األساسية‪ ،‬على الرغم من أهميتها الطائفية‪ ،‬وفي مقدمتها‬
‫قضية األقليات‪ ،‬األمر الذي يحيطها بشيء من الغموض‪ ،‬ويبقي‪ ،‬في‬
‫خصوصها‪ ،‬على قدر من سوء التفاهم املتبادل‪ ،‬ويفرض على أطرافها‬
‫التعامل بغير لغة واحدة‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فإن استثارة املوارنة‪ ،‬على سبيل‬
‫املثال‪ ،‬العامل الديني‪ ،‬أو األيديولوجي‪ ،‬أو القومي‪ ،‬تتوقف على كون‬
‫املستثار من املسيحيني أو املسلمني احملافظني أو الفلسطينيني‪ .‬وهو‬
‫ما تلجأ إليه القوى السياسية األخرى‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫‪ - 3‬الوالء للجزء‪ ،‬دون الكل‬

‫حتمل سمات املجتمع اللبناني املواطن على االعتزاز بطائفته‪،‬‬


‫والتمسك بها‪ ،‬واالنتماء إليها‪ ،‬أكثر من والئه لدولته‪ .‬إذ ينشأ الشاب‬
‫املسلم‪ ،‬وهو يدرك أن إمكاناته‪ ،‬مهْما عَ ل َت‪ ،‬لن يُتاح لها إال ما سُ مح‬
‫به لطائفته (نسبة ‪ 20.5%‬من املقاعد البرملانية‪ ،‬ورئاسة الوزراء‪،‬‬
‫إن كان سُ نِّياً؛ ونسبة ‪ 18%‬من املقاعد البرملانية‪ ،‬ورئاسة مجلس‬
‫النواب‪ ،‬إن كان شيعياً؛ ونسبة ‪ 6.5%‬من املقاعد البرملانية‪ ،‬إن كان‬
‫درزي�اً)‪ .‬إضافة إلى بعض املناصب‪ ،‬الوزارية والقضائية واإلدارية‪،‬‬
‫الثانوية‪ ،‬التي تُعطى للمسلمني بصفة عامة‪.‬‬

‫ال عن أن فرصه‪ ،‬حتددها أصوله العائلية؛ إذ إن العملية‬


‫فض ً‬
‫السياسية في لبنان‪ ،‬تخضع ملعايير «اإلقطاع السياسي»‪ .‬فقد كشف‬
‫بعض الدراسات عن احتكار ‪ 134‬شخصاً ‪ 333‬منصباً وزارياً‪ ،‬في‬
‫الفترة من ‪ 1926‬إلى ‪ .1964‬كما كشف عن احتكار ‪ 245‬عائلة أكثر‬
‫من نصف مقاعد مجلس النواب‪ ،‬في الفترة من العشرينيات وحتى‬
‫السبعينيات‪ .‬إزاء هذا الوضع‪ ،‬تصبح الطائفة هي احلقيقة األولى‬
‫في حياة الشباب اللبناني‪ .‬ويساعد على ذلك عامالن أساسيان‪:‬‬

‫(‪ )1‬ض �ع��ف امل��ؤس �س��ات ال �س �ي��اس �ي��ة‪ ،‬م��ن ح �ك��وم��ة وأح� ��زاب‪.‬‬
‫فاحلكومة املركزية غير قادرة على فرض سيادتها على‬
‫املجتمع‪ ،‬بل ال يكاد يكون لها وجود؛ إذ ال يتمحور الفكر‬
‫السياسي اللبناني حول الدولة‪ ،‬وإمنا حول املجتمع‪ .‬إنها‬
‫إحدى اخلاصيات الثقافية للكيان اللبناني‪ ،‬التي جعلت‬
‫الدولة إطاراً لتعايش الطوائف‪ ،‬على املستوى السياسي‪.‬‬
‫في إطار هذا السياق‪ ،‬فإن اللَّبْنَنَة‪ ،‬في التجربة الفكرية‬
‫السياسية العربية إذا ج��از استخدامها كمصطلح هي‬

‫‪242‬‬
‫النظرة إلى السياسة‪ ،‬كحركة من املجتمع نحو الدولة‪ ،‬ال‬
‫من الدولة نحو املجتمع‪ .‬أمّا األحزاب السياسية‪ ،‬فكانت‬
‫حتظى بأغلبية في مجلس النواب‪ ،‬وال تشارك في صنْع‬
‫السياسات‪ ،‬وتتبنى مصالح طائفية أكثر من تبنّيها قضية‬
‫وط�ن�ي��ة؛ يستوي ف��ي ذل��ك أح ��زاب األش �خ��اص‪ ،‬وأحزاب‬
‫ال�ب��رام��ج‪ .‬ومِ �ص��داق ذل��ك‪ ،‬إع�لان ول�ي��د ج�ن�ب�لاط‪ ،‬زعيم‬
‫احل��زب االش�ت��راك��ي‪ ،‬أن تولّيه رئ��اس��ة ه��ذا احل��زب‪ ،‬عام‬
‫‪ ،1977‬خلفاً ألبيه‪ ،‬إمنا يعني رئاسته للطائفة الدرزية‪،‬‬
‫انطالقاً من أن احلزب‪ ،‬لم يُكن إ ّال طائفة‪ .‬واستطراداً‪،‬‬
‫رص��د ‪ 47‬حزباً‪ ،‬على الساحة اللبنانية‪ ،‬في مطلع‬ ‫فإن ْ‬
‫الثمانينيات‪ ،‬لم يكُن يعني إثراء احلياة السياسية اللبنانية‪،‬‬
‫بقدر ما كان يعني مزيداً من تعقيد املشكلة الطائفية‪.‬‬

‫(‪ )2‬ضعف املؤسسة العسكرية‪ ،‬الذي حال دون ملئها الفراغ‬


‫ال�س�ي��اس��ي‪ .‬وه��و ض�ع��ف‪ ،‬ي��رج��ع إل��ى جملة ع��وام��ل‪ ،‬في‬
‫مقدمتها تركيبها الطائفي‪ .‬ففي تقرير ل��وزارة الدفاع‬
‫األم��ري�ك�ي��ة‪ ،‬ح��ول ال�ت��رك�ي��ب ال�ط��ائ�ف��ي للجيش اللبناني‪،‬‬
‫في مطلع ‪ ،1984‬ورد أن ‪ % 60‬من جنوده وضباطه‪،‬‬
‫هم مسلمون‪ ،‬و‪ % 40‬من املسيحيني‪ .‬وعلى الرغم من‬
‫ه��ذا التوزيع‪ ،‬يتساوى الطرفان في الرتب العليا‪ ،‬مثل‬
‫رتبتَي لواء وعميد‪ .‬بينما يتمتع املسيحيون بوضع أفضل‪،‬‬
‫في رتب لها أهميتها اخلاصة‪ :‬قيادات املناطق واأللوية‬
‫وال��وح��دات امل�ق��ات�ل��ة امل�خ�ت�ل�ف��ة‪ ،‬وت�ن�ف�ي��ذ ال�ع�م�ل�ي��ات‪ ،‬مثل‬
‫رتَ��ب عقيد ومقدم ورائ��د‪ ،‬وذل��ك بواقع نسبتَي ‪،% 60‬‬
‫‪ ،% 55‬على التوالي‪ .‬ولهذه الوضعية انعكاساتها على‬
‫والء اجليش لطوائف بعينها‪ ،‬وهو ما اعتمد عليه كميل‬

‫‪243‬‬
‫شمعون‪ ،‬حينما أنزل اجليش إلى حلبة الصراع في لبنان‪،‬‬
‫ف��ي غ�ض��ون أزم��ة ‪ ،1958‬ثقة منه بانحيازه إل��ى قوات‬
‫«ال�ك�ت��ائ��ب»‪ .‬وم��ن ال�ع��وام��ل األخ��رى ف��ي إض�ع��اف اجليش‬
‫اللبناني‪ِ ،‬صغر حجْ مه‪ ،‬وامل�ص��اع��ب التي يواجهها‪ ،‬في‬
‫ال عن‬‫شأن التمويل‪ ،‬في ظل االقتناع بعدم فاعليته‪ ،‬فض ً‬
‫وجود وسطاء‪ ،‬حولوا عملية تسليحه إلى جتارة مربحة‪.‬‬
‫إضافة إلى عشوائية اإلدارة‪ ،‬وتناقض األوام��ر‪ ،‬وحجب‬
‫احلقائق عنه‪ ،‬وتعرّضه حلمالت التشكيك والتشهير‪.‬‬

‫‪ - 4‬التركز اجلغرافي للطوائف‬

‫ساعد اللبنانيني توزعهم اجلغرافي على تعميق الروح االنعزالية‬


‫في نفوسهم‪ ،‬ورغبتهم عن البحث في االندماج‪ .‬فتركز معظم الشيعة‬
‫في اجلنوب والبقاع والضاحية اجلنوبية لبيروت‪ .‬وغالبية السُّ نة في‬
‫طرابلس وبيروت وإقليم اخلروب ومنطقة العرقوب‪ .‬وغالبية الروم‬
‫الكاثوليك واألرمن في مدينة زحلة‪ .‬واملوارنة في كسروان وبيروت‬
‫الشرقية‪ .‬والدروز في الشوف ووادي التيم‪ .‬وعلى الرغم من بعض‬
‫التداخل السكاني‪ ،‬إال أن التوزّع اجلغرافي الطائفي‪ ،‬يبقى واضحاً‬

‫‪ - 5‬تعدد النُّ ُظم‪ ،‬التشريعية والتعليمية‬

‫يطغى على املجتمع اللبناني‪ ،‬ما ميكِ ن أن يُطلق عليه «الفوضى‬


‫التشريعية»‪ .‬فلكل طائفة احلق في أن تشرع لنفسها‪ ،‬ما تنتظم به‬
‫أحوالها الشخصية‪ ،‬وأن تتخذ إج��راءات التقاضي أم��ام محاكمها‬
‫اخلاصة‪ .‬كما يُعَدّ النموذج اللبناني من النماذج القليلة‪ ،‬التي انتقل‬
‫فيها الصراع الطائفي من احللبة السياسية إلى املجال التعليمي‪،‬‬
‫حتت سمع احلكومة وبصرها‪ ،‬إذ تختلف فلسفات التعليم ونُظُ مه‪،‬‬

‫‪244‬‬
‫باختالف الطوائف‪ ،‬حتى ليكاد يصعب العثور على كتاب موحَّ د‪ ،‬في‬
‫واحدة من املوا ّد التعليمية‪ ،‬في كلٍّ من املدارس اللبنانية‪ ،‬الرسمية‬
‫واخلاصة‪ ،‬وال سيما املوا ّد املتعلقة بالتطورات التاريخية للمجتمع‪،‬‬
‫حيث تظهر واضحة اإلسقاطات الطائفية على تلك التطورات(((‪.‬‬

‫يستخل َص ممـا سلف اختـالف األُطُ ر املرجعية وتنوُّعها‪ .‬فبينما‬


‫يرنو مسيحيو لبنــان‪ ،‬وال سيما املوارنة منهم‪ ،‬إلى ال��دول الغربية‪،‬‬
‫طلباً للحماية (خاصة فرنسا)‪ ،‬أو أخذاً بنظام التعليم والقِ يم‪ ،‬يتطلع‬
‫مسلموه إلى العالم العربي‪.‬‬

‫تلك كانت دالالت «منوذج الفسيفساء»‪ ،‬الذي يجسده املجتمع‬


‫اللبناني‪ ،‬واملعبَّر به عن خصوصية معينة‪ ،‬في السياق العربي‪ ،‬الذي‬
‫تتراوح مجتمعاته بني التجانس والتعددية‪ .‬وكالهما يفترض االتفاق‬
‫على حد أدنى من القِ يم واملبادئ األساسية‪ ،‬وإ ْن كان االتفاق حول‬
‫القضايا الرئيسية أس�ه��ل‪ ،‬ف��ي حالة التجانس‪ ،‬بالنظر إل��ى وجود‬
‫هوية واحدة تقريباً؛ في حني يقتضي حتقيق هذا االتفاق‪ ،‬في حالة‬
‫التعددية‪ ،‬شيئاً من التنسيق بني الهويات الفرعية والهوية القومية‪.‬‬
‫وفي كلتا احلالتني‪ ،‬يسهّل وجود نظام سياسي مركزي‪ ،‬قوي‪ ،‬حتقيق‬
‫االتفاق املذكور‪ .‬لذا‪ ،‬فإن تركيب املجتمع اللبناني‪ ،‬والتطورات التي‬
‫شهدها‪ ،‬خالل الستينيات والسبعينيات‪ ،‬جعال احلرب األهلية في‬
‫لبنان‪ ،‬التي استنفدت موارد الشعب وطاقاته‪ ،‬املقدرة‪ ،‬حتى منتصف‬
‫وكشفت دراس��ة‪ ،‬أ ُجريت على عيّنة من سكان العاصمة‪ ،‬في السبعينيات‪ ،‬عن تفضيل‬ ‫((( ‬
‫‪ %17‬إرس��ال أبنائهم إلى امل��دارس اللبنانية‪ ،‬و‪ %38‬إلى امل��دارس الوطنية الفرنسية‪،‬‬
‫و‪ %22‬إلى املدارس الوطنية األجنلو أمريكية‪ ،‬اخلاصة‪ ،‬و‪ %12‬إلى املدارس األجنبية‬
‫األجنلو أمريكية‪ ،‬و‪ %4‬إلى امل��دارس الوطنية املصرية‪ .‬وميتد التشتت التعليمي إلى‬
‫املستوى اجلامعي‪ ،‬فيتضح توزّع الطوائف على اجلامعات‪ :‬األمريكية والقديس يوسف‬
‫(اليسوعية) وجامعة بيروت العربية‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫الثمانينيات‪ ،‬بـ ‪ 100‬ألف قتيل‪ ،‬و‪ 20‬مليار دوالر‪ ،‬أم��راً وارداً في‬
‫حسبان احملللني السياسيني‪ ،‬خاصة أن املجتمع اللبناني قد خاض‬
‫جتربة مماثلة‪ ،‬في اخلمسينيات‪ ،‬بسبب التقارب مع الغرب‪ .‬على أن‬
‫احملللني‪ ،‬ذهبوا‪ ،‬في حتليلهم لتركيز القوى السياسية على العنف‬
‫السياسي‪ ،‬وتفاعل بعضها مع بعض مذهبني مختلفني‪:‬‬

‫ركز أولهما في املعطيات الداخلية‪ ،‬وأهمها الواقع «الطائفي‬


‫املعقَّد»‪ ،‬الذي كان املرحلة اخلتامية للتطور الطائفي في لبنان‪ ،‬بعد‬
‫مرحلتَي الطائفية املستقرة‪ ،‬زمن العثمانيني‪ ،‬والطائفية املنفجرة‪،‬‬
‫من منتصف القرن التاسع عشر وحتى احلرب األهلية‪ ،‬عام ‪.1958‬‬
‫وفي إطار املرحلة النهائية تلك‪ ،‬ركز احملللون في خصوصية العامل‪،‬‬
‫االجتماعي واالقتصادي؛ إذ إنه يؤثّر في التوجهات الطائفية أكثر‬
‫مما يتأثر ويتحدد بها‪ .‬فقد أثبتت دراسة على عيّنة من ‪ 415‬مسلماً‬
‫سُ نِّياً‪ ،‬في مدينة صيدا‪ ،‬ذات األغلبية السُّ نية‪ ،‬أن أثرياء هذه الطائفة‪،‬‬
‫يتعاطفون مع املوارنة في مدينتهم‪ ،‬بحُ كم وحدة املصالح‪ .‬في الوقت‬
‫ال��ذي يعرب فيه فقراء صيدا السُّ نة عن عدائهم للموارنة‪ ،‬شعوراً‬
‫منهم بالغنب‪ .‬فالتحرك السياسي‪ ،‬إذاً‪ ،‬يرتبط باالنتماء الطبقي‪،‬‬
‫أكثر من ارتباطه باالنتماء الطائفي‪.‬‬

‫أما ثانيهما‪ ،‬فركز في املعطيات اخلارجية‪ ،‬وتوازنات القوى‪،‬‬


‫على املستويَني‪ ،‬الدولي واإلقليمي‪ .‬فأبرز أثر للوجود الفلسطيني‪،‬‬
‫ال��داع��م لليسار اللبناني‪ ،‬ف��ي م��واجَ �ه��ة ال�ق��وى اليمينية احملافظة‪.‬‬
‫ناهيك عن دوره في األزمة الوزارية احلادّة‪ ،‬التي تركت البالد على‬
‫شفا حرب أهلية‪ ،‬عام ‪ ،1969‬بعد ما استعصى تشكيل وزارة جديدة‪،‬‬
‫خلفاً لوزارة رشيد كرامي‪ ،‬وذلك على مدى سبعة أشهر كاملة‪.‬‬

‫ولئن كان ال ينكر دور التأثيرات اخلارجية في النموذج اللبناني‪،‬‬

‫‪246‬‬
‫إ ّال أنه ال يتمتع باألولوية في حتريك األحداث‪ .‬فاملد القومي العربي‪،‬‬
‫لم يؤثر في املذابح الدرزية املارونية‪ ،‬عام ‪ .1860‬وكذلك‪ ،‬لم يكن له‬
‫أثر في مذابح صبرا وشاتيال‪ ،‬عام ‪ ،1982‬على الرغم من وجود قدر‬
‫كبير من التطابق بني االنتماءات الطائفية والطبقية‪ ،‬األم��ر الذي‬
‫ينفي أولوية أي من العامِ لني‪ ،‬الطائفي واالجتماعي االقتصادي؛ ذلك‬
‫أنه طاملا وقف املوارنة دون االستثمارات‪ ،‬في املناطق ذات األغلبية‬
‫اإلسالمية‪ ،‬مما ين ّم بالعاملني‪ ،‬الطبقي والطائفي‪ ،‬اللذين تن ّم عليهما‬
‫احتجاجات الشيعة والسُّ نة وال��دروز‪ ،‬على مسلك املوارنة‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫ف��إن تسييس الطائفية‪ ،‬كما جتسّ د في امليثاق الوطني‪ ،‬لم يحفظ‬
‫للنظام اللبناني استقراره؛ فال هو حقق املساواة النسبية بني املسلمني‬
‫واملسيحيني‪ ،‬وال ه��و جن��ح‪ ،‬بأسلوب «الفيتو» امل�ت�ب��ادل‪ ،‬ف��ي احتواء‬
‫الصراعات الطائفية‪ .‬بل على العكس من ذلك‪ ،‬كانت الطائفية من‬
‫أهم عوامل تهديد الشرعية السياسية للنظام اللبناني‪ ،‬وهو ما يعود‬
‫إلى فشل احلكومة في مواجَ هة ثورة التوقعات‪ ،‬الناجمة عن سرعة‬
‫التحديد‪ ،‬في الوقت الذي ال يكون فيه احلل الطائفي مالئماً‪ ،‬إال‬
‫حينما ال يكون أمام احلكومة الكثير مما يتعني عليها أداؤه‪ .‬وبذلك‪،‬‬
‫تبقى الريبة في مصداقية كل حلول األزمة اللبنانية‪ ،‬التي تنطلق من‬
‫احلفاظ على الطائفية‪ ،‬سواء بإقرار بعض اإلصالحات احملددة‪ ،‬التي‬
‫تتجنّب املساس برئاستَي السلطتَني‪ ،‬التنفيذية والتشريعية‪ ،‬أو بإقرار‬
‫التقسيم اجليو طائفي إلى أربع مقاطعات‪ ،‬على غرار سويسرا‪.‬‬

‫‪247‬‬
248
‫الفصل العاشر‬
‫أثر ِ بنية النظام في تأجيج احلرب األهلية‬

‫بسمات‪،‬‬
‫وسمت الدولة اللبنانية خصوصية نظامها السياسي‪ِ ،‬‬
‫كان لها أعمق األثر في مسار احلرب األهلية‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬سمات النظام اللبناني‬

‫ات�س��م ال�ن�ظ��ام ال�ل�ب�ن��ان��ي‪ ،‬م�ن��ذ ع��ام ‪ ،1864‬مب�لام��ح رئيسية‪،‬‬


‫باتت متأصلة فيه‪ .‬وكان لها أثر عميق في مجريات احلرب األهلية‬
‫اللبنانية‪ .‬لعل أبرزها‪:‬‬

‫‪ُ - 1‬حكم كونفدرالي‬

‫تطور النظام ا ِمللِّي العثماني‪ ،‬في اجت��اه بسط مفاهيمه على‬


‫ال �ط��وائ��ف اإلس�لام �ي��ة‪ ،‬إض��اف��ة إل��ى ال �ط��وائ��ف األخ� ��رى‪ ،‬اخلاضعة‬
‫ألحكامه‪ ،‬منذ زمن مبكر‪ .‬ومن ائتالف الطوائف داخل نظام واحد‪،‬‬
‫انبثق نظام طوائفي‪ ،‬سياسي‪ ،‬كونفدرالي‪ ،‬تتمتع فيه بنوع من احلُكم‬
‫الذاتي‪ ،‬وحتكمها جميعاً قيادة‪ ،‬خاضعة‪ ،‬غالباً‪ ،‬لتأثير البيروقراطية‬

‫‪249‬‬
‫امل�س�ي�ح�ي��ة‪ .‬ك��ان م�ع��ظَ ��م امل �ن��اص��ب اإلداري � ��ة‪ ،‬ف��ي ع�ه��د املتصرفية‪،‬‬
‫للمسيحيني‪ .‬ومرد هذه الظاهرة‪ ،‬ليس إلى رغبة املتصرف العثماني‬
‫في إرضاء املسيحيني‪ ،‬وضمان والئهم للباب العالي فحسب‪ ،‬بل إلى‬
‫كون املوارنة‪ ،‬قد متكنوا‪ ،‬منذ عام ‪ ،1854‬من إنشاء معهد لبناني‪ ،‬في‬
‫روما‪ ،‬عاد خريجوه إلى لبنان‪ ،‬رهباناً‪« .‬وبدأوا ينشئون املدارس في‬
‫القُرى‪ ،‬لنشر التعليم بني أبنائها‪ .‬وأصبح بعض هذه املدارس‪ ،‬بإدارة‬
‫اآلباء اليسوعيني وسواهم من اإلرساليني‪ ،‬مراكز تربوية ذات شأن‪،‬‬
‫تزوّد األمراء الشهابيني بال َكتَبَة واملعاونني‪ .‬و هكذا‪ ،‬نشأت‪ ،‬على مر‬
‫األيام‪ ،‬طبقة من املتعلمني املورانة‪ ،‬تبوأت أعلى املناصب في احلياة‬
‫العامة‪ ،‬وأملت‪ ،‬في الكثير الغالب‪ ،‬سياسة اإلمارة الشهابية»‪.‬‬

‫‪ - 2‬ترابط اإلقطاعية والطائفية‬

‫احتفظت الطبقة اإلقطاعية بسلطتها ونفوذها السابقَني‪ ،‬على‬


‫بروتوكول ‪ ،1864‬الذي عزز‪ ،‬بدوره ارتباطها املصلحي بالطائفية‪،‬‬
‫بأن وزع مناصب مجلس اإلدارة ووظائف اإلدارة عامة‪ ،‬على الزعماء‬
‫اإلقطاعيني‪ ،‬وفق نسب طائفية محسوبة‪ ،‬ومتفاوتة‪.‬‬

‫وبتفاعلها مع الطبقة اإلقطاعية‪ ،‬تطورت الطائفية‪ ،‬في ظل هذا‬


‫النظام‪ ،‬إلى بناء فوقي‪ ،‬أيديولوجي وسياسي‪ ،‬للتركيب االقتصادي‬
‫القائم‪.‬‬

‫‪ - 3‬حتالف البيروقراطية والتجار‬

‫ازده ��رت‪ ،‬خ�لال عهد املتصرفية‪ ،‬صناعة احل��ري��ر اللبناني‪.‬‬


‫وأصاب املتاجرون فيها ثراء كبيراً‪ ،‬مما حداهم على التفتيش عن‬
‫أسواق لها‪ ،‬في اجلوار‪ ،‬وما وراء البحر‪ .‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬أحست‬
‫البيروقراطية احلاكمة‪ ،‬بأن انحباس لبنان في سنجق املتصرفية‪،‬‬

‫‪250‬‬
‫أي جبل ل�ب�ن��ان‪ ،‬ي�ه��دده��ا باالختناق االق �ت �ص��ادي‪ ،‬ن�ظ��راً إل��ى ضآلة‬
‫موارد اجلبل‪ .‬وهكذا‪ ،‬توافقت البيروقراطية والتجار على أن سهل‬
‫ال�ب�ق��اع‪ ،‬وم�ن��اط��ق ص�ي��دا وط��راب �ل��س‪ ،‬ه��ي متنفَّس الق�ت�ص��اد لبناني‬
‫آخذ في التوسع‪ ،‬من دون أن يكون له أساس‪ ،‬يحميه من التقلبات‬
‫والسقوط‪.‬‬

‫وإذا ك��ان��ت رق�ع��ة ال�ن�ظ��ام الطائفي اللبناني‪ ،‬ق��د وسِّ �ع��ت إلى‬
‫احلدود املعلنة عام ‪ ،1920‬في إطار هذا التفكير‪ ،‬وباقتناع سلطات‬
‫االس�ت�ع�م��ار ال�ف��رن�س��ي‪ ،‬ال��راغ�ب��ة ف��ي ت��وف�ي��ر ق��واع��د ث��اب�ت��ة ملجموعة‬
‫ال��دوي�ل�ات االع �ت �ب��اط �ي��ة‪ ،‬ال �ت��ي أوج��دت �ه��ا ف��ي س��وري��ة‪ ،‬ف��إن حتالف‬
‫البيروقراطية احلاكمة‪ ،‬مع التجار وأصحاب املصالح‪ ،‬الذين رأوا‬
‫في البالد العربية املجال الطبيعي لنشاطهم االقتصادي‪ ،‬قد أدى‬
‫إلى تخطي بعض حواجز االنعزالية التقليدية‪ ،‬وإلى جعل االستقالل‬
‫السياسي ممكناً‪ ،‬عام ‪ ،1943‬من خالل ما سمي «امليثاق الوطني»‪.‬‬

‫ومع تدفق عوائد النفط العربية‪ ،‬في مطلع اخلمسينيات‪ ،‬وثّقت‬


‫البيروقراطية احلاكمة حتالفها مع التجار ورجال قطاع اخلدمات‪،‬‬
‫فسنّت التشريعات الالزمة لتوسيع القطاع املصرفي‪ ،‬وقطاع اخلدمات‬
‫بشكل عام‪ .‬كل ذلك مقابل دعم الطبقة الرأسمالية لقادة النظام في‬
‫سياستهم‪ ،‬الساعية إلى االحتفاظ بلبنان وسيطاً‪ ،‬في عملية النهب‬
‫األجنبي ملوارد البالد العربية‪.‬‬

‫‪ - 4‬ترسيخ االنفصال‬

‫م��ن ب��روت��وك��ول ‪ 1864‬إل��ى م�ي�ث��اق ‪ ،1943‬م���روراً باالنتداب‬


‫الفرنسي‪ ،‬وام �ت��داداً إل��ى عهد الرئيس ف��ؤاد شهاب‪ ،‬كانت سياسة‬
‫النظام الطائفي حريصة على االحتفاظ بتمييز الكيانات الفئوية‬

‫‪251‬‬
‫(الطائفية وغيرها)‪ ،‬داخل االئتالف الكونفدرالي‪ ،‬الذي حكم لبنان‬
‫طيلة ه��ذه العقود‪ .‬فمن مجلس إدارة لبنان‪ ،‬في عهد املتصرفية‪،‬‬
‫إل��ى امل��ؤس�س��ات «ال��دس �ت��وري��ة»‪ ،‬ف��ي ع�ه��د االن �ت��داب ال�ف��رن�س��ي‪ ،‬إلى‬
‫مختلف تشريعات عهود االستقالل‪ ،‬بعد ‪ ،1943‬رُسخت الطائفية‪،‬‬
‫على الصعيد السياسي‪ ،‬مبوجب قوانني أساسية‪ ،‬وأعراف سلوكية‪،‬‬
‫لها حرمة القوانني‪ .‬فعلى صعيد األح��وال الشخصية‪ ،‬طُ �وِّر النظام‬
‫ا ِمللِّي‪ ،‬و ُعمِّقت مفاهيمه وأحكامه‪ ،‬وأ ُصدر قرار‪ ،‬في ‪ 13‬آذار‪/‬مارس‬
‫‪ ،1936‬يقضي بتقسيم ال�ط��وائ��ف إل��ى ط��وائ��ف تاريخية‪ ،‬خاضعة‬
‫ألنظمتها الطائفية اخلاصة‪ ،‬وأخرى عادية‪ ،‬خاضعة ألحكام القانون‬
‫املدني‪.‬‬

‫واقتدى العهد االستقاللي األول باالنتداب الفرنسي‪ ،‬في تعميق‬


‫االنفصال بني الطوائف وترسيخه‪ ،‬بإصداره قانون ‪ 24‬شباط‪/‬فبراير‬
‫‪ ،1948‬اخل��اص ب��األح��وال الشخصية للطائفة ال��درزي��ة؛ وق��ان��ون ‪2‬‬
‫نيسان‪/‬أبريل ‪ ،1951‬اخلاص بتحديد صالحيات املراجع املذهبية‬
‫املسيحية‪ ،‬ومرجع الطائفة اإلسرائيلية‪ .‬ومتاشياً مع سياسة تعزيز‬
‫الكيانات الفئوية‪ ،‬داخ��ل االئتالف الكونفدرالي‪ ،‬ص��در‪ ،‬في العهد‬
‫الشمعوني‪ ،‬املرسوم الرقم ‪ ،18‬في ‪ 13‬كانون الثاني‪/‬يناير ‪،1955‬‬
‫املعدل مبوجب القرار الرقم ‪ ،5‬الصادر في ‪ 2‬آذار‪/‬م��ارس ‪،1967‬‬
‫والقاضي بإعطاء املسلمني السُّ نة استقالالً تاماً‪ ،‬في شؤونهم الدينية‪،‬‬
‫وأوقافهم اخليرية‪ ،‬فيتولون هم أنفسهم تشريع أنظمتهم وإدارتها‪،‬‬
‫ويكون مفتيهم هو الرئيس الديني للمسلمني‪ ،‬وممثلهم لدى السلطات‬
‫العامة‪ .‬وساوى عهد شارل حلو املسلمني الشيعة باملسلمني السُّ نة‪،‬‬
‫بإعطائهم االس�ت�ق�لال عينه‪ ،‬ف��ي ش��ؤون ال��دي��ن واألوق ��اف‪ ،‬بصدور‬
‫القانون الرقم ‪ ،72‬في ‪ 19‬كانون األول‪/‬ديسمبر ‪ .1967‬ولم تقف‬
‫سياسة التشتيت الفئوي عند ه��ذه احل��دود‪ ،‬ب��ل تعدتها إل��ى احلق‬

‫‪252‬‬
‫النقابي‪ ،‬إذ أصبح للمهنة الواحدة غير نقابة‪ ،‬وإلى احلقل التربوي‪،‬‬
‫فتمكنت مؤسسات التعليم‪ ،‬األجنبي والطائفي‪ ،‬على حساب التعليم‬
‫الرسمي‪ ،‬وسائر املؤسسات الوطنية‪ .‬األم��ر ال��ذي أدى إلى تخريج‬
‫أج�ي��ال م��ن ال�ش�ب��اب‪ ،‬متمايزة ف��ي تنشئتها ال�ت��رب��وي��ة‪ ،‬متنافرة في‬
‫تطلعاتها الوطنية‪ ،‬متناقضة في عالقاتها االجتماعية‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬تناقضات الوضع اللبناني‬

‫تفاعلت عوامل التركيب الفئوي‪ ،‬واإلقطاع‪ ،‬والتدخل األجنبي‪،‬‬


‫وال�ص�ع��ود املبكر للبيروقراطية املسيحية‪ ،‬واملخططات الفرنسية‬
‫ل َبلْقَنة سورية‪ ،‬ومؤسسات التبشير األجنبية‪ ،‬وحتالف البيروقراطية‬
‫م��ع ال�ت�ج��ار‪ ،‬واملخططات األجنبية تفاعلت ه��ذه ال�ع��وام��ل جميعاً‪،‬‬
‫لتفرز وضعاً خاصاً‪ ،‬يبحث‪ ،‬دائماً‪ ،‬عن استقراره‪ ،‬عبْر توازن القوى‬
‫املتصارعة داخ��ل النظام‪ .‬فبدا‪ ،‬بوضوح‪ ،‬أن معضلة لبنان األولى‪،‬‬
‫تتمثل في غياب الوحدة الوطنية العضوية‪ ،‬أي الوحدة املجتمعية‪،‬‬
‫التي تتجاوز‪ ،‬في مفهومها ونتائجها‪ ،‬الوضع الفسيفسائي اللبناني‪،‬‬
‫بكل ما ضم من طوائف وفئات وطبقات وقوى متصارعة‪.‬‬

‫وقد زاد خطر هذه املعضلة‪ ،‬أن لبنان لم يستطع‪ ،‬لكونه جزءاً‬
‫من املنطقة العربية‪ ،‬أن يتفادى موجة التحرر القومي الثوري‪ .‬كل‬
‫يواجه حتدي الهوية القومية‪ ،‬واالنتماء‬
‫ِ‬ ‫ذلك‪ ،‬فرض على لبنان أن‬
‫املصيري‪ ،‬في وقت كانت مؤسساته السياسية‪ ،‬وال تزال‪ ،‬تشكو تخلفاً‪،‬‬
‫ال تقوى معه على مواجَ هة رياح التغيير‪ .‬ورافق املعضلة السياسية‪،‬‬
‫نشوء معضلة اجتماعية اقتصادية‪ ،‬ناجمة عن عوامل‪ ،‬دميوجرافية‬
‫واقتصادية‪.‬‬

‫فعلى الصعيد الدميوغرافي‪ ،‬أدى ن��زوح الريفيني إل��ى املدن‪،‬‬

‫‪253‬‬
‫وحتشدهم فيها‪ ،‬خاصة ف��ي ب�ي��روت‪ ،‬إل��ى نشوء قطاعات سكانية‬
‫مدينية واسعة‪ ،‬معرضة لشتى وسائل التواصل (اإلعالمي وغيره)‬
‫والتوجيه العقائدي والسياسي‪ ،‬مما أدى إلى اتساع دائرة اجلماهير‬
‫املتطلعة إل��ى مم��ارس��ة دور ف��ي ال�ن�ش��اط ال�س�ي��اس��ي‪ .‬ث��م إن عملية‬
‫التمدن‪ ،‬لم تؤ ِّد إلى اندماج الفئات واجلماعات املتمايزة‪ ،‬بل عززت‬
‫مشاعر العزلة والتباعد‪ .‬كل ذلك أفضى إلى نشوء حالة من التوتر‬
‫وع��دم االستقرار‪ ،‬سببها عجز املؤسسات السياسية عن استيعاب‬
‫احلقائق والتطورات اجلديدة‪ ،‬من جهة‪ ،‬وعدم قدرتها على أن تكون‬
‫متنفساً‪ ،‬للقطاعات السكانية األكثر وعياً‪ ،‬واألكثر رغبة في التحرك‬
‫والفعل السياسيَّني‪ ،‬من جهة أخرى(((‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬تأثير النظام في احلرب األهلية‬

‫كان للنظام السياسي اللبناني دور مهم في إذكاء ح ّدة احلرب‬


‫األهلية اللبنانية‪ ،‬وذلك لترسيخه مبدأ الطائفية‪ .‬إذ نشأ على أساس‬
‫على الصعيد االق�ت�ص��ادي‪ ،‬فقد أدت سياسة التبعية للغرب إل��ى إع�ط��اء ‪ ‬لبنان دور‬ ‫((( ‬
‫الوسيط‪ ،‬بني االحتكارات الرأسمالية العاملية (شركات النفط اخلاصة) والبلدان العربية‪،‬‬
‫ذات املوارد الطبيعية الضخمة‪ ،‬واألسواق االستهالكية الواسعة‪ .‬ولقد كان ذلك من أبرز‬
‫األسباب‪ ،‬التي أدت إلى تضخم القطاعات املنتجة للخدمات (‪ 68‬باملائة من الدخل‬
‫الوطني)‪ ،‬على حساب القطاعات املنتجة للسلع ‪ 32( ‬باملائة من الدخل الوطني)‪ .‬وأدى‬
‫تقلص ودائع النفط العربية‪ ،‬وتناقص حتويالت املغتربني املالية‪ ،‬في منتصف الستينيات‪،‬‬
‫إلى حدوث اختالل في القطاع املصرفي (أزمة بنك أنترا‪ ،‬عام ‪ .)1966‬كما أن حرب‬
‫حزيران‪/‬يونيو ‪ ،1967‬وما أعقبها من مناوشات واضطرابات‪ ،‬خارجية وداخلية‪ ،‬أضرّا‬
‫بالقطاع السياحي‪ ،‬وقلصا إسهامه في الدخل الوطني‪ .‬وبالنظر إلى النمو البطيء‪ ،‬نسبياً‪،‬‬
‫في قطاعَ ي الزراعة والصناعة‪ ،‬فإن االقتصاد اللبناني‪ ،‬واجَ ه صعوبات جمة‪ ،‬ليس أقلّها‬
‫مشكلة البطالة‪ ،‬التي رأى بعض خبراء احلكومة‪ ،‬في وقت مبكر‪ ،‬أنها ستفضي‪ ،‬في‬
‫املستقبل غير البعيد‪ ،‬إلى جعل ثلث القوة العاملة اللبنانية عاطلة عن العمل‪ ،‬وإلى تفاقم‬
‫الصراعات‪ ،‬الطبقية والفئوية واإلقليمية‪ ،‬بسبب تفاوت الدخول‪ ،‬وانحصار الرخاء في‬
‫قِ لة ضئيلة من الناس‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫«ت��وزي��ع السلطة السياسية ب�ين الطوائف املختلفة»‪ ،‬فيكون رئيس‬
‫اجلمهورية مسيحياً مارونياً‪ ،‬ورئيس ال��وزراء مسلماً سُ نياً‪ ،‬ورئيس‬
‫مجلس النواب مسلماً شيعياً‪ .‬أما مجلس النواب‪ ،‬فتكون األغلبية‬
‫فيه للمسيحيني‪ ،‬بنسبة ‪ 6‬إل��ى ‪ .5‬وم��ن ثَ��م‪ ،‬ف��إن ال�ع��دد اإلجمالي‬
‫ال للقسمة على الرقم ‪( 11‬وقد كان عدد مقاعد‬ ‫للنواب‪ ،‬يكون قاب ً‬
‫مجلس ال�ن��واب‪ ،‬في البداية‪ 44 ،‬مقعداً‪ ،‬ثم ‪ 99‬مقعداً)‪ .‬وكذلك‪،‬‬
‫تتوزع الطوائف املناصب الكبرى‪ ،‬احلكومية واإلداري��ة والعسكرية‪.‬‬
‫كما أن األح��زاب اللبنانية الرئيسية‪ ،‬اتسمت‪ ،‬في الفترة التي تلت‬
‫االستقالل‪ ،‬بأنها جتمعات طائفية‪.‬‬

‫أما «امليثاق الوطني»‪ ،‬إحدى الدعامتَني‪ ،‬اللتَني نهض عليهما‬


‫النظام اللبناني‪ ،‬فيمكِ ن القول إن��ه لم يكُن «وطنياً» بقدر ما كان‬
‫«طائفياً»‪ .‬فغير صحيح أنه أنشأ دولة علمانية‪ ،‬أو عالقات سياسية‬
‫علمانية في لبنان‪ ،‬بل رسّ خ الطائفية‪ ،‬وجعل التعبير السياسي مير‪،‬‬
‫أس��اس �اً‪ ،‬ع�بْ��ر قنواتها‪ ،‬كما رسّ ��خ سلطة ال��زع�م��اء العشائريني في‬
‫مناطقهم‪ .‬وه�ك��ذا‪ ،‬ب��دالً من أن تصبح املؤسسات السياسية‪ ،‬أداة‬
‫لتغيير الوضع الطائفي‪ ،‬أمست قوة لتدعيمه وتكريسه‪ .‬ومن امليثاق‪،‬‬
‫انبثقت مصطلحات‪ ،‬مثل املسيحية السياسية‪ ،‬واإلسالم السياسي‪،‬‬
‫مبعنى وجود فئة من السياسيني العشائريني‪ ،‬الذين ترتبط مصاحلهم‬
‫بانقسام املجتمع إل��ى ط��وائ��ف متميزة‪ ،‬ويعملون على تعميق هذا‬
‫االنقسام‪ ،‬وتأكيد استقالل الكيانات الطائفية‪ ،‬من خالل املؤسسات‬
‫السياسية القائمة‪.‬‬

‫ول��م يقتصر ال�ط��اب��ع ال�ط��ائ�ف��ي ع�ل��ى ال�ع�لاق��ات ب�ين الطوائف‬


‫بعضها ببعض‪ ،‬بل تغلغل داخل كل طائفة‪ ،‬على ِح َدة؛ إذ إن الوظائف‬
‫احلكومية‪ ،‬توزَّع على أساس طائفي‪ ،‬فكان أبناء كل طائفة‪ ،‬يتصارعون‬
‫حول نصيبها من تلك الوظائف‪.‬‬

‫‪255‬‬
‫ودس�ت��وري�اً‪ ،‬لم يكن النظام اللبناني نظاماً نيابياً‪ ،‬وال نظاماً‬
‫رئاسياً‪ ،‬وإمنا هو خليط من النظامَني‪ ،‬وإ ْن غلب عليه‪ ،‬من الناحية‬
‫الواقعية‪ ،‬سمات النظام الرئاسي‪ ،‬إذ يُ� َع� ّد رئيس اجلمهورية‪ ،‬من‬
‫الناحيتَني‪ ،‬النظرية والعملية‪ ،‬ه��و الشخص املسيطر ف��ي النظام‪،‬‬
‫وينتخب ملدة ست سنوات‪ ،‬غير قابلة للتجديد‪ ،‬بوساطة مجلس النواب‪،‬‬
‫بأغلبية الثلثَني‪ ،‬في أول اقتراع‪ .‬فإذا لم يحصل أحد املرشحني على‬
‫هذه النسبة‪ ،‬يكون انتخابه‪ ،‬في االقتراع الثاني‪ ،‬باألغلبية املطلقة‪.‬‬

‫ويعي رئيس اجلمهورية رئيس ال��وزراء‪ .‬وله أن يدعو مجلس‬ ‫نّ‬


‫النواب إلى جلسة استثنائية‪ .‬ومبوافقة مجلس الوزراء‪ ،‬يستطيع أن‬
‫يحل املجلس النيابي‪ .‬كما يشارك في السلطة التشريعية‪ ،‬من خالل‬
‫حقه ف��ي االع�ت��راض على ال�ق��وان�ين‪ ،‬ف��إذا اع�ت��رض على تشريع ما‪،‬‬
‫يعاد إلى مجلس النواب‪ ،‬الذي يعدله‪ ،‬أو يعيد التصويت عليه‪ ،‬وفي‬
‫هذه احلالة‪ ،‬يحتاج ‪ ‬التشريع إلى أغلبية الثلثَني‪ .‬وتشير التجربة‬
‫العملية إلى سيطرة الرئيس على مجلس النواب‪ ،‬خاصة إذا أدخلنا‬
‫في احلساب الوضع الطائفي‪ ،‬ووجود أغلبية مسيحية فيه‪ .‬ومع كل‬
‫ه��ذه السلطات‪ ،‬ف��إن الرئيس‪ ،‬ليس مسؤوالً أم��ام املجلس النيابي‪،‬‬
‫وإمنا تنحصر املسؤولية في رئيس الوزارة وأعضائها‪.‬‬

‫تبي الضعف‬‫ومن متابعة عالقة الوزارة مبجلس النواب‪ ،‬ميكِ ن نّ‬


‫النسبي ل��دور املجلس‪ .‬ف��ال��وزارة تتغير‪ ،‬ع��ادة‪ ،‬على أث��ر خ�لاف مع‬
‫رئيس اجلمهورية‪ ،‬وعدم رضاه عن نشاطها‪ ،‬وليس لسحب املجلس‬
‫النيابي ثقته منها‪ .‬وفي الفترة ما بني ‪ 1926‬و‪ ،1964‬شهد لبنان‬
‫‪ 46‬وزارة‪ .‬ومن ثم‪ ،‬يكون متوسط عمر الوزارة أق ّل من ‪ 8‬أشهر‪.‬‬

‫وعلى مستوى األحزاب‪ ،‬اتّسم النظام احلزبي اللبناني بعدد من‬


‫السمات‪ ،‬منها‪:‬‬

‫‪256‬‬
‫‪ - 1‬التعدد احلزبي‪.‬‬

‫‪ - 2‬ال �ط��اب��ع ال� �ف ��ردي ل�ل�أح���زاب‪ ،‬ون��ش��ؤوه��ا م ��ن األوض� ��اع‬


‫العشائرية ال�س��ائ��دة‪ ،‬ليكون مصدر القيادة ه��و الوضع‬
‫األ ُسَ ��ري‪ ،‬واالن�ت�س��اب إل��ى أ ُسَ ��ر ذات نفوذ ع�ش��ائ��ري‪ ،‬أو‬
‫إقطاعي‪ ،‬أو إقليمي‪ ،‬قوي‪.‬‬

‫‪ - 3‬توارث األ ُسْ رة الواحدة قيادة احلزب‪.‬‬

‫‪ - 4‬عدم وجود حزب أغلبية في مجلس النواب‪.‬‬

‫‪ - 5‬ع��دم مشاركة األح��زاب ف��ي صنع السياسة‪ ،‬فاألحزاب‬


‫ال مت��ارس دوراً مهماً في العملية السياسية‪ ،‬نظراً إلى‬
‫املعايير‪ ،‬التي يفرضها ال��وض��ع الطائفي‪ ،‬بالنسبة إلى‬
‫اختيار النواب‪.‬‬

‫بيد أن أحزاباً حديثة النشأة‪ ،‬ذات طابع يساري‪ ،‬أو علماني‬


‫وطني‪ ،‬أخ��ذ دوره��ا‪ ،‬منذ بداية الستينيات‪ ،‬يتزايد وذل��ك لسببَني‪:‬‬
‫أولهما‪ ،‬مخاطبتها اجلماهير مباشرة‪ .‬وم��ن ثَ��م‪ ،‬أج�ب��رت الزعماء‬
‫التقليديني على أن يحذوا حذوها‪ ،‬خوفاً على نفوذهم من الضياع‪.‬‬
‫وثانيهما‪ ،‬مبادرة بعض األحزاب‪ ،‬ذات الطابع األيديولوجي‪ ،‬كاحلزب‬
‫القومي ال�س��وري‪ ،‬وح��زب البعث‪ ،‬واحل��رك��ات االشتراكية‪ ،‬إل��ى طرح‬
‫قضايا الصراع االجتماعي‪ ،‬وفرضها على العملية السياسية‪.‬‬

‫واخلالصة‪ ،‬أن من أهم سمات النظام السياسي اللبناني‪      :‬‬

‫‪ - 1‬ع��دم اس�ت�ق��رار س�ي��اس��ي‪ ،‬مت�ث��ل ف��ي قِ �ص��ر م�ت��وس��ط عمْر‬


‫الوزارة‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫‪ - 2‬أوليغارشية النخبة احلاكمة‪ .‬ويتضح ذلك‪ ،‬في قِ لة عددها‪،‬‬
‫بالنسبة إلى عدد املناصب الوزارية؛ ونوعاً‪ ،‬في أنها ترمز‬
‫إلى الزعامات العشائرية واإلقطاعية‪ .‬ففي األربعينيات‪،‬‬
‫وحتى منتصف اخلمسينيات‪ ،‬استأثر كبار مالّك األراضي‬
‫بأغلبية املقاعد النيابية‪ .‬إذ طغى على املجلس النيابي‬
‫املهنيون‪ ،‬وأبناؤهم وأبناء األُسَ ر العريقة‪.‬‬

‫‪ - 3‬محدودية املشاركة السياسية‪ ،‬إذ لم ميارس حق االنتخاب‪،‬‬


‫قبْل احلرب األهلية‪ ،‬سوى ‪ 32‬باملائة من الذين ميلكونه‪.‬‬

‫‪ - 4‬الطابع الطائفي للنظام السياسي‪ ،‬والعالقات السياسية‬


‫السائدة فيه‪ ،‬حتى إنه ال ميكن تسميته مجتمعاً تعددياً؛‬
‫إذ ال�ت�ع��ددي��ة‪ ،‬تتضمن ت��وزي��ع ال�ق��وة السياسية ب�ين عدد‬
‫من اجلماعات والتنظيمات‪ ،‬ترتبط فيما بينها بعدد من‬
‫ال ��والءات املشتركة‪ ،‬ووج��ود ات�ف��اق ع��ام بينها‪ ،‬يعبّر عن‬
‫الرضا العام في املجتمع‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬تصاعد أزمة النظام‬

‫وص��ل ل�ب�ن��ان‪ ،‬ف��ي أي��ار‪/‬م��اي��و ‪ ،1973‬إل��ى شفا ح��رب أهلية‪.‬‬


‫وذل��ك بعد وف��اة الرئيس ف��ؤاد شهاب‪ ،‬حني حدثت مواجهة ساخنة‬
‫بني النظام وخصومه‪ .‬ولوحظ تنامي أسلوب االحتكام إلى العنف‬
‫ب�ين الفريقَني‪ .‬إض��اف��ة إل��ى أن ال��رئ��اس��ة األول��ى‪ ،‬اس�ت��أث��رت بقضية‬
‫السيادة‪ ،‬فتصدت لعدد من املواقف‪ ،‬وأخذت مبادرات مهمة‪ ،‬مبعزل‬
‫ع��ن رئ��اس��ة ال ��وزارة‪ .‬وف��ي املقابل‪ ،‬تصاعد السخط م��ن قِ بل بعض‬
‫القيادات اإلسالمية‪ ،‬إلى احتجاج ص��ارخ على ما رأت��ه اختالالً في‬
‫التوازن‪ ،‬الوطني والدميوقراطي‪ ،‬في مصلحة فئة معينة‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫وعلى صعيد الفكر السياسي‪ ،‬ب��رز اجت��اه جديد في صفوف‬
‫خصوم النظام‪ ،‬أصبح ال يرضيه االكتفاء بالقول إن الطائفية هي‬
‫مجرد قناع‪ ،‬يستعمله أهل النظام‪ ،‬حلجب الصراع الطبقي‪ ،‬بل بات‬
‫مسلِّماً ب��أن املسألة الطائفية‪ ،‬ف��ي أساسها‪ ،‬ه��ي مسألة اضطهاد‬
‫طائفي‪ .‬وليس الشباب‪ ،‬وح��ده‪ ،‬هو ال��ذي ط��رح مسألة االضطهاد‬
‫الطائفي‪ .‬بل إن قائد احلركة الوطنية نفسه‪ ،‬أخذ يضرب على أوتار‬
‫مشابهة‪ .‬ففي تعليقه على بيان الرئيس تقي الدين الصلح‪ ،‬لطلب‬
‫الثقة بحكومته‪ ،‬وق��ف كمال جنبالط في املجلس النيابي‪ ،‬يطالب‬
‫باملساواة بني الطوائف‪ ،‬أو إلغاء الطائفية‪.‬‬

‫وبعد أحداث أيار ‪ /‬مايو ‪ ،1973‬وعلى أثر اغتيال ثالثة من‬


‫ق��ادة املقاومة الفلسطينية‪ ،‬مم��ا أدى إل��ى استقالة حكومة صائب‬
‫سالم‪ ،‬وإزاء كالم كمال جنبالط‪ ،‬وتصريحات غيره من القادة شعر‬
‫اللبنانيون أنهم أصبحوا‪ ،‬فعالً‪ ،‬على مفترق طرُق‪.‬‬

‫وقد ساء الفريق املتشدد في املارونية السياسية‪ ،‬تنامي قوة‬


‫املقاومة الفلسطينية‪ ،‬وتضامن «احلركة الوطنية اللبنانية» معها‪ .‬ورأى‬
‫أن هذه العالقة بني القوَّتني‪ ،‬هي «خلل في ميزان القوى الداخلي‪،‬‬
‫يستوجب االحتكام إلى السالح»‪ .‬وهو ما جتلى في حادثة ‪ 13‬نيسان‬
‫‪ /‬أبريل ‪ ،1975‬التي أطلقت شرارة احلرب األهلية اللبنانية‪.‬‬

‫وحاولت سورية‪ ،‬بتدخّ لها‪ ،‬أول األمر‪ ،‬من خالل مؤمتر القمة‬
‫العربي الثامن‪ ،‬املنعقد في القاهرة‪ ،‬في ‪ 25‬تشرين األول ‪ /‬أكتوبر‬
‫‪ ،1976‬أن تطفئ نيران احلرب األهلية‪ ،‬باإلتيان بشخصية معتدلة‪،‬‬
‫ومقبولة من معظم األطراف (الرئيس إلياس سركيس)‪ ،‬لتولّي مقاليد‬
‫احلكم‪ ،‬على أن تتولّى قوات الردع العربية (معظمها وحدات سورية)‪،‬‬
‫نزع السالح من أيدي جميع اللبنانيني‪ .‬ولكن الرئيس سركيس‪ ،‬رفض‬

‫‪259‬‬
‫هذا التدبير‪ ،‬بدعوى أنه ال يجوز نزع سالح «اجلبهة اللبنانية»‪ ،‬إال‬
‫بالتزامن مع تطبيق اتفاق القاهرة‪ ،‬أي نزع سالح املقاومة الفلسطينية‪،‬‬
‫كذلك‪ .‬وقد تعذر‪ ،‬ألسباب عديدة‪ ،‬حتقيق رغبة الرئيس سركيس‪.‬‬

‫وإذ تنامت قوة املقاومة الفلسطينية‪ ،‬في اجلنوب اللبناني‪ ،‬مع‬


‫اقترانها بنزوع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى التجاوب مع‬
‫املساعي‪ ،‬العربية (قمة ف��اس)‪ ،‬والدولية‪ ،‬لدخول املفاوضات‪ ،‬من‬
‫أجل تقرير مصير الضفة الغربية وغزة جلأت إسرائيل إلى احلرب‪،‬‬
‫لتدمير البنية العسكرية ملنظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬في محاولة‬
‫إللغاء وزنها السياسي‪ ،‬وإحباط مساعي التفاوض‪ ،‬وإليجاد وضع‬
‫سياسي جديد في لبنان‪ ،‬يباعد بني طوائفه‪ ،‬وميهد تقسيم البالد‬
‫إلى دويالت مذهبية‪ .‬ولعل أبرز ما أفرزه االحتالل اإلسرائيلي لثلث‬
‫لبنان‪ ،‬هو اتفاق ‪ 17‬أيار ‪ /‬مايو ‪ ،1983‬الذي أريد له أن يحل محل‬
‫اتفاقية الهدنة لعام ‪ .1949‬ولكن مقاومة القوى الوطنية اللبنانية‪،‬‬
‫ومعارضة سورية القوية‪ ،‬منعتا احلكومة اللبنانية من إب��رام��ه‪ ،‬بل‬
‫حملتاها على إلغائه‪ ،‬كشرط مسبق النعقاد مؤمتر احلوار الوطني‪،‬‬
‫في لوزان‪ ،‬في سويسرا‪ ،‬في ‪ 12‬آذار ‪ /‬مارس ‪.1984‬‬

‫‪260‬‬
‫الفصل احلادي عشر‬
‫النخبة السياسية ‪ -‬الطائفية‬

‫واحلرب األهلية اللبنانية‬

‫تتميز النخبة السياسية اللبنانية عن غيرها‪ ،‬من النخب العربية‬


‫األخرى‪ ،‬بالطائفية‪ .‬وترجع جذور الطائفية وعالقتها بتشكيل هذه‬
‫النخبة‪ ،‬وم��ا لها م��ن دور ف��ي احل��رب األهلية اللبنانية‪ ،‬إل��ى نهاية‬
‫القرن التاسع عشر‪ ،‬حينما قفز امل��وارن��ة إل��ى قِ مة املجتمع‪ ،‬ونُحِّ ي‬
‫ال ��دروز‪ ،‬ال��ذي��ن ك� ّون��وا ال�ن��واة األول��ى للدولة اللبنانية‪ ،‬ف��ي القرنني‬
‫السابع عشر والثامن عشر‪ .‬وبالتدريج‪ ،‬آلت السلطة السياسية إلى‬
‫املوارنة‪ ،‬ودعمت األعراف السائدة‪ ،‬خالل الثالثينيات واألربعينيات‬
‫من هذا القرن‪ ،‬النزعة املارونية‪ ،‬من خالل نظام رئاسي ماروني‪ ،‬يَ ُع ّد‬
‫نفسه «دميوقراطية نيابية»‪.‬‬

‫ومنذ االستقالل‪ ،‬عام ‪ ،1943‬وحتى ‪ ،1964‬حكم لبنان ثالثة‬


‫رؤساء موارنة‪ ،‬حولوا نظامه من شبه رئاسي‪/‬شبه نيابي‪ ،‬إلى نظام‬
‫رئ��اس��ي‪ ،‬يتولى فيه امل��وارن��ة أه��م املناصب ف��ي جهاز ال��دول��ة‪ .‬وفي‬

‫‪261‬‬
‫املقابل‪ ،‬سعى بعض الطوائف إلى الثروة‪ ،‬فتركز القطاع الرأسمالي‬
‫احلديث من االقتصاد اللبناني‪ ،‬إلى ح ّد كبير‪ ،‬في أيدي طوائف أكثر‬
‫استقراراً في امل��دن‪ ،‬مثل املسلمني السُّ نة‪ ،‬واملسيحيني‪ ،‬األرثوذكس‬
‫والكاثوليك‪.‬‬

‫وس��اع��د االن�ف�ص��ال اجل�غ��راف��ي‪ ،‬ب�ين ال�ط��وائ��ف اللبنانية‪ ،‬على‬


‫تقوقعها‪ .‬ف�ت��رك��ز م�ع��ظَ ��م الشيعة ف��ي اجل �ن��وب وال�ب�ق��اع والضاحية‬
‫اجلنوبية لبيروت‪ .‬وتركز معظَ م السُّ نة في طرابلس وبيروت وإقليم‬
‫اخل��روب ومنطقة العرقوب‪ .‬بينما تركزت غالبية ال��روم الكاثوليك‬
‫واألرم��ن في مدينة زحلة‪ ،‬واملوارنة في كسروان وبيروت الشرقية‪،‬‬
‫ومعظَ م الدروز في الشوف ووادي التَّيم‪.‬‬

‫فقد شكل املسلمون أواخر ثمانينيات القرن املاضي‪%51.5 ،‬‬


‫من ع��دد سكان لبنان‪ ،‬مقابل ‪ %47.9‬للمسيحيني‪ .‬وانعكس هذا‬
‫التقسيم الطائفي على توزيع األدوار السياسية‪ ،‬في املجتمع اللبناني‪،‬‬
‫واق�ت�ن��اع ك��ل ط��رف ب��أن حصته ف��ي مجلس ال �ن��واب‪ ،‬ي�ح��دده��ا عدد‬
‫طائفته‪ ،‬مقارنة بأعداد الطوائف األخ��رى‪ ،‬فال يزيد عدد املقاعد‬
‫النيابية للسُّ نة‪ ،‬عادة‪ ،‬على ‪ ،%21‬والشيعة ‪ ،%19‬والدروز ‪ .%7‬أما‬
‫املسيحيون‪ ،‬فلهم رئاسة الدولة‪ ،‬وبعض املناصب الوزارية األخرى‪.‬‬

‫وقد حدد امليثاق الوطني‪ ،‬عام ‪ ،1943‬هذا التوزيع للمناصب‬


‫بني الطوائف اللبنانية‪ ،‬وصالحيات ٍّك��ل من رئيس ال��دول��ة ورئيس‬
‫احل�ك��وم��ة ورئ �ي��س مجلس ال �ن��واب‪ ،‬ون �ف��وذ ك��لٍّ م�ن�ه��م‪ .‬وج��اء مؤمتر‬
‫الطائف‪ ،‬الذي وضع حداً للحرب األهلية اللبنانية‪ ،‬ليعدل صالحيات‬
‫هؤالء الرؤساء الثالثة‪ .‬وانعكس الواقع الطائفي في لبنان على تكوين‬
‫األحزاب السياسية وتنظيمها‪ ،‬كذلك‪ .‬فثمة أحزاب غلب عليها الطابع‬
‫املسيحي‪ ،‬مثل ح��زب الكتائب‪ ،‬وح��زب االحت��اد ال��دس�ت��وري‪ ،‬وحزب‬

‫‪262‬‬
‫الكتلة الوطنية‪ .‬وأحزاب طغى عليها الطابع اإلسالمي والدرزي‪ ،‬مثل‬
‫حزب النجّ ادة‪ ،‬واحلزب التقدمي االشتراكي‪ ،‬وحزب النداء القومي‪.‬‬

‫أما األحزاب ذات املنشأ غير اللبناني‪ ،‬فمنها الوحدوية‪ ،‬مثل‬


‫حزب البعث العربي االشتراكي‪ ،‬وحركة القوميني العرب‪ .‬ومنها غير‬
‫الوحدوية‪ ،‬مثل احلزب القومي السوري‪ ،‬واحلزب الشيوعي اللبناني‪.‬‬
‫ال عن األحزاب الدينية‪ ،‬مثل الداشناك‪ ،‬وهو أرثوذكسي‪ ،‬وحزبَي‬‫فض ً‬
‫األرمن‪ :‬الطاشناق والهاشناق‪.‬‬

‫وي��رت�ك��ز ه��ذا التشتت االج�ت�م��اع��ي على أرض �ي��ة فكرية تعمق‬


‫االختالفات‪ .‬إذ خضع املجتمع اللبناني لتأثيرات خارجية‪ ،‬أهمها‬
‫ال عن الثقافة‬‫االحتالل الفرنسي‪ ،‬الذي أرسى ثقافته في لبنان‪ ،‬فض ً‬
‫األمريكية‪ ،‬التي ساعد على نشرها اجلامعة األمريكية في بيروت‪،‬‬
‫حيث تخرج فيها عدد من أعضاء النخبة اللبنانية‪ ،‬سواء النيابية أو‬
‫الوزارية‪ .‬وقد أفرز هذا الواقع الفكري املتعدد‪ ،‬جماعات طائفية‪،‬‬
‫ش��ددت على هويتها‪ ،‬على حساب الهوية اللبنانية العامة‪ ،‬وخلقت‬
‫نظاماً سياسياً‪ ،‬عمل‪ ،‬ب��دوره‪ ،‬على تعزيز ال��واق��ع الطائفي‪ .‬بل إن‬
‫االنقسام الطائفي‪ ،‬طغى على االنقسامات‪ ،‬االجتماعية والطبقية‪.‬‬
‫وحتولت الطوائف‪ ،‬في املمارسة العملية للدولة اللبنانية‪ ،‬إلى كتل‬
‫بشرية‪ ،‬من ورائها زعماؤها‪ ،‬الدينيون واملدنيون‪.‬‬

‫وإل��ى جانب ال�ص��راع السياسي‪ ،‬وال�ص��راع الطبقي‪ ،‬والصراع‬


‫ح��ول الهوية‪ ،‬بني القوميني والوطنيني‪ ،‬شهد لبنان‪ ،‬على املستوى‬
‫الطائفي‪ ،‬صراعاً نخبوياً بني املسلمني واملسيحيني عامة‪.‬‬

‫انعكاس الطائفية على النخبة السياسية‬

‫تبدّ ى التركيب الطائفي في النخبة السياسية اللبنانية‪ ،‬منذ‬

‫‪263‬‬
‫ب��داي��ات احل��رب األه�ل�ي��ة‪ ،‬ع��ام ‪ ،1975‬وح�ت��ى انتهائها‪ ،‬إث��ر اتفاق‬
‫الطائف في ‪ 23‬تشرين أول ‪ /‬أكتوبر ‪ .1989‬فإذا هي‪ ،‬سواء على‬
‫مستوى الرئاسة أو على املستوى النيابي‪ ،‬نخبة غير أرستقراطية‪،‬‬
‫غالباً ما تعكس تكتالت‪ ،‬تتبع زعماء أو أحزاباً أو أطرافاً أو حركات‪.‬‬
‫وزعيم الكتلة هو نائب تغلب قوّته االنتخابية‪ ،‬وتتسع إلى أبعد من‬
‫دائرته‪ ،‬لتضم دوائر أخرى‪ ،‬لها نوابها‪ .‬وقد يتأتى ذلك من ميراثه‬
‫السياسي الكبير‪ ،‬أو من اكتسابه مكانة‪ ،‬على املستوى القومي‪ ،‬مثل‬
‫كميل شمعون‪.‬‬

‫وزعماء الكتل‪ ،‬يكونون من القوة‪ ،‬أحياناً‪ ،‬مبا يكفي لتضمني‬


‫ق��وائ�م�ه��م االن�ت�خ��اب�ي��ة‪ ،‬م��رش�ح�ين ض�ع�ف��اء‪ ،‬مم��ن ي�ض�م�ن��ون والءهم‪.‬‬
‫وبذلك‪ ،‬يبدو املجلس النيابي اللبناني إط��اراً‪ ،‬يضم عدة جماعات‬
‫صغيرة لنواب متكتلني‪.‬‬

‫وميثل مجلس ‪ ،1992‬وهو أو ملجلس نيابي لبناني بعد اتفاق‬


‫الطائف‪ ،‬انعكاساً لهذا الواقع‪ ،‬فمثال يشكل ‪ %23.4‬من بني أعضاء‬
‫النخبة النيابية (‪ 128‬نائباً)‪ ،‬هم الذين يقفون خارج التكتالت‪ .‬وما‬
‫عداهم‪ ،‬ينخرطون في كتل ألحزاب أو أفراد أو قوى أخرى‪ .‬فموالو‬
‫سورية يبلغون ‪ ،%14.8‬ويبلغ املوالون حلزب الله ‪ ،%10.9‬بينما ال‬
‫يتعدى املوالون للحركة اإلسالمية ‪ .%1.7‬وبالنسبة إلى األشخاص‪،‬‬
‫ف��إن أكبرهم كتلة‪ ،‬ه��و نبيه ب��ري (‪ ،)%13.3‬يليه الرئيس إلياس‬
‫الهراوي (‪ .)%8.6‬وتتساوى كفّتا سليم احلص ووليد جنبالط‪ ،‬وتبلغ‬
‫كتلة كلٍّ منهما نسبة ‪ %7.8‬من النواب‪ .‬ويأتي‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬عمر كرامي‪،‬‬
‫وكتلته تشكل ‪ %7‬من النواب‪ ،‬ثم سليمان فرجنية (‪.)%4.7‬‬

‫غير أن الطائفية‪ ،‬التي استهدفت انتخابات ‪ 1992‬القضاء‬


‫عليها‪ ،‬من خالل إعادة توزيع الدوائر االنتخابية‪ ،‬كانت‪ ،‬وال تزال‪،‬‬

‫‪264‬‬
‫العامل األول‪ ،‬ال��ذي يحكم احل�ي��اة السياسية والنخبة ف��ي لبنان‪.‬‬
‫فاملوارنة‪ ،‬احتلوا املرتبة األول��ى‪ ،‬من حيث عدد نوابهم في املجلس‬
‫النيابي‪ ،‬إذ راوحت نسبتهم فيه ما بني ‪ %27‬و‪ ،%33‬يليهم املسلمون‬
‫السُّ نة‪ ،‬فالشيعة‪ ،‬ثم األرثوذكس‪.‬‬

‫وع�ل��ى ال��رغ��م م��ن التحديث‪ ،‬ل��م تفقِ د مؤسستان تقليديتان‪،‬‬


‫في لبنان‪ ،‬متيزهما‪ ،‬فيما يتعلق بالتكوين النخبوي‪ ،‬وهما العائالت‬
‫الكبيرة والعشائر‪ .‬وك��ان ملِثل هذه االنتماءات أكبر األث��ر في إذكاء‬
‫ح��دّ ة احل��رب األهلية اللبنانية‪ ،‬بل إن املؤسسات االقتصادية‪ ،‬هي‬
‫مؤسسات عائلية‪.‬‬

‫وفي إطار هذا السياق‪ ،‬خضعت العملية السياسية‪ ،‬في لبنان‪،‬‬


‫لمِ ا ميكن أن يسمى اإلقطاع السياسي‪ ،‬إذ احتكرت ‪ 245‬عائلة أكثر‬
‫م��ن نصف مقاعد مجلس ال�ن��واب‪ ،‬ف��ي الفترة م��ا ب�ين العشرينيات‬
‫والسبعينيات‪ .‬وظاهرة الوراثة من املسائل اجلوهرية‪ ،‬بالنسبة إلى‬
‫النخبة السياسية اللبنانية؛ إذ إن ح��وال��ي نصف أع�ض��اء املجلس‬
‫النيابي‪ ،‬يخلفهم أقرباؤهم‪ ،‬ما دامت قوة النائب‪ ،‬تعتمد على تنظيمه‬
‫الشخصي‪ ،‬من األقارب واألصدقاء‪.‬‬

‫ومن خالل تتبع رؤساء الوزارة في لبنان‪ ،‬منذ االستقالل وحتى‬


‫الوقت الراهن‪ ،‬جند أن عبدالله اليافي‪ ،‬تولى رئاسة تسع وزارات‪.‬‬
‫وكلٌّ من رشيد كرامي وسامي الصلح ورياض الصلح ثماني وزارات‪.‬‬
‫وتولى صائب سالم رئاسة ست وزارات‪ .‬وعموماً‪ ،‬احتكر ‪ 18‬شخصاً‬
‫‪ 58‬وزارة‪ ،‬منذ االستقالل‪.‬‬

‫وحتى ميكِ ن استجالء أثر النخبة السياسية اللبنانية‪ ،‬في إذكاء‬


‫حدّ ة احلرب األهلية‪ ،‬ال بدّ من التنويه أن الطائفية في لبنان‪ ،‬لم تنتهِ‬

‫‪265‬‬
‫بتوقيع اتفاق الطائف‪ ،‬عام ‪1989‬؛ إذ استمر التوزيع الطائفي‪ ،‬في‬
‫كلٍّ من وزارة سليم احل��ص‪ ،‬التي عقبت االتفاق مباشرة‪ ،‬ولم تضم‬
‫سوى ‪ 13‬وزيراً؛ ثم وزارة عمر كرامي‪ ،‬في ‪ 24‬كانون األول‪/‬ديسمبر‬
‫‪ 30( 1990‬وزي��راً)؛ ووزارة رشيد الصلح‪ ،‬في ‪ 16‬أيار‪/‬مايو ‪1992‬‬
‫(‪ 24‬وزيراً)‪ ،‬ووزارة رفيق احلريري األولى‪ 1 ،‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‬
‫‪ 30( 1992‬وزي��راً)‪ ،‬وأخ�ي��راً وزارة رفيق احلريري الثانية‪ ،‬في ‪25‬‬
‫أيار‪ /‬مايو ‪ 30( 1995‬وزيراً)‪ .‬وباستثناء وزارة سليم احلص‪ ،‬القليلة‬
‫العدد‪ ،‬كان نصيب املسلمني السُّ نة في حكومة كرامي ‪ ،%23.2‬وفي‬
‫حكومة الصلح ‪ ،% 23‬وفي حكومة احلريري األولى ‪ ،% 23.3‬وفي‬
‫الثانية ‪ .%20‬يليهم املوارنة‪ ،‬الذين حصلوا على ست حقائب وزارية‪،‬‬
‫في كل وزارة من هذه ال��وزارات على التوالي‪%20 ،%25 ،%20 :‬‬
‫و‪ .20%‬واحتل املسلمون الشيعة املركز الثالث‪ ،‬فنالوا ست حقائب في‬
‫وزارة كرامي‪ ،‬ومثلها في وزارة احلريري الثانية‪ .‬أمّا وزارة احلريري‬
‫األولى‪ ،‬وكذلك وزارة الصلح‪ ،‬فقد كان نصيبهم في كلٍّ منهما خمس‬
‫وزارات فقط‪ ،‬بنسبة هي‪ ،‬على التوالي‪،%16.7 ،%20.9 ،%20 :‬‬
‫‪ .%20‬وج��اء‪ ،‬بعد ذل��ك‪ ،‬ال��روم األرث��وذك��س‪ ،‬ف��ال��دروز‪ ،‬فالكاثوليك‪،‬‬
‫وأخيراً األرمن‪ .‬وهو ما يوضحه اجلدول التالي‪:‬‬

‫وتكشف هذه الوقائع تراجع املوارنة حلساب املسلمني السُّ نة‪.‬‬


‫وإذا ك��ان ذل��ك مرتبطاً بالتطور‪ ،‬االجتماعي وال��دمي��وغ��راف��ي‪ ،‬في‬
‫املجتمع اللبناني‪ ،‬فإنه مرتبط‪ ،‬كذلك‪ ،‬بعامل خارجي‪ ،‬وهو النفوذ‬
‫السوري في لبنان حينها‪ ،‬ال��ذي أع��اد ترتيب األوراق‪ ،‬في مصلحة‬
‫دمشق‪ ،‬وهو ما يتطلب احلدّ من نفوذ املوارنة‪ ،‬املتحفظني‪ ،‬بل املعادين‬
‫للسياسة السورية في لبنان‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫الفصل الثاني عشر‬
‫أثر االقتصاد اللبناني‬

‫في احلرب األهلية اللبنانية‬

‫يُعَدّ لبنان صورة صادقة‪ ،‬وتطبيقاً حياً ألثر العنصر اجلغرافي‬


‫ف��ي ال�ت�ك�ي��ف ال �س �ي��اس��ي‪ ،‬وت�ش�ك�ي��ل ال �س �ي��اس��ات االق �ت �ص��ادي��ة‪ ،‬على‬
‫الصعيدين‪ ،‬الداخلي واخل��ارج��ي‪ ،‬في ظل امل��وارد الطبيعية املتاحة‬
‫واإلم�ك��ان��ات البشرية املتيسرة‪ .‬فأصبحت بيروت وع��اء تصب فيه‬
‫ال�ف��وائ��ض امل��ال�ي��ة م��ن ال��دول النفطية‪ ،‬إض��اف��ة إل��ى رؤوس األموال‬
‫واخلبرات املصرفية األجنبية‪ ،‬ثم تعود إلى التدفق‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬إلى‬
‫دول املنطقة‪ ،‬س��واء في ص��ورة سلعية (مصنعة أو معاد تصديرها)‬
‫أو تتبلور في مشروعات‪ ،‬استثمارية أو ملكية عقارية‪ ،‬تسهم في‬
‫مزيد من النمو واالنتعاش‪ ،‬وال سيما في القطاع السياحي وقطاع‬
‫اخلدمات‪ .‬وميكن بلورة املالمح األساسية لالقتصاد اللبناني‪ ،‬من‬
‫حيث التقسيم القطاعي‪ ،‬في أنه يركز في اخلدمات والتجارة بصفة‬
‫أساسية‪ .‬وقد تكون هذه الصفة‪ ،‬على املدى الطويل‪ ،‬غير مالئمة‪.‬‬
‫ولكنها‪ ،‬مالئمة‪ ،‬على املدى القصير‪ ،‬ألنها تهيئ للدولة تدفقاً ضخماً‬

‫‪267‬‬
‫م��ن رؤوس األم ��وال‪ .‬وق��درت نسبة ه� َذي��ن القطاعَ ني‪ ،‬إل��ى إجمالي‬
‫الناجت القومي‪ ،‬عام ‪ ،1970‬بحوالي ‪ .% 50‬وكان النشاط املصرفي‪،‬‬
‫مبفرده‪ ،‬يشكل ‪ % 3.4‬واخلدمات األخرى ‪ .% 9.9‬بينما لم تتجاوز‬
‫نسبة إسهام كلٍّ من قطاعَ ي الصناعة والزراعة ‪ % 13.6‬و‪،% 9.2‬‬
‫على التوالي‪ ،‬على الرغم من أن قطاع ال��زراع��ة‪ ،‬يستوعب ‪% 49‬‬
‫من السكان‪ ،‬خارج منطقة بيروت‪ .‬ويتضح دور املوقع اجلغرافي في‬
‫إحياء جتارة املرور (الترانزيت)‪ ،‬عبْر البحر أو البر‪ ،‬بني لبنان ودول‬
‫اخلليج العربي‪ ،‬من جهة‪ ،‬وسورية واألردن‪ ،‬من جهة أخرى‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫ك��ان للعالقة السياسية‪ ،‬بني لبنان وس��وري��ة‪ ،‬أهميتها؛ إذ إن أدنى‬
‫توتر‪ ،‬يؤثر فيها‪ ،‬ويؤدي إلى إغالق احلدود‪ ،‬وتكدس السلع‪ .‬فخالل‬
‫أزمة عام ‪ ،1973‬بني الدولتَني‪ ،‬خسر االقتصاد اللبناني ما يعادل‬
‫‪ 45‬مليون ليرة‪ ،‬شهرياً‪ .‬كما جلأ املستوردون من دول اخلليج‪ ،‬إلى‬
‫منافذ بحرية أخ��رى‪ ،‬وبخاصة في تركيا‪ .‬وق��د بلغ حجم البضائع‬
‫املكدسة في ميناء بيروت‪ ،‬حلساب العراق‪ ،‬مبفرده‪ 30 ،‬ألف طن‪.‬‬

‫وتبرز أهمية الدول العربية‪ ،‬وال سيما النفطية منها‪ ،‬بالنسبة‬


‫إل��ى االقتصاد اللبناني‪ ،‬ليس في حجم تدفقات الفوائض املالية‪،‬‬
‫وإمنا لكون الدول العربية أسواقاً متسعة للصادرات‪ ،‬مبا فيها السلع‬
‫اللبنانية‪ .‬وحتتل أسواق اململكة العربية السعودية املرتبة األولى‪ ،‬تليها‬
‫الكويت فسورية ثم ليبيا‪ .‬كما أن هذه الصادرات آخذة في التزايد‪،‬‬
‫إذ ازدادت بنسبة ‪ ،% 35‬بالنسبة إلى اململكة‪ ،‬من عام ‪ 1972‬إلى‬
‫عام ‪ .1974‬وارتفعت قِ يمة الصادرات إلى األردن‪ ،‬فوصلت إلى ‪550‬‬
‫مليون ليرة‪ .‬وبالنسبة إلى سورية‪ ،‬ازدادت بنسبة ‪ ،% 6‬لتصل قِ يمتها‬
‫إلى ‪ 82‬مليون ليرة‪ ،‬عام ‪.1974‬‬

‫وشكلت خطوط األنابيب‪ ،‬املارة في األراضي اللبنانية‪ ،‬واملمتدة‬


‫م��ن ح�ق��ول ال�ن�ف��ط‪ ،‬ف��ي ك��لٍّ م��ن ال�س�ع��ودي��ة وال��ع��راق‪ ،‬م �ص��دراً آخر‬

‫‪268‬‬
‫من مصادر الدخل‪ ،‬فكانت انعكاساً للفوائد‪ ،‬التي يحققها املوقع‬
‫اجلغرافي‪ .‬فإضافة إلى رسوم املرور‪ ،‬التي دفعتها الشركات النفطية‪،‬‬
‫حصل لبنان على حاجته إل��ى النفط اخل��ام‪ ،‬بسعر رم��زي‪ ،‬مقارنة‬
‫باملستوى العاملي‪ ،‬راوح سعر البرميل بني دوالرين و‪ 54‬سنتاً‪ ،‬لبرميل‬
‫النفط العراقي‪ ،‬في طرابلس‪ ،‬و‪ 5‬دوالرات لبرميل النفط السعودي‪.‬‬
‫ويبدو تآلف الفلسفة الفردية االقتصادية مع املعايير الطائفية‪ ،‬في‬
‫تركز جميع أَوجُ ه النشاط املصرفي‪ ،‬وحركة النقل‪ ،‬البحرية واجلوية‪،‬‬
‫وكذلك في املشروعات واملنشآت‪ ،‬التجارية والصناعية‪ ،‬في العاصمة‬
‫اللبنانية‪ ،‬مع إهمال بقية أجزاء البالد‪ ،‬وبخاصة اجلنوب واملناطق‬
‫اجلبلية‪ .‬ومقابل العناية مبيناءَي بيروت‪ ،‬اجلوي والبحري‪ ،‬كان هناك‬
‫إهمال شبه تام خلطوط السكك احلديدية‪.‬‬

‫وعلى ال��رغ��م م��ن تكدس البضائع ف��ي ميناء ب�ي��روت‪ ،‬وعجزه‬


‫عن مالحقة الزيادة في حجم النشاط االقتصادي‪ ،‬فإن املشروعات‬
‫اخلاصة بتطوير ميناء طرابلس وغيره من املوانئ اللبنانية‪ ،‬ذهبت‬
‫فريسة امل �ن��اورات السياسية‪ .‬ب��ل إن التخلف‪ ،‬ال��ذي ع��ان��اه القطاع‬
‫الزراعي‪ ،‬ومناطق اجلنوب بصفة عامة‪ ،‬كان ترجمة واضحة للمعايير‬
‫الطائفية‪ ،‬إذ يتركز فيها الشيعة‪ ،‬ثالثة الطوائف اللبنانية‪ ،‬وأصبحوا‬
‫يشكلون‪ ،‬في اآلونة األخيرة‪ ،‬مصدر قوة متعاظمة‪ .‬ولعل أهم دالئل‬
‫التسويف واملماطلة في املشروعات املتعلقة باملنطقة‪ ،‬هو مشروع‬
‫نهر الليطاني‪ ،‬الذي أعلن عام ‪ ،1961‬ولم تقره احلكومة‪ ،‬إال عام‬
‫‪.1973‬‬

‫واتسمت املؤسسات اللبنانية بعدم قدرتها على النهوض بنشاط‬


‫رئيسي‪ ،‬في التنمية االقتصادية الفاعلة‪ .‬وأوضحت األرقام املعلنة‪،‬‬
‫قبَيل احلرب اللبنانية‪ ،‬أن ‪ 140‬من ‪ 6500‬منشأة‪ ،‬كانت تضم أكثر‬
‫من ‪ 50‬عامالً‪ ،‬وهو ما حفز احلكومة على إنشاء املصرف الوطني‬

‫‪269‬‬
‫لإلمناء‪ ،‬واإلسهام فيه بنسبة ‪ ،% 51‬ويتشارك في النسبة املتبقية‬
‫امل �ص��ارف ال�ت�ج��اري��ة‪ ،‬ال��وط�ن�ي��ة واألج�ن�ب�ي��ة‪ .‬وي �ق � ّدم م�ص��رف اإلمناء‬
‫قروضاً‪ ،‬متوسطة وطويلة األجل‪ ،‬تصل إلى ‪ 15‬عاماً‪ ،‬في املشروعات‬
‫السياحية‪ ،‬وإلى ‪ 12‬عاماً في املشروعات الصناعية‪.‬‬

‫كما يتفق االقتصاد اللبناني واالقتصادات األخرى في الدول‬


‫املتخلفة‪ ،‬في تركز نسبة كبيرة من االستثمارات في قطاع اإلسكان‬
‫وامل�ل�ك�ي��ة ال�ع�ق��اري��ة‪ ،‬س��واء م��ن قِ �ب��ل امل��واط�ن�ين اللبنانيني‪ ،‬املقيمني‬
‫واملغتربني‪ ،‬أو رؤوس األموال النفطية‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫الفصل الثالث عشر‬
‫البعد اإلقليمي للحرب األهلية اللبنانية‬
‫ُ‬

‫عكست فترة منتصف السبعينيات مناخاً إقليمياً متفجراً‪ ،‬مهد‬


‫إلثارة احلرب األهلية اللبنانية‪ ،‬خاصة أن األوضاع العربية‪ ،‬آنذاك‪،‬‬
‫كانت قد بلغت درجة عالية من التوتر‪.‬‬

‫ففي ‪ 18‬كانون الثاني‪/‬يناير ‪ُ ،1974‬و ِّق��ع اتفاق الفصل بني‬


‫ال �ق��وات‪ ،‬ع�ل��ى ال�س��اح��ة امل�ص��ري��ة‪ .‬وإ ّب ��ان ت��وق�ي��ع ات �ف��اق ال�ف�ص��ل بني‬
‫ال�ق��وات‪ ،‬على اجلبهة السورية‪ ،‬في ‪ 31‬أي��ار ‪ /‬مايو ‪ ،1974‬كانت‬
‫بذور اخلالف‪ ،‬قد برزت على الساحة السياسية‪ .‬وكان الواضح من‬
‫ح�م�لات احل��رب اإلع�لام�ي��ة‪ ،‬أن ه�ن��اك دع��وى‪ ،‬ب��أن س��وري��ة تتعرض‬
‫لضغط كبير لتوقيع االتفاق‪ .‬وقد اشترك في االتصاالت مع الواليات‬
‫املتحدة األمريكية‪ ،‬كلٌّ من مصر واململكة العربية السعودية‪ .‬والتقى‬
‫وزي��ر اخل��ارج�ي��ة األم��ري�ك��ي نظيره السوفيتي‪ ،‬ف��ي دم�ش��ق‪ .‬وأصبح‬
‫واضحاً أن هناك تيارين‪ ،‬أحدهما ميضي‪ ،‬بسرعة‪ ،‬نحو التسوية‪،‬‬
‫بينما اآلخر يتعثر‪ .‬وما لبث الشقاق أن وقع بينهما‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫ولم يقف األم��ر عند هذا احل� ّد‪ ،‬فإن اتفاق سيناء‪ ،‬ال��ذي كان‬
‫سيوقع في آذار ‪ /‬م��ارس ‪ ،1975‬ولكن فشل االت�ص��االت‪ ،‬في آخر‬
‫حلظة‪ ،‬أجّ ل توقيعه إلى أيلول‪/‬سبتمبر‪ ،‬قد زاد من فجوة اخلالف‪.‬‬
‫إذ ك��ان واض�ح�اً استحالة ال��وص��ول إل��ى ات�ف��اق ج��دي��د‪ ،‬على اجلبهة‬
‫السورية‪.‬‬

‫ثم أضيف إلى ذلك اخلطوات املتخذة‪ ،‬لفتح قناة السويس‪ ،‬التي‬
‫رفضها كلٌّ من سورية ومنظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬في حزيران ‪/‬‬
‫يونيو ‪ ،1975‬وأث��ارت ج��دالً ح��ا ّداً ب�ين م��ؤي��د‪ ،‬ي��راه��ا مصدر دخل‪،‬‬
‫ال على حسن النيات؛ ومعارض‪ ،‬يرى أنها شروط مفروضة على‬ ‫ودلي ً‬
‫مصر‪.‬‬

‫وقد وصلت حدّ ة املوقف بني مصر من جانب‪ ،‬وسورية ومنظمة‬


‫التحرير الفلسطينية م��ن ج��ان��ب آخ��ر‪ ،‬إل��ى درج��ة جت ��اوزت حدود‬
‫اخلصام السياسي‪ ،‬إلى ما يشبه القطيعة‪ ،‬في ظل حرب إعالمية‬
‫ساخنة‪ .‬وكان الفلسطينيون يخشون‪ ،‬أن يفرض عليهم‪ ،‬في املستقبل‪،‬‬
‫مبقتضى االت��ف��اق‪ ،‬أن ي�ق�ب�ل��وا ال�ع�م��ل وف��ق االل �ت��زام��ات األمريكية‬
‫إلسرائيل‪ ،‬وهي التزامات ال تترك للمنظمة شيئاً‪ ،‬تستطيع املناورة‪،‬‬
‫بل احلركة‪ ،‬في إطاره؛ بل تفرض عليها‪ ،‬إن أرادت‪ ،‬أن تتنازل عن كل‬
‫شيء‪ ،‬مقابل وعد بدعوتها إلى مؤمتر جنيف‪.‬‬

‫اعتقد بعض املقتنعني بحتمية جن��اح جهود ال�س�لام‪ ،‬آنذاك‪،‬‬


‫أن املوقف الفلسطيني املعارض‪ ،‬كان يشكل العقبة الرئيسية‪ ،‬ورمبا‬
‫حت��ول دون ان�ع�ق��اد م��ؤمت��ر ج�ن�ي��ف‪ .‬وت��رج�م��ة ذلك‪،‬‬
‫ال��وح �ي��دة‪ ،‬ال�ت��ي ُ‬
‫لبنانياً‪ ،‬أن موقف املقاومة املعارض‪ ،‬كان هو العقبة في سبيل مؤمتر‬
‫جنيف‪ ،‬ال��ذي أم��ل امل��وارن��ة‪ ،‬م��ن خ�لال��ه‪ ،‬أن يتخلصوا م��ن الوجود‬
‫الفلسطيني‪ .‬لذلك‪ ،‬كان ال بدّ من استنزاف املقاومة‪ ،‬على أساس‬

‫‪272‬‬
‫أن أي تصادم في لبنان‪ ،‬لن ي��ؤدي إل��ى إره��اق املقاومة وجتريدها‬
‫من معظم أسلحتها فحسب‪ ،‬وإمنا إلى التضحية‪ ،‬كذلك‪ ،‬بعشرات‬
‫اآلالف من الفلسطينيني‪.‬‬

‫واستشعر الفلسطينيون ب��وادر اخلطر احمل��دق بهم؛ إذ كان ال‬


‫بدّ من وجودهم‪ ،‬إلعطاء الشرعية أي اتفاق نهائي‪ .‬ولكن ما كيفية‬
‫هذا الوجود؟ ف��األردن‪ ،‬بتأييد عربي‪ ،‬رأى أنه هو طرف املباحثات‬
‫للتسوية‪ ،‬ثم يأتي الدور الفلسطيني‪ .‬ثم إن معاجلة القضية‪ ،‬ستنطلق‬
‫من قرار مجلس األمن‪ ،‬الرقم ‪ ،242‬الذي نظر إلى الفلسطينيني من‬
‫زاوي��ة أنهم الجئون‪ ،‬وهو ما رفضته منظمة التحرير الفلسطينية‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬برز دور املنظمة‪ ،‬في عرقلة اتفاق محتمل‪ ،‬يعارض األهداف‬
‫الفلسطينية‪ .‬وك��ان طبيعياً‪ ،‬أن ينتهز م��وارن��ة لبنان ه��ذه الفرصة‬
‫النادرة لضرب املقاومة الفلسطينية‪.‬‬

‫واستكماالً ملالمح الصورة‪ ،‬ال ب ّد من إلقاء نظرة على خريطة‬


‫العالم العربي‪ ،‬تكون أكثر شموالً‪ ،‬وأبعد م��دى‪ ،‬من دائ��رة القضية‬
‫الفلسطينية واملواقف منها‪ .‬وميكن القول إن بدايات احلرب األهلية‬
‫اللبنانية‪ ،‬ع��ام ‪ ،1975‬ق��د تبلورت‪ ،‬ف��ي ظ��ل ال��وض��ع التالي للعالم‬
‫العربي‪:‬‬

‫‪ - 1‬ح��رب إعالمية‪ ،‬وحشود عسكرية‪ ،‬بني ال�ع��راق وسورية‪،‬‬


‫بسبب اخلالف في توزيع مياه نهر الفرات‪.‬‬

‫‪ - 2‬احل��رب اإلع�لام�ي��ة‪ ،‬ب�ين مصر وليبيا‪ ،‬ال�ت��ي وص�ل��ت إلى‬


‫درجة التشامت‪ ،‬عبْر اإلذاعات‪ ،‬على الرغم من أن ليبيا‪،‬‬
‫كانت متثل العمق اإلستراتيجي ملصر‪ ،‬زمن احلرب‪.‬‬

‫‪273‬‬
‫‪ - 3‬اخل�لاف��ات‪ ،‬ب�ين مصر وس��وري��ة‪ ،‬ف��ي ش��أن ال�ت�ح��رك نحو‬
‫التسوية السياسية‪.‬‬

‫وارتبط ذلك بتحرك األردن ضد قرار مؤمتر القمة العربية‪ ،‬في‬


‫الرباط‪ ،‬املتعلق بشرعية منظمة التحرير الفلسطينية ووحدانيتها‪ ،‬في‬
‫متثيل الشعب الفلسطيني‪ .‬وارتكز األردن‪ ،‬في حتركه‪ ،‬على التهديد‬
‫بعدم االش�ت��راك في جهود ال�س�لام‪ ،‬وبالتحديد في مؤمتر جنيف‪.‬‬
‫ولكن الرئيس األمريكي‪ ،‬جيرالد فورد ‪ ،Gerald Rudolph Ford‬أقنع‬
‫امللك حسيناً باالشتراك في املؤمتر‪ ،‬ألسباب تتعلق بالقانون الدولي‪.‬‬
‫فبرز تناقض واضح بني دَورَي األردن ومنظمة التحرير الفلسطينية‬
‫في التسوية‪ .‬وزاد األمر تعقيداً اغتيال أقوى مطالب بعروبة القدس‪،‬‬
‫امللك فيصل‪ ،‬في ‪ 25‬مارس ‪.1975‬‬

‫وك��ان م��ن أب��رز م��ا شهده ع��ام ‪ ،1975‬ال��وف��اق اخلليجي‪ ،‬بني‬


‫اململكة العربية السعودية والعراق وإيران الشاه‪ ،‬الذي أعقب اتفاق‬
‫العراق وإي��ران‪ ،‬في شأن احل��دود بينهما‪ ،‬في ‪ 13‬حزيران ‪ /‬يونيو‬
‫‪ .1975‬وهو االتفاق الذي ساعد عليه وساطة سعودية ومصرية‪ ،‬في‬
‫مؤمتر األوب��ك‪ ،‬في اجلزائر‪ ،‬وتأييد جزائري‪ ،‬في آذار‪/‬م��ارس من‬
‫العام نفسه‪ .‬بيد أن الوفاق الثالثي‪ ،‬لم يحقق للمنطقة استقرارها‪.‬‬
‫إذ ما إن انتهت أزمة احلدود‪ ،‬بني العراق وإيران‪ ،‬حتى بدأت أزمة‬
‫احل��دود ب�ين ق��طَ ��ر وال�ب�ح��ري��ن‪ ،‬إض��اف��ة إل��ى ال �ث��ورة ف��ي ظ�ف��ار‪ ،‬حيث‬
‫ساندت قوات إيرانية أردنية بريطانية السلطان قابوس‪ ،‬بينما دعم‬
‫اليمن اجلنوبي قوات جبهة حترير ظفار‪.‬‬

‫جت��سّ ��دت ه��ذه ال �ص��راع��ات جميعها‪ ،‬ع�ل��ى ال�س��اح��ة اللبنانية‬


‫جت�س�ي��داً واض �ح �اً وم�ل�م��وس�اً؛ إذ إن وج �ه��ات النظر امل�ت�ع��ارض��ة بني‬

‫‪274‬‬
‫العرب‪ ،‬تبدت إزاء املشكلة اللبنانية‪ ،‬حتى إن سليمان فرجنية قال‪:‬‬
‫«إن العرب‪ ،‬حاربوا بعضهم على ساحة لبنان»‪ .‬وأسفرت عن عودة‬
‫سياسة احملاور‪ .‬ففي مواجهة محور القاهرة الرياض‪ ،‬سعت سورية‬
‫إلى إقامة محور دمشق عمان بيروت الثورة الفلسطينية‪ .‬وحاول كل‬
‫محور كسر حتالفات احملور اآلخر‪ ،‬واستعمل في الصراع كل أنواع‬
‫األسلحة‪ ،‬من ضغوط إعالمية إلى تأخير املساعدات املالية‪.‬‬

‫وكان املعنى املباشر للتطور‪ ،‬احلاصل على الساحة العربية‪ ،‬أن‬


‫تناقضاً في املصالح‪ ،‬برز على السطح‪ ،‬للمرة األولى‪ ،‬منذ قيام الثورة‬
‫الفلسطينية‪ ،‬بني منطقَي الثورة واحلكم «العربي»‪ .‬وتولدت قناعة‬
‫لدى بعض احلكام‪ ،‬أن استمرار «ثورية» الثورة الفلسطينية‪ ،‬هو عقبة‬
‫في سبيل حتقيق التسوية املطروحة‪ .‬وإمعاناً في تلك القناعة‪ ،‬لم‬
‫يتردد بعضهم في الدعوة إلى اإلقليمية‪ ،‬ورفض الثورة الفلسطينية‪،‬‬
‫على أسـاس أنها عبء‪ ،‬ال عالقة لهم به‪ ،‬أو أن ما قدموه من أجْ لها‪،‬‬
‫كاف‪ .‬وفي الوقت عينه‪ ،‬كان ال ب ّد من عملية احتواء أو حصار‬ ‫هو ٍ‬
‫للقوى ال�ق��ادرة على دع��م النضال الفلسطيني‪ .‬وق��د استوعبت كل‬
‫الطاقات العربية في أزمات‪ ،‬شغلت احلكومات بأمنها الذاتي‪.‬‬

‫أ ّم ��ا «اجل �ب �ه��ة ال�ل�ب�ن��ان�ي��ة» (ش �م �ع��ون اجل�م�ي��ل ش��رب��ل القسيس‬


‫ف��رجن�ي��ة)‪ ،‬ف��رأت أن ال��وج��ود الفلسطيني ه��و املشكلة‪ ،‬وأن��ه ال حل‬
‫ألزمة لبنان‪ ،‬من دون خروج الفلسطينيني منه‪ .‬ولم يشاركها في هذا‬
‫الرأي أحد‪ ،‬سواء من املسيحيني غير املوارنة‪ ،‬أو املسلمني من غير‬
‫املتحالفني مع املوارنة‪.‬‬

‫وال ب��دّ ‪ ،‬لفهم منطق «اجلبهة اللبنانية»‪ ،‬من التعرض للوجود‬


‫الفلسطيني على الساحة اللبنانية‪ ،‬مبرحلتَيه‪ ،‬ما قبْل الثورة‪ ،‬وما‬

‫‪275‬‬
‫بعدها‪ .‬وهو ما حدده كمال جنبالط‪ ،‬بدقة‪ ،‬في قوله‪« :‬إن الشعب‬
‫الفلسطيني‪ ،‬يعيش في لبنان‪ ،‬في ظل رواسب‪ ،‬تذكره مبا كان عليه‬
‫قبْل ال�ث��ورة ف��ي املخيمات‪ ،‬ومب�م��ارس��ات السلطة اللبنانية واملكتب‬
‫الثاني‪( ،‬االستخبارات)‪ ،‬بوجه خاص»‪.‬‬

‫وفي مواجَ هة اخلوف الفلسطيني‪ ،‬كان هناك خوف ماروني دفني‬


‫من الوسط العربي‪ ،‬متخضت به عوامل تاريخية متعددة‪ ،‬وتصورات‬
‫نفسية عميقة‪ ،‬حتى بات من املسلَّمات املارونية‪ .‬وعززته التيارات‬
‫الفكرية‪ ،‬التي أخذت تنشرها الثورة الفلسطينية‪ .‬ورسّ خ اخلوف في‬
‫نفوس امل��وارن��ة التبدالت الدميوغرافية‪ ،‬التي ط��رأت على التوازن‬
‫بني مسلمي لبنان ومسيحييه‪ ،‬إذ أصبحت الطائفة املارونية ثالثة‬
‫الطوائف اللبنانية‪ ،‬بعد الشيعة ثم السُّ نة اللتني أصبحتا متثالن‪ ،‬مع‬
‫ال��دروز‪ ،‬نسبة ‪ 56%‬من سكان لبنان‪ .‬وسعى األرثوذكس‪ ،‬بدورهم‪،‬‬
‫إلى زيادة عددهم‪ ،‬ليوازوا املوارنة تقريباً‪.‬‬

‫وال شك أن ال��وج��ود الفلسطيني في لبنان‪ ،‬ك��ان عامل تغيير‬


‫ف��ي مجتمع‪ ،‬ال يريد ق��ادتُ��ه ل��ه أن يتغير‪ ،‬فهو عنصر د ْف��ع لعوامل‬
‫التحديث في البنيان اللبناني؛ إذ إن مجرد الوجود الفلسطيني على‬
‫أرض لبنان‪ ،‬كان فتحاً ملجاالت واسعة‪ ،‬أمام التنظيمات اجلماهيرية‪،‬‬
‫للحركة التي أخذت‪ ،‬أحياناً‪ ،‬أشكال انتفاضات طبقية‪ .‬وواضح أن‬
‫الوجود الفلسطيني الثوري‪ ،‬كان ميثّل حماية لنضال «احلركة الوطنية‬
‫اللبنانية»‪ .‬إال أن��ه ك��ان‪ ،‬ك��ذل��ك‪ ،‬سبباً إلث��ارة سخط امل��وارن��ة عليه‪،‬‬
‫الذين رأوا‪ ،‬وال سيما «الكتائب»‪ ،‬أنه أفقد لبنان توازنه التقليدي‪،‬‬
‫في مصلحة اليسار‪ .‬لذلك‪ ،‬متسكوا بالتوازن التقليدي‪ ،‬املؤدي إلى‬
‫حل وس��ط‪ ،‬وع��ودة لبنان إلى شعاره‪« :‬ال غالب‪ ،‬وال مغلوب»‪ .‬ولكن‬
‫املشكلة‪ ،‬على حدّ تصور «الكتائب»‪ ،‬هي أن وجود املقاومة على أرض‬

‫‪276‬‬
‫لبنان‪ ،‬مينع اتفاق اللبنانيني‪.‬‬

‫وبإضافة التناقض الطبيعي‪ ،‬بني الثورة واحلكم‪ ،‬تكتمل الصورة؛‬


‫إذ إن وج��ود ث��ورة مسلحة‪ ،‬ه��و خ�ط��ر‪ ،‬يتهدد ك��ل ع��وام��ل االستقرار‬
‫للحكومات‪ ،‬فكيف به في منطقة تعج ب��األزم��ات! ومصداق ذل��ك‪ ،‬ما‬
‫اشترطه الرئيس حافظ األسد‪ ،‬على الفلسطينيني‪ ،‬عندما طرح مشروع‬
‫الوحدة الفلسطينية السورية‪ ،‬أ ّال ينشروا الثورة في سورية‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬كاد البُعدان‪ ،‬اللبناني والعربي‪ ،‬يتطابقان‪ ،‬جتاه الثورة‬


‫الفلسطينية‪ .‬وكان هناك اجتاهان‪ ،‬على صعيد «اجلبهة اللبنانية»‪،‬‬
‫إلى استغالل هذا التطابق‪ ،‬أحدهما يدعو إلى ربط املشروع االنعزالي‬
‫بالوضع العربي‪ ،‬انطالقاً من أن عزلة لبنان الكلية عن العالم العربي‪،‬‬
‫لن حتميه من أزمته‪ ،‬الوطنية واالجتماعية والسياسية‪ ،‬وأن االنتماء‬
‫إلى العروبة الرسمية‪ ،‬هو خير سبيل إلى مواجَ هة هذه األزمة‪ ،‬مما‬
‫يفرض‪ ،‬استطراداً‪ ،‬تصحيح املعادلة التاريخية‪ ،‬التي حكمت عالقات‬
‫ل�ب�ن��ان ب��ال�ع��ال��م ال�ع��رب��ي‪ ،‬ق�بْ��ل ه��ذه احل ��رب‪ ،‬وه��ي «أق �ص��ى االنفتاح‬
‫االقتصادي على ال�ع��رب‪ ،‬وأقصى العزلة السياسية عنهم»‪ .‬وذلك‬
‫متهيداً لالنتقال إل��ى معادلة ج��دي��دة‪ ،‬قوامها اخل��روج م��ن العزلة‬
‫السياسية‪ ،‬واالن �ح �ي��از إل��ى مصلحة ال��وض��ع ال�ع��رب��ي ال��رس�م��ي‪ ،‬مع‬
‫االعتراف مبركز ممتاز لسورية‪ .‬وفي إطار هذا التعريب الرسمي‪،‬‬
‫يكتسب املشروع االنعزالي آفاقاً محددة‪ ،‬على النحو التالي‪:‬‬

‫‪ - 1‬تأمني استمرارية الكيان اللبناني‪ ،‬واستمرارية نظامه‬


‫السياسي‪ ،‬الطائفي‪ ،‬شبه اإلقطاعي‪ ،‬بتوازناته التقليدية‪،‬‬
‫من خالل جتديد التسوية املسيحية اإلسالمية‪ ،‬في ظل‬
‫الرعاية العربية‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫‪ - 2‬إح�ك��ام السيطرة على ال��وج��ود الفلسطيني‪ ،‬حت��ت سقف‬
‫اخلطة العربية الرسمية‪ ،‬حيال القضية الفلسطينية‪،‬‬
‫واملسائل املتصلة بالصراع العربي الصهيوني‪.‬‬

‫‪ - 3‬جتميد ال�ص��راع اللبناني اإلس��رائ�ي�ل��ي‪ ،‬م��ن خ�لال إقفال‬


‫احلدود بقوة ردع عربية‪ ،‬في وجْ ه العمل الفدائي‪.‬‬

‫واالجتاه اآلخر‪ ،‬يدعو إلى االستعانة الظرفية بالقوة العربية‪،‬‬


‫من أجْ ل الوصول إلى سلخ لبنان عن العالم العربي‪ ،‬في نهاية املطاف‪.‬‬
‫وآف��اق املشروع االنعزالي‪ ،‬في هذا االجت��اه‪ ،‬أبعد مدى من االجتاه‬
‫األول‪ .‬فهو يسعى إلى‪:‬‬

‫‪ - 1‬حتويل لبنان‪ ،‬كياناً ونظاماً‪ ،‬إلى وطن ماروني‪ ،‬غير عربي‪.‬‬

‫‪ - 2‬محو الوجود الفلسطيني في لبنان‪.‬‬

‫‪ - 3‬تبديد التناقض اللبناني اإلسرائيلي‪ ،‬من أساسه‪.‬‬

‫وك��ان��ت «ال �ك �ت��ائ��ب»‪ ،‬ف��ي ال �ب��داي��ة‪ ،‬مت�ث��ل االجت ��اه األول‪ ،‬بينما‬
‫«األحرار» (شمعون)‪ ،‬ميثلون االجتاه الثاني‪ .‬ولكن األحداث خلطت‬
‫املَ��واق��ع‪ ،‬ف��ازداد م��ؤي��دو االجت��اه الثاني‪ ،‬على صعيد امل��وارن��ة بوجه‬
‫ع��ام‪ .‬وقد عبّر بشير اجلميل‪ ،‬قائد «القوات اللبنانية»‪ ،‬عن هذين‬
‫االجت��اه�ين بقوله‪« :‬إن لبنان‪ ،‬يجب أن يكون بلداً لبنانياً‪ ،‬دون أن‬
‫ميتزج بالعالم العربي‪ .‬فلدينا حضارتنا وثقافتنا وعالقتنا املميزة‬
‫بالغرب‪ .‬والتحرير الكامل للبنان‪ ،‬ال يستلزم طرد الفلسطينيني منه‪.‬‬
‫�رض «ح��راس األرز»‪ ،‬ألن��ه ك��ان من الصعب إب��ادة ‪400‬‬ ‫وه��و ما لم ي� ِ‬
‫ألف فلسطيني‪ .‬ولكن كان يتعني عليهم اختيار العودة إلى املخيمات‪،‬‬
‫وبذلك يصرح لهم بالبقاء في لبنان»‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫القسم األول‬
‫الدور الفلسطيني في احلرب األهلية اللبنانية‬

‫اضطلع الطرف الفلسطيني بدور محوري في احلرب األهلية‪،‬‬


‫نتيجة رفض املوارنة الوجود الفلسطيني في لبنان‪ ،‬الذي أرسى أ ُسُ سه‬
‫اتفاق القاهرة‪ ،‬عام ‪ .1969‬في حني ورط الفلسطينيني حتالفُهم مع‬
‫اليسار اللبناني‪ ،‬في احلرب األهلية اللبنانية‪ ،‬التي عَ ّدها بعضهم‬
‫حرباً بني اللبنانيني والفلسطينيني‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإن معرفة حقيقة هذا‬
‫ال��دور‪ ،‬تستوجب إلقاء الضوء على أسباب الوجود الفلسطيني في‬
‫لبنان‪ ،‬وموقف الفلسطينيني إزاء احلرب‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬أسباب الوجود الفلسطيني في لبنان‬

‫بدأ نزوح الفلسطينيني إلى لبنان منذ احلرب العربية اإلسرائيلية‬


‫األول��ى‪ ،‬ع��ام ‪ .1948‬وطبقاً لتقديرات وكالة األمم املتحدة إلغاثة‬
‫وتشغيل الالجئني الفلسطينيني في الشرق األدنى «األونروا»‪UNRWA:‬‬
‫‪United Nations Relief and Works Agency for Palestine Refugees in‬‬
‫‪ the Middle East‬التي أنشئت في ‪ 8‬ديسمبر ‪ ،1949‬وبدأت أعمالها‬
‫في أول أي��ار ‪ /‬مايو ‪ ،1950‬ك��ان ع��دد النازحني الفلسطينيني في‬
‫العالم العربي ‪ 875 988‬شخصاً‪ ،‬منهم ‪ 106 753‬فلسطينياً في‬
‫لبنان‪ .‬وك��ان فيه إلى جانبهم‪ ،‬كذلك‪ ،‬حوالي خمسة وعشرين ألفاً‬
‫من النازحني‪ ،‬غير املسجلني لدى الوكالة‪ .‬وقد تزايدت هذه األعداد‬
‫حتى بلغت حوالي أربعمائة ألف فلسطيني‪.‬‬

‫ومنذ بداية ال�ص��راع العربي اإلسرائيلي‪ ،‬رأى بعض اجلهات‬

‫‪279‬‬
‫اللبنانية في بقاء لبنان خارج دائرته‪ ،‬ضماناً حلياتها ومستقبلها‪،‬‬
‫فحرصت على اس�ت�م��رار ضعف أوض��اع��ه العسكرية‪ ،‬وإب �ع��اده عن‬
‫املشاركة في جوالت احلرب األربع ضد إسرائيل‪ ،‬في األعوام ‪،1948‬‬
‫‪ .1973 ،1967 ،1956‬وق��د جنحت تلك اجلهات في ذل��ك جناحاً‬
‫كبيراً‪ .‬لكن وجود املقاومة الفلسطينية في لبنان‪ ،‬أفسد عليها خطتها‪،‬‬
‫وفرض النضال على الساحة اللبنانية‪ ،‬وجذب الشباب الوطني إلى‬
‫املقاومة‪ ،‬فتخطت القضية الفلسطينية كونها قضية عربية رئيسية‪،‬‬
‫لتصبح قضية داخلية ملحّ ة‪ ،‬ال ميكِ ن جتنّبها أو جتاهلها‪.‬‬

‫وم ��ر ال��وج��ود ال�ف�ل�س�ط�ي�ن��ي ف��ي ل�ب�ن��ان مب��رح�ل�تَ�ين متميزتَني‪،‬‬


‫ومتناقضتَني‪ .‬املرحلة األول��ى‪ ،‬هي الفترة بني هزمية ‪ 1948‬وقيام‬
‫الثورة الفلسطينية‪ ،‬في أوائل ‪ .1965‬واملرحلة الثانية‪ ،‬هي الفترة‬
‫التي تلت قيام الثورة‪ .‬فخالل املرحلة األولى‪ ،‬كان الفلسطيني نازحاً‬
‫في املخيمات‪ ،‬يفتقر إلى املساعدة االجتماعية من وكالة اإلغاثة‪،‬‬
‫وغيرها من املؤسسات‪ ،‬ويعيش حتت رحمة رجال األمن اللبنانيني‪.‬‬
‫وأما في املرحلة الثانية‪ ،‬فقد كان ثائراً‪ ،‬يحمل سالحه‪ ،‬دفاعاً عن‬
‫وجوده وقضيته‪ .‬وال شك أن هذا التغير‪ ،‬ترك آثاره في العالقات بني‬
‫الفلسطينيني واللبنانيني‪ ،‬على كل املستويات‪ ،‬السياسية واالجتماعية‬
‫واالقتصادية‪ .‬فقد كانت العالقات‪ ،‬في املرحلة األولى‪ ،‬عالقات بني‬
‫مواطنني ونازحني‪ ،‬لكنها أصبحت‪ ،‬في املرحلة الثانية‪ ،‬عالقات بني‬
‫مواطنني وثوار‪.‬‬

‫لا مهماً ف��ي تعزيز ف�ك��رة الكفاح‬


‫وك��ان��ت ه��زمي��ة ‪ ،1967‬ع��ام� ً‬
‫الشعبي املسلح‪ ،‬في البالد العربية بوجه ع��ام‪ ،‬وب�ين الفلسطينيني‬
‫بشكل خاص‪ .‬فتصاعد العمل الفدائي‪ ،‬جماهيرياً وتنظيمياً‪ ،‬وأصبح‬
‫الكيان الفلسطيني حقيقة واقعة‪ ،‬منذ عام ‪ ،1968‬في األردن‪ ،‬ومنذ‬
‫عام ‪ ،1969‬في لبنان‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫وبادرت املقاومة‪ ،‬فور دخولها لبنان‪ ،‬إلى عمليات فدائية عدة‪،‬‬
‫ف��ي األرض احمل�ت�ل��ة‪ ،‬أكسبتها ثقة أه��ل اجل �ن��وب اللبناني‪ .‬وبدأت‬
‫عالقات جديدة تتبلور‪ ،‬بني رج��ال املقاومة وأه��ل اجلنوب‪ .‬وركزت‬
‫املقاومة قواعدها‪ ،‬أوالً‪ ،‬في منطقة العرقوب‪ ،‬ثم طورت عالقاتها‬
‫باألهالي‪ ،‬فامتدت إلى القطاع األوسط‪ ،‬فاملخيمات‪ ،‬فاملدن‪.‬‬

‫وإزاء ازدياد العمليات الفدائية‪ ،‬داخل األرض احملتلة وخارجها‪،‬‬


‫ازدادت ح��دّ ة ال�ت�ن��اق��ض ب�ين ال�ع�م��ل ال�ف��دائ��ي وم��ؤي��دي��ه‪ ،‬وإسرائيل‬
‫ومؤيديها‪ .‬إذ وج��د العمل الفدائي‪ ،‬منذ بدايته في لبنان‪ ،‬تأييداً‬
‫واسعاً‪ ،‬خاصة في اجلنوب‪ ،‬حيث قدَّ م األهالي كثيراً من العون إلى‬
‫الفدائيني‪ .‬إ ّال أن بعض امل��وارن��ة س��ارع��وا إل��ى تدبير بعض حوادث‬
‫القتل وامل��ذاب��ح اجلماعية‪ ،‬وش�ن��وا حملة شائعات ض��د الفدائيني‪،‬‬
‫واتصلوا مع إسرائيل‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬تصاعد العداء ضد الوجود الفلسطيني‬

‫تصاعد النشاط املعادي للعمل الفدائي في جنوبي لبنان‪ ،‬منذ‬


‫أواخر ‪ .1968‬وكان من مظاهره تطويق منطقة اجلنوب‪ ،‬عسكرياً‪،‬‬
‫وحصار قواعد الفدائيني‪ ،‬ومنع وصول اإلمدادات إليهم‪ ،‬واعتقالهم‬
‫وسجنهم‪ ،‬ومالحقة مناصري العمل الفدائي‪ ،‬وتعذيبهم ومحاكمتهم‪،‬‬
‫أو محاصرة قرى بأسرها‪ ،‬واعتقال شبابها‪ ،‬كما حدث في‪ :‬عيترون‪،‬‬
‫عيناتا‪ ،‬بيت ليف واخليام وغيرها‪.‬‬

‫وأمام محاوالت احلدّ من العمل الفدائي‪ ،‬في مخيم النازحني‬


‫الفلسطينيني‪« ،‬عني احللوة»‪ ،‬في ‪ 22‬نيسان ‪ /‬أبريل ‪ ،1969‬دعت‬
‫«احلركة الوطنية اللبنانية» الشعب اللبناني إلى التظاهر‪ ،‬تأييداً‬
‫للعمل الفدائي‪ .‬فحدث االنفجار الشعبي‪ ،‬الذي أخذ شكل مظاهرات‬

‫‪281‬‬
‫ضخمة‪ ،‬في ‪ 23‬نيسان ‪ /‬أبريل ‪ ،1969‬تطورت إلى تصادم مع رجال‬
‫األمن وقوات اجليش‪ ،‬وانتهت إلى مجزرة‪ ،‬سقط فيها ثالثون شخصاً‪،‬‬
‫أطلقت عليهم املدافع الرشاشة‪ ،‬في صيدا وبيروت وطرابلس وبر‬
‫الياس‪ .‬وترجع أسباب هذا االنفجار الشعبي إلى عدد من العوامل‪،‬‬
‫أبرزها‪:‬‬

‫‪ - 1‬سخط النازحني الفلسطينيني في مخيماتهم‪ ،‬لمِ ��ا يلحق‬


‫ب �ه��م‪ ،‬م��ن م�ع��ام�ل��ة س�ي�ئ��ة‪ ،‬وت�ق�ي�ي��د حل��رك��ات�ه��م وحقوقهم‬
‫الشخصية‪.،‬‬

‫‪ - 2‬استياء ال��رأي ال�ع��ام ال��وط�ن��ي‪ ،‬مب��ا ك��ان يسمعه ع��ن سوء‬


‫أوضاع الفلسطينيني‪..‬‬

‫‪ - 3‬عدم كفاءة الوسائل الدفاعية عن البالد‪ ،‬واالفتقار إلى‬


‫جيش وطني قوي‪ ،‬وعدم إقرار قانون التجنيد اإلجباري‪،‬‬
‫أو حتصني قُرى احلدود اللبنانية‪.‬‬

‫وقبِل الفلسطينيون التفاوض مع السلطة اللبنانية‪ ،‬في نهاية‬


‫الستينيات للتنسيق معها‪ .‬غير أن بعض إجراءات األمن‪ ،‬لم تتوقف‬
‫ضد الفلسطينيني‪ ،‬سواء في مخيماتهم‪ ،‬أو في مناطق العمل الفدائي‪.‬‬
‫وشملت تلك اإلجراءات اللبنانيني في مناطق اجلنوب‪ .‬وبلغت ذروتها‪،‬‬
‫في جنوبي لبنان‪ ،‬ضد الفدائيني الفلسطينيني واملواطنني اللبنانيني‪،‬‬
‫في تشرين أول ‪ /‬أكتوبر ‪.1969‬‬

‫وكان الهدف الرئيسي للقوى اللبنانية‪ ،‬قبَيل تصادمات تشرين‬


‫أول ‪ /‬أكتوبر ‪ ،1969‬هو تفجير املوقف الداخلي في لبنان‪ ،‬ألغراض‪،‬‬
‫يتصل بعضها بالصراع حول السلطة‪ ،‬وبعضها اآلخر مبحاصرة العمل‬
‫الفدائي وتطويقه‪ .‬ويؤكد ذلك تصريحات إيغال آلون ‪،Yigal Allon‬‬

‫‪282‬‬
‫بضمان الوضع القائم في جنوبي لبنان‪ ،‬وحترُّك األسطول األمريكي‬
‫في مياه البحر األبيض املتوسط‪.‬‬

‫وكانت تلك هي األزم��ة الثانية‪ ،‬في تاريخ الصراع بني السلطة‬


‫اللبنانية واملقاومة الفلسطينية‪ .‬وأخذت شكل صدامات مسلحة‪ ،‬في‬
‫جنوبي لبنان‪ ،‬وعلى احلدود اللبنانية السورية‪ ،‬وفي مخيمات النازحني‪.‬‬
‫وبعد حصار كامل‪ ،‬دام ستة أيام‪ ،‬ملجموعة من الفدائيني‪ ،‬في قريتَي‬
‫مجدل سلم وشقرا‪ ،‬فجرت قوات األمن املوقف‪ ،‬في ‪ 20‬تشرين أول ‪/‬‬
‫أكتوبر ‪ .1969‬وكان ضحيتَه فدائيون فلسطينيون‪ ،‬ومدنيون لبنانيون‪.‬‬
‫وأعلنت السلطة بعد يومني‪ ،‬أنها ال توافق على متركز الفدائيني في‬
‫مناطق احل��دود‪ ،‬على أس��اس أن هذه املناطق مأهولة بالسكان‪ ،‬ومن‬
‫ثَم ال يجوز تعريضها ألي خطر‪ ،‬قد يصيب املواطنني اآلمنني بأضرار‬
‫وخسائر في األرواح‪ ،‬من دون مبرر‪ .‬وأعلنت السلطة حالة منع التجول‬
‫في جميع املدن الرئيسية‪ ،‬يوم ‪ 24‬تشرين األول ‪ /‬أكتوبر‪ .‬ولم يؤ ِّد ذلك‬
‫إلى إيقاف القتال‪ ،‬فاضطرت عقب ضغط‪ ،‬شعبي ورسمي‪ ،‬إلى طلب‬
‫وساطة مصر‪ .‬ومتخضت هذه الوساطة باتفاق القاهرة‪ ،‬ال��ذي عقد‬
‫بني السلطة اللبنانية واملنظمات الفدائية الفلسطينية‪ ،‬في ‪ 3‬تشرين‬
‫الثاني ‪ /‬نوفمبر ‪ ،1969‬بهدف تنسيق العالقات بني لبنان والثورة‬
‫الفلسطينية‪ .‬وفيما يلي أهم ما تضمنه االتفاق‪:‬‬

‫‪ - 1‬بالنسبة إلى الوجود الفلسطيني‪ :‬حق العمل واإلقامة‬


‫والتنقل للفلسطينيني في لبنان‪ .‬وإنشاء جلان محلية من‬
‫فلسطينيي املخيمات لرعاية مصاحلهم فيها‪ ،‬بالتعاون‬
‫مع السلطات احمللية‪ .‬ووج��ود نقاط للكفاح الفلسطيني‬
‫املسلح‪ ،‬داخ��ل املخيمات‪ ،‬مهمتها تنظيم وج��ود األسلحة‬
‫وحتديدها‪ .‬والسماح للفلسطينيني‪ ،‬املوجودين في لبنان‪،‬‬
‫باملشاركة في الثورة الفلسطينية‪.‬‬

‫‪283‬‬
‫‪ - 2‬بالنسبة إلى العمل الفدائي‪ :‬تسهيل العمل الفدائي‬
‫الفلسطيني‪ ،‬وتنظيم الدخول واخلروج والتجول للفدائيني‪،‬‬
‫وإي �ج��اد ان�ض�ب��اط وتنسيق وت �ع��اون م�ش�ت��رك‪ ،‬ب�ين الثورة‬
‫الفلسطينية واجل �ي��ش ال�ل�ب�ن��ان��ي‪ ،‬وض�ب��ط ق �ي��ادة الكفاح‬
‫املسلح لتصرفات أف��راده��ا‪ ،‬وع��دم تدخّ لهم ف��ي شؤون‬
‫لبنان‪ .‬كما متارس السلطات اللبنانية‪ ،‬مدنية وعسكرية‪،‬‬
‫صالحيتها في جميع املناطق اللبنانية‪ ،‬في كل الظروف‪.‬‬

‫ذاك هو اتفاق القاهرة‪ ،‬الذي يُ َع ّد نقطة انعطاف مهمة‪ ،‬في‬


‫تاريخ العالقات اللبنانية الفلسطينية‪ .‬فقد أمكن‪ ،‬في ظله‪ ،‬تأجيل‬
‫التصادمات املسلحة‪ ،‬بني السلطة اللبنانية والثورة الفلسطينية‪ ،‬أكثر‬
‫من ثالث سنوات متتالية‪ .‬وتعرض جنوبي لبنان‪ ،‬في أواخر ‪1971‬‬
‫وأوائ��ل ‪ ،1972‬الع �ت��داءات إسرائيلية متالحقة‪ ،‬سبقتها تعليقات‬
‫صحفية‪ ،‬وتهديدات للمسؤولني اإلسرائيليني‪ ،‬أمثال حاييم بارليف‬
‫‪ ،Haim Bar Lev‬وديفيد أليعازر ‪ ،David Elazar‬رأوا فيها‪ ،‬أن لبنان‬
‫هو املسؤول عن نشاط املقاومة‪ ،‬داخل األرض احملتلة‪ .‬وبدأ العمل‬
‫الفدائي‪ ،‬مع أوائل ‪ ،1972‬يتكيف مع الظروف اجلديدة‪ ،‬التي كان‬
‫في مقدمتها انتهاء الوجود العلني حلركة املقاومة الفلسطينية‪ ،‬في‬
‫األردن‪ ،‬وتهديدات إسرائيل باحلرب‪ ،‬وتشدد املوقف األمريكي إزاء‬
‫قضية الشرق األوسط‪ .‬وأدت هذه الظروف إلى ضغوط عربية على‬
‫حركة املقاومة‪ ،‬وإل��ى جهود لبنانية رسمية‪ ،‬بهدف تخفيف نشاط‬
‫املقاومة على احلدود اللبنانية‪ ،‬وعدم إعطاء إسرائيل ذريعة لتنفيذ‬
‫مخططاتها في جنوبي لبنان‪.‬‬

‫ونتيجة للهجمات‪ ،‬التي شنتها إسرائيل على اجلنوب اللبناني‪،‬‬


‫خالل عام ‪ ،1972‬فقد خَ ف النشاط الفدائي‪ ،‬في بعض األحيان‪،‬‬
‫بل جتمد‪ ،‬في أوقات أخرى‪ ،‬استجابة من املقاومة لتلك الضغوط‪،‬‬

‫‪284‬‬
‫وحرصاً منها على عدم تصعيد التوتر مع السلطات اللبنانية‪.‬‬

‫وك��ان��ت غ��ارة ال�ك��وم��ان��دوز اإلسرائيليني على ب �ي��روت‪ ،‬وقتْلهم‬


‫ثالثة من قيادات املقاومة الفلسطينية‪ ،‬إيذاناً بانفجار التصادم‪ ،‬بني‬
‫السلطة اللبنانية والفلسطينيني‪ ،‬عام ‪ .1973‬إذ حتركت اجلماهير‪،‬‬
‫تدين عجز السلطة عن حماية البالد‪ ،‬وتخاذلها دون الرد على هذا‬
‫الهجوم‪ .‬وكان رد القوى اليمينية على حركة اجلماهير‪ ،‬والتفافها‬
‫حول الثورة‪ ،‬هو املطالبة «بنقل املخيمات من حول العاصمة»‪.‬‬

‫تواجه فيه حتدياً‪ ،‬وتهديداً‬


‫وفي الوقت الذي كانت األمة العربية ِ‬
‫بحرب إسرائيلية خاطفة‪ ،‬واملخيمات الفلسطينية في لبنان‪ ،‬تتعرض‬
‫لهجمات إسرائيلية متوالية‪ ،‬م��ن اجل��و وال�ب��ر‪ ،‬ب��ادرت وح��دات من‬
‫اجليش اللبناني إلى محاصرة بعض املناطق واملخيمات الفلسطينية‪،‬‬
‫ف��ي مدينة ب �ي��روت‪ ،‬ومهاجمة بعضها اآلخ��ر‪ ،‬وقصفها وتفتيشها‪،‬‬
‫واعتقال عدد كبير من الفلسطينيني واللبنانيني‪ ،‬بدعوى احلرص‬
‫على سيادة لبنان‪ .‬وحاولت قيادة اجليش التنصل من مسؤوليتها عن‬
‫تلك األعمال‪ ،‬التي ارتُكبت ضد الفلسطينيني بدعوى عجزها عن‬
‫السيطرة على بعض قواتها‪ .‬وإزاء ما تعرض له مخيمات النازحني‬
‫ومناطقهم املختلفة‪ ،‬سواء في قلب العاصمة اللبنانية‪ ،‬أو خارجها‪،‬‬
‫ازداد متسك الفلسطينيني بوجودهم في لبنان‪.‬‬

‫ولم يكن تدخّ ل اجليش اللبناني في مظاهرة صيدا‪ ،‬في شباط ‪/‬‬
‫فبراير ‪ ،1975‬وقمعه للمتظاهرين‪ ،‬من صيادي األسماك‪ ،‬واألحزاب‬
‫الوطنية‪ ،‬بإطالق النار عليهم‪ ،‬وقتل نائب صيدا‪ ،‬معروف سعد إ ّال‬
‫محاولة لإليقاع باملقاومة‪ .‬يشار إلى أن اجليش اللبناني‪ ،‬تدخّ ل في‬
‫املظاهرة‪ ،‬من دون موافقة رئيس ال��وزراء اللبناني‪ ،‬رشيد الصلح‪،‬‬
‫الذي هدد باالستقالة‪ ،‬إذا لم ينسحب اجليش‪.‬‬

‫‪285‬‬
‫ولم يكن بعض قطاعات السلطة حريصة على معاجلة املوقف‪.‬‬
‫ففي الوقت الذي التقى فيه املسؤولون ممثلي الهيئات واألحزاب في‬
‫صيدا‪ ،‬لتسوية املوقف‪ ،‬كانت مصفحات اجليش‪ ،‬تطوّق عدة مناطق‬
‫ال عن دور تلك القطاعات في تقوية‬ ‫في املدينة‪ ،‬وتشتبك معها‪ .‬فض ً‬
‫القوى اليمينية‪ ،‬إذ أمدت «الكتائب» بالسالح واملساعدات املختلفة‪،‬‬
‫وأوجدت «حراس األرز»‪ ،‬وقدَّ مت العون إلى «الرابطة املارونية»‪.‬‬

‫وبدورها‪ ،‬حتركت القوى اليمينية‪ ،‬ممثلة في رئيس «الكتائب»‪،‬‬


‫ب�ي��اراجل�م�ي��ل‪ ،‬ورئ �ي��س «األح � ��رار»‪ ،‬كميل ش�م�ع��ون‪ ،‬ورئ �ي��س «الكتلة‬
‫الوطنية»‪ ،‬رميون إده‪ ،‬ملساندة قطاعات السلطة‪ ،‬املذكورة‪ ،‬ونظمت‬
‫عدة مظاهرات كبيرة‪ ،‬في بيروت وغيرها‪ ،‬بحجة تأييد اجليش‪.‬‬

‫وكانت مذبحة عني الرمانة‪ ،‬في ‪ 13‬نيسان ‪ /‬أبريل ‪،1975‬‬


‫مؤشراً إلى أن حزب الكتائب‪ ،‬قد أخذ على عاتقه مسؤولية تنفيذ‬
‫مخطط‪ ،‬خللق فتنة طائفية ف��ي لبنان‪ ،‬تسفر ع��ن ت�ص��ادم اجليش‬
‫اللبناني واملقاومة الفلسطينية‪ .‬ففي ذلك التاريخ‪ ،‬هاجمت «الكتائب»‬
‫مركبة عامة‪ ،‬تُق ّل عدداً من سكان مخيم تل الزعتر‪ ،‬بعد مشاركتهم‬
‫في االحتفال بذكرى دير ياسني‪ .‬وأسفر الهجوم عن قتْل وجرْح أكثر‬
‫ومنذئذ‪ ،‬ب��دأت االشتباكات باملدافع الثقيلة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫من خمسني شخصاً‪.‬‬
‫بني رجال املقاومة وحزب الكتائب‪ ،‬في بيروت‪.‬‬

‫ولم يكن توجيه االتهام إلى حزب الكتائب مشكوكاً فيه‪ ،‬إذ أكد‬
‫بعض الشخصيات اللبنانية‪ ،‬الرسمية والشعبية‪ ،‬مسؤولية احلزب‬
‫عن مجزرة عني الرمانة‪ .‬ففي بيان‪ ،‬ألقاه رشيد الصلح‪ ،‬رئيس وزراء‬
‫لبنان‪ ،‬في ذلك الوقت‪ ،‬أمام مجلس النواب اللبناني‪ ،‬مساء ‪ 15‬أيار‪/‬‬
‫مايو ‪ ،1975‬حمّل «الكتائب» كل املسؤولية‪ ،‬والنتائج املترتبة على‬
‫تلك املجزرة‪ .‬كما أكد الشيخ حسن خالد‪ ،‬مفتي اجلمهورية اللبنانية‪،‬‬

‫‪286‬‬
‫أن التسلط واالستفزاز‪ ،‬الكتائبيَّني‪ ،‬هما سبب تلك املجزرة‪ .‬وحرص‬
‫بعض الشخصيات‪ ،‬الرسمية والدينية والشعبية‪ ،‬على وأد الفتنة‪ ،‬وال‬
‫سيما رئيس ال��وزراء ورمي��ون إده‪ ،‬بل كميل شمعون نفسه‪ ،‬والشيخ‬
‫ال‬
‫حسن خ��ال��د‪ ،‬واإلم ��ام م��وس��ى ال �ص��در‪ ،‬وال�ب�ط��ري��رك خ��ري��ش‪ ،‬فض ً‬
‫عن القوى الوطنية والتقدمية‪ ،‬وعلى رأسها كمال جنبالط‪ .‬فاتُّفق‪،‬‬
‫في األول من متوز ‪ /‬يوليو ‪ ،1975‬على وقف إطالق النار‪ ،‬وإزالة‬
‫جميع املظاهر املسلحة‪ ،‬وإلقاء القبض على العناصر‪ ،‬التي تعمد إلى‬
‫اخلطف؛ وعدد من النقاط األخرى‪ .‬وعلى األثر‪ ،‬اجتمع ممثلو جميع‬
‫فصائل املقاومة‪ ،‬والقوى واألحزاب‪ ،‬الوطنية والتقدمية‪ ،‬في لبنان‪،‬‬
‫واتفقوا على ضرورة التمسك بتنفيذ اتفاق وقف إطالق النار‪ .‬ووجَّ ه‬
‫ممثلو فصائل املقاومة نداء إلى قواعدهم الشعبية‪ ،‬بضرورة االلتزام‬
‫مبضمونه‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬الوجود الفلسطيني والتوازن الطائفي في لبنان‬

‫إن اخلالف بني القوى اللبنانية‪ ،‬حول الوجود الفلسطيني في‬


‫لبنان‪ ،‬ال يعود إلى بدايات احلرب األهلية‪ ،‬ولكن ج��ذوره متتد إلى‬
‫ع��ام ‪ ،1948‬وه��و تاريخ ال�ن��زوح الفلسطيني األول‪ .‬حني ق��در عدد‬
‫الالجئني الفلسطينيني إلى لبنان‪ ،‬بأكثر من مائة ألف الجئ‪ .‬وكانت‬
‫القوى اليمينية في لبنان‪ ،‬ترفض فتح البلد أمام هؤالء الالجئني‪،‬‬
‫لا ع��ن أن‬
‫ب�ح�ج��ة ع�ج��ز االق �ت �ص��اد ال�ل�ب�ن��ان��ي ع��ن اس�ت�ي�ع��اب�ه��م‪ ،‬ف �ض� ً‬
‫الالجئني‪ ،‬ومعظَ مهم من املسلمني السُّ نة‪ ،‬من شأنهم قلب التوازن‬
‫الدميوغرافي بني اجلماعات الدينية‪ ،‬وم��ن ث��م‪ ،‬التأثير في مركز‬
‫ومنذئذ‪ ،‬وأزمة الثقة قائمة‬ ‫ٍ‬ ‫املسيحيني‪ ،‬وذلك بتحويلهم إلى أقلّية‪.‬‬
‫بني النظام السياسي في لبنان‪ ،‬والوجود الفلسطيني على أرضه‪،‬‬
‫على الرغم من أن الوجود الفلسطيني‪ ،‬كان طارئاً ومؤقتاً‪ ،‬في آن‬
‫واح ��د‪ .‬فهو ط ��ارئ‪ ،‬ألن ل�ب�ن��ان‪ ،‬ه��و أق��رب إل��ى فلسطني م��ن سائر‬

‫‪287‬‬
‫ال��دول املضيفة لالجئني‪ :‬مصر‪ ،‬األردن وسورية‪ .‬ولذلك‪ ،‬جلأ إليه‬
‫ال�ع��دد األك�ب��ر م��ن الفلسطينيني‪ ،‬ال��ذي��ن ق��در ع��دده��م‪ ،‬ع��ام ‪،1973‬‬
‫بنحو ‪ 281.5‬أل�ف�اً‪ ،‬وه��و ما يعادل حوالي ‪ %9‬من إجمالي سكان‬
‫لبنان‪ .‬أمّا السمة املؤقتة للوجود الفلسطيني في لبنان‪ ،‬فمردّها إلى‬
‫أنه ينتهي حاملا تسوّى قضية عودة الفلسطينيني إلى ديارهم‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬املوقف الفلسطيني بداية احلرب األهلية‬

‫متيز املوقف الفلسطيني عن غيره من مواقف أطراف احلرب‬


‫موقف طرف متفاعل‪،‬‬‫ُ‬ ‫األهلية اللبنانية‪ ،‬خاصة املوقف السوري‪ ،‬بأنه‬
‫داخلياً‪ ،‬في األزم��ة اللبنانية‪ ،‬أي أن��ه ط��رف يؤثّر فيها ويتأثر بها‪،‬‬
‫سواء بسبب وجود الفلسطينيني في لبنان‪ ،‬أو بسبب متركز املقاومة‬
‫الفلسطينية املسلحة‪ ،‬بشكل مكثف‪ ،‬في األراض��ي اللبنانية‪ .‬وهو‬
‫ما أسفر عن خالف حول الوضع القانوني للمنظمات الفلسطينية‬
‫في لبنان‪ ،‬أي حول حقوقها وواجباتها‪ ،‬وكذلك حول حقوق الدولة‬
‫اللبنانية وواجباتها حيال تلك املنظمات‪.‬‬

‫وكما دعم الوجود الفلسطيني املسلح موقف منظمة التحرير‬


‫الفلسطينية‪ ،‬ف��إن��ه‪ ،‬ك��ذل��ك‪ ،‬منح ال�ق��وى اللبنانية املسيحية‪ ،‬أقوى‬
‫حججها لتبرير بدئها املعركة ضد هذا الوجود‪ ،‬بكل قواها‪ ،‬السياسية‬
‫والعسكرية‪ ،‬حتت شعار وضع ح ّد «للتهديد الفلسطيني لسيادة لبنان»‪.‬‬
‫وكان الرد الفلسطيني على هذا الطرح الطائفي لألزمة‪ ،‬هو اللجوء‪،‬‬
‫أوالً‪ ،‬إلى القوة الذاتية للمقاومة الفلسطينية‪ ،‬والتالحم مع القوى‬
‫اللبنانية‪ ،‬امللتفّة حولها‪ ،‬أي اليسار اللبناني‪ ،‬الذي تشكل اجلماهير‬
‫قاعدته الشعبية‪ .‬أمّا الوسط اللبناني املعتدل‪،‬فالتزم موقف احلياد‪،‬‬
‫الطائفي والطبقي‪ ،‬انتظاراً حلسم املعركة‪ ،‬أو تهدئتها‪ ،‬تدريجاً‪ ،‬متهيداً‬
‫إلعادة طرح مسألة التوازن الطائفي‪ ،‬مستقبالً‪ ،‬وضمن إطار حركة‬

‫‪288‬‬
‫إصالح دستوري‪ ،‬كانت القوى الوطنية‪ ،‬في جميع الطوائف‪ ،‬تدعو‬
‫إليها‪ ،‬قبل اندالع القتال‪ .‬ولكن تصاعد القتال لم ميكّن األطراف من‬
‫إيجاد قاعدة االستقرار الالزمة‪ ،‬ملعاجلة األزمة سياسياً‪.‬‬

‫أم��ام هذا الوضع‪ ،‬رأت منظمة التحرير الفلسطينية نفسها‪،‬‬


‫�واج��ه وض�ع�اً شبيهاً ب��ال��وض��ع‪ ،‬ال��ذي تعرضت ل��ه ف��ي األردن‪ ،‬عام‬
‫ت� ِ‬
‫‪ .1970‬فشدة القتال‪ ،‬واقترابه من مَواقع املخيمات الفلسطينية‪،‬‬
‫وارتفاع درجة التعبئة السياسية‪ ،‬لدى جميع الفئات في لبنان‪ ،‬كل‬
‫ذلك‪ ،‬جعل منظمة التحرير الفلسطينية أمام بديلني‪ ،‬ال يق ّل أحدهما‬
‫خطراً عن اآلخر‪ :‬البديل األول‪ :‬الدخول في املعركة‪ ،‬كطرف رئيسي‪،‬‬
‫إلى جانب القوى التقدمية‪ ،‬بهدف حسم القتال‪ ،‬في مصلحة هذه‬
‫ال�ق��وى‪ ،‬م��ع حت� ّم��ل م��ا ينطوي عليه ه��ذا البديل م��ن أخ�ط��ار تدخّ ل‬
‫اجليش اللبناني‪ ،‬أو تدخّ ل قوى أجنبية‪ ،‬من بينها إسرائيل‪ ،‬لتدويل‬
‫األزم ��ة‪ ،‬وت��وج�ي��ه ض��رب��ة مشتركة إل��ى ال �ث��ورة الفلسطينية والقوى‬
‫الوطنية في لبنان‪ .‬والبديل الثاني‪ :‬اخل��روج من املعركة‪ ،‬واالكتفاء‬
‫مبوقف املشاهد‪ ،‬واملدافع عن النفس‪ ،‬عند الضرورة فقط‪ ،‬مع حتمّل‬
‫ما ينطوي عليه هذا البديل من أخطار فقدان املساندة اجلماهيرية‪،‬‬
‫للمقاومة الفلسطينية‪.‬‬

‫راوح��ت منظمة التحرير الفلسطينية ب�ين البديلني‪ .‬فعندما‬


‫كانت تتعرض لهجمات‪ ،‬كانت تلجأ إلى البديل األول‪ .‬وفي احلاالت‬
‫األخ��رى‪ ،‬كانت حريصة على دقة حتركاتها‪ ،‬السياسية والعسكرية‪،‬‬
‫موازِ نة بني احلفاظ على التزاماتها الثورية‪ ،‬واحلفاظ على قواتها‬
‫الضاربة‪ ،‬ومركزها السياسي‪.‬‬

‫وأكدت منظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬في املذكرة‪ ،‬التي رفعتها‬


‫إلى «جلنة األمن واملصلحة الوطنية»‪ ،‬في ‪ 5‬أكتوبر ‪ ،1975‬اهتمامها‬

‫‪289‬‬
‫وحرصها على إحالل السالم واالستقرار في لبنان‪ ،‬واحلفاظ على‬
‫استقالله وسيادته ووحدة أراضيه‪ .‬كما أكدت أن الشعب الفلسطيني‪،‬‬
‫ال من‬‫الذي عاش نازحاً عن أراضيه‪ ،‬مصمِّم‪ ،‬اليوم‪ ،‬على أ ّال يقبل بدي ً‬
‫أرضه‪ ،‬في الوطن الفلسطيني‪ .‬وأن شعب فلسطني‪ ،‬رفض أن يمُ نَح‬
‫أي جنسية أو هوية وطنية‪ ،‬سوى حق املواطَ نة في فلسطني‪ .‬كما أنه‬
‫رفض االندماج في أي مجتمع آخر‪ .‬وأن هذه احلقائق‪ ،‬تنطبق أدق‬
‫االنطباق‪ ،‬على هؤالء الفلسطينيني‪ ،‬الذين جلأوا إلى لبنان‪.‬‬

‫وأك��دت م��ذك��رة منظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬أن ال��وض��ع في‬


‫لبنان‪ ،‬دفع حركة املقاومة الفلسطينية إلى معاجلة موضوع التعايش‬
‫بينها وبني اجلماعات اللبنانية‪ ،‬في إطار األخوّة والتفاهم‪ ،‬وحصر‬
‫موضوع العالقة اللبنانية الفلسطينية‪ ،‬في الدولة اللبنانية فقط‪،‬‬
‫وب��وس��اط��ة مؤسساتها ال��دس�ت��وري��ة‪ .‬لكن ه��ذا امل��وق��ف‪ ،‬ظ��ل نظرياً‪،‬‬
‫عند قياسه بحركة األح ��داث‪ ،‬التي فرضت على املقاومة مواقف‬
‫آنية‪ ،‬وردود فعل‪ ،‬عفوية‪ ،‬أوجدتها ظروف اإلشكاالت املتواصلة‪ ،‬أو‬
‫ظ��روف العالقات العربية‪ ،‬ومواقف األط��راف من األزم��ة‪ .‬فمنظمة‬
‫التحرير الفلسطينية‪ ،‬وقفت م��ن اجتماع وزراء اخلارجية العرب‬
‫ال ملوقف سورية‪ ،‬إذ أعلنت «أن هذا االجتماع هو محاولة‬ ‫موقفاً مماث ً‬
‫لتعريب األزم��ة‪ ،‬وجر التناقضات واخلالفات العربية إلى الساحة‬
‫اللبنانية‪ ،‬وأن إرسال قوات عربية‪ ،‬محايدة‪ ،‬للفصل بني املتحاربني‪،‬‬
‫سيؤدي إلى حتييد املقاومة الفلسطينية‪ ،‬وشل فاعلياتها‪ ،‬وفصلها‬
‫عن جماهيرها الفلسطينية في لبنان»‪.‬‬

‫م��ن ه��ذه احل�ق��ائ��ق‪ ،‬يتضح أن احل��رب األهلية اللبنانية‪ ،‬كان‬


‫لها آث��ار‪ ،‬مباشرة وغير مباشرة‪ ،‬في حركة التحرير الفلسطينية‪،‬‬
‫فلسطينياً وعربياً ودولياً‪:‬‬

‫‪290‬‬
‫‪ - 1‬ع �ل��ى ال�ص�ع�ي��د ال�ف�ل�س�ط�ي�ن��ي‪ ،‬خ�ش�ي��ت م�ن�ظ�م��ة التحرير‬
‫الفلسطينية‪ ،‬من مخطط بعيد امل��دى‪ ،‬تخفيه األحداث‬
‫اللبنانية‪ ،‬ويرمي‪ ،‬في النهاية‪ ،‬إلى القضاء على وجودها‬
‫العسكري في املنطقة‪.‬‬

‫‪ - 2‬على الصعيد ال�ع��رب��ي‪ ،‬رأت املنظمة‪ ،‬أن م��ا ي�ج��ري في‬


‫لبنان‪ ،‬هو جزء من التطورات‪ ،‬الهادفة إلى حتويل النزاع‬
‫العربي اإلسرائيلي‪ ،‬إلى نزاعات عربية ثانوية‪ ،‬متهيداً‬
‫لتجميد هذا النزاع‪ ،‬بعد أن استطاعت القوى‪ ،‬العسكرية‬
‫والسياسية واالقتصادية‪ ،‬للدول والشعوب العربية‪ ،‬حتقيق‬
‫انتصارات ملموسة‪ ،‬محلياً ودولياً‪.‬‬

‫‪ - 3‬على الصعيد ال��دول��ي‪ ،‬ك��ان أح��د األس�ب��اب الكامنة وراء‬


‫األزمة اللبنانية‪ ،‬هو التشكيك في جدوى الفكرة القائلة‬
‫بدولة فلسطينية دميوقراطية‪ ،‬جتمع املسلمني واملسيحيني‬
‫واليهود‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬موقف السلطة اللبنانية من الوجود الفلسطيني‬

‫لم تتعاطف السلطة اللبنانية مع ال��وج��ود الفلسطيني‪ .‬ولعل‬


‫أهم ما واجَ ه الفلسطينيني في لبنان‪ ،‬أن القوانني اللبنانية‪ ،‬لم حتدد‬
‫عالقتهم بالدولة‪ ،‬سواء كانوا عماالً أم مزارعني أم جامعيني‪ .‬كما‬
‫لم تختلف طريقة التعامل معهم‪ ،‬في بعض الوزارات‪ ،‬عنها في عام‬
‫ال عن عدم‬ ‫‪ ،1949‬عندما كان الفلسطينيون نازحني‪ ،‬ليس إالّ‪ .‬فض ً‬
‫التزام لبنان باملواد‪ ،‬التي تنص على معاملة الفلسطينيني املعاملة‬
‫نفسها‪ ،‬التي يلقاها مواطنو البالد العربية‪ .‬فالعمال الفلسطينيون‪،‬‬
‫لم يتمتعوا بقوانني الضمان االجتماعي‪ ،‬وتدنّت أجورهم عن أجور‬

‫‪291‬‬
‫العمال اللبنانيني‪ ،‬واجته معظَ مهم إلى األعمال الشاقة‪.‬‬

‫وقد لوحظ‪ ،‬قبْل احلرب األهلية‪ ،‬محاوالت عديدة لشل فاعلية‬


‫املقاومة الفلسطينية‪ ،‬وتعطيل االتفاقات املنظِّ مة للعالقات بني لبنان‬
‫والثورة الفلسطينية‪ ،‬خاصة اتفاق القاهرة لعام ‪ .1969‬وتبدت هذه‬
‫احملاوالت في العديد من املظاهر‪ ،‬مثل إلقاء القبض على الفدائيني‪،‬‬
‫ومصادرة أسلحتهم‪ ،‬وتقدمي بعضهم إلى احملاكمة‪ .‬ولعل مما يوضح‬
‫موقف السلطة اللبنانية من املقاومة الفلسطينية‪ ،‬وعدم اهتمامها‬
‫بإشاعة الثقة والطمأنينة‪ ،‬بني اللبنانيني ورج��ال املقاومة‪ ،‬أنها لم‬
‫تسمح بصوت فلسطيني واحد‪ ،‬خالل احلرب‪ ،‬بالتحدث إلى إحدى‬
‫وسائل اإلعالم اللبناني‪.‬‬

‫القسم الثاني‬
‫سوريا واحلرب األهلية اللبنانية‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬أبعاد التدخل السوري‬

‫يُعَدّ لبنان ام�ت��داداً جغرافياً لسورية‪ ،‬وميثّل‪ ،‬بالنسبة إليها‪،‬‬


‫أهمية كبرى‪ ،‬في إطار مجموعة من الضوابط‪ ،‬احمللية واإلقليمية‬
‫والدولية‪ .‬واستعاض النظام احلاكم في سورية عن املطالبة بحقوق‪،‬‬
‫تاريخية وجغرافية‪ ،‬في لبنان‪ ،‬بالتركيز في خصوصية العالقة بني‬
‫«البلدين التوأمني»‪ ،‬األمر الذي ظل محل عناية احلكم اللبناني‪ ،‬في‬
‫عهوده املتعاقبة‪.‬‬

‫‪292‬‬
‫ت�ب��دّ ى االهتمام ال�س��وري بالوضع اللبناني‪ ،‬ع��ام��ة‪ ،‬منذ هزمية‬
‫ح��زي��ران ‪ /‬يونيو ‪ ،1967‬إال أن��ه تضاعف مع بداية احل��رب األهلية‬
‫اللبنانية‪ ،‬عام ‪ .1975‬فبعد حرب األي��ام الستة‪ ،‬أصبح تكوين جبهة‬
‫شرقية‪ ،‬أحد أهم أهداف السياسة العربية السورية‪ .‬وتتلخص فكرة‬
‫اجلبهة في نشوء وحدة عسكرية بني دول املواجَ هة‪ ،‬في املشرق العربي‪،‬‬
‫أي سورية واألردن وال�ع��راق ومنظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬على أن‬
‫تكون سورية محور هذه اجلبهة‪ .‬إال أن أح��داث األردن‪ ،‬عام ‪،1970‬‬
‫وترّدد لبنان وخوفه من حتويل أراضيه إلى أهداف للضربات العسكرية‬
‫اإلسرائيلية‪ ،‬مما يهدد ب�ق��اءه‪ ،‬لفتت املعنيني عن فكرة اجلبهة‪ .‬أمّا‬
‫العراق‪ ،‬فكان ينظر إلى موضوع اجلبهة من منظار الثقة املفقودة بني‬
‫قيادات حزب «البعث»‪ ،‬في بغداد ودمشق‪ .‬وهكذا‪ ،‬دخل مفهوم اجلبهة‬
‫الشرقية‪ ،‬مبجمله‪ ،‬في متاهات السياسات اإلقليمية لألطراف املعنية‪.‬‬
‫وبينما ظلت سورية ومنظمة التحرير الفلسطينية متمسكتَني بفكرة‬
‫اجلبهة‪ ،‬وتتصرفان وكأنها قائمة‪ ،‬كان لبنان يتفلت من الفرص‪ ،‬التي‬
‫كانت يستطيع أن يقدم فيها الدعم إلى هذه الفكرة‪.‬‬

‫وبعد حرب تشرين أول ‪ /‬أكتوبر ‪ ،1973‬أعادت سورية طرح‬


‫م��وض��وع اجل�ب�ه��ة‪ ،‬وذل��ك بعد م�ش��ارك��ة ق ��وات‪ ،‬ع��راق�ي��ة وفلسطينية‬
‫وأردنية‪ ،‬في القتال على جبهة اجلوالن‪ .‬وجنحت السياسة السورية‬
‫في خلق تقارب‪ ،‬سياسي وعسكري‪ ،‬مع األردن‪ ،‬بينما ظل لبنان على‬
‫موقفه السابق‪ ،‬بحجة أن اجليش اللبناني‪ ،‬بأوضاعه احلالية‪ ،‬ال‬
‫ميكنه أن يؤدي أي دور فعال‪ ،‬في أي جبهة ضد إسرائيل‪َ .‬ف ُو ِئ َدت‬
‫اجلبهة الشرقية‪.‬‬

‫ولدى اشتداد القتال في لبنان‪ ،‬بني الفئات املتنازعة‪ ،‬كانت سورية‬


‫أسرع األطراف العربية إلى الوساطة‪ ،‬بهدف إيقاف االشتباكات‪ ،‬أوالً‪،‬‬
‫والتأثير في املوقف اللبناني‪ ،‬وترتيب األوضاع اللبنانية الفلسطينية‪،‬‬

‫‪293‬‬
‫في مرحلة الحقة‪ .‬وانطلقت الوساطة السورية من قناعة دمشق بأنها‬
‫األكثر تأثراً مبا يجري في لبنان‪ ،‬نظراً إلى روابطها التاريخية به‪ .‬فمنذ‬
‫ق�وَّض االستعمار‪ ،‬البريطاني والفرنسي‪ ،‬الوحدة اجلغرافية للوالية‬
‫السورية (سورية ولبنان واألردن وفلسطني)‪ ،‬ظلت النظرة السورية إلى‬
‫التطورات‪ ،‬السياسية واالجتماعية‪ ،‬في لبنان‪ ،‬متأثرة بفكرة الوحدة‬
‫السياسية للكيانات‪ ،‬الناجمة عن األطماع األجنبية في املشرق العربي‪.‬‬
‫وأثناء اجلوالت العسكرية‪ ،‬التي كان مير بها النزاع العربي اإلسرائيلي‪،‬‬
‫كانت دمشق تستشعر‪ ،‬أكثر من غيرها‪ ،‬اخلطر املتمثل في الوضع‬
‫اللبناني‪ ،‬وإمكانية استغالل إسرائيل له‪ ،‬في ضرب األمن السوري‪.‬‬

‫هذه القناعة‪ ،‬كانت احملرك الرئيسي للوساطة السورية‪ ،‬بني‬


‫اجلماعات املتناحرة في لبنان‪ .‬وحرصت سورية‪ ،‬خاللها‪ ،‬على أن‬
‫تطرح نفسها كحَ كم خارجي؛ إذ إن التوصل إلى اتفاق‪ ،‬سيكون من‬
‫مصلحة جميع األطراف‪ ،‬مبا فيها الوسيط نفسه‪ .‬وانطلقت الوساطة‬
‫السورية من منطلقات ثالثة‪ ،‬تبدو منطقية جلميع األطراف‪:‬‬

‫‪ - 1‬إن ضمان أمْن سورية‪ ،‬في مواجَ هة إسرائيل‪ ،‬يتطلب لبنان‬


‫مستقراً‪ ،‬وقوياً‪.‬‬

‫‪ - 2‬إن اس�ت�ع�م��ال ال �ق��وة‪ ،‬ب�ين ف �ئ��ات‪ ،‬اج�ت�م��اع�ي��ة وطائفية‪،‬‬


‫مختلفة‪ ،‬سيؤدي إلى تقسيم لبنان إلى دويالت طائفية‪.‬‬

‫‪ - 3‬إن سورية‪ ،‬وجميع ال��دول العربية‪ ،‬لن تقبَل التعامل مع أي‬


‫كيان مسيحي في لبنان‪ .‬وستكون النظرة إلى مثل هذا الكيان‪،‬‬
‫كالنظرة إلى الكيان الصهيوني‪ ،‬القائم على الدين‪.‬‬

‫وك� ��ان واض� �ح� �اً م��ن امل��وق��ف ال� �س ��وري‪ ،‬أن س��وري��ة ستواصل‬
‫اضطالعها ب��دور الوسيط احل �ي��ادي‪ ،‬حفاظاً على استقالل لبنان‬

‫‪294‬‬
‫ووحدته‪ .‬وأن تعرّض هذا االستقالل ألي تهديد إسرائيلي حقيقي‪،‬‬
‫سيحوّل الوساطة إلى تدخّ ل‪.‬‬

‫وع�ن��دم��ا دع��ت ج��ام�ع��ة ال ��دول ال�ع��رب�ي��ة‪ ،‬مب �ب��ادرة ك��وي�ت�ي��ة‪ ،‬إلى‬


‫عقد اجتماع لوزراء اخلارجية العرب‪ ،‬لبحث األزمة اللبنانية (عُقد‬
‫االجتماع في ‪ 15‬تشرين أول ‪ /‬أكتوبر ‪ ،)1975‬لم تستجب سورية‪،‬‬
‫ورف�ض��ت االش�ت��راك ف��ي امل��ؤمت��ر‪ ،‬ورأت أن ال��دع��وة‪ ،‬ف��ي ح� ّد ذاتها‪،‬‬
‫تتعارض مع جهودها اخلاصة‪ .‬وفسرت القصد من االجتماع‪ ،‬بأنه‬
‫تغطية للتحركات الدولية‪ ،‬احمليطة بالقضية العربية‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ُ :‬أ ُسس السياسة السورية في لبنان‬

‫تؤثر السياسة السورية تأثيراً واضحاً في الشأن اللبناني؛ إذ‬


‫إن الساحة اللبنانية هي مجال حيوي‪ ،‬بالنسبة إلى سورية‪ .‬وأياً كانت‬
‫اآلراء حول الوجود السوري في لبنان‪ ،‬إال أنه أسهم في احلفاظ على‬
‫الكيان اللبناني‪ ،‬من خالل الدور‪ ،‬الذي اضطلعت به القوات السورية‬
‫بني القوى اللبنانية املختلفة‪ ،‬إبّان احلرب األهلية‪ ،‬ملنع تفوق أي منها‬
‫على القوى األخرى‪.‬‬

‫إ ّال أن سورية احتفظت بالورقة اللبنانية‪ ،‬بوصفها أحد عناصر‬


‫قوّتها في نطاق عملية التسوية السلمية‪ .‬وجنحت في توظيفها جناحاً‬
‫عظيماً‪ .‬ومن ثم‪ ،‬ربطت أي تسوية بني لبنان وإسرائيل‪ ،‬بالتسوية بني‬
‫سورية وإسرائيل‪ .‬ومن املعروف‪ ،‬أن حتقيق تسوية بني لبنان وإسرائيل‬
‫ال يعاني الصعوبات القائمة على املسار السوري‪ .‬واستطراداً‪ ،‬فنجاح‬
‫سورية في الربط بني املسارين‪ ،‬ميثّل إحدى األوراق السورية املهمة‪ .‬وقد‬
‫حتركت سورية حتركاً عملياً‪ ،‬في هذا الصدد‪ ،‬متثّل في الضغط على‬
‫الرئيس اللبناني‪ ،‬أمني اجلميل‪ ،‬إللغاء اتفاق أيار ‪ /‬مايو ‪ 1983‬الذي كان‬

‫‪295‬‬
‫قد توصل إليه إسرائيل ولبنان‪ ،‬في ذلك الوقت‪ .‬وأدركت سورية أهمية‬
‫حتقيق السالم مع لبنان‪ ،‬بالنسبة إلى إسرائيل‪ ،‬خاصة أنه سيؤدي إلى‬
‫والتوصل إلى أسلوب للتعاون بينهما‪ ،‬خاصة في مجال‬
‫ّ‬ ‫تطبيع العالقات‪،‬‬
‫املياه؛ وهي مسالة حيوية‪ ،‬بالنسبة إلى اجلانب اإلسرائيلي‪.‬‬

‫كما أن السياسة السورية في لبنان‪ ،‬املشجعة للمقاومة الوطنية‬


‫اللبنانية‪ ،‬تُعَدّ أحد عناصر الضغط النسبي على اجلانب اإلسرائيلي‪.‬‬
‫ال عن أن تنسيق سورية مع إيران‪ ،‬خاصة في نطاق التعامل مع‬ ‫فض ً‬
‫حزب الله في لبنان‪ ،‬وتوظيفه في نطاق الضغط على إسرائيل‪ ،‬ميثّل‬
‫ص��ورة م��ن ص��ور الضغط ال�س��وري على اجل��ان��ب اآلخ��ر‪ .‬وك��ان الرد‬
‫اإلسرائيلي على دمشق رداً واض�ح�اً‪ ،‬كذلك؛ إذ طاملا حاولت خلق‬
‫إدراك واجت��اه مضادّين لفاعلية ال��دور السوري في لبنان‪ ،‬وعملت‬
‫على إح��راج سورية‪ ،‬من خالل بعض العمليات العسكرية‪ ،‬الهادفة‬
‫إلى توريط القوات السورية في مواجَ هة مع إسرائيل‪ ،‬من دون إعداد‬
‫كاف‪ ،‬وعلى املسرح اإلسرائيلي‪ .‬وهو ما لم تنجح في حتقيقه‪ ،‬في‬ ‫ٍ‬
‫معظَ م احملاوالت‪ ،‬بل كانت نتائج عملياتها العسكرية في لبنان غير‬
‫متالئمة مع حجم القوات‪ ،‬وليس مع نفقات العمليات‪.‬‬

‫تعرّض الدور السوري في لبنان للضغط اخلارجي‪ ،‬من جانب‬


‫ال��والي��ات املتحدة األمريكية‪ ،‬الساعية إل��ى دور متميز ف��ي حتقيق‬
‫التسوية السلمية للنزاع العربي اإلسرائيلي‪ .‬فمارست ضغوطاً شديدة‬
‫على اجلانب السوري‪ ،‬في مرحلة ما قبل انعقاد مؤمتر مدريد‪ .‬ولعل‬
‫دور الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬بالتنسيق مع إسرائيل‪ ،‬في وصول‬
‫بشير اجلميل‪ ،‬ثم أمني اجلميل‪ ،‬إلى رئاسة اجلمهورية في لبنان‪،‬‬
‫ميثّل أحد التحديات التي وُجِّ هت مباشرة إلى الدور السوري في هذا‬
‫آنئذ‪،‬‬
‫البلد‪ ،‬في نطاق عملية الضغط على سورية‪ ،‬كطرف معارض‪ٍ ،‬‬
‫للتسوية‪ .‬كما كان لواشنطن دور مهم في أزمة الفراغ الدستوري في‬

‫‪296‬‬
‫لبنان‪ ،‬املتمثلة في انتهاء مدة رئاسة أمني اجلميل‪ ،‬من دون التوصل‬
‫إل��ى انتخاب رئيس ب��دي��ل‪ ،‬لتع ّذر انعقاد مجلس ال�ن��واب اللبناني‪،‬‬
‫النتخاب الرئيس اجلديد‪ .‬وأسفر تسليم اجلميل السلطة إلى ميشال‬
‫ع��ون ع��ن ازدواج �ي��ة‪ ،‬على مستوى احل�ك��وم��ة‪ ،‬وف ��راغ‪ ،‬على مستوى‬
‫مؤسسة الرئاسة األولى‪ ،‬فبات اخلطر يكتنف الكيان اللبناني‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬جذور التدخل السوري في لبنان‬

‫ين ّم تعاقب ‪ 133‬والياً‪ ،‬على حكم دمشق‪ ،‬خالل العهد العثماني‪،‬‬


‫وال لم تبلغ فترة حكم الواحد منهم عامني على اضطراب‬ ‫منهم ‪ٍ 100‬‬
‫ال �ش��ؤون‪ ،‬اإلداري ��ة وال�س�ي��اس�ي��ة‪ ،‬مم��ا حمل امل��واط�ن�ين على الهرب‪.‬‬
‫فغادر سورية أكثر املوارنة‪ ،‬الذين قطنوا فيها‪ ،‬إلى لبنان وما لبثت‬
‫شوكة امل��وارن��ة أن قويت داخ��ل لبنان‪ ،‬خاصة في عهد محمد علي‬
‫باشا‪ .‬فحاولوا مبساعدة فرنسا وغيرها من الدول الكاثوليكية‪ ،‬أن‬
‫يجعلوا لبنان وطناً قومياً للمسيحيني‪ .‬وزيّن لهم ذلك تق ُّدمهم العلمي‬
‫واالقتصادي والفكري وأغراهم به الفكر الفرنسي الذي وجدوا فيه‬
‫ضالتهم املنشودة‪.‬‬

‫أ ّم��ا ال��رأي ال�ع��ام ال �س��وري‪ ،‬فكان مستعداً لتقبُّل أي ق��وة من‬


‫احللفاء‪ ،‬يستعاض بها عن االحتالل التركي‪ ،‬وال سيما من إنكلترا‪،‬‬
‫مشترطاً استعادة احلرية‪ ،‬عقب احلرب العاملية األولى‪.‬‬

‫غير أن إع�لان بلفور‪ ،‬ال�ص��ادر ف��ي ‪ 2‬تشرين أول ‪ /‬نوفمبر‬


‫‪ ،1917‬واملتعلق بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطني‪ ،‬وهي جزء‬
‫من احل��دود الطبيعية لسورية‪ ،‬أوض��ح للعرب م��دى اخلطر الكامن‬
‫في الوجود األجنبي في منطقة الشام بصفة عامة‪ .‬بيد أن الرؤية‬
‫الواضحة‪ ،‬ج��اءت متأخرة‪ ،‬بل إن معاجلة األم��ر‪ ،‬انطوت‪ ،‬كما هي‬

‫‪297‬‬
‫العادة‪ ،‬على خطر أشد‪ .‬فبدالً من تكاتف القوى العربية‪ ،‬في مواجَ هة‬
‫إعالن بلفور‪ ،‬إذا بها تلجأ إلى بريطانيا‪ ،‬وتكوّن معها قوة‪ ،‬تزحف‬
‫بها إلى فلسطني‪ ،‬بقيادة اللّنبي‪ ،‬ولورانس‪ ،‬أحد ضباط االستخبارات‬
‫البريطانية‪ .‬ودخل الزاحفون دمشق‪ ،‬واستولوا على املدن السورية‪،‬‬
‫الواحدة تلو األخرى‪ .‬وبذلك‪ ،‬حتققت رغبة لورانس في اإلبقاء على‬
‫التفتت والفوضى السياسيَّني في املنطقة‪.‬‬

‫وبانتهاء احل��رب العاملية األول��ى‪ ،‬توطد النفوذ الفرنسي في‬


‫سورية ولبنان‪ ،‬بل داخل سورية الكبرى‪ .‬وفي آب ‪ /‬أغسطس ‪،1920‬‬
‫صدر مرسوم فرنسي يقضي بضم بيروت والبقاع وطرابلس وصيدا‬
‫وص��ور إل��ى جبل لبنان‪ ،‬كدولة مستقلة‪ ،‬حتت االن�ت��داب الفرنسي‪.‬‬
‫وه�ك��ذا‪ ،‬قضى الفرنسيون على ج��ذور ال��وح��دة بني سورية ولبنان‪،‬‬
‫مؤكدين ذل��ك باختيار بعض املواطنني اللبنانيني‪ ،‬خريجي املعاهد‬
‫الفرنسية‪ ،‬للمعاونة على إدارة شؤون لبنان‪.‬‬

