Professional Documents
Culture Documents
بيروت لبنان
1
بسم اهلل الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد هلل نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ،ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن سيئات
أعمالنا ،من يهده اهلل فال مضل له ،ومن يضلل فال هادي له ،وأشهد أن ال إله إالا اهلل وحده ال
شريك له ،وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
ال كَثِيرًا
َث مِن ُهمَا رِجَا ً
جهَا َوب َّ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُ ُم الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفس وَاحِدَة وَخَلَ َ
ق مِنهَا زَو َ
اهللََّ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزًا عَظِيمًا﴾ (األحزاب ،آية 70 :ـ .)71
يا رب لك الحمد حتى ترضى ،ولك الحمد إذا رضيت ،ولك الحمد بعد الرضى.
أما بعد:
جاء اإلسالم بتنظيم شامل ألمور الدين والدنيا معاً وهو بذلك يختلف عن المسيحية التي فصلت
بين الدين والدولة فجعلت الدين من اختصاص الكنيسة والدنيا من اختصاص الدولة ،وليس
هناك مجال للشك في أن النظام الذي أقامه الرسول صلى اهلل عليه وسلم وتبعه المسلمون من
بعده هو نظام ديني سياسي معاً وهو نظام العقيدة والشريعة.1
ولم يعرف المسلمون األوائل التفريق بين السياسة والدين ،بل جعلوا السياسة منخرطة ضمن
تعاليم الدين ،فلو قرأنا كتب الفقه لرأيناها تتكلم عن األمور السياسية ـ حسب لغة تلك العصور ـ
1األخالق السياسية للدولة اإلسالمية ،محمد زكريا الناداف ،ص.83 :
2
كما تتكلم عن الوضوء والصالة والقيام ،وهذا ما أكده ابن تيمية عندما قال :فالواجب اتخاذ
اإلمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى اهلل ،1فجعل اتخاذ الحكم والسياسة من الدين وسيلة من
وسائل التقرب إلى اهلل سبحانه وتعالى ،فالدولة في اإلسالم من الدين ،وأن الدين في اإلسالم
محيط بالسياسة وغيرها من النشاطات البشرية ومنظم لها جميعاً ،ألن هذه العبارة منطلقة من
ثقافتنا وحضارتنا.2
وبيان القرآن الكريم وجوب وجود القوة في أيد حكيمة إلقامة العدل ولمنع الفساد والظلم ،قال
ن لِيَقُو َم النَّاسُ بِالقِسطِ وَأَنزَلنَا تعالى﴿ :لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَِّينَا ِ
ت وَأَنزَلنَا مَعَهُ ُم الكِتَابَ وَالمِيزَا َ
الحَدِيدَ فِيهِ بَأس شَدِيد وَ َمنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعلَمَ اهللَُّ مَن يَنصُرُ ُه وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ إِنَّ اهللََّ قَوِيٌّ عَزِيز﴾
3
يزع بالقرآن ،1فلذلك كان وجود الدولة ضرورياً لحماية المجتمع من الفئات المنحرفة عن
سبيل اال ستقامة ،الذين لو أطلقت أيديهم لعاثوا في األرض فساداً ،فأهلكوا أنفسهم ومجتمعاتهم،
كما َّبي ن النبي صلى اهلل عليه وسلم في حديث السفينة وهو ما يرويه النعمان بن بشير رضي
اهلل عنه ،عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال« :مثل القائم على حدود اهلل والواقع فيها كمثل
قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعالها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا
استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم ،فقالوا :لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من
فوقنا ،فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً».2
وبيان القرآن الكريم أركان الحكم ،كوجوب الحكم بالعدل على والة األمر ،ووجوب الطاعة
على الرعية واال لتزام بالمرجعية العليا في كل ما يختلف فيه الرعية مع حكامهم ،قال تعالى:
س أَن تَح ُكمُوا بِالعَد ِل إِنَّ اهللَّ نِعِمَّا ﴿إِنَّ اهللَّ يَأمُرُكُم أَن تُؤدُّوا األَمَانَا ِ
ت إِلَى أَهلِهَا وَإِذَا حَكَمتُم بَينَ النَّا ِ
إن اإلسالم الذي شرَّعه اهلل لم يدع جانباً من جوانب الحياة إال وتعهده بالتشريع والتوجيه فهو ـ
بطبيعته ـ شامل لكل نواحي الحياة ،مادية وروحية فردية واجتماعية ،وقد خاطب اهلل تعالى
رسوله:
ُل شَيء َوهُدًى وَرَحمَ ًة َوبُشرَى لِلمُسلِمِينَ﴾ (النحل ،آية : ـ بقولهَ ﴿ :ونَزَّلنَا عَلَيكَ الكِتَا َ
ب تِبيَانًا لِّك ِّ
.)89
ـ والقرآن يقول﴿:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ُكتِبَ عَلَيكُ ُم الصِّيَامُ﴾ (البقرة ،آية )183 :
4
ـ وهو نفسه الذي يقول في نفس السورة ﴿ :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ القِصَاصُ فِي القَتلَى﴾
ت إِن تَرَكَ خَيرًا الوَصِيَّةُ لِلوَالِدَينِ ـ وهو الذي يقول فيها﴿ :كُتِ َ
ب عَلَيكُم إِذَا حَضَ َر أَحَدَكُ ُم المَو ُ
كتب اهلل على المؤمنين أي فرضه عليهم :الصيام من األمور التعبدية ،والقصاص في القوانين
الجنائية ،والوصاية فيما يسمى "األحوال الشخصية" ،والقتال في العالقات الدولية ،وكلها
تكاليف شرعية يتعبد بتنفيذها المؤمنون ،ويتقربون بها إلى اهلل ،فال يتصور من مسلم قبول
فرضية الصيام ،ورفض فرضية القصاص ،أو الوصية أو القتال وجميعها تقول ﴿كُ ِت َ
ب
عَلَيكُمُ﴾.
وقد ث ُب ت أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما ترك أمراً يقربنا من اهلل إال وأمرنا به ،وال ترك
أمراً يبعدنا عن اهلل إال نهانا عنه ،حتى تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ال يزيغ عنها
إال هالك.1
1الدين والسياسة ،د .يوسف القرضاوي ،ص ،69 :ورواه أحمد في المسند ،رقم.17142 :
5
ومن قرأ كتب الفقه اإلسالمي وجدها تشمل على شؤون الحياة كلها من فقه الطهارة ،إلى فقه
األسرة إلى فقه المجتمع إلى فقه الدولة وهذا في غاية الوضوح لكل طالب مبتدئ ،ناهيك بالعالم
المتمكن.1
إن الفقهاء أدركوا ضرورة التمييز في أبواب الفقه ،فوضعوا أبواباً للعبادات وأبواباً للمعامالت،
وبذلك فرقوا بين المسائل المتعلقة بالعبادة والمعامالت ويمكننا اليوم أن نسمي أبواب الفقه
الخاصة بالمعامالت "بالقانون اإلسالمي" ولندخل ضمن هذا القانون إلى جانب هذا الجزء من
علم الفقه ،علم أصول الفقه ،وهو يباين لنا مصادر القانون ،وكيفية استنباط األحكام من تلك
المصادر ،ولندخل أيض ًا في القانون اإلسالمي مباحث اإلمامة ،فإن هذا أساس القانون العام،
ويمكن تقسيم القانون اإلسالمي إلى قانون خاص ،وقانون عام ،فالقانون الخاص يشمل القواعد
التي تضبط عالقات األفراد بعضها ببعض ،فأبواب المعامالت ،واألحوال الشخصية ،تدخل في
القانون الخاص والقانون العام يشمل القواعد التي تسري على السلطات العامة وعالقة هذه
السلطات باألفراد.
وبدون مشقة نجد في القانون اإلسالمي الخاص :قانوناً مدنياً ،وقانون مرافعات ،وأساساً لقانون
تجاري وفي القانون اإلسالمي العام :قانوناً دستورياً وقانون ًا إدارياً ويمكننا أن نبيان قانوناً دولياً
عامًا وقانوناً دولياً خاصًا من أصول وقواعد ومقاصد اإلسالم.2
إن تعاليم اإلسالم وأحكامه في العقيدة والشريعة واألخالق والعبادات والمعامالت ،ال تؤتي
ُأكلها إال إذا أُخذت متكاملة ،فإن بعضها الزم لبعض ،وهي أشبه "بوصفة طبية" كاملة مكونة
من غذاء متكامل ،ودواء متنوع وحمية وامتناع من بعض األشياء وممارسة لبعض
التمرينات ..فلكي تحقق هذه الوصفة هدفها ،البد من تنفيذها جميعاً ،فإن ترك جزء منها قد
6
يؤثر في النتيجة كلها ،1فاإلسالم يرفض تجزئة أحكامه وتعاليمه وأخذ بعضها دون بعض وقد
اشتد القرآن الكريم في إنكار هذا المسلك على بني إسرائيل.
ض الكِتَابِ وَتَكفُرُونَ بِبَعض َفمَا جَزَاء مَن يَف َعلُ ذَلِكَ مِنكُم إِالَّ خِزي ـ قال تعالى﴿ :أَفَتُؤ ِمنُو َ
ن بِبَع ِ
(البقرة ،آية .)85 : ن إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اهللُّ بِغَافِل عَمَّا تَع َملُونَ﴾
فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا وَيَو َم القِيَامَ ِة يُرَدُّو َ
ولما أحب بعض اليهود أن يدخلوا في اإلسالم بشرط أن يحتفظوا ببعض الشرائع اليهودية مثل
تحريم يوم السبت ،أبى الرسول عليهم ذلك إال أن يدخلوا في شرائع اإلسالم كافة.2
طوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ ـ قال تعالى﴿ :يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادخُلُوا فِي السِّلمِ َكافَّةً َو َ
ال تََّتبِعُوا خُ ُ
وخاطب اهللُ سبحانه رسولَه صلى اهلل عليه وسلم فقال﴿ :وَأَنِ احكُم بَينَهُم بِمَآ أَنزَ َل اهللُّ وَ َ
ال تََّتبِع
فهنا يحذر اهلل رسوله من غير المسلمين :أن يصرفوه عن بعض أحكام اإلسالم ،وهو خطاب
لكل من يقوم بأمر األمة من بعده.3
إن الحياة وحدة ال تنقسم ،وكل ال يتجزأ وال يمكن أن تصلح الحياة إن تولى اإلسالم جزءاً منها
كالمسجد والزوايا يحكمها ويوجهها وتركت جوانب الحياة األخرى لمذاهب وضعية ،وأفكار
بشرية وفلسفات أرضية توجهها وتقودها ،وال يمكن أن يكون لإلسالم المسجد ،ويكون للعلمانية
المدرسة والجامعة والمحكمة واإلذاعة والتلفاز والصحافة والمسرح والسينما والسوق والشارع
وبعبارة أخرى الحياة كلها.4
7
إن الدول في عصرنا أمست تملك أزمة الحياة كلها في أيديها ،من التعليم إلى القضاء ،إلى
الثقافة إلى اإلعالم إلى المساجد ،إلى االقتصاد واالجتماع ،فال يمكن لمصلح أن يتجاوزها،
ويدعها للقوى العلمانية تفعل ما تشاء وهي قادرة على أن تهدم كل ما بناه أهل الصالح بسهولة
ويسر ،والسيما أن الهدم عادة أسهل من البناء ،فكيف بمن يهدم باأللغام الناسفة التي تستطيع
أن تجعل العمارة الشاهقة كومة من التراب في دقائق معدودات؟
وفي عصرنا انتقلت ا لقوة من األمة إلى الدولة وأضحت هي المتحكمة في معظم األمور ،من
تعليم وإعالم وثقافة وصحة وقضاء وشؤون دينية وأمنية وعسكرية واقتصادية ،فكيف يمكن
للمصلح أن يباشر اإلصالح إذا كانت الدولة مضادة التجاهه فهو يُحيي وهي تُميت ،وهو يجمع
وهي تفرغ ،وهو يشرق وهي تغرب؟
سارت مغربة وسرت مشرقاً
شتان بين مشرق ومغرب
أو كما قال الشاعر اآلخر:
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه
إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟
فكيف إذا كان الذي يهدم الدولة ذاتها ،بما تملك من إمكانات فائقة وآليات كبيرة؟
وهذا ما جعل أفراد الشعوب المؤمنة بالمرجعية اإلسالمية من مصلحين وعلماء وساسة
ومواطنين ومواطنات يدخلون معترك السياسة ويلتمسون اإلصالح عن طريق إقامة دولة تحقق
ف
ض أَقَامُوا الصَّالَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُو ِ قول اهلل تعالى﴿ :الَّذِي َ
ن إِن مَّكَّنَّاهُم فِي األَر ِ
إن البشر ال يصلح لهم إال سياسة تضبطها قيم الدين وقواعد األخالق وتلتزم بمعايير الخير
والشر ،وموازين الحق والباطل.
1الدين والسياسة ،ص.77 :
8
إن السياسة حين ترتبط بالدين تعني :العدل في الرعية والقسمة بالسوية واالنتصار للمظلوم
على الظالم وأخذ الضعيف حقه من القوي ،وإتاحة فرص متكافئة للناس ورعاية الفئات
المسحوقة من المجتمع كاليتامى والمساكين وأبناء السبيل ،ورعاية الحقوق األساسية لإلنسان
بصفة عامة.
إن دخول الدين في السياسة ليس ـ كما يصوره الماديون والعلمانيون ـ شراً على السياسة،
وشراً على الدين نفسه ،إن الدين الحق إذا دخل في السياسة :دخل دخول الموجه للخير ،الهادي
إلى الرشد ،المبين للحق ،العاصم من الضالل والغي.
فهو ال يرضى عن ظلم ،وهو ال يتغاضى عن زيف ،وال يسكت عن غي ،وال يقر تسلط
األقوياء على الضعفاء ،وال يعاقب السارق الصغير ،ويكرم السارق الكبير.
والدين إذا دخل في السياسة :هداها إلى الغايات العليا للحياة ولإلنسان :توحيد اهلل ،وتزكية
النفس ،وسمو الروح ،واستقامة الخلق ،وتحقيق مقاصد اهلل من خلق اإلنسان :عبادة اهلل
وخالفته في األرض ،وعمارتها بالحق والعدل ،باإلضافة إلى ترابط األسرة ،وتكافل المجتمع
وتماسك األمة ،وعدالة الدولة وتعارف البشرية.1
والدين يمنح في الوقت نفسه رجال السياسة :الحوافز التي تدفعهم إلى الخير ،وتقضهم عند
الحق ،وتشجعهم على نصرة الفضيلة ،وإغاثة الملهوف ،وتقوية الضعيف ،واألخذ بيد
الضعيف ،والوقوف في وجه الظالم حتى يرتدع عن ظلمه ،كما جاء في الحديث الصحيح:
«أنصر أخاك ظالم ًا أو مظلوم ًا» .قالوا :يا رسول اهلل ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟
قال« :تمنعه من الظلم ،فذلك نص ٌر له».2
والدين يمنح السياسي الضمير الحي ،أو (النفس اللاوامة) التي تزجره أن يأكل الحرام من المال
أو يستحل الحرام من المسجد ،أو يأكل المال العام بالباطل ،أو يأخذ الرشوة باسم الهدية أو
9
العمولة وهو الذي يجعل الحاكم يحرص على نصحه وتقويمه ،قال أبو بكر الصديق :إن أسأت
فقوِّموني ،1وقال عمر بن الخطاب :من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً فليقوِّمني.2
والسياسي حين يعتصم بالدين ،فإنما يعتصم بالعروة الوثقى ويحميه الدين من مساوئ األخالق
ورذائل النفاق ،فإذا حدَّث لم يكذب ،وإذا وعد لم يخلف وإذا اؤتمن لم يخن ،وإذا عاهد لم يغدر،
وإذا خاصم لم يفجر ،إنه مقيد بالمثل العليا ومكارم األخالق.
إن تجريد السياسة من الدين يعني تجريدها من بواعث الخير ،وروادع الشر ،تجريدها من
عوامل البر والتقوى وتركها لدواعي اإلثم والعدوان.
وربـط السياسة بالديـن يعطي الدولة قـدرة على تجنيـد "الطـاقة اإليمـانية" أو "الطاقة الروحية"
فـي خـدمة المجتـمع وتوجيه سياسته الداخلية إلى الرشد ال الغي وإلى االستقامة ال االنحراف،
وإلى الطهارة ال إلى التلوث بالحرام.
وكذلك تجنيد هذه الطاقة في السياسة الخارجية للدفاع عن الوطن ،ومواجهة أعدائه المتربصين
به واالستماتة في سبيل تحريره إذا احتُلت أرضه أو اغتُصبت حقوقه ،أو ديست كرامته.
ولقد رأينا المسلمين في عصورهم الذهبية حين ارتبطت سياستهم بالدين ،فتحوا الفتوح،
وانتصروا على اإل مبراطوريات الكبرى ،وأقاموا دولة العدل واإلحسان ثم شادوا حضارة العلم
واإليمان ،مستظلين براية القرآن.3
ـ ضاللة فصل الدين عن السياسة:
وقد اختار العالمة محمد الخضر حسين ـ شيخ األزهر في زمانه ـ أن يعبر عن فصل الدين عن
السياسة الذي دعا إليه أحد الكُتاب بعبارة (ضاللة) وهو تعبير شرعي صحيح ،ألنه أمر محدث
ومبتدع في األمة ،وكل بدعة ضاللة ،كما في الحديث الصحيح.4
ومما ا قاله العالمة محمد الخضر في هذه المقالة العلمية الرصينة :نعرف أن الذين يدعون إلى
فصل الدين عن السياسة فريقان:
10
أ ـ فريق يعترف بأن للدين أحكاماً وأصوالً تتصل بالقضاء والسياسة ولكنهم ينكرون أن تكون
هذه األحكام واألصول كافلة بالمصالح آخذة بالسياسة إلى أحسن العواقب ،ولم يُبال هؤالء أن
يجهروا بالطعن في أحكام الدين وأصوله وقبلوا أن يسميهم المسلمون مالحدة ،ألنهم مقرون
بأنهم ال يؤمنون بالقرآن وال بمن نزل عليه القرآن.
ب ـ ورأى فريق أن االعتراف بأن في الدين أصول ال قضائية وأخرى سياسية ،ثم الطعن في
صالحها ،إيذان باالنفصال عن الدين ،وإذا دعا المنفصل عن الدين إلى فصل الدين عن
السياسة ،كان قصده مفضوحاً ،وسعيه خائباً فاخترع هؤالء طريقاً حسبوه أقرب إلى نجاحهم،
وهو أن يدَّ عوا أن اإلسالم توحيد وعبادات ،ويجحدوا أن يكون في حقائقه ما له مدخل في
القضاء والسياسة ،وجمعوا على هذا ما استطاعوا من الشبه ،لعلهم يجدون في الناس جهالة أو
غباوة فيتم لهم ما بيتوا.
هذان مسلكان لمن ينادي بفصل الدين عن السياسة ،أو كالهما يبغي من أصحاب السلطان :أي
يضعوا لألمة اإلسالمية قوانين تناقض شريعتها ،ويسلكوا بها مذاهب ال توافق ما ارتضاه اهلل
في إصالحها ،وكِال المسلكين وليد االفتتان بسياسة الشهوات وقصور النظر لشريعة اإلسالم
حكم بالغات.
من ِ
أما أن اإلسالم قد جاء بأحكام وأصول قضائية ،ووضع في فم السياسة لجاماً من الحكمة ،فإنما
ينكره من تجاهل القرآن والسنة ،ولم يحفل بسيرة الخلفاء الراشدين إذ كانوا يزِنون الحوادث
بقسطاس الشريعة ويرجعون عند االختالف إلى كتاب اهلل أو سنة رسوله.
وبيان الشيخ أنا :في القرآن الكريم شواهد كثيرة على أن دعوته تدخل في المعامالت المدنية
ن اهللِّ حُكمًا وتتولى إرشاد السلطة السياسية ،قال تعالى﴿ :أَفَحُكمَ الجَاهِلِيَّ ِة يَبغُو َ
ن وَمَن أَحسَنُ مِ َ
وكل حكم يخالف شرع اهلل فهو من فصيلة أحكام الجاهلية ،وفي قوله تعالى﴿ :لِّقَوم يُوقِنُونَ﴾
إيماء بأن غير الموقنين قد ينازعون في حسن أحكام رب البرية ،وتهوى أنفسهم تبدلها بمثل
11
أحكام الجاهلية ،ذلك ألنهم في غطاء من تقليد قوم كبروا في أعينهم ولم يستطيعوا أن يميزوا
سيئاتهم من حسناتهم ،وقال تعالى﴿ :وَأَنِ احكُم بَينَهُم بِمَآ أَن َزلَ اهللُّ وَالَ تَتَّبِع أَهوَاءهُم وَاحذَرهُم أَن
ض مَا أَنزَ َل اهللُّ إِلَيكَ﴾ (المائدة ،آية ،)49 :ففرض في هذه اآلية أن يكون فصل
ك عَن بَع ِ
يَف ِتنُو َ
القضايا على مقتضى كتاب اهلل ،ونبَّه على أن من لم يدخل اإليمان في قلوبهم يبتغون من
الحاكم أن يخلق أحكا مه من طينة ما يوافق أهواءهم ،وأردف هذا بتحذير الحاكم من أن يفتنه
أثر الشهوات عن بعض ما أنزل اهلل ،وفتنتهم له من أن يسمع لقولهم ،ويضع مكان حكم اهلل
حكماً يالئم بغيتهم ،قال تعالى﴿ :وَمَن لَّم يَحكُم بِمَا أنزَلَ اهللُّ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (المائدة ،آية
آية ثالثةَ ﴿ :ومَن لَّم يَحكُم بِمَا أَنزَ َل اهللُّ فَأُولَـئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ (المائدة ،آية .)44 :
وفي القرآن الكريم أحكام كثيرة ليست من التوحيد وال من العبادات ،كأحكام البيع والربا
والرهن واإلشهاد وأحكام للنكاح والطالق واللعان ،والوالء والظهار والحجر على األيتام
والوصايا والمواريث ،وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقاذف
المحصنات ،وجزاء الساعي في األرض فساداً ،وذكر الشيخ آيات تتعلق بالسلم والحرب
والمعاهدات والعالقات الدولية ،ثم قال :وفي السنة الصحيحة أحكام مفصلة في أبواب من
المعامالت والجنايات إلى نحو هذا ،مماا يدل على أن مَن يدعو إلى فصل الدين عن السياسة
إنما تصور ديناً آخراً غير اإلسالم.
وفي سيرة أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ـ وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة ـ ويدل
داللة قاطعة على أن للدين سلطان في السياسة ،فإنهم كانوا يأخذون على الخليفة عندما مبايعته
على شرط العمل بكتاب اهلل وسنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
12
ولوال علمهم بأن السياسة ال تنفصل عن الدين لبايعوه على أن يسوسهم بما يراه أو يراه مجلس
شوراه مصلحة.
وفي صحيح البخاري :كانت األئمة بعد النبي صلى اهلل عليه وسلم يستشيرون األمناء من أهل
العلم من األمور المباحة ليأخذوا بأسهلها ،فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره،
اقتداء بالنبي صلى اهلل عليه وسلم ،1ومن شواهد هذا :محاورة أبي بكر الصديق وعمر بن
الخطاب في قتال مانعي الزكاة ،فإنها كانت تدور على التفقه في حديث« :أمرت أن أقاتل
الناس حتى يقولوا ال إله إال اهلل».2
فعمر بن الخطاب يستدل على عدم قتالهم بالحديث ،وأبو بكر يبيِّن له الدليل ،ووجه الشاهد
بقوله في الحديث :إال بحقها ،ويقول :الزكاة من حق األموال ،ولو لم يكونوا على يقين أن
السياسة ال يسوغ لها أن تخطو خطوة إال أن يأذن لها الدين بأن تخطوها ،ما أورد عمر بن
الخطاب هذا الحديث عن رسول اهلل ،وقتال مانعي الزكاة من شؤون السياسة.
ومن شواهد أن ربط السياسة بالدين أمر عرفه خاصة الصحابة وعامتهم :قصة عمر بن
الخطاب إذ بدا له أن يضع لمهور النساء حداً ،فتلت عليه امرأة قوله تعالى﴿ :وَآتَيتُم إِحدَاه َّ
ُن
قِنطَارًا فَالَ تَأخُذُوا مِن ُه شَيئًا﴾ (النساء ،آية .)20 :فما زاد على أن قال :رجل أخطأ وامرأة
أصابت .3ونبذ رأيه وراء ظهره ،ولم يقل لها :ذلك دين وهذه سياسة ،وكتب السنة واآلثار
مملوءة بأمثال هذه الشواهد ،ولم يوجد ـ حتى في األمراء المعروفين بالفجور ـ من حاول أن
يمس اتصال السياسة بالدين من الوجهة العملية وإن جروا في كثير من تصرفاتهم على غير ما
أذن اهلل به ،جهالة منهم أو طغياناً.
13
أراد الحجاج أن يأخذ رجالً بجريمة بعض أقاربه فذكره الرجل بقوله تعالى﴿ :وَ َ
ال تَزِ ُر وَازِرَة
وِز َر أُخرَى﴾ (األنعام ،آية )164 :فتركه ،1ولم يخطر على باله ـ وهو ذلك الطاغية ـ أن
يقول له ما تلوته دين ،وما سأفعله سياسة .2ثم قال :فصل الدين عن السياسة هدم لمعظم حقائق
الدين وال يُ قدم عليه المسلمون إال بعد أن يكونوا غير مسلمين ،وليست هذه الجناية بأقل ما
يعتدي به األجنبي على الدين إذا جاس خالل الديار ،وقد رأينا الذين فصلوا الدين عن السياسة
علناً كيف صاروا أشد الناس عداوة لهداية القرآن ،ورأينا كيف كان بعض المبتلين باالستعمار
األجنبي أقرب إلى الحرية في الدين ممن أصيبوا بسلطانهم ،ونحن على ثقة من أن الفئة التي
ترتاح لمثال مقال الكاتب لو ملكت قوة أللقت محاكم يقضى فيها بأصول اإلسالم ،وقلبت معاهد
تدرس فيها علوم شريعته الغراء إلى معاهد لهو ومجون ،بل لم يجدوا في أنفسهم ما يتباطأ بهم
عن التصرف في مساجد يذكر فيها اسم اهلل تصرف من ال يرجون هلل وقاراً.3
ـ الصالة والسياسة:
إن المسلم قد يكون في قلب الصالة ومع هذا يخوض في بحر السياسة ،حين يتلو من كتاب اهلل
الكريم آيات تتعلق بأمور تدخل في صلب ما يسميه الناس سياسة ،فمن يقرأ في سورة المائدة
اآليات التي تأمر بالحكم بما أنزل اهلل ،وتدمغ من لم يحكم بما أنزل اهلل سبحانه بالكفر والظلم
والفسوق.
ـ ﴿وَمَن لَّم يَحكُم ِبمَا أَن َز َل اهللُّ فَأُولَـئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ ( المائدة ،آية .)44 :
ـ ﴿وَمَن لَّم يَحكُم بِمَا أن َز َل اهللُّ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (المائدة ،آية .)45 :
ـ ﴿وَمَن لَّم يَحكُم بِمَا أَنزَ َل اهللُّ فَأُولَـئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ (المائدة ،آية .)47 :
14
يكون قد دخل في السياسة وربما اعتبر من المعارضة المتطرفة ،ألنه بتالوة هذه اآليات وجه
االتهام إلى النظام الحاكم ويحرِّض عليه ،ألنه موصوف بالكفر أو الظلم أو الفسق أو بها كلها
في حالة تعطيله ألحكام الشريعة وتبديلها بما يخالفها.
ومثل ذلك من يقرأ اآليات التي تحذر من مواالة غير المؤمنين ،قال تعالى ﴿:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
آية.)144 :
ومن قنت "قنوات النوازل" المقررة في الفقه ،وهو الدعاء الذي يُدعى به في الصلوات بعد الر
فع من الركعة األخيرة ،وخصوصاً من الصالة الجهرية ،وهو مشروع عندما تنزل بالمسلمين
نازلة ،كغزو عدو ،أو وقوع زلزال أو فيضان أو مجاعة عامة أو نحو ذلك ..كما نفعل كثيرًا
عندما يقع عدوان صهيوني كبير على فلسطين ،أو على لبنان وكما حدث كثيراً في حرب
السوفييت ألفغانستان وحرب الصرب للبوسنة والهرسك وغيرها.1
وكما حدث في ثورات الربيع العربي في الدعاء للشعوب للتخلص من النظم االستبدادية
والديكتاتورية ،وهكذا كنا ندخل في معترك السياسة ،ونخوض غماره ،ونحن في محراب
الصالة متبتلون خاشعون ،فهذه طبيعة اإلسالم ال ينعزل فيه دين عن دنيا ،وال تنفصل فيه دنيا
عن دين ،وال يعرف قرآنه وال سنته وال تاريخه ديناً بال دولة وال دولة بال دين ،2إن الدين
منارة تهدي وليس قيداً يعوق ،وأن الشريعة ـ كما قال ابن القيم ـ عدل كلها ،ورحمة كلها
ومصالح كلها ،وحكمة كلها ،فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ،وعن الرحمة إلى
ضدها ،وعن المصلحة إلى المفسدة ،وعن الحكمة إلى العبث فليس من الشريعة وإن أدخلت
فيها بالتأويل.3
15
ـ اإلسالم وتطور الحياة:
إن اإلسالم ال يمنع تطور الحياة وانتقالها من السيىء إلى الحسن ومن الحسن إلى األحسن ،بل
شوق المسلم إلى "التي أحسن" في كثير من األمور ،فهو يحاور بالتي هي
نرى اإلسالم أبداً ُي ِّ
أحسن ،ويدفع إساءة المسيء بالتي هي أحسن ،ويقرب مال اليتيم بالتي هي أحسن ويتطلع دائم ًا
إلى "األحسن" في كل شيء ،كيف ال وقد علمه القرآن ذلك حين قال﴿:وَاتَّ ِبعُوا أَحسَنَ مَا أُنزِ َل
ن أَحسَنَهُ﴾ (الزمر ،آية 17 :ـ .)18 وقال تعالى﴿:فَبَشِّر عِبَادِ * الَّذِينَ يَستَ ِمعُو َ
ن القَولَ فَيََّتبِعُو َ
لقد رأينا الرسول الكريم يعني بأمر "اإلحصاء" قبل أن يهتم به البشر ،فطلب من أصحابه أن
يحصوا له عدد من يلفظ باإلسالم فأحصوا له ،فكانوا ألفًا وخمسمائة رجل.1
وفي بعض الروايات« :اكتبوا لي »2....فهو إحصاء يُراد تدوينه وكتابته.
وهو عليه الصالة السالم ،يقدر التجربة في شؤون الدنيا ،ويبني عليها نتائجها ،فحين رأى في
بعض أمور الزراعة أمراً ،وأظهرت النتائج خالفه ،قال لهم بكل وضوح« :أنتم أعلم بأمر
دنياكم» .3فأنتم المرجع المعتبر في األمور الفنية والدنيوية التي تحسنونها دون حاجة إلى
الرجوع إلى الوحي.4
وهو لم يكتف بدعوتهم إلى العمل لدنياهم ﴿:فَانتَشِرُوا فِي األَرضِ وَاب َتغُوا مِن فَضلِ اهللَِّ﴾
16
بل حثهم على أن يحسنوا العمل ،ويبلغوا به درجة اإلتقان واإلحكام ،وجعل ذلك فريضة دينية
مكتوبة عليهم ،فقال صلى اهلل عليه وسلم« :إن اهلل كتب اإلحسان على كل شيء فإذا قتلتم
فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة»".1
واإلحسان هو :اإلتقان الذي يحبه اهلل ،فهو تعالى يحب المحسنين ،ويحب من أحدنا إذا عمل
عمالً أن يتقنه.2
ـ عالقة السياسة بالشريعة:
من المعلوم أن لكل فعل بشري حكماً شرعياً حسب نوعه ،وأن الفعل السياسي نوعان :صحيح
وفاسد وأن الصحيح هو السياسة العادلة والفاسد هو السياسة الظالمة.
ومن البدِ ِهي أن حكم السياسة العادلة الوجوب ،وحكم السياسة الظالمة الحرمة ،وهو ما يقطع
بأن العالقة بين السياسة والشريعة قائمة على كل حال ،فهي إما عالقة اتصال وتالحم ،وإما
عالقة انفصال وتعارض بحسب ما تتصف به هذه السياسة أو تلك من عدل أو ظلم ،فإذا كانت
سياسة عادلة فهي من الشريعة وإليها وإذا كانت سياسة ظالمة فليست من الشريعة وال تمت
إليها بصلة ،وبناءً على هذه القاعدة ،فإن كل ما له عالقة بالسياسة من خالفة ودولة وحكم
وإمارة ورئاسة ووزارة ،وكل والية عامة كيفما كانت طبيعتها العملية من حيث صالحها أو
فسادها ،فهي مشمولة بأحكام الشريعة كما قال ابن خلدون :اعلم أن الوظائف السلطانية في هذه
الملة اإلسالمية مندرجة تحت الخالفة الشتمال منصب الخالفة على الدين والدنيا كما قدمناه.
.فاألحكام الشرعية متعلقة بجميعها ،وموجودة لكل واحدة منها في سائر وجوهها ،لعموم تعلق
الحكم الشرعي بجميع أفعال العباد.3
وما فتئ ع لماؤنا يؤكدون من قديم على ضرورة التالحم بين الدين والسلطان كما قال اإلمام
الغزالي :الدين والسلطان توأمان ،الدين أسس والسلطان حارس ،وما ال أسس له فمهدوم ،وما
ال حارس له فضائع.4
17
وتأسيساً على هذه العالقة العضوية بين الدين والدولة في اإلسالم ،أصبحت الدولة هي
المسؤولة بالدرجة األولى عن تنفيذ أحكام الشريعة كما قال ابن خلدون :فاعلم أن الخطط الدينية
الشرعية ،من الصالة واإلفتاء والقضاء والجهاد والحسبة ،كلها مندرجة تحت اإلمامة الكبرى.1
وأعتبرت الشريعة الواليات العامة من أعظم الواجبات الشرعية التي ال قيام للدين وال الدنيا إال
بها ،2الشيء الذي جعل والة العدل أعظم أجراً ،ووالة الجور أعظم وزراً ،كما قال العز بن
عبد السالم :أجمع المسلمون على أن الواليات من أفضل الطاعات ،فإن الوالة المقسطين أعظم
أجراً وأجلا قدراً من غيرهم ،لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحق ودرء الباطل ،فإن
أحدهم يقول الكلمة الواحدة فيدفع بها مائة ألف مظلمة فما دونها ،أو يجلب بها مائة ألف
مصلحة فما دونها ،فيا له من كالم يسير وأجر كبير.
أما والة السوء وقضاة الجور ،فمن أعظم الناس وزراً وأحطهم درجة عند اهلل ،لعموم ما يجري
على أيديهم من جلب المفاسد العظام ودرء المصالح الجسام ،وإن أحدهم ليقول الكلمة الواحدة
فيأثم بها ألف إثم وأكثر على حسب عموم مفسدة تلك الكلمة ،وعلى حسب ما يدفعه بتلك الكلمة
من مصالح المسلمين ،فيا لها من صفقة خاسرة وتجارة بائرة ،وعلى الجملة ،فالعادل من األئمة
الوالة والحكام ،أعظم أجراً من جميع األنام بإجماع أهل اإلسالم ،ألنهم يقومون بجلب كل
صالح كامل ،ودرء كل فاسد شامل ،فإذا أمر اإلمام بجلب المصالح العامة ودرء المفاسد العامة
كان له أجر بحسب ما دعا إليه من المصالح العامة وزجر عنه من المفاسد ولو بكلمة واحدة
ألجر عليها بعدد متعلقاتها كما ذكرنا.3
وهو ما يقطع بأهمية الدولة والسياسة والحكم وجميع الواليات والوظائف العامة في حياة
الشعوب أكثر من أي وقت مضى ،فقد ازدادت هذه األهمية بشكل كبير في عصرنا الحاضر،
بحيث ما عاد هناك شيء ،إال وللدولة تدخل فيه من قريب أو بعيد ،فهي صاحبة الحق في
وضع الدساتير وتعديلها حسب رغبتها وتسطير القوانين ،وإصدار المراسيم والقرارات
والدوريات ،والمذكرات وتنظيم الحياة العامة ومراقبة الحياة الخاصة من شهادة الميالد إلى
1المقدمة ابن خلدون (.)603 /2
2مجموع الفتاوى البن تيمية ( 390 /28ـ .)397
3قواعد األحكام ( 120 /1ـ .)121
18
الوفاة ،وهي تعدد طبيعة التعليم الذي يتلقاه وطبيعة الطعام الذي تأكله وطبيعة المسكن الذي
نسكنه ،وطبيعة الطريق الذي نعبره ،وطبيعة الجريدة التي نقرؤها وطبيعة الخطبة التي نتلقاها
وطبيعة التلفاز الذي نشاهده ،وكمية الدراهم التي نتقاضاها ،1وطبيعة األجواء العامة التي
نؤدي فيها شعائرنا التعبدية ،من صالة وصيام وزكاة وحج...الخ ،فنحن مادة القرار السياسي
التي تتخذه الدولة ،ونحن المعنون به باألساس ،فهو إما أن يكون في صالحنا وإمَّا ضد
مصالحنا ،ما دام القصد من الواليات العامة والمناصب العامة تدبير المصالح العامة ،كما هو
معلوم ،وبهذا تظهر قيمة الوازع السلطاني وأهميته في منظومة التشريع اإلسالمي وضرورته
لحفظ مقاصد الشارع ومصالح العباد ،غير أن إعمال هذا الوازع ال يعني بالضرورة االعتماد
على السلطة ،بكل ما تحمله من معاني الفرض والقهر والزجر واإلكراه البدني أو المعنوي ،بل
العكس هو الصحيح.
إن األصل في السياسة الشرعية ..الراشدة ،أن يكون الوازع بمنهج القرآن قبل قوة السلطان،
وهو المسلك الذي سلكته القيادة السياسية الشرعية في عهد الدولة النبوية والخالفة الراشدة،
ومن سار على نهجها في إقامة الدين وتوسيع دائرة التدين والصالح واإلصالح العام بمختلف
الوسائل التربوية التعليمية الهادفة أكثر من الوسائل الزجرية الرادعة ،وإلى اللجوء إليها ،إال
في حاالت الضرورة القصوى التي لم ينفع معها نصح أبوي وال إرشاد تربوي.
وفيما يلي خالصة أهم النقاط التي ينبغي استحضارها باستمرار أثناء النظر في الموقع الحقيقي
للسياسة والدولة من الشريعة.
ـ ال مجال للمقارنة بين التجربة اإلسالمية وتجربة الغرب المسيحي في مسألة العالقة بين الدين
والدولة ،فلكل تجربته المميزة له ،فإذا كان الغرب قد انقطع عن مؤسساته الدينية ألسباب
موضوعية خاصة به ،فليس لنا من تلك األسباب ما يدعونا إلى االنقطاع عن ديننا ،بل العكس
هو الصحيح ،كما برهنا عليه أعاله.
1مصالح اإلنسان مقاربة مقاصدية ،عبد النور بزا ،ص 328 :ـ .330
19
ـ اإلسالم ليس مجرد اعتقاد سلبي ،ال دخل له في الحياة الخاصة والعامة لإلنسان ،بل هو عقيدة
تنبثق منها شريعة يجني عليها سلوك ونظام عام يحكم الشأن الخاص ،ويدبر الشأن العام.
ـ السياسة الشرعية هي كل ما يوافق مقاصد الشرع ،ويحقق مصالح اإلنسان في الدنيا
واآلخرة ،وإن لم يرد فيها نص شرعي ،ولم يسبق بشأنها اجتهاد عقلي.
ـ السياسة العادلة من صميم الشريعة ،أما السياسة الظالمة فال تمت إليها بصلة وإن أضيف إليها
بأي شكل من أشكال التأويل.
ـ السياسة فعل من األفعال البشرية ،تعتريها األحكام الشرعية الخمسة ،فقد تكون واجبة أو
محرمة أو مندوبة أو مكروهة أو مباحة بحسب نوعها ومرجعيتها ومقاصدها ونتائجها والحاجة
إليها.
ـ عالقة السياسة والدولة باإلسال م عالقة عضوية بحيث ال يتصور أحدهما حقيقة دون اآلخر،
فهما أشبه ما يكونان بعالقة القلب أو الدماغ بالجسم ،فال حياة لجسم بدون قلب وال قيمة له
بدون دماغ ،كما أنه ال قلب وال دماغ بدون جسم ،ولذلك فال يمكن لهما إال أن يكونا متالزمين
أحدهما مع اآلخر ،وإال وقع الخلل فيهما معاً ،كما هو واقع حال األمة اليوم.
ـ ليس في اإلسالم متحدث وحيد باسمه بعد الرسو صلى اهلل عليه وسلم ،ولذلك فهو ال يعرف
وال يعترف بما يسمى التفويض اإللهي أو النظام الثيوقراطي ،أو التوريث السياسي ،أو
الكهنوتي للسلطة ،ومن ثم فإن مقولة أحقية الحاكم وحده في الجمع بين الدين والسياسة دون
غيره من الناس ،بدعة من المبتدعات السياسية المعاصرة التي ال أصل لها في اإلسالم ،ولم
يقل بها أحد من أهل العلم.
ـ كل من يتصور إقامة الدين بكل ما في الكلمة من معاني اإلسالم واإليمان واإلحسان ،والتقوى
والعبادة والتقرب إلى اهلل ،والحرية والعدالة والمساواة والكرامة ،والمحافظة على أرواح الناس
وأعراضهم وعقولهم وممتلكاتهم ،وجميع مصالحهم وأوطانهم وكل شُعب إيمانهم ..دون قيام
سلطة سياسة مدنية عادلة منتخبة من أغلبية األمة ،ذات مرجعية إسالمية ،فهو واهم أشد
20
الوهم ،وأقل ما يقال عنه :إنه بحاجة ماسة إلى تجديد النظر في معرفته بحقيقة اإلسالم
ومقاصده ووسائله.
وبالجملة فإن السلطات السياسية الشرعية العادلة ،والوظائف الحكومية الراشدة ،والواليات
العامة الصالحة ،من أهم المقاصد الكفائية التي تتحقق بها مقاصد الشارع ،وتحفظ بها مصالح
الخلق على الوجه األكمل.
وبدون هذا النوع من المقاصد العامة ،تهدر أغلب المقاصد الشرعية وتضيع معظم المقاصد
اإلنسانية.1
هذا الكتاب:
محاولة جادة لالستجابة للتغييرات الكبرى التي تمر بها شعوبنا مع اندالع ثورات الربيع
العربي ،فالشعوب لديها مطالب وتسعى لتحقق أهدافاً ومبادىء أعلنتها ،كالحرية
والعدالة والمساواة والشورى ،ومحاربة الفساد ،والتعددية والتداول السلمي ،فعكفت
رغم االنشغال عن البحث والتنقيب وسبر التجارب اإلنسانية ،والغوص في أعماق
التاريخ القديم ،والحديث الستخراج النافع والمفيد من التراث اإلنساني واإلسالمي،
مسترشداً بالكتاب العزيز الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه ،وال من خلفه ،ومتعلماً من
سيد البرية من سيرته الشاملة والتي ال يستغني عنها طالب علم ،وال باحث عن الحقيقة،
وال مصلح اجتماعي ،وال مفكر إستراتيجي ،وال قائد سياسي ،وال زعيم نهوض
حضاري يؤمن بالقيم والمبادىء اإلنسانية الرفيعة.
فقد رأيت من خالل سيرته قول الشاعر في مدح النبي صلى اهلل عليه وسلم:
وأجمل منك لم تر قط عيني
وأفضل منك لم تلد النساء
خلقت مبرأ من كل عيب
كأنك قد خلقت كما تشاء
21
وهذا المشروع الفكري المستمد من الرؤية اإلسالمية للمبادىء والقيم والمفاهيم والسنن
ال أدري كم يستغرق من الزمن ،هل أصل إلى المبتغى أم أدفن في قبري قبل تحقيقه،
إالا أن أملي في اهلل كبير ورجائي فيه بال حدود ،إنه سميع قريب.وقد مكنني اهلل من
االطالع الواسع وجمعت المادة المرادة بعد أن يسَّر لي األسباب ،وأتضرع إلى العليم
الحكيم والتواب الرحيم أن يوفقني لخدمة بني اإلنسان ،ويمدني بعون من عنده وتوفيق
وتأييد والوصول إلى المراد الذي يحبه ويرضاه سبحانه وتعالى.
إنني على يقين ال يتزعزع وإيمان ال تؤثر فيه األمواج العاتية ،بأن الشهود الحضاري
ألمتنا قد بدأ في الشروق مع هذه الثورات الربانية ،وأنه مهما كان المكر والكيد والبغي
فالعاقبة للمتقين ،وسنن اهلل ماضية ال تحيد وال تجامل وال تتبدل وال تتغير.
فالسعيد من استخدمه اهلل لطاعته وجعله من مفاتيح العقول والقلوب والخيرات المادية
والمعنوية ،وفتح له أبواب العمل والقبول وامتثل قول اهلل تعالى﴿ :قُل إِنَّ صَالَتِي وَنُ ُ
سكِي
162ـ .)163
إن الشعوب اإلسالمية تمر بمرحلة جديدة في تاريخها المعاصر ،فقد أذن اهلل لها بالنهوض
والتخلص من االستبداد والنظم الجبرية الديكتاتورية ،وبدأت نقطة االنطالق من تونس الحبيبة
العزيزة التي أذاقها نظام بن علي سوء العذاب ،فعمل على تجفيف منابع الهدى واإليمان والتقى
وأوقع البالد في الفقر والذل والبطالة والضنك ،فكانت البداية من هذا الشعب الحر ،وبدأنا نرى
قول اهلل تعالى يتحقق في حياتنا﴿ :وَنُرِي ُد أَن نَّم َّ
ُن عَلَى الَّذِينَ استُضعِفُوا فِي األَرضِ وَنَجعَلَهُم
22
إن شعوب الربيع تريد أن تخرج من نفق الظلم وتُلملم جراحها وتبني مستقبلها وتعمر بالدها
وتحافظ على الحريات العامة ،وذلك بمراعاة أحكام الشريعة اإلسالمية والمواثيق والمعاهدات
الدولية للحقوق والحريات والقيم وعادات وتقاليد هذه الشعوب األصيلة ،وتتطلع إلى تحقيق
طموحاتها في الحرية والتنمية والعدالة والشورى ،وأن يتأسس اقتصاد حر مستدام قادر على
االندماج في االقتصاد العالمي ،ومتنوع كفيل بأن يلبي احتياجات مواطنيها اآلنية والمستقبلية،
وتأمين فرص أفضل للجميع ومستوى معيشي مرتفع ،مع تقريب الفوارق بين الطبقات ،وأن
ترى مؤسسات قضائية مستقلة تكون بمثابة صمام األمان لمجتمعاتها بكافة مؤسساتها وأفرادها
وضمانة جوهرية الستقرارها ،وحفظ حقوق أفرادها وأن يكون لها نظام متكامل للرعاية
الصحية تقدم خدمات صحية وقائية وعالجية عالية الجودة ،والئقة لكل مواطنيها ،وأن تبني
دول هذه الشعوب إستراتيجية وطنية للرعاية الصحية يكون من أولى أولوياتها تحسين خدمات
المستشفيات وضمان تطوير الرعاية المستمرة ،وخدمات الصحة النفسية وتقديم خدمات
الطوارى ء ،ورفع كفاءتها وتتمنى الشعوب بناء نظام تعليمي يواكب المعايير العالمية
المعاصرة ويضاهي أفضل النظم التعليمية في العالم ،ويرسخ مبادىء الحرية ،وتنشر ثقافة
قبول اآلخر ،وتدعو للحوار ،وتؤمن بالعمل الجماعي وروح الفريق ،واإليجابية المبادرة،
وترعى القيم وا لتقاليد والثوابت ،وأن تحل أزمة السكن والعمل وتطور الرياضة ،وتعد بناء
المنظومات الرياضية تنظيماً وتشريعاً بشكل احترافي علمي مدروس ،األمر الذي يؤدي إلى
زيادة اال هتمام بالنشاط الرياضي في كافة مراحل التعليم ،مع نشر الوعي الرياضي ومكافحة
التعصب بالنشىء وغير ذلك من األهداف التي تسعى الشعوب لتحقيقها ،وهذا يحتاج إلى ثقافة
واسعة وأفكار مبدعة وتربية رصينة ،وعلوم نافعة لتحقيق آمال وطموحات الشعوب .ولذلك
كانت فكرة هذه الموسوعة التي صدر منها:
ـ العدالة والمصالحة الوطنية ضرورة دينية وإنسانية.
ـ الشورى فريضة إسالمية.
ـ الحريات من القرآن الكريم ،حرية التفكير والتعبير واالعتقاد والحريات الشخصية.
23
ـ الدولة الحديثة المسلمة ،دعائمها ووظائفها.
وبإذن اهلل ستكون دراسات حول:
ـ مفهوم المواطنة.
ـ التكافل االجتماعي.
ـ دولة الكرامة والمساواة.
ـ العالقة بين الشريعة والدستور والقانون.
ـ العدالة.
ـ حقوق اإلنسان.
ـ السلطة التشريعية (البرلمان).
ـ السلطة التنفيذية (الحكومة).
ـ السلطة القضائية (القضاء).
ـ المعارضة والتعددية واألحزاب.
وأما هذا الكتاب الذي أقدم له اآلن فهو يتحدث عن الدولة الحديثة دعائمها ووظائفها برؤية
إسالمية ،مستحضراً فكر الدولة عن النبي صلى اهلل عليه وسلم والتوجيهات القرآنية في هذا
المجال.
يجد القارىء في هذا الكتاب دراسة عن مفهوم الدولة ونشأة الدولة اإلسالمية ،وعن المراحل
التي مر بها الرسول صلى اهلل عليه وسلم للوصول للدولة منذ المرحلة السرية ،ودار األرقم
ابن أبي األرقم ،وأثر شخصيته صلى اهلل عليه وسلم في صناعة القادة والمادة الدراسية التي
اعتمدها في تربية األفراد ،ومرحلة اإلعداد والبناء ،وانتشار الدعوة في بطون قريش ،وعن فقه
النبي صلى اهلل عليه وسلم في التعاون مع السنن ،كسنة التدرج ،وتغيير النفوس واالبتالء
والتمكين ،واألخذ باألسباب ،وعن حركة الطواف على القبائل طلباً للنصرة ،وبيعة العقبة
األولى والثانية والهجرة إلى المدينة.
24
وعن دعائم الدولة في المدينة ،كبناء المسجد ،والدستور وحركة السرايا وسنة التدافع،
واالهتمام باألمن والتخطيط واإلدارة واالقتصاد واإلعالم ،والبناء التربوي والعلمي ،والقانون
والسلطة القضائية ،والسلطة التشريعية والتنفيذية والمفاوضات السياسية والعالقات الخارجية،
وسياسة كسب األ عداء ،وحاولت في الحديث عن الدعائم الجمع بين األصالة والمعاصرة وبين
الماضي والحاضر.
وشرحت وظائف الدولة واالهتمام بالمواطن وتقديم الخدمات له والتي من أهمها السكن والعمل
والرياضة واال هتمام بالمرأة واألسرة والطفولة والشباب ،ورعاية الفئات الخاصة ،كاألرامل
وذوي العاهات واألمراض المزمنة واالهتمام بالبيئة والصحة والسياحة ،وموارد الدولة
ومحاسبة الموظفين والوزراء وغير ذلك من األمور.
فهذا الكتاب ضمن مجموعة من الدراسات الفكرية والثقافية التي تحاول أن تساهم وتترك
بصمة نافعة للمشروع النهضوي الحضاري لألمة اإلسالمية ،يقول الثعالبي :ال يكتب أحداً
كتاباً فيبيت عنده ليلة إال أحب في غيرها أن يزيد فيه أو ينقص منه ،هذا في ليلة ،فكيف في
سنين معدودة؟
وقال العماد األصبهاني :إني رأيت أنه ال يكتب إنسان كتاباً في يومه إال قال في غده :لو غير
هذا لكان أحسن ،ولو زيد كذا ،لكان يستحسن ،ولو قدم هذا لكان أفضل ،ولو ترك هذا لكان
أجمل ،وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيالء النقص على جملة البشر.
هذا ،وقد أنهيت هذا الكتاب "الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها" في يوم
2013/5/26م الساعة الرابعة عصراً الموافق 1434/7/16هـ ،والفضل هلل من قبل ومن
بعد ،وأسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً
ولعباده نافعاً ،وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي وأن يثيب إخواني
الذين أعانوني بكل ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع ونرجو من كل مسلم يطلع
على هذ ا الكتاب أال ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من
25
ك الَّتِي أَنعَمتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَن أَعمَ َل صَالِحًا تَرضَاهُ دعائه﴿:ر ِّ
َب أَوزِعنِي أَن أَشكُرَ نِعمَتَ َ
26
المبحث األول :مفهوم الدولة.
بالعودة إلى معاجم اللغة العربية تجد أن كلمة الدولة مشتقة من مادة "الدال والواو والالم"
"دول" وهي تطلق بمعان عدة ،ومنها:
بالضم :انقالب الزمان ،والعقبة ،وبالفتح :في الحرب ،أو هما سواء أو الضم في اآلخرة،
والفتح في الدنيا .والدولة :الحوصلة ،والشقشقة وشيء مثل المزادة ،والقانصة.
واإلدالة :الغلبة ،ودالت األيام :دارت ،واهلل تعالى يداولها بين الناس.
والدول :لغة في الدَلو ،وانقالب الدهر من حال إلى حال ،وبتحريك "الدول" :النبل المتداول.1
وفي "الصحاح" للجوهري :الدولة في الحرب أن تدال إحدى الفئتين على األخرى ،والدولة
"بالضم" في المال والجمع دُوالت و ُدوَل ،وقال أبو عبيدة :الدُولةُ بالضم :اسم الشيء الذي
يُتداول به بعينه ،وبالفتح الفعل ،وقيل :هما لغتان بمعنى واحد.2
27
ـ اسم لعدة أشياء يتداولها الناس ،كالمزادة ضيقة الفم ،والقانصة ،وجانب البطن ،والدلو ،والنبل
وغيرها.1
يذكر بعض أساتذة السياسة أن ثمة ما يقارب مائة وخمسين تعريفاً للدولة ،2ويعتبر هذا المفهوم
الدولة من المفاهيم القديمة التي وجدت على أرض الواقع وصارت حقيقة معاينة ،قبل أن يتم
االصطالح على هذه الكلمة "الدولة" للداللة على ذلك المفهوم.
وقد جرى استخدام مصطلح "الدولة" عند الكثير من التيارات والمذاهب المعاصرة ،واختلف
معناها بحسب الدائرة الفكرية التي استخدم فيها ،ولعلنا نجول في معاني هذا المصطلح من
خالل الدوائر الفكرية التالية:3
أشار اإلمام الطبري إلى أن أول مرة استعمل فيها العرب هذا المصطلح كانت فيما ورد في
خطبة الحسن بن علي وهو يدعو أهل الكوفة إلى بيعته بقوله :وأن لهذا األمر مدة والدنيا دول.4
وكذلك ما جاء في قول أبي العباس السفاح مخاطباً أهل الكوفة أيضاً :أنتم محل محبتنا،...
وأتاكم اهلل بدولتنا.5
ثم توسع استخدام هذا المصطلح عند العرب إجماالً في كتاباتهم التاريخية واألدبية ،حتى جاء
العالمة عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته مقرراً لهذا المفهوم في كثير من عباراته.
ومن ذلك قوله ":فاإلنسان مدني بطبعه ،أي :البد له من االجتماع الذي هو المدينة "...،وتم
عمران العالم ،فالبد من وازع يدفع بعضهم عن بعض ،فيكون ذلك الوازع واحداً منهم ،تكون
1الدولة المدنية ،د .ماجد علي الزميع ،ص.32 :
2المصدر نفسه ،ص.33 :
3الدولة المدنية ،د .ماجد الزميع ،ص.33 :
4تاريخ األمم والملوك للطبري (.)124 /4
5المصدر نفسه (.)83 /6
28
له الغلبة ،والسلطان ،واليد القاهرة ،حتى ال يصل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك،
وأنه البد للبشر من الحكم الوازع وذلك الحكم يكون بشرع مفروض.1
فهو هنا يشير رحمه اهلل إلى أهم مكونات الدولة من الشعب الذي أشار إليه بقوله ":اإلنسان
مدني بطبعه ،أي البد له من االجتماع الذي هو المدينة ،وكذلك الحاكم الذي وصفه بأنه "تكون
له الغلبة والسلطان ،واليد القاهرة".
ثم الدستور أو المنهج الذي يحتكمون إليه ،والذي سماه "بالشرع المفروض" ثم شاع استعماله
بعد ذلك لدى الكثير من الباحثين والعلماء.
فهذه العبارات تدلنا على أن هذا المعنى كان معروفاً عند العرب ،ومستقراً في استعماالتهم
اللغوية ،وإن لم تشكل حدوده النهائية بصفتها النهائية.2
وربما غلب على الحكم في هذه الدول أن يكون وراثياً ،يخلف األبناء فيه اآلباء ،وهو الملك
العضوض الوارد في الحديث عن النبي صلى اهلل عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير ،أنه
عليه الصالة والسالم قال :تكون النبوة فيكم ما شاء اهلل أن تكون ثم يرفعها اهلل تعالى ،ثم تكون
خالفة على منهاج النبوة ما شاء اهلل أن تكون ،ثم يرفعها اهلل تعالى ،ثم تكون ملكاً عاضاً،
فتكون ما شاء اهلل أن تكون ثم يرفعها اهلل تعالى ،ثم تكون ملكاً جبرية ،فيكون ما شاء اهلل أن
يكون ،ثم يرفعها اهلل تعالى ،ثم تكون خالفة على منهاج نبوة.3
والخالفة على منهاج النبوة لها معالم ومالمح ،منها إقامة المبادئ اإلنسانية بين الناس ،كالعدل،
والشورى ،والمساواة والحرية ،واحترام الكرامة ..إلخ وقد جاء في دائرة المعارف بهذا
المعنى " :الدولة سلسلة الملوك المتتابعة في مملكة ما ،من عائلة واحدة ثم بعد ذلك شاع
استخدام هذا المصطلح في كتابات الكثير من الباحثين ،متأثرين بالمدارس الفكرية التي ينتمون
29
إليها ،وهكذا كانت بداية نشوء مصطلح "الدولة" وشيوع استعماله وانتشاره بعد ذلك في الفكر
العربي واإلسالمي.1
وفي الفكر الغربي ،فيمكن القول بأن بداية هذا المفهوم كانت مع كتابات الفيلسوف اليوناني
أفالطون :الذي كان يرى بأن الدولة هي جماعة من الناس األحرار المتساوين يرتبطون فيما
بينهم بأواصر األخوة ،ويطيعون ـ لبقاء النظام في المدينة ـ الحكام المستنيرين أولي الرعاية
والحزم ،الذين اتخذوهم رؤساء ويخضعون للقوانين التي ليست إال قواعد العدل ذاته.2
ثم درج بعد ذلك استعمال هذا المصطلح في كتابات الكثير من الفالسفة والمؤرخين الغربيين،
وعند التأمل في كتابات الفكر الغربي الحديث ،فإن مفهوم الدولة في الفكر الليبرالي يختلف عنه
في الفكر الشيوعي االشتراكي وذلك بناءً على النظرة العامة لكل من التيارين.
أما مفهوم الدولة في الفكر الشيوعي االشتراكي يقوم على فكرة الصراع الطبقي" ،ولذلك
فالدولة في رأي إنجلز هي الخالصة الرسمية للمجتمع ،أيًّا ما كان ذلك المجتمع ،ومن هنا جاء
عدم اعتراضه بالدولة في شكلها التقليدي البرجوازي ،سواء كان شكل هذه أو ليجارشيا ،3أو
ديمقراطياً رأسمالياً باعتبار أنه ال يُقر هذه األشكال جميعاً.
وفي هذا السياق جاء في دائرة المعارف االجتماعية في مفهوم الدولة بأنها :أداة السلطة
السياسية في المجتمع الطبقي ،وأما الدولة االشتراكية فهي دولة عموم الشعب وهي الهيئة
30
السياسية للشعب بأسره ،وأداة لبناء الشيوعية وجعل الطبقة العاملة هي القاعدة العامة لعموم
الشعب.1
والخالصة :هي أن الفكر االشتراكي يرى أن الدولة شكل تاريخي للتنظيم السياسي للمجتمع،
وأنها نشأت مع ظهور الملكية الخاصة ،وانقسام المجتمع إلى طبقات يستغل بعضها بعضاً.2
فهذا هو مفهوم الدولة في الفكر الشيوعي االشتراكي وهو مفهوم يستبعد البعد الديني والعقدي
وذلك راجع إلى مو قف الشيوعية أصالً من األديان عموماً والتي ترى أنها أفيون الشعوب،
وسبب التخلف للعقل البشري ،وغير ذلك من عبارات الشيوعية واالشتراكية في موقفها
المعادي والمحارب للدين ،كما هو معروف سلفاً.3
ـ أن الدولة مجموعة مؤسسات منفصلة يمكن التمييز فيها بين العام والخاص.
ـ السيادة شاملة ومتساوية لكل الذين يشغلون مناصب رسمية في الجهاز الحاكم.
فهذه الخصائص هي السمات التي يتفق المؤرخون ،ومعظم علماء االجتماع على أنها تميز
الدولة الحديثة.4
31
فالدولة في أوسع معانيها في الفكر الليبرالي الحديث هي عبارة عن مفهوم قانوني يصف
جماعة ما تقيم في رقعة جغرافية محددة ،وتنظم جهودها وإمكانياتها في إطار مؤسسات
سياسية تديرها هيئة حاكمة فعالة تسيطر على دفة األمور.1
32
المبحث الثاني :الدولة اإلسالمية
اهتم الرسول صلى اهلل عليه وسلم منذ نزول الوحي بتربية األفراد والجماعة الم َؤمنة التي
تكون في المستقبل نواة الدولة الجديدة وقد خضعت مسيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم في
تربية األفراد وبناء الدولة وتبليغ الرسالة لتوجيهات القرآن الكريم وكذلك التعامل مع سنن اهلل
في المجتمعات والشعوب وبناء الدول ،فكانت دعوته قد مرت بمراحل ومعالم وسنن وقوانين
من أهمها:
استمر النبي صلى اهلل عليه وسلم في دعوته السرية يستقطب عدداً من األتباع ،واألنصار من
أقاربه ،وأصدقائه وخاصة الذين يتمكن من ضمهم في سرية تامة بعد إقناعهم باإلسالم وهؤالء
كانوا نعم العون والسند للرسول صلى اهلل عليه وسلم ،لتوسيع دائرة الدعوة في نطاق السرية،
وهذه المرحلة العصيبة من حياة دعوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم ظهرت فيها الصعوبة
والمش قة في تحرك الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،ومن آمن معه بالدعوة ،فهم ال يخاطبون إال
من يأمنون من شره ،ويثقون به ،فمن معالم هذه المرحلة الكتمان والسرية حتى عن أقرب
الناس ،وكانت األوامر النبوية على وجوب المحافظة على السرية واضحة وصارمة ،وكان
صلى اهلل عليه وسلم يك اون من بعض المسلمين أسراً "خاليا" ،وكانت هذه األسر تختفي اختفاء
استعداد وتدريب ،ال اختفاء جبن ،وهروب ،حسب ما تقتضيه الخطة الربانية ،فبدأ الرسول
صلى اهلل عليه وسلم ينظم أصحابه من أسر وخاليا صغيرة ،فكان الرجل يجمع الرجل
والرجلين ،إذ أسلما عند الرجل به قوة ،وسعة من المال ،فيكونان معه ويصيبان منه فضل،
ويجعل منهم حلقات ،فمن حفظ شيئاً من القرآن ،علَّم من لم يحفظ ،فيكون من هذه الجماعات
33
أسر أخوة وحلقات تعليم ،وكان المنهج الذي سار عليه رسول اهلل في تربية أتباعه هو القرآن
الكريم ،وكان النبي صلى اهلل عليه وسلم يربي أصحابه تربية شاملة في العقائد والعبادات
واألخالق ،والحس األمني وغيرها.
ونجد النواة األولى للتربية األمنية كانت في مكة ،وتوسعت مع توسع الدعوة ووصولها إلى
دولة ،ومن اآليات المكية التي أشارت إلى هذا المعنى:
وجه االستدالل :أن يعقوب عليه السالم قد طلب من أبنائه أن يتحسسوا ،ويبحثوا عن يوسف
وأخيه ،وفي هذا إقرار من أحد أنبياء اهلل في جمع المعلومات عن اآلخرين ،ويعتبر جمع
المعلومات من العناصر األساسية في علم االستخبارات ويؤكد على مبدأ جمع المعلومات قوله
ال تَيأَسُوا﴾ ،1وال شك :أن الصحابة كانوا يجمعون المعلومات عمان يريدون دعوته
تعالى﴿ :وَ َ
لإلسالم ،وكانت القيادة تشرف على ذلك ،ولذلك قام النبي صلى اهلل عليه وسلم بترتيب جهاز
أمني رفيع ،يشرف على االتصال المنظم بين القيادة والقواعد ،ليضمن تحقيق مبدأ السرية.
34
بن أبي األرقم ،إذ أدرك الرسول صلى اهلل عليه وسلم :أن األمر يحتاج إلى الدقة المتناهية في
السرية ،والتنظيم ووجوب التقاء القائد المربي بأتباعه في مكان بعيد عن األنظار ذلك أن
استمرار اللقاءات الدورية المنظمة بين القائد وجنوده هو خير وسيلة للتربية العملية والنظرية،
وبناء الشخصية القيادية الدعوية ومماا يدل على أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم كان يعد
أتباعه ليكونوا بناة دولة وحملة الدعوة وقادة األمم ،حرصه الشديد على هذا التنظيم السري
الدقيق ،فلو كان مجرد داعية لما احتاج األمر إلى كل هذا ولو كان يريد مجرد إبالغ الدعوة
للناس ،لكان خير مكان في الكعبة حيث منتدى قريش كلها ،ولكن األمر غير ذلك ،فالبد من
السرية التامة في التنظيم وفي المكان الذي يلتقي فيه مع أصحابه ،وفي الطريقة التي يحضرون
بها إلى مكان اللقاء.1
وتذكر ُكتب السيرة أن اتخاذ دار األرقم مقراً لقيادة الرسول صلى اهلل عليه وسلم كان بعد
المواجهة األولى التي برز فيها سعد بن أبي وقاص رضي اهلل عنه ،قال ابن اسحاق :وكان
أ صحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب ،فاستخفوا بصالتهم من
قومهم ،فبينما سعد بن أبي وقاص رضي اهلل عنه في نفر من أصحاب رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم في شعب من شعاب مكة ،إذ ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون فناكروهم
ال من المشركين
وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رج ً
بلَحَي 2بعير فشجه فكان أول دم أريق في اإلسالم.3
وأصبحت دار األرقم مركزاً جديداً للدعوة يتجمع فيها المسلمون ويتلقون عن رسول اهلل كل
جديد من الوحي ،ويستمعون له صلى اهلل عليه وسلم وهو يذكرهم باهلل ،ويتلو عليهم القرآن،
ويضعون بين يديه كل ما في نفوسهم وواقعهم فيربيهم صلى اهلل عليه وسلم على عينه كما
تربى هو على عين اهلل ـ عز وجل ـ وأصبح هذا الجمع هو قراة عين النبي صلى اهلل عليه
وسلم.4
35
وكانت أهم خصائص الذين تربوا على يدي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هي:
ـ االستجابة الكاملة للوحي ،وعدم التقديم بين يديه.
ـ التأثر الوجداني العميق بالوحي واإليمان.
كان خريجي مدرسة األرقم من عظماء الرجال في العالم ،وهم الذين قامت عليهم الدعوة
والجهاد ،والدولة والحضارة فيما بعد ،فكان من أكابر الخريجين أبو بكر وعمر بن الخطاب
وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص ..إلخ.
3ـ شخصية النبي صلى اهلل عليه وسلم وأثرها في صناعة القادة:
لقد استطاع الرسول صلى اهلل عليه وسلم المربي األعظم أن يربي في تلك المرحلة السرية
وفي دار األرقم أفذاذ الرجال الذين حملوا راية التوحيد والجهاد والدعوة ،فدانت لهم الجزيرة،
وقاموا بالفتوحات العظيمة في نصف قرن.
كانت قدرة النبي صلى اهلل عليه وسلم فائقة في اختيار العناصر األولى للدعوة في خالل
السنوات الثالثة األولى من عمر الدعوة وتربيتهم وإعدادهم إعداداً خاصاً ليؤهلهم لتسليم
القيادة ،وحمل الرسالة ،فالرساالت الكبرى ،واألهداف اإلنسانية العظمى ال يحملها إال أفذاذ
الرجال ،وكبار القادة ،وعمالقة الدعاة وكانت دار األرقم مدرسة من أعظم مدارس الدنيا
وجامعات العالم ،التقى فيها الرسول المربي بالصفوة المختارة من السابقين األولين ،فكان اللقاء
الدائم تدريباً عملياً لجنود المدرسة على مفهوم الجندية والسمع والطاعة ،والقيادة وآدابها،
وأصولها وي شحذ فيه القائد األعلى جنده وأتباعه بالثقة باهلل ،والعزيمة واإلصرار ،ويأخذهم
بالتزكية والتهذيب ،والتربية والتعليم ،كان هذا اللقاء المنظم يشحذ العزائم ،ويقوي الهمم ،ويدفع
إلى البذل والتضحية واإليثار.1
1
دولة الرسول صلى اهلل عليه وسلم من التكوين إلى التمكين ،ص.220 :
36
4ـ المادة الدراسية في دار األرقم:
كانت المادة الدراسية التي قام بتدريسها النبي صلى اهلل عليه وسلم في دار األرقم ،القرآن
الكريم ،فهو مصدر التلقي الوحيد ،فقد حرص الحبيب المصطفى صلى اهلل عليه وسلم على
توحيد مصدر التلقي ،وتفرده وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج ،والفكرة المركزية التي
يتربى عليها الفرد المسلم واألسرة المسلمة ،والجماعة المسلمة ،وكان روح القدس ينزل
باآليات غضة طرية على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فيسمعها الصحابة من فم رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم مباشرة ،فتسكب في قلوبهم وتتسرب في أرواحهم وتجري في عروقهم
مجرى الدم وكانت قلوبهم وأرواحهم تتفاعل مع القرآن ،وتنفعل فيتحول الواحد منهم إلى إنسان
جديد ،بقيمه ،ومشاعره وأهدافه وسلوكه وتطلعاته ،لقد حرص الرسول صلى اهلل عليه وسلم
حرصاً شديداً على أن يكون القرآن الكريم وحده هو المادة الدراسية ،والمنهج الذي تتربى عليه
نفوس أصحابه ،وأال يختلط تعليمهم بشيء من غير القرآن.1
37
بل إن عدداً من المسلمين من هذه المرحلة لم يكونوا من قريش ،فعبد اهلل بن مسعود من هُذيل،
وعتبة بن غزوان من مازن وعبد اهلل بن قيس من األشعريين ،وعمار بن ياسر من عنس من
مذجح ،وزيد بن حارثة من كلب ،والطفيل بن عمرو من دوس ،وعمرو بن عبسة من سليم،
وصهيب النمري من بني قاسط ،لقد كان واضحاً أن اإلسالم لم يكن خاص ًا بمكة.1
لقد شق النبي صلى اهلل عليه وسلم طريقه بكل تخطيط ودقة وأخذ باألسباب مع التوكل على اهلل
تعالى ،فاهتم بالتربية العميقة ،والتكوين الدقيق ،والتعليم الواسع ،واالحتياط األمني ،واالنسياب
الطبيعي في المجتمع ،واإلعداد الشامل للمرحلة التي بعد السرية ألنه ـ عليه الصالة والسالم ـ
يعلم أن الدعوة إلى اهلل لم تنزل لتكون دعوة سرية ،يخاطب بها الفرد بعد الفرد ،بل نزلت
إلقامة الحجة على العالمين ،وإنقاذ من شاء اهلل إنقاذه من الناس ،من ظلمات الشرك والجاهلية
إلى نور اإلسالم والتوحيد ،ولذلك كشف اهلل تعالى عن حقيقة هذه الدعوة وميدانها منذ خطوتها
األولى ،حيث إن القرآن الكريم المكي بين شمول الدعوة وعالميتها.
ـ قال تعالى﴿ :إِن هُ َو إِالَّ ذِكر لِّلعَالَمِينَ﴾ (ص ،آية .)87 :
38
والقرآن الكريم حينما يوجه أنظار المسلمين إلى سنن اهلل تعالى في األرض ،فهو بذلك يردهم
إلى األصول التي تج ري وفقها ،فهم ليسوا بدعاً في الحياة ،فالنواميس التي تحكم الكون
والشعوب واألمم والدول واألفراد جارية ال تتخلف واألمور ال تمضي جزافاً ،والحياة ال تجري
في األرض عبثاً ،وإنما تتبع هذه النواميس ،فإذا درس المسلمون هذه السنن وأدركوا مغازيها
تكشفت لهم الحكمة من وراء األحداث ،وتبينت لهم األهداف من وراء الوقائع واطمأنوا إلى
ثبات النظام التي تتبعه األحداث ،أو إلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام واستشرفوا خط
السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق ،ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين ،لينالوا
1
النصر والتمكين بدون األخذ باألسباب المؤدية إليه.
إن حركة اإلسالم األولى التي قادها النبي صلى اهلل عليه وسلم في تنظيم جهود الدعوة وإقامة
ال دولة ،وصناعة اإلنسان النموذجي الرباني الحضاري خضعت لسنن وقوانين ،منها ،كأهمية
القيادة في صناعة الحضارات وأهمية الجماعة المؤمنة المنظمة في مقاومة الباطل ،وأهمية
المنهج التي تستمد منه العقائد ،واألخالق والعبادات والقيم والتصورات ،ومن سنن اهلل
الواضحة فيما ذكر:
أ ـ سنة التدرج:
وهي من سنن اهلل تعالى في خلقه وكونه ،وهي من السنن المهمة التي يجب على األمة أن
تراعيها ،وهي تعمل للنهوض والتمكين لدين اهلل عز وجل ومنطلق هذه السنن :أن الطريق
طويل السيما في هذا العصر الذي سيطرت فيه الجاهلية وأخذت أهبتها واستعدادها ،كما أن
الشر والفساد قد تجذر في الشعوب واستئصاله يحتاج إلى تدرج ،وبدأت الدعوة اإلسالمية
األولى مندرجة تسير بالناس سيراً دقيقاً ،حيث بدأت بمرحلة االصطفاء والتأسيس ثم مرحلة
المواجهة والمقاومة ،ثم مرحلة النصر والتمكين ،وما كان يمكن أن تبدأ هذه جميعها في وقت
واحد ،وإال كانت المشقة والعجز ،وما كان يمكن كذلك أن نقدم واحداً منها على األخرى ،وإال
كان الخلل واإلرباك.2
39
فالتغيير المنشود ال يكون بين عشية وضحاها ،والواقع ال يتبدل في طرفة عين ،دون النظر في
العواقب ،ودون فهم للظروف والمالبسات المحيطة بهذا الواقع ،ودون إعداد جيد للمقومات أو
لألساليب والوسائل.1
وقد وجه اهلل تعالى أنظارنا إلى هذه السنة في أكثر من موقع ،فاهلل تعالى خلق السماوات
واألرض في ستة أيام ،يعلمها سبحانه وتعالى ويعلم مقدراها ،وكان جل شأنه قادراً على خلقها
في أقل من لمح البصر ،وكذلك ألطوار خلق اإلنسان والحيوان والنبات ،كلها تتدرج في
مراحل حتى تبلغ نموها وكمالها ونضجها ،وفق سنة اهلل تعالى الحكيمة.
وسنة التدرج مقررة في التشريع اإلسالمي بصورة واضحة ملموسة ،وهذا من تيسير اإلسالم
على البشر ،حيث أنه راعى معهم سنة التدرج فيما شرعه لهم إيجاباً وتحريماً ،فتجده حين
فرض الفرائض كالصالة والصيام والزكاة فرضها على مراحل ودرجات حتى انتهت إلى
الصورة األخيرة التي استقرت عليها.2
إننا إذا درسنا القرآن الكريم ،والسنة المطهرة ،دراسة عميقة علمنا كيف وبأي تدرج وانسجام
تم التغيير اإلسالمي في بالد العرب ،ومنها إلى العالم كله على يد النبي صلى اهلل عليه وسلم،
ولقد كانت األمور تسير رويداً رويداً على حسب مجراها الطبيعي ،حتى تستقر في مستقرها
الذي أراده اهلل رب العالمين.3
وهذه السنة الربانية في رعاية التدرج ينبغي أن تتبع في سياسة الناس ،وعندما يراد تطبيق
اإلسالم في الحياة واستئناف حياة إسالمية متكاملة ،يكون التمكين ثمرتها ،فإذا أردنا أن نقيم
مجتمعاً إسالمياً حقيقياً فال نتوهم :أن ذلك يمكن أن يتحقق بقرار يصدر من رئيس أو ملك أو
مجلس قيادي أو برلماني ،وإنما يتحقق ذلك بطريقة التدرج ،أي باإلعداد والتهيئة الفكرية
والنفسية واالجتماعية ،وذلك هو المنهج الذي سلطه النبي صلى اهلل عليه وسلم لتغيير الحياة
الجاهلية إلى الحياة اإلسالمية ،فقد ظل ثالثة عشر عاماً في مكة ،كانت مهمته األساسية فيها
تنحصر في تربية الجيل المؤمن ،الذي يستطيع أن يحمل عبء الدعوة ،وتكاليف الجهاد،
1السيرة النبوية للصالبي (.)121 / 1
2التمكين لألمة اإلسالمية ،ص.227 :
3المصدر نفسه ،ص.229 :
40
لحمايتها ونشرها في اآلفاق ،ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع بقدرما كانت مرحلة
تربية وتكوين.1
ال يُغَِّيرُ مَا بِقَوم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَإِذَا أَرَادَ اهللُّ
يَدَي ِه َومِن خَلفِهِ يَح َفظُونَهُ مِن أَمرِ اهللِّ إِنَّ اهللَّ َ
َد لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِ ِه مِن وَال﴾ (الرعد ،آية .)11 :
بِقَوم سُوءًا فَالَ مَر َّ
إن التغيير الذي قاده النبي صلى اهلل عليه وسلم بمنهج اهلل تعالى بدأ بالنفس البشرية ،وصنع
منها العظماء ،ثم انطلق بهم ليحدث أعظم تغيير في شكل المجتمع حيث نقل الناس من الظلمات
إلى النور ،ومن الجهل إلى العلم ،ومن التخلف إلى التقدم ،وأنشأ بهم أروع حضارة عرفتها
الحياة ،لقد قام النبي صلى اهلل عليه وسلم ـ بمنهجه القرآني ـ بتغيير في العقائد واألفكار
والتصور ،وعالم المشاعر واألخالق في نفوس أصحابه ،فتغير ما حوله وفي دنيا الناس،
فتغيرت المدينة ثم مكة ثم الجزيرة ثم بالد فارس والروم في حركة عالمية تسبح وتذكر خالقها
بالغدو واآلصال.
كان اهتمام المنهج القرآني في العهد المكي بجانب العقيدة ،فكان يعرضها بشتى األساليب،
فغمرت قلوبهم معاني اإليمان وحدث لهم تحول عظيم ،قال تبارك وتعالى موضحاً ذلك
االرتقاء العظيم﴿ :أَ َو مَن كَانَ مَيتًا فَأَحيَينَاهُ وَ َ
جعَلنَا لَهُ نُورًا يَمشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن َّمثَلُهُ فِي
حقاً أنه تصوير رائع عجيب تقف األقالم حائرة في وصفه ،وكذلك األسلوب اإلسالمي في كل
حين تنهل منه األلباب وتصدر عنه األساليب ،وتعجز عن إيفائه حقه في التعبير ،من الموت
41
إلى الحياة ،ومن الظلمات إلى النور ،هل يستويان مثالً؟ مسافة هائلة ونقلة عظيمة ال يعرف
عظمتها ويدرك مقدارها إال من تغرس في حالهم في ضوء هذا البيان القرآني المعجز.1
لقد جاء القرآن الكريم لترسيخ العقيدة الصحيحة ،وتثبيتها في قلوب المؤمنين وإيضاحها للناس
أجمعين ،وذلك ببيان توحيد الربوبية وتوحيد األلوهية ،وتوحيد األسماء والصفات ،واإليمان
بكل ما أخبر اهلل به من المالئكة ،والكتاب والنبيين ،والقدر خيره وشره واليوم اآلخر وإثبات
الرسالة للرسل ـ عليهم لسالم ـ واإليمان بكل ما أخبروا به.2
فقد عراف القرآن المكي الناس من هو اإلله الذي يجب أن يعبدوه ،وكان النبي صلى اهلل عليه
وسلم يربيهم على تلك اآليات العظيمة ،فقد حرص صلى اهلل عليه وسلم منذ اليوم األول على
أن يعطي الناس التصور الصحيح عن ربهم ،وعن حقه عليهم مدركاً :أن هذا التصور سيورث
التصديق واليقين عند من صفت نفوسهم واستقامت فطرتهم.3
وركز القرآنُ الكريم المكي على اليوم اآلخر غاية التركيز ،فَقلَّ أن توجد سورة مكية لم يذكر
َّ
فيها بعض أحوال يوم القيامة وأحوال المنعمين ،وأحوال المعذبين ،وكيفية حشر الناس
ومحاسبتهم حتى لكأن اإلنسان يرى يوم القيامة رؤي العين ،قال تعالى﴿:وَمَا قَدَرُوا اهللََّ ح َّ
َق
جمِيعًا قَبضَتُ ُه يَو َم القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطوِيَّات بِ َيمِينِ ِه سُبحَانَ ُه وَتَعَالَى عَمَّا
ض َ
قَدرِهِ وَاألَر ُ
خ فِيهِ
ُم نُفِ َ
ِال مَن شَاء اهللَُّ ث َّ
ق مَن فِي السَّمَاوَاتِ َومَن فِي األَرضِ إ َّ
خ فِي الصُّو ِر فَصَعِ َ
يُشرِكُونَ * َونُفِ َ
ن
ظرُونَ * وَأَشرَقَتِ األَرضُ ِبنُو ِر رَِّبهَا وَوُضِ َع الكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّي َ
أُخرَى فَإِذَا هُم قِيَام يَن ُ
ُل نَفس مَّا عَمِلَت وَ ُه َو أَعلَمُ بِمَا يَفعَلُونَ
ال يُظلَمُونَ * َووُفِّيَت ك ُّ
َق وَهُم َ
ي بَينَهُم بِالح ِّ
وَالشُّهَدَاء وَقُضِ َ
ق الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّ َم زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُ ِتحَت أَبوَابُهَا وَقَالَ لَهُم خَزَ َنتُهَا أَلَم يَأتِكُم
* وَسِي َ
ن عَلَيكُم آيَاتِ رَبِّكُم وَيُنذِرُونَكُم لِقَاء يَو ِمكُم هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِن حَقَّت كَلِمَةُ العَذَابِ
رُسُل مِّنكُم يَتلُو َ
ق الَّذِينَ اتَّقَوا
س مَثوَى ال ُمتَكَبِّرِينَ * وَسِي َ
ن فِيهَا فَبِئ َ
عَلَى الكَافِرِينَ * قِي َل ادخُلُوا أَبوَابَ جَهَنَّ َم خَالِدِي َ
رَبَّهُم إِلَى الجَنَّ ِة زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُ ِتحَت أَبوَابُهَا وَقَالَ لَهُم خَزَنَُتهَا سَالَم عَلَيكُم طِبتُم
42
ث نَشَاء
َوأُ مِنَ الجَنَّةِ حَي ُ
فَادخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الحَمدُ هللَِّ الَّذِي صَدَقَنَا وَعدَهُ وَأَورَ َثنَا األَرضَ َنتَب َّ
ي بَي َنهُم
ن ِبحَمدِ رَبِّهِم وَقُضِ َ
فَنِع َم أَجرُ العَامِلِينَ * وَتَرَى المَالَئِكَ َة حَافِّينَ مِن حَو ِل العَرشِ يُسَِّبحُو َ
َب العَالَمِينَ﴾ (الزمر ،اآليات .)75-67 :
َق وَقِي َل الحَمدُ هللَِّ ر ِّ
بِالح ِّ
ـ وقد جاءت اآليات الكريمة مبينة واصفة للجنة فأثر ذلك في نفوس الصحابة أياما تأثير ،ف ِم َّما
جاء في وصف الجنة :أنها ال مثيل لها ،وأن لها أبواباً ،وفيها درجات وتجري من تحتها
األنهار ،وفيها عيون وقصور وخيام وفيها أشجار متنوعة ،كسدرة المنتهى ،وشجرة طوبى،
وتحدث القرآن الكريم عن نعيم أهلها وطعامهم وشرابهم وخمرهم وآنيتهم ولباسهم وحلياهم
وفرشهم وخدمهم وأحاديثهم ونسائهم ،وعن أفضل ما يُعطاه أهلها ،وعن آخر دعواهم ،بحيث
أصبح الوصف القرآني للجنة مهيمناً على جوارح وأحاسيس ،وأذهان وقلوب المسلمين.1
ـ وكان الصحابة يخافون اهلل تعالى ويخشونه ويرجونه ،وكان لتربية الرسول صلى اهلل عليه
وسلم أثر في نفوسهم عظيم ،وكان المنهج القرآني الذي سار عليه رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم يفعل األفاعيل في نفوس الصحابة ،ألن القرآن الكريم وصف أهوال يوم القيامة،
ومعالمها من قبض األرض ودكها وطي السماء ،ونسف الجبال ،وتفجير البحار ،وتسجيرها
وصور القرآن
َّ ومور السماء وانفطارها وتكوير الشمس ،وخسوف القمر ،وتناثر النجوم،
الكريم حال الكفار وذلتهم وهوانهم وحسرتهم ،ويأسهم وإحباط أعمالهم ،وتخاصم العابدين
والمعبودين ،وتخاصم األتباع وقادة الضاللة ،وتخاصم الضعفاء والسادة ،وتخاصم الكافر
وقرينه الشيطان ،ومخاصمة الكافر أعضاءه ،وتخاصم الروح والجسد ،وتحدَّث القرآن الكريم
عن الشفاعة وبيَّن شروطها ،والمقبول منها والمرفوض ،والمراد بالحساب والجزاء ،وعن
مشهد الحساب ،وهل يسأل الكفار ولماذا يسألون ،وتحدث القرآن الكريم عن االقتصاص في
المظالم بين الخلق ،وكيف يكون االقتصاص في يوم القيامة ،وبيان المولى عز وجل في القرآن
الكريم عظم شأن الدماء ،وبيان :أن هناك يوم القيامة توضع الموازين التي توزن بها األعمال،
وأخبر النبي صلى اهلل عليه وسلم عن الحوض ومن الذين يردون عليه ،والذين يُذادون عنه،
43
وتحدث القرآن الكريم عن حشر الكفار إلى النار ،ومرور المؤمنين والمنافقين على الصراط،
وخالص المؤمنين وحدهم.1
ـ واهتم القرآن الكريم في الفترة المكية بقضية القضاء والقدر ،قال تعالى﴿ :إِنَّا ك َّ
ُل شَيء خَلَقنَاهُ
وكان صلى اهلل عليه وسلم يغرس في نفوس الصحابة مفهوم القضاء والقدر واستمر رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم في تربية أصحابه وتعليمهم أركان اإليمان الستة ،وصحح عندهم كثيراً
من المفاهيم والتصورات واالعتقادات عن اإلنسان ،والحياة والكون ،والعالقة بينهما ،ليسير
المسلم عن نور من اهلل ،وي درك هدف وجوده في الحياة ويحقق ما أراد اهلل منه غاية التحقيق
ويتحرر من الوهم والخرافات.2
ـ وكان البناء التعبدي مبني على تزكية أرواح الصحابة بأنواع العبادات ،كالصالة وتالوة
القرآن ،وذكر اهلل تعالى ،والتسبيح له سبحانه وكل أنواع العبادات المفروضة والعبادات
بمعناها الواسع الذي يشمل كل عمل يعمله اإلنسان أو يتركه بل كل شعور يقبل عليه اإلنسان
تقرباً إلى اهلل تعالى ،بل يدخل فيها كل شعور يطرده اإلنسان عن نفسه تقرباً به إلى اهلل تعالى
مادامت نية المتعبد بهذا العمل هي إرضاء اهلل سبحانه وتعالى ،فكل األمور مع نية التقرب إلى
اهلل تعالى سبحانه وتعالى عبادة يثاب صاحبها ،وتربي روحه تربية حسنة.3
وكانت تربية رسول اهلل ألصحابه شاملة ألنها مستمدة من القرآن الكريم الذي خاطب اإلنسان
ككل يتكون من الروح ،والجسد والعقل ،فقد اهتمت التربية النبوية بتربية الصحابي على تنمية
قدرته في ال نظر والتفكر والتدبر ،ألن ذلك هو الذي يؤهله لحمل أعباء الدعوة إلى اهلل ،وهذا
مطلب قرآني أرشدنا إليه ربنا.
ب﴾ (ص ،آية .)29 :
ـ قال تعالى﴿ :كِتَاب أَنزَلنَاهُ إِلَيكَ مُبَارَك لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِ َيتَذَكَّ َر أُولُوا األَلبَا ِ
44
فالعقل نعمة من اهلل على اإلنسان يتمكن بها من قبول العلم ،واستيعابه ولذلك وضع القرآن
الكريم منهجاً لتربية العقل ومن أهم نقاط هذا المنهج ،تجريد العقل من المسلمات المبنية على
الظن والتخمين ،أو التبعية والتقليد ،فقد حذر القرآن الكريم من ذلك في اآلية الكريمة التالية قال
تعالىَ ﴿ :ومَا لَهُم بِ ِه مِن عِلم إِن يَتَّبِعُونَ إِالَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ الَ يُغنِي مِنَ الحَقِّ شَيئًا﴾ (النجم ،آية :
.)28
ــ وألزم العقل بالتحري والتثبيت ،قال تعالى﴿ :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُم فَاسِق بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَن
تُصِيبُوا قَومًا ِبجَهَالَة فَتُصبِحُوا عَلَى مَا فَعَلتُم نَادِمِينَ﴾ (الحجرات ،آية .)6 :
ــ دعوة العقل إلى التدبر والتأمل في نواميس الكون ،قال اهلل تعالى " :وَمَا خَلَقنَا السَّمَاوَاتِ
ض وَمَا بَي َنهُمَا إِالَّ بِالحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ آلتِيَة فَاصفَحِ الصَّفحَ الجَمِيلَ" (الحجر ،آية .)85 :
وَاألَر َ
ــ دعوة العقل إلى التأمل في حكمة ما شرع اهلل لعباده من عبادات ومعامالت ،وأخالق،
وآداب ،وأسلوب حياة كامل ،في السلم والحرب ،في اإلقامة والسفر ،ألن ذلك ينضج العقل،
وينميه وبتعرفه على تلك الحكم يعطيه أحسن الفرص ،ليطبق الشرع الرباني في حياته ،وال
يبغي عنه حوالً ،لما فيه من السكينة والطمأنينة ،والسعادة للبشرية ،وألن اهلل ـ سبحانه وتعالى ـ
إنما شرع ما شرع لذلك.
ــ دعوة العقل إلى النظر إلى سنة اهلل في الناس عبر التاريخ البشري ليتعظ الناظر في تاريخ
اآلباء واألجداد واألسالف ويتأمل في سنن اهلل في األمم والشعوب والدول ،قال تعالى﴿ :أَوَلَم
ض
ف كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَانُوا أَشَدَّ مِنهُم قُوَّةً وَأَثَارُوا األَر َ
ظرُوا كَي َ
ض فَيَن ُ
يَسِيرُوا فِي األَر ِ
ت فَمَا كَانَ اهللَُّ لِيَظلِ َمهُم وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُم
وَعَمَرُوهَا أَكثَ َر مِمَّا عَ َمرُوهَا َوجَاءتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّنَا ِ
يَظلِمُونَ﴾ (الروم ،آية .)9 :
45
ــ وحرص النبي صلى اهلل عليه وسلم على تربية أصحابه جسدياً ،واستمد أصول تلك التربية
من القرآن الكريم ،بحيث يؤدي الجسم وظيفته ،التي خلق لها دون إسراف أو تقطير ،ودون
محاباة لطاقة من طاقاته على حساب طاقة أخرى.1
لقد ربى النبي صلى اهلل عليه وسلم صحابته على المنهج الكريم ،منهج تزكية األرواح وتنوير
العقول ،والمحافظة على األجساد وتقويتها ،إلعداد الشخصية الربانية المتوازنة.
ال
ولقد نجحت تربيته صلى اهلل عليه وسلم في تحقيق أهدافها المرسومة وإعداد أفراد األمة رجا ً
ونساءً لتبليغ رساالت اهلل بين الناس من خالل دولة العدالة والمساواة والحرية والقانون،
وحقوق اإلنسان ،والكرامة التي تم تأسيسها على أسس متينة وقيم راسخة ،وعقيدة صحيحة،
وأخالق حميدة بالمدينة.
ولقد اهتم المنهج الرباني الذي سار عليه رسول اهلل باألخالق الرفيعة ،فالعقيدة الصحيحة ال
تكون بغير خلق ،وقد ربى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم صحابته على مكارم األخالق،
بأساليب متنوعة ،وكان صلى اهلل عليه وسلم يتلو عليهم ما ينزل من قرآن فإذا سمعوه وتدبروه
عملوا بتوجيهاته ،والمتدبر للقرآن الكريم يجده مليئاً بالحث على مكارم األخالق وعلى تنقية
الروح وتصفيتها من كل ما يعوق سيرها إلى اهلل تعالى ،ورسول الهدى صلى اهلل عليه وسلم
القدوة الكاملة والمربي الناصح لألمة كان على خلق عظيم.2
ك لَعَلى خُلُق عَظِيم﴾ (القلم ،آية ،)4 :ومعنى اآلية واضح ،أي :ما كان
ــ قال تعالى﴿ :وَإِنَّ َ
يأمر به من أمر اهلل وينهي عنه من نهي اهلل ،والمعنى :إنك على الخلق الذي آثرك اهلل به في
القرآن.3
وعن عائشة رضي اهلل عنها عندما سئلت عن خلق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،قالت" :إن
خلق النبي صلى اهلل عليه وسلم كان القرآن".4
46
وقد جمع اهلل لنبينا مكارم األخالق في قوله تعالى﴿ :خُ ِذ العَف َو وَأمُر بِالعُر ِ
ف وَأَعرِض عَنِ
قال مجاهد في معنى اآلية :يعني :خذ العفو من أخالق الناس وأعمالهم من غير تخصيص ،مثل
قبول األعذار والعفو والمساهلة ،وترك االستقصاء في البحث والتفتيش عن حقائق مواطنهم.
لقد سار النبي صلى اهلل عليه وسلم على المنهج القرآني في تربية أصحابه على األخالق
الكريمة ،وكانت األخالق تعرض مع العبادة ،والعقائد في وقت واحد ،ألن العالقة بين األخالق
والعقيدة واضحة في كتاب اهلل تعالى ،وقد بين سبحانه وتعالى لرسوله صلى اهلل عليه وسلم
وللمسلمين األخالقيات اإليمانية التي ينبغي أن يكون عليها المؤمنون بـ"ال إله إال اهلل"،
واألخالقيات الجاهلية التي ينبغي أن ينبذها المؤمنون ،والحقيقة :أن التنديد بأخالقيات الجاهلية
قد بدأ منذ اللحظة األولى مع التنديد بفساد تصوراتهم االعتقادية ،واستمر معه حتى النهاية.
أن األخالق ليست شيئاً ثانوياً في اإلسالم ،وليست محصورة في إطار معين من نطق السلوك
البشري ،إنما هي ركيزة من ركائزه ،كما أنها شاملة للسلوك البشري كله ،كما أن المظاهر
السلوكية كلها ذات الصبغة الخلقية الواضحة هي الترجمة العملية لالعتقاد ،واإليمان الصحيح
ألن اإليمان ليس مشاعر مكنونة في داخل الضمير ،فحسب إنما هو عمل سلوكي ظاهر كذلك،
بحيث يحق لنا حين ال نرى ذلك السلوك النظري أو حين نرى عكسه أن نتساءل أين اإليمان
إذن؟ وما قيمته إذا لم يتحول إلى سلوك.1
ولذلك نجد القرآن الكريم يربط األخالق بالعقيدة ربطاً قوياً ،واألمثلة على ذلك كثيرة ،منها:
ــ قوله تعالى﴿ :قَد أَفلَحَ المُؤ ِمنُونَ * الَّذِي َ
ن هُم فِي صَالَتِهِم خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُم عَنِ اللَّغوِ
ن هُم لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُم لِفُرُوجِهِم حَافِظُونَ * إِالَّ عَلَى أَزوَاجِهِم أو مَا
مُعرِضُونَ * وَالَّذِي َ
ن ابتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ * وَالَّذِينَ هُم
مَلَكَت أَيمَا ُنهُم فَإِنَّهُم غَيرُ مَلُومِينَ * فَمَ ِ
ك هُمُ الوَارِثُونَ * الَّذِينَ
ن هُم عَلَى صَلَوَاتِهِم ُيحَافِظُونَ * أُوَلئِ َ
ألَِمَانَا ِتهِم وَعَه ِدهِم رَاعُونَ * وَالَّذِي َ
47
س هُم فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (المؤمنون ،آية 1 :ـ ،)11فالسورة تبدأ بتقرير الفالح
ن الفِردَو َ
يَرِثُو َ
للمؤمنين بهذا التوكيد ﴿قَد أَفلَحَ المُؤ ِمنُونَ﴾ ثم تصف هؤالء المؤمنون بذلك الوصف المطول
المفصل ،الذي يعني بإبراز الجانب الخلقي ألولئك المؤمنين ،موحياً إيحاءً واضحاً أن هذه
األخالقيات ـ من جهة ـ هي ثمرة اإليمان ،وأن اإليمان ـ من جهة أخرى ـ هو سلوك ملموس
يترجم عن العقيدة المكنونة إنهم بادىء ذي بدء خاشعون في صالتهم ،فذلك أوال مظهر للمؤمن
ال
الصادق :أن تكون صالته ـ وهي اللحظة التي يقف فيها متعبداً لربه ذاكراً له في قلبه ،متص ً
به بروحه ـ صالة خاشعة بما ينبئ عن صدق الصلة باهلل ،التي يرتفع نبضها وحرارتها في
أثناء الصالة ،ثم تثني السورة بصفة سلوكية أخرى ذات داللة ،هي :أنهم عن اللغو معرضون،
فاللغو ال ينبىء عن نفس جادة ،واإليمان الصحيح يورث النفس الجد بما يشعرها من ثقل
التكاليف ،وحديتها والجد ليس تقطيباً دائماً وال عبوساً ،ولكن اللغو ـ من جانب آخر ـ ال يستقيم
مع جدية الشعور بعظم األمانة التي يحملها اإلنسان أمام خالقه ،ثم إن هؤالء المؤمنين البد أن
تكون في قلوبهم الحساسية لحق اهلل في أموالهم وهو الزكاة ،والبد أن يكونوا ملتزمين بأوامر
اهلل في عالقات الجنس ،فال يتعدون حدود اهلل ،وملتزمين بأوامره في عالقتهم االجتماعية،
فيحفظون األمانة ،ويرعون العهد ،وبهذا نفهم فهم الصحابة لألخالق فهي ثمرة طبيعية للعقيدة
الصحيحة ،وكذلك العبادة الحية الخاشعة هلل ،هكذا تعلموا من القرآن الكريم ومن هدي حبيبهم
الصادق األمين صلى اهلل عليه وسلم.
إن األخالق في التربية النبوية شيء شامل ،يعمُّ كل تصرفات اإلنسان ،وكل أحاسيسه
ومشاعره وتفكيره ،فالصالة لها أخالق هي الخشوع ،والكالم له أخالق هي اإلعراض عن
اللغو ،والجنس له أخالق هي االلتزام بحدود اهلل وحرماته ،والتعامل مع اآلخرين له أخالق هي
التوسط بين التقتير واإلسراف ،والحياة الجماعية لها أخالق هي أن يكون األمر شورى بين
الناس ،والغضب له أخالق هي العفو والصفح ووقوع العدوان من األعداء تتبعه أخالق هي
48
االنتصار أي ـ رد العدوان ـ وهكذا ال يوجد شيء واحد في حياة المسلم ليست له أخالق تكيفه
وال شيء واحد ليست له داللة أخالقية مصاحبة.
هذا أمر ،واألمر اآلخر ـ وهو األهم ـ أن األخالق في المفهوم القرآني هي هلل وليست للبشر وال
ألحد غير اهلل فالصدق هلل ،والوفاء بالعهد هلل ،واتقاء المحرمات في عالقات الجنس هلل ،والعفو
والصفح هلل ،واالنتصار من الظلم هلل ،وإتقان العمل هلل ،كلها عبادة هلل تقدم هلل وحده ،خشية هلل،
وتقوى وتطلعاً إلى رضاه ،إنها ليست صفقة بشرية للكسب والخسارة إنما هي صفقة مع اهلل.1
لقد أولى المنهاج النبوي الكريم ـ المستمد من كتاب رب العالمين ـ األخالق أهمية كبيرة ،وحث
على التمسك بفضائلها بمختلف األساليب ،وحذر من ارتكاب مرذولها بشتى الطرق ونظرة
القرآن إلى األخالق منبثقة من نظرته إلى الكون والحياة واإلنسان ،فإذا كانت العقائد تشكل
أركان الصرح اإلسالمي ،فإن التشريعات تكون تقسيمات حجراته وممراته ومداخله ،واألخالق
تضفي البهاء والرونق والجمال على الصرح المكتمل ،وتصبغه الصبغة الربانية المتميزة ،وإذا
كانت العقيدة اإلسالمية تشكل جذور الدوحة اإلسالمية وجذعها ،فإن الشريعة تمثل أغصانها
وتشعباتها ،واألخرى تكون ثمارها اليانعة ،وظاللها الوارفة ،ومنظرها البهيج النضير.2
لقد استخدم المنهاج النبوي أساليب التأثير واالستجابة وااللتزام في تربيته للصحابة ،لكي يحول
الخلق من دائرة النظريات إلى صميم الواقع التنفيذي والعمل التطبيقي ،سواء كانت اعتقادية،
كمراقبة اهلل تعالى ،ورجاء اآلخرة ،أو عبادية كالشعائر التي تعمل على تربية الضمائر ،وصقل
اإلرادات ،وتزكية النفس ومع تطور الدعوة اإلسالمية ،ووصولها إلى الدولة أصبحت هناك
حوافز إلزامية تأتي من خارج النفس متمثلة في:
ـ التشريع:
الذي وُضع لحماية القيم الخلقية ،كشرائع الحدود والقصاص ،التي تحمي الفرد والمجتمع من
رذائل البغي على الغير :بالقتل أو السرقة ،أو انتهاك األعراض بالزنى والقذف أو البغي على
النفس ،وإهدار العقل بالخمر والمسكرات المختلفة.
49
ـ سلطة المجتمع:
التي تقوم على أساس ما أوجبه اهلل تعالى من األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والتناصح
بين المؤمنين ،ومسؤولية بعضهم على بعض ،وقد جعل اهلل تعالى هذه المسؤولية قرينة الزكاة
ضهُم َأوِليَاء والصالة وطاعة اهلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم ﴿:وَالمُؤ ِمنُو َ
ن وَالمُؤ ِمنَاتُ بَع ُ
ن اهللَّ
ن الصَّالَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَ ُيطِيعُو َ
ن عَنِ المُنكَ ِر وَيُقِيمُو َ
ن بِالمَعرُوفِ وَيَنهَو َ
بَعض يَأمُرُو َ
حمُ ُهمُ اهللُّ إِنَّ اهللَّ عَزِيز حَكِيم﴾ (التوبة ،آية .)71 :
وَرَسُولَ ُه أُولَـئِكَ سَيَر َ
ـ سلطة الدولة:
التي وجب قيامها ،وأقيمت على أسس أخالقية وطيدة ،ولزمها أن تقوم على رعاية هذه
األخالق ،وبثَّها في سائر أفرادها ومؤسساتها ،وتجعلها من مهام وجودها ومبرراته.1
وبذلك اجتمع للخلق اإلسالمي أطراف الكمال كله وأصبح للمجتمع األخالقي نظام واقعي
مثالي ،بسبب االلتزام بالمنهج الرباني.
هذه بعض الخطوط في البناء العقائدي والروحي واألخالقي في الفترة المكية ،ولقد آتت هذه
التربية أكلها ،فقد كان ما يزيد على العشرين من الصحابة الكرام من الخمسين األوائل السابقين
إلى اإلسالم ،يمارسون مسؤوليات قيادية بعد توسع الدعوة ،وانطالقها في عهد النبي صلى اهلل
عليه وسلم آخرون معظمهم استشهدوا أو ماتوا على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فكان
في الرعيل األول أعظم شخصيات األمة على اإلطالق ،كان فيهم تسعة من العشرة المبشرين
بالجنة ،وهم أفضل األمة بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ومنهم نماذج أسهمت في صناعة
الحضارة العظيمة بتضحياتهم الجسيمة ،كعمار بن ياسر ،وعبد اهلل بن مسعود ،وأبي ذر،
وجعفر بن أبي طالب ،وغيرهم رضي اهلل عنهم ،وكان من هذا الرعيل أعظم نساء األمة
خديجة رضي اهلل عنها ،ونماذج عالية أخرى ،مثل أم الفضل بنت الحارث ،وأسماء ذات
النطاقين ،وأسماء بنت عميس وغيرهن.
