You are on page 1of 458

‫دار المعـرفة‬

‫بيروت لبنان‬

‫‪1‬‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫المقدمة‬

‫إن الحمد هلل نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن سيئات‬
‫أعمالنا‪ ،‬من يهده اهلل فال مضل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي له‪ ،‬وأشهد أن ال إله إالا اهلل وحده ال‬
‫شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله‪.‬‬

‫ِال وَأَنتُم مُّسلِمُونَ﴾ (آل عمران‪ ،‬آية ‪.)102 :‬‬


‫ُن إ َّ‬
‫ال تَمُوت َّ‬ ‫﴿ يَا أَُّيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اهللَّ ح َّ‬
‫َق تُقَاتِ ِه وَ َ‬

‫ال كَثِيرًا‬
‫َث مِن ُهمَا رِجَا ً‬
‫جهَا َوب َّ‬ ‫﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُ ُم الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفس وَاحِدَة وَخَلَ َ‬
‫ق مِنهَا زَو َ‬

‫ن عَلَيكُم رَقِيبًا﴾ (النساء‪ ،‬آية ‪.)1 :‬‬


‫وَنِسَاء وَاتَّقُوا اهللَّ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِ ِه وَاألَرحَا َم إِنَّ اهللَّ كَا َ‬

‫﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اهللََّ وَقُولُوا قَو ً‬


‫ال سَدِيدًا * يُصلِح لَكُم أَعمَالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَمَن ُيطِع‬

‫اهللََّ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزًا عَظِيمًا﴾ (األحزاب‪ ،‬آية ‪ 70 :‬ـ ‪.)71‬‬

‫يا رب لك الحمد حتى ترضى‪ ،‬ولك الحمد إذا رضيت‪ ،‬ولك الحمد بعد الرضى‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬

‫جاء اإلسالم بتنظيم شامل ألمور الدين والدنيا معاً وهو بذلك يختلف عن المسيحية التي فصلت‬
‫بين الدين والدولة فجعلت الدين من اختصاص الكنيسة والدنيا من اختصاص الدولة‪ ،‬وليس‬
‫هناك مجال للشك في أن النظام الذي أقامه الرسول صلى اهلل عليه وسلم وتبعه المسلمون من‬
‫بعده هو نظام ديني سياسي معاً وهو نظام العقيدة والشريعة‪.1‬‬

‫ولم يعرف المسلمون األوائل التفريق بين السياسة والدين‪ ،‬بل جعلوا السياسة منخرطة ضمن‬
‫تعاليم الدين‪ ،‬فلو قرأنا كتب الفقه لرأيناها تتكلم عن األمور السياسية ـ حسب لغة تلك العصور ـ‬
‫‪ 1‬األخالق السياسية للدولة اإلسالمية‪ ،‬محمد زكريا الناداف‪ ،‬ص‪.83 :‬‬

‫‪2‬‬
‫كما تتكلم عن الوضوء والصالة والقيام‪ ،‬وهذا ما أكده ابن تيمية عندما قال‪ :‬فالواجب اتخاذ‬
‫اإلمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى اهلل‪ ،1‬فجعل اتخاذ الحكم والسياسة من الدين وسيلة من‬
‫وسائل التقرب إلى اهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬فالدولة في اإلسالم من الدين‪ ،‬وأن الدين في اإلسالم‬
‫محيط بالسياسة وغيرها من النشاطات البشرية ومنظم لها جميعاً‪ ،‬ألن هذه العبارة منطلقة من‬
‫ثقافتنا وحضارتنا‪.2‬‬

‫وبيان القرآن الكريم وجوب وجود القوة في أيد حكيمة إلقامة العدل ولمنع الفساد والظلم‪ ،‬قال‬
‫ن لِيَقُو َم النَّاسُ بِالقِسطِ وَأَنزَلنَا‬ ‫تعالى‪﴿ :‬لَقَد أَرسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَِّينَا ِ‬
‫ت وَأَنزَلنَا مَعَهُ ُم الكِتَابَ وَالمِيزَا َ‬

‫الحَدِيدَ فِيهِ بَأس شَدِيد وَ َمنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعلَمَ اهللَُّ مَن يَنصُرُ ُه وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ إِنَّ اهللََّ قَوِيٌّ عَزِيز﴾‬

‫(الحديد‪ ،‬آية ‪.)25 :‬‬


‫في هذه اآلية عناوين كبرى هي‪:‬‬
‫ـ الكتاب‪ :‬وهو هنا القرآن الكريم الذي تضمن مبادئ الدين األخير والرسالة الخاتمة‪ .‬ويشمل‬
‫سائر الكتب التي أنزلها اهلل لهداية الخلق وإرشادهم إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم‪.‬‬
‫ـ الميزان‪ :‬وهو إشارة للعدل بين الناس بالموازين العادلة وإعطائهم حقوقهم‪.‬‬
‫ـ القسط‪ :‬وقيام الناس بالقسط إقامة حياتهم وأنواع نشاطهم على أساس التوازن بين جوانبها‬
‫المختلفة دون أن يطغى على جانب وال فئة على فئة‪.‬‬
‫ـ الحديد‪ :‬وهو رمز القوة التي تؤيد مبادئ الكتاب وموازين العدل وقوانين القسط‪.3‬‬
‫إن من الناس من يستجيب إلى الحق بالخطاب العقلي أو األسلوب الوعظي‪ ،‬ولكن من الناس‬
‫من ال يستجيب لما فيه صالحه وصالح مجتمعه إال بوجود قوة رادعة‪ ،‬تغلب في نفسه قوى‬
‫الخير على قوى الشر‪ ،‬ورضي اهلل عن عثمان بن عفان إذ قال‪ :‬إن اهلل ليزع بالسلطان ما ال‬

‫‪ 1‬األخالق السياسية للدولة اإلسالمية‪ ،‬ص‪.87 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.87 :‬‬
‫‪ 3‬األخالق السياسية‪ ،‬ص‪.122 :‬‬

‫‪3‬‬
‫يزع بالقرآن‪ ،1‬فلذلك كان وجود الدولة ضرورياً لحماية المجتمع من الفئات المنحرفة عن‬
‫سبيل اال ستقامة‪ ،‬الذين لو أطلقت أيديهم لعاثوا في األرض فساداً‪ ،‬فأهلكوا أنفسهم ومجتمعاتهم‪،‬‬
‫كما َّبي ن النبي صلى اهلل عليه وسلم في حديث السفينة وهو ما يرويه النعمان بن بشير رضي‬
‫اهلل عنه‪ ،‬عن النبي صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬مثل القائم على حدود اهلل والواقع فيها كمثل‬
‫قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعالها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا‬
‫استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من‬
‫فوقنا‪ ،‬فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً»‪.2‬‬
‫وبيان القرآن الكريم أركان الحكم‪ ،‬كوجوب الحكم بالعدل على والة األمر‪ ،‬ووجوب الطاعة‬
‫على الرعية واال لتزام بالمرجعية العليا في كل ما يختلف فيه الرعية مع حكامهم‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫س أَن تَح ُكمُوا بِالعَد ِل إِنَّ اهللَّ نِعِمَّا‬ ‫﴿إِنَّ اهللَّ يَأمُرُكُم أَن تُؤدُّوا األَمَانَا ِ‬
‫ت إِلَى أَهلِهَا وَإِذَا حَكَمتُم بَينَ النَّا ِ‬

‫ن آمَنُوا أَطِيعُوا اهللَّ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي‬


‫يَ ِعظُكُم بِ ِه إِنَّ اهللَّ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِي َ‬
‫ن بِاهللِّ وَاليَو ِم اآلخِ ِر ذَلِكَ‬
‫األَم ِر مِنكُم فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَيء فَرُدُّوهُ إِلَى اهللِّ وَالرَّسُو ِل إِن كُنتُم تُؤ ِمنُو َ‬
‫خَير وَأَحسَنُ تَأوِيالً﴾ (النساء‪ ،‬آية ‪ 58 :‬ـ ‪.)59‬‬

‫إن اإلسالم الذي شرَّعه اهلل لم يدع جانباً من جوانب الحياة إال وتعهده بالتشريع والتوجيه فهو ـ‬
‫بطبيعته ـ شامل لكل نواحي الحياة‪ ،‬مادية وروحية فردية واجتماعية‪ ،‬وقد خاطب اهلل تعالى‬
‫رسوله‪:‬‬
‫ُل شَيء َوهُدًى وَرَحمَ ًة َوبُشرَى لِلمُسلِمِينَ﴾ (النحل‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ـ بقوله‪َ ﴿ :‬ونَزَّلنَا عَلَيكَ الكِتَا َ‬
‫ب تِبيَانًا لِّك ِّ‬

‫‪.)89‬‬
‫ـ والقرآن يقول‪﴿:‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ُكتِبَ عَلَيكُ ُم الصِّيَامُ﴾ (البقرة‪ ،‬آية ‪)183 :‬‬

‫‪ 1‬تفسير القرآن العظيم البن كثير (‪.)60 /3‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.2361 :‬‬

‫‪4‬‬
‫ـ وهو نفسه الذي يقول في نفس السورة ‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ القِصَاصُ فِي القَتلَى﴾‬

‫(البقرة‪ ،‬آية ‪.)178 :‬‬

‫ت إِن تَرَكَ خَيرًا الوَصِيَّةُ لِلوَالِدَينِ‬ ‫ـ وهو الذي يقول فيها‪﴿ :‬كُتِ َ‬
‫ب عَلَيكُم إِذَا حَضَ َر أَحَدَكُ ُم المَو ُ‬

‫ن بِالمَعرُوفِ﴾ (البقرة‪ ،‬آية ‪.)180 :‬‬


‫وَاألقرَبِي َ‬

‫ـ ويقول في ذات السورة‪﴿ :‬كُتِ َ‬


‫ب عَلَيكُ ُم القِتَالُ َوهُ َو كُره لَّكُم وَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا وَهُ َو خَير‬

‫لَّكُم﴾ (البقرة‪ ،‬آية ‪.)216 :‬‬

‫ب عَلَيكُمُ﴾‪ ،‬فهذه األمور كلها مما‬


‫عبار القرآن عن فرضية هذه األمور كلها بعبارة واحدة ﴿ ُكتِ َ‬

‫كتب اهلل على المؤمنين أي فرضه عليهم‪ :‬الصيام من األمور التعبدية‪ ،‬والقصاص في القوانين‬
‫الجنائية‪ ،‬والوصاية فيما يسمى "األحوال الشخصية"‪ ،‬والقتال في العالقات الدولية‪ ،‬وكلها‬
‫تكاليف شرعية يتعبد بتنفيذها المؤمنون‪ ،‬ويتقربون بها إلى اهلل‪ ،‬فال يتصور من مسلم قبول‬
‫فرضية الصيام‪ ،‬ورفض فرضية القصاص‪ ،‬أو الوصية أو القتال وجميعها تقول ﴿كُ ِت َ‬
‫ب‬

‫عَلَيكُمُ﴾‪.‬‬

‫وقد ث ُب ت أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما ترك أمراً يقربنا من اهلل إال وأمرنا به‪ ،‬وال ترك‬
‫أمراً يبعدنا عن اهلل إال نهانا عنه‪ ،‬حتى تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ال يزيغ عنها‬
‫إال هالك‪.1‬‬

‫‪ 1‬الدين والسياسة‪ ،‬د‪ .‬يوسف القرضاوي‪ ،‬ص‪ ،69 :‬ورواه أحمد في المسند‪ ،‬رقم‪.17142 :‬‬

‫‪5‬‬
‫ومن قرأ كتب الفقه اإلسالمي وجدها تشمل على شؤون الحياة كلها من فقه الطهارة‪ ،‬إلى فقه‬
‫األسرة إلى فقه المجتمع إلى فقه الدولة وهذا في غاية الوضوح لكل طالب مبتدئ‪ ،‬ناهيك بالعالم‬
‫المتمكن‪.1‬‬

‫إن الفقهاء أدركوا ضرورة التمييز في أبواب الفقه‪ ،‬فوضعوا أبواباً للعبادات وأبواباً للمعامالت‪،‬‬
‫وبذلك فرقوا بين المسائل المتعلقة بالعبادة والمعامالت ويمكننا اليوم أن نسمي أبواب الفقه‬
‫الخاصة بالمعامالت "بالقانون اإلسالمي" ولندخل ضمن هذا القانون إلى جانب هذا الجزء من‬
‫علم الفقه‪ ،‬علم أصول الفقه‪ ،‬وهو يباين لنا مصادر القانون‪ ،‬وكيفية استنباط األحكام من تلك‬
‫المصادر‪ ،‬ولندخل أيض ًا في القانون اإلسالمي مباحث اإلمامة‪ ،‬فإن هذا أساس القانون العام‪،‬‬
‫ويمكن تقسيم القانون اإلسالمي إلى قانون خاص‪ ،‬وقانون عام‪ ،‬فالقانون الخاص يشمل القواعد‬
‫التي تضبط عالقات األفراد بعضها ببعض‪ ،‬فأبواب المعامالت‪ ،‬واألحوال الشخصية‪ ،‬تدخل في‬
‫القانون الخاص والقانون العام يشمل القواعد التي تسري على السلطات العامة وعالقة هذه‬
‫السلطات باألفراد‪.‬‬

‫وبدون مشقة نجد في القانون اإلسالمي الخاص‪ :‬قانوناً مدنياً‪ ،‬وقانون مرافعات‪ ،‬وأساساً لقانون‬
‫تجاري وفي القانون اإلسالمي العام‪ :‬قانوناً دستورياً وقانون ًا إدارياً ويمكننا أن نبيان قانوناً دولياً‬
‫عامًا وقانوناً دولياً خاصًا من أصول وقواعد ومقاصد اإلسالم‪.2‬‬

‫إن تعاليم اإلسالم وأحكامه في العقيدة والشريعة واألخالق والعبادات والمعامالت‪ ،‬ال تؤتي‬
‫ُأكلها إال إذا أُخذت متكاملة‪ ،‬فإن بعضها الزم لبعض‪ ،‬وهي أشبه "بوصفة طبية" كاملة مكونة‬
‫من غذاء متكامل‪ ،‬ودواء متنوع وحمية وامتناع من بعض األشياء وممارسة لبعض‬
‫التمرينات‪ ..‬فلكي تحقق هذه الوصفة هدفها‪ ،‬البد من تنفيذها جميعاً‪ ،‬فإن ترك جزء منها قد‬

‫‪ 1‬الدين والسياسة‪ ،‬ص‪.69 :‬‬


‫‪ 2‬اإلسالم والسياسة‪ ،‬د‪ .‬محمد عمارة‪ ،‬ص‪.89 :‬‬

‫‪6‬‬
‫يؤثر في النتيجة كلها‪ ،1‬فاإلسالم يرفض تجزئة أحكامه وتعاليمه وأخذ بعضها دون بعض وقد‬
‫اشتد القرآن الكريم في إنكار هذا المسلك على بني إسرائيل‪.‬‬

‫ض الكِتَابِ وَتَكفُرُونَ بِبَعض َفمَا جَزَاء مَن يَف َعلُ ذَلِكَ مِنكُم إِالَّ خِزي‬ ‫ـ قال تعالى‪﴿ :‬أَفَتُؤ ِمنُو َ‬
‫ن بِبَع ِ‬

‫(البقرة‪ ،‬آية ‪.)85 :‬‬ ‫ن إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اهللُّ بِغَافِل عَمَّا تَع َملُونَ﴾‬
‫فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا وَيَو َم القِيَامَ ِة يُرَدُّو َ‬

‫ولما أحب بعض اليهود أن يدخلوا في اإلسالم بشرط أن يحتفظوا ببعض الشرائع اليهودية مثل‬
‫تحريم يوم السبت‪ ،‬أبى الرسول عليهم ذلك إال أن يدخلوا في شرائع اإلسالم كافة‪.2‬‬

‫طوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ‬ ‫ـ قال تعالى‪﴿ :‬يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادخُلُوا فِي السِّلمِ َكافَّةً َو َ‬
‫ال تََّتبِعُوا خُ ُ‬

‫مُّبِين﴾ (البقرة‪ ،‬آية ‪.)208 :‬‬

‫وخاطب اهللُ سبحانه رسولَه صلى اهلل عليه وسلم فقال‪﴿ :‬وَأَنِ احكُم بَينَهُم بِمَآ أَنزَ َل اهللُّ وَ َ‬
‫ال تََّتبِع‬

‫ض مَا أَنزَ َل اهللُّ إِلَيكَ﴾ (المائدة‪ ،‬آية ‪.)49 :‬‬


‫ك عَن بَع ِ‬
‫أَهوَاءهُم وَاحذَرهُم أَن يَف ِتنُو َ‬

‫فهنا يحذر اهلل رسوله من غير المسلمين‪ :‬أن يصرفوه عن بعض أحكام اإلسالم‪ ،‬وهو خطاب‬
‫لكل من يقوم بأمر األمة من بعده‪.3‬‬
‫إن الحياة وحدة ال تنقسم‪ ،‬وكل ال يتجزأ وال يمكن أن تصلح الحياة إن تولى اإلسالم جزءاً منها‬
‫كالمسجد والزوايا يحكمها ويوجهها وتركت جوانب الحياة األخرى لمذاهب وضعية‪ ،‬وأفكار‬
‫بشرية وفلسفات أرضية توجهها وتقودها‪ ،‬وال يمكن أن يكون لإلسالم المسجد‪ ،‬ويكون للعلمانية‬
‫المدرسة والجامعة والمحكمة واإلذاعة والتلفاز والصحافة والمسرح والسينما والسوق والشارع‬
‫وبعبارة أخرى الحياة كلها‪.4‬‬

‫‪ 1‬الدين والسياسة‪ ،‬ص‪.70 :‬‬


‫‪ 2‬الدين والسياسة‪ ،‬ص‪.70 :‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.70 :‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.70 :‬‬

‫‪7‬‬
‫إن الدول في عصرنا أمست تملك أزمة الحياة كلها في أيديها‪ ،‬من التعليم إلى القضاء‪ ،‬إلى‬
‫الثقافة إلى اإلعالم إلى المساجد‪ ،‬إلى االقتصاد واالجتماع‪ ،‬فال يمكن لمصلح أن يتجاوزها‪،‬‬
‫ويدعها للقوى العلمانية تفعل ما تشاء وهي قادرة على أن تهدم كل ما بناه أهل الصالح بسهولة‬
‫ويسر‪ ،‬والسيما أن الهدم عادة أسهل من البناء‪ ،‬فكيف بمن يهدم باأللغام الناسفة التي تستطيع‬
‫أن تجعل العمارة الشاهقة كومة من التراب في دقائق معدودات؟‬
‫وفي عصرنا انتقلت ا لقوة من األمة إلى الدولة وأضحت هي المتحكمة في معظم األمور‪ ،‬من‬
‫تعليم وإعالم وثقافة وصحة وقضاء وشؤون دينية وأمنية وعسكرية واقتصادية‪ ،‬فكيف يمكن‬
‫للمصلح أن يباشر اإلصالح إذا كانت الدولة مضادة التجاهه فهو يُحيي وهي تُميت‪ ،‬وهو يجمع‬
‫وهي تفرغ‪ ،‬وهو يشرق وهي تغرب؟‬
‫سارت مغربة وسرت مشرقاً‬
‫شتان بين مشرق ومغرب‬
‫أو كما قال الشاعر اآلخر‪:‬‬
‫متى يبلغ البنيان يوماً تمامه‬
‫إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟‬

‫فكيف إذا كان الذي يهدم الدولة ذاتها‪ ،‬بما تملك من إمكانات فائقة وآليات كبيرة؟‬
‫وهذا ما جعل أفراد الشعوب المؤمنة بالمرجعية اإلسالمية من مصلحين وعلماء وساسة‬
‫ومواطنين ومواطنات يدخلون معترك السياسة ويلتمسون اإلصالح عن طريق إقامة دولة تحقق‬
‫ف‬
‫ض أَقَامُوا الصَّالَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُو ِ‬ ‫قول اهلل تعالى‪﴿ :‬الَّذِي َ‬
‫ن إِن مَّكَّنَّاهُم فِي األَر ِ‬

‫وَ َنهَوا عَنِ المُن َكرِ﴾ (الحج ‪ ،‬آية ‪.1)41 :‬‬

‫إن البشر ال يصلح لهم إال سياسة تضبطها قيم الدين وقواعد األخالق وتلتزم بمعايير الخير‬
‫والشر‪ ،‬وموازين الحق والباطل‪.‬‬
‫‪ 1‬الدين والسياسة‪ ،‬ص‪.77 :‬‬

‫‪8‬‬
‫إن السياسة حين ترتبط بالدين تعني‪ :‬العدل في الرعية والقسمة بالسوية واالنتصار للمظلوم‬
‫على الظالم وأخذ الضعيف حقه من القوي‪ ،‬وإتاحة فرص متكافئة للناس ورعاية الفئات‬
‫المسحوقة من المجتمع كاليتامى والمساكين وأبناء السبيل‪ ،‬ورعاية الحقوق األساسية لإلنسان‬
‫بصفة عامة‪.‬‬
‫إن دخول الدين في السياسة ليس ـ كما يصوره الماديون والعلمانيون ـ شراً على السياسة‪،‬‬
‫وشراً على الدين نفسه‪ ،‬إن الدين الحق إذا دخل في السياسة‪ :‬دخل دخول الموجه للخير‪ ،‬الهادي‬
‫إلى الرشد‪ ،‬المبين للحق‪ ،‬العاصم من الضالل والغي‪.‬‬
‫فهو ال يرضى عن ظلم‪ ،‬وهو ال يتغاضى عن زيف‪ ،‬وال يسكت عن غي‪ ،‬وال يقر تسلط‬
‫األقوياء على الضعفاء‪ ،‬وال يعاقب السارق الصغير‪ ،‬ويكرم السارق الكبير‪.‬‬
‫والدين إذا دخل في السياسة‪ :‬هداها إلى الغايات العليا للحياة ولإلنسان‪ :‬توحيد اهلل‪ ،‬وتزكية‬
‫النفس‪ ،‬وسمو الروح‪ ،‬واستقامة الخلق‪ ،‬وتحقيق مقاصد اهلل من خلق اإلنسان‪ :‬عبادة اهلل‬
‫وخالفته في األرض‪ ،‬وعمارتها بالحق والعدل‪ ،‬باإلضافة إلى ترابط األسرة‪ ،‬وتكافل المجتمع‬
‫وتماسك األمة‪ ،‬وعدالة الدولة وتعارف البشرية‪.1‬‬
‫والدين يمنح في الوقت نفسه رجال السياسة‪ :‬الحوافز التي تدفعهم إلى الخير‪ ،‬وتقضهم عند‬
‫الحق‪ ،‬وتشجعهم على نصرة الفضيلة‪ ،‬وإغاثة الملهوف‪ ،‬وتقوية الضعيف‪ ،‬واألخذ بيد‬
‫الضعيف‪ ،‬والوقوف في وجه الظالم حتى يرتدع عن ظلمه‪ ،‬كما جاء في الحديث الصحيح‪:‬‬
‫«أنصر أخاك ظالم ًا أو مظلوم ًا»‪ .‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟‬
‫قال‪« :‬تمنعه من الظلم‪ ،‬فذلك نص ٌر له»‪.2‬‬
‫والدين يمنح السياسي الضمير الحي‪ ،‬أو (النفس اللاوامة) التي تزجره أن يأكل الحرام من المال‬
‫أو يستحل الحرام من المسجد‪ ،‬أو يأكل المال العام بالباطل‪ ،‬أو يأخذ الرشوة باسم الهدية أو‬

‫‪ 1‬الدين والسياسة‪ ،‬ص‪.80 :‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.2444 :‬‬

‫‪9‬‬
‫العمولة وهو الذي يجعل الحاكم يحرص على نصحه وتقويمه‪ ،‬قال أبو بكر الصديق‪ :‬إن أسأت‬
‫فقوِّموني‪ ،1‬وقال عمر بن الخطاب‪ :‬من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً فليقوِّمني‪.2‬‬
‫والسياسي حين يعتصم بالدين‪ ،‬فإنما يعتصم بالعروة الوثقى ويحميه الدين من مساوئ األخالق‬
‫ورذائل النفاق‪ ،‬فإذا حدَّث لم يكذب‪ ،‬وإذا وعد لم يخلف وإذا اؤتمن لم يخن‪ ،‬وإذا عاهد لم يغدر‪،‬‬
‫وإذا خاصم لم يفجر‪ ،‬إنه مقيد بالمثل العليا ومكارم األخالق‪.‬‬
‫إن تجريد السياسة من الدين يعني تجريدها من بواعث الخير‪ ،‬وروادع الشر‪ ،‬تجريدها من‬
‫عوامل البر والتقوى وتركها لدواعي اإلثم والعدوان‪.‬‬
‫وربـط السياسة بالديـن يعطي الدولة قـدرة على تجنيـد "الطـاقة اإليمـانية" أو "الطاقة الروحية"‬
‫فـي خـدمة المجتـمع وتوجيه سياسته الداخلية إلى الرشد ال الغي وإلى االستقامة ال االنحراف‪،‬‬
‫وإلى الطهارة ال إلى التلوث بالحرام‪.‬‬
‫وكذلك تجنيد هذه الطاقة في السياسة الخارجية للدفاع عن الوطن‪ ،‬ومواجهة أعدائه المتربصين‬
‫به واالستماتة في سبيل تحريره إذا احتُلت أرضه أو اغتُصبت حقوقه‪ ،‬أو ديست كرامته‪.‬‬
‫ولقد رأينا المسلمين في عصورهم الذهبية حين ارتبطت سياستهم بالدين‪ ،‬فتحوا الفتوح‪،‬‬
‫وانتصروا على اإل مبراطوريات الكبرى‪ ،‬وأقاموا دولة العدل واإلحسان ثم شادوا حضارة العلم‬
‫واإليمان‪ ،‬مستظلين براية القرآن‪.3‬‬
‫ـ ضاللة فصل الدين عن السياسة‪:‬‬
‫وقد اختار العالمة محمد الخضر حسين ـ شيخ األزهر في زمانه ـ أن يعبر عن فصل الدين عن‬
‫السياسة الذي دعا إليه أحد الكُتاب بعبارة (ضاللة) وهو تعبير شرعي صحيح‪ ،‬ألنه أمر محدث‬
‫ومبتدع في األمة‪ ،‬وكل بدعة ضاللة‪ ،‬كما في الحديث الصحيح‪.4‬‬
‫ومما ا قاله العالمة محمد الخضر في هذه المقالة العلمية الرصينة‪ :‬نعرف أن الذين يدعون إلى‬
‫فصل الدين عن السياسة فريقان‪:‬‬

‫‪ 1‬الطبقات البن سعد (‪.)183 / 3‬‬


‫‪ 2‬الدين والسياسة‪ ،‬ص‪.80 :‬‬
‫‪ 3‬الدين والسياسة‪ ،‬ص‪.82 ،81 :‬‬
‫‪ 44‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.867 :‬‬

‫‪10‬‬
‫أ ـ فريق يعترف بأن للدين أحكاماً وأصوالً تتصل بالقضاء والسياسة ولكنهم ينكرون أن تكون‬
‫هذه األحكام واألصول كافلة بالمصالح آخذة بالسياسة إلى أحسن العواقب‪ ،‬ولم يُبال هؤالء أن‬
‫يجهروا بالطعن في أحكام الدين وأصوله وقبلوا أن يسميهم المسلمون مالحدة‪ ،‬ألنهم مقرون‬
‫بأنهم ال يؤمنون بالقرآن وال بمن نزل عليه القرآن‪.‬‬
‫ب ـ ورأى فريق أن االعتراف بأن في الدين أصول ال قضائية وأخرى سياسية‪ ،‬ثم الطعن في‬
‫صالحها‪ ،‬إيذان باالنفصال عن الدين‪ ،‬وإذا دعا المنفصل عن الدين إلى فصل الدين عن‬
‫السياسة‪ ،‬كان قصده مفضوحاً‪ ،‬وسعيه خائباً فاخترع هؤالء طريقاً حسبوه أقرب إلى نجاحهم‪،‬‬
‫وهو أن يدَّ عوا أن اإلسالم توحيد وعبادات‪ ،‬ويجحدوا أن يكون في حقائقه ما له مدخل في‬
‫القضاء والسياسة‪ ،‬وجمعوا على هذا ما استطاعوا من الشبه‪ ،‬لعلهم يجدون في الناس جهالة أو‬
‫غباوة فيتم لهم ما بيتوا‪.‬‬
‫هذان مسلكان لمن ينادي بفصل الدين عن السياسة‪ ،‬أو كالهما يبغي من أصحاب السلطان‪ :‬أي‬
‫يضعوا لألمة اإلسالمية قوانين تناقض شريعتها‪ ،‬ويسلكوا بها مذاهب ال توافق ما ارتضاه اهلل‬
‫في إصالحها‪ ،‬وكِال المسلكين وليد االفتتان بسياسة الشهوات وقصور النظر لشريعة اإلسالم‬
‫حكم بالغات‪.‬‬
‫من ِ‬
‫أما أن اإلسالم قد جاء بأحكام وأصول قضائية‪ ،‬ووضع في فم السياسة لجاماً من الحكمة‪ ،‬فإنما‬
‫ينكره من تجاهل القرآن والسنة‪ ،‬ولم يحفل بسيرة الخلفاء الراشدين إذ كانوا يزِنون الحوادث‬
‫بقسطاس الشريعة ويرجعون عند االختالف إلى كتاب اهلل أو سنة رسوله‪.‬‬
‫وبيان الشيخ أنا‪ :‬في القرآن الكريم شواهد كثيرة على أن دعوته تدخل في المعامالت المدنية‬
‫ن اهللِّ حُكمًا‬ ‫وتتولى إرشاد السلطة السياسية‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬أَفَحُكمَ الجَاهِلِيَّ ِة يَبغُو َ‬
‫ن وَمَن أَحسَنُ مِ َ‬

‫لِّقَوم يُوقِنُونَ﴾ (المائدة ‪ ،‬آية ‪.)50 :‬‬

‫وكل حكم يخالف شرع اهلل فهو من فصيلة أحكام الجاهلية‪ ،‬وفي قوله تعالى‪﴿ :‬لِّقَوم يُوقِنُونَ﴾‬

‫إيماء بأن غير الموقنين قد ينازعون في حسن أحكام رب البرية‪ ،‬وتهوى أنفسهم تبدلها بمثل‬

‫‪11‬‬
‫أحكام الجاهلية‪ ،‬ذلك ألنهم في غطاء من تقليد قوم كبروا في أعينهم ولم يستطيعوا أن يميزوا‬
‫سيئاتهم من حسناتهم‪ ،‬وقال تعالى‪﴿ :‬وَأَنِ احكُم بَينَهُم بِمَآ أَن َزلَ اهللُّ وَالَ تَتَّبِع أَهوَاءهُم وَاحذَرهُم أَن‬

‫ض مَا أَنزَ َل اهللُّ إِلَيكَ﴾ (المائدة ‪ ،‬آية ‪ ،)49 :‬ففرض في هذه اآلية أن يكون فصل‬
‫ك عَن بَع ِ‬
‫يَف ِتنُو َ‬

‫القضايا على مقتضى كتاب اهلل‪ ،‬ونبَّه على أن من لم يدخل اإليمان في قلوبهم يبتغون من‬
‫الحاكم أن يخلق أحكا مه من طينة ما يوافق أهواءهم‪ ،‬وأردف هذا بتحذير الحاكم من أن يفتنه‬
‫أثر الشهوات عن بعض ما أنزل اهلل‪ ،‬وفتنتهم له من أن يسمع لقولهم‪ ،‬ويضع مكان حكم اهلل‬
‫حكماً يالئم بغيتهم‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وَمَن لَّم يَحكُم بِمَا أنزَلَ اهللُّ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (المائدة ‪ ،‬آية‬

‫اهلل فَأُولَـئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ (المائدة ‪ ،‬آية ‪ .)47 :‬وفي‬


‫‪ ،)45 :‬وفي آية‪﴿ :‬وَمَن لَّم يَحكُم بِمَا أَن َزلَ ُّ‬

‫آية ثالثة‪َ ﴿ :‬ومَن لَّم يَحكُم بِمَا أَنزَ َل اهللُّ فَأُولَـئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ (المائدة ‪ ،‬آية ‪.)44 :‬‬

‫وفي القرآن الكريم أحكام كثيرة ليست من التوحيد وال من العبادات‪ ،‬كأحكام البيع والربا‬
‫والرهن واإلشهاد وأحكام للنكاح والطالق واللعان‪ ،‬والوالء والظهار والحجر على األيتام‬
‫والوصايا والمواريث‪ ،‬وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقاذف‬
‫المحصنات‪ ،‬وجزاء الساعي في األرض فساداً‪ ،‬وذكر الشيخ آيات تتعلق بالسلم والحرب‬
‫والمعاهدات والعالقات الدولية‪ ،‬ثم قال‪ :‬وفي السنة الصحيحة أحكام مفصلة في أبواب من‬
‫المعامالت والجنايات إلى نحو هذا‪ ،‬مماا يدل على أن مَن يدعو إلى فصل الدين عن السياسة‬
‫إنما تصور ديناً آخراً غير اإلسالم‪.‬‬
‫وفي سيرة أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ـ وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة ـ ويدل‬
‫داللة قاطعة على أن للدين سلطان في السياسة‪ ،‬فإنهم كانوا يأخذون على الخليفة عندما مبايعته‬
‫على شرط العمل بكتاب اهلل وسنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫ولوال علمهم بأن السياسة ال تنفصل عن الدين لبايعوه على أن يسوسهم بما يراه أو يراه مجلس‬
‫شوراه مصلحة‪.‬‬
‫وفي صحيح البخاري‪ :‬كانت األئمة بعد النبي صلى اهلل عليه وسلم يستشيرون األمناء من أهل‬
‫العلم من األمور المباحة ليأخذوا بأسهلها‪ ،‬فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره‪،‬‬
‫اقتداء بالنبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،1‬ومن شواهد هذا‪ :‬محاورة أبي بكر الصديق وعمر بن‬
‫الخطاب في قتال مانعي الزكاة‪ ،‬فإنها كانت تدور على التفقه في حديث‪« :‬أمرت أن أقاتل‬
‫الناس حتى يقولوا ال إله إال اهلل»‪.2‬‬
‫فعمر بن الخطاب يستدل على عدم قتالهم بالحديث‪ ،‬وأبو بكر يبيِّن له الدليل‪ ،‬ووجه الشاهد‬
‫بقوله في الحديث‪ :‬إال بحقها‪ ،‬ويقول‪ :‬الزكاة من حق األموال‪ ،‬ولو لم يكونوا على يقين أن‬
‫السياسة ال يسوغ لها أن تخطو خطوة إال أن يأذن لها الدين بأن تخطوها‪ ،‬ما أورد عمر بن‬
‫الخطاب هذا الحديث عن رسول اهلل‪ ،‬وقتال مانعي الزكاة من شؤون السياسة‪.‬‬
‫ومن شواهد أن ربط السياسة بالدين أمر عرفه خاصة الصحابة وعامتهم‪ :‬قصة عمر بن‬
‫الخطاب إذ بدا له أن يضع لمهور النساء حداً‪ ،‬فتلت عليه امرأة قوله تعالى‪﴿ :‬وَآتَيتُم إِحدَاه َّ‬
‫ُن‬

‫قِنطَارًا فَالَ تَأخُذُوا مِن ُه شَيئًا﴾ (النساء ‪ ،‬آية ‪ .)20 :‬فما زاد على أن قال‪ :‬رجل أخطأ وامرأة‬

‫أصابت‪ .3‬ونبذ رأيه وراء ظهره‪ ،‬ولم يقل لها‪ :‬ذلك دين وهذه سياسة‪ ،‬وكتب السنة واآلثار‬
‫مملوءة بأمثال هذه الشواهد‪ ،‬ولم يوجد ـ حتى في األمراء المعروفين بالفجور ـ من حاول أن‬
‫يمس اتصال السياسة بالدين من الوجهة العملية وإن جروا في كثير من تصرفاتهم على غير ما‬
‫أذن اهلل به‪ ،‬جهالة منهم أو طغياناً‪.‬‬

‫‪ 1‬هو من كالم البخاري في كتاب االعتصام بالكتاب والسنة‪.‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.1400 :‬‬
‫‪ 3‬سنن البيهقي (‪.)233 / 7‬‬

‫‪13‬‬
‫أراد الحجاج أن يأخذ رجالً بجريمة بعض أقاربه فذكره الرجل بقوله تعالى‪﴿ :‬وَ َ‬
‫ال تَزِ ُر وَازِرَة‬

‫وِز َر أُخرَى﴾ (األنعام ‪ ،‬آية ‪ )164 :‬فتركه‪ ،1‬ولم يخطر على باله ـ وهو ذلك الطاغية ـ أن‬

‫يقول له ما تلوته دين‪ ،‬وما سأفعله سياسة‪ .2‬ثم قال‪ :‬فصل الدين عن السياسة هدم لمعظم حقائق‬
‫الدين وال يُ قدم عليه المسلمون إال بعد أن يكونوا غير مسلمين‪ ،‬وليست هذه الجناية بأقل ما‬
‫يعتدي به األجنبي على الدين إذا جاس خالل الديار‪ ،‬وقد رأينا الذين فصلوا الدين عن السياسة‬
‫علناً كيف صاروا أشد الناس عداوة لهداية القرآن‪ ،‬ورأينا كيف كان بعض المبتلين باالستعمار‬
‫األجنبي أقرب إلى الحرية في الدين ممن أصيبوا بسلطانهم‪ ،‬ونحن على ثقة من أن الفئة التي‬
‫ترتاح لمثال مقال الكاتب لو ملكت قوة أللقت محاكم يقضى فيها بأصول اإلسالم‪ ،‬وقلبت معاهد‬
‫تدرس فيها علوم شريعته الغراء إلى معاهد لهو ومجون‪ ،‬بل لم يجدوا في أنفسهم ما يتباطأ بهم‬
‫عن التصرف في مساجد يذكر فيها اسم اهلل تصرف من ال يرجون هلل وقاراً‪.3‬‬
‫ـ الصالة والسياسة‪:‬‬
‫إن المسلم قد يكون في قلب الصالة ومع هذا يخوض في بحر السياسة‪ ،‬حين يتلو من كتاب اهلل‬
‫الكريم آيات تتعلق بأمور تدخل في صلب ما يسميه الناس سياسة‪ ،‬فمن يقرأ في سورة المائدة‬
‫اآليات التي تأمر بالحكم بما أنزل اهلل‪ ،‬وتدمغ من لم يحكم بما أنزل اهلل سبحانه بالكفر والظلم‬
‫والفسوق‪.‬‬
‫ـ ﴿وَمَن لَّم يَحكُم ِبمَا أَن َز َل اهللُّ فَأُولَـئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ﴾ ( المائدة ‪ ،‬آية ‪.)44 :‬‬

‫ـ ﴿وَمَن لَّم يَحكُم بِمَا أن َز َل اهللُّ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (المائدة ‪ ،‬آية ‪.)45 :‬‬

‫ـ ﴿وَمَن لَّم يَحكُم بِمَا أَنزَ َل اهللُّ فَأُولَـئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ﴾ (المائدة ‪ ،‬آية ‪.)47 :‬‬

‫‪ 1‬البداية والنهاية (‪.)124 / 9‬‬


‫‪ 2‬مقالة ضاللة الدين عن السياسة من (رسائل اإلصالح)‪ ،‬ص‪ 159 :‬ـ ‪.173‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪ 159 :‬ـ ‪.173‬‬

‫‪14‬‬
‫يكون قد دخل في السياسة وربما اعتبر من المعارضة المتطرفة‪ ،‬ألنه بتالوة هذه اآليات وجه‬
‫االتهام إلى النظام الحاكم ويحرِّض عليه‪ ،‬ألنه موصوف بالكفر أو الظلم أو الفسق أو بها كلها‬
‫في حالة تعطيله ألحكام الشريعة وتبديلها بما يخالفها‪.‬‬
‫ومثل ذلك من يقرأ اآليات التي تحذر من مواالة غير المؤمنين‪ ،‬قال تعالى ‪ ﴿:‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‬

‫(النساء‪،‬‬ ‫ن أَتُرِيدُونَ أَن تَجعَلُوا هللِِّ عَلَيكُم سُلطَانًا مُّبِينًا﴾‬


‫ن المُؤ ِمنِي َ‬
‫ال تََّتخِذُوا الكَافِرِينَ أَولِيَاء مِن دُو ِ‬
‫َ‬

‫آية‪.)144 :‬‬

‫ومن قنت "قنوات النوازل" المقررة في الفقه‪ ،‬وهو الدعاء الذي يُدعى به في الصلوات بعد الر‬
‫فع من الركعة األخيرة‪ ،‬وخصوصاً من الصالة الجهرية‪ ،‬وهو مشروع عندما تنزل بالمسلمين‬
‫نازلة‪ ،‬كغزو عدو‪ ،‬أو وقوع زلزال أو فيضان أو مجاعة عامة أو نحو ذلك‪ ..‬كما نفعل كثيرًا‬
‫عندما يقع عدوان صهيوني كبير على فلسطين‪ ،‬أو على لبنان وكما حدث كثيراً في حرب‬
‫السوفييت ألفغانستان وحرب الصرب للبوسنة والهرسك وغيرها‪.1‬‬

‫وكما حدث في ثورات الربيع العربي في الدعاء للشعوب للتخلص من النظم االستبدادية‬
‫والديكتاتورية‪ ،‬وهكذا كنا ندخل في معترك السياسة‪ ،‬ونخوض غماره‪ ،‬ونحن في محراب‬
‫الصالة متبتلون خاشعون‪ ،‬فهذه طبيعة اإلسالم ال ينعزل فيه دين عن دنيا‪ ،‬وال تنفصل فيه دنيا‬
‫عن دين‪ ،‬وال يعرف قرآنه وال سنته وال تاريخه ديناً بال دولة وال دولة بال دين‪ ،2‬إن الدين‬
‫منارة تهدي وليس قيداً يعوق‪ ،‬وأن الشريعة ـ كما قال ابن القيم ـ عدل كلها‪ ،‬ورحمة كلها‬
‫ومصالح كلها‪ ،‬وحكمة كلها‪ ،‬فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور‪ ،‬وعن الرحمة إلى‬
‫ضدها‪ ،‬وعن المصلحة إلى المفسدة‪ ،‬وعن الحكمة إلى العبث فليس من الشريعة وإن أدخلت‬
‫فيها بالتأويل‪.3‬‬

‫‪ 1‬الدين والسياسة‪ ،‬ص‪.103 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.103 :‬‬
‫‪ 3‬إعالم الموقعين (‪.)3 /3‬‬

‫‪15‬‬
‫ـ اإلسالم وتطور الحياة‪:‬‬
‫إن اإلسالم ال يمنع تطور الحياة وانتقالها من السيىء إلى الحسن ومن الحسن إلى األحسن‪ ،‬بل‬
‫شوق المسلم إلى "التي أحسن" في كثير من األمور‪ ،‬فهو يحاور بالتي هي‬
‫نرى اإلسالم أبداً ُي ِّ‬
‫أحسن‪ ،‬ويدفع إساءة المسيء بالتي هي أحسن‪ ،‬ويقرب مال اليتيم بالتي هي أحسن ويتطلع دائم ًا‬
‫إلى "األحسن" في كل شيء‪ ،‬كيف ال وقد علمه القرآن ذلك حين قال‪﴿:‬وَاتَّ ِبعُوا أَحسَنَ مَا أُنزِ َل‬

‫إِلَيكُم مِّن رَِّّبكُم﴾(الزمر‪ ،‬آية ‪.)55 :‬‬

‫ن أَحسَنَهُ﴾ (الزمر‪ ،‬آية ‪ 17 :‬ـ ‪.)18‬‬ ‫وقال تعالى‪﴿:‬فَبَشِّر عِبَادِ * الَّذِينَ يَستَ ِمعُو َ‬
‫ن القَولَ فَيََّتبِعُو َ‬

‫لقد رأينا الرسول الكريم يعني بأمر "اإلحصاء" قبل أن يهتم به البشر‪ ،‬فطلب من أصحابه أن‬
‫يحصوا له عدد من يلفظ باإلسالم فأحصوا له‪ ،‬فكانوا ألفًا وخمسمائة رجل‪.1‬‬
‫وفي بعض الروايات‪« :‬اكتبوا لي‪ »2....‬فهو إحصاء يُراد تدوينه وكتابته‪.‬‬
‫وهو عليه الصالة السالم‪ ،‬يقدر التجربة في شؤون الدنيا‪ ،‬ويبني عليها نتائجها‪ ،‬فحين رأى في‬
‫بعض أمور الزراعة أمراً‪ ،‬وأظهرت النتائج خالفه‪ ،‬قال لهم بكل وضوح‪« :‬أنتم أعلم بأمر‬
‫دنياكم»‪ .3‬فأنتم المرجع المعتبر في األمور الفنية والدنيوية التي تحسنونها دون حاجة إلى‬
‫الرجوع إلى الوحي‪.4‬‬
‫وهو لم يكتف بدعوتهم إلى العمل لدنياهم ‪﴿:‬فَانتَشِرُوا فِي األَرضِ وَاب َتغُوا مِن فَضلِ اهللَِّ﴾‬

‫(الجمعة‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬


‫﴿فَامشُوا فِي مَنَا ِكبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزقِهِ﴾ (الملك‪ ،‬آية ‪.)15 :‬‬

‫‪1‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.149 :‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.3060 :‬‬
‫‪ 3‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.2363 :‬‬
‫‪ 4‬السنة مصدر للمعرفة والحضارة للقرضاوي‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫بل حثهم على أن يحسنوا العمل‪ ،‬ويبلغوا به درجة اإلتقان واإلحكام‪ ،‬وجعل ذلك فريضة دينية‬
‫مكتوبة عليهم‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن اهلل كتب اإلحسان على كل شيء فإذا قتلتم‬
‫فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة»"‪.1‬‬
‫واإلحسان هو‪ :‬اإلتقان الذي يحبه اهلل‪ ،‬فهو تعالى يحب المحسنين‪ ،‬ويحب من أحدنا إذا عمل‬
‫عمالً أن يتقنه‪.2‬‬
‫ـ عالقة السياسة بالشريعة‪:‬‬
‫من المعلوم أن لكل فعل بشري حكماً شرعياً حسب نوعه‪ ،‬وأن الفعل السياسي نوعان‪ :‬صحيح‬
‫وفاسد وأن الصحيح هو السياسة العادلة والفاسد هو السياسة الظالمة‪.‬‬
‫ومن البدِ ِهي أن حكم السياسة العادلة الوجوب‪ ،‬وحكم السياسة الظالمة الحرمة‪ ،‬وهو ما يقطع‬
‫بأن العالقة بين السياسة والشريعة قائمة على كل حال‪ ،‬فهي إما عالقة اتصال وتالحم‪ ،‬وإما‬
‫عالقة انفصال وتعارض بحسب ما تتصف به هذه السياسة أو تلك من عدل أو ظلم‪ ،‬فإذا كانت‬
‫سياسة عادلة فهي من الشريعة وإليها وإذا كانت سياسة ظالمة فليست من الشريعة وال تمت‬
‫إليها بصلة‪ ،‬وبناءً على هذه القاعدة‪ ،‬فإن كل ما له عالقة بالسياسة من خالفة ودولة وحكم‬
‫وإمارة ورئاسة ووزارة‪ ،‬وكل والية عامة كيفما كانت طبيعتها العملية من حيث صالحها أو‬
‫فسادها‪ ،‬فهي مشمولة بأحكام الشريعة كما قال ابن خلدون‪ :‬اعلم أن الوظائف السلطانية في هذه‬
‫الملة اإلسالمية مندرجة تحت الخالفة الشتمال منصب الخالفة على الدين والدنيا كما قدمناه‪.‬‬
‫‪.‬فاألحكام الشرعية متعلقة بجميعها‪ ،‬وموجودة لكل واحدة منها في سائر وجوهها‪ ،‬لعموم تعلق‬
‫الحكم الشرعي بجميع أفعال العباد‪.3‬‬
‫وما فتئ ع لماؤنا يؤكدون من قديم على ضرورة التالحم بين الدين والسلطان كما قال اإلمام‬
‫الغزالي‪ :‬الدين والسلطان توأمان‪ ،‬الدين أسس والسلطان حارس‪ ،‬وما ال أسس له فمهدوم‪ ،‬وما‬
‫ال حارس له فضائع‪.4‬‬

‫‪ 1‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.1955 :‬‬


‫‪ 2‬الدين والسياسة‪ ،‬ص‪.130 :‬‬
‫‪ 33‬مقدمة ابن خلدون (‪.)635 /2‬‬
‫‪ 4‬االقتصاد في االعتقاد للغزالي‪ ،‬ص‪ 148 :‬ـ ‪.149‬‬

‫‪17‬‬
‫وتأسيساً على هذه العالقة العضوية بين الدين والدولة في اإلسالم‪ ،‬أصبحت الدولة هي‬
‫المسؤولة بالدرجة األولى عن تنفيذ أحكام الشريعة كما قال ابن خلدون‪ :‬فاعلم أن الخطط الدينية‬
‫الشرعية‪ ،‬من الصالة واإلفتاء والقضاء والجهاد والحسبة‪ ،‬كلها مندرجة تحت اإلمامة الكبرى‪.1‬‬
‫وأعتبرت الشريعة الواليات العامة من أعظم الواجبات الشرعية التي ال قيام للدين وال الدنيا إال‬
‫بها‪ ،2‬الشيء الذي جعل والة العدل أعظم أجراً‪ ،‬ووالة الجور أعظم وزراً‪ ،‬كما قال العز بن‬
‫عبد السالم‪ :‬أجمع المسلمون على أن الواليات من أفضل الطاعات‪ ،‬فإن الوالة المقسطين أعظم‬
‫أجراً وأجلا قدراً من غيرهم‪ ،‬لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحق ودرء الباطل‪ ،‬فإن‬
‫أحدهم يقول الكلمة الواحدة فيدفع بها مائة ألف مظلمة فما دونها‪ ،‬أو يجلب بها مائة ألف‬
‫مصلحة فما دونها‪ ،‬فيا له من كالم يسير وأجر كبير‪.‬‬
‫أما والة السوء وقضاة الجور‪ ،‬فمن أعظم الناس وزراً وأحطهم درجة عند اهلل‪ ،‬لعموم ما يجري‬
‫على أيديهم من جلب المفاسد العظام ودرء المصالح الجسام‪ ،‬وإن أحدهم ليقول الكلمة الواحدة‬
‫فيأثم بها ألف إثم وأكثر على حسب عموم مفسدة تلك الكلمة‪ ،‬وعلى حسب ما يدفعه بتلك الكلمة‬
‫من مصالح المسلمين‪ ،‬فيا لها من صفقة خاسرة وتجارة بائرة‪ ،‬وعلى الجملة‪ ،‬فالعادل من األئمة‬
‫الوالة والحكام‪ ،‬أعظم أجراً من جميع األنام بإجماع أهل اإلسالم‪ ،‬ألنهم يقومون بجلب كل‬
‫صالح كامل‪ ،‬ودرء كل فاسد شامل‪ ،‬فإذا أمر اإلمام بجلب المصالح العامة ودرء المفاسد العامة‬
‫كان له أجر بحسب ما دعا إليه من المصالح العامة وزجر عنه من المفاسد ولو بكلمة واحدة‬
‫ألجر عليها بعدد متعلقاتها كما ذكرنا‪.3‬‬
‫وهو ما يقطع بأهمية الدولة والسياسة والحكم وجميع الواليات والوظائف العامة في حياة‬
‫الشعوب أكثر من أي وقت مضى‪ ،‬فقد ازدادت هذه األهمية بشكل كبير في عصرنا الحاضر‪،‬‬
‫بحيث ما عاد هناك شيء‪ ،‬إال وللدولة تدخل فيه من قريب أو بعيد‪ ،‬فهي صاحبة الحق في‬
‫وضع الدساتير وتعديلها حسب رغبتها وتسطير القوانين‪ ،‬وإصدار المراسيم والقرارات‬
‫والدوريات‪ ،‬والمذكرات وتنظيم الحياة العامة ومراقبة الحياة الخاصة من شهادة الميالد إلى‬
‫‪ 1‬المقدمة ابن خلدون (‪.)603 /2‬‬
‫‪ 2‬مجموع الفتاوى البن تيمية (‪ 390 /28‬ـ ‪.)397‬‬
‫‪ 3‬قواعد األحكام (‪ 120 /1‬ـ ‪.)121‬‬

‫‪18‬‬
‫الوفاة‪ ،‬وهي تعدد طبيعة التعليم الذي يتلقاه وطبيعة الطعام الذي تأكله وطبيعة المسكن الذي‬
‫نسكنه‪ ،‬وطبيعة الطريق الذي نعبره‪ ،‬وطبيعة الجريدة التي نقرؤها وطبيعة الخطبة التي نتلقاها‬
‫وطبيعة التلفاز الذي نشاهده‪ ،‬وكمية الدراهم التي نتقاضاها‪ ،1‬وطبيعة األجواء العامة التي‬
‫نؤدي فيها شعائرنا التعبدية‪ ،‬من صالة وصيام وزكاة وحج‪...‬الخ‪ ،‬فنحن مادة القرار السياسي‬
‫التي تتخذه الدولة‪ ،‬ونحن المعنون به باألساس‪ ،‬فهو إما أن يكون في صالحنا وإمَّا ضد‬
‫مصالحنا‪ ،‬ما دام القصد من الواليات العامة والمناصب العامة تدبير المصالح العامة‪ ،‬كما هو‬
‫معلوم‪ ،‬وبهذا تظهر قيمة الوازع السلطاني وأهميته في منظومة التشريع اإلسالمي وضرورته‬
‫لحفظ مقاصد الشارع ومصالح العباد‪ ،‬غير أن إعمال هذا الوازع ال يعني بالضرورة االعتماد‬
‫على السلطة‪ ،‬بكل ما تحمله من معاني الفرض والقهر والزجر واإلكراه البدني أو المعنوي‪ ،‬بل‬
‫العكس هو الصحيح‪.‬‬
‫إن األصل في السياسة الشرعية‪ ..‬الراشدة‪ ،‬أن يكون الوازع بمنهج القرآن قبل قوة السلطان‪،‬‬
‫وهو المسلك الذي سلكته القيادة السياسية الشرعية في عهد الدولة النبوية والخالفة الراشدة‪،‬‬
‫ومن سار على نهجها في إقامة الدين وتوسيع دائرة التدين والصالح واإلصالح العام بمختلف‬
‫الوسائل التربوية التعليمية الهادفة أكثر من الوسائل الزجرية الرادعة‪ ،‬وإلى اللجوء إليها‪ ،‬إال‬
‫في حاالت الضرورة القصوى التي لم ينفع معها نصح أبوي وال إرشاد تربوي‪.‬‬
‫وفيما يلي خالصة أهم النقاط التي ينبغي استحضارها باستمرار أثناء النظر في الموقع الحقيقي‬
‫للسياسة والدولة من الشريعة‪.‬‬
‫ـ ال مجال للمقارنة بين التجربة اإلسالمية وتجربة الغرب المسيحي في مسألة العالقة بين الدين‬
‫والدولة‪ ،‬فلكل تجربته المميزة له‪ ،‬فإذا كان الغرب قد انقطع عن مؤسساته الدينية ألسباب‬
‫موضوعية خاصة به‪ ،‬فليس لنا من تلك األسباب ما يدعونا إلى االنقطاع عن ديننا‪ ،‬بل العكس‬
‫هو الصحيح‪ ،‬كما برهنا عليه أعاله‪.‬‬

‫‪ 1‬مصالح اإلنسان مقاربة مقاصدية‪ ،‬عبد النور بزا‪ ،‬ص‪ 328 :‬ـ ‪.330‬‬

‫‪19‬‬
‫ـ اإلسالم ليس مجرد اعتقاد سلبي‪ ،‬ال دخل له في الحياة الخاصة والعامة لإلنسان‪ ،‬بل هو عقيدة‬
‫تنبثق منها شريعة يجني عليها سلوك ونظام عام يحكم الشأن الخاص‪ ،‬ويدبر الشأن العام‪.‬‬
‫ـ السياسة الشرعية هي كل ما يوافق مقاصد الشرع‪ ،‬ويحقق مصالح اإلنسان في الدنيا‬
‫واآلخرة‪ ،‬وإن لم يرد فيها نص شرعي‪ ،‬ولم يسبق بشأنها اجتهاد عقلي‪.‬‬
‫ـ السياسة العادلة من صميم الشريعة‪ ،‬أما السياسة الظالمة فال تمت إليها بصلة وإن أضيف إليها‬
‫بأي شكل من أشكال التأويل‪.‬‬
‫ـ السياسة فعل من األفعال البشرية‪ ،‬تعتريها األحكام الشرعية الخمسة‪ ،‬فقد تكون واجبة أو‬
‫محرمة أو مندوبة أو مكروهة أو مباحة بحسب نوعها ومرجعيتها ومقاصدها ونتائجها والحاجة‬
‫إليها‪.‬‬
‫ـ عالقة السياسة والدولة باإلسال م عالقة عضوية بحيث ال يتصور أحدهما حقيقة دون اآلخر‪،‬‬
‫فهما أشبه ما يكونان بعالقة القلب أو الدماغ بالجسم‪ ،‬فال حياة لجسم بدون قلب وال قيمة له‬
‫بدون دماغ‪ ،‬كما أنه ال قلب وال دماغ بدون جسم‪ ،‬ولذلك فال يمكن لهما إال أن يكونا متالزمين‬
‫أحدهما مع اآلخر‪ ،‬وإال وقع الخلل فيهما معاً‪ ،‬كما هو واقع حال األمة اليوم‪.‬‬
‫ـ ليس في اإلسالم متحدث وحيد باسمه بعد الرسو صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ولذلك فهو ال يعرف‬
‫وال يعترف بما يسمى التفويض اإللهي أو النظام الثيوقراطي‪ ،‬أو التوريث السياسي‪ ،‬أو‬
‫الكهنوتي للسلطة‪ ،‬ومن ثم فإن مقولة أحقية الحاكم وحده في الجمع بين الدين والسياسة دون‬
‫غيره من الناس‪ ،‬بدعة من المبتدعات السياسية المعاصرة التي ال أصل لها في اإلسالم‪ ،‬ولم‬
‫يقل بها أحد من أهل العلم‪.‬‬
‫ـ كل من يتصور إقامة الدين بكل ما في الكلمة من معاني اإلسالم واإليمان واإلحسان‪ ،‬والتقوى‬
‫والعبادة والتقرب إلى اهلل‪ ،‬والحرية والعدالة والمساواة والكرامة‪ ،‬والمحافظة على أرواح الناس‬
‫وأعراضهم وعقولهم وممتلكاتهم‪ ،‬وجميع مصالحهم وأوطانهم وكل شُعب إيمانهم‪ ..‬دون قيام‬
‫سلطة سياسة مدنية عادلة منتخبة من أغلبية األمة‪ ،‬ذات مرجعية إسالمية‪ ،‬فهو واهم أشد‬

‫‪20‬‬
‫الوهم‪ ،‬وأقل ما يقال عنه‪ :‬إنه بحاجة ماسة إلى تجديد النظر في معرفته بحقيقة اإلسالم‬
‫ومقاصده ووسائله‪.‬‬
‫وبالجملة فإن السلطات السياسية الشرعية العادلة‪ ،‬والوظائف الحكومية الراشدة‪ ،‬والواليات‬
‫العامة الصالحة‪ ،‬من أهم المقاصد الكفائية التي تتحقق بها مقاصد الشارع‪ ،‬وتحفظ بها مصالح‬
‫الخلق على الوجه األكمل‪.‬‬
‫وبدون هذا النوع من المقاصد العامة‪ ،‬تهدر أغلب المقاصد الشرعية وتضيع معظم المقاصد‬
‫اإلنسانية‪.1‬‬
‫‪ ‬هذا الكتاب‪:‬‬
‫محاولة جادة لالستجابة للتغييرات الكبرى التي تمر بها شعوبنا مع اندالع ثورات الربيع‬
‫العربي‪ ،‬فالشعوب لديها مطالب وتسعى لتحقق أهدافاً ومبادىء أعلنتها‪ ،‬كالحرية‬
‫والعدالة والمساواة والشورى‪ ،‬ومحاربة الفساد‪ ،‬والتعددية والتداول السلمي‪ ،‬فعكفت‬
‫رغم االنشغال عن البحث والتنقيب وسبر التجارب اإلنسانية‪ ،‬والغوص في أعماق‬
‫التاريخ القديم‪ ،‬والحديث الستخراج النافع والمفيد من التراث اإلنساني واإلسالمي‪،‬‬
‫مسترشداً بالكتاب العزيز الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه‪ ،‬وال من خلفه‪ ،‬ومتعلماً من‬
‫سيد البرية من سيرته الشاملة والتي ال يستغني عنها طالب علم‪ ،‬وال باحث عن الحقيقة‪،‬‬
‫وال مصلح اجتماعي‪ ،‬وال مفكر إستراتيجي‪ ،‬وال قائد سياسي‪ ،‬وال زعيم نهوض‬
‫حضاري يؤمن بالقيم والمبادىء اإلنسانية الرفيعة‪.‬‬
‫فقد رأيت من خالل سيرته قول الشاعر في مدح النبي صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫وأجمل منك لم تر قط عيني‬
‫وأفضل منك لم تلد النساء‬
‫خلقت مبرأ من كل عيب‬
‫كأنك قد خلقت كما تشاء‬

‫‪ 1‬مصالح اإلنسان مقاربة مقاصدية‪ ،‬ص‪ 430 :‬ـ ‪.432‬‬

‫‪21‬‬
‫وهذا المشروع الفكري المستمد من الرؤية اإلسالمية للمبادىء والقيم والمفاهيم والسنن‬
‫ال أدري كم يستغرق من الزمن‪ ،‬هل أصل إلى المبتغى أم أدفن في قبري قبل تحقيقه‪،‬‬
‫إالا أن أملي في اهلل كبير ورجائي فيه بال حدود‪ ،‬إنه سميع قريب‪.‬وقد مكنني اهلل من‬
‫االطالع الواسع وجمعت المادة المرادة بعد أن يسَّر لي األسباب‪ ،‬وأتضرع إلى العليم‬
‫الحكيم والتواب الرحيم أن يوفقني لخدمة بني اإلنسان‪ ،‬ويمدني بعون من عنده وتوفيق‬
‫وتأييد والوصول إلى المراد الذي يحبه ويرضاه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫إنني على يقين ال يتزعزع وإيمان ال تؤثر فيه األمواج العاتية‪ ،‬بأن الشهود الحضاري‬
‫ألمتنا قد بدأ في الشروق مع هذه الثورات الربانية‪ ،‬وأنه مهما كان المكر والكيد والبغي‬
‫فالعاقبة للمتقين‪ ،‬وسنن اهلل ماضية ال تحيد وال تجامل وال تتبدل وال تتغير‪.‬‬
‫فالسعيد من استخدمه اهلل لطاعته وجعله من مفاتيح العقول والقلوب والخيرات المادية‬
‫والمعنوية‪ ،‬وفتح له أبواب العمل والقبول وامتثل قول اهلل تعالى‪﴿ :‬قُل إِنَّ صَالَتِي وَنُ ُ‬
‫سكِي‬

‫(األنعام ‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ك أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ﴾‬


‫ك لَهُ وَبِذَلِ َ‬
‫ال شَرِي َ‬
‫َب العَالَمِينَ * َ‬
‫ي وَ َممَاتِي هللِِّ ر ِّ‬
‫وَمَحيَا َ‬

‫‪ 162‬ـ ‪.)163‬‬

‫إن الشعوب اإلسالمية تمر بمرحلة جديدة في تاريخها المعاصر‪ ،‬فقد أذن اهلل لها بالنهوض‬
‫والتخلص من االستبداد والنظم الجبرية الديكتاتورية‪ ،‬وبدأت نقطة االنطالق من تونس الحبيبة‬
‫العزيزة التي أذاقها نظام بن علي سوء العذاب‪ ،‬فعمل على تجفيف منابع الهدى واإليمان والتقى‬
‫وأوقع البالد في الفقر والذل والبطالة والضنك‪ ،‬فكانت البداية من هذا الشعب الحر‪ ،‬وبدأنا نرى‬
‫قول اهلل تعالى يتحقق في حياتنا‪﴿ :‬وَنُرِي ُد أَن نَّم َّ‬
‫ُن عَلَى الَّذِينَ استُضعِفُوا فِي األَرضِ وَنَجعَلَهُم‬

‫ن َوجُنُودَهُمَا مِنهُم مَّا كَانُوا‬


‫ض وَنُرِي فِرعَونَ وَهَامَا َ‬
‫ن لَهُم فِي األَر ِ‬
‫أَئِمَّ ًة َونَجعَلَهُ ُم الوَارِثِينَ * وَ ُنمَكِّ َ‬
‫يَحذَرُونَ﴾ (القصص ‪ ،‬آية ‪ 5 :‬ـ ‪.)6‬‬

‫‪22‬‬
‫إن شعوب الربيع تريد أن تخرج من نفق الظلم وتُلملم جراحها وتبني مستقبلها وتعمر بالدها‬
‫وتحافظ على الحريات العامة‪ ،‬وذلك بمراعاة أحكام الشريعة اإلسالمية والمواثيق والمعاهدات‬
‫الدولية للحقوق والحريات والقيم وعادات وتقاليد هذه الشعوب األصيلة‪ ،‬وتتطلع إلى تحقيق‬
‫طموحاتها في الحرية والتنمية والعدالة والشورى‪ ،‬وأن يتأسس اقتصاد حر مستدام قادر على‬
‫االندماج في االقتصاد العالمي‪ ،‬ومتنوع كفيل بأن يلبي احتياجات مواطنيها اآلنية والمستقبلية‪،‬‬
‫وتأمين فرص أفضل للجميع ومستوى معيشي مرتفع‪ ،‬مع تقريب الفوارق بين الطبقات‪ ،‬وأن‬
‫ترى مؤسسات قضائية مستقلة تكون بمثابة صمام األمان لمجتمعاتها بكافة مؤسساتها وأفرادها‬
‫وضمانة جوهرية الستقرارها‪ ،‬وحفظ حقوق أفرادها وأن يكون لها نظام متكامل للرعاية‬
‫الصحية تقدم خدمات صحية وقائية وعالجية عالية الجودة‪ ،‬والئقة لكل مواطنيها‪ ،‬وأن تبني‬
‫دول هذه الشعوب إستراتيجية وطنية للرعاية الصحية يكون من أولى أولوياتها تحسين خدمات‬
‫المستشفيات وضمان تطوير الرعاية المستمرة‪ ،‬وخدمات الصحة النفسية وتقديم خدمات‬
‫الطوارى ء‪ ،‬ورفع كفاءتها وتتمنى الشعوب بناء نظام تعليمي يواكب المعايير العالمية‬
‫المعاصرة ويضاهي أفضل النظم التعليمية في العالم‪ ،‬ويرسخ مبادىء الحرية‪ ،‬وتنشر ثقافة‬
‫قبول اآلخر‪ ،‬وتدعو للحوار‪ ،‬وتؤمن بالعمل الجماعي وروح الفريق‪ ،‬واإليجابية المبادرة‪،‬‬
‫وترعى القيم وا لتقاليد والثوابت‪ ،‬وأن تحل أزمة السكن والعمل وتطور الرياضة‪ ،‬وتعد بناء‬
‫المنظومات الرياضية تنظيماً وتشريعاً بشكل احترافي علمي مدروس‪ ،‬األمر الذي يؤدي إلى‬
‫زيادة اال هتمام بالنشاط الرياضي في كافة مراحل التعليم‪ ،‬مع نشر الوعي الرياضي ومكافحة‬
‫التعصب بالنشىء وغير ذلك من األهداف التي تسعى الشعوب لتحقيقها‪ ،‬وهذا يحتاج إلى ثقافة‬
‫واسعة وأفكار مبدعة وتربية رصينة‪ ،‬وعلوم نافعة لتحقيق آمال وطموحات الشعوب‪ .‬ولذلك‬
‫كانت فكرة هذه الموسوعة التي صدر منها‪:‬‬
‫ـ العدالة والمصالحة الوطنية ضرورة دينية وإنسانية‪.‬‬
‫ـ الشورى فريضة إسالمية‪.‬‬
‫ـ الحريات من القرآن الكريم‪ ،‬حرية التفكير والتعبير واالعتقاد والحريات الشخصية‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫ـ الدولة الحديثة المسلمة‪ ،‬دعائمها ووظائفها‪.‬‬
‫وبإذن اهلل ستكون دراسات حول‪:‬‬
‫ـ مفهوم المواطنة‪.‬‬
‫ـ التكافل االجتماعي‪.‬‬
‫ـ دولة الكرامة والمساواة‪.‬‬
‫ـ العالقة بين الشريعة والدستور والقانون‪.‬‬
‫ـ العدالة‪.‬‬
‫ـ حقوق اإلنسان‪.‬‬
‫ـ السلطة التشريعية (البرلمان)‪.‬‬
‫ـ السلطة التنفيذية (الحكومة)‪.‬‬
‫ـ السلطة القضائية (القضاء)‪.‬‬
‫ـ المعارضة والتعددية واألحزاب‪.‬‬
‫وأما هذا الكتاب الذي أقدم له اآلن فهو يتحدث عن الدولة الحديثة دعائمها ووظائفها برؤية‬
‫إسالمية‪ ،‬مستحضراً فكر الدولة عن النبي صلى اهلل عليه وسلم والتوجيهات القرآنية في هذا‬
‫المجال‪.‬‬
‫يجد القارىء في هذا الكتاب دراسة عن مفهوم الدولة ونشأة الدولة اإلسالمية‪ ،‬وعن المراحل‬
‫التي مر بها الرسول صلى اهلل عليه وسلم للوصول للدولة منذ المرحلة السرية‪ ،‬ودار األرقم‬
‫ابن أبي األرقم‪ ،‬وأثر شخصيته صلى اهلل عليه وسلم في صناعة القادة والمادة الدراسية التي‬
‫اعتمدها في تربية األفراد‪ ،‬ومرحلة اإلعداد والبناء‪ ،‬وانتشار الدعوة في بطون قريش‪ ،‬وعن فقه‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم في التعاون مع السنن‪ ،‬كسنة التدرج‪ ،‬وتغيير النفوس واالبتالء‬
‫والتمكين‪ ،‬واألخذ باألسباب‪ ،‬وعن حركة الطواف على القبائل طلباً للنصرة‪ ،‬وبيعة العقبة‬
‫األولى والثانية والهجرة إلى المدينة‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫وعن دعائم الدولة في المدينة‪ ،‬كبناء المسجد‪ ،‬والدستور وحركة السرايا وسنة التدافع‪،‬‬
‫واالهتمام باألمن والتخطيط واإلدارة واالقتصاد واإلعالم‪ ،‬والبناء التربوي والعلمي‪ ،‬والقانون‬
‫والسلطة القضائية‪ ،‬والسلطة التشريعية والتنفيذية والمفاوضات السياسية والعالقات الخارجية‪،‬‬
‫وسياسة كسب األ عداء‪ ،‬وحاولت في الحديث عن الدعائم الجمع بين األصالة والمعاصرة وبين‬
‫الماضي والحاضر‪.‬‬
‫وشرحت وظائف الدولة واالهتمام بالمواطن وتقديم الخدمات له والتي من أهمها السكن والعمل‬
‫والرياضة واال هتمام بالمرأة واألسرة والطفولة والشباب‪ ،‬ورعاية الفئات الخاصة‪ ،‬كاألرامل‬
‫وذوي العاهات واألمراض المزمنة واالهتمام بالبيئة والصحة والسياحة‪ ،‬وموارد الدولة‬
‫ومحاسبة الموظفين والوزراء وغير ذلك من األمور‪.‬‬
‫فهذا الكتاب ضمن مجموعة من الدراسات الفكرية والثقافية التي تحاول أن تساهم وتترك‬
‫بصمة نافعة للمشروع النهضوي الحضاري لألمة اإلسالمية‪ ،‬يقول الثعالبي‪ :‬ال يكتب أحداً‬
‫كتاباً فيبيت عنده ليلة إال أحب في غيرها أن يزيد فيه أو ينقص منه‪ ،‬هذا في ليلة‪ ،‬فكيف في‬
‫سنين معدودة؟‬
‫وقال العماد األصبهاني‪ :‬إني رأيت أنه ال يكتب إنسان كتاباً في يومه إال قال في غده‪ :‬لو غير‬
‫هذا لكان أحسن‪ ،‬ولو زيد كذا‪ ،‬لكان يستحسن‪ ،‬ولو قدم هذا لكان أفضل‪ ،‬ولو ترك هذا لكان‬
‫أجمل‪ ،‬وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيالء النقص على جملة البشر‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وقد أنهيت هذا الكتاب "الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها" في يوم‬
‫‪2013/5/26‬م الساعة الرابعة عصراً الموافق ‪1434/7/16‬هـ ‪ ،‬والفضل هلل من قبل ومن‬
‫بعد‪ ،‬وأسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً‬
‫ولعباده نافعاً‪ ،‬وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي وأن يثيب إخواني‬
‫الذين أعانوني بكل ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع ونرجو من كل مسلم يطلع‬
‫على هذ ا الكتاب أال ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من‬

‫‪25‬‬
‫ك الَّتِي أَنعَمتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَن أَعمَ َل صَالِحًا تَرضَاهُ‬ ‫دعائه‪﴿:‬ر ِّ‬
‫َب أَوزِعنِي أَن أَشكُرَ نِعمَتَ َ‬

‫ك فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ (النمل‪ ،‬آية ‪.)19 :‬‬


‫وَأَدخِلنِي بِرَحمَتِ َ‬

‫سلَ لَهُ مِن بَعدِ ِه وَ ُه َو‬ ‫وقال تعالى‪﴿:‬مَا يَفتَ ِ‬


‫ح اهللَُّ لِلنَّاسِ مِن رَّحمَة فَالَ مُمسِكَ لَهَا َومَا يُمسِك فَالَ مُر ِ‬

‫العَزِي ُز الحَكِيمُ﴾ (فاطر‪ ،‬آية ‪.)2 :‬‬

‫وصلى اهلل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‪.‬‬


‫"سبحانك اللهم وبحمدك‪ ،‬أشهد أن ال إله إال أنت‪ ،‬أستغفرك وأتوب إليك وآخر دعوانا أن الحمد‬
‫هلل رب العالمين"‪.‬‬

‫الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه‬


‫علي محمد محمد الصَّالَّبي‬

‫‪26‬‬
‫المبحث األول‪ :‬مفهوم الدولة‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬الدولة لغة وإصطالحاً‬

‫‪1‬ـ الدولة لغة‪:‬‬

‫بالعودة إلى معاجم اللغة العربية تجد أن كلمة الدولة مشتقة من مادة "الدال والواو والالم"‬
‫"دول" وهي تطلق بمعان عدة‪ ،‬ومنها‪:‬‬

‫بالضم‪ :‬انقالب الزمان‪ ،‬والعقبة‪ ،‬وبالفتح‪ :‬في الحرب‪ ،‬أو هما سواء أو الضم في اآلخرة‪،‬‬
‫والفتح في الدنيا‪ .‬والدولة‪ :‬الحوصلة‪ ،‬والشقشقة وشيء مثل المزادة‪ ،‬والقانصة‪.‬‬

‫واإلدالة‪ :‬الغلبة‪ ،‬ودالت األيام‪ :‬دارت‪ ،‬واهلل تعالى يداولها بين الناس‪.‬‬

‫والدول‪ :‬لغة في الدَلو‪ ،‬وانقالب الدهر من حال إلى حال‪ ،‬وبتحريك "الدول"‪ :‬النبل المتداول‪.1‬‬

‫وفي "الصحاح" للجوهري‪ :‬الدولة في الحرب أن تدال إحدى الفئتين على األخرى‪ ،‬والدولة‬
‫"بالضم" في المال والجمع دُوالت و ُدوَل‪ ،‬وقال أبو عبيدة‪ :‬الدُولةُ بالضم‪ :‬اسم الشيء الذي‬
‫يُتداول به بعينه‪ ،‬وبالفتح الفعل‪ ،‬وقيل‪ :‬هما لغتان بمعنى واحد‪.2‬‬

‫وبهذا نلحظ أن لفظة الدولة في اللغة تطلق بإزاء األمور التالية‪:‬‬

‫ـ تغير الزمان‪ ،‬ودورانه‪ ،‬وتحوله من حال إلى حال‪.‬‬

‫ـ عاقبة األمر ومآله ومنتهاه‪.‬‬

‫ـ الغلبة واالنتصار على العدو‪.‬‬

‫‪ 1‬القاموس المحيط للفيروزآبادي‪ ،‬ص‪.1293 :‬‬


‫‪ 2‬الصحاح ألبي اسماعيل الجوهري الفارابي (‪ 1390 /4‬ـ ‪.)1391‬‬

‫‪27‬‬
‫ـ اسم لعدة أشياء يتداولها الناس‪ ،‬كالمزادة ضيقة الفم‪ ،‬والقانصة‪ ،‬وجانب البطن‪ ،‬والدلو‪ ،‬والنبل‬
‫وغيرها‪.1‬‬

‫‪2‬ـ الدولة اصطالحاً‪:‬‬

‫يذكر بعض أساتذة السياسة أن ثمة ما يقارب مائة وخمسين تعريفاً للدولة‪ ،2‬ويعتبر هذا المفهوم‬
‫الدولة من المفاهيم القديمة التي وجدت على أرض الواقع وصارت حقيقة معاينة‪ ،‬قبل أن يتم‬
‫االصطالح على هذه الكلمة "الدولة" للداللة على ذلك المفهوم‪.‬‬

‫وقد جرى استخدام مصطلح "الدولة" عند الكثير من التيارات والمذاهب المعاصرة‪ ،‬واختلف‬
‫معناها بحسب الدائرة الفكرية التي استخدم فيها‪ ،‬ولعلنا نجول في معاني هذا المصطلح من‬
‫خالل الدوائر الفكرية التالية‪:3‬‬

‫أ ـ الدولة في الفكر اإلسالمي‪:‬‬

‫أشار اإلمام الطبري إلى أن أول مرة استعمل فيها العرب هذا المصطلح كانت فيما ورد في‬
‫خطبة الحسن بن علي وهو يدعو أهل الكوفة إلى بيعته بقوله‪ :‬وأن لهذا األمر مدة والدنيا دول‪.4‬‬

‫وكذلك ما جاء في قول أبي العباس السفاح مخاطباً أهل الكوفة أيضاً‪ :‬أنتم محل محبتنا‪،...‬‬
‫وأتاكم اهلل بدولتنا‪.5‬‬

‫ثم توسع استخدام هذا المصطلح عند العرب إجماالً في كتاباتهم التاريخية واألدبية‪ ،‬حتى جاء‬
‫العالمة عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته مقرراً لهذا المفهوم في كثير من عباراته‪.‬‬

‫ومن ذلك قوله‪ ":‬فاإلنسان مدني بطبعه‪ ،‬أي‪ :‬البد له من االجتماع الذي هو المدينة‪ "...،‬وتم‬
‫عمران العالم‪ ،‬فالبد من وازع يدفع بعضهم عن بعض‪ ،‬فيكون ذلك الوازع واحداً منهم‪ ،‬تكون‬
‫‪ 1‬الدولة المدنية‪ ،‬د‪ .‬ماجد علي الزميع‪ ،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.33 :‬‬
‫‪ 3‬الدولة المدنية‪ ،‬د‪ .‬ماجد الزميع‪ ،‬ص‪.33 :‬‬
‫‪ 4‬تاريخ األمم والملوك للطبري (‪.)124 /4‬‬
‫‪ 5‬المصدر نفسه (‪.)83 /6‬‬

‫‪28‬‬
‫له الغلبة‪ ،‬والسلطان‪ ،‬واليد القاهرة‪ ،‬حتى ال يصل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك‪،‬‬
‫وأنه البد للبشر من الحكم الوازع وذلك الحكم يكون بشرع مفروض‪.1‬‬

‫فهو هنا يشير رحمه اهلل إلى أهم مكونات الدولة من الشعب الذي أشار إليه بقوله‪ ":‬اإلنسان‬
‫مدني بطبعه‪ ،‬أي البد له من االجتماع الذي هو المدينة‪ ،‬وكذلك الحاكم الذي وصفه بأنه "تكون‬
‫له الغلبة والسلطان‪ ،‬واليد القاهرة"‪.‬‬

‫ثم الدستور أو المنهج الذي يحتكمون إليه‪ ،‬والذي سماه "بالشرع المفروض" ثم شاع استعماله‬
‫بعد ذلك لدى الكثير من الباحثين والعلماء‪.‬‬

‫فهذه العبارات تدلنا على أن هذا المعنى كان معروفاً عند العرب‪ ،‬ومستقراً في استعماالتهم‬
‫اللغوية‪ ،‬وإن لم تشكل حدوده النهائية بصفتها النهائية‪.2‬‬

‫وربما غلب على الحكم في هذه الدول أن يكون وراثياً‪ ،‬يخلف األبناء فيه اآلباء‪ ،‬وهو الملك‬
‫العضوض الوارد في الحديث عن النبي صلى اهلل عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير‪ ،‬أنه‬
‫عليه الصالة والسالم قال‪ :‬تكون النبوة فيكم ما شاء اهلل أن تكون ثم يرفعها اهلل تعالى‪ ،‬ثم تكون‬
‫خالفة على منهاج النبوة ما شاء اهلل أن تكون‪ ،‬ثم يرفعها اهلل تعالى‪ ،‬ثم تكون ملكاً عاضاً‪،‬‬
‫فتكون ما شاء اهلل أن تكون ثم يرفعها اهلل تعالى‪ ،‬ثم تكون ملكاً جبرية‪ ،‬فيكون ما شاء اهلل أن‬
‫يكون‪ ،‬ثم يرفعها اهلل تعالى‪ ،‬ثم تكون خالفة على منهاج نبوة‪.3‬‬

‫والخالفة على منهاج النبوة لها معالم ومالمح‪ ،‬منها إقامة المبادئ اإلنسانية بين الناس‪ ،‬كالعدل‪،‬‬
‫والشورى‪ ،‬والمساواة والحرية‪ ،‬واحترام الكرامة‪ ..‬إلخ وقد جاء في دائرة المعارف بهذا‬
‫المعنى ‪" :‬الدولة سلسلة الملوك المتتابعة في مملكة ما‪ ،‬من عائلة واحدة ثم بعد ذلك شاع‬
‫استخدام هذا المصطلح في كتابات الكثير من الباحثين‪ ،‬متأثرين بالمدارس الفكرية التي ينتمون‬

‫‪ 1‬مقدمة ابن خلدون (‪.)46 /1‬‬


‫‪ 2‬الدولة المدنية‪ ،‬ص‪.34 :‬‬
‫‪ 3‬مشكاة المصابيح حسنة‪ ،‬األلباني‪ ،‬رقم‪.5306 :‬‬

‫‪29‬‬
‫إليها‪ ،‬وهكذا كانت بداية نشوء مصطلح "الدولة" وشيوع استعماله وانتشاره بعد ذلك في الفكر‬
‫العربي واإلسالمي‪.1‬‬

‫ب ـ الدولة في الفكر الغربي‪:‬‬

‫وفي الفكر الغربي‪ ،‬فيمكن القول بأن بداية هذا المفهوم كانت مع كتابات الفيلسوف اليوناني‬
‫أفالطون‪ :‬الذي كان يرى بأن الدولة هي جماعة من الناس األحرار المتساوين يرتبطون فيما‬
‫بينهم بأواصر األخوة‪ ،‬ويطيعون ـ لبقاء النظام في المدينة ـ الحكام المستنيرين أولي الرعاية‬
‫والحزم‪ ،‬الذين اتخذوهم رؤساء ويخضعون للقوانين التي ليست إال قواعد العدل ذاته‪.2‬‬

‫ثم درج بعد ذلك استعمال هذا المصطلح في كتابات الكثير من الفالسفة والمؤرخين الغربيين‪،‬‬
‫وعند التأمل في كتابات الفكر الغربي الحديث‪ ،‬فإن مفهوم الدولة في الفكر الليبرالي يختلف عنه‬
‫في الفكر الشيوعي االشتراكي وذلك بناءً على النظرة العامة لكل من التيارين‪.‬‬

‫ـ الدولة في الفكر الشيوعي االشتراكي‪:‬‬

‫أما مفهوم الدولة في الفكر الشيوعي االشتراكي يقوم على فكرة الصراع الطبقي‪" ،‬ولذلك‬
‫فالدولة في رأي إنجلز هي الخالصة الرسمية للمجتمع‪ ،‬أيًّا ما كان ذلك المجتمع‪ ،‬ومن هنا جاء‬
‫عدم اعتراضه بالدولة في شكلها التقليدي البرجوازي‪ ،‬سواء كان شكل هذه أو ليجارشيا‪ ،3‬أو‬
‫ديمقراطياً رأسمالياً باعتبار أنه ال يُقر هذه األشكال جميعاً‪.‬‬

‫وفي هذا السياق جاء في دائرة المعارف االجتماعية في مفهوم الدولة بأنها‪ :‬أداة السلطة‬
‫السياسية في المجتمع الطبقي‪ ،‬وأما الدولة االشتراكية فهي دولة عموم الشعب وهي الهيئة‬

‫‪ 1‬الدولة المدنية‪ ،‬ص‪.35 :‬‬


‫‪ 2‬النظم السياسية‪ ،‬ثروت بدوي‪ ،‬ص‪.24 :‬‬
‫‪ 3‬حكم القلة التي تتميز بالمال والنسب أوالسلطة العسكرية‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫السياسية للشعب بأسره‪ ،‬وأداة لبناء الشيوعية وجعل الطبقة العاملة هي القاعدة العامة لعموم‬
‫الشعب‪.1‬‬

‫والخالصة‪ :‬هي أن الفكر االشتراكي يرى أن الدولة شكل تاريخي للتنظيم السياسي للمجتمع‪،‬‬
‫وأنها نشأت مع ظهور الملكية الخاصة‪ ،‬وانقسام المجتمع إلى طبقات يستغل بعضها بعضاً‪.2‬‬

‫فهذا هو مفهوم الدولة في الفكر الشيوعي االشتراكي وهو مفهوم يستبعد البعد الديني والعقدي‬
‫وذلك راجع إلى مو قف الشيوعية أصالً من األديان عموماً والتي ترى أنها أفيون الشعوب‪،‬‬
‫وسبب التخلف للعقل البشري‪ ،‬وغير ذلك من عبارات الشيوعية واالشتراكية في موقفها‬
‫المعادي والمحارب للدين‪ ،‬كما هو معروف سلفاً‪.3‬‬

‫ـ الدولة في الفكر الليبرالي‪:‬‬

‫وأما الدولة عند التيار الليبرالي فإنها تتميز بخمس خصائص‪:‬‬

‫ـ أن الدولة مجموعة مؤسسات منفصلة يمكن التمييز فيها بين العام والخاص‪.‬‬

‫ـ أن تتمتع بالسيادة والسلطة العليا في أراضيها‪.‬‬

‫ـ السيادة شاملة ومتساوية لكل الذين يشغلون مناصب رسمية في الجهاز الحاكم‪.‬‬

‫ـ يتم تجنيد العاملين فيها وتدريبهم‪.‬‬

‫ـ قدرة الدولة على تحصيل اإليرادات لتمويل انشطتها‪.‬‬

‫فهذه الخصائص هي السمات التي يتفق المؤرخون‪ ،‬ومعظم علماء االجتماع على أنها تميز‬
‫الدولة الحديثة‪.4‬‬

‫‪ 1‬الدولة المدنية‪ ،‬ص‪.37 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.37 :‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.38 :‬‬
‫‪ 4‬الدولة المدنية‪ ،‬ص‪.38 :‬‬

‫‪31‬‬
‫فالدولة في أوسع معانيها في الفكر الليبرالي الحديث هي عبارة عن مفهوم قانوني يصف‬
‫جماعة ما تقيم في رقعة جغرافية محددة‪ ،‬وتنظم جهودها وإمكانياتها في إطار مؤسسات‬
‫سياسية تديرها هيئة حاكمة فعالة تسيطر على دفة األمور‪.1‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.38 :‬‬

‫‪32‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬الدولة اإلسالمية‬

‫أوالً‪ :‬نشأة الدولة اإلسالمية‬

‫اهتم الرسول صلى اهلل عليه وسلم منذ نزول الوحي بتربية األفراد والجماعة الم َؤمنة التي‬
‫تكون في المستقبل نواة الدولة الجديدة وقد خضعت مسيرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم في‬
‫تربية األفراد وبناء الدولة وتبليغ الرسالة لتوجيهات القرآن الكريم وكذلك التعامل مع سنن اهلل‬
‫في المجتمعات والشعوب وبناء الدول‪ ،‬فكانت دعوته قد مرت بمراحل ومعالم وسنن وقوانين‬
‫من أهمها‪:‬‬

‫‪1‬ـ المرحلة السرية‪:‬‬

‫استمر النبي صلى اهلل عليه وسلم في دعوته السرية يستقطب عدداً من األتباع‪ ،‬واألنصار من‬
‫أقاربه‪ ،‬وأصدقائه وخاصة الذين يتمكن من ضمهم في سرية تامة بعد إقناعهم باإلسالم وهؤالء‬
‫كانوا نعم العون والسند للرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬لتوسيع دائرة الدعوة في نطاق السرية‪،‬‬
‫وهذه المرحلة العصيبة من حياة دعوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم ظهرت فيها الصعوبة‬
‫والمش قة في تحرك الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ومن آمن معه بالدعوة‪ ،‬فهم ال يخاطبون إال‬
‫من يأمنون من شره‪ ،‬ويثقون به‪ ،‬فمن معالم هذه المرحلة الكتمان والسرية حتى عن أقرب‬
‫الناس‪ ،‬وكانت األوامر النبوية على وجوب المحافظة على السرية واضحة وصارمة‪ ،‬وكان‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يك اون من بعض المسلمين أسراً "خاليا"‪ ،‬وكانت هذه األسر تختفي اختفاء‬
‫استعداد وتدريب‪ ،‬ال اختفاء جبن‪ ،‬وهروب‪ ،‬حسب ما تقتضيه الخطة الربانية‪ ،‬فبدأ الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ينظم أصحابه من أسر وخاليا صغيرة‪ ،‬فكان الرجل يجمع الرجل‬
‫والرجلين‪ ،‬إذ أسلما عند الرجل به قوة‪ ،‬وسعة من المال‪ ،‬فيكونان معه ويصيبان منه فضل‪،‬‬
‫ويجعل منهم حلقات‪ ،‬فمن حفظ شيئاً من القرآن‪ ،‬علَّم من لم يحفظ‪ ،‬فيكون من هذه الجماعات‬
‫‪33‬‬
‫أسر أخوة وحلقات تعليم‪ ،‬وكان المنهج الذي سار عليه رسول اهلل في تربية أتباعه هو القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬وكان النبي صلى اهلل عليه وسلم يربي أصحابه تربية شاملة في العقائد والعبادات‬
‫واألخالق‪ ،‬والحس األمني وغيرها‪.‬‬

‫ونجد النواة األولى للتربية األمنية كانت في مكة‪ ،‬وتوسعت مع توسع الدعوة ووصولها إلى‬
‫دولة‪ ،‬ومن اآليات المكية التي أشارت إلى هذا المعنى‪:‬‬

‫ال يَيأَسُ مِن‬


‫ال تَيأَسُوا مِن رَّوحِ اهللِّ إِنَّهُ َ‬
‫ف وَأَخِي ِه وَ َ‬ ‫ـ قوله تعالى‪﴿:‬يَا بَن َّ‬
‫ِي اذهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُ َ‬

‫ح اهللِّ إِالَّ القَومُ الكَافِرُونَ﴾ (يوسف‪ ،‬آية ‪.)87 :‬‬


‫رَّو ِ‬

‫وجه االستدالل‪ :‬أن يعقوب عليه السالم قد طلب من أبنائه أن يتحسسوا‪ ،‬ويبحثوا عن يوسف‬
‫وأخيه‪ ،‬وفي هذا إقرار من أحد أنبياء اهلل في جمع المعلومات عن اآلخرين‪ ،‬ويعتبر جمع‬
‫المعلومات من العناصر األساسية في علم االستخبارات ويؤكد على مبدأ جمع المعلومات قوله‬
‫ال تَيأَسُوا﴾‪ ،1‬وال شك‪ :‬أن الصحابة كانوا يجمعون المعلومات عمان يريدون دعوته‬
‫تعالى‪﴿ :‬وَ َ‬

‫لإلسالم‪ ،‬وكانت القيادة تشرف على ذلك‪ ،‬ولذلك قام النبي صلى اهلل عليه وسلم بترتيب جهاز‬
‫أمني رفيع‪ ،‬يشرف على االتصال المنظم بين القيادة والقواعد‪ ،‬ليضمن تحقيق مبدأ السرية‪.‬‬

‫‪2‬ـ مقر القيادة "دار األرقم بن أبي األرقم"‪:‬‬


‫كان النبي صلى اهلل عليه وسلم يهتم بالتخطيط الدقيق المنظم‪ ،‬ويحسب لكل خطوة حسابها‪،‬‬
‫وكان مدركاً تماماً أنه سيأتي اليوم الذي يؤمر فيه بالدعو علناً وجهراً‪ ،‬وأن هذه المرحلة‬
‫سيكون لها شدتها وقوتها‪ ،‬فحاجة المسلمين المنظمة تقتضي أن يلتقي الرسول المربي مع‬
‫أصحابه‪ ،‬فكان البد من مقر لهذا االجتماع‪ ،‬فقد أصبح بيت خديجة رضي اهلل عنها ال يتسع‬
‫لكثرة األتباع‪ ،‬فوقع اختيار النبي صلى اهلل عليه وسلم وصحبه رضي اهلل عنهم على دار األرقم‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)105 /1‬‬

‫‪34‬‬
‫بن أبي األرقم‪ ،‬إذ أدرك الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أن األمر يحتاج إلى الدقة المتناهية في‬
‫السرية‪ ،‬والتنظيم ووجوب التقاء القائد المربي بأتباعه في مكان بعيد عن األنظار ذلك أن‬
‫استمرار اللقاءات الدورية المنظمة بين القائد وجنوده هو خير وسيلة للتربية العملية والنظرية‪،‬‬
‫وبناء الشخصية القيادية الدعوية ومماا يدل على أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم كان يعد‬
‫أتباعه ليكونوا بناة دولة وحملة الدعوة وقادة األمم‪ ،‬حرصه الشديد على هذا التنظيم السري‬
‫الدقيق‪ ،‬فلو كان مجرد داعية لما احتاج األمر إلى كل هذا ولو كان يريد مجرد إبالغ الدعوة‬
‫للناس‪ ،‬لكان خير مكان في الكعبة حيث منتدى قريش كلها‪ ،‬ولكن األمر غير ذلك‪ ،‬فالبد من‬
‫السرية التامة في التنظيم وفي المكان الذي يلتقي فيه مع أصحابه‪ ،‬وفي الطريقة التي يحضرون‬
‫بها إلى مكان اللقاء‪.1‬‬
‫وتذكر ُكتب السيرة أن اتخاذ دار األرقم مقراً لقيادة الرسول صلى اهلل عليه وسلم كان بعد‬
‫المواجهة األولى التي برز فيها سعد بن أبي وقاص رضي اهلل عنه‪ ،‬قال ابن اسحاق‪ :‬وكان‬
‫أ صحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب‪ ،‬فاستخفوا بصالتهم من‬
‫قومهم‪ ،‬فبينما سعد بن أبي وقاص رضي اهلل عنه في نفر من أصحاب رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم في شعب من شعاب مكة‪ ،‬إذ ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون فناكروهم‬
‫ال من المشركين‬
‫وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رج ً‬
‫بلَحَي‪ 2‬بعير فشجه فكان أول دم أريق في اإلسالم‪.3‬‬
‫وأصبحت دار األرقم مركزاً جديداً للدعوة يتجمع فيها المسلمون ويتلقون عن رسول اهلل كل‬
‫جديد من الوحي‪ ،‬ويستمعون له صلى اهلل عليه وسلم وهو يذكرهم باهلل‪ ،‬ويتلو عليهم القرآن‪،‬‬
‫ويضعون بين يديه كل ما في نفوسهم وواقعهم فيربيهم صلى اهلل عليه وسلم على عينه كما‬
‫تربى هو على عين اهلل ـ عز وجل ـ وأصبح هذا الجمع هو قراة عين النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪.4‬‬

‫‪ 1‬دولة الرسول من التكوين إلى التمكين‪ ،‬كامل سالمة‪ ،‬ص‪.218 :‬‬


‫‪ 2‬اللحي‪ :‬العظم الذي تنبت عليه اللحية‪.‬‬
‫‪ 3‬سيرة ابن هشام (‪ 281 /1‬ـ ‪.)282‬‬
‫‪ 4‬التربية القيادية‪ ،‬منير الغضبان (‪.)198 /1‬‬

‫‪35‬‬
‫وكانت أهم خصائص الذين تربوا على يدي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هي‪:‬‬
‫ـ االستجابة الكاملة للوحي‪ ،‬وعدم التقديم بين يديه‪.‬‬
‫ـ التأثر الوجداني العميق بالوحي واإليمان‪.‬‬
‫كان خريجي مدرسة األرقم من عظماء الرجال في العالم‪ ،‬وهم الذين قامت عليهم الدعوة‬
‫والجهاد‪ ،‬والدولة والحضارة فيما بعد‪ ،‬فكان من أكابر الخريجين أبو بكر وعمر بن الخطاب‬
‫وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص ‪..‬إلخ‪.‬‬

‫‪3‬ـ شخصية النبي صلى اهلل عليه وسلم وأثرها في صناعة القادة‪:‬‬
‫لقد استطاع الرسول صلى اهلل عليه وسلم المربي األعظم أن يربي في تلك المرحلة السرية‬
‫وفي دار األرقم أفذاذ الرجال الذين حملوا راية التوحيد والجهاد والدعوة‪ ،‬فدانت لهم الجزيرة‪،‬‬
‫وقاموا بالفتوحات العظيمة في نصف قرن‪.‬‬
‫كانت قدرة النبي صلى اهلل عليه وسلم فائقة في اختيار العناصر األولى للدعوة في خالل‬
‫السنوات الثالثة األولى من عمر الدعوة وتربيتهم وإعدادهم إعداداً خاصاً ليؤهلهم لتسليم‬
‫القيادة‪ ،‬وحمل الرسالة‪ ،‬فالرساالت الكبرى‪ ،‬واألهداف اإلنسانية العظمى ال يحملها إال أفذاذ‬
‫الرجال‪ ،‬وكبار القادة‪ ،‬وعمالقة الدعاة وكانت دار األرقم مدرسة من أعظم مدارس الدنيا‬
‫وجامعات العالم‪ ،‬التقى فيها الرسول المربي بالصفوة المختارة من السابقين األولين‪ ،‬فكان اللقاء‬
‫الدائم تدريباً عملياً لجنود المدرسة على مفهوم الجندية والسمع والطاعة‪ ،‬والقيادة وآدابها‪،‬‬
‫وأصولها وي شحذ فيه القائد األعلى جنده وأتباعه بالثقة باهلل‪ ،‬والعزيمة واإلصرار‪ ،‬ويأخذهم‬
‫بالتزكية والتهذيب‪ ،‬والتربية والتعليم‪ ،‬كان هذا اللقاء المنظم يشحذ العزائم‪ ،‬ويقوي الهمم‪ ،‬ويدفع‬
‫إلى البذل والتضحية واإليثار‪.1‬‬

‫‪1‬‬
‫دولة الرسول صلى اهلل عليه وسلم من التكوين إلى التمكين‪ ،‬ص‪.220 :‬‬

‫‪36‬‬
‫‪4‬ـ المادة الدراسية في دار األرقم‪:‬‬
‫كانت المادة الدراسية التي قام بتدريسها النبي صلى اهلل عليه وسلم في دار األرقم‪ ،‬القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬فهو مصدر التلقي الوحيد‪ ،‬فقد حرص الحبيب المصطفى صلى اهلل عليه وسلم على‬
‫توحيد مصدر التلقي‪ ،‬وتفرده وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج‪ ،‬والفكرة المركزية التي‬
‫يتربى عليها الفرد المسلم واألسرة المسلمة‪ ،‬والجماعة المسلمة‪ ،‬وكان روح القدس ينزل‬
‫باآليات غضة طرية على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فيسمعها الصحابة من فم رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم مباشرة‪ ،‬فتسكب في قلوبهم وتتسرب في أرواحهم وتجري في عروقهم‬
‫مجرى الدم وكانت قلوبهم وأرواحهم تتفاعل مع القرآن‪ ،‬وتنفعل فيتحول الواحد منهم إلى إنسان‬
‫جديد‪ ،‬بقيمه‪ ،‬ومشاعره وأهدافه وسلوكه وتطلعاته‪ ،‬لقد حرص الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫حرصاً شديداً على أن يكون القرآن الكريم وحده هو المادة الدراسية‪ ،‬والمنهج الذي تتربى عليه‬
‫نفوس أصحابه‪ ،‬وأال يختلط تعليمهم بشيء من غير القرآن‪.1‬‬

‫‪5‬ـ انتشار الدعوة في بطون قريش‪:‬‬


‫كان انتشار اإلسالم في المرحلة السرية‪ ،‬في سائر فروع قريش بصورة متوازنة‪ ،‬دون أن‬
‫يكون ثقل كبير ألي قبيلة‪ ،‬وهذه الظاهرة مخالفة لطبيعة الحياة القبلية آنذاك‪ ،‬وهي إذا أفقدت‬
‫اإلسالم االستفادة الكاملة من التكوين القبلي‪ ،‬والعصبية لحماية الدعوة الجديدة ونشرها‪ ،‬فإنها‬
‫في الوقت نفسه لم تؤلب عليه العشائر األخرى‪ ،‬بحجة‪ :‬أن الدعوة تحقق مصالح العشيرة التي‬
‫انتمت إليها‪ ،‬وتعلي من قدرها على حساب العشائر األخرى‪ ،‬ولعل هذا االنفتاح المتوازن على‬
‫الجمع أعان على انتشار اإلسالم في العشائر القرشية العديدة دون تحفظات متصلة بالعصبية‪،‬‬
‫فأبو بكر الصديق من "تيم" وعثمان بن عفان من "بني أمية" والزبير بن العوام من "بني أسد"‬
‫ومصعب بن عمير من "بني عبد الدار وعلي بن أبي طالب من "بني هاشم" وعبد الرحمن بن‬
‫عوف من "بني زهرة" وسعيد بن زيد من "بني عدي" وعثمان ابن مظعون من "بني جُمح"‪،‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪)113 /1‬‬

‫‪37‬‬
‫بل إن عدداً من المسلمين من هذه المرحلة لم يكونوا من قريش‪ ،‬فعبد اهلل بن مسعود من هُذيل‪،‬‬
‫وعتبة بن غزوان من مازن وعبد اهلل بن قيس من األشعريين‪ ،‬وعمار بن ياسر من عنس من‬
‫مذجح‪ ،‬وزيد بن حارثة من كلب‪ ،‬والطفيل بن عمرو من دوس‪ ،‬وعمرو بن عبسة من سليم‪،‬‬
‫وصهيب النمري من بني قاسط‪ ،‬لقد كان واضحاً أن اإلسالم لم يكن خاص ًا بمكة‪.1‬‬
‫لقد شق النبي صلى اهلل عليه وسلم طريقه بكل تخطيط ودقة وأخذ باألسباب مع التوكل على اهلل‬
‫تعالى‪ ،‬فاهتم بالتربية العميقة‪ ،‬والتكوين الدقيق‪ ،‬والتعليم الواسع‪ ،‬واالحتياط األمني‪ ،‬واالنسياب‬
‫الطبيعي في المجتمع‪ ،‬واإلعداد الشامل للمرحلة التي بعد السرية ألنه ـ عليه الصالة والسالم ـ‬
‫يعلم أن الدعوة إلى اهلل لم تنزل لتكون دعوة سرية‪ ،‬يخاطب بها الفرد بعد الفرد‪ ،‬بل نزلت‬
‫إلقامة الحجة على العالمين‪ ،‬وإنقاذ من شاء اهلل إنقاذه من الناس‪ ،‬من ظلمات الشرك والجاهلية‬
‫إلى نور اإلسالم والتوحيد‪ ،‬ولذلك كشف اهلل تعالى عن حقيقة هذه الدعوة وميدانها منذ خطوتها‬
‫األولى‪ ،‬حيث إن القرآن الكريم المكي بين شمول الدعوة وعالميتها‪.‬‬
‫ـ قال تعالى‪﴿ :‬إِن هُ َو إِالَّ ذِكر لِّلعَالَمِينَ﴾ (ص‪ ،‬آية ‪.)87 :‬‬

‫ِال ذِكر لِّلعَالَمِينَ﴾ (القلم‪ ،‬آية ‪.)52 :‬‬


‫ـ وقال تعالى‪َ ﴿ :‬ومَا هُوَ إ َّ‬

‫‪6‬ـ فقه النبي صلى اهلل عليه وسلم في التعامل مع السنن‪:‬‬


‫إن بناء الدول‪ ،‬وتربية األمم‪ ،‬والنهوض بها يخضع لقوانين وسنن‪ ،‬ونواميس تتحكم في مسيرة‬
‫األفراد والشعوب واألمم والدول‪ ،‬وعند التأمل في سيرة الحبيب المصطفي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫نراه قد تعامل مع السنن‪ ،‬والقوانين بحكمة وقدرة فائقة‪.‬‬
‫إن السنن الربانية هي أحكام اهلل تعالى الثابتة في الكون على اإلنسان في كل زمان ومكان‪،‬‬
‫وهي كثيرة جداً‪ ،‬والمتدب ر آليات القرآن الكريم يجدها حافلة بالحديث عن سنن اهلل تعالى‪ ،‬التي‬
‫ال تتبدل وال تتغير‪ ،‬ويجد عناية ملحوظة بإبراز تلك السنن‪ ،‬وتوجيه النظر إليها‪ ،‬واستخراج‬
‫العبرة منها‪ ،‬والعمل بمقتضياتها لتكوين المجتمع المسلم المستقيم على أمر اهلل‪.‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية الصحيحة للعمري (‪.)133 /1‬‬

‫‪38‬‬
‫والقرآن الكريم حينما يوجه أنظار المسلمين إلى سنن اهلل تعالى في األرض‪ ،‬فهو بذلك يردهم‬
‫إلى األصول التي تج ري وفقها‪ ،‬فهم ليسوا بدعاً في الحياة‪ ،‬فالنواميس التي تحكم الكون‬
‫والشعوب واألمم والدول واألفراد جارية ال تتخلف واألمور ال تمضي جزافاً‪ ،‬والحياة ال تجري‬
‫في األرض عبثاً‪ ،‬وإنما تتبع هذه النواميس‪ ،‬فإذا درس المسلمون هذه السنن وأدركوا مغازيها‬
‫تكشفت لهم الحكمة من وراء األحداث‪ ،‬وتبينت لهم األهداف من وراء الوقائع واطمأنوا إلى‬
‫ثبات النظام التي تتبعه األحداث‪ ،‬أو إلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام واستشرفوا خط‬
‫السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق‪ ،‬ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين‪ ،‬لينالوا‬
‫‪1‬‬
‫النصر والتمكين بدون األخذ باألسباب المؤدية إليه‪.‬‬
‫إن حركة اإلسالم األولى التي قادها النبي صلى اهلل عليه وسلم في تنظيم جهود الدعوة وإقامة‬
‫ال دولة‪ ،‬وصناعة اإلنسان النموذجي الرباني الحضاري خضعت لسنن وقوانين‪ ،‬منها‪ ،‬كأهمية‬
‫القيادة في صناعة الحضارات وأهمية الجماعة المؤمنة المنظمة في مقاومة الباطل‪ ،‬وأهمية‬
‫المنهج التي تستمد منه العقائد‪ ،‬واألخالق والعبادات والقيم والتصورات‪ ،‬ومن سنن اهلل‬
‫الواضحة فيما ذكر‪:‬‬
‫أ ـ سنة التدرج‪:‬‬
‫وهي من سنن اهلل تعالى في خلقه وكونه‪ ،‬وهي من السنن المهمة التي يجب على األمة أن‬
‫تراعيها‪ ،‬وهي تعمل للنهوض والتمكين لدين اهلل عز وجل ومنطلق هذه السنن‪ :‬أن الطريق‬
‫طويل السيما في هذا العصر الذي سيطرت فيه الجاهلية وأخذت أهبتها واستعدادها‪ ،‬كما أن‬
‫الشر والفساد قد تجذر في الشعوب واستئصاله يحتاج إلى تدرج‪ ،‬وبدأت الدعوة اإلسالمية‬
‫األولى مندرجة تسير بالناس سيراً دقيقاً‪ ،‬حيث بدأت بمرحلة االصطفاء والتأسيس ثم مرحلة‬
‫المواجهة والمقاومة‪ ،‬ثم مرحلة النصر والتمكين‪ ،‬وما كان يمكن أن تبدأ هذه جميعها في وقت‬
‫واحد‪ ،‬وإال كانت المشقة والعجز‪ ،‬وما كان يمكن كذلك أن نقدم واحداً منها على األخرى‪ ،‬وإال‬
‫كان الخلل واإلرباك‪.2‬‬

‫‪ 1‬في ظالل القرآن (‪.)478 / 1‬‬


‫‪ 2‬التمكين لألمة اإلسالمية لمحمد السيد يوسف‪ ،‬ص‪.227 :‬‬

‫‪39‬‬
‫فالتغيير المنشود ال يكون بين عشية وضحاها‪ ،‬والواقع ال يتبدل في طرفة عين‪ ،‬دون النظر في‬
‫العواقب‪ ،‬ودون فهم للظروف والمالبسات المحيطة بهذا الواقع‪ ،‬ودون إعداد جيد للمقومات أو‬
‫لألساليب والوسائل‪.1‬‬
‫وقد وجه اهلل تعالى أنظارنا إلى هذه السنة في أكثر من موقع‪ ،‬فاهلل تعالى خلق السماوات‬
‫واألرض في ستة أيام‪ ،‬يعلمها سبحانه وتعالى ويعلم مقدراها‪ ،‬وكان جل شأنه قادراً على خلقها‬
‫في أقل من لمح البصر‪ ،‬وكذلك ألطوار خلق اإلنسان والحيوان والنبات‪ ،‬كلها تتدرج في‬
‫مراحل حتى تبلغ نموها وكمالها ونضجها‪ ،‬وفق سنة اهلل تعالى الحكيمة‪.‬‬
‫وسنة التدرج مقررة في التشريع اإلسالمي بصورة واضحة ملموسة‪ ،‬وهذا من تيسير اإلسالم‬
‫على البشر‪ ،‬حيث أنه راعى معهم سنة التدرج فيما شرعه لهم إيجاباً وتحريماً‪ ،‬فتجده حين‬
‫فرض الفرائض كالصالة والصيام والزكاة فرضها على مراحل ودرجات حتى انتهت إلى‬
‫الصورة األخيرة التي استقرت عليها‪.2‬‬
‫إننا إذا درسنا القرآن الكريم‪ ،‬والسنة المطهرة‪ ،‬دراسة عميقة علمنا كيف وبأي تدرج وانسجام‬
‫تم التغيير اإلسالمي في بالد العرب‪ ،‬ومنها إلى العالم كله على يد النبي صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫ولقد كانت األمور تسير رويداً رويداً على حسب مجراها الطبيعي‪ ،‬حتى تستقر في مستقرها‬
‫الذي أراده اهلل رب العالمين‪.3‬‬
‫وهذه السنة الربانية في رعاية التدرج ينبغي أن تتبع في سياسة الناس‪ ،‬وعندما يراد تطبيق‬
‫اإلسالم في الحياة واستئناف حياة إسالمية متكاملة‪ ،‬يكون التمكين ثمرتها‪ ،‬فإذا أردنا أن نقيم‬
‫مجتمعاً إسالمياً حقيقياً فال نتوهم‪ :‬أن ذلك يمكن أن يتحقق بقرار يصدر من رئيس أو ملك أو‬
‫مجلس قيادي أو برلماني‪ ،‬وإنما يتحقق ذلك بطريقة التدرج‪ ،‬أي باإلعداد والتهيئة الفكرية‬
‫والنفسية واالجتماعية‪ ،‬وذلك هو المنهج الذي سلطه النبي صلى اهلل عليه وسلم لتغيير الحياة‬
‫الجاهلية إلى الحياة اإلسالمية‪ ،‬فقد ظل ثالثة عشر عاماً في مكة‪ ،‬كانت مهمته األساسية فيها‬
‫تنحصر في تربية الجيل المؤمن‪ ،‬الذي يستطيع أن يحمل عبء الدعوة‪ ،‬وتكاليف الجهاد‪،‬‬
‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)121 / 1‬‬
‫‪ 2‬التمكين لألمة اإلسالمية‪ ،‬ص‪.227 :‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.229 :‬‬

‫‪40‬‬
‫لحمايتها ونشرها في اآلفاق‪ ،‬ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع بقدرما كانت مرحلة‬
‫تربية وتكوين‪.1‬‬

‫ب ـ سنة تغيير النفوس‪:‬‬


‫من السنن المهمة على طريق النهوض السنة التي يقررها قول اهلل تعالى‪﴿ :‬لَهُ مُعَقِّبَات مِّن بَي ِ‬
‫ن‬

‫ال يُغَِّيرُ مَا بِقَوم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَإِذَا أَرَادَ اهللُّ‬
‫يَدَي ِه َومِن خَلفِهِ يَح َفظُونَهُ مِن أَمرِ اهللِّ إِنَّ اهللَّ َ‬
‫َد لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِ ِه مِن وَال﴾ (الرعد ‪ ،‬آية ‪.)11 :‬‬
‫بِقَوم سُوءًا فَالَ مَر َّ‬

‫إن التغيير الذي قاده النبي صلى اهلل عليه وسلم بمنهج اهلل تعالى بدأ بالنفس البشرية‪ ،‬وصنع‬
‫منها العظماء‪ ،‬ثم انطلق بهم ليحدث أعظم تغيير في شكل المجتمع حيث نقل الناس من الظلمات‬
‫إلى النور‪ ،‬ومن الجهل إلى العلم‪ ،‬ومن التخلف إلى التقدم‪ ،‬وأنشأ بهم أروع حضارة عرفتها‬
‫الحياة‪ ،‬لقد قام النبي صلى اهلل عليه وسلم ـ بمنهجه القرآني ـ بتغيير في العقائد واألفكار‬
‫والتصور‪ ،‬وعالم المشاعر واألخالق في نفوس أصحابه‪ ،‬فتغير ما حوله وفي دنيا الناس‪،‬‬
‫فتغيرت المدينة ثم مكة ثم الجزيرة ثم بالد فارس والروم في حركة عالمية تسبح وتذكر خالقها‬
‫بالغدو واآلصال‪.‬‬
‫كان اهتمام المنهج القرآني في العهد المكي بجانب العقيدة‪ ،‬فكان يعرضها بشتى األساليب‪،‬‬
‫فغمرت قلوبهم معاني اإليمان وحدث لهم تحول عظيم‪ ،‬قال تبارك وتعالى موضحاً ذلك‬
‫االرتقاء العظيم‪﴿ :‬أَ َو مَن كَانَ مَيتًا فَأَحيَينَاهُ وَ َ‬
‫جعَلنَا لَهُ نُورًا يَمشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن َّمثَلُهُ فِي‬

‫ن لِلكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ﴾ (األنعام ‪ ،‬آية ‪.)122 :‬‬


‫الظُّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِج مِّنهَا كَذَلِكَ زُيِّ َ‬

‫حقاً أنه تصوير رائع عجيب تقف األقالم حائرة في وصفه‪ ،‬وكذلك األسلوب اإلسالمي في كل‬
‫حين تنهل منه األلباب وتصدر عنه األساليب‪ ،‬وتعجز عن إيفائه حقه في التعبير‪ ،‬من الموت‬

‫‪ 1‬الخصائص العامة باإلسالم‪ ،‬يوسف القرضاوي‪ ،‬ص‪.168 :‬‬

‫‪41‬‬
‫إلى الحياة‪ ،‬ومن الظلمات إلى النور‪ ،‬هل يستويان مثالً؟ مسافة هائلة ونقلة عظيمة ال يعرف‬
‫عظمتها ويدرك مقدارها إال من تغرس في حالهم في ضوء هذا البيان القرآني المعجز‪.1‬‬
‫لقد جاء القرآن الكريم لترسيخ العقيدة الصحيحة‪ ،‬وتثبيتها في قلوب المؤمنين وإيضاحها للناس‬
‫أجمعين‪ ،‬وذلك ببيان توحيد الربوبية وتوحيد األلوهية‪ ،‬وتوحيد األسماء والصفات‪ ،‬واإليمان‬
‫بكل ما أخبر اهلل به من المالئكة‪ ،‬والكتاب والنبيين‪ ،‬والقدر خيره وشره واليوم اآلخر وإثبات‬
‫الرسالة للرسل ـ عليهم لسالم ـ واإليمان بكل ما أخبروا به‪.2‬‬
‫فقد عراف القرآن المكي الناس من هو اإلله الذي يجب أن يعبدوه‪ ،‬وكان النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يربيهم على تلك اآليات العظيمة‪ ،‬فقد حرص صلى اهلل عليه وسلم منذ اليوم األول على‬
‫أن يعطي الناس التصور الصحيح عن ربهم‪ ،‬وعن حقه عليهم مدركاً‪ :‬أن هذا التصور سيورث‬
‫التصديق واليقين عند من صفت نفوسهم واستقامت فطرتهم‪.3‬‬
‫وركز القرآنُ الكريم المكي على اليوم اآلخر غاية التركيز‪ ،‬فَقلَّ أن توجد سورة مكية لم يذكر‬
‫َّ‬
‫فيها بعض أحوال يوم القيامة وأحوال المنعمين‪ ،‬وأحوال المعذبين‪ ،‬وكيفية حشر الناس‬
‫ومحاسبتهم حتى لكأن اإلنسان يرى يوم القيامة رؤي العين‪ ،‬قال تعالى‪﴿:‬وَمَا قَدَرُوا اهللََّ ح َّ‬
‫َق‬

‫جمِيعًا قَبضَتُ ُه يَو َم القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطوِيَّات بِ َيمِينِ ِه سُبحَانَ ُه وَتَعَالَى عَمَّا‬
‫ض َ‬
‫قَدرِهِ وَاألَر ُ‬
‫خ فِيهِ‬
‫ُم نُفِ َ‬
‫ِال مَن شَاء اهللَُّ ث َّ‬
‫ق مَن فِي السَّمَاوَاتِ َومَن فِي األَرضِ إ َّ‬
‫خ فِي الصُّو ِر فَصَعِ َ‬
‫يُشرِكُونَ * َونُفِ َ‬
‫ن‬
‫ظرُونَ * وَأَشرَقَتِ األَرضُ ِبنُو ِر رَِّبهَا وَوُضِ َع الكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّي َ‬
‫أُخرَى فَإِذَا هُم قِيَام يَن ُ‬
‫ُل نَفس مَّا عَمِلَت وَ ُه َو أَعلَمُ بِمَا يَفعَلُونَ‬
‫ال يُظلَمُونَ * َووُفِّيَت ك ُّ‬
‫َق وَهُم َ‬
‫ي بَينَهُم بِالح ِّ‬
‫وَالشُّهَدَاء وَقُضِ َ‬
‫ق الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّ َم زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُ ِتحَت أَبوَابُهَا وَقَالَ لَهُم خَزَ َنتُهَا أَلَم يَأتِكُم‬
‫* وَسِي َ‬
‫ن عَلَيكُم آيَاتِ رَبِّكُم وَيُنذِرُونَكُم لِقَاء يَو ِمكُم هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِن حَقَّت كَلِمَةُ العَذَابِ‬
‫رُسُل مِّنكُم يَتلُو َ‬
‫ق الَّذِينَ اتَّقَوا‬
‫س مَثوَى ال ُمتَكَبِّرِينَ * وَسِي َ‬
‫ن فِيهَا فَبِئ َ‬
‫عَلَى الكَافِرِينَ * قِي َل ادخُلُوا أَبوَابَ جَهَنَّ َم خَالِدِي َ‬
‫رَبَّهُم إِلَى الجَنَّ ِة زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُ ِتحَت أَبوَابُهَا وَقَالَ لَهُم خَزَنَُتهَا سَالَم عَلَيكُم طِبتُم‬

‫‪ 1‬االنحرافات العقدية والعلمية‪ ،‬علي الزهراني (‪.)26 ،25 / 1‬‬


‫‪ 2‬أهمية الجهاد في نشر الدعوة لعلي العلياني‪ ،‬ص‪.125 :‬‬
‫‪ 3‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)125 /1‬‬

‫‪42‬‬
‫ث نَشَاء‬
‫َوأُ مِنَ الجَنَّةِ حَي ُ‬
‫فَادخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الحَمدُ هللَِّ الَّذِي صَدَقَنَا وَعدَهُ وَأَورَ َثنَا األَرضَ َنتَب َّ‬
‫ي بَي َنهُم‬
‫ن ِبحَمدِ رَبِّهِم وَقُضِ َ‬
‫فَنِع َم أَجرُ العَامِلِينَ * وَتَرَى المَالَئِكَ َة حَافِّينَ مِن حَو ِل العَرشِ يُسَِّبحُو َ‬
‫َب العَالَمِينَ﴾ (الزمر‪ ،‬اآليات ‪.)75-67 :‬‬
‫َق وَقِي َل الحَمدُ هللَِّ ر ِّ‬
‫بِالح ِّ‬

‫ـ وقد جاءت اآليات الكريمة مبينة واصفة للجنة فأثر ذلك في نفوس الصحابة أياما تأثير‪ ،‬ف ِم َّما‬
‫جاء في وصف الجنة‪ :‬أنها ال مثيل لها‪ ،‬وأن لها أبواباً‪ ،‬وفيها درجات وتجري من تحتها‬
‫األنهار‪ ،‬وفيها عيون وقصور وخيام وفيها أشجار متنوعة‪ ،‬كسدرة المنتهى‪ ،‬وشجرة طوبى‪،‬‬
‫وتحدث القرآن الكريم عن نعيم أهلها وطعامهم وشرابهم وخمرهم وآنيتهم ولباسهم وحلياهم‬
‫وفرشهم وخدمهم وأحاديثهم ونسائهم‪ ،‬وعن أفضل ما يُعطاه أهلها‪ ،‬وعن آخر دعواهم‪ ،‬بحيث‬
‫أصبح الوصف القرآني للجنة مهيمناً على جوارح وأحاسيس‪ ،‬وأذهان وقلوب المسلمين‪.1‬‬
‫ـ وكان الصحابة يخافون اهلل تعالى ويخشونه ويرجونه‪ ،‬وكان لتربية الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم أثر في نفوسهم عظيم‪ ،‬وكان المنهج القرآني الذي سار عليه رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يفعل األفاعيل في نفوس الصحابة‪ ،‬ألن القرآن الكريم وصف أهوال يوم القيامة‪،‬‬
‫ومعالمها من قبض األرض ودكها وطي السماء‪ ،‬ونسف الجبال‪ ،‬وتفجير البحار‪ ،‬وتسجيرها‬
‫وصور القرآن‬
‫َّ‬ ‫ومور السماء وانفطارها وتكوير الشمس‪ ،‬وخسوف القمر‪ ،‬وتناثر النجوم‪،‬‬
‫الكريم حال الكفار وذلتهم وهوانهم وحسرتهم‪ ،‬ويأسهم وإحباط أعمالهم‪ ،‬وتخاصم العابدين‬
‫والمعبودين‪ ،‬وتخاصم األتباع وقادة الضاللة‪ ،‬وتخاصم الضعفاء والسادة‪ ،‬وتخاصم الكافر‬
‫وقرينه الشيطان‪ ،‬ومخاصمة الكافر أعضاءه‪ ،‬وتخاصم الروح والجسد‪ ،‬وتحدَّث القرآن الكريم‬
‫عن الشفاعة وبيَّن شروطها‪ ،‬والمقبول منها والمرفوض‪ ،‬والمراد بالحساب والجزاء‪ ،‬وعن‬
‫مشهد الحساب‪ ،‬وهل يسأل الكفار ولماذا يسألون‪ ،‬وتحدث القرآن الكريم عن االقتصاص في‬
‫المظالم بين الخلق‪ ،‬وكيف يكون االقتصاص في يوم القيامة‪ ،‬وبيان المولى عز وجل في القرآن‬
‫الكريم عظم شأن الدماء‪ ،‬وبيان‪ :‬أن هناك يوم القيامة توضع الموازين التي توزن بها األعمال‪،‬‬
‫وأخبر النبي صلى اهلل عليه وسلم عن الحوض ومن الذين يردون عليه‪ ،‬والذين يُذادون عنه‪،‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية (‪.)129 /1‬‬

‫‪43‬‬
‫وتحدث القرآن الكريم عن حشر الكفار إلى النار‪ ،‬ومرور المؤمنين والمنافقين على الصراط‪،‬‬
‫وخالص المؤمنين وحدهم‪.1‬‬
‫ـ واهتم القرآن الكريم في الفترة المكية بقضية القضاء والقدر‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬إِنَّا ك َّ‬
‫ُل شَيء خَلَقنَاهُ‬

‫بِقَدَر﴾ (القمر‪ ،‬آية ‪.)49 :‬‬

‫وكان صلى اهلل عليه وسلم يغرس في نفوس الصحابة مفهوم القضاء والقدر واستمر رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم في تربية أصحابه وتعليمهم أركان اإليمان الستة‪ ،‬وصحح عندهم كثيراً‬
‫من المفاهيم والتصورات واالعتقادات عن اإلنسان‪ ،‬والحياة والكون‪ ،‬والعالقة بينهما‪ ،‬ليسير‬
‫المسلم عن نور من اهلل‪ ،‬وي درك هدف وجوده في الحياة ويحقق ما أراد اهلل منه غاية التحقيق‬
‫ويتحرر من الوهم والخرافات‪.2‬‬
‫ـ وكان البناء التعبدي مبني على تزكية أرواح الصحابة بأنواع العبادات‪ ،‬كالصالة وتالوة‬
‫القرآن‪ ،‬وذكر اهلل تعالى‪ ،‬والتسبيح له سبحانه وكل أنواع العبادات المفروضة والعبادات‬
‫بمعناها الواسع الذي يشمل كل عمل يعمله اإلنسان أو يتركه بل كل شعور يقبل عليه اإلنسان‬
‫تقرباً إلى اهلل تعالى‪ ،‬بل يدخل فيها كل شعور يطرده اإلنسان عن نفسه تقرباً به إلى اهلل تعالى‬
‫مادامت نية المتعبد بهذا العمل هي إرضاء اهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬فكل األمور مع نية التقرب إلى‬
‫اهلل تعالى سبحانه وتعالى عبادة يثاب صاحبها‪ ،‬وتربي روحه تربية حسنة‪.3‬‬
‫وكانت تربية رسول اهلل ألصحابه شاملة ألنها مستمدة من القرآن الكريم الذي خاطب اإلنسان‬
‫ككل يتكون من الروح‪ ،‬والجسد والعقل‪ ،‬فقد اهتمت التربية النبوية بتربية الصحابي على تنمية‬
‫قدرته في ال نظر والتفكر والتدبر‪ ،‬ألن ذلك هو الذي يؤهله لحمل أعباء الدعوة إلى اهلل‪ ،‬وهذا‬
‫مطلب قرآني أرشدنا إليه ربنا‪.‬‬
‫ب﴾ (ص‪ ،‬آية ‪.)29 :‬‬
‫ـ قال تعالى‪﴿ :‬كِتَاب أَنزَلنَاهُ إِلَيكَ مُبَارَك لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِ َيتَذَكَّ َر أُولُوا األَلبَا ِ‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية (‪.)136 /1‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)143 /1‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪.)160 /1‬‬

‫‪44‬‬
‫فالعقل نعمة من اهلل على اإلنسان يتمكن بها من قبول العلم‪ ،‬واستيعابه ولذلك وضع القرآن‬
‫الكريم منهجاً لتربية العقل ومن أهم نقاط هذا المنهج‪ ،‬تجريد العقل من المسلمات المبنية على‬
‫الظن والتخمين‪ ،‬أو التبعية والتقليد‪ ،‬فقد حذر القرآن الكريم من ذلك في اآلية الكريمة التالية قال‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬ومَا لَهُم بِ ِه مِن عِلم إِن يَتَّبِعُونَ إِالَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ الَ يُغنِي مِنَ الحَقِّ شَيئًا﴾ (النجم ‪ ،‬آية ‪:‬‬

‫‪.)28‬‬

‫ــ وألزم العقل بالتحري والتثبيت‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُم فَاسِق بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَن‬

‫تُصِيبُوا قَومًا ِبجَهَالَة فَتُصبِحُوا عَلَى مَا فَعَلتُم نَادِمِينَ﴾ (الحجرات ‪ ،‬آية ‪.)6 :‬‬

‫ــ دعوة العقل إلى التدبر والتأمل في نواميس الكون‪ ،‬قال اهلل تعالى‪ " :‬وَمَا خَلَقنَا السَّمَاوَاتِ‬
‫ض وَمَا بَي َنهُمَا إِالَّ بِالحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ آلتِيَة فَاصفَحِ الصَّفحَ الجَمِيلَ" (الحجر ‪ ،‬آية ‪.)85 :‬‬
‫وَاألَر َ‬
‫ــ دعوة العقل إلى التأمل في حكمة ما شرع اهلل لعباده من عبادات ومعامالت‪ ،‬وأخالق‪،‬‬
‫وآداب‪ ،‬وأسلوب حياة كامل‪ ،‬في السلم والحرب‪ ،‬في اإلقامة والسفر‪ ،‬ألن ذلك ينضج العقل‪،‬‬
‫وينميه وبتعرفه على تلك الحكم يعطيه أحسن الفرص‪ ،‬ليطبق الشرع الرباني في حياته‪ ،‬وال‬
‫يبغي عنه حوالً‪ ،‬لما فيه من السكينة والطمأنينة‪ ،‬والسعادة للبشرية‪ ،‬وألن اهلل ـ سبحانه وتعالى ـ‬
‫إنما شرع ما شرع لذلك‪.‬‬
‫ــ دعوة العقل إلى النظر إلى سنة اهلل في الناس عبر التاريخ البشري ليتعظ الناظر في تاريخ‬
‫اآلباء واألجداد واألسالف ويتأمل في سنن اهلل في األمم والشعوب والدول‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬أَوَلَم‬

‫ض‬
‫ف كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَانُوا أَشَدَّ مِنهُم قُوَّةً وَأَثَارُوا األَر َ‬
‫ظرُوا كَي َ‬
‫ض فَيَن ُ‬
‫يَسِيرُوا فِي األَر ِ‬
‫ت فَمَا كَانَ اهللَُّ لِيَظلِ َمهُم وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُم‬
‫وَعَمَرُوهَا أَكثَ َر مِمَّا عَ َمرُوهَا َوجَاءتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّنَا ِ‬
‫يَظلِمُونَ﴾ (الروم ‪ ،‬آية ‪.)9 :‬‬

‫‪45‬‬
‫ــ وحرص النبي صلى اهلل عليه وسلم على تربية أصحابه جسدياً‪ ،‬واستمد أصول تلك التربية‬
‫من القرآن الكريم‪ ،‬بحيث يؤدي الجسم وظيفته‪ ،‬التي خلق لها دون إسراف أو تقطير‪ ،‬ودون‬
‫محاباة لطاقة من طاقاته على حساب طاقة أخرى‪.1‬‬
‫لقد ربى النبي صلى اهلل عليه وسلم صحابته على المنهج الكريم‪ ،‬منهج تزكية األرواح وتنوير‬
‫العقول‪ ،‬والمحافظة على األجساد وتقويتها‪ ،‬إلعداد الشخصية الربانية المتوازنة‪.‬‬
‫ال‬
‫ولقد نجحت تربيته صلى اهلل عليه وسلم في تحقيق أهدافها المرسومة وإعداد أفراد األمة رجا ً‬
‫ونساءً لتبليغ رساالت اهلل بين الناس من خالل دولة العدالة والمساواة والحرية والقانون‪،‬‬
‫وحقوق اإلنسان‪ ،‬والكرامة التي تم تأسيسها على أسس متينة وقيم راسخة‪ ،‬وعقيدة صحيحة‪،‬‬
‫وأخالق حميدة بالمدينة‪.‬‬
‫ولقد اهتم المنهج الرباني الذي سار عليه رسول اهلل باألخالق الرفيعة‪ ،‬فالعقيدة الصحيحة ال‬
‫تكون بغير خلق‪ ،‬وقد ربى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم صحابته على مكارم األخالق‪،‬‬
‫بأساليب متنوعة‪ ،‬وكان صلى اهلل عليه وسلم يتلو عليهم ما ينزل من قرآن فإذا سمعوه وتدبروه‬
‫عملوا بتوجيهاته‪ ،‬والمتدبر للقرآن الكريم يجده مليئاً بالحث على مكارم األخالق وعلى تنقية‬
‫الروح وتصفيتها من كل ما يعوق سيرها إلى اهلل تعالى‪ ،‬ورسول الهدى صلى اهلل عليه وسلم‬
‫القدوة الكاملة والمربي الناصح لألمة كان على خلق عظيم‪.2‬‬
‫ك لَعَلى خُلُق عَظِيم﴾ (القلم ‪ ،‬آية ‪ ،)4 :‬ومعنى اآلية واضح‪ ،‬أي‪ :‬ما كان‬
‫ــ قال تعالى‪﴿ :‬وَإِنَّ َ‬

‫يأمر به من أمر اهلل وينهي عنه من نهي اهلل‪ ،‬والمعنى‪ :‬إنك على الخلق الذي آثرك اهلل به في‬
‫القرآن‪.3‬‬
‫وعن عائشة رضي اهلل عنها عندما سئلت عن خلق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬قالت‪" :‬إن‬
‫خلق النبي صلى اهلل عليه وسلم كان القرآن"‪.4‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية (‪.)167 ،166 / 1‬‬


‫‪ 2‬أهمية الجهاد في نشر الدعوة‪ ،‬ص‪.65 ،64 :‬‬
‫‪ 3‬تهذيب مدارج السالكين‪ ،‬عبد المنعم العربي (‪.)653 / 2‬‬
‫‪4‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.746 :‬‬

‫‪46‬‬
‫وقد جمع اهلل لنبينا مكارم األخالق في قوله تعالى‪﴿ :‬خُ ِذ العَف َو وَأمُر بِالعُر ِ‬
‫ف وَأَعرِض عَنِ‬

‫الجَاهِلِينَ﴾ (األعراف ‪ ،‬آية ‪.)199 :‬‬

‫قال مجاهد في معنى اآلية‪ :‬يعني‪ :‬خذ العفو من أخالق الناس وأعمالهم من غير تخصيص‪ ،‬مثل‬
‫قبول األعذار والعفو والمساهلة‪ ،‬وترك االستقصاء في البحث والتفتيش عن حقائق مواطنهم‪.‬‬
‫لقد سار النبي صلى اهلل عليه وسلم على المنهج القرآني في تربية أصحابه على األخالق‬
‫الكريمة‪ ،‬وكانت األخالق تعرض مع العبادة‪ ،‬والعقائد في وقت واحد‪ ،‬ألن العالقة بين األخالق‬
‫والعقيدة واضحة في كتاب اهلل تعالى‪ ،‬وقد بين سبحانه وتعالى لرسوله صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وللمسلمين األخالقيات اإليمانية التي ينبغي أن يكون عليها المؤمنون بـ"ال إله إال اهلل"‪،‬‬
‫واألخالقيات الجاهلية التي ينبغي أن ينبذها المؤمنون‪ ،‬والحقيقة‪ :‬أن التنديد بأخالقيات الجاهلية‬
‫قد بدأ منذ اللحظة األولى مع التنديد بفساد تصوراتهم االعتقادية‪ ،‬واستمر معه حتى النهاية‪.‬‬
‫أن األخالق ليست شيئاً ثانوياً في اإلسالم‪ ،‬وليست محصورة في إطار معين من نطق السلوك‬
‫البشري‪ ،‬إنما هي ركيزة من ركائزه‪ ،‬كما أنها شاملة للسلوك البشري كله‪ ،‬كما أن المظاهر‬
‫السلوكية كلها ذات الصبغة الخلقية الواضحة هي الترجمة العملية لالعتقاد‪ ،‬واإليمان الصحيح‬
‫ألن اإليمان ليس مشاعر مكنونة في داخل الضمير‪ ،‬فحسب إنما هو عمل سلوكي ظاهر كذلك‪،‬‬
‫بحيث يحق لنا حين ال نرى ذلك السلوك النظري أو حين نرى عكسه أن نتساءل أين اإليمان‬
‫إذن؟ وما قيمته إذا لم يتحول إلى سلوك‪.1‬‬
‫ولذلك نجد القرآن الكريم يربط األخالق بالعقيدة ربطاً قوياً‪ ،‬واألمثلة على ذلك كثيرة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫ــ قوله تعالى‪﴿ :‬قَد أَفلَحَ المُؤ ِمنُونَ * الَّذِي َ‬
‫ن هُم فِي صَالَتِهِم خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُم عَنِ اللَّغوِ‬