‫وعلى الرغم من استقالل الدولتَني عن االستعمار الفرنسي‪،‬‬


‫إال أن رواس��ب االستعمار‪ ،‬ظلت كامنة ف��ي النفوس‪ .‬فعرف لبنان‬
‫فريقني‪ .‬أحدهما مسيحي‪ ،‬يتجه نحو الغرب‪ ،‬ويتماهى ب��ه‪ ،‬روحاً‬
‫وفكراً وثقافة‪ ،‬ويتعامل معه‪ ،‬من دون حتفظ أو ريبة‪ .‬والثاني معظَ مه‬
‫من املسلمني‪ ،‬يتجه نحو الداخل العربي(((‪.‬‬
‫وفي إطار هذا السياق‪ ،‬استبان هدف سورية‪ ،‬خالل محادثات إنشاء جامعة الدول العربية‪،‬‬ ‫((( ‬
‫إذ جاء على لسان رئيس وفدها‪ ،‬في اجتماع ‪ 30‬تشرين أول ‪ /‬أكتوبر ‪« :1943‬كنا‪ ،‬دائماً‪،‬‬
‫الصالت بيننا‬‫نطالب بأن يكون لبنان‪ ،‬بالنسبة إلى سورية‪ ،‬في وضع طبيعي‪ .‬فإما أن تكون ِّ‬
‫وبينه‪ ،‬قائمة على أ ُسُ س االحتاد؛ وإما أن تُ َر ّد إلى سورية األجزاء التي انتزعت منها‪ ،‬ويعود‬
‫لبنان إلى ما كان عليه من قبْل‪ .‬ولكن اآلن‪ ،‬وقد أخذ لبنان يتخلص من كل نفوذ يعترض‬
‫سبيله‪ ،‬ويحُ ول دون ممارسته خلصائص االستقالل والسيادة وصالحياتهما فإننا نرى أن‬
‫الصالت بيننا وبينه‪ ،‬على قاعدة التعاون على تثبيت االستقالل‪،‬‬ ‫ننهج خطة جديدة‪ ،‬فنقيم ِّ‬
‫وتسوية املشكالت‪ ،‬التي أحدثها املاضي‪ ،‬بالتعاون واالتفاق‪....‬‬

‫‪298‬‬
‫رابع ًا‪ :‬مراحل الدور السوري‬

‫َم ّر دور سورية في لبنان‪ ،‬عبَر ثالث مراحل‪ :‬األولى‪ ،‬كانت دور‬
‫الوساطة‪ ،‬واحتواء األزمة‪ .‬وانتهت إلى تكوين «هيئة احلوار الوطني»‪.‬‬
‫والثانية‪ ،‬كانت محاولة البحث عن حل‪ ،‬وانتهت إلى ما أطلق عليه‬
‫«الوثيقة الدستورية»‪ .‬والثالثة‪ ،‬هي فرض نهاية لألحداث‪.‬‬

‫ولكن ذلك‪ ،‬قد يعني أن سورية تورطت في األزمة‪ ،‬وهو معنى‬


‫خاطئ‪ ،‬وأمر غير مقبـول‪ ،‬بالنسبة إلى سورية‪ ،‬خاصة أن قيادات‬
‫امل �ق��اوم��ة وق �ي��ادات «احل��رك��ة ال��وط�ن�ي��ة ال�ل�ب�ن��ان�ي��ة»‪ ،‬وال سيما كمال‬
‫ال‬
‫جنبالط‪ ،‬قد خاضت معارك حوار مع القيادة السورية‪ ،‬عرّفت ك ًّ‬
‫من الرئيس األسد وعبد احلليم خدام‪ ،‬كل احلقائق واالعتراضات‪.‬‬

‫ودراس ��ة ال��واق��ع‪ ،‬تكشف ك�ث�ي��راً م��ن احل�ق��ائ��ق‪ ،‬ال�ت��ي ي�ج��ب أن‬
‫تكون واضحة‪ .‬ففي ‪ 7‬كانون الثاني ‪ /‬يناير ‪ ،1975‬اجتمع الرئيس‬
‫األس��د مع الرئيس سليمان فرجنية‪ ،‬في شتوره‪ ،‬قبل ب��دء احلرب‪،‬‬
‫بثالثة أشهر‪ .‬وفي هذا االجتماع‪ ،‬عرض الرئيس السوري استعداده‬
‫ملساعدة الرئيس اللبناني‪ ،‬إلى درجة إرسال قوات سورية للدفاع عن‬
‫لبنان‪ ،‬أو عقد اتفاقية أمْن بني البلدين‪ .‬كما أن سورية كانت تشعر‬
‫بالقلق من أوضاع لبنان‪ .‬وميكِ ن إرجاع مصادر القلق السوري‪ ،‬طبقاً‬
‫للوقائع على الساحة اللبنانية‪ ،‬إلى ما يلي‪:‬‬

‫‪ - 1‬شعرت سورية‪ ،‬أن لبنان قد أصبح ساحة‪ ،‬تنطلق منها‬


‫ك��ل األنشطة والتحركات ض��ده��ا‪ .‬وأن ه��ذه التحركات‪،‬‬
‫ازدادت بعد االتفاق املصري اإلسرائيلي‪.‬‬

‫‪ - 2‬ميكِ ن س��وري��ة‪ ،‬م��ع لبنان‪ ،‬وق��ف أي نشاط ف��دائ��ي‪ ،‬وفي‬


‫إمكانهما احلدّ من املقاومة‪ ،‬التي يستخدمها املسلمون‬

‫‪299‬‬
‫في خالفاتهم مع املسيحيني‪ ،‬للحصول على تنازالت من‬
‫أجل حتقيق مطالبهم‪.‬‬

‫‪ - 3‬أخ��ذ ال �س��وري��ون ع�ل��ى ل�ب�ن��ان م�س��اي��رت��ه ال �ع��راق‪ ،‬وازدياد‬


‫نشاط البعثيني العراقيني فيه‪ ،‬وتزايد نشاطهم اإلعالمي‪.‬‬
‫وط��ال �ب��ت س��وري��ة ب��وق��ف ن�ش��اط�ه��م م��ع ج �م��اع��ة الرفض‬
‫والقوميني‪ ،‬واتّهمتهم جميعاً بالعمل ضد النظام السوري‪،‬‬
‫في لبنان‪.‬‬

‫‪ - 4‬تعهد امل�س��ؤول��ون ال�س��وري��ون ب��وق��ف ك��ل ن��زف ف��ي لبنان‪.‬‬


‫والضغط على املقاومة‪ ،‬بجميع الوسائل‪ ،‬لوقف نشاطها‬
‫في الساحة اللبنانية‪ ،‬فيفقد املسلمون‪ ،‬واليسار‪ ،‬سالحهم‬
‫األمضى في تصادمهم مع املسيحيني‪.‬‬

‫واتَّضح أن ثمة نوعاً من التنسيق السوري اللبناني‪ ،‬يشير إلى‬


‫وج��ود معلومات سورية‪ ،‬أن لبنان أصبح مسرحاً مل��ؤام��رات العراق‬
‫على س��وري��ة‪ .‬وأن النظام اللبناني‪ ،‬تعهد باتخاذ إج��راءات حازمة‬
‫ضد هذا النشاط‪ ،‬خاصة نشاط اجلبهة الشعبية‪ .‬وبالفعل‪ ،‬صدرت‬
‫التعليمات إلى األمن العام اللبناني‪ ،‬في ‪ 26‬مايو ‪ ،1975‬برصد كافة‬
‫التحركات العراقية في لبنان‪.‬‬

‫واتفق الطرفان على إحياء اتفاق شتوره‪ ،‬بني الرئيسَ ني‪ ،‬فرجنية‬
‫واألسد‪ ،‬القاضي بعقد لقاءات شهرية بينهما‪ .‬واقترحت سورية مشروع‬
‫معاهدة أمنية‪ ،‬عرضها حسن صبري اخل��ول��ي على رشيد كرامي‪،‬‬
‫رئيس الوزراء اللبناني‪ .‬وهي تُ َع ّد ملحقاً لوثيقة‪ ،‬وقعها الرئيسان‪ ،‬في‬
‫شتوره‪ ،‬من دون أن تعلن‪ ،‬باستعانة لبنان بالقوات السورية‪ ،‬ملدة عام‪،‬‬
‫وأن تضمن سورية بقاء سليمان فرجنية في احلُكم‪.‬‬

‫‪300‬‬
‫وعلى الرغم من نفي سورية وجود معاهدة أمنية‪ ،‬إ ّال أنه ذكر‬
‫أن املعاهدة‪ ،‬تتكون من ‪ 5‬مواد‪ ،‬موزعة على ‪ 13‬بنداً‪ .‬وتنص على أن‬
‫يتولى السوريون حفظ األمن في لبنان‪ ،‬ملدة ‪ 3‬سنوات‪ ،‬وهو تعديل‬
‫التفاق شتوره‪ .‬كما تنص على أن يتولَّى ضباط سوريون وأجانب‪ ،‬لم‬
‫حتدّ د جنسياتهم‪ ،‬إعادة تنظيم اجليش اللبناني‪ ،‬بالتعاون مع الضباط‬
‫اللبنانيني‪ ،‬ال��ذي��ن وق�ف��وا على احل�ي��اد ف��ي األزم��ة‪ .‬وأك��دت املعاهدة‬
‫تعهد سورية بالعمل‪ ،‬بالوسائل املالئمة كافة‪ ،‬لتطبيق اتفاق القاهرة‬
‫وملحقاته‪ .‬كما أعلن الرئيس السوري‪ ،‬أن أمْن لبنان‪ ،‬يرتبط بأمن‬
‫سورية‪ .‬وفي ‪ 29‬حزيران ‪ /‬يونيو ‪ ،1975‬أكد مسؤولون سوريون‪ ،‬أن‬
‫ما يحدث في لبنان‪ ،‬يؤثر في أمْن سورية‪ ،‬وأن الشعب اللبناني توأم‬
‫للشعب السوري‪ ،‬وأن أي خطوة نحو تقسيم لبنان‪ ،‬ستعني التدخل‪،‬‬
‫وضمَّ ه إلى سورية‪ ،‬ألنه كان جزءاً منها‪ ،‬وفقاً لمِ َا أعلنه الرئيس األسد‪،‬‬
‫في مؤمتر حزب «البعث»‪ ،‬سنة ‪ .1973‬وأنه ليس هناك مبرر للحساسية‬
‫من احلديث عن الوحدة بني البلدين‪ ،‬خاصة أن سورية تعرف حقيقة‬
‫املواقف في لبنان‪ ،‬رمبا أكثر من غيرها من ال��دول العربية‪ ،‬بحُ كم‬
‫أنها الدولة العربية الوحيدة‪ ،‬التي لها منظمات‪ ،‬وليس أفراداً‪ ،‬حتمل‬
‫أسماء محلية‪ ،‬وتتحرك على ساحة لبنان بأسماء لبنانية‪ ،‬مثل حزب‬
‫البعث‪ ،‬عاصم قانصوه‪ ،‬عدا عالقاتها بقيادة املوارنة‪ ،‬وال سيما بيار‬
‫اجلميل‪« ،‬الكتائب»‪ ،‬وسليمان فرجنية‪.‬‬

‫يكفي للداللة على أن الغزو اإلسرائيلي للبنان‪ ،‬لم يكن ملواجَ هة‬
‫حدث طارئ‪ ،‬وهو معركة اجلبل‪ ،‬بل هي خطوة مدروسة ومتفق عليها‬
‫أن سليمان فرجنية‪ ،‬بعث إلى األمني العام للجامعة العربية رسالة‪،‬‬
‫بعد أسبوع من الغزو‪ ،‬يقول فيها‪« :‬إني‪ ،‬كرئيس للجمهورية اللبنانية‪،‬‬
‫أرى الوجود املسلح في لبنان تنفيذاً ملا تضمنته الوثيقة الدستورية‪،‬‬
‫فبراير‪ ،‬من ضمان س��وري اللتزام اجلانب الفلسطيني باالتفاقات‬

‫‪301‬‬
‫املعقودة مع السلطات اللبنانية»‪.‬‬

‫والالفت أن إسرائيل‪ ،‬كانت ته ّدد باستخدام القوة‪ ،‬إ ْن دخلت‬


‫ق��وات س��وري��ة ل�ب�ن��ان‪ .‬وواش�ن�ط��ن ك��ان��ت ت�ن��ذر س��وري��ة وإس��رائ�ي��ل من‬
‫التدخل‪ .‬وفجأة‪ ،‬حدث تغيُّر‪ ،‬خالل أسبوع واح��د‪ ،‬فتحوّل التهديد‬
‫إلى ترحيب‪ ،‬واإلنذار إلى دعم! وقد فسر بعض الدوائر البريطانية‬
‫هذا التغيّر‪ ،‬بأن إسرائيل قبِلت منطق الواليات املتحدة األمريكية‪،‬‬
‫أن سيطر ًة سوري ًة على لبنان هي «أه��ون الش َّرين»‪ ،‬ثم تطور األمر‬
‫إلى اتفاق بينهما‪ .‬وكان صاحب فكرة االتفاق‪ ،‬هو امللك حسيناً‪ ،‬أثناء‬
‫زي��ارت��ه واشنطن‪ ،‬في أول نيسان ‪ /‬أبريل ‪ .1976‬وارت��أت الفكرة‬
‫األردنية أن تضغط واشنطن على إسرائيل لترفع يدها عن لبنان‪ ،‬إذا‬
‫حتركت قوات سورية إليه‪ ،‬شريطة أن تبقى القوات السورية بعيدة‬
‫عن اجلنوب اللبناني‪ .‬ومقابل ذلك‪ ،‬جت ّدد سورية مدة قوات الطوارئ‬
‫في اجلوالن‪ ،‬التي كانت ستنتهي بعد شهر‪.‬‬

‫أ ّم��ا مصر‪ ،‬فكانت على خ�لاف م��ع س��وري��ة‪ ،‬ف��ي ش��أن دخولها‬
‫لبنان‪ .‬بيد أنه كان خالفاً حول األسلوب‪ ،‬وسرعة احلركة فقط‪ .‬وقد‬
‫بلور ذل��ك‪ ،‬بوضوح‪ ،‬أن سورية لم حتصل على مكاسب من سياسة‬
‫اخلطوة خطوة‪ ،‬ففقدت الدافع إلى رسم سياسة طويلة املدى‪ ،‬ملواجَ هة‬
‫إسرائيل‪ ،‬بل انتابها اخل��وف على موقفها التفاوضي مع الواليات‬
‫املتحدة األمريكية وإسرائيل‪.‬‬

‫‪Jimmy‬‬ ‫وأص �ب��ح ال��رئ�ي��س األس ��د‪ ،‬م�ن��ذ مقابلته جيمي ك��ارت��ر‬
‫‪ ،Carter‬ف��ي أي��ار ‪ /‬مايو ع��ام ‪ ،1977‬ميثّل نقطة االرت �ك��از املهمة‬
‫للواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬في الشرق األوس��ط‪ .‬وظهر أث��ر ذلك‬
‫في ردود فعل دمشق جتاه ما يطلبه االحت��اد السوفيتي‪ ،‬ال��ذي كان‬
‫أرسل مذكرة‪ ،‬في ‪ 11‬متوز ‪ /‬يوليو ‪ ،1976‬يحذرها من املضيّ في‬

‫‪302‬‬
‫ضرب املقاومة و«احلركة الوطنية»‪ ،‬في لبنان؛ وكانت موسكو نصحت‬
‫لدمشق‪ ،‬قبْل الغزو‪ ،‬بعدم التصادم مع املقاومة‪.‬‬

‫وبعد فشل سورية في فرض ما سُ مِّي «الوثيقة الدستورية»‪،‬‬


‫بذلت دمشق جهداً مكثفاً مع قادة لبنان‪ ،‬واجتمع الرئيس األسد إلى‬
‫ياسر عرفات‪ ،‬في ‪ 21‬فبراير ‪ .1976‬بينما أعلن وزير خارجية مصر‪،‬‬
‫في ‪ 24‬شباط‪/‬فبراير من العام عينه‪ ،‬أن كل ما تريده مصر للبنان‪،‬‬
‫هو التخلص من الوصاية‪ ،‬بدفع أي تدخّ ل في شؤونه الداخلية‪.‬‬

‫وأص ��درت ق�ي��ادة ح��زب «ال�ب�ع��ث»‪ ،‬ف��ي دم�ش��ق‪ ،‬ب�ي��ان�اً‪ ،‬ف��ي ذكرى‬
‫‪ 8‬آذار‪/‬م��ارس ‪ ،1976‬رأت فيه أن إنشاء جبهة شمالية‪ ،‬هو ضرورة‬
‫قومية ملحّ ة‪ ،‬وأن سورية تعمل على تقوية عالقتها باألردن‪ ،‬في نطاق‬
‫هذه اجلبهة‪ .‬أما ياسر عرفات‪ ،‬فأعلن‪ ،‬أن قوات لواء «عني جالوت»‬
‫الفلسطيني‪ ،‬قد استدعيت من مصر‪ ،‬بأمر منه‪ ،‬وأم��ل أن تعود هذه‬
‫القوات إلى مَواقعها‪ ،‬عندما تنتهي احلاجة إليها في لبنان‪ .‬وبعد يومني‪،‬‬
‫ال عدائياً‪ ،‬موجَّ هاً‬‫وقع انقالب عزيز األحدب‪ ،‬الذي عَ دَّ ته سورية عم ً‬
‫ضد نشاطها في لبنان؛ حتى إن الرئيس األسد أجّ ل زيارته إلى باريس‪،‬‬
‫بسببه‪.‬‬

‫وفي اليوم نفسه‪ ،‬زار امللك حسني دمشق‪ ،‬ملدة ساعات للتشاور‬
‫مع الرئيس ال�س��وري‪ .‬وأعلن وزي��ر داخلية الكويت‪ ،‬في ‪ 27‬آذار‪/‬‬
‫مارس ‪ ،1976‬ضرورة عقد مؤمتر عربي‪ ،‬لبحث الوضع املتفجر في‬
‫لبنان‪ .‬وهو اليوم عينه‪ ،‬الذي اجتمع فيه الرئيس السوري إلى كمال‬
‫جنبالط‪ ،‬ملدة ‪ 9‬ساعات‪ ،‬حاول الزعيم اللبناني‪ ،‬خاللها‪ ،‬إقناعه‪ ،‬بأن‬
‫مصلحة سورية تكمن في دولة لبنانية‪ ،‬حتكمها «احلركة الوطنية»‪.‬‬
‫ولكن االجتماع انتهى إلى الفشل‪ .‬وفي اليوم التالي‪ ،‬اجتمع ياسر‬
‫عرفات إلى الرئيس األسد‪ ،‬الذي ظَ ل على موقفه‪.‬‬

‫‪303‬‬
‫ودع��ا مجلس األم��ن القومي امل�ص��ري‪ ،‬ف��ي ‪ 28‬آذار ‪ /‬مارس‬
‫‪ ،1976‬إل��ى ت��دخّ ��ل ع��رب��ي ف��ي ل�ب�ن��ان‪ ،‬وإرس ��ال ق��وات عربية إلنهاء‬
‫القتال فيه‪ .‬وسلمت املبادرة املصرية للجامعة العربية‪ ،‬التي وزعتها‬
‫على احلكومات العربية‪ .‬وفي اليوم التالي‪ ،‬وجَّ ه امللك خالد والشيخ‬
‫زايد‪ ،‬إثر اجتماعهما‪ ،‬نداء إلى لبنان‪ ،‬شعباً وقيادة‪ ،‬بإنهاء القتال‪.‬‬
‫ووجَّ ه الرئيس السادات نداء إلى الرئيس فرجنية‪ ،‬يدعوه إلى عدم‬
‫املغاالة في كبريائه الشخصية‪ .‬وطالب بتشكيل قوة عربية‪ ،‬قادرة‬
‫على وقف إطالق النار‪ ،‬إذا وافق لبنان على ذلك‪.‬‬

‫و ف��ي أول ن�ي�س��ان ‪ /‬أ ب��ر ي��ل ‪ ،1976‬أع �ل��ن امل �ل��ك ح �س�ين‪ ،‬من‬
‫ا ل��وال ي��ات املتحدة األمريكية‪ ،‬أن سورية لن تتدخل‪ ،‬عسكرياً‪ ،‬في‬
‫لبنان‪ ،‬إ ّال بناء على طلب من السلطات اللبنانية املسؤولة‪ ،‬وزعماء‬
‫لبنان الدينيني‪ ،‬من جميع الطوائف‪ .‬وأعلن تضامنه مع أي تدخّ ل‬
‫س��وري محتمَل في لبنان‪ ،‬ملواجَ هة الساعني إل��ى تغيير احلكم في‬
‫لبنان إلى ما فيه مصلحتهم‪ .‬واتّهم دمشق بتزويدها املتنازعني في‬
‫لبنان باألسلحة‪ .‬وهاجم كمال جنبالط‪ ،‬في اليوم عينه‪ ،‬الوجود‬
‫السوري في لبنان‪ ،‬واجتياح األراض��ي اللبنانية من جانب اجليش‬
‫ا ل �س��وري‪ .‬وردت «ا ل�ص��ا ع�ق��ة» ال�س��وري��ة بنشر قواتها ق��رب مصفاة‬
‫الزهراني‪ ،‬حلمايتها من إسرائيل‪ ،‬التي أعلنت معارضتها للخطوة‬
‫السورية‪ ،‬فسارعت الوحدات السورية‪ ،‬التي أمكنها دخ��ول لبنان‪،‬‬
‫إلى االنسحاب منه‪.‬‬

‫أعلنت الكويت معارضتها إرس��ال ق��وات عربية إل��ى لبنان‪ ،‬وإ ْن‬
‫كانت تؤيد اتخاذ مبادرة سياسية‪ ،‬لوضع ح ّد إلراقة الدماء فيه‪ .‬وأعلن‬
‫األم�ين العام للجامعة العربية‪ ،‬أن احلل احلقيقي لألزمة‪ ،‬يتمثل في‬
‫عقد قمة عربية مصغرة‪ ،‬في أسرع وقت‪ ،‬حلل مشكلة لبنان‪ .‬في حني‪،‬‬

‫‪304‬‬
‫أعلن امللك حسني معارضة األردن فكرة تشكيل قوة مسلحة من الدول‬
‫العربية‪ .‬ودعا كمال جنبالط إلى تعريب األزمة اللبنانية‪ ،‬وفوّض إلى‬
‫عرفات مهمة تصحيح العالقات بالقيادة السورية‪ ،‬بعد رسالة من دمشق‪،‬‬
‫أكدت التحالف اإلستراتيجي بني املقاومة وسورية‪ ،‬واستعدادها لبذل‬
‫املساعي‪ ،‬تصحيحاً للعالقة بـ «احلركة الوطنية»‪ .‬أمّا العراق‪ ،‬فاقترح‪،‬‬
‫رسمياً‪ ،‬دعوة مجلس اجلامعة العربية إلى اجتماع طارئ‪.‬‬

‫وإثر اجتماع ياسر عرفات إلى الرئيس األسد‪ ،‬أمكَن التوصل‬


‫إلى اتفاق‪ ،‬ينص على‪:‬‬

‫‪ - 1‬وقف القتال‪ ،‬واتخاذ موقف موحَّ د‪ ،‬ضد أي جهة تستأنف‬


‫القتال‪.‬‬

‫‪ - 2‬إع��ادة تشكيل اللجنة العسكرية العليا الثالثية (سورية‬


‫لبنان املقاومة)‪ ،‬لتحقيق وقف القتال‪ ،‬ريثما يُنتخب رئيس‬
‫جديد‪ ،‬يقرر ما يراه من إجراءات األمن‪.‬‬

‫‪ - 3‬مقاومة التقسيم‪ ،‬بكل أشكاله‪ ،‬وأي عمل أو إج��راء‪ ،‬من‬


‫شأنه املساس بوحدة لبنان‪.‬‬

‫‪ - 4‬رفض تعريب األزمة‪ ،‬سياسياً وعسكرياً‪.‬‬

‫‪ - 5‬رفض احللول واخلطط األمريكية في لبنان‪.‬‬

‫‪ - 6‬رفض التدويل‪ ،‬سياسياً وعسكرياً‪.‬‬

‫لم يكن االتفاق سوى عملية تهدئة‪ .‬بدليل عدم تشكيل اللجنة‬
‫الثالثية‪ ،‬بحجة عدم موافقة قيادة «اجلبهة اللبنانية»؛ إذ إن زيارة‬
‫امللك حسني إل��ى واشنطن‪ ،‬وإق�ن��اع إسرائيل بعدم ال��رد‪ ،‬ف��ي حالة‬

‫‪305‬‬
‫التدخل السوري‪ ،‬لم يكونا قد أسفرا عن نتيجة بعد‪.‬‬

‫وف��ي ‪ 17‬نيسان ‪ /‬أبريل ‪ ،1976‬زار وف��د س��وري السعودية‪،‬‬


‫لا رس��ال��ة م��ن الرئيس األس��د إل��ى امللك خ��ال��د‪ ،‬ح��ول تطورات‬
‫ح��ام� ً‬
‫املوقف في لبنان‪ .‬كما بعث ياسر عرفات برسالة عاجلة إلى الرئيس‬
‫القذافي‪ .‬ثم بعث الرئيس السوري برسالة إلى ملك األردن‪ ،‬الذي‬
‫استدعى سفيره إلى لبنان‪ ،‬في اليوم عينه‪ ،‬للتشاور‪ .‬وما لبث امللك‬
‫ح�س�ين أن زار دم �ش��ق‪ ،‬ف��ي ‪ 8‬أي��ار ‪ /‬م��اي��و ‪ .1976‬وت �ق��رر‪ ،‬خالل‬
‫الزيارة‪ ،‬التنسيق بني البلدين‪ ،‬كخطوة على طريق الوحدة بينهما‪.‬‬

‫ف��ي ه��ذه األث �ن��اء‪ ،‬ان�تُ�خ��ب إل�ي��اس سركيس رئ�ي�س�اً للجمهورية‬


‫ال�ل�ب�ن��ان�ي��ة‪ .‬وأُع �ل��ن ع�ق��د م��ؤمت��ر ق�م��ة م�ص� ّغ��ر‪ ،‬م��ن امل�م�ل�ك��ة العربية‬
‫السعودية والكويت ومصر وسورية‪ ،‬لتسوية اخلالفات بني القاهرة‬
‫ودمشق‪ .‬وتوجه عبد السالم جلود‪ ،‬رئيس وزراء ليبيا‪ ،‬إلى دمشق‪،‬‬
‫في ‪ 15‬أيار ‪ /‬مايو ‪ ،1976‬ملناقشة الوضع العربي‪ ،‬ثم زار لبنان‪،‬‬
‫في صحبة ياسر عرفات‪.‬‬

‫القسم الثالث‬
‫إسرائيل واحلرب األهلية اللبنانية‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬أبعاد املوقف اإلسرائيلي‬

‫عقب حرب حزيران ‪ /‬يونيو ‪ ،1967‬أصبح لبنان‪ ،‬فجأة‪ ،‬في‬

‫‪306‬‬
‫قلب الصراع العربي اإلسرائيلي‪ ،‬الذي ظل بعيداً عنه‪ ،‬سنوات طويلة‪.‬‬
‫إذ ساعدت تلك احلرب على ظهور وضع جديد‪ ،‬اتّسم بتزايد الوجود‬
‫الفلسطيني في لبنان‪ ،‬وارتبط بنشاط حركة التجنيد والتدريب في‬
‫املخيمات الفلسطينية‪ .‬وهو ما مثّل أحد العناصر املؤثرة في احلرب‬
‫األهلية اللبنانية‪ .‬يضاف إلى ذل��ك‪ ،‬أنه في الوقت ال��ذي تغيّر فيه‬
‫التكوين الدميوغرافي‪ ،‬في مصلحة املسلمني‪ ،‬ذوي االجتاهات العربية‬
‫الغالبة‪ ،‬أصبحت األرض اللبنانية‪ ،‬هي املعقل الرئيسي للمقاومة‪،‬‬
‫بعد إخراجها من األردن‪ .‬ولم يكن األمر الوحيد‪ ،‬الذي اهتمت به‬
‫إسرائيل‪ ،‬هو اعتراف لبنان بحق املقاومة في الوجود والعمل على‬
‫أرضه‪ ،‬بل أولت اهتمامها‪ ،‬كذلك‪ ،‬حتسُّ ن العالقات املطّ رد بسورية‪.‬‬

‫في مواجَ هة هذه التطورات‪ ،‬جلأت إسرائيل إلى جعل اجلنوب‬


‫اللبناني هدفاً لعمليات مكثفة‪ ،‬بغرض تفريغه من الكثافة السكانية‪،‬‬
‫وال�ق�ض��اء على العمل ال�ف��دائ��ي ف�ي��ه‪ .‬وب��دت ق��درة اجل�ي��ش اللبناني‬
‫على التصدي لهذه العمليات محدودة جداً‪ .‬ولذا‪ ،‬توالت العمليات‬
‫اإلسرائيلية‪ ،‬من دون رادع‪ ،‬فأحلقت باملدنيني خسائر جسيمة‪ .‬وأعلن‬
‫كثير من قادة إسرائيل‪ ،‬أنها ستستمر حيثما توجد قواعد الفدائيني‪،‬‬
‫حتى لو أدى ذلك إلى وقوع ضحايا بني املدنيني اللبنانيني‪.‬‬

‫سعت إسرائيل إلى طرح قضية الوجود الفلسطيني في لبنان‪،‬‬


‫من أساسها‪ ،‬وإثارة التصادم بني املقاومة واجليش اللبناني‪ ،‬عسى‬
‫أن تتكرر التجربة الفلسطينية في األردن‪ .‬بيد أن إسرائيل كانت‬
‫ترى أن عمليات واسعة‪ ،‬ومؤثرة‪ ،‬في لبنان‪ ،‬ستزيد اإلحساس بعدم‬
‫األمن وعدم االستقرار‪ .‬وإذ متثّل التجارة والسياحة‪ ،‬بكل ما تتطلبانه‬
‫من أ ْم��ن واستقرار‪ ،‬العمود الفقري لالقتصاد اللبناني‪ ،‬فإن القوة‬
‫املرتبطة باملصالح‪ ،‬االقتصادية واالجتماعية‪ ،‬ال�س��ائ��دة‪ ،‬ستحاول‬
‫استخدام مؤسسات الدولة‪ ،‬حتت شعار حماية سيادة لبنان‪ ،‬لتقلّم‬

‫‪307‬‬
‫أظفار املقاومة‪ ،‬في البداية‪ ،‬ثم لتجْ هِ ز عليها‪ ،‬في مرحلة تالية‪ .‬وفي‬
‫هذه احلالة‪ ،‬تُعفى إسرائيل من مهمة القضاء على املقاومة بنفسها‪،‬‬
‫أيد عربية‪ ،‬وعلى األخص لبنانية‪ .‬وهو ما ضاعف‪،‬‬ ‫الذي تضطلع به ٍ‬
‫بالفعل‪ ،‬من حدّ ة احلرب األهلية في لبنان‪ ،‬وجعل لها بُعداً إقليمياً‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬أهمية لبنان بالنسبة إلى إسرائيل‬

‫قبل عام ‪ ،1916‬كانت احلدود بني فلسطني ولبنان متداخلة‪،‬‬


‫حت��ت احل�ك��م العثماني‪ .‬فتاخمت ح��دود فلسطني اإلداري ��ة سنجق‬
‫بيروت‪ ،‬كما ضم شمالي فلسطني لواءَي نابلس وعكا‪ ،‬وهما جزءان‬
‫من والية بيروت‪ .‬ثم جاءت اتفاقية سايكس بيكو‪ ،‬عام ‪ ،1916‬لترسم‬
‫بينهما خطوطاً فاصلة‪ .‬وتالها تصريح بلفور‪ ،‬عام ‪ ،1917‬وحتديد‬
‫إنكلترا وفرنسا للحدود السياسية بني مناطق انتدابهما‪ ،‬في معاهدة‬
‫باريس‪ ،‬في ‪ 22‬كانون األول‪/‬ديسمبر ‪ ،1920‬ثم ط��رأت تعديالت‬
‫على هذه احلدود‪ ،‬خاصة بني كل من فلسطني ولبنان‪.‬‬

‫‪Arthur‬‬ ‫وج��اء في مذكرة‪ ،‬بعث بها اللورد آرث��ر جيمس بلفور‬


‫‪ James Balfour‬إل��ى ل��وي��د ج��ورج ‪ ،Lloyd George‬ف��ي ‪ 26‬حزيران‬
‫‪ /‬يونيو ‪ ،1919‬عن ال��دور الصهيوني في رس��م ه��ذه احل��دود‪« :‬إن‬
‫ال �ش��يء‪ ،‬ال ��ذي ي�ج��ب أن ي��ؤخ��ذ ف��ي احل �س �ب��ان‪ ،‬ح��ول حت��دي��د هذه‬
‫احل��دود‪ ،‬ه��و جعل السياسة الصهيونية ممكِ نة‪ ،‬م��ن خ�لال إعطاء‬
‫مجال للتطور االقتصادي في فلسطني‪ ،‬مبا يعني ضرورة أن تعطى‬
‫احل��دود الشمالية الفلسطينية سيطرة كاملة على مصادر املياه»‪،‬‬
‫وهو ما عنى‪ ،‬طبقاً آلراء املسؤولني اإلنكليز‪ ،‬أو اليهود‪ ،‬أن ترسم‬
‫احلدود في أماكن‪ ،‬تتيح احلصول على مياه الليطاني‪ ،‬ومياه السفوح‬
‫اجلنوبية جلبل الشيخ‪ ،‬ومياه السفوح الغربية ملرتفعات اجلوالن‪،‬‬
‫ومياه نهر اليرموك‪ ،‬ومياه نهر األردن‪ .‬وبذلت الصهيونية‪ ،‬آنذاك‪،‬‬

‫‪308‬‬
‫قصارى جهدها في ض ّم جنوبي لبنان إلى األرض‪ ،‬التي وعدت أن‬
‫تكون وطناً قومياً لليهود‪ .‬وإذ جاءت احلدود مخيبة آلمالها‪ ،‬فإنها‬
‫جعلت تغييرها هدفاً لها‪ .‬وجعلت السيطرة على جنوبي لبنان أحد‬
‫األهداف الرئيسية للحركة الصهيونية‪ ،‬وهو ما كان له أعمق األثر‬
‫في احلرب األهلية اللبنانية‪.‬‬

‫أمّا املوقف اللبناني في مواجَ هة إسرائيل‪ ،‬فارتكز على سياسة‬


‫ذات طابع دفاعي‪ ،‬انتُهجت منذ توقيع اتفاقية الهدنة في رودس‪ ،‬في‬
‫‪ 23‬آذار‪/‬مارس ‪ ،1949‬وتستند إلى احترام الوضع القائم‪ ،‬واحلفاظ‬
‫على ه��دوء خ�ط��وط ال�ه��دن��ة‪ .‬وجت�ل��ت ه��ذه السياسة ف��ي ع��دم ربط‬
‫األم��ن اللبناني باألمن العربي‪ ،‬واالكتفاء بالسالمة الذاتية‪ ،‬وعدم‬
‫االشتراك في أي من مجاالت الصراع العربي اإلسرائيلي‪ .‬بيد أن‬
‫حرب ‪ ،1967‬ساعدت على ظهور عامل جديد في الصراع‪ ،‬متثّل في‬
‫املقاومة الفلسطينية‪ ،‬التي تزايدت فاعليتها في الصراع‪ .‬وترافق‬
‫هذا الوضع مع تغيُّر في التكوين الدميوغرافي اللبناني‪ ،‬في مصلحة‬
‫املسلمني‪ ،‬ذوي النزعات وامليول العربية‪ .‬وبدءاً من عام ‪ ،1970‬وبعد‬
‫األحداث التي تعرض لها الفلسطينيون في األردن‪ ،‬أصبح لبنان املعقل‬
‫الرئيسي للمقاومة الفلسطينية‪ ،‬بعد أن كان‪ ،‬عام ‪ ،1969‬قد عقد‬
‫اتفاقاً معها‪ ،‬يعترف فيه بوجودها الشرعي‪ ،‬ويقر‪ ،‬مبوجبه‪ ،‬بحقوق‬
‫لها في مواجَ هة إسرائيل‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬شكل الوجود الفلسطيني في لبنان حتدياً إلسرائيل‪،‬‬


‫التي تقع مراكزها السكانية الكثيفة‪ ،‬والصناعية املهمة‪ ،‬على مسافة‬
‫قريبة منه‪ .‬وأدى ذل��ك إل��ى وق��وع ع��دة ح��وادث دام�ي��ة‪ ،‬بني اجليش‬
‫اللبناني واملقاومة الفلسطينية‪ .‬غير أنها لم تؤل إلى ما آلت إليه‬
‫حوادث «أيلول األسود» في األردن‪ ،‬بسبب التركيب الطائفي للمجتمع‬
‫اللبناني‪ ،‬وضعف القدرات العسكرية للجيش اللبناني‪ ،‬وتعمق التأييد‬

‫‪309‬‬
‫الشعبي للمقاومة‪ .‬كما أدت سياسة إسرائيل إلى تفريغ جنوبي لبنان‬
‫م��ن س�ك��ان��ه‪ ،‬ون��زوح ع�ش��رات اآلالف م��ن اللبنانيني والفلسطينيني‬
‫إلى بيروت وضواحيها‪ ،‬ليزداد اشتداد حزام البؤس حولها‪ ،‬وتزداد‬
‫مساندة املجتمع اجلديد للمقاومة‪.‬‬

‫وإزاء ه��ذا ال��وض��ع‪ ،‬حاولت إسرائيل التقرب إل��ى اللبنانيني‪،‬‬


‫املناهضني للوجود الفلسطيني‪ .‬إال أن التدخل السوري‪ ،‬في املرحلة‬
‫األولى من احلرب األهلية اللبنانية‪ ،‬إلى جانب القوى اليمينية‪ ،‬حال‬
‫دون تعاون علني بني من يجمعهم ال�ع��داء للوجود الفلسطيني في‬
‫لبنان‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬التحالف اإلسرائيلي الكتائبي‬

‫مع بداية احل��رب األهلية‪ ،‬جلأ أح��د ضباط اجليش اللبناني‬


‫(الرائد سعد حداد) إلى إسرائيل‪ ،‬وأنشأ شريطاً أمنياً على احلدود‬
‫اجلنوبية للبنان‪ ،‬وهو ما أسهم في بروز الدور اإلسرائيلي في احلرب‬
‫األهلية اللبنانية‪ .‬وحرصت إسرائيل على دعم حداد‪ ،‬وم ّده بالسالح‪.‬‬
‫وحينما اجتاحت اجلنوب اللبناني‪ ،‬عام ‪ ،1978‬وبسطت سيطرتها‬
‫على قطاع واسع منه‪ ،‬جعلت من حداد قائداً لهذا القطاع‪ ،‬املقدر‬
‫عدد سكانه بنحو ‪ 100‬ألف نسمة‪ ،‬واملقدرة مساحته بحوالي ‪600‬‬
‫كم‪ ،2‬من أصل ‪ 2085‬كم‪ ،2‬هي إجمالي مساحة اجلنوب اللبناني‪.‬‬
‫وعندما تبدلت التحالفات السورية في لبنان‪ ،‬تهيأت إلسرائيل فرصة‬
‫لتعزيز دورها في احلرب اللبنانية‪ ،‬فتعاونت مع التحالف الكتائبي‪،‬‬
‫ف��ي شمالي لبنان‪ ،‬و َم��دّ ت��ه باألسلحة‪ ،‬وعملت‪ ،‬ف��ي بعض األحيان‪،‬‬
‫على حمايته في مواجَ هة الهجمات‪ ،‬التي تعرّض لها من قِ بل القوات‬
‫السورية‪ ،‬العاملة في نطاق قوات الردع العربية‪.‬‬

‫‪310‬‬
‫ومع إعالن سعد حداد لدولته‪« ،‬لبنان احلر»‪ ،‬في ‪ 14‬نيسان‬
‫‪ /‬أبريل ‪ ،1979‬حتت احلماية اإلسرائيلية املباشرة‪ ،‬أصبح الدور‬
‫اإلسرائيلي في األزمة اللبنانية أشد فاعلية‪ .‬وفي إطار هذا السياق‪،‬‬
‫واصلت إسرائيل سياسة إفراغ اجلنوب اللبناني من سكانه‪ ،‬ومهاجمة‬
‫املقاومة الفلسطينية‪ ،‬وإضعاف موقف سورية‪ .‬فساد جنوبي لبنان‬
‫التوتر وع��دم االس�ت�ق��رار‪ ،‬ن�ظ��راً إل��ى اح�ت�لال إس��رائ�ي��ل شريطاً من‬
‫القرى والبلدات اللبنانية‪ ،‬احملاذية حلدودها الشمالية‪ ،‬منذ عام‬
‫‪ ،1978‬وهو ما يعرف بالشريط احلدودي‪ .‬وتضم قرى هذا الشريط‬
‫وب�ل��دات��ه ال�ع��دي��د م��ن ال�ط��وائ��ف‪ ،‬إال أن الغالبية فيها م��ن الشيعة‪.‬‬
‫وعمدت إسرائيل إلى إنشاء بوابات عبور‪ ،‬تربط الشريط احلدودي‬
‫باملناطق اللبنانية األخرى‪ ،‬في اجلنوب والبقاع‪ ،‬ووكلت مهمة األمن‬
‫الداخلي في الشريط‪ ،‬إلى جيش لبنان اجلنوبي‪ ،‬املوالي لها‪ ،‬والذي‬
‫يقوده أنطوان لحَ ْد‪ ،‬خلفاً لسعد حداد‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬أهمية لبنان اإلستراتيجية ُ‬


‫كبعد إسرائيلي‬

‫تُعَدّ األهمية اإلستراجتية للبنان أه��م أبعاد موقف إسرائيل‬


‫من األزمة اللبنانية‪ ،‬وذلك ألسباب‪ ،‬إستراتيجية واقتصادية‪ ،‬تفرض‬
‫عليها اهتماماً كبيراً باجلنوب اللبناني‪ .‬إذ تقع هذه املنطقة على‬
‫مسافة قريبة جداً من مراكز الكثافة السكانية‪ ،‬واإلنتاج الصناعي‬
‫فيها‪ .‬ي�ض��اف إل��ى ذل��ك أن�ه��ا ص��احل��ة‪ ،‬م��ن الناحية الطبوغرافية‪،‬‬
‫لتكون قاعدة متركز الفدائيني وانطالقهم‪ .‬لذلك‪ ،‬حترص إسرائيل‬
‫ع�ل��ى إخ�لائ�ه��ا م��ن أي عنصر مسلح م �ع� ٍ�اد‪ ،‬ل�ت�ك��ون ح ��زام أم��ن‪ ،‬أو‬
‫أرض�اً مهجورة‪ ،‬ميكِ ن‪ ،‬في ظروف مالئمة‪ ،‬على املستويني‪ ،‬الدولي‬
‫واإلقليمي‪ ،‬اجتياحها والسيطرة عليها‪.‬‬

‫إضافة إلى مقتضيات األمن‪ ،‬ثمة أسباب ذات طبيعة اقتصادية‪،‬‬

‫‪311‬‬
‫تتعلق بفرص التوسع الزراعي‪ ،‬واستغالل املياه‪ .‬ولعل مشكلة املياه‪،‬‬
‫تظل أهم عقبة تواجه مشاريع التنمية الزراعية في إسرائيل‪ .‬وال‬
‫ت��زال مسألة التغلب عليها‪ ،‬م��ن طريق حتلية مياه البحر‪ ،‬باهظة‬
‫النفقات‪ .‬بينما جنوبي لبنان‪ ،‬يحتوي على مصادر وفيرة للمياه‪،‬‬
‫تنبهت لها احلركة الصهيونية‪ ،‬منذ احلرب العاملية األولى‪ ،‬فتضمنت‬
‫املذكرة‪ ،‬التي قدمتها املنظمة الصهيونية العاملية إلى مؤمتر فرساي‪،‬‬
‫أن ح��دود فلسطني‪ ،‬يجب أن تشمل جنوبي لبنان حتى ص��ور‪ ،‬وأن‬
‫جبل الشيخ ولبنان‪ ،‬هما مصدر املياه احلقيقي لفلسطني‪ ،‬وأن��ه ال‬
‫ميكِ ن فصلهما عنها‪ ،‬من دون إصابة احلياة االقتصادية فيها بأضرار‬
‫فادحة‪ .‬ومع مطلع الستينيات‪ ،‬كانت مطامع إسرائيل في مياه تلك‬
‫املنطقة‪ ،‬قد أصبحت حقيقة واضحة‪ ،‬متثلت في مشروعات محددة‪.‬‬
‫وك��ان رد فعلها عنيفاً‪ ،‬إزاء ك��ل احمل��اوالت العربية الستغالل مياه‬
‫تلك املنطقة‪ ،‬بخاصة مياه نهر الليطاني‪ .‬غير أن سياسة إسرائيل‬
‫جتاه لبنان‪ ،‬خالل األعوام األخيرة‪ ،‬كان تأثرها بالعامل اإلستراتيجي‬
‫األمني‪ ،‬أكثر منه بأي عامل آخر‪ .‬كما أنها كانت أحد مداخل األزمة‬
‫اللبنانية‪ ،‬وأحد عوامل حتريكها‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬خصوصية لبنان في مفهوم األمن اإلسرائيلي‬

‫شهدت السبعينيات دخ��ول لبنان‪ ،‬فعلياً‪ ،‬في املجال احليوي‬


‫لألمن اإلسرائيلي‪ ،‬باعتباره املوقع الوحيد بني مواقع «بلدان الطوق»‪،‬‬
‫الذي يوفر ألركان األمن في إسرائيل‪ ،‬مجاالً المتحان خططهم‪ ،‬من‬
‫طريق احلروب‪.‬‬

‫أحدثت حرب تشرين أول ‪ /‬أكتوبر ‪ ،1973‬حتوالً في مفاهيم‬


‫إسرائيل األمنية‪ ،‬حتى إن كثيراً من قادتِها‪ ،‬السياسيني والعسكريني‪،‬‬
‫د ع��وا‪ ،‬إ ث��ر تلك ا حل��رب‪ ،‬إ ل��ى التخلي ع��ن نظرية ديفيد ب��ن غوريون‬

‫‪312‬‬
‫‪ David Ben-Gurion‬الشهيرة‪ ،‬املرتكزة على احلرب اخلاطفة‪ ،‬والقتال‬
‫الهجومي‪ ،‬الذي يتيح إحراز إجنازات تكتيكية في وقت وجيز‪ .‬ويُنزل‬
‫بالعدوّ‪ ،‬الذي جتري على أرضه احلرب خسائر قاصمة‪ ،‬تضطره إلى‬
‫طلب تسوية ما‪ ،‬تضع نهاية سريعة للحرب‪ .‬ورأى هؤالء القادة‪ ،‬أن‬
‫يستبدل الهجوم السياسي بالهجوم العسكري‪ .‬بينما احتفظوا‪ ،‬في‬
‫املجال اللبناني‪ ،‬بخيارات احلركة املفتوحة‪ ،‬بدءاً بالضربات الوقائية‬
‫السريعة‪ ،‬إل��ى ح��روب االح�ت�لال‪ ،‬فالرغبة في تشكيل نظام احلكم‬
‫املالئم لسياسة إسرائيل اإلقليمية‪.‬‬

‫وفي إطار تشكيل إسرائيل ملفاهيمها األمنية‪ ،‬ميكِ ن القول إن‬


‫ثمة خمس مراحل متعاقبة‪ ،‬شكلت العالقة بني إسرائيل ولبنان‪ .‬وهو‬
‫ما سيكوّن أحد أهم العناصر احلاكمة في احلرب األهلية اللبنانية‪.‬‬
‫وحني كان مسؤولو التخطيط اإلسرائيليون‪ ،‬في احلكومة واجليش‪،‬‬
‫يضعون سياسات أمنية حيال لبنان‪ ،‬فإنهم عادة ما كانوا يأخذون‬
‫هذه املراحل في احلسبان‪ .‬وهي‪:‬‬

‫‪ - 1‬مرحلة م��ا قبل ع��ام ‪ ،1975‬وه��ي املرحلة التي شهدت‬


‫م�ع��ارك االخ�ت�ب��ار األول ��ى‪ ،‬الس�ت�ن��زاف ق��واع��د الفدائيني‬
‫الفلسطينيني‪ ،‬ف��ي مناطق ال�ع��رق��وب وال �ق��رى اجلنوبية‬
‫األمامية‪ .‬كما شهدت عدداً من العمليات اخلاطفة‪ ،‬ضد‬
‫مَواقع حساسة في األراضي اللبنانية‪ ،‬أبرزها الغارة على‬
‫مطار بيروت ال��دول��ي‪ ،‬واغتيال ق��ادة «فتح» الثالثة في‬
‫ش��ارع «ف��ردان»‪ ،‬وغيرهما من عمليات الكوماندوز‪ ،‬في‬
‫الفترة املمتدة بني عامَي ‪ 1970‬و ‪.1974‬‬

‫‪ - 2‬مرحلة انفجار احلرب األهلية اللبنانية‪ ،‬في ربيع ‪.1975‬‬


‫وفيها ات�س��ع ه��ام��ش النشاط اإلس��رائ�ي�ل��ي‪ ،‬وص��ار لبنان‬

‫‪313‬‬
‫عرضة لالختراقات اإلسرائيلية‪ ،‬على جبهتَي اجلنوب‬
‫والداخل‪ ،‬في آن‪ .‬وانتهجت إسرائيل‪ ،‬خالل هذه املرحلة‪،‬‬
‫نهجاً أمنياً مزدوجاً‪ :‬جانبه األول‪ ،‬اعتماد نظرية القتال‬
‫الهجومي‪ ،‬عبْر شن الضربات الوقائية‪ ،‬من اجلو والبر‬
‫وال �ب �ح��ر‪ ،‬ض��د ال �ق��واع��د امل�ش�ت��رك��ة ل�ل�أح��زاب اللبنانية‬
‫اليسارية‪ ،‬ومنظمات املقاومة الفلسطينية‪ .‬وجانبه الثاني‪،‬‬
‫التسرب السياسي‪ ،‬الختراق الداخل اللبناني‪ .‬وساعدت‬
‫البنية اللبنانية‪ ،‬املتداعية بفعل التمزق األه�ل��ي‪ ،‬على‬
‫رف��ع التصعيد اإلسرائيلي إل��ى درج��ة الرغبة في إنشاء‬
‫كانتونات طائفية موالية إلسرائيل‪ ،‬بل خلق نظام حكم‬
‫في لبنان صديق لها‪.‬‬

‫‪ - 3‬مرحلة ح��رب ‪ 15‬آذار ‪ /‬م��ارس ‪ ،1978‬والنتائج التي‬


‫ترتبت على اجتياح اجلنوب حتى ح��دود نهر الليطاني‪،‬‬
‫ش��م��االً‪ .‬وك ��ان احل� ��زام األم��ن��ي‪ ،‬أو م��ا س �م��ي «املنطقة‬
‫األمنية»‪ ،‬من أشد نتائج حرب االجتياح خطراً‪ ،‬إضافة‬
‫إل��ى إي �ج��اد منطقة دول �ي��ة ع��ازل��ة‪ ،‬ت�ش��رف عليها قوات‬
‫متعددة اجلنسية‪ ،‬مبوجب ق��رار مجلس األم��ن الدولي‪،‬‬
‫الرقم ‪ 425‬الصادر في ‪ 19‬آذار ‪ /‬مارس ‪.1978‬‬

‫‪ - 4‬مرحلة غزو لبنان‪ ،‬صيف عام ‪ .1982‬وفيها بلغت مفاهيم‬


‫األمن اإلسرائيلي ذروتها‪ ،‬إذ عزمت القيادة اإلسرائيلية‬
‫على حتقيق هدفني إستراتيجيني‪:‬‬

‫أ ‪ -‬تدمير البنية العسكرية الفلسطينية تدميراً تاماً‪،‬‬


‫وإخ��راج منظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬نهائياً‪ ،‬من‬
‫لبنان‪ ،‬وهو ما حتقق معظَ مه‪.‬‬

‫‪314‬‬
‫ب ‪ -‬خلق نظام حكم في لبنان‪ ،‬يعقد معها معاهدة صلح‪.‬‬
‫وك��ان ات�ف��اق ال�س��اب��ع عشر م��ن أي��ار‪/‬م��اي��و ‪،1983‬‬
‫التعبير األوضح عن هذا الهدف‪.‬‬

‫‪ - 5‬م��رح�ل��ة م��ؤمت��ر م��دري��د ل�ل�س�لام (‪ 31 30‬ت�ش��ري��ن أول ‪/‬‬


‫أكتوبر وأول تشرين الثاني ‪ /‬نوفمبر ‪ .)1991‬وفيها‬
‫سعت إسرائيل‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬إلى دخ��ول مؤمتر السالم‬
‫بجرعة كبيرة من اإلحساس بالغلبة‪ ،‬وإلى ترسيخ مفهوم‬
‫ل�لأم��ن‪ ،‬يحقق لها‪ ،‬عبْر امل�ف��اوض��ات‪ ،‬م��ا ل��م يكُن ممكناً‬
‫استكمال حتقيقه‪ ،‬من خالل نظرية الهجوم القتالي‪ ،‬أو‬
‫نظرية الضربات القوية‪ .‬وتبينّ أن نقْل هذا املفهوم إلى‬
‫املسار اللبناني‪ ،‬سيخضع آللية معقدة‪ ،‬أساسها املزاوجة‬
‫بني املفاوضات واستمرار العمليات العسكرية‪.‬‬

‫ال شك أن املراحل اخلمس تداخلت تداخالً‪ ،‬تصعب معه دراسة‬


‫كلٍّ منها مبعزل عن األخرى‪ .‬فالسلسلة املتصلة لهذه املراحل‪ ،‬يؤلف‬
‫بينها منطق داخلي واح��د‪ ،‬مفاده بلوغ مفهوم أمني‪ ،‬يقضي بجعل‬
‫«الضفة الشمالية» مع لبنان‪ ،‬سياجاً أمنياً‪ ،‬ال تشوبه شائبة‪ .‬غير‬
‫أن هذا التداخل‪ ،‬أدى‪ ،‬في جانب مقابل‪ ،‬إلى اضطراب إسرائيل في‬
‫تعيني مفاهيم أمنية واضحة‪ .‬ورمبا لهذا السبب‪ ،‬استمرت املقاومة‬
‫في اجلنوب‪ ،‬وتواصلت معها العمليات اإلسرائيلية‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬النخبة اإلسرائيلية ومفهوم األمن اإلسرائيلي‬

‫ظ��ل ال �ن��زاع ق��ائ�م�اً ب�ين ال�ن�خ��ب اإلس��رائ�ي�ل�ي��ة‪ ،‬ح��ول مفهومَني‬


‫متناقضني لألمن في لبنان‪ .‬وغالباً ما مثّل النزا َع التياران الرئيسيان‪،‬‬ ‫َ‬
‫املتعاقبان على احل�ك��م‪« :‬ال�ع�م��ل» و»ال�ل�ي�ك��ود»‪ .‬فتيار «ال�ع�م��ل» بنى‬

‫‪315‬‬
‫نظريته األمنية على أسُ ��س تكتيكية عسكرية‪ ،‬مستبعداً النظرية‬
‫اإلس�ت��رات�ي�ج�ي��ة‪ ،‬ال�ق��ائ�م��ة ع�ل��ى األم��ن امل�ط�ل��ق‪ ،‬وال سيما ف��ي غياب‬
‫اإلجماع األيديولوجي‪ .‬وإزاء اخلوف من مغبة مواجَ هات‪ ،‬ميكِ ن أن‬
‫تؤدي إلى إثارة الشقاق في املجتمع اإلسرائيلي‪ ،‬وبإيعاز من القيادة‬
‫السياسية‪ ،‬وخصوصاً من جانب أقطاب «العمل» في السلطة ظهر‬
‫مفهوم جديد‪ ،‬هو «حدود ميكِ ن الدفاع عنها»‪ .‬وقد نظرت حكومات‬
‫إسرائيل (اب�ت��داء من أواس��ط الثمانينيات) إل��ى ه��ذه احل��دود‪ ،‬على‬
‫أنها حدود وقف إطالق النار‪ ،‬في حزيران‪/‬يونيه ‪.1967‬‬

‫انسحب هذا التوجه على لبنان‪ ،‬إذ انتُقدت القيادة الليكودية‪،‬‬


‫التي اجتاحته‪ ،‬ع��ام ‪ .1982‬إ ّال أن ه��ذه الظاهرة لم تقتصر على‬
‫املعارضة العمالية‪ ،‬بل تعدتها إلى قادة عسكريني‪ ،‬شاركوا في االجتياح‬
‫نفسه‪ .‬ومن هؤالء العقيد االحتياطي‪ ،‬جيورا فورمن‪ ،‬مساعد رئيس‬
‫شعبة العمليات في هيئة األرك��ان‪ ،‬خ�لال اجتياح لبنان‪ ،‬ال��ذي رأى‬
‫أن «التورط في لبنان‪ ،‬ينطوي على عنصرين‪ ،‬يتكون منهما املفهوم‪،‬‬
‫الذي استرشد به املسؤولون‪ .‬األول‪ ،‬ينطلق من وجهة النظر القائلة‬
‫بإمكانية خلق نظام جديد في دولة مجاورة‪ ،‬بالقوة‪ ،‬يحولها من عد ّو‬
‫إلى حليف‪ .‬أما الثاني‪ ،‬فيرى أن محاربة اإلرهاب‪ ،‬ميكِ ن أن تنتهي‬
‫بعملية عسكرية‪ .‬في حني يبدو واضحاً للجميع‪ ،‬أن احلل املطلوب‬
‫هو حل سياسي‪ ،‬وليس العنصر العسكري‪ ،‬إ ّال مجرد أداة له»‪.‬‬

‫أم��ا تيار «الليكود»‪ ،‬فهو مشبع بثقافة سياسية‪ ،‬قائمة على‬


‫نزعة ال�ق��وة‪ ،‬وه��ي ثقافة‪ ،‬ل��م ينفرد بها وزي��ر ال��دف��اع‪ ،‬أث�ن��اء حرب‬
‫لبنان‪ ،‬عام ‪ ،1982‬اجلنرال أرييل شارون ‪ ،Ariel Sharon‬وإمنا تعود‬
‫إل��ى ما قبل توليه ه��ذا املنصب‪ .‬لكن ش��ارون‪ ،‬ال��ذي ُع��دَّ أح��د أبرز‬
‫ممثلي ثقافة النزوع إلى القوة‪ ،‬أص ّر على ضرورة االحتفاظ مبفهوم‬
‫األمن القومي التقليدي‪ ،‬فيما يتعلق بلبنان‪ ،‬الذي وضع أ ُسسه األولى‬

‫‪316‬‬
‫بن غوريون‪ ،‬وشكّل أساس وجود دولة إسرائيل وأمنها‪ .‬وقد حرص‬
‫ش��ارون‪ ،‬في تقدميه حلرب ما أسماه «سالم اجلليل»‪ ،‬على ضرورة‬
‫مقابلتها باحلروب املاضية‪ .‬وه��و ما يعكس وجهة نظر تيار األمن‬
‫املطلق في إسرائيل‪ ،‬أي التيار القائل إن كل احلروب اإلسرائيلية في‬
‫لبنان‪ ،‬تنطوي على جوهر واحد‪ ،‬وإن أي محاكمة للمعطيات األمنية‪،‬‬
‫الناجمة عن كل واحدة منها‪ ،‬يجب أن تقاس على إيقاع هذا اجلوهر‪.‬‬
‫ولتأكيد وجهه نظر التيار الذي ميثله‪ ،‬استعرض أرييل شارون أربع‬
‫حاالت‪ ،‬كان قد وضعها‪ ،‬قبله‪ ،‬إيغال آلون‪ ،‬وجتيز إلسرائيل البحث في‬
‫ضرورة اجتياز خط وقف إطالق النار‪ ،‬سواء من أجْ ل غارة قصيرة‪،‬‬
‫أو من أجْ ل احتالل‪ :‬احلالة األول��ى‪ :‬إزال��ة أسباب احلرب الصغيرة‬
‫واإلرهاب والتخريب‪ ،‬التي تنفذ ضد إسرائيل‪ ،‬من قواعد تقع وراء‬
‫خط إطالق النار‪ ،‬وال ميكن كبحها بوسائل أكثر محدودية‪ .‬واحلالة‬
‫الثانية‪ :‬مد يد العون إلى حلفاء محتملني في بالد مجاورة‪ .‬واحلالة‬
‫الثالثة‪ :‬ف��ي ح��ال��ة ح��دوث تغيير‪ ،‬ي�ه��دد ال��وض��ع ال��راه��ن ف��ي إحدى‬
‫الدول املجاورة‪ .‬واحلالة الرابعة‪ :‬في حالة الهجوم‪ ،‬أو حشد القوات‬
‫املعادية‪ ،‬متهيداً للهجوم‪ .‬هذه هي احل��االت األرب��ع‪ ،‬التي دعا فيها‬
‫آلون إلى ض��رورة التدخل‪ ،‬في ضوء الظروف‪ ،‬اإلقليمية والدولية‪.‬‬
‫ويصفها شارون بأنها مطابقة لعملية «سالم اجلليل» في لبنان‪ ،‬التي‬
‫ال من حرب أكثر شمولية‪ ،‬كانت ستقع في وقت الحق»‪.‬‬ ‫كانت «بدي ً‬

‫وب �ص��رف ال�ن�ظ��ر ع��ن م �ب��ررات امل��ؤي��دي��ن لنتائج ح��رب «سالم‬


‫اجلليل»‪ ،‬أو انتقادات املعارضني لها‪ ،‬فإن السنوات‪ ،‬التي تلت تلك‬
‫احل��رب‪ ،‬لم حتسم املناقشة في شأنها‪ .‬ف��اإلجن��ازات التي حققتها‬
‫عملية الغزو‪ ،‬صيف ‪ ،1982‬ما لبثت أن ول��دت معطيات معاكسة‪،‬‬
‫وفرضت وجوب العودة إلى عدد من الثوابت‪ ،‬في مفهوم األمن عند‬
‫اإلسرائيليني‪ .‬ولئن كانت اإلجنازات قد حتددت‪ ،‬تقليدياً‪ ،‬بالقضاء‬

‫‪317‬‬
‫على بنية منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان‪ ،‬وبتوسيع احلزام‬
‫األمني إلى عمق ي��راوح بني ‪ 10‬و ‪ 15‬كم‪ ،‬على احل��دود مع لبنان‪،‬‬
‫وإقامة سياج من القوات الدولية بعمق ‪ 30‬كم‪ ،‬فإن هذه اإلجنازات‪،‬‬
‫لم متنع االختراقات الكبرى لألمن اإلسرائيلي في اجلنوب‪ .‬ولعل‬
‫أب��رزه��ا ح��رب االستنزاف الفعلية‪ ،‬التي قادتها املقاومة (الوطنية‬
‫واإلس�لام �ي��ة)‪ ،‬ض��د ج�ي��ش ل�ب�ن��ان اجل �ن��وب��ي‪ ،‬وم��واق��ع ان�ت�ش��ار قوات‬
‫االح �ت�لال اإلس��رائ�ي�ل��ي‪ ،‬ف��ي م��ا يسمى «املنطقة األم �ن �ي��ة»‪ .‬وتعكس‬
‫آراء النخب اإلسرائيلية‪ ،‬حيال النتائج املتعاقبة حلرب عام ‪،1982‬‬
‫ووجهات نظرها املختلفة في األمن‪ .‬وهي تعبّر عن مفهومَني‪ ،‬يحكمان‬
‫دولة إسرائيل‪ ،‬تاريخياً‪ .‬فالذين قادوا احلرب‪ ،‬ينتمون‪ ،‬تاريخياً‪ ،‬إلى‬
‫األصولية الصهيونية‪ .‬أمّا املعارضون‪ ،‬فهم أولئك الذين جزموا أن‬
‫استخدام القوة استخداماً يتخطى املألوف‪ ،‬وهو ما حدث في حرب‬
‫لبنان‪ ،1982 ،‬سيؤدي‪ ،‬حتماً‪ ،‬إلى إحلاق ضرر سياسي بعيد املدى‪،‬‬
‫بالدولة‪ ،‬هو أكبر من الفائدة التي ينطوي عليها‪.‬‬

‫قد يكون احلزام األمني‪ ،‬أو «املنطقة األمنية»‪ ،‬على ح ّد تعبير‬


‫رئ�ي��س أرك��ان اجل�ي��ش اإلس��رائ�ي�ل��ي ال�س��اب��ق‪ ،‬م��وش��ى ليفي‪ ،‬م��ن أهم‬
‫مكاسب إسرائيل وأشدها خطراً‪ ،‬عبْر اجتياحَ ني متواليَني‪ :‬األول عام‬
‫‪ ،1978‬والثاني عام ‪ .1982‬واملبررات التي يطرحها ليفي‪ ،‬هي «أننا‬
‫في حاجة إلى منطقة أمنية في لبنان‪ ،‬لعدم وجود سلطة حقيقية‬
‫فيه‪ .‬فنحن ال نحتاج إل��ى منطقة أمنية على ح��دودن��ا م��ع األردن‪،‬‬
‫مثالً‪ ،‬وال منطقة أمنية في هضبة اجلوالن‪ ،‬فهناك ترتيبات لفصل‬
‫القوات العسكرية‪ .‬وليس ثمة إرهاب بسبب وجود سلطة مسيطرة‬
‫على املنطقة»‪ .‬ويتبني من كالم ليفي‪ ،‬أن احلزام األمني‪ ،‬هو ضرورة‬
‫حيوية‪ ،‬إلقامة حاجز‪ ،‬بشري وجغرافي‪ ،‬يفصل بني احتماالت الهجوم‬
‫املسلح‪ ،‬من جانب املقاومة‪ ،‬ومستوطنات منطقة اجلليل األعلى‪ .‬غير‬

‫‪318‬‬
‫أن اإلستراتيجية القائمة على مفهوم املنطقة العازلة‪ ،‬ما لبثت أن‬
‫تعرضت الختراقات‪ ،‬ال حصر لها‪ ،‬باعتراف اإلسرائيليني أنفسهم‪.‬‬

‫لا م��ؤث��راً ف��ي احل��رب األهلية‬‫وأص �ب��ح «احل ��زام األم �ن��ي» ع��ام� ً‬
‫اللبنانية‪ ،‬إال أن��ه أمسى معضلة‪ ،‬أمنية وسياسية‪ ،‬تقلق مسؤولي‬
‫فضلوا إزالته؛ إذ رأوا أن‬ ‫األمن في إسرائيل‪ ،‬حتى إن بعضاً منهم‪ّ ،‬‬
‫ه��ذا «احل ��زام»‪ ،‬ب��ات ف��ي حاجة إل��ى ح��زام يحميه‪ ،‬م��ن ج��راء حرب‬
‫االستنزاف‪ ،‬التي شنتها عليه املقاومة‪ .‬وحرصت القيادة اإلسرائيلية‬
‫على االستفادة منه‪ ،‬استناداً إلى مرتكزات واقعية وجيوسياسية‪،‬‬
‫منها إشراف اإلسرائيليني على األمن مباشرة في املناطق احملتلة‪،‬‬
‫مع إعطاء «جيش لبنان اجلنوبي» مهمة االستطالع واإلنذار املبكر‪،‬‬
‫لا ع��ن اس�ت�خ��دام��ه ك�م�ت��اري��س ب�ش��ري��ة ل �ل��وح��دات اإلسرائيلية‪،‬‬‫ف �ض� ً‬
‫املتحركة أو الثابتة‪ .‬إضافة إلى رعاية إسرائيل امليليشيا اليمينية‬
‫في الشريط احلدودي‪.‬‬

‫سابع ًا‪ :‬أطماع إسرائيلية في مياه لبنان‬

‫م�ث�ل��ت احل ��رب األه �ل �ي��ة ال�ل�ب�ن��ان�ي��ة ف��رص��ة س��ان �ح��ة الستغالل‬
‫إسرائيل مياه جنوبي لبنان‪ ،‬التي طاملا طمعت بها‪ .‬ويتب ّدى هذا‬
‫الطمع في تصريح ليفي أشكول ‪ ،Levi Eshkol‬رئيس وزراء إسرائيل‬
‫األسبق‪ ،‬بأن «هناك نصف مليار م‪ 3‬من مياه نهر الليطاني‪ ،‬تضيع‪،‬‬
‫سنوياً‪ ،‬في البحر‪ .‬ويجب استغاللها في مصلحة شعوب املنطقة‪.‬‬
‫وال يَسَ ع إسرائيل‪ ،‬الظامئة‪ ،‬أن تقف مكتوفة اليدين‪ ،‬وهي ترى مياه‬
‫الليطاني‪ ،‬تتدفق إلى البحر‪ .‬إن القنوات باتت جاهزة في إسرائيل‬
‫(‪ ،)1967‬الستقبال مياه نهر الليطاني»‪ .‬وتفاقمت أزمة املياه العذبة‬
‫في إسرائيل‪ ،‬بعد أن استنفدت نحو ‪ % 98 - 95‬منها؛ وهي املقدرة‬

‫‪319‬‬
‫بنحو ‪ 1650 - 1610‬مليون م‪:3‬‬

‫وي��زداد استهالك إسرائيل للمياه‪ ،‬سنوياً‪ ،‬مبقدار ‪20 - 15‬‬


‫مليون م‪ ،3‬أي حوالي ‪ %1‬من استهالكها السنوي‪ .‬وبناء عليه‪ ،‬فإن‬
‫استهالكها من املياه‪ ،‬ازداد‪ ،‬منذ عام ‪ ،1949‬من ‪ %17‬من مواردها‬
‫املائية القابلة للتجدد‪ ،‬إلى ‪ ،%19‬عام ‪ ،1968‬وإلى حوالي ‪95 -‬‬
‫‪ ،%98‬ع��ام ‪ .1978‬ول �ه��ذا‪ ،‬ف��إن النمو االق�ت�ص��ادي املستقبلي في‬
‫إسرائيل‪ ،‬سيعتمد اعتماداً أساسياً‪ ،‬إمّا على تأمني مصادر جديدة‬
‫للمياه‪ ،‬من خارج إسرائيل‪ ،‬وإ ّم��ا على تطوير تقنيات جديدة‪ .‬ومـن‬
‫ثم‪ ،‬فإن إسرائيل‪ ،‬عانت‪ ،‬منذ عام ‪ ،1985‬عجزاً في املياه‪ ،‬بح ّد أدنى‬
‫‪ 150‬مليون م‪ .3‬وعلى ذلك‪ ،‬فإنه من األسهل أن تبحث إسرائيل عن‬
‫مصادر مياه خارجية‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬انبرت تطالب بتحويل ‪ 400‬مليون م‪ ،3‬على األقل‪ ،‬من‬


‫مياه نهر الليطاني (أي حوالي ‪ %55‬من طاقته الكلية)‪ ،‬وذلك عبْر‬
‫نفق‪ ،‬يبدأ من نقطة انعطاف النهر ‪ 90‬درجة‪ ،‬نحو الغرب‪ ،‬بالقرب‬
‫من قلعة الشقيف‪ ،‬القريبة من احلدود اإلسرائيلية‪ ،‬وذلك خالل ممر‬
‫عميق‪ ،‬ضيق‪ ،‬ميكن عنده تركيب أنبوب‪ ،‬طوله ‪ 6‬أميال‪ ،‬يحمل املياه‬
‫إلى املتوال‪ ،‬في شمالي إسرائيل‪.‬‬

‫تكتف إس��رائ�ي��ل بأطماعها‪ ،‬ب��ل أف�س��دت على لبنان‪ ،‬في‬


‫ِ‬ ‫ول��م‬
‫أوائ��ل السبعينيات‪ ،‬بناء سد‪ ،‬يستغل نحو ‪ 300‬مليون م‪ 3‬من مياه‬
‫الليطاني‪ ،‬تنساب إلى البحر‪ ،‬هدراً‪ .‬بل هي حتتفظ باجلوالن‪ ،‬كنقطة‬
‫إستراتيجية‪ ،‬تضمن لها السيطرة على منابع أنهر األردن والليطاني‬
‫واحلصباني‪.‬‬

‫‪320‬‬
‫القسم الرابع‬
‫دور جامعة الدول العربية‬

‫في احلرب األهلية اللبنانية‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬رؤي � ��ة اجل ��ام� �ع ��ة ال �ع��رب �ي��ة إل� ��ى احل � ��رب األهلية‬
‫ا للبنا نية‬

‫دفع تفجر األوضاع اللبنانية اجلامعة العربية‪ ،‬إلى البحث عن‬


‫صيغة قانونية لتعريب األزم��ة‪ ،‬بعد أن جتاوز خطرها لبنان‪ ،‬ليؤثر‬
‫تأثيراً مباشراً في السالم واألم��ن العربيني‪ .‬وظلت األمانة العامة‬
‫للجامعة العربية ترقب تطور األح��داث‪ ،‬وحت��وم ح��ول األزم��ة‪ ،‬حتى‬
‫ج��اءت م�ب��ادرة الكويت إل��ى دع��وة وزراء اخلارجية ال�ع��رب الجتماع‬
‫وعندئذ‪ ،‬وجدت األمانة العامة‬ ‫ٍ‬ ‫طارئ‪ ،‬وموافقة لبنان على الدعوة‪.‬‬
‫املبررات القانونية‪ ،‬ملناقشة «األزمة اللبنانية»‪ ،‬وهي سابقة في تاريخ‬
‫اجلامعة العربية‪ .‬وأ ّياً كانت مبررات االجتماع الطارئ‪ ،‬فإن نتائجه‬
‫أكدت‪ ،‬من جديد‪ ،‬خصوصية الواقع اللبناني‪ ،‬بتوازناته الدقيقة‪ ،‬وأنه‬
‫على الرغم من التدخالت‪ ،‬العربية واألجنبية‪ ،‬املعلنة والواضحة‪،‬‬
‫لا ل�ب�ن��ان�ي�اً»‪ ،‬ن�ظ��راً إل��ى عجز‬
‫ف��إن «احل��ل األف �ض��ل‪ ،‬ل��ن ي�ك��ون إ ّال ح� ً‬
‫وزراء اخلارجية العرب عن االق�ت��راب من جوهر األزم��ة اللبنانية‪،‬‬
‫واكتفائهم مبناقشة انعكاساتها على الساحة العربية‪ .‬وقد أثار ذلك‪،‬‬
‫من جديد‪ ،‬عالقة لبنان «احلساسة» باجلامعة العربية‪ ،‬منذ إنشائها‪،‬‬
‫حني اضطرت ال��دول العربية‪ ،‬التي وقعت بروتوكول اإلسكندرية‪،‬‬
‫في ‪ 7‬تشرين األول‪/‬أكتوبر ‪ ،1944‬قبَيل إنشاء اجلامعة‪ ،‬إلى تأكيد‬
‫«احترامها الستقالل لبنان وسيادته‪ ،‬ب�ح��دوده‪ ،‬احل��اض��رة‪ .‬وه��و ما‬

‫‪321‬‬
‫سبق حلكومات ه��ذه ال��دول أن اعترفت ب��ه‪ ،‬بعد أن انتهج سياسة‬
‫استقاللية‪ ،‬أعلنتها حكومته‪ ،‬في بيانها ال��وزاري‪ ،‬ال��ذي نالت عليه‬
‫موافقة املجلس النيابي»‪.‬‬

‫وعلى الرغم من مناصرة اجلامعة العربية لقضية استقالل‬


‫لبنان وسيادته‪ ،‬فقد ظل بعض القوى السياسية اللبنانية‪ ،‬تتشكك‬
‫ف��ي ف�ك��رة االن�ض�م��ام إل��ى اجل��ام�ع��ة‪ ،‬ب��دع��وى احل�ف��اظ على التوازن‬
‫الطائفي‪ .‬بل عارضت توقيع لبنان معاهدة ال��دف��اع املشترك‪ ،‬كما‬
‫رفضت فكرة إنشاء تنظيم خاص للمغتربني العرب في دول املهجر‪،‬‬
‫وتنظيم صفوفهم‪ ،‬لالستفادة منهم في خدمة القضايا العربية‪ .‬وخالل‬
‫األزمة اللبنانية‪ ،‬ما بني أيار وتشرين األول ‪ ،1958‬حتاشى مجلس‬
‫اجلامعة العربية‪ ،‬املنعقد في بنغازي‪ ،‬في حزيران ‪ /‬يونيو ‪،1958‬‬
‫التدخل في جوهر األزمة‪ ،‬لتعقيداتها‪ ،‬واكتفى بتوجيه نداء إلى أبناء‬
‫لبنان‪ ،‬حكاماً وق��ادة وشعباً‪ ،‬يناشدهم فيه جمع الكلمة‪ ،‬وتوحيد‬
‫الصفوف‪ ،‬ونبذ العنف‪ ،‬واستقبال بعثة صداقة وأخوّة‪ ،‬حاملة رسالة‬
‫العروبة وال��و ّد وال�س�لام‪ ،‬مستهدفة العمل على وق��ف االضطرابات‬
‫والقالقل‪ ،‬وتسوية اخلالفات بالسبُل الدستورية السليمة‪ .‬وبانتهاء‬
‫األزم��ة‪ ،‬حتت شعار «ال غالب‪ ،‬وال مغلوب»‪ ،‬وم��ع تزايد تيار العمل‬
‫العربي املشترك‪ ،‬ازداد دور لبنان في الشؤون العربية‪ ،‬حتى إنه بادر‬
‫إلى تشكيل بعثة دائمة لدى اجلامعة‪ ،‬عام ‪ ،1960‬واضطلع بدور‬
‫الوسيط في كثير من القضايا بني دولها‪.‬‬

‫وب��وق��وع ال�ع��دوان اإلسرائيلي‪ ،‬ع��ام ‪ ،1967‬وج��د لبنان نفسه‪،‬‬


‫طرفاً في مواجهة إسرائيل‪ ،‬نظراً إلى وج��ود املقاومة الفلسطينية‬
‫على أرض ��ه‪ ،‬ال��ذي جعله ه��دف �اً تكتيكياً ل�لاع �ت��داءات اإلسرائيلية‬
‫املتكررة‪ ،‬التي بلغت‪ ،‬في أوائل عام ‪ ،1975‬ح ّداً‪ ،‬جعل احلكومة تطلب‬
‫عقد دورة خاصة ملجلس الدفاع العربي املشترك‪ ،‬التخاذ «التدابير‬

‫‪322‬‬
‫الالزمة ملواجهة املوقف‪ .‬وق��د أق��ر املجلس‪ ،‬إث��ر اجتماعه‪ ،‬يومَي ‪5‬‬
‫و‪ 6‬شباط‪/‬فبراير ‪ ،1975‬بياناً‪ ،‬أعلن فيه اتخاذ «التدابير الالزمة‪،‬‬
‫الكفيلة مبواجهة املوقف‪ .‬والتزام الدول العربية كلها بالتضامن مع‬
‫لبنان‪ ،‬في دفاعه عن أراضيه وسيادته الوطنية‪ ،‬ودعم موقفه الصامد‬
‫ضد العدوان اإلسرائيلي‪ ،‬وذلك وفق ما حددته احلكومة اللبنانية»‪.‬‬
‫كما أعلن البيان استعداد الدول العربية لبذل املزيد من التضحيات‪،‬‬
‫لكفالة أمن لبنان وسالمته‪ ،‬وأمن الوطن العربي واستقراره‪ ،‬ولإلسهام‬
‫في تعزيز األمن والسالم الدوليني‪ ،‬على أ ُسُ س عادلة‪ ،‬ودائمة‪.‬‬

‫وجنم عن االعتداءات اإلسرائيلية املتكررة على جنوبي لبنان‪،‬‬


‫تزايد هجرة سكانه إلى داخل البالد‪ ،‬مما أدى إلى تفاقم الوضع‪،‬‬
‫االجتماعي والسياسي‪ .‬ولقد سبق ه��ذا وواك�ب��ه تفجر الصراعات‬
‫االجتماعية‪ ،‬ألسباب عديدة منها‪ :‬الهوة الكبيرة بني األغلبية الفقيرة‬
‫واألقلية الغنية‪ ،‬ووج��ود مناطق شديدة التخلف في لبنان‪ ،‬وظهور‬
‫مالمح تشير إلى اختالل التوازن التقليدي بني الطوائف املختلفة‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬مبادرة األمانة العامة جلامعة الدول العربية‬

‫ومع تفجر األوضاع اللبنانية‪ ،‬أصدرت األمانة العامة بياناً‪ ،‬في‬


‫‪ 21‬أيلول‪/‬سبتمبر ‪ ،1975‬وصفت فيه أحداث لبنان بأنها جتاوزت‬
‫كل تصور‪ ،‬وال يستطيع أحد تبريرها‪ .‬ورأت األمانة العامة‪ ،‬أن ثمة‬
‫أخطاراً تهدد الوطن العربي‪ ،‬ميكِ ن تلخيصها في ما يلي‪:‬‬

‫‪ - 1‬ت��ع��رُّض ل �ب �ن��ان ل�ل�ت�ق�س�ي��م‪ ،‬ت �ن �ف �ي��ذاً مل��ا ت� ��ردَّد ع��ن وجود‬


‫مخططات مشبوهة‪ ،‬إلنشاء دوي�لات عنصرية صغيرة‪،‬‬
‫مجاورة إلسرائيل‪.‬‬

‫‪ - 2‬استدراج الدول العربية إلى صراعات فيما بينها‪ ،‬تهدد‬

‫‪323‬‬
‫التضامن العربي وتضعفه‪.‬‬

‫‪ - 3‬إت��اح��ة ال�ف��رص��ة إلس��رائ�ي��ل‪ ،‬لتحقيق ج��زء م��ن سياستها‬


‫التوسعية التقليدية‪ ،‬بضمها جنوبي لبنان‪ ،‬واالستيالء‬
‫على منابع نهر الليطاني‪.‬‬

‫‪ - 4‬التأكيد للرأي العام العاملي‪ ،‬أن النظرية التي تنادي بها‬


‫منظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬والتي وج��دت صدى لدى‬
‫بعض قطاعات من الرأي العام‪ ،‬بإنشاء دولة فلسطينية‪،‬‬
‫يتعايش فيها اليهود واملسلمون واملسيحيون‪ ،‬ه��ي غير‬
‫قابلة للتطبيق عملياً‪ ،‬بدليل ما يحدث في لبنان‪.‬‬

‫وإزاء ه��ذه األخ �ط��ار امل��رت�ق�ب��ة‪ ،‬ال�ت��ي ال ت�ه��دد ل�ب�ن��ان فحسب‪،‬‬


‫ب��ل مي��كِ ��ن أن ت��ؤث��ر ت��أث�ي��راً م�ب��اش��راً ف��ي ال��وط��ن العربي كله واصلت‬
‫األمانة العامة حتركها‪ ،‬دبلوماسياً‪ ،‬بإجراء اتصاالت مع سفير لبنان‬
‫والسفراء العرب إلى القاهرة‪ ،‬ومع وزراء اخلارجية العرب‪ ،‬ورؤساء‬
‫الوفود العربية‪ ،‬في مقر األمم املتحدة‪ ،‬في نيويورك‪ ،‬لبحث الوسائل‬
‫املجدية لتطويق األحداث في لبنان‪ ،‬ووقف املذابح الدموية فيه‪ .‬وقد‬
‫اقترح األمني العام على وزراء اخلارجية العرب عقد اجتماع على‬
‫هيئة مجلس اجلامعة‪ ،‬وإص��دار بيان‪ ،‬يناشد لبنان احملافظة على‬
‫وحدته الوطنية‪ .‬إال أن رد بيروت على ه��ذه االت �ص��االت‪ ،‬ك��ان رداً‬
‫سلبياً‪ ،‬برفض تعريب القضية‪ ،‬على أساس أن احلل سيكون لبنانياً‪.‬‬

‫ل��م تفتر ج�ه��ود األم��ان��ة ال�ع��ام��ة‪ ،‬ب��ل أخ��ذت تبحث ع��ن صيغة‬
‫قانونية‪ ،‬ألداء دور في معاجلة املوقف املتدهور‪ .‬وعندما انطلق نداء‬
‫البطريرك املاروني‪ ،‬خريش‪ ،‬يطلب‪ ،‬في برقية له‪ ،‬تدخّ ل اجلامعة‬
‫العربية‪ ،‬كثفت األم��ان��ة العامة اتصاالتها‪ .‬ولكن برقية البطريرك‬

‫‪324‬‬
‫تصل‪ ،‬ألسباب مجهولة‪ ،‬لم تكن مبرراً‬ ‫املاروني‪ ،‬التي أعلن عنها‪ ،‬ولم ِ‬
‫قانونياً كافياً لتدخّ ل اجلامعة‪ .‬وظل احلال على ما هو عليه‪ ،‬حتى‬
‫جاءت مبادرة الكويت‪ ،‬في ‪ 8‬تشرين األول ‪ /‬أكتوبر ‪ ،1975‬إلى طلب‬
‫عقد اجتماع طارئ لوزراء اخلارجية العرب فوجدت األمانة العامة‬
‫في هذه الدعوة‪ ،‬وموافقة لبنان عليها‪ ،‬الصيغة القانونية املنشودة‪،‬‬
‫لتشارك في إيجاد حل للقضية اللبنانية‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬االجتماع الطارئ لوزراء اخلارجية العرب‬

‫رحبت األمانة العامة للجامعة العربية مببادرة الكويت‪ .‬وصرح‬


‫األمني العام بأن دعوة الكويت‪ ،‬هو عمل عربي مهم‪ .‬ودعا إلى تضافر‬
‫كل اجلهود‪ ،‬إلعادة األمن واالستقرار إلى لبنان‪ ،‬من خالل احلفاظ‬
‫على وحدته الوطنية‪ .‬وجاءت موافقة احلكومة اللبنانية على الدعوة‬
‫الكويتية‪ ،‬في برقية رئيسها‪ ،‬الذي أعلن املوافقة على هذه الدعوة‪،‬‬
‫في املكان والزمان‪ ،‬اللذين تقررهما اجلامعة العربية‪ .‬بينما رفضت‬
‫األحزاب والقوى الوطنية التقدمية اللبنانية‪ ،‬في بيان أصدرته في‬
‫‪ 14‬تشرين األول ‪ /‬أكتوبر ‪ ،1975‬أي تعريب للنزاع اللبناني‪ .‬وطالب‬
‫البيان ال��دول العربية ببذل جهودها‪ ،‬من أج��ل اإلسهام في تسوية‬
‫النزاع‪ ،‬في اإلطار الداخلي اللبناني‪.‬‬

‫ل��م تلتفت األم��ان��ة العامة إل��ى أص��وات امل�ع��ارض��ة أو الرفض‪،‬‬


‫سواء من جانب بعض احلكومات العربية‪ ،‬أو املقاومة الفلسطينية‪،‬‬
‫أو القوى السياسية اللبنانية‪ .‬وبناء على اتصاالتها مع سفير لبنان‬
‫إلى القاهرة‪ ،‬ملناقشة أسلوب معاجلة األزمة اللبنانية‪ ،‬حُ ِّدد ميعاد‬
‫االجتماع الطارئ في منتصف تشرين األول ‪ /‬أكتوبر ‪ .1975‬ولم‬
‫تنتظر األم��ان��ة العامة أي ردود من ال��دول األع�ض��اء‪ ،‬نظراً إل��ى أن‬
‫الدولتَني‪ ،‬الداعية‪ ،‬وهي الكويت‪ ،‬والدولة املعنية‪ ،‬وهي لبنان‪ ،‬قد‬

‫‪325‬‬
‫وافقتا على االجتماع‪.‬‬

‫وفي املوعد احملدد‪ ،‬عقد االجتماع الطارئ‪ ،‬في حضور ‪ 13‬وزيراً‬


‫للخارجية‪ ،‬وخمسة سفراء‪ ،‬كرؤساء وف��ود ‪ 18‬دول��ة عربية‪ .‬وتولى‬
‫وزي��ر الدولة للشؤون اخلارجية في دول��ة اإلم��ارات العربية‪ ،‬رئاسة‬
‫االجتماع‪ .‬وتغيب عنه ليبيا وسورية ومنظمة التحرير الفلسطينية‪.‬‬
‫وبينما اكتفت ليبيا بعدم تلبية الدعوة‪ ،‬فإن سورية أعلنت‪ ،‬رسمياً‪،‬‬
‫ع��دم اشتراكها‪ ،‬وا ّدع��ت أن��ه من األفضل‪ ،‬أن ينصب االهتمام على‬
‫مناقشة اتفاقية سيناء‪ ،‬التي تشكل اخللفية ألح��داث لبنان‪ .‬كما‬
‫أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬أن االجتماع هو محاولة إلبعاد‬
‫االهتمام ع��ن اتفاقية سيناء‪ ،‬وإلق�ح��ام ال�ع��رب ف��ي معركة جانبية‪،‬‬
‫وأكدت أن عدم حضورها‪ ،‬كان بدافع حرصها على جتنّب الدخول‬
‫في معارك‪ ،‬جانبية وثانوية‪.‬‬

‫ب��دأت االجتماعات بجلسة علنية‪ ،‬حت��دث فيها األم�ين العام‬


‫للجامعة‪ ،‬وأكد احلقائق التالية‪:‬‬

‫‪ - 1‬إن هذا االجتماع هو جتسيد حلقيقة أساسية‪ ،‬وهي أن‬


‫كل ما ميس أمن الشعب العربي وسالمته‪ ،‬في أي جزء‬
‫من أج��زاء الوطن العربي‪ ،‬إمنا ميس أمن األمة العربية‬
‫وسالمتها‪ .‬ومن هذا املنطلق‪ ،‬كان كل املبادرات العربية‪،‬‬
‫ب�ه��دف م�س��اع��دة ل�ب�ن��ان ع�ل��ى أن يستعيد أم�ن��ه وصيانة‬
‫وحدته الوطنية‪.‬‬

‫‪ - 2‬إن ع �ل��ى ال �ع��رب أن ي �ت �ظ��اف��روا‪ ،‬م��ن أج ��ل ع���ودة األمن‬


‫والوحدة إلى لبنان؛ ذلك أن إسرائيل‪ ،‬رأت في ما يجري‬
‫في لبنان‪ ،‬انهياراً لفكرة التعايش السمح بني الطوائف‬

‫‪326‬‬
‫املختلفة‪ ،‬داخ��ل دول��ة واح ��دة‪ ،‬وه��ي‪ ،‬ل��ذل��ك‪ ،‬تسعى إلى‬
‫تعميق اخلالف‪.‬‬

‫‪ - 3‬إن على اللبنانيني أن يقطعوا األي ��دي‪ ،‬ال�ت��ي تعمل في‬


‫الظالم‪ ،‬من اخلارج‪ ،‬ألن لبنان‪ ،‬في النهاية‪ ،‬ملك لشعبه‪،‬‬
‫مسلمني ومسيحيني‪ ،‬وألن ح��ل املشكلة اللبنانية‪ ،‬يقع‪،‬‬
‫أس��اس �اً‪ ،‬على ع��ات��ق اللبنانيني أنفسهم‪ ،‬وأن��ه ال جدوى‬
‫حتظ‬
‫َ‬ ‫من إصدار القرارات حلل املشكلة اللبنانية‪ ،‬إذا لم‬
‫بقبول اللبنانيني واستعدادهم لتنفيذها‪.‬‬

‫وف��ي ب��داي��ة اجللسة املغلقة‪ ،‬ألقى وزي��ر اخلارجية اللبنانية‪،‬‬


‫كلمة‪ ،‬شرح فيها املوقف في لبنان‪ ،‬وما اتخذته السلطات اللبنانية‬
‫من إج��راءات لتهدئة األوض��اع‪ ،‬وإع��ادة األم��ن إلى حالته الطبيعية‪.‬‬
‫ولكنه لم يحدد أي مطالب‪ .‬وكان احلذر سمة واضحة في أسلوب‬
‫الوزير اللبناني‪ .‬كما حتدث وزير اخلارجية املصري‪ ،‬داعياً إلى وقف‬
‫كل صور التدخل في شؤون لبنان‪ .‬وأوضح الوزير املصري وجهة نظر‬
‫مصر‪ ،‬مؤكداً حرصها على وحدة لبنان‪ ،‬وسالمة أراضيه‪ ،‬ومساندة‬
‫الشعب اللبناني على اخلروج من مِ حنته احلالية‪.‬‬

‫ث��م ت �ن��اوب وزراء اخل��ارج �ي��ة إب���داء وج �ه��ات ال �ن �ظ��ر‪ ،‬املتعلقة‬


‫باملشكلة‪ .‬فقال وزير اخلارجية العراقي‪ ،‬إن مشكلة لبنان هي مشكلة‬
‫داخلية‪ .‬وإن االجتماع‪ ،‬يجب أ ّال يتجه إلى التدخل في هذه القضية‬
‫الداخلية‪ ،‬وإمنا يجب أن يتجه إلى اجلانب القومي منها‪ .‬كما اقترح‬
‫ال��وزي��ر السعودي تشكيل جلنة رباعية‪ ،‬من وزراء خارجية ك��لٍّ من‬
‫لبنان والكويت ودولة اإلمارات واألمني العام للجامعة العربية‪ ،‬لبلورة‬
‫املقترحات‪ ،‬التي ترِ د من رؤساء الوفود العربية‪ ،‬في شأن حل املشكلة‬
‫اللبنانية‪ .‬وقد أعدت اللجنة بيان وزراء اخلارجية العرب إلى الشعب‬

‫‪327‬‬
‫اللبناني‪ ،‬ال��ذي أق��روه ال��وزراء في جلستهم الثانية واخلتامية‪ ،‬في‬
‫اليوم التالي (‪ 16‬تشرين الثاني ‪ /‬أكتوبر)‪ .‬ناشدوا فيه األطراف‬
‫املتصارعني ف��ي لبنان ضبط النفس‪ ،‬والتحلي باحلكمة والروية‪،‬‬
‫وإن�ه��اء االق�ت�ت��ال‪ .‬وأك��د وزراء اخلارجية ال�ع��رب ح��رص دول�ه��م على‬
‫سيادة لبنان ووحدة أراضيه وشعبه‪ ،‬وأن أي عدوان عليه‪ ،‬هو عدوان‬
‫على الدول العربية كلها‪ .‬وأشار البيان إلى أن الدفاع عن لبنان ضد‬
‫أي ع��دوان إسرائيلي‪ ،‬هو مسؤولية عربية جماعية‪ ،‬طبقاً ألحكام‬
‫ميثاق اجلامعة العربية‪ .‬وناشد البيان ال��دول العربية‪ ،‬أن تواصل‪،‬‬
‫مجتمعة ومنفردة‪ ،‬تقدمي العون إلى لبنان‪ .‬وطلب وزراء اخلارجية‬
‫من األم�ين العام للجامعة‪ ،‬أن يظل على اتصال وثيق مع احلكومة‬
‫اللبنانية‪ ،‬وباقي الدول األعضاء‪ ،‬وأن يدعو إلى اجتماع عربي‪ ،‬على‬
‫أي مستوى‪ ،‬يرى لبنان عقده ضرورياً أو مفيداً‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬نتائج االجتماع الطارئ‪ ،‬وردود الفعل‬

‫ميكن إلقاء الضوء على نتائج االجتماع الطارئ لوزراء اخلارجية‪،‬‬


‫وردود الفعل إزاءها‪ ،‬في نقطتَني رئيسيتَني‪ .‬أوالهما‪ ،‬تتعلق بالضغوط‬
‫املختلفة‪ ،‬التي تعرض لها االجتماع‪ .‬وثانيتهما‪ ،‬تتعلق مبسألة تعريب‬
‫األزمة اللبنانية‪.‬‬

‫واملالحظ أن اجتماع وزراء اخلارجية العرب‪ ،‬قد سبقه‪ ،‬وواكبه‪،‬‬


‫وأعقبه حمالت إعالمية عنيفة‪ ،‬خاصة من جانب أجهزة اإلعالم‪،‬‬
‫السورية والفلسطينية‪ ،‬واألح��زاب والتجمعات التقدمية اللبنانية‪.‬‬
‫ال ومضموناً‪.‬‬
‫استهدفت‪ ،‬أساساً‪ ،‬تغيير جدول أعمال املؤمتر‪ ،‬شك ً‬

‫وثمة ضغوط أخ��رى‪ ،‬وإن كانت تختلف‪ ،‬ف��ي اجتاهاتها‪ ،‬عن‬


‫الضغوط السورية والفلسطينية‪ ،‬تعرّض لها وزراء اخلارجية العرب‪،‬‬

‫‪328‬‬
‫عشية اجتماعهم الطارئ؛ إذ حاول بعض القوى تصعيد التوتر املسلح‬
‫في بيروت‪ ،‬وحول املخيمات الفلسطينية بالذات‪ ،‬للتأثير في مناخ‬
‫االجتماع‪ ،‬وإعطاء انطباع خاطئ‪ ،‬أن الصراع الدائر في لبنان‪ ،‬هو‬
‫صراع لبناني فلسطيني محض‪ ،‬استجابة لبعض القوى‪ ،‬الراغبة في‬
‫طرح املشكلة اللبنانية الفلسطينية‪ ،‬بكل أبعادها وأخطارها‪ ،‬على‬
‫مجلس اجلامعة العربية‪.‬‬

‫أما اخلط السياسي الرئيسي في البيان اخلتامي لالجتماع‪،‬‬


‫فقد تضمن نداء متوازناً لكل األط��راف‪ ،‬دون محاولة الوصول إلى‬
‫عمق املشكلة‪ ،‬وحتديد األطراف التي تهدد أمن لبنان‪ .‬وكان طبيعياً‪،‬‬
‫أن يعلن وزي��ر خارجية لبنان عن رض��اء حكومته الكامل عن نتائج‬
‫االج�ت�م��اع‪ ،‬التي ج��اءت‪ ،‬على ح � ّد تعبيره‪ ،‬م�ت��وازن��ة‪ ،‬ومتماشية مع‬
‫األط��راف احمليطة بلبنان‪ ،‬داخلياً وعربياً ودولياً‪ .‬كما صرح األمني‬
‫العام للجامعة‪ ،‬أنه ليس في اإلمكان أكثر مما كان‪ .‬فلبنان ال يعاني‬
‫�واج��ه‪ ،‬ك��ذل��ك‪ ،‬ت�ه��دي��داً خارجياً‬
‫مشكلة دام�ي��ة فحسب‪ ،‬وإمن��ا ه��و ي� ِ‬
‫باستغالل املوقف‪ .‬ولذلك‪ ،‬فقد أعلنت ال��دول العربية استعدادها‬
‫للوقوف ضد أي محاولة الستغالل املوقف اللبناني من اخلارج‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬أكد مجلس اجلامعة العربية‪ ،‬من جديد‪ ،‬ما قرره مجلس‬
‫الدفاع العربي‪ ،‬في شباط ‪ /‬فبراير ‪ ،1975‬حول مسؤولية الدول‬
‫العربية ف��ي التضامن م��ع لبنان‪ ،‬ف��ي دف��اع��ه ع��ن أراض�ي��ه وسيادته‬
‫الوطنية‪ .‬أمّا جوهر األزم��ة‪ ،‬فقد تأكد‪ ،‬من خالل البيان اخلتامي‪،‬‬
‫ال لبنانياً‪،‬‬
‫قناعة بأن حل األزم��ة اللبنانية‪ ،‬ال ميكن أن يكون إال ح ً‬
‫وهو ما نصت عليه الفقرة األخيرة من البيان‪ ،‬رهنت أمر العودة إلى‬
‫مثل هذا االجتماع‪ ،‬برغبة لبنان نفسه‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫خامس ًا‪ :‬مبادرة األمني العام جلامعة الدول العربية‬

‫تواصلت جهود األمانة العامة‪ ،‬وتكثفت‪ ،‬إثر الغزو اإلسرائيلي‬


‫للبنان‪ ،‬ف��ي ب��داي��ة صيف ع��ام ‪ ،1982‬مل��واج�ه��ة نتائج ه��ذا الغزو‪،‬‬
‫والتصدي ألخطاره‪ .‬ومتابعة لهذه اجلهود‪ ،‬زار األمني العام للجامعة‬
‫العربية لبنان‪ ،‬في ‪ 3‬آب‪/‬أغسطس ‪ ،1984‬حيث اجتمع إلى رئيس‬
‫اجلمهورية اللبنانية‪.‬‬

‫ونتيجة الج�ت�م��اع العمل ال �ط��ارئ‪ ،‬ال��ذي ع�ق��ده األم�ين العام‪،‬‬


‫في آب‪/‬أغسطس ‪ ،1984‬أصدر قراراً بتشكيل فريق عمل مختص‬
‫بجنوبي لبنان‪ ،‬في األمانة العامة للجامعة العربية‪ ،‬برئاسة األمني‬
‫ال�ع��ام املساعد للشؤون العربية‪ ،‬وعضوية ممثلني ملختلف إدارات‬
‫األمانة العامة ذات العالقة‪ .‬وناط األمني العام بهذا الفريق مهمة‬
‫متابعة الوضع في لبنان من جميع نواحيه‪ ،‬واقتراح خطوات التحرك‬
‫الالزمة‪.‬‬

‫وبناء على مبادرة األمني العام هذه‪ ،‬بدأ حترك مخطط لدعم‬
‫قضية اجلنوب واألراضي اللبنانية احملتلة‪ ،‬شمل املستويَني‪ ،‬العربي‬
‫والدولي‪ ،‬ومن جميع اجلوانب‪ ،‬الدبلوماسية واإلعالمية واالقتصادية‬
‫واالجتماعية‪.‬‬

‫ففي إطار التحرك على املستوى العربي‪:‬‬

‫‪ - 1‬وجّ ��ه األم�ين ال�ع��ام رس��ائ��ل إل��ى امل�ل��وك وال��رؤس��اء ووزراء‬


‫اخلارجية العرب‪ ،‬تلفت إلى التطورات النوعية اخلطيرة‪،‬‬
‫التي يشهدها جنوبي لبنان‪ ،‬نتيجة االحتالل اإلسرائيلي‪،‬‬
‫ن �ظ��راً إل��ى م��ا ل��ه م��ن أث��ر ف��ي تصعيد احل��رب األهلية‪،‬‬
‫وت�ن��اش��د ال �ق �ي��ادات العليا ل�لأم��ة ال�ع��رب�ي��ة ات �خ��اذ موقف‬

‫‪330‬‬
‫عربي م��وح��د‪ ،‬س��ري��ع‪ ،‬ف��ي شأنها‪ .‬كما وجّ ��ه رس��ائ��ل إلى‬
‫جميع وزراء اخلارجية العرب‪ ،‬تدعو إلى ض��رورة عودة‬
‫السفراء العرب إلى بيروت‪ ،‬دعماً جلهود حكومة الوفاق‬
‫الوطني في إعادة معالم احلياة الطبيعية إلى العاصمة‬
‫اللبنانية‪ .‬وبالفعل‪ ،‬استجاب امل�ل��وك وال��رؤس��اء ووزراء‬
‫اخلارجية العرب‪ ،‬ملبادرة األمني العام‪.‬‬

‫‪ - 2‬وات �خ��ذ امل�ج�ل��س‪ ،‬االق �ت �ص��ادي واالج �ت �م��اع��ي‪ ،‬ف��ي دورته‬


‫السابعة والثالثني (ف��ي عمان ‪ 30 27‬آب ‪ /‬أغسطس‬
‫‪ ،)1984‬واستكماالً للجهود‪ ،‬التي كانت بذلتها األمانة‬
‫ال�ع��ام��ة‪ ،‬ول �ل �ق��رارات ال�س��اب�ق��ة‪ ،‬ق ��راراً ن��اش��د ف�ي��ه الدول‬
‫ال�ع��رب�ي��ة ف�ت��ح أس��واق �ه��ا أم ��ام امل�ن�ت�ج��ات ال��زراع �ي��ة‪ ،‬ذات‬
‫املنشأ اللبناني املؤكد‪ ،‬دعماً لصمود الشعب اللبناني في‬
‫مواجَ هة العدوان اإلسرائيلي‪ ،‬ودعوة السلطات اللبنانية‬
‫إل��ى اتخاذ اإلج��راءات اإلضافية الالزمة للحيلولة دون‬
‫تسرب املنتجات اإلسرائيلية عبر أراضيها‪.‬‬

‫‪ - 3‬وب��ادرت األمانة العامة إلى إدراج موضوع جنوبي لبنان‬


‫واألراض ��ي اللبنانية احملتلة‪ ،‬ف��ي ج��دول أع�م��ال مجلس‬
‫اجلامعة‪ ،‬في دورته الثانية والثمانني (تونس ‪25 - 24‬‬
‫أيلول‪/‬سبتمبر ‪ .)1984‬واتخذ املجلس‪ ،‬في هذا الشأن‪،‬‬
‫ق ��راراً م �ط��والً‪،‬أك��د ف�ي��ه س �ي��ادة ل�ب�ن��ان وح�ق��وق��ه الوطنية‬
‫الثابتة‪ .‬ودعا األمني العام للجامعة إلى متابعة مساعيه‪،‬‬
‫لتنفيذ ال �ق��رارات ال�ع��رب�ي��ة‪ ،‬ال��رام�ي��ة إل��ى دع��م الصمود‬
‫اللبناني في اجلنوب‪.‬‬

‫‪ - 4‬ووجّ ه األمني العام رسائل إلى املجالس الوزارية العربية‪،‬‬

‫‪331‬‬
‫وإلى املنظمات العربية املتخصصة‪ ،‬واالحتادات العربية‬
‫ذات العالقة‪ ،‬تشرح الوضع اخلطير في جنوبي لبنان‪،‬‬
‫وتطلب إدراج قضيته ف��ي ج��داول أع�م��ال اجتماعاتها‪،‬‬
‫وات �خ��اذ ال �ق��رارات واإلج � ��راءات‪ ،‬الكفيلة ب��دع��م صمود‬
‫اجلنوب‪ ،‬ومساندة مقاومته الوطنية‪ ،‬وكذلك‪ ،‬التحرك‬
‫الفوري‪ ،‬في شأن هذة القضية‪ ،‬على الصعي َدين‪ ،‬العربي‬
‫والدولي‪ ،‬كلٌّ في نطاق اختصاصه‪.‬‬

‫‪ - 5‬وق��د استجابت امل�ج��ال��س ال��وزاري��ة العربية‪ ،‬واملنظمات‬


‫العربية املتخصصة‪ ،‬التي عقدت اجتماعاتها خالل هذه‬
‫ال�ف�ت��رة‪ ،‬ل��دع��وة األم�ين ال�ع��ام‪ ،‬ف��أدرج��ت م��وض��وع جنوبي‬
‫لبنان في جداول أعمالها‪ ،‬واتخذت عدداً من القرارات‬
‫واإلجراءات املهمة‪ ،‬في هذا اخلصوص‪.‬‬

‫فعلى سبيل املثال‪ ،‬واستجابة ملبادرة األمني العام‪ ،‬وفي ضوء‬


‫الرسائل التي وجّ هها‪ ،‬قرر «مجلس إدارة منظمة العمل العربية»‪ ،‬في‬
‫دورت��ه السابعة عشرة (بغداد ‪ 29‬أيلول‪/‬سبتمبر ‪ 3‬تشرين األول‪/‬‬
‫أكتوبر ‪ ،)1984‬تكليف امل��دي��ر ال�ع��ام ملكتب العمل ال�ع��رب��ي‪ ،‬إجراء‬
‫االت �ص��االت العاجلة م��ع أط��راف اإلن�ت��اج ف��ي اجلمهورية اللبنانية‪،‬‬
‫متهيداً إلق��رار برنامج للتعاون الفني‪ ،‬لدعم جنوبي لبنان‪ ،‬إضافة‬
‫إل��ى التحرك مع املنظمات‪ ،‬اإلقليمية وال��دول�ي��ة‪ ،‬إلدان��ة ممارسات‬
‫االحتالل اإلسرائيلي في اجلنوب‪.‬وتنفيذاً لهذا القرار‪:‬‬

‫‪ - 1‬أبدى املدير العام ملكتب العمل العربي استعداده لزيارة‬


‫لبنان‪ ،‬لالتصال مع أط��راف اإلن�ت��اج مباشرة‪ ،‬والوقوف‬
‫على حاجاتهم‪.‬‬

‫‪332‬‬
‫‪ - 2‬ك�م��ا ط�ل��ب امل�ك�ت��ب م��ن وزارة ال�ع�م��ل ال�ل�ب�ن��ان�ي��ة موافاته‬
‫ب��االق �ت��راح��ات‪ ،‬ح��ول ال�ب��رن��ام��ج امل�ق�ت��رح ل��دع��م اجلنوب‪.‬‬
‫وقد تلقى املكتب‪ ،‬بالفعل‪ ،‬في ‪ 26‬كانون األول‪/‬ديسمبر‬
‫‪ ،1984‬املشروع اللبناني املقترح لبرنامج التعاون الفني‬
‫لدعم اجلنوب‪ ،‬ال��ذي ك��ان سيعرض على ال��دورة الثالثة‬
‫عشرة للمؤمتر العام ملنظمة العمل العربية‪ ،‬في آذار‪/‬‬
‫مارس ‪.1985‬‬

‫‪ - 3‬واتخذ مجلس وزراء الشؤون االجتماعية العرب‪ ،‬في دورته‬


‫اخلامسة (ت��ون��س ‪ 4‬و‪ 5‬ك��ان��ون األول‪/‬دي�س�م�ب��ر ‪،)1984‬‬
‫قراراً‪ ،‬أعرب فيه عن تقديره ملبادرة األمني العام للجامعة‪،‬‬
‫في شأن جنوبي لبنان‪ ،‬وقرر تقدمي معونة نقدية عاجلة‬
‫إلى احلكومة اللبنانية‪ ،‬ملواجَ هة بعض النفقات االستثنائية‪،‬‬
‫إلغاثة املنكوبني من أبناء اجلنوب‪ ،‬ودعوة املكتب التنفيذي‬
‫لتحديد مبالغ امل�ع��ون��ة‪ ،‬ف��ي ح��دود م��وج��ودات الصندوق‬
‫العربي للعمل االجتماعي‪ ،‬ودراسة سُ بُل تأمني املساعدات‬
‫للجنوب اللبناني‪ .‬وتنفيذاً لقرار مجلس وزراء الشؤون‬
‫االجتماعية العرب‪ ،‬اتخذ املكتب التنفيذي للمجلس قراراً‬
‫بصرف مبلغ ثالثمائة ألف دوالر‪ ،‬كمعونة عاجلة للحكومة‬
‫اللبنانية‪ ،‬إلغاثة املنكوبني من أبناء اجلنوب‪ ،‬وتكليف األمانة‬
‫الفنية االتصال مع اجلهات اللبنانية‪ ،‬لتحديد اجلهة‪ ،‬التي‬
‫سيحوَّل إليها امل��ال وإلع��داد دراس��ة ح��ول كيفية إيصال‬
‫املساعدات إلى اجلنوب اللبناني‪ ،‬مستقبالً‪.‬‬

‫‪ - 4‬وبحث مجلس وزراء الداخلية العرب موضوع جنوبي لبنان‪،‬‬


‫واألراضي اللبنانية احملتلة‪ ،‬في دورته الثالثة (تونس ‪- 1‬‬
‫‪ 3‬كانون األول‪/‬ديسمبر ‪ ،)1984‬وأصدر في شأنه بياناً‪،‬‬

‫‪333‬‬
‫ناشد فيه الدول العربية مساندة الدولة اللبنانية‪ ،‬على‬
‫جهودها الهادفة إلى سحب قوات االحتالل اإلسرائيلي‬
‫من األراضي اللبنانية احملتلة‪ ،‬ودعم احلُكم اللبناني في‬
‫مسيرته اإلنقاذية‪.‬‬

‫‪ - 5‬وكانت األمانة العامة قد بادرت إلى إدراج موضوع جنوبي‬


‫ل�ب�ن��ان‪ ،‬واألراض ��ي اللبنانية احمل�ت�ل��ة‪ ،‬ف��ي ج��دول أعمال‬
‫مجلس وزراء اإلعالم العرب‪ ،‬في دورته العشرين (تونس‬
‫‪ 15‬و‪ 16‬تشرين األول ‪ /‬أكتوبر ‪ .)1984‬واتخذ املجلس‪،‬‬
‫ف��ي ه��ذا ال�ش��أن‪ ،‬ق��راراً بتكثيف العمل اإلع�لام��ي‪ ،‬على‬
‫املستويَني‪ ،‬العربي وال��دول��ي‪ ،‬م��ن أج��ل تبيان التطورات‬
‫اخلطيرة‪ ،‬التي يشهدها اجلنوب والبقاع الغربي‪ ،‬نتيجة‬
‫ال‬
‫م�خ�ط�ط��ات االح �ت�لال اإلس��رائ �ي �ل��ي ومم��ارس��ات��ه‪ ،‬فض ً‬
‫عن تعزيز جهود احلكومة اللبنانية‪ ،‬الرامية إل��ى إنهاء‬
‫االح�ت�لال‪ ،‬وتقدمي الدعم إل��ى ال��دول��ة اللبنانية‪ ،‬لتثبيت‬
‫مسيرة اإلنقاذ‪.‬‬

‫وفي إطار التحرك على املستوى الدولي‪ ،‬شملت مبادرة األمني‬


‫العام ع��دداً من رؤس��اء ال��دول الكبرى‪ ،‬وأه��م املنظمات‪ ،‬اإلقليمية‬
‫وال��دول �ي��ة‪ ،‬ذات ال�ع�لاق��ة‪ ،‬وال�ب�ع�ث��ات اخل��ارج�ي��ة للجامعة ومجالس‬
‫السفراء العرب‪.‬‬

‫وكان موضوع جنوبي لبنان‪ ،‬واألراضي اللبنانية احملتلة‪ ،‬موضوعاً‬


‫رئيسياً في االتصاالت الدولية املباشرة‪ ،‬التي أجراها األمني العام‬
‫لألمانة العامة‪ ،‬إذ‪:‬‬

‫‪ - 1‬زار األمني العام‪ ،‬في ‪ 4‬أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪ ،1984‬أيرلندا‪،‬‬

‫‪334‬‬
‫لكونها رئيسة اجلماعة األوروب �ي��ة‪ ،‬خ�لال ال��دورة‪ ،‬التي‬
‫تواصلت حتى نهاية ع��ام ‪ .1984‬وأج��رى خ�لال زيارته‬
‫مباحثات م��ع ك��لٍّ م��ن رئ�ي��س ال ��وزراء ووزي ��ر اخلارجية‪،‬‬
‫ركز‪ ،‬خاللها‪ ،‬في أخطار استمرار االحتالل اإلسرائيلي‬
‫ل�ل�ج�ن��وب واألراض � ��ي ال�ل�ب�ن��ان�ي��ة األخ� ��رى‪ ،‬وف ��ي تصاعد‬
‫مخططات املمارسات اإلسرائيلية ضد اجلنوب‪ ،‬أرضاً‬
‫وسكاناً وم�ي��اه�اً‪ .‬وط��ال��ب اجلماعة األوروب �ي��ة مبساعدة‬
‫لبنان على حترير أراضيه‪ ،‬واتخاذ اإلج��راءات الرادعة‬
‫إلسرائيل‪.‬‬

‫‪ - 2‬أ ّم ��ا رئ�ي��س وزراء أي��رل �ن��دا ووزي ��ر خ��ارج�ي�ت�ه��ا‪ ،‬فأوضحا‬
‫رأي احلكومة األيرلندية‪ ،‬في ضرورة انسحاب إسرائيل‬
‫من لبنان‪ ،‬وض��رورة طرح موضوع حتويل املياه اللبنانية‬
‫على مجلس األمن الدولي‪ ،‬والتركيز في فضح السياسة‬
‫اإلس��رائ�ي�ل�ي��ة أم ��ام ال ��رأي ال �ع��ام ال �ع��امل��ي‪ .‬ك�م��ا أك ��دا أن‬
‫أيرلندا‪ ،‬كرئيسة للجماعة األوروبية‪ ،‬آنذاك‪ ،‬سوف تعمل‬
‫على مساندة لبنان‪ ،‬خالل اجتماعات وزراء خارجية دول‬
‫اجلماعة‪.‬‬

‫‪ - 3‬ط��رح األم�ين ال�ع��ام قضية اجل�ن��وب اللبناني‪ ،‬واألراضي‬


‫اللبنانية احملتلة‪ ،‬في احملادثات‪ ،‬التي أجراها مع مستشار‬
‫النمسا‪ ،‬فريد سينوفاتس ‪ ،Fred Sinowatz‬إ ّب��ان زيارته‬
‫النمسا‪ ،‬ف��ي ‪ 23‬و‪ 24‬تشرين األول ‪ /‬أك�ت��وب��ر ‪.1984‬‬
‫وأكد مستشار النمسا لألمني العام‪ ،‬أن بالده تؤيد وجهة‬
‫النظر العربية‪ ،‬في صدد هذا املوضوع‪ ،‬وأنها ستواصل‬
‫العمل من أجْ ل انسحاب القوات اإلسرائيلية من لبنان‪،‬‬
‫مبا ميهد لتهدئة احلرب األهلية‪.‬‬

‫‪335‬‬
‫‪ - 4‬زار األم�ي�ن ال�ع��ام إي�ط��ال�ي��ا‪ ،‬حيث ق��اب��ل امل�س��ؤول�ين فيها‪،‬‬
‫وف��ي مقدمتهم ال�س�ي��د بتينو ك��راك�س��ي ‪،Bettino Craxi‬‬
‫رئيس الوزراء اإليطالي‪ .‬وأكد األمني العام‪ ،‬أن اجلماعة‬
‫األوروبية مطالبة باتخاذ موقف حازم ملواجَ هة إسرائيل‪،‬‬
‫وح� ْم�ل�ه��ا ع�ل��ى االن�س�ح��اب ال�لام �ش��روط م��ن ل�ب�ن��ان‪ ،‬وأنه‬
‫ف��ي إم�ك��ان اجلماعة ت�ق��دمي مساعدة فاعلة‪ ،‬ف��ي نطاق‬
‫قوات األمم املتحدة‪ ،‬التي ستتركز في اجلنوب اللبناني‪،‬‬
‫وأن مشاركتها في تهدئة األوض��اع‪ ،‬س��وف تساعد على‬
‫تأكيد الوحدة والشرعية اللبنانيتَني‪ .‬وركز رئيس الوزراء‬
‫اإلي�ط��ال��ي ف��ي أن إيطاليا موافقة على دع��م لبنان‪ ،‬من‬
‫خالل دعم املشاركة األوروبية‪ ،‬ضمن قوات األمم املتحدة‪،‬‬
‫وأنها تؤكد تأييد اجلماعة األوروبية ضمان وحدة لبنان‬
‫واستقالله‪ ،‬ودعم حكومته الشرعية‪.‬‬

‫‪ - 5‬قابل األم�ين ال�ع��ام‪ ،‬أثناء زي��ارت��ه إيطاليا‪ ،‬املسؤولني في‬


‫ال �ف��ات �ي �ك��ان‪ ،‬وف ��ي م�ق��دم�ت�ه��م وزي ��ر خ��ارج �ي �ت �ه��ا‪ .‬وطالب‬
‫الفاتيكان بتقدمي الدعم إلى احلكومة اللبنانية‪ .‬وركز وزير‬
‫خارجية الفاتيكان في دع��م املوقف‪ ،‬اللبناني والعربي‪،‬‬
‫املنادي بضرورة االنسحاب اإلسرائيلي الكامل‪ ،‬وتكليف‬
‫القوات الدولية مبهمة مراقبة الشريط احل��دودي‪ ،‬بني‬
‫لبنان وإسرائيل‪.‬‬

‫‪ - 6‬ب�ح��ث وف��د م��ن األم��ان��ة ال�ع��ام��ة للجامعة (اإلدارة العامة‬


‫السياسية الدولية)‪ ،‬موضوع جنوبي لبنان‪ ،‬مع وفد وزارة‬
‫اخلارجية البلجيكية‪ ،‬في ‪ 10‬تشرين األول‪/‬أكتوبر ‪.1984‬‬

‫‪ - 7‬بادرت األمانة العامة للجامعة العربية إلى طرح موضوع‬

‫‪336‬‬
‫اجلنوب اللبناني‪ ،‬واألراضي اللبنانية احملتلة‪ ،‬في اجتماع‬
‫وزراء خارجية دول ع��دم االن�ح�ي��از‪ ،‬املطلة على البحر‬
‫األب�ي��ض امل�ت��وس��ط (م��ال�ط��ة ‪ 11 - 10‬أي�ل��ول ‪ /‬سبتمبر‬
‫‪ .)1984‬وبناء على هذه املبادرة‪ ،‬اتخذ االجتماع الوزاري‬
‫ق��راراً قوياً‪ ،‬دان فيه االحتالل اإلسرائيلي ومخططاته‬
‫وممارساته في اجلنوب‪.‬‬

‫وتنفيذاً لقرار مجلس اجلامعة‪ ،‬في دورت��ه الثانية والثمانني‬


‫(تونس ‪ 24‬و‪ 25‬أيلول‪/‬سبتمبر ‪ ،)1984‬وبنا ًء على االتصاالت‪ ،‬التي‬
‫أجرتها األمانة العامة‪ ،‬ركز وزراء خارجية ال��دول العربية‪ ،‬والدول‬
‫ال�ص��دي�ق��ة‪ ،‬ف��ي ال ��دورة التاسعة وال�ث�لاث�ين للجمعية ال�ع��ام��ة لألمم‬
‫امل�ت�ح��دة‪ ،‬ف��ي األوض ��اع اخلطيرة ف��ي اجل�ن��وب اللبناني‪ ،‬واألراضي‬
‫اللبنانية احملتلة‪ ،‬لمِ ��ا لها من آث��ار في األم��ن اللبناني‪ ،‬وف��ي احتدام‬
‫احل��رب األه�ل�ي��ة‪ ،‬وض ��رورة العمل ال �ف��وري على إي�ق��اف املخططات‬
‫واملمارسات اإلسرائيلية‪ ،‬وإنهاء االحتالل‪.‬‬

‫ال إلى بعثاتها اخلارجية‪،‬‬‫وأصدرت األمانة العامة توجيهاً عاج ً‬


‫أن تُولِي موضوع جنوبي لبنان‪ ،‬واألراضي اللبنانية احملتلة‪ ،‬اهتماماً‬
‫خاصاً‪ ،‬وأن تدرجه في رأس أنشطتها‪ ،‬اإلعالمية والدبلوماسية‪ ،‬وأن‬
‫تبدأ التحرك‪ ،‬على الفور‪ ،‬بالتعاون مع مجالس السفراء العرب‪ ،‬في‬
‫إطار مخطط شامل‪ ،‬على الساحتَني‪ ،‬األمريكية واألوروبية‪.‬‬

‫ولم تقتصر جهود األمانة العامة‪ ،‬في مناصرة قضية اجلنوب‬


‫اللبناني‪ ،‬على تنفيذ ما اتخذته مجالس وزراء اإلع�لام العرب في‬
‫دوراتها السابقة‪ ،‬بل طرحت القضية على جدول أعمال «االجتماع‬
‫األول ل�ع�م��داء ال�س�ل��ك ال��دب�ل��وم��اس��ي ال�ع��رب��ي ف��ي أوروب ��ا الغربية»‪،‬‬
‫الذي عُقد في باريس‪ ،‬في أواخر أيلول‪/‬سبتمبر ‪ .1984‬وعرضت‬

‫‪337‬‬
‫حتركاتها في مواجَ هة الوضع اخلطير‪ ،‬الناشئ‪ ،‬في جنوبي لبنان‪،‬‬
‫عن اإلجراءات اإلسرائيلية‪ ،‬املتمثلة في عزله عن سائر البالد‪ ،‬وبدء‬
‫االستيالء على مياه أنهاره‪ ،‬وتصاعد املمارسات اإلسرائيلية القمعية‪،‬‬
‫في محاولة لضرب اجلنوب واملقاومة‪ ،‬وتصعيد احلرب األهلية‪.‬‬

‫وفي إط��ار هذه املساعي الدولية‪ ،‬س��واء على مستوى األمانة‬


‫العامة للجامعة‪ ،‬أو ال��دول العربية‪ ،‬ميكِ ن اإلش��ارة إلى قرارَين من‬
‫ق��رارات اجلماعة األوروب�ي��ة‪ ،‬في ش��أن اجلنوب اللبناني واألراضي‬
‫اللبنانية احملتلة‪:‬‬

‫‪ - 1‬ق��رار البرملان األوروب��ي‪ ،‬في ‪ 25‬تشرين األول ‪ /‬أكتوبر‬


‫‪ ،1984‬وإن خال من الدعوة إلى االنسحاب اإلسرائيلي‪،‬‬
‫إال أنه حمّل إسرائيل‪ ،‬صراحة‪ ،‬مسؤولية تدهور األوضاع‬
‫في اجلنوب اللبناني‪ ،‬واألراضي اللبنانية احملتلة‪ .‬وطالبها‬
‫باحترام اتفاقية جنيف لعام ‪ ،1949‬في إدارتها املناطق‬
‫احملتلة‪ .‬كما طالب باحترام سيادة استقالل لبنان ووحدة‬
‫أراضيه‪.‬‬

‫‪ - 2‬قرار دول السوق األوروبية املشتركة‪ ،‬في ختام اجتماعات‬


‫قمة «دب�ل��ن»‪ ،‬في ‪ 3‬و‪ 4‬كانون األول ‪ /‬ديسمبر ‪،1984‬‬
‫ال��ذي أم��ل أن تفضي مفاوضات الناقورة إل��ى انسحاب‬
‫إسرائيل من لبنان‪ ،‬وفق نداء مجلس األمن‪ .‬وجدد متسكه‬
‫بسيادة لبنان الكاملة واستقالله ووحدة أراضيه‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫الفصل الرابع عشر‬
‫الدور الدولي في احلرب األهلية اللبنانية‬

‫القسم األول‬
‫الدور األمريكي في احلرب األهلية اللبنانية‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬األب�ع��اد التاريخية ل�ل��دور األمريكي جت��اه املسألة‬
‫ا للبنا نية‬

‫النفوذ األمريكي في لبنان حديث العهد‪ ،‬وليس عميق اجلذور‪،‬‬


‫ول��م يظهر واض �ح �اً‪ ،‬إ ّال بعد االس�ت�ق�لال‪ .‬وق��د استطاعت الواليات‬
‫املتحدة األمريكية‪ ،‬أن حتظى بأفضلية على فرنسا‪ ،‬ف��ي سياسة‬
‫لبنان‪ ،‬لسببَني‪:‬‬

‫الصالت بني لبنان والواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬الناجمة‬


‫ِّ‬ ‫‪ - 1‬‬
‫عن الهجرة اللبنانية إلى أمريكا‪ ،‬منذ حوالي قرن‪.‬‬

‫‪339‬‬
‫‪ - 2‬املساعدات‪ ،‬املالية واالقتصادية‪ ،‬التي تقدمها واشنطن‬
‫إل��ى لبنان‪ ،‬والتي مهدت السبيل للنفوذ األمريكي فيه‪،‬‬
‫امل�ت�م�ث��ل‪ ،‬أوالً‪ ،‬ف��ي ال�ن�ف��وذ ال�ث�ق��اف��ي‪ .‬وم��ن م�ظ��اه��ر ذلك‬
‫اإلرس��ال �ي��ة األم��ري �ك �ي��ة ال �ب��رس �ب �ت��اري��ة (‪،)Presbyterian‬‬
‫وتضم ‪ 63‬مدرسة ومؤسسة تعليمية‪ .‬جمعية الكويكرز‬
‫ا ع��ن اجلامعة‬ ‫(‪ ،)Quakers‬وت �ض��م ‪ 14‬م��درس��ة‪ .‬ف �ض�ل ً‬
‫األمريكية في بيروت‪ ،‬التي أنشئت عام ‪ ،1866‬وكانت‬
‫تعرف باسم «الكلية السورية اإلجنيلية»‪ .‬وك��ان الهدف‬
‫من إنشائها تبشيرياً محضاً‪ ،‬ثم تطور هدفها‪ ،‬ليشمل‪،‬‬
‫إلى جانب الناحية التبشيرية‪ ،‬الدعاية لسياسة الواليات‬
‫املتحدة األمريكية‪ ،‬مستغلة إعالن الرئيس وودرو ولسون‬
‫‪ Woodrow Wilson‬مبادئه األربعة عشر‪ ،‬خ�لال احلرب‬
‫العاملية األول��ى‪ .‬ثم تكليف أمريكي‪ ،‬هو املستر «تشالز‬
‫كرين ‪ ،»Charles R. Crane‬بترؤس جلنة الستطالع اآلراء‪،‬‬
‫حول إجراء استفتاء في سورية ولبنان‪ ،‬لتقرير مصيرهما‪.‬‬
‫وكان ملوقف اللجنة‪ ،‬التي يرأسها «كرين»‪ ،‬أثر طيّب في‬
‫شعور األهالي جتاه الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬إذ أيدت‬
‫اللجنة األهداف الوطنية‪ .‬وحينما أيقن املسلمون‪ ،‬أن هذه‬
‫األهداف لم تتحقق‪ ،‬طالب بعضهم بأن تكون أمريكا هي‬
‫الدولة املنتدبة‪ ،‬في حالة عدم إمكان حتقيق االستقالل‬
‫التام‪.‬‬

‫إال أن السمعة غير السيئة‪ ،‬التي اكتسبتها الواليات املتحدة‬


‫األمريكية‪ ،‬م��ن خ�لال نشاطها الدبلوماسي‪ ،‬ومساندتها الشعوب‬
‫الصغيرة‪ ،‬وسعيها إل��ى حتقيق مصالح تلك الشعوب وأمانيّها في‬
‫احلرية واالستقالل‪ ،‬بدّ دتها مساندتها اليهود على حساب العرب‪ ،‬ثم‬

‫‪340‬‬
‫إسهامها بدور في احلرب األهلية اللبنانية‪ ،‬عام ‪ ،1958‬ومساندتها‬
‫الرئيس اللبناني‪ ،‬كميل شمعون وحكمه‪.‬‬

‫وتعيش في الواليات املتحدة األمريكية جالية لبنانية كبيرة‪،‬‬


‫ت�ق��در بنصف مليون لبناني‪ ،‬معظمهم م��ن امل��وارن��ة‪ .‬وه��م يشكلون‬
‫إحدى األقليات املؤثرة في االنتخابات األمريكية‪ .‬ولذلك‪ ،‬حرصت‬
‫واشنطن على عالقتها مبوارنة لبنان‪ ،‬أثناء احلرب األهلية األخيرة‪،‬‬
‫وذلك من خالل إرسال شحنات السالح‪ ،‬خاصة أن املوارنة‪ ،‬قد أملوا‬
‫أن تتدخل ملساندتهم في احلرب األهلية‪ ،‬على غرار ما حدث عام‬
‫‪.1958‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬الدور الدبلوماسي واألزمة في لبنان‬

‫يُعَدّ اهتمام الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬ومشاركتها ودورها‬


‫في املشاكل واألزم��ات‪ ،‬التي تنشب في العالم‪ ،‬إح��دى أب��رز حقائق‬
‫العالقات الدولية في عاملنا املعاصر‪ ،‬لقدرتها على استخدام أساليب‬
‫دبلوماسية‪ ،‬تتراوح بني الضغط الدبلوماسي‪ ،‬لفرض حل أو لرفض‬
‫آخر‪ ،‬والوساطة الدبلوماسية الهادفة إلى إيجاد مخرج ملشكلة ما‪.‬‬
‫إضافة إلى استخدام العنف املسلح‪ ،‬كالتدخل في احلروب احملدودة‪،‬‬
‫وإث ��ارة ال�ق�لاق��ل واالض �ط��راب��ات ال��داخ�ل�ي��ة‪ ،‬لتفتيت ط��اق��ة ن�ظ��ام ما‬
‫على املواجَ هة‪ .‬عالوة على أساليب الضغط االقتصادي‪ ،‬واألساليب‬
‫الدعائية‪.‬‬

‫أم��ا بخصوص املوقف الرسمي املعل َن وبداية احل��رب األهلية‬


‫اتسمت التصريحات املعلنة‪ ،‬حول املوقف الرسمي للواليات املتحدة‬
‫األمريكية‪ ،‬خاصة ف��ي ب��داي��ة احل��رب‪ ،‬بالندرة النسبية‪ .‬وف��ي هذا‬
‫الصدد‪ ،‬لم يكن‪ ،‬في عام ‪ ،1975‬سوى تصريحني‪ ،‬من البيت األبيض‪،‬‬

‫‪341‬‬
‫ووزارة اخلارجية األمريكية‪ ،‬يعلنان مساندة واشنطن الستقالل لبنان‬
‫وسيادته لكنهما اتسما بالضبابية وعدم الوضوح‪.‬‬

‫تضاربت تفسيرات األطراف املختلفة حلقيقة املوقف األمريكي‪.‬‬


‫فثمة م��ن داف��ع ع�ن��ه‪ ،‬ورأى أن��ه ه��دف‪ ،‬بالفعل‪ ،‬إل��ى احل�ف��اظ على‬
‫استقالل لبنان وسيادته‪ ،‬وأن ما يحدث في لبنان‪ ،‬ال يعدو أن يكون‬
‫«مؤامرة شيوعية»‪ ،‬لتقسيمه‪ .‬وهناك‪ ،‬على النقيض‪ ،‬من هاجم املوقف‬
‫األمريكي‪ ،‬واتّهم واشنطن بالتدخل في لبنان‪ ،‬من خالل سعيها إلى‬
‫مزيد من االستفزاز الكتائبي للفلسطينيني‪ ،‬مما يدفع املقاومة إلى‬
‫ص��راع مسلح مع اجليش اللبناني‪ ،‬إلضعافها‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬التمكن من‬
‫فرض أي تسوية أمريكية في املنطقة‪ .‬وقد ذكرت جريدة «البعث»‬
‫السورية‪ ،‬أن االتهامات‪ ،‬التي أ ُشيعت حول تدخّ ل سورية في األوضاع‬
‫اللبنانية‪ ،‬ال ميكن أن تفسر‪« ،‬إ ّال بكونها ش�ع��ارات للتضليل‪ ،‬أوالً‪،‬‬
‫وذريعة متهد الحتالل جزء من اجلنوب اللبناني‪ ،‬ثانياً‪ ،‬وهي اخلطوة‬
‫األولى على طريق التقسيم»‪ .‬ورأى أصحاب هذا الرأي‪ ،‬أن ما يجري‬
‫في لبنان‪ ،‬هو تنفيذ ملخطط أمريكي‪ ،‬يهدف إلى القضاء على الثورة‬
‫الفلسطينية في األردن‪ ،‬ثم في لبنان‪ ،‬وحصرها في س��وري��ة‪ .‬وأن‬
‫أولى حلقات هذا املخطط‪ ،‬تتمثل في مذبحة «أيلول األس��ود»‪ ،‬عام‬
‫‪ ،1970‬في األردن‪ .‬وليست أح��داث لبنان سوى احللقة الثانية في‬
‫املخطط‪ ،‬بدأ اإلعداد لها منذ عام ‪ ،1970‬كذلك‪ ،‬بتقوية ميليشيا‬
‫«ال�ك�ت��ائ��ب»‪ ،‬وتكوين ميليشيا «ال�ن�م��ور»‪ ،‬التابعة حل��زب «األحرار»‪،‬‬
‫إضافة إل��ى «جيش التحرير ال��زغ��رت��اوي»‪ .‬ويستطرد أصحاب هذا‬
‫الرأي‪ ،‬فيقولون إنه عندما تهيأ املناخ لطرد الثورة الفلسطينية من‬
‫لبنان‪ ،‬انفجرت أحداث احلرب األهلية‪ ،‬في أبريل ‪.1975‬‬

‫ال من الرأيَني السابقَني‪ ،‬يتضمن تطرفاً‪ ،‬يبتعد‬ ‫والواقع أن ك ًّ‬


‫ب��ه ع��ن حقيقة املشكلة‪ ،‬إذ ص �وّراه��ا على أن�ه��ا ن�ت��اج إلرادة إحدى‬

‫‪342‬‬
‫القوّتني العظ َميَني وتأثيرها‪ ،‬مع جتاهل تأثير القوى احمللية‪ ،‬والقوى‬
‫اإلقليمية فيها‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬اخليارات األمريكية‬

‫‪ - 1‬التدخل املسلح املباشر‬

‫عندما سئل السكرتير الصحفي للبيت األبيض‪ ،‬عمّا إذا كانت‬


‫واشنطن‪ ،‬قد تلقت أي طلب‪ ،‬لكي ترسل قوات أمريكية إلى لبنان‪،‬‬
‫«لتساعد احلكومة هناك»‪ ،‬كما فعل الرئيس األسبق دوايت أيزنهاور‪،‬‬
‫أثناء أزمة ‪ 1958‬كانت إجابته‪« :‬لم أسمع قَط مبثل هذا الطلب»‪.‬‬
‫أمّا األسباب‪ ،‬التي منعت الواليات املتحدة األمريكية من اللجوء إلى‬
‫هذا البديل‪ ،‬فترجع إلى «ش��دة املخاوف» من إن��زال مشاة البحرية‬
‫األمريكية على السواحل املجاورة لبيروت‪ .‬ناهيك أن التدخل األمريكي‬
‫املسلح‪ ،‬لم يكن ليحافظ على املصالح األمريكية في منطقة الشرق‬
‫ال عن تنميتها‪ ،‬في ظل ال�ظ��روف السائدة‪ ،‬أمريكياً‬ ‫األوس��ط‪ ،‬فض ً‬
‫ولبنانياً وإقليمياً ودول�ي�اً‪ .‬ففي داخ��ل الواليات املتحدة األمريكية‪،‬‬
‫ب��ات الشعب األمريكي يرفض أن يكرر جتربته األليمة في فيتنام‬
‫وكمبوديا‪ .‬زد أن احلرب األهلية اللبنانية‪ ،‬ال مكان لها في أولويات‬
‫القيادة األمريكية‪.‬‬

‫وم��ن العناصر ال��داخ�ل�ي��ة ألزم��ة ل�ب�ن��ان‪ ،‬م��ا ح��ال دون التدخل‬


‫األمريكي املسلح‪ ،‬املباشر‪ .‬لعل أبرزها‪:‬‬

‫‪ - 1‬أن األزم��ة اللبنانية ع��رف��ت‪ ،‬ف��ي م��راح��ل متقدمة منها‪،‬‬


‫انفجاراً للصراع السياسي‪ ،‬بني رئيس اجلمهورية اللبنانية‪،‬‬
‫سليمان فرجنية‪ ،‬ورئيس الوزراء اللبناني‪ ،‬رشيد كرامي‪.‬‬
‫وه��و ال�ص��راع ال��ذي ح��رم النظام السياسي اللبناني من‬

‫‪343‬‬
‫وحدة الصف والرأي‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬منع أي احتماالت للجوء‬
‫إل��ى ج�ه��ة أج�ن�ب�ي��ة‪ ،‬ل�ك��ي ت�ت��دخ��ل‪ ،‬ع�س�ك��ري�اً‪ ،‬إل��ى جانب‬
‫السلطة اللبنانية‪.‬‬

‫ال‬
‫‪ - 2‬أن معظم األط ��راف الداخلية ل�ل�ص��راع‪ ،‬ل��م ت��رِ د تدخ ً‬
‫أجنبياً مسلحاً‪.‬‬

‫‪ - 3‬أن املشكلة في لبنان‪ ،‬عكست‪ ،‬في بنيانها املعقد‪ ،‬الكثير‬


‫من مالمح التشابه مع مشكلة الشرق األوسط؛ فهي مثقلة‬
‫بتاريخ من الصراع بني جماعاتها وأطرافها املتنوعة‪.‬‬

‫‪ - 4‬أن ال�ت��دخ��ل األم��ري�ك��ي امل�س�ل��ح‪ ،‬ق��د يكتل م�ع��ارض��ة‪ ،‬لها‬


‫وزن �ه��ا‪ ،‬م��ن ال ��دول امل �س��ان��دة ل�ل�م�ق��اوم��ة الفلسطينية أو‬
‫اليسار اللبناني أو املسلمني‪ ،‬األمر الذي ميكن أن يسيء‬
‫إلى عالقات الواليات املتحدة األمريكية بهذه الدول‪.‬‬

‫إضافة إلى ذلك‪ ،‬حالت الظروف النابعة من اإلطار اإلقليمي‬


‫للمشكلة‪ ،‬دون تدخّ ل أمريكي مسلح‪ .‬فاألزمة في لبنان‪ ،‬أثّرت وتأثّرت‬
‫مبشكلة الشرق األوسط‪ ،‬حتى استحال الفصل بينهما‪ ،‬أو بني تأثير‬
‫كل منهما في األخرى‪ .‬وظهر تأثّر أزمة لبنان وتأثيرها في مشكلة‬
‫الشرق األوسط‪ ،‬في إحجام الواليات املتحدة األمريكية عن التدخل‬
‫العسكري في لبنان‪ ،‬وذل��ك حلرصها على استمرار املكاسب‪ ،‬التي‬
‫حققتها دبلوماسيتها في االقتراب من مشكلة الشرق األوسط‪ ،‬بعد‬
‫حرب أكتوبر ‪.1973‬‬

‫‪ - 2‬اإلحجام عن التدخل غير املباشر‬

‫رأت واش�ن�ط��ن‪ ،‬ف��ي ب��داي��ة األزم ��ة اللبنانية‪ ،‬أن��ه إذا تدخلت‬

‫‪344‬‬
‫سورية‪ ،‬عسكرياً‪ ،‬في لبنان‪ ،‬فإنه سيكون من حق إسرائيل‪ ،‬أن تتدخل‪،‬‬
‫عسكرياً‪ ،‬كذلك‪ ،‬ومبساندة أمريكية‪ .‬بيد أن تدخّ ل الواليات املتحدة‬
‫األمريكية‪ ،‬غير املباشر‪ ،‬عبْر تدخّ ل إسرائيل‪ ،‬سينسف اجلهود‪ ،‬التي‬
‫بذلتها وتبذلها الدبلوماسية الكيسنجرية‪ ،‬من أجْ ��ل احلفاظ على‬
‫املصالح األمريكية وتنميتها‪ ،‬في منطقة الشرق األوسط‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬اخلطوط العامة للسياسة األمريكية‬

‫عُدَّ ت الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬بالنسبة إلى كثير من أطراف‬


‫احل��رب األهلية اللبنانية‪ ،‬ط��رف�اً رئيسياً ف��ي إذك��اء ِح � ّدة الصراع‪،‬‬
‫كلٌّ من وجهة نظر خاصة‪ .‬إذ رأى رمي��ون إده‪ ،‬زعيم حزب «الكتلة‬
‫الوطنية»‪ ،‬أن االستخبارات األمريكية‪ ،‬هي التي دبرت نشوب احلرب‬
‫األهلية في لبنان‪ .‬أمّا شربل القسيس‪ ،‬رئيس الرهبانيات‪ ،‬فرأى‪ ،‬أن‬
‫السياسة األمريكية سياسة غير رشيدة‪ .‬بينما اعتقد كميل شمعون‪،‬‬
‫أن السياسة األمريكية ق��اص��رة‪ ،‬ألنها لم تتدخل بقوات األسطول‬
‫السادس‪ ،‬مثلما فعلت عام ‪ ،1958‬وهي ال تعرف حليفها من عدوها‪.‬‬
‫واتَّهمت القيادات اإلسالمية واشنطن بالتخطيط للحرب األهلية‬
‫اللبنانية‪ ،‬بينما تقلّل اليسار‪ ،‬اللبناني والفلسطيني‪ ،‬هذا االتهام‪،‬‬
‫ورأى فيه تبسيطاً لألمور‪ .‬وساد لديه أن الواليات املتحدة األمريكية‪،‬‬
‫حتركت بعد األحداث‪ ،‬لالستفادة منها‪.‬‬

‫والواقع‪ ،‬أنه كان للواليات املتحدة األمريكية مصالح واجتاهات‪،‬‬


‫جعلتها تو لِي لبنان بعض اهتمامها‪ .‬فزيارة ريتشارد نيكسون ‪Richard‬‬
‫‪ Milhous Nixon‬إلى املنطقة‪ ،‬والتي قيل إنها تهدف إلى إقرار السالم‬
‫ف��ي ال�ش��رق األوس ��ط‪ ،‬وك��ان��ت إي��ذان �اً ب�ب��دء سلسلة م��ن االعتداءات‬
‫العسكرية اإلسرائيلية على مخيمات الفلسطينيني في لبنان ارتبطت‬
‫بظاهرتني‪ :‬األولى‪ :‬وردت في البيان املشترك‪ ،‬األمريكي اإلسرائيلي‪،‬‬

‫‪345‬‬
‫ودعت الدول العربية إلى وقف تشجيع «اإلرهاب» الفلسطيني ضد‬
‫إسرائيل‪ .‬وأنه يجب على كل دولة االمتناع عن تنظيم وتشجيع إنشاء‬
‫قوات غير نظامية‪ ،‬أو عصابات مسلحة أو (فرق مرتزقة)‪ ،‬لإلغارة‬
‫على أراضي دولة أخرى‪ .‬والثانية‪ :‬تُستشف من التصريحات الرسمية‬
‫اإلسرائيلية‪ ،‬التي تن ّم على أن ثمة اتفاقاً أمريكياً إسرائيلياً‪ ،‬على‬
‫تفويض ض��رب الفلسطينيني‪ ،‬على أس��اس أنهم‪ ،‬في نظر الرئيس‬
‫األمريكي‪ ،‬إرهابيون و«عصابات» و«مرتزقة»‪ .‬ولذلك‪ ،‬أعلن إسحاق‬
‫رابني‪ ،‬رئيس وزراء إسرائيل‪ ،‬أنه ما دام لبنان ال يضطلع مبسؤوليته‪،‬‬
‫م��ن منع ت�س��رب الفلسطينيني‪ ،‬ع�بْ��ر ح ��دوده‪ ،‬ف��إن إس��رائ�ي��ل تشعر‬
‫بحرية ضرب قواعد الفدائيني وجتمعاتهم‪ .‬ويضاف إلى ذلك ارتباط‬
‫ال��والي��ات املتحدة األمريكية‪ ،‬مبجموعة من العالقات‪ ،‬االقتصادية‬
‫والسياسية‪ ،‬مبراكز ق��وى‪ ،‬اجتماعية وسياسية وعسكرية‪ ،‬متنوعة‬
‫ومتفاوتة‪ ،‬في لبنان‪.‬‬

‫بعد مرور شهر واحد على حادث عني الرمانة‪ ،‬وقبل عام من‬
‫تدخّ ل سورية في لبنان‪ ،‬اقترحت الواليات املتحدة األمريكية إرسال‬
‫ق��وات سورية إليه‪ .‬غير أن مجلس الشيوخ األمريكي‪ ،‬أق��ر‪ ،‬في ‪4‬‬
‫تشرين الثاني ‪ /‬نوفمبر ‪ ،1975‬بأغلبية ‪ 12‬صوتاً‪ ،‬مشروعاً تقدَّ م به‬
‫السيناتور اللبناني األصل‪ ،‬جيمس أبو رزق‪ ،‬مينع أي تدخّ ل أجنبي‪،‬‬
‫من أي دولة كانت‪ ،‬في الصراع الدائر في لبنان‪.‬‬

‫وما لبثت السياسة األمريكية أن تبدلت‪ ،‬إذ أعلن ناطق باسم‬


‫اخلارجية‪ ،‬في ‪ 8‬كانون الثاني ‪ /‬يناير ‪ ،1976‬أن واشنطن تعارض أي‬
‫تدخّ ل أجنبي في لبنان‪ ،‬سواء من جانب سورية أو إسرائيل‪ .‬وهو ما‬
‫أكده الرئيس األمريكي‪ ،‬فورد‪ ،‬بعد ذلك بأيام‪ .‬ولئن اعترف الناطق‬
‫باسم اخلارجية األمريكية‪ ،‬في ‪ 29‬كانون الثاني‪/‬يناير‪ ،‬بالدور البنّاء‪،‬‬
‫ال��ذي تؤديه سورية في لبنان (م��ن خ�لال الوثيقة الدستورية)‪ ،‬بعد‬

‫‪346‬‬
‫التوصل إلى اتفاق لوقف إطالق النار‪ ،‬فإن اعترافه لم يغيّر رفض‬
‫واشنطن التدخل العسكري‪ .‬إذ أعلن كيسنجر‪ ،‬في ‪ 19‬آذار ‪ /‬مارس‬
‫‪ ،1976‬أن الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬ال ميكنها أن تقوم بأي عمل‬
‫مادي‪ ،‬للمساعدة على حل األزمة‪ .‬ولكنها‪ ،‬حذرت كل األطراف‪ ،‬كذلك‪،‬‬
‫مبا فيها إسرائيل وسورية‪ ،‬من أي تدخّ ل في لبنان‪ ،‬ألنها ال تؤيد‪ ،‬بل‬
‫هي تعارض أي تدخّ ل فردي‪« .‬وبعد ذلك بأسبوع‪ ،‬حذر بيان أمريكي‬
‫سورية وإسرائيل‪ ،‬من التدخل العسكري في لبنان‪ ،‬ألنه ينطوي على‬
‫خطر كبير‪ ،‬يجب تالفيه‪ .‬ودعا إلى وقف إطالق النار‪ ،‬وحل مسألة‬
‫الرئاسة‪ ،‬دستورياً‪ .‬وفي اليوم التالي‪ ،‬فسر الناطق الرسمي األمريكي‬
‫البيان‪ ،‬بأنه ليس ضد أي تدخّ ل مقبول من السلطات اللبنانية»‪.‬‬

‫وب��ادر الرئيس األمريكي‪ ،‬في ‪ 31‬آذار ‪ /‬م��ارس ‪ ،1976‬إلى‬


‫إرس��ال مبعوثه‪ ،‬دي��ن ب��راون‪ ،‬إل��ى بيروت‪ ،‬ال��ذي أعلن‪ ،‬ف��ور وصوله‪،‬‬
‫أن��ه ليس وس�ي�ط�اً‪ ،‬وإمن��ا ي��ؤدي مهمة السفير ال�غ��ائ��ب‪ .‬وأن��ه سوف‬
‫يقدِّ م تقريراً إلى الرئيس األمريكي‪ ،‬بعد أن يتصل بجميع األطراف‪.‬‬
‫والالفت أن دين براون‪ ،‬كان هو نفسه سفيراً لواشنطن إلى عَ مان‪،‬‬
‫وقت مذابح «أيلول األسود»‪ ،‬في األردن‪ ،‬عام ‪.1970‬‬

‫وبينما كان براون يقابل‪ ،‬في بيروت‪ ،‬أطراف األزمة اللبنانية‪،‬‬


‫عدا الفلسطينيني‪ ،‬اقترح‪ ،‬من واشنطن‪ ،‬زعيم األغلبية الدميوقراطية‬
‫في مجلس الشيوخ األمريكي‪ ،‬مانسفيلد‪ ،‬في ‪ 6‬نيسان ‪ /‬أبريل ‪،1976‬‬
‫إرسال قوة دولية إلى لبنان‪ ،‬مكوّنة من وحدات‪ ،‬عربية وإسرائيلية‪.‬‬
‫وف��ي اليوم نفسه‪ ،‬أعلن جوزيف سيسكو‪ ،‬مساعد وزي��ر اخلارجية‬
‫األمريكية‪ ،‬في شهادة أمام الكونغرس‪ ،‬أن استمرار التوتر في لبنان‪،‬‬
‫يهدد جهود السالم‪ ،‬التي تبذلها الواليات املتحدة األمريكية‪ .‬وأكد‬
‫أن دور سورية‪ ،‬يُعَدّ دوراً بناءً‪ ،‬ألنه يهدف إلى حتقيق أمرين‪ :‬وقف‬
‫إطالق النار‪ ،‬وإجراء إصالحات سياسية‪.‬‬

‫‪347‬‬
‫واق�ت��رح ب��راون‪ ،‬حلل مشكلة األم��ن‪ ،‬تشكيل ميليشيا موحدة‪،‬‬
‫متطوعة م��ن جميع األح ��زاب‪ ،‬واالع�ت�م��اد عليها‪ ،‬كقوة ردع‪ ،‬ريثما‬
‫يُنظّ م اجليش اللبناني‪ .‬وأش��ار ب��راون‪ ،‬طبقاً لوثيقة الصاعقة‪ ،‬إلى‬
‫أنه «ميكن االستعانة بخبراء أجانب‪ ،‬من باكستان والنرويج والواليات‬
‫املتحدة األمريكية‪ ،‬إلع��ادة بناء مؤسسات ال��دول��ة‪ .‬ولكن جنبالط‪،‬‬
‫رفض اقتراحات براون»‪ .‬وفي ‪ 2‬أيار ‪ /‬مايو ‪ ،1976‬أي قبل إجراء‬
‫انتخابات الرئاسة اللبنانية األولى‪ ،‬اجتمع براون بكل من املرشحَ ني‪،‬‬
‫رمي��ون إده وإل �ي��اس س��رك�ي��س‪ ،‬مم��ا عَ � ّدت��ه ال �ق �ي��ادات اللبنانية‪ ،‬من‬
‫الطرفني‪ ،‬خطأ دبلوماسياً‪ ،‬كشف عن التدخل في عملية االنتخابات‪،‬‬
‫بينما ح��رص املبعوث الفرنسي على احل�ي��اد فيها‪ ،‬فرفض مقابلة‬
‫املرشحَ ني‪.‬‬

‫ولعل أبرز ما اتَّسمت به السياسة األمريكية‪ ،‬مع بداية احلرب‬


‫األهلية اللبنانية‪ ،‬ما يلي‪:‬‬

‫‪ - 1‬ض� ��رورة اس �ت �م��رار احل� ��رب‪ ،‬ح �ت��ى حت �ق��ق ال��ه��دف‪ ،‬وهو‬
‫إج �ه��اد الفلسطينيني‪ ،‬وت�ف�ت�ي��ت امل��وق��ف ال �ع��رب��ي؛ إذ إن‬
‫مجرد االستمرار‪ ،‬يكشف التناقضات بني الدول العربية‬
‫ويعمقها‪ .‬وهو ما يجعل أصوات املعتدلني فيها أكثر قبوالً‪،‬‬
‫فيزيل عقبة من طريق اجلهود األمريكية لتسوية األزمة‬
‫في الشرق األوسط‪ ،‬كما تتصورها واشنطن‪.‬‬

‫‪ - 2‬رفض تقسيم لبنان رفضاً حاسماً‪ .‬وهو أمر لو أخذ على‬


‫ظاهره‪ ،‬لكان موقفاً حميداً للسياسة األمريكية‪ .‬إ ّال أن‬
‫فلسفة القيادة األمريكية فيه‪ ،‬تنطلق من أن التقسيم يعني‬
‫قيام دولتَني‪ ،‬صحيح أن إحداهما مارونية‪ ،‬ولكن األخرى‪،‬‬
‫س��وف ت�ك��ون ف��ي أي��دي ال�ي�س��ار‪ ،‬اللبناني والفلسطيني‪.‬‬

‫‪348‬‬
‫وهو ما ال ميكِ ن أن تقبَل به واشنطن‪ .‬وملا تأكدت قيادة‬
‫«اجلبهة اللبنانية»‪ ،‬أن فكرة التقسيم مرفوضة من كل‬
‫احل�ل�ف��اء‪ ،‬باستثناء إس��رائ�ي��ل‪ ،‬طلبت البحث ع��ن بديل‪.‬‬
‫فقدمت الواليات املتحدة األمريكية فكرة الكانتونات أو‬
‫املقاطعات‪ ،‬ذات االستقالل الذاتي‪ ،‬على غرار سويسرا‪.‬‬
‫وكان أول من طرح الفكرة‪ ،‬علناً‪ ،‬هو الدكتور شارل مالك‪،‬‬
‫وزي��ر خ��ارج�ي��ة ل�ب�ن��ان ال�س��اب��ق؛ إذ أع �ل��ن‪ ،‬ف��ي ‪ 5‬مت��وز ‪/‬‬
‫يوليو ‪ ،1976‬أنه ليس لديه معلومات عن خطة أمريكية‬
‫للتقسيم‪ .‬ولكنه يتصور‪ ،‬بعد كل الذي حدث في لبنان‪،‬‬
‫«أن الواليات املتحدة األمريكية على استعداد للنظر في‬
‫املساهمة في إيجاد نوع من التنظيم الداخلي‪ ،‬الذي يؤدي‬
‫إلى االستقرار‪ .‬وهو ما قد يشمل شيئاً من الفيدرالية‪،‬‬
‫أو نظام الكانتونات»‪ .‬وما لبث شارل مالك أن دعا إلى‬
‫اعتماد نظام الكانتونات‪ ،‬والعمل بالالمركزية‪ ،‬في مجالَي‬
‫االقتصاد واإلدارة‪ ،‬ناعتاً لبنان بأنه سويسرا الشرق‪.‬‬
‫فتلقفت قيادات «اجلبهة اللبنانية» نظام الكانتونات‪ ،‬ولم‬
‫تكف عن احلديث فيه‪ ،‬حتى أعلن كيسنجر تأييده ملشروع‬ ‫ّ‬
‫إعادة توحيد لبنان‪ ،‬من طريق الكانتونات‪ .‬وقال إنه يجب‬
‫أن يكون لكلٍّ من الطائفتَني‪ ،‬املسيحية واإلسالمية‪ ،‬منط‬
‫حياة خاص‪ ،‬يتوافق مع تقاليدها‪.‬‬

‫‪ - 3‬احلؤول دون حتوُّل لبنان إلى جبهة قتال ضد إسرائيل‪.‬‬

‫‪ - 4‬إن الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬أرادت أن تُطبِّق القاعدة‬


‫ال�ل�ب�ن��ان�ي��ة ال�ع��ري�ق��ة‪« :‬ال غ��ال��ب‪ ،‬وال م �غ �ل��وب»‪ ،‬إجهاضاً‬
‫النتصار «القوات املشتركة»‪ ،‬الفلسطينية واللبنانية‪.‬‬

‫‪349‬‬
‫‪ - 5‬اإليحاء لسورية بإمكانية التدخل عسكرياً في لبنان‪ ،‬قبْل‬
‫ما يزيد على العام من خروج الفكرة إلى حيّز التنفيذ‪،‬‬
‫بلبل ًة لفكر صانع القرار في سورية‪ ،‬حتت تأثير الضغوط‪:‬‬
‫اقتراح مانسفيلد‪ ،‬طلب كميل شمعون تدخّ ل األسطول‬
‫ا ل �س��ادس‪ ،‬ناهيك تصريح جيمس شلسينجر ‪James R.‬‬
‫‪ ،Schlesinger‬وزير الدفاع السابق‪ ،‬في ‪ 17‬أيار ‪ /‬مايو‬
‫‪ ،1976‬بأن على الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬أن تبعث‬
‫بقواتها العسكرية إلى لبنان‪ ،‬مثلما فعلت عام ‪.1958‬‬
‫ال ع��ن تصريح الرئيس ف��ورد‪ ،‬ف��ي ‪ 20‬أي��ار ‪ /‬مايو‬‫فض ً‬
‫‪« :1976‬أنه لن يرسل قوات أمريكية‪ ،‬للتورط في احلرب‬
‫األهلية اللبنانية»‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬املوقف األمريكي من الغزو اإلسرائيلي ‪1982‬‬

‫في خضم احلرب األهلية اللبنانية‪ ،‬غزت إسرائيل لبنان‪ ،‬عام‬


‫‪ ،1982‬مما أسهم في إذكاء ح ّدة الصراع فيه‪ .‬وأجمع معظم املراقبني‬
‫على علم واشنطن املسبق بالغزو اإلسرائيلي‪ ،‬وإقرارها إياه‪ ،‬ما يجعلها‬
‫من على ذلك الالمباالة األمريكية بالغزو‪ ،‬ثم‬‫«شريكاً» مباشراً فيه‪ .‬و ّ‬
‫التأييد األمريكي املباشر له‪ .‬فبعد الغزو مباشرة‪ ،‬عقد ألكسندر‬
‫هيج ‪ ،Alexander Megis Haig‬وزي��ر اخلارجية األم��ري�ك��ي‪ ،‬مؤمتراً‬
‫صحفياً‪ ،‬في أوروبا‪ ،‬صرح فيه بأن الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬لم‬
‫حتدد موقفاً واضحاً‪ ،‬بعد‪ ،‬من الغزو‪ ،‬إذ ليس من الواضح ما إذا‬
‫كانت التحركات اإلسرائيلية‪ ،‬جتري في إطار «الدفاع عن النفس»‬
‫أم ال‪ .‬وأض��اف أن «م��ن ح��ق جميع ال ��دول‪ ،‬أن مت��ارس ح��ق الدفاع‬
‫عن النفس‪ ،‬مثلما متارسه بريطانيا‪ ،‬اآلن‪ ،‬في فوكالند‪ .‬ونحن نؤيد‬
‫ذل��ك»‪ .‬وفي الوقت عينه‪ ،‬أعلن رونالد ريغان ض��رورة التكاتف‪ ،‬من‬
‫أجل استئصال اإلرهاب من الشرق األوسط‪ .‬إضافة إلى أن واشنطن‬

‫‪350‬‬
‫استخدمت حق النقض (‪ ،)Veto‬الشهير في مجلس األمن‪ ،‬للحيلولة‬
‫دون اتخاذ قرار‪ ،‬يدين إسرائيل‪ ،‬ويدعو إلى انسحاب قواتها الغازية‬
‫من لبنان‪ .‬وأخيراً‪ ،‬اتضح جوهر املوقف األمريكي‪ ،‬بدعوة املسؤولني‬
‫األمريكيني إل��ى «انسحاب كل ال�ق��وات األجنبية من لبنان‪ ،‬كشرط‬
‫لتسوية األزمة»‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬تطور املوقف األمريكي‪ ،‬بعد غزو ‪1982‬‬

‫منذ منتصف الثمانينيات‪ ،‬اعترفت الواليات املتحدة األمريكية‪،‬‬


‫ضمناً‪ ،‬بدور سوري متميز في لبنان‪ ،‬مقابل إبداء الدبلوماسية السورية‬
‫بعض املرونة‪ ،‬إزاء التحركات األمريكية السياسية في املنطقة‪.‬‬

‫وف��ي ه��ذا اإلط ��ار‪ ،‬زار ج��ورج ش��ول�ت��ز ‪،George Pratt Shultz‬‬
‫وزير اخلارجية األمريكية‪ ،‬في ‪ 13‬نيسان ‪ /‬أبريل ‪ ،1988‬الشرق‬
‫األوس ��ط‪ ،‬حيث ات�ف��ق م��ع ال��رئ�ي��س ال �س��وري ح��اف��ظ األس��د على أن‬
‫تضطلع سورية‪ ،‬عبْر السيطرة على القوى املناصـرة لهـا‪ ،‬باحل ّد من‬
‫الوجـود الفلسطينـي املناصـر لعرفات‪ ،‬وضبط األوض��اع في لبنان‪،‬‬
‫وال سيما األمن في بيروت الغربية واملطار اللبناني‪ ،‬على أن تتكفل‬
‫واشنطن بالسيطرة على األوض��اع في املنطقة الشرقية‪ ،‬من خالل‬
‫االتفاق مع الرئيس اللبناني‪ ،‬اجلميل‪ ،‬على أن يتولى اجليش اللبناني‬
‫مسألة األمن في بيروت الشرقية‪ ،‬ومحاصرة نفوذ «القوات اللبنانية»؛‬
‫وهو ما كان شولتز واجلميل قد اتفقا عليه‪ ،‬في مطار الرناكا‪ ،‬في‬
‫قبرص‪.‬‬

‫تف اإلدارة األمريكية‬


‫وفي حني نفذت سورية ما التزمت به‪ ،‬لم ِ‬
‫مبا تكفلت ب��ه؛ إذ إن الرئيس اجلميل‪ ،‬ب��دالً من مواجَ هة «القوات‬
‫اللبنانية»‪ ،‬مستخدماً اجليش‪ ،‬جلأ إلى التحالف معها‪ ،‬بل حاصر‬

‫‪351‬‬
‫نفوذ اجل�ي��ش‪ ،‬م�ح��اوالً إب�ع��اده ع��ن أي ت��دخّ ��ل ف��ي ش��أن االستحقاق‬
‫الدستوري‪ .‬وهو ما أزعج السياسة السورية‪ ،‬وأثبت نكوص اإلدارة‬
‫األمريكية عمّا تعهدت به‪ ،‬بل أيدت التحالف بني الرئيس اجلميل‬
‫وسمير جعجع‪ .‬وانحازت إليه‪ ،‬إذ أبلغ املبعوث األمريكي‪ ،‬ريتشارد‬
‫ميرفي ‪ ،Richard Murphy‬الرئيس األسد‪ ،‬في اخلامس من أغسطس‬
‫‪ ،1988‬أسماء سبعة مرشحني للرئاسة اللبنانية‪ :‬ميشال اخلوري‬
‫ميشال إده رينيه معوض بيار حلو مانويل يونس داني شمعون وجان‬
‫عبيد؛ وه��م الذين اقترحهم الرئيس اجلميل و«ال�ق��وات اللبنانية»‪،‬‬
‫على أن تختار سورية أحدهم‪ .‬كما أبلغه معارضة اإلدارة األمريكية‬
‫لترشيح فرجنية‪ ،‬الذي أيدته سورية‪ ،‬بقوة‪.‬‬

‫القسم الثاني‬
‫الدور الفرنسي في احلرب األهلية اللبنانية‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬أبعاد العالقة التاريخية بني فرنسا وموارنة لبنان‬

‫ح �ظ��ي امل ��وارن ��ة‪ ،‬ع �ل��ى م ��دى ف��ت��رات ط��وي �ل��ة‪ ،‬ب�ع�ط��ف فرنسا‬
‫وم�س��اع��دت�ه��ا‪ .‬ويُ�ع �ي��د امل ��ؤرخ ��ون‪ ،‬ال�ف��رن�س�ي��ون وال�ل�ب�ن��ان�ي��ون‪ ،‬تاريخ‬
‫ال �ع�لاق��ات ال�ف��رن�س�ي��ة امل��ارون �ي��ة‪ ،‬إل��ى احل ��روب ال�ص�ل�ي�ب�ي��ة‪ ،‬ب��ل إلى‬
‫شارملان ‪ .Charlemagne‬ولكن من املسلَّم به‪ ،‬أن حق فرنسا في حماية‬
‫الكاثوليك في لبنان‪ ،‬يعود إلى معاهدة ‪ .1535‬وترسّ خت احلماية‬
‫الفرنسية بتعهد لويس الرابع عشر ‪ ،Louis XIV‬عام ‪ ،1649‬حماية‬
‫الكنيسة املارونية وطائفتها‪.‬‬

‫‪352‬‬
‫وفي عام ‪ ،1840‬حينما أصبح لبنان حجراً أساسياً في «املسألة‬
‫الشرقية»‪ ،‬اعترف معظم الدول‪ ،‬وخاصة الكبرى منها‪ ،‬بحق فرنسا‬
‫في حماية املوارنة‪ .‬وهذه املرحلة شهدت بدء السعي املاروني‪ ،‬داخل‬
‫فرنسا‪ ،‬إلى كسب مساعدة حكومة فرنسا ومؤسساتها التشريعية‬
‫ورأيها العام‪ .‬أما في عام ‪ ،1860‬فقد حتولت احلماية الفرنسية‬
‫املعنوية‪ ،‬إلى حماية صريحة‪ ،‬حينما نزلت في لبنان‪ ،‬قوة فرنسية‪،‬‬
‫مؤلفة من ستة آالف جندي‪ ،‬حلماية املوارنة واملسيحيني‪ ،‬ضد الدروز‬
‫واملسلمني‪ .‬وظهرت احلماية الفرنسية‪ ،‬كذلك‪ ،‬خالل انعقاد اللجنة‬
‫الدولية في بيروت‪ ،‬حني تبنّى املندوب السامي الفرنسي املطالب‬
‫املارونية؛ وك��ان لفرنسا ال��دور األساسي في إنشاء متصرفية جبل‬
‫لبنان‪ .‬وعلى الرغم من أن التسوية الشاملة‪ ،‬ع��ام ‪ ،1861‬منحت‬
‫ال��دول األوروب �ي��ة‪ ،‬ومنها فرنسا‪ ،‬حق حماية املسيحيني في لبنان‪،‬‬
‫إ ّال أن امل��وارن��ة تشبثوا باحلماية الفرنسية‪ .‬وجانسوا الفرنسيني‪،‬‬
‫حتى لقبوا أنفسهم بفرنسيي الشرق‪ .‬وكان االحتالل الفرنسي‪ ،‬بل‬
‫احتاد لبنان وفرنسا‪ ،‬مطلباً قومياً مارونياً؛ إذ يخلصهم من السيطرة‬
‫العثمانية اإلسالمية‪ ،‬التي طاملا قاوموها‪ ،‬ويضعهم حتت حكم قوى‬
‫مسيحية‪ ،‬تربطهم بها عالقات‪ ،‬ثقافية ودينية واقتصادية‪ ،‬متينة‪.‬‬