50
لقد ُأتيح للرعيل األول أكبر قدر من التربية العقدية والروحية والعقلية واألخالقية على يد مربي
البشرية األعظم محمد صلى اهلل عليه وسلم ،فكانوا هم حداة الركب وهداة األمة ،1فقد كان
رسول اهلل صلى اهلل عليه ولم يزكيهم ويربيهم وينقيهم أوضار الجاهلية ،فإذا كان السعيد الذي
فاز بفضل الصحبة من رأى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ولو مرة واحدة في حياته ،وآمن
به ،فكيف بمن كان الرفيق اليومي له ،ويتلقى منه ،ويعبق من نوره وتغذى من كالمه ،ويتربى
على عينه.2
جـ ـ سنة االبتالء:
بعد االعداد العظيم الذي قام به النبي صلى اهلل عليه وسلم لتربية أصحابه وبناء الجماعة
المسلمة المنظمة األولى على أسس عقدية وتعبدية ،خلقية رفيعة المستوى حان موعد إعالن
ن
ك مِ َ
ك ِلمَنِ اتَّبَعَ َ
جنَاحَ َ الدعوة بنزول قول اهلل تعالى﴿ :وَأَنذِر عَشِيرَتَ َ
ك األَقرَبِينَ * وَاخفِض َ
المُؤمِنِينَ * فَإِن عَصَوكَ فَقُل إِنِّي بَرِيء مِّمَّا تَعمَلُونَ﴾ (الشعراء ،آية 214 :ـ .)216
فجمع قبيلته صلى اهلل عليه وسلم وعشيرته ،ودعاهم عالنية إلى اإليمان بإله واحد ،وخوفهم من
وبين لهم مسؤولية كل إنسان عن
العذاب الشديد ،إن عصوه ،وأمرهم بإنقاذ أنفسهم من النارَّ ،
نفسه.3
ك األَقرَبِينَ﴾ صعد النبي صلى
عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال :لما نزلت﴿ :وَأَنذِر عَشِيرَ َت َ
اهلل عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي« :يا بني فهر ،يا بني عدي» ـ لبطون قريش ـ حتى
اجتمعوا ،فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج ،أرسل رسوالً ينظر ما هو ،فجاء أبو لهب
وقريش فقال« :أرأيتكم لو أخبرتكم :أن خيالء بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟»
قالوا :نعم ،ما جربنا عليك إال صدقاً ،قال« :فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» ،فقال أبو
51
لهب :تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت﴿ :تَبَّت يَدَا أَبِي لَهَب وَتَبَّ * مَا أَغنَى عَنهُ مَالُهُ وَمَا
وفي رواية" :ناداهم بطناً بطناً ،ويقول لكل بطن« :أنقذوا أنفسكم من النار »..ثم قال« :يا
فاطمة انقذي نفسك من النار ،فإني ال أملك لكم من اهلل شيئاً ،غير أن لكم رحماً سأبلها
بباللها».1
كان القرشيون واقعيين عمليين ،فلما رأوا محمداً صلى اهلل عليه وسلم ،وهو الصادق األمين ـ
قد وقف على جبل يرى ما أمامه ،وينظر إلى ما وراءه ،وهم ما يرون إال ما هو أمامهم،
فهداهم إنصافهم ،وذكاؤهم إلى تصديقه ،فقالوا :نعم.
ولما تمت هذه المرحلة الطبيعية البدائية ،وتحققت شهادة المستمعين ،قال رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم« :فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» وكان ذلك تعريفاً بمقام النبوة ،وما ينفرد
به من علم بالحقائق الغيبية ،والعلوم الوهبية ،وإنذاراً في حكمة وبالغة ال نظير لهما في تاريخ
الديانات ،والنبوءات ،فلم تكن طريق أقصر من هذه الطريق ،وأسلوب أوضح من هذا
األسلوب ،فسكت القوم.2
ولكن أبا لهب قال :تباً لك سائر اليوم أما دعوتنا إال لهذا؟
وجاءت مرحلة أخرى بعدها ،فأصبح يدعو فيها كل من يلتقي به من الناس على اختالف
قبائلهم ،وبلدانهم ،ويتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفي الموسم ومواقف الحج،
ويدعو من لقيه من حُر وعبد ،وقوي وضعيف ،وغني وفقير ،حين نزول قوله تعالى﴿:فَاصدَع
1أخرجه البخاري ،الحديث رقم ،4771 :وأخرجه مسلم ،الحديث رقم.204 :
2السيرة النبوية ألبي الحسن الندوي ،ص.138 :
52
كانت النتيجة لهذا الصدع هي الصد ،واإلعراض والسخرية واإليذاء والتكذيب والكيد المدبر
المدروس ،وقد اشتد الصراع بين النبي صلى اهلل عليه وسلم وصحبه وبين شيوخ الوثنية
وزعمائها ،أصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان ،وكان هذا في حد
ذاته مكسباً عظيماً ،ساهم فيه أشد وألد أعدائها ،ممن كان يشيع في القبائل قالت السوء عنها،
فليس كل الناس يسلمون بدعاوى زعماء الكفر ،والشرك.
كانت الوسيلة اإلعالمية في ذلك العصر ،تناقل الناس لألخبار مشافهة ،وسمع القاصي والداني
بنبوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،صار هذا الحدث العظيم حديث الناس في المجالس،
ونوادي القبائل ،وفي بيوت الناس.1
وكانت أهم اعتراضات زعماء الشرك موجهة نحو وحدانية اهلل ،واإليمان باليوم اآلخر،
ورسالة النبي صلى اهلل عليه وسلم والقرآن الكريم الذي أنزل عليه من رب العالمين.2
وكان لضعف تأثير النبوءات في جزيرة العرب ،وللعصبية لتراث اآلباء واألجداد ،وموقف
أهل الكتاب المساند للوثنية ،وسيطرة األعراف والعوائد القبلية ،وحرصهم على مصالحهم
ومكانتهم وتأثيرهم على العرب ،سبب في إنكار دعوة اإلسالم في العهد المكي.
ولقد تعرض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم والمسلمون ،ألشكال وأنواع ،وأصناف متعددة من
االبتالء ،كمحاولة قريش إلبعاد أبي طالب عن مناصرة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم،
وتشويه الدعوة وإيذائه صلى اهلل عليه وسلم وإيذاء أصحابه ،وعرض المغريات ،والمساومات
لترك الدعوة ،ومطالبته بجعل الصفا ذهباً ،واالستعانة باليهود في مجادلة رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ،والدعاية اإلعالمية في الموسم ضد الدعوة وشخص الرسول صلى اهلل عليه وسلم،
والحصار االقتصادي الذي تعرض له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبنو هاشم ،وبنوعبد
المطلب من قبل كفار مكة ،واإليذاء الجسدي ،وغير ذلك من أنواع االبتالء.
واال بتالء مرتبط بالتمكين ارتباطاً وثيقاً ،فلقد جرت سنة اهلل أال يُمكن ألمة إال بعد أن تمر
بمراحل االختيار المختلفة ،وإال بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة األحداث فيميز اهلل الخبيث من
53
الطيب ،وهي سنة جارية على األمة اإلسالمية ال تتخلف ،فقد شاء اهلل تعالى أن يبلي المؤمنين،
ويختبرهم ليمحص إيمانهم ،ثم يكون لهم التمكين في األرض بعد ذلك ،ولذلك جاء هذا المعنى
على لسان اإلمام الشافعي رضي اهلل عنه حين سأله رجل :أيهما أفضل للمرء أن يمكان أو
يبتلى؟ فقال اإلمام الشافعي :ال يمكان حتى يبتلى ،فإن اهلل تعالى ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى
وعيسى ومحمداً ـ صلوات اهلل وسالمه عليهم أجمعين ـ فلما صبروا مكنهم فال يظن أحد أن
يخلص من األلم البتة.1
وابتالء المؤمنين قبل التمكين أمر حتمي من أجل التمحيص ليقوم بنيانهم بعد ذلك على تمكان
ورسوخ ،وهذا االبتالء للمؤمنين ابتالء الرحمة ،ال ابتالء الغضب ،وابتالء االختبار ال مجرد
االختبار.2
إن طريق االبتالء سنة اهلل في الدعوات ،كما أنه الطريق إلى الجنة ،وقد حُفت الجنة بالمكاره،
وحُفت النار بالشهوات.3
ولال بتالء حكم كثيرة من أهمها :تصفية النفوس وتربية الجماعة المسلمة ،و الكشف عن خبايا
النفوس ،واإلعداد الحقيقي لتحمل األمانة ،ومعرفة حقيقة النفس ورفع المنزلة والدرجة عند
اهلل ،وتكفير السيئات ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :ما يصيب المؤمن من شوكة فما
فوقها ،إال رفعه اهلل بها درجة أو حط عنه بها خطيئة».4
وقد قابل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم االبتالء بسنة األخذ باألسباب وكان يربي أصحابه
على:
ـ التأسي بالسابقين من األنبياء والمرسلين وأتباعهم في تحمل األذى في سبيل اهلل ويضرب لهم
األمثلة في ذلك.
ـ التعلق بما أعده اهلل في الجنة للمؤمنين الصابرين من النعيم ،وعدم االغترار بما في أيدي
الكافرين من زهرة الحياة الدنيا.
54
ـ التطلع للمستقبل ،الذي ينصر اهلل به اإلسالم في هذه الحياة الدنيا ،ويذل فيه أهل الكفر
والعصيان ،وثمة أمر آخر كبير ،أال وهو أنه صلى اهلل عليه وسلم مع هذه األشياء كلها كان
يخطط ويستفيد من األسباب المادية المتعددة لرفع األذى والظلم عن أتباعه ،وكف المشركين
عن فتنتهم وإقامة الدولة التي تجاهد في سبيل الدين ،وتتيح الفرصة لكل مسلم أن يعبد ربه
حيث شاء ،وتزيل الحواجز والعقبات التي تعترض طريق الدعوة إلى اهلل.1
د ـ سنة األخذ باألسباب:
إن من أهم السنن في بناء الدول وفي حركة الحياة سنة األخذ باألسباب ولقد تعامل معها رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم في تربية المجتمع وبناء الدولة ،كما أن اإليمان بالقدر ال يعارض
األخذ باألسباب المشروعة ،بل األسباب مقدرة أيضاً كالمسببات فمن زعم أن اهلل تعالى قدر
النتائج والمسببات من غير مقدماتها وأسبابها ،فقد ذهل عن حقيقة القدر ،فاألسباب مقدرة
كالمسببات ،وحياة الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه كانت قائمة على األخذ باألسباب
وسيرته تشهد بأنه كان يتخذ كل الوسائل والتدابير وأسباب العمل.2
إن من سنن اهلل في كونه وشرعه تحتم علينا األخذ باألسباب كما فعل ذلك أقوى الناس إيماناً
باهلل وقضائه وقدره وهو رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،لقد قاوم الفقر بالعمل ،وقاوم الجهل
بالعلم ،وقاوم المرض بالعالج ،وقاوم الكفر والمعاصي بالجهاد ،وكان يستعيذ باهلل من الهم
والحزن ،والعجز والكسل ،وتعاطي أسباب األكل والشرب ،وادخر ألهله قوت سنه ،ولم ينظر
أن ينزل عليه الرزق من السماء ،وقال للذي سأله ،أيعقل ناقته أم يتركها ويتوكل؟ قال:
«أعقلها وتوكل» ،3وقال« :فر من المجذوم فرارك من األسد» ،4وما غزواته المظفرة صلى
اهلل عليه وسلم إال مظهر من مظاهر إرادته العليا التي تجري حسب مشيئة اهلل وقدره ،فقد أخذ
الحذر وأعد الجيوش ،وبعث الطالئع والعيون ،وظاهر بين درعين ،ولبس المغفر على رأسه،
وأقعد الرماة على فم الشعب ،وخندق حول المدينة وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة،
55
وهاجر بنفسه واتخذ أسباب الحيطة في هجرته ،أعد الرواحل التي يمتطيها والدليل الذي
يصحبه وغير ذلك الطريق واختبأ في الغار .1وكان إذا سافر في جهاد أو عمرة حمل الزاد
والمزاد وهو سيد المتوكلين وحركة النبي صلى اهلل عليه وسلم ترجمان وتفسير عملي للقرآن
الكريم الحافل باآليات التي توجب على المسلمين األخذ باألسباب في شتى مناحي الحياة والعمل
على استقصاء تلك األسباب للوصول إلى المراد ،خاصة في تلك المواقف الصعبة التي تواجه
األمم واألفراد ومن النماذج القرآنية في هذا الصدد.2
ــ قوله تعالى﴿ :وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا استَطَعتُم مِّن قُوَّة وَمِن رِّبَا ِ
ط الخَيلِ تُرهِبُونَ بِ ِه عَدوَّ اهللِّ وَعَدُوَّكُم
ال
َف إِلَيكُم وَأَنتُم َ
ال تَعلَمُونَهُ ُم اهللُّ يَعلَمُهُم وَمَا تُن ِفقُوا مِن شَيء فِي سَبِيلِ اهللِّ ُيو َّ
ن مِن دُو ِنهِم َ
وَآخَرِي َ
تُظلَمُونَ﴾ (األنفال ،آية .)60 :
إن اهلل سبحانه وتعالى أمرنا باإلعداد الشامل في قوله تعالى﴿ :وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا استَطَعتُم مِّن قُوَّة
وإعداد القوة في حقيقته األخذ باألسباب الشاملة ،كقوة العقيدة واإليمان وقوة الصف والتالحم
وقوة السالح والساعد ،إن اآلية الكريمة تضع أذهان المسلمين على اإلعداد الكامل المعنوي
والمادي ،والعلمي والفقهي على مستوى األفراد والجماعات ويدخل في طياتها ،اإلعداد
التربوي والسلوكي ،واإلعداد المالي ،واإلعداد اإلعالمي والسياسي واألمني والعسكري.3
إن النبي صلى اهلل عليه وسلم أخذ بسنن اهلل تعالى منذ البعثة حتى وفاته ،ولم يفرِّط في أي
منها ،فتعامل مع سنة اهلل في تغيير النفوس ،وسنة اهلل في التدافع مع الباطل ،وسنة التدرج في
بناء الجماعة ،ثم الدولة ،وسنة االبتالء ،واستفرغ صلى اهلل عليه وسلم جهده في األخذ
باألسباب التي توصل للتمكين فكانت هجرتا الحبشة وذهابه للطائف وعرضه للدعوة على
القبائل ،ثم هجرته إلى المدينة ،فأقام الدولة وحافظ عليها وسار أصحابه من بعده على نهجه،
56
وتعاملوا مع السنن بوعي وبصيرة ،وصنعوا حضارة لم يعرف التاريخ البشري مثلها حتى
يومنا هذا.
إن ح ركة النبي صلى اهلل عليه وسلم في تربية األمة ،وإقامة الدولة نور يهتدي ،وسنة يقتدي
بها في البحور المتالطمة ،والمناهج المتغايرة ،والظالم البهيم ،وإنها ليسيرة على من يسَّرها
اهلل عليه.
هـ ـ الطواف على القبائل طلب ًا للنصرة:
بعد رجوعه صلى اهلل عليه وسلم من الطائف بدأ يعرض نفسه على القبائل في المواسم ،يشرح
لهم اإلسالم ،ويطلب منهم اإليواء والنصرة ،حتى يبلغ كالم اهلل ـ عز وجل ـ وكان رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم يتحرك في المواسم التجارية ،ومواسم الحج التي تجتمع فيها القبائل وفق
خطة سياسية دعوية واضحة المعالم ،ومحددة األهداف ،وكان يصاحبه أبو بكر الصديق الرجل
الذي تخصص في أنساب العرب ،وتاريخها ،وكانا يقصدان "غُرر الناس ،ووجوه القبائل،
وكان أبو بكر رضي اهلل عنه ،يسأل وجوه القبائل ،ويقول لهم :كيف العدد فيكم؟ وكيف المنعة
فيكم؟ وكيف الحرب فيكم؟ وذلك قبل أن يتحدَّث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ويعرض
دعوته.1
وكان طلب الرسول صلى اهلل عليه وسلم للناصرة من خارج مكة إنما بدأ ينشط بشكل ملحوظ
بعد أن اشتدَّ األذى عليه عقب وفاة عمه أبي طالب ،الذي كان يحميه من قريش وذلك ألن من
يحمل الدَّعوة ،لن يستطيع أن يتحرَّك التحرك الفعال ألجلها ،وتوفير االستجابة لها ،في جوٍّ من
العنف والضغط ،واإلرهاب.
ــ وحصر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم طلب النصرة في زعماء القبائل ،وذوي الشرف،
والمكانة ،ممَّن لهم أتباع يسمعون لهم ،ويطيعون ،ألن هؤالء هم القادرون على توفير الحماية
للدعوة وصاحبها.
57
ــ ويالحظ في سيرة النبي صلى اهلل عليه وسلم ،بخصوص طلب النَّصرة :أنه كان يطلبها
ألمرين اثنين:
كان يطلب النصرة من أجل حماية تبليغ الدعوة ،حتى تسير بين الناس محمية الجانب،
بعيدة عن اإلساءة إليها ،وإلى أتباعها.
كان يطلب النصرة ،من أجل أن يتسلم النبي صلى اهلل عليه وسلم مقاليد الحكم والسلطان
على أساس تلك الدعوة وهذا ترتيب طبيعي لألمور.
ــ ومن صفة النصرة ،التي كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يطلبها لدعوته من زعماء
القبائل ،أن يكون أهل النصرة غير مرتبطين بمعاهدات تتناقض مع الدعوة ،وال يستطيعون
التحرر منها ،وذلك ألن احتضانهم للدعوة ـ والحالة هذه ـ يُعرِّضها لخطر القضاء عليها من
قبل الدولة التي بينهم وبينها تلك المعاهدات ،والتي تجد في الدعوة اإلسالمية خطراً عليها،
وتهديداً لمصالحها.
إن الحماية المشروطة ،أو الجزئية ال تحقق الهدف المقصود ،فلن يخوض بنو شيبان حرباً
ضد كسرى ،لو أراد القبض على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وتسليمه ،ولن يخوضوا
حرباً ض د كسرى ،لو أراد مهاجمة محمد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وأتباعه ،وبذلك
فشلت المباحثات.1
ــ إن دين اهلل لن ينصره إال من حاطه من جميع جوانبه ،هذا الردُّ من النبي صلى اهلل عليه
وسلم على المثنى بن حارثة حين عرض على النبي صلى اهلل عليه وسلم حمايته على مياه
العرب دون مياه الفرس ،فمن يسبر أغوار السياسة البعيدة يرى بعد النظر اإلسالمي النبوي
الذي ال يُسامي.2
و ـ بيعة العقبة األولى:
من الحقائق التي ال يقع عليها أي ـ خالف ـ أن هذا المجتمع السياسي أو (الدولة) قد بدأ
حياته الفعلية وأخذ يؤدي وظائفه ،ويحول المبادئ النظرية إلى أعمال ،بعد أن استكمل
58
حريته وسيادته ،وضم إليه عناصر جديدة ووجد له موطناً ،على إثر "بيعة العقبة األولى
والثانية" بين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ووفود المدينة ،والواقع أن هاتين البيعتين كانتا
نقطة التحول في حياة اإلسالم ،ولم تكن الهجرة إال إحدى النتائج التي ترتبت عليهما
والنظرة الصحيحة إليهما أن ينظر إليهما على أنهما حجر الزاوية في بناء الدولة اإلسالمية
ومن ثم تتضح أهميتهما ،وما أشبههما بالعقود االجتماعية التي بدأ لبعض فالسفة السياسة
في العصور الحديثة أن يفترضوا حدوثها معتبرين أنها األساس الذي قامت عليه الدول
والحكومات ،ولكن "العقد االجتماعي" الذي تحدث عنه "روسو" وأمثاله كان مجرد نظرية،
أما العقد الذي حدث هنا مرتين عند العقبة ،وقامت على أساسه الدولة اإلسالمية ،فهو عقد
تاريخي :هو حقيقة يعرفها الجميع ت َّم فيه االتفاق بين إرادات إنسانية حرة وأفكار واعية
ناضجة ،من أجل تحقيق رسالة سامية.
فقد ولدت الدولة اإلسالمية إذن في وضح النهار ،وتم تكونها في ضوء التاريخ ،وإذ بدأت
عملها لم تكن هناك أية وظيفة من الوظائف التي يمكن أن يقال عنها إنها سياسية :من إعداد
األداة لتنفيذ العدالة ،أو تنظيم للدفاع أو بث للتعلم ،أو جباية للمال ،أو عقد معاهدات أو إنفاذ
سفارات إال كانت هذه الدولة تؤديها ،ومن المجال أن ينكرها أحد ،إال إذا كان يباح له أن
يجحد أية حقيقة أو حقائق تاريخية وقعت في أي عصر من العصور ،وأجمع عليها الناس
قاطبة ،ومن هذه الحقائق التي ذكرنا يتألف البرهان التاريخي الذي رأينا على الطبيعة
السياسية للنظام اإلسالمي.1
كانت بيعة العقبة األولى بعد عام من المقابلة األولى ،التي تمت بين الرسول صلى اهلل عليه
وسلم وأهل يثرب عند العقبة ،وافى الموسم من األنصار اثنا عشر رجالً ،فلقوه صلى اهلل
عليه وسلم بالعقبة ،وبايعوه العقبة األولى ،عشرة من الخزرج ،واثنان من األوس ،مما
يشير إلى أن نشاط وفد الخزرج الذين أسلموا في العام الماضي ،تركز على وسطهم القبلي
1النظريات السياسية اإلسالمية ،د .محمد ضياء الدين الرئيسي ،ص.31 :
59
بالدرجة األولى ،لكنهم تمكنوا في الوقت نفسه من اجتذاب رجال األوس وكان بداية ائتالف
القبيلتين تحت راية اإلسالم.1
وقد تحدث عبادة بن الصامت الخزرجي عن البيعة ،في العقبة األولى ،فقال :كنت فيمن
كان حضر العقبة ،وكنا اثني عشر رجالً ،فبايعنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على بيعة
النساء ،وذلك قبل أن تفرض علينا الحرب ،على أال نشرك باهلل ،وال نسرق ،وال نزني،
النقتل أوالدنا ،وال نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا ،وأرجلنا ،وال نعصيه في معروف،
فإن وفيتم فلكم الجنة ،وإن غشيتم من ذلك شيئاً ،فأمركم إلى اهلل ـ عز وجل -إن شاء غفر،
وإن شاء عذب.2
وبنود هذه البيعة ،هي التي بايع الرسول صلى اهلل عليه وسلم عليها النساء فيما بعد ،ولذلك
عرفت باسم بيعة النساء ،3وقد بعث الرسول صلى اهلل عليه وسلم مع المبايعين مصعب بن
عمير يعلمهم الدين ،ويقرئهم القرآن ،فكان يسمى بالمدينة "المقرئ" وكان يؤمهم في
الصالة ،وقد اختاره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن علم بشخصيته من جهة ،وعلم
بالوضع القائم في المدينة من جهة أخرى ،حيث كان بجانب إلمامه لما نزل من القرآن يملك
من اللياقة والهدوء ،وحسن الخلق ،والحكمة قدراً كبيرًا فضالً عن قوة إيمانية ،وشدة
حماسه للدين ،ولذلك تمكن خالل أشهر أن ينشر اإلسالم في معظم بيوتات المدينة ،وأن
يكسب لإلسالم أنصاراً من كبار زعمائها ،كسعد بن معاذ ،وأسيد بن حضير ،وقد أسلم
بإسالمهما خلق كثير من قومهم ،4واستطاع السفير مصعب رضي اهلل عنه أن يهيىء البيئة
الصالحة ،النتقال الدعوة والدولة إلى مقرها الجديد ،حيث استطاع ترجمة روح بيعة العقبة
األولى عملياً وسلوكياً والتي تعني االلتزام التام بنظام اإلسالم.5
60
وبذل الرسول صلى اهلل عليه وسلم كل ما يملك من جهد لتعبئة الطاقات اإلسالمية في
المدينة ،ولم يكن هناك أدنى تقصير للجهد البشري الممكن في بناء القاعدة الصلبة ،التي
تقوم على أكتافها الدولة الجديدة ،واحتل هذا الجهد سنتين من الدعوة والتنظيم.
ـ ونجحت التعبئة اإليمانية في نفوس من أسلم من األنصار ،وشعرت األنصار بأنه قد آن
األوان لقيام الدولة الجديدة وكما يقول جابر رضي اهلل عنه ،وهو يمثل هذه الصورة الرفيعة
الرائعة ،حتى متى نترك ،رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يُطرد في جبال مكة ويخاف.
ـ وصل مصعب رضي اهلل عنه إلى مكة قبيل موسم الحج ،من العام الثالث عشر للبعثة،
ونقل الصورة الكاملة التي انتهت إليها أوضاع المسلمين هناك ،والقدرات واإلمكانات
المتاحة ،أو كيف تغلغل اإلسالم في جميع قطاعات األوس والخزرج ،وأن القوم جاهزون
لبيعة جديدة ،قادرة على حماية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ومنعته.1
ز ـ بيعة العقبة الثانية:
كان اللقاء الذي غيَّ ر مجرى التاريخ ،في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من البعثة،
حيث حضر ألداء مناسك الحج بضع وسبعون نفساً من المسلمين ،من أهل يثرب ،فلما
قدموا مكة ،جرت بينهم وبين النبي صلى اهلل عليه وسلم اتصاالت سرية ،أدت إلى اتفاق
الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة ،حيث الجمرة
األولى من منى ،وأن يتم هذا االجتماع في سرية تامة في ظالم الليل.2
قال جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنهما ... :فقلنا :حتى متى يترك رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،يُطرد في جبال مكة ،ويخاف ،فرحل إليه منا سبعون رجالً حتى قدموا عليه في
الموسم ،فواعدناه شعب العقبة ،فاجتمعنا عليه من رجل ،ورجلين حتى توافينا فقلنا :يا
رسول اهلل ،على ما نبايعُك؟ قال« :تبايعوني على السَّمع والطاعةِ في النشاط والكسل،
وعلى النفقة في العسر واليسر ،وعلى األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وعلى أن
61
تقولوا في اهلل ال يأخذكم في اهلل لومة الئم ،وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم،
وتمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبنائكم ،ولكم الجنة».1
قال :فقمنا إليه فبايعناه ،وأخذ بيده أسعد بن زرارة ـ وهو من أصغرهم ـ فقال :رويداً يا أهل
يثرب ،فإنا لم نضرب أكباد اإلبل إال ونحن نعلم :أنه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وأن
إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم ،وأن تعضكم السيوف ،فإما أنتم قوم
تصرون على ذلك ،وأجركم على اهلل ،وإما أنتم تخافون من أنفسكم جُبينة ،فبينوا ذلك ،فهو
أعذر لكم عند اهلل ،قالوا :أمط عنا يا أسعد ،فواهلل ال ندع هذه البيعة أبداً ،وال نسليها "أي:
نتركها" قال :فقمنا إليه فبايعناه ،فأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة.2
وهكذا بايع األنصار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على الطاعة والنصرة والحرب ،لذلك
سماها عبادة بن الصامت بيعة الحرب ،3أما رواية الصحابي كعب بن مالك األنصاري ـ
وهو أحد المبايعين في العقبة الثانيةـ ففيها تفصيالت مهمة ،قال :خرجنا في حجاج قومنا
من المشركين وقد صلينا وفقهنا ،ثم خرجنا إلى الحج ،وواعدنا رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم بالعقبة ،من أوسط أيام التشريق ،وكنا نكتم من بايعنا من المشركين أمرنا ،فنمنا تلك
الليلة مع قومنا في رحالنا ،حتى إذا مضى ثلث الليل ،خرجنا من رحالنا لميعاد رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ،نتسلل تسلل القطا "الحمام" مستخفين ،حتى اجتمعنا في الشعب عند
العقبة ونحن ثالثة وسبعون رجالً ،ومعنا امرأتان من نسائنا :نسيبة بنت كعب ،وأسماء بنت
عمرو ،فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس
ابن عبد المطلب ،وهو يومئذ على دين قومه ،إال أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه،
ويتوثق له ،فلما جلس ،كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب ،فبين أن الرسول صلى اهلل
عليه وسلم في منعه من قومه بني هاشم ولكنه يريد الهجرة إلى المدينة ،ولذلك فإن العباس
يريد التأكد من حماية األنصار له ،وإال فليدعوه ،فطلب األنصار أن يتكلم رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم ،فيأخذ لنفسه ،ولربه ما يجب من الشروط.
1صحيح ابن حبان ،الحديث رقم.7012 :
2السيرة النبوية الصحيحة (.)199 /1
3مستند اإلمام أحمد ( )316 /5بإسناد صحيح لغيره.
62
قال« :أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبنائكم» ،فأخذ البراء بن معرور بيده
ثم قال :نعم والذي بعثك بالحق ،لنمنعناا مما نمنع 1منه أُزُرنا ،فبايعنا يا رسول اهلل فنحن
واهلل أهل الحرب وأهل الحَلقة " السالح" ورثناها كابراً عن كابر ،فقاطعه أبو الهيثم بن
التيهان متسائالً :يا رسول اهلل ،إن بيننا وبين القوم حباالً ،وإنا قاطعوها "يعني :اليهود" فهل
عسيت إن نحن فعلنا ذلك ،ثم أظهرك اهلل أن ترجع إلى قومك ،وتدعنا؟ فتبسم رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ثم قال« :بل الدم الدم ،والهدم الهدم ،أنا منكم ،وأنتم مني ،أحارب من حاربتم
وأسالم من سالمتم».
ثم قال« :أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً ،ليكونوا على قومهم بما فيهم» ،فأخرجوا
منهم اثني عشر نقيباً تسعة من الخزرج ،وثالثة من األوس.
وقد طلب الرسول صلى اهلل عليه وسلم منهم االنصراف إلى رحالهم وقد سمعوا الشيطان
يصرخ منذراً قريشاً ،فقال العباس بن عبادة بن نفلة :واهلل الذي بعثك بالحق ،إن شئت
لنميلنا على أهل منى غداً بأسيافنا.
فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :لم نؤمر بذلك ،ولكن أرجعوا إلى رحالكم» ،وفي
الصباح جاءهم جمع من كبار قريش ،يسألونهم عماا بلغهم من بيعتهم للنبي صلى اهلل عليه
وسلم ،ودعوتهم له للهجرة فحلف المشركون من الخزرج واألوس ،بأنهم لم يفعلوا
والمسلمون ينظرون إلى بعضهم.
قال :ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعالن جديدان ،قال:
فقلت له كلمة ـ كأني أريد أن أشرك بها القوم فيما قالوا :يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ،
وأنت سيد من سادتنا ،مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ قال :فسمعها الحارث فخلعهما من
رجليه ،ثم رمى بها إليا ،وقال :واهلل لتنعلناهما ،قال :يقول أبو جابر :مه أحفظت " أي:
أغضبت" واهلل الفتى ،فأردد إليه نعليه ،قال :قلت :ال واهلل ال أردهما ،فأل واهلل صالح لئن
صدق الفأل ألسلبنه.2
63
ـ كانت هذه البيعة العظمى بمالبساتها وبواعثها وآثارها وواقعها التاريخي ،فتح الفتوح،
ألنها كانت الحلقة األولى في سلسلة الفتوحات اإلسالمية التي تتابعت حلقتها في صور
متدرجة ،مشدودة بهذه البيعة ،منذ اكتمل عقدها ،بما أخذ فيها رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم من عهود ومواثيق على أقوى طليعة من طالئع أنصار اهلل الذين كانوا أعرف الناس
بقدر مواثيقهم وعهودهم ،وكانوا أسمح الناس بالوفاء بما عاهدوا اهلل ،ورسوله صلى اهلل
عليه وسل م ،من التضحية مهما بلغت متطلباتها من األرواح والدماء واألموال ،فهذه البيعة
في بواعثها هي بيعة اإليمان بالحق ونصرته ،وهي مالبساتها قوة تناضل قوى هائلة تقف
متألية عليها ولم يغيب عن أنصار اهلل قدرها ووزنها ،في ميادين الحروب والقتال ،وهي
آثارها تشمير ناهض بكل ما يملك أصحابها من وسائل الجهاد القتالي في سبيل إعالء كلمة
اهلل ،على كل عال مستكبر في األرض ،حتى يكون الدين كله هلل ،وهي في واقعها التاريخي
صدق ،وعدل ونصر واستشهاد وتبليغ لرسالة اإلسالم.1
ـ ويظهر التخطيط العظيم في بيعة العقبة ،حيث تمت في ظروف غاية في الصعوبة وكانت
تمثل تحدًّيا خطيراً وجريئاً لقوى الشرك في ذلك الوقت ،ولذلك كان التخطيط النبوي
لنجاحها في غاية اإلحكام والدقة على النحو التالي:
ـ سرية الحركة واالنتقـال لجماعة المتابعين ،حتـى ال ينكشف األمـر ،فقـد كان وفد المبايعة
المسلم سبعين رجالً وامرأتين من بين وفد يثربي قوامه نحو خمسمائة مما جعل حركة
هؤالء السبعين صعبة ،وانتقالهم أمراً غير ميسور ،وقد تحدد موعد اللقاء في ثاني أيام
التشريق ،بعد ثلث الليل ،حيث النوم قد ضرب أعين القوم ،وحيث قد هدأت الراجل كما تم
تحديد المكان في شعب اإليمان ،بعيداً عن عين من قد يستيقظ من النوم لحاجة.2
ـ الخروج المنظم لجماعة المبايعين إلى موعد ومكان االجتماع ،فقد خرجوا يتسللون
مستخفين ،ورجالً رجالً ،أو رجلين رجلين.
64
ـ ضرب السرية التامة على موعد ،ومكان االجتماع ،بحيث لم يعلم به سوى العباس بن عبد
المطلب ،الذي جاء مع النبي صلى اهلل عليه وسلم ليتوثق له ،1وعلي بن أبي طالب الذي
كان عيناً للمسلمين على فم الشعب وأبو بكر الذي كان على فم الطريق ـ وهو اآلخر ـ عيناً
للمسلمين ،2أما من عداهم من المسلمين وغيرهم ،فلم يكونوا يعلمون عن األمر شيئاً ،وقد
أمر جماعة المبايعين أال يرفعوا الصوت ،وأال يطيلوا في الكالم ،حذراً من وجود عين
تسمع صوتهم ،أو تجس حركتهم.3
ـ متابعة اإلخفاء والسرية حيث كشف الشيطان أمر البيعة ،فأمرهم النبي صلى اهلل عليه
وسلم أن يرجعوا إلى رحالهم ،وال يحدثوا شيئاً رافضاً االستعجال في المواجهة المسلحة
التي لم تتهيأ لها الظروف بعد؛ وعندما جاءت قريش تستبرئ الخبرَ ،م َّر المسلمون عليهم
بالسكوت ،أو المشاركة بالكالم الذي يشغل عن الموضوع.4
ـ اختيار الليلة األخيرة في ليالي الحج ،وهي الليلة الثالثة عشرة من ذي الحجة حيث سينفر
الحجاج إلى بالدهم ظهر اليوم التالي ،وهو يوم الثالث عشر ،ومن ثم تضيق الفرصة أمام
قريش في اعتراضهم أو تعويقهم ،إذا انكشف أمر البيعة ،وهو أمر متوقع ،وهذا ما حدث.5
ـ وكانت البنود الخمسة للبيعة من الوضوح والقوة بحيت ال تقبل التمييع والتراخي ،إنه
السمع والطاعة في النشاط والكسل ،والنفقة في اليسر والعسر ،واألمر بالمعروف والنهي
عن المنكر ،والقيام في اهلل ال تأخذهم فيه لومة الئم ،ونصر لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
وحمايته إذا قدم المدينة.6
ـ وسرعان ما استجاب قائد األنصار ـ دون تردد ـ البراء بن معرور ،قائالً :والذي بعثك
بالحق ،لنمنعنك مما نمنع منه أُزُرنا ،فبايعنا يا رسول اهلل ،فنحن واهلل أبناء الحرب وأهل
الح لقة ،ورثناها كابراً عن كابر ،فهذا زعيم الوفد يعرض إمكانيات قومه على رسول اهلل
65
صلى اهلل عليه وسلم فقومه أبناء الحرب ،والسالح ،1ومما يجدر اإلشارة إليه في أمر
البراء :أنه عندما جاء مع قومه من يثرب قال لهم :إني قد رأيت رأياً ،فواهلل ما أدري:
أتوافقونني عليه أم ال؟ فقالوا :وما ذاك؟ قال :قد رأيت أال أدع هذه البنية ـ يعني :الكعبة ـ
مني بظهر ،وأن أصلي إليها فقالوا له :واهلل ما بلغنا أن النبي صلى اهلل عليه وسلم يصلي إالا
إلى الشام ـ بيت المقدس ـ وما نريد أن نخالفه ،فكانوا إذا حضرت الصالة صلاوا إلى بيت
المقدس وصلى هو إلى الكعبة ،واستمروا كذلك حتى قدموا مكة ،وتعرفوا إلى رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم وهو جالس مع عمه العباس رضي اهلل عنه بالمسجد الحرام ،فسأل
النبي صلى اهلل عليه وسلم العباس رضي اهلل عنه« :هل تعرف هذين الرجلين يا أبا
الفضل؟» ق ال نعم .فقصا عليه البراء ما صنع في سفره من صالته إلى الكعبة .قال :فماذا
ترى يا رسول اهلل؟ قال« :قد كنت على قبلة لو صبرت عليها».2
قال كعب :فرجع البراء إلى قبلة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وصلىا معنا إلى الشام،
فلما حضرته الوفاة أمر أهله أن يوجهوه قبل الكعبة ومات في صفر قبل قدومه صلى اهلل
عليه وسلم بشهر ،وأوصى بثلث ماله إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم ،فقبله ورداه على ولده،
وهو أول من أوصى بثلث ماله ،3ويستوقفنا في هذا الخبر:
ـ اإلنضباط وااللتزام من المسلمين بسلوك رسولهم صلى اهلل عليه وسلم وأوامره ،وإن أي
اقتراح مهما كان مصدره ،يتعارض مع ذلك يُعد مرفوضاً ،وهذه األمور من أولويات الفقه
في دين اهلل ،تأخذ حيزها في حياتهم وهم ـ بعد ـ مازالوا في بداية الطريق.
ـ إن السيادة لم تعد ألحد غير رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وإن توقير أي إنسان
واحترامه ،إنما هو انعكاس لسلوكه ،والتزامه بأوامر الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،وهكذا
بدأت تنزاح تقاليد جاهلية لتحل محلها قيم إيمانية ،فهي المقاييس الحقة ،التي بها يمكن
الحكم على الناس تصنيف ًا وترتيب ًا.4
66
ـ كان أبو الهيثم بن التيهان صريحاً عندما قال للرسول صلى اهلل عليه وسلم :إن بيننا وبين
الرجال حباالً ،وإنا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ،ثم أظهرك اهلل،
أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقال« :بل الدم الدم،
والهدم الهدم ،أنا منكم وأنتم مني ،أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم».1
وهذا االعتراض يدلنا على الحرية العالية التي رفع اهلل تعالى المسلمين إليها باإلسالم ،حيث
عبار عماا في نفسه بكامل حريته ،2وكان جواب سيد الخلق صلى اهلل عليه وسلم عظيماً ،فقد
جعل نفسه جزءًا من األنصار واألنصار جزءاً منه.3
ـ يؤخذ من اختيار النقباء دروس مهمة ،منها:
ـ أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم لم يعين النقباء ،وإنما ترك طريق اختيارهم إلى الذين
بايعوا ،فإنهم سيكونون عليهم مسؤولين وكفالء ،واألولى أن يختار اإلنسان من يكفله،
ويقوم بأمره ،وهذا أمر شورى ،وأراد الرسول صلى اهلل عليه وسلم أن يمارسوا الشورى
عمليًا من خالل اختيار نقبائهم.
ـ التمثيل النسبي في االختيار فمن المعلوم أن الذين حضروا البيعة من الخزرج أكثر من
الذين حضروا البيعة من األوس ثالثة أضعاف من األوس بل يزيدون ولذلك كان النقباء
ثالثة من األوس وتسعة من الخزرج.
ـ جعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم النقباء مشرفين على سير الدعوة في يثرب ،حيث
استقام عود اإلسالم هناك ،وكثر مثقفوه ومعتنقوه ،فأراد الرسول صلى اهلل عليه وسلم أنهم
لم يعودوا غرباء لكي يبعث إليهم أحداً من غيرهم وأنهم غدوا أهل اإلسالم ،وحماته
وأنصاره.4
في قول العباس بن عبادة بن نفلة :واهلل الذي بعثك بالحق ،إن شئت لنميلنا على أهل منى
غداً بأسيافنا ،وقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :لم نؤمر بذلك ،ولكن ارجعوا إلى
67
رحالكم» ،درس تربوي بليغ ،وهو :أن الدفاع عن اإلسالم ،والتعامل مع أعداء هذا الدين،
ليس متروكاً الجتهاد أتباعه ،وإنما هو خضوع ألوامر اهلل تعالى ،وتشريعاته الحكيمة ،فإذا
شرع الجهاد ،فإن أمر اإلقدام ،أو اإلحجام متروك لنظر المجتهدين ،بعد التشاور ،ودراسة
األمر من جميع جوانبه ،1وكلما كانت عبقرية التخطيط السياسي أقوى ،أدت إلى نجاح
المهمات أكثر ،وإخفاء المخططات وتنفيذها عن العدو هو الكفيل ـ بإذن اهلل ـ بنجاحها ولكن
ارجعوا إلى رحالكم.2
ـ وكانت البيعة بالنسبة للرجال ببسط رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يده ،وقولهم له :ابسط
يدك ،فبسط يده فبايعوه ،وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قوالً ،ما صافح
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم امرأة أجنبية قط ،فلم يتخلف أحد عن بيعته صلى اهلل عليه
وسلم ،حتى المرأتان بايعتا بيعة الحرب ،وصدقتا عهدهما ،فأما نسيبة بنت كعب "أم
عمارة" فقد سقطت في أحد ،وقد أصابها اثنا عشر جرحاً ،وقد خرجت يوم أحد مع زوجها
زيد بن عاصم بن كعب ومعها سقاء تسقي به المسلمين ،فلما انهزم المسلمون ،انحازت إلى
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فكانت تباشر القتال ،وتذب عنه بالسيف وقد أصيبت
بجراح عميقة ،وشهدت بيعة الرضوان ،3وقطع مسيلمة الكذاب ابنها إرباً إرباً ،فما وهنت،
وما استكانت ،وشهدت معركة اليمامة في حروب الردة مع خالد بن الوليد ،فقاتلت حتى
قطعت يدها ،وجُرحت اثني عشر جرح ًا ،4وأما أسماء بنت عمرو من بني سلمة ،قيل :هي
والدة معاذ بن جبل ،وقيل :ابنة عمة معاذ بن جبل رضي اهلل عنهم جميعاً.5
ـ وعندما نراجع تراجم أصحاب العقبة الثانية من األنصارفي كتب السير والتراجم ،نجد:
أن هؤالء الثالثة والسبعين قد استشهد قرابة ثلثهم على عهد النبي صلى اهلل عليه وسلم
وبعده ،ونالحظ أنه قد حضر المشاهد كلها مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قرابة
68
النصف ،فثالثة وثالثون منهم كانوا بجوار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في جميع
غزواته ،وأما الذين حضروا غزوة بدر ،فكانوا قرابة السبعين.
لقد صدق هؤالء األنصار عهدهم مع اهلل ،ورسوله صلى اهلل عليه وسلم ،فمنهم من قضى
نحبه ،ولقي ربه شهيداً ،ومنهم من بقي حتى ساهم في قيادة الدولة المسلمة ،وشارك في
أ حداثها الجسام ،بعد وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وبمثل هذه النماذج قامت دولة
اإلسالم ،النماذج التي تعطي وال تأخذ ،والتي تقدم كل شيء ،وال تطلب شيئاً إال الجنة،
ويتصاغر التاريخ في جميع عصوره ودهوره ،أن يحوي في صفحاته أمثال هؤالء الرجال
والنساء.1
ح ـ الهجرة إلى المدينة:
بعد أن ُمنيت قريش بالفشل في منع الصحابة رضي اهلل عنهم من الهجرة إلى المدينة على
الرغم من أساليبها الشنيعة والقبيحة ،فقد أدركت قريش خطورة الموقف ،وخافوا في مصالحهم
االقتصادية ،وكيانهم االجتماعي القائم بين القبائل العرب ،لذلك اجتمعت قيادة قريش في دار
الندوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدعوة ،وقد تحدث ابن عباس في تفسيره لقول اهلل
هلل وَاهللُ خَي ُر
ك وَيَم ُكرُونَ وَيَمكُرُ ا ُ
ك أَو يُخرِجُو َ
ك أَو يَقتُلُو َ تعالى﴿ :وَإِذ يَمكُ ُر بِ َ
ك الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُث ِبتُو َ
فقال :تشاورت قريش ليلة بمكة ،فقال بعضهم :إذا أصبح ،فأثبتوه بالوُثُق يريدون النبي صلى
اهلل عليه وسلم ،وقال بعضهم :بل اقتلوه ،وقال بعضهم :بل أخرجوه ،فأطلع اهلل نبيه على ذلك
فبات عليُّ على فراش النبي صلى اهلل عليه وسلم ـ تلك الليلة .2وخرج النبي صلى اهلل عليه
وسلم ،فلما أصبحوا ،ثاروا إليه ،فلما رأوا علياً ردَّ اهلل مكرهم ،فقالوا :أين صاحبك هذا؟ قال:
ال أدري فاقتصُّوا أثره ،فلما بلغوا الجبل ،اختلط عليهم األمر ،فصعدوا الجبل ،فمرُّوا بالغار،
69
فرأوا على بابه نسيج العنكبوت ،فقالوا :لو دخل هاهنا لم يكن ينسج العنكبوت على بابه ،فمكث
فيه ثالث ًا.1
قال سيد قطب ـ رحمه اهلل ـ في تفسيره لآليات التي تتحدث عن مكر المشركين بالنبي صلى
اهلل عليه وسلم :إنه التذكير بما كان في مكة قبل تغيُار الحال ،وتبدل الموقف ،وإنه ليوحي بالثقة
واليقين في المستقبل ،كما ينبه إلى تدبير قدر اهلل وحكمته فيما يقضي به ويأمر ،ولقد كان
المسلمون ا لذين يحاطون بهذا القرآن أول مرة يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ،ورأى،
وذاق ،وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب ،وما كان فيه من خوف وقلق في مواجهة
الحاضر الواقع ،وما فيه من أمن وطمأنينة ،وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم ال مجرد النجاة منهم.
لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ويحبسوه حتى يموت أو ليقتلوه
ويتخلصوا منه ،أو ليخرجوه من مكة منفياً مطروداً ،ولقد ائتمروا بهذا كله ،ثم اختاروا قتله،
على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعاً ،ليتفرق دمه في القبائل ،ويعجز بنو هاشم عن
اهلل وَاهللُّ خَي ُر المَاكِرِينَ﴾ قتال العرب جميعاً ،فيرضوا بالدية ،وينتهي األمر﴿وَيَم ُكرُو َ
ن وَيَمكُرُ ُّ
إنها صورة ساخرة ،وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة ،فأين هؤالء البشر الضعاف المهازيل
من تلك القدرة القادرة ،قدرة اهلل الجبار ،القاهر فوق عباده ،الغالب على أمره ،وهو بكل شيء
محيط.2
وقد قام النبي صلى اهلل عليه وسلم بالترتيبات الالزمة للهجرة ولم يعلم بخروج رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم أحد حين خرج إال علي بن أبي طالب وكان أبو بكر الصديق في رفقته ،وآل
الصديق في خدمته صلى اهلل عليه وسلم.
وعندما أحاط المشركون بالغار ،وأصبح منهم رؤي العين ،طمأن الرسول صلى اهلل عليه وسلم
الصديق بمعية اهلل لهما ،فعن أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه قال :قلت للنبي صلى اهلل عليه
70
وسلم وأنا في الغار :لو أن أحدهم نظر تحت قدميه ألبصرنا ،فقال صلى اهلل عليه وسلم« :ما
ظنك باثنين اهلل ثالثهما»1؟
وذكر المولى عز وجل في كتابه قوله تعالى﴿:إ َّ
ِال تَنصُرُو ُه فَقَد نَصَرَهُ اهللُ إِذ أَخرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
ال تَحزَن إِنَّ اهللَ مَ َعنَا فَأَن َزلَ اهللُ سَكِي َنتَ ُه عَلَيهِ وَأَيَّدَهُ
ن إِذ هُمَا فِي الغَارِ إِذ يَقُو ُل لِصَاحِبِهِ َ
ي اثنَي ِ
ثَانِ َ
جنُود لَّم تَرَوهَا َوجَ َع َل َكلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفلَى وَكَلِمَ ُة اهللِ ِهيَ العُليَا وَاهللُ عَزِيز حَكِيم﴾ (التوبة،
بِ ُ
71
وبعد أن قام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم المدة التي مكثها بقُباء ،وأراد أن يدخل المدينة بعث
إلى األنصار فجاؤوا إلى نبي اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأبي بكر ،فسلموا عليهما وقالوا :اركبا
حطوا دونهما السالح.
آمنين مطاعين فركب نبي اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وأبو بكر ،و ُّ
ي اهلل فأشرفوا ينظرون
وعند وصوله صلى اهلل عليه وسلم إلى المدينة ،قيل في المدينة :جاء نب ُ
ويقولون :جاء نبي اهلل.1
فكان يوم فرح وابتهاج لم تر المدينة يوماً مثله ،ولبس الناس أحسن مالبسهم كأنهم في يوم عيد،
ولقد كان حقاً يوم عيد ،ألنه اليوم الذي انتقل فيه اإلسالم من ذلك الحيز الضيق في مكة ،إلى
رحابة االنطالق واالنتشار بهذه البقعة المباركة "المدينة" ومنها إلى سائر بقاع األرض .لقد
أحسَّ أهل المدينة بالفضل الذي حياهم اهلل به ،وبالشرف الذي اختصهم به أيضاً ،فقد صارت
بلدتهم موطناً إليواء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وصحابته المهاجرين ،ثم لنصرة اإلسالم،
كما أصبحت موطناً للنظام اإلسالمي العام ،والتفصيلي بكل مقوماته ،لذلك خرج أهل المدينة
يهللون في فرح وابتهاج ،ويقولون يا رسول اهلل ،يا محمد ،يا رسول اهلل.2
روى اإلمام مسلم بسنده قال :عندما دخل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم المدينة صعد الرجال
والنساء فوق البيوت ،وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ،ينادون :يا محمد يا رسول اهلل ،يا
محمد يا رسول اهلل ، 3وبعد هذا االستقبال الجماهيري العظيم الذي لم ير مثله في تاريخ
اإلنسانية ،سار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حتى نزل في دار أبي أيوب األنصاري رضي
اهلل عنه ،فعن أنس رضي اهلل عنه في حديث الهجرة الطويل :فأقبل يسير حتى نزل جانب دار
أبي أيوب ،فإنه ليحدث أهله ،4إذ سمع به عبد اهلل بن سالم ،وهو في نخل ألهله يخترف 5لهم
فعجال أن يضع الذي يخترف لهم فيها ،فجاء وهي معه فسمع من نبي اهلل صلى اهلل عليه وسلم،
ثم رجع إلى أهله ،فقال نبي اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :أي بيوت أهلنا 6أقرب؟» فقال أبو
72
أيوب :أنا يا نبي اهلل ،هذه داري ،وهذا بابي قال« :فأنطلق فهيء لنا مقيالً» ،1ثم نزل رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه وبهذا قد تمت هجرته صلى
اهلل عليه وسلم ،وهجرة أصحابه رضي اهلل عنهم ،ولم تنته الهجرة بأهدافها وغاياتها بل بدأت
بعد وصول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سالماً إلى المدينة ،وبدأت معها رحلة المتاعب،
والمصاعب والتحديات ،فتغلب عليها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم للوصول للمستقبل الباهر
لألمة ،والدولة اإلسالمية ،التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة ،على أسس من
اإليمان والتقوى واإلحسان والعدل ،بعد أن تغلبت على أقوى دولتين كانتا تحكمان العالم،
وهما :دولة الفرس ودولة الروم.2
ومن الفوائد والدروس والعبر:
ـ الصراع بين الحق والباطل صراع قديم وممتد:
وهو سنة إلهية نافذة ،قال عز وجل﴿ :الَّذِي َ
ن أُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيرِ حَقٍّ إِالَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اهللُ
سلِي إِنَّ اهللَ قَوِيٌّ عَزِيز﴾. ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة ﴿كَتَ َ
ب اهللُ ألََغلِبَنَّ أَنَا وَرُ ُ
1أخرجه البخاري ،حديث رقم .3911 :مقيالً :مكان تقع فيه القيلولة.
2الهجرة في القرآن الكريم ،ص.355 :
73
ـ دقة التخطيط واألخذ باألسباب:
إن من تأمل حادثة الهجرة ورأى التخطيط فيها ،ودقة األخذ باألسباب من ابتدائها إلى انتهائها،
ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها ،يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم كان قائماً ،وأن التخطيط جزء من السنة النبوية ،وهو جزء من التكليف اإللهي
في كل ما طولب به المسلم ،وأن الذين يميلون إلى العفوية ،بحجة أن التخطيط وإحكام األمور
ليسا من السنة ،أمثال هؤالء مخطؤون ،ويجنون على أنفسهم ،وعلى المسلمين.1
*ـ وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت ،برغم ما كان يكتنفها من صعاب وعقبات وذلك
أن كل أمر من أمور الهجرة ،كان مدروساً دراسة وافية ،فمثالً:
ـ جاء صلى اهلل عل يه وسلم إلى بيت أبي بكر ،في وقت شدة الحر ـ الوقت الذي ال يخرج فيه
أحد ـ بل من عادته لم يكن يأتي له في ذلك الوقت لماذا؟ حتى ال يراه أحد.
ـ إخفاء شخصيته صلى اهلل عليه وسلم في أثناء مجيئه للصديق ،وجاء إلى بيت الصديق متلثماً،
ألن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم.2
ـ أمر صلى اهلل عليه وسلم أبا بكر أن يخرج من عنده ،ولما تكلم لم يبين إال األمر بالهجرة،
دون تحديد االتجاه.
ـ كان الخروج ليالً ،ومن باب خلفي في بيت أبي بكر.
ـ بلغ االحتياط مداه ،باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم ،واالستعانة في ذلك بخبير يعرف مسالك
البادية ،ومسارب الصحراء ،ولو كان الخبير مشركاً ،مادام على خلق ورزانة وفيه دليل على
أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم كان ال يحجم عن االستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها.3
*ـ انتفاء شخصيات عاقلة لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة ،ويالحظ أن هذه الشخصيات كلها
تترابط برباط القرابة ،أو برباط العمل الواحد ،مما يجعل من هؤالء األفراد ،وحدة متعاونة
على تحقيق الهدف الكبير.
74
*ـ وضع كل فرد من أفراد هذه األسرة في عمله المناسب ،الذي يجيد القيام به ،على أحسن
وجه ،ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته.
*ـ فكرة نوم علي بن أبي طالب مكان الرسول صلى اهلل عليه وسلم فكرة ناجحة ،قد ضللت
القوم وخدعتهم وصرفتهم عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،حتى خرج في جنح الليل ،تحرسه
عناية اهلل وهم نائمون ،وقد ظلت أبصارهم معلقة بعد اليقظة ،بمضجع الرسول صلى اهلل عليه
وسلم ،فما كانوا يشكون في أنه ما يزال نائماً مسجى في بردته ،في حين أن النائم هو علي بن
أبي طالب رضي اهلل عنه.
*ـ وقد كان عمل أبطال هذه الرحالة على نحو التالي:
ــ علي رضي اهلل عنه :ينام في فراش الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،ليخدع القوم ويسلم الودائع
ويلحق بالرسول صلى اهلل عليه وسلم بعد ذلك.
ــ عبد اهلل بن أبي بكر :رجل المخابرات الصادق وكاشف تحركات العدو.
ــ أسماء ذات النطاقين :حاملة التموين من مكة إلى الغار ،وسط جنون المشركين ،بحثاً عن
محمد صلى اهلل عليه وسلم ليقتلوه.
ــ عامر بن فهيرة :الراعي البسيط الذي قدم اللبن واللحم إلى صاحبي الغار ،وبدد آثار أقدام
المسيرة التاريخية بأغنامه ،كي ال يتفرسها القوم ،لقد كان هذا الراعي يقوم بدور اإلمداد،
والتموين ،والتعمية.
ــ عبد اهلل بن أريقط :دليل الهجرة األمين ،وخبير الصحراء البصير ينتظر في يقظة إشارة
البدء من الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،ليأخذ الرد طريقه من الغار إلى يثرب.
فهذا تدبير األمور على نحو رائع دقيق ،واحتياط الظروف بأسلوب حكيم ،ووضع كل شخص
من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب وسد لجميع الثغرات ،وتغطية بديعة لكل مطالب
الرحلة واختصار على العدد الالزم من األشخاص من غير زيادة وال إسراف.
75
لقد أخذ الرسول صلى اهلل عليه وسلم باألسباب المعقولة أخذاً قوياً حسب استطاعته وقدرته،
ومن ثم باتت عناية اهلل متوقعة.1
ـ األخذ باألسباب أمر ضروري:
إن اتخاذ األسباب أمر ضروري وواجب ،ولكن ال يعني ذلك دائماً حصول النتيجة ذلك ألن هذا
أمر يتعلق بأمر اهلل ومشيئته ،ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياً وهو من باب استكمال اتخاذ
األسباب.
إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أعدا كل األسباب ،واتخذ كل الوسائل ،ولكنه في الوقت نفسه
مع اهلل يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح وهنا يستجاب الدعاء ،وينصرف القوم بعد أن
وقفوا على باب الغار ،وتسيخ فرس سراقة في األرض ،ويكلل العمل بالنجاح.2
ـ دور المرأة في الهجرة:
وقد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة ،كان لها فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد ،منها:
عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة ووعتها ،وبلغتها لألمة ،وأسماء ذات
النطاقين ،التي أسهمت في تموين الرسول صلى اهلل عليه وسلم وصاحبه في الغار ،بالماء
والغذاء ،وكيف تحملت األذى في سبيل اهلل ،فقد حدثتنا عن ذلك فقالت :لما خرج رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم وأبو بكر رضي اهلل عنه أتانا نفر من قريش ،فيهم أبو جهل بن هشام
فوقفوا على باب أبي بكر ،فخرجت إليهم ،فقالوا :أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت :قلت :ال
أدري واهلل أين أبي.
قالت :فرفع أبو جهل يده ـ وكان فاحشاً خبيثاً ـ فلطم خدي لطمة طرح منها قُرطي ،قالت :ثم
انصرفوا ،3فهذا درس من أسماء رضي اهلل عنها ،تعلمه لنساء المسلمين جيالً بعد جيل ،كيف
تخفي أسرار المسلمين عن األعداء وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم ،وأما
درس ها الثاني البليغ فعندما دخل عليها جدُّها أبو قحافة ،وقد ذهب بصره ،فقال :واهلل إني ألراه
قد فجعكم بماله مع نفسه ،قالت :كال يا أبت ضع يدك على هذا المال ،قالت :فوضع يده عليه،
1أضواء على الهجرة ،لتوفيق محمد ،ص 393 :ـ .397
2من معين السيرة ،ص.148 :
3تاريخ الطبري ( 379 /2ـ .)380
76
فقال :ال بأس إذا كان ترك لكم هذا ،فقد أحسن .وفي هذا بالغ لكم ،قالت :وال واهلل ما ترك لنا
شيئاً ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك.1
ولقد ضربت أسماء رضي اهلل عنها بهذه المواقف لنساء ،وبنات المسلمين مثالً هُنا في أمس
الحاجة إلى االقتداء به والنسج على منواله.
وظلت أسماء مع أخواتها في مكة ،ال تشكو ضيقاً وال تظهر حاجة حتى بعث النبي صلى اهلل
عليه وسلم زيد بن حارثة وأبا رافع مواله ،وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة ،فقدما
عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه ،وسودة بنت زمعة زوجه ،وأسامة بن زيد ،وأمه بركة المكناة بأم
أيمن وخرج معهم عبد اهلل بن أبي بكر بعيال أبي بكر ،فيهم عائشة وأسماء ،فقدموا المدينة
فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان.2
ـ أمانات المشركين عند رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
في إيداع المشركين ودائعهم عند رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مع محاربتهم له ،وتصميمهم
على قتله دليل باهر على تناقضهم العجيب ،الذي كانوا واقعين فيه ،ففي الوقت الذي كانوا
يكذبونه ويزعمون أنه ساحر ،أو مجنون أو كذاب ،لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير
منه أمانة وصدقاً ،فكانوا ال يضعون حوائجهم وال أموالهم التي يخافون عليها إال عنده وهذا
يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه ،وإنما بسبب تكبرهم واستعالئهم
على الحق الذي جاء به وخوفاً على زعامتهم وطغيانهم( )3وصدق اهلل العظيم ،إذ يقول﴿ :قَد
.)33 :
وفي أمر الرسول صلى اهلل عليه وسلم لعليا رضي اهلل عنه بتأدية هذه األمانات ألصحابها في
مكة ،برغم هذه الظروف الشديدة التي كان المفترض أن يكتنفها االضطراب بحيث ال يتجه
التفكير إال إلى إنجاح خطة هجرته فقط ،برغم ذلك فإن الرسول صلى اهلل عليه وسلم ما كان
1السيرة النبوية البن هشام ( )102 /2إسناد صحيح.
2الهجرة النبوية المباركة ،ص.128 :
3فقه السيرة ،د.محمد سعيد البوطي ،ص.193 :
77
لينسى ،أو ينشغل عن رد األمانات إلى أهلها حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تُنسي
اإلنسان نفسه ،فضالً عن غيره.1
ـ وضوح سنة التدرج:
حيث نالحظ :أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عندما تقابل مع طالئع األنصار ـ في لقائه
األول ـ لم يفعل سوى ترغيبهم في اإلسالم ،وتالوة القرآن عليهم ،فلما جاؤوا في العام التالي،
بايعهم بيعة النساء على العبادات واألخالق والفضائل ،فلما جاءوا في العام الذي يليه ،كانت
بيعة العقبة الثانية على الجهاد والنصر واإليواء ،2وجدير المالحظة :أن بيعة الحرب لم تتم إال
بعد عامين كاملين ،أي تأهيل وإعداد استمر عامين كاملين ،وهكذا تم األمر على تدرج ينسجم
مع المنهج التربوي الذي نهجت عليه الدعوة من أول يوم.3
إنه المنهج الذي هدى اهلل نبيه صلى اهلل عليه وسلم إلى التزامه ،ففي البيعة األولى ،بايعه هؤالء
األنصار الجدد على اإلسالم عقيدة ومنهاجاً وتربية ،وفي البيعة الثانية ،بايعه األنصار على
حماية الدعوة ،واحتضان المجتمع اإلسالمي الذي نضجت ثماره ،واشتدت قواعده قوة
وصالبة.
إن هاتين البيعتين أمران متكامالن ضمن المنهج التربوي للدعوة اإلسالمية ،وإن األمر األول
هو المضمون ،واألمر الثاني ـ وهو بيعة الحرب ـ هو السياج الذي يحمي ذلك المضمون ،نعم
كانت بيعة الحرب بعد عامين في إعالن القوم اإلسالم ،إذ تم إعدادهم حتى غدوا موضع ثقة
وأهالً لهذه البيعة ،ويالحظ :أن بيعة الحرب لم يسبق أن تمت قبل ذلك اليوم مع أي مسلم ،إنما
حصلت عندما وجدت الدعوة في هؤالء األنصار ،وفي األرض التي يقيمون فيها المعقل
المالئم ،الذي ينطلق منه المحاربون ألن مكة لوضعها عندئذ لم تكن تصلح للحرب.4
78
ال أن توجد لهم دار إسالم ،تكون لهم
وقد اقتضت رحمة اهلل بعباده :أالا يحمالهم واجب القتال إ ا
بمثابة معقل يأوون إليه ،ويلوذون به ،وقد كانت المدينة المنورة أول دار إسالم.1
79
ثانياً :دعائم دولة اإلسالم في المدينة
شرع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منذ دخوله المدينة يسعى لتثبيت دعائم الدولة الجديدة،
على قواعد متينة وأُ سس راسخة ،فكانت أولى خطواته المباركة ،االهتمام ببناء دعائم األمة،
كبناء المسجد األعظم بالمدينة ،والمؤاخاة بين المهاجرين واألنصار على الحب في اهلل،
وإصدار الوثيقة أو الدستور اإلسالمي في المدينة الذي ينظم العالقات بين المسلمين واليهود
ومشركي المدينة ،وإعداد جيش لحماية الدولة ،والسعي لتحقيق أهدافها ،والعمل على حل
مشاكل المجتمع الجديد ،وتربيته على المنهج الرباني في شؤون الحياة كافة ،فقد استمر البناء
التربوي التعليمي ،واستمر القرآن الكريم يتحدث في المدينة عن عظمة اهلل ،وحقيقة الكون
والترغيب في الجنة والترهيب من النار ،ويشراع األحكام لتربية األمة ودعم مقومات الدولة
وكانت مسيرة األمة العلمية والتربوية ،تتطور مع مراحل الدعوة وبناء المجتمع ،وتأسيس
الدولة ،وعالج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم األزمة االقتصادية بالمدينة واستمر البناء
التربوي ،ففرض الصيام ،وفرضت الزكاة ،وأخذ المجتمع يزدهر والدولة تتقوى على أسس
ثابتة قوية.
1ـ بناء المسجد:
كان أول ما قام به الرسول صلى اهلل عليه وسلم بالمدينة بناء المسجد ،وذلك لتظهر فيه شعائر
اإلسالم ،التي طالما حُوربت ،ولتقام فيه الصلوات ،التي تربط المرء برب العالمين وتنقي القلب
من أدران األرض ،وأدناس الحياة ،1وشرع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في العمل مع
أصحابه ،وضرب أول معول في حفر األساس الذي كان عمقه ثالثة أذرع ،ثم اندفع المسلمون
في بناء هذا األساس بالحجارة والجدران ـ التي لم تزد عن قامة الرجل إال قليالً ـ باللبن الذي
1فقه السيرة للغزالي ،ص ،191 :فقه السيرة للبوطي ،ص.151 :
80
يعجن بالتراب ،ويسوى على أشكال أحجار صالحة للبناء ،1وفي الناحية الشمالية منه أقيمت
ظلة من الجريد على قوائم من جذوع النخل كانت تسمى الصفة أما باقي أجزاء المسجد ،فقد
تركت مكشوفة بال غطاء ،2وأما أبواب المسجد فكانت ثالثة :باب في مؤخرته من الجهة
الجنوبية ،وباب في الجهة الشرقية ،كان يدخل منه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بإزاء باب
بيت عائشة ،وباب من الجهة الغربية يقال له :باب الرحمة ،أو باب عاتكة.3
حجَر حول مسجده الشريف ،لتكون مساكن له وألهله،
وبني لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ُ
ولم تكن الحجر كبيوت الملوك واألكاسرة والقياصرة ،بل كانت بيوت من ترَ افع عن الدنيا
وزخارفها ،وابتغى الدارة اآلخرة ،فقد كانت كمسجده مبنية من اللبن والطين وبعض الحجارة،
وكانت سقوفها من جذوع النخل والجريد وكانت صغيرة الفناء ،قصيرة البناء ،ينالها الغالم
الفارغ بيده ،قال الحسن البصري ـ وكان غالماً مع أمه خيرة موالة أم سلمة ـ :قد كنت أنال
أول سقف في حُجَر النبي صلى اهلل عليه وسلم بيدي.4
وهكذا كانت بيوت النبي صلى اهلل عليه وسلم في غاية البساطة بينما كانت المدينة تشتهر
بالحصون العالية ،التي كان يتخذها علية القوم تباهياً بها في السالم ،وااتقاء بها في الحرب،
وكانوا من تفاخرهم بها يضعون لها أسماء ،كما كان حصن عبد اهلل بن أبَّي ابن سلول اسمه
مزاحم ،وكما كان حصن حسان بن ثابت رضي اهلل عنهما اسمه فارع ،إن النبي صلى اهلل عليه
وسلم بنى بيوته بذلك الشكل المتواضع ،وكان باستطاعته أن يبني لنفسه قصوراً شاهقة ،لو أنه
أشار إلى رغبته بذلك مجرد إشارة ،لسارع األنصار في بنائها له ،كما كان بإمكانه أن يشيدها
من أموال الدولة العامة كالفيء ونحوه ولكنه صلى اهلل عليه وسلم لم يفعل ذلك ،ليضرب ألمته
ال رفيعاً وقدوة عالية في التواضع والزهد في الدنيا ،وجمع الهمة والعزيمة للعمل لما بعد
مث ً
الموت ،5ومن أهم الفوائد والدروس من بناء المسجد:
أ ـ المسجد من أهم الركائز في بناء المجتمع:
1السيرة النبوية للصالبي (.)416 /1
2محمد رسول اهلل ،لمحمد رضا ،ص.143 :
3التاريخ السياسي والعسكري لدولة المدينة ،علي معطي ،ص.157 :
4السيرة النبوية ألبي شهبة (.)36 /2
5التاريخ اإلسالمي للحميدي (.)13 /4
81
إن إقامة المساجد من أهم الركائز في بناء المجتمع اإلسالمي ذلك أن المجتمع المسلم إنما
يكتسب صفة الرسوخ والتماسك بالتزام نظام اإلسالم وعقيدته وآدابه ،وإنما ينبع ذلك من روح
المسجد ووحيه.1
َولِ يَوم أَحَقُّ أَن تَقُو َم فِيهِ فِي ِه رِجَال
ُسسَ عَلَى التَّقوَى مِن أ َّ ـ قال تعالىَ ﴿ :
ال تَقُم فِي ِه أَبَدًا لَّمَسجِد أ ِّ
ـ وقال تعالى﴿ :فِي بُيُوت أَذِنَ اهللَُّ أَن تُرفَعَ وَيُذكَ َر فِيهَا اسمُهُ يُسَبِّ ُ
ح لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَاآلصَالِ *
ب فِيهِ
ن يَومًا تَتَقَلَّ ُ
ال بَيع عَن ذِك ِر اهللَِّ وَإِقَامِ الصَّالَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُو َ
ال تُلهِيهِم تِجَارَة وَ َ
رِجَال َّ
القُلُوبُ وَاألَبصَارُ* لِيَج ِزيَهُ ُم اهللَُّ أَحسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضلِهِ وَاهللَُّ يَرزُقُ مَن يَشَاء بِغَي ِر
حِسَاب﴾ (النور ،آية 36 :ـ .)38
82
ـ وهو قد أنشىء ليجد فيه الغريب مأوى ،وابن السبيل مستقراً ال تكدره مَِّنة أحد عليه ،فينهل
من رفده ،ويعب من هدايته ما أطاق استعداده النفسي والعقلي ،ال يصده أحد عن علم أو معرفة
أو لون من ألوان الهداية ،فكم من قائد يتخرج ،وبرزت بطولته بين جدرانه ،وكم من عالم
استبحر علمه في رحابه ،ثم خرج به على الناس يروي ظمأهم للمعرفة وكم من داع إلى اهلل
تلقى في ساحته دروس الدعوة إلى اهلل ،فكان أسوة الدعاة ،وقدوة الهداة ،وريحانة جذب القلوب
شذاها ،فانجفلت إليها تأخذ عنها الهداية ،لتستضيء بأنوارها.
وكم من إعرابي جلف ال يفرق بين األحمر واألصفر وفد عليه فدخله ،ورأى أصحاب رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم حوله هالة تحف به ،يسمعون منه ،وكأن على رؤوسهم الطير فسمع
معهم ،وكانت عنده نعمة العقل مخبأة تحت ستار الجهالة ،فانكشف له غطاء عقله ،فعقل وفقه
واهتدى واستضاء ،ثم عاد إلى قومه إماماً يدعوهم إلى اهلل ،ويربيهم بعلمه الذي علم وسلوكه
الذي سلك ،فآمنوا بدعوته واهتدوا بهديه ،فكانوا سطراً منيراً في كتاب التاريخ اإلسالمي.1
ـ وهو قد أنشىء ليكون قلعة االجتماع إذا استنفروا ،تعقد فيه أولوية الجهاد ،والدعوة إلى اهلل،
وتخفق فيه فوق رؤوس القادة الرايات ،للتوجه إلى مواقع األحداث وفي ظلها يقف جند اهلل في
نشوة ترقب النصر أو الشهادة.2
ـ وهو قد أنشىء ليجد فيه المجتمع المسلم الجديد ركناً في زواياه ،ليكون مشفىً يستشفى فيه
جرحى كتائب الجهاد ،ليتمكن نبي اهلل صلى اهلل عليه وسلم من عيادتهم ،والنظر في أحوالهم
واالستطباب لهم ،ومداواتهم في غير مشقة وال نصب ،تقديراً لفضلهم.3
ـ وهو قد أنشى ء ليكون مركزاً لبريد اإلسالم ،منه تصدر األخبار ،ويبرد البريد ،وتصدر
الرسائل ،وفيه تُتلقى األنباء السياسية سلماً أو حرباً ،وفيه تُتلقى وتُقرأ رسائل البشائر بالنصر،
ورسائل طلب المدد ،وفيه يُنعى المستشهدون في معارك الجهاد ،ليتأسى بهم المتأسون
وليتنافس في االقتداء بهم المتنافسون.4
83
ـ وهو قد أنشىء ليكون مرقباً للمجتمع المسلم ،يتعرف منه على حركات العدو المريبة
ويراقبها ،وال سيما األعداء الذين معه يساكنونه ويخالطونه في بلده ،من شراذم اليهود ،وزمر
المنافقين ،ونفاقات الوثنية ،الذين انغمسوا في الشرك ،فلم يتركوه ليتجنب المجتمع المسلم عاقبة
كيدهم ،وسوء مكرهم وتدبيرهم ،ويأمن مغبة 1غدرهم وخيانتهم.2
ج ـ التربية بالقدوة العلمية:
من الحقائق الثابتة أن النبي صلى اهلل عليه وسلم شارك أصحابه العمل والبناء ،فكان يحمل
الحجارة وينقل الطين على صدره وكتفيه ،ويحفر األرض بيديه كأي واحد منهم ،فكان مثال
الحاكم العادل الذي ال يفرق بين رئيس ومرؤوس أو بين قائد ومقود ،أو بين سيد ومسود ،أو
بين غني وفقير فالكل سواسية أمام اهلل ،ال فرق بين مسلم وآخر إال بالتقوى ،ذلك هو اإلسالم
عدالة ومساواة في كل شيء ،والفضل فيه يكون لصاحب العطاء في العمل الجماعي للمصلحة
العامة ،وبهذا الفضل ثواب من اهلل ،والرسول صلى اهلل عليه وسلم كغيره من المسلمين ،ال
يطلب إال ثواب اهلل ،3فقد كانت مشاركة النبي صلى اهلل عليه وسلم في عملية البناء ككل العمال
الذين شاركوا فيه ،وليس بقطع الشريط الحريري فقط ،وليس بالضربة األولى بالفأس فقط ،بل
غاض بعملية البناء كاملة ،وقد دُهش المسلمون من النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وقد علته
الغيرة ،فتقدم أسيد بن حُضير رضي اهلل عنه ليحمل عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقال:
يا رسول اهلل ،أعطينه ،فقال :اذهب فاحتمل غيره فإنك لست بأفقر إلى اهلل مني ،4وقد سمع
المسلمون ما يقول النبي صلى اهلل عليه وسلم لصاحبه ،فازدادوا نشاطاً ،واندفاعاً في العمل.5
إنه مشهد فريد من نوعه ،وال مثيل له في دنيا الناس ،وإذا كان الزعماء والحكام قد يقدمونه
على المشاركة أحياناً بالعمل ،لتكون شاشات التلفزيون جاهزة لنقل أعمالهم ،وتمأل الدنيا في
الصحف ،ووسائل اإلعالم كلها ،بالحديث عن أخالقهم وتواضعهم ،فالنبي صلى اهلل عليه وسلم
84
ينازع الحجر أحد أفراد المسلمين ويبين له أنه أفقر إلى اهلل تعالى ،وأحرص على ثوابه منه،
وقد تفاعل الصحابة الكرام تفاعالً عظيماً في البناء ،وأنشدوا هذا البيت:
لئن قعدنا والنبي يعمل
لذاك منا العمل المُضلُّل
إن هذه التربية العملية ال تتم من خالل الموعظة ،وال من خالل الكالم المنمق ،وإنما تتم من
خالل العمل الحيا الداؤوب ،والقدرة المصفاة من رب العالمين ،والتي ما كان يمكن أن تتم في
أجواء مكة ،والمالحقة واالضطهاد والمطاردة فيها ،إنما تتم في هذا المجتمع الجديد ،والدولة
التي تُبنى ،وكأنما غدا هذا الجمع من الصحابة الكرام كله صوتاً واحداً وقلباً واحداً ،فمضى
يهتف:
اللهم إنا العيش عيشُ اآلخرة
فانصر األنصار والمهاجرة
ويهتف بلحن واحد:
لئن قعدنا والنبي يعمل
فذاك منا العمل المُضَلُّل
وكان الهتاف الثالث:
هذي الجمال ال جمالُ خيبر
هذا أبر لربنا وأطهر
فحمل التمر والزبيب من خيبر إلى المدينة كان له مكانة عظيمة في المجتمع المدني ،لكنه
أصبح ال يذكر أمام حمل الطوب لبناء المسجد النبوي العظيم ،فقد أيقنوا بقوله تعالى ":مَا عِندَكُم
يَنفَدُ وَمَا عِن َد اهللِّ بَاق" (النحل ،آية .)96 :
وأما الهتاف الرابع:
ال يستوي من يعمر المساجدا
يدأب فيها قائمًا وقاعداً
85
1
ومن يُرى عن الغبار حائداً
د ـ االهتمام بالخبرة واالختصاص:
أخرج اإلمام أحمد عن طلق بن علي اليمامي الحنفي ،قال :بنيت المسجد مع رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم ،فكان يقول« :قرّبوا اليمامى من الطين ،فإنه أحسنكم له مسيساً» ،2وأخرج
اإلمام أحمد عن طلق أيضاً قال :جئت إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد،
وكأنه لم يعجبه عملهم ،فأخذت المسحاة فخلطت الطين ،فكأنه أعجبه فقال« :دعوا الحنفي
والطين ،فإنه أضبطكم للطين» ،وأخرج ابن حيان عن طلق ،قال :فقلت :يا رسول اهلل أأنقل
كما ينقلون؟ قال« :ال ،ولكن أخلط لهم الطين فأنت أعلم به» ،3فقد اهتم النبي صلى اهلل عليه
وسلم بهذا الوافد على المدينة ،والذي لم يكن من المسلمين األوائل ووظف خبرته في خلط
الطين ،وفي قوة العمل ،وهو درس للمسلمين في الثناء على الكفاءات واالستفادة منها ،وإرشاد
نبوي كريم في كيفية التعامل معها ،وما أحوجنا إلى هذا الفهم العميق.4
هـ ـ شعار الدولة المسلمة:
إن أذان الصالة شعار ألول دولة إسالمية عالمية "اهلل أكبر ،اهلل أكبر" إنها تعني أن اهلل أكبر
من أولئك الطغاة ،وأكبر من صانعي العقبات ،وهو الغالب على أمره" ،أشهد أن ال إله إال اهلل"
أي :ال حاكمية وال سيادة وال سلطة ،إال هلل رب العالمين "إن الحكم إال هلل" فمعنى ال إله إال اهلل
ال حاكم وال آمر وال مشرع إال اهلل "أشهد أن محمداً رسول اهلل" أسلمه اهلل تعالى القيادة ،فليس
ألحد أن ينزعها منه ،فهو ماض بها إلى أن يكمل اهلل دينه بما ينزله على رسوله من قرآن،
وبما يلهمه إياه من سنة ،5ويعني االعتراف لرسالة اهلل بالرسالة ،والزعامة الدينية والدنيوية
والسمع والطاعة له.6
86
"حيَّ على الصالة ..حيَّ على الفالح" أقبل يا أيها اإلنسان لالنضواء تحت لواء الدولة التي
أخلصت وجعلت من أهدافها تمتين العالقة بين المسلم وخالقه ،وتمتين العالقة بين المؤمنين
على أساس من القيم السامية "قد قامت الصالة" ،وقد اختيرت الصالة من بين سائر العبادات،
ألنها عماد الدين كله ،وألنها بما فيها من الشعائر كالركوع والسجود والقيام أعظم مظهر
لمظاهر العبادة بمعناها الواسع ،التي تعني الخضوع والتذلل واالستكانة ،فهو خضوع ليس بعده
خضوع فكل طاعة هلل على وجه الخضوع والتذلل عبادة ،فهي طاعة العبد لسيده ،فيقف بين
يديه قد أسلم نفسه طاعة وتذلالً.
ت
ن اهللَِّ لَمَّا جَاء ِنيَ البَِّينَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِر ُ قال تعالى﴿ :قُل إِنِّي نُهِيتُ أَن أَعبُدَ الَّذِينَ تَدعُو َ
ن مِن دُو ِ
وهذا االرتباط بين شعار الدولة الرسمي بحاكمية اهلل ،وسيادة الشرع ،سقوط الطواغيت،
وقوانينهم وأنظمتهم وشرائعهم ،بـ "حيَّ على الفالح ..قد قامت الصالة" يشير إلى أنه ال قيام
للصالة ،وال إقامة لها كما ينبغي إال في ظل دولة تقوم عليها وتقوم بها ولها ،فقد كان
المسلمون يصلون خفية في شعاب مكة قبل قيام دولتهم ،أما وقد قامت تحت سيوف األنصار،
فليجهروا باألذان واإلقامة ،وليركعوا ويسجدوا هلل رب العالمين.
إن الواقع التاريخي خير شاهد على أن اهلل ال ُيعبد في األرض حق عبادته ،إال في ظل دولة
قوية تحمي رعاياها من أعداء الدين ،ثم تتكرر كلمات األذان :اهلل أكبر ..اهلل أكبر للتأكيد على
المعاني السابقة.1
87
ويستشرف آفاق المستقبل ويسخار المؤسسات الوقفية لخدمة المجتمع المدني وصوالً إلى تحقيق
األمن االجتماعي ومن أهم األهداف التي تسعى الدولة الحديثة لتحقيقها من خالل وزارة
األوقاف والشؤون الدينية:
ـ تحقيق المالءمة واالنسجام مع مؤسسات المجتمع المدني والجامعات والمراكز البحثية دعماً
للعالقات التكاملية بينهما.
ـ زيادة وعي القضاة والعاملين في مجال الوقف وبناء إدارات وقف وإرشاد قادرة على القيام
بدورها وفقاً للمفهوم المدني للوقف.
ال وتجويداً وتنمية
ـ رفع مستوى اإلقبال على تعلم القرآن الكريم قراءة وحفظاً وتفسيراً وترتي ً
مهارات القائمين على تحفيظه مما سيؤدي بدوره إلى تخريج أجيال من حفظة القرآن الكريم
المهرة ،ويعين على ذلك مع االهتمام بأهل التخصص إعداد المساجد ومراكز التحفيظ إعداداً
حضارياً يساهم في تحقيق الهدف.
ـ نشر العقائد والمبادئ واألخالق والمعلوم بالدين بالضرورة وسيرة الرسول صلى اهلل عليه
وسلم وتاريخ اإلسالم من خالل دورات وندوات ،ووسائل اإلعالم وتفعيل دور المساجد حتى
تصل إلى كل المواطنين والمواطنات.
ـ التوسع في برامج التنمية المجتمعية ذات الصلة بالعمل النسائي والدعوة إلى التفاعل اإليجابي
مع الحضارة المعاصرة مع الحفظ على سمات الهوية اإلسالمية ،تفعيل المساهمة مع الجمعيات
الخيرية وعمل مراكز لها بجانب المساجد بحيث تشع روح المسجد على من حولها.
ـ التأكيد على الوحدة الوطنية ونبذ التفرقة والتعصب والغلو وربط هذا الشعب بأمته وآمالها
وطموحاتها.
ـ تطوير أعمال الحج والعمرة بهدف رفع مستوى الخدمة وتنمية قدرات القائمين على أعمال
وبرامج المساجد.
88
ـ جعل المسجد مركزاً لإلشعاع الديني والحضاري والتربوي والثقافي واالجتماعي وإعداد
إصدار الموسوعات اإلسالمية بأساليب عصرية تساعد على التفقه في الدين وتوزيعها على
المساجد والنوادي والمواطنين.
ـ تفعيل دور البحوث والدراسات الشرعية في تلبية احتياجات المجتمع.
ـ تطوير آليات بيان الحكم الشرعي في القضايا العامة والخاصة واالهتمام بالمخطوطات
اإلسالمية ،واإلنسانية وحفظها بطريقة علمية عصرية نضمن حسن االنتفاع بها.
ـ العمل على إيجاد مكتبات في كل المساجد وأخرى عامة تعزز الدور الفاعل للمكتبات في نشر
الثقافة والعلم والمعرفة والفقه وتوثيق الروابط مع كافة المكتبات ومراكز البحوث ذات الصلة
داخلياً وخارجياً.
ـ نشر الوعي اإلسالمي الصحيح بين المواطنين وتبني منهج الوسطية والحكمة واالعتدال في
دعوة الناس إلى دين اهلل.
ـ التواصل مع جميع شرائح المجتمع ،ومؤسسات المجتمع المدني المهتمة بالشأن اإلسالمي
الداخلي والخارجي والعاملة في ميدان تنمية المجتمع.
89
تباغضوا وال تحاسدوا وال تدابروا وكونوا عباد اهلل إخواناً ،وال يحل لمسلم أن يهجر أخاه
فوق الثالثة أيام».1
ـ وقال صلى اهلل عليه وسلم« :المسلم أخو المسلم ،ال يظلمه وال يسلمه ،2ومن كان في حاجة
أخيه ،كان اهلل في حاجته ،ومن فرّج عن مسلم كربة ،3فرّج اهلل ـ عز وجل ـ عنه كربة من
كربات يوم القيامة ،ومن ستر مسلماً ،ستره اهلل يوم القيامة» ،4وقد أكد القرآن الكريم األخوة
العامة بين أبناء األمة في قوله تعالى﴿ :وَاعتَصِمُوا ِبحَب ِل اهللِ جَمِيعًا وَ َ
ال تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَ َة اهللِ
ن النَّارِ
ن قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِ ِه إِخوَانًا َوكُنتُم عََلىَ شَفَا حُفرَة مِّ َ
عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعدَاء فَأَلَّفَ بَي َ
ن﴾ (آل عمران ،آية .)103 :
ن اهلل لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُو َ
فَأَنقَذَكُم مِّنهَا كَذَلِكَ ُيبَيِّ ُ
وقد أسهم نظام المؤاخاة في ربط األمة بعضها ببعض ،فقد أقام الرسول صلى اهلل عليه وسلم
هذه الصلة على أساس اإلخاء الكامل بينهم ،هذا اإلخاء الذي تذوب فيه العصبيات ،فال حمية
إال لإلسالم ،وتسقط به فوارق النسب واللون والوطن ،فال يتأخر أحد أو يتقدم ،إال بمروءته
وتقواه ،وقد جعل الرسول صلى اهلل عليه وسلم هذه األخوة عقداً نافذاً ال لفظاً فارغاً ،وعمالً
يرتبط بالدماء واألموال ،ال تحية تثرثر بها األلسنة ،وال يقوم لها أثر.5
وكانت عواطف اإليثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه األخوة ،وتمأل المجتمع الجديد
بأروع األمثال.6
90
إن سياسة ا لمؤاخاة بين المهاجرين واألنصار نوع من السبق السياسي ،الذي اتبعه رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم في تأصيل المودة وتمكينها في مشاعر المهاجرين واألنصار الذين سهروا
جميعاً على رعاية هذه المودة وذلك اإلخاء بل كانوا يتسابقون في تنفيذ بنوده.1
ن فِي
ال يَجِدُو َ
ن مَن هَاجَ َر إِلَيهِم وَ َ
ن مِن قَبلِهِم ُيحِبُّو َ
َوؤُوا الدَّارَ وَاإلِيمَا َ قال تعالى﴿ :وَالَّذِي َ
ن تَب َّ
ق شُحَّ نَفسِهِ
ن عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَة وَمَن يُو َ
صُدُورِهِم حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤثِرُو َ
فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ﴾ (الحشر ،آية .)9 :
ومما ن تآخوا في اهلل من المهاجرين واألنصار ،أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه ،وخارجة بن
زهير ،وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك ،وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ ،وعبد
الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع ،والزبير بن العوام وسالمة بن سالمة بن وقش ،وطلحة بن
عبيد اهلل وكعب بن مالك ،وسعيد بن زيد وأبي بن كعب ،ومصعب بن عمير وأبو أيوب ،خالد
بن الوليد وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ،وعباد بن بشر وعمار بن ياسر ،وحذيفة بن اليمان
وأبو ذر الغفاري ،والمنذر بن عمرو وحاطب بن أبي بلتعة ،2وعويم بن ساعدة وسلمان
الفارسي ،وأبو الدرداء وبالل مؤذن الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأبو رويحة عبد اهلل بن عبد
الرحمن الخثعمي ،3ومن أهم الدروس والفوائد والعبر من المؤاخاة بين المهاجرين واألنصار:
أ ـ آصرة العقيدة هي أساس االرتباط:
إن المجتمع المدني الذي أقامه اإلسالم كان مجتمعاً عقدياً يرتبط باإلسالم ،وال يعرف المواالة
إال هلل ولرسوله صلى اهلل عليه وسلم وللمؤمنين ،وهو أعلى أنواع االرتباط وأرقاه ،إذ يتصل
بوحدة العقيدة والفكر والروح.4
فقد فهم الصحابة أن والءهم ال يكون إال لقيادتهم ،وإخالصهم ال يكون إال لعقيدتهم ،وجهادهم
ال يكون إال إلعالء كلمة اهلل فحققوا ذلك كله في أنفسهم وطبقوه في حياتهم فمحاضوا والءهم
91
وجعلوه هلل ورسوله والمؤمنين وأصبح تاريخهم حافالً بالمواقف الرائعة التي تدل على فهمهم
العميق لمعنى الوالء الذي منحوه لخالقهم ولدينهم وعقيدتهم وإخوانهم.1
إن التآخي الذي تمَّ بين المهاجرين واألنصار كان مسبوقاً بعقيدة تمَّ اللقاء عليها واإليمان بها.
فالعقيدة التي جاء بها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من عند اهلل تعالى هي العمود الفقري
للمؤاخاة التي حدثت ،ألن تلك العقيدة تضع الناس كلهم في مصاف العبودية الخالصة هلل ،دون
االعتبار ألي فارق إال فارق التقوى والعمل الصالح ،إذ ليس من المتوقع أن يسود اإلخاء
والتعاون واإليثار بين أناس شتتت هم العقائد واألفكار المختلفة ،فأصبح كل منهم ملكاً ألنانيته
وأثرته وأهوائه.2
ب ـ الحب في اهلل أساس بنية المجتمع المدني:
إن المؤاخاة على الحب في اهلل أقوى الدعائم في بناء األمة المسلمة ،إذا ما وهنت وتآكل كل
بنيانها ، 3ولذلك حرص النبي صلى اهلل عليه وسلم على تعميق معاني الحب في اهلل ،في
المجتمع المسلم الجديد ،فقد قال صلى اهلل عليه وسلم« :إن اهلل تعالى يقول يوم القيامة :أين
المتحابون بجاللي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم ال ظل إال ظليّ».4
كانت توجيهات النبي صلى اهلل عليه وسلم تحث الصحابة على معاني الحب والتكافل ،واحترام
المسلمين بعضهم بعضاً ،فال يستعلي غني على فقير ،وال حاكم على محكوم ،وال قوي على
ضعيف ،وكان للحب أثره في المجتمع المدني الجديد ،فعن أنس بن مالك رضي اهلل عنه قال:
كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخالً وكان أحب أمواله إليه بيُرحاء ،وكانت مستقبلة
المسجد ،وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يدخلها ،ويشرب من ماء فيها طيب ،فلما نزلت
(آل عمران آية .)92 : ن وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيء فَإِنَّ اهللَ بِهِ عَلِيم﴾
﴿ :لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُن ِفقُوا مِمَّا تُحِبُّو َ
92
قام أبو طلحة ،فقال :يا رسول اهلل ،إن اهلل يقول ﴿لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ ،وإن
أحبا أموالي "بيُرحاء" ،وإنها صدقة هلل ،أرجو براها ،وذُخرها عند اهلل ،فضعها يا رسول اهلل
حيث أراك اهلل ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :ذلك مال رابح ،وقد سمعت ما قلت،
وإني أرى أن تجعلها في األقربين» ،فقال أبو طلحة :أفعل يا رسول اهلل ،فقسماها أبو طلحة في
أقاربه وبني عمه.1
وهذا عبد الرحمن بن عوف رضي اهلل عنه يحدثنا عن هذه المعاني الرفيعة ،حيث قال :لما
قدمنا المدينة ،آخى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع ،فقال سعد بن
الربيع :إني أكثر األنصار ماالً فأقسم لك نصف مالي ،وأنظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها
فإذا حلت 2وتزوجتها .قال :فقال له عبد الرحمن :ال حاجة لي في ذلك ،هل من سوق فيه
تجارة؟ قال :سوق قينقاع.3
قال :فغدا إليه عبد الرحمن فأتى بأقط وسمن ،قال :ثم تابع الغُدو ،4فما لبث أن جاء عبد الرحمن
الرحمن عليه أثر صفره ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :تزوجت؟» قال :نعم .قال:
«ومن؟» قال :امرأة من األنصار .قال« :كم سقت؟» قال :زنة نواة من ذهب أو :نواة من
ذهب ،فقال له النبي صلى اهلل عليه وسلم « :أو ِلم ولو بشاة».5
ونالحظ :أن كرم سعد بن الربيع قابله عفة وكرم نفس من عبد الرحمن بن عوف رضي اهلل
عنهما ،ولم يكن مسلك عبد الرحمن بن عوف خاصاً به ،بل إن الكثير من المهاجرين كان
مكوثهم يسيرًا في بيوت إخوانهم من األنصار ،ثم باشروا العمل والكسب ،واشتروا بيوت ًا
ألنفسهم ،وتكفلوا بنفقة أنفسهم ،ومن هؤالء أبو بكر ،وعمر ،وعثمان ،وغيرهم رضي اهلل
عنهم.
1أخرجه البخاري ،الحديث رقم ،1461 :وأخرجه مسلم ،الحديث رقم.998 :
2نزلت لك عنها :أي طلقتها ألجلك.
3قينقاع :قبيلة من اليهود نسب السوق إليهم.
4تابع العدو :أي داوم الذهاب إلى السوق للتجارة.
5أخرجه البخاري ،الحديث رقم.2048 :
93
ج ـ النصيحة بين المتآخين في اهلل:
كان للمؤاخاة أثر في المناصحة بين المسلمين ،فقد آخى النبي صلى اهلل عليه وسلم بين سلمان
وأبي الدرداء ،فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة ،فقال لها :ما شأنك؟ قالت:
أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا ،فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً ،فقال له :كل فإني
صائم ،قال :ما أنا بآكل حتى تأكل ،قال :فأكل ،فلما كان الليل ،ذهب أبو الدرداء يقوم ،قال :نم
فنام ،ثم ذهب يقوم ،فقال :نم فلما كان آخر الليل قال سلمان :قم اآلن ،فصليا ،فقال له سلمان:
إن لربك عليك حقاً ،ولنفسك عليك حقاً ،وألهلك عليك حقاً ،فأعط كل ذي حق حقه ،فأتى النبي
صلى اهلل عليه وسلم فذكر ذلك له ،فقال له النبي صلى اهلل عليه وسلم« :صدق سلمان».1
من خالل الروابط الوثيقة التي ألفت بين المهاجرين واألنصار ،أرست قيم إنسانية واجتماعية،
ومبادئ مثالية ،ال عهد للمجتمع القبلي بها ،وإنما هي شأن المجتمعات المتحضرة الفاضلة،
وفي مقدمة تلك القيم قيمة العمل الشريف كوسيلة لكسب الرزق ،فلقد قبل المهاجرون في أول
األمر ما أظهره إخوانهم األنصار من كرم الضيافة ،ولكنهم أبوا بعد ذلك إال أن يبحثوا عن
موارد رزق لهم ،وال يعوالوا على رابطة المؤاخاة التي سعد بها األنصار ،فكان منهم من
اشتغل بالتجارة ،ومنهم من عمل بالزراعة ،مستعذبين متاعب العمل على أن يكونوا عالة على
إخوانهم ،ذلك عزة اإليمان ال ترضي لصاحبها أن يكون عالة على أحد ،بل تطلب منه أن
يعطي أكثر مما يأخذ ،فاليد العليا خير وأحب إلى اهلل من اليد السفلى ،وقد فهم الصحابة الكرام
من تعاليم اإلسالم أن العمل عبادة ،وهي منزلة لم تصل إليها النظم المعاصرة التي قصرت
فائدتها على سد حاجات اإلنسان المادية والمعنوية ،وفي ضوء هذا المفهوم اإلسالمي نستطيع
أن نقول :إن اإلخاء والعمل كانا حجر الزاوية في بناء مجتمع دار المهجر ،وبالتالي في تأسيس
94
الحضارة اإلسالمية التي بنيت أصولها في المدينة بعد إقامة أول دولة في اإلسالم ،برئاسة
النبي صلى اهلل عليه وسلم ،ثم ترعرعت حتى أصبحت شجرة يتفيأ ظاللها العالم كله.1
نظم النبي صلى اهلل عليه وسلم العالقات بين سكان المدينة ،وكتب في ذلك كتاباً أوردته
المصادر التاريخية ،واستهدف هذا الكتاب أو الصحيفة توضح التزامات جميع األطراف داخل
المدينة ،وتحديد الحقوق ،والواجبات وقد سُميت في المصادر القديمة بالكتاب والصحيفة،
وأطلقت األبحاث الحديثة عليها لفظة "الدستور" ولقد تعرض الدكتور أكرم ضياء العمري في
كتابه "ا لسيرة النبوية الصحيحة" لدراسة طرق ورود الوثيقة ،وقال ":ترتقي بمجموعها إلى
مرتبة األحاديث الصحيحة" ،2وبيان أن أسلوب الوثيقة ينمُّ عن أصالتها ،فنصوصها مكونة من
كلمات وتعابير كانت مألوفة في عصر الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،ثم قلا استعمالها فيما بعد،
حتى أصبحت مغلقة على غير المتعمقين في دراسة تلك الفترة وليس في هذه الوثيقة نصوص
تمدح أو تقدح فرداً أو جماعة ،أو تخص أحد باإلطراء ،أو الذم ،لذلك يمكن القول بأنها وثيقة
أصلية ،وغير مزورة.3
ثم إن التشابه الكبير بين أسلوب الوثيقة ،وأساليب كتب النبي صلى اهلل عليه وسلم يعطيها توثيقاً
آخر.
نص الوثيقة:4
ـ هذا كتاب من محمد النبي رسول اهلل بين المؤمنين والمسلمين من قريش ،وأهل يثرب ومن
تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.
1الهجرة في القرآن الكريم ،ص.411 :
2السيرة النبوية للعمري (.)275 /1
3تنظيمات الرسول اإلدارية لصالح العلي ،ص 4 :ـ .5
4مجموعة الوثائق السياسية لمحمد حميد اهلل ،ص 41 :ـ .47
95
ـ إنهم أمة واحدة من دون الناس.
ـ المهاجرون من قريش على رِبعتهم ،1يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم 2بالمعروف والقسط
بين المؤمنين.
ـ وبنو عوف على رِبعتهم ،يتعاقلون معاقلهم 3األولى ،وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف
والقسط بين المؤمنين.
ـ وبنو الحارث "بنو الخزرج" على رِبعتهم ،يتعاقلون معاقلهم األولى ،وكل طائفة تفدي عانيها
بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
ـ وبنو ساعدة على رِبعتهم ،يتعاقلون معاقلهم األولى ،وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف
والقسط بين المؤمنين.
ـ وبنو جُشم على رِبعتهم ،يتعاقلون معاقلهم األولى ،وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط
بين المؤمنين.
ـ وبنو النجار على رِبعتهم ،يتعاقلون معاقلهم األولى ،وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف
والقسط بين المؤمنين.
ـ وبنو عمرو بن عوف على رِبعتهم ،يتعاقلون معاقلهم األولى وكل طائفة تفدي عانيها
بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
ـ وبنو النابيب على رِبعتهم ،يتعاقلون معاقلهم األولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف
والقسط بين المؤمنين.
ـ وبنو األوس على رِبعتهم ،يتعاقلون معاقلهم األولى ،وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف
والقسط بين المؤمنين.
ـ وإن المؤمنين ال يتركون مُفرح ًا 4بينهم أن يعطوه بالمعروف من فداء أو عقل وأال يحالف
مؤمن مولى مؤمن دونه.
96
ـ وإن المؤمنين المتقين "أيديهم" على "كل" من بغى منهم ،أو ابتغى دسيعة 1ظلم أو إثماً ،أو
عدواناً أو فساداً بين المؤمنين ،وإن أيديهم عليه جميعاً ،ولو كان ولد أحدهم.
ـ وال يقتل مؤمن مؤمناً في كافر وال ينصر كافرًا على مؤمن.
ـ وإن ذمة اهلل واحدة ،يُجبر عليهم أدناهم ،وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
ـ وإنه من تبعنا من يهود ،فإن له النصر واألسوة غير مظلومين وال متناصر عليهم.
ـ وإن سلم المؤمنين واحدة ،ال يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اهلل إال على سواء
وعدل بينهم.
ـ وإن كل غازية غزت معنا يُعقب بعضها بعضاً.
ـ وإن المؤمنين يُبيء 2بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل اهلل.
ـ وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه ،وإنه ال يجبر مشرك ماال لقريش ،وال نفساً
وال يحول دونه على مؤمن.
ـ وإنه من اعتبط 3مؤمناً قتالً عن بيِّنة ،فإنه قَوَد 4به ،إال أن يرضى ولي المقتول ـ "العقل" وإن
المؤمنين عليه كافة ،وال يحل لهم إال قيام عليه.
ـ وإنه ال يحل لمؤمن أقرا بما في هذه الصحيفة ،وآمن باهلل واليوم اآلخر ،أن ينصر مُحدث ًا ،5أو
يؤويه وإن من نصره أو آواه ،فإن عليه لعنة اهلل وغضبه يوم القيامة ،وال يؤخذ منه صرف وال
عدل.
ـ وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى اهلل ،وإلى محمد صلى اهلل عليه وسلم.
ـ وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.
ـ وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم ،وللمسلمين دينهم ،مواليهم وأنفسهم إال
من ظلم نفسه وأثم ،فإنه ال يُوتغ 6إال نفسه ،وأهل بيته.
1دسيعة :عظيمة.
2يُبيء :من البَوَاء وهو المساواة.
3أي :قتله دون جناية أو سبب يوجب قتله.
4القود :القصاص.
5من نصر جانياً وآواه وأجاره من خصمه.
6يوتغ :يهلك الهالك ،والمعنى :فسد وهلك وأثم.
97
ـ وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
ـ وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
ـ وإن ليهود بني جُشم مثل ما ليهود بني عوف.
ـ وإن ليهود بني األوس مثل ما ليهود بني عوف.
ـ وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف ،إال من ظلم وأثم ،فإنه ال يُوتغ إال نفسه وأهل
بيته.
ـ وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
ـ وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف ،وإن البر دون اإلثم.
ـ وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.
ـ وإن بطانة يهود كأنفسهم ،بطانة الرجل :أي خاصته ،وأهل بيته.
ـ وإنه ال يخرج منهم أحد إال بإذن محمد صلى اهلل عليه وسلم.
ـ وإن على اليهود نفقتهم ،وعلى المسلمين نفقتهم ،وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه
الصحيفة ،وإن بينهم النصح والنصيحة ،والبر دون اإلثم.
ـ وإنه ال يأثم امرؤ بحليفه ،وإن النصر للمظلوم.
ـ وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.
ـ وإن يثرب حرام جوفها ألهل هذه الصحيفة.
ـ وإن الجار كالنفس غير مُضار وال آثم.
ـ وإنه ال تجار حرمة إال بإذن أهلها.
ـ وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث ،أو اشتجار يخاف فساده ،فإن مراده إلى اهلل ـ
عز وجل ـ وإلى محمد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وإن اهلل على أتقى ما في هذه الصحيفة
وأبراه ،أي :إن اهلل وحزبه المؤمنين على الراضا به.
ـ وإنه ال تجار قريش وال من نصرها ،وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.
98
ـ وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه ،فإنهم يصالحونه ويلبسونه ،وإنهم إذا دعوا إلى مثل
ذلك فإنه لهم على المؤمنين ،إال من حارب في الدين وعلى كل أناس حصاتهم من جانبهم الذي
قبلهم.
ـ وإن يهود األوس ـ مواليهم وأنفسهم ـ على مثل ما ألهل هذه الصحيفة ،مع البر المحض من
أهل هذه الصحيفة وإن الب ار دون اإلثم ،ال يكسب كاسب إال على نفسه ،وإن اهلل على أصدق ما
في هذه الصحيفة وأب َّره.
ـ وإنه ال يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم ،وإنه من خرج آمن ،ومن قعد آمن بالمدينة ،إال
من ظلم وأثم ،وإن اهلل جار لمن ب ار وأتقى ،ومحمد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.1
واضح من هذه الصحيفة المباركة التي قاربت الخمسين نصاً أنها أسست عدداً من المبادئ
السياسية اله امة التي شكلت بمجموعها الدستور السياسي للمدينة الذي حدد حقوق وواجبات
أعضاء المجتمع السياسي الجديد ،مسلمين وغير مسلمين ،وصاغ البنية السياسية للنظام
الناشى ء من جهة وألمة اإلسالم فيما بعد من جهة أخرى ولقد تناول العديد من الباحثين هذه
المبادئ السياسية بالدراسة ونستطيع أن نجمل أهمها فيما يلي:
تضمان دستور المدينة مبادئ عامة ،درجت دساتير الدول الحديثة على وضعها فيها ،وفي
طليعة هذه المبادئ ،تحديد مفهوم األمة ،فاألمة في الصحيفة تضم المسلمين جميعهم ،مهاجرين
وأنصارهم ،ومن تبعهم ممن لحق بهم ،وجاهد معهم ،أمة واحدة من دون الناس ،2وهذا شيء
جديد كل الجدة في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب ،إذ نقل الرسول صلى اهلل عليه
وسلم قومه من شعار القبلية والتبعية لها إلى شعار األمة التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد،
فلقد قالت الصحيفة عنهم :إنهم أمة واحدة.