‫ن هُم لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُم لِفُرُوجِهِم حَافِظُونَ * إِالَّ عَلَى أَزوَاجِهِم أو مَا‬
‫مُعرِضُونَ * وَالَّذِي َ‬
‫ن ابتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ * وَالَّذِينَ هُم‬
‫مَلَكَت أَيمَا ُنهُم فَإِنَّهُم غَيرُ مَلُومِينَ * فَمَ ِ‬
‫ك هُمُ الوَارِثُونَ * الَّذِينَ‬
‫ن هُم عَلَى صَلَوَاتِهِم ُيحَافِظُونَ * أُوَلئِ َ‬
‫ألَِمَانَا ِتهِم وَعَه ِدهِم رَاعُونَ * وَالَّذِي َ‬

‫‪ 1‬دراسات قرآنية لمحمد قطب‪ ،‬ص‪.130 :‬‬

‫‪47‬‬
‫س هُم فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (المؤمنون ‪ ،‬آية ‪ 1 :‬ـ ‪ ،)11‬فالسورة تبدأ بتقرير الفالح‬
‫ن الفِردَو َ‬
‫يَرِثُو َ‬

‫للمؤمنين بهذا التوكيد ﴿قَد أَفلَحَ المُؤ ِمنُونَ﴾ ثم تصف هؤالء المؤمنون بذلك الوصف المطول‬

‫المفصل‪ ،‬الذي يعني بإبراز الجانب الخلقي ألولئك المؤمنين‪ ،‬موحياً إيحاءً واضحاً أن هذه‬
‫األخالقيات ـ من جهة ـ هي ثمرة اإليمان‪ ،‬وأن اإليمان ـ من جهة أخرى ـ هو سلوك ملموس‬
‫يترجم عن العقيدة المكنونة إنهم بادىء ذي بدء خاشعون في صالتهم‪ ،‬فذلك أوال مظهر للمؤمن‬
‫ال‬
‫الصادق‪ :‬أن تكون صالته ـ وهي اللحظة التي يقف فيها متعبداً لربه ذاكراً له في قلبه‪ ،‬متص ً‬
‫به بروحه ـ صالة خاشعة بما ينبئ عن صدق الصلة باهلل‪ ،‬التي يرتفع نبضها وحرارتها في‬
‫أثناء الصالة‪ ،‬ثم تثني السورة بصفة سلوكية أخرى ذات داللة‪ ،‬هي‪ :‬أنهم عن اللغو معرضون‪،‬‬
‫فاللغو ال ينبىء عن نفس جادة‪ ،‬واإليمان الصحيح يورث النفس الجد بما يشعرها من ثقل‬
‫التكاليف‪ ،‬وحديتها والجد ليس تقطيباً دائماً وال عبوساً‪ ،‬ولكن اللغو ـ من جانب آخر ـ ال يستقيم‬
‫مع جدية الشعور بعظم األمانة التي يحملها اإلنسان أمام خالقه‪ ،‬ثم إن هؤالء المؤمنين البد أن‬
‫تكون في قلوبهم الحساسية لحق اهلل في أموالهم وهو الزكاة‪ ،‬والبد أن يكونوا ملتزمين بأوامر‬
‫اهلل في عالقات الجنس‪ ،‬فال يتعدون حدود اهلل‪ ،‬وملتزمين بأوامره في عالقتهم االجتماعية‪،‬‬
‫فيحفظون األمانة‪ ،‬ويرعون العهد‪ ،‬وبهذا نفهم فهم الصحابة لألخالق فهي ثمرة طبيعية للعقيدة‬
‫الصحيحة‪ ،‬وكذلك العبادة الحية الخاشعة هلل‪ ،‬هكذا تعلموا من القرآن الكريم ومن هدي حبيبهم‬
‫الصادق األمين صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫إن األخالق في التربية النبوية شيء شامل‪ ،‬يعمُّ كل تصرفات اإلنسان‪ ،‬وكل أحاسيسه‬
‫ومشاعره وتفكيره‪ ،‬فالصالة لها أخالق هي الخشوع‪ ،‬والكالم له أخالق هي اإلعراض عن‬
‫اللغو‪ ،‬والجنس له أخالق هي االلتزام بحدود اهلل وحرماته‪ ،‬والتعامل مع اآلخرين له أخالق هي‬
‫التوسط بين التقتير واإلسراف‪ ،‬والحياة الجماعية لها أخالق هي أن يكون األمر شورى بين‬
‫الناس‪ ،‬والغضب له أخالق هي العفو والصفح ووقوع العدوان من األعداء تتبعه أخالق هي‬

‫‪48‬‬
‫االنتصار أي ـ رد العدوان ـ وهكذا ال يوجد شيء واحد في حياة المسلم ليست له أخالق تكيفه‬
‫وال شيء واحد ليست له داللة أخالقية مصاحبة‪.‬‬
‫هذا أمر‪ ،‬واألمر اآلخر ـ وهو األهم ـ أن األخالق في المفهوم القرآني هي هلل وليست للبشر وال‬
‫ألحد غير اهلل فالصدق هلل‪ ،‬والوفاء بالعهد هلل‪ ،‬واتقاء المحرمات في عالقات الجنس هلل‪ ،‬والعفو‬
‫والصفح هلل‪ ،‬واالنتصار من الظلم هلل‪ ،‬وإتقان العمل هلل‪ ،‬كلها عبادة هلل تقدم هلل وحده‪ ،‬خشية هلل‪،‬‬
‫وتقوى وتطلعاً إلى رضاه‪ ،‬إنها ليست صفقة بشرية للكسب والخسارة إنما هي صفقة مع اهلل‪.1‬‬
‫لقد أولى المنهاج النبوي الكريم ـ المستمد من كتاب رب العالمين ـ األخالق أهمية كبيرة‪ ،‬وحث‬
‫على التمسك بفضائلها بمختلف األساليب‪ ،‬وحذر من ارتكاب مرذولها بشتى الطرق ونظرة‬
‫القرآن إلى األخالق منبثقة من نظرته إلى الكون والحياة واإلنسان‪ ،‬فإذا كانت العقائد تشكل‬
‫أركان الصرح اإلسالمي‪ ،‬فإن التشريعات تكون تقسيمات حجراته وممراته ومداخله‪ ،‬واألخالق‬
‫تضفي البهاء والرونق والجمال على الصرح المكتمل‪ ،‬وتصبغه الصبغة الربانية المتميزة‪ ،‬وإذا‬
‫كانت العقيدة اإلسالمية تشكل جذور الدوحة اإلسالمية وجذعها‪ ،‬فإن الشريعة تمثل أغصانها‬
‫وتشعباتها‪ ،‬واألخرى تكون ثمارها اليانعة‪ ،‬وظاللها الوارفة‪ ،‬ومنظرها البهيج النضير‪.2‬‬
‫لقد استخدم المنهاج النبوي أساليب التأثير واالستجابة وااللتزام في تربيته للصحابة‪ ،‬لكي يحول‬
‫الخلق من دائرة النظريات إلى صميم الواقع التنفيذي والعمل التطبيقي‪ ،‬سواء كانت اعتقادية‪،‬‬
‫كمراقبة اهلل تعالى‪ ،‬ورجاء اآلخرة‪ ،‬أو عبادية كالشعائر التي تعمل على تربية الضمائر‪ ،‬وصقل‬
‫اإلرادات‪ ،‬وتزكية النفس ومع تطور الدعوة اإلسالمية‪ ،‬ووصولها إلى الدولة أصبحت هناك‬
‫حوافز إلزامية تأتي من خارج النفس متمثلة في‪:‬‬
‫ـ التشريع‪:‬‬
‫الذي وُضع لحماية القيم الخلقية‪ ،‬كشرائع الحدود والقصاص‪ ،‬التي تحمي الفرد والمجتمع من‬
‫رذائل البغي على الغير‪ :‬بالقتل أو السرقة‪ ،‬أو انتهاك األعراض بالزنى والقذف أو البغي على‬
‫النفس‪ ،‬وإهدار العقل بالخمر والمسكرات المختلفة‪.‬‬

‫‪ 1‬دراسات قرآنية‪ ،‬محمد قطب‪ ،‬ص‪.139 :‬‬


‫‪ 2‬المنهاج القرآني في التشريع‪ ،‬عبد الستار فتح اهلل سعيد‪ ،‬ص‪.245 :‬‬

‫‪49‬‬
‫ـ سلطة المجتمع‪:‬‬
‫التي تقوم على أساس ما أوجبه اهلل تعالى من األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والتناصح‬
‫بين المؤمنين‪ ،‬ومسؤولية بعضهم على بعض‪ ،‬وقد جعل اهلل تعالى هذه المسؤولية قرينة الزكاة‬
‫ضهُم َأوِليَاء‬ ‫والصالة وطاعة اهلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم ‪﴿:‬وَالمُؤ ِمنُو َ‬
‫ن وَالمُؤ ِمنَاتُ بَع ُ‬

‫ن اهللَّ‬
‫ن الصَّالَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَ ُيطِيعُو َ‬
‫ن عَنِ المُنكَ ِر وَيُقِيمُو َ‬
‫ن بِالمَعرُوفِ وَيَنهَو َ‬
‫بَعض يَأمُرُو َ‬
‫حمُ ُهمُ اهللُّ إِنَّ اهللَّ عَزِيز حَكِيم﴾ (التوبة‪ ،‬آية ‪.)71 :‬‬
‫وَرَسُولَ ُه أُولَـئِكَ سَيَر َ‬

‫ـ سلطة الدولة‪:‬‬
‫التي وجب قيامها‪ ،‬وأقيمت على أسس أخالقية وطيدة‪ ،‬ولزمها أن تقوم على رعاية هذه‬
‫األخالق‪ ،‬وبثَّها في سائر أفرادها ومؤسساتها‪ ،‬وتجعلها من مهام وجودها ومبرراته‪.1‬‬
‫وبذلك اجتمع للخلق اإلسالمي أطراف الكمال كله وأصبح للمجتمع األخالقي نظام واقعي‬
‫مثالي‪ ،‬بسبب االلتزام بالمنهج الرباني‪.‬‬
‫هذه بعض الخطوط في البناء العقائدي والروحي واألخالقي في الفترة المكية‪ ،‬ولقد آتت هذه‬
‫التربية أكلها‪ ،‬فقد كان ما يزيد على العشرين من الصحابة الكرام من الخمسين األوائل السابقين‬
‫إلى اإلسالم‪ ،‬يمارسون مسؤوليات قيادية بعد توسع الدعوة‪ ،‬وانطالقها في عهد النبي صلى اهلل‬
‫عليه وسلم آخرون معظمهم استشهدوا أو ماتوا على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فكان‬
‫في الرعيل األول أعظم شخصيات األمة على اإلطالق‪ ،‬كان فيهم تسعة من العشرة المبشرين‬
‫بالجنة‪ ،‬وهم أفضل األمة بعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ومنهم نماذج أسهمت في صناعة‬
‫الحضارة العظيمة بتضحياتهم الجسيمة‪ ،‬كعمار بن ياسر‪ ،‬وعبد اهلل بن مسعود‪ ،‬وأبي ذر‪،‬‬
‫وجعفر بن أبي طالب‪ ،‬وغيرهم رضي اهلل عنهم‪ ،‬وكان من هذا الرعيل أعظم نساء األمة‬
‫خديجة رضي اهلل عنها‪ ،‬ونماذج عالية أخرى‪ ،‬مثل أم الفضل بنت الحارث‪ ،‬وأسماء ذات‬
‫النطاقين‪ ،‬وأسماء بنت عميس وغيرهن‪.‬‬

‫‪ 1‬المنهاج القرآني في التشريع‪ ،‬ص‪.433 :‬‬

‫‪50‬‬
‫لقد ُأتيح للرعيل األول أكبر قدر من التربية العقدية والروحية والعقلية واألخالقية على يد مربي‬
‫البشرية األعظم محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فكانوا هم حداة الركب وهداة األمة‪ ،1‬فقد كان‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه ولم يزكيهم ويربيهم وينقيهم أوضار الجاهلية‪ ،‬فإذا كان السعيد الذي‬
‫فاز بفضل الصحبة من رأى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ولو مرة واحدة في حياته‪ ،‬وآمن‬
‫به‪ ،‬فكيف بمن كان الرفيق اليومي له‪ ،‬ويتلقى منه‪ ،‬ويعبق من نوره وتغذى من كالمه‪ ،‬ويتربى‬
‫على عينه‪.2‬‬
‫جـ ـ سنة االبتالء‪:‬‬
‫بعد االعداد العظيم الذي قام به النبي صلى اهلل عليه وسلم لتربية أصحابه وبناء الجماعة‬
‫المسلمة المنظمة األولى على أسس عقدية وتعبدية‪ ،‬خلقية رفيعة المستوى حان موعد إعالن‬
‫ن‬
‫ك مِ َ‬
‫ك ِلمَنِ اتَّبَعَ َ‬
‫جنَاحَ َ‬ ‫الدعوة بنزول قول اهلل تعالى‪﴿ :‬وَأَنذِر عَشِيرَتَ َ‬
‫ك األَقرَبِينَ * وَاخفِض َ‬

‫المُؤمِنِينَ * فَإِن عَصَوكَ فَقُل إِنِّي بَرِيء مِّمَّا تَعمَلُونَ﴾ (الشعراء ‪ ،‬آية ‪ 214 :‬ـ ‪.)216‬‬

‫فجمع قبيلته صلى اهلل عليه وسلم وعشيرته‪ ،‬ودعاهم عالنية إلى اإليمان بإله واحد‪ ،‬وخوفهم من‬
‫وبين لهم مسؤولية كل إنسان عن‬
‫العذاب الشديد‪ ،‬إن عصوه‪ ،‬وأمرهم بإنقاذ أنفسهم من النار‪َّ ،‬‬
‫نفسه‪.3‬‬
‫ك األَقرَبِينَ﴾ صعد النبي صلى‬
‫عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال‪ :‬لما نزلت‪﴿ :‬وَأَنذِر عَشِيرَ َت َ‬

‫اهلل عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي‪« :‬يا بني فهر‪ ،‬يا بني عدي» ـ لبطون قريش ـ حتى‬

‫اجتمعوا‪ ،‬فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج‪ ،‬أرسل رسوالً ينظر ما هو‪ ،‬فجاء أبو لهب‬
‫وقريش فقال‪« :‬أرأيتكم لو أخبرتكم‪ :‬أن خيالء بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟»‬
‫قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬ما جربنا عليك إال صدقاً‪ ،‬قال‪« :‬فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»‪ ،‬فقال أبو‬

‫‪ 1‬التربية القيادية للغضبان (‪.)201 / 1‬‬


‫‪ 2‬رسالة األنبياء‪ ،‬عمر أحمد (‪.)46 / 3‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫لهب‪ :‬تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت‪﴿ :‬تَبَّت يَدَا أَبِي لَهَب وَتَبَّ * مَا أَغنَى عَنهُ مَالُهُ وَمَا‬

‫كَسَبَ﴾ (المسد ‪ ،‬آية ‪ 1 :‬ـ ‪ .)2‬البخاري رقم ‪ ،4971‬مسلم رقم ‪.208‬‬

‫وفي رواية‪" :‬ناداهم بطناً بطناً‪ ،‬ويقول لكل بطن‪« :‬أنقذوا أنفسكم من النار‪ »..‬ثم قال‪« :‬يا‬
‫فاطمة انقذي نفسك من النار‪ ،‬فإني ال أملك لكم من اهلل شيئاً‪ ،‬غير أن لكم رحماً سأبلها‬
‫بباللها»‪.1‬‬
‫كان القرشيون واقعيين عمليين‪ ،‬فلما رأوا محمداً صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهو الصادق األمين ـ‬
‫قد وقف على جبل يرى ما أمامه‪ ،‬وينظر إلى ما وراءه‪ ،‬وهم ما يرون إال ما هو أمامهم‪،‬‬
‫فهداهم إنصافهم‪ ،‬وذكاؤهم إلى تصديقه‪ ،‬فقالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫ولما تمت هذه المرحلة الطبيعية البدائية‪ ،‬وتحققت شهادة المستمعين‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪« :‬فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» وكان ذلك تعريفاً بمقام النبوة‪ ،‬وما ينفرد‬
‫به من علم بالحقائق الغيبية‪ ،‬والعلوم الوهبية‪ ،‬وإنذاراً في حكمة وبالغة ال نظير لهما في تاريخ‬
‫الديانات‪ ،‬والنبوءات‪ ،‬فلم تكن طريق أقصر من هذه الطريق‪ ،‬وأسلوب أوضح من هذا‬
‫األسلوب‪ ،‬فسكت القوم‪.2‬‬
‫ولكن أبا لهب قال‪ :‬تباً لك سائر اليوم أما دعوتنا إال لهذا؟‬
‫وجاءت مرحلة أخرى بعدها‪ ،‬فأصبح يدعو فيها كل من يلتقي به من الناس على اختالف‬
‫قبائلهم‪ ،‬وبلدانهم‪ ،‬ويتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفي الموسم ومواقف الحج‪،‬‬
‫ويدعو من لقيه من حُر وعبد‪ ،‬وقوي وضعيف‪ ،‬وغني وفقير‪ ،‬حين نزول قوله تعالى‪﴿:‬فَاصدَع‬

‫ن مَ َع اهللِّ إِلـهًا آخَ َر‬


‫ك المُستَه ِزئِينَ * الَّذِينَ يَجعَلُو َ‬
‫ن المُشرِكِينَ * إِنَّا كَفَينَا َ‬
‫عِ‬‫بِمَا تُؤمَ ُر وَأَعرِض َ‬
‫ق صَدرُكَ ِبمَا يَقُولُونَ﴾ (الحجر‪ ،‬آية ‪ 94 :‬ـ ‪.)97‬‬
‫فَسَوفَ يَعَل ُمونَ * وَلَقَد نَعَلمُ أَنَّكَ يَضِي ُ‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪ ،4771 :‬وأخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.204 :‬‬
‫‪ 2‬السيرة النبوية ألبي الحسن الندوي‪ ،‬ص‪.138 :‬‬

‫‪52‬‬
‫كانت النتيجة لهذا الصدع هي الصد‪ ،‬واإلعراض والسخرية واإليذاء والتكذيب والكيد المدبر‬
‫المدروس‪ ،‬وقد اشتد الصراع بين النبي صلى اهلل عليه وسلم وصحبه وبين شيوخ الوثنية‬
‫وزعمائها‪ ،‬أصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان‪ ،‬وكان هذا في حد‬
‫ذاته مكسباً عظيماً‪ ،‬ساهم فيه أشد وألد أعدائها‪ ،‬ممن كان يشيع في القبائل قالت السوء عنها‪،‬‬
‫فليس كل الناس يسلمون بدعاوى زعماء الكفر‪ ،‬والشرك‪.‬‬
‫كانت الوسيلة اإلعالمية في ذلك العصر‪ ،‬تناقل الناس لألخبار مشافهة‪ ،‬وسمع القاصي والداني‬
‫بنبوة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬صار هذا الحدث العظيم حديث الناس في المجالس‪،‬‬
‫ونوادي القبائل‪ ،‬وفي بيوت الناس‪.1‬‬
‫وكانت أهم اعتراضات زعماء الشرك موجهة نحو وحدانية اهلل‪ ،‬واإليمان باليوم اآلخر‪،‬‬
‫ورسالة النبي صلى اهلل عليه وسلم والقرآن الكريم الذي أنزل عليه من رب العالمين‪.2‬‬
‫وكان لضعف تأثير النبوءات في جزيرة العرب‪ ،‬وللعصبية لتراث اآلباء واألجداد‪ ،‬وموقف‬
‫أهل الكتاب المساند للوثنية‪ ،‬وسيطرة األعراف والعوائد القبلية‪ ،‬وحرصهم على مصالحهم‬
‫ومكانتهم وتأثيرهم على العرب‪ ،‬سبب في إنكار دعوة اإلسالم في العهد المكي‪.‬‬
‫ولقد تعرض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم والمسلمون‪ ،‬ألشكال وأنواع‪ ،‬وأصناف متعددة من‬
‫االبتالء‪ ،‬كمحاولة قريش إلبعاد أبي طالب عن مناصرة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫وتشويه الدعوة وإيذائه صلى اهلل عليه وسلم وإيذاء أصحابه‪ ،‬وعرض المغريات‪ ،‬والمساومات‬
‫لترك الدعوة‪ ،‬ومطالبته بجعل الصفا ذهباً‪ ،‬واالستعانة باليهود في مجادلة رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬والدعاية اإلعالمية في الموسم ضد الدعوة وشخص الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫والحصار االقتصادي الذي تعرض له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبنو هاشم‪ ،‬وبنوعبد‬
‫المطلب من قبل كفار مكة‪ ،‬واإليذاء الجسدي‪ ،‬وغير ذلك من أنواع االبتالء‪.‬‬
‫واال بتالء مرتبط بالتمكين ارتباطاً وثيقاً‪ ،‬فلقد جرت سنة اهلل أال يُمكن ألمة إال بعد أن تمر‬
‫بمراحل االختيار المختلفة‪ ،‬وإال بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة األحداث فيميز اهلل الخبيث من‬

‫‪ 1‬الغرباء األوالون‪ ،‬سلمان العودة‪ ،‬ص‪.167 :‬‬


‫‪ 2‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)185 /1‬‬

‫‪53‬‬
‫الطيب‪ ،‬وهي سنة جارية على األمة اإلسالمية ال تتخلف‪ ،‬فقد شاء اهلل تعالى أن يبلي المؤمنين‪،‬‬
‫ويختبرهم ليمحص إيمانهم‪ ،‬ثم يكون لهم التمكين في األرض بعد ذلك‪ ،‬ولذلك جاء هذا المعنى‬
‫على لسان اإلمام الشافعي رضي اهلل عنه حين سأله رجل‪ :‬أيهما أفضل للمرء أن يمكان أو‬
‫يبتلى؟ فقال اإلمام الشافعي‪ :‬ال يمكان حتى يبتلى‪ ،‬فإن اهلل تعالى ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى‬
‫وعيسى ومحمداً ـ صلوات اهلل وسالمه عليهم أجمعين ـ فلما صبروا مكنهم فال يظن أحد أن‬
‫يخلص من األلم البتة‪.1‬‬
‫وابتالء المؤمنين قبل التمكين أمر حتمي من أجل التمحيص ليقوم بنيانهم بعد ذلك على تمكان‬
‫ورسوخ‪ ،‬وهذا االبتالء للمؤمنين ابتالء الرحمة‪ ،‬ال ابتالء الغضب‪ ،‬وابتالء االختبار ال مجرد‬
‫االختبار‪.2‬‬
‫إن طريق االبتالء سنة اهلل في الدعوات‪ ،‬كما أنه الطريق إلى الجنة‪ ،‬وقد حُفت الجنة بالمكاره‪،‬‬
‫وحُفت النار بالشهوات‪.3‬‬
‫ولال بتالء حكم كثيرة من أهمها‪ :‬تصفية النفوس وتربية الجماعة المسلمة‪ ،‬و الكشف عن خبايا‬
‫النفوس‪ ،‬واإلعداد الحقيقي لتحمل األمانة‪ ،‬ومعرفة حقيقة النفس ورفع المنزلة والدرجة عند‬
‫اهلل‪ ،‬وتكفير السيئات‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ما يصيب المؤمن من شوكة فما‬
‫فوقها‪ ،‬إال رفعه اهلل بها درجة أو حط عنه بها خطيئة»‪.4‬‬
‫وقد قابل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم االبتالء بسنة األخذ باألسباب وكان يربي أصحابه‬
‫على‪:‬‬
‫ـ التأسي بالسابقين من األنبياء والمرسلين وأتباعهم في تحمل األذى في سبيل اهلل ويضرب لهم‬
‫األمثلة في ذلك‪.‬‬
‫ـ التعلق بما أعده اهلل في الجنة للمؤمنين الصابرين من النعيم‪ ،‬وعدم االغترار بما في أيدي‬
‫الكافرين من زهرة الحياة الدنيا‪.‬‬

‫‪ 1‬الفوائد البن القيم‪ ،‬ص‪.195 :‬‬


‫‪ 2‬التمكين لألمة اإلسالمية‪ ،‬ص‪.235 :‬‬
‫‪3‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.2822 :‬‬
‫‪ 4‬السيرة النبوية للصالبي (‪ 195 /1‬ـ ‪.)197‬‬

‫‪54‬‬
‫ـ التطلع للمستقبل‪ ،‬الذي ينصر اهلل به اإلسالم في هذه الحياة الدنيا‪ ،‬ويذل فيه أهل الكفر‬
‫والعصيان‪ ،‬وثمة أمر آخر كبير‪ ،‬أال وهو أنه صلى اهلل عليه وسلم مع هذه األشياء كلها كان‬
‫يخطط ويستفيد من األسباب المادية المتعددة لرفع األذى والظلم عن أتباعه‪ ،‬وكف المشركين‬
‫عن فتنتهم وإقامة الدولة التي تجاهد في سبيل الدين‪ ،‬وتتيح الفرصة لكل مسلم أن يعبد ربه‬
‫حيث شاء‪ ،‬وتزيل الحواجز والعقبات التي تعترض طريق الدعوة إلى اهلل‪.1‬‬
‫د ـ سنة األخذ باألسباب‪:‬‬
‫إن من أهم السنن في بناء الدول وفي حركة الحياة سنة األخذ باألسباب ولقد تعامل معها رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم في تربية المجتمع وبناء الدولة‪ ،‬كما أن اإليمان بالقدر ال يعارض‬
‫األخذ باألسباب المشروعة‪ ،‬بل األسباب مقدرة أيضاً كالمسببات فمن زعم أن اهلل تعالى قدر‬
‫النتائج والمسببات من غير مقدماتها وأسبابها‪ ،‬فقد ذهل عن حقيقة القدر‪ ،‬فاألسباب مقدرة‬
‫كالمسببات‪ ،‬وحياة الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه كانت قائمة على األخذ باألسباب‬
‫وسيرته تشهد بأنه كان يتخذ كل الوسائل والتدابير وأسباب العمل‪.2‬‬
‫إن من سنن اهلل في كونه وشرعه تحتم علينا األخذ باألسباب كما فعل ذلك أقوى الناس إيماناً‬
‫باهلل وقضائه وقدره وهو رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬لقد قاوم الفقر بالعمل‪ ،‬وقاوم الجهل‬
‫بالعلم‪ ،‬وقاوم المرض بالعالج‪ ،‬وقاوم الكفر والمعاصي بالجهاد‪ ،‬وكان يستعيذ باهلل من الهم‬
‫والحزن‪ ،‬والعجز والكسل‪ ،‬وتعاطي أسباب األكل والشرب‪ ،‬وادخر ألهله قوت سنه‪ ،‬ولم ينظر‬
‫أن ينزل عليه الرزق من السماء‪ ،‬وقال للذي سأله‪ ،‬أيعقل ناقته أم يتركها ويتوكل؟ قال‪:‬‬
‫«أعقلها وتوكل»‪ ،3‬وقال‪« :‬فر من المجذوم فرارك من األسد»‪ ،4‬وما غزواته المظفرة صلى‬
‫اهلل عليه وسلم إال مظهر من مظاهر إرادته العليا التي تجري حسب مشيئة اهلل وقدره‪ ،‬فقد أخذ‬
‫الحذر وأعد الجيوش‪ ،‬وبعث الطالئع والعيون‪ ،‬وظاهر بين درعين‪ ،‬ولبس المغفر على رأسه‪،‬‬
‫وأقعد الرماة على فم الشعب‪ ،‬وخندق حول المدينة وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة‪،‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)228 /1‬‬


‫‪ 2‬اإليمان بالكتب السماوية والرسل والقدر (‪.)599 /2‬‬
‫‪ 3‬رواه ابن حيان بإسناد صحيح عن عمرو بن أمية‪.‬‬
‫‪ 4‬البخاري‪ ،‬ك الطب‪ ،‬باب‪.)5380 /5( 19 :‬‬

‫‪55‬‬
‫وهاجر بنفسه واتخذ أسباب الحيطة في هجرته‪ ،‬أعد الرواحل التي يمتطيها والدليل الذي‬
‫يصحبه وغير ذلك الطريق واختبأ في الغار‪ .1‬وكان إذا سافر في جهاد أو عمرة حمل الزاد‬
‫والمزاد وهو سيد المتوكلين وحركة النبي صلى اهلل عليه وسلم ترجمان وتفسير عملي للقرآن‬
‫الكريم الحافل باآليات التي توجب على المسلمين األخذ باألسباب في شتى مناحي الحياة والعمل‬
‫على استقصاء تلك األسباب للوصول إلى المراد‪ ،‬خاصة في تلك المواقف الصعبة التي تواجه‬
‫األمم واألفراد ومن النماذج القرآنية في هذا الصدد‪.2‬‬
‫ــ قوله تعالى‪﴿ :‬وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا استَطَعتُم مِّن قُوَّة وَمِن رِّبَا ِ‬
‫ط الخَيلِ تُرهِبُونَ بِ ِه عَدوَّ اهللِّ وَعَدُوَّكُم‬

‫ال‬
‫َف إِلَيكُم وَأَنتُم َ‬
‫ال تَعلَمُونَهُ ُم اهللُّ يَعلَمُهُم وَمَا تُن ِفقُوا مِن شَيء فِي سَبِيلِ اهللِّ ُيو َّ‬
‫ن مِن دُو ِنهِم َ‬
‫وَآخَرِي َ‬
‫تُظلَمُونَ﴾ (األنفال ‪ ،‬آية ‪.)60 :‬‬

‫إن اهلل سبحانه وتعالى أمرنا باإلعداد الشامل في قوله تعالى‪﴿ :‬وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا استَطَعتُم مِّن قُوَّة‬

‫ط الخَيلِ﴾ (األنفال ‪ ،‬آية ‪.)60 :‬‬


‫وَمِن رِّبَا ِ‬

‫وإعداد القوة في حقيقته األخذ باألسباب الشاملة‪ ،‬كقوة العقيدة واإليمان وقوة الصف والتالحم‬
‫وقوة السالح والساعد‪ ،‬إن اآلية الكريمة تضع أذهان المسلمين على اإلعداد الكامل المعنوي‬
‫والمادي‪ ،‬والعلمي والفقهي على مستوى األفراد والجماعات ويدخل في طياتها‪ ،‬اإلعداد‬
‫التربوي والسلوكي‪ ،‬واإلعداد المالي‪ ،‬واإلعداد اإلعالمي والسياسي واألمني والعسكري‪.3‬‬
‫إن النبي صلى اهلل عليه وسلم أخذ بسنن اهلل تعالى منذ البعثة حتى وفاته‪ ،‬ولم يفرِّط في أي‬
‫منها‪ ،‬فتعامل مع سنة اهلل في تغيير النفوس‪ ،‬وسنة اهلل في التدافع مع الباطل‪ ،‬وسنة التدرج في‬
‫بناء الجماعة‪ ،‬ثم الدولة‪ ،‬وسنة االبتالء‪ ،‬واستفرغ صلى اهلل عليه وسلم جهده في األخذ‬
‫باألسباب التي توصل للتمكين فكانت هجرتا الحبشة وذهابه للطائف وعرضه للدعوة على‬
‫القبائل‪ ،‬ثم هجرته إلى المدينة‪ ،‬فأقام الدولة وحافظ عليها وسار أصحابه من بعده على نهجه‪،‬‬

‫‪ 1‬عقيدة التوحيد سعاد ميبر‪ ،‬ص‪.212 :‬‬


‫‪ 2‬اإليمان بالكتب السماوية والرسل والقدر (‪.)600 / 2‬‬
‫‪ 3‬فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.214 :‬‬

‫‪56‬‬
‫وتعاملوا مع السنن بوعي وبصيرة‪ ،‬وصنعوا حضارة لم يعرف التاريخ البشري مثلها حتى‬
‫يومنا هذا‪.‬‬
‫إن ح ركة النبي صلى اهلل عليه وسلم في تربية األمة‪ ،‬وإقامة الدولة نور يهتدي‪ ،‬وسنة يقتدي‬
‫بها في البحور المتالطمة‪ ،‬والمناهج المتغايرة‪ ،‬والظالم البهيم‪ ،‬وإنها ليسيرة على من يسَّرها‬
‫اهلل عليه‪.‬‬
‫هـ ـ الطواف على القبائل طلب ًا للنصرة‪:‬‬
‫بعد رجوعه صلى اهلل عليه وسلم من الطائف بدأ يعرض نفسه على القبائل في المواسم‪ ،‬يشرح‬
‫لهم اإلسالم‪ ،‬ويطلب منهم اإليواء والنصرة‪ ،‬حتى يبلغ كالم اهلل ـ عز وجل ـ وكان رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يتحرك في المواسم التجارية‪ ،‬ومواسم الحج التي تجتمع فيها القبائل وفق‬
‫خطة سياسية دعوية واضحة المعالم‪ ،‬ومحددة األهداف‪ ،‬وكان يصاحبه أبو بكر الصديق الرجل‬
‫الذي تخصص في أنساب العرب‪ ،‬وتاريخها‪ ،‬وكانا يقصدان "غُرر الناس‪ ،‬ووجوه القبائل‪،‬‬
‫وكان أبو بكر رضي اهلل عنه‪ ،‬يسأل وجوه القبائل‪ ،‬ويقول لهم‪ :‬كيف العدد فيكم؟ وكيف المنعة‬
‫فيكم؟ وكيف الحرب فيكم؟ وذلك قبل أن يتحدَّث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ويعرض‬
‫دعوته‪.1‬‬
‫وكان طلب الرسول صلى اهلل عليه وسلم للناصرة من خارج مكة إنما بدأ ينشط بشكل ملحوظ‬
‫بعد أن اشتدَّ األذى عليه عقب وفاة عمه أبي طالب‪ ،‬الذي كان يحميه من قريش وذلك ألن من‬
‫يحمل الدَّعوة‪ ،‬لن يستطيع أن يتحرَّك التحرك الفعال ألجلها‪ ،‬وتوفير االستجابة لها‪ ،‬في جوٍّ من‬
‫العنف والضغط‪ ،‬واإلرهاب‪.‬‬
‫ــ وحصر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم طلب النصرة في زعماء القبائل‪ ،‬وذوي الشرف‪،‬‬
‫والمكانة‪ ،‬ممَّن لهم أتباع يسمعون لهم‪ ،‬ويطيعون‪ ،‬ألن هؤالء هم القادرون على توفير الحماية‬
‫للدعوة وصاحبها‪.‬‬

‫‪ 1‬األنساب‪ ،‬للسعماني (‪.)36 / 1‬‬

‫‪57‬‬
‫ــ ويالحظ في سيرة النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬بخصوص طلب النَّصرة‪ :‬أنه كان يطلبها‬
‫ألمرين اثنين‪:‬‬
‫‪ ‬كان يطلب النصرة من أجل حماية تبليغ الدعوة‪ ،‬حتى تسير بين الناس محمية الجانب‪،‬‬
‫بعيدة عن اإلساءة إليها‪ ،‬وإلى أتباعها‪.‬‬
‫‪ ‬كان يطلب النصرة‪ ،‬من أجل أن يتسلم النبي صلى اهلل عليه وسلم مقاليد الحكم والسلطان‬
‫على أساس تلك الدعوة وهذا ترتيب طبيعي لألمور‪.‬‬
‫ــ ومن صفة النصرة‪ ،‬التي كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يطلبها لدعوته من زعماء‬
‫القبائل‪ ،‬أن يكون أهل النصرة غير مرتبطين بمعاهدات تتناقض مع الدعوة‪ ،‬وال يستطيعون‬
‫التحرر منها‪ ،‬وذلك ألن احتضانهم للدعوة ـ والحالة هذه ـ يُعرِّضها لخطر القضاء عليها من‬
‫قبل الدولة التي بينهم وبينها تلك المعاهدات‪ ،‬والتي تجد في الدعوة اإلسالمية خطراً عليها‪،‬‬
‫وتهديداً لمصالحها‪.‬‬
‫إن الحماية المشروطة‪ ،‬أو الجزئية ال تحقق الهدف المقصود‪ ،‬فلن يخوض بنو شيبان حرباً‬
‫ضد كسرى‪ ،‬لو أراد القبض على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وتسليمه‪ ،‬ولن يخوضوا‬
‫حرباً ض د كسرى‪ ،‬لو أراد مهاجمة محمد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأتباعه‪ ،‬وبذلك‬
‫فشلت المباحثات‪.1‬‬
‫ــ إن دين اهلل لن ينصره إال من حاطه من جميع جوانبه‪ ،‬هذا الردُّ من النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم على المثنى بن حارثة حين عرض على النبي صلى اهلل عليه وسلم حمايته على مياه‬
‫العرب دون مياه الفرس‪ ،‬فمن يسبر أغوار السياسة البعيدة يرى بعد النظر اإلسالمي النبوي‬
‫الذي ال يُسامي‪.2‬‬
‫و ـ بيعة العقبة األولى‪:‬‬
‫من الحقائق التي ال يقع عليها أي ـ خالف ـ أن هذا المجتمع السياسي أو (الدولة) قد بدأ‬
‫حياته الفعلية وأخذ يؤدي وظائفه‪ ،‬ويحول المبادئ النظرية إلى أعمال‪ ،‬بعد أن استكمل‬

‫‪ 1‬التحالف السياسي في اإلسالم لمنير الغضبان‪ ،‬ص‪.53 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.64 :‬‬

‫‪58‬‬
‫حريته وسيادته‪ ،‬وضم إليه عناصر جديدة ووجد له موطناً‪ ،‬على إثر "بيعة العقبة األولى‬
‫والثانية" بين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ووفود المدينة‪ ،‬والواقع أن هاتين البيعتين كانتا‬
‫نقطة التحول في حياة اإلسالم‪ ،‬ولم تكن الهجرة إال إحدى النتائج التي ترتبت عليهما‬
‫والنظرة الصحيحة إليهما أن ينظر إليهما على أنهما حجر الزاوية في بناء الدولة اإلسالمية‬
‫ومن ثم تتضح أهميتهما‪ ،‬وما أشبههما بالعقود االجتماعية التي بدأ لبعض فالسفة السياسة‬
‫في العصور الحديثة أن يفترضوا حدوثها معتبرين أنها األساس الذي قامت عليه الدول‬
‫والحكومات‪ ،‬ولكن "العقد االجتماعي" الذي تحدث عنه "روسو" وأمثاله كان مجرد نظرية‪،‬‬
‫أما العقد الذي حدث هنا مرتين عند العقبة‪ ،‬وقامت على أساسه الدولة اإلسالمية‪ ،‬فهو عقد‬
‫تاريخي‪ :‬هو حقيقة يعرفها الجميع ت َّم فيه االتفاق بين إرادات إنسانية حرة وأفكار واعية‬
‫ناضجة‪ ،‬من أجل تحقيق رسالة سامية‪.‬‬
‫فقد ولدت الدولة اإلسالمية إذن في وضح النهار‪ ،‬وتم تكونها في ضوء التاريخ‪ ،‬وإذ بدأت‬
‫عملها لم تكن هناك أية وظيفة من الوظائف التي يمكن أن يقال عنها إنها سياسية‪ :‬من إعداد‬
‫األداة لتنفيذ العدالة‪ ،‬أو تنظيم للدفاع أو بث للتعلم‪ ،‬أو جباية للمال‪ ،‬أو عقد معاهدات أو إنفاذ‬
‫سفارات إال كانت هذه الدولة تؤديها‪ ،‬ومن المجال أن ينكرها أحد‪ ،‬إال إذا كان يباح له أن‬
‫يجحد أية حقيقة أو حقائق تاريخية وقعت في أي عصر من العصور‪ ،‬وأجمع عليها الناس‬
‫قاطبة‪ ،‬ومن هذه الحقائق التي ذكرنا يتألف البرهان التاريخي الذي رأينا على الطبيعة‬
‫السياسية للنظام اإلسالمي‪.1‬‬
‫كانت بيعة العقبة األولى بعد عام من المقابلة األولى‪ ،‬التي تمت بين الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وأهل يثرب عند العقبة‪ ،‬وافى الموسم من األنصار اثنا عشر رجالً‪ ،‬فلقوه صلى اهلل‬
‫عليه وسلم بالعقبة‪ ،‬وبايعوه العقبة األولى‪ ،‬عشرة من الخزرج‪ ،‬واثنان من األوس‪ ،‬مما‬
‫يشير إلى أن نشاط وفد الخزرج الذين أسلموا في العام الماضي‪ ،‬تركز على وسطهم القبلي‬

‫‪ 1‬النظريات السياسية اإلسالمية‪ ،‬د‪ .‬محمد ضياء الدين الرئيسي‪ ،‬ص‪.31 :‬‬

‫‪59‬‬
‫بالدرجة األولى‪ ،‬لكنهم تمكنوا في الوقت نفسه من اجتذاب رجال األوس وكان بداية ائتالف‬
‫القبيلتين تحت راية اإلسالم‪.1‬‬
‫وقد تحدث عبادة بن الصامت الخزرجي عن البيعة‪ ،‬في العقبة األولى‪ ،‬فقال‪ :‬كنت فيمن‬
‫كان حضر العقبة‪ ،‬وكنا اثني عشر رجالً‪ ،‬فبايعنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على بيعة‬
‫النساء‪ ،‬وذلك قبل أن تفرض علينا الحرب‪ ،‬على أال نشرك باهلل‪ ،‬وال نسرق‪ ،‬وال نزني‪،‬‬
‫النقتل أوالدنا‪ ،‬وال نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا‪ ،‬وأرجلنا‪ ،‬وال نعصيه في معروف‪،‬‬
‫فإن وفيتم فلكم الجنة‪ ،‬وإن غشيتم من ذلك شيئاً‪ ،‬فأمركم إلى اهلل ـ عز وجل ‪ -‬إن شاء غفر‪،‬‬
‫وإن شاء عذب‪.2‬‬
‫وبنود هذه البيعة‪ ،‬هي التي بايع الرسول صلى اهلل عليه وسلم عليها النساء فيما بعد‪ ،‬ولذلك‬
‫عرفت باسم بيعة النساء‪ ،3‬وقد بعث الرسول صلى اهلل عليه وسلم مع المبايعين مصعب بن‬
‫عمير يعلمهم الدين‪ ،‬ويقرئهم القرآن‪ ،‬فكان يسمى بالمدينة "المقرئ" وكان يؤمهم في‬
‫الصالة‪ ،‬وقد اختاره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن علم بشخصيته من جهة‪ ،‬وعلم‬
‫بالوضع القائم في المدينة من جهة أخرى‪ ،‬حيث كان بجانب إلمامه لما نزل من القرآن يملك‬
‫من اللياقة والهدوء‪ ،‬وحسن الخلق‪ ،‬والحكمة قدراً كبيرًا فضالً عن قوة إيمانية‪ ،‬وشدة‬
‫حماسه للدين‪ ،‬ولذلك تمكن خالل أشهر أن ينشر اإلسالم في معظم بيوتات المدينة‪ ،‬وأن‬
‫يكسب لإلسالم أنصاراً من كبار زعمائها‪ ،‬كسعد بن معاذ‪ ،‬وأسيد بن حضير‪ ،‬وقد أسلم‬
‫بإسالمهما خلق كثير من قومهم‪ ،4‬واستطاع السفير مصعب رضي اهلل عنه أن يهيىء البيئة‬
‫الصالحة‪ ،‬النتقال الدعوة والدولة إلى مقرها الجديد‪ ،‬حيث استطاع ترجمة روح بيعة العقبة‬
‫األولى عملياً وسلوكياً والتي تعني االلتزام التام بنظام اإلسالم‪.5‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية الصحيحة للعمري (‪.)197 /1‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪ ،92 ،18:‬وأخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.1709 :‬‬
‫‪ 3‬الغرباء األولون‪ ،‬ص‪.185 :‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.187 ،186 :‬‬
‫‪ 5‬النظرية السياسية اإلسالمية‪ ،‬ص‪.339 :‬‬

‫‪60‬‬
‫وبذل الرسول صلى اهلل عليه وسلم كل ما يملك من جهد لتعبئة الطاقات اإلسالمية في‬
‫المدينة‪ ،‬ولم يكن هناك أدنى تقصير للجهد البشري الممكن في بناء القاعدة الصلبة‪ ،‬التي‬
‫تقوم على أكتافها الدولة الجديدة‪ ،‬واحتل هذا الجهد سنتين من الدعوة والتنظيم‪.‬‬
‫ـ ونجحت التعبئة اإليمانية في نفوس من أسلم من األنصار‪ ،‬وشعرت األنصار بأنه قد آن‬
‫األوان لقيام الدولة الجديدة وكما يقول جابر رضي اهلل عنه‪ ،‬وهو يمثل هذه الصورة الرفيعة‬
‫الرائعة‪ ،‬حتى متى نترك‪ ،‬رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يُطرد في جبال مكة ويخاف‪.‬‬
‫ـ وصل مصعب رضي اهلل عنه إلى مكة قبيل موسم الحج‪ ،‬من العام الثالث عشر للبعثة‪،‬‬
‫ونقل الصورة الكاملة التي انتهت إليها أوضاع المسلمين هناك‪ ،‬والقدرات واإلمكانات‬
‫المتاحة‪ ،‬أو كيف تغلغل اإلسالم في جميع قطاعات األوس والخزرج‪ ،‬وأن القوم جاهزون‬
‫لبيعة جديدة‪ ،‬قادرة على حماية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ومنعته‪.1‬‬
‫ز ـ بيعة العقبة الثانية‪:‬‬
‫كان اللقاء الذي غيَّ ر مجرى التاريخ‪ ،‬في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من البعثة‪،‬‬
‫حيث حضر ألداء مناسك الحج بضع وسبعون نفساً من المسلمين‪ ،‬من أهل يثرب‪ ،‬فلما‬
‫قدموا مكة‪ ،‬جرت بينهم وبين النبي صلى اهلل عليه وسلم اتصاالت سرية‪ ،‬أدت إلى اتفاق‬
‫الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة‪ ،‬حيث الجمرة‬
‫األولى من منى‪ ،‬وأن يتم هذا االجتماع في سرية تامة في ظالم الليل‪.2‬‬
‫قال جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنهما‪ ... :‬فقلنا‪ :‬حتى متى يترك رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬يُطرد في جبال مكة‪ ،‬ويخاف‪ ،‬فرحل إليه منا سبعون رجالً حتى قدموا عليه في‬
‫الموسم‪ ،‬فواعدناه شعب العقبة‪ ،‬فاجتمعنا عليه من رجل‪ ،‬ورجلين حتى توافينا فقلنا‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل‪ ،‬على ما نبايعُك؟ قال‪« :‬تبايعوني على السَّمع والطاعةِ في النشاط والكسل‪،‬‬
‫وعلى النفقة في العسر واليسر‪ ،‬وعلى األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وعلى أن‬

‫‪ 1‬التحالف السياسي‪ ،‬ص‪.71 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.37 :‬‬

‫‪61‬‬
‫تقولوا في اهلل ال يأخذكم في اهلل لومة الئم‪ ،‬وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم‪،‬‬
‫وتمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبنائكم‪ ،‬ولكم الجنة»‪.1‬‬
‫قال‪ :‬فقمنا إليه فبايعناه‪ ،‬وأخذ بيده أسعد بن زرارة ـ وهو من أصغرهم ـ فقال‪ :‬رويداً يا أهل‬
‫يثرب‪ ،‬فإنا لم نضرب أكباد اإلبل إال ونحن نعلم‪ :‬أنه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأن‬
‫إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم‪ ،‬وأن تعضكم السيوف‪ ،‬فإما أنتم قوم‬
‫تصرون على ذلك‪ ،‬وأجركم على اهلل‪ ،‬وإما أنتم تخافون من أنفسكم جُبينة‪ ،‬فبينوا ذلك‪ ،‬فهو‬
‫أعذر لكم عند اهلل‪ ،‬قالوا‪ :‬أمط عنا يا أسعد‪ ،‬فواهلل ال ندع هذه البيعة أبداً‪ ،‬وال نسليها "أي‪:‬‬
‫نتركها" قال‪ :‬فقمنا إليه فبايعناه‪ ،‬فأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة‪.2‬‬
‫وهكذا بايع األنصار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على الطاعة والنصرة والحرب‪ ،‬لذلك‬
‫سماها عبادة بن الصامت بيعة الحرب‪ ،3‬أما رواية الصحابي كعب بن مالك األنصاري ـ‬
‫وهو أحد المبايعين في العقبة الثانيةـ ففيها تفصيالت مهمة‪ ،‬قال‪ :‬خرجنا في حجاج قومنا‬
‫من المشركين وقد صلينا وفقهنا‪ ،‬ثم خرجنا إلى الحج‪ ،‬وواعدنا رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم بالعقبة‪ ،‬من أوسط أيام التشريق‪ ،‬وكنا نكتم من بايعنا من المشركين أمرنا‪ ،‬فنمنا تلك‬
‫الليلة مع قومنا في رحالنا‪ ،‬حتى إذا مضى ثلث الليل‪ ،‬خرجنا من رحالنا لميعاد رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬نتسلل تسلل القطا "الحمام" مستخفين‪ ،‬حتى اجتمعنا في الشعب عند‬
‫العقبة ونحن ثالثة وسبعون رجالً‪ ،‬ومعنا امرأتان من نسائنا‪ :‬نسيبة بنت كعب‪ ،‬وأسماء بنت‬
‫عمرو‪ ،‬فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس‬
‫ابن عبد المطلب‪ ،‬وهو يومئذ على دين قومه‪ ،‬إال أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه‪،‬‬
‫ويتوثق له‪ ،‬فلما جلس‪ ،‬كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب‪ ،‬فبين أن الرسول صلى اهلل‬
‫عليه وسلم في منعه من قومه بني هاشم ولكنه يريد الهجرة إلى المدينة‪ ،‬ولذلك فإن العباس‬
‫يريد التأكد من حماية األنصار له‪ ،‬وإال فليدعوه‪ ،‬فطلب األنصار أن يتكلم رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬فيأخذ لنفسه‪ ،‬ولربه ما يجب من الشروط‪.‬‬
‫‪ 1‬صحيح ابن حبان‪ ،‬الحديث رقم‪.7012 :‬‬
‫‪ 2‬السيرة النبوية الصحيحة (‪.)199 /1‬‬
‫‪ 3‬مستند اإلمام أحمد (‪ )316 /5‬بإسناد صحيح لغيره‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫قال‪« :‬أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبنائكم»‪ ،‬فأخذ البراء بن معرور بيده‬
‫ثم قال‪ :‬نعم والذي بعثك بالحق‪ ،‬لنمنعناا مما نمنع ‪1‬منه أُزُرنا‪ ،‬فبايعنا يا رسول اهلل فنحن‬
‫واهلل أهل الحرب وأهل الحَلقة " السالح" ورثناها كابراً عن كابر‪ ،‬فقاطعه أبو الهيثم بن‬
‫التيهان متسائالً‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إن بيننا وبين القوم حباالً‪ ،‬وإنا قاطعوها "يعني‪ :‬اليهود" فهل‬
‫عسيت إن نحن فعلنا ذلك‪ ،‬ثم أظهرك اهلل أن ترجع إلى قومك‪ ،‬وتدعنا؟ فتبسم رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ثم قال‪« :‬بل الدم الدم‪ ،‬والهدم الهدم‪ ،‬أنا منكم‪ ،‬وأنتم مني‪ ،‬أحارب من حاربتم‬
‫وأسالم من سالمتم»‪.‬‬
‫ثم قال‪« :‬أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً‪ ،‬ليكونوا على قومهم بما فيهم»‪ ،‬فأخرجوا‬
‫منهم اثني عشر نقيباً تسعة من الخزرج‪ ،‬وثالثة من األوس‪.‬‬
‫وقد طلب الرسول صلى اهلل عليه وسلم منهم االنصراف إلى رحالهم وقد سمعوا الشيطان‬
‫يصرخ منذراً قريشاً‪ ،‬فقال العباس بن عبادة بن نفلة‪ :‬واهلل الذي بعثك بالحق‪ ،‬إن شئت‬
‫لنميلنا على أهل منى غداً بأسيافنا‪.‬‬
‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬لم نؤمر بذلك‪ ،‬ولكن أرجعوا إلى رحالكم»‪ ،‬وفي‬
‫الصباح جاءهم جمع من كبار قريش‪ ،‬يسألونهم عماا بلغهم من بيعتهم للنبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ودعوتهم له للهجرة فحلف المشركون من الخزرج واألوس‪ ،‬بأنهم لم يفعلوا‬
‫والمسلمون ينظرون إلى بعضهم‪.‬‬
‫قال‪ :‬ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعالن جديدان‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فقلت له كلمة ـ كأني أريد أن أشرك بها القوم فيما قالوا‪ :‬يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ‪،‬‬
‫وأنت سيد من سادتنا‪ ،‬مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ قال‪ :‬فسمعها الحارث فخلعهما من‬
‫رجليه‪ ،‬ثم رمى بها إليا‪ ،‬وقال‪ :‬واهلل لتنعلناهما‪ ،‬قال‪ :‬يقول أبو جابر‪ :‬مه أحفظت " أي‪:‬‬
‫أغضبت" واهلل الفتى‪ ،‬فأردد إليه نعليه‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬ال واهلل ال أردهما‪ ،‬فأل واهلل صالح لئن‬
‫صدق الفأل ألسلبنه‪.2‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)342 /1‬‬


‫‪ 2‬مسند أحمد (‪ 460 /3‬ـ ‪.)462‬‬

‫‪63‬‬
‫ـ كانت هذه البيعة العظمى بمالبساتها وبواعثها وآثارها وواقعها التاريخي‪ ،‬فتح الفتوح‪،‬‬
‫ألنها كانت الحلقة األولى في سلسلة الفتوحات اإلسالمية التي تتابعت حلقتها في صور‬
‫متدرجة‪ ،‬مشدودة بهذه البيعة‪ ،‬منذ اكتمل عقدها‪ ،‬بما أخذ فيها رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم من عهود ومواثيق على أقوى طليعة من طالئع أنصار اهلل الذين كانوا أعرف الناس‬
‫بقدر مواثيقهم وعهودهم‪ ،‬وكانوا أسمح الناس بالوفاء بما عاهدوا اهلل‪ ،‬ورسوله صلى اهلل‬
‫عليه وسل م‪ ،‬من التضحية مهما بلغت متطلباتها من األرواح والدماء واألموال‪ ،‬فهذه البيعة‬
‫في بواعثها هي بيعة اإليمان بالحق ونصرته‪ ،‬وهي مالبساتها قوة تناضل قوى هائلة تقف‬
‫متألية عليها ولم يغيب عن أنصار اهلل قدرها ووزنها‪ ،‬في ميادين الحروب والقتال‪ ،‬وهي‬
‫آثارها تشمير ناهض بكل ما يملك أصحابها من وسائل الجهاد القتالي في سبيل إعالء كلمة‬
‫اهلل‪ ،‬على كل عال مستكبر في األرض‪ ،‬حتى يكون الدين كله هلل‪ ،‬وهي في واقعها التاريخي‬
‫صدق‪ ،‬وعدل ونصر واستشهاد وتبليغ لرسالة اإلسالم‪.1‬‬
‫ـ ويظهر التخطيط العظيم في بيعة العقبة‪ ،‬حيث تمت في ظروف غاية في الصعوبة وكانت‬
‫تمثل تحدًّيا خطيراً وجريئاً لقوى الشرك في ذلك الوقت‪ ،‬ولذلك كان التخطيط النبوي‬
‫لنجاحها في غاية اإلحكام والدقة على النحو التالي‪:‬‬
‫ـ سرية الحركة واالنتقـال لجماعة المتابعين‪ ،‬حتـى ال ينكشف األمـر‪ ،‬فقـد كان وفد المبايعة‬
‫المسلم سبعين رجالً وامرأتين من بين وفد يثربي قوامه نحو خمسمائة مما جعل حركة‬
‫هؤالء السبعين صعبة‪ ،‬وانتقالهم أمراً غير ميسور‪ ،‬وقد تحدد موعد اللقاء في ثاني أيام‬
‫التشريق‪ ،‬بعد ثلث الليل‪ ،‬حيث النوم قد ضرب أعين القوم‪ ،‬وحيث قد هدأت الراجل كما تم‬
‫تحديد المكان في شعب اإليمان‪ ،‬بعيداً عن عين من قد يستيقظ من النوم لحاجة‪.2‬‬
‫ـ الخروج المنظم لجماعة المبايعين إلى موعد ومكان االجتماع‪ ،‬فقد خرجوا يتسللون‬
‫مستخفين‪ ،‬ورجالً رجالً‪ ،‬أو رجلين رجلين‪.‬‬

‫‪ 1‬محمد رسول اهلل‪ ،‬لمحمد صادق عرجون (‪.)400 /2‬‬


‫‪ 2‬الهجرة النبوية المباركة‪ ،‬عبد الرحمن البر‪ ،‬ص‪.61 :‬‬

‫‪64‬‬
‫ـ ضرب السرية التامة على موعد‪ ،‬ومكان االجتماع‪ ،‬بحيث لم يعلم به سوى العباس بن عبد‬
‫المطلب‪ ،‬الذي جاء مع النبي صلى اهلل عليه وسلم ليتوثق له‪ ،1‬وعلي بن أبي طالب الذي‬
‫كان عيناً للمسلمين على فم الشعب وأبو بكر الذي كان على فم الطريق ـ وهو اآلخر ـ عيناً‬
‫للمسلمين‪ ،2‬أما من عداهم من المسلمين وغيرهم‪ ،‬فلم يكونوا يعلمون عن األمر شيئاً‪ ،‬وقد‬
‫أمر جماعة المبايعين أال يرفعوا الصوت‪ ،‬وأال يطيلوا في الكالم‪ ،‬حذراً من وجود عين‬
‫تسمع صوتهم‪ ،‬أو تجس حركتهم‪.3‬‬
‫ـ متابعة اإلخفاء والسرية حيث كشف الشيطان أمر البيعة‪ ،‬فأمرهم النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم أن يرجعوا إلى رحالهم‪ ،‬وال يحدثوا شيئاً رافضاً االستعجال في المواجهة المسلحة‬
‫التي لم تتهيأ لها الظروف بعد؛ وعندما جاءت قريش تستبرئ الخبر‪َ ،‬م َّر المسلمون عليهم‬
‫بالسكوت‪ ،‬أو المشاركة بالكالم الذي يشغل عن الموضوع‪.4‬‬
‫ـ اختيار الليلة األخيرة في ليالي الحج‪ ،‬وهي الليلة الثالثة عشرة من ذي الحجة حيث سينفر‬
‫الحجاج إلى بالدهم ظهر اليوم التالي‪ ،‬وهو يوم الثالث عشر‪ ،‬ومن ثم تضيق الفرصة أمام‬
‫قريش في اعتراضهم أو تعويقهم‪ ،‬إذا انكشف أمر البيعة‪ ،‬وهو أمر متوقع‪ ،‬وهذا ما حدث‪.5‬‬
‫ـ وكانت البنود الخمسة للبيعة من الوضوح والقوة بحيت ال تقبل التمييع والتراخي‪ ،‬إنه‬
‫السمع والطاعة في النشاط والكسل‪ ،‬والنفقة في اليسر والعسر‪ ،‬واألمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر‪ ،‬والقيام في اهلل ال تأخذهم فيه لومة الئم‪ ،‬ونصر لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وحمايته إذا قدم المدينة‪.6‬‬
‫ـ وسرعان ما استجاب قائد األنصار ـ دون تردد ـ البراء بن معرور‪ ،‬قائالً‪ :‬والذي بعثك‬
‫بالحق‪ ،‬لنمنعنك مما نمنع منه أُزُرنا‪ ،‬فبايعنا يا رسول اهلل‪ ،‬فنحن واهلل أبناء الحرب وأهل‬
‫الح لقة‪ ،‬ورثناها كابراً عن كابر‪ ،‬فهذا زعيم الوفد يعرض إمكانيات قومه على رسول اهلل‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.62 :‬‬


‫‪ 2‬التربية القيادية (‪.)109 /2‬‬
‫‪ 3‬الهجرة النبوية المباركة‪ ،‬ص‪.62 :‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.62 :‬‬
‫‪ 5‬الهجرة النبوية المباركة‪ ،‬ص‪.67 :‬‬
‫‪ 6‬التحالف السياسي‪ ،‬ص‪.82 :‬‬

‫‪65‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم فقومه أبناء الحرب‪ ،‬والسالح‪ ،1‬ومما يجدر اإلشارة إليه في أمر‬
‫البراء‪ :‬أنه عندما جاء مع قومه من يثرب قال لهم‪ :‬إني قد رأيت رأياً‪ ،‬فواهلل ما أدري‪:‬‬
‫أتوافقونني عليه أم ال؟ فقالوا‪ :‬وما ذاك؟ قال‪ :‬قد رأيت أال أدع هذه البنية ـ يعني‪ :‬الكعبة ـ‬
‫مني بظهر‪ ،‬وأن أصلي إليها فقالوا له‪ :‬واهلل ما بلغنا أن النبي صلى اهلل عليه وسلم يصلي إالا‬
‫إلى الشام ـ بيت المقدس ـ وما نريد أن نخالفه‪ ،‬فكانوا إذا حضرت الصالة صلاوا إلى بيت‬
‫المقدس وصلى هو إلى الكعبة‪ ،‬واستمروا كذلك حتى قدموا مكة‪ ،‬وتعرفوا إلى رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم وهو جالس مع عمه العباس رضي اهلل عنه بالمسجد الحرام‪ ،‬فسأل‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم العباس رضي اهلل عنه‪« :‬هل تعرف هذين الرجلين يا أبا‬
‫الفضل؟» ق ال نعم‪ .‬فقصا عليه البراء ما صنع في سفره من صالته إلى الكعبة‪ .‬قال‪ :‬فماذا‬
‫ترى يا رسول اهلل؟ قال‪« :‬قد كنت على قبلة لو صبرت عليها»‪.2‬‬
‫قال كعب‪ :‬فرجع البراء إلى قبلة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وصلىا معنا إلى الشام‪،‬‬
‫فلما حضرته الوفاة أمر أهله أن يوجهوه قبل الكعبة ومات في صفر قبل قدومه صلى اهلل‬
‫عليه وسلم بشهر‪ ،‬وأوصى بثلث ماله إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقبله ورداه على ولده‪،‬‬
‫وهو أول من أوصى بثلث ماله‪ ،3‬ويستوقفنا في هذا الخبر‪:‬‬
‫ـ اإلنضباط وااللتزام من المسلمين بسلوك رسولهم صلى اهلل عليه وسلم وأوامره‪ ،‬وإن أي‬
‫اقتراح مهما كان مصدره‪ ،‬يتعارض مع ذلك يُعد مرفوضاً‪ ،‬وهذه األمور من أولويات الفقه‬
‫في دين اهلل‪ ،‬تأخذ حيزها في حياتهم وهم ـ بعد ـ مازالوا في بداية الطريق‪.‬‬
‫ـ إن السيادة لم تعد ألحد غير رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وإن توقير أي إنسان‬
‫واحترامه‪ ،‬إنما هو انعكاس لسلوكه‪ ،‬والتزامه بأوامر الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهكذا‬
‫بدأت تنزاح تقاليد جاهلية لتحل محلها قيم إيمانية‪ ،‬فهي المقاييس الحقة‪ ،‬التي بها يمكن‬
‫الحكم على الناس تصنيف ًا وترتيب ًا‪.4‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية ألبي شهبة (‪.)444 /1‬‬


‫‪ 2‬السيرة النبوية ألبي شهبة (‪.)444 /1‬‬
‫‪ 3‬السيرة النبوية ألبي شهبة (‪.)445 /1‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه (‪.)445 /1‬‬

‫‪66‬‬
‫ـ كان أبو الهيثم بن التيهان صريحاً عندما قال للرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إن بيننا وبين‬
‫الرجال حباالً‪ ،‬وإنا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك‪ ،‬ثم أظهرك اهلل‪،‬‬
‫أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقال‪« :‬بل الدم الدم‪،‬‬
‫والهدم الهدم‪ ،‬أنا منكم وأنتم مني‪ ،‬أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم»‪.1‬‬
‫وهذا االعتراض يدلنا على الحرية العالية التي رفع اهلل تعالى المسلمين إليها باإلسالم‪ ،‬حيث‬
‫عبار عماا في نفسه بكامل حريته‪ ،2‬وكان جواب سيد الخلق صلى اهلل عليه وسلم عظيماً‪ ،‬فقد‬
‫جعل نفسه جزءًا من األنصار واألنصار جزءاً منه‪.3‬‬
‫ـ يؤخذ من اختيار النقباء دروس مهمة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫ـ أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم لم يعين النقباء‪ ،‬وإنما ترك طريق اختيارهم إلى الذين‬
‫بايعوا‪ ،‬فإنهم سيكونون عليهم مسؤولين وكفالء‪ ،‬واألولى أن يختار اإلنسان من يكفله‪،‬‬
‫ويقوم بأمره‪ ،‬وهذا أمر شورى‪ ،‬وأراد الرسول صلى اهلل عليه وسلم أن يمارسوا الشورى‬
‫عمليًا من خالل اختيار نقبائهم‪.‬‬
‫ـ التمثيل النسبي في االختيار فمن المعلوم أن الذين حضروا البيعة من الخزرج أكثر من‬
‫الذين حضروا البيعة من األوس ثالثة أضعاف من األوس بل يزيدون ولذلك كان النقباء‬
‫ثالثة من األوس وتسعة من الخزرج‪.‬‬
‫ـ جعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم النقباء مشرفين على سير الدعوة في يثرب‪ ،‬حيث‬
‫استقام عود اإلسالم هناك‪ ،‬وكثر مثقفوه ومعتنقوه‪ ،‬فأراد الرسول صلى اهلل عليه وسلم أنهم‬
‫لم يعودوا غرباء لكي يبعث إليهم أحداً من غيرهم وأنهم غدوا أهل اإلسالم‪ ،‬وحماته‬
‫وأنصاره‪.4‬‬
‫في قول العباس بن عبادة بن نفلة‪ :‬واهلل الذي بعثك بالحق‪ ،‬إن شئت لنميلنا على أهل منى‬
‫غداً بأسيافنا‪ ،‬وقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬لم نؤمر بذلك‪ ،‬ولكن ارجعوا إلى‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)346 /1‬‬


‫‪ 2‬التاريخ اإلسالمي للحميدي (‪.)97 /3‬‬
‫‪ 3‬التربية القيادية (‪.)67 /2‬‬
‫‪ 4‬دراسات في السيرة النبوية‪ ،‬د‪.‬عماد الدين خليل‪ ،‬ص‪.132 :‬‬

‫‪67‬‬
‫رحالكم»‪ ،‬درس تربوي بليغ‪ ،‬وهو‪ :‬أن الدفاع عن اإلسالم‪ ،‬والتعامل مع أعداء هذا الدين‪،‬‬
‫ليس متروكاً الجتهاد أتباعه‪ ،‬وإنما هو خضوع ألوامر اهلل تعالى‪ ،‬وتشريعاته الحكيمة‪ ،‬فإذا‬
‫شرع الجهاد‪ ،‬فإن أمر اإلقدام‪ ،‬أو اإلحجام متروك لنظر المجتهدين‪ ،‬بعد التشاور‪ ،‬ودراسة‬
‫األمر من جميع جوانبه‪ ،1‬وكلما كانت عبقرية التخطيط السياسي أقوى‪ ،‬أدت إلى نجاح‬
‫المهمات أكثر‪ ،‬وإخفاء المخططات وتنفيذها عن العدو هو الكفيل ـ بإذن اهلل ـ بنجاحها ولكن‬
‫ارجعوا إلى رحالكم‪.2‬‬
‫ـ وكانت البيعة بالنسبة للرجال ببسط رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يده‪ ،‬وقولهم له‪ :‬ابسط‬
‫يدك‪ ،‬فبسط يده فبايعوه‪ ،‬وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قوالً‪ ،‬ما صافح‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم امرأة أجنبية قط‪ ،‬فلم يتخلف أحد عن بيعته صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬حتى المرأتان بايعتا بيعة الحرب‪ ،‬وصدقتا عهدهما‪ ،‬فأما نسيبة بنت كعب "أم‬
‫عمارة" فقد سقطت في أحد‪ ،‬وقد أصابها اثنا عشر جرحاً‪ ،‬وقد خرجت يوم أحد مع زوجها‬
‫زيد بن عاصم بن كعب ومعها سقاء تسقي به المسلمين‪ ،‬فلما انهزم المسلمون‪ ،‬انحازت إلى‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فكانت تباشر القتال‪ ،‬وتذب عنه بالسيف وقد أصيبت‬
‫بجراح عميقة‪ ،‬وشهدت بيعة الرضوان‪ ،3‬وقطع مسيلمة الكذاب ابنها إرباً إرباً‪ ،‬فما وهنت‪،‬‬
‫وما استكانت‪ ،‬وشهدت معركة اليمامة في حروب الردة مع خالد بن الوليد‪ ،‬فقاتلت حتى‬
‫قطعت يدها‪ ،‬وجُرحت اثني عشر جرح ًا‪ ،4‬وأما أسماء بنت عمرو من بني سلمة‪ ،‬قيل‪ :‬هي‬
‫والدة معاذ بن جبل‪ ،‬وقيل‪ :‬ابنة عمة معاذ بن جبل رضي اهلل عنهم جميعاً‪.5‬‬
‫ـ وعندما نراجع تراجم أصحاب العقبة الثانية من األنصارفي كتب السير والتراجم‪ ،‬نجد‪:‬‬
‫أن هؤالء الثالثة والسبعين قد استشهد قرابة ثلثهم على عهد النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وبعده‪ ،‬ونالحظ أنه قد حضر المشاهد كلها مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قرابة‬

‫‪ 1‬التاريخ اإلسالمي للحميدي (‪.)104 /3‬‬


‫‪ 2‬التحالف السياسي في اإلسالم‪ ،‬ص‪.96 :‬‬
‫‪ 3‬المرأة في العهد النبوي‪ ،‬د‪.‬عصمة الدين‪ ،‬ص‪.108 :‬‬
‫‪ 4‬السيرة النبوية البن هشام (‪.)80 /2‬‬
‫‪ 5‬المرأة في العهد النبوي‪ ،‬ص‪.108 :‬‬

‫‪68‬‬
‫النصف‪ ،‬فثالثة وثالثون منهم كانوا بجوار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في جميع‬
‫غزواته‪ ،‬وأما الذين حضروا غزوة بدر‪ ،‬فكانوا قرابة السبعين‪.‬‬
‫لقد صدق هؤالء األنصار عهدهم مع اهلل‪ ،‬ورسوله صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فمنهم من قضى‬
‫نحبه ‪ ،‬ولقي ربه شهيداً‪ ،‬ومنهم من بقي حتى ساهم في قيادة الدولة المسلمة‪ ،‬وشارك في‬
‫أ حداثها الجسام‪ ،‬بعد وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وبمثل هذه النماذج قامت دولة‬
‫اإلسالم‪ ،‬النماذج التي تعطي وال تأخذ‪ ،‬والتي تقدم كل شيء‪ ،‬وال تطلب شيئاً إال الجنة‪،‬‬
‫ويتصاغر التاريخ في جميع عصوره ودهوره‪ ،‬أن يحوي في صفحاته أمثال هؤالء الرجال‬
‫والنساء‪.1‬‬
‫ح ـ الهجرة إلى المدينة‪:‬‬
‫بعد أن ُمنيت قريش بالفشل في منع الصحابة رضي اهلل عنهم من الهجرة إلى المدينة على‬
‫الرغم من أساليبها الشنيعة والقبيحة‪ ،‬فقد أدركت قريش خطورة الموقف‪ ،‬وخافوا في مصالحهم‬
‫االقتصادية‪ ،‬وكيانهم االجتماعي القائم بين القبائل العرب‪ ،‬لذلك اجتمعت قيادة قريش في دار‬
‫الندوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدعوة‪ ،‬وقد تحدث ابن عباس في تفسيره لقول اهلل‬
‫هلل وَاهللُ خَي ُر‬
‫ك وَيَم ُكرُونَ وَيَمكُرُ ا ُ‬
‫ك أَو يُخرِجُو َ‬
‫ك أَو يَقتُلُو َ‬ ‫تعالى‪﴿ :‬وَإِذ يَمكُ ُر بِ َ‬
‫ك الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُث ِبتُو َ‬

‫المَاكِرِينَ﴾ (األنفال ‪ ،‬آية ‪.)30 :‬‬

‫فقال‪ :‬تشاورت قريش ليلة بمكة‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬إذا أصبح‪ ،‬فأثبتوه بالوُثُق يريدون النبي صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬بل اقتلوه‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬بل أخرجوه‪ ،‬فأطلع اهلل نبيه على ذلك‬
‫فبات عليُّ على فراش النبي صلى اهلل عليه وسلم ـ تلك الليلة‪ .2‬وخرج النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فلما أصبحوا‪ ،‬ثاروا إليه‪ ،‬فلما رأوا علياً ردَّ اهلل مكرهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬أين صاحبك هذا؟ قال‪:‬‬
‫ال أدري فاقتصُّوا أثره‪ ،‬فلما بلغوا الجبل‪ ،‬اختلط عليهم األمر‪ ،‬فصعدوا الجبل‪ ،‬فمرُّوا بالغار‪،‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪ ،)348 /1‬التربية القيادية‪.‬‬


‫‪ 2‬مصنف عبد الرزاق (‪.)389 / 5‬‬

‫‪69‬‬
‫فرأوا على بابه نسيج العنكبوت‪ ،‬فقالوا‪ :‬لو دخل هاهنا لم يكن ينسج العنكبوت على بابه‪ ،‬فمكث‬
‫فيه ثالث ًا‪.1‬‬
‫قال سيد قطب ـ رحمه اهلل ـ في تفسيره لآليات التي تتحدث عن مكر المشركين بالنبي صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ :‬إنه التذكير بما كان في مكة قبل تغيُار الحال‪ ،‬وتبدل الموقف‪ ،‬وإنه ليوحي بالثقة‬
‫واليقين في المستقبل‪ ،‬كما ينبه إلى تدبير قدر اهلل وحكمته فيما يقضي به ويأمر‪ ،‬ولقد كان‬
‫المسلمون ا لذين يحاطون بهذا القرآن أول مرة يعرفون الحالين معرفة الذي عاش‪ ،‬ورأى‪،‬‬
‫وذاق‪ ،‬وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب‪ ،‬وما كان فيه من خوف وقلق في مواجهة‬
‫الحاضر الواقع‪ ،‬وما فيه من أمن وطمأنينة‪ ،‬وما كان من تدبير المشركين ومكرهم برسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم في مواجهة ما صار إليه من غلبة عليهم ال مجرد النجاة منهم‪.‬‬
‫لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ويحبسوه حتى يموت أو ليقتلوه‬
‫ويتخلصوا منه‪ ،‬أو ليخرجوه من مكة منفياً مطروداً‪ ،‬ولقد ائتمروا بهذا كله‪ ،‬ثم اختاروا قتله‪،‬‬
‫على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعاً‪ ،‬ليتفرق دمه في القبائل‪ ،‬ويعجز بنو هاشم عن‬
‫اهلل وَاهللُّ خَي ُر المَاكِرِينَ﴾‬ ‫قتال العرب جميعاً‪ ،‬فيرضوا بالدية‪ ،‬وينتهي األمر﴿وَيَم ُكرُو َ‬
‫ن وَيَمكُرُ ُّ‬

‫إنها صورة ساخرة‪ ،‬وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة‪ ،‬فأين هؤالء البشر الضعاف المهازيل‬
‫من تلك القدرة القادرة‪ ،‬قدرة اهلل الجبار‪ ،‬القاهر فوق عباده‪ ،‬الغالب على أمره‪ ،‬وهو بكل شيء‬
‫محيط‪.2‬‬
‫وقد قام النبي صلى اهلل عليه وسلم بالترتيبات الالزمة للهجرة ولم يعلم بخروج رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم أحد حين خرج إال علي بن أبي طالب وكان أبو بكر الصديق في رفقته‪ ،‬وآل‬
‫الصديق في خدمته صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وعندما أحاط المشركون بالغار‪ ،‬وأصبح منهم رؤي العين‪ ،‬طمأن الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الصديق بمعية اهلل لهما‪ ،‬فعن أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه قال‪ :‬قلت للنبي صلى اهلل عليه‬

‫‪ 1‬البداية والنهاية (‪.)181 / 3‬‬


‫‪ 2‬في ظالل القرآن (‪.)1501 /3‬‬

‫‪70‬‬
‫وسلم وأنا في الغار‪ :‬لو أن أحدهم نظر تحت قدميه ألبصرنا‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ما‬
‫ظنك باثنين اهلل ثالثهما»‪1‬؟‬
‫وذكر المولى عز وجل في كتابه قوله تعالى‪﴿:‬إ َّ‬
‫ِال تَنصُرُو ُه فَقَد نَصَرَهُ اهللُ إِذ أَخرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا‬

‫ال تَحزَن إِنَّ اهللَ مَ َعنَا فَأَن َزلَ اهللُ سَكِي َنتَ ُه عَلَيهِ وَأَيَّدَهُ‬
‫ن إِذ هُمَا فِي الغَارِ إِذ يَقُو ُل لِصَاحِبِهِ َ‬
‫ي اثنَي ِ‬
‫ثَانِ َ‬
‫جنُود لَّم تَرَوهَا َوجَ َع َل َكلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفلَى وَكَلِمَ ُة اهللِ ِهيَ العُليَا وَاهللُ عَزِيز حَكِيم﴾ (التوبة‪،‬‬
‫بِ ُ‬

‫آية ‪.)40 :‬‬


‫ولما سمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل‬
‫غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة‪ ،‬فانقلبوا يوماً بعدما أطالوا انتظارهم‪ ،‬فلما‬
‫أووا إلى بيوتهم‪ ،‬أوفى رجل من يهود على أُطُم‪ ،2‬من آطامهم‪ ،‬ألمر ينظر إليه‪ ،‬فبصر برسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه مُبيضين‪ 3‬يزول بهم السراب‪ ،4‬فلم يملك اليهودي أن قال‬
‫بأعلى صوته‪ :‬يا معاشر العرب‪ ،‬هذا جدكم‪ 5‬الذي تنتظرون‪ ،‬فثار المسلمون إلى السالح‪ ،‬فتلقوا‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بظهر الحرة‪ ،‬فعدل بهم ذات اليمين‪ ،‬حتى نزل بهم في بني‬
‫عمرو بن عوف‪ ،‬وذلك يوم االثنين‪ ،6‬من شهر ربيع األول‪ ،7‬فقام أبو بكر للناس‪ ،‬وجلس‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم صامتاً‪ ،‬فطفق من جاء من األنصار ـ ممن لم ير رسول اهلل‬
‫ُحيي أبا بكر‪ ،‬حتى أصابت الشمس رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ـ ي ِّ‬
‫فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عند ذلك‪،‬‬
‫فلبث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة‪ ،8‬وأسس‬
‫المسجد الذي أسس على التقوى‪ ،‬وصلى فيه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ثم ركب راحلته‪.9‬‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.3922 :‬‬


‫‪ 2‬أُطُم‪ :‬بضم أوله وثانيه الحصن‪.‬‬
‫‪ 3‬مُبيضين‪ :‬عليهم ثياب بيض‪.‬‬
‫‪ 4‬السراب‪ :‬أي يزول السراب عن النظر بسبب عروضهم له‪.‬‬
‫‪ 5‬جدكم‪ :‬حظكم وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه‪.‬‬
‫‪ 6‬هذا هو المعتمد وشذ من قال‪ :‬يوم الجمعة الفتح‪ ،‬رقم‪.3906 :‬‬
‫‪ 7‬الهجرة في القرآن الكريم‪ ،‬ألحزمي سمعون‪ ،‬ص‪.351 :‬‬
‫‪ 8‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.352 :‬‬
‫‪ 9‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.3906 :‬‬

‫‪71‬‬
‫وبعد أن قام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم المدة التي مكثها بقُباء‪ ،‬وأراد أن يدخل المدينة بعث‬
‫إلى األنصار فجاؤوا إلى نبي اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأبي بكر‪ ،‬فسلموا عليهما وقالوا‪ :‬اركبا‬
‫حطوا دونهما السالح‪.‬‬
‫آمنين مطاعين فركب نبي اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأبو بكر‪ ،‬و ُّ‬
‫ي اهلل فأشرفوا ينظرون‬
‫وعند وصوله صلى اهلل عليه وسلم إلى المدينة‪ ،‬قيل في المدينة‪ :‬جاء نب ُ‬
‫ويقولون‪ :‬جاء نبي اهلل‪.1‬‬
‫فكان يوم فرح وابتهاج لم تر المدينة يوماً مثله‪ ،‬ولبس الناس أحسن مالبسهم كأنهم في يوم عيد‪،‬‬
‫ولقد كان حقاً يوم عيد‪ ،‬ألنه اليوم الذي انتقل فيه اإلسالم من ذلك الحيز الضيق في مكة‪ ،‬إلى‬
‫رحابة االنطالق واالنتشار بهذه البقعة المباركة "المدينة" ومنها إلى سائر بقاع األرض‪ .‬لقد‬
‫أحسَّ أهل المدينة بالفضل الذي حياهم اهلل به‪ ،‬وبالشرف الذي اختصهم به أيضاً‪ ،‬فقد صارت‬
‫بلدتهم موطناً إليواء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وصحابته المهاجرين‪ ،‬ثم لنصرة اإلسالم‪،‬‬
‫كما أصبحت موطناً للنظام اإلسالمي العام‪ ،‬والتفصيلي بكل مقوماته‪ ،‬لذلك خرج أهل المدينة‬
‫يهللون في فرح وابتهاج‪ ،‬ويقولون يا رسول اهلل‪ ،‬يا محمد‪ ،‬يا رسول اهلل‪.2‬‬
‫روى اإلمام مسلم بسنده قال‪ :‬عندما دخل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم المدينة صعد الرجال‬
‫والنساء فوق البيوت‪ ،‬وتفرق الغلمان والخدم في الطرق‪ ،‬ينادون‪ :‬يا محمد يا رسول اهلل‪ ،‬يا‬
‫محمد يا رسول اهلل‪ ، 3‬وبعد هذا االستقبال الجماهيري العظيم الذي لم ير مثله في تاريخ‬
‫اإلنسانية‪ ،‬سار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حتى نزل في دار أبي أيوب األنصاري رضي‬
‫اهلل عنه‪ ،‬فعن أنس رضي اهلل عنه في حديث الهجرة الطويل‪ :‬فأقبل يسير حتى نزل جانب دار‬
‫أبي أيوب‪ ،‬فإنه ليحدث أهله‪ ،4‬إذ سمع به عبد اهلل بن سالم‪ ،‬وهو في نخل ألهله يخترف‪ 5‬لهم‬
‫فعجال أن يضع الذي يخترف لهم فيها‪ ،‬فجاء وهي معه فسمع من نبي اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫ثم رجع إلى أهله‪ ،‬فقال نبي اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أي بيوت أهلنا‪ 6‬أقرب؟» فقال أبو‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.3911 :‬‬


‫‪ 2‬الهجرة في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.353 :‬‬
‫‪3‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.3014 :‬‬
‫‪ 4‬فتح الباري (‪.)251 /7‬‬
‫‪ 5‬يخترف‪ :‬يجتني من ثمارها‪.‬‬
‫‪ 6‬الهجرة في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.354 :‬‬

‫‪72‬‬
‫أيوب‪ :‬أنا يا نبي اهلل‪ ،‬هذه داري‪ ،‬وهذا بابي قال‪« :‬فأنطلق فهيء لنا مقيالً»‪ ،1‬ثم نزل رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه وبهذا قد تمت هجرته صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهجرة أصحابه رضي اهلل عنهم‪ ،‬ولم تنته الهجرة بأهدافها وغاياتها بل بدأت‬
‫بعد وصول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سالماً إلى المدينة‪ ،‬وبدأت معها رحلة المتاعب‪،‬‬
‫والمصاعب والتحديات‪ ،‬فتغلب عليها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم للوصول للمستقبل الباهر‬
‫لألمة‪ ،‬والدولة اإلسالمية‪ ،‬التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة‪ ،‬على أسس من‬
‫اإليمان والتقوى واإلحسان والعدل‪ ،‬بعد أن تغلبت على أقوى دولتين كانتا تحكمان العالم‪،‬‬
‫وهما‪ :‬دولة الفرس ودولة الروم‪.2‬‬
‫ومن الفوائد والدروس والعبر‪:‬‬
‫ـ الصراع بين الحق والباطل صراع قديم وممتد‪:‬‬
‫وهو سنة إلهية نافذة‪ ،‬قال عز وجل‪﴿ :‬الَّذِي َ‬
‫ن أُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيرِ حَقٍّ إِالَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اهللُ‬

‫صوَامِ ُع وَبِيَع وَصَلَوَات وَ َمسَاجِدُ يُذكَ ُر فِيهَا اسمُ اهللِ‬


‫ال دَفعُ اهللَِّ النَّاسَ بَعضَهُم بِبَعض لَّهُدِّمَت َ‬
‫وَلَو َ‬
‫َن اهللُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اهللَ لَقَوِيٌّ عَزِيز﴾ (الحج‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬
‫كَثِيرًا وَلَيَنصُر َّ‬

‫سلِي إِنَّ اهللَ قَوِيٌّ عَزِيز﴾‪.‬‬ ‫ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة ﴿كَتَ َ‬
‫ب اهللُ ألََغلِبَنَّ أَنَا وَرُ ُ‬

‫ـ مكر األعداء بالمصلحين مستمر متكرر‪:‬‬


‫سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي واإلخراج من األرض‪ ،‬وعلى المصلح أن يلجأ إلى‬
‫ربه‪ ،‬وأن يثق به ويتوكل عليه‪ ،‬ويعلم‪ :‬أن المكر السيئ ال يحيق إال بأهله‪ ،‬قال عز وجل ‪:‬‬
‫هلل خَي ُر‬
‫هلل وَا ُ‬
‫ن وَيَمكُ ُر ا ُ‬
‫ك وَيَم ُكرُو َ‬
‫ك أَو يُخرِجُو َ‬
‫ك أَو يَقتُلُو َ‬ ‫﴿وَإِذ يَمكُ ُر بِ َ‬
‫ك الَّذِينَ كَ َفرُوا لِيُثبِتُو َ‬

‫المَاكِرِينَ﴾ (األنفال‪ ،‬آية ‪.)30 :‬‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬حديث رقم‪ .3911 :‬مقيالً‪ :‬مكان تقع فيه القيلولة‪.‬‬
‫‪ 2‬الهجرة في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.355 :‬‬

‫‪73‬‬
‫ـ دقة التخطيط واألخذ باألسباب‪:‬‬
‫إن من تأمل حادثة الهجرة ورأى التخطيط فيها‪ ،‬ودقة األخذ باألسباب من ابتدائها إلى انتهائها‪،‬‬
‫ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها‪ ،‬يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم كان قائماً‪ ،‬وأن التخطيط جزء من السنة النبوية‪ ،‬وهو جزء من التكليف اإللهي‬
‫في كل ما طولب به المسلم‪ ،‬وأن الذين يميلون إلى العفوية‪ ،‬بحجة أن التخطيط وإحكام األمور‬
‫ليسا من السنة‪ ،‬أمثال هؤالء مخطؤون‪ ،‬ويجنون على أنفسهم‪ ،‬وعلى المسلمين‪.1‬‬
‫*ـ وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت‪ ،‬برغم ما كان يكتنفها من صعاب وعقبات وذلك‬
‫أن كل أمر من أمور الهجرة‪ ،‬كان مدروساً دراسة وافية‪ ،‬فمثالً‪:‬‬
‫ـ جاء صلى اهلل عل يه وسلم إلى بيت أبي بكر‪ ،‬في وقت شدة الحر ـ الوقت الذي ال يخرج فيه‬
‫أحد ـ بل من عادته لم يكن يأتي له في ذلك الوقت لماذا؟ حتى ال يراه أحد‪.‬‬
‫ـ إخفاء شخصيته صلى اهلل عليه وسلم في أثناء مجيئه للصديق‪ ،‬وجاء إلى بيت الصديق متلثماً‪،‬‬
‫ألن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم‪.2‬‬
‫ـ أمر صلى اهلل عليه وسلم أبا بكر أن يخرج من عنده‪ ،‬ولما تكلم لم يبين إال األمر بالهجرة‪،‬‬
‫دون تحديد االتجاه‪.‬‬
‫ـ كان الخروج ليالً‪ ،‬ومن باب خلفي في بيت أبي بكر‪.‬‬
‫ـ بلغ االحتياط مداه‪ ،‬باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم‪ ،‬واالستعانة في ذلك بخبير يعرف مسالك‬
‫البادية‪ ،‬ومسارب الصحراء‪ ،‬ولو كان الخبير مشركاً‪ ،‬مادام على خلق ورزانة وفيه دليل على‬
‫أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم كان ال يحجم عن االستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها‪.3‬‬
‫*ـ انتفاء شخصيات عاقلة لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة‪ ،‬ويالحظ أن هذه الشخصيات كلها‬
‫تترابط برباط القرابة‪ ،‬أو برباط العمل الواحد‪ ،‬مما يجعل من هؤالء األفراد‪ ،‬وحدة متعاونة‬
‫على تحقيق الهدف الكبير‪.‬‬

‫‪ 1‬األساس في السنة‪ ،‬سعيد حوى (‪.)357 /1‬‬


‫‪ 2‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)385 /1‬‬
‫‪ 3‬الهجرة في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.361 :‬‬

‫‪74‬‬
‫*ـ وضع كل فرد من أفراد هذه األسرة في عمله المناسب‪ ،‬الذي يجيد القيام به‪ ،‬على أحسن‬
‫وجه‪ ،‬ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته‪.‬‬
‫*ـ فكرة نوم علي بن أبي طالب مكان الرسول صلى اهلل عليه وسلم فكرة ناجحة‪ ،‬قد ضللت‬
‫القوم وخدعتهم وصرفتهم عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬حتى خرج في جنح الليل‪ ،‬تحرسه‬
‫عناية اهلل وهم نائمون‪ ،‬وقد ظلت أبصارهم معلقة بعد اليقظة‪ ،‬بمضجع الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فما كانوا يشكون في أنه ما يزال نائماً مسجى في بردته‪ ،‬في حين أن النائم هو علي بن‬
‫أبي طالب رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫*ـ وقد كان عمل أبطال هذه الرحالة على نحو التالي‪:‬‬
‫ــ علي رضي اهلل عنه‪ :‬ينام في فراش الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ليخدع القوم ويسلم الودائع‬
‫ويلحق بالرسول صلى اهلل عليه وسلم بعد ذلك‪.‬‬
‫ــ عبد اهلل بن أبي بكر‪ :‬رجل المخابرات الصادق وكاشف تحركات العدو‪.‬‬
‫ــ أسماء ذات النطاقين‪ :‬حاملة التموين من مكة إلى الغار‪ ،‬وسط جنون المشركين‪ ،‬بحثاً عن‬
‫محمد صلى اهلل عليه وسلم ليقتلوه‪.‬‬
‫ــ عامر بن فهيرة‪ :‬الراعي البسيط الذي قدم اللبن واللحم إلى صاحبي الغار‪ ،‬وبدد آثار أقدام‬
‫المسيرة التاريخية بأغنامه‪ ،‬كي ال يتفرسها القوم‪ ،‬لقد كان هذا الراعي يقوم بدور اإلمداد‪،‬‬
‫والتموين‪ ،‬والتعمية‪.‬‬
‫ــ عبد اهلل بن أريقط‪ :‬دليل الهجرة األمين‪ ،‬وخبير الصحراء البصير ينتظر في يقظة إشارة‬
‫البدء من الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ليأخذ الرد طريقه من الغار إلى يثرب‪.‬‬
‫فهذا تدبير األمور على نحو رائع دقيق‪ ،‬واحتياط الظروف بأسلوب حكيم‪ ،‬ووضع كل شخص‬
‫من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب وسد لجميع الثغرات‪ ،‬وتغطية بديعة لكل مطالب‬
‫الرحلة واختصار على العدد الالزم من األشخاص من غير زيادة وال إسراف‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫لقد أخذ الرسول صلى اهلل عليه وسلم باألسباب المعقولة أخذاً قوياً حسب استطاعته وقدرته‪،‬‬
‫ومن ثم باتت عناية اهلل متوقعة‪.1‬‬
‫ـ األخذ باألسباب أمر ضروري‪:‬‬
‫إن اتخاذ األسباب أمر ضروري وواجب‪ ،‬ولكن ال يعني ذلك دائماً حصول النتيجة ذلك ألن هذا‬
‫أمر يتعلق بأمر اهلل ومشيئته‪ ،‬ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياً وهو من باب استكمال اتخاذ‬
‫األسباب‪.‬‬
‫إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أعدا كل األسباب‪ ،‬واتخذ كل الوسائل‪ ،‬ولكنه في الوقت نفسه‬
‫مع اهلل يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح وهنا يستجاب الدعاء‪ ،‬وينصرف القوم بعد أن‬
‫وقفوا على باب الغار‪ ،‬وتسيخ فرس سراقة في األرض‪ ،‬ويكلل العمل بالنجاح‪.2‬‬
‫ـ دور المرأة في الهجرة‪:‬‬
‫وقد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة‪ ،‬كان لها فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد‪ ،‬منها‪:‬‬
‫عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة ووعتها‪ ،‬وبلغتها لألمة‪ ،‬وأسماء ذات‬
‫النطاقين‪ ،‬التي أسهمت في تموين الرسول صلى اهلل عليه وسلم وصاحبه في الغار‪ ،‬بالماء‬
‫والغذاء ‪ ،‬وكيف تحملت األذى في سبيل اهلل‪ ،‬فقد حدثتنا عن ذلك فقالت‪ :‬لما خرج رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم وأبو بكر رضي اهلل عنه أتانا نفر من قريش‪ ،‬فيهم أبو جهل بن هشام‬
‫فوقفوا على باب أبي بكر‪ ،‬فخرجت إليهم‪ ،‬فقالوا‪ :‬أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت‪ :‬قلت‪ :‬ال‬
‫أدري واهلل أين أبي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬فرفع أبو جهل يده ـ وكان فاحشاً خبيثاً ـ فلطم خدي لطمة طرح منها قُرطي‪ ،‬قالت‪ :‬ثم‬
‫انصرفوا‪ ،3‬فهذا درس من أسماء رضي اهلل عنها‪ ،‬تعلمه لنساء المسلمين جيالً بعد جيل‪ ،‬كيف‬
‫تخفي أسرار المسلمين عن األعداء وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم‪ ،‬وأما‬
‫درس ها الثاني البليغ فعندما دخل عليها جدُّها أبو قحافة‪ ،‬وقد ذهب بصره‪ ،‬فقال‪ :‬واهلل إني ألراه‬
‫قد فجعكم بماله مع نفسه‪ ،‬قالت‪ :‬كال يا أبت ضع يدك على هذا المال‪ ،‬قالت‪ :‬فوضع يده عليه‪،‬‬
‫‪ 1‬أضواء على الهجرة‪ ،‬لتوفيق محمد‪ ،‬ص‪ 393 :‬ـ ‪.397‬‬
‫‪ 2‬من معين السيرة‪ ،‬ص‪.148 :‬‬
‫‪ 3‬تاريخ الطبري (‪ 379 /2‬ـ ‪.)380‬‬

‫‪76‬‬
‫فقال‪ :‬ال بأس إذا كان ترك لكم هذا‪ ،‬فقد أحسن‪ .‬وفي هذا بالغ لكم‪ ،‬قالت‪ :‬وال واهلل ما ترك لنا‬
‫شيئاً ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك‪.1‬‬
‫ولقد ضربت أسماء رضي اهلل عنها بهذه المواقف لنساء‪ ،‬وبنات المسلمين مثالً هُنا في أمس‬
‫الحاجة إلى االقتداء به والنسج على منواله‪.‬‬
‫وظلت أسماء مع أخواتها في مكة‪ ،‬ال تشكو ضيقاً وال تظهر حاجة حتى بعث النبي صلى اهلل‬
‫عليه وسلم زيد بن حارثة وأبا رافع مواله‪ ،‬وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة‪ ،‬فقدما‬
‫عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه‪ ،‬وسودة بنت زمعة زوجه‪ ،‬وأسامة بن زيد‪ ،‬وأمه بركة المكناة بأم‬
‫أيمن وخرج معهم عبد اهلل بن أبي بكر بعيال أبي بكر‪ ،‬فيهم عائشة وأسماء‪ ،‬فقدموا المدينة‬
‫فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان‪.2‬‬
‫ـ أمانات المشركين عند رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫في إيداع المشركين ودائعهم عند رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مع محاربتهم له‪ ،‬وتصميمهم‬
‫على قتله دليل باهر على تناقضهم العجيب‪ ،‬الذي كانوا واقعين فيه‪ ،‬ففي الوقت الذي كانوا‬
‫يكذبونه ويزعمون أنه ساحر‪ ،‬أو مجنون أو كذاب‪ ،‬لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير‬
‫منه أمانة وصدقاً‪ ،‬فكانوا ال يضعون حوائجهم وال أموالهم التي يخافون عليها إال عنده وهذا‬
‫يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه‪ ،‬وإنما بسبب تكبرهم واستعالئهم‬
‫على الحق الذي جاء به وخوفاً على زعامتهم وطغيانهم(‪ )3‬وصدق اهلل العظيم‪ ،‬إذ يقول‪﴿ :‬قَد‬

‫َذبُونَكَ َولَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اهللِّ يَجحَدُونَ﴾ (األنعام‪ ،‬آية‬


‫ال يُك ِّ‬
‫ن فَإِنَّهُم َ‬
‫ك الَّذِي يَقُولُو َ‬
‫نَعلَ ُم إِنَّهُ لَيَحزُنُ َ‬

‫‪.)33 :‬‬
‫وفي أمر الرسول صلى اهلل عليه وسلم لعليا رضي اهلل عنه بتأدية هذه األمانات ألصحابها في‬
‫مكة‪ ،‬برغم هذه الظروف الشديدة التي كان المفترض أن يكتنفها االضطراب بحيث ال يتجه‬
‫التفكير إال إلى إنجاح خطة هجرته فقط‪ ،‬برغم ذلك فإن الرسول صلى اهلل عليه وسلم ما كان‬
‫‪ 1‬السيرة النبوية البن هشام (‪ )102 /2‬إسناد صحيح‪.‬‬
‫‪ 2‬الهجرة النبوية المباركة‪ ،‬ص‪.128 :‬‬
‫‪ 3‬فقه السيرة‪ ،‬د‪.‬محمد سعيد البوطي‪ ،‬ص‪.193 :‬‬

‫‪77‬‬
‫لينسى‪ ،‬أو ينشغل عن رد األمانات إلى أهلها حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تُنسي‬
‫اإلنسان نفسه‪ ،‬فضالً عن غيره‪.1‬‬
‫ـ وضوح سنة التدرج‪:‬‬
‫حيث نالحظ‪ :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عندما تقابل مع طالئع األنصار ـ في لقائه‬
‫األول ـ لم يفعل سوى ترغيبهم في اإلسالم‪ ،‬وتالوة القرآن عليهم‪ ،‬فلما جاؤوا في العام التالي‪،‬‬
‫بايعهم بيعة النساء على العبادات واألخالق والفضائل‪ ،‬فلما جاءوا في العام الذي يليه‪ ،‬كانت‬
‫بيعة العقبة الثانية على الجهاد والنصر واإليواء‪ ،2‬وجدير المالحظة‪ :‬أن بيعة الحرب لم تتم إال‬
‫بعد عامين كاملين‪ ،‬أي تأهيل وإعداد استمر عامين كاملين‪ ،‬وهكذا تم األمر على تدرج ينسجم‬
‫مع المنهج التربوي الذي نهجت عليه الدعوة من أول يوم‪.3‬‬
‫إنه المنهج الذي هدى اهلل نبيه صلى اهلل عليه وسلم إلى التزامه‪ ،‬ففي البيعة األولى‪ ،‬بايعه هؤالء‬
‫األنصار الجدد على اإلسالم عقيدة ومنهاجاً وتربية‪ ،‬وفي البيعة الثانية‪ ،‬بايعه األنصار على‬
‫حماية الدعوة‪ ،‬واحتضان المجتمع اإلسالمي الذي نضجت ثماره‪ ،‬واشتدت قواعده قوة‬
‫وصالبة‪.‬‬
‫إن هاتين البيعتين أمران متكامالن ضمن المنهج التربوي للدعوة اإلسالمية‪ ،‬وإن األمر األول‬
‫هو المضمون‪ ،‬واألمر الثاني ـ وهو بيعة الحرب ـ هو السياج الذي يحمي ذلك المضمون‪ ،‬نعم‬
‫كانت بيعة الحرب بعد عامين في إعالن القوم اإلسالم‪ ،‬إذ تم إعدادهم حتى غدوا موضع ثقة‬
‫وأهالً لهذه البيعة‪ ،‬ويالحظ‪ :‬أن بيعة الحرب لم يسبق أن تمت قبل ذلك اليوم مع أي مسلم‪ ،‬إنما‬
‫حصلت عندما وجدت الدعوة في هؤالء األنصار‪ ،‬وفي األرض التي يقيمون فيها المعقل‬
‫المالئم‪ ،‬الذي ينطلق منه المحاربون ألن مكة لوضعها عندئذ لم تكن تصلح للحرب‪.4‬‬

‫‪ 1‬الهجرة في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.364 :‬‬


‫‪ 2‬الهجرة النبوية المباركة‪ ،‬ص‪.202 :‬‬
‫‪ 3‬بناء المجتمع اإلسالمي في عصر النبوة‪ ،‬محمد توفيق‪ ،‬ص‪.119 :‬‬
‫‪ 4‬بناء المجتمع اإلسالمي في عصر النبوة‪ ،‬محمد توفيق‪ ،‬ص‪.119 :‬‬

‫‪78‬‬
‫ال أن توجد لهم دار إسالم‪ ،‬تكون لهم‬
‫وقد اقتضت رحمة اهلل بعباده‪ :‬أالا يحمالهم واجب القتال إ ا‬
‫بمثابة معقل يأوون إليه‪ ،‬ويلوذون به‪ ،‬وقد كانت المدينة المنورة أول دار إسالم‪.1‬‬

‫‪ 1‬فقه السيرة للبوطي‪ ،‬ص‪.172 :‬‬

‫‪79‬‬
‫ثانياً‪ :‬دعائم دولة اإلسالم في المدينة‬

‫شرع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منذ دخوله المدينة يسعى لتثبيت دعائم الدولة الجديدة‪،‬‬
‫على قواعد متينة وأُ سس راسخة‪ ،‬فكانت أولى خطواته المباركة‪ ،‬االهتمام ببناء دعائم األمة‪،‬‬
‫كبناء المسجد األعظم بالمدينة‪ ،‬والمؤاخاة بين المهاجرين واألنصار على الحب في اهلل‪،‬‬
‫وإصدار الوثيقة أو الدستور اإلسالمي في المدينة الذي ينظم العالقات بين المسلمين واليهود‬
‫ومشركي المدينة‪ ،‬وإعداد جيش لحماية الدولة‪ ،‬والسعي لتحقيق أهدافها‪ ،‬والعمل على حل‬
‫مشاكل المجتمع الجديد‪ ،‬وتربيته على المنهج الرباني في شؤون الحياة كافة‪ ،‬فقد استمر البناء‬
‫التربوي التعليمي‪ ،‬واستمر القرآن الكريم يتحدث في المدينة عن عظمة اهلل‪ ،‬وحقيقة الكون‬
‫والترغيب في الجنة والترهيب من النار‪ ،‬ويشراع األحكام لتربية األمة ودعم مقومات الدولة‬
‫وكانت مسيرة األمة العلمية والتربوية‪ ،‬تتطور مع مراحل الدعوة وبناء المجتمع‪ ،‬وتأسيس‬
‫الدولة‪ ،‬وعالج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم األزمة االقتصادية بالمدينة واستمر البناء‬
‫التربوي‪ ،‬ففرض الصيام‪ ،‬وفرضت الزكاة‪ ،‬وأخذ المجتمع يزدهر والدولة تتقوى على أسس‬
‫ثابتة قوية‪.‬‬
‫‪1‬ـ بناء المسجد‪:‬‬
‫كان أول ما قام به الرسول صلى اهلل عليه وسلم بالمدينة بناء المسجد‪ ،‬وذلك لتظهر فيه شعائر‬
‫اإلسالم‪ ،‬التي طالما حُوربت‪ ،‬ولتقام فيه الصلوات‪ ،‬التي تربط المرء برب العالمين وتنقي القلب‬
‫من أدران األرض‪ ،‬وأدناس الحياة‪ ،1‬وشرع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في العمل مع‬
‫أصحابه‪ ،‬وضرب أول معول في حفر األساس الذي كان عمقه ثالثة أذرع‪ ،‬ثم اندفع المسلمون‬
‫في بناء هذا األساس بالحجارة والجدران ـ التي لم تزد عن قامة الرجل إال قليالً ـ باللبن الذي‬

‫‪ 1‬فقه السيرة للغزالي‪ ،‬ص‪ ،191 :‬فقه السيرة للبوطي‪ ،‬ص‪.151 :‬‬

‫‪80‬‬
‫يعجن بالتراب‪ ،‬ويسوى على أشكال أحجار صالحة للبناء‪ ،1‬وفي الناحية الشمالية منه أقيمت‬
‫ظلة من الجريد على قوائم من جذوع النخل كانت تسمى الصفة أما باقي أجزاء المسجد‪ ،‬فقد‬
‫تركت مكشوفة بال غطاء‪ ،2‬وأما أبواب المسجد فكانت ثالثة‪ :‬باب في مؤخرته من الجهة‬
‫الجنوبية‪ ،‬وباب في الجهة الشرقية‪ ،‬كان يدخل منه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بإزاء باب‬
‫بيت عائشة‪ ،‬وباب من الجهة الغربية يقال له‪ :‬باب الرحمة‪ ،‬أو باب عاتكة‪.3‬‬
‫حجَر حول مسجده الشريف‪ ،‬لتكون مساكن له وألهله‪،‬‬
‫وبني لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ُ‬
‫ولم تكن الحجر كبيوت الملوك واألكاسرة والقياصرة‪ ،‬بل كانت بيوت من ترَ افع عن الدنيا‬
‫وزخارفها‪ ،‬وابتغى الدارة اآلخرة‪ ،‬فقد كانت كمسجده مبنية من اللبن والطين وبعض الحجارة‪،‬‬
‫وكانت سقوفها من جذوع النخل والجريد وكانت صغيرة الفناء‪ ،‬قصيرة البناء‪ ،‬ينالها الغالم‬
‫الفارغ بيده‪ ،‬قال الحسن البصري ـ وكان غالماً مع أمه خيرة موالة أم سلمة ـ‪ :‬قد كنت أنال‬
‫أول سقف في حُجَر النبي صلى اهلل عليه وسلم بيدي‪.4‬‬
‫وهكذا كانت بيوت النبي صلى اهلل عليه وسلم في غاية البساطة بينما كانت المدينة تشتهر‬
‫بالحصون العالية‪ ،‬التي كان يتخذها علية القوم تباهياً بها في السالم‪ ،‬وااتقاء بها في الحرب‪،‬‬
‫وكانوا من تفاخرهم بها يضعون لها أسماء‪ ،‬كما كان حصن عبد اهلل بن أبَّي ابن سلول اسمه‬
‫مزاحم‪ ،‬وكما كان حصن حسان بن ثابت رضي اهلل عنهما اسمه فارع‪ ،‬إن النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم بنى بيوته بذلك الشكل المتواضع‪ ،‬وكان باستطاعته أن يبني لنفسه قصوراً شاهقة‪ ،‬لو أنه‬
‫أشار إلى رغبته بذلك مجرد إشارة‪ ،‬لسارع األنصار في بنائها له‪ ،‬كما كان بإمكانه أن يشيدها‬
‫من أموال الدولة العامة كالفيء ونحوه ولكنه صلى اهلل عليه وسلم لم يفعل ذلك‪ ،‬ليضرب ألمته‬
‫ال رفيعاً وقدوة عالية في التواضع والزهد في الدنيا‪ ،‬وجمع الهمة والعزيمة للعمل لما بعد‬
‫مث ً‬
‫الموت‪ ،5‬ومن أهم الفوائد والدروس من بناء المسجد‪:‬‬
‫أ ـ المسجد من أهم الركائز في بناء المجتمع‪:‬‬
‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)416 /1‬‬
‫‪ 2‬محمد رسول اهلل‪ ،‬لمحمد رضا‪ ،‬ص‪.143 :‬‬
‫‪ 3‬التاريخ السياسي والعسكري لدولة المدينة‪ ،‬علي معطي‪ ،‬ص‪.157 :‬‬
‫‪ 4‬السيرة النبوية ألبي شهبة (‪.)36 /2‬‬
‫‪ 5‬التاريخ اإلسالمي للحميدي (‪.)13 /4‬‬

‫‪81‬‬
‫إن إقامة المساجد من أهم الركائز في بناء المجتمع اإلسالمي ذلك أن المجتمع المسلم إنما‬
‫يكتسب صفة الرسوخ والتماسك بالتزام نظام اإلسالم وعقيدته وآدابه‪ ،‬وإنما ينبع ذلك من روح‬
‫المسجد ووحيه‪.1‬‬
‫َولِ يَوم أَحَقُّ أَن تَقُو َم فِيهِ فِي ِه رِجَال‬
‫ُسسَ عَلَى التَّقوَى مِن أ َّ‬ ‫ـ قال تعالى‪َ ﴿ :‬‬
‫ال تَقُم فِي ِه أَبَدًا لَّمَسجِد أ ِّ‬

‫ِب المُطَّهِّرِينَ﴾ (التوبة‪ ،‬آية ‪.)108 :‬‬


‫َاهلل يُح ُّ‬
‫ن أَن يَتَطَهَّرُوا و ُّ‬
‫يُحِبُّو َ‬

‫ـ وقال تعالى‪﴿ :‬فِي بُيُوت أَذِنَ اهللَُّ أَن تُرفَعَ وَيُذكَ َر فِيهَا اسمُهُ يُسَبِّ ُ‬
‫ح لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَاآلصَالِ *‬

‫ب فِيهِ‬
‫ن يَومًا تَتَقَلَّ ُ‬
‫ال بَيع عَن ذِك ِر اهللَِّ وَإِقَامِ الصَّالَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُو َ‬
‫ال تُلهِيهِم تِجَارَة وَ َ‬
‫رِجَال َّ‬
‫القُلُوبُ وَاألَبصَارُ* لِيَج ِزيَهُ ُم اهللَُّ أَحسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضلِهِ وَاهللَُّ يَرزُقُ مَن يَشَاء بِغَي ِر‬
‫حِسَاب﴾ (النور‪ ،‬آية ‪ 36 :‬ـ ‪.)38‬‬

‫ب ـ المسجد رمز لشمولية اإلسالم‪:‬‬


‫ـ حيث أُنشيء ليكون متعبداً لصالة المؤمنين‪ ،‬وذكرهم هلل تعالى وتسبيحهم له‪ ،‬وتقديسهم إياه‬
‫كل مسلم‪ ،‬ويقيم فيه صالته وعبادته‪ ،‬وال يضاره أحد‬
‫بحمده‪ ،‬وشكره على نعمه عليهم‪ ،‬يدخله ُّ‬
‫مادام حافظاً لقداسته‪ ،‬ومؤدياً حق حرمته‪.2‬‬
‫ـ كما أنشىء المسجد ليكون ملتقى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بأصحابه‪ ،‬والوافدين عليه‬
‫طلباً للهداية‪ ،‬ورغبة في اإليمان بدعوته وتصديق رسالته‪.3‬‬
‫ـ وهو قد أنشىء ليكون جامعة للعلوم والمعارف الكونية والعقلية والتنزيلية‪ ،‬التي حثَّ القرآن‬
‫الكريم على النظر فيها‪ ،‬ليكون مدرسة يتدارس فيها المؤمنون أفكارهم‪ ،‬وثمرات عقولهم‪،‬‬
‫ومعهداً يؤمه طالب العلم من كل صوب ليتفقهوا في الدين‪ ،‬ويرجعوا إلى قومهم مبشرين‬
‫ال بعد جيل‪.4‬‬
‫ومنذرين‪ ،‬داعين إلى اهلل هادين‪ ،‬يتوارثونها جي ً‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية (‪ )425 /1‬للصالبي‪.‬‬


‫‪ 2‬محمد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لمحمد الصادق (‪.)33 /3‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪ 34 /3‬ـ ‪.)35‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه (‪.)33 /3‬‬

‫‪82‬‬
‫ـ وهو قد أنشىء ليجد فيه الغريب مأوى‪ ،‬وابن السبيل مستقراً ال تكدره مَِّنة أحد عليه‪ ،‬فينهل‬
‫من رفده‪ ،‬ويعب من هدايته ما أطاق استعداده النفسي والعقلي‪ ،‬ال يصده أحد عن علم أو معرفة‬
‫أو لون من ألوان الهداية‪ ،‬فكم من قائد يتخرج‪ ،‬وبرزت بطولته بين جدرانه‪ ،‬وكم من عالم‬
‫استبحر علمه في رحابه‪ ،‬ثم خرج به على الناس يروي ظمأهم للمعرفة وكم من داع إلى اهلل‬
‫تلقى في ساحته دروس الدعوة إلى اهلل‪ ،‬فكان أسوة الدعاة‪ ،‬وقدوة الهداة‪ ،‬وريحانة جذب القلوب‬
‫شذاها‪ ،‬فانجفلت إليها تأخذ عنها الهداية‪ ،‬لتستضيء بأنوارها‪.‬‬
‫وكم من إعرابي جلف ال يفرق بين األحمر واألصفر وفد عليه فدخله‪ ،‬ورأى أصحاب رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم حوله هالة تحف به‪ ،‬يسمعون منه‪ ،‬وكأن على رؤوسهم الطير فسمع‬
‫معهم‪ ،‬وكانت عنده نعمة العقل مخبأة تحت ستار الجهالة‪ ،‬فانكشف له غطاء عقله‪ ،‬فعقل وفقه‬
‫واهتدى واستضاء‪ ،‬ثم عاد إلى قومه إماماً يدعوهم إلى اهلل‪ ،‬ويربيهم بعلمه الذي علم وسلوكه‬
‫الذي سلك‪ ،‬فآمنوا بدعوته واهتدوا بهديه‪ ،‬فكانوا سطراً منيراً في كتاب التاريخ اإلسالمي‪.1‬‬
‫ـ وهو قد أنشىء ليكون قلعة االجتماع إذا استنفروا‪ ،‬تعقد فيه أولوية الجهاد‪ ،‬والدعوة إلى اهلل‪،‬‬
‫وتخفق فيه فوق رؤوس القادة الرايات‪ ،‬للتوجه إلى مواقع األحداث وفي ظلها يقف جند اهلل في‬
‫نشوة ترقب النصر أو الشهادة‪.2‬‬
‫ـ وهو قد أنشىء ليجد فيه المجتمع المسلم الجديد ركناً في زواياه‪ ،‬ليكون مشفىً يستشفى فيه‬
‫جرحى كتائب الجهاد‪ ،‬ليتمكن نبي اهلل صلى اهلل عليه وسلم من عيادتهم‪ ،‬والنظر في أحوالهم‬
‫واالستطباب لهم‪ ،‬ومداواتهم في غير مشقة وال نصب‪ ،‬تقديراً لفضلهم‪.3‬‬
‫ـ وهو قد أنشى ء ليكون مركزاً لبريد اإلسالم‪ ،‬منه تصدر األخبار‪ ،‬ويبرد البريد‪ ،‬وتصدر‬
‫الرسائل‪ ،‬وفيه تُتلقى األنباء السياسية سلماً أو حرباً‪ ،‬وفيه تُتلقى وتُقرأ رسائل البشائر بالنصر‪،‬‬
‫ورسائل طلب المدد‪ ،‬وفيه يُنعى المستشهدون في معارك الجهاد‪ ،‬ليتأسى بهم المتأسون‬
‫وليتنافس في االقتداء بهم المتنافسون‪.4‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪ 34 /3‬ـ ‪.)35‬‬


‫‪ 2‬محمد رسول اهلل لمحمد الصادق عرجون (‪ 34 /3‬ـ ‪.)35‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪ 34 /3‬ـ ‪.)35‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه (‪.)35 /3‬‬

‫‪83‬‬
‫ـ وهو قد أنشىء ليكون مرقباً للمجتمع المسلم‪ ،‬يتعرف منه على حركات العدو المريبة‬
‫ويراقبها‪ ،‬وال سيما األعداء الذين معه يساكنونه ويخالطونه في بلده‪ ،‬من شراذم اليهود‪ ،‬وزمر‬
‫المنافقين‪ ،‬ونفاقات الوثنية‪ ،‬الذين انغمسوا في الشرك‪ ،‬فلم يتركوه ليتجنب المجتمع المسلم عاقبة‬
‫كيدهم‪ ،‬وسوء مكرهم وتدبيرهم‪ ،‬ويأمن مغبة‪ 1‬غدرهم وخيانتهم‪.2‬‬
‫ج ـ التربية بالقدوة العلمية‪:‬‬
‫من الحقائق الثابتة أن النبي صلى اهلل عليه وسلم شارك أصحابه العمل والبناء‪ ،‬فكان يحمل‬
‫الحجارة وينقل الطين على صدره وكتفيه‪ ،‬ويحفر األرض بيديه كأي واحد منهم‪ ،‬فكان مثال‬
‫الحاكم العادل الذي ال يفرق بين رئيس ومرؤوس أو بين قائد ومقود‪ ،‬أو بين سيد ومسود‪ ،‬أو‬
‫بين غني وفقير فالكل سواسية أمام اهلل‪ ،‬ال فرق بين مسلم وآخر إال بالتقوى‪ ،‬ذلك هو اإلسالم‬
‫عدالة ومساواة في كل شيء‪ ،‬والفضل فيه يكون لصاحب العطاء في العمل الجماعي للمصلحة‬
‫العامة‪ ،‬وبهذا الفضل ثواب من اهلل‪ ،‬والرسول صلى اهلل عليه وسلم كغيره من المسلمين‪ ،‬ال‬
‫يطلب إال ثواب اهلل‪ ،3‬فقد كانت مشاركة النبي صلى اهلل عليه وسلم في عملية البناء ككل العمال‬
‫الذين شاركوا فيه‪ ،‬وليس بقطع الشريط الحريري فقط‪ ،‬وليس بالضربة األولى بالفأس فقط‪ ،‬بل‬
‫غاض بعملية البناء كاملة‪ ،‬وقد دُهش المسلمون من النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقد علته‬
‫الغيرة‪ ،‬فتقدم أسيد بن حُضير رضي اهلل عنه ليحمل عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫يا رسول اهلل‪ ،‬أعطينه‪ ،‬فقال‪ :‬اذهب فاحتمل غيره فإنك لست بأفقر إلى اهلل مني‪ ،4‬وقد سمع‬
‫المسلمون ما يقول النبي صلى اهلل عليه وسلم لصاحبه‪ ،‬فازدادوا نشاطاً‪ ،‬واندفاعاً في العمل‪.5‬‬
‫إنه مشهد فريد من نوعه‪ ،‬وال مثيل له في دنيا الناس‪ ،‬وإذا كان الزعماء والحكام قد يقدمونه‬
‫على المشاركة أحياناً بالعمل‪ ،‬لتكون شاشات التلفزيون جاهزة لنقل أعمالهم‪ ،‬وتمأل الدنيا في‬
‫الصحف‪ ،‬ووسائل اإلعالم كلها‪ ،‬بالحديث عن أخالقهم وتواضعهم‪ ،‬فالنبي صلى اهلل عليه وسلم‬

‫‪ 1‬المغبة من كل شيء‪ :‬عاقبته وآخره‪.‬‬


‫‪ 2‬محمد رسول اهلل (‪.)36 /3‬‬
‫‪ 3‬التاريخ السياسي والعسكري‪ ،‬د‪ .‬علي معطي‪ ،‬ص‪.158 :‬‬
‫‪ 4‬صور من حياة الرسول‪ ،‬أمين دويدار‪ ،‬ص‪.261 :‬‬
‫‪ 5‬التاريخ السياسي والعسكري‪ ،‬د‪ .‬علي معطي‪ ،‬ص‪.158 :‬‬

‫‪84‬‬
‫ينازع الحجر أحد أفراد المسلمين ويبين له أنه أفقر إلى اهلل تعالى‪ ،‬وأحرص على ثوابه منه‪،‬‬
‫وقد تفاعل الصحابة الكرام تفاعالً عظيماً في البناء‪ ،‬وأنشدوا هذا البيت‪:‬‬
‫لئن قعدنا والنبي يعمل‬
‫لذاك منا العمل المُضلُّل‬
‫إن هذه التربية العملية ال تتم من خالل الموعظة‪ ،‬وال من خالل الكالم المنمق‪ ،‬وإنما تتم من‬
‫خالل العمل الحيا الداؤوب‪ ،‬والقدرة المصفاة من رب العالمين‪ ،‬والتي ما كان يمكن أن تتم في‬
‫أجواء مكة‪ ،‬والمالحقة واالضطهاد والمطاردة فيها‪ ،‬إنما تتم في هذا المجتمع الجديد‪ ،‬والدولة‬
‫التي تُبنى‪ ،‬وكأنما غدا هذا الجمع من الصحابة الكرام كله صوتاً واحداً وقلباً واحداً‪ ،‬فمضى‬
‫يهتف‪:‬‬
‫اللهم إنا العيش عيشُ اآلخرة‬
‫فانصر األنصار والمهاجرة‬
‫ويهتف بلحن واحد‪:‬‬
‫لئن قعدنا والنبي يعمل‬
‫فذاك منا العمل المُضَلُّل‬
‫وكان الهتاف الثالث‪:‬‬
‫هذي الجمال ال جمالُ خيبر‬
‫هذا أبر لربنا وأطهر‬
‫فحمل التمر والزبيب من خيبر إلى المدينة كان له مكانة عظيمة في المجتمع المدني‪ ،‬لكنه‬
‫أصبح ال يذكر أمام حمل الطوب لبناء المسجد النبوي العظيم‪ ،‬فقد أيقنوا بقوله تعالى‪ ":‬مَا عِندَكُم‬
‫يَنفَدُ وَمَا عِن َد اهللِّ بَاق" (النحل‪ ،‬آية ‪.)96 :‬‬
‫وأما الهتاف الرابع‪:‬‬
‫ال يستوي من يعمر المساجدا‬
‫يدأب فيها قائمًا وقاعداً‬

‫‪85‬‬
‫‪1‬‬
‫ومن يُرى عن الغبار حائداً‬
‫د ـ االهتمام بالخبرة واالختصاص‪:‬‬
‫أخرج اإلمام أحمد عن طلق بن علي اليمامي الحنفي‪ ،‬قال‪ :‬بنيت المسجد مع رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬فكان يقول‪« :‬قرّبوا اليمامى من الطين‪ ،‬فإنه أحسنكم له مسيساً»‪ ،2‬وأخرج‬
‫اإلمام أحمد عن طلق أيضاً قال‪ :‬جئت إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد‪،‬‬
‫وكأنه لم يعجبه عملهم‪ ،‬فأخذت المسحاة فخلطت الطين‪ ،‬فكأنه أعجبه فقال‪« :‬دعوا الحنفي‬
‫والطين‪ ،‬فإنه أضبطكم للطين»‪ ،‬وأخرج ابن حيان عن طلق‪ ،‬قال‪ :‬فقلت‪ :‬يا رسول اهلل أأنقل‬
‫كما ينقلون؟ قال‪« :‬ال‪ ،‬ولكن أخلط لهم الطين فأنت أعلم به»‪ ،3‬فقد اهتم النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم بهذا الوافد على المدينة‪ ،‬والذي لم يكن من المسلمين األوائل ووظف خبرته في خلط‬
‫الطين‪ ،‬وفي قوة العمل‪ ،‬وهو درس للمسلمين في الثناء على الكفاءات واالستفادة منها‪ ،‬وإرشاد‬
‫نبوي كريم في كيفية التعامل معها‪ ،‬وما أحوجنا إلى هذا الفهم العميق‪.4‬‬
‫هـ ـ شعار الدولة المسلمة‪:‬‬
‫إن أذان الصالة شعار ألول دولة إسالمية عالمية "اهلل أكبر‪ ،‬اهلل أكبر" إنها تعني أن اهلل أكبر‬
‫من أولئك الطغاة‪ ،‬وأكبر من صانعي العقبات‪ ،‬وهو الغالب على أمره‪" ،‬أشهد أن ال إله إال اهلل"‬
‫أي‪ :‬ال حاكمية وال سيادة وال سلطة‪ ،‬إال هلل رب العالمين "إن الحكم إال هلل" فمعنى ال إله إال اهلل‬
‫ال حاكم وال آمر وال مشرع إال اهلل "أشهد أن محمداً رسول اهلل" أسلمه اهلل تعالى القيادة‪ ،‬فليس‬
‫ألحد أن ينزعها منه‪ ،‬فهو ماض بها إلى أن يكمل اهلل دينه بما ينزله على رسوله من قرآن‪،‬‬
‫وبما يلهمه إياه من سنة‪ ،5‬ويعني االعتراف لرسالة اهلل بالرسالة‪ ،‬والزعامة الدينية والدنيوية‬
‫والسمع والطاعة له‪.6‬‬

‫‪ 1‬فتح الباري (‪ ،)314 /7‬السيرة البن هشام (‪.)142 /2‬‬


‫‪ 2‬مسند أحمد‪ ،‬مجمع الزوائد (‪.)9 /2‬‬
‫‪ 3‬صحيح ابن حبان‪ ،‬الحديث رقم‪.1122 :‬‬
‫‪ 4‬التربية القيادية (‪.)252 /2‬‬
‫‪ 5‬قراءة سياسية للسيرة النبوية لمحمد قلعجي‪ ،‬ص‪.114 :‬‬
‫‪ 6‬دولة الرسول من التكوين‪ ،‬ص‪.438 :‬‬

‫‪86‬‬
‫"حيَّ على الصالة‪ ..‬حيَّ على الفالح" أقبل يا أيها اإلنسان لالنضواء تحت لواء الدولة التي‬
‫أخلصت وجعلت من أهدافها تمتين العالقة بين المسلم وخالقه‪ ،‬وتمتين العالقة بين المؤمنين‬
‫على أساس من القيم السامية "قد قامت الصالة"‪ ،‬وقد اختيرت الصالة من بين سائر العبادات‪،‬‬
‫ألنها عماد الدين كله‪ ،‬وألنها بما فيها من الشعائر كالركوع والسجود والقيام أعظم مظهر‬
‫لمظاهر العبادة بمعناها الواسع‪ ،‬التي تعني الخضوع والتذلل واالستكانة‪ ،‬فهو خضوع ليس بعده‬
‫خضوع فكل طاعة هلل على وجه الخضوع والتذلل عبادة‪ ،‬فهي طاعة العبد لسيده‪ ،‬فيقف بين‬
‫يديه قد أسلم نفسه طاعة وتذلالً‪.‬‬
‫ت‬
‫ن اهللَِّ لَمَّا جَاء ِنيَ البَِّينَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِر ُ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬قُل إِنِّي نُهِيتُ أَن أَعبُدَ الَّذِينَ تَدعُو َ‬
‫ن مِن دُو ِ‬

‫أَن أُسِلمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ﴾ (غافر‪ ،‬آية ‪.)66 :‬‬

‫وهذا االرتباط بين شعار الدولة الرسمي بحاكمية اهلل‪ ،‬وسيادة الشرع‪ ،‬سقوط الطواغيت‪،‬‬
‫وقوانينهم وأنظمتهم وشرائعهم‪ ،‬بـ "حيَّ على الفالح‪ ..‬قد قامت الصالة" يشير إلى أنه ال قيام‬
‫للصالة‪ ،‬وال إقامة لها كما ينبغي إال في ظل دولة تقوم عليها وتقوم بها ولها‪ ،‬فقد كان‬
‫المسلمون يصلون خفية في شعاب مكة قبل قيام دولتهم‪ ،‬أما وقد قامت تحت سيوف األنصار‪،‬‬
‫فليجهروا باألذان واإلقامة‪ ،‬وليركعوا ويسجدوا هلل رب العالمين‪.‬‬
‫إن الواقع التاريخي خير شاهد على أن اهلل ال ُيعبد في األرض حق عبادته‪ ،‬إال في ظل دولة‬
‫قوية تحمي رعاياها من أعداء الدين‪ ،‬ثم تتكرر كلمات األذان‪ :‬اهلل أكبر‪ ..‬اهلل أكبر للتأكيد على‬
‫المعاني السابقة‪.1‬‬

‫األمن االجتماعي في الدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية‪:‬‬


‫تهتم الدولة بالمساجد وتعمل على تطويرها من خالل تأسيس وزارة أوقاف وإرشاد مستقلة‬
‫قادرة على المساهمة الحقيقية والفعالة في التنمية المجتمعية وفق فهم إسالمي يدرك الواقع‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية (‪ )430 /1‬للصالبي‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫ويستشرف آفاق المستقبل ويسخار المؤسسات الوقفية لخدمة المجتمع المدني وصوالً إلى تحقيق‬
‫األمن االجتماعي ومن أهم األهداف التي تسعى الدولة الحديثة لتحقيقها من خالل وزارة‬
‫األوقاف والشؤون الدينية‪:‬‬
‫ـ تحقيق المالءمة واالنسجام مع مؤسسات المجتمع المدني والجامعات والمراكز البحثية دعماً‬
‫للعالقات التكاملية بينهما‪.‬‬
‫ـ زيادة وعي القضاة والعاملين في مجال الوقف وبناء إدارات وقف وإرشاد قادرة على القيام‬
‫بدورها وفقاً للمفهوم المدني للوقف‪.‬‬
‫ال وتجويداً وتنمية‬
‫ـ رفع مستوى اإلقبال على تعلم القرآن الكريم قراءة وحفظاً وتفسيراً وترتي ً‬
‫مهارات القائمين على تحفيظه مما سيؤدي بدوره إلى تخريج أجيال من حفظة القرآن الكريم‬
‫المهرة‪ ،‬ويعين على ذلك مع االهتمام بأهل التخصص إعداد المساجد ومراكز التحفيظ إعداداً‬
‫حضارياً يساهم في تحقيق الهدف‪.‬‬
‫ـ نشر العقائد والمبادئ واألخالق والمعلوم بالدين بالضرورة وسيرة الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وتاريخ اإلسالم من خالل دورات وندوات‪ ،‬ووسائل اإلعالم وتفعيل دور المساجد حتى‬
‫تصل إلى كل المواطنين والمواطنات‪.‬‬
‫ـ التوسع في برامج التنمية المجتمعية ذات الصلة بالعمل النسائي والدعوة إلى التفاعل اإليجابي‬
‫مع الحضارة المعاصرة مع الحفظ على سمات الهوية اإلسالمية‪ ،‬تفعيل المساهمة مع الجمعيات‬
‫الخيرية وعمل مراكز لها بجانب المساجد بحيث تشع روح المسجد على من حولها‪.‬‬
‫ـ التأكيد على الوحدة الوطنية ونبذ التفرقة والتعصب والغلو وربط هذا الشعب بأمته وآمالها‬
‫وطموحاتها‪.‬‬
‫ـ تطوير أعمال الحج والعمرة بهدف رفع مستوى الخدمة وتنمية قدرات القائمين على أعمال‬
‫وبرامج المساجد‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫ـ جعل المسجد مركزاً لإلشعاع الديني والحضاري والتربوي والثقافي واالجتماعي وإعداد‬
‫إصدار الموسوعات اإلسالمية بأساليب عصرية تساعد على التفقه في الدين وتوزيعها على‬
‫المساجد والنوادي والمواطنين‪.‬‬
‫ـ تفعيل دور البحوث والدراسات الشرعية في تلبية احتياجات المجتمع‪.‬‬
‫ـ تطوير آليات بيان الحكم الشرعي في القضايا العامة والخاصة واالهتمام بالمخطوطات‬
‫اإلسالمية‪ ،‬واإلنسانية وحفظها بطريقة علمية عصرية نضمن حسن االنتفاع بها‪.‬‬
‫ـ العمل على إيجاد مكتبات في كل المساجد وأخرى عامة تعزز الدور الفاعل للمكتبات في نشر‬
‫الثقافة والعلم والمعرفة والفقه وتوثيق الروابط مع كافة المكتبات ومراكز البحوث ذات الصلة‬
‫داخلياً وخارجياً‪.‬‬
‫ـ نشر الوعي اإلسالمي الصحيح بين المواطنين وتبني منهج الوسطية والحكمة واالعتدال في‬
‫دعوة الناس إلى دين اهلل‪.‬‬
‫ـ التواصل مع جميع شرائح المجتمع‪ ،‬ومؤسسات المجتمع المدني المهتمة بالشأن اإلسالمي‬
‫الداخلي والخارجي والعاملة في ميدان تنمية المجتمع‪.‬‬

‫‪2‬ـ المؤاخاة بين المهاجرين واألنصار‪:‬‬


‫كان من أولى الدعائم التي اعتمدها الرسول صلى اهلل عليه وسلم في برنامجه اإلصالحي‬
‫والتنظيمي لألمة وللدولة والحكم واالستمرار في الدعوة إلى التوحيد‪ ،‬والمنهج القرآني‪ ،‬بناء‬
‫المسجد وتقرير المؤ اخاة بين المهاجرين واألنصار وهي خطوة ال تقلُّ أهمية عن الخطوة‬
‫األولى في بناء المسجد لكي يتالحم المجتمع المسلم‪ ،‬ويتآلف وتتضح معالم تكوينه الجديد‪.1‬‬
‫كان مبدأ التآخي العام بين المسلمين قائماً منذ بداية الدعوة في عهدها المكي ونهى النبي صلى‬
‫اهلل عليه وسلم عن كل ما يؤدي إلى التباغض بين المسلمين‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال‬

‫‪ 1‬اإلدارة اإلسالمية‪ ،‬د‪ .‬مجدالوي‪ ،‬ص‪.52 :‬‬

‫‪89‬‬
‫تباغضوا وال تحاسدوا وال تدابروا وكونوا عباد اهلل إخواناً‪ ،‬وال يحل لمسلم أن يهجر أخاه‬
‫فوق الثالثة أيام»‪.1‬‬
‫ـ وقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬المسلم أخو المسلم‪ ،‬ال يظلمه وال يسلمه‪ ،2‬ومن كان في حاجة‬
‫أخيه‪ ،‬كان اهلل في حاجته‪ ،‬ومن فرّج عن مسلم كربة‪ ،3‬فرّج اهلل ـ عز وجل ـ عنه كربة من‬
‫كربات يوم القيامة‪ ،‬ومن ستر مسلماً‪ ،‬ستره اهلل يوم القيامة»‪ ،4‬وقد أكد القرآن الكريم األخوة‬
‫العامة بين أبناء األمة في قوله تعالى‪﴿ :‬وَاعتَصِمُوا ِبحَب ِل اهللِ جَمِيعًا وَ َ‬
‫ال تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَ َة اهللِ‬

‫ن النَّارِ‬
‫ن قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِ ِه إِخوَانًا َوكُنتُم عََلىَ شَفَا حُفرَة مِّ َ‬
‫عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعدَاء فَأَلَّفَ بَي َ‬
‫ن﴾ (آل عمران‪ ،‬آية ‪.)103 :‬‬
‫ن اهلل لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُو َ‬
‫فَأَنقَذَكُم مِّنهَا كَذَلِكَ ُيبَيِّ ُ‬

‫ن قُلُوبِهِم وَلَـكِنَّ اهللَ‬


‫ض جَمِيعاً مَّا أَلَّفَت بَي َ‬ ‫ـ وقال تعالى‪﴿ :‬وَأَلَّ َ‬
‫ف بَينَ قُلُوبِهِم لَو أَنفَقتَ مَا فِي األَر ِ‬