‫«لبنان أ ُنشئ ألسباب دينية»‪ ،‬هي خلق ملجأ ملسيحيي الشرق‪،‬‬


‫كما يرى املفكرون الفرنسيون‪ .‬وهذا هو السبب األساسي‪ ،‬الذي دعا‬
‫القوى األوروب�ي��ة إلنشاء متصرفية جبل لبنان‪ ،‬ذي احلكم الذاتي‪،‬‬
‫عام ‪ .1860‬وهو عينه‪ ،‬ما دعا فرنسا إلى إنشاء دولة لبنان الكبير‪،‬‬
‫عام ‪ .1920‬وتزامن ازدياد الطموحات املسيحية اللبنانية‪ ،‬مع سرعة‬
‫انهيار الدولة العثمانية‪ ،‬خصوصاً بعد هزميتها في حروب البلقان‪،‬‬
‫التي هددت وجودها باخلطر‪ .‬فشعر املوارنة أن وقت حتقيق آمالهم‬
‫قد حان‪ ،‬وأذكته في نفوسهم السياسة الفرنسية في املشرق‪ ،‬الساعية‬

‫‪353‬‬
‫إلى مواكبة السرعة في انهيار اإلمبراطورية‪ ،‬وازدياد تنافس الدول‬
‫األوروبية‪ .‬وأسرعت فرنسا إلى إظهار وجودها في املنطقة‪ ،‬فازدادت‬
‫حتركات مبعوثيها بني السكان‪ ،‬وتوالت زيارات سفنها احلربية إلى‬
‫امل��وان��ئ اللبنانية‪ ،‬وت��وات��رت زي ��ارات ضباطها إل��ى مقر البطريرك‬
‫املاروني‪.‬‬

‫وف ��ي ف��رن �س��ا ع�ي�ن�ه��ا‪ ،‬ازداد االه �ت �م��ام ب��امل �س��أل �ت�ين السورية‬
‫واللبنانية‪ ،‬وواك��ب ذل��ك حمالت دعاية لدعم النفوذ الفرنسي في‬
‫املشرق‪ .‬وج��اءت تصريحات السياسيني الفرنسيني‪ ،‬خاصة خطبة‬
‫رئيس ال��وزراء‪ ،‬رميوند بوانكاريه ‪ ،Raymond Poincare‬أمام مجلس‬
‫ال�ش�ي��وخ ال�ف��رن�س��ي‪ ،‬ف��ي ‪ 21‬ك��ان��ون األول ‪ /‬يناير ‪ ،1912‬لتبرهن‬
‫للبنانيني املسيحيني‪ ،‬أن فرنسا متهد الطريق الحتالل سورية ولبنان‪.‬‬
‫مما دفع املوارنة إلى حثّها‪ ،‬جهاراً وسراً‪ ،‬على تعجيل احتالل لبنان‪،‬‬
‫وإقامة دولة مسيحية فيه‪ ،‬حتت حماية فرنسية‪ .‬وعملوا على إقناع‬
‫املسيحيني اآلخرين به‪ ،‬خاصة الروم األرثوذكس املترددين‪ .‬وغشَّ وا‬
‫مطامحهم بأقنعة حديثة ومبادئ وطنية‪ ،‬بعيدة عن التعصب الديني‬
‫واللغة الطائفية‪ .‬وبات كثير من املسيحيني اللبنانيني‪ ،‬يرون أنفسهم‬
‫جزءاً من أُمّة‪ ،‬تطالب بدولة مستقلة‪ ،‬أقلية‪ ،‬تطالب باحلكم الذاتي‬
‫واحلماية األجنبية‪.‬‬

‫ف��ي ‪ 31‬آب ‪ /‬أغسطس ع��ام ‪ ،1920‬أع�ل��ن اجل �ن��رال غورو‪،‬‬


‫امل �ن��دوب ال�س��ام��ي الفرنسي ف��ي س��وري��ة ول�ب�ن��ان‪ ،‬ن�ش��وء دول��ة لبنان‬
‫الكبير‪ ،‬التي ضمت املنطقة الساحلية ووادي البقاع‪ ،‬بأغلبيتهما‬
‫السكانية اإلسالمية‪ ،‬إلى جبل لبنان‪ ،‬الذي يهيمن عليه املسيحيون‬
‫امل��وارن��ة‪ ،‬بنزعاته االستقاللية‪ ،‬ورواب�ط��ه الوثيقة بالغرب‪ .‬فتحقق‬
‫حلم امل��وارن��ة ال�ق��دمي‪ .‬وت�لاش��ت آم��ال املسلمني‪ ،‬الراغبني ف��ي دولة‬
‫عربية موحدة‪ .‬ونشطت اإلرساليات الدينية الفرنسية‪ ،‬مثل اآلباء‬

‫‪354‬‬
‫اليسوعيني‪ ،‬الذين كانت لهم مؤسسات تربوية في لبنان‪ ،‬كجامعة‬
‫القديس يوسف في بيروت‪ .‬كذلك أسسوا املستشفيات ودُور األيتام‪،‬‬
‫وغيرها من املؤسسات اخليرية‪.‬‬

‫وأدى إنشاء دول��ة لبنان الكبير إلى انقسام اجتماعي عميق‪،‬‬


‫عملت فرنسا‪ ،‬من خالله‪ ،‬على تغذية الطائفية‪ ،‬وب��ث روح الفرقة‬
‫بني املسيحيني واملسلمني‪ ،‬سياسة «فرق تسد»‪ .‬كما كانت املناطقية‬
‫عنصراً آخر‪ ،‬عاق اندماج السكان املختلفني في بوتقة واحدة‪ :‬املوارنة‬
‫في شمالي لبنان ووسطه‪ ،‬والدروز في شرقيّه وجنوبيّه‪ ،‬في حاصبيّا‬
‫وراشيّا‪ ،‬والشيعة في صور وجبل عامل وشمالي سهل البقاع ووسطه‪،‬‬
‫والسُّ نة في املدن الساحلية الرئيسية وسهل عكار‪ ،‬والروم األرثوذكس‬
‫في الكورة وبيروت وطرابلس‪ ،‬وال��روم الكاثوليك في جنوبي البالد‬
‫وزحلة‪ .‬وتَ��وزَّع بيروت‪ ،‬املركز‪ ،‬السياسي واالقتصادي‪ ،‬للبالد‪ ،‬كافة‬
‫الطوائف‪ ،‬بأعداد متساوية‪.‬‬

‫أسهمت السياسة‪ ،‬التي اتّبعها املندوبون السامُون الثالثة األُوَل‪،‬‬


‫في سورية ولبنان‪ ،‬خ�لال ست سنوات من االن�ت��داب الفرنسي‪ ،‬في‬
‫تكوين الوجه‪ ،‬السياسي واالقتصادي واالجتماعي‪ ،‬للبنان‪ ،‬وحتويله‬
‫إلى دولة مستقرة‪ ،‬نسبياً‪ ،‬بنظام سياسي‪ ،‬تستطيع الطوائف املختلفة‪،‬‬
‫أن تتعايش في ظله‪ ،‬على الرغم من أن الوجود الفرنسي‪ ،‬زاد في حجم‬
‫التناقض بني املسيحيني واملسلمني‪ ،‬وشجع املواقف املعادية جتاه الدولة‬
‫اللبنانية‪ .‬وواج��ه الفرنسيون مصاعب كبيرة‪ ،‬أثناء محاولتهم وضع‬
‫نظام‪ ،‬سياسي وإداري‪ ،‬للبنان؛ إذ إن الهوّة بني املسيحيني واملسلمني‪،‬‬
‫كانت واسعة‪ ،‬وك��لٌّ منهما كان مقسماً إلى مذاهب مختلفة‪ ،‬يحاول‬
‫كلٌّ منها حتقيق مصاحله على حساب مصالح الفئات األخرى‪ .‬وكل‬
‫مذهب‪ ،‬كان منقسماً على نفسه‪ ،‬تبعاً ملصالح عائلية‪ ،‬وشخصية‪ .‬بيد‬
‫أن هذه الصعوبات‪ ،‬لم حتُل دون جناح الفرنسيني واللبنانيني أنفسهم‪،‬‬

‫‪355‬‬
‫خالل عام ‪ ،1920‬في إرساء نظام‪ ،‬سياسي وإداري‪ ،‬استطاع‪ ،‬على‬
‫ثغراته‪ ،‬البقاء أكثر من نصف قرن‪.‬‬

‫وزاد ال �ه��وة ب�ين اللبنانيني ات �س��اع �اً‪ ،‬ال�ت�ن��اف��س ب�ين بريطانيا‬


‫وفرنسا‪ ،‬وصراعهما من أجْ ل النفوذ والسيطرة‪ ،‬إذ استعمل كلٌّ منهما‬
‫الدعاية والتخريب لزعزعة مواقع الطرف اآلخر‪ .‬فآزر البريطانيون‬
‫الصهاينة والعرب املسلمني‪ ،‬بقيادة الهاشميني‪ ،‬للتش ّدد في شروطهم‬
‫في اتفاق إنهاء احل��رب مع فرنسا‪ ،‬واقتسام الشرق األوس��ط‪ .‬أمّا‬
‫فرنسا‪ ،‬فقد دعمت املسيحيني اللبنانيني‪ ،‬من أجْ ل تقوية ادعاءاتها‬
‫في سورية ولبنان‪.‬‬

‫إن سياسة فرنسا ف��ي لبنان‪ ،‬غ��ذت فيه االنقسام الطائفي‪،‬‬


‫والتجزئة مبختلف أشكالها‪ .‬لقد شعرت فرنسا بخطر التيار القومي‬
‫تكتف‬
‫ِ‬ ‫العربي ال��وح��دوي‪ ،‬فعملت على ضربه بشتّى الوسائل‪ .‬ول��م‬
‫بسلخ مناطق ع��ن س��وري��ة‪ ،‬وضمها إل��ى لبنان‪ ،‬ال��دول��ة التي يهيمن‬
‫عليها املسيحيون‪ ،‬ب��ل عمدت إل��ى تقسيم س��وري��ة نفسها دويالت‪،‬‬
‫على أساس طائفي‪ ،‬عيّنت عليها حكاماً فرنسيني‪ .‬فأنشأت دولة في‬
‫جبل ال��دروز‪ ،‬وأخ��رى في الالذقية وجبال العلويني‪ ،‬ودول��ة في لواء‬
‫اإلس�ك�ن��درون‪ ،‬وأخ��رى في ال��داخ��ل ال�س��وري‪ .‬وق��د وج��دت السياسة‬
‫الفرنسية أرضاً خصبة في لبنان‪ ،‬وال سيما بني زعماء املسيحيني‪،‬‬
‫الذين استماتوا في املطالبة باالنتداب الفرنسي‪ ،‬مما أشعر سكان‬
‫املناطق‪ ،‬التي سلخت عن سورية‪ ،‬وضمت إلى لبنان‪ ،‬بالظلم الذي‬
‫سيلحق بهم‪ ،‬من جراء تسلط االنتداب الفرنسي‪ ،‬ومحاباته لفئة من‬
‫أبناء وطنهم‪.‬‬

‫ول��م ي�ت��رك الفرنسيون م�ج��االً ل��زرع ال�ف�تن ب�ين ال�ط��وائ��ف‪ ،‬إ ّال‬
‫استغلّوه‪ .‬فلم يترددوا في سياسة قهر املناطق اإلسالمية‪ ،‬وحرمانها‬

‫‪356‬‬
‫أبسط حقوقها االقتصادية‪ ،‬في مقابل تنمية املناطق والقطاعات‪،‬‬
‫التي تتالءم مع أهدافهم التجارية‪ ،‬فحصل املسيحيون منها على‬
‫نصيب األسد‪ .‬أمّا املسلمون‪ ،‬الذين رفضوا‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬التعاون مع‬
‫االنتداب‪ ،‬فاستغلّوا عيوبه‪ ،‬ونادوا باالنفصال عن لبنان‪ .‬ولم تقتصر‬
‫التفرقة على املسيحيني وامل�س�ل�م�ين‪ ،‬ب��ل تع ّدتهما إل��ى املسيحيني‬
‫أنفسهم‪« ،‬فالروم األرثوذكس‪ ،‬امتعضوا من العناية اخلاصة‪ ،‬التي‬
‫أظهرها الفرنسيون نحو املوارنة‪ .‬وأحجموا عن إظهار الوالء الكامل‬
‫لدولة‪ ،‬كان املوارنة فيها العنصر املسيطر»‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬ق�وّت سياسة التفرقة والتحيّز‪ ،‬التي انتهجتها فرنسا‬


‫في لبنان‪ ،‬الطائفية‪ ،‬وعمقتها‪ ،‬وهيأت املناخ‪ ،‬مبكراً‪ ،‬للحرب األهلية‬
‫اللبنانية‪ .‬إضافة إلى أن فرنسا‪ ،‬عمدت إلى استعمال البنى التقليدية‬
‫في املجتمع‪ ،‬بدل أن تساعد على القضاء عليها‪ ،‬وحتديث البالد‪.‬‬
‫ال من عوامل التخلف والتجزئة الطائفية‪.‬‬‫فكان ذلك عام ً‬

‫ل��م يقتصر ه��دف االس�ت�ع�م��ار ال�ف��رن�س��ي ع�ل��ى ال�س�ي�ط��رة على‬


‫االق�ت�ص��اد‪ ،‬ونهب خ�ي��رات ال�ب�لاد‪ ،‬وتصريف املنتجات فقط‪ ،‬وإمنا‬
‫عمد إلى إعداد بنية اجتماعية‪ ،‬فيها من التناقضات‪ ،‬ما يسمح له‬
‫بالبقاء فترة طويلة‪ .‬وجاءت ظروف االنقسام الطائفي‪ ،‬لتشكل لهذا‬
‫االستعمار أرضاً خصبة‪ ،‬متكّنه من تعميق التباعد بني الطوائف‪ ،‬على‬
‫الصعيد‪ ،‬الثقافي واالجتماعي والسياسي‪ .‬وبذلك‪ ،‬تكون الطائفية‬
‫سبب االختالف االجتماعي ونتيجته‪ ،‬فالنضال ضدها‪ ،‬كان يفرض‬
‫استعمال كل الوسائل خللق جيل موحَّ د‪ ،‬ذي وطنية حقة‪ ،‬وه��و ما‬
‫عملت عكسه اإلرساليات واملدارس األجنبية‪ ،‬إذ جعلت الوالء‪ ،‬أوالً‪،‬‬
‫للطائفة‪ ،‬وليس للوطن! ث ّم لهذه الدولة االستعمارية أو تلك‪ .‬كذلك‪،‬‬
‫املؤسسات التعليمية الوطنية الطائفية‪ ،‬التي ك��ان معظمها يتلقى‬
‫املساعدات األجنبية‪ ،‬ويوفَد إليها أساتذة التعليم كذلك‪.‬‬

‫‪357‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬مراحل الدور الفرنسي في احلرب األهلية اللبنانية‬

‫حتركت الوساطة الفرنسية الفعلية‪ ،‬بعد حوالي ثمانية أشهر‬


‫من بداية احل��رب األهلية اللبنانية‪ ،‬ع��ام ‪ ،1975‬بعد أن اتضحت‬
‫أبعاد امل��وق��ف‪ ،‬وظهرت ق��وة كل ط��رف من أط��راف ال�ن��زاع‪ .‬غير أن‬
‫فرنسا‪ ،‬كانت تتابع األحداث‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬وحتاول أن جتد مخرجاً‪،‬‬
‫خاصة أن روابطها التقليدية بلبنان عامة‪ ،‬وامل��وارن��ة خاصة‪ ،‬تُ َع ّد‬
‫إح��دى حقائق احل�ي��اة السياسية ف��ي لبنان‪ .‬فبعد شهر واح��د من‬
‫حادث عني الرمانة‪ ،‬وبالتحديد في ‪ 17‬أيار ‪ /‬مايو ‪ ،1975‬أبلغ شارل‬
‫حلو‪ ،‬الرئيس اللبناني السابق‪ ،‬سليمان فرجنية‪ ،‬رئيس اجلمهورية‬
‫آنئذ‪ ،‬أن املسؤولني الفرنسيني‪ ،‬على كل املستويات‪ ،‬مهتمون‬ ‫اللبنانية‪ٍ ،‬‬
‫بالوضع اللبناني‪ ،‬انطالقاً من العالقات التاريخية‪ ،‬التي تربط لبنان‬
‫بفرنسا‪.‬‬

‫وكانت أول خطوة‪ ،‬للتعبير عن استعداد فرنسا لتجاوز مرحلة‬


‫القلق إلى دور أكثر إيجابية‪ ،‬في أول متوز ‪ /‬يوليو ‪ ،1975‬حني أعلن‬
‫الرئيس الفرنسي‪ ،‬ديستان‪ ،‬أن الوضع في لبنان يثير قلق فرنسا‪،‬‬
‫وأنها مستعدة ألن تشارك احلكومات الصديقة للبنان‪ ،‬في مساعدته‬
‫على ال �ع��ودة إل��ى ال �س�لام واالس �ت �ق��رار‪ .‬وب ��دأت ف��رن�س��ا‪ ،‬بعد ذلك‪،‬‬
‫من خالل النشاط الدبلوماسي‪ ،‬استطالع رأي ال��دول‪ ،‬التي تهمها‬
‫املشكلة‪ ،‬كي حتدد باريس خطوتها التالية‪ .‬وإزاء تسارع األحداث‪،‬‬
‫أعلنت احلكومة الفرنسية‪ ،‬في ‪ 17‬أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪ ،1975‬أنها‬
‫تؤكد ضرورة احلفاظ على استقالل لبنان ووحدته وسالمة أراضيه‪،‬‬
‫في وقت تزايدت فيه الصيحات الداعية إلى التقسيم‪ ،‬وهو ما كبح‬
‫جماح «اجلبهة اللبنانية»‪ ،‬فخفتت صيحاتها‪ .‬وإضافة إلى األطراف‪،‬‬
‫احملليني والعرب‪ ،‬شملت اتصاالت فرنسا الواليات املتحدة األمريكية‪.‬‬
‫إذ أعلن وزير خارجية فرنسا‪ ،‬في ‪ 9‬تشرين األول ‪ /‬أكتوبر ‪،1975‬‬

‫‪358‬‬
‫أنه بحث األزمة اللبنانية‪ ،‬طويالً‪ ،‬مع هنري كيسنجر‪ .‬وأعلن املتحدث‬
‫الرسمي باسم الرئيس الفرنسي‪ ،‬في ‪ 2‬تشرين الثاني ‪ /‬نوفمبر‬
‫‪ ،1975‬أن جيسكار ديستان مهتم بإعداد مبادرة فرنسية‪ ،‬من شأنها‬
‫أن تسهل إيجاد حل سلمي في لبنان‪ .‬وفي اليوم نفسه‪ ،‬اجتمع السفير‬
‫الفرنسي إلى بيروت‪ ،‬بالرئيس فرجنية‪ ،‬وأبلغه أن فرنسا مستعدة‬
‫إلرسال شخصية فرنسية‪ ،‬تتوسط بني جميع األطراف‪.‬‬

‫وبعد موافقة احلكومة اللبنانية على املبادرة الفرنسية‪ ،‬بعث‬


‫ديستان‪ ،‬في ‪ 18‬كانون الثاني ‪ /‬نوفمبر‪ ،‬برسالة إلى الرئيس اللبناني‪،‬‬
‫يُعلِمه فيها بإرسال «بعثة صداقة» إلى بيروت‪ ،‬يرأسها موريس كوف‬
‫دي مورفيل ‪ ،Maurice Couve de Murville‬ومهمتها استقصاء اآلراء‪،‬‬
‫ال في شؤون لبنان‪ ،‬وإمنا هدفها‬ ‫وجمع املعلومات‪ .‬وهي ال تُعَدّ تدخ ً‬
‫مساعدته‪ .‬وفي اليوم عينه‪ ،‬الذي سلمت فيه رسالة ديستان‪ ،‬اجتمع‬
‫سفيرا فرنسا والواليات املتحدة األمريكية إلى بيروت‪ ،‬بعد أن أعلن‬
‫كيسنجر تأييده لبعثة فرنسا‪ .‬وفي اليوم التالي‪ 19 ،‬ترين الثاني‪/‬‬
‫نوفمبر‪ ،‬وصل كوف دي مورفيل‪ ،‬رئيس وزراء فرنسا السابق‪ ،‬إلى‬
‫العاصمة اللبنانية‪ ،‬مبعوثاً من الرئيس الفرنسي‪ .‬وبدأ‪ ،‬فور وصوله‪،‬‬
‫اجتماعاته إل��ى ك��ل ال�ق�ي��ادات اللبنانية‪ .‬وخ�لال مقابالته‪ ،‬حرص‬
‫املبعوث الفرنسي‪ ،‬أن يؤكد‪ ،‬في تصريحاته الصحفية‪ ،‬أن التقسيم‬
‫كارثة على جميع األطراف‪ ،‬وأن احلل في يد اللبنانيني‪ ،‬واملصاحلة‬
‫تبدأ مبصاحلة قادتِهم‪.‬‬

‫وح��اول��ت ج�م��اع��ة الكسليك‪ ،‬أو ال��ره�ب��ان�ي��ات‪ ،‬إق �ن��اع املبعوث‬


‫الفرنسي بوجهة نظرها‪ .‬فقدَّ مت إليه م��ذك��رة‪ ،‬تنص على أن «كل‬
‫الدول العربية دول إسالمية‪ ،‬تعامل املسيحيني كأهل ذمة‪ ،‬محرومني‬
‫من حقوق املواطَ نة الفعلية‪ .‬وأن املسيحيني‪ ،‬خاصة املوارنة‪ ،‬يفضلون‬
‫امل��وت على العيش ك��أه��ل ذم��ة‪ .‬وأن لبنان ه��و‪ ،‬ف��ي ال��واق��ع‪ ،‬ملجأ‬

‫‪359‬‬
‫األقليات الهاربة من اخلطر السُّ ني»‪ .‬واخل��روج من األزم��ة‪ ،‬حسب‬
‫تصور الرهبانيات املارونية‪ ،‬هو ال�ع��ودة إل��ى صفة لبنان القدمية‪،‬‬
‫بضمانة ال��دول الكبرى‪ ،‬وأن اخلطر في لبنان‪ ،‬يرجع إل��ى الوجود‬
‫الفلسطيني فيه‪.‬‬

‫وجن��ح امل�ب�ع��وث ال�ف��رن�س��ي‪ ،‬ف��ي ‪ 29‬ت�ش��ري��ن ال�ث��ان��ي ‪ /‬نوفمبر‬


‫‪ ،1975‬ف��ي إق�ن��اع الرئيسني فرجنية وك��رام��ي‪ ،‬ب��إص��دار ك��لٍّ منهما‬
‫بياناً يفتح الطريق نحو املصاحلة‪ ،‬بعد ما رفض رئيس اجلمهورية‬
‫مشاركة رئ�ي��س ال ��وزراء ف��ي إص��دار ب�ي��ان واح��د‪ .‬واق�ت��رح ك��وف دي‬
‫مورفيل‪ ،‬أن تكون املصاحلة على أس��اس اتفاق ضمني على إجراء‬
‫بعض اإلصالحات‪ .‬وفي املقابل‪ ،‬تتعهد فرنسا بضمان موافقة سورية‬
‫واملقاومة على االتفاق‪ .‬وغ��ادر املبعوث الفرنسي بيروت‪ ،‬في اليوم‬
‫التالي‪ ،‬متجهاً إلى دمشق‪ ،‬ومنها إلى باريس‪.‬‬

‫وعلى أثر جتدد القتال‪ ،‬تسلمت وزارة اخلارجية اللبنانية‪ ،‬في‬


‫‪ 27‬آذار ‪ /‬م��ارس ‪ ،1976‬رسالة من سفارتها في باريس‪ ،‬مفادها‬
‫أن فرنسا‪ ،‬لن تقف مكتوفة اليدين‪ ،‬وتقترح‪ ،‬في حالة فشل سورية‪،‬‬
‫دع��وة مجلس األم��ن‪ ،‬أو ال��دول الكبرى‪ ،‬إلى إرس��ال شخصية دولية‬
‫للوساطة‪ ،‬على أن يكون واضحاً‪ ،‬أن فشل هذه الوساطة‪ ،‬ميكِ ن أن‬
‫يؤدي إلى تدخّ ل عسكري دولي‪.‬‬

‫وك��ان رد الرئيس فرجنية عليها‪ ،‬أن��ه ينتظر نتائج الوساطة‬


‫السورية‪ ،‬وأن الظروف ال تسمح بانتظار نتيجة وساطة جديدة‪ ،‬وأن‬
‫دع��وة ق��وات دول�ي��ة‪ ،‬ب�ق��رار م��ن مجلس األم��ن‪ ،‬يصبح ض��روري �اً‪ ،‬إذا‬
‫فشلت الوساطة السورية‪ .‬كما أن لبنان‪ ،‬بوضعه احل��ال��ي‪ ،‬يصعب‬
‫عليه اتخاذ قرار في شأن اللجوء إلى مجلس األمن‪ .‬ولذلك‪ ،‬ال ب ّد‬
‫أن تبادر دولة أخرى إلى دعوة مجلس األمن‪ ،‬بصورة عاجلة‪ .‬وذكر‬

‫‪360‬‬
‫الرئيس اللبناني في رده‪ ،‬أنه أعلم الرئيس السوري بأنه في حالة‬
‫فشل سورية‪ ،‬سوف يلجأ إلى الوسائل الدولية املمكنة‪ .‬وأن مصر‬
‫عرضت فكرة إرسال قوات مشتركة‪.‬‬

‫أمّا مجلس األمن‪ ،‬فكانت الدولة املرشحة لدعوته هي إسرائيل‪.‬‬


‫ال من فرنسا والواليات املتحدة‬‫ولكن إسحاق رابني رفض‪ ،‬وأبلغ ك ًّ‬
‫األمريكية‪ ،‬أنه ال يرى أي مصلحة إلسرائيل في أداء هذه املهمة‪.‬‬

‫وفي نهاية آذار ‪ /‬مارس ‪ ،1976‬أصدرت احلكومة الفرنسية‬


‫ن� ��دا ًء إل��ى ك��ل األط � ��راف‪ ،‬ت�ن��اش��ده��م وق��ف إط�ل�اق ال��ن��ار‪ ،‬وأعلنت‬
‫استعدادها ملبادرة جديدة‪ .‬وأعلن كوف دي مورفيل‪ ،‬أن إطالق النار‬
‫في لبنان‪ ،‬لن يتوقف‪ ،‬إال إذا فُرض من اخلارج‪ .‬كما أن الدعوة إلى‬
‫وقف القتال‪ ،‬ال بدّ أن ترتبط بسرعة احلل السياسي‪ .‬وبدلت فرنسا‬
‫مبعوثها‪ ،‬ف��اخ�ت��ارت ج��ورج ج��ورس‪ ،‬ال��ذي وص��ل إل��ى ب�ي��روت ف��ي ‪8‬‬
‫أبريل‪ ،‬وأعلن أنه سوف يلتقي ياسر عرفات؛ على عكس دين براون‪،‬‬
‫املبعوث األمريكي ال��ذي رف��ض ذل��ك‪ .‬وسعى املبعوث الفرنسي إلى‬
‫حتقيق قدر من النجاح للوساطة السورية‪ .‬وبعد خمسة أيام‪ ،‬غادر‬
‫إلى دمشق‪ ،‬حيث اجتمع بالرئيس األسد‪ ،‬وعرض عليه فكرة تنسيق‬
‫سوري فرنسي في لبنان‪.‬‬

‫لم يستطع بيار اجلميل إعالن تأييده الصريح للفكرة‪ ،‬واكتفى‬


‫بالقول إنه من اخلطأ معارضة دخول قوات غير لبنانية إلى لبنان‪.‬‬
‫ففضل أن يتمكن اللبنانيون من حل مشاكلهم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أم��ا كميل شمعون‪،‬‬
‫من دون حاجة إلى دولة أجنبية‪ ،‬مهْما بلغت صداقتها‪ .‬وإذا كان ال‬
‫بدّ من قوات أجنبية‪ ،‬فال بأس أن تكون فرنسية‪ .‬والتزمت إسرائيل‬
‫الصمت‪ ،‬جتاه االقتراح الفرنسي‪ .‬ولكن الرئيس اللبناني املنتخَ ب‪،‬‬
‫سركيس‪ ،‬طلب تعليق االقتراح‪.‬‬

‫‪361‬‬
‫كان االقتراح فرنسي ال��دور‪ ،‬أمريكي الفكرة‪ .‬إذ ليس إعالن‬
‫الرئيس الفرنسي اقتراحه من مدينة أمريكية‪ ،‬ليس هو من باب‬
‫اخلطأ أو املصادفة‪ .‬وم��ن خ�لال ه��ذا االق�ت��راح‪ ،‬أوح��ت فرنسا بأن‬
‫هناك مَن يفكر في إرسال قوات إلى لبنان‪ ،‬بعد أن أصابت خيبة األمل‬
‫«اجلبهة اللبنانية»‪ ،‬التي كانت تتوقع حدوث ذلك منذ البداية‪.‬‬

‫وأرادت واش �ن �ط��ن م��ن إي �ع��ازه��ا إل ��ى ب��اري��س ب��االق��ت��راح‪ ،‬أن‬


‫تظهر فرنسا مبظهر الدولة الطامعة في استعادة نفوذها‪ ،‬فتفقد‬
‫ما كسبته‪ ،‬في عهد دي�غ��ول‪ ،‬من صداقة ال�ع��رب‪ ،‬فتنفرد الواليات‬
‫املتحدة األمريكية‪ ،‬بترتيب األوض��اع في لبنان‪ .‬وم�ص��داق ذل��ك أن‬
‫هنري كيسنجر‪ ،‬صاحب الفكرة‪ ،‬هو نفسه‪ ،‬ص��رح‪ ،‬يوم أعلنها‪ ،‬أن‬
‫االقتراح موضع دراسة‪ ،‬شرط موافقة العرب والدول األخرى‪ ،‬وإ ْن‬
‫كان يعارض‪ ،‬أصالً‪ ،‬فكرة تدخّ ل خارجي‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬أخفقت فرنسا في مبادرتها‪ ،‬وأعلنت أنه إذا ما أدت‬


‫ال�ظ��روف إل��ى خلق م��وق��ف‪ ،‬يرجى فيه إسهامها ف��ي تهدئة الوضع‬
‫في لبنان‪ ،‬فإنها سوف تر ّد على مثل هذا الطلب باإليجاب‪ ،‬أي أن‬
‫الظروف‪ ،‬لم تساعدها على حتقيق إقرار األمن‪.‬‬

‫وفجأة‪ ،‬أعلن أن كيسنجر بحث مع ديستان‪ ،‬في ‪ 7‬أيار ‪ /‬مايو‬


‫‪ ،1976‬امل��وق��ف ف��ي لبنان‪ ،‬وأن البحث تطرق إل��ى م��وض��وع إرسال‬
‫قوات فرنسية إلى لبنان‪ .‬وذلك قبل يوم واحد من عقد جلسة مجلس‬
‫ال�ن��واب اللبناني‪ ،‬النتخاب سركيس رئيساً‪ .‬وف��ي ‪ 12‬أي��ار ‪ /‬مايو‬
‫‪ ،1976‬قرر مجلس وزراء فرنسا‪ ،‬إرسال جورج جورس إلى لبنان‪،‬‬
‫في مبادرة فرنسية ثالثة‪ .‬وسارع املبعوث الفرنسي إلى اإلعالن‪ ،‬أن‬
‫سورية أدت دوراً إيجابياً في عملية انتخاب الرئيس اجلديد‪ ،‬وتدخلت‬
‫ملنع املذابح‪ .‬وفي ‪ 16‬أيار ‪ /‬مايو ‪ ،1976‬أعلن جيسكار ديستان‪ ،‬من‬

‫‪362‬‬
‫نيوأورليانز ‪ ،New Orleans‬في الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬استعداد‬
‫فرنسا إلرس��ال ق��وات إلى لبنان‪ ،‬في غضون ‪ 48‬ساعة‪ ،‬بشرطني‪:‬‬
‫األول‪ ،‬هو طلب السلطات اللبنانية‪ .‬والثاني‪ ،‬هو موافقة األطراف‬
‫املعنيني‪ .‬وقال إن مهمتها هي توفير األمن‪ .‬ولكنه لم يستبعد احتمال‬
‫أن يكون على هذه القوة أن تقاتل‪ ،‬في بعض املناطق احلرجة‪ .‬وإنها‬
‫لن تكون حتت راية األمم املتحدة‪ .‬وميكِ ن ذكر عدد من املالحظات‪،‬‬
‫في خصوص االقتراح الفرنسي‪ ،‬أهمها‪:‬‬

‫‪ - 1‬أن االق �ت��راح أع �ل��ن‪ ،‬إ ّب ��ان زي ��ارة ال��رئ�ي��س ال�ف��رن�س��ي إلى‬
‫الواليات املتحدة األمريكية‪ .‬وكان كيسنجر قد طرح هذه‬
‫الفكرة‪ ،‬من قبْل‪ ،‬ولم جتد أي رد فعل في باريس‪ .‬وهو ما‬
‫أثار الشك في أن يكون اقتراحاً أمريكياً‪ ،‬أو على األقل‬
‫بإيحاء أمريكي‪.‬‬

‫‪ - 2‬أن��ه أع�ل��ن وج��ود بعثة فرنسية ث��ال�ث��ة ف��ي ل�ب�ن��ان‪ ،‬تلتقي‬


‫القيادات اللبنانية‪ ،‬أي أن فرنسا‪ ،‬كان لديها فكرة جيدة‬
‫عن موقف كل قيادات لبنان واملقاومة‪.‬‬

‫‪ - 3‬أن ظروف احلرب األهلية اللبنانية وطبيعتها‪ ،‬يجعالن من‬


‫الصعوبة البالغة‪ ،‬نزول قوات‪ ،‬من دون أن تخوض معارك‬
‫حقيقية‪ ،‬قد تواجه‪ ،‬خاللها‪ ،‬خطأً‪ ،‬أطرافاً حليفة‪.‬‬

‫‪ - 4‬أن باريس لم تكن‪ ،‬من الناحية العسكرية‪ ،‬قادرة‪ ،‬آنذاك‪،‬‬


‫على إرسال قوات فرنسية إلى خارج فرنسا‪.‬‬

‫واتّسمت ردود الفعل‪ ،‬إزاء االقتراح الفرنسي‪ ،‬بالرفض احلاسم‬


‫م��ن زعيم «احل��رك��ة الوطنية»‪ ،‬كمال جنبالط‪ .‬وه��و امل��وق��ف نفسه‪،‬‬
‫ال��ذي اتخذته املقاومة‪ .‬كما ع��ارض االق�ت��راح رشيد كرامي‪ ،‬رئيس‬

‫‪363‬‬
‫وزراء لبنان‪ ،‬بدعوى أن��ه ال ب� ّد من االنتظار‪ ،‬ريثما يتولى الرئيس‬
‫اجلديد السلطة‪ ،‬إلقرار مثل هذا الطلب‪.‬‬

‫ث��ال �ث � ًا‪ :‬ال �س �ي��اس��ة ال �ف��رن �س �ي��ة جت ��اه ال �غ��زو اإلسرائيلي‬


‫للبنا ن‬

‫أثناء احل��رب األهلية‪ ،‬تعرض لبنان للغزو اإلسرائيلي‪ ،‬خالل‬


‫ع��ا َم��ي ‪ 1978‬و‪ ،1982‬مم��ا أث��ر ف��ي م�س��اره��ا‪ ،‬وح�م��ل فرنسا على‬
‫االضطالع بدور أساسي‪ ،‬نظراً إلى‪:‬‬

‫‪ - 1‬املصالح االقتصادية الفرنسية في املنطقة‪ ،‬إذ يزيد حجم‬


‫االرت�ب��اط��ات االقتصادية الفرنسية ب��دول املنطقة‪ ،‬على‬
‫حجم ارتباطات أي دولة أوروبية أخرى بها‪.‬‬

‫‪ - 2‬العالقات التاريخية بني فرنسا والعالم العربي‪.‬‬

‫‪ - 3‬سعي فرنسا إلى متييز سياستها عن السياسة األمريكية‪،‬‬


‫في املنطقة‪.‬‬

‫‪ - 4‬متيّز عالقات فرنسا‪ ،‬الثقافية والتاريخية واالقتصادية‪،‬‬


‫بلبنان‪.‬‬

‫واخل�ل�اف داخ ��ل اجل �م��اع��ة األوروب� �ي ��ة‪ ،‬ف��ي ش��أن امل��وق��ف من‬
‫غ��زو إسرائيل لبنان‪ ،‬حمل فرنسا على التحرك منفردة‪ ،‬مدفوعة‬
‫بعامل َني رئيسيَّني‪ :‬األول‪ ،‬هو حماية املصالح الفرنسية في املنطقة‪.‬‬
‫والثاني‪ ،‬االستجابة للتوقعات العربية ب��دور فرنسي ناشط‪ ،‬يوازن‬
‫ال عن خوفها من انتصار‬ ‫الدور األمريكي املنحاز إلى إسرائيل‪ .‬فض ً‬
‫أمريكي إسرائيلي ساحق‪ ،‬قد ي��ؤدي إل��ى االستغناء عن أي إسهام‬

‫‪364‬‬
‫أوروبي مستقل في حتقيق السالم في املنطقة‪ ،‬وإطفاء نار احلرب‬
‫األهلية‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬فرض تسوية‪ ،‬ال تراعي املصالح األوروبية‪ .‬ومن ثم‪،‬‬
‫فإنه يجب محاولة االستفادة من الوضع الشائك‪ ،‬الذي جنم عن غزو‬
‫إسرائيل لبنان‪ ،‬إليجاد حل دائ��م في املنطقة‪ .‬وجتلى ه��ذا املفهوم‬
‫الفرنسي في عدد من املواقف‪ ،‬التي تبنّتها فرنسا‪ ،‬خالل األزمة‪،‬‬
‫والتي دارت حول مسألتَني أساسيتَني‪:‬‬

‫أوالهما‪ ،‬العمل على احلفاظ على منظمة التحرير الفلسطينية‪،‬‬


‫لكونها عنصراً مهماً من عناصر حل األزمة‪ .‬وظهر ذلك في‪:‬‬

‫‪ - 1‬دع ��وة ف��رن �س��ا‪ ،‬ف��ي م �ش��روع �ه��ا‪ ،‬ال ��ذي ق��دم إل��ى مجلس‬
‫األم ��ن‪ ،‬إل��ى ال�ف�ص��ل ب�ين ال �ق��وات امل�ت�ح��ارب��ة‪ ،‬وانسحاب‬
‫اإلسرائيليني ع��دة كيلومترات م��ن ح��ول ب �ي��روت‪ .‬بينما‬
‫ك��ان املطلب اإلسرائيلي األمريكي إخ��راج ق��وات منظمة‬
‫التحرير الفلسطينية‪ ،‬نهائياً‪ ،‬من بيروت‪ ،‬وهو ما سيؤثر‬
‫في مسار احلرب األهلية‪.‬‬

‫‪ - 2‬اق�ت��راح فرنسا أن يقتصر دور ال�ق��وى ال��دول�ي��ة‪ ،‬املتجهة‬


‫إل��ى ب�ي��روت‪ ،‬على الفصل بني ال�ق��وات املتحاربة‪ ،‬وليس‬
‫اإلشراف على ترحيل الفلسطينيني‪.‬‬

‫‪ - 3‬م�ع��ارض��ة ف��رن�س��ا ن��زع س�لاح امل �ق��اوم��ة الفلسطينية‪ ،‬أو‬


‫ال�ق�ض��اء على منظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬ألن ذلك‪،‬‬
‫كما رأى شيسون‪ ،‬سيؤدي إلى زوال جهة‪ ،‬متثّل الشعب‬
‫الفلسطيني‪ ،‬وميكن أن يؤدي إلى نشوء وضع غامض‪ ،‬ال‬
‫ميكن التكهن بنتائجه‪.‬‬

‫‪ - 4‬تكثيف االت �ص��االت م��ع منظمة ال�ت�ح��ري��ر الفلسطينية‪.‬‬

‫‪365‬‬
‫فالتقى كلود شيسون فاروق القدومي‪ .‬كما حتدث الرئيس‬
‫فرانسوا ميتران ‪،Francois Maurice Marie Mitterand‬‬
‫هاتفياً‪ ،‬مع ياسر عرفات‪ ،‬وهو أول اتصال بني مسؤول‬
‫أوروبي رفيع املستوى‪ ،‬والزعيم الفلسطيني‪ ،‬األمر الذي‬
‫يُعَدّ دعماً دبلوماسياً للمنظمة‪.‬‬

‫وق��د نظرت القيادة الفلسطينية إل��ى ذل��ك امل��وق��ف الفرنسي‬


‫بعني التقدير‪ ،‬فأرسل ياسر عرفات برسالة إلى كلود شيسون‪ ،‬وزير‬
‫اخلارجية الفرنسي‪ ،‬شكر له فيها املوقف الفرنسي‪ ،‬املؤيد حلقوق‬
‫الفلسطينيني‪ ،‬وجهود فرنسا إلنهاء األزمة‪ ،‬من طريق تسوية‪ ،‬حتفظ‬
‫للكفاح الفلسطيني شرعيته‪ ،‬وحقه في النضال املسلح‪.‬‬

‫وثانيتهما‪ ،‬ربط فرنسا‪ ،‬في كل خطواتها وسياساتها املعل َنة‪،‬‬


‫بني تسوية األزمة اللبنانية والتسوية الشاملة ألزمة الشرق األوسط‪.‬‬
‫فقد دعا املشروع الفرنسي في مجلس األمن‪ ،‬إلى بدء مفاوضات‪،‬‬
‫تكفل ال��وج��ود واألم��ن واحل�ق��وق الشرعية‪ ،‬جلميع ال��دول والشعوب‬
‫املعنية‪ ،‬وذلك بعد تسوية األزمة الناجتة من غزو إسرائيل األراضي‬
‫اللبنانية‪ .‬كما دعت فرنسا‪ ،‬في مبادرتها املشتركة مع مصر‪ ،‬إلى‬
‫تأكيد احلقوق الوطنية الشرعية للشعب الفلسطيني‪ ،‬مبا فيها حقه‬
‫في تقرير املصير‪ ،‬ومتثيله في املفاوضات كافة‪ ،‬املتعلقة بالشرق‬
‫األوسط‪ ،‬واشتراك منظمة التحرير الفلسطينية في تلك املفاوضات‪،‬‬
‫وح��ثّ ال�ط��رفَ�ين الرئيسيَّني ف��ي ال �ص��راع‪ ،‬على االع �ت��راف املتبادل‬
‫بينهما ‪.‬‬

‫أدت امل ��واق ��ف ال �ف��رن �س �ي��ة إل���ى ت� ��أزم ال��ع�ل�اق��ات الفرنسية‬
‫اإلسرائيلية‪ ،‬وتبادُل الطرفَني االتهامات‪ .‬وقدَّ مت إسرائيل مذكرة‬
‫رسمية إلى اخلارجية الفرنسية‪ ،‬احتجاجاً على مقترحات الرئيس‬

‫‪366‬‬
‫ميتران‪ ،‬الذي لم تَعُدّ ه صديقاً لها‪ .‬كما عارضت إسرائيل اشتراك‬
‫فرنسا في القوة الدولية‪ ،‬املشْ رفة على ترحيل رج��ال املقاومة من‬
‫بيروت الغربية‪ ،‬أو أن تكون القوة الفرنسية طليعة هذه القوات‪ .‬ولم‬
‫تتخ ّل عن معارضتها‪ ،‬إ ّال بعد أن تعهدت فرنسا‪ ،‬في رسالة بعث بها‬
‫الرئيس ميتران إلى بيغن‪ ،‬بأن قواتها ستعمل ملتزمة باالتفاق‪ ،‬الذي‬
‫شكلت القوة على أساسه‪ ،‬وأنها ستنسحب‪ ،‬من الفور‪ ،‬إذا رفضت‬
‫املقاومة مغادرة بيروت‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬اشتداد املعارك وتنامي الدور الفرنسي (‪)1989‬‬

‫إثر تفاقم الصراع‪ ،‬عام ‪ ،1989‬بني قوات العماد ميشال عون‬


‫النظامية‪ ،‬وحليفتها «القوات اللبنانيـة»‪ ،‬التابعـة لسمير جعجع‪ ،‬وبني‬
‫ميليشيات األح��زاب اليسارية واألح��زاب املؤيدة لسورية‪ ،‬وال سيما‬
‫بعد معركة سوق الغرب‪ ،‬أرسلت فرنسا وح��دات من أسطولها إلى‬
‫السواحل اللبنانية‪ .‬وعلى الرغم من إعالنها‪ ،‬أن مهمة قواتها هي‬
‫مهمة إنسانية‪ ،‬فقد أث��ارت جماعات املختطفني‪ ،‬الذين يحتجزون‬
‫ال�ع��دي��د م��ن ال��ره��ائ��ن األم��ري�ك�ي�ين‪ ،‬وجعلتهم يستخدمون الرهائن‬
‫كورقة سياسية للضغط‪ .‬األمر الذي دفع فرنسا إلى تقدمي مبادرة‬
‫سلمية حلل األزمة اللبنانية‪ ،‬أعلنها‪ ،‬في ‪ 28‬آب‪/‬أغسطس ‪،1989‬‬
‫روالن دوم��اس ‪ ،Roland Dumas‬وزي��ر خارجيتها‪ .‬وتدعو إل��ى وقف‬
‫إطالق النار‪ ،‬وفرض حظر على وصول األسلحة إلى الفئات اللبنانية‬
‫امل�ت�ص��ارع��ة‪ .‬ي�ل��ي ذل��ك إج ��راء إص�لاح��ات س�ي��اس�ي��ة‪ .‬وف��ي النهاية‪،‬‬
‫انسحاب القوات‪ ،‬السورية واإلسرائيلية‪ ،‬من لبنان‪ ،‬على أن يكون‬
‫انسحاب القوات السورية على مراحل‪ .‬إ ّال أن جناح هذه املبادرة‪،‬‬
‫كان مرهوناً بتخطي أزمة الثقة بني مختلف األطراف املعنية‪ .‬وهو‬
‫ما كان يصعب حتقيقه‪.‬‬

‫‪367‬‬
‫القسم الثالث‬
‫االهتمام األوروبي بلبنان‬

‫وأثره في احلرب األهلية اللبنانية‬

‫منذ إعالن البندقية‪ ،‬وأوروب��ا لم جترِ أي تطوير ملواقفها في‬


‫شأن الصراع في املنطقة‪ .‬وكانت املعارضة األمريكية لتطوير املوقف‬
‫األوروب��ي‪ ،‬سبباً في جتميد السياسة األوروب�ي��ة‪ ،‬في املنطقة‪ ،‬عند‬
‫مستوى إع�لان البندقية‪ .‬وه��و ما عنى‪ ،‬اس�ت�ط��راداً‪ ،‬تقليص الدور‬
‫األوروبي في شأن احلرب األهلية اللبنانية‪ .‬ويذكر‪ ،‬في هذا الصدد‪،‬‬
‫تهديد واشنطن باستخدام حق النقض (الفيتو)‪ ،‬إذا تقدمت أوروبا‬
‫إلى مجلس األم��ن مبشروع لتعديل القرار ‪ 242‬تعديالً‪ ،‬ميكنه من‬
‫استيعاب احلقائق اجلديدة في املنطقة‪ ،‬خاصة املتعلق منها بالقضية‬
‫ا لفلسطينية ‪.‬‬

‫وكحل وسط‪ ،‬قبِلت أوروبا تأجيل التقدم بأي مبادرة جديدة‪،‬‬


‫ريثما يبذل كل احملاوالت إلجناح اتفاقات كامب ديفيد‪ ،‬وهو ما عكس‬
‫تراجع الدور األوروبي في محاولة إيجاد حل للحرب األهلية في لبنان‪.‬‬
‫وكانت أوروبا قد بدأت في تكثيف جهودها في املنطقة‪ ،‬متهيداً لبدء‬
‫مرحلة جديدة من السعي إل��ى إيجاد تسوية للصراع في املنطقة‪.‬‬
‫فكانت ج��والت شيسون ولينوتند مانز‪ ،‬في دول املنطقة‪ ،‬وزيارات‬
‫ميتران وكارينجتون وهانز ديتريش جينشر ‪Hans-Dietrich Genscher‬‬
‫إلى إسرائيل‪ .‬وكان بعض هذه اجلوالت ذات طبيعة استطالعية‪ ،‬كما‬
‫كان بعضها اآلخر تتعلق بتحسني العالقات األوروبية اإلسرائيلية‪،‬‬
‫لفتح قنوات لالتصال مع إسرائيل‪ ،‬مبا قد يسمح بالتأثير فيها‪.‬‬

‫‪368‬‬
‫واستهدف بعض التحركات األوروبية‪ ،‬حتقيق انغماس أوروبا‪ ،‬عملياً‪،‬‬
‫ف��ي امل�ن�ط�ق��ة‪ ،‬مب��ا ميكنها م��ن امل�ش��ارك��ة ف��ي رس��م مستقبل الشرق‬
‫األوس��ط‪ .‬وم��ن تلك التحركات‪ ،‬املشاركة األوروب �ي��ة ف��ي ق��وة حفظ‬
‫ال �س�لام ف��ي س�ي�ن��اء‪ ،‬وزي ��ادة امل�ش��ارك��ة األوروب �ي��ة ف��ي ق��وة الطوارئ‬
‫الدولية‪ ،‬في جنوبي لبنان‪ ،‬إذ عزّز كلٌّ من أيرلندا والنرويج وفرنسا‪،‬‬
‫في أيار‪/‬مايو ‪ ،1982‬قواتها املشاركة بوحدات إضافية‪.‬‬

‫وإذ تشكل السياسات الوطنية لدول اجلماعة األوروبية‪ ،‬قاعدة‬


‫امل��وق��ف األوروب ��ي ال�ع��ام‪ ،‬فإنه ليس مبستغرب ذل��ك التباين‪ ،‬الذي‬
‫ظهر ف��ي مواقفها املختلفة‪ ،‬جت��اه بعض األح ��داث ف��ي لبنان‪ ،‬مثل‬
‫الغزو اإلسرائيلي‪ .‬لكنها توصلت‪ ،‬في شأنه‪ ،‬إلى موقف ميثّل نقطة‬
‫التقاء بينها‪ ،‬أ ُعلن في البيانَني الصادرَين عن اجتماع وزراء خارجية‬
‫الدول األوروبية‪ ،‬وعن القمة األوروبية‪ ،‬املنعقدة بعد ذلك بأسبوع‪.‬‬
‫وكاد البيانان يكونان بياناً واح��داً؛ إذ كرّرا ما سبق وروده في بيان‬
‫البندقية‪ ،‬الصادر عن اجتماع قمة اجلماعة األوروب�ي��ة‪ ،‬في صيف‬
‫‪ ،1980‬فأعادا تأكيد املبادئ اآلتية‪:‬‬

‫‪ - 1‬الدعوة إلى مفاوضات‪ ،‬ترتكز على مبادئ األمن والعدل‬


‫جلميع الدول والشعوب‪.‬‬

‫‪ - 2‬إشراك الفرقاء في هذه املفاوضات‪.‬‬

‫‪ - 3‬حتقيق األماني املشروعة للشعب الفلسطيني‪ ،‬الذي يجب‬


‫أن تتاح له فرصة ملمارسة حقه في تقرير املصير‪.‬‬

‫‪ - 4‬ض � ��رورة إش � ��راك م �ن �ظ �م��ة ال �ت �ح��ري��ر ال�ف�ل�س�ط�ي�ن�ي��ة في‬


‫املفاوضات‪.‬‬

‫‪369‬‬
‫أمّا في شأن املوقف من الغزو اإلسرائيلي للبنان‪ ،‬الذي كان له‬
‫أعمق األثر في احلرب األهلية اللبنانية‪ ،‬من خالل تأثيره في أطراف‬
‫ال�ن��زاع‪ ،‬خاصة سورية واملقاومة الفلسطينية وامل��وارن��ة‪ ،‬فقد تبنّت‬
‫أوروبا الدعوة إلى ما يلي‪:‬‬

‫‪ - 1‬إدان��ة الغزو اإلسرائيلي للبنان‪ ،‬وال��دع��وة إل��ى انسحاب‬


‫القوات اإلسرائيلية منه‪.‬‬

‫‪ - 2‬الدعوة إلى وقف إطالق النار‪.‬‬

‫‪ - 3‬الفصل بني القوات املتحاربة‪ ،‬بإشراف اجليش اللبناني‪،‬‬


‫ومساعدة مراقبني من األمم املتحدة‪ .‬وهو ما عكس رغبة‬
‫أوروب �ي��ة ف��ي اض�ط�لاع اجل�ي��ش اللبناني ب��دور‪ ،‬ف��ي هذا‬
‫املجال‪.‬‬

‫‪ - 4‬مغادرة جميع القوات األجنبية‪ ،‬باستثناء التي تسمح لها‬


‫احلكومة الشرعية بالبقاء‪.‬‬

‫‪ - 5‬الدعوة إل��ى بسط سلطة احلكومة اللبنانية على جميع‬


‫أراضي البالد‪.‬‬

‫غير أن امل��وق��ف األوروب ��ي امل�ع�ل��ن‪ ،‬إزاء غ��زو إس��رائ�ي��ل لبنان‪،‬‬


‫تضمن تغيّراً مهماً‪ ،‬متثل في ال��دع��وة إل��ى انسحاب ق��وات منظمة‬
‫التحرير الفلسطينية من بيروت‪ .‬بعد أن كان املوقف األوروبي يدعو‬
‫إلى اشتراكها في املفاوضات‪ ،‬ألجْ ل تسوية الصراع في املنطقة‪ ،‬على‬
‫أس��اس أنها حركة مسلحة‪ ،‬متثّل الشعب الفلسطيني‪ ،‬وتوجد على‬
‫أرض لبنان‪ ،‬وتؤثر في مجريات حربه األهلية‪ .‬ومن ثَم‪ ،‬فإن الدعوة‬
‫إلى إخراجها من بيروت‪ ،‬هو قبول بإضعاف الطرف الفلسطيني‪،‬‬

‫‪370‬‬
‫بحرمانه أهم قواعده العسكرية‪ ،‬وإن كان ميكن أن يسهم في تهدئة‬
‫احلرب األهلية اللبنانية‪ .‬ويتمثّل التحول في املوقف األوروبي‪ ،‬في ما‬
‫َو َر َد في الفقرة األخيرة من بيان وزراء خارجية اجلماعة األوروبية‪:‬‬
‫«ال��دول العشر ت��و ّد أن ترى الشعب الفلسطيني في موقف‪ ،‬يطالب‬
‫بالوسائل السلمية»‪ .‬ومن ثَم‪ ،‬فإن إضعاف القوة العسكرية للمنظمة‪،‬‬
‫عبْر إخراجها من بيروت‪ ،‬يصبح جزءاً من دعوة أشمل إلى حتويل‬
‫منظمة ال�ت�ح��ري��ر الفلسطينية إل��ى مجموعة م��ن ال��دع��اة للقضية‬
‫الفلسطينية‪ ،‬وتخلِّيها ع��ن الكفاح املسلح‪ .‬ه�ك��ذا‪ ،‬ع��اجل��ت أوروبا‬
‫املسألة اللبنانية على حساب منظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬مرتَني‪.‬‬
‫األول ��ى‪ ،‬عندما دع��ت إل��ى إخ��راج امل�ق��اوم��ة الفلسطينية م��ن غربي‬
‫بيروت‪ .‬والثانية‪ ،‬عندما طالبت بإخراج جميع القوات األجنبية من‬
‫لبنان‪ ،‬مساوية بني الوجود اإلسرائيلي والوجود الفلسطيني فيه‪.‬‬

‫وعلى الرغم من اتفاق ال��دول العشر على وجهة النظر‪ ،‬التي‬


‫أعلنها في اجتماع القمة‪ ،‬رئيس وزراء بلجيكا‪ ،‬رئيس االجتماع‪ ،‬والتي‬
‫تتلخص في أنه ينبغي ألوروبا الغربية اتخاذ خط واضح‪ ،‬إزاء تفرّد‬
‫واشنطن مبسألة الشرق األوسط‪ ،‬عامة‪ ،‬واحلرب األهلية اللبنانية‬
‫خاصة‪ ،‬فإن اخلالفات قد أثيرت حول عدد من املوضوعات‪:‬‬

‫‪ - 1‬اإلجراء الواجب اتخاذه‪ ،‬في حالة عدم امتثال إسرائيل‬


‫لنداءات االنسحاب في لبنان‪.‬‬

‫‪ - 2‬دور منظمة التحرير الفلسطينية‪.‬‬

‫‪ - 3‬تكوين قوة حلفظ السالم في لبنان‪.‬‬

‫‪ - 4‬كيفية إدارة العالقات بالواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬فيما‬


‫يتعلق باملوقف إزاء الوضع في لبنان‪.‬‬

‫‪371‬‬
‫ذلك أن الدول العشر‪ ،‬انقسمت‪ ،‬في شأن األزمة املترتبة على‬
‫الغزو اإلسرائيلي للبنان‪ ،‬إلى قسمني‪ .‬األول‪ ،‬يعارض تطوير املوقف‬
‫األوروبي‪ ،‬املستقل عن السياسة األمريكية‪ ،‬وتزعمته أملانيا الغربية‬
‫وهولندا‪ .‬والثاني‪ ،‬يدفع في اجتاه مزيد من متيّز املوقف األوروبي عن‬
‫السياسة األمريكية‪ ،‬والسعي إلى فرض هذا املوقف‪ .‬وتزعمته فرنسا‬
‫واليونان‪ .‬فبينما اقترحت أملانيا الغربية وهولندا عدم ذكر منظمة‬
‫التحرير الفلسطينية‪ ،‬باالسم‪ ،‬في بيانات األُسْ رة األوروبية‪ ،‬الصادرة‬
‫في ش��أن الغزو‪ ،‬ف��إن فرنسا أص��رت على ورود اس��م املنظمة‪ ،‬على‬
‫أساس أنه مسألة حيوية‪ .‬وفي املقابل‪ ،‬فإن الطريقة التي عاجلت بها‬
‫اجلماعة األوروبية عالقة األزمة اللبنانية باملسألة الفلسطينية‪ ،‬كانت‬
‫استجابة لالجتاه‪ ،‬الذي تزعمته أملانيا الغربية‪ ،‬والذي أعلنه وزير‬
‫خارجيتها‪ ،‬ديتريش جينشر‪ ،‬في بداية الغزو‪ ،‬عندما قال إن إعادة‬
‫الوضع السابق إلى ما كان عليه‪ ،‬لن تؤدي إلى نتائج إيجابية‪ .‬وقرن‬
‫ذلك بالدعوة إلى إقرار سيادة السلطة اللبنانية‪ .‬وهو‪ ،‬بالضبط‪ ،‬ما‬
‫أعلنه البيان‪ ،‬كطريق إلى حل األزمة اللبنانية‪ ،‬عندما ربط بني احلل‬
‫وإخراج القوات األجنبية من لبنان‪ ،‬مبا فيها القوات الفلسطينية‪.‬‬

‫أما في شأن توقيع عقوبات ضد إسرائيل‪ ،‬فقد تبنّت اليونان‬


‫وف��رن �س��ا ال��دع��وة إل ��ى ت��وق �ي��ع ع �ق��وب��ات ش��دي��دة ض��ده��ا وممارسة‬
‫الضغوط‪ ،‬التي تضطرها إلى االنسحاب‪ .‬بينما رفض الفريق اآلخر‬
‫توقيع أي ع�ق��وب��ات ض��د إس��رائ�ي��ل‪ .‬إ ّال أن وزراء خ��ارج�ي��ة األ ُسْ رة‬
‫األوروبية‪ ،‬أصدروا قراراً بتعليق اتفاق معونة مع إسرائيل‪ ،‬قدره ‪40‬‬
‫مليون دوالر‪ .‬وهو القرار الذي استقلته اليونان‪ .‬كما أصدر مؤمتر‬
‫القمة األوروبية‪ ،‬بعد ذلك‪ ،‬قراراً بوقف شحن املعدات احلربية إلى‬
‫إسرائيل‪ .‬وهو‪ ،‬كذلك‪ ،‬قرار محدود القيمة‪ ،‬بسبب اعتماد إسرائيل‬
‫شبه الكامل على السالح األمريكي‪.‬‬

‫‪372‬‬
‫كذلك‪ ،‬ثار اخلالف في شأن دور قوة حفظ السالم في لبنان‪،‬‬
‫بني االجتاه‪ ،‬الذي تقوده فرنسا‪ ،‬والداعي إلى اقتصار مهمة القوات‬
‫الدولية على الفصل بني القوات املتحاربة؛ وبني الفريق اآلخر‪ ،‬الذي‬
‫حبّذ أن تتولى هذه القوات إخ��راج القوات األجنبية من لبنان‪ ،‬مبا‬
‫فيها الفلسطينية‪ ،‬واحللول محلها‪.‬‬

‫وأخ�ي��راً‪ ،‬كان موقف الفريق ال��ذي قادته أملانيا‪ ،‬في خصوص‬


‫العالقة بواشنطن‪ ،‬كما ح��دده وزي��ر خارجيتها‪ ،‬عندما زار األردن‪،‬‬
‫في منتصف متوز‪/‬يوليه ‪ ،1982‬بقوله‪« :‬إن التحرك األوروب��ي‪ ،‬لن‬
‫يتعارض مع جهود الوساطة األمريكية‪ ،‬التي يضطلع بها فيليب حبيب‬
‫‪ ،Philip Charles Habib‬في لبنان وإسرائيل»‪ .‬بينما تقدمت فرنسا‬
‫إلى مجلس األمن مبشروع قرار‪ ،‬تعرّض للنقض األمريكي (الفيتو)‪،‬‬
‫وهو الذي دفع اخلارجية الفرنسية إلى إصدار بيان‪ ،‬عبّرت فيه عن‬
‫أسفها الستخدام واشنطن حق النقض‪ ،‬كونها الدولة الوحيدة‪ ،‬التي‬
‫عارضت املشروع الفرنسي‪.‬‬

‫ي�ش��ار إل��ى أن املجموعة األوروب �ي��ة‪ ،‬ك��ان��ت تتحرك ف��ي مناخ‪،‬‬


‫فرضته إسرائيل وال��والي��ات املتحدة األمريكية‪ ،‬وينفي أي إمكانية‬
‫ملمارسة أوروب��ا ل��دور فعال ومستقل‪ ،‬خالل األزم��ة‪ .‬فعندما اجتمع‬
‫وزراء خارجية اجلماعة األوروبية‪ ،‬أرسلوا مجموعة من األسئلة إلى‬
‫إسرائيل‪ ،‬تدور حول سماحها بأعمال اإلنقاذ في األراضي احملتلة‪،‬‬
‫واالع�ت��راف بالسيادة اللبنانية‪ ،‬وأ ّال يكون لها نيات عدوانية ضد‬
‫الشعب العربي الفلسطيني‪ ،‬أو ضد سورية‪ .‬وردّت إسرائيل‪ ،‬بصلف‬
‫شديد‪ ،‬على تلك األسئلة‪ ،‬موحية إلى اجلماعة األوروبية‪ ،‬بأن تدخّ لها‬
‫لن يكون مجدياً‪ .‬وذكرت في ردها‪ ،‬أنها لن تسمح بعودة األوضاع إلى‬
‫ما كانت عليه قبل الغزو‪ ،‬وأنه ال ب ّد من البحث عن حل سياسي‪ .‬وما‬
‫لم يحدث ذلك‪ ،‬فإنها لن تنسحب من لبنان‪ .‬وكذلك‪ ،‬فإنها لن تضع‬

‫‪373‬‬
‫في حسابها أي ضغوط‪ ،‬حتاول أن تدفعها إلى ذلك‪.‬‬

‫إل��ى جانب التأثير في مسار احل��رب األهلية اللبنانية‪ ،‬فجّ ر‬


‫الغزو اإلسرائيلي للبنان التناقضات داخل اجلماعة األوروبية‪ ،‬في ما‬
‫يتعلق بالصراع في املنطقة‪ .‬وأصاب جهودها بالشلل التام؛ إذ توقفت‬
‫عن ممارسة أي جهود جماعية‪ ،‬من أي نوع‪ ،‬منذ بيان القمة‪ ،‬املنعقدة‬
‫في أواخر حزيران ‪ /‬يونيو ‪ .1982‬وحتولت اجلماعة األوروبية إلى‬
‫سياسات منفردة لبعض دول اجلماعة‪ .‬من قبِيل اجلهود األيرلندية‬
‫ف��ي م�ج�ل��س األم� ��ن‪ ،‬إذ ت �ق��دم��ت أي��رل �ن��دا ب�غ�ي��ر م��ش ��روع‪ ،‬أحبطها‬
‫النقض األمريكي (الفيتو)‪ .‬واستقبال اليونان ع��دداً من اجلرحى‬
‫الفلسطينيني‪ ،‬لعالجهم في مستشفياتها‪ .‬ومشاركة إيطاليا في القوة‬
‫الدولية‪ ،‬املشْ رفة على ترحيل الفلسطينيني عن بيروت‪.‬‬

‫القسم الرابع‬
‫األمم املتحدة‬

‫واحلرب األهلية في لبنان‬

‫حت��رم امل ��ادة الثانية م��ن ميثاق األمم امل�ت�ح��دة‪ ،‬على املنظمة‬
‫الدولية التدخل في شؤون الدول الداخلية‪ ،‬ومنها احلروب‪ .‬بيد أنه‬
‫ميكنها االضطالع بدور إنساني؛ العناية بالالجئني وضحايا احلرب‬
‫األهلية‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ ،‬وذلك بعد موافقة احلكومة املركزية‪.‬‬

‫‪374‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬احلرب األهلية اللبنانية ودور األمم املتحدة‬

‫اقتصر جهد األمم املتحدة‪ ،‬إزاء احلرب األهلية اللبنانية‪ ،‬على‬


‫نداء‪ ،‬وجّ هه أمينها العام‪ ،‬كورت فالدهامي ‪ ،Kurt Waldheim‬في ‪30‬‬
‫تشرين األول أكتوبر ‪ ،1975‬ناشد فيه الشعب اللبناني وقادة احلرب‬
‫األهلية‪ ،‬أن يضعوا حدّ اً إلراقة الدماء‪ .‬وأمل فالدهامي‪ ،‬في ندائه‪،‬‬
‫أن تعزز مناشدته اجلهود‪ ،‬التي يبذلها الزعماء اللبنانيون أنفسهم‪،‬‬
‫من أجْ ل احملافظة على السالم والنظام في لبنان‪.‬‬

‫ويتضح من مناشدة فالدهامي‪ ،‬الدالالت اآلتية‪:‬‬

‫‪ - 1‬ليس لألمم املتحدة حول وال قوة‪ ،‬في احلروب األهلية‪.‬‬

‫‪ - 2‬قرار السالم في لبنان‪ ،‬راجع‪ ،‬من وجهة النظر الرسمية‬


‫للمنظمة الدولية‪ ،‬إلى زعماء لبنان وقادتِه أنفسهم‪.‬‬

‫‪ - 3‬خشية األمم املتحدة من شيوع الفوضى في لبنان‪ ،‬إلى‬


‫درجة تغري بالتدخل في شؤونه‪.‬‬

‫وث �م��ة ع��وام��ل ج��وه��ري��ة‪« ،‬خ��ارج��ة ع��ن ال �ع��وام��ل ال�ش�ك�ل�ي��ة‪ ،‬أو‬


‫اإلج��رائ�ي��ة‪ ،‬أو ال�ع��ام��ة»‪ ،‬فرضت على األمم املتحدة االكتفاء بدور‬
‫املشاهد‪ ،‬في احلرب األهلية اللبنانية‪ .‬أهمها انعدام اإلجماع العربي‬
‫على موقف معني‪ ،‬إزاء هذه احلرب‪ ،‬وعدم تق ُّدم لبنان بشكوى إلى‬
‫مجلس األمن‪ ،‬ضد دولة أخرى‪ .‬واتضح انعدام اإلجماع العربي في‬
‫املحِ نة اللبنانية‪ ،‬في اختالف سياسات الدول العربية إزاءها‪ .‬فبينما‬
‫أيدت ليبيا الطرف اإلسالمي‪ ،‬قيل إن األردن أيّد‪ ،‬سراً‪ ،‬في بداية‬
‫احلرب‪ ،‬الطرف املسيحي‪ ،‬خوفاً من أن يزداد نفوذ منظمة التحرير‬
‫الفلسطينية ف��ي لبنان‪ .‬ف��ي ح�ين عملت س��وري��ة ومنظمة التحرير‬

‫‪375‬‬
‫الفلسطينية‪ ،‬في بداية احلرب‪ ،‬على تهدئة املوقف داخل لبنان‪ ،‬خوفاً‬
‫من تقسيم البلد‪ ،‬واندفاع إسرائيل إلى احتالل اجلنوب اللبناني‪.‬‬
‫ال ع��ن أن دوالً عربية‪ ،‬ش��ارك��ت إس��رائ�ي��ل وال �غ��رب‪ ،‬ف��ي تسليح‬
‫فض ً‬
‫الطرف املاروني املسيحي‪ ،‬بينما سلّح بعض الفصائل الفلسطينية‬
‫ودول عربية «تقدمية»‪ ،‬اليسار اللبناني‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬جهود األمم املتحدة‬

‫لئن حظر ميثاق األمم املتحدة‪ ،‬في مادته الثانية‪ ،‬على املنظمة‬
‫الدولية التدخل في املسائل‪ ،‬التي تُ َع ّد من صميم السلطان الداخلي‬
‫لدولة م��ا‪ ،‬ف��إن الفصل السابع منه‪ ،‬أب��اح التدخل‪ ،‬وتطبيق تدابير‬
‫قمعية‪ ،‬ولكنه قصر ذلك على مجلس األمن‪ ،‬وحده‪ ،‬ملواجَ هة تهديد‬
‫السلم الدولي أو اإلخالل به‪.‬‬

‫إذ جاء في مادته التاسعة والثالثني‪« :‬يقرر مجلس األم��ن ما‬


‫ال من‬
‫إذا كان قد وقع تهديد للسلم‪ ،‬أو إخالل به‪ ،‬أو كان ما وقع عم ً‬
‫أعمال العدوان‪ .‬ويقدِّ م في ذلك توصياته‪ ،‬أو يقرر ما يجب اتخاذه‬
‫من التدابير‪ ،‬طبقاً ألحكام املادتني ‪ 43‬و‪ 48‬حلفظ السلم واألمن‬
‫الدوليني»‪.‬‬

‫لذا‪ ،‬استصدر مجلس األمن خمسة ق��رارات‪ ،‬تستهدف إيجاد‬


‫حل للصراع اللبناني‪ ،‬منذ بدايته‪ ،‬خاصة في الفترة من ‪ 19‬آذار‪/‬‬
‫مارس ‪ 1978‬حتى ‪ 19‬كانون الثاني‪/‬يناير ‪ 1979‬مع صدور القرار‬
‫الرقم ‪ .444‬وكان أهم هذه القرارات‪ ،‬هو القرار الرقم ‪ ،425‬الصادر‬
‫في ‪ 19‬آذار‪/‬مارس ‪ ،1978‬واملتضمّن‪:‬‬

‫‪ - 1‬اح �ت��رام س �ي��ادة ل�ب�ن��ان واس �ت �ق�لال��ه ال �س �ي��اس��ي‪ ،‬وسالمة‬


‫أراضيه‪ ،‬وحدوده الدولية املعترف بها‪.‬‬

‫‪376‬‬
‫‪ - 2‬ال��وق��ف ال �ف��وري لعمليات إس��رائ�ي��ل العسكرية‪ ،‬وسحب‬
‫قواتها‪ ،‬من دون تأخير‪ ،‬من كل األراضي اللبنانية‪.‬‬

‫‪ - 3‬إرسال قوات سالم‪ ،‬تابعة لألمم املتحدة‪ ،‬إلى لبنان‪ ،‬وفقاً‬


‫لمِ ��ا تطلبه احلكومة اللبنانية‪ ،‬تعمل حت��ت إش��راف�ه��ا في‬
‫اجلنوب اللبناني‪ ،‬ومهمتها نشر السالم واألمن الدوليَّني‪،‬‬
‫وم�س��اع��دة احل�ك��وم��ة اللبنانية ع�ل��ى إع ��ادة ال �س�لام إلى‬
‫املنطقة‪ ،‬لمِ َا لها من أثر في احلرب األهلية في لبنان‪.‬‬

‫‪ - 4‬إصدار أمني عام األمم املتحدة تقريراً‪ ،‬خالل ‪ 24‬ساعة‪،‬‬


‫من صدور قرار مجلس األمن‪ ،‬يتضمن كيفية تطبيقه‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬إرسال القوات الدولية إلى لبنان (‪)1978‬‬

‫تعرض لبنان‪ ،‬عام ‪ ،1978‬لغزو إسرائيلي‪ ،‬كان الهدف منه‬


‫اح�ت�لال منطقة «ح��زام أم�ن��ي»‪ ،‬بعمق ح��وال��ي ‪ 10‬ك��م‪ ،‬تصل م��ا بني‬
‫اجليوب املسيحية‪ .‬وقد حتقق هذا الهدف‪ ،‬خالل األربع والعشرين‬
‫ساعة األولى للعملية‪ .‬لكن املعارك بني اجليش اإلسرائيلي و»القوات‬
‫املشتركة»‪ ،‬التابعة للمقاومة الفلسطينية و»احلركة الوطنية» اللبنانية‪،‬‬
‫كانت ال تزال مستمرة‪ ،‬بضراوة‪ ،‬مما دفع اجليش اإلسرائيلي‪ ،‬إلى‬
‫متابعة تقدمه نحو الشمال‪ ،‬في اجت��اه نهر الليطاني‪ ،‬إلبعاد هذه‬
‫القوات إلى ما وراء النهر‪.‬‬

‫وف��ي ‪ 17‬آذار ‪ /‬م��ارس ‪ ،1978‬أي بعد ث�لاث��ة أي��ام م��ن بدء‬


‫ال�ع�م�ل�ي��ات ال�ع�س�ك��ري��ة اإلس��رائ�ي�ل�ي��ة‪ ،‬ت �ق��دَّ م ك��لٌّ م��ن ح�ك��وم�تَ��ي لبنان‬
‫وإس��رائ�ي��ل‪ ،‬بطلب دع��وة مجلس األم��ن ال��دول��ي إل��ى االنعقاد‪ .‬وبعد‬
‫ثالثة أي��ام من امل �ش��اورات‪ ،‬تقرر إرس��ال القوة الدولية إل��ى جنوبي‬
‫لبنان‪ .‬إذ تبنّى املجلس‪ ،‬في ‪ 19‬آذار ‪ /‬مارس ‪ ،1978‬قرارين‪:‬‬

‫‪377‬‬
‫‪ - 1‬األول‪ ،‬هو القرار الرقم ‪ ،)1978( 425‬الذي تقرر فيه‬
‫إنشاء قوة األمم املتحدة املؤقتة‪ ،‬في لبنان‪.‬‬

‫‪ - 2‬الثاني‪ ،‬ه��و ال�ق��رار ال��رق��م ‪ ،)1978( 426‬ال��ذي صادق‬


‫فيه املجلس على تقرير األمني العام‪ ،‬حول تطبيق القرار‬
‫األول‪.‬‬

‫وعلى الرغم من تباين مواقف األعضاء في مجلس األمن‪ ،‬في‬


‫ما يتعلق بإرسال ق��وات دولية إل��ى لبنان‪ ،‬إ ّال أن آراءه��م املختلفة‪،‬‬
‫تبلورت في موقفَني‪ :‬أحدهما مؤيد إلرسال القوات‪ ،‬واآلخر معارض‬
‫له‪.‬‬

‫‪ - 1‬املوقف املؤيد‬

‫وقفت أكثرية أعضاء مجلس األمن إلى جانب الواليات املتحدة‬


‫األمريكية‪ .‬وثمة دول أي��دت املشروع األمريكي‪ ،‬لعِ لمها مبا يجري‪.‬‬
‫وأخرى أيدته ألسباب‪ ،‬إنسانية أو سياسية‪ ،‬مثل انسحاب إسرائيل‬
‫من األراض��ي اللبنانية‪ .‬وثمة دول أخرى‪ ،‬أيدته‪ ،‬بتحفّظ‪ .‬ففرنسا‪،‬‬
‫تكتف مبساندة املشروع األمريكي‪ ،‬بل أعلنت استعدادها‬ ‫ِ‬ ‫مثالً‪ ،‬لم‬
‫للمشاركة‪ ،‬مباشرة‪ ،‬في القوة التي سترسل إلى جنوبي لبنان‪ .‬أمّا‬
‫اململكة املتحدة‪ ،‬فقد رأت أن إرس��ال ال�ق��وات‪ ،‬يستجيب لألماني‪،‬‬
‫التي عبّر عنها‪ ،‬مراراً‪ ،‬وبإحلاح‪ ،‬ديفيد أوين‪ ،‬ملواجهة خطر الوضع‬
‫السائد‪ .‬بينما رأت ال��دول األخ��رى‪ ،‬أنه ال يحق لألمم املتحدة «أن‬
‫ت�ض��اع��ف م�ص��اع��ب دول ��ة ع�ض��و‪ ،‬ه��ي ضحية ع���دوان‪ ،‬ف��ي محاولة‬
‫لالستفادة من وضع غير طبيعي‪ ،‬يسود أراضيها‪ .‬ومن املهم جداً‪،‬‬
‫أ ّال تأتي قوات األمم املتحدة‪ ،‬لتتحمل مهمات وواجبات‪ ،‬ذات ِصلة‬
‫بالشؤون الداخلية للدولة‪ ،‬أي باحلرب األهلية اللبنانية»‪.‬‬

‫‪378‬‬
‫‪ - 2‬املوقف الرافض‬

‫وقف االحتاد السوفيتي (السابق)‪ ،‬وتشيكوسلوفاكيا‪ ،‬من القرارين‬


‫‪ ،426 ،425‬موقفاً سلبياً‪ .‬إذ رأى مندوب تشيكوسلوفاكيا‪ ،‬أن املهمات‬
‫امل��وك��ول��ة إل��ى ال�ق��وات ال��دول�ي��ة‪ ،‬ليست م�ح��ددة ب��وض��وح‪ .‬أ ّم��ا املندوب‬
‫السوفيتي‪ ،‬فرأى أن الفقرة الثالثة من القرار الرقم ‪ ،425‬تنيط بالقوات‬
‫مهمات‪ ،‬ليست من اختصاصها‪ ،‬مثل نقل السلطة الفعلية في اجلنوب‬
‫اللبناني إلى احلكومة اللبنانية‪ .‬وكان قد اقترح‪ ،‬خالل املشاورات‪ ،‬أن‬
‫تحُ دد فترة انتداب القوات‪ ،‬وأن توفَّر احلماية ملصالح ضحايا العدوان‬
‫اإلسرائيلي‪ ،‬وأن تطبق مبادئ امليثاق‪ ،‬في ما يتعلق باإلجراءات الواجب‬
‫اتِّباعها‪ ،‬أثناء اضطالع القوات مبهامّها‪ .‬وك��ان قد طلب‪ ،‬كذلك‪ ،‬أ ّال‬
‫ميس إرسال قوات األمم املتحدة إلى لبنان‪ ،‬بحقوق السيادة‪ ،‬العائدة‬
‫إلى احلكومة اللبنانية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬أخذت الدولتان في احلساب الطلب‬
‫املقدم من لبنان‪ ،‬في هذا اخلصوص‪ .‬وقررتا االمتناع عن التصويت‪،‬‬
‫لكي ال يشكل موقفهما عقبة في طريق تبنّي القرارَين املذكورَين‪.‬‬

‫كما حتفظت الصني من مشروع القرار األمريكي‪ ،‬ألنه ال يدين‬


‫العدوان اإلسرائيلي على لبنان‪ ،‬وال يساند النضال العادل للشعوب‬
‫العربية‪ ،‬خاصة الشعب الفلسطيني‪ .‬والتزمَت مبوقفها‪ ،‬املعل َن مراراً‪،‬‬
‫بالنسبة إلى عمليات حفظ السالم‪ ،‬ألنها ترى أن إرسال قوات تابعة‬
‫لألمم املتحدة‪ ،‬ميكِ ن أن يفتح الطريق أمام تدخّ ل القوى الكبرى في‬
‫شؤون الدول الصغرى‪ .‬وقررت االمتناع عن التصويت‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬مواقف األطراف املعنية من القرار ‪ 425‬وأثرها في‬


‫مسار احلرب‬

‫على أثر تبنّي القرار الرقم ‪ ،425‬وجّ ه األمني العام ندا ًء إلى كل‬

‫‪379‬‬
‫األطراف املعنية‪« ،‬لكي تتخذ كل التدابير املمكِ نة‪ ،‬من أجْ ل وضع ح ّد‬
‫فوري لألعمال العدوانية في املنطقة‪ ،‬وتقدمي أكبر قدر من التعاون‬
‫إلى عناصر األمم املتحدة‪ ،‬وبشكل خاص إلى املراقبني العسكريني‪،‬‬
‫غير املسلحني‪ ،‬في جنوبي لبنان»‪ .‬وأعلن‪ ،‬في تصريح له‪ ،‬أنه طلب‬
‫موافقة هذه األط��راف‪ ،‬قبل إرسال املجموعات األولى من القوات‪.‬‬
‫واألط��راف املعنية هي احلكومة اللبنانية‪ ،‬واحلكومة اإلسرائيلية‪،‬‬
‫ومنظمة التحرير الفلسطينية‪.‬‬

‫وأسهم الغزو اإلسرائيلي في خلق الشروط املالئمة إلرسال‬


‫ق��وة دولية إل��ى جنوبي لبنان‪ .‬إذ «ال�ق��وات املشتركة»‪ ،‬الفلسطينية‬
‫والتقدمية اللبنانية‪ ،‬أ ُبعدت إل��ى خ��ارج املنطقة إب�ع��اداً كامالً‪ .‬ولم‬
‫يكن للحكومة اللبنانية أي وجود فعلي فيها‪ ،‬منذ عام ‪ .1976‬وكان‬
‫جنود اجليش اللبناني‪ ،‬البالغ عددهم بضع مئات‪ ،‬بقيادة الرائد‬
‫سعد حداد‪ ،‬وإلى جانبهم امليليشيات املسيحية احملافظة‪ ،‬يتعاونون‬
‫تعاوناً وثيقاً مع قوات اجليش اإلسرائيلي‪ ،‬على الرغم من ادعائهم‬
‫بأنهم خاضعون للسلطة اللبنانية‪ .‬وكانوا يُ َع ّدون‪ ،‬عملياً‪ ،‬جزءاً من‬
‫اجليش اإلسرائيلي‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬ميكن القول إن إرسال القوات الدولية‪ ،‬توافَق‪ ،‬إلى ح ّد‬


‫ما‪ ،‬مع الرغبة اإلسرائيلية‪ .‬كما استجاب لرغبة احلكومة اللبنانية‪،‬‬
‫في استعادة سلطتها‪ .‬وتوافق‪ ،‬كذلك‪ ،‬مع رغبة الفلسطينيني واليسار‬
‫اللبناني‪ ،‬في حتقيق انسحاب اجليش اإلسرائيلي من جنوبي لبنان‪.‬‬

‫‪ - 1‬املوقف اللبناني الرسمي‬

‫إن القرار الرقم ‪ ،)1978( 425‬ال��ذي ينص على أن مجلس‬


‫األمن‪ ،‬قرر إرسال قوة األمم املتحدة املؤقتة إلى جنوبي لبنان‪ ،‬وكان‬

‫‪380‬‬
‫قد نوقش منذ عام ‪ ،1977‬جاء بنا ًء على طلب احلكومة اللبنانية‪،‬‬
‫الساعية إلى استعادة سيادتها الكاملة على أراضيها‪ .‬وفي ‪ 23‬أيار‪/‬‬
‫مايو ‪ ،1978‬تبنّى مجلس النواب اللبناني‪ ،‬باإلجماع‪ ،‬اقتراحاً‪ ،‬يدعم‬
‫عمل رجال «القبعات الزرقاء» في جنوبي لبنان‪.‬‬

‫‪ - 2‬املوقف اإلسرائيلي‬

‫على ال��رغ��م م��ن أن م�ن��دوب إس��رائ�ي��ل‪ ،‬أعلن أن ال�ق��رار الرقم‬


‫‪« ،425‬غير مناسب‪ ،‬ويحتوي على ع��دة ث�غ��رات»‪ ،‬ف��إن إسرائيل لم‬
‫تعترض على إرس��ال ال�ق��وات ال��دول�ي��ة‪ .‬إمن��ا أرادت أن تكون مهمة‬
‫ال�ق��وات الدولية املؤقتة في لبنان‪ ،‬أكثر وض��وح�اً‪ ،‬وأ ّال تكون سبباً‬
‫إلعادة النظر في «احلزام األمني»‪ .‬كما كان اإلسرائيليون يرغبون‪،‬‬
‫بالفعل‪ ،‬في أن يمُ نح املسيحيون في هذا احلزام‪ ،‬مبساعدة إسرائيل‪،‬‬
‫الوسائل التي تسمح لهم بالتصدي للهجمات الفدائية‪ ،‬والوقاية‬
‫منها ‪.‬‬

‫‪ - 3‬موقف الفلسطينيني و«احلركة الوطنية» اللبنانية‬

‫كان كلٌّ من الفلسطينيني‪ ،‬و«احلركة الوطنية» اللبنانية‪ ،‬بعد‬


‫الغزو اإلسرائيلي‪ ،‬في تضعضع وفوضى‪ .‬إذ إن احلرب في اجلنوب‪،‬‬
‫لم تقتصر على مقتل مائة من الفدائيني الفلسطينيني‪ ،‬واملدنيني‪،‬‬
‫اللبنانيني والفلسطينيني‪ ،‬وإمنا أدت‪ ،‬كذلك‪ ،‬إلى طرد أعداد كبيرة‬
‫من القوات التابعة لهما إلى ما وراء نهر الليطاني‪ .‬كما أن الهجرة‬
‫الكثيفة من اجلنوب‪ ،‬لمِ ا يقرب من ربع مليون لبناني وفلسطيني‪ ،‬كانت‬
‫تزيد في بلبلة الوضع في املنطقة‪ ،‬التي يوجد فيها الفلسطينيون‬
‫والتقدميون اللبنانيون‪ ،‬الواقعة بني بيروت وصيدا‪ ،‬والتي كانت‪ ،‬في‬
‫الوقت نفسه‪ ،‬تقع حتت سلطة قوات الردع العربية‪ .‬لذلك‪ ،‬اتخذت‬

‫‪381‬‬
‫منظمة التحرير الفلسطينية موقفاً م�ه��ادن�اً‪ ،‬حيال األمم املتحدة‬
‫وق��وات�ه��ا ال��دول�ي��ة‪ ،‬خ��اص��ة أن موسكو ودم �ش��ق‪ ،‬ل��م تكونا تعارضان‬
‫إرسال هذه القوات‪ .‬إذ أكدت سورية مساندة وتأييد «انتشار القوات‬
‫الدولية املؤقتة‪ ،‬على أساس أنها ستحل محل القوات اإلسرائيلية‪،‬‬
‫ولن تكون مكملة لها»‪ .‬ووجهت حتذيراً‪ ،‬غير مباشر‪ ،‬إلى املقاومة‬
‫الفلسطينية‪ ،‬عبْر بيان صادر عن قوات الردع العربية‪ ،‬أعلنت فيه‬
‫أن «كل تدهور للوضع في اجلنوب‪ ،‬بعد تدخّ ل منظمة األمم املتحدة‪،‬‬
‫يشكل عقبة أساسية في وجْ ��ه اجلهود‪ ،‬الهادفة إلى احلصول على‬
‫انسحاب اجليش اإلسرائيلي من اجلنوب»‪.‬‬

‫لكن منظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬كانت تريد‪ ،‬في الوقت نفسه‪،‬‬


‫أن تؤكد مبدأين اثنني‪ ،‬في عالقاتها مبنظمة األمم املتحدة‪:‬‬

‫أنها مفاوض رئيسي مع األمم املتحدة‪ ،‬في ما يتعلق بانتشار‬ ‫< ‬


‫قواتها في اجلنوب اللبناني‪ ،‬ونشاط هذه القوات‪ .‬وكانت‬
‫ترى أنها ستنال‪ ،‬بذلك‪ ،‬اعترافاً دولياً أكثر قبوالً‪.‬‬

‫أنها ال تريد أن تتصدى ل �ق��رارات األمم امل�ت�ح��دة‪ ،‬التي‬ ‫< ‬


‫تعتمد عليها‪ ،‬غالباً‪ ،‬في نضالها من أجل التحرير‪ ،‬بينما‬
‫جتد إسرائيل نفسها فيها معزولة‪.‬‬

‫ك�م��ا أن «احل��رك��ة ال��وط�ن�ي��ة» اللبنانية‪ ،‬بالتنسيق م��ع منظمة‬


‫التحرير الفلسطينية‪ ،‬لم تكن ضد إرس��ال القوات الدولية‪ ،‬ولكنها‬
‫بدت حذرة‪ .‬وكانت حتاول أن حتدد‪ ،‬ما أمكنها ذلك‪ ،‬منطقة عمليات‬
‫القوات الدولية وسلطاتها‪ ،‬وذلك عبْر صياغة جملة من التحفظات‪،‬‬
‫واملطالبة بالتطبيق الدقيق للقرار الدولي‪.‬‬

‫‪382‬‬
‫خامس ًا‪ :‬رفض بعض األطراف إرسال قوات دولية إلى لبنان‬

‫فريقان هما على طرفي نقيض‪ ،‬التقيا في موقفهما الرافض‬


‫ل �ل �ق��وات ال��دول �ي��ة‪ .‬إذ س ��اوت ال�ت�ن�ظ�ي�م��ات اليمينية ب�ين االحتالل‬
‫تخف‬
‫ِ‬ ‫اإلسرائيلي للجنوب اللبناني والوجود الفلسطيني فيه‪ .‬لذا‪ ،‬لم‬
‫عدم موافقتها على القرار ‪ ،425‬بل عداءها له‪ ،‬ألنه لم ينص إ ّال «على‬
‫قيام قوة عازلة بني إسرائيل والفلسطينيني‪ ،‬من دون أن يأتي بأي‬
‫حل للنزاع اللبناني الفلسطيني‪ .‬وعلى الرغم من تبنّي مجلس النواب‬
‫اللبناني‪ ،‬دعم عمل رجال «القبعات الزرقاء»‪ ،‬في جنوبي لبنان‪ ،‬فإن‬
‫الزعماء املسيحيني احملافظني‪ ،‬لم يتلقوا بارتياح تدخّ ل منظمة األمم‬
‫املتحدة‪ ،‬ضمن احلدود املقررة في القرارَين ‪ 425‬و‪ .426‬فرأى كميل‬
‫شمعون وحلفاؤه‪ ،‬أن على احلكومة اللبنانية‪« ،‬أن تلجأ إلى مجلس‬
‫األمن‪ ،‬ليس لبحث العدوان اإلسرائيلي فقط‪ ،‬ولكن لبحث املشكلة‪،‬‬
‫التي يطرحها على لبنان الوجود الفلسطيني‪ ،‬ككل»‪.‬‬

‫وكان العداء األشد حدّ ة لتدخّ ل األمم املتحدة‪ ،‬من قِ بل امليليشات‬


‫املسيحية‪ ،‬والرائد سعد حداد‪ ،‬في جنوبي لبنان‪ .‬إذ أعلنوا رفضهم‬
‫القاطع لوجود ق��وات األمم املتحدة في الشريط احل��دودي‪ ،‬الواقع‬
‫حتت سيطرتهم‪ ،‬والذي يشكل ما يعرف بـ «احلزام األمني»‪.‬‬

‫أمّا «جبهة الرفض» الفلسطينية‪ ،‬فأعلنت تصديها احلازم إلرسال‬


‫القوات الدولية‪ ،‬وانتشارها في اجلنوب‪ .‬إذ كانت ترى‪ ،‬مسبقاً‪ ،‬أن وجود‬
‫القوات الدولية فيه‪ ،‬سيؤدي‪ ،‬حتماً‪ ،‬إلى عرقلة النشاط الفلسطيني‪،‬‬
‫وخدمة املصالح‪ ،‬اإلسرائيلية واألمريكية‪ ،‬في منطقة الشرق األوسط‪.‬‬
‫ال ع��ن ذل��ك‪ ،‬كانت اجلبهة امل��ذك��ورة‪ ،‬تأخذ على ع��رف��ات موقفه‬
‫فض ً‬
‫امل �ه��ادن‪ ،‬وتتهمه بالوقوف إل��ى جانب السياسة املصرية السعودية‪،‬‬
‫املوالية لواشنطن‪ .‬ودان��ت موقف منظمة التحرير الفلسطينية «التي‬
‫أبدت استعدادها ملنع كل املظاهر املسلحة في جنوبي لبنان»‪.‬‬

‫‪383‬‬
384
‫الفصل اخلامس عشر‬
‫احلرب األهلية اللبنانية ُق َب ْيل اتفاق الطائف‬

‫أوال‪ :‬األوضاع السياسية ُق َب ْيل الطائف‬


‫ً‬

‫اتسمت هذه املرحلة بفراغ دستوري‪ ،‬من جراء تعذر انتخاب‬


‫رئيس للجمهورية‪ ،‬واالنقسام الطائفي للجيش‪ ،‬وحتوُّله إلى ميليشيات‪،‬‬
‫مسيحية وإسالمية‪ .‬إذ ترك أمني اجلميل احلكم‪ ،‬ولم يكن قد اتُّفق‪،‬‬
‫ب�ع��د‪ ،‬على رئ�ي��س للجمهورية‪ .‬ف ُعيِّنت حكومة عسكرية انتقالية‪،‬‬
‫برئاسة قائد اجليش‪ ،‬العماد ميشال عون‪ .‬وفي إطار هذا السياق‪،‬‬
‫سيطرت سورية على نصف بيروت واجلبل والبقاع والشمال‪ ،‬وثلثَي‬
‫اجلنوب‪ ،‬وسيطرت حكومة العماد عون على جبيل وكسروان واملنت‪،‬‬
‫ونصف بيروت اآلخر‪.‬‬

‫‪ - 1‬حكم ميشال عون (احلكومة االنتقالية)‬

‫في ‪ 22‬أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪ ،1988‬صدرت مراسيم تعيني حكومة‬


‫عسكرية‪ ،‬برئاسة قائد اجليش العماد ميشال عون‪ ،‬الذي سارع‪ ،‬في‬

‫‪385‬‬
‫‪ 23‬أيلول‪/‬سبتمبر ‪ ،1988‬إلى اإلفصاح‪ ،‬في تصريح صحفي‪ ،‬عن‬
‫نيته البقاء في احلكم فترة‪ ،‬تتجاوز الفترة االنتقالية النتخاب رئيس‬
‫جديد‪ .‬وعرض على السوريني التفاهم‪ ،‬واقترح إرسال مندوب (النائب‬
‫ألبير منصور) ملفاوضتهم‪ .‬وك��ان ال��رد استقالة ال��وزراء العسكريني‬
‫املسلمني‪ ،‬في حني تشبث الرئيس احلص ووزراؤه مبهامهم‪ ،‬مما أدى‬
‫إلى انقسام احلكم‪ .‬وهكذا حكم العماد عون املناطق الشرقية من‬
‫لبنان‪ ،‬ملدة أربعة أشهر (من تشرين أول‪/‬أكتوبر ‪ 1988‬إلى شباط‪/‬‬
‫فبراير ‪ ،)1989‬من دون حرب‪.‬‬

‫‪ - 2‬حرب التحرير‬

‫نشط العرب إلى مصاحلة القيادات املنقسمة‪ :‬فاملسيحيون‪،‬‬


‫يقودهم امل��وارن��ة‪ ،‬ميثّلهم ميشال ع��ون‪ ،‬واملسلمون (شيعة وسُ نة)‪،‬‬
‫يرأسهم حسني احلسيني وسليم احل��ص‪ ،‬رئيسا احلكومة ومجلس‬
‫النواب‪ .‬واملجلس النيابي بقي موحَّ داً‪ ،‬إ ّال أنه حظر عليه االجتماع‪،‬‬
‫خشية انتخاب رئيس للجمهورية‪ .‬فتمسك ميشال عون‪ ،‬بالرئاسة‪،‬‬
‫في حني قرر السوريون ضرورة استرضائهم‪ ،‬بجعلهم يختارون رئيساً‬
‫للبنان‪.‬‬

‫وفي ‪ 14‬شباط ‪ /‬فبراير ‪ ،1989‬قصفت امليليشيات مرفأَي‬


‫بيروت وجونيه‪ ،‬رداً على حصار مرفئها غير الشرعي‪ .‬ثم قصف‬
‫العماد عون منطقة األونسكو‪ ،‬في بيروت الغربية‪ .‬فبادر السوريون‪،‬‬
‫وامليليشيات املتحالفة معهم‪ ،‬إل��ى قصف وزارة ال��دف��اع اللبنانية‪،‬‬
‫فأصيب مكتب ميشال عون؛ ولم يكن فيه‪ .‬وفي مساء اليوم عينه‪،‬‬
‫أعلن العماد عون ما سمي «حرب التحرير»‪.‬‬

‫وف��ي شباط ‪ /‬فبراير ‪ ،1989‬عقد اجتماع «بكركي» األول‪،‬‬

‫‪386‬‬
‫الذي حضره النواب والسياسيون‪ ،‬املقيمون مبنطقة سيطرة اجليش‬
‫اللبناني و«القوات اللبنانية»‪ .‬وأجمعوا على التنصل من إعالن «حرب‬
‫التحرير»‪ ،‬إذ تخوفوا من نتائجها‪.‬‬

‫‪ - 3‬الوضع اإلقليمي‬

‫رافق «حرب التحرير» التقاء مصالح‪ ،‬بني حركة «فتح» والعراق‪.‬‬


‫فدعم الفلسطينيون ميشال عون في حربه ضد سورية‪ ،‬بتقدمي بعض‬
‫املال والسالح‪ ،‬وبعض التسهيالت في املداخالت والتحركات اخلارجية‪،‬‬
‫خاصة في فك احلصار‪ ،‬الذي ضرب حول مناطق سيطرته‪.‬‬

‫فبدت احل��رب اللبنانية‪ ،‬في بعض جوانبها‪ ،‬حرباً بني دمشق‬


‫وبغداد والفلسطينيني‪ ،‬على أرض لبنان وبوساطة اللبنانيني‪ .‬فشاب‬
‫هذا االنطباع‪ ،‬على الصعيدين‪ ،‬العربي والدولي‪ ،‬حركة ميشال عون‪،‬‬
‫كما شكك في أهداف «حرب التحرير»‪ ،‬إضافة إلى الشوائب الذاتية‬
‫األخ��رى‪ ،‬النابعة من واق��ع تلك احل��رب‪ ،‬وطريقة إعالنها‪ ،‬ووسائل‬
‫ممارستها‪ .‬وب��دا أن للمملكة العربية السعودية شأناً مهماً‪ ،‬نتيجة‬
‫م��ا ظهر م��ن حيادية مصاحلها‪ ،‬بالنسبة إل��ى لبنان‪ ،‬وم��ن رعايتها‬
‫جلميع األط��راف وال��دول املعنية بالصراع‪ .‬وزاد من شأنها صراع‬
‫كلٍّ من سورية والعراق‪ ،‬في املشرق العربي‪ .‬فكان من الطبيعي‪ ،‬أن‬
‫يحوم دور اإلنقاذ حولها‪ ،‬ومعها بعض دول املغرب العربي (املغرب‬
‫واجلزائر)‪ ،‬األوطد عالقة بالغرب‪ ،‬وال سيما بواشنطن‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬نهاية احلرب األهلية اللبنانية‬

‫‪ - 1‬التحضير ملؤمتر الطائف‬

‫بدأ التحضير اجلدي إلنهاء األزمة اللبنانية‪ ،‬على قاعدة الوفاق‪،‬‬

‫‪387‬‬
‫في مؤمتر القمة العربية‪ ،‬غير العادي‪ ،‬املنعقد‪ ،‬لهذه الغاية‪ ،‬في الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬بني ‪ 23‬و‪ 26‬أيار ‪ /‬مايو ‪ .1989‬وكان انعقاد املؤمتر إشارة‬
‫واضحة إلى أن قرار احلل قد اتُّخذ‪ ،‬وأن األزمة اللبنانية‪ ،‬في سبيلها‬
‫إلى احلل‪ ،‬إذ وضعت نتائج املؤمتر ومقرراته األسُ س الرئيسية‪ ،‬شبه‬
‫النهائية‪ ،‬للحل املطلوب‪.‬‬

‫بعد استعراض أخطار الوضع اللبناني‪ ،‬أك��د ق��ادة العرب أن‬


‫األزمة اللبنانية‪ ،‬يجب حلّها في اإلطار العربي‪ ،‬تأكيداً لعروبة لبنان‪،‬‬
‫وللمسؤولية العربية حياله‪ .‬وقرروا تأليف جلنة عليا من ملك املغرب‪،‬‬
‫احلسن الثاني‪ ،‬وخادم احلرمَني الشريفَني‪ ،‬امللك فهد بن عبدالعزيز‪،‬‬
‫ورئيس اجلمهورية اجلزائرية‪ ،‬الشاذلي بن جديد‪ ،‬كانت صالحياتها‬
‫مطلقة‪ ،‬وح��ددت مهمتها في برنامج عمل دقيق وأه��داف واضحة‪.‬‬
‫أمّا األهداف‪ ،‬فهي‪« :‬مساعدة لبنان على اخلروج من مِ حنته‪ ،‬وإنهاء‬
‫معاناته الطويلة‪ ،‬وإع��ادة األوض��اع الطبيعية إليه‪ ،‬وحتقيق الوفاق‬
‫الوطني بني أبنائه‪ ،‬ومساندة الشرعية اللبنانية‪ ،‬القائمة على الوفاق‪،‬‬
‫وتعزيز جهود الدولة اللبنانية إلنهاء االحتالل اإلسرائيلي‪ ،‬وبسط‬
‫سلطة الدولة كاملة على كافة التراب اللبناني‪ ،‬بهدف حماية أمنها‬
‫واستقرارها بقواها الذاتية‪ ،‬وبسط سيادة الدولة وسلطتها الفعلية‬
‫ومؤسساتها املركزية على كافة التراب اللبناني‪ ،‬متهيداً إلعادة إعمار‬
‫لبنان‪ ،‬ومتكينه من استئناف دوره الطبيعي ضمن األُسرة العربية»‪.‬‬

‫أمّا البرنامج املرسوم‪ ،‬لتنفيذ هذه األهداف‪ ،‬فهو‪:‬‬

‫أ ‪ -‬عقد اجتماع للنواب اللبنانيني‪ ،‬داخل لبنان أو خارجه‪،‬‬


‫لوضع صيغة للوفاق واإلصالحات السياسية‪.‬‬

‫ب ‪ -‬عقد اجتماع للمجلس النيابي اللبناني‪ ،‬لتصديق صيغة‬


‫االتفاق واإلصالحات السياسية‪.‬‬

‫‪388‬‬
‫ج ‪ -‬ان�ت�خ��اب رئ�ي��س للجمهورية‪ ،‬بعد التصديق على وثيقة‬
‫الوفاق‪.‬‬

‫د ‪ -‬تأليف حكومة وفاق وطني‪ ،‬تلتزم بوثيقة الوفاق‪ ،‬وتعمل‬


‫على وضعها موضع التنفيذ‪.‬‬

‫هـ ‪ -‬دع��م حكومة ال��وف��اق‪ ،‬ف��ي ات�خ��اذ اإلج���راءات‪ ،‬التي تراها‬


‫ضرورية ملمارسة سيادتها الكاملة على األراضي اللبنانية‪.‬‬

‫و ‪ -‬إعطاء مهلة ستة أشهر‪ ،‬إلجناز املهمة‪.‬‬

‫ورافق ختام املؤمتر تصعيد عسكري وامتعاض سوري من تأليف‬


‫اللجنة‪ ،‬ألن الرئيس األسد‪ ،‬خمن أنها ستكون رباعية‪ ،‬حتماً‪ ،‬بوجوده‬
‫فيها‪ .‬إال أن رفض العاهل السعودي املشاركة السورية في اللجنة‪،‬‬
‫لتقديره أن دمشق طرف من أطراف الصراع‪ ،‬عقّد األمور‪ ،‬وأعطى‬
‫االنطباع بأن اللجنة في غير مصلحة سورية‪.‬‬

‫نشطت اللجنة العليا‪ ،‬عبْر مندوبها‪ ،‬األخ�ض��ر اإلبراهيمي‪،‬‬


‫لوضع اخلطوط العريضة لوثيقة الوفاق‪ .‬وأص��درت بياناً‪ ،‬انتقدت‬
‫فيه سورية وموقفها‪ ،‬محملة إياها تبعة فشل اللجنة في مهمتها‪،‬‬
‫مقدرة أن فهْمها للسيادة اللبنانية‪ ،‬هو غير الفهْم الذي أقره مؤمتر‬
‫الدار البيضاء‪ ،‬وهو يتنافى‪ ،‬كذلك‪ ،‬مع فهْم اللجنة للسيادة الوطنية‬
‫اللبنانية‪ .‬وال ش��ك أن م��وق��ف اللجنة امل�ع�لَ��ن‪ ،‬أزع��ج دم�ش��ق‪ .‬ولكن‬
‫الرئيس األسد‪ ،‬وفي ظل مؤمتر القمة التاسع لدول عدم االنحياز‪،‬‬
‫الذي عقد في يوغسالفيا‪ ،‬في سبتمبر ‪ ،1989‬توصل إلى تسوية مع‬
‫الرئيس اجلزائري‪ ،‬قضت بتعديل مشروع الوثيقة‪ ،‬أبدلت فيه عبارة‬
‫«إعادة جتميع القوات السورية» بعبارة «انسحاب اجليش السوري»‪.‬‬

‫‪389‬‬
‫في إطار هذا السياق‪ ،‬عاودت اللجنة عملها‪ .‬وأصدرت قراراً‪،‬‬
‫ف��ي أيلول‪/‬سبتمبر ‪ ،1989‬ف��ي ش��أن دع��وة ال�ن��واب اللبنانيني إلى‬
‫االجتماع‪ ،‬في الثالثني من شهر أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪ .1989‬وأعلنت‬
‫وقف إطالق النار في لبنان‪ ،‬وتأليف جلنة أمنية‪ ،‬برئاسة األخضر‬
‫اإلبراهيمي‪ ،‬لإلشراف على تنفيذه‪ ،‬ورف��ع احلصار البحري‪ ،‬وفتح‬
‫مطار بيروت الدولي‪ ،‬واإلشراف على وقف إرسال السالح إلى لبنان؛‬
‫إذ تعهد الفرقاء األساسيون بضمان وقف إطالق النار‪ ،‬والتقيد به‪.‬‬

‫وح�ض��ر األخ �ض��ر اإلب��راه�ي�م��ي إل��ى ب �ي��روت‪ ،‬ف��ي ‪ 17‬أي �ل��ول ‪/‬‬
‫سبتمبر ‪ ،1989‬وب��دأ مهمته‪ ،‬وك��ان اجل��زء األص �ع��ب فيها‪ ،‬إقناع‬
‫العماد عون باملوافقة على مشاركة النواب‪ ،‬املقيمني باملنطقة الواقعة‬
‫حت��ت سيطرته‪ ،‬ف��ي امل��ؤمت��ر امل��زم��ع ع�ق��ده ف��ي مدينة ال�ط��ائ��ف‪ ،‬في‬
‫اململكة العربية السعودية‪ .‬فعقد اجتماع ع��ام في قصر الرئاسة‪،‬‬
‫في بعبدا‪ ،‬بني العماد عون والنواب‪ ،‬تقرر‪ ،‬خالله‪ ،‬أن يذهب النواب‬
‫إلى الطائف‪ ،‬ألن أغلبيتهم راغبون في إيجاد حل‪ .‬واتخذ القرار في‬
‫حضور عون‪ ،‬وعدم معارضته املعل َنة‪.‬‬

‫‪ - 2‬انعقاد املؤمتر في الطائف‬

‫حضر إل��ى ال�ط��ائ��ف م��ن مجموع ث�لاث��ة وسبعني ن��ائ�ب�اً‪ ،‬اثنان‬


‫وس�ت��ون‪ ،‬وتغيب أح��د عشر‪ ،‬ثمانية ألس�ب��اب غير سياسية‪ ،‬وثالثة‬
‫ُع ُّدوا مقاطعني‪ ،‬رافضني‪ ،‬هم‪ :‬رميون إده وألبير مخيبر وإميل روحانا‬
‫صقر‪ .‬ولم يعد منهم إلى الندوة النيابية‪ ،‬سوى سبعة عشر‪ .‬ولم يعد‬
‫من املسيحيني‪ ،‬الذين حتملوا مسؤولية املوافقة على االتفاق‪ ،‬سوى‬
‫ثمانية‪.‬‬

‫اكتمل عدد النواب‪ ،‬مساء ‪ 29‬أيلول ‪ /‬سبتمبر‪ .‬وافتتح املؤمتر‪،‬‬

‫‪390‬‬
‫صباح الثالثني منه‪ ،‬بكلمة خادم احلرمَني الشريفَني‪ ،‬باسم اللجنة‬
‫الثالثية العربية العليا‪ ،‬ألقاها وزير خارجية اململكة‪ ،‬األمير سعود‬
‫ال�ف�ي�ص��ل‪ ،‬وبكلمة رئ�ي��س مجلس ال �ن��واب ال�ل�ب�ن��ان��ي‪ ،‬ال�س�ي��د حسني‬
‫احلسيني‪.‬‬

‫وبدا‪ ،‬منذ اللحظة األولى‪ ،‬أن محورَي النقاش هما‪ :‬اإلصالحات‬


‫السياسية‪ ،‬والسيادة‪ .‬وتوزع النواب مجموعات‪ ،‬يحمل كلٌّ منها اجتاهاً‬
‫ورأياً‪ .‬من بينها‪:‬‬

‫أ ‪ -‬مجموعة «الشرقية»‪ ،‬ومتحورت حول «الكتائب» و«املوارنة‬


‫املستقلني» و«األحرار»‪ ،‬مثّلهم جورج سعادة وبطرس حرب‬
‫وبيار دكاش‪.‬‬

‫ب ‪ -‬مجموعة «الغربية»‪ ،‬ومتحورت حول صائب سالم ونزيه‬


‫البزري‪.‬‬

‫ج ‪ -‬م�ج�م��وع��ة «ال �ب �ق��اع واجل� �ن ��وب»‪ ،‬ومت �ح��ورت ح��ول حسني‬


‫احلسيني‪.‬‬

‫د ‪ -‬مجموعة «سعاة اخلير»‪ ،‬الذين يناصرهم بعض األرمن‪،‬‬


‫وبعض الروم‪ ،‬مثّلهم خاتشيك بابكيان ونصري املعلوف‪.‬‬

‫هـ ‪ -‬أمّا صوت الطائفة الدرزية‪ ،‬فمثّله توفيق عساف‪ ،‬الذي‬


‫عرض ما سمي املطالب الدرزية‪.‬‬

‫و ‪ -‬وكان زاهر اخلطيب صوت امليليشيات احلليفة لسورية‪.‬‬

‫ز‪ .‬ثم مجموعة الراغبني في تسوية وطنية عامة‪ ،‬تؤمّن املساواة‬


‫بني املواطنني‪ ،‬وحتفظ سيادة الدولة‪ ،‬وتوقف احل��رب‪ ،‬ومتثّلت في‬

‫‪391‬‬
‫العدد األكبر من النواب‪ ،‬الذين ال مواقف مسبقة لهم‪ ،‬سوى احلرص‬
‫على اإلنقاذ ووقف احلرب‪.‬‬

‫أكد بعض املؤمتِ رين‪ ،‬أن أسباب احلرب اللبنانية‪ ،‬هي داخلية‪،‬‬
‫وأنها حرب أهلية بني اللبنانيني أنفسهم‪ ،‬ومن ثَم‪ ،‬فإن عالجها في‬
‫اإلص�لاح��ات السياسية‪ .‬في حني رك��ز بعضهم اآلخ��ر في األسباب‬
‫اخلارجية‪ .‬ورغب بعضهم اآلخر في إظهار احلرب على أنها حرب‬
‫لبنانية سورية‪ ،‬عالجها في استعادة السيادة الوطنية التامة‪.‬‬

‫وبدا أن الفرقاء األساسيني محرَجون‪ ،‬كذلك‪ ،‬مبواقف أطراف‬


‫وقوى‪ ،‬ليس لها وجود مباشر في املؤمتر‪ ،‬وإمنا يثقل ظلها أجواءه‪.‬‬
‫فالطرف املسيحي مثقَل ب��اإلح��راج من قِ بل العماد ع��ون‪ ،‬والطرف‬
‫املسلم مثقَل ب��اإلح��راج من قِ بل السوريني‪ .‬وانعكست ه��ذه األثقال‬
‫ال وتعقيداً‪ ،‬تبعاً للمواقف‬‫واإلح��راج��ات على مسار النقاش‪ ،‬تسهي ً‬
‫واملَ��واق��ع‪ .‬إ ّال أن التصميم على اإلن�ق��اذ‪ ،‬ك��ان هاجساً أساسياً لدى‬
‫جميع األطراف وممثليهم‪ ،‬بل هاجس املؤمتِ رين كافة‪.‬‬

‫‪ - 2‬املشروعات املطروحة‬

‫ل��م ي � ُك��ن م �ش��روع ات �ف��اق ال �ط��ائ��ف أول م �ش��روع وف���اق‪ ،‬يبحثه‬


‫اللبنانيون‪ ،‬إذ بدأ طرح املشروعات اإلصالحية‪ ،‬منذ بداية احلرب‬
‫اللبنانية‪ ،‬ورافقه النقاش ح��ول داخلية الصراع أو خارجيته‪ ،‬منذ‬
‫يومه األول‪ .‬فالرافضون لإلصالح‪ ،‬والراغبون في استمرار نظام‬
‫الهيمنة‪ ،‬والثنائية‪ ،‬كانوا يرون‪ ،‬أن احلرب في لبنان‪ ،‬هي حرب من‬
‫قِ بل غير اللبنانيني‪ ،‬فلسطينيني كانوا أم س��وري�ين‪ .‬وال��داع��ون إلى‬
‫اإلص�ل�اح‪ ،‬واملتحالفون م��ع الفلسطينيني‪ ،‬أو م��ع ال�س��وري�ين‪ ،‬كانوا‬
‫ي��رون‪ ،‬أن احل��رب اللبنانية‪ ،‬هي ح��رب أهلية‪ ،‬وأن أسباب الصراع‬

‫‪392‬‬
‫داخلية‪ ،‬في أساسها‪ ،‬ترتبت عليها أسباب خارجية‪.‬‬

‫وت��وال��ت م �ش��روع��ات احل �ل��ول ال��داخ �ل �ي��ة‪ ،‬ف��ي م �ج��ال اإلصالح‬


‫السياسي‪ ،‬م��ع ك��ل ان�ف��راج ف��ي ال �ص��راع‪ ،‬أو ه��دن��ة‪ .‬وك�ث��رت الوثائق‬
‫وال�ث��واب��ت وال�ن�ق��اط‪ .‬وك��ان��ت أواله��ا الوثيقة الدستورية‪ ،‬التي اتُّفق‬
‫عليها‪ ،‬ف��ي ب��داي��ة احل��رب‪ ،‬ب�ين ال��رئ�ي��سَ �ين‪ ،‬األس��د وف��رجن�ي��ة‪ .‬وأهم‬
‫تعديل فيها‪ ،‬على مستوى اإلص�لاح الداخلي‪ ،‬كان اقتراح املناصفة‬
‫بني املسيحيني واملسلمني‪ ،‬في املجلس النيابي‪ .‬تالها النقاط األربع‬
‫عشرة‪ ،‬إل��ى الثوابت اإلسالمية‪ ،‬إل��ى الوثيقة‪ ،‬التي أقرها املجلس‬
‫النيابي باإلجماع‪ .‬وجميعها نصت على مبادئ عامة‪ ،‬هي مرتكزات‬
‫النظام السياسي في لبنان‪ .‬ولعل أكثر ما دار النقاش حوله‪ ،‬هو‬
‫موضوع عروبة لبنان‪ .‬فاملسيحيون يقرون بالعروبة هوية عامة‪ ،‬ال‬
‫يترتب عليها أي أم��ر سياسي معني‪ ،‬س��وى ما يترتب على أعضاء‬
‫جامعة ال ��دول ال�ع��رب�ي��ة‪ ،‬وب��اإلج �م��اع‪ ،‬م�ح��اذري��ن أن يتحول اإلقرار‬
‫باالنتماء إلى العروبة‪ ،‬مطالبة بالوحدة السياسية بني لبنان وسورية‪،‬‬
‫أو بني لبنان وأي دولة عربية أخرى‪.‬‬

‫وإض��اف��ة إل��ى اخل��وف من ال��وح��دة السياسية‪ ،‬وضياع الهوية‪،‬‬


‫تخوَّف بعض املسيحيني من اخللط بني العروبة واإلسالم‪ .‬فالتسليم‬
‫بالعروبة‪ ،‬يعني‪ ،‬في رأي�ه��م‪ ،‬القبول بسيطرة املسلمني السياسية‪،‬‬
‫وم��ن ثَ��م‪ ،‬العودة إل��ى التمييز بني مسلم وذ ِّم��ي‪ ،‬وحتويل املسيحيني‬
‫إلى مواطنني ثانويني‪ ،‬ال حقوق سياسية لهم‪ ،‬ويُغلبون على حقوقهم‬
‫األخرى‪ ،‬عند كل خالف‪.‬‬

‫وق��د ج�م��ع م �ش��روع ال��وث�ي�ق��ة‪ ،‬ال �ت��ي ع��رض��ت ع�ل��ى ال �ن��واب في‬
‫الطائف‪ ،‬العديد من نقاط الوفاق‪ ،‬التي حملتها الوثائق السابقة‪.‬‬
‫إ ّال أنه حمل بعض اجلديد في الصيغة الداخلية‪ ،‬والكثير في صيغة‬

‫‪393‬‬
‫العالقات بسورية‪.‬‬

‫واملشروع‪ ،‬الذي طرح على النواب للنقاش‪ ،‬يلخص مشروعات‬


‫عديدة‪ ،‬بدأ نقاشها بني بعض املسؤولني اللبنانيني‪ ،‬ثم بينهم وبني‬
‫املندوبني العرب‪ ،‬فبينهم وبني بعض املعنيني من األمريكيني‪ .‬ومن‬
‫الذين أسهموا في إعداد املشروعات‪ ،‬وصوالً إلى املشروع النهائي‪:‬‬
‫الرئيس احلسيني والرئيس احل��ص‪ ،‬وجلنة من النواب املسيحيني‪،‬‬
‫اختارهم البطريرك امل��ارون��ي‪ ،‬منهم رينيه معوض‪ ،‬وج��ورج سعادة‪،‬‬
‫وب�ط��رس ح��رب‪ .‬وع��ن اللجنة العربية األخ�ض��ر اإلبراهيمي ورفيق‬
‫احلريري‪ ،‬بإشراف األمير سعود الفيصل‪ ،‬ووزي��را خارجية املغرب‬
‫واجل��زائ��ر‪ .‬وع��ن سورية عبد احلليم خ��دام‪ ،‬وع��ن ال��والي��ات املتحدة‬
‫األمريكية السيدة أبريل غالسبي ‪.April Glaspie‬‬

‫وقد سبق املشروع النهائي مشروع‪ ،‬لم توافق عليه سورية‪ ،‬وال‬
‫سيما في ما يتعلق مبوضوع استعادة سيادة الدولة اللبنانية على‬
‫أرضها‪ ،‬بقواها الذاتية‪.‬‬

‫مضمون مشروع االتفاق وموقف سورية منه‪:‬‬

‫النص الذي لم توافق عليه‬

‫ت�ق��وم ال �ق��وات ال�س��وري��ة‪ ،‬م�ش�ك��ورة‪ ،‬مبساعدة ق��وات الشرعية‬


‫اللبنانية‪ ،‬لبسط سلطة الدولة اللبنانية في جميع األم��اك��ن‪ ،‬حيث‬
‫توجد القوات السورية‪ ،‬في فترة زمنية محددة‪ ،‬أقصاها ستة أشهر‪.‬‬
‫تتجمع‪ ،‬خاللها‪ ،‬القوات السورية‪ ،‬وتتمركز في منطقة البقاع‪.‬‬

‫ك��ذل��ك‪ ،‬يتم التوقيع على ات�ف��اق‪ ،‬يتم‪ ،‬مبوجبه‪ ،‬حتديد مركز‬


‫وحجم وم��دة تواجد ال�ق��وات السورية في البقاع‪ ،‬بني احلكومتَني‪،‬‬

‫‪394‬‬
‫السورية واللبنانية‪ ،‬وبرعاية اللجنة الثالثية العربية العليا‪.‬‬

‫النص الذي وافقت عليه‬

‫تقوم‪ ...‬أ ُلغيت عبارة «في جميع األماكن‪ ،‬حيث توجد القوات‬
‫السورية»‪ ...‬في فترة زمنية محددة‪ ،‬أقصاها سنتان‪ .‬تقرر احلكومة‬
‫ال �س��وري��ة‪ ،‬ب��االت�ف��اق م��ع احل�ك��وم��ة اللبنانية‪ ،‬إع ��ادة مت��رك��ز القوات‬
‫السورية‪ ،‬في منطقة البقاع ومدخل البقاع الغربي‪ ،‬في ضهر البيدر‪،‬‬
‫حتى خط حمانا املديرج عني دارة‪ ،‬وفي نقاط أخرى …‬

‫إن ال�ن��ص ال��ذي ح��ذف ف��ي ال�ت�ع��دي��ل األول‪ ،‬يشير إل��ى رغبة‬
‫السوريني في مساعدة السلطة الشرعية على بسط سلطتها‪ ،‬في‬
‫جميع املناطق اللبنانية‪ ،‬وليس في محل وجودها فقط‪ .‬أمّا التعديل‬
‫الثاني‪ ،‬فيعبّر عن رغبة السوريني في اإلبقاء على وجودهم‪ ،‬ليس‬
‫ف��ي ال�ب�ق��اع ف�ق��ط‪ ،‬ب��ل ف��ي ضهر ال�ب�ي��در‪ ،‬ك��ذل��ك‪ ،‬وع�ل��ى خ��ط حمانا‬
‫املديرج عني دارة‪ ،‬وفي نقاط أخرى‪ .‬حجتهم في ذلك حماية قواتهم‬
‫امل��وج��ودة في البقاع‪ .‬ويتعلق التعديل الثالث بعدم رغبة السوريني‬
‫في رعاية اللجنة العربية العليا لالتفاق‪ ،‬الذي سيعقد مع احلكومة‬
‫اللبنانية‪ ،‬ح��ول ع��دد ال �ق��وات ال�س��وري��ة‪ ،‬وم��دة وج��وده��ا ف��ي البقاع‬
‫وضهر البيدر‪ ،‬واستبدال املساعدة بالرعاية‪ ،‬شرط طلبها‪ ،‬ومن قِ بل‬
‫احلكومتَني اللبنانية والسورية‪ .‬ويشمل التعديل الرابع‪ ،‬متديد املدة‪،‬‬
‫التي تضطلع‪ ،‬إبّانها‪ ،‬القوات السورية مبساعدة الدولة اللبنانية على‬
‫بسط سلطتها‪ ،‬من ستة أشهر إلى سنتني‪ .‬ويتضمن التعديل اخلامس‬
‫بتغيير صيغة قرار جتميع القوات السورية‪ ،‬وجعله‪ ،‬على الزاميته في‬
‫الوقت احملدد‪ ،‬نتيجة قرار مشترك بني حكومتَي البل َدين‪ .‬ويستبدل‬
‫التعديل ال�س��ادس ع�ب��ارة «ف��ي شتى امل �ج��االت» بعبارة «حيث تدعو‬
‫احلاجة»‪ ،‬مما يؤكد رغبة السوريني في عقد اتفاقات تفصيلية مع‬

‫‪395‬‬
‫لبنان‪ ،‬في شتى املجاالت‪ ،‬وليس حيث تدعو احلاجة فقط‪ .‬ويعبّر‬
‫التعديل السابع عن رغبة السوريني في إجراء اتفاق أمني مباشر مع‬
‫لبنان‪ ،‬من دون تدخّ ل اللجنة العربية ورعايتها‪.‬‬

‫القسم األول‬
‫مشروع وثيقة الوفاق الوطني‬

‫وبيان اللجنة الثالثية‬

‫اللجنة الثالثية‪ ،‬املكوَّنة من خ��ادم احلرمَني الشريفَني‪ ،‬امللك‬


‫فهد بن عبدالعزيز‪ ،‬عاهل اململكة العربية السعودية‪ ،‬وامللك احلسن‬
‫الثاني‪ ،‬عاهل املغرب‪ ،‬والرئيس اجلزائري‪ ،‬الشاذلي بن جديد أعلنت‪،‬‬
‫في ‪ 31‬متوز‪/‬يوليه ‪ ،1989‬وصول مهمتها إلى طريق مسدود‪ ،‬في‬
‫ش��أن ح��ل األزم��ة اللبنانية‪ .‬وك��ان��ت ق��د كُلفت‪ ،‬ف��ي ‪ 26‬أي��ار ‪ /‬مايو‬
‫‪ ،1989‬في ختام قمة ال��دار البيضاء الطارئة‪ ،‬بالعمل على إيجاد‬
‫مخرج لألزمة اللبنانية‪ ،‬في غضون ستة أشهر‪ .‬فأجرت حوارات‬
‫مع األط��راف املعنية باألزمة‪ ،‬من خالل عدة ج��والت‪ ،‬شملت بغداد‬
‫ودمشق وبيروت‪ ،‬إضافة إلى الرباط وجُ دة‪ .‬وتضمن مشروع وثيقة‬
‫الوفاق الوطني النقاط التالية‪:‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬على الصعيد السياسي‬

‫‪ - 1‬م �ش��روع إص�ل�اح س�ي��اس��ي‪ ،‬ي��ؤ ّم��ن م�ش��ارك��ة حقيقية‪ ،‬بني‬

‫‪396‬‬
‫املسلمني واملسيحيني‪ ،‬مبا يضمن التوازن بني السلطتَني‪،‬‬
‫التنفيذية والتشريعية‪ ،‬في البالد‪ .‬واقتُرح‪ ،‬كمرحلة أولى‪،‬‬
‫عقد اجتماع للبرملانيني‪ ،‬خارج لبنان‪ ،‬من أجْ ل التشاور‪،‬‬
‫واالتفاق على إعادة احلياة إلى كل املؤسسات الدستورية‬
‫اللبنانية‪ ،‬وإجراء اإلصالحات السياسية املطلوبة‪.‬‬

‫‪ - 2‬بسط سلطة الدولة اللبنانية على كل التراب اللبناني‪،‬‬


‫بقواتها الذاتية‪ ،‬وفقاً لقرار القمة العربية‪ ،‬غير العادية‪،‬‬
‫املنعقدة في الدار البيضاء‪.‬‬

‫‪ - 3‬حت��ري��ر لبنان م��ن االح �ت�لال اإلس��رائ�ي�ل��ي‪ ،‬وذل��ك بالعمل‬


‫بالوسائل كافة‪ ،‬على تنفيذ القرار الرقم ‪ ،425‬وسائر‬
‫قرارات مجلس األمن الدولي‪ ،‬املتعلقة بإزالة االحتالل‪،‬‬
‫مع التمسك باتفاقية الهدنة‪ ،‬املوقعة عام ‪.1949‬‬

‫‪ - 4‬تأكيد ع�لاق��ات لبنان ب�س��وري��ة‪ ،‬ال�ت��ي تستمد قوّتها من‬


‫جذور القربى والتاريخ واملصالح اإلستراتيجية املشتركة‪.‬‬
‫وضرورة التنسيق والتعاون بني البل َدين‪ ،‬مبوجب اتفاقات‬
‫في شتى املجاالت‪ .‬وكذلك‪ ،‬تأكيد أ ّال يكون لبنان مصدر‬
‫تهديد ألمن سورية‪ ،‬وأ ّال متثل سورية‪ ،‬في املقابل تهديداً‬
‫ألمن لبنان‪ ،‬بأي شكل من األشكال‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬على الصعيد األمني‬

‫وضعت خطة أمنية شاملة‪ ،‬لكل لبنان‪ ،‬تتسم خطوطها العريضة‬


‫مبا يلي‪:‬‬

‫‪ - 1‬اإلع �ل�ان ع��ن حَ � � ّل ج�م�ي��ع امل�ي�ل�ي�ش�ي��ات‪ ،‬ال�ل�ب�ن��ان�ي��ة وغير‬

‫‪397‬‬
‫اللبنانية‪ ،‬وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية‪ ،‬خالل‬
‫مدة زمنية محددة‪.‬‬

‫‪ - 2‬تعزيز قوى األمن الداخلي‪ ،‬من خالل‪:‬‬

‫‪ - 3‬فتح باب التطوع أمام جميع اللبنانيني‪ ،‬من دون استثناء‪،‬‬


‫والبدء بتدريبهم‪ ،‬مركزياً‪ ،‬ثم توزيعهم على الوحدات‪ ،‬مع‬
‫إحلاقهم بدورة تدريبية دورية‪ ،‬ومنظمة‪.‬‬

‫‪ - 4‬تعزيز جهاز األم��ن‪ ،‬مبا يتالءم وضبط عمليات‪ ،‬دخول‬


‫وخروج األشخاص‪ ،‬عبْر احلدود‪ ،‬براً وبحراً وجواً‬

‫‪ - 5‬تعزيز القوات املسلحة‪.‬‬

‫‪ - 6‬حَ ّل مشكلة املهجَّ رين اللبنانيني‪ ،‬والسماح لكل مهجَّ ر لبناني‪،‬‬


‫منذ عام ‪ ،1975‬بالعودة إلى املكان الذي هجِّ ر منه‪.‬‬

‫وفي ما يتعلق مبوضوع العالقات بني سورية ولبنان‪ ،‬حثت اللجنة‬


‫على ض��رورة توقيع ات�ف��اق أمني ب�ين حكومتَيهما‪ ،‬برعايتها‪ ،‬يحدَّ د‪،‬‬
‫مبوجبه‪ ،‬عدد القوات السورية‪ ،‬ومراكزها‪ ،‬ومدة وجودها في البقاع‪.‬‬
‫فظهر اخلالف في وجهتَي النظر‪ ،‬بني اللجنة الثالثية وسورية‪ ،‬خاصة‬
‫في ش��أن مسألتَي بسط السيادة اللبنانية على كل التراب الوطني‪،‬‬
‫ومستقبل ال�ع�لاق��ات ال�س��وري��ة اللبنانية‪ .‬إذ ارت ��أت دم�ش��ق أن بسط‬
‫السيادة اللبنانية‪ ،‬هي مسألة يجب أ ّال تحُ سم مسبقاً‪ ،‬وفق فترة زمنية‬
‫محددة‪ ،‬وإمنا يجب أن تترك إلى ما بعد متكُّن حكومة الوفاق الوطني‬
‫في لبنان‪ .‬وفيما يخص مستقبل العالقات السورية اللبنانية‪ ،‬رأت‬
‫سوريا أن اقتراح اللجنة‪ ،‬ال ينسجم مع نظرتها إلى ما يجب أن تكون‬
‫عليه هذه العالقات‪ ،‬من النواحي‪ ،‬اإلستراتيجية واألمنية واالقتصادية‬

‫‪398‬‬
‫واالجتماعية‪ ،‬وغيرها‪ .‬كما واجَ ��ه عمل اللجنة ع��دة عراقيل أخرى‪،‬‬
‫دفعتها إلى إعالن بيانها‪ ،‬املشار إليه آنفاً‪ .‬من بينها‪:‬‬

‫‪ - 1‬تأخر فتح املعابر‪ ،‬بني املنطقة الشرقية للعاصمة بيروت‪،‬‬


‫واملناطق املجاورة لها‪.‬‬

‫‪ - 2‬استمرار احلصار البحري‪ ،‬املضروب على ميناء جونيه‪.‬‬

‫‪ - 3‬تأكيد العديد من أعضاء مجلس النواب اللبناني‪ ،‬ضرورة‬


‫رف��ع احل�ص��ار‪ ،‬قبْل ال��دع��وة إل��ى اجتماع ال �ن��واب‪ ،‬داخل‬
‫لبنان أو خارجه‪.‬‬

‫وتزامن ذل��ك مع ع��ودة مسألة الرهائن إل��ى مسرح األحداث‪،‬‬


‫بقوة‪ ،‬بعد اختطاف الشيخ عبد الكرمي عبيد‪ ،‬أح��د ق��ادة املقاومة‬
‫اإلسالمية في لبنان‪ ،‬وما تبعه من مقتل أحد الرهائن األمريكيني‪،‬‬
‫الكولونيل هيغنز‪ ،‬على يد خاطفيه‪ ،‬األمر الذي فتح ملف العالقات‬
‫األمريكية اإليرانية‪ ،‬من جديد‪ .‬إذ طالب الرئيس اإليراني‪ ،‬علي أكبر‬
‫هاشمي رافسنجاني‪ ،‬اإلدارة األمريكية‪ ،‬باإلفراج عن األرصدة املالية‬
‫اإليرانية‪ ،‬املجمدة في املصارف األمريكية منذ عشر سنوات‪ ،‬واملقدرة‬
‫بنحو ‪ 21‬بليون دوالر‪ ،‬في مقابل املساعدة على إطالق الرهائن‪ .‬إ ّال‬
‫أن اإلدارة األمريكية‪ ،‬أصرّت على ضرورة إنقاذ الرهائن‪ ،‬بال شروط‬
‫مسبقة‪ ،‬وم��ن دون أي ت�ن��ازالت‪ ،‬ألن مثل ه��ذه ال�ت�ن��ازالت م��ن شأنه‬
‫أن يدفع عناصر أخ��رى‪ ،‬مستقبالً‪ ،‬إلى اختطاف رهائن أمريكيني‬
‫آخرين‪ ،‬ومقايضتهم مبزيد من التنازالت‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬على صعيد العالقات اللبنانية السورية‬

‫اهتم اتفاق الطائف بتحديد نوعية العالقات السورية اللبنانية‪،‬‬

‫‪399‬‬
‫في إط��ار وج��ود مصالح بني البل َدين‪ ،‬نعتها مشروع الوثيقة‪ ،‬بأنها‬
‫مصالح إستراتيجية مشتركة‪ .‬بينما أص� ّر الفريق الكتائبي‪ ،‬ومعه‬
‫املوارنة‪ ،‬بصورة عامة‪ ،‬على عدم إستراتيجية تلك املصالح‪ ،‬وتقديرها‬
‫مصالح مشتركة‪ ،‬باألخوّة‪ ،‬ال باإلستراتيجية‪ .‬أمام إصرار رئيس حزب‬
‫الكتائب على موقفه‪ ،‬وافق املؤمتِ رون على استبدال عبارة «املصالح‬
‫األخوية املشتركة»‪ ،‬بعبارة «املصالح اإلستراتيجية املشتركة»‪ ،‬فكان‬
‫التعديل األول في نص مشروع العالقات‪ .‬أما التعديل الثاني‪ ،‬فهو‬
‫اإلصرار من قِ بل املؤمتِ رين على وضع االتفاقات‪ ،‬املزمع عقدها بني‬
‫لبنان وسورية‪ ،‬في إطار سيادة كلٍّ من البل َدين واستقالله‪ .‬وأصبح‬
‫ال �ن��ص‪ ،‬ب�ع��د ال�ت�ع��دي��ل‪« :‬س��وف جت��سّ ��ده ات�ف��اق��ات بينهما‪ ،‬ف��ي شتى‬
‫امل�ج��االت‪ ،‬مما يحقق مصلحة البل َدين الشقيقَني‪ ،‬في إط��ار سيادة‬
‫كلٍّ منهما واستقالله»‪ ،‬بعد أن كان‪« :‬وسوف جتسّ ده اتفاقات بينهما‪،‬‬
‫في شتى امل�ج��االت‪ ،‬مما يحقق مصلحة البل َدين الشقيقَني»‪ .‬فأكد‬
‫امل��ؤمتِ ��رون‪ ،‬م �ج��دداً‪ ،‬وض��ع ال�ع�لاق��ات ب�ين لبنان وس��وري��ة‪ ،‬ف��ي إطار‬
‫االستقالل والسيادة‪ ،‬معبّرين‪ ،‬بذلك‪ ،‬عن قلقهم الدائم وهاجسهم‬
‫األساسي‪ ،‬هاجس استعادة االستقالل والسيادة‪.‬‬

‫رفض مؤمتر الطائف نظرية احلقوق املشروعة للدول الكبيرة‬


‫في الدول الصغيرة‪ ،‬املجاورة لها‪ ،‬وأص ّر النواب املؤمتِ رون على سيادة‬
‫لبنان كاملة‪ ،‬غير منقوصة‪ ،‬خاصة أن للسيادة شرعية مستمدة من‬
‫الشرعية الدولية‪ ،‬التي تعترف بسيادة الدول على أراضيها سيادة‬
‫كاملة‪ ،‬تامة‪.‬‬

‫ال عن أن الشرعية الدولية‪ ،‬هي السالح الذي حمله مؤمتر‬ ‫فض ً‬


‫الطائف‪ ،‬في وجْ ه االحتالل اإلسرائيلي جلنوبي لبنان‪ ،‬مص ّراً على‬
‫ات�ف��اق الهدنة‪ ،‬واحل��دود املعترف بها دول�ي�اً‪ ،‬وتنفيذ ال�ق��رار الرقم‬
‫‪ ،425‬الصادر عن مجلس األمن‪ ،‬وحقوق الشعب اللبناني في الدفاع‬

‫‪400‬‬
‫عن أرضه‪ ،‬بكافة الوسائل املتاحة‪ ،‬وواجب الدولة في حترير األرض‬
‫كاملة‪ .‬وقد رفض مؤمتر الطائف الربط بني االنسحاب اإلسرائيلي‬
‫واالنسحاب السوري‪ ،‬والتزامن بينهما‪ ،‬إذ رأى الوجود اإلسرائيلي‬
‫احتالالً غير مشروع لألرض‪ ،‬ميكِ ن مواجهته باللجوء إلى الشرعية‬
‫الدولية‪ ،‬أو باحلرب لتحرير األرض‪ .‬أ ّم��ا الوجود السوري‪ ،‬فيجب‬
‫أن توضع له أصول وقواعد‪ ،‬تتفق عليها بيروت ودمشق‪ ،‬في اإلطار‬
‫العربي‪ ،‬ال��ذي يجمعهما في ِظل انتماء قومي‪ ،‬ومن خالل املنظمة‬
‫اإلقليمية العربية‪ ،‬وهي جامعة الدول العربية‪.‬‬

‫وانطالقاً من االنتماء القومي‪ ،‬ومن خالل اإلطار العربي‪ ،‬عمل‬


‫مؤمتر الطائف على معاجلة العالقات اللبنانية السورية‪ ،‬والوجود‬
‫العسكري السوري في لبنان‪ .‬فنظّ م االنسحاب السوري‪ ،‬وفقاً خلطة‬
‫مرحلية محدَّ دة‪ .‬املرحلة األولى‪ ،‬تقضي بانسحاب القوات السورية‬
‫من جميع املناطق اللبنانية املوجودة فيها‪ ،‬انسحاباً عسكرياً وأمنياً‬
‫تاماً‪ ،‬إلى منطقة البقاع‪ ،‬ومداخل البقاع الغربي‪ ،‬وإلى ضهر البيدر‪،‬‬
‫على خط ممتد من عني دارة إلى املديرج‪ ،‬فحمانا‪ .‬ويكون انسحابها‬
‫في مصلحة القوات الشرعية اللبنانية‪ ،‬من جيش وقوى أمن‪ ،‬وتساعد‬
‫هذه القوات على بسط سلطة الدولة اللبنانية على أراضيها كاملة‪.‬‬
‫وتنتهي املرحلة األول��ى بعد م��رور سنتني على إق��رار اإلصالحات‬
‫الدستورية‪ .‬تساعد القوات السورية‪ ،‬خاللهما‪ ،‬الدولة اللبنانية‪ ،‬على‬
‫بسط سلطتها‪ ،‬بقواتها الذاتية‪ ،‬على املناطق اللبنانية كافة‪ .‬وفي‬
‫نهايتهما تنسحب‪ ،‬وتعيد جتميع قواتها في منطقة البقاع‪.‬‬

‫املرحلة الثانية‪ ،‬تبدأ بعد إعادة جتميع القوات السورية في املواقع‬


‫اجلديدة‪ ،‬ووفقاً التفاق بني احلكومتَني‪ ،‬اللبنانية والسورية‪ ،‬يحدد مدة‬
‫بقاء اجليش السوري في البقاع ومداخل البقاع الغربي‪ ،‬وحجم قواته‪،‬‬
‫وعالقتها بسلطات الدولة اللبنانية‪ ،‬في أماكن وجودها‪.‬‬

‫‪401‬‬
‫وكان واضحاً‪ ،‬في املؤمتر‪ ،‬أن القوات السورية‪ ،‬املوجودة في‬
‫البقاع‪ ،‬ألسباب دفاعية‪ ،‬في وجْ ه إسرائيل‪ ،‬سيكون وجودها عسكرياً‬
‫محضاً‪ ،‬وال عالقة لها بالوضع األمني اللبناني‪ ،‬حتى في منطقة‬
‫وجودها‪ ،‬ألن الشأن األمني‪ ،‬يصبح‪ ،‬حصراً‪ ،‬من مهام قوات الشرعية‬
‫اللبنانية الذاتية‪ .‬وفي حال تعثّر االتفاق بني بيروت ودمشق‪ ،‬ميكِ ن‬
‫طلب مساعدة اللجنة الثالثية العربية العليا على إجنازه‪.‬‬

‫وأم��ا ال�ع�لاق��ات اللبنانية ال�س��وري��ة‪ ،‬فرسمها م��ؤمت��ر الطائف‬


‫على قاعدة الصداقة املميزة‪ ،‬واألخوّة والتعاون بني بل َدين شقيقَني‪،‬‬
‫وفي إطار سيادة كلٍّ منهما واستقالله‪ ،‬على أن جتسّ د في اتفاقات‬
‫تفصيلية‪ ،‬وفقاً للحاجة‪.‬‬

‫القسم الثاني‬
‫الوفاق الوطني‬

‫عند نقاش إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف العامة‪،‬‬


‫املدنية والعسكرية‪ ،‬أ ُثيرت‪ ،‬من قِ بل رئيس حزب الكتائب‪ ،‬الدكتور‬
‫جورج سعادة‪ ،‬مسألة عدم إقبال املسيحيني على التطوع في اجليش‬
‫وقوى األمن‪ .‬وتخوف من إخالل كبير بالتوازن‪ ،‬إذا ما أصبح اجليش‬
‫وق ��وى األم ��ن‪ ،‬بأغلبية ع�ن��اص��ره�م��ا‪ ،‬م��ن امل�س�ل�م�ين‪ ،‬ق �بْ��ل أن تكون‬
‫العصبيات الطائفية‪ ،‬قد أ ُزيلت من النصوص والنفوس‪ .‬األمر الذي‬
‫يهدد العيش املشترك‪ ،‬والتوازن الداخلي‪ ،‬والوفاق الوطني‪ ،‬وكل ما‬
‫يحفظ الكيان اللبناني‪.‬‬

‫‪402‬‬
‫وقد لقي حتفّظ رئيس حزب الكتائب جتاوباً من قِ بل املؤمتِ رين‪،‬‬
‫من منطلق احلرص على الوفاق الوطني‪ ،‬والتوازن الداخلي‪ ،‬خاصة‬
‫في املرحلة االنتقالية إللغاء الطائفية‪ ،‬وقبْل أن يرافق إلغاءها من‬
‫النصوص‪ ،‬إلغاؤها من النفوس‪.‬‬

‫وف��ي امل�ق��اب��ل‪ ،‬أج�م��ع امل��ؤمتِ ��رون على أن ه��ذا التحفظ‪ ،‬يجب‬


‫أ ّال يعوق مبدأَي األهلية واالختصاص‪ ،‬في تولّي الوظائف العامة‪.‬‬
‫فاعتمدت قواعد وأسُ س‪ ،‬حتمي الوفاق والتوازن الوطنيَّني‪ ،‬وال متس‬
‫مببدأَي األهلية واالختصاص‪ ،‬فكان االتفاق التالي‪:‬‬

‫‪ - 1‬يقتضي التعيني في الوظائف العامة مباراة‪ ،‬يؤخذ بنتائجها‪،‬‬


‫أ ّياً كانت هذه النتائج‪ ،‬من دون مراعاة للتوزيع الطائفي‪.‬‬
‫فيكون االختصاص واألهلية‪ ،‬قد غلبا في املستويات العامة‪،‬‬
‫من الوظيفة العامة‪ ،‬وفي املراكز اإلدارية الفاعلة‪.‬‬

‫‪ - 2‬يُكتفى‪ ،‬في الوظيفة العامة‪ ،‬بامتحان عادي‪ ،‬أي ال إلزام‬


‫لإلدارة بالتقيد بترتيب الناجحني‪ ،‬وفقاً لعالماتهم‪ ،‬وإمنا‬
‫لها حق االختيار من بني الناجحني‪ .‬وتراعى مقتضيات‬
‫ال ��وف ��اق ال��وط �ن��ي ب�ي�ن ال �ن��اج �ح�ين‪ ،‬وي� �ع�َّي�نَّ ‪ ،‬باألفضلية‪،‬‬
‫وبالتساوي‪ ،‬الناجحون من املسيحيني واملسلمني‪ ،‬حتى‬
‫استنفاد حاجة اإلدارة‪ .‬فإن لم تستنفد في إطار التوازن‪،‬‬
‫يستكمل التعيني‪ ،‬ولو خارج اإلطار الطائفي‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬حدِّ د العمل على إلغاء الطائفية السياسية‪ ،‬في وثيقة‬


‫الوفاق الوطني‪ ،‬كهدف وطني أساسي‪ ،‬وضعت له آلية عمل معينة‪،‬‬
‫قوامها هيئة وطنية‪ ،‬تقترح خطة مرحلية‪ ،‬وتدابير تُعرض على املجلس‬
‫النيابي لبتِّها‪ .‬وتبدأ هذه اآللية بعد انتخاب أول مجلس نيابي على‬

‫‪403‬‬
‫أس��اس املناصفة‪ ،‬أي أنها ستبدأ مع املجلس املنبثق من انتخابات‬
‫‪ .1992‬وي��رأس الهيئة رئيس اجلمهورية‪ .‬ويشترك ف��ي عضويتها‬
‫رئيس املجلس النيابي ورئيس مجلس الوزراء‪ ،‬إضافة إلى شخصيات‬
‫سياسية وفكرية واجتماعية‪ ،‬يعيّنهم املجلس النيابي‪ .‬وتكون مهمتها‬
‫دراس��ة واق�ت��راح الوسائل الكفيلة بإلغاء الطائفية‪ ،‬وتقدميها إلى‬
‫مجلسَ ي النواب والوزراء لبتِّها‪ ،‬اعتماداً أو رفضاً‪ ،‬ووضع خطة على‬
‫أساسها‪ ،‬تتولى الهيئة رعاية تنفيذها‪.‬‬

‫القسم الثالث‬
‫حوراه‬
‫وم َ‬
‫مضمون اتفاق الطائف ِ‬

‫التفاق الطائف محوران أساسيان‪ :‬اإلصالح‪ ،‬والعالقات بسورية‪،‬‬


‫مبنّيان على قاعدة إنهاء حال احلرب‪ ،‬ومرتبطان بشبكة وثيقة متالزمة‪:‬‬
‫ال س�ي��ادة‪ ،‬وال استقالل‪ ،‬م��ن دون إع��ادة نظر أساسية ف��ي النظام‪،‬‬
‫تثبيتاً للمساواة واملشاركة‪ .‬وف��ي املقابل‪ ،‬ال تعديل في النظام‪ ،‬إ ّال‬
‫بشرط تأمني استعادة االستقالل والسيادة‪ .‬معادلة وتالزم‪ ،‬فرضتهما‬
‫األطراف‪ ،‬اللبنانية والسورية‪ ،‬املتداخلة‪ ،‬واملتشابكة‪ ،‬ليُصبحا أساساً‬
‫للمشروع املقدَّ م للمناقشة‪ ،‬واالتفاق عليه في الطائف‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬رؤية اتفاق الطائف إلى الكيان واملجتمع في لبنان‬

‫‪ - 1‬الكيان اللبناني‬

‫شمل ات�ف��اق ال�ط��ائ��ف مقدمة ل�ل��دس�ت��ور‪ ،‬حت�ت��وي على املبادئ‬

‫‪404‬‬
‫واأل ُسُ س‪ ،‬التي يجب أن يُبنى عليها الكيان واملجتمع والنظام السياسي‬
‫في لبنان‪ .‬إذ لم يكن للدستور مقدمة‪ ،‬وكانت مبادئ الكيان واملجتمع‬
‫والنظام‪ ،‬تستخلص من نصوص م��وادّه‪ ،‬حتى تبدت‪ ،‬ص��راح��ة‪ ،‬في‬
‫الطائف‪ ،‬وشكلت أساس بنيان االتفاق‪ .‬وهي تشكل‪ ،‬اليوم‪ ،‬جزءاً ال‬
‫يتجزأ من الدستور‪ ،‬ولها فاعلية الدستور متاماً‪ .‬ومنها‪« :‬لبنان وطن‬
‫سيد حر مستقل‪ ،‬وطن نهائي جلميع أبنائه …»‪ ،‬أي أنه ليس دولة‬
‫فحسب‪ .‬إنه وطن‪ ،‬أي شعب وأرض‪ ،‬لهما دولة‪ .‬إنه كيان قائم بذاته‪،‬‬
‫شعباً وأرض��اً‪ .‬وللمرة األول��ى‪ ،‬ينال لبنان‪ ،‬باتفاق أبنائه‪ ،‬بخاصة‬
‫مسلموه‪ ،‬وموافقة العرب كلهم أجمعني‪ ،‬والعالم ب��أسْ ��ره‪ ،‬اعترافاً‬
‫بكينونته‪ ،‬كوطن‪ .‬وللمرة األولى‪ ،‬يقر لبنان‪ ،‬بإجماع أبنائه‪ ،‬بخاصة‬
‫مسيحيوه‪ ،‬بعروبته وانتمائه العربي‪.‬‬

‫وال ش��ك أن ه��ذه ال �ق��رارات‪ ،‬تُ� َع� ّد تاريخية‪ ،‬حققها وأجنزها‬


‫مؤمتر الطائف‪ ،‬وأنهى بها صراعاً‪ ،‬عقائدياً سياسياً‪ ،‬راف��ق لبنان‬
‫منذ تأسيس دول�ت��ه املستقلة‪ .‬ص��راع استمر ب�ين ت �ي��اران‪ ،‬أحدهما‬
‫يدعو إلى الوحدة العربية‪ ،‬أو السورية‪ ،‬منكراً على الكيان اللبناني‬
‫أصالته‪ ،‬وي��رى وج��وده اختراعاً استعمارياً‪ ،‬واآلخ��ر ينفي أي ِصلة‬
‫للبنان بالعروبة‪ ،‬ويرجعه‪ ،‬تاريخياً‪ ،‬إلى الفينيقيني الكنعانيني‪ ،‬وهو‪،‬‬
‫وصل بني شرق وغرب؛ جسر تواصل‪ِ ،‬صلته بالغرب‬ ‫جغرافياً‪ ،‬حلقة ْ‬
‫على قدر ِصلته بالشرق‪.‬‬

‫‪ - 2‬املجتمع اللبناني‬

‫أما املجتمع‪ ،‬الذي رسمه املؤمتِ رون في الطائف‪ ،‬فهو مجتمع‬


‫م��وحَّ ��د‪ ،‬يشهد ت �ع��دداً ط��ائ�ف�ي�اً‪ .‬وم��ن م��دخ��ل ال �ع��دال��ة‪ ،‬ول��ج مؤمتِ رو‬
‫الطائف‪ ،‬ليؤكدوا مطلبَني أساسيَّني‪ :‬مطلب اإلمناء املتوازن‪ ،‬والعدالة‬
‫االجتماعية‪« .‬فالنظام االق�ت�ص��ادي احل��ر‪ ،‬يكفل امل �ب��ادرة الفردية‪،‬‬

‫‪405‬‬
‫وامللكية اخل��اص��ة‪ ،‬واإلمن ��اء امل �ت��وازن للمناطق‪ ،‬ثقافياً واجتماعياً‬
‫واقتصادياً‪ ،‬فهو رك��ن أساسي من أرك��ان وح��دة ال��دول��ة‪ ،‬واستقرار‬
‫النظام»‪ .‬وارتبطت خصوصيات االقتصاد اللبناني‪ ،‬التي تشبث بها‬
‫م��ؤمتِ ��رو ال�ط��ائ��ف‪ ،‬بالسرية املصرفية‪ ،‬وح��ري��ة ال�ق�ط��ع‪ ،‬واحتياطي‬
‫الذهب‪.‬‬

‫وفي ما يتعلق بخصوصيات البنية املجتمعية للبنان‪ ،‬أَولى اتفاق‬


‫الطائف ش��ؤون التربية والتعليم واإلع�لام وحرية ال��رأي‪ ،‬اهتماماً‬
‫خاصاً‪ ،‬وذلك لدورها في إذك��اء ح ّدة احلرب األهلية‪ .‬فأكد أولوية‬
‫العِ لم‪ ،‬وتوفيره للجميع‪ ،‬وجعله إلزامياً في املرحلة االبتدائية‪ ،‬على‬
‫األقل‪ ،‬هذا إلى جانب تأكيد حرية التعليم‪ ،‬وحماية التعليم اخلاص‪.‬‬

‫ورأى امل��ؤمتِ ��رون أن ك�ت��اب ال �ت��اري��خ‪ ،‬يجب أن تُ�ع��اد صياغته‪،‬‬


‫وتوحَّ د‪ ،‬لضمان توحيد الذاكرة االجتماعية‪ ،‬فهو خطوة مهمة على‬
‫طريق االنصهار الوطني‪ ،‬وتعزيز االنتماء‪ .‬وف��ي الوقت عينه‪ ،‬ألحّ‬
‫املؤمتِ رون على االنفتاح‪ ،‬الثقافي والروحي‪ .‬أمّا بالنسبة إلى اإلعالم‪،‬‬
‫فقد أشار االتفاق إلى إعادة تنظيمه‪ ،‬في إطار احلرية املسؤولة‪ ،‬مبا‬
‫يخدم التوجهات الوفاقية‪ ،‬وإنهاء حالة احلرب‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬النظام السياسي في اتفاق الطائف‬

‫‪ُ - 1‬أ ُسسه العامة‬

‫نص اتفاق الطائف على أن لبنان جمهورية دميوقراطية نيابية‪،‬‬


‫فصل السلطات‪،‬‬ ‫وأن الشعب مصدر السلطات‪ ،‬كما أن النظام قائم على ْ‬
‫ونصت مقدمة الدستور اللبناني‪ ،‬التي وضعت‬ ‫ّ‬ ‫وتوازنها‪ ،‬وتعاونها‪.‬‬
‫في الطائف‪ ،‬على شكل النظام السياسي‪ .‬وللمرة األولى في تاريخ‬
‫لبنان‪ ،‬يكون هناك مقدمة للدستور‪ ،‬تنص على امل�ب��ادئ والقواعد‬

‫‪406‬‬
‫�ص اتفاق‬‫العامة‪ ،‬وتُعَدّ ج��زءاً أساسياً منه‪ ،‬ولها فاعلية م��وادّه‪ .‬ون� ّ‬
‫الطائف على أن يوزع النواب على املناطق‪ ،‬وعلى الطوائف الدينية‪،‬‬
‫كذلك‪ ،‬وهو واقع يعكس اخلصوصية اللبنانية‪ .‬وميثّل هؤالء الشعب‬
‫ف��ي مجلس ال �ن��واب‪ ،‬مناصفة ب�ين املسلمني واملسيحيني‪ .‬والالفت‬
‫أنه ال يوجد في أي نظام دميوقراطي نيابي‪ ،‬مناصفة بني أعضاء‬
‫املجلس النيابي‪ ،‬تبعاً لدينهم‪ ،‬أو وفقاً للنسبة العددية لطوائفهم‪.‬‬
‫فالدميوقراطية اللبنانية دميوقراطية متثيلية صحيحة‪ ،‬في شأن‬
‫توزيع السلطات‪ ،‬إال أنها‪ ،‬في خصوص تولّي هذه السلطات‪ ،‬فهي‬
‫دميوقراطية نيابية‪ ،‬اصطالحية‪ ،‬مركبة‪ ،‬وليست عددية بسيطة‪،‬‬
‫كما في األنظمة الدميوقراطية النيابية‪ .‬والسلطات في لبنان‪ ،‬لها‬
‫خصوصيتها الفريدة‪ ،‬إذ إن توزيع رئاساتها بني الطوائف‪ ،‬ال مثيل‬
‫ل��ه ف��ي أي بلد آخ��ر‪ .‬بعض ال�ب�ل��دان (غ�ي��ر ال��دمي��وق��راط�ي��ة) حتصر‬
‫ال��رئ��اس��ة ف��ي ط��ائ�ف��ة أو دي��ن‪ .‬أ ّم��ا ف��ي ل�ب�ن��ان‪ ،‬ف��ال��رئ��اس��ات الثالث‬
‫(جمهورية‪ ،‬حكومة‪ ،‬مجلس) محصورة في طوائف معينة‪ ،‬وكذلك‪،‬‬
‫نيابة الرئاسات‪.‬‬

‫‪ - 2‬مبادئه‬

‫نص اتفاق الطائف على عدد من املبادئ‪ ،‬ضماناً لعدم جتدد‬


‫احلرب األهلية‪ .‬من بينها إلغاء هيمنة طائفة بعينها على الطوائف‬
‫األخرى‪ ،‬وهي الطائفة املارونية‪ ،‬املهيمنة‪ ،‬بوساطة رئيس اجلمهورية‬
‫املاروني‪ ،‬املمسك بالسلطة اإلجرائية‪ ،‬بل احملتكر السلطات األساسية‬
‫كافة‪ ،‬خارج إطار املسؤولية واملؤسسات‪ :‬من السلطة السياسية (في‬
‫مجلس الوزراء)‪ ،‬إلى السلطة العسكرية (بوساطة قائد اجليش)‪ ،‬إلى‬
‫السلطة األمنية (بوساطة مديرَي األمن العام واالستخبارات)‪ ،‬إلى‬
‫السلطة املالية (حاكم مصرف لبنان)‪ ،‬إلى السلطة القضائية (مدعي‬
‫ع��ام التمييز والرئيس األول)‪ ،‬إل��ى السلطة التوجيهية واإلعالمية‬

‫‪407‬‬
‫(رئيس اجلامعة ومدير اإلعالم)‪ .‬وقد ألغت وثيقة الوفاق في الطائف‬
‫هذه الهيمنة‪ ،‬فعادت السلطات كلها إلى املؤسسات اخلاضعة ملجلس‬
‫الوزراء‪ .‬وهو ما حقق املناصفة في احلكم‪ ،‬بني املسلمني واملسيحيني‪،‬‬
‫واملناصفة في كل من املجلس النيابي ومجلس ال ��وزراء‪ ،‬فتحققت‬
‫مشاركة جماعية في احلكم‪.‬‬

‫ه�ك��ذا‪ ،‬ميكن ال �ق��ول‪ ،‬إن أه��م األُسُ ��س‪ ،‬ال�ت��ي رك��ز فيها اتفاق‬
‫الطائف‪ ،‬في ما يتعلق باملؤسسات وصالحياتها‪ ،‬متثلت في إلغاء‬
‫ال�ه�ي�م�ن��ة‪ ،‬وت�ث�ب�ي��ت امل �ش��ارك��ة‪ ،‬وإق� ��رار امل�ن��اص�ف��ة‪ ،‬وح �ك��م اجلماعة‪،‬‬
‫واألكثرية املركبة بطلب الثلثَني‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬اتفاق الطائف والتغيير املؤسسي‬

‫‪ - 1‬رؤية اتفاق الطائف إلى رئاسة اجلمهورية‬

‫حت��ول رئ�ي��س ل�ب�ن��ان م��ن رئ�ي��س للسلطة التنفيذية والسلطة‬


‫اإلج��رائ�ي��ة‪ ،‬إل��ى رئ�ي��س ل�ل��دول��ة‪ .‬فهو يعمل‪ ،‬وف�ق�اً الت�ف��اق الطائف‪،‬‬
‫على السهر على احترام الدستور‪ ،‬واحملافظة على استقالل لبنان‪،‬‬
‫ووحدته وسالمة أراضيه‪ .‬كما يعمل على حتقيق هذه الغاية‪ ،‬وفقاً‬
‫فصلها االتفاق‬
‫ألح �ك��ام ال��دس �ت��ور‪ ،‬مب�م��ارس��ة ص�لاح�ي��ات م �ح��دَّ دة‪ّ ،‬‬
‫والدستور اجل��دي��د‪ .‬وأعطته رئاسة ال��دول��ة حق رئاسة املؤسستَني‬
‫األساسيتَني‪ ،‬وهما مجلسَ ا النواب والوزراء‪ ،‬وبحكم هذه املهمة‪ ،‬فإن‬
‫رئيس اجلمهورية مسؤول عن عالقاتهما‪.‬‬

‫فهو يصدر القوانني‪ .‬وله أن يطلب إعادة النظر فيها‪ ،‬منفرداً‪،‬‬


‫م��ن دون احل��اج��ة إل��ى م��واف�ق��ة مجلس ال� ��وزراء‪ ،‬مكتفياً بإطالعه‬
‫عليها فقط‪ .‬وهذا االنفراد ينسجم مع كونه رئيساً للدولة‪ ،‬وراعياً‬
‫ملؤسستَي مجلس ال��وزراء ومجلس النواب‪ .‬ومي��ارس رعايته ملجلس‬

‫‪408‬‬
‫النواب منفرداً‪ ،‬وفقاً ألص��ول وقواعد دستورية‪ .‬وله أن يصدر أي‬
‫تشريع‪ ،‬وإن أص � ّر املجلس على رف��ض إص ��داره‪ .‬إ ّال أن��ه مبمارسة‬
‫هذه الصالحية‪ ،‬أعطي دور رئاسة الدولة الراعية جلميع املؤسسات‬
‫رعاية كاملة‪ .‬إذ إن النصوص الدستورية تفرض‪ ،‬عند إعادة النظر‪،‬‬
‫أكثريات ونصاباً معيّنني‪ ،‬يطمئن معهما رئيس اجلمهورية إلى حسن‬
‫التدبير املتخذ‪.‬‬

‫إضافة إلى رد القوانني‪ ،‬نتيجة رعايته للمجلس النيابي‪ ،‬أعطي‬


‫رئيس اجلمهورية صالحية مقابلة‪ ،‬تتعلق برعايته ملجلس الوزراء‪.‬‬
‫وه��ي صالحية رد ق��رارات مجلس ال ��وزراء‪ ،‬في مهلة خمسة عشر‬
‫يوماً من تاريخ تبليغها‪ ،‬إن رأى فيها تعارضاً مع مصلحة الدولة‪ ،‬أو‬
‫مع أحكام الدستور‪ .‬وهو يحيل مشاريع القوانني‪ ،‬املقررة في مجلس‬
‫الوزراء‪ ،‬إلى املجلس النيابي لدراستها وإقرارها‪.‬‬

‫ومُنح رئيس اجلمهورية صالحية حضور جلسات مجلس الوزراء‬


‫وترؤسها‪ ،‬وإبداء املالحظات والرأي في كل أمر يطرح‪ ،‬واملشاركة في‬
‫النقاش‪ ،‬من دون حق التصويت في املجلس؛ ألنه ليس منه‪ ،‬بل هو‬
‫فوْقه‪ ،‬لكونه رئيساً للجمهورية‪ ،‬ورئيساً للدولة‪ .‬فرئيس الدولة‪ ،‬وفق‬
‫تعديل الطائف‪ ،‬يُعَدّ رئيساً ملجلس ال��وزراء‪ ،‬كما هو رئيس ملجلس‬
‫ال�ن��واب‪ ،‬ولكن بصفته رئيساً للدولة‪ ،‬وليس رئيساً مباشراً لهاتَني‬
‫املؤسستَني‪ ،‬ألن لهما رئيسَ ني مباشرَين‪ .‬ورع��اي��ة الرئاسة ملجلس‬
‫ال ��وزراء‪ ،‬خولّت رئيس اجلمهورية دع��وت��ه‪ ،‬استثنائياً‪ ،‬باالتفاق مع‬
‫رئيس احلكومة‪ .‬ول��ه ع��رض أي ط��ارئ على مجلس ال��وزراء‪ ،‬خارج‬
‫جدول األعمال‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬أصبح مجلس الوزراء‪ ،‬مجتمعاً‪ ،‬هو السلطة اإلجرائية‪.‬‬


‫ورئيس احلكومة هو الرئيس املباشر ملجلس الوزراء‪ .‬إن هذا التحول‬

‫‪409‬‬
‫في الصالحيات‪ ،‬ف��رض على رئيس اجلمهورية استشارات نيابية‬
‫ملزِ مة‪ ،‬يشهد على نتائجها رئيس املجلس النيابي‪ ،‬ويسمي رئيس‬
‫اجل�م�ه��وري��ة‪ ،‬بنتيجتها‪ ،‬رئ�ي��س احل�ك��وم��ة‪ ،‬وي �ص��در م��رس��وم تعيينه‪،‬‬
‫منفرد اً‪.‬‬

‫وب��االت�ف��اق م��ع رئيس احل�ك��وم��ة‪ ،‬وه��و الرئيس املباشر ملجلس‬


‫الوزراء‪ ،‬يصدر رئيس اجلمهورية مراسيم تشكيل احلكومة‪ .‬بعد أن‬
‫كان يعينِّ ال��وزراء‪ ،‬ويسمي من بينهم رئيساً‪ ،‬بصفته رئيساً مباشراً‬
‫للسلطة اإلج��رائ�ي��ة املنوطة ب��ه‪ ،‬وح��ده‪ .‬وك��ان يعينّ معاونني ل��ه في‬
‫احلكم‪ .‬أما اليوم‪ ،‬فهو ينفذ رغبة املجلس النيابي (أي رغبة الشعب)‬
‫في اختيار «شركاء حكم في مجلس جماعي»‪ .‬وبصفته رئيساً للدولة‪،‬‬
‫مُنح رئيس اجلمهورية صالحيات‪ ،‬تتيح متثيل الدولة‪ ،‬كل الدولة‪.‬‬

‫أما املهمة‪ ،‬التي أ ُسندت إلى رئيس اجلمهورية‪ ،‬وهي مسؤولية‬


‫احملافظة على استقالل لبنان ووحدته وسالمة أراضيه‪ ،‬فقد أعطته‬
‫صالحية م �ح��دودة‪ ،‬وه��ي أن ي��رأس املجلس األع�ل��ى ل�ل��دف��اع‪ ،‬الذي‬
‫يجتمع لدى تهديد استقالل لبنان أو وحدته أو سالمة أراضيه‪ .‬أمّا‬
‫القيادة العليا للقوات املسلحة‪ ،‬فنالها لكونه رئيس ال��دول��ة‪ ،‬ورمز‬
‫يعطه اتفاق الطائف أي سلطة مباشرة على هذه القوات‪،‬‬ ‫الوطن‪ .‬فلم ِ‬
‫فسلطة القرار‪ ،‬بالنسبة إليها‪ ،‬تعود إلى مجلس الوزراء (ألنها تخضع‬
‫لسلطته‪ ،‬بحكم الدستور)‪ ،‬وسلطة تنفيذ القرار‪ ،‬تعود إلى الوزراء‬
‫املختصني‪ ،‬واملوظفني اآلخرين‪ ،‬في نطاق القوانني‪.‬‬

‫ه �ك��ذا‪ ،‬رس��م ات �ف��اق ال�ط��ائ��ف دور رئ�ي��س اجل�م�ه��وري��ة ومهامه‬


‫وصالحياته‪ .‬فهو رئيس الدولة‪ ،‬ورئيس جميع مؤسساتها‪ .‬ورئاسته‬
‫ه��ي رئ��اس��ة رع��اي��ة وتنسيق وتصويب‪ ،‬ال رئ��اس��ة مباشرة‪ .‬ه��و حكم‬
‫ب�ين امل��ؤس �س �تَ�ين ال��رئ �ي �س �ي �تَ�ين‪ :‬م�ج�ل��س ال��ن��واب وم �ج �ل��س ال� ��وزراء‪.‬‬