ـ قال تعالى﴿ :إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُم فَاعبُدُونِ﴾ (األنبياء ،آية)92:
99
ـ وبيَّن سبحانه وسطية هذه األمة في قوله تعالى﴿ :وَكَذَلِ َ
ك جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء
ـ ووضح سبحانه وتعالى أنها أمة إيجابية ،فهي ال تقف موقف المتفرج من قضايا عصرها ،بل
تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ،وتدعو إلى الفضائل وتحذر من الرذائل.1
ن بِاهللِ
عنِ المُنكَ ِر وَتُؤ ِمنُو َ قال تعالى﴿ :كُنتُم خَي َر أُمَّة أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ َوتَنهَو َ
ن َ
وَلَو آمَنَ أَهلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيرًا لَّهُم مِّنهُ ُم المُؤمِنُونَ وَأَكثَرُهُ ُم الفَاسِقُونَ﴾ (آل عمران ،آية :
.)110
كما أن مفهوم األمة مفتوح وغير مغلق على فئة دون فئة ،بل هي ممتدة لتشمل اإلنسانية كلها
إذا ما استجابت لدين اهلل تعالى ،الذي ارتضاه لخلقه ولبني آدم أينما كانوا.2
ج ـ مفهوم المواطنة:
إعتبرت الصحيفة اليهود جزءاً من مواطني الدولة اإلسالمية ،الذين يعيشون في أرجائها
مواطنين ،وأنهم أمة مع المؤمنين ،ما داموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم ،فاختالف الدين
ليس ـ بمقتضى أحكام الصحيفة ـ سبباً للحرمان من مبدأ المواطنة.3
د ـ إقليم الدولة:
وجاء في الصحيفة :إن يثرب حرام جوفها ألهل هذه الصحيفة .وأصل التحريم أال يقطع
شجرها ،وال يقتل طيرها ،فإذا كان هذا هو الحكم في الشجر والطير ،فما بالك في األموال
100
واألنفس1؟ فهذه الصحيفة حدَّدت معالم الدولة أمة واحدة ،وإقليم هو المدينة ،وسلطة حاكمة
يرجع إليها وتحكم بما أنزل اهلل.
إن المدينة كانت بداية إقليم الدولة اإلسالمية ،ونقطة االنطالق ،ومركز الدائرة التي كان اإلقليم
يتسع منها ،حتى يضع حداً للقالقل واالضطرابات ،ويسود السلم واألمن العام ،وقد أرسل النبي
صلى اهلل عليه وسلم أصحابه ليثبتوا أعالماً على حدود حرم المدينة من جميع الجهات وحدود
المدينة بين البتيها شرقاً وغرباً ،وبين جبل ثور في الشمال ،وجبل عير في الجنوب.2
ثم اتسع "اإلقليم" باتساع الفتح ،ودخول شعوب البالد المفتوحة في اإلسالم ،حتى عما مساحة
واسعة من غرب أوروبا وجنوبها ،ومناطق فسيحة من غرب آسيا وجنوبها إلى أكثر أهل
الصين وروسيا شرقاً ،وكل شمال إفريقيا وأواسطها.3
إن إقليم الدولة مفتوح وغير محدود بحدود جغرافية أو سياسية ،فهو يبدأ من عاصمة الدولة
"المدينة" ويتسع حتى يشمل الكرة األرضية بأسرها.
101
بالحقوق والحريات بأنواعها ،1يقول الدكتور محمد سليم العواا :وال تزال المبادئ التي تضمنها
الدستور ـ في جملتها ـ معموالً بها ،واألغلب أنها ستظل كذلك في مختلف نظم الحكم المعروفة
إلى اليوم ..وصل إليها الناس بعد قرون من تقريرها ،في أول وثيقة سياسية دوانها الرسول
صلى اهلل عليه وسلم.2
فقد أعلنت الصحيفة أن الحريات مصونة ،كحرية العقيدة والعباد ،وحق األمن ..إلخ ،فحرية
ن الرُّشدُ مِنَ الغَيِّ الدين مكفولة للمسلمين دينهم ولليهود ،قال تعالىَ ﴿ :
ال إِكرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّ َ
وقد أنذرت الصحيفة بإنزال الوعيد ،وإهالك من يخالف هذا المبدأ ،أو يكسر هذه القاعدة ،وقد
نصات الوثيقة على تحقيق العدالة بين الناس ،وعلى تحقيق مبدأ المساواة إن الدولة اإلسالمية
واجب عليها أن تقيم العدل بين الناس وتفسح المجال وتيسير السبل أمام كل إنسان ـ يطلب حقه
ال ،3وعليها أن تمنع
ـ أن يصل إلى حقه بأيسر السبل وأسرعها ،دون أن يكلفه ذلك جهدًا أو ما ً
أي وسيلة من الوسائل التي من شأنها أن تعوق صاحب الحق في الوصول إلى حقه.
لقد أوجب اإلسالم على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس ،دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم
أو أحوالهم اال جتماعية ،فهو يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحق وال يهمه أن يكون المحكوم
لهم أصدقاء ،أو أعداء ،أغنياء أو فقراء ،عماالً أو أصحاب عمل.
يقول األستاذ أبو األعلى المودودي ـ رحمه اهلل ـ معقباً على قوله تعالى ﴿ :فَلِذَلِكَ فَادعُ وَاستَقِم
102
(الشورى ،آية : ال حُجَّ َة بَي َننَا وَبَينَكُ ُم اهللُ يَجمَ ُع بَينَنَا وَإِلَيهِ المَصِيرُ﴾
وَرَُّبكُم لَنَا أَعمَالُنَا وَلَكُم أَعمَالُكُم َ
.)15
يعني أني مأمور باإلنصاف دون عداوة ،فليس من شأني أن أتعصب ألحد أو ضد أحد،
وعالقتي بالناس كلهم سواء ،وهي عالقة العدل واإلنصاف ،فأنا نصير من كان الحق في
جانبه ،وخصيم من كان الحق ضده ،وليس في ديني أي امتيازات ،ألي فرد كائناً من كان،
وليس ألقاربي حقوق ،وللغرباء حقوق أخرى ،وال لألكابر عندي مميزات ال يحصل عليها
األصاغر والشرفاء والوضعاء ،عندي سواء فالحق حق للجميع والذنب والجرم ذنب للجميع،
والحرام حرام على الكل ،والحالل حالل للكل ،والفرض فرض على الكل ،حتى أنا نفسي لست
مستثنى من سلطة القانون اإللهي.1
هلل وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم أَوِ الوَالِدَينِ
شهَدَاء ِ
ن بِالقِسطِ ُ وقال تعالى﴿ :يَا أَيُّهَا الَّذِي َ
ن آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِي َ
ن إِن يَكُن غَنِيًّا أَو فَقَيرًا فَاهللُ أَولَى بِ ِهمَا فَالَ تَتَّ ِبعُوا الهَوَى أَن تَعدِلُوا وَإِن تَلوُوا أَو تُعرِضُوا
وَاألَقرَبِي َ
ن خَبِيرًا﴾ (النساء ،آية .)135 :
ن بِمَا تَعمَلُو َ
فَإِنَّ اهللَ كَا َ
وهذا نص قرآني صريح في تكليف المجتمع القيادي المسلم بتحقيق العدل على أتم صورة،
وأكمل أحواله ،فالعدل على النفس ،وعلى أقرب ذوي القربى كالعدل مع غير النفس ،وأبعد
البُعدَاء ،وفي قوله تعالى﴿ :كُونُوا﴾ أمر للمجتمع المسلم ،في جميع أفراده ،وجماعاته ،أينما
حلوا من أرض اهلل ،وحيثما كانوا في أوطانهم المتقاربة أو المتباعدة ،وهو أمر كينونة يشعر
بمادته باإللزام وااللتزام ،والتهايوء واالنبعاث للقيام بإقامة منهج العدل في الحياة ،وفي قوله
تعالى ﴿ قَوَّامِينَ﴾ بصيغة المبالغة ،إيماء إلى ما يجب أن يكون عليه المجتمع المسلم من
النهوض بإقامة معالم العدل بكل ما أوتي من قوة مادية وروحية ،مشمًّرا على ساق العزم في
بذل الجهد ،والتحفز للعمل في سبيل توطيد دعائم العدل االجتماعي.
103
والقرآن الكريم بذلك ال يرضى للمجتمع المسلم أن يحمله تعزز الغني بثرائه وغناه على أال يقام
معه العدل ،ويظلم له الفقير ،وال يرضى لهذا المجتمع المسلم أن تحمله الرحمة للفقير ،فيحابى
بظلم الغني ألجله ،وال يرضى القرآن الحكيم لمجتمعه المسلم أن يميل مع الهوى ،ويخضع
للعواطف ،فيحيد عن العدل لياً بالحق ،وإعراضاً عنه ،وقد جاءت أخت هذه في نسق أسلوبها
وألفاظها ،لتكمل صورة إقامة العدل على أتام وجوهه ،ولتقرر أن موازين العدل يجب أن
يتساوى فيها المحب والمبغض ،والقريب والبعيد ،والصديق والعدو.
هلل شُهَدَاء بِالقِسطِ وَالَ يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَوم عَلَى أَالَّ
ن ِ ـ قال تعالى﴿ :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِي َ
فصورة الخطاب الكينوني هنا ﴿كُونُوا﴾ ـ الذي يجعل من العدل طبيعة خالئق المجتمع المسلم،
الذي نيط به قيادة اإلنسانية ـ هي صورته هناك ،ألن العدل أمانة هذا المجتمع المسلم العظمى
التي حملوها ،ليؤداوها إلى الناس في حياتهم.1
بيد أن األمر قد اختلف في اآليتين اختالفاً جمع متفرق مواطن العدل باعتباره أصالً من أصول
الرسالة الخالدة الخاتمة ،الذي يعما الحياة من جميع جوانبها ،ففي اآلية األولى وجاه األمر
للمجتمع المسلم بأشرف أوصافه ،قال تعالى﴿ :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ألى أن يكون قوًّاما بالعدل،
ولو كان في ذلك مراغمة منازع الحبا والو اد والقربى ،وفي هذه اآلية الثانية وجاه اآلمر
للمجتمع بعنوانه المشرق ،إلى أن يكون قوًّاما بالعدل ،ولو كان في ذلك مراغمة جميع عواطف
البعض والعداوة ،2وملتقى اآليتين الكريمتين في توجيه المجتمع المسلم توجيهاً صارماً ال هوادة
فيه إلى أن يكون نهًّاضا بالعدل ،قائماً به بين الناس ،له قيادته لإلنسانية ،وليخلص له التوجه
104
إلى اهلل تعالى في إخالص العبودية له وحده ،ال تحمله محبة مهما عظمت ،أو بغض مهما اشتد
على اإلعراض عن إقامة العدل ،إحقاقاً للحق ،وإنصافاً للمظلوم ،ونصراً للضعيف.1
وأما المساواة ،فقد جاءت نصوص صريحة في الصحيفة حولها ،منها :أن ذمة واحدة ،وأن
المسلمين ﴿يجير عليهم أدناهم﴾ ،وأن ﴿المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس﴾ ،ومعنى
الفقرة األخيرة :أنهم يتناصرون في السراء والضرااء "الفقرة "15وتضمنت الفقرة " "19أن:
﴿ المؤمنين يُبيء بعضهم على بعض ،بما نال دماءهم في سبيل اهلل﴾ ،قال السُهيلي ـ شارح
السيرة ـ في كتابه "الروض األنف" ومعنى قوله يبيء :هو من البَوَاء أي المساواة ،2ويعد مبدأ
المساواة أحد المبادئ العامة التي أقراها اإلسالم ،وهو من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع
المسلم ولقد أقرا هذا المبدأ ،وسبق به تشريعات ،وقوانين العصر الحديث ومما ورد في القرآن
الكريم تأكيداً لمبدأ المساواة ،قوله تعالى﴿ :يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقنَاكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَى وَ َ
جعَلنَاكُم
شُعُوبًا وَقَبَا ِئ َل لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَ َمكُم عِندَ اهللَِّ أَتقَاكُم إِنَّ اهللََّ عَلِيم خَبِير﴾ (الحجرات ،آية .)13 :
وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :يا أيها الناس إن ربكم واحد ،وإن أباكم واحد ،أال ال فضل
لعربي على أعجمي ،وال ألعجمي على عربي ،وال ألحمر على أسود ،وال ألسود على أحمر إال بالتقوى
أبلّغت»3؟
إن هذا المبدأ كان من أهم المبادئ التي جذبت الكثير من الشعوب قديماً نحو اإلسالم ،فكان هذا
المبدأ مصدرًا من مصادر القوة للمسلمين األولين.4
وليس المقصود بالمساواة هنا "المساواة العامة" بين الناس جميعاً في أمور الحياة كافة ،كما
ال ،5فاالختالف في المواهب والقدرات والتفاوت في
ينادي بعض المخدوعين ،ويرون ذلك عد ً
105
الدرجات غاية من غايات الخلق ،1ولكن المقصود المساواة التي دعت إليها الشريعة اإلسالمية،
مساواة مقيدة بأحوال فيها التساوي وليست مطلقة في جميع األحوال ،2فالمساواة تأتي في
معاملة الناس أمام الشرع ،والقضاء واألحكام اإلسالمية كافة ،والحقوق العامة دون تفريق
بسبب األصل أو الجنس أو اللون أو الثروة أو الجاه أو غير ذلك ،3إن الناس جميعاً في نظر
اإلسالم سواسية ،الحاكم والمحكوم ،الرجال والنساء ،العرب والعجم ،األبيض واألسود ،لقد
ألغى اإلسالم الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو الطبقة ،والحكام
والمحكومين كلهم في نظر الشرع سواء ،ولذلك كانت الدولة اإلسالمية األولى ،تعمل على
تطبيق هذا المبدأ بين الناس وكانت تراعي اآلتي:
ـ إن مبدأ المساواة أمر تعبدي ،تؤجر عليه من خالق الخلق سبحانه وتعالى.
ـ إسقاط االعتبارات الطبقية والعرفية والقبلية والعنصرية والقومية والوطنية واإلقليمية وغير
ال عنها للتفاضل،
ذلك من الشعارات الماحقة لمبدأ المساواة اإلنسانية ،وإحالل المعيار اإللهي بد ً
أال وهو التقوى.
ـ ضرورة مراعاة مبدأ تكافؤ الفرص للجميع ،وال يُراعى أحد لجاهه أو سلطانه أو حسبه
ونسبه ،وإنما الفرص للجميع ،وكل على حسب قدراته وكفاءاته ومواهبه وطاقته وإنتاجه.
إن تطبيق مبدأ المساواة بين رعايا الدولة اإلسالمية ،يقوي صفها ،ويوحد كلمتها ،وينتج عنه
مجتمع متماسك متراحم يعيش لعقيدة ومنهج ومبدأ.4
كانت الوثيقة قد اشتملت على أتما ما قد تحتاجه الدولة من مقوماتها الدستورية واإلدارية،
وعالقة األفراد بالدولة ،وظل القرآن يتنزل في المدينة عشر سنين ،يرسم للمسلمين خاللها
مناهج الحياة ،ويرسي مبادئ الحكم ،وأصول السياسة ،وشؤون المجتمع ،وأحكام الحرام
والحالل ،وأسس التقاضي وقواعد العدل ،وقوانين الدولة المسلمة في الداخل والخارج ،والسنة
الشريفة تدعم هذا ،وتشيده وتفصاله في تنوير وتبصرة ،فالوثيقة خطات خطوطاً عريضة في
106
الترتيبات الدستورية ،وتعد في قيمة المعاهدات التي تحدد صلة المسلمين باألجانب الكفار
المقيمين معهم ،في شيء كثير من التسامح والعدل والمساواة ،على التخصيص إذا لوحظ أنها
أول وثيقة إ سالمية تسجل وتنفذ في أقوام كانوا ـ منذ قريب ـ وقبل اإلسالم ـ أسرى العصبية
القبلية ،وال يشعرون بوجودهم إال من وراء الغلبة والتسلط ،وبالتخوض في حقوق اآلخرين
وأشيائهم.1
و ـ المرجعية العليا هلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم:
جعلت الصحيفة الفصل في كل األمور بالمدينة يعود إلى اهلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم ،فقد
نصات على مرجع ففي الخالف في الفقرة " "23وقد جاء فيها :وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء،
فإن مرده إلى اهلل ،وإلى محمد صلى اهلل عليه وسلم ،والمغزى من ذلك واضح ،وهو تأكيد
سلطة عليا دينية تهيمن على المدينة ،وتفصل في الخالفات ،منعاً لقيام اضطرابات في الداخل
من جراء تعدد السلطات وفي الوقت نفسه تأكيد ضمني برئاسة الرسول على الدولة ،2فقد
حدادت الصحيفة مصدر السلطات الثالثة :التشريعية والقضائية والتنفيذية ،فكان رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم حريصاً على تنفيذ أوامر اهلل ،من خالل دولته الجديدة ،ألن تحقيق
الحاكمية هلل على األمة هو محض العبودية هلل تعالى ،ألنه بذلك يتحقق التوحيد ،ويقوم الدين،
َال تَعبُدُوا إِالَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ الَ يَعلَمُونَ﴾ قال تعالى﴿:إِنِ الحُكمُ إِالَّ ِ
هلل أَمَ َر أ َّ
1صور وعبر من الجهاد النبوي ،د .محمد فوزي ،ص 29 :ـ .30
2التاريخ السياسي والحضاري للسيد عبد العزيز ،ص.102 :
3تفسير المنار ،محمد رشيد رضا (.)309 /12
107
هلل الدِّينُ الخَالِصُ ـ قال تعالى﴿ :إِنَّا أَنزَلنَا إِلَيكَ الكِتَابَ بِالح ِّ
َق فَاعبُدِ اهللَ مُخلِصًا لَّهُ الدِّينَ * َأالَ ِ
ن اتَّخَذُوا مِن دُونِ ِه أَولِيَاء مَا نَعبُدُهُم إِالَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اهللِ زُلفَى إِنَّ اهللَ يَحكُ ُم بَي َنهُم فِي مَا هُم فِيهِ
وَالَّذِي َ
ال يَهدِي مَن هُوَ كَاذِب كَفَّار﴾ (الزمر ،آية 2 :ـ .)3
ن إِنَّ اهللَ َ
يَختَلِفُو َ
ن
ال تَكُن لِّلخَآئِنِي َ
س بِمَا أَرَاكَ اهللُ وَ َ ـ وقال تعالى﴿ :إِنَّا أَنزَلنَا إِلَيكَ الكِتَابَ بِالح ِّ
َق لِتَحكُ َم بَينَ النَّا ِ
فكما أن تحقيق العبودية غاية من إنزال الكتاب ،فكذلك تطبيق الحاكمية غاية من إنزاله ،وكما
أن العبادة ال تكون إال عن وحي منزل ،فكذلك ال ينبغي أن يحكم إال بشرع منزل ،أو بما له
أصل في شرع منزل.1
إن تحقيق الحاكمية تمكين للعبودية ،وقيام بالغاية التي من أجلها خلق اإلنسان والجان ،قال
س إِالَّ لِيَعبُدُونِ﴾ (الذاريات ،آية .)56 : تعالىَ ﴿ :ومَا خَلَق ُ
ت الجِنَّ وَاإلِن َ
وقد اعترف اليهود في هذه الصحيفة بوجود سلطة قضائية عليا ،يرجع إليها سكان المدينة ـ بما
فيهم اليهود ـ بموجب بند رقم " ،"43لكن اليهود لم يُلزموا بالرجوع إلى القضاء اإلسالمي
دائماً ،بل فقط عندما يكون الحدث ،أو االشتجار بينهم وبين المسلمين ،أما في قضاياهم الخاصة
وأحوالهم الشخصية ،فهم يحتكمون إلى التوراة ،ويقضي بينهم أحبارهم ،ولكن إذا شاؤوا،
فبوسعهم االحتكام إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وقد خير القرآن الكريم النبي صلى اهلل عليه
وسلم بين قبول الحكم فيهم ،أو ردهم إلى أحبارهم ،قال تعالى﴿ :سَمَّاعُو َ
ن لِلكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحتِ
ت فَاحكُم
ك شَيئًا وَإِن حَكَم َ
فَإِن جَآؤُوكَ فَاحكُم بَينَهُم أَو أَعرِض عَنهُم وَإِن تُعرِض عَنهُم فَلَن يَضُرُّو َ
ِب المُقسِطِينَ﴾ (المائدة ،آية .)42 ،
بَينَهُم بِالقِسطِ إِنَّ اهللَ ُيح ُّ
108
ومـن القضايا التي أراد اليهـود تحكيم الرسول صلى اهلل عليـه وسلم فيها اختالف بني النضير،
وبني قريظة في دية القتلى بينهما ،فقـد كانت بنو النضير أعزَّ من بني قريظة ،فكانت تعرضهم
عليهم دية مضاعفة لقتالها ،فلما ظهر اإلسالم في المدينة امتنعت بنو قريظة عن دفع الضعف،
ن
ن بِالعَي ِ
س وَالعَي َ وطالبت بالمساواة في الدِّية .1فنزلت اآليةَ ﴿ :وكَتَبنَا عَلَيهِم فِيهَا أَنَّ النَّف َ
س بِالنَّف ِ
ن وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالجُرُوحَ قِصَاص فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة لَّهُ وَمَن
ن بِاألُذُ ِ
ف وَاألُذُ َ
ف بِاألَن ِ
وَاألَن َ
ك هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (المائدة ،آية .)45 :وبهذه الصحيفة التي أقرت
لَّم يَحكُم بِمَا أن َزلَ اهللُ فَأُولَـئِ َ
المـادة (( ))43على :أنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حديث ،أو اشتجار يخاف فساده،
فإن مرده إلى اهلل ،وإلى محمد صلى اهلل عليه وسلم سلطة قضائية مركزية عليا ،يرجع إليها
الجميع ،وجعلها ترجع إلى اهلل وإلى الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،ولها قوة تنفيذية ،ألن أوامر
اهلل واجبة الطاعة ،وملزمة التنفيذ ،كما أن أوامر الرسول صلى اهلل عليه وسلم هي من اهلل،
وطاعتها واجبة.2
وبذلك أصبح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رئيس الدولة وفي الوقت نفسه رئيس السلطة
القضائية والتنفيذية والتشريعية ،فقد تولى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم السلطات الثالث،
بصفته الرسول الحاكم ،ورئيس الدولة ،فقد تولى رئاسة الدولة وفق نصوص الصحيفة،
وباتفاق الطوائف المختلفة الموجودة في المدينة ،ممن شملتهم نصوص الصحيفة.3
109
وحماية الشورى ومن الحقوق والحريات العامة التي يجب أن ينص عليها دستور الدولة
الحديثة.
ــ لكل مواطن الحق في ممارسة الحياة السياسية ،واالقتصادية واالجتماعية ،والثقافية،
والدينية ،وحريته الشخصية ،وملكيته الخاصة مصانتان مصونة .وحياته الخاصة حرم آمن،
وحقه في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي مكفول ،وله أن يصدع شكواه بشتى الطرق في حدود
القانون دونما قيد أو شرط وال مصادرة ،أو تأميم أو فرض ضريبة إال بقانون.
ــ كل المواطنين سواسية أمام القانون ،وفي تقليد الوظائف العامة والمناصب الرسمية وتكافؤ
الفرص ضرورة والعمل حق وواجب وجنسية الدولة ال تمنح أو تسقط أو تسحب إال وفقاً
ألحكام القانون.
ـ التعليم حق لكل مواطن ،وعلى الدولة أن تكفله مجاناً في جميع مراحله بالمؤسسات التعليمية
الحكومية ويجب عليها القضاء على األمية كما ترعى وتدعم الدولة المؤسسات العلمية
والبحثية ،وتصون الحق في الملكية الفكرية والبحث العلمي.
ـ الحرية المسؤولة للصحافة والطباعة والنشر واإلعالم بكافة وسائله ،فال رقابة عليها وال تقييد
لها ،والحق في الحصول على المعلومات مكفولة ،وحرية الرأي والفكر والتعبير والتجمع
والتظاهر واالجتماع واإلضراب مصانة.
ـ الرعاية الصحية والضمان اال جتماعي لكل مواطن ،وحرمة جسده مصانة فال يجوز بحال
تعذيبه أو امتهانه ،أو احتقاره أو ازدرائه أو المساس به مادياً ومعنوياً.
ـ مؤسسات المجتمع المدني ركيزة مهمة من ركائز العمل السياسي واالجتماعي واالقتصادي
وعلى الدولة العمل على حرية إنشائها واالنضمام إليها ودعمها واستقالليتها واألخذ بناصيتها
بحسبانها اليد الطولى للمشاركة السياسية وذلك سواء كانت اتحادات أم نقابات أو جمعيات أو
أندية أو روابط.
ـ لمصابي الحروب أو بسببها ،ولزوجات وأبناء الشهداء األولوية في فرص العمل ولذوي
االحتياجات الخاصة نصيباً مفروضاً في كل تعيينات الدولة.
110
والدولة الحديثة تؤمن بأن السياسة ليست غاية في ذاتها بل هي إطار وآلية من خاللها تتفاعل
إرادة أفراد الشعب لتحقيق طموحاتهم في الحرية والتنمية والعدالة والشورى ،وأن المواطن هو
الفاعل الحقيقي والمستهدف من سياسة الدولة ،وأن الدولة في سياستها تنطلق من المبادئ
واألسس التالية.
ـ تؤكد على مبدأ سيادة القانون.
ـ إن السلطة للشعب وحده ،وهو مصدر السلطات ،وتؤمن بمبدأ الفصل بين السلطات الثالثة
التشريعية والتنفيذية والقضائية ،وتوازنها وتعاونها ،وتؤمن بأن الشورى الحقيقية ال تتأتى إال
بتفعيل هذا المبدأ وتدعو إلى ضرورة تحقيق ذلك من خالل الرقابة على دستورية القوانين
والتأكد من التزام السلطة التشريعية بما ورد في الدستور والحد من تفويض السلطة التشريعية
صالحياتها للسلطة التنفيذية ،وخاصة فيما يتعلق منها بالحقوق والحريات وضرورة إخضاع
أعمال السلطة التنفيذية للرقابتين البرلمانية والقضائية.
ـ والدولة الحديثة هي دولة لجميع مواطنيها وتحترم كل إنسان يعيش فوق أراضيها.
ـ وتؤمن بالتعددية السياسية والفكرية والحق في التدوال السلمي للسلطة ،عبر انتخابات نزيهة
حرة يشارك فيها المواطنون في الداخل والخارج على حد سواء.
ـ تؤمن أن العملية السياسية الشورية أساسها في القانون وتعمل على تطوير كل التشريعات
لتكون الشورى هي روح القوانين.
ـ تنادي بإطالق حرية تشكيل األحزاب السياسية ،على أن يكون تأسيسها بمجرد األخطار،
وتحت رقابة القضاء الطبيعي وحده وأن يكون الحزب مفتوحاً لعضوية جميع المواطنين بال
تمي يز بسبب الجنس أو اللون أو الدين أو الجهة أو القبيلة ،وأن يلتزم الحزب بقواعد العمل
الشوري في إطار دستور مدني.
ـ تؤمن بأن المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات متكافئون في الفرص وفي حق تولي
الوظائف العامة.
111
ـ تؤيد التوسع في مفهوم تولي المناصب العامة باالنتخاب وبخاصة المناصب ذات العالقة
المباشرة بالشعب ،مثل عمداء الكليات والبلديات ومدراء األمن.
ـ تدعم تعزيز مفهوم الالمركزية اإلدارية وأهمية وجود جيل من متخذي القرار في المجالس
المحلية على كافة الصعد األمنية والتنموية واالستثمارية.
ـ تؤيد مبدأ نسبية التمثيل في اال نتخابات العامة المحلية حيث يضمن ذلك المبدأ التعبير الحقيقي
والواقعي والفاعل عن أكبر عدد من التيارات السياسية والفكرية واالجتماعية كما يضمن تعبيراً
أمثل عن حقوق األقليات والنساء ،ويراعي التعداد السكاني والتباين الجهوي ،ويحترم اختالف
األصول واألعراق والهويات.
ـ تسعى لتحقيق حكم محلي شوري حقيقي يقوم على انتخاب المجالس المحلية وما في حكمها،
وإعطاء المحليات صالحيات فعلية في التقرير والتفيذ وتدبير موارد مالية محلية ،وتكون بتلك
المحليات مسؤ ولة أمام ناخبيها وليس أمام الحكومة وألعضاء هذه المجالس حق سحب الثقة من
رؤسائها.
ـ تؤمن بأن االعتبارات المفوضية ينبغي أن تكون المعيار الحاكم في شغل الوظائف الحكومية
وغير الحكومية على حد سواء.
ـ تلك االعتبارات يجب أن تبنى على أسس من الكفاءة والمهنية والتفاني واإليمان الصادق
بالتعبير عن مصالح الوطن وذلك بمعزل عن االعتبارت الشخصية أو األهواء الفردية.
ـ ومن ثم فال وجه لتوزيع وظائف الدولة على أساس قبلي أو جهوي أو طائفي أو عشائري أو
مذهبي أو على خلفية من مخاصصة ،أو إرضاء لحزب أو فكر أو تيار بعينه.
ـ ترى أن خير دور للجيش هو الحفاظ على إقليم الدولة والدفاع عنه ،وال تقبل له بأي تدخل في
مفاصل العمل المدني بشتى أشكاله السياسية أو االجتماعية أو االقتصادية.
ـ تثمن عالياً مهمة الشرطة في الحفاظ على األمن وحماية الحريات وحقوق اإلنسان وذلك من
خالل بناء منظومة شرطية أساسها الكفاءة والتميز وفصلها عن المآرب السياسية والحزبية.
ـ ترفض تماماً كافة القوانين والمحاكم االستثنائية أو الخاصة.
112
ـ إطالق حرية العمل الطالبي ،والنشاط الجامعي.
ـ توفير ضمانات االنتخابات الحرة النزيهة وذلك من خالل تشكيل لجنة قضائية دائمة تنفرد
بإرادة مجمل العملية االنتخابية.
ـ توفير الضمانات الالزمة إلجراء انتخابات حرة ونزيهة للنقابات المهنية والعمالية.
ـ محاربة الفساد بكافة أشكاله ،وعلى كافة المستويات.
لَّفَسَدَتِ األَرضُ وَلَـكِنَّ اهللَ ذُو فَضل عَلَى العَالَمِينَ﴾ (البقرة ،آية .)251 :
َن اهللُ
بَعضَهُم بِبَعض لَّهُدِّمَت صَوَامِ ُع وَ ِبيَع وَصَلَوَات وَمَسَاجِ ُد يُذكَ ُر فِيهَا اسمُ اهللِ كَثِيرًا وَلَيَنصُر َّ
مَن يَنصُرُ ُه إِنَّ اهللَ لَقَوِيٌّ عَزِيز﴾ (الحج ،آية .)40 :
ونالحظ في آية البقرة أنها جاءت بعد ذكر نموذج من نماذج الصراع بين الحق والباطل
المتمثل هنا في طالوت وجنوده المؤمنين ،وجالوت وأتباعه ،ويذيل اهلل تعالى اآلية بقوله :
﴿وَلَـكِنَّ اهللَ ذُو فَضل عَلَى العَالَمِينَ﴾ (البقرة ،آية .)251 :
مما يفيد أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعما الناس كلهم.1
113
وتأتي آية الحج بعد إعالن اهلل تعالى أنه يدافع عن أوليائه المؤمنين ،وبعد إذنه لهم ـ سبحانه ـ
بقتال عدواهم ،ويختتم اآلية بتقرير لقاعدة أساسية ﴿وَلَيَنصُر َّ
َن اهللُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اهللَ لَقَوِيٌّ
عَزِيز﴾ لقد أدرك الصحابة هذه السنة ،وعلموا أن القضاء على الباطل وتدميره ،البد له من أمة
لها قيادة ومنهج ،وقوة تدمغ الباطل وترهقه ،وأيقنوا أن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به،
وسواعد تمضي به ،وقلوب تحنو عليه ،وأعصاب ترتبط .لقد علَّمهم النبي صلى اهلل عليه وسلم
كيف يتعاملون مع هذه السنة ،فاستجابوا ألمر اهلل تعالى عندما أمرهم بالجهاد في سبيله ،فقد
شرع اهلل ـ عز وجل ـ الجهاد لهذه األمة وجعله فريضة ماضية إلى يوم القيامة ،ال يبطله جور
جائر وال عدل عادل ،وما تركه قوم إال أذلهم اهلل ،وسلط عليهم عدوهم وقد شرع اهلل ـ عز
وجل ـ الجهاد على مراحل ،ليكون أروض للنفس ،وأكثر مالءمة للطبع البشري ،وأحسن
موافقة لسير الدعوة ،وطريقة تخطيطها ،1فكان تشريع القتال على مراحل:
ـ المرحلة األولى:الحظر ،وذلك عندما كان المسلم في مكة وكانوا يطالبون النبي صلى اهلل عليه
وسلم باإلذن لهم في القتال فيجيبهم صلى اهلل عليه وسلم« :أصبروا فإني لم أومر بقتال».
ِن اهللَ ـ المرحلة الثانية :اإلذن من غير إيجاب ،قال تعالى﴿ :أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُو َ
ن بِأََّنهُم ظُلِمُوا وَإ َّ
ـ المرحلة الثالثة :وجوب قتال من قاتل المسلمين ،قال تعالى﴿ :وَقَاتِلُوا فِي سَبِي ِل ِ
هلل الَّذِينَ
ـ المرحلة الرابعة :فرض قتال عموم الكفار على المسلمين ،قال تعالى﴿ :وَقَاتِلُوا المُشرِكِي َ
ن
114
إن هذا التدرج في حكم القتال ،كان يقتضيه وضع الدولة اإلسالمية الناشئة ،وحالة الجيش
اإلسالمي الذي كان آخذًا في التكوين من حيث العدد والعُدة ،والتدريب وما إلى ذلك ،فكان البد
من مضي فترة من الوقت ،يكون التعرض فيها ألعداء الدعوة اإلسالمية من كفار قريش الذين
آذوا المسلمين ،واضطروهم إلى الخروج من ديارهم ،يكون فيها ذلك التعرض ألعداء الدعوة،
إنما هو سبيل االختيار ،ال على سبيل اإلجبار ،وذلك إلى أن يصلب عود الدولة اإلسالمية
ويشتد بأسها ،بحيث تستطيع الصمود أمام قوى الكفر في الجزيرة العربية ،حتى لو عملت
قريش على تأليبها ضد المسلمين ،كما وقع فيما بعد وحينئذ يأتي وجوب القتال ،في حالة تكون
فيها أوضاع الدولة اإلسالمية والجيش اإلسالمي ،على أهبة االستعداد ،لمواجهة االحتماالت
كافة ،هذا فيما يتصل بالقتال الذي يتعرض فيه المسلمون لكفار قريش ،جاء النص باإلذن أي
باإلباحة ال بالوجوب ،أما في حالة ما لو تعرض المسلمون ـ وهم في دولتهم في المدينة ـ
لهجوم األعداء عليهم ،فالقتال هنا فرض ،ال مجال فيه للخيار ،وليس مجرد أمر مأذون فيه،
وذلك تطبيقاً لبيعة الحرب ،بيعة العقبة الثانية ،التي أوجبت على األنصار حرب األحمر
واألسو د من الناس ،في سبيل الذود عن الدعوة اإلسالمية وصاحبها صلى اهلل عليه وسلم
وأتباعها.1
ومع نزول اإلذن بالقتال شرع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في تدريب أصحابه على فنون
القتال والحروب ،واشترك معهم في التمارين والمناورات والمعارك ،وعدا السعي في هذه
الميادين من أجل القربات ،وأقدس العبادات التي يتقرب بها إلى اهلل سبحانه وتعالى ،وقد قام
النبي صلى اهلل عليه وسلم بتطبيق قول اهلل تعالى ﴿ :وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا استَطَعتُم مِّن قُوَّة وَمِن رِّبَاطِ
وكان منهجه صلى اهلل عليه وسلم في تكوين المجاهد المسلم ،يعتمد على نهجين متوازيين،
التوجيه المعنوي ،والتدريب العملي.
1القتال والجهاد لمحمد هيكل (.)464 ،463 /1
115
ـ التوجيه المعنوي:
كان صلى اهلل عليه وسلم يسعى إلى رفع معنويات المجاهدين فيمنحهم أمالً يقيناً بالنصر أو
الجنة ،ومنذ تلك اللحظات وفيما بعد ،ظل هذا األمل يحدو الجندي المسلم في ساحات القتال
ويدفعه إلى بذل كل طاقاته النفسية والجسدية والفنية ،من أجل كسب المعارك ،أو الموت تحت
ظالل السيوف 1فمن أقواله صلى اهلل عليه وسلم في حث أصحابه على الجهاد« :والذي نفسي
بيده لوال أن رجاالً من المؤمنين ال تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عنّي ،وال أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن
سرية تغدو في سبيل اهلل ،والذي نفسي بيده لوددت أنيّ أقتل في سبيل اهلل ،ثم أحيا ،ثم أقتل ،ثم أحيا ،ثم
أقتل ،ثم أحيا ،ثم أقتل».2
ـ وقوله صلى اهلل عليه وسلم« :ما أحد يدخل الجنة ،يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على
األرض من شيء ،إال الشهيد ،يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات ،لما يرى من
الكرامة».3
ـ التدريب العملي:
سعى النبي صلى اهلل عليه وسلم إلى اعتماد كلا طاقات األمة القادرة على البذل والعطاء
ورجاالً ونساء وصبيانا وشباباً وشيوخاً ،وإلى التمرس على كل مهارة في القتال ،طعناً بالرمح
وضرباً بالسيف ورمياً بالنبل ،ومناورة على ظهور الخيل ،وكان صلى اهلل عليه وسلم يمزج
خطيا التربية العسكرية المتوازيين ،التوجيه والتدريب واألمل في النصر أو الجنة ،وتقديم
الجهد في ساحات القتال ،ويحض المسلمين على إتقان ما تعلموا من فنون الرماية ،قال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم :من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى ،فهي دعوة إلى عموم
األمة ،وحتى من دخلوا في سن الشيخوخة للتدريب على إصابة الهدف ومهارة اليد ،ونشاط
الحركة.
إن اإلسالم يهتم بطاقات األمة جميعها ،ويوجهها نحو المعالي ،وعلوا العمة.
116
وكان صلى اهلل عليه وسلم يهتم باألعداء على حسب كلا طرف وحال ،ويحث على كل وسيلة
يستطيعها المسلمون ،وقد ثبت عنه صلى اهلل عليه وسلم :أنه قال« :وَأَعِدّواْ لَهم مَّا اسْتَطَعْتم مِّن
قوَّةٍ :أال إن القوة الرميّ أال إن القوة الرّمي أال إن القوة الرّمي».1
ولذلك أخلص الصحابة في جهادهم هلل تعالى ،طمعاً في ثوابه ،خوفاً من عقابه ،فكان كالمهم
هلل ،وأنفقوا أموالهم ابتغاء مرضاة اهلل ،وقدموا أنفسهم دفاعاً عن دين اهلل ،ومن أجل إعالء كلمة
اهلل تعالى ،وكان لجهاد الصحابة في سبيل اهلل تعالى آثاره العظيمة في تزكية نفوسهم ،والتي
تتجلى في الجوانب التالية وهي :تحرير النفس من حب الحياة والتعلق بها ،تمحيص النفس
وتدريبها على الصبر والفداء ،وعزة النفس ،وأما أهداف الجهاد ،حماية حرية العقيدة ،حماية
الشعائر ،والعبادات ودفع الفساد عن األرض واالبتالء والتربية واإلصالح ،وإرهاب الكفار
وإخزاؤهم وإذاللهم ،وتوهين كيدهم وكشف المنافقين ،ودفع عدوان الكافرين.
ـ أهم السرايا والبعوث التي سبقت غزوة بدر الكبرى:
بدأت قريش بإعالن حالة الحرب بينها وبين دولة اإلسالم بالمدينة ،ونزل اإلذن من اهلل تعالى
بالقتال ،وصار من الطبيعي أن تتعامل دولة المدينة مع قريش حسب ما تقتضيه حالة الحرب
هذه ،فقد اتجه نشاط الرسول صلى اهلل عليه وسلم من أجل توطيد مكانة هذه الدولة ،والردا على
قريش في إعالنها حالة الحرب على المدينة فاتجه نشاطه صلى اهلل عليه وسلم نحو إرسال
السرايا ،والخروج في الغزوات ،2فكانت تلك السرايا والغزوات التي سبقت بدر الكبرى ،ومن
أهمها :غزوة األبوَاء ،سرية عبيدة بن الحارث ،سرية حمزة بن عبد المطلب ،وغزوة بواط،3
وغزوة العشيرة ،4وسرية سعد بن أبي وقاص.
ـ وقد قام النبي صلى اهلل عليه وسلم قبل البدء بحركة السرايا والغزوات بإجراء تعداد سكاني
في السنة األولى من الهجرة وبعد المؤاخاة مباشرة وكان اإلحصاء للمسلمين فقط ،أو حسب
نص أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حينما قال« :اكتبوا لي من تلفظ باإلسالم من الناس»،
1أخرجه مسلم ،الحديث رقم.1917 :
2الجهاد والقتال ،محمد خير هيكل (.)476 /1
3جبل من جبال جهينة ،بناحية رضوى بقرب ينبع.
4موضع بين مكة والمدينة.
117
فبلغ تعداد المحاربين منهم " "1500ألفاً وخمسمائة رجل 1فأطلق المسلمون بعد إجراء هذا
اإلحصاء تساؤل تعجب واستغراب :نخاف ونحن ألف وخمسمائة؟ ألنهم كانوا قبل ال ينامون
إال معهم السالح خوفاً على أنفسهم ،وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يمنع خروجهم ليالً
فرادى ،حماية لهم من الغدر ، 2وبعد هذا التعداد مباشرة ،بدأت السرايا والغزوات ،وهذا
اإلجراء اإلحصائي يدخل ضمن اإلجراءات التنظيمية في تطوير الدولة الناشئة.3
ـ حراسة الصحابة للنبي صلى اهلل عليه وسلم الشخصية:
كان الصحابة رضي اهلل عنهم يحرسون النبي صلى اهلل عليه وسلم حراسة شخصية ،فعن أم
المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها قالت :أرِق النبي صلى اهلل عليه وسلم ذات ليلة ،فقال« :ليت
رجالً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة» ،إذ سمعنا صوت السالح ،قال« :من هذا؟» قال:
سعد يا رسول اهلل جئت أحرُسُك ،فنام النبي صلى اهلل عليه وسلم حتى سمعنا غطيطه ،4وكان
ذلك قبل غزوة بدر الكبرى ،5وفي حديث عائشة رضي اهلل عنها :مشروعية من العدو ،واألخذ
بالحزم ،ترك اإلهمال في موضع الحاجة إلى االحتياط ،وأن على الناس أن يحرسوا سلطانهم
خشية القتل ،وفيه الثناء على من تبرع بالخير وتسميته ،وإنما عنى النبي صلى اهلل عليه وسلم
ذلك مع قوة توكله ،لالستنان به في ذلك.6
ـ نص وثيقة المعاهدة مع بني ضمرة والتعليق عليها:
بسم اهلل الرحمن الرحيم ،هذا كتاب من محمد رسول اهلل ،لبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن
كنانة ،بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم ،وأن لهم النصرة على من رامهم ،إال أن يحاربون
دين اهلل ،ما بل بحر صوفه ،7وأن النبي إذا دعاهم لنصرة أجابوه عليهم بذلك ذمة اهلل وذمة
رسوله ،ولهم النصر على من برا منهم واتقى.8
118
انتهز النبي صلى اهلل عليه وسلم في غزوة األبواء فرصة ذهبية فعقد حلفاً عسكرياً مع شيخ
ضمرة ،فقد كان موقع بالده ذا قيمة عسكرية ال تقدر بثمن في الصراع بين الدولة اإلسالمية
الناشئة وقريش ،ولذلك عمل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على ضمان حيدتهم ،في حالة
وقوع صدام مسلح بين المدينة وأهل مكة ،وكانت خطته حتى وقعة بدر أن يزعج قوافل قريش
بإرسال مجموعات صغيرة من المهاجرين وخاصة أن هذه القوافل كانت غير مصحوبة بجيش
يحميها وهو أمر لم تفكر فيه قريش حتى تلك اللحظة 1كان قرب بني ضمرة وحلفائهم من
المدينة التي كانت سوقهم ،ومصدر رزقهم قد وضعهم في موقف ال يسمح لهم بأي مسلك غير
موادعة الدولة اإلسالمية الناشئة ،وهو حلف عدم اعتداء وفق المصطلح الحديث.2
وقد دلت هذه الموادعة على أن مقتضيات السياسة الشرعية ،قد تدفع المسلمين إلى التحالف
العسكري أو االقتصادي أو التجاري ،مع أي من الكتل القائمة ،وأن التحالف السياسي له أصل
في الشريعة ،وضرورة يوجبها استهداف رفع الضرر الحاصل ،أو المرتقب ،3وأن التحالف
مبني على قاعدة رفع الضرر ،والمصلحة المشتركة ،وأن تكون ألصل الحلف غاية شرعية
معلومة ،وأن يكون للمسلمين في الحلف قرار ورأي ،أما إذا كانوا أتباعاً ومنقذين فهذا ال
ينطبق عليه األصل الشرعي وعلى قيادة األمة أن تستوعب هدي النبي صلى اهلل عليه وسلم في
حركته السياسية ،وأن تفهم القاعدة الشرعية التي تقول :ال ضرر وال ضرار.4
وهذه القاعدة «ال ضَرر وال ضِرار» من أركان الشريعة ،وتشهد لها نصوص من الكتاب
المنهي عنه ما كان ضرراً عاماً أو خاصاً ،ويشمل ذلك دفعه قبل
ُّ والسنة ،ويشمل الضرر
الوقوع بطرق الوقاية الممكنة ،ودفعه بعد الوقوع بما يمكن من التدابير التي تزيل آثاره ،وتمنع
تكراره ،كما يدل على وجوب اختيار أهون الشرين ،لدفع أعظمهما ،ألن في ذلك تخفيف ًا
للضرر عندما ال يمكن منعه بتات ًا.5
119
إن هذه الموادعة توضح جواز عقد الدولة اإلسالمية معاهدة دفاعية بينهما وبين دولة أخرى،
إذا اقتضت ذلك مصلحة المسلمين ،ولم يترتب أي ضرر على مثل هذه المعاهدة ،ويجب على
الدولة اإلسالمية في هذه الحال ،نصرة الدولة الحليفة إذا دعيت إلى هذه النصرة ضد الكفار
المعتدين ،كما يجوز للدولة اإلسالمية أن تطلب من الدولة الحليفة إمدادها بالسالح والرجال،
ليقاتلوا تحت راية الدولة اإلسالمية ،ضد األعداء من الكفار.1
وقد شرط النبي صلى اهلل عليه وسلم على بني ضمرة أال يحاربوا دين اهلل ،حتى يكون لهم
النصر على من اعتدى عليهم ،أو حاول االعتداء وفي هذا إبعاد للعقبات ،التي يمكن أن تقف
في طريق الدعوة ،فقد أوجبت هذه المعاهدة على بني ضمرة أال يحاربوا هذا الدين ،أو يقفوا
في طريقه ،2وتعتبر هذه المعاهدة كسباً سياسياً وعسكرياً للمسلمين ،ال يستهان به.3
ـ من أهداف السرايا:
عندما ندرس حركة السرايا والغزوات التي قادها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بدقة وعمق
وتحليل ،نستطيع أن نتلمس كثيراً من األهداف ،وندرك بعض ما توحي به من دروس وعبر
وفوائد ،فإذا تأملنا في حركة السرايا التي سُيرت قبل بدر ،نجد أن أفرادها كلهم من المهاجرين،
ليس فيهم واحد من األنصار ،يقول ابن سعد ـ رحمه اهلل ـ :والمجتمع عليه أنهم كانوا جميعاً
من المهاجرين ،ولم يبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أحداً من األنصار مبعثاً حتى غزا
بهم بدراً وهذا كان أمرًا مدروساً له أهدافه ،ومنها :إحياء قضية المهاجرين في أنفسهم أوالً،
وإحياؤها على المستوى الخارجي ،وإنهاك االقتصاد القرشي ،ومحاصرته واستعادة بعض
الحقوق المسلوبة ،وإضعاف قريش عسكرياً ،وتدريب الصحابة على إتقان فنون القتال ،ورصد
تحركات قريش ،وإرهاب العدو الداخلي في المدينة وما حولها ،واختبار قوة العدوا.4
وقد حققت تلك السرايا أهدافها والتي من أهمها:
ـ بسط هيبة الدولة في الداخل والخارج.
120
ـ كسب بعض القبائل وتحجيم دور األعراب.
ـ عالقة هذه السرايا بحركة الفتوح:
وقد استمرت حركة السرايا والبعوث ،وكانت بمثابة تمرينات عسكرية تعبوية ،ومناورات حية
لجند اإلسالم ،وكان هذا النشاط المتدفق على شكل موجبات متعاقبة من جند اإلسالم األوائل،
داللة قاطعة على أن دولة اإلسالم في المدينة ـ وبقيادة النبي القائد صلى اهلل عليه وسلم ـ كانت
مثل خلية النحل ال تهدأ وال تكل ،وإن الباحث ليلحظ في حركة السرايا والبعوث والغزوات
الكبرى في زمن النبي صلى اهلل عليه وسلم ،حرص الصحابة على المشاركة كقادة وجنود،
فكان صلى اهلل عليه وسلم يعدُهم لتثبيت دعائم الدولة واالستعداد للفتوحات المرتقبة ،والتي ما
فتئ صلى اهلل عليه وسلم يُبشار بها أصحابه بين الفينة واألخرى في أوقات الحرب والسلم
والخوف واألمن.
لقد كانت السرايا والغزوات التي أشرف عليها الحبيب المصطفى صلى اهلل عليه وسلم في
حياته ،بمثابة تدريب حي نابض ،بل يمكن اعتبارها دورات أركان للقادة الذين فتحوا مشارق
األرض ومغاربها ،فيما بعد.
إن حياة الصحابة رضي اهلل عنهم ،خالل األربع والعشرين ساعة اليومية ،عبارة عن تدريب
مستمر ،فالبرنامج اليومي المنتظم يبدأ مبكراً من صالة الفجر ،التي تؤدى في جماعة مع
قائدهم األعلى صلى اهلل عليه وسلم الذي كان يحثهم على أداء هذه الصالة جماعة في وقتها
موضحاً لهم وألمته أنها المفتاح العجيب ليوم مليء بالنشاط والحيوية ،ثم ينطلق كل منهم إلى
عمله الذي تتخلله فترات الصلوات الباقية ،حتى إذا ما صلوا الصالة اآلخرة "صالة العشاء"
ناموا حتى إذا ما أخذوا قسطاً وافراً من النوم أول الليل إلى الثلث األخير منه ،قام معظمهم
ألداء صالة التهجد التي تمأل قلوبهم روحانية وتكسبهم مزيداً من النشاط ألدائها في وقت يكون
الجسم فيه مرتاحاً.
هذا باإلضافة إلى االستعداد الدائم واليقظة التامة لمتطلبات دولة اإلسالم ،فكانوا يقومون
بنشاطات تدريبية مركزة ،تتمثل ركوب الخيل ،والسيف والرماية وكان النبي صلى اهلل عليه
121
وسلم يحُثهم على فعل ذلك ،بل ويشاركهم فيه ،معطياً مع نفسه القدوة ،وكان صلى اهلل عليه
وسلم يركز على تعلم الرماية كثيراً ،موضحاً أنها خير ما يعد من قوة واستعداداً للكفار.
وكان صلى اهلل عليه وسلم يشجعهم على الصناعة الحربية ،المتمثلة في ذلك الوقت في صناعة
األسهم ،يخبرهم :أن األجر الذي غايته الجنة ينسحب ،والمتنبل بها والرامي بها ،فيروي لنا
عقبة عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قوله« :إن اهلل يدخل بالسهم الواحد ثالثة نفر الجنة:
صانعه الذي احتسب في صنعته الخير ومتنبله ،1والرامي ،ارموا وأركبوا ،وأن ترموا أح ّ
ب
إليّ من أن تركبوا وليس من اللهو إال ثالثة :تأديب الرجل فرسه ،ومالعبته زوجته ،ورميه
بنبله عن قوسه ،ومن علّم الرمي ثم تركه ،فهي نعمة كفرها».2
إن المهمات واألهداف التي سعت لتحقيقها السرايا والبعوث كانت تتفاوت تبعاً الختالف
الظروف المحيطة والحادثة ،فكانت السرايا األولى في معظمها عبارة عن دوريات استطالعية
وإستكشافية وجس نبض ،ثم تطورت إلى سرايا اعتراضية توقع الرعب والفزع في القوافل
القرشية ،وذلك قبل غزوة بدر الفاصلة ،وعندما قويت شوكة المسلمين بعدها ،أصبحت مهمة
بعض السرايا والبعوث تنصبُا في تصفية األفراد من أعداء الدولة اإلسالمية ،الذين يحاولون
النيل من مسيرتها ،مثل كعب بن األشرف ،والعصماء بنت مروان ،وأبي عفك ،فكان في قتل
3
كعب ردع لليهود ،وقتل العصماء وأبي عفك ردع للمشركين والمنافقين في المدينة.
وعندما انقلبت األمور لغير صالح المسلمين بعد أحد ،طمع األعراب في خيرات المدينة،
واستهانوا بالمسلمين لدرجة أنهم غدروا ببعض البعوث التعليمية ـ كما في الرجيع وبئر معونة
ـ غيار تبعاً لذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم "إستراتيجيته" العسكرية فانتقل بالسرايا من
قريش إلى األعراب ،لتأديبهم بطريقة صارمة وسريعة ومباغتة ،وكان أهم ما يميز تلك
السرايا ،هجومها التعرضي لألعراب قبل تحشدهم وجمع أمرهم بالهجوم على المسلمين.
وظلت السرايا والبعوث النبوية تؤدي دورها ،وتقوم بمهامها الخاصة لخدمة أهداف الدعوة،
فمن درويات قتالية إلى سرايا تعقبية وأخرى تمويهية ،حتى إذا ما توطاد األمر للمسلمين بعد
11المتنبل :هو الذي يناول السهم للرامي.
2سنن أبو داوود ،الحديث رقم.2513 :
3فتح الباري ،الحديث رقم.4355 :
122
فتح مكة ،ا هتم النبي صلى اهلل عليه وسلم بإزالة كل ما يمت للوثيقة بصلة ،فبعث السرايا
والبعوث من مكة لتحطيم بقية رموز الشرك والوثنية ،فانطلقت السرايا لتحطيم العُزاى ومناة
والالت وسواع ذي الخلصة ،وغيرها من األصنام ،والطواغيت الوثنية ،1وبعد ذلك انطلقت
دعوة اإلسالم في أرج اء الجزيرة ،ودخل الناس في دين اهلل أفواجاً ،ثم تحركت الجيوش
الراشدية بعد وفاة الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،لنشر دين اهلل في المعمورة ،وإزالة كل
العوائق والقوى التي تقف في وجه الدعوة.
لقد أدهشت النتائج السريعة اإليجابية لحركة الفتوح اإلسالمية جميع المحللين على اختالف
دياناتهم وأفكارهم ومشاربهم ،ولكن ستزول دهشة المحللين المنصفين ،عندما يقرؤون تلك
التعاليم ،والوصايا النبوية لقواد ،وجنود السرايا والبعوث ،والتي هي نواة حركة الفتوح
اإلسالمية ،والتي صارت تتكرر على ألسنة الخلفاء ،وقادة جيوش الفتوح ،وتظهر في أعمالهم
فيما بعد.2
عن أنس رضي اهلل عنه قال :كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا بعث جيشاً ،قال:
« انطلقوا باسم اهلل ،ال تقتلوا شيخاً فانياً وال طفالً صغيراً وال امرأة ،وال تغلوا وضموا
غنائمكم ،وأصلحوا وأحسنوا إن اهلل يحب المحسنين» ،3وعن أبي موسى رضي اهلل عنه قال:
كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال« :بشروا
وال تنفروا ويسروا وال تعسروا».4
5ـ األمن:
أشار القرآن الكريم إلى أهمية هذا الجانب في آيات عديدة منها:
ب لَهُم بِ ِه عَمَل صَالِح﴾ (التوبة ،آية .)120 :
ال إِالَّ كُتِ َ
ن مِن عَدُوٍّ نَّي ً أ ـ قوله تعالىَ ﴿ :و َ
ال يَنَالُو َ
123
وتشير اآلية على أن كل نيل من العدو عليه جزاء ،1وأن استطالع أخبار العدو ،ومعرفة
مواطن الضعف فيه ،مواقع آليته ،ومنشآته يعتبر نيالً ألنه يوصل للتخطيط السليم ،المؤدي إلى
الظفر به.
ح اهللِ إِنَّهُ الَ يَيأَسُ
ال تَيأَسُوا مِن رَّو ِ
سفَ وَأَخِي ِه وَ َ ب ـ قال تعالى﴿ :يَا بَن َّ
ِي اذهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُو ُ
وجه االستدالل :أن يعقوب عليه السالم قد طلب من أبنائه أن يتحسسوا ويبحثوا عن يوسف
وأخيه وفي هذا إقرار من أحد أنبياء اهلل في جمع المعلومات عن اآلخرين ،ويعتبر جمع
المعلومات من العناصر األساسية في علم االستخبارات ويؤكد على مبدأ جمع المعلومات ﴿ َو َ
ال
تَيأَسُوا﴾.2
ث غَي َر بَعِيد فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَم تُحِط بِهِ وَجِئتُكَ مِن سَبَإ بِنَبَإ يَقِين﴾ (النمل،
ج ـ وقال تعالى﴿ :فَ َمكَ َ
َل عَنهُم فَانظُر مَاذَا يَرجِعُونَ﴾ (النمل ،آية .)28 : ثم قال ﴿ :اذهَب بِّ ِكتَابِي هَذَا فَأَلقِه إِلَيهِم ث َّ
ُم تَو َّ
124
ـ عرض المعلومات المجمعة ،قال تعالى﴿ :إِنِّي َوج ُّ
َدت امرَأَةً تَملِكُهُم وَأُوتِيَت مِن كُلِّ شَيء وَلَهَا
ن أَعمَالَهُم فَصَدَّهُم
ن لَهُمُ الشَّيطَا ُ
ن اهللِ وَزَيَّ َ
ن لِلشَّمسِ مِن دُو ِ
عَرش عَظِيم * وَجَدتُّهَا َوقَومَهَا يَسجُدُو َ
ال يَهتَدُونَ﴾ (النمل ،آية 23 :ـ .)24تقسيم المعلومات المعروضة وتقرير مدى
عَنِ السَّبِيلِ فَهُم َ
ن الكَاذِبِينَ﴾ (النمل ،آية .)27 : صحتها ،قال تعالى﴿ :قَا َل سَنَنظُرُ أَصَدَق َ
ت أَم كُنتَ مِ َ
ال
ن َوجُنُودُهُ وَهُم َ
ال يَحطِمَنَّكُم سُلَيمَا ُ
عَلَى وَادِي النَّم ِل قَالَت نَملَة يَا أَيُّهَا النَّم ُل ادخُلُوا مَسَاكِ َنكُم َ
يَشعُرُونَ﴾ (النمل ،آية .)18 ،17 :نلحظ في هذه اآليات أن المعلومات السابقة ال تقتصر على
بني البشر ،فقد يستفيد منها الحيوان والطير ،إذ استفاد النمل من المعلومات السابقة ،فاستعمل
وسائل اإلنذار المبكر ،إذ قالت نملة بلغة جنسها حسب ما وصلت إليه من معلومات ،ادخلوا
مساكنكم حفاظاً على حياتكم ،ألن سليمان وجنوده ربما يدوسون بأرجلهم فوقكم فتحطمون بغير
قصد ،فقد بينت السبب في توجيه هذا اإلنذار إلى جماعتها من النمل بفضل المعلومات المسبقة
التي حصلت عليها.2
125
هـ ـ قال تعالى﴿ :وَقَالَت ألُِختِ ِه قُصِّيهِ فَبَصُرَت ِبهِ عَن جُنُب وَهُم َ
ال يَش ُعرُونَ * وَحَرَّمنَا عَلَيهِ
المَرَاضِعَ مِن قَب ُل فَقَالَت هَل أَدُلُّكُم عَلَى أَهلِ بَيت يَكفُلُونَهُ لَكُم وَهُم لَهُ نَاصِحُونَ﴾ (القصص ،آية :
11ـ .)12
ونلحظ في اآليات اآلتي:
ـ إستخدام أم موسى مبدأ جمع المعلومات والحصول عليها في حفاظها على ابنها ﴿وَقَالَت
ـ ا ختيار العنصر األمين والحريص في جمع المعلومات لتكون صحيحة وموثقة وأمينة على
ألختِ ِه قُصِّيهِ﴾ ،فأم موسى لم تختار غير أخته ،ألن
ذلك حريصة على تلك المعلومات ﴿وَقَالَت ُِ
األخت تعتبر من الحريصين واألمناء على تلك المصلحة وهي تندفع من ذاتها في جمع
المعلومات وتحصيل األخبار ،والمهم بمكان أن يكون العنصر المرسل في عملية االستخبارات
أن يكون مندفعًا من ذاته حريصاً على المصلحة المرسلة إليه.
ـ التقصي والتتبع بدون إشارة أو جلب أنظار ﴿قُصِّيهِ﴾ إذ نفهم من كلمة التقصي االنتباه وعدم
وَهُم لَهُ نَاصِحُونَ﴾ (القصص ،آية .)12 :وقد قصدت إبعاد موسى عن المراضع ،ليخلص إلى
126
ـ محاولة تحقيق الهدف أثناء جمع المعلومات ،فأخت موسى لم تكتف بأن تعرف مكان موسى
لتخبر أمها بمكانه ،وإنما هي تقصت األخبار ،وتوصلت إلى مكانه وحاولت إعادته إلى أمه وقد
نجحت في هذا.1
و ـ قال تعالى﴿ :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذرَكُم﴾ (النساء ،آية .)71 :
وقال تعالى﴿ :وَأَطِيعُوا اهللَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاح َذرُوا﴾ (المائدة ،آية .)92 :
ن عَن أَسلِحَتِكُم وَأَمتِ َع ِتكُم وقال تعالى﴿ :وَليَأخُذُوا حِذرَهُم وَأَسلِحَتَهُم و َّ
َد الَّذِينَ كَ َفرُوا لَو تَغفُلُو َ
إن اإلعداد األمني واالستخباراتي في بناء الدولة بالمدينة من مظاهره الحذر واليقظة ،ألنها
تحول دون مفاجآت األعداء ،وتطبيق آليات القرآن السابقة ،كما أن السعي للحصول على
المعلومات عن العدو الداخلي أو الخارجي حتى يكون التخطيط على أساس من أسباب القوة
ومظاهرها التي أمر اإلسالم بإعدادها من أسباب حماية الدولة والمجتمع والمواطنين.
إن من أهم أسباب حماية وبناء الدول أن ينشأ الحس األمني لدى المواطنين منذ تفتح أعينهم
على الحياة ،وأن تقوم الدول بتأسيس مؤسسات أمنية على أسس راسخة من المعرفة والعلم
والحذر واليقظة.
127
أ ـ الرسول صلى اهلل عليه وسلم اختار دار األرقم بن األرقم كمقر سري للدعوة وكان رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم يربي أتباعه على اإليمان بأركانه الستة واألخالق الرفيعة استعداداً
لمرحلة قادمة ،وكان سبب اختياره دار األرقم:
ـ أن األرقم لم يكن معروفاً بإسالمه ،فما كان يخطر ببال أحد أن يتم لقاء محمد صلى اهلل عليه
وسلم بداره.
ـ أن األرقم بن أبي األرقم رضي اهلل عنه من بني مخزوم ،وقبيلة بني مخزوم هي التي تحمل
لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم ،فلو كان األرقم معروفاً بإسالمه فال يخطر في البال أن
يكون اللقاء في داره ،ألن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو.
ـ أن األرقم بن أبي األرقم كان فتى عند إسالمه ،فلقد كان في حدود السادسة عشرة من عمره،
ويوم تفكر قريش في البحث عن التجمع اإلسالمي ،فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت
الفتيان الصغار ،من أصحاب محمد صلى اهلل عليه وسلم ،بل يتجه نظرها إلى بيوت كبار
أصحابه أو بيته هو نفسه ـ عليه الصالة والسالم ـ فقد يخطر على ذهنهم أن يكون مكان التجمع
على األغلب في أحد دور بني هاشم ،أو في بيت أبي بكر رضي اهلل عنه أو غيره ،ومن أجل
هذا نجد أن اختياره هذا البيت كان في غاية الحكمة من الناحية األمنية ،ولم نسمع أبداً أن
قريش ًا داهمت ذات يوم هذا المركز وكشفت مكان اللقاء ،1ونلحظ أن النبي صلى اهلل عليه وسلم
يهتم ببناء الجهاز األمني لدعوته ،ويزرع أتباعه في وسط القبائل من أجل السعي لتمكين دعوة
اإلسالم ،فعندما أسلم عمرو بن عنبسة أمره النبي صلى اهلل عليه وسلم أن يكتم إسالمه ويلتحق
بأهله وإذا نظرنا في قصة إسالم أبي ذر رأيت الجوانب األمنية بارزة في تلك السيرة العطرة.
ب ـ وفي بيعة العقبة الثانية نلحظ أن المسلمين رتبوا هذا اللقاء ترتيب ًا رفيعاً ،فأخذوا بكافة
االحتياطات األمنية من حيث الزمان والمكان ،وعقدوا االتفاق عقداً متيناً ،وحققوا ما أرادوا
والمشركين في غفلة عما يحدث ،وفي هجرة النبي صلى اهلل عليه وسلم قمم شامخة في مجال
128
الترتيب األمني والتخطيط االستخباراتي ،وبعد أن انتقل النبي صلى اهلل عليه وسلم إلى المدينة
نجده يهتم بجمع المعلومات عن أعدائه ويربي أصحابه تربية أمنية فريدة من نوعها.
ج ـ روي عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم أنه بعث عبد اهلل بن جحش رضي اهلل عنه في
السنة الثانية للهجرة في اثني عشر رجالً من المهاجرين ،وزوده بكتاب مختوم ،أمره أال ينظر
فيه حتى يسير يومين ويصل إلى موقع معلوم حدده له ،فلما وصل ذلك المكان وآن وقت فض
الكتاب ،فضه فإذا فيه :إذا نظرت في كتابي هذا فامض على اسم اهلل وبركاته ال تكرهن أحدًا
من أصحابك على السير معك ،وامض فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة فترصد بها عير قريش
وتعلم لنا من أخبارهم.1
ونلحظ في هذه المهمة أمور منها:
ـ إن هذه السرية كانت سرية استطالع ،غايتها مراقبة العدو واستطالع أخباره على نحو
السرايا االستكشافية التي تضعها الجيوش أمامها ،أو على جانبها ،أو على نحو المغافر األمامية
في جهة القتال ،وكانت مهمتها المراقبة واالستطالع فقط دون التعرض لألعداء بالتحرش أو
االحتكاك أو القتال ،وهذا ما يسمى :االستخبارات الهجومية ،هدفها جمع المعلومات عن العدو
فقط لمصلحة الدولة اإلسالمية.
ـ أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم أمر أن تبقى سرية ومكتوبة حتى على من يحملها وسينفذها
أخذاً باالحتياط الالزم وخوفاً من تسرب أدنى معلومة ،وتربية ألصحابه أن المعلومة تكون
على قدر الحاجة.2
د ـ وفي غزوة بدر أعطانا النبي صلى اهلل عليه وسلم دروساً وعبراً وحكماً لجمع المعلومات
على األعداء وتوظيفها لنزع النصر عن المشركين ،فنلحظ أن النبي صلى اهلل عليه وسلم جمع
معلومات متكاملة على األعداء وقام صلى اهلل عليه وسلم باإلشراف المباشر على جهاز
االستخبارات وساهم بنفسه وبغيره في جمع المعلومات عن مشركي مكة ،ويمكن لنا أن نحصر
129
أساليب االستطالع التي قام بها النبي صلى اهلل عليه وسلم للحصول على المعلومات من
مشركي مكة:
ـ أرسل بسيسة بن عمرو وعديا بن أبي الزغباء حتى يأتياه بخبر عير أبي سفيان ،فعادا
وأخبراه بموعد وصول العير.1
ـ قيامه صلى اهلل عليه وسلم وبصحبته أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه بتحري المكان الذي
توجد فيه قريش وقد حصل له ما أراد عندما وقف على شيخ من العرب وسأله عن المكان
الذي توجد فيه قريش.
استنطاق األسيرين اللذين قبض عليهما الصحابة واستفاد صلى اهلل عليه وسلم من استنباط
هذين األسيرين أموراً مهمة جداً منها ،عدد أفراد جيش المشركين ،موقع قريش ،قيادة جيش
المشركين ومن فيه من أشراف مكة ،2وعتم النبي صلى اهلل عليه وسلم على المشركين أخبار
المسلمين وقام بأمر الكتمان خير قيام وكان صفة بارزة في غزواته كلها ،فعن كعب بن مالك
رضي اهلل عنه قال :كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قلما يريد غزوة إال وراى بغيرها،3
وفي غزوة بدر مارس رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هذا العمل األمني ،ليرشد األجيال على
مر العصور وكرا الدهور إلى أهمية وتجلي ذلك في اآلتي:
ـ سؤاله صلى اهلل عليه وسلم الشيخ الذي لقيه في بدر عن محمد وجيشه وعن قريش وجيشها.
ـ تورية الرسول صلى اهلل عليه وسلم في إجابته على سؤال الشيخ :مماا أنتما؟ بقوله صلى اهلل
عليه وسلم« :نحن مِن ماء» .وهو جواب يقتضيه المقام فقد أراد به الرسول صلى اهلل عليه
وسلم كتمان أخبار جيش المسلمين.
وفي انصرافه فور استجوابه كتمان ـ أيضاً ـ وهو دليل على ما يتمتع به رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم من الحكمة ،فلو أنه أجاب هذا الشيخ ثم وقف عنده لكان هذا سبب في طلب الشيخ
بيان المقصود من قوله صلى اهلل عليه وسلمِ « :من ماء».4
130
ـ أمره صلى اهلل عليه وسلم بقطع األجراس من اإلبل يوم بدر ،فعن عائشة رضي اهلل عنها أن
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمر باألجراس أن تقطع من أعناق اإلبل يوم بدر.
ـ كتمانه صلى اهلل عليه وسلم خبر الجهة التي يقصدها عندما أراد الخروج إلى بدر ،حيث قال
صلى اهلل عليه وسلم« :إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضراً فليركب معنا» ،1وقد استدل اإلمام
النووي ـ رحمه اهلل ـ بهذا الحديث على استحباب التورية في الحرب وأال يبيان القائد الجهة التي
يقصدها ،لئال يشيع هذا الخبر فيحذرهم العدو.2
وكان صلى اهلل عليه وسلم يهتم بحركة العدو ،ولذلك كانت حركة االختراق في القبائل المعادية
واسعة جداً ،ولذلك باغت صلى اهلل عليه وسلم أعداءه مرات عديدة ،وأفشل خططهم العدائية،
ولما أرادت قريش أن تباغت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعد بدر كان مكتب استخبارات
مكة التابع للقيادة في المدينة يبعث بالمعلومات أوالً بأول إلى قيادته.
لقد حرص الرسول صلى اهلل عليه وسلم على استطالع أخبار قريش ،وكان يستعين بعمه
العباس ،قال ابن عبد البر :وكان العباس يكتب بأخبار المشركين إلى الرسول صلى اهلل عليه
وسلم وكان المسلمون يتقواونه بمكة وكان يحب أن يقدم على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم،
فكتب إليه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن مقامك في مكة خير.3
لقد كان جهاز االستخبارات في مكة دقيقاً جداً وحقق نجاحات مهمة ،ولقد قاد العباس بن عبد
المطلب هذا الجهاز بكل جدارة ونشاط ،وكانت معلوماته دقيقة وبياناته صحيحة ،فمن هذه
المعلومات التي وصلت رسالته إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم :إن قريشاً قد أجمعت المسير
إليك فما كنت صانعاً إذا حفوا بك فأصنعه ،وقد توجهوا إليك وهم ثالثة آالف بعير وأوعبوا4من
السالح.5
أهم ما احتوت عليه هذه الرسالة:
131
ـ معلومات مؤكدة عن تحرك قوات المشركين نحو المدينة ولذلك استعد النبي صلى اهلل عليه
وسلم وشرع في أخذ العدة لمواجهة هذا الجيش العرمرم.
ـ حجم الجيش وقدراته القتالية وهذا يعين على وضع خطة تواجه هذه القوات الزاحفة.
إن النبي صلى اهلل عليه وسلم لم يكتف بمعلومات المخابرات المكية بل حرص على أن تكون
معلوماته عن هذا العدو متجددة مع تالحق الزمن ،وفي هذا إرشاد بقادة المسلمين إلى أهمية
متابعة األخبار التي يتولد عنها وضع خطط وإستراتيجيات نافعة ،فحين وصل جيش المشركين
إلى مكان يقال له العرض ،1أرسل الرسول صلى اهلل عليه وسلم الحباب بن المنذر فدخل بين
جيش مكة وحزر عدده وعُدده ورجع وأخبر النبي صلى اهلل عليه وسلم ،ولما بلغ الجيش ذا
الحليفة أرسل الرسول صلى اهلل عليه وسلم عينين له وهما :ابنا فضالة ،فاعترضا لقريش
بالعقيق فسارا معهم حتى نزلوا بالوِطاء ،ثم رجعا إلى المدينة وأخبرا الرسول صلى اهلل عليه
وسلم بذلك.2
ولقد حرص النبي صلى اهلل عليه وسلم على حصر تلك المعلومات على المستوى القيادي خوف ًا
من أن يؤثر هذا الخبر على معنويات المسلمين قبل إعداد العدة في تخطيط وترتيب ،ولذلك
حين قرأ أبيا الرسالة على النبي صلى اهلل عليه وسلم استكتمه ما فيها ،وحينما دخل بيت سعد
ابن الربيع قال :أفي البيت أحد؟ فقال سعد :ال ،فتكلم بحاجتك ،فأخبره بكتاب العباس بن عبد
المطلب ،فانصرف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم واستكتم سعداً الخبر.3
وفي هذا تعليم لقيادة الدول على أهمية كتم األسرار وما يتصل بها حتى عن أقرب الناس إليهم
من زوجات وأوالد ومن في حكمهم ،وإذا دعت الضرورة إلى نشر شيء من ذلك ،فينبغي أن
يكون لمن يحفظ السر حتى ال يلحق المسلمون بسبب ذلك ضرر.
وبعد أن عقد المجلس االستشاري ووضعت الخطة المناسبة ،اختار صلى اهلل عليه وسلم الوقت
المناسب للتحرك والطريق التي تناسب خطته ،فقد تحرك بعد منتصف الليل ،حيث يكون الجو
132
هادئاً ،والحركة قليلة وفي هذا الوقت بالذات يكون األعداء ـ غالباً ـ في نوم عميق ،ألن األعباء
ومشقة السفر قد أخذ منهم مجهوداً كبيراً.
ومن المعروف من نام بعد تعب يكون ثقيل النوم ،فال يشعر باألصوات والحركة الثقيلة :قال
الواقدي ـ رحمه اهلل ـ :ونام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حتى أدلج ،فلما كان من السحر،
قال« :أين األدالء»1؟ ثم إنه صلى اهلل عليه وسلم اختار الطريق المناسب الذي يسلكه حتى
يصل إلى أرض المعركة وذكر صفة ينبغي أن تتوافر في هذا الطريق وهو السرية حتى ال
يرى األعداء جيش المسلمين ،فقال صلى اهلل عليه وسلم ألصحابه« :هل من رجل يخرج بنا
على القوم من طريق ال يمر بنا عليهم؟» فأبدى أبو خيثمة رضي اهلل عنه استعداده قائالً :أنا يا
رسول اهلل ونفذ بين بستانين لبني الحارثة ،2وال شك أن مروره صلى اهلل عليه وسلم بين
األشجار والبساتين يدلنا على حرصه صلى اهلل عليه وسلم على أخذ االحتياطات األمنية
المناسبة في أثناء السير ،ألن الطرق العامة تكشف لألعداء عن مقدار قوات المسلمين وهذا
أمر محذور.
فالرسول صلى اهلل عليه وسلم يُعلام األمة األخذ بالسرية من حيث المكان ومن حيث الزمان،
لئال يتمكن األعداء من معرفة قواتهم فيضعوا الخطط المناسبة لمجابهتها ،وبذلك يذهب تنظيم
القادة وإعدادهم مهب الرياح.3
هـ ـ وفي غزوة الخندق يظهر دور جهاز أمن الدولة بارزاً ،فقد كان يتابع أخبار األحزاب
ويرصد تحركات العدو ويزود القيادة بكافة المعلومات ،فقام فرع مكة األمني بإرسال معلومات
دقيقة ساعدت القيادة في رسم الخطط قبل وصول األعداء للمدينة ،وأرسل طليعة تتابع األمور
علن كثب وترسل المعلومات الدقيقة ،ولقد كان حفر الخندق مفاجأة مذهلة ألعداء اإلسالم،
وأبطل خطتهم التي رسموها ،وكان من عوامل تحقيق هذه المفاجأة ما قام به المسلمون من
إتقان رفيع لسرية الخطة وسرعة إنجازها ،وكان هذا األسلوب الجديد في القتال له أثر في
إضعاف معنويات األحزاب وتشتيت قواتهم ،ومارس صلى اهلل عليه وسلم سالح التشكيك
1المصدر نفسه ( 204 /1ـ .)205
2السيرة النبوية ألبن هشام (.)65 /3
3القيادة العسكرية في عهد الرسول ،ص.468 :
133
والدعاية لتمزيق ما بين األحزاب من ثقة وتضامن بعد أن ساق المولى عز وجل نعيم بن
مسعود الغطفاني إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ليعلن إسالمه وقال له :يا رسول اهلل إن
القوم لم يعلموا بإسالمي ،فمرني بما شئت ،فقال له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إنما أنت
فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت ،فإن الحرب خدعة».1
فقام نعيم بن مسعود يزرع الشك بين األطراف المتحالفة بأمر من رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم فأغرى اليهود بطلب رهائن من قريش لئال تدعهم وتنصرف عن الحصار .وقال لقريش:
إن اليهود إنما تطلب الرهائن من قريش لتسليمها للمسلمين ثمناً لعودتها إلى صلحهم ،لقد
اشتهرت قصة نعيم بن مسعود في كتب السيرة وإن كانت ال تثبت من الناحية الحديثة إال أنها ال
تتنافى مع قواعد السياسة الشرعية فالحرب خدعة ،2وقد نجحت دعاية نعيم بن مسعود أيما
نجاح فغرست روح التشكيك وعدم الثقة بين قادة األحزاب مما أدى إلى كسر شوكتهم ،وهبوط
عزمهم وكان من أسباب نجاح مهمة نعيم قيامها على األسس التالية:
ـ أنه أخفى إسالمه عن كل األطراف ،بحيث وثق كل طرف فيما قدمه له من نصح.
ـ أنه ذكار بني قريظة بمصير بني قينقاع وبني النضير ويعرفهم بالمستقبل الذي ينتظرهم إن هم
ا ستمروا في حروبهم للرسول صلى اهلل عليه وسلم ،فكان هذا سبباً في تغير أفكارهم وقلب
مخططاتهم العدوانية.
ـ أنه نجح في إقناع كل األطراف بأن يكتم كل طرف ما قال له وفي استمرار هذا الكتمان نجاح
في مهمته ،فلو انكشف أمره لدى أي طرف من األطراف لفشلت مهمته ،وقد حققت مساعي
نعيم تخذيل بني قريظة أمرين مهمين لجيش النبي صلى اهلل عليه وسلم وهما:
*ـ أن المسلمين بعد انسحاب بني قريظة من التحالف مع األحزاب أصبحوا في أمان ،ألن
هؤالء اليهود كانوا يسكنون المدينة فلو بقوا في هذا التحالف لما أمن المسلمون من توجيه طعنة
لهم من الخلف مع أنهم مشغولون بمواجهة خصمهم من األمام.
134
*ـ أن المسلمين اطمأنوا إلى أن بني قريظة سيستمرون في إمدادهم بالمؤن التي يتطلبها
الموقف ،وذلك لشدة حاجتهم إليها وانشغالهم عن توفيرها بمواجهة األعداء ،1وكلف صلى اهلل
عليه وسلم الزبير بتتبع أحوال بني قريظة وجمع المعلومات عن نواياهم ومدى التزامهم
بالعهد ،ورصد حركتهم المريبة.2
ومع أخذه صلى اهلل عليه وسلم بكافة األسباب إال أنه كان كثير التضرع والدعاء واالستعانة
باهلل وخصوصاً في مغازيه ،وعندما اشتد الكرب على المسلمين أكثر مما سبق حتى بلغت
القلوب الحناجر وزلزلوا زلزاالً شديداً وجاء المسلمون إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم وقالوا:
يا رسول اهلل ،هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر .قال« :نعم ،اللهم استر عوراتنا
وآمن روعاتنا».3
ـ ودعا صلى اهلل عليه وسلم« :اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم األحزاب ،أهزمهم
وزلزلهم».4
ـ وقال صلى اهلل عليه وسلم« :ال إله إال اهلل وحده ،أعز جنده ونصر عبده وغلب األحزاب
وحده فال شيء بعده».5
فاستجاب اهلل سبحانه دعاء نبيه صلى اهلل عليه وسلم ،فأقبلت بشائر الفرج ،فقد صرفهم اهلل
بحوله وقوته ،زلزل أبدانهم وأنزل الرعب في قلوبهم ،وشتت جمعهم بالخالف ثم أرسل عليهم
الريح الباردة الشديدة ،وألقى الرعب في قلوبهم وأنزل جنوداً من عنده سبحانه ،وكان صلى اهلل
عليه وسلم يتابع األمر وأحب أن يتحرى عما حدث عن قرب ،فقال« :أال رجل يأتينا بخبر
القوم ،جعله اهلل معي يوم القيامة» ،6فاستعمل صلى اهلل عليه وسلم أسلوب الترغيب وكرره
ثالث مرات وعندما لم يُج ِد هذا األسلوب لجأ إلى أسلوب الجزم والحزم في األمر ،فعين واحدًا
بنفسه فقال« :قم يا حذيفة فائتنا بخبر القوم وال تذعرهم علي» وفي هذا معنى تربوي ،وهو
135
أن القيادة الناجحة هي التي توجه جنودها إلى أهدافها عن طريق الترغيب والتشجيع ،وال تلجأ
إلى األوامر والحزم إال عند الضرورة .قال حذيفة رضي اهلل عنه :فمضيت كأنما أمشي في
حمام فإذا أبو سفيان يُصلي ظهره بالنار فوضعت سهماً في كبد قوس وأردت أن أرميه ،ثم
ي» ولو رميته ألصبته ،فرجعت
ذكرت قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «ال تذعرهم عل ّ
كأنما أمشي في حمام ،فأتيت النبي صلى اهلل عليه وسلم وأصابني البرد حين رجعت وقررت
فأخبرت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فألبسني فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها ،فلم أبرح
نائماً حتى الصبح ،فلما أن أصبحت قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :قم يا نومان».1
136
قال ابن إ سحاق ـ رحمه اهلل ـ إن أبا بكر دخل على عائشة وهي تغربل حنطة فقال :ما هذا؟
أمركم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالجهاز؟ قالت :نعم ،قال :وإلى أين؟ قالت :ما سمى لنا
شيئاً ،غير أنه قد أمرنا بالجهاز.1
ــ أنه بعث سرية بقيادة قتادة إلى بطن إضم:
بعث النبي صلى اهلل عليه وسلم قبل مسيرة مكة سرية مكونة من ثمانية رجال ،وذلك إلسدال
الستار على نيته الحقيقية ،وفي ذلك يقول ابن سعد :لما همَّ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
يغزو أهل مكة ،بعث أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفر سرية إلى بطن إضم ،2ليظن ظان أن
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم توجه إلى تلك الناحية وألن تذهب بذلك األخبار ..فمضوا ولم
يلقوا جمعاً فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذي خشب ،3فبلغهم أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد
توجه إلى مكة ،فأخذوا على ((بيبن)) حتى لقوا النبي صلى اهلل عليه وسلم بالسُّقيا.4
ــ أنه بعث العيون لمنع وصول المعلومات إلى األعداء:
بث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عيونه داخل المدينة وخارجها حتى ال تنتقل أخباره إلى
قريش" وأخذ رسول اهلل باألنقاب".5
فكان عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه يطوف على األنقاب قيماً بهم فيقول :ال تدعوا أحداً يمر
بكم تنكرونه إال رددتموه ..إال من سلك إلى مكة ،فإنه يتحفظ به ويسأل عنه أو ناحية مكة.
137
وهذا شأن النبي صلى اهلل عليه وسلم في أموره يأخذ بكافة األسباب البشرية وال ينسى التضرع
والدعاء لرب البرية ليستمد منه التوفيق والسداد.
ــ إحباط محاولة تجسس حاطب لصالح قريش:
عندما أكمل النبي صلى اهلل عليه وسلم استعداده للسير إلى فتح مكة ،كتب حاطب بن أبي بلتعة
كتاب إلى أهل مكة يخبرهم فيه نبأ تحرك النبي صلى اهلل عليه وسلم إليهم ،ولكن اهلل سبحانه
وتعالى أطلع نبيه صلى اهلل عليه وسلم عن طريق الوحي على هذه الرسالة ،فقضى صلى اهلل
عليه وسلم على هذه المحاولة وهي في مهدها ،فأرسل النبي صلى اهلل عليه وسلم علياً والمقداد،
فأمسكوا بالمرأة في روضة خاخ على بعد اثني عشر ميالً من المدينة وهددوها أن يفتشوها إن
لم تخرج الكتاب فسلمته لهم ،ثم استدعى حاطب رضي اهلل عنه للتحقيق فقال :يا رسول اهلل
صلى اهلل عليه ،ال تعجل عليَّ ،إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش ،يقول :كنت حليفاً ـ ولم أكن
من أنفسها وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها ولم أفعله ارتداداً عن ديني
وال رضاً بالكفر بعد اإلسالم ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إنه قد شهد بدراً ،وما
يدريك لعل اهلل اطلع على من شهد بدراً قال :اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».1
نجد من خالل قصة أن النبي صلى اهلل عليه وسلم له فقه عميق في معاملة أصحابه ،وحرص
شديد على الوفاء لهم وإقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة ،لقد جعل صلى اهلل عليه وسلم من
ماضي حاطب رضي اهلل عنه المجيد سبباً في العفو عنه.
138
من خالل اآليات القرآنية الكريمة والممارسة النبوية لهذا الباب ،تظهر الحاجة للشعوب
اإلسالمية ودولها المسلمة إليجاد أجهزة أمنية استخبارية متطورة تحمي اإلسالم والمسلمين من
أعدائها ،وتعمل على حماية الصف المسلم في الداخل من القيادة من المعلومات التي تقدمها لها
أجهزتها المؤمنة األمنية والبد أن تؤسس هذه األجهزة على قواعد منبعها القرآن الكريم والسنة
النبوية وتكون أخالق رجالها قمة رفيعة تمثل صفات رجال األمن المسلمين.
إن اهتمام المسلمين بهذا األمر يجنبهم المفاجآت العدوانية ،وقد كتب صن ترو مشيراً إلى أهمية
ذلك:
إذا عرفت نفسك فليس هناك ما يدعوك إلى أن تخاف نتائج مائة معركة وإذا عرفت نفسك ولم
تعرف العدو فإنك سوف تواجه الهزيمة في كل معركة.1
إن بناء األجهزة األمنية ومكاتب المعلومات التي تقدم للقيادة التقارير لوضع الخطط المناسبة
على أثرها ليس أمراً جديداً ،بل موغالً في تاريخ اإلنسانية وكذلك في تاريخ المسلمين.
إن من أسباب استمرار الدول ونجاحها إعطاء هذا األمر حقه من االهتمام واالرتقاء وتطويره
بما يناسب أحوال العصر الذي نحن فيه.
139
6ـ التخطيط واإلدارة:
إن التخطيط السليم واإلدارة الناجحة من األسباب األكيدة التي تبني بها الدول ولقد عرَّف بعض
الباحثين التخطيط بأنه الجسر :جسر الحاضر والمستقبل.1
إن التخطيط في المفهوم القرآني هو االستعداد في الحاضر لما يواجه اإلنسان عمله أو حياته
في المستقبل ،وعلى هذا.
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اهللُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِي َبكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص ،آية.)77 : ــ قال تعالى:
وهذه اآلية دعوة لإلدارة اإلسالمية بالعمل والتخطيط واالستعداد بقوة ملواجهة أمر مستقبلي قد حيدث لدار اإلسالم وأمته،
والقوة هنا تفهم مبفهوم العصر ،فقد تفهم بالقوة البدنية ،وذلك ببناء الرجال األشداء األقوياء يف إمياهنم وأبداهنم وقوة السالح بكل
أنواعه ،وحسب ما خترجه املصانع من أنواع األسلحة حتى القوة والطاقة الذرية وذلك ببناء املصانع النووية اإلسالمية ومحايتها
من ضرب األعداء هلا وذلك كله إلرهاب عدو اهلل وأعداء اإلنسانية ومحاية دار اإلسالم من األعداء كما يف آية﴿ :وَ َأعِدُّو ْا
لَهُم﴾ مفهوم الت خطيط الطويل األجل الذي جيب أن تأخذ به الدولة اإلسالمية وإدارهتا احلكيمة حتى حتمي شوكة وقوة
اإلسالم.2
140
وإن النيب صلى اهلل عليه وسلم قد اهتم يف حياته يف بناء الدولة بالتخطيط واإلدارة يف كل مراحل حياته واستمد أصول
التخطيط واإلدارة من القرآن الكريم ومن األمثلة على أمهية التخطيط يف القرآن الكريم:
ضرب اهلل القرآن الكريم مثالً للتخطيط السليم الذي قام على أسس منطقية فأمكن بذلك تاليف جماعة كانت هتدد الناس مجيع ًا
باهلالك ،بسبب التخطيط السليم الذي قام به يوسف عليه السالم وهو أمني على اخلزائن ـ وذلك حني فسر الرؤيا اليت جاءت
ك إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُ َّن سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُن ُبالَتٍ خُضْرٍ "
على لسان ملك مصر يف قوله تعاىل ":وَقَا َل الْمَلِ ُ
(يوسف ،آية )43 :وتوىل يوسف عليه السالم تفسري الرؤيا فقال﴿ :تَزْرَعُونَ سَبْ َع سِنِنيَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُن ُبلِهِ إِ َّال
إن يوسف عليه السالم فسَّر الرؤيا وزاد عليها بأن قدم خطة عملية تستغرق القطر كله والشعب املصري كله ،أي أن خطته
اعتمدت على التشغيل الكامل لألمة والربجمة الكاملة ،ثم التشغيل الكامل لطاقة كل فرد يف األمة ،وهذا الذي أراده يوسف
عليه السالم وعرب عنه بقولهَ ﴿ :تزْرَعُونَ﴾ ،إن الذي خيطط له يوسف عليه السالم هو مضاعفة اإلنتاج وتقليل االستهالك ،ألن
141
األزمات والظروف االستثنائية حتتاج إىل سلوك استثنائي ،وألن سلوك الناس يف األزمات غري سلوكهم يف الظروف العادية ـ
اسرتخاء وبطالة ـ فإن هذه األمة تكون يف حالة خلل خطري حيتاج إىل عالج ومعاجل خبري.1
ــ ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْ ِد ذَلِكَ عَا ٌم فِيهِ ُيغَاثُ النَّاسُ﴾(يوسف ،آية.)49 :
ـ الطابع الغالب على املرحلة األوىل هو اإلنتاج واالدخار مع استهالك حمدود ،فيوسف عليه السالم حدد خطط
اإلنتاج بالزراعة وحدد استمرار اإلنتاج الزراعي سبع سنني العمل فيها دائب ال ينقطع ،ومع هذا اجلهد الكبري يف
اإلنتاج املستمر كان هناك حتديد واضح لالستهالك يبدو يف قوله﴿ :إِالَّ قَلِيالً مِّمَّا تَأْكُلُونَ﴾ (يوسف ،آية ،)47 :وأمر
يوسف حبفظ السنابل املخزونة من الغالل كاملة كما هي ﴿فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ﴾ (يوسف ،آية.)47 :
142
ـ فإذا ما انتهت سنوات اإلنتاج السبع ،مبا فيها من جهد متصل دائب ،واستهالك حمدود كان على اخلطة أن تقابل حتدياً
ضخماً هو توفري األقوات سبع سنني عجاف وبعبارة أخرى؛ بعد اإلنتاج واجلهد الدائب يف املرحلة األوىل سيأتي
حتمل أيضاً يف املرحلة الثانية وهو حتمل حيتاج إىل تنظيم دقيق يصل فيه الطعام إىل كل فم.
ـ ومع هذا التحمل والتنظيم الدقيق ينبغي أال تأتي هذه السنوات العجاف على كل املدخرات ،وإمنا كان يوسف عليه
السالم واضحاً يف قوله﴿:إِ َّال قَلِيالً مِّمَّا تُحْصِنُونَ﴾ (يوسف ،آية.)48 :
فكان هذا اجلزء املدخر هو "اخلمرية" اليت تستطيع هبا األمة أن تقابل متطلبات البذر اجلديد بعد السنوات العجاف ،أي إعادة
استثمارات املدخرات.
األول :اإلنتاج ،والثاني :االستهالك ،والثالث :االدخار ،وأن يعيد استثمار املدخرات.
ومن طبيعة التطور أن ختتلف :تفاصيل الصورة ،ولكن أساسها سيظل قائماً عميقاً يف ديننا وتراثنا وتظهر معامل التخطيط
واإلدارة يف كلمات يوسف عليه والسال م حيث أن التخطيط يعترب وظيفة أساسية من وظائف اإلدارة ،اليت ال ميكن هلا أن تكون
فعالة بدوهنا ،كما أن التخطيط يف حقيقته يعتمد على دعامتني ومخسة عناصر؛ أما الدعامتان فهما التنبؤ واألهداف وأما
143
العناصر فهي السياسات ،والوسائل واألدوات ،واملوارد املادية والبشرية ،واإلجراءات والربامج الزمنية واملوازنة التخطيطية
التقديرية.1
إن كتب علم اإلدارة والتخطيط احلديث تقول :إنه ال إدارة فعالة إال بتنظيم ووفق ختطيط سليم مسبقاً وهذا عني الذي زاوله
يوسف عليه والسالم ،لقد جاء إىل احلكم يوم جاء وبرناجمه اإلصالحي السياسي واالقتصادي واالجتماعي والثقايف والرتبوي
أما التنبؤ :فاستشراف املستقبل واستشفاف اآلتي ،وهذا عني ما كان من يوسف مبا علمه اهلل ـ تعاىل ـ ثم جتده أيضاً،
قد حدد األهداف يف مضاعفة اإلنتاج وتقنني االستهالك أو ترشيده ،ثم ختزين الطعام وهذا يقتضي خطة تفصيلية؛
ألن اهلدف العام الكبري ليس شيئاً إذ مل يقرتن خبططه التفصيلية ،وهنا يأتي دور السياسيات والوسائل ،واألدوات
1سورة يوسف ،دراسة تحليلة ،د .أحمد نوفل ،ص.416 ،415 :
144
وهذا هو ما فعله يوسف عليه السالم على ضوء علم اإلدارة احلديث وإن كان القرآن الكريم حصر كالم يوسف عليه السالم يف
مجل جامعة وجيزة ومل يشر إىل تنمية اإلنسان لكنها متضمنة قطعاً ضمن اخلطة ،ألن القرآن علّمنا أن اإلنسان إمنا هو نفسيته
ومضمونه وحمتواه وأن تغيري اخلارج بدون تغيري الداخل ال يغري نقرياً.
لقد وضع يوسف عليه السالم العنصر البشري يف خطته ،بعلمه أنه ال تنجح خطة ليس وراءها اإلنسان الذي ينفذها ،وأما
منهجه يف التعامل مع اإلنسان فقد ظهر يف دعوته للسجينني للتوحيد ،وبذلك يكون منهجه يف االرتقاء باإلنسان الذي هو عدة
احلضارة وحمرك النهضة ومنفذ الربامج ومنجز املشاريع دعوته للتوحيد وتعليمه حقيقة اإلميان باهلل وهذا الكون وهذه احلياة.
إن فائدة التغيري اخلارجي تزول إذا مل يكن هناك إنسان أمني على منجزات التغيري اخلارجي وحيمل القيم الداخلية اليت تضمن
استمرارية التغيري اخلارجي ،صحته ،وصدقه وأمانته .إن التغيري جيب أن ميارسه اإلنسان يف احملتوى النفسي فيطور وينمي
ذاته باجتاه األفضل ثم جيسده حمتواه النفسي تغيري ًا خارجياً ،وحيوله إىل ممارسة وتطبيق وحتقيق؛ ألن أحوال الناس وأوضاعها
االجتماعية من الفساد أو اخلري ال تغيري إال إذا تغري حمتوى اإلنسان وما هو عليه من احلق أو الباطل؛ هذا هو منطق القرآن واحلياة
إذا طورنا النظام ومفاهيمه دون اإلنسان ومفاهيمه فسرعان ما يتسرب الفساد من اإلنسان إىل النظام ،فيقوضه أكثر مما يتسرب
اإلصالح من النظام إىل اإلنسان فيصلحه؛ ألن األنانية وحب الذات واجلشع أقوى من نصوص القوانني واألنظمة ما مل هتذهبا
145
الرتبية الداخلية العميقة واألخالق الكرمية املبنية على معرفة اهلل وحبه واخلوف منه.1
إن اآليات القرآنية الكرمية أشارت إىل جوانب أخرى ارتبط هبا جناح اخلطة ارتباطاً مباشراً ،وأمهها جانبان جيمعهما عنصر
ـ استعداد يوسف عليه السالم على أن يشرف على تنفيذ هذه اخلطة ،وكان هذا االستعداد بعد أن بدد ظالل الشك
وأوهام التهم عن نفسه ،وبذلك حدث التكامل القوي بني اخلطة واملخططني بني حساب األرقام وحساب األخالق بني
ـ اجلانب الثاني :يتجلى يف اختيار املعاونني الذين ساعدوه يف عمله ،فكان من رجال يوسف عليه السالم العون
كما أشارت اآليات القرآنية إىل املعلومات اليقينية اليت بنى عليها يوسف عليه السالم خطته.
قال تعاىل﴿:ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُ ْلنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُ َّن ِإالَّ قَلِيالً مِّمَّا ُتحْصِنُونَ﴾(يوسف ،آية.)48 :
إن من معامل اخلطة السياسية واالقتصادية الناجحة أن تكون مبينة على معلومات يقينية صادقة حقيقية ال على اخليال الشعري
اجملنح الذي ال يرتبط بالواقع ،ومن هنا صارح يوسف عليه السالم الشعب بالشدائد اليت تنتظره ،لكنها ليست املصارحة اليت
146
تثبط أو تقعد عن العمل ،ولكنها اليت تدفع للعمل وتزيد اهلمة وتضاعف من اجلهد والطاقة إن السبع اليت تلي الرخاء ستكون
ك سَبْ ٌع شِدَادٌ﴾(يوسف ،آية ) 48 :ال زرع فيهن ،يأكلن ما قدمتم هلن وكأن هذه السنوات
ويف قوله تعاىل﴿:ثُ َّم َيأْتِي مِن بَعْ ِد ذَلِ َ
هي اليت تأكل بذاهتا ،كل ما يقدم هلا لشدة هنمها وجوعها ﴿ ِإالَّ قَلِيالً مِّمَّا ُتحْصِنُونَ﴾(يوسف ،آية )48 :أي إال قلي ًال مما حيفظونه
وتصونونه من التهامها ،ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف اجملدية ،اليت تأتي على ما خزنتم وادخرمت من سنوات
اخلصب ،تنقضي ويعقبها عام رخاء يغاث الناس فيه بالزرع واملاء وتنمو كرومهم فيعصروهنا مخراً ومسسم وخسهم فيعصرونه
زيتاً ،وهنا نلحظ أن هذ ا العام الرخاء ال يقابله رمز يف رؤيا امللك ،فهو إذن من العلم اللدني الذي علمه اهلل يوسف عليه السالم،
فبشر به الساقي ليبشر امللك والناس باخلالص من اجلدب واجلوع بعام رخي رغيد.2
ونالحظ يف اآليات القرآنية الكرمية اليت تكلمت عن خطة يوسف عليه السالم عنصر األمل والتفاؤل وهذا األمر مهم يف اخلطة
الناجحة.
147
إن بعد الشدة اليت أشار إليها يوسف انفراجاً ورخاء وستعود األمور بإذن اهلل تعاىل إىل سريهتا األوىل ،ولكن بداية العودة تكون
عاماً مباركاً غري معهود العطاء وفرة وكثرة وكأن اخلري فيه سيفيض بغري جهد ،فهو غامن ﴿عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ﴾ أي :يسقون
الغيث ،أو يغاثون ينجدون من الغوث ،وكل ذلك متالزم "وَفِيهِ َي ْعصِرُونَ " ،إشارة أخرى إىل فيض اخلري ،فال يلجأ الناس إىل
العصر للثمار إال بعد أن تفيض عن حاجة االستهالك األساسية وهي األكل ،والبد من األمل والتفاؤل يف أي خطة ،وإال فإن كان
ال أمل فما الداعي إىل العمل ولقد حرّك يوسف عليه السالم دوافع العمل عندهم بتحذيرهم من شدة سنوات القحط ثم حركها
ثانية يفتح نافذة األمل ،1إن يوسف عليه السالم كان مظلوم ًا مضطهداً يف سجن امللك وهو ميلك من املعلومات واخلطط مما جيعله
يف حمل قوة عند املفاوضة إال إنه مل يشرتط لنفسه شيئاً ،بل جادت نفسه الزكية بالتفضل باخلري والعطاء والنصح واإلرشاد بدون
أي مقابل من اخللق ،وهذه األخالق الكرمية والصفات اجلميلة ي كرم اهلل هبا من يريد أن جيعله قدوة لدينه ومعلم ًا لدعوته ،كما
نالحظ أن يوسف عليه السالم كان مستوعباً لفقه اخلالف حيث أن امللك وشعبه بعيدون عن منهج اهلل ،منغمسون يف مناهج
اجلاهلية ،ومع هذا التقى معهم يف اخلري احملض والسعي وحو إنقاذ البالد والعباد من حمنة اجملاعة والقحط ،وهذه السعة يف الفهم
واالستيعاب العميق حيتاجها من يتصدى لدعوة الناس ،ودفعهم وحو متكني دين اهلل يف األرض.
148
لقد كان من مثار تدبري يوسف عل يه السالم وختطيطه أن حفظ الشعب من اهلالك واجلوع وخرج من الشدائد وعاد إىل الرخاء
ويف هذا القصص القرآني إشارات إىل واقع ختطيطي لكي ندرك أن اإلسالم ال يقوم على التخمني أو التواكل ،ولكنه يهتم بأدق
األساليب وأعمقها يف جوانب االقتصاد أو السياسة أو غريها وكان هلذا القصص أثره البالغ يف بناء الدولة اإلسالمية على
إن سرية الرسول صلى اهلل عليه وسلم مَعْلم بارز يف مجيع جوانب احلياة ونلحظ من سريته العطرة جانب التخطيط وإحكام
اإلدارة ودقة التنظيم يف كل مراحل دعواته :فإذا نظرنا ـ مثالً ـ إىل اهلجرة النبوية جند أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم وضع هلا
خطة احتوت على هذه العناصر :حتديد اهلدف ،تنظيم الوسائل ،رسم أسلوب التنفيذ ،حماولة التنبؤ باملستقبل ،ولذلك
نالحظ اآلتي:
149
لقد حدد النيب صلى اهلل عليه وسلم هدفه يف اهلجرة وهو مغادرته هو وأصحابه مكة إىل املدينة آمنني ،ثم نشر دعوة
إن ختطيط الرسول صلى اهلل عليه وسلم للهجرة النبوية املباركة دليل واضح على أن التخطيط ضروري ملزاولة أي
نشاط بشري مهما يكن نوعه ،يستوي يف ذلك أن يكون القائم به فرداً أو مجاعة وأن يستهدف شأنا من شؤون املسلم أو
ش ؤون احلرب وقد اتضحت رؤية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف التخطيط يف بناء املسجد ،ودستور املدينة،
وحركة السرايا ،وغزواته امليمونة واتصاالته بالقبائل والدول والزعماء وامللوك ولقد استخدم النيب صلى اهلل عليه
وسلم التخطيط يف كل مراحل دعوته السرية والعلنية وقيام الدولة إمياناً منه بأن التخطيط أساس من األسس يف إجناح
أي عمل من األعمال ،والبد منه للبلوغ إىل املقصود وأنه ركيزة أساسية يقوم عليها هذا الدين ولذلك فإن اإلسالم قد
دعانا إىل األخذ به ،وجعله نظاماً حلياة املسلمني ألنه ضرورة البد منها ،1وهذا ينسجم مع الفهم الصحيح ملعنى التوكل
150
إن الدولة املدنية اإلسالمية ،تتصدى لتحقيق أشرف وأعظم إجناز يف دنيانا وهو التمكني لدين اهلل يف األرض ورفع
الظلم وإقامة العدل ،واالنتصار للمبادئ اإلنسانية ،كاملساواة واحلرية والكرامة اإلنسانية ،وحقوق اإلنسان
......اخل.
لقد قامت يف املدينة دولة توفرت هلا كل مقومات الدولة وكان النيب صلى اهلل عليه وسلم هو مؤسس هذه الدولة واحلاكم فيها
وهو الذي يرجع إليه يف كل الشؤون ،وملا اتسعت أمور الدولة ،ع َّين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم العمال األكفاء ،وكان خيتار
العمال أساس الكفاءة والصالح واألمانة ،ويبني للمسلمني خطورة الوالية وأهنا أمانة وأن من مل يؤدِّ الواجب فيها ويأخذها حبقها
1
كانت له يوم القيامة خزي ًا وندامةً وكان حياسب العمال ،كما حاسب ابن اللتبية وأنكر عليه قوله« :هذا لكم وهذا أهدي يل»
وكان جيري الرواتب على العمال ،كما أجرى لعتاب بن أسيد أمري مكة درمهاً كل يوم وبيَّن أن من حق العامل أن يتخذ بيتاً إن مل
يكن له بيت ،وزوجة إن مل تكن له زوجة ودابة إن مل تكن له دابة ،فقال« :من وىل لنا والية ومل يكن له بيت فليتخذ بيتاً أو مل تكن له
151
وكان يوصي العمال كما أوصى أبا موسى األشعري ومعاذ بن جبل بالتيسري والتبشري ،فقال :يسروا وال تعسروا وبشروا وال
تنفروا.1
وكان صلى اهلل عليه وسلم يستشري أصحابه كثرياً ،حتى قال أبو هريرة :ما رأيت أحداً قط أكثر مشورة ألصحابه من رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وكان له عرفاء كما ثبت ذلك يف صحيح البخاري.