‫حكِيم﴾ (األنفال‪ ،‬آية ‪.)63 :‬‬


‫أَلَّفَ بَي َنهُم إِنَّهُ عَزِيز َ‬

‫وقد أسهم نظام المؤاخاة في ربط األمة بعضها ببعض‪ ،‬فقد أقام الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫هذه الصلة على أساس اإلخاء الكامل بينهم‪ ،‬هذا اإلخاء الذي تذوب فيه العصبيات‪ ،‬فال حمية‬
‫إال لإلسالم‪ ،‬وتسقط به فوارق النسب واللون والوطن‪ ،‬فال يتأخر أحد أو يتقدم‪ ،‬إال بمروءته‬
‫وتقواه‪ ،‬وقد جعل الرسول صلى اهلل عليه وسلم هذه األخوة عقداً نافذاً ال لفظاً فارغاً‪ ،‬وعمالً‬
‫يرتبط بالدماء واألموال‪ ،‬ال تحية تثرثر بها األلسنة‪ ،‬وال يقوم لها أثر‪.5‬‬
‫وكانت عواطف اإليثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه األخوة‪ ،‬وتمأل المجتمع الجديد‬
‫بأروع األمثال‪.6‬‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.6065 :‬‬


‫‪ 2‬أي‪ :‬ال يتركه مع من يؤذيه‪ ،‬وال فيما يؤذيه بل ينصره‪.‬‬
‫‪ 3‬كربة أي‪ :‬غمة‪.‬‬
‫‪ 4‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪ ،2442 :‬وأخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.2580 :‬‬
‫‪ 5‬فقه السيرة للغزالي‪ ،‬ص‪.194 ،193 :‬‬
‫‪ 6‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.194 :‬‬

‫‪90‬‬
‫إن سياسة ا لمؤاخاة بين المهاجرين واألنصار نوع من السبق السياسي‪ ،‬الذي اتبعه رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم في تأصيل المودة وتمكينها في مشاعر المهاجرين واألنصار الذين سهروا‬
‫جميعاً على رعاية هذه المودة وذلك اإلخاء بل كانوا يتسابقون في تنفيذ بنوده‪.1‬‬
‫ن فِي‬
‫ال يَجِدُو َ‬
‫ن مَن هَاجَ َر إِلَيهِم وَ َ‬
‫ن مِن قَبلِهِم ُيحِبُّو َ‬
‫َوؤُوا الدَّارَ وَاإلِيمَا َ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬وَالَّذِي َ‬
‫ن تَب َّ‬

‫ق شُحَّ نَفسِهِ‬
‫ن عَلَى أَنفُسِهِم وَلَو كَانَ بِهِم خَصَاصَة وَمَن يُو َ‬
‫صُدُورِهِم حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤثِرُو َ‬
‫فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ﴾ (الحشر‪ ،‬آية ‪.)9 :‬‬

‫ومما ن تآخوا في اهلل من المهاجرين واألنصار‪ ،‬أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه‪ ،‬وخارجة بن‬
‫زهير‪ ،‬وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك‪ ،‬وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ‪ ،‬وعبد‬
‫الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع‪ ،‬والزبير بن العوام وسالمة بن سالمة بن وقش‪ ،‬وطلحة بن‬
‫عبيد اهلل وكعب بن مالك‪ ،‬وسعيد بن زيد وأبي بن كعب‪ ،‬ومصعب بن عمير وأبو أيوب‪ ،‬خالد‬
‫بن الوليد وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة‪ ،‬وعباد بن بشر وعمار بن ياسر‪ ،‬وحذيفة بن اليمان‬
‫وأبو ذر الغفاري‪ ،‬والمنذر بن عمرو وحاطب بن أبي بلتعة‪ ،2‬وعويم بن ساعدة وسلمان‬
‫الفارسي‪ ،‬وأبو الدرداء وبالل مؤذن الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأبو رويحة عبد اهلل بن عبد‬
‫الرحمن الخثعمي‪ ،3‬ومن أهم الدروس والفوائد والعبر من المؤاخاة بين المهاجرين واألنصار‪:‬‬
‫أ ـ آصرة العقيدة هي أساس االرتباط‪:‬‬
‫إن المجتمع المدني الذي أقامه اإلسالم كان مجتمعاً عقدياً يرتبط باإلسالم‪ ،‬وال يعرف المواالة‬
‫إال هلل ولرسوله صلى اهلل عليه وسلم وللمؤمنين‪ ،‬وهو أعلى أنواع االرتباط وأرقاه‪ ،‬إذ يتصل‬
‫بوحدة العقيدة والفكر والروح‪.4‬‬
‫فقد فهم الصحابة أن والءهم ال يكون إال لقيادتهم‪ ،‬وإخالصهم ال يكون إال لعقيدتهم‪ ،‬وجهادهم‬
‫ال يكون إال إلعالء كلمة اهلل فحققوا ذلك كله في أنفسهم وطبقوه في حياتهم فمحاضوا والءهم‬

‫‪ 1‬فصول في السيرة‪ ،‬عبد المنعم السيد‪ ،‬ص‪.200 :‬‬


‫‪ 2‬بلتعة‪ :‬تبلتع الرجل‪ :‬إذا تطراف‪.‬‬
‫‪ 3‬السيرة النبوية البن هشام (‪ 109 /2‬ـ ‪.)111‬‬
‫‪ 4‬السيرة النبوية الصحيحة للعمري (‪.)252 /1‬‬

‫‪91‬‬
‫وجعلوه هلل ورسوله والمؤمنين وأصبح تاريخهم حافالً بالمواقف الرائعة التي تدل على فهمهم‬
‫العميق لمعنى الوالء الذي منحوه لخالقهم ولدينهم وعقيدتهم وإخوانهم‪.1‬‬
‫إن التآخي الذي تمَّ بين المهاجرين واألنصار كان مسبوقاً بعقيدة تمَّ اللقاء عليها واإليمان بها‪.‬‬
‫فالعقيدة التي جاء بها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من عند اهلل تعالى هي العمود الفقري‬
‫للمؤاخاة التي حدثت‪ ،‬ألن تلك العقيدة تضع الناس كلهم في مصاف العبودية الخالصة هلل‪ ،‬دون‬
‫االعتبار ألي فارق إال فارق التقوى والعمل الصالح‪ ،‬إذ ليس من المتوقع أن يسود اإلخاء‬
‫والتعاون واإليثار بين أناس شتتت هم العقائد واألفكار المختلفة‪ ،‬فأصبح كل منهم ملكاً ألنانيته‬
‫وأثرته وأهوائه‪.2‬‬
‫ب ـ الحب في اهلل أساس بنية المجتمع المدني‪:‬‬
‫إن المؤاخاة على الحب في اهلل أقوى الدعائم في بناء األمة المسلمة‪ ،‬إذا ما وهنت وتآكل كل‬
‫بنيانها‪ ، 3‬ولذلك حرص النبي صلى اهلل عليه وسلم على تعميق معاني الحب في اهلل‪ ،‬في‬
‫المجتمع المسلم الجديد‪ ،‬فقد قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن اهلل تعالى يقول يوم القيامة‪ :‬أين‬
‫المتحابون بجاللي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم ال ظل إال ظليّ»‪.4‬‬
‫كانت توجيهات النبي صلى اهلل عليه وسلم تحث الصحابة على معاني الحب والتكافل‪ ،‬واحترام‬
‫المسلمين بعضهم بعضاً‪ ،‬فال يستعلي غني على فقير‪ ،‬وال حاكم على محكوم‪ ،‬وال قوي على‬
‫ضعيف‪ ،‬وكان للحب أثره في المجتمع المدني الجديد‪ ،‬فعن أنس بن مالك رضي اهلل عنه قال‪:‬‬
‫كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخالً وكان أحب أمواله إليه بيُرحاء‪ ،‬وكانت مستقبلة‬
‫المسجد‪ ،‬وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يدخلها‪ ،‬ويشرب من ماء فيها طيب‪ ،‬فلما نزلت‬
‫(آل عمران آية ‪.)92 :‬‬ ‫ن وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيء فَإِنَّ اهللَ بِهِ عَلِيم﴾‬
‫‪﴿ :‬لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُن ِفقُوا مِمَّا تُحِبُّو َ‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)442 /1‬‬


‫‪ 2‬فقه السيرة‪ ،‬للبوطي‪ ،‬ص‪.156 :‬‬
‫‪ 3‬محمد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم (‪.)129 /3‬‬
‫‪4‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.2566 :‬‬

‫‪92‬‬
‫قام أبو طلحة‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إن اهلل يقول ﴿لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾‪ ،‬وإن‬

‫أحبا أموالي "بيُرحاء"‪ ،‬وإنها صدقة هلل‪ ،‬أرجو براها‪ ،‬وذُخرها عند اهلل‪ ،‬فضعها يا رسول اهلل‬
‫حيث أراك اهلل‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ذلك مال رابح‪ ،‬وقد سمعت ما قلت‪،‬‬
‫وإني أرى أن تجعلها في األقربين»‪ ،‬فقال أبو طلحة‪ :‬أفعل يا رسول اهلل‪ ،‬فقسماها أبو طلحة في‬
‫أقاربه وبني عمه‪.1‬‬

‫وهذا عبد الرحمن بن عوف رضي اهلل عنه يحدثنا عن هذه المعاني الرفيعة‪ ،‬حيث قال‪ :‬لما‬
‫قدمنا المدينة‪ ،‬آخى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع‪ ،‬فقال سعد بن‬
‫الربيع‪ :‬إني أكثر األنصار ماالً فأقسم لك نصف مالي‪ ،‬وأنظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها‬
‫فإذا حلت‪ 2‬وتزوجتها ‪ .‬قال‪ :‬فقال له عبد الرحمن‪ :‬ال حاجة لي في ذلك‪ ،‬هل من سوق فيه‬
‫تجارة؟ قال‪ :‬سوق قينقاع‪.3‬‬

‫قال‪ :‬فغدا إليه عبد الرحمن فأتى بأقط وسمن‪ ،‬قال‪ :‬ثم تابع الغُدو‪ ،4‬فما لبث أن جاء عبد الرحمن‬
‫الرحمن عليه أثر صفره‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬تزوجت؟» قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪:‬‬
‫«ومن؟» قال‪ :‬امرأة من األنصار‪ .‬قال‪« :‬كم سقت؟» قال‪ :‬زنة نواة من ذهب أو‪ :‬نواة من‬
‫ذهب‪ ،‬فقال له النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪« :‬أو ِلم ولو بشاة»‪.5‬‬

‫ونالحظ‪ :‬أن كرم سعد بن الربيع قابله عفة وكرم نفس من عبد الرحمن بن عوف رضي اهلل‬
‫عنهما‪ ،‬ولم يكن مسلك عبد الرحمن بن عوف خاصاً به‪ ،‬بل إن الكثير من المهاجرين كان‬
‫مكوثهم يسيرًا في بيوت إخوانهم من األنصار‪ ،‬ثم باشروا العمل والكسب‪ ،‬واشتروا بيوت ًا‬
‫ألنفسهم‪ ،‬وتكفلوا بنفقة أنفسهم‪ ،‬ومن هؤالء أبو بكر‪ ،‬وعمر‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وغيرهم رضي اهلل‬
‫عنهم‪.‬‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪ ،1461 :‬وأخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.998 :‬‬
‫‪ 2‬نزلت لك عنها‪ :‬أي طلقتها ألجلك‪.‬‬
‫‪ 3‬قينقاع‪ :‬قبيلة من اليهود نسب السوق إليهم‪.‬‬
‫‪ 4‬تابع العدو‪ :‬أي داوم الذهاب إلى السوق للتجارة‪.‬‬
‫‪ 5‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.2048 :‬‬

‫‪93‬‬
‫ج ـ النصيحة بين المتآخين في اهلل‪:‬‬

‫كان للمؤاخاة أثر في المناصحة بين المسلمين‪ ،‬فقد آخى النبي صلى اهلل عليه وسلم بين سلمان‬
‫وأبي الدرداء‪ ،‬فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة‪ ،‬فقال لها‪ :‬ما شأنك؟ قالت‪:‬‬
‫أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا‪ ،‬فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً‪ ،‬فقال له‪ :‬كل فإني‬
‫صائم‪ ،‬قال‪ :‬ما أنا بآكل حتى تأكل‪ ،‬قال‪ :‬فأكل‪ ،‬فلما كان الليل‪ ،‬ذهب أبو الدرداء يقوم‪ ،‬قال‪ :‬نم‬
‫فنام‪ ،‬ثم ذهب يقوم‪ ،‬فقال‪ :‬نم فلما كان آخر الليل قال سلمان‪ :‬قم اآلن‪ ،‬فصليا‪ ،‬فقال له سلمان‪:‬‬
‫إن لربك عليك حقاً‪ ،‬ولنفسك عليك حقاً‪ ،‬وألهلك عليك حقاً‪ ،‬فأعط كل ذي حق حقه‪ ،‬فأتى النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم فذكر ذلك له‪ ،‬فقال له النبي صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬صدق سلمان»‪.1‬‬

‫د ـ قيم إنسانية ومبادئ مثالية‪:‬‬

‫من خالل الروابط الوثيقة التي ألفت بين المهاجرين واألنصار‪ ،‬أرست قيم إنسانية واجتماعية‪،‬‬
‫ومبادئ مثالية‪ ،‬ال عهد للمجتمع القبلي بها‪ ،‬وإنما هي شأن المجتمعات المتحضرة الفاضلة‪،‬‬
‫وفي مقدمة تلك القيم قيمة العمل الشريف كوسيلة لكسب الرزق‪ ،‬فلقد قبل المهاجرون في أول‬
‫األمر ما أظهره إخوانهم األنصار من كرم الضيافة‪ ،‬ولكنهم أبوا بعد ذلك إال أن يبحثوا عن‬
‫موارد رزق لهم‪ ،‬وال يعوالوا على رابطة المؤاخاة التي سعد بها األنصار‪ ،‬فكان منهم من‬
‫اشتغل بالتجارة‪ ،‬ومنهم من عمل بالزراعة‪ ،‬مستعذبين متاعب العمل على أن يكونوا عالة على‬
‫إخوانهم‪ ،‬ذلك عزة اإليمان ال ترضي لصاحبها أن يكون عالة على أحد‪ ،‬بل تطلب منه أن‬
‫يعطي أكثر مما يأخذ‪ ،‬فاليد العليا خير وأحب إلى اهلل من اليد السفلى‪ ،‬وقد فهم الصحابة الكرام‬
‫من تعاليم اإلسالم أن العمل عبادة‪ ،‬وهي منزلة لم تصل إليها النظم المعاصرة التي قصرت‬
‫فائدتها على سد حاجات اإلنسان المادية والمعنوية‪ ،‬وفي ضوء هذا المفهوم اإلسالمي نستطيع‬
‫أن نقول‪ :‬إن اإلخاء والعمل كانا حجر الزاوية في بناء مجتمع دار المهجر‪ ،‬وبالتالي في تأسيس‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.1968 :‬‬

‫‪94‬‬
‫الحضارة اإلسالمية التي بنيت أصولها في المدينة بعد إقامة أول دولة في اإلسالم‪ ،‬برئاسة‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ثم ترعرعت حتى أصبحت شجرة يتفيأ ظاللها العالم كله‪.1‬‬

‫‪3‬ـ دستور دولة المدينة‪:‬‬

‫نظم النبي صلى اهلل عليه وسلم العالقات بين سكان المدينة‪ ،‬وكتب في ذلك كتاباً أوردته‬
‫المصادر التاريخية‪ ،‬واستهدف هذا الكتاب أو الصحيفة توضح التزامات جميع األطراف داخل‬
‫المدينة‪ ،‬وتحديد الحقوق‪ ،‬والواجبات وقد سُميت في المصادر القديمة بالكتاب والصحيفة‪،‬‬
‫وأطلقت األبحاث الحديثة عليها لفظة "الدستور" ولقد تعرض الدكتور أكرم ضياء العمري في‬
‫كتابه "ا لسيرة النبوية الصحيحة" لدراسة طرق ورود الوثيقة‪ ،‬وقال‪ ":‬ترتقي بمجموعها إلى‬
‫مرتبة األحاديث الصحيحة"‪ ،2‬وبيان أن أسلوب الوثيقة ينمُّ عن أصالتها‪ ،‬فنصوصها مكونة من‬
‫كلمات وتعابير كانت مألوفة في عصر الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ثم قلا استعمالها فيما بعد‪،‬‬
‫حتى أصبحت مغلقة على غير المتعمقين في دراسة تلك الفترة وليس في هذه الوثيقة نصوص‬
‫تمدح أو تقدح فرداً أو جماعة‪ ،‬أو تخص أحد باإلطراء‪ ،‬أو الذم‪ ،‬لذلك يمكن القول بأنها وثيقة‬
‫أصلية‪ ،‬وغير مزورة‪.3‬‬

‫ثم إن التشابه الكبير بين أسلوب الوثيقة‪ ،‬وأساليب كتب النبي صلى اهلل عليه وسلم يعطيها توثيقاً‬
‫آخر‪.‬‬

‫أ ـ كتابه صلى اهلل عليه وسلم بين المهاجرين واألنصار‪:‬‬

‫نص الوثيقة‪:4‬‬

‫ـ هذا كتاب من محمد النبي رسول اهلل بين المؤمنين والمسلمين من قريش‪ ،‬وأهل يثرب ومن‬
‫تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم‪.‬‬
‫‪ 1‬الهجرة في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.411 :‬‬
‫‪ 2‬السيرة النبوية للعمري (‪.)275 /1‬‬
‫‪ 3‬تنظيمات الرسول اإلدارية لصالح العلي‪ ،‬ص‪ 4 :‬ـ ‪.5‬‬
‫‪ 4‬مجموعة الوثائق السياسية لمحمد حميد اهلل‪ ،‬ص‪ 41 :‬ـ ‪.47‬‬

‫‪95‬‬
‫ـ إنهم أمة واحدة من دون الناس‪.‬‬
‫ـ المهاجرون من قريش على رِبعتهم‪ ،1‬يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم‪ 2‬بالمعروف والقسط‬
‫بين المؤمنين‪.‬‬
‫ـ وبنو عوف على رِبعتهم‪ ،‬يتعاقلون معاقلهم‪ 3‬األولى‪ ،‬وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف‬
‫والقسط بين المؤمنين‪.‬‬
‫ـ وبنو الحارث "بنو الخزرج" على رِبعتهم‪ ،‬يتعاقلون معاقلهم األولى‪ ،‬وكل طائفة تفدي عانيها‬
‫بالمعروف والقسط بين المؤمنين‪.‬‬
‫ـ وبنو ساعدة على رِبعتهم‪ ،‬يتعاقلون معاقلهم األولى‪ ،‬وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف‬
‫والقسط بين المؤمنين‪.‬‬
‫ـ وبنو جُشم على رِبعتهم‪ ،‬يتعاقلون معاقلهم األولى‪ ،‬وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط‬
‫بين المؤمنين‪.‬‬
‫ـ وبنو النجار على رِبعتهم‪ ،‬يتعاقلون معاقلهم األولى‪ ،‬وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف‬
‫والقسط بين المؤمنين‪.‬‬
‫ـ وبنو عمرو بن عوف على رِبعتهم‪ ،‬يتعاقلون معاقلهم األولى وكل طائفة تفدي عانيها‬
‫بالمعروف والقسط بين المؤمنين‪.‬‬
‫ـ وبنو النابيب على رِبعتهم‪ ،‬يتعاقلون معاقلهم األولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف‬
‫والقسط بين المؤمنين‪.‬‬
‫ـ وبنو األوس على رِبعتهم‪ ،‬يتعاقلون معاقلهم األولى‪ ،‬وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف‬
‫والقسط بين المؤمنين‪.‬‬
‫ـ وإن المؤمنين ال يتركون مُفرح ًا‪ 4‬بينهم أن يعطوه بالمعروف من فداء أو عقل وأال يحالف‬
‫مؤمن مولى مؤمن دونه‪.‬‬

‫‪ 1‬الربعة‪ :‬الحالة التي جاء اإلسالم وهم عليها‪.‬‬


‫‪ 2‬العاني‪ :‬األسير‪.‬‬
‫‪ 3‬معاقلهم‪ :‬المعاقل‪ :‬أي الديات والواحدة معقلة‪.‬‬
‫‪ 4‬مفرحاً‪ :‬المثقل بالدين والكثير العيال‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫ـ وإن المؤمنين المتقين "أيديهم" على "كل" من بغى منهم‪ ،‬أو ابتغى دسيعة‪ 1‬ظلم أو إثماً‪ ،‬أو‬
‫عدواناً أو فساداً بين المؤمنين‪ ،‬وإن أيديهم عليه جميعاً‪ ،‬ولو كان ولد أحدهم‪.‬‬
‫ـ وال يقتل مؤمن مؤمناً في كافر وال ينصر كافرًا على مؤمن‪.‬‬
‫ـ وإن ذمة اهلل واحدة‪ ،‬يُجبر عليهم أدناهم‪ ،‬وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس‪.‬‬
‫ـ وإنه من تبعنا من يهود‪ ،‬فإن له النصر واألسوة غير مظلومين وال متناصر عليهم‪.‬‬
‫ـ وإن سلم المؤمنين واحدة‪ ،‬ال يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اهلل إال على سواء‬
‫وعدل بينهم‪.‬‬
‫ـ وإن كل غازية غزت معنا يُعقب بعضها بعضاً‪.‬‬
‫ـ وإن المؤمنين يُبيء‪ 2‬بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل اهلل‪.‬‬
‫ـ وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه‪ ،‬وإنه ال يجبر مشرك ماال لقريش‪ ،‬وال نفساً‬
‫وال يحول دونه على مؤمن‪.‬‬
‫ـ وإنه من اعتبط‪ 3‬مؤمناً قتالً عن بيِّنة‪ ،‬فإنه قَوَد‪ 4‬به‪ ،‬إال أن يرضى ولي المقتول ـ "العقل" وإن‬
‫المؤمنين عليه كافة‪ ،‬وال يحل لهم إال قيام عليه‪.‬‬
‫ـ وإنه ال يحل لمؤمن أقرا بما في هذه الصحيفة‪ ،‬وآمن باهلل واليوم اآلخر‪ ،‬أن ينصر مُحدث ًا‪ ،5‬أو‬
‫يؤويه وإن من نصره أو آواه‪ ،‬فإن عليه لعنة اهلل وغضبه يوم القيامة‪ ،‬وال يؤخذ منه صرف وال‬
‫عدل‪.‬‬
‫ـ وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى اهلل‪ ،‬وإلى محمد صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫ـ وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين‪.‬‬
‫ـ وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم‪ ،‬وللمسلمين دينهم‪ ،‬مواليهم وأنفسهم إال‬
‫من ظلم نفسه وأثم‪ ،‬فإنه ال يُوتغ‪ 6‬إال نفسه‪ ،‬وأهل بيته‪.‬‬

‫‪ 1‬دسيعة‪ :‬عظيمة‪.‬‬
‫‪ 2‬يُبيء‪ :‬من البَوَاء وهو المساواة‪.‬‬
‫‪ 3‬أي‪ :‬قتله دون جناية أو سبب يوجب قتله‪.‬‬
‫‪ 4‬القود‪ :‬القصاص‪.‬‬
‫‪ 5‬من نصر جانياً وآواه وأجاره من خصمه‪.‬‬
‫‪ 6‬يوتغ‪ :‬يهلك الهالك‪ ،‬والمعنى‪ :‬فسد وهلك وأثم‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫ـ وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف‪.‬‬
‫ـ وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف‪.‬‬
‫ـ وإن ليهود بني جُشم مثل ما ليهود بني عوف‪.‬‬
‫ـ وإن ليهود بني األوس مثل ما ليهود بني عوف‪.‬‬
‫ـ وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف‪ ،‬إال من ظلم وأثم‪ ،‬فإنه ال يُوتغ إال نفسه وأهل‬
‫بيته‪.‬‬
‫ـ وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم‪.‬‬
‫ـ وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف‪ ،‬وإن البر دون اإلثم‪.‬‬
‫ـ وإن موالي ثعلبة كأنفسهم‪.‬‬
‫ـ وإن بطانة يهود كأنفسهم‪ ،‬بطانة الرجل‪ :‬أي خاصته‪ ،‬وأهل بيته‪.‬‬
‫ـ وإنه ال يخرج منهم أحد إال بإذن محمد صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫ـ وإن على اليهود نفقتهم‪ ،‬وعلى المسلمين نفقتهم‪ ،‬وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه‬
‫الصحيفة‪ ،‬وإن بينهم النصح والنصيحة‪ ،‬والبر دون اإلثم‪.‬‬
‫ـ وإنه ال يأثم امرؤ بحليفه‪ ،‬وإن النصر للمظلوم‪.‬‬
‫ـ وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين‪.‬‬
‫ـ وإن يثرب حرام جوفها ألهل هذه الصحيفة‪.‬‬
‫ـ وإن الجار كالنفس غير مُضار وال آثم‪.‬‬
‫ـ وإنه ال تجار حرمة إال بإذن أهلها‪.‬‬
‫ـ وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث‪ ،‬أو اشتجار يخاف فساده‪ ،‬فإن مراده إلى اهلل ـ‬
‫عز وجل ـ وإلى محمد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وإن اهلل على أتقى ما في هذه الصحيفة‬
‫وأبراه‪ ،‬أي ‪ :‬إن اهلل وحزبه المؤمنين على الراضا به‪.‬‬
‫ـ وإنه ال تجار قريش وال من نصرها‪ ،‬وإن بينهم النصر على من دهم يثرب‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫ـ وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه‪ ،‬فإنهم يصالحونه ويلبسونه‪ ،‬وإنهم إذا دعوا إلى مثل‬
‫ذلك فإنه لهم على المؤمنين‪ ،‬إال من حارب في الدين وعلى كل أناس حصاتهم من جانبهم الذي‬
‫قبلهم‪.‬‬
‫ـ وإن يهود األوس ـ مواليهم وأنفسهم ـ على مثل ما ألهل هذه الصحيفة‪ ،‬مع البر المحض من‬
‫أهل هذه الصحيفة وإن الب ار دون اإلثم‪ ،‬ال يكسب كاسب إال على نفسه‪ ،‬وإن اهلل على أصدق ما‬
‫في هذه الصحيفة وأب َّره‪.‬‬
‫ـ وإنه ال يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم‪ ،‬وإنه من خرج آمن‪ ،‬ومن قعد آمن بالمدينة‪ ،‬إال‬
‫من ظلم وأثم‪ ،‬وإن اهلل جار لمن ب ار وأتقى‪ ،‬ومحمد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.1‬‬
‫واضح من هذه الصحيفة المباركة التي قاربت الخمسين نصاً أنها أسست عدداً من المبادئ‬
‫السياسية اله امة التي شكلت بمجموعها الدستور السياسي للمدينة الذي حدد حقوق وواجبات‬
‫أعضاء المجتمع السياسي الجديد‪ ،‬مسلمين وغير مسلمين‪ ،‬وصاغ البنية السياسية للنظام‬
‫الناشى ء من جهة وألمة اإلسالم فيما بعد من جهة أخرى ولقد تناول العديد من الباحثين هذه‬
‫المبادئ السياسية بالدراسة ونستطيع أن نجمل أهمها فيما يلي‪:‬‬

‫ب ـ تحديد مفهوم األمة‪:‬‬

‫تضمان دستور المدينة مبادئ عامة‪ ،‬درجت دساتير الدول الحديثة على وضعها فيها‪ ،‬وفي‬
‫طليعة هذه المبادئ‪ ،‬تحديد مفهوم األمة‪ ،‬فاألمة في الصحيفة تضم المسلمين جميعهم‪ ،‬مهاجرين‬
‫وأنصارهم‪ ،‬ومن تبعهم ممن لحق بهم‪ ،‬وجاهد معهم‪ ،‬أمة واحدة من دون الناس‪ ،2‬وهذا شيء‬
‫جديد كل الجدة في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب‪ ،‬إذ نقل الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قومه من شعار القبلية والتبعية لها إلى شعار األمة التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد‪،‬‬
‫فلقد قالت الصحيفة عنهم‪ :‬إنهم أمة واحدة‪.‬‬

‫ـ قال تعالى‪﴿ :‬إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُم فَاعبُدُونِ﴾ (األنبياء‪ ،‬آية‪)92:‬‬

‫‪ 1‬مجموعة الوثائق السياسية‪ ،‬ص‪ 41 :‬ـ ‪.47‬‬


‫‪ 2‬التاريخ السياسي والعسكري‪ ،‬د‪.‬علي معطي‪ ،‬ص‪.169 :‬‬

‫‪99‬‬
‫ـ وبيَّن سبحانه وسطية هذه األمة في قوله تعالى‪﴿ :‬وَكَذَلِ َ‬
‫ك جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء‬

‫ن الرَّسُو ُل عَلَيكُم شَهِيدًا﴾(البقرة‪ ،‬آية‪.)143 :‬‬


‫عَلَى النَّاسِ َويَكُو َ‬

‫ـ ووضح سبحانه وتعالى أنها أمة إيجابية‪ ،‬فهي ال تقف موقف المتفرج من قضايا عصرها‪ ،‬بل‬
‫تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر‪ ،‬وتدعو إلى الفضائل وتحذر من الرذائل‪.1‬‬

‫ن بِاهللِ‬
‫عنِ المُنكَ ِر وَتُؤ ِمنُو َ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬كُنتُم خَي َر أُمَّة أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ َوتَنهَو َ‬
‫ن َ‬

‫وَلَو آمَنَ أَهلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيرًا لَّهُم مِّنهُ ُم المُؤمِنُونَ وَأَكثَرُهُ ُم الفَاسِقُونَ﴾ (آل عمران‪ ،‬آية ‪:‬‬

‫‪.)110‬‬

‫كما أن مفهوم األمة مفتوح وغير مغلق على فئة دون فئة‪ ،‬بل هي ممتدة لتشمل اإلنسانية كلها‬
‫إذا ما استجابت لدين اهلل تعالى‪ ،‬الذي ارتضاه لخلقه ولبني آدم أينما كانوا‪.2‬‬

‫ج ـ مفهوم المواطنة‪:‬‬

‫إعتبرت الصحيفة اليهود جزءاً من مواطني الدولة اإلسالمية‪ ،‬الذين يعيشون في أرجائها‬
‫مواطنين‪ ،‬وأنهم أمة مع المؤمنين‪ ،‬ما داموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم‪ ،‬فاختالف الدين‬
‫ليس ـ بمقتضى أحكام الصحيفة ـ سبباً للحرمان من مبدأ المواطنة‪.3‬‬

‫د ـ إقليم الدولة‪:‬‬

‫وجاء في الصحيفة‪ :‬إن يثرب حرام جوفها ألهل هذه الصحيفة‪ .‬وأصل التحريم أال يقطع‬
‫شجرها‪ ،‬وال يقتل طيرها‪ ،‬فإذا كان هذا هو الحكم في الشجر والطير‪ ،‬فما بالك في األموال‬

‫‪ 1‬دستور األمة‪ ،‬عبد الناصر العطار‪ ،‬ص‪.9 :‬‬


‫‪ 2‬دولة الرسول من التكوين إلى التمكين‪ ،‬ص‪.421 :‬‬
‫‪ 3‬نظام الحكم لظافر القاسمي (‪.)37 /1‬‬

‫‪100‬‬
‫واألنفس‪1‬؟ فهذه الصحيفة حدَّدت معالم الدولة أمة واحدة‪ ،‬وإقليم هو المدينة‪ ،‬وسلطة حاكمة‬
‫يرجع إليها وتحكم بما أنزل اهلل‪.‬‬

‫إن المدينة كانت بداية إقليم الدولة اإلسالمية‪ ،‬ونقطة االنطالق‪ ،‬ومركز الدائرة التي كان اإلقليم‬
‫يتسع منها‪ ،‬حتى يضع حداً للقالقل واالضطرابات‪ ،‬ويسود السلم واألمن العام‪ ،‬وقد أرسل النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم أصحابه ليثبتوا أعالماً على حدود حرم المدينة من جميع الجهات وحدود‬
‫المدينة بين البتيها شرقاً وغرباً‪ ،‬وبين جبل ثور في الشمال‪ ،‬وجبل عير في الجنوب‪.2‬‬

‫ثم اتسع "اإلقليم" باتساع الفتح‪ ،‬ودخول شعوب البالد المفتوحة في اإلسالم‪ ،‬حتى عما مساحة‬
‫واسعة من غرب أوروبا وجنوبها‪ ،‬ومناطق فسيحة من غرب آسيا وجنوبها إلى أكثر أهل‬
‫الصين وروسيا شرقاً‪ ،‬وكل شمال إفريقيا وأواسطها‪.3‬‬

‫إن إقليم الدولة مفتوح وغير محدود بحدود جغرافية أو سياسية‪ ،‬فهو يبدأ من عاصمة الدولة‬
‫"المدينة" ويتسع حتى يشمل الكرة األرضية بأسرها‪.‬‬

‫هلل يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِن عِبَادِهِ‬


‫ض ِ‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ استَعِينُوا بِاهللِ وَاصبِرُوا إِنَّ األَر َ‬

‫وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ﴾ (األعراف‪ ،‬آية ‪.)128 :‬‬

‫هـ ـ الحريات وحقوق اإلنسان‪:‬‬


‫إن الصحيفة تدل بوضوح وجالء على عبقرية الرسول صلى اهلل عليه وسلم في صياغة‬
‫موادها‪ ،‬وتحديد عالقات األطراف بعضها ببعض‪ ،‬فقد كانت موادُّها مترابطة وشاملة‪ ،‬وتصلح‬
‫لعالج األوضاع في المدينة آنذاك‪ ،‬وفيها من القواعد والمبادئ ما يحقق العدالة المطلقة‬
‫والمساواة التامة بين البشر‪ ،‬وأن يتمتع بنو اإلنسان على اختالف ألوانهم ولغاتهم وأديانهم‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪.)38 /1‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.6755 :‬‬
‫‪ 3‬دولة الرسول من التكوين إلى التمكين‪ ،‬ص‪.411 :‬‬

‫‪101‬‬
‫بالحقوق والحريات بأنواعها‪ ،1‬يقول الدكتور محمد سليم العواا‪ :‬وال تزال المبادئ التي تضمنها‬
‫الدستور ـ في جملتها ـ معموالً بها‪ ،‬واألغلب أنها ستظل كذلك في مختلف نظم الحكم المعروفة‬
‫إلى اليوم‪ ..‬وصل إليها الناس بعد قرون من تقريرها‪ ،‬في أول وثيقة سياسية دوانها الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪.2‬‬
‫فقد أعلنت الصحيفة أن الحريات مصونة‪ ،‬كحرية العقيدة والعباد‪ ،‬وحق األمن ‪..‬إلخ‪ ،‬فحرية‬
‫ن الرُّشدُ مِنَ الغَيِّ‬ ‫الدين مكفولة للمسلمين دينهم ولليهود‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬‬
‫ال إِكرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّ َ‬

‫ال انفِصَامَ لَهَا وَاهللُ سَمِيع عَلِيم﴾‬


‫ى َ‬‫هلل فَقَدِ استَمسَكَ بِالعُروَ ِة الوُثقَ َ‬
‫ت وَيُؤمِن بِا ِ‬
‫فَمَن يَكفُر بِالطَّاغُو ِ‬

‫(البقرة‪ ،‬آية ‪.)256 :‬‬

‫وقد أنذرت الصحيفة بإنزال الوعيد‪ ،‬وإهالك من يخالف هذا المبدأ‪ ،‬أو يكسر هذه القاعدة‪ ،‬وقد‬
‫نصات الوثيقة على تحقيق العدالة بين الناس‪ ،‬وعلى تحقيق مبدأ المساواة إن الدولة اإلسالمية‬
‫واجب عليها أن تقيم العدل بين الناس وتفسح المجال وتيسير السبل أمام كل إنسان ـ يطلب حقه‬
‫ال‪ ،3‬وعليها أن تمنع‬
‫ـ أن يصل إلى حقه بأيسر السبل وأسرعها‪ ،‬دون أن يكلفه ذلك جهدًا أو ما ً‬
‫أي وسيلة من الوسائل التي من شأنها أن تعوق صاحب الحق في الوصول إلى حقه‪.‬‬

‫لقد أوجب اإلسالم على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس‪ ،‬دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم‬
‫أو أحوالهم اال جتماعية‪ ،‬فهو يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحق وال يهمه أن يكون المحكوم‬
‫لهم أصدقاء‪ ،‬أو أعداء‪ ،‬أغنياء أو فقراء‪ ،‬عماالً أو أصحاب عمل‪.‬‬

‫يقول األستاذ أبو األعلى المودودي ـ رحمه اهلل ـ معقباً على قوله تعالى ‪﴿ :‬فَلِذَلِكَ فَادعُ وَاستَقِم‬

‫ت ألَِع ِدلَ بَينَكُ ُم اهللُ رَُّبنَا‬


‫ال تَتَّبِع أَهوَاءهُم وَقُل آمَنتُ بِمَا أَنزَ َل اهللُ مِن ِكتَاب وَأُمِر ُ‬
‫كَمَا أُمِرتَ وَ َ‬

‫‪ 1‬دولة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ص‪.420 :‬‬


‫‪ 2‬النظام السياسي في اإلسالم ألبي فارس‪ ،‬ص‪.65 :‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.58 :‬‬

‫‪102‬‬
‫(الشورى‪ ،‬آية ‪:‬‬ ‫ال حُجَّ َة بَي َننَا وَبَينَكُ ُم اهللُ يَجمَ ُع بَينَنَا وَإِلَيهِ المَصِيرُ﴾‬
‫وَرَُّبكُم لَنَا أَعمَالُنَا وَلَكُم أَعمَالُكُم َ‬

‫‪.)15‬‬

‫يعني أني مأمور باإلنصاف دون عداوة‪ ،‬فليس من شأني أن أتعصب ألحد أو ضد أحد‪،‬‬
‫وعالقتي بالناس كلهم سواء‪ ،‬وهي عالقة العدل واإلنصاف‪ ،‬فأنا نصير من كان الحق في‬
‫جانبه‪ ،‬وخصيم من كان الحق ضده‪ ،‬وليس في ديني أي امتيازات‪ ،‬ألي فرد كائناً من كان‪،‬‬
‫وليس ألقاربي حقوق‪ ،‬وللغرباء حقوق أخرى‪ ،‬وال لألكابر عندي مميزات ال يحصل عليها‬
‫األصاغر والشرفاء والوضعاء‪ ،‬عندي سواء فالحق حق للجميع والذنب والجرم ذنب للجميع‪،‬‬
‫والحرام حرام على الكل‪ ،‬والحالل حالل للكل‪ ،‬والفرض فرض على الكل‪ ،‬حتى أنا نفسي لست‬
‫مستثنى من سلطة القانون اإللهي‪.1‬‬
‫هلل وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم أَوِ الوَالِدَينِ‬
‫شهَدَاء ِ‬
‫ن بِالقِسطِ ُ‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّذِي َ‬
‫ن آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِي َ‬

‫ن إِن يَكُن غَنِيًّا أَو فَقَيرًا فَاهللُ أَولَى بِ ِهمَا فَالَ تَتَّ ِبعُوا الهَوَى أَن تَعدِلُوا وَإِن تَلوُوا أَو تُعرِضُوا‬
‫وَاألَقرَبِي َ‬
‫ن خَبِيرًا﴾ (النساء‪ ،‬آية ‪.)135 :‬‬
‫ن بِمَا تَعمَلُو َ‬
‫فَإِنَّ اهللَ كَا َ‬

‫وهذا نص قرآني صريح في تكليف المجتمع القيادي المسلم بتحقيق العدل على أتم صورة‪،‬‬
‫وأكمل أحواله‪ ،‬فالعدل على النفس‪ ،‬وعلى أقرب ذوي القربى كالعدل مع غير النفس‪ ،‬وأبعد‬
‫البُعدَاء‪ ،‬وفي قوله تعالى‪﴿ :‬كُونُوا﴾ أمر للمجتمع المسلم‪ ،‬في جميع أفراده‪ ،‬وجماعاته‪ ،‬أينما‬

‫حلوا من أرض اهلل‪ ،‬وحيثما كانوا في أوطانهم المتقاربة أو المتباعدة‪ ،‬وهو أمر كينونة يشعر‬
‫بمادته باإللزام وااللتزام‪ ،‬والتهايوء واالنبعاث للقيام بإقامة منهج العدل في الحياة‪ ،‬وفي قوله‬
‫تعالى ﴿ قَوَّامِينَ﴾ بصيغة المبالغة‪ ،‬إيماء إلى ما يجب أن يكون عليه المجتمع المسلم من‬

‫النهوض بإقامة معالم العدل بكل ما أوتي من قوة مادية وروحية‪ ،‬مشمًّرا على ساق العزم في‬
‫بذل الجهد‪ ،‬والتحفز للعمل في سبيل توطيد دعائم العدل االجتماعي‪.‬‬

‫‪ 1‬الحكومة اإلسالمية‪ ،‬ص‪.202 :‬‬

‫‪103‬‬
‫والقرآن الكريم بذلك ال يرضى للمجتمع المسلم أن يحمله تعزز الغني بثرائه وغناه على أال يقام‬
‫معه العدل‪ ،‬ويظلم له الفقير‪ ،‬وال يرضى لهذا المجتمع المسلم أن تحمله الرحمة للفقير‪ ،‬فيحابى‬
‫بظلم الغني ألجله‪ ،‬وال يرضى القرآن الحكيم لمجتمعه المسلم أن يميل مع الهوى‪ ،‬ويخضع‬
‫للعواطف‪ ،‬فيحيد عن العدل لياً بالحق‪ ،‬وإعراضاً عنه‪ ،‬وقد جاءت أخت هذه في نسق أسلوبها‬
‫وألفاظها‪ ،‬لتكمل صورة إقامة العدل على أتام وجوهه‪ ،‬ولتقرر أن موازين العدل يجب أن‬
‫يتساوى فيها المحب والمبغض‪ ،‬والقريب والبعيد‪ ،‬والصديق والعدو‪.‬‬
‫هلل شُهَدَاء بِالقِسطِ وَالَ يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَوم عَلَى أَالَّ‬
‫ن ِ‬ ‫ـ قال تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِي َ‬

‫خبِير ِبمَا تَعمَلُونَ﴾ (المائدة‪ ،‬آية ‪.)8 :‬‬


‫تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى وَاتَّقُوا اهللَ إِنَّ اهللَ َ‬

‫فصورة الخطاب الكينوني هنا ﴿كُونُوا﴾ ـ الذي يجعل من العدل طبيعة خالئق المجتمع المسلم‪،‬‬

‫الذي نيط به قيادة اإلنسانية ـ هي صورته هناك‪ ،‬ألن العدل أمانة هذا المجتمع المسلم العظمى‬
‫التي حملوها‪ ،‬ليؤداوها إلى الناس في حياتهم‪.1‬‬
‫بيد أن األمر قد اختلف في اآليتين اختالفاً جمع متفرق مواطن العدل باعتباره أصالً من أصول‬
‫الرسالة الخالدة الخاتمة‪ ،‬الذي يعما الحياة من جميع جوانبها‪ ،‬ففي اآلية األولى وجاه األمر‬
‫للمجتمع المسلم بأشرف أوصافه‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ألى أن يكون قوًّاما بالعدل‪،‬‬

‫ولو كان في ذلك مراغمة منازع الحبا والو اد والقربى‪ ،‬وفي هذه اآلية الثانية وجاه اآلمر‬
‫للمجتمع بعنوانه المشرق‪ ،‬إلى أن يكون قوًّاما بالعدل‪ ،‬ولو كان في ذلك مراغمة جميع عواطف‬
‫البعض والعداوة‪ ،2‬وملتقى اآليتين الكريمتين في توجيه المجتمع المسلم توجيهاً صارماً ال هوادة‬
‫فيه إلى أن يكون نهًّاضا بالعدل‪ ،‬قائماً به بين الناس‪ ،‬له قيادته لإلنسانية‪ ،‬وليخلص له التوجه‬

‫‪ 1‬محمد رسول اهلل (‪.)144 ،143 ،142 /3‬‬


‫‪ 2‬محمد رسول اهلل (‪.)145 ،144 /3‬‬

‫‪104‬‬
‫إلى اهلل تعالى في إخالص العبودية له وحده‪ ،‬ال تحمله محبة مهما عظمت‪ ،‬أو بغض مهما اشتد‬
‫على اإلعراض عن إقامة العدل‪ ،‬إحقاقاً للحق‪ ،‬وإنصافاً للمظلوم‪ ،‬ونصراً للضعيف‪.1‬‬
‫وأما المساواة ‪ ،‬فقد جاءت نصوص صريحة في الصحيفة حولها‪ ،‬منها‪ :‬أن ذمة واحدة‪ ،‬وأن‬
‫المسلمين ﴿يجير عليهم أدناهم﴾‪ ،‬وأن ﴿المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس﴾‪ ،‬ومعنى‬

‫الفقرة األخيرة‪ :‬أنهم يتناصرون في السراء والضرااء "الفقرة ‪ "15‬وتضمنت الفقرة "‪ "19‬أن‪:‬‬
‫﴿ المؤمنين يُبيء بعضهم على بعض‪ ،‬بما نال دماءهم في سبيل اهلل﴾‪ ،‬قال السُهيلي ـ شارح‬

‫السيرة ـ في كتابه "الروض األنف" ومعنى قوله يبيء‪ :‬هو من البَوَاء أي المساواة‪ ،2‬ويعد مبدأ‬
‫المساواة أحد المبادئ العامة التي أقراها اإلسالم‪ ،‬وهو من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع‬
‫المسلم ولقد أقرا هذا المبدأ‪ ،‬وسبق به تشريعات‪ ،‬وقوانين العصر الحديث ومما ورد في القرآن‬
‫الكريم تأكيداً لمبدأ المساواة‪ ،‬قوله تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقنَاكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَى وَ َ‬
‫جعَلنَاكُم‬

‫شُعُوبًا وَقَبَا ِئ َل لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَ َمكُم عِندَ اهللَِّ أَتقَاكُم إِنَّ اهللََّ عَلِيم خَبِير﴾ (الحجرات‪ ،‬آية ‪.)13 :‬‬

‫وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬يا أيها الناس إن ربكم واحد‪ ،‬وإن أباكم واحد‪ ،‬أال ال فضل‬
‫لعربي على أعجمي‪ ،‬وال ألعجمي على عربي‪ ،‬وال ألحمر على أسود‪ ،‬وال ألسود على أحمر إال بالتقوى‬
‫أبلّغت»‪3‬؟‬
‫إن هذا المبدأ كان من أهم المبادئ التي جذبت الكثير من الشعوب قديماً نحو اإلسالم‪ ،‬فكان هذا‬
‫المبدأ مصدرًا من مصادر القوة للمسلمين األولين‪.4‬‬
‫وليس المقصود بالمساواة هنا "المساواة العامة" بين الناس جميعاً في أمور الحياة كافة‪ ،‬كما‬
‫ال‪ ،5‬فاالختالف في المواهب والقدرات والتفاوت في‬
‫ينادي بعض المخدوعين‪ ،‬ويرون ذلك عد ً‬

‫‪ 1‬محمد رسول اهلل (‪.)145 /3‬‬


‫‪ 2‬نظام الحكم للقاسمي (‪.)38 /1‬‬
‫‪ 3‬مسند أحمد (‪.)411 /5‬‬
‫‪ 4‬مبادئ نظام الحكم في اإلسالم‪ ،‬عبد الحميد متولي‪ ،‬ص‪.385 :‬‬
‫‪ 5‬األخالق اإلسالمية وأسسها للميداني (‪.)624 /1‬‬

‫‪105‬‬
‫الدرجات غاية من غايات الخلق‪ ،1‬ولكن المقصود المساواة التي دعت إليها الشريعة اإلسالمية‪،‬‬
‫مساواة مقيدة بأحوال فيها التساوي وليست مطلقة في جميع األحوال‪ ،2‬فالمساواة تأتي في‬
‫معاملة الناس أمام الشرع‪ ،‬والقضاء واألحكام اإلسالمية كافة‪ ،‬والحقوق العامة دون تفريق‬
‫بسبب األصل أو الجنس أو اللون أو الثروة أو الجاه أو غير ذلك‪ ،3‬إن الناس جميعاً في نظر‬
‫اإلسالم سواسية‪ ،‬الحاكم والمحكوم‪ ،‬الرجال والنساء‪ ،‬العرب والعجم‪ ،‬األبيض واألسود‪ ،‬لقد‬
‫ألغى اإلسالم الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو الطبقة‪ ،‬والحكام‬
‫والمحكومين كلهم في نظر الشرع سواء‪ ،‬ولذلك كانت الدولة اإلسالمية األولى‪ ،‬تعمل على‬
‫تطبيق هذا المبدأ بين الناس وكانت تراعي اآلتي‪:‬‬
‫ـ إن مبدأ المساواة أمر تعبدي‪ ،‬تؤجر عليه من خالق الخلق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ـ إسقاط االعتبارات الطبقية والعرفية والقبلية والعنصرية والقومية والوطنية واإلقليمية وغير‬
‫ال عنها للتفاضل‪،‬‬
‫ذلك من الشعارات الماحقة لمبدأ المساواة اإلنسانية‪ ،‬وإحالل المعيار اإللهي بد ً‬
‫أال وهو التقوى‪.‬‬
‫ـ ضرورة مراعاة مبدأ تكافؤ الفرص للجميع‪ ،‬وال يُراعى أحد لجاهه أو سلطانه أو حسبه‬
‫ونسبه‪ ،‬وإنما الفرص للجميع‪ ،‬وكل على حسب قدراته وكفاءاته ومواهبه وطاقته وإنتاجه‪.‬‬
‫إن تطبيق مبدأ المساواة بين رعايا الدولة اإلسالمية‪ ،‬يقوي صفها‪ ،‬ويوحد كلمتها‪ ،‬وينتج عنه‬
‫مجتمع متماسك متراحم يعيش لعقيدة ومنهج ومبدأ‪.4‬‬
‫كانت الوثيقة قد اشتملت على أتما ما قد تحتاجه الدولة من مقوماتها الدستورية واإلدارية‪،‬‬
‫وعالقة األفراد بالدولة‪ ،‬وظل القرآن يتنزل في المدينة عشر سنين‪ ،‬يرسم للمسلمين خاللها‬
‫مناهج الحياة‪ ،‬ويرسي مبادئ الحكم‪ ،‬وأصول السياسة‪ ،‬وشؤون المجتمع‪ ،‬وأحكام الحرام‬
‫والحالل‪ ،‬وأسس التقاضي وقواعد العدل‪ ،‬وقوانين الدولة المسلمة في الداخل والخارج‪ ،‬والسنة‬
‫الشريفة تدعم هذا‪ ،‬وتشيده وتفصاله في تنوير وتبصرة‪ ،‬فالوثيقة خطات خطوطاً عريضة في‬

‫‪ 1‬فلسفة التربية اإلسالمية لماجد الكيالني‪ ،‬ص‪.179 :‬‬


‫‪ 2‬مبادئ علم اإلدارة‪ ،‬محمد نور الدين‪ ،‬ص‪.116 :‬‬
‫‪ 3‬فقه النصر والتمكين‪ ،‬د‪ .‬علي الصالبي‪ ،‬ص‪.463 :‬‬
‫‪ 4‬فقه النصر والتمكين‪ ،‬ص‪.466 :‬‬

‫‪106‬‬
‫الترتيبات الدستورية‪ ،‬وتعد في قيمة المعاهدات التي تحدد صلة المسلمين باألجانب الكفار‬
‫المقيمين معهم‪ ،‬في شيء كثير من التسامح والعدل والمساواة‪ ،‬على التخصيص إذا لوحظ أنها‬
‫أول وثيقة إ سالمية تسجل وتنفذ في أقوام كانوا ـ منذ قريب ـ وقبل اإلسالم ـ أسرى العصبية‬
‫القبلية‪ ،‬وال يشعرون بوجودهم إال من وراء الغلبة والتسلط‪ ،‬وبالتخوض في حقوق اآلخرين‬
‫وأشيائهم‪.1‬‬
‫و ـ المرجعية العليا هلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫جعلت الصحيفة الفصل في كل األمور بالمدينة يعود إلى اهلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقد‬
‫نصات على مرجع ففي الخالف في الفقرة "‪ "23‬وقد جاء فيها‪ :‬وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء‪،‬‬
‫فإن مرده إلى اهلل‪ ،‬وإلى محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬والمغزى من ذلك واضح‪ ،‬وهو تأكيد‬
‫سلطة عليا دينية تهيمن على المدينة‪ ،‬وتفصل في الخالفات‪ ،‬منعاً لقيام اضطرابات في الداخل‬
‫من جراء تعدد السلطات وفي الوقت نفسه تأكيد ضمني برئاسة الرسول على الدولة‪ ،2‬فقد‬
‫حدادت الصحيفة مصدر السلطات الثالثة‪ :‬التشريعية والقضائية والتنفيذية‪ ،‬فكان رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم حريصاً على تنفيذ أوامر اهلل‪ ،‬من خالل دولته الجديدة‪ ،‬ألن تحقيق‬
‫الحاكمية هلل على األمة هو محض العبودية هلل تعالى‪ ،‬ألنه بذلك يتحقق التوحيد‪ ،‬ويقوم الدين‪،‬‬
‫َال تَعبُدُوا إِالَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ الَ يَعلَمُونَ﴾‬ ‫قال تعالى‪﴿:‬إِنِ الحُكمُ إِالَّ ِ‬
‫هلل أَمَ َر أ َّ‬

‫(يوسف‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬


‫الحق في الرُّبوبية والعقائد والعبادات والمعامالت‪ ،‬إال هلل وحده‪ ،‬يوحيه لمن‬
‫ُّ‬ ‫يعني‪ :‬ما الحكم‬
‫اصطفاه من رسله‪ ،‬ال يمكن لبشر أن يحكم فيه برأيه وهواه‪ ،‬وال بعقله واستدالله‪ ،‬وال باجتهاده‬
‫واستحسانه‪ ،‬فهذه القاعدة هي أساس دين اهلل تعالى على ألسنة جميع رسله‪ ،‬ال تختلف باختالف‬
‫األزمنة واألمكنة‪.3‬‬
‫لقد نزل القرآن الكريم من أجل تحقيق العبودية والحاكمية هلل تعالى‪.‬‬

‫‪ 1‬صور وعبر من الجهاد النبوي‪ ،‬د‪ .‬محمد فوزي‪ ،‬ص‪ 29 :‬ـ ‪.30‬‬
‫‪ 2‬التاريخ السياسي والحضاري للسيد عبد العزيز‪ ،‬ص‪.102 :‬‬
‫‪ 3‬تفسير المنار‪ ،‬محمد رشيد رضا (‪.)309 /12‬‬

‫‪107‬‬
‫هلل الدِّينُ الخَالِصُ‬ ‫ـ قال تعالى‪﴿ :‬إِنَّا أَنزَلنَا إِلَيكَ الكِتَابَ بِالح ِّ‬
‫َق فَاعبُدِ اهللَ مُخلِصًا لَّهُ الدِّينَ * َأالَ ِ‬

‫ن اتَّخَذُوا مِن دُونِ ِه أَولِيَاء مَا نَعبُدُهُم إِالَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اهللِ زُلفَى إِنَّ اهللَ يَحكُ ُم بَي َنهُم فِي مَا هُم فِيهِ‬
‫وَالَّذِي َ‬
‫ال يَهدِي مَن هُوَ كَاذِب كَفَّار﴾ (الزمر‪ ،‬آية ‪ 2 :‬ـ ‪.)3‬‬
‫ن إِنَّ اهللَ َ‬
‫يَختَلِفُو َ‬

‫ن‬
‫ال تَكُن لِّلخَآئِنِي َ‬
‫س بِمَا أَرَاكَ اهللُ وَ َ‬ ‫ـ وقال تعالى‪﴿ :‬إِنَّا أَنزَلنَا إِلَيكَ الكِتَابَ بِالح ِّ‬
‫َق لِتَحكُ َم بَينَ النَّا ِ‬

‫خَصِيمًا﴾ (النساء‪ ،‬آية ‪.)105 :‬‬

‫فكما أن تحقيق العبودية غاية من إنزال الكتاب‪ ،‬فكذلك تطبيق الحاكمية غاية من إنزاله‪ ،‬وكما‬
‫أن العبادة ال تكون إال عن وحي منزل‪ ،‬فكذلك ال ينبغي أن يحكم إال بشرع منزل‪ ،‬أو بما له‬
‫أصل في شرع منزل‪.1‬‬
‫إن تحقيق الحاكمية تمكين للعبودية‪ ،‬وقيام بالغاية التي من أجلها خلق اإلنسان والجان‪ ،‬قال‬
‫س إِالَّ لِيَعبُدُونِ﴾ (الذاريات‪ ،‬آية ‪.)56 :‬‬ ‫تعالى‪َ ﴿ :‬ومَا خَلَق ُ‬
‫ت الجِنَّ وَاإلِن َ‬

‫وقد اعترف اليهود في هذه الصحيفة بوجود سلطة قضائية عليا‪ ،‬يرجع إليها سكان المدينة ـ بما‬
‫فيهم اليهود ـ بموجب بند رقم "‪ ،"43‬لكن اليهود لم يُلزموا بالرجوع إلى القضاء اإلسالمي‬
‫دائماً‪ ،‬بل فقط عندما يكون الحدث‪ ،‬أو االشتجار بينهم وبين المسلمين‪ ،‬أما في قضاياهم الخاصة‬
‫وأحوالهم الشخصية‪ ،‬فهم يحتكمون إلى التوراة‪ ،‬ويقضي بينهم أحبارهم‪ ،‬ولكن إذا شاؤوا‪،‬‬
‫فبوسعهم االحتكام إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقد خير القرآن الكريم النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم بين قبول الحكم فيهم‪ ،‬أو ردهم إلى أحبارهم‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬سَمَّاعُو َ‬
‫ن لِلكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحتِ‬

‫ت فَاحكُم‬
‫ك شَيئًا وَإِن حَكَم َ‬
‫فَإِن جَآؤُوكَ فَاحكُم بَينَهُم أَو أَعرِض عَنهُم وَإِن تُعرِض عَنهُم فَلَن يَضُرُّو َ‬
‫ِب المُقسِطِينَ﴾ (المائدة ‪ ،‬آية ‪.)42 ،‬‬
‫بَينَهُم بِالقِسطِ إِنَّ اهللَ ُيح ُّ‬

‫‪ 1‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (‪ )433 /1‬عبد العزيز مصطفى‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫ومـن القضايا التي أراد اليهـود تحكيم الرسول صلى اهلل عليـه وسلم فيها اختالف بني النضير‪،‬‬
‫وبني قريظة في دية القتلى بينهما‪ ،‬فقـد كانت بنو النضير أعزَّ من بني قريظة‪ ،‬فكانت تعرضهم‬
‫عليهم دية مضاعفة لقتالها‪ ،‬فلما ظهر اإلسالم في المدينة امتنعت بنو قريظة عن دفع الضعف‪،‬‬
‫ن‬
‫ن بِالعَي ِ‬
‫س وَالعَي َ‬ ‫وطالبت بالمساواة في الدِّية‪ .1‬فنزلت اآلية‪َ ﴿ :‬وكَتَبنَا عَلَيهِم فِيهَا أَنَّ النَّف َ‬
‫س بِالنَّف ِ‬

‫ن وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالجُرُوحَ قِصَاص فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة لَّهُ وَمَن‬
‫ن بِاألُذُ ِ‬
‫ف وَاألُذُ َ‬
‫ف بِاألَن ِ‬
‫وَاألَن َ‬
‫ك هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (المائدة ‪ ،‬آية ‪ .)45 :‬وبهذه الصحيفة التي أقرت‬
‫لَّم يَحكُم بِمَا أن َزلَ اهللُ فَأُولَـئِ َ‬

‫المـادة ((‪ ))43‬على‪ :‬أنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حديث‪ ،‬أو اشتجار يخاف فساده‪،‬‬
‫فإن مرده إلى اهلل‪ ،‬وإلى محمد صلى اهلل عليه وسلم سلطة قضائية مركزية عليا‪ ،‬يرجع إليها‬
‫الجميع‪ ،‬وجعلها ترجع إلى اهلل وإلى الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ولها قوة تنفيذية‪ ،‬ألن أوامر‬
‫اهلل واجبة الطاعة‪ ،‬وملزمة التنفيذ‪ ،‬كما أن أوامر الرسول صلى اهلل عليه وسلم هي من اهلل‪،‬‬
‫وطاعتها واجبة‪.2‬‬

‫وبذلك أصبح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رئيس الدولة وفي الوقت نفسه رئيس السلطة‬
‫القضائية والتنفيذية والتشريعية‪ ،‬فقد تولى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم السلطات الثالث‪،‬‬
‫بصفته الرسول الحاكم‪ ،‬ورئيس الدولة‪ ،‬فقد تولى رئاسة الدولة وفق نصوص الصحيفة‪،‬‬
‫وباتفاق الطوائف المختلفة الموجودة في المدينة‪ ،‬ممن شملتهم نصوص الصحيفة‪.3‬‬

‫‪ ‬الحقوق والحريات العامة في الدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية‪:‬‬


‫فالدولة يمكن أن تطور دستورها مماا ُيلبي احتياجات الشعوب‪ ،‬من الحفاظ على الحريات‬
‫العامة ومراعاة المواثيق والمعاهدات الدولية للحقوق والحريات وأحكام الشريعة اإلسالمية‬
‫والقيم والعادات والتقاليد األصيلة‪ ،‬وأن دعمها وحمايتها ضرورة أساسية لممارسة ودعم‬
‫‪ 1‬السيرة النبوية الصحيحة (‪.)291 / 1‬‬
‫‪ 2‬دولة الرسول من التكوين إلى التمكين‪ ،‬ص‪.418 :‬‬
‫‪ 3‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)461 / 1‬‬

‫‪109‬‬
‫وحماية الشورى ومن الحقوق والحريات العامة التي يجب أن ينص عليها دستور الدولة‬
‫الحديثة‪.‬‬
‫ــ لكل مواطن الحق في ممارسة الحياة السياسية‪ ،‬واالقتصادية واالجتماعية‪ ،‬والثقافية‪،‬‬
‫والدينية‪ ،‬وحريته الشخصية‪ ،‬وملكيته الخاصة مصانتان مصونة‪ .‬وحياته الخاصة حرم آمن‪،‬‬
‫وحقه في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي مكفول‪ ،‬وله أن يصدع شكواه بشتى الطرق في حدود‬
‫القانون دونما قيد أو شرط وال مصادرة‪ ،‬أو تأميم أو فرض ضريبة إال بقانون‪.‬‬
‫ــ كل المواطنين سواسية أمام القانون‪ ،‬وفي تقليد الوظائف العامة والمناصب الرسمية وتكافؤ‬
‫الفرص ضرورة والعمل حق وواجب وجنسية الدولة ال تمنح أو تسقط أو تسحب إال وفقاً‬
‫ألحكام القانون‪.‬‬
‫ـ التعليم حق لكل مواطن‪ ،‬وعلى الدولة أن تكفله مجاناً في جميع مراحله بالمؤسسات التعليمية‬
‫الحكومية ويجب عليها القضاء على األمية كما ترعى وتدعم الدولة المؤسسات العلمية‬
‫والبحثية‪ ،‬وتصون الحق في الملكية الفكرية والبحث العلمي‪.‬‬
‫ـ الحرية المسؤولة للصحافة والطباعة والنشر واإلعالم بكافة وسائله‪ ،‬فال رقابة عليها وال تقييد‬
‫لها‪ ،‬والحق في الحصول على المعلومات مكفولة‪ ،‬وحرية الرأي والفكر والتعبير والتجمع‬
‫والتظاهر واالجتماع واإلضراب مصانة‪.‬‬
‫ـ الرعاية الصحية والضمان اال جتماعي لكل مواطن‪ ،‬وحرمة جسده مصانة فال يجوز بحال‬
‫تعذيبه أو امتهانه‪ ،‬أو احتقاره أو ازدرائه أو المساس به مادياً ومعنوياً‪.‬‬
‫ـ مؤسسات المجتمع المدني ركيزة مهمة من ركائز العمل السياسي واالجتماعي واالقتصادي‬
‫وعلى الدولة العمل على حرية إنشائها واالنضمام إليها ودعمها واستقالليتها واألخذ بناصيتها‬
‫بحسبانها اليد الطولى للمشاركة السياسية وذلك سواء كانت اتحادات أم نقابات أو جمعيات أو‬
‫أندية أو روابط‪.‬‬
‫ـ لمصابي الحروب أو بسببها‪ ،‬ولزوجات وأبناء الشهداء األولوية في فرص العمل ولذوي‬
‫االحتياجات الخاصة نصيباً مفروضاً في كل تعيينات الدولة‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫والدولة الحديثة تؤمن بأن السياسة ليست غاية في ذاتها بل هي إطار وآلية من خاللها تتفاعل‬
‫إرادة أفراد الشعب لتحقيق طموحاتهم في الحرية والتنمية والعدالة والشورى‪ ،‬وأن المواطن هو‬
‫الفاعل الحقيقي والمستهدف من سياسة الدولة‪ ،‬وأن الدولة في سياستها تنطلق من المبادئ‬
‫واألسس التالية‪.‬‬
‫ـ تؤكد على مبدأ سيادة القانون‪.‬‬
‫ـ إن السلطة للشعب وحده‪ ،‬وهو مصدر السلطات‪ ،‬وتؤمن بمبدأ الفصل بين السلطات الثالثة‬
‫التشريعية والتنفيذية والقضائية‪ ،‬وتوازنها وتعاونها‪ ،‬وتؤمن بأن الشورى الحقيقية ال تتأتى إال‬
‫بتفعيل هذا المبدأ وتدعو إلى ضرورة تحقيق ذلك من خالل الرقابة على دستورية القوانين‬
‫والتأكد من التزام السلطة التشريعية بما ورد في الدستور والحد من تفويض السلطة التشريعية‬
‫صالحياتها للسلطة التنفيذية‪ ،‬وخاصة فيما يتعلق منها بالحقوق والحريات وضرورة إخضاع‬
‫أعمال السلطة التنفيذية للرقابتين البرلمانية والقضائية‪.‬‬
‫ـ والدولة الحديثة هي دولة لجميع مواطنيها وتحترم كل إنسان يعيش فوق أراضيها‪.‬‬
‫ـ وتؤمن بالتعددية السياسية والفكرية والحق في التدوال السلمي للسلطة‪ ،‬عبر انتخابات نزيهة‬
‫حرة يشارك فيها المواطنون في الداخل والخارج على حد سواء‪.‬‬
‫ـ تؤمن أن العملية السياسية الشورية أساسها في القانون وتعمل على تطوير كل التشريعات‬
‫لتكون الشورى هي روح القوانين‪.‬‬
‫ـ تنادي بإطالق حرية تشكيل األحزاب السياسية‪ ،‬على أن يكون تأسيسها بمجرد األخطار‪،‬‬
‫وتحت رقابة القضاء الطبيعي وحده وأن يكون الحزب مفتوحاً لعضوية جميع المواطنين بال‬
‫تمي يز بسبب الجنس أو اللون أو الدين أو الجهة أو القبيلة‪ ،‬وأن يلتزم الحزب بقواعد العمل‬
‫الشوري في إطار دستور مدني‪.‬‬
‫ـ تؤمن بأن المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات متكافئون في الفرص وفي حق تولي‬
‫الوظائف العامة‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫ـ تؤيد التوسع في مفهوم تولي المناصب العامة باالنتخاب وبخاصة المناصب ذات العالقة‬
‫المباشرة بالشعب‪ ،‬مثل عمداء الكليات والبلديات ومدراء األمن‪.‬‬
‫ـ تدعم تعزيز مفهوم الالمركزية اإلدارية وأهمية وجود جيل من متخذي القرار في المجالس‬
‫المحلية على كافة الصعد األمنية والتنموية واالستثمارية‪.‬‬
‫ـ تؤيد مبدأ نسبية التمثيل في اال نتخابات العامة المحلية حيث يضمن ذلك المبدأ التعبير الحقيقي‬
‫والواقعي والفاعل عن أكبر عدد من التيارات السياسية والفكرية واالجتماعية كما يضمن تعبيراً‬
‫أمثل عن حقوق األقليات والنساء‪ ،‬ويراعي التعداد السكاني والتباين الجهوي‪ ،‬ويحترم اختالف‬
‫األصول واألعراق والهويات‪.‬‬
‫ـ تسعى لتحقيق حكم محلي شوري حقيقي يقوم على انتخاب المجالس المحلية وما في حكمها‪،‬‬
‫وإعطاء المحليات صالحيات فعلية في التقرير والتفيذ وتدبير موارد مالية محلية‪ ،‬وتكون بتلك‬
‫المحليات مسؤ ولة أمام ناخبيها وليس أمام الحكومة وألعضاء هذه المجالس حق سحب الثقة من‬
‫رؤسائها‪.‬‬
‫ـ تؤمن بأن االعتبارات المفوضية ينبغي أن تكون المعيار الحاكم في شغل الوظائف الحكومية‬
‫وغير الحكومية على حد سواء‪.‬‬
‫ـ تلك االعتبارات يجب أن تبنى على أسس من الكفاءة والمهنية والتفاني واإليمان الصادق‬
‫بالتعبير عن مصالح الوطن وذلك بمعزل عن االعتبارت الشخصية أو األهواء الفردية‪.‬‬
‫ـ ومن ثم فال وجه لتوزيع وظائف الدولة على أساس قبلي أو جهوي أو طائفي أو عشائري أو‬
‫مذهبي أو على خلفية من مخاصصة‪ ،‬أو إرضاء لحزب أو فكر أو تيار بعينه‪.‬‬
‫ـ ترى أن خير دور للجيش هو الحفاظ على إقليم الدولة والدفاع عنه‪ ،‬وال تقبل له بأي تدخل في‬
‫مفاصل العمل المدني بشتى أشكاله السياسية أو االجتماعية أو االقتصادية‪.‬‬
‫ـ تثمن عالياً مهمة الشرطة في الحفاظ على األمن وحماية الحريات وحقوق اإلنسان وذلك من‬
‫خالل بناء منظومة شرطية أساسها الكفاءة والتميز وفصلها عن المآرب السياسية والحزبية‪.‬‬
‫ـ ترفض تماماً كافة القوانين والمحاكم االستثنائية أو الخاصة‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫ـ إطالق حرية العمل الطالبي‪ ،‬والنشاط الجامعي‪.‬‬
‫ـ توفير ضمانات االنتخابات الحرة النزيهة وذلك من خالل تشكيل لجنة قضائية دائمة تنفرد‬
‫بإرادة مجمل العملية االنتخابية‪.‬‬
‫ـ توفير الضمانات الالزمة إلجراء انتخابات حرة ونزيهة للنقابات المهنية والعمالية‪.‬‬
‫ـ محاربة الفساد بكافة أشكاله‪ ،‬وعلى كافة المستويات‪.‬‬

‫‪4‬ـ سنة التدافع وحركة السرايا‪:‬‬


‫إن من السنن التي تعامل معها النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬سنة التدافع‪ ،‬وتظهر جلياً في الفترة‬
‫المدنية مع حركة السرايا والبعوث والغزوات التي خاضها النبي صلى اهلل عليه وسلم ضد‬
‫المشركين وهذه السنة متعلقة تعلقاً وطيداً بالتمكين لهذا الدين‪ ،‬وقد أشار اهلل تعالى إليها في‬
‫كتابه العزيز‪ ،‬وجاء التنصيص عليها في قوله تعالى ‪﴿ :‬وَلَو َ‬
‫ال دَفعُ اهللِ النَّاسَ بَعضَهُم ِببَعض‬

‫لَّفَسَدَتِ األَرضُ وَلَـكِنَّ اهللَ ذُو فَضل عَلَى العَالَمِينَ﴾ (البقرة‪ ،‬آية ‪.)251 :‬‬

‫ال دَفعُ اهللِ النَّاسَ‬


‫َق إِالَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اهللُ وَلَو َ‬ ‫ـ وقال تعالى‪﴿ :‬الَّذِي َ‬
‫ن أُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَي ِر ح ٍّ‬

‫َن اهللُ‬
‫بَعضَهُم بِبَعض لَّهُدِّمَت صَوَامِ ُع وَ ِبيَع وَصَلَوَات وَمَسَاجِ ُد يُذكَ ُر فِيهَا اسمُ اهللِ كَثِيرًا وَلَيَنصُر َّ‬
‫مَن يَنصُرُ ُه إِنَّ اهللَ لَقَوِيٌّ عَزِيز﴾ (الحج‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬

‫ونالحظ في آية البقرة أنها جاءت بعد ذكر نموذج من نماذج الصراع بين الحق والباطل‬
‫المتمثل هنا في طالوت وجنوده المؤمنين‪ ،‬وجالوت وأتباعه‪ ،‬ويذيل اهلل تعالى اآلية بقوله ‪:‬‬
‫﴿وَلَـكِنَّ اهللَ ذُو فَضل عَلَى العَالَمِينَ﴾ (البقرة‪ ،‬آية ‪.)251 :‬‬

‫مما يفيد أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعما الناس كلهم‪.1‬‬

‫‪ 1‬مفاتح الغيب للفخر الرازي (‪.)514 /3‬‬

‫‪113‬‬
‫وتأتي آية الحج بعد إعالن اهلل تعالى أنه يدافع عن أوليائه المؤمنين‪ ،‬وبعد إذنه لهم ـ سبحانه ـ‬
‫بقتال عدواهم‪ ،‬ويختتم اآلية بتقرير لقاعدة أساسية ﴿وَلَيَنصُر َّ‬
‫َن اهللُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اهللَ لَقَوِيٌّ‬

‫عَزِيز﴾ لقد أدرك الصحابة هذه السنة‪ ،‬وعلموا أن القضاء على الباطل وتدميره‪ ،‬البد له من أمة‬

‫لها قيادة ومنهج‪ ،‬وقوة تدمغ الباطل وترهقه‪ ،‬وأيقنوا أن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به‪،‬‬
‫وسواعد تمضي به‪ ،‬وقلوب تحنو عليه‪ ،‬وأعصاب ترتبط‪ .‬لقد علَّمهم النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫كيف يتعاملون مع هذه السنة‪ ،‬فاستجابوا ألمر اهلل تعالى عندما أمرهم بالجهاد في سبيله‪ ،‬فقد‬
‫شرع اهلل ـ عز وجل ـ الجهاد لهذه األمة وجعله فريضة ماضية إلى يوم القيامة‪ ،‬ال يبطله جور‬
‫جائر وال عدل عادل‪ ،‬وما تركه قوم إال أذلهم اهلل‪ ،‬وسلط عليهم عدوهم وقد شرع اهلل ـ عز‬
‫وجل ـ الجهاد على مراحل‪ ،‬ليكون أروض للنفس‪ ،‬وأكثر مالءمة للطبع البشري‪ ،‬وأحسن‬
‫موافقة لسير الدعوة‪ ،‬وطريقة تخطيطها‪ ،1‬فكان تشريع القتال على مراحل‪:‬‬
‫ـ المرحلة األولى‪:‬الحظر‪ ،‬وذلك عندما كان المسلم في مكة وكانوا يطالبون النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم باإلذن لهم في القتال فيجيبهم صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أصبروا فإني لم أومر بقتال»‪.‬‬
‫ِن اهللَ‬ ‫ـ المرحلة الثانية‪ :‬اإلذن من غير إيجاب‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُو َ‬
‫ن بِأََّنهُم ظُلِمُوا وَإ َّ‬

‫عَلَى نَصرِهِم لَقَدِير﴾ (الحج‪ ،‬آية ‪.)39 :‬‬

‫ـ المرحلة الثالثة‪ :‬وجوب قتال من قاتل المسلمين‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وَقَاتِلُوا فِي سَبِي ِل ِ‬
‫هلل الَّذِينَ‬

‫ِب المُعتَدِينَ﴾ (البقرة‪ ،‬آية ‪.)190 :‬‬


‫ال يُح ِّ‬
‫ال تَعتَدُوا إِنَّ اهللَ َ‬
‫يُقَاتِلُونَكُم وَ َ‬

‫ـ المرحلة الرابعة‪ :‬فرض قتال عموم الكفار على المسلمين‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وَقَاتِلُوا المُشرِكِي َ‬
‫ن‬

‫ن﴾ (التوبة‪ ،‬آية ‪.)36 :‬‬


‫كَآفَّةً َكمَا يُقَاتِلُو َنكُم كَآفَّةً وَاعلَمُوا أَنَّ اهللَ مَ َع المُتَّقِي َ‬

‫‪ 1‬الهجرة في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.438 :‬‬

‫‪114‬‬
‫إن هذا التدرج في حكم القتال‪ ،‬كان يقتضيه وضع الدولة اإلسالمية الناشئة‪ ،‬وحالة الجيش‬
‫اإلسالمي الذي كان آخذًا في التكوين من حيث العدد والعُدة‪ ،‬والتدريب وما إلى ذلك‪ ،‬فكان البد‬
‫من مضي فترة من الوقت‪ ،‬يكون التعرض فيها ألعداء الدعوة اإلسالمية من كفار قريش الذين‬
‫آذوا المسلمين‪ ،‬واضطروهم إلى الخروج من ديارهم‪ ،‬يكون فيها ذلك التعرض ألعداء الدعوة‪،‬‬
‫إنما هو سبيل االختيار‪ ،‬ال على سبيل اإلجبار‪ ،‬وذلك إلى أن يصلب عود الدولة اإلسالمية‬
‫ويشتد بأسها‪ ،‬بحيث تستطيع الصمود أمام قوى الكفر في الجزيرة العربية‪ ،‬حتى لو عملت‬
‫قريش على تأليبها ضد المسلمين‪ ،‬كما وقع فيما بعد وحينئذ يأتي وجوب القتال‪ ،‬في حالة تكون‬
‫فيها أوضاع الدولة اإلسالمية والجيش اإلسالمي‪ ،‬على أهبة االستعداد‪ ،‬لمواجهة االحتماالت‬
‫كافة‪ ،‬هذا فيما يتصل بالقتال الذي يتعرض فيه المسلمون لكفار قريش‪ ،‬جاء النص باإلذن أي‬
‫باإلباحة ال بالوجوب‪ ،‬أما في حالة ما لو تعرض المسلمون ـ وهم في دولتهم في المدينة ـ‬
‫لهجوم األعداء عليهم‪ ،‬فالقتال هنا فرض‪ ،‬ال مجال فيه للخيار‪ ،‬وليس مجرد أمر مأذون فيه‪،‬‬
‫وذلك تطبيقاً لبيعة الحرب‪ ،‬بيعة العقبة الثانية‪ ،‬التي أوجبت على األنصار حرب األحمر‬
‫واألسو د من الناس‪ ،‬في سبيل الذود عن الدعوة اإلسالمية وصاحبها صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وأتباعها‪.1‬‬
‫ومع نزول اإلذن بالقتال شرع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في تدريب أصحابه على فنون‬
‫القتال والحروب‪ ،‬واشترك معهم في التمارين والمناورات والمعارك‪ ،‬وعدا السعي في هذه‬
‫الميادين من أجل القربات‪ ،‬وأقدس العبادات التي يتقرب بها إلى اهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬وقد قام‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم بتطبيق قول اهلل تعالى ‪﴿ :‬وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا استَطَعتُم مِّن قُوَّة وَمِن رِّبَاطِ‬

‫ال تَعلَمُونَ ُه ُم اهللُ يَعلَ ُمهُم وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيء‬


‫ن مِن دُو ِنهِم َ‬
‫ن بِ ِه عَد َّو اهللِ وَعَدُوَّكُم وَآخَرِي َ‬
‫الخَيلِ تُرهِبُو َ‬
‫ال تُظلَمُونَ﴾ (األنفال ‪ ،‬آية ‪.)60 :‬‬
‫َف إِلَيكُم وَأَنتُم َ‬
‫هلل يُو َّ‬
‫فِي سَبِيلِ ا ِ‬

‫وكان منهجه صلى اهلل عليه وسلم في تكوين المجاهد المسلم‪ ،‬يعتمد على نهجين متوازيين‪،‬‬
‫التوجيه المعنوي‪ ،‬والتدريب العملي‪.‬‬
‫‪ 1‬القتال والجهاد لمحمد هيكل (‪.)464 ،463 /1‬‬

‫‪115‬‬
‫ـ التوجيه المعنوي‪:‬‬
‫كان صلى اهلل عليه وسلم يسعى إلى رفع معنويات المجاهدين فيمنحهم أمالً يقيناً بالنصر أو‬
‫الجنة‪ ،‬ومنذ تلك اللحظات وفيما بعد‪ ،‬ظل هذا األمل يحدو الجندي المسلم في ساحات القتال‬
‫ويدفعه إلى بذل كل طاقاته النفسية والجسدية والفنية‪ ،‬من أجل كسب المعارك‪ ،‬أو الموت تحت‬
‫ظالل السيوف‪ 1‬فمن أقواله صلى اهلل عليه وسلم في حث أصحابه على الجهاد‪« :‬والذي نفسي‬
‫بيده لوال أن رجاالً من المؤمنين ال تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عنّي‪ ،‬وال أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن‬
‫سرية تغدو في سبيل اهلل‪ ،‬والذي نفسي بيده لوددت أنيّ أقتل في سبيل اهلل‪ ،‬ثم أحيا‪ ،‬ثم أقتل‪ ،‬ثم أحيا‪ ،‬ثم‬
‫أقتل‪ ،‬ثم أحيا‪ ،‬ثم أقتل»‪.2‬‬
‫ـ وقوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ما أحد يدخل الجنة‪ ،‬يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على‬
‫األرض من شيء‪ ،‬إال الشهيد‪ ،‬يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات‪ ،‬لما يرى من‬
‫الكرامة»‪.3‬‬
‫ـ التدريب العملي‪:‬‬
‫سعى النبي صلى اهلل عليه وسلم إلى اعتماد كلا طاقات األمة القادرة على البذل والعطاء‬
‫ورجاالً ونساء وصبيانا وشباباً وشيوخاً‪ ،‬وإلى التمرس على كل مهارة في القتال‪ ،‬طعناً بالرمح‬
‫وضرباً بالسيف ورمياً بالنبل‪ ،‬ومناورة على ظهور الخيل‪ ،‬وكان صلى اهلل عليه وسلم يمزج‬
‫خطيا التربية العسكرية المتوازيين‪ ،‬التوجيه والتدريب واألمل في النصر أو الجنة‪ ،‬وتقديم‬
‫الجهد في ساحات القتال‪ ،‬ويحض المسلمين على إتقان ما تعلموا من فنون الرماية‪ ،‬قال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى‪ ،‬فهي دعوة إلى عموم‬
‫األمة‪ ،‬وحتى من دخلوا في سن الشيخوخة للتدريب على إصابة الهدف ومهارة اليد‪ ،‬ونشاط‬
‫الحركة‪.‬‬
‫إن اإلسالم يهتم بطاقات األمة جميعها‪ ،‬ويوجهها نحو المعالي‪ ،‬وعلوا العمة‪.‬‬

‫‪ 1‬دراسات في السيرة‪ ،‬ص‪.161 :‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.2797 :‬‬
‫‪ 3‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.2817 :‬‬

‫‪116‬‬
‫وكان صلى اهلل عليه وسلم يهتم باألعداء على حسب كلا طرف وحال‪ ،‬ويحث على كل وسيلة‬
‫يستطيعها المسلمون‪ ،‬وقد ثبت عنه صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أنه قال‪« :‬وَأَعِدّواْ لَهم مَّا اسْتَطَعْتم مِّن‬

‫قوَّةٍ ‪ :‬أال إن القوة الرميّ أال إن القوة الرّمي أال إن القوة الرّمي»‪.1‬‬
‫ولذلك أخلص الصحابة في جهادهم هلل تعالى‪ ،‬طمعاً في ثوابه‪ ،‬خوفاً من عقابه‪ ،‬فكان كالمهم‬
‫هلل‪ ،‬وأنفقوا أموالهم ابتغاء مرضاة اهلل‪ ،‬وقدموا أنفسهم دفاعاً عن دين اهلل‪ ،‬ومن أجل إعالء كلمة‬
‫اهلل تعالى‪ ،‬وكان لجهاد الصحابة في سبيل اهلل تعالى آثاره العظيمة في تزكية نفوسهم‪ ،‬والتي‬
‫تتجلى في الجوانب التالية وهي‪ :‬تحرير النفس من حب الحياة والتعلق بها‪ ،‬تمحيص النفس‬
‫وتدريبها على الصبر والفداء‪ ،‬وعزة النفس‪ ،‬وأما أهداف الجهاد‪ ،‬حماية حرية العقيدة‪ ،‬حماية‬
‫الشعائر‪ ،‬والعبادات ودفع الفساد عن األرض واالبتالء والتربية واإلصالح‪ ،‬وإرهاب الكفار‬
‫وإخزاؤهم وإذاللهم‪ ،‬وتوهين كيدهم وكشف المنافقين‪ ،‬ودفع عدوان الكافرين‪.‬‬
‫ـ أهم السرايا والبعوث التي سبقت غزوة بدر الكبرى‪:‬‬
‫بدأت قريش بإعالن حالة الحرب بينها وبين دولة اإلسالم بالمدينة‪ ،‬ونزل اإلذن من اهلل تعالى‬
‫بالقتال‪ ،‬وصار من الطبيعي أن تتعامل دولة المدينة مع قريش حسب ما تقتضيه حالة الحرب‬
‫هذه‪ ،‬فقد اتجه نشاط الرسول صلى اهلل عليه وسلم من أجل توطيد مكانة هذه الدولة‪ ،‬والردا على‬
‫قريش في إعالنها حالة الحرب على المدينة فاتجه نشاطه صلى اهلل عليه وسلم نحو إرسال‬
‫السرايا‪ ،‬والخروج في الغزوات‪ ،2‬فكانت تلك السرايا والغزوات التي سبقت بدر الكبرى‪ ،‬ومن‬
‫أهمها‪ :‬غزوة األبوَاء‪ ،‬سرية عبيدة بن الحارث‪ ،‬سرية حمزة بن عبد المطلب‪ ،‬وغزوة بواط‪،3‬‬
‫وغزوة العشيرة‪ ،4‬وسرية سعد بن أبي وقاص‪.‬‬
‫ـ وقد قام النبي صلى اهلل عليه وسلم قبل البدء بحركة السرايا والغزوات بإجراء تعداد سكاني‬
‫في السنة األولى من الهجرة وبعد المؤاخاة مباشرة وكان اإلحصاء للمسلمين فقط‪ ،‬أو حسب‬
‫نص أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حينما قال‪« :‬اكتبوا لي من تلفظ باإلسالم من الناس»‪،‬‬
‫‪1‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.1917 :‬‬
‫‪ 2‬الجهاد والقتال‪ ،‬محمد خير هيكل (‪.)476 /1‬‬
‫‪ 3‬جبل من جبال جهينة‪ ،‬بناحية رضوى بقرب ينبع‪.‬‬
‫‪ 4‬موضع بين مكة والمدينة‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫فبلغ تعداد المحاربين منهم "‪ "1500‬ألفاً وخمسمائة رجل‪ 1‬فأطلق المسلمون بعد إجراء هذا‬
‫اإلحصاء تساؤل تعجب واستغراب‪ :‬نخاف ونحن ألف وخمسمائة؟ ألنهم كانوا قبل ال ينامون‬
‫إال معهم السالح خوفاً على أنفسهم‪ ،‬وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يمنع خروجهم ليالً‬
‫فرادى‪ ،‬حماية لهم من الغدر‪ ، 2‬وبعد هذا التعداد مباشرة‪ ،‬بدأت السرايا والغزوات‪ ،‬وهذا‬
‫اإلجراء اإلحصائي يدخل ضمن اإلجراءات التنظيمية في تطوير الدولة الناشئة‪.3‬‬
‫ـ حراسة الصحابة للنبي صلى اهلل عليه وسلم الشخصية‪:‬‬
‫كان الصحابة رضي اهلل عنهم يحرسون النبي صلى اهلل عليه وسلم حراسة شخصية‪ ،‬فعن أم‬
‫المؤمنين عائشة رضي اهلل عنها قالت‪ :‬أرِق النبي صلى اهلل عليه وسلم ذات ليلة‪ ،‬فقال‪« :‬ليت‬
‫رجالً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة»‪ ،‬إذ سمعنا صوت السالح‪ ،‬قال‪« :‬من هذا؟» قال‪:‬‬
‫سعد يا رسول اهلل جئت أحرُسُك‪ ،‬فنام النبي صلى اهلل عليه وسلم حتى سمعنا غطيطه‪ ،4‬وكان‬
‫ذلك قبل غزوة بدر الكبرى‪ ،5‬وفي حديث عائشة رضي اهلل عنها‪ :‬مشروعية من العدو‪ ،‬واألخذ‬
‫بالحزم‪ ،‬ترك اإلهمال في موضع الحاجة إلى االحتياط‪ ،‬وأن على الناس أن يحرسوا سلطانهم‬
‫خشية القتل‪ ،‬وفيه الثناء على من تبرع بالخير وتسميته‪ ،‬وإنما عنى النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ذلك مع قوة توكله‪ ،‬لالستنان به في ذلك‪.6‬‬
‫ـ نص وثيقة المعاهدة مع بني ضمرة والتعليق عليها‪:‬‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‪ ،‬هذا كتاب من محمد رسول اهلل‪ ،‬لبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن‬
‫كنانة‪ ،‬بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم‪ ،‬وأن لهم النصرة على من رامهم‪ ،‬إال أن يحاربون‬
‫دين اهلل‪ ،‬ما بل بحر صوفه‪ ،7‬وأن النبي إذا دعاهم لنصرة أجابوه عليهم بذلك ذمة اهلل وذمة‬
‫رسوله‪ ،‬ولهم النصر على من برا منهم واتقى‪.8‬‬

‫‪ 1‬الوثائق السياسية‪ ،‬لحميد اهلل‪ ،‬ص‪.65 :‬‬


‫‪ 2‬الروض األنف (‪.)43 /5‬‬
‫‪ 3‬دراسات في عهد النبوة‪ ،‬عبد الرحمن الشجاع‪ ،‬ص‪.163 :‬‬
‫‪ 4‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.2885:‬‬
‫‪ 5‬تفسير القرطبي (‪.)330 /6‬‬
‫‪ 6‬والية الشرطة في اإلسالم‪ ،‬د‪.‬عمر الحميدي‪ ،‬ص‪.63 :‬‬
‫‪ 7‬كناية عن التأييد واالستمرار‪.‬‬
‫‪ 8‬الوثائق السياسية لمحمد حميد اهلل‪ ،‬ص‪ ،220 :‬رقم‪.159 :‬‬

‫‪118‬‬
‫انتهز النبي صلى اهلل عليه وسلم في غزوة األبواء فرصة ذهبية فعقد حلفاً عسكرياً مع شيخ‬
‫ضمرة‪ ،‬فقد كان موقع بالده ذا قيمة عسكرية ال تقدر بثمن في الصراع بين الدولة اإلسالمية‬
‫الناشئة وقريش‪ ،‬ولذلك عمل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على ضمان حيدتهم‪ ،‬في حالة‬
‫وقوع صدام مسلح بين المدينة وأهل مكة‪ ،‬وكانت خطته حتى وقعة بدر أن يزعج قوافل قريش‬
‫بإرسال مجموعات صغيرة من المهاجرين وخاصة أن هذه القوافل كانت غير مصحوبة بجيش‬
‫يحميها وهو أمر لم تفكر فيه قريش حتى تلك اللحظة‪ 1‬كان قرب بني ضمرة وحلفائهم من‬
‫المدينة التي كانت سوقهم‪ ،‬ومصدر رزقهم قد وضعهم في موقف ال يسمح لهم بأي مسلك غير‬
‫موادعة الدولة اإلسالمية الناشئة‪ ،‬وهو حلف عدم اعتداء وفق المصطلح الحديث‪.2‬‬
‫وقد دلت هذه الموادعة على أن مقتضيات السياسة الشرعية‪ ،‬قد تدفع المسلمين إلى التحالف‬
‫العسكري أو االقتصادي أو التجاري‪ ،‬مع أي من الكتل القائمة‪ ،‬وأن التحالف السياسي له أصل‬
‫في الشريعة‪ ،‬وضرورة يوجبها استهداف رفع الضرر الحاصل‪ ،‬أو المرتقب‪ ،3‬وأن التحالف‬
‫مبني على قاعدة رفع الضرر‪ ،‬والمصلحة المشتركة‪ ،‬وأن تكون ألصل الحلف غاية شرعية‬
‫معلومة‪ ،‬وأن يكون للمسلمين في الحلف قرار ورأي‪ ،‬أما إذا كانوا أتباعاً ومنقذين فهذا ال‬
‫ينطبق عليه األصل الشرعي وعلى قيادة األمة أن تستوعب هدي النبي صلى اهلل عليه وسلم في‬
‫حركته السياسية‪ ،‬وأن تفهم القاعدة الشرعية التي تقول ‪:‬ال ضرر وال ضرار‪.4‬‬
‫وهذه القاعدة «ال ضَرر وال ضِرار» من أركان الشريعة‪ ،‬وتشهد لها نصوص من الكتاب‬
‫المنهي عنه ما كان ضرراً عاماً أو خاصاً‪ ،‬ويشمل ذلك دفعه قبل‬
‫ُّ‬ ‫والسنة‪ ،‬ويشمل الضرر‬
‫الوقوع بطرق الوقاية الممكنة‪ ،‬ودفعه بعد الوقوع بما يمكن من التدابير التي تزيل آثاره‪ ،‬وتمنع‬
‫تكراره‪ ،‬كما يدل على وجوب اختيار أهون الشرين‪ ،‬لدفع أعظمهما‪ ،‬ألن في ذلك تخفيف ًا‬
‫للضرر عندما ال يمكن منعه بتات ًا‪.5‬‬

‫‪ 1‬نشأة الدولة اإلسالمية‪ ،‬د‪.‬عون الشريف‪ ،‬ص‪.43 :‬‬


‫‪ 2‬الفقه السياسي‪ ،‬خالد الفهداوي‪ ،‬ص‪.119 :‬‬
‫‪ 3‬المصدر السابق‪ ،‬ص‪.124 :‬‬
‫‪ 4‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)509 /1‬‬
‫‪ 5‬المدخل الفقهي‪ ،‬مصطفى الزرقا‪ ،‬ص‪.972 :‬‬

‫‪119‬‬
‫إن هذه الموادعة توضح جواز عقد الدولة اإلسالمية معاهدة دفاعية بينهما وبين دولة أخرى‪،‬‬
‫إذا اقتضت ذلك مصلحة المسلمين‪ ،‬ولم يترتب أي ضرر على مثل هذه المعاهدة‪ ،‬ويجب على‬
‫الدولة اإلسالمية في هذه الحال‪ ،‬نصرة الدولة الحليفة إذا دعيت إلى هذه النصرة ضد الكفار‬
‫المعتدين‪ ،‬كما يجوز للدولة اإلسالمية أن تطلب من الدولة الحليفة إمدادها بالسالح والرجال‪،‬‬
‫ليقاتلوا تحت راية الدولة اإلسالمية‪ ،‬ضد األعداء من الكفار‪.1‬‬
‫وقد شرط النبي صلى اهلل عليه وسلم على بني ضمرة أال يحاربوا دين اهلل‪ ،‬حتى يكون لهم‬
‫النصر على من اعتدى عليهم‪ ،‬أو حاول االعتداء وفي هذا إبعاد للعقبات‪ ،‬التي يمكن أن تقف‬
‫في طريق الدعوة‪ ،‬فقد أوجبت هذه المعاهدة على بني ضمرة أال يحاربوا هذا الدين‪ ،‬أو يقفوا‬
‫في طريقه‪ ،2‬وتعتبر هذه المعاهدة كسباً سياسياً وعسكرياً للمسلمين‪ ،‬ال يستهان به‪.3‬‬
‫ـ من أهداف السرايا‪:‬‬
‫عندما ندرس حركة السرايا والغزوات التي قادها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بدقة وعمق‬
‫وتحليل‪ ،‬نستطيع أن نتلمس كثيراً من األهداف‪ ،‬وندرك بعض ما توحي به من دروس وعبر‬
‫وفوائد‪ ،‬فإذا تأملنا في حركة السرايا التي سُيرت قبل بدر‪ ،‬نجد أن أفرادها كلهم من المهاجرين‪،‬‬
‫ليس فيهم واحد من األنصار‪ ،‬يقول ابن سعد ـ رحمه اهلل ـ ‪ :‬والمجتمع عليه أنهم كانوا جميعاً‬
‫من المهاجرين‪ ،‬ولم يبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أحداً من األنصار مبعثاً حتى غزا‬
‫بهم بدراً وهذا كان أمرًا مدروساً له أهدافه‪ ،‬ومنها‪ :‬إحياء قضية المهاجرين في أنفسهم أوالً‪،‬‬
‫وإحياؤها على المستوى الخارجي‪ ،‬وإنهاك االقتصاد القرشي‪ ،‬ومحاصرته واستعادة بعض‬
‫الحقوق المسلوبة‪ ،‬وإضعاف قريش عسكرياً‪ ،‬وتدريب الصحابة على إتقان فنون القتال‪ ،‬ورصد‬
‫تحركات قريش‪ ،‬وإرهاب العدو الداخلي في المدينة وما حولها‪ ،‬واختبار قوة العدوا‪.4‬‬
‫وقد حققت تلك السرايا أهدافها والتي من أهمها‪:‬‬
‫ـ بسط هيبة الدولة في الداخل والخارج‪.‬‬

‫‪ 1‬الجهاد والقتال في السياسة الشرعية (‪.)479 /1‬‬


‫‪ 2‬دولة الرسول من التكوين إلى التمكين‪ ،‬ص‪.530 :‬‬
‫‪ 3‬الدعوة اإلسالمية‪ ،‬د‪.‬عبد الغفار عزيز‪ ،‬ص‪.296 :‬‬
‫‪ 4‬غزوة بدر الكبرى ألبي فارس‪ ،‬ص‪ 14 :‬ـ ‪.24‬‬

‫‪120‬‬
‫ـ كسب بعض القبائل وتحجيم دور األعراب‪.‬‬
‫ـ عالقة هذه السرايا بحركة الفتوح‪:‬‬
‫وقد استمرت حركة السرايا والبعوث‪ ،‬وكانت بمثابة تمرينات عسكرية تعبوية‪ ،‬ومناورات حية‬
‫لجند اإلسالم‪ ،‬وكان هذا النشاط المتدفق على شكل موجبات متعاقبة من جند اإلسالم األوائل‪،‬‬
‫داللة قاطعة على أن دولة اإلسالم في المدينة ـ وبقيادة النبي القائد صلى اهلل عليه وسلم ـ كانت‬
‫مثل خلية النحل ال تهدأ وال تكل‪ ،‬وإن الباحث ليلحظ في حركة السرايا والبعوث والغزوات‬
‫الكبرى في زمن النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬حرص الصحابة على المشاركة كقادة وجنود‪،‬‬
‫فكان صلى اهلل عليه وسلم يعدُهم لتثبيت دعائم الدولة واالستعداد للفتوحات المرتقبة‪ ،‬والتي ما‬
‫فتئ صلى اهلل عليه وسلم يُبشار بها أصحابه بين الفينة واألخرى في أوقات الحرب والسلم‬
‫والخوف واألمن‪.‬‬
‫لقد كانت السرايا والغزوات التي أشرف عليها الحبيب المصطفى صلى اهلل عليه وسلم في‬
‫حياته‪ ،‬بمثابة تدريب حي نابض‪ ،‬بل يمكن اعتبارها دورات أركان للقادة الذين فتحوا مشارق‬
‫األرض ومغاربها‪ ،‬فيما بعد‪.‬‬
‫إن حياة الصحابة رضي اهلل عنهم‪ ،‬خالل األربع والعشرين ساعة اليومية‪ ،‬عبارة عن تدريب‬
‫مستمر‪ ،‬فالبرنامج اليومي المنتظم يبدأ مبكراً من صالة الفجر‪ ،‬التي تؤدى في جماعة مع‬
‫قائدهم األعلى صلى اهلل عليه وسلم الذي كان يحثهم على أداء هذه الصالة جماعة في وقتها‬
‫موضحاً لهم وألمته أنها المفتاح العجيب ليوم مليء بالنشاط والحيوية‪ ،‬ثم ينطلق كل منهم إلى‬
‫عمله الذي تتخلله فترات الصلوات الباقية‪ ،‬حتى إذا ما صلوا الصالة اآلخرة "صالة العشاء"‬
‫ناموا حتى إذا ما أخذوا قسطاً وافراً من النوم أول الليل إلى الثلث األخير منه‪ ،‬قام معظمهم‬
‫ألداء صالة التهجد التي تمأل قلوبهم روحانية وتكسبهم مزيداً من النشاط ألدائها في وقت يكون‬
‫الجسم فيه مرتاحاً‪.‬‬
‫هذا باإلضافة إلى االستعداد الدائم واليقظة التامة لمتطلبات دولة اإلسالم‪ ،‬فكانوا يقومون‬
‫بنشاطات تدريبية مركزة‪ ،‬تتمثل ركوب الخيل‪ ،‬والسيف والرماية وكان النبي صلى اهلل عليه‬

‫‪121‬‬
‫وسلم يحُثهم على فعل ذلك‪ ،‬بل ويشاركهم فيه‪ ،‬معطياً مع نفسه القدوة‪ ،‬وكان صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يركز على تعلم الرماية كثيراً‪ ،‬موضحاً أنها خير ما يعد من قوة واستعداداً للكفار‪.‬‬
‫وكان صلى اهلل عليه وسلم يشجعهم على الصناعة الحربية‪ ،‬المتمثلة في ذلك الوقت في صناعة‬
‫األسهم‪ ،‬يخبرهم‪ :‬أن األجر الذي غايته الجنة ينسحب‪ ،‬والمتنبل بها والرامي بها‪ ،‬فيروي لنا‬
‫عقبة عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قوله‪« :‬إن اهلل يدخل بالسهم الواحد ثالثة نفر الجنة‪:‬‬
‫صانعه الذي احتسب في صنعته الخير ومتنبله‪ ،1‬والرامي‪ ،‬ارموا وأركبوا‪ ،‬وأن ترموا أح ّ‬
‫ب‬
‫إليّ من أن تركبوا وليس من اللهو إال ثالثة‪ :‬تأديب الرجل فرسه‪ ،‬ومالعبته زوجته‪ ،‬ورميه‬
‫بنبله عن قوسه‪ ،‬ومن علّم الرمي ثم تركه‪ ،‬فهي نعمة كفرها»‪.2‬‬
‫إن المهمات واألهداف التي سعت لتحقيقها السرايا والبعوث كانت تتفاوت تبعاً الختالف‬
‫الظروف المحيطة والحادثة‪ ،‬فكانت السرايا األولى في معظمها عبارة عن دوريات استطالعية‬
‫وإستكشافية وجس نبض‪ ،‬ثم تطورت إلى سرايا اعتراضية توقع الرعب والفزع في القوافل‬
‫القرشية‪ ،‬وذلك قبل غزوة بدر الفاصلة‪ ،‬وعندما قويت شوكة المسلمين بعدها‪ ،‬أصبحت مهمة‬
‫بعض السرايا والبعوث تنصبُا في تصفية األفراد من أعداء الدولة اإلسالمية‪ ،‬الذين يحاولون‬
‫النيل من مسيرتها‪ ،‬مثل كعب بن األشرف‪ ،‬والعصماء بنت مروان‪ ،‬وأبي عفك‪ ،‬فكان في قتل‬
‫‪3‬‬
‫كعب ردع لليهود‪ ،‬وقتل العصماء وأبي عفك ردع للمشركين والمنافقين في المدينة‪.‬‬
‫وعندما انقلبت األمور لغير صالح المسلمين بعد أحد‪ ،‬طمع األعراب في خيرات المدينة‪،‬‬
‫واستهانوا بالمسلمين لدرجة أنهم غدروا ببعض البعوث التعليمية ـ كما في الرجيع وبئر معونة‬
‫ـ غيار تبعاً لذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم "إستراتيجيته" العسكرية فانتقل بالسرايا من‬
‫قريش إلى األعراب‪ ،‬لتأديبهم بطريقة صارمة وسريعة ومباغتة‪ ،‬وكان أهم ما يميز تلك‬
‫السرايا‪ ،‬هجومها التعرضي لألعراب قبل تحشدهم وجمع أمرهم بالهجوم على المسلمين‪.‬‬
‫وظلت السرايا والبعوث النبوية تؤدي دورها‪ ،‬وتقوم بمهامها الخاصة لخدمة أهداف الدعوة‪،‬‬
‫فمن درويات قتالية إلى سرايا تعقبية وأخرى تمويهية‪ ،‬حتى إذا ما توطاد األمر للمسلمين بعد‬
‫‪ 11‬المتنبل‪ :‬هو الذي يناول السهم للرامي‪.‬‬
‫‪ 2‬سنن أبو داوود‪ ،‬الحديث رقم‪.2513 :‬‬
‫‪ 3‬فتح الباري‪ ،‬الحديث رقم‪.4355 :‬‬

‫‪122‬‬
‫فتح مكة‪ ،‬ا هتم النبي صلى اهلل عليه وسلم بإزالة كل ما يمت للوثيقة بصلة‪ ،‬فبعث السرايا‬
‫والبعوث من مكة لتحطيم بقية رموز الشرك والوثنية‪ ،‬فانطلقت السرايا لتحطيم العُزاى ومناة‬
‫والالت وسواع ذي الخلصة‪ ،‬وغيرها من األصنام‪ ،‬والطواغيت الوثنية‪ ،1‬وبعد ذلك انطلقت‬
‫دعوة اإلسالم في أرج اء الجزيرة‪ ،‬ودخل الناس في دين اهلل أفواجاً‪ ،‬ثم تحركت الجيوش‬
‫الراشدية بعد وفاة الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬لنشر دين اهلل في المعمورة‪ ،‬وإزالة كل‬
‫العوائق والقوى التي تقف في وجه الدعوة‪.‬‬
‫لقد أدهشت النتائج السريعة اإليجابية لحركة الفتوح اإلسالمية جميع المحللين على اختالف‬
‫دياناتهم وأفكارهم ومشاربهم‪ ،‬ولكن ستزول دهشة المحللين المنصفين‪ ،‬عندما يقرؤون تلك‬
‫التعاليم‪ ،‬والوصايا النبوية لقواد‪ ،‬وجنود السرايا والبعوث‪ ،‬والتي هي نواة حركة الفتوح‬
‫اإلسالمية‪ ،‬والتي صارت تتكرر على ألسنة الخلفاء‪ ،‬وقادة جيوش الفتوح‪ ،‬وتظهر في أعمالهم‬
‫فيما بعد‪.2‬‬
‫عن أنس رضي اهلل عنه قال‪ :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا بعث جيشاً‪ ،‬قال‪:‬‬
‫« انطلقوا باسم اهلل‪ ،‬ال تقتلوا شيخاً فانياً وال طفالً صغيراً وال امرأة‪ ،‬وال تغلوا وضموا‬
‫غنائمكم‪ ،‬وأصلحوا وأحسنوا إن اهلل يحب المحسنين»‪ ،3‬وعن أبي موسى رضي اهلل عنه قال‪:‬‬
‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال‪« :‬بشروا‬
‫وال تنفروا ويسروا وال تعسروا»‪.4‬‬
‫‪5‬ـ األمن‪:‬‬
‫أشار القرآن الكريم إلى أهمية هذا الجانب في آيات عديدة منها‪:‬‬
‫ب لَهُم بِ ِه عَمَل صَالِح﴾ (التوبة‪ ،‬آية ‪.)120 :‬‬
‫ال إِالَّ كُتِ َ‬
‫ن مِن عَدُوٍّ نَّي ً‬ ‫أ ـ قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َ‬
‫ال يَنَالُو َ‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)519 /1‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)519 /1‬‬
‫‪ 3‬سنن أبو داوود‪ ،‬الحديث رقم‪.2614 :‬‬
‫‪4‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.1732 :‬‬

‫‪123‬‬
‫وتشير اآلية على أن كل نيل من العدو عليه جزاء‪ ،1‬وأن استطالع أخبار العدو‪ ،‬ومعرفة‬
‫مواطن الضعف فيه‪ ،‬مواقع آليته‪ ،‬ومنشآته يعتبر نيالً ألنه يوصل للتخطيط السليم‪ ،‬المؤدي إلى‬
‫الظفر به‪.‬‬
‫ح اهللِ إِنَّهُ الَ يَيأَسُ‬
‫ال تَيأَسُوا مِن رَّو ِ‬
‫سفَ وَأَخِي ِه وَ َ‬ ‫ب ـ قال تعالى‪﴿ :‬يَا بَن َّ‬
‫ِي اذهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُو ُ‬

‫ح اهللِ إِالَّ القَومُ الكَافِرُونَ﴾ (يوسف‪ ،‬آية ‪.)87 :‬‬


‫مِن رَّو ِ‬

‫وجه االستدالل‪ :‬أن يعقوب عليه السالم قد طلب من أبنائه أن يتحسسوا ويبحثوا عن يوسف‬
‫وأخيه وفي هذا إقرار من أحد أنبياء اهلل في جمع المعلومات عن اآلخرين‪ ،‬ويعتبر جمع‬
‫المعلومات من العناصر األساسية في علم االستخبارات ويؤكد على مبدأ جمع المعلومات ﴿ َو َ‬
‫ال‬

‫تَيأَسُوا﴾‪.2‬‬

‫ث غَي َر بَعِيد فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَم تُحِط بِهِ وَجِئتُكَ مِن سَبَإ بِنَبَإ يَقِين﴾ (النمل‪،‬‬
‫ج ـ وقال تعالى‪﴿ :‬فَ َمكَ َ‬

‫آية ‪.)22 :‬‬


‫إن اآلية الكريمة ذكرت مبدأ من مبادئ االستخبارات‪ ،‬وهو مبدأ جمع المعلومات‪ ،‬حيث إن‬
‫الظروف التي جمعت فيها المعلومات هي ظروف حرب بدليل قوله تعالى‪﴿ :‬وَحُشِرَ لِسُلَيمَا َ‬
‫ن‬

‫س وَالطَّي ِر فَهُم يُوزَعُونَ﴾ (النمل‪ ،‬آية ‪ .)17 :‬نلحظ من اآلية تطبيق‬


‫جُنُودُ ُه مِنَ الجِنِّ وَاإلِن ِ‬

‫عناصر االستخبارات وهي‪:‬‬


‫ـ إقرار مبدأ الحصول على المعلومات إذ أقر سليمان الهدهد ثم أرسله مرة أخرى ‪﴿ :‬قَالَ‬

‫ن الكَاذِبِينَ﴾ (النمل‪ ،‬آية ‪.)27 :‬‬


‫ت مِ َ‬
‫ظرُ أَصَدَقتَ أَم كُن َ‬
‫سَنَن ُ‬

‫َل عَنهُم فَانظُر مَاذَا يَرجِعُونَ﴾ (النمل‪ ،‬آية ‪.)28 :‬‬ ‫ثم قال ‪﴿ :‬اذهَب بِّ ِكتَابِي هَذَا فَأَلقِه إِلَيهِم ث َّ‬
‫ُم تَو َّ‬

‫‪ 1‬في ظالل القرآن (‪.)11 /4‬‬


‫‪ 2‬االستخبارات العسكرية في اإلسالم‪ ،‬عبد اهلل علي‪ ،‬ص‪..105 :‬‬

‫‪124‬‬
‫ـ عرض المعلومات المجمعة‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬إِنِّي َوج ُّ‬
‫َدت امرَأَةً تَملِكُهُم وَأُوتِيَت مِن كُلِّ شَيء وَلَهَا‬

‫ن أَعمَالَهُم فَصَدَّهُم‬
‫ن لَهُمُ الشَّيطَا ُ‬
‫ن اهللِ وَزَيَّ َ‬
‫ن لِلشَّمسِ مِن دُو ِ‬
‫عَرش عَظِيم * وَجَدتُّهَا َوقَومَهَا يَسجُدُو َ‬
‫ال يَهتَدُونَ﴾ (النمل‪ ،‬آية ‪ 23 :‬ـ ‪ .)24‬تقسيم المعلومات المعروضة وتقرير مدى‬
‫عَنِ السَّبِيلِ فَهُم َ‬

‫ن الكَاذِبِينَ﴾ (النمل‪ ،‬آية ‪.)27 :‬‬ ‫صحتها‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬قَا َل سَنَنظُرُ أَصَدَق َ‬
‫ت أَم كُنتَ مِ َ‬

‫ـ تحليل ودراسة المعلومات واستخالص النتائج منها‪.‬‬


‫ـ إمداد المسؤولين وإطالع القادة على المعلومات‪ ،‬فالهدهد كجندي من جنود سليمان رأى أن‬
‫من واجبه أن يأتي بما حصل عليه من معلومات إلى مسؤوله وهو سليمان‪ 1‬عليه السالم ‪:‬‬
‫ك مِن سَبَإ ِبنَبَإ يَقِين﴾ (النمل‪ ،‬آية ‪.)22 :‬‬
‫﴿وَجِئتُ َ‬

‫ـ المباغتة والمفاجأة في جمع المعلومات وتوصيلها وغير ذلك من الدروس والعبر‪.‬‬


‫س وَالطَّي ِر فَهُم يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوا‬ ‫د ـ وقال تعالى‪َ ﴿ :‬وحُشِ َر لِسُلَيمَانَ جُنُودُ ُه مِ َ‬
‫ن الجِنِّ وَاإلِن ِ‬

‫ال‬
‫ن َوجُنُودُهُ وَهُم َ‬
‫ال يَحطِمَنَّكُم سُلَيمَا ُ‬
‫عَلَى وَادِي النَّم ِل قَالَت نَملَة يَا أَيُّهَا النَّم ُل ادخُلُوا مَسَاكِ َنكُم َ‬
‫يَشعُرُونَ﴾ (النمل‪ ،‬آية ‪ .)18 ،17 :‬نلحظ في هذه اآليات أن المعلومات السابقة ال تقتصر على‬

‫بني البشر‪ ،‬فقد يستفيد منها الحيوان والطير‪ ،‬إذ استفاد النمل من المعلومات السابقة‪ ،‬فاستعمل‬
‫وسائل اإلنذار المبكر‪ ،‬إذ قالت نملة بلغة جنسها حسب ما وصلت إليه من معلومات‪ ،‬ادخلوا‬
‫مساكنكم حفاظاً على حياتكم‪ ،‬ألن سليمان وجنوده ربما يدوسون بأرجلهم فوقكم فتحطمون بغير‬
‫قصد‪ ،‬فقد بينت السبب في توجيه هذا اإلنذار إلى جماعتها من النمل بفضل المعلومات المسبقة‬
‫التي حصلت عليها‪.2‬‬

‫‪ 1‬االستخبارات العسكرية‪ ،‬ص‪.108 :‬‬


‫‪ 2‬في ظالل القرآن (‪.)141 /4‬‬

‫‪125‬‬
‫هـ ـ قال تعالى‪﴿ :‬وَقَالَت ألُِختِ ِه قُصِّيهِ فَبَصُرَت ِبهِ عَن جُنُب وَهُم َ‬
‫ال يَش ُعرُونَ * وَحَرَّمنَا عَلَيهِ‬

‫المَرَاضِعَ مِن قَب ُل فَقَالَت هَل أَدُلُّكُم عَلَى أَهلِ بَيت يَكفُلُونَهُ لَكُم وَهُم لَهُ نَاصِحُونَ﴾ (القصص‪ ،‬آية ‪:‬‬

‫‪ 11‬ـ ‪.)12‬‬
‫ونلحظ في اآليات اآلتي‪:‬‬
‫ـ إستخدام أم موسى مبدأ جمع المعلومات والحصول عليها في حفاظها على ابنها ﴿وَقَالَت‬

‫ألُِختِ ِه قُصِّيهِ﴾ والتقصي إنما هو تتبع األثر وجمع المعلومات‪.‬‬

‫ـ ا ختيار العنصر األمين والحريص في جمع المعلومات لتكون صحيحة وموثقة وأمينة على‬
‫ألختِ ِه قُصِّيهِ﴾‪ ،‬فأم موسى لم تختار غير أخته‪ ،‬ألن‬
‫ذلك حريصة على تلك المعلومات ﴿وَقَالَت ُِ‬

‫األخت تعتبر من الحريصين واألمناء على تلك المصلحة وهي تندفع من ذاتها في جمع‬
‫المعلومات وتحصيل األخبار‪ ،‬والمهم بمكان أن يكون العنصر المرسل في عملية االستخبارات‬
‫أن يكون مندفعًا من ذاته حريصاً على المصلحة المرسلة إليه‪.‬‬
‫ـ التقصي والتتبع بدون إشارة أو جلب أنظار ﴿قُصِّيهِ﴾ إذ نفهم من كلمة التقصي االنتباه وعدم‬

‫إشارة األنظار‪ ،‬ودليل ذلك أنها بصرت به دون أن يشعروا بها‪.‬‬


‫ال يَشعُرُونَ﴾‬ ‫ـ دقة المالحظة وقوة الفراسة أثناء جمع المعلومات ﴿فَبَ ُ‬
‫صرَت بِ ِه عَن جُنُب وَهُم َ‬

‫(القصص‪ ،‬آية ‪.)11 :‬‬


‫ـ استعملت أخت موسى شكالً من أشكال االستخبارات العصرية‪ ،‬وهو التخريب الفكري فبعد‬
‫أن نظرت إليهن وهن غير قادرات على إرضاعه ﴿فَقَالَت هَل أَدُلُّكُم عَلَى أَهلِ بَيت يَكفُلُونَ ُه لَكُم‬

‫وَهُم لَهُ نَاصِحُونَ﴾ (القصص‪ ،‬آية ‪ .)12 :‬وقد قصدت إبعاد موسى عن المراضع‪ ،‬ليخلص إلى‬

‫أمها دون إشعارهم أنها منه بسبيل‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫ـ محاولة تحقيق الهدف أثناء جمع المعلومات‪ ،‬فأخت موسى لم تكتف بأن تعرف مكان موسى‬
‫لتخبر أمها بمكانه‪ ،‬وإنما هي تقصت األخبار‪ ،‬وتوصلت إلى مكانه وحاولت إعادته إلى أمه وقد‬
‫نجحت في هذا‪.1‬‬
‫و ـ قال تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذرَكُم﴾ (النساء‪ ،‬آية ‪.)71 :‬‬

‫وقال تعالى‪﴿ :‬وَأَطِيعُوا اهللَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاح َذرُوا﴾ (المائدة‪ ،‬آية ‪.)92 :‬‬

‫ن عَن أَسلِحَتِكُم وَأَمتِ َع ِتكُم‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬وَليَأخُذُوا حِذرَهُم وَأَسلِحَتَهُم و َّ‬
‫َد الَّذِينَ كَ َفرُوا لَو تَغفُلُو َ‬

‫فَيَمِيلُونَ عَلَيكُم مَّيلَةً وَاحِدَةً﴾ (النساء‪ ،‬آية ‪.)102 :‬‬

‫إن اإلعداد األمني واالستخباراتي في بناء الدولة بالمدينة من مظاهره الحذر واليقظة‪ ،‬ألنها‬
‫تحول دون مفاجآت األعداء‪ ،‬وتطبيق آليات القرآن السابقة‪ ،‬كما أن السعي للحصول على‬
‫المعلومات عن العدو الداخلي أو الخارجي حتى يكون التخطيط على أساس من أسباب القوة‬
‫ومظاهرها التي أمر اإلسالم بإعدادها من أسباب حماية الدولة والمجتمع والمواطنين‪.‬‬
‫إن من أهم أسباب حماية وبناء الدول أن ينشأ الحس األمني لدى المواطنين منذ تفتح أعينهم‬
‫على الحياة‪ ،‬وأن تقوم الدول بتأسيس مؤسسات أمنية على أسس راسخة من المعرفة والعلم‬
‫والحذر واليقظة‪.‬‬

‫*ـ معالم نبوية في التربية األمنية‪:‬‬


‫إن السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصالة والتسليم‪ ،‬قد تركت لنا معالم مهمة وخطوط ًا‬
‫عريضة في هذا الجانب‪ ،‬فنجد في الفترة المكية من معالمها الكتمان والسرية‪ ،‬ولذلك نجد أن‪:‬‬

‫‪ 1‬االستخبارات العسكرية في اإلسالم‪ ،‬ص‪ 111 :‬ـ ‪.112‬‬

‫‪127‬‬
‫أ ـ الرسول صلى اهلل عليه وسلم اختار دار األرقم بن األرقم كمقر سري للدعوة وكان رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم يربي أتباعه على اإليمان بأركانه الستة واألخالق الرفيعة استعداداً‬
‫لمرحلة قادمة‪ ،‬وكان سبب اختياره دار األرقم‪:‬‬
‫ـ أن األرقم لم يكن معروفاً بإسالمه‪ ،‬فما كان يخطر ببال أحد أن يتم لقاء محمد صلى اهلل عليه‬
‫وسلم بداره‪.‬‬
‫ـ أن األرقم بن أبي األرقم رضي اهلل عنه من بني مخزوم‪ ،‬وقبيلة بني مخزوم هي التي تحمل‬
‫لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم‪ ،‬فلو كان األرقم معروفاً بإسالمه فال يخطر في البال أن‬
‫يكون اللقاء في داره‪ ،‬ألن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو‪.‬‬
‫ـ أن األرقم بن أبي األرقم كان فتى عند إسالمه‪ ،‬فلقد كان في حدود السادسة عشرة من عمره‪،‬‬
‫ويوم تفكر قريش في البحث عن التجمع اإلسالمي‪ ،‬فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت‬
‫الفتيان الصغار‪ ،‬من أصحاب محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬بل يتجه نظرها إلى بيوت كبار‬
‫أصحابه أو بيته هو نفسه ـ عليه الصالة والسالم ـ فقد يخطر على ذهنهم أن يكون مكان التجمع‬
‫على األغلب في أحد دور بني هاشم‪ ،‬أو في بيت أبي بكر رضي اهلل عنه أو غيره‪ ،‬ومن أجل‬
‫هذا نجد أن اختياره هذا البيت كان في غاية الحكمة من الناحية األمنية‪ ،‬ولم نسمع أبداً أن‬
‫قريش ًا داهمت ذات يوم هذا المركز وكشفت مكان اللقاء‪ ،1‬ونلحظ أن النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يهتم ببناء الجهاز األمني لدعوته‪ ،‬ويزرع أتباعه في وسط القبائل من أجل السعي لتمكين دعوة‬
‫اإلسالم‪ ،‬فعندما أسلم عمرو بن عنبسة أمره النبي صلى اهلل عليه وسلم أن يكتم إسالمه ويلتحق‬
‫بأهله وإذا نظرنا في قصة إسالم أبي ذر رأيت الجوانب األمنية بارزة في تلك السيرة العطرة‪.‬‬
‫ب ـ وفي بيعة العقبة الثانية نلحظ أن المسلمين رتبوا هذا اللقاء ترتيب ًا رفيعاً‪ ،‬فأخذوا بكافة‬
‫االحتياطات األمنية من حيث الزمان والمكان‪ ،‬وعقدوا االتفاق عقداً متيناً‪ ،‬وحققوا ما أرادوا‬
‫والمشركين في غفلة عما يحدث‪ ،‬وفي هجرة النبي صلى اهلل عليه وسلم قمم شامخة في مجال‬

‫‪ 1‬المنهج الحركي للسيرة النبوية (‪ )49 /1‬منير غضبان‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫الترتيب األمني والتخطيط االستخباراتي‪ ،‬وبعد أن انتقل النبي صلى اهلل عليه وسلم إلى المدينة‬
‫نجده يهتم بجمع المعلومات عن أعدائه ويربي أصحابه تربية أمنية فريدة من نوعها‪.‬‬
‫ج ـ روي عن الرسول صلى اهلل عليه وسلم أنه بعث عبد اهلل بن جحش رضي اهلل عنه في‬
‫السنة الثانية للهجرة في اثني عشر رجالً من المهاجرين‪ ،‬وزوده بكتاب مختوم‪ ،‬أمره أال ينظر‬
‫فيه حتى يسير يومين ويصل إلى موقع معلوم حدده له‪ ،‬فلما وصل ذلك المكان وآن وقت فض‬
‫الكتاب‪ ،‬فضه فإذا فيه‪ :‬إذا نظرت في كتابي هذا فامض على اسم اهلل وبركاته ال تكرهن أحدًا‬
‫من أصحابك على السير معك‪ ،‬وامض فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة فترصد بها عير قريش‬
‫وتعلم لنا من أخبارهم‪.1‬‬
‫ونلحظ في هذه المهمة أمور منها‪:‬‬
‫ـ إن هذه السرية كانت سرية استطالع‪ ،‬غايتها مراقبة العدو واستطالع أخباره على نحو‬
‫السرايا االستكشافية التي تضعها الجيوش أمامها‪ ،‬أو على جانبها‪ ،‬أو على نحو المغافر األمامية‬
‫في جهة القتال‪ ،‬وكانت مهمتها المراقبة واالستطالع فقط دون التعرض لألعداء بالتحرش أو‬
‫االحتكاك أو القتال‪ ،‬وهذا ما يسمى‪ :‬االستخبارات الهجومية‪ ،‬هدفها جمع المعلومات عن العدو‬
‫فقط لمصلحة الدولة اإلسالمية‪.‬‬
‫ـ أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم أمر أن تبقى سرية ومكتوبة حتى على من يحملها وسينفذها‬
‫أخذاً باالحتياط الالزم وخوفاً من تسرب أدنى معلومة‪ ،‬وتربية ألصحابه أن المعلومة تكون‬
‫على قدر الحاجة‪.2‬‬
‫د ـ وفي غزوة بدر أعطانا النبي صلى اهلل عليه وسلم دروساً وعبراً وحكماً لجمع المعلومات‬
‫على األعداء وتوظيفها لنزع النصر عن المشركين‪ ،‬فنلحظ أن النبي صلى اهلل عليه وسلم جمع‬
‫معلومات متكاملة على األعداء وقام صلى اهلل عليه وسلم باإلشراف المباشر على جهاز‬
‫االستخبارات وساهم بنفسه وبغيره في جمع المعلومات عن مشركي مكة‪ ،‬ويمكن لنا أن نحصر‬

‫‪ 1‬سنن البيهقي (‪.)9 /12‬‬


‫‪ 2‬اإلستخبارات العسكرية في اإلسالم‪ ،‬ص‪.114 :‬‬

‫‪129‬‬
‫أساليب االستطالع التي قام بها النبي صلى اهلل عليه وسلم للحصول على المعلومات من‬
‫مشركي مكة‪:‬‬
‫ـ أرسل بسيسة بن عمرو وعديا بن أبي الزغباء حتى يأتياه بخبر عير أبي سفيان‪ ،‬فعادا‬
‫وأخبراه بموعد وصول العير‪.1‬‬
‫ـ قيامه صلى اهلل عليه وسلم وبصحبته أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه بتحري المكان الذي‬
‫توجد فيه قريش وقد حصل له ما أراد عندما وقف على شيخ من العرب وسأله عن المكان‬
‫الذي توجد فيه قريش‪.‬‬
‫استنطاق األسيرين اللذين قبض عليهما الصحابة واستفاد صلى اهلل عليه وسلم من استنباط‬
‫هذين األسيرين أموراً مهمة جداً منها‪ ،‬عدد أفراد جيش المشركين‪ ،‬موقع قريش‪ ،‬قيادة جيش‬
‫المشركين ومن فيه من أشراف مكة‪ ،2‬وعتم النبي صلى اهلل عليه وسلم على المشركين أخبار‬
‫المسلمين وقام بأمر الكتمان خير قيام وكان صفة بارزة في غزواته كلها‪ ،‬فعن كعب بن مالك‬
‫رضي اهلل عنه قال‪ :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قلما يريد غزوة إال وراى بغيرها‪،3‬‬
‫وفي غزوة بدر مارس رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هذا العمل األمني‪ ،‬ليرشد األجيال على‬
‫مر العصور وكرا الدهور إلى أهمية وتجلي ذلك في اآلتي‪:‬‬
‫ـ سؤاله صلى اهلل عليه وسلم الشيخ الذي لقيه في بدر عن محمد وجيشه وعن قريش وجيشها‪.‬‬
‫ـ تورية الرسول صلى اهلل عليه وسلم في إجابته على سؤال الشيخ‪ :‬مماا أنتما؟ بقوله صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪« :‬نحن مِن ماء»‪ .‬وهو جواب يقتضيه المقام فقد أراد به الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم كتمان أخبار جيش المسلمين‪.‬‬
‫وفي انصرافه فور استجوابه كتمان ـ أيضاً ـ وهو دليل على ما يتمتع به رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم من الحكمة‪ ،‬فلو أنه أجاب هذا الشيخ ثم وقف عنده لكان هذا سبب في طلب الشيخ‬
‫بيان المقصود من قوله صلى اهلل عليه وسلم‪ِ « :‬من ماء»‪.4‬‬

‫‪1‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.1501 :‬‬


‫‪ 2‬العبقرية العسكرية‪ ،‬اللواء محمد فرج‪ ،‬ص‪ 57 :‬ـ ‪.58‬‬
‫‪ 3‬أخرجه مسلم‪ ،‬ك الجهاد‪ ،‬الحديث رقم‪.1767 :‬‬
‫‪ 4‬السيرة البن هشام (‪.)616 /1‬‬

‫‪130‬‬
‫ـ أمره صلى اهلل عليه وسلم بقطع األجراس من اإلبل يوم بدر‪ ،‬فعن عائشة رضي اهلل عنها أن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمر باألجراس أن تقطع من أعناق اإلبل يوم بدر‪.‬‬
‫ـ كتمانه صلى اهلل عليه وسلم خبر الجهة التي يقصدها عندما أراد الخروج إلى بدر‪ ،‬حيث قال‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضراً فليركب معنا»‪ ،1‬وقد استدل اإلمام‬
‫النووي ـ رحمه اهلل ـ بهذا الحديث على استحباب التورية في الحرب وأال يبيان القائد الجهة التي‬
‫يقصدها‪ ،‬لئال يشيع هذا الخبر فيحذرهم العدو‪.2‬‬
‫وكان صلى اهلل عليه وسلم يهتم بحركة العدو‪ ،‬ولذلك كانت حركة االختراق في القبائل المعادية‬
‫واسعة جداً‪ ،‬ولذلك باغت صلى اهلل عليه وسلم أعداءه مرات عديدة‪ ،‬وأفشل خططهم العدائية‪،‬‬
‫ولما أرادت قريش أن تباغت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعد بدر كان مكتب استخبارات‬
‫مكة التابع للقيادة في المدينة يبعث بالمعلومات أوالً بأول إلى قيادته‪.‬‬
‫لقد حرص الرسول صلى اهلل عليه وسلم على استطالع أخبار قريش‪ ،‬وكان يستعين بعمه‬
‫العباس‪ ،‬قال ابن عبد البر‪ :‬وكان العباس يكتب بأخبار المشركين إلى الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وكان المسلمون يتقواونه بمكة وكان يحب أن يقدم على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫فكتب إليه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن مقامك في مكة خير‪.3‬‬
‫لقد كان جهاز االستخبارات في مكة دقيقاً جداً وحقق نجاحات مهمة‪ ،‬ولقد قاد العباس بن عبد‬
‫المطلب هذا الجهاز بكل جدارة ونشاط‪ ،‬وكانت معلوماته دقيقة وبياناته صحيحة‪ ،‬فمن هذه‬
‫المعلومات التي وصلت رسالته إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إن قريشاً قد أجمعت المسير‬
‫إليك فما كنت صانعاً إذا حفوا بك فأصنعه‪ ،‬وقد توجهوا إليك وهم ثالثة آالف بعير وأوعبوا‪4‬من‬
‫السالح‪.5‬‬
‫أهم ما احتوت عليه هذه الرسالة‪:‬‬

‫‪ 1‬أخرجه مسلم (‪ )1510 /3‬برقم‪.1901 :‬‬


‫‪ 2‬شرح النووي لصحيح مسلم (‪.)45 /13‬‬
‫‪ 3‬االستيعاب (‪.)812 /2‬‬
‫‪ 4‬استوعبه إذا أخذه أجمع‪.‬‬
‫‪ 5‬مغازي الواقدي (‪.)204 /1‬‬

‫‪131‬‬
‫ـ معلومات مؤكدة عن تحرك قوات المشركين نحو المدينة ولذلك استعد النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وشرع في أخذ العدة لمواجهة هذا الجيش العرمرم‪.‬‬
‫ـ حجم الجيش وقدراته القتالية وهذا يعين على وضع خطة تواجه هذه القوات الزاحفة‪.‬‬
‫إن النبي صلى اهلل عليه وسلم لم يكتف بمعلومات المخابرات المكية بل حرص على أن تكون‬
‫معلوماته عن هذا العدو متجددة مع تالحق الزمن‪ ،‬وفي هذا إرشاد بقادة المسلمين إلى أهمية‬
‫متابعة األخبار التي يتولد عنها وضع خطط وإستراتيجيات نافعة‪ ،‬فحين وصل جيش المشركين‬
‫إلى مكان يقال له العرض‪ ،1‬أرسل الرسول صلى اهلل عليه وسلم الحباب بن المنذر فدخل بين‬
‫جيش مكة وحزر عدده وعُدده ورجع وأخبر النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ولما بلغ الجيش ذا‬
‫الحليفة أرسل الرسول صلى اهلل عليه وسلم عينين له وهما‪ :‬ابنا فضالة‪ ،‬فاعترضا لقريش‬
‫بالعقيق فسارا معهم حتى نزلوا بالوِطاء‪ ،‬ثم رجعا إلى المدينة وأخبرا الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم بذلك‪.2‬‬
‫ولقد حرص النبي صلى اهلل عليه وسلم على حصر تلك المعلومات على المستوى القيادي خوف ًا‬
‫من أن يؤثر هذا الخبر على معنويات المسلمين قبل إعداد العدة في تخطيط وترتيب‪ ،‬ولذلك‬
‫حين قرأ أبيا الرسالة على النبي صلى اهلل عليه وسلم استكتمه ما فيها‪ ،‬وحينما دخل بيت سعد‬
‫ابن الربيع قال‪ :‬أفي البيت أحد؟ فقال سعد‪ :‬ال‪ ،‬فتكلم بحاجتك‪ ،‬فأخبره بكتاب العباس بن عبد‬
‫المطلب‪ ،‬فانصرف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم واستكتم سعداً الخبر‪.3‬‬
‫وفي هذا تعليم لقيادة الدول على أهمية كتم األسرار وما يتصل بها حتى عن أقرب الناس إليهم‬
‫من زوجات وأوالد ومن في حكمهم‪ ،‬وإذا دعت الضرورة إلى نشر شيء من ذلك‪ ،‬فينبغي أن‬
‫يكون لمن يحفظ السر حتى ال يلحق المسلمون بسبب ذلك ضرر‪.‬‬
‫وبعد أن عقد المجلس االستشاري ووضعت الخطة المناسبة‪ ،‬اختار صلى اهلل عليه وسلم الوقت‬
‫المناسب للتحرك والطريق التي تناسب خطته‪ ،‬فقد تحرك بعد منتصف الليل‪ ،‬حيث يكون الجو‬

‫‪ 1‬العرض‪ :‬هو الجرف‪ ،‬موضع المدينة‪.‬‬


‫‪ 2‬المغازي للواقدي (‪ 206 /1‬ـ ‪.)208‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪ 204 /1‬ـ ‪.)205‬‬