‫‪410‬‬
‫حام‬
‫يصوب مسارهما وعملهما‪ ،‬مبوجب صالحيات م�ح��ددة‪ ،‬فهو ٍ‬
‫للحدود واألرض واالستقالل‪ ،‬يرأس املجلس األعلى للدفاع‪ ،‬ويدعو‪،‬‬
‫استثنائياً‪ ،‬مجلس الوزراء إلى االنعقاد‪ ،‬ويرأس جلسته‪ .‬وهو ممثل‬
‫للدولة برّمتها‪ ،‬ول��ه‪ ،‬وح��ده‪ ،‬أن ميثلها بأسْ رها‪ .‬ويعتمد السفراء‪،‬‬
‫ويفاوض الدول‪ ،‬ومينح العفو اخلاص‪.‬‬

‫وق��د عكس ه��ذا ال��واق��ع‪ ،‬ف��ي مجمله‪ ،‬ت��راج�ع�اً لسلطة رئيس‬


‫اجلمهورية‪ ،‬املاروني‪ ،‬حلساب رئيس الوزراء‪ ،‬املسلم السُّ ني‪.‬‬

‫‪ - 2‬مجلس النواب وتعديالت الطائف‬

‫ل��م ي�ع��دل ات�ف��اق ال�ط��ائ��ف م�ه��ام مجلس ال �ن��واب‪ ،‬فهو السلطة‬


‫التشريعية‪ ،‬وميارس الرقابة الشاملة على سياسة احلكومة وأعمالها‪.‬‬
‫ورمب��ا ك��ان��ت التعديالت األس��اس�ي��ة‪ ،‬ه��ي تلك املتعلقة بحل رئاسة‬
‫املجلس‪ ،‬ومبدة رئاسته‪ ،‬وبإنشاء مجلس للشيوخ‪.‬‬

‫وك��ان ال�ه��دف م��ن التعديل األول‪ ،‬ه��و ال �ت��وازن ب�ين السلطات‬


‫والرئاسات‪ ،‬املوزعة توزيعاً طائفياً‪ .‬فاملشاركة الفعلية في احلكم‪،‬‬
‫والتعاون املطلوب بني املؤسسات والرئاسات‪ ،‬فرضا إعطاء بعض‬
‫االستقرار واالستمرار لرئاسة املجلس‪ ،‬تأكيداً إللغاء هيمنة رئاسة‬
‫اجلمهورية‪ ،‬والطائفة التي متثل‪ ،‬على رئاسة املجلس‪ ،‬والطائفة التي‬
‫متثل‪.‬‬

‫أ ّم��ا التعديل الثاني‪ ،‬ف�ح��دد‪ ،‬ح�ص��راً‪ ،‬احل��االت التي ميكن فيها‬


‫السلطة اإلجرائية طلب حل مجلس النواب‪ .‬وحددت بثالث حاالت فقط‪:‬‬
‫عدم االجتماع‪ ،‬رد املوازنة‪ ،‬واإلصرار على تعديل الدستور‪ .‬وعدا ذلك‪ ،‬ال‬
‫يحل مجلس النواب‪ .‬مما يعزز دوره وصالحياته ومكانته في التوازن مع‬
‫السلطة اإلجرائية‪ ،‬وفقاً لتصور النواب املؤمتِ رين في الطائف‪.‬‬

‫‪411‬‬
‫أمّا التعديل الثالث‪ ،‬فيرتبط بأفق السعي اجلا ّد إلى انصهار‬
‫وطني تام‪ ،‬يصدر عنه متثيل شعبي بسيط‪ ،‬غير مركب‪.‬‬

‫ما أقره اتفاق الطائف‪ ،‬هو‪ ،‬إذاً‪ ،‬تعزيز للسلطة التشريعية‪ ،‬من‬
‫خالل ضمان االستقرار في رئاستها‪ ،‬مبا يؤمن التوازن مع استقرار‬
‫رئاسة اجلمهورية‪ .‬فقد حتول املجلس التمثيلي إلى مجلس منتخب‬
‫على أساس وطني‪ ،‬ال طائفي‪ ،‬ومجلس للشيوخ‪ ،‬يحفظ ذاكرة الوطن‬
‫وخصوصياته‪ ،‬وميثل العائالت الروحية‪ .‬وتنحصر صالحياته في‬
‫األساسيات‪ ،‬التي تهم الوطن والدولة‪ ،‬بشؤونهما العامة‪ ،‬ال احلكم‬
‫وشؤونه اليومية‪.‬‬

‫‪ - 3‬مجلس الوزراء‪ ،‬والتمثيل العادل للطوائف‬

‫عُدّ مجلس الوزراء السلطة التي تناط بها السلطة اإلجرائية‪.‬‬


‫ال ع��ادالً‪ .‬أ ّم��ا صالحياته‪ ،‬وفقاً‬
‫ويتمثل فيه مختلف الطوائف متثي ً‬
‫التفاق الطائف‪ ،‬فهي‪:‬‬

‫‪ - 1‬وضع السياسة العامة للدولة في جميع املجاالت‪ ،‬ووضع‬


‫مشاريع القوانني واملراسيم‪ ،‬واتخاذ ال�ق��رارات الالزمة‬
‫لتطبيقها ‪.‬‬

‫‪ - 2‬السهر على تنفيذ القوانني واألنظمة‪.‬‬

‫‪ - 3‬اإلش���راف ع�ل��ى أع �م��ال ك��ل أج �ه��زة ال��دول��ة‪ ،‬م��ن إدارات‬


‫ومؤسسات‪ ،‬مدنية وعسكرية وأمنية‪ ،‬بال استثناء‪ .‬وهو‬
‫السلطة املقررة‪ ،‬التي تخضع القوات املسلحة لقراراتها‪.‬‬

‫‪ - 4‬تعيني موظفي الدولة‪ ،‬وصرفهم‪ ،‬وقبول استقالتهم‪.‬‬

‫‪412‬‬
‫حدد مؤمتر الطائف سلطة القرار التنفيذي في مجلس الوزراء‬
‫وشكله‪ ،‬بطريقة املشاركة بني الطوائف‪ ،‬وفقاً لتمثيل ع��ادل‪ .‬فبعد‬
‫مؤمتر الطائف‪ ،‬أصبح لزاماً متثيل جميع الطوائف في مجلس الوزراء‬
‫ال عادالً‪ .‬فأمسى غير ممكن تشكيل حكومة‪ ،‬يق ّل عدد أعضائها‬ ‫متثي ً‬
‫عن أربعة عشر عضواً‪ ،‬كي متثّل فيها الطائفة األرمنية‪ .‬وقواعد‬
‫التأليف‪ ،‬عرفاً‪ :‬املناصفة بني املسلمني واملسيحيني‪ ،‬واملساواة بني‬
‫الطوائف الكبرى الثالث‪ :‬امل��وارن��ة‪ ،‬السُ نَّة والشيعة‪ ،‬وامل�س��اواة بني‬
‫طائفتَي الدروز والروم الكاثوليك‪ ،‬إلى جانب متثيل جميع الطوائف‬
‫األخرى‪.‬‬

‫كما أن أه��م إجن��از إص�لاح��ي ف��ي مؤمتر ال�ط��ائ��ف‪ ،‬ه��و تقرير‬


‫الصيغة اجلماعية للحكم‪ ،‬استناداً إلى قاعدة املشاركة والعدل‪ ،‬وتقرير‬
‫االنتقال من سلطة الفرد إلى سلطة املؤسسة‪ :‬من دولة الرؤساء إلى‬
‫دولة املؤسسات‪ .‬وإمعاناً في احلرص على أن يتحول احلكم إلى حكم‬
‫مؤسسي‪ ،‬وضع مؤمتر الطائف قواعد للحكم اجلماعي‪ ،‬تكفل حتوله‬
‫إلى حكم مؤسسي‪ .‬ففرض مقراً خاصاً ملجلس الوزراء‪ ،‬وأميناً عاماً‬
‫له‪ .‬كما فرض وضع محضر جللساته‪ ،‬يوقعه رئيسه‪ .‬كذلك‪ ،‬وضع‬
‫أص��والً النعقاد جلساته‪ ،‬واتخاذ ال�ق��رارات فيه‪ ،‬تتمثل في ضرورة‬
‫وض��ع ج��دول أعمال محدد‪ ،‬وانعقاد اجللسة بنصاب ثلثَي أعضاء‬
‫املجلس‪ ،‬ألن األم��ور األساسية واخلالفية‪ ،‬يقتضي إقرارها أكثرية‬
‫الثلثَني‪.‬‬

‫وقد درست هذه النصوص بعناية فائقة‪ ،‬في مؤمتر الطائف‪،‬‬


‫اقتناعاً بأن مقتضيات الوفاق‪ ،‬واستمرار العيش املشترك‪ ،‬واحلفاظ‬
‫على خصوصيات لبنان الوطن النهائي‪ ،‬تقتضي كلها دراي��ة كبرى‬
‫بتأليف احلكومات وممارساتها للحكم‪.‬‬

‫‪413‬‬
‫ومي��كِ ��ن ال� �ق ��ول‪ ،‬إن ات��ف��اق ال �ط��ائ��ف ق �لّ��ص ص�لاح �ي��ة رئيس‬
‫اجلمهورية‪ ،‬كرئيس للسلطة التنفيذية‪ ،‬فأصبح دوره متثيلياً‪ ،‬بل صار‬
‫رئيساً للدولة‪ ،‬ورمز وحدتها‪ .‬وهو إن بقي القائد األعلى للجيش‪،‬‬
‫ورئيس مجلس الدفاع‪ ،‬فإن نفوذه فيهما مرتبط بقرارات احلكومة‪.‬‬

‫وقضى اتفاق الطائف‪ ،‬أ ّال يترأس رئيس اجلمهورية جلسات‬


‫مجلس الوزراء بشكل دَوري‪ ،‬مثلما كان يحدث قبل عام ‪ ،1989‬بل‬
‫عندما يرغب فقط‪ ،‬وال يحق له التصويت‪ ،‬وال ميتلك في قرارات‬
‫احلكومة‪ ،‬إ ّال حق النقض (الفيتو)‪ ،‬لتأجيلها‪ .‬وأمسى غير قادر على‬
‫اتخاذ قرار‪ ،‬منفرداً‪ ،‬بتعيني رئيس احلكومة‪ ،‬بل هو ملزَم بالتشاور‪،‬‬
‫ف��ي ه��ذا ال �ش��أن‪ ،‬م��ع مجلس ال �ن��واب‪ .‬وال يحق ل��ه ع��زل‪ ،‬أو إقالة‬
‫احلكومة‪.‬‬

‫وف��ي امل�ق��اب��ل‪ ،‬تعاظم دور رئ�ي��س احل�ك��وم��ة؛ فهو ال��ذي يرأس‬


‫جلسات مجلس ال��وزراء‪ ،‬وه��و املسؤول عن تنفيذ السياسة العامة‬
‫للحكومة‪ ،‬ويوقع كل املراسيم‪ ،‬باستثناء مرسوم تعيينه‪ .‬ولكن يحق‬
‫ملجلس النواب إقالته‪ .‬كما جرى تدعيم دور رئيس مجلس النواب‪،‬‬
‫فرفعت مدة واليته من سنة إلى أربع سنوات‪ ،‬أي طيلة دورة كاملة‬
‫للمجلس‪ .‬ومبا أنه يشرف على املشاورات اإللزامية لرئيس الدولة‬
‫مع النواب‪ ،‬لتشكيل ال��وزارة‪ ،‬فقد أصبح «صانع امللوك»‪ ،‬أي رئيس‬
‫الدولة‪ ،‬ورئيس احلكومة‪.‬‬

‫ويتولّى الثالثي األكبر في لبنان‪ ،‬والذين يطلق عليهم الرؤساء‬


‫الثالثة‪ ،‬رئيس الدولة‪ ،‬رئيس احلكومة‪ ،‬رئيس مجلس النواب‪ ،‬تعيني‬
‫املائة والعشرين شخصاً‪ ،‬الذين يشغلون أرفع مناصب اإلدارة‪ ،‬على‬
‫أن يكون املعيار األساسي لالختيار طائفياً‪.‬‬

‫‪414‬‬
‫على ه��ذا النحو‪ ،‬استمرت الطائفة املعيار األس��اس��ي‪ ،‬الذي‬
‫يحكم احل�ي��اة السياسية‪ ،‬وم��ن ث��م‪ ،‬النخبة ف��ي لبنان‪ .‬وبينما كان‬
‫امل�ي�ث��اق ال��وط�ن��ي اللبناني‪ ،‬ع��ام ‪ ،1943‬قضية ب�ين ط��ائ�ف�تَ�ين‪ ،‬هما‬
‫«املوارنة» و»املسلمون السُّ نة»‪ ،‬فإن ميثاق الطائف استبدل بثنائية‬
‫احلكم امل��ارون��ي السُّ ني‪ ،‬ج�ه��ازاً جماعياً‪ ،‬يتألف من كل الطوائف‪،‬‬
‫وعليه اتخاذ قرارات «توافقية» بينها‪ .‬وقاد ذلك التغيير النسبي في‬
‫وزن الطوائف‪ ،‬االجتماعي السياسي‪ ،‬بدوره‪ ،‬إلى رفع عدد أعضاء‬
‫مجلس النواب‪ ،‬من ‪ 99‬عضواً‪ ،‬قبْل الطائف‪ ،‬إلى ‪ 108‬أعضاء‪ ،‬في‬
‫مطلع مايو ‪ ،1991‬وإلى ‪ 128‬عضواً‪ ،‬في متوز ‪ /‬يوليو ‪.1992‬‬

‫القسم الرابع‬
‫ما بعد الطائف‬

‫توصل النواب اللبنانيون‪ ،‬في ‪ 23‬تشرين األول‪/‬أكتوبر ‪ ،1989‬إلى‬


‫صيغة للوفاق الوطني؛ على أن يعقد املجلس النيابي النتخاب رئيس‬
‫اجلمهورية‪ ،‬في موعد أقصاه ‪ 7‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر ‪ ،1989‬متهيداً‬
‫لتشكيل حكومة وفاق وطني‪ ،‬تستعيد شرعية احلكم املركزي‪ ،‬وتبسط‬
‫سلطة احلكومة املركزية على جميع أنحاء لبنان‪ ،‬وحتل امليليشيات‪،‬‬
‫خالل ستة أشهر‪ .‬وبالفعل‪ ،‬جنح مجلس النواب في عقد جلسة خاصة‪،‬‬
‫في مطار القليعات‪ ،‬صباح األح��د‪ 5 ،‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر ‪،1989‬‬
‫وانتخاب رينيه معوض‪ ،‬رئيساً للجمهورية (اغتيل في ‪ 22‬تشرين الثاني‪/‬‬
‫نوفمبر ‪ ،1989‬وتولى إلياس الهراوي رئاسة اجلمهورية)‪.‬‬

‫‪415‬‬
‫وكان اتفاق الطائف‪ ،‬وعودة املؤسسات الشرعية إلى لبنان‪ ،‬من‬
‫العوامل احلاسمة‪ ،‬التي وضعت‪ ،‬بالفعل‪ ،‬نهاية للمأساة اللبنانية‪.‬‬
‫إذ توقفت احلرب‪ ،‬بعد خمسة عشر عاماً من القتال‪ ،‬وشرع احلكم‬
‫في لبنان يستعيد زمام األمور‪ .‬وفي النصف الثاني من عام ‪،1990‬‬
‫متكن الرئيس اللبناني من إصدار التعديالت الدستورية‪ ،‬التي قال‬
‫بها اتفاق الطائف‪ ،‬واحلصول على موافقة مجلس النواب عليها‪ ،‬مما‬
‫كان إيذاناً ببدء عهد جديد للجمهورية في لبنان‪ .‬كما حقق الرئيس‬
‫اللبناني التعهد‪ ،‬الذي أخذه على نفسه‪ ،‬يوم تسلّمه احلكم‪ ،‬بإنهاء‬
‫مترد العماد عون‪.‬‬

‫وبعد فرار العماد عون إلى السفارة الفرنسية‪ ،‬طالباً اللجوء‬


‫السياسي‪ ،‬أعلن ق��رار ح� ّل امليليشيات املسلحة‪ .‬التي وافقت على‬
‫ح ّل نفسها وتسليم أسلحتها‪ ،‬تدريجاً‪ ،‬للجيش اللبناني‪ .‬وبعد إنهاء‬
‫مترد عون‪ ،‬ببضعة أسابيع‪ ،‬استقالت حكومة سليم احلص املصغرة‬
‫(‪ 14‬وزي��راً)‪ ،‬وحلت محلها‪ ،‬في ‪ 24‬كانون األول‪/‬ديسمبر ‪،1990‬‬
‫حكومة وفاق وطني جديدة موسعة (‪ 30‬وزيراً) برئاسة عمر كرامي‪،‬‬
‫شقيق رئيس ال��وزراء األسبق رشيد كرامي‪ ،‬الذي لقي مصرعه في‬
‫‪ 1‬ح��زي��ران‪/‬ي��ون�ي��و ‪ .1987‬وق��د ضمت احلكومة اجل��دي��دة قيادات‬
‫امليليشيات‪ ،‬لتكون حكومة وفاق‪ ،‬تضم كل القوى السياسية الرئيسية‬
‫في البالد‪ .‬ولكن «اجلبهة اللبنانية» (الكتائب وال�ق��وات اللبنانية)‬
‫اعترضت على تشكيلها‪ ،‬ورفضت املشاركة فيها‪ ،‬بحجة أنها تفتقد‬
‫التوازن الطائفي‪ .‬ولكن ذلك لم مينع الشرعية اللبنانية من املضيّ‬
‫ُقدُماً في تنفيذ اتفاق الطائف‪ ،‬إلعادة السالم إلى لبنان‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬تنفيذ اتفاق الطائف‬

‫إن خطة التنفيذ‪ ،‬التي وضعها مؤمتر الطائف‪ ،‬لم ترد مستقلة‬

‫‪416‬‬
‫عن محتوى احللول املقترحة‪ ،‬وإمن��ا وردت مبعثرة في النص‪ ،‬على‬
‫أنها تشكل تصوراً متكامالً‪ ،‬ميكن تلخيصه على النحو التالي‪:‬‬

‫بعد التصديق على الوثيقة‪ ،‬التي اصطُ لح على تسميتها «وثيقة‬


‫ال��وف��اق ال��وط�ن��ي»‪ ،‬نشط السعي إل��ى ت��أم�ين إج�م��اع األط ��راف كافة‬
‫عليها‪ ،‬خاصة العماد ميشال عون‪ .‬واتُّخذت هذه اخلطوة بناء على‬
‫إصرار النواب املسيحيني‪ ،‬ورغبة النواب اآلخرين في الوفاق التام‪.‬‬
‫واضطلع بها مندوب اللجنة العربية‪ ،‬األخضر اإلبراهيمي‪ ،‬إال أنه‬
‫جُ ِب َه بالرفض‪ .‬فكان ال بدّ من السعي إلى تأمني مكان آمن النعقاد‬
‫املجلس النيابي‪ ،‬استكماالً خلطوات التنفيذ‪ ،‬وعلى رأسها انتخاب‬
‫رئيس للجمهورية‪ ،‬ثم تشكيل حكومة وفاق وطني‪ ،‬تتولّى وضع االتفاق‬
‫موضع التنفيذ‪.‬‬

‫متثلت خطوة التنفيذ األول��ى‪ ،‬في صياغة اإلص�لاح��ات‪ ،‬التي‬


‫يحتاج تطبيقها إل��ى تعديل دس�ت��وري‪ ،‬وتصديقها م��ن قِ بل املجلس‬
‫النيابي‪ ،‬ثم استكمال املجلس النيابي بالتعيني‪ .‬فوضعت خطة أمنية‪،‬‬
‫مدتها سنة واحدة‪ ،‬تتسلم‪ ،‬خاللها‪ ،‬القوى املسلحة اللبنانية األمن في‬
‫جميع مناطق لبنان‪ ،‬فتُحل امليليشيات‪ ،‬وتسلّم أسلحتها إلى الدولة‬
‫اللبنانية‪ ،‬التي تستفيد منها في تعزيز القوات املسلحة‪ .‬ويُفتح باب‬
‫التطوع في قوى األمن الداخلي‪ ،‬لزيادة عددها‪ ،‬وتشكَّل وحدات توزَّع‬
‫على املناطق‪ .‬وإن ازداد ع��دد املتطوعني‪ ،‬نظراً إل��ى تطوع عناصر‬
‫امليليشيات‪ ،‬تُنشأ منهم وحدات تدخّ ل‪ ،‬وحرس حدود‪.‬‬

‫خ�لال ه��ذه الفترة‪ ،‬ومواكبة لها‪ ،‬يعاد بناء اجليش وتوحيده‪،‬‬


‫ليؤمّن أم� َري��ن أس��اس�يَّ�ين‪ :‬أولهما‪ ،‬اإلس�ه��ام ف��ي ال��دف��اع الفاعل في‬
‫مواجَ هة أي عدوان إسرائيلي على لبنان‪ ،‬أو على سورية‪ .‬وثانيهما‪،‬‬
‫اإلس�ه��ام في م��ؤازرة ق��وى األم��ن على بسط سيادة ال��دول��ة‪ ،‬بالقوى‬

‫‪417‬‬
‫الذاتية‪ ،‬على كامل األراضي اللبنانية‪.‬‬

‫وبعد حل امليليشيات‪ ،‬يبدأ العمل على إع��ادة املهجَّ رين‪ ،‬إلى‬


‫املناطق التي هجِّ روا منها‪ .‬ثم انسحاب القوات السورية إلى البقاع‪،‬‬
‫واقتصار دورها على وجود عسكري دفاعي محض‪ .‬ويلي ذلك إجراء‬
‫تقسيمات إدارية‪ ،‬فإجراء انتخابات نيابية جديدة‪.‬‬

‫ومب ��وازاة ه��ذه اخل �ط��وات‪ ،‬التوحيدية واألم�ن�ي��ة‪ ،‬ت��وض��ع خطة‬


‫إمن��ائ�ي��ة ش��ام�ل��ة‪ ،‬ت�ع�ه��دت اللجنة ال�ث�لاث�ي��ة‪ ،‬ب��اس��م ال �ع��رب أجمعني‪،‬‬
‫بدعمها واإلسهام في متويلها‪ .‬ويبادر املجلس النيابي اجلديد إلى‬
‫إنشاء الهيئة الوطنية املنوط بها دراسة واقتراح الوسائل املؤدية إلى‬
‫إلغاء الطائفية‪ .‬كما يُنشأ مجلس اقتصادي اجتماعي‪ ،‬إلى جانب‬
‫املجلس النيابي‪ ،‬لتأمني مشاركة القطاعات‪ ،‬االقتصادية والعمالية‬
‫وسائر قوى اإلنتاج‪ ،‬في مسيرة السالم وإعادة اإلمناء‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬جناح اجليش اللبناني في توحيد العاصمة‬

‫رأى مجلس الوزراء ضرورة حتقُّق أمرَين أساسيَّني‪ ،‬في عملية‬


‫استعادة وحدة لبنان‪:‬‬

‫(‪ )1‬توحيد العاصمة‪ ،‬وتوسيع نطاقها‪ ،‬واستالم األمن فيها‪،‬‬


‫والبدء انطالقاً منها ببسط سلطة الدولة‪.‬‬

‫(‪ )2‬توحيد اجليش‪ ،‬من الفور‪ ،‬ووضع اخلطة الالزمة لذلك‪،‬‬


‫وتنفيذها في أسرع وقت‪.‬‬

‫كانت منطقة االش��رف�ي��ة‪ ،‬ومناطق الضاحية الشمالية‪ ،‬حتت‬


‫سيطرة «القوات اللبنانية»‪ .‬في حني كانت الضاحية اجلنوبية حتت‬

‫‪418‬‬
‫سيطرة حزب الله‪ .‬أمّا منطقة املَتْنَني‪ ،‬فكانت حتت سيطرة اجليش‬
‫اللبناني واجليش السوري‪ ،‬وبعض احلزبيني‪ .‬وفي بيروت الغربية‪،‬‬
‫انتشرت مكاتب للميليشيات كافة‪.‬‬

‫وقرر مجلس الوزراء بسط سلطة الشرعية في بيروت الكبرى‪،‬‬


‫من نهر الكلب إل��ى جسر ال��دام��ور‪ ،‬على الساحل‪ ،‬وإل��ى املتنني في‬
‫اجلبل‪ .‬وكلف جلنة من وزيرَي الزراعة والدفاع‪ ،‬االتصال مع األطراف‬
‫املعنيني‪ ،‬متكيناً للجيش من االنتشار في جميع املناطق‪ ،‬من دون‬
‫استثناء‪ ،‬وبسط سلطة الدولة بسطاً فعلياً‪ ،‬ال بالتراضي‪.‬‬

‫وبادرت اللجنة على الفور‪ ،‬إلى االتصال مع جميع القوى‪ ،‬التي‬


‫أعلنت جميعها استعدادها الكامل لذلك‪ .‬بيد أن اللجنة واجهت‬
‫ص�ع��وب��ات ك�ب�ي��رة‪ ،‬إذ ع��اق��ت ت�ع��دي��ات امليليشيات‪ ،‬التابعة لسورية‪،‬‬
‫امل �ف��اوض��ات م��ع «ال �ق��وات ال�ل�ب�ن��ان�ي��ة»‪ ،‬ك�م��ا أض�ع�ف��ت إم�ك��ان��ات جلنة‬
‫ال��وزي� َري��ن التفاوضية‪ .‬يضاف إل��ى ذل��ك‪ ،‬أن ال�ع��داوة احلديثة‪ ،‬بني‬
‫اجليش و«ال �ق��وات»‪ ،‬وال �ع��داوة الدموية السابقة بينه وب�ين احلزب‬
‫التقدمي االشتراكي‪ ،‬شكلتا العقبة الرئيسية الثانية‪ .‬وك��ان ال ب ّد‪،‬‬
‫في البداية‪ ،‬أن يُحسَ ن اختيار وحدات اجليش‪ ،‬التي ستمارس بسط‬
‫سلطة الدولة‪ ،‬مبا ال يفسح املجال لتجاوز ح ّد السلطة‪ ،‬وممارسة‬
‫االن�ت�ق��ام وال�ق�ه��ر‪ .‬فتقرر أن ت��دخ��ل امل�ن��اط��ق الشرقية ق��وات اللواء‬
‫الثاني‪ ،‬مع كتيبة من عناصر اجليش‪ ،‬التي لم تشارك في القتال ضد‬
‫«القوات»‪ ،‬وجتمعت في كسروان‪ .‬وأن تدخل مناطق عالية والدامور‬
‫قوات اللواء احلادي عشر‪.‬‬

‫وفي أواخر عام ‪ ،1990‬اتُّفق على خطة بيروت‪ .‬وعقد اجتماع‬


‫في املقر الرئاسي‪ ،‬حضره‪ ،‬إلى جانب الرئيس‪ ،‬وبنا ًء على طلبه‪ ،‬وزير‬
‫الدفاع‪ ،‬وقائد اجليش‪ ،‬والعميد غازي كنعان‪ ،‬ووفد من «القوات»‪،‬‬

‫‪419‬‬
‫برئاسة ن��ادر سكر‪ .‬بحث فيه تفاصيل انتشار اجليش‪ ،‬وانسحاب‬
‫«القوات»‪ .‬فأزيلت‪ ،‬في اليوم التالي‪ ،‬آخر عقبة أمام توحيد العاصمة‪،‬‬
‫وبسط سلطة الشرعية على بيروت الكبرى‪ .‬فأع ّدت قيادة اجليش‬
‫خطة توحيد املؤسسة العسكرية‪ ،‬التي استهدفت تشكيل جيش مندمج‬
‫موحَّ د‪ ،‬في قطع ووحدات مختلطة‪ ،‬طائفياً‪ ،‬على أن تُسلَّح وتوزَّع على‬
‫املواقع‪ ،‬من دون أي حتفّظ‪ ،‬وفقاً ملقتضيات املصلحة الوطنية‪.‬‬

‫وك��ان��ت أول��ى م��راح��ل اخل �ط��ة‪ ،‬ه��ي تشكيل ال �ق �ي��ادات‪ ،‬خاصة‬


‫قيادات الوحدات الكبرى‪ .‬ثم أتبعت بتشكيل قيادات الكتائب‪ ،‬على‬
‫أن تستتبع‪ ،‬تدريجاً‪ ،‬وص��والً إلى اندماج الضباط واجلنود‪ ،‬ووحدة‬
‫العاصمة‪ ،‬ووحدة اجليش‪ ،‬في مراحل متوازية‪ ،‬نفذت أ ُولَياتها بدقة‬
‫وجناح‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬دور حكومة احلص وأسباب إسقاطها‬

‫فور االتفاق على خطة بيروت الكبرى‪ ،‬قرر رئيس اجلمهورية‪،‬‬


‫وقائد «القوات اللبنانية»‪ ،‬العمل على إسقاط حكومة الرئيس احلص‪.‬‬
‫وكانت غاية «القوات» من إسقاط احلكومة‪ ،‬مشاركتهم في حكومة‬
‫جديدة‪ ،‬بعد أن امتنعوا عن املشاركة في احلكومة األول��ى‪ ،‬مراعاة‬
‫ألوضاعهم حيال العماد عون‪ ،‬في حينه‪ .‬أما غاية رئيس اجلمهورية‬
‫من ترحيل احلكومة‪ ،‬فمختلفة متاماً‪ .‬إذ بدأ الرئيس الهراوي يضيق‬
‫بنهج احل��ص ف��ي تنفيذ ات�ف��اق ال�ط��ائ��ف‪ ،‬ومت��سُّ �ك��ه مب�ش��ارك��ة رئيس‬
‫نص عليه االتفاق‪.‬‬ ‫احلكومة والوزراء‪ ،‬وفقاً ملا ّ‬

‫وفي جلسة عادية ملجلس الوزراء‪ ،‬في النصف األول من كانون‬


‫األول ‪ /‬ديسمبر ‪ ،1990‬تقدّ م رئيس الوزراء‪ ،‬سليم احلص‪ ،‬باستقالته‪،‬‬
‫بعدما أجنزت حكومته مهام كبيرة‪ ،‬شكلت األساس الصلب النطالقة‬

‫‪420‬‬
‫الشرعية‪ ،‬واستعادة وحدة الوطن‪ ،‬وانتهاء حالة احلرب‪ ،‬أبرزها‪:‬‬

‫(‪ )1‬قضت على مت��رد العماد ع��ون‪ ،‬وأن�ه��ت معه احل��رب في‬
‫لبنان‪.‬‬

‫(‪ )2‬وحّ دت العاصمة‪ ،‬وحققت بيروت الكبرى‪ ،‬قاعدة انطالق‬


‫للشرعية‪ ،‬لبسط سلطتها على األراضي اللبنانية كافة‪.‬‬

‫(‪ )3‬وحّ ��دت امل��ؤس�س��ة ال�ع�س�ك��ري��ة‪ ،‬وص �ه��رت اجل �ي��ش‪ ،‬مؤمنة‬
‫بسط السلطة الشرعية‪ ،‬بالقوى الذاتية‪.‬‬

‫(‪ )4‬وض �ع��ت اإلص�لاح��ات ال��دس �ت��وري��ة‪ ،‬وع�م�ل��ت‪ ،‬م��ع مجلس‬


‫ال�ن��واب‪ ،‬على تصديقها‪ ،‬وجعلها دس�ت��وراً ج��دي��داً‪ ،‬وضع‬
‫مبادئ املشاركة والسالم موضع التنفيذ‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬اجليش اللبناني بعد الطائف‪ ،‬والتخوف من عودة‬


‫احلرب األهلية‬

‫ساد فترة ما بعد الطائف‪ ،‬وضع عسكري شبه ميليشيوي‪ ،‬مع‬


‫افتقار شديد إل��ى العتاد وال�س�لاح‪ ،‬اللذين يسيطر عليهما العماد‬
‫عون‪ .‬أمّا الوحدات التابعة لقيادة اللواء سامي اخلطيب‪ ،‬الذي أنشأ‬
‫قيادة موازية لقيادة عون‪ ،‬فقد اقتصر تسليحها على بعض الدبابات‪،‬‬
‫التي زوّده بها السوريون‪ .‬وكان لبقية الوحدات والؤها امليليشيوي‪.‬‬
‫فوالى اللواء السادس حركة «أمل»‪ .‬واللواء احلادي عشر‪ ،‬منح والءه‬
‫للحزب التقدمي االشتراكي‪ .‬واللواءان‪ ،‬األول والثاني‪ ،‬دانا للسوريني‪،‬‬
‫مباشرة‪ .‬أمّا وحدات «أنصار اجليش»‪ ،‬فكانت‪ ،‬في الواقع‪ ،‬ميليشيا‬
‫تابعة حلركة «أمل»‪ .‬وتبع اللواء السابع‪ ،‬فعلياً‪ ،‬قيادة «املردة»‪ .‬وروعي‬
‫في إعادة تنظيم اجليش اللبناني نقاط عدة‪ ،‬منها‪:‬‬

‫‪421‬‬
‫(‪ )1‬إع��ادة بناء اجليش‪ ،‬من دون تدخّ ل س��وري مباشر‪ ،‬ومن‬
‫دون معاداة سورية‪.‬‬

‫(‪ )2‬محاولة تخليص اجليش من هيمنة امليليشيات‪ ،‬من دون‬


‫االصطدام بها‪ ،‬وذلك احتراساً من قوّتها‪ .‬وعهد بقيادة‬
‫اجل �ي��ش ال�ل�ب�ن��ان��ي إل��ى إم �ي��ل حل ��ود‪ ،‬ال ��ذي ح ��اول فرض‬
‫استقاللية املؤسسة العسكرية عن أي سلطة‪ .‬ونظراً إلى‬
‫أخطار الوضع الطائفي‪ ،‬فقد تقرر‪:‬‬

‫إبقاء الوضع على ما هو عليه‪ ،‬إلى حني إعادة التوحيد‪.‬‬ ‫< ‬

‫ال�ع�م��ل ع�ل��ى جت��دي��د ع�ن��اص��ر اجل �ي��ش‪ ،‬وإن �ش��اء وحدات‬ ‫< ‬
‫ج��دي��دة‪ ،‬س�م�ي��ت‪ ،‬فيما ب�ع��د‪« ،‬وح���دات ال �ت��دخ��ل»‪ .‬وكان‬
‫جتديد عناصر اجليش من طريق التطوع‪ ،‬ألن متوسط‬
‫عمر جنوده‪ ،‬أصبح يقارب ‪ 35‬سنة‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬الصراع بني «القوات اللبنانية» واجليش اللبناني‬

‫تسببت «ح��رب اإلل�غ��اء»‪ ،‬بني اجليش و»ال�ق��وات»‪ ،‬بتدميرهما‪،‬‬


‫ال عن إخاللها بالتوازن‬
‫وتهدمي البنية التحتية للمنطقة الشرقية‪ .‬فض ً‬
‫بني امليليشيات احلليفة لسورية‪ ،‬واملدعومة من اجليش السوري‪،‬‬
‫وميليشيات «القوات اللبنانية» واجليش اللبناني‪ ،‬وذلك في مصلحة‬
‫سورية وحلفائها‪ .‬وإزاء ضعف اجليش اللبناني‪ ،‬الناجم عن «حرب‬
‫اإللغاء»‪ ،‬كان ال بدّ من الدعم السوري لتنفيذ اتفاق الطائف‪.‬‬

‫وأكملت حرب اخلليج ما بدأته «حرب اإللغاء»‪ ،‬فما فعلته هذه‪،‬‬


‫على صعيد التوازن الداخلي‪ ،‬حققته تلك على صعيد التوازن اإلقليمي‪.‬‬
‫إذ انبثق اتفاق الطائف من ت��وازن عربي واض��ح‪ :‬ص��راع وت��وازن‪ ،‬بني‬

‫‪422‬‬
‫سورية وال�ع��راق والفلسطينيني‪ ،‬وف��ي ظلهما‪ ،‬نشطت القوى والدول‬
‫العربية املعتدلة‪ ،‬كاململكة العربية السعودية واملغرب واجلزائر‪ .‬فجاء‬
‫االتفاق‪ ،‬في إطاره العربي‪ ،‬محكوماً باالعتدال‪ ،‬وبرعاية إجماع عربي‬
‫فعال‪ ،‬متثل في اللجنة العربية الثالثية العليا‪ .‬ول��م يكن في مقدور‬
‫حينئذ‪ ،‬رفض احلل واملبادرة العربيني‪ ،‬وال رفض أو‬
‫ٍ‬ ‫سورية أو العراق‪،‬‬
‫عرقلة رغبة الرياض فيهما‪ .‬فأجنز‪ ،‬في الطائف‪ ،‬اتفاق وطني لبناني‪،‬‬
‫برعاية اململكة‪ ،‬التي حققت بعض املكاسب فيه‪ ،‬إذ أسهمت إسهاماً‬
‫فعاالً في اختيار الرئيس اللبناني اجلديد‪ ،‬مشاركة‪ ،‬بذلك‪ ،‬سورية‪.‬‬
‫وال عجب‪ .‬فالرئيس شهاب تولّى احلكم‪ ،‬عبْر اتفاق كلٍّ من واشنطن‬
‫والقاهرة‪ .‬وكذلك الرئيس ش��ارل حلو‪ .‬وحملت سليمان فرجنية إلى‬
‫الرئاسة الصراعات الداخلية‪ .‬أمّا إلياس سركيس‪ ،‬فقد هيّأ له الكرسي‬
‫األول تفاهم أمريكي س��وري‪ .‬وبلغ بشير اجلميل وأمني اجلميل سدة‬
‫احلكم‪ ،‬من خ�لال تفاهم أمريكي إسرائيلي‪ .‬وأسفر تفاهم أمريكي‬
‫سعودي سوري عن رئاسة رينيه معوض‪ .‬وأخيراً‪ ،‬جاء السوريون بإلياس‬
‫الهراوي‪ ،‬منفردين‪ ،‬من دون معارضة أمريكية‪.‬‬

‫وجاءت حرب اخلليج الثانية‪ ،‬لتخل بالتوازن العربي‪ ،‬ولتصرف‬


‫العرب‪ ،‬وال سيما اململكة العربية السعودية‪ ،‬إلى قضاياهم الداخلية‪،‬‬
‫فانفردت سورية بتنفيذ اتفاق الطائف‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬القضاء على مترد العماد ميشال عون‬

‫فور انتخاب الرئيس الهراوي في ‪ 24‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‬


‫‪ ،1989‬بادر إلى استدعاء رئيس الوزراء‪ ،‬سليم احلص وجدد تكليفه‬
‫ب��رئ��اس��ة احل�ك��وم��ة‪ .‬وب��دأ معه وم��ع ال��رئ�ي��س احلسيني‪ ،‬مشاورات‪،‬‬
‫لتأليف احلكومة اجل��دي��دة‪ .‬وص��درت‪ ،‬بالفعل‪ ،‬مراسيمها‪ ،‬في ‪25‬‬
‫نوفمبر ‪ ،1989‬وتألفت من أربعة عشر وزيراً‪.‬‬

‫‪423‬‬
‫ولكن العماد ميشال عون‪ ،‬رفض اإلقرار بالشرعية اجلديدة‪،‬‬
‫ف� ُع��دَّ م�ت�م��رداً على احل�ك��م‪ .‬وم��ع تفاقم ح��ال��ة ال�ت�م��رد‪ ،‬أص�ب��ح ال ب ّد‬
‫من القضاء عليها‪ ،‬إذ باتت تهدد بشلل الدولة‪ ،‬اإلداري والعسكري‬
‫واالقتصادي‪.‬‬

‫وإث��ر اغتيال الرئيس م�ع��وض‪ ،‬ب��دأت ال�ق��وات السورية تعزيز‬


‫التماس‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وجودها‪ ،‬في حشد عسكري ضخم من اآلليات‪ ،‬على خطوط‬
‫بشكل مكثف‪ ،‬وعلني‪ .‬وف��ي أول تصريح للرئيس ال�ه��راوي‪ ،‬أك��د أن‬
‫قضية ال�ت�م��رد ستحسم‪ ،‬ف��ي ف�ت��رة وج �ي��زة‪ ،‬مم��ا ع �زّز القناعة بأن‬
‫احلشد العسكري السوري‪ ،‬هو حشد جدي للقضاء على حالة التمرد‪.‬‬
‫فبدأت حملة ضغط داخلية‪ ،‬إلى جانب ضغوط عاملية‪ ،‬قادها كل من‬
‫الفاتيكان وفرنسا‪ ،‬تستهدف معاجلة الوضع سياسياً‪ ،‬واحلؤول دون‬
‫عملية عسكرية سورية‪ .‬فسعى املسؤولون إلى القضاء على التمرد‪،‬‬
‫بإطالق مبادرة سياسية‪ ،‬على أساس وثيقة الوفاق الوطني‪ ،‬أقرت‬
‫خطوطها في مجلس ال��وزراء‪ ،‬وص��درت في ‪ 11‬يوليه ‪ ،1990‬دُعي‬
‫إلى املشاركة فيها األطراف كافة‪ ،‬مبن فيهم العماد عون‪.‬‬

‫وإم �ع��ان �اً ف��ي ال��رغ �ب��ة ف��ي احل��ل ال��وف��اق��ي‪ ،‬ب���ادرت احلكومة‪،‬‬
‫بوساطة مندوب اللجنة العربية العليا‪ ،‬األخضر اإلبراهيمي‪ ،‬إلى‬
‫مسعى توفيقي لدى العماد عون‪ .‬وإزاء رفض مبادرتها‪ ،‬قرر مجلس‬
‫الوزراء تشكيل قوات عسكرية ملواجهته‪ ،‬ومبشاركة سورية‪ .‬والالفت‬
‫أن ميليشيا حليفة لسورية خرقت احلصار‪ ،‬فنقلت العتاد إلى العماد‬
‫عون‪ .‬وعلِّل ذلك برغبتها في محاولة كسب بعض العطف املسيحي‪،‬‬
‫وإفشال احلصار‪ ،‬إمّا إلفساح املجال أمام عودة االقتتال إلى املنطقة‬
‫الشرقية‪ ،‬وإمّا الستمرار الوضع التقسيمي‪ ،‬إفشاالً للحل‪ ،‬ككل‪ ،‬وإمّا‬
‫متهيداً لعملية عسكرية‪ ،‬تسفر عن دخول اجليش السوري إلى مناطق‬
‫بعبدا واملَتْنَني وكسروان‪.‬‬

‫‪424‬‬
‫نقل رئيس اجلمهورية اللبنانية قرار مواجَ هة ميشال عون‪ ،‬إلى‬
‫املسؤولني السوريني‪ ،‬طالباً مؤازرتهم‪ .‬فاتفقت القيادتان‪ ،‬السورية‬
‫واللبنانية‪ ،‬على موعد العملية‪ .‬ولم يطّ لع عليه إ ّال املسؤولون املعنيون‪:‬‬
‫قائد اجليش‪ ،‬ووزير الدفاع‪ ،‬ورئيسا اجلمهورية واحلكومة‪.‬‬

‫فوجئ العماد عون بالعملية العسكرية‪ ،‬لظنه أن دونها املعارضة‬


‫الفرنسية‪ ،‬والتحفظ الفاتيكاني‪ ،‬وانفتاح بعض أرك��ان امليليشيات‬
‫املوالية لسورية على التعامل اإليجابي معه‪ ،‬وتشجيعه على متابعة‬
‫ال عن اطمئنانه إلى أن استغالل الطيران‬‫القتال ضد «القوات»‪ ،‬فض ً‬
‫غير مسموح به‪ ،‬دولياً وإقليمياً‪ ،‬إضافة إلى جو التعبئة الشعبية‪،‬‬
‫الذي خلقه حول قصر بعبدا‪ ،‬عالوة على االتصاالت املباشرة‪ ،‬التي‬
‫كان يجريها بعض الضباط التابعني له مع االستخبارات السورية‪.‬‬

‫وما لبث عون أن طلب من السفير الفرنسي وقف إطالق النار‪.‬‬


‫فاشتُرط عليه‪ ،‬الستجابة طلبه‪ ،‬أن يطلب م��ن ال�ق��وات التابعة له‬
‫االلتحاق باجليش اللبناني‪ ،‬بقيادة حلود‪ .‬فأذعن‪.‬‬

‫القسم اخلامس‬
‫تنفيذ اتفاق الطائف ونتائجه‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬على مستوى احلكم‬

‫بدأ تنفيذ اتفاق الطائف يوم اجتماع املجلس النيابي‪ ،‬في مطار‬
‫القليعات‪ ،‬في ‪ 5‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر ‪ .1989‬وعلى الرغم من‬

‫‪425‬‬
‫التلكؤ في تنفيذه‪ ،‬فقد حققت حكومة الرئيس احل��ص إصالحات‬
‫سياسية بصورة دستورية‪ ،‬ب��دءاً من ‪ 11‬متوز‪/‬يوليه ‪ ،1990‬معيدة‬
‫توحيد لبنان واجليش‪ ،‬ومزيلة كل العقبات أمام تنفيذ االتفاق‪ ،‬بدءاً‬
‫من آخ��ر تشرين األول‪/‬أك�ت��وب��ر ‪ .1990‬كما مهدت للشرعية بسط‬
‫سيادتها‪ ،‬واستعادت لها مؤسساتها وأبنيتها وهيبتها‪ ،‬في بيروت‬
‫الكبرى‪ ،‬التي أخضعتها لسلطة اجليش وقوى األمن اللبنانيَّني‪.‬‬

‫ك��ان حتقيق اإلص�لاح��ات السياسية‪ ،‬بصورة دستورية‪ ،‬إيذاناً‬


‫ب��وج��وب تنفيذ خ �ط��وط االت �ف��اق األس��اس �ي��ة‪ ،‬خ��اص��ة ت�ل��ك املتعلقة‬
‫ب��ال�س�ي��ادة‪ ،‬وب�س��ط سلطة ال��دول��ة‪ ،‬ب�ق��واه��ا ال��ذات�ي��ة‪ ،‬وإع ��ادة جتميع‬
‫ال�ق��وات السورية‪ ،‬متهيداً النسحابها من جميع املناطق اللبنانية‪،‬‬
‫املواجه إلسرائيل‪ ،‬وبعض النقاط في اجلبل‪ ،‬التي‬ ‫ِ‬ ‫باستثناء البقاع‬
‫حتمي املواقع البقاعية‪ .‬وشروعاً‪ ،‬كذلك‪ ،‬في تنفيذ مبادئ اإلصالح‬
‫السياسي‪ ،‬وممارستها وفقاً للدستور اجل��دي��د‪ ،‬من خ�لال مؤسسة‬
‫مجلس ال��وزراء‪ ،‬ومشاركة الطوائف كافة في احلكم‪ ،‬واإلق�لاع على‬
‫الهيمنة والتسلط والتفرد‪ ،‬وبناء دولة املؤسسات‪.‬‬

‫ب�ع��د ان�ت�خ��اب ال��رئ�ي��س م �ع��وض واغ �ت �ي��ال��ه‪ ،‬وان �ت �خ��اب الرئيس‬


‫الهراوي‪ ،‬وبعد توقف قسري ملدة عام كامل‪ ،‬نتيجة معاندة العماد‬
‫ع��ون‪ ،‬وع��دم تسليمه بشرعية احلكم اجلديد‪ ،‬أسفر تنفيذ االتفاق‬
‫عن نتائج مغايرة متاماً لمِ َا كان ُقرِّر في الطائف‪ ،‬إن لم تكن مناقضة‬
‫له‪ .‬فبدل احلكم من داخل مجلس الوزراء‪ ،‬مورس احلكم من خارجه؛‬
‫كما كان يحدُث قبْل نقل السلطة اإلجرائية إليه‪ .‬بل إن ثمة مَن يرى‬
‫أن كثيراً من القرارات‪ ،‬املهمة واألساسية‪ ،‬كانت تتخذ خارج مجلس‬
‫ال��وزراء‪ ،‬ثم تُطرح فيه للتصديق عليها‪ ،‬مثل ق��رار حل امليليشيات‪،‬‬
‫واستيعاب عناصرها‪ ،‬وقرار تعيني النواب‪ ،‬وقرار التعيينات األمنية‬
‫العسكرية‪ ،‬وقرار تعيني السفراء‪ ،‬وقرار إجراء االنتخابات‪ .‬ناهيك‬

‫‪426‬‬
‫أن االتفاق األمني العسكري‪ ،‬بني لبنان وسورية‪ ،‬لم يسمح ملجلس‬
‫الوزراء بإجراء أي تعديل في صدده‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬رأى املوارنة أن تنفيذ اتفاق الطائف‪ ،‬قد أرسى‪ ،‬بدل‬


‫حكم املشاركة‪ ،‬صيغة للحكم خارج مجلس الوزراء‪ ،‬من خالل تركيبة‬
‫نخبوية‪ ،‬غالباً ما كان يلمح إليها أم��راء امليليشيات‪ ،‬باسم «الغرفة‬
‫ال �س��وداء»‪ .‬وت��وزع��ت ه��ذه التركيبة‪ ،‬طبقاً ل�ل��رؤي��ة امل��ارون �ي��ة‪ ،‬ثالث‬
‫ال من الرئاسة وبعض الساسة املق َّربني إلى‬ ‫حلقات‪ .‬تضم أوالها ك ًّ‬
‫الرئيس‪ ،‬وبعض رجال األعمال‪ ،‬السابقني واحلاليِّني‪.‬‬

‫أما ثانيتها‪ ،‬فهي حلقة رئيس الوزراء‪ ،‬رفيق احلريري‪ ،‬التي بدأ‬
‫تأثيرها في احلكم‪ ،‬عبْر بعض التعيينات املختارة‪ ،‬في مواقع مؤثِّرة‪.‬‬
‫وأدى ذلك إلى حتكّمها في احلقل املصرفي‪ ،‬والوسط اإلعالمي؛ إذ‬
‫امتلكت وسائل إعالمية‪ ،‬مثل «تليفزيون خاص‪ ،‬ثلثَي أسهم القطاع‬
‫اخل��اص ف��ي تليفزيون ل�ب�ن��ان‪ ،‬صحيفة «ص��وت ال �ع��روب��ة»‪ ،‬صحيفة‬
‫«املستقبل»‪ ،‬إذاعة الشرق األوسط‪.»...‬‬

‫ال من األحزاب وامليليشيات‪ ،‬املتحالفة مع‬


‫أما ثالثتها‪ ،‬فتضم ك ًّ‬
‫سورية‪ ،‬التي حتكّمت‪ ،‬بعد الطائف‪ ،‬في معظم مؤسسات الدولة‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬على مستوى السيادة واالستقالل‬

‫حققت حكومة الرئيس احل��ص اإلص�لاح��ات السياسية‪ ،‬بصورة‬


‫دستورية‪ ،‬وأرست‪ ،‬في ‪ 21‬أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪ ،1990‬دعائم دستور جديد‪،‬‬
‫وأزالت آخر عقبة دون تنفيذ االتفاق‪ ،‬متمثلة في مترد العماد عون‪ .‬ولكن‬
‫العديد من اإلصالحات السياسية لم ينجز؛ إذ لم يكتمل حل امليليشيات‪،‬‬
‫ولم يُسلَّم سالحها إلى الدولة اللبنانية‪ ،‬في حني انتهت مهلة هذه املرحلة‪،‬‬
‫في ‪ 21‬أيلول‪/‬سبتمبر ‪ ،1991‬فمددت إلى نهاية ‪.1992‬‬

‫‪427‬‬
‫أمّا على صعيد بسط سلطة الدولة‪ ،‬بقواها الذاتية‪ ،‬فالوجود‬
‫الفعلي للجيش اللبناني‪ ،‬اقتصر‪ ،‬لفترة طويلة‪ ،‬على ك��لٍّ من املنت‬
‫وكسروان وجبيل‪ .‬بينما خضعت منطقة اجلنوب لنفوذ الفلسطينيني‬
‫وهيمنتهم‪ .‬وسيطرت «أمل» وحزب الله‪ ،‬حيثما وجدا‪ .‬وبقي وجود‬
‫اجليش اللبناني رمزياً‪ ،‬في مناطق اجلبل األخرى‪ ،‬وفي بيروت والبقاع‬
‫والشمال‪ ،‬حيث كان الوجود الفعلي للجيش السوري وللميليشيات‬
‫احلليفة له‪.‬‬

‫كذلك لم يُ� َع� ْد جتميع ال�ق��وات السورية‪ ،‬ول��م يحصر وجودها‬


‫ال عن أن املهام‪ ،‬التي حتقق السيادة‬
‫في األماكن احمل��ددة ل��ه‪ .‬فض ً‬
‫الوطنية‪ ،‬وتساعد على إنشاء عالقات مميزة‪ ،‬على أساس التعاون‬
‫والتنسيق‪ ،‬في إطار استقالل كلٍّ من سورية ولبنان وسيادتهما‪ ،‬لم‬
‫تنفذ على النحو املرسوم لها‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬حتوّل اتفاق الطائف‪ ،‬لدى التنفيذ‪ ،‬من تنظيم لالنسحاب‬


‫السوري من لبنان‪ ،‬على قاعدة األخوّة والتعاون والتنسيق‪ ،‬إلى تنظيم‬
‫للبقاء السوري في لبنان‪ .‬وب��دالً من أن يحل امليليشيات‪ ،‬ويساعد‬
‫على بسط سلطة الدولة‪ ،‬بقواها الذاتية‪ ،‬إذا به يطلق يد امليليشيات‬
‫في الدولة ومؤسساتها‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬توازنان واتفاق‬

‫«ال نريد أن نرى دماء‪ ،‬بعد اليوم‪ ،‬في لبنان»‪ .‬تلك هي مشيئة‬
‫الرئيسَ ني‪ ،‬األمريكي والسوفيتي‪ ،‬املجتمعَني في مالطة‪ .‬وانعكست‬
‫تلك الرغبة سالماً‪ ،‬على منطقة الشرق األوسط‪ ،‬إذ حالت الدولتان‬
‫العظميان دون أي تغيير في خريطتها‪ .‬وانبثق من ت��وازن القطبَني‬
‫العامليَّني توازن إقليمي‪ ،‬أتاح لبعض دول املنطقة دوراً فاعالً‪ ،‬جنم‬

‫‪428‬‬
‫عنه اتفاق الطائف‪ .‬غير أن التوازن اإلقليمي‪ ،‬كان قصير العمر‪ ،‬إذ‬
‫اضطرب في إث��ر غ��زو العراق الكويت‪ .‬وقضي عليه باندالع حرب‬
‫حترير الكويت‪ ،‬التي أجبرت العراق على االنسحاب‪ ،‬ودمرت جزءاً‬
‫م��ن البنية األساسية العراقية‪ ،‬املدنية والعسكرية‪ ،‬على السواء‪.‬‬
‫وصرفت اململكة العربية السعودية إلى معاجلة ما ترتب على الغزو‬
‫العراقي‪ ،‬وانكفأت اجلزائر إلى متاعبها الداخلية‪ .‬وأدى كل ذلك إلى‬
‫انفراد سورية برعاية تنفيذ اتفاق الطائف في لبنان‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬اختالل توازن القوى الداخلي‬

‫متثّل التوازن الداخلي اللبناني‪ ،‬في املرحلة األخيرة من احلرب‪،‬‬


‫في ت��وازن ق��وى‪ ،‬قوامه اجليش اللبناني‪ ،‬بألويته األرب�ع��ة (الثاني‪،‬‬
‫واخل��ام��س‪ ،‬وال�ت��اس��ع‪ ،‬وال �ع��اش��ر‪ ،)،‬م�ض��اف�اً إليها وح��دات املساندة‬
‫األساسية (املغاوير‪ ،‬املكافحة‪ ،‬الشرطة العسكرية‪ ،‬احلرس)‪ .‬وتوافر‬
‫ل�ه��ا ال�ع�ت��اد وال �س�لاح وال��ذخ �ي��رة‪ .‬ع�ل�اوة ع�ل��ى ميليشيات «القوات‬
‫اللبنانية»‪ ،‬ال�ت��ي ك��ان��ت‪ ،‬ف��ي آخ��ر م��راح�ل�ه��ا‪ ،‬على درج��ة عالية من‬
‫التدريب والتسليح‪.‬‬

‫وفي مقابل اجليش و»القوات»‪ ،‬كان ثمة األحزاب وامليليشيات‬


‫املسلحة األخ��رى‪ ،‬وبعض وح��دات اجل�ي��ش‪ ،‬غير املنظمة‪ ،‬والقليلة‬
‫الفاعلية‪ ،‬بقيادة اللواء سامي اخلطيب‪ .‬وهذه القوى‪ ،‬على تناثرها‬
‫وصراعتها‪ ،‬كانت منضبطة‪ ،‬حتت مظلة اجليش السوري‪.‬‬

‫وبدأ االضطراب يتسرب في توازن القوى الداخلية‪ ،‬في شباط‪/‬‬


‫فبراير ‪ ،1989‬أي بعد اجتماعات تونس مباشرة‪ ،‬حني نشب االقتتال‬
‫األول بني اجليش و«القوات»‪ .‬ثم تزايد مع إعالن حرب املرافئ غير‬
‫الشرعية‪ ،‬وما استتبعها من «حرب التحرير»‪ ،‬التي أفقدت املناطق‬

‫‪429‬‬
‫الشرقية عناصر أساسية‪ ،‬من توازنها الداخلي‪ ،‬منها‪ :‬التماسك‬
‫ووحدة القوى ووحدة املوقف السياسي؛ إضافة إلى فقدان االزدهار‬
‫االقتصادي النسبي‪ ،‬واخلدمات االجتماعية‪ .‬إن «حرب التحرير»‪،‬‬
‫شكلت بداية االختالل الفعلي في ت��وازن القوى الداخلية اللبناني‪.‬‬
‫وك��ان لها أثر كبير في إضعاف موقف املتشددين في وجه سورية‪،‬‬
‫لدى مناقشة مشروع وثيقة الوفاق‪ .‬غير أنها لم تكن كافية لترجيح‬
‫أي من القوى املتصارعة‪ ،‬وظل التوازن في القوى شبه متعادل‪.‬‬

‫وعلى أساس هذا التوازن بني القوى الداخلية‪ ،‬وتوقُّع استمراره‪،‬‬


‫وقّع اتفاق الطائف‪ ،‬ووضعت آلية تنفيذه‪ .‬ومع بداية التنفيذ‪ ،‬بدأ‬
‫االختالل الفعلي في ت��وازن القوى‪ ،‬وب��دأت آلية التنفيذ تغيّر بعض‬
‫مالمح ذلك االتفاق‪.‬‬

‫اخللل األول‪ ،‬متثل ف��ي رف��ض العماد ع��ون التسليم بشرعية‬


‫الرئيس معوض‪ .‬فإلى جانب االن�ت�ق��ادات‪ ،‬التي وجهت إل��ى العماد‬
‫ُوج��ه عدم‬
‫ع��ون‪ ،‬في ش��أن ق��راره إع�لان حربَي املرافئ والتحرير‪ ،‬و ِ‬
‫اع�ت��راف��ه بشرعية الرئيس معوض برفض م��ن العديد م��ن أطراف‬
‫الصراع‪ .‬ولعل مما ضاعف من فداحة هذا اخلطأ‪ ،‬أن العماد عون‪،‬‬
‫ع��اد‪ ،‬بعد م��رور سنة‪ ،‬إل��ى التسليم بشرعية الرئيس ال�ه��راوي‪ ،‬من‬
‫خالل اخلطاب‪ ،‬الذي سلَّمه للسفير الفرنسي‪ ،‬رينيه‪ ،‬ونشر في ‪12‬‬
‫تشرين األول‪/‬أكتوبر ‪ ،1992‬وتضمن‪:‬‬

‫أ ‪ -‬رفع احلصار‪.‬‬

‫ب ‪ -‬االعتراف بالهراوي‪.‬‬

‫ج ‪ -‬استقالة عون واحلص في وقت واحد‪.‬‬

‫‪430‬‬
‫أما اخللل الثاني‪ ،‬الذي أدى إلى ضرب توازن القوى الداخلي‪،‬‬
‫ف�ه��و احل ��رب‪ ،‬ال�ت��ي سميت «ح��رب اإلل��غ��اء»‪ ،‬ب�ين اجل�ي��ش اللبناني‬
‫و«ال �ق��وات اللبنانية»‪ ،‬وال�ت��ي جن��م عنها تدمير ق��وة ال�ط��رفَ�ين معاً‪،‬‬
‫ال عن هجرة بعض‬ ‫وتدمير البنية االقتصادية للمناطق الشرقية‪ .‬فض ً‬
‫اللبنانيني إلى اخلارج‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬توتر العالقات بني الرؤساء الثالثة (الترويكا)‬

‫اتسمت العالقة بني كلٍّ من رئيس الدولة‪ ،‬ورئيس الوزراء‪ ،‬ورئيس‬


‫السلطة التشريعية‪ ،‬بالتوتر الشديد‪ ،‬خاصة بني الرئيسَ ني الهراوي‬
‫واحلسيني‪ ،‬على الرغم من انتسابهما‪ ،‬في السياسات احمللية‪ ،‬إلى‬
‫حتالف واح��د‪ .‬وتبدّ ى ه��ذا التوتر‪ ،‬حلظة تأليف احلكومة األولى‪،‬‬
‫بعد ت��و ّل��ي ال �ه��راوي السلطة؛ إذ إن تضامن الرئيس احلسيني مع‬
‫الرئيس احلص‪ ،‬أحرج الهراوي‪ ،‬واضطره إلى تعيني الرئيس احلص‪،‬‬
‫وأغلبية أعضاء احلكومة‪ ،‬التي كان يُعِ ّدها مع الرئيس معوض‪ .‬وهو‬
‫ما عنى رفض الهراوي للحص‪ ،‬ورفض احلسيني للهراوي‪ .‬وسرعان‬
‫م��ا جل��أ رئ�ي��س اجل�م�ه��وري��ة‪ ،‬إل��ى التخلص م��ن رئ�ي��س احل�ك��وم��ة‪ ،‬إذ‬
‫ربطت «القوات اللبنانية» انسحابها‪ ،‬باستقالة احلص‪ ،‬على الرغم‬
‫من جناحه في إنهاء حالة التمرد‪ ،‬وتوحيد العاصمة‪ ،‬بيروت‪ ،‬وتوحيد‬
‫اجليش‪ ،‬وإقرار اإلصالحات الدستورية‪ ،‬وإنهاء حالة احلرب‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬السياسة السورية بعد الطائف‬

‫عرف التدخل السوري املعل َن في لبنان‪ ،‬مراحل أساسية ثالثاً‪:‬‬


‫التدخل الشرعي األول‪ ،‬بناء على استدعاء املسؤولني الشرعيني‪،‬‬
‫والقيادات املسيحية‪ .‬وأضفيت عليه الصفة الشرعية‪ ،‬من خالل قوات‬
‫الردع العربية‪ ،‬في آخر عام ‪ .1976‬التدخل الثاني‪ ،‬إلنقاذ بيروت‬

‫‪431‬‬
‫وطرابلس من االقتتال الداخلي‪ ،‬في عامَي ‪ 1984‬و‪ ،1987‬بناء على‬
‫استنجاد قيادات لبنانية رسمية‪ ،‬في املدينتَني‪ .‬والتدخل الثالث‪،‬‬
‫بناء على دعوة رسمية‪ ،‬وبرعاية عربية‪ ،‬تنفيذاً التفاق الطائف‪ ،‬عام‬
‫‪ .1990‬ومنذ التدخل األول لم تُخْ لِ القوات السورية البقاع والشمال‪،‬‬
‫حلظة واحدة‪ .‬أمّا العاصمة‪ ،‬بيروت‪ ،‬واجلبل‪ ،‬فأخليا خالل االجتياح‬
‫اإلسرائيلي‪ ،‬عام ‪ ،1982‬حتى عام ‪.1987‬‬

‫و ُعلِّل التدخل األول مبنع التقسيم‪ ،‬وحماية املقاومة الفلسطينية‪.‬‬


‫والتدخل الثاني‪ ،‬مبنع االقتتال بني اللبنانيني‪ ،‬وحماية املواطنني‪.‬‬
‫والتدخل الثالث‪ ،‬مبساعدة الدولة اللبنانية على اإستعادة سيادتها‪،‬‬
‫وبسط سلطتها‪ ،‬وتأمني إقرار اإلصالحات السياسية الداخلية‪.‬‬

‫ون� ِّف��ذ م�ش��روع تنظيم العالقة اللبنانية ال�س��وري��ة‪ ،‬املثلى‪ ،‬من‬


‫وجهة نظر سورية‪ ،‬على مراحل ثالث‪ :‬املرحلة األول��ى‪ ،‬خالل فترة‬
‫حكم الرئيس إلياس سركيس‪ .‬وقد فشلت هذه احملاولة‪ ،‬بسبب وجود‬
‫امليليشيات‪ ،‬ورفض رئيس اجلمهورية للمشروع‪ ،‬إلى جانب معارضة‬
‫أكثرية الطبقة السياسية‪ ،‬في احلكم وخارجه‪.‬‬

‫املرحلة الثانية‪ ،‬متثلت في محاولة ضبط الوضع في لبنان‪،‬‬


‫عبْر إق��رار االت�ف��اق الثالثي ب�ين حركة «أم��ل» واحل��زب االشتراكي‬
‫و«القوات اللبنانية»‪ .‬وفشلت هذه احملاولة‪ ،‬كذلك‪ ،‬بسبب معارضة‬
‫جميع القوى‪ ،‬التي استثنيت من االتفاق؛ ابتداء من رئيس اجلمهورية‪،‬‬
‫ووصوالً إلى مختلف القوى السياسية األخرى‪.‬‬

‫أ ّم��ا احمل��اول��ة الثالثة‪ ،‬فاستدركت ما تسبب بفشل احملاولتَني‬


‫السابقتَني‪ ،‬أي ضمان مؤسسات احلكم واألرض معاً؛ إذ إن املواقف‬
‫امل�ع�ل َ�ن��ة للمسؤولني ال �س��وري�ين‪ ،‬خ��اص��ة ال��رئ�ي��س ال �س��وري‪ ،‬طمأنت‬

‫‪432‬‬
‫اللبنانيني‪ ،‬ب��االع�ت��راف العلني‪ ،‬للمرة األول��ى ف��ي ت��اري��خ الدولتَني‪،‬‬
‫باستقالل لبنان وسيادته‪ .‬إال أنه‪ ،‬وللمرة األولى‪ ،‬كذلك‪ ،‬في تاريخ‬
‫ال��دول�تَ�ين‪ ،‬يصبح التدخل ال �س��وري ف��ي ال�ش��أن اللبناني الداخلي‪،‬‬
‫ا ب�لا ح��دود‪ .‬وآي��ة ذل��ك تصريح للرئيس ال �س��وري‪ ،‬ق��ال فيه‪:‬‬ ‫ت��دخ�ل ً‬
‫«ما يهمنا هو النص الذي وافقنا عليه‪ ،‬والذي أقره مجلس النواب‬
‫وهدف النص أمران‪ :‬األمر األول‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫اللبناني‪ ،‬وأصبح الوثيقة الوطنية‪.‬‬
‫أن نساعد الدولة اللبنانية على تكوين قواها الذاتية‪ ،‬للتمكن من‬
‫بسط األمن وسلطة القانون‪ .‬واألمر الثاني‪ ،‬أن سورية ضمان إلقرار‬
‫اإلصالحات السياسية‪ ،‬في صورة دستورية‪ .‬اإلصالحات السياسية‪،‬‬
‫أ ُقر قسم كبير منها‪ ،‬ولك ْن هناك قسم أساسي‪ ،‬لم جترِ مناقشته‪،‬‬
‫حتى اآلن‪ ،‬وهو متعلق بإلغاء الطائفية السياسية‪.»...‬‬

‫أمّا اتفاق الطائف‪ ،‬فورد فيه‪« :‬ومن واقع العالقات األخوية‪،‬‬


‫التي تربط سورية بلبنان‪ ،‬تقوم القوات السورية‪ ،‬مشكورة‪ ،‬مبساعدة‬
‫ق��وات الشرعية اللبنانية على بسط سلطة ال��دول��ة اللبنانية‪ ،‬في‬
‫فترة زمنية محددة‪ ،‬أقصاها سنتان‪ ،‬تبدأ بعد التصديق على وثيقة‬
‫الوفاق الوطني‪ ،‬وانتخاب رئيس اجلمهورية‪ ،‬وتشكيل حكومة الوفاق‬
‫الوطني‪ ،‬وإقرار اإلصالحات السياسية‪ ،‬بصورة دستورية‪ .‬وفي نهاية‬
‫ه��ذه الفترة‪ ،‬تقرر احلكومتان‪ ،‬احلكومة السورية وحكومة الوفاق‬
‫الوطني اللبنانية‪ ،‬إعادة متركز القوات السورية في منطقة البقاع‬
‫ومدخل البقاع الغربي‪ ،‬في ضهر البيدر‪ ،‬حتى خط حمانا املديرج‬
‫ع�ين دارة؛ وإذا دع��ت ال �ض��رورة‪ ،‬ف��ي ن�ق��اط أخ ��رى‪ ،‬يتم حتديدها‬
‫بواسطة جلنة عسكرية لبنانية سورية مشتركة‪ .‬كما يتم اتفاق بني‬
‫احلكومتني‪ ،‬يجري‪ ،‬مبوجبه‪ ،‬حتديد حجم وم��دة ال�ق��وات السورية‬
‫في املناطق املذكورة أعاله‪ ،‬وحتديد عالقة هذه القوات مع سلطات‬
‫الدولة اللبنانية في أماكن تواجدها»‪.‬‬

‫‪433‬‬
‫سابع ًا‪ :‬موقف سورية من املستجدات‬

‫أدت أزم��ة اخلليج الثانية‪ ،‬وم��ا ارتبط بها‪ ،‬وترتب عليها من‬
‫حتالفات وتوازنات‪ ،‬إلى تدعيم الدور السوري في لبنان‪ ،‬إلى احل ّد‬
‫الذي جعل دمشق الفاعل اإلقليمي الرئيسي على الساحة اللبنانية‪.‬‬
‫وفيما يتعلق باالنتخابات النيابية‪ ،‬وهي أحد أهم املستجدات على‬
‫الساحة اللبنانية‪ ،‬فقد عكست زيارات املسؤولني اللبنانيني املتوالية‬
‫إلى دمشق‪ ،‬خالل الفترة من يوليه حتى أكتوبر ‪ ،1992‬الدور الذي‬
‫ال عن تدخّ لها للتغلب على بعض‬ ‫ما زالت تؤديه سورية في لبنان‪ .‬فض ً‬
‫اخلالفات بني ترويكا احلكم في لبنان‪.‬‬

‫وجلأت سورية في هذه االنتخابات‪ ،‬إلى تفنيد حجج وادعاءات‬


‫بعض القوى واألحزاب السياسية‪ ،‬التي قاطعت االنتخابات‪ ،‬ووجهت‬
‫اتهامات إلى دمشق‪ .‬فأكد املسؤولون السوريون عدة أمور منها‪ :‬عدم‬
‫حتديد اتفاق الطائف م��وع��داً إلع��ادة انتشار ال�ق��وات السورية في‬
‫البقاع‪ ،‬بل جعلها بعد عامني من اإلصالحات السياسية‪ .‬وعلى هذا‬
‫األساس‪ ،‬فإن االتفاق لم يحدد موعداً إلجراء االنتخابات النيابية‪،‬‬
‫يأت على ذكر ربطها بإعادة انتشار القوات السورية‪ ،‬وأي شروط‬ ‫ولم ِ‬
‫تطرحها املعارضة‪ ،‬من هذا النوع‪ ،‬تُ َع ّد غير صحيحة‪ .‬وأكد السوريون‬
‫أن مسألة إعادة انتشار القوات السورية في البقاع ومناطق أخرى‪،‬‬
‫ستكون‪ ،‬حسبما جاء في اتفاق الطائف‪ ،‬موضوعاً للنقاش والتباحث‬
‫والتفاهم‪ ،‬بني احلكومتَني‪ ،‬اللبنانية والسورية‪ ،‬مبساعدة بعض اللجان‬
‫العسكرية‪ ،‬فيما بعد‪.‬‬

‫إضافة إل��ى ذل��ك‪ ،‬أك��دت سورية ضمانها لنزاهة االنتخابات‪،‬‬


‫ال لبناء‬
‫وعدم تدخّ لها فيها‪ .‬كما رأت في االنتخابات اللبنانية مدخ ً‬
‫ال عن كونها‬
‫لبنان‪ ،‬القادر على مواجَ هة فترة ما بعد احل��رب‪ ،‬فض ً‬

‫‪434‬‬
‫بنداً أساسياً من بنود اتفاق الطائف‪.‬‬

‫وع�ل��ى ه��ذا النحو‪ ،‬رأت س��وري��ة‪ ،‬أن ال�ق��وى ال��راف�ض��ة إلجراء‬


‫االنتخابات‪ ،‬متثّل قوى مدعومة من إسرائيل‪ .‬وطالبت النظام اللبناني‬
‫ب�ع��دم االستجابة ملطلب تأجيلها‪ ،‬ت��أك�ي��داً لهيبة ال��دول��ة اللبنانية‪.‬‬
‫وساعدت اجليش اللبناني على تأمني سير العملية االنتخابية‪ ،‬مبا منع‬
‫قوى املعارضة من اللجوء إلى استخدام السالح‪ ،‬لتعطيل االنتخابات‪.‬‬
‫وميكن إرج��اع هذا املوقف السوري في لبنان إلى رغبة دمشق في‬
‫تثبيت دورها في لبنان‪ ،‬على صعيد املؤسسات الدستورية الرسمية‪.‬‬
‫ومن ثَم‪ ،‬فإن وجود مجلس نيابي لبناني‪ ،‬منتخَ ب‪ ،‬يضم غالبية مؤيدة‬
‫أو متفهمة الدور السوري في لبنان‪ ،‬يُ َع ّد أمراً مهماً من وجهة النظر‬
‫السورية‪ .‬فمثل هذا املجلس لن يثير قضايا‪ ،‬ولن يوافق على قرارات‪،‬‬
‫من شأنها إح��راج سورية‪ ،‬أو التأثير‪ ،‬سلباً‪ ،‬في دوره��ا في لبنان‪،‬‬
‫وبخاصة في ضوء التطورات احلالية‪ ،‬اإلقليمية والدولية‪ .‬كما لم‬
‫تسمح سورية ألي قوى لبنانية داخلية‪ ،‬بأن تناقش الدور السوري في‬
‫لبنان‪ ،‬خاصة أن القوى‪ ،‬التي عارضت االنتخابات‪ ،‬عام ‪ ،1992‬قد‬
‫عرضت قبولها إياها بشروط‪ ،‬من بينها إعادة تركيز القوات السورية‬
‫في البقاع‪ ،‬بل إن هناك من طالب باالنسحاب السوري الكامل من‬
‫لبنان‪ ،‬كشرط إلجراء االنتخابات‪.‬‬

‫‪435‬‬
436
‫اجلزء الثاني‬
‫التاريخ السياسي للدول العربية‬

‫‪437‬‬
438
‫الفصل األول‬
‫سوريا‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬احلكومة العربية في سوريا ‪1920 - 1918‬‬

‫شكَّل امللك فيصل بعد دخوله دمشق في تشرين األول ‪1918‬‬


‫حكومة عسكرية برئاسة رضا باشا الركابي تشمل صالحياتها جميع‬
‫األراضي السورية الطبيعية‪ .‬وأرسل شكري باشا األيوبي إلى بيروت‬
‫لتأسيس إدارة عسكرية فيها ورفع العلم العربي على مقر احلكومة‬
‫في بيروت‪ ،‬إال أن املؤامرة الفرنسية ‪ -‬البريطانية قضت بأن جتزأ‬
‫سوريا إلى ثالث مناطق مبدئية‪ :‬الساحل حتت اإلدارة الفرنسية‪،‬‬
‫وال��داخ��ل حتت اإلدارة العربية برئاسة فيصل‪ ،‬واملنطقة اجلنوبية‬
‫وت�ض��م فلسطني حت��ت اإلدارة ال�ب��ري�ط��ان�ي��ة‪ .‬إال أن ف��رن�س��ا طالبت‬
‫بريطانيا بتنفيذ معاهدة سايكس ‪ -‬بيكو‪ ،‬وأخذت تثير الفرقة داخل‬
‫سوريا معتمدة على إث��ارة النعرات الطائفية‪ ،‬وتظاهرت بريطانيا‬
‫باإلخالص للعرب وطلبت من فيصل أن يتفاوض مع فرنسا‪ ،‬وكانت‬
‫اتفاقية فيصل كليمنصو وهي نسخة معدَّ لة عن معاهدة سايكس ‪-‬‬

‫‪439‬‬
‫بيكو‪ ،‬أي اعتراف بانتداب فرنسا على سوريا‪.‬‬

‫كانت ردة الفعل لدى الشعب السوري كبيرة‪ ،‬إذا قوبلت هذه‬
‫االتفاقية بالسخط والشجب‪ ،‬وقامت التظاهرات املنددة‪ ،‬فاجتمع‬
‫امل��ؤمت��ر ال�س��وري ف��ي دمشق ‪ 8‬آذار ‪ .1920‬وق��رر إع�لان استقالل‬
‫سوريا بحدودها الطبيعية ورفض القبول باالنتداب‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬مؤمتر سان رميو ‪1920‬‬

‫جاء هذا املؤمتر رداً على مقررات املؤمتر السوري العام‪ ،‬الذي‬
‫انعقد في آذار ‪ .1920‬الذي أعلن فيه عن استقالل سوريا‪ ،‬ومبايعة‬
‫فيصل ملكاً لها‪ .‬وألح على رفض االنتداب‪ .‬وعندما سمع الفرنسيون‬
‫والبريطانيون مبقررات هذا املؤمتر اجتمعوا في سان رميو لتوزيع‬
‫االنتدابات في املنطقة العربية على الشكل التالي‪:‬‬

‫‪ - 1‬سوريا ولبنان حتت االنتداب الفرنسي‪.‬‬

‫‪ - 2‬فلسطني والعراق وشرقي األردن حتت االنتداب اإلنكليزي‬


‫مع االلتزام بتنفيذ وعد بلفور بالنسبة لفلسطني‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬االحتالل الفرنسي لسوريا ‪1920‬‬

‫أثارت مقررات سان رميو استيا ًء كبيراً عند العرب السوريني‪،‬‬


‫فهاجت البالد‪ ،‬وقامت املظاهرات وسقطت حكومة الركابي التي‬
‫كانت تهادن الفرنسيني وشكلت حكومة جديدة برئاسة هاشم األتاسي‬
‫التي أعلنت برنامجاً وطنياً‪ ،‬والتي أسندت فيها وزارة الدفاع إلى‬
‫يوسف العظمة‪ ،‬الذي أعلن التجنيد اإلجباري‪ ،‬وشجع الثورات ضد‬
‫القوات الفرنسية املتواجدة في املناطق الغربية‪.‬‬

‫‪440‬‬
‫عزم امللك فيصل السفر إلى أوروبا لعرض موضوع بالده على‬
‫مؤمتر الصلح‪ ،‬إال أن اجلنرال غورو الذي عني قائداً جديداً للجيش‬
‫الفرنسي في سوريا‪ ،‬أعلمه بضرورة البقاء في البالد‪ ،‬عبر رسالة‬
‫متغطرسة بعث بها إليه‪ ،‬ووصلت هذه املطالب على شكل إنذار عرف‬
‫فيما بعد بـ «إنذار غورو» الذي تضمن ما يلي‪:‬‬

‫‪ - 1‬قبول االنتداب الفرنسي على جميع سوريا‪.‬‬

‫‪ - 2‬قبول التعامل بالعملة الورقية التي أصدرتها فرنسا‪.‬‬

‫‪ - 3‬تسليم خط حديد رياق حلب‪.‬‬

‫‪ - 4‬إلغاء التجنيد اإلجباري وتسريح اجليش الوطني‪.‬‬

‫‪ - 5‬معاقبة األش �خ��اص ال��ذي��ن ي�ق��وم��ون ب��أع�م��ال ث��وري��ة ضد‬


‫الفرنسيني‪.‬‬

‫أعطيت احلكومة السورية مهلة محددة لقبول اإلن��ذار‪ ،‬درس‬


‫امل�ل��ك فيصل وحكومته اإلن ��ذار وت�ق��رر ق�ب��ول بعض ش��روط��ه (وقف‬
‫التجنيد وت�س��ري��ح اجل�ي��ش) إال أن الشعب رف��ض رض��وخ احلكومة‬
‫السورية‪ ،‬وأص��در املؤمتر ال�س��وري ق��راراً يقضي بعدم شرعية أية‬
‫حكومة تقبل باسم األمة أي شرط من هذه الشروط‪ .‬وأعلن وزير‬
‫الدفاع يوسف العظمة عن تشكيل اجليش الوطني ملقاومة االحتالل‬
‫وفتح باب التطوع‪.‬‬

‫أمر اجلنرال غورو قواته بالزحف على دمشق متذرعاً بتأخر‬


‫وصول الرد من احلكومة السورية‪ ،‬فكانت مواجهة غير متكافئة مع‬
‫القوات السورية الشعبية املتواضعة بقيادة يوسف العظمة في معركة‬

‫‪441‬‬
‫ميسلون التي استشهد فيها عدد كبير من السوريني في مقدمتهم‬
‫ي��وس��ف العظمة‪ ،‬ودخ��ل الفرنسيون دم�ش��ق وأع�ل��ن إل�غ��اء احلكومة‬
‫السورية وغادر امللك فيصل إلى أوروبا‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬جتزئة سوريا والثورات الوطنية‬

‫الحق الفرنسيون املواطنني األح��رار‪ ،‬وعمدوا إلى كم األفواه‪،‬‬


‫وف��رض الضرائب الباهظة‪ ،‬كما فرضوا اللغة والتاريخ الفرنسيني‬
‫على املناهج التعليمية‪ ،‬كما عمدوا إلى جتزئة البالد إلى دويالت‬
‫منها‪ :‬دمشق‪ ،‬حلب‪ ،‬األسكندرونة‪ ،‬الالذقية‪ ،‬جبل العرب‪ ،‬لبنان الذي‬
‫أعلن اجل�ن��رال غ��ورو قيامه في ‪ 31‬آب ‪ .1920‬وك��ان قد سبق كل‬
‫ذلك فك لواء شرقي األردن عن مرجعه دمشق ليكون حتت االنتداب‬
‫البريطاني‪.‬‬

‫ق ��اوم ال�ش�ع��ب ال �س��وري ال�ت�ج��زئ��ة وال�ت�ق�س�ي�م��ات ب�ك��ل ضراوة‪،‬‬


‫فاضطرت فرنسا إلى إصدار قرار في حزيران ‪ 1922‬بإنشاء دولة‬
‫احتادية تضم دمشق وحلب والالذقية بصالحيات محدودة‪ .‬إال أن‬
‫الشعب لم ينخدع بهذه ال�ق��رارات فقامت ال�ث��ورات في العديد من‬
‫املناطق‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬الثورات الوطنية‬

‫بني عامي ‪ .1921 - 1919‬قاد ث��ورة الالذقية الشيخ صالح‬


‫العلي‪ ،‬حيث تعاون مع احلكم الوطني في دمشق‪ ،‬وهزمت القوات‬
‫الفرنسية ف��ي م�ع��ارك كثيرة واتصلت م��ع ث��ورة إبراهيم هنانو في‬
‫حلب‪ .‬ولم تتمكن فرنسا من القضاء عليها إال بحملة عسكرية كبيرة‬
‫أدت إلى استشهاد عدد كبير من املقاومني‪ .‬أما ثورة إبراهيم هنانو‬
‫ف��ي حلب فقد قامت ف��ي جبل ال��زاوي��ة‪ ،‬وسيطرت على الكثير من‬

‫‪442‬‬
‫املناطق منها إدلب جسر الشغور معرة النعمان‪ ،‬وهزمت الفرنسيني‬
‫في عدة معارك‪ .‬تفرغت لها فرنسا بعد القضاء على ثورة الشيخ‬
‫صالح العلي‪ ،‬فانسحب هنانو إلى حمص ثم جلأ إلى األردن حيث‬
‫سلمه البريطانيون للقوات الفرنسية‪ .‬أما الثورة السورية الكبرى‬
‫التي اندلعت بني ‪ ،1927 - 1925‬فتعتبر من أهم الثورات لشمولها‬
‫ك��ام��ل األراض ��ي ال�س��وري��ة‪ ،‬واس�ت�م��رت ح��وال��ي ‪ 3‬س �ن��وات‪ ،‬اضطرت‬
‫فرنسا خاللها الستدعاء خيرة قوادها لقمع الثورة واحتوائها‪ ،‬كما‬
‫أج�ب��رت ال �ث��ورة فرنسا على تغيير مفوضها ال�س��ام��ي وخطتها في‬
‫معاملة السوريني‪.‬‬

‫ق��اد ه��ذه ال �ث��ورة سلطان ب��اش��ا األط ��رش ف��ي ال �س��وي��داء‪ ،‬وقد‬
‫استطاع األطرش مع الثوار إحلاق خسائر كبيرة في صفوف اجليش‬
‫الفرنسي وخاضوا معهم العديد من املعارك أهمها معركة الكفر‪،‬‬
‫ومعركة املزرعة ومعركة املسيفرة‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬السياسة الفرنسية اجلديدة في سوريا‬

‫اض �ط��رت ف��رن �س��ا إث ��ر ال��ث��ورة ال �س��وري��ة ال �ك �ب��رى إل ��ى تعديل‬
‫س�ي��اس�ت�ه��ا‪ ،‬ف�ع�م��دت إل��ى تغيير م�ن��دوب�ه��ا ال �س��ام��ي‪ ،‬وس �ل��وك طريق‬
‫املفاوضات والوقوف على مطالب الشعب‪ .‬فألف املندوب السامي‬
‫اجل��دي��د حكومة مؤقتة ل�لإش��راف على إج��راء انتخابات اجلمعية‬
‫التشريعية ووضع دستور للبالد‪ ،‬تنبثق عنه حكومة تفاوض االنتداب‬
‫لنيل االستقالل‪ .‬وجنح الوطنيون في هذه االنتخابات بأكثرية ساحقة‬
‫وأطلقوا على أنفسهم اسم «الكتلة الوطنية» ذلك عام ‪ .1928‬وفي‬
‫عام ‪ 1931‬جرت انتخابات جديدة رافقتها أحداث دامية في دمشق‬
‫ومع ذلك فاز الوطنيون بأغلبية ساحقة‪ .‬واجتمع املجلس اجلديد‬
‫في حزيران ‪ 1932‬وأعلن النظام اجلمهوري وانتخب محمد علي‬

‫‪443‬‬
‫العابد أول رئيس للجمهورية‪ .‬وحاول املجلس اجلديد الوصول إلى‬
‫معاهدة صريحة مع فرنسا ينهي فيها االنتداب‪ ،‬إال أن الفرنسيون‬
‫أفشلوا جميع احملاوالت‪ ،‬ثم عطلوا أعمال املجلس وأخضعوا البالد‬
‫للحكم املباشر‪ .‬فحدثت اضطرابات دامية ومظاهرات وإضرابات‬
‫عام ‪ 1936‬التي عمت مختلف املدن السورية واستمرت في العاصمة‬
‫دمشق ملدة ستني يوماً‪ ،‬فشلت احلركة االقتصادية نهائياً‪ ،‬فاضطرت‬
‫فرنسا لتغيير سياستها والقبول بتأليف وفد سوري للمفاوضة بهدف‬
‫الوصول للمعاهدة‪.‬‬

‫تألف الوفد برئاسة هاشم األتاسي ال��ذي سافر إلى باريس‪،‬‬


‫وتوصل بعد عدة مفاوضات إلى عقد مشروع معاهدة عام ‪1936‬‬ ‫ّ‬
‫والتي تضمنت عدة نقاط أهمها‪:‬‬

‫‪ - 1‬تسود بني سوريا وفرنسا عالقة صداقة دائمة وتتشاوران‬


‫في الشؤون اخلارجية‪.‬‬

‫‪ - 2‬تنقل جميع االلتزامات التي أبرمتها فرنسا باسم سوريا‬


‫إلى احلكومة السورية‪.‬‬

‫‪ - 3‬تتعاون الدولتان في احلرب‪.‬‬

‫‪ - 4‬مسؤولية حفظ األمن في سوريا على احلكومة السورية‪.‬‬

‫‪ - 5‬مدة املعاهدة ‪ 25‬سنة تبدأ منذ دخول سوريا في عصبة‬


‫األمم‪.‬‬

‫استقبل الوفد العائد من فرنسا استقباالً حاراً‪ ،‬ودعي الشعب‬


‫النتخابات جديدة جنح الوطنيون بغالبية مقاعدها وانتخب هاشم‬

‫‪444‬‬
‫األتاسي رئيساً للبالد‪ .‬وتألفت حكومة جديدة برئاسة جميل مردم بك‬
‫ملتابعة تنفيذ املعاهدة‪ ،‬إال أن فرنسا عادت لتتلكأ في تنفيذ معاهدتها‬
‫وتقيم العراقيل‪ ،‬إل��ى أن أعلنت عزوفها عن مشروع املعاهدة بعد‬
‫اضطرابات عنيفة فاستقال رئيس اجلمهورية بعد استقالة حكوماته‬
‫املتتالية‪ ،‬وعادت البالد حتت السيطرة املباشرة للفرنسيني‪.‬‬

‫سابع ًا‪ :‬فصل لواء أسكندرون‬

‫األسكندرون منطقة سورية معروفة باسم «ل��واء أسكندرون»‬


‫ضمت إلى تركيا عام ‪ 1938‬وباتت حتمل اسم «محافظة هاتاي»‪،‬‬
‫ويقع هذا اللواء في أقصى الشمال الغربي من سوريا وتبلغ مساحته‬
‫‪ 18‬ألف كلم‪ ،2‬سكنه عام ‪ 1939‬حوالي ‪ 220‬ألف نسمة منهم ‪87‬‬
‫ألف نسمة فقط من األت��راك‪ .‬وقد ظهرت أول إش��ارة حول النزاع‬
‫في مراسالت حسني مكماهون حني أشار مكماهون إلى فصل هذه‬
‫املنطقة زاعماً أن سكانها ليسوا عرباً‪ ،‬وقد رفض الشريف حسني‬
‫هذه االدعاءات إال إنه تنازل عن مرسني وأضنة فقط‪ .‬وعندما عقد‬
‫احللفاء معاهدة الصلح م��ع ال��دول��ة العثمانية ف��ي ‪ 10‬آب ‪1920‬‬
‫(معاهدة سيغر) تنازلت الدولة العثمانية عن منطقتي األسكندرون‬
‫وكيليكيا‪ ،‬لكن هذه املعاهدة أثارت ثائرة بعض األتراك فالتفوا حول‬
‫مصطفى كمال (أت��ات��ورك) ال��ذي ق��اد حركته في شرقي األناضول‬
‫ورف��ض االع �ت��راف مبعاهدة سيغر ووض��ع «ميثاق املجلس الوطني‬
‫الكبير» ال��ذي أعلن مبوجبه إع��ادة تكوين تركيا م��ن جميع أجزاء‬
‫الدولة العثمانية التي تسود فيها غالبية تركية‪.‬‬

‫قام «الكماليون» باستغالل األوضاع الدولية لصاحلهم‪ ،‬فأقنعوا‬


‫السوفيات باالعتراف مبيثاقهم‪ ،‬وع��دم االعتراف مبعاهدة سيفر‪،‬‬
‫كما عقدوا معاهدة مع فرنسا سميت معاهدة أنقرة‪ ،‬قدمت فيها‬

‫‪445‬‬
‫فرنسا لتركيا بعض االمتيازات في ل��واء أسكندرون حيث اعتبرت‬
‫اللغة التركية اللغة الرسمية ذلك عام ‪ ،1921‬وفي ‪ 24‬متوز ‪1923‬‬
‫عقد احللفاء معاهدة الصلح مع احلكومة التركية اجلديدة (معاهدة‬
‫لوزان) التي أقرّت معاهدة انقرة ؛حيث استندت تركيا بهذه املعاهدة‬
‫في مطالبتها فيما بعد بلواء اسكندرون‪ .‬ثم استغلت تركيا انشغال‬
‫فرنسا ب��إخ�م��اد ال �ث��ورة ال�س��وري��ة ال�ك�ب��رى فطالبت بتعديل احلدود‬
‫السورية التركية‪ ،‬فعدلت ملصلحتها‪ ،‬ثم عادت ثانية للمطالبة بتعديل‬
‫احلدود من جديد وكان لها ذلك‪ ،‬ثم قادت تركيا حملة دبلوماسية بهذا‬
‫اخلصوص وجنحت باستصدار قرار من مجلس عصبة األمم يقضي‬
‫بتعيني وسيط خاص للنظر بهذا األمر هو ساندلر ممثل السويد‪ ،‬وجاء‬
‫تقريره مبنح هذا اللواء استقالله التام بشؤونه الداخلية وجعل اللغة‬
‫التركية هي الرسمية وهكذا تقدمت تركيا خطوة جديدة نحو فصل‬
‫اللواء عن سوريا‪ ،‬في هذا الوقت لم يكن بيد السوريني في دمشق‬
‫أي شيء فحكومة سعد الله اجلابري عجزت عن التصدي ملشاريع‬
‫السلخ‪ ،‬لضعفها أمام سلطة االنتداب وانشغالها في املعاهدات مع‬
‫فرنسا بهدف احلصول على االستقالل‪.‬‬

‫ح��اول��ت احلكومة ال�س��وري��ة حسم اخل�لاف م��ع تركيا بتقسيم‬


‫ال�ل��واء بينهما على أن تكون مدينة اسكندرونة في القسم التركي‬
‫ومدينة انطاكية ف��ي القسم ال�س��وري إال أن أت��ات��ورك رف��ض ذلك‪،‬‬
‫وف��ي ‪ 15‬مت��وز ‪ 1938‬اج�ت��از اجل�ي��ش ال�ت��رك��ي ح��دود ال �ل��واء واحتل‬
‫مدن االسكندرونة وبيالن وقرقمان وبقي اجليش الفرنسي في باقي‬
‫املدن‪ .‬ثم حصلت االنتخابات في ظل هذا الوجود فحصل األتراك‬
‫على ‪ 22‬مقعدا والعرب السوريني على ‪ 18‬مقعدا‪ ،‬ثم قامت فرنسا‬
‫في ‪ 23‬حزيران ‪ 1939‬بتسليم تركيا كامل أراضي اللواء ومت ذلك‬
‫فعلياً في ‪ 23‬متوز ‪.1939‬‬

‫‪446‬‬
‫ثامن ًا‪ :‬سوريا أثناء احلرب العاملية الثانية ونيل االستقالل‬

‫خضعت سوريا أثناء هذه احلرب للحكم العسكري الفرنسي‪،‬‬


‫وفي عام ‪ 1940‬أعلنت حكومة فيشي املوالية لألملان مندوباً سامياً‬
‫لها ف��ي س��وري��ا ه��و اجل �ن��رال دان�ت��ز ف��أث��ار ذل��ك البريطانيني حلفاء‬
‫ديغول فعملوا على انتزاع سوريا من أيدي حكومة فيشي ومت ذلك‬
‫ع��ام ‪ .1941‬وعند دخ��ول م�ن��دوب فرنسا احل��رة إل��ى س��وري��ا أعلن‬
‫استقالل لبنان وسوريا وإلغاء االنتداب عنهما‪ ،‬ذلك في ‪ 27‬أيلول‬
‫‪ 1941‬ووقع هذا اإلعالن اجلنرال كاترو والرئيس السوري الشيخ‬
‫تاج الدين احلسني‪.‬‬

‫أجريت انتخابات جديدة وأنتخب شكري القوتلي رئيساً للبالد‬


‫في ‪ 17‬آب ‪ ،1943‬وفارس اخلوري رئيساً للمجلس النيابي‪ ،‬وبعد‬
‫يومني تألفت احلكومة برئاسة سعد الله اجل��اب��ري‪ .‬وعملت هذه‬
‫احلكومة إلنهاء االنتداب فعلياً عن سوريا ولبنان‪ ،‬فكانت النتيجة‬
‫في ‪ 23‬كانون األول ‪ 1943‬حيث عقد االجتماع في دمشق بحضور‬
‫الرئيس السوري شكري القوتلي ورئيس وزراءه سعد الله اجلابري‬
‫ووزي��ر اخلارجية جميل م��ردم بك‪ .‬وعن لبنان رئيس وزراءه رياض‬
‫الصلح وال��وزي��ر سليم تقال وامل �ن��دوب ال�ف��رن�س��ي‪ .‬وق��د مت ف��ي هذا‬
‫االجتماع االتفاق على انتقال الصالحيات إلى الدولتني املستقلتني‬
‫مع حق التشريع واإلدارة اعتباراً من ‪ 1‬كانون الثاني ‪.1944‬‬

‫تاسع ًا‪ :‬سوريا بعد االستقالل ‪1970 - 1945‬‬

‫بدأ رئيس اجلمهورية شكري القوتلي عهد االستقالل‪ ،‬وسط‬


‫أزم��ة اقتصادية خانقة سنة ‪ ،1949‬وكانت أول��ى مهام ه��ذا العهد‬
‫رسم السياسة اخلارجية‪ ،‬وبخاصة املوقف من الدول العربية املجاورة‬

‫‪447‬‬
‫والعالقة مع تركيا‪ ،‬وقد متيزت السنتان السابقتان بانحالل وفساد‬
‫كبيرين في شكليها النيابي واإلداري‪ .‬فالرجال الذين ق��ادوا العمل‬
‫النضالي االستقاللي ال جتربة لهم ف��ي احلكم والعمل احلكومي‪،‬‬
‫ف�ب��دأت اإلض��راب��ات تتوالى‪ ،‬وج��رى تشكيل ع��دة حكومات ف��ي هذه‬
‫املرحلة لتصحيح ال��وض��ع‪ ،‬وك��ان أكبر امتحان ف��ي ه��ذه املرحلة مر‬
‫على حكومة جميل م��ردم بك هو القضية الفلسطينية‪ ،‬فحني أ ُعلن‬
‫قرار األمم املتحدة بتقسيم فلسطني سارت املظاهرات في مختلف‬
‫املدن السورية‪ ،‬فقام مجلس النواب بإقرار قانون خدمة العلم وزيادة‬
‫الضرائب وشراء األسلحة‪ ،‬واستقال كثير من الضباط السوريون كي‬
‫يشاركوا في جيش اإلنقاذ‪ ،‬وبدأت املقاومة التي قادها أديب الشيشكلي‬
‫وأكرم احلوراني مبهاجمة مستوطنات يهودية قرب احلدود مع سوريا‪،‬‬
‫وفي ‪ 16‬أيار أي بعد يومني من إعالن بن غوريون قيام دولة إسرائيل‬
‫صدَّ في وادي األردن‬‫دخل اجليش السوري فلسطني ولكن سرعان ما ُ‬
‫بعد قتال ضار‪ .‬وفي آب ‪ 1948‬تشكلت حكومة جديدة برئاسة جميل‬
‫مردم بك قامت باعتقال ميشال عفلق بتهمة توزيع منشورات تدعو‬
‫إل��ى ح��ل ال�ب��رمل��ان‪ .‬فنشبت بعد ذل��ك أزم��ة سياسية صحبها تدهور‬
‫اقتصادي وحصلت مواجهات دموية فاستقالت احلكومة في أول كانون‬
‫أول ‪ 1948‬وأصبحت سوريا بلداً بال حكومة ويهيمن عليه مواطنون‬
‫ثائرون واقتصاد منهار؛ وقد اخفق معظم السياسيني في تلك الفترة‬
‫بتشكيل حكومة جديدة‪ .‬وفي ‪ 3‬كانون أول ‪ 1948‬أمر قائد اجليش‬
‫حسني الزعيم بالتدخل لوضع حد لالضطرابات الواسعة وأخضع‬
‫الصحافة لرقابة قاسية وجنح خالد العظم بتشكيل حكومة حكمت‬
‫حتت مظلة اجليش حتى أواخر ‪.1949‬‬

‫عاشراً‪ :‬انقالب الزعيم‬

‫في صباح ‪ 30‬آذار ‪ 1949‬قام الزعيم حسني الزعيم بتسلم‬

‫‪448‬‬
‫زمام األمور في سوريا‪ ،‬فعمد في ‪ 3‬نيسان إلى حل املجلس النيابي‬
‫رسمياً وقام في ‪ 7‬نيسان بإعالن إقالة كل من شكري القوتلي وخالد‬
‫العظم ووضعهما في سجن املزة‪.‬‬

‫شكل الزعيم في ‪ 17‬نيسان ‪ 1949‬حكومة وترأسها بنفسه‪ ،‬ثم‬


‫انتخب رئيساً للجمهورية باإلجماع؛ ثم شكلت حكومة رأسها محسن‬
‫البرازي واتخذ الزعيم لنفسه لقب املشير‪.‬‬

‫ح��دث في عهده العديد من املشاكل والقضايا احلساسة مع‬


‫بعض الدول العربية‪ ،‬لعل أهمها قضية أنطون سعادة رئيس احلزب‬
‫ال�ق��وم��ي ال �س��وري االج�ت�م��اع��ي ال��ذي ف��ر م��ن لبنان واستقبل الجئاً‬
‫سياسياً في س��وري��ا‪ ،‬حيث أك��رم الزعيم في وف��ادت��ه ولكنه سرعان‬
‫ما ق��ام في أول مت��وز بتسليمه إل��ى السلطات اللبنانية حيث أعدم‬
‫بعد محاكمة صورية‪ .‬فكانت ردة الفعل السورية شديدة ومستنكرة‬
‫م��ا أض�ع��ف شعبيته‪ ،‬إض��اف��ة إل��ى سياسته ال�ع��ام��ة امل��وال�ي��ة للغرب‬
‫وإصالحاته العلمانية‪.‬‬

‫حادي عشر‪ :‬انقالب احلناوي‬

‫مت وضع حد للزعيم حني أطاح به خصومه العسكريني في ‪13‬‬


‫آب ‪ 1949‬بقيادة سامي احلناوي ومحسن البرازي‪ ،‬وبعد يومني على‬
‫االنقالب سلم احلناوي السلطة رسمياً إلى هاشم األتاسي‪ ،‬وأعلن‬
‫احلناوي أن مهمته قد انتهت‪.‬‬

‫حُ ��دد موعد االنتخابات ف��ي ‪ 15‬تشرين الثاني ‪ 1949‬وكان‬


‫من أب��رز املرشحني في ح��زب البعث‪ :‬ميشال عفلق وص�لاح الدين‬
‫البيطار وشكلت رابطة العلماء اجلبهة االشتراكية اإلسالمية برئاسة‬
‫مصطفى السباعي‪.‬‬

‫‪449‬‬
‫قبيل هذه االنتخابات برز موضوع االحتاد مع العراق‪ ،‬وعادت‬
‫مصر والسعودية لتمارسان ضغطاً معارضاً‪ ،‬وكان احلناوي أقرب إلى‬
‫اجلهات التي حتبذ هذا االحتاد‪ .‬وكان أمام املعادين لالحتاد بديل‬
‫واحد تشكيل حتالف معارض له‪ ،‬وكان العقيد أديب الشيشكلي قائد‬
‫اللواء األول املتمركز في درعا قائداً لهذه العناصر وأكرم احلوراني‬
‫ف��ي حلقة ال��وص��ل وحت��رك الشيشكلي ف��ي ‪ 19‬ك��ان��ون األول ‪1949‬‬
‫واحتجز اللواء سامي احلناوي وأعلم الرئيس األتاسي باألمر وطلب‬
‫منه تشكيل حكومة جديدة‪ ،‬وعندما فشل بذلك‪ ،‬قام خالد العظم‬
‫بتشكيلها‪ ،‬وفي ‪ 7‬نيسان أدى الرئيس األتاسي القسم الدستوري‪.‬‬

‫ثاني عشر‪ :‬عهد هاشم األتاسي‬

‫تغيرت عدة حكومات في ذلك العهد‪ ،‬فبعد حكومة خالد العظم‬


‫ال‬
‫قام ناظم القدسي بتشكيل حكومتني متتاليتني‪ ،‬وكان اجليش ممث ً‬
‫بوزير الدفاع فوزي سلو‪ ،‬ثم عاد خالد العظم وشكل وزارة جديدة‬
‫عام ‪ 1951‬في شهر آذار‪ ،‬وفي شهر متوز قدَّ م استقالته ليقوم حسن‬
‫احلكيم بتشكيل حكومة جديدة وكان الزعيم سلو وزي��راً للدفاع ما‬
‫يعني موافقة الشيشكلي على هذه احلكومة‪ ،‬إال أن اخلالف سرعان‬
‫ما عاد إلى هذه احلكومة حول نفوذ اجليش‪ .‬فقامت أزمة جديدة‬
‫أطاحت بوزارة احلكيم في ‪ 10‬تشرين أول ‪ 1951‬وبني ‪ 10‬تشرين‬
‫الثاني و ‪ 28‬تشرين الثاني كلف الرئيس األتاسي على التوالي كل من‬
‫رشدي الكيخيا‪ ،‬ناظم القدسي‪ ،‬زكي اخلطيب‪ ،‬معروف الدواليبي‪،‬‬
‫وسعيد حيدر‪ ،‬عبد الباقي نظام الدين بتشكيل ال��وزارة وجميعهم‬
‫اعتذر بعد يوم أو يومني‪ .‬إلى أن اقنع األتاسي الدواليبي بتشكيل‬
‫احلكومة وجنح في ذلك‪.‬‬

‫‪450‬‬
‫ثالث عشر‪ :‬انقالب الشيشكلي‬

‫ف��ي ال �ي��وم ال �ت��ال��ي ح �ص��ل االن� �ق�ل�اب األب��ي��ض ب��رئ��اس��ة أديب‬


‫ال�ش�ي�ش�ك�ل��ي‪ ،‬ف��اع�ت�ق��ل ال � ��وزراء وق���دم األت ��اس ��ي اس �ت �ق��ال �ت��ه فتولى‬
‫الشيشكلي كافة أمور الدولة وحلَّ البرملان وأصدر أمراً بتولي فوزي‬
‫سلو السلطتني التشريعية والتنفيذية‪ ،‬وحظرت األح��زاب ما عدا‬
‫البعث واالشتراكي إال أنهما في ‪ 6‬نيسان لقيا املصير نفسه‪.‬‬

‫وفي حزيران ‪ 1952‬شكَّل الشيشكلي حكومة سلو الذي تسلم‬


‫السلطتني التنفيذية والتشريعية ول��م حت��وِ أي أسماء المعة‪ ،‬ومنذ‬
‫أواخر صيف ‪ 1952‬بدأت تظهر عالمات متلمل وسخط في اجليش‪.‬‬
‫ففي ‪ 28‬كانون األول كشف عن مؤامرة فأحيل عدد من الضباط على‬
‫التقاعد‪ .‬منهم رئيس األركان السابق أنور بنود‪ ،‬كما اعتقل العديد‬
‫من املدنيني أهمهم محمود وشوكت وأكرم احلوراني وميشال عفلق‬
‫وص�لاح الدين البيطار‪ .‬وف��ي ع��ام ‪ 1953‬ثبت الشيشكلي رئاسته‬
‫باستفتاء شعبي‪ ،‬ث��م أعلن ع��ن عفو ع��ام ع��ن السجناء السياسيني‬
‫وتخلى عن منصبه كرئيس لألركان لشوكت شقير‪ .‬وفي أيلول ‪1953‬‬
‫رفع الشيشكلي احلظر املفروض على األحزاب مستثنياً الشيوعيني‬
‫واندمج حزبا عفلق (البعث) واحلوراني (االشتراكي) ليصبحا «حزب‬
‫البعث العربي االشتراكي» وج��اءت نتائج االنتخاب ملصلحة حركة‬
‫التحرير العربي التابعة للشيشكلي‪.‬‬

‫رابع عشر‪ :‬عودة األتاسي‬

‫ع� َّم ح��راك الطلبة أنحاء سوريا‪ ،‬كما ب��دأت حالة من التمرد‬
‫العسكري في حلب في ‪ 25‬شباط ‪ ،1954‬ما لبثت أن انضمت لها‬
‫القيادات العسكرية في باقي املدن السورية‪ ،‬فتباحث شوكت شقير‬

‫‪451‬‬
‫مع الرئيس الشيشكلي‪ ،‬الذي قدَّ م استقالته وهرب إلى بيروت ومنها‬
‫إل��ى السعودية‪ .‬ث��م أعلن بعد ذل��ك شقير أن األس�ب��اب التي منعت‬
‫استمرار احلكم الشرعي ومنعت هاشم األتاسي من متابعة ممارسة‬
‫صالحياته قد زالت‪.‬‬

‫وبعد مشاورات أجراها األتاسي‪ ،‬شكَّل سعيد العزبي في ‪19‬‬


‫حزيران عام ‪ 1954‬وزارة محايدة‪ ،‬ثم عينَّ الرئيس األتاسي موعداً‬
‫إلجراء االنتخابات في ‪ 24‬أيلول‪ ،‬وفي ‪ 5‬متوز عاد القوتلي بعد ‪5‬‬
‫سنوات من املنفي‪ ،‬ولقيَّ ترحيباً واس�ع�اً‪ ،‬وج��رت االنتخابات ففاز‬
‫املستقلون بـ ‪ 29‬مقعدا من بينهم خالد العظم‪ ،‬فيما فاز حزب البعث‬
‫بـ ‪ 17‬مقعداً‪.‬‬

‫كلف فارس اخلوري بتشكيل حكومة من مهامها مواجهة التوتر‬


‫بني دمشق والقاهرة‪ ،‬نتيجة احللف الذي أقامه الغرب في املنطقة‪،‬‬
‫إضافة إلى اختيار جماعة اإلخوان املسلمني دمشق مقراً لها‪ ،‬وهي‬
‫على ع��داء مع مجلس قيادة الثورة املصرية‪ ،‬ثم كان إع�لان العراق‬
‫في كانون الثاني ‪ 1955‬عقد ميثاق مع تركيا‪ .،‬واتخذت احلكومة‬
‫السورية موقفاً رافضاً لالنضمام الى حلف بغداد‪ ،‬بعده قدَّ م اخلوري‬
‫استقالته‪.‬‬

‫بعد ذلك بأيام شكل العسلي وزارته متضامناً مع خالد العظم‪،‬‬


‫وك ��ان ال�ب�ي��ان ال� ��وزاري ت�ص��ري�ح�اً ب��احل�ي��اد ورف �ض �اً م �ج��دداً للحلف‬
‫العراقي ‪ -‬التركي ودف��اع�اً شديداً عن ميثاق األم��ن القومي الذي‬
‫ترعاه القاهرة‪ ،‬بعد ذلك انضمت سوريا إلى هذا امليثاق مع مصر‬
‫والسعودية‪.‬‬

‫ثم جاءت قضية اغتيال عدنان املالكي‪ ،‬معاون رئيس األركان‬

‫‪452‬‬
‫العامة للجيش‪ ،‬املقاوم العنيد حللف بغداد لكنه اغتيل عبر احلزب‬
‫القومي ال �س��وري االجتماعي ف��ي ‪ 22‬نيسان ‪ ،1955‬م��ا أدى إلى‬
‫تصفية هذا احلزب وتعميق التقارب مع مصر‪.‬‬

‫خامس عشر‪ :‬عهد شكري القوتلي‬

‫في ‪ 18‬آب ‪ 1955‬انتخب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية‪،‬‬


‫وش �ك��ل س�ع�ي��د ال �ع��زب��ي ف��ي ‪ 23‬آب ح�ك��وم�ت��ه اجل ��دي ��دة‪ ،‬واكتسب‬
‫االندفاع نحو اليسار زخماً جديداً قطباه األساسيان حزبا البعث‬
‫والشيوعي‪.‬‬

‫وفي أواخر ‪ 1955‬انشق حزب البعث بني جناحيه (االشتراكي‬


‫العربي أك��رم احل��وران��ي والبعث االش�ت��راك��ي ميشال عفلق وصالح‬
‫الدين البيطار) حول احللف الذي شكله جناح احلوراني مع زعيم‬
‫الشيوعيني خالد بكداش‪ ،‬وكذلك حول دعوة جناح عفلق احلكومة‬
‫بضرورة عدم الذهاب بعيداً في معاداة العراق‪.‬‬

‫وفي ‪ 15‬حزيران ‪ 1956‬شكل صبري العسلي وزارته‪ ،‬وأعلنت‬


‫في بيانها أنها ستعمل لتحقيق ال��وح��دة مع مصر واألردن والدول‬
‫العربية املتحررة األخرى‪ .‬في ذلك الوقت‪ ،‬حصلت أزمة السويس في‬
‫مصر وحصل العدوان األثيم الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل‬
‫على م�ص��ر‪ ،‬فقامت ق��وات س��وري��ة ب��أم��ر م��ن عبد احلميد السراج‬
‫بتدمير عدد من محطات الضخ البترولية اخلاصة بنفط العراق‪.‬‬

‫وأعلن عن كشف مؤامرة لقلب نظام احلكم بدعم من العراق‪،‬‬


‫فأوقف أفراد املجموعة بينهم ‪ 8‬نواب‪ ،‬وفي هذا اجلو احملموم أعاد‬
‫العسلي تشكيل حكومة جديدة‪ ،‬بهدف التصدي للمؤامرات واالقتراب‬
‫أكثر من مشروع الوحدة مع مصر‪.‬‬

‫‪453‬‬
‫طرح وفد سوري املوضوع عند زيارته ملصر ومقابلة عبد الناصر‬
‫أوائ��ل آذار ‪ 1957‬؛ك��ان رد الرئيس ف��ات��راً‪ ،‬بسبب طبيعة املشاكل‬
‫السائدة في سوريا‪ ،‬ثم حتوّل اخلالف الداخلي في سوريا إلى خالف‬
‫دول ��ي‪ .‬ف�ق��د أع�ل�ن��ت دم�ش��ق ف��ي ‪ 23‬آب ‪ 1957‬ع��ن ك�ش��ف مؤامرة‬
‫حاكتها أميركا لإلطاحة باحلكومة السورية‪ ،‬فقامت حملة تطهير في‬
‫صفوف اجليش‪ ،‬ثم أعلنت مصر في ‪ 9‬أيلول ‪ 1957‬أنها متنح سوريا‬
‫دعمها غير املشروط‪ .‬وبعد يومني عقد في القاهرة فجأة اجتماع‬
‫قمة عسكري س��وري مصري برئاسة الرئيس عبد الناصر‪ ،‬انتهى‬
‫بوضع جيش الدولتني بإمرة القيادة املشتركة وبقيادة الفريق عبد‬
‫احلكيم عامر‪ ،‬ووصلت إلى سوريا وحدة من اجليش املصري نزلت‬
‫في الالذقية‪ ،‬ما أدى إلى انفجار شعبي حماسي مطالب بالوحدة‬
‫السورية ‪ -‬املصرية‪.‬‬

‫سادس عشر‪ :‬الوحدة بني سورية ومصر (‪ 1‬شباط ‪1958‬‬


‫أيلول ‪)1961‬‬

‫جاءت اخلطوة األول��ى في ‪ 9‬كانون األول ‪ ،1957‬حني عرض‬


‫ميشال عفلق الفكرة ح��ول وض��ع مشروع قانون بهدف قيام احتاد‬
‫فيدرالي مع مصر‪ ،‬حيث كان حزب البعث متخوفاً من ازدياد نفوذ‬
‫احلزب الشيوعي داخل سوريا‪ ،‬فوجد البعثيون في الوحدة مع مصر‬
‫املخرج الوحيد من هذا املأزق‪ .‬فعقيدة البعث الوحدوية واالقتصادية‬
‫تتفق وعقيدة االحتاد االشتراكي العربي في مصر‪ ،‬وعلى حني غرة‪،‬‬
‫وص��ل إل��ى م�ص��ر ف��ي ‪ 21‬ك��ان��ون ال�ث��ان��ي ‪ 1958‬وف��د م��ن الضباط‬
‫السوريني وانضم إليه صالح الدين البيطار وزير اخلارجية للطلب‬
‫من الرئيس عبد الناصر إقامة احتاد فوري بني البلدين باعتبار أن‬
‫الشيوعيني على وشك استالم مقدرات البالد‪.‬‬

‫‪454‬‬
‫بادئ األمر‪ ،‬وافق الشيوعيون على مشروع الوحدة لكن سرعان‬
‫ما رفض خالد بكداش التوقيع على إعالن الوحدة‪ ،‬كما رفض حل‬
‫احلزب وغادر سوريا إلى االحتاد السوفيتي مقاطعاً جلسة انتخاب‬
‫الرئيس جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية العربية املتحدة‪.‬‬

‫سابع عشر‪ :‬عودة االنقالبات‬

‫في اليوم التالي لالنقالب االنفصالي‪ ،‬أعلنت في سوريا حكومة‬


‫جديدة برئاسة مأمون الكزبري‪ ،‬حيث حُ دد موعد لالنتخابات‪ ،‬وفاز‬
‫فيها غالبية األحزاب والنواب الذين كانوا في مجلس ‪ ،1958‬واجته‬
‫احلكم من جديد باجتاه العراق فبدأت املعاهدات واالتفاقات تعقد‬
‫بني البلدين‪.‬‬

‫بدا اللقاء بني رئيسي الدولتني‪ ،‬وكأنه يوشك أن يفضي إلى‬


‫ال��وح��دة بينهما‪ .‬ول�ك��ن س��رع��ان م��ا غ��اص��ت س��وري��ا ف��ي االنقالبات‬
‫واالنقالبات املضادة من جديد خاصة في صفوف ضباط اجليش‪.‬‬
‫بدأت األزمة بقيام العقيد النحالوي‪ ،‬الذي حطم الوحدة بالقبض‬
‫على احلكومة وإيداعها السجن مع رئيسها القدسي‪ ،‬وقد أضاف‬
‫هذا االستباق باقي الضباط والناصريني‪ ،‬فقاموا بتجميع بعضهم‬
‫ض��ده ومت��ردوا عليه واقتحموا قلعة حلب‪ ،‬وانضم إليهم فيما بعد‬
‫حافظ األسد وصالح جديد ومحمد عمران‪ .‬وبدأت هذه اجلماعات‬
‫تخطط لالنقالب‪ ،‬وفي ‪ 8‬آذار ‪ 1963‬استطاع الضباط البعثيون من‬
‫السيطرة على احلكم وإنشاء «املجلس الوطني لقيادة الثورة» الذي‬
‫راح يبحث في توحيد اجلبهة مع العراق الذي كان البعث فيها قد‬
‫سبق البعث في سوريا في االنقالب الذي أطاح بحكم عبد الكرمي‬
‫قاسم‪ ،‬وإلج��راء مباحثات مع عبد الناصر إلقامة وحدة ثالثية بني‬
‫سوريا ومصر والعراق‪.‬‬

‫‪455‬‬
‫أعلنت ال��وف��ود املتفاوضة ف��ي ‪ 16‬نيسان ‪ 1963‬ع��ن «ميثاق‬
‫الوحدة الثالثية» إال إن هذا امليثاق لم يعد الثقة ولم يوقف الصراع‬
‫ب�ين البعث وال�ق��وى الناصرية ف��ي س��وري��ا وال �ع��راق‪ .‬وبفشل امليثاق‬
‫اندلعت االضطرابات من جديد واضطر البعث من جديد إلجراء‬
‫عمليات إقصاء لكل من خالفهم ال��رأي‪ ،‬فتم منح املجلس الوطني‬
‫لقيادة الثورة السلطة التنفيذية والعسكرية‪.‬‬

‫وفي أعقاب هذه األزم��ة ومجيء حكومة تهدئة رأسها صالح‬


‫البيطار‪ ،‬توّلت احلكم وزارة برئاسة أمني احلافظ التي عملت على‬
‫تأميم موارد البالد النفطية واملعدنية‪.‬‬

‫انتقلت هذه الصراعات إلى داخل حزب البعث ال سيما بعد أن‬
‫احتل العسكريون مواقع مهمة ومؤثرة داخل احلزب‪ ،‬وساد تشكيل‬
‫القيادات وال��وزارات جو من التنافس احلاد على السلطة‪ ،‬وانفجر‬
‫ال �ص��راع احل��زب��ي العلني ف��ي ح��رك��ة حزبية عسكرية ض��د القيادة‬
‫القومية‪ ،‬سُ ميت حركة ‪ 23‬شباط ‪ 1966‬حيث تسلم مقاليد األمور‬
‫في سوريا إثرها كبار ضباط احلزب‪ ،‬فعني نور الدين األتاسي رئيساً‬
‫للجمهورية ويوسف زعني رئيساً للوزراء‪ ،‬وصالح جديد أميناً قطرياً‬
‫مساعداًحلزب البعث‪ ،‬ونشطت احلكومة في إجناز بعض املشاريع‬
‫الكبرى‪ :‬مثل سد الفرات والنزاع مع شركة ‪.abc‬‬

‫ثامن عشر‪ :‬عدوان ‪ 1967‬وخسارة اجلوالن‬

‫ب��دأت إس��رائ�ي��ل ق�ب��ل ش�ه��ري��ن م��ن ان ��دالع احل��رب سلسلة من‬


‫االنتهاكات التفاقية الهدنة مع سوريا‪ ،‬جنم عنها اشتباكات وتهديدات‬
‫إسرائيلية‪ ،‬وفي ‪ 13‬أيار علمت القيادة املصرية عن طريق املخابرات‬
‫السوفيتية بوجود حشود إسرائيلية على احلدود مع سوريا‪ ،‬فبدأت‬

‫‪456‬‬
‫القوات املصرية عملية حشد واسعة لقواتها وعلنية لتؤكد أن مصر‬
‫ستقف مع سوريا إذا ما اعتدت عليها إسرائيل‪.‬‬

‫وفي صباح اخلامس من حزيران ‪ 1967‬بدأت إسرائيل بهجوم‬


‫جوي على القواعد اجلوية املصرية واستطاعت بفترة قليلة القضاء‬
‫على القوات اجلوية‪ ،‬وسيطرت بالتالي على اجلو األمر الذي سهّل‬
‫لقواتها البرية باالندفاع بقوة في سيناء والضفة الغربية واجلوالن‪.‬‬
‫ولم يتوقف القتال إال في ‪ 10‬حزيران ‪ 1967‬بعد ما احتلت إسرائيل‬
‫الضفة الغربية وسيناء واجلوالن‪.‬‬

‫تاسع عشر‪ :‬سيطرة األسد على الوضع الداخلي‬

‫ظل الرئيس حافظ األسد محجوباً بظل محمد عمران وأمني‬


‫احلافظ وصالح جديد‪ ،‬وبعد حرب ‪ ،1967‬عقد حافظ األسد العزم‬
‫على بناء قاعدة شخصية له في القوات املسلحة‪ .‬ثم اشتدت اخلالفات‬
‫بينه وبني زمالئه في ‪ 1968‬حول األمور السياسية واحلزبية‪ ،‬وكذلك‬
‫املوقف من الثورة الفلسطينيني‪ ،‬وسرعان ما أصبح اخلالف املتزايد‬
‫بني األسد وصالح جديد مدار احلديث في اجليش واحلزب‪ ،‬وخطوة‬
‫بعد خطوة راح الرئيس األسد يبعد مناصري جديد من مراكز النفوذ‬
‫املختلفة فطرد رئيس األرك��ان أحمد سويداني ف��ي شباط ‪1986‬‬
‫وعني مصطفى طالس املقرب منه‪ ،‬واستمر األسد في إحكام قبضته‬
‫على اجليش‪ ،‬أما في احلزب فقد رفض املؤمتران القطري والقومي‬
‫أكثر طروحات األسد‪ ،‬لكنه استطاع إزاحة اثنني من خصومه‪ ،‬رئيس‬
‫ال��وزراء يوسف زعني ووزي��ر اخلارجية إبراهيم ماخوس‪ .‬وبانتحار‬
‫عبد الكرمي اجلندي في ‪ 1‬آذار ‪ 1969‬مدير مكتب األمن القومي في‬
‫احلزب‪ ،‬املسيطر على جهاز األمن واالستخبارات في الدولة والسند‬
‫الرئيسي لصالح جديد‪ ،‬تغيّر ميزان القوة بشكل كبير لصالح األسد‬

‫‪457‬‬
‫وشقيقه رفعت الذي كان ذراعه األمين في النزاعات الداخلية‪.‬‬

‫عشرون‪ :‬تدخل سوريا في أيلول األسود ‪1970‬‬

‫قبل انفجار األزمة في األردن‪ ،‬كان األسد قد أصبح سيد سوريا‬


‫األول‪ ،‬ولم يقم بنزاع مع صالح جديد حول التدخل السوري لدعم‬
‫الفدائيني‪ .‬فعبرت القوات السورية احل��دود األردنية في ‪ 18‬أيلول‬
‫وسيطرت على مدينة اربد‪ ،‬وكان األسد يدير هذه العمليات شخصياً‪،‬‬
‫وف��ي ‪ 22‬أي �ل��ول أم��ر احل�س�ين ال �ل��واء امل ��درع امل �ع��زز ب��ال��دع��م اجلوي‬
‫باالشتباك مع الدبابات السورية‪ ،‬وبعد ظهر اليوم نفسه انسحبت‬
‫الوحدات السورية عائدة إلى سوريا‪ ،‬وكان امللك حسني قبل يومني‬
‫ق��د طلب املساعدة م��ن األمريكيني‪ ،‬عندها قامت دب��اب��ات احلسني‬
‫وطائراته باالشتباك مع السوريني في ‪ 22‬أيلول‪ ،‬فأدرك األسد جدية‬
‫املوقف ولم يكن لديه النية االنخراط في معركة غير متكافئة‪.‬‬

‫واحد وعشرون‪ :‬احلركة التصحيحية واإلمساك بالسلطة‬


‫(‪)2000 - 1971‬‬

‫بعد أسبوع من مغادرة دبابات سوريا األردن‪ ،‬رحل الرئيس جمال‬


‫عبد الناصر‪ .‬وبعد شهر أي في ‪ 30‬تشرين األول ‪ 1970‬دعا صالح‬
‫جديد إلى مؤمتر استثنائي للقيادة القومية‪ ،‬وكانت أول��ى قرارات‬
‫املؤمتر‪ ،‬أمر وزير الدفاع حافظ األس��د‪ ،‬بأن يتوقف عن إج��راء أي‬
‫مناقالت في اجليش طيلة فترة انعقاد املؤمتر‪ ،‬ثم اتبعتها بقرارات‬
‫ج��ردت األس��د وزميله مصطفى طالس من مناصبهما القيادية في‬
‫اجليش واحلكومة‪ ،‬إال أن األسد كان قد اتخذ احتياطاته ونشر قواته‬
‫ح��ول قاعة امل��ؤمت��ر وعندما انتهى امل��ؤمت��ر ف��ي ‪ 12‬تشرين الثاني‪،‬‬
‫اعتقل األسد العديد من خصومه‪ ،‬فزج بصالح جديد ويوسف زعني‬

‫‪458‬‬
‫ونور الدين األتاسي بالسجن وهرب وزير اخلارجية إبراهيم ماخوس‬
‫إل��ى اجل��زائ��ر‪ ،‬وأط �ل��ق ال��رئ�ي��س األس ��د ع�ل��ى ه��ذه العملية احلركة‬
‫ا لتصحيحية ‪.‬‬

‫بدأ الرئيس األس��د بإتباع سياسة جديدة‪ ،‬فعمل على تعديل‬


‫اخلطاب السياسي الذي اعتاده السوريون‪ .‬فتخلى عن حرب الطبقات‬
‫وبدأ بتوسيع قاعدته الشعبية وفرغ إلى املصاحلة الوطنية‪ .‬وفي ‪22‬‬
‫شباط ‪ 1971‬متتع بصالحيات كرئيس اجلمهورية وفي ‪ 12‬آذار أدَّى‬
‫استفتاء شعبي إلى تثبيته كرئيس للبالد ملدة سبعة أعوام‪.‬‬

‫اثنان وعشرون‪ :‬حرب تشرين األول ‪1973‬‬

‫رفضت سوريا قرار مجلس األمن الدولي رقم ‪ 242‬باعتباره رمزا‬


‫تصفية القضية الفلسطينية‪ .‬ووضعت القيادة السورية تسليح اجليش‬
‫وتقويته في ص��دارة أولوياتها‪ .‬وتعددت اللقاءات بني الرئيس حافظ‬
‫األسد والرئيس املصري أنور السادات لتحديد موعد نهائي لبدء احلرب‪،‬‬
‫واتفقا على أن تكون ساعة الصفر في الساعة الثانية والدقيقة اخلامسة‬
‫بعد ظهر يوم السبت في ‪ 6‬تشرين األول ‪ .1973‬وفي التاريخ احملدد‬
‫اجتاح املصريون والسوريون حواجز الدفاع اإلسرائيلية على جبهتي‬
‫سيناء واجلوالن في واحدة من أبرز حاالت العبور في تاريخ احلروب‪ ،‬إال‬
‫أن األمور تغيّرت في األيام التالية‪ ،‬فغيّرت مصر من خطتها مع سوريا‪،‬‬
‫فقامت إسرائيل باستفراد سوريا في اجلوالن‪ ،‬فأعادت الوضع إلى ما‬
‫كان عليه وحاولت التغلغل إلى العمق السوري لوال تدخل اجليوش العربية‬
‫(العراق واألردن) وتشدد املوقف السوفيتي في إيقاف احلرب‪.‬‬

‫ثالث وعشرون‪ :‬سوريا واحلرب اللبنانية‬

‫بطلب من الرئيس اللبناني سليمان فرجنية‪ ،‬تدخلت القوات‬

‫‪459‬‬
‫السورية في لبنان في ‪ 13‬أيار ‪ 1976‬لوقف االقتتال الداخلي بني‬
‫األط��راف اللبنانية املتنازعة وك��ذل��ك ال�ق��وات الفلسطينية‪ .‬إال أن‬
‫األوض��اع ب��دأت تتأزم بشكل متالحق بني األط��راف اللبنانية فيما‬
‫بينهما م��ن ج�ه��ة‪ ،‬وك��ذل��ك ف��ي اجل �ن��وب م��ع االح �ت�لال اإلسرائيلي‪،‬‬
‫ف �ت��ذرع��ت إس��رائ �ي��ل مب �ح��اول��ة اغ �ت �ي��ال س�ف�ي��ره��ا ف��ي ل �ن��دن شلومو‬
‫آرغوف‪ ،‬وبررت اجتياحها لبيروت عام ‪ 1982‬بالقضاء على املقاومة‬
‫الفلسطينية‪ ،‬وكانت سوريا ضمن هذا النزاع فوقعت عدة معارك بني‬
‫الطرفني في البقاع الغربي واألوس��ط واستطاعت إسرائيل تدمير‬
‫ب�ط��اري��ات ص��واري��خ «س��ام» ال�س��وري��ة ف��ي عملية مباغتة‪ .‬وف��ي هذه‬
‫توصل إلى حل سلمي‬ ‫األثناء كان الرئيس املصري أنور السادات قد ّ‬
‫م��ع إس��رائ�ي��ل‪ ،‬فأبلغ الرئيس األس��د ف��ي زي��ارة خاطفة‪ ،‬نيته زيارة‬
‫إسرائيل‪ ،‬وق��د ح��اول الرئيس األس��د ثني ال�س��ادات عن عزمه‪ ،‬إال‬
‫إنه فشل في ذلك‪ .‬وقام السادات بزيارة مفاجئة لتل أبيب في ‪20‬‬
‫تشرين الثاني ‪.1977‬‬

‫وفي ‪ 26‬آذار ‪ 1979‬وقّعت مصر اتفاقاً للسالم مع اسرائيل‬


‫برعاية الواليات املتحدة األمريكية في كامب دايفيد‪ ،‬واستطاعت‬
‫إس��رائ�ي��ل وال��والي��ات امل�ت�ح��دة حتييد أك�ب��ر وأق ��وى دول��ة ع��رب�ي��ة في‬
‫الصراع العربي – اإلسرائيلي‪.‬‬

‫أما في لبنان‪ ،‬وبعد اجتياح بيروت عام ‪ 1982‬عملت إسرائيل‬


‫على إقامة صلح منفرد أيضاً مع لبنان عبر رئيسه املنتخب أمني‪،‬‬
‫فكان اتفاق ‪ 17‬أيار وقد عملت القوى الوطنية اللبنانية وبدعم من‬
‫سوريا على إسقاطه‪ .‬وم��ن ثم القيام بعمليات فدائية جريئة ضد‬
‫القوات اإلسرائيلية أجبرتها على االنسحاب من بيروت‪ ،‬ومن بعض‬
‫املناطق األخرى‪.‬‬

‫‪460‬‬
‫أربع وعشرون‪ :‬الوضع الداخلي‬

‫سار الوضع داخل سوريا بسرعة نحو االنفجار‪ ،‬فحادثة مدرسة‬


‫الضباط في حلب ‪ 16‬حزيران ‪ 1979‬التي أودت بحياة عدد كبير‬
‫م��ن الضباط منهم علويون وك��ان ق��د سبقها ع��دة عمليات اغتيال‬
‫لشخصيات علوية‪ ،‬فاضطر الرئيس األسد إلى مواجهة تلك املشاكل‬
‫بحزم شديد‪ ،‬وأوكل هذه املهمة إلى شقيقه األصغر رفعت‪ .‬وجاءت‬
‫املعركة احلاسمة في حماه أوائ��ل شباط ‪ ،1982‬حيث استطاعت‬
‫القوات احلكومية ضبط الوضع وإع��ادة األمن‪ ،‬وإلقاء القبض على‬
‫جميع األخوان املسلمني‪.‬‬

‫إال أن بروز نشاط رفعت األسد مكّنه من أن يصبح على رأس قوة‬
‫عسكرية وحزبية وسياسية منافسة للرئيس حافظ األسد‪ .‬ووصلت‬
‫املواجهة إلى حد كبير‪ ،‬بحيث قام كل منهما بتوزيع قواته في دمشق‬
‫استعداداً للمعركة الفاصلة لوال تدارك الرئيس األسد للموقف في‬
‫اللحظة األخيرة واستطاع بحنكته املعهودة ومن موقع الرئيس واألخ‬
‫األكبر‪ ،‬أن يعيد الوضع إلى طبيعته وانتهى األمر برفعت منفياً في‬
‫ب��اري��س منذ ع��ام ‪ .1986‬وف��ي ‪ 10‬شباط ‪ 1986‬أعيد م��ن جديد‬
‫انتخاب حافظ األسد رئيساً للجمهورية لوالية ثالثة على التوالي‪،‬‬
‫وأول��ى الرئيس في ه��ذه ال��والي��ة اهتماماً كبيراً لالقتصاد‪ ،‬فأطلق‬
‫سياسة االنفتاح االقتصادي نوعاً ما‪ .‬وسار في املشاريع االقتصادية‬
‫الكبرى املريحة للبلد‪.‬‬

‫خمس وعشرون‪ :‬سوريا وحرب اخلليج الثانية‬

‫اجتاحت اجليوش العراقية الكويت في آب ‪ .1990‬فعقدت قمة‬


‫عربية طارئة في القاهرة وانقسمت البالد العربية بني مؤيد ومحايد‬

‫‪461‬‬
‫ومعارض للعراق‪ .‬أدانت سوريا الغزو العراقي للكويت وقررت إرسال‬
‫ق��وات سورية رمزية إل��ى السعودية‪ ،‬متهمة بغداد بتقدمي الذريعة‬
‫لألمريكيني إلرس��ال قواتهم إل��ى املنطقة‪ ،‬وسمحت بنفس الوقت‬
‫للمنظمات الفلسطينية ف��ي دمشق أن تشن هجوماً إعالمياً على‬
‫الوجود الغربي في اخلليج العربي‪ .‬وعمل الرئيس األسد على حل‬
‫األزمة سلمياً فطلب من الرئيس العراقي االنصياع لقرارات األمم‬
‫املتحدة القاضية بسحب قواته من الكويت لتجنيب األم��ة العربية‬
‫مخاطر عظيمة‪ .‬وف��ي ‪ 17‬ك��ان��ون ال�ث��ان��ي ‪ 1991‬أطلقت الغارات‬
‫اجل��وي��ة األول��ى على ال�ع��راق وبعد خمسة أي��ام م��ن القصف اجلوي‬
‫املتواصل بدأت اجليوش العراقية باالنسحاب من الكويت‪.‬‬

‫ست وعشرون‪ :‬تسوية الوضع النهائي في لبنان‬

‫ت��ر ّك��ز االهتمام ف��ي لبنان على امل��وع��د امل�ق��رر النتخاب رئيس‬
‫جديد خلفا للرئيس أمني اجلميل‪ ،‬وتعقد املوقف ولم جتر انتخابات‬
‫الرئاسة وانتهت والي��ة اجلميل إل��ى حكومتني مختلفتني أحداهما‬
‫برئاسة سليم احلص والثانية برئاسة العماد ميشال عون الذي حكم‬
‫منطقة محاصرة من كل اجلهات مساحتها ال تتعدى ‪ 1500‬كلم‪،2‬‬
‫فأطلق في ‪ 14‬آذار ‪ 1989‬حرب التحرير ضد السوريني فتشكلت‬
‫جلنة عربية خاصة حلل األزمة اللبنانية متثلت بامللك فهد بن عبد‬
‫العزيز وامللك احلسن الثاني والرئيس اجلزائري الشاذلي بن جديد‬
‫التي عملت على ات�ف��اق خ��اص جمعت عليه ال�ن��واب اللبنانيني في‬
‫الطائف سمي «اتفاق الطائف» في ‪ 22‬تشرين األول ‪.1989‬‬

‫ساندت دمشق مؤيدي الطائف‪ ،‬ورفض اجلنرال ميشال عون‬


‫االتفاق واعتبر الرئيس اللبناني الياس الهراوي (الذي انتخب رئيساً‬
‫للجمهورية عقب اغتيال الرئيس رينيه م�ع��وض) غير ش��رع��ي‪ ،‬ثم‬

‫‪462‬‬
‫قام عون بحرب اإللغاء (ه��دف إلغـــاء امليليشيات املسلحة للقوات‬
‫اللبنانية في مناطقه)‪ ،‬فطلب الرئيس الهراوي من الرئيس األسد‬
‫التدخل لوضع حد للوضع املتدهور‪ ،‬فقامت سوريا مع اجليش اللبناني‬
‫الشرعي بقيادة اجلنرال إميل حلود في ‪ 13‬تشرين الثاني بدخول‬
‫املناطق التي يسيطر عليها ميشال ع��ون‪ ،‬وبعد س��اع��ات على بدء‬
‫املعارك أعلن عون االستسالم وجلأ إلى السفارة الفرنسية‪ .‬وهكذا‬
‫بسطت الشرعية اللبنانية سيطرتها على كامل األراض��ي اللبنانية‬
‫وأقرّت حل جميع امليليشات وسلمت أسلحتها إلى اجليش اللبناني‪،‬‬
‫ومت��ت ه��ذه العملية برعاية رئيس األرك��ان ال�س��وري العماد حكمت‬
‫الشهابي‪ ،‬ثم و ّق��ع الرئيسان األس��د وال �ه��راوي في ‪ 22‬أي��ار ‪1991‬‬
‫معاهدة أخوة وتعاون وتنسيق‪.‬‬

‫سبع وعشرون‪ :‬سوريا ومؤمتر السالم الدولي‬

‫ثمة عدة أسباب سياسية خارجية دعت القيادة السورية لتغيير‬


‫سياستها إلى السالم مع إسرائيل من بينها‪:‬‬

‫‪ - 1‬عودة احلوار بشكل قوي بني االحتاد السوفيتي وإسرائيل‬


‫ال ��ذي أدى إل ��ى ه �ج��رة ك�ث�ي�ف��ة ل�ل�ي�ه��ود ال �ص��وف �ي��ات إلى‬
‫إسرائيل‪.‬‬

‫‪ - 2‬كثافة االتصاالت بني العرب واإلسرائيليني وخاصة بني‬


‫الفلسطينيني واإلسرائيليني‪.‬‬

‫‪ - 3‬نقض االحت��اد السوفيتي لكل تعهداته السابقة لسوريا‪.‬‬


‫إضافة إلى الضغط املتواصل من الواليات املتحدة على‬
‫سوريا‪.‬‬

‫‪463‬‬
‫عقد على هذا األس��اس مؤمترا دوليا للسالم في ‪ 30‬تشرين‬
‫األول ‪ 1991‬في مدريد برعاية أمريكية سوفيتية وحضور كل من‬
‫سوريا واألردن وفلسطني ولبنان وإسرائيل‪ .‬ومن هذا املؤمتر انطلقت‬
‫املفاوضات الثنائية واملتعددة بني العرب واإلسرائيليني‪.‬‬

‫ثماني وعشرون‪ :‬املفاوضات السورية اإلسرائيلية‬

‫جلس السوريون واإلسرائيليون على طاولة املفاوضات وكانت‬


‫صعبة ف��ي ب��ادئ األم��ر بسبب تعنّت حكومة الليكود اإلسرائيلية‬
‫برئاسة اسحق شامير في قراراتها ببناء املستوطنات‪ ،‬إال إن جناح‬
‫ح��زب العمل ف��ي االنتخابات اإلسرائيلية وم�ج��يء راب�ين إل��ى رأس‬
‫احلكومة اإلسرائيلية غيّر األوض��اع‪ ،‬فقد ق� َّرر جتميد املستوطنات‬
‫ف��دارت اجل��ول��ة السادسة م��ن امل�ف��اوض��ات ب�ين ‪ 24‬آب و ‪ 25‬أيلول‬
‫‪ 1992‬في جو خف فيه التوتر‪.‬‬

‫أصبحت دمشق في تلك الفترة مركز لقاء العرب املفاوضني‬


‫إلسرائيل على أساس الصف الواحد‪ .‬إال أن املفاوضات السرية بني‬
‫منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل لم تكن قد توقفت بل وصلت‬
‫إلى اتفاق بينهما سمي «اتفاق أوسلو» مكان املفاوضات‪.‬‬

‫وقّع الطرفان الفلسطيني واإلسرائيلي على االتفاق رسمياً في‬


‫‪ 13‬أيلول ‪ 1993‬في واشنطن‪ ،‬وأعلنت فيه إسرائيل عن استعدادها‬
‫إع��ادة غ��زة وأريحا للفلسطينيني بهدف إقامة حكم ذات��ي مستقل‪،‬‬
‫على أن تتبع الحقاً بتنازالت أخرى‪ .‬ولم يوافق السوريون واللبنانيون‬
‫واألردنيون على هذا االتفاق إال أن مصر ودول اخلليج رحبت فيه‪.‬‬

‫في ‪ 16‬كانون الثاني ‪ 1994‬التقى الرئيسان األمريكي بيل‬


‫كلنتون والسوري حافظ األسد في جنيف‪ ،‬وبدا على الرئيس األسد‬

‫‪464‬‬
‫بعض االط�م�ئ�ن��ان بعد ال�ل�ق��اء‪ ،‬وأش��رف��ت امل �ف��اوض��ات الثنائية على‬
‫االستئناف‪ ،‬إال أن وقوع مجزرة اخلليل في ‪ 25‬شباط ‪ 1994‬على‬
‫يد مستوطن يهودي‪ ،‬أدى إلى انسحاب الوفود السورية واللبنانية‬
‫واألردنية‪ ،‬واستمر الرئيس ياسر عرفات في مفاوضاته إلى أن وقع‬
‫اتفاقاً جديداً في القاهرة في ‪ 4‬أيار ‪ 1994‬حول نقل السلطة إلى‬
‫غزة وأريحا‪ .‬وفي ‪ 11‬متوز ‪ 1994‬غادر ياسر عرفات تونس مركز‬
‫منظمة التحرير بعد ‪ 11‬سنة من بقائه فيها‪ ،‬وتوجّ ه إلى غزة ليقيم‬
‫فيها «السلطة الفلسطينية»‪.‬‬

‫في ‪ 25‬متوز ‪ 1994‬أعلن عن اتفاق «وادي عربة» بني األردن‬


‫وإس��رائ �ي��ل‪ ،‬وت��ال�ي�اً وج�ه��ت ض��رب��ة أخ��رى للرفض ال �س��وري ولوحدة‬
‫املفاوضات العربية‪ .‬ثم عملت سوريا على تعزيز موقفها مع الدول‬
‫العربية‪ ،‬فعقدت قمة ثالثية بني الرئيس األس��د والرئيس املصري‬
‫مبارك وامللك السعودي فهد في اإلسكندرية في ‪ 29 - 28‬كانون‬
‫األول ‪ 1994‬ص��در عنها م��واق��ف إيجابية‪ .‬إذ أخ��ذت دول اخلليج‬
‫واألردن تخفف من اندفاعها باجتاه إسرائيل وأبدت بعض الصمود‬
‫جتاه ضغوطات واشنطن وأعلنت دعمها ملوقف دمشق‪.‬‬

‫بعد ذلك اعترف رئيس الوزراء اإلسرائيلي‪ ،‬شميون بيريز الذي‬


‫جاء عقب اغتيال اسحق رابني على يد أحد املتطرفني اليهود في ‪4‬‬
‫تشرين الثاني ‪ 1995‬بالدور األساسي لسوريا في املنطقة‪ ،‬ومتنى‬
‫العودة إلى املفاوضات الثنائية دون شروط مسبقة‪.‬‬

‫عاد الوفدان إلى واشنطن في ‪ 28‬كانون األول ‪ 1995‬إلجراء‬


‫ال‬
‫سلسلة من احمل��ادث��ات السرية وكانت ه��ذه املفاوضات تسير قلي ً‬
‫وتتعثر كثيراً بسبب اإلصرار السوري على ضرورة االنسحاب أوالً من‬
‫اجلوالن وجنوب لبنان ومن ثم الدخول في مناقشة باقي املواضيع‪.‬‬

‫‪465‬‬
‫توقفت املفاوضات بعد انسحاب اجلانب اإلسرائيلي بسبب‬
‫ثالث عمليات استشهادية نفذتها حركة املقاومة اإلسالمية حماس‪،‬‬
‫فقررت إسرائيل مقاطعة املفاوضات واتهمت األس��د بدعم جبهة‬
‫الرفض في دمشق‪ ،‬وك��ان ال��رد السوري أن مثل هذه العمليات هي‬
‫نتيجة طبيعية لالحتالل في فلسطني وجنوب لبنان‪.‬‬

‫عقدت في مصر قمة دولية ملواجهة ما أسمته أعماال إرهابية‬


‫في ‪ 13‬آذار ‪ 1996‬لم تقدم شيئاً‪ ،‬فقام بيريز بشن حملة عسكرية‬
‫على لبنان «عناقيد الغضب» في نيسان ‪ 1996‬بحجة ضرب «حزب‬
‫الله» إال إنه لم يستثن منطقة في لبنان من غاراته اجلوية‪ ،‬إال أن‬
‫هذه احلملة باءت بالفشل الذريع خاصة بعد املجزرة التي قام بها‬
‫اإلسرائيليون في بلدة «قانا»‪ ،‬وقامت سوريا ولبنان باستغالل هذه‬
‫األحداث ملصلحتهما إذ استطاعا تشريع عمل املقاومة في اجلنوب‬
‫مع بعض الشروط الهامشية وذلك فيما عرف بتفاهم نيسان‪.‬‬

‫خسر بيريز االنتخابات وح��ل محله بنيامني نتنياهو رئيساً‬


‫للحكومة عن حزب الليكود الذي نسف كل ما كانت احلكومة السابقة‬
‫قد تعهدت به حول السالم‪ .‬فأعلن عن رفض إسرائيل القبول بدولة‬
‫فلسطينية والتفاوض حول القدس‪ ،‬كما لم يعد وارداً االنسحاب من‬
‫اجلوالن‪ .‬وتزامن ذلك مع زيادة عملية االستيطان في اجلوالن وباقي‬
‫األراضي احملتلة‪.‬‬

‫وف��ي م��واج �ه��ة التصعيد اإلس��رائ �ي �ل��ي‪ ،‬دع��ت س��وري��ا البلدان‬


‫العربية لعقد قمة طارئة هي األولى بعد حرب اخلليج الثانية‪ ،‬والتي‬
‫عقدت في القاهرة في ‪ 22‬حزيران ‪ ،1996‬تقرر فيها الدعوة إلى‬
‫استئناف املفاوضات على قاعدة املؤمتر الدولي في مدريد‪ ،‬وأكدت‬

‫‪466‬‬
‫على ضرورة التمييز بني اإلرهاب وأعمال املقاومة(((‪.‬‬

‫تسع وعشرون‪ :‬الوالية الرابعة لألسد‬

‫في شباط ‪ 1998‬مت جتديد انتخاب األسد لوالية رابعة على‬


‫التوالي بأغلبية ساحقة بلغت ‪ ،٪99.9‬وع��ادت املساعي األمريكية‬
‫من جديد إلحياء املفاوضات السورية اإلسرائيلية‪ .‬وك��ان الرئيس‬
‫األسد يؤكد التزامه عملية السالم في ظل القرارات الدولية التي‬
‫تدعو إسرائيل إلى االنسحاب من األراضي العربية التي احتلتها في‬
‫‪ 5‬حزيران ‪.1967‬‬

‫وم��ع م�ج��يء اي �ه��ود ب ��اراك ع�ل��ى رأس احل�ك��وم��ة اإلسرائيلية‪،‬‬


‫وتشجيعه لعملية ال �س�لام م��ع س��وري��ا‪ ،‬اس�ت�ط��اع��ت واش�ن�ط��ن جمع‬
‫ب��اراك مع ف��اروق الشرع وزير اخلارجية السورية في واشنطن‪ ،‬إال‬
‫أن مفاوضات الطرفني وصلت إل��ى طريق م�س��دود‪ ،‬بسبب التعنّت‬
‫اإلسرائيلي بعدم االنسحاب من اجلوالن السوري احملتل‪ .‬ثم رفعت‬
‫اإلدارة األمريكية يدها عن موضوع املفاوضات عقب قمة جنيف‬
‫الفاشلة بني الرئيس األس��د وبيل كلينتون رئيس ال��والي��ات املتحدة‬
‫األمريكية‪ ،‬عندما أص َّر الرئيس السوري على عدم التنازل عن أي‬
‫بقعة محتلة من األراضي السورية‪.‬‬
‫يذكر أن الرئيس حافظ األس��د مني بنكسة كبيرة بخسارته البنه البكر باسل في‬ ‫((( ‬
‫‪ 1994/1/12‬في حادث سير على طريق مطار دمشق الدولي‪ ،‬ومعلوم أن الرئيس حافظ‬
‫األسد كان يعد ابنه باسل ألخذ دور مهم في السياسة السورية خاصة أنه كان على صلة‬
‫بالعديد من القضايا السياسية احمللية واخلارجية وكان برتبة رائد ركن‪ ،‬وبوفاة باسل‬
‫انتقل االهتمام إلى شقيقه األصغر الدكتور بشار األسد الذي باشر تدريباته بالتحاقه‬
‫باملدرسة احلربية وتدرجه بالرتب العسكرية أضف إلى ذلك أنه قد أسندت إليه بعض‬
‫القضايا السياسية على الساحة الداخلية‪ ،‬وعلى الساحة اخلارجية عبر زياراته للعديد‬
‫من الدول العربية وعالقاته مع العديد من املسؤولني العرب‪.‬‬

‫‪467‬‬
‫ثالثون‪ :‬وفاة الرئيس حافظ األسد‬

‫في ‪ 10‬حزيران ‪ 2000‬أذيع نبأ وفاة الرئيس السوري حافظ‬


‫األس��د ع��ن عمر يناهز تسع وس�ت�ين سنة بعد حكم ط��ال ‪ 30‬سنة‬
‫في رئاسة اجلمهورية‪ ،‬متيّز فيها باحلكمة واحلنكة وعدم التوقيع‬
‫على اتفاق للسالم مع اجلانب اإلسرائيلي وعدم التفريط باحلقوق‬
‫العربية‪ ،‬وقد شارك في تشييع األسد حوالي مليون شخص تقدمهم‬
‫كبار الرؤساء في العالم العربي واإلسالمي‪ .‬وشهدت جنازة األسد‬
‫مبايعة م��ن الشعب ال �س��وري لنجله ال��دك�ت��ور ب�ش��ار ح��اف��ظ األسد‪،‬‬
‫فاختار الشعب السوري فيما يشبه اإلجماع الدكتور بشار األسد‬
‫رئيساً منتخباً للجمهورية بعد حصوله على رئ��اس��ة ح��زب البعث‬
‫احلاكم وترشيح مجلس الشعب وكافة القوى السياسية الوطنية في‬
‫املجلس‪.‬‬

‫‪468‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫مصر‬

‫القسم األول‬
‫مصر من ‪ 1936‬حتى ثورة متوز ‪ /‬يوليو ‪1952‬‬

‫شهدت مصر في الفترة من توقيع معاهدة ‪ 1936‬إل��ى قيام‬


‫ثورة ‪ 1952‬عدة أحداث عجلت بقيام الثورة ‪ -‬نذكر منها‪:‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬فساد أداة احلكم‬

‫فقد تعددت احلكومات التي حكمت مصر في هذه الفترة – مما‬


‫أدى إلى اضطراب األمور وترتب على قصر فترة حكم تلك الوزارات‬
‫عجزها عن إجناز أي مشروع إصالحي هام‪ .‬ففي ‪ 30‬كانون األول‪/‬‬
‫ديسمبر ‪ 1937‬أ ُقيلت ال ��وزارة ال��وف��د وش� ّك��ل محمد محمود باشا‬
‫وزارة جديدة وح ّل البرملان‪ ،‬وأجريت انتخابات جديدة أسفرت عن‬

‫‪469‬‬
‫برملان يؤيد الوزارة اجلديدة‪ ،‬وقد أصبحت الوزارة والبرملان لعبة في‬
‫يد السراي تسقط الوزارة التي ال تسير حسب هواها وحتل البرملان‬
‫القائم لتجري انتخابات لبرملان جديد يؤيد الوزارة‪.‬‬

‫وتوالت الوزارات فألف على ماهر باشا الوزارة‪ ،‬ثم خلفه حسن‬
‫صبري‪ ،‬وخلفته في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر ‪ 1940‬وزارة حسني سري‬
‫االئتالفية‪ ،‬وملا رأت إنكلترا أن ظروف احلرب العاملية الثانية (‪1939‬‬
‫‪ )1945 -‬تتطلب وجود وزارة تستند إلى أغلبية شعبية طلبت من امللك‬
‫فاروق في شباط‪/‬فبراير ‪ 1942‬تكليف الوفد بتشكيل الوزارة‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬تدخل إنكلترا في شؤون مصر‬

‫طلب ممثل إنكلترا في مصر (اللورد كليرن) من امللك تكليف‬


‫الوفد بتشكيل الوزارة‪ ،‬وملا لم يجد استجابة فورية من القصر قدم‬
‫إنذاراً للملك بأنه إن لم يد ُع النحاس باشا لتأليف احلكومة ‪ -‬فإن‬
‫امللك فاروق يتحمل ما يترتب على ذلك من نتائج وحاصرت الدبابات‬
‫البريطانية قصر عابدين ‪ -‬وقبل امللك اإلنذار وكلف النحاس باشا‬
‫بتشكيل ال��وزارة‪ .‬وكان طبيعاً أن تقدم هذه ال��وزارة إلنكلترا كل ما‬
‫حتتاجه من تسهيالت لقواتها في احلرب فسخّ رت كل موارد البالد‬
‫وإمكانياتها خلدمة قوات احللفاء‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬معاهدة صدقي بيفن (أكتوبر ‪)1946‬‬

‫بعد انتهاء احل��رب ل��م جت��د إنكلترا ض��رورة لبقاء ال��وف��د في‬
‫احلكم‪ ،‬وانتهز امللك الفرصة فأقال وزارة النحاس‪ ،‬وألّف النقراشي‬
‫ال‬
‫باشا رئيس حزب السعديني الوزارة التي لم تستمر في احلكم طوي ً‬
‫فقد سقطت وخلفتها في ‪ 17‬شباط ‪ /‬فبراير ‪ 1946‬وزارة برئاسة‬
‫صدقي باشا‪.‬‬

‫‪470‬‬
‫دخل صدقي في مفاوضات مع اإلنكليز أسفرت عن مشروع‬
‫معاهدة أطلق عليها اسم (معاهدة صدقي ‪ -‬بيفن) وقعت في ‪25‬‬
‫تشرين األول ‪ /‬أكتوبر ‪ 1946‬باحلروف األولى من الطرفني ‪ -‬لكن‬
‫البرملان املصري لم يقبلها ورأى أنها تربط مصر عسكرياً ببريطانيا‬
‫إلى األبد‪ ،‬وال تحُ قق كل آمال الشعب املصري فسقطت وزارة صدقي‬
‫وشكل النقراشي للمرة الثانية وزارة جديدة في ‪ 9‬كانون األول ‪/‬‬
‫ديسمبر ‪.1946‬‬

‫راب �ع � ًا‪ :‬ع��رض قضية مصر على مجلس األم��ن (‪ 10‬آب‪/‬‬


‫أغسطس ‪)1947‬‬

‫ملا لم تجُ ِ د اجلهود املبذولة حلل القضية املصرية بالتفاوض مع‬


‫إنكلترا ‪ -‬تقدم محمود فهمي النقراشي باشا رئيس مجلس الوزراء‬
‫بعريضة إلى مجلس األمن طالباً حسب املادتني ‪ 37 ،35‬من ميثاق‬
‫املجلس مبا يلي‪:‬‬

‫‪ - 1‬جالء القوات البريطانية عن مصر والسودان جال ًء تاماً‬


‫وناجز اً‪.‬‬

‫‪ - 2‬إنهاء النظام اإلداري بالسودان‪.‬‬

‫نظر املجلس طلب احل�ك��وم��ة امل�ص��ري��ة ف��ي ‪ 5‬آب‪/‬أغسطس‪،‬‬


‫لكن املجلس لم يُنصف مصر ودعا املجلس الدولتني للتفاوض حل ّل‬
‫خالفاتهما‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬حرب فلسطني ‪1948‬‬

‫دخلت مصر مع الدول العربية األخرى هذه احلرب ‪ -‬دون أن‬

‫‪471‬‬
‫ال وحاولت مصر احلصول على‬‫تكون قد استعدت لها استعداداً كام ً‬
‫السالح بأي ثمن ومن أي جهة‪ ،‬وأدى ذلك لتسليح فرق من اجليش‬
‫بأسلحة فاسدة‪.‬‬

‫وأثبتت احلمالت العسكرية التي جرت أن ال��دول العربية لم‬


‫تُنسق بني جيوشها وقياداتها وانتهت احلرب بنكسة عسكرية‪ ،‬وشعر‬
‫اجليش املصري باملرارة‪ ،‬فقد أظهرت املعارك مدى االستهانة بأرواح‬
‫اجلنود ومبصير البالد ومستقبلها‪.‬‬

‫وفي كانون األول‪/‬ديسمبر ‪ 1948‬أ ُغتيل النقراشي باشا وكان‬


‫قد أصدر قبل اغتياله أمراً بحل (اإلخوان املسلمني) فوجهت إليهم‬
‫أيدي االتهام في اغتياله‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬الوزارة الوفدية ‪ 1950‬وإلغاء معاهدة ‪1936‬‬

‫بعد اغتيال النقراشي تولى إبراهيم عبد الهادي رئاسة الوزارة‪،‬‬


‫وخلفتها في متوز‪/‬يوليو ‪ 1949‬وزارة برئاسة حسني س��ري باشا‪،‬‬
‫وانتهى األمر بأن عهد للنحاس الباشا في كانون الثاني‪/‬يناير ‪1950‬‬
‫بتشكيل الوزارة‪.‬‬

‫وإزاء إصرار إنكلترا على عدم اإلذعان للمطالب املصرية أعلنت‬


‫الوزارة الوفدية في ‪ 8‬تشرين الثاني‪/‬أكتوبر ‪ 1951‬من جانبها إلغاء‬
‫معاهدة ‪ ،1936‬وأحكام اتفاقيتي ‪ 19‬كانون الثاني يناير اخلاصتني‬
‫بالسودان‪ .‬لم تعترف إنكلترا بهذا اإلج��راء ال��ذي اتخذ من جانب‬
‫واحد‪ ،‬وفرض اإلنكليز احلكم العسكري على منطقة القناة‪ ،‬واقترفت‬
‫قوات االحتالل أعماالً وحشية ضد السكان في هذه املنطقة‪.‬‬

‫وظهر أن احلكومة املصرية لم تتخذ أي إجراء ملواجهة املوقف‪،‬‬


‫واكتفت بتقدمي االحتجاجات للحكومة اإلنكليزية وسحبت السفير‬

‫‪472‬‬
‫املصري من لندن‪ ،‬كما تقدمت بالشكوى لألمم املتحدة وبالطبع لم‬
‫تكترث إنكلترا بذلك‪.‬‬

‫سابع ًا‪ :‬مذبحة اإلسماعيلية (‪ 25‬كانون الثاني‪/‬يناير‬


‫‪)1952‬‬

‫لم تعترف بريطانيا بإلغاء معاهدة ‪ ،1936‬وأدى ذلك الصطدام‬


‫بني املصريني والقوات البريطانية املرابطة في منطقة القنال‪ .‬وفي‬
‫‪ 25‬ك��ان��ون الثاني‪/‬يناير ‪ 1952‬ه��ددت ال�ق��وات اإلنكليزية املدينة‬
‫وهاجمت مبنى احملافظة‪ ،‬وص��درت األوام��ر من احلكومة املصرية‬
‫ل �ق��وات ال �ش��رط��ة ب��احمل��اف�ظ��ة امل�س�ل�ح��ة ب��ال �ب �ن��ادق ل�ل�ت�ص��دي للقوات‬
‫اإلنكليزية املهاجمة مبدافعها‪ ،‬كما اشترك األهالي مع قوات البوليس‬
‫في التصدي للقوات املهاجمة وترتب على ذلك استشهاد خمسني من‬
‫رجال البوليس وعدد من األهالي‪.‬‬

‫ثامن ًا‪ :‬حريق القاهرة (‪ 26‬كانون الثاني‪/‬يناير ‪)1952‬‬

‫�ب حريق‬ ‫ت�ت��ال��ت ح ��وادث االض �ط��راب��ات‪ ،‬وف��ي ه��ذه األث �ن��اء ش� َّ‬
‫القاهرة ال��ذي أت��ى على مناطق متعددة منها األوب��را والعديد من‬
‫دور السينما الكبرى واحمل�لات خاصة اململوكة لألجانب‪ ،‬وأعلنت‬
‫احلكومة األحكام العرفية ونزول قوات من اجليش للشوارع‪ ،‬واستغلَّ‬
‫القصر هذه الفرصة إلقالة الوزارة الوفدية‪ .‬وتعاقب عل حكم مصر‬
‫في خالل الستة شهور األول��ى من عام ‪ 1952‬أربع وزارات وهكذا‬
‫ك��ان ال ب��دَّ من ح��دوث تغيير سريع وج��ذري يُعيد األم��ور لنصابها‪،‬‬
‫ويؤمن الشعب على مصاحله وحقوقه‪ .‬وفي صبيحة ‪ 13‬متوز ‪ /‬يوليو‬
‫سنة ‪ 1952‬حترك الضباط األح��رار لوضع ح ّد لهذه االضطرابات‬
‫والقالقل التي كانت تُخيم على جو مصر‪.‬‬

‫‪473‬‬
‫القسم الثاني‬
‫ثورة ‪1952‬‬

‫اعتمد القصر على اجليش لضرب أي حركة شعبية حتاول‬


‫إص�لاح الفساد ال��ذي استشرى في البالد‪ ،‬لكن الطليعة من رجال‬
‫اجليش ك��ان��وا ف��ي مقدمة ال��ذي��ن يُ��درك��ون م��ا عانت منه ال�ب�لاد من‬
‫فساد‪ ،‬وقد حفزت حرب فلسطني ‪ ،1948‬وما حدث فيها من متاجرة‬
‫بأرواح رجال اجليش هم جماعة (الضباط األحرار) للقيام بالواجب‬
‫امللقى على عاتقهم لتخليص البالد مما تعانيه‪.‬‬

‫وكانت انتخابات مجلس إدارة نادي الضباط فرصة إلظهار عدم‬


‫خضوع الضباط األحرار إلرادة امللك وحاشيته‪ ،‬فقد فشلت صنائع‬
‫امللك في االنتخابات وكانت أول مواجهة علنية بني السراي والضباط‬
‫األحرار ممَّ ا دعا القصر ألن يسعى للقضاء على املطالبني بإصالح‬
‫شؤون اجليش وقيادته ليمكنه أن يقود حركة النضال الوطني‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬حالة مصر قبل الثورة‬

‫كانت األوضاع في مصر ‪ -‬قبل الثورة ‪ -‬قد وصلت إلى درجة‬


‫ال حتتمل السكوت فكما جاء في امليثاق الوطني الذي قدمه جمال‬
‫عبد الناصر في ‪ 21‬آذار ‪ /‬مارس ‪ 1962‬إلى املؤمتر الوطني للقوى‬
‫الشعبية‪:‬‬

‫‪ - 1‬احتالل األجانب أرض مصر‬

‫‪474‬‬
‫‪ - 2‬احتكار اإلقطاع كل خيرات البالد‬

‫‪ - 3‬فساد احلكم‪:‬‬

‫‪ - 4‬إضعاف اجليش‬

‫‪ - 5‬الدميقراطية الزائفة‬

‫ثاني ًا‪ :‬ما حققته الثورة‬

‫‪ - 1‬في املجال السياسي‬

‫أ ‪ -‬اتفاقية السودان ‪1953‬‬

‫كان على الثورة أن تواجه املشكالت امللحة مع بريطانيا ‪ -‬وهي‬


‫مشكلة اجلالء ومشكلة السودان‪.‬‬

‫ورأى رجال الثورة أن عالج السودان كفيل بح ّل مشكلة اجلالء‬


‫‪ -‬إذ أن بريطانيا اتخذت من عدم حل مسألة السودان ذريعة لتأخير‬
‫اجلالء عن مصر‪ ،‬وملا كانت بريطانيا تتستر خلف حق السودانيني‬
‫ف��ي ت �ق��ري��ر م�ص�ي��ره��م ب��أن�ف�س�ه��م ل�ت�ج��د م��ن ذل ��ك حُ �ج � ًة الستمرار‬
‫سيطرتها على دف��ة احلكم واإلدارة‪ ،‬وتشويه ص��ورة املصريني في‬
‫أعني السودانيني‪ ،‬لذلك رأت حكومة الثورة أن تنتهج سياسة جديدة‬
‫تفضح أساليب إنكلترا وأغراضها فقدمت في نوفمبر سنة ‪1952‬‬
‫للحكومة البريطانية مذكرة بشأن احلكم الذاتي للسودان وتقرير‬
‫مصيره تضمنت‪:‬‬

‫‪ )1‬إن احلكومة املصرية تؤمن بحق السودانيني في تقرير‬


‫مصيرهم‪.‬‬

‫‪475‬‬
‫‪ )2‬للوصول لهذا ال�ه��دف ال ب��دَّ م��ن متكني السودانيني من‬
‫إبداء رأيهم في جو محايد‪.‬‬

‫‪ )3‬ال بدَّ من فترة انتقالية لتصفية الوضع القائم بالسودان‬


‫(اإلدارة الثانية)‪.‬‬

‫‪ )4‬تُنتخب جمعية تأسيسية لتقرير مصير ال �س��ودان إمَّا‬


‫بارتباط مع مصر على ص��ورة م��ا‪ ،‬أو االستقالل التام‪،‬‬
‫وأن تُعد دستوراً يتمشى مع القرار الذي يُتخذ‪.‬‬

‫مت االت �ف��اق ب�ين احلكومتني‬


‫وف��ي ‪ 12‬ش�ب��اط‪/‬ف�ب��راي��ر ‪َّ 1953‬‬
‫املصرية واإلنكليزية على اخلطوات الضرورية للحكم الذاتي‪ ،‬وتقرير‬
‫املصير ل�ل�س��ودان‪ ،‬وحسب ه��ذا االت�ف��اق غ��ادرت ال�ق��وات اإلنكليزية‬
‫واملصرية السودان ‪ -‬في ‪ 9‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر ‪ .1953‬وفي ‪19‬‬
‫كانون األول‪/‬ديسمبر ‪ 1955‬أصدر مجلس النواب السوداني قراراً‬
‫يقضي بأن األمر ال يدعو إلى إجراء استفتاء آخر بشأن شكل احلكم‬
‫القادم في السودان‪ ،‬وأنه يعتبر جالء اجليوش األجنبية عن أرض‬
‫السودان ‪ -‬استقالالً له‪ .‬وأعلنت حكومة الثورة في مصر اعترافها‬
‫بالسودان دول��ة مستقلة ذات سيادة‪ ،‬كما اعترفت إنكلترا بالوضع‬
‫اجلديد‪.‬‬