وكان زيد بن ثابت يرتجم للنيب صلى اهلل عليه وسلم ،قال زيد بن ثابت :أمرني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن أتعلم له كتاب
يهود قال« :إني واهلل ما آمن يهود على كتاب» ،قال :فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له ،قال :فلما تعلمته كان إذا كتب إىل
يهود كتبت إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتاهبم ،2وكان هناك شعراء ينافحون عن النيب صلى اهلل عليه وسلم وعن الدعوة منهم
حسان بن ثابت وعبد اهلل بن رواحة ،وكعب بن مالك وكان هناك خطباء منهم ثابت بن قيس ،وكان هناك قادة للجيوش وكان
املسجد مركز احلياة السياسية واالجتماعية وكان النيب صلى اهلل عليه وسلم يستخلف على املدينة إذا غاب عنها لغزوة أو
غريها ،وكان صلى اهلل عليه وسلم يعرف أصحابه معرفة دقيقة ويعرف ما يتميز به ،الواحد منهم من املزايا ،فكان يضع الرجل
املناسب يف املكان املناسب ،وأقرأ يف ذلك حديث أنس بن مالك قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :أرحم أميت بأميت أبو
152
بكر وأشدهم يف دين اهلل عمر ،وأشدهم حياء عثمان ،وأقضاهم علي ،وأعلمهم باحلالل واحلرام معاذ ،وأفرضهم زيد بن
ثابت ،وأقرؤهم أبيّ بن كعب ،ولكل قوم أمني ،وأمني هذه األمة أبو عبيدة بن اجلراح».1
وكان صلى اهلل عليه وسلم يعيّن األكفاء مهما تأخر إسالمهم كما عيَّن خالد بن الوليد بعد إسالمه ،ومل يكن يعني من ال قدرة له
على إدارة األمور مهما كانت سابقته وفضله ولذلك قال ألبي ذر« :يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي،
ال تأمرن على اثنني وال تولني مال يتيم» ،2وكان ال يويل من سأل اإلمارة وال من حرص عليها ،ونصح عبد الرمحن بن مسرة ،قال له:
«ال تسأل اإلمارة» ، 3وقام النيب صلى اهلل عليه وسلم بعملية إحصاء ،فعن حذيفة رضي اهلل عنه قال :قال النيب صلى اهلل عليه
وسلم« :اكتبوا يل من تلفظ باإلسالم من الناس» ،فكتبنا له ألفاً ومخسمائة رجل ،فلقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي
قال ابن حجر :ويف احلديث مشروعية كتابة دواوين اجليش وقد يتعني ذلك عند االحتياج إىل متييز من يصلح للمقاتلة ممن ال
يصلح.5
153
وكان النيب صلى اهلل عليه وسلم يعيِّن الوايل فيقوم بكل املهمات القضائية والتنفيذية ،ومل يكن هناك خوف من تسلط الوايل
واستغالله لسلطاته ،وكان الوالة يؤ ُّم ون الناس يف الصلوات وجيبون الزكاة ،فيأخذوهنا من األغنياء ويوزعوهنا على الفقراء
وكانت املوار د املالية يف عهد النيب صلى اهلل عليه وسلم تقتصر على الزكاة والغنائم ،والفيء واجلزية ،وكانت تصرف يف
املصارف اليت حددها اهلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم ،ومل يكن لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بيت مال ،بل كان يقسم
الفيء من يومه.
ومن التوجيهات اإلدارية املستنبطة من سنة النيب صلى اهلل عليه وسلم :
ــ أن التكليف بقدر الطاقة ،واألحاديث يف ذلك معروفة مثل حديث الصحيحني« :وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم»،
.)286
ــ أن يكون اخلطاب على قدر الفهم كما قال عبد اهلل بن مسعود :ما أنت مبحدث قوم ًا ال تبلغه عقوهلم إال كان لبعضهم فتنة.
154
ــ تقديم األهم على املهم.
ــ التيسري والتبشري فقد قال صلى اهلل عليه وسلم« :يسِّروا وال تعسروا وبشِّروا وال تنفروا» ،1وقالت عائشة رضي اهلل عنها:
ما خُيِّر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بني أمرين إال أخذ أيسرمها ما مل يكن إمث ًا.2
ــ التقويم الذاتي فاملرء مسؤول عن رقابة نفسه وتقويم تصرفاته «فالكِّيس من دان نفسه ،وعمل ملا بعد املوت ،والعاجز من أتبع
وقد دلَّت السنة النبوية على أن هناك خصا ًال يعترب توفرها أساساً لصالحية املرشح للوالية:
ـ التمتع بالثقة والرضا من املرؤوسني والرعية ،قال صلى اهلل عليه وسلم« :خيار أئمتكم الذين حتبوهنم وحيبونكم
155
ـ التحلي بنقاء الذمة وطهارة اليد ،والتنزه عن استغالل املنصب يف االبتزاز ،سواء بالرشوة أو باستغالل النفوذ
للكسب واإلثراء.
أما التقدم يف السن فليس شرط ًا ،فقد عيَّن صلى اهلل عليه وسلم أسامة بن زيد وكان يف حدود العشرين ،وعيَّن
عتاب بن أسيد أمرياً على مكة ،وكان يف حدود العشرين ،وع َّين علياً رضي اهلل عنه قاضيا يف اليمن وكان دون
الثالثني ،وع َّين عثمان بن أبي العاص على الطائف بعد إسالم ثقيف وكان أحدثهم سناً ،ألنه كان حريصاً على التفقه
يف الدين.2
7ـ االقتصاد:
أدّت هجرة املسلمني إىل املدينة ،إىل زيادة األعباء االقتصادية امللقاة على عاتق الدولة الناشئة ،وشرع القائد األعلى صلى اهلل
عليه وسلم حيل هذه األزمة بطرق عديدة ،وأساليب متنوعة ،فكان نظام املؤاخاة بني املهاجرين واألنصار ،وبناء الصُّفة التابعة
للمسجد النبوي الستيعاب أكرب عدد ممكن من فقراء املهاجرين ،واهتمَّ بدراسة األوضاع االقتصادية يف املدينة ،فرأى :أن القوة
االقتصادية بيد اليهود ،وأهنم ميلكون السوق التجارية يف املدينة وأمواهلا ويتحكمون يف األسعار والسِّلع وحيتكروهنا ،ويستغلون
156
حاجة الناس ،فكان الب َّد من بناء سوق للمسلمني؛ لينافسوا اليهود على مصادر الثروة واالقتصاد يف املدينة ،وتظهر فيها آداب
اإلسالم وأخالقه الرفيعة يف عامل التجارة ،فحدَّد صلى اهلل عليه وسلم مكان ًا للسوق يف غرب املسجد النبوي ،وخطه برجله
وقد قامت السُّوق يف عهده صلى اهلل عليه وسلم رحبة واسعة وقد حظي السوق باهتمام النيبَّ صلى اهلل عليه وسلم،
ورعايته ،فتعهده باإلشراف ،واملراقبة ،ووضع له ضوابط ،وسنَّ له آداباً ،وطهّره من كثري من بيوع اجلاهلية؛ املشتملة على
ش واخلداع كما عُين صلى اهلل حبرِّيته ،وإتاحة الفرص املتكافئة فيها للبيع والشراء ،بني اجلميع على
الغنب ،والغرر ،2والغ ِّ
السَّواء.3
وقد أرسى صلى اهلل عليه وسلم آداباً كثرية ،وحرمات عديدة لسوق املدينة؛ لكي تُصان وال تنتهك وحتفظ فال ختدش ،وال
يستهان هبا ،ولكي يصبح قدوة ألسواق األمّة على مر الدهور وكرّ العصور ،وتوايل األزمان ،فمن سريته ميكننا أن نستنبط مجلة
من اآلداب اليت كان يأمر هبا أو ينهى عنها أثناء دخوله إىل السوق وإشرافه عليه ،ومتابعة سري املعامالت فيه ،فقد كان صلى اهلل
157
عليه وسلم ال يرى منكر ًا إال غريه ،وأزاله ،وال معروف ًا إال أقرّه ،ورغَّب يف املواظبة عليه وااللتزام به ،مستمداً كل ذلك من
توجيهات وتعليمات ربه سبحانه وتعاىل ،قال تعاىل﴿:وَمَا يَنطِقُ َعنِ الْهَوَى * إِنْ ُهوَ إِلَّا َوحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم ،آية 3 :ـ .)4
ــ يُسَنُّ يف حق الداخل إىل السوق أن يذكر اهلل ـ تعاىل ـ ابتداءً وحيمده ،ويثين عليه ،وذلك ملا ورد عنه صلى اهلل عليه وسلم :أنه
قال« :من دخل السوق ،فقال :ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،له امللك ،وله احلمد ،حييي ومييت ،وهو حي ال ميوت ،بيده
اخلري ،وهو على كل شيء قدير؛ كتب اهلل له ألف حسنة ،وحما عنه ألف سيئة ،ورفع له ألف درجة وبنى له بيتاً يف اجلنة».1
ــ يكره ملن يدخل السوق أن يرفع صوته باخلصام واللَّجاج فقد ورد يف صفته صلى اهلل عليه وسلم :أنه؛ ليس بفظ ،وال غليظ،
وال سخّاب 2يف األسواق ،وال يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ،ويغفر ،3فالصَّخب مذموم بذاته ،فكيف إذا كان يف األسواق اليت
ــ ينبغي احملافظة على نظافة األسواق ،واالبتعاد عن تلويثها باألقذار ،واألوساخ؛ لكي ال يُؤذى املسلمون يف حركة سريهم ،وال
بالرّوائح الكريهة ،وقد حثَّ صلى اهلل عليه وسلم على النظافة ،وهنى عن عدمها ،وخاصة يف طرقات الناس ،وأسواقهم،
158
وذلك ملا فيها من الضَّرر قال صلى اهلل عليه وسلم« :اتقوا اللعَّانني» ،قالوا :وما ال َّلعَّانان يا رسول اهلل؟ قال« :الذي يتخلىَّ يف
ــ االحتزاز يف محله السَّالح ملن دخل السُّوق ،ومعه سالح ،فقد ثبت عنه صلى اهلل عليه وسلم :أنه قال« :إذا مرّ أحدكم يف
مسجدنا ،أو يف سوقنا ومعه نبل ،2فليمسك على نِصاهلا» ،3أو قال « :فليقبض بكفِّه أن يصيب أحداً من املسلمني منها
بشيء» ،4ويقاس عليه األسلحة ،مع ما فيها من خطر حمقق عند أدنى مالمسة هلا.5
ــ األمر بالوفاء بالعقود ،والعهود ،وسائر االلتزامات والتحذير من نقضها ،أو الغدر فيها ،قال تعاىل﴿:وَأَوْفُو ْا بِ َعهْدِ اهللِ ِإذَا
هلل عَ َليْكُمْ كَفِيالً إِنَّ اهللَ يَعْلَ ُم مَا تَفْعَلُونَ﴾ (النحل ،آية.)91 :
عَاهَدتُّمْ وَ َال تَنقُضُواْ األَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَ ْلتُمُ ا َ
ــ السهولة واليسر واملساحمة يف البيع والشراء ،ووحومها من صنوف التجارة ،قال صلى اهلل عليه وسلم« :رحم اهلل عبداً مسحاً
ــ الصدق والبيان وعدم الكتمان من أهم اآلداب اليت جيب أن تسري بني الناس يف معامالهتم؛ فقد أثنى صلى اهلل عليه وسلم
على التاجر الصادق يف معاملته ،األمني يف أخذه وعطائه ،وبيَّن :أنه حيشر يوم القيامة مع النبيني ،والصِّديقني ،والشهداء،
159
وحسن أولئِك رفيقا ،قال صلى اهلل عليه وسلم« :التاجر الصدوق األمني مع النبيني ،والصديقني ،والشهداء» ،1ويف لفظ«:يوم
القيامة».2
ــ وجوب االبتعاد عن األميان الكاذبة ،فقد قال صلى اهلل عليه وسلم« :احللف منفقة للسلعة ،ممحقة للربح» ،3وقال صلى اهلل
فاحلالف يروِّج سلعته وينفقها ،لكن هذا الرّواج وذلك اإلنفاق موضع لنقصان الربكة ومظنة له يف املال ،بأن يسلط اهلل عليه
وجوهاً يتلف فيها ،إما سرقاً أو حرقاً ،أو غرقاً ،أو غصباً ،أو هنباً ،أو عوارض ينفق فيها من أمراض وغريها.
هذه بعض اآلداب والتوجيهات النبوية ،تتعلَّق بآداب التعامل يف السُّوق اإلسالمي ،ممّا كان هلا األثر يف تعمري أسواق املسلمني،
وضعف أسواق اليهود؛ وبذلك استطاع املسلمون أن يسيطروا على االقتصاد يف املدينة ،ويتحكَّموا فيه ،وهكذا قهروا اليهود
ولقد تطوَّرت تلك التعاليم واآلداب مع توسُّع الدولة ،ونزول التشريعات ،وأصبح للتجارة علم وفقه ومبادئ ،ولذلك قال عمر
160
إن لألسواق يف اإلسالم مكانة عالية ومنزلة سامية وذلك نظراً ألمهِّيتها املاليَّة واالقتصادية يف حياة الناس؛ حيث أهنا موضع
التعامل واملبادالت فيما بينهم ،وعن طريقه حيصل كل فرد على أموره املعيشية ،وحاجته الضرورية ومستلزماته اخلاصة
ولقد حتدث القرآن الكريم عن آفة اقتصادية واجتماعية خطرية ،أثرت على دين الناس ودنياهم أال وهي نقص امليزان،
واملكيال ،فقد كان هذا العمل خيالف ويناقض النهج الذي أنزله اهلل من عنده؛ ليتعامل الناس مبقتضاه ،ذلك النهج هو العدل يف
هلل الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ َلعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ (الشورى ،آية.)17 :
كل شيء ،قال تعاىل﴿ :ا ُ
وامليزان :هو العدل ،2واملوازين واملكاييل آالت إلقامة العدل ،ولذا أمر اهلل بإيفائها ،وهنى عن نقضها.
سنُ حَتَّى يَ ْبلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْ َل وَالْمِيزَا َن بِالْقِسْطِ َال نُكَ ِّلفُ نَفْسًا إِ َّال
ي أَحْ َ
ــ قال تعاىل﴿ :وَ َال تَقْرَبُواْ مَالَ الْ َيتِيمِ إِ َّال بِالَّتِي هِ َ
وُسْعَهَا وَ ِإذَا قُ ْلتُمْ فَاعْدِلُواْ ولَوْ كَا َن ذَا قُرْبَى وَ ِبعَهْدِ اهللِ أَوْفُو ْا ذَلِكُمْ َوصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (األنعام ،آية.)152 :
ــ وقال تعاىل﴿:وَأَوْفُوا الْكَيْ َل إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْ ُمسْتَقِيمِ ذَلِكَ َخيْرٌ وَأَ ْحسَنُ تَأْ ِويالً﴾ (اإلسراء ،آية.)35 :
وتوعَّد اهلل املطففني بالويل ،فقال تعاىل﴿ :وَيْلٌ لِّلْ ُمطَفِّفِنيَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ َيسْتَوْفُون * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ
161
فتعلم الصحابة رضي اهلل عنهم من قصة شعيب :أن نقص امليزان واملكيال تعطيل للمنهج اإلهلي ،وخمالفة لألوامر الربانية،
وتعرض لسخط اجلبار ،وعذابه يف الدنيا واآلخرة .إن هذا العمل له ضرره على دنيا الناس ،ألنه جيلب الشدة بدل الرخاء،
وغالء األسعار بدل رخصها ويؤدي إىل إضرار مبعايش الناس ،ولذلك حاربته الدولة اإلسالمية باملدينة.1
إن نقص امليزان واملكيال ،كان من األسباب اليت أدّت إىل هالك قوم شعيب ،قال تعاىل﴿ :كَأَن لَّمْ يَغْنَوْ ْا فِيهَا أَالَ ُبعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا
كانت قصة شعيب مع قومه من ضمن املنهج النبوي يف تربية النيب صلى اهلل عليه وسلم ألصحابه ولذلك فهموا :أن االوحراف
عن املنهج الرباني معناه الدمار واهلالك ،وأن مشولية هذا الدين تدخل يف شؤون حياهتم كافة.
إن املنهج الرباني ،عاجل املشكلة االقتصادية عن طريق القصص القرآني ،لكي يتعظ الناس ،ويعتربوا مبن مضى من األقوام ،ومل
يرتك اجلانب التشريعي التعبدي الذي له أثر يف البناء التنظيمي الرتبوي ،فقد كان املوىل ـ عز وجلَّ ـ يرعى هذه األمة وينقل
خطاها ،لكي تكون مؤهَّلة حلمل األمانة ،وتبليغ الرسالة ،وال فرق يف وسط هذ ِه الدولة بني األمور الصَّغرية ،واألمور الكبرية،
ألهنا كل ها تعمل لرفع بنائها ووقوفها شاخمة أمام األعاصري اليت حتتمل مواجهتها ،ومن هذه الشعائر التعبديّة اليت فرضت يف
162
السَّنتني األوليني من اهلجرة :الزكاة؛ وزكاة الفطر ،والصيام ،ونالحظ سنة التدرج يف بناء اجملتمع املسلم ومراعاته لواقع الناس،
واالنتقال هبم وحو األفضل دون اعتساف ،أو تعجيل ،بل كلُّ شيء يف وقته.1
يف شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة فرض اهلل تعاىل الصيام وجعله ركنا من أركان اإلسالم ،كما فرضه على األمم السابقة
ويف ذلك تأكيد على أمهية هذه العبادة اجلليلة ومكانتها قال تعاىل﴿:يَا أَيُّهَا الَّذِي َن آمَنُو ْا كُتِبَ عَ َليْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُ ِتبَ َعلَى الَّذِي َن
وامتدح اهلل سبحانه شهر الصِّيام ،واختصه من بني سائر الشهور إلنزال القرآن العظيم ،فقال ـ عز وجل ـ ﴿:شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ
شهْرَ فَلْيَصُمْ ُه وَمَن كَانَ َمرِيضًا أَ ْو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّ ٌة مِّ ْن
أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَ َبيِّنَاتٍ مِّ َن الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِ َد مِنكُ ُم ال َّ
.)185
163
وقد وضحت اآلية الكرمية األوىل الثَّمرة العظمى اليت حيظى هبا الصَّائمون املخلصون ،أال وهي بلوغ درجة التقوى " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
" فالصيام بالنسبة لألمة املسلمة مدرسة فريدة ،ودورة تدريبية على طهارة النفوس لكي تنخلع من آفاهتا ،وتتحلى بالفضائل،
وألمهّية الصِّيام يف تربية اجملتمع املسلم ،فقد رغَّب النيب صلى اهلل عليه وسلم يف أيام الصيام ،وحثَّ على صيامها ،ور َّغب يف
س
األجر واملثوبة من اهلل تعاىل ،وبذلك أصبحت مدرسة الصيام مفتوحة أبواهبا طيلة السنة؛ لكي يبادر املسلم إليها كلَّما أح َّ
بقسوة يف قلبه ،وحاجة لرتويض نفسه ورغبة يف املزيد من األجر ،والفضل عند اهلل سبحانه وقد جاء يف احلديث عن أبي
سعيد اخلدريِّ رضي اهلل عنه :أنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :من صام يوماً يف سبيل اهلل؛ بَعَّدَ اهلل وجهه عن
ويف رمضان من العام نفسه شرَّ ع اهلل ـ سبحانه وتعاىل ـ زكاة الفطر وهي على حر أو عبد ،ذكر أو أنثى ،صغري أو كبري من
املسلمني .واحلكمة من فرضية هذه الزكاة ،وإلزام املسلمني هبا ظاهرة وجلية ،قال عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما :فرض
164
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرّفث ،وطعمة للمساكني ،من أدَّاها قبل الصالة فهي زكاة
ـ يتعلق بالصَّوم يف شهر رمضان ،فإن النفوس جمبولة على اخلطأ ،والتقصري ،والوقوع يف لغو القول؛ الذي ال فائدة فيه ،أو
فيه ضرر من الكالم الباطل ،ووحو ذلك ،ممّا ال يسلم اإلنسان منه غالباً ،فجاءت هذه يف ختام الشهر تطهرياً للصَّائم ممَّا
ـ إغناء احملتا ج يف يوم العيد ،الذي يعقب الفطر من رمضان ،فهذا يوم يسعد فيه اجملتمع املسلم كله ،فينبغي أن يعمَّ هذا
السرور على اجلميع ،فشرعت هذه الزكاة؛ لكفِّ هؤالء عن ُذلِّ السُّؤال ،واستجداء الناس ،لذلك كانت خاصَّة
بالفقراء ،واملساكني ،ال تعطى لغريهم ،كما يف حديث ابن عباس رضي اهلل عنهما املتقدم":طعمة للمساكني"؛ ولذلك
نرى :أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مل جيعلها شيئ ًا كثرياً يعجز كثري من الناس عنه ،بل جعل الواجب شيئ ًا قليالً،
165
مما يسهل على ا لناس ،وال يشقُّ عليهم من غالب قوت البلد ،حتى يتمكن من أدائها كثري من املسلمني؛ فيحصل الغناء
بذلك هلؤالء احملتاجني ،فما أعظم هذا الدين ،1وهلذه الزكاة أحكام وتفصيالت تطلب من كتب الفقه.2
ج ـ صالة العيد:
ويف هذه السنة صلَّى النيب صلى اهلل عليه وسلم صالة العيد ،فكانت أوّل صالة صالَّها ،وخرج بالناس إىل املصلَّى يهلّلون اهلل
إن العيد موسم من مواسم اخلري ،والتعاطف ،والتحابب ،وكان من دأب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :أنه إذا صلى العيد،
ذكَّر ،وأنذر ،ورغَّب ،ورهَّب ،فيتسابق يف مضمار البذل والعطاء الرّجال والنساء ،والصغار ،والكبار.3
د ـ تشريع الزكاة:
ويف السنة الثانية للهجرة شرَّ ع اهلل الزكاة؛ اليت هي ركن من أركان اإلسالم وكان ذلك بعد شهر رمضان؛ ألن تشريع الزكاة العامة
كان بعد زكاة الفطر ،وزكاة الفطر كانت بعد فرض صيام رمضان قطعاً ،يدلُّ على هذا ما رواه األئمة :أمحد ،وابن خزمية،
166
والنسائي ،وابن ماجه ،واحلاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة رضي اهلل عنهما قال :أمرنا رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ،ثم نزلت الزكاة ،فلم يأمرنا ،ومل ينهنا ووحن فعله.1
قال احلافظ ابن حجر :إسناده صحيح ،2ومجهور العلماء سلفاً وخلفاً على أن مشروعية الزكاة إمنا كانت باملدينة يف السنة
الثانية.
فالزكاة يف العهد املكي كانت مطلقة من القيود واحلدود وكانت موكولة إىل إميان األفراد ،وأرحييتهم وشعورهم بواجب األخوة
وحو إخواهنم من املؤمنني ،فقد يكفي يف ذلك القليل من املال ،وقد تقتضي احلاجة بذل الكثري ،أو األكثر.3
فكانت اآليات املكيَّة هتتمُّ جبانب الرتبية ،والتوجيه ،وحتث على رعاية الفقراء واملساكني ،بأساليب متنوعة ،منها :أن طعام
املساكني من لوازم اإلميان ،ففي سورة املدثر ـ وهي من أوائل ما نزل من القرآن ـ يعرض القرآن الكريم مشهداً من مشاهد اآلخرة،
مشهد أصحاب اليمني من املؤمنني ،يف جناهتم يتساءلون عن اجملرمني من الكفرة ،وقد أطبقت عليهم النريان ،فيسألوهنا عمّا
167
أحلَّ هبم هذا العذاب ،فكان من أسبابه وموجباته :إمهال حق املسكني ،وتركه ألنياب اجلوع والعُري تنهشه ،وهم عنه
معرضون.1
سكِنيَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِنيَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ال ِّدينِ﴾ (املدثر،
سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّنيَ * ولَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِ ْ
ومل تقف عناية القرآن املكي عند الدعوة إىل الرمحة باملسكني والرتغيب يف إطعامه ،ورعايته ،والرتهيب من إمهاله ،والقسوة
عليه ،بل جتاوز ذلك ،فجعل يف عنق كل مؤمن حقًّا للمساكني ،أن حيضَّ غريه على إطعامه ،ورعايته ،وجعل ترك هذا احلضِّ
ــ قال تعاىل يف شأن أصحاب "الشمال"﴿ :خُذُوهُ َفغُلُّو ُه * ُثمَّ الْجَحِي َم صَلُّو ُه * ثُ َّم فِي سِ ْلسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا
168
وهذه اآليات املزلزلة للقلوب ،املنذرة بالعذاب ،هي اليت جعلت مثل أبي الدرداء رضي اهلل عنه يقول المرأته :يا أمَّ الدرداء ،إن
هلل سلسلة ومل تزل تغلى هبا مراجل النار منذ خلق اهلل جهنم إىل يوم تُلقى يف أعناق الناس ،وقد جنّانا اهلل من نصفها بإمياننا باهلل
أما القرآن املدني ،فقد نزل بعد أن أصبح للمسلمني مجاعة هلا أرض ،وكيان وسلطان ،فلهذا اختذت التكاليف اإلسالمية
صورة جديدة مالئ مة هلذا الطور :صورة التجديد والتخصيص ،بعد اإلطالق والتعميم ،صورة قوانني إلزامية ،بعد أن كانت
وصايا توجيهية فحسب ،وأصبحت تعتمد يف تنفيذها على القوة والسُّلطان ،مع اعتمادها على الضمري واإلميان ،وظهر هذا
االجتاه املدني يف الزكاة فحدَّد الشارع األموال اليت جتب فيها وشروط وجوهبا ،واملقادير الواجبة ،واجلهات اليت تُصرف هلا،
وفيها ،واجلهاز الذي يقوم على تنظيمها وإدارهتا ،2وأكَّد النيب صلى اهلل عليه وسلم يف املدينة ،فريضة الزكاة ،وبيَّن مكانتها يف
دين اهلل وأهنا أحد األركان األساسية هلذا الدِّين ،ورغب يف أدائها ،ورهَّب من منعها بأحاديث شتّى وأساليب متنوعة.
وأعلن الرسول صلى اهلل عليه وسلم يف أحاديثه :أن أركان اإلسالم مخسة ،بدأها بالشهادتني ،وثنَّاها بالصالة ،وثلثها بالزكاة،
فالزكاة يف السُّنة ـ كما يف القرآن ـ ثالثة دعائم اإلسالم :اليت ال يقوم بناؤه إال هبا ،وال يرتكز إال عليها ،3وعندما طبَّق املسلمون هذا
169
الرُّكن كما أمر اهلل تعاىل ،وكما شرع رسوله صلى اهلل عليه وسلم ،حتققت أهداف عظيمة يف اجملتمع ،وبرزت آثارها يف حياة
الفرد ،واجملتمع.1
قال تعاىل﴿:وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِميَانَ مِن قَ ْبلِهِمْ ُيحِبُّو َن مَ ْن هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُو َن فِي صُدُو ِرهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا َويُؤْثِرُو َن
عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَ ِئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (احلشر ،آية.)9 :
آية.)39 :
وقال تعاىل﴿ :وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ ألَزِيدَنَّكُمْ ولَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (إبراهيم ،آية.)7 :
170
وقال صلى اهلل عليه وسلم « :ما من يوم يصبح فيه العباد فيه إال ملكان ينزالن ،فيقول أحدمها :اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول
اآلخر :اللهم أعط مُمسكاً تلفاً» ،1وهكذا يتم تطهري نفس املسلم آفة الشح ،والبخل ،ويسارع إىل اإلنفاق ،موقناً بفضل اهلل
قال تعاىل﴿ :الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَ ْموَالَهُم بِاللَّيْ ِل وَال َّنهَارِ سِرًّا وَ َعالَنِيَةً َفلَهُمْ َأجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ َوالَ خَوْفٌ عَلَ ْي ِهمْ وَ َال هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة،
آية.)274 :
فهم يف أمن وسعادة ،وراحة البال ،ألهنم أدّوا ما أمرهم اهلل تعاىل به ،وانتهوا عمّا هناهم اهلل عنه.
حصول احملبة بني األغنياء والفقراء ،وشيوع األمن والطمأنينة يف أوسطه ،وشعور األفراد فيما بينهم :أهنم كاجلسد الواحد قال
صلى اهلل عليه وسلم :مثل املؤمنني يف توادهم ،وترامحهم وتعاطفهم ،مثل اجلسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو ،تداعى له
سهر واحلمَّى.1
سائر اجلسد بال َّ
171
ومن اآلثار أيض ًا حفظ التوازن االجتماعي.2
عندما كانت الزكاة جتمع من كل من جتب عليه ،وتُنفق يف سبلها املشروعة يف صدر اإلسالم ،كان اجملتمع اإلسالمي يعيش يف
رخاء ورغد ،ومتتع بالطيبات ،وتآلف ،وتآخٍ ،وحتابب ،فقد روى الرُّواة :أنه يف عهد عمر بن عبد العزيز رضي اهلل عنه
أخصب الناس ،واغتنوا ،حتى إهنم حبثوا عن مستحق للصَّدقة ،فلم جيدوا ،فما كان منهم إال أن اشرتوا هبا عبيداً ،وأعتقوهم
لوجه اهلل ،وهكذا بلغ اإلسالم يف عصوره األوىل ،مبستوى حياة املسلمني ومعيشتهم حدّاً مل تبلغه إال أمم قليلة اليوم ،وذلك بفضل
تشريع الزكاة.3
هتتم الدولة باإلعداد املايل والقوة االقتصادية وجتعلها يف خدمة مواطينها ،وقيمها ومبادئها ،وتعمل على تطوير ميدان
وحترص على تنمية االقتصاد اإلسالمي الذي سيكون له آثار على اجملتمعات البشرية واليت من أمهها:
172
أ ـ إنقاذ البشرية ،من مساوئ األنظمة الوضعية حتى أن علماء الغرب يقولون بذلك .يقول جاك أوسرتي :إن طريق اإلمناء ليس
حمصوراً يف املذهبني املعروفني ،بل هناك مذهب اقتصادي ثالث راجح هو املذهب اإلسالمي.1
وبذلك يتحرر املسلمون من التبعية االقتصادية ويربز للعامل هذا النظام ومن هنا تأتي أمهية طرح النظام االقتصادي يف اإلسالم
ب ـ استغالل املوارد البشرية واملادية استغالالً اقتصادياً يؤدي إىل الرفاهية للمواطنني مما يساعدهم على قيام الصناعات الثقيلة
واالنتعاش التجاري ووسائل ا لقوة املادية واملعنوية اليت حتقق للدولة وشعبها القوة واملتعة كل ذلك وفق برامج تنمية متكاملة وال
ج ـ وجود االقتصاد اإلسالمي يف الدولة املدنية اإلسالمية يؤدي إىل الوحدة السياسية بني شعوب اإلسالم ،حيث إن االقتصاد
يراعي أحكام الشريعة كما أن وحدة االقتصاد تؤدي إىل وحدة السياسة ،وهذا ما تسعى إليه دول غري إسالمية مثل دول
1اإلسالم والتنمية االقتصادية ،جاك أوستري ،ص ،1000 :ترجمة نبيل الطويل.
173
د ـ حتقيق القوة االقتصادية والسياسية يؤدي إىل قوة الدولة املدنية اإلسالمية والقيام برسالتها يف احلياة وتساهم يف ارتقاء شعبها
وأمتها وجعلها خري أمة ،وأقوى قوة فكرية وحضارية ومادية يف العامل.
هـ ـ إذا بنى الفكر ـ وخباصة الفكر االقتصادي اإلسالمي على أساس سليم من العقيدة واألسس الصحيحة ،فإن الطريق إىل
االكتشافات واملخرتعات احلديثة سيكون مفتوح ًا ،وستوظف املفاهيم إىل واقع حي عملي يف معرتك احلياة ،وبذلك نستعلي
بقوة احلق ،وسالمة الفكر على األفكار الدخيلة على األمة اإلسالمية.
إن العقيدة اإلسالمية ما جاءت إال هلداية البشر إىل ما فيه السعادة يف الدارين ،1واليت من ضمنها اجلانب املادي االقتصادي.
ولقد اهتم اإلسالم باملوارد املالية وبيَّن طرق الكسب املشروع ،كالبيوع واملرياث والوصايا واهلبات وغريها ،وأوضح طرق
الكسب غري املشروع ،كالربا والغرر والغش واالحتكار وغريها وكانت موارد الدولة اإلسالمية يف زمن النيب صلى اهلل عليه
وسلم واخللفاء من بعده من الزكاة والغنائم والفيء ،واخلراج والتجارة .إن الدولة املدنية اإلسالمية اليت تسعى تقوية جوانبها
االقتصادية واملالية وتوظيفها يف دعوة اهلل تعاىل قد أخذت بسبب مهم من أسباب القوة والصمود أال وهو:
174
إن الدولة املدنية اإلسالمية تعمل على االكتفاء الذاتي ملواطنيها مبعنى أهنا جيب أن يكون لديها من اخلربات والوسائل واألدوات
ما جيعلها قادرة على إنتاج ما يفي حباجتها املادية واملعنوية وسد ثغراهتا املدنية والعسكرية ،عن طريق ما يسميه ،الفقهاء:
فروض الكفاية ،وهي تشمل كل علم أو عمل أو صناعة أو مهارة يقوم هبا أمر الناس يف دينهم أو دنياهم ،فالواجب عليهم حينئذ
تعلمها وتعليمها وإتقاهنا حتى ال يكون املسلمون عالة على غريهم ،وال يتحكم فيهم سواهم من األمم األخرى ،وبغري هذا
االستغناء واالكتفاء ،لن يتحقق هلم العزة اليت كتب اهلل هلم يف كتابه﴿ :وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْ ِم ِننيَ﴾ (املنافقون ،آية.)8 :
وبغريه كي يتحقق هلم االستقالل والسيادة احلقيقية وهو ما ذكره القرآن ﴿وَلَن يَجْعَلَ اهللُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِ ِننيَ سَبِيالً﴾
ولن يتحقق هلم مكان األستاذية والشهادة على األمم وهو املذكور يف قوله سبحانه ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُو ْا
شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَ َليْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة ،آية.)143 :
فال عزة لشعب يكون سالحه من صنع غريه ،يبيعها منه ما يشاء ،متى شاء ،بالشروط اليت يشاء ،ويكف يده عنها متى شاء
وكيف شاء.
175
وال سيادة حقيقية لشعب يعتمد على خرباء أجانب عنه ،يف أخص أموره ،وأدق شؤونه وأخطر أسراره وال استقالل لشعب ال
ميلك زراعة قوته يف أرضه ،وال جيد الدواء ملرضاه ،وال يقدر على النهوض بصناعة ثقيلة ،إال باسترياد اآللة واخلربة من غريه.
من أهداف الدولة الدولة احلديثة املسلمة أن تسلك بشعبها طريق االكتفاء ،والتحرر من التبعية وتتمسك وتعمل على الوصول
لألمور اليت تعني على االكتفاء والدولة احلديثة ،تأسس اقتصادها حبيث يكون قادراً على االستفادة والتعاون مع االقتصاد
العاملي ويكون اقتصادها متنوع وتنافسي وكفيل بأن يليب احتياجات املواطنني اآلنية واملستقبلية وتأمني فرص أفضل للجميع
ــ والدولة يقتصر دورها على األمور التالية :املراقبة والتحفيز والتنظيم وتكفل محاية الكسب املشروع والقضاء على الفساد
ــ بناء اقتصاد معريف يقوم على البحث ،والتطوير واالبتكار والتميز يف ريادة األعمال وتعليم رفيع املستوى هادف لتنمية
176
ــ التوسع يف الصناعات واخلدمات ذات امليزة التنافسية املستمدة من الصناعات البرتولية ،أو غريها على حساب ما يتوفر يف
الدولة.
ــ االستغالل املسؤول ،واألمثل للنفط "للدول البرتولية" والغاز وخلق توازن بني االحتياطي واإلنتاج ،وبني التوزيع االقتصادي،
ودرجة االستنزاف.
ــ تطوير بنية حتتية كافية ،وقوية قادرة على دعم النمو االقتصادي املتوقع.
ــ متكني األسواق املالية من متويل املشاريع والقطاعات االقتصادية وبناء املؤسسات القادرة على تقديم اخلدمات للمواطنني
ــ التأكيد على ضرورة إنشاء أجهزة متخصصة لإلحصاءات الرقمية للسكان ،تتوىل مهمة الرصد الدقيق للمواليد وإنشاء
خرائط لكفالة املدن واملناطق احلضرية والذاتية على حد سواء واإلحصاء الدقيق للسكان واملنشآت واملرافق وذلك هبدف
استخدام تلك املعلومات يف وضع خطط التنمية للدولة على وحو متوازن وعادل ويضمن توزيعاً منصفاً للثروات يف البالد.
177
أ ـ ضرورة التخطيط:
البد من التخطيط القائم على اإلحصاء الدقيق ،واألرقام احلقيقية ،واملعرفة الالزمة باحلاجات املطلوبة ومراتبها ومدى
أمهيتها ،واإلمكانات املوجودة ،ومدى القدرة على تنميتها والوسائل امليسورة لتلبية احلاجات ،والتطلع إىل الطموحات.
ويكون ذلك بتطوير الكفاءا ت البشرية املتنوعة يف كل جمال حتتاج إليه ،وأن تطور نظامها اإلداري واملايل حبيث تنمي هذه
الطاقات ،وحتسن جتنيدها وتوزيعها على شتى االختصاصات بالعدل ،اهتداء بقوله تعاىلَ ﴿ :ومَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً
فَلَوْالَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُ ْم إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَ َعلَّهُمْ َيحْذَرُونَ﴾ (التوبة ،آية )122 :ووضع
كل إنسان يف املكان املناسب له ،واحلذر من إسناد األمر لغري أهله :إذا وُسِّد األمر إىل غري أهله فانتظر الساعة.1
ومن ثم فالدولة املدنية اإلسالمية حترص على الثروة البشرية وحتافظ عليها وتعمل على تنميتها :جسمياً وعقلياً وروحي ًا
178
فالدولة املدنية اإلسالمية ال هتدر شيئاً وحتافظ على املوارد املتاحة ،وتعتربها أمانة جيب أن ترعى ونعمة جيب أن يشكر اهلل
وحيسن بنا هنا إىل أن نشري إىل قوله تعاىل يف الوصية مبال اليتيم﴿ :وَالَ تَقْرَبُواْ مَالَ ا ْليَتِي ِم إِ َّال بِالَّتِي هِيَ َأحْسَ ُن َحتَّى يَ ْبلُغَ أَشُدَّهُ﴾
وقد تكرر ذلك يف القرآن الكريم هبذه الصيغة نفسها ،فلم يكتفِ القرآن منا أن نقرب مال اليتيم بطريقة حسنة وحسب ،بل باليت
هي أحسن ،فإذا كانت هناك طريقتان لتنمية مال اليتيم واحملافظة عليه :إحدامها حسنة جيدة ،واألخرى أحسن منها
وأجود ،كان الواجب علينا أن نستخدم اليت هي أحسن وأجود بل حرام علينا أال نستخدم إال اليت هي أحسن ،كما هو مفهوم
ومال الشعب يف جمموعه أشبه مبال اليتيم ،واملؤسسات اليت ترعاه أشبه بويل اليتيم وهلذا جيب أن وحافظ عليه وننميه باليت هي
أحسن.
179
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إذا تبايعتم بالعينة ،1ورضيتم بالزرع ،وتبايعتم بالعينة وأخذمت بأذناب البقر ،وتركتم
اجلهاد يف سبيل اهلل سلط اهلل عليكم ذالً ال ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم».2
ففي هذا احلديث إشارة إىل أن االكتفاء بالزراعة وحدها وما يتبعها من اإلخالد إىل احلياة اخلاصة املعبِّر عنها باتباع أذناب
البقر ،وترك اجلهاد يف سبيل اهلل ،وما يطلبه من إعداد القوة ،يُعرض األمة خلطر الذل واالستعمار وهذا بالضرورة حيتاج إىل نوع
من الصناعات البد أن يتوافر يف األمة ،إذ ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب ،ولقد أنزل اهلل يف كتابه سورة احلديد تنبيهاً منه على
أمهية هذا املعدن اخلطري قال تعاىل﴿ :وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ (احلديد ،آية )25 :ففي قوله تعاىل:
﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ إشارة إىل الصناعات احلربية ويف قوله تعاىل﴿ :وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ إشارة إىل الصناعات املدنية وهبذا تكتمل
حبيث خترج النقود من قمقم "الكنز" إىل ساحة احلركة والعمل ،فإن النقود مل ختلق لتحبس وتكتنز وإمنا خلقت لتتداول ،وتنتقل
من يد إىل يد :مثناً لبيع أو أجراً لعمل ،أو عني ينتفع هبا ،أو رأس مال لشركة أو مضاربة فهي وسيلة ألغراض شتى وليست
غرضاً لذاهتا.
1العينة :أن يبيع السلعة بثمن معلوم ألجل ثم يشتريها منه في الحال بأقل.
2صحيح الجامع الصغير ،ص.433 :
180
هذه بعض اخلطوط العريضة للوصول إىل االكتفاء الذاتي وحترير األمة من العبودية االقتصادية لغريها واالقرتاب هبا وحو متكني
دينها ،كما ننبه على أمهية توزيع الزكاة ورعاية أموال األوقاف ووضعها يف حملها الصحيح فيها من الثروات اهلائلة فالبد من حترير
األوقاف ،فإهنا تصل إىل املليارات يف بلدان الشعوب اإلسالمية ومل تستثمر كما ينبغي لكي ترتقي الشعوب وتقوى دوهلا.
8ـ اإلعالم:
أرشد القرآن الكريم األمة إىل األخذ بأسلوب اإلعالم يف دعوة اخللق وهنج هنجاً متميزاً يف إيصال احلقائق إىل الناس ،فمثالً نرى
القرآن الكريم جعل األحداث مدخالً إىل قلوب الناس وعقوهلم ،إلرشادهم وتوجيههم ملا فيه السعادة والفالح يف الدنيا
واآلخرة.
فنجده ينزل يف كثري من األحيان إثر حادثة أو سؤال مراعي ًا يف ذلك الوقت املناسب وما نزل منه ابتداء فأسبابه قائمة يف الواقع
وإن مل يكن حلادثة معينة وقد سأل اليهود الرسول صلى اهلل عليه وسلم عن هذه الظاهرة الغريبة ،اليت ما عهدوها من قبل يف
181
عن ابن عباس رضي اهلل عنه قال :قالت اليهود :يا أبا القاسم لوال أنزل هذا القرآن مجلة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى،
* وَلَا يَأْ ُتونَكَ بِمَثَ ٍل إِلَّا جِ ْئنَاكَ بِا ْلحَقِّ وَأَ ْحسَنَ تَ ْفسِريًا﴾ (الفرقان ،آية 32 :ـ .)33
إن نزول القرآن الكريم منجماً حسب األحداث والوقائع كانت له أهداف إعالمية عظيمة ال ميكن حتقيقها يف مدة قصرية من
الزمن إال هبذا األسلوب املعجز ،ومن أهم هذه األهداف اإلعالمية:
أ ـ مساعدة الرسول صلى اهلل عليه وسلم على حل املشاكل االجتماعية املتجددة ،فمن ذلك أن عبد اهلل بن رواحة تزوج من
أمة سوداء ،بعد أن أعتقها إثر ضربه هلا ،وهي أمة مؤمنة فطعن عليه ناس من املسلمني ،فقالوا :تزوج أمة ،وكانوا يريدون أن
ينكحوا إىل املشركني ونكحوهم رغبة يف أحساهبم ،2فنزل قوله تعاىل﴿ :وَالَ تَن ِكحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى ُيؤْمِنَّ وألَمَةٌ ُّمؤْمِنَةٌ َخيْرٌ
مِّن مُّشْرِكَةٍ ولَوْ أَعْجَ َبتْكُمْ وَالَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِنيَ حَتَّى يُؤْ ِمنُواْ ولَ َعبْدٌ مُّؤْمِنٌ َخيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ ولَوْ أَ ْعجَبَكُمْ أُوْلَـ ِئكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّا ِر
وَاهللُ يَ ْدعُوَ إِلَى ا ْلجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِ ِإ ْذنِهِ وَيُبَيِّ ُن آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَ َّلهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (البقرة ،آية.)221 :
فكان العرف السائد يف اجلاهلية وحتى ظهور اإلسالم أن التفاضل بني الناس باألنساب واألحساب فقط ،وكان هذا احلدث
وما حصل فيه من استغراب وقيل وقال ،قد أتاح الفرصة إلعالم الناس مبقاييس اإلسالم احلقيقية يف التفاضل بني الناس وهو
182
ت قوى اهلل عز وجل ـ واإلميان به وبرسوله صلى اهلل عليه وسلم وهذا املقياس فيه رفع من شأن املؤمن وإعالم بشرفه على
الكافر ،ولو كان هذا املؤمن عبداً أو أمة ،وكما ال خيفى فإن فيه تصغرياً لشأن الكافر وإعالماً بتفاهته ولو كان أشرف الناس يف
حسبه ونسبه ،ونزول هذه اآليات عقب هذا احلديث هيأ النفوس وأثار انتباهها إعالم لكال الطرفني بذلك.1
ب ـ مساعدة الرسول صلى اهلل عليه وسلم يف اإلجابة على األسئلة املوجهة إليه من قبل املؤمنني أو الكافرين ،فعندما بعث
املشركون إىل اليهود باملدينة يسألوهنم عن أمره فقالت اليهود :سلوه عن أشياء ثالث ،فإذا مل جيب عليها أو أجاب عنها مجيع ًا
فهو ليس بنيب وإن أجاب عن اثنني ومل جيب عن الثالث فهو نيب وهذه األمور الثالثة هي:
فسأله القرشيون عن هذه األشياء ،فوعدهم باإلجابة عليها يف اليوم التايل ومل يقل :إن شاء اهلل ،قال جماهد :إن الوحي تأخر
عنه اثنيت عشرة ليلة ، 2وقيل غري ذلك حتى كثر القيل والقال بني الناس وقال قائل قريش :وعدنا حممد غداً وقد أصبحنا ال
183
خيربنا بشيء ،واشتد احلزن على الرسول صلى اهلل عليه وسلم بسبب ذلك حتى هتيأت نفوس الناس وتوترت أعصاهبم
والتف ت أنظارهم لنتيجة هذا احلدث العظيم الذي يعترب من أهم األدلة والرباهني على صدق الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأنه
مرسل من عند اهلل .نزل الوحي من اهلل يقول بشأن الفتية﴿ :أَمْ حَسِ ْبتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَ ْهفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَا ِتنَا َعجَبًا﴾
فأجاب عن اثنني من األسئلة ومل جيب عن واحد األمر الذي جعل القرشيني وغريهم يوقنون بصدق دعوى الرسول صلى اهلل
عليه وسلم بأنه مرسل وأنه صادق أمني كما عهدوه وهكذا كان القرآن الكريم جييب على كل سؤال يوحيه إىل الرسول صلى اهلل
عليه وسلم سواء كان هذا السؤال من املؤمنني أو الكافرين أو كان لغرض التثبت والتأكد أو لالسرتشاد واملعرفة ،1ولقد تعددت
األغراض اإلعالمية من نزول القرآن منجماً ،فباإلضافة إىل ما ذكرنا مثة أغراض أُخر منها :رفع معنوية الرسول صلى اهلل عليه
وسلم من وقت آلخر بتبشريه بالنصر على األعداء ومحايته ،وفضح أعداء هذا الدين من املشركني واملنافقني وأهل الكتاب،
وتنبيه الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه من وقت آلخر عن أخطائهم ،من ذلك ما وقع للرسول صلى اهلل عليه وسلم مع
184
أسرى املشركني يوم بدر ،1ولقد أرشد القرآن الكريم إىل الدستور اإلعالمي يف القرآن يف قوله تعاىل﴿ :وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَا َن
لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ َتوَاصَوْا بِالْحَ ِّق وَ َتوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ (سورة العصر).
حيث استنبط متخصصو اإلعالم من هذه السورة الدستور اإلعالمي املكون من:
حسَنَةِ وَجَادِلْهُم
حكْمَةِ وَالْمَوْ ِعظَةِ الْ َ
واستنبطوا قواعد األسلوب اإلعالمي يف القرآن من قوله تعاىل﴿ :ادْعُ إِلِى َسبِيلِ رَ ِّبكَ بِالْ ِ
بِالَّتِي هِيَ أَ ْحسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ َأعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ َأعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَ ْبتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِ ْبتُم بِهِ ولَئِن
.)127
فهذه اآليات وضعت قواعداً وأسساً واضحة لألسلوب اإلعالمي ،القويل منه والعملي اليت البد للمسلمني أن يلتزموا هبا عند
قيامهم بتبليغ هذه الرسالة إىل الناس ،إذا أرادوا حتقيق أهدافهم وغاياهتم ،2ومن أهم هذه القواعد:
185
ــ احلكمة:
هي حسن اختيار األسلوب اإلعالم ي املناسب للمخاطبني وتنويعه حسب الظروف والزمان والتدرج يف إيصال الرسالة
هي التوجيهات اليت يقدمها صاحب الرسالة يف الناس عن طريق األوامر والنواهي املقرونة بالرتغيب والرتهيب بقصد نصحهم
وإرشادهم معتمداً على إيقاظ شعورهم وحماولة إشارة انفعاالهتم وحو ما يدعو له بعد اطمئناهنم له نفسياً واقرتاهبم منه.1
فإن كان املدعو يرى أن ما هو عليه حق أو كان داعية إىل باطل جيادل باللني واللطف بال حتامل عليه وال تقبيح له حتى يطمئن إىل
ــ اجلهاد:
قال تعاىل﴿ :وَإِنْ عَاقَ ْبتُمْ فَعَا ِقبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ﴾ فالبدّ من الدفاع عن هذه العقيدة وعن حريتها وحرية القائمني على
186
ــ القدوة احلسنة:
﴿ولَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾ (النحل ،آية )126 :فالعفو عند املقدرة يف بعض األحيان يكون أعمق أثراً وأكثر فائدة من
االنتقام ،والضرب بيد من حديد على يد الظامل يصبح حتمياً ،ألن فيه دفع الضرر وإعالماً ملن خلفهم ولكل من سولت له نفسه
اإلضرار هبذه الدعوة وأهلها أن هذا هو املصري الذي ينتظره ،واجلدير بالذكر أن هاتني القاعدتني أعين "اجلهاد والقدوة احلسنة"
ميثالن األسلوب اإلعالمي العملي يف اإلسالم ،1وبعد أن أرشدنا القرآن الكريم إىل القواعد األساسية لألسلوب اإلعالمي
الناجح الذي تنتهجه يف نشر هذه الدعوة ،أشار إشارة واضحة إىل ما سيالقيه الرسول صلى اهلل عليه وسلم واملسلمون من
أساليب إعالمية مضادة شيطانية للقضاء على هذه الرسالة والنيل منها ،فحثهم على الصرب يف هذا الصراع اإلعالمي املرير بني
ومن املالحظ أن القرآن الكريم قد انتهج هذا الدستور مع الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،فأول ما نزل من القرآن الكريم هو إعالم
الرسول صلى اهلل عليه وسلم حبقيقة "قاعدة التصور اإلمياني العريض".2
187
ــ قال تعاىل﴿ :اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ َعلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا
لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق ،آية 1 :ـ .)5فاهلل هو الذي خلق وهو الذي علمَّ فمنه البدء والنشأة ومنه التعليم واملعرفة ،واإلنسان يتعلم ما
يتعلم ويعلمِّ ما يعلم ،فمصدر هذا كله هو اهلل الذي خلق والذي علمَّ.1
وكانت هذه هي البداية مع الرسول صلى اهلل عليه وسلم فأول ما نزل عليه من القرآن الكريم كان اهلدف منه إعالم الرسول
صلى اهلل عليه وسلم بقاعدة التصور اإلمياني واإلميان هبا ،فلما علم هذه القاعدة وآمن هبا أمره اهلل تعاىل :بالعبادات الفاضلة
والقاهرة عليه صلى اهلل عليه وسلم ،2ومن أمهها قراءة القرآن وصالة الليل ،قال تعاىل﴿ :يَا َأيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا *
نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * َأوْ زِ ْد عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ (املزمل ،آية 1 :ـ .)4
وملّ ا علم الرسول صلى اهلل عليه وسلم حقيقة التصور اإلمياني وعمل مبقتضاها صار عنده استعداد ذاتي لتصدير هذه الرسالة
إىل الناس ،فعندها أمره اهلل تعاىل؛ بإعالن هذه الدعوة والصدع هبا.3
قال تعاىل﴿ :يَا أَ ُّيهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ (املدثر ،آية 1 :ـ .)3
كما أن القرآن الكريم غين باألساليب اإلعالمية سواء كانت قولية أو عملية ،ففي القولية مثالً :أسلوب اهلدم والبناء ،والتقابل،
والتبشري بغد أفضل ،واجلدل ،والتهديد ،وتشويه الصورة ،ومن األساليب اإلعالمية العملية :القدوة احلسنة ،والعفو عند
188
املقدرة والثبات على احلق ،ولقد مارس الرسول صلى اهلل عليه وسلم املنهج القرآني اإلعالمي وقام ببعض األعمال العظيمة اليت
حققت أهدافا إعالمية رفيعة وسامهت يف انتشار هذا الدين والتمكني له يف قلوب العباد ويف البالد فمثالً:
ـ اهلجرة:
اضطهد املكيون الرسول صلى اهلل عليه وسلم حتى وصل هبم األمر إىل التفكري يف التخلص منه ـ كما مرّ معنا ـ قال تعاىل﴿ :وَ ِإ ْذ
يَمْكُرُ بِكَ الَّ ِذينَ كَفَرُواْ لِيُ ْثبِتُو َك أَوْ َيقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُو َك ويَمْكُرُونَ ويَ ْمكُرُ اهللُ وَاهللُ َخيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (األنفال ،آية.)30 :
فأمره اهلل تعاىل باهلجرة إىل املدينة قال تعاىلِ ﴿ :إالَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اهللُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْ َنيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِ ْذ
فخرج الرسول صلى اهلل عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق متوجهاً إىل املدينة تنفيذ ًا ألمر اهلل تعاىل له ومل يكن خروج الرسول
صلى اهلل عليه وسلم من مكة إىل املدينة خوف ًا وال هرب ًا من املشركني ،بل تعليم ًا لألمة ضرورة أخذ احليطة يف األزمات وليقف
وكان هذا العمل من الرسول صلى اهلل عليه وسلم من أبلغ األساليب اإلعالمية يف اإلسالم وكانت له آثار إعالمية يف داخل مكة
وخارجها ،فأهل مكة شعروا بأن هؤالء مل يرتكوا أهلهم ووطنهم وأمواهلم إال من أجل قوة إمياهنم بصدق ما هم عليه من حق،
189
كما أن هذه اهلجرة أوجدت فراغاً كبري ًا يف مكة ولفت هذا الفراغ املكيني للتغريات اليت حدثت يف جمتمعهم ومن أمهها ظهور
هذا الدين.
ومن هنا كانت اهلجرة أسلوباً إعالمي ًا فريداً قلّ أن يكون له مثيل يف التاريخ.1
حبُّ
سجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى ِمنْ أَوَّلِ يَوْمٍ َأحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ ُيحِبُّونَ أَن يَ َتطَهَّرُواْ وَاهللُ ُي ِ
قال تعاىل﴿ :الَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَ ْ
سواء كانت هذه اآلية نزلت يف قباء أو املسجد النبوي الشريف فإن املالحظ أن أول عمل قام به الرسول صلى اهلل عليه وسلم
عند قدومه إىل املدينة هو بناء مسجد ،ومل يكن اهلدف الوحيد من هذا املسجد هو الصالة بل كان مركزاً إسالمياً عاماً جيتمع
ويف بناء املسجد إعالم جلميع املسلمني املوجودين يف املدينة وغريها أن هذا الدين دين اهلل وأنه يقضي على العصبيات مهما
هلل
كانت وعلى أي أساس وجدت ،وأن مقياس التفاضل فيه إمنا هو بتقوى اهلل عز وجل ،قال تعاىل﴿ :إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ا ِ
أَتْقَاكُمْ﴾ (احلجرات ،آية .) 13:فلو أقام املسجد يف بيت من بيوت إحدى القبيلتني املوجودتني يف املدينة لوجدت القبيلة
190
األخرى يف نفسها شيئاً من ذلك واعتربته تفضيالً هلا ،فكان هذا العمل من الرسول صلى اهلل عليه وسلم فيه من احلكمة ما ال
خيفى.
واحلقيقة أنه ما من مكان يف األرض يستطيع حتقيق ما حيققه املسجد من توحيد يف الكلمة واجلهود والقضاء على العصبيات إذا
حتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي ُقلُوبِهِمْ فَأَنزَ َل السَّكِينَةَ عَلَ ْيهِمْ وَأَثَا َبهُمْ فَتْحًا
قال تعاىل﴿ :لَقَدْ رَضِيَ اهللُ َعنِ الْمُؤْمِنِنيَ ِإذْ يُبَايِعُونَكَ تَ ْ
خرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مع بعض أصحابه وكانوا وحواً من ألف ومخسمائة من املدينة قاصدين بيت اهلل احلرام
للزيارة وكان هذا بعد غزوة األحزاب بعام ،فلما اقرتبوا من مكة وجدوا قريشاً تستعد لقتاهلم ،فبعث إليهم الرسول صلى اهلل
عليه وسلم عثمان بن عفان رضي اهلل عنه يقرتح عليهم عقد صلح بني الفريقني ،وسرت شائعة بأن عثمان قد قتل ،2فلجأ
الرسول صلى اهلل عليه وسلم إىل أسلوب إعالمي يشعر القرشيني بقوة املسلمني وأهنم على استعداد لقتاهلم واالنتصار عليهم،
فجمع أصحابه ودعاهم إىل املبايعة ،فبايعوه حتت شجرة على قتال املشركني وأال يفروا حتى ميوتوا فلما علمت قريش هبذه
191
البيعة وأن املسلمني عازمون على الدخول يف احلرب معهم دخل الرعب يف قلوهبم واضطروا إىل املفاوضات السلمية اليت كانت
اهلدف األساسي للرسول صلى اهلل عليه وسلم من استخدام هذا األسلوب وكانت قريش ترفض هذه املفاوضات فعقد معهم
"هدنة احلديبية" اليت ذكر اهلل تعاىل ـ أهنا فتح وامنت هبا على رسوله صلى اهلل عليه وسلم بقوله﴿ :إِنَّا فَتَحْنَا َلكَ فَتْحًا ُّمبِينًا﴾
قال تعاىلَ ﴿ :تبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِ َيكُونَ لِ ْلعَالَمِنيَ نَذِيرًا﴾ (الفرقان ،آية.)1 :
يف هذه اآلية الغاية اليت من أجلها أنزل القرآن على الرسول صلى اهلل عليه وسلم وهي إنذار العاملني وختويفهم من بأسه ونقمته
وبيان رضا اهلل من سخطه ويف هذا داللة واضحة على أن هذه الرسالة عاملية :وغايتها نقل هذه البشرية كلها من عهد إىل عهد
ومن هنج إىل هنج عن طريق هذا الفرقان الذي نزله اهلل على عبده؛ ليكون للعاملني نذيراً.1
وإذا كانت هذه الدعوة عاملية فال بد أن يكون إعالمها كذلك ،فالرسول صلى اهلل عليه وسلم واملسلمون مكلفون بتبليغ هذه
192
ولذا فإننا نرى الرسول صلى اهلل عليه وسلم عند أول فرصة وجدها بعد صلح احلديبية قام بإرسال البعوث الدينية إىل القبائل
العربية اجملاورة وإىل األمم خارج اجلزيرة العربية للتبشري هبذه الرسالة تنفيذاً ألمر اهلل تعاىل بتعميم هذه الرسالة.
ــ إشعار العرب والعجم وغريهم :أن اإلسالم ليس خاصاً بالعرب وحدهم ولكنه عام جلميع الناس.
ــ قبول هذه الدعوة والرتحيب هبا من قبل بعض األمراء وامللوك املوجهة إليهم ،كما فعل املقوقس والنجاشي وإن كان البعض
وهذا النوع من األساليب يستخدم يف عصرنا هذا التوثيق الروابط السياسية واالقتصادية واالجتماعية بني الدول عن طريق
ومن خالل هذه املعامل القرآنية واملمارسة النبوية الشريفة نتيقن أن االهتمام باإلعالم وتوظيفه يف خدمة أهداف الدولة اإلسالمية
إن لإلعالم أمهيته اخلطرية يف العصر احلديث ،وقد نال اهتماماً بالغاً من كل الدول حتى أنشئت له كليات خاصة وهي "كليات
اإلعالم" وأنشئت له وزارات خاصة وهي وزارات اإلعالم اليت تشرف على سائر وسائل اإلعالم يف الدولة ويعني وزير هلا من
193
أكفاء الوزراء وأرشدهم و الء لنظام احلكم القائم يف الدولة ،وذلك خلطره الكبري ،وأمهيته يف هذا العصر الذي انتشرت فيه
وتقدمت العلوم احلديثة واملخرتعات املتعددة والنظريات املختلفة .فاإلعالم تأثريه على الفرد واألسرة واجملتمع والدولة واجملتمع
ــ تزويد الناس باملعلومات واحلقائق وغريها من ضروب املعرفة ،وآخر األحداث واألخبار ،لتشبع رغبتهم امللحة للمعرفة،
ويقوّموا األمور اليت حوهلم يف اجملتمع تقومي ًا عاد ًال ويفهموا طبيعة البيئة اليت يعيشون فيها ويتمكنوا من التكيف معها والتجاوب مع
أفرادها.
ــ نشر الوع ي واحلقائق الثابتة وتثقيف العقول وتنوير األذهان ،وحماربة اخلرافات واألساطري والبدع الضارة حتى يتغري أسلوب
احلياة وتتغري األفكار إىل األفضل واألحسن وذلك بعرض اجلوانب اإلجيابية من احلياة عرضاً إعالمياً مناسباً ،وعرض
املعلومات واألفكار احلديثة والعصرية اليت تؤدي إىل هنضة األمة وزيادة وعيها وثقافتها.
ــ دفع عجلة التنمية االقتصادية واالجتماعية والسياسية وإحداث التغيري فيها لألفضل وذلك بتخطيط إعالمي سليم يتم به نقل
التقن ية احلديثة إىل أقصى مدى من البث والدعاية ويالزم هذا اإلعالم ويواكب خطوات التقدم االقتصادي واالجتماعي
194
ــ احملافظة على شخصية اجملتمع بكل معتقداته وآدابه وتراثه وتارخيه وتعميق كل هذا بوسائل اإلعالم املختلفة حتى يظل اجملتمع
ــ حتقيق الرتابط التام بني احلاكم واحملكوم حبيث تنسجم وتتوافق القاعدة العريضة من اجملتمع مع القمة مما يدفع اجملتمع إىل التقدم
ــ قلب احلكومات إلجياد االضطرابات :فقد يقوم اإلعالم بذلك نتيجة للصراع الفكري أو الصراع االجتماعي أو الصراع
السياسي فتذاع أخبار وحقائق تثري الناس مما خيلق الفوضى يف اجملتمع ،ويكون من نتيجة ذلك تغيري الوزارات أو قلب
احلكومات أو تقرير مصائر الدول أو إجياد احلقد والكراهية وحو طبقة معينة أو جمتمع معني.1
195
9ـ البناء الرتبوي والعلمي:
كان من أوائل ما نزل من القرآن الكريم يف العهد املدني مقدمات سورة البقرة ،اليت حتدثت عن صفات أهل اإلميان ،وأهل الكفر،
وأهل النفاق ،ثم إشارة ألهل الكتاب ـ اليهود والنَّصارى ـ وكان الرتكيز على بيان حقيقة اليهود ،ألهنم الذين تصدَّوا للدعوة
اإلسالمية من أول يوم دخلت فيه املدينة ،وتتضمن سورة البقرة جانباً طويالً منها لشرح صفة اليهود ،وطباعهم ،1واملالحظ :أن
س ورة البقرة ـ وهي من أوائل ما نزل يف العهد املدني ـ كانت توجِّه الدعوة للناس أمجعني أن يدخلوا يف دين اهلل ،وأن يتوجهوا له
بالعبادة قال تعاىل﴿ :يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُو ْا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ َوالَّذِينَ مِن قَ ْبلِكُمْ َلعَلَّكُ ْم تَتَّقُو َن * الَّذِي جَعَلَ َلكُمُ األَ ْرضَ فِرَاش ًا
وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ ِمنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ ِمنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَالَ َتجْعَلُواْ لِلهِ أَندَاد ًا وَأَنتُمْ َتعْلَمُونَ﴾ (البقرة ،آية 21 :ـ .)22
وكانت اآليات القرآنية يف العهد املدنيّ حتذِّر املسلمني من االتّصاف بصفات املنافقني ،وتوضِّح خطورة املنافقني على اجملتمع
النَّاشىء والدولة اجلديدة ،ومل تظهر حركة النفاق ضدَّ اجملتمع ،والدولة املسلمة إال يف العهد املدنيّ؛ ألن املسلمني يف مكة مل
يكونوا من القوَّة والنفوذ يف حالة تستدعي وجود فئة من الناس ترهبهم أو ترجو خريهم ،فتتملقهم ،وتتزلَّف إليهم يف الظاهر،
وتتآمر عليهم ،وتكيد هلم ،ومتكر هبم يف اخلفاء ،كما كان شأن املنافقني بوجه عام ،واآليات تتضمن أوصاف ،وأخبار،
196
ومواقف املنافقني ،واحلمالت عليهم كثرية جداً ،حتى ال تكاد ختلو سورة مدنية منها ،وخاصَّة الطويلة واملتوسطة وهذا يعين:
أن هذه احلركة ظلت طيلة العهد املدني تقريباً ،وإن كانت أخذت تضعف بعد نصفه األوَّل.1
واستمر القرآن املدنيُّ يتحدث عن عظمة اهلل ،وحقيقة الكون ،والرتغيب يف اجلنة والرتهيب من النار ،ويشرِّع األحكام لرتبية
األمَّة ،ودعم مقومات الدولة وكانت مسرية األمة العلمية تتطور مع تطور مراحل الدّعوة ،وبناء اجملتمع وتأسيس الدولة ،وقد
أشاد القرآن الكريم بالعلم ،والذين يتعلمون ،ورويت أحاديث عن تقدير الرّسول صلى اهلل عليه وسلم للعلم ،وتضمنت كتب
لقد أيقنت األمة :أن العلم من أهم مقومات هنضة الشعوب وبناء الدول وجناح احلضارات وتربية اإلنسان ،وأنه من املستحيل أن
يُمكِّن اهلل تعاىل لشعب جاهل متخ لف عن ركاب العلم ،وإن الناظر للقرآن الكريم ليرتاءى له يف وضوح :أنه زاخر باآليات اليت
ترفع من شان العلم ،وحتث على طلبه وحتصيله ،فقد جعل اهلل القرآن الكريم العلم مقابالً للكفر ،2الذي هو اجلهل ،والضَّالل،
قال تعاىل﴿ :أَمَّنْ هُ َو قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَ َقائِمًا َيحْذَرُ الْآ ِخرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ َيسْ َتوِي الَّذِينَ َيعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا
197
ب
وإن الشيء الوحيد؛ الذي أمر اهلل تعاىل رسوله صلى اهلل عليه وسلم أن يطلب منه الزِّيادة هو العلم .قال تعاىل﴿ :وَقُل رَّ ِّ
زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه ،آية ) 114 :كما أن أوّل خاصّية ميّز اهلل تعاىل هبا آدم عليه السالم هي .قال تعاىل﴿ :وَعَلَّمَ آ َدمَ األَسْمَاء كُلَّهَا
ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَالَ ِئكَةِ فَقَالَ أَن ِبئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُالء إِن كُنتُمْ صَادِقِنيَ﴾ (البقرة ،آية.)31 :
واستمر النيب صلى اهلل عليه وسلم يف منهجه الرتبويِّ يعلِّم أصحابه ،ويذكرهم باهلل ـ عز وجل ـ وحيثهم على مكارم األخالق،
ويوضح هلم دقائق الشريعة وأحكامها ،وكانت توجيهه صلى اهلل عليه وسلم ألصحابه أحيان ًا فردياً ،ومرّة مجاعياً ،وترك لنا
احلبيب املصطفى صلى اهلل عليه وسلم ،ثروة هائلة يف وسائله الرتبوية يف التعليم ،وإلقاء الدروس ،فقد راعى صلى اهلل عليه
وسلم الوسائل الرتبويّة؛ اليت تعني على احلفظ ،وحسن التلقِّي ،وتؤدِّي إىل استقرار احلديث يف نفوس وأفئدة الصحابة الكرام
رضي اهلل عنهم ،فمن هذه الوسائل واملبادئ العظيمة النافعة ،1يف العهد املكي ،واملدنيَّ:
198
فذلك أسهل يف حفظه ،وأعون على فهمه ،وأدعى الستيعابه ووعي معانيه ،ولذلك حرص النيب صلى اهلل عليه وسلم على
تكرار احلديث يف غالب أحيانه ،فعن أنس بن مالك رضي اهلل عنه ،عن النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم :أنَّه كان إذا تكلم بكلمة
أعادها ثالثاً؛ حتى تفهم عنه ،وإذا أتى على قوم ،فسلَّم عليهم؛ سلَّم عليهم ثالث ًا.1
كان صلى اهلل عليه وسلم يتأنَّى وال يستعجل يف كالمه ،بل يفصل بني كلمة وأخرى ،حتَّى يسهل احلفظ وال يقع التحريف والتَّغيري
يب صلى اهلل عليه وسلم على ذلك :أنّه كان يسهل على السامع أن يعُ َّد كلماته صلى اهلل عليه وسلم
عند النَّقل ،وبلغ من حرص الن َّ
لو شاء ،2فقد روى عروة ابن الزبري ـ رمحه اهلل ـ أن عائشة رضي اهلل عنها قالت :أال يُعجُبك أبو فالن "أبو هريرة"؟ جاء،
فجلس إىل جانب حجرتي حيدث عن رسول اهلل صلى اهلل عليه يُسمعُين ذلك ،وكنت أُسبح فقام قبل أن أقضي سُبحيت ،ولو
أدركته لرددت عليه ،إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مل يكن يسرد احلديث كسردكم.3
199
ــ االعتدال ،وعدم اإلمالل:
كان صلى اهلل عليه وسلم يقتصد يف تعليمه ،يف مقدارما يلقبه ،ويف نوعه ،ويف زمانه ،حتى ال ميلُّ الصحابة وحتى ينشطوا حلفظه
ويسهل عليهم عقله ،وفهمه ،فعن ابن مسعود رضي اهلل عنه قال :كان النيب صلى اهلل عليه وسلم يتخولنا 1باملوعظة يف األيام،
للمثل أثر بالغ يف إيصال املعنى إىل العقل ،والقلب ،ذلك :أنه يقدِّم املعنوي يف صورة حسَّية ،فريبطه بالواقع ،ويقرِّبه إىل الذهن؛
فضالً عن أنَّ للمثل مبختلف صوره بالغة تأخذ مبجامع القلوب ،وتستهوي العقول ،وخباصة عقول البلغاء؛ ولذلك استكثر
القرآن من ضرب األمثال ،وذكر حكمة ذلك يف آيات كثرية ،فقال تعاىلَ ﴿ :وتِ ْلكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ َومَا يَعْ ِقلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾
س لَعَلَّهُ ْم
ك الْأَمْثَا ُل نَضْرِبُهَا لِلنَّا ِ
شيَةِ اهللِ َوتِلْ َ
وقال تعاىل﴿ :لَ ْو أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى َجبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا ُّمتَصَدِّعًا مِّ ْن خَ ْ
1يتخولنا :يتعهدنا.
2أخرجه البخاري ،الحديث رقم.68 :
200
إىل غري ذلك من اآليات ،وعلى هذا املنهج الكريم سار النيب صلى اهلل عليه وسلم ،فاستكثر من ضرب األمثال ،فقد قال عبد
اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما :حفظت عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألف مثل.1
201
ــ طرح املسائل:
إن طرح السؤال من الوسائل الرتبوية املهمّة يف ربط التواصل القوي بني السائل واملسؤول ،وفتح ذهن املسؤول وتركيز اهتمامه على
اإلجابة ،وإحداث حالة من النَّشاط الذهين الكامل؛ ولذلك استخدم النيب صلى اهلل عليه وسلم السؤال يف صور متعددة
لتعليم الصحابة؛ ممّا كان كبري األثر يف حسن فهمهم ،ومتام حفظهم ،فأحيان ًا يوجِّه النيب صلى اهلل عليه وسلم السؤال جملرد اإلثارة
والتشويق ،ولفت االنتباه ،ويكون السؤال عندئذ بصيغة التنبيه "أال" غالبا ،فعن أبي هريرة رضي اهلل عنه ،عن النيب صلى اهلل
عليه وسلم قال « :أال أدلكم على ما ميحو اهلل به اخلطايا ،ويرفع به الدرجات؟» قالوا :بلى يا رسول اهلل ،قال« :إسباغ الوضوء
على املكاره ،وكثرة اخلطا إىل املساجد،وانتظار الصالة بعد الصالة ،فذلكم الرباط».1
وأحياناً يسأهلم النيب صلى اهلل عليه وسلم عمَّا يعلم :أهنم ال علم هلم به ،وأهنم سيكون علمه إىل اهلل ورسوله ،وإمنا يقصد إثارة
انتباههم للموضوع ولفت أنظارهم إليه ،2فعن أبي هريرة رضي اهلل عنه :أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :أتدرون ما
املفلس؟» قالوا :املفلس فينا ما ال درهم له ،وال متاع ،فقال « :إن املفلس من أميت ،من يأتي يوم القيامة بصالة ،وصيام ،وزكاة
202
ويأتي وقد شتم هذا ،وقذف هذا ،وأكل مال هذا ،وسفك دم هذا وضرب هذا ،فيُعطى هذا من حسناته ،وهذا من
حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه؛ أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح يف النار».1
ي بن كعب
وأحيان ًا يسأل :فيحسن أحد الصحابة اإلجابة ،فيثين عليه ،وميدحه تشجيع ًا له ،وحتفيز ًا لغريه ،كما فعل مع أب ّ
رضي اهلل عنه ،قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم « :يا أبا املنذر أتدري أيُّ أية من كتاب اهلل معك أعظم؟» قال:
ي
قلت :اهلل ورسوله أعلم .قال« :يا أبا املنذر؛ أتدري أي أية من كتاب اهلل معك أعظم؟» قال :قلت﴿ :اهللُ َال إِلَـهَ إِالَّ هُ َو الْحَ ُّ
الْقَيُّومُ﴾ (البقرة ،آية .)255 :قال فضرب يف صدري ،وقال« :واهلل؛ ليَهْنِك العلم ،2أبا املنذر».3
فهذا االستحسان والتشجيع يبعث املتعلم على الشعور باالرتياح ،والثقة بالنفس ويدعوه إىل طلب وحفظ املزيد من العلم
وحتصيله.4
ــ إلقاء املعاني العربية املثرية لالهتمام ،والدّاعية إىل االستفسار ،والسُّؤال:
ومن ألطف ذلك وأمجله ،ما رواه جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنهما :أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مرّ بالسوق ،داخالً من
بعض العالية ،والناس كُنَفته ،1فمر جبدي أسكَّ 2ميت فتناوله فأخذ بأذنه ،ثم قال« :أيكم حيبُّ :أن هذا له بدرهم؟» .فقالوا:
203
ما وحب أنه لنا بشيء ،وما نصنع به؟ .قال« :أحتبون أنه لكم؟» .قالوا :واهلل لو كان حي ًا كان عيب ًا فيه ،ألنه أسكُّ ،فكيف
وهو ميت؟ .فقال« :فواهلل للدنيا أهون على اهلل من هذا عليكم».3
كان النيب صلى اهلل عليه وسلم يستخدم ما يسمى اليوم بالوسائل التوضيحية؛ لتقرير وتأكيد املعنى يف نفوس وعقول السامعني،
وشغل كلِّ حواسهم باملوضوع ،وتركيز انتباههم فيه ،ممّا يساعد على متام وعيه ،وحسن حفظه بكل مالبساته ،ومن هذه
الوسائل:
ـ التعبري حبركة اليد :كتشبيكه صلى اهلل عليه وسلم بني أصابعه ،وهو يبيِّن طبيعة العالقة بني املؤمن وأخيه ،فعن أبي
موسى األشعري رضي اهلل عنه ،عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال« :املؤمن للمؤمن كالبُنيان يش ُّد بعضه بعض ًا
يف شرح مفردات ذلك التخطيط ،وبيان املقصود منه ،فعن عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه قال :خطَّ رسول اهلل
204
صلى اهلل عليه وسلم خطاًّ بيده ،ثم قال« :هذا سبيل اهلل مستقيماً» ،ثم خط خطوطا عن ميينه ،وعن مشاله ،ثم
قال« :وهذه سُبل» ـ قال يزيد ـ متفرقة ـ «على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» ،ثم قرأ ﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي
سبُ َل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ َوصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (األنعام ،آية.1)153 :
مُسْتَقِيمًا فَاتَّ ِبعُوهُ َوالَ تَتَّبِعُواْ ال ُّ
ـ التعبري برفع وإظهار الشَّيء موضع احلديث ،كما فعل صلى اهلل عليه وسلم عند احلديث عن حُكم لبس احلرير
والذهب ،فعن علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه قال :إن نيبَّ اهلل صلى اهلل عليه وسلم أخذ حريراً ،فجعله يف ميينه،
وأخذ ذهباً ،فجعله يف مشاله ،ثم قال« :إن هذين حرام على ذكور أميت» ،2وزاد يف رواية« :حلُّ إلناثهم» فجمع النيبُّ
صلى اهلل عليه وسلم بني القول ،وبني رفع الذَّهب واحلرير ،وإظهارمها ،حتى جيمع هلم السَّماع واملشاهدة ،فيكون
ـ التعليم العملي بفعل الشيء أمام الناس ،كما فعل عندما صعد صلى اهلل عليه وسلم املنرب ،فصلَّى حبيث يراه الناس
أمجعون ،فعن سهل بن سعد الساعدي رضي اهلل عنه قال :رأيت رسول اهلل قام على املنرب ،فاستقبل القبلة ،وكبّر
وقام الناس خلفه ،فقرأ وركع ،وركع الناس خلفه ،ثمَّ رفع رأسه ،ثم رجع القهقرى ،3فسجد على األرض ،ثم عاد إىل
205
املنرب ،ثم قرأ ،ثم ركع ،ثم رفع رأسه ،ثم رجع ،القهقرى ،حتى سجد باألرض ،فلمّا فرغ؛ أقبل على الناس فقال« :أيها
إن استعمال لطيف اخلطاب ،ورقيق العبارات يؤلف القلوب ويستميلها إىل احلق ،ويدفع املستمعني إىل الوعي واحلفظ ،فقد كان
صلى اهلل عليه وسلم ميهِّد لكالمه وتوجيهه بعبارة لطيفة رقيقة ،وخباصّة إذا كان بصدد تعليمهم ما قد يُستحيا من ذكره ،كما
فعل عند تعليمهم آداب اجللو س لقضاء احلاجة؛ إذ قدّم لذلك بأنه مثل الوالد للمؤمنني ،يُعلِّمهم ،شفقة هبم ،فقد قال صلى اهلل
عليه وسلم « :إمنا أنا لكم مبنزلة الوالد أُعَلمِّكم ،فإذا أتى أحدكم الغائط ،فال يستقبل القبلة وال يستدبرها ،وال يستطب
بيمينه».2
لقد راعى املعلّم األوَّل صلى اهلل علي ه وسلم مجلة من املبادئ الرتبوية الكرمية ،كانت غاية يف السمو اخللقي والكمال العقلي،
وذلك يف تعليقه على ما صدر من بعض الصحابة ،جعلت التوجيه يستقرُّ يف قلوهبم ،وبقي ماث ًال أمام بصائرهم؛ ملا ارتبط به من
معانٍ تربوية كرمية وهذه بعض املبادئ الرفيعة اليت استعملها النيب صلى اهلل عليه وسلم.
206
ليزداد نشاطاً وإقباالً على العلم والعمل ،مثلما فعل مع أبي موسى األشعري ـ رضي اهلل عنه ـ حني أثنى على قراءته و ُحسن
صوته بالقرآن الكريم ،فعن أبي موسى ـ رضي اهلل عنه ـ أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال له« :لو رأيتين وأنا أستمع لقراءتك
وكان صلوات اهلل وسالمه عليه يقدِّر ظروف الناس ،ويراعي أحواهلم ،ويعذرهم جبهلهم ويتلطَّف يف تصحيح أخطائهم،
ويرتفق يف تعليمهم الصَّواب ،وال شك أن ذلك ميأل قلب املنصوح حبًّا للرسالة ،وصحاهبا وحرصاً على حفظ الواقعة والتوجيه
وتبليغها ،كما جيعل قلوب احلاضرين املعجبة هبذا التصرف والتوجيه الرّقيق مهيَّأة حلفظ الواقعة مبالبساهتا كافة ،2ومن ذلك ما
رواه معاوية بن احلكم السُّلميُّ رضي اهلل عنه قال :بينا أنا أصلي مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،إذ عطس رجل من القوم،
فقلت :يرمحُك اهلل فرماني القوم بأبصارهم فقلت :واُثكل أمياه ،3ما شأنكم تنظرون إيلَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على
أفخاذهم ،فلما رأيتهم يصُمتونين ،لكنِّي سكنت ،فلما صلَّى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فبأبي هو وأمّي ما رأيت معلَّما
207
قبله وال بعده أحسن تعليماً منه ،فواهلل ما كهرني ،1وال ضربين ،وال شتمين ،قال« :إن هذه الصَّالة ال يصلح فيها شيء من كالم
فانظر ـ رمحك اهلل ـ إىل هذا الرّفق البالغ يف التعليم وانظر أثر هذا الرّفق يف نفس معاوية بن احلكم السُّلمي رضي اهلل عنه ،وتأثره
لِما يف ذلك من مراعاة شعور املخطئ ،والتأكيد على عموم التوجيه ،ومن ذلك ما حدث مع عبد اهلل بن اللُّتبيّة رضي اهلل عنه
حني استعمله النيب صلى اهلل عليه وسلم على صدقات بين سُليم ،فلما جاء حاسبه صلى اهلل عليه وسلم ،فقال :هذا مالكم،
وهذه هدية فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم « :فهالَّ جلست يف بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتُّك؛ إن كنت
صادقاً؟» ثم خطبنا ،فحمد اهلل ،وأثنى عليه ،ثمّ قال « :أمّا بعد ،فإني استعمل الرّجل منكم على العمل ممّا والّني اهلل ،فيأتي،
فيقول :هذا مالكم ،وهذا هدية أهديت يل ،أفال جلس يف بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟ واهلل ال يأخذ أحد منكم شيئاً
208
بغري حقه إال لقى اهلل حيمله يوم القيامة ،فألعرفنَّ أحداً منكم لقى اهلل حيمل بعرياً له رغاء أو بقرة هلا خوار ،أو شاه تيعر» ،1ثم
رفع يديه ،حتى رُئيَ بياض إبطيه يقول« :اللهم هل بلغت» بصر عيين ومسع أذني.2
وذلك كأن حيدث خطأ شرعي من أشخاص هلم حيثية خاصة ،أو جتاوز اخلطأ حدود الفردية واجلزئية وأخذ ميثل بداية فتنة،
أو اوحراف عن املنهج ،على أن هذا الغضب يكون غضباً توجيهياً ،من غري إسفاف ،وال إسراف؛ بل على قدر احلاجة ،ومن
ذلك غضبه صلى اهلل عليه وسلم حني أتاه عمر ،ومعه نسخة من التَّوراة؛ ليقرأها عليه صلى اهلل عليه وسلم ،فعن جابر بن عبد
اهلل رضي اهلل عنهما :أن عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه أتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بنسخة من التوراة ،فقال :يا
رسول اهلل ،هذه نسخة من التوراة ،فسكت ،فجعل يقرأ ووجه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يتغيّر ،فقال أبو بكر رضي اهلل
عنه :ثكلتك الثَّواكل! ما ترى بوجه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم؟ فنظر عمر إىل وجه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
فقال :أعوذ باهلل من غضب اهلل ،وغضب رسوله ،رضينا باهلل رباً ،وباإلسالم ديناً ،ومبحمد نبيَّا! فقال رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم« :والذي نفس حممد بيده؛ لو بدا لكم موسى ،فاتبعتموه ،وتركتموني؛ لضللتم عن سواء السبيل ،ولو كان حيّاً،
209
وأدرك نبوَّتي التَّبعين» .1ومن ذلك غضبه صلى اهلل عليه وسلم من تطويل بعض أصحابه الصَّالة ،وهم أئمة بعد أن كان صلى
اهلل عليه وسلم قد هنى عن ذلك؛ ملا فيه تعسري ومشقة ،وملا يؤدِّي إليه من فتنة لبعض الضعفاء واملعذورين ،وذوي األشغال،
فعن أبي مسعود األنصاري رضي اهلل عنه ،قال رجل :يا رسول اهلل ال أكاد أُدرك الصّالة ممّا يطول بنا فالن؛ فما رأيت النيب صلى
اهلل عليه وسلم يف موعظة أشد غضباً من يومئذ فقال « :أيها الناس ،إنكم مُنفِّرون ،فمن صلى بالناس فليُخفِّف فإن فيهم
ومن ذلك غضبه من اختصام الصَّحابة وجتادهلم يف ال قدر ،فعن عبد اهلل بن عمرو بن العاص رضي اهلل عنهما قال :خرج رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم على أصحابه ،وهم خيتصمون يف القدر فكأمنا يفقأ يف وجهه حب الرمان من الغضب ،فقال« :هبذا
أمرمت؟ أو هلذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض؟ هبذا هلكت األمم قبلكم».3
ومن ذلك غضب ه صلى اهلل عليه وسلم حني خيالف الصحابة أمره ويصرُّون على املغاالة يف الدين والتشديد على أنفسهم ،ظنًا
منهم أن ذلك أفضل ممَّا أمروا به ،وأقرب إىل اهلل ،فعن عائشة رضي اهلل عنها قالت :كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا
210
أمرهم ،أمرهم من األعمال ما يطيقون ،قالو ا :إنا لسنا كهيئتك يا رسول اهلل؛ إن اهلل قد غفر لك ما تقدم من ذنبك ،وما تأخر
فيغضب حتى يعرف يف وجهه الغضب ،ثم يقول« :إن أتقاكم وأعلمكم باهلل أنا».1
ومل يكن غضب النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم يف تلك املواقف إال عمالً توجيهياً ،وتعليمياً؛ حتريضاً للصحابة على التيقظ وحتذير ًا
هلم من الوقوع يف هذه األخطاء ،فالواعظ من شأنه أن يكون يف صورة الغضبان ،ألنَّ مقامه يقتضي تكلف االنزعاج ،ألنه يف
صورة املنذر ،وكذا املعلم إذا أنكر على من يتعلم منه سوء فهم ووحوه ،ألنه قد يكون أدعى للقبول منه ،وليس ذلك الزماً يف حق
كان صلى اهلل عليه وسلم حتدث أمامه أحداث معينة ،فينتهز مشاهبة ما يرى ملعنى معني يريد تعليمه للصحابة ،ومشاكلته
لتوجيه مناسب يريد بثّه ألصحابه ،وعندئذ يكون هذا املعنى وذلك التوجيه أوضح ما يكون يف نفوسهم رضي اهلل عنهم؛ ومن
4
يب ،3فإذا امرأة من السيب حتلب ثديها
ذلك ما رواه عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه قال :قدم على النيب صلى اهلل عليه وسلم س ي
211
تسقى ،1إذا وجدت صبياً من السَّيب ،أخذته فألعقته ببطنها ،وأرضعته ،فقال النيبُّ صلى اهلل عليه وسلم « :أتُرون ،2هذه
طارحة ولدها يف النار؟» قلنا :ال؛ وهي تقدر على أال تطرحه ،3فقال« :اهلل أرحم بعباده من هذه بولدها».4
فانتهز صلى اهلل عليه وسلم املناسبة القائمة بني يديه مع أصحابه واملشهود فيها حنان األم الفاقدة رضيعها إذ وجدته ،وضرب
هبا املشاكلة واملشاهبة برمحة اهلل تعاىل ،ليعرف الناس رمحة رب الناس بعباده.5
ب ـ من أخالق الصحابة رضي اهلل عنهم عند مساعهم للنيب صلى اهلل عليه وسلم:
حرص الصحابة رضي اهلل عنهم على االلتزام بآداب ومبادئ مهمة ،كان هلا أعظم األثر يف حسن احلفظ ،ومتام الضبط،
وقدرهتم على تبليغ دعوة اهلل للناس ،ومن هذه اآلداب واألخالق:
فقد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أجلَّ يف نفوس الصحابة،وأعظم من أن يلغوا إذا حتدَّث ،أو ينشغلوا عنه إذا تكلَّم ،أو
يرفعوا أصواهتم حبضرته ،وإنَّما كانوا يلقون إليه أمساعهم ،ويشهدون عقوهلم ،وقلوهبم ،وحيفزون ذاكرهتم ،فعن عليِّ بن أبي
طالب رضي اهلل عنه يف احلديث عن سريته صلى اهلل عليه وسلم يف جلسائه ،قال .. :وإذا تكلمَّ؛ أطرق جلساؤه كأمنا على
212
رؤوسهم الطَّري ،فإذا سكت ،تكلَّموا ،1قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ـ رمحه اهلل ـ :وأصله :أن الغراب يقع على رأس البعري
فيلقط منه القُراد ،فال يتحرَّك البعري؛ لئال ينفر عنه الغراب ويبقى القراد يف رأس البعري فيؤمله ،فقيل منه :كأن على رؤوسهم
الطري.2
وأيَّا ما كان أصل املثل ،فهو يدل على السُّكون التام واإلنصات الكامل ،هيبة لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وتعظيماً له،
وإجالالً حلديثه.3
213
ـ ترك التنازع وعدم مقاطعة املتحدث حتى يفرغ:
وهذا من متام األدب ،املفضي إىل ارتياح مجيع اجلالسني وإقبال بعضهم على بعض واملعني على سهولة الفهم ،والتعلم ،ففي
حديث عليِّ بن أبي طالب رضي اهلل عنه السابق يف سريته صلى اهلل عليه وسلم يف جلسائه ،قال :ال يتنازعون عنه احلديث،
من تكلم عنده أنصتوا له حتىَّ يفرغ ،حديثهم عنده حديث أوهلم .أي :أنّ من بدأ منهم احلديث والكالم ،سكتوا حتى يفرغ أ ّوالً
من حديثه ومل يقاطعوه ،أو ينازعوه ،وبذلك يبقى اجمللس على وقاره ،وهيبته ،وال ختتلط فيه األصوات ،وال حيصل أدنى
تشويش.1
ـ مراجعته صلى اهلل عليه وسلم فيما أشكل عليهم حتى يتبيَّن هلم:
فمع كمال هيبته لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وشدَّة تعظيمهم له ،مل يكونوا يرتدّدون يف مراجعته صلى اهلل عليه وسلم
الستيضاح ما أشكل عليهم فهمه ،حتى يسهل حفظه بعد ذلك ،وال شك أن هذه املراجعة تعني على متام الفهم ،وحضور
الوعي؛ فمن ذلك حديث حفصة رضي اهلل عنها قالت :قال النيبُّ صلى اهلل عليه وسلم« :إنِّي ألرجو أال يدخل النار أحد إن
شاء اهلل ـ ممّن شهد بدراً ،واحلديبية» ،قالت :قلت يا رسول اهلل أليس قد قال﴿:وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ َعلَى رَبِّكَ َحتْمًا
مَّقْضِيًّا﴾ (مريم ،آية )71 :قال« :أمل تسمعيه يقول»﴿:ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِنيَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ (مريم ،آية.2)72 :
214
ومن ذلك حديث جابر بن عبد اهلل ،عن عبد اهلل بن أنيس رضي اهلل عنهم ،الذي رحل جابر إليه فيه قال أنيس :مسعت رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول« :حيشر اهلل العباد» ـ أو قال« :الناس عراة غُرال 1هبما» .قال :قلنا :ما هبما؟ قال« :ليس معهم
شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه م ن بعد كما يسمعه من قرب :أنا امللك ،أنا الديان ،ال ينبغي ألحد من أهل اجلنة أن يدخل اجلنة
وال ينبغي ألحد من أهل النار يدخل النار وعنده مظلمة ،حتى أُقصه 2منه حتى السَّلطمة» ،قال :قلنا :كيف ذا ،وإمنا نأتي اهلل
وهكذا استفهم الصحابة عمّا خفي عليهم ،واستوضحوا ما أشكل عليهم فهمه ،وهذه املناقشة واملراجعة كان هلا أثر كبري يف
كان الصحابة ـ رضوان اهلل عليهم ـ إذا مسعوا شيئاً من النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم ،ومحلوا عنه علماً ،جلسوا فتذاكروه فيما
بينهم ،وتراجعوه على ألسنتهم ،تأكيداً حلفظه ،وتقوية الستيعابه ،وضبطه ،والعمل به ،فعن أنس بن مالك رضي اهلل عنه قال:
215
كنَّا نكون عند النيب صلى اهلل عليه وسلم فنسمع منه احلديث ،فإذا قمنا ،تذاكرناه فيما بيننا ،حتى وحفظه ،1وقد بقي مبدأ
املذاكرة قائماً بني الصحابة حتى بعد وفاته صلى اهلل عليه وسلم ،فعن أبي نضرة املنذر بن مالك بن قطعة ـ رمحه اهلل ـ قال :كان
أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا اجتمعوا ،تذاكروا العلم وقرؤوا سوره.2
كانت أسئلة الصحابة بقصد العلم ،والعمل ،ال للعبث واللعب فكانت أسئلتهم مشفوعة هبذا القصد ،ملا علموا من كراهة النيب
صلى اهلل عليه وسلم للمسائل العبثية اليت ال حتتاج إليها ،وملا مسعوا من حتذيره صلى اهلل عليه وسلم من كثرة السؤال ،فعن سهل
بن سعد الساعدي رضي اهلل عنه قال :كره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املسائل ،وعاهبا.3
قال النووي :املُراد :كراهة املسائل اليت ال حتتاج إليها ،السيما ما كان فيه هتك سرت مسلم ،أو إشاعة فاحشة ،أو شناعة على
مسلم ،أو مسلمة ،قال العلماء :أمّا إذا كانت املسائل ممّا حيتاج إليه من أمور الدين ،وقد وقع ،فال كراهة فيها.4
216
فقد التزموا ـ رضوان اهلل عليهم ـ هبذا األدب ،فلم يتكلَّفوا السؤال عمّا سكت عنه الشارع ،حتى ال يؤدِّي السؤال عن ذلك إىل
إجياب ما مل يوجبه الشرع ،أو حتريم ما مل حيرِّمه فيكون السُّؤال قد أفضى إىل التضييق على املسلمني ،كما قال تعاىل﴿ :يَا َأيُّهَا
سأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن َتسْأَلُواْ َع ْنهَا حِنيَ ُينَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اهللُ عَنْهَا وَاهللُ غَفُورٌ َحلِيمٌ *
الَّذِينَ آمَنُواْ الَ تَ ْ
قَدْ سَألَهَا قَ ْومٌ مِّن قَبْ ِلكُمْ ثُمَّ أَصْ َبحُواْ بِهَا كَافِرِينَ﴾ (املائدة ،آية 101 :ـ .)102
وحذَّر الرَّسول صلى اهلل عليه وسلم من مثل ذلك ،فعن سعد بن أبي وقاص رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم« :إن أعظم املسلمني جُرْما من سأل عن شيء مل حيرم فحُرِّم من أجل مسألته».1
ـ اغتنام خلوة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ومراعاة وقت سؤاله:
كان الصحابة رضي اهلل عنهم يراعون الوقت املناسب ،للسُّؤال ومن ذلك اغتنام ساعة خلوته صلى اهلل عليه وسلم حتى ال
يكون يف السؤال إثقالٌ ،أو إرهاق أو وحو ذلك ،فعن أبي موسى األشعري رضي اهلل عنه قال :كان النيب صلى اهلل عليه وسلم إذا
صلَّى الفجر ،اوحرفنا إليه ،فمنا من يسأله عن القرآن ومنا من يسأله عن الفرائض ،ومنا من يسأله عن الرُّؤيا.2
1أخرجه البخاري ،الحديث رقم ،7289 :وأخرجه مسلم ،الحديث رقم.2358 :
2مجمع الزوائد (.)159 /1
217
وخباصة؛ بعد أن نُهُوا عن السُّؤال؛ ولذلك كانوا يدفعون األعراب لسؤاله صلى اهلل عليه وسلم ،ويتحيَّنون،وينتظرون جميء
العقالء منهم ،ليسألوا رسول ا هلل صلى اهلل عليه وسلم وهم يسمعون ،فعن أنس بن مالك رضي اهلل عنه قال :نُهينا أن نسأل
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن شيء ،فكان يعجبنا أن جييء الرّجل من أهل البادية العاقل ،فيسأله :ووحن نسمع ،فجاء
رجل من أهل البادية ،فقال :يا حممد أتانا رسولك ،فزعم لنا أنك تزعم :أن اهلل أرسلك قال«:صدق».1
وهكذا استمر البناء الرتبوي يف اجملتمع اجلديد من خالل املواقف العمليّة الواضحة منسجماً مع غرس فريضة التعلم والتعليم بني
أفراد اجملتمع املسلم ،فكانت تلك التوجيهات تساهم يف إعداد الفرد املسلم ،واألمة املسلمة والدولة املسلمة اليت أسَّسها رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهذا جزء من كل وغيض من فيض وتذكري وتنبيه ألمهية استمرار البناء الرتبوي والعلمي يف الشعوب
حتى بعد قيام الدولة وطبيعة اإلسالم ،يستفيد من كل جديد نافع وينسجم من تطور حركة احلياة يف كل نواحيها.
218
على الدولة احلديثة أن تتبنى خطة أ سرتاتيجية وطنية شاملة جلميع اجلهات ذات الصلة بالعملية التعليمية والرتبوية ،والعمل
على تنفيذها من خالل منهج علمي متكامل ،للنهضة العلمية يف مجيع مراحل التعليم والتدريب ،وتعزيز اجلودة والكفاءة،
واملساواة من خالل مؤسسات تتمتع باالستقاللية ،تتميز بالتنوع واالختيار وختضع للمساءلة.
ــ وأن يعمم التعليم األساسي وإعطاء أولوية للمناطق والفئات احملرومة.
ــ وأن يطور التعليم العام ليليب حاجات الفرد واجملتمع يف كافة اجملاالت.
ــ تنمية االجتاهات العلمية لدى األطفال مثل اإلبداع وروح النقد واملوضوعية وإكساهبم قدرات ومهارات تالئم منوهم الفكري
ــ إعادة التوازن للمناطق النائية واحملرومة والبعيدة عن املدن الرئيسية وذلك من خالل تدعيمها ببناء املدارس واجلامعات هبا،
ــ تبين سياسة واضحة تكفل االهتمام بالعنصر البشري يف العملية التعليمية يف الدولة من حيث حسن اختيار وتدريب وتأهيل
املعلمني وأساتذة اجلامعات ،والعاملني يف احلقل التعليمي ،ورعايتهم صحي ًا ومادياً ،وذلك سعي ًا وراء خلق جيل جديد من
219
ــ التواصل وزيادة الوعي بفوائد التعليم والتعليم التقين والتدريب املهين.
ــ قاعدة بيانات شاملة للتعليم ،والتدريب ،وأدلة التقييم واملؤثرات التوجيهية.
ــ دعم الطلبة لبذل أقصى طاقتهم ،وإمكانياهتم ،وحتسني مهاراهتم يف اللغات ،والعلوم والرياضيات يف مجيع مراحل التعليم.
ــ تطوير وجتويد التعليم باملدارس اخلاصة ،ووضع نظام لالعتماد الوطين يف الدولة.
ــ تعزيز املشاركة اجملتمعية وزيادة مسامهة كافة قطاعات اجملتمع يف التعليم العام.
ــ إطار تنظيمي مطور للمواءمة بني التعليم التقين ،والتدريب املهين من قطاع التعليم والتدريب واحتياجات سوق العمل.
ــ تعديل جدول أجور كافة العاملني بقطاعي التعليم العام واملايل ،مع منح ميزات إضافية للعاملني منهم باملناطق النائية ،وزيادة
ــ تكفل الدولة جمانية التعليم يف مجيع مراحله ،وإلزاميته حتى املرحلة اإلعدادية على األقل.
220
ــ دعم ورعاية املراكز العلمية والبحثية املتخصصة ،وزيادة خمصصاهتا من قبل الدولة ،واحلفاظ على استقالليتها.
ــ وضع آلية ومنهج يكفل التواصل بني املواطنني املقيمني يف اخلارج من العلماء واألكادمييني يف شتى اجملاالت واالستفادة من
خرياهتم ،ونقل الناجح من جتارب الدول اليت يعملون هبا إىل داخل الوطن بغية االستفادة مما ميكن تطبيقه منها.
ــ تبين نظام تعليمي يربح عقيدة التوحيد ومبادئ احلرية والعدالة واملساواة وينشر ثقافة قبول اآلخر ،ويدعو للحوار ،ويؤمن
بالعمل اجلماعي ،وروح الفريق ،واملبادرة ،واإلجيابية ،ويرعى القيم واألخالق والتقاليد الصاحلة والثوابت.
ــ متابعة كل ما يستجد يف النظم التعليمية النافعة وتوفريها مبا يرقى إىل مستوى األنظمة التعليمية العاملية املتميزة ويكفل الربط بني
ــ وضع منهج متكامل للنهوض بتعليم النساء يف الشرائح العمرية املتقدمة األمر الذي سيساهم ال حمالة يف إعداد أمهات متعلمات
وواعيات يعملن على حتسني أوضاع األسرة كعنصر مؤثر يف التكوين االجتماعي واالهتمام مبواكبة املرأة للتعليم والرتبية مثل
الرجل.
221
كانت دولة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حتكمها قوانني وتشريعات مستمده من كتاب اهلل وتعاليمه صلى اهلل عليه وسلم
وطبيعة القانون اإلسالمي أنه ليس هناك شعبة من شعب احلياة إال للشريعة حكم تأخذ فيها بيدنا وتضمن لنا فيها اهلداية
والتوجيه وتواكب التغري والرقي والنماء إىل أبد الدهر وتليب القوانني املستمدة من الشريعة احلاجات واملطالب املدنية
ــ األحكام الصرحية القطعية الواردة يف القرآن واحلديث الثابتة كحرمة اخلمر ،والربا ،وامليسر وحدود السرقة والزنا والقذف
ــ القواعد العامة الواردة يف القرآن واألحاديث الثابتة كحرمة كل مسكر ،وحرمة كل بيع ال يتم فيه تبادل املنفعة بني اجلانبني على
ــ األحكام املقررة يف القرآن والسنة لنجد هبا حريتنا يف األعمال وال نتجاوزها ،كحد أربع نساء لتعدد الزوجات ،وحد ثالث
فهذا اجلزء القطعي غري القابل للتغيري هي من أجزاء قانون اإلسالم ،وهو الذي يعني يف حقيقة األمر حدود مدنية اإلسالم
وصورهتا املمتازة املخصوصة ومن احملال أن يشار إىل مدينة اإلسالم وصورهتا املمتازة املخصوصة ومن احملال أن يشار إىل
222
مدنية يف الدنيا تستطيع البقاء واحملافظة على ذاتيتها ومقوماهتا واستقالهلا بدون أن يكون فيها عنصر ال يقبل التزحزح والتغيري
وكل مدنية ليس فيها عنصر كهذا وكل شيء فيها قابل للنسخ والتغيري والتعديل ،فما هي مبدنية مستقلة أص ًال وإمنا هي مادة
ويل دراسة مستقبيلة بإذن اهلل تعاىل موسعة عن دولة القانون يف اإلسالم وفق مشروع فكري هنضوي ،يتحدث عن الدستور
إن غاية التشريع اإلسالمي هي إسعاد الناس وإصالحهم وتيسري أمرهم يف رفع احلرج عنهم.
.)28
إذن فإصالح دنيا الناس أساس وتطبيق أحكام احلدود والقصاص وغريه واإلجراءات الوقائية إمنا هو حمافظة على ذلك
اإلصالح ،حتى ال يعكر صفوه بفتنة حمارب عدواني أو شهواني زانٍ ،أو لص سارق ،وملحد مارق .إن من أهداف التشريعات
والقوانني إنزال منهج اإلسالم يف دنيا الناس والذي يدور حول مصاحل ثالث:
223
ـ درء املفاسد املعروف عند أهل األصول بالضروريات.
املعروف عند األصوليني بالتحسينات والتتميمات ،1وبإقامة التشريعات الربانية والقوانني املستمدة من الشريعة اإلسالمية
تتحقق هذه املصاحل وبالتايل تصلح أحوال الدنيا وتستقيم على منهج اهلل ،ومن ثم يكون ذلك صالحاً آلخرة الناس أيضاً.