‫‪132‬‬
‫هادئاً‪ ،‬والحركة قليلة وفي هذا الوقت بالذات يكون األعداء ـ غالباً ـ في نوم عميق‪ ،‬ألن األعباء‬
‫ومشقة السفر قد أخذ منهم مجهوداً كبيراً‪.‬‬
‫ومن المعروف من نام بعد تعب يكون ثقيل النوم‪ ،‬فال يشعر باألصوات والحركة الثقيلة‪ :‬قال‬
‫الواقدي ـ رحمه اهلل ـ‪ :‬ونام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حتى أدلج‪ ،‬فلما كان من السحر‪،‬‬
‫قال‪« :‬أين األدالء»‪1‬؟ ثم إنه صلى اهلل عليه وسلم اختار الطريق المناسب الذي يسلكه حتى‬
‫يصل إلى أرض المعركة وذكر صفة ينبغي أن تتوافر في هذا الطريق وهو السرية حتى ال‬
‫يرى األعداء جيش المسلمين‪ ،‬فقال صلى اهلل عليه وسلم ألصحابه‪« :‬هل من رجل يخرج بنا‬
‫على القوم من طريق ال يمر بنا عليهم؟» فأبدى أبو خيثمة رضي اهلل عنه استعداده قائالً‪ :‬أنا يا‬
‫رسول اهلل ونفذ بين بستانين لبني الحارثة‪ ،2‬وال شك أن مروره صلى اهلل عليه وسلم بين‬
‫األشجار والبساتين يدلنا على حرصه صلى اهلل عليه وسلم على أخذ االحتياطات األمنية‬
‫المناسبة في أثناء السير‪ ،‬ألن الطرق العامة تكشف لألعداء عن مقدار قوات المسلمين وهذا‬
‫أمر محذور‪.‬‬
‫فالرسول صلى اهلل عليه وسلم يُعلام األمة األخذ بالسرية من حيث المكان ومن حيث الزمان‪،‬‬
‫لئال يتمكن األعداء من معرفة قواتهم فيضعوا الخطط المناسبة لمجابهتها‪ ،‬وبذلك يذهب تنظيم‬
‫القادة وإعدادهم مهب الرياح‪.3‬‬
‫هـ ـ وفي غزوة الخندق يظهر دور جهاز أمن الدولة بارزاً‪ ،‬فقد كان يتابع أخبار األحزاب‬
‫ويرصد تحركات العدو ويزود القيادة بكافة المعلومات‪ ،‬فقام فرع مكة األمني بإرسال معلومات‬
‫دقيقة ساعدت القيادة في رسم الخطط قبل وصول األعداء للمدينة‪ ،‬وأرسل طليعة تتابع األمور‬
‫علن كثب وترسل المعلومات الدقيقة‪ ،‬ولقد كان حفر الخندق مفاجأة مذهلة ألعداء اإلسالم‪،‬‬
‫وأبطل خطتهم التي رسموها‪ ،‬وكان من عوامل تحقيق هذه المفاجأة ما قام به المسلمون من‬
‫إتقان رفيع لسرية الخطة وسرعة إنجازها‪ ،‬وكان هذا األسلوب الجديد في القتال له أثر في‬
‫إضعاف معنويات األحزاب وتشتيت قواتهم‪ ،‬ومارس صلى اهلل عليه وسلم سالح التشكيك‬
‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪ 204 /1‬ـ ‪.)205‬‬
‫‪ 2‬السيرة النبوية ألبن هشام (‪.)65 /3‬‬
‫‪ 3‬القيادة العسكرية في عهد الرسول‪ ،‬ص‪.468 :‬‬

‫‪133‬‬
‫والدعاية لتمزيق ما بين األحزاب من ثقة وتضامن بعد أن ساق المولى عز وجل نعيم بن‬
‫مسعود الغطفاني إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ليعلن إسالمه وقال له‪ :‬يا رسول اهلل إن‬
‫القوم لم يعلموا بإسالمي‪ ،‬فمرني بما شئت‪ ،‬فقال له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إنما أنت‬
‫فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت‪ ،‬فإن الحرب خدعة»‪.1‬‬
‫فقام نعيم بن مسعود يزرع الشك بين األطراف المتحالفة بأمر من رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم فأغرى اليهود بطلب رهائن من قريش لئال تدعهم وتنصرف عن الحصار‪ .‬وقال لقريش‪:‬‬
‫إن اليهود إنما تطلب الرهائن من قريش لتسليمها للمسلمين ثمناً لعودتها إلى صلحهم‪ ،‬لقد‬
‫اشتهرت قصة نعيم بن مسعود في كتب السيرة وإن كانت ال تثبت من الناحية الحديثة إال أنها ال‬
‫تتنافى مع قواعد السياسة الشرعية فالحرب خدعة‪ ،2‬وقد نجحت دعاية نعيم بن مسعود أيما‬
‫نجاح فغرست روح التشكيك وعدم الثقة بين قادة األحزاب مما أدى إلى كسر شوكتهم‪ ،‬وهبوط‬
‫عزمهم وكان من أسباب نجاح مهمة نعيم قيامها على األسس التالية‪:‬‬
‫ـ أنه أخفى إسالمه عن كل األطراف‪ ،‬بحيث وثق كل طرف فيما قدمه له من نصح‪.‬‬
‫ـ أنه ذكار بني قريظة بمصير بني قينقاع وبني النضير ويعرفهم بالمستقبل الذي ينتظرهم إن هم‬
‫ا ستمروا في حروبهم للرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فكان هذا سبباً في تغير أفكارهم وقلب‬
‫مخططاتهم العدوانية‪.‬‬
‫ـ أنه نجح في إقناع كل األطراف بأن يكتم كل طرف ما قال له وفي استمرار هذا الكتمان نجاح‬
‫في مهمته‪ ،‬فلو انكشف أمره لدى أي طرف من األطراف لفشلت مهمته‪ ،‬وقد حققت مساعي‬
‫نعيم تخذيل بني قريظة أمرين مهمين لجيش النبي صلى اهلل عليه وسلم وهما‪:‬‬
‫*ـ أن المسلمين بعد انسحاب بني قريظة من التحالف مع األحزاب أصبحوا في أمان‪ ،‬ألن‬
‫هؤالء اليهود كانوا يسكنون المدينة فلو بقوا في هذا التحالف لما أمن المسلمون من توجيه طعنة‬
‫لهم من الخلف مع أنهم مشغولون بمواجهة خصمهم من األمام‪.‬‬

‫‪ 1‬البداية والنهاية (‪.)13 /4‬‬


‫‪ 2‬السيرة النبوية الصحيحة (‪.)530 /2‬‬

‫‪134‬‬
‫*ـ أن المسلمين اطمأنوا إلى أن بني قريظة سيستمرون في إمدادهم بالمؤن التي يتطلبها‬
‫الموقف‪ ،‬وذلك لشدة حاجتهم إليها وانشغالهم عن توفيرها بمواجهة األعداء‪ ،1‬وكلف صلى اهلل‬
‫عليه وسلم الزبير بتتبع أحوال بني قريظة وجمع المعلومات عن نواياهم ومدى التزامهم‬
‫بالعهد‪ ،‬ورصد حركتهم المريبة‪.2‬‬
‫ومع أخذه صلى اهلل عليه وسلم بكافة األسباب إال أنه كان كثير التضرع والدعاء واالستعانة‬
‫باهلل وخصوصاً في مغازيه‪ ،‬وعندما اشتد الكرب على المسلمين أكثر مما سبق حتى بلغت‬
‫القلوب الحناجر وزلزلوا زلزاالً شديداً وجاء المسلمون إلى النبي صلى اهلل عليه وسلم وقالوا‪:‬‬
‫يا رسول اهلل‪ ،‬هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر‪ .‬قال‪« :‬نعم‪ ،‬اللهم استر عوراتنا‬
‫وآمن روعاتنا»‪.3‬‬
‫ـ ودعا صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم األحزاب‪ ،‬أهزمهم‬
‫وزلزلهم»‪.4‬‬
‫ـ وقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال إله إال اهلل وحده‪ ،‬أعز جنده ونصر عبده وغلب األحزاب‬
‫وحده فال شيء بعده»‪.5‬‬
‫فاستجاب اهلل سبحانه دعاء نبيه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فأقبلت بشائر الفرج‪ ،‬فقد صرفهم اهلل‬
‫بحوله وقوته‪ ،‬زلزل أبدانهم وأنزل الرعب في قلوبهم‪ ،‬وشتت جمعهم بالخالف ثم أرسل عليهم‬
‫الريح الباردة الشديدة‪ ،‬وألقى الرعب في قلوبهم وأنزل جنوداً من عنده سبحانه‪ ،‬وكان صلى اهلل‬
‫عليه وسلم يتابع األمر وأحب أن يتحرى عما حدث عن قرب‪ ،‬فقال‪« :‬أال رجل يأتينا بخبر‬
‫القوم‪ ،‬جعله اهلل معي يوم القيامة»‪ ،6‬فاستعمل صلى اهلل عليه وسلم أسلوب الترغيب وكرره‬
‫ثالث مرات وعندما لم يُج ِد هذا األسلوب لجأ إلى أسلوب الجزم والحزم في األمر‪ ،‬فعين واحدًا‬
‫بنفسه فقال‪« :‬قم يا حذيفة فائتنا بخبر القوم وال تذعرهم علي» وفي هذا معنى تربوي‪ ،‬وهو‬

‫‪ 1‬القيادة العسكرية في عهد الرسول‪ ،‬ص‪.477 :‬‬


‫‪ 2‬االستخبارات العسكرية في اإلسالم‪ ،‬ص‪.119 :‬‬
‫‪ 3‬مسند أحمد (‪.)18 /8‬‬
‫‪ 4‬أخرجه البخاري‪ ،‬ك المغازي (‪ )59 /5‬رقم‪.4115 :‬‬
‫‪ 5‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.4115 :‬‬
‫‪ 6‬أخرجه مسلم (‪ )1414 /3‬رقم‪.1788 :‬‬

‫‪135‬‬
‫أن القيادة الناجحة هي التي توجه جنودها إلى أهدافها عن طريق الترغيب والتشجيع‪ ،‬وال تلجأ‬
‫إلى األوامر والحزم إال عند الضرورة‪ .‬قال حذيفة رضي اهلل عنه‪ :‬فمضيت كأنما أمشي في‬
‫حمام فإذا أبو سفيان يُصلي ظهره بالنار فوضعت سهماً في كبد قوس وأردت أن أرميه‪ ،‬ثم‬
‫ي» ولو رميته ألصبته‪ ،‬فرجعت‬
‫ذكرت قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «ال تذعرهم عل ّ‬
‫كأنما أمشي في حمام‪ ،‬فأتيت النبي صلى اهلل عليه وسلم وأصابني البرد حين رجعت وقررت‬
‫فأخبرت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فألبسني فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها‪ ،‬فلم أبرح‬
‫نائماً حتى الصبح‪ ،‬فلما أن أصبحت قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬قم يا نومان»‪.1‬‬

‫ونستنبط من هذا الموقف دروساً مهمة منها‪:‬‬


‫ـ اختيار الرسول صلى اهلل عليه وسلم حذيفة رضي اهلل عنه ليقوم بمهمة التجسس على‬
‫األحزاب يدل على معرفته صلى اهلل عليه وسلم بمعادن الرجال‪ ،‬وأن معدن حذيفة معدن‬
‫ثمين‪ ،2‬فهو شجاع وال يقوم بهذه األعمال إال من كان ذا شجاعة نادرة‪ ،‬فهذا العمل يكلفه حياته‬
‫فلو اكتشفه األعداء لكانت عقوبته الموت صلباً‪ ،‬ومع هذا أقدم على تنفيذ األوامر‪.‬‬
‫ــ وضوح األمر العسكري الذي وجهه الرسول صلى اهلل عليه وسلم إلى حذيفة‪.‬‬
‫ــ االنضباط العسكري الذي كان يتحلى به حذيفة في تنفيذ األوامر ونجاحه في الدور الذي أمر‬
‫به وقيامه بالمهمة خير قيام‪ ،‬ورجع وقدم المعلومات اليقينية الصادقة للرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫و ـ ولما قرار النبي صلى اهلل عليه وسلم فتح مكة‪ ،‬حرص على مباغتة قريش‪ ،‬وكتم األمر حتى‬
‫ال يصل الخبر إلى قريش فتعد العدة لمجابهته‪ ،‬وتصداه قبل أن يبدأ في تنفيذ هدفه وشرع في‬
‫األخذ باألسباب اآلتية لتحقيق مبدأ المباغتة‪.‬‬
‫ــ أنه كتم أمره حتى عن أقرب الناس إليه‪:‬‬

‫‪ 1‬أخرجه مسلم‪ ،‬ك الجهاد والسير‪ ،‬الحديث رقم‪.1788 :‬‬


‫‪ 2‬السيرة النبوية‪ ،‬د‪ .‬محمد أبو فارس‪ ،‬ص‪.306 :‬‬

‫‪136‬‬
‫قال ابن إ سحاق ـ رحمه اهلل ـ إن أبا بكر دخل على عائشة وهي تغربل حنطة فقال‪ :‬ما هذا؟‬
‫أمركم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالجهاز؟ قالت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬وإلى أين؟ قالت‪ :‬ما سمى لنا‬
‫شيئاً‪ ،‬غير أنه قد أمرنا بالجهاز‪.1‬‬
‫ــ أنه بعث سرية بقيادة قتادة إلى بطن إضم‪:‬‬
‫بعث النبي صلى اهلل عليه وسلم قبل مسيرة مكة سرية مكونة من ثمانية رجال‪ ،‬وذلك إلسدال‬
‫الستار على نيته الحقيقية‪ ،‬وفي ذلك يقول ابن سعد‪ :‬لما همَّ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يغزو أهل مكة‪ ،‬بعث أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفر سرية إلى بطن إضم‪ ،2‬ليظن ظان أن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم توجه إلى تلك الناحية وألن تذهب بذلك األخبار‪ ..‬فمضوا ولم‬
‫يلقوا جمعاً فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذي خشب‪ ،3‬فبلغهم أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد‬
‫توجه إلى مكة‪ ،‬فأخذوا على ((بيبن)) حتى لقوا النبي صلى اهلل عليه وسلم بالسُّقيا‪.4‬‬
‫ــ أنه بعث العيون لمنع وصول المعلومات إلى األعداء‪:‬‬
‫بث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عيونه داخل المدينة وخارجها حتى ال تنتقل أخباره إلى‬
‫قريش" وأخذ رسول اهلل باألنقاب"‪.5‬‬
‫فكان عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه يطوف على األنقاب قيماً بهم فيقول‪ :‬ال تدعوا أحداً يمر‬
‫بكم تنكرونه إال رددتموه‪ ..‬إال من سلك إلى مكة‪ ،‬فإنه يتحفظ به ويسأل عنه أو ناحية مكة‪.‬‬

‫ــ دعاؤه بأخذ العيون واألخبار عن قريش‪:‬‬


‫فعندما أعلم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الناس أنه سائر إلى مكة وأمر بالجد والتهيؤ قال‪:‬‬
‫«اللهم خذ العيون واألخبار عن قريش حتى تبغتها بالدها»‪.6‬‬

‫‪ 1‬البداية والنهاية (‪.)282 / 4‬‬


‫‪ 2‬بطن إضم‪ :‬وادي المدينة التي تجتمع فيه الوديان الثالثة‪.‬‬
‫‪ 3‬ذو خشب‪ :‬موضع على مرحلة من المدينة إلى الشام‪.‬‬
‫‪ 4‬السقيا‪ :‬موضع يقع في وادي القرى‪.‬‬
‫‪ 5‬األنقاب‪ :‬جمع نقب وهو كالعريف على القوم‪.‬‬
‫‪ 6‬البداية والنهاية (‪.)282 / 4‬‬

‫‪137‬‬
‫وهذا شأن النبي صلى اهلل عليه وسلم في أموره يأخذ بكافة األسباب البشرية وال ينسى التضرع‬
‫والدعاء لرب البرية ليستمد منه التوفيق والسداد‪.‬‬
‫ــ إحباط محاولة تجسس حاطب لصالح قريش‪:‬‬
‫عندما أكمل النبي صلى اهلل عليه وسلم استعداده للسير إلى فتح مكة‪ ،‬كتب حاطب بن أبي بلتعة‬
‫كتاب إلى أهل مكة يخبرهم فيه نبأ تحرك النبي صلى اهلل عليه وسلم إليهم‪ ،‬ولكن اهلل سبحانه‬
‫وتعالى أطلع نبيه صلى اهلل عليه وسلم عن طريق الوحي على هذه الرسالة‪ ،‬فقضى صلى اهلل‬
‫عليه وسلم على هذه المحاولة وهي في مهدها‪ ،‬فأرسل النبي صلى اهلل عليه وسلم علياً والمقداد‪،‬‬
‫فأمسكوا بالمرأة في روضة خاخ على بعد اثني عشر ميالً من المدينة وهددوها أن يفتشوها إن‬
‫لم تخرج الكتاب فسلمته لهم‪ ،‬ثم استدعى حاطب رضي اهلل عنه للتحقيق فقال‪ :‬يا رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه‪ ،‬ال تعجل عليَّ‪ ،‬إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش‪ ،‬يقول‪ :‬كنت حليفاً ـ ولم أكن‬
‫من أنفسها وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها ولم أفعله ارتداداً عن ديني‬
‫وال رضاً بالكفر بعد اإلسالم‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إنه قد شهد بدراً‪ ،‬وما‬
‫يدريك لعل اهلل اطلع على من شهد بدراً قال‪ :‬اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»‪.1‬‬

‫فأنزل اهلل‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا َ‬


‫ال تََّتخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاء تُلقُونَ إِلَيهِم بِال َموَدَّةِ وَقَد كَفَرُوا‬

‫خرَجتُم جِهَادًا فِي‬


‫ن الحَقِّ يُخرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُم أَن تُؤ ِمنُوا بِاهللِ رَِّبكُم إِن كُنتُم َ‬
‫بِمَا جَاءكُم مِّ َ‬
‫سَبِيلِي وَاب ِتغَاء مَرضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ َوأَنَا أَعلَمُ بِمَا أَخفَيتُم َومَا أَعلَنتُم وَمَن يَفعَلهُ مِنكُم‬
‫فَقَد ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾ (الممتحنة‪ ،‬آية‪.)1 :‬‬

‫نجد من خالل قصة أن النبي صلى اهلل عليه وسلم له فقه عميق في معاملة أصحابه‪ ،‬وحرص‬
‫شديد على الوفاء لهم وإقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة‪ ،‬لقد جعل صلى اهلل عليه وسلم من‬
‫ماضي حاطب رضي اهلل عنه المجيد سبباً في العفو عنه‪.‬‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬ك المغازي (‪ )105 /5‬برقم‪.4274 :‬‬

‫‪138‬‬
‫من خالل اآليات القرآنية الكريمة والممارسة النبوية لهذا الباب‪ ،‬تظهر الحاجة للشعوب‬
‫اإلسالمية ودولها المسلمة إليجاد أجهزة أمنية استخبارية متطورة تحمي اإلسالم والمسلمين من‬
‫أعدائها‪ ،‬وتعمل على حماية الصف المسلم في الداخل من القيادة من المعلومات التي تقدمها لها‬
‫أجهزتها المؤمنة األمنية والبد أن تؤسس هذه األجهزة على قواعد منبعها القرآن الكريم والسنة‬
‫النبوية وتكون أخالق رجالها قمة رفيعة تمثل صفات رجال األمن المسلمين‪.‬‬
‫إن اهتمام المسلمين بهذا األمر يجنبهم المفاجآت العدوانية‪ ،‬وقد كتب صن ترو مشيراً إلى أهمية‬
‫ذلك‪:‬‬
‫إذا عرفت نفسك فليس هناك ما يدعوك إلى أن تخاف نتائج مائة معركة وإذا عرفت نفسك ولم‬
‫تعرف العدو فإنك سوف تواجه الهزيمة في كل معركة‪.1‬‬
‫إن بناء األجهزة األمنية ومكاتب المعلومات التي تقدم للقيادة التقارير لوضع الخطط المناسبة‬
‫على أثرها ليس أمراً جديداً‪ ،‬بل موغالً في تاريخ اإلنسانية وكذلك في تاريخ المسلمين‪.‬‬
‫إن من أسباب استمرار الدول ونجاحها إعطاء هذا األمر حقه من االهتمام واالرتقاء وتطويره‬
‫بما يناسب أحوال العصر الذي نحن فيه‪.‬‬

‫‪ 1‬االستخبارات العسكرية في اإلسالم‪ ،‬ص‪.311 :‬‬

‫‪139‬‬
‫‪ 6‬ـ التخطيط واإلدارة‪:‬‬
‫إن التخطيط السليم واإلدارة الناجحة من األسباب األكيدة التي تبني بها الدول ولقد عرَّف بعض‬
‫الباحثين التخطيط بأنه الجسر‪ :‬جسر الحاضر والمستقبل‪.1‬‬
‫إن التخطيط في المفهوم القرآني هو االستعداد في الحاضر لما يواجه اإلنسان عمله أو حياته‬
‫في المستقبل‪ ،‬وعلى هذا‪.‬‬

‫﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اهللُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِي َبكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص‪ ،‬آية‪.)77 :‬‬ ‫ــ قال تعالى‪:‬‬

‫إنه توجيه رباني للتخطيط يف هذه الدنيا ملقابلة مصري اآلخرة‪.‬‬

‫ط الْخَيْ ِل﴾ (األنفال‪ ،‬آية‪.)60 :‬‬


‫ــ وقال تعاىل‪﴿ :‬وَأَعِدُّواْ َلهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ َومِن رِّبَا ِ‬

‫وهذه اآلية دعوة لإلدارة اإلسالمية بالعمل والتخطيط واالستعداد بقوة ملواجهة أمر مستقبلي قد حيدث لدار اإلسالم وأمته‪،‬‬

‫والقوة هنا تفهم مبفهوم العصر‪ ،‬فقد تفهم بالقوة البدنية‪ ،‬وذلك ببناء الرجال األشداء األقوياء يف إمياهنم وأبداهنم وقوة السالح بكل‬

‫أنواعه‪ ،‬وحسب ما خترجه املصانع من أنواع األسلحة حتى القوة والطاقة الذرية وذلك ببناء املصانع النووية اإلسالمية ومحايتها‬

‫من ضرب األعداء هلا وذلك كله إلرهاب عدو اهلل وأعداء اإلنسانية ومحاية دار اإلسالم من األعداء كما يف آية‪﴿ :‬وَ َأعِدُّو ْا‬

‫لَهُم﴾ مفهوم الت خطيط الطويل األجل الذي جيب أن تأخذ به الدولة اإلسالمية وإدارهتا احلكيمة حتى حتمي شوكة وقوة‬

‫اإلسالم‪.2‬‬

‫‪ 1‬التخطيط واإلدارة‪ ،‬د‪.‬عبد الفتاح دياب‪ ،‬ص‪.97 :‬‬


‫‪ 2‬التخطيط والرقابة أساس نجاح‪ ،‬ص‪.97 :‬‬

‫‪140‬‬
‫وإن النيب صلى اهلل عليه وسلم قد اهتم يف حياته يف بناء الدولة بالتخطيط واإلدارة يف كل مراحل حياته واستمد أصول‬

‫التخطيط واإلدارة من القرآن الكريم ومن األمثلة على أمهية التخطيط يف القرآن الكريم‪:‬‬

‫أـ قصة يوسف عليه السالم‪:‬‬

‫ضرب اهلل القرآن الكريم مثالً للتخطيط السليم الذي قام على أسس منطقية فأمكن بذلك تاليف جماعة كانت هتدد الناس مجيع ًا‬

‫باهلالك‪ ،‬بسبب التخطيط السليم الذي قام به يوسف عليه السالم وهو أمني على اخلزائن ـ وذلك حني فسر الرؤيا اليت جاءت‬

‫ك إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُ َّن سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُن ُبالَتٍ خُضْرٍ "‬
‫على لسان ملك مصر يف قوله تعاىل‪ ":‬وَقَا َل الْمَلِ ُ‬

‫(يوسف‪ ،‬آية‪ )43 :‬وتوىل يوسف عليه السالم تفسري الرؤيا فقال‪﴿ :‬تَزْرَعُونَ سَبْ َع سِنِنيَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُن ُبلِهِ إِ َّال‬

‫قَلِي ًال مِّمَّا تَأْكُلُونَ﴾ (يوسف‪ ،‬آية‪.)47 :‬‬

‫إن يوسف عليه السالم فسَّر الرؤيا وزاد عليها بأن قدم خطة عملية تستغرق القطر كله والشعب املصري كله‪ ،‬أي أن خطته‬

‫اعتمدت على التشغيل الكامل لألمة والربجمة الكاملة‪ ،‬ثم التشغيل الكامل لطاقة كل فرد يف األمة‪ ،‬وهذا الذي أراده يوسف‬

‫عليه السالم وعرب عنه بقوله‪َ ﴿ :‬تزْرَعُونَ﴾‪ ،‬إن الذي خيطط له يوسف عليه السالم هو مضاعفة اإلنتاج وتقليل االستهالك‪ ،‬ألن‬

‫‪141‬‬
‫األزمات والظروف االستثنائية حتتاج إىل سلوك استثنائي‪ ،‬وألن سلوك الناس يف األزمات غري سلوكهم يف الظروف العادية ـ‬

‫اسرتخاء وبطالة ـ فإن هذه األمة تكون يف حالة خلل خطري حيتاج إىل عالج ومعاجل خبري‪.1‬‬

‫إن يوسف عليه السالم قسم خطته إىل ثالث مراحل‪:‬‬

‫ــ ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِنيَ دَأَبًا﴾ (يوسف‪ ،‬آية‪.)47 :‬‬

‫سبْعٌ شِدَادٌ﴾(يوسف‪ ،‬آية‪.)48 :‬‬


‫ــ ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْ ِد ذَلِكَ َ‬

‫ــ ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْ ِد ذَلِكَ عَا ٌم فِيهِ ُيغَاثُ النَّاسُ﴾(يوسف‪ ،‬آية‪.)49 :‬‬

‫وتظهر مالمح هذه اخلطة يف اآلتي‪:‬‬

‫‪ ‬ـ الطابع الغالب على املرحلة األوىل هو اإلنتاج واالدخار مع استهالك حمدود‪ ،‬فيوسف عليه السالم حدد خطط‬

‫اإلنتاج بالزراعة وحدد استمرار اإلنتاج الزراعي سبع سنني العمل فيها دائب ال ينقطع‪ ،‬ومع هذا اجلهد الكبري يف‬

‫اإلنتاج املستمر كان هناك حتديد واضح لالستهالك يبدو يف قوله‪﴿ :‬إِالَّ قَلِيالً مِّمَّا تَأْكُلُونَ﴾ (يوسف‪ ،‬آية‪ ،)47 :‬وأمر‬

‫يوسف حبفظ السنابل املخزونة من الغالل كاملة كما هي ﴿فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ﴾ (يوسف‪ ،‬آية‪.)47 :‬‬

‫‪ 1‬سورة يوسف‪ ،‬دراسة تحليلية‪ ،‬د‪ .‬أحمد نوفل‪ ،‬ص‪.409 :‬‬

‫‪142‬‬
‫‪ ‬ـ فإذا ما انتهت سنوات اإلنتاج السبع‪ ،‬مبا فيها من جهد متصل دائب‪ ،‬واستهالك حمدود كان على اخلطة أن تقابل حتدياً‬

‫ضخماً هو توفري األقوات سبع سنني عجاف وبعبارة أخرى؛ بعد اإلنتاج واجلهد الدائب يف املرحلة األوىل سيأتي‬

‫حتمل أيضاً يف املرحلة الثانية وهو حتمل حيتاج إىل تنظيم دقيق يصل فيه الطعام إىل كل فم‪.‬‬

‫‪ ‬ـ ومع هذا التحمل والتنظيم الدقيق ينبغي أال تأتي هذه السنوات العجاف على كل املدخرات‪ ،‬وإمنا كان يوسف عليه‬

‫السالم واضحاً يف قوله‪﴿:‬إِ َّال قَلِيالً مِّمَّا تُحْصِنُونَ﴾ (يوسف‪ ،‬آية‪.)48 :‬‬

‫فكان هذا اجلزء املدخر هو "اخلمرية" اليت تستطيع هبا األمة أن تقابل متطلبات البذر اجلديد بعد السنوات العجاف‪ ،‬أي إعادة‬

‫استثمارات املدخرات‪.‬‬

‫كان على يوسف عليه السالم أن يوازن بني ثالثة جوانب‪:‬‬

‫األول‪ :‬اإلنتاج‪ ،‬والثاني‪ :‬االستهالك‪ ،‬والثالث‪ :‬االدخار‪ ،‬وأن يعيد استثمار املدخرات‪.‬‬

‫ومن طبيعة التطور أن ختتلف‪ :‬تفاصيل الصورة‪ ،‬ولكن أساسها سيظل قائماً عميقاً يف ديننا وتراثنا وتظهر معامل التخطيط‬

‫واإلدارة يف كلمات يوسف عليه والسال م حيث أن التخطيط يعترب وظيفة أساسية من وظائف اإلدارة‪ ،‬اليت ال ميكن هلا أن تكون‬

‫فعالة بدوهنا‪ ،‬كما أن التخطيط يف حقيقته يعتمد على دعامتني ومخسة عناصر؛ أما الدعامتان فهما التنبؤ واألهداف وأما‬

‫‪143‬‬
‫العناصر فهي السياسات‪ ،‬والوسائل واألدوات‪ ،‬واملوارد املادية والبشرية‪ ،‬واإلجراءات والربامج الزمنية واملوازنة التخطيطية‬

‫التقديرية‪.1‬‬

‫إن كتب علم اإلدارة والتخطيط احلديث تقول‪ :‬إنه ال إدارة فعالة إال بتنظيم ووفق ختطيط سليم مسبقاً وهذا عني الذي زاوله‬

‫يوسف عليه والسالم‪ ،‬لقد جاء إىل احلكم يوم جاء وبرناجمه اإلصالحي السياسي واالقتصادي واالجتماعي والثقايف والرتبوي‬

‫واإلعالمي والزراعي كل ذلك يف ذهنه قد أعدّ إعداداً دقيقاً‪.‬‬

‫‪ ‬ـ دعامتا التخطيط‪ :‬التنبؤ‪ ،‬واألهداف‪:‬‬

‫أما التنبؤ‪ :‬فاستشراف املستقبل واستشفاف اآلتي‪ ،‬وهذا عني ما كان من يوسف مبا علمه اهلل ـ تعاىل ـ ثم جتده أيضاً‪،‬‬

‫قد حدد األهداف يف مضاعفة اإلنتاج وتقنني االستهالك أو ترشيده‪ ،‬ثم ختزين الطعام وهذا يقتضي خطة تفصيلية؛‬

‫ألن اهلدف العام الكبري ليس شيئاً إذ مل يقرتن خبططه التفصيلية‪ ،‬وهنا يأتي دور السياسيات والوسائل‪ ،‬واألدوات‬

‫واملوارد البشرية واإلجراءات‪ ،‬والربامج الزمنية واملوازنة التقديرية‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة يوسف‪ ،‬دراسة تحليلة‪ ،‬د‪ .‬أحمد نوفل‪ ،‬ص‪.416 ،415 :‬‬

‫‪144‬‬
‫وهذا هو ما فعله يوسف عليه السالم على ضوء علم اإلدارة احلديث وإن كان القرآن الكريم حصر كالم يوسف عليه السالم يف‬

‫مجل جامعة وجيزة ومل يشر إىل تنمية اإلنسان لكنها متضمنة قطعاً ضمن اخلطة‪ ،‬ألن القرآن علّمنا أن اإلنسان إمنا هو نفسيته‬

‫ومضمونه وحمتواه وأن تغيري اخلارج بدون تغيري الداخل ال يغري نقرياً‪.‬‬

‫لقد وضع يوسف عليه السالم العنصر البشري يف خطته‪ ،‬بعلمه أنه ال تنجح خطة ليس وراءها اإلنسان الذي ينفذها‪ ،‬وأما‬

‫منهجه يف التعامل مع اإلنسان فقد ظهر يف دعوته للسجينني للتوحيد‪ ،‬وبذلك يكون منهجه يف االرتقاء باإلنسان الذي هو عدة‬

‫احلضارة وحمرك النهضة ومنفذ الربامج ومنجز املشاريع دعوته للتوحيد وتعليمه حقيقة اإلميان باهلل وهذا الكون وهذه احلياة‪.‬‬

‫إن فائدة التغيري اخلارجي تزول إذا مل يكن هناك إنسان أمني على منجزات التغيري اخلارجي وحيمل القيم الداخلية اليت تضمن‬

‫استمرارية التغيري اخلارجي‪ ،‬صحته‪ ،‬وصدقه وأمانته‪ .‬إن التغيري جيب أن ميارسه اإلنسان يف احملتوى النفسي فيطور وينمي‬

‫ذاته باجتاه األفضل ثم جيسده حمتواه النفسي تغيري ًا خارجياً‪ ،‬وحيوله إىل ممارسة وتطبيق وحتقيق؛ ألن أحوال الناس وأوضاعها‬

‫االجتماعية من الفساد أو اخلري ال تغيري إال إذا تغري حمتوى اإلنسان وما هو عليه من احلق أو الباطل؛ هذا هو منطق القرآن واحلياة‬

‫لكي ترسي نظاماً البد أن هتيئ له إنساناً أوال‪.‬‬

‫إذا طورنا النظام ومفاهيمه دون اإلنسان ومفاهيمه فسرعان ما يتسرب الفساد من اإلنسان إىل النظام‪ ،‬فيقوضه أكثر مما يتسرب‬

‫اإلصالح من النظام إىل اإلنسان فيصلحه؛ ألن األنانية وحب الذات واجلشع أقوى من نصوص القوانني واألنظمة ما مل هتذهبا‬

‫‪145‬‬
‫الرتبية الداخلية العميقة واألخالق الكرمية املبنية على معرفة اهلل وحبه واخلوف منه‪.1‬‬

‫إن اآليات القرآنية الكرمية أشارت إىل جوانب أخرى ارتبط هبا جناح اخلطة ارتباطاً مباشراً‪ ،‬وأمهها جانبان جيمعهما عنصر‬

‫واحد هو العنصر البشري وعالقته بنجاح اخلطة‪.‬‬

‫‪ ‬ـ استعداد يوسف عليه السالم على أن يشرف على تنفيذ هذه اخلطة‪ ،‬وكان هذا االستعداد بعد أن بدد ظالل الشك‬

‫وأوهام التهم عن نفسه‪ ،‬وبذلك حدث التكامل القوي بني اخلطة واملخططني بني حساب األرقام وحساب األخالق بني‬

‫األسس املادية والقيم الروحية يف اجملتمع‪ ،‬بني الدين واحلياة‪.2‬‬

‫‪ ‬ـ اجلانب الثاني‪ :‬يتجلى يف اختيار املعاونني الذين ساعدوه يف عمله‪ ،‬فكان من رجال يوسف عليه السالم العون‬

‫الصادق على تنفيذ أوامره بدقة وهدوء‪.3‬‬

‫كما أشارت اآليات القرآنية إىل املعلومات اليقينية اليت بنى عليها يوسف عليه السالم خطته‪.‬‬

‫قال تعاىل‪﴿:‬ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُ ْلنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُ َّن ِإالَّ قَلِيالً مِّمَّا ُتحْصِنُونَ﴾(يوسف‪ ،‬آية‪.)48 :‬‬

‫إن من معامل اخلطة السياسية واالقتصادية الناجحة أن تكون مبينة على معلومات يقينية صادقة حقيقية ال على اخليال الشعري‬

‫اجملنح الذي ال يرتبط بالواقع‪ ،‬ومن هنا صارح يوسف عليه السالم الشعب بالشدائد اليت تنتظره‪ ،‬لكنها ليست املصارحة اليت‬

‫‪ 1‬سورة يوسف دراسة تحليلية‪ ،‬ص‪.418 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.240 :‬‬
‫‪ 3‬فقه التمكين‪ ،‬ص‪.281 :‬‬

‫‪146‬‬
‫تثبط أو تقعد عن العمل‪ ،‬ولكنها اليت تدفع للعمل وتزيد اهلمة وتضاعف من اجلهد والطاقة إن السبع اليت تلي الرخاء ستكون‬

‫جمدية ال تعطي بل تأخذ وتأكل فهي تقتضي حرصاً واحتياط ًا‪.1‬‬

‫ك سَبْ ٌع شِدَادٌ﴾(يوسف‪ ،‬آية‪ ) 48 :‬ال زرع فيهن‪ ،‬يأكلن ما قدمتم هلن وكأن هذه السنوات‬
‫ويف قوله تعاىل‪﴿:‬ثُ َّم َيأْتِي مِن بَعْ ِد ذَلِ َ‬

‫هي اليت تأكل بذاهتا‪ ،‬كل ما يقدم هلا لشدة هنمها وجوعها ﴿ ِإالَّ قَلِيالً مِّمَّا ُتحْصِنُونَ﴾(يوسف‪ ،‬آية‪ )48 :‬أي إال قلي ًال مما حيفظونه‬

‫وتصونونه من التهامها‪ ،‬ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف اجملدية‪ ،‬اليت تأتي على ما خزنتم وادخرمت من سنوات‬

‫اخلصب‪ ،‬تنقضي ويعقبها عام رخاء يغاث الناس فيه بالزرع واملاء وتنمو كرومهم فيعصروهنا مخراً ومسسم وخسهم فيعصرونه‬

‫زيتاً‪ ،‬وهنا نلحظ أن هذ ا العام الرخاء ال يقابله رمز يف رؤيا امللك‪ ،‬فهو إذن من العلم اللدني الذي علمه اهلل يوسف عليه السالم‪،‬‬

‫فبشر به الساقي ليبشر امللك والناس باخلالص من اجلدب واجلوع بعام رخي رغيد‪.2‬‬

‫ونالحظ يف اآليات القرآنية الكرمية اليت تكلمت عن خطة يوسف عليه السالم عنصر األمل والتفاؤل وهذا األمر مهم يف اخلطة‬

‫الناجحة‪.‬‬

‫صرُونَ﴾(يوسف‪ ،‬آية‪.)49 :‬‬


‫ــ قال تعاىل‪﴿:‬ثُ َّم يَ ْأتِي مِن بَعْدِ ذَ ِلكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْ ِ‬

‫‪ 1‬سورة يوسف ‪ -‬دراسة تحليلة‪ ،‬ص‪.427 :‬‬


‫‪ 2‬في ظالل القرآن (‪.)1994 /4‬‬

‫‪147‬‬
‫إن بعد الشدة اليت أشار إليها يوسف انفراجاً ورخاء وستعود األمور بإذن اهلل تعاىل إىل سريهتا األوىل‪ ،‬ولكن بداية العودة تكون‬

‫عاماً مباركاً غري معهود العطاء وفرة وكثرة وكأن اخلري فيه سيفيض بغري جهد‪ ،‬فهو غامن ﴿عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ﴾ أي‪ :‬يسقون‬

‫الغيث‪ ،‬أو يغاثون ينجدون من الغوث‪ ،‬وكل ذلك متالزم "وَفِيهِ َي ْعصِرُونَ "‪ ،‬إشارة أخرى إىل فيض اخلري‪ ،‬فال يلجأ الناس إىل‬

‫العصر للثمار إال بعد أن تفيض عن حاجة االستهالك األساسية وهي األكل‪ ،‬والبد من األمل والتفاؤل يف أي خطة‪ ،‬وإال فإن كان‬

‫ال أمل فما الداعي إىل العمل ولقد حرّك يوسف عليه السالم دوافع العمل عندهم بتحذيرهم من شدة سنوات القحط ثم حركها‬

‫ثانية يفتح نافذة األمل‪ ،1‬إن يوسف عليه السالم كان مظلوم ًا مضطهداً يف سجن امللك وهو ميلك من املعلومات واخلطط مما جيعله‬

‫يف حمل قوة عند املفاوضة إال إنه مل يشرتط لنفسه شيئاً‪ ،‬بل جادت نفسه الزكية بالتفضل باخلري والعطاء والنصح واإلرشاد بدون‬

‫أي مقابل من اخللق‪ ،‬وهذه األخالق الكرمية والصفات اجلميلة ي كرم اهلل هبا من يريد أن جيعله قدوة لدينه ومعلم ًا لدعوته‪ ،‬كما‬

‫نالحظ أن يوسف عليه السالم كان مستوعباً لفقه اخلالف حيث أن امللك وشعبه بعيدون عن منهج اهلل‪ ،‬منغمسون يف مناهج‬

‫اجلاهلية‪ ،‬ومع هذا التقى معهم يف اخلري احملض والسعي وحو إنقاذ البالد والعباد من حمنة اجملاعة والقحط‪ ،‬وهذه السعة يف الفهم‬

‫واالستيعاب العميق حيتاجها من يتصدى لدعوة الناس‪ ،‬ودفعهم وحو متكني دين اهلل يف األرض‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة يوسف ‪ -‬دراسة تحليلة‪ ،‬ص‪.428 :‬‬

‫‪148‬‬
‫لقد كان من مثار تدبري يوسف عل يه السالم وختطيطه أن حفظ الشعب من اهلالك واجلوع وخرج من الشدائد وعاد إىل الرخاء‬

‫ويف هذا القصص القرآني إشارات إىل واقع ختطيطي لكي ندرك أن اإلسالم ال يقوم على التخمني أو التواكل‪ ،‬ولكنه يهتم بأدق‬

‫األساليب وأعمقها يف جوانب االقتصاد أو السياسة أو غريها وكان هلذا القصص أثره البالغ يف بناء الدولة اإلسالمية على‬

‫أسس التخطيط واإلدارة واستشراف املستقبل‪.‬‬

‫ب ـ من سرية سيد اخللق صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬

‫إن سرية الرسول صلى اهلل عليه وسلم مَعْلم بارز يف مجيع جوانب احلياة ونلحظ من سريته العطرة جانب التخطيط وإحكام‬

‫اإلدارة ودقة التنظيم يف كل مراحل دعواته‪ :‬فإذا نظرنا ـ مثالً ـ إىل اهلجرة النبوية جند أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم وضع هلا‬

‫خطة احتوت على هذه العناصر‪ :‬حتديد اهلدف‪ ،‬تنظيم الوسائل‪ ،‬رسم أسلوب التنفيذ‪ ،‬حماولة التنبؤ باملستقبل‪ ،‬ولذلك‬

‫نالحظ اآلتي‪:‬‬

‫‪ ‬ـ حتديد اهلدف‪:‬‬

‫‪149‬‬
‫لقد حدد النيب صلى اهلل عليه وسلم هدفه يف اهلجرة وهو مغادرته هو وأصحابه مكة إىل املدينة آمنني‪ ،‬ثم نشر دعوة‬

‫اإلسالم يف بيئة جديدة وإقامة دولة تقوم برسالتها يف احلياة‪.‬‬

‫إن ختطيط الرسول صلى اهلل عليه وسلم للهجرة النبوية املباركة دليل واضح على أن التخطيط ضروري ملزاولة أي‬

‫نشاط بشري مهما يكن نوعه‪ ،‬يستوي يف ذلك أن يكون القائم به فرداً أو مجاعة وأن يستهدف شأنا من شؤون املسلم أو‬

‫ش ؤون احلرب وقد اتضحت رؤية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف التخطيط يف بناء املسجد‪ ،‬ودستور املدينة‪،‬‬

‫وحركة السرايا‪ ،‬وغزواته امليمونة واتصاالته بالقبائل والدول والزعماء وامللوك ولقد استخدم النيب صلى اهلل عليه‬

‫وسلم التخطيط يف كل مراحل دعوته السرية والعلنية وقيام الدولة إمياناً منه بأن التخطيط أساس من األسس يف إجناح‬

‫أي عمل من األعمال‪ ،‬والبد منه للبلوغ إىل املقصود وأنه ركيزة أساسية يقوم عليها هذا الدين ولذلك فإن اإلسالم قد‬

‫دعانا إىل األخذ به‪ ،‬وجعله نظاماً حلياة املسلمني ألنه ضرورة البد منها‪ ،1‬وهذا ينسجم مع الفهم الصحيح ملعنى التوكل‬

‫على اهلل واإلميان بالقدر‪.‬‬

‫‪ 1‬الهجرة في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.360 :‬‬

‫‪150‬‬
‫إن الدولة املدنية اإلسالمية‪ ،‬تتصدى لتحقيق أشرف وأعظم إجناز يف دنيانا وهو التمكني لدين اهلل يف األرض ورفع‬

‫الظلم وإقامة العدل‪ ،‬واالنتصار للمبادئ اإلنسانية‪ ،‬كاملساواة واحلرية والكرامة اإلنسانية‪ ،‬وحقوق اإلنسان‬

‫‪......‬اخل‪.‬‬

‫لقد قامت يف املدينة دولة توفرت هلا كل مقومات الدولة وكان النيب صلى اهلل عليه وسلم هو مؤسس هذه الدولة واحلاكم فيها‬

‫وهو الذي يرجع إليه يف كل الشؤون‪ ،‬وملا اتسعت أمور الدولة‪ ،‬ع َّين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم العمال األكفاء‪ ،‬وكان خيتار‬

‫العمال أساس الكفاءة والصالح واألمانة‪ ،‬ويبني للمسلمني خطورة الوالية وأهنا أمانة وأن من مل يؤدِّ الواجب فيها ويأخذها حبقها‬

‫‪1‬‬
‫كانت له يوم القيامة خزي ًا وندامةً وكان حياسب العمال‪ ،‬كما حاسب ابن اللتبية وأنكر عليه قوله‪« :‬هذا لكم وهذا أهدي يل»‬

‫وبيَّن أن هدايا العمال غلول‪.‬‬

‫وكان جيري الرواتب على العمال‪ ،‬كما أجرى لعتاب بن أسيد أمري مكة درمهاً كل يوم وبيَّن أن من حق العامل أن يتخذ بيتاً إن مل‬

‫يكن له بيت‪ ،‬وزوجة إن مل تكن له زوجة ودابة إن مل تكن له دابة‪ ،‬فقال‪« :‬من وىل لنا والية ومل يكن له بيت فليتخذ بيتاً أو مل تكن له‬

‫زوجة فليتخذ زوجة أو مل تكن له دابة فليتخذ دابة»‪.2‬‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري في كتاب األيمان والنذور‪ ،‬الحديث رقم‪.6636 :‬‬


‫‪ 2‬معالم السنن للخطابي (‪ )201 /4‬رواه أحمد وأبو داوود‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫وكان يوصي العمال كما أوصى أبا موسى األشعري ومعاذ بن جبل بالتيسري والتبشري‪ ،‬فقال‪ :‬يسروا وال تعسروا وبشروا وال‬

‫تنفروا‪.1‬‬

‫وكان صلى اهلل عليه وسلم يستشري أصحابه كثرياً‪ ،‬حتى قال أبو هريرة‪ :‬ما رأيت أحداً قط أكثر مشورة ألصحابه من رسول‬

‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكان له عرفاء كما ثبت ذلك يف صحيح البخاري‪.‬‬

‫وكان زيد بن ثابت يرتجم للنيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬قال زيد بن ثابت‪ :‬أمرني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن أتعلم له كتاب‬

‫يهود قال‪« :‬إني واهلل ما آمن يهود على كتاب»‪ ،‬قال‪ :‬فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له‪ ،‬قال‪ :‬فلما تعلمته كان إذا كتب إىل‬

‫يهود كتبت إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتاهبم‪ ،2‬وكان هناك شعراء ينافحون عن النيب صلى اهلل عليه وسلم وعن الدعوة منهم‬

‫حسان بن ثابت وعبد اهلل بن رواحة‪ ،‬وكعب بن مالك وكان هناك خطباء منهم ثابت بن قيس‪ ،‬وكان هناك قادة للجيوش وكان‬

‫املسجد مركز احلياة السياسية واالجتماعية وكان النيب صلى اهلل عليه وسلم يستخلف على املدينة إذا غاب عنها لغزوة أو‬

‫غريها‪ ،‬وكان صلى اهلل عليه وسلم يعرف أصحابه معرفة دقيقة ويعرف ما يتميز به‪ ،‬الواحد منهم من املزايا‪ ،‬فكان يضع الرجل‬

‫املناسب يف املكان املناسب‪ ،‬وأقرأ يف ذلك حديث أنس بن مالك قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أرحم أميت بأميت أبو‬

‫‪ 1‬أخرجه البخارى ومسلم‪ ،‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬محمد األمين‪ ،‬ص‪.80 :‬‬


‫‪ 2‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬محمد األمين الموريتاني‪ ،‬ص‪.80 :‬‬

‫‪152‬‬
‫بكر وأشدهم يف دين اهلل عمر‪ ،‬وأشدهم حياء عثمان‪ ،‬وأقضاهم علي‪ ،‬وأعلمهم باحلالل واحلرام معاذ‪ ،‬وأفرضهم زيد بن‬

‫ثابت‪ ،‬وأقرؤهم أبيّ بن كعب‪ ،‬ولكل قوم أمني‪ ،‬وأمني هذه األمة أبو عبيدة بن اجلراح»‪.1‬‬

‫وكان صلى اهلل عليه وسلم يعيّن األكفاء مهما تأخر إسالمهم كما عيَّن خالد بن الوليد بعد إسالمه‪ ،‬ومل يكن يعني من ال قدرة له‬

‫على إدارة األمور مهما كانت سابقته وفضله ولذلك قال ألبي ذر‪« :‬يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي‪،‬‬

‫ال تأمرن على اثنني وال تولني مال يتيم»‪ ،2‬وكان ال يويل من سأل اإلمارة وال من حرص عليها‪ ،‬ونصح عبد الرمحن بن مسرة‪ ،‬قال له‪:‬‬

‫«ال تسأل اإلمارة»‪ ، 3‬وقام النيب صلى اهلل عليه وسلم بعملية إحصاء‪ ،‬فعن حذيفة رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال النيب صلى اهلل عليه‬

‫وسلم‪« :‬اكتبوا يل من تلفظ باإلسالم من الناس»‪ ،‬فكتبنا له ألفاً ومخسمائة رجل‪ ،‬فلقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي‬

‫وحده وهو خائف‪.4‬‬

‫قال ابن حجر‪ :‬ويف احلديث مشروعية كتابة دواوين اجليش وقد يتعني ذلك عند االحتياج إىل متييز من يصلح للمقاتلة ممن ال‬

‫يصلح‪.5‬‬

‫‪ 1‬سنن الترمذي‪ ،‬الحديث رقم‪.3794 ،3793 :‬‬


‫‪ 2‬رواه مسلم‪ ،‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.82 :‬‬
‫‪ 3‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪ 82 :‬رواه مسلم‪.‬‬
‫‪ 4‬البخاري‪ ،‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.82 :‬‬
‫‪ 5‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.83 :‬‬

‫‪153‬‬
‫وكان النيب صلى اهلل عليه وسلم يعيِّن الوايل فيقوم بكل املهمات القضائية والتنفيذية‪ ،‬ومل يكن هناك خوف من تسلط الوايل‬

‫واستغالله لسلطاته‪ ،‬وكان الوالة يؤ ُّم ون الناس يف الصلوات وجيبون الزكاة‪ ،‬فيأخذوهنا من األغنياء ويوزعوهنا على الفقراء‬

‫وكانت املوار د املالية يف عهد النيب صلى اهلل عليه وسلم تقتصر على الزكاة والغنائم‪ ،‬والفيء واجلزية‪ ،‬وكانت تصرف يف‬

‫املصارف اليت حددها اهلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ومل يكن لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بيت مال‪ ،‬بل كان يقسم‬

‫الفيء من يومه‪.‬‬

‫وقد بلغ كتَّاب الوحي تسعة وعشرين كاتب ًا‪.1‬‬

‫ومن التوجيهات اإلدارية املستنبطة من سنة النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬

‫ــ أن التكليف بقدر الطاقة‪ ،‬واألحاديث يف ذلك معروفة مثل حديث الصحيحني‪« :‬وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم»‪،‬‬

‫ف اهللُ نَفْسًا إِالَّ وُسْعَهَا﴾ (البقرة‪ ،‬آية‪:‬‬


‫وحديث‪« :‬خذوا من العمل ما تُطيقون»‪ ،‬رواه البخاري‪ ،‬وقول اهلل تعاىل‪﴿:‬الَ يُ َكلِّ ُ‬

‫‪.)286‬‬

‫ــ أن يكون اخلطاب على قدر الفهم كما قال عبد اهلل بن مسعود‪ :‬ما أنت مبحدث قوم ًا ال تبلغه عقوهلم إال كان لبعضهم فتنة‪.‬‬

‫ــ اختيار الظرف املناسب للتوجيه‪.‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية الصحيحة‪ ،‬د‪ .‬أكرم العمري (‪.)598 /2‬‬

‫‪154‬‬
‫ــ تقديم األهم على املهم‪.‬‬

‫ــ التيسري والتبشري فقد قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬يسِّروا وال تعسروا وبشِّروا وال تنفروا»‪ ،1‬وقالت عائشة رضي اهلل عنها‪:‬‬

‫ما خُيِّر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بني أمرين إال أخذ أيسرمها ما مل يكن إمث ًا‪.2‬‬

‫ــ التقويم الذاتي فاملرء مسؤول عن رقابة نفسه وتقويم تصرفاته «فالكِّيس من دان نفسه‪ ،‬وعمل ملا بعد املوت‪ ،‬والعاجز من أتبع‬

‫هواها ومتنى على اهلل األماني»‪.3‬‬

‫وقد دلَّت السنة النبوية على أن هناك خصا ًال يعترب توفرها أساساً لصالحية املرشح للوالية‪:‬‬

‫‪ ‬ـ توفر الكفاءة اإلدارية‪.‬‬

‫‪ ‬ـ االلتزام حبدود الشرع واجتناب ما خيالف الدين‪.‬‬

‫‪ ‬ـ التوفر على عمله واالنقطاع له مبا يف ذلك منع االحتجاب‪.‬‬

‫‪ ‬ـ التمتع بالثقة والرضا من املرؤوسني والرعية‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬خيار أئمتكم الذين حتبوهنم وحيبونكم‬

‫وتصلون عليهم ويصلون عليكم»‪.1‬‬

‫‪ 1‬البخاري‪ ،‬ك العلم‪ ،‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.84 :‬‬


‫‪ 2‬البخاري‪ ،‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.84 :‬‬
‫‪ 3‬الحاكم في المستدرك (‪ )125 /1‬صحيح على شرط البخاري‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫‪ ‬ـ التحلي بنقاء الذمة وطهارة اليد‪ ،‬والتنزه عن استغالل املنصب يف االبتزاز‪ ،‬سواء بالرشوة أو باستغالل النفوذ‬

‫للكسب واإلثراء‪.‬‬

‫أما التقدم يف السن فليس شرط ًا‪ ،‬فقد عيَّن صلى اهلل عليه وسلم أسامة بن زيد وكان يف حدود العشرين‪ ،‬وعيَّن‬

‫عتاب بن أسيد أمرياً على مكة‪ ،‬وكان يف حدود العشرين‪ ،‬وع َّين علياً رضي اهلل عنه قاضيا يف اليمن وكان دون‬

‫الثالثني‪ ،‬وع َّين عثمان بن أبي العاص على الطائف بعد إسالم ثقيف وكان أحدثهم سناً‪ ،‬ألنه كان حريصاً على التفقه‬

‫يف الدين‪.2‬‬

‫‪ 7‬ـ االقتصاد‪:‬‬

‫أدّت هجرة املسلمني إىل املدينة‪ ،‬إىل زيادة األعباء االقتصادية امللقاة على عاتق الدولة الناشئة‪ ،‬وشرع القائد األعلى صلى اهلل‬

‫عليه وسلم حيل هذه األزمة بطرق عديدة‪ ،‬وأساليب متنوعة‪ ،‬فكان نظام املؤاخاة بني املهاجرين واألنصار‪ ،‬وبناء الصُّفة التابعة‬

‫للمسجد النبوي الستيعاب أكرب عدد ممكن من فقراء املهاجرين‪ ،‬واهتمَّ بدراسة األوضاع االقتصادية يف املدينة‪ ،‬فرأى‪ :‬أن القوة‬

‫االقتصادية بيد اليهود‪ ،‬وأهنم ميلكون السوق التجارية يف املدينة وأمواهلا ويتحكمون يف األسعار والسِّلع وحيتكروهنا‪ ،‬ويستغلون‬

‫‪ 1‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.84 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.85 :‬‬

‫‪156‬‬
‫حاجة الناس‪ ،‬فكان الب َّد من بناء سوق للمسلمني؛ لينافسوا اليهود على مصادر الثروة واالقتصاد يف املدينة‪ ،‬وتظهر فيها آداب‬

‫اإلسالم وأخالقه الرفيعة يف عامل التجارة‪ ،‬فحدَّد صلى اهلل عليه وسلم مكان ًا للسوق يف غرب املسجد النبوي‪ ،‬وخطه برجله‬

‫وقال‪« :‬هذا سوقكم‪ ،‬فال ينتقضنَّ‪ ،‬وال يضربَّن عليه خراج»‪.1‬‬

‫وقد قامت السُّوق يف عهده صلى اهلل عليه وسلم رحبة واسعة وقد حظي السوق باهتمام النيبَّ صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬

‫ورعايته‪ ،‬فتعهده باإلشراف‪ ،‬واملراقبة‪ ،‬ووضع له ضوابط‪ ،‬وسنَّ له آداباً‪ ،‬وطهّره من كثري من بيوع اجلاهلية؛ املشتملة على‬

‫ش واخلداع كما عُين صلى اهلل حبرِّيته‪ ،‬وإتاحة الفرص املتكافئة فيها للبيع والشراء‪ ،‬بني اجلميع على‬
‫الغنب‪ ،‬والغرر‪ ،2‬والغ ِّ‬

‫السَّواء‪.3‬‬

‫وقد أرسى صلى اهلل عليه وسلم آداباً كثرية‪ ،‬وحرمات عديدة لسوق املدينة؛ لكي تُصان وال تنتهك وحتفظ فال ختدش‪ ،‬وال‬

‫يستهان هبا‪ ،‬ولكي يصبح قدوة ألسواق األمّة على مر الدهور وكرّ العصور‪ ،‬وتوايل األزمان‪ ،‬فمن سريته ميكننا أن نستنبط مجلة‬

‫من اآلداب اليت كان يأمر هبا أو ينهى عنها أثناء دخوله إىل السوق وإشرافه عليه‪ ،‬ومتابعة سري املعامالت فيه‪ ،‬فقد كان صلى اهلل‬

‫‪ 1‬سنن ابن ماجه‪ ،‬الحديث رقم‪.2233 :‬‬


‫‪ 2‬أي‪ :‬بيع ما يجهله المتبايعان‪.‬‬
‫‪ 3‬أحكام السوق في اإلسالم‪ ،‬أحمد درويش‪ ،‬ص‪.36 ،35 :‬‬

‫‪157‬‬
‫عليه وسلم ال يرى منكر ًا إال غريه‪ ،‬وأزاله‪ ،‬وال معروف ًا إال أقرّه‪ ،‬ورغَّب يف املواظبة عليه وااللتزام به‪ ،‬مستمداً كل ذلك من‬

‫توجيهات وتعليمات ربه سبحانه وتعاىل‪ ،‬قال تعاىل‪﴿:‬وَمَا يَنطِقُ َعنِ الْهَوَى * إِنْ ُهوَ إِلَّا َوحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم‪ ،‬آية‪ 3 :‬ـ ‪.)4‬‬

‫ومن هذه اآلداب‪:‬‬

‫ــ يُسَنُّ يف حق الداخل إىل السوق أن يذكر اهلل ـ تعاىل ـ ابتداءً وحيمده‪ ،‬ويثين عليه‪ ،‬وذلك ملا ورد عنه صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أنه‬

‫قال‪« :‬من دخل السوق‪ ،‬فقال‪ :‬ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬له امللك‪ ،‬وله احلمد‪ ،‬حييي ومييت‪ ،‬وهو حي ال ميوت‪ ،‬بيده‬

‫اخلري‪ ،‬وهو على كل شيء قدير؛ كتب اهلل له ألف حسنة‪ ،‬وحما عنه ألف سيئة‪ ،‬ورفع له ألف درجة وبنى له بيتاً يف اجلنة»‪.1‬‬

‫ــ يكره ملن يدخل السوق أن يرفع صوته باخلصام واللَّجاج فقد ورد يف صفته صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أنه؛ ليس بفظ‪ ،‬وال غليظ‪،‬‬

‫وال سخّاب‪ 2‬يف األسواق‪ ،‬وال يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو‪ ،‬ويغفر‪ ،3‬فالصَّخب مذموم بذاته‪ ،‬فكيف إذا كان يف األسواق اليت‬

‫هي جممع الناس من كلِّ جنس؟‬

‫ــ ينبغي احملافظة على نظافة األسواق‪ ،‬واالبتعاد عن تلويثها باألقذار‪ ،‬واألوساخ؛ لكي ال يُؤذى املسلمون يف حركة سريهم‪ ،‬وال‬

‫بالرّوائح الكريهة‪ ،‬وقد حثَّ صلى اهلل عليه وسلم على النظافة‪ ،‬وهنى عن عدمها‪ ،‬وخاصة يف طرقات الناس‪ ،‬وأسواقهم‪،‬‬

‫‪ 1‬سنن الترمذي‪ ،‬الحديث رقم‪.3428 :‬‬


‫‪ 2‬السَّخب‪ :‬ويقال‪ :‬الصَّخب‪ :‬رفع الصاوت بالخصام‪.‬‬
‫‪ 3‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.2125 :‬‬

‫‪158‬‬
‫وذلك ملا فيها من الضَّرر قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬اتقوا اللعَّانني»‪ ،‬قالوا‪ :‬وما ال َّلعَّانان يا رسول اهلل؟ قال‪« :‬الذي يتخلىَّ يف‬

‫طريق الناس‪ ،‬أو يف ظلهم»‪.1‬‬

‫ــ االحتزاز يف محله السَّالح ملن دخل السُّوق‪ ،‬ومعه سالح‪ ،‬فقد ثبت عنه صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أنه قال‪« :‬إذا مرّ أحدكم يف‬

‫مسجدنا‪ ،‬أو يف سوقنا ومعه نبل‪ ،2‬فليمسك على نِصاهلا»‪ ،3‬أو قال‪ « :‬فليقبض بكفِّه أن يصيب أحداً من املسلمني منها‬

‫بشيء»‪ ،4‬ويقاس عليه األسلحة‪ ،‬مع ما فيها من خطر حمقق عند أدنى مالمسة هلا‪.5‬‬

‫ــ األمر بالوفاء بالعقود‪ ،‬والعهود‪ ،‬وسائر االلتزامات والتحذير من نقضها‪ ،‬أو الغدر فيها‪ ،‬قال تعاىل‪﴿:‬وَأَوْفُو ْا بِ َعهْدِ اهللِ ِإذَا‬

‫هلل عَ َليْكُمْ كَفِيالً إِنَّ اهللَ يَعْلَ ُم مَا تَفْعَلُونَ﴾ (النحل‪ ،‬آية‪.)91 :‬‬
‫عَاهَدتُّمْ وَ َال تَنقُضُواْ األَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَ ْلتُمُ ا َ‬

‫ــ السهولة واليسر واملساحمة يف البيع والشراء‪ ،‬ووحومها من صنوف التجارة‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬رحم اهلل عبداً مسحاً‬

‫إذا باع‪ ،‬مسحاً إذا اشرتى‪ ،‬مسحاً إذا اقتضى»‪.6‬‬

‫ــ الصدق والبيان وعدم الكتمان من أهم اآلداب اليت جيب أن تسري بني الناس يف معامالهتم؛ فقد أثنى صلى اهلل عليه وسلم‬

‫على التاجر الصادق يف معاملته‪ ،‬األمني يف أخذه وعطائه‪ ،‬وبيَّن‪ :‬أنه حيشر يوم القيامة مع النبيني‪ ،‬والصِّديقني‪ ،‬والشهداء‪،‬‬

‫‪1‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.269 :‬‬


‫‪ 2‬النَّبل‪ :‬السهام العربية‪ ،‬وال واحد لها من لفظها‪.‬‬
‫‪ 3‬النصل‪ :‬حديدة السهم والرمح والسيف ما ليس له مقبض‪.‬‬
‫‪ 4‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.7075 :‬‬
‫‪ 5‬السيرة النبوية للصَّالَّبي (‪.)535 /1‬‬
‫‪ 6‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.2076 :‬‬

‫‪159‬‬
‫وحسن أولئِك رفيقا‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬التاجر الصدوق األمني مع النبيني‪ ،‬والصديقني‪ ،‬والشهداء»‪ ،1‬ويف لفظ‪«:‬يوم‬

‫القيامة»‪.2‬‬

‫ــ وجوب االبتعاد عن األميان الكاذبة‪ ،‬فقد قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬احللف منفقة للسلعة‪ ،‬ممحقة للربح»‪ ،3‬وقال صلى اهلل‬

‫عليه وسلم‪« :‬إياكم وكثرة احللف يف البيع فإنه يُنفق ثم ميحق»‪.4‬‬

‫فاحلالف يروِّج سلعته وينفقها‪ ،‬لكن هذا الرّواج وذلك اإلنفاق موضع لنقصان الربكة ومظنة له يف املال‪ ،‬بأن يسلط اهلل عليه‬

‫وجوهاً يتلف فيها‪ ،‬إما سرقاً أو حرقاً‪ ،‬أو غرقاً‪ ،‬أو غصباً‪ ،‬أو هنباً‪ ،‬أو عوارض ينفق فيها من أمراض وغريها‪.‬‬

‫هذه بعض اآلداب والتوجيهات النبوية‪ ،‬تتعلَّق بآداب التعامل يف السُّوق اإلسالمي‪ ،‬ممّا كان هلا األثر يف تعمري أسواق املسلمني‪،‬‬

‫وضعف أسواق اليهود؛ وبذلك استطاع املسلمون أن يسيطروا على االقتصاد يف املدينة‪ ،‬ويتحكَّموا فيه‪ ،‬وهكذا قهروا اليهود‬

‫يف أدق اختصاصاهتم‪.5‬‬

‫ولقد تطوَّرت تلك التعاليم واآلداب مع توسُّع الدولة‪ ،‬ونزول التشريعات‪ ،‬وأصبح للتجارة علم وفقه ومبادئ‪ ،‬ولذلك قال عمر‬

‫رضي اهلل عنه‪ :‬ال يبيع يف سوقنا إال من تفقه يف الدين‪.6‬‬

‫‪ 1‬سنن الترمذي‪ ،‬الحديث رقم‪.1209 :‬‬


‫‪ 2‬سنن ابن ماجه‪ ،‬الحديث رقم‪.2139 :‬‬
‫‪ 3‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.2087 :‬‬
‫‪4‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.1607 :‬‬
‫‪ 5‬في ظالل السيرة النبوية ألبي فارس‪ ،‬ص‪.70 :‬‬
‫‪ 6‬أحكام السوق في اإلسالم‪ ،‬ص‪.53 :‬‬

‫‪160‬‬
‫إن لألسواق يف اإلسالم مكانة عالية ومنزلة سامية وذلك نظراً ألمهِّيتها املاليَّة واالقتصادية يف حياة الناس؛ حيث أهنا موضع‬

‫التعامل واملبادالت فيما بينهم‪ ،‬وعن طريقه حيصل كل فرد على أموره املعيشية‪ ،‬وحاجته الضرورية ومستلزماته اخلاصة‬

‫والعامة‪ ،‬ولذلك حظي السوق اإلسالمي بالتوجيهات‪.1‬‬

‫ولقد حتدث القرآن الكريم عن آفة اقتصادية واجتماعية خطرية‪ ،‬أثرت على دين الناس ودنياهم أال وهي نقص امليزان‪،‬‬

‫واملكيال‪ ،‬فقد كان هذا العمل خيالف ويناقض النهج الذي أنزله اهلل من عنده؛ ليتعامل الناس مبقتضاه‪ ،‬ذلك النهج هو العدل يف‬

‫هلل الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ َلعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ (الشورى‪ ،‬آية‪.)17 :‬‬
‫كل شيء‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬ا ُ‬

‫وامليزان‪ :‬هو العدل‪ ،2‬واملوازين واملكاييل آالت إلقامة العدل‪ ،‬ولذا أمر اهلل بإيفائها‪ ،‬وهنى عن نقضها‪.‬‬

‫سنُ حَتَّى يَ ْبلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْ َل وَالْمِيزَا َن بِالْقِسْطِ َال نُكَ ِّلفُ نَفْسًا إِ َّال‬
‫ي أَحْ َ‬
‫ــ قال تعاىل‪﴿ :‬وَ َال تَقْرَبُواْ مَالَ الْ َيتِيمِ إِ َّال بِالَّتِي هِ َ‬

‫وُسْعَهَا وَ ِإذَا قُ ْلتُمْ فَاعْدِلُواْ ولَوْ كَا َن ذَا قُرْبَى وَ ِبعَهْدِ اهللِ أَوْفُو ْا ذَلِكُمْ َوصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (األنعام‪ ،‬آية‪.)152 :‬‬

‫ــ وقال تعاىل‪﴿:‬وَأَوْفُوا الْكَيْ َل إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْ ُمسْتَقِيمِ ذَلِكَ َخيْرٌ وَأَ ْحسَنُ تَأْ ِويالً﴾ (اإلسراء‪ ،‬آية‪.)35 :‬‬

‫وتوعَّد اهلل املطففني بالويل‪ ،‬فقال تعاىل‪﴿ :‬وَيْلٌ لِّلْ ُمطَفِّفِنيَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ َيسْتَوْفُون * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ‬

‫عظِيمٍ﴾ (املطففني‪ ،‬آية‪ 1 :‬ـ ‪.)5‬‬


‫ك أَنَّهُم َّمبْعُوثُونَ * لِيَ ْومٍ َ‬
‫يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُ ُّن أُولَئِ َ‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصَّالَّبي (‪.)531 /1‬‬


‫‪ 2‬زاد المسير البن الجوزي (‪.)77 /7‬‬

‫‪161‬‬
‫فتعلم الصحابة رضي اهلل عنهم من قصة شعيب‪ :‬أن نقص امليزان واملكيال تعطيل للمنهج اإلهلي‪ ،‬وخمالفة لألوامر الربانية‪،‬‬

‫وتعرض لسخط اجلبار‪ ،‬وعذابه يف الدنيا واآلخرة‪ .‬إن هذا العمل له ضرره على دنيا الناس‪ ،‬ألنه جيلب الشدة بدل الرخاء‪،‬‬

‫وغالء األسعار بدل رخصها ويؤدي إىل إضرار مبعايش الناس‪ ،‬ولذلك حاربته الدولة اإلسالمية باملدينة‪.1‬‬

‫إن نقص امليزان واملكيال‪ ،‬كان من األسباب اليت أدّت إىل هالك قوم شعيب‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬كَأَن لَّمْ يَغْنَوْ ْا فِيهَا أَالَ ُبعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا‬

‫بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ (هود‪ ،‬آية‪.)95 :‬‬

‫كانت قصة شعيب مع قومه من ضمن املنهج النبوي يف تربية النيب صلى اهلل عليه وسلم ألصحابه ولذلك فهموا‪ :‬أن االوحراف‬

‫عن املنهج الرباني معناه الدمار واهلالك‪ ،‬وأن مشولية هذا الدين تدخل يف شؤون حياهتم كافة‪.‬‬

‫إن املنهج الرباني‪ ،‬عاجل املشكلة االقتصادية عن طريق القصص القرآني‪ ،‬لكي يتعظ الناس‪ ،‬ويعتربوا مبن مضى من األقوام‪ ،‬ومل‬

‫يرتك اجلانب التشريعي التعبدي الذي له أثر يف البناء التنظيمي الرتبوي‪ ،‬فقد كان املوىل ـ عز وجلَّ ـ يرعى هذه األمة وينقل‬

‫خطاها‪ ،‬لكي تكون مؤهَّلة حلمل األمانة‪ ،‬وتبليغ الرسالة‪ ،‬وال فرق يف وسط هذ ِه الدولة بني األمور الصَّغرية‪ ،‬واألمور الكبرية‪،‬‬

‫ألهنا كل ها تعمل لرفع بنائها ووقوفها شاخمة أمام األعاصري اليت حتتمل مواجهتها‪ ،‬ومن هذه الشعائر التعبديّة اليت فرضت يف‬

‫‪ 1‬أسباب هالك األمم السابقة‪ ،‬سعيد محمد‪ ،‬ص‪.446 :‬‬

‫‪162‬‬
‫السَّنتني األوليني من اهلجرة‪ :‬الزكاة؛ وزكاة الفطر‪ ،‬والصيام‪ ،‬ونالحظ سنة التدرج يف بناء اجملتمع املسلم ومراعاته لواقع الناس‪،‬‬

‫واالنتقال هبم وحو األفضل دون اعتساف‪ ،‬أو تعجيل‪ ،‬بل كلُّ شيء يف وقته‪.1‬‬

‫أ ـ تشريع فريضة الصَّيام‪:‬‬

‫يف شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة فرض اهلل تعاىل الصيام وجعله ركنا من أركان اإلسالم‪ ،‬كما فرضه على األمم السابقة‬

‫ويف ذلك تأكيد على أمهية هذه العبادة اجلليلة ومكانتها قال تعاىل‪﴿:‬يَا أَيُّهَا الَّذِي َن آمَنُو ْا كُتِبَ عَ َليْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُ ِتبَ َعلَى الَّذِي َن‬

‫مِن قَبْ ِلكُمْ لَعَ َّلكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة‪ ،‬آية‪.)183 :‬‬

‫وامتدح اهلل سبحانه شهر الصِّيام‪ ،‬واختصه من بني سائر الشهور إلنزال القرآن العظيم‪ ،‬فقال ـ عز وجل ـ ‪﴿:‬شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ‬

‫شهْرَ فَلْيَصُمْ ُه وَمَن كَانَ َمرِيضًا أَ ْو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّ ٌة مِّ ْن‬
‫أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَ َبيِّنَاتٍ مِّ َن الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِ َد مِنكُ ُم ال َّ‬

‫هلل عَلَى مَا هَدَاكُمْ ولَعَ َّلكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة‪ ،‬آية‪:‬‬


‫أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اهللُ بِكُمُ الْ ُيسْرَ وَالَ ُيرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِ ُتكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ا َ‬

‫‪.)185‬‬

‫‪ 1‬درسات في عصر النبوة للشجاع‪ ،‬ص‪ 166 :‬ـ ‪.168‬‬

‫‪163‬‬
‫وقد وضحت اآلية الكرمية األوىل الثَّمرة العظمى اليت حيظى هبا الصَّائمون املخلصون‪ ،‬أال وهي بلوغ درجة التقوى " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‬

‫" فالصيام بالنسبة لألمة املسلمة مدرسة فريدة‪ ،‬ودورة تدريبية على طهارة النفوس لكي تنخلع من آفاهتا‪ ،‬وتتحلى بالفضائل‪،‬‬

‫وترتقي يف مدارج التقوى‪ ،‬والصَّالح‪.1‬‬

‫وألمهّية الصِّيام يف تربية اجملتمع املسلم‪ ،‬فقد رغَّب النيب صلى اهلل عليه وسلم يف أيام الصيام‪ ،‬وحثَّ على صيامها‪ ،‬ور َّغب يف‬

‫س‬
‫األجر واملثوبة من اهلل تعاىل‪ ،‬وبذلك أصبحت مدرسة الصيام مفتوحة أبواهبا طيلة السنة؛ لكي يبادر املسلم إليها كلَّما أح َّ‬

‫بقسوة يف قلبه‪ ،‬وحاجة لرتويض نفسه ورغبة يف املزيد من األجر‪ ،‬والفضل عند اهلل سبحانه وقد جاء يف احلديث عن أبي‬

‫سعيد اخلدريِّ رضي اهلل عنه‪ :‬أنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من صام يوماً يف سبيل اهلل؛ بَعَّدَ اهلل وجهه عن‬

‫النار سبعني خريفاً»‪.2‬‬

‫ب ـ تشريع زكاة الفطر‪:‬‬

‫ويف رمضان من العام نفسه شرَّ ع اهلل ـ سبحانه وتعاىل ـ زكاة الفطر وهي على حر أو عبد‪ ،‬ذكر أو أنثى‪ ،‬صغري أو كبري من‬

‫املسلمني‪ .‬واحلكمة من فرضية هذه الزكاة‪ ،‬وإلزام املسلمني هبا ظاهرة وجلية‪ ،‬قال عبد اهلل بن عباس رضي اهلل عنهما‪ :‬فرض‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية ألبي شهبة (‪.)106 /2‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.2840:‬‬

‫‪164‬‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرّفث‪ ،‬وطعمة للمساكني‪ ،‬من أدَّاها قبل الصالة فهي زكاة‬

‫مقبولة‪ ،‬ومن أداها بعد الصَّالة فهي صدقة من الصدقات‪.‬‬

‫ففي هذا احلديث النص على أن احلكمة مركبة من أمرين‪:1‬‬

‫‪ ‬ـ يتعلق بالصَّوم يف شهر رمضان‪ ،‬فإن النفوس جمبولة على اخلطأ‪ ،‬والتقصري‪ ،‬والوقوع يف لغو القول؛ الذي ال فائدة فيه‪ ،‬أو‬

‫فيه ضرر من الكالم الباطل‪ ،‬ووحو ذلك‪ ،‬ممّا ال يسلم اإلنسان منه غالباً‪ ،‬فجاءت هذه يف ختام الشهر تطهرياً للصَّائم ممَّا‬

‫خالط صومه من ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬ـ إغناء احملتا ج يف يوم العيد‪ ،‬الذي يعقب الفطر من رمضان‪ ،‬فهذا يوم يسعد فيه اجملتمع املسلم كله‪ ،‬فينبغي أن يعمَّ هذا‬

‫السرور على اجلميع‪ ،‬فشرعت هذه الزكاة؛ لكفِّ هؤالء عن ُذلِّ السُّؤال‪ ،‬واستجداء الناس‪ ،‬لذلك كانت خاصَّة‬

‫بالفقراء‪ ،‬واملساكني‪ ،‬ال تعطى لغريهم‪ ،‬كما يف حديث ابن عباس رضي اهلل عنهما املتقدم‪":‬طعمة للمساكني"؛ ولذلك‬

‫نرى‪ :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مل جيعلها شيئ ًا كثرياً يعجز كثري من الناس عنه‪ ،‬بل جعل الواجب شيئ ًا قليالً‪،‬‬

‫‪ 1‬منهج اإلسالم في تركيبة النفس (‪.)269 ،268 /1‬‬

‫‪165‬‬
‫مما يسهل على ا لناس‪ ،‬وال يشقُّ عليهم من غالب قوت البلد‪ ،‬حتى يتمكن من أدائها كثري من املسلمني؛ فيحصل الغناء‬

‫بذلك هلؤالء احملتاجني‪ ،‬فما أعظم هذا الدين‪ ،1‬وهلذه الزكاة أحكام وتفصيالت تطلب من كتب الفقه‪.2‬‬

‫ج ـ صالة العيد‪:‬‬

‫ويف هذه السنة صلَّى النيب صلى اهلل عليه وسلم صالة العيد‪ ،‬فكانت أوّل صالة صالَّها‪ ،‬وخرج بالناس إىل املصلَّى يهلّلون اهلل‬

‫ويكربونه ويعظمونه؛ شكراً على ما أفاء عليهم من النعم املتتالية‪.‬‬

‫إن العيد موسم من مواسم اخلري‪ ،‬والتعاطف‪ ،‬والتحابب‪ ،‬وكان من دأب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أنه إذا صلى العيد‪،‬‬

‫ذكَّر‪ ،‬وأنذر‪ ،‬ورغَّب‪ ،‬ورهَّب‪ ،‬فيتسابق يف مضمار البذل والعطاء الرّجال والنساء‪ ،‬والصغار‪ ،‬والكبار‪.3‬‬

‫د ـ تشريع الزكاة‪:‬‬

‫ويف السنة الثانية للهجرة شرَّ ع اهلل الزكاة؛ اليت هي ركن من أركان اإلسالم وكان ذلك بعد شهر رمضان؛ ألن تشريع الزكاة العامة‬

‫كان بعد زكاة الفطر‪ ،‬وزكاة الفطر كانت بعد فرض صيام رمضان قطعاً‪ ،‬يدلُّ على هذا ما رواه األئمة‪ :‬أمحد‪ ،‬وابن خزمية‪،‬‬

‫‪ 1‬المال في القرآن الكريم‪ ،‬سليمان الحصين‪ ،‬ص‪.334 :‬‬


‫‪ 2‬السيرة النبوية‪ ،‬ألبي شهبة (‪.)109 /2‬‬
‫‪ 3‬المصدر السابق (‪.)110 /2‬‬

‫‪166‬‬
‫والنسائي‪ ،‬وابن ماجه‪ ،‬واحلاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة رضي اهلل عنهما قال‪ :‬أمرنا رسول اهلل صلى اهلل عليه‬

‫وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة‪ ،‬ثم نزلت الزكاة‪ ،‬فلم يأمرنا‪ ،‬ومل ينهنا ووحن فعله‪.1‬‬

‫قال احلافظ ابن حجر‪ :‬إسناده صحيح‪ ،2‬ومجهور العلماء سلفاً وخلفاً على أن مشروعية الزكاة إمنا كانت باملدينة يف السنة‬

‫الثانية‪.‬‬

‫فالزكاة يف العهد املكي كانت مطلقة من القيود واحلدود وكانت موكولة إىل إميان األفراد‪ ،‬وأرحييتهم وشعورهم بواجب األخوة‬

‫وحو إخواهنم من املؤمنني‪ ،‬فقد يكفي يف ذلك القليل من املال‪ ،‬وقد تقتضي احلاجة بذل الكثري‪ ،‬أو األكثر‪.3‬‬

‫فكانت اآليات املكيَّة هتتمُّ جبانب الرتبية‪ ،‬والتوجيه‪ ،‬وحتث على رعاية الفقراء واملساكني‪ ،‬بأساليب متنوعة‪ ،‬منها‪ :‬أن طعام‬

‫املساكني من لوازم اإلميان‪ ،‬ففي سورة املدثر ـ وهي من أوائل ما نزل من القرآن ـ يعرض القرآن الكريم مشهداً من مشاهد اآلخرة‪،‬‬

‫مشهد أصحاب اليمني من املؤمنني‪ ،‬يف جناهتم يتساءلون عن اجملرمني من الكفرة‪ ،‬وقد أطبقت عليهم النريان‪ ،‬فيسألوهنا عمّا‬

‫‪ 1‬صحيح سنن النسائي لأللباني‪ ،‬رقم‪.2506 :‬‬


‫‪ 2‬فتح الباري (‪.)207 /3‬‬
‫‪ 3‬فقه الزكاة‪ ،‬د‪ .‬يوسف القرضاوي (‪.)77 /1‬‬

‫‪167‬‬
‫أحلَّ هبم هذا العذاب‪ ،‬فكان من أسبابه وموجباته‪ :‬إمهال حق املسكني‪ ،‬وتركه ألنياب اجلوع والعُري تنهشه‪ ،‬وهم عنه‬

‫معرضون‪.1‬‬

‫ت يَ َتسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِنيَ * مَا سَلَ َككُمْ فِي‬


‫ني * فِي جَنَّا ٍ‬
‫ب الْيَمِ ِ‬
‫ــ قال تعاىل‪﴿:‬كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَ َبتْ َرهِينَ ٌة * إِلَّا أَصْحَا َ‬

‫سكِنيَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِنيَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ال ِّدينِ﴾ (املدثر‪،‬‬
‫سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّنيَ * ولَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِ ْ‬

‫آية‪ 38 :‬ـ ‪)46‬‬

‫ومل تقف عناية القرآن املكي عند الدعوة إىل الرمحة باملسكني والرتغيب يف إطعامه‪ ،‬ورعايته‪ ،‬والرتهيب من إمهاله‪ ،‬والقسوة‬

‫عليه‪ ،‬بل جتاوز ذلك‪ ،‬فجعل يف عنق كل مؤمن حقًّا للمساكني‪ ،‬أن حيضَّ غريه على إطعامه‪ ،‬ورعايته‪ ،‬وجعل ترك هذا احلضِّ‬

‫قرين الكفر باهلل العظيم‪ ،‬وموجباً لسُخطه ـ سبحانه ـ وعذابه يف اآلخرة‪.‬‬

‫ــ قال تعاىل يف شأن أصحاب "الشمال"‪﴿ :‬خُذُوهُ َفغُلُّو ُه * ُثمَّ الْجَحِي َم صَلُّو ُه * ثُ َّم فِي سِ ْلسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا‬

‫فَاسْلُكُوهُ﴾ (احلاقة‪ ،‬آية‪ 30 :‬ـ ‪.)32‬‬

‫‪ 1‬المصدر السابق نفسه (‪.)70 /1‬‬

‫‪168‬‬
‫وهذه اآليات املزلزلة للقلوب‪ ،‬املنذرة بالعذاب‪ ،‬هي اليت جعلت مثل أبي الدرداء رضي اهلل عنه يقول المرأته‪ :‬يا أمَّ الدرداء‪ ،‬إن‬

‫هلل سلسلة ومل تزل تغلى هبا مراجل النار منذ خلق اهلل جهنم إىل يوم تُلقى يف أعناق الناس‪ ،‬وقد جنّانا اهلل من نصفها بإمياننا باهلل‬

‫العظيم‪ ،‬فحُضِّي على طعام املسكني يا أمَّ الدَّرداء‪.1‬‬

‫أما القرآن املدني‪ ،‬فقد نزل بعد أن أصبح للمسلمني مجاعة هلا أرض‪ ،‬وكيان وسلطان‪ ،‬فلهذا اختذت التكاليف اإلسالمية‬

‫صورة جديدة مالئ مة هلذا الطور‪ :‬صورة التجديد والتخصيص‪ ،‬بعد اإلطالق والتعميم‪ ،‬صورة قوانني إلزامية‪ ،‬بعد أن كانت‬

‫وصايا توجيهية فحسب‪ ،‬وأصبحت تعتمد يف تنفيذها على القوة والسُّلطان‪ ،‬مع اعتمادها على الضمري واإلميان‪ ،‬وظهر هذا‬

‫االجتاه املدني يف الزكاة فحدَّد الشارع األموال اليت جتب فيها وشروط وجوهبا‪ ،‬واملقادير الواجبة‪ ،‬واجلهات اليت تُصرف هلا‪،‬‬

‫وفيها‪ ،‬واجلهاز الذي يقوم على تنظيمها وإدارهتا‪ ،2‬وأكَّد النيب صلى اهلل عليه وسلم يف املدينة‪ ،‬فريضة الزكاة‪ ،‬وبيَّن مكانتها يف‬

‫دين اهلل وأهنا أحد األركان األساسية هلذا الدِّين‪ ،‬ورغب يف أدائها‪ ،‬ورهَّب من منعها بأحاديث شتّى وأساليب متنوعة‪.‬‬

‫وأعلن الرسول صلى اهلل عليه وسلم يف أحاديثه‪ :‬أن أركان اإلسالم مخسة‪ ،‬بدأها بالشهادتني‪ ،‬وثنَّاها بالصالة‪ ،‬وثلثها بالزكاة‪،‬‬

‫فالزكاة يف السُّنة ـ كما يف القرآن ـ ثالثة دعائم اإلسالم‪ :‬اليت ال يقوم بناؤه إال هبا‪ ،‬وال يرتكز إال عليها‪ ،3‬وعندما طبَّق املسلمون هذا‬

‫‪ 1‬فقه الزكاة (‪.)70 /1‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)78 /1‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪.)89 /1‬‬

‫‪169‬‬
‫الرُّكن كما أمر اهلل تعاىل‪ ،‬وكما شرع رسوله صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬حتققت أهداف عظيمة يف اجملتمع‪ ،‬وبرزت آثارها يف حياة‬

‫الفرد‪ ،‬واجملتمع‪.1‬‬

‫‪ ‬ـ فمن آثار الزكاة على الفرد‪:‬‬

‫ــ الوقاية من الشُحِّ‪:‬‬

‫قال تعاىل‪﴿:‬وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِميَانَ مِن قَ ْبلِهِمْ ُيحِبُّو َن مَ ْن هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُو َن فِي صُدُو ِرهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا َويُؤْثِرُو َن‬

‫عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَ ِئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (احلشر‪ ،‬آية‪.)9 :‬‬

‫ــ تنمية املال وزيادته‪:‬‬

‫خلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِنيَ﴾ (سبأ‪،‬‬


‫قال تعاىل‪﴿:‬قُلْ إِنَّ رَبِّي َيبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِ ْن عِبَادِهِ ويَقْدِرُ لَهُ َومَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُ ْ‬

‫آية‪.)39 :‬‬

‫وقال تعاىل‪﴿ :‬وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ ألَزِيدَنَّكُمْ ولَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ (إبراهيم‪ ،‬آية‪.)7 :‬‬

‫ب كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ (البقرة‪ ،‬آية‪.)276 :‬‬


‫وقال تعاىل‪﴿ :‬يَمْحَقُ اهللُ الْرِّبَا َويُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاهللُ الَ ُيحِ ُّ‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصَّالَّبي (‪.)541 /1‬‬

‫‪170‬‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم‪ « :‬ما من يوم يصبح فيه العباد فيه إال ملكان ينزالن‪ ،‬فيقول أحدمها‪ :‬اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول‬

‫اآلخر‪ :‬اللهم أعط مُمسكاً تلفاً»‪ ،1‬وهكذا يتم تطهري نفس املسلم آفة الشح‪ ،‬والبخل‪ ،‬ويسارع إىل اإلنفاق‪ ،‬موقناً بفضل اهلل‬

‫ووعده الذي ال يتخلف بالرِّزق الواسع‪.2‬‬

‫ــ حصول األمن يف الدُّنيا واآلخرة‪:‬‬

‫قال تعاىل‪﴿ :‬الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَ ْموَالَهُم بِاللَّيْ ِل وَال َّنهَارِ سِرًّا وَ َعالَنِيَةً َفلَهُمْ َأجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ َوالَ خَوْفٌ عَلَ ْي ِهمْ وَ َال هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة‪،‬‬

‫آية‪.)274 :‬‬

‫فهم يف أمن وسعادة‪ ،‬وراحة البال‪ ،‬ألهنم أدّوا ما أمرهم اهلل تعاىل به‪ ،‬وانتهوا عمّا هناهم اهلل عنه‪.‬‬

‫‪ ‬ـ ومن آثار الزكاة على اجملتمع‪:‬‬

‫حصول احملبة بني األغنياء والفقراء‪ ،‬وشيوع األمن والطمأنينة يف أوسطه‪ ،‬وشعور األفراد فيما بينهم‪ :‬أهنم كاجلسد الواحد قال‬

‫صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬مثل املؤمنني يف توادهم‪ ،‬وترامحهم وتعاطفهم‪ ،‬مثل اجلسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو‪ ،‬تداعى له‬

‫سهر واحلمَّى‪.1‬‬
‫سائر اجلسد بال َّ‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.1442 :‬‬


‫‪ 2‬منهج اإلسالم في تزكية النفس (‪.)249 /1‬‬

‫‪171‬‬
‫ومن اآلثار أيض ًا حفظ التوازن االجتماعي‪.2‬‬

‫عندما كانت الزكاة جتمع من كل من جتب عليه‪ ،‬وتُنفق يف سبلها املشروعة يف صدر اإلسالم‪ ،‬كان اجملتمع اإلسالمي يعيش يف‬

‫رخاء ورغد‪ ،‬ومتتع بالطيبات‪ ،‬وتآلف‪ ،‬وتآخٍ‪ ،‬وحتابب‪ ،‬فقد روى الرُّواة‪ :‬أنه يف عهد عمر بن عبد العزيز رضي اهلل عنه‬

‫أخصب الناس‪ ،‬واغتنوا‪ ،‬حتى إهنم حبثوا عن مستحق للصَّدقة‪ ،‬فلم جيدوا‪ ،‬فما كان منهم إال أن اشرتوا هبا عبيداً‪ ،‬وأعتقوهم‬

‫لوجه اهلل ‪ ،‬وهكذا بلغ اإلسالم يف عصوره األوىل‪ ،‬مبستوى حياة املسلمني ومعيشتهم حدّاً مل تبلغه إال أمم قليلة اليوم‪ ،‬وذلك بفضل‬

‫تشريع الزكاة‪.3‬‬

‫التنمية االقتصادية يف الدولة املدنية اإلسالمية‪:‬‬

‫هتتم الدولة باإلعداد املايل والقوة االقتصادية وجتعلها يف خدمة مواطينها‪ ،‬وقيمها ومبادئها‪ ،‬وتعمل على تطوير ميدان‬

‫الصناعة‪ ،‬والزراعة‪ ،‬والعقار‪ ،‬واالسترياد والتصدير والتجارة ‪...‬اخل‬

‫وحترص على تنمية االقتصاد اإلسالمي الذي سيكون له آثار على اجملتمعات البشرية واليت من أمهها‪:‬‬

‫‪1‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.2586 :‬‬


‫‪ 2‬المال في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.240 :‬‬
‫‪ 3‬السيرة النبوية ألبي شهبة (‪.)115 /2‬‬

‫‪172‬‬
‫أ ـ إنقاذ البشرية‪ ،‬من مساوئ األنظمة الوضعية حتى أن علماء الغرب يقولون بذلك‪ .‬يقول جاك أوسرتي‪ :‬إن طريق اإلمناء ليس‬

‫حمصوراً يف املذهبني املعروفني‪ ،‬بل هناك مذهب اقتصادي ثالث راجح هو املذهب اإلسالمي‪.1‬‬

‫وبذلك يتحرر املسلمون من التبعية االقتصادية ويربز للعامل هذا النظام ومن هنا تأتي أمهية طرح النظام االقتصادي يف اإلسالم‬

‫وبيان األحكام الشرعية ملعاجلة مجيع مشاكل احلياة‪.‬‬

‫ب ـ استغالل املوارد البشرية واملادية استغالالً اقتصادياً يؤدي إىل الرفاهية للمواطنني مما يساعدهم على قيام الصناعات الثقيلة‬

‫واالنتعاش التجاري ووسائل ا لقوة املادية واملعنوية اليت حتقق للدولة وشعبها القوة واملتعة كل ذلك وفق برامج تنمية متكاملة وال‬

‫تبقى الدولة جمرد سوق مايل وسلعي للشرق أو الغرب‪.‬‬

‫ج ـ وجود االقتصاد اإلسالمي يف الدولة املدنية اإلسالمية يؤدي إىل الوحدة السياسية بني شعوب اإلسالم‪ ،‬حيث إن االقتصاد‬

‫يراعي أحكام الشريعة كما أن وحدة االقتصاد تؤدي إىل وحدة السياسة‪ ،‬وهذا ما تسعى إليه دول غري إسالمية مثل دول‬

‫السوق األوروبية املشرتكة‪.‬‬

‫‪ 1‬اإلسالم والتنمية االقتصادية‪ ،‬جاك أوستري‪ ،‬ص‪ ،1000 :‬ترجمة نبيل الطويل‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫د ـ حتقيق القوة االقتصادية والسياسية يؤدي إىل قوة الدولة املدنية اإلسالمية والقيام برسالتها يف احلياة وتساهم يف ارتقاء شعبها‬

‫وأمتها وجعلها خري أمة‪ ،‬وأقوى قوة فكرية وحضارية ومادية يف العامل‪.‬‬

‫هـ ـ إذا بنى الفكر ـ وخباصة الفكر االقتصادي اإلسالمي على أساس سليم من العقيدة واألسس الصحيحة‪ ،‬فإن الطريق إىل‬

‫االكتشافات واملخرتعات احلديثة سيكون مفتوح ًا‪ ،‬وستوظف املفاهيم إىل واقع حي عملي يف معرتك احلياة‪ ،‬وبذلك نستعلي‬

‫بقوة احلق‪ ،‬وسالمة الفكر على األفكار الدخيلة على األمة اإلسالمية‪.‬‬

‫إن العقيدة اإلسالمية ما جاءت إال هلداية البشر إىل ما فيه السعادة يف الدارين‪ ،1‬واليت من ضمنها اجلانب املادي االقتصادي‪.‬‬

‫ولقد اهتم اإلسالم باملوارد املالية وبيَّن طرق الكسب املشروع‪ ،‬كالبيوع واملرياث والوصايا واهلبات وغريها‪ ،‬وأوضح طرق‬

‫الكسب غري املشروع‪ ،‬كالربا والغرر والغش واالحتكار وغريها وكانت موارد الدولة اإلسالمية يف زمن النيب صلى اهلل عليه‬

‫وسلم واخللفاء من بعده من الزكاة والغنائم والفيء‪ ،‬واخلراج والتجارة‪ .‬إن الدولة املدنية اإلسالمية اليت تسعى تقوية جوانبها‬

‫االقتصادية واملالية وتوظيفها يف دعوة اهلل تعاىل قد أخذت بسبب مهم من أسباب القوة والصمود أال وهو‪:‬‬

‫‪ ‬ـ االكتفاء الذاتي‪:‬‬

‫‪ 1‬النظام االقتصادي في اإلسالم لمحمود الخطيب‪ ،‬ص‪.75 :‬‬

‫‪174‬‬
‫إن الدولة املدنية اإلسالمية تعمل على االكتفاء الذاتي ملواطنيها مبعنى أهنا جيب أن يكون لديها من اخلربات والوسائل واألدوات‬

‫ما جيعلها قادرة على إنتاج ما يفي حباجتها املادية واملعنوية وسد ثغراهتا املدنية والعسكرية‪ ،‬عن طريق ما يسميه‪ ،‬الفقهاء‪:‬‬

‫فروض الكفاية‪ ،‬وهي تشمل كل علم أو عمل أو صناعة أو مهارة يقوم هبا أمر الناس يف دينهم أو دنياهم‪ ،‬فالواجب عليهم حينئذ‬

‫تعلمها وتعليمها وإتقاهنا حتى ال يكون املسلمون عالة على غريهم‪ ،‬وال يتحكم فيهم سواهم من األمم األخرى‪ ،‬وبغري هذا‬

‫االستغناء واالكتفاء‪ ،‬لن يتحقق هلم العزة اليت كتب اهلل هلم يف كتابه‪﴿ :‬وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْ ِم ِننيَ﴾ (املنافقون‪ ،‬آية‪.)8 :‬‬

‫وبغريه كي يتحقق هلم االستقالل والسيادة احلقيقية وهو ما ذكره القرآن ﴿وَلَن يَجْعَلَ اهللُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِ ِننيَ سَبِيالً﴾‬

‫(النساء‪ ،‬آية‪.)141 :‬‬

‫ولن يتحقق هلم مكان األستاذية والشهادة على األمم وهو املذكور يف قوله سبحانه ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُو ْا‬

‫شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَ َليْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة‪ ،‬آية‪.)143 :‬‬

‫فال عزة لشعب يكون سالحه من صنع غريه‪ ،‬يبيعها منه ما يشاء‪ ،‬متى شاء‪ ،‬بالشروط اليت يشاء‪ ،‬ويكف يده عنها متى شاء‬

‫وكيف شاء‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫وال سيادة حقيقية لشعب يعتمد على خرباء أجانب عنه‪ ،‬يف أخص أموره‪ ،‬وأدق شؤونه وأخطر أسراره وال استقالل لشعب ال‬

‫ميلك زراعة قوته يف أرضه‪ ،‬وال جيد الدواء ملرضاه‪ ،‬وال يقدر على النهوض بصناعة ثقيلة‪ ،‬إال باسترياد اآللة واخلربة من غريه‪.‬‬

‫األهداف االقتصادية يف الدولة املدنية اإلسالمية‪:‬‬

‫من أهداف الدولة الدولة احلديثة املسلمة أن تسلك بشعبها طريق االكتفاء‪ ،‬والتحرر من التبعية وتتمسك وتعمل على الوصول‬

‫لألمور اليت تعني على االكتفاء والدولة احلديثة‪ ،‬تأسس اقتصادها حبيث يكون قادراً على االستفادة والتعاون مع االقتصاد‬

‫العاملي ويكون اقتصادها متنوع وتنافسي وكفيل بأن يليب احتياجات املواطنني اآلنية واملستقبلية وتأمني فرص أفضل للجميع‬

‫ومستوى عيش مرتفع‪.‬‬

‫ــ والدولة يقتصر دورها على األمور التالية‪ :‬املراقبة والتحفيز والتنظيم وتكفل محاية الكسب املشروع والقضاء على الفساد‬

‫والغش والتالعب واالحتكار‪.‬‬

‫ــ بناء اقتصاد معريف يقوم على البحث‪ ،‬والتطوير واالبتكار والتميز يف ريادة األعمال وتعليم رفيع املستوى هادف لتنمية‬

‫االقتصاد وتطوير اجملتمع وبنية حتتية مادية ومعلوماتية متطورة‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫ــ التوسع يف الصناعات واخلدمات ذات امليزة التنافسية املستمدة من الصناعات البرتولية‪ ،‬أو غريها على حساب ما يتوفر يف‬

‫الدولة‪.‬‬

‫ــ االستغالل املسؤول‪ ،‬واألمثل للنفط "للدول البرتولية" والغاز وخلق توازن بني االحتياطي واإلنتاج‪ ،‬وبني التوزيع االقتصادي‪،‬‬

‫ودرجة االستنزاف‪.‬‬

‫ــ تطوير بنية حتتية كافية‪ ،‬وقوية قادرة على دعم النمو االقتصادي املتوقع‪.‬‬

‫ــ تطوير قوة عمل تتميز باملهارة الفائقة واإلنتاجية العالية‪.‬‬

‫ــ متكني األسواق املالية من متويل املشاريع والقطاعات االقتصادية وبناء املؤسسات القادرة على تقديم اخلدمات للمواطنني‬

‫بكفاءة وختضع ملعايري الشفافية واملساءلة واحملاسبة‪.‬‬

‫ــ التأكيد على ضرورة إنشاء أجهزة متخصصة لإلحصاءات الرقمية للسكان‪ ،‬تتوىل مهمة الرصد الدقيق للمواليد وإنشاء‬

‫خرائط لكفالة املدن واملناطق احلضرية والذاتية على حد سواء واإلحصاء الدقيق للسكان واملنشآت واملرافق وذلك هبدف‬

‫استخدام تلك املعلومات يف وضع خطط التنمية للدولة على وحو متوازن وعادل ويضمن توزيعاً منصفاً للثروات يف البالد‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫أ ـ ضرورة التخطيط‪:‬‬

‫البد من التخطيط القائم على اإلحصاء الدقيق‪ ،‬واألرقام احلقيقية‪ ،‬واملعرفة الالزمة باحلاجات املطلوبة ومراتبها ومدى‬

‫أمهيتها‪ ،‬واإلمكانات املوجودة‪ ،‬ومدى القدرة على تنميتها والوسائل امليسورة لتلبية احلاجات‪ ،‬والتطلع إىل الطموحات‪.‬‬

‫ب ـ هتيئة الطاقات البشرية وحسن توزيعها‪:‬‬

‫ويكون ذلك بتطوير الكفاءا ت البشرية املتنوعة يف كل جمال حتتاج إليه‪ ،‬وأن تطور نظامها اإلداري واملايل حبيث تنمي هذه‬

‫الطاقات‪ ،‬وحتسن جتنيدها وتوزيعها على شتى االختصاصات بالعدل‪ ،‬اهتداء بقوله تعاىل‪َ ﴿ :‬ومَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً‬

‫فَلَوْالَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُ ْم إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَ َعلَّهُمْ َيحْذَرُونَ﴾ (التوبة‪ ،‬آية‪ )122 :‬ووضع‬

‫كل إنسان يف املكان املناسب له‪ ،‬واحلذر من إسناد األمر لغري أهله‪ :‬إذا وُسِّد األمر إىل غري أهله فانتظر الساعة‪.1‬‬

‫ومن ثم فالدولة املدنية اإلسالمية حترص على الثروة البشرية وحتافظ عليها وتعمل على تنميتها‪ :‬جسمياً وعقلياً وروحي ًا‬

‫وعملي ًا ومهني ًا‪.‬‬

‫ج ـ حسن استغالل املوارد املتاحة‪:‬‬

‫‪ 1‬مشكاة المصابيح‪ ،‬رقم‪.5439 :‬‬

‫‪178‬‬
‫فالدولة املدنية اإلسالمية ال هتدر شيئاً وحتافظ على املوارد املتاحة‪ ،‬وتعتربها أمانة جيب أن ترعى ونعمة جيب أن يشكر اهلل‬

‫عليها باستخدامها أحسن استخدام و َأمْثَلِه‪.‬‬

‫وحيسن بنا هنا إىل أن نشري إىل قوله تعاىل يف الوصية مبال اليتيم‪﴿ :‬وَالَ تَقْرَبُواْ مَالَ ا ْليَتِي ِم إِ َّال بِالَّتِي هِيَ َأحْسَ ُن َحتَّى يَ ْبلُغَ أَشُدَّهُ﴾‬

‫(اإلسراء‪ ،‬آية‪.)34 :‬‬

‫وقد تكرر ذلك يف القرآن الكريم هبذه الصيغة نفسها‪ ،‬فلم يكتفِ القرآن منا أن نقرب مال اليتيم بطريقة حسنة وحسب‪ ،‬بل باليت‬

‫هي أحسن‪ ،‬فإذا كانت هناك طريقتان لتنمية مال اليتيم واحملافظة عليه‪ :‬إحدامها حسنة جيدة‪ ،‬واألخرى أحسن منها‬

‫وأجود‪ ،‬كان الواجب علينا أن نستخدم اليت هي أحسن وأجود بل حرام علينا أال نستخدم إال اليت هي أحسن‪ ،‬كما هو مفهوم‬

‫التعبري بالنهي وأسلوب القصر‪.‬‬

‫ومال الشعب يف جمموعه أشبه مبال اليتيم‪ ،‬واملؤسسات اليت ترعاه أشبه بويل اليتيم وهلذا جيب أن وحافظ عليه وننميه باليت هي‬

‫أحسن‪.‬‬

‫د ـ التنسيق بني فروع اإلنتاج‪:‬‬

‫‪179‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إذا تبايعتم بالعينة‪ ،1‬ورضيتم بالزرع‪ ،‬وتبايعتم بالعينة وأخذمت بأذناب البقر‪ ،‬وتركتم‬

‫اجلهاد يف سبيل اهلل سلط اهلل عليكم ذالً ال ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم»‪.2‬‬

‫ففي هذا احلديث إشارة إىل أن االكتفاء بالزراعة وحدها وما يتبعها من اإلخالد إىل احلياة اخلاصة املعبِّر عنها باتباع أذناب‬

‫البقر‪ ،‬وترك اجلهاد يف سبيل اهلل‪ ،‬وما يطلبه من إعداد القوة‪ ،‬يُعرض األمة خلطر الذل واالستعمار وهذا بالضرورة حيتاج إىل نوع‬

‫من الصناعات البد أن يتوافر يف األمة‪ ،‬إذ ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب‪ ،‬ولقد أنزل اهلل يف كتابه سورة احلديد تنبيهاً منه على‬

‫أمهية هذا املعدن اخلطري قال تعاىل‪﴿ :‬وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ (احلديد‪ ،‬آية‪ )25 :‬ففي قوله تعاىل‪:‬‬

‫﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ إشارة إىل الصناعات احلربية ويف قوله تعاىل‪﴿ :‬وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ إشارة إىل الصناعات املدنية وهبذا تكتمل‬

‫يف سلمها وحرهبا‪.‬‬

‫هـ ـ تشغيل الثروة النقدية‪:‬‬

‫حبيث خترج النقود من قمقم "الكنز" إىل ساحة احلركة والعمل‪ ،‬فإن النقود مل ختلق لتحبس وتكتنز وإمنا خلقت لتتداول‪ ،‬وتنتقل‬

‫من يد إىل يد‪ :‬مثناً لبيع أو أجراً لعمل‪ ،‬أو عني ينتفع هبا‪ ،‬أو رأس مال لشركة أو مضاربة فهي وسيلة ألغراض شتى وليست‬

‫غرضاً لذاهتا‪.‬‬

‫‪ 1‬العينة‪ :‬أن يبيع السلعة بثمن معلوم ألجل ثم يشتريها منه في الحال بأقل‪.‬‬
‫‪ 2‬صحيح الجامع الصغير‪ ،‬ص‪.433 :‬‬

‫‪180‬‬
‫هذه بعض اخلطوط العريضة للوصول إىل االكتفاء الذاتي وحترير األمة من العبودية االقتصادية لغريها واالقرتاب هبا وحو متكني‬

‫دينها‪ ،‬كما ننبه على أمهية توزيع الزكاة ورعاية أموال األوقاف ووضعها يف حملها الصحيح فيها من الثروات اهلائلة فالبد من حترير‬

‫األوقاف‪ ،‬فإهنا تصل إىل املليارات يف بلدان الشعوب اإلسالمية ومل تستثمر كما ينبغي لكي ترتقي الشعوب وتقوى دوهلا‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ اإلعالم‪:‬‬

‫أرشد القرآن الكريم األمة إىل األخذ بأسلوب اإلعالم يف دعوة اخللق وهنج هنجاً متميزاً يف إيصال احلقائق إىل الناس‪ ،‬فمثالً نرى‬

‫القرآن الكريم جعل األحداث مدخالً إىل قلوب الناس وعقوهلم‪ ،‬إلرشادهم وتوجيههم ملا فيه السعادة والفالح يف الدنيا‬

‫واآلخرة‪.‬‬

‫فنجده ينزل يف كثري من األحيان إثر حادثة أو سؤال مراعي ًا يف ذلك الوقت املناسب وما نزل منه ابتداء فأسبابه قائمة يف الواقع‬

‫وإن مل يكن حلادثة معينة وقد سأل اليهود الرسول صلى اهلل عليه وسلم عن هذه الظاهرة الغريبة‪ ،‬اليت ما عهدوها من قبل يف‬

‫الكتب السماوية السابقة واليت كانت تنزل مجلة واحدة‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫عن ابن عباس رضي اهلل عنه قال‪ :‬قالت اليهود‪ :‬يا أبا القاسم لوال أنزل هذا القرآن مجلة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى‪،‬‬

‫ت بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّ ْلنَاهُ تَرْتِيلًا‬


‫فنزل قوله تعاىل ـ رداً على سؤاهلم‪﴿ :1‬وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ َعلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِ ُنثَبِّ َ‬

‫* وَلَا يَأْ ُتونَكَ بِمَثَ ٍل إِلَّا جِ ْئنَاكَ بِا ْلحَقِّ وَأَ ْحسَنَ تَ ْفسِريًا﴾ (الفرقان‪ ،‬آية‪ 32 :‬ـ ‪.)33‬‬

‫إن نزول القرآن الكريم منجماً حسب األحداث والوقائع كانت له أهداف إعالمية عظيمة ال ميكن حتقيقها يف مدة قصرية من‬

‫الزمن إال هبذا األسلوب املعجز‪ ،‬ومن أهم هذه األهداف اإلعالمية‪:‬‬

‫أ ـ مساعدة الرسول صلى اهلل عليه وسلم على حل املشاكل االجتماعية املتجددة‪ ،‬فمن ذلك أن عبد اهلل بن رواحة تزوج من‬

‫أمة سوداء‪ ،‬بعد أن أعتقها إثر ضربه هلا‪ ،‬وهي أمة مؤمنة فطعن عليه ناس من املسلمني‪ ،‬فقالوا‪ :‬تزوج أمة‪ ،‬وكانوا يريدون أن‬

‫ينكحوا إىل املشركني ونكحوهم رغبة يف أحساهبم‪ ،2‬فنزل قوله تعاىل‪﴿ :‬وَالَ تَن ِكحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى ُيؤْمِنَّ وألَمَةٌ ُّمؤْمِنَةٌ َخيْرٌ‬

‫مِّن مُّشْرِكَةٍ ولَوْ أَعْجَ َبتْكُمْ وَالَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِنيَ حَتَّى يُؤْ ِمنُواْ ولَ َعبْدٌ مُّؤْمِنٌ َخيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ ولَوْ أَ ْعجَبَكُمْ أُوْلَـ ِئكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّا ِر‬

‫وَاهللُ يَ ْدعُوَ إِلَى ا ْلجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِ ِإ ْذنِهِ وَيُبَيِّ ُن آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَ َّلهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (البقرة‪ ،‬آية‪.)221 :‬‬

‫فكان العرف السائد يف اجلاهلية وحتى ظهور اإلسالم أن التفاضل بني الناس باألنساب واألحساب فقط‪ ،‬وكان هذا احلدث‬

‫وما حصل فيه من استغراب وقيل وقال‪ ،‬قد أتاح الفرصة إلعالم الناس مبقاييس اإلسالم احلقيقية يف التفاضل بني الناس وهو‬

‫‪ 1‬اإلتقان في علوم القرآن للسيوطي (‪.)42 /1‬‬


‫‪ 2‬تفسير الطبري (‪.)223 /2‬‬

‫‪182‬‬
‫ت قوى اهلل عز وجل ـ واإلميان به وبرسوله صلى اهلل عليه وسلم وهذا املقياس فيه رفع من شأن املؤمن وإعالم بشرفه على‬

‫الكافر‪ ،‬ولو كان هذا املؤمن عبداً أو أمة‪ ،‬وكما ال خيفى فإن فيه تصغرياً لشأن الكافر وإعالماً بتفاهته ولو كان أشرف الناس يف‬

‫حسبه ونسبه‪ ،‬ونزول هذه اآليات عقب هذا احلديث هيأ النفوس وأثار انتباهها إعالم لكال الطرفني بذلك‪.1‬‬

‫ب ـ مساعدة الرسول صلى اهلل عليه وسلم يف اإلجابة على األسئلة املوجهة إليه من قبل املؤمنني أو الكافرين‪ ،‬فعندما بعث‬

‫املشركون إىل اليهود باملدينة يسألوهنم عن أمره فقالت اليهود‪ :‬سلوه عن أشياء ثالث‪ ،‬فإذا مل جيب عليها أو أجاب عنها مجيع ًا‬

‫فهو ليس بنيب وإن أجاب عن اثنني ومل جيب عن الثالث فهو نيب وهذه األمور الثالثة هي‪:‬‬

‫ــ فتية فقدوا يف الزمن األول ما كان من أمرهم؟‬

‫ــ رجل بلغ شرق األرض وغرهبا ما خربه؟‬

‫ــ وعن الروح؟‬

‫فسأله القرشيون عن هذه األشياء‪ ،‬فوعدهم باإلجابة عليها يف اليوم التايل ومل يقل‪ :‬إن شاء اهلل‪ ،‬قال جماهد‪ :‬إن الوحي تأخر‬

‫عنه اثنيت عشرة ليلة‪ ، 2‬وقيل غري ذلك حتى كثر القيل والقال بني الناس وقال قائل قريش‪ :‬وعدنا حممد غداً وقد أصبحنا ال‬

‫‪ 1‬األسلوب اإلعالمي في القرآن الكريم‪ ،‬محمد الصالبي‪ ،‬ص‪.17 :‬‬


‫‪ 2‬تفسير البغوي بهامش الخازن (‪.)181 /4‬‬

‫‪183‬‬
‫خيربنا بشيء‪ ،‬واشتد احلزن على الرسول صلى اهلل عليه وسلم بسبب ذلك حتى هتيأت نفوس الناس وتوترت أعصاهبم‬

‫والتف ت أنظارهم لنتيجة هذا احلدث العظيم الذي يعترب من أهم األدلة والرباهني على صدق الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأنه‬

‫مرسل من عند اهلل‪ .‬نزل الوحي من اهلل يقول بشأن الفتية‪﴿ :‬أَمْ حَسِ ْبتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَ ْهفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَا ِتنَا َعجَبًا﴾‬

‫(الكهف‪ ،‬آية‪.)9 :‬‬

‫سأَلُونَكَ َعنِ الرُّو ِح قُلِ‬


‫ك عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾(الكهف‪ ،‬آية‪ )83 :‬ونزل يف الروح ‪﴿ :‬ويَ ْ‬
‫ونزل فيمن بلغ الشرق والغرب‪﴿ :‬ويَسْأَلُونَ َ‬

‫الرُّوحُ مِنْ أَمْ ِر رَبِّي﴾ (اإلسراء‪ ،‬آية‪.)85 :‬‬

‫فأجاب عن اثنني من األسئلة ومل جيب عن واحد األمر الذي جعل القرشيني وغريهم يوقنون بصدق دعوى الرسول صلى اهلل‬

‫عليه وسلم بأنه مرسل وأنه صادق أمني كما عهدوه وهكذا كان القرآن الكريم جييب على كل سؤال يوحيه إىل الرسول صلى اهلل‬

‫عليه وسلم سواء كان هذا السؤال من املؤمنني أو الكافرين أو كان لغرض التثبت والتأكد أو لالسرتشاد واملعرفة‪ ،1‬ولقد تعددت‬

‫األغراض اإلعالمية من نزول القرآن منجماً‪ ،‬فباإلضافة إىل ما ذكرنا مثة أغراض أُخر منها‪ :‬رفع معنوية الرسول صلى اهلل عليه‬

‫وسلم من وقت آلخر بتبشريه بالنصر على األعداء ومحايته‪ ،‬وفضح أعداء هذا الدين من املشركني واملنافقني وأهل الكتاب‪،‬‬

‫وتنبيه الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه من وقت آلخر عن أخطائهم‪ ،‬من ذلك ما وقع للرسول صلى اهلل عليه وسلم مع‬

‫‪ 1‬األسلوب اإلعالمي للقرآن الكريم‪ ،‬ص‪.18 :‬‬

‫‪184‬‬
‫أسرى املشركني يوم بدر‪ ،1‬ولقد أرشد القرآن الكريم إىل الدستور اإلعالمي يف القرآن يف قوله تعاىل‪﴿ :‬وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَا َن‬

‫لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَ َتوَاصَوْا بِالْحَ ِّق وَ َتوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ (سورة العصر)‪.‬‬

‫حيث استنبط متخصصو اإلعالم من هذه السورة الدستور اإلعالمي املكون من‪:‬‬

‫ــ العلم واإلميان‪.‬‬

‫ــ العمل الصاحل‪.‬‬

‫ــ تبليغ الرسالة‪.‬‬

‫حسَنَةِ وَجَادِلْهُم‬
‫حكْمَةِ وَالْمَوْ ِعظَةِ الْ َ‬
‫واستنبطوا قواعد األسلوب اإلعالمي يف القرآن من قوله تعاىل‪﴿ :‬ادْعُ إِلِى َسبِيلِ رَ ِّبكَ بِالْ ِ‬

‫بِالَّتِي هِيَ أَ ْحسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ َأعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ َأعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَ ْبتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِ ْبتُم بِهِ ولَئِن‬

‫ضيْقٍ ِّممَّا يَمْكُرُونَ﴾ (النحل‪ ،‬آية‪ 125 :‬ـ‬


‫ك فِي َ‬
‫وَ َال َتحْزَنْ عَ َليْهِمْ َوالَ تَ ُ‬ ‫هلل‬
‫صَبَرْتُمْ لَهُ َو خَيْ ٌر لِّلصَّابِري َن * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِ َّال بِا ِ‬

‫‪.)127‬‬

‫فهذه اآليات وضعت قواعداً وأسساً واضحة لألسلوب اإلعالمي‪ ،‬القويل منه والعملي اليت البد للمسلمني أن يلتزموا هبا عند‬

‫قيامهم بتبليغ هذه الرسالة إىل الناس‪ ،‬إذا أرادوا حتقيق أهدافهم وغاياهتم‪ ،2‬ومن أهم هذه القواعد‪:‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪ 18 :‬ـ ‪.21‬‬


‫‪ 2‬األسلوب اإلعالمي في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪ 18 :‬ـ ‪.21‬‬

‫‪185‬‬
‫ــ احلكمة‪:‬‬

‫هي حسن اختيار األسلوب اإلعالم ي املناسب للمخاطبني وتنويعه حسب الظروف والزمان والتدرج يف إيصال الرسالة‬

‫اإلعالمية حتى ال يشق على املخاطبني استيعاهبا‪.‬‬

‫ــ املوعظة احلسنة‪:‬‬

‫هي التوجيهات اليت يقدمها صاحب الرسالة يف الناس عن طريق األوامر والنواهي املقرونة بالرتغيب والرتهيب بقصد نصحهم‬

‫وإرشادهم معتمداً على إيقاظ شعورهم وحماولة إشارة انفعاالهتم وحو ما يدعو له بعد اطمئناهنم له نفسياً واقرتاهبم منه‪.1‬‬

‫ــ اجلدال باليت هي أحسن‪:‬‬

‫فإن كان املدعو يرى أن ما هو عليه حق أو كان داعية إىل باطل جيادل باللني واللطف بال حتامل عليه وال تقبيح له حتى يطمئن إىل‬

‫صاحب الرسالة ويشعر أن هدفه هو الوصول إىل احلقيقة ال غري‪.‬‬

‫ــ اجلهاد‪:‬‬

‫قال تعاىل‪﴿ :‬وَإِنْ عَاقَ ْبتُمْ فَعَا ِقبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ﴾ فالبدّ من الدفاع عن هذه العقيدة وعن حريتها وحرية القائمني على‬

‫تبليغها‪ :‬لكي ال هتون يف نفوس الناس فالدعوة املهينة ال يعتنقها أحد‪.2‬‬

‫‪ 1‬مذكرات في الدعوة اإلسالمية‪ ،‬عبد الغفار عزيز‪ ،‬ص‪.5 :‬‬


‫‪ 2‬في ظالل القرآن (‪.)2202 /4‬‬

‫‪186‬‬
‫ــ القدوة احلسنة‪:‬‬

‫﴿ولَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾ (النحل‪ ،‬آية‪ )126 :‬فالعفو عند املقدرة يف بعض األحيان يكون أعمق أثراً وأكثر فائدة من‬

‫االنتقام‪ ،‬والضرب بيد من حديد على يد الظامل يصبح حتمياً‪ ،‬ألن فيه دفع الضرر وإعالماً ملن خلفهم ولكل من سولت له نفسه‬

‫اإلضرار هبذه الدعوة وأهلها أن هذا هو املصري الذي ينتظره‪ ،‬واجلدير بالذكر أن هاتني القاعدتني أعين "اجلهاد والقدوة احلسنة"‬

‫ميثالن األسلوب اإلعالمي العملي يف اإلسالم‪ ،1‬وبعد أن أرشدنا القرآن الكريم إىل القواعد األساسية لألسلوب اإلعالمي‬

‫الناجح الذي تنتهجه يف نشر هذه الدعوة‪ ،‬أشار إشارة واضحة إىل ما سيالقيه الرسول صلى اهلل عليه وسلم واملسلمون من‬

‫أساليب إعالمية مضادة شيطانية للقضاء على هذه الرسالة والنيل منها‪ ،‬فحثهم على الصرب يف هذا الصراع اإلعالمي املرير بني‬

‫ك فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُو َن‬


‫احلق والباطل وأن العاقبة ستكون له وللمؤمنني واخلزي والفشل ألعداء هذا الدين‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬والَ تَ ُ‬

‫سنُونَ﴾ (النحل‪ ،‬آية‪ 127 :‬ـ ‪.)128‬‬


‫* إِنَّ اهللَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْ ِ‬

‫ومن املالحظ أن القرآن الكريم قد انتهج هذا الدستور مع الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فأول ما نزل من القرآن الكريم هو إعالم‬

‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم حبقيقة "قاعدة التصور اإلمياني العريض"‪.2‬‬

‫‪ 1‬األسلوب اإلعالمي في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.35 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.35 :‬‬

‫‪187‬‬
‫ــ قال تعاىل‪﴿ :‬اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ َعلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا‬

‫لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق‪ ،‬آية‪ 1 :‬ـ ‪ .)5‬فاهلل هو الذي خلق وهو الذي علمَّ فمنه البدء والنشأة ومنه التعليم واملعرفة‪ ،‬واإلنسان يتعلم ما‬

‫يتعلم ويعلمِّ ما يعلم‪ ،‬فمصدر هذا كله هو اهلل الذي خلق والذي علمَّ‪.1‬‬

‫وكانت هذه هي البداية مع الرسول صلى اهلل عليه وسلم فأول ما نزل عليه من القرآن الكريم كان اهلدف منه إعالم الرسول‬

‫صلى اهلل عليه وسلم بقاعدة التصور اإلمياني واإلميان هبا‪ ،‬فلما علم هذه القاعدة وآمن هبا أمره اهلل تعاىل‪ :‬بالعبادات الفاضلة‬

‫والقاهرة عليه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،2‬ومن أمهها قراءة القرآن وصالة الليل‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬يَا َأيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا *‬

‫نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * َأوْ زِ ْد عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ (املزمل‪ ،‬آية‪ 1 :‬ـ ‪.)4‬‬

‫وملّ ا علم الرسول صلى اهلل عليه وسلم حقيقة التصور اإلمياني وعمل مبقتضاها صار عنده استعداد ذاتي لتصدير هذه الرسالة‬

‫إىل الناس‪ ،‬فعندها أمره اهلل تعاىل؛ بإعالن هذه الدعوة والصدع هبا‪.3‬‬

‫قال تعاىل‪﴿ :‬يَا أَ ُّيهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ (املدثر‪ ،‬آية‪ 1 :‬ـ ‪.)3‬‬

‫كما أن القرآن الكريم غين باألساليب اإلعالمية سواء كانت قولية أو عملية‪ ،‬ففي القولية مثالً‪ :‬أسلوب اهلدم والبناء‪ ،‬والتقابل‪،‬‬

‫والتبشري بغد أفضل‪ ،‬واجلدل‪ ،‬والتهديد‪ ،‬وتشويه الصورة‪ ،‬ومن األساليب اإلعالمية العملية‪ :‬القدوة احلسنة‪ ،‬والعفو عند‬

‫‪ 1‬في ظالل القرآن (‪.)3939 /6‬‬


‫‪ 2‬تفسير السعدي (‪.)508 /7‬‬
‫‪ 3‬األسلوب اإلعالمي في القرآن‪ ،‬ص‪ 36 :‬إلى ‪.60‬‬

‫‪188‬‬
‫املقدرة والثبات على احلق‪ ،‬ولقد مارس الرسول صلى اهلل عليه وسلم املنهج القرآني اإلعالمي وقام ببعض األعمال العظيمة اليت‬

‫حققت أهدافا إعالمية رفيعة وسامهت يف انتشار هذا الدين والتمكني له يف قلوب العباد ويف البالد فمثالً‪:‬‬

‫‪ ‬ـ اهلجرة‪:‬‬

‫اضطهد املكيون الرسول صلى اهلل عليه وسلم حتى وصل هبم األمر إىل التفكري يف التخلص منه ـ كما مرّ معنا ـ قال تعاىل‪﴿ :‬وَ ِإ ْذ‬

‫يَمْكُرُ بِكَ الَّ ِذينَ كَفَرُواْ لِيُ ْثبِتُو َك أَوْ َيقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُو َك ويَمْكُرُونَ ويَ ْمكُرُ اهللُ وَاهللُ َخيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (األنفال‪ ،‬آية‪.)30 :‬‬

‫فأمره اهلل تعاىل باهلجرة إىل املدينة قال تعاىل‪ِ ﴿ :‬إالَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اهللُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْ َنيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِ ْذ‬

‫هلل مَ َعنَا﴾ (التوبة‪ ،‬آية‪.)40 :‬‬


‫يَقُولُ لِصَاحِبِ ِه الَ تَحْزَنْ إِنَّ ا َ‬

‫فخرج الرسول صلى اهلل عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق متوجهاً إىل املدينة تنفيذ ًا ألمر اهلل تعاىل له ومل يكن خروج الرسول‬

‫صلى اهلل عليه وسلم من مكة إىل املدينة خوف ًا وال هرب ًا من املشركني‪ ،‬بل تعليم ًا لألمة ضرورة أخذ احليطة يف األزمات وليقف‬

‫على حتركات قريش ويعلم مقاصدهم ولينكشف ما اعتزموا عليه‪.‬‬

‫وكان هذا العمل من الرسول صلى اهلل عليه وسلم من أبلغ األساليب اإلعالمية يف اإلسالم وكانت له آثار إعالمية يف داخل مكة‬

‫وخارجها‪ ،‬فأهل مكة شعروا بأن هؤالء مل يرتكوا أهلهم ووطنهم وأمواهلم إال من أجل قوة إمياهنم بصدق ما هم عليه من حق‪،‬‬

‫‪189‬‬
‫كما أن هذه اهلجرة أوجدت فراغاً كبري ًا يف مكة ولفت هذا الفراغ املكيني للتغريات اليت حدثت يف جمتمعهم ومن أمهها ظهور‬

‫هذا الدين‪.‬‬

‫ومن هنا كانت اهلجرة أسلوباً إعالمي ًا فريداً قلّ أن يكون له مثيل يف التاريخ‪.1‬‬

‫‪ ‬ـ بناء املسجد‪:‬‬

‫حبُّ‬
‫سجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى ِمنْ أَوَّلِ يَوْمٍ َأحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ ُيحِبُّونَ أَن يَ َتطَهَّرُواْ وَاهللُ ُي ِ‬
‫قال تعاىل‪﴿ :‬الَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَ ْ‬

‫الْمُطَّهِّرِينَ﴾ (التوبة‪ ،‬آية‪.)108 :‬‬

‫سواء كانت هذه اآلية نزلت يف قباء أو املسجد النبوي الشريف فإن املالحظ أن أول عمل قام به الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬

‫عند قدومه إىل املدينة هو بناء مسجد‪ ،‬ومل يكن اهلدف الوحيد من هذا املسجد هو الصالة بل كان مركزاً إسالمياً عاماً جيتمع‬

‫فيه املسلمون من مجيع القبائل ليتعلموا يف أمور‪ 2‬دينهم‪.‬‬

‫ويف بناء املسجد إعالم جلميع املسلمني املوجودين يف املدينة وغريها أن هذا الدين دين اهلل وأنه يقضي على العصبيات مهما‬

‫هلل‬
‫كانت وعلى أي أساس وجدت‪ ،‬وأن مقياس التفاضل فيه إمنا هو بتقوى اهلل عز وجل‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ا ِ‬

‫أَتْقَاكُمْ﴾ (احلجرات‪ ،‬آية‪ .) 13:‬فلو أقام املسجد يف بيت من بيوت إحدى القبيلتني املوجودتني يف املدينة لوجدت القبيلة‬

‫‪ 1‬فقه النصر والتمكين للصاالبي‪ ،‬ص‪.300 :‬‬


‫‪ 2‬األسلوب اإلعالمي في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.62 :‬‬

‫‪190‬‬
‫األخرى يف نفسها شيئاً من ذلك واعتربته تفضيالً هلا‪ ،‬فكان هذا العمل من الرسول صلى اهلل عليه وسلم فيه من احلكمة ما ال‬

‫خيفى‪.‬‬

‫واحلقيقة أنه ما من مكان يف األرض يستطيع حتقيق ما حيققه املسجد من توحيد يف الكلمة واجلهود والقضاء على العصبيات إذا‬

‫وجد من حيسن االستفادة منه من الناحية اإلعالمية‪.1‬‬

‫‪ ‬ـ بيعة الرضوان‪:‬‬

‫حتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي ُقلُوبِهِمْ فَأَنزَ َل السَّكِينَةَ عَلَ ْيهِمْ وَأَثَا َبهُمْ فَتْحًا‬
‫قال تعاىل‪﴿ :‬لَقَدْ رَضِيَ اهللُ َعنِ الْمُؤْمِنِنيَ ِإذْ يُبَايِعُونَكَ تَ ْ‬

‫قَرِيبًا﴾ (الفتح‪ ،‬آية‪.)18 :‬‬

‫خرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مع بعض أصحابه وكانوا وحواً من ألف ومخسمائة من املدينة قاصدين بيت اهلل احلرام‬

‫للزيارة وكان هذا بعد غزوة األحزاب بعام‪ ،‬فلما اقرتبوا من مكة وجدوا قريشاً تستعد لقتاهلم‪ ،‬فبعث إليهم الرسول صلى اهلل‬

‫عليه وسلم عثمان بن عفان رضي اهلل عنه يقرتح عليهم عقد صلح بني الفريقني‪ ،‬وسرت شائعة بأن عثمان قد قتل‪ ،2‬فلجأ‬

‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم إىل أسلوب إعالمي يشعر القرشيني بقوة املسلمني وأهنم على استعداد لقتاهلم واالنتصار عليهم‪،‬‬

‫فجمع أصحابه ودعاهم إىل املبايعة‪ ،‬فبايعوه حتت شجرة على قتال املشركني وأال يفروا حتى ميوتوا فلما علمت قريش هبذه‬

‫‪ 1‬األسلوب اإلعالمي في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.62 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.161 :‬‬

‫‪191‬‬
‫البيعة وأن املسلمني عازمون على الدخول يف احلرب معهم دخل الرعب يف قلوهبم واضطروا إىل املفاوضات السلمية اليت كانت‬

‫اهلدف األساسي للرسول صلى اهلل عليه وسلم من استخدام هذا األسلوب وكانت قريش ترفض هذه املفاوضات فعقد معهم‬

‫"هدنة احلديبية" اليت ذكر اهلل تعاىل ـ أهنا فتح وامنت هبا على رسوله صلى اهلل عليه وسلم بقوله‪﴿ :‬إِنَّا فَتَحْنَا َلكَ فَتْحًا ُّمبِينًا﴾‬

‫(الفتح‪ ،‬آية‪.)1 :‬‬

‫‪ ‬ـ البعثات النبوية‪:‬‬

‫قال تعاىل‪َ ﴿ :‬تبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِ َيكُونَ لِ ْلعَالَمِنيَ نَذِيرًا﴾ (الفرقان‪ ،‬آية‪.)1 :‬‬

‫يف هذه اآلية الغاية اليت من أجلها أنزل القرآن على الرسول صلى اهلل عليه وسلم وهي إنذار العاملني وختويفهم من بأسه ونقمته‬

‫وبيان رضا اهلل من سخطه ويف هذا داللة واضحة على أن هذه الرسالة عاملية‪ :‬وغايتها نقل هذه البشرية كلها من عهد إىل عهد‬

‫ومن هنج إىل هنج عن طريق هذا الفرقان الذي نزله اهلل على عبده؛ ليكون للعاملني نذيراً‪.1‬‬

‫وإذا كانت هذه الدعوة عاملية فال بد أن يكون إعالمها كذلك‪ ،‬فالرسول صلى اهلل عليه وسلم واملسلمون مكلفون بتبليغ هذه‬

‫الرسالة إىل مجيع الناس بشتى األساليب اإلعالمية‪.‬‬

‫‪ 1‬في ظالل القرآن (‪.)2548 /5‬‬

‫‪192‬‬
‫ولذا فإننا نرى الرسول صلى اهلل عليه وسلم عند أول فرصة وجدها بعد صلح احلديبية قام بإرسال البعوث الدينية إىل القبائل‬

‫العربية اجملاورة وإىل األمم خارج اجلزيرة العربية للتبشري هبذه الرسالة تنفيذاً ألمر اهلل تعاىل بتعميم هذه الرسالة‪.‬‬

‫ولقد حقق هذا النوع من األساليب عدّة أهداف‪ ،‬من أمهها‪:‬‬

‫ــ إشعار العرب والعجم وغريهم‪ :‬أن اإلسالم ليس خاصاً بالعرب وحدهم ولكنه عام جلميع الناس‪.‬‬

‫ــ قبول هذه الدعوة والرتحيب هبا من قبل بعض األمراء وامللوك املوجهة إليهم‪ ،‬كما فعل املقوقس والنجاشي وإن كان البعض‬

‫رفضها وأساء الرد على صاحبها كما فعل كسرى‪.‬‬

‫وهذا النوع من األساليب يستخدم يف عصرنا هذا التوثيق الروابط السياسية واالقتصادية واالجتماعية بني الدول عن طريق‬

‫السفارات واملبعوثني الدبلوماسيني‪.1‬‬

‫ومن خالل هذه املعامل القرآنية واملمارسة النبوية الشريفة نتيقن أن االهتمام باإلعالم وتوظيفه يف خدمة أهداف الدولة اإلسالمية‬

‫من الوسائل املهمة والالزمة يف حركة احلياة‪.‬‬

‫إن لإلعالم أمهيته اخلطرية يف العصر احلديث‪ ،‬وقد نال اهتماماً بالغاً من كل الدول حتى أنشئت له كليات خاصة وهي "كليات‬

‫اإلعالم" وأنشئت له وزارات خاصة وهي وزارات اإلعالم اليت تشرف على سائر وسائل اإلعالم يف الدولة ويعني وزير هلا من‬

‫‪ 1‬األسلوب اإلعالمي في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.65 :‬‬

‫‪193‬‬
‫أكفاء الوزراء وأرشدهم و الء لنظام احلكم القائم يف الدولة‪ ،‬وذلك خلطره الكبري‪ ،‬وأمهيته يف هذا العصر الذي انتشرت فيه‬

‫وتقدمت العلوم احلديثة واملخرتعات املتعددة والنظريات املختلفة‪ .‬فاإلعالم تأثريه على الفرد واألسرة واجملتمع والدولة واجملتمع‬

‫الدويل كله‪ ،‬ويتضح أمهية اإلعالم يف اآلتي‪:‬‬

‫ــ تزويد الناس باملعلومات واحلقائق وغريها من ضروب املعرفة‪ ،‬وآخر األحداث واألخبار‪ ،‬لتشبع رغبتهم امللحة للمعرفة‪،‬‬

‫ويقوّموا األمور اليت حوهلم يف اجملتمع تقومي ًا عاد ًال ويفهموا طبيعة البيئة اليت يعيشون فيها ويتمكنوا من التكيف معها والتجاوب مع‬

‫أفرادها‪.‬‬

‫ــ نشر الوع ي واحلقائق الثابتة وتثقيف العقول وتنوير األذهان‪ ،‬وحماربة اخلرافات واألساطري والبدع الضارة حتى يتغري أسلوب‬

‫احلياة وتتغري األفكار إىل األفضل واألحسن وذلك بعرض اجلوانب اإلجيابية من احلياة عرضاً إعالمياً مناسباً‪ ،‬وعرض‬