‫ب ‪ -‬إعالن اجلمهورية (‪ 18‬حزيران ‪ /‬يونيو ‪)1953‬‬

‫أعلن مجلس قيادة الثورة في ‪ 18‬حزيران‪/‬يونيو ‪ 1953‬قيام‬


‫اجلمهورية املصرية ‪ -‬وف��ي ع��ام ‪ 16( 1956‬ك��ان��ون الثاني‪/‬يناير‬
‫‪ )1956‬أعلن الرئيس جمال عبد الناصر الدستور اجلديد متضمناً‬
‫‪ -‬مبادئ املجتمع اجلديد موضحاً ح��دود كل سلطة من السلطات‬
‫الثالثة ‪ -‬التشريعية‪ ،‬والتنفيذية‪ ،‬والقضائية ‪ -‬وملا قامت الوحدة بني‬

‫‪476‬‬
‫مصر وسوريا أعلن في (‪ 5‬شباط‪/‬فبراير ‪ )1958‬الدستور املؤقت‬
‫للجمهورية العربية املتحدة‪ .‬لكن بعد نكسة االنفصال صدر في (‪27‬‬
‫أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪ )1962‬إعالن دستور جديد‪.‬‬

‫ج ‪ -‬اجلالء عن مصر‬

‫تعددت املفاوضات بني مصر وإنكلترا ‪ -‬بعد احل��رب العاملية‬


‫األولى حل ّل مشكلة وجود القوات البريطانية في مصر‪ ،‬وصدر تصريح‬
‫‪ 28‬شباط ‪ /‬فبراير ‪ 1922‬اعترفت فيه إنكلترا باستقالل مصر‬
‫‪ -‬لكنها حتفظت على أرب��ع مسائل جعلت هذا االستقالل صورياً‪،‬‬
‫وفي ‪ 1936‬عُقدت معاهدة التحالف بني مصر وإنكلترا ومبوجبها‬
‫متركزت القوات اإلنكليزية في منطقة القناة‪ ،‬ولم تنجح املفاوضات‬
‫املتعددة بعد ذلك للوصول التفاق بشأن جالء هذه القوات نهائياً عن‬
‫مصر‪.‬‬

‫وبعد ح ّل مشكلة السودان التي كانت في مقدمة العقبات التي‬


‫حالت دون الوصول التفاق بني الطرفني ‪ -‬وبعد قيام ثورة ‪ 23‬متوز‬
‫‪ /‬يوليو ‪ - 1952‬وجدت إنكلترا نفسها مضطرة ألن تستجيب لطلب‬
‫اجلانب املصري الذي كان يُصر على اجلالء غير املشروط للقوات‬
‫البريطانية عن أرض مصر‪ ،‬وعلى عدم دخول مصر في أحالف أو‬
‫منظمات دفاعية‪ .‬وانتهى األم��ر بتوقيع اتفاقية اجل�لاء بني مصر‬
‫وبريطانيا ‪ -‬في ‪ 19‬تشرين األول ‪ /‬أكتوبر سنة ‪ 1954‬ومبوجبها‬
‫تق ّر ر‪:‬‬

‫‪ )1‬إلغاء معاهدة ‪.1936‬‬

‫‪ )2‬حتددت فترة ال تزيد عن عشرين شهراً يتم في خاللها‬


‫خروج جميع القوات البريطانية من مصر‪.‬‬

‫‪477‬‬
‫‪ )3‬االعتراف بقناة السويس كجزء ال يتجزأ عن مصر‪ ،‬على‬
‫أن تكون املالحة فيها مكفولة جلميع الدول على السواء‬
‫طبقاً التفاقية القسطنطينية عام ‪.1888‬‬

‫‪ )4‬االحتفاظ بالقواعد واملنشآت العسكرية مبنطقة القناة‬


‫في حالة صاحلة مع إبقاء بعض اخلبراء املدنيني اإلنكليز‬
‫إلدارتها وصيانتها‪.‬‬

‫‪ )5‬في حالة حدوث هجوم مسلح على مصر أو على إحدى‬


‫ال��دول العربية املشتركة في ميثاق الضمان اجلماعي‪،‬‬
‫أو على تركيا‪ ،‬تقوم مصر بتقدمي التسهيالت الالزمة‬
‫لبريطانيا لعودة جنودها إلى القاعدة للدفاع عنها‪ ،‬على‬
‫أن تسحب إن�ك�ل�ت��را ق��وات�ه��ا ف ��وراً م��ن م�ص��ر ب�ع��د انتهاء‬
‫احلرب‪.‬‬

‫‪ )6‬يُعمل بهذه االتفاقية ملدة سبع سنوات من تاريخ التوقيع‬


‫ع�ل�ي�ه��ا‪ .‬وه �ك��ذا جن�ح��ت ح�ك��وم��ة ال �ث��ورة ف��ي ح��ل مشكلة‬
‫االحتالل اإلنكليزي ملصر ال��ذي استم َّر أكثر من سبعني‬
‫عاماً‪.‬‬

‫د‪ .‬تأميم قناة السويس‬

‫تأزمت العالقات بني مصر والدول الغربية بسبب موقف مصر‬


‫املناصر للقضايا العربية‪ ،‬وفي مقدمتها القضية الفلسطينية‪ ،‬وكذلك‬
‫مساعدتها للشعب اجلزائري في نضاله ضد املستعمرين الفرنسيني‪،‬‬
‫وكان جلوء حكومة الثورة في مصر لشراء األسلحة الالزمة للجيش‬
‫املصري من تشيكوسلوفاكيا ‪ -‬صفعة للدول الغربية التي رفضت‬
‫إمداد مصر بحاجتها من األسلحة‪.‬‬

‫‪478‬‬
‫وفي ذلك الوقت كانت مصر مقدمة على تنفيذ (مشروع السد‬
‫العالي) لتوفير املياه الالزمة للتوسع في الرقعة الزراعية‪ ،‬وكانت‬
‫مصر في حاجة للمال لتمويل هذا املشروع الضخم احليوي بالنسبة‬
‫لها‪ ،‬وكانت الواليات املتحدة األمريكية وغيرها من ال��دول الغربية‬
‫ق��د وع��دت بتمويل ه��ذا امل �ش��روع لكن ف��ي ‪ 20‬مت��وز ‪ /‬يوليو سنة‬
‫‪ 1956‬سحبت هذه ال��دول وعدها بتمويل املشروع متعللة بأسباب‬
‫غير حقيقية في مقدمتها شكها في مقدرة مصر االقتصادية‪.‬‬

‫وف��ي مساء ال�س��ادس والعشرين م��ن شهر مت��وز ‪ /‬يوليو سنة‬


‫‪ 1956‬أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس‪،‬‬
‫وأص��در ق��راراً جمهورياً بذلك‪ ،‬وتقرر أن تتولى إدارة مرفق املرور‬
‫في القناة (هيئة مستقلة) تكون لها الشخصية االعتبارية يصدر‬
‫بتشكيلها قرار من رئيس اجلمهورية‪.‬‬

‫ج��اء ر ّد الفعل ل��دى ال��دول االستعمارية ‪ -‬ال�ت��ي ك��ان��ت تعمل‬


‫ج��اه��دة مل��د أج��ل االل �ت��زام ال ��ذي ك��ان م �ف��روض �اً أن ينتهي ف��ي ‪16‬‬
‫تشرين الثاني ‪ /‬نوفمبر ‪ - 1968‬عنيفاً‪ ،‬فأصدرت حكومات إنكلترا‬
‫وف��رن�س��ا‪ ،‬وال��والي��ات املتحدة األمريكية بيانا ف��ي ل�ن��دن ادع��ت فيه‬
‫أن الشركة العاملية لقناة السويس ذات طابع دول��ي فليس من حق‬
‫احلكومة املصرية أن تؤمم القناة‪ ،‬وقد ردت احلكومة املصرية على‬
‫ه��ذا االدع��اء ‪ -‬ف��ذك��رت أن شركة قناة السويس ‪ -‬شركة مصرية‬
‫تخضع لقوانني البالد‪ ،‬وقد سبق في مناسبات متعددة أن اعترفت‬
‫بريطانيا بهذه احلقيقة‪.‬‬

‫اجتهت الدول االستعمارية حملاولة تعطيل املالحة في القناة‪،‬‬


‫فأصدرت األوامر لقناصلها ببور سعيد لالتصال باملرشدين وموظفي‬
‫ال�ش��رك��ة األج��ان��ب ف��ي س��ائ��ر ال �ف��روع واألق �س��ام لتقدمي استقالتهم‬

‫‪479‬‬
‫ظناً منهم أن مصر عاجزة عن إدارة قناتها وأن املالحة في القناة‬
‫ستضطرب وتتوقف‪.‬‬

‫أ ُحيل النزاع على مجلس األمن‪ ،‬ونُظر األمر في جلسة املجلس في‬
‫‪ 13‬تشرين األول ‪ /‬أكتوبر ‪ 1956‬ولم تستطع الدول الغربية أن تُصدر‬
‫قراراً يدين مصر‪ ،‬فاجتهت فرنسا وإنكلترا للقيام مبؤامرة مسلحة ضد‬
‫مصر مستعين ًة بإسرائيل فكان العدوان الثالثي على مصر‪.‬‬

‫ترتب على العدوان الثالثي على مصر تعطيل املالحة في قناة‬


‫السويس‪ ،‬وعانت الدول األوربية من ذلك بسبب تعذر وصول شاحنات‬
‫البترول التي كانت متر بالقناة في طريقها إلى البحر املتوسط‪.‬‬

‫سارت املالحة في القناة بدقة متناهية في ظل اإلدارة املصرية‪،‬‬


‫وفي ‪ 12‬متوز ‪ /‬يوليو سنة ‪ - 1958‬وقع اتفاق بني مصر وممثلي‬
‫صفيت مبوجبه كافة املشكالت املعلقة‪.‬‬ ‫الشركة السابقة ُ‬

‫هـ ‪ -‬مساندة حركات التحرير العربي‬

‫أعلنت ال�ث��ورة منذ ال�ب��داي��ة إميانها (ب��ال��وح��دة العربية)‪ ،‬وأن‬


‫ثمة عوامل تؤكد حقيقة الوحدة العربية ‪ -‬منها وحدة اللغة ووحدة‬
‫التاريخ‪ ،‬ووحدة األمل ‪ -‬وأعلنت الثورة أن اجلامعة العربية ‪ -‬وهي‬
‫جامعة للحكومات العربية املستقلة ‪ -‬تستحق كل تأييد‪.‬‬

‫وق��د ساندت حكومة ال�ث��ورة مبصر حركات املقاومة الوطنية‬


‫ف��ي كافة ال�ب�لاد العربية وخ��اض��ت أكثر م��ن ح��رب مساندة للشعب‬
‫الفلسطيني في كفاحه ضد الصهيونية والسترداد حقه في أرضه‪.‬‬

‫وس��ان��دت م�ص��ر ث ��ورة ال�ش�ع��ب اجل��زائ��ري وق��دم��ت ل��ه العون‬

‫‪480‬‬
‫العسكري وامل��ادي‪ ،‬وكان هذا املوقف من حكومة الثورة من أسباب‬
‫العدوان الثالثي على مصر في عام ‪.1956‬‬

‫كما ساندت مصر ث��ورة العراق في ع��ام ‪ - 1958‬ومل��ا نشبت‬


‫ال�ث��ورة في اليمن في ‪ 26‬أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪ 1962‬كانت مصر في‬
‫مقدمة الشعوب التي دعمت ثورة الشعب اليمني‪ ،‬وعقدت ‪ -‬معاهدة‬
‫دفاع مشترك مع حكومة اليمن‪.‬‬

‫وقد ساندت الثورة حركات التحرر في كل من تونس واملغرب‬


‫األقصى (مراكش)‪.‬‬

‫ولم يقتصر األم��ر على م��ؤازرة احلركات التحررية في البالد‬


‫العربية‪ ،‬فقد ساندت حكومة الثورة في مصر احلركات التحررية‬
‫في كافة األقطار ‪ -‬وفي إفريقيا بالذات‪ ،‬وكان جناح ثورة ‪ 23‬متوز‪/‬‬
‫يوليو في مصر دافعاً قوياً للثوار في كل أنحاء القارة اإلفريقية بل‬
‫وفي العالم كله للمطالبة بحقوقهم‪.‬‬

‫القسم الثالث‬
‫العدوان الثالثي وحرب ‪1967‬‬

‫تعددت األسباب التي جمعت أطراف العدوان‪ ،‬فلم يكن تأميم‬


‫قناة السويس السبب الوحيد للعدوان‪ ،‬لكن ثمة أسباب تعلقت بكل‬
‫دولة‪.‬‬

‫‪481‬‬
‫فإسرائيل قابلت جناح مفاوضات اجلالء املصرية البريطانية‬
‫بتوتر شديد‪ ،‬إذ رأت انه سيؤدي إلى إزالة احلاجز للقوات البريطانية‬
‫ال�ت��ي ك��ان��ت ت��راب��ط على ط��ول ق�ن��اة ال�س��وي��س ب�ين ال �ق��وات املصرية‬
‫واإلسرائيلية‪ .‬اضافة الى موقف مصر من القضية الفلسطينية في‬
‫مؤمتر باندونغ ‪.1956‬‬

‫أما فرنسا فقد رأت في موقف مصر املؤيد للثورة اجلزائرية‬


‫ومد الثوار بالسالح والدعم املادي موقفاً عدائياً لفرنسا‪ .‬كذلك كان‬
‫لفرنسا وض��ع خ��اص وفوائد متعددة جنتها من قناة السويس منذ‬
‫عُهد بحفرها لشركة فرنسية‪ ،‬وكانت فرنسا تسعى سعياً حثيثاً ملد‬
‫امتياز شركة قناة السويس بعد فترة انتهائها‪ ،‬فجاء قرار التأميم‬
‫لطعة ألطماع فرنسا‪.‬‬

‫أما إنكلترا فقد أجبرتها حكومة الثورة في مصر على اجلالء‬


‫ع��ن منطقة ال�ق �ن��اة‪ .‬ك��ذل��ك ك��ان إلن�ك�ل�ت��را م��رك��ز مم�ت��از ف��ي مجلس‬
‫إدارة القناة بعد شرائها أسهم مصر في شركة القناة من اخلديو‬
‫إسماعيل‪.‬‬

‫وجاء قرار الرئيس جمال عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس‬
‫رداً على سحب البنك الدولي لإلنشاء والتعمير ‪ -‬عرضه بتمويل‬
‫مشروع إنشاء السد العالي وذلك حتت ضغط وتدخل الدول الغربية‬
‫التي أغضبها جلوء مصر لشراء األسلحة من املعسكر الشرقي‪.‬‬

‫كما أدت بعض األحداث التي حدثت في بعض البلدان العربية‬


‫ال اضطُ ر امللك حسني في‬
‫لتوتر املوقف في املنطقة العربية كلها‪ ،‬فمث ً‬
‫آذار ‪ /‬مارس ‪ 1956‬لطرد اجلنرال غلوب من منصبه كقائد الفيلق‬
‫العربي في األردن‪ ،‬حتت ضغط الضباط األحرار في األردن‪ .‬وكذلك‬

‫‪482‬‬
‫موقف الرئيس اللبناني كميل شمعون من حلف السانتو ووقوفه الى‬
‫جانب الغرب‪ .‬وقد ظنت بريطانيا أن عبد الناصر هو احملرك لهذه‬
‫األحداث‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬التخطيط للعدوان‬

‫بدأ تكوين محور العدوان واالتفاق على خطته بزيارات لرئيس‬


‫وزراء فرنسا غي موليه إلى لندن في آذار ‪ /‬مارس ‪ 1956‬واجتماعه‬
‫بأنتوني إي��دن رئ�ي��س وزراء بريطانيا ل�لات�ف��اق على سياسة تتسم‬
‫بالعنف ضد مصر‪ .‬حيث بدأ التخطيط الفعلي للغزو اعتباراً من ‪28‬‬
‫متوز ‪ /‬يوليو ‪ 1956‬بعد أن أعلنت مصر في ‪ 26‬متوز تأميم قناة‬
‫السويس ‪ -‬فقد اتفقت إنكلترا وفرنسا على اختيار مالطة كقاعدة‬
‫لتجمع القوات املعتدية‪ ،‬وحددت أهداف العدوان مبا يلي‪:‬السيطرة‬
‫على قناة السويس‪ .‬وإسقاط نظام احلكم في مصر‪.‬‬

‫أبدت إسرائيل استعدادها ألن تلعب دوراً هاماً في العدوان‪،‬‬


‫فقد اق�ت��رح موشي دي��ان على ب��ن غ��وري��ون خطة للهجوم‪ ،‬واحتالل‬
‫شبه ج��زي��رة سيناء وق�ن��اة ال�س��وي��س‪ ،‬وال�س�ي�ط��رة على ش��رم الشيخ‬
‫واحتالل قطاع غزة‪ .‬كما أكد ديان قدرة إسرائيل على تنفيذ هذا‬
‫املخطط خاصة بعد وصول شُ حنات األسلحة الفرنسية التي وُعدت‬
‫بها إسرائيل‪ .‬وفي تشرين األول ‪ /‬أكتوبر ‪ 1956‬دعا غي موليه بن‬
‫غوريون لالجتماع في ‪ 20‬آذار ‪ /‬مارس وانضم إليهما وزير خارجية‬
‫بريطانيا سلوين لويد‪ .‬حيث مت وضع اخلطة النهائية للعدوان‪ .‬وقد‬
‫اختير للعملية اسم رمزي هو عملية قادش‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬موقف مصر‬

‫رفضت مصر اإلنذار البريطاني ‪ -‬الفرنسي وأعلنت تصميمها‬

‫‪483‬‬
‫على القتال‪ ،‬وقد ردت الدول املعتدية بضرب املدن املصرية بالقنابل‬
‫ودك��ت الطائرات البريطانية والفرنسية عدة أماكن في بور سعيد‬
‫‪ -‬لكن صمود املدافعني عن بور سعيد وتضافر القوة الشعبية مع‬
‫القوات العسكرية املدافعة عن املدن أذهل العالم كله‪.‬‬

‫استهجنت دول العالم العدوان املدبر‪ ،‬مبا فيها الواليات املتحدة‬


‫األمريكية حليفة إنكلترا وف��رن�س��ا فقد رأت أن احل��رب ومقاومة‬
‫املصريني‪ ،‬وعدم جناح الدول املعتدية في حتقيق نصر سريع‪ ،‬فقد‬
‫ي��ؤدي إل��ى وض��ع عاملي خطير وق��د يجر ذل��ك العالم حل��رب عاملية‬
‫ثالثة‪.‬‬

‫أما املوقف الروسي فكان واضحاً وقوياً‪ ،‬فقد أنذرت إنكلترا‬


‫وفرنسا بأنهما إذا لم يوقفا العدوان فوراً‪ ،‬فإنها ستقف مع الشعب‬
‫املصري ضد هذا العدوان‪ .‬وأدى هذا اإلنذار السوفيتي واحتجاجات‬
‫دول العالم األخرى ألن جتتمع اجلمعية العامة لألمم املتحدة وتصدر‬
‫ق ��راراً ب��وق��ف إط�ل�اق ال�ن��ار وان�س�ح��اب امل�ع�ت��دي��ن‪ .‬واض �ط��رت الدول‬
‫املعتدية ‪ -‬أم��ام إجماع دول العالم واستهجانها لهذا العدوان إلى‬
‫االنسحاب‪.‬‬

‫ترتبت على العدوان عدة نتائج تتعلق مبصر وال��دول املعتدية‬


‫ذاتها‪ ،‬بل انسحبت أثار هذا العدوان ونتائجه على القارة اإلفريقية كلها‬
‫وغيرها من الدول التي كانت تعاني من جبروت الدول الكبرى‪.‬‬

‫ال امتدت أث��اره للعديد‬


‫كان صمود شعب مصر ومقاومتها مث ً‬
‫من ال��دول التي كانت تئن من نير االستعمار‪ ،‬فأيقنت أن الشعوب‬
‫الصغيرة تستطيع بصمودها ومقاومتها كسر شوكة ال��دول الكبرى‬
‫املعتدية وإجبارها على اجلالء عن أرضها‪ .‬كما أكدت النهاية التي آل‬

‫‪484‬‬
‫إليها العدوان‪ ،‬اخلطوات التي خطتها مصر ملمارسة حقها في تأميم‬
‫قناة السويس املصرية وبسط سيادتها عليها وإدارتها مبعرفتها‪ .‬كما‬
‫انتهزت مصر الفرصة وأعلنت في أول كانون الثاني ‪ /‬يناير ‪1957‬‬
‫إلغاء اتفاقية اجل�لاء التي سبق إبرامها مع إنكلترا في ‪1945‬بعد‬
‫أن أخلّت إنكلترا ببنود االتفاق باشتراكها في العدوان على مصر‪.‬‬
‫كما اتخذت مصر من هذا العدوان ذريعة لتصفية املؤسسات املالية‬
‫واالقتصادية للدول املعتدية التي كانت قائمة في مصر ومتارس‬
‫نشاطها‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬حرب حزيران ‪1967‬‬

‫انتهى العدوان الثالثي على مصر في عام ‪ - 1956‬بانسحاب‬


‫إسرائيل من سيناء في آذار ‪ /‬مارس ‪ 1957‬نزوالً عند قرار األمم‬
‫املتحدة‪ ،‬دون أن يحقق أهدافه‪ ،‬فقد ظلَّ النظام الثوري في مصر‬
‫ق��وي�اً وص��ام��داً‪ ،‬واس�ت�م��رت ث��ورة اجل��زائ��ر بعنفها واس�ت�م��ر التعاون‬
‫املصري ‪ -‬السوفيتي قائماً‪.‬‬

‫وقد درست املؤسسة العسكرية في إسرائيل نتائج هذه املعركة‬


‫وأس �ب��اب فشلها‪ ،‬وال ��دروس امل�س�ت�ف��ادة منها‪ .‬وب�ع��د امل�ع��رك��ة طوّرت‬
‫إسرائيل سياستها‪ ،‬ورسم بن غوريون سياسة إسرائيل على أساس‪:‬‬

‫‪ - 1‬إع��ادة تنظيم وبناء القوات املسلحة اإلسرائيلية لتُصبح‬


‫ق��وة ض��ارب��ة ف�ع��ال��ة تستطيع أن ت��واج��ه ال�ت�ف��وق العربي‬
‫العددي‪.‬‬

‫‪ - 2‬تسليح هذه القوات بأحدث األسلحة‪.‬‬

‫‪ - 3‬اعتماد إسرائيل على الواليات املتحدة سواء في احلصول‬

‫‪485‬‬
‫على السالح لقواتها أو في احملافل الدولية حيث تستطيع‬
‫مساندتها في منطقة الشرق األوسط‪.‬‬

‫وك��ان��ت ح��رب ‪ 1956‬ق��د انتهت ب��االت�ف��اق ع�ل��ى‪ :‬وج��ود قوات‬


‫طوارئ دولية على احلدود بني مصر وإسرائيل‪ ،‬خاصة في منطقة‬
‫ش��رم الشيخ حيث مضايق ت �ي��ران ال�ت��ي تتحكم ف��ي خليج العقبة‪.‬‬
‫والسماح للسفن اإلسرائيلية باملرور في مضيق تيران‪ ،‬وفتح املالحة‬
‫أمام إسرائيل إلى البحر األحمر‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬التطورات السياسية في املنطقة بعد عدوان ‪1956‬‬

‫شهدت الفترة التي تلت العدوان الثالثي عدة تطورات هامة‬


‫منها ‪:‬‬

‫‪ - 1‬ال�ت�ح��ول األم��ري �ك��ي ل�ص��ال��ح إس��رائ �ي��ل‪ :‬ف�ق��د تطورت‬


‫العالقات اإلسرائيلية بحيث أصبحت الواليات املتحدة‬
‫القوة الداعمة واحلامية إلسرائيل سياسياً وعسكرياً‪.‬‬

‫‪ - 2‬ال �ن �ف��وذ األم��ري �ك��ي ف��ي ال �ش��رق األوس� ��ط‪ :‬ف�ق��د أدى‬
‫انسحاب بريطانيا‪ ،‬وفرنسا من منطقة الشرق األوسط‬
‫بعد هزميتهما ف��ي ح��رب ع��ام ‪ 1956‬إل��ى (ف ��راغ) كما‬
‫ادع��ت الواليات املتحدة وبالتالي ال بدَّ من شغله (مبدأ‬
‫إيزنهاور) ووج��دت إسرائيل فرصتها في هذه الظروف‬
‫ف�ق��د أم�ل��ت إس��رائ�ي��ل للعب دور ه��ام حل�س��اب الواليات‬
‫املتحدة عبر إجهاض كل محاولة لتوحيد القوى العربية‪،‬‬
‫فسعت للسيطرة على األردن‪ ،‬وملا متت الوحدة بني مصر‬
‫وسوريا في عام ‪ 1958‬وتصدت مصر لضرب املخططات‬

‫‪486‬‬
‫األمريكية‪ ،‬ومبدأ إيزنهاور‪ ،‬وحلف بغداد‪ ،‬اجتهت الواليات‬
‫املتحدة إلجهاض الوحدة‪ ،‬وقامت في عام ‪ 1958‬بالتدخل‬
‫في لبنان‪ ،‬وأنزلت الواليات املتحدة مشاة أسطولها على‬
‫ش��واط��ئ ب�ي��روت‪ ،‬لكن مصر واج�ه��ت ك��ل ه��ذه احملاوالت‬
‫وتصدت لها‪.‬‬

‫‪ - 3‬تشتت اجلهود املصرية‪ :‬فقد اندفعت مصر في أكثر من‬


‫ميدان ‪ -‬فكان تدخلها في احلرب في اليمن‪ ،‬ومساندتها‬
‫ل �ث��وار اجل ��زائ ��ر‪ ،‬وظ� ��روف ال ��وح ��دة ب�ي�ن م �ص��ر وسوريا‬
‫وانتكاسها‪ ،‬كل ذلك أدى لعدم تركيز قوة مصر ملواجهة‬
‫أي محاولة عدوانية أخرى على أرضها‪ ،‬فقد استنفذت‬
‫هذه اجلهود جز ًء كبيراً من قوات مصر العسكرية‪.‬‬

‫‪ - 4‬م�ض��اع�ف��ة ق��وة إس��رائ �ي��ل‪ :‬أم��ا إس��رائ �ي��ل ف�ق��د جنحت‬


‫مب�س��ان��دة ال��والي��ات امل�ت�ح��دة األم��ري�ك�ي��ة ف��ي عقد صفقة‬
‫أسلحة ثقيلة م��ع أمل��ان�ي��ا ال�غ��رب�ي��ة‪ ،‬كما أي��دت�ه��ا الواليات‬
‫املتحدة بصواريخ (هوك) املضادة للطائرات‪ ،‬وشهدت فترة‬
‫رئاسة كيندي‪ ،‬وخليفته (جونسون) في عام ‪ 1964‬تطوراً‬
‫سريعاً في الدعم األمريكي إلسرائيل‪ ،‬وفي عام ‪1965‬‬
‫وافقت الواليات املتحدة على إمداد إسرائيل بالطائرات‬
‫األمريكية النفاثة من طراز (سكاي هوك) فأصبح سالح‬
‫الطيران اإلسرائيلي ميثل قوة ضاربة لها وزنها‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬مقدمات حرب ‪1967‬‬

‫منذ أوائل ‪ 1967‬بدأ التوتر يسود منطقة الشرق األوسط بسبب‬


‫تهديد إسرائيل العلني بغزو األراضي السورية‪ .‬وفي السابع من نيسان‪/‬‬

‫‪487‬‬
‫أبريل ‪ 1967‬شنت إسرائيل هجوماً جوياً ضخماً على سوريا‪.‬‬

‫وفي نفس الوقت أبلغ االحتاد السوفيتي مصر بوجود حشود‬


‫إسرائيلية على احل��دود السورية‪ .‬وقد أسرعت القيادة السياسية‬
‫في مصر في ‪ 14‬أيار‪/‬مايو ‪ 1967‬بإعالن حالة الطوارئ‪ ،‬وبدأت‬
‫حشد قوات ضخمة بشبه جزيرة سيناء‪ .‬وفي ‪ 15‬أيار‪/‬مايو ‪،1967‬‬
‫وهو ذكرى قيام إسرائيل‪ ،‬أقدمت مصر على خطوة جريئة إذ طلبت‬
‫سحب القوات الدولية التي كانت مرابطة على احلدود وجتميعها في‬
‫قطاع غزة‪.‬‬

‫وإزاء اإلص ��رار امل �ص��ري على سحب ال �ق��وات ال��دول �ي��ة‪ ،‬أعلن‬
‫األم�ي�ن ال �ع��ام ل�لأمم امل�ت�ح��دة ف��ي ‪ 19‬أي��ار ‪ /‬م��اي��و ‪ - 1967‬إنهاء‬
‫وجود قوات الطوارئ الدولية في مصر وقطاع غزة الستحالة بقائها‬
‫هناك دون موافقة مصر‪ .‬وبعد انسحاب القوات الدولية من شرم‬
‫الشيخ ‪ -‬أعلنت مصر رسمياً في ‪ 23‬أيار ‪ /‬مايو عدم السماح مبرور‬
‫السفن اإلسرائيلية أو السفن التابعة ألي دولة أخرى ‪ -‬وحتمل مواد‬
‫إستراتيجية متجهة إلسرائيل باملرور في مضيق خليج العقبة‪ ،‬وكانت‬
‫مصر تستند في ذلك القرارات الدولية التي تعطيها هذا احلق في‬
‫حالة احل��رب‪ .‬وقد أدى هذا القرار لزوبعة في إسرائيل واعتبرته‬
‫مبثابة إعالن للحرب من جانب مصر‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬أحداث احلرب‬

‫ف��ي ‪ 2‬ح��زي��ران ‪ /‬يونيو ‪ 1967‬اجتمعت ال�ق�ي��ادة السياسية‬


‫والعسكرية املصرية مبقر ال�ق�ي��ادة العامة للقوات املسلحة‪ ،‬وأكد‬
‫جمال عبد الناصر في هذا االجتماع أن القوات اجلوية اإلسرائيلية‬
‫تستعد لتوجيه ضربتها متهيداً للمعركة‪.‬‬

‫‪488‬‬
‫وق��د اجتمع مجلس ال��وزراء اإلسرائيلي في حزيران ‪ /‬يونيو‬
‫‪ ،1967‬وات �خ��ذ ق��رار ش��ن احل��رب ف��ي ص�ب��اح ال �ي��وم ال�ت��ال��ي ف��ي ‪5‬‬
‫حزيران ‪ /‬يونيو ‪ ،1967‬وذلك بعد أن حصلت القيادة اإلسرائيلية‬
‫على موافقة ال��والي��ات املتحدة األمريكية وعلى ال��وع��د بتقدمي كل‬
‫معونة تطلبها إسرائيل‪.‬‬

‫وق��د رسمت إسرائيل خطتها على أس��اس أن تركز ضرباتها‬


‫األولى على اجلبهة املصرية‪ ،‬وأن يبدأ الهجوم بتوجيه ضربة جوية‬
‫واستغالل النتيجة النفسية والعسكرية لهذه الضربة وما حتدثه من‬
‫إرب��اك في اخلطوط املصرية فتوجه إسرائيل ضربتها الثانية إلى‬
‫األردن باعتبارها متثل التهديد املباشر لوسط إسرائيل والسهل‬
‫الساحلي‪ ،‬ثم تتجه بعد ذلك نحو سوريا للتخلص من التهديد املستمر‬
‫الذي متثله هضبة اجلوالن السورية على إسرائيل‪.‬‬

‫ب��دأت إس��رائ�ي��ل بخطة خ��ادع��ة هدفها ج��ذب أق�ط��ار القيادة‬


‫املصرية بعيداً عن سيناء فقامت إسرائيل بحركات خداعية‪ .‬أدت‬
‫إلى قلب خطة الدفاع املصرية في سيناء وحتويل القوة الرئيسية‬
‫للقوات نحو اجلنوب على حساب الدفاعات في القطاعني الشمالي‬
‫واألوسط حيث وقع الهجوم اإلسرائيلي‪.‬‬

‫سابع ًا‪ :‬كارثة االنسحاب‬

‫استطاعت إسرائيل بضربتها اجلوية في صباح يوم ‪ 5‬حزيران‪/‬‬


‫يونيو ‪ 1967‬أن تدمر معظم الطائرات املصرية الرابطة على أرض‬
‫املطارات‪.‬‬

‫وأدى ذلك التخاذ قرارات عسكرية مفاجئة وغير مدروسة‪ ،‬فقد‬


‫تقرر في مساء ‪ 6‬حزيران ‪ /‬يونيو االنسحاب الكامل من سيناء دون‬

‫‪489‬‬
‫خطة منظمة‪ ،‬وترتب على ذلك أن حتول االنسحاب إلى فوضى‪ ،‬أدت‬
‫إل��ى كارثة محققة‪ ،‬وأدى خ��روج ال�ق��وات من معاقلها الدفاعية جتاه‬
‫الغرب للدمار وأتاح الفرصة للقوات االسرائيلية اجلوية الصطيادها‪.‬‬

‫وفي ‪ 7‬حزيران ‪ /‬يونيو بدأت الطائرات اإلسرائيلية تبحث عن‬


‫القوات املنسحبة واملتحركة فوق الطرق املكشوفة املكدسة باملعدات‬
‫اجلوية واألسلحة حيث دمرتها بالكامل‪.‬‬

‫وميكن أن تلخص األسباب التي أدت لهذه الكارثة فيما يلي‪:‬‬

‫‪ - 1‬لم يكن ثمة تنظيم وتنسيق بني القيادة السياسية والقيادة‬


‫العسكرية مم��ا أدى ل�لاض�ط��راب ف��ي األوام ��ر الصادرة‬
‫للقوات احملاربة‪.‬‬

‫‪ - 2‬عدم تقدير النتائج التي قد تترتب على الدعم الذي ميكن‬


‫أن تتلقاه إسرائيل ط��وال املعركة م��ن ال��والي��ات املتحدة‬
‫األمريكية وفرنسا‪.‬‬

‫‪ - 3‬عنصر املفاجأة خاصة من القوات اجلوية اإلسرائيلية‬


‫ال��ذي أدى إل��ى حتطيم ال �ق��وة اجل��وي��ة امل�ص��ري��ة قبل أن‬
‫تشترك في املعركة‪.‬‬

‫‪ - 4‬ع��دم وج��ود تخطيط وتنسيق ب�ين ق��وات ال��دول العربية‬


‫املشتركة في املعركة‪ ،‬مما أتاح إلسرائيل فرصة ضربها‬
‫ال��واح��دة ت�ل��و األخ ��رى دون أن تُ�ت�ي��ح ال�ف��رص��ة ألي منها‬
‫لتقدمي العون أو تخفيف الضغط على القوة التي تعرّضت‬
‫للهجوم اإلسرائيلي‪ ،‬فأمكن للعدو أن يجهز عليها في‬
‫ضربات متتالية‪.‬‬

‫‪490‬‬
‫‪ - 5‬االس�ت�ه��ان��ة ب �ق��وة اس��رائ �ي��ل مم��ا ي��دل ع�ل��ى ن�ق��ص وجهل‬
‫امل�خ��اب��رات العسكرية ل�ل��دول العربية ب��ال�ق��وة احلقيقية‬
‫إلس��رائ�ي��ل وم��ا وص�ل��ت إل�ي��ه نتيجة ال��دع��م املستمر من‬
‫الواليات املتحدة األمريكية وغيرها من الدول الغربية‪.‬‬

‫‪ - 6‬استطاعت إسرائيل بدعايتها القوية قبل احلرب وأثنائها أن‬


‫تكسب الرأي العام العاملي إلى جانبها بادعائها أنها حتارب‬
‫حرباً دفاعية ضد دول تصرح بأنها ستُلقي بإسرائيل في‬
‫البحر‪.‬‬

‫القسم الرابع‬
‫حرب تشرين أول ‪ /‬أكتوبر ‪1973‬‬

‫انتهت ح��رب ‪ 1967‬بنكسة عربية وك��ان على مصر أن تعمل‬


‫إلع��ادة بناء قواتها املسلحة واالستعداد إلزال��ة ال�ع��دوان والنكسة‪.‬‬
‫وكانت اجلبهة الداخلية في مصر يشوبها نوع من التوتر والشعور بأن‬
‫اجليش املصري لم تُتَح له الفرصة القتال احلقيقية وأن االنسحاب‬
‫مت وال��ذي أت��اح فرصة للعدو إلسرائيل لإلستيالء على أرض‬ ‫ال��ذي َّ‬
‫سيناء‪ ،‬والضفة الشرقية من القنال ال يتحمل اجليش مسؤوليته ولم‬
‫يكن مرده ضعف اجليش املصري‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬حرب االستنزاف‬

‫كان اجليش املصري منذ نكسة ‪ 1967‬بحاجة إلعادة تسليحه‪،‬‬


‫وإعادة ثقته بنفسه وبقيادته‪ .‬ولذلك كان قرار القيادة املصرية أن‬

‫‪491‬‬
‫يتم العمل على بناء القوات املسلحة من جديد‪ ،‬وهذا يستغرق بعض‬
‫الوقت‪ ،‬لكن يجب خالل هذا الوقت أن يشعر العدو‪ ،‬ويشعر الشعب‬
‫املصري أن املعركة لم تنته‪ ،‬وأن اجليش املصري قادر على أن يسترد‬
‫ما أ ُخذ من ترابه الوطني‪ ،‬ولذلك قررت احلكومة املصرية أن تباشر‬
‫في هذه الفترة ما ُع��رف بحرب االستنزاف حتى تستكمل القوات‬
‫املسلحة استعدادتها للحرب‪.‬‬

‫في ه��ذه األث�ن��اء عُقد مؤمتر القمة العربي في اخل��رط��وم في‬


‫آب‪/‬أغسطس ‪ 1967‬وتطوعت فيه الدول البترولية العربية بتقدمي‬
‫مساعدات مالية للدول املتضررة من العدوان اإلسرائيلي ملساعدتها‬
‫على تعويض خسائرها واالستعداد للمحاربة‪.‬‬

‫وفي مجال تعويض اخلسائر في السالح في حرب ‪ 1967‬اجتاه‬


‫جمال عبد الناصر إلى االحتاد السوفيتي إلقناع قيادته ليونير بريجنيف‪،‬‬
‫وألكسي كوسيغن بضرورة تلبية طلبات مصر من السالح‪ .‬وبعد هذه‬
‫الزيارة بدأت شحنات األسلحة السوفيتية ينتظم وصولها ملصر‪.‬‬

‫وض��ع ال�ف��ري��ق ع�ب��د امل�ن�ع��م ري��اض رئ�ي��س هيئة أرك ��ان احلرب‬
‫املصرية‪ ،‬خطة العمل الرسمية على اجلبهة في ه��ذه الفترة‪ ،‬كما‬
‫شارك فيها عدد من اخلبراء السوفييت امللحقني بالقوات املسلحة‬
‫املصرية‪ .‬ومن أهم مبادئ هذه اخلطة عمليات عبور للحدود ألفراد‬
‫مسلحني من القوات املصرية‪ ،‬تدخل إلى املواقع‪ ،‬وتواجه حتصيناتها‪،‬‬
‫وتشتبك مع قوات العدو وتتعرض لدورياته(((‪.‬‬
‫وفي ‪ 9‬آذار‪/‬مارس ‪ 1969‬استشهد الفريق عبد املنعم رياض في إحدى معارك املدفعية‬ ‫(( (‬
‫ال من أبرز رجالها ‪ -‬كانت تدخره للمعركة‬ ‫في اجلبهة‪ ،‬وقد خسرت مصر بوفاته رج ً‬
‫الفاصلة‪ ،‬وقد كان واحداً من القالئل الذين ميلكون الثقة في إمكانية االنتصار في املعركة‬
‫مع إسرائيل‪ ،‬وكان يعتبر القتال قضية شرف حتى على املستوى الفردي لكل مواطن‬
‫مصري‪.‬‬

‫‪492‬‬
‫وفي األيام األخيرة من شهر نبيان ‪ /‬أبريل ‪ 1969‬كانت اجلبهة‬
‫بطول ‪ 125‬كيلو متراً من رأس العريش في الشمال إلى خليج السويس‬
‫في اجلنوب مشتعلة بالنار ومن أحداث هذه الفترة‪ ،‬إغراق املدمرة‬
‫(إيالت) بصاروخ بعيد املدى‪ .‬وحدثت في هذه الفترة أيضاً عمليات‬
‫هجوم الضفادع البشرية على ميناء إيالت عدة مرات وفقدت في‬
‫إحداها البحرية اإلسرائيلية ثالث قطع في ليلة واحدة بفضل ألغام‬
‫ال إل��ى مراسيها وإل�ص��اق األلغام‬
‫متكنت الضفادع من السباحة لي ً‬
‫بهيا كلها ‪.‬‬

‫واج �ه��ت إس��رائ �ي��ل ح��رب االس �ت �ن��زاف ب�ت��وج�ي��ه ض��رب��ات جوية‬
‫إلى مواقع اجلبهة املصرية وردت مصر على الغارات اجلوية ببناء‬
‫قواعد الصواريخ على ط��ول خط اجلبهة حتى ميكن حمايتها من‬
‫غارات العدو‪ .‬وردت إسرائيل بنقل غاراتها من اجلبهة إلى الصعيد‬
‫املصري‪ ،‬فأغارت الطائرات اإلسرائيلية على منشآت الري املصري‬
‫في الصعيد‪ ،‬واستهدفت جسر جنع حمادي بقصد تدميره وإغراق‬
‫ضربت منشآت في‬ ‫مساحات شاسعة من األرض الزراعية وراءه‪ .‬كما ُ‬
‫طره‪ ،‬وكذلك مصنع في أبي زعبل‪ ،‬وضربت مدرسة في بحر البقر‬
‫استشهد فيها أكثر من ثالثني طفالً‪ .‬وهكذا امتدَّ القتال إلى البر‪،‬‬
‫والبحر‪ ،‬وفوق اجلبهة‪ ،‬وداخل الصعيد‪.‬‬

‫وك��ان رأي القيادة املصرية أن احل��ل السلمي ال يُجدي إن لم‬


‫يصاحبه عمل عسكري ميثل ضغطاً حقيقياً على إسرائيل‪ .‬كما أن‬
‫العمل الدبلوماسي للدول األرب��ع الكبرى ‪ -‬وفي مقدمتها القوتان‬
‫األعظم لم يُجد وكذلك لم تُسفر جهود السفير غونار يارنغ الذي‬
‫اخ �ت��اره ي��وث��ان��ت س�ك��رت�ي��ر ع��ام األمم امل�ت�ح��دة س�ف�ي��راً ل��ه لالتصال‬
‫باألطراف املتنازعة عن نتيجة حاسمة‪.‬‬

‫‪493‬‬
‫ونتيجة للزيارة التي قام بها جمال عبد الناصر لالحتاد السوفيتي‬
‫في كانون الثاني ‪ /‬يناير ‪ - 1970‬اتخذت القيادة السوفيتية قراراً‬
‫من أخطر قراراتها في عصر احلرب الباردة باملوافقة الكاملة على‬
‫طلبات جمال عبد الناصر‪.‬‬

‫وفي ظرف شهر كانت أسراب الطيران السوفيتية قد متركزت‬


‫في قواعد جديدة في قاعدة (جانا كليس) غ��رب الدلتا‪ ،‬وقاعدة‬
‫املنيا في قلب الصعيد‪ ،‬وبدأت بطاريات الصواريخ السوفييتية تأخذ‬
‫موقعها مما اضطر إسرائيل للتوقف عن غارات الصعيد‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬مبادرة روجرز‬

‫قدم روجرز مبادرته التي تقضي بأن تحُ ل األزمة على أساس أن‬
‫تتفق مصر وإسرائيل على جدول زمني النسحاب القوات اإلسرائيلية‬
‫من أراض��ي اجلمهورية العربية احملتلة منذ ح��رب ‪ ،1967‬لكن لم‬
‫يقبل الطرف اإلسرائيلي هذا احلل السلمي للمشكلة‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬وفاة عبد الناصر وخالفة السادات‬

‫وفي مساء االثنني ‪ 28‬أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪ 1970‬توفي الرئيس‬


‫جمال عبد الناصر‪ .‬وخلفه أنور السادات الذي كان نائباً للرئيس‪.‬‬

‫كلف أنور السادات‪ ،‬محمود فوزي بتشكيل الوزارة اجلديدة ‪-‬‬


‫ولعل اختياره لهذه املهمة في هذه الظروف كان راجعاً إلى أنه كان‬
‫معروفاً في العالم العربي‪ ،‬وفي األمم املتحدة‪ ،‬وفي العالم الثالث‪،‬‬
‫وف��ي مجموعة ع��دم االنحياز‪ ،‬وخلبرته الطويلة فيها يتعلق بأزمة‬
‫الشرق األوسط وبكل احتماالتها سلماً وإن حرباً‪.‬‬

‫‪494‬‬
‫رابع ًا‪ :‬جتديد وقف إطالق النار‬

‫كان على القيادة السياسية اجلديدة التي آلت إليها األمور بعد‬
‫رحيل جمال عبد الناصر أن تعيد دراسة املوقف‪ ،‬وكان القرار جتديد‬
‫وقف إطالق النار‪.‬‬

‫ك��ان األج ��ل احمل ��دد ل��وق��ف إط�ل�اق ال �ن��ار ‪ 6‬ش �ب��اط ‪ /‬فبراير‬
‫‪ 1971‬وكانت إسرائيل قد قامت في الشهور األخيرة من عام ‪1970‬‬
‫ببناء خط دفاعي حصني على حافة خط املياه وهو ما عرف بخط‬
‫بارليف‪.‬‬

‫وكان التقرير هو أن عبور مانع مائي لبر من قناة السويس‪ ،‬ثم‬


‫التعامل مباشرة مع خط حتصينات على حافة القناة ميكن أن يتسبب‬
‫في خسائر تقدر بعشرات اآلالف‪ ،‬وقد قدر اخلبراء السوفييت أن‬
‫‪ ٪15‬من حجم القوات التي ستشترك في مثل هذه العملية‪ ،‬عملية‬
‫عبور قناة السويس والتعامل مباشرة مع خط التحصينات اإلسرائيلية‬
‫التامة ستلقى حتفها‪ ،‬أي أن اخلسائر ستصل إلى عشرة أو خمسة‬
‫ألف ضابط وجندي من القوات التي تقوم مبثل هذه العملية‪.‬‬

‫وف��ي ‪ 8‬شباط ‪ /‬فبراير ‪ ،1971‬أعلن السفير غورنار باريخ‬


‫صيغة اتفاق تقدم به إلى الطرفني يقضي بـ‪:‬إعالن إسرائيل التزامها‬
‫باالنسحاب إلى حدود مصر الدولية‪ ،‬ومن قطاع غزة ليعود الوضع‬
‫ملا كان عليه قبل حرب حزيران ‪ /‬يونيو ‪ .1967‬وتتعهد مصر بتوقيع‬
‫اتفاق سالم مع إسرائيل يقضي بإنهاء حالة احل��رب بني الطرفني‬
‫واالعتراف بحق إسرائيل في الوجود‪ ،‬ويحق كل دولة من دول املنطقة‬
‫بالعيش بسالم داخل حدود آمنة ومعترف بها‪ ،‬والعمل على منع أية‬
‫أعمال عدائية «من أراضي كل دولة ضد األخرى»‪.‬‬

‫‪495‬‬
‫ورغم أن إجابة مصر مع مقترحات باريخ كانت إيجابية وقد قبلت‬
‫مصر وقف إطالق النار إلتاحة الفرصة لتحقيق هذا احلل السلمي‪،‬‬
‫لكن إسرائيل لم تبدِ استعدادات لقبول وتنفيذ هذا العرض‪.‬‬

‫وت �ط��ورت األح� ��داث ب�س�ب��ب اخل�ل�اف ب�ين ال��ذي��ن ك��ان��وا يرون‬
‫ضرورة اإلسراع باملعركة والذين يرون أن االستعدادات للمعركة لم‬
‫تكتمل بعد وأن��ه من اخلطر املغامرة باالندفاع ملعركة سريعة وفي‬
‫أول آذار ‪ /‬مارس ‪ 1971‬سافر الرئيس أنور السادات إلى موسكو‬
‫الستعجال إرسال األسلحة للجيش املصري وفي مقدمتها طائرات‬
‫الردع السوفيتية‪.‬‬

‫وف��ي خطابه ف��ي عيد العمال أول أي��ار ‪ /‬م��اي��و ‪ 1971‬أعلن‬


‫أن��ور ال�س��ادات إعفاء السيد علي صبري من كل مناصبه‪ ،‬وف��ي ‪6‬‬
‫أيار ‪ /‬مايو ‪ 1971‬حضر وزير اخلارجية األمريكي ملقابلة الرئيس‬
‫السادات‪ .‬وفي متوز ‪ /‬يوليو ‪ ،1973‬اتخذ الرئيس السادات قراراً‬
‫خطيراً بطرد اخلبراء السوفييت من مصر‪ .‬وفي ‪ 26‬تشرين األول ‪/‬‬
‫أكتوبر ‪ 1972‬أصدر الرئيس السادات قراراً بإعفاء الفريق صادق‬
‫وتعيني أحمد إسماعيل علي وزيراً للحربية بدالً منه‪.‬‬

‫كانت االتصاالت مستمرة بني القاهرة ودمشق للتنسيق بينهما‬


‫ب�خ�ص��وص امل �ع��رك��ة‪ ،‬وم�ن��ذ أول أي ��ار ‪ /‬م��اي��و ‪ 1973‬ك��ان��ت القيادة‬
‫العسكرية في البلدين تستعد لرفع درج��ة اإلن��ذار في البلدين إلى‬
‫جبهة العمليات‪ .‬ووصلت األخبار إلسرائيل مما دعاها إلعالن حالة‬
‫التعبئة اجلزئية‪.‬‬

‫وفي هذه األثناء برز دور امللك فيصل ملك السعودية التي أرسلت‬
‫السيد كمال أدهم ملعرفة ما ميكن أن تقدمه مساهمة في املعركة‪.‬‬

‫‪496‬‬
‫خامس ًا‪ :‬قرار احلرب‬

‫ك��ان الرئيسان أن��ور ال�س��ادات وحافظ األس��د قد اجتمعا في‬


‫شهر أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪ 1973‬حيث مت اتخاذ قرار احلرب‪.‬‬

‫وف��ي الساعة الثانية من ظهر ي��وم السبت ‪ 6‬تشرين األول ‪/‬‬


‫أكتوبر ‪( 1973‬العاشر م��ن رم�ض��ان) ب��دأت معركة التحرير‪ .‬فقد‬
‫بدأت مائتا طائرة مصرية في تنفيذ املهمة األولى في العملية بتوجيه‬
‫الضربة اجلوية األولى للقوات املتمركزة في الضفة الشرقية للقناة‬
‫فعبرت على ارتفاع منخفض فوق قناة السويس‪ ،‬ومت ضرب مراكز‬
‫قيادة ومواقع رادار ومناطق حشد وعقد مواصالت وقواعد جوية‪.‬‬

‫وب���دأت ق���وارب امل �ط��اط ت �ن��زل ف��ي ال �ق �ن��اة ب�ج�ن��وده��ا وجنحت‬


‫مجموعات الصاعقة في تعطيل عمل مواسير اللهب ملواجهة العبور‬
‫للضفة الشرقية من القناة‪ .‬واستطاعت الدبابات البرمائية‪ ،‬واملدرعات‬
‫السابحة عبور القناة كما متكنت قوات من الضباط واجلنوب العبور‬
‫إلى الضفة الشرقية‪.‬‬

‫وفي العملية األولى من نوعها استطاعت قوات املهندسني فتح‬


‫ثغرات في الساتر الترابي على الضفة الشرقية من القناة باستخدام‬
‫خراطيم للمياه أع��دت لهذا ال�غ��رض‪ ،‬وب��دأ تركيب جسور للعبور‪،‬‬
‫وراحت الدبابات تتقدم على اجلسور التي جرى تركيبها‪ ،‬ومت إزاحة‬
‫الرمال‪ ،‬ومتكنت فرق كاملة من املشاة واملدرعات من العبور للضفة‬
‫الشرقية للقناة‪ ،‬ومت افتتاح مواقع خط بارليف احلصينة كلها‪.‬‬

‫وكان اجلبهة السورية تعيش مشهداً مماثالً‪ ،‬فقد كان الطيران‬


‫ال�س��وري ق��د ق��ام بضربته األول��ى‪ ،‬واستطاعت امل��درع��ات السورية‬
‫تخطي خنادق التحصينات اإلسرائيلية في اجل��والن‪ ،‬وكانت تتقدم‬

‫‪497‬‬
‫في اجتاه القنيطرة عاصمة اجلوالن‪.‬‬

‫وح�س��ب تقدير إس��رائ�ي��ل أن اجل�ي��ش اإلس��رائ�ي�ل��ي فقد خُ مس‬


‫طائراته‪ ،‬وربع دباباته في األي��ام األربعة األول��ى من القتال‪ ،‬وتقدم‬
‫اجلنرال موشي ديان وزير الدفاع اإلسرائيلي بطلب ملجلس الوزراء‬
‫اإلسرائيلي‪ ،‬بالسماح بانسحاب اجليش اإلسرائيلي إلى خط الدفاع‬
‫الثاني في سيناء وراء خط املضايق‪.‬‬

‫وفي الوقت الذي كان االحتاد السوفيتي يحرض الدول العربية‬


‫األخ��رى على دخ��ول احل��رب مساندة ملصر وسوريا‪ ،‬كانت الواليات‬
‫املتحدة األمريكية تبذل قصارى جهدها لدعم إسرائيل باإلضافة‬
‫لالتصال ب��ال��دول العربية (األردن‪ ،‬وامل�غ��رب) لضمان وقوفها على‬
‫احلياد‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬خطاب السادات أمام مجلس األمة‬

‫في ‪ 16‬تشرين األول ‪ /‬أكتوبر ‪ 1973‬ألقى الرئيس السادات‬


‫خطاباً أمام مجلس األمة وجاء في خطابه‪.‬‬

‫‪ - 1‬إن ق��وات�ن��ا قاتلت وس��وف تقاتل لتحرير أراض�ي�ن��ا التي‬


‫احتلها العدو في ‪ ،1967‬والستعادة احلقوق املشروعة‬
‫لشعب فلسطني‪.‬‬

‫‪ - 2‬مصر على استعداد لقبول وقف إطالق النار على أساس‬


‫انسحاب ال�ق��وات اإلسرائيلية من كل األراض��ي العربية‬
‫احملتلة فوراً‪.‬‬

‫‪ - 3‬مصر على استعداد فور إمتام االنسحاب من كل األراضي‬

‫‪498‬‬
‫أن حتضر مؤمتر س�لام دول��ي ف��ي األمم املتحدة لوضع‬
‫قواعد وض��واب��ط السالم في املنطقة يقوم على أساس‬
‫احترام احلقوق املشروعة لكل شعوب املنطقة‪.‬‬

‫‪ - 4‬مصر على استعداد لتبدأ في تطهير مياه قناة السويس‬


‫وفتحها أمام املالحة العاملية‪.‬‬

‫‪ - 5‬مصر ليست على استعداد لقبول وعود مبهمة أو عبارات‬


‫مطلقة تقبل كل تفسير وكل تأويل وتستنزف الوقت فيما‬
‫ال جوى فيه‪.‬‬

‫وف��ي نفس الوقت تقريباً كانت رئيسة وزراء إسرائيل غولدا‬


‫مائير تلقي خطاباً في الكنيست اإلسرائيلي‪.‬‬

‫سابع ًا‪ :‬الثغرة‬

‫أعلنت رئيسة وزراء إسرائيل في خطابها ‪ -‬رفضها وقف إطالق‬


‫النار وفق املشروعات التي كانت تناقش في ذلك الوقت في مجلس‬
‫األمن‪.‬‬

‫وذك ��رت ف��ي خ�ط��اب�ه��ا أن ال �ق��وات اإلس��رائ�ي�ل�ي��ة حت ��ارب شرق‬


‫وغرب قناة السويس وكانت بذلك تشير إلى تشكيل بعض الدبابات‬
‫اإلسرائيلية بقيادة اجلنرال ش��ارون إلى الضفة الغربية من القناة‬
‫(عند منطقة الدفرسوار)‪.‬‬

‫وفي نفس يوم ‪ 16‬تشرين األول‪/‬أكتوبر قام الزعيم السوفيتي‬


‫ليونيد بريجنيف ب��زي��ارة للقاهرة وق�ي��ل إن ال��زي��ارة ت�ه��دف إلقناع‬
‫الرئيس السادات بقبول وقف إطالق النار‪.‬‬

‫‪499‬‬
‫وقد حدث خالف في ال��رأي بني وزير احلربية والقائد العام‬
‫وبني رئيس األركان‪.‬‬

‫فالفريق أحمد إسماعيل ك��ان رأى ض��رب الثغرة من الشرق‪،‬‬


‫بينما الفريق سعد ال�ش��اذل��ي ك��ان رأى قطع الثغرة ع��ن سيناء من‬
‫الغرب وقد بلغ اخلالف بني االثنني مبلغاً خطيراً‪ ،‬وقد أيد الرئيس‬
‫ال �س��ادات رأي الفريق أحمد إسماعيل‪ .‬وف��ي ‪ 17‬تشرين األول ‪/‬‬
‫أكتوبر ‪ -‬عقد وزراء خارجية السعودية‪ ،‬والكويت‪ ،‬واملغرب‪ ،‬واجلزائر‬
‫اجتماعاً مع هنري كيسنجر وزير اخلارجية األمريكية ملناقشة الوضع‪.‬‬
‫ودور الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬واحلل الذي يرتضيه العرب‪ .‬وفي‬
‫نفس التاريخ كان وزراء النفط العرب يعقدون اجتماعاً في الكويت‬
‫ق��رروا فيه أن يدخل النفط سالحاً في املعركة‪ .‬عبر رفع األسعار‬
‫وإيقاف تصدير النفط‬

‫وفي ‪ 20‬تشرين األول ‪ /‬أكتوبر ‪ -‬قرر الرئيس السادات عزل‬


‫الفريق الشاذلي من رئاسة األركان وأن يحل اجلمسي مكانه رئيساً‬
‫لألركان‪.‬‬

‫وقد أصدر مجلس األمن قراره ‪ 338‬بتاريخ ‪1973/10/22‬‬


‫بعد اتفاق الدولتني العظميني االحتاد السوفيتي والواليات املتحدة‬
‫بوقف إطالق النار في الساعة ‪ 52 .18‬بتوقيت القاهرة وتل أببيب‬
‫وتنفيذ ما جاء في قرار املجلس السابق ‪ 242‬الذي يقضي بانسحاب‬
‫القوات إلى مواقعها قبل اندالع احلرب والبدء في مفاوضات حتت‬
‫إشراف مناسب‪ ،‬بهدف الوصول إلى سالم عادل ودائم‪.‬‬

‫التزمت مصر بالقرار ‪ -‬لكن القوات اإلسرائيلية انتهكت وقف‬


‫القتال مبحاولة استغالل اإلذع��ان املصري لقرار املجلس باحتالل‬

‫‪500‬‬
‫مواقع جديدة‪ ،‬وق��د قدمت مصر طلباً إل��ى السكرتير العام لألمم‬
‫املتحدة كورت فالدهامي يدعو إلى اجتماع عاجل ملجلس األمن لبحث‬
‫االنتهاكات اإلسرائيلية لقاء وقف القتال وطلبت مصر إرس��ال قوة‬
‫مراقبني على الفور إلى جبهات القتال للتحقق من التزام األطراف‬
‫بالقرار‪.‬‬

‫ثامن ًا‪ :‬تقييم حرب أكتوبر ‪1973‬‬

‫كانت هناك إيجابيات عديدة حلرب تشرين األول‪/‬أكتوبر منها‪:‬‬

‫‪ - 1‬استطاعت مصر أن متتلك شجاعة ال�ق��رار وأن تختار‬


‫الوقت املناسب للمعركة‪.‬‬

‫‪ - 2‬كان مستوى التخطيط للمعركة واقعيا وحقق أهدافه‪.‬‬

‫‪ - 3‬ك��ان ع�ب��ور ال�ق�ن��اة‪ ،‬واإلط��اح��ة بالساتر ال �ت��راب��ي‪ ،‬وبخط‬


‫ال عسكرياً فريداً‪.‬‬ ‫بارليف عم ً‬

‫‪ - 4‬ك��ان ال�ت��أي�ي��د ال �ع��رب��ي ل�ل�م�ق��ات�ل�ين ودخ���ول س�ل�اح النفط‬


‫ال قوياً على قدرة العرب على توحيد اجلهود‬ ‫املعركة دلي ً‬
‫والتضامن وقت احملنة‪.‬‬

‫‪ - 5‬كان التأييد العاملي للمقاتلني في سبيل حترير أراضيهم‬


‫ال على أن الرأي العام العاملي يحترم من يترافع عن‬
‫دلي ً‬
‫حقوقه الطبيعية والتصدي للعدوان عليها‪.‬‬

‫‪ - 6‬أثبتت االنتصارات األولى التي حتققت أن نظرية األمن‬


‫اإلسرائيلي القائم على القوة سراب وليست حقيقة ورغم‬

‫‪501‬‬
‫ذلك فقد أظهرت املعركة عدة سلبيات منها‪:‬‬

‫‪ - 1‬ل��م ي �ك��ن ث �م��ة ت�ن�س�ي��ق ك��ام��ل ب�ي�ن اجل �ب �ه��ة اجل �ن��وب �ي��ة في‬
‫مصر‪ ،‬واجلبهة الشمالية في سوريا‪ ،‬واقتصر األمر على‬
‫التخطيط امليداني للمعركة‪.‬‬

‫‪ - 2‬ك��ان الوضع يحتم في ‪ 9‬تشرين األول ‪ /‬أكتوبر التقدم‬


‫نحو املضايق لكن القيادة املصرية تلكأت في حتقيق ذلك‬
‫على الرغم من إحلاح بعض القادة وفي مقدمتهم اللواء‬
‫محمد عبد الغني اجلمسي لضرورة اإلسراع بالتقدم إلى‬
‫املضايق‪.‬‬

‫‪ - 3‬التقليل في البداية من خطورة الثغرة اإلسرائيلية أدى‬


‫ملضاعفات عديدة‪.‬‬

‫‪ - 4‬القبول بقرار وقف إطالق النار دون التشاور مع سوريا‬


‫كان خطاً جسيماً‪.‬‬

‫‪ - 5‬االكتفاء بالشكوى من خرق إسرائيل لوقف إطالق النار‬


‫وطلب مراقبني دوليني لإلشراف على خطوط القتال كان‬
‫حتوالً غريباً في حرب بدأت بداية ممتازة لكنها انتهت‬
‫إلى قبول أوضاع لم يكن هناك مبرر لقبولها‪.‬‬

‫‪ - 6‬اخلالفات بني القادة أثناء املعركة أمر غير مقبول وأدى‬


‫لتطورات خطيرة والتخاذ قرارات فردية‪.‬‬

‫هكذا انتهت ح��رب تشرين األول‪/‬أك�ت��وب��ر ‪ 1973‬التي فتحت‬


‫املجال لعقد صلح بني مصر وإسرائيل‪.‬‬

‫‪502‬‬
‫تاسع ًا‪ :‬اتفاقية كامب ديفيد‬

‫في افتتاح دورة مجلس الشعب في العام ‪ ،1977‬أعلن السادات‬


‫استعداده للذهاب للقدس والكنيست اإلسرائيلي‪ ،‬ألقى السادات‬
‫خطابا أمام الكنيست اإلسرائيلي في ‪ 20‬تشرين الثاني ‪ /‬نوفمبر‬
‫‪ .1977‬وش��دد ع�ل��ى أن ف�ك��رة ال �س�لام بينه وب�ين إس��رائ�ي��ل ليست‬
‫جديدة‪ ،‬وأنه يستهدف السالم الشامل‪ ،‬ودعا السادات بيغن لزيارة‬
‫مصر‪ ،‬وعقد مؤمتر قمة في اإلسماعيلية‪.‬‬

‫بعد اجتماع اإلسماعيلية بشهر واحد اجتمعت اللجنة السياسية‬


‫من وزراء خارجية مصر وإسرائيل والواليات املتحدة في القدس‪.‬‬
‫وفي أثناء انعقاد اللجنة شرعت إسرائيل في بناء مستوطنات جديدة‬
‫في سيناء‪ ،‬الستخدامها كورقة مساومة على مصر‪ .‬لم يكن بيغن‬
‫مستع ًدا لقبول ت�ن��ازالت‪ ،‬وق��ال وزي��ر اخلارجية اإلسرائيلي موشى‬
‫دي��ان‪« :‬إنه من األفضل إلسرائيل أن تفشل مبادرة السالم على أن‬
‫تفقد إسرائيل مقومات أمنها»‪.‬‬

‫ع ��رض اإلس��رائ �ي �ل �ي��ون ع �ل��ى م �ص��ر ت ��رك ق �ط��اع غ ��زة ل�ل�إدارة‬


‫املصرية مقابل تعهد بعدم اتخاذها منطلقًا لألعمال الفدائية‪ ،‬وكان‬
‫هدفهم من ذلك عدم إثارة موضوع الضفة الغربية‪ ،‬شعر السادات‬
‫أن اإلسرائيليني مياطلون؛ فألقى خطابًا في متوز ‪ /‬يوليو ‪1978‬‬
‫قال فيه‪ :‬إن بيغن يرفض إعادة األراضي التي سرقها إال إذا استولى‬
‫على جزء منها كما يفعل لصوص املاشية في مصر‪.‬‬

‫أنشأ ال�س��ادات احل��زب الوطني الدميقراطي وتولى رئاسته‪،‬‬


‫وزادت قبضته العنيفة على القوى املعارضة لتوجهاته‪ ،‬ثم جلأ إلى‬
‫االستفتاء الشعبي على شخصه‪ ،‬ترددت مصر بني املضي في املبادرة‬

‫‪503‬‬
‫أو رفضها‪ ،‬ولكن تدخل الرئيس األمريكي جيمي كارتر بثقله‪ ،‬ودعا‬
‫السادات وبيغن إلى اجتماعات في كامب ديفيد‪.‬‬

‫وص��ل ال��وف��دان املصري واإلسرائيلي إل��ى كامب ديفيد في ‪5‬‬


‫أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪ .1978‬ذهب السادات إلى كامب ديفيد وهو يردد‬
‫م �ش��روع ق��رار مجلس األم��ن رق��م ‪ 242‬ك��أس��اس ل�ل�ح��ل‪ .‬أم��ا كارتر‬
‫واإلسرائيليون فكانوا مقتنعني أن السادات لن يوافق على أي وجود‬
‫إسرائيلي في سيناء‪.‬‬

‫في اليوم األول من احمل��ادث��ات ق��دم ال�س��ادات أفكاره عن حل‬


‫القضية الفلسطينية بجميع مشاكلها متضمنة االنسحاب اإلسرائيلي‬
‫من الضفة وغزة‏ وحلول لقضية املستوطنات اإلسرائيلية‪ ،‬حاولت‬
‫اإلدارة األمريكية إقناع اجلانبني أن يتجنبوا التركيز على القضايا‬
‫الشائكة مثل االنسحاب الكامل من الضفة الغربية وغ��زة على ان‬
‫تبدأ املناقشات في قضايا أقل حساسية مثل االنسحاب اإلسرائيلي‬
‫من سيناء‪ ،‬وكانت احملادثات التي استمرت ‪ 12‬يوما تتمحور على‬
‫ثالثة مواضيع رئيسية‪.‬‬

‫الضفة الغربية وق�ط��اع غ��زة‪ :‬استند ه��ذا احمل��ور على أهمية‬


‫مشاركة مصر وإسرائيل واألردن وممثلني عن الشعب الفلسطيني‬
‫ف��ي امل �ف��اوض��ات ح��ول ح��ل ه��ذه ال�ق�ض�ي��ة ال �ت��ي إق �ت��رح��ت الواليات‬
‫املتحدة إجراءات انتقالية ملدة ‪ 5‬سنوات لغرض منح احلكم الذاتي‬
‫ال�ك��ام��ل لهاتني املنطقتني وان�س�ح��اب إس��رائ�ي��ل ال�ك��ام��ل بعد إجراء‬
‫انتخابات شعبية في املنطقتني‪ ،‬ون��ص االق�ت��راح أيضا على حتديد‬
‫آلية االنتخابات من قبل مصر وإسرائيل واألردن على أن يتواجد‬
‫فلسطينيون في وفدي مصر واألردن‪ .‬وحسب االقتراحات في هذا‬
‫احملور كان على إسرائيل بعد االنتخابات املقترحة ان حتدد في فترة‬

‫‪504‬‬
‫‪ 5‬س�ن��وات مصير قطاع غ��زة والضفة الغربية جلهة عالقة هذين‬
‫الكيانني مع إسرائيل والدول املجاورة األخرى‪.‬‬

‫أم��ا جلهة عالقات مصر وإس��رائ�ي��ل‪ :‬استند ه��ذا احمل��ور على‬


‫أهمية ال��وص��ول إل��ى ق�ن��وات ات�ص��ال دائ�م��ة جلهة احل��وار ب�ين مصر‬
‫وإس��رائ �ي��ل وع��دم ال�ل�ج��وء إل��ى ال�ع�ن��ف حل�س��م ال �ن��زاع��ات واقترحت‬
‫الواليات املتحدة فترة ‪ 3‬أشهر لوصول اجلانبني إلى اتفاقية سالم‪.‬‬

‫أما عالقة إسرائيل مع الدول العربية‪ :‬حسب املقترح األمريكي‬


‫ك��ان على إس��رائ�ي��ل العمل على إب��رام اتفاقيات س�لام مشابهة مع‬
‫لبنان وسوريا واألردن بحيث تؤدي في النهاية إلى اعترافات متبادلة‬
‫وتعاون اقتصادي في املستقبل‪ .‬وك��ان املوقف اإلسرائيلي متصلبًا‬
‫متشددًا يرفض التنازل‪ ،‬وهو ما جعل السادات يعلن ملرافقيه أنه‬
‫قرر االنسحاب من كامب ديفيد‪ ،‬فنصحه وزير اخلارجية األمريكي‬
‫سايروس فانس أن يلتقي بكارتر على انفراد‪.‬‬

‫في ‪ 26‬آذار ‪ /‬مارس ‪ 1979‬وقع اجلانبان على معاهدة السالم‬


‫املصرية اإلسرائيلية وكانت احملاور الرئيسية للمعاهدة إنهاء حالة‬
‫احلرب وإقامة عالقات ودية بني البلدين‪ ،،‬وانسحاب إسرائيل من‬
‫سيناء‪ ،‬وتضمنت االتفاقية أيضا ضمان عبور السفن اإلسرائيلية‬
‫قناة السويس واعتبار مضيق ت�ي��ران وخليج العقبة مم��رات مائية‬
‫دولية‪ .‬كما تضمنت االتفاقية البدء مبفاوضات إلنشاء منطقة حكم‬
‫ذاتي للفلسطينيني في الضفة وقطاع غزة والتطبيق الكامل لقرار‬
‫مجلس األمن الدولي رقم ‪.242‬‬

‫يرى البعض إنه وحتى هذا اليوم لم ينجح السفراء اإلسرائيليني‬


‫في القاهرة ومنذ عام ‪ 1979‬في اختراق احلاجز النفسي واالجتماعي‬

‫‪505‬‬
‫والسياسي والثقافي الهائل بني مصر وإسرائيل وال تزال العديد من‬
‫القضايا عالقة بني الدولتني ومنها‪:‬‬

‫‪ - 1‬مسألة محاكمة مجرمي احلرب من اجليش اإلسرائيلي‬


‫املتهمني بقضية قتل أسرى من اجليش املصري في حرب‬
‫أكتوبر والتي جددت مصر مطالبتها بالنظر في القضية‬
‫عام ‪.2003‬‬

‫‪ - 2‬ام �ت �ن��اع إس��رائ �ي��ل ال�ت��وق�ي��ع ع�ل��ى م �ع��اه��دة م�ن��ع االنتشار‬


‫النووي‪.‬‬

‫‪ - 3‬مسألة مدينة أم الرشراش والواقعة حتت سيطرة إسرائيل‬


‫ويطلق على املدينة اسم «إيالت» من قبل اإلسرائيليني‪.‬‬
‫حيث إن البعض مقتنع إن قريـة أم الرشراش أو إيالت قد‬
‫مت احتاللها من قبل إسرائيل في ‪ 10‬آذار ‪ /‬مارس ‪1949‬‬
‫وتشير بعض ال��دراس��ات املصرية أن قرية أم الرشراش‬
‫أو إيالت كانت تدعى في املاضي (قرية احلجاج) حيث‬
‫ك��ان احل�ج��اج املصريون املتجهون إل��ى اجل��زي��رة العربية‬
‫يستريحون فيها‪.‬‬

‫‪ - 4‬قضية األموال التي تعتبرها مصر «أموال منهوبة» نتيجة‬


‫استخراج إسرائيل للنفط في سيناء ملدة ‪ 6‬سنوات‪.‬‬

‫استغل بيغن األيام التي تلت كامب ديفيد مباشرة لإلعالن عن‬
‫عزمه على إقامة مستوطنات في األراض��ي احملتلة‪ ،‬ثم بلغت ذروة‬
‫تصريحاته عام ‪ 1981‬عندما أقسم أنه لن يترك أي جزء من الضفة‬
‫الغربية وقطاع غزة ومرتفعات اجلوالن والقدس‪.‬‬

‫‪506‬‬
‫أم��ا جل�ه��ة ال �ت��أث �ي��رات اإلس�ت��رات�ي�ج�ي��ة وال�س�ي��اس�ي��ة لالتفاقية‬
‫فتتلخص بالتالي‪:‬‬

‫‪ - 1‬إنهاء حالة احلرب‬

‫‪ - 2‬مت �ت��ع ك�ل�ا ال �ب �ل��دي��ن ب�ت�ح�س�ين ال �ع�لاق��ات الدبلوماسية‬


‫واالقتصادية مع الدول األوروبية والواليات املتحدة‪.‬‬

‫‪ - 3‬ت�ع�ل�ي��ق ع �ض��وي��ة م �ص��ر ف��ي ج��ام �ع��ة ال� ��دول ال �ع��رب �ي��ة من‬
‫ع��ام ‪ 1979‬إل��ى ع��ام ‪ 1989‬نتيجة التوقيع على هذه‬
‫االتفاقية‪.‬‬

‫أث��ارت اتفاقيات »كامب ديفيد» ردود فعل معارضة في مصر‬


‫ومعظم الدول العربية‪ ،‬ففي مصر‪ .‬استقال وزير اخلارجية محمد‬
‫إبراهيم كامل ملعارضته االتفاقية التي سماها مذبحة التنازالت‪.‬‬

‫ي��رى ال�ب�ع��ض أن االت �ف��اق �ي��ة أدت إل��ى ن �ش��وء ن���وازع الزعامة‬
‫اإلقليمية والشخصية في العالم العربي لسد الفراغ ال��ذي خلفته‬
‫مصر وكانت هذه البوادر واضحة لدى القيادات في العراق وسوريا‬
‫فحاولت الدولتان تشكيل وحدة في عام ‪ 1979‬ولكنها انهارت بعد‬
‫أسابيع قليلة وق��ام ال �ع��راق على وج��ه السرعة بعقد قمة جلامعة‬
‫ال ��دول ال�ع��رب�ي��ة ف��ي ب �غ��داد ف��ي ‪ 2‬ت�ش��ري��ن ال�ث��ان��ي‪/‬ن��وف�م�ب��ر ‪1978‬‬
‫ورفضت اتفاقية كامب ديفيد وقررت نقل مقر اجلامعة العربية من‬
‫مصر وتعليق عضوية مصر ومقاطعتها وشاركت بهذه القمة ‪ 10‬دول‬
‫عربية ومنظمة التحرير الفلسطينية وعرفت هذه القمة باسم «جبهة‬
‫الصمود والتصدي»‪ .‬وفي ‪ 20‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر ‪ 1979‬عقدت‬
‫قمة تونس العادية وأكدت على تطبيق املقاطعة على مصر‪ .‬وازداد‬
‫التشتت في املوقف بعد حرب اخلليج األولى إذ انضمت سوريا وليبيا‬

‫‪507‬‬
‫إلى صف إيران وحدث أثناء هذا التشتت غزو إسرائيل للبنان في‬
‫عام ‪ 1982‬بحجة إزالة منظمة التحرير الفلسطينية من جنوب لبنان‬
‫ومتت محاصرة للعاصمة اللبنانية لعدة شهور‪.‬‬

‫عاشراً‪ :‬اغتيال السادات وخالفة حسني مبارك‬

‫ف��ي ال�س��ادس م��ن تشرين األول‪/‬أك�ت��وب��ر وف��ي ال��ذك��رى الثامنة‬


‫للحرب‪ ،‬اغتيل أنور السادات أثناء عرض عسكري باملناسبة‪ ،‬على يد‬
‫خالد االسالمبولي احد الضباط اإلسالميني املشاركني في العرض‪.‬‬
‫خلفه حسني مبارك‪ ،‬وشهد عهده الذي استمر ثالثون عاماً‪ ،‬مزبداً‬
‫من التحالف مع الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬وابتعاده عن القضايا‬
‫العربية املركزية‪ ،‬ومنها القضية الفلسطينية‪ .‬وشهد أواخ��ر عهده‬
‫لا م��ع إس��رائ�ي��ل حيث ش��ارك نظامه بحصار‬ ‫تنسيقاً واض�ح�اً وك��ام� ً‬
‫غزة‪.‬‬

‫انتهى عهد مبارك بثورة شعبية في اخلامس والعشرين من كانون‬


‫الثاني ‪ ،2011‬حيث تسلم املجلس العسكري احلكم‪ ،‬وبدأ مبحاكمة‬
‫رموز النظام‪ ،‬وسط استياء شعبي من تردد املجلس مبحاكمة هذه‬
‫الرموز محاكمة سريعة ومنها الرئيس حسني مبارك‪.‬‬

‫‪508‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫العراق‬

‫في ‪ 25‬نيسان سنة ‪ 1920‬صدر قرار مؤمتر احللفاء في سان‬


‫رميو الذي قضى بانتداب بريطانيا على العراق‪ .‬فغضب العراقيون‬
‫واندلعت ال�ث��ورة في ‪ 30‬ح��زي��ران ‪ 1920‬التي استمرت زه��اء ستة‬
‫أشهر أصبح فيها العراق ساحات حرب‪ .‬حيث ارتكب اإلنكليز مذابح‬
‫كثيرة‪ ،‬وكانت النتيجة أن استبدلت بريطانيا السير برسي كوكس‬
‫املعروف باملرونة واللني بحاكمها العام ولسن املعروف بالشدة‪ .‬وفي‬
‫تشرين األول ‪ 1920‬أنشأ كوكس احلكومة العراقية املؤقتة برئاسة‬
‫عبد الرحمن الكيالني نقيب األشراف في بغداد‪ .‬وفي أثناء ذلك كان‬
‫فيصل بن احلسني في لندن بعد أن طرده السوريون من دمشق‪ .‬وفي‬
‫‪ 9‬آذار ‪ 1921‬عقد مؤمتر القاهرة برئاسة تشرشل‪ ،‬فقرر إنشاء‬
‫دولة عراقية برئاسة امللك فيصل‪ .‬وفي ‪ 23‬آب ‪ 1921‬توج فيصل بن‬
‫احلسني ملكاً على العراق‪ .‬وفي ‪ 10‬أيلول ‪ 1921‬أعيد تأليف الوزارة‬
‫النقيبية الثانية برئاسة عبد الرحمن الكيالني‪.‬‬

‫عندما انتهت حركة النساطرة اآلشوريني في شمال العراق في‬

‫‪509‬‬
‫آب ‪ 1933‬التي أدت إلى مقتل أكثر من ‪ 1000‬شخص منهم‪ ،‬اطمأن‬
‫امللك فيصل إلى الوضع حيث رجع إلى أوروبا لالستجمام والراحة‪،‬‬
‫فقضى نحبه في مدينة برن بسويسرة في ‪ 8‬أيلول ‪ 1933‬فنقل إلى‬
‫بغداد ودفن فيها‪.‬‬

‫بويع غازي بن امللك فيصل ذات األعوام التسع والعشرين ملكاً‬


‫على البالد‪ .‬وظن البريطانيون أنه سيكون ألعوبة بني أيديهم‪ ،‬إال أن‬
‫امللك غازي خيَّب ظنهم‪ ،‬فكانت أول حكومة في عهده برئاسة رشيد‬
‫الكيالني (((‪.‬‬

‫ت��وال��ت احل�ك��وم��ات بعد ذل��ك وك��ان��ت املشاكل الداخلية تزداد‬


‫اتساعا‪ ،‬حتى كانت ثورة بكر صدقي التي أرغمت امللك على إقالة‬
‫حكومة ياسني الهاشمي في تشرين األول ‪ ،1936‬ثم جرت حادثة‬
‫مماثلة بقيادة نوري السعيد في كانون األول ‪ 1938‬حيث أجبر اجليش‬
‫امللك على إقالة حكومة جميل املدفعي وتكليف نوري السعيد تشكيل‬
‫حكومة ج��دي��دة‪ .‬وف��ي ‪ 4‬نيسان ‪ 1939‬قتل امللك غ��ازي بن فيصل‬
‫بحادث سيارة كان يقودها بنفسه‪ ،‬في وقت تقاطعت معلومات كثيرة‬
‫تفيد أن احلادث مفتعل من قبل إنكلترا وبالتعاون مع رئيس الوزراء‬
‫نوري السعيد ومرافق امللك الشخصي الذي كان يجلس خلفه والذي‬
‫قتل أيضاً بعد احلادث‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬امللك فيصل الثاني ووصاية عبد اإلله‬

‫بعد مقتل امللك غازي اجتمع مجلس الوزراء وأعلن تنصيب ولي‬
‫العهد األمير فيصل ملكاً على العراق باسم «فيصل الثاني» بتاريخ ‪6‬‬
‫في عهد امللك غازي حدث خالف بني العراق وإيران على احلدود أدى إلى نزاع أو حدثت‬ ‫((( ‬
‫معارك غير نظامية بني الطرفني وذلك أثناء تولي جميل املدفعي رئاسة احلكومة‪.‬‬

‫‪510‬‬
‫نيسان ‪ .1939‬وسمي عبد اإلله بن علي وصياً على امللك الذي لم يبلغ‬
‫سن الرشد القانونية‪ .‬وهكذا استطاعت إنكلترا املضي في سياستها‬
‫في ال�ع��راق‪ .‬إل��ى ما تريد بعد تعيني عبد اإلل��ه وصياً على امللك في‬
‫ظل وجود نوري السعيد إلى جانبه ومع اندالع احلرب العاملية الثانية‬
‫عام ‪ 1939‬وقف العراق إلى جانب إنكلترا وأعلن احلرب على أملانيا‪،‬‬
‫وظهرت السياسة االنكليزية بوضوح على الساحة العراقية بوجود‬
‫الوصي ونوري السعيد‪ ،‬إال أن ضباط اجليش الوطنيني وبعض الزعماء‬
‫اآلخرين كرشيد الكيالني الذي أطلق شرارة الثورة في نيسان ‪،1941‬‬
‫فهرب الوصي عبد اإلله إلى البصرة واحتمى بالقوات اإلنكليزية‪ .‬وأعلن‬
‫رشيد الكيالني تشكيل حكومة الدفاع الوطني مدعومة من اجليش‬
‫العراقي والشعب‪ ،‬وكان مجلس النواب قد اجتمع وعينَّ الشريف شرف‬
‫وصياً على امللك بعد فرار الوصي السابق عبد اإلله‪ .‬لم ترض إنكلترا‬
‫عن حكومة الكيالني وثورته فقامت باستدعاء قواتها من الهند وأنزلت‬
‫قواتها في البصرة‪ ،‬وقامت بقصف مواقع اجليش العراقي بالطائرات‪.‬‬
‫كما انتقل اجليش البريطاني املوجود في األردن إلى العراق‪ .‬أدى ذلك‬
‫إلى هروب أرك��ان احلكومة الوطنية إلى طهران‪ ،‬بعدما قاوم اجليش‬
‫العراقي والعديد من املتطوعني من الشعب العراقي والشعوب العربية‬
‫الثورة ضد اإلنكليز‪ .‬بعد ذلك عاد الوصي عبد اإلله في ‪ 22‬أيار ‪1941‬‬
‫على منت طائرة إنكليزية ليعود ويحكم العراق من جديد‪ ،‬وقامت القوات‬
‫البريطانية مبطاردة الثوار في إي��ران فألقت القبض على غالبيتهم‬
‫باستثناء الكيالني الذي استطاع الهرب‪ ،‬ثم قامت حكومة نوري السعيد‬
‫بإعدامهم بعد محاكمات صورية‪ .‬وكان احلال يزداد سوءاً‪ ،‬إذ استمر‬
‫نوري السعيد بوالئه املطلق لإلنكليز‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬اإلطاحة بامللكية‬

‫عملت إنكلترا مجدداً على ضمان سيطرتها على العراق بتكبيله‬

‫‪511‬‬
‫بقيود أشد‪ ،‬لذلك عمدت إلى إلغاء معاهدة ‪ 1930‬لقاء انضمامه‬
‫ال من تركيا وبريطانيا وباكستان‬ ‫إلى حلف بغداد ‪ 1955‬الذي ضم ك ً‬
‫وإيران‪ .‬وهدفت بريطانيا من احللف حماية النظام العراقي خشية‬
‫ت�ن��ام��ي ح��رك��ة ال�ت�ح��رر ال�ع��رب��ي ال �ت��ي أخ ��ذت تشتد ع ��ودا ف��ي فترة‬
‫اخلمسينيات بزعامة الرئيس جمال عبد الناصر الذي توج أعماله‬
‫بإعالنه تأميم قناة السويس‪ ،‬فكان إثر ذلك العدوان الثالثي على‬
‫مصر عام ‪ .1956‬وقد استخدمت بريطانيا في هذه املعركة مطار‬
‫احلبانية في العراق لتعبئة الوقود والستراحة الطائرات املغيرة‪.‬‬
‫م��ا أث ��ار ال�ش�ع��ب وال��زع �م��اء ال�ع��راق�ي�ين ال��وط�ن�ي�ين فسنحت فرصة‬
‫تفجير الثورة عندما أقدمت قيادة اجليش على نقل بعض الوحدات‬
‫العسكرية التي يسيطر عليها بعض الضباط األحرار بإشراف عبد‬
‫الكرمي قاسم وعبد السالم عارف إلى األردن عبر بغداد عشية ‪13‬‬
‫‪ 14‬مت��وز ‪ .1958‬وق��د ت��ول��ى عبد ال�س�لام ع��ارف ص�ب��اح ‪ 14‬متوز‬
‫عملية االستيالء على املرافق احلساسة وإذاعة البيان رقم واحد من‬
‫اإلذاعة‪ .‬ومن ثم توجهت وحدة صغيرة الحتالل القصر اجلمهوري‪.‬‬
‫وعند شيوع اخلبر راح مؤيدو الثورة يتدفقون على الشوارع األمر‬
‫الذي أضفى على احلركة طابع الثورة الشعبية‪ .‬وقتل امللك فيصل‬
‫والوصي عبد الله فوراً‪ ،‬وحاول نوري السعيد الفرار إال إنه اعتقل‬
‫واعدم وأعلن عن قيام اجلمهورية العراقية‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬عهد عبد الكرمي قاسم (‪ 14‬متوز ‪ 8 - 1958‬شباط‬


‫‪)/1963‬‬

‫فور قيام الثورة وجناحها‪ ،‬اعترف النظام اجلديد باجلمهورية‬


‫العربية املتحدة وانسحب من االحت��اد الهاشمي‪ ،‬ال��ذي ك��ان «نوري‬
‫السعيد» رئيساً حلكومته األولى واألخيرة وكذلك انسحب من حلف‬
‫بغداد‪ ،‬وأعلن عن إتباع سياسة احلياد االيجابي ومعاداة االستعمار‪.‬‬

‫‪512‬‬
‫وك��ان خ��روج العراق من حلف بغداد ضربة قاصمة للحلف وكذلك‬
‫للسياسة االستعمارية في املنطقة‪.‬‬

‫استلم رئ��اس��ة ال�ب�لاد عبد ال�ك��رمي قاسم ونائبه عبد السالم‬


‫عارف‪ .‬إال أن اخلالفات لم تلبث أن نشبت بني زعيمي الثورة عبد‬
‫الكرمي قاسم وعبد السالم عارف الذي شعر أنه هو من قام بالثورة‬
‫ونقل عنه أن مصير عبد الكرمي قاسم مثل مصير محمد جنيب في‬
‫مصر‪ ،‬وأث��ارت ه��ذه األق��اوي��ل الرئيس العراقي عبد ال�ك��رمي قاسم‬
‫فعمد إلى جتريد عارف من مراكزه السياسية والعسكرية‪ ،‬وحاول‬
‫ايفاده في إلحدى السفارات في اخلارج‪ ،‬إال أنه رفض ذلك‪ ،‬فاتهم‬
‫فيما بعد مبحاولة إغتيال الرئيس قاسم‪ ،‬فحكم عليه باإلعدام إال‬
‫أن احلكم لم ينفذ وأودع السجن حتى عام ‪ 1961‬حيث أفرج عنه‬
‫وسمح له مبغادرة البالد‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬حركة رشيد الكيالني‬

‫ب�ع��د جن��اح ث ��ورة ال�ض�ب��اط األح� ��رار ف��ي ال �ع��راق ع��ام ‪،1958‬‬
‫رجع إلى بغداد زعيم ثورة ‪ 1941‬رشيد الكيالني في تشرين األول‬
‫‪ .1958‬بعد ذلك ترامى إلى عبد الكرمي قاسم أن رشيد الكيالني‬
‫يعد انقالباً‪ ،‬فتم القبض عليه وعلى معاونيه وقدم للمحاكمة التي‬
‫أنزلت به حكم اإلع��دام غير أن احلكم لم يصدق وظل في السجن‬
‫حتى أفرج عنه في ‪ 14‬متوز ‪ .1964‬كما قامت في املوصل حركة‬
‫انقالبية بقيادة عبد الوهاب الشواف في ‪ 8‬آذار ‪ 1958‬وهو أحد‬
‫الضباط األحرار إال أن قاسم كان عنيفاً في تعامله مع هذه احلركة‬
‫فقام بقصف املوصل باملدفعية‪ ،‬وقتل الشواف في هذه املعركة‪.‬‬

‫‪513‬‬
‫خامس ًا‪ :‬ثورة شباط ‪ 1963‬وعهد عبد السالم عارف (‪8‬‬
‫شباط ‪ 13 - 1963‬نيسان ‪)1966‬‬

‫مال بعض قادة ثورة متوز إلى احلكم الفردي‪ ،‬فمارسوا أعماالً‬
‫أدت إلى عزلتهم عن الشعب وإلى عدة حتركات ضد النظام‪ ،‬واعتبر‬
‫حزب البعث احملرك الرئيسي لهذه التحركات‪ ،‬وفي ‪ 8‬شباط ‪1963‬‬
‫ب��دأ ضباط ال�ث��ورة تسلم امل��راك��ز واعتقال الضباط امل��وال�ين لنظام‬
‫احل�ك��م‪ ،‬ومتكنوا فيما بعد م��ن السيطرة على مقر إق��ام��ة الرئيس‬
‫قاسم‪ ،‬ووجد البعثيون انفسهم مضطرون لتسليم زمام األم��ور إلى‬
‫ضابط مقبول من قبل الشعب‪ ،‬فكان عبد السالم عارف الذي تسلم‬
‫رئاسة البالد‪ .‬وقوبلت هذه احلركة بتأييد شعبي واسع‪.‬‬

‫سيطر حزب البعث على الوضع في العراق‪ ،‬وعني عارف رئيساً‬


‫للجمهورية‪ ،‬إال أن اخلالفات سرعان ما دبت داخل احلزب نتيجة‬
‫جت��اوزات كثيرة‪ ،‬م��ا أدى إل��ى ح��دوث ن��زاع��ات وان�ش�ق��اق��ات‪ ،‬فاتفق‬
‫الرئيس عارف الذي لم يكن حزبيا‪ ،‬مع رئيس األركان طاهر يحيى‬
‫حلسم ال��وض��ع‪ ،‬وف��ي ‪ 18‬تشرين الثاني ‪ 1963‬أل�ق��يَّ القبض على‬
‫أعضاء القيادتني القومية والقطرية‪ ،‬وأودعوا السجن‪ ،‬كما احتجز‬
‫كل من أمني احلافظ وميشال عفلق اللذان حضرا من سوريا لفض‬
‫النزاعات بني البعثيني‪.‬‬

‫وضع عبد السالم عارف يده على السلطة بشكل مطلق‪ ،‬وكلف‬
‫طاهر يحيى تشكيل احلكومة التي أخذت منحً ى قومياً وحدوياً إلى‬
‫جانب املد الناصري في مصر‪ .‬وكادت الوحدة بني البلدين أن تتم‬
‫لوال ردود الفعل الشعبية جتاه قرارات التأميم التي اتخذتها حكومة‬
‫طاهر يحيى‪ ،‬فاضطر الرئيس إعادة الوضع إلى ما كان عليه سابقاً‪.‬‬
‫أدى هذا التحوّل إلى وجود ثغرات في احلكم من قبل مؤيدي الوحدة‬

‫‪514‬‬
‫مع مصر‪ ،‬فاستغل هؤالء الضباط وعلى رأسهم عارف عبد الرزاق‬
‫وجود الرئيس عبد السالم عارف في الدار البيضاء حلضور اجتماع‬
‫القمة العربية في ‪ 12‬أيلول ‪ ،1965‬وقاموا مبحاولة انقالب إال أن‬
‫وج��ود شقيق الرئيس عبد الرحمن ع��ارف في رئاسة األرك��ان أعاد‬
‫األم��ور إل��ى وضعها‪ ،‬ومتكن م��ن ص��د االن�ق�لاب ومتكن ع��ارف عبد‬
‫الرزاق من الفرار إلى القاهرة‪ .‬وفي ‪ 13‬نيسان ‪ 1966‬وأثناء رحلة‬
‫جوية بني البصرة وبلدة القرنة تعرضت طائرة الرئيس عبد السالم‬
‫ع��ارف املروحية لعاصفة رملية أدت إلى وقوعها ومقتل جميع من‬
‫فيها‪ .‬فتولى رئيس احلكومة عبد الرحمن ال�ب��زاز السلطة حسب‬
‫الدستور ريثما يتم اختيار رئيس جديد للبالد‪.‬‬

‫س��ادس� ًا‪ :‬عهد عبد الرحمن ع��ارف (‪ 17‬نيسان ‪- 1966‬‬


‫‪ 17‬متوز ‪)1968‬‬

‫جنح عبد الرحمن عارف باستالم احلكم بعد وفاة شقيقه فعمل‬
‫على تهدئة األوضاع السياسية واالجتماعية واالقتصادية في البالد‪.‬‬
‫وفي حزيران ‪ 1966‬قام عارف عبد الرزاق مبحاولة انقالب ثانية‬
‫إال أنه فشل وأودع السجن ملدة سنة ثم أفرج عنه‪ .‬ثم اتسعت املشاكل‬
‫الداخلية بني العسكريني واملدنيني في وقت كان الرئيس عبد الرحمن‬
‫واقفا بني اجلماعتني‪ .‬ومع أحداث نكسة حزيران ‪ 1967‬كان عارف‬
‫مترئساً احلكومة إضافة إلى رئاسة اجلمهورية‪ ،‬وقد أرسل العراق‬
‫حينها قوات عسكرية ملساندة سوريا ومصر واألردن في حربهم ضد‬
‫إسرائيل‪ .‬وبعد احلرب ازدادت النشاطات احلزبية وخاصة حلزب‬
‫البعث الذي عاد بقوة إلى الساحة الداخلية كما احلزب الشيوعي‪.‬‬
‫وفي ‪ 17‬متوز ‪ 1968‬حدث انقالب أطاح بعبد الرحمن عارف ونظام‬
‫حكمه ‪.‬‬

‫‪515‬‬
‫سابع ًا‪ :‬عهد أحمد حسن البكر (‪ 7‬متوز ‪)1979 - 1968‬‬

‫استطاع البعثيون وضع يدهم على السلطة من جديد‪ ،‬وتسلم زمام‬


‫األمور أحمد حسن البكر الذي ناصره حردان التكريتي وصالح مهدي‬
‫عماش وصدام حسني‪ .‬ومن أهم العقبات التي واجهت البكر القضية‬
‫الكردية‪ ،‬إذ عاد القتال معهم في تشرين األول ‪ 1968‬وازدادت ضراوة‬
‫واستمرت عامني‪ ،‬حيث اتهمت احلكومة األكراد بالتمرد والتعامل مع‬
‫إيران وإسرائيل‪ .‬وفي ‪ 11‬آذار ‪ 1970‬جرى اتفاق بني احلكومة (برئاسة‬
‫البكر نفسه) واألكراد منحوا على إثره حكماً ذاتياً وتقرر أن تكون مدينة‬
‫اربيل عاصمة إقليمهم‪ ،‬واشترط عليهم تطبيق االتفاق بدءاً من آذار‬
‫‪ 1974‬أي بعد أربع سنوات؛ إال أن االتفاق لم يطبق فيما بعد وعادت‬
‫املعارك بني اجلانبني‪ .‬وفي مطلع عام ‪ 1971‬قتل حردان التكريتي في‬
‫حادث طائرة‪ ،‬ثم أعفي صالح مهدي عماش عن مهامه بعد ستة أشهر‬
‫وكذلك عبد الكرمي الشيخاني‪ ،‬فخال الطريق بذلك أمام صدام حسني‬
‫التكريتي الذي أصبح نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة‪.‬‬

‫في أول حزيران ‪ 1974‬أعلن البكر تأميم النفط ما أدى إلى‬


‫قفزات كبيرة في مستوى الدخل الفردي‪ .‬وعندما اندلعت حرب تشرين‬
‫‪ 1973‬أرسل البكر قوات عسكرية عراقية للمشاركة في القتال‪ .‬وعلى‬
‫إثر اتفاقية كامب دايفيد بادر حزب البعث في العراق إلى الدعوة ملؤمتر‬
‫قمة عربية عقدت في بغداد أدت إل��ى تقارب س��وري عراقي بهدف‬
‫احلفاظ على متاسك الصف العربي‪ .‬وأدت القمة إلى قطع الصالت‬
‫العربية مع مصر واإلعالن عن قيام جبهة التصدي والصمود‪.‬‬

‫ثامن ًا‪ :‬عهد صدام حسني (‪ 16‬متوز ‪)2003 - 1979‬‬

‫في ‪ 16‬متوز ‪ .1979‬أعلن أحمد حسن البكر تنحيه عن الرئاسة‬

‫‪516‬‬
‫لصالح نائبه ورفيقه صدام حسني‪ .‬وسرعان ما أعلن فيما بعد عن‬
‫(مؤامرة رفاق سابقني وانقالب أبيض)‪ .‬وقد تعامل الرئيس اجلديد‬
‫بسرعة وحزم فأعدم عدداً من املتآمرين وثبت موقعة في الرئاسة‪.‬‬

‫تاسع ًا‪ :‬حرب العراق إيران أيلول ‪1980‬‬

‫ك��ان��ت مسألة ال�ع�لاق��ة م��ع إي��ران م��ن امل�س��ائ��ل الرئيسية التي‬


‫واجهها صدام حسني منذ تسلمه الرئاسة‪ .‬فاتفاقية اجلزائر بنظر‬
‫الرئيس العراقي لم يطبقها اجلانب اإلي��ران��ي‪ ،‬إذ إن��ه لم ينسحب‬
‫إل��ى املواقع املتفق عليها‪ .‬كما تخوف النظام في بغداد من الثورة‬
‫اإلسالمية التي قلبت نظام الشاه واستولت على احلكم‪.‬‬

‫أعلن النظام العراقي عن نقضه التفاقية اجلزائر‪ ،‬وأعلن احلرب‬


‫ضد إيران في ‪ 17‬كانون الثاني ‪ .1980‬واستمرت هذه احلرب حتى‬
‫‪ 18‬متوز ‪ 1988‬إذ أعلنت إيران من جانبها قبول وقف إطالق النار‬
‫وإنهاء احلرب مع العراق الذي وافق على مبادرة األمم املتحدة في‬
‫‪ 6‬آب ‪ ،1988‬والتي أدت إلى خسائر فادحة‪ .‬فقد سقط إليران بني‬
‫‪ 1980‬و‪ 1988‬ما ال يقل عن ‪ 400,000‬قتيل مقابل ‪ 300,000‬قتيل‬
‫عراقي‪ .‬أما اخلسائر املادية فقد كلفت احلرب إيران حوالي ‪400‬‬
‫مليار دوالر أمريكي وكلفت العراق ‪ 193‬مليار دوالر أمريكي‪ .‬فيما‬
‫أدت النتائج السياسية إلى ف��راق بني ال��دول العربية‪ ،‬حيث دعمت‬
‫دول اخلليج العراق‪ ،‬فيما وقفت سوريا إلى جانب إيران‪ ،‬خاصة أن‬
‫العالقات بني البلدين كانت قد قطعت إثر إعالن العراق عن إحباطه‬
‫محاولة انقالب بدعم من سوريا رغم إنكار سوريا‪.‬‬

‫عاشراً‪ :‬حرب اخلليج الثانية ‪ 2‬آب ‪1990‬‬

‫رفض أمير الكويت الشيخ جابر الصباح إلغاء ما كان يتوجب‬

‫‪517‬‬
‫على العراق من ديون (‪ 15‬مليار دوالر) إضافة إلى الدين اخلارجي‬
‫البالغ حوالي ‪ 35‬بليون دوالر‪ .‬فقامت اجليوش العراقية في ‪ 2‬آب‬
‫‪ 1990‬بغزو الكويت األمر الذي أدى إلى سقوط العديد من القتلى‬
‫في صفوف الكويتيني (منهم الشيخ فهد الصباح شقيق األمير جابر)‪،‬‬
‫وجلأت احلكومة الكويتية إلى الرياض حيث ناشدت املجتمع الدولي‬
‫بالتدخل لوقف الكارثة‪.‬‬

‫وفي ‪ 6‬آب أعلن مجلس األمن الدولي فرض احلظر الشامل‬


‫على العراق وإقفال أنابيب النفط العراقية‪ .‬رفض الرئيس العراقي‬
‫صدام حسني جميع املبادرات الدولية والعربية حلل األزم��ة سلمياً‬
‫واالنسحاب من الكويت‪.‬‬

‫حادي عشر‪ :‬معركة عاصفة الصحراء‬

‫في ‪ 25‬آب سمح مجلس األمن باستخدام القوة العسكرية لفرض‬


‫احلظر على ال �ع��راق‪ ،.‬وأعلنت ال��والي��ات املتحدة ع��ن حشد قواتها‬
‫العسكرية لتحرير الكويت اضافة الى ‪ 27‬دولة عربية وأجنبية‪ .‬وفي‬
‫‪ 16‬كانون الثاني ‪ 1991‬بدأت عملية عاصفة الصحراء ضد العراق‪.‬‬
‫والتي استخدمت فيها أحدث اآلالت واملعدات العسكرية من طائرات‬
‫وصواريخ وبوارج ومدرعات‪ .‬وفي ‪ 24‬شباط بدأ الهجوم البري عبر‬
‫األراض��ي الكويتية‪ ،‬وسرعان ما ب��دأ اجليش العراقي بالتراجع أو‬
‫وف��ي ‪ 27‬شباط دخلت ال�ق��وات الكويتية تساندها ق��وات التحالف‬
‫مدينة الكويت العاصمة‪ .‬وف��ي ‪ 28‬شباط أعلن الرئيس األمريكي‬
‫جورج بوش وقف العمليات العسكرية لدول التحالف ضد العراق‪.‬‬

‫ثاني عشر‪ :‬العراق بعد العاصفة‬

‫استمر احلصار املفروض على العراق منذ ‪ 6‬آب ‪ 1990‬عقب‬

‫‪518‬‬
‫االج�ت�ي��اح للكويت‪ ،‬وق��د رفضت األمم املتحدة وبضغط واض��ح من‬
‫الواليات املتحدة أي مبادرة أو حل لفك هذا احلصار أو التخفيف‬
‫من أعبائه‪ ،‬فتفاقمت األوضاع االقتصادية بشكل مأساوي‪ ،‬وبدأت‬
‫نتائج احلصار تظهر في نقص األدوية واملواد الغذائية واملواد األولية‪،‬‬
‫األمر الذي أدى إلى موت اآلالف من أفراد الشعب العراقي غالبيتهم‬
‫من األطفال وكبار السن‪.‬‬

‫ت��ذرع��ت ال��والي��ات امل�ت�ح��دة ل��رف��ض ف��ك احل �ص��ار ع��ن العراق‪،‬‬


‫باالعتراض ال��ذي طاملا أب��داه العراق على اللجنة الدولية اخلاصة‬
‫املكلفة بإزالة األسلحة العراقية احملظورة‪ .‬وقد عملت هذه اللجنة‬
‫على إزال��ة ع��دد كبير من األسلحة ومل��دة طويلة‪ ،‬إال إنها كانت بني‬
‫الفترة واألخ��رى تعود أدراج�ه��ا إل��ى نيويورك مدعية أن السلطات‬
‫العراقية متنعها من القيام بعملها كما يجب‪ .‬وبعد تعالي الصرخات‬
‫واألصوات املنادية حلماية احلقوق اإلنسانية‪ ،‬وبعد صور اجلنازات‬
‫اجلماعية لألطفال العراقيني‪ ،‬وافق مجلس األمن على «اتفاقية النفط‬
‫مقابل الغذاء» في كانون األول ‪ .1996‬فحددت بعض أنواع األغذية‬
‫واألدوية التي مت بيعها للعراق مقابل كمية محددة من النفط‪.‬‬

‫ثالث عشر‪ :‬الضربات العسكرية مجدد ًا‬

‫تسارعت األحداث بشكل كبير‪ ،‬عندما أعلن العراق أواخر عام‬


‫‪ ،1998‬أن جلنة نزع األسلحة العراقية «أونسكوم» متارس التجسس‬
‫على العراق لصالح الواليات املتحدة األمريكية وعملت على طردها‬
‫ورفضت للتعامل معها بشكل مطلق‪ .‬وبعد عدة حتذيرات وتهديدات‬
‫أميركية وبريطانية مبعاودة قصف املنشآت العراقية إن ظل النظام‬
‫على موقفه‪ .‬قامت ال�ق��وات العسكرية م��ن جديد بقصف أهداف‬
‫ع��راق�ي��ة م��ن ال �ب��وارج احل��رب�ي��ة املنتشرة ف��ي اخلليج ف��ي ‪ 15‬كانون‬

‫‪519‬‬
‫األول ‪ .1998‬ثم تبع ذلك غ��ارات جوية يومية ومكثفة من القوات‬
‫األمريكية والبريطانية على األراضي العراقية في الشمال واجلنوب‬
‫والوسط‪ .‬ما أدى إلى وقوع املزيد من الضحايا في صفوف املدنيني‬
‫العراقيني‪.‬‬

‫رابع عشر‪ :‬اخلسائر العراقية من جراء احلظر‬

‫إزاء ال�ظ��روف امل��أس��اوي��ة التي م��ر بها الشعب العراقي عقب‬


‫احلظر االقتصادي املفروض عليه منذ شهر آب ‪ 1990‬بلغت حصيلة‬
‫الضحايا حتى آب ‪ 1999‬م��ا يقرب م��ن مليون و‪ 187‬أل�ف�اً و‪486‬‬
‫ش�خ�ص�اً‪ ،‬وتضاعفت نسبة وف�ي��ات األط �ف��ال عما ك��ان��ت عليه قبال‬
‫بسبب احلصار‪.‬‬

‫أما اخلسائر املالية جراء احلظر فقد جتاوزت ‪ 200‬مليار دوالر‬


‫حتى آب ‪ ،1999‬نتيجة توقف الصادرات النفطية طيلة هذه األعوام‪،‬‬
‫إضافة إلى تعطل التجهيزات النفطية‪ ،‬وانخفاض القدرة اإلنتاجية‬
‫للحقول وطاقة التصدير في موانئه‪ .‬وإذا احتسبت الصادرات غير‬
‫النفطية‪ ،‬ف��إن اخلسائر ستزيد حتى ‪ 250‬بليون دوالر‪ ،‬علماً أن‬
‫ال�ع��راق يعد ثاني أكبر ق��وة نفطية في العالم بعد اململكة العربية‬
‫السعودية‪.‬‬

‫خامس عشر‪ :‬غزو العراق وسقوط بغداد‬

‫منذ وص��ول الرئيس األم��ري�ك��ي ج��ورج ب��وش االب��ن إل��ى البيت‬


‫األبيض حاول التأثير في مجلس األمن الص��دار قرار يجيز تنظيم‬
‫حملة عسكرية تطيح بنظام الرئيس ص��دام حسني‪ ،‬إال أن مجلس‬
‫األمن لم يحقق له رغبته هذه بسبب معارضة كل من فرنسا وروسيا‬
‫والصني وتهديدهم باستخدام حق النقض (الفيتو)‪ ،‬ما دفع الواليات‬

‫‪520‬‬
‫املتحدة بالتنسيق مع إنكلترا واستراليا وبعض الدول األخرى إلى شن‬
‫حملة عسكرية على العراق بحجة نزع أسلحة الدمار الشامل دون‬
‫ص��دور ق��رار من مجلس األم��ن يجيز ذل��ك‪ .‬ومت بالفعل غزو العراق‬
‫وسقطت بغداد بتاريخ ‪ .2003/4/9‬ومتكنت القوات األمريكية في‬
‫‪ 13‬ك��ان��ون األول ‪2003‬؛ أي بعد ‪ 8‬أش�ه��ر م��ن س�ق��وط ب �غ��داد في‬
‫قبضتها‪ ،‬من اعتقال الرئيس العراقي صدام حسني‪ ،‬وبعد محاكمات‬
‫أم��ام محكمة جنائية عراقية أدي��ن بارتكاب جرائم ضد اإلنسانية‬
‫فحكم عليه باإلعدام ونفذ احلكم فيه‪.‬‬

‫‪521‬‬
522
‫الفصل الرابع‬
‫فلسطني‬

‫شكلت فلسطني عبر التاريخ هدفاً مهماً جلميع الدول الهادفة‬


‫إل��ى التوسع س��واء في التاريخ القدمي أو احلديث(((‪ .‬وف��ي أعقاب‬
‫يعود أصل الفلسطينيني إلى سواحل بحر إيجه في آسيا الصغرى وإلى جزيرة كريت‪،‬‬ ‫((( ‬
‫هاجروا إلى فلسطني أواخر القرن الثالث عشر ق‪.‬م‪ .‬وسميت هذه السواحل التي أقاموا‬
‫عليها بـ «فلسطني» نسبة لهم‪ .‬ويذكر املؤرخون أنهم شيّدوا خمسة مدن مهمة هي‪ :‬غزة‬
‫وعسقالن وغ��اث وعقرون وأش ��دود‪ ..‬ول��م ميض القرن احل��ادي عشر ق‪.‬م‪ .‬حتى كان‬
‫الفلسطينيون قد اندمجوا بشكل كامل في احلضارة الكنعانية‪ .‬وقد دل على ذلك عدة‬
‫أدلة أثرية وتاريخية‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬تعرضت فلسطني إلى غزوة من قبل اليهود مارسوا خاللها‬
‫ضروباً من القسوة والوحشية واإلب��ادة‪ ،‬إال أنهم لم يستطيعوا طرد السكان األصليني‪.‬‬
‫حاول يوشع بن نون احتالل مدينة يبوس (القدس) فقاومه اليبوسيون بقوة‪ ،‬وظلت القدس‬
‫ممنوعة على اليهود بنحو مائتي عام‪ ،‬وأخيراً نحو عام ‪ 997‬ق‪.‬م‪ .‬متكن النبي داود من‬
‫االستيالء على القدس‪ ،‬وبعد وفاته عليه السالم تولى ابنه سليمان عليه السالم حكمها‬
‫ومن بعده ولده رحيمام سنة ‪ 975‬ق‪.‬م‪ .‬وقد انقسمت البالد إلى دولتني‪ :‬مملكة يهودا‬
‫وعاصمتها أورشليم‪ ،‬ومملكة إسرائيل وعاصمتها السامرة‪ ،‬واشتدت احلرب بني اململكتني‬
‫مما شجع اآلشوريني على مهاجمتهم وإخضاعهم واحتالل القدس‪ ،‬وانقرضت مملكة‬
‫يهودا سنة ‪ 586‬ق‪.‬م‪ .‬وبهذا انتهت أسرة داوود املالكة في أورشليم وكذلك انقرضت‬
‫مملكة إسرائيل في سنة ‪ 332‬ق‪.‬م‪ .‬استولى االسكندر املقدوني على أورشليم‪ ،‬فانقسم‬
‫اليهود إلى قسمني‪ :‬منهم من اقتدى باليونانيني وحضارتهم‪ ،‬ومنهم من بقي متعصباً‪=،‬‬

‫‪523‬‬
‫اح�ت�لال بريطانيا للهند ف��ي ال�ق��رن ال�س��اب��ع ع�ش��ر‪ ،‬اس�ت�ع��اد الغرب‬
‫اهتمامه باملنطقة‪ ،‬كما كان حلملة نابليون على مصر وفلسطني أثر‬
‫في إبراز األطماع البريطانية في السيطرة على املنطقة‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬وعد بلفور (‪ 2‬تشرين الثاني ‪)1917‬‬

‫هو الوعد البريطاني الرسمي الذي أعلنت فيه بريطانيا تعاطفها‬


‫مع األماني اليهودية في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطني‪ ،‬عبر‬
‫رسالة بعث بها اللورد بلفور ‪ -‬وزير اخلارجية البريطاني آنذاك ‪-‬‬
‫إلى اللورد روتشيلد‪ ،‬املليونير اليهودي املعروف‪.‬‬
‫وقام بتمرد ضد االضطهاد اليوناني‪ .‬وفي عام ‪ 135‬ق‪.‬م‪ .‬متكن اإلمبراطور الروماني‬ ‫= ‬
‫هدريان من إخماد ثورة اليهود ودمر أورشليم‪ ،‬وقتل أعداد كبيرة من اليهود ومنعهم من‬
‫دخول القدس‪ .‬وفي أواخ��ر القرن األول ق‪.‬م‪ .‬ولد السيد املسيح في بيت حلم وعاش‬
‫في فلسطني حيث انتشرت تعاليمه رغم ما لقيت دعوته ورسالة من عداء ومقاومة من‬
‫جانب اليهود والرومان‪ .‬حتى كان مطلع القرن الرابع امليالدي حيث تنصر اإلمبراطور‬
‫قسطنطني فشيّد عدة كنائس أشهرها كنيسة القيامة في القدس‪ ،‬وكنيسة املهد في بيت‬
‫حلم‪ .‬وفي العهد اإلسالمي اجتهت اجليوش اإلسالمية لفتح بالد الشام ومحاربة الروم‬
‫في عهد اخلليفة عمر بن اخلطاب‪ .‬وكان على رأس اجليش الصحابي اجلليل أبو عبيدة‬
‫بن اجلراح‪ .‬فتولى القيادة خالل معركة اليرموك الفاصلة القائد احملنك خالد بن الوليد‬
‫الذي استطاع إحلاق هزمية منكرة باجليش البيزنطي‪ ،‬وتوغل اجليش اإلسالمي في‬
‫مختلف املناطق‪ .‬وسار أبو عبيدة باجتاه بيت املقدس وحاصرها‪ ،‬فأجابوا إلى الصلح‬
‫ولكنهم اشترطوا أن ال يسلموا املدينة إال ألمير املؤمنني‪ ،‬فأرسل أبو عبيدة إلى أمير‬
‫املؤمنني يخبره باألمر‪ .‬فخرج اخلليفة عمر من املدينة باجتاه بيت املقدس‪ .‬وترك اإلمام‬
‫علي بن أبي طالب على املدينة‪ ،‬فدخل بيت املقدس ثم دخل املسجد األقصى وصلى‬
‫فيه مع املسلمني‪ ،‬ثم سار إلى الصخرة وجعل املسجد في قبلة بيت املقدس‪ ،‬ورجع إلى‬
‫املدينة املنورة‪ .‬وبقيت القدس عربية إسالمية تعاقب عليها احلكام العرب واملسلمون من‬
‫اخللفاء الراشدين إلى األمويني والعباسيني إلى بني طولون واألخشيديني فالفاطميني‬
‫والسالجقة واملماليك والعثمانيني منذ فتحها اخلليفة عمر بن اخلطاب سنة ‪ 15‬هـ‪636/‬‬
‫م حتى سنة ‪ .1367‬باستثناء فترة احلروب الصليبية‪ ،‬حيث متكن الناصر صالح الدين‬
‫األيوبي من حتريرها من يد الصليبيني بعد معركة حطني (‪ .)1187 - 1099‬وقد شهدت‬
‫فلسطني في العهد اإلسالمي انتعاشاً واسعاً‪ ،‬فشيدت املعاهد اإلسالمية العلمية‪ ،‬وبرز‬
‫العديد من العلماء واملفكرين والقادة‪.‬‬

‫‪524‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬االنتداب البريطاني‬

‫وبعد انتصار احللفاء في احلرب العاملية األولى‪ ،‬كانت فلسطني‬


‫من األراضي التي وقعت بأيدي البريطانيني‪ ،‬وأصبحت بالتالي حتت‬
‫االنتداب البريطاني (‪ )1948 - 1922‬مبوجب صك منحه احللفاء‬
‫وعصبة األمم لبريطانيا عام ‪ 1922‬ضد رغبة سكان فلسطني املعبر‬
‫عنها أمام جلنة كينغ ‪ -‬كراين‪ .‬وقد أدخلت في صك االنتداب مادة‬
‫تتضمن التزاماً من قبل الدولة املنتدبة بإقامة «وطن قومي لليهود‬
‫في فلسطني» وتنفيذ وعد «بلفور»‪.‬‬

‫وكان املندوب السامي الذي عينته احلكومة البريطانية على‬


‫فلسطني هربرت صموئيل اليهودي األصل االنكليزي اجلنسية الذي‬
‫أخذ على عاتقه أن يضع إمكانات الدولة املنتدبة ملساعدة اليهود‬
‫على تنفيذ وعد بلفور‪ ،‬وذلك بتقدمي املعونات لهم من تشجيع للهجرة‪،‬‬
‫وتسهيل لعمليات ش��راء األراض��ي وتسجيلها‪ ،‬وإعطائهم مساحات‬
‫واسعة من أم�لاك الدولة‪ ،‬والتضييق على الفالح الفلسطيني بكل‬
‫ال��وس��ائ��ل إلج �ب��اره على بيع أراض �ي��ه لليهود‪ .‬كما جعلت بريطانيا‬
‫اللغة العبرية إحدى اللغات الرسمية في فلسطني‪ ،‬وسمحت بإقامة‬
‫مدارسهم اخل��اص��ة‪ ،‬وبإنشاء املستعمرات واملنظمات الصهيونية‪،‬‬
‫ومنها الوكالة اليهودية التي كانت مبثابة دولة ضمن دولة‪ ،‬وقد نتج‬
‫عن ذلك ازدياد كبير في عدد اليهود ما أشعر العرب باألخطار التي‬
‫كانت حتيق بهم ما أدى إلى قيام عدة ثورات وانتفاضات‪ .‬في الوقت‬
‫الذي كانت فيه معظم احلكومات العربية خاضعة للنفوذ األجنبي‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬ردة الفعل الفلسطينية‬

‫أحس الشعب الفلسطيني أن املهاجرين اليهود ليسوا إال محتلني‬

‫‪525‬‬
‫ينوون االستيالء على البالد وطرد أهلها منها‪ ،‬وزاد في هذه القناعة‬
‫شروع هؤالء املهاجرين في شراء العديد من األراضي الفلسطينية‪،‬‬
‫وإقامة املستعمرات عليها حيث ب��دأت املقاومة بانتفاضات عفوية‬
‫في مختلف املناطق وخاصة إثر وصول هجرات جديدة‪ .‬وأهم هذه‬
‫االن�ت�ف��اض��ات ك��ان��ت انتفاضة نيسان ‪ 1920‬ف��ي ال�ق��دس ال�ت��ي عبر‬
‫فيها عرب فلسطني عن معارضتهم لسياسة بريطانيا ووعد بلفور‬
‫والصهيونية‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬ثورة البراق ‪1929‬‬

‫وق�ع��ت أح��داث ه��ذه ال �ث��ورة ف��ي صيف ‪ 1929‬عندما اعتدى‬


‫جماعة م��ن ال�ي�ه��ود على ح��ائ��ط املبكى ل��دى ال�ي�ه��ود ح��ائ��ط البراق‬
‫واجلدار الغربي للمسجد األقصى وقاموا برفع العلم الصهيوني فلم‬
‫يسكت املسلمون على هذا االعتداء وقعت أح��داث هذه الثورة في‬
‫صيف ‪ 1929‬وذلك عندما اعتدى جماعة من اليهود على (حائط‬
‫املبكى لدى اليهود‪ -‬حائط البراق واجلدار الغربي للمسجد األقصى)‬
‫وقاموا برفع العلم الصهيوني فلم يسكت املسلمون على هذا االعتداء‬
‫‪ ،‬وأدت هذه احلوادث إلى سقوط العديد من الشهداء العرب نتيجة‬
‫الصدامات‪ .‬وبسب تفاقم الوضع في فلسطني اضطرت بريطانيا‬
‫من أجل تهدئة نفوس العرب إلى إصدار الكتاب األبيض في تشرين‬
‫األول ‪ .1930‬ال��ذي ن��ص على أن بريطانيا س�ت��راع��ي ف��ي حتديد‬
‫ال�ه�ج��رة ال�ي�ه��ودي��ة قابلية ال �ب�لاد لالستيعاب كما س�ت��راق��ب عملية‬
‫انتقال األراض��ي م��ن ال�ع��رب إل��ى اليهود‪ ،‬وتشكل مجلساً تشريعياً‬
‫في البالد‪ ،‬إال أن بريطانيا تراجعت عن كتابها األبيض بضغط من‬
‫اليهود فأصدرت بياناً تركت فيه باب الهجرة مفتوحاً‪ ،‬أطلق العرب‬
‫عليه «الكتاب األسود»‪.‬‬

‫‪526‬‬
‫خامس ًا‪ :‬الثورة الفلسطينية الكبرى (‪)1939 - 1936‬‬

‫ب ��دأت ع�ب��ر سلسلة م��ن األع �م��ال امل�س�ل�ح��ة وإض��راب��ات عامة‬


‫وم�ظ��اه��رات شعبية واص�ط��دام��ات محلية‪ ،‬ون�ض��ال سياسي شديد‪،‬‬
‫وم�ق��اوم��ة جدية وفعلية لباعة األراض��ي الفلسطينية وسماسرتها‬
‫لليهود‪ ،‬وأخ��ذت هذه الثورة طابعاً شعبياً وقومياً مشتركاً‪ .‬اشترك‬
‫فيها الشعب الفلسطيني بكل فئاته وتوحد الصف الداخلي حتت‬
‫قيادة واح��دة هي «اللجنة العربية العليا» وانتظم فيها املتطوعون‬
‫العرب من جميع الدول العربية أشعلها املجاهد عز الدين القسام‬
‫وأكملها أيضاً الضابط فوزي القاوقجي الذي قاد جموع املتطوعني‬
‫العرب‪ .‬واشتعلت هذه الثورة اثر اكتشاف العرب شحنات كبيرة من‬
‫األسلحة في براميل االسمنت اآلتية لليهود من أوروبا‪ ،‬فأخذ الثوار‬
‫العرب يهاجمون الثكنات واملنشآت البريطانية واملستعمرات اليهودية‪،‬‬
‫وكبدوا قوات االنتداب البريطاني واليهود خسائر كبيرة‪ .‬ولم تهدأ‬
‫الثورة على الرغم من استقدام بريطانيا قوات إضافية من اخلارج‬
‫واستخدامها للدبابات والطائرات في قصف مواقع الثوار‪ ،‬إال أن‬
‫توسط بريطانيا لدى الزعماء وامللوك العرب (امللك عبد العزيز بن‬
‫سعود وامللك غازي (العراق) واألمير عبد الله (األردن) في تشرين‬
‫األول ‪ 1936‬أدى إلى توقف أعمال العنف وتعهد بريطانيا بإيجاد‬
‫حل عادل‪ .‬أوقف الثوار عملياتهم بنا ًء على نداءات امللوك والزعماء‬
‫العرب ووعد بريطانيا التي أوفدت جلنة حتقيق برئاسة «اللورد بيل»‬
‫للتحقيق في أسباب االضطرابات وكيفية تنفيذ صك االنتداب وبعد‬
‫عدة لقاءات عقدتها اللجنة مع عدد من اليهود والعرب اقترحت هذه‬
‫األخيرة بضرورة اإلضراب إقامة دولة يهودية وأخرى عربية تتحد‬
‫مع شرقي األردن كما طالبت باحتفاظ بريطانيا باألماكن املقدسة‪.‬‬

‫م��ا إن وصلت أخ�ب��ار التقسيم إل��ى الشعب الفلسطيني حتى‬

‫‪527‬‬
‫جتددت االضطرابات واتخذت طابعاً أكثر عنفاً وأبعد عمقاً من ثورة‬
‫‪ 1936‬على الرغم من أن القيادة األساسية لهذه الثورة كانت من أبناء‬
‫الريف‪ ،‬ذلك أن احلاج أمني احلسيني اضطر إلى مغادرة فلسطني‬
‫باجتاه العراق‪ ،‬وكذلك خرج معه العديد من القادة الوطنيني‪.‬‬

‫استخدمت بريطانيا في للقضاء على الثورة مختلف األساليب‬


‫ال�ب�ش�ع��ة ك��ال�ق�ص��ف ب��ال �ط��ائ��رات احل��رب �ي��ة‪ ،‬وت��روي��ع ال�س�ك��ان وفرض‬
‫ال �غ��رام��ات ال�ن�ق��دي��ة عليهم وت �ه��دمي ب�ي��وت�ه��م‪ ،‬ث��م اس�ت�ق��دم��ت قوات‬
‫عسكرية إضافية وعينت اجلنرال هانيغ قائداً للقوات العسكرية‪.‬‬
‫ومتكن هذا الضابط في مطلع عام ‪ 1939‬من إحلاق خسائر كبيرة‬
‫بالثوار ومحاصرتهم في الريف‪ ،‬إال أنها جلأت ومن جديد ملناصريها‬
‫من احلكام العرب (خاصة وأنها كانت مسيطرة عملياً على األردن‬
‫والعراق ومصر‪ ،‬ويساندها االنتداب الفرنسي على سوريا ولبنان‪.‬‬
‫والصهيونية في فلسطني ونفوذها في العالم)‪ .‬لعقد مؤمتر في لندن‬
‫حول القضية الفلسطينية‪.‬‬

‫وف��ي ‪ 7‬شباط ‪ 1939‬افتتح رئيس ال ��وزراء البريطاني نفيل‬


‫ت�ش�م�ب��رل�ين امل��ؤمت��ر ب �ح �ض��ور ال��وف��د ال �ب��ري �ط��ان��ي ب��رئ��اس��ة مالكوم‬
‫ماكدونالد والوفود العربية وكان الوفد الفلسطيني برئاسة جمال‬
‫احلسيني‪ ،‬أم��ا ال��وف��د اإلسرائيلي فقد اختلف موقفهم م��ع موقف‬
‫البريطانيني فانسحبوا من املؤمتر‪ ،‬واستمر العرب في مفاوضاتهم‪،‬‬
‫وتوصلوا بالنهاية إلى بيان ختامي نص على عدم شرعية وعد بلفور‬
‫إضافة إلى تنظيم العديد من األمور األخرى كالهجرة اليهودية وبيع‬
‫األراض��ي ولكن احلكومة البريطانية تذرعت باخلالفات احملدودة‬
‫نسبياً هادفة إلى إنهاء أعمال املؤمتر‪ .‬واالنفراد تالياً برسم سياستها‬
‫اخلاصة بالوضع في فلسطني وفقاً ملصاحلها املرتبطة مع الصهيونية‬
‫العاملية‪.‬‬

‫‪528‬‬
‫سادس ًا‪ :‬تطور القضية الفلسطينية بعد احلرب العاملية‬
‫الثانية‬

‫بعد انتهاء احلرب العاملية الثانية‪ ،‬برزت الواليات املتحدة كقوة‬


‫عسكرية عظمى في العالم خاصة بعد أن أنهكت احلرب مختلف دول‬
‫أوروبا باألخص إنكلترا وفرنسا‪ ،‬فكثفت احلركة الصهيونية نشاطها‬
‫في الواليات املتحدة‪ .‬وأثمرت هذه النشاطات عندما طلب الرئيس‬
‫األمريكي ترومان في ‪ 31‬آب ‪ 1945‬من رئيس ال��وزراء البريطاني‬
‫السماح ب��إدخ��ال ‪ 100‬أل��ف يهودي إل��ى فلسطني‪ .‬وكانت بريطانيا‬
‫تطمع بزيادة املساعدات إليها من الواليات املتحدة‪ ،‬فلم تكن تريد‬
‫ال عن العرب طلبت إرس��ال جلنة‬ ‫رفض طلبها‪ ،‬ولكن للتخفيف قلي ً‬
‫انكليزية أمريكية مشتركة للتحقيق في مشاكل مراقبة هجرة اليهود‬
‫إل��ى فلسطني‪ .‬وبالفعل‪ ،‬ب��دأت ه��ذه اللجنة أعمالها ف��ي ‪ 4‬كانون‬
‫الثاني ‪ 1946‬في واشنطن‪ ،‬ثم انتقلت إلى لندن ثم شكلت عدة جلان‬
‫لإلطالع على أح��وال اليهود في أوروب��ا‪ ،‬كذلك انتقلت اللجنة في‬
‫‪ 28‬شباط ‪ 1946‬إلى القاهرة حيث التقت بأمني عام جامعة الدول‬
‫ال من فلسطني ولبنان وسوريا‬ ‫العربية عبد الله ع��زام‪ ،‬ثم زارت ك ً‬
‫وال�ع��راق والسعودية وشرقي األردن لالستماع إل��ى ال�ق��ادة العرب‪.‬‬
‫وبعد هذه اللقاءات جاء تقرير اللجنة متعاطفاً مع اليهود ويسمح‬
‫بإدخال ‪ 100‬ألف يهودي إلى فلسطني‪ ،‬كما طالب التقرير بإلغاء‬
‫ال�ق��وان�ين ال �ص��ادرة ع��ن سلطات االن �ت��داب ع��ام ‪ ، 1940‬التي متنع‬
‫انتقال ملكية األراضي من العرب إلى اليهود‪.‬‬

‫كان رد الفعل العربي على تقرير جلنة التحقيق االنكلو ‪ -‬أمريكية‬


‫عنيفاً‪ .‬فأعلن اإلضراب العام في فلسطني في ‪ 3‬أيار ‪ 1946‬وعمت‬
‫التظاهرات واإلض��راب��ات سورية ولبنان واألردن وال�ع��راق‪ .‬واقترح‬
‫أمني عام جامعة ال��دول العربية لقاء قمة عربية والتي عقدت في‬

‫‪529‬‬
‫أنشاص قرب القاهرة يومي ‪ 27‬و ‪ 28‬أيار ‪ .1946‬ومن بني مقرراتها‪:‬‬
‫رفض تقرير اللجنة االنكلو ‪ -‬أمريكية املشتركة‪ .‬والتمسك باستقالل‬
‫فلسطني وصيانة عروبتها‪.‬‬

‫كما ش��دد املجتمعون على رف��ض م �ق��ررات اللجنة االن�ك�ل��و ‪-‬‬


‫أمريكية‪ .‬ودع��ت احلكومة البريطانية إل��ى مؤمتر يعقد ف��ي لندن‬
‫مجددا لبحث القضية الفلسطينية‪ .‬إال أن وجهات النظر املختلفة‬
‫أدت إلى عرض القضية على األمم املتحدة ‪ ،‬التي قررت تأليف جلنة‬
‫خاصة من األمم املتحدة بشأن فلسطني‪.‬‬

‫توصلت هذه اللجنة بعد أخذ ورد طويلني تقسيم فلسطني إلى‬
‫دول��ة عربية ودول��ة يهودية ومنطقة دولية تشمل األم��اك��ن املقدسة‬
‫وال �ق��دس‪ ،‬على أن متنح ال��دول�ت��ان العربية وال�ي�ه��ودي��ة استقاللهما‬
‫بعد فترة انتقالية مدتها عامني توضعان فيها حتت وصاية األمم‬
‫املتحدة‪.‬‬

‫عرض مشروع التقسيم الذي أوصت به اللجنة على األمم املتحدة‬


‫‪ ،‬رغم معارضة العرب له في ‪ 29‬تشرين الثاني عام ‪ .1947‬وفي وقت‬
‫كانت اجلمعية العمومية تتجه إلقرار التقسيم‪ ،‬كانت جامعة الدول‬
‫العربية تعقد اجتماعاً لها في صور (لبنان) في ‪ 16‬أيلول ‪1947‬‬
‫قررت فيه تقدمي كل إمكانيات الدعم ألهل فلسطني‪ .‬ثم قررت في‬
‫اجتماع آخر عقد في عالية (لبنان) ‪ 15‬تشرين األول ‪ 1947‬تقدمي ما‬
‫ال يقل عن عشرة آالف بندقية مع ذخائرها ألهالي فلسطني‪ .‬وتأليف‬
‫جلنة عسكرية إلع��داد الدفاع عن عروبة فلسطني ووحدتها‪ .‬وبعد‬
‫إقرار التقسيم في القرار ‪ 181‬دعت اجلامعة العربية بعد اجتماع‬
‫رؤساء الوزراء العرب فيها في القاهرة في ‪ 8‬كانون األول ‪ 1947‬إلى‬
‫عدم االعتراف بقرار األمم املتحدة ورفض تقسيم فلسطني واتخاذ‬

‫‪530‬‬
‫كافة التدابير الالزمة إلحباط القرار وخوض املعركة السقاطه‪ .‬كما‬
‫قررت املقاطعة االقتصادية لليهود‪ ،‬وتأسيس مكاتب عربية للدعاية‬
‫في أوروبا وأمريكا الشرح القضية الفلسطينية‪.‬‬

‫استعد اليهود استعداداً كبيراً انتظاراً للحظة جالء االنكليز‬


‫ع��ن فلسطني‪ ،‬مستفيدين م��ن العتاد واألسلحة التي تركوها لهم‪،‬‬
‫وش�ك�ل��وا ع�ص��اب��ات إره��اب �ي��ة اس�ت��ول��ت ع�ل��ى امل��واق��ع امل�ه�م��ة‪ .‬وبدأوا‬
‫مبهاجمة ال�ق��رى العربية مرتكبني أفظع امل�ج��ازر مثل مذبحة دير‬
‫ياسني ومذبحة بيت اخلوري‪ ،‬إلرهاب العرب وإجبارهم على اخلروج‬
‫من ديارهم‪ .‬أما العرب فقد تطوع شبابهم من جميع الدول العربية‬
‫للدفاع عن فلسطني وشكلوا «جيش االنقاذ» للمشاركة في احلرب‪.‬‬

‫سابع ًا‪ :‬حرب فلسطني «النكبة ‪»1948‬‬

‫أعلن دايفيد بن غوريون عند خروج البريطانيني في ‪ 15‬أيار‬


‫‪ 1948‬ق�ي��ام دول��ة إس��رائ�ي��ل‪ .‬وش�ك��ل حكومة مؤقتة ل�ه��ا‪ .‬وسارعت‬
‫الواليات املتحدة األمريكية إلى االعتراف فيها بعد ‪ 11‬دقيقة من‬
‫اعالنها‪ .‬وتالها االحتاد السوفيتي‪ ،‬ثم توالت بقية االعترافات من‬
‫باقي الدول املؤيدة للصهيونية‪ .‬وإزاء هذا الوضع تكررت االعتداءات‬
‫الصهيونية على القرى العربية عقب انسحاب القوات البريطانية‬
‫حيث لم يعد أمام ال��دول العربية إال التصدي والتدخل العسكري‪.‬‬
‫وفي ‪ 15‬أيار ‪ 1948‬دخلت القوات املصرية (‪ 5‬آالف جندي) واألردنية‬
‫(‪ 4550‬جندي) والسورية (‪ 1876‬جندي) واللبنانية (‪ 1500‬جندي)‪.‬‬
‫بقيادة امللك عبد الله الذي أصر على تسلم القيادة‪ .‬وكانت درجة‬
‫استعداد القوات العربية ضعيفة‪ ،‬وكذلك التنسيق والتعاون بينها‪.‬‬
‫ورغم كل ذلك‪ ،‬فقد حققت اجليوش العربية نصراً سريعاً‪ ،‬ومتكنت‬
‫من الوصول إلى ضواحي تل أبيب‪ ،‬كما دخلوا القدس‪.‬‬

‫‪531‬‬
‫ثامن ًا‪ :‬الهدنة األولى ‪ 11‬حزيران ‪1948‬‬

‫استنجدت القيادة اإلسرائيلية بالواليات املتحدة وبريطانيا‪،‬‬


‫ففرضتا على ال�ع��رب ال�ه��دن��ة ف��ي ‪ 11‬ح��زي��ران فاستغل الصهاينة‬
‫فترة الهدنة وحصلوا على أسلحة متطورة كالطائرات والدبابات‬
‫واملدرعات الثقيلة‪ ،‬بينما كان العرب ينتظرون انتهاء مبادرة الكونت‬
‫ب��رن��ادوت ال��ذي سقط قبيل انتهاء الهدنة بالرصاص اإلسرائيلي‪.‬‬
‫وفي صبيحة ‪ 8‬متوز ‪ 1948‬ع��ادت املعارك من جديد‪ ،‬وتصاعدت‬
‫خاصة في القدس ومتكن اإلسرائيليون من توسيع سيطرتهم على‬
‫بعض اجلبهات‪ ،‬في حني فشلوا في بعضها اآلخر‪.‬‬

‫عاد مجلس األمن للمرة الثانية وأصدر القرار الثاني بالهدنة‬


‫في ‪ 15‬متوز وبدأ تنفيذه في ‪ 18‬متوز بعد أن متكنت إسرائيل خالل‬
‫ع�ش��رة أي��ام م��ن اح�ت�لال م�س��اح��ات أخ��رى م��ن األرض وم��ن حتسني‬
‫مواقعها‪ .‬ومع عودة القتال على نطاق واسع وجناح القوات الصهيونية‬
‫من بلوغ خط التقسيم تراجعت اجليوش العربية عن مواقعها وسلم‬
‫اجليش األردني اللد والرملة دون قتال واضطر اجليش املصري إلى‬
‫االنسحاب بسبب فساد األسلحة‪.‬‬

‫وهكذا توقفت احلرب بعد أن أخذت إسرائيل اجلليل والنقب‬


‫ووصلت إلى خليج العقبة ولم يبق من فلسطني إال قطاع غزة الذي‬
‫وضع حتت اإلدارة املصرية‪ ،‬والضفة الغربية التي أحلقت باألردن‪،‬‬
‫والقدس التي قسمت بني األردن وإسرائيل‪ .‬وأجبرت الدول العربية‬
‫على توقيع معاهدات هدنة منفردة مع إسرائيل‪.‬‬

‫‪532‬‬
‫تاسع ًا‪ :‬ضم الضفة الغربية إل��ى شرقي األردن ‪- 1948‬‬
‫‪1967‬‬

‫ع�م��ل األردن ع�ل��ى ض��م ال�ض�ف��ة ال�غ��رب�ي��ة ألراض��ي��ه‪ ،‬فأقيمت‬


‫املؤمترات التي حضرها وفود شعبية فلسطينية تفوض امللك عبد الله‬
‫مهمة حترير فلسطني‪ ،‬كما عمل األردن على حبس بعض املناضلني‬
‫الفلسطينيني الذين تزعموا العمل الوطني الفلسطيني أمثال‪ :‬جمال‬
‫احلسيني‪ ،‬وأهم هذه املؤمترات مؤمتر عمان في تشرين األول ‪1948‬‬
‫ومؤمتر أريحا كانون األول ‪ 1948‬ومؤمتر رام الله ونابلس وقد عملت‬
‫احلكومة األردنية في نهاية هذه املؤمترات على اتخاذ إجراءات ترمي‬
‫إلى توحيد الضفتني كإضافة وزارة جديدة إلى حكومة أبو الهدى‬
‫وهي وزارة الالجئني وعني فلسطينياً وزيراً لها‪.‬‬

‫كما منح الفلسطينيون ج��وازات سفر أردن�ي��ة وح��ل البرملان‪،‬‬


‫وأقيمت انتخابات جديدة عام ‪ 1950‬للبرملان املوحد‪ .‬أما في قطاع‬
‫غزة فقد اختلف الوضع‪ ،‬فالسلطات املصرية قامت ب��إدارة القطاع‬
‫إدارة مدنية مبسؤولني عسكريني في أكثر األحيان‪ ،‬وأعادت الدوائر‬
‫احل�ك��وم�ي��ة ال �ت��ي ك��ان��ت ق��ائ�م��ة ف��ي ع�ه��د االن �ت��داب وع�ي�ن��ت املجلس‬
‫اإلسالمي األعلى للمنطقة‪.‬‬

‫وفي عام ‪ 1954‬أعلن الرئيس محمد جنيب تعيني حاكم عام‬


‫لقطاع غزة‪ .‬وفي ‪ 5‬آذار ‪ 1962‬أعلن الرئيس عبد الناصر النظام‬
‫الدستوري لقطاع غزة‪ ،‬ومن أهم بنوده‪« :‬إن قطاع غزة جزء ال يتجزأ‬
‫م��ن أرض فلسطني‪ ،‬وإن شعبها ج��زء م��ن األم��ة ال�ع��رب�ي��ة‪ .»...‬وبعد‬
‫قيام منظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬وضعت اإلدارة املصرية جميع‬
‫اإلمكانيات املصرية في خدمتها حتى أصبح القطاع في فترة وجيزة‬
‫قاعدة شعبية عريضة للمنظمة بوجود «جيش التحرير الفلسطيني»‪.‬‬

‫‪533‬‬
‫وقد ظل الوضع على ما هو عليه حتى نكسة حزيران ‪ 1967‬واحتالل‬
‫إسرائيل للقطاع‪.‬‬

‫عاشراً‪ :‬املقاومة الفلسطينية (‪ .... - 1955‬م)‬

‫متتد جذور العمل الفدائي الفلسطيني إلى عام ‪ 1948‬وبعد‬


‫نكبة ‪ ،1948‬جتلت األعمال الفدائية في عبور املواطنني الفلسطينيني‬
‫ال��ذي��ن ط��ردوا م��ن منازلهم إل��ى املناطق احملتلة الس�ت��رج��اع بيوتهم‬
‫وماشيتهم‪ .‬ثم بدأت هذه األعمال تنظم أكثر فأكثر‪ ،‬فعينت القيادة‬
‫املصرية املقدم مصطفى حافظ مسؤوالً وموجهاً لنشاطات الفدائيني‬
‫في غزة‪ .‬فنظم صفوف الفدائيني‪ ،‬حتى بلغوا حوالي ألف وخمسمائة‬
‫ف��دائ��ي‪ ،‬وك��ان��ت العمليات الفدائية تصل إل��ى عمق ‪ 65‬كلم داخل‬
‫األراض��ي احملتلة‪ ،‬وعلى مساحة قدرها ‪ 300‬كلم‪ .2‬وق��د اعترفت‬
‫إسرائيل بوقوع ‪ 180‬عملية هجوم خالل ‪ 3‬أشهر ممتدة من ‪ 5‬كانون‬
‫األول ‪ 1955‬حتى مطلع آذار ‪.1956‬‬

‫حادي عشر ‪ :‬حرب النكسة ‪1967‬‬

‫قامت في هذه احلرب القوات اإلسرائيلية بالهجوم صبيحة يوم‬


‫اخلامس من حزيران ‪ 1967‬على القوات العربية املصرية والسورية‬
‫واألردنية‪ ،‬التي كان غائباً عنها التنسيق والقيادة السياسية والعسكرية‬
‫الواحدة‪ .‬وقد جاءت هذه احلرب بعد تنامي القوة العسكرية العربية‪،‬‬
‫ال سيما في مصر وسوريا إضافة إل��ى تنامي امل��د القومي العربي‬
‫ال��ذي ق��اده الرئيس جمال عبد الناصر‪ ،‬وظهرت نتائجه في ثورة‬
‫‪ 14‬متوز ‪ 1958‬في العراق‪ ،‬وفي انتصار الثورة اجلزائرية ‪،1962‬‬
‫وفي نشوء منظمة التحرير الفلسطينية ‪ 1964‬وتعاظم قوة الثورة‬

‫‪534‬‬
‫الفلسطينية ( (( ‪.‬‬

‫وق��د حققت إسرائيل أهدافها العسكرية من احل��رب‪ ،‬وأبرز‬


‫ما حققته السيطرة على مساحات كبيرة من األرض العربية‪ ،‬تزيد‬
‫كثيراً على ما سبق لها واحتلته في حرب ‪ ،1948‬إذ كانت مساحة‬
‫«دولة إسرائيل املعلنة» في أيار ‪ 1948‬تقدر بـ ‪ 20700‬كم‪ .2‬فضمت‬
‫إليها سيناء ‪ 61198‬كم‪ ،2‬قطاع غزة ‪ 363‬كم‪ ،2‬الضفة الغرببية‬
‫‪ 5878‬كم‪ ،2‬واجلوالن ‪ 1150‬كم‪ .2‬وبذلك أصبح مجموع األراضي‬
‫‪ 89,359‬كم‪ .2‬أعادت هذه احلرب‪ ،‬القضية الفلسطينية بقوة إلى‬
‫األمم املتحدة التي أصدرت قرارا حمل الرقم ‪ 242‬في ‪ 22‬تشرين‬
‫الثاني ‪ 1967‬والذي تضمن التأكيد على‪:‬‬

‫‪ - 1‬انسحاب القوات اإلسرائيلية من األراضي التي احتلتها‬


‫في النزاع األخير‪.‬‬

‫‪ - 2‬حتقيق تسوية عادلة ملشكلة الالجئني‪.‬‬

‫وق��د رف�ض��ت إس��رائ�ي��ل ق ��رارات األمم امل�ت�ح��دة‪ ،‬وب��ذل��ك بدأت‬


‫رحلة جديدة متيزت باتساع إطار الثورة الفلسطينية‪ ،‬وتزايد ساحات‬
‫املعارك للمقاومة الفلسطينية‪.‬‬

‫ثاني عشر‪ :‬منظمة التحرير الفلسطينية‬

‫جاءت والدة املنظمة في املؤمتر الفلسطيني األول الذي عقد في‬


‫يذكر أن املنظمة قد قامت في مرحلة ما قبل احلرب بـحوالي ‪ 113‬عملية هجومية ضد‬ ‫((( ‬
‫القوات اإلسرائيلية‪ .‬أضف إلى كل ذلك‪ ،‬مطامع اليهود االستعمارية في األراضي العربية‬
‫املنزوعة السالح وكذلك مطامعهم في منابع املياه العربية‪ ،‬إن في روافد نهر األردن‪ ،‬أو في‬
‫ينابيع هضبة اجلوالن السورية‪.‬‬

‫‪535‬‬
‫القدس في ‪ 28‬أيار ‪ ،1964‬وشهدته عدة وفود عربية‪ ،‬وافتتحه امللك‬
‫حسني بن طالل‪ ،‬وأهم قراراته إعالن قيام منظمة التحرير الفلسطينية‪.‬‬
‫ومت انتخاب أحمد الشقيري رئيساً للجنة التنفيذية‪ .‬وعملت املنظمة‬
‫على افتتاح مكاتب لها في العواصم العربية وبعض بلدان أوروبا وأفريقيا‬
‫وآسيا والواليات املتحدة‪ ،‬وتأسيس مكتب دائم لها في األمم املتحدة‪.‬‬

‫واجهت املنظمة في دورتيها الثانية والثالثة صعوبات كبيرة‬


‫خ��اص��ة م��ع األردن ال ��ذي اع �ت��رض ع�ل��ى م �ب��دأ ال�ت�س�ل�ي��ح والتجنيد‬
‫واجلباية‪ ،‬فتم نقل مركز اللجنة املركزية من عمان إل��ى القاهرة‪.‬‬
‫وبعد نكسة ‪ ،1967‬نشط العمل الفدائي‪ ،‬والتفت حوله جماهير‬
‫فلسطني وال ��دول العربية وس��ار ش�ع��ور ب �ض��رورة إع ��ادة النظر في‬
‫بناء املنظمة‪ ،‬فقدم الشقيري استقالته واختير يحيى حمودة ليكون‬
‫رئيساً بالوكالة‪ .‬وفي اجتماع الدورة الرابعة للمجلس الوطني ‪1968‬‬
‫صححت عدة مفاهيم في امليثاق وحددت األهداف الرئيسية والتي‬
‫تتمثل بعدم االعتراف بوجود إسرائيل‪ ،‬ورفض مقررات األمم املتحدة‬
‫القاضية بتقسيم فلسطني وآخرها رقم ‪ .242‬وفي الدورة اخلامسة‬
‫للمجلس الوطني الفلسطيني ال��ذي عقد ع��ام ‪ 1969‬في القاهرة‬
‫(وق��د تألف ه��ذا املجلس م��ن‪ :‬حركة التحرير الوطني الفلسطيني‬
‫(فتح) طالئع حرب التحرير الشعبية (الصاعقة وبعض الشخصيات‬
‫املهمة واعتذرت اجلبهة الشعبية لتحرير فلسطني)‪.‬‬

‫انتُخبت اللجنة التنفيذية اجلديدة التي بدورها انتخبت ياسر‬


‫عرفات «أب��و عمار» رئيساً لها‪ .‬بعد ه��ذه ال��دورة‪ ،‬عاشت الساحة‬
‫الفلسطينية أح��داث�اً مهمة أهمها‪ :‬صدامات لبنانية فلسطينية مت‬
‫بعدها توقيع «اتفاقية القاهرة» في ‪ 2‬تشرين الثاني ‪ 1969‬التي‬
‫نظمت العالقة بني الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير‪ ،‬وكانت أول‬
‫اتفاقية تعقد بني حكومة عربية واملنظمة‪.‬‬

‫‪536‬‬
‫ثالث عشر‪ :‬حرب ‪ 1973‬واجلانب الفلسطيني‬

‫ازدادت أعمال املقاومة الفلسطينية املسلحة‪ ،‬التي كانت ترد‬


‫عليها إسرائيل بغارات جوية على قواعد الفدائيني في سوريا واألردن‪.‬‬
‫وكانت عمليات املقاومة كبيرة ونوعية استطاعت في بعضها حترير‬
‫بعض املرتفعات ف��ي فلسطني احملتلة‪ .‬وف��ي األي��ام األول��ى الندالع‬
‫احلرب في ‪ 6‬تشرين األول‪ ،‬كانت القوات الفلسطينية تشارك على‬
‫اجلبهتني السورية واملصرية‪ ،‬إضافة إلى عمليات فدائية خارجية‬
‫قامت بها املقاومة قبيل بدء احلرب هذه احلرب‪ ،‬كان أهمها عملية‬
‫ميونيخ في أملانيا في ‪ 5‬أيلول ‪ ،1972‬وق��د أسفرت ه��ذه العملية‬
‫عن مقتل عدد من الرياضيني اإلسرائيليني إلى جانب خمسة من‬
‫الفدائيني‪.‬‬

‫أعادت هذه العمليات القضية الفلسطينية إلى األمم املتحدة‪،‬‬


‫وتأظهرت إسرائيل والصهيونية بأنها شكل من أشكال العنصرية‪،‬‬
‫ما أعطى منظمة التحرير صفة مراقب في اجلمعية العامة لألمم‬
‫املتحدة‪ .‬ثم ج��اءت الدعوة التي وجهتها األمم املتحدة إلى منظمة‬
‫التحرير ل�لاش�ت��راك ف��ي ال ��دورة ‪ 29‬مبثابة ن �ص��راً للمنظمة التي‬
‫أصبحت أول حركة حترير وطنية تشارك في أعمال األمم املتحدة‪.‬‬
‫وكانت هذه الدعوة نتيجة عدة أسباب أهمها‪:‬‬

‫‪ - 1‬قرار القمة العربية السابقة في الرباط ‪ 1972‬مببايعة منظمة‬


‫ال شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني‪.‬‬‫التحرير ممث ً‬

‫‪ - 2‬قرارات حركة عدم االنحياز «ومنظمة املؤمتر اإلسالمي»‬


‫باالعتراف مبنظمة التحرير ومنحها العضوية الكاملة‬
‫فيهما ‪.‬‬

‫‪537‬‬
‫‪ - 3‬ازدياد الدول التي اعترفت باملنظمة بشكل رسمي‪.‬‬

‫‪ - 4‬نتائج حرب ‪ 6‬تشرين األول ‪.1973‬‬

‫وف��ي ‪ 13‬تشرين الثاني ‪ 1974‬ألقى ياسر ع��رف��ات م��ن على‬


‫منبر اجلمعية العامة في نيويورك خطاباً وجهه إلى وفود دول العالم‬
‫املشتركة ف��ي ال ��دورة ‪ 29‬للجمعية ال�ت��ي ك��ان يرأسها عبد العزيز‬
‫بوتفليقة هذه احل��رب‪ ،‬وزير خارجية اجلزائر آن��ذاك وال��ذي أصبح‬
‫رئيساً عقب انتخابات نيسان ‪ ،1999‬واستقبل عرفات في األمم‬
‫املتحدة وفق املراسم التي يستقبل بها رؤساء وملوك الدول‪.‬‬

‫رابع عشر‪ :‬التخاذل العربي والدولي إزاء القضية‬

‫استمرت إسرائيل بعد حرب ‪ 1973‬في سياستها االستيطانية‬


‫والتوسعية على حساب العرب‪ ،‬فقامت على مصادرة األراضي العربية‬
‫من أصحابها وبناء املستوطنات عليها الستيعاب اليهود القادمني من‬
‫شتى أنحاء العالم‪.‬‬

‫إال أن الشعب الفلسطيني لم يهدأ ولم يستكني في الداخل‪،‬‬


‫ف�ق��ام��ت ب��ان�ت�ف��اض��ة ‪ 30‬أذار ‪ 1976‬ال �ت��ي مت�ث�ل��ت ب��إض��راب شامل‬
‫ومظاهرات شعبية في كافة القرى واملدن الفلسطينية احتجاجاً على‬
‫املمارسات اإلسرائيلية ضدهم‪ .‬وقد سمي هذا اليوم بـ «يوم األرض»‬
‫ال��ذي أصبح ذك��رى سنوية دائمة‪ .‬لكن في أعقاب ه��ذه االنتفاضة‬
‫بدأت سلسلة التخاذل العربي بدءاً مبؤمتر جنيف الدولي مبشاركة‬
‫أمريكية وسوفيتية وبحضور إسرائيل ومصر واألردن وغياب سوريا‬
‫ولبنان‪ ،‬ومنظمة التحرير التي لم تدع أصالً‪ ،‬فكان ذلك كافياً لفشل‬
‫املؤمتر وكانت االتصاالت السرية تنشط بشكل مكثف وخاصة بني‬
‫أميركا وإسرائيل ومصر والذي كان يتجه نحو تسويات ثنائية جزئية‬

‫‪538‬‬
‫بني إسرائيل والدول العربية وكان أولها مع مصر‪ ،‬حيث توصال إلى‬
‫توقيع اتفاقية كامب دايفيد في ‪ 26‬آذار ‪ 1979‬بني أنور السادات‬
‫ومناحيم بيغني وبرعاية الرئيس األمريكي جيمي كارتر‪ .‬األمر الذي‬
‫أدى إل��ى زي��ادة اخل�لاف��ات العربية وال�ت��ي قطفت إس��رائ�ي��ل ثمارها‬
‫خاصة على الساحة اللبنانية والفلسطينية‪ ،‬فقامت باجتياح بيروت‬
‫في حزيران ‪ 1982‬وأخرجت املقاومة الفلسطينية منها باجتاه تونس‬
‫واجلزائر‪.‬‬

‫وزاد من هذا التراجع واإلحباط انشغال العالم بحرب كبيرة‬


‫بني دولة عربية كبيرة بقوتها العسكرية وموقعها الصامد (العراق)‬
‫وب�ين دول��ة إس�لام�ي��ة مشهود لها بالتزامها بالقضية الفلسطينية‬
‫(إيران)‪ ،‬وجاء قتال هذين البلدين مبثابة ضربة موجعة جداً للقضية‬
‫الفلسطينية‪ .‬أضف إلى ذلك وبعد خمس سنوات بداية حتييد قوة‬
‫عاملية صديقة وداعمة للقضية الفلسطينية والقضايا العربية أال‬
‫وهو االحتاد السوفيتي‪.‬‬

‫خامس عشر‪ :‬ثورة احلجارة االنتفاضة (‪)1994 - 1987‬‬

‫في إطار الظروف العربية غير الداعمة‪ ،‬والدولية املتناحرة‪،‬‬


‫وح �ت��ى ال��داخ �ل �ي��ة ال�ف�ل�س�ط�ي�ن�ي��ة (خ�ل�اف��ات م �ت �ع��ددة ب�ين الفصائل‬
‫الفلسطينية) اندلعت انتفاضة أطفال احلجارة في األراضي احملتلة‬
‫في كانون األول ‪ .1987‬أما ابرز أسبابها‪:‬‬

‫‪ - 1‬اإلحباط الشديد لدى فلسطينيي الداخل والتخلي عن‬


‫قضيتهم من قبل املجتمع العربي واملجتمع الدولي‪.‬‬

‫‪ - 2‬ممارسات االحتالل اإلسرائيلي إزاء سكان الضفة على‬


‫وجه اخلصوص (متييز‪ ،‬حرمان‪ ،‬مضايقات‪ ،‬مالحقات)‪.‬‬

‫‪539‬‬
‫‪ - 3‬ازدي� ��اد ع��دد امل�س�ت�ع�م��رات وامل�س�ت��وط�ن��ات ال�ي�ه��ودي��ة في‬
‫الصفة‪ ،‬ومصادرة األراضي العربية‪.‬‬

‫‪ - 4‬الوضع امل��زري ألهالي وسكان املخيمات في قطاع غزة‬


‫الذين تضاعف عددهم في نفس املكان الذي كانوا عليه‬
‫ال ‪.‬‬
‫قب ً‬

‫أدت هذه العوامل واألسباب مجتمعة إلى اندالع االنتفاضة من‬


‫غزة ومن مخيم جباليا بالتحديد في ‪ 9‬كانون األول ‪، 1987‬حيث‬
‫دهست شاحنة إسرائيلية مجموعة من الشبان الفلسطينيني‪ ،‬وبذلك‬
‫انفجرت غزة باملظاهرات وحاالت الغضب ضد اجلنود اإلسرائيليني‪،‬‬
‫وسرعان ما عم الغضب مختلف املناطق في الضفة الغربية وقطاع‬
‫غزة احملتلني‪ ،‬واكتملت االنتفاضة عندما أعلن فلسطينيو عام ‪1948‬‬
‫مشاركة إخوانهم الفلسطينيني بانتفاضتهم‪ ،‬فأعلنوا اإلضراب العام‬
‫والشامل في ‪ 21‬كانون األول ‪ ،1987‬ورفعت شعارات واحدة على‬
‫كل األراضي الفلسطينية احملتلة‪ ،‬ونظمت املسيرات واملظاهرات في‬
‫مختلف املناطق‪.‬‬

‫تعاملت س�ل�ط��ات االح �ت�لال اإلس��رائ�ي�ل��ي م��ع ه��ذه االنتفاضة‬


‫مبنتهى القسوة والوحشية‪ ،‬ول��م يسلم منها ال الصغار وال الكبار‪،‬‬
‫وش��اه��د العالم بعض مظاهر الوحشية ل��دي اليهود‪ ،‬عندما نقلت‬
‫شبكة ‪ CNN‬األمريكية لقطات لرجال في اجليش اإلسرائيلي وهم‬
‫يجتمعون حول طفلني فلسطينيني ويكسرون أيديهم وأرجلهم بواسطة‬
‫احلجارة الكبيرة‪.‬‬

‫وفي خضم االنتفاضة‪ .‬وقعت حادثة االعتداء على املصلني في‬


‫املسجد األقصى في مدينة القدس في ‪ 8‬تشرين األول ‪ ،1990‬التي‬

‫‪540‬‬
‫ال ومئات اجلرحى من املصلني‪ ،‬وظلت آثار‬
‫أدت إلى سقوط ‪ 22‬قتي ً‬
‫املجزرة على حيطان املسجد شاهدة على وحشية اليهود‪.‬‬

‫أدان العالم املجزرة‪ ،‬وقرر مجلس األمن إرسال بعثة دولية إلى‬
‫فلسطني إال أن إسرائيل رفضت القرار جملة وتفصيالً‪ ،‬وضربت به‬
‫عرض احلائط‪ ،‬ولم يحرك املجتمع الدولي ساكناً‪ ،‬ورفضت السماح‬
‫ألي بعثة دولية بدخول األراضي الفلسطينية‪.‬‬

‫استمرت وتيرة االنتفاضة الفلسطينية على ما هي عليه من‬


‫ال�ش��دة‪ ،‬وظهر ط��رف آخ��ر جديد ف��ي حركة االنتفاضة إل��ى جانب‬
‫منظمة التحرير الفلسطينية وهي حركة املقاومة اإلسالمية (حماس)‬
‫التي كان لها دور كبير أيضاً في عمليات االنتفاضة إلى جانب القيام‬
‫بعمليات فدائية ضد جنود االحتالل اإلسرائيلي‪.‬‬

‫رفضت حركة «ح�م��اس» إع�لان ال��دول��ة املستقلة ال�ص��ادر عن‬


‫املجلس الوطني في دورته الطارئة في اجلزائر في ‪ 15‬تشرين الثاني‬
‫‪ ،1988‬األم��ر ال��ذي أدى إلى وق��وع بعض الصدامات بني الفريقني‬
‫ال إل��ى حل‬
‫ح��اول اإلسرائيليون إذك��اء ن��اره��ا‪ ،‬إال أن الطرفان توص ً‬
‫يوحد عملهما ويوقف هذه الصدامات‪.‬‬

‫سادس عشر‪ :‬مؤمتر مدريد وبدء مفاوضات السالم ‪30‬‬


‫تشرين األول ‪1991‬‬

‫قبل العمل على مؤمتر مدريد‪ ،‬كان هناك العديد من املبادرات‬


‫ل��وض��ع ح��د ل �ل �ن��زاع احل��اص��ل ف��ي امل �ن �ط �ق��ة‪ ،‬وحل ��ل س�ل�م��ي للقضية‬
‫الفلسطينية‪ ،‬وكان سبق ذلك أيضاً بدء احلوار بني الواليات املتحدة‬
‫األمريكية ومنظمة التحرير الفلسطينية في ‪ 16‬كانون األول ‪1988‬‬
‫ف��ي ت��ون��س‪ ،‬وب�ع��د ع��دة زي ��ارات ق��ام بها وزي��ر اخل��ارج�ي��ة األمريكية‬

‫‪541‬‬
‫ج��امي��س ب��اي�ك��ر‪ ،‬إل��ى دول املنطقة (م�ص��ر‪ ،‬س��وري��ا‪ ،‬األردن‪ ،‬لبنان‪،‬‬
‫إسرائيل) استطاع إقناع اجلميع بضرورة التفاوض املباشر إليجاد‬
‫حل سلمي للصراع العربي اإلسرائيلي‪.‬‬

‫عقد املؤمتر في مدريد في ‪ 30‬تشرين األول وأول تشرين الثاني‬


‫‪ 1991‬وبحضور جميع امل��دع��وي��ن‪ ،‬وب��رع��اي��ة مشتركة م��ن الواليات‬
‫املتحدة واالحت��اد السوفيتي‪ .‬وج��رت ثماني ج��والت م��ن املباحثات‬
‫الثنائية‪ ،‬كانت البداية في مدريد‪ ،‬ثم انتقلت الوفود املتفاوضة إلى‬
‫واشنطن حيث استكملت باقي اجلوالت‪.‬‬

‫وفي ‪ 16‬كانون األول ‪ 1992‬أبعدت إسرائيل إلى جنوب لبنان‬


‫‪ 400‬فلسطينيا رافضة إرجاعهم إل��ى فلسطني‪ ،‬وق��د رف��ض لبنان‬
‫استقبال املبعدين‪ ،‬فظل املبعدين بني البلدين مقيمني في خيم قدمتها‬
‫لهم ق��وات ال�ط��وارئ‪ .‬وكانت عملية اإلب�ع��اد سبباً في توقف عملية‬
‫املفاوضات في واشنطن ملدة أربعة أشهر‪ .‬وفي ‪ 6‬أيار ‪ 1993‬عاد‬
‫الفلسطينيون إلج��راء اجلولة التاسعة من املفاوضات في واشنطن‬
‫ثم عقدت اجلولة العاشرة في ‪ 3‬متوز ‪ .1993‬وانتهت بتسليم وثيقة‬
‫فلسطينية إلى وزير اخلارجية األمريكية توضح احلل األقرب لبداية‬
‫فك النزاع‪.‬‬

‫سابع عشر‪ :‬اتفاقية أوسلو ‪ -‬غزة ‪ -‬أريحا ً‬


‫أوال ‪ 13‬أيلول‬
‫‪1993‬‬

‫برعاية الرئيس األمريكي بيل كلينتون‪ ،‬عقد في واشنطن حفل‬


‫توقيع اتفاقية أوسلو بني اسحق راب�ين رئيس ال��وزراء اإلسرائيلي‪،‬‬
‫وياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬معلنني بذلك فتح‬
‫صفحة جديدة في تاريخ الشرق األوس��ط عندما تُصافح الرجالن‬

‫‪542‬‬
‫أم��ام وك��االت األن �ب��اء العاملية‪ .‬ومي�ك��ن إي�ج��از أه��م ال�ن�ق��اط ال�ت��ي مت‬
‫االتفاق عليها مبا يلي‪:‬‬

‫‪ - 1‬إقامة سلطة حكم ذات��ي للفلسطينيني في منطقتي غزة‬


‫وأريحا‪.‬‬

‫‪ - 2‬تبدأ إسرائيل بسحب قواتها من قطاع غزة وأريحا في‬


‫‪ 13‬كانون األول ‪. 1993‬‬

‫‪ - 3‬إج���راء ان �ت �خ��اب��ات م �ب��اش��رة لتشكيل م�ج�ل��س فلسطيني‬


‫يحكم غزة وأريحا ملدة خمس سنوات‪ ،‬وانسحاب القوات‬
‫اإلسرائيلية من كل املناطق املأهولة في الضفة الغربية‬
‫خالل عامني‪.‬‬

‫‪ - 4‬بعد ثالث سنوات على انتخاب تبدأ مفاوضات لتحديد‬


‫الوضع النهائي للضفة الغربية مبا فيها مدينة القدس‬
‫احملتلة‪.‬‬

‫قامت في وجه االتفاق عاصفة من االجتماعات واالعتراضات‬


‫في صفوف الفلسطينيني‪ ،‬ال��ذي رأوا أن االت�ف��اق ت��رك موضوعات‬
‫كثيرة بال حل‪ ،‬مثل‪ :‬القدس والالجئني وحق العودة‪ ،‬واملستوطنات‪،‬‬
‫والترتيبات األم�ن�ي��ة‪ ،‬واحل ��دود‪ ،‬وال�ع�لاق��ات وال�ت�ع��اون م��ع اجليران‬
‫واألهم في كل ذلك قيام الدولة الفلسطينية وحق الالجئني بالعودة‬
‫إل��ى بلدهم فلسطني‪ .‬وف��ي املقابل‪ ،‬وج��د فلسطينيون آخ��رون‪ ،‬ومع‬
‫اعترافهم بنواقص اإلع�لان إجن��ازات حققها الفلسطينيون للمرة‬
‫األول ��ى‪( .‬ك��اع �ت��راف حكومة إس��رائ�ي��ل ب��احل�ق��وق امل�ش��روع��ة للشعب‬
‫الفلسطيني ومبطالبه العادلة)‪.‬‬