وعلى وجه اإل مجال ميكننا تتبع مقاصد الشريعة يف احلكم اإلسالمي بإلقاء نظرة على تشريعاته اهلادفة وقوانينه النافعة لتحقيق
أ ـ درء املفاسد:
ـ الدين:
جاءت أحكام الشرع حامسة يف درء أي مفسدة قد تلحق بالدين ،فكان أن شرَّع اإلسالم اجلهاد ليدفع الفتنة وإعالء كلمة اهلل،
قال تعاىل﴿ :وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى الَ َتكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُو َن الدِّينُ لِلهِ﴾ (البقرة ،آية.)193 :
224
وقال تعاىل﴿ :وَقَا ِتلُوهُ ْم حَتَّى الَ َتكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُو َن الدِّينُ كُلُّهُ لِله﴾ (األنفال ،آية.)39 :
فاألوىل يف قتال من بدأ املسلمني بالظلم ،والثانية استغرقت كل فتنة وكل كفر من كافر ،فالقتال فيها حماربة للكفر الذي يعترب أكرب
هتديد للدين.1
وقد روى أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قوله« :أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ال إله إال
اهلل ،فمن قال :ال إله إال اهلل فقد عصم مين ماله ونفسه إال حبقه وحسابه على اهلل» وقال أبو بكر :واهلل ألقاتلن من فرَّق بني
الصالة والزكاة فإن الزكاة حق املال واهلل لو منعوني عقا ًال كانوا يؤدونه إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألقاتلنهم على منعه،2
وهو قتال من أجل نشر الدعوة للدين وقال صلى اهلل عليه وسلم« :من بدَّل دينه فاقتلوه» ،3وهو من أجل حفظ الدين من عبث
املرتدين.
ـ النفس:
جاءت الشريعة بأحكام القصاص للمحافظة على النفس ودرء املفاسد الناشئة عن شيوع القتل ،وسفك الدماء احملرمة ،كما
225
ــ وقال تعاىل﴿ :ولَكُمْ فِي الْقِصَاصِ َحيَاةٌ َياْ أُولِيْ األَلْبَابِ لَ َعلَّكُمْ تَ َّتقُونَ﴾ (البقرة ،آية.)179 :
ــ وقال تعاىل﴿ :وَمَن قُتِ َل مَ ْظلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُ ْلطَانًا َفالَ ُيسْرِف فِّي الْقَتْلِ﴾ (اإلسراء ،آية.)33 :
ـ العقل:
وقد جاءت األحكام الشرعية باحملافظة على العقل الذي ميَّز اهلل به اإلنسان وكرمه ،فحرمت اخلمر اليت تذهب بالعقل وتغيبه،
قال تعاىل﴿ :يَا أَ ُّيهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِ َّنمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَاألَنصَابُ وَاألَزْالَمُ ِرجْسٌ ِّمنْ عَمَلِ الشَّ ْيطَا ِن فَاجْتَ ِنبُوهُ لَ َعلَّكُمْ تُفْلِحُو َن *
إِنَّمَا يُرِي ُد الشَّ ْيطَانُ أَن يُوقِعَ َبيْنَكُ ُم الْعَدَاوَةَ وَالْ َبغْضَاء فِي ا ْلخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ويَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اهللِ َو َعنِ الصَّالَةِ َفهَلْ أَنتُم مُّن َتهُونَ﴾
وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :كل مسكر مخر وكل مخر حرام».1
وشرع إقامة احلد على السكران ،وحرم املخدرات واملقرتات اليت تؤثر على سالمة العقل.2
ـ النسب:
جاءت الشريعة لدفع كل مفسدة تلحق باألنساب فإىل جانب حتريم الزنا وإجياد احلد على الزناة املعلوم من قول اهلل تعاىل﴿ :وَ َال
تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيالً﴾ (اإلسراء ،آية.)32 :
226
وقوله تعاىل﴿ :الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّ ْنهُمَا مِئَةَ َجلْدَةٍ﴾ (النور ،آية )2 :وإىل حد الرجم للمحصنني إىل جانب ذلك
أوجبت الشريعة العدة على النساء عند مفارقة األزواج بطالق أو موت ،لئال خيتلط ماء الرجل مباء رجل آخر يف رحم املرأة،
قال تعاىل﴿ :وَالْمُ َطلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْ َن بِأَنفُسِهِنَّ ثَ َالثَةَ قُرُوَءٍ﴾ (البقرة ،آية.)288 :
وقال﴿ :وَالَّذِينَ ُيتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَ َذرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ ِبأَنفُسِهِنَّ أَرْ َبعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ (البقرة ،آية.)234 :
وكذلك منعت الشريعة نكاح احلامل حتى تضع ،حتى ال يسقى الرجل مبا غريه ،فقال تعاىل﴿ :وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَ ُلهُنَّ أَن يَضَ ْع َن
وهذه األحكام كلها يؤول تنفيذها إىل القاضي املسلم يف الدولة املسلمة إضافة إىل مسؤولية الناس عن تبعاهتا يف اجملتمع
املسلم.
ـ العرض:
إن شريعة اإلسالم كفلت كل وسائل محاية العرض ،فنهت املسلم عن أن يتكلم يف حق أخيه ألي مثن يؤذيه ،وأوجبت حد القذف
مثانني جلدة على من يقذف ،قال تعاىل﴿ :وَالَّذِي َن يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ ُشهَدَاء فَا ْج ِلدُوهُمْ ثَمَانِنيَ جَلْدَةً﴾ (النور،
آية.)4 :
227
وحرمت الشريعة الغيبة﴿ :وَلَا َي ْغتَب َّبعْضُكُم بَعْضًا﴾(احلجرات ،آية.)12 :
وهنت عن اللمز والتنابز باأللقاب﴿ :وَلَا َتلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾ (احلجرات ،آية.)11 :
ـ املال:
وجاءت الشريعة اإلسالمية حلفظ أموال الناس اليت هي قوام حياهتم وقد حرم اإلسالم كل وسيلة ألخذ املال بغري حق شرعي،
وحرَّم السرقة وأوجب احلد على من ثبتت عليه تلك اجلرمية ،قال تعاىل﴿ :وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَا ْقطَعُواْ أَيْ ِديَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا
وكذلك حرم اإلسالم الربا الذي يهدد مصاحل األفراد واقتصاد الدول ،فقال تعاىل﴿ :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو ْا َال تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا
228
وحرم كذلك الغش واالحتكار والنهب واختالس والغلول وغري ذلك من أشكال االعتداء على املال ،وكل ذلك داخل يف أكل
أموال الناس بالباطل املنهي عنه وبتوفر احلماية هلذه العناصر الستة ،يقصد املنهج التشريعي اإلسالمي إىل إصالح حياة الناس
بدرء املفاسد عنها ،وقد قدم اإلسالم درء املفاسد على جلب املصاحل رغم أن درءها هو يف حد ذاته مصلحة كربى؛ إذ
بذلك مينع الشر أوالً ،ثم يستجلب اخلري فهذا إصالح بالسلب وذلك باإلجياب وهو ما نعنيه من قولنا :إن الدعوة إىل اهلل من
أهداف التمكني وذلك بإنزال منهج اإلسالم اإلصالحي يف دنيا الناس والذي بدوره حول مصاحل ثالث :درء املفاسد ،وجلب
إن جلب املصاحل جماله واسع رحيب ،فالشريعة فتحت أبواب احلالل على مصاريعها يف مجيع مناحي املعيشة وجعلت هذا
احلالل أسلوب احلياة ،حترسه الدولة وتزيل العقبات من طريقه ،فكل نوع من التكسب واإلنتاج والصناعة والفن والثقافة ال يدخل
يف حمرم إمنا هو من حقوق الناس ،ليس ألحد أن حيرّمه عليهم أو حيرمهم منه قال تعاىل﴿ :لَيْسَ عَ َليْكُمْ ُجنَاحٌ أَن تَ ْبتَغُو ْا فَضْ ًال مِّن
229
وقد جاء الشرع املطهر بإباحة املصاحل املتبادلة بني الفرد اجملتمع على الوجه املشروع؛ ليستجلب كل مصلحته من اآلخر،
إن الرسول صلى اهلل عليه وسلم الكريم عليه أفضل الصالة والسالم قال« :إمنا بعثت ألمتم صاحل األخالق» ،1إن الدولة
اإلسالمية من واجبها أن هتيئ جواً تنشأ فيه مكارم األخالق ،وحماسن األعمال من الطهر والعفاف والنقاء ،حترسه شريعة
األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،وحتميه شعرية احلسبة ،والدعوة إىل اهلل؛ لتكون أساساً للمعاملة بني الصغري والكبري ،والغين
إن الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه الكرام قاموا باألمر باملعروف والنهي عن املنكر ،وتنفيذ احلدود ،والدعوة إىل
مكارم األخالق ،وتعليم األمة أمر دينها وترتب على ذلك فوائد ومصاحل عامة لألمة واألفراد واحلكام واحملكومني ومن أهم هذه
الفوائد:
230
ض لَّهُدِّ َمتْ
هلل النَّاسَ بَعْضَهُم ِببَعْ ٍ
ــ إقامة امللة والشريعة وحفظ العقيدة والدين لتكون كلمة اهلل هي العليا ،قال تعاىل﴿ :ولَوْلَا دَفْعُ ا ِ
صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَ َلوَاتٌ وَ َمسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اهللِ كَثِريًا﴾(احلج ،آية.)40 :
إن اإلنسان البد له من أمر وهني ودعوة ،فمن مل يأمر باخلري ويدعو إليه أمر بالشر.1
سبَتْ َأيْدِيكُمْ﴾ (الشورى ،آية )30 :وقال أيضاً يف اجلواب عن سبب مصاهبم يوم
قال تعاىل﴿ :وَمَا أَصَابَكُم مِّن ُّمصِيبَةٍ فَبِمَا كَ َ
فالكفر واملعاصي بأنواعها سبب للمصائب واملهالك قال تعاىل﴿ :فَلَوْالَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَ ْب ِلكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَا ِد
فِي األَرْضِ ِإالَّ قَلِي ًال مِّمَّنْ أَجنَ ْينَا ِم ْنهُمْ وَاتَّبَعَ الَّ ِذينَ َظلَمُواْ مَا أُتْرِفُو ْا فِي ِه وَكَانُواْ مُجْرِ ِمنيَ﴾ (هود ،آية.)116 :
وهذه إشارة تكشف عن سنة من سنن اهلل يف األمم ،فإن األمة اليت يقع فيها الظلم والفساد فيجدان من ينهض لدفعهما هي أمم
ناجية ال يأخذها اهلل بالعذاب والتدمري ،فأما األمم اليت يظلم فيها الظاملون ،ويفسد فيها املفسدون ،فال ينهض من يدفع الظلم
والفساد ،أو يكون فيها من يستنكر ذلك ،ولكنه ال يبلغ أن يؤثر يف الواقع الفاسد فهي أمم مهددة بالدمار واهلالك كما هي سنة
اهلل تعاىل ـ يف خلقه ،وهبذا تعلم أن دعاة اإلصالح املناهضون للطغيان والظلم والفساد هم صمام األمان لألمم والشعوب ،وهذا
231
يربز قيمة كفاح املكافحني للخري والصالح الواقفني للظلم والفساد ،إهنم ال يؤدون واجبهم لرهبم ،ولدينهم فحسب ،إمنا هم
ــ استنزال الرمحة من اهلل تعاىل ،ألن الطاعة واملعروف سبب للنعمة ،قال تعاىل﴿ :وَإِذْ تَ َأذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُ ْم ألَزِيدَنَّكُمْ﴾
(إبراهيم ،آية )7 :والقيام باألمر باملعروف والنهي عن املنكر نوع من أنواع العبودية.
ــ شدة ظهر املؤمن وتقويته ورفع عزميته وإرغام أنف املنافق؛ فإن املؤمن يقوى ويعتز حينما ينتشر اخلري والصالح ويُوحد اهلل ال
يشرك به وتضمحل املنكرات على إثر ذلك بينما خينس املنافق بذلك ويكون ذلك سبباً لغمه وضيق صدره وحسرته ،ألنه ال
قال الثوري :إذا أمرت باملعروف شددت ظهر املؤمن وإذا هنيت عن املنكر رغمت ألف املنافق.3
ــ حتقيق وصف اخلريية يف هذه األمة ،قال تعاىل﴿ :كُنتُمْ َخيْ َر أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِا ْلمَعْرُوفِ وَتَ ْنهَوْنَ عَ ِن الْمُنكَرِ
وَتُؤْ ِمنُونَ﴾ (آل عمران ،آية ،) 110 :قال عمر رضي اهلل عنه يف تفسري هذه اآلية :من سره أن يكون من هذه األمة فليؤدِّ شرط
فيها.4
232
ــ التجايف عن صفات املنافقني :إن من اختص صفات املؤمنني القيام هبذا باألمر باملعروف والنهي عن املنكر ،قال تعاىل:
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُ ْؤمِنَاتُ َبعْضُهُمْ َأوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ ِبالْمَعْرُوفِ و َي ْنهَوْنَ عَ ِن الْمُنكَرِ َويُقِيمُونَ الصَّالَ َة﴾ (التوبة ،آية.1)71 :
مع التشريعات القطعية غري القابلة للتغيري والتعديل يف ما يتعلق حبفظ الدين والنفوس ،واألعراض والعقول واألموال وغري ذلك من
الثوابت ،فهناك بعد آخر يف قانون الدولة يرحب بالتغري والرقي يف كل حاالت الزمان املتطورة وهو يشمل عدة أنواع.
ــ تعبري األحكام أو تأويلها أو تفسريها :هو احملاولة لفهم ألفاظ جاء هبا حكم من أحكام الشريعة وحتديد معناها وغايتها وهو
باب واسع جداً يف الفقه اإلسالمي فالذين هلم عقول ثاقبة وقلوب واعية وعيون نافذة إذا ما يتدبرون الكتاب والسنة ،جيدون
أمامهم جماالً واسعاً للتغيريات املختلفة حتى يف أحكامها القطعية الصرحية ،فكل منهم يرجح ـ على حسب فهمه وبصريته ـ
233
تعبري ًا من هذه التعبريات على غريه حمتاج ًا بالدالئل والقرائن ،وهذا االختالف يف تعبري األحكام ما زال له وجود بني أصحاب
الفقه والعلم من األمة منذ أول أمرها والبدّ له أن يبقى مفتوحاً يف املستقبل أيض ًا.
ــ القياس :وهو تطبيق حكم ثبت من الشارع يف قضية على قضية أخرى متاثلها ،أي بقياسها عليها.
ــ االجتهاد :وهو فهم قواعد الشريعة وأصوهلا العامة ،وتطبيقها يف قضايا جديدة ال توجد هلا النظائر واألشباه يف الشريعة.
ــ االستحسان :وهو وضع ضوابط وقوانني جديدة يف دائرة املباحث غري احملدودة على حسب احلاجات حبيث تتفق إىل أكرب
فهذه األمور إذا تدبرمت ما فيها من اإلمكانات ،فهي دليل بأن القانون اإلسالمي ال يضيق نطاقه يف حني من األحيان عن تلبية
إن من الالزم لتفسري وتوضيح األحكام أن يكون املرء متمكناً من لغة الشريعة وأسرارها حميطاً باحلاالت اليت فرضت فيها
أحكامها متضلعاً من علم القرآن ومعرفة أسلوبه اخلاص يف البيان وأن تكون له نظرة واسعة يف ذخائر احلديث ،فمن الالزم للقياس
أن يكون للمرء من احلس القانوني اللطيف ما يقدر معه عند قياس مسألة على أخرى أن يفهم وجوه املماثلة بينهما فهما تامان
وإال فإنه ال يكاد يسلم من اخلطأ يف تطبيق حكم إحدامها على األخرى ومن الالزم لالجتهاد أن تكون للمرء بصرية نافذة يف
234
أحكام الشريعة وفهم جيد لشؤون احلياة من الوجهة اإلسالمية اخلالصة ومن الالزم لالستحسان أن يكون للمرء إملام تام بطبيعة
اإلسالم وروح نظامه حتى ال يقرتح يف دائرة املباحاث إال بقوانني وضوابط تصلح حبق لالنسجام يف جمموعة هذا النظام وفوق كل
هذه الكفاءات الفكرية والثقافية البدّ لكل من يتوىل هذا األمر اجلليل من شيء آخر يف احملال بدونه أن ينال القانون اإلسالمي
شيئاً من الرقي وال تقدم على اخلطوط الصحيحة هو أن يكون على جانب عظيم من عزمية اتباع اإلسالم واملسؤولية أمام اهلل
تبارك وتعاىل؛ وليس هذا األمر بالذي يصلح ليتواله أناس غافلون عن اهلل واآلخرة ال يطمحون بأبصارهم إال إىل األغراض
واملنافع الدنيوية ممن قد تركوا عظمة وروعة اإلسالم وأشربوا يف قلوهبم حب حضارة غري حضارته ،ال ميكن حبال أن يرزق
اإلسالم شيئاً من الرقي والتقدم على أيدي أمثال هؤالء بل ال يكاد يرجى منهم إال تشويه وجهه وحتريف كلماته.1
والطريق إلدخال الدولة احلديثة للمرجعية اإلسالمية هو أن يعلن اجمللس التأسيسي يف تلك الدولة "أي الربملان".
ــ وأن كل قانون من قوانني تلك الدولة اجلارية يلغى ويبطل إن كان معارضاً للشريعة اإلسالمية ،وأنه ال ينفذ يف البالد يف املستقبل
1المصدر نفسه.
235
ومن خطوات املهمة اليت قام هبا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعد بيان مرجعية الدولة العليا أن زمام الدولة كان بأيدي يعرفون
اإلسالم ويريدون من أعماق قلوهبم ولذلك دخلوا يف نواحي احلياة بكل ما ميلكون من وسائل.
وإذا أردنا حلياتنا أن تسري على القوانني الربانية وختضع هلا البد أن ينتقل زمام أمر هذه الدول بطريق االنتخابات الربملانية
والرئاسية إىل أيدى رجال يعرفون اإلسالم ويؤمنون به ويتقربون إىل اهلل بذلك ويقيمون برسم هنج إلصالح خمتلف نواحي احلياة
االجتماعية إصالح ًا شام ًال ويستعينوا هلذا الغرض بكل ما للدولة من أسباب ووسائل فنغري نظام التعليم ونبذل قوى اإلعالم
وا لدعاية والنشر واخلطابة والفضائيات يف إصالح األفكار ،وتطوير العقول ،واألوضاع واملناهج االجتماعية واملدنية كلها،
وتطهري مصاحل احلكومة ودوائر الشرطة والسجن واحملاكم واجليش ومؤسسات الدولة من الفساد والرشاوي والعمل على البناء
الصحيح والسديد وفق فقه بناء الدول ا حلديثة الناجحة ،باملعايري الربانية وال شك أن وسائل الدولة واجلهاز احلكومي وإدارته
إذ وقعت يف أيدي أمينة ذات خربة وكفاءة وقوة وأمانة قادرة على بناء دولة حديثة واالرتقاء بالشعب مع منظومة من القوانني
منظمة ومتزنة يف عقدين من الزمان ولكي تنفذ القوانني املستمدة من القرآن والسنة يف الناس يظهر دور القضاء يف ذلك.
والسلطة القضائية عند علماء القانون هي :السلطة اليت يعهد إليها بتفسري القانون وتطبيقه على احلوادث املعينة وأعضاؤها هم
236
ويراد بالسلطة القضائية يف اإلسالم :اجلهة اليت متلك إصدار األحكام الشرعية وتبث يف القضايا املتنازع فيها على ضوء كتاب
اهلل وسنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم وإمجاع علماء املسلمني والقياس الصحيح.1
ولقد وجدت السلطة القضائية يف الدولة اإلسالمية يف مجيع عصورها ففي عصر النبوة كانت يف يد النيب صلى اهلل عليه وسلم:
ض يف اإلسالم وكان قضاؤه ملزماً ،فهو إذا قضى يف حادثة كانت له صفتان :صفة
وكان النيب صلى اهلل عليه وسلم أول قا ٍ
املشرع ..فبيَّن القاعدة القانونية الواجب تطبيقها يف احلادثة ،ثم له أيضاً صفة القاضي اليت يقضي هبا يف املنازعات ويقضي هبا
اخلصومات.2
عن أبي هريرة وزيد بن خالد اجلهين رضي اهلل عنهما أهنما قاال :إن رجالً من األعراب أتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
فقال :يا رسول اهلل ،أنشدك اهلل إال قضيت يل بكتاب اهلل ،فقال اخلصم اآلخر ،وهو أفقه منه :نعم ،فاقض بيننا بكتاب اهلل وأذن
يل ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :قل» ،قال :إن إبين كان عسيف ًا 3على هذا فزنى بامرأته وإني أخربت أنَّ على ابين
الرجم ،فافتديت منه مبائة شاة ووليدة ،فسألت أهل العلم فأخربوني أنَّما على ابين جلد مائة وتغريب عام ،وأن على امرأة هذا
237
الرجم ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :والذي نفسي بيده ألَقضني بينكما بكتاب اهلل ،الوليدة والغنم ردُّ وعلى ابنك
جلد مائة وتغريب عام ،اغد يا أنيس إىل امرأة هذا فإن اعرتفت فارمجها» ،فقال :فغدا عليها فاعرتفت فأمر هبا رسول اهلل
وقد حكم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف قضايا عديدة متعلقة بالنفوس واألعراض واألموال والعقول ووفق القوانني الربانية،
وبيَّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم للناس بأنه يق ضي بني الناس على حسب اجتهاده وما يظهر له باحلق ،قال صلى اهلل عليه
وسلم« :إمنا أنا بشر ،وإنكم ختتصمون إيل ،ولعل بعضكم أن يكون أحلن حبجته من بعض؛ فأقضي على وحو ما أمسع ،فمن
قضيت له من حق أخيه شيئاً فال يأخذه فإمنا أقطع له قطعة من النار» .2ويستفاد من هذا احلديث أن النيب صلى اهلل عليه
وسلم كان يقضي باالجتهاد فيما مل ينزل عليه فيه شيء ،3وذلك بوصفه قاضياً يدل على هذا أنه ذكر ذلك يف مقام إدالء اخلصوم
وملا بعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم معاذاً إىل اليمن قال« :كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟» ،قال :أقضي مبا يف كتاب
اهلل ،قال« :فإن مل يكن يف كتاب اهلل؟» ،قال :ف ِبسُنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،قال« :فإن مل يكن يف سنة رسول اهلل
238
صلى اهلل عليه وسلم وال يف كتاب اهلل؟» ،قال :أجتهد رأيي وال آلو ،فضرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم صدره وقال:
«احلمد هلل الذي وفق رسول رسول اهلل ملا يرضي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم».1
وقوله صلى اهلل عليه وسلم« :إذا اجتهد احلاكم فأصاب فله أجران وإن اخطأ فله أجر» ،2واحلديث صريح يف دعوة احلاكم إىل
االجتهاد وأن له أجراً حتى ولو أخطأ ،3وليس معنى اخلطأ هنا أنه أخطأ ما كلف ولكن أنه أخطأ النص فلم يصيبه بعدما بذل
ومن تأمل القضايا اليت حكم فيها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تبني له أهنا كانت تسري على أسس ونظم قضائية غاية يف
ــ أن القضاء يكون بكتاب اهلل وبشريعة اهلل ،وما وقع خمالفاً للشرع يرد.
ــ أن املدعي إذا مل يكن معه بينة ليس له على املدعي عليه إال اليمني ،أيًّا كانت أخالق املدعي عليه.
239
ــ أن القاضي حيكم مبا توافر لديه من أدلة مادية حتى ولو خالفت ما يف ظنه أو علمه اخلاص.
ــ احلد إذا مل يبلغ القاضي أو اإلمام جاز التعايف فيه وإسقاطه ،أما إذا بلغ القاضي أواإلمام مل جيز إسقاطه وال الشفاعة فيه.
وقد كان القضاء يف عهد النيب صلى اهلل عليه وسلم ميضي على أسس دستورية ونظم شرعية ،جعلته أصلح قضاء عرفته
البشرية.1
وعن عائ شة رضي اهلل عنها :أن قريشاً أمههم شأن املرأة املخزومية اليت سرقت فقالوا :ومن يكلم فيها رسول اهلل صلى اهلل
ب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فكلمه أسامة فقال رسول اهلل
عليه وسلم ،فقالوا :ومن جيرتىء عليه إال أسامة بن زيد حِ ّ
صلى اهلل عليه وسلم« :أتشفع يف حد من حدود اهلل» ،ثم قام فاختطب ثم قال« :إمنا أهلك الذين قبلكم أهنم كانوا إذا سرق
فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه احلد وأيمُ اهلل لو أن فاطمة بنت حممد سرقت لقطعت يدها».2
كان نظام القضاء يف عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم واضحاً وافياً بالغرض ،حمققاً حلاجات الناس ،صاحلاً ألن يكون
240
وملا توفى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم انتقلت مسؤولية القضاء بعده إىل اخللفاء والصحابة رضوان اهلل عليهم ،ولقد كانت
السلطة القضائية والسلطة التنفيذية متحدتان يف عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
هو الذي يباشر السلطتني ،وكذلك والته يف األمصار ،كعلي يف اليمن وعتاب يف مكة وكذلك كانت يف عهد أبي بكر وصدراً من
خالفة عمر؛ ثم ملا اتسعت املسؤوليات يف عهد عمر فصل القضاء عن السلطة التنفيذية ،فكان عمر يرسل إىل املصر من
وأصبح يف عهده مبدأ فصل القضاء عن غريه من السلطات واضحاً يف حياة الناس ،ومل يكن استقالل والية القضاء مانعاً لعمر
رضي اهلل عنه من أن يفصل يف بعض القضايا ،ورمبا ترك بعض والته ميارسون القضاء مع السلطة التنفيذية ويراسلهم يف الشؤون
القضائية ، 2ووضع الفاروق دستوراً قومياً يف نظام القضاء والتقاضي ،وقد اهتم كثري من أعالم الفقه اإلسالمي شرح هذا
الدستور والتعليق عليه ،وجند الدستور العمري يف القضاء يف رسالته ألبي موسى األشعري وهذا نص الرسالة :بسم اهلل الرمحن
الرحيم من عمر بن اخلطاب أمري املؤمنني إىل عبد اهلل بن قيس ،سالم عليك ،أما بعد ،فإن القضاء فريضة حمكمة ،وسنة متبعة،
فافهم إذا أديل إليك ،فإنه ال ينفع تلكم حبق ال نفاذ له ،آس بني الناس يف جملسك ويف وجهك وقضائك؛ حتى ال يطمع شريف يف
...................... 1
2عمر بن الخطاب للصَّالَّبي ،ص.271 :
241
حيفك 1وال ييأس ضعيف من عدلك ،البينة على املدعي ،واليمني على من أنكر ،والصلح جائز بني املسلمني إال صلحاً أحل
حراماً أو حرم حالالً ،ومن ادعى حقًّ ا غائباً أو بينة فاضرب له أمداً ينتهى إليه ،فإن بينه أعطيته حبقه وإن أعجزه ذلك
أستحللت 2عليه القضية فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه احلق ،فإن احلق قديم ال يبطله شيء
ومراجعة احلق خري من التمادي يف الباطل ،واملسلمون عدول 3بعضهم على بعض إىل جمرباً عليه شهادة زور أو جملود ًا يف حد أو
ظنين ًا يف والء أو قرابة ،فإن اهلل تعاىل توىل من العباد السرائر وسرت عليهم احلدود إال بالبينات واألميان ،ثم الفهم الفهم فيما أديل
إليك مما ورد عليك مما ليس يف قرآن وال سنة ،ثم فيها قايس األمور عند ذلك واعرف األمثال ،ثم اعمد ترى إىل أحبها إىل اهلل
وأشبهها باحلق ،وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند اخلصوم فإن القضاء يف مواطن احلق مما يوجب اهلل
به األجر ،وحيسن به الذكر ،فمن خلصت نيته يف احلق ولو على نفسه كفاه اهلل ما بينه وبني الناس ،ومن تزين مبا ليس يف نفسه
شانه اهلل ،فإن اهلل ال يقبل من العباد إال ما كان خالصاً ،فما ظنك بثواب عند اهلل يف عاجل رزقه وخزائن رمحته ،والسالم عيك
ورمحة اهلل.4
قال ابن القيم :وهذا كتاب جليل ،تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول احلكم.5
1حيفك :ظلمك.
2استحللت :سأله أن يجعله له.
3عدول :جمع عدل وهو المثل والنظير.
4إعالم الموقعين البن القيم (.)85 /1
5المصدر نفسه (.)86/1
242
وقد مجعت هذه الرسالة آداب القاضي وأصول احملاكمة ،وقد شغلت العلماء بشرحها والتعليق عليها هذه القرون الطويلة وال
تزال موضع دهشة وإكبار لكل من يطلع عليها ،ولو مل يكن لعمر من اآلثار غريها لعُدَّ هبا من كبار املفكرين واملشرعني ،ولو كتبها
رئيس دولة يف هذه األيام اليت انتشرت فيها قوانني أصول احملاكمات ،وصار البحث فيها مما هو مقرّر يف املدارس لكانت كبرية
منه ،فكيف وقد كتبها عمر منذ وحو أربعة عشر قرناً ،ومل ينقلها من كتاب وال استمدها من أحد ،بل جاء هبا من ذهنه مثرة
واحدة من آالف الثمرات ،للغرسة املباركة اليت غرسها يف قلبه حممد صلى اهلل عليه وسلم حني دخل عليه يف دار األرقم ،فقال:
وميكن للباحث من خالل رسائل عمر بن اخلطاب رضي اهلل وحياته يف زمن خالفته أن يستخرج ما يتعلق باملؤسسة القضائية يف
األرزاق والعزل ،وأنواع القضاة وصفاهتم وما جيب عليهم ومصادر أحكامهم وخضوع اخلليفة نفسه للقضاء وغري ذلك من
243
على الدولة احلديثة أن تطور املؤسسة القضائية ،حتى يتحقق العدل ويرفع الظلم عن املواطنني وعليها أن تعمل وحو تأسيس بنية
قضائية مستقلة تكون مبثابة صمام األمان للمجتمع بكافة مؤسساته وأفراده ،وضمانه جوهرية الستقراره ،وحفظ حقوق
أفراده ،وتشكل مع السلطتني التنفيذية والتشريعية دعامات وركائز النظام الشوري للدولة وقادرة على حتقيق العدالة الناجزة
للكافة دون متييز أو تفرقة ،وذلك اسرتشاداً باملعايري الدولية ،وأحكام الشريعة اإلسالمية وعليها أن تعمل على:
ــ إجياد السبل اليت تكفل حسن انتقاء املعينني يف بداية السلم القضائي وذلك على أسس ومعايري مهنية وسلوكية صارمة ،مع
ــ متكني القضاء من القيام بدوره يف الرقابة على أعمال السلطتني التشريعية والتنفيذية.
ــ عدم التدخل يف أعمال القضاء من أي جهة كانت ،وااللتزام بالقضاء الطبيعي ،ورفض كافة صنوف القضاء العسكري ،أو
االستثنائي.
ــ وضع موازنة خاصة مبرفق القضاء تلحق باملوازنة العامة للدولة ،مبا يكفل استقالليته مالياً وإدارياً عنها األمر الذي سينعكس
ــ حتسني جدول مرتبات القضاة وسائر العاملني مبرفق العدالة ،األمر الذي يضمن كرامتهم ،ويعينهم على أداء أعماهلم حبيذة
ونزاهة وجترد.
244
ــ ضرورة إحلاق أعضاء اهليئات القضائية اجلدد فور تعيينهم مبراكز الدراسات القضائية املعتمدة سواء أكانت داخل القطر أو
خارجها ،لتأهيلهم علمي ًا وعملياً ،وال يقتصر األمر يف هذا الصدد على القضاة وأعضاء النيابة وإمنا يتعداه إىل اخلرباء وأعوان
القضاة.
ــ إرساء مبدأ حصانة القاضي تفتيشاً ،وتأديب ًا وعزالً وترقية ،ونقالً ،والعمل على أن تكون اجلهة املنوطة هبا التفتيش على
أعمال القضاة غري تلك اليت تتوىل تأديبهم حتى ال جتمع تلك األخرية بني صفيت اخلصم واحلكم معاً مما يفت يف عضد احليدة
والعدالة.
ــ جعل تبعية السجون لوزارة العدل أو إلشراف القضاء ،ال للسلطة التنفيذية ،مبا يضمن عدم استخدام السياسة العقابية
ــ ضرورة االهتمام باملوظفني واملهنيني واملساعدين القانونيني وسائر العاملني يف جمال القانون.
ــ رعاية حق القضاة يف تشكيل األندية ،والروابط ،واجلمعيات اليت تعرب عنهم وترعى مصاحلهم.
ــ تدعيم سبل التعاون بني مؤسسة القضاء ومؤسسات اجملتمع املدني.
ــ ضرورة التأكيد على دور احملكمة الدستورية العليا ،وتفعيل دورها الرقابي على أعمال السلطتني التشريعية والتنفيذية ،مبا
245
ــ القضاء على مشكلة بطء تنفيذ األحكام وذلك من خالل تبين نظام قاضي التنفيذ ،وإيكال كل إشكاليات ومعوقات التنفيذ
إليه ،مع إعطائه الصالحيات الالزمة لتذليل كافة العقبات اليت تقف يف سبيل ذلك.
ــ منح اهليئة القضائية سلطة واسعة يف اختيار القضاة بناء على معايري موضوعية وعادلة ومتوازنة ،وعلى أساس من الكفاءة
ــ ضرورة أن يستلزم كل من يلج سبيل القضاء بتقديم إقرار بالذمة املالية له ولعائلته وذلك عند تعيينه ولدى تركه لعمله ألي سبب
كانت السلطة التشريعية يف عصر النبوة حمصورة يف يد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وحده ال يشاركه فيها أحد من األمة ،ما
دام األمر متعلق ًا بالتشريع واألحكام ومسائل احلالل واحلرام؛ أل نه كان يتلقى الوحي من اهلل تبارك وتعاىل ويقوم بتبليغه واإلعالم به
وتطبيق أحكامه ،ومع كون السلطة التشريعية ،يف عهده صلى اهلل عليه وسلم متمركزة من الناحيتني العضوية واملوضوعية يف
يده وحده إال أنه فيما ال يتصل بالتشريع وباحلل واحلرمة كان يستشري فيه طوائف من أصحابه من ذوي الرأي.1
246
أ ـ وعندما تويف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :انتقلت السلطة التشريعية بعد وفاته إىل اجملتهدين من الصحابة ،وسلطاهنم يف
التشريع مرتبط بأمرين ،األول :فهم النص وبيان احلكم الذي يدل عليه ،والثاني :قياس ما ال نص فيه على ما فيه نص بواسطة
االجتهاد وختريج العلة وبذلك خت الف السلطة التشريعية يف عهد الصحابة السلطة التشريعية اليت تضع القوانني يف األمم األخرى؛
أما األوىل فهي مقيدة بالنصوص الشرعية وبالقواعد واملقاصد الشرعية ،ودائرة يف عملها حتت سيادة الشرع ،2ومع
اختصاصهم بالتشريع كانوا يشريون على اخلليفة مثلما يشري عليه سائر الكبار من أهل احلل والعقد ،وذلك فيما ال يدخل يف احلل
واحلرمة من أمور الرأي واحلرب واملكيدة واملسائل املتعلقة بتدبري الشأن العام.
وقد كان اخلليفة يشارك السلطة التشريعية يف استخالص األحكام ،ألنه كان من مجلة اجملتهدين ،وكان أحيان ًا يعمل مبا أداه إليه
اجتهاده ما مل حيل بينه وبني العمل به ظهور رأي مجاعة اجملتهدين عليه ،وإذا كان من حق اخلليفة أن جيتهد برأيه فيما يعرض من
مسائل ،فإنه جيتهد بوصفه من اجملتهدين ال بوصفه رئيساً للسلطة التنفيذية ،كذلك القاضي الذي تتوفر فيه صفات االجتهاد فهو
إن حكم برأيه فإمنا جيتهد بوصفه من اجملتهدين ال بوصفه من أعضاء السلطة القضائية.3
247
روى أبو عبيدة يف كتاب القضاء عن ميمون بن مهران قال :كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر يف كتاب اهلل تعاىل ،فإن
وجد فيه ما يقضى به قضى به وإن مل جيد يف كتاب اهلل نظر يف سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فإن وجد فيها ما يقضى به
قضى به فإن أعياه ذلك سأل الناس :هل علمتم أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قضى فيه بقضاء؟ ،فرمبا قام إليه القوم
فيقولون قضى فيه بكذا أو بكذا فإن مل جيد سنة سنها النيب صلى اهلل عليه وسلم مجع رؤساء الناس فاستشارهم ،فإذا اجتمع
فرجع اخلليفة إىل اجملتهدين لسؤاهلم عن علم علموه من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف املسألة املعروضة ثم الستشارهتم
فيما مل يرد فيه نص يعترب رد ًا على السلطة املختصة ،أما اجتهاده وقضاؤه مبا ظهر من كتاب اهلل فال يعد جتاوزاً للسلطة التشريعية
وال تعد ًّيا عليها؛ ألنه من اجملتهدين ،وألن احلكم الشرعي إذا ظهر يف الكتاب أو السنة فالسلطان له ،وعلى اجلميع ـ سواء السلطة
التشريعية أو التنفيذية ـ أن خيضعوا لسلطاته ،وألن رجال السلطة التشريعية لن يسكتوا إذا خالف اخلليفة ـ من وجهة نظرهم ـ
دستور األمة "الكتاب والسنة" ولذلك عندما رأى عمر رأيه يف سواد العراق وأراد أال يقسم األرض املغنومة على املقاتلني ،وأن
يرتكها ف يئاً للمسلمني وقف الصحابة واعرتضوا ،وناقشه اجملتهدون من األمة ،وراجعوه وراجعهم ،وجادلوه وجادهلم حتى
248
وقد كان من استشارة اخللفاء وأهل الفتيا بعضهم بعضاً ما جيعل من مجاعتهم احملدودة شبه جملس نيابي صغري ينقصه النظام،
ولكن يعوضهم عنه ما كان منهم من تقليب املسائل على وجوههاً وحبثها من مجيع نواحيها.1
ب ـ وبعد عصر الصحابة جاء عصر التابعني لتظهر نواة املدارس الفقهية اليت تعترب مؤسسات تشريعية قائمة على أصلني :األول:
سيادة الشرع ،الثاني :أن السلطان التشريعي يف يد اجملتهدين من األمة ،فظهرت مدرسة الرأي يف العراق واليت وضع حجر
األساس هلا الصحابي اجلليل عبد اهلل بن مسعود ويف مقابلها مدرسة األثر اليت وضع لبناهتا األوىل علماء الصحابة يف املدينة من
أمثال عبد اهلل بن عمر ،وزيد بن ثابت وعائشة وغريهم ،فإن عصر التابعني شهد شهرة واسعة جملتهدين كبار كان على رأسهم
الفقهاء السبعة يف املدينة وهم :سعيد بن املسيب ،وعروة بن الزبري ،والقاسم بن حممد وخارجة بن زيد ،وأبو بكر بن عبد
الرمحن بن احلارث بن هشام وسليمان يسار ،وعبيد اهلل بن عبد اهلل بن عتبة بن مسعود وهم الذين اعتدَّ مالك بإمجاعهم.2
ثم ظهرت املذاهب الفقهية الكربى اليت شهدت طفرة عظيمة يف االجتهاد الفقهي القائم على أصول ودعائم علمية راقية ،وكان
أشهر هذه املذاهب هي املذاهب الفقهية األربعة :مذهب أبي حنيفة ،ومذهب مالك ،ومذهب الشافعي ،ومذهب أمحد
بن حنبل ،فكانت هذه املذاهب هي املؤسسات التشريعية العظمى اليت متثل السلطة التشريعية يف العصور اليت تلت عصر
اخللفاء الراشدين.
249
وظل باب االجتهاد مفتوحاً وظلت هذه املذاهب هي املرجعية التشريعية لألمة اإلسالمية حكاماً وحمكومني يف مجيع اجملاالت
حتى جاء يف عصور متأخرة علماء أغلقوا باب االجتهاد فنتج عن ذلك أن استجدت مسائل ونوازل يف حياة األمة مل يف تراث
هذه املذاهب مبعاجلتها :فكان من ذلك احلرج قصور التشريع اإلسالمي عن مسايرة الزمن وحتقيق مصاحل الناس ،والتجاء بعض
احلكومات اإلسالمية إىل العمل بقوانني أمم غري إسالمية ،1ووقعت األمة اإلسالمية مبجموعها يف براثن االستعمار يف القرنني
املاضيني وجاء االستعمار الغربي ب فكره العلماني ونظرية السيادة الغربية ،وغزا األمة بقوانني غري شرعية وصارت السلطة
التشريعية فيها أبعد ما يكون عن الشريعة اإلسالمية ،وساعد على ذلك قابلية األمة لالستعمار يف تلك الفرتة نتيجة اجلهل والفقر
واملرض والبعد عن روح اإلسالم ومقاصده السامية وقفل باب االجتهاد ،الذي يسعى العلماء اجملتهدون لتلبية حاجات األمة يف
كل ما ينزل هبا وهذا هو الذي دفع املصلحني من أمثال حممد بن علي السنوسي ،وحممد عبده ،وحممد رشيد رضا وغريهم إىل
فتح االجتهاد ،ولقد جتاوب هبذه الصيحة الصادقة علماء وأساتذة جامعات وشيوخ كبار وهنضوا هلذا الواجب الكبري،
فبدأت من جديد حركة االجتهاد والتجديد ،وصارت الشعوب اإلسالمية مؤهلة للعودة إىل سيادة الشريعة عن طريق جعل
250
ج ـ ولقد أوجدت األمة مؤسسات كربى تقوم باالجتهاد اجلماعي الذي كان يقوم به اجملتهدون من الصحابة ولكن بآليات معاصرة
وقد متثلت هذه املؤسسات يف اجملامع الفقهية الكربى مثل :جممع البحوث اإلسالمية بالقاهرة ،وجممع الفقه اإلسالمي املنبثق عن
منظمة املؤمتر اإلسالمي جبدة وجممع رابطة العامل اإلسالمي مبكة املكرمة وغريها من اجملامع اليت جاءت بعدها وحذت حذوها
إىل جانب مشاريع االجتهاد اجلماعي األخرى كمشاريع املوسوعات الفقهية الكربى مثل مشروع املوسوعة الفقهية الكويتية،
كما ناقش العلماء املعاصرون إمكانية جتزئة االجتهاد مبعنى أن يوجد يف كل فرع من فروع الشريعة متخصصون وخرباء ميلكون
أدوات االجتهاد فيه وإن مل يستكملوا آالت االجتهاد املطلق؛ وذلك لتوسيع دائرة االجتهاد وتيسري أمره وهذا اجلهد املبارك يعترب
أرضاً خصبة لنمو واختيار السلطة التشريعية اليت يتمثل فيها بصدق سيادة الشرع وسلطان األمة.
د ـ أما عن كيفية االختيار وطريقة التكوين فهي من اآلليات اليت ختتلف من عنصر آلخر ،فنحن إذا نظرنا إىل السلطة التشريعية
يف عصر اخللفاء الراشدين ومن تالهم ،جند أهنم مل يكتسبوا هذه السلطة بتعيني اخلليفة وال بانتخاب األمة هلم ،وإمنا اكتسبوها
مبميزاهتم الشخصية اليت امتازوا هبا ،فجاء التكوين بطريقة فطرية تلقائية بسيطة كبساطة احلياة آنذاك.1
وأما يف الواقع املعاصر فيمكن عند قيام دولة إسالمية أن تشكل السلطة التشريعية من اجملتهدين يف العلم الشرعي وذلك باتباع
251
هـ ـ السلطة التشريعية يف التعريف الدستوري واملفهوم اإلسالمي:
ــ السلطة التشريعية يف التعريف الدستوري هي :السلطة املختصة بعمل القوانني وتقوم مع ذلك باإلشراف على أعمال السلطة
التنفيذية.1
فهي السلطة املسؤولة ـ إىل جانب مراقبتها للحكومة ـ عن وضع القوانني امللزمة اليت ال يسع أحد جتاوزها.2
وأما السلطة التشريعية يف املفهوم اإلسالمي فهي :السلطة املؤلفة من صفوة علماء الشريعة اجملتهدين واملكلفة باستخالص
األحكام الشرعية من مصادرها؛ والتعريف هبا ووضعها لدى الدولة موضع التنفيذ واملنوط هبا اإلشراف على السلطات
األخرى فيما ي تعلق بتنفيذ الشريعة وتطبيق أحكامها ،واملعهود إليها مع بقية أهل الشورى ومع سائر أهل احلل والعقد بالرقابة
ــ أن السلطة التشريعية يف اإلسالم ويف الدولة اإلسالمية ال خترج عن دائرة علماء الشريعة اجملتهدين وهم علماء الشريعة الذين
252
ــ هذه السلطة هي املكلفة شرعاً واملختصة دستورياً ،بالقيام بعملية التشريع وعملها التشريعي :ال يعدو أمرين :أما بالنسبة إىل
ما فيه نص فعملهم تفهم النص وبيان احلكم الذي يدل عليه ،وأما بالنسبة إىل ما ال نص فيه فعملهم قياسه على ما فيه نص
فالسلطة التشريعية عندما تقوم بالتشريع فإهنا ال تنشئ األحكام إنشا ًء وال تبتدؤها ابتداءً وإمنا تستمدها وتستخلصها
وتستخرجها من كتاب اهلل وسنة رسوله ،ال من غريمها وبذلك وضع النظام اإلسالمي حد ًا فاصالً بني أمرين ال يصح أن يلتبسا،
ومها السيادة والسلطان ،فالسيادة هلل ،والسلطان لألمة ،السيادة لشرع اهلل ،والسلطان للمجتهدين من األمة الذين يقومون
باستنباط األحكام واإلعالم هبا واإللزام بتطبيقها وهذا هو سلطاهنم الذي ال يتعدى على سيادة الشريعة.
ــ أن عمل السلطة التشريعية ال يقف عند حد التشريع وإمنا يتعداه إىل اإلشراف واملباشرة لضمان االلتزام هبذا التشريع من قبل
السلطتني التنفيذية والقضائية ،وخباصة السلطة التنفيذية ،كما أهنا تشرتك مع سائر أهل الشورى وأهل احلل والعقد يف القيام
بدور الرقابة على باقي السلطات واحملاسبة للحكومة ،وإبداء املشورة للحاكم ومعاونيه يف كل مشكل يعرض لألمة من األمور
العامة.
253
ــ أن صفوة علماء الشريعة اجملتهدين الذين ميثلون السلطة التشريعية جزء من أهل احلل والعقد؛ ألن أهل احلل والعقد يف األمة
ليسوا منحصرين يف علماء الشريعة اجملتهدين فضالً عن أن ينحصروا يف صفوهتم املختارة للتشريع وإمنا تتسع دائرهتم لتشمل
غريهم من العلماء والقضاة واألمراء واخلرباء والصلحاء والوجهاء العدول الذين حيملون همَّ هذا الدين ويتحملون مسؤولية هذه
تعترب السلطة التنفيذية أكرب مؤسسات السلطة احلاكمة يف األمة اإلسالمية وهي يف احلقيقة تتكون من مؤسستني غري منفصلتني
األوىل :مؤسسة اخلالفة ،والثانية :اجلهاز اإلداري ،والثانية منهما منضوية حتت لواء األوىل وداخلة حتت سلطاهنا ،بل ومنبثقة
عنها ،والسلطة التنفيذية يراد هبا يف الدولة اإلسالمية املوظفون املنوط هبم تنفيذ أوامر الشرع اإلسالمي ،ويف مقدمة هؤالء:
رئيس الدولة ،سواء مسي خليفة أم إماماً أم أمري املؤمنني أم سلطاناً أم ملكاً أم مسي بأي اسم آخر مثل ما أطلق عليه بعد ذلك
254
ومن أعضاء السلطة التنفيذية :الوزراء ،والوالة على األقاليم وقواد اجليوش ،والعمال واحملتسبون ورجال الشرطة وسائر
إن تولية اخلليفة أو رئيس الدولة يف النظام اإلسالمي هو أن تقوم األمة باالختيار والبيعة ملن ترضاه وتراه األفضل واألنسب
لقيادهتا وتوىل أمرها وقد ترك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمته ختتار من تشاء كما حدث يف اختيار أبي بكر الصديق
رضي اهلل عنه ولألئمة شروط وصفات وحقوق وواجبات ،تطلب من مظاهنا يف كتب الفروع ،2وسيأتي احلديث مفص ًال يف
255
13ـ املفاوضات السياسية:
يف يوم االثنني األوّل من ذي القعدة سنة " 6هـ" ،1خرج الرّسول صلى اهلل عليه وسلم من املدينة متوجهاً بأصحابه إىل مكة؛ ألداء
العمرة.2
وانتشر خرب خروج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بني قبائل العرب ،وكان انتشار اخلرب له أثر يف الرأي العام وخصوص ًا بعدما
أكد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :أنه ال يريد حرباً ،وإمنا يريد أن يعتمر ،ويعظم شعائر اهلل .وحقق هذا الفعل الكريم
مكاسب إعالمية رفيعة املستوى ،وقد كان هدف النيب صلى اهلل عليه وسلم معلناً :أال وهو زيارة بيت اهلل احلرام ألداء العمرة،
فتجرَّد هو وأصحابه من املخيط ،ولبسوا ثياب اإلحرام ،وأحرم بالعمرة من ذي احلليفة بعد أن قلَّد اهلدي ،وأشعره.3
وقد كان صلى اهلل عليه وسلم على جانب كبري من احليطة واحلذر ،فقد أرسل بشر بن سفيان اخلزاعي عيناً له ،4وقدَّم بني يديه
طليعة استكشافية مكوّنة من عشرين رجالً ،وكان هدفه صلى اهلل عليه وسلم من ذلك االستعداد للطوارىء اليت ميكن أن
يفاجأ هبا ـ وأيضاً ـ فقد كانت مهمة هذه الطليعة استكشاف خرب العدو.5
256
وملّا وصل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل عسفان لقيه بشري بن سفيان اخلزاعي فقال :يا رسول اهلل؛ هذه قريش قد مسعت
مبسريك ،ومعها العوذ املطَافِيل ،1قد لبسوا جلود النمور يعاهدون اهلل أال تدخلها عليهم عنوة أبداً ،فقال رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم« :يا ويح قريش ،لقد أكلتهم احلرب ماذا عليهم لو خلُّوا بيين وبني سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا ،وإن
أظهرني اهلل عليهم دخلوا يف اإلسالم وهم وافرون ، 2وإن مل يفعلوا قاتلوا وهبم قوة فماذا تظن قريش؟ واهلل إني ال أزال أجاهدهم
بذل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما يف وسعه إلفهام قريش :أنه ال يريد حرباً معهم ،وإمنا يريد زيارة البيت احلرام وتعظيمه،
وهو حق للمسلمني ،كما هو حق لغريهم ،وعندما تأكدت قريش من ذلك أرسلت إليه من يفاوضه ويتعرَّف على قوة املسلمني،
ومدى عزمهم على القتال ،إذا أجلئوا إليه ،وطمعاً يف صدِّ املسلمني عن البيت بالطرق السلميَّة من جهة ثالثة.4
1خرجوا ومعهم النساء واألوالد لئال يفروا عنهم وهو على االستعارة.
2وافرون :جمع وافر وهو الذي لم ينقص منه شيء.
3السيرة النبوية للصَّالَّبي (.)281 /2
4السيرة النبوية في ضوء المصادر األصلية ،مهدي رزق اهلل ،ص.485 :
257
جاء بُديل بن ورقاء يف رجال من خزاعة ،وكانت خزاعة عيبة 1نصح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أهل هتامة ،وبيَّنوا :أن
قريشاً تعتزم ض َّد املسلمني عن دخول مكة فأوضح هلم الرسول صلى اهلل عليه وسلم سبب جميئه وذكر هلم الضَّرر الذي وقع
على قريش من استمرار احلرب ،واقرتح عليهم أن تكون بينهم هدنة إىل وقت معلوم حتى يتَّضح هلم األمر ،وإن أبوا؛ فال مناص
من احلرب ،ولو كان يف ذلك هالكه ،فنقلوا ذلك إىل قريش ،وقالوا :هلم :يا معشر قريش؛ إنكم تعجَلون على حممد ،وإن حممد ًا مل
يأت القتال ،وإنّما جاء زائراً هذا البيت ،فاتَّهموهم وخاطبوهم مبا يكرهون ،وقالوا :وإن كان إمنا جاء لذلك ،فال واهلل ال يدخلها
وقد ظهرت براعة النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم السياسية يف عرضه على مشركي مكة اهلدنة ،والصلح ،ألن يف ذلك فوائد كثرية،
منها:
ــ باهلدنة يضمن حياد قريش ،ويعزهلا عن أيِّ صراع حيدث يف اجلزيرة العربية ،سواء كان هذا الصراع مع القبائل العربية األخرى،
أم مع اليهود؛ ذلك العدوُّ اللئيم الغادر ،الذي يرتبص باملسلمني الدّوائر.
ــ حرص الرسول صلى اهلل عليه وسلم على أن يبقى باب االتِّصال مفتوح ًا بينه ،وبني قريش ،ليسمع منهم ،ويسمعوا منه بواسطة
الرسل ،والسفراء ،ويف هذا تقريب للنفوس وتربيد جلو احلرب ،وإضعاف حلماسهم وحو القتال.
258
ــ حرصه صلى اهلل عليه وسلم على أن تدرك خزاعة بقيادة بديل ،والركب الذي معه :أن حليفهم قوي ،فتزداد ثقتهم به وحلفهم
له ولبين هاشم قبل اإلسالم فقد بقي ،ومل يُلغ ،وتأكد يف صلح احلديبية.
ــ إن العقالء الذين يفكرون بعقوهلم حني يسمعون كالم الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،وأنه جاء معظماً للبيت ،واملشركون يردُّونه
وهو يصرُّ على تعظيمه سيقف هؤالء جبانبه ،ويتعاطفون معه فيقوى مركزه ،ويضعف مركز قريش اإلعالمي والديين يف نفوس
الناس.
ــ إن مشركي مكة مل يطمئنوا إىل كالم بديل الذي نقله إليهم ،ذلك ألهنم يعلمون :أن خزاعة كانت عيبة نصح لرسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ،ويشعرون بود خزاعة للرسول صلى اهلل عليه وسلم واملسلمني.1
ــ ويؤخذ من جوانب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لبُديل بن ورقاء حسن التلطف للوصول إىل الطاعات ،وإن كانت غري
واجبة ما مل يكن ذلك ممنوعاً شرعاً؛ ألن النيب صلى اهلل عليه وسلم أجاب املشركني ملّا طلبوا منه ،ومل يظهر هلم ما يف النفوس من
البغض والكراهية هلم لطفاً منه ـ عليه الصالة والسالم ـ فيما يؤمِّل إىل البلوغ إىل الطاعة اليت خرج من أجلها.2
259
مل تقبل قريش ما نقله بُديل بن ورقاء اخلزاعي عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،من أنه جاء زائراً للبيت ومل يأت مقاتالً،
فاقرتح عليهم عروة بن مسعود الثقفي أن يقابل الرّسول صلى اهلل عليه وسلم ويسمع منه ثم يأتيهم باخلرب اليقني.1
وقد ذكر ذلك البخاري يف صحيحه ،فقال ...... :فقام عروة بن مسعود فقال :أي القوم ،ألستم بالوالد؟ قالوا :بلى ،قال:
ي
أولست بالولد؟ قالوا :بلى! قال :فهل تتهموني؟ قالوا :ال! قال :ألستم تعلمون أنِّي استنفرت أهل عكاظ ،2فلما بلَّحوا 3عل َّ
جئتكم بأهلي ،وولدي ،ومن أطاعين؟ قالوا :بلى! قال :فإنَّ هذا قد عرض عليكم خُطَّة رشد فاقبلوها ،ودعوني آته ،قال:
ائته فأتاه ،فجعل يكلِّم النيب صلى اهلل عليه وسلم ،فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم وحواً من قوله لبديل ،فقال عروة عند ذلك:
أي حممد أرأيت إن استأصلت أمر قومك ،هل مسعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن األخرى فإني واهلل ال أرى
وجوهاً ،وإني ألرى أشواب ًا 4من الناس خليقا أن يفرُّوا ،ويَدَعُوك .فقال أبو بكر :امصُص بظر 5الالت ،أوحن نفر عنه وندعه؟
فقال :من ذا؟ قالوا :أبو بكر .قال :أما والذي نفسي بيده لوال يدٌ كانت لك عندي مل أجزك هبا ،ألجبتك.
لقد حاول عروة بن مسعود أن يشنَّ على املسلمني حرباً حتى يهزمهم معنوياً ،فاستخدم عنصر اإلشاعة ويظهر ذلك عندما لوَّح
بقوَّة قريش العسكرية معتمداً على املبالغة يف تصوير املوقف بأنه سيؤول لصاحل قريش ال حمالة ،وذلك جدير حبدوث الفتنة
260
واإلرباك يف صفوف املسلمني ،وذلك حينما حاول إضعاف الثقة بني القائد وجنوده ،عندما قال للنيب صلى اهلل عليه وسلم:
فإني واهلل ال أرى وجوهاً ،وإني ألرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفرُّوا ويدعوك.
حاول ذلك من أجل التأثري على نفسيَّات املسلمني وخلدمة أهداف قريش العسكرية واإلعالمية وحاول ـ أيضاً ـ أن يفتعل أزمة
عسكرية كبرية بني النيب صلى اهلل عليه وسلم وبني جنوده من أجل التأثري على معنوياهتم ،وحتطيم عزائمهم ،وهذا من أقوى
أساليب احلرب النفسية اليت استخدمت ضد املسلمني أثناء تلك املفاوضات ،وحاول عروة أن يثري الرعب ،وذلك بتخويف
املسلمني من قوّة قريش اليت ال تُ قهر ،وتصوير املعركة بأهنا يف غري صاحلهم ،لقد مارس عروة بن مسعود يف مفاوضاته عناصر
لقد فشل عروة يف مفاوضاته ،ورجع حمذراً قريشاً من أن تدخل يف صراع مسلح مع النيب صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه وقال
هلم :يا قوم! إنِّي قد وفدت على امللوك :على كسرى وهرقل ،والنجاشي ،وإني واهلل ما رأيت ملكاً قطُّ أطوع فيمن بني ظهرانيه
من حممد وأصحابه واهلل ما يشدُّون إليه النظر ،وما يرفعون عنده الصوت ،وما يكفيه إال أن يشري إىل أمر ،فيُفعل ،وما يتنعَّمُ ،وما
يضيق أال وقعت يف كفِّ رجل منهم ميسح هبا جلده ،وما يتوضَّأ إال ازدمحوا عليه أيُهُم يظفر منه بشيء.
261
وقد حزرت القوم ،واعلموا أنكم إن أردمت السيف بذلوه لكم ،وقد رأيت قوماً ما يبالون ما يُصنعُ هبم إذا منعوا صاحبهم؛ واهلل
لقد رأيت نسيات معه إن كنّ ليسلمنه أبداً على حال فروا رأيكم ،وإيَّاكم وإضجاع 1الرأي ،فمادُّوه يا قوم ،اقبلوا ما عرض ،فإني
لكم ناصح مع أني أخاف أال تُنصروا عليه؛ رجل أتى هذا البيت معظماً له ،معه اهلدى ،ينحره وينصرف ،فقالت قريش :ال
تكلمَّ هبذا يا أبا يعفور ،2لو غريك تكلم هبذا للُمناه ،ولكن نردُّهُ عن البيت يف عامنا هذا ويرجع قابل.3
لقد انتقلت احلرب النَّفسَّية وتأثريها يف صفوف املسلمني لتعمل داخل جبهة قريش ويف نفوسهم ،فقد كان تصوير عروة ملا رآه
صادقاً ،حيث ب َّين لقريش وضع املسلمني يف احلديبية ،من طاعتهم لنبيهم الكريم وحبَّهم له وتفانيهم بالدفاع عنه ومبا يتمتعون به
من معنويات عالية جداً ،واستعداد عسكري ،ونفسي يفوق الوصف فكان ذلك مبثابة التحذير الفعلي لقريش بعدم التعجل
والدخول يف حرب مع النيب صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه ممَّا قد تكون نتائج هذه املعركة لصاحل املسلمني ،األمر الذي أسقط يف
لقد كان وقع كل كلمة قاهلا سيَّد ثقيف كالصَّاعقة على مسامع نفوس زعماء قريش ،لقد كان صلى اهلل عليه وسلم موفقاً من
قبل اهلل تعا ىل ،ولذلك جند أثره على عروة بن مسعود مما جعل االنشقاق يدب يف معسكر قريش وأخذت جبهة قريش تتداعى
أمام قوّة احلق الصَّامدة ،وكذلك فقد اهنارت حُجَّة قريش يف مجعها للعرب ضد النَّيبِّ صلى اهلل عليه وسلم.
................................1
2أبا يعفور :كنية عروة بن مسعود الثقفي.
3السيرة النبوية للصَّالَّبي (.)288 /2
262
لقد جنح النيب صلى اهلل عليه وسلم حبكمته وذكائه جناحاً عظيماً باستخدام األساليب اإلعالمية والدبلوماسية املتعددة
للحصول على الغاية املنشودة ،وهي تفتيت جبهة قريش الدَّاخلية ،وإيقاع اهلزمية يف نفوسهم وإبعاد حلفائهم عنهم ،وإن هذه
النتيجة لتعد حبق نصراً ساحقاً حقَّقه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على اجلبهات السياسيَّة ،واإلعالمية ،والعسكرية.1
ثمَّ بعثوا احلُليس بن علقمة الكنانيِّ سيِّد األحابيش ،فلمّا رآه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال :إن هذا من قوم يتأهلَّون،
رجع إىل قريش قبل أن يصل إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وذلك إعظاماً ملا رأى ،2فقد كان الوادي جمدب ًا ال ماء فيه ،وال
مرعى ،وقد أكل اهلدى أوباره من طول احلبس عن مَحِلَّه ،ورأى املسلمني؛ وقد استقبلوه رافعني أصواهتم بالتَّلبية ،وهم يف زيِّ
اإلحرام وقد شعِثوا من طول املكوث على إحرامهم ولذلك استنكر تصرُّف قريش بشدَّة ،وانصرف سيِّد بين كنانة عائداً من
يب صلى اهلل عليه بشيءٍ ،أو أن يفاوضه ،كما كان مقرَّراً من قبل واعترب عمل قريش عدوانياً ضد
حيث أتى دون أن يفاتح الن َّ
زوَّار بيت اهلل احلرام ،وال جيوز ألحد أن يؤيدها ،أو أن يناصرها على ذلك.3
263
فرجع حمتج ًا على قريش اليت أعلنت غضبها لصراحة احلُليْس ،وحاولت أن تتاليف هذا املوقف الذي يهدّد بانقسام خطري يف
جبهة قريش العسكرية ،ونسف احللف املعقود بني قريش ،واألحابيش ،وقالوا لزعيم األحابيش :إنّما كل ما رأيت هو مكيدة
من حممد ،وأصحابه ،فاكفف عنَّا حتى نأخذ ألنفسنا ما نرضى به.1
لقد كان النيب صلى اهلل عليه وسلم عاملاً ومستوعباً لشخصية احلُليس ،ونفسيَّته ،ويظهر ذلك يف قوله صى اهلل عليه وسلم:
«هذا من قوم يتألَّهون» فالواضح من هذه املعلومة! أن النيب صلى اهلل عليه وسلم كان على معرفة تامة هبذا الرجل وحبكم هذه
املعرفة قد درس شخصيته دراسة موضوعية وذلك مبا كان عنده من حبٍّ شديد من التعظيم للحرمات واملقدسات والعمل
على االستفادة الكاملة من هذا اجلانب يف كسب املعرفة ،وعلى هذا األساس فقد قام صلى اهلل عليه وسلم بوضع خطة
حمكمة مناسبة تقضي بوضع احلقائق كاملة أمام هذا الرجل ،وإظهار موقف املسلمني ،أو على األقلِّ وقوفه على احلياد يف هذا
الصِّراع.
وهكذا استطاع صلى اهلل عليه وسلم أن يؤثر على عروة بن مسعود ،واحلُليس بن علقمة ممَّا جعل االنشقاق يدب يف صفوف
مشركي مكة.2
264
وكان من سفراء قريش يوم احلديبية مكرز بن حفص وقد روى البخاري ذلك فقال ..... :فقام رجل منهم ،يقال له :مكرز بن
حفص ،فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم« :هذا مكرز وهو رجل فاجر» ،فجعل يكلم النيب صلى اهلل عليه وسلم فبينما هو
يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو قال معمر :فأخرب ني وأيوب عن عكرمة :أنَّه ملا جاء سهيل بن عمرو ،قال النيب صلى اهلل عليه
هـ ـ مفاوضِة سهيل بن عمرو لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
ملَّا بلغ قريشاً أمر بيعة الرضوان ،وأدرك زعماؤها تصميم الرّسول صلى اهلل عليه وسلم على القتال ،أوفدوا سهيل بن عمرو يف
نفر من رجاهلم ملفاوضة النيب صلى اهلل عليه وسلم ،2وملّا رأى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سهيالً قال« :لقد أراد القوم
كان سهيل بن عمرو أحد زعماء قريش البارزين الذين كانوا يُعرفون باحلنكة السياسية والدَّهاء ،فهو خطيب ماهر ذو عقل
شرع الفريقان املتفاوضان يف حبث بنود الصُّلح ،وذلك بعد رجوع عثمان بن عفان رضي اهلل عنه وقد استعرض الفريقان النقاط
اليت جيب أن تتضمّنها معاهدة الصلح ،واستعرضا يف مباحثاهتما خمتلف القضايا اليت كانت تشكل مثار اخلالف بينهما ،هذا
265
وقد اتَّفق الفريقان من حيث املبدأ على بعض النقاط ،واختلفا على البعض اآلخر ،وقد طال البحث ،واجلدل ،واألخذ والرد
حول هذه البنود ،وبعد املراجعات واملفاوضات تقاربت وجهات النظر بني الفريقني :وعند الشروع يف وضع الصِّيغة النّهائية
للمعاهدة وكتابتها لتكون نافذة املفعول رمسياً ،حدث خالف بني الوفدين على بعض النقاط ،كاد أن يعثِّر سري هذه االتفاقية،
يبدأ املعاهدة بكلمة :بسم اهلل الرمحن الرحيم ،وهنا اعرتض رئيس الوفد القرشي سهيل بن عمرو قائالً :ال أعرف الرّمحن!
«اكتب :بامسك اللهم» ،فضجَّ الصَّحابة على هذا االعرتاض ،قائلني :هو الرمحن ،وال نكتب إال الرمحن ولكن النيب صلى اهلل
عليه وسلم متشياً مع سياسة احلكمة واملرونة ،واحللم ،قال للكاتب« :اكتب بامسك اللهم» 1واستمر يف إمالء صيغة املعاهدة
هذه ،فأمر الكاتب أن يكتب« :هذا ما اصطلح عليه رسول اهلل» ،وقبل أن يكمل اجلملة اعرتض رئيس الوفد القرشي على
كلمة "رسول اهلل" قائالً :لو أعلم أنك رسول اهلل ما خالفتك واتبعتك ،أفرتغب عن امسك واسم أبيك حممد بن عبد اهلل؟
واعرتض املسلمون على ذلك ،ولكن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حبكمته وتساحمه وبُعد نظره حسم اخلالف ،وأمر
الكاتب بأن يشطب كلمة رسول اهلل من الوثيقة ،فالتزم الصحابة الصَّمت واهلدوء.
266
إن النيب صلى اهلل عليه وسلم وافق املشركني على ترك كتابة "بسم اهلل الرمحن الرحيم" وكتابة "بامسك اللهم" بد ًال عنها ،وكذا
وافقهم على كتابة "حممد بن عبد اهلل" وترك كتابة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وكذا وافقهم على ردِّ من جاء منهم إىل
املسلمني دون من ذهب منهم إليهم ،وإمنا وافقهم يف هذه األمور للمصلحة املهمة احلاصلة بالصلح ،مع أنه ال مفسدة يف هذه
األمور ،أما البسملة ،و«بامسك اللهم» فمعناها واحد ،وكذا قوله «حممد بن عبد اهلل» هو أيض ًا رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،وليس يف ترك وصف النيب صلى اهلل عليه وسلم بالرّسالة ما ينافيها ،فال ضرر وال مفسدة فيما طلبوه ،وإمنا كانت
وأمّا شرط ر ِّد من جاء منهم ،وعدم ردِّ من ذهب إليهم ،فقد ب َّين النيب صلى اهلل عليه وسلم تعليل ذلك ،واحلكمة فيه يف هذا
احلديث بقوله« :من ذهب منا إليهم فأبعده اهلل ،ومن جاءنا منهم سيجعل اهلل له فرجاً ،وخمرجاً».
ومتّ عقد هذه املعاهدة وكانت صياغتها من عشرة بنود جاءت على الشكل التايل:
267
ــ على أنه من قدم مكة من أصحاب حممدَّ حاجاً ،أو معتمراً ،أو يبتغي من فضل اهلل؛ فهو آمن على دمه ومن قدم املدينة من
قريش جمتازاً إىل مصر ،أو إىل الشام ،يبتغي من فضل اهلل ،فهو آمن على دمه ،وماله.
ــ على أنه من أتى حممداً من قريش بغري إذن وليِّه؛ ردَّه عليهم ،ومن جاء قريشاً ممَّن مع حممد ،مل يردُّوه عليه.
ب أن يدخل يف عقد حممد ،وعهده دخله ومن أحب أن يدخل يف عقد قريش ،وعهدهم دخل فيه فتواثبت
ــ وأنه من أح َّ
خزاعة ،فقالوا :وحن يف عقد حممد وعهده ،وتواثبت بنو بكر ،فقالوا :وحن يف عقد قريش ،وعهدهم.
ــ وأنت ترجع عنَّا عامك هذا ،فال تدخل علينا مكة ،وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك ،فأقمت هبا
ــ وعلى أن هذا اهلدي وما جئتنا به ،فال تقدمه علينا.
ــ وشهد على الصُّلح رجال من املسلمني ،ورجال من املشركني فمن املسلمني :أبو بكر الصديق ،وعمر بن اخلطاب ،وعبد
الرمحن بن عوف ،وعبد اهلل بن سهيل بن عمرو ،وسعد بن أبي وقاص ،وحممد بن مسلمة ،وعلي بن أبي طالب كاتب املعاهدة
1أي يأمن بعضنا بعضاً على نفسه وماله فال يتعرض لماله وال لدمه.
268
ومن املشركني :مكرز بن حفص ،وسهيل بن عمرو.1
وتعد هذه املعاهدة أساساً للمعاهدات اإلسالمية وأمنوذجاً فريداً من املعاهدات الدولية مبا سبقها من مفاوضات ،وما حوته
من شروط ،وما متثل هبا خلق النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم يف النزول عند رضا الطرف اآلخر ،ويف كيفية الصِّياغة وااللتزام.
هذه املعاهدة سبقها مفاوضات من قبل املشركني واملسلمني ،وفشل بعض املسلمني يف الوصول إىل اتفاق ،ودارت مشاورات
شتى من اجلانبني قبل الوصول إليه ،حتى توصل الفريقان إىل اتفاق عن طريق ممثل املشركني "سهيل بن عمرو" ورسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم على مأل املسلمني 2عُقدت هذه املعاهدة يف الوقت الذي كان فيه املسلمون مبركز القوة ،ال الضعف ،وكان
باستطاعتهم ألَّا يقبلوا شروطها اليت اغتاظ منها كثري من الصحابة ،ولكن ما كان هلم أن خيرجوا عن طوع رسول اهلل صلى اهلل
ع ليه وسلم الذي ال ينطق عن اهلوى ،وقد متارى رسول قريش على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف مفاوضته ،وكان فرد ًا
بني جيش املسلمني ،فلم ينله أذى ،ومل يتمادَ عليه املسلمون بالقتل" ،ألن السفراء ال تقتل" ولكنّ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
يرضيه ،ويسعه باحللم واللني ،حتى يصل إىل الغاية اليت ينشدها اإلسالم وهي حقن الدماء ،وإحالل السَّالم ،ورجاء أن يعقل
269
القوم احلق ،وأن يراجعوا املواقف ،ويسمعوا كالم اهلل ،1وعندما نتأمل نصوص املعاهدة اليت متَّت يف احلديبية فإننا نأخذ منها
اآلتي:
ــ أن ديباجة املعاهدات اإلسالمية كانت تبدأ باسم اهلل ،أو بامسك اللهم ،والقانون الدويل يف صياغة املعاهدات يقول :تبدأ
والذي جيب أن نالحظه :أن املعاهدات يف اإلسالم تستند إىل اهلل تعاىل ،الذي تبدأ بامسه سبحانه ،حيث هو الرقيب
واحلسيب على ما يف النوايا وا لقلوب ،واسم اهلل مقدّس يف كلِّ قلب يؤمن به ،حتى أولئك الذين فسدت عقائدهم ،فإهنم ال
ينكرون اهلل ،ولكنهم أفسدوا تصورهم لذات اهلل ،وقد جرت أعراف بعض الذين يستهوون قلوب العامة بالشّعارات اجلوفاء أن
يقولوا بدل اسم اهلل ،باسم الشعب ،أو باسم األمة ،باعتبار قدسية ما يبدؤون به كما يزعمون ،ولكنَّ الذي يؤمن باهلل ال يعدل
ــ ذكر يف املعاهدة طرفا التعاقد بعد "الديباجة" كما يسميها القانون الدويل ،وهذا ما عليه القانون الدويل العام من أنه يذكر بعد
1المعاهدات في الشريعة اإلسالمية والقانون الدولي ،د.محمد الديك ،ص.269 ،268 :
270
ــ بواعث املعاهدة :فقد جاء يف بداية هذه املعاهدة ذكر الصُّلح ألجل وضع احلرب عن الناس عشر سنني يأمن فيهن الناس،
ــ الدخول يف صلب املعاهدة وشروطها ،حي ث ذكر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف هذه املعاهدة الشروط املتفق عليها بني
ــ يف معاهدة صلح احلديبية جواز ابتداء اإلمام "رئيس الدولة اإلسالمية" بطلب صلح العدو إذا رأى املصلحة للمسلمني فيه،
ــ أن مصاحلة املشركني ببعض ما فيه ضيم على املسلمني جائز للمصلحة الرّاجحة ،ودفع ما هو شر منه ،ففيه دفع أعلى
ــ أن صلح احلديبية مسّاه اهلل فتحاً ؛ ألن الفتح يف اللغة هو فتح املغلق ،والصلح الذي حصل مع املشركني باحلديبية كان مسدوداً
مغلقاً ففتحه اهلل ،والصلح كذلك يفتح القلوب املغلقة وحو الطرف اآلخر.
271
ــ لقد كانت الصورة الظاهرة من شروط احلديبية فيها ضيم للمسلمني ،وهي يف باطنها عز ،وفتح ،ونصر ،حيث كان رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ينظر إىل ما وراء املعاهدة من الفتح العظيم من وراء سرت دقيق ،وكان يعطي املشركني كل ما سألوه من
الشروط اليت مل حيتملها أكثر أصحابه ورؤوسهم ،وهو صلى اهلل عليه وسلم يعلم ما يف ضمن هذا املكروه من حمبوب.1
ــ إن املعاهدة قد تكون مفتوحة ملن حيب أن يدخل فيها من األطراف ،أو الدول األخرى وهذا ما عليه القانون الدويل ،حيث
أجاز أن تكون املعاهدة مفتوحة ملن حيب الدخول فيها من األطراف األخرى فقد دخلت خزاعة وكنانة يف الصلح الذي أهنى
حالة احلرب القائمة بني هاتني القبيلتني واليت امتدت سنوات عديدة.
ــ إن املعاهدة البد هلا من توقيع األطراف واإلشهاد عليها وتوقيع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وإشهاد الصحابة إمنا هو مبثابة
ــ إن املعاهدة جيوز أن يكون الوسيط فيها طرفاً حمايد ًا أو طرفاً يقرِّب بني وجهات النظر ،كوساطة سيد األحابيش "احلُليس بن
علقمة" حليف قريش األكرب ،حيث طلبت منه قريش أن يكون وسيطاً بينهم وبني املسلمني ،وكان احلليس ذا عقل راجح
وبصرية نافذة ،وكان سيدًا مطاعاً ،وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعرفه ويعرف فيه التألُّه الشديد ،والتعظيم للحرم
وعندما اختارته قريش كانت تطمع يف أن يكون ملركزه املمتاز بني العرب ،وملا يتمتع به من تقدير لدى النيب صلى اهلل عليه وسلم
272
تأثري على الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه ،1وهذا ما يقرُّه القانون الدويل؛ حيث إن املعاهدة قد تعقد بواسطة دولة
أخرى ليست طرفاً يف النزاع أو أحد املبعوثني الذين ال عالقة هلم ،أو لدولتهم بالنِّزاع القائم بني طريف التعاقد.
ــ إن املعاهدة تعدُّ نافذة املفعول مبجرَّد االتفاق على املعاهدة وشروطها ،حتى لو مل تكتب ،ولو مل يوقع عليها الطرفان ،وذلك كما
حدث ألبي جندل بن سهيل بن عمرو الذي ردّه الرّسول صلى اهلل عليه وسلم مبوجب قبوله عليه السالم بالبند اخلامس من
املعاهدة والذي يقول :على أنه من أتى حممداً من قريش بغري إذن وليه ردّه عليهم ،فمنذ أعلن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
التزامه هبذا الشرط أجراه ومل تكن املعاهدة قد كتبت بعد ومل يوقع عليها الطرفان.
ــ إن املعاهدة تكتب من نسختني ،وي أخذ كلُّ طرف نسخة طبق األصل من املعاهدة ،حيث إنه بعد أن متَّت إجراءات الصُّلح
النهائي يف احلديبية؛ أخذ كل من الفريقني نسخة من وثيقة الصلح التارخيية وانصرف الوفد القرشي راجعاً إىل مكة.2
إن من أبلغ دروس صلح احلديبية درس الوفاء بالعهد والتقيُّد مبا فرضه شرف الكلمة من الوفاء بااللتزامات اليت يقطعها املسلم
على نفسه ،وقد ضرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بنفسه أعلى مثل يف التاريخ القديم ،واحلديث الحرتام كلمة مل تكتب
واحرتام كلمة تكتب كذلك ،ويف اجلدِّ يف عهوده ،وجِّه للصراحة ،والواقعية ،وبغضه التحايل وااللتواء والكيد ،وذلك حينما
273
كان يفاوض "سهيل بن عمرو" يف احلديبية ،حيث جاءه ابن سهيل يرسف يف األغالل ،وقد ف ّر من مشركي مكة ،وكان أبوه
يتفاوض مع الرّسول صلى اهلل عليه وسلم وكان هذا االبن ممَّن آمنوا باإلسالم وجاء مستفرحاً باملسلمني ،وقد انغلق من أيدي
املشركني فلما رأى سهيل ابنه قام إليه وأخذه بتالبيبه وقال :لقد جلَّت القضية بيين وبينك ـ أي ـ فرغنا من املناقشة قبل أن يأتيك
هذا فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :صدقت» ،فقال أبو جندل :يا معشر املسلمني أُردُّ إىل املشركني يفتنونين يف ديين؟
فلم يغن عنه ذلك شيئ ًا وردّه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وقال ألبي جندل« :إنا قد عقدنا بيننا وبني القوم صلحاً،
وأعطيناهم على ذلك ،وأعطونا عهداً ،وإنا ال نغدر هبم» ،غري أن النيب صلى اهلل عليه وسلم إزاء هذه املأساة اليت حالت بنود
معاهدة الصُّلح بينه وبني أن جيد خمرجاً منها ألبي جندل املسلم ،طمأن أبا جندل وبشره بقرب الفرج له ،وملن على شاكلته من
املسلمني ،وقال له ـ وهو يواسيه ـ « :يا أبا جندل اصرب ،واحتسب ،فإن اهلل جاعل لك وملن معك من املستضعفني فرجاً
وخمرجاً».1
ويف هذه الكلمة النبوية املشرقة العظيمة داللة ليس فوقها داللة على مقدار حرص رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ومتسكه
بفضيلة الوفاء بالعهد مهما كانت نتائجه وعواقبه فيما يبدو للناس.2
274
لقد كان درس أبي جندل امتحاناً قاسي ًا ورهيب ًا هلذا الوفاء بالعهد ،أثبت فيه الرسول صلى اهلل واملسلمون جناحاً عظيما يف
كبت عواطفهم وحبس مشاعرهم وقد صربوا ملنظر أخيهم أبي جندل ،وتأثروا من ذلك املشهد عندما كان أبوه جيتذبه يف
تالبيبه ،والدماء تنزف منه مما زاد يف إيالمهم ،حتى إن الكثريين منهم أخذوا يبكون مبرارة إشفاقاً منهم على أخيهم يف العقيدة
وهم ينظرون إىل أبيه املشرك ،وهو يسحبه بفظاظة الوث ين اجللف ،ليعود به مرة أخرى إىل سجنه الرهيب يف مكة وقد صرب أبو
جندل واحتسب ملصابه يف سبيل دينه وعقيدته وحتقق فيه قوله تعاىل﴿ :وَمَن يَتَّقِ اهللَ َيجْعَل لَّهُ َمخْرَجًا * ويَرْزُقْهُ مِنْ حَ ْيثُ لَا
ب وَمَن يَ َتوَكَّلْ عَلَى اهللِ َفهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اهللَ بَالِغُ أَمْرهِ قَدْ جَعَلَ اهللُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ (الطالق ،آية 2 :ـ .)3
يَحْ َتسِ ُ
فلم مت َّر أقلُّ من سنة حتى متكن مع إخوته املسلمني املستضعفني مبكة من اإلفالت من سجون مكة ،وأصبحوا قوّة صار كفار
مكة ختشوهنا بعد أن انضموا إىل أبي بصري ،وسيطروا على طرق قوافل املشركني اآلتية من الشام.1
بعد االتفاق على معاهدة الصّلح ،وقبل تسجيل بنودها ظهرت بني املسلمني معارضة شديدة وقوية هلذه االتفاقية وخاصة يف
البندين اللذين يلتزم النيبُّ صلى اهلل عليه وسلم مبوجبهما بردِّ من جاءه من املسلمني الجئاً ،وال تلتزم قريش بردِّ من جاءها من
املسلمني مرتداً ،والبند الذي يقضي بأن يعود املسلمون من احلديبية إىل املدينة دون أن يدخلوا مكة ذلك العام ،وقد كان أشدّ
275
الناس معارضة هلذه االتفاقية وانتقاداً هلا عمر بن اخلطاب ،وأسيد بن حضري سيد األوس وسعد بن عبادة سيد اخلزرج .وقد
ذكر املؤرخون :أن عمر بن اخلطاب أتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مُعلناً معارضته هلذه االتفاقية وقال لرسول اهلل صلى
ت برسول اهلل؟ قال« :بلى!» قال :أولسنا باملسلمني؟ قال« :بلى» قال :أوليسوا باملشركني؟ قال:
اهلل عليه وسلم :ألس َ
«بلى» قال :فعالم نعطي الدنية يف ديننا؟ قال« :إني رسول اهلل ،ولست أعصيه» ،1ويف رواية« :أنا عبد اهلل ،ورسوله ،لن
أخالف أمره ،ولن يُصيِّعين» ،2قلت :أوليس كنت حتدِّثنا ان سنأتي البيت فنطوف به؟ قال« :بلى ،فأخربتك أن نأتيه العام؟»
قلت :ال .قال :فإنك آتيه ومطوِّف به .قال عمر :فأتيت أبا بكر ،فقلت له :يا أبا بكر أليس برسول اهلل؟ قال :بلى! قال:
أولسنا باملسلمني؟ قال :بلى ،فقال :أوليسوا باملشركني؟ قال :بلى! قلت :فعالم نُعطي الدَّنية يف ديننا؟ فقال أبو بكر ـ ناصح ًا
الفاروق بأن يرتك االحتجاج واملعارضة ـ :الزم غرزه ـ أي :أمره فأتي أشهد أنه رسول اهلل ،وأن احلق ما أمر به ،ولن خيالف أمر
وبعد حادثة أبي جندل املؤملة املؤثرة عاد الصحابة إىل جتديد املعارضة والصلح ،وذهبت جمموعة منهم إىل رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم بينهم عمر بن اخلطاب ملراجعته ،وإعالن معارضتهم ،إال أن النيبَّ صلى اهلل عليه وسلم مبا أعطاه اهلل من صرب،
276
وحكمة ،وحلم وقوة حجة استطاع أن يقنع املعارضني بوجاهة الصلح ،وأنه يف صاحل املسلمني ،وأنه نصر هلم ،وأن اهلل سيجعل
للمستضعفني من أمثال أبي جندل فرجاً وخمرجاً ،وقد حتقق ما أخرب به صلى اهلل عليه وسلم.
وهبذا يتبيَّن :أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم وضع قاعدة احرتام املعارضة النزيهة ،حيث قرَّر ذلك بقوله ،وفعله ،وهو ـ واهلل
أعلم ـ إمنا أراد هبذا الفعل إرشاد القادة من بعده إىل احرتام املعارضة النزيهة اليت تصدر من أتباعهم ،وذلك بتشجيع األتباع على
وهذا اهلدي النبوي الكريم بيّن :أن حرية الرأي مكفولة يف اجملتمع اإلسالمي ،وأنَّ للفرد يف اجملتمع املسلم احلرّية يف التعبري عن
رأيه ،ولو كان هذا الرّأي نقداً ملوقف حاكم من احلكّام ،أو خليفة من اخللفاء ،فمن حق الفرد املسلم أن يبني وجهة نظره يف ج ِّو من
األمن واألمان دون إرهاب ،أو تسلط خينق حرية الكلمة ،والفكر.
ونفهم من معارضة عمر لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :أن املعارضة لرئيس الدولة يف رأي من اآلراء ،وموقف من املواقف
277
لقد أيقن الصحابة الكرام أن الدّعوة قد دخلت يف طور جديد ،وفتح جديد ،وآفاق أوسع ،وامتداد أرحب ،وأن من طبيعة
هذا الدين أن ينمو وينتعش يف أجواء السِّلم واألمن ،أكثر منه يف وقت احلرب وملسوا مع األيام نتائج صلح احلديبية اليت كان من
أمهها:
ــ اعرتفت قريش يف هذه املعاهدة بكيان الدولة املسلمة فاملعاهدة دائماً ال تكون إال بني ندَّين وكان هلذا االعرتاف أثره يف نفوس
القبائل املتأثرة مبوقف قريش اجلحوديِّ حيث كانوا يرون :أهنا اإلمام والقدوة.
ــ دخلت املهابة يف قلوب املشركني ،واملنافقني ،وتيقَّن الكثري منهم بغلبة اإلسالم وقد جتلَّت بعض مظاهر ذلك من مبادرة كثري
من صن اديد قريش إىل اإلسالم ،مثل خالد بن الوليد ،وعمرو بن العاص ،كما جتلت يف مسارعة األعراب اجملاورين للمدينة إىل
االعتذار عن ختلفهم.
ــ أعطت اهلدنة فرصة لنشر اإلسالم ،وتعريف الناس به ،ممَّا أدى إىل دخول كثري من القبائل فيه ،يقول اإلمام الزُّهري :فما فتح يف
اإلسالم فتح قبله كان أعظم منه ،إمنا كان القتال حيث التقى الناس ،فلمّا كانت اهلدنة ،ووضعت احلرب ،وأمن الناس بعضهم
ب عضا والتقوا ،فتفاوضوا يف احلديث واملنازعة فلم يكلم أحد باإلسالم يعقل شيئ ًا إال دخل فيه ،ولقد دخل يف تينك السنتني مثل
278
وعقب عليه ابن هشام بقوله :والدليل على قول الزُّهري :أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خرج إىل احلديبية يف ألف وأربعمائة
يف قول جابر بن عبد اهلل ،ثم خرج يف عام الفتح بعد ذلك بسنتني يف عشرة آالف.1
ــ أمن املسلمون جانب قريش ،فجوَّلوا ثقلهم على اليهود ومن كان يناوئهم من القبائل األخرى ،فكانت غزوة خيرب بعد صلح
احلديبية.
ــ مفاوضات الصُّلح جعلت حلفاء قريش يفقهون موقف املسل مني ،ومييلون إليه ،فهذا احلليس بن علقمة عندما رأى املسلمني
يلبُّون؛ رجع إىل أصحابه قال :لقد رأيت قد قلت ،وأشعرت ،فما أرى أن يصدُّوا عن البيت.
ــ مكَّن صلح احلديبية النيب صلى اهلل عليه وسلم من جتهيز غزوة مؤتة ،فكانت خطوة جديدة لنقل الدعوة اإلسالمية بأسلوب
ــ ساعد صلح احلديبية النيبَّ صلى اهلل عليه وسلم على إرسال رسائل إىل ملوك الفرس ،والرُّوم ،والضبط يدعوهم إىل
اإلسالم.
279
ــ كان صلح احلديبية سبباً ومقدمة لفتح مكة ،يقول :ابن القيم :كانت اهلدنة مقدمة بني يدي الفتح األعظم الذي أعزَّ اهلل به
رسوله ،وجنده ،ودخل الناس به يف دين اهلل أفواجاً ،فكانت هذه اهلدنة باباً له ،ومفتاحاً ومؤذناً بني يديه ،وهذه سنة اهلل ـ
سبحانه ـ يف األمور العظام اليت يقضيها قدراً ،وشرعا أن يوطَّى هلا بني يديها مقدِّمات ،وتوطئات تؤذِن هبا ،وتدل عليها.1
فقد انساح هذا امل ُّد إىل أطراف اجلزيرة العرب ية ،بل جتاوزها إىل ما وراء حدود اجلزيرة العربية ،فمنذ أن عقد الرّسول صلى اهلل
عليه وسلم صلح احلديبية مع قريش ،وما تال ذلك من إخضاع يهود مشال احلجاز يف خيرب ،ووادي القرى ،وتيماء وفدك ،إىل
سيادة اإلسالم؛ فإن الرسول صلى اهلل عليه وسلم مل يألُ جهداً لنشر اإلسالم خارج حدود احلجاز ،وكذلك خارج حدود
اجلزيرة العربيَّة ،وقد عبَّر صلى اهلل عليه وسلم عن هذا املنهج قوالً وعم ًال من خالل إرساله عدد ًا من الرسل واملبعوثني إىل أمراء
أطراف اجلزيرة العربية ،وإىل ملوك العامل املعاصر خارج اجلزيرة العربية ويشري املنهج النبوي يف دعوة الزعماء وامللوك إىل ما جيُب
أن تكون عليه وسائل الدّعوة ،فإىل جانب دعوة األمراء ،والشعوب اختار الرّسول صلى اهلل عليه وسلم أسلوباً جديداً من
أساليب الدّعوة وهو مراسلة امللوك ورؤساء القبائل ،وكان ألسلوب إرسال الرّسائل إىل امللوك واألمراء أثر بارز يف دخول
280
بعضهم اإلسالم ،وإظهار الودّ من البعض اآلخر ،كما كشفت هذه الرسائل مواقف بعض امللوك واألمراء من الدّعوة اإلسالمية،
ودولتها يف املدينة ،وبذلك حققت هذه الرّسائل نتائج كثرية ،واستطاعت الدولة اإلسالمّية من خالل ردود الفعل املختلفة جتاه
الرّسائل أن تنتهج هنجاً سياسياً ،وعسكرياً واضحاً ومتميزاً وإليك أهم هذه الرسائل:
أ ـ فقد وردت رواية صحيحة ،تضمنت نص كتاب النيب صلى اهلل عليه وسلم الذي بعثه مع دحية الكليب إىل هرقل عظيم
الروم ،1وذلك يف مدة هدنة احلديبية وهو كما يلي :بسم اهلل الرمحن الرحيم ،من حممد بن عبد اهلل ورسوله إىل هرقل عظيم
الرّوم ،سالم على من اتبع اهلدى :أما بعد :فإني أدعوك بدعاية اإلسالم ،أسلم تسلم ،يؤتك اهلل أجرك مرتني ،فإن توليت فعليك
أَرْبَابًا مِّن دُونِ اهللِ َفإِن تَوَ َّلوْاْ فَقُولُو ْا اشْهَدُواْ بِأَنَّا ُمسْلِمُونَ﴾ (آل عمران ،آية.2)64 :
ولقد تسلَّم هرقل رسالة النَّيبِّ صلى اهلل عليه وسلم ودقَّق يف األمر كما يف احلديث الطويل املشهور بني أبي سفيان وهرقل املروي
يف الصَّحيحني حني سأله عن أحوال النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم وقال بعد ذلك ألبي سفيان :إن كان ما تقول حقاً ،فسيملك
281
موضع قدمي هاتني ،وقد كنت أعلم :أنه خارج ومل أكن أظنُّه منكم ،فلو أنِّي أعلم أنِّي أخلص إليه؛ لتجشمت لقاءه ولو كنت
ب ـ أرسل النيب صلى اهلل عليه وسلم بكتاب إىل كسرى ملك اإلمرباطورية الفارسية ،مع عبد اهلل بن حذافة السهميِّ" ،أمره أن
يدفعه إىل عظيم البحرين ، 2فدفعه عظيم البحرين إىل كسرى ،فلمَّا قرأه مزَّقه ،فدعا عليه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن
يُمزَّقوا كل ممزَّق.3
ونصُّ الرسالة كما أوردها الطربيُّ كالتايل :بسم اهلل الرمحن الرحيم ،من حممد رسول اهلل ،إىل كسرى عظيم فارس ،سالم على
من اتبع اهلُدى وآمن باهلل ،ورسوله ،وشهد أن ال إله إال اهلل ،وأني رسول اهلل إىل الناس كافة ،لينذر من كان حيًّا أسلم تسلم ،فإن
ج ـ أمّا كتاب النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم غلى النجاشي ملك احلبشة فقد أرسله مع عمرو بن أمية الضمريِّ وقد جاء يف
الكتاب « :بسم اهلل الرمحن الرحيم ،من حممد رسول اهلل ،إىل النجاشي ملك احلبشة ،أسلم أنت ،فإني أمحد إليك اهلل الذي ال
إله إال هو امللك ،القدوس ،السالم ،املؤمن ،املهيمن ،وأشهد أن عيسى ابن مريم روح اهلل وكلمته ألقاها إىل مريم البتول الطيبة
282
احلصينة ،فحملت به ،فخلقه من روحه ،ونفخه كما خلق آدم بيده ،وإني أدعوك إىل اهلل وحده ال شريك له ،واملواالة يف طاعته،
وأن تتبعين ،وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول اهلل ،وإني أدعوك ،وجنودك إىل اهلل ـ عز وجلَّ ـ وقد بلغت ،ونصحت ،فاقبلوا
د ـ أما كتاب النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم إىل املقوقس حاكم مصر ،2وكذلك ردُّ املقوقس إليه ،3فلم يثبت من طرق صحيحة وال
يعين ذلك نفي إرسال الكتاب إليه ،كما أن ذلك ال يعين الطعن بصحة النصوص من الناحية التارخيية ،فرمبا تكون صحيحة من
حيث الشكل واملضمون ،غري أهنا ال ميكن أن حيتج هبا يف السياسة الشرعية ،4فلقد أورد حممد بن سعد يف طبقاته :5أن النيب
صلى اهلل عليه وسلم بعث إىل املقوقس ،جُريج بن مينا ملك اإلسكندرية وعظيم القبط ،كتاباً مع حاطب بن أبي بلتعة
يب صلى اهلل عليه وسلم عدّة هدايا كان بينها مارية
اللخميِّ ،وأنه قال خرياً ،وقارب األمر ،غري أنه مل يسلم ،وأهدى إىل الن ِّ
القبطيّة وأنه ملا ورد جواب املقوقس إىل النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم قال« :ضنَّ اخلبيث مبُلكه ،والبقاء مللكه».6
283
هـ ـ وبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم شجاع بن وهب ،أخا بين أسد بن خزمية برسالة إىل املنذر بن احلارث بن أبي مشر
الغسَّاني صاحب دمشق ،1حني عودته واملسلمني من احلديبية ،وقد تضمَّن الرسالة قوله« :سالم على من اتَّبع اهلدى ،وآمن
به ،إنَّي أدعوك إىل أن تؤمن باهلل وحده ال شريك له ،يُبقي لك ملكك».2
و ـ وأرسل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سُلَيطَ بن عمرو العامريَّ بكتاب إىل هوذة بن عليِّ احلنفي ،3عند مقدمه من احلديبية
وقد اشرتط هوذة احلنفي على الرسول صلى اهلل عليه وسلم بعد قراءته رسالته إليه أن جيعل له بعض األمر معه ،فرفض النيبُّ
ز ـ وأرسل صلى اهلل عليه وسلم أبا العالء احلضرمي ،5بكتابه إىل املنذر بن ساوى العبديِّ ،أمري البحرين بعد انصرافه من
احلديبية ،ونقلت املصادر التارخيية :أن املنذر قد استجاب لكتاب النيب صلى اهلل عليه وسلم ،فأسلم ،وأسلم معه مجيع
العرب بالبحرين ،فأما أهل البالد من اليهود واجملوس فإنَّهم صاحلوا العالء واملنذر على اجلزية من كل حامل 6دينار :أي :على كل
بالغ دينار ونقل أبو عبيدة القاسم بن سالم نص كتاب النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل املنذر بن ساوى برواية عروة بن الزبري ،وجاء
فيه:
284
« سالم أنت ،فإني أمحد إليك اهلل الذي ال إله إال هو ،أمَّا بعد فإن من صلَّى صالتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا ،فذلك املسلم
الذي له ذمَّة اهلل ،وذمَّة الرّسول ،فمن أحبَّ ذلك من اجملوس ،فإنه آمن ،ومن أبى ،فإن اجلزية عليه».1
ويف ذي القعدة سنة ( 8هـ) بعث النيبُّ صلى اهلل عليه وسلم عمرو بن العاص بكتابه إىل جيفر وعدد ابين اجلُلُندي األزديَّني
بعمان.2
وقد جاء فيه« :من حممد النيب رسول اهلل لعباد اهلل األزديَّني ملوك عمان ،وأسد عمان ،ومن كان منهم بالبحرين ،إهنم إن آمنوا،
وأقاموا الصَّالة ،وآتوا الزكاة ،وأطاعوا اهلل ورسوله ،وأعطوا حق النّيبِّ صلى اهلل عليه وسلم ،ونسكوا نسك املؤمنني ،فإهنم
آمنون وأن هلم ما أسلموا عليه ،غري أنَّ بيت النار ثنيا هلل ورسوله وأن عشور التمر صدقة ،ونصف عشور احلبِّ وأن للمسلمني
نصرهم ،ونصحهم ،وأن هلم على املسلمني مثل ذلك وأن هلم أرجاءهم يطحنون هبا ما شاؤوا».3
وأوردت املصادر بعد ذلك عدداً كبرياً من املرويات عن رسائل أخرى مل تثبت من الناحية احلديثية.4
285
قام اللواء الرُّكن حممود شيت خطَّاب جبم ع الرّسائل ،وحتدَّث عن الرسل يف كتابه الفريد "سفراء النيب صلى اهلل عليه وسلم"
استنبط من خالهلا شروط ومواصفات رجل الدِّبلوماسية اإلسالمية ومن أهم تلك الشروط واملواصفات:
قال تعاىل﴿ :قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي َأدْعُو إِلَى اهللِ َعلَى بَصِريَةٍ أنَاْ وَ َمنِ اتَّبَ َعنِي وَسُبْحَانَ اهللِ َومَا أنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِنيَ﴾ (يوسف ،آية:
.)108وإذا كان املسلمون كلهم دعاة إىل اهلل تعاىل؛ فرُسُل النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل امللوك واألمراء يف زمانه هم صفوة
الدُّعاة.1
الفصاحة وجزالة اللفظ ،والدِّ قَّة يف توصيل املعاني إىل السامعني شرط أساسي يف الرّجل الذي يتصدى للمهمة الدبلوماسية،
وقد طلب موسى تدعيمه مبوقف الفصاحة من هارون أخيه ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّ ْن أَ ْهلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُ ْد بِ ِه
1سفراء الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،محمود شيت (.)258 /2
286
ــ وقد ا ختار الرّسول صلى اهلل عليه وسلم كلَّ سفرائه ومبعوثيه من العرب الذين تربَّوا يف اجلزيرة العربية مع البدو أحياناً فقد كانوا
أصحاب نقاوة ،مل تتكدر باختالط األعجام بعد ،فقد كانوا على قدر كبري من الفصاحة والوضوح.
أخالق السفري النبوي هو أخالق اإلسالم اليت بينها اهلل ـ سبحانه وتعاىل ـ يف القرآن الكريم ،وفصَّلها رسول اهلل صلى اهلل عليه
ــ العلم:
ال يزيد هنا أن نبني منزلة العلم ،ألن الكالم على هذه املسألة طويل ،ولكننا نؤكد هنا :أن العلم بالشيء هو وسيلة نقل الفكرة
واملبدأ ،لذا عندما ننظر إىل جعفر بن أبي طالب رضي اهلل عنه وهو حياور النجاشي ،ثم يقرأ عليه سورة ﴿كهيعص﴾ نتيقَّن
من دقة االختيار النبوي ،ونصاعة خطاب العامل ودقة اختياره لأللفاظ والعبارات.2
ــ الصَّرب:
قال تعاىل﴿ :فَاصْبِ ْر كَمَا صَبَ َر ُأوْلُوا الْعَ ْزمِ مِ َن الرُّسُلِ وَلَا َتسْتَ ْعجِل لَّهُ ْم كَأَنَّهُمْ يَوْ َم يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ
287
واحلقيقة :أن الصرب هو عدّة الدّاعية ،وزاده املستمر ،ولو تصفحت سرية الرسول صلى اهلل عليه وسلم وسرية صحابته
األجالّء ،لوجدهتا حافلة بالصرب على الدعوة ،وموقف الطائف شاهد على ذلك.
ــ الشجاعة:
وقد حتدّث التاريخ اإلسالمي عن شجاعة السفراء ،والذين أرسلهم الرّسول صلى اهلل عليه وسلم إىل امللوك وأهنم كانوا ال
ــ احلكمة:
وقد كان سفراء الرّسول صلى اهلل عليه وسلم يتصفون باحلكمة فهذا عمرو بن العاص كان مسدداً يف أقواله ،وأفعاله ،قيل
لعمرو :ما العاقل؟ ،قال :اإلصابة بالظن :ومعرفة ما يكون مبا قد كان ،ليس العاقل الذي يعرف اخلري من الشَّرِّ ،إمنا العاقل الذي
288
جيب أن يكون السَّفري مدركاً ألبعاد املناورة السياسيَّة ،متأنياً كتوماً ،وسعة احليلة اليت ترتكز أو ال ،وقبل كل شيء على الذكاء
من أهم مسات السَّفري ،وقد كان سفراء الرسول صلى اهلل عليه وسلم يتصفون بالذكاء ،والدهاء ،وتوقع األحداث ،واحلساب
ــ املظهر:
متيَّ ز سفراء النيب صلى اهلل عليه وسلم باملظهر احلسن مع نقاء املخرب ،وقد حرص النيب صلى اهلل عليه وسلم على اختيار
سفرائه من بني أصحابه الذين تتوافر فيهم صفات شكلية مجيلة إىل جانب مساهتم العقليَّة والنفسيّة سالفة 1الذكر ،هذه أهم
الصِّفات اليت استخلصها اللواء الركن حممود شيت خطاب من خالل دراسته القيِّمة لسفراء النيبّ صلى اهلل عليه وسلم واليت
في رسائل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم للملوك فوارق دقيقة مؤسسة على حكمة الدعوة،
روعي فيها ما يمتاز به هؤالء الملوك في العقائد التي يدينون بها ،و(الخلفيات) التي يمتازون
بها ،فلما كان هرقل ،والمقوقس يدينان بألوهية المسيح كلياً ،أو جزئياً ،وكونه ابن اهلل ،جاءت
في الكتابين اللذين وُجِّها إليهما كلمة (عبد اهلل) مع اسم النبي صلى اهلل عليه وسلم صاحب
هاتين الرسالتين ،فيبتدئ الكتابان التسمية بقوله :محمد عبد اهلل ورسوله إلى هرقل عظيم الرُّوم
289
وبقوله :من محمد بن عبد اهلل ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط بخالف ما جاء في كتابه صلى
اهلل عليه وسلم إلى كسرى أبرويز ،فاكتفى بقوله :من محمد رسول اهلل إلى كسرى عظيم الفرس
ال وجاءت كذلك آية﴿ :قُل يَا أَهلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلَمَة سَوَاء بَي َننَا وَبَي َنكُم أ َّ
َال نَعبُ َد إِالَّ اهللَ وَ َ
(آل عمران ،آية .)64 :في هذين الكتابين ،وما جاءت في كتابه إلى كسرى أبرويز ألن اآلية
تخاطب أهل الكتاب ،الذين دانوا بألوهيته المسيح ،واتخذوا أحبارهم ،ورهبانهم أرباباً من دون
اهلل ،والمسيح ابن مريم ،وقد كان هرقل إمبراطور الدولة البيزنطية ،والمقوقس حاكم مصر
ق ائدين سياسيين وزعيمين دينيين كبيرين للعالم المسيحي ،مع اختالف يسير في االعتقاد في
المسيح :هل له طبيعة أو طبيعتان1؟
ولما كان كسرى أبرويز وقومه يعبدون الشمس والنار يدينون بوجود إلهين :أحدهما يمثل
الخير ،وهو :يزدان ،والثاني يمثل الشر وهو :أمر إهرمن ،وكانوا بعيدين عن مفهوم النُّبوة
والتصور الصحيح للرسالة السماوية ،جاءت في الكتاب الذي وجه إلى اإلمبراطور اإليراني
عبارة« :2وأني رسول اهلل إلى الناس كافة لينذر من كان حياً».
وقد كان تلقَّى الملوك لهذه الرسائل يختلف :فأمَّا هرقل ،والنجاشي ،والمقوقس ،فتأدبوا ،وتلطفوا
ف ي جوابهم ،وأكرم النجاشيُّ ،والمقوقس رُسُل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وأرسل
المقوقس هدايا ،منها جاريتان كانت إحداهما مارية أمُّ إبراهيم ((ابن رسول اهلل)) ،وأمَّا كسرى
أبرويز :فلما قُرئ عليه الكتاب مزَّقه ،وقال :يكتب إليَّ هذا ،وهو عبدي؟ فبلغ ذلك رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم فقال :مزَّق اهلل ملكه.3
290
وأمر كسرى باذان ـ وهو حاكمه على اليمن ـ بإحضاره فأرسل بابويه يقول له :إن ملك الملوك
قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك ،وقد بعثني إليك لتنطلق معي،
فأخبره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بأن اهلل سلط على كسرى ابنه شرويه ،فقتله.1
وقد تحقق ما أنبأ به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بكل دقة ،فقد استولى على عرشه ابنه
(قباذ) الملقب بـ(شرويه) ،وقتل كسرى ذليالً مهاناً بإيعاز منه سنة (628م).