‫املعلومات واألفكار احلديثة والعصرية اليت تؤدي إىل هنضة األمة وزيادة وعيها وثقافتها‪.‬‬

‫ــ دفع عجلة التنمية االقتصادية واالجتماعية والسياسية وإحداث التغيري فيها لألفضل وذلك بتخطيط إعالمي سليم يتم به نقل‬

‫التقن ية احلديثة إىل أقصى مدى من البث والدعاية ويالزم هذا اإلعالم ويواكب خطوات التقدم االقتصادي واالجتماعي‬

‫والسياسي وشرح حقائقه وأهدافه‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫ــ احملافظة على شخصية اجملتمع بكل معتقداته وآدابه وتراثه وتارخيه وتعميق كل هذا بوسائل اإلعالم املختلفة حتى يظل اجملتمع‬

‫متماسكاً بشخصيته املعروفة باستمرار‪.‬‬

‫ــ حتقيق الرتابط التام بني احلاكم واحملكوم حبيث تنسجم وتتوافق القاعدة العريضة من اجملتمع مع القمة مما يدفع اجملتمع إىل التقدم‬

‫السريع والعمل البناء‪.‬‬

‫ــ قلب احلكومات إلجياد االضطرابات‪ :‬فقد يقوم اإلعالم بذلك نتيجة للصراع الفكري أو الصراع االجتماعي أو الصراع‬

‫السياسي فتذاع أخبار وحقائق تثري الناس مما خيلق الفوضى يف اجملتمع‪ ،‬ويكون من نتيجة ذلك تغيري الوزارات أو قلب‬

‫احلكومات أو تقرير مصائر الدول أو إجياد احلقد والكراهية وحو طبقة معينة أو جمتمع معني‪.1‬‬

‫‪ 1‬فقه النصر والتمكين‪ ،‬ص‪.294 :‬‬

‫‪195‬‬
‫‪ 9‬ـ البناء الرتبوي والعلمي‪:‬‬

‫كان من أوائل ما نزل من القرآن الكريم يف العهد املدني مقدمات سورة البقرة‪ ،‬اليت حتدثت عن صفات أهل اإلميان‪ ،‬وأهل الكفر‪،‬‬

‫وأهل النفاق‪ ،‬ثم إشارة ألهل الكتاب ـ اليهود والنَّصارى ـ وكان الرتكيز على بيان حقيقة اليهود‪ ،‬ألهنم الذين تصدَّوا للدعوة‬

‫اإلسالمية من أول يوم دخلت فيه املدينة‪ ،‬وتتضمن سورة البقرة جانباً طويالً منها لشرح صفة اليهود‪ ،‬وطباعهم‪ ،1‬واملالحظ‪ :‬أن‬

‫س ورة البقرة ـ وهي من أوائل ما نزل يف العهد املدني ـ كانت توجِّه الدعوة للناس أمجعني أن يدخلوا يف دين اهلل‪ ،‬وأن يتوجهوا له‬

‫بالعبادة قال تعاىل‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُو ْا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ َوالَّذِينَ مِن قَ ْبلِكُمْ َلعَلَّكُ ْم تَتَّقُو َن * الَّذِي جَعَلَ َلكُمُ األَ ْرضَ فِرَاش ًا‬

‫وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ ِمنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ ِمنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَالَ َتجْعَلُواْ لِلهِ أَندَاد ًا وَأَنتُمْ َتعْلَمُونَ﴾ (البقرة‪ ،‬آية‪ 21 :‬ـ ‪.)22‬‬

‫وكانت اآليات القرآنية يف العهد املدنيّ حتذِّر املسلمني من االتّصاف بصفات املنافقني‪ ،‬وتوضِّح خطورة املنافقني على اجملتمع‬

‫النَّاشىء والدولة اجلديدة‪ ،‬ومل تظهر حركة النفاق ضدَّ اجملتمع‪ ،‬والدولة املسلمة إال يف العهد املدنيّ؛ ألن املسلمني يف مكة مل‬

‫يكونوا من القوَّة والنفوذ يف حالة تستدعي وجود فئة من الناس ترهبهم أو ترجو خريهم‪ ،‬فتتملقهم‪ ،‬وتتزلَّف إليهم يف الظاهر‪،‬‬

‫وتتآمر عليهم‪ ،‬وتكيد هلم‪ ،‬ومتكر هبم يف اخلفاء‪ ،‬كما كان شأن املنافقني بوجه عام‪ ،‬واآليات تتضمن أوصاف‪ ،‬وأخبار‪،‬‬

‫‪ 1‬في ظالل القرآن (‪.)27 /1‬‬

‫‪196‬‬
‫ومواقف املنافقني‪ ،‬واحلمالت عليهم كثرية جداً‪ ،‬حتى ال تكاد ختلو سورة مدنية منها‪ ،‬وخاصَّة الطويلة واملتوسطة وهذا يعين‪:‬‬

‫أن هذه احلركة ظلت طيلة العهد املدني تقريباً‪ ،‬وإن كانت أخذت تضعف بعد نصفه األوَّل‪.1‬‬

‫واستمر القرآن املدنيُّ يتحدث عن عظمة اهلل‪ ،‬وحقيقة الكون‪ ،‬والرتغيب يف اجلنة والرتهيب من النار‪ ،‬ويشرِّع األحكام لرتبية‬

‫األمَّة‪ ،‬ودعم مقومات الدولة وكانت مسرية األمة العلمية تتطور مع تطور مراحل الدّعوة‪ ،‬وبناء اجملتمع وتأسيس الدولة‪ ،‬وقد‬

‫أشاد القرآن الكريم بالعلم‪ ،‬والذين يتعلمون‪ ،‬ورويت أحاديث عن تقدير الرّسول صلى اهلل عليه وسلم للعلم‪ ،‬وتضمنت كتب‬

‫احلديث أبواباً عن العلم‪.‬‬

‫لقد أيقنت األمة‪ :‬أن العلم من أهم مقومات هنضة الشعوب وبناء الدول وجناح احلضارات وتربية اإلنسان‪ ،‬وأنه من املستحيل أن‬

‫يُمكِّن اهلل تعاىل لشعب جاهل متخ لف عن ركاب العلم‪ ،‬وإن الناظر للقرآن الكريم ليرتاءى له يف وضوح‪ :‬أنه زاخر باآليات اليت‬

‫ترفع من شان العلم‪ ،‬وحتث على طلبه وحتصيله‪ ،‬فقد جعل اهلل القرآن الكريم العلم مقابالً للكفر‪ ،2‬الذي هو اجلهل‪ ،‬والضَّالل‪،‬‬

‫قال تعاىل‪﴿ :‬أَمَّنْ هُ َو قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَ َقائِمًا َيحْذَرُ الْآ ِخرَةَ ويَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ َيسْ َتوِي الَّذِينَ َيعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا‬

‫يَعْلَمُو َن إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر‪ ،‬آية‪.)9 :‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصَّالَّبي (‪.)520 /1‬‬


‫‪ 2‬التمكين لألمة اإلسالمية‪ ،‬ص‪.62 :‬‬

‫‪197‬‬
‫ب‬
‫وإن الشيء الوحيد؛ الذي أمر اهلل تعاىل رسوله صلى اهلل عليه وسلم أن يطلب منه الزِّيادة هو العلم‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬وَقُل رَّ ِّ‬

‫زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه‪ ،‬آية‪ ) 114 :‬كما أن أوّل خاصّية ميّز اهلل تعاىل هبا آدم عليه السالم هي‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬وَعَلَّمَ آ َدمَ األَسْمَاء كُلَّهَا‬

‫ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَالَ ِئكَةِ فَقَالَ أَن ِبئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُالء إِن كُنتُمْ صَادِقِنيَ﴾ (البقرة‪ ،‬آية‪.)31 :‬‬

‫واستمر النيب صلى اهلل عليه وسلم يف منهجه الرتبويِّ يعلِّم أصحابه‪ ،‬ويذكرهم باهلل ـ عز وجل ـ وحيثهم على مكارم األخالق‪،‬‬

‫ويوضح هلم دقائق الشريعة وأحكامها‪ ،‬وكانت توجيهه صلى اهلل عليه وسلم ألصحابه أحيان ًا فردياً‪ ،‬ومرّة مجاعياً‪ ،‬وترك لنا‬

‫احلبيب املصطفى صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ثروة هائلة يف وسائله الرتبوية يف التعليم‪ ،‬وإلقاء الدروس‪ ،‬فقد راعى صلى اهلل عليه‬

‫وسلم الوسائل الرتبويّة؛ اليت تعني على احلفظ‪ ،‬وحسن التلقِّي‪ ،‬وتؤدِّي إىل استقرار احلديث يف نفوس وأفئدة الصحابة الكرام‬

‫رضي اهلل عنهم‪ ،‬فمن هذه الوسائل واملبادئ العظيمة النافعة‪ ،1‬يف العهد املكي‪ ،‬واملدنيَّ‪:‬‬

‫أ ـ أهم هذه الوسائل واملبادئ الرتبوية‪:‬‬

‫ــ تكرار احلديث وإعادته‪:‬‬

‫‪ 1‬مناهج وآداب الصحابة‪ ،‬د‪ .‬عبد الرحمن البر‪ ،‬ص‪.60 :‬‬

‫‪198‬‬
‫فذلك أسهل يف حفظه‪ ،‬وأعون على فهمه‪ ،‬وأدعى الستيعابه ووعي معانيه‪ ،‬ولذلك حرص النيب صلى اهلل عليه وسلم على‬

‫تكرار احلديث يف غالب أحيانه‪ ،‬فعن أنس بن مالك رضي اهلل عنه‪ ،‬عن النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أنَّه كان إذا تكلم بكلمة‬

‫أعادها ثالثاً؛ حتى تفهم عنه‪ ،‬وإذا أتى على قوم‪ ،‬فسلَّم عليهم؛ سلَّم عليهم ثالث ًا‪.1‬‬

‫ــ التأني يف الكالم والفصل بني الكلمات‪:‬‬

‫كان صلى اهلل عليه وسلم يتأنَّى وال يستعجل يف كالمه‪ ،‬بل يفصل بني كلمة وأخرى‪ ،‬حتَّى يسهل احلفظ وال يقع التحريف والتَّغيري‬

‫يب صلى اهلل عليه وسلم على ذلك‪ :‬أنّه كان يسهل على السامع أن يعُ َّد كلماته صلى اهلل عليه وسلم‬
‫عند النَّقل‪ ،‬وبلغ من حرص الن َّ‬

‫لو شاء‪ ،2‬فقد روى عروة ابن الزبري ـ رمحه اهلل ـ أن عائشة رضي اهلل عنها قالت‪ :‬أال يُعجُبك أبو فالن "أبو هريرة"؟ جاء‪،‬‬

‫فجلس إىل جانب حجرتي حيدث عن رسول اهلل صلى اهلل عليه يُسمعُين ذلك‪ ،‬وكنت أُسبح فقام قبل أن أقضي سُبحيت‪ ،‬ولو‬

‫أدركته لرددت عليه‪ ،‬إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مل يكن يسرد احلديث كسردكم‪.3‬‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.95 :‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.3567 :‬‬
‫‪ 3‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.3568 :‬‬

‫‪199‬‬
‫ــ االعتدال‪ ،‬وعدم اإلمالل‪:‬‬

‫كان صلى اهلل عليه وسلم يقتصد يف تعليمه‪ ،‬يف مقدارما يلقبه‪ ،‬ويف نوعه‪ ،‬ويف زمانه‪ ،‬حتى ال ميلُّ الصحابة وحتى ينشطوا حلفظه‬

‫ويسهل عليهم عقله‪ ،‬وفهمه‪ ،‬فعن ابن مسعود رضي اهلل عنه قال‪ :‬كان النيب صلى اهلل عليه وسلم يتخولنا‪ 1‬باملوعظة يف األيام‪،‬‬

‫وكراهية السآمة علينا‪.2‬‬

‫ــ ضرب األمثال‪:‬‬

‫للمثل أثر بالغ يف إيصال املعنى إىل العقل‪ ،‬والقلب‪ ،‬ذلك‪ :‬أنه يقدِّم املعنوي يف صورة حسَّية‪ ،‬فريبطه بالواقع‪ ،‬ويقرِّبه إىل الذهن؛‬

‫فضالً عن أنَّ للمثل مبختلف صوره بالغة تأخذ مبجامع القلوب‪ ،‬وتستهوي العقول‪ ،‬وخباصة عقول البلغاء؛ ولذلك استكثر‬

‫القرآن من ضرب األمثال‪ ،‬وذكر حكمة ذلك يف آيات كثرية‪ ،‬فقال تعاىل‪َ ﴿ :‬وتِ ْلكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ َومَا يَعْ ِقلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾‬

‫(العنكبوت‪ ،‬آية‪.)43 :‬‬

‫س لَعَلَّهُ ْم‬
‫ك الْأَمْثَا ُل نَضْرِبُهَا لِلنَّا ِ‬
‫شيَةِ اهللِ َوتِلْ َ‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬لَ ْو أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى َجبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا ُّمتَصَدِّعًا مِّ ْن خَ ْ‬

‫يَتَفَكَّرُونَ﴾ (احلشر‪ ،‬آية‪.)21 :‬‬

‫‪ 1‬يتخولنا‪ :‬يتعهدنا‪.‬‬
‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.68 :‬‬

‫‪200‬‬
‫إىل غري ذلك من اآليات‪ ،‬وعلى هذا املنهج الكريم سار النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فاستكثر من ضرب األمثال‪ ،‬فقد قال عبد‬

‫اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما‪ :‬حفظت عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألف مثل‪.1‬‬

‫وقد أُلفت كتب متعددة عن األمثال يف احلديث النبوي‪.‬‬

‫‪ 1‬مناهج وآداب الصحابة‪ ،‬ص‪.65 :‬‬

‫‪201‬‬
‫ــ طرح املسائل‪:‬‬

‫إن طرح السؤال من الوسائل الرتبوية املهمّة يف ربط التواصل القوي بني السائل واملسؤول‪ ،‬وفتح ذهن املسؤول وتركيز اهتمامه على‬

‫اإلجابة‪ ،‬وإحداث حالة من النَّشاط الذهين الكامل؛ ولذلك استخدم النيب صلى اهلل عليه وسلم السؤال يف صور متعددة‬

‫لتعليم الصحابة؛ ممّا كان كبري األثر يف حسن فهمهم‪ ،‬ومتام حفظهم‪ ،‬فأحيان ًا يوجِّه النيب صلى اهلل عليه وسلم السؤال جملرد اإلثارة‬

‫والتشويق‪ ،‬ولفت االنتباه‪ ،‬ويكون السؤال عندئذ بصيغة التنبيه "أال" غالبا‪ ،‬فعن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ ،‬عن النيب صلى اهلل‬

‫عليه وسلم قال‪ « :‬أال أدلكم على ما ميحو اهلل به اخلطايا‪ ،‬ويرفع به الدرجات؟» قالوا‪ :‬بلى يا رسول اهلل‪ ،‬قال‪« :‬إسباغ الوضوء‬

‫على املكاره‪ ،‬وكثرة اخلطا إىل املساجد‪،‬وانتظار الصالة بعد الصالة‪ ،‬فذلكم الرباط»‪.1‬‬

‫وأحياناً يسأهلم النيب صلى اهلل عليه وسلم عمَّا يعلم‪ :‬أهنم ال علم هلم به‪ ،‬وأهنم سيكون علمه إىل اهلل ورسوله‪ ،‬وإمنا يقصد إثارة‬

‫انتباههم للموضوع ولفت أنظارهم إليه‪ ،2‬فعن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬أتدرون ما‬

‫املفلس؟» قالوا‪ :‬املفلس فينا ما ال درهم له‪ ،‬وال متاع‪ ،‬فقال‪ « :‬إن املفلس من أميت‪ ،‬من يأتي يوم القيامة بصالة‪ ،‬وصيام‪ ،‬وزكاة‬

‫‪1‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.251 :‬‬


‫‪ 2‬مناهج وآداب الصحابة‪ ،،‬ص‪.67 :‬‬

‫‪202‬‬
‫ويأتي وقد شتم هذا‪ ،‬وقذف هذا‪ ،‬وأكل مال هذا‪ ،‬وسفك دم هذا وضرب هذا‪ ،‬فيُعطى هذا من حسناته‪ ،‬وهذا من‬

‫حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه؛ أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح يف النار»‪.1‬‬

‫ي بن كعب‬
‫وأحيان ًا يسأل‪ :‬فيحسن أحد الصحابة اإلجابة‪ ،‬فيثين عليه‪ ،‬وميدحه تشجيع ًا له‪ ،‬وحتفيز ًا لغريه‪ ،‬كما فعل مع أب ّ‬

‫رضي اهلل عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ « :‬يا أبا املنذر أتدري أيُّ أية من كتاب اهلل معك أعظم؟» قال‪:‬‬

‫ي‬
‫قلت‪ :‬اهلل ورسوله أعلم‪ .‬قال‪« :‬يا أبا املنذر؛ أتدري أي أية من كتاب اهلل معك أعظم؟» قال‪ :‬قلت‪﴿ :‬اهللُ َال إِلَـهَ إِالَّ هُ َو الْحَ ُّ‬

‫الْقَيُّومُ﴾ (البقرة‪ ،‬آية‪ .)255 :‬قال فضرب يف صدري‪ ،‬وقال‪« :‬واهلل؛ ليَهْنِك العلم‪ ،2‬أبا املنذر»‪.3‬‬

‫فهذا االستحسان والتشجيع يبعث املتعلم على الشعور باالرتياح‪ ،‬والثقة بالنفس ويدعوه إىل طلب وحفظ املزيد من العلم‬

‫وحتصيله‪.4‬‬

‫ــ إلقاء املعاني العربية املثرية لالهتمام‪ ،‬والدّاعية إىل االستفسار‪ ،‬والسُّؤال‪:‬‬

‫ومن ألطف ذلك وأمجله‪ ،‬ما رواه جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنهما‪ :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مرّ بالسوق‪ ،‬داخالً من‬

‫بعض العالية‪ ،‬والناس كُنَفته‪ ،1‬فمر جبدي أسكَّ‪ 2‬ميت فتناوله فأخذ بأذنه‪ ،‬ثم قال‪« :‬أيكم حيبُّ‪ :‬أن هذا له بدرهم؟»‪ .‬فقالوا‪:‬‬

‫‪1‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.2581 :‬‬


‫‪2‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪ 810 :‬ليكن العلم هنيئًا لك‪.‬‬
‫‪3‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.810 :‬‬
‫‪ 4‬مناهج وآداب الصحابة‪ ،‬ص‪.69 :‬‬

‫‪203‬‬
‫ما وحب أنه لنا بشيء‪ ،‬وما نصنع به؟‪ .‬قال‪« :‬أحتبون أنه لكم؟»‪ .‬قالوا‪ :‬واهلل لو كان حي ًا كان عيب ًا فيه‪ ،‬ألنه أسكُّ‪ ،‬فكيف‬

‫وهو ميت؟‪ .‬فقال‪« :‬فواهلل للدنيا أهون على اهلل من هذا عليكم»‪.3‬‬

‫ــ استخدام الوسائل التوضيحية‪:‬‬

‫كان النيب صلى اهلل عليه وسلم يستخدم ما يسمى اليوم بالوسائل التوضيحية؛ لتقرير وتأكيد املعنى يف نفوس وعقول السامعني‪،‬‬

‫وشغل كلِّ حواسهم باملوضوع‪ ،‬وتركيز انتباههم فيه‪ ،‬ممّا يساعد على متام وعيه‪ ،‬وحسن حفظه بكل مالبساته‪ ،‬ومن هذه‬

‫الوسائل‪:‬‬

‫‪ ‬ـ التعبري حبركة اليد‪ :‬كتشبيكه صلى اهلل عليه وسلم بني أصابعه‪ ،‬وهو يبيِّن طبيعة العالقة بني املؤمن وأخيه‪ ،‬فعن أبي‬

‫موسى األشعري رضي اهلل عنه‪ ،‬عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬املؤمن للمؤمن كالبُنيان يش ُّد بعضه بعض ًا‬

‫وشبك بني أصابعه»‪.4‬‬

‫ط على األرض خطوط ًا توضيحية‪ ،‬تسرتعي نظر الصحابة‪ ،‬ثم يأخذ‬


‫‪ ‬ـ التعبري بالرَّسم‪ :‬فكان صلى اهلل عليه وسلم خي ُّ‬

‫يف شرح مفردات ذلك التخطيط‪ ،‬وبيان املقصود منه‪ ،‬فعن عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه قال‪ :‬خطَّ رسول اهلل‬

‫‪ 1‬كنفته‪ :‬يعني‪ :‬عن جانبه‪ ،‬والكنف الناحية والجانب‪.‬‬


‫‪ 2‬جدي أسك‪ :‬صغير األذنين‪.‬‬
‫‪3‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.7344 :‬‬
‫‪ 4‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.2446 :‬‬

‫‪204‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم خطاًّ بيده‪ ،‬ثم قال‪« :‬هذا سبيل اهلل مستقيماً»‪ ،‬ثم خط خطوطا عن ميينه‪ ،‬وعن مشاله‪ ،‬ثم‬

‫قال‪« :‬وهذه سُبل» ـ قال يزيد ـ متفرقة ـ «على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه»‪ ،‬ثم قرأ ﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي‬

‫سبُ َل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ َوصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (األنعام‪ ،‬آية‪.1)153 :‬‬
‫مُسْتَقِيمًا فَاتَّ ِبعُوهُ َوالَ تَتَّبِعُواْ ال ُّ‬

‫‪ ‬ـ التعبري برفع وإظهار الشَّيء موضع احلديث‪ ،‬كما فعل صلى اهلل عليه وسلم عند احلديث عن حُكم لبس احلرير‬

‫والذهب‪ ،‬فعن علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه قال‪ :‬إن نيبَّ اهلل صلى اهلل عليه وسلم أخذ حريراً‪ ،‬فجعله يف ميينه‪،‬‬

‫وأخذ ذهباً‪ ،‬فجعله يف مشاله‪ ،‬ثم قال‪« :‬إن هذين حرام على ذكور أميت»‪ ،2‬وزاد يف رواية‪« :‬حلُّ إلناثهم» فجمع النيبُّ‬

‫صلى اهلل عليه وسلم بني القول‪ ،‬وبني رفع الذَّهب واحلرير‪ ،‬وإظهارمها‪ ،‬حتى جيمع هلم السَّماع واملشاهدة‪ ،‬فيكون‬

‫ذلك أوضح‪ ،‬وأعون على احلفظ‪.‬‬

‫‪ ‬ـ التعليم العملي بفعل الشيء أمام الناس‪ ،‬كما فعل عندما صعد صلى اهلل عليه وسلم املنرب‪ ،‬فصلَّى حبيث يراه الناس‬

‫أمجعون‪ ،‬فعن سهل بن سعد الساعدي رضي اهلل عنه قال‪ :‬رأيت رسول اهلل قام على املنرب‪ ،‬فاستقبل القبلة‪ ،‬وكبّر‬

‫وقام الناس خلفه‪ ،‬فقرأ وركع‪ ،‬وركع الناس خلفه‪ ،‬ثمَّ رفع رأسه‪ ،‬ثم رجع القهقرى‪ ،3‬فسجد على األرض‪ ،‬ثم عاد إىل‬

‫‪ 1‬مسند أحمد (‪.)435 /1‬‬


‫‪ 2‬سنن أبي داوود‪ ،‬الحديث رقم‪.4057 :‬‬
‫‪ 3‬القهقرى‪ :‬المشي إلى الخلف‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫املنرب ‪ ،‬ثم قرأ‪ ،‬ثم ركع‪ ،‬ثم رفع رأسه‪ ،‬ثم رجع‪ ،‬القهقرى‪ ،‬حتى سجد باألرض‪ ،‬فلمّا فرغ؛ أقبل على الناس فقال‪« :‬أيها‬

‫الناس؛ إمنا صنعت هذا لتأمتَّوا بي ولتعلُّموا صالتي»‪.1‬‬

‫ــ استعمال العبارة اللطيفة والرَّقيقة‪:‬‬

‫إن استعمال لطيف اخلطاب‪ ،‬ورقيق العبارات يؤلف القلوب ويستميلها إىل احلق‪ ،‬ويدفع املستمعني إىل الوعي واحلفظ‪ ،‬فقد كان‬

‫صلى اهلل عليه وسلم ميهِّد لكالمه وتوجيهه بعبارة لطيفة رقيقة‪ ،‬وخباصّة إذا كان بصدد تعليمهم ما قد يُستحيا من ذكره‪ ،‬كما‬

‫فعل عند تعليمهم آداب اجللو س لقضاء احلاجة؛ إذ قدّم لذلك بأنه مثل الوالد للمؤمنني‪ ،‬يُعلِّمهم‪ ،‬شفقة هبم‪ ،‬فقد قال صلى اهلل‬

‫عليه وسلم‪ « :‬إمنا أنا لكم مبنزلة الوالد أُعَلمِّكم‪ ،‬فإذا أتى أحدكم الغائط‪ ،‬فال يستقبل القبلة وال يستدبرها‪ ،‬وال يستطب‬

‫بيمينه»‪.2‬‬

‫لقد راعى املعلّم األوَّل صلى اهلل علي ه وسلم مجلة من املبادئ الرتبوية الكرمية‪ ،‬كانت غاية يف السمو اخللقي والكمال العقلي‪،‬‬

‫وذلك يف تعليقه على ما صدر من بعض الصحابة‪ ،‬جعلت التوجيه يستقرُّ يف قلوهبم‪ ،‬وبقي ماث ًال أمام بصائرهم؛ ملا ارتبط به من‬

‫معانٍ تربوية كرمية وهذه بعض املبادئ الرفيعة اليت استعملها النيب صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫ــ تشجيع احملسن والثناء عليه‪:‬‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.377 :‬‬


‫‪ 2‬سنن أبو داوود‪ ،‬الحديث رقم‪.8 :‬‬

‫‪206‬‬
‫ليزداد نشاطاً وإقباالً على العلم والعمل‪ ،‬مثلما فعل مع أبي موسى األشعري ـ رضي اهلل عنه ـ حني أثنى على قراءته و ُحسن‬

‫صوته بالقرآن الكريم‪ ،‬فعن أبي موسى ـ رضي اهلل عنه ـ أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال له‪« :‬لو رأيتين وأنا أستمع لقراءتك‬

‫البارحة‪ ،‬لقد أُوتيت مزماراً من مزامري آل داوود»‪.1‬‬

‫ــ اإلشفاق على املخطئ وعدم تعنيفه‪:‬‬

‫وكان صلوات اهلل وسالمه عليه يقدِّر ظروف الناس‪ ،‬ويراعي أحواهلم‪ ،‬ويعذرهم جبهلهم ويتلطَّف يف تصحيح أخطائهم‪،‬‬

‫ويرتفق يف تعليمهم الصَّواب‪ ،‬وال شك أن ذلك ميأل قلب املنصوح حبًّا للرسالة‪ ،‬وصحاهبا وحرصاً على حفظ الواقعة والتوجيه‬

‫وتبليغها‪ ،‬كما جيعل قلوب احلاضرين املعجبة هبذا التصرف والتوجيه الرّقيق مهيَّأة حلفظ الواقعة مبالبساهتا كافة‪ ،2‬ومن ذلك ما‬

‫رواه معاوية بن احلكم السُّلميُّ رضي اهلل عنه قال‪ :‬بينا أنا أصلي مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬إذ عطس رجل من القوم‪،‬‬

‫فقلت‪ :‬يرمحُك اهلل فرماني القوم بأبصارهم فقلت‪ :‬واُثكل أمياه‪ ،3‬ما شأنكم تنظرون إيلَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على‬

‫أفخاذهم‪ ،‬فلما رأيتهم يصُمتونين‪ ،‬لكنِّي سكنت‪ ،‬فلما صلَّى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فبأبي هو وأمّي ما رأيت معلَّما‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.5048 :‬‬


‫‪ 2‬مناهج وآداب الصحابة في التعليم والتعلم‪ ،‬ص‪.74 :‬‬
‫‪ 3‬و‪ :‬حرف للندبة والحسرة والثكل فقدان المرأة ولدها‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫قبله وال بعده أحسن تعليماً منه‪ ،‬فواهلل ما كهرني‪ ،1‬وال ضربين‪ ،‬وال شتمين‪ ،‬قال‪« :‬إن هذه الصَّالة ال يصلح فيها شيء من كالم‬

‫الناس؛ إمنا هو التسبيح‪ ،‬والتكبري‪ ،‬وقراءة القرآن»‪.2‬‬

‫فانظر ـ رمحك اهلل ـ إىل هذا الرّفق البالغ يف التعليم وانظر أثر هذا الرّفق يف نفس معاوية بن احلكم السُّلمي رضي اهلل عنه‪ ،‬وتأثره‬

‫حبسن تعليمه صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫ــ عدم التَّصريح‪ ،‬واالكتفاء بالتَّعريض فيما يذمُّ‪:‬‬

‫لِما يف ذلك من مراعاة شعور املخطئ‪ ،‬والتأكيد على عموم التوجيه‪ ،‬ومن ذلك ما حدث مع عبد اهلل بن اللُّتبيّة رضي اهلل عنه‬

‫حني استعمله النيب صلى اهلل عليه وسلم على صدقات بين سُليم‪ ،‬فلما جاء حاسبه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ :‬هذا مالكم‪،‬‬

‫وهذه هدية فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ « :‬فهالَّ جلست يف بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتُّك؛ إن كنت‬

‫صادقاً؟» ثم خطبنا‪ ،‬فحمد اهلل‪ ،‬وأثنى عليه‪ ،‬ثمّ قال‪ « :‬أمّا بعد‪ ،‬فإني استعمل الرّجل منكم على العمل ممّا والّني اهلل‪ ،‬فيأتي‪،‬‬

‫فيقول‪ :‬هذا مالكم‪ ،‬وهذا هدية أهديت يل‪ ،‬أفال جلس يف بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟ واهلل ال يأخذ أحد منكم شيئاً‬

‫‪1‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪ ،537 :‬ما كهرني‪ :‬ما نهرني‪.‬‬


‫‪2‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.537 :‬‬

‫‪208‬‬
‫بغري حقه إال لقى اهلل حيمله يوم القيامة‪ ،‬فألعرفنَّ أحداً منكم لقى اهلل حيمل بعرياً له رغاء أو بقرة هلا خوار‪ ،‬أو شاه تيعر»‪ ،1‬ثم‬

‫رفع يديه‪ ،‬حتى رُئيَ بياض إبطيه يقول‪« :‬اللهم هل بلغت» بصر عيين ومسع أذني‪.2‬‬

‫ــ الغضب والتعنيف؛ متى كان لذلك دواعٍ مهمة‪:‬‬

‫وذلك كأن حيدث خطأ شرعي من أشخاص هلم حيثية خاصة‪ ،‬أو جتاوز اخلطأ حدود الفردية واجلزئية وأخذ ميثل بداية فتنة‪،‬‬

‫أو اوحراف عن املنهج‪ ،‬على أن هذا الغضب يكون غضباً توجيهياً‪ ،‬من غري إسفاف‪ ،‬وال إسراف؛ بل على قدر احلاجة‪ ،‬ومن‬

‫ذلك غضبه صلى اهلل عليه وسلم حني أتاه عمر‪ ،‬ومعه نسخة من التَّوراة؛ ليقرأها عليه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فعن جابر بن عبد‬

‫اهلل رضي اهلل عنهما‪ :‬أن عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه أتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بنسخة من التوراة‪ ،‬فقال‪ :‬يا‬

‫رسول اهلل‪ ،‬هذه نسخة من التوراة‪ ،‬فسكت‪ ،‬فجعل يقرأ ووجه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يتغيّر‪ ،‬فقال أبو بكر رضي اهلل‬

‫عنه‪ :‬ثكلتك الثَّواكل! ما ترى بوجه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم؟ فنظر عمر إىل وجه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فقال‪ :‬أعوذ باهلل من غضب اهلل‪ ،‬وغضب رسوله‪ ،‬رضينا باهلل رباً‪ ،‬وباإلسالم ديناً‪ ،‬ومبحمد نبيَّا! فقال رسول اهلل صلى اهلل‬

‫عليه وسلم‪« :‬والذي نفس حممد بيده؛ لو بدا لكم موسى‪ ،‬فاتبعتموه‪ ،‬وتركتموني؛ لضللتم عن سواء السبيل‪ ،‬ولو كان حيّاً‪،‬‬

‫‪ 1‬الرُّغاء‪ :‬صوت اإلبل عند رفع األحمال عليهما‪.‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.6979 :‬‬

‫‪209‬‬
‫وأدرك نبوَّتي التَّبعين»‪ .1‬ومن ذلك غضبه صلى اهلل عليه وسلم من تطويل بعض أصحابه الصَّالة‪ ،‬وهم أئمة بعد أن كان صلى‬

‫اهلل عليه وسلم قد هنى عن ذلك؛ ملا فيه تعسري ومشقة‪ ،‬وملا يؤدِّي إليه من فتنة لبعض الضعفاء واملعذورين‪ ،‬وذوي األشغال‪،‬‬

‫فعن أبي مسعود األنصاري رضي اهلل عنه‪ ،‬قال رجل‪ :‬يا رسول اهلل ال أكاد أُدرك الصّالة ممّا يطول بنا فالن؛ فما رأيت النيب صلى‬

‫اهلل عليه وسلم يف موعظة أشد غضباً من يومئذ فقال‪ « :‬أيها الناس‪ ،‬إنكم مُنفِّرون‪ ،‬فمن صلى بالناس فليُخفِّف فإن فيهم‬

‫املريض‪ ،‬والضعيف‪ ،‬وذا احلاجة»‪.2‬‬

‫ومن ذلك غضبه من اختصام الصَّحابة وجتادهلم يف ال قدر‪ ،‬فعن عبد اهلل بن عمرو بن العاص رضي اهلل عنهما قال‪ :‬خرج رسول‬

‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم على أصحابه‪ ،‬وهم خيتصمون يف القدر فكأمنا يفقأ يف وجهه حب الرمان من الغضب‪ ،‬فقال‪« :‬هبذا‬

‫أمرمت؟ أو هلذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض؟ هبذا هلكت األمم قبلكم»‪.3‬‬

‫ومن ذلك غضب ه صلى اهلل عليه وسلم حني خيالف الصحابة أمره ويصرُّون على املغاالة يف الدين والتشديد على أنفسهم‪ ،‬ظنًا‬

‫منهم أن ذلك أفضل ممَّا أمروا به‪ ،‬وأقرب إىل اهلل‪ ،‬فعن عائشة رضي اهلل عنها قالت‪ :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا‬

‫‪ 1‬مسند أحمد (‪.)338 /3‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.90 :‬‬
‫‪ 3‬سنن ابن ماجه‪ ،‬الحديث رقم‪.85 :‬‬

‫‪210‬‬
‫أمرهم‪ ،‬أمرهم من األعمال ما يطيقون‪ ،‬قالو ا‪ :‬إنا لسنا كهيئتك يا رسول اهلل؛ إن اهلل قد غفر لك ما تقدم من ذنبك‪ ،‬وما تأخر‬

‫فيغضب حتى يعرف يف وجهه الغضب‪ ،‬ثم يقول‪« :‬إن أتقاكم وأعلمكم باهلل أنا»‪.1‬‬

‫ومل يكن غضب النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم يف تلك املواقف إال عمالً توجيهياً‪ ،‬وتعليمياً؛ حتريضاً للصحابة على التيقظ وحتذير ًا‬

‫هلم من الوقوع يف هذه األخطاء‪ ،‬فالواعظ من شأنه أن يكون يف صورة الغضبان‪ ،‬ألنَّ مقامه يقتضي تكلف االنزعاج‪ ،‬ألنه يف‬

‫صورة املنذر‪ ،‬وكذا املعلم إذا أنكر على من يتعلم منه سوء فهم ووحوه‪ ،‬ألنه قد يكون أدعى للقبول منه‪ ،‬وليس ذلك الزماً يف حق‬

‫كل أحد‪ ،‬بل خيتلف باختالف أحوال املتعلمني‪.2‬‬

‫ــ انتهاز بعض الوقائع لبيان وتعليم معانٍ مناسبة‪:‬‬

‫كان صلى اهلل عليه وسلم حتدث أمامه أحداث معينة‪ ،‬فينتهز مشاهبة ما يرى ملعنى معني يريد تعليمه للصحابة‪ ،‬ومشاكلته‬

‫لتوجيه مناسب يريد بثّه ألصحابه‪ ،‬وعندئذ يكون هذا املعنى وذلك التوجيه أوضح ما يكون يف نفوسهم رضي اهلل عنهم؛ ومن‬

‫‪4‬‬
‫يب‪ ،3‬فإذا امرأة من السيب حتلب ثديها‬
‫ذلك ما رواه عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه قال‪ :‬قدم على النيب صلى اهلل عليه وسلم س ي‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.20 :‬‬


‫‪ 2‬فتح الباري (‪.)187 /1‬‬
‫‪ 3‬سبي‪ :‬أسرى‪.‬‬
‫‪ 4‬تتهيأ ألن تحلب‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫تسقى‪ ،1‬إذا وجدت صبياً من السَّيب‪ ،‬أخذته فألعقته ببطنها‪ ،‬وأرضعته‪ ،‬فقال النيبُّ صلى اهلل عليه وسلم ‪« :‬أتُرون‪ ،2‬هذه‬

‫طارحة ولدها يف النار؟» قلنا‪ :‬ال؛ وهي تقدر على أال تطرحه‪ ،3‬فقال‪« :‬اهلل أرحم بعباده من هذه بولدها»‪.4‬‬

‫فانتهز صلى اهلل عليه وسلم املناسبة القائمة بني يديه مع أصحابه واملشهود فيها حنان األم الفاقدة رضيعها إذ وجدته‪ ،‬وضرب‬

‫هبا املشاكلة واملشاهبة برمحة اهلل تعاىل‪ ،‬ليعرف الناس رمحة رب الناس بعباده‪.5‬‬

‫ب ـ من أخالق الصحابة رضي اهلل عنهم عند مساعهم للنيب صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬

‫حرص الصحابة رضي اهلل عنهم على االلتزام بآداب ومبادئ مهمة‪ ،‬كان هلا أعظم األثر يف حسن احلفظ‪ ،‬ومتام الضبط‪،‬‬

‫وقدرهتم على تبليغ دعوة اهلل للناس‪ ،‬ومن هذه اآلداب واألخالق‪:‬‬

‫‪ ‬ـ اإلنصات التام‪ ،‬وحسن االستماع‪:‬‬

‫فقد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أجلَّ يف نفوس الصحابة‪،‬وأعظم من أن يلغوا إذا حتدَّث‪ ،‬أو ينشغلوا عنه إذا تكلَّم‪ ،‬أو‬

‫يرفعوا أصواهتم حبضرته‪ ،‬وإنَّما كانوا يلقون إليه أمساعهم‪ ،‬ويشهدون عقوهلم‪ ،‬وقلوهبم‪ ،‬وحيفزون ذاكرهتم‪ ،‬فعن عليِّ بن أبي‬

‫طالب رضي اهلل عنه يف احلديث عن سريته صلى اهلل عليه وسلم يف جلسائه‪ ،‬قال‪ .. :‬وإذا تكلمَّ؛ أطرق جلساؤه كأمنا على‬

‫‪ 1‬تسقي‪ :‬تبتغي ولدًا ترضعه ألن ثديها قد امتأل‪.‬‬


‫‪ 2‬أترون‪ :‬أتظنون‪.‬‬
‫‪ 3‬أي‪ :‬ال تطرحه مادامت تقدر على حفظه معها ووقايته‪.‬‬
‫‪ 4‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.5999 :‬‬
‫‪ 5‬الرسول المعلم صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬عبد الفتاح أبو غدة‪ ،‬ص‪.160 :‬‬

‫‪212‬‬
‫رؤوسهم الطَّري‪ ،‬فإذا سكت‪ ،‬تكلَّموا‪ ،1‬قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ـ رمحه اهلل ـ‪ :‬وأصله‪ :‬أن الغراب يقع على رأس البعري‬

‫فيلقط منه القُراد‪ ،‬فال يتحرَّك البعري؛ لئال ينفر عنه الغراب ويبقى القراد يف رأس البعري فيؤمله‪ ،‬فقيل منه‪ :‬كأن على رؤوسهم‬

‫الطري‪.2‬‬

‫وأيَّا ما كان أصل املثل‪ ،‬فهو يدل على السُّكون التام واإلنصات الكامل‪ ،‬هيبة لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وتعظيماً له‪،‬‬

‫وإجالالً حلديثه‪.3‬‬

‫‪ 1‬الشمائل للترمذي رقم‪.352 :‬‬


‫‪ 2‬الرسول المعلم وأساليبه في التعليم‪ ،‬ص‪.30 :‬‬
‫‪ 3‬مناهج وآداب الصحابة‪ ،‬ص‪.77 :‬‬

‫‪213‬‬
‫‪ ‬ـ ترك التنازع وعدم مقاطعة املتحدث حتى يفرغ‪:‬‬

‫وهذا من متام األدب‪ ،‬املفضي إىل ارتياح مجيع اجلالسني وإقبال بعضهم على بعض واملعني على سهولة الفهم‪ ،‬والتعلم‪ ،‬ففي‬

‫حديث عليِّ بن أبي طالب رضي اهلل عنه السابق يف سريته صلى اهلل عليه وسلم يف جلسائه‪ ،‬قال‪ :‬ال يتنازعون عنه احلديث‪،‬‬

‫من تكلم عنده أنصتوا له حتىَّ يفرغ‪ ،‬حديثهم عنده حديث أوهلم‪ .‬أي‪ :‬أنّ من بدأ منهم احلديث والكالم‪ ،‬سكتوا حتى يفرغ أ ّوالً‬

‫من حديثه ومل يقاطعوه‪ ،‬أو ينازعوه‪ ،‬وبذلك يبقى اجمللس على وقاره‪ ،‬وهيبته‪ ،‬وال ختتلط فيه األصوات‪ ،‬وال حيصل أدنى‬

‫تشويش‪.1‬‬

‫‪ ‬ـ مراجعته صلى اهلل عليه وسلم فيما أشكل عليهم حتى يتبيَّن هلم‪:‬‬

‫فمع كمال هيبته لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وشدَّة تعظيمهم له‪ ،‬مل يكونوا يرتدّدون يف مراجعته صلى اهلل عليه وسلم‬

‫الستيضاح ما أشكل عليهم فهمه‪ ،‬حتى يسهل حفظه بعد ذلك‪ ،‬وال شك أن هذه املراجعة تعني على متام الفهم‪ ،‬وحضور‬

‫الوعي؛ فمن ذلك حديث حفصة رضي اهلل عنها قالت‪ :‬قال النيبُّ صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إنِّي ألرجو أال يدخل النار أحد إن‬

‫شاء اهلل ـ ممّن شهد بدراً‪ ،‬واحلديبية»‪ ،‬قالت‪ :‬قلت يا رسول اهلل أليس قد قال‪﴿:‬وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ َعلَى رَبِّكَ َحتْمًا‬

‫مَّقْضِيًّا﴾ (مريم‪ ،‬آية‪ )71 :‬قال‪« :‬أمل تسمعيه يقول»‪﴿:‬ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِنيَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ (مريم‪ ،‬آية‪.2)72 :‬‬

‫‪ 1‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص‪.87 :‬‬


‫‪ 2‬البخاري في األدب المفرد رقم‪.970 :‬‬

‫‪214‬‬
‫ومن ذلك حديث جابر بن عبد اهلل‪ ،‬عن عبد اهلل بن أنيس رضي اهلل عنهم‪ ،‬الذي رحل جابر إليه فيه قال أنيس‪ :‬مسعت رسول‬

‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪« :‬حيشر اهلل العباد» ـ أو قال‪« :‬الناس عراة غُرال‪ 1‬هبما»‪ .‬قال‪ :‬قلنا‪ :‬ما هبما؟ قال‪« :‬ليس معهم‬

‫شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه م ن بعد كما يسمعه من قرب‪ :‬أنا امللك‪ ،‬أنا الديان‪ ،‬ال ينبغي ألحد من أهل اجلنة أن يدخل اجلنة‬

‫وال ينبغي ألحد من أهل النار يدخل النار وعنده مظلمة‪ ،‬حتى أُقصه‪ 2‬منه حتى السَّلطمة»‪ ،‬قال‪ :‬قلنا‪ :‬كيف ذا‪ ،‬وإمنا نأتي اهلل‬

‫ت لَا ظُلْ َم‬


‫جزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَ ْ‬
‫غُرالً بُهما؟ قال‪« :‬باحلسنات والسيئات» قال‪ :‬وتال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪﴿ :‬الْ َيوْمَ تُ ْ‬

‫حسَابِ﴾ (غافر‪ ،‬آية‪.3)17 :‬‬


‫الْيَوْمَ إِنَّ اهللَ سَرِيعُ الْ ِ‬

‫وهكذا استفهم الصحابة عمّا خفي عليهم‪ ،‬واستوضحوا ما أشكل عليهم فهمه‪ ،‬وهذه املناقشة واملراجعة كان هلا أثر كبري يف‬

‫الفهم‪ ،‬والوعي‪ ،‬واحلفظ‪.4‬‬

‫‪ ‬ـ مذاكرة احلديث‪:‬‬

‫كان الصحابة ـ رضوان اهلل عليهم ـ إذا مسعوا شيئاً من النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ومحلوا عنه علماً‪ ،‬جلسوا فتذاكروه فيما‬

‫بينهم‪ ،‬وتراجعوه على ألسنتهم‪ ،‬تأكيداً حلفظه‪ ،‬وتقوية الستيعابه‪ ،‬وضبطه‪ ،‬والعمل به‪ ،‬فعن أنس بن مالك رضي اهلل عنه قال‪:‬‬

‫‪ 1‬غُرال‪ :‬جمع أغرل‪ ،‬وهو األقلف‪ ،‬الغُرلة‪ :‬القلفة‪.‬‬


‫‪2‬أقصاه‪ :‬أمكنه من أخذ القصاص ممان ظلمه‪.‬‬
‫‪ 3‬البخاري في األدب‪ ،‬الحديث رقم‪.970 :‬‬
‫‪ 4‬مناهج وآداب الصحابة‪ ،‬ص‪.80 :‬‬

‫‪215‬‬
‫كنَّا نكون عند النيب صلى اهلل عليه وسلم فنسمع منه احلديث‪ ،‬فإذا قمنا‪ ،‬تذاكرناه فيما بيننا‪ ،‬حتى وحفظه‪ ،1‬وقد بقي مبدأ‬

‫املذاكرة قائماً بني الصحابة حتى بعد وفاته صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فعن أبي نضرة املنذر بن مالك بن قطعة ـ رمحه اهلل ـ قال‪ :‬كان‬

‫أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا اجتمعوا‪ ،‬تذاكروا العلم وقرؤوا سوره‪.2‬‬

‫‪ ‬ـ السؤال بقصد العلم‪ ،‬والعمل‪:‬‬

‫كانت أسئلة الصحابة بقصد العلم‪ ،‬والعمل‪ ،‬ال للعبث واللعب فكانت أسئلتهم مشفوعة هبذا القصد‪ ،‬ملا علموا من كراهة النيب‬

‫صلى اهلل عليه وسلم للمسائل العبثية اليت ال حتتاج إليها‪ ،‬وملا مسعوا من حتذيره صلى اهلل عليه وسلم من كثرة السؤال‪ ،‬فعن سهل‬

‫بن سعد الساعدي رضي اهلل عنه قال‪ :‬كره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املسائل‪ ،‬وعاهبا‪.3‬‬

‫قال النووي‪ :‬املُراد‪ :‬كراهة املسائل اليت ال حتتاج إليها‪ ،‬السيما ما كان فيه هتك سرت مسلم‪ ،‬أو إشاعة فاحشة‪ ،‬أو شناعة على‬

‫مسلم‪ ،‬أو مسلمة‪ ،‬قال العلماء‪ :‬أمّا إذا كانت املسائل ممّا حيتاج إليه من أمور الدين‪ ،‬وقد وقع‪ ،‬فال كراهة فيها‪.4‬‬

‫‪ ‬ـ ترك التنطع وعدم السؤال عن املتشابه‪:‬‬

‫‪ 1‬أخرجه الخطيب في الجامع (‪ 363 /1‬ـ ‪.)364‬‬


‫‪ 2‬أخرجه الخطيب (‪ )86 /2‬رقم ‪.1229‬‬
‫‪ 3‬أخرجه أبو خيثمه بإسناد صحيح‪ ،‬كتاب العلم‪ ،‬الحديث رقم‪.77 :‬‬
‫‪ 4‬شرح النووي على مسلم (‪.)741 /3‬‬

‫‪216‬‬
‫فقد التزموا ـ رضوان اهلل عليهم ـ هبذا األدب‪ ،‬فلم يتكلَّفوا السؤال عمّا سكت عنه الشارع‪ ،‬حتى ال يؤدِّي السؤال عن ذلك إىل‬

‫إجياب ما مل يوجبه الشرع‪ ،‬أو حتريم ما مل حيرِّمه فيكون السُّؤال قد أفضى إىل التضييق على املسلمني‪ ،‬كما قال تعاىل‪﴿ :‬يَا َأيُّهَا‬

‫سأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن َتسْأَلُواْ َع ْنهَا حِنيَ ُينَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اهللُ عَنْهَا وَاهللُ غَفُورٌ َحلِيمٌ *‬
‫الَّذِينَ آمَنُواْ الَ تَ ْ‬

‫قَدْ سَألَهَا قَ ْومٌ مِّن قَبْ ِلكُمْ ثُمَّ أَصْ َبحُواْ بِهَا كَافِرِينَ﴾ (املائدة‪ ،‬آية‪ 101 :‬ـ ‪.)102‬‬

‫وحذَّر الرَّسول صلى اهلل عليه وسلم من مثل ذلك‪ ،‬فعن سعد بن أبي وقاص رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬

‫وسلم‪« :‬إن أعظم املسلمني جُرْما من سأل عن شيء مل حيرم فحُرِّم من أجل مسألته»‪.1‬‬

‫‪ ‬ـ اغتنام خلوة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ومراعاة وقت سؤاله‪:‬‬

‫كان الصحابة رضي اهلل عنهم يراعون الوقت املناسب‪ ،‬للسُّؤال ومن ذلك اغتنام ساعة خلوته صلى اهلل عليه وسلم حتى ال‬

‫يكون يف السؤال إثقالٌ‪ ،‬أو إرهاق أو وحو ذلك‪ ،‬فعن أبي موسى األشعري رضي اهلل عنه قال‪ :‬كان النيب صلى اهلل عليه وسلم إذا‬

‫صلَّى الفجر‪ ،‬اوحرفنا إليه‪ ،‬فمنا من يسأله عن القرآن ومنا من يسأله عن الفرائض‪ ،‬ومنا من يسأله عن الرُّؤيا‪.2‬‬

‫‪ ‬ـ مراعاة أحواله وعدم اإلحلاح عليه بالسؤال‪:‬‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪ ،7289 :‬وأخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.2358 :‬‬
‫‪ 2‬مجمع الزوائد (‪.)159 /1‬‬

‫‪217‬‬
‫وخباصة؛ بعد أن نُهُوا عن السُّؤال؛ ولذلك كانوا يدفعون األعراب لسؤاله صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ويتحيَّنون‪،‬وينتظرون جميء‬

‫العقالء منهم‪ ،‬ليسألوا رسول ا هلل صلى اهلل عليه وسلم وهم يسمعون‪ ،‬فعن أنس بن مالك رضي اهلل عنه قال‪ :‬نُهينا أن نسأل‬

‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن شيء‪ ،‬فكان يعجبنا أن جييء الرّجل من أهل البادية العاقل‪ ،‬فيسأله‪ :‬ووحن نسمع‪ ،‬فجاء‬

‫رجل من أهل البادية‪ ،‬فقال‪ :‬يا حممد أتانا رسولك‪ ،‬فزعم لنا أنك تزعم‪ :‬أن اهلل أرسلك قال‪«:‬صدق»‪.1‬‬

‫وهكذا استمر البناء الرتبوي يف اجملتمع اجلديد من خالل املواقف العمليّة الواضحة منسجماً مع غرس فريضة التعلم والتعليم بني‬

‫أفراد اجملتمع املسلم‪ ،‬فكانت تلك التوجيهات تساهم يف إعداد الفرد املسلم‪ ،‬واألمة املسلمة والدولة املسلمة اليت أسَّسها رسول‬

‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهذا جزء من كل وغيض من فيض وتذكري وتنبيه ألمهية استمرار البناء الرتبوي والعلمي يف الشعوب‬

‫حتى بعد قيام الدولة وطبيعة اإلسالم‪ ،‬يستفيد من كل جديد نافع وينسجم من تطور حركة احلياة يف كل نواحيها‪.‬‬

‫التعليم يف الدولة احلديثة ذات املرجعية اإلسالمية‪:‬‬

‫‪1‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.92 :‬‬

‫‪218‬‬
‫على الدولة احلديثة أن تتبنى خطة أ سرتاتيجية وطنية شاملة جلميع اجلهات ذات الصلة بالعملية التعليمية والرتبوية‪ ،‬والعمل‬

‫على تنفيذها من خالل منهج علمي متكامل‪ ،‬للنهضة العلمية يف مجيع مراحل التعليم والتدريب‪ ،‬وتعزيز اجلودة والكفاءة‪،‬‬

‫واملساواة من خالل مؤسسات تتمتع باالستقاللية‪ ،‬تتميز بالتنوع واالختيار وختضع للمساءلة‪.‬‬

‫ــ وأن يعمم التعليم األساسي وإعطاء أولوية للمناطق والفئات احملرومة‪.‬‬

‫ــ وأن يطور التعليم العام ليليب حاجات الفرد واجملتمع يف كافة اجملاالت‪.‬‬

‫ــ تنمية االجتاهات العلمية لدى األطفال مثل اإلبداع وروح النقد واملوضوعية وإكساهبم قدرات ومهارات تالئم منوهم الفكري‬

‫واجلسدي وتتصل ببيئتهم املباشرة‪.‬‬

‫ــ إعادة التوازن للمناطق النائية واحملرومة والبعيدة عن املدن الرئيسية وذلك من خالل تدعيمها ببناء املدارس واجلامعات هبا‪،‬‬

‫وإمدادها بالكوادر البشرية املدربة واملؤهلة للنهوض تعليمياً بأبنائها‪.‬‬

‫ــ تبين سياسة واضحة تكفل االهتمام بالعنصر البشري يف العملية التعليمية يف الدولة من حيث حسن اختيار وتدريب وتأهيل‬

‫املعلمني وأساتذة اجلامعات‪ ،‬والعاملني يف احلقل التعليمي‪ ،‬ورعايتهم صحي ًا ومادياً‪ ،‬وذلك سعي ًا وراء خلق جيل جديد من‬

‫القيادات التعليمية تؤمن باحلرية والعدل واملساواة‪.‬‬

‫ــ دمج تقنية املعلومات واالتصاالت يف العمليات التعليمية واإلدارية والتطويرية‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫ــ التواصل وزيادة الوعي بفوائد التعليم والتعليم التقين والتدريب املهين‪.‬‬

‫ــ قاعدة بيانات شاملة للتعليم‪ ،‬والتدريب‪ ،‬وأدلة التقييم واملؤثرات التوجيهية‪.‬‬

‫ــ دعم الطلبة لبذل أقصى طاقتهم‪ ،‬وإمكانياهتم‪ ،‬وحتسني مهاراهتم يف اللغات‪ ،‬والعلوم والرياضيات يف مجيع مراحل التعليم‪.‬‬

‫ــ تطوير وجتويد التعليم باملدارس اخلاصة‪ ،‬ووضع نظام لالعتماد الوطين يف الدولة‪.‬‬

‫ــ توفري خيارات تعليمية مالئمة للطلبة ذوي االحتياجات اخلاصة‪.‬‬

‫ــ تعزيز املشاركة اجملتمعية وزيادة مسامهة كافة قطاعات اجملتمع يف التعليم العام‪.‬‬

‫ــ توفري بدائل متنوعة من برامج التعليم األساسي للكبار‪.‬‬

‫ــ إعداد املواطنني للعمل يف االقتصاد املعريف‪.‬‬

‫ــ إطار تنظيمي مطور للمواءمة بني التعليم التقين‪ ،‬والتدريب املهين من قطاع التعليم والتدريب واحتياجات سوق العمل‪.‬‬

‫ــ زيادة اإلنفاق على التعليم والبحث العلمي‪.‬‬

‫ــ تعديل جدول أجور كافة العاملني بقطاعي التعليم العام واملايل‪ ،‬مع منح ميزات إضافية للعاملني منهم باملناطق النائية‪ ،‬وزيادة‬

‫االعتماد على الكوادر الوطنية للعمل يف حقل التعليم‪.‬‬

‫ــ تكفل الدولة جمانية التعليم يف مجيع مراحله‪ ،‬وإلزاميته حتى املرحلة اإلعدادية على األقل‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫ــ دعم ورعاية املراكز العلمية والبحثية املتخصصة‪ ،‬وزيادة خمصصاهتا من قبل الدولة‪ ،‬واحلفاظ على استقالليتها‪.‬‬

‫ــ وضع آلية ومنهج يكفل التواصل بني املواطنني املقيمني يف اخلارج من العلماء واألكادمييني يف شتى اجملاالت واالستفادة من‬

‫خرياهتم‪ ،‬ونقل الناجح من جتارب الدول اليت يعملون هبا إىل داخل الوطن بغية االستفادة مما ميكن تطبيقه منها‪.‬‬

‫ــ تبين نظام تعليمي يربح عقيدة التوحيد ومبادئ احلرية والعدالة واملساواة وينشر ثقافة قبول اآلخر‪ ،‬ويدعو للحوار‪ ،‬ويؤمن‬

‫بالعمل اجلماعي‪ ،‬وروح الفريق‪ ،‬واملبادرة‪ ،‬واإلجيابية‪ ،‬ويرعى القيم واألخالق والتقاليد الصاحلة والثوابت‪.‬‬

‫ــ متابعة كل ما يستجد يف النظم التعليمية النافعة وتوفريها مبا يرقى إىل مستوى األنظمة التعليمية العاملية املتميزة ويكفل الربط بني‬

‫نتائج التعليم واالحتياجات احلالية واملستقبلية لسوق العمل‪.‬‬

‫ــ وضع منهج متكامل للنهوض بتعليم النساء يف الشرائح العمرية املتقدمة األمر الذي سيساهم ال حمالة يف إعداد أمهات متعلمات‬

‫وواعيات يعملن على حتسني أوضاع األسرة كعنصر مؤثر يف التكوين االجتماعي واالهتمام مبواكبة املرأة للتعليم والرتبية مثل‬

‫الرجل‪.‬‬

‫‪ 10‬ـ القانون والسلطة القضائية‪:‬‬

‫‪221‬‬
‫كانت دولة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حتكمها قوانني وتشريعات مستمده من كتاب اهلل وتعاليمه صلى اهلل عليه وسلم‬

‫وطبيعة القانون اإلسالمي أنه ليس هناك شعبة من شعب احلياة إال للشريعة حكم تأخذ فيها بيدنا وتضمن لنا فيها اهلداية‬

‫والتوجيه وتواكب التغري والرقي والنماء إىل أبد الدهر وتليب القوانني املستمدة من الشريعة احلاجات واملطالب املدنية‬

‫املتصاعدة يف كل عصر ويف كل مصر‪.‬‬

‫ومن القوانني ما هي قطعية ال يقبل التغيري منها‪:‬‬

‫ــ األحكام الصرحية القطعية الواردة يف القرآن واحلديث الثابتة كحرمة اخلمر‪ ،‬والربا‪ ،‬وامليسر وحدود السرقة والزنا والقذف‬

‫وأنصبة الوراثة من تركة امليت‪.‬‬

‫ــ القواعد العامة الواردة يف القرآن واألحاديث الثابتة كحرمة كل مسكر‪ ،‬وحرمة كل بيع ال يتم فيه تبادل املنفعة بني اجلانبني على‬

‫تراضٍ منهما‪ ،‬وقوامية الرجال على النساء‪.‬‬

‫ــ األحكام املقررة يف القرآن والسنة لنجد هبا حريتنا يف األعمال وال نتجاوزها‪ ،‬كحد أربع نساء لتعدد الزوجات‪ ،‬وحد ثالث‬

‫مرات للطالق‪ ،‬وحد ثلث املال للوصية‪.‬‬

‫فهذا اجلزء القطعي غري القابل للتغيري هي من أجزاء قانون اإلسالم‪ ،‬وهو الذي يعني يف حقيقة األمر حدود مدنية اإلسالم‬

‫وصورهتا املمتازة املخصوصة ومن احملال أن يشار إىل مدينة اإلسالم وصورهتا املمتازة املخصوصة ومن احملال أن يشار إىل‬

‫‪222‬‬
‫مدنية يف الدنيا تستطيع البقاء واحملافظة على ذاتيتها ومقوماهتا واستقالهلا بدون أن يكون فيها عنصر ال يقبل التزحزح والتغيري‬

‫وكل مدنية ليس فيها عنصر كهذا وكل شيء فيها قابل للنسخ والتغيري والتعديل‪ ،‬فما هي مبدنية مستقلة أص ًال وإمنا هي مادة‬

‫مذابة ميكن يف كل وقت أن تفرغ يف كل قالب وتشكل بشكله‪.1‬‬

‫ويل دراسة مستقبيلة بإذن اهلل تعاىل موسعة عن دولة القانون يف اإلسالم وفق مشروع فكري هنضوي‪ ،‬يتحدث عن الدستور‬

‫واملواطنة‪ ،‬واملساواة واحلريات‪ ،‬وحقوق اإلنسان ‪...‬اخل‬

‫إن غاية التشريع اإلسالمي هي إسعاد الناس وإصالحهم وتيسري أمرهم يف رفع احلرج عنهم‪.‬‬

‫هلل يُرِي ُد أَن يَتُوبَ عَ َليْكُ ْم‬


‫ــ قال تعاىل‪ ﴿ :‬يُرِيدُ اللّهُ لِيُ َبيِّنَ لَ ُكمْ ويَهْ ِديَكُمْ سُنَنَ الَّ ِذينَ مِن َقبْلِكُ ْم ويَتُوبَ عَ َليْكُمْ وَاهللُ َعلِيمٌ حَكِيمٌ * وَا ُ‬

‫ف عَنكُمْ َوخُلِقَ اإلِنسَا ُن ضَعِيفًا﴾ (النساء‪ ،‬آية‪ 26 :‬ـ‬


‫وَيُرِيدُ الَّ ِذينَ يَتَّ ِبعُونَ الشَّ َهوَاتِ أَن تَمِيلُو ْا َميْ ًال عَظِيمًا * يُرِيدُ اهللُ أَن يُخَفِّ َ‬

‫‪.)28‬‬

‫إذن فإصالح دنيا الناس أساس وتطبيق أحكام احلدود والقصاص وغريه واإلجراءات الوقائية إمنا هو حمافظة على ذلك‬

‫اإلصالح‪ ،‬حتى ال يعكر صفوه بفتنة حمارب عدواني أو شهواني زانٍ‪ ،‬أو لص سارق‪ ،‬وملحد مارق‪ .‬إن من أهداف التشريعات‬

‫والقوانني إنزال منهج اإلسالم يف دنيا الناس والذي يدور حول مصاحل ثالث‪:‬‬

‫‪ 1‬نظرية اإلسالم وهديه‪ ،‬أبو األعلى المودودي‪ ،‬ص‪.148 :‬‬

‫‪223‬‬
‫‪ ‬ـ درء املفاسد املعروف عند أهل األصول بالضروريات‪.‬‬

‫‪ ‬ـ جلب املصاحل املعروف عندهم باحلاجيات‪.‬‬

‫‪ ‬ـ اجلري على مكارم األخالق‪ ،‬وحماسن العادات‪.‬‬

‫املعروف عند األصوليني بالتحسينات والتتميمات‪ ،1‬وبإقامة التشريعات الربانية والقوانني املستمدة من الشريعة اإلسالمية‬

‫تتحقق هذه املصاحل وبالتايل تصلح أحوال الدنيا وتستقيم على منهج اهلل‪ ،‬ومن ثم يكون ذلك صالحاً آلخرة الناس أيضاً‪.‬‬

‫وعلى وجه اإل مجال ميكننا تتبع مقاصد الشريعة يف احلكم اإلسالمي بإلقاء نظرة على تشريعاته اهلادفة وقوانينه النافعة لتحقيق‬

‫تلك الغايات السامية‪.‬‬

‫أ ـ درء املفاسد‪:‬‬

‫وهو املعرب عنه بالضروريات‪ ،‬واملراد به درؤها عن ستة أشياء‪:‬‬

‫‪ ‬ـ الدين‪:‬‬

‫جاءت أحكام الشرع حامسة يف درء أي مفسدة قد تلحق بالدين‪ ،‬فكان أن شرَّع اإلسالم اجلهاد ليدفع الفتنة وإعالء كلمة اهلل‪،‬‬

‫قال تعاىل‪﴿ :‬وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى الَ َتكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُو َن الدِّينُ لِلهِ﴾ (البقرة‪ ،‬آية‪.)193 :‬‬

‫‪ 1‬الموافقات للشاطبي (‪ 8 /2‬ـ ‪.)16‬‬

‫‪224‬‬
‫وقال تعاىل‪﴿ :‬وَقَا ِتلُوهُ ْم حَتَّى الَ َتكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُو َن الدِّينُ كُلُّهُ لِله﴾ (األنفال‪ ،‬آية‪.)39 :‬‬

‫فاألوىل يف قتال من بدأ املسلمني بالظلم‪ ،‬والثانية استغرقت كل فتنة وكل كفر من كافر‪ ،‬فالقتال فيها حماربة للكفر الذي يعترب أكرب‬

‫هتديد للدين‪.1‬‬

‫وقد روى أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قوله‪« :‬أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ال إله إال‬

‫اهلل‪ ،‬فمن قال‪ :‬ال إله إال اهلل فقد عصم مين ماله ونفسه إال حبقه وحسابه على اهلل» وقال أبو بكر‪ :‬واهلل ألقاتلن من فرَّق بني‬

‫الصالة والزكاة فإن الزكاة حق املال واهلل لو منعوني عقا ًال كانوا يؤدونه إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألقاتلنهم على منعه‪،2‬‬

‫وهو قتال من أجل نشر الدعوة للدين وقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من بدَّل دينه فاقتلوه»‪ ،3‬وهو من أجل حفظ الدين من عبث‬

‫املرتدين‪.‬‬

‫‪ ‬ـ النفس‪:‬‬

‫جاءت الشريعة بأحكام القصاص للمحافظة على النفس ودرء املفاسد الناشئة عن شيوع القتل‪ ،‬وسفك الدماء احملرمة‪ ،‬كما‬

‫ص فِي الْقَتْلَى﴾(البقرة‪ ،‬آية‪.)178 :‬‬


‫قال تعاىل‪﴿ :‬يَا أَ ُّيهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُ ِتبَ َعلَيْكُمُ الْقِصَا ُ‬

‫‪ 1‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي‪.‬‬


‫‪ 2‬أخرجه مسلم‪ ،‬ك اإليمان‪ ،‬الحديث رقم‪.32 :‬‬
‫‪ 3‬أخرجه البخاري (الفتح ‪.)137 /6‬‬

‫‪225‬‬
‫ــ وقال تعاىل‪﴿ :‬ولَكُمْ فِي الْقِصَاصِ َحيَاةٌ َياْ أُولِيْ األَلْبَابِ لَ َعلَّكُمْ تَ َّتقُونَ﴾ (البقرة‪ ،‬آية‪.)179 :‬‬

‫ــ وقال تعاىل‪﴿ :‬وَمَن قُتِ َل مَ ْظلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُ ْلطَانًا َفالَ ُيسْرِف فِّي الْقَتْلِ﴾ (اإلسراء‪ ،‬آية‪.)33 :‬‬

‫‪ ‬ـ العقل‪:‬‬

‫وقد جاءت األحكام الشرعية باحملافظة على العقل الذي ميَّز اهلل به اإلنسان وكرمه‪ ،‬فحرمت اخلمر اليت تذهب بالعقل وتغيبه‪،‬‬

‫قال تعاىل‪﴿ :‬يَا أَ ُّيهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِ َّنمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَاألَنصَابُ وَاألَزْالَمُ ِرجْسٌ ِّمنْ عَمَلِ الشَّ ْيطَا ِن فَاجْتَ ِنبُوهُ لَ َعلَّكُمْ تُفْلِحُو َن *‬

‫إِنَّمَا يُرِي ُد الشَّ ْيطَانُ أَن يُوقِعَ َبيْنَكُ ُم الْعَدَاوَةَ وَالْ َبغْضَاء فِي ا ْلخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ويَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اهللِ َو َعنِ الصَّالَةِ َفهَلْ أَنتُم مُّن َتهُونَ﴾‬

‫(املائدة‪ ،‬آية‪ 90 :‬ـ ‪.)91‬‬

‫وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬كل مسكر مخر وكل مخر حرام»‪.1‬‬

‫وشرع إقامة احلد على السكران‪ ،‬وحرم املخدرات واملقرتات اليت تؤثر على سالمة العقل‪.2‬‬

‫‪ ‬ـ النسب‪:‬‬

‫جاءت الشريعة لدفع كل مفسدة تلحق باألنساب فإىل جانب حتريم الزنا وإجياد احلد على الزناة املعلوم من قول اهلل تعاىل‪﴿ :‬وَ َال‬

‫تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيالً﴾ (اإلسراء‪ ،‬آية‪.)32 :‬‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.5585 :‬‬


‫‪ 2‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (‪.)467 /1‬‬

‫‪226‬‬
‫وقوله تعاىل‪﴿ :‬الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّ ْنهُمَا مِئَةَ َجلْدَةٍ﴾ (النور‪ ،‬آية‪ )2 :‬وإىل حد الرجم للمحصنني إىل جانب ذلك‬

‫أوجبت الشريعة العدة على النساء عند مفارقة األزواج بطالق أو موت‪ ،‬لئال خيتلط ماء الرجل مباء رجل آخر يف رحم املرأة‪،‬‬

‫قال تعاىل‪﴿ :‬وَالْمُ َطلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْ َن بِأَنفُسِهِنَّ ثَ َالثَةَ قُرُوَءٍ﴾ (البقرة‪ ،‬آية‪.)288 :‬‬

‫وقال‪﴿ :‬وَالَّذِينَ ُيتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَ َذرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ ِبأَنفُسِهِنَّ أَرْ َبعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾ (البقرة‪ ،‬آية‪.)234 :‬‬

‫وكذلك منعت الشريعة نكاح احلامل حتى تضع‪ ،‬حتى ال يسقى الرجل مبا غريه‪ ،‬فقال تعاىل‪﴿ :‬وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَ ُلهُنَّ أَن يَضَ ْع َن‬

‫حَمْلَهُنَّ﴾ (الطالق‪ ،‬آية‪.)4 :‬‬

‫وهذه األحكام كلها يؤول تنفيذها إىل القاضي املسلم يف الدولة املسلمة إضافة إىل مسؤولية الناس عن تبعاهتا يف اجملتمع‬

‫املسلم‪.‬‬

‫‪ ‬ـ العرض‪:‬‬

‫إن شريعة اإلسالم كفلت كل وسائل محاية العرض‪ ،‬فنهت املسلم عن أن يتكلم يف حق أخيه ألي مثن يؤذيه‪ ،‬وأوجبت حد القذف‬

‫مثانني جلدة على من يقذف‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬وَالَّذِي َن يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ ُشهَدَاء فَا ْج ِلدُوهُمْ ثَمَانِنيَ جَلْدَةً﴾ (النور‪،‬‬

‫آية‪.)4 :‬‬

‫‪227‬‬
‫وحرمت الشريعة الغيبة‪﴿ :‬وَلَا َي ْغتَب َّبعْضُكُم بَعْضًا﴾(احلجرات‪ ،‬آية‪.)12 :‬‬

‫وهنت عن اللمز والتنابز باأللقاب‪﴿ :‬وَلَا َتلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾ (احلجرات‪ ،‬آية‪.)11 :‬‬

‫ت ِبغَيْرِمَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَ َملُوا‬


‫ني وَالْ ُمؤْمِنَا ِ‬
‫وحرمت اللعن والسب وعموم األذى للمؤمنني‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬وَا َّلذِينَ يُ ْؤذُو َن الْمُؤْمِنِ َ‬

‫بُهْتَانًا وَ ِإثْمًا مُّبِينًا﴾ (األحزاب‪ ،‬آية‪.)58 :‬‬

‫‪ ‬ـ املال‪:‬‬

‫وجاءت الشريعة اإلسالمية حلفظ أموال الناس اليت هي قوام حياهتم وقد حرم اإلسالم كل وسيلة ألخذ املال بغري حق شرعي‪،‬‬

‫ال تَأْكُلُواْ أَ ْموَالَكُم َبيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾ (البقرة‪ ،‬آية‪.)188 :‬‬


‫فقال تعاىل‪﴿ :‬وَ َ‬

‫وحرَّم السرقة وأوجب احلد على من ثبتت عليه تلك اجلرمية‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَا ْقطَعُواْ أَيْ ِديَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا‬

‫نَكَاالً مِّ َن اهللِ وَاهللُ عَزِيزٌ َحكِيمٌ﴾ (املائدة‪ ،‬آية‪.)38 :‬‬

‫وكذلك حرم اإلسالم الربا الذي يهدد مصاحل األفراد واقتصاد الدول‪ ،‬فقال تعاىل‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو ْا َال تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا‬

‫مُّضَاعَفَةً﴾ (آل العمران‪ ،‬آية‪.)130 :‬‬

‫‪228‬‬
‫وحرم كذلك الغش واالحتكار والنهب واختالس والغلول وغري ذلك من أشكال االعتداء على املال‪ ،‬وكل ذلك داخل يف أكل‬

‫أموال الناس بالباطل املنهي عنه وبتوفر احلماية هلذه العناصر الستة‪ ،‬يقصد املنهج التشريعي اإلسالمي إىل إصالح حياة الناس‬

‫بدرء املفاسد عنها‪ ،‬وقد قدم اإلسالم درء املفاسد على جلب املصاحل رغم أن درءها هو يف حد ذاته مصلحة كربى؛ إذ‬

‫بذلك مينع الشر أوالً ‪ ،‬ثم يستجلب اخلري فهذا إصالح بالسلب وذلك باإلجياب وهو ما نعنيه من قولنا‪ :‬إن الدعوة إىل اهلل من‬

‫أهداف التمكني وذلك بإنزال منهج اإلسالم اإلصالحي يف دنيا الناس والذي بدوره حول مصاحل ثالث‪ :‬درء املفاسد‪ ،‬وجلب‬

‫املصاحل‪ ،‬واجلري على مكارم األخالق‪.‬‬

‫‪ ‬ـ جلب املصاحل‪ :‬املعروف باحلاجيات‪:‬‬

‫إن جلب املصاحل جماله واسع رحيب‪ ،‬فالشريعة فتحت أبواب احلالل على مصاريعها يف مجيع مناحي املعيشة وجعلت هذا‬

‫احلالل أسلوب احلياة‪ ،‬حترسه الدولة وتزيل العقبات من طريقه‪ ،‬فكل نوع من التكسب واإلنتاج والصناعة والفن والثقافة ال يدخل‬

‫يف حمرم إمنا هو من حقوق الناس‪ ،‬ليس ألحد أن حيرّمه عليهم أو حيرمهم منه قال تعاىل‪﴿ :‬لَيْسَ عَ َليْكُمْ ُجنَاحٌ أَن تَ ْبتَغُو ْا فَضْ ًال مِّن‬

‫رَّبِّكُمْ﴾ (البقرة‪ ،‬آية‪.)198 :‬‬

‫‪229‬‬
‫وقد جاء الشرع املطهر بإباحة املصاحل املتبادلة بني الفرد اجملتمع على الوجه املشروع؛ ليستجلب كل مصلحته من اآلخر‪،‬‬

‫كالبيوع واإلجارات واملساقاة واملضاربة وما جيري جمرى ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬ـ إحياء مكارم األخالق وحماسن العادات بني الناس‪:‬‬

‫إن الرسول صلى اهلل عليه وسلم الكريم عليه أفضل الصالة والسالم قال‪« :‬إمنا بعثت ألمتم صاحل األخالق»‪ ،1‬إن الدولة‬

‫اإلسالمية من واجبها أن هتيئ جواً تنشأ فيه مكارم األخالق‪ ،‬وحماسن األعمال من الطهر والعفاف والنقاء‪ ،‬حترسه شريعة‬

‫األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬وحتميه شعرية احلسبة‪ ،‬والدعوة إىل اهلل؛ لتكون أساساً للمعاملة بني الصغري والكبري‪ ،‬والغين‬

‫والفقري‪ ،‬والويل واملوىل والراعي‪ ،‬والرعية‪.‬‬

‫إن الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه الكرام قاموا باألمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬وتنفيذ احلدود‪ ،‬والدعوة إىل‬

‫مكارم األخالق‪ ،‬وتعليم األمة أمر دينها وترتب على ذلك فوائد ومصاحل عامة لألمة واألفراد واحلكام واحملكومني ومن أهم هذه‬

‫الفوائد‪:‬‬

‫‪ 1‬مسند أحمد (‪.)381 /2‬‬

‫‪230‬‬
‫ض لَّهُدِّ َمتْ‬
‫هلل النَّاسَ بَعْضَهُم ِببَعْ ٍ‬
‫ــ إقامة امللة والشريعة وحفظ العقيدة والدين لتكون كلمة اهلل هي العليا‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬ولَوْلَا دَفْعُ ا ِ‬

‫صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَ َلوَاتٌ وَ َمسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اهللِ كَثِريًا﴾(احلج‪ ،‬آية‪.)40 :‬‬

‫إن اإلنسان البد له من أمر وهني ودعوة‪ ،‬فمن مل يأمر باخلري ويدعو إليه أمر بالشر‪.1‬‬

‫ــ رفع العقوبات العامة‪:‬‬

‫سبَتْ َأيْدِيكُمْ﴾ (الشورى‪ ،‬آية‪ )30 :‬وقال أيضاً يف اجلواب عن سبب مصاهبم يوم‬
‫قال تعاىل‪﴿ :‬وَمَا أَصَابَكُم مِّن ُّمصِيبَةٍ فَبِمَا كَ َ‬

‫أحد ﴿قُلْ ُهوَ مِ ْن عِن ِد أَنْفُسِكُمْ﴾ (آل عمران‪ ،‬آية‪.)165 :‬‬

‫فالكفر واملعاصي بأنواعها سبب للمصائب واملهالك قال تعاىل‪﴿ :‬فَلَوْالَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَ ْب ِلكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَا ِد‬

‫فِي األَرْضِ ِإالَّ قَلِي ًال مِّمَّنْ أَجنَ ْينَا ِم ْنهُمْ وَاتَّبَعَ الَّ ِذينَ َظلَمُواْ مَا أُتْرِفُو ْا فِي ِه وَكَانُواْ مُجْرِ ِمنيَ﴾ (هود‪ ،‬آية‪.)116 :‬‬

‫وهذه إشارة تكشف عن سنة من سنن اهلل يف األمم‪ ،‬فإن األمة اليت يقع فيها الظلم والفساد فيجدان من ينهض لدفعهما هي أمم‬

‫ناجية ال يأخذها اهلل بالعذاب والتدمري‪ ،‬فأما األمم اليت يظلم فيها الظاملون‪ ،‬ويفسد فيها املفسدون‪ ،‬فال ينهض من يدفع الظلم‬

‫والفساد‪ ،‬أو يكون فيها من يستنكر ذلك‪ ،‬ولكنه ال يبلغ أن يؤثر يف الواقع الفاسد فهي أمم مهددة بالدمار واهلالك كما هي سنة‬

‫اهلل تعاىل ـ يف خلقه‪ ،‬وهبذا تعلم أن دعاة اإلصالح املناهضون للطغيان والظلم والفساد هم صمام األمان لألمم والشعوب‪ ،‬وهذا‬

‫‪ 1‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد السبت‪ ،‬ص‪.72 :‬‬

‫‪231‬‬
‫يربز قيمة كفاح املكافحني للخري والصالح الواقفني للظلم والفساد‪ ،‬إهنم ال يؤدون واجبهم لرهبم‪ ،‬ولدينهم فحسب‪ ،‬إمنا هم‬

‫حياولون هبذا دون أممهم وغضب اهلل واستحقاق النكال والضياع‪.1‬‬

‫ــ استنزال الرمحة من اهلل تعاىل‪ ،‬ألن الطاعة واملعروف سبب للنعمة‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬وَإِذْ تَ َأذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُ ْم ألَزِيدَنَّكُمْ﴾‬

‫(إبراهيم‪ ،‬آية‪ )7 :‬والقيام باألمر باملعروف والنهي عن املنكر نوع من أنواع العبودية‪.‬‬

‫ــ شدة ظهر املؤمن وتقويته ورفع عزميته وإرغام أنف املنافق؛ فإن املؤمن يقوى ويعتز حينما ينتشر اخلري والصالح ويُوحد اهلل ال‬

‫يشرك به وتضمحل املنكرات على إثر ذلك بينما خينس املنافق بذلك ويكون ذلك سبباً لغمه وضيق صدره وحسرته‪ ،‬ألنه ال‬

‫حيب ظهور هذا األمر وال ذيوعه بني اخللق‪.2‬‬

‫قال الثوري‪ :‬إذا أمرت باملعروف شددت ظهر املؤمن وإذا هنيت عن املنكر رغمت ألف املنافق‪.3‬‬

‫ــ حتقيق وصف اخلريية يف هذه األمة‪ ،‬قال تعاىل‪﴿ :‬كُنتُمْ َخيْ َر أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِا ْلمَعْرُوفِ وَتَ ْنهَوْنَ عَ ِن الْمُنكَرِ‬

‫وَتُؤْ ِمنُونَ﴾ (آل عمران‪ ،‬آية‪ ،) 110 :‬قال عمر رضي اهلل عنه يف تفسري هذه اآلية‪ :‬من سره أن يكون من هذه األمة فليؤدِّ شرط‬

‫فيها‪.4‬‬

‫‪ 1‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬خالد السبت‪ ،‬ص‪.72 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.77 :‬‬
‫‪ 3‬فقه النصر والتمكين‪ ،‬ص‪.489 :‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.489 :‬‬

‫‪232‬‬
‫ــ التجايف عن صفات املنافقني‪ :‬إن من اختص صفات املؤمنني القيام هبذا باألمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬قال تعاىل‪:‬‬

‫﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُ ْؤمِنَاتُ َبعْضُهُمْ َأوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ ِبالْمَعْرُوفِ و َي ْنهَوْنَ عَ ِن الْمُنكَرِ َويُقِيمُونَ الصَّالَ َة﴾ (التوبة‪ ،‬آية‪.1)71 :‬‬

‫‪ ‬ـ مرونة القوانني‪:‬‬

‫مع التشريعات القطعية غري القابلة للتغيري والتعديل يف ما يتعلق حبفظ الدين والنفوس‪ ،‬واألعراض والعقول واألموال وغري ذلك من‬

‫الثوابت‪ ،‬فهناك بعد آخر يف قانون الدولة يرحب بالتغري والرقي يف كل حاالت الزمان املتطورة وهو يشمل عدة أنواع‪.‬‬

‫ــ تعبري األحكام أو تأويلها أو تفسريها‪ :‬هو احملاولة لفهم ألفاظ جاء هبا حكم من أحكام الشريعة وحتديد معناها وغايتها وهو‬

‫باب واسع جداً يف الفقه اإلسالمي فالذين هلم عقول ثاقبة وقلوب واعية وعيون نافذة إذا ما يتدبرون الكتاب والسنة‪ ،‬جيدون‬

‫أمامهم جماالً واسعاً للتغيريات املختلفة حتى يف أحكامها القطعية الصرحية‪ ،‬فكل منهم يرجح ـ على حسب فهمه وبصريته ـ‬

‫‪ 1‬فقه النصر والتمكين‪ ،‬ص‪.489 :‬‬

‫‪233‬‬
‫تعبري ًا من هذه التعبريات على غريه حمتاج ًا بالدالئل والقرائن‪ ،‬وهذا االختالف يف تعبري األحكام ما زال له وجود بني أصحاب‬

‫الفقه والعلم من األمة منذ أول أمرها والبدّ له أن يبقى مفتوحاً يف املستقبل أيض ًا‪.‬‬

‫ــ القياس‪ :‬وهو تطبيق حكم ثبت من الشارع يف قضية على قضية أخرى متاثلها‪ ،‬أي بقياسها عليها‪.‬‬

‫ــ االجتهاد‪ :‬وهو فهم قواعد الشريعة وأصوهلا العامة‪ ،‬وتطبيقها يف قضايا جديدة ال توجد هلا النظائر واألشباه يف الشريعة‪.‬‬

‫ــ االستحسان‪ :‬وهو وضع ضوابط وقوانني جديدة يف دائرة املباحث غري احملدودة على حسب احلاجات حبيث تتفق إىل أكرب‬

‫درجة مع روح نظام اإلسالم الشامل‪.‬‬

‫فهذه األمور إذا تدبرمت ما فيها من اإلمكانات‪ ،‬فهي دليل بأن القانون اإلسالمي ال يضيق نطاقه يف حني من األحيان عن تلبية‬

‫حاجات التمدن اإلنساني املتزايدة املتجددة والوفاء مبطالب أحواله املتطورة‪.1‬‬

‫إن من الالزم لتفسري وتوضيح األحكام أن يكون املرء متمكناً من لغة الشريعة وأسرارها حميطاً باحلاالت اليت فرضت فيها‬

‫أحكامها متضلعاً من علم القرآن ومعرفة أسلوبه اخلاص يف البيان وأن تكون له نظرة واسعة يف ذخائر احلديث‪ ،‬فمن الالزم للقياس‬

‫أن يكون للمرء من احلس القانوني اللطيف ما يقدر معه عند قياس مسألة على أخرى أن يفهم وجوه املماثلة بينهما فهما تامان‬

‫وإال فإنه ال يكاد يسلم من اخلطأ يف تطبيق حكم إحدامها على األخرى ومن الالزم لالجتهاد أن تكون للمرء بصرية نافذة يف‬

‫‪ 1‬نظرية اإلسالم وهديه‪ ،‬ص‪.150 :‬‬

‫‪234‬‬
‫أحكام الشريعة وفهم جيد لشؤون احلياة من الوجهة اإلسالمية اخلالصة ومن الالزم لالستحسان أن يكون للمرء إملام تام بطبيعة‬

‫اإلسالم وروح نظامه حتى ال يقرتح يف دائرة املباحاث إال بقوانني وضوابط تصلح حبق لالنسجام يف جمموعة هذا النظام وفوق كل‬

‫هذه الكفاءات الفكرية والثقافية البدّ لكل من يتوىل هذا األمر اجلليل من شيء آخر يف احملال بدونه أن ينال القانون اإلسالمي‬

‫شيئاً من الرقي وال تقدم على اخلطوط الصحيحة هو أن يكون على جانب عظيم من عزمية اتباع اإلسالم واملسؤولية أمام اهلل‬

‫تبارك وتعاىل؛ وليس هذا األمر بالذي يصلح ليتواله أناس غافلون عن اهلل واآلخرة ال يطمحون بأبصارهم إال إىل األغراض‬

‫واملنافع الدنيوية ممن قد تركوا عظمة وروعة اإلسالم وأشربوا يف قلوهبم حب حضارة غري حضارته‪ ،‬ال ميكن حبال أن يرزق‬

‫اإلسالم شيئاً من الرقي والتقدم على أيدي أمثال هؤالء بل ال يكاد يرجى منهم إال تشويه وجهه وحتريف كلماته‪.1‬‬

‫والطريق إلدخال الدولة احلديثة للمرجعية اإلسالمية هو أن يعلن اجمللس التأسيسي يف تلك الدولة "أي الربملان"‪.‬‬

‫ــ أن الشريعة اإلسالمية مصدر مجيع القوانني يف الدولة‪.‬‬

‫ــ وأن كل قانون من قوانني تلك الدولة اجلارية يلغى ويبطل إن كان معارضاً للشريعة اإلسالمية‪ ،‬وأنه ال ينفذ يف البالد يف املستقبل‬

‫قانون يعارض الشريعة‪.‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫ومن خطوات املهمة اليت قام هبا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعد بيان مرجعية الدولة العليا أن زمام الدولة كان بأيدي يعرفون‬

‫اإلسالم ويريدون من أعماق قلوهبم ولذلك دخلوا يف نواحي احلياة بكل ما ميلكون من وسائل‪.‬‬

‫وإذا أردنا حلياتنا أن تسري على القوانني الربانية وختضع هلا البد أن ينتقل زمام أمر هذه الدول بطريق االنتخابات الربملانية‬

‫والرئاسية إىل أيدى رجال يعرفون اإلسالم ويؤمنون به ويتقربون إىل اهلل بذلك ويقيمون برسم هنج إلصالح خمتلف نواحي احلياة‬

‫االجتماعية إصالح ًا شام ًال ويستعينوا هلذا الغرض بكل ما للدولة من أسباب ووسائل فنغري نظام التعليم ونبذل قوى اإلعالم‬

‫وا لدعاية والنشر واخلطابة والفضائيات يف إصالح األفكار‪ ،‬وتطوير العقول‪ ،‬واألوضاع واملناهج االجتماعية واملدنية كلها‪،‬‬

‫وتطهري مصاحل احلكومة ودوائر الشرطة والسجن واحملاكم واجليش ومؤسسات الدولة من الفساد والرشاوي والعمل على البناء‬

‫الصحيح والسديد وفق فقه بناء الدول ا حلديثة الناجحة‪ ،‬باملعايري الربانية وال شك أن وسائل الدولة واجلهاز احلكومي وإدارته‬

‫إذ وقعت يف أيدي أمينة ذات خربة وكفاءة وقوة وأمانة قادرة على بناء دولة حديثة واالرتقاء بالشعب مع منظومة من القوانني‬

‫منظمة ومتزنة يف عقدين من الزمان ولكي تنفذ القوانني املستمدة من القرآن والسنة يف الناس يظهر دور القضاء يف ذلك‪.‬‬

‫والسلطة القضائية عند علماء القانون هي‪ :‬السلطة اليت يعهد إليها بتفسري القانون وتطبيقه على احلوادث املعينة وأعضاؤها هم‬

‫القضاة على اختالف درجاهتم‪.1‬‬

‫‪ 1‬األحكام الشرعية للنوازل السياسية‪ ،‬عطية عدالن‪ ،‬ص‪.136 :‬‬

‫‪236‬‬
‫ويراد بالسلطة القضائية يف اإلسالم‪ :‬اجلهة اليت متلك إصدار األحكام الشرعية وتبث يف القضايا املتنازع فيها على ضوء كتاب‬

‫اهلل وسنة رسوله صلى اهلل عليه وسلم وإمجاع علماء املسلمني والقياس الصحيح‪.1‬‬

‫ولقد وجدت السلطة القضائية يف الدولة اإلسالمية يف مجيع عصورها ففي عصر النبوة كانت يف يد النيب صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬

‫ض يف اإلسالم وكان قضاؤه ملزماً ‪ ،‬فهو إذا قضى يف حادثة كانت له صفتان‪ :‬صفة‬
‫وكان النيب صلى اهلل عليه وسلم أول قا ٍ‬

‫املشرع ‪ ..‬فبيَّن القاعدة القانونية الواجب تطبيقها يف احلادثة‪ ،‬ثم له أيضاً صفة القاضي اليت يقضي هبا يف املنازعات ويقضي هبا‬

‫اخلصومات‪.2‬‬

‫ومن أمثلة قضاء رسول اهلل ما يلي‪:‬‬

‫عن أبي هريرة وزيد بن خالد اجلهين رضي اهلل عنهما أهنما قاال‪ :‬إن رجالً من األعراب أتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬

‫فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬أنشدك اهلل إال قضيت يل بكتاب اهلل‪ ،‬فقال اخلصم اآلخر‪ ،‬وهو أفقه منه‪ :‬نعم‪ ،‬فاقض بيننا بكتاب اهلل وأذن‬

‫يل‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬قل»‪ ،‬قال‪ :‬إن إبين كان عسيف ًا‪ 3‬على هذا فزنى بامرأته وإني أخربت أنَّ على ابين‬

‫الرجم‪ ،‬فافتديت منه مبائة شاة ووليدة‪ ،‬فسألت أهل العلم فأخربوني أنَّما على ابين جلد مائة وتغريب عام‪ ،‬وأن على امرأة هذا‬

‫‪ 1‬األحكام الشرعية للنوازل السياسية‪ ،‬ص‪.136 :‬‬


‫‪ 2‬السياسة الدستورية للدولة اإلسالمية للنجار‪ ،‬ص‪.441 :‬‬
‫‪ 3‬عسيفاً‪ :‬أجير‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫الرجم‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬والذي نفسي بيده ألَقضني بينكما بكتاب اهلل‪ ،‬الوليدة والغنم ردُّ وعلى ابنك‬

‫جلد مائة وتغريب عام‪ ،‬اغد يا أنيس إىل امرأة هذا فإن اعرتفت فارمجها»‪ ،‬فقال‪ :‬فغدا عليها فاعرتفت فأمر هبا رسول اهلل‬

‫صلى اهلل عليه وسلم فرُمجت‪.1‬‬

‫وقد حكم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف قضايا عديدة متعلقة بالنفوس واألعراض واألموال والعقول ووفق القوانني الربانية‪،‬‬

‫وبيَّن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم للناس بأنه يق ضي بني الناس على حسب اجتهاده وما يظهر له باحلق‪ ،‬قال صلى اهلل عليه‬

‫وسلم‪« :‬إمنا أنا بشر‪ ،‬وإنكم ختتصمون إيل‪ ،‬ولعل بعضكم أن يكون أحلن حبجته من بعض؛ فأقضي على وحو ما أمسع‪ ،‬فمن‬

‫قضيت له من حق أخيه شيئاً فال يأخذه فإمنا أقطع له قطعة من النار»‪ .2‬ويستفاد من هذا احلديث أن النيب صلى اهلل عليه‬

‫وسلم كان يقضي باالجتهاد فيما مل ينزل عليه فيه شيء‪ ،3‬وذلك بوصفه قاضياً يدل على هذا أنه ذكر ذلك يف مقام إدالء اخلصوم‬

‫باحلجج وقوله‪« :‬ختتصمون‪ ،‬فأقضي»‪.4‬‬

‫وملا بعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم معاذاً إىل اليمن قال‪« :‬كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟»‪ ،‬قال‪ :‬أقضي مبا يف كتاب‬

‫اهلل‪ ،‬قال‪« :‬فإن مل يكن يف كتاب اهلل؟»‪ ،‬قال‪ :‬ف ِبسُنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬قال‪« :‬فإن مل يكن يف سنة رسول اهلل‬

‫‪ 1‬متفق عليه أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.2537 :‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.6748 :‬‬
‫‪ 3‬السلطة التقديرية للقاضي‪ ،‬د‪ .‬محمود بركات‪ ،‬ص‪.86 :‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.86 :‬‬

‫‪238‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم وال يف كتاب اهلل؟»‪ ،‬قال‪ :‬أجتهد رأيي وال آلو‪ ،‬فضرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم صدره وقال‪:‬‬

‫«احلمد هلل الذي وفق رسول رسول اهلل ملا يرضي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم»‪.1‬‬

‫وقوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إذا اجتهد احلاكم فأصاب فله أجران وإن اخطأ فله أجر»‪ ،2‬واحلديث صريح يف دعوة احلاكم إىل‬

‫االجتهاد وأن له أجراً حتى ولو أخطأ‪ ،3‬وليس معنى اخلطأ هنا أنه أخطأ ما كلف ولكن أنه أخطأ النص فلم يصيبه بعدما بذل‬

‫كبري جمهوده واالجتهاد ال يكون إال من العامل أهل االجتهاد‪.4‬‬

‫ومن تأمل القضايا اليت حكم فيها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تبني له أهنا كانت تسري على أسس ونظم قضائية غاية يف‬

‫العدالة والرشد والرقي منها‪:‬‬

‫ــ أن القضاء يكون بكتاب اهلل وبشريعة اهلل‪ ،‬وما وقع خمالفاً للشرع يرد‪.‬‬

‫ــ أن البينة على املدعي واليمني على املدعي عليه‪.‬‬

‫ــ أن املدعي إذا مل يكن معه بينة ليس له على املدعي عليه إال اليمني‪ ،‬أيًّا كانت أخالق املدعي عليه‪.‬‬

‫‪ 1‬سنن أبي داوود‪ ،‬الحديث رقم‪.3592 :‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.6919 :‬‬
‫‪ 3‬السلطة التقديرية‪ ،‬ص‪.88 :‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.88 :‬‬

‫‪239‬‬
‫ــ أن القاضي حيكم مبا توافر لديه من أدلة مادية حتى ولو خالفت ما يف ظنه أو علمه اخلاص‪.‬‬

‫ــ أن القاضي ال حيكم إال بعد استيفاء السماع من اخلصمني‪.‬‬

‫ــ احلد إذا مل يبلغ القاضي أو اإلمام جاز التعايف فيه وإسقاطه‪ ،‬أما إذا بلغ القاضي أواإلمام مل جيز إسقاطه وال الشفاعة فيه‪.‬‬

‫وقد كان القضاء يف عهد النيب صلى اهلل عليه وسلم ميضي على أسس دستورية ونظم شرعية‪ ،‬جعلته أصلح قضاء عرفته‬

‫البشرية‪.1‬‬

‫وعن عائ شة رضي اهلل عنها‪ :‬أن قريشاً أمههم شأن املرأة املخزومية اليت سرقت فقالوا‪ :‬ومن يكلم فيها رسول اهلل صلى اهلل‬

‫ب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فكلمه أسامة فقال رسول اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فقالوا‪ :‬ومن جيرتىء عليه إال أسامة بن زيد حِ ّ‬

‫صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أتشفع يف حد من حدود اهلل»‪ ،‬ثم قام فاختطب ثم قال‪« :‬إمنا أهلك الذين قبلكم أهنم كانوا إذا سرق‬

‫فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه احلد وأيمُ اهلل لو أن فاطمة بنت حممد سرقت لقطعت يدها»‪.2‬‬

‫كان نظام القضاء يف عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم واضحاً وافياً بالغرض‪ ،‬حمققاً حلاجات الناس‪ ،‬صاحلاً ألن يكون‬

‫أساساً لنظام قضائي من الطراز األول ألدق األنظمة وأرقها‪.3‬‬

‫‪ 1‬األحكام الشرعية للنوازل السياسية‪ ،‬ص‪.139 :‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪ 3241 :‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪ 3‬األحكام الشرعية للنوازل السياسية‪ ،‬ص‪.143 :‬‬

‫‪240‬‬
‫وملا توفى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم انتقلت مسؤولية القضاء بعده إىل اخللفاء والصحابة رضوان اهلل عليهم‪ ،‬ولقد كانت‬

‫السلطة القضائية والسلطة التنفيذية متحدتان يف عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬

‫هو الذي يباشر السلطتني‪ ،‬وكذلك والته يف األمصار‪ ،‬كعلي يف اليمن وعتاب يف مكة وكذلك كانت يف عهد أبي بكر وصدراً من‬

‫خالفة عمر؛ ثم ملا اتسعت املسؤوليات يف عهد عمر فصل القضاء عن السلطة التنفيذية‪ ،‬فكان عمر يرسل إىل املصر من‬

‫األمصار اثنني أحدمها والياً واآلخر قاضي ًا‪.1‬‬

‫وأصبح يف عهده مبدأ فصل القضاء عن غريه من السلطات واضحاً يف حياة الناس‪ ،‬ومل يكن استقالل والية القضاء مانعاً لعمر‬

‫رضي اهلل عنه من أن يفصل يف بعض القضايا‪ ،‬ورمبا ترك بعض والته ميارسون القضاء مع السلطة التنفيذية ويراسلهم يف الشؤون‬

‫القضائية‪ ، 2‬ووضع الفاروق دستوراً قومياً يف نظام القضاء والتقاضي‪ ،‬وقد اهتم كثري من أعالم الفقه اإلسالمي شرح هذا‬

‫الدستور والتعليق عليه‪ ،‬وجند الدستور العمري يف القضاء يف رسالته ألبي موسى األشعري وهذا نص الرسالة‪ :‬بسم اهلل الرمحن‬

‫الرحيم من عمر بن اخلطاب أمري املؤمنني إىل عبد اهلل بن قيس‪ ،‬سالم عليك‪ ،‬أما بعد‪ ،‬فإن القضاء فريضة حمكمة‪ ،‬وسنة متبعة‪،‬‬

‫فافهم إذا أديل إليك‪ ،‬فإنه ال ينفع تلكم حبق ال نفاذ له‪ ،‬آس بني الناس يف جملسك ويف وجهك وقضائك؛ حتى ال يطمع شريف يف‬

‫‪...................... 1‬‬
‫‪ 2‬عمر بن الخطاب للصَّالَّبي‪ ،‬ص‪.271 :‬‬

‫‪241‬‬
‫حيفك‪ 1‬وال ييأس ضعيف من عدلك‪ ،‬البينة على املدعي‪ ،‬واليمني على من أنكر‪ ،‬والصلح جائز بني املسلمني إال صلحاً أحل‬

‫حراماً أو حرم حالالً‪ ،‬ومن ادعى حقًّ ا غائباً أو بينة فاضرب له أمداً ينتهى إليه‪ ،‬فإن بينه أعطيته حبقه وإن أعجزه ذلك‬

‫أستحللت‪ 2‬عليه القضية فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه احلق‪ ،‬فإن احلق قديم ال يبطله شيء‬

‫ومراجعة احلق خري من التمادي يف الباطل‪ ،‬واملسلمون عدول‪ 3‬بعضهم على بعض إىل جمرباً عليه شهادة زور أو جملود ًا يف حد أو‬

‫ظنين ًا يف والء أو قرابة‪ ،‬فإن اهلل تعاىل توىل من العباد السرائر وسرت عليهم احلدود إال بالبينات واألميان‪ ،‬ثم الفهم الفهم فيما أديل‬

‫إليك مما ورد عليك مما ليس يف قرآن وال سنة‪ ،‬ثم فيها قايس األمور عند ذلك واعرف األمثال‪ ،‬ثم اعمد ترى إىل أحبها إىل اهلل‬

‫وأشبهها باحلق‪ ،‬وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند اخلصوم فإن القضاء يف مواطن احلق مما يوجب اهلل‬

‫به األجر‪ ،‬وحيسن به الذكر‪ ،‬فمن خلصت نيته يف احلق ولو على نفسه كفاه اهلل ما بينه وبني الناس‪ ،‬ومن تزين مبا ليس يف نفسه‬

‫شانه اهلل‪ ،‬فإن اهلل ال يقبل من العباد إال ما كان خالصاً‪ ،‬فما ظنك بثواب عند اهلل يف عاجل رزقه وخزائن رمحته‪ ،‬والسالم عيك‬

‫ورمحة اهلل‪.4‬‬

‫قال ابن القيم‪ :‬وهذا كتاب جليل‪ ،‬تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول احلكم‪.5‬‬

‫‪ 1‬حيفك‪ :‬ظلمك‪.‬‬
‫‪ 2‬استحللت‪ :‬سأله أن يجعله له‪.‬‬
‫‪ 3‬عدول‪ :‬جمع عدل وهو المثل والنظير‪.‬‬
‫‪ 4‬إعالم الموقعين البن القيم (‪.)85 /1‬‬
‫‪ 5‬المصدر نفسه (‪.)86/1‬‬

‫‪242‬‬
‫وقد مجعت هذه الرسالة آداب القاضي وأصول احملاكمة‪ ،‬وقد شغلت العلماء بشرحها والتعليق عليها هذه القرون الطويلة وال‬

‫تزال موضع دهشة وإكبار لكل من يطلع عليها‪ ،‬ولو مل يكن لعمر من اآلثار غريها لعُدَّ هبا من كبار املفكرين واملشرعني‪ ،‬ولو كتبها‬

‫رئيس دولة يف هذه األيام اليت انتشرت فيها قوانني أصول احملاكمات‪ ،‬وصار البحث فيها مما هو مقرّر يف املدارس لكانت كبرية‬

‫منه‪ ،‬فكيف وقد كتبها عمر منذ وحو أربعة عشر قرناً‪ ،‬ومل ينقلها من كتاب وال استمدها من أحد‪ ،‬بل جاء هبا من ذهنه مثرة‬

‫واحدة من آالف الثمرات‪ ،‬للغرسة املباركة اليت غرسها يف قلبه حممد صلى اهلل عليه وسلم حني دخل عليه يف دار األرقم‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫أشهد أال إله إال اهلل وأن حممد ًا رسول اهلل‪.1‬‬

‫وميكن للباحث من خالل رسائل عمر بن اخلطاب رضي اهلل وحياته يف زمن خالفته أن يستخرج ما يتعلق باملؤسسة القضائية يف‬

‫األرزاق والعزل‪ ،‬وأنواع القضاة وصفاهتم وما جيب عليهم ومصادر أحكامهم وخضوع اخلليفة نفسه للقضاء وغري ذلك من‬

‫املسائل املتعلقة هبذه املؤسسة‪.2‬‬

‫القضاء يف الدوله احلديثة ذات املرجعية اإلسالمية‪:‬‬

‫‪ 1‬أخبار عمر‪ ،‬علي طنطاوي‪ ،‬ص‪.174 :‬‬


‫‪ 2‬عمر بن الخطاب للصَّالَّبي‪ ،‬ص‪.273 :‬‬

‫‪243‬‬
‫على الدولة احلديثة أن تطور املؤسسة القضائية‪ ،‬حتى يتحقق العدل ويرفع الظلم عن املواطنني وعليها أن تعمل وحو تأسيس بنية‬

‫قضائية مستقلة تكون مبثابة صمام األمان للمجتمع بكافة مؤسساته وأفراده‪ ،‬وضمانه جوهرية الستقراره‪ ،‬وحفظ حقوق‬

‫أفراده‪ ،‬وتشكل مع السلطتني التنفيذية والتشريعية دعامات وركائز النظام الشوري للدولة وقادرة على حتقيق العدالة الناجزة‬

‫للكافة دون متييز أو تفرقة‪ ،‬وذلك اسرتشاداً باملعايري الدولية‪ ،‬وأحكام الشريعة اإلسالمية وعليها أن تعمل على‪:‬‬

‫ــ إجياد السبل اليت تكفل حسن انتقاء املعينني يف بداية السلم القضائي وذلك على أسس ومعايري مهنية وسلوكية صارمة‪ ،‬مع‬

‫االلتزام مبعايري الشفافية‪ ،‬وتكافؤ الفرص‪.‬‬

‫ــ متكني القضاء من القيام بدوره يف الرقابة على أعمال السلطتني التشريعية والتنفيذية‪.‬‬

‫ــ عدم التدخل يف أعمال القضاء من أي جهة كانت‪ ،‬وااللتزام بالقضاء الطبيعي‪ ،‬ورفض كافة صنوف القضاء العسكري‪ ،‬أو‬

‫االستثنائي‪.‬‬

‫ــ وضع موازنة خاصة مبرفق القضاء تلحق باملوازنة العامة للدولة‪ ،‬مبا يكفل استقالليته مالياً وإدارياً عنها األمر الذي سينعكس‬

‫حتماً على استقالله املهين‪.‬‬

‫ــ حتسني جدول مرتبات القضاة وسائر العاملني مبرفق العدالة‪ ،‬األمر الذي يضمن كرامتهم‪ ،‬ويعينهم على أداء أعماهلم حبيذة‬

‫ونزاهة وجترد‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫ــ ضرورة إحلاق أعضاء اهليئات القضائية اجلدد فور تعيينهم مبراكز الدراسات القضائية املعتمدة سواء أكانت داخل القطر أو‬

‫خارجها‪ ،‬لتأهيلهم علمي ًا وعملياً‪ ،‬وال يقتصر األمر يف هذا الصدد على القضاة وأعضاء النيابة وإمنا يتعداه إىل اخلرباء وأعوان‬

‫القضاة‪.‬‬

‫ــ إرساء مبدأ حصانة القاضي تفتيشاً‪ ،‬وتأديب ًا وعزالً وترقية‪ ،‬ونقالً‪ ،‬والعمل على أن تكون اجلهة املنوطة هبا التفتيش على‬

‫أعمال القضاة غري تلك اليت تتوىل تأديبهم حتى ال جتمع تلك األخرية بني صفيت اخلصم واحلكم معاً مما يفت يف عضد احليدة‬

‫والعدالة‪.‬‬

‫ــ جعل تبعية السجون لوزارة العدل أو إلشراف القضاء‪ ،‬ال للسلطة التنفيذية‪ ،‬مبا يضمن عدم استخدام السياسة العقابية‬

‫كوسيلة تنكيل وامتهان‪.‬‬

‫ــ ضرورة االهتمام باملوظفني واملهنيني واملساعدين القانونيني وسائر العاملني يف جمال القانون‪.‬‬

‫ــ رعاية حق القضاة يف تشكيل األندية‪ ،‬والروابط‪ ،‬واجلمعيات اليت تعرب عنهم وترعى مصاحلهم‪.‬‬

‫ــ تدعيم سبل التعاون بني مؤسسة القضاء ومؤسسات اجملتمع املدني‪.‬‬

‫ــ ضرورة التأكيد على دور احملكمة الدستورية العليا‪ ،‬وتفعيل دورها الرقابي على أعمال السلطتني التشريعية والتنفيذية‪ ،‬مبا‬

‫يكفل اتساق تلك األعمال مع الدستور‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫ــ القضاء على مشكلة بطء تنفيذ األحكام وذلك من خالل تبين نظام قاضي التنفيذ‪ ،‬وإيكال كل إشكاليات ومعوقات التنفيذ‬

‫إليه‪ ،‬مع إعطائه الصالحيات الالزمة لتذليل كافة العقبات اليت تقف يف سبيل ذلك‪.‬‬

‫ــ منح اهليئة القضائية سلطة واسعة يف اختيار القضاة بناء على معايري موضوعية وعادلة ومتوازنة‪ ،‬وعلى أساس من الكفاءة‬

‫والنزاهة والتأهيل‪ ،‬ومبعزل عن األهواء السياسية‪ ،‬أو القبلية أو اجلهوية أو غريها‪.‬‬

‫ــ ضرورة أن يستلزم كل من يلج سبيل القضاء بتقديم إقرار بالذمة املالية له ولعائلته وذلك عند تعيينه ولدى تركه لعمله ألي سبب‬

‫من األسباب‪ ،‬وذلك دعماً لقواعد الشفافية والعدالة واملساءلة‪.‬‬

‫‪11‬ـ السلطة التشريعية‪:‬‬

‫كانت السلطة التشريعية يف عصر النبوة حمصورة يف يد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وحده ال يشاركه فيها أحد من األمة‪ ،‬ما‬

‫دام األمر متعلق ًا بالتشريع واألحكام ومسائل احلالل واحلرام؛ أل نه كان يتلقى الوحي من اهلل تبارك وتعاىل ويقوم بتبليغه واإلعالم به‬

‫وتطبيق أحكامه‪ ،‬ومع كون السلطة التشريعية‪ ،‬يف عهده صلى اهلل عليه وسلم متمركزة من الناحيتني العضوية واملوضوعية يف‬

‫يده وحده إال أنه فيما ال يتصل بالتشريع وباحلل واحلرمة كان يستشري فيه طوائف من أصحابه من ذوي الرأي‪.1‬‬

‫‪ 1‬األحكام الشرعية للنوازل السياسة‪ ،‬ص‪.130 :‬‬

‫‪246‬‬
‫أ ـ وعندما تويف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬انتقلت السلطة التشريعية بعد وفاته إىل اجملتهدين من الصحابة‪ ،‬وسلطاهنم يف‬

‫التشريع مرتبط بأمرين‪ ،‬األول‪ :‬فهم النص وبيان احلكم الذي يدل عليه‪ ،‬والثاني‪ :‬قياس ما ال نص فيه على ما فيه نص بواسطة‬

‫االجتهاد وختريج العلة وبذلك خت الف السلطة التشريعية يف عهد الصحابة السلطة التشريعية اليت تضع القوانني يف األمم األخرى؛‬

‫إذ الثانية يف منتهى احلرية يف وضع القوانني أو تفسريها أو إلغائها أو تعديلها‪.1‬‬

‫أما األوىل فهي مقيدة بالنصوص الشرعية وبالقواعد واملقاصد الشرعية‪ ،‬ودائرة يف عملها حتت سيادة الشرع‪ ،2‬ومع‬

‫اختصاصهم بالتشريع كانوا يشريون على اخلليفة مثلما يشري عليه سائر الكبار من أهل احلل والعقد‪ ،‬وذلك فيما ال يدخل يف احلل‬

‫واحلرمة من أمور الرأي واحلرب واملكيدة واملسائل املتعلقة بتدبري الشأن العام‪.‬‬

‫وقد كان اخلليفة يشارك السلطة التشريعية يف استخالص األحكام‪ ،‬ألنه كان من مجلة اجملتهدين‪ ،‬وكان أحيان ًا يعمل مبا أداه إليه‬

‫اجتهاده ما مل حيل بينه وبني العمل به ظهور رأي مجاعة اجملتهدين عليه‪ ،‬وإذا كان من حق اخلليفة أن جيتهد برأيه فيما يعرض من‬

‫مسائل‪ ،‬فإنه جيتهد بوصفه من اجملتهدين ال بوصفه رئيساً للسلطة التنفيذية‪ ،‬كذلك القاضي الذي تتوفر فيه صفات االجتهاد فهو‬

‫إن حكم برأيه فإمنا جيتهد بوصفه من اجملتهدين ال بوصفه من أعضاء السلطة القضائية‪.3‬‬

‫‪ 1‬السياسة الدستورية للدولة‪ ،‬إبراهيم النجار‪ ،‬ص‪.428 :‬‬


‫‪ 2‬األحكام الشرعية للنوازل السياسية‪ ،‬ص‪.130 :‬‬
‫‪ 3‬سنن الدارمي‪ ،‬الحديث رقم‪.161 :‬‬

‫‪247‬‬
‫روى أبو عبيدة يف كتاب القضاء عن ميمون بن مهران قال‪ :‬كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر يف كتاب اهلل تعاىل‪ ،‬فإن‬

‫وجد فيه ما يقضى به قضى به وإن مل جيد يف كتاب اهلل نظر يف سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فإن وجد فيها ما يقضى به‬

‫قضى به فإن أعياه ذلك سأل الناس‪ :‬هل علمتم أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قضى فيه بقضاء؟‪ ،‬فرمبا قام إليه القوم‬

‫فيقولون قضى فيه بكذا أو بكذا فإن مل جيد سنة سنها النيب صلى اهلل عليه وسلم مجع رؤساء الناس فاستشارهم‪ ،‬فإذا اجتمع‬

‫رأيه على شيء قضى به وكان عمر يفعل ذلك‪.‬‬

‫فرجع اخلليفة إىل اجملتهدين لسؤاهلم عن علم علموه من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف املسألة املعروضة ثم الستشارهتم‬

‫فيما مل يرد فيه نص يعترب رد ًا على السلطة املختصة‪ ،‬أما اجتهاده وقضاؤه مبا ظهر من كتاب اهلل فال يعد جتاوزاً للسلطة التشريعية‬

‫وال تعد ًّيا عليها؛ ألنه من اجملتهدين‪ ،‬وألن احلكم الشرعي إذا ظهر يف الكتاب أو السنة فالسلطان له‪ ،‬وعلى اجلميع ـ سواء السلطة‬

‫التشريعية أو التنفيذية ـ أن خيضعوا لسلطاته‪ ،‬وألن رجال السلطة التشريعية لن يسكتوا إذا خالف اخلليفة ـ من وجهة نظرهم ـ‬

‫دستور األمة "الكتاب والسنة" ولذلك عندما رأى عمر رأيه يف سواد العراق وأراد أال يقسم األرض املغنومة على املقاتلني‪ ،‬وأن‬

‫يرتكها ف يئاً للمسلمني وقف الصحابة واعرتضوا‪ ،‬وناقشه اجملتهدون من األمة‪ ،‬وراجعوه وراجعهم‪ ،‬وجادلوه وجادهلم حتى‬

‫اقتنع سوادهم األكرب برأيه فمضى فيه‪.1‬‬

‫‪ 1‬تاريخ التشريع اإلسالمي‪ ،‬مناع القطان‪ ،‬ص‪.140 :‬‬

‫‪248‬‬
‫وقد كان من استشارة اخللفاء وأهل الفتيا بعضهم بعضاً ما جيعل من مجاعتهم احملدودة شبه جملس نيابي صغري ينقصه النظام‪،‬‬

‫ولكن يعوضهم عنه ما كان منهم من تقليب املسائل على وجوههاً وحبثها من مجيع نواحيها‪.1‬‬

‫ب ـ وبعد عصر الصحابة جاء عصر التابعني لتظهر نواة املدارس الفقهية اليت تعترب مؤسسات تشريعية قائمة على أصلني‪ :‬األول‪:‬‬

‫سيادة الشرع‪ ،‬الثاني‪ :‬أن السلطان التشريعي يف يد اجملتهدين من األمة‪ ،‬فظهرت مدرسة الرأي يف العراق واليت وضع حجر‬

‫األساس هلا الصحابي اجلليل عبد اهلل بن مسعود ويف مقابلها مدرسة األثر اليت وضع لبناهتا األوىل علماء الصحابة يف املدينة من‬

‫أمثال عبد اهلل بن عمر‪ ،‬وزيد بن ثابت وعائشة وغريهم‪ ،‬فإن عصر التابعني شهد شهرة واسعة جملتهدين كبار كان على رأسهم‬

‫الفقهاء السبعة يف املدينة وهم‪ :‬سعيد بن املسيب‪ ،‬وعروة بن الزبري‪ ،‬والقاسم بن حممد وخارجة بن زيد‪ ،‬وأبو بكر بن عبد‬

‫الرمحن بن احلارث بن هشام وسليمان يسار‪ ،‬وعبيد اهلل بن عبد اهلل بن عتبة بن مسعود وهم الذين اعتدَّ مالك بإمجاعهم‪.2‬‬

‫ثم ظهرت املذاهب الفقهية الكربى اليت شهدت طفرة عظيمة يف االجتهاد الفقهي القائم على أصول ودعائم علمية راقية‪ ،‬وكان‬

‫أشهر هذه املذاهب هي املذاهب الفقهية األربعة‪ :‬مذهب أبي حنيفة‪ ،‬ومذهب مالك‪ ،‬ومذهب الشافعي‪ ،‬ومذهب أمحد‬

‫بن حنبل‪ ،‬فكانت هذه املذاهب هي املؤسسات التشريعية العظمى اليت متثل السلطة التشريعية يف العصور اليت تلت عصر‬

‫اخللفاء الراشدين‪.‬‬

‫‪ 1‬السياسية الدستورية للدولة اإلسالمية‪ ،‬ص‪.430 :‬‬


‫‪ 22‬األحكام الشرعية للنوازل السياسية‪ ،‬ص‪.134 :‬‬

‫‪249‬‬
‫وظل باب االجتهاد مفتوحاً وظلت هذه املذاهب هي املرجعية التشريعية لألمة اإلسالمية حكاماً وحمكومني يف مجيع اجملاالت‬

‫حتى جاء يف عصور متأخرة علماء أغلقوا باب االجتهاد فنتج عن ذلك أن استجدت مسائل ونوازل يف حياة األمة مل يف تراث‬

‫هذه املذاهب مبعاجلتها‪ :‬فكان من ذلك احلرج قصور التشريع اإلسالمي عن مسايرة الزمن وحتقيق مصاحل الناس‪ ،‬والتجاء بعض‬

‫احلكومات اإلسالمية إىل العمل بقوانني أمم غري إسالمية‪ ،1‬ووقعت األمة اإلسالمية مبجموعها يف براثن االستعمار يف القرنني‬

‫املاضيني وجاء االستعمار الغربي ب فكره العلماني ونظرية السيادة الغربية‪ ،‬وغزا األمة بقوانني غري شرعية وصارت السلطة‬

‫التشريعية فيها أبعد ما يكون عن الشريعة اإلسالمية‪ ،‬وساعد على ذلك قابلية األمة لالستعمار يف تلك الفرتة نتيجة اجلهل والفقر‬

‫واملرض والبعد عن روح اإلسالم ومقاصده السامية وقفل باب االجتهاد‪ ،‬الذي يسعى العلماء اجملتهدون لتلبية حاجات األمة يف‬

‫كل ما ينزل هبا وهذا هو الذي دفع املصلحني من أمثال حممد بن علي السنوسي‪ ،‬وحممد عبده‪ ،‬وحممد رشيد رضا وغريهم إىل‬

‫فتح االجتهاد‪ ،‬ولقد جتاوب هبذه الصيحة الصادقة علماء وأساتذة جامعات وشيوخ كبار وهنضوا هلذا الواجب الكبري‪،‬‬

‫فبدأت من جديد حركة االجتهاد والتجديد‪ ،‬وصارت الشعوب اإلسالمية مؤهلة للعودة إىل سيادة الشريعة عن طريق جعل‬

‫السلطة التشريعية يف يد اجملتهدين من أبناء هذه الشعوب‪.2‬‬

‫‪ 1‬السياسة الشرعية لعبد الوهاب خالف‪ ،‬ص‪.51 :‬‬


‫‪ 2‬انظر‪ :‬األحكام الشرعية للنوازل السياسية‪ ،‬بتصرف‪ ،‬ص‪.135 :‬‬

‫‪250‬‬
‫ج ـ ولقد أوجدت األمة مؤسسات كربى تقوم باالجتهاد اجلماعي الذي كان يقوم به اجملتهدون من الصحابة ولكن بآليات معاصرة‬

‫وقد متثلت هذه املؤسسات يف اجملامع الفقهية الكربى مثل‪ :‬جممع البحوث اإلسالمية بالقاهرة‪ ،‬وجممع الفقه اإلسالمي املنبثق عن‬

‫منظمة املؤمتر اإلسالمي جبدة وجممع رابطة العامل اإلسالمي مبكة املكرمة وغريها من اجملامع اليت جاءت بعدها وحذت حذوها‬

‫إىل جانب مشاريع االجتهاد اجلماعي األخرى كمشاريع املوسوعات الفقهية الكربى مثل مشروع املوسوعة الفقهية الكويتية‪،‬‬

‫كما ناقش العلماء املعاصرون إمكانية جتزئة االجتهاد مبعنى أن يوجد يف كل فرع من فروع الشريعة متخصصون وخرباء ميلكون‬

‫أدوات االجتهاد فيه وإن مل يستكملوا آالت االجتهاد املطلق؛ وذلك لتوسيع دائرة االجتهاد وتيسري أمره وهذا اجلهد املبارك يعترب‬

‫أرضاً خصبة لنمو واختيار السلطة التشريعية اليت يتمثل فيها بصدق سيادة الشرع وسلطان األمة‪.‬‬

‫د ـ أما عن كيفية االختيار وطريقة التكوين فهي من اآلليات اليت ختتلف من عنصر آلخر‪ ،‬فنحن إذا نظرنا إىل السلطة التشريعية‬

‫يف عصر اخللفاء الراشدين ومن تالهم‪ ،‬جند أهنم مل يكتسبوا هذه السلطة بتعيني اخلليفة وال بانتخاب األمة هلم‪ ،‬وإمنا اكتسبوها‬

‫مبميزاهتم الشخصية اليت امتازوا هبا‪ ،‬فجاء التكوين بطريقة فطرية تلقائية بسيطة كبساطة احلياة آنذاك‪.1‬‬

‫وأما يف الواقع املعاصر فيمكن عند قيام دولة إسالمية أن تشكل السلطة التشريعية من اجملتهدين يف العلم الشرعي وذلك باتباع‬

‫آليات معاصرة ال يتنافى العمل هبا مع القواعد واألصول الشرعية‪.2‬‬

‫‪ 1‬األحكام الشرعية للنوازل السياسية‪ ،‬ص‪.136 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.136 :‬‬

‫‪251‬‬
‫هـ ـ السلطة التشريعية يف التعريف الدستوري واملفهوم اإلسالمي‪:‬‬

‫ــ السلطة التشريعية يف التعريف الدستوري هي‪ :‬السلطة املختصة بعمل القوانني وتقوم مع ذلك باإلشراف على أعمال السلطة‬

‫التنفيذية‪.1‬‬

‫فهي السلطة املسؤولة ـ إىل جانب مراقبتها للحكومة ـ عن وضع القوانني امللزمة اليت ال يسع أحد جتاوزها‪.2‬‬

‫وأما السلطة التشريعية يف املفهوم اإلسالمي فهي‪ :‬السلطة املؤلفة من صفوة علماء الشريعة اجملتهدين واملكلفة باستخالص‬

‫األحكام الشرعية من مصادرها؛ والتعريف هبا ووضعها لدى الدولة موضع التنفيذ واملنوط هبا اإلشراف على السلطات‬

‫األخرى فيما ي تعلق بتنفيذ الشريعة وتطبيق أحكامها‪ ،‬واملعهود إليها مع بقية أهل الشورى ومع سائر أهل احلل والعقد بالرقابة‬

‫على احلكومة واحملاسبة هلا‪.3‬‬

‫ومن هذا التعريف يتضح اآلتي‪:‬‬

‫ــ أن السلطة التشريعية يف اإلسالم ويف الدولة اإلسالمية ال خترج عن دائرة علماء الشريعة اجملتهدين وهم علماء الشريعة الذين‬

‫استجمعوا شروط االجتهاد‪.‬‬

‫‪ 1‬السياسة الدستورية للدولة اإلسالمية‪ ،‬ص‪.398 :‬‬


‫‪ 2‬األحكام الشرعية للنوازل السياسية‪ ،‬ص‪.127 :‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.128 :‬‬

‫‪252‬‬
‫ــ هذه السلطة هي املكلفة شرعاً واملختصة دستورياً‪ ،‬بالقيام بعملية التشريع وعملها التشريعي‪ :‬ال يعدو أمرين‪ :‬أما بالنسبة إىل‬

‫ما فيه نص فعملهم تفهم النص وبيان احلكم الذي يدل عليه‪ ،‬وأما بالنسبة إىل ما ال نص فيه فعملهم قياسه على ما فيه نص‬

‫واستنباط حكمه بواسطة االجتهاد‪ ،1‬مراعني القواعد واملقاصد الشرعية‪.‬‬

‫فالسلطة التشريعية عندما تقوم بالتشريع فإهنا ال تنشئ األحكام إنشا ًء وال تبتدؤها ابتداءً وإمنا تستمدها وتستخلصها‬

‫وتستخرجها من كتاب اهلل وسنة رسوله‪ ،‬ال من غريمها وبذلك وضع النظام اإلسالمي حد ًا فاصالً بني أمرين ال يصح أن يلتبسا‪،‬‬

‫ومها السيادة والسلطان‪ ،‬فالسيادة هلل‪ ،‬والسلطان لألمة‪ ،‬السيادة لشرع اهلل‪ ،‬والسلطان للمجتهدين من األمة الذين يقومون‬

‫باستنباط األحكام واإلعالم هبا واإللزام بتطبيقها وهذا هو سلطاهنم الذي ال يتعدى على سيادة الشريعة‪.‬‬

‫ــ أن عمل السلطة التشريعية ال يقف عند حد التشريع وإمنا يتعداه إىل اإلشراف واملباشرة لضمان االلتزام هبذا التشريع من قبل‬

‫السلطتني التنفيذية والقضائية‪ ،‬وخباصة السلطة التنفيذية‪ ،‬كما أهنا تشرتك مع سائر أهل الشورى وأهل احلل والعقد يف القيام‬

‫بدور الرقابة على باقي السلطات واحملاسبة للحكومة‪ ،‬وإبداء املشورة للحاكم ومعاونيه يف كل مشكل يعرض لألمة من األمور‬

‫العامة‪.‬‬

‫‪ 1‬األحكام الشرعية للنوازل السياسية‪ ،‬ص‪.129 :‬‬

‫‪253‬‬
‫ــ أن صفوة علماء الشريعة اجملتهدين الذين ميثلون السلطة التشريعية جزء من أهل احلل والعقد؛ ألن أهل احلل والعقد يف األمة‬

‫ليسوا منحصرين يف علماء الشريعة اجملتهدين فضالً عن أن ينحصروا يف صفوهتم املختارة للتشريع وإمنا تتسع دائرهتم لتشمل‬

‫غريهم من العلماء والقضاة واألمراء واخلرباء والصلحاء والوجهاء العدول الذين حيملون همَّ هذا الدين ويتحملون مسؤولية هذه‬

‫األمة ويعتربون هم كبار األمة وقادهتا وأولو األمر فيها‪.1‬‬

‫‪12‬ـ السلطة التنفيذية‪:‬‬

‫تعترب السلطة التنفيذية أكرب مؤسسات السلطة احلاكمة يف األمة اإلسالمية وهي يف احلقيقة تتكون من مؤسستني غري منفصلتني‬

‫األوىل‪ :‬مؤسسة اخلالفة‪ ،‬والثانية‪ :‬اجلهاز اإلداري‪ ،‬والثانية منهما منضوية حتت لواء األوىل وداخلة حتت سلطاهنا‪ ،‬بل ومنبثقة‬

‫عنها‪ ،‬والسلطة التنفيذية يراد هبا يف الدولة اإلسالمية املوظفون املنوط هبم تنفيذ أوامر الشرع اإلسالمي‪ ،‬ويف مقدمة هؤالء‪:‬‬

‫رئيس الدولة‪ ،‬سواء مسي خليفة أم إماماً أم أمري املؤمنني أم سلطاناً أم ملكاً أم مسي بأي اسم آخر مثل ما أطلق عليه بعد ذلك‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.130 :‬‬

‫‪254‬‬
‫ومن أعضاء السلطة التنفيذية‪ :‬الوزراء‪ ،‬والوالة على األقاليم وقواد اجليوش‪ ،‬والعمال واحملتسبون ورجال الشرطة وسائر‬

‫املوظفني يف الدولة اإلسالمية‪.1‬‬

‫إن تولية اخلليفة أو رئيس الدولة يف النظام اإلسالمي هو أن تقوم األمة باالختيار والبيعة ملن ترضاه وتراه األفضل واألنسب‬

‫لقيادهتا وتوىل أمرها وقد ترك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمته ختتار من تشاء كما حدث يف اختيار أبي بكر الصديق‬

‫رضي اهلل عنه ولألئمة شروط وصفات وحقوق وواجبات‪ ،‬تطلب من مظاهنا يف كتب الفروع‪ ،2‬وسيأتي احلديث مفص ًال يف‬

‫كتاب مستقل عن السلطة التنفيذية بإذن اهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪ 1‬األحكام الشرعية للنوازل السياسية‪ ،‬ص‪.145 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.151 :‬‬

‫‪255‬‬
‫‪13‬ـ املفاوضات السياسية‪:‬‬

‫يف يوم االثنني األوّل من ذي القعدة سنة "‪ 6‬هـ"‪ ،1‬خرج الرّسول صلى اهلل عليه وسلم من املدينة متوجهاً بأصحابه إىل مكة؛ ألداء‬

‫العمرة‪.2‬‬

‫وانتشر خرب خروج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بني قبائل العرب‪ ،‬وكان انتشار اخلرب له أثر يف الرأي العام وخصوص ًا بعدما‬

‫أكد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أنه ال يريد حرباً‪ ،‬وإمنا يريد أن يعتمر‪ ،‬ويعظم شعائر اهلل‪ .‬وحقق هذا الفعل الكريم‬

‫مكاسب إعالمية رفيعة املستوى‪ ،‬وقد كان هدف النيب صلى اهلل عليه وسلم معلناً‪ :‬أال وهو زيارة بيت اهلل احلرام ألداء العمرة‪،‬‬

‫فتجرَّد هو وأصحابه من املخيط‪ ،‬ولبسوا ثياب اإلحرام‪ ،‬وأحرم بالعمرة من ذي احلليفة بعد أن قلَّد اهلدي‪ ،‬وأشعره‪.3‬‬

‫وقد كان صلى اهلل عليه وسلم على جانب كبري من احليطة واحلذر‪ ،‬فقد أرسل بشر بن سفيان اخلزاعي عيناً له‪ ،4‬وقدَّم بني يديه‬

‫طليعة استكشافية مكوّنة من عشرين رجالً‪ ،‬وكان هدفه صلى اهلل عليه وسلم من ذلك االستعداد للطوارىء اليت ميكن أن‬

‫يفاجأ هبا ـ وأيضاً ـ فقد كانت مهمة هذه الطليعة استكشاف خرب العدو‪.5‬‬

‫‪ 1‬المجمع النووي (‪.)78 /7‬‬


‫‪ 2‬نضرة النعيم (‪.)334 /1‬‬
‫‪ 3‬أشعره‪ :‬إشعار البدن أن يشق أحد جنبي سنام البدنة حتى يسيل دمها‪.‬‬
‫‪ 4‬مرويات غزوة الحديبية للحكمي‪ ،‬ص‪.59 ،58 :‬‬
‫‪ 5‬صلح الحديبية‪ ،‬محمد باشميل‪ ،‬ص‪.309 :‬‬

‫‪256‬‬
‫وملّا وصل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل عسفان لقيه بشري بن سفيان اخلزاعي فقال‪ :‬يا رسول اهلل؛ هذه قريش قد مسعت‬

‫مبسريك‪ ،‬ومعها العوذ املطَافِيل‪ ،1‬قد لبسوا جلود النمور يعاهدون اهلل أال تدخلها عليهم عنوة أبداً‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل‬

‫عليه وسلم‪« :‬يا ويح قريش‪ ،‬لقد أكلتهم احلرب ماذا عليهم لو خلُّوا بيين وبني سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا‪ ،‬وإن‬

‫أظهرني اهلل عليهم دخلوا يف اإلسالم وهم وافرون‪ ، 2‬وإن مل يفعلوا قاتلوا وهبم قوة فماذا تظن قريش؟ واهلل إني ال أزال أجاهدهم‬

‫على الذي بعثين اهلل‪ ،‬أو تنفرد هذه السَّالفة»‪.3‬‬

‫أ ـ السفارة بني الرّسول صلى اهلل عليه وسلم وقريش‪:‬‬

‫بذل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما يف وسعه إلفهام قريش‪ :‬أنه ال يريد حرباً معهم‪ ،‬وإمنا يريد زيارة البيت احلرام وتعظيمه‪،‬‬

‫وهو حق للمسلمني‪ ،‬كما هو حق لغريهم‪ ،‬وعندما تأكدت قريش من ذلك أرسلت إليه من يفاوضه ويتعرَّف على قوة املسلمني‪،‬‬

‫ومدى عزمهم على القتال‪ ،‬إذا أجلئوا إليه‪ ،‬وطمعاً يف صدِّ املسلمني عن البيت بالطرق السلميَّة من جهة ثالثة‪.4‬‬

‫‪ ‬ـ ركب من خزاعة بقيادة بُديل بن ورقاء‪:‬‬

‫‪ 1‬خرجوا ومعهم النساء واألوالد لئال يفروا عنهم وهو على االستعارة‪.‬‬
‫‪ 2‬وافرون‪ :‬جمع وافر وهو الذي لم ينقص منه شيء‪.‬‬
‫‪ 3‬السيرة النبوية للصَّالَّبي (‪.)281 /2‬‬
‫‪ 4‬السيرة النبوية في ضوء المصادر األصلية‪ ،‬مهدي رزق اهلل‪ ،‬ص‪.485 :‬‬

‫‪257‬‬
‫جاء بُديل بن ورقاء يف رجال من خزاعة‪ ،‬وكانت خزاعة عيبة‪ 1‬نصح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أهل هتامة‪ ،‬وبيَّنوا‪ :‬أن‬

‫قريشاً تعتزم ض َّد املسلمني عن دخول مكة فأوضح هلم الرسول صلى اهلل عليه وسلم سبب جميئه وذكر هلم الضَّرر الذي وقع‬

‫على قريش من استمرار احلرب‪ ،‬واقرتح عليهم أن تكون بينهم هدنة إىل وقت معلوم حتى يتَّضح هلم األمر‪ ،‬وإن أبوا؛ فال مناص‬

‫من احلرب‪ ،‬ولو كان يف ذلك هالكه‪ ،‬فنقلوا ذلك إىل قريش‪ ،‬وقالوا‪ :‬هلم‪ :‬يا معشر قريش؛ إنكم تعجَلون على حممد‪ ،‬وإن حممد ًا مل‬

‫يأت القتال‪ ،‬وإنّما جاء زائراً هذا البيت‪ ،‬فاتَّهموهم وخاطبوهم مبا يكرهون‪ ،‬وقالوا‪ :‬وإن كان إمنا جاء لذلك‪ ،‬فال واهلل ال يدخلها‬