‫‪543‬‬
‫وف ��ي ‪ 9‬أي ��ار ‪ 1994‬وق ��ع ي��اس��ر ع��رف��ات‪ ،‬ووزي� ��ر اخلارجية‬
‫ضم إلى اتفاق غزة ‪ -‬أريحا وتناول‬ ‫اإلسرائيلي شمعون بيريز‪ ،‬اتفاقاً ُّ‬
‫حتديد مساحة منطقة أريحا وبعض الترتيبات اإلداري��ة واألمنية‪.‬‬
‫كما ت�ن��اول قطاع غ��زة م��ن حيث املستوطنات وامل�ن�ش��آت العسكرية‬
‫اإلسرائيلية على طول حدود القطاع‪.‬‬

‫ثامن عشر‪ :‬مجزرة اخلليل ‪ 25‬شباط ‪1994‬‬

‫ف��ي ‪ 25‬ش�ب��اط ‪ ،1994‬اق�ت�ح��م ب ��اروخ غ��ول��د ش�ت��اي��ن (طبيب‬


‫يهودي أمريكي) قاعة املصلني املسلمني في احلرم اإلبراهيمي حيث‬
‫كان نحو ‪ 800‬مسلم يؤدون صالة الفجر جماعة‪ ،‬وبدأ بإطالق النار‬
‫عليهم من سالحه الناري‪ .‬كانت احلصيلة ‪ 53‬شهيداً‪.‬‬

‫بعد انتشار اخل�ب��ر‪ ،‬عمت مدينة اخلليل امل�ظ��اه��رات وأقفلت‬


‫الطرقات ب��اإلط��ارات‪ ،‬واصطدم املتظاهرون باجليش اإلسرائيلي‪.‬‬
‫ولقيت هذه املجزرة استنكاراً عاملياً‪ .‬وبعد املذبحة واستجابة إلى‬
‫حاجة الفلسطينيني امللحة لألمن‪ ،‬ج��رى توقيع اتفاق ح��ول مدينة‬
‫اخلليل في ‪ 31‬آذار ‪ 1994‬بالقاهرة وقضى بإدخال قوات دولية إلى‬
‫املدينة لتساهم في إرساء االستقرار واألمن‪.‬‬

‫ت��اس��ع ع�ش��ر‪ :‬ات�ف��اق ال�ق��اه��رة وتنفيذ احل�ك��م ال��ذات��ي في‬


‫غزة وأريحا (‪ 4‬أيار ‪)1994‬‬

‫وقع هذا االتفاق ياسر عرفات ورئيس احلكومة اإلسرائيلية‬


‫اسحق رابني بحضور الرئيس املصري حسني مبارك ووزير خارجية‬
‫ال��والي��ات املتحدة وارن كريستوفر‪ ،‬ووزي��ر خارجية روس�ي��ا أندريه‬
‫كوزيريف‪ .‬ونص االتفاق على كيفية تطبيق اتفاق غزة أريحا‪ .‬وعلى‬
‫الصالحيات املعطاة لسلطة احلكم الذاتي وإلى العديد من األمور‬

‫‪544‬‬
‫األخ ��رى ال�ت��ي تنظم ال�ع�لاق��ة ب�ين السلطة الفلسطينية‪ ،‬والقوات‬
‫اإلسرائيلية‪.‬‬

‫وفي ‪ 17‬أيار ‪ 1994‬أصدر احلاكم العسكري اإلسرائيلي لقطاع‬


‫غزة البالغ رقم ‪ ،4‬أعلن فيه حل اإلدارة املدنية اإلسرائيلية في غزة‪،‬‬
‫ونقل صالحياتها إلى السلطة الفلسطينية‪ .‬في حني استمرت اإلدارة‬
‫املدنية اإلسرائيلية في الضفة الغربية وهو انتهاك واضح إلعالن‬
‫املبادئ‪.‬‬

‫وف��ي ‪ 29‬أي��ار ‪ 1994‬تشكلت السلطة الوطنية الفلسطينية‬


‫مبوجب قرار من منظمة التحرير باعتبار السلطة امتداداً لها‪ .‬وهذه‬
‫السلطة هي سلطة مرحلة انتقالية ال متارس مهامها إال بعد إجراء‬
‫االنتخابات في األراض��ي الفلسطينية‪ .‬وفي األول من متوز ‪1994‬‬
‫دخل ياسر عرفات مع عدد كبير األراضي الفلسطينية احملتلة بعد‬
‫غياب ط��وي��ل‪ ،‬واستقبل استقباالً جماهيرياً ح��اش��داً‪ .‬وشكلت أول‬
‫سلطة فلسطينية في الداخل برئاسة ياسر عرفات‪.‬‬

‫وف��ي ‪ 22‬كانون األول ‪ 1995‬عني محمود عباس (أب��و مازن)‬


‫رئيساً للجنة املختصة للتحضير واإلشراف على االنتخابات املزمع‬
‫إجراؤها في ‪ 20‬كانون الثاني ‪ .1996‬وحظي موضوع االنتخابات‬
‫باهتمامات واسعة في أوس��اط الفلسطينيني في الداخل واخلارج‪.‬‬
‫كما أش��رف على عليها م��راق�ب��ون دول �ي��ون‪ ،‬وك��ان��ت نسبة املشاركني‬
‫‪ 88,01%‬وانتخب ياسر عرفات بنسبة كبيرة ج��داً‪ .‬وبالرغم من‬
‫مقاطعة حركة حماس لهذه االنتخابات إال أن خمسة من أعضائها‬
‫قد فازوا‪ ،‬ثم منح املجلس التشريعي الفلسطيني الثقة للحكومة التي‬
‫تألفت برئاسة ياسر عرفات وكانت إسرائيل منذ بدء املفاوضات‬
‫تطالب بتعديل امليثاق الوطني ملنظمة التحرير وتعهد عرفات بإمتام‬

‫‪545‬‬
‫األمر في عدة مناسبات‪ ،‬إلى أن جاءت الدورة ‪ 21‬للمجلس الوطني‬
‫الفلسطيني ‪،‬التي خصصت ملوضوع التعديل في ‪ 24‬نيسان ‪.1996‬‬
‫وقد تضمن قرار التعديل فقرتني‪ :‬ذلك بإلغاء امل��واد التي تتعارض‬
‫مع رسائل االعتراف املتبادل‪ .‬ويكلف جلنة قانونية إلعادة صياغة‬
‫امليثاق على هذا األس��اس‪ .‬وقد لقي هذا التعديل معارضة شديدة‬
‫من الداخل ومن اخلارج‪.‬‬

‫عشرون‪ :‬انتفاضة أيلول ‪1996‬‬

‫مجزرة جديدة ارتكبها اإلسرائيليون بحق املسلمني املصلني في‬


‫املسجد األقصى في مدينة القدس‪ ،‬ذهب ضحيتها عشرات القتلى‬
‫واجل��رح��ى‪ .‬وأق��دم��ت اجلماهير الفلسطينية ف��ي مختلف املناطق‬
‫احملتلة على التظاهر ومواجهة اجلنود اإلسرائيليني‪ .‬إضافة إلى قيام‬
‫حركة حماس بعمليات استشهادية رداً على املجزرة‪ ،‬وانتقاماً ملقتل‬
‫أحد قيادييها املهندس يحيى عياش‪ .‬وكانت احلكومة اإلسرائيلية‬
‫آنذاك برئاسة الليكودي املتعصب بنيامني نتنياهو ‪،‬الذي اتبع سياسة‬
‫عنصرية متشددة واستيطانية توسعية على حساب مفاوضات الوضع‬
‫النهائي التي توقفت‪.‬‬

‫وق��د عملت احلكومة اإلسرائيلية على إره��اق الفلسطينيني‬


‫وسلطتهم عبر حصار شديد على جميع أراضي سلطة احلكم الذاتي‪،‬‬
‫إضافة إلى القرى واملدن الفلسطينية التابعة لالحتالل بحجة إيقاف‬
‫عملية التفجير‪ .‬وقد أدى هذا احلصار إلى آثار سلبية اقتصادية كبيرة‬
‫على الفلسطينيني (الفالحني والعمال)‪ .‬إال أن هذا احلصار أظهر‬
‫حقيقة مهمة كانت غائبة وهي السيطرة املطلقة لإلسرائيليني على‬
‫الفلسطينيني الضعفاء في مختلف املجاالت‪ ،‬وخاصة االقتصادية‪،‬‬
‫إال أن األمر لم يبق على ما هو عليه‪.‬‬

‫‪546‬‬
‫ف �ف��ي ‪ 25‬أي��ل��ول ‪ 1996‬ان �ت �ف��ض ال�ف�ل�س�ط�ي�ن�ي��ون م��ن جديد‬
‫واستطاعوا بأعمالهم اجلريئة‪ ،‬إخراج القوى الفلسطينية مبا فيها‬
‫سلطة احلكم الذاتي من مأزق كبير‪ ،‬كانت إسرائيل تسعى إليقاعهم‬
‫ب��ه‪ .‬ف��أذع�ن��ت إس��رائ�ي��ل للضغط الشعبي ال�ه��ائ��ل ورف�ع��ت حصارها‬
‫عن الشعب الفلسطيني‪ .‬إال أن سياسة نتنياهو االستيطانية ظلت‬
‫على ما هي عليه‪ ،‬األمر الذي أدى إلى تأزم العالقات مع اجلانب‬
‫الفلسطيني‪ ،‬وقد عمل الرئيس األمريكي بيل كلينتون جلمع الطرفني‬
‫إلع��ادة املفاوضات املتوقفة عقب العملية االستشهادية في القدس‬
‫في ‪ 30‬متوز ‪ 1997‬وتوصل إلى ذلك في ‪ 6‬تشرين أول ‪ ،1997‬إال‬
‫أن اخل�لاف��ات كانت ج��ذري��ة خاصة ح��ول االنسحابات اإلسرائيلية‬
‫التي كانت متاطل بها حكومة نتنياهو‪ ،‬وبعد عدة وساطات أمريكية‪،‬‬
‫استطاعت الدبلوماسية األمريكية أن جتمع عرفات بنتنياهو في واي‬
‫ريفر‪ /‬واشنطن بحضور ملك األردن الراحل احلسني بن طالل في‬
‫‪ 23‬تشرين األول ‪ 1998‬وهو يتضمن اخلطوات الهادفة إلى تسهيل‬
‫تنفيذ االتفاق االنتقالي بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة واالتفاقات‬
‫املتصلة به‪ .‬إال أن هذا العام لم ينته إال وكانت احلكومة اإلسرائيلية‬
‫قد أوقفت هذا االتفاق وجمدت تنفيذه متاماً‪.‬‬

‫واح��د وعشرون‪ :‬أزم��ة إع�لان الدولة الفلسطينية في ‪4‬‬


‫أيار ‪1999‬‬

‫ف��ي خ �ض��م ال �ع�لاق��ات احمل �م��وم��ة ب�ي�ن اجل��ان �ب�ين اإلسرائيلي‬


‫والفلسطيني‪ ،‬ك��ان ياسر ع��رف��ات يفتتح مطار غ��زة ال��دول��ي‪ ،‬الذي‬
‫اعتبر رمزاً جديداً للسيادة الفلسطينية وباكورة التحضيرات إلعالن‬
‫دول��ة فلسطني وعاصمتها ال�ق��دس ف��ي ‪ 4‬أي��ار ‪ .1999‬وق��د صرح‬
‫عرفات في أكثر من لقاء دولي عن نيته إعالن قيام دولة فلسطني‬
‫املستقلة في ‪ 4‬أيار ‪ .1999‬مع معارضة اإلسرائيليني واألمريكيني‬

‫‪547‬‬
‫لهذا اإلعالن‪.‬‬

‫وفي ‪ 14‬كانون األول ‪ 1998‬زار الرئيس األمريكي بيل كلينتون‬


‫مدينة غزة الفلسطينية‪ ،‬وحضر مصادقة أعضاء السلطة الفلسطينية‬
‫ومنظمة التحرير على إلغاء بنود امليثاق الوطني الفلسطيني التي‬
‫تدعو إلى تدمير إسرائيل وع��دم االعتراف بوجودها‪ .‬وكانت هذه‬
‫القمة مبثابة دعم أمريكي للفلسطينيني‪ .‬ومع كل ذلك فاإلسرائيليني‬
‫لم يقابلوا تلك املبادرة بحسن النية بل كعادتهم (وخاصة نتنياهو)‬
‫رفض االنسحاب من أي شبر جديد‪ .‬األم��ر ال��ذي زاد في إضعاف‬
‫شعبيته في فدعا الكنيست اإلسرائيلي إلى حل نفسه في ‪ 21‬كانون‬
‫األول ‪ 1998‬حتضيراً النتخابات مبكرة‪.‬‬

‫ثاني وعشرون‪ :‬املفاوضات في عهد حكومة باراك‬

‫بسبب الضغوط األمريكية على الفلسطينيني‪ ،‬ون�ظ��راً ملوعد‬


‫قرب االنتخابات اإلسرائيلية في ‪ 15‬أيار ‪ ،‬أجل ياسر عرفات موعد‬
‫إعالن قيام الدولة حتى ال يكون ذلك داعماً لنتنياهو في االنتخابات‬
‫إلى وقت آخر‪.‬‬

‫وبالفعل مني الليكود بهزمية أمام منافسة حزب العمل‪ .‬وفاز‬


‫ايهود ب��اراك الذي صرح أثناء حملته االنتخابية عن تصميمه على‬
‫املضي قدماً في عملية السالم مع الفلسطينيني والعرب بشكل عام‪،‬‬
‫وعلى نيته كذلك باالنسحاب املبكر من جنوب لبنان‪ .‬بدأت املفاوضات‬
‫الفلسطينية اإلسرائيلية لتطبيق اتفاق «واي بالنتيشن» وقد واجهت‬
‫املتفاوضني عدة صعوبات‪ .‬وبعد سباق طويل من املفاوضات‪ ،‬وقع‬
‫املفاوضون الفلسطينيون واالسرائيليني في ‪ 2‬أيلول‪ 1999‬اتفاق‬
‫«واي‪ »2‬في احتفال أقيم في منتجع ش��رم الشيخ مبصر‪ ،‬بحضور‬

‫‪548‬‬
‫وزي��رة اخلارجية األمريكية مادلني أولبرايت وايهود ب��اراك وياسر‬
‫عرفات وعمرو موسى وزير اخلارجية املصرية إلى جانب ملك األردن‬
‫عبد الله الثاني‪.‬‬

‫ثالث وعشرون‪ :‬خطة خارطة الطريق‬

‫في عام ‪ 2003‬سلمت اللجنة الرباعية‪-‬املكوّنة من الواليات‬


‫املتحدة األمريكية وروسيا وأوروبا واألمم املتحدة‪ ،‬واملكلفة باإلشراف‬
‫على عملية السالم بني الفلسطينيني واإلسرائيليني خطة الطريق‬
‫األمريكية التي تنص على إقامة دولة فلسطينية مستقلة بحلول عام‬
‫‪ 2005‬إلى كل من إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية ‪،‬وفي أيار‬
‫من نفس العام وبعد أي��ام من تسلمها خلطة خارطة الطريق أعلن‬
‫الطرفني الفلسطيني واإلسرائيلي عن قبولهما بها‪.‬‬

‫ف��ي ش�ه��ر أي��ار ع��ام ‪ 2003‬مت اس �ت �ح��داث منصب ج��دي��د في‬


‫القيادة الفلسطينية من خ�لال منصب رئيس ال��وزراء ال��ذي أوكلت‬
‫له بعض الصالحيات التي كانت من اختصاص الرئيس الفلسطيني‬
‫ياسر عرفات‪ ،‬وقد عني محمود عباس في هذا املنصب‪.‬لكنه لم يبق‬
‫ال في هذا املنصب إذ استقال بعد ‪ 90‬يوماً من توليه منصب‬ ‫طوي ً‬
‫رئاسة الوزراء ليحل مكانه أحمد قريع‪.‬‬

‫وفي ‪ 22‬آذار العام ‪ 2004‬استشهد الشيخ أحمد ياسني مؤسس‬


‫حركة املقاومة اإلسالمية حماس واث�ن��ان من مرافقيه‪ ،‬إث��ر هجوم‬
‫صاروخي اسرائيلي استهدف الشيخ ياسني بينما كان عائدا من أداة‬
‫صالة الفجر في مسجد املجمّع اإلسالمي القريب من منزله مدينة‬
‫في غزة‪.‬‬

‫‪549‬‬
‫راب��ع وع �ش��رون‪ :‬رح�ي��ل ع��رف��ات وت��أث�ي��ر ذل��ك ف��ي عملية‬
‫السالم‬

‫مر النظام السياسي الفلسطيني‪ ،‬بعد رحيل عرفات‪ ،‬في تشرين‬


‫الثاني‪/‬نوفمبر ‪ ،2004‬مبرحلة انتقالية حرجة‪ ،‬ورمب��ا استثنائية‬
‫ف��ي ت��اري��خ الشعب الفلسطيني؛ اع�ت��راه��ا الكثير م��ن اإلشكاليات‬
‫والتحديات‪ :‬الداخلية واخل��ارج�ي��ة‪ .‬لقد وق��ف الشعب الفلسطيني‬
‫خاللها أمام حلظة احلقيقة‪ ،‬التي استدعت مواجهة مسؤوليات غير‬
‫مسبوقة؛ لتطوير النظام السياسي‪ ،‬على أ ُسُ س دميوقراطية‪ ،‬في إطار‬
‫ترتيب البيت الفلسطيني‪ ،‬وتعزيز الوحدة الوطنية والوفاق الوطني؛‬
‫لتأسيس شرعية وطنية‪ ،‬تراعي املتغيرات واملستجدات‪ ،‬داخل املجتمع‬
‫الفلسطيني وق��واه السياسية؛ ومتلك القوة والشرعية‪ ،‬للتعامل مع‬
‫االحتالل‪ ،‬واملجتمع الدولي مبدخالته وضغوطه املختلفة‪.‬‬

‫‪550‬‬
‫الفصل اخلامس‬
‫السعودية‬

‫وقع اخلالف بني أبناء الصباح في الكويت‪ ،‬إذ ثار أبناء إخوة‬
‫الشيخ م�ب��ارك عليه واجت�ه��وا إل��ى ال �ع��راق يطلبون مساعدتهم من‬
‫الدولة العثمانية‪ ،‬فأوكلت األم��ر إلى ابن رشيد في حائل ملساعدة‬
‫هؤالء ضد عمهم الذي تفاهم مع اإلنكليز‪.‬‬

‫كان عبد العزيز بن عبد الرحمن يقيم في الكويت مع والده‪،‬‬


‫فرأى أن يستفيد من اخلصومة بني الشيخ مبارك وآل رشيد فطلب‬
‫من الشيخ مبارك أن يرسله بقوة يحتل بها الرياض وينقذها من آل‬
‫رشيد‪ ،‬كي تضعف قوتهم ويقاتلوا في جبهتني‪ ،‬فوافق الشيخ مبارك‪،‬‬
‫وسار عبد العزيز بقوة إلى الرياض ‪ 1900‬وحاصرها غير أن هزمية‬
‫الشيخ مبارك اضطرته إل��ى ال�ع��ودة من حيث أت��ى‪ ،‬ولكنه س��ار في‬
‫العام التالي ‪ ،1901‬ودخل الرياض على حني غرة من أميرها وقتله‬
‫في قصره‪ ،‬وتسلّم حكم الرياض‪ ،‬وب��دأ يوسع نفوذه فاحتلَّ الوشم‬
‫وسدير عام ‪ 1904‬وبريدة وعنيزة عام ‪ 1905‬وبقية القصيم عام‬
‫‪ 1907‬بعد مقتل أمير حائل في املعركة التي دارت بينهما في روضة‬

‫‪551‬‬
‫مهنا‪ ،‬ثم جتدد القتال بعد صلح‪ ،‬وبعد خالفات حدثت في آل البيت‬
‫الرشيدي‪ ،‬وأخيراً دخل عبد العزيز بن عبد الرحمن حائل ‪1922‬‬
‫بعد أن ضعفت الدولة العثمانية إثر حروب البلقان(((‪.‬‬

‫اصطدم عبد العزيز بن عبد الرحمن مع شريف مكة احلسني بن‬


‫علي الذي ثار على األتراك أثناء احلرب العاملية األولى وشعر بقوته‪،‬‬
‫وتلقب باسم ملك ال�ع��رب‪ ،‬وخصوصاً بعد أن حكم أوالده األردن‪،‬‬
‫والعراق‪ ،‬واستطاع السعوديون دخول الطائف عام ‪ 1925‬بعد هزمية‬
‫(تربة) وتنازل الشريف حسني البنه علي عن امللك وغادر البالد‪ ،‬ثم‬
‫متكّن السعوديون من دخول مكة املكرمة في العام نفسه‪ ،‬وانسحب‬
‫علي بن احلسني إلى جدة‪ ،‬ثم تنازل عن احلجاز‪ ،‬ودخل السعوديون‬
‫ج��دة وامل��دي�ن��ة امل�ن��ورة ع��ام ‪ 1926‬بعد ح�ص��ار‪ ،‬وه�ك��ذا انتهى حكم‬
‫األشراف عن احلجاز التي أصبحت جزءاً من ملك السعوديني(((‪.‬‬

‫كما استطاع اجليش السعودي دخول أبها عاصمة عسير عام‬


‫‪ 1920‬وعاد آل عائض إلى االنتفاض على السعوديني ولكنهم هزموا‬
‫عام ‪ 1922‬بعد معارك دامية‪ ،‬ونقل آل عائض إلى الرياض‪.‬‬

‫كما ض َّم عبد العزيز بن عبد الرحمن تهامة التي كان األدارسة‬
‫قد استقلوا فيها عن الدولة العثمانية‪ ،‬وحتالفوا مع االيطاليني ثم‬
‫مع اإلنكليز‪ ...‬وثار السكان ضد علي اإلدريسي فالتجأ إلى الرياض‪،‬‬
‫وبايع أهل املنطقة عمه احلسن الذي فاوض إنكلترا وأعطاها حق‬
‫التنقيب ع��ن النفط ف��ي ج��زر ف��رس��ان‪ ،‬كما ف��اوض إيطاليا‪ ،‬وإمام‬
‫ال�ي�م��ن‪ ،‬ث��م ف��اوض السعوديني وجن��ح ف��ي ذل��ك‪ ،‬وض�م��ت تهامة إلى‬
‫خير الدين الزركلي‪ ،‬شبه اجلزيرة في عهد امللك عبد العزيز‪ ،‬ط‪ ،‬بيروت ‪ 1970‬م‪ ،‬ص‬ ‫(( (‬
‫‪.67 - 57‬‬
‫الزركلي‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪.170 - 145‬‬ ‫(( (‬

‫‪552‬‬
‫السعوديني ‪.((( 1926‬‬

‫بويع عبد العزيز أميراً على جند بعد أن دخ��ل الرياض عام‬
‫‪ ،1901‬وأصبح سلطاناً على جند وملحقاته بعد أن دخل حائل عام‬
‫‪ ،1922‬وغدا ملك احلجاز وسلطان جند وملحقاته بعد أن استولى‬
‫ع�ل��ى احل �ج��از ع��ام ‪ ، 1926‬ب�ع��د ع��ام أص �ب��ح م�ل��ك احل �ج��از وجند‬
‫وملحقاته‪ ،‬وأخيراً في ‪ 17‬من جمادى األولى عام ‪ 1932‬أصبح ملك‬
‫اململكة العربية السعودية(((‪.‬‬

‫استفاد ابن سعود من جماعة أسماها «اإلخوان» تضم اجلماعة‬


‫املتدينني من أهل البادية الذي استقروا في الهجر التي أسسها لهم‪،‬‬
‫وقد ضحت هذه اجلماعة بكل شيء في سبيل نشر الدعوة‪ ،‬ثم بدأ‬
‫اخلالف بينها وبني امللك عبد العزيز‪ ،‬ودارت معارك بني الطرفني‬
‫خرج عبد العزيز منها منتصراً‪ ،‬وقضى على خصومه‪.‬‬

‫وج��رى اخل�لاف ب�ين اململكة العربية ال�س�ع��ودي��ة وال�ي�م��ن على‬


‫احلدود‪ ،‬وجرت مفاوضات بني الطرفني حل ّل هذا اخلالف غير أن‬
‫اليمن قد احتلت جيزان وما حولها أثناء املفاوضات‪ ،‬فأرسل امللك‬
‫عبد العزيز جيشاً بقيادة ابنه فيصل احتلَّ (ميدي) و(احلديدة)‪ ،‬ثم‬
‫تدخلت الدول العربية فتوقف القتال‪ ،‬وعقدت معاهدة الطائف عام‬
‫‪ 1935‬التي حددت احلدود بني الدولتني‪.‬‬

‫عمل امللك عبد العزيز على تطبيق حدود الشريعة اإلسالمية‬


‫صالح الدين املختار‪ ،‬تاريخ اململكة العربية السعودية‪ ،‬ج ‪ ،2‬بيروت ‪ 1957‬م‪ ،‬ص ‪- 275‬‬ ‫((( ‬
‫‪.290‬‬
‫خير الدين الزركلي‪ ،‬الوجيز في سيرة امللك عبد العزيز‪ ،‬ط‪ ،‬بيروت ‪ 1977‬م‪ ،‬ص ‪- 145‬‬ ‫(( (‬
‫‪.170‬‬

‫‪553‬‬
‫فساد األمن‪ ،‬واستقر الوضع‪ ،‬ووجد النفط في املنطقة الشرقية من‬
‫ب�لاده‪ ،‬فاجتهت أنظار ال��دول نحو اخلليج أكثر من ذي قبل‪ ،‬واتفق‬
‫مع الدول املجاورة ذات الشأن فرسمت احلدود‪ ،‬وعقدت املعاهدات‬
‫حلسن اجلوار‪ ،‬وتوفي عام ‪ 1953‬فخلفه ابنه األكبر سعود‪ ،‬حسب‬
‫النظام القائم بحكم الولد األكبر من أسرة امللك عبد العزيز(((‪.‬‬

‫س��ار س�ع��ود ب��ن عبد ال�ع��زي��ز ب��ال�ب�لاد ش��وط �اً‪ ،‬ث��م ان�ص��رف عن‬
‫الشؤون العامة فوقع اخلالف بينه وبني أخيه ولي عهده فيصل الذي‬
‫ال فنجح في نقل امللك‬ ‫كان نائبه على احلجاز‪ ،‬وبايع العلماء فيص ً‬
‫إليه‪ ،‬وغادر سعود البالد إلى أن توفي في مصر عام ‪.1967‬‬

‫قام امللك فيصل باألمر وسار سيرة حميدة‪ ،‬ودعا إلى التكتل‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وفي عهده زادت خيرات البالد مع زيادة الثروة النفطية‪،‬‬
‫واحلاجة املاسة إلى النفط الذي أصبح شريان احلياة االقتصادية‪،‬‬
‫ونعمت اململكة ب��ال��رخ��اء‪ ،‬وس��اد األم��ن واالس�ت�ق��رار‪ ،‬وات�س��ع العمل‪،‬‬
‫وجلبت األيدي العاملة من جهة‪ ،‬ثم قتل من قبل ابن أخيه مساعد‬
‫في عام ‪ ،1975‬فاعتلى احلكم أخوه خالد‪ ،‬وبايعته األسرة جميعها‪،‬‬
‫واستم َّر في احلكم حتى ‪ 1982‬حيث توفي فجأة‪ ،‬فخلف أخوه فهد‬
‫بن عبد العزيز‪ ،‬ولقب بخادم احلرمني الشريفني‪ ،‬وشهدت البالد‬
‫في عهده ازدهاراً وتطوراً في شتى احلاالت وحظيت بسمعة ومكانة‬
‫دولية إسالمية وعربية ثم خلفه األمير عبدالله(((‪.‬‬

‫الزركلي‪ ،‬شبه اجلزيرة في عهد امللك عبد العزيز‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص ‪.1453 - 1440‬‬ ‫((( ‬
‫عبداللَّه الشبل‪ ،‬تاريخ الدولة السعودية‪ ،‬الرياض ‪ 1395‬هـ‪ ،‬ص ‪.160 - 120‬‬ ‫(( (‬

‫‪554‬‬
‫الفصل السادس‬
‫األردن‬

‫ت�ع��اق��ب ع�ل��ى األردن ال�ع��دي��د م��ن ال ��دول وامل�م��ال�ي��ك املختلفة‪.‬‬


‫لوقوعه في وسط الطريق الذي يجمع شبه اجلزيرة العربية ببالد‬
‫الشام ومصر‪ .‬فقد سكنها بداية الكنعانيون‪ ،‬ثم دخلها الفلسطينيون‬
‫واستمروا فيها حتى دخلها اليهود العبرانيون‪ .‬وفي عهدهم تعرضت‬
‫املنطقة لهجوم كاسح من قبل اآلشوريني والكلدانيني والذين أحلقوا‬
‫بهم خسائر جمة‪ .‬أم��ا في عهد دولتي الفرس وال��روم‪ ،‬فقد كانت‬
‫املنطقة تتبع الدولة األق��وى فيهما‪ ،‬وقامت فيها عدة ممالك ودول‬
‫مستقلة بنت فيها حضارتها املستقلة وأه��م ه��ذه املمالك األنباط‪،‬‬
‫وهم قبائل بدوية ظهرت حوالي القرن اخلامس قبل امليالد‪ .‬ويعود‬
‫أول تاريخ ثابت لألنباط إل��ى ع��ام ‪ 312‬ق‪.‬م حني متكنوا من صد‬
‫حملتني عن سوريا بقيادة انتيفوس أحد خلفاء االسكندر‪ .‬وقد اتخذ‬
‫األنباط من البتراء عاصمة لهم‪ .‬ووسعوا سلطتهم ومركزهم إلى‬
‫املناطق الشمالية‪ .‬وأصبحت البتراء منذ أواخر القرن الرابع ق‪.‬م‪.‬‬
‫املدينة الرئيسية على ط��ري��ق ال�ق��واف��ل ت��رب��ط ب�ين جنوبي اجلزيرة‬
‫العربية وبالد الشام‪ .‬وكانت حضارة األنباط عربية في لغتها آرامية‬

‫‪555‬‬
‫في كتابتها‪ .‬واستطاع الرومان إضعاف دور البتراء اقتصادياً بتغيير‬
‫الطريق التجاري‪ ،‬ثم حاصروها واستولوا عليها في عام ‪106‬م‪.‬‬

‫امتدت إلى هذه املنطقة نفوذ دولة تدمر التي نشأت في قلب‬
‫بادية الشام وازده��رت وعاشت عصرها الذهبي أي��ام ملكها أذينة‬
‫وزوجته زنوبيا‪ .‬وقد سقطت مملكة تدمر عام ‪273‬م‪.‬‬

‫وف��ي خ�ض��م ت �ص��ارع ال��دول�ت�ين العظميني «ال �ف��رس» و«ال ��روم»‬


‫سمحت كل دول��ة منهما بقيام دول��ة عربية صغيرة على حدودهما‬
‫اجلنوبية‪ ،‬كي تقومان مبهمة الدفاع عن الدولتني العظميني‪ ،‬فأقام‬
‫ال�ف��رس دول��ة امل �ن��اذرة‪ .‬وأق��ام ال��روم دول��ة الغساسنة ال��ذي��ن سكنوا‬
‫جنوبي بالد الشام‪ .‬والغساسنة قسم من عرب اليمن هجروا بالدهم‬
‫عقب انهيار سد م��أرب واجت�ه��وا شماالً إل��ى ب�لاد ال�ش��ام‪ .‬وأسسوا‬
‫دولتهم بزعامة أميرهم «جفنة بن عمرو» وكانت عاصمتهم السياسية‬
‫اجلابية‪ ،‬وعاصمتهم الدينية «بصرى»‪.‬‬

‫ارتبط الغساسنة بعالقات وطيدة مع اإلمبراطورية البيزنطية‪،‬‬


‫وات �س��ع ن�ف��وذه��م ح�ت��ى ام �ت��دت مملكتهم ع�ل��ى ك��ل ب��ادي��ة ال �ش��ام من‬
‫الرصافة حتى خليج العقبة‪ .‬إال أن الروم عملوا على إضعاف دولتهم‬
‫بإثارة اخلالفات فيما بينهم‪ ،‬وظلوا على وضعهم حتى دخول اجليوش‬
‫اإلسالمية إلى بالد الشام وحتريرها في معركة اليرموك اخلالدة‬
‫زمن أمير الغساسنة جبلة بن األيهم‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬العهد اإلسالمي‬

‫ب�ع��د اس�ت�ت�ب��اب ال��دول��ة اإلس�لام �ي��ة األول ��ى ف��ي ش�ب��ه اجلزيرة‬
‫ونشر الدين اجلديد فيها‪ ،‬توجهت اجليوش اإلسالمية لنشر الدين‬

‫‪556‬‬
‫اإلسالمي في اخلارج وخاصة في بالد الشام‪ .‬فوجَّ ه اخلليفة أبو بكر‬
‫الصديق خمسة جيوش باجتاه بالد الشام وأحلقها بخالد بن الوليد‬
‫ال��ذي كان يحارب في العراق‪ .‬وكانت اجليوش اإلسالمية اخلمسة‬
‫بقيادة كل من‪ :‬يزيد بن أبي سفيان إلى دمشق‪ .‬عمرو بن العاص إلى‬
‫فلسطني‪ .‬شرحبيل بن حسنة إلى األردن‪ .‬أبو عبيدة بن اجلراح إلى‬
‫حمص‪ .‬وعكرمة بن أبي جهل دعماً للجيوش اإلسالمية‪ .‬وقد توحدت‬
‫هذه اجليوش اخلمسة في معركة اليرموك عام ‪ 636‬م حتت قيادة‬
‫الصحابي خالد بن الوليد الصديق وبعد ذل��ك متكن شرحبيل بن‬
‫حسنة من متابعة سيره وفتح جميع أراضي منطقة األردن‪ .‬ومع تولي‬
‫األمويني زمام احلكم متتعت هذه املنطقة بازدهار جتاري واقتصادي‬
‫جيد وذلك لقربها من مركز اخلالفة في دمشق‪.‬‬

‫أم��ا في العصر العباسي فقد قل االهتمام بشؤونها وخاصة‬


‫في العصر العباسي األول‪ .‬وف��ي العصر العباسي الثاني تعرضت‬
‫املنطقة لالنقسام التام عن اخلالفة وكانت تتبع الدويلة األقوى في‬
‫املنطقة‪ ،‬فقد تبعت الدولة الطولونية واإلخشيدية في مصر‪ ،‬كما‬
‫تبعت برهة من الزمن للقرامطة‪ ،‬وكذلك للدولة احلمدانية والدولة‬
‫الزنكية والفاطمية‪ ،‬كما تعرضت للهجمات الصليبية حتى حررها‬
‫صالح الدين األيوبي إثر معركة حطني عام ‪.1187‬‬

‫ف��ي ا ل �ف �ت��رة م��ن ا ل �ق��رن ال �س��ادس ع�ش��ر إل��ى م �ش��ارف القرن‬


‫العشرين شكل األردن جزء اً من سوريا خالل احلكم العثماني الذي‬
‫استمر إلى عام ‪ .1916‬حيث اندلعت الثورة العربية الكبرى بقيادة‬
‫الشريف حسني ب��ن علي م��ن مكة املكرمة بدعم م��ن البريطانيني‬
‫والفرنسيني‪.‬‬

‫‪557‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬نشوء اإلم��ارة بعد ال�ث��ورة العربية وعهد األمير‬
‫عبد الله‬

‫عقب اندالع الثورة العربية الكبرى عام ‪ .1916‬وما صاحبها‬


‫م��ن وع��ود احل�ل�ف��اء االنكليز والفرنسيني عبر م��راس�لات حسني ‪-‬‬
‫مكماهون‪ ،‬وبعد هزمية العثمانيني عام ‪ ،1918‬وصل إلى معان في‬
‫جنوب األردن عام ‪ 1920‬الشريف عبد الله بن الشريف حسني على‬
‫رأس حملة عسكرية‪ ،‬وأع�ل��ن ع��ن نيته ط��رد الفرنسيني م��ن سوريا‬
‫إلعادة أخيه امللك فيصل إلى العرش‪ .‬وكان االنكليز قد وعدوا عبد‬
‫ال على‬‫الله سابقاً بعرش ال�ع��راق‪ ،‬فغيروا خططهم‪ ،‬فنصبوا فيص ً‬
‫العراق‪ .‬أما عبد الله فقد خشي البريطانيون من أن يعطل اتفاقية‬
‫سايكس ‪ -‬بيكو مع الفرنسيني‪ ،‬فعرضوا عليه إنشاء إمارة خاصة به‬
‫في شرق األردن‪ ،‬مع مساعدة مالية‪ ،‬مقابل تعهده بإيقاف حملته‪،‬‬
‫ومنع ال�غ��ارات ض��د الفرنسيني‪ ،‬وتأييده لالنتداب البريطاني في‬
‫فلسطني فوافق عبد الله‪ ،‬وقامت إمارة شرق األردن بعد أن تنازل‬
‫الشريف حسني البنه عن معان والعقبة وأحلقتا باإلمارة‪ .‬علما أن‬
‫إمارة شرقي األردن كانت في العهد العثماني متصرفية تابعة لوالية‬
‫دمشق‪ .‬وبعد خروج األتراك من بالد الشام أصبحت تابعة حلكومة‬
‫دمشق‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬عهد امللك حسني بن طالل (‪)1999 - 1953‬‬

‫بعد قيام الوحدة بني سوريا ومصر عام ‪ ،1958‬دخل األردن‬


‫في «االحتاد العربي» مع العراق‪ ،‬إال أن ثورة ‪ 14‬متوز ‪ 1958‬أطاحت‬
‫بالوحدة‪ ،‬بعدما أطاحت بالنظام امللكي في العراق وحكومته‪ .‬وملنع‬
‫ام�ت��داد ال�ث��ورة إل��ى األردن‪ ،‬طالب امللك حسني بالتدخل العسكري‬
‫البريطاني‪ ،‬فنقلت قوات جوية بريطانية إلى عمان وفي الوقت نفسه‬

‫‪558‬‬
‫كانت قوات األسطول السادس األمريكي تنزل على الساحل اللبناني‬
‫في بيروت‪.‬‬

‫بعد هذه املرحلة‪ ،‬دخلت البالد في فترة من الهدوء النسبي‪،‬‬


‫فتفرغت الدولة لإلمناء االقتصادي‪ .‬حتى كانت نكسة عام ‪ ،1967‬وقد‬
‫تعرض األردن للعدوان اإلسرائيلي الذي أسفر عن استيالء إسرائيل‬
‫على الضفة الغربية‪ ،‬وجلوء ما يزيد على ‪ 400‬ألف فلسطيني إلى‬
‫شرق األردن‪ ،‬األمر الذي أدى إلى خلق املزيد من املشاكل السياسية‬
‫واالقتصادية‪ .‬خاصة بعد ظهور املقاومة الفلسطينية‪ ،‬التي باتت‬
‫تهدد مصير العرش الهاشمي‪ ،‬بسبب متادي بعض عناصر املقاومة‬
‫بالظهور املسلح وكسر قوانني الدولة‪ ،‬األمر الذي أدى إلى تصادم‬
‫عسكري كبير مع الدولة األردنية عام ‪ ،1970‬حيث شكل امللك حسني‬
‫قاس‪ ،‬وأخرجتها‬
‫حكومة عسكرية متكنت من ضرب املقاومة بشكل ٍ‬
‫من األردن بعد مبادرة عربية قام بها الرئيس جمال عبد الناصر‪.‬‬

‫بعد ذلك ح��اول امللك حسني أن يعيد مطالبته بوضع الضفة‬


‫الغربية حت��ت سيادته ل��دى حتقيق االنسحاب اإلس��رائ�ي�ل��ي‪ ،‬إال أن‬
‫منظمة التحرير الفلسطينية نالت املوافقة العربية والدولية على‬
‫أنها من حقها وحدها حق تقرير مصير الشعب الفلسطيني وذلك‬
‫بعد قمة الرباط العربية عام ‪.1974‬‬

‫رابع ًا‪ :‬األردن في الثمانينات‬

‫دعا األردن إلى مصاحلة عربية مع مصر في ربيع ‪ 1982‬بعد‬


‫تسلم مبارك الرئاسة‪ ،‬وأعاد هو عالقته معها في ‪ 25‬أيلول ‪.1984‬‬
‫وبعد االجتياح اإلسرائيلي للبنان في حزيران ‪ 1982‬عقدت قمة‬
‫عربية في فاس باملغرب‪ ،‬تشكلت على إثرها جلنة عربية سباعية‬

‫‪559‬‬
‫برئاسة األردن دع��ت ك�ب��ار ال��دول العاملية مل�ش��روع ال�س�لام العربي‬
‫وطلبت منهم تأييده‪ ،‬ث��م ج��رت مفاوضات فلسطينية أردن�ي��ة على‬
‫أس��اس م�ش��روع ال�س�لام العربي وم �ب��ادرة رون��ال��د ري�غ��ان‪ ،‬ث��م أعلنت‬
‫احلكومة األردنية فشل هذه املبادرة‪ .‬وفي شباط ‪ 1985‬وقّع اتفاق‬
‫بني منظمة التحرير الفلسطينية واألردن‪ ،‬إال أن العالقات عادت‬
‫وتدهورت مجدداً في العام ‪ 1986‬حيث أغلقت احلكومة األردنية‬
‫‪ 26‬مكتباً ملنظمة التحرير في األراضي األردنية‪ .‬وفي كانون الثاني‬
‫‪ 1989‬ع��ادت العالقات وحتسّ نت حيث افتتح امللك حسني وياسر‬
‫عرفات مكتب سفارة فلسطني في األردن‪ .‬كما شهد هذا العام فوز‬
‫ليلى شرف أول امرأة أردنية في مجلس األعيان‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬األردن في التسعينات‬

‫في ‪ 27‬آب ‪ 1992‬أعلنت السلطات األردنية اعتقال جماعة‬


‫من شباب النفير اإلسالمي بينهم النائب اإلسالمي يعقوب قرش‪،‬‬
‫وبعد أربعة أيام أوقف النائب ليث شبيالت أيضاً بتهمة تزويد هذه‬
‫اجلماعة بأسلحة ومتفجرات‪ .‬وقد وجهت إليهم محكمة أمن الدولة‬
‫تهمة «محاولة قلب احلكم» وحكمت عليهما بالسجن ملدة ‪ 20‬سنة‪.‬‬
‫وحتت الضغط الشعبي والنيابي‪ ،‬أصدر امللك حسني مبناسبة عيد‬
‫ميالده السابع واخلمسني في ‪ 14‬تشرين الثاني ‪ 1992‬عفواً عاماً‬
‫شمل شبيالت وقرش‪.‬‬

‫بعد ذلك مرت اململكة األردنية مبرحلة ضغط سياسي واقتصادي‬


‫كبير بسبب موقف األردن املساند للعراق في حرب اخلليج الثانية‬
‫ضد الكويت‪ ،‬وقد متثل هذا الضغط مبقاطعة الدول اخلليجية قاطبة‬
‫لألردن‪ ،‬وقد حاول امللك حسني كسر هذا احلاجز عن طريق انتقاده‬
‫املستمر لسياسة الرئيس العراقي صدام حسني‪.‬‬

‫‪560‬‬
‫وفي ‪ 30‬تشرين األول ‪ 1991‬شارك األردن دول مجلس الطوق‬
‫في مؤمتر السالم الذي عقد في مدريد‪ ،‬غير أنه سرعان ما دخل‬
‫في مفاوضات سرية مع اسرائيل وتوصل إلى إبرام معاهدة «وادي‬
‫عربة» التي وقعها امللك حسني مع اسحق رابني في ‪ 29‬تشرين األول‬
‫‪ .1994‬لتطوى بذلك صفحة احلرب بني الطرفني والتي استمرت‬
‫‪ 46‬عاماً‪ ،‬وفي تشرين الثاني أقام البلدان عالقات دبلوماسية للمرة‬
‫األولى‪.‬‬

‫ف��ي آب ‪ 1996‬ج��رت ت �ظ��اه��رات ك�ب�ي��رة ف��ي ج�ن��وب��ي اململكة‬


‫احتجاجاً على تدهور األوض��اع االقتصادية‪ ،‬وعلى ارتفاع األسعار‬
‫أدت إلى مواجهات عنيفة مع القوات احلكومية‪.‬‬

‫وفي نيسان ‪ 1997‬عاد امللك حسني إلى مستشفى «مايو كلينيك»‬


‫حيث خضع مجدداً للعالج وبقي في املستشفى حتى شهر تشرين‬
‫األول من العام ‪ .1998‬وقد شارك امللك حسني في مفاوضات «واي‬
‫بالنتيشن» التي أفضت إلى توقيع االتفاق في واشنطن بني بنيامني‬
‫نتنياهو رئيس الوزراء اإلسرائيلي وياسر عرفات‪.‬‬

‫وفي كانون الثاني ‪ 1998‬عاد امللك حسني إلى عمان معلناً شفاءه‬
‫التام من السرطان‪ ،‬وبعد مجيئه بستة أيام فقط عزل امللك حسني‬
‫شقيقه وولي عهده األمير حسن عن والية العهد والتي استمرت له‬
‫‪ 34‬عاماً‪ ،‬وعني مكانه جنله األمير عبد الله‪.‬إال أن املرض عاود من‬
‫جديد امللك حسني‪ ،‬فعاد إلى مايو كلينيك في أمريكا في ‪ 26‬كانون‬
‫الثاني وخضع في شباط ‪ 1999‬لعملية زرع ثانية للنخاع العظمي‬
‫إال إن عمليته الثانية باءت بالفشل فعاد إلى بلده حيث توفي قي ‪7‬‬
‫شباط ‪.1999‬‬

‫‪561‬‬
‫سادس ًا‪ :‬عهد امللك عبد الله الثاني ‪:.... - 1999‬‬

‫تسلم امللك عبد الله الثاني مُلك األردن عقب وفاة والده وسط‬
‫دعم عربي ودول��ي كبير جتلى في احلضور الرسمي الكبير جلنازة‬
‫امللك حسني يتقدمهم كبار زعماء العالم (الواليات املتحدة ‪ -‬روسيا‬
‫‪ -‬بريطانيا ‪ -‬فرنسا ‪ -‬مصر ‪ -‬سوريا ‪ -‬السعودية ‪ )....‬وقد أكد‬
‫اجلميع على احملافظة على وحدة وسالمة األردن‪ ،‬ودعمهم املطلق‬
‫للملك عبد الله الذي سرعان ما وطد حكمه في البلد‪ ،‬وقام بزيارة‬
‫شكر إلى العديد من دول العالم‪ ،‬وكانت احملطة السورية في دمشق‬
‫من أهم هذه الزيارات‪ ،‬إذ عادت العالقات السورية ‪ -‬األردنية إلى‬
‫طبيعتها بعدما توترات وانقطاع في عهد امللك حسني قبيل مفاوضات‬
‫واتفاق وادي عربة مع إسرائيل عام ‪.1994‬‬

‫‪562‬‬
‫الفصل السابع‬
‫العربية املتحدة‬
‫ّ‬ ‫اإلمارات‬

‫قامت فيها عدة إمارات مختلفة منها ما خضع لسلطة اخلالفة‬


‫اإلسالمية‪ ،‬ومنها ما انفصل واستقل عنها‪ .‬إلى أن احتلتها البرتغال‬
‫في القرن السادس عشر‪ ،‬ومع انهيار االحتكار البرتغالي للتجارة في‬
‫اخلليج ملصلحة هولندا وبريطانيا‪ ،‬انتقلت الوصاية والهيمنة ملصلحة‬
‫بريطانيا بالكامل وذلك خالل الربع األخير من القرن الثامن عشر‬
‫وب��داي��ة القرن التاسع عشر‪ .‬ثم وقعت بريطانيا والقبائل العربية‬
‫معاهدة عامة وضعت حداً ألمور عدة تتعلق بالتجارة والقوافل عام‬
‫‪.1820‬‬

‫ورداً على ب ��وادر أط�م��اع أمل��ان�ي��ا وروس �ي��ا ف��ي املنطقة‪ ،‬دخلت‬
‫بريطانيا في اتفاقيات مع شيوخ القبائل متنع مبوجها بيع أجزاء‬
‫م��ن أراض �ي �ه��م‪ ،‬أو ال �ت �ن��ازل عنها ل�ص��ال��ح أي ط��رف ع��دا احلكومة‬
‫البريطانية‪ ،‬ومن إجراء أي عالقات خارجية إال مبوافقة بريطانيا‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 1952‬استقلت الشارقة والفجيرة بعد أن اعترفتا بحق‬
‫بريطانيا في رسم احلدود وحل النزاعات بني اإلمارات‪ .‬وفي السنة‬

‫‪563‬‬
‫نفسها أق�ي��م مجلس ض � ّم ح�ك��ام اإلم ��ارات السبع ب��رئ��اس��ة املفوض‬
‫السياسي البريطاني في دبي‪ .‬وجاء بدء إنتاج النفط في أبو ظبي‬
‫‪ 1962‬ليفسح مجاالً جديداً للتطور‪ .‬وجاء بعد ذلك إزاح��ة الشيخ‬
‫شخبوط في عام ‪ ،1966‬كذلك استفادت دبي من اكتشافات النفط‬
‫مت خلع الشيخ صقر حاكم الشارقة‪ ،‬فقدمت كل من‬ ‫وفي عام ‪ّ 1965‬‬
‫مصر والعراق شكوى إلى األمم املتحدة ضد ممارسات بريطانيا في‬
‫اإلم��ارات‪ ،‬لكن دون نتيجة‪ .‬وبحلول عام ‪ ،1968‬كان البريطانيون‬
‫قد وسعوا قاعدتهم في الشارقة التي غدت األهم في املنطقة‪ .‬وفي‬
‫السنة نفسها أعلنت بريطانيا أن جميع قواتها ستنسحب في أواخر‬
‫عام ‪ ،1971‬واقترحت حتويل قوة كشافة عمان املكونة من ‪1600‬‬
‫رجل واخلاضعة لقيادة بريطانية‪ ،‬إلى نواة قوة أمنية احتادية‪ ،‬غير‬
‫أن أب��و ظبي كانت في ه��ذه األثناء تبني ق��وة خاصة بها‪ .‬وف��ي عام‬
‫‪ 1970‬متت تسوية نزاعات احلدود بني قطر وأبو ظبي ودبي‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬دولة اإلمارات العربية املتحدة‬

‫أعلن في ‪ 2‬كانون األول ‪ /‬ديسمبر عام ‪ 1971‬عن قيام دولة‬


‫اإلمارات العربية املتحدة التي برزت إلى الوجود بفضل الشيخ زايد‬
‫بن سلطان آل نهيان رئيس ال��دول��ة‪ .‬فقد لقيت دعوته جلمع شمل‬
‫اإلمارات استجابة واسعة جتسدت في اللقاءات التي متت بني حكام‬
‫اإلمارات منذ عام ‪ 1968‬وحتى إعالن االحتاد‪.‬‬

‫كانت مقترحات االحت��اد األصلية تشمل قطر والبحرين إلى‬


‫جانب اإلمارات املتصاحلة السبعة‪ ،‬غير أن قطر والبحرين اختارتا‬
‫عدم االنضمام‪ .‬وفي أول كانون األول ‪ 1971‬أنهت بريطانيا معاهداتها‬
‫مع اإلمارات املتصاحلة‪ .‬وفي اليوم التالي شكلت إمارات‪ :‬أبو ظبي‬
‫ودبي والشارقة والفجيرة وأم القيوين وعجمان ورأس اخليمة دولة‬

‫‪564‬‬
‫اإلمارات العربية املتحدة التي وقعت معاهدة صداقة مع بريطانيا‪،‬‬
‫وانتخب حاكم أب��و ظبي الشيخ زاي��د ب��ن سلطان آل نهيان رئيساً‬
‫لالحتاد‪ ،‬والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم أمير دبي نائباً للرئيس‪.‬‬
‫جاءت والدة الدولة االحتادية اجلديدة تصحيحاً لوضع شاذ‪ ،‬فقد‬
‫كانت اإلم��ارات مجرد «مشيخات» صغيرة متناثرة مع أجزائها غير‬
‫مستقرة فيما بينها بسبب ت��داخ��ل أجزائها فيما بينها‪ .‬وف��ي عام‬
‫‪ 1972‬قتل حاكم الشارقة الشيخ خالد وخلفه أخوه الشيخ سلطان‪..‬‬
‫اتبعت دولة اإلمارات سياسة محافظة منذ نشأتها‪ ،‬فساندت الدول‬
‫العربية املشاركة في حرب تشرين األول ‪ ،1973‬وكانت أول دولة‬
‫فرضت خطراً تاماً على ص��ادرات البترول إل��ى ال��والي��ات املتحدة‪.‬‬
‫وهي بشكل عام تنسق باستمرار مع السياسة السعودية في اخلليج‬
‫وفي املنطقة العربية‪ .‬لقد عملت حكومة أبو ظبي بشكل خاص على‬
‫تعزيز ال��وح��دة ب�ين اإلم ��ارات مستخدمة قوتها االقتصادية حلض‬
‫شركائها على االندماج في االحتاد بشكل أقوى وأشمل‪ ،‬بالرغم أن‬
‫بعض املشايخ ظلوا مترددين في التخلي عن سلطاتهم الداخلية‪.‬وفي‬
‫تشرين الثاني ‪ /‬نوفمبر ‪ 1975‬دمجت الشارقة حرسها الوطني في‬
‫قوة الدفاع االحتادية‪ ،‬كذلك سلمت اإلذاع��ة التابعة لها إلى وزارة‬
‫املواصالت االحتادية‪ ،‬وأخضعت شرطتها لوزارة الداخلية ومحاكمها‬
‫ل���وزارة ال �ع��دل ف��ي االحت���اد‪ .‬ك�م��ا أل�غ��ت علمها اخل��اص لتتخذ من‬
‫علم االحتاد علماً لها‪ .‬وسرعان ما اتخذت الفجيرة ودبي قرارات‬
‫مم��اث�ل��ة‪ ...‬وف��ي مطلع أي��ار ‪/‬م��اي��و ‪ ،1976‬مت التوصل إل��ى اتفاق‬
‫دمج نهائي لقوة الدفاع االحتادية مع ق��وات أبو ظبي ودب��ي‪ .‬وعني‬
‫الشيخ خليفة بن زاي��د آل نهيان ول��ي عهد أب��و ظبي‪ ،‬نائب القائد‬
‫األعلى للقوات االحت��ادي��ة‪ .‬وف��ي السنة نفسها عدلت الفقرة ‪142‬‬
‫من الدستور املؤقت على نحو حصر حق التجنيد والتسلح باحلكومة‬
‫االحتادية‪.‬وفي عام ‪ 1977‬أبرمت دول��ة اإلم��ارات اتفاقيات تعاون‬

‫‪565‬‬
‫عسكري م��ع فرنسا التي واف�ق��ت على توفير األسلحة والطائرات‬
‫لقوات االحتاد إلى جانب تدريب أفرادها‪ .‬وعرفت سنة ‪ 1976‬وسنة‬
‫‪ 1977‬مزيداً من اخلطوات في اجتاه دعم املنحى املركزي الوحدوي‬
‫في دولة اإلمارات العربية املتحدة‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬عهد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان‬

‫وافق الشيخ زايد في عام ‪ 1976‬على رئاسة االحتاد مجدداً‬


‫بعد أن واف��ق املجلس األعلى على منح احلكومة االحت��ادي��ة سلطة‬
‫أكبر في مجال الدفاع واملخابرات والهجرة واألمن العام واإلشراف‬
‫على احلدود‪ .‬وفي مطلع عام ‪ 1977‬جرى تعديل حكومي أعلن فيه‬
‫أن اختيار الوزراء يتم وفق الكفاءة الشخصية وليس مبوجب متثيلهم‬
‫إلماراتهم‪ ،‬كذلك أعيد تشكيل املجلس الوطني االحتادي وفق املبادئ‬
‫نفسها‪ .‬ومتكنت ال��دول��ة االحت��ادي��ة من تخطي بعض األزم��ات التي‬
‫نشأت في سنوات االحتاد األولى بني قطبي االحتاد أبو ظبي ودبي‬
‫حول مسألة الصالحيات الدستورية‪ ،‬والتمثيل الوزاري‪ .‬وبعد ترتيب‬
‫وضع الدولة الداخلي رسمياً ونهائياً‪ .‬انطلقت دول��ة اإلم��ارات إلى‬
‫ال�س��اح��ة اخل��ارج�ي��ة ف �ع��ززت ع�لاق��ات�ه��ا األخ��وي��ة م��ع مختلف الدول‬
‫العربية واإلسالمية ثم مع الدول األجنبية‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬اإلمارات في الثمانينات‬

‫متيزت هذه الفترة بتمتني العالقة مع البلدان العربية واألجنبية‪،‬‬


‫فقد قام سمو الشيخ زايد بزيارة العديد من الدول العربية واألجنبية‬
‫بغية تقوية العالقات‪ ،‬كما عمل على استيراد السالح من البلدان‬
‫املصنعة في خطوة كبيرة نحو حتسني دفاع الدولة‪ ،‬وتقوية جيشها‬
‫وحتديثه‪ ،‬عبر تزويده مبختلف أنواع األسلحة احلديثة‪ .‬كما قامت‬

‫‪566‬‬
‫اإلم��ارات بتشييد املشاريع االقتصادية الضخمة في مختلف دول‬
‫العالم ك��ان أهمها م�ش��روع بناء مصفاة النفط ف��ي جنوب الصني‪،‬‬
‫ملعاجلة النفط الوارد من اإلمارات‪ ،‬وقد انتهى العمل باملشروع في‬
‫عام ‪ 1994‬وأعلن عن بدء العمل به‪ .‬وعلى الصعيد الداخلي‪ ،‬واجهت‬
‫دولة اإلمارات أزمة خطيرة في حزيران ‪ ،1987‬عندما أعلن حاكم‬
‫الشارقة الشيخ سلطان بن محمد القاسمي تنازله عن احلكم لصالح‬
‫شقيقه الشيخ عبد العزيز بسبب وق��وع أخطاء في إدارة عائدات‬
‫النفط‪.‬إال أن تلفزيون دبي أعلن في اليوم التالي أن شقيق الشيخ‬
‫سلطان قد أطاح به‪ ،‬وكان عبد العزيز يتولى منصب نائب احلاكم‬
‫ورئيس احلرس األميري‪ ،‬وقد وضع عدة شروط لتسوية اخلالف مع‬
‫أخيه‪ ،‬وقد استطاع املجلس األعلى لالحتاد في الدولة من تسوية‬
‫هذا اخلالف سلمياً وبغضون أيام قليلة‪ ،‬وأعاد الشيخ سلطان إلى‬
‫مكانه‪ ،‬وأوكل إلى شقيقه عبد العزيز منصب ولي العهد‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬اإلمارات حديث ًا‬

‫شهدت دولة اإلمارات العربية املتحدة ازدهاراً اقتصادياً ملفتاً‪،‬‬


‫فقد استطاعت أن تصبح مركزاً استراتيجياً مهماً للتجارة في منطقة‬
‫الشرق األوسط‪ ،‬بعدما أولت احلكومة هذا القطاع اهتماماً خاصاً‪،‬‬
‫وأصدرت قرارات وقوانني جديدة ساعدت على حتسينها وازدهارها‪.‬‬
‫كما أولت احلكومة اهتماماً كبيراً بالعمران احلضاري الذي زاد من‬
‫جمالها وروعتها‪ ،‬فأصبحت بالتالي مركزاً سياحياً مهماً‪ ،‬إلى جانب‬
‫كونها مركزاً جتارياً وعلمياً من الدرجة األولى في املنطقة‪.‬‬

‫‪567‬‬
568
‫السابع الثامن‬
‫الكويت‬

‫في أواسط القرن الثامن عشر‪ ،‬اختار أهل الكويت أول أمير‬
‫لهم على رأس األس��رة احلاكمة‪ ،‬الشيخ صباح بن جابر‪ ،‬لم تتأثر‬
‫الكويت باحلركة الوهابية‪ ،‬وأدرك آل سعود أهمية الكويت باعتبارها‬
‫ميناء متوين لنجد‪ ،‬فقامت مناوشات صغيرة بني جند والكويت في‬
‫عامي ‪ 1793‬و‪ .1796‬وحاولت بريطانيا استغالل املوقف‪ ،‬فعرضوا‬
‫على الكويت أن توضع حتت حمايتهم ‪ ،‬لكن األمير عبد الله األول لم‬
‫يقبل‪ ،‬ولم يكن لألتراك منذ أن قامت الكويت أية صلة بها إال بعد‬
‫تولي األمير عبد الله الثاني احلكم عام ‪ 1866‬حني قبل رفع العلم‬
‫العثماني‪.‬‬

‫وبعد وفاة عبد الله الثاني آل الصباح‪ ،‬خلفه ابنه محمد الذي‬
‫حكم أرب��ع سنوات حيث ق��ام عليه أخ��وه مبارك وقتله‪ .‬وف��ي أيامه‬
‫ضعف حكم آل سعود وسيطر آل رشيد على جند‪ ،‬وكانت اإلحساء‬
‫بيد العثمانيني‪ .‬ووقعت اخلالفات بني مبارك آل الصباح وبني آل‬
‫رشيد‪ .‬وك��ان يوسف آل إبراهيم منافسا الشيخ م�ب��ارك‪ ،‬واستعان‬

‫‪569‬‬
‫عليه في حكام قطر وحكام حائل‪ ،‬واتفق مع محمد آل رشيد على‬
‫محاربة الشيخ مبارك‪ .‬وكرد فعل‪ ،‬جهز الشيخ مبارك حملة للتوجه‬
‫إلى حائل‪ ،‬وحتالفت معه قبائل املنتفق العراقية والظفير وانتصر‬
‫في هذه احلملة‪ ،‬ثم سير حملة أخرى استنهض معه قبائل مطير‪،‬‬
‫وال�ع�ج�م��ان‪ ،‬وم��ره‪ ،‬وق��د س��ار معه ف��ي ه��ذه احلملة ه��ذه امل��رة عبد‬
‫الرحمن بن فيصل آل سعود ومعه ابنه عبد العزيز‪ ،‬والتقى اجلمعان‬
‫في الصريف قرب القصيم فانتصر ابن الرشيد‪.‬‬

‫وف ��ي ع ��ام ‪ 1899‬وق ��ع ال �ش �ي��خ م �ب��ارك ع �ل��ى وث �ي �ق��ة احلماية‬
‫البريطانية تضمنت التعهد بعدم إقامة أية عالقات مع أية دولة دون‬
‫موافقة بريطانيا‪ .‬وفي هذا الوقت استطاع عبد العزيز آل سعود أن‬
‫يدخل مدينة الرياض وينتزعها من حكم آل رشيد‪ ،‬ما أضعف إمارة‬
‫حائل فخف ضغطها على الكويت‪.‬‬

‫اتفق الشيخ مبارك مع امللك عبد العزيز ضد إمارة حائل فهزمت‬


‫عام ‪ .1903‬لكن سرعان ما هزما أمام الشيخ سعدون شيخ قبائل‪.‬‬
‫ثم جرى الصلح بني الشيخني مبارك وسعدون‪ .‬وعينت إنكلترا مندوباً‬
‫سياسياً لها في الكويت عام ‪ .1322‬توَّلى حكم الكويت بعد وفاة الشيخ‬
‫مبارك ابنه جابر‪ ،‬الذي لم يلبث في احلكم سوى عام واحد توفي‬
‫بعده وخلفه أخوه سالم الذي ساءت العالقة على أيامه بني الكويت‬
‫واإلنكليز بسبب مساعدته العثمانيني أثناء احلرب العاملية األولى‪.‬كما‬
‫ساءت العالقات بينه وبني آل سعود وحدثت بينهما معركتني عنيفتني‬
‫األول��ى معركة حمض ع��ام ‪ 1919‬وال�ت��ي انتصر فيها السعوديون‪،‬‬
‫فوضعت احلدود بني البلدين بإشراف إنكلترا وشيد الكويتيون سوراً‬
‫حلماية مدينتهم الكويت‪ .‬والثانية معركة اجلهرة ‪ ،1920‬حيث قاد‬
‫فيصل الدويش أحد القادة السعوديني جيشاً حملاربة الكويتيني‪ ،‬وبعد‬
‫معركة شديدة انسحب الدويش إلى جند بعد أن أحلق بالكويتيني‪.‬‬

‫‪570‬‬
‫خسائر فادحة‪ ،‬غير أن الكويتيني قد وصلتهم جندات من ذويهم في‬
‫املدينة فقلبوا هزميتهم إلى نصر‪ .‬وجرت بعد ذلك محاوالت للصلح‬
‫بني البلدين العربيني‪ ،‬وسافر من الكويت وفد ملقابلة ابن سعود عام‬
‫‪ 1921‬برئاسة األمير أحمد ابن جابر‪ .‬وأثناء احملادثات توفي الشيخ‬
‫سالم ‪ ،1921‬فرأى ابن سعود أن املشاكل القائمة بني البلدين قد‬
‫انتهت بوفاة خصمه‪ ،‬وعاد الشيخ أحمد أميراً للكويت في ‪ 2‬آذار‬
‫‪ 1921‬ومكث في احلكم ‪ 30‬سنة‪ .‬واب��رز ما عمل عليه إزال��ة سوء‬
‫التفاهم بني البلدين‪ .‬حيث حددت التخوم بني البلدين عام ‪،1922‬‬
‫وعقدت اتفاقية حسن اجلوار والصداقة وتبادل التجارة‪ .‬وفي عام‬
‫‪ 1923‬اعترفت بريطانيا باحلدود بني الكويت والعراق‪ .‬واكتشف في‬
‫هذه الفترة النفط‪ ،‬وبُدء في تنظيم األمور اإلدارية وفتحت املدارس‬
‫ا لتعليمية ‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬عهد األمير عبد الله السالم الصباح ‪1965 - 1950‬‬

‫تولى احلكم بعد وف��اة الشيخ أحمد اجل��اب��ر ول��ي عهده وابن‬
‫عمه األمير عبد الله السالم الصباح‪ .‬وفي عهده استكملت الكويت‬
‫سيادتها على أراضيها ونالت استقاللها في عام ‪ ،1961‬وأنشىء‬
‫أول مجلس تأسيسي من ‪ 34‬عضواً‪ ،‬وأفتتح عام ‪ ،1962‬ثم انضمت‬
‫الكويت إل��ى جامعة ال��دول ومت تشكيل أول مجلس وزراء‪ .‬في ‪30‬‬
‫حزيران ‪ /‬يونيو ‪ ،1961‬في ذلك العام طلب أمير الكويت مساعدة‬
‫اجليش البريطاني ملواجهة تهديد العراق بضم الكويت إليه‪ .‬وقد‬
‫لبت احلكومة البريطانية طلبه‪ .‬وفي ‪ 10‬أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪ 1961‬بدأ‬
‫وصول القوات العربية (األردنية والسعودية والسودانية والتونسية‬
‫واجل �م �ه��وري��ة ال�ع��رب�ي��ة امل �ت �ح��دة) إل��ى ال �ك��وي��ت ل�ت�ح��ل م�ح��ل القوات‬
‫البريطانية املنسحبة‪ .‬وب�ع��د ث��ورة ‪ 8‬ش�ب��اط ‪ /‬ف�ب��راي��ر ‪ 1963‬في‬
‫العراق اعترف هذا األخير باستقالل الكويت‪.‬‬

‫‪571‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬عهد الشيخ صباح السالم الصباح ‪1977 - 1965‬‬

‫توفي األمير عبد الله السالم وتسلم مقاليد احلكم شقيقه األمير‬
‫صباح السالم الذي أكمل مسيرة سلفه في فتح امل��دارس التعليمية‬
‫وتطوير املناهج ودع��م االق�ت�ص��اد وحتسينه‪ .‬ومت ف��ي عهده افتتاح‬
‫جامعة الكويت عام ‪ .1966‬وانضمت الكويت بعد ذلك إلى معاهدة‬
‫الدفاع العربي املشترك‪ ،‬ومجلس التعاون اخلليجي‪ ،‬وساهمت مادياً‬
‫في دعم دول املواجهة العربية في حرب ‪ 6‬تشرين األول ‪ /‬أكتوبر‬
‫‪،1973‬وفي سنة ‪ 1975‬أعلن عن تأميم النفط الكويتي‪ ،‬والقت هذه‬
‫اخلطوة ترحيباً شعبياً وعربياً كبيرين‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬عهد الشيخ جابر األحمد الصباح ‪2006 - 1977‬‬

‫بعد وفاة الشيخ صباح السالم الصباح تسلم إمارة البالد سمو‬
‫الشيخ جابر األحمد الصباح وعني الشيخ سعد العبد الله الصباح‬
‫ولياً للعهد‪ .‬وعاشت البالد فترة من الرخاء واالزده��ار االقتصادي‬
‫الذي انعكس إيجاباً على حياة املواطنني‪ .‬إال أن عدة حوادث إرهابية‬
‫هزت الكويت واستهدفت عدة مواقع للدولة من ضمنها بعض املنشآت‬
‫النفطية في عام ‪ .1983‬وبعد عامني تعرض األمير جابر حملاولة‬
‫اغتيال‪ ،‬وألقي القبض على الفاعلني‪ ،‬ثم قام أنصارهم باختطاف‬
‫طائرة ركاب كويتية قادمة من تايالند وح�وَّل اخلاطفون خط سير‬
‫الطائرة إلى إيران ثم إلى اجلزائر‪ ،‬وعمدوا إلى قتل بعض الركاب‬
‫الكويتيني بهدف الضغط على احلكومة الكويتية لإلفراج عن زمالئهم‬
‫منفذي محاولة االغتيال‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬الكويت حتت االحتالل العراقي‬

‫أث�ن��اء ح��رب اخلليج األول ��ى ب�ين ال �ع��راق وإي ��ران ع��ام ‪.1980‬‬

‫‪572‬‬
‫وقفت الكويت إل��ى جانب ال�ع��راق وأم��دت��ه ب��األم��وال والنفط‪ ،‬وبعد‬
‫انتهاء احل��رب وقع خالف بني البدلني بشأن الديون املتوجبة على‬
‫ال �ع��راق‪ ،‬ف�ق��ام ه��ذا األخ�ي��ر باجتياح عسكري للكويت ف��ي ‪ 2‬آب‪/‬‬
‫أغسطس ‪ ،1990‬فلجأت احلكومة الكويتية إلى السعودية وطالبت‬
‫املجتمع الدولي بالتدخل‪ ،‬فصدر القرار رقم ‪ 660‬عن مجلس األمن‬
‫الذي نص على االنسحاب الفوري للجيش العراقي من الكويت‪ .‬وقد‬
‫استنكرت غالبية الدول العربية عملية االجتياح عدا األردن واليمن‬
‫ومنظمة التحرير الفلسطينية الفلسطينية والسودان‪.‬‬

‫بعدها أعلن العراق عن تشكيله حكومة كويتية مؤقتة‪ .‬وفي ‪25‬‬


‫آب‪/‬أغسطس سمح مجلس األمن باستخدام القوة لفرض احلظر على‬
‫العراق‪ .‬فأعلن هذا األخير في ‪ 28‬آب‪/‬أغسطس الكويت محافظة‬
‫عراقية حتمل الرقم ‪.19‬‬

‫خامس ًا‪ :‬التحالف الدولي لتحرير الكويت‬

‫في منتصف تشرين األول ‪ /‬أكتوبر ‪ 1990‬حشدت الواليات‬


‫املتحدة األمريكية حوالي ‪ 200000‬جندي أمريكي في منطقة اخلليج‪،‬‬
‫وأضافت إليهم ‪ 200000‬آخرين في تشرين الثاني ‪ /‬نوفمبر من‬
‫دول عربية وغربية‪.‬‬

‫وف��ي ‪ 16‬كانون الثاني ‪ /‬يناير ‪، 1991‬ب��دأت عملية عاصفة‬


‫ال�ص�ح��راء العسكرية لتحرير ال�ك��وي��ت‪ .‬وف��ي ‪ 27‬ش�ب��اط ‪ /‬فبراير‬
‫‪ ،1991‬دخلت القوات الكويتية مدعمة بقوات التحالف الدولي إلى‬
‫العاصمة الكويت بعد انسحاب اجليش العراقي وفي اليوم الثاني‬
‫أعلنت ب�غ��داد وق�ف��ت إط�لاق ال�ن��ار بعد أن تكبدت خسائر فادحة‬
‫بلغت أكثر من ‪ 20‬ألف قتيل و‪ 60‬ألف جريح عراقي حسب املصادر‬

‫‪573‬‬
‫العراقية و‪ 100‬ألف قتيل حسب مصادر احللفاء‪ .‬يذكر أن االحتالل‬
‫العراقي للكويت دام سبعة أشهر‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬الكويت بعد التحرير‬

‫عملت احلكومة الكويتية بعد حتريرها للكويت على إزالة آثار‬


‫االعتداء العراقي الهائلة‪ .‬وأهمها إطفاء نيران آبار النفط الكويتية‬
‫التي أشعلها العراق قبل انسحابه‪ ،‬وكذلك إيقاف ضخ بعض اآلبار‬
‫األخرى للنفط في البحر‪ ،‬األمر الذي أدى إلى حدوث كارثة بيئية‬
‫وقد طلبت الكويت من القوات األمريكية والبريطانية إبقاء قواتها‬
‫العسكرية على األراض��ي الكويتية حتسباً ألي حت��رك م��ن اجلانب‬
‫العراقي‪.‬‬

‫وفي عام ‪ 1999‬حُ لَّ البرملان الكويتي للمرة الثالثة في تاريخه‬


‫إال أن ه��ذه امل��رة لم يعمد األمير لتعطيل احلياة النيابية‪ ،‬بل دعا‬
‫النتخابات جديدة وفقاً للمهلة التي حددها الدستور والبرملان اجلديد‬
‫الذي كانت غالبيته من القوى املعارضة للتوجهات احلكومية‪.‬‬

‫وقد أصدر أمير الكويت قراراً بتعديل قانون االنتخاب ليصبح‬


‫م�س�م��وح�اً ل�ل�م��رأة الكويتية امل�ش��ارك��ة ت��رش�ي�ح�اً وت�ص��وي�ت�اً ف��ي كافة‬
‫االنتخابات العامة التي جتري في الكويت ابتدا ًء من العام ‪.2003‬‬

‫‪574‬‬
‫الفصل التاسع‬
‫قطر‬

‫فتح خالد بن الوليد عام ‪ 633‬إقليم اليمامة وكانت قطر تشكل‬


‫جزءاً منه ‪ .‬ومنذ ذلك احلني أصبح اإلقليم تابعاً من الناحية اإلدارية‬
‫للخالفة اإلسالمية إلى أن احتله القرامطة عام ‪ .900‬ومكثوا فيها‬
‫حتى عام ‪ .1075‬حيث قضى عليهم العيونيون وانقرضت أيضاً دولة‬
‫األخضريني في اليمامة فيما بعد‪.‬‬

‫وم��ع زوال ه��ذه الدولة تفرق شمل القبائل‪ ،‬فكانت السيطرة‬


‫لألقوى‪ .‬واستمر هذا الوضع حتى انتهاء العصر العباسي ومجيء‬
‫عصر املماليك‪ ،‬وزاد أمر اليمامة ضعفاً وعاش سكانها على هامش‬
‫ال�ت��اري��خ حتى خضعت ه��ذه البقعة لبني خالد ع��ام ‪ .1776‬وأقام‬
‫املعاضيد من آل علي في (الفويرط) في الشمال الشرقي من شبه‬
‫اجلزيرة‪ .‬كما أقام بعض السودانيني في الدوحة التي عرفت باسم‬
‫البدع‪.‬‬

‫وف��ي ع��ام ‪ 1179‬ن��زل آل خليفة وه��م من العتوب في الزبارة‬

‫‪575‬‬
‫قادمني من الكويت‪ ،‬وبعد مدة تبعهم أقرباؤهم اجلالهمة‪ ،‬ولم يلبث‬
‫أن وقع اخلالف بني الطرفني‪ .‬ولكنهم أبيدوا على أيدي آل خليفة‪.‬‬
‫ومن بقي منهم انتقل إلى خورجستان‪.‬‬

‫حاولت إي��ران إخضاع الزبارة لكنها فشلت عام ‪ .1197‬وقام‬


‫آل خليفة عام ‪ 1198‬بهجوم على البحرين التي كانت تتبع إليران‪،‬‬
‫واستسلم اإليرانيون وانتقل آل خليفة من الزبارة إلى املنامة‪ ،‬وكان‬
‫الشيخ أحمد بن خليفة أول شيخ من عرب العتوب يحكم البحرين‪.‬‬

‫توسعت الدولة السعودية في املنطقة الشرقية وضمت إليها‬


‫قطر والبحرين وذلك عام ‪ .1224‬لكنهم خرجوا من قطر عام ‪1226‬‬
‫مبساعدة سلطان مسقط‪.‬‬

‫حدث خالف في أسرة آل خليفة في البحرين إذ نافس محمد‬


‫بن خليفة ابن عمه عبد الله بن أحمد لكنه هزم ‪ ،‬فلجأ إلى السعوديني‬
‫وطلب الدعم واملساعدة فأيدته قبائل النعيم واجلالهمة والبوكوارة‬
‫فرجع إلى قطر بعد أن انتصر على ابن عمه وتسلم حكم البحرين‬
‫عام ‪ 1258‬هـ‪.‬‬

‫في عام ‪ 1285‬هـ اتفقت بريطانيا مع الشيخ محمد آل ثاني‬


‫بالعودة إلى الدوحة‪ ،‬وتعد قبيلته أكثر القبائل رجاالً ونفوذاً‪ ،‬وهي‬
‫فرع من املعاضيد‪ .‬واستمر نفوذه حتى عام ‪ 1288‬حيث خلفه ابنه‬
‫قاسم ال��ذي تعرض لهجوم عثماني بقيادة أمير الكويت‪ .‬واضطر‬
‫ق��اس��م ب��ن محمد ل��رف��ع العلم العثماني ع��ام ‪ 1288‬بعدما هزمت‬
‫ال�ق��وات العثمانية جنوب ال��دوح��ة‪ ،‬كما اضطر للتنازل عن اإلمارة‬
‫لشقيقه أحمد بن محمد كمصاحلة مع العثمانيني‪ ،‬واغتيل أحمد‬
‫بن محمد بيد أحد خدامه من بني هاجر‪ ،‬وتولى األم��ر بعده عبد‬

‫‪576‬‬
‫الله بن قاسم‪ ،‬وفي عهده بدأت املفاوضات بني العثمانيني واإلنكليز‬
‫وذلك عام ‪1329‬هـ حلل مشاكل اخلليج بينهما ومنها قطر‪ .‬وهدف‬
‫االنكليز إلى طرد العثمانيني‪ ،‬ومت توقيع املعاهدة في لندن تخلت‬
‫مبوجبها ال��دول��ة العثمانية عن حقوقها في قطر‪ ،‬واعترفت بخط‬
‫يفصل بني جند وقطر ثم نشبت احل��رب العاملية األول��ى وانسحبت‬
‫الدولة العثمانية من قطر نهائياً عام ‪.1334‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬عهد االستقالل‬

‫في عام ‪ 1916‬وقع الشيخ عبد الله بن قاسم حاكم قطر مع‬
‫إنكلترا اتفاقية حماية مقابل إش��راف بريطانيا على ش��ؤون قطر‬
‫اخلارجية والتشريعات‪ .‬ثم منح الشيخ عبد الله بن قاسم شركة قطر‬
‫للنفط ‪،‬حق التنقيب في بالده وهي شركة إنكليزية ‪ -‬إيرانية‪ ،‬إال أن‬
‫عمليات اإلنتاج تأخرت بسبب ظروف احلرب العاملية الثانية حتى‬
‫سنة ‪ 1949‬حيث مت استخراج حوالي ‪ 80‬ألف طن من النفط‪.‬‬

‫وفي عام ‪ 1960‬تنازل الشيخ علي آل ثاني البنه الشيخ أحمد‬


‫بعد حكم دام ‪ 11‬سنة سعت قطر عام ‪ 1968‬لالحتاد مع البحرين‬
‫واإلم ��ارات العربية بعد إع�لان بريطانيا عزمها سحب قواتها من‬
‫اخلليج عام ‪ .1970‬وفي نفس العام أصبح الشيخ خليفة آل ثاني‬
‫رئيساً للوزراء‪.‬‬

‫وف��ي ع��ام ‪ 1971‬ن��ال��ت ق�ط��ر اس�ت�ق�لال�ه��ا ب�ع��د م��ا فشلت في‬


‫محاوالتها لالحتاد مع جيرانها من دول اخلليج‪ .‬واستبدلت معاهدة‬
‫‪ 1916‬مبعاهدة صداقة مع بريطانيا‪ .‬وفي عام ‪ 1972‬قام الشيخ‬
‫خليفة بن حمد آل ثاني بانقالب أبيض وأصبح أميراً لقطر وأعلن‬
‫عن إصالحات سياسية واقتصادية وقلص االمتيازات التي تتمتع بها‬

‫‪577‬‬
‫العائلة احلاكمة في قطر‪ .‬ثم وقعت قطر اتفاقية دفاع مشترك مع‬
‫السعودية عام ‪.1982‬‬

‫وفي نيسان ‪ 1986‬نشأت مشكلة حدودية بني قطر والبحرين‬


‫على جزيرة فشت الديبال املتنازع عليها بني البلدين‪ ،‬ثم مت حسم‬
‫هذه املشكلة عن طريق مجلس التعاون اخلليجي‪ .‬كذلك وقع خالف‬
‫بني الدولتني بخصوص جزيرة ه��اوار‪ ،‬وقد حاولت اململكة العربية‬
‫السعودية التوسط حلل املشكلة‪ ،‬ثم جاءت محاولة قطر لعرض هذا‬
‫النزاع على محكمة العدل الدولية وذلك في العام ‪.1994‬‬

‫إال أن تسلم أمير قطر اجلديد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني‬


‫زم��ام األم��ور ب��دالً من أبيه في ح��زي��ران ‪ ،1995‬قد غيَّر من بعض‬
‫األمور‪ ،‬إذ أكد الشيخ حمد أن تسوية هذه اخلالفات ميكن أن تسوى‬
‫ضمن البيت العربي اخلليجي وهذا ما شجع السعودية على املضي‬
‫قدماً في مبادرتها‪.‬‬

‫وفي حزيران ‪ 1995‬تسلم ولي العهد حمد بن خليفة آل ثاني‬


‫مقاليد احلكم‪ ،‬وفي عهده ألغيت وزارة اإلعالم وجرت في آذار ‪1999‬‬
‫انتخابات بلدية شاركت فيها للمرة األولى النساء القطريات‪.‬‬

‫‪578‬‬
‫الفصل العاشر‬
‫البحرين‬

‫ارتبطت جزيرة البحرين سياسياً واجتماعياً‪ .‬مبجتمع اجلزيرة‬


‫العربية‪ .‬وكانت حتت سلطة اخلالفة اإلسالمية في مختلف العهود‪.‬‬
‫وف��ي أواخ��ر القرن الثالث الهجري احتل أب��و سعيد اجلنابي‪ ،‬أحد‬
‫ق��ادة القرامطة‪ ،‬مدينة هجر عاصمة البحرين حينها‪ ،‬واتخذ من‬
‫مدينة اإلحساء عاصمة لدولة القرامطة‪ .‬وانتهت هذه الدويلة سنة‬
‫‪.976‬‬

‫ثم تعرضت هذه املنطقة لغزو جينكزخان ثم زعيم املغول هوالكو‪،‬‬


‫وبقي املغول فيها إلى أن استولى عليها البرتغاليون وحصنوها‪ ،‬كما‬
‫حصنوا بعض م��وان��ئ اخلليج ال�ع��رب��ي لتأمني ط��ري��ق جت��ارت�ه��م إلى‬
‫الهند‪.‬‬

‫ظل البرتغاليون يسيطرون على البحرين من سنة ‪ 1521‬إلى‬


‫سنة ‪ 1602‬حني أجالهم عنها الفرس واحتلوها‪ .‬ولكن سلطان عُمان‬
‫ما لبث أن انتزعها منهم‪ .‬ثم عاد الفرس الحتاللها في عهد نادر‬

‫‪579‬‬
‫شاه‪ ،‬فتصدت لهم القبائل العربية بزعامة آل خليفة وأخرجتهم منها‬
‫عام ‪.1783‬‬

‫ف��ي ع��ام ‪ 1861‬ت�ع�ه��د أم �ي��ر ال�ب�ح��ري��ن االم �ت �ن��اع ع��ن احلرب‬


‫والقرصنة وجت��ارة العبيد مقابل املساعدة واحلماية البريطانية‪،‬‬
‫وكان هذا االتفاق نتيجة تخوف حاكم البحرين من األطماع اإليرانية‪،‬‬
‫ورغبة بريطانيا في منع فرنسا وروسيا وأملانيا من التقدم باجتاه‬
‫الهند‪.‬‬

‫وفي عام ‪ 1880‬و‪ 1892‬تعهد احلاكم مجدداً بعدم التنازل عن‬


‫أجزاء من أرضه أو رهنها ألحد ما عدا احلكومة البريطانية‪ ،‬وكذلك‬
‫عدم إقامة أية عالقات مع أي حكومة أجنبية دون موافقة احلكومة‬
‫البريطانية‪.‬‬

‫في تلك الفترة ب��دأت البحرين تتأثر باألحداث العربية التي‬


‫حصلت في بعض الدول العربية وخاصة عقب احلرب العاملية الثانية‪،‬‬
‫وإبّان العدوان الثالثي على مصر عام ‪ 1956‬شهدت البحرين حتركات‬
‫شعبية واضطرابات‪ .‬وفي عام ‪ 1957‬أعلنت سيادتها القانونية على‬
‫األجانب الذين كانوا يخضعون المتيازات خاصة بحيث ال يطالهم‬
‫القانون احمللي‪ ،‬ثم أصدرت طوابعها اخلاصة في عام ‪ 1960‬وكذلك‬
‫أول عملة خاصة بها‪.‬‬

‫شهدت البحرين إضراباً آخر في عام ‪ 1965‬سببه الرئيسي‬


‫التخوف م��ن ص��رف العمال ف��ي ش��رك��ات النفط‪ .‬وف��ي أي��ار ‪1966‬‬
‫أعلنت بريطانيا أنها سوف تنقل قاعدتها الرئيسية في اخلليج من‬
‫ع��دن إل��ى البحرين في ع��ام ‪ .1968‬غير أنها أعلنت م�ج��دداً أنها‬
‫ستسحب كل قواتها املوجودة في شرقي السويس قبل نهاية ‪.1971‬‬

‫‪580‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬االستقالل‬

‫أعلن استقالل البحرين في آب ‪ ،1971‬وعقدت معاهدة صداقة‬


‫مع بريطانيا‪ ،‬وأطلق احلاكم الشيخ عيسى على نفسه لقب «أمير»‪.‬‬
‫وفي أيلول ‪ 1971‬انضمت البحرين إلى جامعة الدول العربية وإلى‬
‫األمم املتحدة‪ .‬وف��ي كانون األول ‪ 1972‬أجريت انتخابات مجلس‬
‫تأسيسي وضع دستوراً جديداً أجريت على أساسه انتخابات مجلس‬
‫وطني في كانون األول ‪.1973‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬البحرين بعد االستقالل‬

‫م��ن انعكاسات ح��رب اخلليج األول��ى (ال �ع��راق ‪ -‬إي ��ران) على‬
‫البحرين إعالنها عن كشف محاولة تغيير للحكم بدعم من إيران‪،‬‬
‫فسارعت السعودية إلى توقيع اتفاقيات أمنية مع دول اخلليج ومنها‬
‫دولة البحرين األمر الذي زاد في توطيد األمن وتثبيته‪.‬‬

‫وفي ‪ 15‬كانون األول ‪ 1992‬أعلن أمير الدولة الشيخ عيسى‬


‫ب��ن سلمان آل خليفة عزمه على إن�ش��اء مجلس للشورى‪ ،‬وم��ا لبث‬
‫أن شكله بعد أسبوع من ‪ 30‬عضواً‪ ،‬علماً أن البحرين تختلف عن‬
‫باقي دول اخلليج العربي مبيزة كبيرة وهي وجود األحزاب السياسية‬
‫املختلفة فيها‪ ،‬وسبب ذلك يعود إلى تركيبتها االجتماعية املتشكلة من‬
‫عدة طبقات عمالية لم تغيرها فورة البترول فجعلت من مجتمعاتها‬
‫قريبة م��ن مجتمعات ال�ع��راق وس��وري��ا ولبنان‪ .‬وق��د أث��ر ذل��ك كثيراً‬
‫على طبيعة القوى السياسية التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً باحلركات‬
‫السياسية في أرجاء البلدان العربية مثل أحزاب البعث والناصرية‬
‫وتيار اإلخوان املسلمني‪.‬‬

‫وعاشت البحرين أجواء اضطرابات وأعمال عنف متكررة بدأت‬

‫‪581‬‬
‫في ‪ 21‬كانون األول ‪ 1994‬ألسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية‪،‬‬
‫وقد عملت السلطات على توطيد عالقتها مع مختلف ال��دول وفي‬
‫طليعتهم رأسهم بريطانيا والواليات املتحدة األمريكية‪.‬‬

‫أما بخصوص النزاع احلدودي بني البحرين وقطر حول جزر‬


‫حوار واملنزور والذي يعود إلى عام ‪ 1939‬فإن محاوالت الوساطات‬
‫كانت متعددة وخاصة مبادرة اململكة العربية السعودية‪ ،‬والتي كانت‬
‫شديدة احل��رص على إنهاء ه��ذا اخل�لاف‪ .‬ثم ج��اءت محاولة قطر‬
‫عرض هذا النزاع على محكمة العدل الدولية في العام ‪ 1994‬إال‬
‫أن أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني الذي تسلم زمام‬
‫األم��ور في قطر بعد وال��ده في حزيران ‪ 1995‬أكد أن تسوية هذه‬
‫اخلالفات ميكن أن تسوى ضمن البيت العربي اخلليجي‪ ،‬ما شجع‬
‫على املضي قدماً في املبادرة السعودية‪.‬‬

‫توفي األمير عيسى بن سلمان في آذار ‪ .1999‬وتسلم احلكم‬


‫م��ن ب�ع��ده اب�ن��ه األم�ي��ر حمد ب��ن عيسى آل خليفة ال��ذي ب��دأ عهده‬
‫ب��إص��دار عفو ع��ام‪ ،‬وعلى رأسهم الشيخ عبد األمير اجل�م��ري‪ ،‬في‬
‫خطوة إيجابية مبثابة صفحة جديدة يفتحها األمير في عهده ‪.‬وفي‬
‫عام ‪ 2002‬أعلن أمير البحرين نفسه ملكاً على البالد بعد أن صارت‬
‫البحرين مملكة وفقاً لإلصالحات الدستورية األخيرة التي أدخلت‬
‫على الدستور‪.‬‬

‫إال ان ثمة حراكاً شعبياً واسعاً انطلق بداية العام ‪ 2011‬متاشياً‬


‫مع احل��راك في غير بلد عربي‪ ،‬هدفه إج��راء إصالحات دستورية‬
‫واقتصادية واجتماعية تراعي متغيرات الوضع البحريني‪.‬‬

‫‪582‬‬
‫الفصل احلادي عشر‬
‫ُعمان‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬الدولة اليعربية وتصفية الوجود البرتغالي‬

‫بعد مرحلة طويلة من التمزق الداخلي‪ ،‬وجتذر الروح القبلية‪،‬‬


‫إضافة إلى االحتالل األجنبي‪ .‬اجتمع حوالي سبعون من نخبة علماء‬
‫عمان االباضيني في قرية قصوى‪ ،‬في منطقة الرستاق عام ‪.1624‬‬
‫وانتخبوا ناصر ب��ن مرشد ب��ن مالك اليعربي م��رش��داً وإم��ام �اً‪ ،‬إال‬
‫إن��ه اشترط وبشكل غير ع��ادي ال��والء ال�ت��ام‪ ،‬ف��أدى العلماء القسم‬
‫على ذلك‪ .‬واستطاع االمام ناصر بن مرشد بفضل سياسته الثابتة‬
‫واحلازمة جتاه القبائل املتمردة أن يخضع كافة املمالك الصغيرة في‬
‫املقاطعات واملناطق‪ ،‬ثم سقطت في يده القرى واملدن الواحدة تلو‬
‫األخرى‪ .‬بعد ذلك بدأ بدحر االحتالل البرتغالي فاستطاع أن يطرده‬
‫من كل أنحاء عمان باستثناء بعض املناطق احملصنة مثل‪ :‬مسقط‪،‬‬
‫ومطرح‪ ،‬وصحار‪ .‬توفي ناصر بن مرشد عام ‪ .1649‬بعد ‪ 26‬سنة‬
‫من احلكم‪ ،‬وكانت اجنازاته تاريخية‪ .‬فمحى آثار خمسة قرون من‬
‫التمزق‪.‬‬

‫‪583‬‬
‫وخلفه اب��ن عمه سلطان ب��ن سيف ب��ن م��ال��ك اليعربي‪ ،‬الذي‬
‫استطاع أن ينقذ مسقط من أيدي البرتغاليني‪ ،‬كما أخذ قائده سعيد‬
‫ب��ن خليفة قلعة امليراني املشهورة ف��ي مسقط‪ .‬وعلى عهده قويت‬
‫الدولة العمانية حتى إنها شنت هجوماً على منطقة ديو قرب خليج‬
‫بومباي‪.‬‬

‫وفي عام ‪ 1090‬توفي السلطان بن سيف وخلفه ابنه بلعرب‪.‬‬


‫وعلى الرغم من كفاءة بلعرب‪ ،‬إال أن انتخابه أعطى مؤشراً على‬
‫بداية تغيير طبيعة اإلمامة في التاريخ احلديث‪ ،‬إذ بدا أن اإلمامة‬
‫تتحول من االنتخاب إلى الوراثة‪ .‬وهذا ما حدث بعد ذلك‪ ،‬إذ تعاقب‬
‫سبعة أئمة ينتمون إلى األسرة نفسها‪ ،‬لكن األخيرين منهم لم يتمتعوا‬
‫بشرعية كلية‪ .‬فأعيد انتخاب سيف بن سلطان ثالث مرات‪ ،‬وعليه‬
‫تقع مسؤولية إنهاء التجربة اليعربية‪ ،‬ومسؤولية إهانة وطنه بطلبه‬
‫مساعدة من الفرس في محاولة يائسة لتوطيد إمامته‪ ،‬األمر الذي‬
‫أدى إلى اندالع حرب أهلية طويلة األمد‪.‬‬

‫وعلى الرغم من كل ذلك‪ ،‬كانت عمان قد توصلت خالل تلك‬


‫الفترة إلى حترير البحرين من الفرس‪ ،‬كما احتل العمانيون مواقع‬
‫على الساحل الفارسي مثل قشم‪ ،‬الرك‪ ،‬هرمز‪ .‬وهكذا مت إرساء‬
‫السيطرة العمانية على منطقة اخلليج والتي استمرت حتى القرن‬
‫التاسع عشر‪.‬‬

‫ومع ضمور التقاليد األباضية‪ ،‬في هذه احلرب‪ ،‬وضعف نفوذ‬


‫العلماء وأهل احلل والعقد‪ ،‬التف العمانيون حول قبائلهم‪ ،‬وبدأت‬
‫هذه األخيرة تلعب دوراً سياسياً متنامياً على حساب اإلمامة والوحدة‬
‫االجتماعية‪ ،‬ولوضع حد للنزيف اتفق العلماء على ترشيح شخصية‬
‫من خارج األسرة اليعربية‪ .‬فانتخب محمد بن ناصر الغافري إماماً‬

‫‪584‬‬
‫ع��ام ‪ .1724‬لكنه قتل في إح��دى امل�ع��ارك في صحار ع��ام ‪،1728‬‬
‫فأعيد انتخاب سيف بن سلطان فعادت املشاكل من جديد‪ .‬إلى أن‬
‫متت البيعة لرجل آخر هو سلطان بن مرشد اليعربي ومبوته انتهى‬
‫عهد الدولة اليعربية عام ‪.1740‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬دولة البوسعيديون‬

‫انتهى نظام اإلمامة مع الدولة اليعربية إب��ان احل��رب األهلية‬


‫‪ 1738 - 1728‬وبدأ نظام السلطنة مع مؤسس الدولة البوسعيدية‬
‫اإلم��ام أح�م��د ب��ن سعيد ال��ذي استطاع أن ي��وق��ف احل��رب األهلية‪،‬‬
‫ويخرج عمان من أزمتها الداخلية‪ ،‬وطور إدارة البالد‪ ،‬وبنى أسطوالً‬
‫جتارياً وبحرياً‪ ،‬ووطد موقع دولته كقوة إقليمية في احمليط الهندي‬
‫واخلليج العربي‪ .‬وأعاد تثبيت سلطة عمان على املمتلكات العمانية‬
‫في شرقي أفريقيا‪ .‬وداخلياً متكن اإلم��ام أحمد من القضاء على‬
‫حركتي مت��رد ق��ام بها ول ��داه سيف وس�ل�ط��ان‪ .‬وب��دأ يغير ف��ي بنية‬
‫السلطة مبتعداً عن النموذج التقليدي اإلباضي لإلمامة‪ .‬فلم تعد‬
‫تستند إلى العلماء وحدهم‪ ،‬فضعف نفوذهم‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬خالفة اإلمام أحمد وانقسام الدولة‬

‫ه�ي��أ اإلم ��ام أح�م��د أب �ن��اءه خل�لاف�ت��ه ف��ي احل�ك��م ومنحهم لقب‬
‫«السادة»‪ .‬وبعد وفاته عام ‪ ..1783‬انتخب ابنه الرابع سعيداً إماماً‬
‫الذي أرغم على التنازل عن احلكم لصالح ابنه حمد بن سعيد الذي‬
‫نقل العاصمة من نزوى إلى مسقط‪ .‬ولكن حمداً لم يلبث أن توفي‬
‫في السنة نفسها التي تولى فيها احلكم‪ ،‬وبذلك جتدد الصراع على‬
‫السلطة بني سعيد وأخويه قيس وسلطان‪ ،‬وكانت النتيجة اجتماعاً‬
‫بني ورث��ة السلطة أسفر عن عقد اتفاق يتعلق بتقسيم عمان بني‪:‬‬

‫‪585‬‬
‫سعيد الذي ظل في الرستاق فيما سلطان استولى على السلطة في‬
‫مسقط‪ ،‬أما قيس فاتخذ منطقة صحار قرب مضيق هرمز مركزاً‬
‫لسلطته ‪.‬‬

‫وفي سنة ‪ ،1798‬جنح اإلنكليز من خالل أحد ممثلي شركة‬


‫الهند الشرقية في بوشهر في إقناع السيد سلطان بضرورة عقد‬
‫اتفاق مع بريطانيا الذي مت توقيعه في ‪ 12‬تشرين األول ‪ /‬أكتوبر‬
‫‪ 1798‬ويقضي بصورة رئيسية إلى حتييد عمان وقطع عالقاتها مع‬
‫الفرنسيني عن طريق استرجاع املقر الذي أعطي للوكالة الفرنسية‬
‫في مسقط‪ .‬بعد ذلك بدأ املد الوهابي بالوصول إلى عمان‪ ،‬فطلب‬
‫السيد سلطان امل�س��اع��دة العسكرية م��ن البريطانيني والفرنسيني‬
‫والعثمانيني‪ ،‬إال أن الدعوة الوهابية كانت قد كسبت مؤيدين ومريدين‬
‫كثر لها بني القبائل في املنطقة‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬سعيد بن سلطان البوسعيدي ‪1856 - 1806‬‬

‫خالل السنتني اللتني تلتا وفاة سلطان بن أحمد دخلت عمان‬


‫من جديد ط��ور الصراعات الداخلية بني ولديه القاصرين‪ :‬سالم‬
‫وسعيد وول��دي عمهما قيس وب��در‪ .‬وبفضل النفوذ الوهابي انتصر‬
‫بدر ووافق على دفع مبلغ سنوي للدرعية‪ ،‬إال إنه قتل في الصراع‬
‫العائلي‪ ،‬فاستولى على احلكم سعيد ب��دءاً م��ن ع��ام ‪ 1807‬وحكم‬
‫ط��وال نصف ق��رن وك��ان أول سيد لعمان لقب بـ«السلطان»‪ .‬وكان‬
‫قوياً وطموحاً‪ .‬وعاشت عمان عصرها الذهبي في النصف األول‬
‫من القرن التاسع عشر‪ .‬فالنفوذ العماني اتسع حتى شمل زجنبار‬
‫وبعض األجزاء األخرى من شرقي أفريقيا باإلضافة إلى املقاطعات‬
‫اجلنوبية من بالد فارس وبلوشستان‪.‬‬

‫‪586‬‬
‫خامس ًا‪ :‬ثويني بن سعيد ‪1866 - 1856‬‬

‫بعد وفاة السلطان سعيد في ‪ 30‬تشرين األول ‪ /‬أكتوبر ‪،1856‬‬


‫أعلن ثويني نفسه الوريث الوحيد للسلطة في عمان وتوابعها‪ .‬لكن‬
‫ماجداً‪ ،‬االبن اآلخر للسلطان سعيد‪ ،‬أعلن نفسه بعد وفاة أبيه سلطاناً‬
‫على زجنبار‪ .‬وهو ما كان يعني عملياً انفصال القسم األفريقي عن‬
‫عمان‪ .‬وقد عمل اإلنكليز على تأكيد هذا االنفصال وأجبرت ثويني‬
‫على قبول ه��ذا االنفصال في اتفاق ُوق��ع في ‪ 31‬أيلول ‪ /‬سبتمبر‬
‫‪ .1859‬وهكذا فإن تاريخ عمان بعد انفصال القسم االفريقي دخل‬
‫طور االنحدار‪ ،‬فقد انتقل التجار واألثرياء إلى القسم األفريقي‪ ،‬الذي‬
‫كان أكثر ازده��اراً‪ ،‬وعانت البالد من تدهور اقتصادي إضافة إلى‬
‫الصراعات الداخلية التي كانت تواجهها الدولة ضد الوهابيني‪.‬‬

‫وبينما كان السلطان ثويني يعد ابنه مع قوة مسلحة ملواجهة‬


‫الوهابيني فإذا بابنه يدخل عليه ويقتله ليتسلم احلكم من بعده‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬سالم بن ثويني ‪1868 - 1866‬‬

‫دعمت القبائل الغافرية (حليفة الوهابيني) ساملاً‪ .‬وقد ظهر‬


‫أول حتدي لسلطة سالم من عمه السيد تركي بن سعيد الذي وجد‬
‫معارضة قوية له من اإلنكليز والذي كان ضد القرار اإلنكليزي بفصل‬
‫زجنبار عن عمان واعترفت بريطانيا بسالم وفتحت قنصلية لها في‬
‫مسقط ‪.‬‬

‫سابع ًا‪ :‬عزَّ ان بن قيس والثورة اجلديدة‬

‫ف��ي أي�ل��ول ‪ /‬سبتمبر ‪ 1869‬س��ار ع��زان ب��ن قيس على رأس‬


‫ق��وة مدعومة م��ن العلماء إل��ى مسقط وأسقطها‪ ،‬فتدخل اإلنكليز‬

‫‪587‬‬
‫وأنقذوا ساملاً فنقلوه إلى بندر عباس وبويع عزان باإلمامة وانتهى‬
‫بها نظام السلطنة وشكل مجلس الشورى‪ .‬ثم وقع اتفاقية معاهدة‬
‫مع الوهابيني في واحة البرميي‪ .‬ومع أن نظام عزان لقي اعترافاً‬
‫دولياً ملحوظاً إال إن األح��داث املتسارعة التي أعقبت االعتراف‬
‫قضت على نظام ع��زان‪ ،‬فقد استطاع تركي بن سعيد قلب النظام‬
‫بعد ما لقي الدعم املطلوب من بريطانيا وقبائل الغافري وكذلك‬
‫املساعدة املالية من زجنبار‪ .‬وهكذا استطاع إحلاق الهزمية بجيش‬
‫عزان وقتله مطلع عام ‪.1871‬‬

‫ثامن ًا‪ :‬تركي بن سعيد ‪1888 - 1871‬‬

‫أعاد تركي مبساعدة بريطانية نظام السلطنة‪ ،‬لكنه لم يسيطر‬


‫على ال��وض��ع مت��ام�اً ف��ي ال��داخ��ل فقد ك��ان م��ن أه��م معارضيه زعيم‬
‫اإلباضية وداع��م ث��ورة ع��زان الشيخ صالح ب��ن علي احل��ارث��ي‪ .‬كما‬
‫حاول تركي مجدداً إعادة الوحدة مع زجنبار إال أن بريطانيا أفشلت‬
‫املوضوع‪ .‬وبقي الوضع على ما هو عليه حتى تسلم ولده فيصل بن‬
‫تركي‪.‬‬

‫تاسع ًا‪ :‬فيصل بن تركي ‪1913 - 1888‬‬

‫حاول فيصل منذ توليه إرضاء الثوار فلقب نفسه باإلمام بدالً‬
‫من السلطان ولم يرض الثوار بهذا اإلج��راء وخاصة بعدما وقعت‬
‫السلطنة «معاهدة الصداقة» مع بريطانيا التي عارضها العمانيون‬
‫ب�ش��دة‪ ،‬ف�ك��ان حت��ال��ف قبائل ع�م��ان م��ع بعضها ض��د فيصل وقامت‬
‫مبهاجمة مسقط‪ ،‬فهرب السلطان فيصل من عاصمته‪ .‬لكنه عاد‬
‫واستردها في ‪ 10‬آذار ‪ .1894‬ونتيجة عدم مساعدة بريطانيا له‬
‫في هذه احملنة حاول فيصل إقامة عالقات جيدة مع فرنسا‪ ،‬إال أن‬

‫‪588‬‬
‫بريطانيا راحت جتهز ابنه تيمور خلالفته فإرسلته إلى جامعاتها في‬
‫الهند‪ .‬وفي شهر تشرين األول ‪ /‬األول ‪ 1913‬توفي السلطان فيصل‬
‫وخلفه ابنه تيمور‪.‬‬

‫عاشراً‪ :‬تيمور بن فيصل ‪1932 - 1913‬‬

‫سعى تيمور إلخماد الثورة بالتفاوض‪ ،‬غير أن الثوار لم يقبلوا‬


‫بأي تنازل‪ ،‬بل شنوا عليه هجوماً كبيراً بقيادة الشيخ عيسى بن صالح‬
‫احلارثي‪ ،‬إال أن السلطان متكن مبساعدة من اجليش اإلنكليزي من‬
‫االنتصار على القبائل‪ ،‬لكن األوض��اع ظلت على ما هي عليه فظل‬
‫السلطان تيمور مسيطراً على مسقط وامل��دن الساحلية‪ ،‬فيما ظل‬
‫اإلمام مسيطراً على بقية املناطق‪ .‬وفي عام ‪ 1920‬وقعت «معاهدة‬
‫السيب» بني السلطان تيمور والقبائل التي مثلها الشيخ عيسى بن‬
‫صالح احلارثي‪ .‬وبذلك أصبحت عمان منذ توقيع تلك املعاهدة في‬
‫‪ 1920/9/25‬وملدة حوالي نصف قرن مقسمة بشكل فعلي إلى عمان‬
‫الساحل حتت سلطة السلطان‪ ،‬ومسقط وعمان الداخل حتت سلطة‬
‫اإلم��ام‪ .‬ثم عمدت بريطانيا على إغ��راق السلطان تيمور بالديون‪،‬‬
‫فأدرك السلطان عجزه عن القيام بأي شيء فتخلى في عام ‪1932‬‬
‫عن العرش لولده سعيد‪.‬‬

‫حادي عشر‪ :‬سعيد بن تيمور ‪1970 - 1932‬‬

‫تولى سعيد بن تيمور احلكم رسمياً في ‪ 10‬شباط ‪ /‬فبراير‬


‫‪ ،1932‬وكان في العشرين من العمر‪ .‬وعمد سعيد إلى فرض ضرائب‬
‫باهظة على الشعب بحجة تسديد الديون لبريطانيا فعاشت البالد‬
‫في حالة تخلف تام واستمرت على هذه احلال طيلة عهده حتى عام‬
‫‪.1970‬‬

‫‪589‬‬
‫وب��ال�ن�س�ب��ة لسلطة اإلم ��ام ف�ق��د ت��وف��ي اإلم ��ام محمد ب��ن عبد‬
‫الله اخلليلي‪ ،‬فانتخب اإلمام طالب بن علي مكانه‪ ،‬وقد عمل على‬
‫استرجاع بعض ما فقدته اإلمامة من نفوذ‪ ،‬إذ أن السلطان إضافة‬
‫إلى تدعيم سلطته في املناطق الساحلية أخذ ميد نفوذه شيئاً فشيئاً‬
‫إلى بعض املناطق األخرى‪ .‬فأعلن اإلمام الثورة على السلطان لكنه‬
‫ومبساعدة القوات االنكليزية استطاع إفشال ثورته‪..‬‬

‫ث��ان��ي ع �ش��ر‪ :‬ال� ��دول ال �ع��رب �ي��ة ت�ث�ي��ر ال�ق�ض�ي��ة ف��ي األمم‬
‫املتحدة‬

‫الق��ى مكتب نصرة إمامة عمان في القاهرة دعماً كبيراً من‬


‫السلطات املصرية زم��ن الرئيس جمال عبد الناصر‪ ،‬فعاد اإلمام‬
‫طالب إلى عمان في صيف ‪ .1957‬وقاد ثورة مسلحة ضد السلطان‪،‬‬
‫فاستعان السلطان سعيد مجدداً باإلنكليز فتمكن من إعادة سلطته‬
‫وتدعيم موقعه‪.‬‬

‫إال أن األوضاع السيئة التي كانت تعيشها عمان نتيجة احلظر‬


‫املفروض عليها من كافة اجلوانب دعا العديد من الدول العربية إلى‬
‫طرح «القضية العمانية» على اجلمعية العامة لألمم املتحدة ملناقشتها‬
‫في عام ‪ .1960‬فأفشلت بريطانيا املناقشة ثم أثير املوضوع مجدداً‬
‫عام ‪ 1961‬وكذلك أفشل املوضوع‪.‬‬

‫إال أن إصرار العديد من الدول العربية على طرح هذا املوضوع‬


‫دعا باألمم املتحدة إلى إرس��ال جلنة عام ‪ 1963‬لتقصي احلقائق‪،‬‬
‫إال أن اللجنة وضعت تقريراً منافياً ألخبار الدول العربية‪ ،‬فاتهمتها‬
‫الدول العربية والعديد من دول العالم الثالث باالنحياز لبريطانيا‬
‫ف�ت�ك��ون��ت جل�ن��ة ث��ان�ي��ة م��ن أع �ض��اء األمم امل�ت�ح��دة ل��دراس��ة القضية‬

‫‪590‬‬
‫العمانية كانت نتيجتها أن وضعت تقريراً يوصي بأن تنهي بريطانيا‬
‫«حمايتها» أو احتاللها لعمان فوراً‪.‬‬

‫ثالث عشر‪ :‬ثورة ُظفار‬

‫اندلعت ثورة ظفار عام ‪ 1963‬بقيادة «جبهة حترير ظفار» التي‬


‫كانت تتألف من عناصر مختلفة املشارب السياسية‪ .‬وبعد مؤمتر‬
‫حمرين عام ‪ 1968‬أصبح توجه هذه اجلبهة ماركسياً‪ ،‬بفضل الدعم‬
‫اليمني اجلنوبي‪.‬‬

‫وقد القت هذه اجلبهة تأييداً واسعاً من مختلف القطاعات‬


‫نتيجة حالة البؤس واحل��رم��ان ال��ذي كانت تعيشه ال�ب�لاد‪ .‬وحققت‬
‫أف��واج ه��ذه ال�ث��ورة ان�ت�ص��ارات كبيرة وك��ادت تقضي على السلطان‬
‫سعيد‪ ،‬إال أن السلطان قابوس ابن السلطان سعيد تسلم زمام احلكم‬
‫في ‪ 23‬متوز ‪ /‬يوليو ‪.1970‬‬

‫رابع عشر‪ :‬السلطان قابوس بن سعيد ‪ 1970‬ـ‪....‬‬

‫بعد توليه احلكم بادر السلطان قابوس إلى جعل اسم «سلطنة‬
‫عمان» اإلسم الرسمي لدولته‪ ،‬وعمد إلى نهج سياسة جديدة قامت‬
‫على إزال��ة كل مظاهر التخلف الشديد التي طبعت عهد السلطان‬
‫سعيد‪ ،‬واالنفتاح على العواصم العربية واألجنبية‪ .‬أراد السلطان‬
‫قابوس الذي كان متفهماً ومتعاطفاً مع كثير من مطالب الثوار قبل‬
‫تسلمه السلطة‪ ،‬أن يخرج اجليش العماني من مأزقه‪ ،‬فطلب دعماً‬
‫من األردن‪ ،‬ثم من اململكة العربية السعودية‪ ،‬وكذلك من باكستان‪،‬‬
‫وفي عام ‪ 1973‬أرسل شاه إيران حملة عسكرية مؤلفة من ‪ 8‬آالف‬
‫رجل‪ ،‬فنزل قسم منهم في صاللة عاصمة ظفار‪ .‬وبدأت املعارك مع‬
‫الثوار‪ .‬وفي أقل من سنتني‪ ،‬متكن السلطان قابوس مع هذه القوات‬

‫‪591‬‬
‫من القضاء نهائياً على الثورة‪.‬‬

‫خامس عشر‪ :‬النهضة العمرانية واالقتصادية في عهد‬


‫السلطان قابوس‬

‫ما إن متكن السلطان قابوس من القضاء على ثورة ظفار ‪،1975‬‬


‫حتى وقع اتفاق لوقف إطالق النار مع جمهورية اليمن اجلنوبي الذي‬
‫كان الداعم األساسي للثورة في ‪ 11‬آذار ‪ /‬مارس ‪.1976‬‬

‫بعد ذل��ك‪ ،‬أطلق السلطان ق��اب��وس ب��ن سعيد خطته التنموية‬


‫األولى‪ .‬أعقبها بالثانية فتحقق تقدم‪ ،‬أجمع املؤرخون على اعتباره‬
‫فريداً من نوعه وقياسياً‪ ،‬إذ نقل عمان وفي غضون سنوات قليلة من‬
‫عصر القرون الوسطى إلى العصر احلديث‪ ،‬وعلى مختلف األصعدة‬
‫والقطاعات خاصة في التربية والتعليم واملواصالت‪ .‬وعلى صعيد‬
‫العالقات اخلارجية‪ ،‬وضع السلطان قابوس خطوط عريضة لهذه‬
‫العالقات أهمها‪:‬‬

‫‪ - 1‬انتهاج سياسة حسن اجل��وار مع اجليران وع��دم التدخل‬


‫في الشؤون الداخلية ألية دولة‪.‬‬

‫‪ - 2‬تدعيم عالقة عمان مع مختلف ال��دول العربية‪ ،‬وإقامة‬


‫عالقات ودية مع باقي دول العالم‪.‬‬

‫‪ - 3‬ال ��وق ��وف إل ��ى ج��ان��ب ال �ق �ض��اي��ا ال �ع��رب �ي��ة ف��ي املجاالت‬
‫الدولية‪.‬‬

‫‪ - 4‬االلتزام باخلط الذي تسير عليه دول العالم الثالث‪.‬‬

‫انضمت عمان إلى جامعة ال��دول العربية عام ‪ 1971‬وكذلك‬

‫‪592‬‬
‫إلى األمم املتحدة في ذات العام‪ .‬وانفردت عمان بعدم قطع عالقاتها‬
‫مع مصر بعد زيارة الرئيس املصري السادات إلى إسرائيل‪ .‬ولدى‬
‫قيام مجلس التعاون اخلليجي في عام ‪ 1981‬انضمت سلطنة عمان‬
‫ال ومؤثراً‪.‬‬
‫إلى عضويته‪ ،‬وما لبثت أن أصبحت عضواً فاع ً‬

‫‪593‬‬
594
‫الفصل الثاني عشر‬
‫اليمن‬

‫ظلت اليمن حتت اخلالفة الراشدة‪ ،‬فلم تقم بها أي حركة تذكر‬
‫حتى قيام العصر العباسي حيث ضعف أثر الدولة في هذه املنطقة‬
‫فقامت ع��دة دوي�لات في مناطق مختلفة في اليمن‪ .‬فقامت دولة‬
‫بني يعفر في صنعاء التي أسسها إبراهيم بن يعفر سنة ‪ 225‬هـ‪.‬‬
‫ثم تسلم قيادة هذه الدولة أل حامت بن علي الهمذاني الذي استطاع‬
‫بسط سيطرته‪ .‬تبعه بعد ذلك اإلمام املتوكل أحمد سليمان عام ‪556‬‬
‫هـ حيث استولى األيوبيون على البالد‪ .‬وكذلك قامت دولة بني زياد‬
‫في زبيد وق��د كانت اليمن كلها حتت نفوذهم إل��ى أن استولى بنو‬
‫يعفر على صنعاء عام ‪ 225‬هـ‪ .‬ثم انتقلت هذه الدولة إلى بني جناح‬
‫ومنهم إلى الصليحيني الذين استمروا في احلكم حتى عام ‪ 569‬هـ‬
‫حيث دخلها توران شاه من قبل الدولة األيوبية‪ .‬كما قامت الدولة‬
‫الزيدية على يد يحيى بن احلسني الطالبي في مدينة صعدة عام‬
‫‪ 284‬ه�ـ‪ .‬وق��د بقي األيوبيون مسيطرين على ب�لاد اليمن حتى عام‬
‫‪ 612‬ه�ـ‪ ،‬حيث استطاع بنو رس��ول وه��م من ق��ادة األيوبيني استالم‬
‫احلكم ومتكنوا من بسط سيطرتهم على اليمن‪ ،‬وكانوا على خالف‬

‫‪595‬‬
‫دائم مع املماليك‪ ،‬واستمروا بالسلطة حتى عام ‪ 858‬هـ حيث تسلم‬
‫بنو طاهر السلطة في زبيد ع��ام ‪ 859‬هـ مبساعدة األمير جيّاش‬
‫أحد موالي أهل زبيد وبدأوا بتوسيع نفوذهم وبسط سيطرتهم‪ ،‬حتى‬
‫كانت اليمن جميعها خاضعة باستثناء شمالها لسلطانها عامر بن‬
‫عبد الوهاب في مطلع القرن العاشر‪.‬‬

‫وفي هذه األثناء وصل البرتغاليون إلى أطراف اجلزيرة العربية‬


‫وبدؤوا يغيرون عليها فهاجموا عدن وقصفوها باملدافع‪ .‬وقد عمل‬
‫املماليك على الدفاع عن بالد اليمن فأرسلوا أشهر قادتهم ملواجهة‬
‫املعتدين وه��و حسني ال �ك��ردي‪ ،‬غير أن الطاهريني وق�ف��وا بوجهه‪،‬‬
‫بينما ساعده األئمة الزيديني املوجودين في شمال البالد‪ ،‬فحارب‬
‫الطاهريني والحقهم إلى داخل اليمن‪.‬وعندما سقطت دولة املماليك‬
‫في مصر بيد العثمانيني عام ‪ 923‬هـ‪ .‬انسحبت قواتهم املوجودة في‬
‫اليمن حتى زبيد ونزلت القوات العثمانية في اليمن عام ‪ 945‬هـ‬
‫بقيادة سليمان باشا الذي حاول بسط سيطرته على البالد إال إنه‬
‫فشل أمام اإلمام املنصور القاسم بن محمد علي الذي استطاع بسط‬
‫ن�ف��وذه‪ ،‬واس�ت�م��رت أس��رت��ه باحلكم حتى ع��ام ‪ 1252‬ه�ـ ح�ين قامت‬
‫اخلالفات فيما بينهم‪ .‬وكان االنكليز قد احتلوا عدن أيام الناصر‬
‫عبد الله بن احلسن‪ .‬واستمرت اخلالفات بني األئمة في صنعاء وفي‬
‫صعدة حوالي ربع قرن‪ .‬إال أن العثمانيني رغم كل ذلك لم يستطيعوا‬
‫بسط سيطرتهم بسبب املقاومة الكبيرة التي أبداها األئمة‪ ،‬ثم عادت‬
‫السيطرة من جديد ألسرة القاسم بن محمد علي وذلك عام ‪1307‬‬
‫هـ‪ ،‬واستطاع اإلمام مجابهة العثمانيني‪ ،‬وكذلك فعل من بعده ابنه‬
‫يحيى امللقب باملتوكل فوقف بوجه حكومة االحتاديني‪.‬‬

‫انتهت احل��رب العاملية األول��ى وان�ه��زم العثمانيون‪ ،‬فانسحب‬


‫ال منذ‬
‫الوالي العثماني من صنعاء وتسلم اإلم��ام يحيى احلكم كام ً‬

‫‪596‬‬
‫عام ‪ 1337‬هـ‪ ،‬إال إن اليمن كانت قد أصبحت قسمني‪ :‬األول حتت‬
‫حكم اإلم��ام يحيى حميد الدين والثاني حتت السيطرة اإلنكليزية‬
‫وتشمل حضرموت واملهرة‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬ثورة السالل ‪1962‬‬

‫قام عبد الله السالل بثورة على نظام اإلمام نتيجة تأثره باجلو‬
‫العربي املعاصر وتضييق احلريات من قبل أسرة اإلمام التي كان لها‬
‫كل النفوذ في البالد‪ .‬فقام بانقالبه وأعلن قيام اجلمهورية‪ .‬حاول‬
‫اإلم��ام محمد البدر استعادة احلكم في اليمن بدعم من السعودية‬
‫فقام السالل باالستعانة مبصر التي أرسلت فرقة عسكرية للدفاع‬
‫ع��ن النظام اجل��دي��د‪ ،‬ونشبت ب�ين الطرفني ح��رب طويلة انهكتهما‬
‫دون أن يتحقق النصر ألي منهما‪ .‬وعقب هزمية ح��زي��ران ‪1967‬‬
‫اتفقت مصر والسعودية أثناء انعقاد قمة اخلرطوم على حل املشكلة‬
‫اليمنية‪ ،‬وذلك بسحب مصر لقواتها من اليمن وتوقف السعودية عن‬
‫تقدمي الدعم لإلمام‪ ،‬وجرت مصاحلة وطنية بني الطرفني‪ ،‬واتفقا‬
‫على إقصاء السالل ومحمد البدر‪ ،‬واإلبقاء على النظام اجلمهوري‪،‬‬
‫وتشكيل حكومة يتمثل فيها الطرفان‪.‬‬

‫اليمن اجلنوبي واالحتالل اإلنكليزي‬

‫ع�م��ل االح �ت�لال اإلن�ك�ل�ي��زي إل��ى تقسيم ال�ي�م��ن اجل�ن��وب��ي إلى‬


‫مستعمرة عدن وإلى عدد من احملميات‪ .‬وكانت أوضاعها سيئة‪ ،‬بحيث‬
‫سادها اجلهل والفقر واملرض فظهرت احلركة الوطنية كرفض لهذا‬
‫الواقع منذ عام ‪ 1953‬وشكلت رابطة أبناء اجلنوب اليمني احملتل‬
‫وقد عملت الرابطة على توحيد اآلراء واألفكار في اليمن اجلنوبي‪،‬‬
‫فاستبقت بريطانيا األمر وعملت على توحيد اليمن اجلنوبي بحيث‬

‫‪597‬‬
‫ظل حتت سيطرتها في عام ‪ ،1959‬وقد نصت هذه املعاهدة على‬
‫قيام احتاد اليمن اجلنوبي على أن تتولى بريطانيا شؤونه اخلارجية‬
‫وقيادة جيشه‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬ثورة اليمن اجلنوبي‬

‫ب��دأت الثورة بإضرابات ومظاهرات في عدن وبعض املناطق‬


‫األخ��رى‪ ،‬وحت��ول��ت إل��ى ح��رب شرسة انطلقت م��ن اجل�ب��ال واتسعت‬
‫لتشمل اليمن اجلنوبي بأكمله ومتكن الثوار من توحيد صفوفهم في‬
‫جبهة واحدة‪ ،‬وأقاموا حكومة موحدة نظمت العمليات الثورية ضد‬
‫اإلنكليز أدت إلى إحلاق خسائر فادحة بالقوات البريطانية‪ .‬وقامت‬
‫الدول العربية بعرض قضية اليمن اجلنوبي على األمم املتحدة التي‬
‫أص��درت ع��ام ‪ 1965‬ق��راراً يقضي بإنهاء االحتالل البريطاني في‬
‫جنوب اليمن‪ ،‬واالعتراف بحق تقرير املصير واملطالبة بالسماح للجنة‬
‫دولية بالتحقيق في أوضاع املنطقة‪ .‬فرفضت بريطانيا هذا القرار‪،‬‬
‫وجل��أت إلى إره��اب السكان وقمعهم ما دفع بقسم كبير من جيش‬
‫االحت��اد اليمني باالنضمام إلى الثوار‪ ،‬الذين ش��ددوا من عملياتهم‬
‫ضد القوات البريطانية‪ ،‬عندئذ اضطرت بريطانيا إل��ى التفاوض‬
‫مع الثورة اليمنية ثم االنسحاب الكامل‪ .‬وأعلن عن قيام اجلمهورية‬
‫في عام ‪ .1967‬وعاصمتها عدن‪ ،‬وانتخب إبراهيم احلمدي رئيساً‬
‫للجمهورية‪ ،‬لكنه اغتيل في عام ‪ ،1977‬كما قتل خليفته أيضاً أحمد‬
‫بن حسن القشمي‪ ،‬فانتخب من بعده الرئيس علي عبد الله صالح‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬اليمنني قبل الوحدة‬

‫تعددت النزاعات في شطري اليمن‪ ،‬وقامت االنقالبات ففي‬


‫اجل�م�ه��وري��ة ال�ع��رب�ي��ة اليمنية ق�ت��ل ال��رئ�ي��س إب��راه�ي��م احل �م��دي عام‬

‫‪598‬‬
‫‪ ،1977‬وكذلك قتل خلفه الرئيس أحمد بن حسن القشمي‪ ،‬فانتخب‬
‫خلفا له علي عبد الله صالح‪ .‬وفي اليمن الدميقراطية مت خلع سالم‬
‫ربيع علي وأع��دم على ي��د امل�ع��ارض��ة‪ ،‬واختير خلفا ل��ه علي ناصر‬
‫محمد الذي أقصى عبد الفتاح إسماعيل ونفاه إلى موسكو‪ .‬وفي‬
‫ع��ام ‪ 1985‬ع��اد عبد الفتاح إل��ى سكرتارية احل��زب احل��اك��م‪ .‬فعاد‬
‫الصراع ونشب بني جماعة الرئيس علي ناصر محمد وجماعة عبد‬
‫الفتاح إسماعيل حيث قتل هذا األخير‪ .‬وه��رب علي ناصر محمد‬
‫وحوكم غيابياً‪ ،‬وخلفه بالرئاسة حيدر أبو بكر العطاس‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬الوحدة بني شطري اليمن‬

‫ف��ي ع��ام ‪ 1989‬أع�ل��ن ع��ن دس�ت��ور ل�ل��وح��دة ب�ين اليمنني طرح‬


‫لالستفتاء وقد وافقت عليه األغلبية في البلدين في أي��ار ‪.1990‬‬
‫وأطلق على دولة الوحدة اسم‪ :‬اجلمهورية العربية اليمنية‪ ،‬برئاسة‬
‫علي عبد الله صالح ونائبه علي سالم البيض وحيدر أبو بكر العطاس‬
‫لرئاسة الوزراء‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬انتخابات داخلية‬

‫في نيسان ‪ 1997‬فاز احلزب احلاكم الذي يرأسه علي عبد‬


‫ال�ل��ه ص��ال��ح ب��االن�ت�خ��اب��ات ال�ب��رمل��ان�ي��ة‪ .‬كما شهد اليمن ع��ام ‪1998‬‬
‫نزاعات واضطرابات داخلية عديدة خاصة في جنوب اليمن‪ ،‬وفي‬
‫‪ 20‬حزيران‪/‬يونيو ‪ 1998‬وقعت أعمال شغب هي األوسع في البالد‬
‫منذ انتهاء احل��رب األهلية ع��ام ‪ 1994‬وذل��ك عقب ق��رار احلكومة‬
‫زي��ادة األسعار في العديد من امل��واد اليومية الغذائية أسفرت عن‬
‫مقتل ‪ 52‬شخصاً‪ .‬كذلك أدت االشتباكات واملناوشات احملدودة بني‬
‫اجليش احلكومي وقبائل مينية إلى سقوط بعض القتلى‪.‬‬

‫‪599‬‬
‫سادس ًا‪ :‬إعادة انتخاب صالح رئيس ًا لليمن‬

‫في ‪ 23‬أيلول ‪ 1999‬أجريت االنتخابات الرئاسية بني مرشحني‬


‫اثنني هما‪ :‬الرئيس علي عبد الله صالح‪ ،‬ومنافسه الوحيد جنيب‬
‫قحطان الشعبي‪ ،‬انتهت ه��ذه االن�ت�خ��اب��ات ب�ف��وز ال��رئ�ي��س ص��ال��ح بـ‬
‫‪ ٪70‬م��ن أص��وات الناخبني املسجلني‪ .‬وف��ي ‪ 13‬ح��زي��ران ‪ /‬يونيو‬
‫‪ 2000‬توجت االحتفاالت الكبرى مبناسبة مرور عشر سنوات على‬
‫إع�لان الوحدة بتوقيع معاهدة ترسيم احل��دود مع اململكة العربية‬
‫السعودية‪.‬‬

‫سابع ًا‪ :‬ثورة الشباب اليمنية‬

‫هي ثورة شعبية انطلقت في ‪ 11‬شباط عام ‪ 2011‬الذي أطلق‬


‫عليه اسم «جمعة الغضب» (وهو يوم سقوط نظام حسني مبارك في‬
‫مصر) متأثرة مبوجة االحتجاجات العارمة التي اندلعت في الوطن‬
‫العربي مطلع ع��ام ‪ 2011‬وبخاصة ال�ث��ورة التونسية التي أطاحت‬
‫بالرئيس زين العابدين بن علي وثورة ‪ 25‬كانون األول املصرية التي‬
‫أطاحت بالرئيس حسني مبارك‪ .‬قاد هذه الثورة الشبان اليمنيون‬
‫باإلضافة إلى أحزاب املعارضة للمطالبة بتغيير نظام الرئيس علي‬
‫عبد الله صالح الذي يحكم البالد منذ ‪ 33‬عاماً ‪ ،‬والقيام بإصالحات‬
‫سياسية واقتصادية واجتماعية‪ .‬وكان ملواقع التواصل االجتماعي‬
‫على اإلنترنت مثل فيسبوك مساهمة فعالة في الثورة إلى حد كبير‪،‬‬
‫حيث ظهرت العديد من املجموعات املناوئة للنظام احلاكم بدأت‬
‫مبطالب إصالحية ث��م ارت�ف��ع سقف املطالب إل��ى إس�ق��اط النظام‪.‬‬
‫ومنها مجموعة «ث��ورة ال�ش�ب��اب اليمني إلس�ق��اط ال�ن�ظ��ام»‪ .‬ولعبت‬
‫هذه املواقع دوراً كبيراً في تنظيم االعتصامات واستمرارها‪ ،‬وفي‬
‫اخلروج باملسيرات‪ .‬و كان يوم اجلمعة التي عرفت بجمعة الكرامة‬

‫‪600‬‬
‫‪ 18‬آذار يوماً مفصلياً في الثورة اليمنية حيث انضم بعدها الكثير‬
‫من املشايخ وزعماء القبائل والشخصيات االجتماعية إلى الثورة بعد‬
‫أن انضم إليها اللواء علي محسن األحمر في ‪ 21‬آذار بعد تأثره‬
‫مبذبحة جمعة الكرامة التي راح ضحيتها ‪ 52‬شهيدا من الشباب‬
‫املعتصمني السلميني في ساحة التغيير بصنعاء إلى جانب أكثر من‬
‫‪ 700‬جريح بنيران القناصة التي قال املعتصمون أنهم ينتمون إلى‬
‫احلرس اجلمهوري وأنصار احلزب احلاكم فيما رد الرئيس صالح‬
‫أنهم من سكان احلارات املجاورة لساحة االعتصام والذين تضرروا‬
‫من املعتصمني‪ .‬ورغ��م كمية االستقاالت ال��ذي حصل بعد انضمام‬
‫علي محسن للثورة إال أن التباطؤ في الزحف للقصر اجلمهوري‬
‫من قبل شباب ال�ث��ورة أعطى الوقت لصالح إلع��ادة ترتيب أوراقه‬
‫ومنها مسارعته إلى حل احلكومة وتكليفها بتصريف األعمال خشية‬
‫ان يقدم الوزراء استقالتهم‪ .‬واستمرت املناورات بني شباب التغيير‬
‫واملعارضة من جهة وبني صالح من اجلهة األخرى وقد غادر الرئيس‬
‫علي عبد الله صالح البالد متوجهاً إل��ى السعودية في ‪ 4‬حزيران‬
‫للعالج بعد سقوط قذيفة على القصر الرئاسي في ‪ 3‬حزيران‪.‬‬

‫‪601‬‬
602
‫الفصل الثالث عشر‬
‫املغرب‬

‫يرجع العديد من املؤرخني والدة تاريخ املغرب إلى فترة حانون‬


‫القرطاجي‪ ،‬وبعضهم يقول ب��أن البربر ه��م أول م��ن استوطن تلك‬
‫البقعة‪ ،‬فاتصل الفينيقيون بهم وأسسوا عدة مراكز على الشاطئ‪.‬‬
‫منها طنجة ومليلية والعرائش وغيرها‪ .‬وظلت عالقتهم مع السكان‬
‫عالقة جتارية‪ .‬ولم يستعمروا داخل البالد‪ ،‬ثم نزل عدد كبير من‬
‫الفينيقيني في تونس وأسسوا مدينة «قرطاجة» وعظمت جتارتها‬
‫ومنت ثروتها واتصلت بالقبائل البربرية الداخلية‪ ،‬فاعتبروا أنفسهم‬
‫تابعني للفينيقيني‪.‬‬

‫ت��أث��ر أه��ل امل �غ��رب بأساليبهم ف��ي ال�ف�لاح��ة وال�ص�ن��اع��ة‪ ،‬على‬


‫الرغم من عدم دخولهم حتت سلطة القرطاجيني‪ ،‬ثم زالت دولتهم‬
‫في أعقاب احل��روب الكبيرة التي شنتها روما عليهم‪ .‬وحل العصر‬
‫الروماني باملغرب وامتد لطيلة عدة قرون‪ .‬ولم يكن نفوذهم يشمل‬
‫من املغرب األقصى سوى قطعة شمالية‪ ،‬وكانت عاصمتهم مدينة‬
‫«أول�ي�ل��ى» وم��ا ت��زال فيها بعض آث��اره��م ش��اه��دة‪ .‬استوطنت قبائل‬

‫‪603‬‬
‫ال��ون��دال امل�غ��رب ف��ي ال�ق��رن اخل��ام��س قبل امل�ي�لاد بعد تغلبها على‬
‫الرومان‪ ،‬وقد استعاد البربر قوتهم أثناء احتاللهم‪ ،‬فاستقل بعض‬
‫أمراؤهم‪ .‬ولم يثبت حكم الوندال إال في مدينتي طنجة وسبتة‪ .‬ثم‬
‫خلفت الوندال الدولة البيزنطية في حكم املغرب عام ‪ ،533‬ولكن‬
‫البربر اعتصموا باجلبال حملاربتهم‪ ،‬واستمرت املعارك بني اجلانبني‬
‫حتى أن فتح العرب املسلمني هذه البقاع عام ‪.683‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬العهد اإلسالمي‬

‫دخ��ل الفتح اإلس�لام��ي إل��ى ال�ب�لاد على ي��د القائد موسى بن‬
‫نصير ومساعديه طارق بن زياد وعقبة بن نافع عام ‪ .683‬وتعاقب‬
‫الوالة من قبل الدولة األموية في دمشق‪ ،‬وبعد فترة من الزمن وفي‬
‫عهد الدولة العباسية ب��دأت حتركات أه��ل املغرب‪ ،‬ونشبت ثورات‬
‫كثيرة‪ ،‬وتأسست إمارات مستقلة كدولة بني مدرار بسجلماسة‪ ،‬ولم‬
‫يقض على الفوضى التي عمت البالد بسبب ضعف السلطة املركزية‬
‫للدولة العباسية إال بعد ق��دوم إدري��س بن احلسن والتفاف البربر‬
‫حوله‪ ،‬فاستقل باملغرب عام ‪ 788‬وأسس مدينة فاس‪ ،‬وشيدت جامعة‬
‫القرويني عام ‪ .856‬وقد امتد ملك اإلدريسيني إلى سنة ‪ .988‬وفي‬
‫آخر أيامه قام موسى بن أبي العافية املكناسي وأسس دولته (‪917‬‬
‫‪ )1053 -‬لكن قضى عليها املرابطون الذين وحدوا املغرب وأسسوا‬
‫ثاني دولة مستقلة‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬دولة املرابطني‬

‫أسس هذه الدولة يوسف بن تاشفني الذي استقر في مدينة مراكش‬


‫عام ‪ .1062‬ثم فتح املدن والقالع املغربية‪ ،‬ومنها مدينة فاس‪ ،‬وانتقل إلى‬
‫بالد األندلس ليقف بوجه الغزوات االسبانية‪ ،‬ويسترجع منهم األراضي‬

‫‪604‬‬
‫التي احتلوها‪ .‬وقد خاض عدة معارك ضد األسبان‪ ،‬وأكمل الطريق من‬
‫بعده ابنه علي بن يوسف ال��ذي مت في حكمه إخضاع ملوك الطوائف‬
‫باألندلس‪ ،‬واستولى على ج��زر البليار‪ ،‬ج��اء بعد املرابطني املوحدون‬
‫بزعامة ابن تومرت‪ ،‬فأخذوا ينظمون دعوتهم‪ ،‬وخلفه عبد املؤمن بن علي‬
‫عام ‪ ، 1130‬فتابع انتصاراته على املرابطني‪ ،‬وفتح فاس عام ‪،1145‬‬
‫ومراكش واتخذها عاصمة له‪ ،‬ثم فتح املدن والقالع املغربية‪ ،‬ثم دخل‬
‫بالد األندلس واسترجع البالد التي كانت قد وقعت في أيدي األسبان‬
‫باألندلس‪ ،‬وخلفه ابنه يعقوب‪ ،‬فوحد البالد املغربية واألندلسية حتت‬
‫لوائه وقاتل األسبان وهزمهم‪ ،‬وفي أي��ام ابنه يعقوب املنصور أسست‬
‫مدينة الرباط‪ ،‬وشيّدت أشهر املساجد باملغرب واألندلس‪ ،‬وانتصر على‬
‫األسبان في معركة األراك عام ‪ 1195‬فأحلق بهم خسائر جسيمة‪ ،‬ثم‬
‫أفل جنم هذه الدولة مبوت آخر خلفائها الواثق عام ‪.1266‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬حكم املرينيني‬

‫ق��ام على أن�ق��اض دول��ة امل��وح��دي��ن حكم بنو م��ري��ن ف��ي املغرب‬
‫األقصى‪ ،‬وقد امتد نفوذهم إلى املشرق ومن أكبر ملوكهم أبو احلسن‬
‫ال��ذي وح��د أفريقيا الشمالية م��ن ج��دي��د‪ ،‬بعد استرجاعه املغرب‬
‫األوسط واألدن��ى‪ ،‬وإن كانت انتصاراته لم تدم طويالً‪ .‬وكذلك ابنه‬
‫أبو عنان مؤسس مدرسة أبي عنان في فاس‪ .‬وهذه الدولة هي التي‬
‫أعطت املغرب األقصى الشكل الذي استقر عليه باعتباره أمة لها‬
‫نظمها وقواعدها اخلاصة‪ .‬وقد بلغت فاس في عهدهم درجة عالية‬
‫من احلضارة‪ .‬وقد استمر حكم املرينيني حوالي ‪ 250‬سنة‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬حكم بني وطاس‬

‫جاء بعدهم بنو وطاس وقد احتل االسبان الشواطئ املغربية‬

‫‪605‬‬
‫كسبتة‪ ،‬القصر الصغير‪ ،‬أصيالً‪ ،‬طنجة‪ ،‬مليلية فتضايق املسلمون‬
‫من هذا التوسع الصليبي‪ ،‬وخاصة عقب طرد املسلمني من األندلس‪،‬‬
‫والتنكيل الذي حلق بهم‪ ،‬فانطلقت جموع املسلمني هاربة من محاكم‬
‫التفتيش االسبانية باجتاه بالد املغرب‪ ،‬فتأثر املسلمون كثيراً ملا حل‬
‫بأهل األندلس‪ ،‬فسقطت أسهم بني وطاس‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬حكم السعديني‬

‫اجت�ه��ت األن �ظ��ار ن�ح��و ش�ي��خ ال�س�ع��دي�ين أب��ي ع�ب��د ال�ل��ه محمد‬
‫القائم بأمر الله ال��ذي أعلن عن أمله في إنقاذ املغرب واستعادة‬
‫ب�لاد األن��دل��س‪ ،‬فالتفت اجل�م��وع حوله ومت��ت مبايعته ع��ام ‪.1509‬‬
‫فقضى على حكم بني وط��اس‪ ،‬وق��ات��ل البرتغاليني وانتصر عليهم‬
‫وأخرجهم من األراضي التي احتلوها ملدة ‪ 72‬سنة‪ ،‬وبعد وفاته بويع‬
‫ابنه أب��و العباس األع��رج ال��ذي س��ار على سياسة وال��ده في منازلة‬
‫األسبان والبرتغاليني‪ ،‬فأحرز انتصارات بارزة‪ .‬إال أن عدة خالفات‬
‫وقعت بينه وبني أخيه أبو عبد الله محمد الشيخ انتهت ملصلحة هذا‬
‫األخير ال��ذي تولى قيادة األم��ور في البالد‪ ،‬فأكمل مسيرة احلرب‬
‫ضد الوطاسيني والبرتغاليني واألسبان‪.‬‬

‫وعقب دخول العثمانيني للجزائر‪ ،‬ساءت العالقات بني السعديني‬


‫والعثمانيني خاصة أن اجلزائر كانت تتبع للسعديني‪ ،‬وبعد أن جلأ‬
‫أبو حسون الوطاسي إلى العثمانيني ولقي منهم كل ترحيب ودعم‬
‫ليعيد احلرب على السعديني‪ ،‬واستطاع أبو حسون وجيشه العثماني‬
‫م��ن دخ��ول ف��اس ع��ام ‪ ،1560‬لكن أب��ا عبد ال�ل��ه الشيخ متكن من‬
‫استرجاعها وقتل أبو حسون الوطاسي وأسر اجليش العثماني ما زاد‬
‫التوتر بني الدولتني‪ .‬وفي بداية حكم أحمد املنصور السعدي توترت‬
‫العالقات مع العثمانيني ثم مت الصلح بينهما‪ ،‬فتفرغ املنصور أحمد‬

‫‪606‬‬
‫لبالده حيث عمل على توسيع رقعة بالده فضم إليه مناطق غربي‬
‫السودان واستفاد من خيراتها‪ ،‬إضافة إلى العديد من اإلصالحات‬
‫التي قام بها في مختلف أنحاء دولته وبناء القصور واألبراج واحلصون‬
‫ومبوت املنصور السعدي بدأ جنم دولة السعديني باألفول‪ ،‬فقام ولداه‬
‫يتنازعان ملك أبيهم فقامت بينهما حروب كثيرة ضربت معظم ما‬
‫بناه املنصور‪ ،‬وفقد املغرب بسببها سلطانه على بالد السودان إلى‬
‫أن انقرضت هذه الدولة على أيدي أشراف األسرة العلوية‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬حكم األسرة العلوية‬

‫تزعم محمد ب��ن محمد الشريف األس��رة العلوية وعمل على‬


‫تأسيس دولته وبسط نفوذها على األراض��ي املغربية‪ ،‬وتوالى أبناء‬
‫األسرة العلوية على احلكم‪ ،‬إال أن االختالف الذي أصابهم‪ ،‬واستعانة‬
‫بعضهم بالصليبيني ضد بعضهم‪ ،‬وهزائمهم املتكررة أمام النصارى‪،‬‬
‫ما قلل من هيبة البالد أم��ام األع��داء فطمعوا بها‪ ،‬وأخ��ذت الدول‬
‫الغربية تسعى لبسط نفوذها على البالد‪.‬‬

‫سابع ًا‪ :‬االحتالل الفرنسي للمغرب‬

‫اتفقت فرنسا م��ع إسبانيا على اقتسام ال�ص�ح��راء املغربية‪،‬‬


‫فأخذت فرنسا موريتانيا‪ ،‬وأخذت اسبانيا الصحراء املغربية (ساقية‬
‫الذهب)‪ .‬ثم راحت فرنسا تتفق مع باقي الدول األوروبية‪ ،‬فاتفقت‬
‫مع إيطاليا في ‪ 1‬تشرين الثاني ‪ 1920‬على أن تترك إيطاليا لفرنسا‬
‫حرية العمل في املغرب مقابل أن تطلق إيطاليا يدها في ليبيا‪.‬‬

‫خضعت طنجة ملجلس دولي‪ ،‬األمر الذي أثار حفيظة املغاربة‪،‬‬


‫وأشعل بداية الثورة‪ ،‬ثم اتفقت فرنسا مع كل من بريطانيا وأملانيا‬
‫على اقتسام النفوذ‪ .‬وحاول السلطان عبد العزيز مع مجلس األعيان‬

‫‪607‬‬
‫م��ن إض�ع��اف النفوذ الفرنسي ع��ن طريق ع��رض أم��ر م��راك��ش على‬
‫مؤمتر دولي‪ .‬فانعقد مؤمتر اجلزيرة في ‪ 16 - 15‬حزيران ‪1906‬‬
‫حضره ممثلو خمس عشرة دولة ومن أهم نتائجه‪ :‬االعتراف بسيادة‬
‫السلطان واستقالله ووحدة أراضيه تشكيل قوة من الشرطة حلفظ‬
‫األمن تكون مكونة قوات فرنسية واسبانية ولم ميض عام حتى احتلت‬
‫فرنسا اجل��زء الشرقي من ال�ب�لاد‪ ،‬وحلجة صغيرة قامت باحتالل‬
‫امليناء كما قامت اسبانيا بإنزال قواتها بالريف‪.‬‬

‫ثامن ًا‪ :‬الثورة املغربية‬

‫نتيجة للديون املترتبة لسلطان املغرب عبد احلفيظ على فرنسا‪،‬‬


‫استطاعت هذه األخيرة فرض معاهدة احلماية في عام ‪ ،1912‬وقد‬
‫رفض الشعب واجليش هذه املعاهدة‪ ،‬واشتعلت الثورة املغربية في‬
‫مختلف املناطق‪ ،‬فاضطر السلطان عبد احلفيظ للتنازل عن العرش‬
‫ألخيه يوسف‪ .‬واستمرت الثورة املغربية‪ ،‬وكان في اجلنوب هبة الله‬
‫بن الشيخ ماء العينني ال��ذي دعا إلى اجلهاد‪ ،‬فالتف حوله الناس‬
‫وسار بهم إلى مدينة مراكش فدخلها عنوة وبويع باإلمامة بعد بيعة‬
‫يوسف بن احلسن بأربعة أيام‪ .‬فأرسلت فرنسا جيشاً حملاربة هبة‬
‫الله‪ ،‬فانتصر في املعركة األولى لكن هزم في مراكش وانسحب إلى‬
‫تارو وحتصن بها وأعاد هجومه على الفرنسيني‪ .‬وأحلق بهم خسائر‬
‫جمة‪ ،‬فجهز الفرنسيون جيشاً مدعماً بالدبابات والطائرات بقيادة‬
‫اجلنرال غورو استطاع القضاء على جيش هبة الله‪.‬وهكذا ترسخت‬
‫القوات الفرنسية على األراضي املغربية‪ ،‬وجنّدت املغاربة في جيشها‬
‫لالستعانة بهم في احلرب العاملية األولى‪ ،‬كما ترسخ تقسيم املغرب‬
‫إلى ثالث مناطق‪ ،‬منطقة النفوذ الفرنسي ومنطقة احلماية االسبانية‬
‫(الريف)‪ ،‬مدينة طنجة الدولية‪.‬‬

‫‪608‬‬
‫تاسع ًا‪ :‬ثورة عبد الكرمي اخلطابي‬

‫كما في منطقة االحتالل الفرنسي‪ ،‬كذلك في منطقة االحتالل‬


‫االسباني قامت الثورات الشعبية‪ ،‬ومن أهمها ثورة أحمد بن محمد‬
‫الريسوني وثورة محمد عبد الكرمي اخلطابي ‪ 1926 - 1920‬في‬
‫منطقة الريف وانتصر على القوات االسبانية‪ ،‬وأرغمها على التراجع‬
‫عن معظم املناطق التي احتلتها وأسس حكومة وطنية وضعت ميثاقاً‬
‫لتحرير املغرب في مدينة أغادير وأعلن قيام جمهورية الريف‪.‬‬

‫أدى انتصار قوات اخلطابي في املغرب على القوات االسبانية‬


‫إلى قيام حركة انقالبية في إسبانيا هدفت إلى إعادة تنظيم اجليش‬
‫ال أرسلت إسبانيا ع��ام ‪ 1922‬قوات‬‫للوقوف في وج��ه ال�ث��ورة‪ .‬وفع ً‬
‫جديدة الستعادة املناطق التي حررها اخلطابي لكنها منيت بخسائر‬
‫فادحة‪.‬‬

‫خشيت فرنسا من ازدياد نفوذ اخلطابي‪ ،‬وتشكيله خطراً على‬


‫املناطق التي حتتلها فأمدت األس�ب��ان بقوات كبيرة ملساندتها في‬
‫القضاء عليه‪ ،‬لكنها فوجئت بقوات منظمة ومقاومة قوية متكنت من‬
‫الوقوف بوجه هاتني الدولتني مدة عام كامل قبل أن تنهار هذه املقاومة‬
‫في عام ‪ ،1925‬واضطر اخلطابي لتسليم نفسه‪ ،‬فنفته فرنسا إلى‬
‫جزيرة رينينيون في احمليط الهندي‪ ،‬وبتوسط من اجلامعة العربية‬
‫نقل إلى القاهرة حيث ظل فيها عام من ‪ 1947‬حتى وفاته‪.‬‬

‫وفي احلرب العاملية الثانية نزلت حملة بريطانية أمريكية عام‬


‫‪ 1942‬في املغرب فازدادت الروح الوطنية‪ .‬وتشكل باملغرب في عام‬
‫‪ 1930‬كتلة العمل ال��وط�ن��ي وه��ي أول حتمع سياسي ب��امل�غ��رب ركز‬
‫أهدافه في إلغاء التفرقة واالعتراف باللغة العربية‪ ،‬وقدمت الكتلة‬

‫‪609‬‬
‫ميثاق االستقالل للملك محمد اخلامس الذي أيدها ودعمها‪ ،‬فدفعت‬
‫فرنسا بعض عمالئها للتمرد عليه‪ ،‬ثم طلبت منه التنازل عن العرش‪،‬‬
‫وعندما رف��ض نفته إل��ى جزيرة مدغشقر وج��يء مبحمد بن عرفة‬
‫ال منه‪ ،‬إال أن الشعب املغربي رف��ض تصرف االستعمار‬ ‫ليكون بدي ً‬
‫الفرنسي وقام بعمليات انتقامية وإضرابات عامة إلعادة السلطان‬
‫محمد بن يوسف إلى عرشه وللحصول على استقالله‪.‬‬

‫عاشراً‪ :‬الكفاح املسلح واالستقالل‬

‫ق��ام��ت ف��ي م��راك��ش ث��ورة مسلحة نسقت عملياتها العسكرية‬


‫مع الثورة اجلزائرية‪ ،‬ما أجبر فرنسا على إعادة محمد بن يوسف‬
‫(محمد اخلامس) إلى عرشه والتفاوض معه حول االستقالل‪ ،‬وذلك‬
‫في آذار عام ‪ .1956‬وتاله استقالل الريف ثم طنجة عن اسبانيا‪،‬‬
‫واحتدت أجزاء املغرب في دولة ملكية مع بقاء بعض أجزائه حتت‬
‫السيطرة االسبانية‪ ،‬وانضمت اململكة املغربية بعد ذلك إلى هيئة‬
‫األمم املتحدة في عام ‪ 1956‬واجلامعة العربية عام ‪.1961‬‬

‫حادي عشر‪ :‬عهد امللك محمد اخلامس‬

‫عُرِ ف عهد امللك محمد اخلامس بهزات اقتصادية‪ ،‬خاصة بعد‬


‫نيل االستقالل‪ .‬وقد تباطأت احلكومة املغربية في حل العديد من‬
‫املشكالت التي واجهتها وأهمها مسألة وج��ود القواعد العسكرية‬
‫األجنبية على األراضي املغربية‪ ،‬وسيطرة األجانب على االقتصاد‪،‬‬
‫ومشكلة التعريب‪ ،‬فقامت حركة شعبية طالبت باإلصالح وتصفية‬
‫القواعد العسكرية تزعمها املهدي بن بركة‪.‬‬

‫ثاني عشر‪ :‬عهد امللك احلسن الثاني (‪)1999 - 1961‬‬

‫توفي امللك محمد اخلامس ع��ام ‪ .1961‬وتولى ابنه احلسن‬

‫‪610‬‬
‫الثاني احلكم وقد افتتح امللك اجلديد حكمه مبطالبته ببعض املناطق‬
‫اجلزائرية األمر الذي أدى إلى وقوع صدام بني البلدين‪ .‬ثم حاول‬
‫ضم موريتانيا ورفض االعتراف بها‪ ،‬ثم عاد واعترف بها‪ ،‬وحاول أن‬
‫يتقاسم معها الساقية احلمراء ووادي الذهب بعد انسحاب اسبانيا‬
‫منها‪ .‬كما ساهم احلسن الثاني في حرب ‪ 6‬تشرين ‪ 1973‬بقوات‬
‫رمزية ‪.‬‬

‫وف��ي ذك��رى احتفاالت ال�ث��ورة الفرنسية ف��ي ‪ 14‬مت��وز ‪1999‬‬


‫شارك امللك في االحتفاالت الفرنسية كضيف شرف مع فرقة من‬
‫احلرس امللكي املغربي‪ .‬وبعد عودة امللك إلى الرباط بأسبوع‪ ،‬أصيب‬
‫بنوبة قلبية حادة توفي على إثرها‪.‬‬

‫ثالث عشر‪ :‬عهد امللك محمد السادس (‪ .... - 1999‬م)‬

‫ح��رص زعماء دول العالم على انتقال العرش إل��ى اب��ن امللك‬
‫احلسن الثاني وولي عهده محمد السادس الذي تسلم زمام احلكم‬
‫وفق املراسيم امللكية املغربية‪ .‬وكانت أولى األعمال التي بدأ بها امللك‬
‫محمد السادس عهده وفي خطوة حتمل دالالت إنسانية كبيرة من‬
‫شأنها أن تطبع بدايات احلكم اجلديد بكثير من التعاطف والدعم‪،‬‬
‫أصدر امللك اجلديد قراراً بالعفو عن عشرات اآلالف من املساجني‬
‫املغاربة‪ ،‬وسمح بعودة جميع الفارين من احلكم املغربي السابق‪ ،‬وكان‬
‫في مقدمة العائدين عائلة املناضل املغربي املهدي بن بركة والتي‬
‫عادت بعد أكثر من ‪ 35‬عاماً من النفي‪.‬‬

‫كما عمل امللك محمد السادس على إعادة العالقات املقطوعة‬


‫م��ع اجل��زائ��ر‪ ،‬وت�ه��دئ��ة األوض ��اع ب�ين ال�ب�ل��دي��ن‪.‬وش�ه��دت اململكة في‬
‫نهاية شهر أيلول العام ‪ 2002‬االنتخابات البرملانية السابعة منذ‬

‫‪611‬‬
‫االستقالل‪ ،‬وأظهرت النتائج حصول االحتاد االشتراكي الذي تزعمه‬
‫عبد الرحمن اليوسفي على أكثرية املقاعد بني األحزاب الـ ‪ 26‬التي‬
‫شاركت في االنتخابات‪ ،‬فيما حل ح��زب االستقالل بقيادة عباس‬
‫الفاسي في املرتبة الثانية‪ ،‬وعلى إثر ذلك عني امللك محمد السادس‬
‫إدريس جطو رئيساً للوزراء‪.‬‬

‫‪612‬‬
‫الفصل الرابع عشر‬
‫اجلزائر‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬االحتالل الفرنسي‬

‫إبان الثورة الفرنسية اشترت فرنسا القمح من اجلزائر بديون‬


‫مؤجلة‪ ،‬إال أنها ل��م ت� ِ�ف بتسديد دي��ون�ه��ا‪ ،‬ول��م تستمع إل��ى مطالب‬
‫اجلزائريني‪ .‬وفي عام ‪ 1816‬جاء القنصل الفرنسي لقصر الداي‬
‫للتهنئة مبناسبة عيد الفطر‪ ،‬فسأله ال��داي عن رد امللك الفرنسي‬
‫على رسالة الداي‪ ،‬فأساء القنصل األدب في رده على الداي‪ ،‬فصفعه‬
‫وطرده من القصر‪ ،‬فاعتبرت باريس ذلك إهانة وأخذت تستعد للغزو‪.‬‬
‫كانت هذه هي الذريعة الظاهرة لالحتالل‪ ،‬أما السبب احلقيقي فكان‬
‫رغبة بولينياك رئيس الوزراء في عهد شارل العاشر‪ ،‬حتسني مركزه‬
‫أمام الرأي العام الفرنسي‪ ،‬إضافة للمطامع االستعمارية الكثيرة‪.‬‬

‫أكملت فرنسا استعداداتها فأرسلت في ‪ 25‬أيار ‪ 1830‬حملة‬


‫عسكرية ضخمة مؤلفة من ‪ 103‬سفينة عسكرية وأربعمائة سفينة‬
‫نقل حتمل العتاد‪ ،‬وأربعني ألف مقاتل‪ .‬ونزلت هذه القوة على البر‬

‫‪613‬‬
‫واحتلت موقع (سيدي فرج)‪.‬‬

‫وبعد معركة طاحنة بني الطرفني ومقاومة عنيفة أبدتها القوات‬


‫اجلزائرية وتضحيات جسيمة قدمتها‪ ،‬انتصر الفرنسيون ودخلوا‬
‫مدينة اجلزائر في ‪ 5‬متوز ‪ ،1830‬واضطر الداي إلى االستسالم‪،‬‬
‫وترك مدينة اجلزائر واجته إلى مصر حيث نزل باالسكندرية‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬املقاومة اجلزائرية‬

‫في ‪ 20‬متوز ‪ 1830‬اجتمع زعماء القبائل في تامنفست‪ ،‬بينهم‬


‫األمير محي الدين والد عبد القادر اجلزائري‪ ،‬وأعلنوا بدء املقاومة‬
‫الوطنية‪ .‬وف��ي ‪ 27‬تشرين الثاني ‪ 1832‬متت مبايعة األمير عبد‬
‫القادر اجلزائري كأمير على كامل البالد اجلزائرية‪ ،‬وهو لم يتجاوز‬
‫الرابعة والعشرين م��ن العمر‪ .‬ف�ح��ارب اجليش الفرنسي مل��دة ‪17‬‬
‫عاماً‪ ،‬وامتاز ببراعته الدبلوماسية وعبقريته احلربية‪ ،‬فعقد في‬
‫البداية معاهدات م��ع الفرنسيني وط��دت م��رك��زه كزعيم الحتادات‬
‫القبائل في الغرب‪ .‬غير أنه ما لبث أن أعلن احلرب على الفرنسيني‬
‫ع��ام ‪ ،1839‬ثم حقق توحيد العرب والبربر ضد احملتل استمرت‬
‫مقاومة األمير عبد القادر اجلزائري للفرنسيني حتى عام ‪1847‬‬
‫بعدما أحلق بالقوات الفرنسية خسائر فادحة وبعدما أرسى مبادئ‬
‫الدولة احلديثة في اجلزائر ضمن املناطق التي كانت حتت سيطرته‪،‬‬
‫استسلم األمير عبد القادر إثر هزميته في إحدى املناورات احلربية‬
‫التي استخدمها اجلنرال الفرنسي بيجو‪.‬‬

‫في ‪ 26‬تشرين األول ‪ 1852‬عرضت عليه السلطات الفرنسية‪،‬‬


‫وهو في معتقله في قصر أمبواز املغادرة إلى حيث يشاء‪ .‬وفي ‪7‬‬
‫ك��ان��ون الثاني ‪ 1853‬نقلته السفينة احلربية الب ��رادور م��ع عائلته‬

‫‪614‬‬
‫وحاشيته إل��ى إسطمبول‪ .‬وبعد ث�لاث سنوات قضاها هناك انتقل‬
‫إلى دمشق التي استقبلته استقبال الفاحتني والذي لم يحظ به من‬
‫قبل س��وى الناصر ص�لاح ال��دي��ن األي��وب��ي‪ .‬وظ��ل ف��ي دمشق إل��ى أن‬
‫توفي عام ‪ .1883‬بعد رحيل األمير عبد القادر لم تهدأ املقاومة ولم‬
‫تتوقف‪ ،‬فما إن تهدأ ث��ورة‪ ،‬حتى تقوم حركة ثورية أخ��رى وأهمها‪:‬‬
‫حركة ناصر بن شهرة ‪ -‬حركة محمد األمجد بن عبد امللك ‪ -‬حركة‬
‫محمد املقراني‪ .‬حركة الشيخ محمد أمزيان احل��داد‪ .‬حركة أحمد‬
‫بومرزاق‪.‬‬

‫مت إخماد هذه الثورة‪ .‬بعدها ضعفت حركة اجلهاد اجلزائري‬


‫وخفت املقاومة بسبب ردات الفعل الوحشية م��ن قبل الفرنسيني‬
‫والتي متثلت بعمليات اإلبادة التامة للمواطنني العزل‪ ،‬وبسبب فقدان‬
‫العنصر القيادي بعد عمليات القتل واحلبس والنفي وغير ذلك من‬
‫األساليب الإلنسانية‪ .‬لقد اتبعت السياسة الفرنسية االستعمارية‬
‫مصادرة األراضي على نطاق واسع وإعطائها للمستوطنني الفرنسيني‪،‬‬
‫حيث اعتبرت اجلزائر مقاطعة فرنسية‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬بداية الصحوة اجلزائرية‬

‫بعد احلرب العاملية األولى اجتاحت الشعوب املستعمرة بشكل‬


‫عام روح وطنية تتطلع إلى االستقالل‪ ،‬كانت نتيجة للعديد من األمور‬
‫أهمها‪ :‬أن بعضاً من الشباب اجلزائريني كانوا يدرسون في فرنسا‬
‫فتأثروا هناك مببادئ الثورة الفرنسية فحملوها معهم إلى بالدهم‪.‬‬
‫ومنهم من كان يحارب مع اجليش الفرنسي ضد املستعمر األملاني‬
‫وهكذا‪ .‬وك��ان من ه��ؤالء الطالب الذين درس��وا في فرنسا مصالي‬
‫احلاج الذي أسس في باريس أول جريدة وطنية جزائرية بالتعاون‬
‫مع احل��زب الشيوعي الفرنسي‪ .‬وك��ان هناك مجموعات أخ��رى من‬

‫‪615‬‬
‫اجلزائريني الذين تعلموا في فرنسا وك��ان اجتاههم أكثر اعتداالً‬
‫من خط مصالي احلاج وأهمهم فرحات عباس‪ .‬وامتازت سنوات ما‬
‫قبل احلرب العاملية الثانية مباشرة بنهوض وطني متزايد لعبت فيه‬
‫القوى الدينية بزعامة عبد احلميد بن باديس ‪،‬رئيس جمعية العلماء‬
‫املسلمني دوراً بارزاً في إعادة روح الوحدة اإلميانية اإلسالمية إلى‬
‫الشعب اجلزائري وعلمائه حيث وحد كلمتهم وجمعها‪ .‬لقد أثمرت‬
‫الدروس التي كان يلقيها الشيخ ابن باديس في جامع سيدي األخضر‬
‫بقسطنطينة‪ ،‬وب��دا أثرها في املجتمع‪ ،‬وأث�م��رت في امل�ق��االت التي‬
‫كان يكتبها في «الشهاب» وفي «املرصاد» وبانت نتائجها في كافة‬
‫أرجاء اجلزائر‪ .‬فبعد إنزال قوات احللفاء في شمالي أفريقيا عام‬
‫‪ 1942‬قامت جماعة فرحات عباس بتقدمي مذكرة إل��ى السلطات‬
‫الفرنسية والقيادة احلليفة تطالب بإنشاء جمعية تأسيسية جزائرية‬
‫ع�ل��ى أس ��اس ح��ق االن �ت �خ��اب ال �ش��ام��ل‪ .‬وأع �ق��ب ه��ذه امل�ط��ال��ب التي‬
‫جتاهلتها السلطات الفرنسية صدور «بيان الشعب اجلزائري» في‬
‫مطلع ‪ 1943‬ال��ذي دع��ا إلص�لاح��ات ف��وري��ة م��ن بينها اعتبار اللغة‬
‫العربية لغة رسمية‪ .‬وفي شهر أيار ‪ 1943‬قدمت مقترحات جديدة‬
‫تدعو إلى قيام دولة جزائرية على أن يعقبها احتاد شمالي أفريقيا‪.‬‬
‫ورفضت اإلدارة الفرنسية جميع تلك املقترحات‪ .‬وعلى إثر زيارة‬
‫ديغول للجزائر في عام ‪ ،1942‬منحت اجلزائر نظاماً جديداً وضع‬
‫على أساس حل وسط‪ ،‬غير أنه لم يرض اجلزائريون وال املستوطنون‬
‫الفرنسيون‪ .‬وبعد مدة أسس فرحات عباس جماعة «أصدقاء البيان‬
‫واحلرية» للعمل من أجل جمهورية جزائرية تتمتع باحلكم الذاتي‬
‫وتقيم عالقة فدرالية مع فرنسا‪ .‬وكان عام ‪ 1945‬منعطفاً حاسماً‬
‫في تاريخ اجلزائر احلديث‪ ،‬إذ أقدم الفرنسيون على قمع مظاهرات‬
‫سطيف ب�ص��ورة عنيفة أس�ف��رت ع��ن مقتل اآلالف م��ن اجلزائريني‪،‬‬
‫وحلوا التكتالت الوطنية التي صارت تقتنع أكثر فأكثر بأن القوة هي‬

‫‪616‬‬
‫السبيل الوحيد لتحقيق مطالبها‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فقد حاول اجلانبان مرة‬
‫أخرى إيجاد حلول سياسية‪ ،‬غير أنها كانت تصطدم دائماً بتصلب‬
‫املستوطنني الفرنسيني الذين راح��وا يقومون بأعمال وحشية ضد‬
‫الشعب اجل��زائ��ري‪.‬وف��ي مطلع ع��ام ‪ 1947‬شكل شباب أعضاء في‬
‫«حركة انتصار احلريات الدميقراطية» ما سميَّ «باملنظمة السرية»‬
‫التي بدأت بجمع األسلحة واألموال وببناء شبكة خاليا عبر اجلزائر‪،‬‬
‫استعداداً النتفاضة مسلحة عارمة وإنشاء حكومة ثورية‪ ،‬وبعد سنتني‬
‫من العمل السري ال��دؤوب باتت املنظمة جاهزة للقيام باملطلوب‪،‬‬
‫فقامت بالعديد من العمليات الثورية في وه��ران‪ ،‬ثم اكتشفت هذه‬
‫احلركة فيما بعد ولوحق قادتها فمنهم من سجن ومنهم من هرب إلى‬
‫خارج اجلزائر ‪،‬كأحمد بن بلة الذي جلأ إلى القاهرة عام ‪.1952‬‬
‫وفي هذه األثناء كانت صفوف احلركة الدميقراطية ألنصار احلرية‬
‫ق��د انقسمت على بعضها‪ ،‬وإزاء ه��ذا ال�ن��زاع شكلت جلنة جديدة‬
‫برئاسة محمد بوضياف مؤلفة من تسعة أشخاص مهمتهم إشعال‬
‫الثورة‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬الثورة اجلزائرية‬