وقد تمزق بعد وفاته وأصبح لعبة في أيدي أبناء األسرة الحاكمة ،فلم يعش (شرويه) إال ستة
أشهر ،وتوالى على عرشه في مدة أربع سنوات عشرة ملوك واضطرب حبل الدولة إلى أن
اجتمع الناس على ((يزدجرد)) وهو آخر ملوك بني ساسان وهو الذي واجه الزَّحف اإلسالمي،
الذي أدَّى إلى انقراض الدولة الساسانية ،التي داست ،وازدهرت أكثر من أربعة قرون انقراضاً
كلياً ،وكان ذلك في سنة (637م) ،وهكذا تحققت هذه النبوة في ظرف ثماني سنين.2
يالحظ الباحث :أن الوصف العام لكتب الرسول صلى اهلل عليه وسلم إلى الملوك واألمراء يكاد
يكون واحداً ،ويمكننا أن نستخرج منها األمور التالية:
ــ نالحظ أن جميع كتب الرسول صلى اهلل عليه وسلم التي أرسلها إلى الملوك والرُؤساء
يفتتحها صلى اهلل عليه وسلم بالبسملة ،والبسملة آية من كتاب اهلل ـ تبارك وتعالى وفي
تصدير الكتاب بها أمور مهمة ،كاستحباب بدء الكتب ((بسم اهلل الرحمن الرحيم)) اقتداء
برسولنا محمد صلى اهلل عليه وسلم ،فقد واظب عليها في كتبه صلى اهلل عليه وسلم،
كما أن فيها جواز كتابة آية من القرآن الكريم في كتاب وإن كان هذا الكتاب موجهاً إلى
الكافرين ،وفيها جواز قراءة الكافر آلية ،أو أكثر من القرآن الكريم ،ألن هذا الكافر
291
الذي أرسلت إليه الرس الة وتضمنت البسملة وغيرها ال يحترز من الجنابة والنجاسة،
فيقرأ الرسالة التي اشتملت على آيات من القرآن الكريم ،وهو جنب.
ــ وتستنبط من رسائل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى الملوك واألمراء اآلتي:
ــ مشروعية إرسال سفراء المسلمين إلى زعماء الكفر ،ألن كل كتاب كان يكتبه الرسول
صلى اهلل عليه وسلم يكلِّف رجالً من المسلمين يحمله إلى المرسل.
ــ ينبغي أن يكتب في الكتاب اسم المُرسِل ،والمُرسَل إليه ،وموضوع الكتاب ،وهو واحد في
جميع الكتب ،ويتلخص في دعوتهم إلى اإلسالم.
ــ عدم بدء الكافر بتحية اإلسالم ،وهي (السالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته) ،ذلك ألن النبي
صلى اهلل عليه وسلم لم يطرح السالم في كتبه على ملك من ملوك الكفر ،بل كان يصدِّر
كتبه بقوله« :السالم على من اتبع الهدى» ،أي :آمن باإلسالم ،ويؤخذ من هذا عدم جواز
مخاطبة الكافر بتحية اإلسالم.
ــ ا تخاذ الخاتم :فقد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يختم رسائله بعد كتابتها بخاتمه،
وقد كتب عليه ثالث كلمات محمد رسول اهلل.1
فعن أن س رضي اهلل عنه قال :لمَّا أراد النبيُّ أن يكتب إلى الرُّوم ،قيل له :إنهم ال يقرؤون كتاباً
إال أن يكون مختوم اً ،فاتخذ خاتماً من فضة ،فكأني أنظر إلى بياضه في يده ،ونقش فيه محمد
رسول اهلل.2
1أخرجه البخاري ،الحديث رقم ،65 :وأخرجه مسلم ،الحديث رقم.2092 :
2أخرجه البخاري ،الحديث رقم.2938 :
292
لمَّا أسلم باذان بن ساسان وكان أميراً على اليمن لم يعزله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،بل
أبقاه أميراً عليها بعد إسالمه ،حين رأى فيه اإلداري الناجح ،والحاكم المناسب مما يدلُّ على أن
الرسول صلى اهلل عليه وسلم يقدر الكفاءات في الرجال ،ويضع الرجل المناسب في المكان
المناسب ،ومن الجدير بالذكر :أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم قد ولى ولده أي ولد باذان
شهراً أميراً على اليمن بعد موت أبيه.1
ـ جواز أخذ الجزية من المجوس :وهذا الحكم استخرج من كتاب النبي صلى اهلل عليه وسلم
الذي أرسله إلى المنذر بن ساوي يحدد فيه الموقف من اليهود والمجوس ،إذ ورد فيه« :من
أقام على يهوديته أو مجوسيته ،فعليه الجزية».2
وقد ذهب ابن القيم مع طائفة من العلماء إلى جواز أخذ الجزية من كل إنسان يبذلها ،سواء كان
كتابياً أم غير كتابي ،كعبدة األوثان من العرب وغيرهم ،فقد جاء في زاد المعاد :وقد قالت
طائفة في األمم كلها إذا بذلوا الجزية ،قبلت منهم أهل الكتابين بالقرآن والمجوس بالسنة ،ومن
عداهم ملحق بهم ،ألن المجوس أهل شرك ال كتاب لهم ،فأخذها منهم دليل على أخذها من
جميع المشركين ،وإنما لم يأخذها صلى اهلل عليه وسلم من عبدة األوثان من العرب ،ألنهم
أسلموا قبل نزول آية الجزية ،فإنها نزلت بعد تبوك.3
لقد أرسل المقوقس عظيم القبط حاكم مصر ـ وهو كافر ـ مع سفير رسول اهلل حاطب بن أبي
بلتعة هدية تشتمل على جاريتين وكسوة للرسول صلى اهلل عليه وسلم وبغلة يركبها ،فقبلها
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وإحدى الجاريتين ماريا القبطية.4
293
ال
أظهر الرسول صلى اهلل عليه وسلم في سياسته الخارجية دراية فاقت التصور ،وأصبحت مثا ً
لمن جاء بعده من الخلفاء ،كما أظهر صلى اهلل عليه وسلم قوة وشجاعة فائقتين فلو كان غير
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،يخشى عاقبة ذلك األمر ،السيما وأن بعض هذه الكتب قد
أرسلت إلى ملوك أقوياء على تخوم بالده كهرقل وكسرى والمقوقس ،ولكن حرص رسول اهلل
صلى اهلل عليه وس لم وعزيمته على إبالغ دعوة اهلل ،وإيمانه المطلق بتأييد اهلل سبحانه وتعالى،
كل ذلك دفعه ألن يقدم على ما أقدم عليه ،وقد حققت هذه السياسة النتائج اآلتية:
*ـ وطاد الرسول صلى اهلل عليه وسلم بهذه السياسة أسلوباً جديداً في التعامل الدولي لم تكن
تعرفه البشرية من قبل.
*ـ أصبحت الدولة اإلسالمية لها مكانتها وقوتها وفرضت وجودها على الخريطة الدولية لذلك
الزمان.
*ـ كشفت للرسول صلى اهلل عليه وسلم نوايا الملوك واألمراء وسياستهم نحوه وحكمهم على
دعوته.
*ـ كانت مكاتبة الملوك خارج جزيرة العرب تعبيراً عملياً على عالمية الدعوة اإلسالمية ،تلك
العالمية التي أوضحتها آيات نزلت في العهد المكي ،مثل قوله تعالىَ ﴿ :ومَا أَرسَلنَاكَ إِالَّ رَحمَ ًة
وهكذا فإن رسائل النبي صلى اهلل عليه وسلم إلى أمراء العرب والملوك المجاورين لبالده تعد
نقطة تحول في سياسة دولة الرسول الخارجية ،فعظم شأنها وأصبحت لها مكانة دينية وسياسة
بين الدول ،وذلك قبل فتح مكة ،كما أن هذه السياسة مهدت لتوحيد الرسول صلى اهلل عليه
وسلم لسائر أنحاء بالد العرب في عام الوفود.1
294
ـ من سفراء الرسول صلى اهلل عليه وسلم "جعفر بن أبي طالب" رضي اهلل عنه:
عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى اهلل عليه وسلم ،قالت :لما نزلنا أرض
الحبشة ،جاورنا بها خير جار "النجاشي" أمناا على ديننا وعبدنا اهلل تعالى ،ال نُؤذي وال نسمع
شيئاً نكرهه ،فلما بلغ ذلك قريشاً ،ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جَلدين.1
وأن يُهدوا للنجاشي هدايا مماا يستطرف من متاع مكة وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه
األدم ،2فجمعوا له أدماً كثيراً ،ولم يتركوا من بطارقته 3بطريقاً إال أهدوا له هدية ،ثم بعثوا
بذلك عبد اهلل بن أبي ربيعة ابن المغيرة المخزومي ،وعمرو بن العاص بن وائل السهمي،
وأمروهما بأمرهم ،وقالوا لهما :ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم ،ثم
قدما للنجاشي هداياه ثم ساله أن يُسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم ،قالت :فخرجا ،فقدما على
النجاشي ونحن عنده بخير دار ،وخير جار ،فلم يبق من بطارقته بطريق إال دفعا إليه هديته
قبل أن يكلما النجاشي ،ثم قاال لكل بطريق منهم :إنه صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء
فارقوا دين قومهم ،ولم يدخلوا في دينكم ،وجاؤوا بدين مبتدع ال نعرفه نحن وال أنتم ،وقد بعثنا
إلى الملك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم لتردوهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم،
فأشيروا عليه بأن يُسلمهم إلينا وال يكلمهم ،فإن قومهم أعلى بهم عيناً ،وأعلم بما عابوا عليهم،
فقالوا لهما :نعم .ثم إنهما قرابا هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما ،ثم كلماه ،فقاال له :أيها الملك
إنه قد صبأ إلى بلدك منه غلمان سفهاء ،فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ،وجاؤوا بدين
مبتدع ال نعرفه نحن وال أنت ،وقد بعثنا فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم،
لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
قالت :ولم يكن شيء أبغض إلى عبد اهلل بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص ،من أن يسمع
النجاشي كالمهم ،فقالت بطارقته حوله :صدقا أيها الملك ،قومهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما
295
عابوا عليهم ،فأسلمهم إليهما ،فليردانهم إلى بالدهم وقومهم ،قالت :فغضب النجاشي ،ثم قال :ال
هَي ُم 1اهلل إذا ال أسلمهم إليهما وال أكاد قوماً جاوروني ونزلوا بالدي واختاروني على من
سواي ،حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم؟ فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما،
ورددتهم إلى قومهم ،وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.2
ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فدعاهم ،فلما جاءهم رسوله
واجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض :ما تقولون للرجل ،إذا جئتموني؟ قالوا :نقول واهلل ما علمنا،
وما أمرنا به نبينا صلى اهلل عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن فلما جاؤوه وقد دعا النجاشي
أساقفته ،3فنشروا مصاحفهم ،4حوله سألهم ،فقال :ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ،ولم
تدخلوا ديني وال دين أحد من هذه األمم؟ قالت :فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضي اهلل
عنه ،فقال له :أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية ،نعبد األصنام ونأكل الميتة ،ونأتي الفواحش،
ونقطع األرحام ونُسيء الجوار ،ويأكل القوي منا الضعيف ،فكنا على ذلك حتى بعث اهلل إلينا
رسوالً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ،فدعانا إلى اهلل لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد
نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة واألوثان ،وأمرنا بصدق الحديث ،وأداء األمانة ،وصلة
الرحم ،وحسن الجوار ،والكفا عن المحارم والدماء ،ونهانا عن الفواحش ،وقول الزور ،وأكل
مال اليتيم ،وقذف المحصنات ،وأمرنا أن نعبد اهلل وحده ال نشرك به شيئاً ،وأمرنا بالصالة
والزكاة والصيام .قالت :فعدد عليه أمور اإلسالم ،فصدقناه ،وآمنا به ،واتبعناه على ما جاء به،
فعبدنا اهلل وحده ،فلم نشرك به شيئاً ،وحرمنا ما حرام علينا ،وأحللنا ما أحل لنا ،فعدا علينا قومنا
فعذبونا ،وفتنونا عن ديننا ،ليردونا إلى عبادة األوثان من عبادة اهلل ،وأن نستحل ما كنا نستحل
296
من الخبائث ،فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا ،وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك،
واخترناك على من سواك ،ورغبنا في جوارك ورجونا أال نُظلم عندك أيها الملك.1
قالت :فقال له النجاشي :هل معك مما جاء به عن اهلل من شيء؟ قال له جعفر :نعم ،فقال له
النجاشي :فاقرأه عليا .فقرأ عليه صدراً من ﴿كهيعص﴾ قالت :فبكى واهلل النجاشي حتى
أخضل ،2لحيته وبكت أساقفته ،حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تال عليهم .ثم قال
النجاشي :إن هذا واهلل ،والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا ،فواهلل ال أسلمهم
إليكما أبداً وال يُكادون ،3قالت :فلما خرج كل من :عمرو بن العاص ،وعبد اهلل بن أبي ربيعة،
من عند النجاشي قال عمرو بن العاص :واهلل آلتينه غدًا عنهم بما استأصل به خضراءهم،4
قالت :فقال له عبد اهلل بن ربيعة ـ وكان أتقى الرجلين فينا ـ ال تفعل فإن لهم أرحاماً وإن كانوا
قد خالفونا.
قال :واهلل ألخبرنه أنهم يزعمون :أن عيسى ابن مريم عبد ،قالت :ثم غدا عليه من الغد ،فقال
له :أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قوالً عظيماً ،فأرسل إليهم فاسألهم عماا يقولون
فيه ،قالت :فأ رسل إليهم يسألهم عنه ،قالت :ولم ينزل بنا مثلها قط ،فاجتمع القوم ،فقال بعضهم
لبعض :ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ ،قالوا :نقول ـ واهلل ـ فيه ما قاله اهلل ،ما جاء به
نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن ،فلما دخلوا عليه ،قال لهم :ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال
له جعفر بن أبي طالب :نقول فيه الذي جاء به نبينا ،هو عبد اهلل ورسوله وروحه وكلمته ألقاها
إلى مريم العذراء 5البتول.6
297
قالت :فضرب النجاشي يده إلى األرض ،فأخذ منها عوداً ثم قال :ماعدا عيسى ابن مريم ما
قلت هذا العود فتناخرت 1بطارقته حوله حين قال ما قال :فقال :وإن نخرتم واهلل أذهبوا فأنتم
شُيومُ بأرضي "والشيوم اآلمنون" من سباكم غرم ،ثم من سباكم غرم ،فما أحبُّ أن لي دَبَراً
ال منكم ،والدَّبر بلسان الحبشة الجعل،ردُّوا عليهما هداياهما ،فال حاجة لنا
ذهباً ،وأني آذيت رج ً
بها ،فواهلل ،ما أخذ اهلل مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي ،فآخذ الرشوة فيه ،وما أطاع الناس فيَّ،
فأطيعهم فيه ،قالت :فخرجا من عنده مقبوحين ،مردوداً عليهما ما جاء به ،وأقمنا عنده بخير
دار مع خير جار.2
وقد أسلم النجاشي ،وصدق بنبوُّة النبي صلى اهلل عليه وسلم ،وإن كان قد أخفى إيمانه عن
قومه ،لما علمه فيهم من الثبات على الباطل وحرصهم على الضَّالل ،وجمودهم على العقائد
المنحرفة ـ وإن صادمت العقل والنقل ،فعن أبي هريرة رضي اهلل عنه :أن رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه ،وخرج إليهم إلى المصلَّى ،فصفَّ بهم ،وكبَّر
عليه أربع تكبيرات ،3وعن جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنه قال :قال النبي صلى اهلل عليه
وسلم حين مات النجاشي« :مات اليوم رجل صالح فقوموا فصلَّوا على أخيكم أصحمة،4
وكانت وفاته ـ رحمه اهلل ـ سنة تسع عند األكثر ،وقيل سنة ثمان قبل فتح مكة».5
ــ كانت األهداف من هجرة الحبشة متعددة ،ولذلك حرص النبي صلى اهلل عليه وسلم على
اختيار نوعيات معينة لتحقيق هذه األهداف ،كشرح حقيقة اإلسالم ،وموقف قريش منه،
وإقناع الرأي العام بعدالة قضية المسلمين عى نحو ما تفعله الدول الحديثة من تحرك
298
سياسي ،يشرح قضاياها وكسب الرأي العام إلى جوارها ،1وفتح أرض جديدة للدعوة،
فلذلك هاجر سادات الصحابة في بداية األمر ،ثم لحق بهم أكثر الصَّحب وأوكل األمر إلى
جعفر رضي اهلل عنه.2
ــ إن اختيار الرسول صلى اهلل عليه وسلم الهجرة إلى الحبشة يشير إلى نقطة استراتيجية
مهمة ،تمثلت في معرفة الرسول صلى اهلل عليه وسلم بما حوله من الدول والممالك ،فقد
كان يعلم طيِّبها من خبيثها ،وعادلها من ظلمها ،األمر الذي ساعد على اختيار دار آمنة
لهجرة أصحابه ،وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال القائد الناجح ،الذي ال بد أن يكون ملماً
بما يجري حوله ،مطلعاً على أحوال وأوضاع األمم والدول والحكومات.3
ــ كان وعي القيادة النبوية على مستوى األحداث ،ولذلك وُضع جعفر بن أبي طالب على
إمارة المسلمين في الهجرة ،وتمَّ اختياره من قبل المسلمين المهاجرين ،ليتحدَّث باسمهم بين
يدي الملك ،وليتمكن من مواجهة داهية العرب عمرو بن العاص ،وقد امتازت شخصية
جعفر بعدة أمور ،جعلته ي تقدم لسد هذه الثغرة العظيمة ،منها :أنَّ جعفر بن أبي طالب من
ألصق الناس برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقد عاش معه في بيت واحد ،فهو أخبر
الناس بقائد الدعوة وسيد األمة من بين كل المهاجرين إلى الحبشة.
وهذا الموقف بين يدي النجاشي يحتاج إلى بالغة ،وفصاحة ،وبنو هاشم قمة قريش نسباً
وفضالً ،وجعفر في الداؤابة 4من بني هاشم ،واهلل تعالى قد اختار هاشماً من كنانة واختار
نبيه من هاشم ،فهو أفصح الناس لساناً وأوسطهم نسباً ،وهو ابن عم رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ،وهذا يجعل النجاشي أكثر اطمئناناً ،وثقة بما يعرض عن ابن عمه.5
299
خلق جعفر المقتبس من مشكاة النبوة وجمال خلقه المنحدر من أصالب بني هاشم ،فقد قال
ُ
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لجعفر« :أشبهت خلقي وخلقي » ،1فالسفير بين يدي
النجاشي كان قدوة لسفراء المسلمين على مر الزمان ،وكرَّ العصور ،فقد اتصف بسمات
السفراء المسلمين ،كاإلسالم وانتماء إليه ،والفصاحة والعلم ،وحسن الخلق ،والصبر
والشجاعة والحكمة ،وسعة الحيلة ،والمظهر الجذاب.2
ــ كان رد جعفر على أسئلة النجاشي في غاية وقمة المهارة السياسية واإلعالمية والدعوة
والعقدية ،فقد قام بالتالي:
ــ عدَّد عيوب الجاهلية وعرضها بصورة تنفر السامع ،وقصد بذلك تشويه صورة قريش
في عين الملك ،وركَّز على الصفات الذميمة التي ال تنتزع إال بنبوة.
ــ عرض شخصية الرسول صلى اهلل عليه وسلم في هذا المجتمع اآلسن 3المليء بالرذائل،
وكيف كان بعيد اً عن النقائص كلها ،ومعروفاً بنسبه وصدقه وأمانته وعفافه فهو المؤهل
للرسالة.
ــ أبرز جعر محاسن اإلسالم وأخالقه ،التي تتفق مع أخالقيات دعوات األنبياء ،كنبذ عبادة
األوثان ،وصدق الحديث ،وأداء األمانة ،وصلة الرحم ،وحسن الجوار ،والكف عن المحارم
والدماء ،وإقامة الصالة ،وإيتاء الزكاة ،وكون النجاشي وبطارقته موغلين في النصرانية
فهم يدركون أن هذه رساالت األنبياء التي بعثوا بها من لدن موسى وعيسى عليهما الصالة
والسالم.
ــ فضح ما فعلته قريش بهم ،ألنهم رفضوا عبادة األوثان وآمنوا بما نزل على محمد صلى
اهلل عليه وسلم وتخلقه بخلقه.
300
ــ أحسن الثناء على النجاشي بما هو أهله بأنه ال يظلم عنده أحد ،وأنه يقيم العدل في قومه.
ــ وأوضح أنهم اختاروه كهفاً من دون الناس ،فراراً من ظلم هؤالء الذين يريدون تعذيبهم،
وبهذه الخطوات البينة الواضحة دحر بالغة عمر وفصاحته واستأثر بلبِّ النجاشي وعقله،
وكذلك استأثر بلبِّ وعقل البطارقة والقسيسين الحاضرين.
وعندما طلب النجاشي شيئاً مماا نَزل على محمد صلى اهلل عليه وسلم ،جاء صدر سورة
مريم في غاية اإلحكام والروعة والتأثير ،حتى بكى النجاشي وأساقفته وبلَّلوا لحاهم
ومصاحفهم بالدموع ،واختيار جعفر لسورة مريم يظهر بوضوح حكمة وذكاء مندوب
المهاجرين ،فسورة مريم تتحدث عن مريم وعيسى عليهما السالم.1
إن عبقرية جعفر رضي اهلل عنه في حسن اختيار الموضوع ،والزمن المناسب ،والقلب
المتفتح والشحنة العاطفية أدت إلى أن يربح الملك إلى جانبه.2
كان رداه في قضية عيسى عليه السالم دليالً على الحكمة والذكاء النادر ،فقد ردا بأنهم ال
يُؤلهون عيسى ابن مريم ،ولكنهم كذلك ال يخوضون في عرض مريم عليها السالم ،كما
يخوض الكاذبون ،بل عيسى ابن مريم كلمة اهلل وروحه ألقاها إلى مريم البتول العذراء
الطاهرة ،وليس عند النجاشي زيادة عما قال جعفر ،وال مقدار هذا العود ،3هم ال يسجدون
للنجاشي ،فهم معاذ اهلل أن يعدلوا باهلل شيئاً ،وال ينبغي السجود إال هلل ،لكنهم ال يستخفون
بالملك بل يوقرونه ،ويسلمون عليه كما يسلمون على نبيهم ويحيونه بما يُحايي أهل الجنة
أنفسهم به في الجنة.4
انتهى األمر بأن أعلن النجاشي صدق القوم ،وأيقن بأن هؤالء صدايقون ،وعزم على أن
يكون في خدمة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الذي يأتيه ناموس كناموس موسى ،وأن
301
يتقراب إلى اهلل بحماية أصحابه وأكاد لعمرو أنه ال يضيره تجارة قريش وال مال قريش وال
جاهها ،ولو قطعت عالقتها معه.1
انهزمت قريش في هذه الجبهة سياسياً ومعنوياً وإعالمياً أمام مقاومة المسلمين الموفقة
وخطواتهم وأساليبهم الرصينة.2
على الدولة اإلسالمية الحديثة أن تسترشد بالهدي النبوي الكريم في عالقاته الخارجية،
وتطور رسالتها بما يالئم العصر والمتغيرات وتقوم سياستها على االلتزام بالثوابت
والتوازن ،واالستقاللية والفعالية والتأكيد على إيجابية وأهمية الرسالة اإلنسانية النافعة على
كافة الصعد الدولية واإلقليمية ،وتجعل المصلحة الوطنية للدولة واسطة العقد وحجر
الزاوية في سياستها الخارجية وتؤمن بالحرب دفاعاً عن عقيدة الشعب وتراب الوطن
وكرامته ومصلحة أبنائه وفي كل األحوال فالحرب ليست هدفاً في حد ذاتها.
ــ وتؤمن بأهمية التعاون بين الدول والشعوب ،وذلك في إطار االلتزام بأسس ومبادئ
الشرعية الدولية.
ــ تلتزم بالعهود والمواثيق التي تبرمها الدولة مع األفراد أو الدول أو المنظمات أو
الجماعات.
ــ تتمسك بضرورة تسوية كافة المنازعات الدولية بالطرق السلمية وحظر باستخدام القوة
للنيل من سالمة أراضي أية دولة أو استقاللها السياسي.
ــ تحترم سيادة الدولة األخرى ومنع التدخل في شؤونها الداخلية وحقها في تقرير مصيرها.
302
ــ تدعو إلى السالم اإلقليمي والعالمي كهدف استراتيجي وتعتبر أن التعاون بين الدول في
مختلف المجاالت هو األساس والنبراس لعالم أكثر استقراراً ورفاهية وتنمية.
ــ تدعم مسيرة العمل العربي واإلسالمي المشترك سياسياً ،واقتصادياً وأمنياً من أجل تعزيز
العمل العربي واإلسالمي واإلنساني المشترك وتعظيم الروابط بين الدول والشعوب والدفاع
عن حقوقها والتأكيد على نصرة القضايا العادلة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
ــ تلتزم بجميع قرارات جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر اإلسالمي واالتحاد األفريقي،
وتحترم كافة االلتزامات المنبثقة كافة االتفاقيات والمعاهدات والبروتوكوالت ،وما في
حكمها ،والتي تكون الدولة طرفاً فيها.
ــ تطالب بوضع حد لالنتهاكات اإلسرائيلية وتحقيق التسوية السلمية في الشرق األوسط
بقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
ــ تؤكد على ضرورة العمل على استعادة حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وتؤمن بحق
الشعب الفلسطيني في مقاومة المحتل ،وحقه في تقرير مصيره.
ــ تنخرط وتساهم وتدعم كافة الجهود الدولية التي تسعى لتحقيق األمن والسلم الدوليين،
وتتصدى مع المنظومة الدولية للفقر والجوع وانتشار أسلحة الدمار الشامل واألمراض
الخطيرة وتدهور البيئة ،وانتهاكات حقوق اإلنسان.
ــ تؤكد على ضرورة إرساء قواعد شراكة جديدة بين الدول المتقدمة والدول النامية ،تساهم
في استقرار ونمو العالقات االقتصادية بين هذه الدول وتضع أسساً متوازنة وعادلة للتجارة
الدولية ،يتحمل فيها كل طرف مسؤولياته عبر دعم ومساعدة الهياكل االقتصادية للدول
النامية ،والتزام الدول المتقدمة أيضاً بتعهداتها بتقديم المساعدات المالية والفنية إليها،
والعمل على تخفيف أعباء الديون وإلغائها عن الدول األكثر فقراً ،هذا باإلضافة إلى إلغاء
303
القيود الجمركية على وصول السلع القادمة من هذه الدول ،وتيسير حصولها على
التكنولوجيا الكفيلة بتأهيلها لالندماج بشكل إيجابي في النظام االقتصادي الدولي.
ــ ضمان استقرار سوق النفط بالقدر الذي يسمح بحفظ وتيرة التنمية االقتصادية لجميع
الدول.
ــ تدعو إلى التعاون مع كافة مؤسسات المجتمع المدني ،ومن خاللها تساهم وتدعم جهودها
في معالجة الكوارث والمحن العامة كالمجاعات والزالزل ،وتسعى صوب نشر الشورى،
وحماية حقوق اإلنسان ،وإرساء قيم الحوار وقبول اآلخر على ركائز وأسس التكافؤ
واالحترام المتبادل.
ــ تؤيد المشاركة الفعالة والمساهمة في تمويل ودعم جهود األمم المتحدة في حفظ السلم
واألمن الدوليين في شتى أصقاع المعمورة.
من فقه الرسول صلى اهلل عليه وسلم في بناء الدولة القدرة في التعامل مع النفوس وكسب
األعداء فمثالً:
جاء أبو سفيان الذي خرج يلتقط األخبار عندما سمع بقدوم رسول اهلل لفتح مكة إلى النبي
صلى اهلل عليه وسلم ب صحبة عمه العباس رضي اهلل عنه فلم ينشغل النبي صلى اهلل عليه
وسلم في محاسبة أبي سفيان ولم يسرف في مقاضاته وهو كاألسير داخل معسكر
المسلمين ،بل توجه ليحدثه عن هدف سام عاش النبي صلى اهلل عليه وسلم ألجله هو الدعوة
إلى اهلل ،فوجه كالمه ألبي سفيان« :ويحك يا أبا سفيان ،ألم يأن لك أن تعلم أنه ال إله إال
304
اهلل» ،قال :بأبي أنت وأمي ،ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ،واهلل لقد ظننت أن لو كان مع اهلل
إله غيره لقد أغنى عني بعد ،قال« :ويحك يا أبا سفيان ،ألم يأن لك أن تعلم أني رسول
اهلل؟» قال :بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ،أما هذه واهلل في النفس منها حتى
اآلن شيئاً ،فقال له العباس :ويحك أسلم قبل أن تضرب عنقك ،قال :فشهد شهادة الحق
فأسلم ،قال العباس :قلت يا رسول اهلل إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً ،قال:
« نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ،ومن أغلق بابه فهو آمن ،ومن دخل المسجد
فهو آمن».1
لقد كان لتلك الطريقة المحمدية أثرها في أبي سفيان الذي تغير إلى الوالء الكامل للدعوة
الجديدة وكانت له مواقف كبيرة في الجهاد مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في معركة
حنين ،كما كان هذا األسلوب النبوي الكريم عامالً في امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان
زعيم قريش ،وبرهن له بأن المكانة التي كانت عند قومه لن تنتقص شيئاً في اإلسالم ،إن
هو أخلص له وبذل في سبيله ،2وجعل صلى اهلل عليه وسلم لدار أبي سفيان مكانة خاصة
كي يكون أبو سفيان ساعده في إقناع المكيين بالسلم والهدوء ،ويستخدمه كمفتاح أمان يفتتح
أمامه الطريق إلى مكة دون إراقة دماء ،ويشيع في نفسه عاطفة الفخر التي يحبها أبو
سفيان حتى يتمكن اإليمان في قلبه ،3لقد دخل أبو سفيان إلى مكة مسرعاً ،ونادى بأعلى
صوته :يا معشر قريش هذا محمد جاءكم فيما ال قبل لكم به ،فمن دخل دار أبي سفيان فهو
آمن ،قالوا :قاتلك اهلل وما تغني عنا دارك؟ قال :ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ،ومن دخل
المسجد فهو آمن ،وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.4
ولقد دخلت قوا ت المسلمين مكة دون مقاومة تذكر إال ما كان من جهة خالد بن الوليد الذي
قابل عكرمة بن أبي جهل في نفر خافوا االنتقام فهزمهم خالد فهربوا خارج مكة ،ثم عاد
305
عكرمة ليأخذ أماناً وعفواً من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ويسلم ويشارك في الجهاد في
فتوحات الشام ويقتل في اليرموك شهيداً.
كان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة قبل أن يسلم فأراد علي رضي اهلل عنه أن يكون
المفتاح له مع السقاية ،لكن النبي صلى اهلل عليه وسلم دفعه إلى عثمان بعد أن خرج من
الكعبة ،ورده إليه قائالً« :اليوم يوم بر ووفاء» ،1وكان صلى اهلل عليه وسلم قد طلب من
عثمان بن طلحة المفتاح قبل أن يهاجر إلى المدينة ،فأغلظ له القول ونال منه ،فحلم عنه،
وقال« :يا عثمان ،لعلك ترى المفتاح يوماً بيدي ،أضعه حيث شئت» ،فقال :لقد هلكت
قريش يومئذ وذَُّلت ،فقال« :بل عَ َمرت وع ّزت يومئذٍ» ،ووقعت كلمته من عثمان بن طلحة
موقعاً ،وظن أن األمر سيصير إلى ما قال ،2ولقد أعطى له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
مفاتيح الكعبة قائالً له« :هاك مفتاحك يا عثمان ،اليوم يوم بر ووفاء ،3خذوها خالدة تالدة،
ال ينزعها منكم إال ظالم» .4وهكذا لم يشأ النبي صلى اهلل عليه وسلم أن يستبد بمفتاح
الكعبة ،بل ولم يشأ أن يضعه في أحد من بني هاشم ،لما في ذلك من اإلثارة أوالً ولما به
من مظاهر السيطرة وبسط النفوذ ،هذا هو مفهوم الفتح األعظم في شرعة رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم البر والوفاء ،حتى للذين غدروا ومكروا وتطاولوا.
ومهما تعاظمت االختالفات بين أبناء الوطن الواحد ،ومهما توالت اإلساءات والمظالم،
فالعفو والصفح والتغافر هو األفضل للمتخاصمين ،وللوطن ولألجيال القادمة وهذا بالطبع
ما سطره لنا التاريخ في فتح مكة.
306
إن اال قتداء بالرسول صلى اهلل عليه وسلم شرف لنا قبل أن يكون حالً ناجحاً لمشاكلنا
واختالفاتنا.1
نال أهل مكة عفواً عاماً برغم أنواع األذى التي ألحقوها بالرسول صلى اهلل عليه وسلم
ودعوته ،ورغم قدرة الجيش اإلسالمي على إبادتهم ،وقد جاء إعالن العفو عنهم ،وهم
مجتمعون قرب الكعبة ينتظرون حكم الرسول صلى اهلل عليه وسلم فيهم ،فقال« :ما تظنون أني
ب عَلَيكُمُ اليَومَ يَغفِرُ اهللُ لَكُم فاعل بكم» ،فقالوا :خيراً ،أخ كريم وابن أخ كريم ،فقالَ ﴿« :
ال تَثرَي َ
وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ األنفس من القتال أو السبي ،وأيضاً األموال المنقولة،
واألراضي بيد أصحابها ،وعدم فرض الخراج عليها.3
إلى جانب ذلك الصفح الجميل ،كان هناك الحزم األصيل الذي البد أن تتصف به القيادة
الحكيمة الرشيدة ،ولذلك استثنى قرار العفو الشامل بضعة عشر رجالً أمر بقتلهم ـ وإن وجدوا
معلقين بأستار الكعبة ـ ألنه عظمت جرائمهم في حق اهلل ورسوله وحق اإلسالم ،ولما كان
يخشاه منهم من إثارة الفتنة بين الناس 4بعد الفتح ،ومن هؤالء من قتل ،ومنهم من جاء مسلماً
تائباً فعفا عنه الرسول صلى اهلل عليه وسلم وحسن إسالمه.5
وكانت لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قدرة رفيعة في التعامل مع الخصوم فدخلت هند في
اإلسالم ،وسهيل بن عمرو ،وعكرمة بن أبي جهل ،وصفوان بن أمية ،وفضالة بن عمير
وغيرهم كثير.
د ـ شاعر قريش عبد اهلل بن الزبعرى:
307
لما فتحت مكة فرا عبد اهلل بن الزبعرى السهمي إلى نجران ،فلحقته قوافي حساان ،فقد كان
خصماً عنيداً لإلسالم ،فراح يعيره بالجبن والفرار فقال له:
ال تعد من رجالً أحلك بغضُهُ
1
نجران في عيش أحذا لئيم
أي :فليبق اهلل لنا محمداً صلى اهلل عليه وسلم هذا الرجل العظيم الذي أحلك بغضه ديار نجران،
وليُدم اهلل عليك ابن الزبعرى عيشاً مهيناً أشأم ثم راح حسان يستنزل غضب اهلل ومقته على ابن
الزبعري ونجله ،ويسأله اهلل أن يخلده في سوء العذاب وأليمه ،2فتطايرت تلك األبيات ووصلت
إلى ابن الزبعرى وقام ولم يقعد وقلب أموره ،ثم أراد اهلل به الخير ،فعزم على الدخول في
اإلسالم ،ثم توجه إلى مكة ،وقصد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأعلن إسالمه ،وطلب من
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يستغفر له كل عداوة له ولإلسالم ،فقال له رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم« :إن اإلسالم يجب ما قبله» ،3ثم أدناه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منه
وآنسه ،ثم خلع عليه حلة ،وقد أجمع الرواة أن ابن الزبعرى رضي اهلل عنه قال بعد إسالمه
شعراً كبيراً حسنًا يعتذر فيه إلى الرسول صلى اهلل عليه وسلم.4
قال ابن كثير :كان من أكبر أعداء اإلسالم ومن الشعراء الذين استعملوا قواهم في هجاء
المسلمين ،ثم منا اهلل عليه بالتوبة واإلنابة والرجوع إلى اإلسالم والقيام بنصره والذاب عنه.5
ومن القصائد الرائعة التي قالها في مدح النبي صلى اهلل عليه وسلم وندمه على محاربة
اإلسالم ،وتأخره في الدخول فيه:
منع الرُّقاد بالبل وهموم
8
والليل معتلج 6الراواق 7بهيم
308
مما أتاني أن أحمد المني
فيه فبت كأنني محموم
يا خير من حملت على أوصالها
2
عيرانه 1سرح اليدين غشوم
إني لمعتذر إليك من الذي
أسديت إذ أنا في الضالل أهيم
أيام تأمرني بأغوى خطة
سهم وتأمرني بها مخزوم
وأمد أسباب الرادى ويقودني
أمر الغواة وأمرهم مشؤوم
1عيرانه :راحلة.
2غشوم :شجاع ال يثنيه أمر عن عزمه.
309
حق وإنك في العباد جسيم
واهلل يشهد أن أحمد مصطفى
مستقبل في الصالحين كريم
قَرم عال بُنيانُهُ من هاشم
1
فرع تمكن في الذُّرا وأُرُوم
وأسلم فيما بعد كعب بن زهير ونستطيع القول بأن الشعراء المعارضين للدعوة اإلسالمية قد
انتهى دورهم ،فقد أسلم ضرار بن الخطاب ،وعبد اهلل بن الزبعرى ،وأبو سفيان بن الحارث بن
هشام ،والعباس بن مرداس ،وتحولوا إلى الصف اإلسالمي ،واستظلوا بلوائه عن قناعة
وإيمان ،ولم يكتف بعضهم بأن تكون كلمته في الدفاع عن اإلسالم بل كان سيفه إلى جانب
كلمته.2
هـ ـ تعامله مع هوازن ومالك بن عوف زعيمها:
جاء وفد هوازن بعد هزيمتهم في حنين لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالجعرَانة وقد أسلموا،
ن
فقالوا :يا رسول اهلل إنا أصل وعشيرة وقد أصابنا من البالء ما لم يخف عليك فامنن علينا م ا
اهلل عليك ،وقام خطيبهم زهير بن صرد أبو صُرد ،فقال :يا رسول اهلل ،إنما في الحظائر من
السبايا خالتك ،وحواضنك الالاتي كن يكفلنك ،ولو أنا ملحنا ألبن أبي شمر أو النعمان بن
المنذر ،3ثم أصابنا منها مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما ،وأنت رسول اهلل
خير المكفولين ،ثم أنشأ يقول:
امنن علينا رسول اهلل في كرم
4
فإنك المرءُ نرجوه وننتظر
إلى أن قال:
امنن على نسوة قد كنت ترضعها
310
إذ فوك يملؤه من محضها دَرَرُ
امنن على نسوة قد كنت ترضعها
وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
فكان هذا سبب إعتاقهم عن بكرة أبيهم ،فعادت فواضله عليه السالم قديماً وحديثاً وخصوصاً
وعموم ًا.1
فلما سمع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من الوفد قال لهم« :نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم
أموالكم؟» فقالوا :يا رسول اهلل :خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا ،بل ابناؤنا ونساؤنا أحب إلينا،
فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم « :أمَّا ما كان لي ،ولبني عبد المطلب ،فهو لكم ،وإذا أنا
صليت بالناس فقوموا ،فقولوا :إنا نستشفع برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى المسلمين،
وبالمسلمين إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في أبنائنا ونسائنا ،فإني سأعطيكم عند ذلك،
وأسأل لكم» .فلما صلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالناس الظهر ،قاموا فقالوا ما أمرهم
به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقال« :أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم» .فقال
المهاجرون :وما كان لنا فهو لرسول اهلل ،وقالت األنصار ،وما كان لنا فهو لرسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم ،وقال األقرع بن حابس :أماا أنا وبنو تميم ،فال ،وقال عيينة :أما أنا وبنو فزارة
فال ،وقال العباس بن مرداس السَّلميُّ :أما أنا ،وبنو سليم فال ،فقالت بنو سليم :بل ما كان لنا
فهو لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،قال عباس بن مرداس لبني سليم :وهنتموني؟ فقال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فيء
نصيبه فردّوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم».2
وفي رواية :فخطب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في المؤمنين فقال« :إن إخوانكم هؤالء
جاؤونا تائبين ،وإني أردت أن أرد إليهم سبيهم ،فمن أحب منكم أن يطيّب ذلك فليفعل» ،فقال
الناس :طيبنا يا رسول اهلل لهم .فقال لهم« :إنا ال ندري من أذن منكم فيه ممن لم يأذن
311
فأرجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمَركم» .فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ،ثم رجعوا إلى النبي
صلى اهلل عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا.1
وقد سُرَّ الرسول صلى اهلل عليه وسلم بإسالم هوازن وسألهم عن زعيمهم مالك بن عوف
النصري ،فأخبروه أنه في الطائف مع ثقيف ،فوعدهم بر اد أهله وأمواله عليه ،وإكرامه بمئة من
اإلبل إن قدم عليه مسلماً ،فجاء مالك مسلماً فأكرمه وأماره على قومه وبعض القبائل المجاورة،
ولقد تأثر مالك بن عوف ،وجادت قريحته لمدح النبي صلى اهلل عليه وسلم فقال:
ما إن رأيت وال سمعت بمثله
في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى
ومتى تشاء يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عرادت 2أنيابها
بالسمهري وضرب كل مُهنَّد
فكأنه ليث على أشباله
5
وسط الهباءة 3خادر 4في مرصد
لقد كانت سياسته صلى اهلل عليه وسلم مع خصومه مرنة إلى أبعد الحدود ،وبهذه السياسة
الحكيمة استطاع صلى اهلل عليه وسلم أن يكسب هوازن وحلفاءها إلى صف اإلسالم ،واتخذ من
هذه القبيلة القوية رأس حربة يضرب بها قوى الوثنية في المنطقة ويقودها زعيمهم مالك بن
عوف الذي قاتل ثقيفاً في الطائف حتى ضياق عليهم ،وقد فكر زعماء ثقيف في الخالص من
المأزق بعد أن أحاط اإلسالم بالطائف من كل مكان ،فال تستطيع تحركاً وال تجارة ،فمال بعض
زعماء ثقيف إل ى اإلسالم ،مثل عروة بن مسعود الثقفي ،الذي سارع إلى اللحاق برسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة بعد أن قسم غنائم حنين ،واعتمر من
1أخرجه البخاري ،الحديث رقم ،4318 :ورقم.4319 :
2عرادت :اشتدت وضربت ،القاموس المحيط (.)313 /1
3الهباءة :غبار الحرب.
4الخادر :المقيم في عرينه.
5السيرة النبوية البن هشام (.)144 /4
312
الجعرانة ،فالتقى به قبل أن يصل إلى المدينة ،وأعلن إسالمه ،وعاد إلى الطائف ،وكان من
زعماء ثقيف محبوباً عندهم ،فدعاهم إلى اإلسالم وأ َّذن في أعلى منزله ،فرماه بعضهم بسهام
فأصابوه ،فطلب من قومه أن يدفنوه مع شهداء المسلمين حصار الطائف.1
إن اإلنسان ليعجب من فقه النبي صلى اهلل عليه وسلم في معاملة النفوس ،وفي سعيه الحثيث
في بناء الدولة والتمكين لدين اهلل تعالى ،لقد استطاع صلى اهلل عليه وسلم أن يزيل معالم الوثنية
وبيوتات العبادة الكفرية من مكة وما حولها ،ورتب صلى اهلل عليه وسلم األمور التنظيمية
لألراضي التي أضيفت للدولة اإلسالمية ،فعيان عتاب بن أسيد أميراً على مكة ،وجعل معاذ بن
جبل مرشداً وموجهاً ومعلماً ومربياًَّ ،2
وعين على هوازن مالك بن عوف قائداً ومجاهداً ،ثم
اعتمر ورجع إلى المدينة صلى اهلل عليه وسلم.
313
الدولة من وظائفها حماية المواطن وتقديم الخدمات له ،ومن أهمها:
1ـ السكن:
إن حاجة اإلنسان إلى مسكن أمر من األمور األساسية في حياته وهو من نعم اهلل عز وجل
على اإلنسان.
ـ قال تعالى﴿ :وَا ُ
هلل جَ َع َل لَكُم مِّن بُيُوتِكُم سَكَنًا َوجَ َع َل لَكُم مِّن جُلُودِ األَنعَامِ بُيُوتًا تَستَخِفُّونَهَا يَو َم
أي أن اهلل سبحانه قد جعل البيوت أيًّا كان نوعها سكناً يفيء إليها الناس ،ويشعرون فيه بالراحة
ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم ،فتسكن نفوسهم وتطمئن ،لذا فقد قررت الشريعة اإلسالمية
حق المسكن لكل أفراد الدولة ،فمنحهم حرية بناء المساكن وتملكها واإليواء فيها واالحتماء بها،
بل ألزم الدولة مسؤولية ضمان سكن لكل المحتاجين من أفرادها ،1فعن ابن عمر رضي اهلل
عنهما قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :كلكم راعٍ فمسؤول عن رعيته ،فاألمير
الذي على الناس راعٍ عليهم وهو مسؤول عنهم» ،2وعن أبي هريرة عن النبي صلى اهلل
عليه وسلم أنه قال« :ما من أمير عشيرة إال يؤتى به يوم القيامة مغلو ًال ال يفكه إال العدل».3
ومن العدل تأمين حاجات كل ضعيف في المجتمع ومنها الحاجة إلى السكن ،وإذا عجزت
الدولة بمواردها المختلفة عن كفالة هذا الحق للمحتاجين من رعاياها ،فإن المسؤولية تقع على
عاتق األغنياء في المجتمع فعليهم أن يقوموا بإيفاء حاجات الفقراء والمحتاجين من الطعام
والشراب واللباس والمأوى الذي يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء وعيون المارة ،4فعن أبي سعيد
الخدري أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من
314
ال ظهر له ،ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من ال زاد له» ،1وللمساكن حرمات منها،
عدم دخول المنزل إال بإذن صاحبه قال تعالى﴿ :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا َ
ال تَدخُلُوا بُيُوتًا غَي َر بُيُوتِكُم
حَتَّى تَستَأنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهلِهَا ذَلِكُم خَير لَّكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّم تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَالَ
ن لَكُم وَإِن قِي َل لَكُمُ ارجِعُوا فَارجِعُوا ُهوَ أَزكَى لَكُم وَاهللَُّ بِمَا تَعمَلُونَ عَلِيم﴾
تَدخُلُوهَا حَتَّى يُؤذَ َ
لنقص في البينة أو اإلثبات أو غفلت السلطة القائمة عن الموضوع ،فإن عبودية الفرد هلل
وإحساسه بمعرفة اهلل لكل أفعاله صغيرة وكبيرة تجعله يتقي اهلل ويتذكر أن هناك قوة تراقبه
أكبر من البينة القانونية و السلطة العامة ،فال يغفل بالتالي عن أوامر ربه ويتحرك تلقائياً
الحترام حرمة مساكن الناس.3
وحر مت الشريعة التجسس على مساكن الناس ومن حق كل إنسان أال يتجسس عليه أحد في
َّ
عقر داره وال ينظر إليه وهو داخل بيته خلسة ،ومن هنا فقد حرم اإلسالم التجسس على البيوت
لما فيها من انتهاك العورات وكشف السوءات ،قال تعالى﴿ :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اج َتنِبُوا كَثِيرًا مِّ َ
ن
ال تَجَسَّسُوا﴾.
ض الظَّنِّ إِثم وَ َ
الظَّنِّ إِنَّ بَع َ
وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إياكم والظن ،فإن الظن أكذب الحديث ،وال تجسسوا
وال تناحشوا وال تحاسدوا وال تباغضوا وال تدابروا وكونوا عباد اهلل إخواناً».4
315
ولقد بلغ من حرص اإلسالم على حرمة المسكن أن أعطى صاحب المسكن حق الدفاع عن
حرماته شرعياً ،ولو أدى ذلك إلى فقأ عين المتلصص ،فعن أبي هريرة أنه سمع رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم يقول« :لو أن أمرءًا أطلع عليك بغير إذن فخذفته بعصاة ففقأت عينه ،لم
يكن عليك جناح».1
وعن أنس بن مالك أن رجالً اطلع من بعض حجر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقام إليه
رسول اهلل بمشقص أو مشقاص وجعل يختله ليطعنه.2
هذا والتجسس على الناس والنظر إلى عوراتهم واالستماع إلى أسرارهم يحرم سواء كان ذلك
من أحد الناس تطفالً ،أو من المسؤولين ،أم من جماعة من جماعات الناس خدمة لجهة من
الجهات ،3ولهذا فإن عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه رفع عقوبة المخالف الذي كشفه بطريق
التجسس ،فقد روي أن عمر بن الخطاب كان يعس بالمدينة من الليل فسمع صوت رجل يتغني،
فتسور عليه ،فقال :يا عدو اهلل أظننت أن اهلل يسترك وأنت في معصيته " حيث وجد عنده زق
خمر" فقال :وأنت يا أمير المؤمنين ال تعجل علي ،وإن كنت عصيت اهلل واحدة فقد عصيت اهلل
في ثالث:
ال تَجَسَّسُوا﴾ وقد تجسست.
ـ قال تعالى﴿ :وَ َ
ال تَدخُلُوا بُيُوتًا غَي َر بُيُو ِتكُم حَتَّى تَستَأنِسُوا﴾ وقد دخلت عليا بغير إذن ،فقال
ـ وقال تعالىَ ﴿ :
عمر :هل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال :نعم واهلل ال أعود .فقال :اذهب فقد عفوت
عنك.4
إن اإلسالم يشترط شرعية الوسيلة ،كما يشترط نيل الغاية ،وليقول لهم :إن الرجوع إلى الحق
فضيلة ال تكاد تعادلها أي فضيلة أخرى.1
316
ـ عدم االستيالء على منازل الغير ،أو هدمه جبراً ،فإذا ملك اإلنسان مسكناً ،فإن ملكيته له
تكون مصونة شرعياً ،فال يجوز لكائن من كان أن يعتدي على هذه الملكية باالستيالء ،أو
التعريض للتلف بالهدم وغيره ،إال إذا كان ذلك من قبل الحاكم واقتضته مصلحة عامة،
كتوسعة طريق ،أو بناء مرفق عام كمسجد أو مستشفى أو حديقة أو غيرها.
جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز فقال :يا أمير المؤمنين أنا مظلوم وال
أستطيع أن أتك لم ،فقال له :ويلك عليك الطالق ،فقال :نعم ،فقال :تكلم وال طالق عليك ،فقال:
هذا وأشار إلى عامله وكان في القوم ،فقال :هذا أخذ من حائطي أو داري ،فقال له :اردد عليه،
ثم قال :لوال أن أحدث في اإلسالم عقوبة لم تكن ألمرت أن يغور أثر السجود من جبهتك وكان
بين عينيه سجدة.2
ـ استخدام المسكن بالشكل المناسب:
لكل إنسان حسب إمكاناته الحق في اختيار مكان سكنه مراعياً عناصر اقتصادية وشخصية
ووظيفية يعود له وحده أن يقدرها وله الحق أيضاً في استعمال مسكنه بالشكل الذي يراه مناسباً
على أن يكون ذلك محكوماً بالقواعد والضوابط الشرعية التي تقتضي أنه ال ضرر وال ضرار،
فإذا كان مستأجراً عليه أن يراعي شروط العقد ،وإذا كان مالكاً لطبقة في بناء فعليه أن يتقدم
بالقانون الذي ينظم الملكية المشتركة ،وعلى اإلنسان في كل األحوال ـ مالكاً أو مستأجراً ـ
التقيد باألنظمة المتعلقة بالصحة العامة والراحة العامة بحيث ال يقلق جيرانه ،وإذا كان مرتفق ًا
فعليه أال يتسبب في إيذاء أصحاب المساكن واألمالك وإال فإنه يمنع من ممارسة حق االرتفاق
إذا أدت ممارسته لهذا الحق إلى اإلضرار بحقوق اآلخرين في حفظ مساكنهم ودورهم.3
واإلسالم بطبعه وروحه يلزم المسؤولين الحكام ،واألمراء وقادة الدولة بحل أزمة اإلسكان
المنت شرة بين الشعوب ،فالدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية من خالل وزارة اإلسكان
تعمل على تحقيق األهداف اآلتية:
ـ اعتبار التخطيط العمراني جزء من المنظومة االقتصادية واالجتماعية والبيئية العامة للدولة.
1المصدر نفسه ،ص ،84 :الحرية الشخصية في مصر ،ص.390 :
2الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (.)216 /1
3حقوق اإلنسان وحرياته األساسية ،ص.129 :
317
ـ إعادة التخطيط العمراني للمدن في الدولة على أسس علمية تكفل الحفاظ على التراث والهوية
والشخصية اإلسالمية المميزة.
ـ تطوير التشريعات المتعلقة بالبناء والتشييد لتواكب النهضة العمرانية المأمولة.
ـ زيادة اإلنفاق على قطاع التشييد والبناء وتعويض المناطق التي لم تنل نصيبها من االهتمام
بقطاعات اإلسكان فيها ،وذلك من خالل بناء التجمعات السكنية والمدن الجديدة.
ـ القضاء على العشوائية في البناء والتشييد وااللتزام بمخطط عمراني شامل تلتزم به الدولة
وتكفل التزام المواطنين به.
ـ دعم وتشجيع دور القطاع الخاص في التطوير العقاري واإلسكان.
ـ م د رقعة البناء والتشييد والتعمير وبناء المدن إلى المناطق النائية والمحرومة على قدم
المساواة وبذات االهتمام بالمدن الرئيسية.
ـ توفير وحدات سكنية الئقة ،وبأسعار مالئمة تدعمها الدولة.
ـ سن التشريعات القانونية المنظمة للعملية التطويرية العقارية من جميع جوانبها اإلنشائية
والرهن العقاري والملكية والتأمين العقاري ،والتثمين والمسح وحسابات الضمان والنزاعات
العقارية والتسويق والبيع على الخارطة وكل ما يتعلق بأمور التطوير العقاري.
ـ تأسيس وتطوير واستحداث المؤسسات المالية العقارية وتفعيل دورها في مجال التطوير
العقاري.
2ـ العمل:
األصل في اإلسالم أن يختار اإلنسان ما يرغب فيه من العمل ،كأن يكون نجاراً أو مزارعاً أو
خياطاً أو معلماً أو طبيباً أو موظفاً في عمل من أعمال الدولة أو تاجراً أو غير ذلك ،وهذا
المبدأ ـ حرية اختيار العمل ـ أساسه من أن الناس يتفاوتون في القدرات ،والمواهب ،والخبرات
والهوايات المختلفة في القيام باألعمال واختيار الحرف ،ولم يقيد اإلسالم اإلنسان إال
318
بمشروعية العمل،وهذه القاعدة لم يستطع أي نظام أن يخالفها أو ينكرها ،بل أن المساواة التامة
بين األفراد في األعمال وعدم التفاوت ال تكاد توجد في أي مجتمع مهما كان الحال ،وكذلك
اختيار العمل يكون عامالً هاماً في دفع اإلنسان إلى بذل الطاقة الحقيقية مع إتقان العمل وإن
أسوأ المجتمعات هي التي توكل األعمال إلى من ال يحسنها وإلى من ليس له ميل إليها وال
موهبة له في إتقانها ويكون كل واحد من الناس موضوعاً في موضعه الالئق به ،وقد ورد في
الحديث« :إذا أسند األمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» ،وإن أحسن المجتمعات وأقدرها على
اإلنتاج كثرة وإتقاناً هي تلك التي يوزع فيها األفراد كل ما يناسب قدرته ومواهبه وميوله.
إن تنوع التخصصات وكثرة التفاوت من سمات المجتمعات الراقية ،وكلما كان المجتمع أرقى
كان التفاوت والتخصص أكثر ،وذلك يؤدي إلى ما سمَّاه بعض علماء االجتماع بالتضامن
العضوي للمجتمع ،فكل فرد يقدم من العمل واإلنتاج ما يقدر عليه بحسب ما أوتي من قدرة
ومواهب ويحاسب على هذا األساس ،وقد أشار القرآن الكريم إلى مثل هذا النوع من التفاوت
الذي تعود ثمرته على اإلنسانية جمعاء.1
ــ قال تعالى﴿ :وَرَفَ َع بَعضَكُم فَوقَ بَعض دَرَجَات لِّيَبلُ َوكُم فِي مَا آتَاكُم﴾ (األنعام ،آية .)165 :
(المائدة ،آية .)48 : ــ وقال تعالى﴿ :وَلَو شَاء اهللُ لَجَعَلَكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبلُوَكُم فِي مَآ آتَاكُم﴾
لقد كان القرآن صريحاً في التعبير عن هذا القانون االجتماعي وهو تفاوت الناس في مواهبهم
وقدراتهم وبالتالي في أعمالهم ويتعرفون إليها ،وهذا االختالف في المواهب والقدرات هو الذي
يجعل كل إنسان يحتاج إلى غيره من الناس مهما كانت أعمالهم ألن حاجات اإلنسان متنوعة
ومتعددة وال يستطيع إشباعها بمفرده ،فمنها ما هو مادي ،ومنها ما هو نفسي أو عقلي ،ولذلك
كل إنسان مسخر لقضاء حاجات اآلخرين حتى ولو لم يشعر هو بذلك ،وقد أشار القرآن الكريم
إلى هذه الحقيقة.2
319
ك ــ قال تعالى﴿ :وَرَفَعنَا بَعضَهُم فَوقَ بَعض دَرَجَات لِيَتَّخِ َذ بَعضُهُم بَعضًا سُخرِيًّا وَرَح َم ُ
ت رَبِّ َ
أي :أن اهلل خلق الناس متفاوتين في القدرات ،يقدم كل واحد منهم من األعمال ما يحتاج إليه
اآلخر ،وكذلك اآلخر بالمقابل وكذلك اآلخر بالمقابل ،بمعنى أن كل واحد بالنسبة إلى اآلخر
مسخَّر على وجه التبادل والتعاون ،فأهل الحرف مثالً ،كالخباز والنجار والحداد يُسخِّرون
المعلم لتعليم أوالدهم والمعلم يُسخرهم لما يحتاج إليه من خبز أو حدادة أو تجارة ،وكذلك
الطبيب والمهندس والمزارع والبنَّاء ،والموظف ،وسائر أصحاب األعمال يسخر بعضهم بعضاً
فيما يتقنونه ويحسنونه ويقدمون من أعمال وخدمات ،بالمقابل والتبادل بها وبهذا المعنى فسر
اآلية كبار المفسرين كالزمخشري والرازي وابن كثير وغيرهم فقال الزمخشري :ليرتفق الناس
بعضهم بعضاً.1
وقال ابن كثير :قيل معناه ليسخر بعضهم بعضاً في األعمال الحتياج هذا المعنى :وقال
الرازي :جعل تعالى ذكره بعضاً لبعض سبباً في المعاش في الدنيا.2
إن االختالف والتباين بين البشر سبب لتعاونهم وذلك ليكمل بعضهم بعضاً ،وليتوزعوا األعمال
المختلفة المتنوعة التي يحتاج إليها المجتمع وليتبادلوها فيما بينهم فيحصل لهم النفع جميع ًا.3
من هذا المفهوم للتفاوت في القدرات والمواهب نشأت فكرة اتفق عليها علماء المسلمين
وأوضحوها وتناقلوها ،وهي أن الصناعات وجميع األعمال التي يحتاج إليها المجتمع هي
فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين ،وإذا لم يقم بها أحد أثموا جميعاً ،قال
الغزالي في إحياء علوم الدين :أما فرض الكفاية فكل علم ال يستغنى عن قوام أمور الدنيا
كالطلب والحساب وأصول الصناعات والسياسة ،وقال ابن تيمية :قال غير واحد من أصحاب
الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم ..أن هذه الصناعات كالفالحة والنساجة والبناية فرض على
320
الكفاية فإنه ال تتم مصلحة الناس إال بها .1إن التفكير اإلسالمي األصيل المستند إلى مصادره
األساسية الكتاب والسنة ينظر إلى الفرد في إطار المجتمع ،ولم ينظر إليه منعزالً في هذا
المجال االقتصادي ،كما في غيره في المجاالت ،فاإلسالم ال يعرف فرداً بدون جماعة وال
يعرف مجتمعاً بدون أفراد كما أنه ال يعرف مجتمعاً للرجال بدون النساء ،وال مجتمعاً للنساء
بدون رجال وال يعتبر مصلحة الدنيا بدون اعتبار مصلحة الدين ألن الدنيا مزرعة اآلخرة.
إن التصور اإلسالمي يعتبر أصحاب األعمال على اختالف أنواعها متساوين في القيمة
اإلنسانية والكرامة البشرية ،ويتفاضلون بما يقدمون للمجتمع من منافع.2
إن مسؤولية العمل تتقاسمها ثالث أطراف وهي:
أ ـ العمال:
فأما العمال فقد أنزلتهم الشريعة منزلة رفيعة ،وأولتهم عناية خاصة وتعاملت معهم على أساس
ما يلي من القواعد:
ـ تكريم اليد العاملة والثناء على أهلها ،كما في قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :ما أكل
أحد طعام اً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي اهلل داود عليه السالم كان يأكل من
عمل يده».3
ـ تقدير الجهود العمالية واعتبارها من محاسن األفعال التي يحبها اهلل لما في الحديث :أن
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم صافح سعد بن معاذ رضي اهلل عنه ،فإذا يداه قد أكتبتا ،4فسأله
النبي صلى اهلل عليه وسلم فقال :أضرب بالمُر 5والمسحاة ألنفق على عيالي ،فقال رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم« :كفان يحبهما اهلل».6
ال
ـ تفضيل العمل كيفما كان على مذلة السؤال ،ولو كان جمع حزمة حطب وبيعها ،أو اشتغا ً
بأبسط الحرف ،أو امتهان أي مهنة مهما قلت عائداتها ،فهي أفضل من أن يبقى اإلنسان عالة
321
على غيره ينتظر أن يجود عليه بشيء كما في قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :ألن
يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه».1
ـ ا عتبار إتقان العمل من موجبات المحبة اإللهية ،قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إن
اهلل يحب إذا عمل أحدكم عمالً أن يتقنه».2
ا عتبار أتعاب العمل في أسباب المغفرة اإللهية لقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :من بات
كا ًال من عمله بات مغفورًا له».3
ـ حرمان القادرين على العمل من حق التكافل االجتماعي متى امتنعوا عن القيام به ،إذ :ال
تحل الصدقة لغني ،وال لذي مرَّة سوي.4
ـ تمكين العمال من مستحقاتهم وإن كان عملهم بنية التطوع في سبيل اهلل ،فعن ابن الساعدي
قال :استعملني عمر على الصدقة ،فلما فرغت أمر لي بعمالة ،5فقلت :إنما عملت هلل ،قال :خذ
ما أعطيت ،فإني قد عملت على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيعمالني .6وهو ما يفيد
بأن للدولة الحق في مراقبة موظفيها ومحاسبة كل من يخل بواجباته المهنية بغير عذر ،وال
يقبل من أي كان منهم التعلل بأنه مجرد متطوع بعمل في سبيل اهلل ،وبهذا يستقيم تدبير الشأن
العام ،وتحفظ المصالح العامة من اإلهمال والضياع.7
ــ تجريم سرقة المال العام من طرق العمال والموظفين في مؤسسات الدولة ،كما قال النبي
صلى اهلل عليه وسلم« :من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول .8
ــ من ظلم من العمال فله الحق في الدفاع عن نفسه ورفع مظلمته بجميع الطرق المشروعة،
لقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إن لصاحب الحق مقاالً».9
322
ب ـ أصحاب العمل:
وأما أرباب العمل :فقد تعاملت معهم الشريعة وفق مجموعة من القواعد وطالبتهم بمجموعة
من االلتزامات التنظيمية في تعاملهم وأهمها:
ــ إخبار العمال بمقادير أجورهم قبل البدء في العمل لقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
«من استأجر أجيراً فليعلمه أجره».1
ــ تكليف العمال بما يطيقون من األشغال ،ألنه تكليف بما ال يطاق ،وكل من عجز عن شيء
سقط عنه.
ــ أداء مستحقات العمل في الوقت المناسب لقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :أعطوا
األجير أجره قبل أن يجف عرقه».2
ــ محاسبة المستأجرين عن التماطل في أداء مستحقات العمال أو االمتناع عن تسليمها لهم،
لقول اهلل تعالى في الحديث القدسي« :ثالثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر،
ورجل باع حراً فأكل ثمنه ،ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره».3
جـ ـ الدولة:
وأما الدولة ،فقد ألزمتها الشريعة برعاية المصالح العامة وطالبتها بما يلي:
ــ تهيئة فُرص العمل وتمكين كل القادرين ممَّا يناسب كفاءاتهم من الوظائف ،ألن ذلك من
الفروض الكفائية العامة الواجبة على الدولة.
ــ رعاية العاجزين عن العمل ،كمن أقعدته عاهة ،أو مرض ،أو ضعف مدني ،أو شيخوخة عن
العمل ،واإلنفاق عليهم من المال العام.4
ــ تحفيز العمال والموظفين على االجتهاد في العمل بمختلف المحفزات المساعدة على توفير
أجواء االستقرار النفسي واالجتماعي ،وفي مقدمتها تزويج غير المتزوجين من الموظفين
وتمكينهم من األعوان والمساعدين ،وتوفير السكن الوظيفي لكل من ليس له سكن ،على حساب
323
المال العام ،كما قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :من كان له عامالً ،فلم يكن له زوجة
فليكتسب له زوجة ،فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً ،فإن لم يكن له مسكن فليكتسب
مسكناً ،ومن اتخذ غير ذلك فهو غالٍ أو سارق».1
وكل هذا أكد المصالح االجتماعية الكفائية الواجبة على الدولة وليس منة منها وال إحسان.2
وهذه القواعد الشرعية والقيم التكريمية تحتاج إلى تفعيل في واقع مجتمعاتنا بين الباحثين عن
العمل وأصحابه والدولة ،ومما يساعد على تفعيل القواعد واألصول المذكورة إعادة تشكيل
العقلية العامة للشعوب في ا تجاه إقناعها بأهمية توزيع الخيرات بشكل عادل بين الناس ،وتقسيم
فرص العمل دون تمييز بين أفواج المعطلين ومساعدة ذوي الكفاءات على إيجاد مشاريع عمل
يكسبون بها قوتهم اليومي ويساهموا في ارتقاء شعوبهم وتطوير دولهم.3
لقد رفع اإلسالم من قيمة العمل وحث عليه ،قال تعالى﴿ :هُ َو الَّذِي جَ َع َل لَكُمُ األَر َ
ض ذَلُوالً
فَامشُوا فِي مَنَا ِك ِبهَا َوكُلُوا مِن رِّزقِهِ وَإِلَيهِ النُّشُورُ﴾ (الملك ،آية .)15 :
وأعطى اإلسالم اإلنسان حرية العمل في كافة المجاالت إال فيما يتعارض مع النصوص
الشرعية وأحكام اإلسالم.
ــ كالتعامل بالربا أو القمار ،أو بيع الخمور أو الدعارة ..الخ أو فيما يتعارض مع حقوق
اآلخرين وحرياتهم.4
إن اإلسالم يعتبر كل جهد نافع ،ويحقق مصلحة لصاحبه ،أو للناس والمجتمع عمل مطلوب
شرعاً وإن وجوه العمل في اإلسالم غير محددة ،وتشمل كل جهد بناء وتغطي جميع النشاطات
في المجال التجاري والزراعي والصناعي والمهني وممارسة كل الحرف التي تخدم البشرية
واألعمال اليدوية والذهنية والفكرية واألدبية حتى اعتبر الفقهاء رئاسة الدولة والخالفة والوالية
324
عمالً وهو ما صراح به أبو بكر رضي اهلل عنه بقوله :إني ألعمل للمسلمين ويطلق على الوالة
اسم العمال ،وتتكرر عبارة :أرسل عامله " وأرسل إلى عامله على كذا".
وقد أعطى اإلسالم لألفراد الحق في العمل ،أو االمتناع عنه وفي اختيار هذا العمل أو النوع أو
ذلك ،وهذه الحرية مقررة شرعاً ألنها فرع عن حرية الرأي والتفكير وتدخل ضمن الحريات
الشخصية ،ولكل إنسان أن يعمل ما يشاء وأن يكسب ـ من الطرق المشروعة ـ ما شاء وله
الحق في اختيار وقت العمل وساعاته ،واختيار الوقت ،إذا كان يعمل لنفسه ،فإن عمل إلى
غيره فالعبرة في العقود ـ عامة ـ وعقد العمل خاصة بالتراضي وما يتم االتفاق عليه ،في تقييد
الزمان والمكان ،وتحديد ساعات العمل وأجره ،وال يقيد العمل إال القيود العامة في الحالل
والحرام وضمن األحكام الشرعية وأال يؤدي العمل إلى اإلضرار والضرر بالغير ،لقوله صلى
اهلل عليه وسلم« :ال ضرر وال ضرار».1
والغالب أن يتم اختيار العمل من صاحبه حسب اإلمكانيات الخاصة والمواهب الممنوحة له،
والمهارة التي يتقنها ،وما فطره اهلل تعالى له من ترك حرية االختيار له حسب هذه الفطرة،
وبذلك ورد في الحديث« :اعملوا فكل ميسر لما خلق له».2
كما يتبع حرية العمل حق التنقل واالنتقال والسفر في أطراف األرض الختيار العمل المناسب
واألجر المناسب ،وأن االنتقال والسفر والضرب في األرض يعتبر عذرًا لإلنسان في الرُّخص
الشرعية ،وقدام القرآن الكريم عُذر العمل على عذر المجاهد ،فقال تعالى﴿ :فَاقرَؤُوا مَا تَيَسَّ َر
ـ كما يتفرع على حرية العمل حق العامل في االنضمام إلى تنظيم عمالي يضم أفراد حرفته أو
مهنته ،لتنسيق األعمال والمطالبة بالحقوق ،وتنظيم األجور واألوقات ،بما ال يضر بالمصلحة
العامة.1
325
والعمال في الدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية:
َّ العمل
على الدولة الحديثة واجبات نحو العمل والعمال كثيرة لتنشيط عجلة اإلنتاج منها:
ـ إعادة هيكلة نظام األجور بما يالئم المرحلة التي تمر بها الشعوب.
ـ إعالن الحكومة سنوياً ،عن فرص العمل لديها ،نسبة إلى عدد العاطلين في الدولة وكذلك
متوسط دخل المواطن نسبة إلى موازنة الدولة على أن يكون ذلك اإلعالن بأسلوب علمي
إحصائي رقمي مدقق.
ـ إعداد حزمة من التشريعات تنظم العالقة بين العامل وصاحب العمل وتنظم العمل بالقطاعين
العام والخاص ،وتكفل للعمال الحق في إنشاء النقابات والروابط.
ـ تحديث قوانين التقاعد والمعاشات بما يكفل إزالة كافة اآلثار السلبية ألحكامها على القوى
العاملة بالدولة.
-تبني الدولة نهج صرف إعانة بطالة لكل مواطن فيها تعجز عن تشغيله ،وذلك من إنشاء
صندوق حكومي خاص بمكافحة البطالة.
ـ التصدي للممارسات المخالفة للقانون من قبل أصحاب العمال حيال المشتغلين لديهم من
العمال وبخاصة استعمال العنف واالستغالل والعمل القسري ،محاربة كافة أشكال التمييز في
شتى مواقع العمل.
ـ تطوير مراكز إسكان متخصصة ومنخفضة التكاليف تستوفي أو تتفوق على المعايير الدولية
المتعلقة بإسكان العمال من حيث الحد األدنى للمساحة الخاصة والمشتركة ومرافق الترفيه
والنظافة والسالمة والصحة.
ـ تحسين مخرجات التعليم الكفيلة برفع إنتاجية العامل في الدولة.
ـ تدريب العاملين على ريادة األعمال وذلك من خالل العمل القيادي.
326
ـ إتاحة فرصة التدريب العالي الجودة ووفقاً ألحدث المعايير العالمية لكافة التخصصات
اإلنتاجية.
ـ التنسيق بين الجهات المسؤولة عن التعليم والتدريب والعمل واإلحصاء.
ـ دعم التحول إلى االقتصاد المعرفي وذلك سعياً إلى زيادة كفاءة سوق العمل.
ـ استقطاب المهرة وذوي الكفاءات والتخصصات النادرة من الوافدين واالحتفاظ بهم ضمن
سوق العمل للدولة.
ـ وضع نظام معلوماتي متكامل يكفل إنشاء قاعدة بيانات تشمل كافة البيانات والمعلومات
واألرقام ذات الصلة بسوق العمل ،وذلك في صورة سهلة ومبسطة وتيسير لصانعي السياسات
اتخاذ القرارات المناسبة لمصلحة سوق العمل في الدولة.
ـ تحسين خدمات التوظيف في السوق ،وزيادة الخدمات اإلرشادية ذات الصلة بها.
وفي حالة عدم قدرة المواطنين على العمل تعمل الدولة على تأمين حياة كريمة وتوفير معاشات
الئقة بالكرامة اإلنسانية.
ـ وعلى ضمان تغطية نظام التأمينات بصورة مباشرة كل من موظفي الجهاز اإلداري للدولة
ورجال ا لقضاء والسلك الدبلوماسي والقنصلي وموظفين القطاعين العام والخاص وموظفي
الجهات المنظمة بقوانين خاصة.
ـ وسن التشريعات الالزمة التي تضمن لجميع المواطنين حقوقاً متساوية ،منها ما يتعلق
بحمايتهم من العوز والحاجة عند العجز أو الوفاء أو إصابة العمل أو عدم توفر العائل من
خالل نظام التأمينات وأخرى توفر الحماية لباقي المواطنين عن طريق قانون الضمان
االجتماعي.
3ـ الرياضة:
امتازت شريعة اإلسالم بمراعاة جميع جوانب الحياة اإلنسانية ،فعملت على تغذيتها بما هو
نافع ومفيد.
327
وقد ارتبطت الرياضة في اإلسالم بعدة أهداف سامية مثل إعداد الفرد للقتال في سبيل اهلل تعالى
وتقوية جسده ليقوم بعمل الصالحات بهمة ونشاط ،كما قال صلى اهلل عليه وسلم« :المؤمن
القوي خير وأحب إلى اهلل من المؤمن الضعيف وفي كلٌ خير» .1والقوة تشمل قوة الجسد لمن
قدر عليها مع قوة اإليمان ،ومثل مالعبة األهل :فقد ثبت عنه صلى اهلل عليه وسلم أنه سابق
زوجه عائشة رضي اهلل عنها على األرجل أكثر من مرة ،فعن عائشة رضي اهلل عنها :أنها
كانت مع النبي صلى اهلل عليه وسلم في سفر :قالت :فسابقته على رجلي فلما حملت اللحم
سابقته فسبقني ،فقال« :هذه بتلك السبقة» 2وهذا األمر يسهم في زيادة المحبة واأللفة بين
الزوجين مما ينعكس أثره الطيب على استقرار األسرة ومن األهداف األخرى :زيادة المحبة
بين األخوة واألصحاب من خالل اللعب وغير ذلك من األهداف.3
وقد مارس رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بنفسه بعض األلعاب الرياضية ،والسيما ما يتعلق
حث على ممارسة ركوب الخيل
َّ منها بركوب الخيل واإلبل ،وأنه صلى اهلل عليه وسلم
والرماية ،وأقرا صحابته الكرام على عدد من األلعاب الرياضية األُخر ،كالسباحة والعدو.
واألصل في الرياضة اإلباحة وذهب مجموعة من العلماء السابقين والمعاصرين إلى ذلك منهم
العز بن عبد السالم ،ولكن بشرط االقتصاد فيه ،وإال كان مخالفاً لشرع اهلل تعالى مع اإلسراف
وترك التوسط واالعتدال.4
وكذلك اإلمام ابن قدامة من الحنابلة إذ يقول :وسائر اللعب إذا لم يتضمن ضرراً وال شغالً عن
فرض فاألصل إباحته .5ويوافقه ابن تيمية كذلك ،بشرط أن يكون في اللعب مصلحة ويخلو من
الضرر ،فيقول :ويجوز اللعب بما قد يكون فيه مصلحة بال مضرة.6
328
ومن العلماء المحدثين :الدكتور يوسف القرضاوي ،على أال يقترن اللعب بمحرم ،1وكذلك
الشيخ محمد العثيمين بشرط أال تلهي عن واجب أو تقترن بمحرم ،وأال تشغل أغلب وقت
المسلم وإال كانت محرمة أو مكروهة ،2وقد استدل القائلون باإلباحة بعدة أدلة هي:
ـ أن األصل في األشياء اإلباح ة ،وهذا يعرف من قول المبيحين ،أن اللعب إن لم يتضمن
محرماً أو يفضي إليه فاألصل إباحته.
ـ ما ثبت عنه صلى اهلل عليه وسلم أنه مارس ألعاباً كثيرة ،وأقرا الصحابة الكرام بها وبغيرها
كالصراع والعدو والسباحة وغيرها ،فهو دليل على إباحة ما ليس فيه حرمة من اللعب واللهو،
فإن مورست بقصد التقوى أصبحت عبادة يؤجر صاحبها وإال فمباحة.
ـ ما جاء في الحديث :أن حنظلة رضي اهلل عنه دخل مع أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه وقال
للنبي صلى اهلل عليه وسلم :نافق حنظلة يا رسول اهلل ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
«وما ذاك؟» قلت ـ أي حنظلة :يا رسول اهلل نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي
العين ،فإذا خرجنا من عندك عافسنا "العبنا" األزواج واألوالد والضيعان ونسينا كثيراً كثيراً.
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :والذي نفسي بيده إنكم لو تدومون على ما تكونون
عندي ،وفي الذكر لصافحتكم المالئكة على فرشكم وفي طرقكم ،ولكن يا حنظلة ساعة
وساعة» وكرر هذه الكلمة ثالث مرات.3
فقد راعى الشارع الحكيم حاجة النفس إلى اللهو والترفيه واللعب المنضبط بحدود الشارع
وأقراها.4
فالنبي صلى اهلل عليه وسلم لم ينكر على حنظلة لعبه مع أهله وولده لعلمه بما تحتاج إليه
األنفس من ذلك ولكنه صلى اهلل عليه وسلم وجهه إلى الموازنة بين حاجاته وما ينبغي عليه
القيام به من واجبات شرعية ،فقال له« :ولكن يا حنظلة ساعة وساعة».
1األلعاب الرياضية ،ص ،61 :الحالل والحرام ،ص 278 :ـ .281
2األلعاب الرياضية ،ص.62 :
3المصدر نفسه ،ص.67 :
4الحالل والحرام للقرضاوي ،ص 278 :ـ .279
329
تمل
ـ ما ورد عن علي بن أبي طالب أنه قال :روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإنها تملا كما ُّ
األبدان ،1فدل على أن ترويح النفس حاجة نفسية مباحة والترويح بالمباح أباحه الشرع.
على أنه ينبغي التنبيه على أن اإلباحة مضبوطة بحدود االقتصاد وعدم اإلسراف في اللهو
واللعب وإال كانت مكروهة كما أن دخول الضرر فيها أو المفاسد من تضييع واجبات أو شغل
عماا هو أولى من اللعب من أمور الدين أو الدنيا قد يخرج اللعب من دائرة اإلباحة إلى دائرة
الكراهة أو الحرمة.2
منافع الرياضة:
أ ـ للرياضة منافع عديدة ،تجعل من االهتمام بها في الدولة الحديثة من األهمية بمكان ومن
ذلك:
ـ إعداد الجسد بدنياً للقتال والمهام العسكرية واألمنية ،إن الهدف األسمى من ممارسة األلعاب
الرياضية للمسلمين كان من أجل إعداد الفرد المجاهد القوي بدنياً ـ إضافة لقوة اإليمان ـ
وممارسة الرياضة من أجل هذا الهدف تعدُ طاعة يتقرب بها العبد إلى ربه عز وجل ،قال
تعالى﴿ :وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا استَطَعتُم مِّن قُوَّة﴾ (األنفال ،آية .)60 :
فالمسلم مطالب بأن يُعدا جسده في سبيل اهلل تعالى وللقيام بأعباء الحياة على أكمل وجه وإذا
كان إعداد القوة يشمل العديد من األمور ،فإن تحصيل القوة الجسدية بممارسة بعض األلعاب
الرياضية يدخل في هذا الجانب وقد أكد العديد من العلماء على هذه الناحية.3
ـ المحافظة على لياقة الجسم ومنع تكون الدهون الزائدة عن حاجة الجسم ،وقد أشار علماء
المسلمين إلى ذلك يقول ابن القيم:
والحركة أقوى األس باب في تولادها ـ أي الطعام الزائد ـ فإنها تسخن األعضاء وتسيل فضالتها،
فال تجتمع على طول الزمان ،وتعواد البدن الخفاة والنشاط.4
330
ومن فوائد ذلك أيضاً البعد عن الكسل والخمول ،لذلك البد من االستمرار في ممارسة بعض
أنواع األلعاب الرياضية ـ كالجري والمشي ـ للمحافظة على لياقة الجسد باستمرار ،1وتؤكد
الدراسات الحديثة أن ممارسة الرياضة تحفظ الصحة واللياقة وتبعد عن البطء والكسل
والبدانة.2
ـ اإلسهام في الوقاية من أمراض البدن:
وأشار إلى هذا ابن القيم إذ يقول عن الرياضة :وتؤمن جميع األمراض المادية وأكثر األمراض
المزاجية إذا استعمل القدر المعتدل منها في وقته وكان باقي التدبير صواباً.3
وتشير الكثير من الدراسات الحديثة والمؤلفات والتقارير الحديثة إلى صحة هذه الفوائد من
خالل الرياضة المنظمة والمدروسة في الوقاية من األمراض كالسكري والذبحة الصدرية
والجلطات الدماغية أو أي نوع من أنواع االضطرابات الخاصة بالدورة الدموية لدى مرض
السكري ،وتعمل على تقليل مستويات السكر في الدم.4
كذلك تسهم األلعاب الرياضية ـ وبالذات المشي ـ في تنظيم ضربات القلب وتحسين التنفس عبر
الرئتين والحد من التوتر النفسي وضغط التنفس واإلرهاق كما تعمل على منع األعراض
ا لسلبية المتعلقة بتقدم السن كتصلب الشرايين وتكلس المفاصل ،وارتفاع ضغط الدم وآالم أسفل
الظهر والعنق.
وتسهم األلعاب الرياضية المؤداة بدقة في تعويض العيب والنقص البدني لدى األفراد المعاقبين
بدنياً ،فتعواض ذلك في النقص أو تصلح ما لديهم من عيوب ،وتؤثر بصورة إيجابية على
الدماغ والسيما "الذاكرة" من خالل السماح بمرور أفضل للدم ،عن طريق تحسين قدرة ضخ
القلب للدم ونقل األكسجين وبالذات لدى كبار السن ،وأثبتت الدراسات كذلك أن الجري والقفز
وبعض التمرينات ،تسهم في الوقاية بصورة كبيرة من مرض هشاشة العظام وترققها.
كما أن ممارسة الرياضة كالمشي تساعد إلى حد كبير في الوقاية من سرطان القولون.
331
وتؤدي رياضة السباحة إلى تحسين حياة مرضى "الربو" وتقليل عدد العالجات ودخول
المشافي ،وتؤدي بعض األنشطة الرياضية المنتظمة إلى تخفيف التوتر والقلق المسبب
للصداع ،وبالتالي تقليل نوبات الصداع النصفي "الشقيقة" إلى النصف تقريب ًا.1
ب ـ أهمية األلعاب الرياضية من الناحية النفسية:
إن ممارسة األلعاب الرياضية يعود على النفس بفوائد نفسية عديدة منها:
*ـ دفع الملل عن النفس:
وأحوج الناس إلى تقسيم الوقت وتنظيمه هم المشغولون من الناس من أصحاب المسؤوليات
لتزاحم األ عباء عليهم ،حتى إنهم يشعرون أن الواجبات أكثر من األوقات ،ومن تنظيم الوقت
أن يكون جزءًا للراحة والترويح ،فإن النفس تسأم بطول الجدا ،والقلوب تملُّ كما تملُّ األبدان،2
وقد ظن حنظلة رضي اهلل عنه أنه قد نافق ألنه قد يكون عند الرسول صلى اهلل عليه وسلم في
سكينة وتقوى من اهلل عندما سمع من الرسول صلى اهلل عليه وسلم أمور اآلخرة ،ثم يكون في
لعب وراحة عندما يكون مع زوجه وأهله ،فلما جاء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قائالً :نافق
حنظلة ،قال له الرسول صلى اهلل عليه وسلم« ..:ولكن يا حنظلة ساعة وساعة» ،3فالنبي
صلى اهلل عليه وسلم ي علم أن النفس تحتاج إلى أوقات من الجدا تعبُد فيها اهلل تعالى وتطلب
الرزق وتحتاج إلى أوقات من الراحة والترويح عن النفس بالمباح كمالعبة األهل فدعا حنظلة
إلى إعطاء نفسه حقها من كل ذلك ،فعلم حنظلة رضي اهلل عنه أنه لم ينافق ،ألن فعله مباح
متوافق مع ما تحتاجه الفطرة والنفس من أمور مباحة ،لذلك كان علي بن أبي طالب رضي اهلل
عنه يقول :روحوا القلوب ،فإنها تمل كما تملُّ األبدان ،4فإن القلب إذا كان كل شغله جداً ،فإنه
لن يطبق ذلك ،إذ النفس مجبولة على طلب الراحة واللعب ـ ومن ذلك األلعاب الرياضية ـ فذلك
332
أمر طبيعي وفط ري ال غنى عنه ،فال حاجز يمنعها من طلبه إذا ما التزمت حدود الشرع في
ذلك.1
وتشير الدراسات الحديثة المختصة إلى هذه الفائدة سواء عند األطفال أو الشباب أو المسنين،
لما تقتضيه من ملء الوقت والفراغ بما هو نافع ومفيد مماا يحسن من المزاج ويذهب الكآبة
النفسية عن ممارسي الرياضة في كثير من األحيان.2
*ـ التخفيف من حدة الشهوة الجنسية:
إذا كان اإلنسان عاجزًا لظروف معينة عن تلبية الرغبة بالزواج ،فإن عليه أن يمنعها من
السعي وراء تلبيتها بما هو محرم ،فيستعين على ذلك باإلرادة والصبر والتقوى والصوم كذلك
للمسلم ـ وال بأس بممارسة األلعاب الرياضية والتي تسهم في الحدا من رغبته بممارسة ما
يسمى "العادة السرية" أو "االستمناء" وخاصة لدى الشباب ،مما يسهم في تحقيق السكون
والطمأنينة للنفس في بعض األحيان ،غير أن األلعاب الرياضية قد تسهم في زيادة الشهوة
الجنسية وإثارة دوافع الزنا والفاحشة إذا ما مورست في بيئة فاسدة يختلط فيها الرجال والنساء،
ويفشو العري بينهم مما هو واقع بكثرة بين الرياضيين في زماننا.3
*ـ تسهم في منع األمراض النفسية المزاجية:
وفي هذا يقول ابن القيم رحمه اهلل في الرياضة ...:وتؤمن "من" جميع األمراض المادية وأكثر
األمراض المزاجية إذا استعمل القدر المعتدل منها في وقته ،وكان باقي التدبير صواباً.
يقول األستاذ محمد قطب في حديثه عن الفروسية ..:وفضالً عن ذلك فهي وسيلة إلثبات الذات
بطريقة نظيفة بدالً من أن يلجأ الفرد إلى طرق شاذة منحرفة كاإلجرام لينال اهتمام الناس أو
إعجابهم ،والشك أن الرياضة البدنية بكل أنواعها داخلة في هذا النطاق ،4ومن األمراض
333
النفسية التي تسهم األلعاب الرياضية في الوقاية منها :التواترات ،واألرق والسهر والنكد
والشعور بالكآبة ،كما تؤكد ذلك الدراسات الحديثة.1
*ـ تهذيب النفس ودفعها إلى قبول الحق:
فإذا ما رواض اإلنسان جسده بحركات رياضية عن طريق ممارسة األلعاب الرياضية فإن ذلك
قد يدفعه إلى ترويض نفسه وتهذيبها بإلزامها بفضائل األخالق وحسن التصرف والمعاملة مع
اآلخرين ،وهذا ما يهدف إليه كثير من ممارسي األلعاب الرياضية من خالل ممارستهم تلك
األلعاب وهو ما تؤكده الدراسات الحديثة.2
وهذا األمر مشروع في اإلسالم ،ولعل من العجائب ما كان من صراع بين الرسول صلى اهلل
عليه وسلم وبين ركانة بن عبد يزيد القرشي ،حيث إن ركانة لقي الرسول صلى اهلل عليه وسلم
ـ وكان رُكانة مصارعاً ال يُصرع ـ فطلب إلى الرسول صلى اهلل عليه وسلم أن يُصارعه على
شاة فص رعه الرسول صلى اهلل عليه وسلم فعاوده مرة أخرى فصرعه الرسول صلى اهلل عليه
وسلم وفي الثالثة كذلك ،فكان ذلك سبباً في إسالم رُكانة رضي اهلل عنه ،إذ علم أن محمداً صلى
اهلل عليه وسلم لما آتاه اهلل من قواة فكان الصراع بينهما صراعاً للشرك في نفس ركانة ،3ومن
ذلك :م ا لو أراد إنسان دعوة أخ له إلى ترك محرم عن طريق ممارسة لعبة رياضية وفيه يقول
د .عبد الكريم زيدان في حديثه عن االستعانة ببعض المباح لتغيير المنكر ..كما لو كان له ولد
أو صديق يلعب القمار فيعوضاه بتخصيص جائزة له على سبق غيره في مباح كركض أو
فروسية أو رمي.4
ج ـ أهمية األلعاب الرياضية من الناحية االجتماعية:
من الفوائد للحياة االجتماعية:
*ـ اإلسهام في حفظ استقرار األسرة والنظام التربوي في المجتمع فإذا نشأ الفرد نشأة سليمة،
فإن األسرة البد أن يصلح حالها وتكون رافداً للمجتمع بالجيل العامل النافع ،ومن عناصر
334
التربي ة والتنشئة التي يحتاج إليها الفرد في حياته دخول عنصر الترويح والتربية البدنية مما
يُتحصل جزء كبير منه بممارسة األلعاب الرياضية ،وذلك يكون بدءاً من سنا الطفولة بالذات
فالشباب فكبار السنا ،وإذا كانت األسرة المنطلق إلى تطبيق ذلك ،فالمدرسة والجامعة
والمسجد ،هي المكمل لهذا الدور ،وقد أشار إلى أهمية هذه الناحية ـ والسيما في تربية األطفال
ثم الشباب ـ عدد كبير من العلماء ،1يقول اإلمام أبو حامد الغزالي :ويعودُ في بعض النهار
المشي والحركة والرياضة .2أي الطفل لينشأ نشأة سليمة ويقول السيد سابق :أن يحبب إليه ـ
أي الصبي ـ ممارسة األلعاب الرياضية مثل العدو والسباحة والرماية ،3فإذا كانت األلعاب
الرياضية تؤدي إلى قوة الجسد عند من يمارسها فإن الفرد سيكون أقدر على العمل وأكثر
فاعلية وإنتاجاً ،كل في مجاله المحدد له ،عكس ما يكون عليه حال الضعيف الكسول الخمول.4
*ـ المساهمة في حفظ المجتمع من المشاكل األخالقية:
وذلك عن طريق إيجاد وسائل مشروعة ومباحة لملء الفراغ لدى الناس والسيما الشباب ومن
تلك الوسائل ممارسة األلعاب الرياضية ،والتي تعمل على الحد من الشهوة الجامحة نحو
االتصال الجنسي بين الرجال والنساء والعزااب عند كثير منهم وكذلك منع الشباب وغيرهم من
قضاء وقت الفراغ في أمور محرمة كشرب المخدرات أو االشتغال بأعراض الناس أو
االعتداء عليهم ،5أو الذهاب إلى دور "السينما" الفاسدة المفسدة أو التسكع في الشوارع ونحو
ذلك.
والشك أن األلعاب الرياضية ليست العنصر الوحيد أو الرئيس في تحقيق ذلك ،فاألساس هو
التقوى واتباع الشرع ،والرياضة من العوامل المساعدة.
د ـ أهمية األلعاب الرياضية من الناحية السياسية:
لأللعاب الرياضية أهمية في بناء األفراد والمقاتلين األشداء في جيوش دول العالم وهذا الشك
يسهم بشكل كبير وفعال في تحقيق االستقرار السياسي للدول والشعوب جميعها ،فحيثما وجدت
1تربية الطفل في اإلسالم ،عبد اهلل عبد الرحيم ،ص.46 :
2إحياء علوم الدين (.)73 /3
3إسالمنا السيد سابق ،ص.238 :
4األلعاب الرياضية ،ص.56 :
5األلعاب الرياضية ،ص.56 :
335
القوة الجسدية لدى أفراد المجتمع وخاصة الجيوش فإن ذلك يكون سبباً في وجود القوة
العسكرية ،فالسياسة والعكس صحيح.
يقول األ ستاذ مصطفى الطحان في هذا الشأن :واألمم ـ كل األمم ـ إذا انهار إنسانها انهدم
بنيانها ،وإذا أرادت النهوض تركز على اإلنسان فأحيت فيه الجوانب الروحية واإلنسانية
والعقلية والجسدية واألخالقية ،فتراها تشمخ معه وتعود للعطاء ،1وقد فطن الحكام والزعماء
إلى ذلك ،فسعوا إلى تطبيقه عملياً في أفراد مجتمعاتهم وفي جيوش دولهم في مختلف األزمنة،
واستثمار الحاكم المدارس والجامعات ونحوها في بناء جيل قوي ..يسهم في تحقيق االستقرار
السياسي في بلده وبناء الجيل جسدياً بالرياضة من أنجح الوسائل وأحسنها في تحقيق تلك القوة.
ولعل األلعاب الرياضية كذلك ،تعد مجاالً لتحقيق بعض مجاالت التعاون بين الدول من خالل
إقامة اللقاءات الرياضية المشتركة بين أفرادها وأنديتها ومنتخباتها وقد يدل انعدام إقامتها على
حالة عداء بين الدول ،كما كان الحال في امتناع بعض الدول عن المشاركة في بطوالت عالمية
"كاألولمبياد" بسبب الخالفات السياسية.2
هـ ـ أهمية األلعاب الرياضية من الناحية االقتصادية:
فالفرد القوي جسدياً يكون في كثير من األحيان فاعالً ومنتجاً اقتصادياً أكثر من الفرد الضعيف
الكسول الخامل ،وهذا يعود على اإلنتاج االقتصادي بالفائدة أو الزيادة إذا ما تولى العمل
واإلنتاج أهل القوة والكفاءة الجسدية إلى جانب األخذ بقوة العلم والروح.3
والدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية تهتم بالرياضة وتقوم بدعمها وتطويرها كاآلتي:
ـ بناء المنظومة الرياضية تنظيماً وتشريعاً بشكل احترافي علمي مدروس.
ـ وضع اإلستراتيجيات المستقبلية لتطوير الرياضة.
ـ الرياضة والصحة البدنية ركيزتان للنهضة والتنمية والحفاظ على أمن الوطن.
ـ االهتمام بالنشاط الرياضي في كافة مراحل التعليم.
ـ نشر الوعي الرياضي ،ومكافحة التعصب ،واالهتمام بالنشء.
1في التدريب التربوي ،ص 49 :ـ .74
2األلعاب الرياضية ،ص.57 :
3األلعاب الرياضية ،ص.58 :
336
ـ تحفيز العاملين في مجال تطوير الرياضة للجميع والمواطنين لدفعهم نحو ممارسة الرياضة
للجميع.
ـ وضع خطط وبرامج تدعيم العالقات وأوجه التعاون بين المنظمات الشبابية والرياضية في
الداخل والهيئات الخارجية بالدول األجنبية والمهتمة بأنشطة الشباب في مجاالت العمل
الرياضي.
ـ تشجيع البحث العلمي المرتبط بالنشاط الرياضي والصحة واللياقة البدنية وإعداد المنتخبات
من النواحي البدنية والنفسية والمهارية.
ـ التخطيط السليم والبرمجة المسبقة للمشروعات الشبابية والرياضية وفقاً لإلستراتيجيات
واألهداف العامة والمحددة.
ـ إصالح اإلدارة الرياضية وضمان حسن تنظيم المرافق الرياضية وذلك خالل متابعة كافة
األنشطة الرياضية.
ـ تقديم الحوافز المعنوية والمادية للفرق الرياضية الوطنية.
ـ إشراك القطاع الخاص في إدارة المشاريع الرياضية والشبابية ذات الربحية االقتصادية.
ـ اال هتمام بالمناطق النائية والمحرومة من خالل بناء المالعب والساحات الرياضية والمراكز
الصحية المتخصصة في التأهيل والتدريب وعالج إصابات المالعب.
ـ وضع هيكل تنظيمي يضم إدارات مختلفة لتنظيم برامج الرياضة للجميع على مستوى كافة
األعمار ولكال الجنسين ولألصحاء والمعاقين.
ـ توفير اإلمكانات البشرية المدربة والمادية متمثلة في األجهزة واألدوات والمالعب بما يتيح
الفرصة لممارسة الرياضة السليمة في بيئة آمنة.
ـ إتاحة الفرصة لمشاركة أكبر عدد من أفراد المجتمع في أنشطة الرياضة للجميع باستخدام
أنشطة متنوعة تتناسب مع إمكانيات األفراد تبعاً لمقدراتهم البدنية والصحية.
ـ االهتمام باإلعالم الرياضي على مختلف مستوياته ووضع ضوابط تحكم عملية النشر وطرح
الموضوعات والنقد ،وتوجيهه لما يخدم المصلحة العامة وتحقيق أهداف األنشطة الشبابية.
337
ـ إنش اء ساحات ومالعب بسيطة في األحياء السكنية واالستفادة من المنشآت الرياضية المتوفرة
في المؤسسات التعليمية كالمدارس بعد تهيئتها كمراكز الستقبال الشباب وتوجيههم لممارسة
األنشطة الرياضية الهادفة.
ـ منع كل ما من شأنه أن يؤدي إلى محرم أو يعين عليه.
338
للتكليف ،والمسؤولية والجزاء ودخول الجنة واعتبرها إنساناً كريماً له كل ما للرجل من حقوق
إنسانية ،ألنهما فرعان من شجرة واحدة ،وأخوان ولدهما أب واحد وهو آدم ،وأم واحدة هي
حواء ،فهما متساويان في أصل النشأة ،متساويان في الخصائص اإلنسانية العامة ،متساويان
في التكليف والمسؤولية ،متساويان في الجزاء والمصير ،1وفي ذلك يقول القرآن الكريم ﴿ :يَا
ال كَثِيرًا
ق مِنهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَا ً
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُ ُم الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفس وَاحِدَة وَخَلَ َ
ن عَلَيكُم رَقِيبًا﴾ (النساء ،آية .)1 :
وَنِسَاء وَاتَّقُوا اهللَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِ ِه وَاألَرحَا َم إِنَّ اهللَ كَا َ
وإذا كان الناس ـ كل الناس ـ رجاالً ونساء ،خلقهم ربهم من نفس واحدة وجعل من هذه النفس
جهَا لِيَسكُنَ إِلَيهَا﴾
زوجاً تكملها ،وتكتمل بها كما قال في آية أخرى َ ﴿ :وجَ َع َل مِنهَا زَو َ
والرجل ـ بهذا النص ـ أخ المرأة ،والمرأة شقيقة الرجل ،وفي هذا قال الرسول صلى اهلل عليه
وسلم« :إنما النساء شقائق الرجال».2
أ ـ في مساواة المرأة للرجل في التكليف والتدين والعبادة ،يقول القرآن الكريم ﴿ :إِنَّ المُسلِمِي َ
ن
339
ب ـ في التكاليف الدينية االجتماعية األساسية :يساوي القرآن بين الجنسين بقوله تعالى:
ن
ف وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُو َ
ن بِالمَعرُو ِ ﴿وَالمُؤ ِمنُو َ
ن وَالمُؤ ِمنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاء بَعض يَأمُرُو َ
آية .)71:
ج ـ وفي قصة آدم توجه التكليف اإللهي :إليه وإلى زوجه سواء ،قال تعالى ﴿ :يَا آدَمُ اسكُن
(البقرة ،آية .)35 :والجديد في هذه القصة كما ذكرها القرآن ـ أنها نسبت اإلغواء إلى
الشيطان ال إلى حواء ـ كما فعلت التوراة المحرفة ﴿ :فَأَزَلَّهُمَا الشَّيطَانُ عَنهَا فَأَخرَ َ
جهُمَا مِمَّا كَانَا
ولم تنفرد حواء باألكل من الشجرة وال كانت البادئة ،بل كان الخطأ منهما معاً ،كما كان الندم
َن مِنَ الخَاسِرِينَ﴾
والتوبة منهما جميعاً ﴿ :رَبَّنَا ظَلَمنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّم تَغفِر لَنَا َوتَرحَمنَا لَنَكُون َّ
وقال تعالى﴿ ":وَعَصَى آدَمُ رَبَّ ُه فَغَوَى﴾ (طه ،آية .)121 :
كما نسب إليه التوبة وحده أيضًا " ثُمَّ اجتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَي ِه وَهَدَى" (طه ،آية .)122 :مما يفيد
أنه األصل في المعصية وامرأته تابع له ،ومهما يكن األمر فإن خطيئة حواء ال يحمل تبعتها
340
إال هي ،وبناتها براء من إثمها وال تزر وازرة وزر أخرى ﴿ :تِلكَ أُمَّة قَد خَلَت لَهَا مَا كَسَبَت
د ـ وفي مساواة المرأة للرجل في الجزاء ،دخول الجنة يقول اهلل تعالى﴿ :فَاستَجَابَ لَهُم رَبُّهُم
فنص القرآن في صراحة على أن األعمال ال تضيع عند اهلل ،سواء كان العامل ذكراً أم أنثى،
فالجميع بعضهم من بعض ،من طينة واحدة ،وطبيعة واحدة ،قال تعالى﴿ :مَن عَمِ َل صَالِحًا مِّن
ذَكَر أَو أُنثَى وَهُ َو مُؤمِن فَلَنُح ِييَنَّ ُه حَيَا ًة طَيِّبَ ًة وَلَنَجزِيََّنهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ﴾ (النحل،
341
إذهان األبناء ونفوسهم وذلك في مثل قوله تعالى﴿ :وَوَصَّينَا اإلِنسَانَ ِبوَالِدَيهِ حَمَلَت ُه أُمُّهُ وَهنًا
ن أَنِ اشكُر لِي وَلِوَالِدَيكَ إِلَيَّ المَصِيرُ﴾ (لقمان ،آية .)14 :
عَلَى وَهن وَفِصَالُهُ فِي عَامَي ِ
ومن توجيهات القرآن الكريم :أنه وضع أمام المؤمنين والمؤمنات أمثلة وقدوة حسنة ألمهات
صالحات كان لهن أثر ومكان في تاريخ اإليمان.
ـ فأم موسى تستجيب إلى وحي اهلل وإلهامه ،وتلقي ولدها فلذة كبدها في اليما مطمئنة إلى وعد
ربها ،قال تعالى﴿ :وَأَوحَينَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَن أَرضِعِي ِه فَإِذَا خِف ِ
ت عَلَيهِ فَأَلقِيهِ فِي اليَمِّ وَالَ تَخَافِي
ـ وأم مريم التي نذرت ما في بطنها محرراً هلل ،خالصاً من كل شرك أو عبودية لغيره ،داعية
(آل عمران ،آية .)35 : ت السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾
اهلل أن يتقبل منها نذرها ،قال تعالى﴿ :فَتَقَبَّل مِنِّي إِنَّكَ أَن َ
فلما كان المولود أنثى على غير ما كانت تتوقع لم يمنعها ذلك من الوفاء بنذرها ،سائلة اهلل أن
يحفظها من كل سوء ،قال تعالى﴿ :وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ﴾ (آل عمران،
ومريم ابنة عمران أم المسيح عيسى ،جعلها القرآن آية في الطهر والقنوت هلل والتصديق
ت رَبِّهَا بكلماته ﴿ َومَريَ َم ابنَتَ عِمرَانَ الَّتِي أَحصَنَت فَر َ
جهَا فَنَفَخنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَت بِكَلِمَا ِ
342
ز ـ المرأة باعتبارها بنتاً :كان العرب في الجاهلية يتشاءمون بميالد البنات ويضيقون به ،حتى
قال أحد اآلباء ـ وقد بُشر بأن زوجه ولدت أنثى ـ :واهلل ما هي بنعم الولد نصرها بكاء وبرها
سرقة .يريد أنها ال تستطيع أن تنصر أباها وأهلها إال بالصراخ والبكاء ال بالقتال والسالح وال
أن تبرهم إال بأن تأخذ من مال زوجها ألهلها.
وكانت التقاليد المتوارثة عندهم تبيح لألب أن يئد ابنته ـ يدفنها حية ـ خشية من فقر قد يقع ،أو
من عار تجلبه حين تكبر على قومها ،وفي ذلك يقول القرآن منكراً عليهم ومفزعاً لهم ﴿ :وَإِذَا
ويصف حال اآلباء عند والدة البنات ،قال تعالى﴿ :وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِاألُنثَى ظ َّ
َل وَجهُ ُه مُسوَدًّا
ال سَاء
ن القَومِ مِن سُو ِء مَا بُشِّرَ ِبهِ أَيُمسِكُ ُه عَلَى هُون أَم يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَ َ
وَهُ َو َكظِيم * يَتَوَارَى مِ َ
مَا يَح ُكمُونَ﴾ (النحل ،آية .)59 ،58 :
وكانت بعض الشرائع القديمة تعطي األب الحق في بيع ابنته إذا شاء وبعضها اآلخر ـ كشريعة
حمورابي ـ تجيز له أن يسلمها إلى رجل آخر ليقتلها.