‫علينا عنوة أبداً وال تتحدث بذلك العرب‪.2‬‬

‫وقد ظهرت براعة النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم السياسية يف عرضه على مشركي مكة اهلدنة‪ ،‬والصلح‪ ،‬ألن يف ذلك فوائد كثرية‪،‬‬

‫منها‪:‬‬

‫ــ باهلدنة يضمن حياد قريش‪ ،‬ويعزهلا عن أيِّ صراع حيدث يف اجلزيرة العربية‪ ،‬سواء كان هذا الصراع مع القبائل العربية األخرى‪،‬‬

‫أم مع اليهود؛ ذلك العدوُّ اللئيم الغادر‪ ،‬الذي يرتبص باملسلمني الدّوائر‪.‬‬

‫ــ حرص الرسول صلى اهلل عليه وسلم على أن يبقى باب االتِّصال مفتوح ًا بينه‪ ،‬وبني قريش‪ ،‬ليسمع منهم‪ ،‬ويسمعوا منه بواسطة‬

‫الرسل‪ ،‬والسفراء‪ ،‬ويف هذا تقريب للنفوس وتربيد جلو احلرب‪ ،‬وإضعاف حلماسهم وحو القتال‪.‬‬

‫‪ 1‬أي‪ :‬خاصته وأصحاب سراه‪.‬‬


‫‪ 2‬السيرة النبوية البن هشام (‪.)340 /3‬‬

‫‪258‬‬
‫ــ حرصه صلى اهلل عليه وسلم على أن تدرك خزاعة بقيادة بديل‪ ،‬والركب الذي معه‪ :‬أن حليفهم قوي‪ ،‬فتزداد ثقتهم به وحلفهم‬

‫له ولبين هاشم قبل اإلسالم فقد بقي‪ ،‬ومل يُلغ‪ ،‬وتأكد يف صلح احلديبية‪.‬‬

‫ــ إن العقالء الذين يفكرون بعقوهلم حني يسمعون كالم الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأنه جاء معظماً للبيت‪ ،‬واملشركون يردُّونه‬

‫وهو يصرُّ على تعظيمه سيقف هؤالء جبانبه‪ ،‬ويتعاطفون معه فيقوى مركزه‪ ،‬ويضعف مركز قريش اإلعالمي والديين يف نفوس‬

‫الناس‪.‬‬

‫ــ إن مشركي مكة مل يطمئنوا إىل كالم بديل الذي نقله إليهم‪ ،‬ذلك ألهنم يعلمون‪ :‬أن خزاعة كانت عيبة نصح لرسول اهلل صلى اهلل‬

‫عليه وسلم‪ ،‬ويشعرون بود خزاعة للرسول صلى اهلل عليه وسلم واملسلمني‪.1‬‬

‫ــ ويؤخذ من جوانب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لبُديل بن ورقاء حسن التلطف للوصول إىل الطاعات‪ ،‬وإن كانت غري‬

‫واجبة ما مل يكن ذلك ممنوعاً شرعاً؛ ألن النيب صلى اهلل عليه وسلم أجاب املشركني ملّا طلبوا منه‪ ،‬ومل يظهر هلم ما يف النفوس من‬

‫البغض والكراهية هلم لطفاً منه ـ عليه الصالة والسالم ـ فيما يؤمِّل إىل البلوغ إىل الطاعة اليت خرج من أجلها‪.2‬‬

‫ب ـ سفارة عروة بن مسعود الثقفي‪:‬‬

‫‪ 1‬صلح الحديبية ألبي فارس‪ ،‬ص‪.67 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص‪.68 :‬‬

‫‪259‬‬
‫مل تقبل قريش ما نقله بُديل بن ورقاء اخلزاعي عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬من أنه جاء زائراً للبيت ومل يأت مقاتالً‪،‬‬

‫فاقرتح عليهم عروة بن مسعود الثقفي أن يقابل الرّسول صلى اهلل عليه وسلم ويسمع منه ثم يأتيهم باخلرب اليقني‪.1‬‬

‫وقد ذكر ذلك البخاري يف صحيحه‪ ،‬فقال‪ ...... :‬فقام عروة بن مسعود فقال‪ :‬أي القوم‪ ،‬ألستم بالوالد؟ قالوا‪ :‬بلى‪ ،‬قال‪:‬‬

‫ي‬
‫أولست بالولد؟ قالوا‪ :‬بلى! قال‪ :‬فهل تتهموني؟ قالوا‪ :‬ال! قال‪ :‬ألستم تعلمون أنِّي استنفرت أهل عكاظ‪ ،2‬فلما بلَّحوا‪ 3‬عل َّ‬

‫جئتكم بأهلي‪ ،‬وولدي‪ ،‬ومن أطاعين؟ قالوا‪ :‬بلى! قال‪ :‬فإنَّ هذا قد عرض عليكم خُطَّة رشد فاقبلوها‪ ،‬ودعوني آته‪ ،‬قال‪:‬‬

‫ائته فأتاه‪ ،‬فجعل يكلِّم النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم وحواً من قوله لبديل‪ ،‬فقال عروة عند ذلك‪:‬‬

‫أي حممد أرأيت إن استأصلت أمر قومك‪ ،‬هل مسعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن األخرى فإني واهلل ال أرى‬

‫وجوهاً‪ ،‬وإني ألرى أشواب ًا‪ 4‬من الناس خليقا أن يفرُّوا‪ ،‬ويَدَعُوك‪ .‬فقال أبو بكر‪ :‬امصُص بظر‪ 5‬الالت‪ ،‬أوحن نفر عنه وندعه؟‬

‫فقال‪ :‬من ذا؟ قالوا‪ :‬أبو بكر‪ .‬قال‪ :‬أما والذي نفسي بيده لوال يدٌ كانت لك عندي مل أجزك هبا‪ ،‬ألجبتك‪.‬‬

‫لقد حاول عروة بن مسعود أن يشنَّ على املسلمني حرباً حتى يهزمهم معنوياً‪ ،‬فاستخدم عنصر اإلشاعة ويظهر ذلك عندما لوَّح‬

‫بقوَّة قريش العسكرية معتمداً على املبالغة يف تصوير املوقف بأنه سيؤول لصاحل قريش ال حمالة‪ ،‬وذلك جدير حبدوث الفتنة‬

‫‪ 1‬صلح الحديبية ألبي فارس‪ ،‬ص‪.68 :‬‬


‫‪ 2‬عكاظ‪ :‬اسم سوق من أسواق العرب في الجاهلية‪.‬‬
‫‪ 3‬بلاحوا عليَّ‪ :‬أي‪ :‬امتنعوا‪.‬‬
‫‪ 4‬أشوابًا‪ :‬أي‪ :‬أخالطًا من قبائل شتى‪.‬‬
‫‪ 5‬البظر‪ :‬ما تقطعه الخاتنة من بضع المرأة عند ختانها‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫واإلرباك يف صفوف املسلمني‪ ،‬وذلك حينما حاول إضعاف الثقة بني القائد وجنوده‪ ،‬عندما قال للنيب صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬

‫فإني واهلل ال أرى وجوهاً‪ ،‬وإني ألرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفرُّوا ويدعوك‪.‬‬

‫حاول ذلك من أجل التأثري على نفسيَّات املسلمني وخلدمة أهداف قريش العسكرية واإلعالمية وحاول ـ أيضاً ـ أن يفتعل أزمة‬

‫عسكرية كبرية بني النيب صلى اهلل عليه وسلم وبني جنوده من أجل التأثري على معنوياهتم‪ ،‬وحتطيم عزائمهم‪ ،‬وهذا من أقوى‬

‫أساليب احلرب النفسية اليت استخدمت ضد املسلمني أثناء تلك املفاوضات‪ ،‬وحاول عروة أن يثري الرعب‪ ،‬وذلك بتخويف‬

‫املسلمني من قوّة قريش اليت ال تُ قهر‪ ،‬وتصوير املعركة بأهنا يف غري صاحلهم‪ ،‬لقد مارس عروة بن مسعود يف مفاوضاته عناصر‬

‫حتطمت أمام اإلميان العميق‪ ،‬والتكوين الدقيق‪ ،‬والصَّفِّ اإلسالمي املرصوص‪.1‬‬

‫لقد فشل عروة يف مفاوضاته‪ ،‬ورجع حمذراً قريشاً من أن تدخل يف صراع مسلح مع النيب صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه وقال‬

‫هلم‪ :‬يا قوم! إنِّي قد وفدت على امللوك‪ :‬على كسرى وهرقل‪ ،‬والنجاشي‪ ،‬وإني واهلل ما رأيت ملكاً قطُّ أطوع فيمن بني ظهرانيه‬

‫من حممد وأصحابه واهلل ما يشدُّون إليه النظر‪ ،‬وما يرفعون عنده الصوت‪ ،‬وما يكفيه إال أن يشري إىل أمر‪ ،‬فيُفعل‪ ،‬وما يتنعَّمُ‪ ،‬وما‬

‫يضيق أال وقعت يف كفِّ رجل منهم ميسح هبا جلده‪ ،‬وما يتوضَّأ إال ازدمحوا عليه أيُهُم يظفر منه بشيء‪.‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصَّالبي (‪.)287 /2‬‬

‫‪261‬‬
‫وقد حزرت القوم‪ ،‬واعلموا أنكم إن أردمت السيف بذلوه لكم‪ ،‬وقد رأيت قوماً ما يبالون ما يُصنعُ هبم إذا منعوا صاحبهم؛ واهلل‬

‫لقد رأيت نسيات معه إن كنّ ليسلمنه أبداً على حال فروا رأيكم‪ ،‬وإيَّاكم وإضجاع‪ 1‬الرأي‪ ،‬فمادُّوه يا قوم‪ ،‬اقبلوا ما عرض‪ ،‬فإني‬

‫لكم ناصح مع أني أخاف أال تُنصروا عليه؛ رجل أتى هذا البيت معظماً له‪ ،‬معه اهلدى‪ ،‬ينحره وينصرف‪ ،‬فقالت قريش‪ :‬ال‬

‫تكلمَّ هبذا يا أبا يعفور‪ ،2‬لو غريك تكلم هبذا للُمناه‪ ،‬ولكن نردُّهُ عن البيت يف عامنا هذا ويرجع قابل‪.3‬‬

‫لقد انتقلت احلرب النَّفسَّية وتأثريها يف صفوف املسلمني لتعمل داخل جبهة قريش ويف نفوسهم‪ ،‬فقد كان تصوير عروة ملا رآه‬

‫صادقاً‪ ،‬حيث ب َّين لقريش وضع املسلمني يف احلديبية‪ ،‬من طاعتهم لنبيهم الكريم وحبَّهم له وتفانيهم بالدفاع عنه ومبا يتمتعون به‬

‫من معنويات عالية جداً‪ ،‬واستعداد عسكري‪ ،‬ونفسي يفوق الوصف فكان ذلك مبثابة التحذير الفعلي لقريش بعدم التعجل‬

‫والدخول يف حرب مع النيب صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه ممَّا قد تكون نتائج هذه املعركة لصاحل املسلمني‪ ،‬األمر الذي أسقط يف‬

‫أيدي زعمائها‪ ،‬ومل تكن قريش تتوقَّعه أبداً يف تقوميها لألمور‪.‬‬

‫لقد كان وقع كل كلمة قاهلا سيَّد ثقيف كالصَّاعقة على مسامع نفوس زعماء قريش‪ ،‬لقد كان صلى اهلل عليه وسلم موفقاً من‬

‫قبل اهلل تعا ىل‪ ،‬ولذلك جند أثره على عروة بن مسعود مما جعل االنشقاق يدب يف معسكر قريش وأخذت جبهة قريش تتداعى‬

‫أمام قوّة احلق الصَّامدة‪ ،‬وكذلك فقد اهنارت حُجَّة قريش يف مجعها للعرب ضد النَّيبِّ صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫‪................................1‬‬
‫‪ 2‬أبا يعفور‪ :‬كنية عروة بن مسعود الثقفي‪.‬‬
‫‪ 3‬السيرة النبوية للصَّالَّبي (‪.)288 /2‬‬

‫‪262‬‬
‫لقد جنح النيب صلى اهلل عليه وسلم حبكمته وذكائه جناحاً عظيماً باستخدام األساليب اإلعالمية والدبلوماسية املتعددة‬

‫للحصول على الغاية املنشودة‪ ،‬وهي تفتيت جبهة قريش الدَّاخلية‪ ،‬وإيقاع اهلزمية يف نفوسهم وإبعاد حلفائهم عنهم‪ ،‬وإن هذه‬

‫النتيجة لتعد حبق نصراً ساحقاً حقَّقه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على اجلبهات السياسيَّة‪ ،‬واإلعالمية‪ ،‬والعسكرية‪.1‬‬

‫ج ـ سفارة احلُليس بن علقمة‪:‬‬

‫ثمَّ بعثوا احلُليس بن علقمة الكنانيِّ سيِّد األحابيش‪ ،‬فلمّا رآه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ :‬إن هذا من قوم يتأهلَّون‪،‬‬

‫س اهلدي يسيل عليه من عرض الوادي يف قالئده؛‬


‫فابعثوا اهلدي يف وجهه حتى يراه وأمر برفع الصَّوت يف التَّلبية‪ ،‬فلمَّا رأى احلُلي ُ‬

‫رجع إىل قريش قبل أن يصل إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وذلك إعظاماً ملا رأى‪ ،2‬فقد كان الوادي جمدب ًا ال ماء فيه‪ ،‬وال‬

‫مرعى‪ ،‬وقد أكل اهلدى أوباره من طول احلبس عن مَحِلَّه‪ ،‬ورأى املسلمني؛ وقد استقبلوه رافعني أصواهتم بالتَّلبية‪ ،‬وهم يف زيِّ‬

‫اإلحرام وقد شعِثوا من طول املكوث على إحرامهم ولذلك استنكر تصرُّف قريش بشدَّة‪ ،‬وانصرف سيِّد بين كنانة عائداً من‬

‫يب صلى اهلل عليه بشيءٍ‪ ،‬أو أن يفاوضه‪ ،‬كما كان مقرَّراً من قبل واعترب عمل قريش عدوانياً ضد‬
‫حيث أتى دون أن يفاتح الن َّ‬

‫زوَّار بيت اهلل احلرام‪ ،‬وال جيوز ألحد أن يؤيدها‪ ،‬أو أن يناصرها على ذلك‪.3‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصَّالَّبي (‪.)289 /2‬‬


‫‪ 2‬السيرة النبوية للصَّالَّبي (‪.)289 /2‬‬
‫‪ 3‬السيرة النبوية للصَّالَّبي (‪.)289 /2‬‬

‫‪263‬‬
‫فرجع حمتج ًا على قريش اليت أعلنت غضبها لصراحة احلُليْس‪ ،‬وحاولت أن تتاليف هذا املوقف الذي يهدّد بانقسام خطري يف‬

‫جبهة قريش العسكرية‪ ،‬ونسف احللف املعقود بني قريش‪ ،‬واألحابيش‪ ،‬وقالوا لزعيم األحابيش‪ :‬إنّما كل ما رأيت هو مكيدة‬

‫من حممد‪ ،‬وأصحابه‪ ،‬فاكفف عنَّا حتى نأخذ ألنفسنا ما نرضى به‪.1‬‬

‫لقد كان النيب صلى اهلل عليه وسلم عاملاً ومستوعباً لشخصية احلُليس‪ ،‬ونفسيَّته‪ ،‬ويظهر ذلك يف قوله صى اهلل عليه وسلم‪:‬‬

‫«هذا من قوم يتألَّهون» فالواضح من هذه املعلومة! أن النيب صلى اهلل عليه وسلم كان على معرفة تامة هبذا الرجل وحبكم هذه‬

‫املعرفة قد درس شخصيته دراسة موضوعية وذلك مبا كان عنده من حبٍّ شديد من التعظيم للحرمات واملقدسات والعمل‬

‫على االستفادة الكاملة من هذا اجلانب يف كسب املعرفة‪ ،‬وعلى هذا األساس فقد قام صلى اهلل عليه وسلم بوضع خطة‬

‫حمكمة مناسبة تقضي بوضع احلقائق كاملة أمام هذا الرجل‪ ،‬وإظهار موقف املسلمني‪ ،‬أو على األقلِّ وقوفه على احلياد يف هذا‬

‫الصِّراع‪.‬‬

‫وهكذا استطاع صلى اهلل عليه وسلم أن يؤثر على عروة بن مسعود‪ ،‬واحلُليس بن علقمة ممَّا جعل االنشقاق يدب يف صفوف‬

‫مشركي مكة‪.2‬‬

‫د ـ سفارة مِكرز بن حفص‪:‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪.)289 /2‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)290 /2‬‬

‫‪264‬‬
‫وكان من سفراء قريش يوم احلديبية مكرز بن حفص وقد روى البخاري ذلك فقال‪ ..... :‬فقام رجل منهم‪ ،‬يقال له‪ :‬مكرز بن‬

‫حفص‪ ،‬فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬هذا مكرز وهو رجل فاجر»‪ ،‬فجعل يكلم النيب صلى اهلل عليه وسلم فبينما هو‬

‫يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو قال معمر‪ :‬فأخرب ني وأيوب عن عكرمة‪ :‬أنَّه ملا جاء سهيل بن عمرو‪ ،‬قال النيب صلى اهلل عليه‬

‫وسلم‪« :‬قد سهل لكم من أمركم»‪.1‬‬

‫هـ ـ مفاوضِة سهيل بن عمرو لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬

‫ملَّا بلغ قريشاً أمر بيعة الرضوان‪ ،‬وأدرك زعماؤها تصميم الرّسول صلى اهلل عليه وسلم على القتال‪ ،‬أوفدوا سهيل بن عمرو يف‬

‫نفر من رجاهلم ملفاوضة النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،2‬وملّا رأى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سهيالً قال‪« :‬لقد أراد القوم‬

‫الصُّلح حني بعثوا هذا الرجل»‪.3‬‬

‫كان سهيل بن عمرو أحد زعماء قريش البارزين الذين كانوا يُعرفون باحلنكة السياسية والدَّهاء‪ ،‬فهو خطيب ماهر ذو عقل‬

‫راجح‪ ،‬ورزانة‪ ،‬وأصالة يف الرأي‪.‬‬

‫شرع الفريقان املتفاوضان يف حبث بنود الصُّلح‪ ،‬وذلك بعد رجوع عثمان بن عفان رضي اهلل عنه وقد استعرض الفريقان النقاط‬

‫اليت جيب أن تتضمّنها معاهدة الصلح‪ ،‬واستعرضا يف مباحثاهتما خمتلف القضايا اليت كانت تشكل مثار اخلالف بينهما‪ ،‬هذا‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصَّالَّبي (‪.)290 /2‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)299 /2‬‬
‫‪ 3‬مغازي الواقدي (‪.)605 ،604 ،602 /2‬‬

‫‪265‬‬
‫وقد اتَّفق الفريقان من حيث املبدأ على بعض النقاط‪ ،‬واختلفا على البعض اآلخر‪ ،‬وقد طال البحث‪ ،‬واجلدل‪ ،‬واألخذ والرد‬

‫حول هذه البنود‪ ،‬وبعد املراجعات واملفاوضات تقاربت وجهات النظر بني الفريقني‪ :‬وعند الشروع يف وضع الصِّيغة النّهائية‬

‫للمعاهدة وكتابتها لتكون نافذة املفعول رمسياً‪ ،‬حدث خالف بني الوفدين على بعض النقاط‪ ،‬كاد أن يعثِّر سري هذه االتفاقية‪،‬‬

‫ي بن أبي طالب بأن‬


‫يب صلى اهلل عليه وسلم يف إمالء صيغة امل عاهدة املتفق عليها؛ أمر الكاتب وهو اإلمام عل ُّ‬
‫فعندما شرع الن ُّ‬

‫يبدأ املعاهدة بكلمة‪ :‬بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬وهنا اعرتض رئيس الوفد القرشي سهيل بن عمرو قائالً‪ :‬ال أعرف الرّمحن!‬

‫«اكتب‪ :‬بامسك اللهم»‪ ،‬فضجَّ الصَّحابة على هذا االعرتاض‪ ،‬قائلني‪ :‬هو الرمحن‪ ،‬وال نكتب إال الرمحن ولكن النيب صلى اهلل‬

‫عليه وسلم متشياً مع سياسة احلكمة واملرونة‪ ،‬واحللم‪ ،‬قال للكاتب‪« :‬اكتب بامسك اللهم»‪ 1‬واستمر يف إمالء صيغة املعاهدة‬

‫هذه‪ ،‬فأمر الكاتب أن يكتب‪« :‬هذا ما اصطلح عليه رسول اهلل»‪ ،‬وقبل أن يكمل اجلملة اعرتض رئيس الوفد القرشي على‬

‫كلمة "رسول اهلل" قائالً‪ :‬لو أعلم أنك رسول اهلل ما خالفتك واتبعتك‪ ،‬أفرتغب عن امسك واسم أبيك حممد بن عبد اهلل؟‬

‫اكتب امسك‪ ،‬واسم أبيك‪.2‬‬

‫واعرتض املسلمون على ذلك‪ ،‬ولكن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حبكمته وتساحمه وبُعد نظره حسم اخلالف‪ ،‬وأمر‬

‫الكاتب بأن يشطب كلمة رسول اهلل من الوثيقة‪ ،‬فالتزم الصحابة الصَّمت واهلدوء‪.‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪.)610 /2‬‬


‫‪ 2‬مغازي الواقدي (‪.)610 /2‬‬

‫‪266‬‬
‫إن النيب صلى اهلل عليه وسلم وافق املشركني على ترك كتابة "بسم اهلل الرمحن الرحيم" وكتابة "بامسك اللهم" بد ًال عنها‪ ،‬وكذا‬

‫وافقهم على كتابة "حممد بن عبد اهلل" وترك كتابة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكذا وافقهم على ردِّ من جاء منهم إىل‬

‫املسلمني دون من ذهب منهم إليهم‪ ،‬وإمنا وافقهم يف هذه األمور للمصلحة املهمة احلاصلة بالصلح‪ ،‬مع أنه ال مفسدة يف هذه‬

‫األمور‪ ،‬أما البسملة‪ ،‬و«بامسك اللهم» فمعناها واحد‪ ،‬وكذا قوله «حممد بن عبد اهلل» هو أيض ًا رسول اهلل صلى اهلل عليه‬

‫وسلم‪ ،‬وليس يف ترك وصف النيب صلى اهلل عليه وسلم بالرّسالة ما ينافيها‪ ،‬فال ضرر وال مفسدة فيما طلبوه‪ ،‬وإمنا كانت‬

‫املفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب ما ال حي َّل من تعظيم آهلتهم‪ ،‬ووحو ذلك‪.‬‬

‫وأمّا شرط ر ِّد من جاء منهم‪ ،‬وعدم ردِّ من ذهب إليهم‪ ،‬فقد ب َّين النيب صلى اهلل عليه وسلم تعليل ذلك‪ ،‬واحلكمة فيه يف هذا‬

‫احلديث بقوله‪« :‬من ذهب منا إليهم فأبعده اهلل‪ ،‬ومن جاءنا منهم سيجعل اهلل له فرجاً‪ ،‬وخمرجاً»‪.‬‬

‫ومتّ عقد هذه املعاهدة وكانت صياغتها من عشرة بنود جاءت على الشكل التايل‪:‬‬

‫ــ بامسك اللهم‪.‬‬

‫ــ هذا ما صاحل عليه حممد بن عبد اهلل سهيل بن عمرو‪.‬‬

‫ــ واصطلحا على وضع احلرب على الناس عشر سنني‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫ــ على أنه من قدم مكة من أصحاب حممدَّ حاجاً‪ ،‬أو معتمراً‪ ،‬أو يبتغي من فضل اهلل؛ فهو آمن على دمه ومن قدم املدينة من‬

‫قريش جمتازاً إىل مصر‪ ،‬أو إىل الشام‪ ،‬يبتغي من فضل اهلل‪ ،‬فهو آمن على دمه‪ ،‬وماله‪.‬‬

‫ــ على أنه من أتى حممداً من قريش بغري إذن وليِّه؛ ردَّه عليهم‪ ،‬ومن جاء قريشاً ممَّن مع حممد‪ ،‬مل يردُّوه عليه‪.‬‬

‫ــ وأن بيننا عيبة مكفوفة‪ ،‬وأنه ال إسالل وال إغالل‪.1‬‬

‫ب أن يدخل يف عقد حممد‪ ،‬وعهده دخله ومن أحب أن يدخل يف عقد قريش‪ ،‬وعهدهم دخل فيه فتواثبت‬
‫ــ وأنه من أح َّ‬

‫خزاعة‪ ،‬فقالوا‪ :‬وحن يف عقد حممد وعهده‪ ،‬وتواثبت بنو بكر‪ ،‬فقالوا‪ :‬وحن يف عقد قريش‪ ،‬وعهدهم‪.‬‬

‫ــ وأنت ترجع عنَّا عامك هذا‪ ،‬فال تدخل علينا مكة‪ ،‬وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك‪ ،‬فأقمت هبا‬

‫ثالثاً‪ ،‬معك سالح الرّاكب‪ ،‬السيوف يف القُرُب‪ ،‬وال تدخلها بغريها‪.‬‬

‫ــ وعلى أن هذا اهلدي وما جئتنا به‪ ،‬فال تقدمه علينا‪.‬‬

‫ــ وشهد على الصُّلح رجال من املسلمني‪ ،‬ورجال من املشركني فمن املسلمني‪ :‬أبو بكر الصديق‪ ،‬وعمر بن اخلطاب‪ ،‬وعبد‬

‫الرمحن بن عوف‪ ،‬وعبد اهلل بن سهيل بن عمرو‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص‪ ،‬وحممد بن مسلمة‪ ،‬وعلي بن أبي طالب كاتب املعاهدة‬

‫رضي اهلل عنهم أمجعني‪.‬‬

‫‪ 1‬أي يأمن بعضنا بعضاً على نفسه وماله فال يتعرض لماله وال لدمه‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫ومن املشركني‪ :‬مكرز بن حفص‪ ،‬وسهيل بن عمرو‪.1‬‬

‫وتعد هذه املعاهدة أساساً للمعاهدات اإلسالمية وأمنوذجاً فريداً من املعاهدات الدولية مبا سبقها من مفاوضات‪ ،‬وما حوته‬

‫من شروط‪ ،‬وما متثل هبا خلق النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم يف النزول عند رضا الطرف اآلخر‪ ،‬ويف كيفية الصِّياغة وااللتزام‪.‬‬

‫هذه املعاهدة سبقها مفاوضات من قبل املشركني واملسلمني‪ ،‬وفشل بعض املسلمني يف الوصول إىل اتفاق‪ ،‬ودارت مشاورات‬

‫شتى من اجلانبني قبل الوصول إليه‪ ،‬حتى توصل الفريقان إىل اتفاق عن طريق ممثل املشركني "سهيل بن عمرو" ورسول اهلل صلى‬

‫اهلل عليه وسلم على مأل املسلمني‪ 2‬عُقدت هذه املعاهدة يف الوقت الذي كان فيه املسلمون مبركز القوة‪ ،‬ال الضعف‪ ،‬وكان‬

‫باستطاعتهم ألَّا يقبلوا شروطها اليت اغتاظ منها كثري من الصحابة‪ ،‬ولكن ما كان هلم أن خيرجوا عن طوع رسول اهلل صلى اهلل‬

‫ع ليه وسلم الذي ال ينطق عن اهلوى‪ ،‬وقد متارى رسول قريش على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف مفاوضته‪ ،‬وكان فرد ًا‬

‫بني جيش املسلمني‪ ،‬فلم ينله أذى‪ ،‬ومل يتمادَ عليه املسلمون بالقتل‪" ،‬ألن السفراء ال تقتل" ولكنّ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬

‫يرضيه‪ ،‬ويسعه باحللم واللني ‪ ،‬حتى يصل إىل الغاية اليت ينشدها اإلسالم وهي حقن الدماء‪ ،‬وإحالل السَّالم‪ ،‬ورجاء أن يعقل‬

‫‪ 1‬المعاهدات في الشريعة اإلسالمية‪ ،‬د‪.‬محمد الديك‪ ،‬ص‪.271 ،270 :‬‬


‫‪ 2‬السيرة النبوية للصَّالبي (‪.)302 /2‬‬

‫‪269‬‬
‫القوم احلق‪ ،‬وأن يراجعوا املواقف‪ ،‬ويسمعوا كالم اهلل‪ ،1‬وعندما نتأمل نصوص املعاهدة اليت متَّت يف احلديبية فإننا نأخذ منها‬

‫اآلتي‪:‬‬

‫ــ أن ديباجة املعاهدات اإلسالمية كانت تبدأ باسم اهلل‪ ،‬أو بامسك اللهم‪ ،‬والقانون الدويل يف صياغة املعاهدات يقول‪ :‬تبدأ‬

‫كتابة املعاهدات بديباجة يتفق عليها طرفا التعاقد‪.‬‬

‫والذي جيب أن نالحظه ‪ :‬أن املعاهدات يف اإلسالم تستند إىل اهلل تعاىل‪ ،‬الذي تبدأ بامسه سبحانه‪ ،‬حيث هو الرقيب‬

‫واحلسيب على ما يف النوايا وا لقلوب‪ ،‬واسم اهلل مقدّس يف كلِّ قلب يؤمن به‪ ،‬حتى أولئك الذين فسدت عقائدهم‪ ،‬فإهنم ال‬

‫ينكرون اهلل‪ ،‬ولكنهم أفسدوا تصورهم لذات اهلل‪ ،‬وقد جرت أعراف بعض الذين يستهوون قلوب العامة بالشّعارات اجلوفاء أن‬

‫يقولوا بدل اسم اهلل‪ ،‬باسم الشعب‪ ،‬أو باسم األمة‪ ،‬باعتبار قدسية ما يبدؤون به كما يزعمون‪ ،‬ولكنَّ الذي يؤمن باهلل ال يعدل‬

‫عن قدسية اهلل يف اعتقاده‪ ،‬ولذلك كانت البداية "بامسك اللهم"‪.‬‬

‫ــ ذكر يف املعاهدة طرفا التعاقد بعد "الديباجة" كما يسميها القانون الدويل‪ ،‬وهذا ما عليه القانون الدويل العام من أنه يذكر بعد‬

‫الديباجة أمساء املمثلني‪ ،‬أو الدول اليت هي أطراف يف عقد املعاهدة‪.‬‬

‫‪ 1‬المعاهدات في الشريعة اإلسالمية والقانون الدولي‪ ،‬د‪.‬محمد الديك‪ ،‬ص‪.269 ،268 :‬‬

‫‪270‬‬
‫ــ بواعث املعاهدة‪ :‬فقد جاء يف بداية هذه املعاهدة ذكر الصُّلح ألجل وضع احلرب عن الناس عشر سنني يأمن فيهن الناس‪،‬‬

‫ويكف بعضهم عن بعض‪ ،‬وهذا ما عليه القانون الدويل العام كذلك‪.‬‬

‫ــ الدخول يف صلب املعاهدة وشروطها‪ ،‬حي ث ذكر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف هذه املعاهدة الشروط املتفق عليها بني‬

‫الطرفني‪،‬وهذا ما عليه القانون الدويل العام‪.‬‬

‫ــ يف معاهدة صلح احلديبية جواز ابتداء اإلمام "رئيس الدولة اإلسالمية" بطلب صلح العدو إذا رأى املصلحة للمسلمني فيه‪،‬‬

‫وال يتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم‪.1‬‬

‫ــ أن مصاحلة املشركني ببعض ما فيه ضيم على املسلمني جائز للمصلحة الرّاجحة‪ ،‬ودفع ما هو شر منه‪ ،‬ففيه دفع أعلى‬

‫املفسدتني باحتمال أدناها‪.2‬‬

‫ــ أن صلح احلديبية مسّاه اهلل فتحاً ؛ ألن الفتح يف اللغة هو فتح املغلق‪ ،‬والصلح الذي حصل مع املشركني باحلديبية كان مسدوداً‬

‫مغلقاً ففتحه اهلل‪ ،‬والصلح كذلك يفتح القلوب املغلقة وحو الطرف اآلخر‪.‬‬

‫‪ 1‬زاد المعاد‪ ،‬البن القيم (‪.)306 /3‬‬


‫‪ 2‬المصدر السابق (‪.)306 /3‬‬

‫‪271‬‬
‫ــ لقد كانت الصورة الظاهرة من شروط احلديبية فيها ضيم للمسلمني‪ ،‬وهي يف باطنها عز‪ ،‬وفتح‪ ،‬ونصر‪ ،‬حيث كان رسول اهلل‬

‫صلى اهلل عليه وسلم ينظر إىل ما وراء املعاهدة من الفتح العظيم من وراء سرت دقيق‪ ،‬وكان يعطي املشركني كل ما سألوه من‬

‫الشروط اليت مل حيتملها أكثر أصحابه ورؤوسهم‪ ،‬وهو صلى اهلل عليه وسلم يعلم ما يف ضمن هذا املكروه من حمبوب‪.1‬‬

‫ــ إن املعاهدة قد تكون مفتوحة ملن حيب أن يدخل فيها من األطراف‪ ،‬أو الدول األخرى وهذا ما عليه القانون الدويل‪ ،‬حيث‬

‫أجاز أن تكون املعاهدة مفتوحة ملن حيب الدخول فيها من األطراف األخرى فقد دخلت خزاعة وكنانة يف الصلح الذي أهنى‬

‫حالة احلرب القائمة بني هاتني القبيلتني واليت امتدت سنوات عديدة‪.‬‬

‫ــ إن املعاهدة البد هلا من توقيع األطراف واإلشهاد عليها وتوقيع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وإشهاد الصحابة إمنا هو مبثابة‬

‫التوقيع على املعاهدة‪ ،‬والتصديق عليها‪ ،‬كما هو يف القانون الدويل العام‪.‬‬

‫ــ إن املعاهدة جيوز أن يكون الوسيط فيها طرفاً حمايد ًا أو طرفاً يقرِّب بني وجهات النظر‪ ،‬كوساطة سيد األحابيش "احلُليس بن‬

‫علقمة" حليف قريش األكرب‪ ،‬حيث طلبت منه قريش أن يكون وسيطاً بينهم وبني املسلمني‪ ،‬وكان احلليس ذا عقل راجح‬

‫وبصرية نافذة‪ ،‬وكان سيدًا مطاعاً‪ ،‬وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعرفه ويعرف فيه التألُّه الشديد‪ ،‬والتعظيم للحرم‬

‫وعندما اختارته قريش كانت تطمع يف أن يكون ملركزه املمتاز بني العرب‪ ،‬وملا يتمتع به من تقدير لدى النيب صلى اهلل عليه وسلم‬

‫‪ 1‬المعاهدات في الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ص‪.272 :‬‬

‫‪272‬‬
‫تأثري على الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه‪ ،1‬وهذا ما يقرُّه القانون الدويل؛ حيث إن املعاهدة قد تعقد بواسطة دولة‬

‫أخرى ليست طرفاً يف النزاع أو أحد املبعوثني الذين ال عالقة هلم‪ ،‬أو لدولتهم بالنِّزاع القائم بني طريف التعاقد‪.‬‬

‫ــ إن املعاهدة تعدُّ نافذة املفعول مبجرَّد االتفاق على املعاهدة وشروطها‪ ،‬حتى لو مل تكتب‪ ،‬ولو مل يوقع عليها الطرفان‪ ،‬وذلك كما‬

‫حدث ألبي جندل بن سهيل بن عمرو الذي ردّه الرّسول صلى اهلل عليه وسلم مبوجب قبوله عليه السالم بالبند اخلامس من‬

‫املعاهدة والذي يقول‪ :‬على أنه من أتى حممداً من قريش بغري إذن وليه ردّه عليهم‪ ،‬فمنذ أعلن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬

‫التزامه هبذا الشرط أجراه ومل تكن املعاهدة قد كتبت بعد ومل يوقع عليها الطرفان‪.‬‬

‫ــ إن املعاهدة تكتب من نسختني‪ ،‬وي أخذ كلُّ طرف نسخة طبق األصل من املعاهدة‪ ،‬حيث إنه بعد أن متَّت إجراءات الصُّلح‬

‫النهائي يف احلديبية؛ أخذ كل من الفريقني نسخة من وثيقة الصلح التارخيية وانصرف الوفد القرشي راجعاً إىل مكة‪.2‬‬

‫‪ ‬ـ موقف أبي جندل والوفاء بالعهد‪:‬‬

‫إن من أبلغ دروس صلح احلديبية درس الوفاء بالعهد والتقيُّد مبا فرضه شرف الكلمة من الوفاء بااللتزامات اليت يقطعها املسلم‬

‫على نفسه‪ ،‬وقد ضرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بنفسه أعلى مثل يف التاريخ القديم‪ ،‬واحلديث الحرتام كلمة مل تكتب‬

‫واحرتام كلمة تكتب كذلك‪ ،‬ويف اجلدِّ يف عهوده‪ ،‬وجِّه للصراحة‪ ،‬والواقعية‪ ،‬وبغضه التحايل وااللتواء والكيد‪ ،‬وذلك حينما‬

‫‪ 1‬صلح الحديبية‪ ،‬لباشميل‪ ،‬ص‪ 199 :‬ـ ‪.200‬‬


‫‪ 2‬المعاهدات في الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ص‪.273 :‬‬

‫‪273‬‬
‫كان يفاوض "سهيل بن عمرو" يف احلديبية‪ ،‬حيث جاءه ابن سهيل يرسف يف األغالل‪ ،‬وقد ف ّر من مشركي مكة‪ ،‬وكان أبوه‬

‫يتفاوض مع الرّسول صلى اهلل عليه وسلم وكان هذا االبن ممَّن آمنوا باإلسالم وجاء مستفرحاً باملسلمني‪ ،‬وقد انغلق من أيدي‬

‫املشركني فلما رأى سهيل ابنه قام إليه وأخذه بتالبيبه وقال‪ :‬لقد جلَّت القضية بيين وبينك ـ أي ـ فرغنا من املناقشة قبل أن يأتيك‬

‫هذا فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬صدقت»‪ ،‬فقال أبو جندل‪ :‬يا معشر املسلمني أُردُّ إىل املشركني يفتنونين يف ديين؟‬

‫فلم يغن عنه ذلك شيئ ًا وردّه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقال ألبي جندل‪« :‬إنا قد عقدنا بيننا وبني القوم صلحاً‪،‬‬

‫وأعطيناهم على ذلك‪ ،‬وأعطونا عهداً‪ ،‬وإنا ال نغدر هبم»‪ ،‬غري أن النيب صلى اهلل عليه وسلم إزاء هذه املأساة اليت حالت بنود‬

‫معاهدة الصُّلح بينه وبني أن جيد خمرجاً منها ألبي جندل املسلم‪ ،‬طمأن أبا جندل وبشره بقرب الفرج له‪ ،‬وملن على شاكلته من‬

‫املسلمني‪ ،‬وقال له ـ وهو يواسيه ـ‪ « :‬يا أبا جندل اصرب‪ ،‬واحتسب‪ ،‬فإن اهلل جاعل لك وملن معك من املستضعفني فرجاً‬

‫وخمرجاً»‪.1‬‬

‫ويف هذه الكلمة النبوية املشرقة العظيمة داللة ليس فوقها داللة على مقدار حرص رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ومتسكه‬

‫بفضيلة الوفاء بالعهد مهما كانت نتائجه وعواقبه فيما يبدو للناس‪.2‬‬

‫‪ 1‬المعاهدات في الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ص‪.273 :‬‬


‫‪ 2‬محمد رسول اهلل‪ ،‬صادق عرجون (‪.)275 /4‬‬

‫‪274‬‬
‫لقد كان درس أبي جندل امتحاناً قاسي ًا ورهيب ًا هلذا الوفاء بالعهد‪ ،‬أثبت فيه الرسول صلى اهلل واملسلمون جناحاً عظيما يف‬

‫كبت عواطفهم وحبس مشاعرهم وقد صربوا ملنظر أخيهم أبي جندل‪ ،‬وتأثروا من ذلك املشهد عندما كان أبوه جيتذبه يف‬

‫تالبيبه‪ ،‬والدماء تنزف منه مما زاد يف إيالمهم‪ ،‬حتى إن الكثريين منهم أخذوا يبكون مبرارة إشفاقاً منهم على أخيهم يف العقيدة‬

‫وهم ينظرون إىل أبيه املشرك‪ ،‬وهو يسحبه بفظاظة الوث ين اجللف‪ ،‬ليعود به مرة أخرى إىل سجنه الرهيب يف مكة وقد صرب أبو‬

‫جندل واحتسب ملصابه يف سبيل دينه وعقيدته وحتقق فيه قوله تعاىل‪﴿ :‬وَمَن يَتَّقِ اهللَ َيجْعَل لَّهُ َمخْرَجًا * ويَرْزُقْهُ مِنْ حَ ْيثُ لَا‬

‫ب وَمَن يَ َتوَكَّلْ عَلَى اهللِ َفهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اهللَ بَالِغُ أَمْرهِ قَدْ جَعَلَ اهللُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ (الطالق‪ ،‬آية‪ 2 :‬ـ ‪.)3‬‬
‫يَحْ َتسِ ُ‬

‫فلم مت َّر أقلُّ من سنة حتى متكن مع إخوته املسلمني املستضعفني مبكة من اإلفالت من سجون مكة‪ ،‬وأصبحوا قوّة صار كفار‬

‫مكة ختشوهنا بعد أن انضموا إىل أبي بصري‪ ،‬وسيطروا على طرق قوافل املشركني اآلتية من الشام‪.1‬‬

‫‪ ‬ـ احرتام املعارضة النزيهة‪:‬‬

‫بعد االتفاق على معاهدة الصّلح‪ ،‬وقبل تسجيل بنودها ظهرت بني املسلمني معارضة شديدة وقوية هلذه االتفاقية وخاصة يف‬

‫البندين اللذين يلتزم النيبُّ صلى اهلل عليه وسلم مبوجبهما بردِّ من جاءه من املسلمني الجئاً‪ ،‬وال تلتزم قريش بردِّ من جاءها من‬

‫املسلمني مرتداً ‪ ،‬والبند الذي يقضي بأن يعود املسلمون من احلديبية إىل املدينة دون أن يدخلوا مكة ذلك العام‪ ،‬وقد كان أشدّ‬

‫‪ 1‬صلح الحديبية‪ ،‬باشميل‪ ،‬ص‪ 322 :‬إلى ‪.325‬‬

‫‪275‬‬
‫الناس معارضة هلذه االتفاقية وانتقاداً هلا عمر بن اخلطاب‪ ،‬وأسيد بن حضري سيد األوس وسعد بن عبادة سيد اخلزرج‪ .‬وقد‬

‫ذكر املؤرخون‪ :‬أن عمر بن اخلطاب أتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مُعلناً معارضته هلذه االتفاقية وقال لرسول اهلل صلى‬

‫ت برسول اهلل؟ قال‪« :‬بلى!» قال‪ :‬أولسنا باملسلمني؟ قال‪« :‬بلى» قال‪ :‬أوليسوا باملشركني؟ قال‪:‬‬
‫اهلل عليه وسلم‪ :‬ألس َ‬

‫«بلى» قال‪ :‬فعالم نعطي الدنية يف ديننا؟ قال‪« :‬إني رسول اهلل‪ ،‬ولست أعصيه»‪ ،1‬ويف رواية‪« :‬أنا عبد اهلل‪ ،‬ورسوله‪ ،‬لن‬

‫أخالف أمره‪ ،‬ولن يُصيِّعين»‪ ،2‬قلت‪ :‬أوليس كنت حتدِّثنا ان سنأتي البيت فنطوف به؟ قال‪« :‬بلى‪ ،‬فأخربتك أن نأتيه العام؟»‬

‫قلت‪ :‬ال‪ .‬قال‪ :‬فإنك آتيه ومطوِّف به ‪ .‬قال عمر‪ :‬فأتيت أبا بكر‪ ،‬فقلت له‪ :‬يا أبا بكر أليس برسول اهلل؟ قال‪ :‬بلى! قال‪:‬‬

‫أولسنا باملسلمني؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬فقال‪ :‬أوليسوا باملشركني؟ قال‪ :‬بلى! قلت‪ :‬فعالم نُعطي الدَّنية يف ديننا؟ فقال أبو بكر ـ ناصح ًا‬

‫الفاروق بأن يرتك االحتجاج واملعارضة ـ ‪ :‬الزم غرزه ـ أي‪ :‬أمره فأتي أشهد أنه رسول اهلل‪ ،‬وأن احلق ما أمر به‪ ،‬ولن خيالف أمر‬

‫اهلل‪ ،‬ولن يضيعه‪.3‬‬

‫وبعد حادثة أبي جندل املؤملة املؤثرة عاد الصحابة إىل جتديد املعارضة والصلح‪ ،‬وذهبت جمموعة منهم إىل رسول اهلل صلى‬

‫اهلل عليه وسلم بينهم عمر بن اخلطاب ملراجعته‪ ،‬وإعالن معارضتهم‪ ،‬إال أن النيبَّ صلى اهلل عليه وسلم مبا أعطاه اهلل من صرب‪،‬‬

‫‪ 1‬من معين السيرة‪ ،‬صالح الشامي‪ ،‬ص‪.333 :‬‬


‫‪ 2‬تاريخ الطبري (‪.)634 /2‬‬
‫‪3‬السيرة النبوية البن هشام (‪.)346 /3‬‬

‫‪276‬‬
‫وحكمة‪ ،‬وحلم وقوة حجة استطاع أن يقنع املعارضني بوجاهة الصلح‪ ،‬وأنه يف صاحل املسلمني‪ ،‬وأنه نصر هلم‪ ،‬وأن اهلل سيجعل‬

‫للمستضعفني من أمثال أبي جندل فرجاً وخمرجاً‪ ،‬وقد حتقق ما أخرب به صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫وهبذا يتبيَّن‪ :‬أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم وضع قاعدة احرتام املعارضة النزيهة‪ ،‬حيث قرَّر ذلك بقوله‪ ،‬وفعله‪ ،‬وهو ـ واهلل‬

‫أعلم ـ إمنا أراد هبذا الفعل إرشاد القادة من بعده إىل احرتام املعارضة النزيهة اليت تصدر من أتباعهم‪ ،‬وذلك بتشجيع األتباع على‬

‫إبداء اآلراء السَّليمة اليت ختدم املصلحة العامة‪.1‬‬

‫وهذا اهلدي النبوي الكريم بيّن‪ :‬أن حرية الرأي مكفولة يف اجملتمع اإلسالمي‪ ،‬وأنَّ للفرد يف اجملتمع املسلم احلرّية يف التعبري عن‬

‫رأيه‪ ،‬ولو كان هذا الرّأي نقداً ملوقف حاكم من احلكّام‪ ،‬أو خليفة من اخللفاء‪ ،‬فمن حق الفرد املسلم أن يبني وجهة نظره يف ج ِّو من‬

‫األمن واألمان دون إرهاب‪ ،‬أو تسلط خينق حرية الكلمة‪ ،‬والفكر‪.‬‬

‫ونفهم من معارضة عمر لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أن املعارضة لرئيس الدولة يف رأي من اآلراء‪ ،‬وموقف من املواقف‬

‫ليست جرمية تستوجب العقاب‪ ،‬ويغيَّب صاحبها يف غياهب السجون‪.2‬‬

‫‪ ‬ـ نتائج صلح احلديبية‪:‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية (‪ )306 /2‬للصَّالَّبي‪.‬‬


‫‪ 2‬غزوة الحديبية ألبي فارس‪ ،‬ص‪.135 ،134 :‬‬

‫‪277‬‬
‫لقد أيقن الصحابة الكرام أن الدّعوة قد دخلت يف طور جديد‪ ،‬وفتح جديد‪ ،‬وآفاق أوسع‪ ،‬وامتداد أرحب‪ ،‬وأن من طبيعة‬

‫هذا الدين أن ينمو وينتعش يف أجواء السِّلم واألمن‪ ،‬أكثر منه يف وقت احلرب وملسوا مع األيام نتائج صلح احلديبية اليت كان من‬

‫أمهها‪:‬‬

‫ــ اعرتفت قريش يف هذه املعاهدة بكيان الدولة املسلمة فاملعاهدة دائماً ال تكون إال بني ندَّين وكان هلذا االعرتاف أثره يف نفوس‬

‫القبائل املتأثرة مبوقف قريش اجلحوديِّ حيث كانوا يرون‪ :‬أهنا اإلمام والقدوة‪.‬‬

‫ــ دخلت املهابة يف قلوب املشركني‪ ،‬واملنافقني‪ ،‬وتيقَّن الكثري منهم بغلبة اإلسالم وقد جتلَّت بعض مظاهر ذلك من مبادرة كثري‬

‫من صن اديد قريش إىل اإلسالم‪ ،‬مثل خالد بن الوليد‪ ،‬وعمرو بن العاص‪ ،‬كما جتلت يف مسارعة األعراب اجملاورين للمدينة إىل‬

‫االعتذار عن ختلفهم‪.‬‬

‫ــ أعطت اهلدنة فرصة لنشر اإلسالم‪ ،‬وتعريف الناس به‪ ،‬ممَّا أدى إىل دخول كثري من القبائل فيه‪ ،‬يقول اإلمام الزُّهري‪ :‬فما فتح يف‬

‫اإلسالم فتح قبله كان أعظم منه‪ ،‬إمنا كان القتال حيث التقى الناس‪ ،‬فلمّا كانت اهلدنة‪ ،‬ووضعت احلرب‪ ،‬وأمن الناس بعضهم‬

‫ب عضا والتقوا‪ ،‬فتفاوضوا يف احلديث واملنازعة فلم يكلم أحد باإلسالم يعقل شيئ ًا إال دخل فيه‪ ،‬ولقد دخل يف تينك السنتني مثل‬

‫ما كان يف اإلسالم قبل ذلك‪.1‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية البن هشام (‪.)351 /3‬‬

‫‪278‬‬
‫وعقب عليه ابن هشام بقوله‪ :‬والدليل على قول الزُّهري‪ :‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خرج إىل احلديبية يف ألف وأربعمائة‬

‫يف قول جابر بن عبد اهلل‪ ،‬ثم خرج يف عام الفتح بعد ذلك بسنتني يف عشرة آالف‪.1‬‬

‫ــ أمن املسلمون جانب قريش‪ ،‬فجوَّلوا ثقلهم على اليهود ومن كان يناوئهم من القبائل األخرى‪ ،‬فكانت غزوة خيرب بعد صلح‬

‫احلديبية‪.‬‬

‫ــ مفاوضات الصُّلح جعلت حلفاء قريش يفقهون موقف املسل مني‪ ،‬ومييلون إليه‪ ،‬فهذا احلليس بن علقمة عندما رأى املسلمني‬

‫يلبُّون؛ رجع إىل أصحابه قال‪ :‬لقد رأيت قد قلت‪ ،‬وأشعرت‪ ،‬فما أرى أن يصدُّوا عن البيت‪.‬‬

‫ــ مكَّن صلح احلديبية النيب صلى اهلل عليه وسلم من جتهيز غزوة مؤتة‪ ،‬فكانت خطوة جديدة لنقل الدعوة اإلسالمية بأسلوب‬

‫آخر خارج اجلزيرة العَربية‪.‬‬

‫ــ ساعد صلح احلديبية النيبَّ صلى اهلل عليه وسلم على إرسال رسائل إىل ملوك الفرس‪ ،‬والرُّوم‪ ،‬والضبط يدعوهم إىل‬

‫اإلسالم‪.‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪.)352 ،351 /3‬‬

‫‪279‬‬
‫ــ كان صلح احلديبية سبباً ومقدمة لفتح مكة‪ ،‬يقول‪ :‬ابن القيم‪ :‬كانت اهلدنة مقدمة بني يدي الفتح األعظم الذي أعزَّ اهلل به‬

‫رسوله‪ ،‬وجنده‪ ،‬ودخل الناس به يف دين اهلل أفواجاً‪ ،‬فكانت هذه اهلدنة باباً له‪ ،‬ومفتاحاً ومؤذناً بني يديه‪ ،‬وهذه سنة اهلل ـ‬

‫سبحانه ـ يف األمور العظام اليت يقضيها قدراً‪ ،‬وشرعا أن يوطَّى هلا بني يديها مقدِّمات‪ ،‬وتوطئات تؤذِن هبا‪ ،‬وتدل عليها‪.1‬‬

‫‪14‬ـ العالقات اخلارجية‪:‬‬

‫فقد انساح هذا امل ُّد إىل أطراف اجلزيرة العرب ية‪ ،‬بل جتاوزها إىل ما وراء حدود اجلزيرة العربية‪ ،‬فمنذ أن عقد الرّسول صلى اهلل‬

‫عليه وسلم صلح احلديبية مع قريش‪ ،‬وما تال ذلك من إخضاع يهود مشال احلجاز يف خيرب‪ ،‬ووادي القرى‪ ،‬وتيماء وفدك‪ ،‬إىل‬

‫سيادة اإلسالم؛ فإن الرسول صلى اهلل عليه وسلم مل يألُ جهداً لنشر اإلسالم خارج حدود احلجاز‪ ،‬وكذلك خارج حدود‬

‫اجلزيرة العربيَّة‪ ،‬وقد عبَّر صلى اهلل عليه وسلم عن هذا املنهج قوالً وعم ًال من خالل إرساله عدد ًا من الرسل واملبعوثني إىل أمراء‬

‫أطراف اجلزيرة العربية‪ ،‬وإىل ملوك العامل املعاصر خارج اجلزيرة العربية ويشري املنهج النبوي يف دعوة الزعماء وامللوك إىل ما جيُب‬

‫أن تكون عليه وسائل الدّعوة‪ ،‬فإىل جانب دعوة األمراء‪ ،‬والشعوب اختار الرّسول صلى اهلل عليه وسلم أسلوباً جديداً من‬

‫أساليب الدّعوة وهو مراسلة امللوك ورؤساء القبائل‪ ،‬وكان ألسلوب إرسال الرّسائل إىل امللوك واألمراء أثر بارز يف دخول‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصَّالَّبي (‪.)348 /2‬‬

‫‪280‬‬
‫بعضهم اإلسالم‪ ،‬وإظهار الودّ من البعض اآلخر‪ ،‬كما كشفت هذه الرسائل مواقف بعض امللوك واألمراء من الدّعوة اإلسالمية‪،‬‬

‫ودولتها يف املدينة‪ ،‬وبذلك حققت هذه الرّسائل نتائج كثرية‪ ،‬واستطاعت الدولة اإلسالمّية من خالل ردود الفعل املختلفة جتاه‬

‫الرّسائل أن تنتهج هنجاً سياسياً‪ ،‬وعسكرياً واضحاً ومتميزاً وإليك أهم هذه الرسائل‪:‬‬

‫أ ـ فقد وردت رواية صحيحة‪ ،‬تضمنت نص كتاب النيب صلى اهلل عليه وسلم الذي بعثه مع دحية الكليب إىل هرقل عظيم‬

‫الروم‪ ،1‬وذلك يف مدة هدنة احلديبية وهو كما يلي‪ :‬بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬من حممد بن عبد اهلل ورسوله إىل هرقل عظيم‬

‫الرّوم‪ ،‬سالم على من اتبع اهلدى‪ :‬أما بعد‪ :‬فإني أدعوك بدعاية اإلسالم‪ ،‬أسلم تسلم‪ ،‬يؤتك اهلل أجرك مرتني‪ ،‬فإن توليت فعليك‬

‫هلل وَالَ ُنشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَالَ يَ َّتخِذَ بَعْضُنَا َبعْضاً‬


‫إثم األريِّسَّيني ﴿قُلْ يَا أَهْ َل الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْ َننَا وَ َب ْينَكُمْ أَالَّ نَعْبُدَ ِإالَّ ا َ‬

‫أَرْبَابًا مِّن دُونِ اهللِ َفإِن تَوَ َّلوْاْ فَقُولُو ْا اشْهَدُواْ بِأَنَّا ُمسْلِمُونَ﴾ (آل عمران‪ ،‬آية‪.2)64 :‬‬

‫ولقد تسلَّم هرقل رسالة النَّيبِّ صلى اهلل عليه وسلم ودقَّق يف األمر كما يف احلديث الطويل املشهور بني أبي سفيان وهرقل املروي‬

‫يف الصَّحيحني حني سأله عن أحوال النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم وقال بعد ذلك ألبي سفيان‪ :‬إن كان ما تقول حقاً‪ ،‬فسيملك‬

‫‪ 1‬نضرة النعيم (‪.)344 /1‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.4553 :‬‬

‫‪281‬‬
‫موضع قدمي هاتني‪ ،‬وقد كنت أعلم‪ :‬أنه خارج ومل أكن أظنُّه منكم‪ ،‬فلو أنِّي أعلم أنِّي أخلص إليه؛ لتجشمت لقاءه ولو كنت‬

‫عنده لغسلت عن قدميه‪.1‬‬

‫ب ـ أرسل النيب صلى اهلل عليه وسلم بكتاب إىل كسرى ملك اإلمرباطورية الفارسية‪ ،‬مع عبد اهلل بن حذافة السهميِّ‪" ،‬أمره أن‬

‫يدفعه إىل عظيم البحرين‪ ، 2‬فدفعه عظيم البحرين إىل كسرى‪ ،‬فلمَّا قرأه مزَّقه‪ ،‬فدعا عليه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن‬

‫يُمزَّقوا كل ممزَّق‪.3‬‬

‫ونصُّ الرسالة كما أوردها الطربيُّ كالتايل‪ :‬بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬من حممد رسول اهلل‪ ،‬إىل كسرى عظيم فارس‪ ،‬سالم على‬

‫من اتبع اهلُدى وآمن باهلل‪ ،‬ورسوله‪ ،‬وشهد أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأني رسول اهلل إىل الناس كافة‪ ،‬لينذر من كان حيًّا أسلم تسلم‪ ،‬فإن‬

‫أبيت‪ ،‬فعليك إثمُ اجملوس‪.4‬‬

‫ج ـ أمّا كتاب النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم غلى النجاشي ملك احلبشة فقد أرسله مع عمرو بن أمية الضمريِّ وقد جاء يف‬

‫الكتاب‪ « :‬بسم اهلل الرمحن الرحيم‪ ،‬من حممد رسول اهلل‪ ،‬إىل النجاشي ملك احلبشة‪ ،‬أسلم أنت‪ ،‬فإني أمحد إليك اهلل الذي ال‬

‫إله إال هو امللك‪ ،‬القدوس‪ ،‬السالم‪ ،‬املؤمن‪ ،‬املهيمن‪ ،‬وأشهد أن عيسى ابن مريم روح اهلل وكلمته ألقاها إىل مريم البتول الطيبة‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.4553 :‬‬


‫‪ 2‬شرح المواهب اللدنية (‪.)341 /3‬‬
‫‪ 3‬دالئل النبوة البيهقي (‪.)387 /4‬‬
‫‪ 4‬تاريخ الطبري (‪ 654 /2‬ـ ‪.)655‬‬

‫‪282‬‬
‫احلصينة‪ ،‬فحملت به‪ ،‬فخلقه من روحه‪ ،‬ونفخه كما خلق آدم بيده‪ ،‬وإني أدعوك إىل اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬واملواالة يف طاعته‪،‬‬

‫وأن تتبعين‪ ،‬وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول اهلل‪ ،‬وإني أدعوك‪ ،‬وجنودك إىل اهلل ـ عز وجلَّ ـ وقد بلغت‪ ،‬ونصحت‪ ،‬فاقبلوا‬

‫نصيحيت والسالم على من اتبع اهلدى»‪.1‬‬

‫د ـ أما كتاب النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم إىل املقوقس حاكم مصر‪ ،2‬وكذلك ردُّ املقوقس إليه‪ ،3‬فلم يثبت من طرق صحيحة وال‬

‫يعين ذلك نفي إرسال الكتاب إليه‪ ،‬كما أن ذلك ال يعين الطعن بصحة النصوص من الناحية التارخيية‪ ،‬فرمبا تكون صحيحة من‬

‫حيث الشكل واملضمون‪ ،‬غري أهنا ال ميكن أن حيتج هبا يف السياسة الشرعية‪ ،4‬فلقد أورد حممد بن سعد يف طبقاته‪ :5‬أن النيب‬

‫صلى اهلل عليه وسلم بعث إىل املقوقس‪ ،‬جُريج بن مينا ملك اإلسكندرية وعظيم القبط‪ ،‬كتاباً مع حاطب بن أبي بلتعة‬

‫يب صلى اهلل عليه وسلم عدّة هدايا كان بينها مارية‬
‫اللخميِّ‪ ،‬وأنه قال خرياً‪ ،‬وقارب األمر‪ ،‬غري أنه مل يسلم‪ ،‬وأهدى إىل الن ِّ‬

‫القبطيّة وأنه ملا ورد جواب املقوقس إىل النيبِّ صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬ضنَّ اخلبيث مبُلكه‪ ،‬والبقاء مللكه»‪.6‬‬

‫‪ 1‬نصب الراية للزيلعي (‪.)421 /4‬‬


‫‪ 2‬نضرة النعيم (‪.)346 /1‬‬
‫‪ 3‬السيرة النبوية (‪ )350 /2‬للصَّالَّبي‪.‬‬
‫‪ 4‬السيرة النبوية الصحيحة (‪.)459 /2‬‬
‫‪ 5‬الطبقات الكبرى (‪ 260 /1‬ـ ‪.)261‬‬
‫‪ 6‬الطبقات الكبرى البن سعد‪ ،‬حديث رقم‪.614 :‬‬

‫‪283‬‬
‫هـ ـ وبعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم شجاع بن وهب‪ ،‬أخا بين أسد بن خزمية برسالة إىل املنذر بن احلارث بن أبي مشر‬

‫الغسَّاني صاحب دمشق‪ ،1‬حني عودته واملسلمني من احلديبية‪ ،‬وقد تضمَّن الرسالة قوله‪« :‬سالم على من اتَّبع اهلدى‪ ،‬وآمن‬

‫به‪ ،‬إنَّي أدعوك إىل أن تؤمن باهلل وحده ال شريك له‪ ،‬يُبقي لك ملكك»‪.2‬‬

‫و ـ وأرسل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سُلَيطَ بن عمرو العامريَّ بكتاب إىل هوذة بن عليِّ احلنفي‪ ،3‬عند مقدمه من احلديبية‬

‫وقد اشرتط هوذة احلنفي على الرسول صلى اهلل عليه وسلم بعد قراءته رسالته إليه أن جيعل له بعض األمر معه‪ ،‬فرفض النيبُّ‬

‫صلى اهلل عليه وسلم أن يقبل ذلك‪.4‬‬

‫ز ـ وأرسل صلى اهلل عليه وسلم أبا العالء احلضرمي‪ ،5‬بكتابه إىل املنذر بن ساوى العبديِّ‪ ،‬أمري البحرين بعد انصرافه من‬

‫احلديبية‪ ،‬ونقلت املصادر التارخيية‪ :‬أن املنذر قد استجاب لكتاب النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فأسلم‪ ،‬وأسلم معه مجيع‬

‫العرب بالبحرين‪ ،‬فأما أهل البالد من اليهود واجملوس فإنَّهم صاحلوا العالء واملنذر على اجلزية من كل حامل‪ 6‬دينار‪ :‬أي‪ :‬على كل‬

‫بالغ دينار ونقل أبو عبيدة القاسم بن سالم نص كتاب النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل املنذر بن ساوى برواية عروة بن الزبري‪ ،‬وجاء‬

‫فيه‪:‬‬

‫‪ 1‬تاريخ الطبري (‪.)652 /2‬‬


‫‪ 2‬نصب الراية للزيلعي (‪.)424 /4‬‬
‫‪ 3‬كان صاحب اليمامة‪ ،‬ومات بعد فتح مكة بقليل‪.‬‬
‫‪ 4‬نصب الراية للزيلعي (‪.)425 /4‬‬
‫‪ 5‬صبح األعشى للقلقشندي (‪.)368 /6‬‬
‫‪6‬نصب الراية (‪.)420 /4‬‬

‫‪284‬‬
‫« سالم أنت‪ ،‬فإني أمحد إليك اهلل الذي ال إله إال هو‪ ،‬أمَّا بعد فإن من صلَّى صالتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا‪ ،‬فذلك املسلم‬

‫الذي له ذمَّة اهلل‪ ،‬وذمَّة الرّسول‪ ،‬فمن أحبَّ ذلك من اجملوس‪ ،‬فإنه آمن‪ ،‬ومن أبى‪ ،‬فإن اجلزية عليه»‪.1‬‬

‫ويف ذي القعدة سنة (‪ 8‬هـ) بعث النيبُّ صلى اهلل عليه وسلم عمرو بن العاص بكتابه إىل جيفر وعدد ابين اجلُلُندي األزديَّني‬

‫بعمان‪.2‬‬

‫وقد جاء فيه‪« :‬من حممد النيب رسول اهلل لعباد اهلل األزديَّني ملوك عمان‪ ،‬وأسد عمان‪ ،‬ومن كان منهم بالبحرين‪ ،‬إهنم إن آمنوا‪،‬‬

‫وأقاموا الصَّالة‪ ،‬وآتوا الزكاة‪ ،‬وأطاعوا اهلل ورسوله‪ ،‬وأعطوا حق النّيبِّ صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ونسكوا نسك املؤمنني‪ ،‬فإهنم‬

‫آمنون وأن هلم ما أسلموا عليه‪ ،‬غري أنَّ بيت النار ثنيا هلل ورسوله وأن عشور التمر صدقة‪ ،‬ونصف عشور احلبِّ وأن للمسلمني‬

‫نصرهم‪ ،‬ونصحهم‪ ،‬وأن هلم على املسلمني مثل ذلك وأن هلم أرجاءهم يطحنون هبا ما شاؤوا»‪.3‬‬

‫وأوردت املصادر بعد ذلك عدداً كبرياً من املرويات عن رسائل أخرى مل تثبت من الناحية احلديثية‪.4‬‬

‫ـ مواصفات رجل الدِّبلوماسية اإلسالمية‪:‬‬

‫‪ 1‬األموال ألبي عبيد‪ ،‬ص‪ ،30 :‬رقم‪.50 :‬‬


‫‪ 2‬صبح األعشى (‪.)376 /6‬‬
‫‪ 3‬أبو عبيد في كتاب األموال‪ ،‬ص‪ ،31 ،30 :‬رقم‪.52 :‬‬
‫‪ 4‬نضرة النعيم (‪.)348 /1‬‬

‫‪285‬‬
‫قام اللواء الرُّكن حممود شيت خطَّاب جبم ع الرّسائل‪ ،‬وحتدَّث عن الرسل يف كتابه الفريد "سفراء النيب صلى اهلل عليه وسلم"‬

‫استنبط من خالهلا شروط ومواصفات رجل الدِّبلوماسية اإلسالمية ومن أهم تلك الشروط واملواصفات‪:‬‬

‫ــ اإلسالم والدعوة إليه‪:‬‬

‫قال تعاىل‪﴿ :‬قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي َأدْعُو إِلَى اهللِ َعلَى بَصِريَةٍ أنَاْ وَ َمنِ اتَّبَ َعنِي وَسُبْحَانَ اهللِ َومَا أنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِنيَ﴾ (يوسف‪ ،‬آية‪:‬‬

‫‪ .)108‬وإذا كان املسلمون كلهم دعاة إىل اهلل تعاىل؛ فرُسُل النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل امللوك واألمراء يف زمانه هم صفوة‬

‫الدُّعاة‪.1‬‬

‫ــ الفصاحة والوضوح‪:‬‬

‫الفصاحة وجزالة اللفظ‪ ،‬والدِّ قَّة يف توصيل املعاني إىل السامعني شرط أساسي يف الرّجل الذي يتصدى للمهمة الدبلوماسية‪،‬‬

‫وقد طلب موسى تدعيمه مبوقف الفصاحة من هارون أخيه ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّ ْن أَ ْهلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُ ْد بِ ِه‬

‫أَزْرِي﴾ (طه ‪ ،‬آية‪ 29 :‬ـ ‪.)31‬‬

‫‪ 1‬سفراء الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬محمود شيت (‪.)258 /2‬‬

‫‪286‬‬
‫ــ وقد ا ختار الرّسول صلى اهلل عليه وسلم كلَّ سفرائه ومبعوثيه من العرب الذين تربَّوا يف اجلزيرة العربية مع البدو أحياناً فقد كانوا‬

‫أصحاب نقاوة‪ ،‬مل تتكدر باختالط األعجام بعد‪ ،‬فقد كانوا على قدر كبري من الفصاحة والوضوح‪.‬‬

‫ــ حسن اخللق‪:‬‬

‫أخالق السفري النبوي هو أخالق اإلسالم اليت بينها اهلل ـ سبحانه وتعاىل ـ يف القرآن الكريم‪ ،‬وفصَّلها رسول اهلل صلى اهلل عليه‬

‫وسلم يف سنَّته وأمهّها يف السفري‪ :‬الصدق‪ ،‬والتواضع‪.1‬‬

‫ــ العلم‪:‬‬

‫ال يزيد هنا أن نبني منزلة العلم‪ ،‬ألن الكالم على هذه املسألة طويل‪ ،‬ولكننا نؤكد هنا‪ :‬أن العلم بالشيء هو وسيلة نقل الفكرة‬

‫واملبدأ‪ ،‬لذا عندما ننظر إىل جعفر بن أبي طالب رضي اهلل عنه وهو حياور النجاشي‪ ،‬ثم يقرأ عليه سورة ﴿كهيعص﴾ نتيقَّن‬

‫من دقة االختيار النبوي‪ ،‬ونصاعة خطاب العامل ودقة اختياره لأللفاظ والعبارات‪.2‬‬

‫ــ الصَّرب‪:‬‬

‫قال تعاىل‪﴿ :‬فَاصْبِ ْر كَمَا صَبَ َر ُأوْلُوا الْعَ ْزمِ مِ َن الرُّسُلِ وَلَا َتسْتَ ْعجِل لَّهُ ْم كَأَنَّهُمْ يَوْ َم يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ‬

‫فَهَلْ يُ ْهلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (األحقاف‪ ،‬آية‪.)35 :‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪.)278 /2‬‬


‫‪ 2‬الفقه السياسي للوثائق النبوية‪ ،‬خالد الفهداوي‪ ،‬ص‪.114 :‬‬

‫‪287‬‬
‫واحلقيقة‪ :‬أن الصرب هو عدّة الدّاعية‪ ،‬وزاده املستمر‪ ،‬ولو تصفحت سرية الرسول صلى اهلل عليه وسلم وسرية صحابته‬

‫األجالّء‪ ،‬لوجدهتا حافلة بالصرب على الدعوة‪ ،‬وموقف الطائف شاهد على ذلك‪.‬‬

‫ــ الشجاعة‪:‬‬

‫وقد حتدّث التاريخ اإلسالمي عن شجاعة السفراء‪ ،‬والذين أرسلهم الرّسول صلى اهلل عليه وسلم إىل امللوك وأهنم كانوا ال‬

‫خيافون لومة الئم‪.‬‬

‫ــ احلكمة‪:‬‬

‫وقد كان سفراء الرّسول صلى اهلل عليه وسلم يتصفون باحلكمة فهذا عمرو بن العاص كان مسدداً يف أقواله‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬قيل‬

‫لعمرو‪ :‬ما العاقل؟‪ ،‬قال‪ :‬اإلصابة بالظن‪ :‬ومعرفة ما يكون مبا قد كان‪ ،‬ليس العاقل الذي يعرف اخلري من الشَّرِّ‪ ،‬إمنا العاقل الذي‬

‫يعرف خري الشرَّين‪.1‬‬

‫ــ سعة احليلة‪:‬‬

‫‪ 1‬الفقه السياسي للوثائق النبوية (‪.)301 /2‬‬

‫‪288‬‬
‫جيب أن يكون السَّفري مدركاً ألبعاد املناورة السياسيَّة‪ ،‬متأنياً كتوماً‪ ،‬وسعة احليلة اليت ترتكز أو ال‪ ،‬وقبل كل شيء على الذكاء‬

‫من أهم مسات السَّفري‪ ،‬وقد كان سفراء الرسول صلى اهلل عليه وسلم يتصفون بالذكاء‪ ،‬والدهاء‪ ،‬وتوقع األحداث‪ ،‬واحلساب‬

‫لكلِّ ما ميكن أن حيدث‪ ،‬وهذه مقومات سعة‪.‬‬

‫ــ املظهر‪:‬‬

‫متيَّ ز سفراء النيب صلى اهلل عليه وسلم باملظهر احلسن مع نقاء املخرب‪ ،‬وقد حرص النيب صلى اهلل عليه وسلم على اختيار‬

‫سفرائه من بني أصحابه الذين تتوافر فيهم صفات شكلية مجيلة إىل جانب مساهتم العقليَّة والنفسيّة سالفة‪ 1‬الذكر‪ ،‬هذه أهم‬

‫الصِّفات اليت استخلصها اللواء الركن حممود شيت خطاب من خالل دراسته القيِّمة لسفراء النيبّ صلى اهلل عليه وسلم واليت‬

‫ينبغي للسفري املسلم أن يتحلَّى هبا‪.‬‬

‫وتكون للدولة اإلسالمية مقياساً في اختيار من ترشحه لهذا المنصب الخطير‪.‬‬

‫‪ ‬ــ دروس‪ ،‬وعبر‪ ،‬وفوائد‪:‬‬

‫في رسائل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم للملوك فوارق دقيقة مؤسسة على حكمة الدعوة‪،‬‬
‫روعي فيها ما يمتاز به هؤالء الملوك في العقائد التي يدينون بها‪ ،‬و(الخلفيات) التي يمتازون‬
‫بها‪ ،‬فلما كان هرقل‪ ،‬والمقوقس يدينان بألوهية المسيح كلياً‪ ،‬أو جزئياً‪ ،‬وكونه ابن اهلل‪ ،‬جاءت‬
‫في الكتابين اللذين وُجِّها إليهما كلمة (عبد اهلل) مع اسم النبي صلى اهلل عليه وسلم صاحب‬
‫هاتين الرسالتين‪ ،‬فيبتدئ الكتابان التسمية بقوله‪ :‬محمد عبد اهلل ورسوله إلى هرقل عظيم الرُّوم‬

‫‪ 1‬مقومات السفراء في اإلسالم‪ ،‬حسن فتح الباب‪ ،‬ص‪.60 :‬‬

‫‪289‬‬
‫وبقوله‪ :‬من محمد بن عبد اهلل ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط بخالف ما جاء في كتابه صلى‬
‫اهلل عليه وسلم إلى كسرى أبرويز‪ ،‬فاكتفى بقوله‪ :‬من محمد رسول اهلل إلى كسرى عظيم الفرس‬
‫ال‬ ‫وجاءت كذلك آية‪﴿ :‬قُل يَا أَهلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلَمَة سَوَاء بَي َننَا وَبَي َنكُم أ َّ‬
‫َال نَعبُ َد إِالَّ اهللَ وَ َ‬

‫ن اهللِ فَإِن تَوَلَّوا فَقُولُوا اشهَدُوا بِأَنَّا مُسلِمُونَ﴾‬


‫ال يََّتخِ َذ بَعضُنَا بَعض ًا أَربَابًا مِّن دُو ِ‬
‫ك بِهِ شَيئًا وَ َ‬
‫نُشرِ َ‬

‫(آل عمران‪ ،‬آية ‪ .)64 :‬في هذين الكتابين‪ ،‬وما جاءت في كتابه إلى كسرى أبرويز ألن اآلية‬
‫تخاطب أهل الكتاب‪ ،‬الذين دانوا بألوهيته المسيح‪ ،‬واتخذوا أحبارهم‪ ،‬ورهبانهم أرباباً من دون‬
‫اهلل‪ ،‬والمسيح ابن مريم‪ ،‬وقد كان هرقل إمبراطور الدولة البيزنطية‪ ،‬والمقوقس حاكم مصر‬
‫ق ائدين سياسيين وزعيمين دينيين كبيرين للعالم المسيحي‪ ،‬مع اختالف يسير في االعتقاد في‬
‫المسيح‪ :‬هل له طبيعة أو طبيعتان‪1‬؟‬

‫ولما كان كسرى أبرويز وقومه يعبدون الشمس والنار يدينون بوجود إلهين‪ :‬أحدهما يمثل‬
‫الخير‪ ،‬وهو‪ :‬يزدان‪ ،‬والثاني يمثل الشر وهو‪ :‬أمر إهرمن‪ ،‬وكانوا بعيدين عن مفهوم النُّبوة‬
‫والتصور الصحيح للرسالة السماوية‪ ،‬جاءت في الكتاب الذي وجه إلى اإلمبراطور اإليراني‬
‫عبارة‪« :2‬وأني رسول اهلل إلى الناس كافة لينذر من كان حياً»‪.‬‬

‫وقد كان تلقَّى الملوك لهذه الرسائل يختلف‪ :‬فأمَّا هرقل‪ ،‬والنجاشي‪ ،‬والمقوقس‪ ،‬فتأدبوا‪ ،‬وتلطفوا‬
‫ف ي جوابهم‪ ،‬وأكرم النجاشيُّ‪ ،‬والمقوقس رُسُل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأرسل‬
‫المقوقس هدايا‪ ،‬منها جاريتان كانت إحداهما مارية أمُّ إبراهيم ((ابن رسول اهلل))‪ ،‬وأمَّا كسرى‬
‫أبرويز‪ :‬فلما قُرئ عليه الكتاب مزَّقه‪ ،‬وقال‪ :‬يكتب إليَّ هذا‪ ،‬وهو عبدي؟ فبلغ ذلك رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ :‬مزَّق اهلل ملكه‪.3‬‬

‫‪ 1‬ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندوي‪ ،‬ص‪.39 :‬‬


‫‪ 2‬السيرة النبوية‪ ،‬للندوي‪ ،‬ص‪.290 :‬‬
‫‪ 3‬تاريخ الطبري (‪ 90 / 3‬ـ ‪.)91‬‬

‫‪290‬‬
‫وأمر كسرى باذان ـ وهو حاكمه على اليمن ـ بإحضاره فأرسل بابويه يقول له‪ :‬إن ملك الملوك‬
‫قد كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك‪ ،‬وقد بعثني إليك لتنطلق معي‪،‬‬
‫فأخبره رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بأن اهلل سلط على كسرى ابنه شرويه‪ ،‬فقتله‪.1‬‬

‫وقد تحقق ما أنبأ به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بكل دقة‪ ،‬فقد استولى على عرشه ابنه‬
‫(قباذ) الملقب بـ(شرويه)‪ ،‬وقتل كسرى ذليالً مهاناً بإيعاز منه سنة (‪628‬م)‪.‬‬

‫وقد تمزق بعد وفاته وأصبح لعبة في أيدي أبناء األسرة الحاكمة‪ ،‬فلم يعش (شرويه) إال ستة‬
‫أشهر‪ ،‬وتوالى على عرشه في مدة أربع سنوات عشرة ملوك واضطرب حبل الدولة إلى أن‬
‫اجتمع الناس على ((يزدجرد)) وهو آخر ملوك بني ساسان وهو الذي واجه الزَّحف اإلسالمي‪،‬‬
‫الذي أدَّى إلى انقراض الدولة الساسانية‪ ،‬التي داست‪ ،‬وازدهرت أكثر من أربعة قرون انقراضاً‬
‫كلياً‪ ،‬وكان ذلك في سنة (‪637‬م)‪ ،‬وهكذا تحققت هذه النبوة في ظرف ثماني سنين‪.2‬‬

‫ــ الوصف العام لرسائل الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬

‫يالحظ الباحث‪ :‬أن الوصف العام لكتب الرسول صلى اهلل عليه وسلم إلى الملوك واألمراء يكاد‬
‫يكون واحداً‪ ،‬ويمكننا أن نستخرج منها األمور التالية‪:‬‬

‫‪ ‬ــ نالحظ أن جميع كتب الرسول صلى اهلل عليه وسلم التي أرسلها إلى الملوك والرُؤساء‬
‫يفتتحها صلى اهلل عليه وسلم بالبسملة‪ ،‬والبسملة آية من كتاب اهلل ـ تبارك وتعالى وفي‬
‫تصدير الكتاب بها أمور مهمة‪ ،‬كاستحباب بدء الكتب ((بسم اهلل الرحمن الرحيم)) اقتداء‬
‫برسولنا محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقد واظب عليها في كتبه صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫كما أن فيها جواز كتابة آية من القرآن الكريم في كتاب وإن كان هذا الكتاب موجهاً إلى‬
‫الكافرين‪ ،‬وفيها جواز قراءة الكافر آلية‪ ،‬أو أكثر من القرآن الكريم‪ ،‬ألن هذا الكافر‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪ 90 / 3‬ـ ‪.)91‬‬


‫‪ 2‬السيرة النبوية للندوي‪ ،‬ص‪.300 :‬‬

‫‪291‬‬
‫الذي أرسلت إليه الرس الة وتضمنت البسملة وغيرها ال يحترز من الجنابة والنجاسة‪،‬‬
‫فيقرأ الرسالة التي اشتملت على آيات من القرآن الكريم‪ ،‬وهو جنب‪.‬‬
‫‪ ‬ــ وتستنبط من رسائل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى الملوك واألمراء اآلتي‪:‬‬

‫ــ مشروعية إرسال سفراء المسلمين إلى زعماء الكفر‪ ،‬ألن كل كتاب كان يكتبه الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يكلِّف رجالً من المسلمين يحمله إلى المرسل‪.‬‬

‫ــ مشروعية الكتابة إلى الكفار في أمر الدِّين‪ ،‬والدنيا‪.‬‬

‫ــ ينبغي أن يكتب في الكتاب اسم المُرسِل‪ ،‬والمُرسَل إليه‪ ،‬وموضوع الكتاب‪ ،‬وهو واحد في‬
‫جميع الكتب‪ ،‬ويتلخص في دعوتهم إلى اإلسالم‪.‬‬

‫ــ عدم بدء الكافر بتحية اإلسالم‪ ،‬وهي (السالم عليكم ورحمة اهلل وبركاته)‪ ،‬ذلك ألن النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم لم يطرح السالم في كتبه على ملك من ملوك الكفر‪ ،‬بل كان يصدِّر‬
‫كتبه بقوله‪« :‬السالم على من اتبع الهدى»‪ ،‬أي‪ :‬آمن باإلسالم‪ ،‬ويؤخذ من هذا عدم جواز‬
‫مخاطبة الكافر بتحية اإلسالم‪.‬‬

‫ــ ا تخاذ الخاتم‪ :‬فقد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يختم رسائله بعد كتابتها بخاتمه‪،‬‬
‫وقد كتب عليه ثالث كلمات محمد رسول اهلل‪.1‬‬

‫فعن أن س رضي اهلل عنه قال‪ :‬لمَّا أراد النبيُّ أن يكتب إلى الرُّوم‪ ،‬قيل له‪ :‬إنهم ال يقرؤون كتاباً‬
‫إال أن يكون مختوم اً‪ ،‬فاتخذ خاتماً من فضة‪ ،‬فكأني أنظر إلى بياضه في يده‪ ،‬ونقش فيه محمد‬
‫رسول اهلل‪.2‬‬

‫ــ تقدير الرِّجال‪:‬‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪ ،65 :‬وأخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.2092 :‬‬
‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.2938 :‬‬

‫‪292‬‬
‫لمَّا أسلم باذان بن ساسان وكان أميراً على اليمن لم يعزله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬بل‬
‫أبقاه أميراً عليها بعد إسالمه‪ ،‬حين رأى فيه اإلداري الناجح‪ ،‬والحاكم المناسب مما يدلُّ على أن‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم يقدر الكفاءات في الرجال‪ ،‬ويضع الرجل المناسب في المكان‬
‫المناسب‪ ،‬ومن الجدير بالذكر‪ :‬أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم قد ولى ولده أي ولد باذان‬
‫شهراً أميراً على اليمن بعد موت أبيه‪.1‬‬

‫ـ جواز أخذ الجزية من المجوس‪ :‬وهذا الحكم استخرج من كتاب النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الذي أرسله إلى المنذر بن ساوي يحدد فيه الموقف من اليهود والمجوس‪ ،‬إذ ورد فيه‪« :‬من‬
‫أقام على يهوديته أو مجوسيته‪ ،‬فعليه الجزية»‪.2‬‬

‫وقد ذهب ابن القيم مع طائفة من العلماء إلى جواز أخذ الجزية من كل إنسان يبذلها‪ ،‬سواء كان‬
‫كتابياً أم غير كتابي‪ ،‬كعبدة األوثان من العرب وغيرهم‪ ،‬فقد جاء في زاد المعاد‪ :‬وقد قالت‬
‫طائفة في األمم كلها إذا بذلوا الجزية‪ ،‬قبلت منهم أهل الكتابين بالقرآن والمجوس بالسنة‪ ،‬ومن‬
‫عداهم ملحق بهم‪ ،‬ألن المجوس أهل شرك ال كتاب لهم‪ ،‬فأخذها منهم دليل على أخذها من‬
‫جميع المشركين‪ ،‬وإنما لم يأخذها صلى اهلل عليه وسلم من عبدة األوثان من العرب‪ ،‬ألنهم‬
‫أسلموا قبل نزول آية الجزية‪ ،‬فإنها نزلت بعد تبوك‪.3‬‬

‫ـ جواز أخذ هدية الكافر‪:‬‬

‫لقد أرسل المقوقس عظيم القبط حاكم مصر ـ وهو كافر ـ مع سفير رسول اهلل حاطب بن أبي‬
‫بلتعة هدية تشتمل على جاريتين وكسوة للرسول صلى اهلل عليه وسلم وبغلة يركبها‪ ،‬فقبلها‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وإحدى الجاريتين ماريا القبطية‪.4‬‬

‫ـ من نتائج إرسال الكتب إلى الملوك واألمراء‪:‬‬

‫‪ 1‬غزوة الحديبية ألبي فارس‪ ،‬ص‪.240 ،239 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪.‬‬
‫‪ 3‬زاد المعاد (‪.)91 /5‬‬
‫‪ 4‬غزوة الحديبية ألبي فارس‪ ،‬ص‪.243 :‬‬

‫‪293‬‬
‫ال‬
‫أظهر الرسول صلى اهلل عليه وسلم في سياسته الخارجية دراية فاقت التصور‪ ،‬وأصبحت مثا ً‬
‫لمن جاء بعده من الخلفاء‪ ،‬كما أظهر صلى اهلل عليه وسلم قوة وشجاعة فائقتين فلو كان غير‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬يخشى عاقبة ذلك األمر‪ ،‬السيما وأن بعض هذه الكتب قد‬
‫أرسلت إلى ملوك أقوياء على تخوم بالده كهرقل وكسرى والمقوقس‪ ،‬ولكن حرص رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وس لم وعزيمته على إبالغ دعوة اهلل‪ ،‬وإيمانه المطلق بتأييد اهلل سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫كل ذلك دفعه ألن يقدم على ما أقدم عليه‪ ،‬وقد حققت هذه السياسة النتائج اآلتية‪:‬‬

‫*ـ وطاد الرسول صلى اهلل عليه وسلم بهذه السياسة أسلوباً جديداً في التعامل الدولي لم تكن‬
‫تعرفه البشرية من قبل‪.‬‬

‫*ـ أصبحت الدولة اإلسالمية لها مكانتها وقوتها وفرضت وجودها على الخريطة الدولية لذلك‬
‫الزمان‪.‬‬

‫*ـ كشفت للرسول صلى اهلل عليه وسلم نوايا الملوك واألمراء وسياستهم نحوه وحكمهم على‬
‫دعوته‪.‬‬

‫*ـ كانت مكاتبة الملوك خارج جزيرة العرب تعبيراً عملياً على عالمية الدعوة اإلسالمية‪ ،‬تلك‬
‫العالمية التي أوضحتها آيات نزلت في العهد المكي‪ ،‬مثل قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ومَا أَرسَلنَاكَ إِالَّ رَحمَ ًة‬

‫لِّلعَالَمِينَ﴾ (األنبياء‪ ،‬آية ‪.)107 :‬‬

‫وهكذا فإن رسائل النبي صلى اهلل عليه وسلم إلى أمراء العرب والملوك المجاورين لبالده تعد‬
‫نقطة تحول في سياسة دولة الرسول الخارجية‪ ،‬فعظم شأنها وأصبحت لها مكانة دينية وسياسة‬
‫بين الدول‪ ،‬وذلك قبل فتح مكة‪ ،‬كما أن هذه السياسة مهدت لتوحيد الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم لسائر أنحاء بالد العرب في عام الوفود‪.1‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)358 /2‬‬

‫‪294‬‬
‫ـ من سفراء الرسول صلى اهلل عليه وسلم "جعفر بن أبي طالب" رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬قالت‪ :‬لما نزلنا أرض‬
‫الحبشة‪ ،‬جاورنا بها خير جار "النجاشي" أمناا على ديننا وعبدنا اهلل تعالى‪ ،‬ال نُؤذي وال نسمع‬
‫شيئاً نكرهه‪ ،‬فلما بلغ ذلك قريشاً‪ ،‬ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جَلدين‪.1‬‬

‫وأن يُهدوا للنجاشي هدايا مماا يستطرف من متاع مكة وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه‬
‫األدم‪ ،2‬فجمعوا له أدماً كثيراً‪ ،‬ولم يتركوا من بطارقته‪ 3‬بطريقاً إال أهدوا له هدية‪ ،‬ثم بعثوا‬
‫بذلك عبد اهلل بن أبي ربيعة ابن المغيرة المخزومي‪ ،‬وعمرو بن العاص بن وائل السهمي‪،‬‬
‫وأمروهما بأمرهم‪ ،‬وقالوا لهما‪ :‬ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم‪ ،‬ثم‬
‫قدما للنجاشي هداياه ثم ساله أن يُسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم‪ ،‬قالت‪ :‬فخرجا‪ ،‬فقدما على‬
‫النجاشي ونحن عنده بخير دار‪ ،‬وخير جار‪ ،‬فلم يبق من بطارقته بطريق إال دفعا إليه هديته‬
‫قبل أن يكلما النجاشي‪ ،‬ثم قاال لكل بطريق منهم‪ :‬إنه صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء‬
‫فارقوا دين قومهم‪ ،‬ولم يدخلوا في دينكم‪ ،‬وجاؤوا بدين مبتدع ال نعرفه نحن وال أنتم‪ ،‬وقد بعثنا‬
‫إلى الملك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم لتردوهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم‪،‬‬
‫فأشيروا عليه بأن يُسلمهم إلينا وال يكلمهم‪ ،‬فإن قومهم أعلى بهم عيناً‪ ،‬وأعلم بما عابوا عليهم‪،‬‬
‫فقالوا لهما‪ :‬نعم‪ .‬ثم إنهما قرابا هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما‪ ،‬ثم كلماه‪ ،‬فقاال له‪ :‬أيها الملك‬
‫إنه قد صبأ إلى بلدك منه غلمان سفهاء‪ ،‬فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك‪ ،‬وجاؤوا بدين‬
‫مبتدع ال نعرفه نحن وال أنت‪ ،‬وقد بعثنا فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم‪،‬‬
‫لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه‪.‬‬

‫قالت‪ :‬ولم يكن شيء أبغض إلى عبد اهلل بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص‪ ،‬من أن يسمع‬
‫النجاشي كالمهم‪ ،‬فقالت بطارقته حوله‪ :‬صدقا أيها الملك‪ ،‬قومهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما‬

‫‪ 1‬الجلد‪ :‬القوة والشدة‪.‬‬


‫‪ 2‬األدم‪ :‬جمع أديم وهو الجلد المدبوغ‪.‬‬
‫‪ 3‬جمع بطريق وهو الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم‪.‬‬

‫‪295‬‬
‫عابوا عليهم‪ ،‬فأسلمهم إليهما‪ ،‬فليردانهم إلى بالدهم وقومهم‪ ،‬قالت‪ :‬فغضب النجاشي‪ ،‬ثم قال‪ :‬ال‬
‫هَي ُم‪ 1‬اهلل إذا ال أسلمهم إليهما وال أكاد قوماً جاوروني ونزلوا بالدي واختاروني على من‬
‫سواي‪ ،‬حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم؟ فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما‪،‬‬
‫ورددتهم إلى قومهم‪ ،‬وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني‪.2‬‬

‫ـ حوار بين جعفر والنجاشي‪:‬‬

‫ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فدعاهم‪ ،‬فلما جاءهم رسوله‬
‫واجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض‪ :‬ما تقولون للرجل‪ ،‬إذا جئتموني؟ قالوا‪ :‬نقول واهلل ما علمنا‪،‬‬
‫وما أمرنا به نبينا صلى اهلل عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن فلما جاؤوه وقد دعا النجاشي‬
‫أساقفته‪ ،3‬فنشروا مصاحفهم‪ ،4‬حوله سألهم‪ ،‬فقال‪ :‬ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم‪ ،‬ولم‬
‫تدخلوا ديني وال دين أحد من هذه األمم؟ قالت‪ :‬فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضي اهلل‬
‫عنه‪ ،‬فقال له‪ :‬أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية‪ ،‬نعبد األصنام ونأكل الميتة‪ ،‬ونأتي الفواحش‪،‬‬
‫ونقطع األرحام ونُسيء الجوار‪ ،‬ويأكل القوي منا الضعيف‪ ،‬فكنا على ذلك حتى بعث اهلل إلينا‬
‫رسوالً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه‪ ،‬فدعانا إلى اهلل لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد‬
‫نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة واألوثان‪ ،‬وأمرنا بصدق الحديث‪ ،‬وأداء األمانة‪ ،‬وصلة‬
‫الرحم‪ ،‬وحسن الجوار‪ ،‬والكفا عن المحارم والدماء‪ ،‬ونهانا عن الفواحش‪ ،‬وقول الزور‪ ،‬وأكل‬
‫مال اليتيم‪ ،‬وقذف المحصنات‪ ،‬وأمرنا أن نعبد اهلل وحده ال نشرك به شيئاً‪ ،‬وأمرنا بالصالة‬
‫والزكاة والصيام‪ .‬قالت‪ :‬فعدد عليه أمور اإلسالم‪ ،‬فصدقناه‪ ،‬وآمنا به‪ ،‬واتبعناه على ما جاء به‪،‬‬
‫فعبدنا اهلل وحده‪ ،‬فلم نشرك به شيئاً‪ ،‬وحرمنا ما حرام علينا‪ ،‬وأحللنا ما أحل لنا‪ ،‬فعدا علينا قومنا‬
‫فعذبونا‪ ،‬وفتنونا عن ديننا‪ ،‬ليردونا إلى عبادة األوثان من عبادة اهلل‪ ،‬وأن نستحل ما كنا نستحل‬

‫‪ 1‬والمعنى‪ :‬ال واهلل‪.‬‬


‫‪ 2‬مسند أحمد (‪ )290 /5‬إسناده صحيح‪ ،‬الحديث رقم‪.22498 :‬‬
‫‪ 3‬أساقفته‪ :‬جمع األسقف وهو العالم والرئيس من علماء النصارى‪.‬‬
‫‪ 4‬أي‪ :‬أناجيلهم وكانوا يسمونها مصاحف‪.‬‬

‫‪296‬‬
‫من الخبائث‪ ،‬فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا‪ ،‬وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك‪،‬‬
‫واخترناك على من سواك‪ ،‬ورغبنا في جوارك ورجونا أال نُظلم عندك أيها الملك‪.1‬‬

‫قالت‪ :‬فقال له النجاشي‪ :‬هل معك مما جاء به عن اهلل من شيء؟ قال له جعفر‪ :‬نعم‪ ،‬فقال له‬
‫النجاشي‪ :‬فاقرأه عليا‪ .‬فقرأ عليه صدراً من ﴿كهيعص﴾ قالت‪ :‬فبكى واهلل النجاشي حتى‬

‫أخضل‪ ،2‬لحيته وبكت أساقفته‪ ،‬حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تال عليهم‪ .‬ثم قال‬
‫النجاشي‪ :‬إن هذا واهلل‪ ،‬والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا‪ ،‬فواهلل ال أسلمهم‬
‫إليكما أبداً وال يُكادون‪ ،3‬قالت‪ :‬فلما خرج كل من‪ :‬عمرو بن العاص‪ ،‬وعبد اهلل بن أبي ربيعة‪،‬‬
‫من عند النجاشي قال عمرو بن العاص‪ :‬واهلل آلتينه غدًا عنهم بما استأصل به خضراءهم‪،4‬‬
‫قالت‪ :‬فقال له عبد اهلل بن ربيعة ـ وكان أتقى الرجلين فينا ـ ال تفعل فإن لهم أرحاماً وإن كانوا‬
‫قد خالفونا‪.‬‬

‫قال‪ :‬واهلل ألخبرنه أنهم يزعمون‪ :‬أن عيسى ابن مريم عبد‪ ،‬قالت‪ :‬ثم غدا عليه من الغد‪ ،‬فقال‬
‫له‪ :‬أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قوالً عظيماً‪ ،‬فأرسل إليهم فاسألهم عماا يقولون‬
‫فيه‪ ،‬قالت‪ :‬فأ رسل إليهم يسألهم عنه‪ ،‬قالت‪ :‬ولم ينزل بنا مثلها قط‪ ،‬فاجتمع القوم‪ ،‬فقال بعضهم‬
‫لبعض‪ :‬ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟‪ ،‬قالوا‪ :‬نقول ـ واهلل ـ فيه ما قاله اهلل‪ ،‬ما جاء به‬
‫نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن‪ ،‬فلما دخلوا عليه‪ ،‬قال لهم‪ :‬ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقال‬
‫له جعفر بن أبي طالب‪ :‬نقول فيه الذي جاء به نبينا‪ ،‬هو عبد اهلل ورسوله وروحه وكلمته ألقاها‬
‫إلى مريم العذراء‪ 5‬البتول‪.6‬‬

‫‪ 1‬مسند اإلمام أحمد (‪.)203 ،202 /1‬‬


‫‪ 2‬ابتلت بالدموع‪ :‬يقال خضل وأخضل‪ :‬إذا ندي‪.‬‬
‫‪ 3‬وال يكادون‪ :‬وال يعودون إلى قومهم ليكيدوهم‪.‬‬
‫‪ 4‬استأصل به خضراءهم‪ :‬أي بما أجتث به شجرة حياتهم‪.‬‬
‫‪ 5‬العذراء‪ :‬الجارية التي ال يمسها رجل وهي البكر‪.‬‬
‫‪ 6‬البتول‪ :‬المنقطعة عن الرجال ال شهوة لها فيهم‪.‬‬

‫‪297‬‬
‫قالت‪ :‬فضرب النجاشي يده إلى األرض‪ ،‬فأخذ منها عوداً ثم قال‪ :‬ماعدا عيسى ابن مريم ما‬
‫قلت هذا العود فتناخرت‪ 1‬بطارقته حوله حين قال ما قال‪ :‬فقال‪ :‬وإن نخرتم واهلل أذهبوا فأنتم‬
‫شُيومُ بأرضي "والشيوم اآلمنون" من سباكم غرم‪ ،‬ثم من سباكم غرم‪ ،‬فما أحبُّ أن لي دَبَراً‬
‫ال منكم‪ ،‬والدَّبر بلسان الحبشة الجعل‪،‬ردُّوا عليهما هداياهما‪ ،‬فال حاجة لنا‬
‫ذهباً‪ ،‬وأني آذيت رج ً‬
‫بها‪ ،‬فواهلل‪ ،‬ما أخذ اهلل مني الرشوة حين رد عليَّ ملكي‪ ،‬فآخذ الرشوة فيه‪ ،‬وما أطاع الناس فيَّ‪،‬‬
‫فأطيعهم فيه‪ ،‬قالت‪ :‬فخرجا من عنده مقبوحين‪ ،‬مردوداً عليهما ما جاء به‪ ،‬وأقمنا عنده بخير‬
‫دار مع خير جار‪.2‬‬

‫وقد أسلم النجاشي‪ ،‬وصدق بنبوُّة النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وإن كان قد أخفى إيمانه عن‬
‫قومه‪ ،‬لما علمه فيهم من الثبات على الباطل وحرصهم على الضَّالل‪ ،‬وجمودهم على العقائد‬
‫المنحرفة ـ وإن صادمت العقل والنقل‪ ،‬فعن أبي هريرة رضي اهلل عنه‪ :‬أن رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه‪ ،‬وخرج إليهم إلى المصلَّى‪ ،‬فصفَّ بهم‪ ،‬وكبَّر‬
‫عليه أربع تكبيرات‪ ،3‬وعن جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم حين مات النجاشي‪« :‬مات اليوم رجل صالح فقوموا فصلَّوا على أخيكم أصحمة‪،4‬‬
‫وكانت وفاته ـ رحمه اهلل ـ سنة تسع عند األكثر‪ ،‬وقيل سنة ثمان قبل فتح مكة»‪.5‬‬

‫‪ ‬ــ دروس وعبر وفوائد‪:‬‬

‫ــ كانت األهداف من هجرة الحبشة متعددة‪ ،‬ولذلك حرص النبي صلى اهلل عليه وسلم على‬
‫اختيار نوعيات معينة لتحقيق هذه األهداف‪ ،‬كشرح حقيقة اإلسالم‪ ،‬وموقف قريش منه‪،‬‬
‫وإقناع الرأي العام بعدالة قضية المسلمين عى نحو ما تفعله الدول الحديثة من تحرك‬

‫‪ 1‬فتناخرت‪ :‬أي تكلمت وكأنه كالم مع غضب ونفور‪.‬‬


‫‪ 2‬مسند أحمد (‪ 202 /1‬ـ ‪.)203‬‬
‫‪ 3‬الهجرة في القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.309 :‬‬
‫‪ 4‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.3877:‬‬
‫‪ 5‬أسد الغابة (‪ ،)99 / 1‬اإلصابة (‪.)109 / 1‬‬

‫‪298‬‬
‫سياسي‪ ،‬يشرح قضاياها وكسب الرأي العام إلى جوارها‪ ،1‬وفتح أرض جديدة للدعوة‪،‬‬
‫فلذلك هاجر سادات الصحابة في بداية األمر‪ ،‬ثم لحق بهم أكثر الصَّحب وأوكل األمر إلى‬
‫جعفر رضي اهلل عنه‪.2‬‬

‫ــ إن اختيار الرسول صلى اهلل عليه وسلم الهجرة إلى الحبشة يشير إلى نقطة استراتيجية‬
‫مهمة‪ ،‬تمثلت في معرفة الرسول صلى اهلل عليه وسلم بما حوله من الدول والممالك‪ ،‬فقد‬
‫كان يعلم طيِّبها من خبيثها‪ ،‬وعادلها من ظلمها‪ ،‬األمر الذي ساعد على اختيار دار آمنة‬
‫لهجرة أصحابه‪ ،‬وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال القائد الناجح‪ ،‬الذي ال بد أن يكون ملماً‬
‫بما يجري حوله‪ ،‬مطلعاً على أحوال وأوضاع األمم والدول والحكومات‪.3‬‬

‫ــ كان وعي القيادة النبوية على مستوى األحداث‪ ،‬ولذلك وُضع جعفر بن أبي طالب على‬
‫إمارة المسلمين في الهجرة‪ ،‬وتمَّ اختياره من قبل المسلمين المهاجرين‪ ،‬ليتحدَّث باسمهم بين‬
‫يدي الملك‪ ،‬وليتمكن من مواجهة داهية العرب عمرو بن العاص‪ ،‬وقد امتازت شخصية‬
‫جعفر بعدة أمور‪ ،‬جعلته ي تقدم لسد هذه الثغرة العظيمة‪ ،‬منها‪ :‬أنَّ جعفر بن أبي طالب من‬
‫ألصق الناس برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقد عاش معه في بيت واحد‪ ،‬فهو أخبر‬
‫الناس بقائد الدعوة وسيد األمة من بين كل المهاجرين إلى الحبشة‪.‬‬

‫وهذا الموقف بين يدي النجاشي يحتاج إلى بالغة‪ ،‬وفصاحة‪ ،‬وبنو هاشم قمة قريش نسباً‬
‫وفضالً‪ ،‬وجعفر في الداؤابة‪ 4‬من بني هاشم‪ ،‬واهلل تعالى قد اختار هاشماً من كنانة واختار‬
‫نبيه من هاشم‪ ،‬فهو أفصح الناس لساناً وأوسطهم نسباً‪ ،‬وهو ابن عم رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وهذا يجعل النجاشي أكثر اطمئناناً‪ ،‬وثقة بما يعرض عن ابن عمه‪.5‬‬

‫‪ 1‬أضواء على الهجرة‪ ،‬توفيق محمد سبع‪ ،‬ص‪.427 :‬‬


‫‪ 2‬التربية القيادية‪ ،‬منير الغضبان (‪.)333 / 1‬‬
‫‪ 3‬السيرة النبوية (‪.)289 / 1‬‬
‫‪ 4‬الدؤابة من كل شئ‪ :‬أعاله‪.‬‬
‫‪ 5‬التربية القيادية (‪.)335 / 1‬‬

‫‪299‬‬
‫خلق جعفر المقتبس من مشكاة النبوة وجمال خلقه المنحدر من أصالب بني هاشم‪ ،‬فقد قال‬
‫ُ‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لجعفر‪« :‬أشبهت خلقي وخلقي »‪ ،1‬فالسفير بين يدي‬
‫النجاشي كان قدوة لسفراء المسلمين على مر الزمان‪ ،‬وكرَّ العصور‪ ،‬فقد اتصف بسمات‬
‫السفراء المسلمين‪ ،‬كاإلسالم وانتماء إليه‪ ،‬والفصاحة والعلم‪ ،‬وحسن الخلق‪ ،‬والصبر‬
‫والشجاعة والحكمة‪ ،‬وسعة الحيلة‪ ،‬والمظهر الجذاب‪.2‬‬

‫ــ كان رد جعفر على أسئلة النجاشي في غاية وقمة المهارة السياسية واإلعالمية والدعوة‬
‫والعقدية‪ ،‬فقد قام بالتالي‪:‬‬

‫ــ عدَّد عيوب الجاهلية وعرضها بصورة تنفر السامع‪ ،‬وقصد بذلك تشويه صورة قريش‬
‫في عين الملك‪ ،‬وركَّز على الصفات الذميمة التي ال تنتزع إال بنبوة‪.‬‬

‫ــ عرض شخصية الرسول صلى اهلل عليه وسلم في هذا المجتمع اآلسن‪ 3‬المليء بالرذائل‪،‬‬
‫وكيف كان بعيد اً عن النقائص كلها‪ ،‬ومعروفاً بنسبه وصدقه وأمانته وعفافه فهو المؤهل‬
‫للرسالة‪.‬‬

‫ــ أبرز جعر محاسن اإلسالم وأخالقه‪ ،‬التي تتفق مع أخالقيات دعوات األنبياء‪ ،‬كنبذ عبادة‬
‫األوثان‪ ،‬وصدق الحديث‪ ،‬وأداء األمانة‪ ،‬وصلة الرحم‪ ،‬وحسن الجوار‪ ،‬والكف عن المحارم‬
‫والدماء‪ ،‬وإقامة الصالة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وكون النجاشي وبطارقته موغلين في النصرانية‬
‫فهم يدركون أن هذه رساالت األنبياء التي بعثوا بها من لدن موسى وعيسى عليهما الصالة‬
‫والسالم‪.‬‬

‫ــ فضح ما فعلته قريش بهم‪ ،‬ألنهم رفضوا عبادة األوثان وآمنوا بما نزل على محمد صلى‬
‫اهلل عليه وسلم وتخلقه بخلقه‪.‬‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.2699 :‬‬


‫‪ 2‬سفراء النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬محمود شيت (‪ 252 / 2‬ـ ‪.)317‬‬
‫‪ 3‬اآلسن‪ :‬المتغير الفاسد‪.‬‬

‫‪300‬‬
‫ــ أحسن الثناء على النجاشي بما هو أهله بأنه ال يظلم عنده أحد‪ ،‬وأنه يقيم العدل في قومه‪.‬‬

‫ــ وأوضح أنهم اختاروه كهفاً من دون الناس‪ ،‬فراراً من ظلم هؤالء الذين يريدون تعذيبهم‪،‬‬
‫وبهذه الخطوات البينة الواضحة دحر بالغة عمر وفصاحته واستأثر بلبِّ النجاشي وعقله‪،‬‬
‫وكذلك استأثر بلبِّ وعقل البطارقة والقسيسين الحاضرين‪.‬‬

‫وعندما طلب النجاشي شيئاً مماا نَزل على محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬جاء صدر سورة‬
‫مريم في غاية اإلحكام والروعة والتأثير‪ ،‬حتى بكى النجاشي وأساقفته وبلَّلوا لحاهم‬
‫ومصاحفهم بالدموع‪ ،‬واختيار جعفر لسورة مريم يظهر بوضوح حكمة وذكاء مندوب‬
‫المهاجرين‪ ،‬فسورة مريم تتحدث عن مريم وعيسى عليهما السالم‪.1‬‬

‫إن عبقرية جعفر رضي اهلل عنه في حسن اختيار الموضوع‪ ،‬والزمن المناسب‪ ،‬والقلب‬
‫المتفتح والشحنة العاطفية أدت إلى أن يربح الملك إلى جانبه‪.2‬‬

‫كان رداه في قضية عيسى عليه السالم دليالً على الحكمة والذكاء النادر‪ ،‬فقد ردا بأنهم ال‬
‫يُؤلهون عيسى ابن مريم‪ ،‬ولكنهم كذلك ال يخوضون في عرض مريم عليها السالم‪ ،‬كما‬
‫يخوض الكاذبون‪ ،‬بل عيسى ابن مريم كلمة اهلل وروحه ألقاها إلى مريم البتول العذراء‬
‫الطاهرة‪ ،‬وليس عند النجاشي زيادة عما قال جعفر‪ ،‬وال مقدار هذا العود‪ ،3‬هم ال يسجدون‬
‫للنجاشي‪ ،‬فهم معاذ اهلل أن يعدلوا باهلل شيئاً‪ ،‬وال ينبغي السجود إال هلل‪ ،‬لكنهم ال يستخفون‬
‫بالملك بل يوقرونه‪ ،‬ويسلمون عليه كما يسلمون على نبيهم ويحيونه بما يُحايي أهل الجنة‬
‫أنفسهم به في الجنة‪.4‬‬

‫انتهى األمر بأن أعلن النجاشي صدق القوم‪ ،‬وأيقن بأن هؤالء صدايقون‪ ،‬وعزم على أن‬
‫يكون في خدمة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الذي يأتيه ناموس كناموس موسى‪ ،‬وأن‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)292 / 1‬‬


‫‪ 2‬التربية القيادية (‪.)337 /1‬‬
‫‪ 3‬المصدر السابق (‪.)342 /1‬‬
‫‪ 4‬التربية القيادية (‪.)342 /1‬‬

‫‪301‬‬
‫يتقراب إلى اهلل بحماية أصحابه وأكاد لعمرو أنه ال يضيره تجارة قريش وال مال قريش وال‬
‫جاهها‪ ،‬ولو قطعت عالقتها معه‪.1‬‬

‫انهزمت قريش في هذه الجبهة سياسياً ومعنوياً وإعالمياً أمام مقاومة المسلمين الموفقة‬
‫وخطواتهم وأساليبهم الرصينة‪.2‬‬

‫العالقات الخارجية في الدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية‪:‬‬

‫على الدولة اإلسالمية الحديثة أن تسترشد بالهدي النبوي الكريم في عالقاته الخارجية‪،‬‬
‫وتطور رسالتها بما يالئم العصر والمتغيرات وتقوم سياستها على االلتزام بالثوابت‬
‫والتوازن‪ ،‬واالستقاللية والفعالية والتأكيد على إيجابية وأهمية الرسالة اإلنسانية النافعة على‬
‫كافة الصعد الدولية واإلقليمية‪ ،‬وتجعل المصلحة الوطنية للدولة واسطة العقد وحجر‬
‫الزاوية في سياستها الخارجية وتؤمن بالحرب دفاعاً عن عقيدة الشعب وتراب الوطن‬
‫وكرامته ومصلحة أبنائه وفي كل األحوال فالحرب ليست هدفاً في حد ذاتها‪.‬‬

‫ــ وتؤمن بأهمية التعاون بين الدول والشعوب‪ ،‬وذلك في إطار االلتزام بأسس ومبادئ‬
‫الشرعية الدولية‪.‬‬

‫ــ تلتزم بالعهود والمواثيق التي تبرمها الدولة مع األفراد أو الدول أو المنظمات أو‬
‫الجماعات‪.‬‬

‫ــ تتمسك بضرورة تسوية كافة المنازعات الدولية بالطرق السلمية وحظر باستخدام القوة‬
‫للنيل من سالمة أراضي أية دولة أو استقاللها السياسي‪.‬‬

‫ــ تحترم سيادة الدولة األخرى ومنع التدخل في شؤونها الداخلية وحقها في تقرير مصيرها‪.‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)293 /1‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)293 /1‬‬

‫‪302‬‬
‫ــ تدعو إلى السالم اإلقليمي والعالمي كهدف استراتيجي وتعتبر أن التعاون بين الدول في‬
‫مختلف المجاالت هو األساس والنبراس لعالم أكثر استقراراً ورفاهية وتنمية‪.‬‬

‫ــ تدعم مسيرة العمل العربي واإلسالمي المشترك سياسياً‪ ،‬واقتصادياً وأمنياً من أجل تعزيز‬
‫العمل العربي واإلسالمي واإلنساني المشترك وتعظيم الروابط بين الدول والشعوب والدفاع‬
‫عن حقوقها والتأكيد على نصرة القضايا العادلة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية‪.‬‬

‫ــ تلتزم بجميع قرارات جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر اإلسالمي واالتحاد األفريقي‪،‬‬
‫وتحترم كافة االلتزامات المنبثقة كافة االتفاقيات والمعاهدات والبروتوكوالت‪ ،‬وما في‬
‫حكمها‪ ،‬والتي تكون الدولة طرفاً فيها‪.‬‬

‫ــ تطالب بوضع حد لالنتهاكات اإلسرائيلية وتحقيق التسوية السلمية في الشرق األوسط‬
‫بقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس‪.‬‬

‫ــ تؤكد على ضرورة العمل على استعادة حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وتؤمن بحق‬
‫الشعب الفلسطيني في مقاومة المحتل‪ ،‬وحقه في تقرير مصيره‪.‬‬

‫ــ تنخرط وتساهم وتدعم كافة الجهود الدولية التي تسعى لتحقيق األمن والسلم الدوليين‪،‬‬
‫وتتصدى مع المنظومة الدولية للفقر والجوع وانتشار أسلحة الدمار الشامل واألمراض‬
‫الخطيرة وتدهور البيئة‪ ،‬وانتهاكات حقوق اإلنسان‪.‬‬

‫ــ تؤكد على ضرورة إرساء قواعد شراكة جديدة بين الدول المتقدمة والدول النامية‪ ،‬تساهم‬
‫في استقرار ونمو العالقات االقتصادية بين هذه الدول وتضع أسساً متوازنة وعادلة للتجارة‬
‫الدولية‪ ،‬يتحمل فيها كل طرف مسؤولياته عبر دعم ومساعدة الهياكل االقتصادية للدول‬
‫النامية‪ ،‬والتزام الدول المتقدمة أيضاً بتعهداتها بتقديم المساعدات المالية والفنية إليها‪،‬‬
‫والعمل على تخفيف أعباء الديون وإلغائها عن الدول األكثر فقراً‪ ،‬هذا باإلضافة إلى إلغاء‬

‫‪303‬‬
‫القيود الجمركية على وصول السلع القادمة من هذه الدول‪ ،‬وتيسير حصولها على‬
‫التكنولوجيا الكفيلة بتأهيلها لالندماج بشكل إيجابي في النظام االقتصادي الدولي‪.‬‬

‫ــ ضمان استقرار سوق النفط بالقدر الذي يسمح بحفظ وتيرة التنمية االقتصادية لجميع‬
‫الدول‪.‬‬

‫ــ تدعو إلى التعاون مع كافة مؤسسات المجتمع المدني‪ ،‬ومن خاللها تساهم وتدعم جهودها‬
‫في معالجة الكوارث والمحن العامة كالمجاعات والزالزل‪ ،‬وتسعى صوب نشر الشورى‪،‬‬
‫وحماية حقوق اإلنسان‪ ،‬وإرساء قيم الحوار وقبول اآلخر على ركائز وأسس التكافؤ‬
‫واالحترام المتبادل‪.‬‬

‫ــ تؤيد المشاركة الفعالة والمساهمة في تمويل ودعم جهود األمم المتحدة في حفظ السلم‬
‫واألمن الدوليين في شتى أصقاع المعمورة‪.‬‬

‫‪15‬ـ سياسة كسب األعداء‪:‬‬

‫من فقه الرسول صلى اهلل عليه وسلم في بناء الدولة القدرة في التعامل مع النفوس وكسب‬
‫األعداء فمثالً‪:‬‬

‫أ ـ أبو سفيان بن حرب زعيم قريش‪:‬‬

‫جاء أبو سفيان الذي خرج يلتقط األخبار عندما سمع بقدوم رسول اهلل لفتح مكة إلى النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ب صحبة عمه العباس رضي اهلل عنه فلم ينشغل النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم في محاسبة أبي سفيان ولم يسرف في مقاضاته وهو كاألسير داخل معسكر‬
‫المسلمين‪ ،‬بل توجه ليحدثه عن هدف سام عاش النبي صلى اهلل عليه وسلم ألجله هو الدعوة‬
‫إلى اهلل‪ ،‬فوجه كالمه ألبي سفيان‪« :‬ويحك يا أبا سفيان‪ ،‬ألم يأن لك أن تعلم أنه ال إله إال‬

‫‪304‬‬
‫اهلل»‪ ،‬قال‪ :‬بأبي أنت وأمي‪ ،‬ما أحلمك وأكرمك وأوصلك‪ ،‬واهلل لقد ظننت أن لو كان مع اهلل‬
‫إله غيره لقد أغنى عني بعد‪ ،‬قال‪« :‬ويحك يا أبا سفيان‪ ،‬ألم يأن لك أن تعلم أني رسول‬
‫اهلل؟» قال‪ :‬بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك‪ ،‬أما هذه واهلل في النفس منها حتى‬
‫اآلن شيئاً‪ ،‬فقال له العباس‪ :‬ويحك أسلم قبل أن تضرب عنقك‪ ،‬قال‪ :‬فشهد شهادة الحق‬
‫فأسلم‪ ،‬قال العباس‪ :‬قلت يا رسول اهلل إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً‪ ،‬قال‪:‬‬
‫« نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن‪ ،‬ومن أغلق بابه فهو آمن‪ ،‬ومن دخل المسجد‬
‫فهو آمن»‪.1‬‬

‫لقد كان لتلك الطريقة المحمدية أثرها في أبي سفيان الذي تغير إلى الوالء الكامل للدعوة‬
‫الجديدة وكانت له مواقف كبيرة في الجهاد مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في معركة‬
‫حنين‪ ،‬كما كان هذا األسلوب النبوي الكريم عامالً في امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان‬
‫زعيم قريش‪ ،‬وبرهن له بأن المكانة التي كانت عند قومه لن تنتقص شيئاً في اإلسالم‪ ،‬إن‬
‫هو أخلص له وبذل في سبيله‪ ،2‬وجعل صلى اهلل عليه وسلم لدار أبي سفيان مكانة خاصة‬
‫كي يكون أبو سفيان ساعده في إقناع المكيين بالسلم والهدوء‪ ،‬ويستخدمه كمفتاح أمان يفتتح‬
‫أمامه الطريق إلى مكة دون إراقة دماء‪ ،‬ويشيع في نفسه عاطفة الفخر التي يحبها أبو‬
‫سفيان حتى يتمكن اإليمان في قلبه‪ ،3‬لقد دخل أبو سفيان إلى مكة مسرعاً‪ ،‬ونادى بأعلى‬
‫صوته‪ :‬يا معشر قريش هذا محمد جاءكم فيما ال قبل لكم به‪ ،‬فمن دخل دار أبي سفيان فهو‬
‫آمن‪ ،‬قالوا‪ :‬قاتلك اهلل وما تغني عنا دارك؟ قال‪ :‬ومن أغلق عليه بابه فهو آمن‪ ،‬ومن دخل‬
‫المسجد فهو آمن‪ ،‬وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد‪.4‬‬

‫ولقد دخلت قوا ت المسلمين مكة دون مقاومة تذكر إال ما كان من جهة خالد بن الوليد الذي‬
‫قابل عكرمة بن أبي جهل في نفر خافوا االنتقام فهزمهم خالد فهربوا خارج مكة‪ ،‬ثم عاد‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)399 /2‬‬


‫‪ 2‬العدالة والمصالحة الوطنية للصالبي‪ ،‬ص‪.82 :‬‬
‫‪ 3‬دراسات في السيرة‪ ،‬د‪ .‬عماد الدين خليل‪ ،‬ص‪.245 :‬‬
‫‪ 4‬البداية والنهاية ألبن كثير (‪.)290 /4‬‬

‫‪305‬‬
‫عكرمة ليأخذ أماناً وعفواً من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ويسلم ويشارك في الجهاد في‬
‫فتوحات الشام ويقتل في اليرموك شهيداً‪.‬‬

‫ب ـ يوم بر ووفاء مع عثمان بن طلحة‪:‬‬

‫كان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة قبل أن يسلم فأراد علي رضي اهلل عنه أن يكون‬
‫المفتاح له مع السقاية‪ ،‬لكن النبي صلى اهلل عليه وسلم دفعه إلى عثمان بعد أن خرج من‬
‫الكعبة‪ ،‬ورده إليه قائالً‪« :‬اليوم يوم بر ووفاء»‪ ،1‬وكان صلى اهلل عليه وسلم قد طلب من‬
‫عثمان بن طلحة المفتاح قبل أن يهاجر إلى المدينة‪ ،‬فأغلظ له القول ونال منه‪ ،‬فحلم عنه‪،‬‬
‫وقال‪« :‬يا عثمان‪ ،‬لعلك ترى المفتاح يوماً بيدي‪ ،‬أضعه حيث شئت»‪ ،‬فقال‪ :‬لقد هلكت‬
‫قريش يومئذ وذَُّلت‪ ،‬فقال‪« :‬بل عَ َمرت وع ّزت يومئذٍ»‪ ،‬ووقعت كلمته من عثمان بن طلحة‬
‫موقعاً‪ ،‬وظن أن األمر سيصير إلى ما قال‪ ،2‬ولقد أعطى له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫مفاتيح الكعبة قائالً له‪« :‬هاك مفتاحك يا عثمان‪ ،‬اليوم يوم بر ووفاء‪ ،3‬خذوها خالدة تالدة‪،‬‬
‫ال ينزعها منكم إال ظالم»‪ .4‬وهكذا لم يشأ النبي صلى اهلل عليه وسلم أن يستبد بمفتاح‬
‫الكعبة‪ ،‬بل ولم يشأ أن يضعه في أحد من بني هاشم‪ ،‬لما في ذلك من اإلثارة أوالً ولما به‬
‫من مظاهر السيطرة وبسط النفوذ‪ ،‬هذا هو مفهوم الفتح األعظم في شرعة رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم البر والوفاء‪ ،‬حتى للذين غدروا ومكروا وتطاولوا‪.‬‬

‫ومهما تعاظمت االختالفات بين أبناء الوطن الواحد‪ ،‬ومهما توالت اإلساءات والمظالم‪،‬‬
‫فالعفو والصفح والتغافر هو األفضل للمتخاصمين‪ ،‬وللوطن ولألجيال القادمة وهذا بالطبع‬
‫ما سطره لنا التاريخ في فتح مكة‪.‬‬

‫‪1‬السيرة النبوية البن هشام (‪413 /2‬‬


‫‪ 2‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)407 /2‬‬
‫‪ 3‬السيرة النبوية البن هشام (‪.)82 /4‬‬
‫‪ 4‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)407 /2‬‬

‫‪306‬‬
‫إن اال قتداء بالرسول صلى اهلل عليه وسلم شرف لنا قبل أن يكون حالً ناجحاً لمشاكلنا‬
‫واختالفاتنا‪.1‬‬

‫ج ـ إعالن العفو العام‪:‬‬

‫نال أهل مكة عفواً عاماً برغم أنواع األذى التي ألحقوها بالرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ودعوته‪ ،‬ورغم قدرة الجيش اإلسالمي على إبادتهم‪ ،‬وقد جاء إعالن العفو عنهم‪ ،‬وهم‬
‫مجتمعون قرب الكعبة ينتظرون حكم الرسول صلى اهلل عليه وسلم فيهم‪ ،‬فقال‪« :‬ما تظنون أني‬
‫ب عَلَيكُمُ اليَومَ يَغفِرُ اهللُ لَكُم‬ ‫فاعل بكم»‪ ،‬فقالوا‪ :‬خيراً‪ ،‬أخ كريم وابن أخ كريم‪ ،‬فقال‪َ ﴿« :‬‬
‫ال تَثرَي َ‬

‫وَهُ َو أَرحَ ُم الرَّاحِمِينَ﴾ (يوسف‪ ،‬آية ‪ :2)92 :‬اذهبوا فأنتم الطلقاء»‪.‬‬

‫وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ األنفس من القتال أو السبي‪ ،‬وأيضاً األموال المنقولة‪،‬‬
‫واألراضي بيد أصحابها‪ ،‬وعدم فرض الخراج عليها‪.3‬‬
‫إلى جانب ذلك الصفح الجميل‪ ،‬كان هناك الحزم األصيل الذي البد أن تتصف به القيادة‬
‫الحكيمة الرشيدة‪ ،‬ولذلك استثنى قرار العفو الشامل بضعة عشر رجالً أمر بقتلهم ـ وإن وجدوا‬
‫معلقين بأستار الكعبة ـ ألنه عظمت جرائمهم في حق اهلل ورسوله وحق اإلسالم‪ ،‬ولما كان‬
‫يخشاه منهم من إثارة الفتنة بين الناس‪ 4‬بعد الفتح‪ ،‬ومن هؤالء من قتل‪ ،‬ومنهم من جاء مسلماً‬
‫تائباً فعفا عنه الرسول صلى اهلل عليه وسلم وحسن إسالمه‪.5‬‬
‫وكانت لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قدرة رفيعة في التعامل مع الخصوم فدخلت هند في‬
‫اإلسالم‪ ،‬وسهيل بن عمرو‪ ،‬وعكرمة بن أبي جهل‪ ،‬وصفوان بن أمية‪ ،‬وفضالة بن عمير‬
‫وغيرهم كثير‪.‬‬
‫د ـ شاعر قريش عبد اهلل بن الزبعرى‪:‬‬

‫‪ 1‬العدالة والمصالحة الوطنية للصالبي‪ ،‬ص‪.87 :‬‬


‫‪ 2‬البيهقي في السنن الكبرى (‪.)118 /9‬‬
‫‪ 3‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)408 /2‬‬
‫‪ 4‬السيرة النبوية ألبي شهبة (‪.)451 /2‬‬
‫‪ 5‬السيرة النبوية ألبي شهبة (‪.)451 /2‬‬

‫‪307‬‬
‫لما فتحت مكة فرا عبد اهلل بن الزبعرى السهمي إلى نجران‪ ،‬فلحقته قوافي حساان‪ ،‬فقد كان‬
‫خصماً عنيداً لإلسالم‪ ،‬فراح يعيره بالجبن والفرار فقال له‪:‬‬
‫ال تعد من رجالً أحلك بغضُهُ‬
‫‪1‬‬
‫نجران في عيش أحذا لئيم‬
‫أي‪ :‬فليبق اهلل لنا محمداً صلى اهلل عليه وسلم هذا الرجل العظيم الذي أحلك بغضه ديار نجران‪،‬‬
‫وليُدم اهلل عليك ابن الزبعرى عيشاً مهيناً أشأم ثم راح حسان يستنزل غضب اهلل ومقته على ابن‬
‫الزبعري ونجله‪ ،‬ويسأله اهلل أن يخلده في سوء العذاب وأليمه‪ ،2‬فتطايرت تلك األبيات ووصلت‬
‫إلى ابن الزبعرى وقام ولم يقعد وقلب أموره‪ ،‬ثم أراد اهلل به الخير‪ ،‬فعزم على الدخول في‬
‫اإلسالم‪ ،‬ثم توجه إلى مكة‪ ،‬وقصد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأعلن إسالمه‪ ،‬وطلب من‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يستغفر له كل عداوة له ولإلسالم‪ ،‬فقال له رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪« :‬إن اإلسالم يجب ما قبله»‪ ،3‬ثم أدناه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم منه‬
‫وآنسه‪ ،‬ثم خلع عليه حلة‪ ،‬وقد أجمع الرواة أن ابن الزبعرى رضي اهلل عنه قال بعد إسالمه‬
‫شعراً كبيراً حسنًا يعتذر فيه إلى الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪.4‬‬
‫قال ابن كثير‪ :‬كان من أكبر أعداء اإلسالم ومن الشعراء الذين استعملوا قواهم في هجاء‬
‫المسلمين‪ ،‬ثم منا اهلل عليه بالتوبة واإلنابة والرجوع إلى اإلسالم والقيام بنصره والذاب عنه‪.5‬‬
‫ومن القصائد الرائعة التي قالها في مدح النبي صلى اهلل عليه وسلم وندمه على محاربة‬
‫اإلسالم‪ ،‬وتأخره في الدخول فيه‪:‬‬
‫منع الرُّقاد بالبل وهموم‬
‫‪8‬‬
‫والليل معتلج‪ 6‬الراواق‪ 7‬بهيم‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)424 /2‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)424 /2‬‬
‫‪ 3‬المغازي (‪.)848 /2‬‬
‫‪ 4‬السيرة النبوية (‪.)424 /2‬‬
‫‪ 5‬البداية والنهاية (‪.)308 /4‬‬
‫‪ 6‬معتلج‪ :‬ملتطم‪.‬‬
‫‪ 7‬الراواق‪ :‬مقدم الليل‪.‬‬
‫‪ 8‬بهيم‪ :‬ال ضوء فيه إلى الصباح‪.‬‬

‫‪308‬‬
‫مما أتاني أن أحمد المني‬
‫فيه فبت كأنني محموم‬
‫يا خير من حملت على أوصالها‬
‫‪2‬‬
‫عيرانه‪ 1‬سرح اليدين غشوم‬
‫إني لمعتذر إليك من الذي‬
‫أسديت إذ أنا في الضالل أهيم‬
‫أيام تأمرني بأغوى خطة‬
‫سهم وتأمرني بها مخزوم‬
‫وأمد أسباب الرادى ويقودني‬
‫أمر الغواة وأمرهم مشؤوم‬

‫فاليوم آمن بالنبي محمد‬


‫قلبي مخطئُ هذه محروم‬
‫مضت العداوة وانقضت أسبابها‬
‫ودعت أواصر بيننا وحلوم‬
‫ي كالهما‬
‫فاغفر فدى لك والد ا‬
‫زللي فإنك راحم مرحوم‬
‫وعليك من عِلم المليك عالمة‬
‫نور أغر وخاتم مختوم‬
‫أعطاك بعد محبة برهانه‬
‫شرفاً وبرهان اإلله عظيم‬
‫ولقد شهدت بأن دينك صادق‬

‫‪ 1‬عيرانه‪ :‬راحلة‪.‬‬
‫‪ 2‬غشوم‪ :‬شجاع ال يثنيه أمر عن عزمه‪.‬‬

‫‪309‬‬
‫حق وإنك في العباد جسيم‬
‫واهلل يشهد أن أحمد مصطفى‬
‫مستقبل في الصالحين كريم‬
‫قَرم عال بُنيانُهُ من هاشم‬
‫‪1‬‬
‫فرع تمكن في الذُّرا وأُرُوم‬
‫وأسلم فيما بعد كعب بن زهير ونستطيع القول بأن الشعراء المعارضين للدعوة اإلسالمية قد‬
‫انتهى دورهم‪ ،‬فقد أسلم ضرار بن الخطاب‪ ،‬وعبد اهلل بن الزبعرى‪ ،‬وأبو سفيان بن الحارث بن‬
‫هشام‪ ،‬والعباس بن مرداس‪ ،‬وتحولوا إلى الصف اإلسالمي‪ ،‬واستظلوا بلوائه عن قناعة‬
‫وإيمان‪ ،‬ولم يكتف بعضهم بأن تكون كلمته في الدفاع عن اإلسالم بل كان سيفه إلى جانب‬
‫كلمته‪.2‬‬
‫هـ ـ تعامله مع هوازن ومالك بن عوف زعيمها‪:‬‬
‫جاء وفد هوازن بعد هزيمتهم في حنين لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالجعرَانة وقد أسلموا‪،‬‬
‫ن‬
‫فقالوا‪ :‬يا رسول اهلل إنا أصل وعشيرة وقد أصابنا من البالء ما لم يخف عليك فامنن علينا م ا‬
‫اهلل عليك‪ ،‬وقام خطيبهم زهير بن صرد أبو صُرد‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إنما في الحظائر من‬
‫السبايا خالتك‪ ،‬وحواضنك الالاتي كن يكفلنك‪ ،‬ولو أنا ملحنا ألبن أبي شمر أو النعمان بن‬
‫المنذر‪ ،3‬ثم أصابنا منها مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما‪ ،‬وأنت رسول اهلل‬
‫خير المكفولين‪ ،‬ثم أنشأ يقول‪:‬‬
‫امنن علينا رسول اهلل في كرم‬
‫‪4‬‬
‫فإنك المرءُ نرجوه وننتظر‬
‫إلى أن قال‪:‬‬
‫امنن على نسوة قد كنت ترضعها‬

‫‪ 1‬البداية والنهاية (‪ 307 /4‬ـ ‪ ،)308‬أروم‪ :‬أصل‪.‬‬


‫‪ 2‬من معين السيرة‪ ،‬ص‪.433 ،432 ،431 :‬‬
‫‪ 3‬البداية والنهاية (‪.)352 /4‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه (‪.)352 /4‬‬

‫‪310‬‬
‫إذ فوك يملؤه من محضها دَرَرُ‬
‫امنن على نسوة قد كنت ترضعها‬
‫وإذ يزينك ما تأتي وما تذر‬
‫فكان هذا سبب إعتاقهم عن بكرة أبيهم‪ ،‬فعادت فواضله عليه السالم قديماً وحديثاً وخصوصاً‬
‫وعموم ًا‪.1‬‬
‫فلما سمع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من الوفد قال لهم‪« :‬نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم‬
‫أموالكم؟» فقالوا‪ :‬يا رسول اهلل‪ :‬خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا‪ ،‬بل ابناؤنا ونساؤنا أحب إلينا‪،‬‬
‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪« :‬أمَّا ما كان لي‪ ،‬ولبني عبد المطلب‪ ،‬فهو لكم‪ ،‬وإذا أنا‬
‫صليت بالناس فقوموا‪ ،‬فقولوا‪ :‬إنا نستشفع برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إلى المسلمين‪،‬‬
‫وبالمسلمين إلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في أبنائنا ونسائنا‪ ،‬فإني سأعطيكم عند ذلك‪،‬‬
‫وأسأل لكم» ‪ .‬فلما صلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالناس الظهر‪ ،‬قاموا فقالوا ما أمرهم‬
‫به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال‪« :‬أمّا ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم»‪ .‬فقال‬
‫المهاجرون‪ :‬وما كان لنا فهو لرسول اهلل‪ ،‬وقالت األنصار‪ ،‬وما كان لنا فهو لرسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقال األقرع بن حابس‪ :‬أماا أنا وبنو تميم‪ ،‬فال‪ ،‬وقال عيينة‪ :‬أما أنا وبنو فزارة‬
‫فال‪ ،‬وقال العباس بن مرداس السَّلميُّ‪ :‬أما أنا‪ ،‬وبنو سليم فال‪ ،‬فقالت بنو سليم‪ :‬بل ما كان لنا‬
‫فهو لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬قال عباس بن مرداس لبني سليم‪ :‬وهنتموني؟ فقال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فيء‬
‫نصيبه فردّوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم»‪.2‬‬
‫وفي رواية‪ :‬فخطب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في المؤمنين فقال‪« :‬إن إخوانكم هؤالء‬
‫جاؤونا تائبين‪ ،‬وإني أردت أن أرد إليهم سبيهم‪ ،‬فمن أحب منكم أن يطيّب ذلك فليفعل»‪ ،‬فقال‬
‫الناس‪ :‬طيبنا يا رسول اهلل لهم‪ .‬فقال لهم‪« :‬إنا ال ندري من أذن منكم فيه ممن لم يأذن‬