‫متادت السلطات الفرنسية في جرائمها‪ ،‬وزادت في طغيانها‬


‫حتى فشل كل حل سلمي‪ .‬وجاءت انقسامات احلركة الدميقراطية‬
‫ألن�ص��ار احل��ري��ة‪ .‬فتشكلت جلنة ج��دي��دة إلط�لاق ال�ث��ورة مؤلفة من‬
‫تسعة أشخاص برئاسة محمد بوضياف هم‪ :‬محمد خيضر من مدينة‬
‫اجل��زائ��ر‪ ،‬حسني آي��ت أحمد من جبال القبائل‪ ،‬وأحمد بن بلة من‬
‫منطقة احلدود مع املغرب‪ .‬وهؤالء الثالثة ارحتلوا خارج البالد إلى‬
‫باقي دول املغرب لتوحيد العمل الثوري ضد احملتل الفرنسي ولتلقي‬
‫الدعم املناسب من الدول العربية األخرى‪ .‬أما الستة الباقون فهم‪:‬‬
‫مصطفى بن بوالعيد من جبال األوراس‪ ،‬محمد العربي بن مهيدي‬

‫‪617‬‬
‫من وهران‪ ،‬رابح بيطاط من منطقة قسنطينة‪ ،‬محمد بوضياف من‬
‫مسيلة‪ ،‬مراد ديدوش من اجلزائر العاصمة‪ ،‬كرمي بلقاسم من منطقة‬
‫القبائل‪ .‬وق��ام ه��ؤالء بتشكيل «جبهة التحرير الوطني اجلزائرية»‬
‫وكلف محمد بوضياف مبهمة القيام بالتنظيم‪ .‬أما جماعة مصالي‬
‫احل��اج ف�ق��د رف �ض��وا ال�ت��أي�ي��د‪ ،‬فيما ج�م��اع��ة االحت ��اد الدميقراطي‬
‫ألنصار البيان ‪ -‬جماعة فرحات عباس ‪ -‬وافقوا على االنضمام إلى‬
‫اجلبهة‪ .‬واجتمع أعضاء اجلبهة في ‪ 10‬تشرين أول ‪ 1954‬في وادي‬
‫الصومام لتحديد موعد انطالق الثورة وقسمت البالد إلى واليات‬
‫وعني لكل والية مسؤول عسكري وبدأت العمليات الثورية في األول‬
‫من تشرين الثاني ‪ ،1954‬وبعد أن غير املجلس اسمه إلى «جيش‬
‫جبهة التحرير الوطني»‪ .‬وانطلقت الثورة من جبال األوراس وامتدت‬
‫إل��ى منطقة قسنطينة ومنطقة ال�ق�ب��ائ��ل وش�م�ل��ت منطقة احلدود‬
‫املغربية غربي وهران‪ .‬ومع نهاية عام ‪ 1956‬كان جيش التحرير قد‬
‫انتشر في جميع أنحاء اجلزائر‪ .‬وقد أصدرت جبهة التحرير بيانها‬
‫ال بحيث‬‫األول وحددت فيه أهدافها ووسائلها‪ ،‬وكان هذا البيان شام ً‬
‫أن فرنسا ذعرت وأحست باخلطر فأرسلت جندات سريعة ملساندة‬
‫القوات الفرنسية املوجودة على أرض اجلزائر‪ .‬بعد ذلك انضمت‬
‫جمعية العلماء املسلمني (التي أسسها وترأسها الشيخ عبد احلميد‬
‫بن باديس ثم خلفه بعد وفاته الشيخ محمد البشير االبراهيمي) إلى‬
‫جبهة التحرير الوطني في عام ‪ .1956‬بحيث أصبحت تضم جميع‬
‫االجت��اه��ات باستثناء حركة مصالي احل��اج‪ .‬وف��ي ‪ 20‬آب من نفس‬
‫السنة انعقد مؤمتر سري للجبهة في منطقة القبائل انتخب جلنة‬
‫مركزية ومجلساً وطنياً للثورة‪.‬‬

‫في مطلع انطالق الثورة اقتنعت فرنسا أن الدعم اخلارجي‬


‫كان سند الثورة األول‪ .‬لذلك أرسلت وزي��ر خارجيتها إلى القاهرة‬

‫‪618‬‬
‫واجتمع مع الرئيس جمال عبد الناصر ليقنعه بسحب تأييده للثورة‪،‬‬
‫لكن املهمة فشلت‪ ،‬فلجأ غي موليه رئيس احلكومة الفرنسية إلى‬
‫التواطؤ مع إسرائيل وبريطانيا في االعتداء الثالثي على مصر عام‬
‫‪ .1956‬غير أن الهجوم لم يغير من موقف عبد الناصر‪ ،‬ولم تتوقف‬
‫العمليات الثورية اجلزائرية‪ ،‬بل ق�وّت من مركز جبهة التحرير إذ‬
‫نالت مزيداً من الدعم وخاصة من ال��دول حديثة االستقالل‪ .‬وبني‬
‫أيلول ‪ 1956‬وح��زي��ران ‪ 1957‬شنّت اجلبهة سلسلة هجمات قوية‬
‫أوقعت في صفوف االحتالل خسائر فادحة‪ ،‬فكان ال��رد الفرنسي‬
‫مزيداً من القتل والتشريد والسجن ‪،‬ما أثار االستنكار في فرنسا‬
‫والعالم‪ .‬اجتمع قادة جبهة التحرير الوطني في املغرب في ‪ 5‬تشرين‬
‫األول ‪ ،1957‬غير أنهم وفي طريق عودتهم إلى تونس حط الطيار‬
‫الفرنسي بهم في اجلزائر فألقي القبض عليهم ووضعوا في السجن‬
‫في فرنسا‪ ،‬وهؤالء القادة هم‪ :‬رابح بيطاط ومحمد بوضياف وأحمد‬
‫بن بلة وحسني آيت أحمد‪ .‬إال أن هذا االعتقال وقصف الفرنسيني‬
‫لقرية «ساقية سيدي يوسف» في تونس والذي أسفر عن مقتل ‪79‬‬
‫شخصاً لم يؤثر في حتركات اجلبهة ونشاطها‪ .‬بل زاده��ا تصميماً‬
‫ع�ل��ى امل �ض��ي ف��ي ط��ري��ق ال �ت �ح��ري��ر‪ .‬وه �ك��ذا وج ��دت ف��رن�س��ا نفسها‬
‫مضطرة للتفاوض مع جبهة التحرير الوطني‪ ،‬ما أث��ار املستوطنني‬
‫الفرنسيني في اجلزائر الذين مت��ردوا في ‪ 13‬أي��ار ‪ 1958‬وشكلوا‬
‫جلاناً عسكرية لألمن‪ ،‬وب��ارك اجليش الفرنسي حتركهم‪ ،‬فاستغل‬
‫املستوطنون خ��وف احلكومة الفرنسية من ان��دالع ح��رب أهلية في‬
‫فرنسا وأطاحوا باجلمهورية الرابعة وأعادوا اجلنرال شارل ديغول‬
‫إل��ى احلكم‪ ،‬آملني أن يحقق لهم مطلبهم بدمج اجل��زائ��ر بفرنسا‪.‬‬
‫ومع أن ديغول عزز العمل العسكري‪ ،‬فإن ذلك لم يؤد إال إلى مزيد‬
‫م��ن أع�م��ال اإلره��اب ف��ي اجل��زائ��ر‪ .‬التوتر على احل��دود م��ع املغرب‬
‫وت��ون��س‪ ،‬وردت جبهة التحرير ف��ي ع��ام ‪ 1958‬ب��إن�ش��اء «احلكومة‬

‫‪619‬‬
‫امل��ؤق�ت��ة للجمهورية اجل��زائ��ري��ة» ب��رئ��اس��ة ف��رح��ات ع�ب��اس وعضوية‬
‫القادة املخطوفني‪ .‬وفي هذا الوقت بدأ ديغول مييل لالعتراف بقوة‬
‫اجلبهة والقبول مبطالبها‪ .‬وب��دأت احملادثات االستطالعية األولى‬
‫ب�ين الفرنسيني واجل��زائ��ري�ين س��راً ق��رب ب��اري��س ف��ي صيف ‪1960‬‬
‫‪،‬غير أنها انتهت بالفشل‪ .‬وفي شباط ‪ 1961‬أجرت حكومة فرنسا‬
‫اتصاالت جديدة مع جبهة التحرير عبر رئيس تونس‪ ،‬وأدت إلى بدء‬
‫محادثات جديدة في إيفيان على احل��دود الفرنسية السويسرية‪.‬‬
‫غير أن ه��ذه املفاوضات فشلت بسبب قضية الصحراء‪ .‬في هذه‬
‫األثناء كان املستوطنون قد شكلوا مع بقايا اجليش الفرنسي (منظمة‬
‫اجليش السري) املعارضة للمفاوضات وكان على رأسهم كبار ضباط‬
‫اجليش الفرنسي أمثال س��االن وزيلر‪ .‬حيث شن عمليات هجومية‬
‫على اجلزائريني‪ .‬ثم استأنفت املفاوضات في كانون األول ‪،1961‬‬
‫وانتقلت في كانون الثاني ‪ 1962‬إل��ى جنيف وروم��ا‪ ،‬وش��ارك فيها‬
‫ال�ق��ادة املعتقلون بعدما أص �رّت اجلبهة على أن يكونوا ه��م الوفد‬
‫املفاوض‪ .‬وقد أسفرت املرحلة األخيرة من املفاوضات التي جرت في‬
‫إيفيان عن التوقيع في ‪ 19‬آذار ‪ 1962‬على اتفاقية وقف إطالق النار‬
‫مع إعالن استقالل دولة جزائرية مستقلة بعد فترة انتقالية‪ ،‬وعلى‬
‫صيانة حقوق األفراد وحرياتهم‪ .‬واستناداً إلى هذه االتفاقية تشكلت‬
‫حكومة مؤقتة في ‪ 28‬آذار ‪ 1962‬برئاسة عبد الرحمن فارس وجرى‬
‫إطالق سراح بن بلة ورفاقه‪ ،‬واعترف االحتاد السوفيتي ودول أوروبا‬
‫الشرقية والعديد من الدول في آسيا وأفريقيا بهذه احلكومة‪.‬‬

‫ق��ام��ت «منظمة اجل�ي��ش ال �س��ري» ب��ال��رد ع�ل��ى االت�ف��اق�ي��ة بشن‬


‫العديد من الهجمات ضد السكان والوطنيني اجلزائريني‪ ،‬ودمرت‬
‫عدة أماكن عامة بهدف خرق وقف إطالق النار‪ .‬إال أن هذه األعمال‬
‫ب��اءت بالفشل‪ .‬ووق��ع اجلنرال «س��االن» قائد املتمردين في األسر‪.‬‬

‫‪620‬‬
‫وجتددت العمليات الفدائية من جديد‪ .‬كل ذلك أدى إلى ازدياد عدد‬
‫الفرنسيني الذين بدأوا مبغادرة اجلزائر‪ .‬ومع حلول شهر حزيران‬
‫‪ 1962‬كان أكثر من نصف األوروبيني قد غادروا البالد‪.‬‬

‫وفي استفتاء عام جرى في أول متوز اقترع ‪ 91%‬من اجلزائريني‬


‫مع االستقالل وف��ي الثالث من الشهر نفسه أعلن اجلنرال ديغول‬
‫انسحاب فرنسا من اجلزائر بعد استعمار دام أكثر من ‪ 130‬عاماً‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬اجلزائر بعد االستقالل‬

‫ف��ي أي��ار ‪ 1962‬أق � َّر املجلس ال��وط�ن��ي ل�ل�ث��ورة اجل��زائ��ري��ة في‬


‫اجتماعه في ليبيا برنامجاً أعدته جلنة ترأسها أحمد بن بلة تناول‬
‫في بنوده االص�لاح ال��زراع��ي‪ ،‬ومصادرة األراض��ي وتوزيعها وإقامة‬
‫ت�ع��اون�ي��ات ف�لاح�ي��ة‪ .‬وف��ي ن�ه��اي��ة أي �ل��ول ‪ 1962‬مت ان�ت�خ��اب فرحات‬
‫عباس أول رئيس للجزائر‪ ،‬وع�ين أحمد ب��ن بلة رئيساً للحكومة‪.‬‬
‫وأقدمت احلكومة فيما بعد على حل احلزب الشيوعي‪ ،‬وحزب الثورة‬
‫االشتراكي‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬عهد الرئيس أحمد بن بلة‬

‫في نيسان ‪ 1963‬تولى بن بلة منصب سكرتير جبهة التحرير‪ ،‬ثم‬


‫انتخب في ‪ 23‬أيلول بعد تبنيه لدستور رئاسي رئيساً للجمهورية ملدة‬
‫‪ 5‬سنوات باإلضافة إلى توليه رئاسة احلكومة ومنصب القائد األعلى‬
‫للجيش‪ ،‬واستقال فرحات عباس من رئاسة اجلمعية التأسيسية إثر‬
‫هذه التطورات‪ ،‬ثم طرد من جبهة التحرير‪ .‬ثم قام مترد في منطقة‬
‫القبائل بقيادة زعيم جبهة ال�ق��وات االشتراكية حسني آي��ت أحمد‬
‫وامل �س��ؤول السابق للوالية محند ول��د احل��اج ال��ذي استطاع ب��ن بلة‬
‫التفاهم معه في حني ظل آيت أحمد متمرداً‪.‬‬

‫‪621‬‬
‫مم بن بلة ما تبقى من املؤسسات الفرنسية‪،‬‬
‫وفي تشرين األول أ َّ‬
‫كما عطل الصحف التي كان الفرنسيون يشرفون عليها‪.‬وفي تشرين‬
‫األول ‪ 1963‬حتولت اخلالفات حول احلدود مع املغرب إلى اشتباكات‬
‫عسكرية ما لبثت أن توقفت بعد توسط بعض الدول األفريقية‪.‬‬

‫سابع ًا‪ :‬عهد هواري بومدين‬

‫في ‪ 19‬حزيران ‪ 1965‬ووسط االستعداد الستضافة املؤمتر‬


‫اآلسيوي األفريقي‪ ،‬أطاح انقالب عسكري تزعمه قائد جيش التحرير‬
‫العقيد ه��واري بومدين على الرئيس أحمد بن بلة ‪،‬بعد صراعات‬
‫سياسية وخالفات على النهج العام للسياسة الداخلية‪.‬‬

‫شكل هواري بومدين حكومة بنفسه تسلم فيها حقيبة الدفاع‪،‬‬


‫وأوكل إلى عبد العزيز بوتفليقة مهمة وزارة اخلارجية‪ ،‬وكان هدفه‬
‫كما ح��دد ف��ي بيانه ال ��وزاري إع��ادة تأكيد م�ب��ادئ ال�ث��ورة وتصحيح‬
‫أخ �ط��اء السلطة وإن �ه��اء االن�ق�س��ام��ات ال��داخ�ل�ي��ة‪ .‬واع�ت�م��د الرئيس‬
‫بومدين في سياسته الداخلية على مبدأ السياسة التنموية لكافة‬
‫قطاعات اإلنتاج وتزامن هذا األمر مع عمليات اإلص�لاح الزراعي‬
‫في الريف التي انحصرت في تأميم امللكيات الكبيرة وتوزيعها على‬
‫ال�ف�لاح�ين‪ .‬وف��ي م�ج��ال السياسة اخل��ارج�ي��ة وض��ع ه��واري بومدين‬
‫العالقة مع الفرنسيني وفق شروط ومعاهدات‪ ،‬واستطاع استرداد‬
‫الشركات اجلزائرية من الفرنسيني رغم االحتجاجات التي صدرت‬
‫مت العالقات مع االحتاد السوفيتي‪.‬‬ ‫من الدولة الفرنسية‪ ،‬كما نّ‬

‫أم��ا على صعيد ال �ص��راع م��ع إس��رائ�ي��ل ‪،‬ف�ق��د ق��ام��ت اجلزائر‬


‫بدعم منظمات املقاومة الفلسطينية كما وعمدت إلى أخذ موقف‬
‫متصلب من إسرائيل وبعد اتفاقية «كامب ديفيد» انضمت اجلزائر‬

‫‪622‬‬
‫إلى جبهة الصمود والتصدي كما شاركت في قمة بغداد التي أدانت‬
‫هذه االتفاقية‪.‬ومنذ عام ‪ 1975‬توترت العالقات اجلزائرية املغربية‬
‫واجلزائرية املوريتانية بسبب قضية الصحراء وظلت اجلزائر ترفض‬
‫تسليم إسبانيا الصحراء للمغرب وموريتانيا‪ ،‬حيث دعمت جبهة‬
‫البوليزاريو‪.‬‬

‫ثامن ًا‪ :‬عهد الشاذلي بن جديد‬

‫انتخب ال�ش��اذل��ي ب��ن ج��دي��د رئ�ي�س�اً للجمهورية ف��ي ‪ 7‬شباط‬


‫‪ ،1979‬وشهدت السنوات األولى من عهده ارتفاعا في أسعار البترول‬
‫ما انعكس إيجاباً على اجل��زائ��ر‪ ،‬فشهدت البالد نوعاً من الرخاء‬
‫واالزده��ار األم��ر ال��ذي ساهم في تهدئة اجلزائريني من املشادات‬
‫السياسية اخلفية التي حدثت في احلكم‪ ،‬وال��ذي استمر على هذا‬
‫املنوال حتى عام ‪ ،1985‬حيث أعلن املؤشر االقتصادي عن انهيار‬
‫ملحوظ ف��ي مداخيل ال��دول��ة م��ن العملة الصعبة‪ ،‬فأصبحت لقمة‬
‫العيش الهم اليومي للمواطن اجلزائري وتراكمت األخطاء واستشرى‬
‫الفساد‪ ،‬إضافة إلى أزمة أسعار النفط التي اندلعت عام ‪.1986‬‬

‫أدت ه��ذه ال �ت��راك �م��ات السلبية إل��ى ان�ف�ج��ار اج�ت�م��اع��ي متثل‬


‫بانتفاضة تشرين األول ‪ ،1988‬التي بدأت في الرابع منه مبظاهرات‬
‫شعبية م��ا لبثت أن ت�ط��ورت إل��ى عمليات شغب واس�ع��ة وإل��ى حرق‬
‫وتدمير العديد من احملالت التجارية‪ .‬وفي الثامن منه فتحت قوات‬
‫اجليش نيران أسلحتها على املتظاهرين في ضاحية القبة فقتلت ‪60‬‬
‫شخصاً وفي العاشر من الشهر نفسه‪ ،‬عمّت املواجهات كافة املدن‬
‫اجلزائرية فجرت أعنف املواجهات بني اجليش واملتظاهرين وخاصة‬
‫في العاصمة اجلزائر حيث سقط أكثر من خمسمائة قتيل‪.‬‬

‫‪623‬‬
‫هكذا طوت انتفاضة تشرين األول ‪ 1988‬صفحة ثورة التحرير‬
‫وحزبها احلاكم‪ ،‬وفتحت صفحة الثورة االجتماعية في تاريخ اجلزائر‬
‫املستقلة‪ ،‬فأقدم الشاذلي عقب هذه األحداث على حل حكومته ‪،‬ومت‬
‫اختيار قاصدي مرباح لتشكيل احلكومة اجلديدة‪ .‬وأخذ على عاتقه‬
‫السير بإصالحات جذرية يبدأها ب��األداء السياسي م��روراً بسياسة‬
‫االقتصاد اجلديدة‪.‬‬

‫لم يكمل قاصدي مرباح سنته األولى في احلكومة‪ ،‬فأخرج منها‬


‫بحجة تباطئه في تنفيذ اإلصالحات‪ .‬وجاء مكانه مولود حمروش‬
‫للتسريع في وض��ع البرنامج اإلص�لاح��ي موضع التطبيق‪ .‬واشتمل‬
‫البرنامج على شقني رئيسيني‪ .‬األول سياسي وينص على تطبيق‬
‫التعددية احلزبية من خ�لال السماح بتشكيل اجلمعيات التي لها‬
‫طابع سياسي‪ ،‬ونزع صفة احلزبية عن الدولة (إذ أصبح األمني العام‬
‫جلبهة التحرير عبد احلميد مهري وبقي الشاذلي بن جديد رئيساً‬
‫للدولة)‪ .‬والثاني وهو االقتصادي ويعني العمل بسرعة نحو اقتصاد‬
‫السوق‪.‬‬

‫كان من أبرز األح��زاب السياسية التي ظهرت بشكل شرعي‪.‬‬


‫جبهة اإلنقاذ اإلسالمية في ‪ 22‬آب ‪ ،1989‬وترافق ذلك مع حتجيم‬
‫جبهة التحرير بعد انسحاب العسكريني م��ن عضويتها ث��م جاءت‬
‫االنتخابات البلدية في ‪ 12‬حزيران ‪ 1990‬التي ف��ازت بها «جبهة‬
‫االنقاذ اإلسالمية» بـ ‪ 853‬بلدية من أصل ‪ ،1541‬في حني لم حتصل‬
‫جبهة التحرير إال على ‪ 487‬بلدية‪ .‬لتدل على الشعبية الواسعة التي‬
‫أصبحت متلكها جبهة اإلنقاذ‪.‬‬

‫فاجأ الرئيس الشاذلي اجلميع حني ق��رر إج��راء االنتخابات‬


‫التشريعية في نهاية ‪ ،1990‬بينما كان رئيس وزراءه حمروش يرى‬

‫‪624‬‬
‫ضرورة تأخير املوعد وتسريع اإلصالحات التي كانت تتطلب ما ال‬
‫يقل عن ثالث سنوات كي تؤتي ثمارها‪ .‬وفي ‪ 26‬متوز ‪ 1990‬أجرى‬
‫ال وزارياً في حكومة حمروش تنازل مبوجبه‬ ‫الرئيس الشاذلي تعدي ً‬
‫رئيس اجلمهورية وألول مرة منذ االستقالل عن منصب وزير الدفاع‪،‬‬
‫وحل مكانه اللواء خالد نزار الذي كان قد عني رئيساً ألركان اجليش‬
‫بعد انتفاضة تشرين األول ‪.1988‬‬

‫جاءت أحداث ‪ 25‬أيار إلى ‪ 4‬حزيران ‪ 1991‬حيث أعلن عباسي‬


‫م��دن��ي زع�ي��م جبهة اإلن �ق��اذ اإلض ��راب امل�ف�ت��وح وب ��دأت التظاهرات‬
‫الضخمة‪ ،‬وبدا أن احلركة اإلسالمية تتحرك نحو مشروع استالم‬
‫السلطة فأقدم الشاذلي وحتت ضغط اجليش ووزي��ر الدفاع خالد‬
‫نزار في ‪ 4‬حزيران إلى إعالن حالة الطوارئ وإقالة حكومة حمروش‬
‫وتأجيل االنتخابات التشريعية التي كانت مقررة إلى إشعار آخر وفي‬
‫اليوم التالي مت تعيني سيد أحمد غزالي على رأس حكومة جديدة‬
‫وبعد مدة وجيزة أعلن الشاذلي بن جديد استقالته من رئاسة جبهة‬
‫التحرير الوطني‪.‬‬

‫بدا واضحاً بعد ذلك نية اجليش في إبعاد النصر عن جبهة‬


‫اإلنقاذ وبدا لإلنقاذ أن املواجهة مع اجليش صارت حتمية مع أنها‬
‫كانت تطالب دائماً اجليش برفع حالة الطوارئ عن البالد (احلصار)‬
‫وكان اجليش يرد عليها بأنها تخل باألمن وتدعو الستعمال العنف‪.‬‬
‫حاول سيد أحمد غزالي متابعة سياسته في إضعاف جبهة التحرير‬
‫وتشتيت جبهة اإلن �ق��اذ إال أن األخ �ي��رة س��رع��ان م��ا أع ��ادت تكوين‬
‫ق�ي��ادة بديلة وأب�ق��ت جماهيرها متماسكة وخ��اض��ت ال��دورة األولى‬
‫من االنتخابات التشريعية أواخر ‪ ،1991‬واستطاعت أن تفوز فوزاً‬
‫كاسحاً فعمد اجليش إل��ى تعطيل ه��ذه االنتخابات بإلغاء الدورة‬
‫الثانية فاضطر الرئيس اجلزائري الشاذلي بن جديد إلى االستقالة‬

‫‪625‬‬
‫في كانون الثاني ‪.1992‬‬

‫تاسع ًا‪ :‬عهد محمد بوضياف‬

‫بسبب ف��راغ السلطة ال��ذي أدت إل�ي��ه استقالة ال�ش��اذل��ي‪ ،‬مت‬


‫تشكيل املجلس األعلى لألمن الذي تألف من رئيس الوزراء ووزراء‬
‫الداخلية والدفاع والعدل ورئيس املجلس الدستوري وقيادة أركان‬
‫اجليش‪ ،‬وأق��ر في ‪ 14‬كانون الثاني ‪ 1992‬تشكيل املجلس األعلى‬
‫للدولة املؤلف من خمسة أعضاء فقاموا بانتخاب محمد بوضياف‬
‫رئيساً في ‪ 19‬كانون الثاني ‪ 1992‬الذي كان طيلة ‪ 28‬سنة موجوداً‬
‫في املغرب وهو من قادة الثورة اجلزائرية‪ .‬وخالل أسابيع استطاع‬
‫تثبيت نفسه‪ ،‬إذ صمم على ممارسة كاملة كمنقذ للجزائر‪ .‬ولهذا‬
‫اغ�ت�ي��ل ب�ع��د ‪ 166‬ي��وم �اً ف��ي س��دة ال��رئ��اس��ة ع�ل��ى ي��د امل�ل�ازم مبارك‬
‫بومعرافي املكلف بحراسته في بيت الفنون والثقافة ملدينة عنابة في‬
‫‪ 29‬حزيران ‪.1992‬‬

‫عاشراً‪ :‬عهد علي كافي‬

‫إثر اغتيال محمد بوضياف اجتمع املجلس األعلى للدولة وانتخب‬


‫علي كافي رئيساً له‪ ،‬فقام كافي بتعيني حكومة انتقالية في ‪ 19‬متوز‬
‫‪ 1992‬برئاسة بلعيد عبد السالم‪ .‬وفي عام ‪ 1993‬شهدت اجلزائر‬
‫م��زي��داً من التدهور فاملواجهات الدموية أصبحت يومية بني قوى‬
‫األمن وأعضاء احلركات اإلسالمية املسلحة (املنفصلة عن اجلبهة‬
‫اإلسالمية لإلنقاذ وخاصة اجلماعة اإلسالمية املسلحة)‪ .‬وتركزت‬
‫حملة االغتياالت األخيرة على األجانب‪ .‬وعلى الصعيد السياسي‬
‫أج��رت السلطات ح��واراً مع األح��زاب لم يسفر عن نتيجة حاسمة‬
‫وفي ‪ 21‬آب ‪ 1993‬عُني رضا مالك رئيساً للحكومة خلفاً لبلعيد عبد‬

‫‪626‬‬
‫السالم وبعد يومني اغتيل قاصدي مرباح رئيس احلكومة السابق‬
‫وتبنت العملية «اجلماعة اإلسالمية املسلحة» وفي آخر كانون الثاني‬
‫‪ 1994‬انتهت مدة والية علي كافي‪.‬‬

‫حادي عشر‪ :‬عهد اليمني زروال‬

‫كان منصب الرئاسة شبه محسوم ملصلحة عبد العزيز بوتفليقة‪،‬‬


‫لكن املجلس عاد في اللحظة األخيرة وعني وزير الدفاع في حكومة‬
‫رضا مالك‪ ،‬اليمني زروال رئيساً للدولة الذي أدى اليمني الدستورية‬
‫في ‪ 31‬كانون الثاني ‪ 1994‬مؤكداً أن نفاذ كل احللول هو الذي دفع‬
‫اجليش إلى استالم السلطة‪ .‬وطلب زروال من رضا مالك البقاء في‬
‫منصبه احلكومي وتعهد بإنهاء املرحلة االنتقالية والرجوع إلى املسار‬
‫الدميقراطي‪.‬‬

‫وف��ي شهر أي�ل��ول أطلقت السلطات ق��ادة اجلبهة اإلسالمية‬


‫لإلنقاذ من سجن البليدة وعلى رأسهم الشيخ «عباسي مدني» ونائبه‬
‫علي بلحاج‪ ،‬وقد أشاعت هذه اخلطوة جواً من االرتياح مشجعاً على‬
‫احلوار‪ ،‬وفي كانون الثاني ‪ 1995‬قامت اجلماعة اإلسالمية املسلحة‬
‫بخطف طائرة فرنسية بغية نقل احلرب إلى فرنسا وقد استطاعت‬
‫السلطات اجلزائرية بالتعاون مع السلطات الفرنسية إفشال العملية‬
‫وفي متوز جرى توزيع نص «وثيقة املبادئ» التي توصلت إليها السلطة‬
‫مع زعيم جبهة اإلنقاذ اإلسالمية الشيخ عباسي مدني‪ ،‬واعتبرت‬
‫رئاسة الدولة وثيقة اإلنقاذ تراجعاً منها عن االتفاق ال��ذي مت مع‬
‫مدني‪ ،‬األمر الذي أدى إلى فشل احلوار بني احلكم واجلبهة‪.‬‬

‫ثاني عشر‪ :‬عهد بوتفليقة‬

‫تسلم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة احلكم بعد انتخابات نيسان‬

‫‪627‬‬
‫‪ 1999‬وق��ام ب��ات�ص��االت م��ع ق�ي��ادة اجل�ي��ش اإلس�لام��ي ل�لإن�ق��اذ التي‬
‫أثمرت عن إعالن الهدنة من جانب اجليش اإلسالمي‪ ،‬ووعد الرئيس‬
‫بوتفليقة اجلزائريني باألمن وأص��در العديد من ق��رارات العفو عن‬
‫املساجني اإلسالميني‪ ،‬األمر الذي أعطى األمل الكبير بإنهاء األزمة‬
‫اجلزائرية نهائياً‪ .‬وأعلن الرئيس بوتفليقة عن مشروع الوئام املدني‬
‫عبر االستفتاء الشعبي في ‪ 16‬أيلول ‪ ،1999‬ولم تكن النتائج مفاجئة‬
‫إذ وافق ‪ ٪98،63‬من الذين شاركوا في االستفتاء على املشروع الذي‬
‫تقدم به الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وأتت هذه النتيجة نظراً ملا‬
‫كان يتوق إليه الشعب اجلزائري من حل سريع ونهائي لتلك العشرية‬
‫السوداء التي عصفت ببلد املليون شهيد على جميع الصعد‪.‬‬

‫عرفت اجلزائر في ربيع عام ‪ 2001‬اضطرابات أمنية واجتماعية‪،‬‬


‫التي بدأت في منطقة القبائل وتوسعت لتشمل عدة مناطق مختلفة‬
‫من اجلزائر‪ 12 .‬آذار ‪ :2002‬أعلن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة‬
‫اللغة األمازيغية لغة وطنية بجانب اللغة العربية في البالد استجابة‬
‫ملطالب احلركة البربرية التي رفعت غداة االضطرابات التي شهدتها‬
‫منطقة القبائل شهري نيسان وأيار ‪ 2001‬تخليدا لذكرى ما يعرف‬
‫بالربيع األمازيغي‪.‬‬

‫أظهرت النتائج الرسمية اخلاصة باالنتخابات الرئاسية في‬


‫اجلزائر التي أجريت في ‪ 8‬نيسان ‪ 2004‬أن الرئيس اجلزائري عبد‬
‫العزيز بوتفليقة أعيد انتخابه رئيساً للجزائر بعد أن حصل على‬
‫‪ ٪ 83.5‬من مجموع أصوات الناخبني‪ ،‬وأعيد انتخاب بوتفليقة من‬
‫بني ستة مرشحني ميثلون التيارات اإلسالمية والوطنية والشيوعية‬
‫والعلمانية في ثالث انتخابات رئاسية تعددية في تاريخ البالد‪.‬‬

‫‪628‬‬
‫الفصل اخلامس عشر‬
‫تونس‬

‫قبل وصول الفينيقيني‪ ،‬في القرن الرابع عشر ق‪.‬م‪ .‬إلى شواطىء‬
‫تونس احلالية‪ ،‬كان داخ��ل البالد مأهوالً بشعب أطلق العرب عليه‬
‫فيما بعد أسم »البربر« ولم يتوصل املؤرخون حتى اليوم إلى حتديد‬
‫أصل البربر املنتشرين في شمال أفريقيا‪.‬‬

‫أق��ام الفينيقيون م��راف��ئ جت��اري��ة لهم على ش��واط��ئ أفريقيا‬


‫الشمالية حتى وصلوا إلى حدود روما‪ .‬وخالل القرن اخلامس ق‪.‬م‪.‬‬
‫أصبحت مدينة قرطاجة مركز اإلم�ب��راط��وري��ة الفينيقية التجاري‬
‫األهم‪.‬‬

‫استطاع ال��روم��ان بعد ع��دة ح��روب استمرت نحو ق��رن كامل‬


‫(‪ 146 - 264‬ق‪.‬م) من إخضاع قرطاجة وهدمها‪ ،‬ثم أعادوا بناءها‬
‫حت��ت اس��م «ج��ون��ون�ي��ا» بعد أن وس�ع��وه��ا حتى أصبحت تضم كامل‬
‫املناطق التي تتشكل منها تونس احلالية‪.‬‬

‫‪629‬‬
‫احلكم اإلسالمي‬

‫في عام ‪ 647‬توجه الفتح اإلسالمي نحو بالد املغرب العربي‬


‫بقيادة موسى بن نصير وعقبة بن نافع‪ ،‬ولم يجد املسلمون صعوبات‬
‫كبيرة ف��ي السيطرة على تلك ال�ب�لاد وعلى سكانها البربر الذين‬
‫سرعان ما دخلوا في الدين اجلديد‪ ،‬وأصبحوا عماد جيشه‪ ،‬وفي عام‬
‫‪ 670‬أسس عقبة بن نافع القائد اإلسالمي مدينة القيروان بالقرب‬
‫من قلعة بيزنطية‪ ،‬فكانت أول عاصمة للمغرب العربي‪ ،‬وقد نالت‬
‫القيروان شهرة كبيرة بفضل موقعها االستراتيجي حتى أصبحت‬
‫م��ن امل��دن اإلسالمية األش�ه��ر‪ .‬وع��رف��ت ال�ق�ي��روان عصرها الذهبي‬
‫في عهد األغالبة الذين أسسوا دولتهم على عهد ه��ارون الرشيد‬
‫اخلليفة العباسي‪ .‬وقد اشتهر األغالبة برعايتهم للعلوم والفنون ومن‬
‫أشهر آثارهم اجلامع الكبير في القيروان وبيت احلكمة‪ .‬وهكذا فقد‬
‫ساهمت القيروان بصورة أساسية في نشر الدين اإلسالمي واللغة‬
‫العربية في أفريقيا‪ .‬بعدما أصبحت من أهم مراكز اإلشعاع الديني‬
‫والعلمي في العالم اإلسالمي‪.‬‬

‫وعندما قامت الدولة الفاطمية العبيدية في تونس‪ ،‬بنوا مدينة‬


‫املهدية لتكون عاصمتهم اجلديدة بدالً من القيروان‪ .‬قبل أن ينقلوا‬
‫عاصمتهم إلى القاهرة في مصر‪.‬‬

‫وم��ع ب��داي��ة حكم احلفصيني ف��ي ال�ق��رن الثالث عشر انتقلت‬


‫العاصمة إلى مدينة تونس‪ ،‬التي برزت وتفوقت على مدينتي القيروان‬
‫واملهدية‪ ،‬وشهدت هذه الفترة نهضة علمية‪ ،‬ففي زمن احلفصيني‬
‫ولد ابن خلدون في تونس (‪ )1332‬ودرس في جامع الزيتونة ثم عمل‬
‫في خدمة السلطان احلفصي أبي اسحق الثاني في فترة ساد فيها‬
‫القلق واالضطراب‪ .‬واستمر حكم احلفصيني حتى عام ‪ 1574‬حيث‬

‫‪630‬‬
‫سيطرت الدولة العثمانية على املنطقة وحتولت أفريقيا الشمالية‬
‫إلى والية من واليات الدولة العثمانية‪.‬‬

‫ومنذ عام ‪ 1590‬بدأ األت��راك بحكم تونس بواسطة »الداي«‬


‫وبعده «الباي» حكم الداي من ‪ 1598‬إلى ‪ 1630‬والباي من ‪1631‬‬
‫إلى ‪ .1702‬وبعد ثالث سنوات سيطر الباي حسني على السلطة‪،‬‬
‫وأس��س أس��رة مالكة عرفت ب��األس��رة احلسينية التي ظلت تتوارث‬
‫السلطة حتى استقالل تونس في عام ‪.1957‬‬

‫�راع خ �ف��ي ف��ي ال�س�ل�ط��ة ب�ين القوى‬


‫مت �ي��زت ه ��ذه ال �ف �ت��رة ب��ص� ٍ‬
‫احمللية والقوى العثمانية‪ ،‬ومبجيء الباي حسني‪ ،‬ح��اول كسب نوع‬
‫من االستقالل الذاتي فزاد من عدد املوظفني ودعم اللغة العربية‬
‫ورجال الدين‪ ،‬وأهم ما ميز األسرة احلسينية في القرن التاسع عشر‬
‫موجة اإلصالحات الكبيرة التي حدثت في حقول اإلدارة واجليش‬
‫وغيرها‪ ،...‬ذلك في عهد أحمد باشا باي (‪ .)1855 - 1837‬ومن‬
‫أهم رموز التغيير واإلصالح «خير الدين التونسي» املتحدر من أصول‬
‫شركسية الذي كان من أملع رجاالت النهضة‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬االحتالل الفرنسي‬

‫احتلت فرنسا تونس في عام ‪ .1881‬وفي أعقاب ذلك قامت‬


‫حركة تونسية مناهضة لالحتالل‪ .‬وفي عام ‪ 1907‬مت إنشاء حزب‬
‫«تونس الفتاة» بزعامة علي باشا‪ ،‬وقد حدثت عدة ثورات عسكرية‬
‫ضد الفرنسيني في تلك الفترة‪ ،‬وفي عام ‪ 1920‬تخلت تركيا عن‬
‫حقوقها في تونس نتيجة ضعفها والضغوط األوروبية عليها‪ .‬وفي‬
‫ع��ام ‪ 1934‬أس��س احلبيب بورقيبة ح��زب دس�ت��وري ج��دي��د‪ ،‬والذي‬
‫تعرض لعدة حمالت اعتقال بسبب قيادته الض�ط��راب��ات ع��دة في‬

‫‪631‬‬
‫العاصمة‪ ،‬كان أهمها في ‪ 9‬نيسان ‪.1938‬‬

‫وفي ‪ 8‬تشرين الثاني ‪ 1942‬دخلت اجليوش األملانية تونس‪.‬‬


‫وم��ع م�ج��يء «ج��ان م��ون��س» إل��ى ت��ون��س كمقيم ع��ام ب��ادر إل��ى إجراء‬
‫بعض اإلص�لاح��ات فأعاد تنظيم مجلس ال��وزراء من ست تونسيني‬
‫وس��ت فرنسيني‪ ،‬على أن ي��رأس املجلس تونسي‪ .‬وف��ي آب ‪1947‬‬
‫جرت مواجهات عنيفة بني العمال التونسيني والقوات الفرنسية في‬
‫مدينة صفاقس أدت إل��ى مقتل ‪ 30‬شخصاً‪ ،‬األم��ر ال��ذي أدى إلى‬
‫تزايد حدة املطالبة باالستقالل‪ ،‬فاعتقل احلبيب بورقيبة مجدداً‬
‫في عام ‪ ،1952‬وكذلك املنجي سليم ورئيس احلكومة محمد شنيق‬
‫وصالح بن يوسف‪ ،‬إال أن عمليات الثوار التي عمت كل البالد أجبرت‬
‫احلكومة الفرنسية أن تفاوض التونسيني حول نيل االستقالل‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬استقالل تونس‬

‫أق ��رت ف��رن�س��ا رس �م �ي �اً ب��اس�ت�ق�لال ت��ون��س ع��ام ‪ ،1956‬وجاء‬


‫احلبيب بورقيبة رئيساً للحكومة‪ ،‬وف��ي أول ح��زي��ران ‪ 1957‬طلب‬
‫من احلكومة الفرنسية سحب قواتها‪ ،‬وفي ‪ 25‬متوز ‪ 1957‬قررت‬
‫اجلمعية التأسيسية التونسية إلغاء منصب الباي‪ .‬وانتخاب بورقيبة‬
‫رئيساً للجمهورية‪.‬‬

‫وبعد مجيء اجلنرال ديغول إلى احلكم‪ ،‬مت االتفاق على سحب‬
‫القوات العسكرية الفرنسية مع إبقاء قوة صغيرة في قاعدة بنزرت‪،‬‬
‫وتردت العالقة بني فرنسا وتونس بخصوص قضية بنزرت‪ ،‬وأعلن‬
‫الرئيس بورقيبة معركة اجلالء لتحرير بنزرت بعد رفض الفرنسيني‬
‫اخلروج منها في ‪ 17‬متوز ‪.1961‬‬

‫وقد وقع ضحية هذه املعركة أكثر من ألف قتيل تونسي وقطعت‬

‫‪632‬‬
‫تونس عالقتها مع فرنسا وفي أيلول ‪ 1961‬مت االتفاق على انسحاب‬
‫اجليش الفرنسي من بنزرت عام ‪ 1963‬وعادت العالقة الدبلوماسية‬
‫بني البلدين بدءاً من عام ‪.1962‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬عهد احلبيب بورقيبة (‪)1987 - 1957‬‬

‫عمل احلبيب بورقيبة على حتسني األوضاع الداخلية في البالد‪،‬‬


‫إال إنه أحكم قبضته على احلكم بشدة‪ ،‬وقد انشغل كثيراً بتوجيه‬
‫االنتقادات إلى أنظمة احلكم العربية حيال قضية فلسطني‪ ،‬فدعا‬
‫إلى خط أكثر تساهال يقوم على التفاوض املباشر مع إسرائيل حول‬
‫التقسيم الذي أقرته األمم املتحدة عام ‪ .1948‬وأدى ذلك إلى توتر‬
‫العالقات مع بعض الدول العربية‪ ،‬ووصل األمر إلى حد القطيعة مع‬
‫اجلمهورية العربية املتحدة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر‪ ،‬ولم‬
‫تتحسن العالقات إال بعد حرب ‪.1967‬‬

‫ع�م��ل احل�ب�ي��ب ب��ورق�ي�ب��ة ع�ل��ى تغيير سياسته ال��داخ�ل�ي��ة عقب‬


‫املؤمتر العام الذي عقده احلزب عام ‪ ،1979‬واستطاع تطبيع الوضع‬
‫الداخلي حتى أن أهم زعماء املعارضة قد أعلنوا موافقتهم وتأييدهم‬
‫خلطوات احلكم وتوجت بإطالق سراح زعيم احلركة النقابية وبإجراء‬
‫االنتخابات التشريعية‪ .‬وفي ‪ 10‬آب ‪ 1982‬شهدت تونس حدثاً مهماً‬
‫إذ استقبلت زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وجميع‬
‫عناصره الذين كانوا في بيروت إثر احلصار اإلسرائيلي املفروض‬
‫عليها وذلك بعد الدور الدبلوماسي الذي لعبته تونس عربياً (بعد‬
‫انتقال مقر اجلامعة العربية من القاهرة إلى تونس عقب اتفاقية‬
‫كامب دايفيد) ودولياً‪.‬‬

‫وفي ‪ 7‬تشرين الثاني عام ‪ 1987‬نظراً حلالة الرئيس بورقيبة‬

‫‪633‬‬
‫من تدهور صحي وشيخوخة طويلة ومرض مستفحل جعلته عاجزاً‬
‫مت��ام �اً ع��ن امل�س��ك مب�ق��ود احل�ك��م وامل �ك��وث أك�ث��ر ع�ل��ى دف��ة القيادة‪,‬‬
‫وتطبيقا لنص املادة ‪ 57‬من الدستور تولى السيد زين العابدين بن‬
‫علي الوزير األول مهام رئاسة اجلمهورية التونسية والقيادة العليا‬
‫للقوات املسلحة ورئاسة احلزب االشتراكي الدستوري‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬عهد زين العابدين بن علي ‪1987‬‬

‫تسلم زين العابدين بن علي احلكم من الرئيس احلبيب بورقيبة‬


‫في ‪ 7‬تشرين الثاني ‪ ،1987‬وكانت من أول��ى مهام العهد اجلديد‬
‫العمل على تقوية الساحة الداخلية‪ .‬فأصدر عفواً رئاسياً عن ما‬
‫يقارب من ‪ 9700‬شخص‪ .‬وف��ي ع��ام ‪ 1988‬ص��در امليثاق الوطني‬
‫الذي شدد على الهوية العربية واإلسالمية لتونس‪.‬‬

‫وفي ‪ 21‬آذار ‪ 1994‬مت التجديد لنب علي لوالية ثانية ملدة خمس‬
‫سنوات فيما فاز احلزب احلاكم (التجمع الدستوري الدميقراطي)‬
‫بغالبية مقاعد البرملان‪ .‬وفي ‪ 13‬حزيران ‪ 1994‬شهدت تونس انعقاد‬
‫قمة أفريقية مميزة م��ن حيث ع��دد ال��رؤس��اء احل��اض��ري��ن فقد بلغ‬
‫عددهم ‪ 42‬رئيساً من أصل ‪ 53‬دولة أفريقية واعتبرت هذه القمة‬
‫تاريخية جلهة قرارها بحل جلنة حركات التحرير إذ لم يعد هناك‬
‫أي بلد أفريقي حتت السيطرة األجنبية‪ .‬وف��ي ع��ام ‪ 1996‬عادت‬
‫العالقات التونسية الليبية إلى طبيعتها اثر لقاءين للرئيس القذافي‬
‫وبن علي‪ ،‬بعد ذلك أيضاً وإثر تبادل الزيارات بني وزراء تونسيني‬
‫وخليجيني بدأت العالقات بني اجلانبني تتحسن بعد أحداث حرب‬
‫اخلليج الثانية‪.‬‬

‫عمل زين العابدين بن علي على تغيير نظام احلكم القائم في‬

‫‪634‬‬
‫تونس على مبدأ الرئاسة ملدى احلياة ال��ذي أق��ره الرئيس السابق‬
‫«احلبيب بورقيبة» عام ‪ 1975‬عقب االنتخابات الرئاسية األخيرة‬
‫في عهده يذكر أن بورقيبة أعيد انتخابه ألول مرة عام ‪ 1959‬ثم‬
‫‪ 1964‬و‪ 1969‬و‪ 1974‬ومب�ج��يء الرئيس ب��ن علي ف��ي السابع من‬
‫تشرين الثاني ‪ 1987‬مت إلغاء نظام الرئاسة مدى احلياة ونظمت‬
‫أول انتخابات رئآسية في العهد اجلديد في ‪ 2‬نيسان ‪ 1989‬ثم‬
‫جرت الثانية يوم ‪ 20‬آذار وفاز بها الرئيس زين العابدين بن علي‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬االنتخابات الرئاسية عام ‪1999‬‬

‫للمرة األولى في التاريخ التونسي ترشح لالنتخابات الرئاسية‬


‫في تشرين األول ‪ 1999‬مرشحان إضافة إلى الرئيس زين العابدين‬
‫بن علي هما‪ :‬أمني عام حزب الوحدة الشعبية محمد بلحاج عمر‪،‬‬
‫وأمني عام االحتاد الدميقراطي الوحدوي عبد الرحمن التليلي‪ ،‬إال‬
‫أن الفوز كان حليف الرئيس السابق زين العابدين بن علي بنسبة‬
‫‪.%99،44‬‬

‫سادس ًا‪ :‬الثورة التونسية ‪2011‬‬

‫اندلعت في ‪ 18‬كانون األول ‪ 2010‬تضامناً مع الشاب محمد‬


‫البوعزيزي الذي قام بإضرام النار في جسده في ‪ 18 - 17‬كانون‬
‫األول ‪ 2010‬تعبيرًا عن غضبه على بطالته‪ ،‬أدى ذلك إلى اندالع‬
‫ش��رارة امل�ظ��اه��رات ف��ي ي��وم ‪ 18‬ك��ان��ون األول ‪ 2010‬وخ��روج آالف‬
‫التونسيني الرافضني ملا اعتبروه أوضاع البطالة وعدم وجود العدالة‬
‫االجتماعية وتفاقم الفساد داخ��ل النظام احل��اك��م‪ .‬ونتج ع��ن هذه‬
‫املظاهرات التي شملت مدن عديدة في تونس عن سقوط العديد من‬
‫القتلى واجلرحى من املتظاهرين نتيجة تصادمهم مع قوات األمن‪،‬‬

‫‪635‬‬
‫وأجبرت الرئيس زين العابدين بن علي على إقالة عدد من الوزراء‬
‫بينهم وزير الداخلية وتقدمي وعود ملعاجلة املشاكل التي نادى بحلها‬
‫املتظاهرون‪ ،‬كما أعلن عزمه على عدم الترشح النتخابات الرئاسة‬
‫عام ‪.2014‬‬

‫بعد خطابه فتح املواقع االلكترونية‪ ،‬كما مت تخفيض أسعار‬


‫تخفيضا طفيفًا‪ .‬لكن االنتفاضة توسعت‬
‫ً‬ ‫بعض املنتجات الغذائية‬
‫وازدادت شدتها حتى وصلت إلى املباني احلكومية ما أجبر الرئيس‬
‫بن علي على التنحي عن السلطة ومغادرة البالد بشكل مفاجئ بحماية‬
‫أمنية ليبية إلى السعودية في ‪ 14‬كانون الثاني ‪ 2011‬فأعلن الوزير‬
‫األول محمد الغنوشي في نفس اليوم عن توليه رئاسة اجلمهورية‬
‫بصفة مؤقتة وذل��ك بسبب تعثر أداء الرئيس ملهامه وذل��ك حسب‬
‫الفصل ‪ 56‬من الدستور‪ ،‬مع إعالن حالة الطوارئ وحظر التجول‪.‬‬
‫لكن املجلس الدستوري قرر بعد ذلك بيوم اللجوء للفصل ‪ 57‬من‬
‫الدستور وإع�لان شغور منصب الرئيس‪ ،‬وبنا ًء على ذلك أعلن في‬
‫يوم السبت ‪ 15‬كانون الثاني ‪ 2011‬عن تولي رئيس مجلس النواب‬
‫فؤاد املبزع منصب رئيس اجلمهورية بشكل مؤقت إلى حني إجراء‬
‫انتخابات رئاسية مبكرة خالل فترة من ‪ 45‬إلى ‪ 60‬يوماً‪ .‬لكن احليل‬
‫زين العابدين على احملاكمة وصدرت بحقه أحكام بالسجن‪.‬‬

‫‪636‬‬
‫الفصل السادس عشر‬
‫ليبيا‬

‫عمل العثمانيون على إنهاء االحتالل الصليبي للبالد العربية‬


‫واإلسالمية‪ ،‬ولذلك وصل القائد العثماني سنان باشا إلى طرابلس‬
‫الغرب‪ ،‬واستطاع قائد البحرية في اجليش العثماني طرغول دخولها‬
‫عام ‪ 958‬وإخ��راج املالطيني منها املدعومني من إسبانيا‪ .‬وحاولت‬
‫اسبانيا العودة إلى ليبيا‪ ،‬إال أن محاوالتها ب��اءت بالفشل‪ .‬وهكذا‬
‫وال عثماني على‬‫أصبحت ليبيا والية عثمانية‪ ،‬وكان «مراد آغا» أول ٍ‬
‫البالد‪ .‬وم��ن أه��م آث��اره املسجد ال��ذي ال ي��زال قائماً حتى اآلن في‬
‫مدينة «ت��اج��وراء»‪ .‬واستمر ال��والة العثمانيون يتعاقبون على احلكم‬
‫حتى عام ‪.1711‬‬

‫إال أن احتالل الفرنسيني للجزائر‪ ،‬ومترد محمد علي في مصر‬


‫واحتالله لبالد الشام‪ ،‬دعا الدولة العثمانية إلى إعادة التفكير بجدية‬
‫ف��ي ليبيا‪ ،‬فأرسلت حملة عسكرية قضت على ال��دول��ة القرمانية‬
‫وأع��ادت ليبيا إلى حكمها‪ ،‬وراحت ترسل الوالة من جديد‪ ،‬وعملت‬
‫على إثارة العاطفة اإلسالمية‪ ،‬كما عملت على تخفيف الضرائب عن‬

‫‪637‬‬
‫السكان في محاولة منها لتحسني األوضاع االقتصادية‪ .‬ولزيادة عدد‬
‫املسلمني في ليبيا‪ ،‬قامت بإسكان بعض العائالت الكردية املسلمة‬
‫في منطقة سرت‪ ،‬إال أن املشروع قد فشل‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬االحتالل اإليطالي‬

‫اع�ت�ب��رت إيطاليا ك��ل م��ن ت��ون��س وليبيا مناطق ن�ف��وذ لها بعد‬
‫اح �ت�لال فرنسا ل�ل�ج��زائ��ر‪ .‬فقد ه��اج��ر ع��دد م��ن االي�ط��ال�ي�ين إليها‪،‬‬
‫وأنشأوا شركات جتارية‪ ،‬وبنوا املدارس النصرانية ألفراد جاليتهم‪،‬‬
‫إال أن فرنسا عملت على اح�ت�لال ت��ون��س‪ ،‬وق��د ساعدتها الظروف‬
‫السياسية على ذل��ك‪ ،‬فوجهت إيطاليا عند ذلك نظرها إلى ليبيا‪،‬‬
‫وخ��اص��ة بعد أن ُه��زم��ت ف��ي ال�ق��رن األف��ري�ق��ي ال�غ��رب��ي‪ ،‬وق��د وقفت‬
‫ال بأن‬
‫ايطاليا إلى جانب فرنسا في العديد من املواقف الدولية أم ً‬
‫تقف فرنسا معها في قضية احتالل ليبيا‪.‬‬

‫أصبح الطريق أمام إيطاليا مفتوحاً إلى ليبيا‪ ،‬لكنها انتظرت‬


‫املناسبة‪ ،‬فعمدت إلى فتح فرع لبنك دي روما في طرابلس‪ ،‬وراحت‬
‫تقدم املساعدات املالية للفالحني‪ ،‬وعندما تعذر تسديد ديونهم كان‬
‫البنك يستولي على أراضيهم‪ .‬كما أرسلت الدولة اإليطالية بعثات‬
‫التبشير النصرانية الكاثوليكية‪ ،‬كما بدأ الغزو الفكري‪.‬‬

‫وب��ذل��ك شعرت ال��دول��ة العثمانية باخلطر اآلت��ي م��ن إيطاليا‪،‬‬


‫فعملت على إرسال كميات من األسلحة إلى ليبيا‪ ،‬فاحتجت إيطاليا‬
‫بشدة وطلبت من العثمانيني االنسحاب خالل ‪ 24‬ساعة‪ ،‬والتخلي‬
‫عنها ملصلحتهم‪ .‬وساعد إيطاليا على ذلك‪ ،‬الضعف الذي حلَّ بالدولة‬
‫العثمانية إث��ر االنقالب ال��ذي اوص��ل جماعة االحت��اد والترقي إلى‬
‫احلكم‪ .‬ومع انتهاء امل��دة احمل��ددة‪ ،‬قامت البوارج اإليطالية بضرب‬

‫‪638‬‬
‫مدينة طرابلس ال�غ��رب واحتلتها إض��اف��ة إل��ى م��دن بنغازي وبرقة‬
‫وطبرق‪ .‬وعملت على توسيع رقعة املعركة بهدف الضغط على الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬فاحتلت اجلزر القريبة من سواحل األناضول ورودوس‪،‬‬
‫وأرسلت أسطوالً ضرب بيروت‪ .‬ما اجبر العثمانيني على عقد معاهدة‬
‫(أوشي) مع روما‪ ،‬تنازلت فيها عن ليبيا اليطاليا ‪.1912‬‬

‫واج��ه اإليطاليون عند احتاللهم ليبيا املجاهدين املتطوعني‬


‫للدفاع عن أرضهم بقيادة أحمد شريف السنوسي‪ ،‬وكان هناك بعض‬
‫القوات العثمانية بقيادة عبد العزيز علي املصري في منطقة برقة‪،‬‬
‫فوقعت فيها أش��رس امل�ع��ارك ق��رب الساحل‪ ،‬وأشهرها معركة يوم‬
‫اجلمعة في ‪ ،1913‬واش�ت��رك فيها أيضاً أحمد شريف السنوسي‬
‫بنفسه‪ ،‬وهُزم االيطاليني وفشلوا في احتالل اجلبل األخضر‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬املجاهدون الليبيون‬

‫اندلعت احل��رب العاملية األول��ى ‪ ،1914‬ودخلت تركيا احلرب‬


‫إلى جانب أملانيا‪ ،‬وأرسلت بعض قادتها إلى ليبيا حملاربة االيطاليني‪.‬‬
‫ومن أهم هؤالء القادة‪ :‬نوري بك‪ ،‬وجعفر العسكري‪ ،‬وعبد الرحمن‬
‫عزام‪ .‬فقامت بعض املعارك التي استطاع فيها املجاهدون االنتصار‬
‫على القوات اإليطالية‪.‬‬

‫وعندما انتهت احلرب بهزمية أملانيا وشركائها ومن بينهم تركيا‪،‬‬


‫سحبت هذه األخيرة قواتها من ليبيا‪ ،‬فظل هؤالء القادة الذين بادروا‬
‫إلى جمع زعماء القبائل واألعيان لتوحيد جهودهم لتأليف حكومة‬
‫من أبناء البالد‪ .‬وأنتخب الزعماء مجلساً جمهورياً مؤلفاً من خمسة‬
‫أعضاء‪ ،‬واختير عبد الرحمن عزام مستشاراً للهيئة التي استمرت‬
‫ملدة خمس سنوات وكان مقرها مدينة مصراته‪.‬‬

‫‪639‬‬
‫كان زعماء احلركة السنوسية قد بايعوا محمد إدريس السنوسي‪،‬‬
‫ال��ذي قاتل االيطاليني وهزمهم‪ ،‬فاضطروا إلى إب��رام اتفاقية معه‬
‫اعترفوا له بنفوذه على بعض املناطق‪ .‬كما عقد الليبيون مؤمتراً عاما‬
‫‪ 1920‬في مدينة سرت حضره ممثلون عن السنوسيني وعن منطقة‬
‫طرابلس‪ ،‬وكان قد وقع اخلالف بني زعماء طرابلس وبرقة‪ .‬ومتت‬
‫فيه البيعة إلى محمد ادري��س السنوسي‪ .‬فشن االيطاليون هجوماً‬
‫على طرابلس ولم يستطع املجاهدون الوقوف بوجههم‪ ،‬فاحتلوها في‬
‫أيلول ‪ .1923‬وقضوا على اجلمهورية األولى‪.‬‬

‫أما في برقة‪ ،‬فقد أعطى السنوسي القيادة فيها إلى املختار‬


‫ع�م��ر ب��ن م�خ�ت��ار ب��ن ع�م��ر امل�ن�ف��ي‪ ،‬ال ��ذي ات �خ��ذ م��دي�ن��ة ش �ح��ات في‬
‫اجلبل األخضر مقراً لقيادته‪ ،‬وراح يهاجم القوات االيطالية ويحرز‬
‫االنتصارات الباهرة عليها‪.‬‬

‫تسلم موسوليني زع��ام��ة إيطاليا وتعامل ب�ش��دة م��ع القضايا‬


‫الليبية‪ .‬فنقض االتفاقات املعقودة مع حكومة محمد إدريس السنوسي‬
‫ورفض االعتراف باحملاكم الشرعية في املناطق التي يسيطر عليها‬
‫االيطاليني‪ ،‬وعني حاكماً جديداً هو «بوجنيوفاني» وزوده بصالحيات‬
‫واسعة وجيش كبير بقيادة اللواء «غرازياني» واللواء «بادوليو»‪.‬‬

‫شنت ال �ق��وات اإلي�ط��ال�ي��ة ح��رب إب��ادة بكل معنى الكلمة ضد‬


‫الشعب الليبي‪ ،‬وك��ان محمد إدري ��س السنوسي ت��رك ليبيا وأقام‬
‫في مصر‪ ،‬تاركاً أمر اجلهاد للقائد عمر املختار ال��ذي قام بحرب‬
‫عصابات في منطقة اجلبل األخضر‪ ،‬طيلة ثماني سنوات‪ ،‬وأحلق‬
‫بااليطاليني خسائر فادحة‪ .‬وقدر عدد الشهداء الليبيني في السنوات‬
‫العشر األولى من االحتالل االيطالي بسبعني ألف شهيد‪ ،‬بعد ذلك‬
‫شنت القوات اإليطالية هجوماً كاسحاً على مدينة أجدابيا العاصمة‬

‫‪640‬‬
‫السنوسية في نيسان ‪ 1923‬فدخلتها‪ ،‬ثم دخلت إلى واحة جغبوب‪،‬‬
‫بعد تنازل االنكليز عنها وتقدم االيطاليون فاحتلوا العقيلة ومرزوق‬
‫وغات وبذلك سيطروا على فزان‪ ،‬ثم أسقطوا واحات الكفرة‪ ،‬آخر‬
‫معاقل السنوسيني عام ‪.1931‬‬

‫وبذلك عُزل اجلبل األخضر من كل اجلهات‪ ،‬وبقي من املجاهدين‬


‫عمر املختار مع جماعته فقط‪ .‬فأعلن عن استئناف اجلهاد املقدس‬
‫ضد االحتالل اإليطالي واستمر في جهاده في هذه املرحلة عشرين‬
‫شهراً‪ ،‬إلى أن وقع في كمني لاليطاليني فاصطدم معهم‪ ،‬واستشهد‬
‫أكثر فرسانه‪ ،‬وسقط هو مثخناً باجلراح‪ ،‬وقد قتل حصانه‪ ،‬فحمله‬
‫األعداء أسيراً دون أن يعرفوه وذلك في ‪ 11‬أيلول ‪ ،1931‬وعندما‬
‫مت التعرف عليه نقل إلى سوسة بحرا‪ ،‬حيث حوكم محاكمة صورية‬
‫اعترف مبسؤولياته عن أعمال املقاومة واجلهاد‪ ،‬فقررت احملكمة‬
‫إعدامه رغم سنه الذي جاوز اخلامسة والسبعني‪ ،‬فأعدم في اليوم‬
‫التالي في ‪ 16‬أيلول ‪ 1931‬مبركز »سلوق« في بنغازي‪.‬‬

‫وم ��ن أه ��م امل� �ع ��ارك ال �ت��ي خ��اض �ه��ا امل �خ �ت��ار ض��د االيطاليني‬
‫«الرصيبة» و«عقيرة املطمورة» و«كرسة»‪ .‬وباستشهاد املختار ضعفت‬
‫املقاومة بشكل كبير‪ ،‬حيث أقدمت السلطات العسكرية االيطالية‬
‫على إغالق الزوايا السنوسية‪.‬‬

‫واص��ل االي�ط��ال�ي��ون استباحتهم للشعب الليبي‪ ،‬ف��وص��ل عدد‬


‫ال�ش�ه��داء إل��ى ‪ 570928‬شهيدا إض��اف��ة إل��ى مصادرتهم األراضي‬
‫الليبية من أصحابها‪ ،‬وشجعوا هجرة االيطاليني إلى ليبيا وأمدوهم‬
‫ب��األم��وال وفتحوا لهم امل ��دارس‪ .‬وف��ي ‪ 9‬ك��ان��ون الثاني ‪ ،1939‬أي‬
‫قبل ان ��دالع احل��رب العاملية الثانية بتسعة أش�ه��ر أعلنت إيطاليا‬
‫ضم طرابلس وبرقة إلى ليبيا (ليبيا باألصل تطلق على الصحراء‬

‫‪641‬‬
‫التي تقع غرب نهر النيل وجنوب برقة وطرابلس) ومنحت للسكان‬
‫اجلنسية اإليطالية وألزمتهم تعلم اللغة ‪ ،‬وألقت كثيراً من الناس من‬
‫الطائرات وهم أحياء إلى غير ذلك من األعمال الوحشية‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬احلرب العاملية الثانية على األراضي الليبية‬

‫اندلعت احلرب العاملية الثانية في أيلول ‪ .1939‬ودخلت فيها‬


‫إيطاليا إلى جانب أملانيا واليابان‪ ،‬بينما كانت فرنسا وانكلترا والواليات‬
‫املتحدة في الطرف الثاني‪ .‬وبالتالي أصبحت الساحة الليبية ساحة‬
‫معركة لوقوعها بني الفرنسيني من جهة الغرب في تونس واجلزائر‬
‫واإلنكليز من جهة الشرق في مصر‪ ،‬إال أن الفرنسيني لم يشعلوا‬
‫جبهتهم لقيام أملانيا بغزو فرنسا واحتاللها باريس‪ ،‬فكانت معركة‬
‫اإليطاليني مع اإلنكليز من جهة الشرق وقد استغل اإلنكليز وجود‬
‫السنوسي في األراضي املصرية بعدما أخرج من ليبيا‪ ،‬فعمدت إلى‬
‫دعمه باملال والسالح ليعود ثانية إلى ليبيا ليكون رأس حربة لها‪.‬‬

‫إال أن إيطاليا كانت السباقة إلشعال ه��ذه اجلبهة مبساعدة‬


‫من أملانيا‪ ،‬فقام «رومل» بقيادة اجليشني األملاني واإليطالي بهجوم‬
‫على القوات اإلنكليزية في مصر‪ ،‬فجمع اإلنكليز قواتهم األسترالية‬
‫والنيوزيالندية والهندية وقاموا بهجوم مضاد‪ ،‬وعاود رومل هجومه‬
‫الكاسح واستطاع اختراق احلدود مجدداً ووصل إلى منطقة العلمني‬
‫باجتاه اإلسكندرية‪ ،‬إال أن القائد االنكليزي مونتغمري استطاع كسر‬
‫اجليش األملاني وتوغل في احلدود الليبية حتى دخل إلى طرابلس‬
‫الغرب في ‪ 23‬كانون الثاني ‪ ،1943‬ما لبثت ان انسحب اجليش‬
‫االيطالي من ليبيا بعد أسبوعني من احتالل طرابلس‪.‬‬

‫‪642‬‬
‫رابع ًا‪ :‬ليبيا حتت االحتالالت األجنبية املتعددة‬

‫بينما كانت القوات اإلنكليزية تتقدم من الشرق وانهيار املقاومة‬


‫األملانية واإلي�ط��ال�ي��ة‪ ،‬كانت ال�ق��وات الفرنسية تتقدم م��ن اجلنوب‪،‬‬
‫فأصبحت ليبيا محتلة من قبل عدوين‪ ،‬فأقدمت إنكلترا على إقامة‬
‫حكم عسكري ف��ي ك��ل م��ن برقة وط��راب�ل��س‪ ،‬وأق��ام��ت فرنسا حكماً‬
‫عسكرياً في فزان‪ ،‬وحصلت الواليات املتحدة على قواعد جوية‪.‬‬

‫قامت مقاومة سلمية في بعض املناطق االحتالل الفرنسي‪ ،‬فقد‬


‫وعد ديغول السكان بالطمأنينة واألمن‪ ،‬فلم تقم أي جمعية سياسية‪،‬‬
‫أم��ا في املنطقة االنكليزية (برقة وطرابلس) فقد اختلف الوضع‪،‬‬
‫فأُنشئت النوادي السياسية وقامت رابطة الشباب اإلسالمية‪ ،‬حيث‬
‫متت املطالبة بإمارة السنوسي على األقسام الثالثة املجزأة والوحدة‬
‫فيما بينها‪.‬‬

‫استطاع السنوسي كسب املعركة مع اإلنكليز‪ ،‬وفي ‪ 29‬متوز‬


‫‪ 1946‬طلب من كافة الهيئات السياسية في برقة حل نفسها لتشكيل‬
‫مؤمتر ج��دي��د‪ ،‬حيث كانت ال��دع��وة ب��داي��ة الستقالل ب��رق��ة‪ ،‬أم��ا في‬
‫طرابلس فكانت االجتاهات السياسية تنطلق من الوحدة بني األقاليم‬
‫كلها‪ ،‬وقد عملت الهيئات السياسية والنوادي التي تأسست على هذه‬
‫املطالب‪.‬‬

‫وقد طلب وفد طرابلسي من السنوسي أن يتسلم إمارة البلد‪،‬‬


‫فطلب من الهيئات السياسية الطرابلسية حل نفسها لتشكيل هيئة‬
‫واح��دة‪ ،‬وقد عمل رئيس اجلامعة العربية عبد الرحمن عزام على‬
‫ذلك‪ ،‬فساهم في تسوية األمور‪ ،‬وحلت الهيئات السياسية نفسها في‬
‫‪ 13‬آذار ‪ 1947‬وشكلت م��ا ع��رف ب�ـ «هيئة حترير ليبيا» وك��ان من‬

‫‪643‬‬
‫بني أعضائها البارزين‪ :‬بشير السعداوي‪ ،‬محمود املنتصر‪ ،‬أحمد‬
‫السويحلي‪ ،‬طاهر املريض‪ ،‬منصور قدارو‪ ،‬وجواد ذكرى‪ ،‬وقد أرسلوا‬
‫وفداً إلى بنغازي حيث التقى بالسنوسي لبحث موضوع الوحدة‪.‬‬

‫لقد عجزت أي من الدول األوروبية أخذ موافقة الدول األخرى‬


‫على أن تكون ليبيا حتت وصايتها‪ ،‬فحوِّل األمر إلى األمم املتحدة‬
‫التي درسته وقررت في ‪ 21 30‬تشرين الثاني ‪ 1949‬إعالن استقالل‬
‫ليبيا‪ ،‬وعارضت كل من فرنسا وإنكلترا هذا القرار‪ ،‬علماً أن هذا‬
‫االستقالل عُلق حتى عام ‪.1952‬‬

‫عمل إدري��س السنوسي بعد امل��ؤمت��ر ال�ب��رق��اوي ف��ي األول من‬


‫ح��زي��ران ‪ 1949‬ع�ل��ى إع�ل�ان اس�ت�ق�لال إق�ل�ي��م ب��رق��ة‪ ،‬ف��اع�ت��رف��ت به‬
‫إنكلترة مباشرة‪ .‬ولقي هذا القرار استياء شعبياً ليبياً وعربياً عارماً‪،‬‬
‫إذ قامت مظاهرات عنيفة نددت بالقرار‪ ،‬كما أرسلت هيئة حترير‬
‫ليبيا إل��ى السنوسي تخبره بعدم اعترافها مبا ح��دث‪ ،‬وخطر ذلك‬
‫على وحدة األراضي الليبية‪ ،‬إال أن السنوسي تابع نهجه فشكل أول‬
‫حكومة برئاسة فتحي الكيحيا وجرت االنتخابات وتألفت اجلمعية‬
‫الوطنية التي أصدرت قانون اجلنسية البرقاوية‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬استقالل اململكة الليبية‬

‫ومع اقتراب موعد االستقالل التام‪ ،‬دعا مندوب األمم املتحدة‬


‫«ادري��ان بلت» إلى أن يحتفظ املعتمد البريطاني في برقة‪ ،‬ورئيس‬
‫اإلدارة البريطانية في طرابلس‪ ،‬واملعتمد الفرنسي في فزان‪ ،‬بجميع‬
‫السلطات التنفيذية‪ ،‬واخل��ارج�ي��ة‪ ،‬وامل��ال�ي��ة‪ ،‬إال أن املعارضة كانت‬
‫من داخل األمم املتحدة عبر مندوبي مصر وباكستان وهما أعضاء‬
‫املجلس االستشاري ال��ذي شكلته األمم املتحدة إضافة إلى فرنسا‬

‫‪644‬‬
‫وإيطاليا وإنكلترا والواليات املتحدة‪.‬‬

‫بعد ذل��ك ق��ررت اللجنة تشكيل جلنة أخ��رى تتألف من واحد‬


‫عشرين عضوا ممثلني عن األقاليم كلها‪ .‬وق��د وافقت جلنة األمم‬
‫املتحدة بإجراء هذه االنتخابات وتشكيل اجلمعية الوطنية التي عني‬
‫أعضاؤها بالتساوي بني األقاليم الثالثة‪ .‬ووضعت دستوراً للبالد‪،‬‬
‫وقررت احلكم االحتادي ومبايعة محمد إدريس السنوسي ملكاً على‬
‫البالد في ‪ 2‬أيلول ‪.1950‬‬

‫سادس ًا‪ :‬عهد امللك محمد ادريس السنوسي‬

‫كانت كل والية تظن أن لها احلرية التامة في التصرف ضمن‬


‫أراضيها‪ ،‬بل راحوا يتفاوضون حول حتديد احلدود الفاصلة فيما‬
‫بينهم‪ .‬إلى جانب هذه األوضاع السيئة‪ ،‬كانت اململكة الليبية تعيش‬
‫حتت وطأة ثالث معاهدات مع ثالث دول غربية هي‪ :‬إنكلترا وفرنسا‬
‫والواليات املتحدة‪ .‬فمع إنكلترا نصت املعاهدة على منح املساعدات‬
‫الدائمة إلى ليبيا‪ ،‬على أن يكون إلنكلترا موظفني دائمني مشرفني‬
‫على األمور املهمة في البالد داخلياً وخارجياً وقد مت التوقيع على‬
‫ه��ذه امل�ع��اه��دة ف��ي ‪ 29‬مت��وز ‪ 1953‬ع�ب��ر رئ�ي��س احل�ك��وم��ة محمود‬
‫املنتصر‪ .‬أما مع الواليات املتحدة فقد منحتها االتفاقية حق البقاء‬
‫في قاعدة املالحة (هويلس) مدة عشرين عاماً وحرية تنقل القوات‬
‫األمريكية في البر والبحر واجلو‪ ،‬مقابل مساعدة أمريكية قيمتها‬
‫أربعة ماليني دوالر‪ ،‬ووقع هذه املعاهدة وزير اخلارجية الليبي وهبي‬
‫ال �ب��وري ف��ي حكومة عبد املجيد ال�ك�ع�ب��ار‪ .‬أم��ا م��ع فرنسا فوقعت‬
‫احلكومة الليبية يوم االستقالل معاهدة عسكرية مؤقتة مع فرنسا‬
‫سمحت مبوجبها للقوات الفرنسية بالبقاء في منطقة فزان مقابل‬
‫مساعدة مالية تقدمها إل��ى املجلس التنفيذي في تلك ال��والي��ة‪ ،‬ثم‬

‫‪645‬‬
‫عدلت هذه املعاهدة إلى انسحاب القوات الفرنسية‪ ،‬ولكن السماح‬
‫للطائرات الفرنسية‪ ،‬وبناء على إشعار مسبق‪ ،‬بالهبوط في مطاري‬
‫سبها واإلق�ل�اع م�ن��ه‪ ،‬وك��ذل��ك األم��ر ف��ي م�ط��ار غ��ات وغ��دام��س ملدة‬
‫سنتني‪ .‬وقد صودق على هذه املعاهدة في ‪ 20‬آذار ‪.1956‬‬

‫ظ�ه��رت ص�ح��وة الشعب الليبي م �ج��دداً‪ ،‬نتيجة مطالبة بعض‬


‫النواب حترير ليبيا من هذه القيود‪ ،‬إلى جانب أخبار الوطن العربي‬
‫وخ��اص��ة ف��ي مصر‪ ،‬حيث ك��ان الرئيس جمال عبد الناصر يتزعم‬
‫احلركة القومية ويطالب بالوحدة العربية ويندد باالستعمار الغربي‬
‫على ال��دول العربية ويساعدها ف��ي نيل استقاللها‪ .‬ونتيجة لهذا‬
‫الضغط الهائل‪ ،‬عملت احلكومات املتعاقبة في ليبيا إلى بحث قضية‬
‫املعاهدات مع هذه الدول‪ ،‬وطلبت منهم سحب قواتهم من األراضي‬
‫الليبية‪.‬‬

‫ثم جاءت أحداث حرب ‪ 5‬حزيران ‪ 1967‬وظهر الدعم اإلنكليزي‬


‫األمريكي لليهود‪ ،‬فثارت ثائرة الشعب الليبي وجرت محاوالت حلرق‬
‫سفارتيهما في بنغازي‪ .‬فتزايد الضغط على احلكومات في هذا‬
‫املجال‪ ،‬فكانت كل حكومة تدخل في املفاوضات مع البلدين لسحب‬
‫قواتهما‪ ،‬وقد وافقت بريطانيا وأميركا على الدخول في املفاوضات‬
‫إلنهاء الوجود العسكري في ليبيا‪.‬‬

‫سابع ًا‪ :‬عهد الرئيس ّ‬


‫معمر القذافي‬

‫بدأت األوضاع املادية في اململكة الليبية تتحسن بعد ظهور النفط‬


‫وزيادة مردوده‪ .‬فأخذ الناس يتطلعون إلى خارج منطقتهم‪ ،‬فأدركوا‬
‫أن سياسة دولتهم اخلارجية ال تتعاطى مع القضايا العربية كما‬
‫يجب وخاصة القضية الفلسطينية‪ ،‬وقضية االعتداءات اإلسرائيلية‬

‫‪646‬‬
‫على ال��دول العربية (مصر‪ ،‬سوريا‪ ،‬األردن‪ ،‬فلسطني)‪ ،‬إضافة إلى‬
‫ذل��ك مم��ارس��ات بعض رم��وز احلكم م��ن وزراء وغيرهم التي كانت‬
‫تدل على سلطة االستبداد التي كان ميارسونها‪ .‬كل هذه األسباب‬
‫مجتمعة جعلت الشعب الليبي تواقاً للتغيير في نظام احلكم‪.‬‬

‫بدأ التخطيط وتوحيد اجلهود في اجليش الليبي‪ ،‬الذي كان‬


‫على صلة كبيرة مع القيادة املصرية وفي األول من أيلول ‪.1969‬‬
‫حت��رك اجليش الليبي بقيادة العقيد معمر ال�ق��ذاف��ي وقضى على‬
‫الوضع القائم‪ ،‬وتشكل املجلس األعلى لقيادة الثورة‪ ،‬برئاسة القذافي‬
‫وعضوية اثني عشر ضابطاً أهمهم‪ :‬عبد السالم جلود وبشير الصغير‬
‫هوادي‪ .‬وأعلن عن قيام اجلماهيرية الليبية‪.‬‬

‫بداية مت الطلب من الواليات املتحدة األمريكية الدخول في‬


‫م�ف��اوض��ات ب�ش��أن اجل�ل�اء ع��ن ق��اع��دة امل�لاح��ة‪ ،‬وب�ع��د ف�ت��رة قصيرة‬
‫سلمت الواليات املتحدة القاعدة لليبيني وأطلق عليها قاعدة «عقبة‬
‫بن نافع»‪ .‬كما اتفق العهد اجلديد على إلغاء املعاهدة املعقودة مع‬
‫إنكلترا‪ ،‬فانسحبت األخيرة أيضاً‪ .‬وبعد وف��اة الرئيس جمال عبد‬
‫الناصر ع��ام ‪ ،1970‬أعلن قائد ال�ث��ورة الليبية أن��ه ال��وري��ث له في‬
‫ال��زع��ام��ة العربية‪ .‬ف��أخ��ذ يهاجم الشيوعية وم�ب��ادئ�ه��ا‪ ،‬وع�م��ل على‬
‫إق��ام��ة احت��اد اجل�م�ه��وري��ات العربية امل�ت�ح��دة ال��ذي ت��أل��ف م��ن ليبيا‬
‫ومصر وس��وري��ا‪ ،‬كما دع��م ال�ث��ورة اإلسالمية في تشاد ضد األقلية‬
‫املتسلطة التي أقامها االستعمار الفرنسي‪ ،‬وساعدت الثورة الليبية‬
‫املسلمني في أوغندا ودعمت الرئيس عيدي أمني‪ ،‬وأيدت باكستان‬
‫عندما اعتدت عليها الهند‪.‬‬

‫ودعمت ليبيا القضية الفلسطينية‪ ،‬كما ساعدت بعض الدولة‬


‫العربية اقتصادياً وبعد مدة وجيزة ب��دأت السياسة الليبية تتوجه‬

‫‪647‬‬
‫نحو الشرق (االحت��اد السوفياتي السابق) وابتعدت عن السياسة‬
‫األمريكية‪ ،‬حتى أصبح هناك عدا ًء ظاهراً انقلب إلى أعمال عسكرية‬
‫فيما بعد‪.‬‬

‫وف ��ي ش �ه��ر آذار ‪ ،1977‬ج ��رت ان �ت �خ��اب��ات م�ج�ل��س الشعب‪،‬‬


‫وأنتخب املجلس العقيد معمر ال�ق��ذاف��ي رئيساً ل�ل��دول��ة‪ .‬فأصدر‬
‫كتابه األخضر‪ ،‬وأعلن والدة «اجلماهيرية العربية الليبية الشعبية‬
‫االشتراكية العظمى» والتي يتولى فيها الشعب السلطة املباشرة عبر‬
‫إقامة املؤمتر الشعبي العام وهو مبثابة برملان‪.‬‬

‫ثامن ًا‪ :‬العالقة مع الغرب‬

‫في عام ‪ 1983‬أعلن الرئيس الليبي أن خليج سرت كله يقع‬


‫ال‬
‫ضمن امل�ي��اه اإلقليمية وليس املسافة املعروفة دول�ي�اً أي ‪ 12‬مي ً‬
‫بحرياً‪ .‬وفي كانون األول ‪ 1985‬رسم الرئيس الليبي خطاً سماه «خط‬
‫امل��وت» ال يسمح للسفن األمريكية واألجنبية جت��اوزه نحو اجلنوب‪،‬‬
‫فازداد التوتر بني البلدين‪ ،‬فنشرت القوات األمريكية أسطولها على‬
‫طول الساحل الليبي‪.‬‬

‫وفي آذار ‪ 1986‬أطلقت القوات الليبية صواريخ باجتاه طائرات‬


‫أمريكية حلقت فوق خليج سرت‪ ،‬فهاجمت طائرات أمريكية جتهيزات‬
‫الرادار ومواقع الصواريخ الليبية‪ ،‬كما هاجمت أربعة زوارق بحرية‪.‬‬
‫وفي نيسان ‪ 1986‬أغارت الطائرات األمريكية على مواقع عسكرية‬
‫ليبية ومطارات ومبان حكومية ضمنها مسكن الزعيم الليبي‪ .‬ولم‬
‫تكتف الواليات املتحدة بهذه العمليات‪ ،‬بل قامت في كانون الثاني‬
‫‪ 1988‬بضربة عسكرية ضد مصنع لألسلحة قرب بنغازي وحصل‬
‫اشتباك ب�ين ال�ط��ائ��رات أسقط خالله طائرتني ليبيتني ف��ي كانون‬

‫‪648‬‬
‫الثاني ‪.1989‬‬

‫وفي عام ‪ 1990‬اتهمت ليبيا باالشتراك مع سوريا واجلبهة‬


‫الشعبية لتحرير فلسطني بأنهم وراء تفجير الطائرة الفرنسية فوق‬
‫النيجر قبل ع��ام‪ ،‬إال أن�ه��ا نفت ذل��ك‪ .‬وف��ي ح��رب اخلليج الثانية‪،‬‬
‫شارك العقيد القذافي في قمة القاهرة التي عقدت عقب االجتياح‬
‫العراقي للكويت في ‪ 10‬آب ‪ 1990‬حيث رف��ض ال�ق��رار القاضي‬
‫بإرسال قوات عسكرية إلى جانب الواليات املتحدة للوقوف في وجه‬
‫اجليش العراقي‪.‬‬

‫تاسع ًا‪ :‬حادثة لوكربي‬

‫ج��اء احل��دث األه��م ف��ي ت��اري��خ اجلماهيرية احل��دي��ث ف��ي ‪14‬‬


‫ت�ش��ري��ن األول ‪ 1989‬ع�ن��دم��ا ات�ه�م��ت ال��والي��ات امل�ت�ح��دة األمريكية‬
‫مواطنني ليبيني هما عبد الباسط املقراحي واألمني خليفة فحيمة‬
‫بتفجير طائرة أمريكية فوق مدينة لوكربي في اسكتلندا في كانون‬
‫األول ‪ 1988‬أدت إلى مقتل حوالي ‪ 270‬شخصاً‪ .‬وفي ‪ 31‬آذار من‬
‫العام ذاته فرضت األمم املتحدة حظراً جوياً وعسكرياً على ليبيا‪،‬‬
‫وبعد عام واحد فرضت عقوبات اقتصادية‪ ،‬واشترطت لرفع احلصار‬
‫تسليمها املتهمني حملاكمتهما في لندن أو واشنطن بهذه التهمة‪.‬‬

‫متسكت ليبيا بحقها بعدم تسليم املتهمني‪ ،‬وذلك حسب القانون‬


‫الدولي الذي ال يسمح ألي دولة بتسليم أحد رعاياها إال بعد توفر‬
‫شرطني أساسيني هما‪ :‬أن تكون هناك اتفاقية قضائية بني الدولتني‪،‬‬
‫وهي غير موجودة‪ .‬وأن يكون هناك تشريع في القانون الليبي ينص‬
‫على تسليم رعاياها للدولة املطالبة بهم‪ ،‬وهذا أيضاً غير متوفر‪.‬‬
‫واستطاعت ليبيا بذلك حشد الدعم املطلوب لها من الدول العربية‬

‫‪649‬‬
‫واألفريقية وعهدت مبلف القضية إلى خبراء دوليني‪.‬‬

‫راف��ق ه��ذا األم��ر مبادرة من السعودية وجنوب أفريقيا‪ .‬وقد‬


‫جنحا في إغ�لاق هذا امللف‪ ،‬فقد استطاعت ليبيا انتزاع اعتراف‬
‫محكمة العدل الدولية باختصاصها بالنظر في هذه القضية حيث‬
‫يعطي القانون االسكتلندي فرصة كبيرة إلثبات ب��راءة املتهمني في‬
‫حال عدم تورطهما في احلادث‪ .‬وأبطلت بذلك كل محاوالت أمريكا‬
‫وبريطانيا كي تتراجع في آخر األمر عن تسليم املتهمني كي تستمرا‬
‫في لعبتهما جتاه فرض العقوبات خاصة بعد أن بدأ خرق اخلطر‬
‫اجلوي من جانب بعض الدول‪.‬‬

‫أرادت ليبيا إغالق هذا امللف لتخوفها من محاوالت الدولتني‬


‫جلرها إلى الفخ الذي وقع فيه العراق‪ ،‬فسلمت في ‪ 5‬نيسان ‪1999‬‬
‫مواطنيها عبد الباسط املقراحي واألم�ين فحيمة املتهمني باعتداء‬
‫لوكربي إلى هولندا حملاكمتهما أمام محكمة اسكتلندية‪ ،‬وعلى أثر‬
‫ذلك علقت األمم املتحدة العقوبات الدولية املفروضة على اجلماهيرية‬
‫الليبية‪ ،‬علماً أن منظمة الوحدة األفريقية كانت قد رفعت جزئياً‬
‫احلظر اجلوي عن طرابلس الغرب من حزيران ‪.1998‬‬

‫وفي متوز ‪ 1999‬أنهت ليبيا أزمتها مع فرنسا عندما وافقت‬


‫على دفع أكثر من ‪ 200‬مليون فرنك فرنسي كتعويضات لعائالت‬
‫الضحايا الـ ‪ 170‬الذين سقطوا في تفجير طائرة »يوتا« الفرنسية‬
‫ف��وق النيجر ع��ام ‪ .1988‬أم��ا ال��والي��ات املتحدة وبريطانيا فكانت‬
‫لديهما الرغبة في إنهاء األزم��ة‪ .‬وإذا كانت واشنطن ال تزال تضع‬
‫بعض العراقيل أم��ام إع��ادة تطبيع العالقة مع طرابلس‪ ،‬فإن لندن‬
‫بادرت سريعاً إلى إعادة العالقات الدبلوماسية بدءاً من شهر متوز‬
‫‪.1999‬‬

‫‪650‬‬
‫وفي شهر آب من العام ‪ 2003‬توصلت ليبيا إلى اتفاق مع كل‬
‫من الواليات املتحدة األمريكية وبريطانيا‪ ،‬يقضي بأن تدفع ليبيا‬
‫تعويضاً قدره ‪ 2,7‬مليون عن كل ضحية من ضحايا حادث لوكربي‪،‬‬
‫مما سوغ لفرنسا أن تطالب هي األخرى بتعويضات إضافية لعائالت‬
‫الضحايا الـ ‪ 170‬الذين سقطوا في تفجير طائرة »يوتا« الفرنسية‪.‬‬

‫ومع نهاية العام ‪ 2003‬عرفت العالقات اخلارجية للجماهيرية‬


‫مع الدول الغربية انفراجاً واسعاً بعدما أعلنت ليبيا تخليها طواعية‬
‫عن برامجها إلنتاج أسلحة الدمار الشامل وقبولها لعمليات التفتيش‪،‬‬
‫وقد جسَّ د ذلك االنفراج تبادل الزيارات الذي مت مع مطلع العام ‪2004‬‬
‫بني املسؤولني الليبيني ونظرائهم من مختلف ال��دول الغربية والتي‬
‫تأتي على رأسها كل من الواليات املتحدة األمريكية وبريطانيا‪.‬‬

‫في بداية العام ‪ 2011‬وتأثراً بالثورتني التونسية والليبية انطلق‬


‫حراك شعبي واسع ضد النظام‪ ،‬وانطلقت فيما يشبه حرباً أهلية‬
‫بني موالني للنظام ومعارضيه‪ ،‬ما لبث ان تدخلت ق��وات األطلسي‬
‫مساندة املعارضة‪.‬‬

‫وفي ‪ 23‬آب دخلت املعارضة طرابلس الغرب‪ ،‬معلنة سقوط‬


‫النظام الليبي الذي حكم ‪ 41‬عاماً‪ .‬يشار إلى ان القذافي مطلوب‬
‫للمحاكمة امام احملكمة اجلنائية الدولية بتهم جرائم حرب‪ .‬كما هو‬
‫مطلوب بحكم قضائي أم��ام احملاكم اللبنانية في جرمية اختطاف‬
‫وتغييب االمام السيد موسى الصدر منذ العام ‪.1978‬‬

‫‪651‬‬
652
‫الفصل السابع عشر‬
‫موريتانيا‬

‫يطلق ع�ل��ى م��وري�ت��ان�ي��ا اس��م ص �ح��راء امل�ل�ث�م�ين وع��رف��ت أيضاً‬


‫باسم شنقيط‪ ،‬وهي تقع في أقصى املغرب العربي الكبير‪ .‬تعرضت‬
‫موريتانيا لالحتالل الفرنسي كغيرها من دول املغرب العربي‪ ،‬ونالت‬
‫استقاللها عام ‪.1960‬‬

‫سادت في هذه البالد احلضارات التي أثرت في شمال غرب‬


‫أفريقيا‪ ،‬فتأثرت بحضارة وادي النيل‪ ،‬وحضارة برقة‪ ،‬ثم حكمها‬
‫الفينيقيون والرومان الذين دخلوها حوالي ‪ 146‬ق‪.‬م‪ .‬واستوطنوا‬
‫فيها على املناطق الساحلية حتى مت طردهم من قبل الوندال في‬
‫‪ 428‬م‪ ،‬ومتكن منها البيزنطيون ع��ام ‪534‬م‪ .‬وي�ع��ود أص��ل غالبية‬
‫السكان إلى قبيلة صنهاجة‪ ،‬سواء كانت عربية أم بربرية‪ ،‬ثم دخلت‬
‫قبائل بنو حسان الذين ج��اؤوا إل��ى أفريقية مع قبائل بني هالل‪،‬‬
‫واستقر بنو حسان في موريتانيا‪ ،‬وطبعوا هذه املنطقة بطابعهم حتى‬
‫أن اللغة التي يتكلمها السكان تعرف باللهجة احلسانية‪ .‬وجاءت‬
‫قبيلة بافور وانصهرت ضمن املجموعة العربية‪.‬‬

‫‪653‬‬
‫شكل العرب أو العرب والبربر نسبة ‪ 85%‬من مجموع السكان‪،‬‬
‫ويعرفون باسم البيضان‪ ،‬حتى إن نهر السنغال إمنا جاءت تسميته‬
‫نهر صنهاجة نسبة إلى هذه القبيلة التي تنتشر على ضفاف هذا‬
‫النهر‪ .‬وتشكل القبائل اإلفريقية ‪ 14%‬من عدد السكان‪ ،‬وهي من‬
‫الولوف‪ ،‬والسوننكية‪ ،‬والهالبوالر‪ ،‬ويعرفون باسم «السودان» مقابل‬
‫«البيضان»‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬موريتانيا في العهد اإلسالمي‬

‫انتشر اإلسالم في موريتانيا في وقت مبكر ويعود إلى القرن‬


‫األول والثاني الهجريني‪ .‬وخاصة أيام دولة األدارسة‪ ،‬التي انضوى‬
‫حتت لوائها عدد من القبائل املوريتانية (جدالسة ‪ -‬ملتونة ‪ -‬مسوفة)‪،‬‬
‫ونتج عن ذلك حتالف قوي بني بطون صنهاجة بزعامة ملتونة وفي‬
‫عام ‪ 427‬كانت بداية نشأة حركة املرابطني امللثمني على يد أميرهم‬
‫يحيى بن إبراهيم اجلدالي والشيخ عبد الله ياسني اجلزولي‪ .‬وبعد‬
‫وفاة يحيى اجلدالي انتقلت الزعامة إلى قبيلة ملتونة بقيادة يحيى بن‬
‫عمر اللمتوني‪ ،‬وساعده في هذا األمر ابن عمه يوسف بن تاشفني‪،‬‬
‫الذي استطاع توحيد كلمة املرابطني ورص صفوفهم‪ ،‬ثم راح يتوسع‪،‬‬
‫فتمكنوا جنوباً من دخول عاصمة غانا مدينة كومبي صالح‪ .‬وذلك‬
‫مبعاونة قبائل ال�ت�ك��رور‪ ،‬وقبل ملك غانا (تنكامنني) ال��دخ��ول في‬
‫اإلسالم واخلضوع لسلطان املرابطني‪ ،‬وبإسالم امللك دخل الرعايا‬
‫في الدين اجلديد وفي عام ‪ 1217‬قامت دولة مالي‪ ،‬وامتد نفوذها‬
‫حتى شمل األجواء الشرقية من األراضي املوريتانية‪ .‬كذلك استقر‬
‫قسم من بني معقل وهم بنو حسان عند مصب نهر السنغال والذين‬
‫يعرفون باسم الترارزة‪ ،‬وقد أسسوا عدة إمارات أهمها‪ :‬إمارة أوالد‬
‫رزق ب��ن ودي ب��ن ح�س��ان ال�ت��ي حكمت منطقة ال �ت��رارزة‪ ،‬والبراكنة‬
‫الذين استمر سلطانهم من القرن التاسع إلى القرن احلادي عشر‬

‫‪654‬‬
‫الهجريني‪ .‬ثم تغلب عليهم بنو عمهم املغافرة‪ ،‬فأقاموا عدة إمارات‬
‫منها‪ :‬إمارة الترارزة‪ :‬التي أسسها أحمد بن دامان‪ ،‬الذي انتصر على‬
‫أوالد رزق في معركة «انتيتام» عام ‪ .1619‬وبقيت هذه اإلمارة حتى‬
‫جاء االستعمار‪ ،‬وقاعدتها (بوتيليميت)‪.‬‬

‫وفي الوقت نفسه‪ ،‬حاول أهل الزوايا إقامة دولة لهم في القرن‬
‫احل��ادي عشر بقيادة أوب��ك (أب��و بكر) بن أبهم امللقب ناصر الدين‬
‫الذي بايعته قبائل اجلنوب حوالي ‪ .1624‬وعمل على نشر اإلسالم‬
‫ودخ��ول السودان الغربي‪ ،‬وتصدى للمؤسسات االستعمارية وألغى‬
‫جتارة الرقيق‪ ،‬وحاول إخضاع القبائل العربية‪ .‬فنشبت حرب أهلية‬
‫قتل فيها ناصر الدين عام ‪ 1085‬هـ وفشلت محاولة الزوايا‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬األطماع االستعمارية وبدء االحتالل‬

‫هُزم املسلمون في األندلس الختالفهم فيما بينهم وانصرافهم‬


‫إلى أمور الدنيا عام ‪ .1477‬وما دفع باألوروبيني استكمال خططهم‬
‫الرامية إلى احتالل هذه األراضي واالستفادة من خيراتها‪ ،‬ولضرب‬
‫املسلمني في عقر دارهم‪ .‬وحسب التقسيمات التي حصلت بني الدول‬
‫األوروبية إثر احلروب النابليونية عبر اتفاقية باريس عام ‪.1814‬‬
‫فقد أعطيت منطقة السنغال وم��ا حولها إل��ى فرنسا التي راحت‬
‫حترك قواتها نحو الداخل بحذر‪ ،‬وأخ��ذوا يقيمون لهم مراكز على‬
‫طول مجرى النهر‪ ،‬وعمل الفرنسيون على اختطاف بعض السكان‬
‫للمتاجرة بهم (رقيق)‪ ،‬كما جمعوا الصمغ العربي لبيعه‪ .‬فكان السكان‬
‫يقومون بعمليات إغارة عليهم‪ ،‬وغالباً ما كانت ردة الفعل الفرنسية‬
‫شرسة وهمجية‪ .‬فقامت حركة الشيخ ماء العينني في عام ‪1900‬‬
‫ملقاومة االحتالل الفرنسي إال إنها فشلت بسبب اخلالفات القائمة‬
‫بني القبائل‪.‬‬

‫‪655‬‬
‫دخلت فرنسا بقيادة «كوبوالني» إلى منطقة الترارزة ثم منطقة‬
‫براكنا واتبعتها مبنطقة تاغنت باالتفاق مع االحتالل االسباني‪ ،‬إذ‬
‫جرى التفاهم أن تأخذ فرنسا املنطقة املعروفة باسم موريتانيا‪ ،‬وأن‬
‫تأخذ اسبانيا منطقة الصحراء الغربية أو ساقية الذهب‪ .‬وبذلك‪،‬‬
‫أصبحت منطقة موريتانيا حت��ت ال�ن�ف��وذ ال�ف��رن�س��ي‪ .‬ه � َّم كوبوالني‬
‫بالتحرك نحو منطقة «أدرار» غير أن��ه قتل على يد الشريف زين‬
‫أخ��و السلطان عبد العزيز‪ ،‬ثم استشهد الشريف زي��ن في املعركة‬
‫نفسها‪ ،‬وتولى قيادة الفرنسيني آنذاك اجلنرال «مانغان» الذي أكمل‬
‫سيره باجتاه أدرار‪ ،‬فوقف في وجهه الشيخ «ماء العينني» الذي أعلن‬
‫اجلهاد املقدس وطلب مساعدة سلطان املغرب‪ ،‬الذي أمده بحملة‬
‫عسكرية بقيادة األمير إدريس‪.‬‬

‫استمرت املعارك بني الطرفني عامني كاملني متكن الفرنسيون‬


‫بعدها من بسط نفوذهم على منطقة ادرار‪ ،‬بعد وفاة الشيخ «ماء‬
‫ال�ع�ي�ن�ين»‪ .‬ث��ار أح�م��د هبة ال�ل��ه ب��ن الشيخ م��اء العينني ف��ي منطقة‬
‫موريتانيا عقب وفاة والده‪ ،‬ودعا إلى اجلهاد وانقاذ البالد‪ .‬فاجته‬
‫إل��ى مدينة م��راك��ش فحاصرها ودخلها ع�ن��وة‪ ،‬وب��وي��ع فيها سلطاناً‬
‫للمغرب األق�ص��ى ف��ي ع��ام ‪ .1911‬فأرسلت فرنسا جيشاً ملالقاة‬
‫أحمد هبة الله‪ ،‬إال إنه انتصر عليهم‪ ،‬واستعملت اخل��داع واحليلة‬
‫فهزمته‪ ،‬وهرب من مراكش باجتاه تارودانت وتبعه الفرنسيني إلى‬
‫أن جمع قواته في مدينة (تندوف) واستعد للفرنسيني حيث استطاع‬
‫الفتك بهم‪ .‬بعد ذلك تعددت املعارك بني الفرنسيني وبني جماعة‬
‫أحمد هبة الله‪ .‬وفي عام ‪ 1918‬توفي أحمد هبة الله في بكردوس‬
‫فضعف رجاله ومتكن منهم الفرنسيون‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬االستقالل‬

‫طالبت املغرب بضم موريتانيا إليها على أنها جزء من أراضيها‪،‬‬

‫‪656‬‬
‫وقد عرضت املشروع على اجلمعية العامة لألمم املتحدة في دورتها‬
‫ال��راب�ع��ة عشر ع��ام ‪ .1959‬غير أن امل�ش��روع رف��ض‪ .‬وق��ررت األمم‬
‫املتحدة منح موريتانيا االستقالل ف��ي ‪ 26‬تشرين الثاني ‪.1960‬‬
‫واعترفت بالدولة اجلديدة أربع وأربعون دولة مباشرة إال أن الدول‬
‫العربية لم تعترف بها آنذاك‪ ،‬معتبرين أنها فصلت من املغرب‪.‬‬

‫إال أنها عادت واعترفت بها رسمياً وانضمت إلى جامعة الدول‬
‫العربية واختير مختار ولد داده رئيساً للدولة اجلديدة وفي العام‬
‫التالي متت املصادقة على أول دستور للدولة املوريتانية املستقلة‪.‬‬
‫وض��رب ال��رئ�ي��س ول��د داده عملة ج��دي��دة خ��اص��ة ب��ال�ب�لاد أسماها‬
‫«أوقية»‪ ،‬وأمم شركة املعادن‪ .‬وفي ‪ 1973‬بدأ اخلالف بني املغرب‬
‫وموريتانيا واجل��زائ��ر على الصحراء املغربية ووقفت اجلزائر إلى‬
‫جانب موريتانيا في وجه املغرب‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬االنقالبات (‪ 10‬متوز ‪)1978‬‬

‫تفاقم الوضع االقتصادي وازدادت الضيقة على الناس‪ ،‬وأربكت‬


‫قضية الصحراء املغربية وضع البالد‪ ،‬وانتقل التذمر للعسكريني‪.‬‬
‫فقامت حركة انقالب إلعادة تقومي وضع البالد بشكل عام‪.‬‬

‫اختير العقيد ولد مصطفى ولد محمد السالك رئيساً للجمهورية‪،‬‬


‫إال أن االنقالبيني اختلفوا فيما بينهم واتفقوا على عزل العقيد السالك‬
‫واستلم زمام األمور كرئيس للحكومة أحمد بوسيف‪ ،‬إال أنه توفي في‬
‫حادث طائرة‪ ،‬فتسلم املقدم محمد خونا ولد هيداله رئاسة احلكومة‬
‫وأبقى العقيد السالك في صورة رئاسة اجلمهورية‪ ،‬إال إنه عاد وعزله‬
‫عن الرئاسة وعني نفسه رئيساً للبالد وعهد برئاسة احلكومة إلى‬
‫أحمد ولي بني جارا‪ ،‬إال إن احلالة ازدادت سوءاً‪ ،‬وانتشر الفساد في‬

‫‪657‬‬
‫البالد‪ ،‬وحاول الرئيس ولد هيداله تغيير الوضع‪ ،‬فعني معاوية ولد‬
‫سيدي هيداله تغيير الوضع‪ ،‬فعني معاوية ولد سيدي طايع رئيساً‬
‫للحكومة‪ ،‬إال أن الوضع ازداد سوءاً‪.‬فقام العقيد معاوية ولد سيدي‬
‫طايع رئيس ال��وزراء األسبق بانقالب عسكري في ‪ 12‬كانون األول‬
‫‪ ،1984‬وشكل حكومة بنفسه‪ ،‬وأطلق س��راح السجناء السياسيني‪،‬‬
‫وسمح للهاربني واملنفيني بالعودة إلى البالد‪ ،‬وأطلق احلريات ومنع‬
‫التدخل في شؤون القضاء‪ .‬وفي تشرين األول ‪ 1987‬قامت محاولة‬
‫انقالبية من قبل اجلناح العسكري جلبهة التحرير اإلفريقي ملوريتانيا‪،‬‬
‫إال أنها فشلت وأعدم ثالثة ضباط‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬النزاع بني موريتانيا والسنغال‬

‫بدأ النزاع مبقتل اثنني من السنغاليني في قرية على احلدود‬


‫في اجلنوب الشرقي من موريتانيا‪ ،‬على يد رعايا موريتانيني من‬
‫الزنوج في ‪ 5‬رمضان ‪ ،1989‬وح��اول وزي��ري داخلية البلدين إنهاء‬
‫ال��وض��ع باجتماع عقد ف��ي موريتانيا‪ ،‬إال أن مظاهرة كبيرة قامت‬
‫في مدينة بوكل السنغالية حتولت إل��ى هجوم كاسح على محالت‬
‫املوريتانيني ونهبوا ما فيها‪ ،‬ثم أشعلوا فيها النيران‪ .‬ومنعاً أيضاً‬
‫ألي عمل مضاد‪ ،‬قام وزير الداخلية املوريتاني بزيارة لداكار للجم‬
‫األوض��اع‪ ،‬إال أن الوضع كان قد انفجر في السنغال‪ ،‬وراح الشعب‬
‫ينهب محالت املوريتانيني ويقتلون من يستطيعون قتله‪ ،‬فنجى من‬
‫القتل من جلأ إلى السفارة أو إلى املساجد‪.‬‬

‫وك��ذل��ك ح��دث ف��ي م��وري�ت��ان�ي��ا م��ا ح��دث ف��ي ال�س�ن�غ��ال‪ ،‬إذ في‬
‫‪ 19‬رمضان انفجر الوضع وهاجم السكان في نواكشوط وانواذيبو‬
‫الرعايا السنغاليني‪ .‬وبعد نفاذ كل احللول‪ ،‬تقرر إقامة جسر جوي‬
‫بني البلدين لنقل رعايا البلدين‪ ،‬فنقل أكثر من مائتي ألف موريتاني‬

‫‪658‬‬
‫من السنغال‪ ،‬ومائة ألف سنغالي من موريتانيا‪ .‬واستمر النزاع بني‬
‫البلدين عندما اتهمت السلطات املوريتانية حكومة السنغال بتدبير‬
‫مؤامرة لإلطاحة باحلكم في موريتانيا‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬إعادة انتخاب ولد طايع ‪1992‬‬

‫في ‪ 17‬كانون الثاني ‪ 1992‬جرت انتخابات رئاسية في البالد‬


‫انتخب فيها ولد طايع بنسبة ‪ .%62،7‬وبعد شهرين جرت االنتخابات‬
‫التشريعية‪ ،‬بعد انسحاب ستة من أحزاب املعارضة بدعوى انحياز‬
‫السلطة بشكل غير رس�م��ي إل��ى احل��زب اجل�م�ه��وري الدميقراطي‬
‫واالشتراكي ‪ ،‬وفاز هذا احلزب بسبعة وستني مقعداً من أصل تسعة‬
‫وسبعني مقعداً‪ .‬وفي كانون الثاني وشباط ‪ ،1994‬جرت انتخابات‬
‫البلديات التي كانت تعددية ألول مرة وفاز فيها احلزب اجلمهوري‬
‫الدميقراطي مبائة وسبعني محافظة إدارية من أصل مائتان وثمان‬
‫بلديات‪ .‬وفي عام ‪ 1995‬وقعت عدة أعمال شغب وتظاهرات بسبب‬
‫ارتفاع األسعار في البالد‪ ،‬األمر الذي أدى إلى اعتقال أحمد ولد‬
‫داده‪ ،‬وحمدي ولد مكناس زعيم حزب الوحدة للدميقراطية والتقدم‪.‬‬
‫وفي ‪ 12‬كانون األول ‪ 1997‬مت إع��ادة انتخاب العقيد معاوية ولد‬
‫طايع رئيساً للجمهورية مرة أخرى وملدة ست سنوات قادمة‪ .‬وفي‬
‫شهر حزيران من العام ‪ 2003‬جرت محاولة انقالب باءت بالفشل‬
‫بعد أن حاصر املتمردون عدة مباني حكومية ألكثر من ‪ 24‬ساعة‪.‬‬

‫‪659‬‬
660
‫الفصل الثامن عشر‬
‫السودان‬

‫ظلت منطقة شمال السودان احملاذية للحدود املصرية دائمة‬


‫التأثر بالدولة املصرية‪ ،‬فقد وقعت حتت النفوذ املصري أيام التوسع‬
‫االمبراطوري (‪ 1530‬ـ ‪ 750‬ق‪.‬م) ومنذ أواسط القرن الثامن ق‪.‬م‬
‫تقوى الكوشيون (أصحاب منطقة شمال السودان واملعروفة باسم‬
‫ك ��وش) بحيث أق��دم��وا ع�ل��ى اح �ت�لال م �ص��ر‪ ،‬وأق��ام��وا فيها األسرة‬
‫اخلامسة والعشرين‪ .‬وخاصة على عهد ترحاكا (‪ 663 - 688‬ق‪.‬م)‬
‫الذي وسع مجال فتوحاته ووصلت أيام حتومتس الثالث في القرن‬
‫اخلامس عشر ق‪.‬م‪ .‬إلى شمال سوريا‪ .‬إلى أن جاء اآلشوريني إلى‬
‫مصر ع��ام ‪ 666‬ق‪.‬م واحتلوها‪ ،‬وج��اء بعدهم الكلدانيون فالفرس‬
‫واليونان‪ .‬أم��ا مملكة ك��وش فقد استمرت نحو أل��ف سنة بعد ذلك‬
‫وتوسعت جنوباً ونقلت العاصمة إلى ميروي على بعد حوالي ‪160‬‬
‫كلم ش�م��ال اخل��رط��وم‪ .‬وانتهى أم��ر ه��ذه اململكة سنة ‪ 350‬م على‬
‫يد مملكة أكسيوم املسيحية‪ .‬فقامت بعد ذلك املمالك النوبية التي‬
‫وصلت إليها املسيحية من مصر في أوائل القرن السادس للميالد‪،‬‬
‫منها مملكة علوة‪ ،‬ومملكة املغرة‪ ،‬ومملكة مافوريا‪.‬‬

‫‪661‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬الفتح اإلسالمي‬

‫دخل املسلمون إلى مصر عام ‪ 636‬فعقدوا معاهدة مع الدولة‬


‫النوبية الواقعة في الشمال التي استمرت لفترة طويلة‪ ،‬وخالل هذه‬
‫امل��دة انتشر الدين اإلسالمي في ه��ذه املنطقة بسبب تنقل التجار‬
‫املسلمني فيها‪ ،‬كما ازدادت هجرة املسلمني اليها وخاصة أيام الدولتني‬
‫الفاطمية واأليوبية‪ .‬وكذلك في عهد املماليك‪ .‬وتكللت سيادة اإلسالم‬
‫والعرب على هذه املنطقة بالقضاء على الدولة النوبية املسيحية عام‬
‫‪ .1504‬وقيام دولة الفوجن أو «السلطنة الزرقاء»‪.‬‬

‫قامت دول��ة ف��وجن في ع��ام ‪ 1504‬إل��ى ‪ ،1821‬نتيجة حتالف‬


‫ال�ع��رب القواسمة وال�ف��وجن وام�ت��دت على قسم كبير م��ن السودان‪،‬‬
‫وخاصة في عهد «عمارة دنقس»‪ ،‬واتخذت ستار عاصمة لها بعد‬
‫أن قضت على مملكة ع�ل��وة‪ .‬وم��ع ه��ذه ال��دول��ة ب��دأ انتشار املذهب‬
‫املالكي‪.‬‬

‫ب��دأ تفكك ه��ذه ال��دول��ة ف��ي ال�ق��رن الثامن عشر بسبب مترد‬
‫عدد من القبائل على السلطة‪ ،‬بينما بدأت تنشأ في غربي السودان‬
‫قوة جديدة عرفت مبملكة دارفور وعاصمها طرة‪ .‬وصمدت اململكة‬
‫اجل��دي��دة قرنني ونصف م��ن ال��زم��ن حتى فتحت ق��وات محمد علي‬
‫السودان‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬عهد محمد علي‬

‫تسلم محمد علي باشا شؤون مصر في عام ‪ .1805‬فخطط‬


‫لدخول السودان طمعاً في ذهبه ورجاله للقتال‪ .‬فأرسل ابنه اسماعيل‬
‫باشا على رأس حملة عسكرية إلخضاعه‪ ،‬فقضى على مملكة الفوجن‬
‫وأنهى حكم آخر ملوكها باديس السادس‪ ،‬إال أن اسماعيل قتل في‬

‫‪662‬‬
‫املئمة قرب مدينة شندي شمالي اخلرطوم على يد قبيلة اجلعليني‬
‫بقيادة امللك منر‪ ،‬فأرسل محمد علي فرقة انتقمت من أهل شندي‬
‫وقامت بحرق املدينة وإخضاعها لسلطته‪.‬وفي عام ‪ 1821‬استسلم‬
‫له آخر ملوك مملكة درافور‪.‬‬

‫اتخذت اخلرطوم (ملتقى النيل األبيض بالنيل األزرق) عاصمة‬


‫للسودان للمرة األول��ى‪ .‬وبدأ محمد علي في تنظيم إدارة السودان‬
‫معتمداً أسلوب احملافظة على سلطة زعماء القبائل مع إخضاعها‬
‫لسلطة ن��ائ��ب ل��ه ف��ي ال �س��ودان ولقبه «ح �ك �م��دار»‪ ،‬وش�ه��د السودان‬
‫مرحلة من االستقرار السياسي انعكست على التنمية الزراعية‪ ،‬لكن‬
‫سرعان ما انتشر الفساد في اإلدارة السودانية خاصة بعد وصول‬
‫اخل��دي��وي اسماعيل إل��ى احلكم وال�ب��دء بحفر قناة السويس‪ ،‬حيث‬
‫بدأت مصر تتخبط في أزمتها املالية التي سببتها الديون‪ ،‬مع ازدياد‬
‫تدريجي لسيطرة بريطانيا‪.‬‬

‫تفاقمت األمور في مصر أثناء ثورة أحمد عرابي‪ ،‬حيث تدخلت‬


‫بريطانيا وقمعت الثورة عام ‪ 1882‬وعيّنت اللورد كرومر حاكماً عاماً‬
‫ملصر وال�س��ودان‪ .‬في هذه األثناء أعلنت ث��ورة املهدي في السودان‬
‫واستطاع إقامة دولته التي استمرت حتى عام ‪ ،1898‬فكبّدت هذه‬
‫الثورة القوات االنكليزية خسائر فادحة في األرواح واملعدات‪ .‬وكان‬
‫اخلليفة عبد ال�ل��ه ال��ذي ج��اء بعد محمد أح�م��د امل�ه��دي أح��د أهم‬
‫رجاالت الثورة‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬االحتالل االنكليزي‬

‫اجبرت إنكلترا حكومة مصر على سحب جيشها من السودان‬


‫بعد انتصار ثورة املهدي‪ ،‬وقاد كيتشنر مع عدد من الضباط االنكليز‬

‫‪663‬‬
‫حملة اجليش املصري إلع��ادة دخول السودان من عام ‪ 1896‬حتى‬
‫عام ‪ ،1898‬حيث هُزم املهديون في معركة أم درمان‪ ،‬فأجبر االنكليز‬
‫مصر على توقيع اتفاقية عام ‪ 1899‬فنصت على رفع العلمني املصري‬
‫واالنكليزي‪ .‬وعلى تعيني حاكم عسكري للسودان تختاره بريطانيا‬
‫ويعينه اخلديوي‪ ،‬ويفصل بالطريقة ذاتها‪ .‬واحتفاظ مصر بفرقة‬
‫عسكرية في السودان‪ .‬وبعد ثورة ‪ 1919‬في مصر‪ ،‬استغل االنكليز‬
‫مقتل السردار فأجبروا حكومة مصر على سحب تلك الفرقة ولكن‬
‫بعض الوحدات املصرية ما لبثت أن عادت بعد معاهدة ‪.1936‬‬

‫بدأت التظاهرات واالحتجاجات تعم مصر والسودان‪ ،‬وشهد‬


‫العام ‪ 1924‬اغتيال احلاكم العام للسودان أثناء زيارته ملصر‪ ،‬ما‬
‫أدى إل��ى رد عنيف مت�ث��ل مب�ن��ع م�ش��ارك��ة م�ص��ر ف��ي ح�ك��م السودان‬
‫حسب معاهدة ‪ .1899‬وفي الفترة التي نالت فيها مصر استقاللها‪،‬‬
‫تنامت حركات املعارضة في السودان‪ .‬ففي عام ‪ 1938‬قام «مؤمتر‬
‫اخلريجني» وهو احتاد املعلمني السودانيني بقيادة اسماعيل األزهري‬
‫باالندماج مع احلزب الوطني االحتادي‪.‬‬

‫وفي عام ‪ 1941‬تأسس حزب األشقاء‪ ،‬وفي عام ‪ 1943‬تأسس‬


‫حزب األمة بقيادة عبد الرحمن املهدي‪ .‬وفي ‪ 1946‬تأسس احلزب‬
‫الشيوعي وتبعه بعد ذلك اإلخوان املسلمون‪ .‬وجنح البريطانيون في‬
‫معاد ملصر حتت شعار‬‫مطلع العشرينات في تكوين تيار سوداني قوي ٍ‬
‫«ال �س��ودان للسودانيني» وتشكل م��ن‪ :‬علي امليرغني زعيم الطائفة‬
‫اخلتمية‪ ،‬وع�ب��د الرحمن امل�ه��دي زع�ي��م طائفة األن �ص��ار والشريف‬
‫يوسف املهتدي زعيم الطائفة الهندية‪ .‬وأدت التحوالت السياسية‬
‫السودانية في الثالثينيات إلى تصدع هذا احللف‪ ،‬ما أدى إلى إثارة‬
‫حفيظة امليرغني ال��ذي ق��رر التحالف م��ع ال�ق��وى الوطنية «مؤمتر‬
‫اخلريجني» منادين من جديد بالوحدة مع مصر‪.‬‬

‫‪664‬‬
‫إال أن خيبات األم��ل والضربات التي كسرت الصورة املثالية‬
‫ملصر عند السودانيني توالت وخاصة عند الشباب الذي سافر للتعلم‬
‫في القاهرة‪ .‬وكانت الضربة الثانية بعد معاهدة ‪ 1936‬بني مصر‬
‫وبريطانيا التي أع��ادت إلى مصر شيئاً من نفوذها على السودان‪.‬‬
‫فقد صدمت املعاهدة السودانيني باعبارها لم تذكر لهم أي دور‪ ،‬ما‬
‫أعاد بعث احلركة الوطنية التي وإن كانت تتطلع إلى مصر‪ ،‬إال أنها‬
‫أدركت أن من الصعوبة مبكان االعتماد عليها كلياً لتعبر عن صوت‬
‫السودانيني‪.‬‬

‫أعطت ث��ورة ‪ 23‬مت��وز ‪ 1952‬في مصر بعداً آخ��ر للعالقات‬


‫امل�ص��ري��ة السوديانية ب�ب��روز ال �ل��واء محمد جنيب ال��ذي ك��ان يتمتع‬
‫بشعبية واسعة في ال�س��ودان‪ ،‬وكذلك من بعده الرئيس جمال عبد‬
‫الناصر‪ ،‬فأعطت هذه الثورة دفعة قوية لتيار الوحدة املتجاوب مع‬
‫الوحدويني السودانيني‪ ،‬ومتكنوا في الوقت نفسه من طمأنة حزب‬
‫األمة واالستقالليني إلى نوايا مصر‪ ،‬ولم يترددوا في توقيع اتفاق‬
‫مع كل األحزاب السودانية في عام ‪ 1953‬ملنح السودان حق تقرير‬
‫مصيره‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬االستقالل‬

‫بعد قيام ثورة متوز ‪ 1952‬بدأت محادثات مصرية بريطانية‬


‫تتعلق بالوضع السوداني‪ ،‬ومهد لها الطرف املصري باالسهام في‬
‫توحيد األحزاب السودانية الهادفة لوحدة النيل‪ .‬ونصت االتفاقية‬
‫على االع�ت��راف بحق السودانيني في تقرير املصير واالختيار بني‬
‫االستقالل التام وبني الوحدة مع مصر‪ .‬وحددت مهلة إلنهاء اإلدارة‬
‫الثنائية وانسحاب القوات البريطانية واملصرية منه‪.‬‬

‫‪665‬‬
‫وفي عام ‪ 1953‬حصل السودان على احلكم الذاتي للشمال‪،‬‬
‫بينما حافظت بريطانيا على مركزها في اجلنوب‪ .‬وأسفرت االنتخابات‬
‫عن فوز احلزب الوطني االحت��ادي‪ ،‬فعني اسماعيل األزهري رئيساً‬
‫للحكومة اجل��دي��دة‪ .‬وف��ي أول ك��ان��ون ال�ث��ان��ي ‪ 1956‬أع�ل��ن رسمياً‬
‫استقالل السودان وتألفت حكومة جديدة برئاسة األزهري‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬حركة الضباط األحرار‬

‫أمام تخبط احلكومات في معاجلة األزمات‪ ،‬كان التيار الناصري‬


‫يالقي جتاوباً في كافة أرجاء العالم العربي‪ ،‬فقام في عام ‪1969‬‬
‫مجموعة من «الضباط األحرار» بقيادة محمد جعفر النميري بانقالب‬
‫على السلطة في السودان معلنة التزامها باملبادىء الناصرية‪ .‬ترأس‬
‫النميري مجلس قيادة الثورة‪ ،‬وعني بابكر عوض الله رئيساً للحكومة‬
‫اجلديدة‪ .‬وعلى الصعيد االقتصادي عمل النظام على تأميم املصارف‬
‫واملؤسسات األجنبية‪ ،‬ودعم العالقات مع االحتاد السوفياتي والدول‬
‫االشتراكية‪ .‬ووقفت عدة اح��زاب سودانية في وجه هذه التوجهات‬
‫مثل‪ :‬حزب األمة بزعامة الصادق املهدي‪ ،‬وتنظيم اإلخوان املسلمني‬
‫إلى جانب احلزب الشيوعي احملظور‪.‬‬

‫وفي شباط ‪ 1970‬انتفض املهديون ‪،‬األنصار وحزب األمة‪ ،‬ضد‬


‫حكم النميري‪ ،‬لكنهم هزموا حيث قتل اإلمام الهادي املهدي‪ .‬وفي‬
‫متوز ‪ 1971‬نفذ احلزب الشيوعي انقالباً كاد يطيح باحلكم‪ ،‬حتى‬
‫إنه سجن ملدة يومني قبل أن يعود إلى السلطة بعد تدخل مباشر من‬
‫ليبيا ومصر وبعد فشل هذا االنقالب قام بجملة اعتقاالت وإعدامات‬
‫واسعة‪ .‬وفي عام ‪ 1972‬وبعد مباحثات طويلة ساهمت فيها أطراف‬
‫دولية مت في أدي��س أبابا توقيع اتفاقية بني النميري وممثلني عن‬
‫األحزاب االنفصالية في اجلنوب‪ ،‬تقضي بإعطاءهم حكماً ذاتياً في‬

‫‪666‬‬
‫اجلنوب للواليات الثالث‪ .‬وفي عام ‪ 1976‬حدثت محاولة انقالبية‬
‫مهمة قادها العميد محمد نور سعيد الذي أعدم بعد فشل االنقالب‬
‫الذي سقط فيه مئات القتلى‪.‬‬

‫وبسبب التهديدات الداخلية املستمرة‪ ،‬ازداد تقرب السلطة من‬


‫كل سلطة تتوسم فيها احلماية‪ ،‬فوقع السودان املزيد من االتفاقيات‬
‫األمنية مع مصر‪ .‬كما ازداد انفتاحاً على الغرب وخاصة مع الواليات‬
‫امل�ت�ح��دة األم��ري�ك�ي��ة ال�ت��ي طلب منها ب�ن��اء ق��واع��د عسكرية لها في‬
‫السودان ‪ ،‬بعد فشل انقالب ‪ 15‬أذار ‪ 1981‬وهو االنقالب اخلامس‬
‫عشر ضد الرئيس جعفر النميري‪.‬‬

‫وفي أذار ‪ 1983‬عادت مسألة اجلنوب إلى الواجهة‪ ،‬وخاصة‬


‫إث��ر ب��روز مت��رد مسلح ف��ي اجل�ن��وب برئاسة ج��ون غ��ارن��غ ال��ذي أكد‬
‫أن حركته تسيطر على األراض��ي في اجلنوب السوداني‪ ،‬وتفاقمت‬
‫األوض ��اع ف��ي نيسان ‪ 1984‬عقب ق��رار النميري تطبيق الشريعة‬
‫اإلس�لام�ي��ة ف��ي سعي منه إلرض��اء احل��رك��ة اإلس�لام�ي��ة‪ .‬وع��اد ورفع‬
‫حالة الطوارىء في أيلول ‪ 1984‬مرتداً على اإلخوان املسلمني‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬االنقالب على النميري‬

‫ف��ي أذار ‪ 1985‬أعلنت احلكومة ع��ن زي��ادة ف��ي أس�ع��ار املواد‬


‫األولية‪ ،‬فقامت تظاهرات كبيرة في مقدمتها آالف األطباء واحملامني‬
‫وأساتذة اجلامعات وعمت املظاهرات مختلف املدن السودانية مطلقة‬
‫ش�ع��ارات مناهضة للحكم ووص��ل األم��ر إل��ى ذروت��ه عند كشف دور‬
‫النميري في تهريب يهود الفاالشا إلى إسرائيل‪ ،‬وتواصلت أعمال‬
‫الشغب مع اإلض��راب العام حتى ‪ 6‬نيسان حيث ق��ام الفريق سوار‬
‫الذهب بحركته التي لقيت دعماً من اجليش فاضطر النميري للتخلي‬

‫‪667‬‬
‫عن حكمه والبقاء في مصر حيث كان في زيارة خاصة‪.‬‬

‫بعد س�ن��ة‪ ،‬نفد املجلس العسكري وع��ده ب��إج��راء االنتخابات‬


‫العامة في نيسان ‪ 1986‬ففاز حزب األمة برئاسة الصادق املهدي‬
‫بغالبية املقاعد وح��ل باملركز الثاني االحت��اد ال��دمي�ق��راط��ي وبعده‬
‫اجلبهة القومية اإلسالمية‪ .‬فشكل املهدي حكومته إال أنها سرعان‬
‫ما تهاوت أمام حزب االحتاد الدميقراطي الذي أعاد تنظيم نفسه‬
‫وجنح في عامي ‪ 1987‬و‪ 1988‬في السيطرة على ‪ %70‬من قوى‬
‫االنتاج وبالتالي أع��اد ال�ت��وازن اجلماهيري بينه وب�ين ح��زب األمة‪.‬‬
‫وأدى هذا األمر إلى فقدان املهدي ثقته في الغالبية البرملانية التي‬
‫يتمتع بها‪ ،‬ما دفع به إلى تبديل‪ ،‬وتعديل حكوماته عسى أن يؤدي‬
‫ذلك إلى استقرار حكمه‪.‬‬

‫سابع ًا‪ :‬عهد عمر حسن البشير (‪).... - 1989‬‬

‫في ‪ 30‬حزيران ‪ 1989‬جاء انقالب الفريق عمر حسن البشير‬


‫مدعوماً من اجلبهة القومية اإلسالمية‪ ،‬ورئيسها حسن الترابي‪.‬‬
‫فاعاد إطالق العمليات العسكرية ضد ثوار اجلنوب‪ .‬وتسنى للجيش‬
‫احلكومي ف��ي عامي ‪ 1991‬و‪ 1992‬حتقيق ع��دد م��ن االنتصارات‬
‫امليدانية في اجلنوب عن طريق دفع ق��وات املتمردين نحو املناطق‬
‫احلدودية مع البلدان املجاورة وحصرهم هناك‪ .‬بهدف إعادة سيطرة‬
‫الدولة على املناطق اجلنوبية‪.‬‬

‫وف��ي ش�ب��اط ‪ 1993‬زار البابا يوحنا ب��ول��س الثاني السودان‬


‫والتقى بالرئيس عمر البشير‪ ،‬وش��دد ف��ي كلمته على ض��رورة أن‬
‫يتمتع املسيحيون في السودان باحلرية في ممارسة شعائرهم‪ .‬وفي‬
‫آب‪ ،‬توترت العالقات مع الواليات املتحدة األمريكية التي وضعت‬

‫‪668‬‬
‫اخلرطوم في قائمة الدول الداعمة لالرهاب وفرضت عليه حصاراً‬
‫غير مباشر أدى إلى نشوء ضائقة إقتصادية في البالد‪ .‬وفي كانون‬
‫الثاني ‪ 1994‬ن��زح أكثر من ‪ 100,000‬شخص من سكان اجلنوب‬
‫باجتاه أوغندا البلد الداعم لقوات جون غارنغ االنفصالية‪ .‬ثم أقيم‬
‫ال من‬
‫في شهر أيلول من نفس العام مؤمتر ضم إلى جانب السودان ك ً‬
‫إثيوبيا وأريتريا لتحقيق األمن بني أوغندا والسودان بسبب املناوشات‬
‫العسكرية بني الطرفني‪ ،‬ولسحب جيش كل منهما من احلدود‪.‬‬

‫وفي ‪ 2‬أذار ‪ 1996‬أسفرت االنتخابات التشريعية في البالد‬


‫عن فوز حسن الترابي ليترأس املجلس التشريعي وليدعم الرئيس‬
‫البشير في سياسته اإلسالمية‪ .‬وعلى صعيد العالقات اخلارجية‪،‬‬
‫فقد تعرضت العالقة مع مصر إلى فتور وتوتر شديد عقب رفض‬
‫السلطات السودانية تسليم ثالثة من املتهمني من قبل السلطات‬
‫األثيوبية واملصرية مبحاولة اغتيال الرئيس املصري حسني مبارك‬
‫في شهر حزيران ‪ 1995‬في إثيوبيا‪ .‬فاتهمت مصر السودان لدى‬
‫األمم املتحدة بإيوائها لإلرهابيني ومساندتهم في أيار ‪.1996‬‬

‫سببت قضية دارف��ور املزيد من املتاعب للرئيس عمؤ حسن‬


‫البشير‪ ،‬وصلت إلى إصدار مذكرة توقيف بحقه عن احملكمة اجلنائية‬
‫الدولية‪ .‬كما ج��رى في العام ‪ 2010‬استفتاء على انفصال جنوب‬
‫السودان وسط تدخل اميركي واضح ملصلحة هذا االنفصال‪.‬‬

‫‪669‬‬
670
‫الفصل التاسع عشر‬
‫الصومال‬

‫يفتخر الصوماليون بانتسابهم إلى القبائل العربية التي انحدرت‬


‫من شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬وخاصة من قريش‪ .‬كما يفتخرون بأنهم‬
‫يشكلون مجتمعاً واحداً موحداً بالدين واللغة والتقاليد‪ .‬وإن كان ثمة‬
‫عدة لهجات محلية مختلفة‪ .‬فاألثر احلافز واملوحد للتأثير العربي‬
‫اإلس�لام��ي ك��ان أكبر ف��ي الصوماليني منه على أي شعب آخ��ر من‬
‫شمالي أفريقيا‪ ،‬فقد أصبح اإلس�لام عامل توحيد ف��ي احلضارة‬
‫الصومالية‪ ،‬وكانت شدة إميان الصوماليني تتعزز باستمرار من جانب‬
‫الدعاة الذين تدفقوا من اجلزيرة العربية وأصبح هؤالء هم األولياء‬
‫الصاحلني للشعب الصومالي ومنهم إسماعيل اجلبرتي املعروف‪.‬‬
‫عندما ضعف أم��ر ال��دول��ة اإلسالمية خ��ف سلطانها على األقاليم‬
‫البعيدة عنها فنشأت ع��دة إم��ارات محلية يحكمها شيوخ القبائل‪.‬‬
‫ووقع صراع بني اإلمارات اإلسالمية وبني دولة احلبشة النصرانية‪.‬‬
‫وصل املستعمرون البرتغاليون إلى هذه املنطقة حوالي العام ‪.1497‬‬
‫حيث سيطروا على اإلم��ارات وامل��دن اإلسالمية‪ ،‬وق��د حتالفوا مع‬
‫ملك احلبشة ضد املسلمني‪ .‬وجاء العثمانيون ليقفوا في وجه املد‬

‫‪671‬‬
‫الصليبي اجلديد إلى هذه املنطقة واستطاعوا بعد دخولهم القاهرة‬
‫ع��ام ‪ 1517‬أن يستولوا على ه��ذه اإلم��ارات واملمالك‪ .‬ازداد نفوذ‬
‫الدولة العثمانية بالضعف‪ ،‬وأصبح واليها على مصر (محمد علي‬
‫باشا) صاحب النفوذ مكانها في بالد الصومال‪ ،‬وأخذت مصر حتكم‬
‫تلك األجزاء باسم الدولة العثمانية‪ .‬حيث بدأ الصراع االستعماري‬
‫يدخل املنطقة‪ ،‬فاحتلت بريطانيا عدن عام ‪ .1839‬ودخلت فرنسا‬
‫ف��ي ه��ذا ال�ب��اب أي�ض�اً فنزلت قواتها ف��ي مدينة ت��اج��ورا ث��م أوبوك‬
‫الساحلية وأما اإليطاليني في أول األمر كانوا في عصب ثم متركزوا‬
‫في الساحل اجلنوبي‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬بداية االستعمار‬

‫ورث املصريون في عهد اخل��دي��وي إسماعيل تركة تركيا في‬


‫املنطقة‪ ،‬وبسطوا نفوذهم على الساحل الشمالي للصومال‪ .‬إال أن‬
‫اإلنكليز الذين حلموا بتملك تركة الدولة العثمانية‪ ،‬سرعان ما حركوا‬
‫قواتهم في املنطقة‪ ،‬فاحتلوا مصر ع��ام ‪ 1882‬ونالوا حصتها في‬
‫الساحل الصومالي وأقاموا منذ العام ‪ 1887‬الصومال اإلنكليزي‪.‬‬
‫وت �ن��ازل��ت ب��ري�ط��ان�ي��ا ع��ن منطقة ج��وب��ا ال�س�ف�ل��ى ف��ي أق �ص��ى جنوب‬
‫الصومال إليطاليا‪ ،‬حيث كانت تتبع لكينيا‪ ،‬وأ ُعطيت كينيا مقابل‬
‫ذلك األراضي الصومالية الواقعة شرق بحيرة رودولف‪ .‬كما أعطيت‬
‫فرنسا منطقة جيبوتي‪ .‬وواج��ه االستعماران البريطاني واإليطالي‬
‫ثورة الزعيم محمد عبد الله حسن امللقب مبهدي الصومال‪،‬والذي‬
‫قاوم املستعمرين لعشرين عاماً‪.‬‬

‫كانت بداية املقاومة عام ‪ .1899‬واستطاع حسن انتزاع حق‬


‫ال �س �ي��ادة ع�ل��ى م�ن��اط��ق ع��دي��دة‪ .‬وف��ي ع��ام ‪ .1913‬وأحل �ق��ت قواته‬
‫هزمية نكراء بالقوات اإلنكليزية التي قادها الكولونيل «كورفيلدو»‪.‬‬

‫‪672‬‬
‫وك��ان محمد عبد الله حسن قد أج��رى عدة أح�لاف مع العثمانيني‬
‫وإمبراطور احلبشة (ليدجي يسوع الذي اعتنق اإلسالم وفقد جراء‬
‫ذلك عرشه)‪ .‬واستطاع ونستون تشرشل بإصداره األمر باستعمال‬
‫الطيران احلربي أن ينال من الزعيم الصومالي عام ‪ 1920‬فتكبدت‬
‫قواته خسائر كبيرة‪ ،‬إال إنه جنا من املوت‪ ،‬فلجأ إلى أثيوبيا حيث‬
‫توفي هناك عام ‪.1921‬‬

‫ه��زم��ت إي�ط��ال�ي��ا ف��ي احل ��رب ال�ع��امل�ي��ة ال�ث��ان�ي��ة أم ��ام احللفاء‪،‬‬


‫واستطاعت بريطانيا تشكيل إدارة عسكرية في الصومال اإلنكليزي‬
‫واإليطالي في عام ‪ .1942‬بعد ذلك طالبت إيطاليا بحقوقها في‬
‫الصومال اإليطالي عقب توقيعها معاهدة السالم في شباط ‪.1947‬‬
‫وبعد سنتني أع��ادت األمم املتحدة الصومال اإليطالي إل��ى اإلدارة‬
‫اإليطالية ملدة عشر سنوات‪ ،‬على ان يحصل بعدها على االستقالل‪.‬‬
‫كما تسلمت إيطاليا إقليمها من بريطانيا في كانون األول ‪ 1950‬في‬
‫الوقت الذي هدف الصوماليون إلى توحيد أجزاء الصومال وإعالن‬
‫االستقالل‪ .‬في هذا الوقت سمحت بريطانيا بتأسيس حزب وحدة‬
‫ضمت أوغادين إلى‬ ‫الشباب الصومالي عام ‪ 1947‬وفي عام ‪ُ 1948‬‬
‫أثيوبيا‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬االستقالل‬

‫أرس�ل��ت األمم املتحدة ع��ام ‪ 1948‬وف��داً إل��ى ال�ص��وم��ال ميثل‬


‫الدول األربع الكبرى‪ :‬بريطانيا والواليات املتحدة وفرنسا وإيطاليا‪.‬‬
‫في وق��ت كانت احلبشة تسعى لضم الصومال بكل ثقلها‪ .‬فوقعت‬
‫عدة أحداث دامية كثرت فيها القتلى‪ .‬وجرت االنتخابات األولى في‬
‫موعدها عام ‪ .1956‬حيث حصل حزب وح��دة الشباب الصومالي‬
‫على األكثرية وشكل عبد الله عيسى أول حكومة وطنية وانتخب آدم‬

‫‪673‬‬
‫عبد الله عثمان رئيساً للجمعية التشريعية‪.‬‬

‫وفي عام ‪ 1951‬أحلق إقليم العمود باحلبشة وأثارت هذه املشكلة‬


‫موجة من االعتراضات في الصومال البريطاني‪ .‬وفي عام ‪1957‬‬
‫أسست بريطانيا مجلساً تشريعياً معينا في الصومال البريطاني‪.‬‬
‫وحتت تأثير الضغط املتزايد من أجل الوحدة مع الصومال اإليطالي‪،‬‬
‫اعترفت بريطانيا باستقالل الصومال البريطاني قبل أيام قليلة من‬
‫انتهاء فترة الوصاية‪ .‬وحتققت الوحدة ف��وراً بني الصوماليني وهو‬
‫مثل فريد في تاريخ التحرر من االستعمار‪ .‬واندمجت اجلمعيتان‬
‫التشريعيتان وانتخب عبد الله عثمان رئيساً للجمهورية وعبد العزيز‬
‫علي شرمايكة رئيساً للوزراء‪ ،‬وأصبح محمد إبراهيم عقال رئيس‬
‫وزراء الصومال البريطاني سابقاً وزيراً للدفاع‪.‬‬

‫وف��ي ‪ 29‬تشرين الثاني ‪ 1954‬عقدت معاهدة في لندن بني‬


‫بريطانيا واحل�ب�ش��ة ت�ن��ازل��ت مبوجبها بريطانيا ع��ن منطقة الهود‬
‫للحبشة‪ .‬وهكذا استطاعت احلبشة الظفر بإمارة الهرر ومنطقتي‬
‫الهود وأوغادين‪ ،‬لكن سرعان ما انفجرت األوضاع وعمت الثورات‬
‫مختلف املناطق ‪ ،‬وازدادت احلركات بعد استقالل الصومال وأخذت‬
‫تطالب بعودة هذه األجزاء إلى الوطن األم ‪.‬‬

‫وفي آب ‪ 1960‬زار وفد صومالي املقاطعة الشمالية على حدود‬


‫كينيا ليطالب بانضمامه إلى الصومال‪ .‬وفي االنتخابات التشريعية‬
‫التي جرت في آذار ‪ 1964‬أجمعت األحزاب الثالثة (جامعة الشبيبة‬
‫الصومالية واحلزب الوطني الصومالي وحزب االحتاد الدميقراطي‬
‫الصومالي) على النضال من أج��ل حتقيق الصومال الكبير‪ .‬وبعد‬
‫تشكيل ح�ك��وم��ة ج��دي��دة ب��رئ��اس��ة ع�ب��د ال� ��رزاق ح�ج��ي ح�س�ين أمني‬
‫ع��ام ح��زب وح��دة الشباب الصومالي‪ ،‬ج��رت سلسلة من التسويات‬

‫‪674‬‬
‫واملساومات‪ ،‬وصاحب ذلك تدهور في الوضع البرملاني عامة وحجب‬
‫املجلس التشريعي الثقة عن حكومة حسني في عام ‪ ،1967‬وعني‬
‫إب��راه�ي��م ع�ق��ال أح��د ق��ادة جامعة الشبيبة الصومالية على رأس‬
‫احلكومة‪ .‬وفي االنتخابات التشريعية عام ‪ 1969‬خرج حزب جامعة‬
‫الشبيبة الصومالية منتصراً وبذلك ظل إبراهيم عقال على رأس‬
‫احلكومة‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬االنقالب األول واالستقرار‬

‫ف��ي ‪ 15‬تشرين األول ‪ 1969‬اغتيل رئ�ي��س اجل�م�ه��وري��ة عبد‬


‫الرشيد علي شرمايكة‪ ،‬وبعد م��دة نُفذ ان�ق�لاب عسكري وانتقلت‬
‫السلطة إل��ى اجليش واستلم زم��ام األم��ور قائده محمد زي��اد بري‪،‬‬
‫فعلق دستور عام ‪ 1960‬وحل املجلس الوطني واألح��زاب الوطنية‪،‬‬
‫وع�ي�ن رئ �ي��س األرك� ��ان م�ح�م��د ع�ن�ي�ش��ه ن��ائ �ب �اً ل��ه‪ .‬وم��ا ل�ب��ث النظام‬
‫اجلديد أن أعلن الصومال دولة اشتراكية‪ ،‬فأمم الشركات اخلاصة‬
‫وأق��ام عالقات جيدة مع ال��دول االشتراكية وف��ي مقدمتها االحتاد‬
‫السوفيتي‪ .‬واستطاع الرئيس بري في عام ‪ 1971‬جمع دول وسط‬
‫أفريقيا وتوقيعهم «بيان مقديشو» ال��ذي دع��ا إل��ى مواصلة الكفاح‬
‫املسلح في أفريقيا اجلنوبية ومعارضتها الشديدة إلجراء أي حوار مع‬
‫الدولة العنصرية‪ ،‬أما في الداخل فقد واجه النظام عدة محاوالت‬
‫انقالبية‪ .‬ففي عام ‪ 1970‬اعتقل علي كورشل قائد الشرطة السابق‪،‬‬
‫واتهم بالتآمر ملصلحة إبراهيم عقال‪ .‬وفي عام ‪ 1971‬اعتقل نائب‬
‫الرئيس عنيشة بتهمة تدبير انقالب عسكري فحوكم ونفذ فيه حكم‬
‫اإلعدام في عام ‪ .1972‬وفي عام ‪ 1973‬أطلقت احلكومة سبيل ‪18‬‬
‫من القادة السابقني‪ ،‬بينهم الرئيس السابق عثمان ورئيس الوزراء‬
‫السابق حسني‪.‬‬

‫‪675‬‬
‫باشر محمد زياد بري بتنفيذ برنامج إصالحي وإمنائي ومثل‬
‫ال ل�ه��ا‪ ،‬ومع‬
‫ب��ذل��ك جت��رب��ة اش�ت��راك�ي��ة ل��م تعهد ال �ق��ارة ال �س��وداء مثي ً‬
‫ذل��ك ف��إن الصومال ظل أفقر ال��دول في العالم‪ ،‬وبالرغم من ذلك‬
‫فقد حققت السلطات جناحات في شتى القطاعات االقتصادية‪،‬‬
‫فاستطعت القضاء على عجز املوازنة ابتداء من العام ‪ ،1971‬كما‬
‫جنحت في التخفيف من ح��دة كارثة اجلفاف التي أصابت البالد‬
‫بني عامي ‪ 1973‬و‪ 1975‬باتخاذها إجراءات حوّلت آالف البدو إلى‬
‫فالحني‪ .‬كما عملت الدولة على محو األمية على نطاق واس��ع‪ ،‬إال‬
‫أنها ألغت احل��رف العربي من أحرفها واعتمدت احل��رف الالتيني‬
‫بعدما دخلت في جامعة الدول العربية في ‪ 21‬تشرين األول ‪.1972‬‬
‫وفي كانون الثاني ‪ 1975‬وعلى أثر خطاب ألقاه بري أعلن فيه عن‬
‫ضرورة إعادة النظر في التشريع الصومالي بحيث تكرّست حقوق‬
‫املرأة وهاجم بعض العادات واألعراف اإلسالمية‪ ،‬قام بعض العلماء‬
‫ورج��ال الذين بحملة مركزه في املساجد تستهدف النظام القائم‬
‫وتعدياته‪ ،‬فتحركت السلطات وجابهت العلماء بعنف وقسوة فألقت‬
‫القبض عليهم ون�ف��ذت بهم حكم اإلع ��دام‪ .‬وف��ي ع��ام ‪ 1978‬جرت‬
‫محاولة انقالب فاشلة ق��ام بها بعض رج��ال القوات املسلحة‪ ،‬قتل‬
‫فيها مئات األشخاص‪ ،‬وألقي القبض على ‪ 17‬ضابطاً وحكم عليهم‬
‫ب��اإلع��دام‪ ،‬وه��رب ضباط آخ��رون نحو احلبشة حيث شكلوا جبهة‬
‫العمل الدميقراطي الصومالي‪ ،‬ومنهم عبد الله يوسف‪.‬‬

‫في كانون األول ‪ 1979‬أجريت االنتخابات العامة ملجلس الشعب‬


‫وفق الدستور اجلديد‪ .‬كما أجريت االنتخابات الرئاسية في كانون‬
‫األول ‪ .1986‬وك��ان محمد زي��اد ب��ري املرشح الوحيد فحصل على‬
‫‪ 99,93%‬من أص��وات الناخبني وأعيد تشكيل احلكومة من جديد‬
‫برئاسة اللواء محمد على سماتر‪ .‬وكان هذا املركز من مراكز بري‬

‫‪676‬‬
‫سابقاً‪ ،‬وفي نيسان ‪ 1988‬وقع الصومال معاهدة سالم مع احلبشة‪،‬‬
‫وجاءت هذه املعاهدة بعد حرب طويلة كانت تشنها حكومة الصومال‬
‫عبر دعمها جلبهة حترير الصومال الغربية التي كانت تقوم بعمليات‬
‫عسكرية كبيرة ضد اجليش احلبشي منذ عام ‪ .1977‬وأدى الدعم‬
‫الصومالي إلى توتر األجواء بني الصومال واالحتاد السوفيتي الذي‬
‫أصبح احلليف األول للحبشة في أفريقيا‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬التوتر الداخلي‪ ...‬واحلرب األهلية‬

‫استنزفت احل��رب الصومالية ‪ -‬احلبشية في إقليم أوغادين‬


‫القوات واالقتصاد الصوماليني بعد تخلي االحتاد السوفيتي وحلفاؤه‬
‫الشيوعيني عن مواصلة الدعم املادي الذي كانوا يقدمونه للصومال‪.‬‬
‫وحاول الرئيس الصومالي محمد زيًاد بري إعادة العالقات إلى ما‬
‫كانت عليه‪ ،‬إال أن املساعدات لم تعد تتدفق على الصومال‪ .‬األمر‬
‫ال��ذي أدى إل��ى تفاقم كبير ل�لأزم��ة االقتصادية حت��ت جل��وء أعداد‬
‫كبيرة من الصوماليني من إقليم أوغادين إلى الصومال‪ .‬وكانت حركة‬
‫املعارضة الصومالية في ازدياد وتطور على رأسها العقيد عبد الله‬
‫يوسف الذي أعلن في آذار ‪ 1981‬أن جبهة اإلنقاذ الصومالية دخلت‬
‫مرحلة تفجير الثورة املسلحة ضد النظام القائم‪ ،‬وأن مجموعات‬
‫كبيرة من اجليش الصومالي تدفقت إلى اجلبهة والتحقت بها‪ .‬وبعد‬
‫حصول زياد بري في انتخابات ‪ 86‬على ‪ %99،93‬من األصوات بأقل‬
‫من شهر واحد بدأت سلسلة أحداث أمنية في العاصمة مقديشو ‪،‬‬
‫وبدأ اآلالف من الشعب الصومالي بالتدفق نحو احلبشة وخاصة في‬
‫شهر آب ‪ .1988‬حاول الرئيس بري معاجلة املوضوع‪ ،‬ولكن بعد فوات‬
‫األوان فسمح بتعدد األحزاب في ‪ 24‬كانون األول ‪ 1990‬وعني رئيساً‬
‫جديداً للحكومة‪ ،‬لكن بعد شهر واحد أي ‪ 27‬كانون الثاني ‪1991‬‬
‫استولى املتمردون الثوار على قصره‪ ،‬وفر هارباً إلى اجلنوب حيث‬

‫‪677‬‬
‫قبيلته‪ ،‬وتسلم رئاسة البالد على مهدي محمد استنزفت وسقطت‬
‫بربرة وكيسما بيد املتمردين‪ ،‬ورافق ذلك أحداث دموية أودت بحياة‬
‫اآلالف من الصوماليني‪ .‬وكانت القوات الصومالية املعارضة دخلت‬
‫العاصمة مقديشو برئاسة اجلنرال محمد ف��ارح عيديد من أفراد‬
‫قبيلة الهوبة‪ .‬وفي أول أيار ‪ 1991‬أعلنت «جمهورية أرض الصومال»‬
‫ف��ي الشمال ‪،‬ب�ع��د ذل��ك دب��ت اخل�لاف��ات داخ��ل تنظيمات املعارضة‬
‫املسلحة‪ ،‬فقبيلة الهوبة التي ينتمي إليها ك��ل م��ن عيديد ومهدي‬
‫محمد ورئ�ي��س احلكومة اجل��دي��دة عمر ع��رت��ة‪ ،‬ق��د تسلمت مقاليد‬
‫احلكم م��ا أث��ار حفيظة باقي القبائل ف��ي امل�ع��ارض��ة التي ساهمت‬
‫في الثورة‪ ،‬وخاصة قبيلة املجرتني وتنظيمها اجلبهة الدميقراطية‬
‫إلنقاذ الصومال بقيادة عبد الله يوسف وقبائل اإلسحاق وتنظيمها‬
‫«احلركة الوطنية الصومالية» برئاسة عبد الرحمن أحمد علي تور‪.‬‬

‫واشتد اخلالف عندما قام عمر عرتة بتسريح اجليش وسحب‬


‫األسلحة منه حيث حصرت األسلحة بيد أف��راد قبيلة الهوبة الذي‬
‫تزعمهم محمد فارح عيديد‪ ،‬فوقع اخلالف بني أفراد القبيلة الواحدة‪،‬‬
‫فعشيرة األبغال تؤيد علي مهدي محمد الذي يتزعم اجلناح السياسي‬
‫ويؤيده أحمد جيلو‪ ،‬وعشيرة الهيرجدر تؤيد محمد فارح عيديد الذي‬
‫يتزعم اجلناح العسكري‪ .‬واشتد الصراع بني الفصائل الصومالية ووقع‬
‫آالف الضحايا‪ ،‬وفي تشرين الثاني ‪ 1991‬أطيح بالرئيس علي مهدي‬
‫محمد وتصعدت عمليات احل��رب األهلية التي طالت أرج��اء البالد‪،‬‬
‫وزادت من مآسيها مجاعة ضربت نحو ‪ 1,5‬مليون صومالي فتنادت‬
‫الدول الغربية لوقف ما يحصل في الصومال ومساعده الشعب‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬مفاوضات إنهاء احلرب األهلية‬

‫في أول شباط ‪ 1997‬أنهت الفصائل الصومالية املؤلف من‬

‫‪678‬‬
‫ال اجتماعات أسفرت عن اتفاق زعماء الفصائل باستثناء‬ ‫‪ 26‬فصي ً‬
‫فصيل حسني عيديد واالحتاد اإلسالمي وجمهورية أرض الصومال‪،‬‬
‫على تشكيل مجلس وطني لإلنقاذ تنبثق عنه هيئة أساسية جماعية‪.‬‬
‫وق��د أط �ل��ق ع�ل��ى ه��ذه االج �ت �م��اع��ات ال �ت��ي ع �ق��دت ف��ي أدي ��س أبابا‬
‫»مؤمتر س��ودري«‪ .‬وقد ب َّرر عيديد عدم مشاركته أن هذه اللقاءات‬
‫يجب أن تتم على أرض الصومال‪ .‬ولهذا واف��ق على املشاركة في‬
‫مؤمتر بوصاصو (على الساحل الشمالي للصومال) الذي دعت إليه‬
‫الفصائل الصومالية في ‪ 10‬حزيران ‪ .1997‬وكان مؤمتر سودري‬
‫نقطة البداية اجل��ادة في إنهاء املنازعات واستكمل ذلك اللقاءات‬
‫الالحقة بني حسني عيديد وعلي مهدي في صنعاء والقاهرة‪ .‬وفي‬
‫كانون األول ‪ 1997‬رعت القاهرة محادثات بني مختلف الفصائل‬
‫الصومالية وأسفرت عن توقيع «اتفاق القاهرة» في ‪ 22‬كانون أول‬
‫‪ 1997‬الذي نص على تبني نظام فدرالي وتشكيل حكومة انتقالية‬
‫وطنية موحدة وعقد مؤمتر شامل للوفاق الوطني في بيداوة ورحبت‬
‫األوس��اط الدولية بهذا االت�ف��اق امل�ه��م‪ .‬إال إن��ه يبقى غياب ممثلني‬
‫مهمني عن هذا االتفاق أهمهم عن «جمهورية أرض الصومال» فرغم‬
‫أن االتفاق دعا إلى التفاوض مع املسؤولني في هذه اجلمهورية إال‬
‫أن رئيسها إبراهيم عقال شدد على رفضه الدخول في أي حكومة‬
‫موحدة للصومال وطالب باالعتراف بدولته املستقلة‪ .‬وفي ‪ 15‬شباط‬
‫‪ 1998‬كان مؤمتر بيداوة الصومالية التي تقرر فيه إعالن القاهرة‬
‫لتشكيل أول حكومة مركزية في البالد منذ انهيار نظام زياد بري في‬
‫عام ‪ .1991‬إال أن هذا اللقاء قد ألغي ألسباب لوجستية‪ .‬وانتخب‬
‫السيد عبد القاسم صالت رئيساً للجمهورية الصومالية في مؤمتر‬
‫عقد مبدينة عرته بدولة جيبوتي حضرته كافة القوى السياسية‬
‫والقبلية في الصومال وقد حصل على اعتراف دولي به‪.‬‬

‫‪679‬‬
680
‫الفصل العشرون‬
‫جيبوتي‬

‫يعتبر قدماء املصريني أول من أق��ام عالقات مع ه��ذا اجلزء‬


‫من العالم‪ ،‬إذ أن أول بعثة مصرية بحرية إل��ى ه��ذه املنطقة كانت‬
‫في األلف الثالث ق‪.‬م‪ .‬خالل حكم فرعون مصر بيبي األول‪ .‬إال أن‬
‫عالقات القرن األفريقي مع جنوب غربي شبه اجلزيرة العربية أكثر‬
‫ثباتاً من عالقاته باملصريني‪ .‬فقد نزحت قبائل سامية من جنوبي‬
‫اجلزيرة العربية في موجات متعاقبة عبر البحر األحمر‪ .‬انصهرت‬
‫ونتج عن ذلك حضارة أكسوم‪ .‬ومع مجيء اإلسالم‪ ،‬فقد كانت هذه‬
‫األراضي لقربها من الشرق إحدى أول احملطات لنشر الدين اجلديد‬
‫بني القرن الثامن والعاشر حيث شكلوا سلطنات وممالك إسالمية‬
‫منها إم ��ارة «ع ��دل» ال�ت��ي يفخر أه��ال��ي جيبوتي ب�ه��ا لكونها إمارة‬
‫أجدادهم‪ .‬وكانت دول��ة مسيحية قبطية قد تكوَّنت على املرتفعات‬
‫عرفت بـ «االمبراطورية احلبشية»‪.‬‬

‫ظ�ل��ت ه��ذه امل�ن��اط��ق م�ع��زول��ة مل��دة ق ��رون إل��ى أن ب��دأ التوسع‬


‫األوروب ��ي االستعماري يتجه نحوها‪ .‬وك��ان العثمانيون واملصريون‬

‫‪681‬‬
‫يسيطرون على شواطئ البحر األحمر‪ ،‬وبعد فتح قناة السويس عام‬
‫‪ 1869‬أصبحت هذه السواحل متنافساً عليها من قبل األوروبيني‪.‬‬
‫وكانت بريطانيا قد ظهرت كقوة بحرية كبيرة بعد هزمية نابليون في‬
‫معركة واترلو ‪ ،1815‬فبدأت بتدعيم املواقع والنوافذ التي تتحكم‬
‫بالبحر األحمر وطريق الهند فأسرعت إلى شراء جزيرة في مدخل‬
‫تاجورة جيبوتي‪ .‬وبعد احتالل بريطانيا ملصر بعامني ‪ 1884‬احتلت‬
‫ميناءي زيلع وبربرة وأتبعتهما مبحمية الصومال ‪ .1827‬وفي العام‬
‫الذي احتلت فيه بريطانيا عدن أرسلت فرنسا إحدى بوارجها بهدف‬
‫السعي لشراء قطعة أرض على ساحل أفريقيا الشرقي‪ ،‬ومتكنت في‬
‫عام ‪ 1862‬من إقناع زعماء العفر (الدناقل) في جيبوتي ببيع ميناء‬
‫أوبوك على الساحل الشمالي خلليج تاجورة‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬االستعمار الفرنسي‬

‫بعد احتالل بريطانيا ملصر‪ ،‬اقتسمت أمالكها في أفريقيا كل‬


‫من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبليجكا وأثيوبيا‪ .‬فتوسع الفرنسيون‬
‫باالستيالء على تاجورة وبقية األراضي التي تشكل جمهورية جيبوتي‬
‫اآلن‪.‬‬

‫وفي عام ‪ 1892‬اتخذ احلاكم الفرنسي قراراً بالبدء في تشييد‬


‫مدينة جيبوتي التي أصبحت مقراً ل�لإدارة االستعمارية الفرنسية‪.‬‬
‫وقد أصبحت هذه املستعمرة تعرف باسم الصومال الفرنسي منذ عام‬
‫‪ .1896‬وظل هذا االسم متداوالً حتى ‪ 3‬متوز ‪/‬يوليو ‪ 1967‬حني أطلقت‬
‫اإلدارة الفرنسية عليه اسم «اإلقليم الفرنسي للعفر والعيسى»‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬بدايات التحرك الشعبي‬

‫بعد احلرب العاملية الثانية قويت احلركة العمالية في الصومال‬

‫‪682‬‬
‫الفرنسي (جيبوتي) بعد إنشاء خط سكة احلديد الذي يربط جيبوتي‬
‫بأديس أبابا وكذلك امليناء اجلديد‪ ،‬وقد ساعد في تقوية احلركة‬
‫العمالية ما كان يتنامى من حركة نضال سياسي بهدف االستقالل‬
‫الذي بدأ في الصومال البريطاني والصومال اإليطالي‪.‬‬

‫اضطرت اإلدارة الفرنسية أن تسمح للعمال بتكوين نقابة تضم‬


‫عمال امليناء والسكة احلديدية وتزعم هذه النقابة محمود حربي‬
‫ال��ذي ك��ان زعيماً سياسياً وم��ؤس�س�اً لـحزب االحت��اد الدميقراطي‬
‫عام ‪ .1948‬وحاول محمود حربي ترشيح نفسه النتخابات املجلس‬
‫الوطني الذي أقامته فرنسا نتيجة للضغوط‪ ،‬إال أنها عملت جهدها‬
‫في حصر نشاطه ومحاربته‪ .‬فهرب محمود إلى مقديشو حيث أسس‬
‫حزباً جديداً يهدف إلى حتقيق وحدة الصومال بكل أقسامه غير أنه‬
‫قتل في حادث طائرة أثناء رحلته من جنيف إلى القاهرة في تشرين‬
‫أول ‪ /‬أكتوبر ‪ ،1961‬في وقت كانت حركات التحرر في العالم تسير‬
‫بخطى ثابتة وخاصة في اجلزائر‪.‬‬

‫وفي عام ‪ 1960‬كان الصومال اإليطالي والصومال اإلنكليزي‬


‫ق��د ح�ص�لا ع�ل��ى استقاللهما وت��وح��دا ف��ي دول��ة واح ��دة عاصمتها‬
‫مقديشو‪ .‬أما الصومال الفرنسي (جيبوتي) فقد ساده التوتر واتبعت‬
‫فرنسا سياسة التفرقة بني قبائل العفر وقبائل العيسى‪ .‬والتحالف‬
‫مع نظام هيالسي السي حتى أصبحت مدينة جيبوتي سجناً كبيراً‪.‬‬
‫فبدأت األحزاب السياسية تتكون وتتحرك‪ ،‬فعلي عارف كوَّن حزبه‬
‫ال�ع�ف��ري «االحت ��اد ال��وط�ن��ي ل�لاس�ت�ق�لال»‪ .‬ث��م ت�ك�وَّن ح��زب «الرابطة‬
‫الشعبية األفريقية لالستقالل» وضم حركتني واحدة عفرية وأخرى‬
‫من العيسى‪ .‬وهذا احلزب هو الذي قاد البالد إلى االستقالل مع‬
‫العلم أن شعب جيبوتي مؤلف من هاتني القبيلتني‪.‬‬

‫‪683‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬االستقالل وما بعده‬

‫بدأ موقف حزب الرابطة الشعبية يتحسن باستمرار وخاصة‬


‫بعد سقوط نظام هيالسي الس��ي ف��ي إثيوبيا ع��ام ‪ 1974‬فلجأت‬
‫فرنسا ملواجهة التغيرات التي حدثت في هذه املنطقة‪ ،‬وبعد عدة‬
‫م�ش��اورات ق � َّررت إج��راء استفتاء لالنتخابات‪ .‬وعملت فرنسا على‬
‫التفرقة بني قبيلتي العفر والعيسى‪ .‬فتخلت عن علي عارف وحزبه‬
‫االحتاد الوطني وفتحت املجال في حق التصويت آلالف الصوماليني‬
‫املقيمني في جيبوتي‪ .‬وفي خالل عام واحد انتقل عدد الناخبني من‬
‫‪ 52‬ألفاً (‪ %57،6‬من العفر) إلى ‪ 93‬ألفاً ‪ %40‬من العفر و‪%52،8‬‬
‫من العيسى)‪ .‬وف��ي ‪ 8‬أي��ار ‪ 1977‬ج��رى استفتاء أعقبه انتخابات‬
‫نيابية فاز فيها حزب الرابطة الشعبية (العيسى) بـ ‪ %85‬فتولى‬
‫السلطة بعد االستقالل في ‪ 27‬حزيران ‪ 1977‬وانتخب زعيمه حسن‬
‫غوليد أبتيدون رئيساً للجمهورية‪.‬‬

‫وقعت جيبوتي معاهدة دف��اع عسكري م��ع فرنسا لالحتفاظ‬


‫بوجود عسكري على أراضيها‪ .‬وفي األشهر األولى بعد االستقالل‬
‫بدأ نظام احلكم يعمد إلى إبعاد العفريني من املراكز احلساسة في‬
‫الدولة‪ ،‬ما أدى أواخر عام ‪ 1977‬إلى استقالة رئيس احلكومة أحمد‬
‫ديني وأربعة من وزرائ��ه إضافة إلى اعتقال عدد من شباب العفر‬
‫بتهمة املساس باألمن‪ ،‬إال أنه وبعد جناح الهجوم األثيوبي املضاد‬
‫في أوغادين ضد الصومال (أثيوبيا تدعم العفر والصومال يدعم‬
‫العيسى) اضطر الرئيس حسن إليجاد حل وسط فشكل جلنة خاصة‬
‫من العفر لتلبي مطالبهم برئاسة رئيس احلكومة عبد الله كميل‪،‬‬
‫وق��د عملت احلكومة على إط�لاق س��راج أغلبية العفر املسجونني‬
‫وإع��ادت�ه��م إل��ى مناصبهم لكن ه��ذه العالقة س��رع��ان م��ا ت��وت��رت من‬
‫جديد بني الرئيس حسن غوليد العيسوي ورئيس حكومته العفري‬

‫‪684‬‬
‫عبد الله كميل‪ .‬فحلت احلكومة في ‪ 21‬أيلول ‪ 1978‬وكلف عفري‬
‫آخر هو بركات حماد بتشكيل حكومة جديدة‪ .‬وقد عمل حسن غوليد‬
‫على تطوير العالقات م��ع ال��دول العربية بعدما أصبحت جيبوتي‬
‫عضواً في جامعة الدول العربية‪.‬‬

‫‪685‬‬
686
‫الفصل الواحد والعشرون‬
‫جزر ُ‬
‫القمر‬

‫يعتقد املؤرخون أن عدداً من املالغاشيني القادمني من أندونيسيا‬


‫نزلوا في هذه اجلزر(((‪ .‬وابتدا ًء من القرن اخلامس سكن جزر القمر‬
‫مالحة أندونيسيون وهنود وفرس وصينيون‪ ،‬بعدما نشطت احلركة‬
‫التجارية بني آسيا وأفريقيا‪ .‬واستطاع املسلمون العرب ب��دءاً من‬
‫القرن السابع أن يسيطروا على حركة التبادل التجاري في املنطقة‪،‬‬
‫تقع جمهورية جزر القمر في مضيق موزمبيق بني مدغشقر والساحل األفريقي‪ ،‬وتضم‬ ‫((( ‬
‫أربعة جزر رئيسية هي إجن��وان والقمر الكبرى ومايوته وموامي وع��دداً كبيراً من اجلزر‬
‫املرجانية الصغيرة‪ ،‬وتبلغ مساحتها ‪ 2236‬كم‪ .2‬أما سبب تسمية «القمر» (بضم القاف‬
‫على عكس ما هو متداول) فتعود إلى القرن الثامن حيث هبط على ساحل هذه اجلزر‬
‫بعض الرحالة العرب العائدة أصولهم إلى عدن ومسقط وحضرموت وألن القمر كان بدراً‬
‫فقد أسموها (القُمر)‪ .‬يبلغ العدد اإلجمالي لسكان جزر القمر نحو ‪ 750‬ألف نسمة‪.‬‬
‫وهم خليط إتني تغلب عليه القسمات العربية‪ .‬فمعظمهم من أصول مينية وحضرمية‬
‫وعمانية‪ .‬وهناك نسب قليلة من املالويني واألفارقة والهنود اإلسماعيلية‪ .‬وألنهم جميعهم‬
‫مسلمون فقد تزاوجوا وامتزجت عناصرهم لت ّكون شعباً مسلماً تغلب عليه السمة العربية‬
‫بإضافات أفريقية وآسيوية‪ .‬انضمت جزر القمر إلى األمم املتحدة في ‪ 12‬تشرين الثاني‬
‫‪ ،1975‬وللمنظمة اإلسالمية عام ‪ 1976‬وللجامعة العربية في ‪ 20‬أيلول ‪.1993‬‬

‫‪687‬‬
‫حيث كان غالبية هؤالء التجار من عدن ومسقط وحضرموت‪ .‬ومع‬
‫استتباب النفوذ للمسلمني ف��ي األرخبيل حكم ك��ل ج��زي��رة سلطان‬
‫مسلم وظل على صالت متينة بينه وبني بلده األصلي‪.‬أما البرتغاليون‬
‫فلم يكتشفوا ج��زر القمر إال ف��ي ب��داي��ة ال�ق��رن ال�س��ادس عشر‪ ،‬إال‬
‫أنهم ل��م يبقوا فيها ط��وي�لاً‪ ،‬فتركوها وع��اد إليها حكم السالطني‬
‫املسلمني وظلوا فيها حتى القرن الثامن عشر‪ ،‬وسمي ه��ذا العهد‬
‫عهد «السالطني احملاربني» ملا كان من حروب بني سالطينها‪.‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬تاريخ جزر القمر احلديث‬