جاء اإلسالم فاعتبر البنت كاالبن ـ هبة من اهلل ونعمة ـ يهبها لمن يشاء من عباده ،قال تعالى:
ب لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ* أَو
ق مَا يَشَاء َي َهبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثًا وَ َيهَ ُ
ض يَخلُ ُ ﴿ ِ
هلل مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَاألَر ِ
جهُم ذُكرَانًا وَإِنَاثًا وَيَج َع ُل مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيم قَدِير﴾ (الشورى ،آية 49 :ـ .)50
َو ُ
يُز ِّ
وبيَّن القرآن الكريم في قصصه أن بعض البنات قد تكون أعظم أثرًا وأخلد ذكراً من كثير من
األبناء الذكور ،كما في قصة مريم ابنة عمران التي اصطفاها اهلل وطهرها واصطفاها على
نساء العالمين وقد كانت أمها عندما حملت بها تتمنى أن تكون ذكراً يخدم الهيكل ،ويكون من
الصالحين.1
343
قال تعالى﴿ :إِذ قَالَتِ امرَأَةُ عِمرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرتُ لَكَ مَا فِي بَطنِي مُح َّ
َررًا فَتَقَبَّل مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ
س الذَّكَرُ
هلل أَعلَمُ بِمَا وَضَعَت وَلَي َ
السَّمِيعُ العَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتهَا قَالَت رَبِّ إِنِّي وَضَع ُتهَا أُنثَى وَا ُ
كَاألُنثَى وَإِنِّي سَمَّيتُهَا مَريَ َم وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّ َتهَا مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِي ِم * فَتَقَبَّلَهَا رَُّبهَا بِقَبُول
حَسَن وَأَن َبتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ (آل عمران ،آية 35 :ـ .)37
وجعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الجنة جزاء كل أب يحسن صحبة بناته ويصبر على
تربيتهن وحسن تأديبهن ورعاية حق اهلل فيهن حتى يبلغن أو يموت عنهن ،وجعل منزلته
بجوار رسول اهلل في دار النعيم المقيم ،قال صلى اهلل عليه وسلم« :من كان له ثالث بنات،
فصبر على ألوائهن وضرائهن وسرائهن ،أدخله الجنة برحمته إياهن» ،فقال رجل :واثنتان
يا رسول اهلل؟ قال« :واثنتان» ،قال رجل :يا رسول اهلل وواحدة ،قال« :وواحدة» ،1لم تعد
والدة البنت عبثاً يخاف منه وطالع نحس يتطير به بل نعمة تشكر ورحمة ترجى وتطلب لما
وراءها من فضل اهلل تعالى ،وجزيل مثوبته ،وبهذا أبطل اإلسالم عادة الوأد إلى األبد وأصبح
للبنت في قلب أبيها مكان عميق.2
ح ـ المرأة باعتبارها زوجة :كانت بعض الديانات والمذاهب تعتبر المرأة رجساً من عمل
الشيطان يجب الفرار منه واللجوء إلى حياة التبتل والرهبنة ،وبعضها اآلخر كان يعتبر الزوجة
مجرد آلة متاع للرجل ،أو طاه لطعامه أو خادم لمنزله ،فجاء اإلسالم يعلن بطالن الرهبانية
وينهي عن التبتل ويحث على الزواج ويعتبر الزوجة آية من آيات اهلل في الكون ،قال تعالى:
ِن فِي ذَلِكَ
َدةً وَرَحمَةً إ َّ
جعَ َل بَي َنكُم َّمو َّ ﴿وَمِن آيَاتِهِ أَن خَلَ َ
ق لَكُم مِّن أَنفُسِكُم أَزوَاجًا لِّتَسكُنُوا إِلَيهَا وَ َ
344
وقرر اإلسالم للزوجة حقوقاً على زوجها ،ولم يجعلها مجرد حبر على ورق ،بل جعل عليها
أكثر من حافظ ورقيب من إيمان المسلم وتقواه أوالً ،ومن ضمير المجتمع ويقظته ثانياً ،ومن
حكم الشرع وإلزامه ثالثاً.
وأول هذه الحقوق "الصَداق" :الذي أوجبه اهلل للمرأة على الرجل إشعاراً منه برغبته فيها
ن لَكُم عَن شَيء مِّن ُه نَفسًا فَكُلُوهُ وإرادته لها ،قال تعالى﴿ :وَآتُوا النَّسَاء صَدُقَاتِه َّ
ِن نِحلَ ًة فَإِن طِب َ
فأين هذا من المرأة التي نجدها في مدينات أخرى ،فتدفع هي للرجل بعض مالها ،مع أن فطرة
اهلل جعلت المرأة مطلوبة ال طالبة؟
وثاني هذه الحقوق هو "النفقة" فالرجل مكلف بتوفير المأكل والملبس والمسكن والعالج المرأته
بالمعروف ،والمعروف هو ما يتعارف عليه أهل الدين والفضل من الناس بال إسراف وال
تقتير ،قال تعالى﴿ :لِيُنفِق ذُو سَعَة مِّن سَعَتِهِ َومَن قُدِرَ عَلَي ِه رِزقُهُ فَليُنفِق مِمَّا آتَاهُ اهللُ َ
ال يُكَلِّفُ اهللُ
.)19
وهو حق جامع يتضمن إحسان المعاملة في كل عالقة بين المرء وزوجه ،من حسن الخلق،
ولين الجانب ،وطيب الكالم ،وبشاشة الوجه ،وتطييب لنفسها بالممازحة والترفيه عنها وفي
مقابل هذه الحقوق أوجب عليها طاعة الزوج ـ في غير معصية طبعاً ـ والمحافظة على ماله،
فال تنفق منه إال بإذنه وعلى بيته ،فال تدخل فيه أحداً إال برضاه ولو كان من أهلها.
وهذه الواجبات ليست كثيرة وال ظالمة في مقابل ما على الرجل من حقوق ،فمن المقرر أن كل
حق يقابله واجب ،ومن عدل اإلسالم أنه لم يجعل الواجبات على المرأة وحدها وال على الرجل
ِن بِالمَعرُوفِ﴾ (البقرة ،آية .)122 : وحده ،بل قال تعالى﴿ :وَلَه َّ
ُن مِثلُ الَّذِي عَلَيه َّ
345
وللنساء من الحقوق مثل ما عليهن من الواجبات ومن جميل ما يروى أن ابن عباس رضي اهلل
عنه وقف أمام المرآة يصلح هيئته ،ويعدل من زينته ،فلما سئل في ذلك قال :أتزين المرأتي
ُن مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ﴾ ،وهذا من
كما تتزين لي امرأتي ثم تال اآلية الكريمة ﴿ وََله َّ
ولم يهدر اإلسالم شخصية المرأة بزوجها ولم يذبها في شخصية زوجها ،كما هو الشأن في
التقاليد الغربية ال تي تجعل المرأة تابعة للرجل ،فال نعرف باسمها ونسبها ولقبها العائلي ،بل
بأنها زوجة فالن.
أما اإلسالم فقد أبقى للمرأة شخصيتها المستقلة المتميزة ،ولهذا عرفنا زوجات الرسول صلى
اهلل عليه وسلم بأسمائهن وأنسابهن ،فخديجة بنت خويلد ،وعائشة بنت أبي بكر ،وحفصة بنت
عمر ،وميمونة بنت الحارث ،وصفية بنت حيي وكان أبوها يهودياً محارباً للرسول صلى اهلل
عليه وسلم ،كما أن شخصيتها المدنية ال تنقص بالزواج ،وال تفقد أهليتها للعقود والمعامالت
وسائر التصرفات ،فلها أن تبيع وتشتري وتؤجر أمالكها وتستأجر وتهب من مالها وتتصدق
وتوكل وتخاصم وهذا أمر لم تصل إليه المرأة الغربية إال حديثاً ،والزالت في بعض البالد
مقيدة إلى حدا ما بإرادة الزواج.2
اإلسالم يحافظ على أنوثة المرأة ،حتى تظل ينبوعاً لعواطف الحنان والرقة والجمال ،ولهذا
حرام على الرجال بما تقتضيه طبيعة األنثى ووظيفتها ،كالتحلي بالذهب،
أحلا لها بعض ما ُ
346
ولبس الحرير الخالص ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إن هذين حرام على ذكور أمتي
حلٌ إلناثهم».1
كما أنه حرام عليها كل ما يجافي هذه األنوثة ،من التشبيه بالرجال والحركة والسلوك وغيرها،
فنهى أن تلبس المرأة لبسة الرجل ،كما نهى الرجل أن يلبس لبسة المرأة ،ولعن المتشبهات من
النساء بالرجال ،مثلما لعن المتشبهين من الرجال بالنساء ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
« ثالثة ال يدخلون الجنة وال ينظر اهلل إليهم يوم القيامة :العاق لوالديه ،والمرأة المترجلة،2
والديوث.»3
واإلسالم يحمي هذه األنوثة ويرعى ضعفها فيجعلها أبداً في ظل رجل مكفولة النفقات ،مكيفة
الحاجات ،فهي في كفا أبيها أو زوجها أو أوالدها أو إخوتها يجب عليهم نفقتها وفق شريعة
اإلسالم ،فال تضطرها الحاجة إلى الخوض في لجج الحياة وصراعها ومزاحمة الرجال
بالمناكب ،واإلسالم يحافظ على خلقها وحيائها ،ويحرص على سمعتها وكرامتها ويصون
عفافها من خواطر السوء ،وألسنة السوء ،فضالً على أيدي السوء أن تمتد إليها.
ـ الغض من بصرها والمحافظة على عفتها ونظافتها ،قال تعالى﴿ :وَقُل لِّلمُؤمِنَاتِ يَغضُض َ
ن مِن
ـ االحتشام والتستر في لباسها وزينتها دون إعنات لها وال تضييق عليها ،قال تعالىَ ﴿ :و َ
ال
347
ـ أال تبدي زينتها الخفية ،كالشعر والعنق والنحر والذراعين والساقين إال لزوجها ومحارمها
ِن
ِن أَو آبَائِه َّ
ن زِي َنتَهُنَّ إِالَّ لِبُعُولَ ِته َّ الذين يشق عليها أن تستر منهم استتارها من األجانب ﴿ َو َ
ال يُبدِي َ
ِن أَو
ِن أَو بَنِي إِخوَانِهِنَّ أَو بَنِي أَخَوَا ِته َّ
ِن أَو أَبنَاء بُعُولَ ِتهِنَّ أَو إِخوَا ِنه َّ
ِن أَو أَبنَا ِئه َّ
أَو آبَاء بُعُولَ ِته َّ
ن غَي ِر أُولِي اإلِربَ ِة مِنَ الرِّجَا ِل أَوِ الطِّف ِل الَّذِينَ لَم يَظهَرُوا
ُن أَ ِو التَّابِعِي َ
نِسَائِهِنَّ أَو مَا مَلَكَت أَيمَا ُنه َّ
ت النِّسَاء﴾(النور ،آية .)31 :
عَلَى عَورَا ِ
ـ أن تتوفر في مشيتها وكالمها ،قال تعالىَ ﴿ :والَ يَضرِبنَ بِأَرجُلِهِنَّ لِيُعلَمَ مَا يُخفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ﴾
348
إن اإلسالم بهذه األحكام يحمي أنوثة المرأة من أنياب المفترسين في ناحية ويحفظ عليها
حياءها وعفافها بالبعد عن عوامل االنحراف والتضليل من ناحية ثانية ،ويصون عرضها من
ألسنة المفترين والمرجفين ثالثة ،وهو ـ مع هذا كله ـ تحافظ على نفسها وأعصابها من التوتر
والقلق ،ومن الهزات واالضطرابات ،نتيجة لجموح الخيال ،وانشغال القلب ،وتوزع عواطفه
بين شتى المثيرات والمهياجات وهو أيضاً ـ بهذه األحكام والتشريعات ـ يحمي الرجل من
عوامل االنحراف والقلق ويحمي المجتمع كله من عوامل السقوط واالنحالل.1
ومن المقاصد التي هدف إليها اإلسالم تكوين األسرة الصالحة التي هي ركيزة المجتمع
الصالح.2
وال ريب أن أساس تكوين األسرة هو الزواج الذي يربط بين الرجل والمرأة رباطاً شرعي ًا
وثيق العُرى ،مكين البيان ،مؤسساً على تقوى من اهلل ورضوان ،وقد اعتبر القرآن هذا الزواج
آية من آيات اهلل ،مثل خلق السموات واألرض ،وخلق اإلنسان من تراب وذلك في قوله تعالى:
ِن فِي ذَلِكَ
َدةً وَرَحمَةً إ َّ
جعَ َل بَي َنكُم َّمو َّ ﴿وَمِن آيَاتِهِ أَن خَلَ َ
ق لَكُم مِّن أَنفُسِكُم أَزوَاجًا لِّتَسكُنُوا إِلَيهَا وَ َ
فأشار إلى الدعائم الثالثة التي تقوم عليها الحياة الزوجية ،كما يرشد إليها القرآن ،وهي السكون
والمودة والرحمة ،ويعني بالسكون :سكون النفس من اضطرابها وثورانها توقاً إلى الجنس
اآلخر ،باإلشباع المشروع في ظل مرضاة اهلل ،فال يعرف اإلسالم األسرة إال بين رجل وامرأة
ك الجَنَّةَ﴾ (البقرة ،آية :
منذ األسرة البشرية األولى من آدم وزوجته ﴿ :اسكُن أَنتَ وَزَوجُ َ
.)35
ال يعرف ما يدعو إليه المتحللون من الغربيين وغيرهم اليوم من األسرة الوحيدة الجنس ،بحيث
يتزوج الرجل الرجل ،والمرأة المرأة ،وهذا أمر ضد الفطرة ،وضد األخالق ،وضد الشرائع،
349
وهو لألسف ما حاول مؤتمر السكان في القاهرة 1994م ومؤتمر المرأة في بكين أن يفرضاه
على العالم.1
350
وكان من دعاء عباد الرحمن ﴿:رََّبنَا هَب لَنَا مِن أَزوَا ِ
جنَا وَذُرِّيَّا ِتنَا قُرَّةَ أَعيُن وَاجعَلنَا
ـ .)6
فجاء الجواب اإللهي ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُ َ
ك ِبغُالَم اسمُهُ يَحيَى لَم نَجعَل لَّهُ مِن قَب ُل
.) 19والمعروف هنا ما يقره العرف السليم واعتاده أهل االعتدال واالستقامة من الناس ،قال
ِل لَكُم لَيلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُم هُنَّ لِبَاس لَّكُم وَأَنتُم لِبَاس لَّهُنَّ﴾
تعالى﴿ :أُح َّ
وإنما عُِّب ر عن هذه العالقة باللباس لما توحى به الكلمة من الزينة والستر واللصوق والدف،
ال أُضِيعُ عَمَ َل عَامِل مِّنكُم مِّن َذكَر أَو أُنثَى قال تعالى﴿ :فَاستَجَا َ
ب لَهُم رَبُّهُم أَنِّي َ
351
ومعنى ﴿بَعضُكُم مِّن بَعض﴾ :أن المرأة من الرجل والرجل من المرأة ،فال خصومة وال
ُن أُمَّهَا ِتكُم وَمَا جَ َع َل أَدعِيَاءكُم أَبنَاءكُم ذَلِكُم قَولُكُم بِأَفوَاهِكُم وَاهللُ
ن مِنه َّ
الالَّئِي تُظَاهِرُو َ
َق وَهُ َو يَهدِي السَّبِيلَ * ادعُوهُم آلِبَا ِئهِم ُه َو أَقسَطُ عِن َد اهللِ فَإِن لَّم تَعلَمُوا
يَقُو ُل الح َّ
س عَلَيكُم جُنَاح فِيمَا أَخطَأتُم بِهِ وََلكِن مَّا
آبَاءهُم فَإِخوَانُكُم فِي الدِّينِ وَ َموَالِيكُم وَلَي َ
ن اهللُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (األحزاب ،آية 4 :ـ .)5
تَعَمَّدَت قُلُوبُكُم وَكَا َ
وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :أيما رجل دعا إلى غير والديه ،أو تولى غير مواليه
الذين أعتقوه ،فإن عليه لعنة اهلل والمالئكة والناس أجمعين إلى يوم القيامة ،ال يقبل منه
صرف 2وال عدل».3
وألجل حفظ النسب حرم اإلسالم أيضاً الزنا ،وشرعت األحكام الخاصة بالعدة ،وعدم كتم ما
في األرحام ،وإثبات النسب وجحده وهي أحكام لها تفصيلها في مظانها من المراجع الفقهية.4
ـ اإلحصان:
يوفر الزو اج الشرعي صون العفاف ،ويحقق اإلحصان ،ويحفظ األعراض ،ويسد ذرائع الفساد
الجنسي بالقضاء على فوضى اإلباحية واالنحالل ،وقد اختص اإلسالم بمراعاته للفطرة
البشرية وقبولهم بواقعه ،ومحاولة تهذيبها واالرتقاء بها ال كبتها وال قمعها ،قال اهلل جل شأنه :
352
ن الذَّهَبِ
ن وَالقَنَاطِي ِر المُقَنطَرَ ِة مِ َ
ت مِنَ النِّسَاء وَالبَنِي َ ﴿زُيِّ َ
ن لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَا ِ
وهي شهوات مستحبة مستلذة لكنها يجب أن توضع في مكانها ال تتعداها وال تطغي على ما هو
أكرم من الحياة وأعلى.1
والقرآن الكريم ال يضع أي قيد على االستمتاع بين المرء وزوجه ﴿ :نِسَآؤُكُم حَرث لَّكُم
مادام االستمتاع في موضع الحرث وفي غير موضع األذى وزمانه ،قال تعالى﴿ :وَيَسأَلُونَ َ
ك
ن
ى يَطهُر َ
ُن حَتَّ َ
ال تَق َربُوه َّ
ض قُل هُ َو أَذًى فَاعتَزِلُوا النِّسَاء فِي المَحِيضِ وَ َ
عَنِ المَحِي ِ
ِب المُتَطَهِّرِينَ﴾
ن وَُيح ُّ
ِب التَّوَّابِي َ
ن فَأتُوهُنَّ مِن حَيثُ أَمَرَكُ ُم اهللُ إِنَّ اهللَ يُح ُّ
فَإِذَا تَطَهَّر َ
353
األسرة محضن األفراد وال برعاية أجسادهم فقط ،بل األهم غرس القيم الدينية والخلقية في
نفوسهم ،وتبدأ مسؤولية األسرة في هذا المجال قبل تكوان الجنين بحسن اختيار كل من
الزوجين إلى اآلخر ،وأولوية المعيار الديني والخلقي في هذا االختيار.1
وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إذا خطب إليكم من ترضونه دينه 2وخلقه زوجوه إال
تفعلوا تكن فتنة في األرض وفساد عريض».
وتستمر مسؤولية األسرة بتعليم العقيدة والعبادة واألخالق ألفراد األسرة ،وتدريبهم على
ممارستها ومتابعة ذلك حتى بلوغ األطفال رشدهم واستقاللهم بالمسؤولية الدينية عن
تصرفاتهم.3
354
وقال تعالى﴿ :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارًا وَقُو ُدهَا النَّاسُ وَالحِجَارَ ُة
355
ـ األخذ بالتجارب الرائدة إقليمياً وعالمياً بما يتناسب مع المجتمع واقتراح السياسات والحلول
الداعمة لنهضة المرأة.
ـ إشراك منظمات المجتمع المدني في النهوض بمسيرة للنهوض بالمرأة.
ـ تنفيذ السياسات والخطط والبرامج ذات الصلة باالرتقاء بأوضاع المرأة.
ـ تنظيم الحلقات التدريبية وعقد الورش والمؤتمرات لمعالجة قضايا المرأة واألسرة.
ـ بناء قاعدة لتجميع ورصد وتحليل المعلومات والبحوث والدراسات الخاصة باألنشطة
والبرامج المتعلقة بالمرأة واألسرة.
ويولد الطفل ضعيفاً وعاجزاً عجزاً مطلقاً ،فال حول وال قوة ،وشاءت الحكمة اإللهية أن يكون
اإلنسان أكثر المخلوقات حاجة لغيره بعد الوالدة ويحتاج إلى أطول فترة ـ بين المخلوقات ـ
معتمداً على غيره ،ومفتقراً للرعاية والعناية والحضانة وغيرها ،لذلك أناط الشرع الحكيم هذه
المسؤولية العظيمة باألبوين أوالً ثم المجتمع والدولة ثانياً ،ووضع الشرع أحكام متعددة
لألطفال ،وأثبت لهم حقوقاً كثيرة ،وحقوق األوالد هي واجبات اآلباء واألمهات ،وقد وضع
الشرع لها منهجاً في تربية األوالد من عدة عناصر 1أهمها:
أ ـ حسن اختيار الزوجة:
356
يقول علماء التربية :يجب على الوالد أن يبدأ بتربية ولده قبل الوالدة وهذا ما أرشد إليه اإلسالم
عن طريق اختيار الزوجة ،ألن خطيبة اليوم التي يقصدها الشاب هي زوجة الغد ،وأم
المستقبل ،ومربية األطفال واألجيال واألم هي المدرسة األولى التي تحتضن الطفل ،لترضعه
لبان األدب والتربية مع لبن الثدي والغذاء ،ثم ترعاه في أول مراحل العمر ،لتغرس في عقله
وقلبه البذور األولى التي ستنمو عند الكبر ،وتصون فطرته عما يفسدها مع ما تهب لوليدها من
صفات موروثة ،وطباع مفطورة ومواهب متأصلة ،فكان حُسن اختيار الزوجة من أجل األوالد
أكثر أهمية من بقية العوامل التي تطلب المرأة وهو ما أرشد إليه رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم بقوله« :تخيروا لنطفكم» ،1وقوله صلى اهلل عليه وسلم« :فاظفر بذات الدين تربت
يداك».2
ويقول الشاعر حافظ إبراهيم:
األم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طياب األعراق
فاألم هي المربية لألطفال ،والحاضنة لألوالد ،واألمينة على الذرية والمكلفة باإلشراف عليهم،
ألنها سترضع الطفل اللبن ،كما سترضعه العقيدة واألخالق والقيم ،وهي سترباي العباقرة
والمصلحين الذين يتولون دفة الحكم وسفينة اإلصالح ،وقيادة الجيوش ،ورجال الدعوة والفكر،
وبمقدار التوفيق في حسن اختيار الزوجة يكون الوالد قد أرسى حجر األساس من األحكام
الخاصة بالحامل والمرضع لرعاية الجنين والطفل الرضيع ،فأباح الشرع للحامل والمرضع
مثالً اإلفطار في رمضان ،وجعل الرضاعة حقاً للطفل ،لما يمتاز به لبن األم من فوائد جسمية
ونفسية للطفل ،وأن الرضاع واجب على األم قضاءً وديانة وتجبر األم عليه عند الحاجة ،كما
شرع اهلل الحضانة حقاً لألم والطفل معاً وإن أول جهد في التربية ،وأول دعامة لها ،هو التوجه
357
إلى البيت ،وخاصة إلى الزوجة الصالحة ،واألم المربية المؤمنة الواعية ،وقد كان دوماً وراء
كل عظيم امرأة عظيمة أو أب عظيم أو أبوان عظيمان.1
ب ـ رعاية الوليد:
تبدأ رعاية الوليد من جماع األب ألم الوليد ،فعن ابن عباس رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم« :لو أن أحدهم إذا أتى أهله ،قال :بسم اهلل ،اللهم جنبنا الشيطان وجنب
الشيطان ما رزقتنا ،فقضي بينهما ولد لم يضره الشيطان إن شاء اهلل» ،2ومتى تمت الوالدة
بدأت التربية منذ اللحظة األولى من حياة الوليد ،وهذا ما أرشد إليه الدين الحنيف وتفرد به
على سائر المناهج التربوية في العالم ،وكلف الوالدين بإرساء الدعائم التربوية ،التي سيتم
عليها بناء المستقبل ،وهي آداب إسالمية ،وسنن نبوية ،ومنهج رباني ،وأهم هذه اآلداب:
األدب األول :األذان واإلقامة في أذني الوليد ليكون أول شيء يسمعه في هذا الوجود وهو
توحيد اهلل تعالى ،الذي خلقه ،وأوجده من نطفة فعلقة فمضغة في ظلمات ثالث ،ليحقق الخالفة
في األرض ويبدأ بتنفيذ العهد الذي أخذه اهلل تعالى من بني آدم من ذريتهم وأشهدهم على
أنفسهم ﴿ :أَلَستَ بِرَِّبكُم قَالُوا بَلَى شَهِدنَا﴾ (األعراف ،آية .)172 :
األدب الثاني :حسن اختيار االسم وهذا مسؤولية الوالدين لما ورد في األحاديث الشريفة
الكثيرة ،قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويعلّمه
الكتابة ويزوجه إذا بلغ».3
وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يغير األسماء القبيحة التي كانت في الجاهلية إلى أسماء
حسنة ،وإن اختيار االسم الحسن عالمة بارزة في التربية غير المباشرة ،ألن كل شخص له من
اسمه نصيب ،إن خيراً فخير ،وإن شراً فشر ،باإلضافة إلى األمور النفسية التي بينها علماء
التربية عند المناداة باسم حسن أو قبيح وأثر ذلك على نفسية الطفل ،وعالقته مع زمالئه وأفراد
مجتمعه.
358
األدب الثالث :تكريم الطفل بالعقيقة إلعالن السعادة والفرح والبشر بمقدم الطفل ،وتكون العقيقة
بذبح شاة أو أكثر عن المولود يوم أسبوعه ،إلطعام األهل واألقارب والجيران بهذه المناسبة
السعيدة ،وتقديم الشكر هلل تعالى على فضله ونعمه ،وقال جمهور العلماء :العقيقة سنة.
ج ـ رعاية الطفل من الصغر:
وذلك في مأكله ومشربه وجسده وثيابه ،ليكون صحيح العقل ،سوي الجسم ،سليم الحواس ،فإن
حياة اإلنسان كل ال يتجزأ ،وإن حياته الجسمية في الصغر مؤشر إلى حالته في الكبر ،وإن
العقل الس ليم في الجسم السليم ،واإلسالم يريد منا أن نربي أوالدنا على القوة والنشاط ،يقول
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :المؤمن القوي خير وأحب إلى اهلل من المؤمن الضعيف
وفي كل خير».1
وهذه القوة تتجلى بالمعنى المادي ،كما تتجلى بالمعنى الروحي أيضاً بأن يكون الطعام طاهراً
ومبرءًا من كل حرام ،فال يطعم األوالد إال من حالل وال تتغذى الحامل والمرضع واألم
الحاضنة إال من حالل ،ألن اللبن أو الغذاء الحاصل من حرام ال بركة فيه ،وكيف يقدام الوالد
إلى أوالده الغذاء الحرام ،ثم يسعى إلى أن يكونوا على منهج اهلل ،وصراط رب العالمين؟ فإن
الفاسد ال يؤدي إال إلى فساد ،والحرام ال ينتج إال سوءاً وضرراً ،كما أن الحرام ال يكون وسيلة
إلى المقاصد النبيلة والغاية ال تبرر الواسطة ،وكل لحم نبت من السُحت فالنار أولى به ،ويقول
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إن اهلل طيبّ ،ال يقبل إال طيباً ،وإن اهلل أمر المؤمنين بما
ن الطَّيِّبَاتِ وَاعمَلُوا صَالِحًا﴾، أمر به المرسلين ،فقال تعالى﴿ :يَا أَيُّهَا الرُّ ُ
سلُ كُلُوا مِ َ
وقال تعالى﴿ :يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَِّيبَاتِ مَا رَزَقنَاكُم﴾ ،ثم ذكر الرجل يطيل
السفر ،أشعث أغبر يم ّد يديه إلى السماء يا رب ،يا رب ،ومطعمه حرام ،ومشربه حرام،
وغذّي بالحرام ،فأنى يستجاب له؟».2
359
ويظن كثير من اآلباء أن واجبهم تجاه األوالد ـ مقصور على تقديم القوت ،والغذاء والكساء ـ
وأن يؤمنوا لهم العيش الرغيد ،والحياة المادية المرهقة ،فيقضي األب األيام والسنين منهمكاً في
الكسب ،ويضرب في األرض للتجارة والعمل ،وسعي ذات اليمين وذات الشمال ،ويغيب عن
ال ويترك أوالده ،ويغفل عن تربيتهم ،ويظن أنهم صغار يكفيهم الطعام والشراب
بيته زمناً طوي ً
واللباس ،فتكون النتيجة الضياع والحسرة .وربط القرآن الكريم بين الكسب والرزق ،ووجوب
التربية ،وإن انصراف الوالدين بعض الوقت إلى تربية األوالد ال يؤثر على موارد رزقهم وال
ك
ن نَرزُقُ َ يبطل ،قال تعالى﴿ :وَأمُر أَهلَكَ بِالصَّالَةِ وَاصطَبِر عَلَيهَا َ
ال نَسأَلُكَ رِزقًا نَّح ُ
360
وذلك ألن كل مولود يولد على الفطرة اإليمانية ،كيف ال واهلل يقول ﴿ :وَإِذ أَخَذَ رَبُّ َ
ك مِن
ظهُورِهِم ذُرِّيَّ َتهُم وَأَشهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِم أَلَستَ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدنَا
بَنِي آدَمَ مِن ُ
أَن تَقُولُوا يَومَ القِيَامَ ِة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غَافِلِينَ﴾ (األعراف ،آية .)172 :
وإذا تأملنا صفحات القرآن نجد أن الرسل واألنبياء يعنون عناية كبيرة بسالمة عقيدة أبنائهم
ِي إِنَّ اهللَ اصطَفَى لَكُ ُم فمن ذلك قال تعالى﴿ :وَوَصَّى بِهَا إِبرَاهِي ُم بَنِيهِ َويَعقُو ُ
ب يَا بَن َّ
َي إِنَّهَا إِن تَكُ مِثقَا َل حَبَّة مِّن خَردَل فَتَكُن فِي
وهذا لقمان يرعى ابنه فيوصه ":يَا بُن َّ
ض يَأتِ بِهَا اهللُ إِنَّ اهللَ لَطِيف خَبِير﴾ (لقمان،
صَخرَة أَو فِي السَّمَوَاتِ أَو فِي األَر ِ
361
يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك وأعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب
وأن مع العسر يس ًرا».1
فإذا ما حفظ الطفل هذا الحديث وفهمه جيداً ،لم تقف أمامه عثرة ،ولم يعقه شيء في مسيرة
حياته كلها فأي تربية هذه ـ قديمة وحديثة ـ تستطيع أن تبلغ من نفس الطفل كما بلغها هذا
الحديث ،إن لهذا الحديث قوة كبيرة على حل مشاكل ـ األطفال والشباب والكهول والشيوخ ـ
بفضل تأثيره وروحانيته ،وله القدرة في دفع الطفل نحو األمام بفضل استعانته باهلل ومراقبته له
وإيمانه بالقضاء والقدر.2
ـ والبد من العمل على ترسيخ محبة رسول اهلل في نفوس األطفال والشباب ورسم صورته
وشخصيته في أذهانهم وعقولهم وتمكين محبة رسول اهلل في قلوبهم ،وتكون شخصية رسول
اهلل هي التي يقتدي بها األطفال والشباب والمسلمون عموماً.
ـ وينبغي لولي الصغير والصغيرة أن يبدأ بتعليمهما القرآن منذ الصغر وذلك ليتوجها إلى
اعتقاد أن اهلل تعالى هو ربهم وأن هذا كالمه تعالى ،وتسري روح القرآن في قلوبهم ونوره في
أفكارهم ومداركهم وحواسهم وليتلقيا عقائد القرآن منذ الصغر وأن ينشأ ويشبا على محبة
القرآن والتعلق به واالئتمار بأوامره واالنتهاء عن مناهيه والتخلق بأخالقه والسير على
منهاجه.3
قال ابن خلدون :تعليم الوالدان للقرآن شعار من شعائر الدين أخذ به أهالي الملة ،ودرجوا عليه
في جميع أمصارهم لما يسبق إلى القلوب من رسوخ اإليمان وعقائده بسبب آيات القرآن ومتون
األحاديث ،وصار القرآن أصل التعليم الذي يبني عليه ما يحصل من الملكات.4
وللقرآن الكريم تأثير كبير على النفس البشرية عامة ،يهزها ويجذبها ويضرب على أوتارها،
وكلما اشتدت النفس صفاء كلما ازدادت تأثيراً والطفل أقوى الناس صفاء ،وفطرته مازالت
نقية ،والشيطان مازال في كبوتها تجاهها.1
362
ـ والبد من تربية األطفال والشباب على الثبات على العقيدة والتضحية من أجلها ،فالعقيدة تغلو
بالتضحية لها ،وكلما اتسعت دائرة التضحية كلما قويت النفس على الثبات ،ودل ذلك على
الصدق ،وهي عين االستقامة ،وأطفال الصحابة وشبابهم ال يعرفون تكاسالً وال تثاقالً إلى
األرض ،وإنما يستخدمون شتى األساليب لكي ال يستصغرهم النبي صلى اهلل عليه وسلم
فيردهم عن الجهاد ،فتارة يبكون ،وأخرى يتوارون ،وثالثة يقفون على رؤوس أصابعهم ،كل
ذلك ليخرجوا إلى الجهاد في سبيل اهلل وينالوا شهادة في سبيله ال يعدلها أي شهادة في الدنيا
على اإلطالق وبنوا مستقبالً زاهراً خالداً أبدياً في جنة عرضها السموات واألرض.2
هـ ـ البناء العبادي:
الطفولة ليست مرحلة تكليف وإنما هي مرحلة إعداد وتدريب وتعويد للوصول إلى مرحلة
التكليف عند البلوغ ليسهل عليه أداء الواجبات والفرائض وليكون على أتم االستعداد لخوض
غمار الحياة بكل ثقة وانطالق والعبادة هلل تعالى تفعل في نفس الطفل فعالً عجيباً ،فهي تشعره
باالتصال باهلل جل وعال وهي تهدئ من ثوراته النفسية ،وهي تلجم انفعاالته الغضبية فتجعله
سوياً مستقيماً ،إذ كثافة الشهوات ضعيفة في تلك الفترة ،مما يجعل روحه تتجاوب أكثر فأكثر
بمناجاة اهلل ،ويأخذ الخشوع المساحة الكبرى من جسده وهو يرتل آية أو يسمعها ،أو هو واقف
في الصالة أو ساجد فيها أو هو يسمع آذان اإلفطار ليبدأ بالطعام والشراب بعد أن صام يومه،
وهناك أسرار كثيرة للعبادة ال تعد وال تحصى تؤثر في الطفل مما يزيد قوته ونشاطه.3
وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :علِّموا الصالة ابن سبع سنين واضربوه عليها ابن
عشر».4
وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يباشر بنفسه بتعليم األطفال ما يحتاجونه في الصالة ،عن
الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اهلل عنهما قال :علامني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
كلمات أقولهن في الوتر« :اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت
363
وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت ،فإنك تقضي وال يقضى عليك ،إنه ال يذل من
واليت تباركت ربنا وتعاليت».1
ـ وتدريب الصبي على صالة الجمعة تحصل له عدة فوائد منها:
*ـ عندما يبلغ يكون معتاداً على إقامتها.
*ـ تأثره بسماع الخطبة ،إذ فطرته تكون حساسة اللتقاط أحاديث اإليمان وسيرة الرسول ـ
صلى اهلل عليه وسلم ـ كما تدريب له لسماع العلم.
*ـ يألف تجمعات المسلمين ويشعر بدخوله للمجتمع إذ البد أن يتعرف على من يعرفهم والده.
*ـ على رأي من قال بأن الساعة المستجابة في يوم الجمعة هي لحظة الخطبة فيكون من
الحاضرين لهذه الساعة المستجابة التي حداث عنها الرسول صلى اهلل عليه وسلم.
*ـ تكون تغذية إيمانية وشحناً روحياً على إقامة الصلوات الخمس وطاعة اهلل بين الجمعة
والجمعة.
*ـ يتعرف بها على علماء األمة ودعاتها مما له كبير األثر في كبره فضالً عن صغره.
*ـ بصالة الجمعة يحصل له بناء شخصية بكامل عناصرها العقدية والعبادية واالجتماعية
والعاطفية والعلمية والجسمية والصحية.2
و ـ البناء االجتماعي:
وهو أن يكون الطفل متكيفاً مع وسطه االجتماعي سواء مع الكبار أو مع األصدقاء ومن هم في
سنه ،ليكون فعالً إيجابياً بعيداً كل البعد عن االنطواء والخجل المقيت ،يأخذ ويعطي بأدب
واحترام ،يبيع ويشتري ،ويخالط ويعاشر ،ومن خالل التأمل في األحاديث النبوية ،نجد هناك
أموراً خصها الرسول صلى اهلل عليه وسلم في تكوين الطفل اجتماعياً وهي:
ـ اصطحابه إلى مجالس الكبار:
كان األطفال يحضرون مجالس النبي صلى اهلل عليه وسلم وكان آبائهم يأخذونهم إلى تلك
المجالس الطيبة الطاهرة ،ففي أخذ الطفل إلى مجالس الكبار تظهر نواقصه واحتياجه ،فيستطيع
364
المربي عند ذلك توجيهه نحو الكمال ويشجعه على الجواب عندما يطرح سؤال فيتكلم بعد
استئذان وذلك بكل أدب ووقار ،فيتكلم معهم ،وينمو عقله وتتهذب نفسه ويتعرف إلى أحاديث
الكبار شيئاً فشيئاً فيتهيأ لدخول المجتمع وهكذا يندرج رويداً رويداً.1
ـ إرسال الطفل لقضاء الحاجات:
وهذا عامل هام في نشوء الطفل اجتماعياً ،إذ أن قضاء الحاجات للمنزل أو ألحد الوالدين ذو
أثر فعال إيجابي في حياة الطفل ،فعال في طفولته إذ هو يتعرف على مجاهيل الحياة ،فيشعر
بفرح ونشوة المعرفة ،وثقة في مواجهة األمور وفعال في مستقبله إذ يكون قد اكتسب مهارة
وخبرة في طفولته التي تمكنه من متابعة حياته بخطى ثابتة مركزة بدون خلل أو اضطراب،2
والبد من تدريب األطفال قضاء حاجات الوالدين ومتطلبات المنزل تنشأ لديهم حاسة جديدة
تتعرف مطالب الوالدين قبل أن يفصحا عن طلبهما.
ـ تعويد الطفل سنة السالم:
السالم هو التحية اإلسالمية بين المسلمين والطفل يتعرض للقاء الناس على اختالف
مستوياتهم ،فهو يحتاج ليتعرف على مفتاح الكالم معهم ونالحظ أسلوباً لطيفًا من الرسول صلى
اهلل عليه وسلم وصحابته في غرس سنة السالم في نفس الطفل ،عن أنس رضي اهلل عنه م ار
على صبيان فسلم عليهم وقال :كان رسول اهلل يفعله ،3وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
يزور األنصار فيسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم ويدعو لهم.4
ـ عيادة الطفل إذا مرض:
مما يساعد على بناء الروابط االجتماعية لألطفال عيادتهم إذا مرضوا ،فعندما يرى الطفل -
وهو مازال في مرحلة الفطرة والصفا ـ أن الناس الكبار يأتون إليه فإنه يتعود هذه العادة
الحسنة ،كما أنها تخفف من آالمه وأسقامه ،وإذا دعمت هذه الزيارة بدعوة الطفل لإلسالم
وتثبيته على اإليمان ،والتوبة والمغفرة إلى اهلل ،فإن العيادة توتي أكلها كاملة مثمرة ،مضاعفة
365
األجر ،وهذا ما فعله صلى اهلل عليه وسلم ،عن أنس رضي اهلل عنه قال :كان غالم يهودي
يخدم النبي صلى اهلل عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى اهلل عليه وسلم يعوده ،فقعد عند
رأسه ،فقال له« :أسلم» ،فنظر إلى أبيه وهو عنده؟ .فقال :أطع أبا القاسم ،فأسلم ،فخرج النبي
صلى اهلل عليه وسلم وهو يقول« :الحمد هلل الذي أنقذه من النار» ،1وهكذا نجد منه صلى اهلل
عليه وسلم استغالل كل فرصة ليغرس شيئاً في نفس الطفل ،وفي كل لقاء يعلمه علماً نافعاً،
وفي كل شاهدة يعوده على الخير.2
ـ اختيار الطفل أصدقاء له من األطفال:
من السنن االجتماعية الثابتة بين الناس ،الصحبة والصداقة ،فمن طبيعة النفس البشرية أن
تخالط الناس وتتعرف عليهم وتتخذ من بينهم ثلة تقترب منهم وتعيش معهم حياة األخوة
والمحبة ،فإذا أحسن الوالدان اختيار الصديق الصالح لطفلهم فقد فتحا الباب تربوياً في إصالح
هذا الطفل وتنميته واختيار الطفل الصديق الصالح يساعد االبن على طاعة اهلل وزيادة السلوك
االجتماعي الصحيح.
ـ تعويد الطفل البيع والشراء:
إن ا هتمام الرسول صلى اهلل عليه وسلم بتكوين الطفل اجتماعياً واقتصادياً يتجلى في توجيهه
لكل ميادين الحياة ،وتفاعل الطفل مع الواقع الجديد والمجتمع الجديد الذي ينشأ فيه ،فعملية البيع
والشراء تكسبه حركة اجتماعية قوية ،إذ يتعامل مع أطفال مثله ،ويتعود كيفية النشوء في هذه
الحياة ويستفيد من وقته في شيء مفيد كما أنها تكسبه الثقة النفسية االجتماعية ويتحول إلى
إنسان سوي يتعلم الجد في الحياة شيئاً فشيئاً بعيداً عن الهزل ،ويتعود األخذ والعطاء ويفهم
الحياة فهماً جيد اً صحيحاً بعيداً عن الدالل المفرط المقيت الذي يقتل األطفال أينما وجدوا ،بل
إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ليدعو لهذا الطفل بأن يبارك اهلل له تجربته وفي صفقته،
روى أبو يعلي والطبراني عن عمرو بن حريث أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مرا بعبد اهلل
بن جعفر وهو يبيع بيع الغلمان أو الصبيان قال« :اللهم بارك له في بيعه» ،أو قال« :في
366
صفقته» .1هذا الطفل الشريف ابن الشريف ابن عم الرسول صلى اهلل عليه وسلم يبيع ويشتري
ولم يخجل من فعله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بل دعا له ،أال ليت قومي يعلمون.2
ـ حضور األطفال الحفالت المشروعة واألعراس:
وهذا مكان تجمع آخر يذهب إليه األطفال فيتعارفون فيه على هذا الحفل الكريم ،الذي سيكونون
يوماً أحد أعضائه األساسيين ،فيشاهدون الكبار والصغار ،ويسمعون األحاديث الودية واألفراح
الجميلة ،فتبتهج نفوسهم وتتحرك مشاعرهم ،وتصقل اجتماعيتهم ،فهذا رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم يشاهد الصبيان في حفل الزفاف فيقرهم على مجيئهم وإقبالهم على الحضور ،وال
ينكر عليهم ويدعو الحاضرين جميعاً فتشمل دعوته هؤالء األطفال ،3وعن عبد العزيز بن
صهيب عن أنس رضي اهلل عنه أن النبي صلى اهلل عليه وسلم رأى الصبيان مقبلين ـ قال عبد
العزيز حسب أنه قال من عرس ،فقام النبي صلى اهلل عليه وسلم ـ ممتن ًا فقال« :اللهم أنتم من
أحب الناس إليّ ،اللهم أنتم من أحب الناس إليّ ،اللهم أنتم أحب الناس إلي» ،يعني
األنصار ،4وبهذا تالحظ اهتمام الرسول صلى اهلل عليه وسلم في تكوين الطفل اجتماعياً وأخذه
إلى التجمعات االجتماعية وإلى المجالس وإلى أماكن األفراح كذلك ال بأس من اصطحابه إلى
أماكن العزاء.5
إن عملية البناء االجتماعي للطفل ركن هام في بناء شخصيته وتقويمها وتهذيبها واستقامتها
وأنها تحقق الثقة النفسية االجتماعية للطفل.6
ز ـ البناء األخالقي:
إن الصبي يولد على الفطرة الخالصة والطبع البسيط ،فإذا قوبلت نفسه الساذجة بخلق من
األخالق انتقشت صورته في لَوحِها ،ثم لم تزل تلك الصورة تمتد شيئاً فشيئاً إلى أن تأخذ
بجميع أطراف النفس ،وتصير كيفية راسخة فيها ،حائلة لها عن االنفعال بضدها ،يؤيد هذا أنا
1رواه أبو يعلي والطبراني ،منهج التربية النبوية للطفل ،ص.150 :
2منهج التربية النبوية للطفل ،ص.150 :
3منهج التربية النبوية ،ص.151 :
4رواه البخاري ،باب النكاح ،منهج التربية النبوية ،ص.151 :
5منهج التربية النبوية ،ص.151 :
6منهج التربية النبوية للطفل ،ص.154 :
367
إذا رأينا في الغرباء من هو لطيف الخطاب جميل اللقاء مهذب األلمعية ال ترتاب في دعوى أنه
ممن أنبته اهلل في البيوت الفاضلة نباتًا حسن ًا.1
ـ وقال الشاعر صالح عبد القدوس:
وإن من أدبته في زمن الصبا
كالعود يبقي الماء في غرسه
حتى تراه مورقاً ناضراً
بعد الذي أبصرت منه يبسه
والشيخ ال يترك أخالقه
حتى يوارى في الثرى رمسه
إذا أرعوى عاد إلى جهله
2
كذي الضنا عاد إلى نكسه
إن غرس األدب حق الوالد على أبيه ،كواجب حق الطعام والشراب ،روى ابن ماجه عن ابن
عباس رضي اهلل عنهما عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال« :أكرموا أوالدكم وأحسنوا
أدبهم».3
وبيَّنت الشريعة اإلسالمية أهمية األدب مع الوالدين والعلماء وأدب احترام وتوقير الكبير وأدب
األخوة وأدب الجار ،واالستئذان والطعام والشراب واللباس وأهمية خلق الصدق وحفظ
األسرار وسالمة الصدر من األحقاد ،وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يتعامل مع
األطفال ،يأمرهم وينهاهم ،ويمازحهم ويلحق بهم ،يقف خلف الطفل ويبتسم له ال يغضب في
وجههم ،ال يعاتبهم ،يرسخ عقيدة القضاء والقدر في نفوسهم ،وعن أنس بن مالك رضي اهلل
عنه قال :خدمت النبي صلى اهلل عليه وسلم عشر سنين واهلل ما قال لي أف قط وال قال لشيء
لم فعلت كذا وهال فعلت كذا .وفي رواية مسلم :كان النبي صلى اهلل عليه وسلم من أحسن
الناس خلقاً فأرسلني يوماً لحاجة فقلت :واهلل ال أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي
1السعادة العظمى ،محمد الخضر حسين ،ص.60 :
2منهج التربية النبوية ،ص.159 :
3رواه ابن ماجه ،منهج التربية النبوية ،ص.160 :
368
اهلل صلى اهلل عليه وسلم فخرجت حتى أم ار على الصبيان وهم يلعبون في السوق ،فإذا برسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم بقفاي من ورائي ،فنظرت إليه وهو يضحك فقال« :أنس ذهبت حيث
أمرتك؟» ،قال :قلت :نعم أنا أذهب يا رسول اهلل ،قال أنس :واهلل لقد خدمته تسع سنين ما علمته
ال فعلت كذا وكذا.1
قال لشيء صنعته لم فعلت كذا وكذا ،أو لشيء تركته :ه ا
وهذا إن دلَّ فإنما يدل على اهتمامه صلى اهلل عليه وسلم ببناء أخالق األطفال عملياً بالقدوة
الحسنة لهم فينشؤون أرسخ خلقاً ،وأثبت عوداً أمام التحديات المادية التي تنتظرهم في واقع
المجتمع وفي حياة الناس فال يفرطون بأخالقهم اإلسالمية أمام عواصف التيارات المنحرفة،2
ويساهمون في بناء الدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية.
ح ـ البناء العاطفي للطفل:
إن البناء العاطفي للطفل له أهمية خاصة في بناء نفسية الطفل وتكوينه ،وهذا البناء يلعبا فيه
الدور األكبر الوالدان ،إذ هما المصدر األساسي ألشعة العاطفة التي تبني نفسه وهما الركن
الرشيد الذي يأوي إليه الطفل لينعم بحرارة العاطفة ونعمة األبوة واألمومة وبين رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم كيف تبني عاطفة الطفل ونؤدي له حقه ليكون إنساناً سوياً في مستقبله
ولذلك علمنا رسول اهلل في معاملة األطفال.
ـ القبلة والرحمة والرأفة بهم:
القبلة هي النور الساطع الذي يبهر فؤاد الطفل ،ويشرح نفسه ويزيد من تفاعله مع من حوله
ال وأخيراً السنة الثابتة عن المصطفى صلى اهلل عليه وسلم مع
وتسكن ثورانه وغضبه ثم هي أو ً
األطفال ،فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي اهلل عنها قالت :قدم ناس من األعراب
على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقالوا :أتقبلون صبيانكم؟ ،فقال« :نعم» .قالوا :لكنا واهلل
نقبل ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :أو أملك إن كان اهلل نزع من قلوبكم
ما ِّ
الرحمة».3
1رواه أحمد والبخاري ومسلم ،منهج التربية النبوية للطفل ،ص.175 :
2منهج التربية النبوية ،ص.175 :
3مسند أحمد (.)70 /6
369
وعن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال :قبال النبي صلى اهلل عليه وسلم الحسين بن علي رضي
اهلل عنهما ،فقال األقرع بن حابس :إن لي عشرة من الولد ما قبالت منهم أحداً ،فقال رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم« :من ال يَرحم ال يرحم» ،1ومن صور رحمة الرسول صلى اهلل عليه
وسلم باألطفال ما أخرجه البخاري عن أنس رضي اهلل عنه« :إني ألدخل في الصالة وأنا أريد
أن أطيلها فأسمع بكاء صبي فأتجوز في صالتي لما أعلم من وجد أمه في بكائه» ،2وعن أبي
قتادة رضي اهلل عنه قال :كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يصلي بالناس وهو حامل أمامة
بنت زينب بنت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها.3
ـ المداعبة والممارسة مع األطفال:
روى الطبراني عن جابر رضي اهلل عنه قال :كنا مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فدعينا
إلى طعام فإذا الحسين يلعب في الطريق مع صبيان فأسرع النبي صلى اهلل عليه وسلم أمام
القوم ثم بسط يده فجعل يفرها هنا وهناك فيضاحكه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حتى أخذه
فجعل إحدى يديه في ذقنه واألخرى بين رأسه وأذنيه ثم اعتنقه وقباله ،ثم قال« :حسين مني
وأنا منه أحب اهلل من أحبه الحسن والحسين سبطان من األسباط».4
وأخذت األمة هذه األخالق من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حتى أن عمر رضي اهلل عنه
ليعزل أحد عماله عن الرئاسة ألنه وجد منه دليالً واضحاً على قسوة قلبه تجاه أوالده ،فعن
محمد بن سالم قال :استعمل عمر بن الخطاب رجالً على عمل ،فرأى الرجل عمر يقبال صبي ًا
له ،فقال الرجل :تقباله وأنت أمير المؤمنين :لو كنت أنا ما فعلته ،قال عمر :فما ذنبي إن كان
نزع من قلبك الرحمة ،إن اهلل ال يرحم من عباده إال الرحماء ،ونزعه عن عمله ،فقال :أنت ال
ترحم ولدك فكيف ترحم الناس.5
ـ الهدايا والعطايا لألطفال:
370
للهدايا أثر طيب في النفس البشرية عامة ،وفي نفوس األطفال أكثر تأثيراً وأكبر وقعاً ،وقد سن
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قاعدة للحب بين الناس فنصح األمة بقوله« :تهادوا تحابوا».1
وهذا قانون عام ،والرسول صلى اهلل عليه وسلم بين لنا عملياً هذا الركن القوي في بناء عاطفة
الطفل وتحريكها وتوجيهها وتهذيبها.2
ـ مسح رأس الطفل وحسن استقباله:
إن النبي صلى اهلل عليه وسلم كان يداعب عواطف األطفال بمسح رؤوسهم فيشعرون بلذة
الرحمة والحنان والحب والعطف األمر الذي يشعر الطفل بوجوده وحب الكبار له واهتمامهم
به ،ففي زوائد ابن حبان عن أنس رضي اهلل عنه قال :كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
يزور األنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم.3
وعن عبد اهلل بن جعفر رضي اهلل عنهما قال :مسح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بيده على
رأسي ،قال :أظنه قال ثالثاً فلما مسح قال« :اللهم اخلف جعفراً في ولده».4
وعن عبد اهلل بن جعفر رضي اهلل عنه قال :كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا قدم من
سفر تلقى الصبيان من أهل بيته ،وأنه جاء من سفر فسبق بي إليه ،فحملني بين يديه ثم جيء
بأحد ابني فاطمة الحسن أو الحسين رضي اهلل عنهما فأردفه خلفه فدخلنا المدينة ثالثة على
دابة.5
ـ الرعاية الخاصة بالبنت واليتيم:
من القواعد األساسية في تربية البنت.
*ـ النهي عن كراهية البنت:
صحح القرآن الكريم النظرة والتصور عن البنات والتي كانت ومازالت ذائعة الصيت في
فوجه العقول إلى تصحيح النظرة إليها وتعديل التصور عنها ،قال تعالى:
المجتمعات الجاهلية َّ
371
ن القَومِ مِن ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِاألُنثَى ظ َّ
َل وَجهُ ُه مُسوَدًّا وَ ُه َو كَظِيم * يَ َتوَارَى مِ َ
جهُم ذُكرَانًا
ب لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ* أَو يُزَوِّ ُ
ب لِمَن يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَ ُ
ق مَا يَشَاء يَهَ ُ
يَخلُ ُ
وَإِنَاثًا َويَجعَ ُل مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيم قَدِير﴾ (الشورى ،آية 49 :ـ .)50
فِيهِ خَيرًا كَثِيرًا﴾ (النساء ،آية .)19 :وهكذا البنات قد يكون للعبد فيهن خير في الدنيا
واآلخرة ،ويكفي في قبح كراهتهن أن يكره ما رضيه اهلل وأعطاه عبده ،فالخيرة فيما اختاره اهلل
للعبد ،ال فيما اختاره لنفسه.3
ـ المساواة بين الذكر واألنثى وعدم المفاضلة بينهما في التعامل:
جعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم المساواة في المعاملة بين األوالد سبب في دخول الجنة
وذلك في عدم إيثار الصبي على البنت وإنما هم في الحب سواء وفي العطاء سواء وفي تقديم
الهدايا والمال سواء وفي التعليم سواء وفي المعاملة سواء وحتى في القبلة سواء بسواء ،وروى
أبو داود عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :من كانت
له أنثى فلم يئدها ولم يهينها ولم يؤثر ولده ـ يعني الذكر ـ عليها أدخله اهلل الجنة».4
372
ال كان عند النبي صلى اهلل عليه وسلم فجاء ابن له فقبَّله
وعن أنس رضي اهلل عنه أن رج ً
وأجلسه على فخده وجاءت بنت له فأجلسها بين يديه ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :ال
سويت بينهم».1
بهذه الدقة النبوية في التعامل مع الصبي والبنت مما ال تعرفه جميع المجتمعات البشرية ،وال
تعلمه الكتب الغربية في تربية األطفال وال يخطر على عقول من يسمون أنفسهم علماء النفس
التربويين.2
*ـ أجر التربية واإلحسان والصبر على البنات:
لم تقف الشريعة اإلسالمية في مواجهة النفس البشرية لتعاكسها وإنما لتهذيبها ففي مقابل تربية
البنات كان األجر الكبير ،وفي مقابل الصبر عليهن الثواب العظيم ،وذلك ليسكن من ألم
الوالدين ،ويرطب من خاطرهما ويشعرهما بأهمية عملهما ودورهما في هذه الرعاية والعناية
لهن.3
روى اإلمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهني يقول :سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
يقول « :من كانت له ثالث بنات فصبر عليهن فأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته كان له
حجاباً من النار يوم القيامة » ، 4فالبنت أم المستقبل ومؤسسة المجتمع في الغد القريب،
وصانعة األبطال ،ومؤثرة في حركة التاريخ في القريب العاجل.5
ـ تربية اليتيم واليتيمة:
يعراف النبي صلى اهلل عليه وسلم مرحلة اليتيم بأنها دون سن االحتالم ،فإذا حصل اإلحتالم
فعند ذلك انتفت عن الطفل صفة اليتيم ،روى أبو حنيفة في مسنده عن أنس رضي اهلل عنه قال:
373
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :ال يتم بعد حلم» ،1وعن علي بن أبي طالب رضي اهلل
عنه قال :حفظت عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال يتم بعد إحتالم.2
قال :انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ،فجعل يفضل الشيء
من طعامه وشرابه فيحبس حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول اهلل صلى
ك عَنِ اليَتَامَى قُل إِصالَح لَّهُم خَير وَإِن ُتخَالِطُوهُم فَإِخوَا ُنكُم﴾
اهلل عليه وسلم فأنزل﴿ :وَيَسأَلُونَ َ
(البقرة ،آية .)220 :وخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.5
وعن مالك بن أنس رضي اهلل عنه أن عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه قال :اتجروا في أموال
اليتامى ال تأكلها الصدقة.6
374
وهكذا وجدنا اهتمام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بكل من الضعيفين البنت واليتيم فوجه
األمة إلى زيادة االهتمام بهما والحرص عليهما واإلحسان لهما ،وأنها مكرمة أي مكرمة.1
ـ البناء الجسمي:
قال عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه :علموا أوالدكم السباحة والرماية وأن يثبوا على الخيل
وثباً.2
وقد شاهد صلى اهلل عليه وسلم مصارعة الغالمين قبل غزوة أحد عندما اعترض أحدهما على
اآلخر لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لقبوله االشتراك في المعركة وعدم قبول المعترض،
وكان فيما قال :يا رسول اهلل كيف تقبله وأنا إن صارعته صرعته ،فتصارعا أمامه وغلبه كما
قال ،فقبلهما رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في دخول المعركة ،4وللعب عدد من الفوائد
والقيم:
ـ أن اللعب النشيط ضروري لنمو العضالت للطفل ،من خالل اللعب يتعلم مهارات االكتشاف
وتجميع األشياء.
ـ أن اللعب يفسح المجال أمام الطفل كي يتعلم الشيء الكثير من خالل أدوات اللعب المختلفة
كمعرفة الطفل لألشكال المختلفة واأللوان واألحجام والمالبس.
375
ـ يصرف الطفل عن طريق اللعب التوتر الذي يتولد نتيجة القيود المختلفة التي تفرض عليه،
ولذا نجد أن األطفال الذين يأتون من بيوت تكثر فيها القيود واألوامر والنواهي ،يلعبون أكثر
من غيرهم من األطفال كما أن اللعب وسيلة من أحسن الوسائل لتصريف العدوان المكبوت.
ـ يكتشف الطفل عن طريق اللعب الشيء الكثير من نفسه كمعرفة قدرته ومهارته من خالل
تعامله مع زمالئه ومقارنة نفسه بهم ،كما أنه يتعلم من مشاكله كيف يمكنه مواجهتها.
ـ يتعلم الطفل من خالل اللعب بدايات مفاهيم الخطأ والصواب ،كما يتعلم بشكل مبدئي بعض
المعايير الخلقية ،كالعدل والصدق واألمانة وضبط النفس والروح الرياضية.
ـ يتعلم الطفل من خالل اللعب كيف يبني عالقات اجتماعية مع اآلخرين ويتعلم كيفية التعامل
معهم بنجاح ،كما أنه يتعلم من خالل اللعب التعاوني واللعب مع الكبار األخذ والعطاء.1
وضع النبي صلى اهلل عليه وسلم ،قاعدة أصلية لكسب مرحلة الطفولة في التعليم وطلب العلم،
فجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ،سواء كان صغيراً أم كبيراً رجالً أو امرأة،
صبياً أم بنتاً وهو أفضل العبادات التي يتقرب فيها العبد من ربه ،لهذا كانت فترة الطفولة ـ
والشب اب ـ أخصب فترة في البناء العلمي والفكري وكل العلوم النافعة مطلوبة ،وتبقى تعلم
القرآن والسنة والعقائد واللغة والفقه ...الخ من األمور ذات األهمية بمكان ،وبعد أن يتقن
الطفل اللغة العربية بشكل جيد ويحفظ شيئاً من القرآن والحديث ،فال مشكلة بأن يتقن لغة أجنبية
سائدة ،وذلك لتكوين جيل مسلم يستطيع كشف خطط األعداء ويأمن مكرهم ،وينقل العلوم
المادية البحتة إلى المسلمين ،وهذا ما فعله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،أول ما وصل
المدينة المنورة مهاجراً من مكة ،فقد روى أبو يعلي وابن عساكر عن زيد بن ثابت رضي اهلل
376
عنه قال أُتي بي النبي صلى اهلل عليه وسلم مقدمه المدينة فقالوا :يا رسول اهلل :هذا غالم من
بني النجار وقد قرأ مما أنزل عليك سبع عشرة سورة ،فقرأت على رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ـ فأعجبه ذلك قال« :يا زيد تعلّم لي كتاب يهود واهلل ما آمن يهود على كتابي» ،فتعلمته
فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته ،فكنت أكتب لرسول اهلل ـ صلى اهلل عليه وسلم ـ إذا
كتب وأقرأ كتابهم إذا كتبوا إليه .1وفي رواية أخرى عن زيد قال لي رسول اهلل صلى عليه
وسلم« :أتحسن السريانية فإنها تأتيني كتب؟» قلت :ال ،قال« :فتعلمها» ،فتعلمتها في سبعة
عشر يوماً.2
من أسس البناء الصحي للطفل ،رياضة السباحة والرماية ،وركوب الخيل والمصارعة وغير
ذلك من أنواع الرياضة النافعة ،وتعويد الطفل سنة السواك ،واستخدام معجون األسنان
واهتمامه بالنظافة وتقليم األظافر ،واتباع السنة النبوية في األكل والشرب ،قال رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم« :ما مأل ابن آدم وعاء شراً من بطنه ،بحسب ابن آدم لقيمات يقمن
صلبه فإن كان ال محالة ،فثلث لطعامه ،وثلث لشرابه ،وثلث لنفسه».3
والنوم على الشق األيمن وهو ركن صحي نبوي في حياة المسلم وله فوائد صحية كثيرة،
فالرسول ـ صلى اهلل عليه وسلم ـ يوصي صحابته بذلك« :إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك
للصالة ثم اضجع على شقك األيمن وقل :اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك،
وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك ،رغبة ورهبة إليك ،ال ملجأ وال منجى إال إليك،
آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت ،واجعلهن آخر ما تقول».4
والنوم بعد العشاء واالستيقاظ المبكر لصالة الفجر وإبعاد األطفال عن األمراض المعدية،
وتعويذ األطفال من العين الحاسدة والجن ،كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ـ يعوِّذ الحسن
1سلسلة األحاديث الصحيحة رقم .187
2سنن أبي داوود منهج التربية النبوية للطفل ،ص.232 :
3جامع األصول ( )410 / 7المستدرك للحاكم وصححه الذهبي.
4البخاري ومسلم ،منهج التربية النبوية ،ص.246 :
377
والحسين« :أعيذكما بكلمات اهلل التامة ،من كل شيطان وهامة ،ومن كل عين المَّة» ،فيقول
«إنَّ أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق».1
وسرعة معالجة الطفل المريض ،وعيادته وعالجه بالدعاء والرِّقي ،2هذا كله من هدي النبي
صلى اهلل عليه وسلم في البناء الصحي للطفل.
الدافع الجنسي خلقه اهلل تعالى في النفس البشرية ليكون سبباً في استمرار الكائنات الحية
جميعها ومن بينها اإلنسان ،وقد خصَّ اهلل تعالى زمناً معيناً لتفجير هذه الطاقة في اإلنسان
ليصبح قادراً على اإلنجاب ،وسمى الشرع الحنيف هذه السن بسن التكليف ،أي بدخول الطفل
ال عن تصرفاته ،محاسباً على أعماله.
هذا السن يصبح مسؤو ً
ولكي يسير الدافع الجنسي في نفس الطفل بشكل هادىء ،بال تهيجات خارجية تغذيه نحو
االنحراف عن السلوك القويم ،رعى اإلسالم هذا الطفل وطالبه بأوامر ونواهي وذلك لكي
يتهذب الدافع الجنسي ،ويبقى متوازناً ظاهرًا بال انحراف نقيًا بال تلوث.
خصها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في تهذيب الطفل جنسياً
َّ ومن القواعد الضابطة التي
وُتبقي فطرته نظيفة طاهرة عفيفة لم تخدشها الجاهلية بمستنقعها اآلسن.3
378
ن اهللُ لَكُم آيَاتِ ِه وَاهللُ عَلِيم
ك يُبَِّي ُ
مِنكُ ُم الحُلُمَ فَليَستَأذِنُوا كَمَا استَأذَنَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَذَلِ َ
حَكِيم﴾ (النور ،آية 58 :ـ .)59
في هذه األوقات الثالثة ال بد أن يستأذن الخدم وأن يستأذن الصغار المميزون الذين لم يبلغوا
الحلم ،كي ال تقع أنظارهم على عورات أهليهم وهو أدب يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية،
مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية ،ظانين أن الخدم ال تمتد أعينهم إلى عورات
السادة ،وأن الصغار قبل البلوغ ال ينتبهون لهذه المناظر ،بينما يقرر النفسيون اليوم ـ بعد تقدم
العلوم النفسية ـ أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار األطفال في صغرهم هي التي تؤثر في
حياتهم كلها ،وقد تصيبهم بأمراض نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها.1
تعويد الطفل غض البصر وحفظ العورة:
ي اعود الطفل على غض البصر عن العورات كافة المنزلية والخارجية ،ويربى على مراقبة اهلل
له ،كما فعل الطفل الصالح عبد اهلل التستري الذي كان ورده القلبي قبل أن ينام« :اهلل شاهدي،
اهلل ناظري ،اهلل معي» فإن ذلك يورث حالوة اإليمان يجدها الطفل في نفسه ،وفي رواية ابن
جرير في تهذيب اآلثار أن العباس قال للنبي صلى اهلل عليه وسلم :رأيتك تصرف وجه ابن
عمك ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :رأيت جارية حدثة وغالماً حدث ًا فخشيت أن
يدخل بينهما الشيطان».2
وقد ذكر الشيخ عبد الحميد كشك في إحدى خطبه قول أحد علماء األلمان حول أهمية غض
البصر وأنه هو العالج الوحيد للجنس قوله :لقد درست علم الجنس وأدوية الجنس فلم أجد دواء
أنجح وأنجع من القول في الكتاب الذي نزل على محمد صلى اهلل عليه وسلم﴿ :قُل لِّلمُؤ ِمنِي َ
ن
جهُم ذَلِكَ أَزكَى لَهُم إِنَّ اهللَ خَبِير بِمَا يَص َنعُونَ﴾
يَغُضُّوا مِن أَبصَارِهِم وَيَح َفظُوا فُرُو َ
379
أما ستر العورة ،فإن الطفل يتعودها مع بداية أمره بالصالة حيث ال بد أن يكون لباسه ساتراً
لعورته وذلك لتكون صالته صحيحة سليمة من صغره ،وبالتالي ينشأ على حب ستر العورة
صبياً كان أم بنتاً ،فالصبي يلبس ما يستر عورته والبنت كذلك ،وتزيد عليه أن تتعود الحجاب
فتبدأ بحجاب الصالة ،وهكذا ينشأ الطفل مستقيماً صالحاً مهذبة نفسه ،قويمة أخالقه ،قوياً في
إيمانه.1
ــ التفريق في المضاجع بين األطفال:
روى أبي داود بسند حسن عن النبي صلى اهلل عليه وسلم« :مروا أوالدكم بالصالة وهم أبناء
سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين ،وفرِّقوا بينهم في المضاجع».2
إذن هذا التفريق يبدأ في سن العاشرة حيث تكون الغريزة في طريقها للنمو ،ولذلك وجب عدم
نوم الطفلين في لحاف واحد ،ألن النوم في فراش واحد تحت لحاف واحد يؤدي باألطفال أن
تنمو فيهم الغريزة الجنسية بسرعة متزايدة ،وأن تتأجج فال تجد طريقاً إلنقاذها إال ببعض
مظاهر االنحراف والشذوذ الجنسي ،وكم تحدث شذوذات تحت اللحاف ال يشعر بها األبوان،
فتكون سبباً في دمار هؤالء األطفال األبرياء الذين تساهل آباءهم عن أحوالهم فوضعوهم في
مخالفة أوامر النبي صلى اهلل عليه وسلم.3
ــ نوم الطفل على شقه األيمن وابتعاده عن النوم على بطنه:
اتباع سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالنوم على الشق األيمن يبعد الطفل عن كثير من
المهيجات الجنسية أثناء النوم ،وقد وصف صلى اهلل عليه وسلم النوم على الوجه بنومة
الشيطان ،فإذا نام الطفل على بطنه فيؤدي ذلك إلى كثرة حك أعضاءه التناسلية التي تثير
شهوته في هذا الحالة ،فإذا وجد الوالدان الطفل في هذه الحالة نائماً غيَّرا من حالته ،وحببوا إليه
النوم على الشق األيمن واالبتعاد عن النوم على الصدر ،فضالً عن النوم عن الصدور يورث
380
كثيراً من األمراض الجسمية واألطباء جميعاً بدون استثناء ينصحون باالبتعاد عن النوم على
البطن.1
والبد من الوالدين ومن عقالء المجتمع إبعاد األطفال من االختالط والمهيجات الجنسية والبد
من تعليم األطفال فروض الغسل وسننه ،وشرح سورة النور وتحفيظها للطفل المميز ،قال عمر
بن الخطاب رضي اهلل عنه :ال تدخلن امرأة مسلمة الحمام إال من سقم ،وعلموا نساءكم سورة
النور ،2والبد من المصارحة الجنسية والتحذير من الفاحشة ،فالطفل يعلم ويحفظ سورة النور
التي تتضمن البناء ا لخلقي والتهذيب الجنسي للطفل ،وتحذره من الوقوع في الفاحشة ،وبعد
تعلمه فرائض الغسل وإسقاط الجنابة ،يحذر تحذيراً شديداً من الوقوع في الفاحشة ويروى له
الحديث التالي" :عن أبي أمامة أن فتىً من قريش أتى النبي صلى اهلل عليه وسلم فقال :يا
رسول اهلل ائذن لي في الزنا ،فأقبل القوم عليه فزجروه ،فقالوا :مه ...مه ..فقال« :أدنه»
فدنى منه قريباً ،فقال« :أتحبه ألمك؟» قال :ال واهلل جلعني اهلل فداك ،قال« :وال الناس يحبونه
ألمهاتهم» ،قال« :أفتحبه البنتك؟» قال :ال واهلل يا رسول اهلل جعلني اهلل فداك ،قال« :وال
الناس يحبونه لبناتهم» ،قال« :أتحبه ألختك؟» قال :ال واهلل يا رسول اهلل جعلني اهلل فداك،
قال« :وال الناس يحبونه ألخواتهم» ،قال« :أتحبه لعمتك؟» قال :ال واهلل يا رسول اهلل جعلني
اهلل فداك ،قال« :وال الناس يحبونه لعماتهم» ،قال« :أتحبه لخالتك؟» قال :ال واهلل يا رسول
اهلل جعلني اهلل فداك ،قال« :وال الناس يحبونه لخاالتهم» ،قال :فوضع يده عليه ،وقال« :اللهم
اغفر ذنبه ،وطهر قلبه ،وحصن فرجه» ،قال :فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.3
ويعرا ف بعقوبة الزنا وإقامة الحد ،وال بد من تشجيع الزواج المبكر وتسهيله على الشباب فمهما
قيل في الزواج المبكر من مساوى ء العصر الحاضر ،فإن محاسنه تفوقه خاصة إذا صحبه
تأمين الحياة المادية ،سواء من مساعدة الوالدين ،أو كسب الفتى الناشىء ،وما أمراض األمة
4
النفسية واالجتماعية والحوادث الجنائية إال نتيجة طبيعية لتأخير الزواج.
381
الطفل في الدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية:
الدولة الحديثة تضع تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية أمامها عندما تضع خطط تعليمية
وتربوية وا جتماعية ونفسية وإعالمية ورياضية متعلقة باألطفال والشباب ،فتستلهم خطى النبي
صلى اهلل عليه وسلم في هذا المجال ،وتعتبر:
ـ الشباب هم محور التغيير ،ووقود الحضارة وعماد النهضة.
ـ تشجيع الشباب على االنخراط في مؤسسات المجتمع المدني وتعمل على إطالق الحريات لهم
في مجاالت حرية الرأي والتعبير وتكوين األندية أو الروابط أو مخاطبة السلطات العامة أو
التظاهر أو التجمع أو عقد المؤتمرات ،أو الندوات أو مخاطبة وسائل اإلعالم.
ـ القضاء المبرم على كافة أنواع عمالة األطفال وكافة أنواع العنف والمعاملة المهينة ضدهم.
ـ للطفل الحق في الحياة الكريمة والرعاية الصحية واألسرية واالجتماعية الالئقة.
ـ سن التشريعات التي تكفل اال هتمام باألطفال األيتام بوجه خاص أو أبناء الشهداء ومصابي
الثورة ،وذلك من خالل بناء دور األيتام ،وإفراد موازنة مستقلة لها تلحق بالموازنة العامة
للدولة.
ـ المساهمة في تنفيذ خطة إستراتيجية ت دعم صحة الطفل والمجتمع بالتعاون والتنسيق مع كافة
الوزارات واألجهزة والجهات ومنظمات المجتمع المدني ذات الصلة.
ـ وضع مناهج لألطفال والشباب لفهم دينهم على أسس من الوسطية واالعتدال واالستقامة.
6ـ كبار السن:
ُم جَعَ َل مِن ـ قال تعالى﴿ :اهللُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعف ث َّ
ُم جَ َع َل مِن بَع ِد ضَعف قُوَّةً ث َّ
ـ وقال تعالىُ ﴿ :ه َو الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطفَة ثُمَّ مِن عَلَقَة ثُمَّ يُخ ِر ُ
جكُم
ال
ُم لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُ َتوَفَّى مِن قَب ُل وَلِتَبلُغُوا أَجَ ً
ال ثُمَّ لِتَبلُغُوا أَشُدَّكُم ث َّ
طِف ً
مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُم تَعقِلُونَ﴾ (غافر ،آية .)67 :
382
وأما الشيخوخة نفسها فإن القرآن الكريم يورد طرفًا من صفاتها في هذه اآليات الكريمة:
ـ قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السالم الذي يذكر وهن عظمه ،وشيب شعره في شيخوخته
ن العَظمُ مِنِّي وَاشتَ َع َل الرَّأسُ شَيبًا﴾ (مريم ،آية .)4 :
﴿ :قَالَ رَبِّ ِإنِّي وَهَ َ
ـ وقال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السالم الذي يخشى أن يوصف في شيخوخته بالتفنيد وهو
ال أَن تُفَنِّدُونِ﴾ (يوسف ،آية .)94 :والتفنيد نفسه الخرف﴿ :إِنِّي ألَجِ ُد رِي َ
ح يُوسُفَ لَو َ
مشار إليه في القرآن الكريم باعتباره مماا يطرأ في الكبر ،قال تعالىَ ﴿ :ومِنكُم مَّن يُر ُّ
َد إِلَى
ـ والضعف العام في البدن مذكور في قوله تعالىَ ﴿ :ومَن نُعَمِّرهُ نُنَكِّسهُ فِي الخَلقِ﴾ (يس،
.)23
ـ والعجز عن اإليالء حكاه القرآن الكريم على لسان زوج إبراهيم عليه السالم﴿ :قَالَت يَا
وَيلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوز وَهَـذَا بَعلِي شَيخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيء عَجِيب﴾ (هود ،آية .)72 :
وباإلضافة إلى إيجاد هذا الوعي فإن التوجيه النبوي يتضمن الحض على العمل بما يناسب
تطورات الحياة وذلك بالمبادرة إلى األعمال النافعة استفادة من الفترة التي يبلغ فيها اإلنسان
"أشده" لمصلحة فترة "التنكيس ،والضعف ،والشيبة" .قال صلى اهلل عليه وسلم« :بادروا
باألعمال سبعاً :هل تنظرون إال فقراً منسياً ،أو غنىً مطغياً ،أو مرضاً مفسداً ،أو هرم ًا مفنداً،
أو موتاً مجهزاً ،أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمرّ» ،1والعمارة
383
وطول العمر ليس مذمومين ،إذا أكرم اهلل المُعمار بالصحة والقدرة على العمل الصالح ،قال
صلى اهلل عليه وسلم :خيركم من طال عمره وحسن عمله ،وشركم من طال عمره وساء
عمله ،1ومن أدعية النبي صلى اهلل عليه وسلم« :اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما
أحييتنا».
وأوصى الشيخ الكبير أن يقول« :اللهم أحييني ما كانت الحياة خيراً لي ،وتوفني إذا كانت
الوفاة خيراً لي».2
أ ـ حقوق للمسنين على أبنائهم وذويهم ومعارفهم ،وكذلك على المجتمع :متمثالً في ولي األمر
في األمور التي تحِق للمسنين وليس في مقدورهم وال في مقدور أهليهم أن يوفروها لهم ،ومن
هذه الحقوق:
*ـ حقوق أدبية في االحترام والبر والمودة ،لقوله تعالى فيما يجب على األبناءَ ﴿ :ووَصَّينَا
ك
َن عِندَ َ
ن إِحسَانًا إِمَّا يَبُلغ َّ
َال تَعبُدُوا إِالَّ إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَي ِ وقال تعالى﴿ :وَقَضَى رَبُّ َ
ك أ َّ
ال
ال تَنهَر ُهمَا وَقُل لَّهُمَا قَو ً
الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَو ِكالَهُمَا فَالَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَ َ
كَرِيمًا﴾(اإلسراء ،آية .)23 :
وقال صلى اهلل عليه وسلم « :رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر
أحدهما أو كليهما ،فلم يدخل الجنة» .3وأما األقارب من غير األبناء فبرهم للمسنين هو من
صل رحمه».4
صلة األرحام لقوله صلى اهلل عليه وسلم« :من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليَ ِ
384
وأما غير هؤالء ممن ال تربطهم بالمسنين إال صلة اإلسالم واإلنسانية ،فواجب عليهم أيض ًا
بذل المودة واإلكرام والتوقير ،لقوله صلى اهلل عليه وسلم« :إن من إجالل اهلل تعالى إكرام ذي
الشيبة المسلم» ،1وقوله« :ليس منَّا من ال يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا».2
*ـ حقوق اجتماعية :في الزيارة والمؤانسة وقضاء حاجاتهم وتفقد أحوالهم ،خاصة عند
حصول المرض والضعف عن الحركة ،وقد كان ضمن الثالثة الذين سُد عليهم الغار ،ففراج
اهلل عنهم ألعمالهم الصالحة رجل سهر الليل كله ليقدم لوالديه شراب الغبوق قبل أن يسمح
لنفسه أن ينال منه شيئاً.
*ـ حقوق مادية :في النفقة على المسنين من قبل أبنائهم بصفة أساسية ،في الصحة والمرض،
واإلعسار إلى نهاية العمر ،وقد نص الفقهاء على أن النفقة التي تجب على األبناء نحو والديهم
المسنين تتخطى مستوى المالطفة والبر والمجاملة ،لتدخل في نطاق الحقوق المفروضة التي
يأثم من يغفل عنها ،وقد ثبت وجوب النفقة بالكتاب والسنة واإلجماع ،فمن الكتاب العزيز قوله
ت ذَا القُربَى حَقَّهُ﴾ (اإلسراء ،آية .)26 :
تعالى﴿ :وَآ ِ
قال ابن القيم :إذا لم يكن ذلك حق النفقة فال ندري أي حق هو :ومن السنة قوله صلى اهلل عليه
وسلم« :ابدأ بمن تعول أمك وأباك ،وأختك وأخاك ،ثم أدناك فأدناك حق واجب ورحم
موصولة» ،3وقد أجمع علماء المسلمين من عهد الصحابة حتى عصرنا على أن نفقة المعسر
تجب على قريبه الموسر أصالً كان أم فرعاً ،وال يوجد بين الفقهاء من هذا اإليجاب خالف
وإنما تختلف اآلراء في تفسير القرابة ومدى ما تشمل عليه من أفراد سعة وضيقاً ومن أبواب
النفقة على المسنين ما قد ينالهم من ميراث ،ألن األب يرث ابنه كما أن االبن يرث أباه كما هو
مفصل في كتب الفقه.4
فإذا لم تف أموال األبناء واألقارب بحق المسنين المعسرين ،فعلى ولي األمر أن يلبي حاجاتهم
من بيت مال المسلمين ،خا صة فيما يتعلق بالضرورات وهي الغذاء والكساء والمأوى والعالج
1سنن أبي داود ،السنوات المتأخرة من العمر ،عز الدين إبراهيم ،ص.47 :
2سنن أبي داود والترمذي.
3سنن أبي داود ،السنوات المتأخرة من العمر ،ص.48 :
4السنوات المتأخرة من العمر ،ص.49 :
385
عمالً بقوله صلى اهلل عليه وسلم« :من خلف ماالً أو حق ًا فلورثته ،ومن خلف كالً أو دين ًا فكله
إليّ دينه علي» .1وللقاعدة الفقهية« :الحاكم ولي من ال ولي له».2
وللدولة في سبيل توفير األموال الالزمة لهذه الرعاية المادية للمسنين ،أن توظف ما قد يوجد
من أوقاف أو وصايا أو زكوات ،وقد استوعبت قوانين األحوال الشخصية في البالد اإلسالمية
هدي الشريعة في النفقة فأوردت أحكاماً مفصلة تؤكد دور الدولة في رعاية حقوق رعاية
المسنين ،3والدولة ذات المرجعية اإلسالمية تعمل على:
ـ تأهيل كبار السن ذوي االحتياجات الخاصة لالحتفاظ بالحد األقصى من القدرات الوظيفية
طيلة حياتهم والعمل على مشاركتهم في المجتمع وتوفير الرعاية المناسبة لهم.
ـ التأكد من وصول الخدمات الطبية والتمريضات للمسنين.
ـ تحسين صحة المسن والتأكد من نمط حياته ،بما يؤدي إلى راحته االجتماعية والنفسية.
ـ تأمين تحسن متواصل للحالة الغذائية للمسن.
ـ إعادة تأهيل كبار السن ذوي الحاجات الخاصة.
وضع خطة شاملة لرعايا كبار السن في منازلهم على أن يقوم فريق متكامل باإلشراف على
كبار السن في منازلهم إلجراء الكشف الدوري عليهم ومساعدة القائمين على خدماتهم وتدريبهم
على اتباع طرق الرعاية الصحية.
ـ إقامة وتحديث قواعد شاملة للبيانات الخاصة بالمسنين في كل مناطق وبلديات الدولة.
ـ إقامة تواصل على المستوى الوطني واإلقليمي بين المنظمات والمؤسسات واألفراد النشيطين
في مجال رعاية المسنين.
ـ دمج الرعاية الصحية للمسنين في مستويات الرعاية الصحية األولية ،ووضع برامج تدريبية
للعاملين في هذا المجال.
ـ توفير المعلومات والمهارات المناسبة للمسنين وأسرهم والمجتمع بأكمله للعناية بأنفسهم
والحفاظ على صحتهم وتنميتهم.
1البخاري ومسلم ،والكل :الضعيف الذي يحتاج إلى من يعوله.
2السنوات المتأخرة من العمر ،ص.49 :
3المصدر نفسه ،ص 43 :ـ .50
386
ـ زيادة عدد العيادات التي تقدم الرعاية الصحية للمسنين وبخاصة في المناطق النائية
والمحرومة.
ـ العمل على رفع نسبة المسنين المراجعين للعيادات الخاصة.
ـ تفعيل دور كافة الجهات المعنية حكومية وغير حكومية في مجال رعاية المسنين.
ـ توفير الرعاية الصحية واالجتماعية والنفسية.
ـ مد مظلة التأمينات والمعاشات لتشمل كافة المواطنين المحتاجين.
ـ كفالة إنشاء النقابات التي تعبر عنهم وتسعى لتفعيل دورهم واالستفادة من خبرتهم.
ـ بناء دور المسنين في المناطق المحتاجة وتحمل الدولة لكافة مصروفات إيوائهم ورعاية
وعالج ومعيشة من تقطعت بهم السبل.
ـ سن التشريعات التي تكفل حسن الرعاية والمعاملة ،وتغلظ العقوبة حيال أي فرد ،أو مؤسسة
تنتهك حقوق كبار السن وأرباب المعاشات بوجه خاص.
عَلَيهِ مَا عَنِتُّم حَرِيص عَلَيكُم بِالمُؤ ِمنِينَ رَؤُوف رَّحِيم﴾ (يونس ،آية .)128 :
لقد نظر اإلسالم للفئات الخاصة أصحاب العاهات واللقطاء ،وكبار السن والزمن ،نظرة تقدير
واحترام تنبع من األساس وهو تكريم اإلنسان ﴿ :وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ﴾ (اإلسراء ،آية :
.)70وهذا التكر يم اقتضى عدم إهمال أي شريحة من شرائح المجتمع مهما كان وضعها لذا
نجدها تقدم برامجها اإلنسانية لألخذ بأيدي هذه الفئات ،إلعادة تأهيلها لمواصلة مسيرتها في
387
الحياة ،خاصة أن قطاعاً كبيراً من هذه الفئات الخاصة لديه طاقات مذخورة ال ينبغي االستهانة
بها في دفع المسيرة الحضارية لإلسالم.
إن الدستور الحضاري اإلسالمي الخالد "القرآن والسنة" لم يترك أمر الفئات الخاصة
لالجتهادات الفردية ،بل نص بكل وضوح على ضرورة العناية بها ديانة وإنسانية ،واعتبر
االحتفاء بها ورعايتها من الطرق الموصلة إلى مرضاة اهلل ورسوله ،ودخول الجنة ،فنصت
اآليات القرآنية واألحاديث النبوية على واجب رعاية هذه الفئات رعاية شمولية من خالل
دمجهم ومعاملتهم على قدم المساواة مع غيرهم من عناصر المجتمع وقد صدق الكاتب
اإليرلندي الشهير برنارد شو حين أكد على صالحية اإلسالم لكل زمان ومكان ومقدرته على
حل أعقد المشاكل بكل سهولة ويسر حين قال :أعتقد أن رجالً كمحمد لو يسلم زمام الحكم في
العالم بأجمعه ،لتم النجاح في حكمه ،ولقاده إلى الخير وحل مشكالته على وجه يكفل للعالم
السالم والسعادة المنشودة.1
إن الحضارة الغربية المعاصرة لم تلتفت لرعاية هذه الشريحة االجتماعية إال في فترة متأخرة
جداً ،ورغم صدور العديد من القوانين والتشريعات في العديد من الدول المتقدمة لصالح الفئات
الخاصة إال أنها مازالت دون المستوى الذي وصلت إليه الحضارة اإلسالمية ،والسبب في ذلك
أن الحضارة اإلسالمية ربطت بين هذه الرعاية وبين الدين ،فغدا حب هذه الفئات وخدمتها
ينطلق من دافع إيماني ،جعل أفراد المجتمع من حكام ومحكومين يتسابقون في تقديم
المساعدات لهذه الفئات ليس من باب الشفقة والمنة بل من باب الواجب المقدس المفروض على
المسلم ،بينما نجد هذه الخدمات في الغرب تقدم مجردة خالية من الروح ،وبالتالي نجد االبن ال
يجد بأساً حين يدفع والديه إلى أحد المالجئ للتخلص من عبء النفقة والعناية بهما ،على
العكس تماماً مما هو كائن في تعاليم اإلسالم التي جعلت من عقوق الوالدين والتخلص من
رعايتهما كبي رة من الكبائر ،ال بل إن هذه النظرة اإلنسانية الرفيعة للوالدين حرامت على االبن
ِال إِيَّاهُ
َال تَعبُدُوا إ َّ أن يجرح شعورهما ولو بكلمة أف ،قال جلا من قائل﴿ :وَقَضَى رَبُّ َ
ك أ َّ
388
ال
َن عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَو كِالَهُمَا فَالَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ َو َ
ن إِحسَانًا إِمَّا يَبلُغ َّ
وَبِالوَالِدَي ِ
ال كَرِيمًا * وَاخفِض لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمَ ِة وَقُل رَّبِّ
تَنهَرهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَو ً
ارحَمهُمَا كَمَا رََّبيَانِي صَغِيرًا﴾ (اإلسراء ،آية 23 :ـ .1)24
ولم يكتف المصطفى صلى اهلل عليه وسلم بالتوجيه القولي ،بل قام بكفالة بعض أبناء وأرامل
المسلمين الذين استشهدوا في حركة الجهاد ،فقد جاء في البخاري ومسند اإلمام أحمد أنه بعد
استشهاد جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة جاءت زوجته أسماء بنت عميس إلى رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم بولديهما عبد اهلل ومحمد ابني جعفر ،وجعلت تذكر ترملها ويتم ابنيها،
فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم« :العيلة تخافين عليهم ،وأنا وليهم في الدنيا واآلخرة».4
وانطالقاً من هذا التوجيه النبوي الشريف أخذت األمة تعمل على إيجاد آليات لتجسيد رعاية
األرامل في الواقع الملموس من خالل حركة اجتماعية مؤسسية تقوم على مبدأ التكافل
االجتماعي ،لمساعدة هذه الشريحة في المجتمع ،وقد كان حكام الدولة اإلسالمية على رأس
1المصدر نفسه ،ص.12 :
2األرملة :المرأة التي فقدت زوجها.
3أخرجه البخاري ،الحديث رقم.5660 :
4أخرجه البخاري ،الحديث رقم.5660 :
389
الرواد في مباشرة هذا العمل االجتماعي السامي ،فهذا الخليفة عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه
كان يخطط قبل اغتياله لتقديم إعانة دائمة لألرامل ،إال أن استشهاده حال دون تحقيقه لهذا
الهدف في حياته ،فعن عمرو بن ميمون قال :رأيت عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه قبل أن
يصاب بأيام بالمدينة يقول :لئن سلمني اهلل ،ألدعن أرامل أهل العراق ال يحتجن إلى رجل
بعدي أبدًا.1
وكان عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه قد بدأ بتقديم المعونات لألرامل في المدينة المنورة ،فعن
زيد بن أسلم عن أبيه قال :خرجت مع عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه إلى السوق ،فلحقت
عمر امرأة شابة فقالت :يا أمير المؤمنين ،هلك زوجي وترك صبية صغاراً واهلل ما ينضجون
كراعاً وال لهم زرع وال ضرع وخشيت أن تأكلهم الضباع وأنا بنت خفاف ابن إيماء الغفاري،
وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى اهلل عليه وسلم فوقف معها عمر ولم يمض ،ثم قال:
مرحب ًا بنسب قريب ،ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطاً في الدار ،فحمل عليه غرارين
مألها طعاماً وحمل بينها نفقة وثياباً ،ثم ناولها خطامه ثم قال :اقتاديه ،فلن يفنى حتى يأتيكم اهلل
بخير ،فقال الرجل :يا أمير المؤمنين أكثرت لها ،قال عمر :ثكلتك أمك ،واهلل إني ألرى أبا هذه
وأخاها حاصرا حصناً زماناً ففتحاه.2
ويعد الصحاب ي الجليل الزبير بن العوام رضي اهلل عنه أول من أوقف وقفاً لصالح األرامل
والمطلقات من بناته ،فقد جاء في صيغة وقفه لبعض دوره :وللمردودة من بناته أن تسكن غير
ض ٍّر بها.3
ض َّرة ،وال مُ َ
ُم ِ
وكان القائد المظفر صالح الدين األيوبي يدرك بأن توفير األمن االجتماعي لهذه الشريحة
"األرامل" من العوامل المهمة لتحصين الجبهة الداخلية ،وبالتالي تحقيق النصر في الجبهات
الخارجية ،فعندما يعلم الجندي أن زوجه وأطفاله بعد استشهاده سوف يعيشون حياة كريمة،
يزداد حماساً في جهاده ،وتقل توتراته النفسية ـ التي هي من طبيعة النفس البشرية ـ حين
390
يتوجه لجبهات القتال ،لذا نجد صالح الدين يوقف األوقاف الكثيرة لخدمة األرامل واأليتام،1
والتي منها على سبيل المثال :قرية نسترو بين دمياط واإلسكندرية والتي كانت قيمة ضمانها
خمسون ألف دينار.2
وقد تطور العمل الجماعي في الحضارة اإلسالمية لخدمة هذه الشريحة االجتماعية إلى درجة
إنشاء مؤسسات اجتماعية متخصصة لرعاية األرامل والنساء المطلقات ،أو اللواتي هجرن من
قبل أزواجهن ،أو اللواتي تقدم بهن السن وليس لهن من ينفق عليهن وكانت رائدة هذه اللمسات
اإلنسانية السيدة تذكار خاتون ابنة الظاهر بيبرس ،التي شيدت في عام 684هـ 1258/م رباط
البغدادية للشيخة الفاضلة زينب ابنة أبي البركات المعروفة ببنت البغدادية ،وأنزلت فيها
مجموعة من النساء ،وظل هذا الرباط قائماً إلى زمن المؤرخ المقريزي 766هـ ـ 845هـ
1441/م الذي أوضح بأن لهذا الرباط شيخة تعظ النساء وتفقههن ،على أن أهم من هذا قوله:
وأدر كنا هذا الرباط ،وتودع فيه النساء الالتي طلقن أو هجرن ،حتى يتزوجن أو يرجعن إلى
أزواجهن صيانة لهن ،كما كان فيه من شدة الضبط وغاية االحتراز والمواظبة على وظائف
العبادات ..حتى أن خادمة الفقيرات ..تؤدب من خرج على الطريق بما تراه.3
ويبدو أن فكرة إنشاء مؤسسة خاصة لرعاية النساء من الفئات الخاصة بمصطلح اليوم انتشرت
من مختلف أرجاء الدولة اإلسالمية على مر فترات التاريخ اإلسالمي ،فكان هناك على سبيل
المثال رباطاً مخصصاً للنساء والعجائز في بغداد ومثله في مصر لألرامل والعجائز ،فضالً
عن النساء المطلقات وفي القرافة بمصر عدة دور يقال للدار منها رباط إلقامة العجائز
واألرامل والمنقطعات ،وكانت لها مرتبات للصرف على المقيمات بها ،وكان لهن مجالس
وعظ مشهورة ،وكان يختار لهذه الربط سيدات مثقفات لتهذيب وتعليم المقيمات فيه ،منهن
الشيخة زينب بنت عباس البغدادية والتي كانت تحضر مجالس ابن تيمية وكان يستعد لها لكثرة
مسائلها.4
391
ويذكر أنه كان في مدينة فاس ملجأ خاص ًا بالنساء الشريفات الفقيرات ،ويتكون هذا الملجأ من
دارين تقع إحداهما من الماشطين قرب ساحة الصفارين ،واألخرى في وادي الرشاشة جوار
دار عديل.
وقد استمرت العناية بهذه الفئة من المجتمع في أحلك الفترات التي كانت تمر بها الحضارة
اإلسالمية ،فها هو آخر خلفاء الدولة العباسية المستعصم والذي قتل على يد التتار سنة 656هـ
1258 /م يوقف داراً لرعاية النساء المسنات رغم ما كان يتهدد الدولة من مخاطر التتار.1
وهكذا تبلورت التوجيهات النبوية بشأن هذه الشريحة االجتماعية إلى عمل اجتماعي مؤسسي.2
ب ـ تزويج وتجهيز البنات الفقيرات:
من طبيعة اإلسالم وتعاليمه االهتمام بالجانب اإلنساني وتوفير االحتياجات ألفراد المجتمع،
سواء بواسطة الدولة أو من األفراد القادرين على فعل الخير والتقرب به إلى اهلل.
ولذلك نجد أن الدولة اإلسالمية تصدر المراسيم التي تلزم الدولة بنفقات زواج الفقراء ولعل
األوامر التي أصدرها الخليفة األموي الزاهد عمر بن عبد العزيز" 99ـ 717 /101ـ "719
إلى واليه على العراق عبد الحميد بن عبد الرحمن بهذا الشأن خير دليل وشاهد على حرص
حكام المسلمين على رعاية الشباب الفقراء في الدولة اإلسالمية لما يترتب على عجزهم عن
الزواج من مفاسد اجتماعية تهدد األمن االجتماعي لألمة ،فقد جاء توجيهه لواليه :أن أنظر كل
بكر ليس له مال فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدق عنه ،فكتب إليه :إني قد زوجت كل من
وجدت.3
ولم يكتف هذا الخليفة العادل بذلك ،بل طلب أن ينادي في كل مصر في كل يوم :أين المساكين،
أين الغارمون ،أين الناكحون.4
وقد قرر الفقهاء منذ فترة مبكرة على أن االلتزامات اإلنسانية على األمة التكفل بتزويج الفقراء
في المجتمع ،1ويحدثنا الرحالة الشهير ابن بطوطة :أنه كان في مدينة دمشق أوقاف خاصة
392
لتجهيز البنات إلى أزواجهن مما ال قدرة ألهلهن على تجهيزهن .2كما وجد في فلسطين أوقاف
مخصصة لتوفير مهور للفتيات اليتيمات كي يتسنى لهن الزواج.3
ووجد في أكثر بلدان العالم اإلسالمي وقفاً إلعارة الحلي والزينة في األعراس والمناسبات
السعيدة ،بحيث أن العامة والفقراء ينتفعون بهذا الوقف الخيري ،فيستعيرون منه ما يلزم من
الحلي ألجل التزيين في المناسبات العامة ،ومن ثم يعيدونه إلى مكانه بعد انتهائها ،4فقد وجد
على سبيل المثال في مدينة تطوان المغربية وقف ألسرة بلحاج خاص بزينة العروس
ولباسها ،5وكانت ملكة الهند المسلمة نورجهان تساعد المحتاجين وتزوج األيتام ،وتدفع المهور
عنهم ،وكانت أول من أنشأت سوقاً خيرية أطلقت عليها اسم "سوق الشفقة" يذهب ريعه لخدمة
الفقراء وتزويج األيتام ،فكانت تجتمع باألميرات وزوجات األعيان في قصرها ،ثم يذهبن إلى
السوق ،توزع وارداته على فقراء المملكة ،والتي كان يصرف بعضها في تزويج األيتام
ومساعدة المحتاجين ،وقد بقيت هذه الملكة تمارس هذه الخدمة الجليلة حتى انتقل زوجها عام
1056هـ 1646/م إلى الرفيق األعلى ،حيث اعتزلت الحكم ثم توفيت بعد قليل ودفنت في
جانبه في حديقة سليمان 6وكانت األميرة عزيزة بنت أحمد بن محمد بن عثمان ت 1080هـ /
1669م محبة للضعفاء والمساكين ،فأوقفت األوقاف الخيرية الكثيرة في تونس ،منها ما هو
مخصص لتجهيز األبكار الالتي يثقلهن الفقر ويحول دون زواجهن صيانة لهن عن االبتذال
وترغيباً في الزواج بهن.7
ومن أجل مساعدة المرأة على القيام بوظيفة األمومة على أكمل وجه وجدت أوقافاً للنساء
المرضعات ،تسمى أوقاف نقطة الحليب يوزع منها الحليب على النساء المرضعات في أيام
محدودة في كل أسبوع ،إلى جانب الماء المذاب فيه السكر ،فقد كان من مبرات القائد المظفر
صالح الدين األيوبي في أحد أبواب القلعة في دمشق ميزاباً يسيل منه الحليب ،وميزاباً يسيل
393
منه الماء المذاب فيه السكر ،تأتي إليه األمهات المرضعات يومين في كل أسبوع ليأخذن
ألطفالهن وأوالدهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر.1
ج ـ رعاية اللقطاء:
نص الفقهاء على أن رعاية اللقيط واجب مقدس على األمة ،فإن لم تقم به وقعت في اإلثم ،ولذا
قالوا :إن من وجد صغيراً منبوذاً ،ففرض على من بحضرته أن يقوم به ..وال إثم أعظم من إثم
من أضاع نسمة وال ذنب لها حتى تموت جوع ًا أو برداً أو تأكلها الكالب وهو قاتل نفس عمداً
ال شك ،2وإن امتنع أهل القرية أو البلدة على أن ينفقوا على اللقيط وجب على اإلمام قتالهم.3
ألنهم تقاعصوا عن القيام بواجبهم االجتماعي المقدس الذي كلفهم به الشارع ،فالقاعدة تقول:
إنه من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً ،ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ،يقول اهلل
تعالى﴿ :مِن أَج ِل ذَلِكَ كَتَبنَا عَلَى بَنِي إِسرَائِي َل أَنَّهُ مَن قَ َتلَ نَفسًا بِغَي ِر نَفس أَو فَسَاد
إن إهمال هذه الفئة االجتماعية "اللقطاء" يعني فتح باب مفسدة عظيمة على المجتمع ومخالفة
ِال رَحمَ ًة لِّلعَالَمِينَ﴾
صريح لروح اإلسالم التي جاءت رحمة للعالمين ﴿ َومَا أَرسَلنَاكَ إ َّ
(األنبياء ،آية .)107 :وصح عن النبي محمد صلى اهلل عليه وسلم قوله « :من ال يَرحم ال
يرحم».4
وعليه فقد نص الفقهاء على إلزام الدولة باإلنفاق على اللقيط ،وإن عز ذلك ،كلفت مجموعة
تعاونية بمساعدة الدولة لإلشراف على اإلنفاق عليه.5
وكان عمر بن الخطاب الخليفة الراشد 13ـ 23هـ 634/ـ 643م كان من أوائل حكام الدولة
اإلسالمية الذين خصصوا أمواالً من بيت مال المسلمين لرعاية اللقطاء وتوفير الجو األسري
394
المناسب لهم ،فقد روى الصحابي سنين أبو جميلة ،1قال :أخذت منبوذاً على عهد عمر رضي
اهلل عنه ،فذكره عريف لعمر رضي اهلل عنه فأرسل إليا فدعاني والعريف عنده فقال :ما حملك
على ما صنعت؟ قلت :وجدت نفساً بمضيعة فأحببت أن يأجرني اهلل فيه ،فقال عمر :هو حر،
والؤه لك ،وعلينا رضاعته.2
وفي حادثة أخرى رفع لقيط إلى الفاروق رضي اهلل عنه أثناء خالفته ،فدفعه إلى امرأة صالحة
لتتولى إرضاعه وتربيته مقابل أجر يدفع لها من بيت مال المسلمين وفي نفس الوقت قام
بالتحريات الالزمة حتى تعرَّ ف على أمه ،التي اعترفت للخليفة بأنه ثمرة زنا أجبرت عليه مما
جعلها تقتل الشاب الذي اغتصبها ،ومن ثم طرح هذا الطفل على قارعة الطريق.3
وعندما تعددت حاالت وجود اللقطاء استشار عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه الصحابة في
نفقة اللقيط ،فقالوا :لم يكن له مال وجبت نفقته من بيت مال المسلمين.4
فكان رضي اهلل عنه إذا أتى بلقيط فرض له مائة درهم وفرض لوليه رزق يصله كل شهر،
وجعل رضاعته ،ونفقته وما يلزمه من بيت المال ،على أن يزيد عطاؤه سنة فسنة ،وكان
يوصي بهم خيرًا ،5وقد سار الخليفة علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه على هذا النهج.6
وحفظت الشريعة اإلسالمية حقوق هذه الشريحة في الحرية والكرامة ،والرعاية والتربية وحق
النفقة ،بل إن الدول اإلسالمية كالعباسية ،واأليوبية ،والمماليك والعثمانية ،كانت تشتري هؤالء
األطفال من أسواق الرقيق من مختلف العالم ،ومن ثم تربيتهم تربية عسكرية إسالمية ،حولتهم
إلى حراس للحضارة اإلسالمية بعدما أصبحوا جنوداً مدربين يؤمنون باإلسالم ديناً وعقيدة،
ومنهج حياة.7
1من الصحابة الذين شهدوا حجة الوداع وروا عن أبي بكر وعمر وروى عنه اإلمام الزهري.
2رعاية الفئات الخاصة ،ص.49 :
3تاريخ عمر بن الخطاب البن الجوزي ،ص 78 :إلى .79
4المجموع النووي (.)288 / 15
5أخبار عمر ،علي طنطاوي ،ص 124 :ـ .125
6األموال ،أبو عبيد القاسم بن سالم ،ص.339 :
7رعاية الفئات الخاصة ،ص.50 :
395
د ـ رعاية ذوي العاهات واألمراض المزمنة:
نرى عتاب اهلل لرسوله صلى اهلل عليه وسلم في آيات تتلى إلى يوم القيامة ،وكان هذا العتاب
في شأن رجل فقير أعمى من الصحابة عبد اهلل بن أم مكتوم رضي اهلل عنه ،أعرض عنه
الرسول صلى اهلل عليه وسلم مرة واحدة ،ولما يجبه عن سؤاله النشغاله بدعوة بعض أشراف
مكة.1
ك لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَو فنزل قول اهلل تعالى﴿ :عَبَ َ
س وَ َتوَلَّى * أَن جَاءهُ األَعمَى * وَمَا يُدرِي َ
1 :ـ .)11
لقد باشر المصطفى صلى اهلل عليه وسلم بعد ما تلقى العتاب من ربه في سورة عبس إلى
توجيه أنظار األمة ألهمية رعاية هذه الشريحة من المجتمع فكان على سبيل المثال ،يعهد لعبد
اهلل بن أم مكتوم الذي عاتبه فيه ربه ليصلي بالناس أثناء غيابه عن المدينة المنورة في بعض
غزواته.2
وكان ابن عباس يؤم الناس بعدما فقد بصره وروى البخاري والنسائي أيضاً أن عتبة بن مالك
كان يؤم قومه وهو أعمى.3
وبعد تعددت صور توجيهات المصطفى صلى اهلل عليه وسلم لهذه الشريحة "العميان" ولألمة،
فكان دوماً يعرض على رفع معنوياتها ويحثها على العمل من خالل تعظيم األجر لها إذا
صبرت واحتسبت ومارست دورها في الحياة دون أن تجعل من هذه العاهة عائقاً وعقبة أمام
أخذها لدورها المناسب في المجتمع ،فقد بشر النبي صلى اهلل عليه وسلم من فقد إحدى عينيه أو
كالهما بالجنة ،فقال« :إن اهلل قال :إذا ابتليت عبدي بحبيبته فصبر عوضته عنهما الجنة».4
396
وكعادة الصحابة الكرام ما إن رأوا سلوك النبي صلى اهلل عليه وسلم تجاه هذه الفئة االجتماعية
حتى بدأوا يتسابقون في مد يد العون لها ،فقد روى اإلمام األوزاعي رحمه اهلل عن الخليفة
الراشد عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه أنه خرج في سواد الليل فرآه الصحابي طلحة بن عبيد
اهلل رضي اهلل عنه فذهب عمر فدخل بيتاً ثم دخل آخر ،فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت،
فإذا بعجوز عمياء مقعدة ،فقال لها :ما بال هذا الرجل يأتيك؟ ،قالت :إنه يتعاهدني منذ كذا
وكذا ،يأتيني بما يصلحني ،ويخرج عني األذى ،قال طلحة :ثكلتك أمك يا طلحة ،أعثرت عمر
تتباع ، 1وكان عمر رضي اهلل عنه شديد البر ألصحاب العاهات ،خاصة العميان ،وسار على
هذا النهج حكام المسلمين وأهل الخير في األمة فها هو الخليفة األموي الوليد بن عبد الملك
" 86ـ 96هـ 705/ـ 715م" يصدر مرسوماً حضارياً راقياً يعبار عن احترامه لهذه الفئات،
فقد أعلن بأن رعاية الفئات الخاصة في المجتمع هي من واجبات الدولة ،لذا نجده يأمر
بتخصيص قائد لكل أعمى يسهر على راحته ،فضالً عن راتب شهري يغطي نفقاته ،2كما ثبت
عن الخليفة عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أمصار الشام :أن ارفعوا إلى كل أعمى في
الديوان أو مقعد أو من به فالج ،أو من به زمانة "داء مزمن" يحول بينه وبين القيام إلى الصالة
فرفعوا إليه ،فأمر لكل أعمى بقائد ،وأمر لكل اثنين من الزمن بخادم.3
ويروي الرحالة المسلم الشهير ابن بطوطة في رحلته أنه شاهد في بغداد جماعة من العميان
يؤمر لكل واحد منهم بكسوة وغالم يقوده ونفقة تجري عليه.4
ولعل تسابق أهل الخير حكاماً ومحكومين على وقف األوقاف لصالح هذه الفئات االجتماعية
خير شاهد على نضج الحس االجتماعي لألمة اإلسالمية وسمو حضارتها إذ يندر أن نرى بقعة
معمورة كانت تفيء بظالل الحضارة اإلسالمية ال يوجد فيها وقف ألصحاب العاهات.5
وقد خصصت الدولة اإلسالمية مستشفيات لرعاية المحتاجين ،وأفردت غرفاً خاصة في
المستشفيات العامة لمداواتهم سريرياً ونفسي ًا ،1كما ذكر المؤرخون أنه جاء في نفقات الخليفة
1صفة الصفوة البن الجوزي (.)107 /1
2الخطط ( )405 /2للمقريزي.