‫‪ 1‬البداية والنهاية (‪.)364 ،363 /4‬‬


‫‪ 2‬البيهقي في الدالئل (‪ 194 /5‬ـ ‪.)195‬‬

‫‪311‬‬
‫فأرجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمَركم»‪ .‬فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم‪ ،‬ثم رجعوا إلى النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا‪.1‬‬
‫وقد سُرَّ الرسول صلى اهلل عليه وسلم بإسالم هوازن وسألهم عن زعيمهم مالك بن عوف‬
‫النصري‪ ،‬فأخبروه أنه في الطائف مع ثقيف‪ ،‬فوعدهم بر اد أهله وأمواله عليه‪ ،‬وإكرامه بمئة من‬
‫اإلبل إن قدم عليه مسلماً‪ ،‬فجاء مالك مسلماً فأكرمه وأماره على قومه وبعض القبائل المجاورة‪،‬‬
‫ولقد تأثر مالك بن عوف‪ ،‬وجادت قريحته لمدح النبي صلى اهلل عليه وسلم فقال‪:‬‬
‫ما إن رأيت وال سمعت بمثله‬
‫في الناس كلهم بمثل محمد‬
‫أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى‬
‫ومتى تشاء يخبرك عما في غد‬
‫وإذا الكتيبة عرادت‪ 2‬أنيابها‬
‫بالسمهري وضرب كل مُهنَّد‬
‫فكأنه ليث على أشباله‬
‫‪5‬‬
‫وسط الهباءة‪ 3‬خادر‪ 4‬في مرصد‬
‫لقد كانت سياسته صلى اهلل عليه وسلم مع خصومه مرنة إلى أبعد الحدود‪ ،‬وبهذه السياسة‬
‫الحكيمة استطاع صلى اهلل عليه وسلم أن يكسب هوازن وحلفاءها إلى صف اإلسالم‪ ،‬واتخذ من‬
‫هذه القبيلة القوية رأس حربة يضرب بها قوى الوثنية في المنطقة ويقودها زعيمهم مالك بن‬
‫عوف الذي قاتل ثقيفاً في الطائف حتى ضياق عليهم‪ ،‬وقد فكر زعماء ثقيف في الخالص من‬
‫المأزق بعد أن أحاط اإلسالم بالطائف من كل مكان‪ ،‬فال تستطيع تحركاً وال تجارة‪ ،‬فمال بعض‬
‫زعماء ثقيف إل ى اإلسالم‪ ،‬مثل عروة بن مسعود الثقفي‪ ،‬الذي سارع إلى اللحاق برسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة بعد أن قسم غنائم حنين‪ ،‬واعتمر من‬
‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪ ،4318 :‬ورقم‪.4319 :‬‬
‫‪ 2‬عرادت‪ :‬اشتدت وضربت‪ ،‬القاموس المحيط (‪.)313 /1‬‬
‫‪ 3‬الهباءة‪ :‬غبار الحرب‪.‬‬
‫‪ 4‬الخادر‪ :‬المقيم في عرينه‪.‬‬
‫‪ 5‬السيرة النبوية البن هشام (‪.)144 /4‬‬

‫‪312‬‬
‫الجعرانة‪ ،‬فالتقى به قبل أن يصل إلى المدينة‪ ،‬وأعلن إسالمه‪ ،‬وعاد إلى الطائف‪ ،‬وكان من‬
‫زعماء ثقيف محبوباً عندهم‪ ،‬فدعاهم إلى اإلسالم وأ َّذن في أعلى منزله‪ ،‬فرماه بعضهم بسهام‬
‫فأصابوه‪ ،‬فطلب من قومه أن يدفنوه مع شهداء المسلمين حصار الطائف‪.1‬‬
‫إن اإلنسان ليعجب من فقه النبي صلى اهلل عليه وسلم في معاملة النفوس‪ ،‬وفي سعيه الحثيث‬
‫في بناء الدولة والتمكين لدين اهلل تعالى‪ ،‬لقد استطاع صلى اهلل عليه وسلم أن يزيل معالم الوثنية‬
‫وبيوتات العبادة الكفرية من مكة وما حولها‪ ،‬ورتب صلى اهلل عليه وسلم األمور التنظيمية‬
‫لألراضي التي أضيفت للدولة اإلسالمية‪ ،‬فعيان عتاب بن أسيد أميراً على مكة‪ ،‬وجعل معاذ بن‬
‫جبل مرشداً وموجهاً ومعلماً ومربياً‪َّ ،2‬‬
‫وعين على هوازن مالك بن عوف قائداً ومجاهداً‪ ،‬ثم‬
‫اعتمر ورجع إلى المدينة صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬وظائف الدولة واالهتمام بالمواطن‬


‫‪ 1‬السيرة النبوية البن هشام (‪.)144 /4‬‬
‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)192 /4‬‬

‫‪313‬‬
‫الدولة من وظائفها حماية المواطن وتقديم الخدمات له‪ ،‬ومن أهمها‪:‬‬
‫‪1‬ـ السكن‪:‬‬
‫إن حاجة اإلنسان إلى مسكن أمر من األمور األساسية في حياته وهو من نعم اهلل عز وجل‬
‫على اإلنسان‪.‬‬
‫ـ قال تعالى‪﴿ :‬وَا ُ‬
‫هلل جَ َع َل لَكُم مِّن بُيُوتِكُم سَكَنًا َوجَ َع َل لَكُم مِّن جُلُودِ األَنعَامِ بُيُوتًا تَستَخِفُّونَهَا يَو َم‬

‫ظَعنِكُم َويَو َم إِقَامَتِكُم﴾ (النحل‪ ،‬آية ‪.)81 :‬‬

‫أي أن اهلل سبحانه قد جعل البيوت أيًّا كان نوعها سكناً يفيء إليها الناس‪ ،‬ويشعرون فيه بالراحة‬
‫ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم‪ ،‬فتسكن نفوسهم وتطمئن‪ ،‬لذا فقد قررت الشريعة اإلسالمية‬
‫حق المسكن لكل أفراد الدولة‪ ،‬فمنحهم حرية بناء المساكن وتملكها واإليواء فيها واالحتماء بها‪،‬‬
‫بل ألزم الدولة مسؤولية ضمان سكن لكل المحتاجين من أفرادها‪ ،1‬فعن ابن عمر رضي اهلل‬
‫عنهما قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬كلكم راعٍ فمسؤول عن رعيته‪ ،‬فاألمير‬
‫الذي على الناس راعٍ عليهم وهو مسؤول عنهم»‪ ،2‬وعن أبي هريرة عن النبي صلى اهلل‬
‫عليه وسلم أنه قال‪« :‬ما من أمير عشيرة إال يؤتى به يوم القيامة مغلو ًال ال يفكه إال العدل»‪.3‬‬
‫ومن العدل تأمين حاجات كل ضعيف في المجتمع ومنها الحاجة إلى السكن‪ ،‬وإذا عجزت‬
‫الدولة بمواردها المختلفة عن كفالة هذا الحق للمحتاجين من رعاياها‪ ،‬فإن المسؤولية تقع على‬
‫عاتق األغنياء في المجتمع فعليهم أن يقوموا بإيفاء حاجات الفقراء والمحتاجين من الطعام‬
‫والشراب واللباس والمأوى الذي يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء وعيون المارة‪ ،4‬فعن أبي سعيد‬
‫الخدري أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬من كان عنده فضل ظهر فليعد به على من‬

‫‪ 1‬الحريات من القرآن الكريم للصَّالَّبي‪ ،‬ص‪.128 :‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.2554 :‬‬
‫‪ 3‬مسند أحمد (‪.)431 / 2‬‬
‫‪ 4‬احريات من القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.180 :‬‬

‫‪314‬‬
‫ال ظهر له‪ ،‬ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من ال زاد له»‪ ،1‬وللمساكن حرمات منها‪،‬‬
‫عدم دخول المنزل إال بإذن صاحبه قال تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا َ‬
‫ال تَدخُلُوا بُيُوتًا غَي َر بُيُوتِكُم‬

‫حَتَّى تَستَأنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهلِهَا ذَلِكُم خَير لَّكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّم تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَالَ‬
‫ن لَكُم وَإِن قِي َل لَكُمُ ارجِعُوا فَارجِعُوا ُهوَ أَزكَى لَكُم وَاهللَُّ بِمَا تَعمَلُونَ عَلِيم﴾‬
‫تَدخُلُوهَا حَتَّى يُؤذَ َ‬

‫(النور ‪ ،‬آية ‪ 27 :‬ـ ‪.)28‬‬


‫وقد أوجب اهلل بهذه اآلية طلب اإلذن قبل الدخول وعبَّر عنه بأنه االستئناس الظاهر الذي هو‬
‫ضد االستيحاش‪ ،‬ألن الذي يقرع باب غيره ال يدري أيؤذن له أم ال‪ ،‬فهو كالمستوحش فإذا أذن‬
‫له استأنس‪ ،‬ولما كان االستئناس الزماً لإلذن‪ ،‬أطلق الالزم وأريد ملزومه الذي هو اإلذن‪.2‬‬
‫هلل بِمَا تَعمَلُونَ عَلِيم﴾ بمعنى أنه إذا غفل القانون‬
‫وقد أوضح سبحانه أنه عليم بأفعال عباده ﴿وَا ُ‬

‫لنقص في البينة أو اإلثبات أو غفلت السلطة القائمة عن الموضوع‪ ،‬فإن عبودية الفرد هلل‬
‫وإحساسه بمعرفة اهلل لكل أفعاله صغيرة وكبيرة تجعله يتقي اهلل ويتذكر أن هناك قوة تراقبه‬
‫أكبر من البينة القانونية و السلطة العامة‪ ،‬فال يغفل بالتالي عن أوامر ربه ويتحرك تلقائياً‬
‫الحترام حرمة مساكن الناس‪.3‬‬
‫وحر مت الشريعة التجسس على مساكن الناس ومن حق كل إنسان أال يتجسس عليه أحد في‬
‫َّ‬
‫عقر داره وال ينظر إليه وهو داخل بيته خلسة‪ ،‬ومن هنا فقد حرم اإلسالم التجسس على البيوت‬
‫لما فيها من انتهاك العورات وكشف السوءات‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اج َتنِبُوا كَثِيرًا مِّ َ‬
‫ن‬

‫ال تَجَسَّسُوا﴾‪.‬‬
‫ض الظَّنِّ إِثم وَ َ‬
‫الظَّنِّ إِنَّ بَع َ‬

‫وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إياكم والظن‪ ،‬فإن الظن أكذب الحديث‪ ،‬وال تجسسوا‬
‫وال تناحشوا وال تحاسدوا وال تباغضوا وال تدابروا وكونوا عباد اهلل إخواناً»‪.4‬‬

‫‪ 1‬سنن أبي داوود (‪ )129 / 2‬رقم‪.1663 :‬‬


‫‪ 2‬أضواء البيان‪ ،‬محمد األمين الشنقيطي (‪.)113 / 6‬‬
‫‪ 3‬مفاهيم الحق والحرية‪ ،‬د‪.‬عدي الكيالني‪ ،‬ص‪.217 ،216 :‬‬
‫‪ 4‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.2066 :‬‬

‫‪315‬‬
‫ولقد بلغ من حرص اإلسالم على حرمة المسكن أن أعطى صاحب المسكن حق الدفاع عن‬
‫حرماته شرعياً‪ ،‬ولو أدى ذلك إلى فقأ عين المتلصص‪ ،‬فعن أبي هريرة أنه سمع رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يقول‪« :‬لو أن أمرءًا أطلع عليك بغير إذن فخذفته بعصاة ففقأت عينه‪ ،‬لم‬
‫يكن عليك جناح»‪.1‬‬
‫وعن أنس بن مالك أن رجالً اطلع من بعض حجر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقام إليه‬
‫رسول اهلل بمشقص أو مشقاص وجعل يختله ليطعنه‪.2‬‬
‫هذا والتجسس على الناس والنظر إلى عوراتهم واالستماع إلى أسرارهم يحرم سواء كان ذلك‬
‫من أحد الناس تطفالً‪ ،‬أو من المسؤولين‪ ،‬أم من جماعة من جماعات الناس خدمة لجهة من‬
‫الجهات‪ ،3‬ولهذا فإن عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه رفع عقوبة المخالف الذي كشفه بطريق‬
‫التجسس‪ ،‬فقد روي أن عمر بن الخطاب كان يعس بالمدينة من الليل فسمع صوت رجل يتغني‪،‬‬
‫فتسور عليه‪ ،‬فقال‪ :‬يا عدو اهلل أظننت أن اهلل يسترك وأنت في معصيته " حيث وجد عنده زق‬
‫خمر" فقال‪ :‬وأنت يا أمير المؤمنين ال تعجل علي‪ ،‬وإن كنت عصيت اهلل واحدة فقد عصيت اهلل‬
‫في ثالث‪:‬‬
‫ال تَجَسَّسُوا﴾ وقد تجسست‪.‬‬
‫ـ قال تعالى‪﴿ :‬وَ َ‬

‫ت مِن أَبوَابِهَا﴾ وقد تسورت عليا‪.‬‬


‫ـ وقال تعالى‪﴿ :‬وَأتُوا البُيُو َ‬

‫ال تَدخُلُوا بُيُوتًا غَي َر بُيُو ِتكُم حَتَّى تَستَأنِسُوا﴾ وقد دخلت عليا بغير إذن‪ ،‬فقال‬
‫ـ وقال تعالى‪َ ﴿ :‬‬

‫عمر‪ :‬هل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال‪ :‬نعم واهلل ال أعود‪ .‬فقال‪ :‬اذهب فقد عفوت‬
‫عنك‪.4‬‬
‫إن اإلسالم يشترط شرعية الوسيلة‪ ،‬كما يشترط نيل الغاية‪ ،‬وليقول لهم‪ :‬إن الرجوع إلى الحق‬
‫فضيلة ال تكاد تعادلها أي فضيلة أخرى‪.1‬‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.6902 :‬‬


‫‪ 2‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.6900 :‬‬
‫‪ 3‬حقوق اإلنسان وحرياته االساسية‪ ،‬ص‪.130 :‬‬
‫‪ 4‬الحريات من القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.183 :‬‬

‫‪316‬‬
‫ـ عدم االستيالء على منازل الغير‪ ،‬أو هدمه جبراً‪ ،‬فإذا ملك اإلنسان مسكناً‪ ،‬فإن ملكيته له‬
‫تكون مصونة شرعياً‪ ،‬فال يجوز لكائن من كان أن يعتدي على هذه الملكية باالستيالء‪ ،‬أو‬
‫التعريض للتلف بالهدم وغيره‪ ،‬إال إذا كان ذلك من قبل الحاكم واقتضته مصلحة عامة‪،‬‬
‫كتوسعة طريق‪ ،‬أو بناء مرفق عام كمسجد أو مستشفى أو حديقة أو غيرها‪.‬‬
‫جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين أنا مظلوم وال‬
‫أستطيع أن أتك لم‪ ،‬فقال له‪ :‬ويلك عليك الطالق‪ ،‬فقال‪ :‬نعم‪ ،‬فقال‪ :‬تكلم وال طالق عليك‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫هذا وأشار إلى عامله وكان في القوم‪ ،‬فقال‪ :‬هذا أخذ من حائطي أو داري‪ ،‬فقال له‪ :‬اردد عليه‪،‬‬
‫ثم قال‪ :‬لوال أن أحدث في اإلسالم عقوبة لم تكن ألمرت أن يغور أثر السجود من جبهتك وكان‬
‫بين عينيه سجدة‪.2‬‬
‫ـ استخدام المسكن بالشكل المناسب‪:‬‬
‫لكل إنسان حسب إمكاناته الحق في اختيار مكان سكنه مراعياً عناصر اقتصادية وشخصية‬
‫ووظيفية يعود له وحده أن يقدرها وله الحق أيضاً في استعمال مسكنه بالشكل الذي يراه مناسباً‬
‫على أن يكون ذلك محكوماً بالقواعد والضوابط الشرعية التي تقتضي أنه ال ضرر وال ضرار‪،‬‬
‫فإذا كان مستأجراً عليه أن يراعي شروط العقد‪ ،‬وإذا كان مالكاً لطبقة في بناء فعليه أن يتقدم‬
‫بالقانون الذي ينظم الملكية المشتركة‪ ،‬وعلى اإلنسان في كل األحوال ـ مالكاً أو مستأجراً ـ‬
‫التقيد باألنظمة المتعلقة بالصحة العامة والراحة العامة بحيث ال يقلق جيرانه‪ ،‬وإذا كان مرتفق ًا‬
‫فعليه أال يتسبب في إيذاء أصحاب المساكن واألمالك وإال فإنه يمنع من ممارسة حق االرتفاق‬
‫إذا أدت ممارسته لهذا الحق إلى اإلضرار بحقوق اآلخرين في حفظ مساكنهم ودورهم‪.3‬‬
‫واإلسالم بطبعه وروحه يلزم المسؤولين الحكام‪ ،‬واألمراء وقادة الدولة بحل أزمة اإلسكان‬
‫المنت شرة بين الشعوب‪ ،‬فالدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية من خالل وزارة اإلسكان‬
‫تعمل على تحقيق األهداف اآلتية‪:‬‬
‫ـ اعتبار التخطيط العمراني جزء من المنظومة االقتصادية واالجتماعية والبيئية العامة للدولة‪.‬‬
‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪ ،84 :‬الحرية الشخصية في مصر‪ ،‬ص‪.390 :‬‬
‫‪ 2‬الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (‪.)216 /1‬‬
‫‪ 3‬حقوق اإلنسان وحرياته األساسية‪ ،‬ص‪.129 :‬‬

‫‪317‬‬
‫ـ إعادة التخطيط العمراني للمدن في الدولة على أسس علمية تكفل الحفاظ على التراث والهوية‬
‫والشخصية اإلسالمية المميزة‪.‬‬
‫ـ تطوير التشريعات المتعلقة بالبناء والتشييد لتواكب النهضة العمرانية المأمولة‪.‬‬
‫ـ زيادة اإلنفاق على قطاع التشييد والبناء وتعويض المناطق التي لم تنل نصيبها من االهتمام‬
‫بقطاعات اإلسكان فيها‪ ،‬وذلك من خالل بناء التجمعات السكنية والمدن الجديدة‪.‬‬
‫ـ القضاء على العشوائية في البناء والتشييد وااللتزام بمخطط عمراني شامل تلتزم به الدولة‬
‫وتكفل التزام المواطنين به‪.‬‬
‫ـ دعم وتشجيع دور القطاع الخاص في التطوير العقاري واإلسكان‪.‬‬

‫ـ م د رقعة البناء والتشييد والتعمير وبناء المدن إلى المناطق النائية والمحرومة على قدم‬
‫المساواة وبذات االهتمام بالمدن الرئيسية‪.‬‬
‫ـ توفير وحدات سكنية الئقة‪ ،‬وبأسعار مالئمة تدعمها الدولة‪.‬‬
‫ـ سن التشريعات القانونية المنظمة للعملية التطويرية العقارية من جميع جوانبها اإلنشائية‬
‫والرهن العقاري والملكية والتأمين العقاري‪ ،‬والتثمين والمسح وحسابات الضمان والنزاعات‬
‫العقارية والتسويق والبيع على الخارطة وكل ما يتعلق بأمور التطوير العقاري‪.‬‬
‫ـ تأسيس وتطوير واستحداث المؤسسات المالية العقارية وتفعيل دورها في مجال التطوير‬
‫العقاري‪.‬‬

‫‪2‬ـ العمل‪:‬‬
‫األصل في اإلسالم أن يختار اإلنسان ما يرغب فيه من العمل‪ ،‬كأن يكون نجاراً أو مزارعاً أو‬
‫خياطاً أو معلماً أو طبيباً أو موظفاً في عمل من أعمال الدولة أو تاجراً أو غير ذلك‪ ،‬وهذا‬
‫المبدأ ـ حرية اختيار العمل ـ أساسه من أن الناس يتفاوتون في القدرات‪ ،‬والمواهب‪ ،‬والخبرات‬
‫والهوايات المختلفة في القيام باألعمال واختيار الحرف‪ ،‬ولم يقيد اإلسالم اإلنسان إال‬

‫‪318‬‬
‫بمشروعية العمل‪،‬وهذه القاعدة لم يستطع أي نظام أن يخالفها أو ينكرها‪ ،‬بل أن المساواة التامة‬
‫بين األفراد في األعمال وعدم التفاوت ال تكاد توجد في أي مجتمع مهما كان الحال‪ ،‬وكذلك‬
‫اختيار العمل يكون عامالً هاماً في دفع اإلنسان إلى بذل الطاقة الحقيقية مع إتقان العمل وإن‬
‫أسوأ المجتمعات هي التي توكل األعمال إلى من ال يحسنها وإلى من ليس له ميل إليها وال‬
‫موهبة له في إتقانها ويكون كل واحد من الناس موضوعاً في موضعه الالئق به‪ ،‬وقد ورد في‬
‫الحديث‪« :‬إذا أسند األمر إلى غير أهله فانتظر الساعة»‪ ،‬وإن أحسن المجتمعات وأقدرها على‬
‫اإلنتاج كثرة وإتقاناً هي تلك التي يوزع فيها األفراد كل ما يناسب قدرته ومواهبه وميوله‪.‬‬
‫إن تنوع التخصصات وكثرة التفاوت من سمات المجتمعات الراقية‪ ،‬وكلما كان المجتمع أرقى‬
‫كان التفاوت والتخصص أكثر‪ ،‬وذلك يؤدي إلى ما سمَّاه بعض علماء االجتماع بالتضامن‬
‫العضوي للمجتمع‪ ،‬فكل فرد يقدم من العمل واإلنتاج ما يقدر عليه بحسب ما أوتي من قدرة‬
‫ومواهب ويحاسب على هذا األساس‪ ،‬وقد أشار القرآن الكريم إلى مثل هذا النوع من التفاوت‬
‫الذي تعود ثمرته على اإلنسانية جمعاء‪.1‬‬
‫ــ قال تعالى‪﴿ :‬وَرَفَ َع بَعضَكُم فَوقَ بَعض دَرَجَات لِّيَبلُ َوكُم فِي مَا آتَاكُم﴾ (األنعام ‪ ،‬آية ‪.)165 :‬‬

‫(المائدة ‪ ،‬آية ‪.)48 :‬‬ ‫ــ وقال تعالى‪﴿ :‬وَلَو شَاء اهللُ لَجَعَلَكُم أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبلُوَكُم فِي مَآ آتَاكُم﴾‬

‫لقد كان القرآن صريحاً في التعبير عن هذا القانون االجتماعي وهو تفاوت الناس في مواهبهم‬
‫وقدراتهم وبالتالي في أعمالهم ويتعرفون إليها‪ ،‬وهذا االختالف في المواهب والقدرات هو الذي‬
‫يجعل كل إنسان يحتاج إلى غيره من الناس مهما كانت أعمالهم ألن حاجات اإلنسان متنوعة‬
‫ومتعددة وال يستطيع إشباعها بمفرده‪ ،‬فمنها ما هو مادي‪ ،‬ومنها ما هو نفسي أو عقلي‪ ،‬ولذلك‬
‫كل إنسان مسخر لقضاء حاجات اآلخرين حتى ولو لم يشعر هو بذلك‪ ،‬وقد أشار القرآن الكريم‬
‫إلى هذه الحقيقة‪.2‬‬

‫‪ 1‬النظام السياسي واالقتصادي‪ ،‬يوسف العالم‪ ،‬ص‪.31 :‬‬


‫‪ 2‬النظام السياسي واالقتصادي‪ ،‬يوسف العالم‪ ،‬ص‪.31 :‬‬

‫‪319‬‬
‫ك‬ ‫ــ قال تعالى‪﴿ :‬وَرَفَعنَا بَعضَهُم فَوقَ بَعض دَرَجَات لِيَتَّخِ َذ بَعضُهُم بَعضًا سُخرِيًّا وَرَح َم ُ‬
‫ت رَبِّ َ‬

‫خَير مِّمَّا يَج َمعُونَ﴾ الزخرف ‪ ،‬آية ‪.)32 :‬‬

‫أي‪ :‬أن اهلل خلق الناس متفاوتين في القدرات‪ ،‬يقدم كل واحد منهم من األعمال ما يحتاج إليه‬
‫اآلخر‪ ،‬وكذلك اآلخر بالمقابل وكذلك اآلخر بالمقابل‪ ،‬بمعنى أن كل واحد بالنسبة إلى اآلخر‬
‫مسخَّر على وجه التبادل والتعاون‪ ،‬فأهل الحرف مثالً‪ ،‬كالخباز والنجار والحداد يُسخِّرون‬
‫المعلم لتعليم أوالدهم والمعلم يُسخرهم لما يحتاج إليه من خبز أو حدادة أو تجارة‪ ،‬وكذلك‬
‫الطبيب والمهندس والمزارع والبنَّاء‪ ،‬والموظف‪ ،‬وسائر أصحاب األعمال يسخر بعضهم بعضاً‬
‫فيما يتقنونه ويحسنونه ويقدمون من أعمال وخدمات‪ ،‬بالمقابل والتبادل بها وبهذا المعنى فسر‬
‫اآلية كبار المفسرين كالزمخشري والرازي وابن كثير وغيرهم فقال الزمخشري‪ :‬ليرتفق الناس‬
‫بعضهم بعضاً‪.1‬‬
‫وقال ابن كثير‪ :‬قيل معناه ليسخر بعضهم بعضاً في األعمال الحتياج هذا المعنى‪ :‬وقال‬
‫الرازي‪ :‬جعل تعالى ذكره بعضاً لبعض سبباً في المعاش في الدنيا‪.2‬‬
‫إن االختالف والتباين بين البشر سبب لتعاونهم وذلك ليكمل بعضهم بعضاً‪ ،‬وليتوزعوا األعمال‬
‫المختلفة المتنوعة التي يحتاج إليها المجتمع وليتبادلوها فيما بينهم فيحصل لهم النفع جميع ًا‪.3‬‬
‫من هذا المفهوم للتفاوت في القدرات والمواهب نشأت فكرة اتفق عليها علماء المسلمين‬
‫وأوضحوها وتناقلوها‪ ،‬وهي أن الصناعات وجميع األعمال التي يحتاج إليها المجتمع هي‬
‫فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين‪ ،‬وإذا لم يقم بها أحد أثموا جميعاً‪ ،‬قال‬
‫الغزالي في إحياء علوم الدين ‪ :‬أما فرض الكفاية فكل علم ال يستغنى عن قوام أمور الدنيا‬
‫كالطلب والحساب وأصول الصناعات والسياسة‪ ،‬وقال ابن تيمية‪ :‬قال غير واحد من أصحاب‬
‫الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم‪ ..‬أن هذه الصناعات كالفالحة والنساجة والبناية فرض على‬

‫‪ 1‬الحريات من القرآن الكريم للصالبي‪ ،‬ص‪.157 :‬‬


‫‪ 2‬النظام السياسي واالقتصادي‪ ،‬ص‪.32 :‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.32 :‬‬

‫‪320‬‬
‫الكفاية فإنه ال تتم مصلحة الناس إال بها‪ .1‬إن التفكير اإلسالمي األصيل المستند إلى مصادره‬
‫األساسية الكتاب والسنة ينظر إلى الفرد في إطار المجتمع‪ ،‬ولم ينظر إليه منعزالً في هذا‬
‫المجال االقتصادي‪ ،‬كما في غيره في المجاالت‪ ،‬فاإلسالم ال يعرف فرداً بدون جماعة وال‬
‫يعرف مجتمعاً بدون أفراد كما أنه ال يعرف مجتمعاً للرجال بدون النساء‪ ،‬وال مجتمعاً للنساء‬
‫بدون رجال وال يعتبر مصلحة الدنيا بدون اعتبار مصلحة الدين ألن الدنيا مزرعة اآلخرة‪.‬‬
‫إن التصور اإلسالمي يعتبر أصحاب األعمال على اختالف أنواعها متساوين في القيمة‬
‫اإلنسانية والكرامة البشرية‪ ،‬ويتفاضلون بما يقدمون للمجتمع من منافع‪.2‬‬
‫إن مسؤولية العمل تتقاسمها ثالث أطراف وهي‪:‬‬
‫أ ـ العمال‪:‬‬
‫فأما العمال فقد أنزلتهم الشريعة منزلة رفيعة‪ ،‬وأولتهم عناية خاصة وتعاملت معهم على أساس‬
‫ما يلي من القواعد‪:‬‬
‫ـ تكريم اليد العاملة والثناء على أهلها‪ ،‬كما في قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ما أكل‬
‫أحد طعام اً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي اهلل داود عليه السالم كان يأكل من‬
‫عمل يده»‪.3‬‬
‫ـ تقدير الجهود العمالية واعتبارها من محاسن األفعال التي يحبها اهلل لما في الحديث‪ :‬أن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم صافح سعد بن معاذ رضي اهلل عنه‪ ،‬فإذا يداه قد أكتبتا‪ ،4‬فسأله‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ :‬أضرب بالمُر‪ 5‬والمسحاة ألنفق على عيالي‪ ،‬فقال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬كفان يحبهما اهلل»‪.6‬‬
‫ال‬
‫ـ تفضيل العمل كيفما كان على مذلة السؤال‪ ،‬ولو كان جمع حزمة حطب وبيعها‪ ،‬أو اشتغا ً‬
‫بأبسط الحرف‪ ،‬أو امتهان أي مهنة مهما قلت عائداتها‪ ،‬فهي أفضل من أن يبقى اإلنسان عالة‬

‫‪ 1‬الحسبة البن تيمية‪ ،‬النظام السياسي واالقتصادي‪ ،‬ص‪.32 :‬‬


‫‪ 2‬الحريات من القرآن الكريم للصالبي‪ ،‬ص‪.158 :‬‬
‫‪ 3‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.2072 :‬‬
‫‪ 4‬أكتبت اليد‪ :‬إذ غلظ جلدها من العمل‪.‬‬
‫‪ 5‬المُر‪ :‬المحراب‪.‬‬
‫‪ 6‬المبسوط للسرخسي (‪.)33 /30‬‬

‫‪321‬‬
‫على غيره ينتظر أن يجود عليه بشيء كما في قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ألن‬
‫يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه»‪.1‬‬
‫ـ ا عتبار إتقان العمل من موجبات المحبة اإللهية‪ ،‬قول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن‬
‫اهلل يحب إذا عمل أحدكم عمالً أن يتقنه»‪.2‬‬
‫ا عتبار أتعاب العمل في أسباب المغفرة اإللهية لقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من بات‬
‫كا ًال من عمله بات مغفورًا له»‪.3‬‬
‫ـ حرمان القادرين على العمل من حق التكافل االجتماعي متى امتنعوا عن القيام به‪ ،‬إذ ‪ :‬ال‬
‫تحل الصدقة لغني‪ ،‬وال لذي مرَّة سوي‪.4‬‬
‫ـ تمكين العمال من مستحقاتهم وإن كان عملهم بنية التطوع في سبيل اهلل‪ ،‬فعن ابن الساعدي‬
‫قال‪ :‬استعملني عمر على الصدقة‪ ،‬فلما فرغت أمر لي بعمالة‪ ،5‬فقلت‪ :‬إنما عملت هلل‪ ،‬قال‪ :‬خذ‬
‫ما أعطيت‪ ،‬فإني قد عملت على عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فيعمالني‪ .6‬وهو ما يفيد‬
‫بأن للدولة الحق في مراقبة موظفيها ومحاسبة كل من يخل بواجباته المهنية بغير عذر‪ ،‬وال‬
‫يقبل من أي كان منهم التعلل بأنه مجرد متطوع بعمل في سبيل اهلل‪ ،‬وبهذا يستقيم تدبير الشأن‬
‫العام‪ ،‬وتحفظ المصالح العامة من اإلهمال والضياع‪.7‬‬
‫ــ تجريم سرقة المال العام من طرق العمال والموظفين في مؤسسات الدولة‪ ،‬كما قال النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول ‪.8‬‬

‫ــ من ظلم من العمال فله الحق في الدفاع عن نفسه ورفع مظلمته بجميع الطرق المشروعة‪،‬‬
‫لقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن لصاحب الحق مقاالً»‪.9‬‬

‫‪ 1‬البخاري الجامع الصحيح رقم‪.1968 :‬‬


‫‪ 2‬سلسلة األحاديث الصحيحة لأللباني‪ ،‬رقم‪.1113 :‬‬
‫‪ 3‬صحيح وضعيف الجامع الصغير لأللباني‪ ،‬رقم‪.11798 :‬‬
‫‪ 4‬صحيح ابن حبان‪ ،‬رقم‪.3290 :‬‬
‫‪ 5‬عمالة‪ :‬ما يقابل العمل من األجر‪.‬‬
‫‪ 6‬عمالني‪ :‬أعطاني أجر عملي‪.‬‬
‫‪ 7‬مصالح اإلنسان مقاربة مقاصدية عبد النور بزا‪ ،‬ص‪.263 :‬‬
‫‪ 8‬سنن أبي داوود رقم ‪.2943‬‬
‫‪ 9‬التمهيد البن عبد البر (‪ )88 / 4‬وزارة األوقاف المغرب‪.‬‬

‫‪322‬‬
‫ب ـ أصحاب العمل‪:‬‬
‫وأما أرباب العمل‪ :‬فقد تعاملت معهم الشريعة وفق مجموعة من القواعد وطالبتهم بمجموعة‬
‫من االلتزامات التنظيمية في تعاملهم وأهمها‪:‬‬
‫ــ إخبار العمال بمقادير أجورهم قبل البدء في العمل لقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫«من استأجر أجيراً فليعلمه أجره»‪.1‬‬
‫ــ تكليف العمال بما يطيقون من األشغال‪ ،‬ألنه تكليف بما ال يطاق‪ ،‬وكل من عجز عن شيء‬
‫سقط عنه‪.‬‬
‫ــ أداء مستحقات العمل في الوقت المناسب لقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أعطوا‬
‫األجير أجره قبل أن يجف عرقه»‪.2‬‬
‫ــ محاسبة المستأجرين عن التماطل في أداء مستحقات العمال أو االمتناع عن تسليمها لهم‪،‬‬
‫لقول اهلل تعالى في الحديث القدسي‪« :‬ثالثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر‪،‬‬
‫ورجل باع حراً فأكل ثمنه‪ ،‬ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره»‪.3‬‬
‫جـ ـ الدولة‪:‬‬
‫وأما الدولة‪ ،‬فقد ألزمتها الشريعة برعاية المصالح العامة وطالبتها بما يلي‪:‬‬
‫ــ تهيئة فُرص العمل وتمكين كل القادرين ممَّا يناسب كفاءاتهم من الوظائف‪ ،‬ألن ذلك من‬
‫الفروض الكفائية العامة الواجبة على الدولة‪.‬‬
‫ــ رعاية العاجزين عن العمل‪ ،‬كمن أقعدته عاهة‪ ،‬أو مرض‪ ،‬أو ضعف مدني‪ ،‬أو شيخوخة عن‬
‫العمل‪ ،‬واإلنفاق عليهم من المال العام‪.4‬‬
‫ــ تحفيز العمال والموظفين على االجتهاد في العمل بمختلف المحفزات المساعدة على توفير‬
‫أجواء االستقرار النفسي واالجتماعي‪ ،‬وفي مقدمتها تزويج غير المتزوجين من الموظفين‬
‫وتمكينهم من األعوان والمساعدين‪ ،‬وتوفير السكن الوظيفي لكل من ليس له سكن‪ ،‬على حساب‬

‫‪ 1‬الهداية شرح البداية للمرغيناني (‪.)231 / 3‬‬


‫‪ 2‬سنن ابن ماجه‪ ،‬الحديث رقم‪.)817 /2( 2443 :‬‬
‫‪ 3‬البخاري‪ ،‬الجامع الصحيح‪ ،‬رقم‪.2150 :‬‬
‫‪ 4‬مغني المحتاج للشربيني (‪.)404 / 1‬‬

‫‪323‬‬
‫المال العام‪ ،‬كما قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من كان له عامالً‪ ،‬فلم يكن له زوجة‬
‫فليكتسب له زوجة‪ ،‬فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً‪ ،‬فإن لم يكن له مسكن فليكتسب‬
‫مسكناً‪ ،‬ومن اتخذ غير ذلك فهو غالٍ أو سارق»‪.1‬‬
‫وكل هذا أكد المصالح االجتماعية الكفائية الواجبة على الدولة وليس منة منها وال إحسان‪.2‬‬
‫وهذه القواعد الشرعية والقيم التكريمية تحتاج إلى تفعيل في واقع مجتمعاتنا بين الباحثين عن‬
‫العمل وأصحابه والدولة‪ ،‬ومما يساعد على تفعيل القواعد واألصول المذكورة إعادة تشكيل‬
‫العقلية العامة للشعوب في ا تجاه إقناعها بأهمية توزيع الخيرات بشكل عادل بين الناس‪ ،‬وتقسيم‬
‫فرص العمل دون تمييز بين أفواج المعطلين ومساعدة ذوي الكفاءات على إيجاد مشاريع عمل‬
‫يكسبون بها قوتهم اليومي ويساهموا في ارتقاء شعوبهم وتطوير دولهم‪.3‬‬

‫لقد رفع اإلسالم من قيمة العمل وحث عليه‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬هُ َو الَّذِي جَ َع َل لَكُمُ األَر َ‬
‫ض ذَلُوالً‬

‫فَامشُوا فِي مَنَا ِك ِبهَا َوكُلُوا مِن رِّزقِهِ وَإِلَيهِ النُّشُورُ﴾ (الملك ‪ ،‬آية ‪.)15 :‬‬

‫وأعطى اإلسالم اإلنسان حرية العمل في كافة المجاالت إال فيما يتعارض مع النصوص‬
‫الشرعية وأحكام اإلسالم‪.‬‬
‫ــ كالتعامل بالربا أو القمار‪ ،‬أو بيع الخمور أو الدعارة‪ ..‬الخ أو فيما يتعارض مع حقوق‬
‫اآلخرين وحرياتهم‪.4‬‬
‫إن اإلسالم يعتبر كل جهد نافع‪ ،‬ويحقق مصلحة لصاحبه‪ ،‬أو للناس والمجتمع عمل مطلوب‬
‫شرعاً وإن وجوه العمل في اإلسالم غير محددة‪ ،‬وتشمل كل جهد بناء وتغطي جميع النشاطات‬
‫في المجال التجاري والزراعي والصناعي والمهني وممارسة كل الحرف التي تخدم البشرية‬
‫واألعمال اليدوية والذهنية والفكرية واألدبية حتى اعتبر الفقهاء رئاسة الدولة والخالفة والوالية‬

‫‪ 1‬صحيح وضعيف الجامع الصحيح لأللباني‪ ،‬رقم‪.6486 :‬‬


‫‪ 2‬مصالح اإلنسان مقاربة مقاصدية‪ ،‬ص‪.265 :‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.266 :‬‬
‫‪ 4‬حقوق اإلنسان‪ ،‬علي محمد الدباس‪ ،‬ص‪.45 :‬‬

‫‪324‬‬
‫عمالً وهو ما صراح به أبو بكر رضي اهلل عنه بقوله‪ :‬إني ألعمل للمسلمين ويطلق على الوالة‬
‫اسم العمال‪ ،‬وتتكرر عبارة‪ :‬أرسل عامله " وأرسل إلى عامله على كذا"‪.‬‬
‫وقد أعطى اإلسالم لألفراد الحق في العمل‪ ،‬أو االمتناع عنه وفي اختيار هذا العمل أو النوع أو‬
‫ذلك‪ ،‬وهذه الحرية مقررة شرعاً ألنها فرع عن حرية الرأي والتفكير وتدخل ضمن الحريات‬
‫الشخصية‪ ،‬ولكل إنسان أن يعمل ما يشاء وأن يكسب ـ من الطرق المشروعة ـ ما شاء وله‬
‫الحق في اختيار وقت العمل وساعاته‪ ،‬واختيار الوقت‪ ،‬إذا كان يعمل لنفسه‪ ،‬فإن عمل إلى‬
‫غيره فالعبرة في العقود ـ عامة ـ وعقد العمل خاصة بالتراضي وما يتم االتفاق عليه‪ ،‬في تقييد‬
‫الزمان والمكان‪ ،‬وتحديد ساعات العمل وأجره‪ ،‬وال يقيد العمل إال القيود العامة في الحالل‬
‫والحرام وضمن األحكام الشرعية وأال يؤدي العمل إلى اإلضرار والضرر بالغير‪ ،‬لقوله صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪« :‬ال ضرر وال ضرار»‪.1‬‬
‫والغالب أن يتم اختيار العمل من صاحبه حسب اإلمكانيات الخاصة والمواهب الممنوحة له‪،‬‬
‫والمهارة التي يتقنها‪ ،‬وما فطره اهلل تعالى له من ترك حرية االختيار له حسب هذه الفطرة‪،‬‬
‫وبذلك ورد في الحديث‪« :‬اعملوا فكل ميسر لما خلق له»‪.2‬‬
‫كما يتبع حرية العمل حق التنقل واالنتقال والسفر في أطراف األرض الختيار العمل المناسب‬
‫واألجر المناسب‪ ،‬وأن االنتقال والسفر والضرب في األرض يعتبر عذرًا لإلنسان في الرُّخص‬
‫الشرعية‪ ،‬وقدام القرآن الكريم عُذر العمل على عذر المجاهد‪ ،‬فقال تعالى‪﴿ :‬فَاقرَؤُوا مَا تَيَسَّ َر‬

‫ن مِن فَضلِ اهللِ‬


‫ض يَبتَغُو َ‬
‫ن فِي األَر ِ‬
‫ن القُرآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرضَى وَآخَرُونَ يَضرِبُو َ‬
‫مِ َ‬
‫ن فِي سَبِي ِل اهللِ فَاقرَؤُوا مَا تَيَسَّ َر مِنهُ﴾ (المزمل‪ ،‬آية ‪.)20 :‬‬
‫وَآخَرُونَ يُقَاتِلُو َ‬

‫ـ كما يتفرع على حرية العمل حق العامل في االنضمام إلى تنظيم عمالي يضم أفراد حرفته أو‬
‫مهنته‪ ،‬لتنسيق األعمال والمطالبة بالحقوق‪ ،‬وتنظيم األجور واألوقات‪ ،‬بما ال يضر بالمصلحة‬
‫العامة‪.1‬‬

‫‪ 1‬حقوق اإلنسان في اإلسالم‪ ،‬محمد الزحيلي‪ ،‬ص‪.284 :‬‬


‫‪ 2‬رواه الطبراني الفتح الكبير (‪.)202 /1‬‬

‫‪325‬‬
‫والعمال في الدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية‪:‬‬
‫َّ‬ ‫العمل‬
‫على الدولة الحديثة واجبات نحو العمل والعمال كثيرة لتنشيط عجلة اإلنتاج منها‪:‬‬
‫ـ إعادة هيكلة نظام األجور بما يالئم المرحلة التي تمر بها الشعوب‪.‬‬
‫ـ إعالن الحكومة سنوياً‪ ،‬عن فرص العمل لديها‪ ،‬نسبة إلى عدد العاطلين في الدولة وكذلك‬
‫متوسط دخل المواطن نسبة إلى موازنة الدولة على أن يكون ذلك اإلعالن بأسلوب علمي‬
‫إحصائي رقمي مدقق‪.‬‬
‫ـ إعداد حزمة من التشريعات تنظم العالقة بين العامل وصاحب العمل وتنظم العمل بالقطاعين‬
‫العام والخاص‪ ،‬وتكفل للعمال الحق في إنشاء النقابات والروابط‪.‬‬
‫ـ تحديث قوانين التقاعد والمعاشات بما يكفل إزالة كافة اآلثار السلبية ألحكامها على القوى‬
‫العاملة بالدولة‪.‬‬
‫‪ -‬تبني الدولة نهج صرف إعانة بطالة لكل مواطن فيها تعجز عن تشغيله‪ ،‬وذلك من إنشاء‬
‫صندوق حكومي خاص بمكافحة البطالة‪.‬‬
‫ـ التصدي للممارسات المخالفة للقانون من قبل أصحاب العمال حيال المشتغلين لديهم من‬
‫العمال وبخاصة استعمال العنف واالستغالل والعمل القسري‪ ،‬محاربة كافة أشكال التمييز في‬
‫شتى مواقع العمل‪.‬‬
‫ـ تطوير مراكز إسكان متخصصة ومنخفضة التكاليف تستوفي أو تتفوق على المعايير الدولية‬
‫المتعلقة بإسكان العمال من حيث الحد األدنى للمساحة الخاصة والمشتركة ومرافق الترفيه‬
‫والنظافة والسالمة والصحة‪.‬‬
‫ـ تحسين مخرجات التعليم الكفيلة برفع إنتاجية العامل في الدولة‪.‬‬
‫ـ تدريب العاملين على ريادة األعمال وذلك من خالل العمل القيادي‪.‬‬

‫‪ 1‬الحريات من القرآن الكريم للصالابي‪ ،‬ص‪.164 :‬‬

‫‪326‬‬
‫ـ إتاحة فرصة التدريب العالي الجودة ووفقاً ألحدث المعايير العالمية لكافة التخصصات‬
‫اإلنتاجية‪.‬‬
‫ـ التنسيق بين الجهات المسؤولة عن التعليم والتدريب والعمل واإلحصاء‪.‬‬
‫ـ دعم التحول إلى االقتصاد المعرفي وذلك سعياً إلى زيادة كفاءة سوق العمل‪.‬‬
‫ـ استقطاب المهرة وذوي الكفاءات والتخصصات النادرة من الوافدين واالحتفاظ بهم ضمن‬
‫سوق العمل للدولة‪.‬‬
‫ـ وضع نظام معلوماتي متكامل يكفل إنشاء قاعدة بيانات تشمل كافة البيانات والمعلومات‬
‫واألرقام ذات الصلة بسوق العمل‪ ،‬وذلك في صورة سهلة ومبسطة وتيسير لصانعي السياسات‬
‫اتخاذ القرارات المناسبة لمصلحة سوق العمل في الدولة‪.‬‬
‫ـ تحسين خدمات التوظيف في السوق‪ ،‬وزيادة الخدمات اإلرشادية ذات الصلة بها‪.‬‬
‫وفي حالة عدم قدرة المواطنين على العمل تعمل الدولة على تأمين حياة كريمة وتوفير معاشات‬
‫الئقة بالكرامة اإلنسانية‪.‬‬
‫ـ وعلى ضمان تغطية نظام التأمينات بصورة مباشرة كل من موظفي الجهاز اإلداري للدولة‬
‫ورجال ا لقضاء والسلك الدبلوماسي والقنصلي وموظفين القطاعين العام والخاص وموظفي‬
‫الجهات المنظمة بقوانين خاصة‪.‬‬
‫ـ وسن التشريعات الالزمة التي تضمن لجميع المواطنين حقوقاً متساوية‪ ،‬منها ما يتعلق‬
‫بحمايتهم من العوز والحاجة عند العجز أو الوفاء أو إصابة العمل أو عدم توفر العائل من‬
‫خالل نظام التأمينات وأخرى توفر الحماية لباقي المواطنين عن طريق قانون الضمان‬
‫االجتماعي‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ الرياضة‪:‬‬
‫امتازت شريعة اإلسالم بمراعاة جميع جوانب الحياة اإلنسانية‪ ،‬فعملت على تغذيتها بما هو‬
‫نافع ومفيد‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫وقد ارتبطت الرياضة في اإلسالم بعدة أهداف سامية مثل إعداد الفرد للقتال في سبيل اهلل تعالى‬
‫وتقوية جسده ليقوم بعمل الصالحات بهمة ونشاط‪ ،‬كما قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬المؤمن‬
‫القوي خير وأحب إلى اهلل من المؤمن الضعيف وفي كلٌ خير»‪ .1‬والقوة تشمل قوة الجسد لمن‬
‫قدر عليها مع قوة اإليمان‪ ،‬ومثل مالعبة األهل‪ :‬فقد ثبت عنه صلى اهلل عليه وسلم أنه سابق‬
‫زوجه عائشة رضي اهلل عنها على األرجل أكثر من مرة‪ ،‬فعن عائشة رضي اهلل عنها‪ :‬أنها‬
‫كانت مع النبي صلى اهلل عليه وسلم في سفر‪ :‬قالت‪ :‬فسابقته على رجلي فلما حملت اللحم‬
‫سابقته فسبقني‪ ،‬فقال‪« :‬هذه بتلك السبقة»‪ 2‬وهذا األمر يسهم في زيادة المحبة واأللفة بين‬
‫الزوجين مما ينعكس أثره الطيب على استقرار األسرة ومن األهداف األخرى‪ :‬زيادة المحبة‬
‫بين األخوة واألصحاب من خالل اللعب وغير ذلك من األهداف‪.3‬‬
‫وقد مارس رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بنفسه بعض األلعاب الرياضية‪ ،‬والسيما ما يتعلق‬
‫حث على ممارسة ركوب الخيل‬
‫َّ‬ ‫منها بركوب الخيل واإلبل‪ ،‬وأنه صلى اهلل عليه وسلم‬
‫والرماية‪ ،‬وأقرا صحابته الكرام على عدد من األلعاب الرياضية األُخر‪ ،‬كالسباحة والعدو‪.‬‬
‫واألصل في الرياضة اإلباحة وذهب مجموعة من العلماء السابقين والمعاصرين إلى ذلك منهم‬
‫العز بن عبد السالم‪ ،‬ولكن بشرط االقتصاد فيه‪ ،‬وإال كان مخالفاً لشرع اهلل تعالى مع اإلسراف‬
‫وترك التوسط واالعتدال‪.4‬‬
‫وكذلك اإلمام ابن قدامة من الحنابلة إذ يقول‪ :‬وسائر اللعب إذا لم يتضمن ضرراً وال شغالً عن‬
‫فرض فاألصل إباحته‪ .5‬ويوافقه ابن تيمية كذلك‪ ،‬بشرط أن يكون في اللعب مصلحة ويخلو من‬
‫الضرر‪ ،‬فيقول‪ :‬ويجوز اللعب بما قد يكون فيه مصلحة بال مضرة‪.6‬‬

‫‪ 1‬رواه مسلم (‪.)56 /8‬‬


‫‪ 2‬سنن أبي داوود (‪ )29 /3‬صحيح اإلسناد‪.‬‬
‫‪ 3‬األلعاب الرياضية‪ ،‬د‪ .‬محمد عقلة‪ ،‬ص‪.37 :‬‬
‫‪ 4‬قواعد األحكام في مصالح األنام (‪ 205 /2‬ـ ‪.)209‬‬
‫‪ 5‬المغني البن قدامة (‪.)39 /12‬‬
‫‪ 6‬الفتاوى الكبرى (‪.)415 /5‬‬

‫‪328‬‬
‫ومن العلماء المحدثين‪ :‬الدكتور يوسف القرضاوي‪ ،‬على أال يقترن اللعب بمحرم‪ ،1‬وكذلك‬
‫الشيخ محمد العثيمين بشرط أال تلهي عن واجب أو تقترن بمحرم‪ ،‬وأال تشغل أغلب وقت‬
‫المسلم وإال كانت محرمة أو مكروهة‪ ،2‬وقد استدل القائلون باإلباحة بعدة أدلة هي‪:‬‬
‫ـ أن األصل في األشياء اإلباح ة‪ ،‬وهذا يعرف من قول المبيحين‪ ،‬أن اللعب إن لم يتضمن‬
‫محرماً أو يفضي إليه فاألصل إباحته‪.‬‬
‫ـ ما ثبت عنه صلى اهلل عليه وسلم أنه مارس ألعاباً كثيرة‪ ،‬وأقرا الصحابة الكرام بها وبغيرها‬
‫كالصراع والعدو والسباحة وغيرها‪ ،‬فهو دليل على إباحة ما ليس فيه حرمة من اللعب واللهو‪،‬‬
‫فإن مورست بقصد التقوى أصبحت عبادة يؤجر صاحبها وإال فمباحة‪.‬‬
‫ـ ما جاء في الحديث‪ :‬أن حنظلة رضي اهلل عنه دخل مع أبي بكر الصديق رضي اهلل عنه وقال‬
‫للنبي صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬نافق حنظلة يا رسول اهلل‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫«وما ذاك؟» قلت ـ أي حنظلة‪ :‬يا رسول اهلل نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي‬
‫العين‪ ،‬فإذا خرجنا من عندك عافسنا "العبنا" األزواج واألوالد والضيعان ونسينا كثيراً كثيراً‪.‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬والذي نفسي بيده إنكم لو تدومون على ما تكونون‬
‫عندي‪ ،‬وفي الذكر لصافحتكم المالئكة على فرشكم وفي طرقكم‪ ،‬ولكن يا حنظلة ساعة‬
‫وساعة» وكرر هذه الكلمة ثالث مرات‪.3‬‬
‫فقد راعى الشارع الحكيم حاجة النفس إلى اللهو والترفيه واللعب المنضبط بحدود الشارع‬
‫وأقراها‪.4‬‬
‫فالنبي صلى اهلل عليه وسلم لم ينكر على حنظلة لعبه مع أهله وولده لعلمه بما تحتاج إليه‬
‫األنفس من ذلك ولكنه صلى اهلل عليه وسلم وجهه إلى الموازنة بين حاجاته وما ينبغي عليه‬
‫القيام به من واجبات شرعية‪ ،‬فقال له‪« :‬ولكن يا حنظلة ساعة وساعة»‪.‬‬

‫‪ 1‬األلعاب الرياضية‪ ،‬ص‪ ،61 :‬الحالل والحرام‪ ،‬ص‪ 278 :‬ـ ‪.281‬‬
‫‪ 2‬األلعاب الرياضية‪ ،‬ص‪.62 :‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.67 :‬‬
‫‪ 4‬الحالل والحرام للقرضاوي‪ ،‬ص‪ 278 :‬ـ ‪.279‬‬

‫‪329‬‬
‫تمل‬
‫ـ ما ورد عن علي بن أبي طالب أنه قال‪ :‬روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإنها تملا كما ُّ‬
‫األبدان‪ ،1‬فدل على أن ترويح النفس حاجة نفسية مباحة والترويح بالمباح أباحه الشرع‪.‬‬
‫على أنه ينبغي التنبيه على أن اإلباحة مضبوطة بحدود االقتصاد وعدم اإلسراف في اللهو‬
‫واللعب وإال كانت مكروهة كما أن دخول الضرر فيها أو المفاسد من تضييع واجبات أو شغل‬
‫عماا هو أولى من اللعب من أمور الدين أو الدنيا قد يخرج اللعب من دائرة اإلباحة إلى دائرة‬
‫الكراهة أو الحرمة‪.2‬‬
‫منافع الرياضة‪:‬‬
‫أ ـ للرياضة منافع عديدة‪ ،‬تجعل من االهتمام بها في الدولة الحديثة من األهمية بمكان ومن‬
‫ذلك‪:‬‬
‫ـ إعداد الجسد بدنياً للقتال والمهام العسكرية واألمنية‪ ،‬إن الهدف األسمى من ممارسة األلعاب‬
‫الرياضية للمسلمين كان من أجل إعداد الفرد المجاهد القوي بدنياً ـ إضافة لقوة اإليمان ـ‬
‫وممارسة الرياضة من أجل هذا الهدف تعدُ طاعة يتقرب بها العبد إلى ربه عز وجل‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا استَطَعتُم مِّن قُوَّة﴾ (األنفال‪ ،‬آية ‪.)60 :‬‬

‫فالمسلم مطالب بأن يُعدا جسده في سبيل اهلل تعالى وللقيام بأعباء الحياة على أكمل وجه وإذا‬
‫كان إعداد القوة يشمل العديد من األمور‪ ،‬فإن تحصيل القوة الجسدية بممارسة بعض األلعاب‬
‫الرياضية يدخل في هذا الجانب وقد أكد العديد من العلماء على هذه الناحية‪.3‬‬
‫ـ المحافظة على لياقة الجسم ومنع تكون الدهون الزائدة عن حاجة الجسم‪ ،‬وقد أشار علماء‬
‫المسلمين إلى ذلك يقول ابن القيم‪:‬‬
‫والحركة أقوى األس باب في تولادها ـ أي الطعام الزائد ـ فإنها تسخن األعضاء وتسيل فضالتها‪،‬‬
‫فال تجتمع على طول الزمان‪ ،‬وتعواد البدن الخفاة والنشاط‪.4‬‬

‫‪ 1‬األلعاب الرياضية‪ ،‬ص‪.68 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.68 :‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.48 :‬‬
‫‪ 4‬األلعاب الرياضية‪ ،‬ص‪.48 :‬‬

‫‪330‬‬
‫ومن فوائد ذلك أيضاً البعد عن الكسل والخمول‪ ،‬لذلك البد من االستمرار في ممارسة بعض‬
‫أنواع األلعاب الرياضية ـ كالجري والمشي ـ للمحافظة على لياقة الجسد باستمرار‪ ،1‬وتؤكد‬
‫الدراسات الحديثة أن ممارسة الرياضة تحفظ الصحة واللياقة وتبعد عن البطء والكسل‬
‫والبدانة‪.2‬‬
‫ـ اإلسهام في الوقاية من أمراض البدن‪:‬‬
‫وأشار إلى هذا ابن القيم إذ يقول عن الرياضة‪ :‬وتؤمن جميع األمراض المادية وأكثر األمراض‬
‫المزاجية إذا استعمل القدر المعتدل منها في وقته وكان باقي التدبير صواباً‪.3‬‬
‫وتشير الكثير من الدراسات الحديثة والمؤلفات والتقارير الحديثة إلى صحة هذه الفوائد من‬
‫خالل الرياضة المنظمة والمدروسة في الوقاية من األمراض كالسكري والذبحة الصدرية‬
‫والجلطات الدماغية أو أي نوع من أنواع االضطرابات الخاصة بالدورة الدموية لدى مرض‬
‫السكري‪ ،‬وتعمل على تقليل مستويات السكر في الدم‪.4‬‬
‫كذلك تسهم األلعاب الرياضية ـ وبالذات المشي ـ في تنظيم ضربات القلب وتحسين التنفس عبر‬
‫الرئتين والحد من التوتر النفسي وضغط التنفس واإلرهاق كما تعمل على منع األعراض‬
‫ا لسلبية المتعلقة بتقدم السن كتصلب الشرايين وتكلس المفاصل‪ ،‬وارتفاع ضغط الدم وآالم أسفل‬
‫الظهر والعنق‪.‬‬
‫وتسهم األلعاب الرياضية المؤداة بدقة في تعويض العيب والنقص البدني لدى األفراد المعاقبين‬
‫بدنياً‪ ،‬فتعواض ذلك في النقص أو تصلح ما لديهم من عيوب‪ ،‬وتؤثر بصورة إيجابية على‬
‫الدماغ والسيما "الذاكرة" من خالل السماح بمرور أفضل للدم‪ ،‬عن طريق تحسين قدرة ضخ‬
‫القلب للدم ونقل األكسجين وبالذات لدى كبار السن‪ ،‬وأثبتت الدراسات كذلك أن الجري والقفز‬
‫وبعض التمرينات‪ ،‬تسهم في الوقاية بصورة كبيرة من مرض هشاشة العظام وترققها‪.‬‬
‫كما أن ممارسة الرياضة كالمشي تساعد إلى حد كبير في الوقاية من سرطان القولون‪.‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.48 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.48 :‬‬
‫‪ 3‬الطب النبوي البن القيم‪ ،‬ص‪ 246 :‬ـ ‪.247‬‬
‫‪ 4‬األلعاب الرياضية‪ ،‬ص‪.49 :‬‬

‫‪331‬‬
‫وتؤدي رياضة السباحة إلى تحسين حياة مرضى "الربو" وتقليل عدد العالجات ودخول‬
‫المشافي‪ ،‬وتؤدي بعض األنشطة الرياضية المنتظمة إلى تخفيف التوتر والقلق المسبب‬
‫للصداع‪ ،‬وبالتالي تقليل نوبات الصداع النصفي "الشقيقة" إلى النصف تقريب ًا‪.1‬‬
‫ب ـ أهمية األلعاب الرياضية من الناحية النفسية‪:‬‬
‫إن ممارسة األلعاب الرياضية يعود على النفس بفوائد نفسية عديدة منها‪:‬‬
‫*ـ دفع الملل عن النفس‪:‬‬
‫وأحوج الناس إلى تقسيم الوقت وتنظيمه هم المشغولون من الناس من أصحاب المسؤوليات‬
‫لتزاحم األ عباء عليهم‪ ،‬حتى إنهم يشعرون أن الواجبات أكثر من األوقات‪ ،‬ومن تنظيم الوقت‬
‫أن يكون جزءًا للراحة والترويح‪ ،‬فإن النفس تسأم بطول الجدا‪ ،‬والقلوب تملُّ كما تملُّ األبدان‪،2‬‬
‫وقد ظن حنظلة رضي اهلل عنه أنه قد نافق ألنه قد يكون عند الرسول صلى اهلل عليه وسلم في‬
‫سكينة وتقوى من اهلل عندما سمع من الرسول صلى اهلل عليه وسلم أمور اآلخرة‪ ،‬ثم يكون في‬
‫لعب وراحة عندما يكون مع زوجه وأهله‪ ،‬فلما جاء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قائالً‪ :‬نافق‬
‫حنظلة‪ ،‬قال له الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪« ..:‬ولكن يا حنظلة ساعة وساعة»‪ ،3‬فالنبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ي علم أن النفس تحتاج إلى أوقات من الجدا تعبُد فيها اهلل تعالى وتطلب‬
‫الرزق وتحتاج إلى أوقات من الراحة والترويح عن النفس بالمباح كمالعبة األهل فدعا حنظلة‬
‫إلى إعطاء نفسه حقها من كل ذلك‪ ،‬فعلم حنظلة رضي اهلل عنه أنه لم ينافق‪ ،‬ألن فعله مباح‬
‫متوافق مع ما تحتاجه الفطرة والنفس من أمور مباحة‪ ،‬لذلك كان علي بن أبي طالب رضي اهلل‬
‫عنه يقول‪ :‬روحوا القلوب‪ ،‬فإنها تمل كما تملُّ األبدان‪ ،4‬فإن القلب إذا كان كل شغله جداً‪ ،‬فإنه‬
‫لن يطبق ذلك‪ ،‬إذ النفس مجبولة على طلب الراحة واللعب ـ ومن ذلك األلعاب الرياضية ـ فذلك‬

‫‪ 1‬األلعاب الرياضية‪ ،‬ص‪.50 :‬‬


‫‪ 2‬الحالل والحرام للقرضاوي‪ ،‬ص‪.281 :‬‬
‫‪ 3‬رواه مسلم (‪.)94 /8‬‬
‫‪ 4‬األلعاب الرياضية‪ ،‬ص‪.51 :‬‬

‫‪332‬‬
‫أمر طبيعي وفط ري ال غنى عنه‪ ،‬فال حاجز يمنعها من طلبه إذا ما التزمت حدود الشرع في‬
‫ذلك‪.1‬‬
‫وتشير الدراسات الحديثة المختصة إلى هذه الفائدة سواء عند األطفال أو الشباب أو المسنين‪،‬‬
‫لما تقتضيه من ملء الوقت والفراغ بما هو نافع ومفيد مماا يحسن من المزاج ويذهب الكآبة‬
‫النفسية عن ممارسي الرياضة في كثير من األحيان‪.2‬‬
‫*ـ التخفيف من حدة الشهوة الجنسية‪:‬‬
‫إذا كان اإلنسان عاجزًا لظروف معينة عن تلبية الرغبة بالزواج‪ ،‬فإن عليه أن يمنعها من‬
‫السعي وراء تلبيتها بما هو محرم‪ ،‬فيستعين على ذلك باإلرادة والصبر والتقوى والصوم كذلك‬
‫للمسلم ـ وال بأس بممارسة األلعاب الرياضية والتي تسهم في الحدا من رغبته بممارسة ما‬
‫يسمى "العادة السرية" أو "االستمناء" وخاصة لدى الشباب‪ ،‬مما يسهم في تحقيق السكون‬
‫والطمأنينة للنفس في بعض األحيان‪ ،‬غير أن األلعاب الرياضية قد تسهم في زيادة الشهوة‬
‫الجنسية وإثارة دوافع الزنا والفاحشة إذا ما مورست في بيئة فاسدة يختلط فيها الرجال والنساء‪،‬‬
‫ويفشو العري بينهم مما هو واقع بكثرة بين الرياضيين في زماننا‪.3‬‬
‫*ـ تسهم في منع األمراض النفسية المزاجية‪:‬‬
‫وفي هذا يقول ابن القيم رحمه اهلل في الرياضة‪ ...:‬وتؤمن "من" جميع األمراض المادية وأكثر‬
‫األمراض المزاجية إذا استعمل القدر المعتدل منها في وقته‪ ،‬وكان باقي التدبير صواباً‪.‬‬
‫يقول األستاذ محمد قطب في حديثه عن الفروسية‪ ..:‬وفضالً عن ذلك فهي وسيلة إلثبات الذات‬
‫بطريقة نظيفة بدالً من أن يلجأ الفرد إلى طرق شاذة منحرفة كاإلجرام لينال اهتمام الناس أو‬
‫إعجابهم‪ ،‬والشك أن الرياضة البدنية بكل أنواعها داخلة في هذا النطاق‪ ،4‬ومن األمراض‬

‫‪ 1‬في التدريب التربوي‪ ،‬مصطفى الطحان‪ ،‬ص‪ 60 :‬ـ ‪ 108‬ـ ‪.109‬‬


‫‪ 2‬األلعاب الرياضية‪ ،‬ص‪ 52 :‬ـ ‪.53‬‬
‫‪ 3‬األلعاب الرياضية‪ ،‬ص‪.15 :‬‬
‫‪ 4‬اإلنسان بين المادية واإلسالم‪ ،‬محمد قطب‪ ،‬ص‪.121 :‬‬

‫‪333‬‬
‫النفسية التي تسهم األلعاب الرياضية في الوقاية منها‪ :‬التواترات‪ ،‬واألرق والسهر والنكد‬
‫والشعور بالكآبة‪ ،‬كما تؤكد ذلك الدراسات الحديثة‪.1‬‬
‫*ـ تهذيب النفس ودفعها إلى قبول الحق‪:‬‬
‫فإذا ما رواض اإلنسان جسده بحركات رياضية عن طريق ممارسة األلعاب الرياضية فإن ذلك‬
‫قد يدفعه إلى ترويض نفسه وتهذيبها بإلزامها بفضائل األخالق وحسن التصرف والمعاملة مع‬
‫اآلخرين‪ ،‬وهذا ما يهدف إليه كثير من ممارسي األلعاب الرياضية من خالل ممارستهم تلك‬
‫األلعاب وهو ما تؤكده الدراسات الحديثة‪.2‬‬
‫وهذا األمر مشروع في اإلسالم‪ ،‬ولعل من العجائب ما كان من صراع بين الرسول صلى اهلل‬
‫عليه وسلم وبين ركانة بن عبد يزيد القرشي‪ ،‬حيث إن ركانة لقي الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ـ وكان رُكانة مصارعاً ال يُصرع ـ فطلب إلى الرسول صلى اهلل عليه وسلم أن يُصارعه على‬
‫شاة فص رعه الرسول صلى اهلل عليه وسلم فعاوده مرة أخرى فصرعه الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وفي الثالثة كذلك‪ ،‬فكان ذلك سبباً في إسالم رُكانة رضي اهلل عنه‪ ،‬إذ علم أن محمداً صلى‬
‫اهلل عليه وسلم لما آتاه اهلل من قواة فكان الصراع بينهما صراعاً للشرك في نفس ركانة‪ ،3‬ومن‬
‫ذلك‪ :‬م ا لو أراد إنسان دعوة أخ له إلى ترك محرم عن طريق ممارسة لعبة رياضية وفيه يقول‬
‫د‪ .‬عبد الكريم زيدان في حديثه عن االستعانة ببعض المباح لتغيير المنكر‪ ..‬كما لو كان له ولد‬
‫أو صديق يلعب القمار فيعوضاه بتخصيص جائزة له على سبق غيره في مباح كركض أو‬
‫فروسية أو رمي‪.4‬‬
‫ج ـ أهمية األلعاب الرياضية من الناحية االجتماعية‪:‬‬
‫من الفوائد للحياة االجتماعية‪:‬‬
‫*ـ اإلسهام في حفظ استقرار األسرة والنظام التربوي في المجتمع فإذا نشأ الفرد نشأة سليمة‪،‬‬
‫فإن األسرة البد أن يصلح حالها وتكون رافداً للمجتمع بالجيل العامل النافع‪ ،‬ومن عناصر‬

‫‪ 1‬األلعاب الرياضية‪ ،‬ص‪.53 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.54 :‬‬
‫‪ 3‬الجامع الصحيح سنن الترمذي (‪.)247 /4‬‬
‫‪ 4‬أصول الدعوة‪ ،‬عبد الكريم زيدان‪ ،‬ص‪.484 :‬‬

‫‪334‬‬
‫التربي ة والتنشئة التي يحتاج إليها الفرد في حياته دخول عنصر الترويح والتربية البدنية مما‬
‫يُتحصل جزء كبير منه بممارسة األلعاب الرياضية‪ ،‬وذلك يكون بدءاً من سنا الطفولة بالذات‬
‫فالشباب فكبار السنا‪ ،‬وإذا كانت األسرة المنطلق إلى تطبيق ذلك‪ ،‬فالمدرسة والجامعة‬
‫والمسجد‪ ،‬هي المكمل لهذا الدور‪ ،‬وقد أشار إلى أهمية هذه الناحية ـ والسيما في تربية األطفال‬
‫ثم الشباب ـ عدد كبير من العلماء‪ ،1‬يقول اإلمام أبو حامد الغزالي‪ :‬ويعودُ في بعض النهار‬
‫المشي والحركة والرياضة‪ .2‬أي الطفل لينشأ نشأة سليمة ويقول السيد سابق‪ :‬أن يحبب إليه ـ‬
‫أي الصبي ـ ممارسة األلعاب الرياضية مثل العدو والسباحة والرماية‪ ،3‬فإذا كانت األلعاب‬
‫الرياضية تؤدي إلى قوة الجسد عند من يمارسها فإن الفرد سيكون أقدر على العمل وأكثر‬
‫فاعلية وإنتاجاً‪ ،‬كل في مجاله المحدد له‪ ،‬عكس ما يكون عليه حال الضعيف الكسول الخمول‪.4‬‬
‫*ـ المساهمة في حفظ المجتمع من المشاكل األخالقية‪:‬‬
‫وذلك عن طريق إيجاد وسائل مشروعة ومباحة لملء الفراغ لدى الناس والسيما الشباب ومن‬
‫تلك الوسائل ممارسة األلعاب الرياضية‪ ،‬والتي تعمل على الحد من الشهوة الجامحة نحو‬
‫االتصال الجنسي بين الرجال والنساء والعزااب عند كثير منهم وكذلك منع الشباب وغيرهم من‬
‫قضاء وقت الفراغ في أمور محرمة كشرب المخدرات أو االشتغال بأعراض الناس أو‬
‫االعتداء عليهم‪ ،5‬أو الذهاب إلى دور "السينما" الفاسدة المفسدة أو التسكع في الشوارع ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫والشك أن األلعاب الرياضية ليست العنصر الوحيد أو الرئيس في تحقيق ذلك‪ ،‬فاألساس هو‬
‫التقوى واتباع الشرع‪ ،‬والرياضة من العوامل المساعدة‪.‬‬
‫د ـ أهمية األلعاب الرياضية من الناحية السياسية‪:‬‬
‫لأللعاب الرياضية أهمية في بناء األفراد والمقاتلين األشداء في جيوش دول العالم وهذا الشك‬
‫يسهم بشكل كبير وفعال في تحقيق االستقرار السياسي للدول والشعوب جميعها‪ ،‬فحيثما وجدت‬
‫‪ 1‬تربية الطفل في اإلسالم‪ ،‬عبد اهلل عبد الرحيم‪ ،‬ص‪.46 :‬‬
‫‪ 2‬إحياء علوم الدين (‪.)73 /3‬‬
‫‪ 3‬إسالمنا السيد سابق‪ ،‬ص‪.238 :‬‬
‫‪ 4‬األلعاب الرياضية‪ ،‬ص‪.56 :‬‬
‫‪ 5‬األلعاب الرياضية‪ ،‬ص‪.56 :‬‬

‫‪335‬‬
‫القوة الجسدية لدى أفراد المجتمع وخاصة الجيوش فإن ذلك يكون سبباً في وجود القوة‬
‫العسكرية‪ ،‬فالسياسة والعكس صحيح‪.‬‬
‫يقول األ ستاذ مصطفى الطحان في هذا الشأن‪ :‬واألمم ـ كل األمم ـ إذا انهار إنسانها انهدم‬
‫بنيانها‪ ،‬وإذا أرادت النهوض تركز على اإلنسان فأحيت فيه الجوانب الروحية واإلنسانية‬
‫والعقلية والجسدية واألخالقية‪ ،‬فتراها تشمخ معه وتعود للعطاء‪ ،1‬وقد فطن الحكام والزعماء‬
‫إلى ذلك‪ ،‬فسعوا إلى تطبيقه عملياً في أفراد مجتمعاتهم وفي جيوش دولهم في مختلف األزمنة‪،‬‬
‫واستثمار الحاكم المدارس والجامعات ونحوها في بناء جيل قوي‪ ..‬يسهم في تحقيق االستقرار‬
‫السياسي في بلده وبناء الجيل جسدياً بالرياضة من أنجح الوسائل وأحسنها في تحقيق تلك القوة‪.‬‬
‫ولعل األلعاب الرياضية كذلك‪ ،‬تعد مجاالً لتحقيق بعض مجاالت التعاون بين الدول من خالل‬
‫إقامة اللقاءات الرياضية المشتركة بين أفرادها وأنديتها ومنتخباتها وقد يدل انعدام إقامتها على‬
‫حالة عداء بين الدول‪ ،‬كما كان الحال في امتناع بعض الدول عن المشاركة في بطوالت عالمية‬
‫"كاألولمبياد" بسبب الخالفات السياسية‪.2‬‬
‫هـ ـ أهمية األلعاب الرياضية من الناحية االقتصادية‪:‬‬
‫فالفرد القوي جسدياً يكون في كثير من األحيان فاعالً ومنتجاً اقتصادياً أكثر من الفرد الضعيف‬
‫الكسول الخامل‪ ،‬وهذا يعود على اإلنتاج االقتصادي بالفائدة أو الزيادة إذا ما تولى العمل‬
‫واإلنتاج أهل القوة والكفاءة الجسدية إلى جانب األخذ بقوة العلم والروح‪.3‬‬
‫والدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية تهتم بالرياضة وتقوم بدعمها وتطويرها كاآلتي‪:‬‬
‫ـ بناء المنظومة الرياضية تنظيماً وتشريعاً بشكل احترافي علمي مدروس‪.‬‬
‫ـ وضع اإلستراتيجيات المستقبلية لتطوير الرياضة‪.‬‬
‫ـ الرياضة والصحة البدنية ركيزتان للنهضة والتنمية والحفاظ على أمن الوطن‪.‬‬
‫ـ االهتمام بالنشاط الرياضي في كافة مراحل التعليم‪.‬‬
‫ـ نشر الوعي الرياضي‪ ،‬ومكافحة التعصب‪ ،‬واالهتمام بالنشء‪.‬‬
‫‪ 1‬في التدريب التربوي‪ ،‬ص‪ 49 :‬ـ ‪.74‬‬
‫‪ 2‬األلعاب الرياضية‪ ،‬ص‪.57 :‬‬
‫‪ 3‬األلعاب الرياضية‪ ،‬ص‪.58 :‬‬

‫‪336‬‬
‫ـ تحفيز العاملين في مجال تطوير الرياضة للجميع والمواطنين لدفعهم نحو ممارسة الرياضة‬
‫للجميع‪.‬‬
‫ـ وضع خطط وبرامج تدعيم العالقات وأوجه التعاون بين المنظمات الشبابية والرياضية في‬
‫الداخل والهيئات الخارجية بالدول األجنبية والمهتمة بأنشطة الشباب في مجاالت العمل‬
‫الرياضي‪.‬‬
‫ـ تشجيع البحث العلمي المرتبط بالنشاط الرياضي والصحة واللياقة البدنية وإعداد المنتخبات‬
‫من النواحي البدنية والنفسية والمهارية‪.‬‬
‫ـ التخطيط السليم والبرمجة المسبقة للمشروعات الشبابية والرياضية وفقاً لإلستراتيجيات‬
‫واألهداف العامة والمحددة‪.‬‬
‫ـ إصالح اإلدارة الرياضية وضمان حسن تنظيم المرافق الرياضية وذلك خالل متابعة كافة‬
‫األنشطة الرياضية‪.‬‬
‫ـ تقديم الحوافز المعنوية والمادية للفرق الرياضية الوطنية‪.‬‬
‫ـ إشراك القطاع الخاص في إدارة المشاريع الرياضية والشبابية ذات الربحية االقتصادية‪.‬‬
‫ـ اال هتمام بالمناطق النائية والمحرومة من خالل بناء المالعب والساحات الرياضية والمراكز‬
‫الصحية المتخصصة في التأهيل والتدريب وعالج إصابات المالعب‪.‬‬
‫ـ وضع هيكل تنظيمي يضم إدارات مختلفة لتنظيم برامج الرياضة للجميع على مستوى كافة‬
‫األعمار ولكال الجنسين ولألصحاء والمعاقين‪.‬‬
‫ـ توفير اإلمكانات البشرية المدربة والمادية متمثلة في األجهزة واألدوات والمالعب بما يتيح‬
‫الفرصة لممارسة الرياضة السليمة في بيئة آمنة‪.‬‬
‫ـ إتاحة الفرصة لمشاركة أكبر عدد من أفراد المجتمع في أنشطة الرياضة للجميع باستخدام‬
‫أنشطة متنوعة تتناسب مع إمكانيات األفراد تبعاً لمقدراتهم البدنية والصحية‪.‬‬
‫ـ االهتمام باإلعالم الرياضي على مختلف مستوياته ووضع ضوابط تحكم عملية النشر وطرح‬
‫الموضوعات والنقد‪ ،‬وتوجيهه لما يخدم المصلحة العامة وتحقيق أهداف األنشطة الشبابية‪.‬‬

‫‪337‬‬
‫ـ إنش اء ساحات ومالعب بسيطة في األحياء السكنية واالستفادة من المنشآت الرياضية المتوفرة‬
‫في المؤسسات التعليمية كالمدارس بعد تهيئتها كمراكز الستقبال الشباب وتوجيههم لممارسة‬
‫األنشطة الرياضية الهادفة‪.‬‬
‫ـ منع كل ما من شأنه أن يؤدي إلى محرم أو يعين عليه‪.‬‬

‫الثقافة والعلوم في الدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية‪:‬‬


‫على الدولة الحديثة أن تهتم بالعلوم والفنون والثقافة وترى أنه‪:‬‬
‫ـ ال سقف لحرية الرأي والفكر واإلبداع سوى مراعاة أحكام الشريعة اإلسالمية وتقاليد وسمات‬
‫وخصوصية وثوابت المجتمع اإلسالمي والحفاظ على اللغة العربية والطابع اإلسالمي للدولة‬
‫هدف إستراتيجي وتهتم باألحوال المعيشية والصحية واالجتماعية والمادية لقامات الصحافة‬
‫واإلعال م والفكر واألدب والشعر وكافة فروع العلم واإلبداع‪ ،‬وطبيعة الدولة الحديثة االنفتاح‬
‫على ثقافة وفنون وأدب الدول األخرى وذلك من خالل رعاية مشروع وطني للترجمة ليكون‬
‫بمثابة جسر للتواصل مع كافة الثقافات والحضارات هي شرق العالم وغربه وجنوبه وشماله‬
‫وتسن التشريعات ا لصارمة التي تحظر الترويج لقدسية الرأي الواحد والشخص الواحد‬
‫وتحارب االضطهاد والتمييز والعنصرية ومصادرة الرأي وعدم قبول اآلخر‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ المرأة واألسرة‪:‬‬


‫من أهم ما جاء به القرآن الكريم هنا‪ :‬إنصاف المرأة وتحريرها من ظلم الجاهلية وظالمها‪،‬‬
‫ومن تحكم الرجل في مصيرها بغير حق‪ ،‬فكرم القرآن المرأة وأعطاها حقوقها بوصفها إنساناً‬
‫وكرمها بوصفها أنثى‪ ،‬وكرمها بوصفها بنتاً‪ ،‬وكرمها بوصفها زوجة وكرمها أماً‪ ،‬وكرمها‬
‫بوصفها عضواً في المجتمع‪ ،1‬لقد جاء اإلسالم وبعض الناس ينكرون إنسانيتها ولكنه يعتبرها‬
‫مخلوقاً خلق لخدمة الرجل‪ ،‬فكان من فضل اإلسالم أنه كرم المرأة‪ ،‬وأكد إنسانيتها‪ ،‬وأهليتها‬

‫‪ 1‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم‪ ،‬د‪ .‬يوسف القرضاوي‪ ،‬ص‪.89 :‬‬

‫‪338‬‬
‫للتكليف‪ ،‬والمسؤولية والجزاء ودخول الجنة واعتبرها إنساناً كريماً له كل ما للرجل من حقوق‬
‫إنسانية‪ ،‬ألنهما فرعان من شجرة واحدة‪ ،‬وأخوان ولدهما أب واحد وهو آدم‪ ،‬وأم واحدة هي‬
‫حواء‪ ،‬فهما متساويان في أصل النشأة‪ ،‬متساويان في الخصائص اإلنسانية العامة‪ ،‬متساويان‬
‫في التكليف والمسؤولية‪ ،‬متساويان في الجزاء والمصير‪ ،1‬وفي ذلك يقول القرآن الكريم ‪﴿ :‬يَا‬

‫ال كَثِيرًا‬
‫ق مِنهَا زَوجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَا ً‬
‫أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُ ُم الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفس وَاحِدَة وَخَلَ َ‬
‫ن عَلَيكُم رَقِيبًا﴾ (النساء‪ ،‬آية ‪.)1 :‬‬
‫وَنِسَاء وَاتَّقُوا اهللَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِ ِه وَاألَرحَا َم إِنَّ اهللَ كَا َ‬

‫وإذا كان الناس ـ كل الناس ـ رجاالً ونساء‪ ،‬خلقهم ربهم من نفس واحدة وجعل من هذه النفس‬
‫جهَا لِيَسكُنَ إِلَيهَا﴾‬
‫زوجاً تكملها‪ ،‬وتكتمل بها كما قال في آية أخرى ‪َ ﴿ :‬وجَ َع َل مِنهَا زَو َ‬

‫(األعراف‪ ،‬آية ‪.)2 :‬‬


‫ال كثيراً ونساء‪ ،‬كلهم عباد لرب واحد‪ ،‬وأوالد أب واحد وأم‬
‫وبث في هذه األسرة الواحدة رجا ً‬
‫واحدة‪ ،‬فاألخوة تجمعهم‪ ،‬ولهذا أمرت اآلية الناس بتقوى اهلل‪ ،‬ورعاية الرحم الواشجة بينهم ‪:‬‬
‫﴿وَاتَّقُوا اهللَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِ ِه وَاألَرحَامَ﴾ (النساء‪ ،‬آية ‪.)1 :‬‬

‫والرجل ـ بهذا النص ـ أخ المرأة‪ ،‬والمرأة شقيقة الرجل‪ ،‬وفي هذا قال الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪« :‬إنما النساء شقائق الرجال»‪.2‬‬
‫أ ـ في مساواة المرأة للرجل في التكليف والتدين والعبادة‪ ،‬يقول القرآن الكريم ‪﴿ :‬إِنَّ المُسلِمِي َ‬
‫ن‬

‫ن وَالقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ‬


‫ن وَالمُؤمِنَاتِ وَالقَانِتِي َ‬
‫وَالمُسلِمَاتِ وَالمُؤ ِمنِي َ‬
‫ن وَالصَّائِمَاتِ‬
‫َدقِينَ وَالمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِي َ‬
‫ت وَالمُتَص ِّ‬
‫ن وَالخَاشِعَا ِ‬
‫وَالصَّابِرَاتِ وَالخَاشِعِي َ‬
‫ن اهللَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اهللُ لَهُم مَّغفِرَ ًة وَأَجرًا‬
‫وَالحَا ِفظِينَ فُرُوجَهُم وَالحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِي َ‬
‫عَظِيمًا﴾ (األحزاب‪ ،‬آية ‪.)35 :‬‬

‫‪ 1‬مالمح المجتمع المسلم‪ ،‬د‪ .‬يوسف القرضاوي‪ ،‬ص‪.321 :‬‬


‫‪ 2‬صحيح الجامع الصغير‪ ،‬رقم‪ ،2333 :‬رواه أحمد وأبو داود والترمذي‪.‬‬

‫‪339‬‬
‫ب ـ في التكاليف الدينية االجتماعية األساسية‪ :‬يساوي القرآن بين الجنسين بقوله تعالى‪:‬‬
‫ن‬
‫ف وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُو َ‬
‫ن بِالمَعرُو ِ‬ ‫﴿وَالمُؤ ِمنُو َ‬
‫ن وَالمُؤ ِمنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاء بَعض يَأمُرُو َ‬

‫حمُهُ ُم اهللُ إِنَّ اهللَ عَزِيز حَكِيم﴾ (التوبة‪،‬‬


‫ك سَيَر َ‬
‫ن اهللَ وَرَسُولَ ُه أُولَـئِ َ‬
‫طيعُو َ‬
‫ن الزَّكَاةَ َويُ ِ‬
‫الصَّالَةَ وَيُؤتُو َ‬

‫آية ‪.)71:‬‬
‫ج ـ وفي قصة آدم توجه التكليف اإللهي‪ :‬إليه وإلى زوجه سواء‪ ،‬قال تعالى ‪﴿ :‬يَا آدَمُ اسكُن‬

‫ال تَقرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾‬


‫ث شِئ ُتمَا وَ َ‬
‫ك الجَنَّةَ وَ ُكالَ مِنهَا رَغَداً حَي ُ‬
‫أَنتَ وَزَوجُ َ‬

‫(البقرة‪ ،‬آية ‪ .)35 :‬والجديد في هذه القصة كما ذكرها القرآن ـ أنها نسبت اإلغواء إلى‬
‫الشيطان ال إلى حواء ـ كما فعلت التوراة المحرفة ‪﴿ :‬فَأَزَلَّهُمَا الشَّيطَانُ عَنهَا فَأَخرَ َ‬
‫جهُمَا مِمَّا كَانَا‬

‫فِيهِ﴾ (البقرة‪ ،‬آية ‪.)36 :‬‬

‫ولم تنفرد حواء باألكل من الشجرة وال كانت البادئة‪ ،‬بل كان الخطأ منهما معاً‪ ،‬كما كان الندم‬
‫َن مِنَ الخَاسِرِينَ﴾‬
‫والتوبة منهما جميعاً ‪﴿ :‬رَبَّنَا ظَلَمنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّم تَغفِر لَنَا َوتَرحَمنَا لَنَكُون َّ‬

‫(األعراف‪ ،‬آية ‪.)83 :‬‬


‫بل في بعض اآليات نسبة الخطأ إلى آدم بالذات وباألصالة‪﴿ :‬وَلَقَد عَهِدنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبلُ فَنَسِيَ‬

‫وَلَم َنجِد لَهُ عَزمًا﴾ (طه‪ ،‬آية ‪.)115 :‬‬

‫ال يَبلَى﴾ (طه‪ ،‬آية ‪.)120 :‬‬ ‫﴿فَوَسوَ َ‬


‫س إِلَيهِ الشَّيطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَل أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلدِ وَمُلك َّ‬

‫وقال تعالى‪﴿ ":‬وَعَصَى آدَمُ رَبَّ ُه فَغَوَى﴾ (طه‪ ،‬آية ‪.)121 :‬‬

‫كما نسب إليه التوبة وحده أيضًا " ثُمَّ اجتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَي ِه وَهَدَى" (طه‪ ،‬آية ‪ .)122 :‬مما يفيد‬
‫أنه األصل في المعصية وامرأته تابع له‪ ،‬ومهما يكن األمر فإن خطيئة حواء ال يحمل تبعتها‬

‫‪340‬‬
‫إال هي‪ ،‬وبناتها براء من إثمها وال تزر وازرة وزر أخرى ‪﴿ :‬تِلكَ أُمَّة قَد خَلَت لَهَا مَا كَسَبَت‬

‫ال تُسأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعمَلُونَ﴾ (البقرة‪ ،‬آية ‪.)134 :‬‬


‫وَلَكُم مَّا كَسَبتُم وَ َ‬

‫د ـ وفي مساواة المرأة للرجل في الجزاء‪ ،‬دخول الجنة يقول اهلل تعالى‪﴿ :‬فَاستَجَابَ لَهُم رَبُّهُم‬

‫ضكُم مِّن بَعض﴾ (آل عمران‪ ،‬آية ‪.)195 :‬‬


‫ال أُضِيعُ عَمَ َل عَامِل مِّنكُم مِّن ذَكَر أَو أُنثَى بَع ُ‬
‫أَنِّي َ‬

‫فنص القرآن في صراحة على أن األعمال ال تضيع عند اهلل‪ ،‬سواء كان العامل ذكراً أم أنثى‪،‬‬
‫فالجميع بعضهم من بعض‪ ،‬من طينة واحدة‪ ،‬وطبيعة واحدة‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬مَن عَمِ َل صَالِحًا مِّن‬

‫ذَكَر أَو أُنثَى وَهُ َو مُؤمِن فَلَنُح ِييَنَّ ُه حَيَا ًة طَيِّبَ ًة وَلَنَجزِيََّنهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ﴾ (النحل‪،‬‬

‫آية ‪.)97 :‬‬


‫هـ ـ وفي الحقوق المالية للمرأة‪ :‬أبطل اإلسالم ما كان عليه كثير من األمم ـ عرباً وعجماً ـ‬
‫من حرمات النساء من التملك والميراث أو التضييق عليهن في التصرف فيما يملك‪ ،‬واستبداد‬
‫األزواج بأموال المتزوجات منهن‪ ،‬فأثبت لهن حق التملك بأنواعه المشروعة‪ ،‬فشرع الوصية‬
‫واإلرث لهن كالرجال‪ ،‬وأعطاهن حق البيع والشراء واإلجارة والهبة واإلعارة والوقف‬
‫والصدقة والكفالة والحوالة والرهن وغير ذلك من العقود واألعمال ويتبع ذلك حقوق الدفاع‬
‫عن مالها كالدفاع عن نفسها‪ ،‬بالتقاضي وغيره من األعمال المشروعة‪.1‬‬
‫و ـ المرأة باعتبارها أماً‪ :‬ال يعرف التاريخ دين ًا وال نظاماً كرام المرأة باعتبارها أماً‪ ،‬وأعلى‬
‫من مكانتها‪ ،‬مثل اإلسالم‪ ،‬لقد أكد الوصية بها وجعلها تالية للوصية بتوحيد اهلل وعبادته وجعل‬
‫براها من أصول الفضائل‪ ،‬كما جعل حقها أوكد من حق األب لما تحتمله من مشاق الحمل‬
‫والوضع واإلرضاع والتربية وهذا ما يقرره القرآن ويكرره في أكثر من سورة ليثبته في‬

‫‪ 1‬مالمح المجتمع المسلم للقرضاوي‪ ،‬ص‪.324 :‬‬

‫‪341‬‬
‫إذهان األبناء ونفوسهم وذلك في مثل قوله تعالى‪﴿ :‬وَوَصَّينَا اإلِنسَانَ ِبوَالِدَيهِ حَمَلَت ُه أُمُّهُ وَهنًا‬

‫ن أَنِ اشكُر لِي وَلِوَالِدَيكَ إِلَيَّ المَصِيرُ﴾ (لقمان‪ ،‬آية ‪.)14 :‬‬
‫عَلَى وَهن وَفِصَالُهُ فِي عَامَي ِ‬

‫وقال تعالى‪﴿ :‬وَوَصَّينَا اإلِنسَا َ‬


‫ن بِوَالِدَي ِه إِحسَانًا حَمَلَت ُه أُمُّهُ كُرهًا وَوَضَعَت ُه كُرهًا وَحَملُهُ وَفِصَالُهُ‬

‫ن شَهرًا﴾ (األحقاف‪ ،‬آية ‪.)15 :‬‬


‫ثَالَثُو َ‬

‫ومن توجيهات القرآن الكريم‪ :‬أنه وضع أمام المؤمنين والمؤمنات أمثلة وقدوة حسنة ألمهات‬
‫صالحات كان لهن أثر ومكان في تاريخ اإليمان‪.‬‬
‫ـ فأم موسى تستجيب إلى وحي اهلل وإلهامه‪ ،‬وتلقي ولدها فلذة كبدها في اليما مطمئنة إلى وعد‬
‫ربها‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وَأَوحَينَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَن أَرضِعِي ِه فَإِذَا خِف ِ‬
‫ت عَلَيهِ فَأَلقِيهِ فِي اليَمِّ وَالَ تَخَافِي‬

‫ن المُرسَلِينَ﴾ (القصص‪ ،‬آية ‪.)7 :‬‬


‫ال تَحزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيكِ وَجَاعِلُو ُه مِ َ‬
‫وَ َ‬

‫ـ وأم مريم التي نذرت ما في بطنها محرراً هلل‪ ،‬خالصاً من كل شرك أو عبودية لغيره‪ ،‬داعية‬
‫(آل عمران‪ ،‬آية ‪.)35 :‬‬ ‫ت السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾‬
‫اهلل أن يتقبل منها نذرها‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬فَتَقَبَّل مِنِّي إِنَّكَ أَن َ‬

‫فلما كان المولود أنثى على غير ما كانت تتوقع لم يمنعها ذلك من الوفاء بنذرها‪ ،‬سائلة اهلل أن‬
‫يحفظها من كل سوء‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ﴾ (آل عمران‪،‬‬

‫آية ‪.)36 :‬‬

‫ومريم ابنة عمران أم المسيح عيسى‪ ،‬جعلها القرآن آية في الطهر والقنوت هلل والتصديق‬
‫ت رَبِّهَا‬ ‫بكلماته ﴿ َومَريَ َم ابنَتَ عِمرَانَ الَّتِي أَحصَنَت فَر َ‬
‫جهَا فَنَفَخنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَت بِكَلِمَا ِ‬

‫ن القَانِتِينَ﴾ (التحريم‪ ،‬آية ‪.1)12 :‬‬


‫وَ ُكتُبِ ِه َوكَانَت مِ َ‬

‫‪ 1‬مالمح المجتمع المسلم‪ ،‬ص‪.331 :‬‬

‫‪342‬‬
‫ز ـ المرأة باعتبارها بنتاً‪ :‬كان العرب في الجاهلية يتشاءمون بميالد البنات ويضيقون به‪ ،‬حتى‬
‫قال أحد اآلباء ـ وقد بُشر بأن زوجه ولدت أنثى ـ‪ :‬واهلل ما هي بنعم الولد نصرها بكاء وبرها‬
‫سرقة‪ .‬يريد أنها ال تستطيع أن تنصر أباها وأهلها إال بالصراخ والبكاء ال بالقتال والسالح وال‬
‫أن تبرهم إال بأن تأخذ من مال زوجها ألهلها‪.‬‬
‫وكانت التقاليد المتوارثة عندهم تبيح لألب أن يئد ابنته ـ يدفنها حية ـ خشية من فقر قد يقع‪ ،‬أو‬
‫من عار تجلبه حين تكبر على قومها‪ ،‬وفي ذلك يقول القرآن منكراً عليهم ومفزعاً لهم ‪﴿ :‬وَإِذَا‬

‫المَوؤُودَةُ سُئِلَت * بِأَيِّ ذَنب قُتِلَت﴾ (التكوير‪ ،‬آية ‪ 8 :‬ـ ‪.)9‬‬

‫ويصف حال اآلباء عند والدة البنات‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِاألُنثَى ظ َّ‬
‫َل وَجهُ ُه مُسوَدًّا‬

‫ال سَاء‬
‫ن القَومِ مِن سُو ِء مَا بُشِّرَ ِبهِ أَيُمسِكُ ُه عَلَى هُون أَم يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَ َ‬
‫وَهُ َو َكظِيم * يَتَوَارَى مِ َ‬
‫مَا يَح ُكمُونَ﴾ (النحل‪ ،‬آية ‪.)59 ،58 :‬‬

‫وكانت بعض الشرائع القديمة تعطي األب الحق في بيع ابنته إذا شاء وبعضها اآلخر ـ كشريعة‬
‫حمورابي ـ تجيز له أن يسلمها إلى رجل آخر ليقتلها‪.‬‬
‫جاء اإلسالم فاعتبر البنت كاالبن ـ هبة من اهلل ونعمة ـ يهبها لمن يشاء من عباده‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ب لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ* أَو‬
‫ق مَا يَشَاء َي َهبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثًا وَ َيهَ ُ‬
‫ض يَخلُ ُ‬ ‫﴿ ِ‬
‫هلل مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَاألَر ِ‬

‫جهُم ذُكرَانًا وَإِنَاثًا وَيَج َع ُل مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيم قَدِير﴾ (الشورى‪ ،‬آية ‪ 49 :‬ـ ‪.)50‬‬
‫َو ُ‬
‫يُز ِّ‬

‫وبيَّن القرآن الكريم في قصصه أن بعض البنات قد تكون أعظم أثرًا وأخلد ذكراً من كثير من‬
‫األبناء الذكور‪ ،‬كما في قصة مريم ابنة عمران التي اصطفاها اهلل وطهرها واصطفاها على‬
‫نساء العالمين وقد كانت أمها عندما حملت بها تتمنى أن تكون ذكراً يخدم الهيكل‪ ،‬ويكون من‬
‫الصالحين‪.1‬‬

‫‪ 1‬مالمح المجتمع المسلم‪ ،‬ص‪ 332 :‬ـ ‪.333‬‬

‫‪343‬‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬إِذ قَالَتِ امرَأَةُ عِمرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرتُ لَكَ مَا فِي بَطنِي مُح َّ‬
‫َررًا فَتَقَبَّل مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ‬

‫س الذَّكَرُ‬
‫هلل أَعلَمُ بِمَا وَضَعَت وَلَي َ‬
‫السَّمِيعُ العَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتهَا قَالَت رَبِّ إِنِّي وَضَع ُتهَا أُنثَى وَا ُ‬
‫كَاألُنثَى وَإِنِّي سَمَّيتُهَا مَريَ َم وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّ َتهَا مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِي ِم * فَتَقَبَّلَهَا رَُّبهَا بِقَبُول‬
‫حَسَن وَأَن َبتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ (آل عمران‪ ،‬آية ‪ 35 :‬ـ ‪.)37‬‬

‫وجعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الجنة جزاء كل أب يحسن صحبة بناته ويصبر على‬
‫تربيتهن وحسن تأديبهن ورعاية حق اهلل فيهن حتى يبلغن أو يموت عنهن‪ ،‬وجعل منزلته‬
‫بجوار رسول اهلل في دار النعيم المقيم‪ ،‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من كان له ثالث بنات‪،‬‬
‫فصبر على ألوائهن وضرائهن وسرائهن‪ ،‬أدخله الجنة برحمته إياهن»‪ ،‬فقال رجل‪ :‬واثنتان‬
‫يا رسول اهلل؟ قال‪« :‬واثنتان»‪ ،‬قال رجل‪ :‬يا رسول اهلل وواحدة‪ ،‬قال‪« :‬وواحدة»‪ ،1‬لم تعد‬
‫والدة البنت عبثاً يخاف منه وطالع نحس يتطير به بل نعمة تشكر ورحمة ترجى وتطلب لما‬
‫وراءها من فضل اهلل تعالى‪ ،‬وجزيل مثوبته‪ ،‬وبهذا أبطل اإلسالم عادة الوأد إلى األبد وأصبح‬
‫للبنت في قلب أبيها مكان عميق‪.2‬‬

‫ح ـ المرأة باعتبارها زوجة‪ :‬كانت بعض الديانات والمذاهب تعتبر المرأة رجساً من عمل‬
‫الشيطان يجب الفرار منه واللجوء إلى حياة التبتل والرهبنة‪ ،‬وبعضها اآلخر كان يعتبر الزوجة‬
‫مجرد آلة متاع للرجل‪ ،‬أو طاه لطعامه أو خادم لمنزله‪ ،‬فجاء اإلسالم يعلن بطالن الرهبانية‬
‫وينهي عن التبتل ويحث على الزواج ويعتبر الزوجة آية من آيات اهلل في الكون‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ِن فِي ذَلِكَ‬
‫َدةً وَرَحمَةً إ َّ‬
‫جعَ َل بَي َنكُم َّمو َّ‬ ‫﴿وَمِن آيَاتِهِ أَن خَلَ َ‬
‫ق لَكُم مِّن أَنفُسِكُم أَزوَاجًا لِّتَسكُنُوا إِلَيهَا وَ َ‬

‫آلَيَات لِّقَوم َيتَفَكَّرُونَ﴾ (الروم‪ ،‬آية ‪.)21 :‬‬

‫‪ 1‬رواه الحاكم‪ ،‬اسناده صحيح‪ ،‬ووافقه الذهبي (‪.)176 /4‬‬


‫‪ 2‬مالمح المجتمع اإلسالمي‪ ،‬ص‪.334 :‬‬

‫‪344‬‬
‫وقرر اإلسالم للزوجة حقوقاً على زوجها‪ ،‬ولم يجعلها مجرد حبر على ورق‪ ،‬بل جعل عليها‬
‫أكثر من حافظ ورقيب من إيمان المسلم وتقواه أوالً‪ ،‬ومن ضمير المجتمع ويقظته ثانياً‪ ،‬ومن‬
‫حكم الشرع وإلزامه ثالثاً‪.‬‬
‫وأول هذه الحقوق "الصَداق"‪ :‬الذي أوجبه اهلل للمرأة على الرجل إشعاراً منه برغبته فيها‬
‫ن لَكُم عَن شَيء مِّن ُه نَفسًا فَكُلُوهُ‬ ‫وإرادته لها‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وَآتُوا النَّسَاء صَدُقَاتِه َّ‬
‫ِن نِحلَ ًة فَإِن طِب َ‬

‫هَنِيئًا مَّرِيئًا﴾ (النساء‪ ،‬آية ‪.)4 :‬‬

‫فأين هذا من المرأة التي نجدها في مدينات أخرى‪ ،‬فتدفع هي للرجل بعض مالها‪ ،‬مع أن فطرة‬
‫اهلل جعلت المرأة مطلوبة ال طالبة؟‬
‫وثاني هذه الحقوق هو "النفقة" فالرجل مكلف بتوفير المأكل والملبس والمسكن والعالج المرأته‬
‫بالمعروف‪ ،‬والمعروف هو ما يتعارف عليه أهل الدين والفضل من الناس بال إسراف وال‬
‫تقتير‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬لِيُنفِق ذُو سَعَة مِّن سَعَتِهِ َومَن قُدِرَ عَلَي ِه رِزقُهُ فَليُنفِق مِمَّا آتَاهُ اهللُ َ‬
‫ال يُكَلِّفُ اهللُ‬

‫نَفسًا إِالَّ مَا آتَاهَا﴾ (الطالق‪ ،‬آية ‪.)7 :‬‬

‫ُن بِالمَعرُوفِ﴾ (النساء‪ ،‬آية ‪:‬‬


‫وثالث الحقوق هو "المعاشرة بالمعروف" قال تعالى‪﴿ :‬وَعَاشِرُوه َّ‬

‫‪.)19‬‬
‫وهو حق جامع يتضمن إحسان المعاملة في كل عالقة بين المرء وزوجه‪ ،‬من حسن الخلق‪،‬‬
‫ولين الجانب‪ ،‬وطيب الكالم‪ ،‬وبشاشة الوجه‪ ،‬وتطييب لنفسها بالممازحة والترفيه عنها وفي‬
‫مقابل هذه الحقوق أوجب عليها طاعة الزوج ـ في غير معصية طبعاً ـ والمحافظة على ماله‪،‬‬
‫فال تنفق منه إال بإذنه وعلى بيته‪ ،‬فال تدخل فيه أحداً إال برضاه ولو كان من أهلها‪.‬‬
‫وهذه الواجبات ليست كثيرة وال ظالمة في مقابل ما على الرجل من حقوق‪ ،‬فمن المقرر أن كل‬
‫حق يقابله واجب‪ ،‬ومن عدل اإلسالم أنه لم يجعل الواجبات على المرأة وحدها وال على الرجل‬
‫ِن بِالمَعرُوفِ﴾ (البقرة‪ ،‬آية ‪.)122 :‬‬ ‫وحده‪ ،‬بل قال تعالى‪﴿ :‬وَلَه َّ‬
‫ُن مِثلُ الَّذِي عَلَيه َّ‬

‫‪345‬‬
‫وللنساء من الحقوق مثل ما عليهن من الواجبات ومن جميل ما يروى أن ابن عباس رضي اهلل‬
‫عنه وقف أمام المرآة يصلح هيئته‪ ،‬ويعدل من زينته‪ ،‬فلما سئل في ذلك قال‪ :‬أتزين المرأتي‬
‫ُن مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ﴾‪ ،‬وهذا من‬
‫كما تتزين لي امرأتي ثم تال اآلية الكريمة ﴿ وََله َّ‬

‫عميق فقه الصحابة للقرآن الكريم‪.1‬‬

‫ولم يهدر اإلسالم شخصية المرأة بزوجها ولم يذبها في شخصية زوجها‪ ،‬كما هو الشأن في‬
‫التقاليد الغربية ال تي تجعل المرأة تابعة للرجل‪ ،‬فال نعرف باسمها ونسبها ولقبها العائلي‪ ،‬بل‬
‫بأنها زوجة فالن‪.‬‬

‫أما اإلسالم فقد أبقى للمرأة شخصيتها المستقلة المتميزة‪ ،‬ولهذا عرفنا زوجات الرسول صلى‬
‫اهلل عليه وسلم بأسمائهن وأنسابهن‪ ،‬فخديجة بنت خويلد‪ ،‬وعائشة بنت أبي بكر‪ ،‬وحفصة بنت‬
‫عمر ‪ ،‬وميمونة بنت الحارث‪ ،‬وصفية بنت حيي وكان أبوها يهودياً محارباً للرسول صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬كما أن شخصيتها المدنية ال تنقص بالزواج‪ ،‬وال تفقد أهليتها للعقود والمعامالت‬
‫وسائر التصرفات‪ ،‬فلها أن تبيع وتشتري وتؤجر أمالكها وتستأجر وتهب من مالها وتتصدق‬
‫وتوكل وتخاصم وهذا أمر لم تصل إليه المرأة الغربية إال حديثاً‪ ،‬والزالت في بعض البالد‬
‫مقيدة إلى حدا ما بإرادة الزواج‪.2‬‬

‫ط ـ المحافظة على أنوثة المرأة‪:‬‬

‫اإلسالم يحافظ على أنوثة المرأة‪ ،‬حتى تظل ينبوعاً لعواطف الحنان والرقة والجمال‪ ،‬ولهذا‬
‫حرام على الرجال بما تقتضيه طبيعة األنثى ووظيفتها‪ ،‬كالتحلي بالذهب‪،‬‬
‫أحلا لها بعض ما ُ‬

‫‪ 1‬مالمح المجتمع‪ ،‬ص‪.340 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.341 :‬‬

‫‪346‬‬
‫ولبس الحرير الخالص‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن هذين حرام على ذكور أمتي‬
‫حلٌ إلناثهم»‪.1‬‬

‫كما أنه حرام عليها كل ما يجافي هذه األنوثة‪ ،‬من التشبيه بالرجال والحركة والسلوك وغيرها‪،‬‬
‫فنهى أن تلبس المرأة لبسة الرجل‪ ،‬كما نهى الرجل أن يلبس لبسة المرأة‪ ،‬ولعن المتشبهات من‬
‫النساء بالرجال‪ ،‬مثلما لعن المتشبهين من الرجال بالنساء‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫« ثالثة ال يدخلون الجنة وال ينظر اهلل إليهم يوم القيامة‪ :‬العاق لوالديه‪ ،‬والمرأة المترجلة‪،2‬‬
‫والديوث‪.»3‬‬

‫واإلسالم يحمي هذه األنوثة ويرعى ضعفها فيجعلها أبداً في ظل رجل مكفولة النفقات‪ ،‬مكيفة‬
‫الحاجات‪ ،‬فهي في كفا أبيها أو زوجها أو أوالدها أو إخوتها يجب عليهم نفقتها وفق شريعة‬
‫اإلسالم‪ ،‬فال تضطرها الحاجة إلى الخوض في لجج الحياة وصراعها ومزاحمة الرجال‬
‫بالمناكب‪ ،‬واإلسالم يحافظ على خلقها وحيائها‪ ،‬ويحرص على سمعتها وكرامتها ويصون‬
‫عفافها من خواطر السوء‪ ،‬وألسنة السوء‪ ،‬فضالً على أيدي السوء أن تمتد إليها‪.‬‬

‫جب اإلسالم على المرأة‪:‬‬


‫ولهذا يو ِ‬

‫ـ الغض من بصرها والمحافظة على عفتها ونظافتها‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وَقُل لِّلمُؤمِنَاتِ يَغضُض َ‬
‫ن مِن‬

‫ن فُرُوجَهُنَّ﴾ (النور‪ ،‬آية ‪.)31 :‬‬


‫أَبصَارِهِنَّ وَيَحفَظ َ‬

‫ـ االحتشام والتستر في لباسها وزينتها دون إعنات لها وال تضييق عليها‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َ‬
‫ال‬

‫جيُوبِهِنَّ﴾ (النور‪ ،‬آية ‪.)31 :‬‬


‫ِن عَلَى ُ‬
‫خمُرِه َّ‬
‫ن بِ ُ‬
‫ِال مَا ظَهَ َر مِنهَا وَليَضرِب َ‬
‫ُن إ َّ‬
‫يُبدِينَ زِي َنتَه َّ‬

‫‪ 1‬سنن ابن ماجه‪ ،‬الحديث رقم‪.3595 :‬‬


‫‪ 2‬المترجلة‪ :‬المتشبهة بالرجال ‪.‬‬
‫‪ 3‬مسند أحمد‪ ،‬الحديث رقم‪ ،1680 :‬الديوث‪ :‬عديم الغيرة‪.‬‬

‫‪347‬‬
‫ـ أال تبدي زينتها الخفية‪ ،‬كالشعر والعنق والنحر والذراعين والساقين إال لزوجها ومحارمها‬
‫ِن‬
‫ِن أَو آبَائِه َّ‬
‫ن زِي َنتَهُنَّ إِالَّ لِبُعُولَ ِته َّ‬ ‫الذين يشق عليها أن تستر منهم استتارها من األجانب ﴿ َو َ‬
‫ال يُبدِي َ‬

‫ِن أَو‬
‫ِن أَو بَنِي إِخوَانِهِنَّ أَو بَنِي أَخَوَا ِته َّ‬
‫ِن أَو أَبنَاء بُعُولَ ِتهِنَّ أَو إِخوَا ِنه َّ‬
‫ِن أَو أَبنَا ِئه َّ‬
‫أَو آبَاء بُعُولَ ِته َّ‬
‫ن غَي ِر أُولِي اإلِربَ ِة مِنَ الرِّجَا ِل أَوِ الطِّف ِل الَّذِينَ لَم يَظهَرُوا‬
‫ُن أَ ِو التَّابِعِي َ‬
‫نِسَائِهِنَّ أَو مَا مَلَكَت أَيمَا ُنه َّ‬
‫ت النِّسَاء﴾(النور‪ ،‬آية ‪.)31 :‬‬
‫عَلَى عَورَا ِ‬

‫ـ أن تتوفر في مشيتها وكالمها‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬والَ يَضرِبنَ بِأَرجُلِهِنَّ لِيُعلَمَ مَا يُخفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ﴾‬

‫(النور‪ ،‬آية ‪.)31 :‬‬


‫ن بِالقَولِ َفيَطمَ َع الَّذِي فِي قَلبِهِ مَرَض وَقُلنَ قَوالً مَّعرُوفًا﴾ (األحزاب‪،‬‬ ‫ـ وقال تعالى‪﴿ :‬فَ َ‬
‫ال تَخضَع َ‬

‫آية ‪.)32 :‬‬


‫فليست ممنوعة من الكالم‪ ،‬وليس صوتها عورة‪ ،‬بل هي مأمورة أن تقول قوالً معروفاً‪.1‬‬
‫ـ أن تتجنب كل ما يجذب انتباه إليها ويغريه بها‪ ،‬من تبرج الجاهلية األولى أو األخيرة‪ ،‬فهذا‬
‫ليس من خلق المرأة العفيفة‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أيما امرأة استعطرت ثم‬
‫خرجت من بيتها ليشم الناس ريحها فهي زانية»‪.2‬‬
‫ـ أن تمتنع عن الخلوة بأي رجل ليس زوجها وال مَحرماً لها صوناً لنفسها ونفسه من هواجس‬
‫اإلثم‪ ،‬ولسمعتها من ألسنة الزور‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال يخلون رجل بامرأة‬
‫إال مع ذي محرم»‪.3‬‬
‫ـ أال تختلط بمجتمع الرجال األجانب إال لحاجة داعية ومصلحة معتبرة وبالقدر الالزم‪،‬‬
‫كالصالة في المسجد‪ ،‬وطلب العلم‪ ،‬والتعاون على البر والتقوى‪ ،‬بحيث ال تحرم المرأة من‬
‫المشاركة في خدمة مجتمعها‪ ،‬وال تنسى الحدود الشرعية في لقاء الرجال‪.‬‬

‫‪ 1‬مالمح المجتمع المسلم‪ ،‬ص‪ 366 :‬ـ ‪.367‬‬


‫‪ 2‬سنن الترمذي‪ ،‬الحديث رقم‪ ،2786 :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫‪ 3‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.1088 :‬‬

‫‪348‬‬
‫إن اإلسالم بهذه األحكام يحمي أنوثة المرأة من أنياب المفترسين في ناحية ويحفظ عليها‬
‫حياءها وعفافها بالبعد عن عوامل االنحراف والتضليل من ناحية ثانية‪ ،‬ويصون عرضها من‬
‫ألسنة المفترين والمرجفين ثالثة‪ ،‬وهو ـ مع هذا كله ـ تحافظ على نفسها وأعصابها من التوتر‬
‫والقلق‪ ،‬ومن الهزات واالضطرابات‪ ،‬نتيجة لجموح الخيال‪ ،‬وانشغال القلب‪ ،‬وتوزع عواطفه‬
‫بين شتى المثيرات والمهياجات وهو أيضاً ـ بهذه األحكام والتشريعات ـ يحمي الرجل من‬
‫عوامل االنحراف والقلق ويحمي المجتمع كله من عوامل السقوط واالنحالل‪.1‬‬
‫ومن المقاصد التي هدف إليها اإلسالم تكوين األسرة الصالحة التي هي ركيزة المجتمع‬
‫الصالح‪.2‬‬
‫وال ريب أن أساس تكوين األسرة هو الزواج الذي يربط بين الرجل والمرأة رباطاً شرعي ًا‬
‫وثيق العُرى‪ ،‬مكين البيان‪ ،‬مؤسساً على تقوى من اهلل ورضوان‪ ،‬وقد اعتبر القرآن هذا الزواج‬
‫آية من آيات اهلل‪ ،‬مثل خلق السموات واألرض‪ ،‬وخلق اإلنسان من تراب وذلك في قوله تعالى‪:‬‬
‫ِن فِي ذَلِكَ‬
‫َدةً وَرَحمَةً إ َّ‬
‫جعَ َل بَي َنكُم َّمو َّ‬ ‫﴿وَمِن آيَاتِهِ أَن خَلَ َ‬
‫ق لَكُم مِّن أَنفُسِكُم أَزوَاجًا لِّتَسكُنُوا إِلَيهَا وَ َ‬

‫آلَيَات لِّقَوم َيتَفَكَّرُونَ﴾ (الروم‪ ،‬آية ‪.)21 :‬‬

‫فأشار إلى الدعائم الثالثة التي تقوم عليها الحياة الزوجية‪ ،‬كما يرشد إليها القرآن‪ ،‬وهي السكون‬
‫والمودة والرحمة‪ ،‬ويعني بالسكون‪ :‬سكون النفس من اضطرابها وثورانها توقاً إلى الجنس‬
‫اآلخر‪ ،‬باإلشباع المشروع في ظل مرضاة اهلل‪ ،‬فال يعرف اإلسالم األسرة إال بين رجل وامرأة‬
‫ك الجَنَّةَ﴾ (البقرة‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫منذ األسرة البشرية األولى من آدم وزوجته ‪﴿ :‬اسكُن أَنتَ وَزَوجُ َ‬

‫‪.)35‬‬
‫ال يعرف ما يدعو إليه المتحللون من الغربيين وغيرهم اليوم من األسرة الوحيدة الجنس‪ ،‬بحيث‬
‫يتزوج الرجل الرجل‪ ،‬والمرأة المرأة‪ ،‬وهذا أمر ضد الفطرة‪ ،‬وضد األخالق‪ ،‬وضد الشرائع‪،‬‬

‫‪ 1‬اإليمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية للصالبي‪ ،‬ص‪.158 :‬‬


‫‪ 2‬كيف نتعامل مع القرآن العظيم‪ ،‬ص‪.86 :‬‬

‫‪349‬‬
‫وهو لألسف ما حاول مؤتمر السكان في القاهرة ‪1994‬م ومؤتمر المرأة في بكين أن يفرضاه‬
‫على العالم‪.1‬‬

‫وبهذا يقاوم القرآن الكريم نزعتين منحرفتين‪:‬‬


‫أولهما‪ :‬نزعة "الرهبانية" المنافية للفطرة التي تحرم الزواج وتنظر إلى الغريزة الجنسية‬
‫وكأنها رجس من عمل الشيطان‪ ،‬وتنفر من ظل المرأة‪ ،‬ولو كانت أماً أو أختاً‪ ،‬ألنها أحبولة‬
‫الشيطان‪.‬‬
‫وثانيهما‪ :‬نزعة "اإلباحية" التي تطلق العنان للغريزة‪ ،‬بال ضابط وال رابط‪ ،‬وتنادي تجربة‬
‫االستمتاع الجنسي بين الرجل والمرأة دون ارتباط بمسؤولية شرعية‪ ،‬تتكون من خاللها حياة‬
‫زوجية ذات هدف‪ ،‬تنشأ منها أسرة مترابطة تقوم على أمومة حانية‪ ،‬وأبوة راعية وبنواة باراة‪،‬‬
‫وأخوة عاطفة وتتربى في ظلها مشاعر المحبة وعواطف اإليثار والتعاون‪.2‬‬
‫استهدف الشارع عدة مقاصد من تكوين األسرة منها‪:‬‬
‫ـ حفظ النسل‪:‬‬
‫وتحقيقاً لهذا المقصد قصر اإلسالم الزواج المشروع على ما يكون بين ذكر وأنثى وحرام كل‬
‫صور اللقاء خارج الزواج المشروع‪ ،‬كما حرام العالقات الشاذة التي ال تؤدي إلى اإلنجاب‪،‬‬
‫وفي هذا تعمير لألرض وتواصل لألجيال‪ ،‬قال اهلل جل شأنه ‪ُ ﴿ :‬ه َو أَنشَأَكُم مِّنَ األَر ِ‬
‫ض‬

‫وَاستَعمَرَكُم فِيهَا﴾ (هود‪ ،‬آية ‪.3)61 :‬‬

‫ن‬ ‫ـ وقال تعالى‪﴿ :‬وَاهللُ جَ َع َل لَكُم مِّن أَنفُسِكُم أَزوَاجًا وَ َ‬


‫جعَ َل لَكُم مِّن أَزوَاجِكُم بَنِي َ‬

‫وَحَفَدَةً﴾ (النحل‪ ،‬آية ‪.)72 :‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.86 :‬‬


‫‪ 2‬كيف نتعامل مع القرآن الكريم‪ ،‬ص‪.87 :‬‬
‫‪ 3‬ميثاق األسرة في اإلسالم‪ ،‬اللجنة العالمية للمرأة والطفل‪ ،‬ص‪.132 :‬‬

‫‪350‬‬
‫وكان من دعاء عباد الرحمن ‪﴿:‬رََّبنَا هَب لَنَا مِن أَزوَا ِ‬
‫جنَا وَذُرِّيَّا ِتنَا قُرَّةَ أَعيُن وَاجعَلنَا‬

‫ن إِمَامًا﴾ (الفرقان‪ ،‬آية ‪.)74 :‬‬


‫لِلمُتَّقِي َ‬

‫ن الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرنَاهُ بِ ُغالَم حَلِيم﴾ (الصافات‪،‬‬


‫وقال الخليل إبراهيم ‪﴿ :‬رَبِّ هَب لِي مِ َ‬

‫آية ‪ 100 :‬ـ ‪.)101‬‬


‫وقال زكريا عليه السالم ‪﴿ :‬وَإِنِّي خِفتُ المَوَاِليَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امرَأَتِي عَاقِرًا فَهَب‬

‫َب رَضِيًّا﴾ (مريم‪ ،‬آية ‪5 :‬‬


‫ب وَاجعَلهُ ر ِّ‬
‫ث مِن آلِ يَعقُو َ‬
‫لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِ ُ‬

‫ـ ‪.)6‬‬
‫فجاء الجواب اإللهي ﴿يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُ َ‬
‫ك ِبغُالَم اسمُهُ يَحيَى لَم نَجعَل لَّهُ مِن قَب ُل‬

‫سَمِيًّا﴾ (مريم‪ ،‬آية ‪.)7 :‬‬

‫ـ تحقيق السكن والمودة والرحمة‪:‬‬


‫وشُ ِّرعت أحكاماً وآداباً بالمعاشرة بالمعروف بين الزوجين حتى ال تنحصر العالقة بين‬
‫ُن بِالمَعرُوفِ﴾ (النساء‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫الزوجين في صورة جسدية بحتة‪ ،‬قال اهلل تعالى‪﴿ :‬وَعَاشِرُوه َّ‬

‫‪ .) 19‬والمعروف هنا ما يقره العرف السليم واعتاده أهل االعتدال واالستقامة من الناس‪ ،‬قال‬
‫ِل لَكُم لَيلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُم هُنَّ لِبَاس لَّكُم وَأَنتُم لِبَاس لَّهُنَّ﴾‬
‫تعالى‪﴿ :‬أُح َّ‬

‫(البقرة‪ ،‬آية ‪.)187 :‬‬

‫وإنما عُِّب ر عن هذه العالقة باللباس لما توحى به الكلمة من الزينة والستر واللصوق والدف‪،‬‬
‫ال أُضِيعُ عَمَ َل عَامِل مِّنكُم مِّن َذكَر أَو أُنثَى‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬فَاستَجَا َ‬
‫ب لَهُم رَبُّهُم أَنِّي َ‬

‫بَعضُكُم مِّن بَعض﴾ (آل عمران‪ ،‬آية ‪.)195 :‬‬

‫‪351‬‬
‫ومعنى ﴿بَعضُكُم مِّن بَعض﴾‪ :‬أن المرأة من الرجل والرجل من المرأة‪ ،‬فال خصومة وال‬

‫تناقض‪ ،‬بل تكامل وتعاون وتناسق‪.1‬‬


‫ـ حفظ النسب‪:‬‬
‫ولهذا ا لمقصد أبطل اهلل تعالى نظام التبني وأمرنا بإرجاع نسب األوالد بالتبني إلى أنسابهم‬
‫الحقيقية‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬مَّا جَ َع َل اهللُ لِرَجُل مِّن قَلبَي ِ‬
‫ن فِي جَوفِهِ َومَا جَ َع َل أَزوَاجَكُ ُم‬

‫ُن أُمَّهَا ِتكُم وَمَا جَ َع َل أَدعِيَاءكُم أَبنَاءكُم ذَلِكُم قَولُكُم بِأَفوَاهِكُم وَاهللُ‬
‫ن مِنه َّ‬
‫الالَّئِي تُظَاهِرُو َ‬
‫َق وَهُ َو يَهدِي السَّبِيلَ * ادعُوهُم آلِبَا ِئهِم ُه َو أَقسَطُ عِن َد اهللِ فَإِن لَّم تَعلَمُوا‬
‫يَقُو ُل الح َّ‬
‫س عَلَيكُم جُنَاح فِيمَا أَخطَأتُم بِهِ وََلكِن مَّا‬
‫آبَاءهُم فَإِخوَانُكُم فِي الدِّينِ وَ َموَالِيكُم وَلَي َ‬
‫ن اهللُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (األحزاب‪ ،‬آية ‪ 4 :‬ـ ‪.)5‬‬
‫تَعَمَّدَت قُلُوبُكُم وَكَا َ‬

‫وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أيما رجل دعا إلى غير والديه‪ ،‬أو تولى غير مواليه‬
‫الذين أعتقوه‪ ،‬فإن عليه لعنة اهلل والمالئكة والناس أجمعين إلى يوم القيامة‪ ،‬ال يقبل منه‬
‫صرف‪ 2‬وال عدل»‪.3‬‬

‫وألجل حفظ النسب حرم اإلسالم أيضاً الزنا‪ ،‬وشرعت األحكام الخاصة بالعدة‪ ،‬وعدم كتم ما‬
‫في األرحام‪ ،‬وإثبات النسب وجحده وهي أحكام لها تفصيلها في مظانها من المراجع الفقهية‪.4‬‬

‫ـ اإلحصان‪:‬‬
‫يوفر الزو اج الشرعي صون العفاف‪ ،‬ويحقق اإلحصان‪ ،‬ويحفظ األعراض‪ ،‬ويسد ذرائع الفساد‬
‫الجنسي بالقضاء على فوضى اإلباحية واالنحالل‪ ،‬وقد اختص اإلسالم بمراعاته للفطرة‬
‫البشرية وقبولهم بواقعه‪ ،‬ومحاولة تهذيبها واالرتقاء بها ال كبتها وال قمعها‪ ،‬قال اهلل جل شأنه ‪:‬‬

‫‪ 1‬ميثاق األسرة في اإلسالم‪ ،‬ص‪.135 :‬‬


‫‪ 2‬الصرف‪ :‬الفريضة‪ ،‬أو النافلة‪ ،‬وقيل التوبة‪.‬‬
‫‪ 3‬العدل‪ :‬الفدية أو التوبة‪ .‬حديث صحيح رواه أحمد والدارمي‪.‬‬
‫‪ 4‬ميثاق األسرة في اإلسالم‪ ،‬ص‪.137 :‬‬

‫‪352‬‬
‫ن الذَّهَبِ‬
‫ن وَالقَنَاطِي ِر المُقَنطَرَ ِة مِ َ‬
‫ت مِنَ النِّسَاء وَالبَنِي َ‬ ‫﴿زُيِّ َ‬
‫ن لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَا ِ‬

‫هلل عِندَ ُه حُسنُ‬


‫ع الحَيَاةِ الدُّنيَا وَا ُ‬
‫ث ذَلِكَ مَتَا ُ‬
‫وَالفِضَّةِ وَالخَي ِل المُسَوَّمَ ِة وَاألَنعَامِ وَالحَر ِ‬
‫المَآبِ﴾ (آل عمران‪ ،‬آية ‪.)14 :‬‬

‫وهي شهوات مستحبة مستلذة لكنها يجب أن توضع في مكانها ال تتعداها وال تطغي على ما هو‬
‫أكرم من الحياة وأعلى‪.1‬‬

‫والقرآن الكريم ال يضع أي قيد على االستمتاع بين المرء وزوجه ‪﴿ :‬نِسَآؤُكُم حَرث لَّكُم‬

‫فَأتُوا حَر َثكُم أَنَّى شِئتُم﴾ (البقرة‪ ،‬آية ‪.)223 :‬‬

‫مادام االستمتاع في موضع الحرث وفي غير موضع األذى وزمانه‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وَيَسأَلُونَ َ‬
‫ك‬

‫ن‬
‫ى يَطهُر َ‬
‫ُن حَتَّ َ‬
‫ال تَق َربُوه َّ‬
‫ض قُل هُ َو أَذًى فَاعتَزِلُوا النِّسَاء فِي المَحِيضِ وَ َ‬
‫عَنِ المَحِي ِ‬
‫ِب المُتَطَهِّرِينَ﴾‬
‫ن وَُيح ُّ‬
‫ِب التَّوَّابِي َ‬
‫ن فَأتُوهُنَّ مِن حَيثُ أَمَرَكُ ُم اهللُ إِنَّ اهللَ يُح ُّ‬
‫فَإِذَا تَطَهَّر َ‬

‫(البقرة‪ ،‬آية ‪.)222 :‬‬

‫ـ حفظ التدين واألسرة‪:‬‬

‫‪ 1‬ميثاق األسرة في اإلسالم‪ ،‬ص‪.137 :‬‬

‫‪353‬‬
‫األسرة محضن األفراد وال برعاية أجسادهم فقط‪ ،‬بل األهم غرس القيم الدينية والخلقية في‬
‫نفوسهم‪ ،‬وتبدأ مسؤولية األسرة في هذا المجال قبل تكوان الجنين بحسن اختيار كل من‬
‫الزوجين إلى اآلخر‪ ،‬وأولوية المعيار الديني والخلقي في هذا االختيار‪.1‬‬

‫ألمَة مُّؤ ِمنَة خَير مِّن مُّشرِكَة وَلَو‬


‫ِن وَ َ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬وَ َ‬
‫ال تَنكِحُوا المُشرِكَاتِ حَتَّى يُؤم َّ‬

‫ن حَتَّى يُؤ ِمنُوا وَلَعَبد مُّؤمِن خَير مِّن مُّشرِك وَلَو‬


‫ال تُنكِحُوا المُشِرِكِي َ‬
‫أَعجَبَتكُم َو َ‬
‫ن آيَاتِهِ‬
‫ع َو إِلَى الجَنَّةِ وَالمَغفِرَ ِة بِإِذنِهِ وَُيبَيِّ ُ‬
‫ن إِلَى النَّارِ وَاهللُ يَد ُ‬
‫أَعجَبَكُم أُولَـئِكَ يَدعُو َ‬
‫لِلنَّاسِ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ﴾ (البقرة‪ ،‬آية ‪.)221 :‬‬

‫وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إذا خطب إليكم من ترضونه دينه ‪2‬وخلقه زوجوه إال‬
‫تفعلوا تكن فتنة في األرض وفساد عريض»‪.‬‬

‫وتستمر مسؤولية األسرة بتعليم العقيدة والعبادة واألخالق ألفراد األسرة‪ ،‬وتدريبهم على‬
‫ممارستها ومتابعة ذلك حتى بلوغ األطفال رشدهم واستقاللهم بالمسؤولية الدينية عن‬
‫تصرفاتهم‪.3‬‬

‫ك وَالعَاقِبَةُ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬وَأمُر أَهلَكَ بِالصَّالَةِ وَاصطَبِر عَلَيهَا َ‬


‫ال نَسأَلُكَ رِزقًا نَّحنُ نَرزُقُ َ‬

‫لِلتَّقوَى﴾ (طه‪ ،‬آية ‪.)132 :‬‬

‫ن‬ ‫وقال جل شأنه عن النبي اسماعيل عليه السالم‪﴿ :‬وَكَا َ‬


‫ن يَأمُ ُر أَهلَهُ بِالصَّالَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَا َ‬

‫عِن َد رَبِّهِ مَرضِيًّا﴾ (مريم‪ ،‬آية ‪.)55 :‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.138 :‬‬


‫‪ 2‬سنن الترمذي وابن ماجه‪ ،‬ميثاق األسرة‪ ،‬ص‪.154 :‬‬
‫‪ 3‬ميثاق األسرة في اإلسالم‪ ،‬ص‪.138 :‬‬

‫‪354‬‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُم وَأَهلِيكُم نَارًا وَقُو ُدهَا النَّاسُ وَالحِجَارَ ُة‬

‫ن مَا يُؤمَرُونَ﴾ (التحريم‪،‬‬


‫ن اهللَ مَا أَمَرَهُم وَيَفعَلُو َ‬
‫ال يَعصُو َ‬
‫عَلَيهَا مَالَ ِئكَة غِالَظ شِدَاد َ‬

‫آية ‪.)6 :‬‬


‫وهذه التعاليم القرآنية واإلرشادات النبوية تأخذها الدولة الحديثة بعين االعتبار‪ ،‬في تشريعاتها‬
‫وقوانينها المتعلقة بحقوق المرأة واألسرة‪ ،‬فالنساء شقائق الرجال‪ ،‬ولهن كافة الحقوق وعليهن‬
‫تحمل كافة الواجبات على قدم المساواة مع الرجل‪ ،‬وبمراعاة أحكام الشريعة اإلسالمية‪،‬‬
‫والتقاليد األسرية‪ ،‬واألسرة هي الخلية اإلنسانية في المجتمع‪ ،‬قوامها الدين واألخالق وحب‬
‫الوطن‪ ،‬وتكفل الدولة حمايتها ورعايتها واستقرارها‪ ،‬كما تكفل الدولة حماية ورعاية األمومة‬
‫والطفولة والنشىء‪.‬‬

‫ـ المرأة في الدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية‪:‬‬


‫ثم يجب العمل على تمكينها وتعزيز مكانتها‬
‫المرأة شريك في بناء الدولة ونموها‪ ،‬ومن َّ‬
‫وإعدادها علمياً ومهنياً وتحريك وتوظيف طاقتها في بناء ونهضة المجتمع‪ ،‬وذلك عن طريق‬
‫إعطائها الفرص المتكافئة في كل مناحي الحياة‪ ،‬لتأخذ دورها مع الرجل كشريك مؤهل وجدير‬
‫ببناء األسرة والمجتمع والدولة بأثرها‪.‬‬
‫ـ وضع منظومة من التشريعات تكفل محاربة كل أنواع التمييز أو التفرقة أو العنف ضد‬
‫المرأة‪.‬‬
‫ـ العمل على وضع إستراتيجية وطنية للنهوض بواقع المرأة وتأهيلها وتشغيلها وتدريبها‪ ،‬وذلك‬
‫من خالل التعاون مع المنظمات الدولية واإلقليمية ذات الصلة‪.‬‬
‫ـ العمل على تقوية روابط األسرة والتركيز على القيم والمفاهيم اإلنسانية‪.‬‬
‫ـ تقديم الدعم النفسي والمعنوي للنساء المعنفات والمطلقات واألرامل‪ ،‬والمهجرات والمعتقالت‪.‬‬
‫ـ تحقيق التواصل مع المرأة لدراسة قضاياها وتقييم أوضاعها‪.‬‬

‫‪355‬‬
‫ـ األخذ بالتجارب الرائدة إقليمياً وعالمياً بما يتناسب مع المجتمع واقتراح السياسات والحلول‬
‫الداعمة لنهضة المرأة‪.‬‬
‫ـ إشراك منظمات المجتمع المدني في النهوض بمسيرة للنهوض بالمرأة‪.‬‬
‫ـ تنفيذ السياسات والخطط والبرامج ذات الصلة باالرتقاء بأوضاع المرأة‪.‬‬
‫ـ تنظيم الحلقات التدريبية وعقد الورش والمؤتمرات لمعالجة قضايا المرأة واألسرة‪.‬‬
‫ـ بناء قاعدة لتجميع ورصد وتحليل المعلومات والبحوث والدراسات الخاصة باألنشطة‬
‫والبرامج المتعلقة بالمرأة واألسرة‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ الطفولة والشباب‪:‬‬


‫األطفال ثم رة من ثمرات الزواج ومن أهم مقاصده وأهدافه واألطفال أحد أركان األسرة وعن‬
‫طريقهم يتم بقاء النوع اإلنساني‪ ،‬والجنس البشري‪ ،‬وهم أعظم نعم الحياة وزينتها‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ك ثَوَابًا وَخَير‬ ‫﴿المَالُ وَالبَنُو َ‬
‫ن زِينَ ُة الحَيَاةِ الدُّنيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَير عِن َد َربِّ َ‬

‫أَمَالً﴾ (الكهف‪ ،‬آية ‪.)46 :‬‬

‫ويولد الطفل ضعيفاً وعاجزاً عجزاً مطلقاً‪ ،‬فال حول وال قوة‪ ،‬وشاءت الحكمة اإللهية أن يكون‬
‫اإلنسان أكثر المخلوقات حاجة لغيره بعد الوالدة ويحتاج إلى أطول فترة ـ بين المخلوقات ـ‬
‫معتمداً على غيره‪ ،‬ومفتقراً للرعاية والعناية والحضانة وغيرها‪ ،‬لذلك أناط الشرع الحكيم هذه‬
‫المسؤولية العظيمة باألبوين أوالً ثم المجتمع والدولة ثانياً‪ ،‬ووضع الشرع أحكام متعددة‬
‫لألطفال‪ ،‬وأثبت لهم حقوقاً كثيرة‪ ،‬وحقوق األوالد هي واجبات اآلباء واألمهات‪ ،‬وقد وضع‬
‫الشرع لها منهجاً في تربية األوالد من عدة عناصر‪ 1‬أهمها‪:‬‬
‫أ ـ حسن اختيار الزوجة‪:‬‬