‫في أواخر القرن الثامن عشر قام املالغاش بغزوات عديدة على‬
‫جزر القمر‪ .‬وب��دأ القراصنة األوروب�ي��ون باستخدام اجل��زر كقاعدة‬
‫لعملياتهم في احمليط الهندي‪ .‬ونفى إليها نابليون عدداً من معارضيه‬
‫اليعاقبة‪ .‬ولم ميض الثلث األول من القرن التاسع عشر حتى كانت‬
‫جزيرتا موالي ومايوته في قبضة املالغاش‪.‬‬

‫اس�ت�ف��اد األوروب �ي��ون م��ن ال�ص��راع��ات ال�ت��ي عصفت ب�ين حكام‬


‫اجلزر احملليني‪ ،‬وتعتبر فرنسا أول بلد أوروبي وقَّع معاهدة مع حاكم‬
‫جزيرة مايوته في ‪ 10‬شباط ‪ .1843‬إال أن التوسع الفرنسي في‬
‫املنطقة أوقفه اإلنكليز الذين فتحوا لهم قنصلية في جزيرة إجنوان‪،‬‬
‫ووضعت كل من جزيرة موالي والقمر الكبرى حتت حماية زجنبار‪.‬‬
‫إال أنه بعد فتح قناة السويس قللت بريطانيا من اهتمامها باجلزر‪،‬‬
‫فتركت املجال ألملانيا كي ترفع علمها في فومبوني (القمر الكبرى)‬
‫عام ‪ ،1884‬فأسرعت فرنسا ووضعت جزيرة موالي وهنزوان وجزيرة‬
‫ال من جزيرة مايوته‪.‬‬‫القمر الكبرى حتت وصايتها عام ‪ 1886‬فض ً‬

‫‪688‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬جزر القمر في التاريخ املعاصر‬

‫بعد انضمام مدغشقر إلى حكومة فيشي احتلت بريطانيا جزر‬


‫القمر وأقامت عليها قاعدة بحرية‪ .‬وبعد انتصار احللفاء استرجعت‬
‫فرنسا اجلزر وطبقت عليها نظام األقاليم الفرنسية ما وراء البحار‬
‫ضمن االحتاد الفرنسي (‪ .)1946‬وبدا أن أهل اجلزيرة قد اكتفوا‬
‫مبا قدمه لهم قانون دفير (‪ )1956‬من حريات باعتبارهم رفضوا‬
‫االستقالل في استفتاء عام ‪ 1958‬متمسكني بنظام االحتاد الفرنسي‪.‬‬
‫إال أن إصالحاً دستورياً جرى في عام ‪ 1961‬أعطى القمريني قدراً‬
‫كبيراً من احلكم ال��ذات��ي‪ ،‬إذ أخ��ذت اجلمعية العمومية واحلكومة‬
‫احملليتان تديران هامشاً واسعاً من شؤون البالد مع احتفاظ املفوض‬
‫السامي الفرنسي بوضع اليد على شؤون الدفاع واخلارجية والعدل‪.‬‬
‫كما أتيح املجال أم��ام القمريني ألن يرسلوا ممثلني عنهم (نائبان‬
‫وشيخان) إلى البرملان الفرنسي‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬االستقالل‬

‫بدأت مرحلة من عدم االستقرار في احلياة السياسية القمرية‬


‫بعد وفاة رئيس احلكومة سعيد محمد الشيخ في آذار ‪ .1970‬وكانت‬
‫مسائل االستقالل والعالقات مع باريس والنظام األساسي الداخلي‬
‫هي املواضيع الرئيسة للنزاع الداخلي‪ .‬ففي حزيران ‪ 1972‬اضطر‬
‫األمير سعيد إبراهيم املعروف بارتباطاته بالسياسة الفرنسية إلى‬
‫االستقالة‪.‬‬

‫وفي ‪ 3‬كانون األول ‪ 1972‬جرت انتخابات تشريعية فازت فيها‬


‫األح��زاب املنادية باالستقالل‪ ،‬إال أن جزيرة مايوته أعلنت وحدها‬
‫الرغبة في اإلبقاء على النظام الذي يربطها بفرنسا‪ .‬ومتكن الرئيس‬

‫‪689‬‬
‫املنتخب أحمد عبد الله من إنقاذ وح��دة اجل��زر‪ .‬ووق��ع في باريس‬
‫اتفاقاً نص على وعد باالستقالل في مدة أقصاها خمس سنوات‪.‬‬
‫وفي ‪ 22‬كانون األول ‪ 1974‬جرى استفتاء للسكان أعلنوا من خالله‬
‫مبن فيهم سكان مايوته تأييدهم لالستقالل‪ .‬وح��اول��ت فرنسا أن‬
‫تعطل نتائج االستفتاء بإثارة رغبة جزيرة مايوته البقاء حتت راية‬
‫االحت��اد الفرنسي‪ .‬فلجأ أحمد عبد الله إلى إعالن استقالل جزر‬
‫القمر من جانب واحد في ‪ 7‬متوز ‪ .1975‬واكتفت فرنسا باإلبقاء‬
‫على سيطرتها العسكرية واإلدارية على جزيرة مايوته‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬أحمد عبد الله وعلي صويلح‬

‫ل��م يكد أح�م��د عبد ال�ل��ه ميسك ب��زم��ام السلطة حتى أطاحه‬
‫انقالب ‪ 3‬آب ‪ 1975‬الذي جاء بزعيم «اجلبهة املوحدة» علي صويلح‬
‫على رأس السلطة مبساعدة من األمير سعيد محمد جعفر واملرتزق‬
‫بوب دونار‪ .‬وسرعان ما انفجرت في وجه صويلح األزمات االقتصادية‬
‫ال عن قضية إعادة جزيرة مايوته إلى احلظيرة الوطنية‪ .‬فلجأت‬ ‫فض ً‬
‫احلكومة إلى طلب املساعدة من املنظمات الدولية واجلامعة العربية‬
‫والدول األوروبية‪ .‬وملا لم تنفع نداءات االستغاثة فرض علي صويلح‬
‫برنامجاً اقتصادياً تقشفياً على الطريقة الصينية‪.‬‬

‫م�ن��ذ ذل��ك احل�ي�ن ح��ال��ت ف��رن�س��ا دون ت�ط��وي��ر أوض ��اع اجلزر‪،‬‬
‫ومنعت عنها جميع املساعدات‪ .‬وف��ي كانون الثاني ‪ 1976‬أنتخب‬
‫علي صويلح رئيساً للدولة‪ ،‬ومنحه الدستور صالحيات إضافية؛ لكنه‬
‫تع َّرض حملاولتي ان�ق�لاب‪ .‬فأحبط األول��ى ع��ام ‪ 1976‬لكن الثانية‬
‫التي قام بها املرتزق بوب دونار جنحت ومت قتله‪ ،‬وأعيد أحمد عبد‬
‫الله الذي ظلَّ رئيساً للبالد الذي كان املرشح الوحيد للرئاسة عام‬
‫‪ .1984‬وف��ي محاولة من أحمد عبد الله إلرض��اء معارضيه‪ ،‬أعلن‬

‫‪690‬‬
‫في شباط ‪ 1987‬عن إجراء انتخابات ملجلس فدرالي جتري في ‪23‬‬
‫آذار ‪ .1987‬إال أن مرشحو املعارضة طعنوا في ه��ذه االنتخابات‬
‫التي جاءت ملصلحة أحمد عبد الله فردت احلكومة بحملة اعتقاالت‬
‫واسعة في صفوف املعارضة‪.‬‬

‫خامس ًا‪ :‬عهد سيد محمد جوهر‬

‫في أعقاب جتديد أحمد عبد الله رئاسته لست سنوات أخرى‬
‫في تشرين الثاني ‪، 1989‬عمت البالد تظاهرات واسعة اعتقل فيها‬
‫زع�م��اء امل�ع��ارض��ة‪ ،‬إال أن حكم عبد ال�ل��ه ل��م يكمل ال�ش�ه��ر‪ ،‬إذ قام‬
‫امل��رت��زق ب��وب دون��ار بعملية انقالب دموية أودت بحياة أحمد عبد‬
‫الله في ‪ 27‬تشرين الثاني‪ .‬ومبقتله انتهت فترة من االضطرابات‬
‫في البالد وفتحت صفحة جديدة على مشاكل وقضايا واضطرابات‬
‫أخ��رى‪ ،‬فعقب االن�ق�لاب مباشرة‪ُ ،‬ع�ّي�نّ رئيس احملكمة العليا سيد‬
‫محمد جوهر رئيساً مؤقتاً إلى حني إج��راء االنتخابات‪ .‬فقام بوب‬
‫دونار مجدداً بعملية انقالب ثانية أودت بحياة ‪ 27‬جندياً من قوات‬
‫األم��ن‪ ،‬إال أن االنقالبيني واجهوا إدان��ة شاملة من املجتمع الدولي‬
‫إلى جانب اتهام دونار بقتل الرئيس أحمد عبد الله‪ .‬وتدخلت فرنسا‬
‫فأرسلت وح��دات مظلية إلى العاصمة موروني للضغط على دونار‬
‫الذي وافق على ترك البالد سلمياً إلى جنوب أفريقيا‪.‬‬

‫عمد سيد محمد جوهر بعد ذل��ك إل��ى تشكيل حكومة وحدة‬
‫وطنية واف�ق��ت عليها جميع األح��زاب‪ ،‬كما أف��رج جوهر ع��ن جميع‬
‫السجناء السياسيني‪ .‬وقرر إجراء انتخابات في كانون الثاني ‪.1990‬‬
‫غير أن صعوبات جمة واجهت حكومة جوهر وخاصة من قبل منافسه‬
‫القوي في االنتخابات محمد تقي عبد الكرمي رئيس االحتاد الوطني‬
‫للدميقراطية من أجل القمريني الذي قام في ‪ 18‬و‪ 19‬آب ‪1990‬‬

‫‪691‬‬
‫بعملية مت��رد مسلح فاشلة أدت إل��ى اعتقال عبد ال�ك��رمي‪ ،‬وكذلك‬
‫إقالة وزير الداخلية إبراهيم هاليدي لتورطه في احملاولة‪ .‬ثم واجه‬
‫جوهر من داخل حزبه ‪،‬إذ انشق عضوان في مجلس الوزراء عن هذا‬
‫احلزب وأعلنا عن تشكيلهما حزباً جديداً‪.‬‬

‫وفي ‪ 3‬آب ‪ 1991‬عاد مسلسل االنقالبات في حلقة جديدة‬


‫قادها وزير الداخلية السابق إبراهيم هاليدي‪ ،‬الذي شغل منصب‬
‫رئيس احملكمة العليا وق��د أعلن ع��زل الرئيس جوهر وع�ين نفسه‬
‫رئ�ي�س�اً م��ؤق�ت�اً‪ .‬إال أن حكومة ج��وه��ر أدان ��ت ه��ذه العملية وقامت‬
‫باعتقال هاليدي مع عدد من مؤيديه وأودعتهم السجن‪ .‬وبعد اتساع‬
‫جبهة املعارضة عمد جوهر إلى إجراء إصالحات جذرية وتغييرات‬
‫مهمة‪ ،‬انتهت إلى وضع دستور جديد للبالد أقره الشعب باستفتاء‬
‫جرى في ‪ 7‬حزيران ‪.1992‬‬

‫سادس ًا‪ :‬االنضمام إلى اجلامعة العربية‬

‫ت��اب��ع ال��رئ�ي��س سيد محمد ج��وه��ر طلب ب�لاده االن�ض�م��ام إلى‬


‫جامعة الدول العربية‪ ،‬وأرسل في العامني ‪ 1991‬و‪ 1992‬مبعوثني‬
‫إلى القاهرة والرياض وصنعاء ومسقط لقبول الطلب بعد جتديده‬
‫مرة أخرى‪ ،‬وانتهز جوهر فرصة حضوره القمة األفريقية التاسعة‬
‫والعشرين في القاهرة في حزيران ‪ ،1993‬فالتقى الرؤساء العرب‬
‫املشاركني ف��ي القمة خصوصاً الرئيس م�ب��ارك وأم�ين ع��ام جامعة‬
‫الدول العربية عصمت عبد املجيد‪.‬‬

‫وفي دورة مجلس جامعة الدول العربية رقم ‪ 100‬في ‪ 20‬أيلول‬


‫‪ ،1993‬واف��ق مجلس اجلامعة باإلجماع على طلب االنضمام الذي‬
‫قدم للمرة األولى في الدورة ‪ 68‬في العام ‪.1977‬‬

‫‪692‬‬
‫اعتبر ‪ 20‬أي�ل��ول ‪ 1993‬ه��و ي��وم االس�ت�ق�لال احلقيقي‪ ،‬وقد‬
‫ناشد جوهر ال��دول العربية مساعدة ب�لاده ومساندته دبلوماسياً‬
‫إلنهاء االحتالل الفرنسي جلزيرة مايوته‪ .‬كما ناشد الدول العربية‬
‫واإلسالمية مساعدة بالده اقتصادياً عقب زيارته إلى اململكة العربية‬
‫السعودية‪ ،‬إال أن أياً من ذلك لم يحدث فأعلن وزير اخلارجية القمري‬
‫أن بالده لم تستفد أبداً من انضمامها إلى جامعة الدول العربية بل‬
‫إنها تفكر في إغالق سفارتها في القاهرة‪.‬‬

‫لهذه األس�ب��اب ولغيرها‪ ،‬أدت إل��ى خيبة أم��ل القمريني جتاه‬


‫ال ��دول ال�ع��رب�ي��ة‪ ،‬وال �ت��ي أوصلتها إل��ى توقيع ات �ف��اق يقضي بإقامة‬
‫ع�لاق��ات دبلوماسية م��ع إس��رائ�ي��ل ف��ي ‪ 10‬تشرين ال�ث��ان��ي ‪.1994‬‬
‫عقب م�ح��ادث��ات أج��راه��ا ال��رئ�ي��س سيد محمد ج��وه��ر م��ع السفير‬
‫اإلسرائيلي في فرنسا يهودا النكري‪ .‬وبذلك أصبحت جزر القمر‬
‫ثالث دولة عربية تقيم عالقات دبلوماسية مع إسرائيل بعد مصر‬
‫واألردن‪ .‬إال أن الرئيس جوهر عاد وأعلن بعد ثالثة أيام من توقيعه‬
‫االتفاق أن تطبيع العالقات مع إسرائيل يتم بعد تسوية اخلالفات‬
‫مع الفلسطينيني وبعد إقامة اتفاقيات سالم مع سوريا ولبنان‪ ،‬وأن‬
‫االتفاق املوقع مع إسرائيل هو بيان مشترك فقط‪.‬‬

‫سابع ًا‪ :‬نهاية عهد الرئيس جوهر‬

‫تعرضت حكومة الرئيس جوهر النتقادات كبيرة بعد االتفاق‬


‫املبرم مع إسرائيل ما اضطرته لتغيير حكومته السابقة التي كان‬
‫ي��رأس �ه��ا م�ح�م��د خ�ل�ي�ف��ة‪ ،‬وت�ع�ي�ين رئ �ي��س ج��دي��د ل�ل�ح�ك��وم��ة ه��و كعب‬
‫الياشورطي في أواخر آذار ‪.1995‬‬

‫وفي ‪ 28‬أيلول ‪ 1995‬قامت مجموعة مسلحة بقيادة املرتزق‬

‫‪693‬‬
‫بوب دونار مبحاولة انقالبية واحتجزت الرئيس جوهر‪ .‬إال أن وصول‬
‫قوات فرنسية إلى جزر القمر وسيطرتها على الوضع بالكامل أدى‬
‫إل��ى استسالم االنقالبيني وحلفاؤهم املرتزقة‪ .‬وج��اء ه��ذا التدخل‬
‫نتيجة طلب رئيس احلكومة الياشورطي مساعدة القوات الفرنسية‬
‫وكان الياشورطي قد جلأ فور وقوع االنقالب إلى السفارة الفرنسية‬
‫وأع�ل��ن ف��ي ‪ 3‬تشرين األول توليه ال��رئ��اس��ة حسب ال�ق��ان��ون لتعذر‬
‫الرئيس عن القيام مبهامه‪ ،‬وطلب من فرنسا القيام مبهامها في‬
‫تطبيق املعاهدة الدفاعية املوقعة عام ‪ .1978‬أما رئيس اجلمهورية‬
‫جوهر فقد أفرجت عنه قوات التدخل الفرنسي ونقلته إلى جزيرة‬
‫رينيون‪.‬‬

‫ثامن ًا‪ :‬عهد الرئيس عبد الكرمي محمد تقي‬

‫في آذار ‪ 1996‬انتخب عبد الكرمي محمد تقي رئيساً للبالد‪.‬‬


‫وقد واجهته مشكلة طلب جزيرة إجنوان االنفصال عن االحتاد القمري‬
‫وانضمامها إل��ى فرنسا في ‪ 3‬آب ‪ .1997‬فأرسل الرئيس محمد‬
‫تقي فريقاً من اجليش القمري قوامه ‪ 300‬جندي إلخماد االنتفاضة‬
‫االنفصالية وإعادتها إلى رحاب الدولة‪ .‬وفي ‪ 30‬نيسان ‪ 1999‬تسلم‬
‫اجليش مقاليد السلطة في البالد بقيادة غازلي الصوماي رئيس‬
‫األركان العامة للقوات املسلحة القمرية‪ .‬وهي املبادرة التي ضمنت‬
‫وحدة األراضي القمرية‪.‬‬

‫‪694‬‬
‫ملحق‬

‫سلسلة حكام الدول العربية‬


‫وقائمة االنقالبات واالغتياالت‬

‫‪695‬‬
696
‫سلسلة حكام الدول العربية‬

‫وقائمة االنقالبات واالغتياالت‬

‫قامت الدول العربية احلديثة بعد فترة من االحتالل األجنبي‬


‫أو ضمن امتدادات الدولة العثمانية مع الهيمنة الغربية القريبة من‬
‫االحتالل‪ ،‬وفي حاالت قليلة لم يكن ثمة احتالل أجنبي مباشر وإن‬
‫كان تأثيره قوياً‪ ،‬وساهمت هذه احلالة في تشكيل ال��دول العربية‬
‫وفي أنظمة تولي احلكم وانتقال السلطة‪ ،‬ويسهل القول إجماالً أن‬
‫تداول السلطة في الوطن العربي قائم على حكم عائلي أو فردي وأن‬
‫الدميقراطية التي هبت على العالم لم تغير فيه كثيراً‪ ،‬ولكن قراءة‬
‫واقع السلطة في الوطن العربي تقدم مؤشرات من أهمها‪.‬‬

‫أوالً ‪ :‬كان حكم األسر والعائالت هو السائد املتبع في الدول‬


‫العربية كما ك��ان األم��ر عليه ط��وال ال�ت��اري��خ وم��ا زال ه��ذا الوضع‬
‫ق��ائ�م�اً ف��ي ثمانية دول عربية ه��ي دول اخلليج ال�س��ت (السعودية‬
‫والكويت والبحرين وقطر واإلمارات وعمان) واألردن واملغرب‪ ،‬وكان‬
‫نظام احلكم ملكياً في مصر حتى عام ‪ 1952‬وفي ليبيا حتى عام‬
‫‪ 1969‬وف��ي العراق حتى ع��ام ‪ 1958‬وف��ي اليمن حتى ع��ام ‪1962‬‬
‫وبدأ جمهورياً منذ االستقالل في سورية ولبنان واجلزائر وتونس‬
‫والسودان وموريتانيا والصومال وجيبوتي‪.‬‬

‫ولكن األنظمة اجلمهورية تشهد ظاهرة جديدة وهي االجتاه إلى‬


‫انتقال السلطة من الرؤساء إلى أبنائهم‪ ،‬وقد طبق ذلك بالفعل في‬
‫سوريا‪ ،‬وعدل الدستور السوري في جلسة عقدت بعد وفاة الرئيس‬

‫‪697‬‬
‫حافظ األس��د مباشرة ليتيح البنه بشار تولي الرئاسة‪ ،‬إذ يشترط‬
‫الدستور أال يقل عمر الرئيس عن أربعني سنة‪.‬‬

‫ث��ان�ي�اً‪ :‬ل��م مينع النظام ال��وراث��ي ف��ي انتقال السلطة حدوث‬


‫حاالت عزل وعنف وقوة رافقت االنتقال كما حدث في األردن عام‬
‫‪ 1952‬عندما أعفي امللك ط�لال من منصبه‪ ،‬وف��ي السعودية عام‬
‫‪ 1964‬عندما عزل امللك فيصل أخ��اه امللك سعود وفي عمان عام‬
‫‪ 1970‬عندما ع��زل السلطان ق��اب��وس أب��اه سعيد‪ ،‬وف��ي قطر عام‬
‫‪ 1972‬عندما عزل الشيخ خليفة بن حمد سلفه واب��ن عمه الشيخ‬
‫أحمد بن علي وفي عام ‪ 1995‬عندما عزل الشيخ حمد بن خليفة‬
‫أباه‪ ،‬وفي حاالت السعودية وقطر وسلطنة عُمان كان ولي العهد هو‬
‫ال��ذي يقود عملية العزل أو االنقالب السياسي‪ ،‬ويقترب من هذه‬
‫احل��االت ما حدث في األردن عام ‪ 1999‬عندما عزل امللك حسني‬
‫ولي عهده وأخاه األمير حسن لينقل والية العهد إلى ابنه عبد الله‬
‫وذلك قبيل وفاته بأيام قليلة‪ ،‬وحدثت حاالت عنف قتل فيها امللوك‬
‫وإن لم يغير ذلك من نظام انتقال السلطة كما حدث في األردن عام‬
‫‪ 1951‬عندما اغتيل امللك عبد الله وف��ي السعودية عندما اغتيل‬
‫امللك فيصل عام ‪.1975‬‬

‫ث��ال�ث�اً‪ :‬ع��رف��ت االن�ق�لاب��ات ف��ي ال��وط��ن ال�ع��رب��ي أول م��رة عام‬


‫‪ 1949‬ف��ي س��وري��ا على ي��د حسني الزعيم ال��ذي ك��ان رئيس أركان‬
‫اجليش ال�س��وري ثم توالت االنقالبات في سورية وال��دول العربية‬
‫األخ��رى‪ ،‬فقد وق��ع انقالب في مصر ع��ام ‪ 1952‬أنهى حكم أسرة‬
‫محمد علي الذي بدأ عام ‪ ،1805‬وفي العراق أنهى انقالب عسكري‬
‫عام ‪ 1958‬حكم الهاشميني الذي بدأ في العراق منذ عام ‪1918‬‬
‫وفي اليمن عام ‪ 1962‬الذي أنهى حكم األئمة الزيديني بعد أكثر من‬

‫‪698‬‬
‫أربعمائة وخمسني عاماً من احلكم‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬لم يكن للبرملانات إن وجدت أثر مهم في عملية انتقال‬


‫السلطة سوى تقدمي الغطاء الدستوري في بعض األحيان كما حدث‬
‫في سوريا عام ‪ 2000‬وفي األردن عام ‪ 1952‬عندما أعفي امللك‬
‫ط�لال م��ن احل�ك��م ألس�ب��اب صحية‪ ،‬وف��ي ت��ون��س ع��ام ‪ 1987‬عندما‬
‫أعفي الرئيس بورقيبة من منصبه ألسباب صحية‪.‬‬

‫خامساً‪ :‬في ال��دول التي حكمها حزب واحد كما في العراق‬


‫وس��وري��ا واليمن اجلنوبي (‪ )1990 - 1967‬ومصر وت��ون��س لعبت‬
‫الصراعات الداخلية بني مراكز القوى في احلزب أو مؤسسات احلكم‬
‫دوراً في انتقال السلطة أو التوازن بني مراكز القوى‪ ،‬ولكن األحزاب‬
‫حتولت أيضاً إل��ى مؤسسة ف��رد واح��د وانتهى ص��راع مراكز القوى‬
‫ألنها لم تعد موجودة‪ ،‬حدث هذا في مصر أوائل السبعينيات‪ ،‬وفي‬
‫العراق أواخر السبعينيات‪ ،‬وفي سورية أوائل السبعينيات‪ ،‬ولم تعد‬
‫األح��زاب القائمة حتى وهي أحزاب حاكمة تؤدي دوراً حقيقياً في‬
‫تنظيم انتقال السلطة‪ .‬وإذا بقيت هذه احلالة قائمة في دول احلزب‬
‫واجلمهوريات فإنها ستؤسس لعائالت حاكمة تتحول إل��ى ملكية‪،‬‬
‫وهكذا فإن ال��دول العربية تتجه إلى احلالة السابقة للجمهوريات‬
‫لتعود ملكية من جديد‪.‬‬

‫س��ادس �اً‪ :‬شهدت أنظمة احلكم العربية اس�ت�ق��راراً ورسوخاً‪،‬‬


‫وانتهت ظ��اه��رة ال�ص��راع ال��دم��وي والعنيف على السلطة‪ ،‬وتوقفت‬
‫تقريباً االن �ق�لاب��ات العسكرية حيث ل��م تشهد حقبة السبعينيات‬
‫والثمانينيات أي انقالب عسكري إال ما كان في السودان من انقالب‬
‫عبد الرحمن سوار الذهب وبعده انقالب عمر البشير وكانا انقالبني‬

‫‪699‬‬
‫أبيضني‪ ،‬ونفس األمر ينطبق على قدوم زين العابدين إلى السلطة‬
‫في تونس حيث عرف انقالبه باالنقالب الطبي ألنه أزاح بورقيبة‬
‫ألسباب طبية‪ .‬وكانت الصراعات التي حدثت في اليمن اجلنوبي‬
‫عام ‪ 1986‬سبباً مهماً في نهاية نظام احلكم فيها واالنضمام إلى‬
‫اليمن الشمالي‪ ،‬وك��ان��ت التغييرات ف��ي األنظمة امللكية أسبق من‬
‫اجلمهوريات في ال��رس��وخ واالس�ت�ق��رار وف��ي ه��دوء عمليات التغيير‬
‫والعزل‪ ،‬كما حدث في األردن عام ‪ 1952‬وفي السعودية عام ‪1964‬‬
‫وف��ي عمان ع��ام ‪ 1970‬وف��ي قطر عامي ‪ 1972‬و‪ .1995‬وحدثت‬
‫عمليات اغتيال لبعض احلكام العرب ولكنها لم تغير من نظام احلكم‬
‫وال عمليات انتقال السلطة‪ ،‬كما حدث في األردن عام ‪ 1951‬عندما‬
‫اغتيل امللك عبد الله‪ ،‬وفي السعودية عام ‪ 1975‬عندما قتل امللك‬
‫فيصل‪ ،‬وفي مصر عام ‪ 1981‬عندما قتل الرئيس أنور السادات‪.‬‬

‫ولكن هل يعبر هذا االستقرار والرسوخ في األنظمة العربية عن‬


‫رضا وقبول شعبي؟ أو مشاركة عامة والتزام بعقد اجتماعي يحظى‬
‫بأغلبية أو إج�م��اع؟ إن معظم ال��رؤس��اء العرب (رمب��ا جميعهم عدا‬
‫الرئيس الليبي معمر القذافي) يغطيهم في السلطة انتخابات شعبية‬
‫أو استفتاءات كانت نتيجتها تقترب من املائة باملائة من املواطنني‪،‬‬
‫ولم تسجل طعون وال مخالفات دستورية أو قانونية وال حوادث عنف‬
‫وإكراه رافقت عمليات انتخاب الرؤساء العرب أو االستفتاء عليهم‪،‬‬
‫وهكذا فإنهم وفق املعايير الدميقراطية ميتلكون شرعية تفوق رئيس‬
‫أي دولة في الغرب الدميقراطي‪ ..‬فإلى أي مدى يبدو هذا الكالم‬
‫مقنعاً؟ في الواقع ثمة متغيرات كثيرة جرت بعد العام ‪ 2010‬حيث‬
‫الكثير من احلراك العربي‪ ،‬أدى بعضها إلى عزل الرئيس املصري‬
‫حسني مبارك وقبله الرئيس التونسي زين العابدين بن علي‪ .‬كما‬
‫جتري محاوالت أحرى في ليبيا وسوريا‪.‬‬

‫‪700‬‬
‫ً‬
‫أوال‪ :‬الدول امللكية‬

‫‪ - 1‬األردن‬

‫تكونت إمارة شرق األردن عام ‪ 1921‬بقيادة األمير عبد الله بن‬
‫احلسني بن علي‪ ،‬وكان األردن قبل ذلك جزءاً من والية الشام التابعة‬
‫للدولة العثمانية منذ عام ‪ ،1516‬وفي أثناء احلرب العاملية األولى‬
‫قامت الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسني بن علي شريف‬
‫مكة في ظل الدولة العثمانية‪ ،‬وكانت بريطانيا تدعم هذه الثورة‪،‬‬
‫ولكنها رتبت ب��االت�ف��اق م��ع فرنسا الح�ت�لال ال��دول العربية التابعة‬
‫للدولة العثمانية‪ ،‬وهو الترتيب الذي عرف بـ «اتفاقية سايكس بيكو»‬
‫عام ‪ ،1916‬ووضعت األردن حتت االنتداب البريطاني‪ ،‬ونشأت في‬
‫ظل هذا االنتداب إم��ارة شرق األردن‪ ،‬التي كانت شبه مستقلة‪ ،‬أو‬
‫تتمتع بوضع هو بني االستقالل واحلكم الذاتي‪.‬‬

‫أعلنت اململكة الهاشمية لشرق األردن عام ‪ ،1946‬وملكها عبد‬


‫الله بن احلسني‪ ،‬وعني إبراهيم هاشم رئيسا للوزراء‪ ،‬وهو من أصل‬
‫سوري قدم من سورية للعمل في القضاء‪ ،‬وفي عام ‪ 1949‬سميت‬
‫األردن اململكة األردن�ي��ة الهاشمية‪ ،‬وذل��ك بعد إع�لان وح��دة ضفتي‬
‫نهر األردن‪ ،‬وهما شرق األردن‪ ،‬والضفة الغربية وهي اجلزء الذي‬
‫تبقى من فلسطني بعد حرب ‪ 1948‬وقيام دولة إسرائيل على أرض‬
‫فلسطني ‪.‬‬

‫وفي عام ‪ 1951‬تولى طالل بن عبد الله امللك بعدما اغتيل‬


‫امللك عبد الله وهو يدخل املسجد األقصى ألداء صالة اجلمعة‪ ،‬ثم‬
‫أعفي من منصبه عام ‪ 1952‬بناء على تقرير طبي يرى عدم قدرته‬
‫على تولي احلكم‪ ،‬وتولى امللك ابنه احلسني بن طالل الذي ظل ملكاً‬

‫‪701‬‬
‫لألردن أكثر من ‪ 47‬سنة‪.‬‬

‫وفي عام ‪ 1999‬تولى عبد الله الثاني بن احلسني امللك بعد‬


‫وفاة امللك حسني‪ ،‬وكان األمير حسن بن طالل وليا للعهد ألكثر من‬
‫‪ 34‬سنة‪ ،‬وقد نحي عن موقعه قبل وفاة امللك بأسبوع‪ ،‬وكان امللك في‬
‫حالة احتضار بسبب مرض السرطان الذي اكتشف في جسمه عام‬
‫‪ ،1992‬وقد أمضى امللك السنة األخيرة في الواليات املتحدة للعالج‬
‫وكان األمير حسن في أثناء ذلك هو امللك الفعلي‪.‬‬

‫سلسلة احلكام في األردن‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫اخلروج من السلطة‬


‫عبد الله بن احلسني‬ ‫‪1951-1921‬‬ ‫اغتيال‬
‫طالل بن عبد الله‬ ‫‪1952-1951‬‬ ‫إعفاء‬
‫احلسني بن طالل‬ ‫‪1999-1952‬‬ ‫موت طبيعي‬
‫عبد الله بن احلسني‬ ‫منذ ‪1999‬‬

‫مالحظة‪:‬‬

‫عزل امللك احلسني بن طالل أخاه األمير احلسن من والية العهد قبيل وفاته‬ ‫ ‬
‫وولى ابنه األمير عبد الله بدال عنه الذي تولى امللك بعده‪.‬‬

‫‪ - 2‬اإلمارات العربية املتحدة‬

‫كانت دولة اإلمارات العربية املتحدة إمارات متفرقة ال يربطها‬


‫كيان سياسي واحد قبل عام ‪ ،1971‬وكانت ترتبط مبعاهدات حماية‬
‫مع بريطانيا‪ ،‬وف��ي اليوم التالي النسحاب القوات البريطانية من‬

‫‪702‬‬
‫اإلم���ارات امل�ت�ص��احل��ة ف��ي اخل�ل�ي��ج واف��ق ح�ك��ام ت�ل��ك اإلم���ارات على‬
‫االحت��اد فيما بينهم حتت اسم اإلم��ارات العربية املتحدة‪ ،‬واختاروا‬
‫حاكم إمارة أبو ظبي الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيساً والشيخ‬
‫راشد بن سعيد املكتوم حاكم دبي نائباً للرئيس‪ .‬وال يزال الشيخ زايد‬
‫يتولى مقاليد السلطة ويعاونه ابنه وولي عهده الشيخ خليفة‪.‬‬

‫وفي عام ‪ 1976‬أعيد انتخاب الشيخ زايد رئيساً للبالد من قبل‬


‫املجلس الوطني االحتادي‪ ،‬ووافق املجلس كذلك على منح احلكومة‬
‫ال�ف�ي��درال�ي��ة س�ل�ط��ات أوس��ع فيما يتعلق بتنظيم ش��ؤون املخابرات‬
‫والهجرة واجلوازات واجلنسية واألمن العام واإلشراف على احلدود‪.‬‬
‫وحتكم كل إمارة من اإلمارات السبع أسرة حاكمة ينتقل فيها احلكم‬
‫وراثياً‪ ،‬آل نهيان في أبو ظبي‪ ،‬وآل مكتوم في دبي‪ ،‬والقاسمي في‬
‫الشارقة ورأس اخليمة‪ ،‬والنعيمي في عجمان‪ ،‬واملعال في أم القيوين‪،‬‬
‫والشرقي في الفجيرة‪.‬‬

‫ف��ي ع��ام ‪ 1971‬أق��ر الدستور امل��ؤق��ت ل�لاحت��اد ال��ذي مبوجبه‬


‫أنشئت هيئاته االحتادية والسلطة العليا مبوجب هذا الدستور هي‬
‫املجلس األعلى ال��ذي يضم حكام اإلم��ارات السبع‪ ،‬وال��ذي ينتخب‬
‫رئيساً ون��ائ��ب رئيس م��ن ب�ين أع�ض��ائ��ه‪ ،‬ويعني رئيس ال�ب�لاد رئيس‬
‫ال ف��ي املجلس‬
‫ال ��وزراء وال ��وزراء‪ ،‬كما يوجد مجلس تشريعي متمث ً‬
‫الوطني االحتادي مكوّن من ‪ 40‬عضواً تعينهم اإلمارات ملدة عامني‬
‫يتمتع بصفة استشارية‪.‬‬

‫األسر احلاكمة في اإلمارات‬

‫‪ - 1‬أبو ظبي‬

‫تأسست مشيخة أب��و ظبي ع��ام ‪ 1761‬حتت حكم قبيلة بني‬

‫‪703‬‬
‫ياس برئاسة ذياب بن عيسى بن نهيان‪ ،‬ومازالت حتكم أبو ظبي ثم‬
‫اإلمارات منذ ذلك الوقت حتى اآلن‪.‬‬

‫حكام آل نهيان في أبو ظبي‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫اخلروج من السلطة‬


‫ذياب بن عيسى بن نهيان‬ ‫‪1793-1761‬‬ ‫االغتيال‬
‫شخبوط بن دياب‬ ‫‪1816-1793‬‬ ‫سلمي (نقل احلكم البنه)‬
‫محمد بن شخبوط‬ ‫‪1818 1816‬‬ ‫الوفاة الطبيعية‬
‫طحنون بن شخبوط‬ ‫‪1833-1818‬‬ ‫االغتيال‬
‫خليفة بن شخبوط‬ ‫‪1845-1833‬‬ ‫االغتيال‬
‫سعيد بن طحنون‬ ‫‪1855-1845‬‬ ‫عزل بإرادة شعبية‬
‫زايد بن خليفة‬ ‫‪1909-1855‬‬ ‫وفاة طبيعية‬
‫طحنون بن زايد‬ ‫‪1912-1909‬‬ ‫وفاة طبيعية‬
‫اغتيل على يد أخيه سلطان‬
‫حمدان بن زايد‬ ‫‪1922-1912‬‬
‫بن زايد‬
‫سلطان بن زايد‬ ‫‪1926-1922‬‬ ‫اغتيل على يد أخيه صقر‬
‫اغتيل على يد ابن أخيه‬
‫صقر بن زايد‬ ‫‪1929-1926‬م‬
‫شخبوط‬
‫شخبوط بن سلطان‬ ‫‪1966-1928‬‬ ‫تنازل ألخيه زايد‬
‫زايد بن سلطان‬ ‫منذ ‪1966‬‬

‫‪ - 2‬دبي‬

‫تأسست أس��رة آل مكتوم ف��ي دب��ي ع��ام ‪ 1833‬وه��ي ف��رع من‬


‫قبيلة بني ياس التي ينتمي إليها أيضاً آل نهيان‪.‬‬

‫‪704‬‬
‫حكام آل مكتوم في دبي‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫مكتوم بن بطي بن سهيل‬ ‫‪1852-1833‬‬
‫سعيد بن بطي‬ ‫‪1859-1852‬‬
‫حشر بن مكتوم‬ ‫‪1886-1859‬‬
‫راشد بن مكتوم‬ ‫‪1894-1886‬‬
‫مكتوم بن حشر‬ ‫‪1906-1884‬‬
‫بطي بن سهيل (أخو حشر) بن مكتوم‬ ‫‪1912-1906‬‬
‫سعيد بن مكتوم‬ ‫‪1958-1912‬‬
‫راشد بن سعيد‬ ‫‪1990 - 1958‬‬
‫مكتوم بن راشد‬ ‫منذ ‪1990‬‬

‫حكام القاسمي في الشارقة ورأس اخليمة‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫سلطان بن صقر القاسمي حاكم اإلماراتني‬ ‫‪1866-1803‬‬
‫خالد بن سلطان بن صقرالشارقة فقط‬ ‫‪1868-1866‬‬
‫حميد بن عبد الله بن سلطان رأس اخليمة‬ ‫‪1900-1866‬‬

‫مالحظة‪:‬‬

‫أسس أسرة القاسمي في الشارقة ورأس اخليمة الشيخ سلطان بن صقر‬ ‫ ‬


‫القاسمي‪ ،‬وحكم املشيختني حتى عام ‪ ،1866‬وبعد وفاته انفصلتا وحكم‬
‫ابنه الشيخ خالد الشارقة وحفيده الشيخ حميد رأس اخليمة على النحو‬
‫التالي‪:‬‬

‫‪705‬‬
‫رأس اخليمة‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫رحمن القاسمي‬ ‫‪-‬‬
‫مطر بن رحمن القاسمي‬ ‫‪-‬‬
‫راشد بن مطر القاسمي‬ ‫(‪1777 - )-‬‬
‫صقر بن راشد القاسمي‬ ‫‪1803-1777‬‬
‫سلطان بن صقر القاسمي (املرة األولى)‬ ‫‪1808-1803‬‬
‫احلسني بن علي القاسمي‬ ‫‪1814-1808‬‬
‫احلسن بن رحمن‬ ‫‪1820-1814‬‬
‫سلطان بن صقر القاسمي (املرة الثانية)‬ ‫‪1866-1820‬‬
‫إبراهيم بن سلطان القاسمي‬ ‫‪1867-1866‬‬
‫خالد بن سلطان القاسمي‬ ‫‪1868-1867‬‬
‫سالم بن سلطان القاسمي‬ ‫‪1869-1868‬‬
‫حميد بن عبد الله القاسمي‬ ‫‪1900-1869‬‬
‫سلطان بن سالم القاسمي‬ ‫‪1948-1921‬‬
‫صقر بن محمد القاسمي‬ ‫منذ ‪1948‬‬

‫الشارقة‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫سلطان بن صقر املرة األولى‬ ‫(‪1840 - )-‬‬
‫صقر بن سلطان‬ ‫‪)-( - 1840‬‬
‫سلطان بن صقر املرة الثانية‬ ‫‪1866-1840‬‬
‫خالد بن سلطان القاسمي‬ ‫‪1868-1866‬‬

‫‪706‬‬
‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬
‫س��ال��م ب��ن سلطان القاسمي ب��االش �ت��راك مع‬ ‫‪1883-1868‬‬
‫احلكام اآلتي أسماءهم‬
‫إبراهيم بن سلطان القاسمي‬ ‫‪1871-1869‬‬
‫صقر بن خالد القاسمي‬ ‫‪1914-1883‬‬
‫خالد بن أحمد القاسمي‬ ‫‪1924-1914‬‬
‫سلطان بت صقر القاسمي‬ ‫‪1951-1924‬‬
‫محمد بن صقر القاسمي‬ ‫أوائل ‪ -1951‬مايو‪/‬أيار من‬
‫العام نفسه‬
‫صقر بن سلطان القاسمي‬ ‫‪1965-1951‬‬
‫خالد بن محمد‬ ‫‪1972-1956‬‬
‫صقر بن محمد القاسمي‬ ‫‪1972/5-1‬‬
‫سلطان بن محمد القاسمي‬ ‫‪1987-1972‬‬
‫عبد العزيز بن محمد القاسمي‬ ‫‪1987/5/23-17‬‬
‫سلطان بن محمد القاسمي املرة الثانية‬ ‫منذ ‪1987/1/23‬‬

‫حكام النعيمي في عجمان‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫الوفاة الطبيعية‬


‫راشد بن حميد النعيمي‬ ‫‪1838-1820‬‬ ‫الوفاة الطبيعية‬
‫حميد بن راش��د بن حميد النعيمي‬ ‫‪1841-1838‬‬ ‫العزل بالقوة‬
‫املرة األولى‬
‫ع�ب��د ال �ع��زي��ز ب��ن راش���د ب��ن حميد‬ ‫‪1848-1841‬‬ ‫القتل‬
‫النعيمي‬
‫حميد بن راش��د بن حميد النعيمي‬ ‫‪1873-1848‬‬ ‫الوفاة الطبيعية‬
‫املرة الثانية‬

‫‪707‬‬
‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫الوفاة الطبيعية‬
‫راشد بن حميد بن راشد بن حميد‬ ‫‪1891-1873‬‬ ‫الوفاة الطبيعية‬
‫النعيمي‬
‫حميد بن راشد بن حميد بن راشد‬ ‫‪1900-1891‬‬ ‫القتل‬
‫بن حميد النعيمي‬
‫عبد العزيز بن حميد بن راشد‬ ‫‪1908-1900‬‬ ‫وفاة طبيعية‬
‫حميد بن عبد العزيز‬ ‫‪1928-1908‬‬ ‫وفاة طبيعية‬
‫راشد بن حميد بن عبد العزيز‬ ‫‪1981-1928‬‬ ‫وفاة طبيعية‬
‫حميد بن راشد‬ ‫منذ ‪1981‬‬

‫مالحظة‪:‬‬

‫أسس األسرة الشيخ راشد بن حميد النعيمي عام ‪ 1820‬حتى وفاته عام‬ ‫ ‬
‫‪ 1838‬ثم خلفه ابنه حميد حتى عام ‪ 1841‬إلى أن عزله بالقوة أخوه عبد‬
‫العزيز وتولى احلكم حتى عام ‪ 1848‬حيث قتل وعاد مرة أخرى حميد إلى‬
‫احلكم حتى وفاته عام ‪ ،1873‬وورث احلكم ابنه الشيخ راشد وخلفه بعد‬
‫وفات ابنه الشيخ حميد إلى عام ‪ 1900‬وهو العام الذي اغتيل فيه على يد‬
‫عمه الشيخ عبد العزيز الذي تولى احلكم منذ ذلك التاريخ وحصر احلكم‬
‫في أبنائه حتىاآلن‪.‬‬

‫‪ - 4‬أسرة آل معال في أم القوين‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫ماجد آل معال‬ ‫‪)-( -1775‬‬
‫راشد بن ماجد آل معال‬ ‫(‪-1816 )-‬‬
‫عبد الله بن راشد بن ماجد آل معال‬ ‫‪1853-1816‬‬

‫‪708‬‬
‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬
‫علي بن عبد الله‬ ‫‪1873-1853‬‬
‫احمد بن عبد الله‬ ‫‪1904 1873-‬‬
‫راشد بن أحمد‬ ‫‪1922-1904‬‬
‫عبد الله بن راشد‬ ‫‪1923-1922‬‬
‫أحمد بن إبراهيم آل معال‬ ‫‪1929-1923‬‬
‫أحمد بن راشد‬ ‫‪1981-1929‬‬
‫راشد بن أحمد‬ ‫منذ ‪1981‬‬

‫مالحظة‪:‬‬

‫غير معلوم لدينا متى انتهت فترة حكم الشيخ ماجد آل معال وكذلك‬ ‫ ‬
‫غير معلوم أيضاً متى تولى الشيخ راشد بن ماجد احلكم خلفاً ألبيه‪.‬‬

‫‪ - 5‬حكام الفجيرة‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫محمد بن أحمد الشارقي‬ ‫‪1974-1942‬‬
‫أحمد بن محمد الشارقي‬ ‫منذ ‪1974‬‬

‫‪ - 3‬البحرين‬

‫استطاع عرب العتوب بقيادة آل خليفة إخراج اإليرانيني من جزيرة‬


‫البحرين‪ ،‬وأق��ام��وا فيها إم��ارة شبه مستقلة‪ ،‬وق��د هاجر العتوب من‬
‫الكويت‪ ،‬واستقروا على ساحل قطر املواجه للبحرين (الزبارة) ودخلوا‬
‫في معارك طويلة مع اإليرانيني‪ ،‬ولكنهم انتصروا عليهم نهائيا عام‬
‫‪ ،1783‬وقد حتالفت معهم قبائل قطرية‪ ،‬مثل آل مسلم من احلويلة‪،‬‬

‫‪709‬‬
‫وآل بن علي من الفويرط‪ ،‬وآل سودان من الدوحة‪ ،‬وآل بو عينني من‬
‫الوكرة‪ ،‬والقبيسات من العديد‪ ،‬وآل السليط من الدوحة‪ ،‬واملنانعة من‬
‫أبو الظلوف‪ ،‬والسادة من داخل قطر‪.‬وحتولت البحرين من مستعمرة‬
‫إيرانية إلى إم��ارة عربية يحكمها شيوخ آل خليفة من العتوب‪ ،‬وبنوا‬
‫أسطوالً جتارياً مهماً‪ ،‬وازده��رت جتارة اللؤلؤ‪ ،‬وحركة نقل البضائع‪.‬‬
‫في عام ‪ 1868‬وقعت بريطانيا معاهدة مع الشيخ عيسى بن علي آل‬
‫خليفة‪ ،‬وكان شيخ آل خليفة هو محمد بن خليفة‪ ،‬ولكنه فر إلى قطر‬
‫خوفا من البريطانيني‪ ،‬وقد بدأت بريطانيا في تلك الفترة سلسلة من‬
‫املعاهدات مع شيوخ القبائل املسيطرة على ساحل اخلليج‪ ،‬حتى إنه كان‬
‫يسمى الساحل املعاهد‪.‬وفي ‪ 1869‬تولى الشيخ عيسى بن علي اإلمارة‪،‬‬
‫وأج��رى في عام ‪ 1897‬تنظيما النتقال احلكم في ذريته‪ ،‬وعني ابنه‬
‫الشيخ حمد ولياً للعهد‪ ،‬ووثق ذلك في وثيقة وقع عليها عدد كبير من‬
‫وجهاء البحرين‪ ،‬وطلب أيضاً مصادقة احلكومة البريطانية على ذلك‪،‬‬
‫واعترفت حكومة الهند البريطانية بتنصيب الشيخ حمد وليا للعهد‪،‬‬
‫وصدقت احلكومة البريطانية املركزية‪ ،‬ولكنها تأخرت في إبالغ الشيخ‬
‫عيسى حتى عام ‪ 1901‬ألنها كانت تريد من الشيخ عيسى مالحقة‬
‫بعض الشيوخ والقبائل املزعجة لبريطانيا‪ .‬وظل احلكم ينتقل سلمياً‬
‫في أبنائة حتى اليوم‪.‬‬

‫سلسلة حكام البحرين‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫أحمد بن محمد بن خليفة الفاحت املؤسس‬ ‫‪1794-1783‬‬
‫سلمان بن أحمد بن محمد‬ ‫‪1821-1794‬‬
‫عبد الله بن أحمد بن محمد‬ ‫‪1842-1821‬‬
‫محمد بن خليفة بن سلمان‬ ‫‪1867-1842‬‬

‫‪710‬‬
‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬
‫علي بن خليفة بن سلمان‬ ‫‪1869-1867‬‬
‫محمد بن عبد الله بن أحمد‬ ‫خالل ‪1969‬‬
‫عيسى بن علي بن خليفة‬ ‫‪1932-1869‬‬
‫حمد بن عيسى بن علي بن خليفة‬ ‫‪1942-1932‬‬
‫سلمان بن حمد بن عيسى بن علي‬ ‫‪1961-1942‬‬
‫عيسى بن سلمان بن حمد بن عيسى‬ ‫‪1999-1961‬‬
‫حمد بن عيسى بن سلمان‬ ‫منذ ‪1999‬‬

‫‪ - 4‬الكويت‬

‫نشأت الكويت في الطرف الشمالي الغربي للخليج العربي في‬


‫عام ‪1613‬م حينما توافدت مجموعة من األسر والقبائل إلى هذه‬
‫املنطقة قادمة من شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬وبعد فترة اختارت القبائل‬
‫حاكما لها من أسرة آل الصباح وظلت هذه األسرة حتكم الكويت منذ‬
‫منتصف القرن الثامن عشر حتى‪.‬‬

‫سلسلة حكام الكويت‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫صباح األول بن جابر‬ ‫(‪1776 -)-‬‬
‫عبد الله األول بن صباح األول‬ ‫‪1814 –1776‬‬
‫جابر بن عبد الله األول‬ ‫‪1859 – 1814‬‬
‫صباح بن جابر بن عبد الله‬ ‫‪1866 – 1859‬‬
‫عبد الله بن صباح‬ ‫‪1892 – 1866‬‬
‫محمد بن صباح‬ ‫‪1896 – 1892‬‬

‫‪711‬‬
‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬
‫مبارك الصباح (مبارك الكبير)‬ ‫‪1915 – 1896‬‬
‫جابر املبارك الصباح‬ ‫‪1917-1915‬‬
‫سالم املبارك الصباح‬ ‫‪1921-1917‬‬
‫أحمد الجابر الصباح‬ ‫‪1950-1921‬‬
‫عبد الله السالم الصباح‬ ‫‪1965 1950-‬‬
‫صباح السالم الصباح‬ ‫‪1977-1965‬‬
‫جابر األحمد الصباح‬ ‫منذ‪1977‬‬

‫مال حظة‬

‫غير معلوم حتديدا متى تولى صباح األول احلكم‪.‬‬ ‫ ‬

‫قتل محمد بن صباح على يد أخيه مبارك عام ‪ 1896‬وانتقل العرش إليه‪.‬‬ ‫ ‬

‫أج��ري��ت أول ان �ت �خ��اب��ات ت�ش��ري�ع�ي��ة ف��ي ال �ك��وي��ت ع ��ام ‪1938‬‬


‫ووضعت مسودة للدستور كانت أهم بنوده تنص على التخلص من‬
‫التبعية لالحتالل البريطاني إال أن احل��رب العاملية الثانية أخرت‬
‫احلياة النيابية الكويتية‪ ،‬واكتفي فقط مبجلس استشاري آن��ذاك‪.‬‬
‫وفي عام عام ‪ 1960‬وافقت بريطانيا للحكومة الكويتية على إقامة‬
‫ع�لاق��ات دبلوماسية م��ع ع��دد م��ن ال��دول العربية‪ ،‬كما تخلت لتلك‬
‫احلكومة عن حق حماية األج��ان��ب املقيمني على أرض�ه��ا‪ ،‬وتفاوض‬
‫الشيخ عبد الله الصباح مع بريطانيا من أجل االستقالل‪ ،‬وتوصل‬
‫اجلانبان إلى معاهدة وقعت في ‪ 19‬يونيو‪ /‬حزيران ‪ 1961‬ألغت‬
‫بريطانيا مبوجبها معاهدة ‪ 1899‬ووقعت بدالً منها اتفاقية «الدفاع‬
‫والصداقة» واعترفت بالتالي باستقالل الكويتوفي عام ‪ 1962‬أعلن‬
‫الدستور الكويتي املؤقت الذي يجعل من األمير عبد الله سالم الصباح‬

‫‪712‬‬
‫رئيساً للدولة واحلكومة‪ ،‬وينص الدستورعلى أن الكويت إمارة وراثية‬
‫محصورة في الذكور من خط مبارك من عائلة الصباح وذل��ك عن‬
‫طريق والية العهد‪ ،‬ويعني ولي العهد بتزكية من أحد أعضاء األسرة‪،‬‬
‫ثم تعرض التزكية على مجلس األمة في جلسة خاصة‪ ،‬وتتم مبايعة‬
‫ولي العهد مبوافقة أغلبية األعضاء‪ ،‬ثم يصدر مرسوم أميري بهذا‬
‫التعيني‪ ،‬وتتم اإلجراءات خالل سنة من توليته‪.‬‬

‫‪ - 5‬اململكة العربية السعودية‬

‫قامت الدولة السعودية في جند عام ‪ 1746‬على يد محمد بن‬


‫سعود‪ ،‬ولكن البداية القوية احلديثة تعود إلى امللك عبد العزيز بن‬
‫سعود ال��ذي استرد امللك من آل رشيد‪ ،‬ووس��ع مملكته حتى شملت‬
‫احلجاز وعسير وسواحل اخلليج العربي (اململكة العربية السعودية‬
‫في حالتها الراهنة) وبعد وفاة امللك عبد العزيز عام ‪ 1953‬انتقل‬
‫احلكم إلى ابنه سعود‪ ،‬ثم انتقل بني األخ��وة من أبناء عبد العزيز‪،‬‬
‫وقد قام امللك فيصل عام ‪ 1964‬بحركة سياسية عزل فيها امللك‬
‫سعود‪ ،‬وفي عام ‪ 1975‬قتل امللك فيصل على يد أحد أبناء إخوانه‪،‬‬
‫فتولى امللك أخوه خالد الذي توفي في عام ‪ 1982‬ليتولى امللك أخوه‬
‫فهد‪ ،‬وأسندت والية العهد إلى أخيه األمير عبد لله‪.‬‬

‫ك��ان ن�ظ��ام احل�ك��م ف��ي ال��دول�ت�ين السعوديتني األول��ى والثانية‬


‫بسيطاً‪ ،‬يعتمد على احلاكم الذي سمي باإلمام‪ ،‬ويعاونه مجلس شورى‬
‫مكون من بعض العلماء واألعيان واألمراء وحكام األقاليم‪ ،‬ويستعني‬
‫بجيش بسيط التكوين‪ .‬وشهدت الدولة السعودية الثانية التي تبدأ‬
‫منذ استعادة اإلم��ام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود احلكم‬
‫في الدرعية عام ‪ 1820‬وتنتهي باستيالء أمير جبل شمر محمد بن‬
‫عبد الله بن رشيد على الرياض وبسط نفوذه على جند عام ‪1891‬‬

‫‪713‬‬
‫ورحيل آخر حكامها اإلمام عبد الرحمن بن فيصل عنها إلى قطر‬
‫والبحرين ث��م الكويت‪ ،‬وانتهت ه��ذه الفترة بتدخل خورشيد باشا‬
‫القائد العسكري التركي التابع حملمد علي الذي أجبر األمير فيصل‬
‫على االستسالم ليتولى احلكم خلفاً له األمير خالد بن سعود‪ ،‬وهو‬
‫من األمراء السعوديني الذين كان إبراهيم باشا قد نفاهم إلى مصر‬
‫واحملسوبني على السياسية املصرية في إقليم جند‪ ،‬إال أن النجديني‬
‫نفروا من سياسته فخلعوه عام ‪ 1842‬ليتولى احلكم من بعده عبد‬
‫الله بن ثنيان بن إبراهيم بن سعود‪ ،‬ولم يستمر حكمه ألكثر من عام‬
‫ونصف‪ ،‬حيث متكن األمير فيصل بن تركي من استعادة إمارته بعد‬
‫أن أطلق محمد علي سراحه‪ ،‬ومن هنا بدأت الفترة الثانية للدولة‬
‫السعودية الثانية التي متيزت باالستقرار النسبي‪ ،‬ودان لها القسم‬
‫األكبر من شبه اجلزيرة العربية كاإلحساء والقطيف ووادي الدواسر‬
‫وعسير واجلبل والقصيم وغيرها‪.‬‬

‫وب��دأت الدولة السعودية الثالثة التي أسست للدولة احلديثة‬


‫عندما استعاد األمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود الرياض‬
‫ال واستطاع بالفعل‬
‫عام ‪ 1902‬من آل رشيد بفرقة مكونة من ‪ 42‬رج ً‬
‫دخول قصر «املصمك» وقتل عجالن ابن محمد أحد عمال ابن الرشيد‬
‫املقربني‪ ،‬أما األمير عبد العزيز بن متعب بن رشيد نفسه فكان في‬
‫حفر الباطن‪ .‬ولم يهتم باألمر كثيراً على اعتبار أنه سيحصل على‬
‫مدد من األتراك يعود به لغزو الرياض والكويت نفسها‪.‬‬

‫طلب األمير عبد العزيز من أبيه أن يتولى هو احلكم‪ ،‬وفي‬


‫اجتماع باملسجد الكبير بالعاصمة السعودية الرياض عقب صالة‬
‫اجلمعة أع�ل��ن اإلم��ام عبد الرحمن تنازله ع��ن اإلم ��ارة ل��ول��ده عبد‬
‫العزيز‪ ،‬فوافق عبد العزيز على أن يساعده والده في أمور احلكم‪،‬‬
‫ومتت البيعة لألمير عبد العزيز في املسجد نفسه‪ .‬وفي عام ‪1924‬‬

‫‪714‬‬
‫قرر عبد العزيز وقوات األخوان التابعة له غزو احلجاز ومتكن من‬
‫ذلك بالفعل في عام ‪ ،1924‬وفي العام املذكور اجتمع أعيان مكة‬
‫والطائف وأجبروا احلسني على التنازل عن امللك وتنصيب ابنه علي‬
‫ملكاً مقيداً بدستور مجلسني وطنيني‪.‬‬

‫ورأى اامل�ل��ك علي ب��ن احلسني أن ال��وض��ع العسكري ف��ي مكة‬


‫ضعيف فانسحب إلى جدة وأخذ ينظم قواته هناك‪ ،‬في ذلك األثناء‬
‫جنحت قوات اإلخوان من دخول مكة في أكتوبر‪/‬تشرين أول ‪1924‬‬
‫ثم املدينة املنورة في عام ‪ ،1925‬واستسلمت جدة بعد ذلك بقليل‪،‬‬
‫وتنازل امللك علي عن احلجاز وسافر إلى اخل��ارج‪ ،‬وبذلك توحدت‬
‫جند واحلجاز حتت سلطة األسرة السعودية‪ ،‬وفي مطلع عام ‪1926‬‬
‫ن��ودي بالسلطان عبد ال�ع��زي��ز ملكاً على جن��د واحل �ج��از‪.‬وف��ي عام‬
‫‪ 1932‬أطلق رسمياً على املنطقة التي يحكمها عبد العزيز آل سعود‬
‫اسم اململكة العربية السعودية‪ .‬واعترف االحتاد السوفيتي باململكة‬
‫اجلديدة‪ ،‬ثم تبعتها فرنسا واململكة املتحدة‪.‬‬

‫سلسلة حكام السعودية‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫محمد بن سعود‬ ‫‪1765-1746‬‬
‫عبد العزيز األول‬ ‫‪1803-1765‬‬
‫سعود بن عبد العزيز‬ ‫‪1814-1803‬‬
‫عبد الله األول بن سعود‬ ‫‪1818-1814‬‬
‫احلكم العثماني‬ ‫‪1822-1818‬‬
‫تركي بن عبد الله‬ ‫‪1834-1823‬‬
‫خالد بن سعود‬ ‫‪1837-1834‬‬

‫‪715‬‬
‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬
‫عبد الله الثاني بن ثنيان (نائبا حملمد علي)‬ ‫‪1841-1837‬‬
‫فيصل األول (املرة الثانية)‬ ‫‪1843-1841‬‬
‫عبد الله الثالث بن فيصل املرة األولى‬ ‫‪1865-1843‬‬
‫سعود بن فيصل‬ ‫‪1871-1865‬‬
‫عبد الله الثالث املرة الثانية‬ ‫‪1874-1871‬‬
‫غزو محمد بن رشيد حاكم حائل‪ ،‬مع بقاء عبد الله‬ ‫‪1887-1874‬‬
‫حاكماً للرياض من قبل ابن رشيد حتى ‪1889‬‬
‫عبد الرحمن بن فيصل‬ ‫‪1891-1889‬‬
‫محمد بن فيصل (املطوع) (نائب حاكم حتت سلطة‬ ‫‪1902 - 1891‬‬
‫آل رشيد)‬
‫عبد العزيز الثاني‬ ‫‪1953-1902‬‬
‫سعود بن عبد العزيز‬ ‫‪1964-1953‬‬
‫فيصل الثاني بن عبد العزيز‬ ‫‪1975-1964‬‬
‫خالد بن عبد العزيز‬ ‫‪1982-1975‬‬
‫فهد بن عبد العزيز‬ ‫منذ ‪1982‬‬

‫مالحظات‪:‬‬

‫تنازل عبد الرحمن بن فيصل البنه األمير عبد العزيز عن احلكم‪.‬‬ ‫ ‬

‫أجبر امللك سعود بسبب مرضه على التنازل عن العرش ألخيه‬ ‫ ‬


‫األمير فيصل‪.‬‬

‫اغتيل امللك فيصل بن عبد العزيز على يد اب��ن أخيه األمير‬ ‫ ‬


‫فيصل بن مساعد بن عبد العزيز وانتقلت السلطة بطريقة‬
‫سلمية إلى ولي عهده األمير خالد بن عبد العزيز‪.‬‬

‫‪716‬‬
‫‪ - 6‬قطر‬

‫ب��دأت قطر احلديثة في منتصف القرن التاسع عشر عندما‬


‫أسس الشيخ محمد بن ثاني إمارة تابعة للدولة العثمانية‪ ،‬كما عقد‬
‫معاهدة مع بريطانيا عام ‪ 1868‬وظلت تبعية قطر للدولة العثمانية‬
‫قائمة حتى عام ‪ 1913‬وهو العام الذي تنازلت فيه الدولة العثمانية‬
‫قبيل احلرب العاملية األولى عن هذه التبعية الشكلية ألهل قطر‪.‬وظلت‬
‫معاهدة احلماية البريطانية قائمة حتى عام ‪ 1971‬حيث استقلت‬
‫قطر وانضمت إلى هيئة األمم املتحدة وجامعة الدول العربية‪.‬‬

‫نظام احلكم في قطر وراثي في أسرة آل ثاني وهم من املعاضيد‬


‫من آل بني علي‪ /‬قبيلة عيسى بن مطرف‪ ،‬وهي من قبائل بني متيم‬
‫من جند‪ ،‬وقد انتقل احلكم من محمد بن ثاني إلى أبنائه وأحفاده‬
‫سلميا حتى عام ‪ 1972‬عندما قام الشيخ خليفة بن حمد ولي العهد‬
‫بعزل الشيخ أحمد استناداً إلى أنه صاحب احلق في احلكم‪.‬‬

‫سلسلة حكام قطر‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫محمد آل ثاني‬ ‫‪1878-1850‬‬
‫قاسم بن محمد‬ ‫‪1913-1878‬‬
‫عبدالله بن قاسم‬ ‫‪1949-1913‬‬
‫علي بن عبد الله‬ ‫‪1960-1949‬‬
‫أحمد بن علي‬ ‫‪1972-1960‬‬
‫خليفة بن حمد بن عبد الله‬ ‫‪1995-1972‬‬
‫حمد بن خليفة‬ ‫منذ ‪1995‬‬

‫‪717‬‬
‫مالحظات‪:‬‬

‫ع��زل الشيخ أحمد بن حمد بن عبد الله ليتولى احلكم ولي‬ ‫ ‬


‫عهده الشيخ خليفة بن حمد‪.‬‬

‫ع��زل الشيخ خليفة ب��ن حمد ليتولى احلكم ابنه وول��ي عهده‬ ‫ ‬
‫الشيخ حمد بن خليفة‪.‬‬

‫‪ - 7‬سلطنة عمان‬

‫حتكم أسرة آل بوسعيد عمان منذ عام ‪ 1746‬حتى اليوم وكان‬


‫حكمها يشمل أيضا شرق أفريقيا‪ ،‬وفي عام ‪ 1856‬انقسمت السلطنة‬
‫البوسعيدية إلى دولتني منفصلتني إحداهما في مسقط واألخرى في‬
‫زجنبار ولكن حكم األسرة انتهى في زجنبار عام ‪ 1964‬بعد انقالب‬
‫عسكري‪.‬‬

‫حتكم أسرة آل بوسعيد عمان بدون دستور مكتوب حتى اليوم‬


‫ولكن السلطة عملياً تنتقل من األب إلى االبن منذ عام ‪ 1888‬وقد‬
‫عزل السلطان سعيد والده تيمور عام ‪ 1932‬وظل يحكم حتى عام‬
‫‪ 1970‬عندما عزله ابنه قابوس الذي يحكم عمان حتى اليوم‪ .‬حصلت‬
‫سلطنة عمان على عضوية جامعة الدول العربية عام ‪ ،1971‬وعلى‬
‫عضوية منظمة األوب��ك العاملية ع��ام ‪ ،1981‬وأصبحت عضواً في‬
‫مجلس التعاون اخلليجي منذ إنشائه عام ‪.1981‬‬

‫وف��ي نوفمبر‪ /‬تشرين الثاني ‪ 1996‬ص��در م��رس��وم سلطاني‬


‫يحدد النظام األساسي للدول العمانية‪ ،‬ويعتبر هذا املرسوم الذي‬
‫يتكون من ‪ 81‬مادة أول دستور لسلطنة عمان‪ ،‬شملت مواد الدستور‬
‫طريقة اختيار من يخلف السلطان وصالحياته‪ ،‬طبقاً للنظام األساسي‬
‫للدولة العمانية‪ ،‬ورئاسة مجلس الوزراء وتعيني نواب رئيس مجلس‬

‫‪718‬‬
‫الوزراء والوزراء‪ ،‬ومينع النظام اجلديد الوزراء من امتالك حصص‬
‫ف��ي ال�ش��رك��ات ال�ت��ي ت�ق��وم ب��أع�م��ال م��ع احل�ك��وم��ة‪ ،‬ك�م��ا ينشئ هيئة‬
‫تشريعية عمانية من مجلسني‪ .‬وبذلك فالسلطان هو رئيس الدولة‬
‫ورئيس احلكومة في الوقت نفسه‪ ،‬ومجلس الوزراء يعينه السلطان‪.‬‬

‫وبالنسبة للهيئة التشريعية في عمان فتتكون من مجلسني‪،‬‬


‫األول الهيئة التشريعية وتتكون من ‪ 41‬عضواً يعينهم السلطان ولهم‬
‫سلطة استشارية فقط‪ .‬والثاني مجلس الشورى ويتكون من ‪ 82‬عضواً‬
‫ينتخبهم مجموعة محددة من املقترعني‪ ،‬ولكن االختيار األخير يكون‬
‫للسلطان ويحق له إلغاء نتائج االنتخابات‪ ،‬ولهذا املجلس سلطات‬
‫محدودة تتمثل في اقتراح القوانني‪ ،‬وغير ذلك فسلطاته استشارية‬
‫فقط‪ ،‬ومدة العضوية به أربع سنوات‪.‬‬

‫سلسلة حكام سالطنة مسقط ثم سالطنة زجنبار‬

‫في عمان وزجنبار‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬السلطنة املتحدة‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫أحمد بن سعيد‬ ‫‪1783-1741‬‬
‫سعيد بن أحمد‬ ‫‪1786-1783‬‬
‫حمد بن سعيد‬ ‫‪1792-1786‬‬
‫سلطان بن أحمد‬ ‫‪1806-1792‬‬
‫سعيد بن سلطان‬ ‫‪1856-1806‬‬

‫مالحظة‪:‬‬

‫بعد وفاة السلطان سعيد بن سلطان اقتسمت السلطنة بني عمان وزجنبار‪.‬‬ ‫ ‬

‫‪719‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬في عمان‬

‫مدة احلكم‬ ‫احلاكم‬


‫ثويني بن سعيد‬ ‫‪1866-1856‬‬
‫سالم بن ثويني‬ ‫‪1868-1866‬‬
‫عزان بن قيس‬ ‫‪1870-1868‬‬
‫تركي بن سعيد‬ ‫‪1888-1870‬‬
‫فيصل بن تركي‬ ‫‪1913-1888‬‬
‫تيمور بن فيصل‬ ‫‪1932-1913‬‬
‫سعيد بن تيمور‬ ‫‪1970-1932‬‬
‫قابوس بن سعيد‬ ‫منذ ‪1970‬‬

‫مالحظة‪:‬‬

‫عزل السلطان قابوس والده السلطان سعيد بن تيمور وتولى احلكم منذ عام‬ ‫ ‬
‫‪.1970‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬في زجنبار‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫ماجد بن سعيد‬ ‫‪1870-1856‬‬
‫برعش بن سعيد‬ ‫‪1888-1870‬‬
‫علي بن سعيد‬ ‫‪1893-1890‬‬
‫حمد‬ ‫‪1896-1893‬‬
‫حمود‬ ‫‪1902-1896‬‬
‫علي بن حمود‬ ‫‪1911-1902‬‬

‫‪720‬‬
‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬
‫خليفة‬ ‫‪1960-1911‬‬
‫عبد الله بن خليفة‬ ‫‪1963-1960‬‬
‫جمشيد بن عبد الله‬ ‫‪1964-1963‬‬

‫‪ - 8‬اململكة املغربية‬

‫يحكم األشراف من أبناء احلسن بن علي املغرب على نحو متصل‬


‫منذ عام ‪1511‬م وقد حكم األدارس��ة وهم من األش��راف احلسنيني‬
‫املغرب في الفترة ‪926 789‬م ثم انتهت دولتهم حتى ع��اودوا حكم‬
‫املغرب بعد سبعمائة عام‪ ،‬وبقيت املغرب مستقلة في عهد األشراف‬
‫ولم تخضع للدولة العثمانية كما حدث جلميع البلدان العربية‪ ،‬وكان‬
‫يحكم أوال األشراف السعديون من أبناء محمد حفيد احلسن واختفى‬
‫آخر سالطني السعديني عام ‪ 1659‬ليحل مكانهم األشراف الفيالليون‬
‫الذين قضوا على الوجود البرتغالي في املغرب ودخلوا في حرب مع‬
‫الفرنسيني عام ‪ 1844‬ومع األسبان عام ‪ 1859‬ثم فرضت الدولتان‬
‫احلماية على املغرب إل��ى أن استقلت املغرب ع��ام ‪ 1956‬في عهد‬
‫امللك محمد اخلامس من ملوك األس��رة الفياللية‪ .‬وبعد وفاة امللك‬
‫محمد اخلامس عام ‪ 1961‬انتقل احلكم إلى ابنه احلسن الثاني‪ ،‬ثم‬
‫انتقل امللك إلى ابنه محمد السادس عام ‪.1999‬‬

‫ص��در ال��دس�ت��ور امل�غ��رب��ي ع��ام ‪ ،1962‬وف��ي ع��ام ‪ 1970‬أعلن‬


‫امللك احلسن الثاني العودة إلى احلياة النيابية وصدور دستور جديد‬
‫ووقعت في تلك األثناء محاولتان انقالبيتان من املؤسسة العسكرية‬
‫منيتا بالفشل‪ ،‬األول��ى ق��اده��ا اجل�ن��رال محمد امل��ذب��وح والكولونيل‬
‫محمد عبابو في يوليو‪ /‬متوز ‪ 1971‬والثانية قادها وزير الداخلية‬
‫اجلنرال محمد أوفقير‪.‬‬

‫‪721‬‬
‫بعد هذين احملاولتني صدر دستور جديد للبالد في عام ‪1972‬‬
‫ووس��ع م��ن هامش الدميقراطية‪ .‬وف��ي ع��ام ‪ 1992‬أج��ري استفتاء‬
‫شعبي على إجراء تعديالت دستورية‪ ،‬ثم أدخلت تعديالت على احلياة‬
‫النيابية املغربية في عام ‪.1996‬‬

‫توفي امللك املغربي احلسن الثاني في عام ‪ 1999‬عن عمر يناهز‬


‫السبعني عاماً ليخلفه بطريقة طبيعية ابنه وولي عهده محمد السادس‪.‬‬

‫سلسلة احلكم في املغرب‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬السعديون‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫محمد املهدي القائم بأمر الله في سوس‬ ‫‪1517-1511‬‬
‫أحمد األعرج في مراكش‬ ‫‪1540-1517‬‬
‫محمد الشيخ املهدي بن محمد في سوس ثم فاس‬ ‫‪1557-1517‬‬
‫عبد الله الغالب‬ ‫‪1574-1557‬‬
‫محمد املتوكل املسلوخ‬ ‫‪1576-1574‬‬
‫عبد امللك بن محمد الشيخ املهدي‬ ‫‪1578-1576‬‬
‫أحمد املنصور‬ ‫‪1603-1578‬‬
‫محمد الشيخ املأمون‬ ‫‪1603-1578‬‬
‫عبد الله الواثق في مراكش‬ ‫‪1603-1578‬‬
‫زيدان الناصر أوالً في فاس فقط‬ ‫‪1623 /1034‬‬
‫عبد امللك بن زيدان في مراكش فقط‬ ‫‪1631-1623‬‬
‫الوليد‬ ‫‪1636-1631‬‬
‫محمد األصغر‬ ‫‪1654-1636‬‬
‫أحمد العباس‬ ‫‪1659-1654‬‬

‫‪722‬‬
‫مالحظة‪:‬‬

‫تنافس أوالد أحمد املنصور (محمد الشيخ املأمون وعبد الله الواثق وزيدان‬ ‫ ‬
‫الناصر) على اخلالفة وحكم كل منهم فترة وجيزة من عام ‪1603‬‬

‫اضمحلت وح��دة السلطنة أواخ��ر القرن السابع عشر مع ظهور احلركات‬ ‫ ‬


‫التحررية في أجزاء مختلفة من البالد املغربية‪ ،‬وفي عام ‪ 1659‬اختفى آخر‬
‫سالطنة السعديني‪ ،‬مما مهد الطريق أمام موالي الراشد وموالي إسماعيل‬
‫(من شرفاء الفاللية) الستعادة سلطةالشرفاء وبسطها على جميع أنحاء‬
‫البالد‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬الفالليون‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫محمد األول الشريف في تافاللت‬ ‫‪1635-1631‬‬
‫محمد الثاني بن محمد األول‬ ‫‪1664-1635‬‬
‫الراشد‬ ‫‪1672-1664‬‬
‫إسماعيل السمني‬ ‫‪1727-1672‬‬
‫أحمد الذهبي‬ ‫‪1729-1727‬‬
‫عبد الله‬ ‫‪1735-1729‬‬
‫محمد الثالث بن عبد الله‬ ‫‪1790-1757‬‬
‫يزيد‬ ‫‪1792-1790‬‬
‫هشام‬ ‫‪1793-1792‬‬
‫سليمان‬ ‫‪1822 - 1793‬‬
‫عبد الرحمن‬ ‫‪1859-1822‬‬
‫محمد الرابع بن عبد الرحمن‬ ‫‪1873-1859‬‬
‫احلسن األول بن محمد‬ ‫‪1895-1873‬‬

‫‪723‬‬
‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬
‫عبد العزيز‬ ‫‪1907-1895‬‬
‫احلافظ‬ ‫‪1912-1907‬‬
‫يوسف‬ ‫‪1927-1912‬‬
‫محمد اخلامس املرة األولى‬ ‫‪1953-1927‬‬
‫محمد بن عرفة‬ ‫‪1955-1953‬‬
‫محمد اخلامس املرة الثانية‬ ‫‪1962-1955‬‬
‫احلسن الثاني بن محمد اخلامس‬ ‫‪1999-1962‬‬
‫محمد السادس‬ ‫منذ ‪1999‬‬

‫مالحظة‪:‬‬

‫كانت السلطة خ�لال الفترة من ‪ 1735-1729‬في يد عبد الله وكان‬ ‫ ‬


‫ينازعه فيهاعدد من املطالبني باحلكم‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬الدول اجلمهورية‬

‫‪ - 9‬تونس‬

‫استقلت تونس عن االحتالل الفرنسي عام ‪ ،1956‬وفي العام‬


‫التالي (‪ )1957‬أعلنت اجلميعية التأسيسية إلغاء امللكية وإعالن‬
‫اجلمهوية واختيار احلبيب بورقيبة رئيساً بصورة مؤقتة‪ ،‬وفي األول‬
‫من يناير‪ /‬كانون ثاني ‪ 1959‬صدر الدستور األول لتونس وأجري‬
‫اقتراع عام على منصب الرئيس فاز فيه احلبيب بورقيبة‪ ،‬وتكرر‬
‫احلال في أعوام ‪ 1964‬ثم في عام ‪ ،1971‬وفي عام ‪ 1974‬اختير‬
‫بورقيبة كرئيس لتونس مدى احلياة‪.‬‬

‫‪724‬‬
‫سلسلة حكام تونس‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫علي الترك‬ ‫‪1735-1705‬‬
‫علي بن احلسني‬ ‫‪1756-1735‬‬
‫محمد الرشيد‬ ‫‪1759-1756‬‬
‫علي الثاني بن احلسني‬ ‫‪1782-1759‬‬
‫حموده بن علي‬ ‫‪1814-1782‬‬
‫عثمان بن علي‬ ‫‪1814/10-9‬‬
‫محمود بن محمد‬ ‫‪1824-1814‬‬
‫احلسني الثاني بن محمود‬ ‫‪1835-1824‬‬
‫املصطفى بن محمود‬ ‫‪1837-1835‬‬
‫أحمد بن مصطفى‬ ‫‪1855-1837‬‬
‫محمد بن احلسني‬ ‫‪1859-1855‬‬
‫محمد الصادق‬ ‫‪1882-1859‬‬
‫علي مودات بن احلسني‬ ‫‪1902-1882‬‬
‫محمد الهادي‬ ‫‪1906-1902‬‬
‫محمد الناصر‬ ‫‪1922-1906‬‬
‫محمد احلبيب‬ ‫‪1929-1922‬‬
‫أحمد بن علي‬ ‫‪1942-1929‬‬
‫محمد املنصف‬ ‫‪1943-1942‬‬
‫محمد األمني‬ ‫‪1957-1943‬‬

‫‪725‬‬
‫حكام تونس منذ االستقالل‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫احلبيب بورقيبة‬ ‫‪1987-1957‬‬
‫زين العابدين بن علي‬ ‫منذ ‪1987‬‬

‫ظل احلبيب بورقيبة على رأس السلطة في تونس طيلة ثالثني‬


‫عاماً (‪ )1987-1957‬إل��ى أن ت��ده��ورت حالته الصحية‪ ،‬فانتقلت‬
‫السلطة إل��ى ال��وزي��ر األول (رئيس ال ��وزراء) زي��ن العابدين بن علي‬
‫الذي استطاع احلصول على تقرير طبي من سبعة من كبار األطباء‬
‫التونسيني يؤكد إصابة بورقيبة بأمراض الشيخوخة وع��دم قدرته‬
‫من الناحية الذهنية على إدارة شؤون احلكم‪ .‬وفي الثاني من أبريل‪/‬‬
‫نيسان ‪ 1989‬أجريت انتخابات نيابية ورئاسية فاز فيها زين العابدين‬
‫بن علي مبنصب رئيس البالد‪ .‬في ‪ 20‬م��ارس‪ /‬آذار ‪ 1994‬أعيد‬
‫انتخاب بن علي بعد انتخابات برملانية ورئاسية‪ ،‬في ‪ 24‬أكتوبر‪/‬‬
‫تشرين ‪ 1999‬أعيد انتخاب بن علي في انتخابات شارك فيها للمرة‬
‫األول��ى مرشحون آخ��رون غيره‪ ،‬كما ف��ازت املعارضة بـ ‪ % 20‬من‬
‫مقاعد البرملان البالغة ‪ ،182‬وف��ازت النساء بـ ‪ 21‬مقعداً‪.‬وعزل‬
‫بحراك شعبي في كانون األول ‪.2010‬‬

‫‪ - 10‬اجلزائر‬

‫بعد احتالل فرنسي دام ألكثر من ‪ 130‬عاماً وبعد ثورة شعبية‬


‫راح ضحيتها أكثر من مليون شهيد‪ ،‬أعلن اجلنرال الفرنسي شارل‬
‫ديغول انسحاب قواته من اجل��زائ��ر‪ ،‬فنالت استقاللها في يوليو‪/‬‬
‫مت��وز ‪ ،1962‬وتشكلت أول حكومة وطنية مؤقتة برئاسة فرحات‬
‫عباس‪ .‬وعلى مدى العقود املاضية حكم اجلزائر‪:‬‬

‫‪726‬‬
‫رؤساء اجلمهورية في اجلزائر‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫اخلروج من السلطة‬


‫فرحات عباس‬ ‫‪1963 - 1962‬‬ ‫انقالب عسكري‬
‫أحمد بن بيال‬ ‫‪1965 - 1963‬‬ ‫انقالب عسكري‬
‫هواري بو مدين‬ ‫‪1978 - 1965‬‬ ‫وفاة طبيعية‬
‫رابح بيطاط‬ ‫‪1979 - 1978‬‬ ‫مؤقت‬
‫الشاذلي بن جديد‬ ‫‪1991 - 1979‬‬ ‫استقالة‬
‫محمد بوضياف‬ ‫‪1992 - 1991‬‬ ‫اغتيال‬
‫مجلس عسكري‬ ‫‪1994 - 1992‬‬ ‫‪-‬‬
‫األمني زروال‬ ‫‪1999 - 1994‬‬ ‫استقال‬
‫عبد العزيز بوتفليقة‬ ‫منذ ‪1999‬‬ ‫‪-‬‬

‫ف��ي سبتمبر‪ /‬أي �ل��ول م��ن ع��ام ‪ 1962‬انتخب ف��رح��ات عباس‬


‫رئيساً للجمهورية وأحمد بن بيال رئيساً للوزراء‪ ،‬وفي ‪ 13‬سبتمبر‪/‬‬
‫أيلول ‪ 1963‬انتخب أحمد بن بيال رئيساً جديداً ملدة خمس سنوات‪،‬‬
‫فجمع بني رئاسته للحكومة والدولة ومنصب القائد األعلى للقوات‬
‫املسلحة‪ ،‬وفي العام نفسه قاد آيت أحمد مترداً في منطقة القبائل‬
‫والعقيد شعباني قائد اجليش الذي ألقي القبض عليه وأعدم‪.‬وفي‬
‫‪ 19‬يونيو‪ /‬حزيران ‪ 1965‬تزعم قائد جيش التحرير هواري بومدين‬
‫انقالباً عسكرياً أطاح بالرئيس أحمد بن بال‪ ،‬وشكل العقيد مجلساً‬
‫للرئاسة أطلق عليه مجلس قيادة الثورة برئاسته وعضوية عشرين‬
‫عضواً وكان من األسماء الالمعة في ذلك املجلس عبد العزيز بوتفلية‬
‫وزير اخلارجية آنذاك‪ ،‬وفي عام ‪ 1967‬أعلنت اجلزائر نفسها دولة‬
‫اشتراكية‪.‬‬

‫ظ��ل ه��واري ب��وم��دي��ن يحكم اجل��زائ�ـ��ر حتى وف��ات��ه ف��ي السابع‬

‫‪727‬‬
‫والعشرين م��ن ديسمبر‪ /‬ك��ان��ون األول ‪ 1978‬فخلفه راب��ح بيطاط‬
‫رئيس اجلمعية الوطنية «الهيئة البرملانية» كرئيس مؤقت‪ ،‬حيث ينص‬
‫الدستور على أن يتولى رئيس اجلمعية الوطنية منصب الرئاسة ملدة‬
‫خمسة وأربعني يومياً في حالة خلوه فجأة حلني انتخاب رئيس جديد‬
‫للبالد‪.‬‬

‫حدث صراع سياسي على السلطة داخل جبهة التحرير الوطنية‪،‬‬


‫ودامت اجتماعاتها الختيار مرشح ملنصب الرئيس سبعة أيام انتهت‬
‫باختيار الشاذلي بن جديد‪ ،‬ال��ذي أج��ري استفتاء شعبياً عليه في‬
‫السابع من فبراير‪ /‬شباط ‪ 1979‬كانت انتهى بفوزه مبنصب رئيس‬
‫اجلمهورية ملدة خمس سنوات‪ .‬وفي عام ‪ 1980‬شهدت اجلزائر تنامي‬
‫االضطرابات في منطقة األمازيغ وباألخص في منطقة تيزي وزو‬
‫للمطالبني مبزيد من االستقاللية الثقافية‪ ،‬وأعيد انتخاب الشاذلي‬
‫بن جديد لفترة رئاسية ثانية في يناير‪ /‬كانون الثاني ‪ 1984‬تنتهي‬
‫في عام ‪ .1989‬وفي عام ‪ 1988‬وقعت مظاهرات عنيفة احتجاجاً‬
‫على تردي األوضاع االقتصادية في البالد راح ضحيتها حوالي ‪500‬‬
‫قتيل‪ ،‬وفي ‪ 26‬ديسمبر‪ /‬كانون األول ‪ 1991‬أجريت انتخابات في‬
‫البالد حققت فيها جبهة اإلنقاذ اإلسالمي فوزاً كبيراً كان سيمكنها‬
‫من تشكيل احلكومة‪ ،‬لوال تدخل اجليش وإلغائه نتائج اجلولة الثانية‬
‫من تلك االنتخابات في يناير‪ /‬كانون الثاني ‪ 1992‬وإعالنه األحكام‬
‫العرفية‪ ،‬مما أدى إلى اندالع عمليات عنف في البالد راح ضحيتها‬
‫بحسب املصادر الرسمية أكثر من ‪ 100‬ألف قتيل‪.‬‬

‫استقال الشاذلي بن جديد من احلكم ليخلفه محمد بوضياف‬


‫الذي كان يعيش في املغرب منذ عقود طويلة‪ ،‬ولم يدم حكمه غير‬
‫عدة أشهر‪ ،‬إذ اغتيل نهاية عام ‪ .1992‬وتشكل مجلس عسكري من‬
‫خمسة ضباط تولوا حكم البالد حتى اختارت املؤسسة العسكرية‬

‫‪728‬‬
‫األم�ين زروال رئيساً ج��دي��داً للبالد خلفاً حملمد بوضياف في عام‬
‫‪ ،1994‬وأجريت انتخابات برملانية في يونيو‪ /‬متوز ‪ 1997‬اشترك‬
‫فيها عشرة أح��زاب حقق حزب الرئيس األم�ين زروال املركز األول‬
‫وف��از ب�ـ ‪ 155‬مقعداً وج��اء ف��ي امل��رك��ز الثاني ح��زب مجتمع السلم‬
‫بزعامة محفوظ نحناح بعدد مقاعد وص��ل ‪ 65‬م�ق�ع��داً‪ .‬وف��ي ‪15‬‬
‫أبريل‪ /‬نيسان ‪ 1999‬انتخب عبد العزيز بوتفيلقة رئيساً للجمهورية‬
‫بعد أن انسحب املرشحون اآلخرون الذين كانوا يتنافسون على هذا‬
‫املنصب‪.‬‬

‫‪ - 11‬جيبوتي‬

‫أعلنت فرنسا جيبوتي مستعمرة خارجية لها في عام ‪،1946‬‬


‫وبعد كفاح سياسي حصلت على استقاللها في يونيو‪ /‬متوز ‪،1977‬‬
‫وانتخب زعيم حزب الرابطة الشعبية حسن غوليد رئيساً للجمهورية‬
‫الوليدة‪.‬‬

‫رؤساء جيبوتي‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫اخلروج من السلطة‬


‫حسن غوليد‬ ‫‪1999-1977‬‬ ‫انتهاء واليته‬
‫إسماعيل عمر غيله‬ ‫منذ ‪1999‬‬

‫مع األشهر األولى حلكم غوليد بدأ في اتباع سياسية تستهدف‬


‫إبعاد العفاريني عن املراكز احلساسة (معروف أن جيبوتي تتكون من‬
‫قوميتني كبيرتني هما عفار والعيسي)‪ ،‬فحدثت اضطرابات كادت تطيح‬
‫بحكم غوليد مما اضطره إلى التعايش السياسي مع العفار‪ ،‬وأفرج عن‬
‫عدد كبير من املسجونني السياسيني مما أوجد نوعاً من االستقرار‪.‬‬

‫‪729‬‬
‫ظل الرئيس حسن غوليد في احلكم منذ عام ‪ 1977‬حتى عام‬
‫‪ ،1999‬وف��ي ذل��ك ال�ع��ام ق��رر ع��دم خ��وض انتخابات الرئاسة التي‬
‫جرت‪ ،‬مما أتاح الفرصة ملدير الديوان الرئاسي إسماعيل عمر غيله‬
‫للفوز فيها ليصبح الرئيس الثاني للبالد منذ االستقالل‬

‫‪ -12‬العراق‬

‫كان العراق جزءا من الدولة العثمانية‪ ،‬وفي عام ‪ 1920‬أقام‬


‫امللك فيصل بن احلسني مملكة في ال�ع��راق من خ�لال معاهدة مع‬
‫بريطانيا‪ ،‬وفي عام ‪ 1932‬استقل العراق وشارك في عصبة األمم‪.‬‬

‫حكام العراق من ‪1921‬‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫اخلروج من السلطة‬


‫فيصل األول‬ ‫‪1933-1921‬‬ ‫وفاة طبيعية‬
‫غازي األول‬ ‫‪1939-1933‬‬ ‫وفاة بحادث سيارة‬
‫فيصل الثاني‬ ‫‪1958-1939‬‬ ‫انقالب عسكري أدى إلى قتله‬
‫عبد الكرمي قاسم‬ ‫‪1963-1958‬‬ ‫انقالب عسكري‬
‫عبد السالم عارف‬ ‫‪1966-1963‬‬ ‫اغتيال‬
‫عبد الرحمن عارف‬ ‫‪1968-1966‬‬ ‫انقالب سياسي عنيف‬
‫أحمد حسن البكر‬ ‫‪1979-1968‬‬ ‫أجبر على االستقالة‬
‫صدام حسني‬ ‫‪2005-1979‬‬ ‫إعدام بعد محاكمة‬

‫ط��ال��ب امل�ل��ك فيصل األول ب��اإلل�غ��اء االن �ت��داب ال�ب��ري�ط��ان��ي مع‬


‫التوقيع على حتالف مع بغداد‪ ،‬وقد وافقت بريطانيا وظهر التحالف‬
‫البريطاني العراقي إلى الوجود عام ‪ 1922‬وفي عام ‪ 1925‬أجريت‬

‫‪730‬‬
‫أول انتخابات برملانية‪.‬‬

‫توفي امللك فيصل سنة ‪ 1933‬وخلفه ابنه غازي األول الذي‬


‫ألغى األحزاب وفرض نوعاً من احلكم الشمولي في البالد‪ ،‬مما أدى‬
‫إلى ثورة القبائل الكردية وعزز من مكانة اجليش‪ .‬واستمر امللك غازي‬
‫في احلكم حتى توفي في حادث سيارة سنة ‪ .1939‬وتولى فيصل‬
‫الثاني ابن امللك غازي احلكم حتت الوصاية وهو لم يبلغ الثالثة من‬
‫عمره‪ ،‬وكان نوري السعيد هو الذي يدير الدولة‪ ،‬واندلعت في هذه‬
‫األثناء (‪ )1941‬ثورة رشيد عالي الكيالني‪ ،‬واستمرت حالة من عدم‬
‫االستقرار تخيم على األوض��اع السياسية في العراق تخللتها ثورة‬
‫القبائل الكردية عامي ‪ 1946/ 1945‬ثم معاهدة التعاون العسكري‬
‫املشترك بني العراق واألردن عام ‪ ،1947‬وانتفاضة أكتوبر‪ /‬تشرين‬
‫األول ‪ 1952‬التي طالبت بانتخابات مباشرة واحلد من صالحيات‬
‫امللك‪ ،‬وفي عام ‪ 1958‬وقع العراق واألردن على احتاد فيدارلي فيما‬
‫بينهما إال أن اإلنقالب العسكري الذي قاده عبد الكرمي قاسم عجل‬
‫بسقوط امللكية بعد أن قتل امللك فيصل الثاني وخاله عبد اإلله‬
‫ورئيس الوزراء نوري السعيد ثم أعلنت اجلمهورية‪.‬‬

‫قاد حزب البعث انقالباً على عبد الكرمي قاسم في ‪ 8‬فبراير‪/‬‬


‫شباط ‪ ،1963‬وأصبح عبد السالم عارف الذي لم يكن بعثياً رئيساً‬
‫للعراق‪ ،‬وبعد موت عبد السالم عارف في عام ‪ 1966‬تولى احلكم‬
‫من بعده أخوه عبد الرحمن عارف‪ .‬وفي ‪ 17‬يوليو‪ /‬متوز ‪ 1968‬قاد‬
‫حزب البعث بالتنسيق مع بعض العناصر غير البعثية انقالباً ناجحاً‬
‫بقيادة أحمد حسن البكر الذي أصبح رئيساً جديداً للبالد‪ .‬استمر‬
‫حكم البكر حتى ع��ام ‪ 1979‬حينما أجبر على االستقالة ليخلفه‬
‫الرئيس صدام حسني الذي اعدم بعد الغزو األمريكي للعراق‪.‬‬

‫‪731‬‬
‫‪ - 13‬سوريا‬

‫أقام امللك فيصل مملكة في سورية بعد احلرب العاملية األولى‬


‫ولكنها سقطت على يد االح�ت�لال الفرنسي ع��ام ‪ ،1920‬وحصلت‬
‫سوريا على استقاللها‪ ،‬وأعلنت اجلمهورية في ‪ 17‬إبريل‪ /‬نيسان‬
‫‪ ،1946‬غير أن السنوات التي تلت االستقالل لم تشهد استقراراً في‬
‫احلكم وحدثت خاللها العديد من االنقالبات العسكرية‪.‬‬

‫سلسلة احلكام في سوريا (‪ 1932‬إلى ‪)2011‬‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫اخلروج من السلطة‬


‫محمد على العابد‬ ‫‪1936 - 1932‬‬ ‫‪-‬‬
‫هاشم األتاسي املرة األولى‬ ‫‪1939-1936‬‬ ‫‪-‬‬
‫ناصوحي سالم البخاري مؤقت‬ ‫‪1939/10-7‬‬ ‫‪-‬‬
‫بهاء الدين اخلطيب رئيس مجلس املفوضني‬ ‫‪1941-1939‬‬ ‫‪-‬‬
‫خالد العظم رئيس مجلس الوزراء‬ ‫‪1941/9-4‬‬ ‫‪-‬‬
‫الشيخ تاج الدين احلاساني‬ ‫‪1943 - 1941‬‬ ‫‪-‬‬
‫جميل األلوسي بالوكالة‬ ‫‪1943/3-7‬‬ ‫‪-‬‬
‫عطا األيوبي‬ ‫‪1949-1943‬‬ ‫‪-‬‬
‫شكري القوتلي املرة األولى‬ ‫‪1949-1943‬‬ ‫‪-‬‬
‫حسني الزعيم انقالب عسكري هو األول من‬ ‫‪1949/8-3‬‬ ‫‪-‬‬
‫نوعه في الوطن العربي‬
‫محمد سامي حلمي احلناوي رئيس املجلس‬ ‫‪1949/8/15-14‬‬ ‫‪-‬‬
‫العسكري األعلى‬
‫هاشم األتاسي املرة األولى‬ ‫‪1951-1949‬‬ ‫‪-‬‬
‫أديب الشيشكلي املرة األولى‬ ‫‪1951/12/3-2‬‬ ‫‪-‬‬
‫فوزي السلو‬ ‫‪1953-1951‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪732‬‬
‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫اخلروج من السلطة‬
‫أديب الشيشكلي املرة الثانية‬ ‫‪1954-1953‬‬ ‫العزل بالقوة‬
‫مأمون الكزبري املرة األولى‬ ‫‪1954/2/28-25‬‬ ‫‪-‬‬
‫هاشم األتاسي املرة الثانية‬ ‫‪1956-1945‬‬ ‫العزل بالقوة‬
‫شكري القوتلي املرة الثاني‬ ‫‪1958-1955‬‬ ‫العزل بالقوة‬
‫جزء من اجلمهورية العربية املتحدة برئاسة‬ ‫‪1961-1958‬‬ ‫‪-‬‬
‫جمال عبد الناصر‬
‫مأمون الكزبري املرة الثاني‬ ‫‪1961/11-9‬‬ ‫‪-‬‬
‫عزت أنوس‬ ‫‪1961/12-11‬‬ ‫‪-‬‬
‫ناظم القدسي‬ ‫‪1963-1961‬‬ ‫العزل بالقوة‬
‫ل ��ؤي األت ��اس ��ي رئ �ي��س م�ج�ل��س ق��ي��ادة الثور‬ ‫‪1963/7-3‬‬ ‫انقالب عسكري‬
‫حتى ‪ 1964/5/13‬ثم أصبح رئيس مجلس‬
‫الرئاسة‬
‫محمد أمني احلافظ‬ ‫‪1966-1963‬‬ ‫العزل بالقوة‬
‫نور الدين مصطفى األتاسي‬ ‫‪1970-1966‬‬ ‫العزل بالقوة‬
‫سيد أحمد احلسن اخلطيب فترة انتقالية‬ ‫‪1971-1970‬‬ ‫انقالب سياسي عنيف‬
‫حافظ األسد‬ ‫‪2000-1971‬‬ ‫سلمي بالوفاة‬
‫الطبيعية‬
‫عبد احلليم خدام رئيساً بالوكالة‬ ‫‪2000/7/17-10‬‬ ‫انتهت مهمته‬
‫الدستورية املؤقتة‬
‫بشار حافظ األسد‬ ‫منذ ‪2000/7/17‬‬

‫ك��ان شكري القوتلي أول رئيس جمهورية بعد االستقالل إذ‬


‫حكم س��وري��ا ف��ي الفترة ال��واق�ع��ة م��ن ‪ 1946‬إل��ى ‪ 1949‬حيث قاد‬
‫حسني الزعيم في ذل��ك العام أول انقالب عسكري تشهده سوريا‬
‫بعد االستقالل‪ ،‬واستمر حكم الزعيم خمسة أشهر فقط إل��ى أن‬
‫ق��ام سامي احل�ن��اوي بانقالب عليه لكنه ل��م يبق ف��ي السلطة أكثر‬

‫‪733‬‬
‫من بضعة أشهر حيث أطاح به االنقالب الثالث في ديسمبر‪/‬كانون‬
‫أول م��ن ال�ع��ام نفسه بقيادة أدي��ب الشيشيكلي ومنذ ذل��ك التاريخ‬
‫وحتى عام ‪ 1970‬كان تاريخ سوريا عبارة عن سلسلة من االنقالبات‬
‫العسكرية‪.‬‬

‫ع��ادت س��وري��ا إل��ى االن �ق�لاب��ات بتسلم ن��اظ��م ال�ق��دس��ي رئاسة‬


‫اجلمهورية حتى انقالب ‪ 8‬مارس‪ /‬آذار ‪ 1963‬واستالم حزب البعث‬
‫السلطة‪.‬وكان أول رئيس للدولة من ضباط حزب البعث الفريق أمني‬
‫احلافظ (‪ ،)1966-1963‬وقد شهدت تلك الفترة تفجر الصراعات‬
‫على السلطة ب�ين البعثيني‪ ،‬واس�ت�م��رت حتى بعد تسلم ن��ور الدين‬
‫األتاسي احلكم ليصبح أول رئيس مدني من البعثيني‪ .‬وق��د سجن‬
‫األتاسي قرابة ‪ 22‬عاماً في عهد الرئيس حافظ األسد‪ ،‬وتوفي بعد‬
‫اإلفراج عنه بأربعة أشهر في باريس‪.‬‬

‫وتولى احلكم أحمد اخلطيب ملدة أربعة أشهر لفترة انتقالية‬


‫متهيدا النتخابات تشريعية حكم فيها حافظ األسد الذي انتهى في‬
‫عهده عصر االنقالبات‪ ،‬واستقرت سوريا في حكم قوي سيطر على‬
‫جميع املؤسسات الدستورية والتشريعية‪ .‬وقد توفي حافظ األسد‬
‫في العام املاضي (‪ )2000‬وانتخب جنله بشار (‪ 34‬عاماً) خلفاً له‬
‫بعد أن عدل الدستور السوري في جلسة خاصة ليتم التغلب على‬
‫عائق السن الذي كان يشترط بلوغ الرئيس اجلديد أربعني عاماً‪.‬‬

‫‪ -14‬لبنان‬

‫غلبت التركيبة السكانية وطبيعة ال�ت�ن��وع ال��دي�ن��ي واملذهبي‬


‫والسياسي في لبنان على خريطة تدول السلطة بها‪ ،‬فمنذ االستقالل‬
‫عن االحتالل الفرنسي عام ‪ 1946‬واختيار بشاره اخلوري أول رئيس‬

‫‪734‬‬
‫للبالد حتى اآلن شهدت خريطة السلطة أمناطا مختلفة من الصراع‬
‫بعضها باالنقالبات العسكرية كما حدث مع كميل شمعون واللواء‬
‫ف��ؤاد شهاب وبعضها ب��االن�ق�لاب السياسي كما ح��دث م��ع الرئيس‬
‫شارل احللو عام ‪.1970‬‬

‫سلسلة حكام لبنان‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫اخلروج من السلطة‬


‫شارل ديباس‬ ‫‪1934-1926‬‬ ‫‪-‬‬
‫أنطوان أبو أرض‬ ‫‪1934/1/30-2‬‬ ‫‪-‬‬
‫حبيب السعد‬ ‫‪1936-1934‬‬ ‫‪-‬‬
‫إميل أده املرة األولى‬ ‫‪1941-1936‬‬ ‫‪-‬‬
‫ألفريد نقاش‬ ‫‪1943-1941‬‬ ‫‪-‬‬
‫أيوب ثابت‬ ‫‪1943/7-3‬‬ ‫‪-‬‬
‫بيترو تراد‬ ‫‪1943/9-7‬‬ ‫‪-‬‬
‫ب � �ش� ��ارة اخل� � � ��وري امل� ��رة‬ ‫‪1943/11-9‬‬ ‫‪-‬‬
‫األولى‬
‫إميل أده املرة الثانية‬ ‫‪1943/11/22-11‬‬ ‫‪-‬‬
‫ب� �ي� �ش ��اره اخل� � ��وري امل���رة‬ ‫‪1952-1943‬‬ ‫العزل بالقوة‬
‫الثانية‬
‫فؤاد شهاب املرة األولى‬ ‫‪1952/9/22-18‬‬ ‫‪-‬‬
‫كميل شمعون‬ ‫‪1958-1952‬‬ ‫العزل بالقوة‬
‫فؤاد شهاب املرة الثانية‬ ‫‪1964-1958‬‬ ‫االعفاء من املنصب‬
‫شارل احللو‬ ‫‪1970-1964‬‬ ‫االعفاء من املنصب‬
‫سليمان فرجنيه‬ ‫‪1976-1970‬‬ ‫العزل بالقوة‬
‫إلياس سركيس‬ ‫‪1982-1976‬‬ ‫انتهاء الوالية‬

‫‪735‬‬
‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫اخلروج من السلطة‬
‫بشير اجلميل‬ ‫‪1982/9-8‬‬ ‫االغتيال‬
‫أمني اجلميل‬ ‫‪1988-1982‬‬ ‫سلمي‬
‫سليم احلص املرة األولى‬ ‫‪1989-1988‬‬ ‫سلمي‬
‫رينيه معوض‬ ‫‪1989/11/22-5‬‬ ‫االغتيال‬
‫‪ 1989/11/24-22‬سليم احلص املرة الثاني‬ ‫سلمي‬
‫إلياس هراوي‬ ‫‪1998-1989‬‬ ‫سلمي‬
‫إميل حلود‬ ‫‪2005 -1998‬‬ ‫سلمي‬
‫فراغ دستوري رئاسي‬ ‫أيلول ‪ – 2005‬تشرين‬ ‫سلمي‬
‫األول ‪2008‬‬
‫ميشال سليمان‬ ‫‪2008‬‬ ‫سلمي‬

‫حصلت لبنان على استقاللها عن االحتالل الفرنسي في ‪22‬‬


‫نوفمبر‪ /‬تشرين الثاني ع��ام ‪ ،1943‬وتولى بشاره اخل��وري رئاسة‬
‫اجلمهورية في ‪ 21‬سبتمبر‪ /‬أيلول كما اختير رياض الصلح كأول‬
‫رئيس للوزراء في العام نفسه‪.‬‬

‫اغتيل ري��اض الصلح ف��ي عمان ع��ام ‪ 1952‬على إث��ر اغتيال‬


‫أن�ط��ون س�ع��ادة رئيس احل��زب ال�س��وري القومي بعد اتهامه بحركة‬
‫انقالبية عام ‪.1949‬‬

‫نظم اللبنانيون إضراباً عاماً طالبوا فيه بعزل بشارة اخلوري‬


‫من منصبه‪ ،‬وتدخل اجليش بقيادة اللواء ف��ؤاد شهاب ال��ذي تولي‬
‫السلطة بصورة مؤقتة عقب استقالة بشارة اخلوري وانتخب كميل‬
‫شمعون رئيساً للجمهورية في ‪ 23‬سبتمبر‪ /‬أيلول ‪ 1952‬ملدة ست‬
‫سنوات كما ينص الدستور اللبناني الصادر في مايو‪ /‬أيار ‪1926‬‬

‫‪736‬‬
‫وامليثاق الوطني الصادر عام ‪.1943‬‬

‫رف��ض كميل ش�م�ع��ون ال�ت�ن��ازل ع��ن السلطة رغ��م ان�ت�ه��اء فترة‬


‫رئاسته الدستورية‪ ،‬مما أدى إلى تدخل اجليش وتولية اللواء فؤاد‬
‫شهاب احلكم مرة أخرى في ‪ 23‬سبتمبر‪ /‬أيلول ‪ ،1958‬وفي نهاية‬
‫السنوات الست أعفي من منصبه‪ ،‬لتولى احلكم ش��ارل احللو بعد‬
‫انتخابات غير مباشرة في ‪ 23‬سبتمبر‪ /‬أيلول ‪.1964‬‬

‫وق�ع��ت محاولة انقالبية ف��ي عهد ال �ل��واء ف��ؤاد ش�ه��اب بقيادة‬


‫ال�ض��اب�ط��ان ش��وق��ي خير ال�ل��ه وف��ؤاد ع��وض‪ ،‬ومب�س��ان��دة م��ن احلزب‬
‫السوري القومي االجتماعي لكنها باءت بالفشل‪.‬‬

‫استمر حكم الرئيس شارل احللو حتى عام ‪ 1970‬ثم أعفي من‬
‫منصبه ليخلفه الرئيس سليمان فرجنية‪.‬‬

‫خالل احلرب األهلية التي شهدتها لبنان منذ أواسط السبعينيات‬


‫وحتى أواخ��ر الثمانينات من القرن املاضي‪ ،‬تنازع السلطة خاللها‬
‫العديد من امليليشيات الطائفية املسلحةّ‪ .‬وقد تولى احلكم خالل تلك‬
‫الفترة املضطربة إلياس سركيس‪ ،‬ثم بشير اجلميل بعد انتخابه من‬
‫قبل البرملان اللبناني رئيساً للجمهورية اللبنانية يوم ‪،1982/8/23‬‬
‫ولكنه اغتيل مع عدد من زمالئه في انفجار مبقر قيادة الكتائب في‬
‫قطاع األشرفية يوم ‪.1982/9/14‬‬

‫بعد اغتيال بشير اجلميل تولى السلطة أخ��وه أم�ين اجلميل‬


‫منذ عام ‪ 1982‬حتى عام ‪ 1988‬حيث انتهت فترة رئاسته‪ ،‬فتشكلت‬
‫حكومة مؤقتة مكونة من ستة من الضباط واختار العماد ميشيل عون‬
‫رئيساً للوزراء إال أن املسلمني رفضوا هذا اخليار‪ ،‬وتولى الوزارة‬
‫رشيد كرامي ثم سليم احلص‪.‬‬

‫‪737‬‬
‫انتخب إلياس الهراوي رئيساً للبالد عام ‪ 1995‬وتولى الوزراة‬
‫في عهده سليم احلص‪ ،‬وبعد ثالث سنوات‪ ،‬تسلم السلطة الرئيس‬
‫إميل حلود بعد انتخابات فاز فيها‪ ،‬وتولى ال��وزارة في عهده سليم‬
‫احلص ثم رفيق احلريري‪ ،‬ثم انتخب ميشال سليمان رئيسا بعد فراغ‬
‫رئاسي استمر قرابة سنتني‪..‬‬

‫‪ - 15‬مصر‬

‫كانت مصر جزءاً من الدولة اإلسالمية منذ الفتح اإلسالمي‬


‫ف��ي عهد اخلليفة عمر ب��ن اخل�ط��اب‪ ،‬وق��د قامت دول مستقلة في‬
‫مصر مثل اإلخشيديني والطوليني والفاطميني‪ ،‬وكانت مصر مركز‬
‫الدولة األيوبية واململوكية‪ ،‬وفي عام ‪ 1517‬أصبحت جزءاً من الدولة‬
‫العثمانية‪ ،‬وبقي احلكم الفعلي فيها بيد املماليك‪ ،‬وفي عام ‪1805‬‬
‫عني محمد علي والياً للدولة العثمانية في مصر الذي أسس دولة‬
‫مستقلة تتبع اسميا للدولة العثمانية وبقي احلكم في أسرة محمد‬
‫علي حتى قيام ثورة ‪ 23‬يوليو عام ‪ 1952‬التي أجبرت امللك فاروق‬
‫على التنازل عن العرش البنه الطفل أحمد ف��ؤاد الثاني ثم ألغيت‬
‫امللكية عام ‪ 1953‬واختير اللواء محمد جنيب رئيساً للجمهورية‪ ،‬وفي‬
‫عام ‪ 1954‬نحي جنيب ليحل مكانه جمال عبد الناصر الذي كان‬
‫احلاكم الفعلي منذ قيام الثورة عام ‪ 1952‬و بعد وفاة عبد الناصر‬
‫عام ‪ 1970‬انتقلت السلطة سلمياً إلى نائبه محمد أنور السادات‬
‫وب�ع��د اغتيال ال �س��ادات ع��ام ‪ 1981‬على ي��د مجموعة م��ن اجليش‬
‫املصري فقد انتقلت السلطة سلمياً لنائبة محمد حسني مبارك‪.‬‬
‫الذي جددت له الرئاسة في استفتاء شعبي كل خمس سنوات منذ‬
‫عام ‪.1982‬‬

‫‪738‬‬
‫سلسلة احلكام في مصر‬

‫‪ -1‬أسرة محمد علي (‪)1952 -1805‬‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫محمد علي‬ ‫‪1848- 1805‬‬
‫إبراهيم بن محمد علي‬ ‫‪1848/10-4‬‬
‫عباس األول‬ ‫‪1854 - 1848‬‬
‫سعيد‬ ‫‪1863 - 1854‬‬
‫إسماعيل اتخذ لقب اخلديوي‬ ‫‪1879 - 1863‬‬
‫توفيق‬ ‫‪1892 - 1879‬‬
‫عباس حلمي الثاني‬ ‫‪1914 - 1892‬‬
‫حسني كامل اتخذ لقب السلطان‬ ‫‪1917 - 1914‬‬
‫أحمد فؤاد األول اتتخذ لقب امللك عام ‪1922‬‬ ‫‪1936 - 1917‬‬
‫فاروق تولى السلطة بعد بلوغ سن الرشد عام ‪1938‬‬ ‫‪1952-1936‬‬
‫أحمد فؤاد الثاني حتت مجلس وصاية لصغر سنه‬ ‫‪1953-1952‬‬

‫مالحظات‬

‫ عزل اخلديوي توفيق بضغط من االجنليز‬

‫ أجبر امللك فاروق على التنازل عن العرش البنه بعد الثورة عام ‪ 1952‬وخرج من‬
‫مصر إلى إيطاليا‪ ،‬وتوفي في املهجر عام ‪.1976‬‬

‫‪739‬‬
‫‪ -2‬سلسلة حكام مصر بعد انقالب ‪ 23‬يوليو‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫اخلروج من السلطة‬


‫محمد جنيب‬ ‫‪1954-1953‬‬ ‫أجبر على االستقالة‬
‫جمال عبد الناصر‬ ‫‪1970-1956‬‬ ‫وفاة طبيعية‬
‫محمد أنور السادات‬ ‫‪1981-1970‬‬ ‫اغتيال‬
‫محمد حسني مبارك‬ ‫منذ ‪2011 – 1981‬‬ ‫‪-‬عزل‬
‫املجلس العسكري‬ ‫‪2011‬‬

‫‪ - 16‬السودان‬

‫حصل ال�س��ودان على استقالله ع��ام ‪ 1956‬حت��ت نظام حكم‬


‫مدني برئاسة إسماعيل األزه��ري‪ ،‬وعبد الله خليل رئيساً للوزراء‪،‬‬
‫وأط���اح ان �ق�لاب ع�س�ك��ري ب��رئ��اس��ة اجل �ن��رال إب��راه �ي��م ع �ب��ود‪ ،‬وظل‬
‫احل�ك��م العسكري ق��ائ�م�اً حتى أط��اح��ت ب��ه سلسلة م��ن االضرابات‬
‫واملظاهرات أجبرت عبود على التنازل عن السلطة وتولي الصادق‬
‫املهدي (حزب األمة) رئاسة الدولة ومحمد أحمد احملجوب (حزب‬
‫االحتاد) رئاسة احلكومة‪ ،‬وهي حالة فريدة أن تعود السلطة بالقوة‬
‫من أيدي العسكريني إلى املدنيني‪ ،‬وفي ‪ 1969/5/19‬أطاح انقالب‬
‫عسكري بقيادة جعفر النميري باحلكم امل��دن��ي ال��ذي أق��ام حكماً‬
‫عسكريا حتى عام ‪ 1985‬عندما أطاح به عصيان مدني جعل اجليش‬
‫بقيادة اجلنرال س��وار الذهب يتدخل وع��زل النميري ويقيم حكماً‬
‫انتقاليا برئاسته ملدة سنة واحدة ثم أجريت انتخابات عامة جاءت‬
‫بحزب األمة برئاسة الصادق املهدي إلى احلكم باالئتالف مع حزب‬
‫االحت��اد‪ ،‬وف��ي ع��ام ‪ 1987‬خ��رج االحت��اد من االئ�ت�لاف ليحل مكانه‬
‫حزب اجلبهة اإلسالمية القومية برئاسة د‪ .‬حسن الترابي‪ ،‬وفي عام‬
‫‪ 1989‬أطاح انقالب عسكري بقيادة عمر البشير بحكومة الصادق‬

‫‪740‬‬
‫املهدي‪ ،‬وعززت احلكومة العسكرية املتحالفة مع احلركة اإلسالمية‬
‫وجودها بانتخابات برملانية ورئاسية‬

‫سلسلة احلكم في السودان‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫اخلروج من السلطة‬


‫‪ 1958 1956‬إسماعيل األزهري‬ ‫انقالب عسكري‬
‫أجبر على التنازل بفعل املظاهرات ‪ 1964 1958‬اجلنرال إبراهيم عبود‬
‫واإلضرابات حلكومة مدنية يرأسها‬
‫املهدي‬
‫أطاح به انقالب عسكري بقيادة ‪ 1969 1964‬الصادق املهدي‬
‫النميري‬
‫أطاح به عصيان مدني أدى إلى ‪ 1985 1969‬جعفر النميري‬
‫تدخل اجليش وإقامة حكومة‬
‫انتقالية متهيداً النتخابات عامة‬
‫‪ 1986 1985‬اجل� �ن ��رال ع �ب��د الرحمن‬ ‫سلم السلطة حلكومة مدنية‬
‫سوار الذهب‬
‫‪ 1989 1986‬الصادق املهدي‬ ‫انقالب عسكري بقيادة بقيادة‬
‫الرئيس احلالي عمر البشير‬
‫عمر أحمد البشير‬ ‫‪1989‬‬ ‫جاء بانقالب عسكري بالتحالف مع‬
‫احلركة اإلسالمية ثم عزز حكمه‬
‫بانتخابات رئاسية وبرملانية‬

‫وف��ي ع��ام ‪ 2001‬ح��دث اختالف بني البشير رئيس اجلمهورية‬


‫والترابي رئيس البرملان ورئيس حزب املؤمتر الشعبي احلاكم أدى إلى‬
‫تنحية الترابي عن املشاركة في احلكم‪ ،‬ثم ألقي القبض عليه بعد املذكرة‬
‫التي وقعها مع جون غرانغ زعيم اجليش الشعبي لتحرير السودان‪.‬‬

‫‪741‬‬
‫‪ - 17‬ليبيا‬

‫أعلن عن استقالل اململكة الليبية املتحدة في ‪ 24‬ديسمبر‪/‬‬


‫كانون األول ‪ 1951‬مملكة دستورية حتت حكم امللك محمد إدريس‬
‫السنوسي‪ ،‬وتشكلت أول حكومة ليبية برئاسة محمود املنتصر في‬
‫‪ 29‬مارس‪ /‬آذار ‪ ،1951‬وصدر أول دستور للمملكة في ‪ 7‬أكتوبر‪/‬‬
‫تشرين األول من العام نفسه (‪ ،)1951‬وقد منح ذلك الدستور امللك‬
‫سلطات واسعة‪.‬‬

‫قام العقيد معمر القذافي بانقالب أبيض عام ‪ ،1969‬وألغى‬


‫امللكية والدستور وأعلن اجلمهورية‪ ،‬وحكم البالد مجلس قيادة الثورة‬
‫بعد أن حل املجالس اإلقليمية‪ ،‬ثم تشكلت الوزارة برئاسة عبد السالم‬
‫جلود‪ .‬وف��ي ع��ام ‪ 1976‬ألغى مجلس قيادة ال�ث��ورة من قبل مؤمتر‬
‫الشعب العام الذي يعتبر ملتقى املؤمترات األسياسية واالحتادات‬
‫والنقابات وال��رواب��ط املهنية واللجان الشعبية‪ .‬ثم مت إع�لان قيام‬
‫سلطة الشعب في ‪ 1977‬لتنتقل ليبيا إلى صورة جديدة من احلكم‬
‫انقسمت مؤسساتها إلى املؤمترات الشعبية األساسية التي يلزم كل‬
‫ليبي بلغ ‪ 18‬عاماً التسجيل فيها وحضور اجتماعاتها‪ ،‬وهي تعتبر‬
‫الهيئة التشريعية في ليبيا‪ .‬وإلى اللجان الشعبية املنتخبة من أعضاء‬
‫املؤمترات الشعبية األساسية والتي متثل السلطة التنفيذية في ليبيا‪.‬‬
‫وعلى رأس املؤمترات الشعبية يوجد مؤمتر الشعب العام الذي يعتبر‬
‫أعلى هيئة تشريعية في ليبيا‪ .‬وقد أصدر مؤمتر الشعب العام عام‬
‫‪ 1991‬وثيقة أطلق عليها «الشرعية الثورية» نصت املادة األولى منها‬
‫على اعتبار كل توجيهات العقيد القذافي الزمة التنفيذ‪.‬‬

‫‪742‬‬
‫‪ - 18‬موريتانيا‬

‫حصلت موريتانيا على استقاللها عن االحتالل الفرنسي في‬


‫‪ 28‬نوفمبر ‪ ،1960‬وتولى السلطة فيها املختار ولد داده وظل يشغل‬
‫هذا املنصب حتى عام ‪ ،1978‬إلى أن قاد الكولونيل املصطفى ولد‬
‫محمد السالك انقالباً عسكرياً ناجحا تولى من خالله السلطة‪.‬‬

‫سلسلة حكام موريتانيا‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫اخلروج من السلطة‬


‫املختار ولد داده‬ ‫‪1978-1960‬‬ ‫انقالب عسكري‬
‫مصطفى ولد السالك‬ ‫‪1979-1978‬‬ ‫أجبر على االستقالة‬
‫محمد ولد لولي‬ ‫‪1980-1979‬‬ ‫أجبر على االستقالة‬
‫محمد خونه ولد هيداله‬ ‫‪1984-1980‬‬ ‫انقالب سياسي‬
‫معاوية ولد سيدي أحمد طايع‬ ‫منذ ‪1984‬‬ ‫‪-‬‬

‫ول��م يترك ص��راع األجنحة داخ��ل اللجنة العسكرية للخالص‬


‫الوطني احلاكمة فرصة استقرار لولد السالك ومن بعده لولد أحمد‬
‫لولي مما اضطرهما لالستقالة قبل أن يستلم السلطة الكولونيل‬
‫محمد خ��ون��ه ول��د ه �ي��دال��ه‪ .‬وب�ع��د أرب �ع��ة أع ��وام (‪ )1984‬استطاع‬
‫الكولونيل معاوية ولد سيدي أحمد طايع القيام بانقالب سياسي‬
‫استولى به على احلكم‪.‬‬

‫في عام ‪ 1992‬أجريت أول انتخابات رئاسية فاز فيها معاوية‬


‫ول��د سيدي أحمد طايع‪ ،‬ثم ف��از في انتخابات أخ��رى أجريت عام‬
‫‪.1997‬‬

‫‪743‬‬
‫‪ - 19‬اليمن‬

‫حكم األئمة الزيديون اليمن على نحو متصل منذ عام ‪1592‬م‪/‬‬
‫‪1000‬هـ إلى عام ‪ ،1962 /1382‬وقد حكموا اليمن على فترات‬
‫متقطعة منذ منتصف القرن الثالث الهجري وتخلل هذه الفترة حكم‬
‫األيوبيني العثمانيني واإلسماعيليني الصليحيني‪ .‬وكان نظام انتقال‬
‫السلطة وراث �ي �اً لكنه ل��م يخل م��ن ال�ع�ن��ف‪ ،‬وف��ي ع��ام ‪ 1918‬تخلى‬
‫العثمانيون عن اليمن نهائياً وك��ان يحكمه اإلم��ام يحيى ال��ذي لقب‬
‫نفسه بامللك‪.‬‬

‫وفي عام ‪ 1948‬قاد عبد الله بن أحمد الوزير وهو من األشراف‬


‫الهاشميني ثورة مسلحة على اإلمام يحيى الذي قتل وتولى الوزير‬
‫احل�ك��م‪ ،‬ول�ك��ن أس��رة اإلم��ام اس�ت�ع��ادت احل�ك��م بعد ف�ت��رة ل��م تتجاوز‬
‫األسابيع الثالثة‪ ،‬فقد متكن سيف اإلس�لام أحمد بن يحي حميد‬
‫الدين من تأليب القبائل وحشد قوة مسلحة من مقر إقامته احلصني‬
‫في «حجه» واستطاع استعادة حكم أبيه في صنعاء‪ .‬وفي عام ‪1955‬‬
‫استولى على العرش عبد الله ين يحيى شقيق اإلم��ام أحمد ولكن‬
‫استعاد العرش بعد خمسة عشر يوماً‪ ،‬وتعرض احمد حملاولة اغتيال‬
‫عام ‪ 1961‬جنا منها لكنه أصيب إصابات بالغة توفي على أثرها عام‬
‫‪ 1962‬وخلفه ابنه اإلمام محمد البدر الذي لم ميكث في السلطة‬
‫سوى ثمانية أيام‪ ،‬فقد أطاح به انقالب عسكري بقيادة السالل‪.‬‬

‫وانتقلت السلطة في اليمن الشمالي من النظام امللكي (األئمة‬


‫الزيديون) إلى النظام اجلمهوري عام ‪ 1962‬بعد ثورة مسلحة قادها‬
‫املشير عبد الله السالل مبساعدة مصر‪ ،‬وشهدت اليمن منذ ثورة‬
‫‪ 1962‬اضطرابات وصراعات سياسية داخلية بني شطري اليمن‪،‬‬

‫‪744‬‬
‫وف��ي ع��ام ‪ 1967‬نحي عبد الله السالل بالقوة عن طريق انقالب‬
‫سياسي وك��ون مجلس رئاسي برئاسة عبد الرحمن األري��ان��ي‪ .‬وفي‬
‫عام ‪ 1974‬متكن إبراهيم احلمدي من القيام بانقالب عسكري عزل‬
‫ب��ه عبد الرحمن األري��ان��ي م��ن السلطة‪ ،‬وأع�ل��ن ع��ن تشكيل مجلس‬
‫عسكري للحكم‪ ،‬وفي عام ‪ 1977‬دبر أحمد حسني الغشمي انقالباً‬
‫استولى به على السلطة بعد أن قتل إبراهيم احل�م��دي‪ .‬ول��م يطل‬
‫املقام بالغشمي إذ اغتيل في عام ‪ ،1978‬وانتخبت اللجنة الدستورية‬
‫(الهيئة التشريعية) في السابع عشر من يوليو‪ /‬متوز ‪ 1978‬العقيد‬
‫علي عبد الله صالح رئيساً للجمهورية‪.‬‬

‫وفي عام ‪ 1990‬قامت وحدة بني دولتي اليمن بقيادة رئيس اليمن‬
‫الشمالي علي عبد الله صالح‪ ،‬ولكن في عام ‪ 1994‬دبت اخلالفات‬
‫مرة أخرى وحاول قادة اليمن اجلنوبي االنفصال‪ ،‬ونشبت حرب بني‬
‫الطرفني انتهت بهزمية اجلنوبيني وتأكيد الوحدة اليمنية‪.‬‬

‫كان الطابع العام النتقال السلطة على مدى القرن املاضي هو‬
‫العنف سواء داخل األسرة احلاكمة أو مع أسر منافسة مثل «الوزير»‬
‫أو االن �ق�لاب��ات ال�ع�س�ك��ري��ة ع�ل��ى األس ��رة ث��م داخ ��ل م��ؤس�س��ة احلكم‬
‫اجلمهورية‪ ،‬وشهدت فترة الرئيس علي عبد الله صالح استقراراً‬
‫نسبياً وإن ش�ه��دت ص��راع��ات عسكرية م��ع اليمن اجل�ن��وب��ي انتهت‬
‫بتوحيد اليمن‪ ،‬ولم حتسم مسألة اخلالفة بعد في اليمن ويبدو أن‬
‫الرئيس صالح ميهد النتقالها من بعده إلى ابنه أحمد‪.‬‬

‫‪745‬‬
‫سلسلة احلكام في اليمن‬

‫‪ - 1‬األئمة الزيديون‬

‫احلاكم‬ ‫سنوات احلكم‬


‫القاسم املنصور‬ ‫‪1620- 1592‬‬
‫محمد املؤيد األول‬ ‫‪1654 - 1620‬‬
‫إسماعيل املتوكل‬ ‫‪1676 - 1654‬‬
‫محمد املؤيد الثاني‬ ‫‪1681-1676‬‬
‫محمد الهادي‬ ‫‪1686 - 1681‬‬
‫محمد املهدي‬ ‫‪1716 - 1686‬‬
‫القاسم املتوكل‬ ‫‪1716 /1128‬‬
‫احلسني املنصور للمرة األولي‬ ‫‪1726 - 1726‬‬
‫محمد الهادي املجيد‬ ‫‪1728 - 1726‬‬
‫احلسني املنصور للمرة الثانية‬ ‫‪1747 - 1728‬‬
‫العباس املهدي‬ ‫‪1776 - 1747‬‬
‫علي املنصور‬ ‫‪1806 - 1776‬‬
‫أحمد املهدي‬ ‫‪1806‬‬
‫علي املنصور للمرة الثانية‬ ‫‪-‬‬
‫القاسم املهدي‬ ‫‪1845 - 1841‬‬
‫محمد يحيى‬ ‫‪1872 - 1845‬‬
‫استيالء العثمانيني على صنعاء‬ ‫‪1890 - 1872‬‬
‫حميد الدين يحيى‬ ‫‪1904 - 1890‬‬
‫يحيى حمود املتوكل‬ ‫‪1948 - 1904‬‬
‫سيف اإلسالم أحمد‬ ‫‪1962 - 1948‬‬
‫محمد البدر‬ ‫‪1962 - 1962‬‬

‫‪746‬‬
‫مالحظة‪:‬‬

‫غير معلوم الفترة التي تولى فيها احلكم للمرة الثانية علي‬ ‫ ‬
‫املنصور‬

‫قامت الثورة عام ‪ 1962‬بقيادة املشير عبد الله السالل وألغت‬ ‫ ‬


‫النظام اإلمامي وأعلنت اجلمهورية‪.‬‬

‫‪ - 2‬رؤساء اجلمهوريات‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫اخلروج من السلطة‬


‫عبد الله السالل‬ ‫‪1976- 1962‬‬ ‫عزل بالقوة‬
‫عبد الكرمي األرياني‬ ‫‪-1974 1967‬‬ ‫عزل بالقوة‬
‫إبراهيم احلمدي‬ ‫‪-1977 1974‬‬ ‫اغتيال‬
‫أحمد الغشمي‬ ‫‪-1978 1977‬‬ ‫اغتيال‬
‫علي عبد الله صالح‬ ‫‪1978‬‬

‫‪ -3‬رؤساء اليمن اجلنوبي (‪)1990 - 1967‬‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫اخلروج من السلطة‬


‫قحطان الشعبي‬ ‫‪1969-1967‬‬ ‫تولى الرئاسة عند االستقالل عن‬
‫بريطانيا بقيادة جبهة التحرير‬
‫الوطينية ثم أعفي من منصبه‬
‫‪ 1978 - 1969‬سالم ربيع علي‬ ‫العزل بالقوة‬
‫‪ 1978/12-6‬علي ناصر محمد‬ ‫االعفاء من املنصب‬

‫‪747‬‬
‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫اخلروج من السلطة‬
‫‪ 1980 - 1978‬ع � � �ب� � ��د ال� � �ف� � �ت � ��اح‬ ‫تنازل عن احلكم طوعياً‬
‫إسماعيل‬
‫‪ 1986 - 1980‬علي ناصر محمد‬ ‫العزل بالقوة‬
‫‪ 1990-1986‬على سالم البيض‬ ‫ترك الرئاسة بعد إعالن الوحدة‬

‫‪ -20‬الصومال‬

‫ق�س�م��ت أراض� ��ي ال �ص��وم��ال إل ��ى خ�م�س��ة م �ن��اط��ق ب�ي�ن القوى‬


‫االستعمارية أواس��ط القرن العشرين‪ ،‬وظلت حتى اآلن تعاني من‬
‫ه��ذا التقسيم في ص��ورة اضطرابات سياسية‪ ،‬ما تكاد تهدأ حتى‬
‫تعود مرة أخرى للتفجر من جديد‪.‬‬

‫ففي عام ‪ 1884‬سيطرت بريطانيا على شمال الصومال‪ ،‬ثم‬


‫سيطرة إيطاليا ع��ام ‪ 1889‬على الشمال الشرقي منه‪ ،‬وف��ي عام‬
‫‪ 1905‬بسطت سيطرتها على اجلنوب ‪ ،‬ومع بداية عام ‪ 1939‬أصبح‬
‫الصومال اإليطالي جزء من املستعمرات اإليطالية في شرق أفريقيا‬
‫ودمج مع إقليم إوغادين‪.‬‬

‫وبعد اندالع احلرب العاملية الثانية احتلت إيطاليا املنطقة التي‬


‫تسيطر عليها بريطاينا واملعروفة باسم الصومال البريطاني‪ ،‬إال أنها‬
‫عادت لإلدارة البريطانية عام ‪ 1950‬مرة أخرى بعد هزمية إيطاليا‬
‫تلك احلرب‪.‬‬

‫استقتلت الصومال عام ‪ 1960‬حتت اسم دولة الصومال‪ ،‬وفي‬


‫عام ‪ 1969‬احتد الصومال اإليطالي والصومال البريطاني حتت اسم‬
‫اجلمهورية الصومالية الدميقراطية‪ ،‬وغير االسم في عام ‪ 1991‬إلى‬
‫جمهورية الصومال‪.‬‬

‫‪748‬‬
‫سلسلة حكام الصومال‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬


‫عبد الله عثمان دار‬ ‫‪1967-1960‬‬
‫عبد الرشيد علي شرماكيه‬ ‫‪1969-1967‬‬
‫شيخ مختار محمد حسني بالوكالة‬ ‫‪1969/10-6‬‬
‫محمد سياد بري‬ ‫‪1991-1969‬‬
‫غياب السلطة‬ ‫‪2000-1991‬‬
‫عبدي قاسم صالد حسن‬ ‫منذ ‪2000‬‬

‫مالحظة‪:‬‬

‫اغتيل الرئيس عبد الرشيد شرماكي وتولى احلكم من بعده اجلنرال‬ ‫‪ -‬‬
‫محمد سياد بري‪.‬‬

‫لم يكن في الصومال حكومة مركزية في الفترة من ‪.2000-1991‬‬ ‫‪ -‬‬

‫أجريت أول انتخابات عامة في الصومال عام ‪ 1956‬فاز فيها‬


‫«جامعة الشبيبة الصومالية» التي شكلت بدورها أول حكومة وطنية‬
‫برئاسة عبد الله عيسى‪.‬وظهرت أح��زاب أخ��رى معارضة ك��ان من‬
‫أهمها «جبهة االحتاد الوطني» بزعامة مايكل ماريانودعي‪ ،‬والتشكيل‬
‫السياسي الذي أطلق على نفسه «جامعة الصومال األكبر» بقيادة‬
‫محمد حسني وف��ي ع��ام ‪ 1957‬أسست بريطانيا مجلساً تشريعياً‬
‫في الصومال البريطاني درجت على تعيني معظم أعضائه‪ .‬وازدادت‬
‫املطالبة الشعبية باحتاد الصومالني اإليطالي والبريطاني‪ ،‬وقبل‬
‫أيام من انتهاء فترة الوصاية املقررة من قبل األمم املتحدة اعترفت‬

‫‪749‬‬
‫بريطانيا باستقالل ال�ص��وم��ال ال�ب��ري�ط��ان��ي‪ ،‬وحتققت ال��وح��دة بني‬
‫الصومالني اإليطالي والبريطاني‪ ،‬وانتخب عبد الله عثمان رئيساً‬
‫للجمهورية وعبد الرشيد علي شرمايكه رئيساً للوزراء‪ ،‬وهما من قادة‬
‫«جامعة الشبيبة الصومالية» في حني أصبح محمد إبراهيم إيغال‬
‫رئيس وزراء الصومال البريطاني سابقاً وزعيم «جامعة الصومال‬
‫الوطنية» وزيراً للدفاع وعبد الله عيسى وزيراً للخارجية‪.‬‬

‫انتخبت حكومة جديدة في الصومال عام ‪ 1964‬برئاسة عبد‬


‫الرزاق حاجي حسني أمني عام جامعة الشبيبة الصومالية‪ ،‬وفي تلك‬
‫األثناء توثقت صلة احلكومة اجلديدة باالحتاد السوفيتي الذي كان‬
‫يقدم دعمه للجيش الصومالي‪ ،‬في محاولة منه لوقف الدعم الذي‬
‫تقدمه الواليات املتحدة األمريكية إلثيوبيا املجاورة‪.‬وفي عام ‪1967‬‬
‫سحبت الثقة في البرملان الصومالي من حكومة عبد الرزاق حاجي‬
‫حسني‪ ،‬وكلف محمد إبراهيم إيغال بتكوين حكومة جديدة‪ .‬وأعيد‬
‫انتخاب الرئيس عبد الرشيد علي شرمايكة‪.‬‬

‫في العام الذي أعيد انتخاب الرئيس عبد الرشيد شرمايكه‬


‫اغتاله أحد أفراد الشرطة‪ ،‬ليتولى احلكم من بعده اجلنرال محمد‬
‫سياد بري في عام ‪.1967‬‬

‫شكل محمد سياد بري مجلساً أطلق عليه مجلس قيادة الثورة‬
‫وت��ول��ى اجل �ن��رال محمد عينشه رئ�ي��س هيئة األرك ��ان منصب نائب‬
‫الرئيس‪ ،‬وأص��در سياد بري ق��راراً بحل جميع األح��زاب السياسية‬
‫التي كانت ق��د بلغت آن��ذاك ‪ 27‬تنظيماً سياسياً‪ .‬وك��ان م��ن أوائل‬
‫القرارات التي اتخذها بري إلقاء القبض على الرئيس السابق عبد‬
‫الله عثمان ورئ�ي��س وزرائ��ه عبد ال��رزاق حسني‪ ،‬ث��م اتخذ قرارات‬
‫بتأميم الشركات األجنبية العاملة في بالده‪.‬‬

‫‪750‬‬
‫واجه نظام حكم سياد بري عدة محاوالت انقالبية‪ ،‬من أشهرها‬
‫محاولة قائد الشرطة على كورشل عام ‪ 1971‬الذي ألقي القبض‬
‫عليه ووج�ه��ت ل��ه تهمة التآمر م��ع رئ�ي��س احلكومة إب��راه�ي��م إيغال‬
‫لالنقالب على سياد بري‪ ،‬وقد أودع رئيس احلكومة رهن االعتقال‪،‬‬
‫وف��ي ع��ام ‪ 1972‬أل�ق��ي القبض على ن��ائ��ب الرئيس محمد عينشه‬
‫بتهمة العمل على قلب نظام احلكم‪ ،‬ونفذ فيه حكم اإلعدام‪.‬‬

‫احتدت العديد من الفصائل الصومالية وزعماء العشائر الذين‬


‫قادوا ثورة شعبية استطاعت التخلص من حكم محمد سياد بري عام‬
‫‪ ،1991‬وقد أثرت تلك الثورة على احملاصيل الزراعية مما جعل أكثر‬
‫من مليون ونصف املليون صومالي يواجهون املجاعة آنذاك‪.‬‬

‫أدت احل��رب األهلية التي انتهت بعزل محمد سياد بري إلى‬
‫فراغ في السلطة‪ ،‬واستمرت احلرب األهلية بني الفصائل املعارضة‪،‬‬
‫ولم يستطع أي منها إعادة األمن واالستقرار إلى البالد‪ ،‬كما فشلت‬
‫الواليات املتحدة األمريكية التي حاولت ذلك عن طريق ما أسمته‬
‫بعملية إعادة األمل إلى الصومال‪.‬‬

‫وبعد صراع استمر أكثر من عشر سنوات‪ ،‬متكنت بعض القبائل‬


‫الصومالية ومبساعدة إقليمية خاصة من جارتها جيبوتي من تكوين‬
‫سلطة منتخبة برئاسة عبد القاسم صالد حسن بعد مؤمتر املصاحلة‬
‫الوطني الذي عقد في مدينة «عرتا» اجليبوتية‪ ،‬وشكل الرئيس اجلديد‬
‫ح�ك��وم��ة‪ ،‬حت��اول إل��ى اآلن بسط سيطرتها ون�ف��وذه��ا على األراضي‬
‫الصومالية وإن كانت جتد في ذلك صعوبة حتى اآلن‪.‬‬

‫‪ - 21‬جزر القمر‬

‫منذ استقالل جمهورية جزر القمر عام ‪ 1975‬وهي تعيش حالة‬

‫‪751‬‬
‫من االضطراب وعدم االستقرار السياسي‪ ،‬وشهدت خالل السنوات‬
‫القليلة املاضية العديد من االنقالبات العسكرية‪ ،‬وال تزال تعاني من‬
‫الفوضى والنزاعات االنفصالية حتى اآلن‪.‬‬

‫سلسلة حكام جزر القمر‬

‫احلاكم‬ ‫مدة احلكم‬ ‫اخلروج من السلطة‬


‫علي صويلح‬ ‫‪1978-1975‬‬ ‫اغتيال‬
‫أحمد عبد الله‬ ‫‪1989-1978‬‬ ‫اغتيال‬
‫محمد جوهر‬ ‫‪1995-1989‬‬ ‫انقالب عسكري‬
‫عزلته فرنسا بالقوة بعد‬
‫بوب دينارد (مرتزق فرنسي)‬ ‫‪1996-1995‬‬
‫أن قبضت عليه‬
‫تقي عبد الكرمي‬ ‫‪1998-1996‬‬ ‫وفاة بأزمة قلبية‬
‫اجلنرال أزال أسوماني‬ ‫منذ ‪1999‬‬

‫ت�ق��ع ج��زر ال�ق�م��ر ف��ي احمل �ي��ط ال �ه �ن��دي ال �ق��ري��ب م��ن الساحل‬
‫األفريقي اجلنوبي الشرقي‪ ،‬وتتكون من أربعة جزر صغيرة ال تتجاوز‬
‫مساحتها ‪ 1.147‬كلم مربع‪ ،‬وقد اتفقت ثالثة جزر منها على تكوين‬
‫احت��اد فيدرالي فيما بينها‪ ،‬وانتخبت علي سويليه أول رئيس لها‬
‫في عام ‪ ،1975‬لكن حكمه لم يستمر ألكثر من ثالث سنوات‪.‬وي‬
‫عام ‪ 1978‬قاد أحمد عبد الله انقالباً عسكريا مدعوما من فرنسا‬
‫وجنوب أفريقيا واستولى على السلطة‪ ،‬لكنه اغتيل عام ‪ 1989‬على‬
‫يد محمد جوهر الذي بقي على رأس السلطة في جزر القمر حتى‬
‫ع��ام ‪ 1995‬وه��و العام ال��ذي شهد انقالبا أط��اح به بقيادة املرتزق‬
‫الفرنسي ب��وب دي�ن��ارد‪ .‬ول��م ت��رض احلكومة الفرنسية عن انقالب‬
‫دينارد فحركت بعض جنودها في أكتوبر عام ‪ 1996‬وألقت القبض‬

‫‪752‬‬
‫عليه ونظمت انتخابات استطاع تقي عبد الكرمي الفوز فيها‪ .‬وصدر‬
‫خالل تلك الفترة أول دستور للبالد أقر الشريعة اإلسالمية كمصدر‬
‫رئيسي للتشريع‪ ،‬وحدد مدة والية رئيس اجلمهورية لست سنوات‪،‬‬
‫يعاد انتخابه بعدها بدون حد اقصى‪.‬‬

‫توفي تقي عبد الكرمي عام ‪ 1998‬بعد اصابته بأزمة قلبية‪،‬‬


‫وحدثت اضطرابات عرقية في اجل��زر ال�ث�لاث‪ ،‬أعلنت على إثرها‬
‫اثنتان منهما ( اجنوان وموهيلي) ‪ Anjouan and Moheli‬االستقالل‬
‫ع��ن االحت ��اد ال �ف �ي��درال��ي‪ .‬وف��ي ع��ام ‪ 1999‬ق��اد ال�ك��ول��ون�ي��ل أزالي‬
‫أسوماني انقالباً عسكرياً هدف منه إع��ادة توحيد اجل��زر الثالث‪،‬‬
‫وتوسطت منظمة ال��وح��دة األفريقية وجنحت في تنظيم مباحثات‬
‫جمعت زعماء اجلزر الثالث‪ ،‬وتوصلت تلك املفاوضات إلى اقتراح‬
‫يسمح بحكم ذاتي موسع للجزيرتني الراغبتني في االنفصال مع بقاء‬
‫نوع من االحتاد الفيدرالي وافقت جزيرة موالي على االقتراح بينما‬
‫طلبت جزيرة زواني مهلة لتنظيم استفتاء شعبي‪ ،‬وفي يناير‪ /‬كانون‬
‫الثاني ‪ 2000‬جاءت نتيجة االستفتاء لغير صالح االحتاد الفيدرالي‪،‬‬
‫وال تزال تعيش جمهورية جزر القمر إلى اآلن حالة من االضطراب‬
‫السياسي والتنازع على السلطة‪.‬‬

‫قائمة االغتياالت‬

‫وقبل اختتام هذا االستعراض لكيفية انتقال السلطة بني احلكام‬


‫العرب يحسن بنا رصد حاالت االغتياالت السياسية التي أتاحتها‬
‫لنا املصادر املتوفرة وهي ليست كل احلاالت الدموية التي متت في‬
‫مجال الصراع على احلكم ولكنها قائمة قابلة للزيادة بحسب توفر‬
‫املعلومات في املستقبل‪.‬‬

‫‪753‬‬
‫قائمة اغتياالت احلكام العرب‬

‫م‬ ‫احلاكم‬ ‫الدولة‬ ‫سنة االغتيال‬


‫‪1‬‬ ‫عبد الله بن احلسني‬ ‫األردن‬ ‫‪1951‬‬
‫‪2‬‬ ‫ذياب بن عيسى بن نهيان‬ ‫أبو ظبي‬ ‫‪1793‬‬
‫‪3‬‬ ‫طحنون بن شخبوط‬ ‫أبو ظبي‬ ‫‪1833‬‬
‫‪4‬‬ ‫خليفة بن شخبوط‬ ‫أبو ظبي‬ ‫‪1845‬‬
‫‪5‬‬ ‫حمدان بن زايد‬ ‫أبو ظبي‬ ‫‪1922‬‬
‫‪6‬‬ ‫سلطان بن زايد‬ ‫أبو ظبي‬ ‫‪1926‬‬
‫‪7‬‬ ‫صقر بن زايد‬ ‫أبو ظبي‬ ‫‪1929‬‬
‫‪8‬‬ ‫عبد العزيز بن راشد بن حميد‬ ‫عجمان‬ ‫‪1848‬‬
‫النعيمي‬
‫حميد ب��ن راش ��د ب��ن حميد بن ‪9‬‬ ‫عجمان‬ ‫‪1900‬‬
‫راشد النعيمي‬
‫فيصل بن عبد العزيز آل سعود ‪10‬‬ ‫اململكة العربية‬ ‫‪1975‬‬
‫السعودية‬
‫‪11‬‬ ‫سعيد بن تيمور‬ ‫سلطنة عمان‬ ‫‪1970‬‬
‫‪12‬‬ ‫محمد بو ضياف‬ ‫اجلزائر‬ ‫‪1991‬‬
‫‪13‬‬ ‫فيصل الثاني‬ ‫العراق‬ ‫‪1958‬‬
‫‪14‬‬ ‫عبد السالم عارف‬ ‫العراق‬ ‫‪1966‬‬
‫‪15‬‬ ‫بشير اجلميل‬ ‫لبنان‬ ‫‪1982‬‬
‫‪15‬‬ ‫رينيه معوض‬ ‫لبنان‬ ‫‪1989‬‬
‫‪16‬‬ ‫محمد أنور السادات‬ ‫مصر‬ ‫‪1981‬‬
‫‪17‬‬ ‫علي صويلح‬ ‫جزر القمر‬ ‫‪1978‬‬
‫‪18‬‬ ‫أحمد عبد الله‬ ‫جزر القمر‬ ‫‪1989‬‬

‫‪754‬‬
‫م‬ ‫احلاكم‬ ‫الدولة‬ ‫سنة االغتيال‬
‫‪19‬‬ ‫محمد بن صباح‬ ‫الكويت‬ ‫‪1896‬‬
‫‪20‬‬ ‫إبراهيم احلمدي‬ ‫اليمن‬ ‫‪1977‬‬
‫‪21‬‬ ‫أحمد الغشمي‬ ‫اليمن‬ ‫‪1978‬‬
‫‪22‬‬ ‫عبد الرشيد شرمايكه‬ ‫الصومال‬ ‫‪1969‬‬

‫مالحظة‪:‬‬

‫مات السلطان سعيد بن تيمور حاكم سلطنة عمان في عام ‪ 1971‬بالهند‬ ‫ ‬


‫التي فر إليها متأثرا بجراحه التي أصيب بها عقب االنقالب العسكري الذي‬
‫قام به السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور عام ‪.1970‬‬

‫قائمة االنقالبات العسكرية‬

‫أما االنقالبات العسكرية والتي تعتبر شكال عنيفا من أشكال‬


‫االس�ت�ي�لاء على السلطة ف��ي ال��وط��ن ال�ع��رب��ي فيمكن إجمالها تبعا‬
‫للمصادر املتوفرة لدينا أيضاً في احلاالت التالية‪:‬‬

‫قائمة االنقالبات العسكرية‬


‫م‬ ‫احلاكم قائد اإلنقالب‬ ‫الدولة‬ ‫سنة اإلنقالب‬ ‫احلاكم الذي وقع عليه‬
‫اإلنقالب‬
‫‪1‬‬ ‫أحمد بن بيال‬ ‫اجلزائر‬ ‫‪1963‬‬ ‫فرحات عباس‬
‫‪2‬‬ ‫هواري بو مدين‬ ‫اجلزائر‬ ‫‪1965‬‬ ‫أحمد بن بيال‬
‫‪3‬‬ ‫عبد الكرمي قاسم‬ ‫العراق‬ ‫‪1958‬‬ ‫فيصل الثاني‬
‫‪4‬‬ ‫عبد السالم عارف‬ ‫العراق‬ ‫‪1963‬‬ ‫عبد الكرمي قاسم‬
‫‪5‬‬ ‫عبد الرحمن عارف‬ ‫العراق‬ ‫‪1966‬‬ ‫عبد السالم عارف‬
‫‪6‬‬ ‫مأمون الكزبري‬ ‫سوريا‬ ‫‪1954/2/25‬‬ ‫أديب الشيشكلي‬

‫‪755‬‬
‫م‬ ‫احلاكم قائد اإلنقالب‬ ‫الدولة‬ ‫سنة اإلنقالب‬ ‫احلاكم الذي وقع عليه‬
‫اإلنقالب‬
‫‪7‬‬ ‫شكري القوتلي‬ ‫سوريا‬ ‫‪1955‬‬ ‫هاشم األتاسي‬
‫‪8‬‬ ‫لؤي األتاسي‬ ‫سوريا‬ ‫‪1963/3‬‬ ‫ناظم األتاسي‬
‫‪9‬‬ ‫محمد أمني احلافظ‬ ‫سوريا‬ ‫‪1963/7‬‬ ‫لؤي األتاسي‬
‫‪10‬‬ ‫ن��ور ال��دي��ن مصطفى‬ ‫سوريا‬ ‫‪1966‬‬ ‫محمد أمني احلافظ‬
‫األتاسي‬
‫‪11‬‬ ‫س �ي��د أح �م��د احلسن‬ ‫سوريا‬ ‫‪1970‬‬ ‫نور الدين مصطفى‬
‫اخلطيب‬ ‫األتاسي‬
‫‪12‬‬ ‫حافظ األسد‬ ‫سوريا‬ ‫‪1971‬‬ ‫سيد أحمد احلسن‬
‫اخلطيب‬
‫‪13‬‬ ‫ف � ��ؤاد ش� �ه ��اب (امل� ��رة‬ ‫لبنان‬ ‫‪1952‬‬ ‫بشارة اخلوري‬
‫األولى)‬
‫‪14‬‬ ‫ف � ��ؤاد ش� �ه ��اب (امل� ��رة‬ ‫لبنان‬ ‫‪1958‬‬ ‫كميل شمعون‬
‫الثانية)‬
‫‪15‬‬ ‫إلياس سركيس‬ ‫لبنان‬ ‫‪1976‬‬ ‫سليمان فرجنيه‬
‫‪16‬‬ ‫محمد جنيب‬ ‫مصر‬ ‫‪1952‬‬ ‫امللك فاروق‬
‫‪17‬‬ ‫جمال عبد الناصر‬ ‫مصر‬ ‫‪1956‬‬ ‫محمد جنيب‬
‫‪18‬‬ ‫إبراهيم عبود‬ ‫السودان‬ ‫‪1958‬‬ ‫إسماعيل األزهري‬
‫‪19‬‬ ‫جعفر النميري‬ ‫السودان‬ ‫‪1969‬‬ ‫الصادق املهدي‬
‫‪20‬‬ ‫ع �ب��د ال��رح �م��ن سوار‬ ‫السودان‬ ‫‪1985‬‬ ‫جعفر النميري‬
‫الذهب‬
‫‪21‬‬ ‫عمر البشير‬ ‫السودان‬ ‫‪1986‬‬ ‫الصادق املهدي‬
‫‪22‬‬ ‫معمر القذافي‬ ‫ليبيا‬ ‫‪1969‬‬ ‫محمد إدريس‬
‫السونسي‬
‫‪23‬‬ ‫مصطفى ولد السالك‬ ‫موريتانيا‬ ‫‪1978‬‬ ‫املختار ولد داده‬
‫‪24‬‬ ‫محمد ولد لولي‬ ‫موريتانيا‬ ‫‪1979‬‬ ‫مصطفى ولد السالك‬

‫‪756‬‬
‫م‬ ‫احلاكم قائد اإلنقالب‬ ‫الدولة‬ ‫سنة اإلنقالب‬ ‫احلاكم الذي وقع عليه‬
‫اإلنقالب‬
‫‪25‬‬ ‫م��ح��م��د خ� ��ون� ��ه ول ��د‬ ‫مرويتانيا‬ ‫‪1980‬‬ ‫محمد ولد لولي‬
‫هيداله‬
‫‪26‬‬ ‫م �ع��اوي��ة ول���د سيدي‬ ‫موريتانيا‬ ‫‪1984‬‬ ‫محمد خونه ولد‬
‫أحمد طايع‬ ‫هيداله‬
‫‪27‬‬ ‫عبد الله السالل‬ ‫اليمن‬ ‫‪1962‬‬ ‫محمد البدر‬
‫‪28‬‬ ‫عبد الكرمي اإلرياني‬ ‫اليمن‬ ‫‪1967‬‬ ‫عبد الله السالل‬
‫‪29‬‬ ‫إبراهيم احلمدي‬ ‫اليمن‬ ‫‪1974‬‬ ‫عبد الكرمي اإلرياني‬
‫‪30‬‬ ‫أحمد الغشمي‬ ‫اليمن‬ ‫‪1977‬‬ ‫إبراهيم احلمدي‬
‫‪31‬‬ ‫علي ناصر محمد‬ ‫اليمن‬ ‫‪1978‬‬ ‫سالم ربيع علي‬
‫اجلنوبي‬
‫‪32‬‬ ‫محمد سياد بري‬ ‫الصومال‬ ‫‪1969‬‬ ‫شيخ مختار محمد حسني‬
‫بعد اغتيال الرئيس عبد‬
‫الرشيد شرمايكه‬
‫‪33‬‬ ‫أحمد عبد الله‬ ‫جزر القمر‬ ‫‪1978‬‬ ‫علي صويلح‬
‫‪34‬‬ ‫محمد جوهر‬ ‫جزر القمر‬ ‫‪1979‬‬ ‫أحمد عبد الله‬
‫‪35‬‬ ‫ب��وب دي �ن��ارد (مرتزق‬ ‫جزر القمر‬ ‫‪1995‬‬ ‫محمد جوهر‬
‫فرنسي)‬

‫يتضح في ختام االستعراض لكيفية انتقال السلطة من حاكم إلى‬


‫آخر في الوطن العربي غلبة طابع االنقالبات العسكرية والسياسية‬
‫واالفتقاد إلى آليات دميقراطية تضبط تداول السلطة بشكل سلمي‬
‫وت��وس��ع دائ��رة املشاركة السياسية‪ .‬وه��ذا االنحسار السلطوي في‬
‫يد فئة محددة يطرح تساؤال مهما حول قضية الشرعية السياسية‬
‫ومصدرها للعديد من األنظمة العربية‪.‬‬

‫‪757‬‬
758
‫الفهرس‬

‫الصفحة‬
‫اإلهداء ‪5 ................................................‬‬
‫تقدمي ‪7 .................................................‬‬
‫مقدمة ‪23 ................................................‬‬
‫اجلزء األول‪ :‬تاريخ لبنان السياسي ‪27 ...............‬‬
‫الباب األول‪ :‬التاريخ املعاصر والقرارات الدولية‪29 ..‬‬
‫الفصل األول‪ :‬تاريخ لبنان احلديث واملعاصر ‪31 ......‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬لبنان ومسلسل القرارات الدولية‪61 ...‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬تاريخ لبنان في حروب متواصلة ‪121 ...‬‬
‫الفصل األول‪ :‬احلرب األهلية األولى في لبنان ‪123 .....‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬نظام القائمقاميتَني واحلرب األهلية‬
‫الثانية (‪137 ......................... )1845 - 1842‬‬

‫‪759‬‬
‫الصفحة‬
‫الفصل الثالث‪ :‬احلرب األهلية الثالثة ودور االنتماءات‬
‫الطبقية ثورة الفالحني وح��وادث الستني (‪- 1858‬‬
‫‪153 ............................................. )1860‬‬
‫ال�ف�ص��ل ال��راب��ع‪ :‬إرس ��اء ن �ظ��ام امل�ت�ص��رف�ي��ة وترسيخ‬
‫الطائفية ‪171 ...........................................‬‬
‫الفصل اخلامس‪ :‬الدستور اللبناني واحلرب األهلية ‪193 ...‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬امليثاق الوطني واحلرب األهلية ‪201 .....‬‬
‫الفصل السابع‪ :‬أزمة ‪ 1958‬والتهيئة حلرب أهلية ‪213 ....‬‬
‫الفصل الثامن‪ :‬احلرب األهلية في لبنان (‪223 ..... )1975‬‬
‫الفصل التاسع‪ :‬البُعد الداخلي للحرب األهلية ‪231 .....‬‬
‫الفصل العاشر‪ :‬أثر ِبنية النظام في تأجيج احلرب‬
‫األهلية ‪249 .............................................‬‬
‫الفصل احلادي عشر‪ :‬النخبة السياسية ‪ -‬الطائفية‬
‫واحلرب األهلية اللبنانية ‪261 ...........................‬‬
‫ال�ف�ص��ل ال�ث��ان��ي ع�ش��ر‪ :‬أث��ر االق �ت �ص��اد اللبناني في‬
‫احلرب األهلية اللبنانية ‪267 ............................‬‬
‫الفصل الثالث عشر‪ :‬البُعد اإلقليمي للحرب األهلية‬
‫اللبنانية ‪271 ............................................‬‬
‫الفصل الرابع عشر‪ :‬الدور الدولي في احلرب األهلية‬
‫اللبنانية ‪339 ............................................‬‬

‫‪760‬‬
‫الصفحة‬
‫الفصل اخلامس عشر‪ :‬احلرب األهلية اللبنانية ُق َبيْل‬
‫اتفاق الطائف ‪385 ......................................‬‬
‫اجلزء الثاني‪ :‬التاريخ السياسي للدول العربية ‪437 ......‬‬
‫الفصل األول‪ :‬سوريا ‪439 ...............................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬جمهورية مصر العربية ‪471 .............‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬العراق ‪509 ..............................‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬فلسطني ‪523 ............................‬‬
‫الفصل اخلامس‪ :‬السعودية ‪553 .........................‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬األردن ‪559 ............................‬‬
‫الفصل السابع‪ :‬اإلمارات العربيّة املتحدة ‪567 ..........‬‬
‫السابع الثامن‪ :‬الكويت ‪573 .............................‬‬
‫الفصل التاسع‪ :‬قطر ‪575 ...............................‬‬
‫الفصل العاشر‪ :‬البحرين ‪579 ...........................‬‬
‫الفصل احلادي عشر‪ :‬عُمان ‪583 ........................‬‬
‫الفصل الثاني عشر‪ :‬اليمن ‪595 .........................‬‬
‫الفصل الثالث عشر‪ :‬املغرب ‪603 ........................‬‬
‫الفصل الرابع عشر‪ :‬اجلزائر ‪613 .......................‬‬
‫الفصل اخلامس عشر‪ :‬تونس ‪629 ......................‬‬
‫الفصل السادس عشر‪ :‬ليبيا ‪637 .......................‬‬
‫الفصل السابع عشر‪ :‬موريتانيا ‪653 .....................‬‬

‫‪761‬‬
‫الصفحة‬
‫الفصل الثامن عشر‪ :‬السودان ‪661 ......................‬‬
‫الفصل التاسع عشر‪ :‬الصومال ‪671 ....................‬‬
‫الفصل العشرون‪ :‬جيبوتي ‪677 ..........................‬‬
‫الفصل الواحد والعشرون‪ :‬جزر القُمر ‪687 .............‬‬
‫ملحق‪ :‬سلسلة حكام الدول العربية ‪695 ..................‬‬
‫الفهرس ‪759 ...............................................‬‬
‫صدر للمؤلف ‪763 .........................................‬‬

‫‪762‬‬
‫صدر للمؤلف‬

‫الدكتور خليل حسني‬

‫‪ .1‬ح��ائ��ز على دك �ت��وراه دول��ة ف��ي ال�ع�ل��وم السياسية ‪ /‬اختصاص‬


‫عالقات دولية‪.‬‬

‫‪ .2‬حائز على رتبة بروفسور من اجلامعة اللبنانية‪.‬‬

‫‪ .3‬أستاذ املنظمات والعالقات الدولية في كلية احلقوق والعلوم‬


‫السياسية في اجلامعة اللبنانية‪.‬‬

‫‪ .4‬أستاذ التنظيم الدبلوماسي والقضايا الدولية في كلية احلقوق‬


‫في جامعة بيروت العربية‪.‬‬

‫‪ .5‬أستاذ محاضر في كلية القيادة واألركان‪/‬اجليش اللبناني‪.‬‬

‫‪ .6‬أشرف على عشرات اطروحات الدكتوراه ورسائل املاجستير‪.‬‬

‫‪ .7‬مدير الدراسات في مجلس النواب اللبناني سابقاً‪.‬‬

‫‪763‬‬
‫‪ .8‬أسَّ ��س العديد من مراكز ال��دراس��ات واألب�ح��اث‪ ،‬ورأس حترير‬
‫عدة مجالت دورية‪.‬‬

‫من مؤلفاته‪:‬‬

‫‪ .1‬القانون ال��دول��ي ال�ع��ام‪ :‬منشورات احللبي احلقوقية‪ ،‬بيروت‪،‬‬


‫‪.2011‬‬

‫‪ .2‬العالقات الدولية‪ :‬النظرية وال��واق��ع ‪ -‬األشخاص والقضايا‪،‬‬


‫منشورات احللبي احلقوقية‪ ،‬بيروت‪.2012 ،‬‬

‫‪ .3‬قضايا عربية معاصرة‪ :‬منشورات احللبي احلقوقية‪ ،‬بيروت‪،‬‬


‫‪.2012‬‬

‫‪ .4‬التاريخ السياسي للوطن العربي‪ ،‬منشورات احللبي احلقوقية‪،‬‬


‫بيروت‪.2012 ،‬‬

‫‪ .5‬املراسم والتشريفات الدبلوماسية‪ ،‬منشورات احللبي احلقوقية‪،‬‬


‫بيروت‪.2011 ،‬‬

‫‪ .6‬التنظيم الدبلوماسي‪ ،‬منشورات احللبي احلقوقية‪ ،‬بيروت‪،‬‬


‫‪.2011‬‬

‫‪ .7‬ال�ت�ن�ظ�ي��م ال�ق�ن�ص�ل��ي‪ ،‬م �ن �ش��ورات احل�ل�ب��ي احل �ق��وق �ي��ة‪ ،‬بيروت‪،‬‬


‫‪.2011‬‬

‫‪ .8‬الفلسفة والفكر السياسي ف��ي العصور القدمية والوسطى‪،‬‬


‫منشورات احللبي احلقوقية‪ ،‬بيروت‪.2011 ،‬‬

‫‪764‬‬
‫‪ .9‬ذرائع اإلرهاب الدولي وحروب الشرق األوسط اجلديد‪ ،‬اجلزء‬
‫األول‪ ،‬منشورات احللبي احلقوقية‪ ،‬بيروت‪.2011 ،‬‬

‫‪ .10‬مكافحة اإلرهاب الدولي‪ :‬االتفاقيات الدولية واإلقليمية‪ ،‬اجلزء‬


‫الثاني‪ ،‬منشورات احللبي احلقوقية‪.2011 ،‬‬

‫‪ .11‬موسوعة التنظيم الدولي‪ :‬النظرية العامة واملنظمات العاملية‪،‬‬


‫دار املنهل اللبناني‪ ،‬بيروت‪.2010 ،‬‬

‫‪ .12‬موسوعة التنظيم ال��دول��ي‪ :‬املنظمات القارية واإلقليمية‪ ،‬دار‬


‫املنهل اللبناني‪ ،‬بيروت‪.2010 ،‬‬

‫‪ .13‬اجل��رائ��م واحمل��اك��م ف��ي ال�ق��ان��ون ال��دول��ي اجل�ن��ائ��ي‪ ،‬دار املنهل‬


‫اللبناني‪ ،‬بيروت‪.2009 ،‬‬

‫‪ .14‬النظام العاملي اجلديد واملتغيرات الدولية‪ ،‬دار املنهل اللبناني‪،‬‬


‫بيروت‪.2009 ،‬‬

‫‪ .15‬اجلغرافيا السياسية‪ ،‬دار املنهل اللبناني‪ ،‬بيروت‪.2008 ،‬‬

‫‪ .16‬الصراعات اإلقليمية والدولية في لبنان‪ ،‬دار املنهل اللبناني‪،‬‬


‫بيروت‪.2007 ،‬‬

‫‪ .17‬قضايا دولية معاصرة‪ ،‬دار املنهل اللبناني‪ ،‬بيروت‪.2007 ،‬‬

‫‪ .18‬السياسات العامة في الدول النامية‪ ،‬دار املنهل اللبناني بيروت‪،‬‬


‫‪.2007‬‬

‫‪765‬‬
‫‪ .19‬العدوان اإلسرائيلي على لبنان‪ :‬اخللفيات واألبعاد‪ ،‬دار املنهل‪،‬‬
‫اللبناني‪.2006 ،‬‬

‫‪ .20‬يوميات احل��رب اإلسرائيلية على لبنان‪ ،‬دار املنهل اللبناني‪،‬‬


‫بيروت‪.2006 ،‬‬

‫‪ .21‬ح��روب إسرائيل ضد لبنان‪ ،‬مجلس ال�ن��واب اللبناني‪،1997،‬‬


‫(باالشتراك مع آخرين)‪.‬‬

‫‪ .22‬ن �ظ��ام احل �ي��اد ف��ي ال �ق��ان��ون ال��دول��ي وم ��دى م�ن��اس�ب�ت��ه للبنان‪،‬‬
‫‪.1994‬‬

‫‪ .23‬أثر املتغيرات الدولية في وحدة أوروبا‪ ،‬مركز دراسات السياسة‬


‫اخلارجية‪.1993 ،‬‬

‫‪ .24‬الكومنولث الروسي‪ :‬مشروع احتاد أم انحالل‪ ،‬مركز دراسات‬


‫السياسة اخلارجية‪.1993 ،‬‬

‫‪ .25‬املفاوضات العربية ‪ -‬اإلسرائيلية‪ ،‬وقائع ووثائق‪ ،‬مكتبة بيسان‪،‬‬


‫‪.1993‬‬

‫‪ .26‬مؤمتر مدريد وآفاق السالم‪ ،‬املركز اللبناني للبحوث والتوثيق‬


‫واألعالم‪.1991 ،‬‬

‫‪ .27‬عهد احلكومتني في لبنان‪ ،‬املركز اللبناني للبحوث والتوثيق‬


‫واألعالم‪.1991 ،‬‬

‫‪ .28‬شهادات الهزمية‪ :‬إسرائيل في لبنان‪ ،‬املركز اللبناني للبحوث‬


‫والتوثيق واألعالم‪.1991 ،‬‬

‫‪766‬‬
‫‪ .29‬أثر املشاركة في سياسة لبنان اخلارجية‪ ،‬املركز اللبناني للبحوث‬
‫والتوثيق واألعالم‪.1988،‬‬

‫‪International & regional organizations, Dar Al Manhal Al‬‬ ‫‪ .30‬‬


‫‪alubnani, 2007.‬‬

‫‪Introduction to law; Dar-Al Manhal Al Lubnani, 2008.‬‬ ‫‪ .31‬‬

‫إضافة إلى عشرات الدراسات املنشورة في مجالت لبنانية وعربية‬


‫وأجنبية محكمة‪.‬‬

‫‪767‬‬
768

You might also like