3سيرة عمر ابن عبد العزيز البن الجوزي ،ص 154 :ـ .155
4رحلة ابن بطوطة ،ص.107 :
5رعاية الفئات الخاصة ،ص.61 :
397
العباسي المعتضد باهلل أنه خصص لمستشفى الصاعدي الذي كان قد أسسه القائد صاعد بن
مخلد أمواالً للنفقة عليه ،ألثمان األدوية واألطعمة واألشربة لخدمة المغلوبين على عقولهم.2
وجاء في وقف أحد المستشفيات المخصصة لألمراض العقلية أن :كل مجنون خصص له
خادمان يخدمانه فينزعان عنه ثيابه كل صباح ،ويحممانه بالماء البارد ثم يلبسانه ثياباً نظيفة ثم
يفسحانه في الهواء الطلق ويسمع في اآلخر األصوات الجميلة.3
وقد انتشرت مستشفيات المجانين في كل المدن اإلسالمية في بغداد والقاهرة ودمشق وفاس
وغيرها ،وفي العصر المريني اهتم أبو يوسف يعقوب عبد الحق " 656ـ 685هـ 1258 /ـ
1286م" برعاية المجانين ،فقد كان ـ حسب ما ورد عن ابن أبي زرع ـ كثير الخير ،والرأفة
على الضعفاء والمساكين ،صنع المارستان للمرضى والمجانين ،وأجرى عليهم النفقات،
وجميع ما يحتاجون إليه من األغذية واألشربة ،وأمر بتفقد أحوالهم في الصباح والمساء.4
واستمرت عناية الدولة اإلسالمية المتعاقبة بالمجانين حتى فترة متأخرة من الدولة العثمانية،
فنرى على سبيل المثال بمارستان السلطان العثماني سليمان بن السلطان سليم عاشر سالطين
آل عثمان "ت هـ 22صفر 974هـ 1566 /م" في القسطنطنية ،قد خصص لمداواة المرضى
وتربية المجانين بأنواع األشربة واألطعمة والمعاجين ،5علماً بأنه كان يخصص لكل مجنون
في معظم المستشفيات مرافقاً خاصاً يأخذه باللين والرفق ويصحبه بين الزهور والرياض
الخضراء ،ويسمعه ترتيالً هادئًا من آيات الذكر الحكيم.6
وتؤكد المصادر أن المسلمين أدركو ما للترويح والتسلية من أثر في إدخال البهجة على
المرضى والمصابين باألمراض النفسية ،فكان في بعض المستشفيات على سبيل المثال فرقاً
لإلنشاد تقوم بإنشاد األناشيد الجميلة للترفيه عن المرضى الذين ال يستطيعون النوم.7
398
وفي بعض األحيان كان يعزل المؤرقين في قاعات منفردة عن بقية المرضى حيث تشنف
آذانهم باألصوات الندية فضالً عن تسليتهم باألقاصيص التي يلقيها عليهم القصاص ،إلى جانب
مشاهدة بعض التمثيليات المضحكة ،وكان أيضاً المؤذنون في المسجد المالصق للمستشفى
يؤذنون في السحر قبل ميعاد الفجر بساعتين ،وينشدون األذكار بأصوات ندية من أجل تخفيف
األلم عن المرضى الذين يضجرهم السهر وطول الوقت.1
وكان المسلمون يهتمون بأثر العوامل النفسية في معالجة المرضى ،وخاصة المصابين
باألمراض النفسية ،لذا نجد أهل الخير واإلحسان يبادرون إلى وقف األوقاف لخدمة هذا الهدف
اإلنساني الس امي ،فقد أوقف أحد المحسنين في مدينة طرابلس اللبنانية وقفاً يخصص ريعه
لتوظيف اثنين يمران بالمستشفيات يومياً فيتحدثان بجانب المرضى حديثاً خافتاً ليسمعه
المريض بما يوحي له بتحسن حالته واحمرار وجهه وبريق عينيه .2وكما هو معلوم فقد ثبت
علمياً اليوم ب أن روح المعنوية لها أثر كبير على حالة المريض ،فالمريض الذي يتمتع بروح
معنوية عالية يتعافى أسرع من المريض الذي يتصف بضعف المعنوية.3
وأما أصحاب األمراض المزمنة والخطيرة ،ممن ليس لهم أقارب يقومون بأمرهم ،فقد وجدت
الكثير من األوقاف في مختلف المدن اإلسالمية لخدمة هذه الشريحة االجتماعية فقد خصص
الخليفة األموي الوليد بن عبد الملك على سبيل المثال مصحات لمرض الجذام لرعايتهم
واإلنفاق عليهم ومنعهم من االحتكاك بالناس.4
وأوقف في تونس أبو فارس عبد العزيز بن السلطان أبي العباس الحفصي " 796هـ /
1393م" بيمارستان للضعفاء والغرباء وذوي العاهات من المسلمين وأوقف على ذلك أوقافاً
كثيرة.5
وكان الخليفة األموي عمر بن عبد العزيز ،يفرض للزمني من بيت مال المسلمين فريضة
الصحيح لكفاية حاجته ،وقد بدأ ألحد والة عمر في دمشق أال يكون لهؤالء فريضة كاملة
1المصدر نفسه ،ص.112 :
2المصدر نفسه ،ص.113 :
3رعاية الفئات الخاصة ،ص.73 :
4تاريخ البيمارستانات ،أحمد عيسى بك ،ص.278 :
5تاريخ البيمارستانات ،ص.280 :
399
كفريضة الصحيح ،فقال في رده على الخليفة :الزمن ينبغي أن يحسن إليه ،فأما أن يأخذ
فريضة رجل صحيح فال ،فكتب عمر بن عبد العزيز :إذا أتاك كتابي هذا فال تعنت الناس وال
تعسرهم وال تشق عليهم ،1ويستند عمر بن عبد العزيز في فعله هذا على ما كان في عهد علي
بن أبي طالب رضي اهلل عنه ،الذي كتب إلى عامله المعين على مصر األشتر النخعي بوصية
بأن يعتني بأهل الزمانة والمرضى ،حيث قال :ثم اهلل اهلل في الطبقة السفلى من الذين ال حيلة
لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمني ،فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً ،وأحفظ
اهلل ما استحفظك من حقه فيهم ،واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غالت صوافي
اإلسالم في كل بلد ،فإن لألقصى منهم مثل الذي لألدنى وكل قد استرعيت حقه وال يشغلنك
عنهم بطر وال تصعر خدك لهم وتفقد أمور من ال يصل إليك منهم ،ممن تقتحمه العيون،
وتحقره الرجال ،ففرغ ألولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع ،فليرفع إليك أمورهم ثم اعمل
فيهم باألعذار إلى اهلل سبحانه يوم تلقاه ،فإن هؤالء من بين الرعاية أحوج إلى اإلنصاف من
غيرهم ،وكل فأعذر إلى اهلل في تأدية حقه.2
وتعهد أهل اليتيم ،وذوي الرمة في السن ممن ال حيلة له ..ثم احتمل الخرق منهم والعيي وانح
عنهم الضيق واألنف يبسط عليك اهلل بذلك أكناف رحمته 3إن التعاليم اإلسالمية قدمت برنامجاً
شمولياً لرعاية الفئات الخاصة ،فقد جاءت اآليات القرآنية واألحاديث النبوية واضحة جلية في
إلزام األمة برعايتهم واألخذ بيدهم ودمجهم في المجتمع.
400
ـ اال رتقاء بالوعي العام لدى المجتمع بأفراده ومؤسساته وزيادة الفهم حول حقوق والتزامات
وإمكانيات األفراد ذوي االحتياجات الخاصة ،والعمل على إتاحة الفرص الكافية والمالئمة لهم
وذلك لتحقيق مشاركتهم الكاملة في كل الجوانب الحياتية.
ـ ضمان حصول ذوي االحتياجات الخاصة على أدوات وخدمات االتصال والمعلومات وفرص
التعليم المالئم وفق قدرتهم واحتياجاتهم ومشاركتهم في األنشطة الرياضية والترفيهية.
ـ تدعيم كافة القطاعات ذات الصلة بذوي االحتياجات الخاصة باإلمكانات المادية والبشرية
الالزمة للقيام بمهامها.
ـ وضع بنية معلوماتية تجمع كافة البيانات والمعلومات الخاصة بعدد ذوي االحتياجات الخاصة
في الدولة ،وكذلك المؤسسات العالمة في مجال اإلعاقة ومراعاة أن تكون تلك المعلومات دقيقة
وشاملة ومتكاملة ودائمة المراجعة والتحديث باسلوب علمي منهجي متكامل.
ـ سن التشريعات ذات الصلة بذوي االحتياجات الخاصة بحيث تتضمن آليات تطبيق وتنفيذ
فعالة ومضمونة لحماية حقوقهم وتطوير القائم من تلك التشريعات.
ـ تهيئة بيئات خالية من المعوقات والموانع في المباني والطرق ووسائل االنتقال واألماكن
العامة كمتطلب هندسي في التصميم والتخطيط مع العمل على إصالح وترميم البيانات
والوسائل المستخدمة من قبل الجمهور كلما أمكن ذلك.
ـ تبني برامج ومنهجية واضحة بهدف الوقاية من اإلعاقة والرعاية الصحية وتحسين الظروف
الصحية واإلجراءات الوقائية من األمراض والحوادث التي تتسبب في اإلصابة باإلعاقة وذلك
عن طريق الرعاية الصحية األولية والوقائية والتعليم العام.
ـ التأهيل والتدريب والتشغيل لذوي االحتياجات الخاصة بهدف تحقيق أعلى مستوى ممكن من
االستقاللية لهم وألسرهم.
401
ـ تدعيم أواصر التعاون اإلقليمي والدولي من خالل تأسيس نظم وآليات ربط لشبكات فعالة
للمشاركة وتبادل المعلومات والمصادر والخبرات حول قضايا اإلعاقة وذوي االحتياجات
الخاصة على الصعيدين اإلقليمي والدولي.
8ـ البيئة:
حرص اإلسالم على حماية البيئة بكافة مكوناتها وذلك بإنشاء تصور كامل للحياة ونظامها وما
تتطلبه من نهضة أو تطور وفق قواعد ثابتة ال تتغير وال تتبدل مع تغير الزمان والمكان ،وهذا
ما يعطي المبادئ البيئية اإلسالمية صفة الصالحية التي تحقق ألفرادها السعادة والرخاء في
الدنيا واآلخرة ،والمبادئ اإلسالمية للبيئة لم تكن ضرباً من الخيال وال أسطورة من أساطير
اليونان والرومان وإنما هي جزء من الفطرة التي فطر اهلل عليها الناس ،في توجه صادق إلى
خالق الخلق كله ،قال تعالى ﴿ :فَأَقِم وَجهَ َ
ك لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطرَةَ اهللِ الَّتِي فَطَ َر النَّاسَ عَلَيهَا
فالطبيعة بما فيها من موارد هبة اهلل لعباده من ماء وتربة وشمس وهواء ،فمن حق اإلنسان في
هذا المجتمع أن تحفظ له ـ إن أمكن ـ هذه الموارد الطبيعية التي ساقها اهلل تعالى إليه ،غير أن
الحضارة الحديثة رغم خدماتها وإنجازاتها التي ال تنكر جرات على الجسد البشري ويالت
كثيرة ،سوى إصابات العمل التي سلف ذكرها ،منها تلوث البيئة.
فالبيئة هي المنزل وما يحيط بالفرد أو المجتمع ويؤثر فيهما ،يقال :بيئة طبيعية ،وبيئة
اجتماعية ،وبيئة سياسية ،والمقصود هنا األول ـ الطبيعة ـ 1التي هي مدار حديثنا ،وأما التلوث
فهو التلطخ ،وتلوث الماء أو الهواء ونحوه ،خالطه مواد غريبة ضارة.2
واإلسالم دعا إلى سالمة البيئة وإفسادها على الناس ،والنبي صلى اهلل عليه وسلم أكد هذه
المعاني ،بدعوته إلى تطهير البيئة من المفاسد التي تلوثها منها:
402
أ ـ النهي عن البول في الماء الراكد:
الماء نعمة من اهلل تعالى خلقه ليشرب منه الناس ،ويغسلون ويسقون حيواناتهم ومزروعاتهم،
َي أَفَالَ يُؤ ِمنُونَ﴾ (األنبياء ،آية .)30 :
ُل شَيء ح ٍّ قال تعالىَ ﴿ :وجَعَلنَا مِ َ
ن المَاء ك َّ
هذه النعمة ـ الماء ـ تنقلب إلى ضرر محض إذا عبثت به يد اإلنسان بالتلوث ،وكم من
األمراض تنشأ من المستنقعات ذات المياه الملوثة ،لذا نهى النبي صلى اهلل عليه وسلم عن
تلويث الماء سيما الراكد منه ،فقد روى جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنهما ،أنه نهى صلى اهلل
عليه وسلم أن يبال في الماء الراكد ،1ألن الجاري متغير متبدل ال تتحقق فيه علة الضرر ـ
التلويث ـ على الكائنات الحية بخالف الراكد.
ب ـ تطهير المساجد وتطبيقها:
تجمع تعاليم اإلسالم بين الحرص على النظافة واللين والمسامحة ،فقد روى أنس بن مالك
رضي اهلل عنه قال :بينما نحن في المسجد مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :إذا جاء أعرابي
فقام يبول في المسجد ،فقال أصحاب النبي صلى اهلل عليه وسلم« :مه مه» ،2قال صلى اهلل
عليه وسلم« :ال تزرموه» ،3فتركوه حتى بال ،ثم إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم دعاه
فقال« :إن هذه المساجد ال تصلح لشيء من هذا البول وال القذر ،إنما هي لذكر اهلل عز وجل
والصالة وقراءة القرآن» ،قال :فأمر رجالً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه ،4فال شك
أن هذا األعرابي الحديث عهد باإلسالم لم يكن يقيم وزناً للبيئة ،ولم يعرف تعاليم اإلسالم بعد،
فبال في أطهر مكان وأكرم بيئة بعد بيت اهلل الحرام ،فبين له النبي صلى اهلل عليه وسلم أن
المساجد ال يليق بها هذا األمر ،غير منفر وال مفناد ولما كان فرش المسجد النبوي الشريف
الحصا فإن صبا بعض الماء على البول يكفي ،كما أنه صلى اهلل عليه وسلم نهى عن تلويث
المسجد بالبزاق ونحوه ،وعن أبي ذر رضي اهلل عنه قال :قال النبي صلى اهلل عليه وسلم:
403
« عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها ،فوجدت في محاسن أعمالها األذى يماط 1من
الطريق ،ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة ،2تكون في المسجد ال تدفن» ،3بل أمر
بتنظيف المساجد وتطييبها ،فقد روت السيدة عائشة رضي اهلل عنها قالت :أمر رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطياب».4
ج ـ نظافة الطرق والمرافق العامة:
إن أكثر األماكن التي يرتادها الناس الطرق العامة وموارد المياه وأماكن الجلوس ،كالظل
ونحوه ،لذا حذر اإلسالم من تلويثها خاصة فإن ذلك يكون إيذاء للناس من جهة ،ألنها أماكن ال
غنى لهم عنها ،ومجلبة للعن فاعله من جهه ثانية ،فعن معاذ بن جبل رضي اهلل عنه قال :قال
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :اتقوا المالعن الثالث :البراز في الموارد ،وقارعة الطريق،
والظل».5
فال شك أن تلويث هذه األماكن أكثر ضرراً من غيرها ،فالناس يكثرون فيها فيحصل الضرر،
لذا كان التحذير منفراً واصفاً الفعل بأنه مجلبة محصنة للعن الناس وشتمهم ألن الطباع السليمة
تنفر من ذلك فضالً عن تلويث البيئة ويمكن أن يقاس على ذلك من يدخن في الصاالت العامة
والحافالت واألماكن العامة ،ألنه إنشاء ألذى وضرر في أماكن يرتادها الناس ،فيفسد البيئة
ويستجلب لنفسه اللعن.6
د ـ عدم حجب الريح عن الجار:
لقد بيَّن صلى اهلل عليه وسلم أن الهواء الطلق من حق اإلنسان أن يشمه وال يجوز أن يحجب
عنه بحال ،فقال مخاطباً الجار في حسن الجوار« :وال تستظل عليه بالبنيان فتحجب عنه
الريح إال بإذنه» .7فهذا الحديث إرشاد للجار ،وإشارة إلى أن الهواء من حق اإلنسان ال يجوز
حجبه عنه إال بإذنه ،ويلحق بذلك أشعة الشمس ألنها أكثر أهمية في بعض البلدان واألماكن
404
والفصول فالهواء والشمس من عناصر البيئة الطبيعية ،ال يجوز التفريط بهما وإذا كان حجب
الريح عن الجار مرفوض ،فمن باب أولى أال يضع القمامة أمام داره ،أو أن يرفع صوت
المذياع والمسجل والتلفاز ،فيؤذيه بالصخب ،وأن ال يفتح على داره فوهات دخان الحمامات
والمطابخ ،فكل ذلك يندرج تحت قوله صلى اهلل عليه وسلم« :ال ضَرر وال ضِرار» ،1ومما تقدم
تبيا ن لنا حرص اإلسالم على البيئة ،ففي نظافتها ونقائها طيبة النفوس ،وسالمة األجساد ،ولما
كان الغراس والزرع يزيد البيئة نضارة وجماالً حث عليه اإلسالم ،فعن أنس بن مالك رضي
اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً
فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إال كان له به صدقة».2
*ـ الملوثات الحديثة للبيئة:
كانت ملوثات البيئة في الماضي ساذجة ويسيرة ،وقد توسعت في العصر الحديث نتيجة الثورة
الصناعية ،فجاء بعضها مؤثراً على السمع كالصخب أو ملوثاً للهواء كالدخان والغازات
وبعضها اآلخر مشوهاً لألجساد ،كالتلوث اإلشعاعي ،ومنها ما يبعث الروائح الكريهة وينقل
الجراثيم وهي الملوثات بالفضالت اآلدمية كالقمامة وغيرها.
ـ الصخب وأثره على السمع:
هناك صخب يشوه البيئة ويعكر صفوها ويصم اآلذان معرضاً إياها للصمم أحياناً مثل :أزيز
الطائرات ،وأصوات السيارات ،ومحركات المصانع ،وطنين المراوح وأجهزة تكييف الهواء،
وصفير الراديو والتلفاز ،فهذا الصخب الدائم الضوضاء يتسبب في انكماش األوعية الدموية،
وشحوب الجلد ،وانقباض العضالت ،ويندفع "األدرونالين" في مجاري الدم ،حيث يحدث توتراً
عصيباً.
ـ التلوث بالدخان والغازات:
إن دخان المصانع والقطارات وغاز السيارات العادم واحتراق الغابات ،وتقلص األشجار
الخضراء ،ضربة خطيرة للجسد البشري ،عندما أحدث تلوث الهواء الذي هو بأمس الحاجة
405
إليه غير أنه يمكن الحد من هذا التوث بالعمل على توسيع الرقعة الخضراء ،وذلك بغرس
األشجار.1
ـ التلوث اإلشعاعي:
إن المخلفات بالء على البشرية وخطر عظيم على الجسد البشري ،يشوهه إذا لم يفنيه ،إذا
أهملت ولم يمكن التخلص منها ،لذا يجب أن توضع في أوعية ال تتآكل أو تصدأ حيث ال توجد
كائنات حية ،وحيث ال تكشفها الظواهر الجيولوجية كالزالزل فتعيدها للوجود.
ـ التلوث بالفضالت اآلدمية:
من المعلوم أن القمامة لها أثر سيىء على البيئة ،فمنها تنبعث الروائح الكريهة والجراثيم
المختلفة والناقلة لألمراض ،وكل ذلك يصل إلى الجسد البشري عن طريق الهواء وغيره،
ويمكن التخلص من التلوث بهذه بأن توقد في مراجل المصانع ،فبذلك يتخلص بها من جهة،
ويستفاد منها كطاقة من جهة ثانية.
كما أن مجاري المياه ـ البواليع ـ تشكل خطراً ال يقل عن خطر القمامة ،وإن لم يكن أكثر ،فهي
تفسد البيئة أيماا إفساد إذا لم يحسن إحكامها وتصريفها ،فإذا تجمعت في منخفض من األرض
شكلت مستنقعات من الجراثيم الناقلة لألمراض وإذا ما سلطت هذه على مياه األنهار أو البحار
كان التلوث المائي أيضاً ،واألحسن في ذلك سقاية المزروعات بها مع الحذر الشديد ،وإشراف
أهل الخبرة الزراعية والصحية على ذلك ألن الحاصل من تلوث الماء هو عين ما حذر منه
النبي صلى اهلل عليه وسلم كما ورد في الحديث "البراز في الموارد" .واألحسن من ذلك كله أن
تعالج هذه المياه لتخليصها من الميكروبات الضارة الناقلة لألمراض والمواد السامة.2
هذه بعض الملوثات األساسية للبيئة :الصخب والدخان والغازات السامة ،واإلشعاع الذري،
والفضالت اآلدمية وغيرها كثير ،إنما اقتصرت في الدراسة على هذه األنواع ألنها أكثر
شمولية وأشد خطراً على الجسد البشري من غيرها فهناك التلوث بالنفايات النفطية ،من جراء
غسل وتنظيف ناقالت النفط في البحار ،وهناك التلوث المعدني والكيماوي الناشىء عن إلقاء
406
فضالت المصانع الكيماوية والبتروكيماوية ،ومصانع الفوالذ على السواحل والتي تلقى في مياه
البحار أيضاً ،كما يجب أن ال يفوتنا خطر األسلحة الحديثة الملوثة للجو المشوهة لألجساد فهي
الخانقة أحياناً ،والقاتلة أحياناً أخرى والتي ال يقف خطرها عند حدود الجيوش العسكرية ،بل
تتعداهم إلى عامة الناس ،وال تزال آثار التشوه النووي لدى اليابانيين من جراء تفجير القنبلة
الذرية عام 1945م على هيروشيما وهذه األسلحة مثل:
ـ األسلحة النووية ،كالقنابل الذرية والهيدروجينية والنيتروجينية.
ـ األسلحة الكيماوية ،كالغازات الحربية والمواد الحارقة "كالنابالم" والمواد الدخانية.
ـ األسلحة البيولوجية ،وهي تستخدم في صور مستحضرات بيولوجية سائلة أو جافة من
الميكروبات المعدنية ،أو استخدام الحشرات الناقلة لألمراض وسيلة لنقل الميكروبات.1
407
ـ تشجيع االستثمارات في قطاعات الطاقة النظيفة والمتجددة.
ـ سن التشريعات الالزمة لتنظيم االستخدام المستدام للمياه.
ـ تبني خطة عملية منهجية إلجراء بحوث وقياسات ،ووضع مبادئ توجيهية إلدارة ارتفاع
منسوب المياه الجوفية بالدولة.
ـ وضع نظم لرصد نسب التلوث الناجمة عن حرق الغاز وكافة مصادر الطاقة األخرى ،والحد
من االنبعاث الحراري.
ـ إنشاء قاعدة بيانات وإدارات متخصصة للتخفيف من حدة الملوثات غير الصحية المحولة
جواً.
ـ وضع مبادئ توجيهية لتشجيع سياسية إعادة تدوير المخلفات التي تنتجها المؤسسات التجارية
والصناعية.
ـ زيادة المساحات الخضراء وإنشاء أحزمة خضراء حول المدن من األشجار المعمرة.
ـ إعداد ومر اقبة وتطبيق المقاييس واللوائح ذات الصلة بجودة الهواء والمحافظة على البيئة
البحرية واستخدام المياه وتنقيتها ومنع تلوث األراضي ،وزيادة مساحات استصالحها والحد من
الضوضاء.
ـ المحافظة على الصحة العامة من خطر استخدام النفايات والمواد المشتعلة والمؤينة والخطرة
والمتفجرة والملوثة.
ـ الشراكة بين القطاعين العام والخاص وصوالً إلى المشاركة في الحفاظ على البيئة.
ـ مكافحة التلوث وترشيد استخدام الموارد الطبيعية في الزراعة والصناعة من أولويات
السياسة البيئية للدولة.
ـ تمكين الدوائر والهيئات الحكومية من إدارة البيئة وذلك من خالل تطوير اللوائح واألنظمة
التي تكفل مراقبة أنشطة القطاع الخاص الضارة بالبيئة حال وجودها.
408
ـ إنشاء إطار قانوني للبيئة ينظمها ويعمل على حمايتها في جميع القطاعات العاملة في الدولة
وبخاصة قطاع البناء والتشييد والنقل والمواصالت والطيران والصحة والسياسة والطاقة
والنفط والغاز والصناعة وغيرها.
ـ إعداد إ ستراتيجيات بحماية البيئة ووسائل لحمايتها ومراقبة وتحليل أي أنشطة ضارة بها في
شتى المجاالت كالهواء والمياه والضوضاء والنفايات.
ـ بناء مؤسسات بيئية فعالة ومتطورة تقوي اإلحساس العام بأهمية وسالمة البيئة وتستخدم
أحدث ا لتقنيات للحفاظ عليها ،على أن تقوم تلك المؤسسات تنظيم برامج توعية بيئية ووضع
خطط خاصة لحماية البيئة وإجراء البحوث المتعلقة بذلك.
ـ دعم الجهود الدولية للتقليل من اآلثار الضارة للتغير المناخي ،والعمل على خفض االنبعاث
الحراري.
9ـ الصحة:
اإلنسان يكون صحيحاً إذا كان على الحال التي خلقها اهلل عليها في بدنه وروحه ،فإذا خرج عن
الحال التي فطر اهلل العباد عليها اعتل بدنه واعتلت روحه ،واحتاج إلى معالجة حتى يتعافى
بعودته إلى الخلقة السوية وخير ما تعالج به األمراض القرآن الكريم ،وقد دل على أن القرآن
شفاء نصوص من القرآن الكريم:
ـ قال تعالى﴿ :يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَد جَاءتكُم مَّوعِظَة مِّن رَِّّبكُم وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ
وَهُدًى وَرَحمَة لِّلمُؤمِنِينَ﴾ (يونس ،آية .)57 :أي :من الشبه والشكوك ،وهو إزالة ما فيها من
دنس.1
ن
ال يَزِي ُد الظَّالِمِي َ
ن وَ َ ـ وقال تعالىَ ﴿ :و ُننَزِّ ُل مِ َ
ن القُرآنِ مَا هُ َو شِفَاء وَرَحمَة لِّلمُؤ ِمنِي َ
إَالَّ خَسَارًا﴾ (اإلسراء ،آية .)82 :يقول تعالى عن كتابه الذي أنزل على محمد وهو القرآن
1تفسير ابن كثير (.)509 /3
409
الكريم الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلقه تنزيل من حكيم حميد إنه شفاء ورحمة
للمؤمنين ،أي يذهب ما في القلوب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيع وميل ،فالقرآن
الكريم يشفي من ذلك كله.1
ـ وقال تعالى﴿ :وَلَو جَعَلنَاهُ قُرآنًا أَعجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوالَ فُصِّلَت آيَاتُهُ أَأَعجَمِيٌّ َوعَرَب ٌّ
ِي قُل
والقرآن الكريم ينفرد بمعالجة أمراض النفوس والقلوب دون سواه وعملية إصالح النفس
البشرية أطلق عليها القرآن "تزكية النفس" وعملية إفساد هذه النفس سماها "بتدسية النفس"
وأقسم الحق سبحانه وتعالى أقساماً سبعة في مطلع سورة الشمس على أن المفلح من زكى
نفسه ،والخائن الخاسر من دساها ،قال تعالى﴿ :وَالشَّم ِ
س وَضُحَاهَا * وَالقَمَ ِر إِذَا تَالَهَا *
وَالنَّهَا ِر إِذَا جَالَّهَا *وَاللَّي ِل إِذَا يَغشَاهَا * وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَاألَرضِ َومَا طَحَاهَا *
وَنَفس وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا * قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَد خَابَ مَن
دَسَّاهَا﴾ (الشمس ،آية 1 :ـ .)10
وقال في موضع آخر﴿ :قَد أَفلَحَ مَن تَزَكَّى﴾ (األعلى ،آية .)14 :وقال لموسى عندما أرسله
ولما كان القرآن هو طب القلوب ودواؤها وبه تتحقق تزكية النفوس واألرواح ،فإنه بمثابة
ت
إِلَيكَ رُوحًا مِّن أَمرِنَا مَا كُن َ الروح ألرواحنا والنور لبصائرنا ﴿ :وَكَذَلِ َ
ك أَوحَينَا
410
ال اإلِيمَانُ وَلَكِن جَعَلنَاهُ نُورًا نَّهدِي بِهِ مَن نَّشَاء مِن عِبَادِنَا﴾
تَدرِي مَا الكِتَابُ وَ َ
وهذان النوعان من أمراض القلوب أصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده ،وشقاؤه في
معرفته لربه واستقامته على طاعته ،والبعد عما نهى عنه وحذر منه ،إن أكثر أمراض النفوس
تأتي من الشيطان والنفس األمارة بالسوء فالشيطان يستعين على بلوغ غرضه من اإلنسان
بالنفس األمارة بالسوء وليس من طريق للخالص من الشيطان إال بااللتجاء إلى اهلل وقد علمنا
اهلل أن نلجأ إليه دائماً ونحتمي من نزغات الشيطان.1
ن * وَأَعُو ُذ بِكَ رَبِّ أَن يَحضُرُونِ﴾ ﴿وَقُل ر ِّ
َّب أَعُوذُ ِبكَ مِن هَمَزَاتِ الشَّيَاطِي ِ
1دراسات فقهية في قضايا طبية ( ،)13 /1عمر األشقر ،محمد عثمان شبير ،د .عارف علي عارف.
411
وقال تعالى﴿ :قُل أَعُوذُ بِر ِّ
َب النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الوَسوَاسِ
س فِي صُدُو ِر النَّاسِ* مِنَ الجِنَّ ِة َو النَّاسِ﴾ (الناس ،آية 1 :ـ .)6
الخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَس ِو ُ
والصحيح أن (مِنَ) هنا لبينان الجنس ال التبعيض ،وقال تعالى﴿ :يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَد جَاءتكُم
عظَة مِّن رَّبِّكُم وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾ (يونس ،آية .)57 :
مَّو ِ
فالقرآن هو الشفاء التام من جميع األدوار القلبية والبدنية وأدواء الدنيا واآلخرة ،وما كل أحد
يؤهل ويوفق لالستشفاء به ،وإذا أحسن العليل التداوي به ،ووضعه على دائه بصدق وإيمان
وقبول تام واعتقاد جازم ،واستيفاء شروطه لم يقاومه الداء أبداً ،وكيف تقاوم األدواء كالم رب
األرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على األرض لقطعها ،فما من مرض
من أمراض القلوب ،واألبدان إال وفي القرآن سبيل الداللة على دوائه وسببه والحماية منه لمن
رزقه اهلل فهماً في كتابه.1
ب ـ األدلة على أن القرآن شفاء ألمراض األبدان:
وعلى كل فسواء أكانت النصوص القرآنية المقررة لكون القرآن شفاء خاصة بأمراض القلوب
أو شاملة لها وألمراض األبدان ،فقد قامت أدلة كثيرة على أن القرآن شفاء ألمراض األبدان،
ومن هذه األدلة:
ـ ثبت أن القرآن يطهر األرواح ويباركها ويصلحها ،وإذا صلحت األرواح كان في
صالحها صالح لألبدان ،يقول ابن القيم :قد علم أن األرواح متى قويت وقويت النفوس
412
والطبيعة تعاونا على رفع الداء وقهره ،فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه ،وفرحت
بقربها من بارئها وأنسها به ،وجهاً له ،وتنعمها بذكره وإنصراف قواها كلها إليه
وجمعها عليه واستعانتها به ،وتوكلها عليه أن يكون لها ذلك من أكبر األدوية ،وتوجب
لها هذه القوة رفع األلم بالكلية.1
ـ ثبوت معالجة الرسول صلى اهلل عليه وسلم بال َّرقي وإرشاد أصحابه إلى المعالجة به
والرقية كما يقول ابن األثير :العودة التي يُرقي بها صاحب اآلفة ،كالحمى والصرع
وغير ذلك من اآلفات.2
ويقول القرافي في تعريفها :الرقى ألفاظ خاصة يحدث عندها الشفاء من األسقام
واألدواء واألسباب المهلكة ،وال يقال لفظ رقى على ما يحدث ضرراً بل ذلك يقال له:
السحر.3
واألحاديث التي تدل على مشروعية الرقي متواترة تواتراً معنوياً ،فهي وإن اختلفت ألفاظها
ووقائعها إال أن كل واحد منها يدل على مشروعية الرقي.
وقد يقال :نعم صح أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم عالج المرض بالرقي ،وأرشد أصحابه إلى
المعالجة بها ولكن هذه في الرقية بغير القرآن.
والجواب على هذين من وجهين:
ـ إذا ثبت أن الرقي عامة مماا يشفي من األمراض واألسقام فإن كالم اهلل أفضل ما يقري
به ،ألن له من الخصائص ما ليس بغيره ،وفي ذلك يقول ابن القيم ـ فيما نقله عنه ابن
حجر العسقالني :إذا ثبت أن لبعض الكالم خواص ومنافع فما الظن بكالم رب
العالمين.4
وقراءة القرآن من أنفع األدوية لألدواء التي يسببها الجان ،أو يكون له دخل في اإلصابة
بها ،كتلبس الجان باإلنسان ،والسحر والعين والحسد ونحوها.
413
ـ صح في األحاديث أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم رقى بكتاب اهلل ،كما صح أنه أقر
من رقى بكتاب اهلل ،ففي صحيحي البخاري ومسلم والموطأ والسنن ألبي داود
والترمذي عن عائشة رضي اهلل عنها أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :كان إذا
اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث.1
وفي سنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري :أن النبي صلى اهلل عليه وسلم كان يتعوذ
ويقول« :أعوذ باهلل من الجان ،ومن عين اإلنسان» .فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما،
وترك ما سواهما.2
وصح في صحيحي البخاري ومسلم والسنن ألبي داود والترمذي أن رجالً من صحابة
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رقى رجالً كان سيداً في قومه من لدغة حية أو عقرب
بفاتحة الكتاب ،فشفاه اهلل وأخذ على رقيه أجراً ،فذكروا ذلك للنبي صلى اهلل عليه وسلم
فأقره على رقيته وعلى ما أخذه من أجر على رقيته.3
وأورد صاحب جامع األصول حديثاً آخر رواه أبو داود ذكر فيه أن صحابياً رقى
معتوهاً في القيود بفاتحة الكتاب فشفاه اهلل وأن الرسول صلى اهلل عليه وسلم أقره على
رقيته وعلى ما أخذه من أجر عليها.4
*ـ ومماا يدل على صحة التشافي بالرقي وأعظمها الرقى القرآنية أنه ثبت بما ال يقبل
الشك أن الرقي ذات تأثير على أمراض األبدان ،وهذا أمر مشاهد في كل عصر
ومصر ،يقول ابن حزم :جربنا من كان يرقي الدمل الحاد القوي الظهور في أول
ظهوره ،فيبدأ من يومه ذاك بالذبول ،ويتم يبسه في اليوم الثالث ،ويقلع كما تقلع قشرة
القرحة إذا تم يبسها جربنا ذلك ما ال نحصيه ،وكانت هذه المرأة ترقي أحد دملين قد
دفعا على إنسان واحد ،وال ترقي الثاني ،فيبس الذي رقت ،ويتم ظهور الذي لم ترق،
414
ويلقى منه حامله األذى الشديد ،وشاهدنا من كان يرقى الورم المعروف بالخنازير،
فيندمل ما يفتح منها ،ويذبل ما لم ينفتح ،ويبرأ.1
وقد ثبت في صحيح األحاديث أن الذين رَقوا بالقرآن شفى اهلل على أيديهم من رقوه.2
ـ االستشفاء بالقرآن ليس قصراً على الرقية به:
ما قرره الحق تبارك وتعالى من كون القرآن شفاء ليس قصراً على قراءة القرآن على
المريض ،بل هي دائرة أوسع من ذلك بكثير ،ويمكننا أن ندرك سعة هذه الدائرة من
خالل األمور اآلتية:
.)185 :
فأباح الفطر للمريض لعذر المرض ،وللمسافر طلباً لحفظ صحته وقوته لئال يذهبها الصوم في
السفر الجتماع شدة الحركة ،وما يوجبه من التحلل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل ،فتخور
القوة وتضعف ،فأباح للمسافر الفطر حفاظاً لصحته وقوته عما يضعفها.
ـ وقال في آية الحجَ ﴿ :فمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَو ِب ِه أَذًى مِّن رَّأسِهِ فَفِديَة مِّن صِيَام
أَو صَدَقَة أَو نُسُك﴾ (البقرة ،آية .)196 :فأباح للمريض ،ومن به أذى من رأسه من قمل
415
أو حكة أو غيرهما أن يحلق رأسه في اإلحرام استفراغاً لمادة األبخرة الرديئة التي أوجبت له
األذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر ،فإذا حلق رأسه ،ففتحت المسام ،فخرجت بتلك األبخرة
منها ،فهذا االستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه.
واألشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشر :الدم إذا هاج ،والمني إذا سيغ ،والبول ،والغائط،
والريح ،والقيء ،والعطاس ،والنوم ،والجوع والعطش.
وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من األدواء وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها ،وهو
البخار المحتقن في الرأس على استفراغ ما هو أصعب منه ،كما هي طريقة القرآن التنبيه
باألدنى على األعلى.
وأما الحمية فقال في آية الوضوء﴿ :وَإِن كُنتُم مَّرضَى أَو عَلَى سَفَر أَو جَاء أَحَد مِّنكُم
فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه ،وهذا تنبيه
على الحمية من كل مؤذ له من داخل أو خارج.1
وقد عقب ابن القيم على كالمه هذا الذي نقلناه عنه بقوله :فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول
الطب الثالثة ومجامع قواعده.2
وقد أطال ابن القيم بعد ذلك في ذكر هدي النبي صلى اهلل عليه وسلم في الطب والمعالجة في
نفسه وأهله وأصحابه ،وذكر في ذلك هديه في األمر بالتداوي في معالجة استطالق البطن،
والطاعون ،وداء االستسقاء ،وهديه بالمعالجة بالعسل والحجامة والكي ،وهديه في معالجة
الصرع وغير ذلك مما يجعل ما أورده فيه مؤلفاً مستقالً بذاته.
الثاني :الطب الوقائي في الكتاب والسنة:
416
والنوع الثاني الذي يوسع دائرة االستشفاء بالقرآن هو الطب الوقائي الذي يستفاد من جملة
األحكام والتوجيهات التي جاء بها القرآن وصحيح األحاديث ،وهذا باب واسع ،فالنصوص
اآلمرة بالطهارة والنظافة كثيرة جداً ،بل إن طهارة البدن عبادة ال تتم الصالة بغيرها فقد أوجب
اهلل االغتسال من الجنابة ،كما أوجب الغسل على المرأة إذا طهرت من حيضها ونفاسها،
وحبب الرسول صلى اهلل عليه وسلم االغتسال في كل جمعة ،ولم يكتف بذلك بل أوجب
الوضوء كلما أراد الصالة إذا خرج منه بول أو غائط أو ريح ،والوضوء يشمل غسل
األعضاء الظاهرة من الوجوه واأليدي واألرجل ،كما أمر بمسح الرؤوس .وأمرت النصوص
بغسل اليدين عند االستيق اظ من نوم الليل ،وحببت غسلهما عند الطعام ،وأمرت باالستنجاء من
البول والغائط ،وهي عملية يطهر المسلم فيها مخرج البول والغائط بعد خروجهما منه ،وأمرت
الشريعة المباركة بقص األظافر وقص الشارب ونتف شعر اإلبط وحلق شعرالعانة ،كما
أوجبت الختان في حق الذكور.
وحثَّ الرسول صلى اهلل عليه وسلم كثيراً على تطهير الفم بالسواك ،وأخبر أنه مطهرة للفم
مرضاة للرب ،وكما حثَّ أيضاً على نظافة المساكن وأفنية البيوت ،وأمر برفع األذى عن
الطريق ،وجعله إحدى خصال اإليمان ،ونهى أشد النهي عن إيذاء المسلمين في طرقاتهم
وأماكن جلوسهم وموارد مياههم.
ونهى النبي صلى اهلل عليه وسم عن دخول البالد الموبوءة باألمراض المعدية ،ونهى من كان
في تلك الديار عن الخروج منها ،وهذه أفضل وسيلة لمنع انتشار األمراض واألوبئة التي تنتقل
بالعدوى السريعة ،وهذا ما يسمى اليوم بالحجر الصحي.
وشرع لنا تناول الطيبات من األطعمة واألشربة ،ونهانا عن تناول الخبيث منها ،ونهانا عن
اإلسراف في تناول الطعام والشراب ،وحرم علينا األكل من الميتة والدم ولحم الخنزير ،كما
نهانا عن الخمر والمخدرات وشرع لنا الزواج ونهى عن الزنا واللواط.
ومن تتبع ما جاء به اإلسالم مما يقيم صحة اإلنسان ،ويحفظ بدنه ،ويدفع عنه األسقام فإنه يجد
منهاجاً كامالً يحفظ اهلل به اإلنسان من كثير من األسقام ،وقد استقرأ علماء الشريعة التشريعات
417
التي جاء بها الكتاب والسنة فوجدوا أن الشريعة وضعت لجلب المصالح للعباد ودفع المفاسد
عنهم ،ووجدوا أن تشريعات هذا الدين تتجه كلها إلى أن تحفظ على الناس دينهم وأنفسهم
وعقولهم وأنسابهم وأموالهم.1
الثالث :علوم الطب من فروض الكفاية:
اعتبر علم الطب من العلوم المهمة في الحياة البشرية ،وبتطبيقه كثير من المصالح العظيمة
والمنافع الجليلة ،التي منها حفظ الصحة ودفع ضرر األسقام واألمراض عن بدن اإلنسان،
فيتقوى المسلم بذلك على طاعة ربه تعالى ومرضاته.
والبد للمجتمع من وجود الطبيب ،وتختلف حاجته إليه بحسب اختالف الظروف واألحوال،
وإذا لم تسد حاجة المجتمع إلى األطباء ،فإن حياة الناس وأرواحهم ستكون مهددة بخطر
األمراض وجراحات الحروب والحوادث التي تفضي بهم إلى الموت والهالك في الغالب.
ولما كانت شريعتنا اإلسالمية مبنية على الرحمة بالخلق ودفع المشقة والحرج عنهم في
التكاليف والتشريعات التي جاءت بها ،فإنها راعت تلك الحاجة التي البد من سدها في
المجتمعات المسلمة ،فأجازت تعلم الطب وتعليمه.2
قال النووي رحمه اهلل :وأما العلوم العقلية ،فمنها ما هو فرض كفاية كالطب والحساب المحتاج
إليه.3
وقال الغزالي رضي اهلل عنه :وال يستبعد عد الطب والحساب من فروض الكفاية ،فإن الحرف،
والصناعات التي البد للناس منها في معايشهم كالفالحة فرض كفاية ،فالطب والحساب أولى.4
فقوله :المحتاج إليه :فيه دليل على أن الحكم بفرضية الطب على الكفاية إنما هو مبني على
وجود الحاجة إليه ،وال شك في أن هذه الحاجة موجودة في كل زمان ومكان ،5ولكنها تتفاوت
في قدرها على حسب تفاوض الظروف واألحوال ،وفقهاء اإلسالم وأئمته األعالم نجدهم
ينصون في كتبهم على حكم فرضية تعلم الطب على الكفاية ،بل لم يقف األمر عند ذلك ،وإنما
1دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة ( 18 / 1ـ .)21
2أحكام الجراحة الطبية ،د .محمد الشنقيطي ،ص 73 :ـ .74
3المصدر نفسه ،ص.74 :
4المصدر نفسه ،ص.75 :
5المصدر نفسه ،ص.75 :
418
تعداه إلى شحذ الهمم وحفزهم النفوس وتعلمه ،حتى قال الشافعي :ال أعلم علماً بعد الحالل
والحرام أنبل من الطب.1
وقد بيا ن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لكل داء دواء ،فإذا أصيب الداء برأ بإذن اهلل عز
وجل.2
وقال صلى اهلل عليه وسلم« :ما أنزل اهلل داء إال أنزل له شفاء».3
أن كال الحديثين الشريفين دالَّ على أنه ما من داء إال وقد جعل اهلل له دواء ،وإذا كان األمر
كذلك فإنه يشرع لإلنسان أن يستعمل الدواء الذي عرف تأثيره في الداء بالعادة والتجربة.4
وعن أسامة بن شريك رضي اهلل عنه قال :أتيت النبي صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه كأنما
على رؤوسهم الطير ،فسلمت ثم قعدت ،فجاء األعراب من ههنا وههنا فقالوا :يا رسول اهلل
أنتداوى؟ فقال« :تداووا فإن اهلل تعالى لم يضع داء إال وضع له دواء غير داء واحد:
الهرم».5
إن هؤالء الصحابة رضي اهلل عنهم سألوا النبي صلى اهلل عليه وسلم عن التداوي ،فأجابهم
النبي صلى اهلل عليه وسلم بجوازه وندبهم إليه بقوله «تداووا» وهذا اللفظ عام.6
419
ـ تنظيم القطاع الطبي العام والخاص وفق إستراتيجية وطنية للرعاية الصحية في الدولة.
-إعتبار الصحة الوقائية ركن من أركان السياسة التنموية للدولة.
ـ تطوير نظام الرعاية الصحية حتى يرتقي إلى مستوى المعايير العالمية.
ـ تحسين خدمات المستشفيات من خالل تحديد مهامها وتصنيفها وتعيين نطاق عملها وتحسين
فرص إجراء العمليات الطبية السريعة.
ـ تحسين تصميم الرعاية المستمرة ،وخدمات الصحة النفسية وتقديم خدمات الطوارئ،
والوصول إلى صيدليات المجتمع ورفع كفاءتها.
ـ تأمين الوصول إلى بيانات رعاية صحية دقيقة.
ـ تعزيز مشاركة القطاع الخاص ،وتحسين إدارة الصحة العامة مع نظام شامل للتغذية،
والنشاط البدني ،والتركيز على التعليم التخصصي الصحي وضمان خبرة وتأهيل أخصائي
الرعاية الصحية وجودة مرافقها ،ومنتجاتها ،واالستجابة لشكاوي المرضى وضمان حقوقهم.
ـ استقاللية وتعزيز موازنة قطاع الصحة.
ـ سد وتفعيل مظلة التأمين الصحي الشامل لتضم كافة المواطنين دون تفرقة ولتغطي كافة
مناطق الدولة بذات القدر واالهتمام.
ـ إدارة أكثر كفاءة وفاعلية للعالج الطبي الصحي خارج الدولة.
ـ دعم النظام الصحي ببحوث عالية الجودة.
ـ ربط عدد األطباء وعدد األسرة في المستشفيات بتعداد المواطنين الذين يقطنون في دائرتها.
ـ االهتمام بجدول األجور لكافة العاملين بالقطاع الصحي ،بما يلبي متطلبات الحياة الحديثة.
ـ االهتمام بتأهيل وتدريب األطباء والعاملين بالقطاع الصحي ،وذلك على نحو علمي منهجي،
وتبادل الخبرات العلمية والعملية مع كافة القطاعات النظيرة في الخارج.
ـ تطبيق ال مركزية التخطيط والتنفيذ واتخاذ القرار من حيث إعطاء الصالحيات المالية
واإلدارية لمكاتب الشؤون الصحية في المناطق والبلديات وصوالً إلى معالجة كافة أوجه
القصور في السياسة الصحية بالنسبة للمناطق النائية والمهمشة والمحرومة.
420
ـ تشجيع مشاركة المجتمع في إدارة النظم الصحية على مستوى الوحدات الصحية والمراكز
والمستشفيات.
ـ وضع سياسة لألدوية وإعادة تنظيم اإلمدادات الطبية والدوائية.
ـ ا ستقاللية المستشفيات المركزية من خالل تفويض السلطات وتشكيل مجالس إدارة ومجالس
أمنًا من الوزارة والمجتمع لإلشراف على تقديم الخدمة ومراقبة اإليرادات.
ـ تحفيز مشاركة القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية وتشجيع األساليب المبتكرة في
الرعاية الصحية.
ـ وضع خطة منهجية لتلبية االحتياجات الصحية لكافة المواطنين ،وذلك من خالل تبني حزمة
من البرامج ذات الصلة بالصحة اإلنجابية ،وتدريب قابالت المجتمع لما لهن من دور كبير في
سالمة األمهات واألطفال وتقديم خدمة رعاية الحوامل والرعاية لما بعد الوالدة وتنظيم األسرة
وإنشاء المراكز التخصصية في مكافحة األوبئة والتحصين والتطعيم واألمصال ،والصحة
الوقائية والعمل على اعتمادها كمراكز تعاونية إقليمية لمنظمة الصحة العالمية في الدولة.
10ـ السياحة:
ن
ن السَّاجِدونَ اآلمِرُو َ
ن السَّائِحُونَ الرَّاكِعُو َ
ن الحَامِدُو َ قال تعالى﴿ :التَّائِبُو َ
ن العَابِدُو َ
.)112
421
وفي هذه اآلية أوصاف امتدح اهلل بها عباده المؤمنين ومن تلك الصفات ﴿السَّائِحُونَ﴾.
ُن مُسلِمَات مُّؤمِنَات وقال تعالى﴿ :عَسَى رَبُّ ُه إِن طَلَّقَك َّ
ُن أَن يُبدِلَهُ أَزوَاجًا خَيرًا مِّنك َّ
قَانِتَات تَائِبَات عَابِدَات سَائِحَات ثَِّيبَات وَأَبكَارًا﴾ (التحريم ،آية .)5 :
وسبب نزول هذه اآلية إن نساء النبي صلى اهلل عليه وسلم اجتمعن في الغيرة عليه ،فقال عمر
رضي اهلل عنه لهن :عسى ربه إن طلقكن أن يبد له أزواجاً خيراً منكن" فنزلت اآلية.1
وفيها وصف للنساء الالئي يتزوجهن الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،ومن تلك الصفات أنهن
(سَائِحَات ) ،وتنوعت أقوال المفسرين في المراد بالسياحة في هاتين اآليتين على عدة أقوال،
فقيل :إنها الصيام ،وقيل :الجهاد في سبيل اهلل ،وقيل :الهجرة ،وقيل السفر لطلب العلم ،وقيل:
الجوالت بالفكر في توحيد اهلل ،وقيل :السير في األرض لالعتبار.2
وهذه التفسيرات تدخل في خالف التنوع ال خالف التضاد ،وحديثنا هنا عن السياحة بمعنى
السير في األرض ،واللسان العربي يدل بوضوح على أن معنى السياحة هو السير في األرض،
ف
ُم انظُرُوا كَي َ والقرآن الكريم يدعم هذا االتجاه ،قال تعالى﴿ :قُل سِيرُوا فِي األَر ِ
ض ث َّ
ئ النَّشأَةَ
شُ وقال تعالى﴿ :قُل سِيرُوا فِي األَرضِ فَانظُرُوا كَي َ
ف بَدَأَ الخَلقَ ثُمَّ اهللُ يُن ِ
إن القول بأن السياحة هو السير في األرض ال ينفي إرادة اآلية لبعض ما قد تتضمنه السياحة
من فرائض الدين وشعب اإليمان ،كالجهاد في سبيل اهلل ،أو الهجرة ،أو السفر لطلب العلم أو
الجوالن بالفكر ،فهذه المعاني منها ما هو قريب جداً من معنى السير ،ومنها ما هو البعيد عنه
422
دون نفرة منه ،غير أن كل هذه الشعائر في القريب منها والبعيد يشملها معنى السير في
األرض.1
والسياحة في المفهوم اإلسالمي لها ضوابط منها المتعلقة بالسائح ،وعلى سبيل الذكر ،كإحسان
القصد في السياحة ،أن ال تفضي السياحة إلى الوقوع في المحذور الشرعي ،اكتمال شروط
السفر بالنسبة للمرأة السائحة ،تحمل السائح مسؤولياته في الدعوة وقيامه بها ،واتباع السائح
لألنظمة المتعلقة بالسياحة التي ال تخالف الشريعة اإلسالمية.
وهناك ضوابط للسياحة متعلقة بالمكان (الموقع السياحي) ومنها ،أن يكون الموقع السياحي
مباحاً ،وأن يكون مأمون الفتنة على الضرورات الخمس ،الدين ،النفس ،العقل ،العرض
والمال .وعدم غلبة الوصف الممنوع شرعاً على الموقع السياحي المباح وأن يراعي الموقع
السياحي خصوصية المجتمع المسلم.
أ ـ الترويح على النفس أمر فطري:
طلب الترويح أمر فطري في اإلنسان ،ولذا فإن اإلسالم ،وهو دين الفطرة يقر مبدأ الترويح
عن النفس ،ومن المعلوم أن قدوتنا في الحفاظ على الزمن وإعماره على الوجه الشرعي
الصحيح هو نبينا محمد صلى اهلل عليه وسلم ،والناظر في سيرته صلى اهلل عليه وسلم يجد أن
من جملة هديه مؤانسته ألهله ومداعبته إياهم ،وإدخال السرور عليهم ،وكان ذلك إدراكاً منه
لحقيقة النفس البشرية ،فتمكين القلوب من حقها في الراحة ،وترويح النفس بالمباح يجعل المرء
أكثر مواصلة على العطاء واالجتهاد فيه ،فالمرء غير مضيِّع لعمره ،إن تفكَّه أو مازح ،أو
ساح ضمن ضوابط الشرع ،ولكنه من غير شك من أشد الناس ضياعاً لعمره إن كان ديدنه
وشغله وخلقه .وذكر ابن عاشور رحمه اهلل تعالى عند قوله تعالى﴿ :أَرسِلهُ مَ َعنَا غَدًا يَرتَع
إن ال ُمراد بذلك االستجمام ورفع السآمة ،وقال وهو مباح في جميع الشرائع إذا لم يكن دأباً.2
1المصدر نفسه.
2التحرير والتنوير (.)29 / 12
423
وقد نص الفقهاء على إباحة الترويح المتمثل في النزهة والفرجة خاصة ،وجعلوا السفر لطلب
ذلك مثاالً من أمثلة السفر المباح.1
ب ـ التفكر في الكون من دوافع السياحة:
ئ النَّشأَةَ قال تعالى﴿ :قُل سِيرُوا فِي األَرضِ فَانظُرُوا كَي َ
ف بَدَأَ الخَلقَ ثُمَّ اهللُ يُنشِ ُ
ُل شَيء قَدِير﴾ (العنكبوت ،آية ،)20 :وال ريب أن األمر بالنظر
ِن اهللَ عَلَى ك ِّ
اآلخِرَةَ إ َّ
في مخلوقات اهلل يفيد السائح تعظيم اهلل من خالل تأمله وتفكره فيما ذرأ في األرض من
مخلوقات ،وتلك المخلوقات التي أمرنا بالنظر إليها متعددة في شأن اإلنسان ،قال تعالى:
﴿فَليَنظُ ِر اإلِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ (عبس ،آية .)24 :
.)17
ف يُحيِي كما أمر بالنظر إلى آثار رحمته فقال تعالى﴿ :فَانظُر إِلَى آثَارِ رَحمَ ِ
ت اهللِ كَي َ
.)50
وفي النظر في اآلفاق قال تعالى﴿ :سَنُرِيهِم آيَا ِتنَا فِي اآلفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِم حَتَّى يَ َتبَيَّ َ
ن لَهُم
فاآليات اآلمرة بالنظر إلى اإلنسان والنبات ،والحيوان ،وآثار رحمته واآلفاق والكون وغير
ذلك ..تهدي السائح إلى السير للوقوف على هذه المشاهد التي قد ال يكون بعضها في أرضه،
424
فال شك أن األرض قطع متجاورات بعضها ،فأرض فيها سهل وجبل ،وأرض فيها بر وبحر،
وأرض فيها عيون متفجرة ومعادن مفتنة وأخرى منها مساقط مياه ،وأرض فيها دواب منبثة،
وأخرى تتميز بتكوينات األرض الفريدة ،وأخرى أرضها ممهدة بألوان النبات وأنواع األشجار
وأ صناف الثمار المختلفة األلوان والروائح ،والوقوف على ذلك للنظر إليه بعين البصر
والبصيرة يتطلب السير والسياحة.1
فالسياحة بدافع التأمل والتفكر المفضية إلى زيادة اإليمان ورسوخ اليقين من األعمال التي جاء
الترغيب بها في اإلسالم ،وهذا يتطلب حفظ العقل من كل ما يأثر فيه حتى يقوم بوظيفته في
التفكر.
عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبلِهِم كَانُوا هُم أَشَدَّ مِنهُم قُوَّةً وَآثَارًا فِي األَرضِ فَأَخَذَهُمُ اهللُ
ن اهللِ مِن وَاق﴾ (غافر ،آية .)21 :
بِذُنُو ِبهِم وَمَا كَانَ لَهُم مِّ َ
ف كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وقال تعالى﴿ :أَوَلَم يَسِيرُوا فِي األَر ِ
ض فَيَنظُرُوا كَي َ
واستدُل بهذه اآليات على استحباب السياحة في األرض وتطلب اآلثار ـ داخل الدولة اإلسالمية
وفي العالم ـ والتشجيع عليها.
425
عندما تضع الدولة أنظمة وقوانين ولوائح متعلقة بالسياحة ال تخالف الشرع اإلسالمي يعطيها
تميزاً عالمي ًا في الجذب السياحي ،فال شك أن المواقع السياحية ،التي تحقق تعاليم اإلسالم
وتسترشد به تؤثر تأثيراً بالغاً في السائح ،وفي الموقع السياحي من جهة أخرى فتعزز العبودية
هلل في نفس السائح وتزكيها وتصلح جوانب منها تثمر في صالحه وإنسانيته وسلوكه البشري
وتؤثر أيضاً في الموقع السياحي بما تزيل من أسباب اإلسائة واالعوجاج السلوكي بداية من
القصد من السياحة ونهاية السلوك العملي حيث تهيىء بمجموع ذلك كله مكاناً مستقراً يأمن
الناس فيه على أعراضهم وأنفسهم وعقولهم وأموالهم ،وهي بهذا اإلرساء الخلقي واألمني
تكون عالمة أمان من عذاب إلهي بإذن اهلل تعالى ،وتسهم في نماء الموقع السياحي والمحافظة
عليه من العبث في االستخدام واإلسراف والتبذير.
والشك أن التميز العالمي في مفهوم السياحة التي تقدمها الدول اإلسالمية للمسلمين وغيرهم
يحقق حاجات السائح النفسية والجسدية ،وهذه الحاجات من عوامل الجذب التي تساهم في إيجاد
منتج سياحي فريد من نوعه ينسجم مع تعاليم ديننا وحضارتنا وقيمنا وتقاليدنا وأعراضنا،
وتقدم للسائحين الجمال والمتعة والبهجة في دائرة المباح شرعًا وعقالً.
وبدالً من أن تقدم لهم الخمور وغيرها من المحرمات ونشرع ونقنن ونصدر لوائح من أجل
تقديمها للسوَّاح ،نعرض عليهم ونقدم لهم أساليب حضارية متقدمة من خالل مثقفينا وعلمائنا
وأبناء شعبنا المتواجدين في المواقع السياحية وغيرها أهم ما في الوجود ((اإلسالم العظيم))
الذي يدين به هذا الشعب العظيم والذي يتفق مع العاطفة والعقل والحس اإلنساني ،فالكثير من
السائحين قد ملَّ طرق الخمور والرذائل والفحش والتهتك والخالعة والمجون ،ويبحث عن
السعادة الحقيقية الغافلون عنها ،والتي تكفل لهم العيش الرغيد المطمئن ،وغافلون عن منهج
الحياة الذي يرسم لهم طريق الحرية الحقيقة من الشهوات واألهواء التي أسرت قلوبهم وعقولهم
بالعبودية المطلقة لغير اهلل ،وغافلون عن الطريق التي توصل إلى جنات الخلد.1
ال يَشقَى﴾ (طه ،آية .)123 : قال تعالى﴿ :فَمَ ِ
ن اتَّبَ َع هُدَايَ فَالَ يَضِلُّ َو َ
426
ولذلك نحسن للسائحين األجانب ونجزل لهم العطاء الثمين ،مع روائع بالدنا السياحية في
الواحات والجبال والسهول والمدن.
إن الهداية ضالة كل البشر ،تتبع أهميتها من تطلعات العالم المتيقظ اليوم لمعالم السعادة وبحثه
عن الحقيقة في كل مسلك سواء كان مكثاً أو إقامة أو سفر أو سياحة ،والعالم يتطلع بلسان
الحال اليوم إلى من يهديه إلى الحق في عصر ساد فيه الجفاف الروحي واالنقطاع عن اهلل
والصدود عن تراث النبيين.
وما الذي يمنع أن تكون بالد ودول المسلمين عامل مهم في تحقيق الهدف من تذوق الجمال
بأ بعاده المختلفة وتحقيق المتعة الحقيقية التي ترشد السياح إلى اآلخرة وعالمها وفي نفس الوقت
تمكنهم من استشعار الجديد فتلتقي لدى جواب اآلفاق منهم البهجة والمتعة مع الهداية والسعادة
التي طالما يبحث عنها أي إنسان.1
427
والتبعية للغرب في النطاق السياحي وغيره ،ومن أهم ما يميزها تطهيرها من الفساد الخلقي
وإقامة أنشطة وبرامج ثقافية متنوعة وهادفة تلبي حاجات السائح وتستند إلى عوامل النجاح.1
بدالً من أن نقدم للسواح المحرمات والموبقات علينا أن ننشىء مراكز خاصة تستقطب السواح
غير المسلمين والمسلمين ،تعنى بابتكار برامج سياحية خاصة بهم تقدم ضمن اإلطار العام
للبرنامج السياحي المرسوم ويكون اختصاصها تصميم برامج راقية ذات صلة بالحضارة
اإلنسانية واإلسالمية كمدخل ،ومن أبرز أهدافها الدعوة إلى القيم الرفيعة واألخالق الحميدة
وتصحيح صورة اإلسالم لدى اآلخرين وفق أطر واضحة تراعي خصائص المواقع السياحية
ويشرف عليها أهل االختصاص في مجالي الدعوة والسياحة يقدمون منظومة متكاملة تراعي
االختصاص والتميز والخصوصية الحضارية في العمل السياحي بما يساهم في تنمية السياحة
باعتبارها مصدراً اقتصادياً من جهة وبما يخدم السواح في دنياهم وأخراهم ،والمرجعية
ُل شَيء وَهُدًى اإلسالمية قادرة على ذلك ،قال تعالى﴿ :وَنَزَّلنَا عَلَي َ
ك الكِتَابَ تِبيَانًا لِّك ِّ
إن إقبال السائحين غير المسلمين إلى بالدنا بالطريقة التي تعودوا عليها بالمفهوم الغربي
للسياحة يترتب عليه انتهاك ألحكام الشريعة اإلسالمية ومقاصدها الكبرى ،ومن تلك السلبيات
في حالة غياب الضوابط والرقابة:
ـ انتشار السلوكيات المحرمة والظواهر الغربية على المجتمع وأخالقه ومبادئه مثل شرب
الخمر وتقديمها في المناسبات وعري األجساد وكشف العورات ...الخ
ـ مخالطات الشباب بالفتيات السائحات وقضاء الوقت معهن في برامج الترويح مما يجلب لهم
أفكارًا ومعتقدات مخالفة لتعاليم اإلسالم وأعراف وتقاليد مجتمعاتنا.
428
ـ انتشار الزنا والفواحش بين الشباب نظراً ألن غالب السائحين غير المسلمين "األجانب"
بأديانهم المختلفة ال يعبأون بأمر الزنا ،ومن ثم فإن اختالط السائحين بالشباب وما يقع من
مزاح ومؤانسة وحديث ومصاخبة وخلوة ومعانقة كل ذلك مدعاة لوقوع مثل هذه المحرمات.
ـ ترويج المخدرات داخل البالد واألفالم الخليعة وغير ذلك من المفاسد.
ـ ترسل بعض الدول جواسيس من خالل الغطاء السياحي لجمع المعلومات عن الشعوب
والعمل على إ ضعافها وبقائها في حالة مزرية من التخلف واالنحطاط والعمل على تدمير
األخالق والقيم والمبادئ الرفيعة.
وال شك إن استفحال الذنوب في مجتمع ما مرتبط بظروف ،أهمها الترف الذي يدفع اإلنسان
إلى التمرد من كل قيد يثقل حريته الشخصية ،ثم يكون هذا التمرد سبب انفالت الفرد في طريق
األهواء ،والبحث عن مظانها ،وهذا يؤدي إلى االنحالل ،ثم االستخفاف بالتعاليم الربانية.
إن اهلل عز وجل قد قرر في كتابه مصير الهالك للمجتمع الذي يأخذ بأسباب الهالك ،قال
تعالى﴿ :وَإِذَا أَرَدنَا أَن نُّهلِ َ
ك قَريَةً أَمَرنَا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا القَو ُل
فاهلل جعل الحياة سنناً ال تتبدل ،فحين توجد األسباب تتبعها النتائج ،وهنا يبرز دور الجهات
المعينة في العالم اإلسالمي في عدم السماح بأعراض الفساد وأسبابه ودعاته من المترفين
بالبروز ،وإصالح نظامها السياحي المتضمن للبرامج ،والخطط وغير ذلك لئال يسمح بوجود
الخمور والفجور باسم السياحة ويساير دور الجهات دور العقالء من أهل البالد في توعية
وإرشاد المجتمع بخطورة هذا األمر من إنزال العقوبات اإللهية من غالء وزالزل وبراكين
وفوضى وتنافر وتناحر وصراع وقتال..الخ
إن الذنوب والمعاصي وانتهاك حرمات اهلل تعالى تهلك أصحابها ،قال تعالى﴿ :أَلَم يَرَوا كَم
429
جعَلنَا األَنهَارَ تَجرِي مِن تَح ِتهِم فَأَهلَكنَاهُم بِذُنُوبِهِم وَأَنشَأنَا مِن بَعدِهِم
عَلَيهِم مِّدرَارًا وَ َ
قَرنًا آخَرِينَ﴾ (األنعام ،آية .)6 :
ومن اعتبر أحوال العالم قديماً وحديثاً وما يعاقب به من يسعى في األرض بالفساد وإقامة الفتن
واالستهانة بحرمات اهلل ،علم أن النجاة في الدنيا واآلخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون.
والمنكرات تجلب الفساد في األرض ،قال تعالى﴿ :ظَهَ َر الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَح ِر بِمَا
ومن آثار الذنوب والمعاصي أنها تحدث في األرض أنواعاً من الفساد في المياه والهواء
والزروع والثمار والمساكن والفساد اإلداري واالقتصادي والسياسي واإلعالمي...الخ
ولهذا يمثل التمسك بأحكام الشريعة اإلسالمية العظيمة والعمل بها السد المنيع الوقائي بإذن اهلل
من العقاب اإللهي لما تسهم به من تقليل الفساد ومنع أسباب العقاب ،ويكون ذلك بدفع الدولة
للمجتمع إلى الصالح من خالل ما تتضمنه من جهود وبرامج توصل إلى هذه الغاية ،قال
ك لِيُهلِكَ القُرَى بِظُلم وَأَهلُهَا مُصلِحُونَ﴾ (هود ،آية .)117 :
تعالىَ ﴿ :ومَا كَانَ رَبُّ َ
431
كانت الموارد المالية في عهد النبي صلى اهلل عليه وسلم تقتصرعلى الزكاة والغنائم والفيء
والجزية ،وكانت تصرف في المصارف التي حددها اهلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم ولم يكن
لرسول صلى اهلل عليه وسلم بيت مال بل كان يقسم الفيء من يومه .وفي عهد الخلفاء الراشدين
تطورات الموارد المالية ،وأصبح من مصادر بيت المال الخراج والعشور..الخ
وتطورت مؤسسات موارد الدولة مع الزمن وكانت الدولة تراقب على جباية الزكاة من
واجبات الدولة ،وقد لخص د .يوسف القرضاوي فوائد تولي الدولة لجباية الزكاة فيما يلي:
أوالً :إن كثيراً من األفراد قد تموت ضمائرهم أو يصيبهم السقم والهزل فال ضمان للفقير إذا
ترك حقه لمثل هؤالء.
ثانياً :في أخذ الفقير حقه من الحكومة ال من الشخص الغني حفظ ًا لكرامته ،وصيانة لماء
وجهه أن يراق بالسؤال ورعاية لمشاعره أن يجرحها المن أو األذى.
ثالثاً :إن ترك هذا األم ر لألفراد يجعل التوزيع فوضى ،فقد ينتبه أكثر من غني إلعطاء فقير
واحد ،على حين يغفل عن آخر فال يفطن له أحد ،وربما كان أشد فقراً.
رابعاً :إن صرف الزكاة ليس مقصوراً على األفراد من الفقراء والمساكين وأبناء السبيل ،فمن
الجهات التي تصرف فيها الزكاة ،مصالح عامة للمسلمين ال يقدرها األفراد ،وإنما يقدرها أولو
األمر وأهل الشورى في الجماعة المسلمة ،كإعطاء المؤلفة قلوبهم ،وإعداد العدة للجهاد في
سبيل اهلل ،وتجهيز الدعاة إلبالغ رسالة اإلسالم في العالمين.
خامساً :إن اإلسالم دين ودولة وقرآن وسلطان ،والبد لهذا السلطان وتلك الدولة من مال تقيم
به نظامها وتنفذ به مشروعاتها ،والبد لهذا المال من موارد والزكاة مورد هام دائم لبيت المال
في اإلسالم.1
وكانت الدولة اإلسالمية في عهدها الزاهر تقوم بوسائل الرقابة المالية واإلدارية على خير وجه
ومن أهم هذه الوسائل:
أ ـ اختيار الموظفين:
432
إن أول خطوة في الرقابة هي حسن اختيار العمال الذين سيتولون اإلشراف على تنفيذ
األعمال ،وجباية األموال ،وتوصيل الحقوق إلى أهلها ،وبمقدار النجاح في هذه الخطوة يكون
النجاح في بقية الخطوات وبمقدار الفشل فيها تفرغ كل الخطوات التالية من مضمونها.1
ولهذا عد الماوردي من واجبات اإلمام :استكفاء األمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من
األعمال ،ويكل إليهم من األموال ،وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من األعمال ،ويكل إليهم
من األموال ،لتكون األعمال بالكفاءة مضبوطة ،واألموال باألمناء محفوظة ،اهلل عز وجل
ت إِلَى أَهلِهَا﴾ (النساء ،آية .)58 :
يقول﴿ :إِنَّ اهللَ َيأمُ ُركُم أَن تُؤدُّوا األَمَانَا ِ
والمناصب والمسؤوليات من األمانات التي يجب أن تؤدى إلى أهلها ،فقد بيان النبي صلى اهلل
عليه وسلم أن تعيين العاملين في مختلف المواقع أمانة ،فعن أبي هريرة رضي اهلل عنه أن
النبي صلى اهلل عليه وسلم قال لمن سأله عن الساعة« :فإذا ضيعت األمانة فانتظر الساعة»،
فقال :وما إضاعتها؟ قال« :إذا وسد األمر إلى غير أهله فأنتظر الساعة».2
وعن أبي ذر الغفاري رضي اهلل عنه قال :قلت يا رسول اهلل أال تستعملني؟ قال :فضرب بيده
على منكبي ثم قال« :يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً ،وإنها يوم القيامة خزي وندامة إال من أخذها
بحقها وأدى الذي عليه فيه» .3قال النووي :هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الواليات ،ال
سيما لمن كان فيه ضعف عن قيام وظائف تلك الوالية ،وأما الخزي والندامة فهو في حق من
لم يكن أهالً لها ،أو كان أهالً ولم يعدل فيها فيخزيه اهلل تعالى يوم القيامة.4
ـ الشروط التي يجب توفرها في الموظفين" :القوة واألمانة":
يجب أن يتوفر في الموظف شرطان أساسيان ،هما :القوة واألمانة وقد أخذ العلماء هذين
ت الشرطين من قول اهلل تعالى﴿ :قَالَت إِحدَاهُمَا يَا أَبَتِ استَأجِرهُ إِنَّ خَي َر مَ ِ
ن استَأجَر َ
433
ض القَوِيُّ األَمِينُ﴾ (القصص ،آية .)26 :ومن قوله اهلل تعالى﴿ :اجعَلنِي عَلَى خَزَآئِ ِ
ن األَر ِ
فقوله ﴿إنِّي حَفِيظ عَلِيم﴾ .أي :أمين أحفظ ما تستحفظنيه عالم بوجوه التصرف ،وصفاً لنفسه
باألمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه ،فقد تضمنت وصف يوسف بالصفتين
الالزمتين لتولي المسؤولية وهما الحفظ والعلم اللتان :تعمان وجوه المعرفة والضبط للخزائن.1
قال ابن تيمية :والقوة في كل والية بحسبها فالقوة في قيادة الجيوش غير القوة في الحكم بين
الناس والقوة في ضبط الدخل والخرج غير القوة المطلوبة في الفتوى ،وهكذا ،والقوة تتضمن
العلم والقدرة وتتنافى مع الضعف والعجز ،ولهذا نصح النبي صلى اهلل عليه وسلم أبا ذر ـ وهو
الصادق التقي البار ـ أن ال يتأمر على اثنين ،فقال له :يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك
ما أحب لنفسي ال تأمرني على اثنين ،وال تولين مال يتيم ،2وقد أشار الذهبي إلى قوة أبي ذر
في بدنه وشجاعته ،وحمل الضعف على ضعف الرأي في إدارة الحكم وأن فيه حدة تتنافى مع
اإلمارة التي تتطلب الحلم والمداراة.3
أما األمانة التي هي ركن الوالية األساسي فتتضمن العدالة وتتنافى مع الفسق ،قال ابن تيمية:
ال وترك خشية الناس ،وهذه الخصال
واألمانة ترجع إلى خشية اهلل وأال يشتري بآياته ثمناً قلي ً
الثالث التي أخذها اهلل على كل من حكم على الناس في قوله تعالى﴿ :فَالَ تَخشَوُا النَّاسَ
ال تَشتَرُوا بِآيَاتِي ثَ َمنًا قَلِيالً َومَن لَّم يَحكُم بِمَا أَن َز َل اهللُ فَأُولَـئِكَ هُمُ
ن وَ َ
وَاخشَو ِ
الكَافِرُونَ﴾ (المائدة ،آية .)44 :
وتأمل حرص النبي صلى اهلل عليه وسلم على استعمال األمناء ،فعن حذيفة رضي اهلل عنه أن
النبي صلى اهلل عليه وسلم قال ألهل نجران :ألبعثن إليكم رجالً أميناً حق أمين فاستشرف لها
434
أصحاب النبي صلى اهلل عليه وسلم فبعث أبا عبيدة ،1وكان عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه
يحرص على تعيين أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،حتى إن أبا عبيدة قال له :دئست
أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقال له عمر :يا أبا عبيدة إذا لم استعن بأهل الدين
على سالمة ديني فيمن أستعن؟ قال :أما فعلت فأغنهم بالعمالة عن الخيانة ،يقول :إذا استعملتهم
على شيء فأجزل لهم في العطاء والرزق ال يحتاجون ،2وكان يستشير كثيراً في تعييناته وقد
بحث مرة إلى أهل الكوفة يبعثون إليه رجالً من أخيرهم وأصلحهم وإلى أهل البصرة كذلك،
وإلى أهل الشام كذلك ،قال فبعث إليه أهل الكوفة عثمان بن فرقد ،وبعث إليه أهل الشام معن
بن يزيد ،وبعث إليه أهل البصرة الحجاج بن عالط كلهم سلميون ،قال فاستعمل كل واحد منهم
على خراج أرضه.3
ـ القواعد الشرعية التي يجب على ولي األمر اتباعها في االختيار:
ـ وجوب تولي األصلح:
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمر عليهم أحداً
محاباة فعليه لعنة اهلل ال يقبل اهلل من صرفاً وال عدالً حتى يدخله جهنم».4
ـ وجوب اختيار األمثل من الموجود:
قال تعالى﴿ :فَاتَّقُوا اهللََّ مَا استَطَعتُم﴾ (التغابن ،آية .)16 :
وقال النبي صلى اهلل عليه وسلم« :ذروني ما تركتم ،فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم
واختالفهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء
فاجتنبوه» ،5وسئل اإلمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو أحدهما قوي فاجر،
435
واآلخر صالح ضعيف ،مع أيهما يغزي؟ فقال :أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على
نفسه وأما الصالح الضعيف فصالحه لنفسه وضعفه للمسلمين ،ويغزى مع القوي الفاجر.1
ـ ال تجوز المحاباة عند تولية المناصب:
فال يجوز التعيين على أساس القرابة النسبية وال الصلة الحزبية ،وإنما يكون االختيار على
األسس الشرعية ،فإن عدل عن األحق األصلح إلى غيره ألجل قرابة بينهما ،أو والء عتاقة أو
صداقة ،أو موافقة بلد أو مذهبه ،أو طريقة أو جنس كالعربية والفارسية والتركية والرومية أو
الرشوة يأخذها منه أو منفعة أو غير ذلك من األسباب أو لضغن 2في قلبه على األحق ،أو
عداوة بينهما فقد خان اهلل ورسوله والمؤمنين ودخل فيما نهى عنه في قوله تعالى﴿:يَا أَيُّهَا
ال تَخُو ُنوا اهللَ وَالرَّسُو َل َوتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعَلمُونَ﴾ (األنفال ،آية :
الَّذِينَ آمَنُوا َ
436
وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إنكم ستحرصون على اإلمارة وستكون ندامة يوم
القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة» ،1وقد حذر العلماء إسناد المناصب إلى من يحرص
عليها.2
ض إِنِّي حَفِيظ وأما قول يوسف عليه السالم في كتاب اهلل﴿ :اجعَلنِي عَلَى خَزَآئِ ِ
ن األَر ِ
فالتوفيق بينه وبين ما سبق أن نقول :إن يوسف عليه السالم كان بين قوم كفار ،فأراد
استصالحهم ودعاءهم إلى اهلل تعالى بالسعي في هذه الوالية دون غيرها ،ألن المتولي ألرزاق
العباد تذل له الرقاب ،وتخضع له الجبابرة ،وال يستغني أحد عن بابه ،فلهذا طلب هذه المرتبة
دون اإلمارة والوزارة ،وغير ذلك من الواليات ،3فيوسف عليه السالم :إنما قال ذلك ليتوصل
إلى إمضاء أحكام اهلل تعالى وإقامة الحق وبسط العدل ،والتمكن مما ألجله تبعث األنبياء إلى
العباد ..فطلب التولية ابتغاء وجه اهلل ال لحب الملك والدنيا.4
والذي نخلص إليه أن الذي يسأل اإلمارة ويحرص رغبة في الدنيا فإنه ال يولى ،أما من رأى
أنه ال يوجد من يقوم مقامه فتقدم ألداء الواجب ،ال طلباً لمال أو جاه ،فتوليته مطلوبة مشروعة،
وال تترتب عليها أي مفسدة من المفاسد التي ترتب على تولية من يطلب المنصب رغبة في
الدنيا.5
ب ـ اإلشراف:
قال صلى اهلل عليه وسلم« :كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ،فاألمير الذي على الناس
راعٍ وهو مسؤول عن رعيته».6
437
وقد نص الماوردي على أن من واجبات اإلمام :أن يباشر بنفسه مشارفة األمور ،وتصفح
األحوال ،لينهض بسياسة األمة وحراسة الملة ،وال يعول على التفويض تشاغالً بلذة أو عبادة
قد يخون األمين ويغش الناصح.1
وقيادة الدولة تشرف بالطرق التالية:
ـ مالحظة الموظف أثناء العمل.
ـ تبادل وجهات النظر.
ـ تخطيط العمل.
ـ االجتماعات.
ـ المتابعة اإلدارية بواسطة تقرير العمل.
ـ التفتيش الدوري والتفتيش المفاجئ.
فاال شراف عبارة عن متابعة األمور أوالً بأول ،واالتصال المستمر بالعمال والحصول على
المعلومات دائماً بمختلف الوسائل وتصحيح االنحرافات في أسرع وقت.2
واالشراف يحقق األغراض التالية:
ـ التأكد من أن العمل ينفذ وفقاً لمبادئ وأصول اإلدارة ووفقاً للخطة.
ـ مساعدة الموظفين على إتقان أعمالهم.
ـ إلمام المشرف باألعمال التي تمت ،مع اكتشاف ما قد يكون هناك من صعوبات تعترض
التنفيذ وبحث وسائل التغلب عليها.
ـ توجيه وتعليم الموظفين بما يجعلهم أقل احتياجاً لإلشراف في المستقبل.
ـ تقييم قدرة ودرجة إتقان الموظفين ألعمالهم.
ـ التنسيق بين جهود الموظفين.3
438
ومن نماذج اإلشراف في الدولة اإلسالمية ما رواه عبد الرزاق عن ابن طاووس عن أبيه أن
عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه قال :أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم ،وأمرته بالعدل
أقضيت ما علي؟ قالوا :نعم ،قال :ال حتى أنظر في عمله أعمل ما أمرته أم ال1؟
وروى الطبري عنه قال :أنا مسؤول عن أمانتي وما أنا فيه ومطلع على ما يحضرني بنفسي
إن شاء اهلل ال أكله إلى أحد ،2وفي قوله :ال أكله إلى أحد " داللة على أنه مادام يستطيع
اإلشراف والمتابعة بنفسه فإنه ال يكل أداء هذا الواجب إلى غيره ،أما البعيد فإنه يستعين عليه
بأهل األمانة والكفاءة والتقوى ،الذين ال يكون التعاون إال معهم."3
ـ الزيارات التفقدية:
ومن وسائل اإلشراف الزيارات التفقدية ،فقد كان عمر رضي اهلل عنه يقول :لئن عشت إن شاء
اهلل ألسيرن في الرعية حوالً فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني ،أما هم فال يصلون إلي،
وأما عمالهم فال يرفعونها إلي:
فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين
ثم أسير إلى الجزيرة ،فأقيم فيها شهرين
ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين
ثم أسير إلى البحرين ،فأقيم بها شهرين
ثم أسير إلى الكوفة ،فأقيم بها شهرين
ثم أسير إلى البصرة ،فأقيم بها شهرين
واهلل لنعم الحول هذا.4
وقال :إني قد بدأ لي أن أطوف على المسلمين في بلدانهم وقد خرج عمر بن الخطاب رضي
اهلل عنه في زيارة تفقدية إلى الشام ضمن هذه الزيارات التي كان يرى أهميتها ،وقد أبدأ بالشام
الذي ضاعت فيه مواريث المسلمين ،بسبب الوباء وفي هذه الزيارة قسم عمر األرزاق وسمى
439
الشواتي ،1والصوائف ،2وسد فروج الشام 3ومسالحها ،4وأخذ يدور بها :أي الشام" وسمى ذلك
في كل كوزة ،5كما يقول الطبري ،6وفي هذه الزيارة عزل وولى ،وكان فيمن عزل شرحبيل
بن حسنة وولى مكانه معاوية بن أبي سفيان .7وكان ممن ولى في هذه الزيارة أبو موسى
األشعري على السواحل الشامية وودع الناس بخطبة بليغة قال فيها بعد أن حمد اهلل وأثنى
عليه :أال أني قد وليت عليكم ،وقضيت الذي علي في الذي والني اهلل من أمركم ـ إن شاء اهلل ـ
قسطنا بينكم فيئكم ومنازلكم ومغازيكم ،وأبلغنا ما لديكم فجندنا لكم الجنود ،وهيأنا لكم الفروج،
وبوأناكم ووسعنا عليكم ما بلغ فيئكم وما قاتلتم عليه من شامكم وسمينا لكم من أطعمتكم ،وأمرنا
لكم بعطائكم وأرزاقكم ومعاونكم ،فمن علم علم شيء ينبغي العمل به ،فبلغنا نعمل به إن شاء
اهلل تعالى وال قوة إال باهلل.8
ال
ومن هنا نعرف برنامج هذه الجوالت التفقدية ،فليس أكالً وشرباً ونزهة وتفرجاً واستقبا ً
وتوديعاً فحسب ،وإنما هي تخطيط وجهاد وعزل وتولية ،وحل للمشكالت العالقة ،وبسط
العدل ،وتعميق لإلصالح ،وتوجيه وإرشاد ،وإعالن عام يشجع الناس على بذل النصيحة
للحاكم ويدعوهم إلى التفكير في مصالح األمة فيقول :من علم علم شيء ينبغي العمل به فبلغنا
نعمل به ،إن شاء اهلل تعالى وال قوة إال باهلل.9
ـ مؤتمر الحج:
440
من وسائل اإلشراف :االجتماعات ،ومن أهم االجتماعات اإلسالمية اجتماع المسلمين في موسم
الحج﴿ :لِيَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم وَيَذكُرُوا اسمَ اهللِ فِي أَيَّام مَّعلُومَات عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن
وقد كان عمر رضي اهلل عنه مالزماً للحج في سني خالفته وكان من سيرته أن يأخذ عماله
بموافاته كل سنة في موسم الحج ليحجزهم ،1وبذلك عن الرعية ويحجز عنهم الظلم ويتعرف
أحوالهم عن قرب وليكون للرعية وقت معلوم ينهون إليه شكاويهم.2
ـ إستطالع األخبار:
قد يتم اإلشراف بواسطة التقارير والمعلومات التي تصل إلى المسؤول اإلداري فيكون بواسطة
المعلومات متابعاً للعمل مشرفاً عليه ،ومراقباً له ،روى الطبري أن عمر رضي اهلل عنه كان ال
يأتيه أحد إال سأله عن الوجه الذي يجيء منه ،وفي قصة التحقيق مع خالد بن الوليد رضي اهلل
عنه قال الراوي وكان عمر ال يخفى عليه شيء من عمله ،3وهذا ما عبر عنه الجاحظ بقوله
عن عمر :كان علمه بمن نأى عنه من عماله ورعيته كعلمه بمن يأت معه في مهاد واحد وعلى
وساد واحد ،فلم يكن له في قطر من األقطار وال ناحية من النواحي ،عامل وال أمير جيش إال
وعليه ال يفارقه ما وجده كانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب عنده في كل مُمس ومصبح ،وأنت
ذلك في كتبه إلى عماله وعمالهم حتى كان العامل منهم ليتهم أقرب الخلق إليه وأخصهم به.4
ج ـ متابعة العمال ومحاسبتهم وما يترتب على ذلك:
كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وخلفاؤه يحاسبون العمال على الصدقات والفيء وغير
ذلك ومحاسبة النبي صلى اهلل عليه وسلم ألحد عماله ثابتة في الصحيح ،فعن أبي حميد
الساعدي ،قال استعمل النبي صلى اهلل عليه وسلم رجالً من بني أسد يقال له ابن اللتيبة ،على
صدقه فلما قدم قال :هذا لكم وهذا أهدي لي ،فقام النبي صلى اهلل عليه وسلم على المنبر فحمد
1ليحجزهم :ليمنعهم.
2الرقابة اإلدارية ،ص.257 :
3تاريخ الطبري (.)67 /4
4الرقابة اإلدارية ،ص.258 :
441
اهلل وأثنى عليه ثم قال« :ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول هذا لك وهذا لي؟ فهال جلس في بيت
أبيه وأمه ،فينظر أيهدى له أم ال؟ والذي نفسي بيده ال يأتي بشيء إال جاء به يوم القيامة يحمله
على رقبته إن كان بعيراً له رغاء ،أو بقرة لها خوار ،أو شاة تيعر» ،ثم رفع يديه حتى رأينا
عفرتي إبطيه «أال هل بلغت؟ أال هل بلغت؟» ،1وفي رواية :استعمل رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم رجالً من األسد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتيبية فلما حاسبه ،2قال المهلب:
حديث الباب أصل في محاسبة المؤتمن.3
ـ عهد التعيين:
كان عهد التعيين الذي يتضمن و صفاً كامالً للمهمة ،وشرحاً واضحاً للواجبات والصالحيات
وحقوق الرعية ،أساساً ممتازاً للرقابة اإلدارية والمالية ،منسجماً مع تعاليم اإلسالم ،في البيان
والوضوح واإلبالغ واإلنذار قبل المعاقبة ،فعندما كان عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه يعين
عامالً ،فإنه كان يعطي عهد تعيين يحتوي على أمر تنصيبه وتحديد ما يحول من صالحيات،
وما يكلف من واجبات ،ويحمل هذا األمر خاتم الخليفة أو توقيعه ويشهد عليه عدد من
المهاجرين واألنصار ،وقبل أن يبرح العامل المدينة مباشرة يجتمع الناس في المسجد ،ويقرأ
على المأل األمر أو عهد التعيين وبذلك يعرف كل مواطن حقيقة سلطات الوالة والعمال
وواجباتهم.4
د ـ كيف يتم التحقيق مع العمال؟
كان عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه يحاسب عماله محاسبة دقيقة ،ويحقق معهم تحقيقاً صارماً
ال مجاملة فيه وال محاباة ،أداء للواجب ونصحاً للرعية مع ما يكن لهم من المحبة والود وإليك
نموذج من هذه التحقيقات:
*ـ التحقيق مع سعد بن أبي وقاص رضي اهلل عنه:
442
اتهم بعض أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص رضي اهلل عنه بأغرب التهم ،حتى أُتهم بأنه ال
يحسن يصلي ،وعندما أرسل عمر مسؤول التحقيقات عنده :محمد بن مسلمة ليحقق في
مضمون هذه الشكاوي ،وكان عمر إذا أحب أن يؤتى باألمر كما يريد بعث محمد بن مسلمة،
وسأله عنه في مساجد الكوفة أثنوا عليه خيراً ،إال واحداً ممن كانوا يتحاملون عليه ،وهو أسامة
بن قتادة فإنه قال عن سعد :إنه ال يقسم بالسوية وال يعدل في الرعية وال يغزو في السرية وقد
دعا سعد فقال :اللهم إن كان قالها كذباً ورياءً وسمعة فأعم بصره وأكثر عياله وعرضه
لمضالت الفتن ،وقد استجاب اهلل دعاء سعد فطال عمر الرجل ،وكثر عياله ووصلت به الفتنة
إلى حد أنه كان يسمع بخبر المرأة فيأتيها حتى يحبسها ،فإذا عثر عليه قال :دعوة سعد الرجل
المبارك.1
وكانت نتيجة التحقيق تبرئة سعد مما نسب إليه ،ومع ذلك فقد عزله عمر بن الخطاب درءًا
للفتنة ،2حتى ال تبقى حجة لناقد أو مشاغب ،ألن مذهبه في هذا الخصوص ـ حسب قوله ـ إن
تغيير الوالي أيسر من تغيير الرعية.3
وكان يقول :أهون علي شيء أصلح به قوماً أن أبدلهم أميراً مكان أمير ،4ولكن عمر كان
حريصاً في الوقت ذاته على تبرئة ساحته وكان عمر رضي اهلل عنه مقتنعاً بكفاءته ولذلك
أوصى باستعماله فقال :إن ولي سعد اإلمارة فذاك ،وإال فأوصي الخليفة بعدي أن يستعمله فإني
لم أعزله عن عجز وال خيانة.5
وكان عمر وهو يحاسب سعد بن أبي وقاص يقول له عزمت عليك أال تدعو على أخيك
ويضحكه ،وإذا ذهب غضبه ،قال :تعالى نتحاسب فإنه اليوم أيسر عليك من غد ،6وهذه الواقعة
نستفيد منها في مجال الرقابة:
443
ـ أن جميع عمال عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه كانوا سواء أمام المحاسبة والتحقيق ،فعلى
الرغم من فضل سعد بن أبي وقاص ،وتهافت التهم الموجهة إليه فقد خضع كغيره للتحقيق.1
ـ علنية التحقيق وا ستخدام المساجد وسيلة لهذه العلنية ،األمر الذي يبعد التحقيق عن أية شبهة
تستر أو تمالئ مع العمال المدعى عليهم ،وهذا يشبه المبدأ القضائي المتبع اآلن وهو علنية
المحاكمات.
ـ االهتمام بالشكاوي المقدمة من عامة المسلمين مهما كان المدعي عليه.
ـ السرعة في القيام بالتحقيق والبث في األمر واالبتعاد عن االجراءات الرتيبة الطويلة
المناقضة لتحقيق األهداف الرقابية.2
كما تم التحقيق مع أبي موسى األشعري ومع النعمان بن نضلة ومع عياض بن غنم وخالد بن
الوليد وقام بعزل الكثير من الوالة.
هـ ـ إحصاء أموال الموظفين عند تولي العمل:
روى ابن سعد وابن الجوزي عن الشعبي أن عمر كان إذا استعمل عامالً كتب ماله ،3وعن
عبد اهلل بن المبارك :قال كان عمر بن الخطاب يكتب أموال عماله إذا والهم ثم يقاسمهم ما زاد
على ذلك وربما أخذه منهم.4
وقال ابن حبيب المالكي :وكان عمر إذا ولي أحداً أحصى ماله لينظر ما يزيد ولذا شاطر
العمال أموالهم حيث كثرت وعجز عن تمييز ما زادوه بعد الوالية قاله مالك وشاطر أبا هريرة
وأبا موسى وغيرهما.5
لقد كان عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه بعد أن يتعرف على الوضع المالي للعامل قبل
الوالية ،يتابعه متابعة دقيقة فإذا أثرى وزاد ثراؤه عن الحد المعقول دل ذلك عند الفاروق عمر
رضي اهلل عنه على نوع من استغالل النفوذ ،أو استخدام المنصب أو االستفادة من جاه العمل
في كسب المال ،األمر الذي يقتضي المحاسبة والمقاسمة أو المصادرة على حسب قوة القرائن
1الرقابة اإلدارية ،ص.270 :
2المصدر نفسه ،ص.270 :
3الطبقات الكبرى (.)307 /3
4فتوح البلدان ،ص.307 :
5مواهب الجليل شرح مختصر خليل ( 119 /6ـ .)120
444
ووضوح األدلة ،وقد قاسم عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه سعد ابن أبي وقاص ومعاوية بن
أبي سفيان وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد وأبا هريرة.1
وقد بنى الفقهاء على هذه السنة العمرية قولهم :ويحصى ما عند القاضي حين واليته ،ويأخذ ما
اكتسبه زائداً على رزقه.2
إن البداية الصحيحة للرقابة المالية اإلدارية هي :تطبيق دعائم النظام السياسي اإلسالمي التي
منها :سيادة الشرع التي تقتضي خضوع الدولة لحكم اإلسالم ،واالنصياع ألوامره ونواهيه،
والتزام جميع السلطات البرلمانية والقضائية والتنفيذية بنصوصه وتعاليمه وأحكامه ومنها إقامة
العدل والشورى ،والبيعة االختيارية التي تقتضي أن تعقد األمة عقداً تلتزم بموجبه بالسمع
والطاعة للرئيس المنتخب ويلتزم الرئيس بموجبه بقيادة األمة بكتاب اهلل تعالى وسنة رسوله
صلى اهلل عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين.
445
ـ مراقبة مدى شرعية وقانونية ومالءمة القروض التي تبرمها الدولة سواء كانت مقرضة أو
مقترضة.
ـ مراقبة وتدقيق كافة أوجه االستثمار ألموال الدولة في الداخل والخارج.
ـ فحص وتدقيق الحسابات الختامية لكافة أجهزة الدولة وهيئاتها ومؤسساتها.
ـ التدقيق والمراجعة لكافة قرارات اإلعفاء التي تتخذها سلطات الدولة لألفراد أو لألشخاص
من الحقوق المترتبة على كاهلهم للدولة.
ـ الرقابة الصارمة على إعداد الموازنة العامة وتنفيذها.
ـ ضمان االستخدام األمثل للموارد المادية والبشرية والتقنية للدولة بما يقلل الهدر في موارد
الدولة ،ويحكم توجيه تلك الموارد نحو خدمة المواطن أيما كان وأينما وجد.
ـ حسن اختيار وتدريب وتأهيل واالرتقاء بخبرات كافة الكوادر البشرية العاملة في حقل
المحاسبة والتدقيق والمراجعة لموازنة الدولة وأوجه اإلنفاق.
ـ سن التشريعات الالزمة إلحكام الرقابة على إيرادات ونفقات الدولة وتدقيق أوجه الصرف،
وتغليظ العقوبات على كافة أوجه الفساد والرشوة والغش والمحسوبية والمحاباة واالبتزاز
والتدليس واإلهمال وهدر المال العام واالستيالء وتسهيل االستيالء عليه ،وتغليب المصالح
االقتصادية لبعض األشخاص أو الجهات على المصلحة االقتصادية للدولة.
ـ أن تتسم دواوين وأجهزة الرقابة والمحاسبة بالحياد والنزاهة واالستقاللية عن أجهزة الدولة
إدارياً ومالياً وسياسياً.
ـ زيادة رقعة التعاون وتبادل الخبرات بين األجهزة الرقابية المالية واإلدارية والمحاسبية داخل
الدولة ،وكافة المنظمات اإلقليمية والدولية ذات الصلة بالرقابة المالية الحكومية ،وفي طليعتها
المنظمة الدولية لألجهزة العليا للرقابة المالية العامة والمحاسبة وهي أعلى هيئة تنظيمية دولية
لشؤون الرقابة المالية الحكومية.
446
ـ عدالة توزيع عائدات النفط ،وسائر ثروات البالد بين مواطنيها ومدنها وأقاليمها على نحو
عادل متوازن ووفقاً لمنهج علمي ،يحفظ حق األجيال القادمة ويرفع الظلم عن المناطق والمدن
والمواطنين الذين حرموا من ثروات بالدهم لردح طويل من الزمن.
ـ إبرام عقود بيع النفط بشكل شفاف ومعلن وإيجاد آلية تكفل الرصد والرقابة والمحاسبة عن
كافة ما يتعلق بمفردات موازنة الدولة ،وسبل إنفاقها ،وذلك بما يكفل القضاء على سوء اإلنفاق
وتبديد ثروات البالد.
ـ فتح ملفات الفساد المرتبطة بكبار موظفي الدولة الذين تورطوا في هدر وسرقة األموال
العامة ومحاربة الرشوة والمحسوبية واالستيالء على المال العام والتالعب بمقدرات الدولة.
ـ إرساء مفاهيم الشفافية والمساءلة العامة ،والعمل على تغيير وإعادة تسويق الدولة ككيان
محارب للفساد المالي واإلداري والسياسي ،وذلك خروجاً من تلك الصورة القاتمة التي رسمتها
النظم االستبدادية لبعض دول المنطقة والتي عبرت عنها منظمة الشفافية الدولية من خالل
موقعها بعض الدول العربية واإلسالمية مرتبة متدنية بين دول العالم في هذا المجال.
447
الخاتمة
وبعد ،فهذا ما يسره اهلل لي من جمع وترتيب وتحليل في هذا الكتاب فيما يتعلق بـ
"الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها".
فما كان فيه من صواب فهو محض فضل اهلل عليَّ ،فله الحمد والمناة ،وما كان فيه من خطأ
فأستغفر اهلل تعالى وأتوب إليه واهلل ورسوله بريء منه وحسبي أني كنت حريصاً أال أقع في
الخطأ وعسى أال أحرم من األجر.
وأدعو اهلل تعالى أن ينفع بهذا الكتاب إخواني المسلمين ،وأن يذكرني من يقرؤه في دعائه ،فإن
دعوة األخ ألخيه في ظهر الغيب مستجابة إن شاء اهلل تعالى.
وأختم هذا الكتاب بقول اهلل تعالى ﴿:رَبَّنَا اغفِر لَنَا وَ ِ
إلِخوَا ِننَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِاإلِيمَانِ َوالَ تَجعَل فِي
448
فهرس لكتاب
1 المقدمة
449
48 جـ ـ سنة اإلبتالء.
52 س ـ سنة األخذ باألسباب.
54 ش ـ الطواف على القبائل طلباً للنصرة.
56 ر ـ بيعة العقبة األولى.
58 ز ـ بيعة العقبة الثانية.
66 ع ـ الهجرة إلى المدينة.
91 ـ كتابه صلى اهلل عليه وسلم بين المهاجرين واألنصار نص الوثيقة.
96 أ ـ تحديد مفهوم األمة.
97 ب ـ مفهوم المواطنة.
450
97 ج ـ إقليم الدولة.
98 س ـ الحريات وحقوق اإلنسان.
104 ر ـ المرجعية العليا هلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم.
109 4ـ سنة التدافع وحركة السرايا.
112 ـ التوجيه المعنوي.
113 ـ التدريب العملي.
113 ـ أهم السرايا والبعوث التي سبقت غزوة بدر الكبرى.
114 ـ حراسة الصحابة للنبي صلى اهلل عليه وسلم الشخصية.
116 ـ من أهداف السرايا.
117 ـ عالقة هذه السرايا بحركة الفتوح.
120 5ـ األمن.
451
163 ج ـ حسن استغالل الموارد المتاحة.
164 س ـ التنسيق بين فروع اإلنتاج.
165 ك ـ تشغيل الثروة النقدية.
165 8ـ اإلعالم.
166 أ ـ مساعدة الرسول صلى اهلل عليه وسلم على حل المشاكل.
169 ـ الحكمة.
169 ـ الموعظة الحسنة.
169 ـ الجدال بالتي هي أحسن.
169 ـ الجهاد.
169 ـ القدوة الحسنة.
171 ـ الهجرة.
172 ـ بناء المسجد.
173 ـ بيعة الرضوان.
173 ـ البعثات النبوية.
176 9ـ البناء التربوي والعلمي.
178 أ ـ أهم الوسائل والمباديء التربوية.
178 ـ تكرار الحديث وإعادته.
178 ـ التأني في الكالم والفصل بين الكلمات.
179 ـ االعتدال وعدم االمالل.
179 ـ ضرب األمثال.
180 ـ طرح المسائل.
ـ القاء المعاني الغريبة المثيرة لالهتمام والداعية
181 إلى االستفسار والسؤال.
452
181 ـ استخدام الوسائل التوضيحية.
183 ـ استعمال العبارة اللطيفة والرقيقة.
183 ـ تشجيع المحسن والثناء عليه.
183 ـ االشفاق على المخطيء وعدم تعنيفه.
184 ـ عدم التصريح واالكتفاء بالتعريض فيما يذم.
185 ـ الغضب والتعنيف متى كان لذلك دواع مهمة.
193 10ـ القانون والسلطة القضائية.
195 أ ـ درء المفاسد.
198 ب ـ جلب المصالح.
199 ـ إحياء مكارم األخالق ومحاسن العادات.
210 11ـ السلطة التشريعية.
211 أ ـ عندما توفي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
212 ب ـ عصر التابعين.
214 جـ ـ ولقد أوجدت األمة مؤسسات كبرى.
214 س ـ كيفية االختيار وطريقة التكوين.
214 ع ـ السلطة التشريعية في التعريف الدستوري.
216 12ـ السلطة التنفيذية.
217 13ـ المفاوضات السياسية.
233 14ـ العالقات الخارجية.
257 15ـ سياسة كسب األعداء.
455
381 أ ـ اختيار الموظفين.
385 ب ـ االشراف.
389 جـ ـ متابعة العمال ومحاسبتهم وما يترتب على ذلك.
390 س ـ كيف يتم التحقيق مع العمال.
391 ك ـ إحصاء أموال الموظفين عند تولي العمل.
395 الخاتمة.
396 فهرس الكتاب.
457
34ـ حركة الفتح اإلسالمي في الشمال اإلفريقي.
35ـ صالح الدين األيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير البيت المقدس.
36ـ إستراتيجية شاملة لمناصرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم دروس مستفادة من الحروب
الصليبية.
37ـ الشيخ عز الدين بن عبد السالم سلطان العلماء.
38ـ الحمالت الصليبية (الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة) واأليوبيون بعد صالح الدين.
39ـ المشروع المغولي عوامل اإلنتشار وتداعيات اإلنكسار.
40ـ سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت في عهد المماليك.
41ـ الشورى في اإلسالم.
42ـ اإليمان باهلل جل جالله.
43ـ اإليمان باليوم اآلخر.
44ـ اإليمان بالقدر.
45ـ اإليمان بالرسل والرساالت.
46ـ اإليمان بالمالئكة.
47ـ اإليمان بالقرآن والكتب والسماوية.
48ـ السلطان محمد الفاتح.
49ـ العدالة والمصالحة الوطنية ضرورة دينية وإنسانية.
50ـ الحريات من القرآن الكريم.
51ـ المعجزة الخالدة.
52ـ الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها.
458