‫‪ 1‬حقوق اإلنسان في اإلسالم‪ ،‬ص‪ ،241 :‬محمد الزحيلي‪.‬‬

‫‪356‬‬
‫يقول علماء التربية‪ :‬يجب على الوالد أن يبدأ بتربية ولده قبل الوالدة وهذا ما أرشد إليه اإلسالم‬
‫عن طريق اختيار الزوجة‪ ،‬ألن خطيبة اليوم التي يقصدها الشاب هي زوجة الغد‪ ،‬وأم‬
‫المستقبل‪ ،‬ومربية األطفال واألجيال واألم هي المدرسة األولى التي تحتضن الطفل‪ ،‬لترضعه‬
‫لبان األدب والتربية مع لبن الثدي والغذاء‪ ،‬ثم ترعاه في أول مراحل العمر‪ ،‬لتغرس في عقله‬
‫وقلبه البذور األولى التي ستنمو عند الكبر‪ ،‬وتصون فطرته عما يفسدها مع ما تهب لوليدها من‬
‫صفات موروثة‪ ،‬وطباع مفطورة ومواهب متأصلة‪ ،‬فكان حُسن اختيار الزوجة من أجل األوالد‬
‫أكثر أهمية من بقية العوامل التي تطلب المرأة وهو ما أرشد إليه رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم بقوله‪« :‬تخيروا لنطفكم»‪ ،1‬وقوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬فاظفر بذات الدين تربت‬
‫يداك»‪.2‬‬
‫ويقول الشاعر حافظ إبراهيم‪:‬‬
‫األم مدرسة إذا أعددتها‬
‫أعددت شعباً طياب األعراق‬
‫فاألم هي المربية لألطفال‪ ،‬والحاضنة لألوالد‪ ،‬واألمينة على الذرية والمكلفة باإلشراف عليهم‪،‬‬
‫ألنها سترضع الطفل اللبن‪ ،‬كما سترضعه العقيدة واألخالق والقيم‪ ،‬وهي سترباي العباقرة‬
‫والمصلحين الذين يتولون دفة الحكم وسفينة اإلصالح‪ ،‬وقيادة الجيوش‪ ،‬ورجال الدعوة والفكر‪،‬‬
‫وبمقدار التوفيق في حسن اختيار الزوجة يكون الوالد قد أرسى حجر األساس من األحكام‬
‫الخاصة بالحامل والمرضع لرعاية الجنين والطفل الرضيع‪ ،‬فأباح الشرع للحامل والمرضع‬
‫مثالً اإلفطار في رمضان‪ ،‬وجعل الرضاعة حقاً للطفل‪ ،‬لما يمتاز به لبن األم من فوائد جسمية‬
‫ونفسية للطفل‪ ،‬وأن الرضاع واجب على األم قضاءً وديانة وتجبر األم عليه عند الحاجة‪ ،‬كما‬
‫شرع اهلل الحضانة حقاً لألم والطفل معاً وإن أول جهد في التربية‪ ،‬وأول دعامة لها‪ ،‬هو التوجه‬

‫‪ 1‬رواه ابن ماجه والحاكم‪ ،‬أنظر‪ :‬صحيح الجامع‪ ،‬رقم‪.2928 :‬‬


‫‪ 2‬صحيح البخاري (‪.)1958 /5‬‬

‫‪357‬‬
‫إلى البيت‪ ،‬وخاصة إلى الزوجة الصالحة‪ ،‬واألم المربية المؤمنة الواعية‪ ،‬وقد كان دوماً وراء‬
‫كل عظيم امرأة عظيمة أو أب عظيم أو أبوان عظيمان‪.1‬‬
‫ب ـ رعاية الوليد‪:‬‬
‫تبدأ رعاية الوليد من جماع األب ألم الوليد‪ ،‬فعن ابن عباس رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬لو أن أحدهم إذا أتى أهله‪ ،‬قال‪ :‬بسم اهلل‪ ،‬اللهم جنبنا الشيطان وجنب‬
‫الشيطان ما رزقتنا‪ ،‬فقضي بينهما ولد لم يضره الشيطان إن شاء اهلل»‪ ،2‬ومتى تمت الوالدة‬
‫بدأت التربية منذ اللحظة األولى من حياة الوليد‪ ،‬وهذا ما أرشد إليه الدين الحنيف وتفرد به‬
‫على سائر المناهج التربوية في العالم‪ ،‬وكلف الوالدين بإرساء الدعائم التربوية‪ ،‬التي سيتم‬
‫عليها بناء المستقبل‪ ،‬وهي آداب إسالمية‪ ،‬وسنن نبوية‪ ،‬ومنهج رباني‪ ،‬وأهم هذه اآلداب‪:‬‬
‫األدب األول‪ :‬األذان واإلقامة في أذني الوليد ليكون أول شيء يسمعه في هذا الوجود وهو‬
‫توحيد اهلل تعالى‪ ،‬الذي خلقه‪ ،‬وأوجده من نطفة فعلقة فمضغة في ظلمات ثالث‪ ،‬ليحقق الخالفة‬
‫في األرض ويبدأ بتنفيذ العهد الذي أخذه اهلل تعالى من بني آدم من ذريتهم وأشهدهم على‬
‫أنفسهم ‪﴿ :‬أَلَستَ بِرَِّبكُم قَالُوا بَلَى شَهِدنَا﴾ (األعراف‪ ،‬آية ‪.)172 :‬‬

‫األدب الثاني‪ :‬حسن اختيار االسم وهذا مسؤولية الوالدين لما ورد في األحاديث الشريفة‬
‫الكثيرة‪ ،‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويعلّمه‬
‫الكتابة ويزوجه إذا بلغ»‪.3‬‬
‫وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يغير األسماء القبيحة التي كانت في الجاهلية إلى أسماء‬
‫حسنة‪ ،‬وإن اختيار االسم الحسن عالمة بارزة في التربية غير المباشرة‪ ،‬ألن كل شخص له من‬
‫اسمه نصيب‪ ،‬إن خيراً فخير‪ ،‬وإن شراً فشر‪ ،‬باإلضافة إلى األمور النفسية التي بينها علماء‬
‫التربية عند المناداة باسم حسن أو قبيح وأثر ذلك على نفسية الطفل‪ ،‬وعالقته مع زمالئه وأفراد‬
‫مجتمعه‪.‬‬

‫‪ 1‬حقوق اإلنسان في اإلسالم للزجيلي‪ ،‬ص‪.242 :‬‬


‫‪ 2‬أخرجه الشيخان‪ ،‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬محمد نور سويد‪ ،‬ص‪.46 :‬‬
‫‪ 3‬رواه أبو نعيم في الحلية والديلمي في مسند الفردوس‪.‬‬

‫‪358‬‬
‫األدب الثالث‪ :‬تكريم الطفل بالعقيقة إلعالن السعادة والفرح والبشر بمقدم الطفل‪ ،‬وتكون العقيقة‬
‫بذبح شاة أو أكثر عن المولود يوم أسبوعه‪ ،‬إلطعام األهل واألقارب والجيران بهذه المناسبة‬
‫السعيدة‪ ،‬وتقديم الشكر هلل تعالى على فضله ونعمه‪ ،‬وقال جمهور العلماء‪ :‬العقيقة سنة‪.‬‬
‫ج ـ رعاية الطفل من الصغر‪:‬‬
‫وذلك في مأكله ومشربه وجسده وثيابه‪ ،‬ليكون صحيح العقل‪ ،‬سوي الجسم‪ ،‬سليم الحواس‪ ،‬فإن‬
‫حياة اإلنسان كل ال يتجزأ‪ ،‬وإن حياته الجسمية في الصغر مؤشر إلى حالته في الكبر‪ ،‬وإن‬
‫العقل الس ليم في الجسم السليم‪ ،‬واإلسالم يريد منا أن نربي أوالدنا على القوة والنشاط‪ ،‬يقول‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬المؤمن القوي خير وأحب إلى اهلل من المؤمن الضعيف‬
‫وفي كل خير»‪.1‬‬
‫وهذه القوة تتجلى بالمعنى المادي‪ ،‬كما تتجلى بالمعنى الروحي أيضاً بأن يكون الطعام طاهراً‬
‫ومبرءًا من كل حرام‪ ،‬فال يطعم األوالد إال من حالل وال تتغذى الحامل والمرضع واألم‬
‫الحاضنة إال من حالل‪ ،‬ألن اللبن أو الغذاء الحاصل من حرام ال بركة فيه‪ ،‬وكيف يقدام الوالد‬
‫إلى أوالده الغذاء الحرام‪ ،‬ثم يسعى إلى أن يكونوا على منهج اهلل‪ ،‬وصراط رب العالمين؟ فإن‬
‫الفاسد ال يؤدي إال إلى فساد‪ ،‬والحرام ال ينتج إال سوءاً وضرراً‪ ،‬كما أن الحرام ال يكون وسيلة‬
‫إلى المقاصد النبيلة والغاية ال تبرر الواسطة‪ ،‬وكل لحم نبت من السُحت فالنار أولى به‪ ،‬ويقول‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن اهلل طيبّ‪ ،‬ال يقبل إال طيباً‪ ،‬وإن اهلل أمر المؤمنين بما‬
‫ن الطَّيِّبَاتِ وَاعمَلُوا صَالِحًا﴾‪،‬‬ ‫أمر به المرسلين‪ ،‬فقال تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الرُّ ُ‬
‫سلُ كُلُوا مِ َ‬

‫وقال تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَِّيبَاتِ مَا رَزَقنَاكُم﴾‪ ،‬ثم ذكر الرجل يطيل‬

‫السفر‪ ،‬أشعث أغبر يم ّد يديه إلى السماء يا رب‪ ،‬يا رب‪ ،‬ومطعمه حرام‪ ،‬ومشربه حرام‪،‬‬
‫وغذّي بالحرام‪ ،‬فأنى يستجاب له؟»‪.2‬‬

‫‪ 1‬صحيح مسلم (‪.)215 /16‬‬


‫‪ 2‬صحيح مسلم (‪.)85 /11‬‬

‫‪359‬‬
‫ويظن كثير من اآلباء أن واجبهم تجاه األوالد ـ مقصور على تقديم القوت‪ ،‬والغذاء والكساء ـ‬
‫وأن يؤمنوا لهم العيش الرغيد‪ ،‬والحياة المادية المرهقة‪ ،‬فيقضي األب األيام والسنين منهمكاً في‬
‫الكسب‪ ،‬ويضرب في األرض للتجارة والعمل‪ ،‬وسعي ذات اليمين وذات الشمال‪ ،‬ويغيب عن‬
‫ال ويترك أوالده‪ ،‬ويغفل عن تربيتهم‪ ،‬ويظن أنهم صغار يكفيهم الطعام والشراب‬
‫بيته زمناً طوي ً‬
‫واللباس‪ ،‬فتكون النتيجة الضياع والحسرة‪ .‬وربط القرآن الكريم بين الكسب والرزق‪ ،‬ووجوب‬
‫التربية‪ ،‬وإن انصراف الوالدين بعض الوقت إلى تربية األوالد ال يؤثر على موارد رزقهم وال‬
‫ك‬
‫ن نَرزُقُ َ‬ ‫يبطل‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وَأمُر أَهلَكَ بِالصَّالَةِ وَاصطَبِر عَلَيهَا َ‬
‫ال نَسأَلُكَ رِزقًا نَّح ُ‬

‫وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقوَى﴾ (طه‪ ،‬آية ‪.1)132 :‬‬

‫د ـ البناء العقدي للطفل‪:‬‬


‫من خالل تعامل الرسول صلى اهلل عليه وسلم مع األطفال نجد أمور أساسية في تثبيت اإليمان‪:‬‬
‫ـ تلقين الطفل كلمة التوحيد‪.‬‬
‫ـ ترسيخ حب اهلل تعالى‪.‬‬
‫ـ ترسيخ حب النبي صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫ـ تعليم الطفل القرآن الكريم‪.‬‬
‫ـ ثبات الطفل على العقيدة والصحبة لها‪.‬‬
‫وليس الطريق في تقوية اإليمان وإثباته أن يعلم صنعة الجدل والكالم بل يشتغل بتالوة القرآن‬
‫وتفسيره وقراءة الحديث ومعانيه‪ ،‬ويشتغل بوظائف العبادات‪ ،‬فال يزال اعتقاده يزداد رسوخاً‬
‫بما يقرع سمعه من أدلة القرآن وحجبه‪ ،‬وبما يرد عليه من شواهد األحاديث وفوائدها‪ ،‬وبما‬
‫يسطع عليه من أنوار العبادات ووظائفها‪.2‬‬

‫‪ 1‬حقوق اإلنسان في اإلسالم للزحيلي‪ ،‬ص‪ 244 :‬ـ ‪.245‬‬


‫‪ 2‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.81 :‬‬

‫‪360‬‬
‫وذلك ألن كل مولود يولد على الفطرة اإليمانية‪ ،‬كيف ال واهلل يقول ‪﴿ :‬وَإِذ أَخَذَ رَبُّ َ‬
‫ك مِن‬

‫ظهُورِهِم ذُرِّيَّ َتهُم وَأَشهَدَهُم عَلَى أَنفُسِهِم أَلَستَ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى شَهِدنَا‬
‫بَنِي آدَمَ مِن ُ‬
‫أَن تَقُولُوا يَومَ القِيَامَ ِة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غَافِلِينَ﴾ (األعراف‪ ،‬آية ‪.)172 :‬‬

‫وإذا تأملنا صفحات القرآن نجد أن الرسل واألنبياء يعنون عناية كبيرة بسالمة عقيدة أبنائهم‬
‫ِي إِنَّ اهللَ اصطَفَى لَكُ ُم‬ ‫فمن ذلك قال تعالى‪﴿ :‬وَوَصَّى بِهَا إِبرَاهِي ُم بَنِيهِ َويَعقُو ُ‬
‫ب يَا بَن َّ‬

‫ُن إَالَّ َوأَنتُم مُّسلِمُونَ" (البقرة‪ ،‬آية ‪.)132 :‬‬


‫الدِّينَ فَالَ تَمُوت َّ‬

‫َي إِنَّهَا إِن تَكُ مِثقَا َل حَبَّة مِّن خَردَل فَتَكُن فِي‬
‫وهذا لقمان يرعى ابنه فيوصه ‪ ":‬يَا بُن َّ‬
‫ض يَأتِ بِهَا اهللُ إِنَّ اهللَ لَطِيف خَبِير﴾ (لقمان‪،‬‬
‫صَخرَة أَو فِي السَّمَوَاتِ أَو فِي األَر ِ‬

‫آية ‪.)16 :‬‬


‫وإن من اهتمام النبي صلى اهلل عليه وسلم باألطفال دعوتهم لإلسالم دائماً‪ ،‬حتى شق طريقه في‬
‫بناء جيل ضم علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه الذي آمن بدعوة النبي صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫ولم يتجاوز سن العاشرة‪ ،‬حتى أنه كان في زيارته وعيادته لألطفال المرضى يدعوهم إلى‬
‫اإلسالم وبحضور آبائهم‪.1‬‬
‫وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يزرع في نفوس أطفال األمة حب اهلل تعالى واالستعانة‬
‫به ومراقبته واإليمان بالقضاء والقدر‪ ،‬عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال‪ :‬كنت خلف النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يوماً فقال‪« :‬يا غالم إني أعلمك كلمات‪ ،‬احفظ اهلل يحفظك‪ ،‬إحفظ اهلل‬
‫تجده تجاهك‪ ،‬إذا سألت فاسأل اهلل وإذا استعنت فاستعن باهلل وأعلم أن األمة لو اجتمعت على‬
‫أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إال بشيء قد كتبه اهلل لك‪ ،‬وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء‬
‫لم يضروك إال بشيء قد كتبه اهلل عليك‪ ،‬رفعت األقالم وجفت الصحف»‪ ،2‬وفي رواية أخرى‪:‬‬
‫«ا حفظ اهلل تجده أمامك‪ ،‬تعرف إلى اهلل في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن ما أخطأك لم‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.83 :‬‬


‫‪ 2‬رواه أحمد والحاكم والطبراني‪ ،‬صحيح الجامع‪ ،‬رقم‪.7957 :‬‬

‫‪361‬‬
‫يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك وأعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب‬
‫وأن مع العسر يس ًرا»‪.1‬‬
‫فإذا ما حفظ الطفل هذا الحديث وفهمه جيداً‪ ،‬لم تقف أمامه عثرة‪ ،‬ولم يعقه شيء في مسيرة‬
‫حياته كلها فأي تربية هذه ـ قديمة وحديثة ـ تستطيع أن تبلغ من نفس الطفل كما بلغها هذا‬
‫الحديث‪ ،‬إن لهذا الحديث قوة كبيرة على حل مشاكل ـ األطفال والشباب والكهول والشيوخ ـ‬
‫بفضل تأثيره وروحانيته‪ ،‬وله القدرة في دفع الطفل نحو األمام بفضل استعانته باهلل ومراقبته له‬
‫وإيمانه بالقضاء والقدر‪.2‬‬
‫ـ والبد من العمل على ترسيخ محبة رسول اهلل في نفوس األطفال والشباب ورسم صورته‬
‫وشخصيته في أذهانهم وعقولهم وتمكين محبة رسول اهلل في قلوبهم‪ ،‬وتكون شخصية رسول‬
‫اهلل هي التي يقتدي بها األطفال والشباب والمسلمون عموماً‪.‬‬
‫ـ وينبغي لولي الصغير والصغيرة أن يبدأ بتعليمهما القرآن منذ الصغر وذلك ليتوجها إلى‬
‫اعتقاد أن اهلل تعالى هو ربهم وأن هذا كالمه تعالى‪ ،‬وتسري روح القرآن في قلوبهم ونوره في‬
‫أفكارهم ومداركهم وحواسهم وليتلقيا عقائد القرآن منذ الصغر وأن ينشأ ويشبا على محبة‬
‫القرآن والتعلق به واالئتمار بأوامره واالنتهاء عن مناهيه والتخلق بأخالقه والسير على‬
‫منهاجه‪.3‬‬
‫قال ابن خلدون‪ :‬تعليم الوالدان للقرآن شعار من شعائر الدين أخذ به أهالي الملة‪ ،‬ودرجوا عليه‬
‫في جميع أمصارهم لما يسبق إلى القلوب من رسوخ اإليمان وعقائده بسبب آيات القرآن ومتون‬
‫األحاديث‪ ،‬وصار القرآن أصل التعليم الذي يبني عليه ما يحصل من الملكات‪.4‬‬
‫وللقرآن الكريم تأثير كبير على النفس البشرية عامة‪ ،‬يهزها ويجذبها ويضرب على أوتارها‪،‬‬
‫وكلما اشتدت النفس صفاء كلما ازدادت تأثيراً والطفل أقوى الناس صفاء‪ ،‬وفطرته مازالت‬
‫نقية‪ ،‬والشيطان مازال في كبوتها تجاهها‪.1‬‬

‫‪ 1‬صحيح الجامع‪ ،‬رقم‪.87 :‬‬


‫‪ 2‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.87 :‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.104 :‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.105 :‬‬

‫‪362‬‬
‫ـ والبد من تربية األطفال والشباب على الثبات على العقيدة والتضحية من أجلها‪ ،‬فالعقيدة تغلو‬
‫بالتضحية لها‪ ،‬وكلما اتسعت دائرة التضحية كلما قويت النفس على الثبات‪ ،‬ودل ذلك على‬
‫الصدق‪ ،‬وهي عين االستقامة‪ ،‬وأطفال الصحابة وشبابهم ال يعرفون تكاسالً وال تثاقالً إلى‬
‫األرض‪ ،‬وإنما يستخدمون شتى األساليب لكي ال يستصغرهم النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فيردهم عن الجهاد‪ ،‬فتارة يبكون‪ ،‬وأخرى يتوارون‪ ،‬وثالثة يقفون على رؤوس أصابعهم‪ ،‬كل‬
‫ذلك ليخرجوا إلى الجهاد في سبيل اهلل وينالوا شهادة في سبيله ال يعدلها أي شهادة في الدنيا‬
‫على اإلطالق وبنوا مستقبالً زاهراً خالداً أبدياً في جنة عرضها السموات واألرض‪.2‬‬
‫هـ ـ البناء العبادي‪:‬‬
‫الطفولة ليست مرحلة تكليف وإنما هي مرحلة إعداد وتدريب وتعويد للوصول إلى مرحلة‬
‫التكليف عند البلوغ ليسهل عليه أداء الواجبات والفرائض وليكون على أتم االستعداد لخوض‬
‫غمار الحياة بكل ثقة وانطالق والعبادة هلل تعالى تفعل في نفس الطفل فعالً عجيباً‪ ،‬فهي تشعره‬
‫باالتصال باهلل جل وعال وهي تهدئ من ثوراته النفسية‪ ،‬وهي تلجم انفعاالته الغضبية فتجعله‬
‫سوياً مستقيماً‪ ،‬إذ كثافة الشهوات ضعيفة في تلك الفترة‪ ،‬مما يجعل روحه تتجاوب أكثر فأكثر‬
‫بمناجاة اهلل‪ ،‬ويأخذ الخشوع المساحة الكبرى من جسده وهو يرتل آية أو يسمعها‪ ،‬أو هو واقف‬
‫في الصالة أو ساجد فيها أو هو يسمع آذان اإلفطار ليبدأ بالطعام والشراب بعد أن صام يومه‪،‬‬
‫وهناك أسرار كثيرة للعبادة ال تعد وال تحصى تؤثر في الطفل مما يزيد قوته ونشاطه‪.3‬‬
‫وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬علِّموا الصالة ابن سبع سنين واضربوه عليها ابن‬
‫عشر»‪.4‬‬
‫وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يباشر بنفسه بتعليم األطفال ما يحتاجونه في الصالة‪ ،‬عن‬
‫الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اهلل عنهما قال‪ :‬علامني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫كلمات أقولهن في الوتر‪« :‬اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.108 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪ 114 :‬ـ ‪.119‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.123 :‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.124 :‬‬

‫‪363‬‬
‫وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت‪ ،‬فإنك تقضي وال يقضى عليك‪ ،‬إنه ال يذل من‬
‫واليت تباركت ربنا وتعاليت»‪.1‬‬
‫ـ وتدريب الصبي على صالة الجمعة تحصل له عدة فوائد منها‪:‬‬
‫*ـ عندما يبلغ يكون معتاداً على إقامتها‪.‬‬
‫*ـ تأثره بسماع الخطبة‪ ،‬إذ فطرته تكون حساسة اللتقاط أحاديث اإليمان وسيرة الرسول ـ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ـ كما تدريب له لسماع العلم‪.‬‬
‫*ـ يألف تجمعات المسلمين ويشعر بدخوله للمجتمع إذ البد أن يتعرف على من يعرفهم والده‪.‬‬
‫*ـ على رأي من قال بأن الساعة المستجابة في يوم الجمعة هي لحظة الخطبة فيكون من‬
‫الحاضرين لهذه الساعة المستجابة التي حداث عنها الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫*ـ تكون تغذية إيمانية وشحناً روحياً على إقامة الصلوات الخمس وطاعة اهلل بين الجمعة‬
‫والجمعة‪.‬‬
‫*ـ يتعرف بها على علماء األمة ودعاتها مما له كبير األثر في كبره فضالً عن صغره‪.‬‬
‫*ـ بصالة الجمعة يحصل له بناء شخصية بكامل عناصرها العقدية والعبادية واالجتماعية‬
‫والعاطفية والعلمية والجسمية والصحية‪.2‬‬
‫و ـ البناء االجتماعي‪:‬‬
‫وهو أن يكون الطفل متكيفاً مع وسطه االجتماعي سواء مع الكبار أو مع األصدقاء ومن هم في‬
‫سنه‪ ،‬ليكون فعالً إيجابياً بعيداً كل البعد عن االنطواء والخجل المقيت‪ ،‬يأخذ ويعطي بأدب‬
‫واحترام‪ ،‬يبيع ويشتري‪ ،‬ويخالط ويعاشر‪ ،‬ومن خالل التأمل في األحاديث النبوية‪ ،‬نجد هناك‬
‫أموراً خصها الرسول صلى اهلل عليه وسلم في تكوين الطفل اجتماعياً وهي‪:‬‬
‫ـ اصطحابه إلى مجالس الكبار‪:‬‬
‫كان األطفال يحضرون مجالس النبي صلى اهلل عليه وسلم وكان آبائهم يأخذونهم إلى تلك‬
‫المجالس الطيبة الطاهرة‪ ،‬ففي أخذ الطفل إلى مجالس الكبار تظهر نواقصه واحتياجه‪ ،‬فيستطيع‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.125 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.129 :‬‬

‫‪364‬‬
‫المربي عند ذلك توجيهه نحو الكمال ويشجعه على الجواب عندما يطرح سؤال فيتكلم بعد‬
‫استئذان وذلك بكل أدب ووقار‪ ،‬فيتكلم معهم‪ ،‬وينمو عقله وتتهذب نفسه ويتعرف إلى أحاديث‬
‫الكبار شيئاً فشيئاً فيتهيأ لدخول المجتمع وهكذا يندرج رويداً رويداً‪.1‬‬
‫ـ إرسال الطفل لقضاء الحاجات‪:‬‬
‫وهذا عامل هام في نشوء الطفل اجتماعياً‪ ،‬إذ أن قضاء الحاجات للمنزل أو ألحد الوالدين ذو‬
‫أثر فعال إيجابي في حياة الطفل‪ ،‬فعال في طفولته إذ هو يتعرف على مجاهيل الحياة‪ ،‬فيشعر‬
‫بفرح ونشوة المعرفة‪ ،‬وثقة في مواجهة األمور وفعال في مستقبله إذ يكون قد اكتسب مهارة‬
‫وخبرة في طفولته التي تمكنه من متابعة حياته بخطى ثابتة مركزة بدون خلل أو اضطراب‪،2‬‬
‫والبد من تدريب األطفال قضاء حاجات الوالدين ومتطلبات المنزل تنشأ لديهم حاسة جديدة‬
‫تتعرف مطالب الوالدين قبل أن يفصحا عن طلبهما‪.‬‬
‫ـ تعويد الطفل سنة السالم‪:‬‬
‫السالم هو التحية اإلسالمية بين المسلمين والطفل يتعرض للقاء الناس على اختالف‬
‫مستوياتهم‪ ،‬فهو يحتاج ليتعرف على مفتاح الكالم معهم ونالحظ أسلوباً لطيفًا من الرسول صلى‬
‫اهلل عليه وسلم وصحابته في غرس سنة السالم في نفس الطفل‪ ،‬عن أنس رضي اهلل عنه م ار‬
‫على صبيان فسلم عليهم وقال‪ :‬كان رسول اهلل يفعله‪ ،3‬وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يزور األنصار فيسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم ويدعو لهم‪.4‬‬
‫ـ عيادة الطفل إذا مرض‪:‬‬
‫مما يساعد على بناء الروابط االجتماعية لألطفال عيادتهم إذا مرضوا‪ ،‬فعندما يرى الطفل ‪-‬‬
‫وهو مازال في مرحلة الفطرة والصفا ـ أن الناس الكبار يأتون إليه فإنه يتعود هذه العادة‬
‫الحسنة‪ ،‬كما أنها تخفف من آالمه وأسقامه‪ ،‬وإذا دعمت هذه الزيارة بدعوة الطفل لإلسالم‬
‫وتثبيته على اإليمان‪ ،‬والتوبة والمغفرة إلى اهلل‪ ،‬فإن العيادة توتي أكلها كاملة مثمرة‪ ،‬مضاعفة‬

‫‪ 1‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.143 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.145 :‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.148 :‬‬
‫‪ 4‬صحيح الجامع رقم ‪.4947‬‬

‫‪365‬‬
‫األجر‪ ،‬وهذا ما فعله صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬عن أنس رضي اهلل عنه قال‪ :‬كان غالم يهودي‬
‫يخدم النبي صلى اهلل عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى اهلل عليه وسلم يعوده‪ ،‬فقعد عند‬
‫رأسه‪ ،‬فقال له‪« :‬أسلم»‪ ،‬فنظر إلى أبيه وهو عنده؟‪ .‬فقال ‪ :‬أطع أبا القاسم‪ ،‬فأسلم‪ ،‬فخرج النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم وهو يقول‪« :‬الحمد هلل الذي أنقذه من النار»‪ ،1‬وهكذا نجد منه صلى اهلل‬
‫عليه وسلم استغالل كل فرصة ليغرس شيئاً في نفس الطفل‪ ،‬وفي كل لقاء يعلمه علماً نافعاً‪،‬‬
‫وفي كل شاهدة يعوده على الخير‪.2‬‬
‫ـ اختيار الطفل أصدقاء له من األطفال‪:‬‬
‫من السنن االجتماعية الثابتة بين الناس‪ ،‬الصحبة والصداقة‪ ،‬فمن طبيعة النفس البشرية أن‬
‫تخالط الناس وتتعرف عليهم وتتخذ من بينهم ثلة تقترب منهم وتعيش معهم حياة األخوة‬
‫والمحبة‪ ،‬فإذا أحسن الوالدان اختيار الصديق الصالح لطفلهم فقد فتحا الباب تربوياً في إصالح‬
‫هذا الطفل وتنميته واختيار الطفل الصديق الصالح يساعد االبن على طاعة اهلل وزيادة السلوك‬
‫االجتماعي الصحيح‪.‬‬
‫ـ تعويد الطفل البيع والشراء‪:‬‬
‫إن ا هتمام الرسول صلى اهلل عليه وسلم بتكوين الطفل اجتماعياً واقتصادياً يتجلى في توجيهه‬
‫لكل ميادين الحياة‪ ،‬وتفاعل الطفل مع الواقع الجديد والمجتمع الجديد الذي ينشأ فيه‪ ،‬فعملية البيع‬
‫والشراء تكسبه حركة اجتماعية قوية‪ ،‬إذ يتعامل مع أطفال مثله‪ ،‬ويتعود كيفية النشوء في هذه‬
‫الحياة ويستفيد من وقته في شيء مفيد كما أنها تكسبه الثقة النفسية االجتماعية ويتحول إلى‬
‫إنسان سوي يتعلم الجد في الحياة شيئاً فشيئاً بعيداً عن الهزل‪ ،‬ويتعود األخذ والعطاء ويفهم‬
‫الحياة فهماً جيد اً صحيحاً بعيداً عن الدالل المفرط المقيت الذي يقتل األطفال أينما وجدوا‪ ،‬بل‬
‫إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ليدعو لهذا الطفل بأن يبارك اهلل له تجربته وفي صفقته‪،‬‬
‫روى أبو يعلي والطبراني عن عمرو بن حريث أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مرا بعبد اهلل‬
‫بن جعفر وهو يبيع بيع الغلمان أو الصبيان قال‪« :‬اللهم بارك له في بيعه»‪ ،‬أو قال‪« :‬في‬

‫‪ 1‬رواه البخاري‪ ،‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.149 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.149 :‬‬

‫‪366‬‬
‫صفقته»‪ .1‬هذا الطفل الشريف ابن الشريف ابن عم الرسول صلى اهلل عليه وسلم يبيع ويشتري‬
‫ولم يخجل من فعله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بل دعا له‪ ،‬أال ليت قومي يعلمون‪.2‬‬
‫ـ حضور األطفال الحفالت المشروعة واألعراس‪:‬‬
‫وهذا مكان تجمع آخر يذهب إليه األطفال فيتعارفون فيه على هذا الحفل الكريم‪ ،‬الذي سيكونون‬
‫يوماً أحد أعضائه األساسيين‪ ،‬فيشاهدون الكبار والصغار‪ ،‬ويسمعون األحاديث الودية واألفراح‬
‫الجميلة‪ ،‬فتبتهج نفوسهم وتتحرك مشاعرهم‪ ،‬وتصقل اجتماعيتهم‪ ،‬فهذا رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم يشاهد الصبيان في حفل الزفاف فيقرهم على مجيئهم وإقبالهم على الحضور‪ ،‬وال‬
‫ينكر عليهم ويدعو الحاضرين جميعاً فتشمل دعوته هؤالء األطفال‪ ،3‬وعن عبد العزيز بن‬
‫صهيب عن أنس رضي اهلل عنه أن النبي صلى اهلل عليه وسلم رأى الصبيان مقبلين ـ قال عبد‬
‫العزيز حسب أنه قال من عرس‪ ،‬فقام النبي صلى اهلل عليه وسلم ـ ممتن ًا فقال‪« :‬اللهم أنتم من‬
‫أحب الناس إليّ‪ ،‬اللهم أنتم من أحب الناس إليّ‪ ،‬اللهم أنتم أحب الناس إلي»‪ ،‬يعني‬
‫األنصار‪ ،4‬وبهذا تالحظ اهتمام الرسول صلى اهلل عليه وسلم في تكوين الطفل اجتماعياً وأخذه‬
‫إلى التجمعات االجتماعية وإلى المجالس وإلى أماكن األفراح كذلك ال بأس من اصطحابه إلى‬
‫أماكن العزاء‪.5‬‬
‫إن عملية البناء االجتماعي للطفل ركن هام في بناء شخصيته وتقويمها وتهذيبها واستقامتها‬
‫وأنها تحقق الثقة النفسية االجتماعية للطفل‪.6‬‬
‫ز ـ البناء األخالقي‪:‬‬
‫إن الصبي يولد على الفطرة الخالصة والطبع البسيط‪ ،‬فإذا قوبلت نفسه الساذجة بخلق من‬
‫األخالق انتقشت صورته في لَوحِها‪ ،‬ثم لم تزل تلك الصورة تمتد شيئاً فشيئاً إلى أن تأخذ‬
‫بجميع أطراف النفس‪ ،‬وتصير كيفية راسخة فيها‪ ،‬حائلة لها عن االنفعال بضدها‪ ،‬يؤيد هذا أنا‬

‫‪ 1‬رواه أبو يعلي والطبراني‪ ،‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.150 :‬‬
‫‪ 2‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.150 :‬‬
‫‪ 3‬منهج التربية النبوية‪ ،‬ص‪.151 :‬‬
‫‪ 4‬رواه البخاري‪ ،‬باب النكاح‪ ،‬منهج التربية النبوية‪ ،‬ص‪.151 :‬‬
‫‪ 5‬منهج التربية النبوية‪ ،‬ص‪.151 :‬‬
‫‪ 6‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.154 :‬‬

‫‪367‬‬
‫إذا رأينا في الغرباء من هو لطيف الخطاب جميل اللقاء مهذب األلمعية ال ترتاب في دعوى أنه‬
‫ممن أنبته اهلل في البيوت الفاضلة نباتًا حسن ًا‪.1‬‬
‫ـ وقال الشاعر صالح عبد القدوس‪:‬‬
‫وإن من أدبته في زمن الصبا‬
‫كالعود يبقي الماء في غرسه‬
‫حتى تراه مورقاً ناضراً‬
‫بعد الذي أبصرت منه يبسه‬
‫والشيخ ال يترك أخالقه‬
‫حتى يوارى في الثرى رمسه‬
‫إذا أرعوى عاد إلى جهله‬
‫‪2‬‬
‫كذي الضنا عاد إلى نكسه‬
‫إن غرس األدب حق الوالد على أبيه‪ ،‬كواجب حق الطعام والشراب‪ ،‬روى ابن ماجه عن ابن‬
‫عباس رضي اهلل عنهما عن النبي صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪« :‬أكرموا أوالدكم وأحسنوا‬
‫أدبهم»‪.3‬‬
‫وبيَّنت الشريعة اإلسالمية أهمية األدب مع الوالدين والعلماء وأدب احترام وتوقير الكبير وأدب‬
‫األخوة وأدب الجار‪ ،‬واالستئذان والطعام والشراب واللباس وأهمية خلق الصدق وحفظ‬
‫األسرار وسالمة الصدر من األحقاد‪ ،‬وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يتعامل مع‬
‫األطفال‪ ،‬يأمرهم وينهاهم‪ ،‬ويمازحهم ويلحق بهم‪ ،‬يقف خلف الطفل ويبتسم له ال يغضب في‬
‫وجههم‪ ،‬ال يعاتبهم‪ ،‬يرسخ عقيدة القضاء والقدر في نفوسهم‪ ،‬وعن أنس بن مالك رضي اهلل‬
‫عنه قال‪ :‬خدمت النبي صلى اهلل عليه وسلم عشر سنين واهلل ما قال لي أف قط وال قال لشيء‬
‫لم فعلت كذا وهال فعلت كذا‪ .‬وفي رواية مسلم ‪ :‬كان النبي صلى اهلل عليه وسلم من أحسن‬
‫الناس خلقاً فأرسلني يوماً لحاجة فقلت‪ :‬واهلل ال أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي‬
‫‪ 1‬السعادة العظمى‪ ،‬محمد الخضر حسين‪ ،‬ص‪.60 :‬‬
‫‪ 2‬منهج التربية النبوية‪ ،‬ص‪.159 :‬‬
‫‪ 3‬رواه ابن ماجه‪ ،‬منهج التربية النبوية‪ ،‬ص‪.160 :‬‬

‫‪368‬‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم فخرجت حتى أم ار على الصبيان وهم يلعبون في السوق‪ ،‬فإذا برسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم بقفاي من ورائي‪ ،‬فنظرت إليه وهو يضحك فقال‪« :‬أنس ذهبت حيث‬
‫أمرتك؟»‪ ،‬قال‪ :‬قلت‪ :‬نعم أنا أذهب يا رسول اهلل‪ ،‬قال أنس‪ :‬واهلل لقد خدمته تسع سنين ما علمته‬
‫ال فعلت كذا وكذا‪.1‬‬
‫قال لشيء صنعته لم فعلت كذا وكذا‪ ،‬أو لشيء تركته‪ :‬ه ا‬
‫وهذا إن دلَّ فإنما يدل على اهتمامه صلى اهلل عليه وسلم ببناء أخالق األطفال عملياً بالقدوة‬
‫الحسنة لهم فينشؤون أرسخ خلقاً‪ ،‬وأثبت عوداً أمام التحديات المادية التي تنتظرهم في واقع‬
‫المجتمع وفي حياة الناس فال يفرطون بأخالقهم اإلسالمية أمام عواصف التيارات المنحرفة‪،2‬‬
‫ويساهمون في بناء الدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية‪.‬‬
‫ح ـ البناء العاطفي للطفل‪:‬‬
‫إن البناء العاطفي للطفل له أهمية خاصة في بناء نفسية الطفل وتكوينه‪ ،‬وهذا البناء يلعبا فيه‬
‫الدور األكبر الوالدان‪ ،‬إذ هما المصدر األساسي ألشعة العاطفة التي تبني نفسه وهما الركن‬
‫الرشيد الذي يأوي إليه الطفل لينعم بحرارة العاطفة ونعمة األبوة واألمومة وبين رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم كيف تبني عاطفة الطفل ونؤدي له حقه ليكون إنساناً سوياً في مستقبله‬
‫ولذلك علمنا رسول اهلل في معاملة األطفال‪.‬‬
‫ـ القبلة والرحمة والرأفة بهم‪:‬‬
‫القبلة هي النور الساطع الذي يبهر فؤاد الطفل‪ ،‬ويشرح نفسه ويزيد من تفاعله مع من حوله‬
‫ال وأخيراً السنة الثابتة عن المصطفى صلى اهلل عليه وسلم مع‬
‫وتسكن ثورانه وغضبه ثم هي أو ً‬
‫األطفال‪ ،‬فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي اهلل عنها قالت‪ :‬قدم ناس من األعراب‬
‫على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقالوا‪ :‬أتقبلون صبيانكم؟‪ ،‬فقال‪« :‬نعم»‪ .‬قالوا‪ :‬لكنا واهلل‬
‫نقبل‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أو أملك إن كان اهلل نزع من قلوبكم‬
‫ما ِّ‬
‫الرحمة»‪.3‬‬

‫‪ 1‬رواه أحمد والبخاري ومسلم‪ ،‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.175 :‬‬
‫‪ 2‬منهج التربية النبوية‪ ،‬ص‪.175 :‬‬
‫‪ 3‬مسند أحمد (‪.)70 /6‬‬

‫‪369‬‬
‫وعن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬قبال النبي صلى اهلل عليه وسلم الحسين بن علي رضي‬
‫اهلل عنهما‪ ،‬فقال األقرع بن حابس‪ :‬إن لي عشرة من الولد ما قبالت منهم أحداً‪ ،‬فقال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من ال يَرحم ال يرحم»‪ ،1‬ومن صور رحمة الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم باألطفال ما أخرجه البخاري عن أنس رضي اهلل عنه‪« :‬إني ألدخل في الصالة وأنا أريد‬
‫أن أطيلها فأسمع بكاء صبي فأتجوز في صالتي لما أعلم من وجد أمه في بكائه»‪ ،2‬وعن أبي‬
‫قتادة رضي اهلل عنه قال‪ :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يصلي بالناس وهو حامل أمامة‬
‫بنت زينب بنت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها‪.3‬‬
‫ـ المداعبة والممارسة مع األطفال‪:‬‬
‫روى الطبراني عن جابر رضي اهلل عنه قال‪ :‬كنا مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فدعينا‬
‫إلى طعام فإذا الحسين يلعب في الطريق مع صبيان فأسرع النبي صلى اهلل عليه وسلم أمام‬
‫القوم ثم بسط يده فجعل يفرها هنا وهناك فيضاحكه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حتى أخذه‬
‫فجعل إحدى يديه في ذقنه واألخرى بين رأسه وأذنيه ثم اعتنقه وقباله‪ ،‬ثم قال‪« :‬حسين مني‬
‫وأنا منه أحب اهلل من أحبه الحسن والحسين سبطان من األسباط»‪.4‬‬
‫وأخذت األمة هذه األخالق من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حتى أن عمر رضي اهلل عنه‬
‫ليعزل أحد عماله عن الرئاسة ألنه وجد منه دليالً واضحاً على قسوة قلبه تجاه أوالده‪ ،‬فعن‬
‫محمد بن سالم قال‪ :‬استعمل عمر بن الخطاب رجالً على عمل‪ ،‬فرأى الرجل عمر يقبال صبي ًا‬
‫له‪ ،‬فقال الرجل‪ :‬تقباله وأنت أمير المؤمنين‪ :‬لو كنت أنا ما فعلته‪ ،‬قال عمر‪ :‬فما ذنبي إن كان‬
‫نزع من قلبك الرحمة‪ ،‬إن اهلل ال يرحم من عباده إال الرحماء‪ ،‬ونزعه عن عمله‪ ،‬فقال‪ :‬أنت ال‬
‫ترحم ولدك فكيف ترحم الناس‪.5‬‬
‫ـ الهدايا والعطايا لألطفال‪:‬‬

‫‪ 1‬رواه البخاري‪ ،‬منهج التربية النبوية‪ ،‬ص‪.180 :‬‬


‫‪ 2‬رواه الخمسة إال أبو داود‪ ،‬منهج التربية‪ ،‬ص‪.180 :‬‬
‫‪ 3‬صحيح الجامع رقم ‪.4797‬‬
‫‪ 4‬صحيح الجامع ‪ ،3146‬رواه البخاري في األدب والترمذي وابن ماجه والحاكم‪.‬‬
‫‪ 5‬كنز العمال (‪ )6 /583‬رواه الدينوري‪.‬‬

‫‪370‬‬
‫للهدايا أثر طيب في النفس البشرية عامة‪ ،‬وفي نفوس األطفال أكثر تأثيراً وأكبر وقعاً‪ ،‬وقد سن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قاعدة للحب بين الناس فنصح األمة بقوله‪« :‬تهادوا تحابوا»‪.1‬‬
‫وهذا قانون عام‪ ،‬والرسول صلى اهلل عليه وسلم بين لنا عملياً هذا الركن القوي في بناء عاطفة‬
‫الطفل وتحريكها وتوجيهها وتهذيبها‪.2‬‬
‫ـ مسح رأس الطفل وحسن استقباله‪:‬‬
‫إن النبي صلى اهلل عليه وسلم كان يداعب عواطف األطفال بمسح رؤوسهم فيشعرون بلذة‬
‫الرحمة والحنان والحب والعطف األمر الذي يشعر الطفل بوجوده وحب الكبار له واهتمامهم‬
‫به‪ ،‬ففي زوائد ابن حبان عن أنس رضي اهلل عنه قال‪ :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يزور األنصار ويسلم على صبيانهم ويمسح رؤوسهم‪.3‬‬
‫وعن عبد اهلل بن جعفر رضي اهلل عنهما قال‪ :‬مسح رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بيده على‬
‫رأسي‪ ،‬قال‪ :‬أظنه قال ثالثاً فلما مسح قال‪« :‬اللهم اخلف جعفراً في ولده»‪.4‬‬
‫وعن عبد اهلل بن جعفر رضي اهلل عنه قال‪ :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا قدم من‬
‫سفر تلقى الصبيان من أهل بيته‪ ،‬وأنه جاء من سفر فسبق بي إليه‪ ،‬فحملني بين يديه ثم جيء‬
‫بأحد ابني فاطمة الحسن أو الحسين رضي اهلل عنهما فأردفه خلفه فدخلنا المدينة ثالثة على‬
‫دابة‪.5‬‬
‫ـ الرعاية الخاصة بالبنت واليتيم‪:‬‬
‫من القواعد األساسية في تربية البنت‪.‬‬
‫*ـ النهي عن كراهية البنت‪:‬‬
‫صحح القرآن الكريم النظرة والتصور عن البنات والتي كانت ومازالت ذائعة الصيت في‬
‫فوجه العقول إلى تصحيح النظرة إليها وتعديل التصور عنها‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫المجتمعات الجاهلية َّ‬

‫‪ 1‬المقاصد الحسنة‪ ،‬رقم‪.352 :‬‬


‫‪ 2‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.184 :‬‬
‫‪ 3‬صحيح الجامع‪ ،‬رقم‪.4947 :‬‬
‫‪ 4‬الحاكم في المستدرك (‪ ،)372 /1‬منهج التربية النبوية‪ ،‬ص‪.185 :‬‬
‫‪ 5‬صحيح الجامع رقم ‪.4765‬‬

‫‪371‬‬
‫ن القَومِ مِن‬ ‫﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِاألُنثَى ظ َّ‬
‫َل وَجهُ ُه مُسوَدًّا وَ ُه َو كَظِيم * يَ َتوَارَى مِ َ‬

‫ال سَاء مَا يَح ُكمُونَ﴾‬


‫سُوءِ مَا بُشِّ َر بِ ِه أَيُمسِكُهُ عَلَى هُون أَم يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَ َ‬

‫(النحل ‪ ،‬آية ‪ 58 :‬ـ ‪.)59‬‬


‫هز النفس البشرية وسألها وسأل ضميرها‪ ،‬لتستيقظ من جهلها‪.1‬‬
‫ثم َّ‬
‫أما رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال‪« :‬إن اهلل كره لكم ثالثاً عقوق األمهات ووأد البنات‬
‫ض‬ ‫ومنع وهات»‪ ،2‬وفي ختام هذه القاعدة نذكار بقول اهلل تعالى‪ِ ﴿ :‬‬
‫هلل مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَاألَر ِ‬

‫جهُم ذُكرَانًا‬
‫ب لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ* أَو يُزَوِّ ُ‬
‫ب لِمَن يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَ ُ‬
‫ق مَا يَشَاء يَهَ ُ‬
‫يَخلُ ُ‬
‫وَإِنَاثًا َويَجعَ ُل مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيم قَدِير﴾ (الشورى‪ ،‬آية ‪ 49 :‬ـ ‪.)50‬‬

‫وقد قال اهلل تعالى في حق النساء ‪﴿ :‬فَإِن كَرِه ُتمُوه َّ‬


‫ُن فَعَسَى أَن تَكرَهُوا شَيئًا وَيَج َع َل اهللُ‬

‫فِيهِ خَيرًا كَثِيرًا﴾ (النساء‪ ،‬آية ‪ .)19 :‬وهكذا البنات قد يكون للعبد فيهن خير في الدنيا‬

‫واآلخرة‪ ،‬ويكفي في قبح كراهتهن أن يكره ما رضيه اهلل وأعطاه عبده‪ ،‬فالخيرة فيما اختاره اهلل‬
‫للعبد‪ ،‬ال فيما اختاره لنفسه‪.3‬‬
‫ـ المساواة بين الذكر واألنثى وعدم المفاضلة بينهما في التعامل‪:‬‬
‫جعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم المساواة في المعاملة بين األوالد سبب في دخول الجنة‬
‫وذلك في عدم إيثار الصبي على البنت وإنما هم في الحب سواء وفي العطاء سواء وفي تقديم‬
‫الهدايا والمال سواء وفي التعليم سواء وفي المعاملة سواء وحتى في القبلة سواء بسواء‪ ،‬وروى‬
‫أبو داود عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من كانت‬
‫له أنثى فلم يئدها ولم يهينها ولم يؤثر ولده ـ يعني الذكر ـ عليها أدخله اهلل الجنة»‪.4‬‬

‫‪ 1‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.189 :‬‬


‫‪ 2‬مجمع الزوائد للهيثمي (‪ ،)147 /8‬رجاله رجال الصحيح‪.‬‬
‫‪ 3‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.191 :‬‬
‫‪ 4‬سنن أبي داود‪ ،‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.191 :‬‬

‫‪372‬‬
‫ال كان عند النبي صلى اهلل عليه وسلم فجاء ابن له فقبَّله‬
‫وعن أنس رضي اهلل عنه أن رج ً‬
‫وأجلسه على فخده وجاءت بنت له فأجلسها بين يديه‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال‬
‫سويت بينهم»‪.1‬‬
‫بهذه الدقة النبوية في التعامل مع الصبي والبنت مما ال تعرفه جميع المجتمعات البشرية‪ ،‬وال‬
‫تعلمه الكتب الغربية في تربية األطفال وال يخطر على عقول من يسمون أنفسهم علماء النفس‬
‫التربويين‪.2‬‬
‫*ـ أجر التربية واإلحسان والصبر على البنات‪:‬‬
‫لم تقف الشريعة اإلسالمية في مواجهة النفس البشرية لتعاكسها وإنما لتهذيبها ففي مقابل تربية‬
‫البنات كان األجر الكبير‪ ،‬وفي مقابل الصبر عليهن الثواب العظيم‪ ،‬وذلك ليسكن من ألم‬
‫الوالدين‪ ،‬ويرطب من خاطرهما ويشعرهما بأهمية عملهما ودورهما في هذه الرعاية والعناية‬
‫لهن‪.3‬‬
‫روى اإلمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهني يقول‪ :‬سمعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يقول‪ « :‬من كانت له ثالث بنات فصبر عليهن فأطعمهن وسقاهن وكساهن من جدته كان له‬
‫حجاباً من النار يوم القيامة »‪ ، 4‬فالبنت أم المستقبل ومؤسسة المجتمع في الغد القريب‪،‬‬
‫وصانعة األبطال‪ ،‬ومؤثرة في حركة التاريخ في القريب العاجل‪.5‬‬
‫ـ تربية اليتيم واليتيمة‪:‬‬
‫يعراف النبي صلى اهلل عليه وسلم مرحلة اليتيم بأنها دون سن االحتالم‪ ،‬فإذا حصل اإلحتالم‬
‫فعند ذلك انتفت عن الطفل صفة اليتيم‪ ،‬روى أبو حنيفة في مسنده عن أنس رضي اهلل عنه قال‪:‬‬

‫‪ 1‬مجمع الزوائد (‪.)156 /8‬‬


‫‪ 2‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.191 :‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.192 :‬‬
‫‪ 4‬رواه ابن ماجة‪ ،‬صحيح الجامع‪ ،‬رقم‪.6488 :‬‬
‫‪ 5‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.192 :‬‬

‫‪373‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال يتم بعد حلم»‪ ،1‬وعن علي بن أبي طالب رضي اهلل‬
‫عنه قال‪ :‬حفظت عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال يتم بعد إحتالم‪.2‬‬

‫وتتلخص تربية اليتيم في قواعد من أهمها‪:‬‬


‫*ـ أجر رعاية اليتيم وتربيته‪:‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أنا وكافل‪ 3‬اليتيم في الجنة هكذا» وأشار بالسبابة‬
‫والوسطى وفرج بينهما‪.4‬‬
‫*ـ حفظ مال اليتيم والتجارة بماله‪:‬‬
‫ي‬ ‫عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال‪ :‬لما أنزل اهلل ‪﴿:‬وَ َ‬
‫ال تَقرَبُوا مَالَ اليَتِي ِم إِالَّ بِالَّتِي هِ َ‬

‫ن حَتَّى يَبلُ َغ أَشُدَّهُ﴾ (اإلسراء‪ ،‬آية ‪.)34 :‬‬


‫أَحسَ ُ‬

‫ن فِي بُطُونِهِم نَارًا‬ ‫وقوله تعالى‪﴿ :‬إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُو َ‬


‫ن أَموَا َل اليَتَامَى ظُلمًا إِنَّمَا يَأكُلُو َ‬

‫ن سَعِيرًا﴾ (النساء‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬


‫وَسَيَصلَو َ‬

‫قال‪ :‬انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه‪ ،‬فجعل يفضل الشيء‬
‫من طعامه وشرابه فيحبس حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول اهلل صلى‬
‫ك عَنِ اليَتَامَى قُل إِصالَح لَّهُم خَير وَإِن ُتخَالِطُوهُم فَإِخوَا ُنكُم﴾‬
‫اهلل عليه وسلم فأنزل‪﴿ :‬وَيَسأَلُونَ َ‬
‫(البقرة‪ ،‬آية ‪ .)220 :‬وخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم‪.5‬‬
‫وعن مالك بن أنس رضي اهلل عنه أن عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه قال‪ :‬اتجروا في أموال‬
‫اليتامى ال تأكلها الصدقة‪.6‬‬

‫‪ 1‬عقود الجواهر المنيفة (‪ )94 /2‬للزبيدي‪.‬‬


‫‪ 2‬جامع األصول (‪ )642 /11‬حسن بشواهده‪.‬‬
‫‪ 3‬كافل‪ :‬القائم بأموره‪.‬‬
‫‪ 4‬صحيح ورواه أحمد وأبو داود والترمذي‪.‬‬
‫‪ 5‬الحاكم في مستدركه (‪.)303 /2‬‬
‫‪ 6‬مالك في الموطأ‪ ،‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.195 :‬‬

‫‪374‬‬
‫وهكذا وجدنا اهتمام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بكل من الضعيفين البنت واليتيم فوجه‬
‫األمة إلى زيادة االهتمام بهما والحرص عليهما واإلحسان لهما‪ ،‬وأنها مكرمة أي مكرمة‪.1‬‬

‫ـ البناء الجسمي‪:‬‬

‫قال عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه‪ :‬علموا أوالدكم السباحة والرماية وأن يثبوا على الخيل‬
‫وثباً‪.2‬‬

‫ف عبد اهلل وعبيد اهلل وكثير من بني العباس رضي‬


‫ص ُّ‬
‫وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يَ ُ‬
‫اهلل عنهم ثم يقول‪« :‬من سبق إلي فله كذا وكذا»‪ ،‬فيسبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره‬
‫فيقبلهم ويلتزمهم‪.3‬‬

‫وقد شاهد صلى اهلل عليه وسلم مصارعة الغالمين قبل غزوة أحد عندما اعترض أحدهما على‬
‫اآلخر لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لقبوله االشتراك في المعركة وعدم قبول المعترض‪،‬‬
‫وكان فيما قال‪ :‬يا رسول اهلل كيف تقبله وأنا إن صارعته صرعته‪ ،‬فتصارعا أمامه وغلبه كما‬
‫قال‪ ،‬فقبلهما رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في دخول المعركة‪ ،4‬وللعب عدد من الفوائد‬
‫والقيم‪:‬‬

‫ـ أن اللعب النشيط ضروري لنمو العضالت للطفل‪ ،‬من خالل اللعب يتعلم مهارات االكتشاف‬
‫وتجميع األشياء‪.‬‬

‫ـ أن اللعب يفسح المجال أمام الطفل كي يتعلم الشيء الكثير من خالل أدوات اللعب المختلفة‬
‫كمعرفة الطفل لألشكال المختلفة واأللوان واألحجام والمالبس‪.‬‬

‫‪ 1‬منهج التربية النبوية‪ ،‬ص‪.196 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.211 :‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.212 :‬‬
‫‪ 4‬منهج التربية النبوية‪ ،‬ص‪.214 :‬‬

‫‪375‬‬
‫ـ يصرف الطفل عن طريق اللعب التوتر الذي يتولد نتيجة القيود المختلفة التي تفرض عليه‪،‬‬
‫ولذا نجد أن األطفال الذين يأتون من بيوت تكثر فيها القيود واألوامر والنواهي‪ ،‬يلعبون أكثر‬
‫من غيرهم من األطفال كما أن اللعب وسيلة من أحسن الوسائل لتصريف العدوان المكبوت‪.‬‬

‫ـ يكتشف الطفل عن طريق اللعب الشيء الكثير من نفسه كمعرفة قدرته ومهارته من خالل‬
‫تعامله مع زمالئه ومقارنة نفسه بهم‪ ،‬كما أنه يتعلم من مشاكله كيف يمكنه مواجهتها‪.‬‬

‫ـ يستطيع الطفل عن طريق اللعب أن يعبر عن طاقاته اإلبداعية‪.‬‬

‫ـ يتعلم الطفل من خالل اللعب بدايات مفاهيم الخطأ والصواب‪ ،‬كما يتعلم بشكل مبدئي بعض‬
‫المعايير الخلقية‪ ،‬كالعدل والصدق واألمانة وضبط النفس والروح الرياضية‪.‬‬

‫ـ يتعلم الطفل من خالل اللعب كيف يبني عالقات اجتماعية مع اآلخرين ويتعلم كيفية التعامل‬
‫معهم بنجاح‪ ،‬كما أنه يتعلم من خالل اللعب التعاوني واللعب مع الكبار األخذ والعطاء‪.1‬‬

‫ط ـ البناء العلمي والفكري‪:‬‬

‫وضع النبي صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬قاعدة أصلية لكسب مرحلة الطفولة في التعليم وطلب العلم‪،‬‬
‫فجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة‪ ،‬سواء كان صغيراً أم كبيراً رجالً أو امرأة‪،‬‬
‫صبياً أم بنتاً وهو أفضل العبادات التي يتقرب فيها العبد من ربه‪ ،‬لهذا كانت فترة الطفولة ـ‬
‫والشب اب ـ أخصب فترة في البناء العلمي والفكري وكل العلوم النافعة مطلوبة‪ ،‬وتبقى تعلم‬
‫القرآن والسنة والعقائد واللغة والفقه ‪...‬الخ من األمور ذات األهمية بمكان‪ ،‬وبعد أن يتقن‬
‫الطفل اللغة العربية بشكل جيد ويحفظ شيئاً من القرآن والحديث‪ ،‬فال مشكلة بأن يتقن لغة أجنبية‬
‫سائدة‪ ،‬وذلك لتكوين جيل مسلم يستطيع كشف خطط األعداء ويأمن مكرهم‪ ،‬وينقل العلوم‬
‫المادية البحتة إلى المسلمين‪ ،‬وهذا ما فعله رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬أول ما وصل‬
‫المدينة المنورة مهاجراً من مكة‪ ،‬فقد روى أبو يعلي وابن عساكر عن زيد بن ثابت رضي اهلل‬

‫‪ 1‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.216 :‬‬

‫‪376‬‬
‫عنه قال أُتي بي النبي صلى اهلل عليه وسلم مقدمه المدينة فقالوا‪ :‬يا رسول اهلل‪ :‬هذا غالم من‬
‫بني النجار وقد قرأ مما أنزل عليك سبع عشرة سورة‪ ،‬فقرأت على رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ـ فأعجبه ذلك قال‪« :‬يا زيد تعلّم لي كتاب يهود واهلل ما آمن يهود على كتابي»‪ ،‬فتعلمته‬
‫فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته‪ ،‬فكنت أكتب لرسول اهلل ـ صلى اهلل عليه وسلم ـ إذا‬
‫كتب وأقرأ كتابهم إذا كتبوا إليه‪ .1‬وفي رواية أخرى عن زيد قال لي رسول اهلل صلى عليه‬
‫وسلم‪« :‬أتحسن السريانية فإنها تأتيني كتب؟» قلت‪ :‬ال‪ ،‬قال‪« :‬فتعلمها»‪ ،‬فتعلمتها في سبعة‬
‫عشر يوماً‪.2‬‬

‫ي ـ البناء الصحي للطفل‪:‬‬

‫من أسس البناء الصحي للطفل‪ ،‬رياضة السباحة والرماية‪ ،‬وركوب الخيل والمصارعة وغير‬
‫ذلك من أنواع الرياضة النافعة‪ ،‬وتعويد الطفل سنة السواك‪ ،‬واستخدام معجون األسنان‬
‫واهتمامه بالنظافة وتقليم األظافر‪ ،‬واتباع السنة النبوية في األكل والشرب‪ ،‬قال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ما مأل ابن آدم وعاء شراً من بطنه‪ ،‬بحسب ابن آدم لقيمات يقمن‬
‫صلبه فإن كان ال محالة‪ ،‬فثلث لطعامه‪ ،‬وثلث لشرابه‪ ،‬وثلث لنفسه»‪.3‬‬

‫والنوم على الشق األيمن وهو ركن صحي نبوي في حياة المسلم وله فوائد صحية كثيرة‪،‬‬
‫فالرسول ـ صلى اهلل عليه وسلم ـ يوصي صحابته بذلك‪« :‬إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك‬
‫للصالة ثم اضجع على شقك األيمن وقل‪ :‬اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك‪،‬‬
‫وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك‪ ،‬رغبة ورهبة إليك‪ ،‬ال ملجأ وال منجى إال إليك‪،‬‬
‫آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت‪ ،‬واجعلهن آخر ما تقول»‪.4‬‬

‫والنوم بعد العشاء واالستيقاظ المبكر لصالة الفجر وإبعاد األطفال عن األمراض المعدية‪،‬‬
‫وتعويذ األطفال من العين الحاسدة والجن‪ ،‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ـ يعوِّذ الحسن‬
‫‪ 1‬سلسلة األحاديث الصحيحة رقم ‪.187‬‬
‫‪ 2‬سنن أبي داوود منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.232 :‬‬
‫‪ 3‬جامع األصول (‪ )410 / 7‬المستدرك للحاكم وصححه الذهبي‪.‬‬
‫‪ 4‬البخاري ومسلم‪ ،‬منهج التربية النبوية‪ ،‬ص‪.246 :‬‬

‫‪377‬‬
‫والحسين‪« :‬أعيذكما بكلمات اهلل التامة‪ ،‬من كل شيطان وهامة‪ ،‬ومن كل عين المَّة»‪ ،‬فيقول‬
‫«إنَّ أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق»‪.1‬‬

‫وسرعة معالجة الطفل المريض‪ ،‬وعيادته وعالجه بالدعاء والرِّقي‪ ،2‬هذا كله من هدي النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم في البناء الصحي للطفل‪.‬‬

‫ك ـ تهذيب الجانب الجنسي للطفل‪:‬‬

‫الدافع الجنسي خلقه اهلل تعالى في النفس البشرية ليكون سبباً في استمرار الكائنات الحية‬
‫جميعها ومن بينها اإلنسان‪ ،‬وقد خصَّ اهلل تعالى زمناً معيناً لتفجير هذه الطاقة في اإلنسان‬
‫ليصبح قادراً على اإلنجاب‪ ،‬وسمى الشرع الحنيف هذه السن بسن التكليف‪ ،‬أي بدخول الطفل‬
‫ال عن تصرفاته‪ ،‬محاسباً على أعماله‪.‬‬
‫هذا السن يصبح مسؤو ً‬

‫ولكي يسير الدافع الجنسي في نفس الطفل بشكل هادىء‪ ،‬بال تهيجات خارجية تغذيه نحو‬
‫االنحراف عن السلوك القويم‪ ،‬رعى اإلسالم هذا الطفل وطالبه بأوامر ونواهي وذلك لكي‬
‫يتهذب الدافع الجنسي‪ ،‬ويبقى متوازناً ظاهرًا بال انحراف نقيًا بال تلوث‪.‬‬

‫خصها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم في تهذيب الطفل جنسياً‬
‫َّ‬ ‫ومن القواعد الضابطة التي‬
‫وُتبقي فطرته نظيفة طاهرة عفيفة لم تخدشها الجاهلية بمستنقعها اآلسن‪.3‬‬

‫ــ استئذان الطفل في الدخول‪:‬‬

‫ن لَم يَبُلغُوا الحُلُمَ‬


‫ن مَلَكَت أَيمَانُكُم وَالَّذِي َ‬ ‫قال تعالى‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا الَّذِي َ‬
‫ن آمَنُوا لِيَستَأذِنكُ ُم الَّذِي َ‬

‫ن ثِيَا َبكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ َومِن بَع ِد‬


‫ن تَضَعُو َ‬
‫ث مَرَّات مِن قَب ِل صَالَةِ الفَجرِ َوحِي َ‬
‫مِنكُم ثَالَ َ‬
‫ن عَلَيكُم‬
‫ال عَلَيهِم جُنَاح بَع َدهُنَّ طَوَّافُو َ‬
‫ث عَورَات لَّكُم لَيسَ عَلَيكُم وَ َ‬
‫صَالَةِ العِشَاء ثَالَ ُ‬
‫ن اهللُ لَكُ ُم اآليَاتِ وَاهللُ عَلِيم حَكِيم * وَإِذَا بَلَغَ األَطفَا ُل‬
‫بَعضُكُم عَلَى بَعض كَ َذلِكَ ُيبَيِّ ُ‬
‫‪ 1‬الحاكم في المستدرك (‪ )167 / 3‬صحيح على شرط الشيخين‪.‬‬
‫‪ 2‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪ 248 :‬إلى ‪.256‬‬
‫‪ 3‬منهج التربية للطفل‪ ،‬ص‪.259 :‬‬

‫‪378‬‬
‫ن اهللُ لَكُم آيَاتِ ِه وَاهللُ عَلِيم‬
‫ك يُبَِّي ُ‬
‫مِنكُ ُم الحُلُمَ فَليَستَأذِنُوا كَمَا استَأذَنَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم كَذَلِ َ‬
‫حَكِيم﴾ (النور ‪ ،‬آية ‪ 58 :‬ـ ‪.)59‬‬

‫في هذه األوقات الثالثة ال بد أن يستأذن الخدم وأن يستأذن الصغار المميزون الذين لم يبلغوا‬
‫الحلم‪ ،‬كي ال تقع أنظارهم على عورات أهليهم وهو أدب يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية‪،‬‬
‫مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية‪ ،‬ظانين أن الخدم ال تمتد أعينهم إلى عورات‬
‫السادة‪ ،‬وأن الصغار قبل البلوغ ال ينتبهون لهذه المناظر‪ ،‬بينما يقرر النفسيون اليوم ـ بعد تقدم‬
‫العلوم النفسية ـ أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار األطفال في صغرهم هي التي تؤثر في‬
‫حياتهم كلها‪ ،‬وقد تصيبهم بأمراض نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها‪.1‬‬
‫تعويد الطفل غض البصر وحفظ العورة‪:‬‬
‫ي اعود الطفل على غض البصر عن العورات كافة المنزلية والخارجية‪ ،‬ويربى على مراقبة اهلل‬
‫له‪ ،‬كما فعل الطفل الصالح عبد اهلل التستري الذي كان ورده القلبي قبل أن ينام‪« :‬اهلل شاهدي‪،‬‬
‫اهلل ناظري‪ ،‬اهلل معي» فإن ذلك يورث حالوة اإليمان يجدها الطفل في نفسه‪ ،‬وفي رواية ابن‬
‫جرير في تهذيب اآلثار أن العباس قال للنبي صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬رأيتك تصرف وجه ابن‬
‫عمك‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬رأيت جارية حدثة وغالماً حدث ًا فخشيت أن‬
‫يدخل بينهما الشيطان»‪.2‬‬
‫وقد ذكر الشيخ عبد الحميد كشك في إحدى خطبه قول أحد علماء األلمان حول أهمية غض‬
‫البصر وأنه هو العالج الوحيد للجنس قوله‪ :‬لقد درست علم الجنس وأدوية الجنس فلم أجد دواء‬
‫أنجح وأنجع من القول في الكتاب الذي نزل على محمد صلى اهلل عليه وسلم‪﴿ :‬قُل لِّلمُؤ ِمنِي َ‬
‫ن‬

‫جهُم ذَلِكَ أَزكَى لَهُم إِنَّ اهللَ خَبِير بِمَا يَص َنعُونَ﴾‬
‫يَغُضُّوا مِن أَبصَارِهِم وَيَح َفظُوا فُرُو َ‬

‫(النور ‪ ،‬آية ‪.)30 :‬‬

‫‪ 1‬في ظالل القرآن ج (‪.)123 / 18‬‬


‫‪ 2‬صحيح ابن خزيمة (‪.)461 / 4‬‬

‫‪379‬‬
‫أما ستر العورة‪ ،‬فإن الطفل يتعودها مع بداية أمره بالصالة حيث ال بد أن يكون لباسه ساتراً‬
‫لعورته وذلك لتكون صالته صحيحة سليمة من صغره‪ ،‬وبالتالي ينشأ على حب ستر العورة‬
‫صبياً كان أم بنتاً‪ ،‬فالصبي يلبس ما يستر عورته والبنت كذلك‪ ،‬وتزيد عليه أن تتعود الحجاب‬
‫فتبدأ بحجاب الصالة‪ ،‬وهكذا ينشأ الطفل مستقيماً صالحاً مهذبة نفسه‪ ،‬قويمة أخالقه‪ ،‬قوياً في‬
‫إيمانه‪.1‬‬
‫ــ التفريق في المضاجع بين األطفال‪:‬‬
‫روى أبي داود بسند حسن عن النبي صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬مروا أوالدكم بالصالة وهم أبناء‬
‫سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين‪ ،‬وفرِّقوا بينهم في المضاجع»‪.2‬‬
‫إذن هذا التفريق يبدأ في سن العاشرة حيث تكون الغريزة في طريقها للنمو‪ ،‬ولذلك وجب عدم‬
‫نوم الطفلين في لحاف واحد‪ ،‬ألن النوم في فراش واحد تحت لحاف واحد يؤدي باألطفال أن‬
‫تنمو فيهم الغريزة الجنسية بسرعة متزايدة‪ ،‬وأن تتأجج فال تجد طريقاً إلنقاذها إال ببعض‬
‫مظاهر االنحراف والشذوذ الجنسي‪ ،‬وكم تحدث شذوذات تحت اللحاف ال يشعر بها األبوان‪،‬‬
‫فتكون سبباً في دمار هؤالء األطفال األبرياء الذين تساهل آباءهم عن أحوالهم فوضعوهم في‬
‫مخالفة أوامر النبي صلى اهلل عليه وسلم‪.3‬‬
‫ــ نوم الطفل على شقه األيمن وابتعاده عن النوم على بطنه‪:‬‬
‫اتباع سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالنوم على الشق األيمن يبعد الطفل عن كثير من‬
‫المهيجات الجنسية أثناء النوم‪ ،‬وقد وصف صلى اهلل عليه وسلم النوم على الوجه بنومة‬
‫الشيطان‪ ،‬فإذا نام الطفل على بطنه فيؤدي ذلك إلى كثرة حك أعضاءه التناسلية التي تثير‬
‫شهوته في هذا الحالة‪ ،‬فإذا وجد الوالدان الطفل في هذه الحالة نائماً غيَّرا من حالته‪ ،‬وحببوا إليه‬
‫النوم على الشق األيمن واالبتعاد عن النوم على الصدر‪ ،‬فضالً عن النوم عن الصدور يورث‬

‫‪ 1‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.263 :‬‬


‫‪ 2‬سنن أبي داوود‪ ،‬مستدرك الحاكم (‪ ،)201 / 1‬صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي‪.‬‬
‫‪ 3‬منهج التربية النبوية للطفل‪ ،‬ص‪.264 :‬‬

‫‪380‬‬
‫كثيراً من األمراض الجسمية واألطباء جميعاً بدون استثناء ينصحون باالبتعاد عن النوم على‬
‫البطن‪.1‬‬
‫والبد من الوالدين ومن عقالء المجتمع إبعاد األطفال من االختالط والمهيجات الجنسية والبد‬
‫من تعليم األطفال فروض الغسل وسننه‪ ،‬وشرح سورة النور وتحفيظها للطفل المميز‪ ،‬قال عمر‬
‫بن الخطاب رضي اهلل عنه‪ :‬ال تدخلن امرأة مسلمة الحمام إال من سقم‪ ،‬وعلموا نساءكم سورة‬
‫النور‪ ،2‬والبد من المصارحة الجنسية والتحذير من الفاحشة‪ ،‬فالطفل يعلم ويحفظ سورة النور‬
‫التي تتضمن البناء ا لخلقي والتهذيب الجنسي للطفل‪ ،‬وتحذره من الوقوع في الفاحشة‪ ،‬وبعد‬
‫تعلمه فرائض الغسل وإسقاط الجنابة‪ ،‬يحذر تحذيراً شديداً من الوقوع في الفاحشة ويروى له‬
‫الحديث التالي‪" :‬عن أبي أمامة أن فتىً من قريش أتى النبي صلى اهلل عليه وسلم فقال‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل ائذن لي في الزنا‪ ،‬فأقبل القوم عليه فزجروه‪ ،‬فقالوا‪ :‬مه ‪ ...‬مه ‪ ..‬فقال‪« :‬أدنه»‬
‫فدنى منه قريباً‪ ،‬فقال‪« :‬أتحبه ألمك؟» قال‪ :‬ال واهلل جلعني اهلل فداك‪ ،‬قال‪« :‬وال الناس يحبونه‬
‫ألمهاتهم»‪ ،‬قال‪« :‬أفتحبه البنتك؟» قال‪ :‬ال واهلل يا رسول اهلل جعلني اهلل فداك‪ ،‬قال‪« :‬وال‬
‫الناس يحبونه لبناتهم»‪ ،‬قال‪« :‬أتحبه ألختك؟» قال‪ :‬ال واهلل يا رسول اهلل جعلني اهلل فداك‪،‬‬
‫قال‪« :‬وال الناس يحبونه ألخواتهم»‪ ،‬قال‪« :‬أتحبه لعمتك؟» قال‪ :‬ال واهلل يا رسول اهلل جعلني‬
‫اهلل فداك‪ ،‬قال‪« :‬وال الناس يحبونه لعماتهم»‪ ،‬قال‪« :‬أتحبه لخالتك؟» قال‪ :‬ال واهلل يا رسول‬
‫اهلل جعلني اهلل فداك‪ ،‬قال‪« :‬وال الناس يحبونه لخاالتهم»‪ ،‬قال‪ :‬فوضع يده عليه‪ ،‬وقال‪« :‬اللهم‬
‫اغفر ذنبه‪ ،‬وطهر قلبه‪ ،‬وحصن فرجه»‪ ،‬قال‪ :‬فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء‪.3‬‬
‫ويعرا ف بعقوبة الزنا وإقامة الحد‪ ،‬وال بد من تشجيع الزواج المبكر وتسهيله على الشباب فمهما‬
‫قيل في الزواج المبكر من مساوى ء العصر الحاضر‪ ،‬فإن محاسنه تفوقه خاصة إذا صحبه‬
‫تأمين الحياة المادية‪ ،‬سواء من مساعدة الوالدين‪ ،‬أو كسب الفتى الناشىء‪ ،‬وما أمراض األمة‬
‫‪4‬‬
‫النفسية واالجتماعية والحوادث الجنائية إال نتيجة طبيعية لتأخير الزواج‪.‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.264 :‬‬


‫‪ 2‬مصنف عبد الرزاق (‪.)295 / 1‬‬
‫‪ 3‬رواه أحمد والطبراني‪ ،‬منهج النبوية‪ ،‬ص‪.368 :‬‬
‫‪ 4‬منهج التربية النبوية‪ ،‬ص‪.268 :‬‬

‫‪381‬‬
‫الطفل في الدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية‪:‬‬
‫الدولة الحديثة تضع تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية أمامها عندما تضع خطط تعليمية‬
‫وتربوية وا جتماعية ونفسية وإعالمية ورياضية متعلقة باألطفال والشباب‪ ،‬فتستلهم خطى النبي‬
‫صلى اهلل عليه وسلم في هذا المجال‪ ،‬وتعتبر‪:‬‬
‫ـ الشباب هم محور التغيير‪ ،‬ووقود الحضارة وعماد النهضة‪.‬‬
‫ـ تشجيع الشباب على االنخراط في مؤسسات المجتمع المدني وتعمل على إطالق الحريات لهم‬
‫في مجاالت حرية الرأي والتعبير وتكوين األندية أو الروابط أو مخاطبة السلطات العامة أو‬
‫التظاهر أو التجمع أو عقد المؤتمرات‪ ،‬أو الندوات أو مخاطبة وسائل اإلعالم‪.‬‬
‫ـ القضاء المبرم على كافة أنواع عمالة األطفال وكافة أنواع العنف والمعاملة المهينة ضدهم‪.‬‬
‫ـ للطفل الحق في الحياة الكريمة والرعاية الصحية واألسرية واالجتماعية الالئقة‪.‬‬
‫ـ سن التشريعات التي تكفل اال هتمام باألطفال األيتام بوجه خاص أو أبناء الشهداء ومصابي‬
‫الثورة‪ ،‬وذلك من خالل بناء دور األيتام‪ ،‬وإفراد موازنة مستقلة لها تلحق بالموازنة العامة‬
‫للدولة‪.‬‬
‫ـ المساهمة في تنفيذ خطة إستراتيجية ت دعم صحة الطفل والمجتمع بالتعاون والتنسيق مع كافة‬
‫الوزارات واألجهزة والجهات ومنظمات المجتمع المدني ذات الصلة‪.‬‬
‫ـ وضع مناهج لألطفال والشباب لفهم دينهم على أسس من الوسطية واالعتدال واالستقامة‪.‬‬
‫‪6‬ـ كبار السن‪:‬‬
‫ُم جَعَ َل مِن‬ ‫ـ قال تعالى‪﴿ :‬اهللُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعف ث َّ‬
‫ُم جَ َع َل مِن بَع ِد ضَعف قُوَّةً ث َّ‬

‫ق مَا يَشَاء وَ ُه َو العَلِيمُ القَدِير﴾(الروم‪ ،‬آية ‪.)54 :‬‬


‫بَعدِ قُوَّة ضَعفًا وَشَيبَ ًة يَخلُ ُ‬

‫ـ وقال تعالى‪ُ ﴿ :‬ه َو الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطفَة ثُمَّ مِن عَلَقَة ثُمَّ يُخ ِر ُ‬
‫جكُم‬

‫ال‬
‫ُم لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُ َتوَفَّى مِن قَب ُل وَلِتَبلُغُوا أَجَ ً‬
‫ال ثُمَّ لِتَبلُغُوا أَشُدَّكُم ث َّ‬
‫طِف ً‬
‫مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُم تَعقِلُونَ﴾ (غافر‪ ،‬آية ‪.)67 :‬‬

‫‪382‬‬
‫وأما الشيخوخة نفسها فإن القرآن الكريم يورد طرفًا من صفاتها في هذه اآليات الكريمة‪:‬‬
‫ـ قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السالم الذي يذكر وهن عظمه‪ ،‬وشيب شعره في شيخوخته‬
‫ن العَظمُ مِنِّي وَاشتَ َع َل الرَّأسُ شَيبًا﴾ (مريم‪ ،‬آية ‪.)4 :‬‬
‫‪﴿ :‬قَالَ رَبِّ ِإنِّي وَهَ َ‬

‫ـ وقال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السالم الذي يخشى أن يوصف في شيخوخته بالتفنيد وهو‬
‫ال أَن تُفَنِّدُونِ﴾ (يوسف‪ ،‬آية ‪ .)94 :‬والتفنيد نفسه‬ ‫الخرف‪﴿ :‬إِنِّي ألَجِ ُد رِي َ‬
‫ح يُوسُفَ لَو َ‬

‫مشار إليه في القرآن الكريم باعتباره مماا يطرأ في الكبر‪ ،‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬ومِنكُم مَّن يُر ُّ‬
‫َد إِلَى‬

‫ال يَعلَمَ بَع َد عِلم شَيئًا﴾ (الحج‪ ،‬آية ‪.)5 :‬‬


‫أَر َذلِ العُمُ ِر لِكَي َ‬

‫ـ والضعف العام في البدن مذكور في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ومَن نُعَمِّرهُ نُنَكِّسهُ فِي الخَلقِ﴾ (يس‪،‬‬

‫آية ‪.)68 :‬‬


‫ـ وعدم القدرة على العمل اضطرت شعيباً عليه السالم أن ينيب عنه ابنتيه للسُّقيا‪ ،‬فحكى القرآن‬
‫ال نَسقِي حَتَّى يُصدِ َر الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيخ كَبِير﴾(القصص‪ ،‬آية‪:‬‬
‫الكريم قولهما‪﴿ :‬قَالَتَا َ‬

‫‪.)23‬‬
‫ـ والعجز عن اإليالء حكاه القرآن الكريم على لسان زوج إبراهيم عليه السالم‪﴿ :‬قَالَت يَا‬

‫وَيلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوز وَهَـذَا بَعلِي شَيخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيء عَجِيب﴾ (هود‪ ،‬آية ‪.)72 :‬‬

‫وباإلضافة إلى إيجاد هذا الوعي فإن التوجيه النبوي يتضمن الحض على العمل بما يناسب‬
‫تطورات الحياة وذلك بالمبادرة إلى األعمال النافعة استفادة من الفترة التي يبلغ فيها اإلنسان‬
‫"أشده" لمصلحة فترة "التنكيس‪ ،‬والضعف‪ ،‬والشيبة"‪ .‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬بادروا‬
‫باألعمال سبعاً‪ :‬هل تنظرون إال فقراً منسياً‪ ،‬أو غنىً مطغياً‪ ،‬أو مرضاً مفسداً‪ ،‬أو هرم ًا مفنداً‪،‬‬
‫أو موتاً مجهزاً‪ ،‬أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمرّ»‪ ،1‬والعمارة‬

‫‪ 1‬سنن الترمذي‪ ،‬حديث حسن‪.‬‬

‫‪383‬‬
‫وطول العمر ليس مذمومين‪ ،‬إذا أكرم اهلل المُعمار بالصحة والقدرة على العمل الصالح‪ ،‬قال‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬خيركم من طال عمره وحسن عمله‪ ،‬وشركم من طال عمره وساء‬
‫عمله‪ ،1‬ومن أدعية النبي صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما‬
‫أحييتنا»‪.‬‬
‫وأوصى الشيخ الكبير أن يقول‪« :‬اللهم أحييني ما كانت الحياة خيراً لي‪ ،‬وتوفني إذا كانت‬
‫الوفاة خيراً لي»‪.2‬‬
‫أ ـ حقوق للمسنين على أبنائهم وذويهم ومعارفهم‪ ،‬وكذلك على المجتمع‪ :‬متمثالً في ولي األمر‬
‫في األمور التي تحِق للمسنين وليس في مقدورهم وال في مقدور أهليهم أن يوفروها لهم‪ ،‬ومن‬
‫هذه الحقوق‪:‬‬
‫*ـ حقوق أدبية في االحترام والبر والمودة‪ ،‬لقوله تعالى فيما يجب على األبناء‪َ ﴿ :‬ووَصَّينَا‬

‫اإلِنسَانَ بِوَالِدَي ِه حُسنًا﴾ (العنكبوت‪ ،‬آية ‪.)8 :‬‬

‫ك‬
‫َن عِندَ َ‬
‫ن إِحسَانًا إِمَّا يَبُلغ َّ‬
‫َال تَعبُدُوا إِالَّ إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَي ِ‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬وَقَضَى رَبُّ َ‬
‫ك أ َّ‬

‫ال‬
‫ال تَنهَر ُهمَا وَقُل لَّهُمَا قَو ً‬
‫الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَو ِكالَهُمَا فَالَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَ َ‬
‫كَرِيمًا﴾(اإلسراء‪ ،‬آية ‪.)23 :‬‬

‫وقال صلى اهلل عليه وسلم‪ « :‬رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر‬
‫أحدهما أو كليهما‪ ،‬فلم يدخل الجنة»‪ .3‬وأما األقارب من غير األبناء فبرهم للمسنين هو من‬
‫صل رحمه»‪.4‬‬
‫صلة األرحام لقوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من كان يؤمن باهلل واليوم اآلخر فليَ ِ‬

‫‪ 1‬رواه أحمد والترمذي‪ ،‬حديث حسن صحيح‪.‬‬


‫‪ 2‬رواه أصحاب السنن‪.‬‬
‫‪ 3‬مسلم‪ :‬أي‪ :‬أذل اهلل امرءًا أدركهما فلم يحسن إليهما فلم يدخل الجنة‪.‬‬
‫‪ 44‬البخاري ومسلم‪ ،‬والرحم‪ :‬القرابة‪ ،‬وصلتها‪ :‬كل صنوف البر باألقارب‪.‬‬

‫‪384‬‬
‫وأما غير هؤالء ممن ال تربطهم بالمسنين إال صلة اإلسالم واإلنسانية‪ ،‬فواجب عليهم أيض ًا‬
‫بذل المودة واإلكرام والتوقير‪ ،‬لقوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن من إجالل اهلل تعالى إكرام ذي‬
‫الشيبة المسلم»‪ ،1‬وقوله‪« :‬ليس منَّا من ال يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا»‪.2‬‬
‫*ـ حقوق اجتماعية‪ :‬في الزيارة والمؤانسة وقضاء حاجاتهم وتفقد أحوالهم‪ ،‬خاصة عند‬
‫حصول المرض والضعف عن الحركة‪ ،‬وقد كان ضمن الثالثة الذين سُد عليهم الغار‪ ،‬ففراج‬
‫اهلل عنهم ألعمالهم الصالحة رجل سهر الليل كله ليقدم لوالديه شراب الغبوق قبل أن يسمح‬
‫لنفسه أن ينال منه شيئاً‪.‬‬
‫*ـ حقوق مادية‪ :‬في النفقة على المسنين من قبل أبنائهم بصفة أساسية‪ ،‬في الصحة والمرض‪،‬‬
‫واإلعسار إلى نهاية العمر‪ ،‬وقد نص الفقهاء على أن النفقة التي تجب على األبناء نحو والديهم‬
‫المسنين تتخطى مستوى المالطفة والبر والمجاملة‪ ،‬لتدخل في نطاق الحقوق المفروضة التي‬
‫يأثم من يغفل عنها‪ ،‬وقد ثبت وجوب النفقة بالكتاب والسنة واإلجماع‪ ،‬فمن الكتاب العزيز قوله‬
‫ت ذَا القُربَى حَقَّهُ﴾ (اإلسراء‪ ،‬آية ‪.)26 :‬‬
‫تعالى‪﴿ :‬وَآ ِ‬

‫قال ابن القيم‪ :‬إذا لم يكن ذلك حق النفقة فال ندري أي حق هو‪ :‬ومن السنة قوله صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪« :‬ابدأ بمن تعول أمك وأباك‪ ،‬وأختك وأخاك‪ ،‬ثم أدناك فأدناك حق واجب ورحم‬
‫موصولة»‪ ،3‬وقد أجمع علماء المسلمين من عهد الصحابة حتى عصرنا على أن نفقة المعسر‬
‫تجب على قريبه الموسر أصالً كان أم فرعاً‪ ،‬وال يوجد بين الفقهاء من هذا اإليجاب خالف‬
‫وإنما تختلف اآلراء في تفسير القرابة ومدى ما تشمل عليه من أفراد سعة وضيقاً ومن أبواب‬
‫النفقة على المسنين ما قد ينالهم من ميراث‪ ،‬ألن األب يرث ابنه كما أن االبن يرث أباه كما هو‬
‫مفصل في كتب الفقه‪.4‬‬
‫فإذا لم تف أموال األبناء واألقارب بحق المسنين المعسرين‪ ،‬فعلى ولي األمر أن يلبي حاجاتهم‬
‫من بيت مال المسلمين‪ ،‬خا صة فيما يتعلق بالضرورات وهي الغذاء والكساء والمأوى والعالج‬
‫‪ 1‬سنن أبي داود‪ ،‬السنوات المتأخرة من العمر‪ ،‬عز الدين إبراهيم‪ ،‬ص‪.47 :‬‬
‫‪ 2‬سنن أبي داود والترمذي‪.‬‬
‫‪ 3‬سنن أبي داود‪ ،‬السنوات المتأخرة من العمر‪ ،‬ص‪.48 :‬‬
‫‪ 4‬السنوات المتأخرة من العمر‪ ،‬ص‪.49 :‬‬

‫‪385‬‬
‫عمالً بقوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من خلف ماالً أو حق ًا فلورثته‪ ،‬ومن خلف كالً أو دين ًا فكله‬
‫إليّ دينه علي»‪ .1‬وللقاعدة الفقهية‪« :‬الحاكم ولي من ال ولي له»‪.2‬‬
‫وللدولة في سبيل توفير األموال الالزمة لهذه الرعاية المادية للمسنين‪ ،‬أن توظف ما قد يوجد‬
‫من أوقاف أو وصايا أو زكوات‪ ،‬وقد استوعبت قوانين األحوال الشخصية في البالد اإلسالمية‬
‫هدي الشريعة في النفقة فأوردت أحكاماً مفصلة تؤكد دور الدولة في رعاية حقوق رعاية‬
‫المسنين‪ ،3‬والدولة ذات المرجعية اإلسالمية تعمل على‪:‬‬
‫ـ تأهيل كبار السن ذوي االحتياجات الخاصة لالحتفاظ بالحد األقصى من القدرات الوظيفية‬
‫طيلة حياتهم والعمل على مشاركتهم في المجتمع وتوفير الرعاية المناسبة لهم‪.‬‬
‫ـ التأكد من وصول الخدمات الطبية والتمريضات للمسنين‪.‬‬
‫ـ تحسين صحة المسن والتأكد من نمط حياته‪ ،‬بما يؤدي إلى راحته االجتماعية والنفسية‪.‬‬
‫ـ تأمين تحسن متواصل للحالة الغذائية للمسن‪.‬‬
‫ـ إعادة تأهيل كبار السن ذوي الحاجات الخاصة‪.‬‬
‫وضع خطة شاملة لرعايا كبار السن في منازلهم على أن يقوم فريق متكامل باإلشراف على‬
‫كبار السن في منازلهم إلجراء الكشف الدوري عليهم ومساعدة القائمين على خدماتهم وتدريبهم‬
‫على اتباع طرق الرعاية الصحية‪.‬‬
‫ـ إقامة وتحديث قواعد شاملة للبيانات الخاصة بالمسنين في كل مناطق وبلديات الدولة‪.‬‬
‫ـ إقامة تواصل على المستوى الوطني واإلقليمي بين المنظمات والمؤسسات واألفراد النشيطين‬
‫في مجال رعاية المسنين‪.‬‬
‫ـ دمج الرعاية الصحية للمسنين في مستويات الرعاية الصحية األولية‪ ،‬ووضع برامج تدريبية‬
‫للعاملين في هذا المجال‪.‬‬
‫ـ توفير المعلومات والمهارات المناسبة للمسنين وأسرهم والمجتمع بأكمله للعناية بأنفسهم‬
‫والحفاظ على صحتهم وتنميتهم‪.‬‬
‫‪ 1‬البخاري ومسلم‪ ،‬والكل‪ :‬الضعيف الذي يحتاج إلى من يعوله‪.‬‬
‫‪ 2‬السنوات المتأخرة من العمر‪ ،‬ص‪.49 :‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪ 43 :‬ـ ‪.50‬‬

‫‪386‬‬
‫ـ زيادة عدد العيادات التي تقدم الرعاية الصحية للمسنين وبخاصة في المناطق النائية‬
‫والمحرومة‪.‬‬
‫ـ العمل على رفع نسبة المسنين المراجعين للعيادات الخاصة‪.‬‬
‫ـ تفعيل دور كافة الجهات المعنية حكومية وغير حكومية في مجال رعاية المسنين‪.‬‬
‫ـ توفير الرعاية الصحية واالجتماعية والنفسية‪.‬‬
‫ـ مد مظلة التأمينات والمعاشات لتشمل كافة المواطنين المحتاجين‪.‬‬
‫ـ كفالة إنشاء النقابات التي تعبر عنهم وتسعى لتفعيل دورهم واالستفادة من خبرتهم‪.‬‬
‫ـ بناء دور المسنين في المناطق المحتاجة وتحمل الدولة لكافة مصروفات إيوائهم ورعاية‬
‫وعالج ومعيشة من تقطعت بهم السبل‪.‬‬
‫ـ سن التشريعات التي تكفل حسن الرعاية والمعاملة‪ ،‬وتغلظ العقوبة حيال أي فرد‪ ،‬أو مؤسسة‬
‫تنتهك حقوق كبار السن وأرباب المعاشات بوجه خاص‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ رعاية الفئات الخاصة‪:‬‬


‫إن تعاليم اإلسالم أحدثت انقالباً في المفاهيم الجاهلية التي كانت ال تحترم إال األقوياء‪ ،‬وبالتالي‬
‫نظرت إلى أصحاب العاهات نظرة ازدراء واحتقار فعاشت تلك الفئات مهمشة بائسة حزينة‬
‫تشعر باإلحباط‪ ،‬فجاء اإلسالم وأعاد إليها اعتبارها وإنسانيتها وأخذ بيدها لتواصل مشوارها في‬
‫الحياة في جو مفعم بالحب والرحمة‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬لَقَد جَاءكُم رَسُول مِّن أَنفُسِكُم عَزِيز‬

‫عَلَيهِ مَا عَنِتُّم حَرِيص عَلَيكُم بِالمُؤ ِمنِينَ رَؤُوف رَّحِيم﴾ (يونس‪ ،‬آية ‪.)128 :‬‬

‫لقد نظر اإلسالم للفئات الخاصة أصحاب العاهات واللقطاء‪ ،‬وكبار السن والزمن‪ ،‬نظرة تقدير‬
‫واحترام تنبع من األساس وهو تكريم اإلنسان ‪﴿ :‬وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ﴾ (اإلسراء‪ ،‬آية ‪:‬‬

‫‪ .)70‬وهذا التكر يم اقتضى عدم إهمال أي شريحة من شرائح المجتمع مهما كان وضعها لذا‬
‫نجدها تقدم برامجها اإلنسانية لألخذ بأيدي هذه الفئات‪ ،‬إلعادة تأهيلها لمواصلة مسيرتها في‬
‫‪387‬‬
‫الحياة‪ ،‬خاصة أن قطاعاً كبيراً من هذه الفئات الخاصة لديه طاقات مذخورة ال ينبغي االستهانة‬
‫بها في دفع المسيرة الحضارية لإلسالم‪.‬‬
‫إن الدستور الحضاري اإلسالمي الخالد "القرآن والسنة" لم يترك أمر الفئات الخاصة‬
‫لالجتهادات الفردية‪ ،‬بل نص بكل وضوح على ضرورة العناية بها ديانة وإنسانية‪ ،‬واعتبر‬
‫االحتفاء بها ورعايتها من الطرق الموصلة إلى مرضاة اهلل ورسوله‪ ،‬ودخول الجنة‪ ،‬فنصت‬
‫اآليات القرآنية واألحاديث النبوية على واجب رعاية هذه الفئات رعاية شمولية من خالل‬
‫دمجهم ومعاملتهم على قدم المساواة مع غيرهم من عناصر المجتمع وقد صدق الكاتب‬
‫اإليرلندي الشهير برنارد شو حين أكد على صالحية اإلسالم لكل زمان ومكان ومقدرته على‬
‫حل أعقد المشاكل بكل سهولة ويسر حين قال‪ :‬أعتقد أن رجالً كمحمد لو يسلم زمام الحكم في‬
‫العالم بأجمعه‪ ،‬لتم النجاح في حكمه‪ ،‬ولقاده إلى الخير وحل مشكالته على وجه يكفل للعالم‬
‫السالم والسعادة المنشودة‪.1‬‬
‫إن الحضارة الغربية المعاصرة لم تلتفت لرعاية هذه الشريحة االجتماعية إال في فترة متأخرة‬
‫جداً‪ ،‬ورغم صدور العديد من القوانين والتشريعات في العديد من الدول المتقدمة لصالح الفئات‬
‫الخاصة إال أنها مازالت دون المستوى الذي وصلت إليه الحضارة اإلسالمية‪ ،‬والسبب في ذلك‬
‫أن الحضارة اإلسالمية ربطت بين هذه الرعاية وبين الدين‪ ،‬فغدا حب هذه الفئات وخدمتها‬
‫ينطلق من دافع إيماني‪ ،‬جعل أفراد المجتمع من حكام ومحكومين يتسابقون في تقديم‬
‫المساعدات لهذه الفئات ليس من باب الشفقة والمنة بل من باب الواجب المقدس المفروض على‬
‫المسلم‪ ،‬بينما نجد هذه الخدمات في الغرب تقدم مجردة خالية من الروح‪ ،‬وبالتالي نجد االبن ال‬
‫يجد بأساً حين يدفع والديه إلى أحد المالجئ للتخلص من عبء النفقة والعناية بهما‪ ،‬على‬
‫العكس تماماً مما هو كائن في تعاليم اإلسالم التي جعلت من عقوق الوالدين والتخلص من‬
‫رعايتهما كبي رة من الكبائر‪ ،‬ال بل إن هذه النظرة اإلنسانية الرفيعة للوالدين حرامت على االبن‬
‫ِال إِيَّاهُ‬
‫َال تَعبُدُوا إ َّ‬ ‫أن يجرح شعورهما ولو بكلمة أف‪ ،‬قال جلا من قائل‪﴿ :‬وَقَضَى رَبُّ َ‬
‫ك أ َّ‬

‫‪ 1‬رعاية الفئات الخاصة‪ ،‬د‪ .‬سالمة الهرفي‪ ،‬ص‪.11 :‬‬

‫‪388‬‬
‫ال‬
‫َن عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَو كِالَهُمَا فَالَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ َو َ‬
‫ن إِحسَانًا إِمَّا يَبلُغ َّ‬
‫وَبِالوَالِدَي ِ‬
‫ال كَرِيمًا * وَاخفِض لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمَ ِة وَقُل رَّبِّ‬
‫تَنهَرهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَو ً‬
‫ارحَمهُمَا كَمَا رََّبيَانِي صَغِيرًا﴾ (اإلسراء‪ ،‬آية ‪ 23 :‬ـ ‪.1)24‬‬

‫وإليك الحديث عن بعض هذه الفئات‪:‬‬


‫أ ـ رعاية األرامل‪:‬‬
‫جعلت الشريعة اإلسالمية من ضمن أولوياتها المحافظة على كرامة هذه الشريحة االجتماعية‬
‫"األرامل" فتكفلت بتغير نظرة المجتمع إليها فضالً عن توفير العيش الكريم لها‪ ،‬وإحاطتها‬
‫بالعطف والحنان للتخفيف من مصيبتها بفقد زوجها‪ ،‬بل ذهبت إلى أبعد من هذا‪ ،‬حين جعلت‬
‫من خدمة هذه الشريحة قربة من القربات العظيمة تتساوى مع أجر المجاهد في سبيل اهلل‪،‬‬
‫وأجر من واظب على قيام الليل وصيام النهار‪ ،‬فعن أبي هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬الساعي على األرملة‪ 2‬والمسكين كالمجاهد في سبيل اهلل‪ ،‬أو‬
‫كالذي يصوم النهار ويقوم الليل»‪.3‬‬

‫ولم يكتف المصطفى صلى اهلل عليه وسلم بالتوجيه القولي‪ ،‬بل قام بكفالة بعض أبناء وأرامل‬
‫المسلمين الذين استشهدوا في حركة الجهاد‪ ،‬فقد جاء في البخاري ومسند اإلمام أحمد أنه بعد‬
‫استشهاد جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة جاءت زوجته أسماء بنت عميس إلى رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم بولديهما عبد اهلل ومحمد ابني جعفر‪ ،‬وجعلت تذكر ترملها ويتم ابنيها‪،‬‬
‫فقال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬العيلة تخافين عليهم‪ ،‬وأنا وليهم في الدنيا واآلخرة»‪.4‬‬
‫وانطالقاً من هذا التوجيه النبوي الشريف أخذت األمة تعمل على إيجاد آليات لتجسيد رعاية‬
‫األرامل في الواقع الملموس من خالل حركة اجتماعية مؤسسية تقوم على مبدأ التكافل‬
‫االجتماعي‪ ،‬لمساعدة هذه الشريحة في المجتمع‪ ،‬وقد كان حكام الدولة اإلسالمية على رأس‬
‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.12 :‬‬
‫‪ 2‬األرملة‪ :‬المرأة التي فقدت زوجها‪.‬‬
‫‪ 3‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.5660 :‬‬
‫‪ 4‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.5660 :‬‬

‫‪389‬‬
‫الرواد في مباشرة هذا العمل االجتماعي السامي‪ ،‬فهذا الخليفة عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه‬
‫كان يخطط قبل اغتياله لتقديم إعانة دائمة لألرامل‪ ،‬إال أن استشهاده حال دون تحقيقه لهذا‬
‫الهدف في حياته‪ ،‬فعن عمرو بن ميمون قال‪ :‬رأيت عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه قبل أن‬
‫يصاب بأيام بالمدينة يقول‪ :‬لئن سلمني اهلل‪ ،‬ألدعن أرامل أهل العراق ال يحتجن إلى رجل‬
‫بعدي أبدًا‪.1‬‬
‫وكان عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه قد بدأ بتقديم المعونات لألرامل في المدينة المنورة‪ ،‬فعن‬
‫زيد بن أسلم عن أبيه قال‪ :‬خرجت مع عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه إلى السوق‪ ،‬فلحقت‬
‫عمر امرأة شابة فقالت‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬هلك زوجي وترك صبية صغاراً واهلل ما ينضجون‬
‫كراعاً وال لهم زرع وال ضرع وخشيت أن تأكلهم الضباع وأنا بنت خفاف ابن إيماء الغفاري‪،‬‬
‫وقد شهد أبي الحديبية مع النبي صلى اهلل عليه وسلم فوقف معها عمر ولم يمض‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫مرحب ًا بنسب قريب‪ ،‬ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطاً في الدار‪ ،‬فحمل عليه غرارين‬
‫مألها طعاماً وحمل بينها نفقة وثياباً‪ ،‬ثم ناولها خطامه ثم قال‪ :‬اقتاديه‪ ،‬فلن يفنى حتى يأتيكم اهلل‬
‫بخير‪ ،‬فقال الرجل‪ :‬يا أمير المؤمنين أكثرت لها‪ ،‬قال عمر‪ :‬ثكلتك أمك‪ ،‬واهلل إني ألرى أبا هذه‬
‫وأخاها حاصرا حصناً زماناً ففتحاه‪.2‬‬
‫ويعد الصحاب ي الجليل الزبير بن العوام رضي اهلل عنه أول من أوقف وقفاً لصالح األرامل‬
‫والمطلقات من بناته‪ ،‬فقد جاء في صيغة وقفه لبعض دوره‪ :‬وللمردودة من بناته أن تسكن غير‬
‫ض ٍّر بها‪.3‬‬
‫ض َّرة‪ ،‬وال مُ َ‬
‫ُم ِ‬
‫وكان القائد المظفر صالح الدين األيوبي يدرك بأن توفير األمن االجتماعي لهذه الشريحة‬
‫"األرامل" من العوامل المهمة لتحصين الجبهة الداخلية‪ ،‬وبالتالي تحقيق النصر في الجبهات‬
‫الخارجية‪ ،‬فعندما يعلم الجندي أن زوجه وأطفاله بعد استشهاده سوف يعيشون حياة كريمة‪،‬‬
‫يزداد حماساً في جهاده‪ ،‬وتقل توتراته النفسية ـ التي هي من طبيعة النفس البشرية ـ حين‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.3497 :‬‬


‫‪ 2‬فتح الباري (‪.)510 /7‬‬
‫‪ 3‬السنن الكبرى للبيهقي (‪.)165 /6‬‬

‫‪390‬‬
‫يتوجه لجبهات القتال‪ ،‬لذا نجد صالح الدين يوقف األوقاف الكثيرة لخدمة األرامل واأليتام‪،1‬‬
‫والتي منها على سبيل المثال‪ :‬قرية نسترو بين دمياط واإلسكندرية والتي كانت قيمة ضمانها‬
‫خمسون ألف دينار‪.2‬‬
‫وقد تطور العمل الجماعي في الحضارة اإلسالمية لخدمة هذه الشريحة االجتماعية إلى درجة‬
‫إنشاء مؤسسات اجتماعية متخصصة لرعاية األرامل والنساء المطلقات‪ ،‬أو اللواتي هجرن من‬
‫قبل أزواجهن‪ ،‬أو اللواتي تقدم بهن السن وليس لهن من ينفق عليهن وكانت رائدة هذه اللمسات‬
‫اإلنسانية السيدة تذكار خاتون ابنة الظاهر بيبرس‪ ،‬التي شيدت في عام ‪684‬هـ ‪1258/‬م رباط‬
‫البغدادية للشيخة الفاضلة زينب ابنة أبي البركات المعروفة ببنت البغدادية‪ ،‬وأنزلت فيها‬
‫مجموعة من النساء‪ ،‬وظل هذا الرباط قائماً إلى زمن المؤرخ المقريزي ‪766‬هـ ـ ‪845‬هـ‬
‫‪ 1441/‬م الذي أوضح بأن لهذا الرباط شيخة تعظ النساء وتفقههن‪ ،‬على أن أهم من هذا قوله‪:‬‬
‫وأدر كنا هذا الرباط‪ ،‬وتودع فيه النساء الالتي طلقن أو هجرن‪ ،‬حتى يتزوجن أو يرجعن إلى‬
‫أزواجهن صيانة لهن‪ ،‬كما كان فيه من شدة الضبط وغاية االحتراز والمواظبة على وظائف‬
‫العبادات‪ ..‬حتى أن خادمة الفقيرات‪ ..‬تؤدب من خرج على الطريق بما تراه‪.3‬‬
‫ويبدو أن فكرة إنشاء مؤسسة خاصة لرعاية النساء من الفئات الخاصة بمصطلح اليوم انتشرت‬
‫من مختلف أرجاء الدولة اإلسالمية على مر فترات التاريخ اإلسالمي‪ ،‬فكان هناك على سبيل‬
‫المثال رباطاً مخصصاً للنساء والعجائز في بغداد ومثله في مصر لألرامل والعجائز‪ ،‬فضالً‬
‫عن النساء المطلقات وفي القرافة بمصر عدة دور يقال للدار منها رباط إلقامة العجائز‬
‫واألرامل والمنقطعات‪ ،‬وكانت لها مرتبات للصرف على المقيمات بها‪ ،‬وكان لهن مجالس‬
‫وعظ مشهورة‪ ،‬وكان يختار لهذه الربط سيدات مثقفات لتهذيب وتعليم المقيمات فيه‪ ،‬منهن‬
‫الشيخة زينب بنت عباس البغدادية والتي كانت تحضر مجالس ابن تيمية وكان يستعد لها لكثرة‬
‫مسائلها‪.4‬‬

‫‪ 1‬رعاية الفئات الخاصة‪ ،‬ص‪.20 :‬‬


‫‪ 2‬المرأة والمؤسسات االجتماعية في الحضارة العربية‪ ،‬ص‪ .77 :‬سعيد عبد الفتاح عاشور‪ ،‬رعاية الفئات الخاصة‪ ،‬ص‪.20 :‬‬
‫‪ 3‬الخطط للمقريزي (‪.)428 /2‬‬
‫‪ 4‬رعاية الفئات الخاصة‪ ،‬ص‪.22 :‬‬

‫‪391‬‬
‫ويذكر أنه كان في مدينة فاس ملجأ خاص ًا بالنساء الشريفات الفقيرات‪ ،‬ويتكون هذا الملجأ من‬
‫دارين تقع إحداهما من الماشطين قرب ساحة الصفارين‪ ،‬واألخرى في وادي الرشاشة جوار‬
‫دار عديل‪.‬‬
‫وقد استمرت العناية بهذه الفئة من المجتمع في أحلك الفترات التي كانت تمر بها الحضارة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬فها هو آخر خلفاء الدولة العباسية المستعصم والذي قتل على يد التتار سنة ‪656‬هـ‬
‫‪1258 /‬م يوقف داراً لرعاية النساء المسنات رغم ما كان يتهدد الدولة من مخاطر التتار‪.1‬‬
‫وهكذا تبلورت التوجيهات النبوية بشأن هذه الشريحة االجتماعية إلى عمل اجتماعي مؤسسي‪.2‬‬
‫ب ـ تزويج وتجهيز البنات الفقيرات‪:‬‬
‫من طبيعة اإلسالم وتعاليمه االهتمام بالجانب اإلنساني وتوفير االحتياجات ألفراد المجتمع‪،‬‬
‫سواء بواسطة الدولة أو من األفراد القادرين على فعل الخير والتقرب به إلى اهلل‪.‬‬
‫ولذلك نجد أن الدولة اإلسالمية تصدر المراسيم التي تلزم الدولة بنفقات زواج الفقراء ولعل‬
‫األوامر التي أصدرها الخليفة األموي الزاهد عمر بن عبد العزيز" ‪ 99‬ـ ‪ 717 /101‬ـ ‪"719‬‬
‫إلى واليه على العراق عبد الحميد بن عبد الرحمن بهذا الشأن خير دليل وشاهد على حرص‬
‫حكام المسلمين على رعاية الشباب الفقراء في الدولة اإلسالمية لما يترتب على عجزهم عن‬
‫الزواج من مفاسد اجتماعية تهدد األمن االجتماعي لألمة‪ ،‬فقد جاء توجيهه لواليه‪ :‬أن أنظر كل‬
‫بكر ليس له مال فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدق عنه‪ ،‬فكتب إليه‪ :‬إني قد زوجت كل من‬
‫وجدت‪.3‬‬
‫ولم يكتف هذا الخليفة العادل بذلك‪ ،‬بل طلب أن ينادي في كل مصر في كل يوم‪ :‬أين المساكين‪،‬‬
‫أين الغارمون‪ ،‬أين الناكحون‪.4‬‬
‫وقد قرر الفقهاء منذ فترة مبكرة على أن االلتزامات اإلنسانية على األمة التكفل بتزويج الفقراء‬
‫في المجتمع‪ ،1‬ويحدثنا الرحالة الشهير ابن بطوطة‪ :‬أنه كان في مدينة دمشق أوقاف خاصة‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.23 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.23 :‬‬
‫‪ 3‬الطبقات البن سعد (‪.)374 /5‬‬
‫‪ 4‬البداية والنهاية (‪.)220 /9‬‬

‫‪392‬‬
‫لتجهيز البنات إلى أزواجهن مما ال قدرة ألهلهن على تجهيزهن‪ .2‬كما وجد في فلسطين أوقاف‬
‫مخصصة لتوفير مهور للفتيات اليتيمات كي يتسنى لهن الزواج‪.3‬‬
‫ووجد في أكثر بلدان العالم اإلسالمي وقفاً إلعارة الحلي والزينة في األعراس والمناسبات‬
‫السعيدة‪ ،‬بحيث أن العامة والفقراء ينتفعون بهذا الوقف الخيري‪ ،‬فيستعيرون منه ما يلزم من‬
‫الحلي ألجل التزيين في المناسبات العامة‪ ،‬ومن ثم يعيدونه إلى مكانه بعد انتهائها‪ ،4‬فقد وجد‬
‫على سبيل المثال في مدينة تطوان المغربية وقف ألسرة بلحاج خاص بزينة العروس‬
‫ولباسها‪ ،5‬وكانت ملكة الهند المسلمة نورجهان تساعد المحتاجين وتزوج األيتام‪ ،‬وتدفع المهور‬
‫عنهم‪ ،‬وكانت أول من أنشأت سوقاً خيرية أطلقت عليها اسم "سوق الشفقة" يذهب ريعه لخدمة‬
‫الفقراء وتزويج األيتام‪ ،‬فكانت تجتمع باألميرات وزوجات األعيان في قصرها‪ ،‬ثم يذهبن إلى‬
‫السوق‪ ،‬توزع وارداته على فقراء المملكة‪ ،‬والتي كان يصرف بعضها في تزويج األيتام‬
‫ومساعدة المحتاجين‪ ،‬وقد بقيت هذه الملكة تمارس هذه الخدمة الجليلة حتى انتقل زوجها عام‬
‫‪1056‬هـ ‪1646/‬م إلى الرفيق األعلى‪ ،‬حيث اعتزلت الحكم ثم توفيت بعد قليل ودفنت في‬
‫جانبه في حديقة سليمان‪ 6‬وكانت األميرة عزيزة بنت أحمد بن محمد بن عثمان ت ‪1080‬هـ ‪/‬‬
‫‪ 1669‬م محبة للضعفاء والمساكين‪ ،‬فأوقفت األوقاف الخيرية الكثيرة في تونس‪ ،‬منها ما هو‬
‫مخصص لتجهيز األبكار الالتي يثقلهن الفقر ويحول دون زواجهن صيانة لهن عن االبتذال‬
‫وترغيباً في الزواج بهن‪.7‬‬
‫ومن أجل مساعدة المرأة على القيام بوظيفة األمومة على أكمل وجه وجدت أوقافاً للنساء‬
‫المرضعات‪ ،‬تسمى أوقاف نقطة الحليب يوزع منها الحليب على النساء المرضعات في أيام‬
‫محدودة في كل أسبوع‪ ،‬إلى جانب الماء المذاب فيه السكر‪ ،‬فقد كان من مبرات القائد المظفر‬
‫صالح الدين األيوبي في أحد أبواب القلعة في دمشق ميزاباً يسيل منه الحليب‪ ،‬وميزاباً يسيل‬

‫‪ 1‬رعاية الفئات الخاصة‪ ،‬ص‪.28 :‬‬


‫‪ 2‬الرحلة البن بطوطة‪ ،‬ص‪.55 :‬‬
‫‪ 3‬رعاية الفئات الخاصة‪ ،‬ص‪.28 :‬‬
‫‪ 4‬الحضارة العربية اإلسالمية‪ ،‬شوقي أبو خليل‪ ،‬ص‪.636 :‬‬
‫‪ 5‬معطيات الحضارة المغربية‪ ،‬عبد العزيز بن عبد اهلل (‪ 33 /2‬ـ ‪.)34‬‬
‫‪ 6‬نساء فاضالت‪ ،‬عبد البديع صقر‪ ،‬ص‪ 117 :‬ـ ‪.118‬‬
‫‪ 7‬رعاية الفئات الخاصة‪ ،‬ص‪.29 :‬‬

‫‪393‬‬
‫منه الماء المذاب فيه السكر‪ ،‬تأتي إليه األمهات المرضعات يومين في كل أسبوع ليأخذن‬
‫ألطفالهن وأوالدهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر‪.1‬‬
‫ج ـ رعاية اللقطاء‪:‬‬
‫نص الفقهاء على أن رعاية اللقيط واجب مقدس على األمة‪ ،‬فإن لم تقم به وقعت في اإلثم‪ ،‬ولذا‬
‫قالوا‪ :‬إن من وجد صغيراً منبوذاً‪ ،‬ففرض على من بحضرته أن يقوم به‪ ..‬وال إثم أعظم من إثم‬
‫من أضاع نسمة وال ذنب لها حتى تموت جوع ًا أو برداً أو تأكلها الكالب وهو قاتل نفس عمداً‬
‫ال شك‪ ،2‬وإن امتنع أهل القرية أو البلدة على أن ينفقوا على اللقيط وجب على اإلمام قتالهم‪.3‬‬
‫ألنهم تقاعصوا عن القيام بواجبهم االجتماعي المقدس الذي كلفهم به الشارع‪ ،‬فالقاعدة تقول‪:‬‬
‫إنه من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً‪ ،‬ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً‪ ،‬يقول اهلل‬
‫تعالى‪﴿ :‬مِن أَج ِل ذَلِكَ كَتَبنَا عَلَى بَنِي إِسرَائِي َل أَنَّهُ مَن قَ َتلَ نَفسًا بِغَي ِر نَفس أَو فَسَاد‬

‫جمِيعًا﴾ (المائدة‪ ،‬آية ‪.)32 :‬‬


‫ض فَكَأَنَّمَا قَ َتلَ النَّاسَ َ‬
‫فِي األَر ِ‬

‫إن إهمال هذه الفئة االجتماعية "اللقطاء" يعني فتح باب مفسدة عظيمة على المجتمع ومخالفة‬
‫ِال رَحمَ ًة لِّلعَالَمِينَ﴾‬
‫صريح لروح اإلسالم التي جاءت رحمة للعالمين ﴿ َومَا أَرسَلنَاكَ إ َّ‬

‫(األنبياء‪ ،‬آية ‪ .)107 :‬وصح عن النبي محمد صلى اهلل عليه وسلم قوله ‪« :‬من ال يَرحم ال‬
‫يرحم»‪.4‬‬
‫وعليه فقد نص الفقهاء على إلزام الدولة باإلنفاق على اللقيط‪ ،‬وإن عز ذلك‪ ،‬كلفت مجموعة‬
‫تعاونية بمساعدة الدولة لإلشراف على اإلنفاق عليه‪.5‬‬
‫وكان عمر بن الخطاب الخليفة الراشد ‪ 13‬ـ ‪23‬هـ ‪ 634/‬ـ ‪643‬م كان من أوائل حكام الدولة‬
‫اإلسالمية الذين خصصوا أمواالً من بيت مال المسلمين لرعاية اللقطاء وتوفير الجو األسري‬

‫‪ 1‬من روائع حضارتنا‪ ،‬مصطفى السباعي‪ ،‬ص‪ 98 :‬ـ ‪.99‬‬


‫‪ 2‬المحلى البن حزم (‪.)273 /5‬‬
‫‪ 3‬المجموع للنووي (‪.)291 /15‬‬
‫‪ 4‬أخرجه البخاري في األدب‪ ،‬رقم‪.2318 :‬‬
‫‪ 5‬رعاية الفئات الخاصة‪ ،‬ص‪.42 :‬‬

‫‪394‬‬
‫المناسب لهم‪ ،‬فقد روى الصحابي سنين أبو جميلة‪ ،1‬قال‪ :‬أخذت منبوذاً على عهد عمر رضي‬
‫اهلل عنه‪ ،‬فذكره عريف لعمر رضي اهلل عنه فأرسل إليا فدعاني والعريف عنده فقال‪ :‬ما حملك‬
‫على ما صنعت؟ قلت‪ :‬وجدت نفساً بمضيعة فأحببت أن يأجرني اهلل فيه‪ ،‬فقال عمر‪ :‬هو حر‪،‬‬
‫والؤه لك‪ ،‬وعلينا رضاعته‪.2‬‬
‫وفي حادثة أخرى رفع لقيط إلى الفاروق رضي اهلل عنه أثناء خالفته‪ ،‬فدفعه إلى امرأة صالحة‬
‫لتتولى إرضاعه وتربيته مقابل أجر يدفع لها من بيت مال المسلمين وفي نفس الوقت قام‬
‫بالتحريات الالزمة حتى تعرَّ ف على أمه‪ ،‬التي اعترفت للخليفة بأنه ثمرة زنا أجبرت عليه مما‬
‫جعلها تقتل الشاب الذي اغتصبها‪ ،‬ومن ثم طرح هذا الطفل على قارعة الطريق‪.3‬‬
‫وعندما تعددت حاالت وجود اللقطاء استشار عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه الصحابة في‬
‫نفقة اللقيط‪ ،‬فقالوا‪ :‬لم يكن له مال وجبت نفقته من بيت مال المسلمين‪.4‬‬
‫فكان رضي اهلل عنه إذا أتى بلقيط فرض له مائة درهم وفرض لوليه رزق يصله كل شهر‪،‬‬
‫وجعل رضاعته‪ ،‬ونفقته وما يلزمه من بيت المال‪ ،‬على أن يزيد عطاؤه سنة فسنة‪ ،‬وكان‬
‫يوصي بهم خيرًا‪ ،5‬وقد سار الخليفة علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه على هذا النهج‪.6‬‬
‫وحفظت الشريعة اإلسالمية حقوق هذه الشريحة في الحرية والكرامة‪ ،‬والرعاية والتربية وحق‬
‫النفقة‪ ،‬بل إن الدول اإلسالمية كالعباسية‪ ،‬واأليوبية‪ ،‬والمماليك والعثمانية‪ ،‬كانت تشتري هؤالء‬
‫األطفال من أسواق الرقيق من مختلف العالم‪ ،‬ومن ثم تربيتهم تربية عسكرية إسالمية‪ ،‬حولتهم‬
‫إلى حراس للحضارة اإلسالمية بعدما أصبحوا جنوداً مدربين يؤمنون باإلسالم ديناً وعقيدة‪،‬‬
‫ومنهج حياة‪.7‬‬

‫‪ 1‬من الصحابة الذين شهدوا حجة الوداع وروا عن أبي بكر وعمر وروى عنه اإلمام الزهري‪.‬‬
‫‪ 2‬رعاية الفئات الخاصة‪ ،‬ص‪.49 :‬‬
‫‪ 3‬تاريخ عمر بن الخطاب البن الجوزي‪ ،‬ص‪ 78 :‬إلى ‪.79‬‬
‫‪ 4‬المجموع النووي (‪.)288 / 15‬‬
‫‪ 5‬أخبار عمر‪ ،‬علي طنطاوي‪ ،‬ص‪ 124 :‬ـ ‪.125‬‬
‫‪ 6‬األموال‪ ،‬أبو عبيد القاسم بن سالم‪ ،‬ص‪.339 :‬‬
‫‪ 7‬رعاية الفئات الخاصة‪ ،‬ص‪.50 :‬‬

‫‪395‬‬
‫د ـ رعاية ذوي العاهات واألمراض المزمنة‪:‬‬
‫نرى عتاب اهلل لرسوله صلى اهلل عليه وسلم في آيات تتلى إلى يوم القيامة‪ ،‬وكان هذا العتاب‬
‫في شأن رجل فقير أعمى من الصحابة عبد اهلل بن أم مكتوم رضي اهلل عنه‪ ،‬أعرض عنه‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم مرة واحدة‪ ،‬ولما يجبه عن سؤاله النشغاله بدعوة بعض أشراف‬
‫مكة‪.1‬‬
‫ك لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَو‬ ‫فنزل قول اهلل تعالى‪﴿ :‬عَبَ َ‬
‫س وَ َتوَلَّى * أَن جَاءهُ األَعمَى * وَمَا يُدرِي َ‬

‫ن استَغنَى* فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى* َومَا عَلَيكَ أَالَّ يَزَّكَّى *‬


‫يَذَّكَّ ُر فَتَنفَعَ ُه الذِّكرَى * أَمَّا مَ ِ‬
‫َال إِنَّهَا تَذكِرَة﴾ (عبس‪ ،‬آية‬
‫وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسعَى * وَ ُه َو يَخشَى * فَأَنتَ عَن ُه تَلَهَّى * ك َّ‬

‫‪ 1 :‬ـ ‪.)11‬‬
‫لقد باشر المصطفى صلى اهلل عليه وسلم بعد ما تلقى العتاب من ربه في سورة عبس إلى‬
‫توجيه أنظار األمة ألهمية رعاية هذه الشريحة من المجتمع فكان على سبيل المثال‪ ،‬يعهد لعبد‬
‫اهلل بن أم مكتوم الذي عاتبه فيه ربه ليصلي بالناس أثناء غيابه عن المدينة المنورة في بعض‬
‫غزواته‪.2‬‬
‫وكان ابن عباس يؤم الناس بعدما فقد بصره وروى البخاري والنسائي أيضاً أن عتبة بن مالك‬
‫كان يؤم قومه وهو أعمى‪.3‬‬
‫وبعد تعددت صور توجيهات المصطفى صلى اهلل عليه وسلم لهذه الشريحة "العميان" ولألمة‪،‬‬
‫فكان دوماً يعرض على رفع معنوياتها ويحثها على العمل من خالل تعظيم األجر لها إذا‬
‫صبرت واحتسبت ومارست دورها في الحياة دون أن تجعل من هذه العاهة عائقاً وعقبة أمام‬
‫أخذها لدورها المناسب في المجتمع‪ ،‬فقد بشر النبي صلى اهلل عليه وسلم من فقد إحدى عينيه أو‬
‫كالهما بالجنة‪ ،‬فقال‪« :‬إن اهلل قال‪ :‬إذا ابتليت عبدي بحبيبته فصبر عوضته عنهما الجنة»‪.4‬‬

‫‪ 1‬السيرة النبوية للصالبي (‪.)239 /1‬‬


‫‪ 2‬البداية والنهاية البن كثير (‪.)260 /3‬‬
‫‪ 3‬نيل األوطار (‪.)160 /3‬‬
‫‪ 4‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.5221 :‬‬

‫‪396‬‬
‫وكعادة الصحابة الكرام ما إن رأوا سلوك النبي صلى اهلل عليه وسلم تجاه هذه الفئة االجتماعية‬
‫حتى بدأوا يتسابقون في مد يد العون لها‪ ،‬فقد روى اإلمام األوزاعي رحمه اهلل عن الخليفة‬
‫الراشد عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه أنه خرج في سواد الليل فرآه الصحابي طلحة بن عبيد‬
‫اهلل رضي اهلل عنه فذهب عمر فدخل بيتاً ثم دخل آخر‪ ،‬فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت‪،‬‬
‫فإذا بعجوز عمياء مقعدة‪ ،‬فقال لها‪ :‬ما بال هذا الرجل يأتيك؟‪ ،‬قالت‪ :‬إنه يتعاهدني منذ كذا‬
‫وكذا‪ ،‬يأتيني بما يصلحني‪ ،‬ويخرج عني األذى‪ ،‬قال طلحة‪ :‬ثكلتك أمك يا طلحة‪ ،‬أعثرت عمر‬
‫تتباع‪ ، 1‬وكان عمر رضي اهلل عنه شديد البر ألصحاب العاهات‪ ،‬خاصة العميان‪ ،‬وسار على‬
‫هذا النهج حكام المسلمين وأهل الخير في األمة فها هو الخليفة األموي الوليد بن عبد الملك‬
‫"‪ 86‬ـ ‪96‬هـ ‪ 705/‬ـ ‪715‬م" يصدر مرسوماً حضارياً راقياً يعبار عن احترامه لهذه الفئات‪،‬‬
‫فقد أعلن بأن رعاية الفئات الخاصة في المجتمع هي من واجبات الدولة‪ ،‬لذا نجده يأمر‬
‫بتخصيص قائد لكل أعمى يسهر على راحته‪ ،‬فضالً عن راتب شهري يغطي نفقاته‪ ،2‬كما ثبت‬
‫عن الخليفة عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أمصار الشام‪ :‬أن ارفعوا إلى كل أعمى في‬
‫الديوان أو مقعد أو من به فالج‪ ،‬أو من به زمانة "داء مزمن" يحول بينه وبين القيام إلى الصالة‬
‫فرفعوا إليه‪ ،‬فأمر لكل أعمى بقائد‪ ،‬وأمر لكل اثنين من الزمن بخادم‪.3‬‬
‫ويروي الرحالة المسلم الشهير ابن بطوطة في رحلته أنه شاهد في بغداد جماعة من العميان‬
‫يؤمر لكل واحد منهم بكسوة وغالم يقوده ونفقة تجري عليه‪.4‬‬
‫ولعل تسابق أهل الخير حكاماً ومحكومين على وقف األوقاف لصالح هذه الفئات االجتماعية‬
‫خير شاهد على نضج الحس االجتماعي لألمة اإلسالمية وسمو حضارتها إذ يندر أن نرى بقعة‬
‫معمورة كانت تفيء بظالل الحضارة اإلسالمية ال يوجد فيها وقف ألصحاب العاهات‪.5‬‬
‫وقد خصصت الدولة اإلسالمية مستشفيات لرعاية المحتاجين‪ ،‬وأفردت غرفاً خاصة في‬
‫المستشفيات العامة لمداواتهم سريرياً ونفسي ًا‪ ،1‬كما ذكر المؤرخون أنه جاء في نفقات الخليفة‬
‫‪ 1‬صفة الصفوة البن الجوزي (‪.)107 /1‬‬
‫‪ 2‬الخطط (‪ )405 /2‬للمقريزي‪.‬‬
‫‪ 3‬سيرة عمر ابن عبد العزيز البن الجوزي‪ ،‬ص‪ 154 :‬ـ ‪.155‬‬
‫‪ 4‬رحلة ابن بطوطة‪ ،‬ص‪.107 :‬‬
‫‪ 5‬رعاية الفئات الخاصة‪ ،‬ص‪.61 :‬‬

‫‪397‬‬
‫العباسي المعتضد باهلل أنه خصص لمستشفى الصاعدي الذي كان قد أسسه القائد صاعد بن‬
‫مخلد أمواالً للنفقة عليه‪ ،‬ألثمان األدوية واألطعمة واألشربة لخدمة المغلوبين على عقولهم‪.2‬‬
‫وجاء في وقف أحد المستشفيات المخصصة لألمراض العقلية أن‪ :‬كل مجنون خصص له‬
‫خادمان يخدمانه فينزعان عنه ثيابه كل صباح‪ ،‬ويحممانه بالماء البارد ثم يلبسانه ثياباً نظيفة ثم‬
‫يفسحانه في الهواء الطلق ويسمع في اآلخر األصوات الجميلة‪.3‬‬
‫وقد انتشرت مستشفيات المجانين في كل المدن اإلسالمية في بغداد والقاهرة ودمشق وفاس‬
‫وغيرها‪ ،‬وفي العصر المريني اهتم أبو يوسف يعقوب عبد الحق "‪ 656‬ـ ‪685‬هـ ‪ 1258 /‬ـ‬
‫‪ 1286‬م" برعاية المجانين‪ ،‬فقد كان ـ حسب ما ورد عن ابن أبي زرع ـ كثير الخير‪ ،‬والرأفة‬
‫على الضعفاء والمساكين‪ ،‬صنع المارستان للمرضى والمجانين‪ ،‬وأجرى عليهم النفقات‪،‬‬
‫وجميع ما يحتاجون إليه من األغذية واألشربة‪ ،‬وأمر بتفقد أحوالهم في الصباح والمساء‪.4‬‬
‫واستمرت عناية الدولة اإلسالمية المتعاقبة بالمجانين حتى فترة متأخرة من الدولة العثمانية‪،‬‬
‫فنرى على سبيل المثال بمارستان السلطان العثماني سليمان بن السلطان سليم عاشر سالطين‬
‫آل عثمان "ت هـ ‪ 22‬صفر ‪ 974‬هـ ‪1566 /‬م" في القسطنطنية‪ ،‬قد خصص لمداواة المرضى‬
‫وتربية المجانين بأنواع األشربة واألطعمة والمعاجين‪ ،5‬علماً بأنه كان يخصص لكل مجنون‬
‫في معظم المستشفيات مرافقاً خاصاً يأخذه باللين والرفق ويصحبه بين الزهور والرياض‬
‫الخضراء‪ ،‬ويسمعه ترتيالً هادئًا من آيات الذكر الحكيم‪.6‬‬
‫وتؤكد المصادر أن المسلمين أدركو ما للترويح والتسلية من أثر في إدخال البهجة على‬
‫المرضى والمصابين باألمراض النفسية‪ ،‬فكان في بعض المستشفيات على سبيل المثال فرقاً‬
‫لإلنشاد تقوم بإنشاد األناشيد الجميلة للترفيه عن المرضى الذين ال يستطيعون النوم‪.7‬‬

‫‪ 1‬الخطط واآلثار للمقريزي (‪.)405 /2‬‬


‫‪ 2‬الوقف ودوره في التنمية عبد الستار الهيتي‪ ،‬رعاية الفئات‪ ،‬ص‪.70 :‬‬
‫‪ 3‬خطط الشام‪ /‬محمد كرد علي (‪.)166 ،165 /6‬‬
‫‪ 4‬روض القرطاس البن أبي زرع‪ ،‬ص‪.298 :‬‬
‫‪ 5‬من روائع حضارتنا‪ ،‬مصطفى السباعي‪ ،‬ص‪.112 :‬‬
‫‪ 6‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪ .112 :‬رعاية الفئات الخاصة‪ ،‬ص‪.72 :‬‬
‫‪ 7‬من روائع حضارتنا‪ ،‬ص‪.112 :‬‬

‫‪398‬‬
‫وفي بعض األحيان كان يعزل المؤرقين في قاعات منفردة عن بقية المرضى حيث تشنف‬
‫آذانهم باألصوات الندية فضالً عن تسليتهم باألقاصيص التي يلقيها عليهم القصاص‪ ،‬إلى جانب‬
‫مشاهدة بعض التمثيليات المضحكة‪ ،‬وكان أيضاً المؤذنون في المسجد المالصق للمستشفى‬
‫يؤذنون في السحر قبل ميعاد الفجر بساعتين‪ ،‬وينشدون األذكار بأصوات ندية من أجل تخفيف‬
‫األلم عن المرضى الذين يضجرهم السهر وطول الوقت‪.1‬‬
‫وكان المسلمون يهتمون بأثر العوامل النفسية في معالجة المرضى‪ ،‬وخاصة المصابين‬
‫باألمراض النفسية‪ ،‬لذا نجد أهل الخير واإلحسان يبادرون إلى وقف األوقاف لخدمة هذا الهدف‬
‫اإلنساني الس امي‪ ،‬فقد أوقف أحد المحسنين في مدينة طرابلس اللبنانية وقفاً يخصص ريعه‬
‫لتوظيف اثنين يمران بالمستشفيات يومياً فيتحدثان بجانب المرضى حديثاً خافتاً ليسمعه‬
‫المريض بما يوحي له بتحسن حالته واحمرار وجهه وبريق عينيه‪ .2‬وكما هو معلوم فقد ثبت‬
‫علمياً اليوم ب أن روح المعنوية لها أثر كبير على حالة المريض‪ ،‬فالمريض الذي يتمتع بروح‬
‫معنوية عالية يتعافى أسرع من المريض الذي يتصف بضعف المعنوية‪.3‬‬
‫وأما أصحاب األمراض المزمنة والخطيرة‪ ،‬ممن ليس لهم أقارب يقومون بأمرهم‪ ،‬فقد وجدت‬
‫الكثير من األوقاف في مختلف المدن اإلسالمية لخدمة هذه الشريحة االجتماعية فقد خصص‬
‫الخليفة األموي الوليد بن عبد الملك على سبيل المثال مصحات لمرض الجذام لرعايتهم‬
‫واإلنفاق عليهم ومنعهم من االحتكاك بالناس‪.4‬‬
‫وأوقف في تونس أبو فارس عبد العزيز بن السلطان أبي العباس الحفصي " ‪796‬هـ ‪/‬‬
‫‪1393‬م" بيمارستان للضعفاء والغرباء وذوي العاهات من المسلمين وأوقف على ذلك أوقافاً‬
‫كثيرة‪.5‬‬
‫وكان الخليفة األموي عمر بن عبد العزيز‪ ،‬يفرض للزمني من بيت مال المسلمين فريضة‬
‫الصحيح لكفاية حاجته‪ ،‬وقد بدأ ألحد والة عمر في دمشق أال يكون لهؤالء فريضة كاملة‬
‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.112 :‬‬
‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.113 :‬‬
‫‪ 3‬رعاية الفئات الخاصة‪ ،‬ص‪.73 :‬‬
‫‪ 4‬تاريخ البيمارستانات‪ ،‬أحمد عيسى بك‪ ،‬ص‪.278 :‬‬
‫‪ 5‬تاريخ البيمارستانات‪ ،‬ص‪.280 :‬‬

‫‪399‬‬
‫كفريضة الصحيح‪ ،‬فقال في رده على الخليفة‪ :‬الزمن ينبغي أن يحسن إليه‪ ،‬فأما أن يأخذ‬
‫فريضة رجل صحيح فال‪ ،‬فكتب عمر بن عبد العزيز‪ :‬إذا أتاك كتابي هذا فال تعنت الناس وال‬
‫تعسرهم وال تشق عليهم‪ ،1‬ويستند عمر بن عبد العزيز في فعله هذا على ما كان في عهد علي‬
‫بن أبي طالب رضي اهلل عنه‪ ،‬الذي كتب إلى عامله المعين على مصر األشتر النخعي بوصية‬
‫بأن يعتني بأهل الزمانة والمرضى‪ ،‬حيث قال‪ :‬ثم اهلل اهلل في الطبقة السفلى من الذين ال حيلة‬
‫لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمني‪ ،‬فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً‪ ،‬وأحفظ‬
‫اهلل ما استحفظك من حقه فيهم‪ ،‬واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غالت صوافي‬
‫اإلسالم في كل بلد‪ ،‬فإن لألقصى منهم مثل الذي لألدنى وكل قد استرعيت حقه وال يشغلنك‬
‫عنهم بطر وال تصعر خدك لهم وتفقد أمور من ال يصل إليك منهم‪ ،‬ممن تقتحمه العيون‪،‬‬
‫وتحقره الرجال‪ ،‬ففرغ ألولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع‪ ،‬فليرفع إليك أمورهم ثم اعمل‬
‫فيهم باألعذار إلى اهلل سبحانه يوم تلقاه‪ ،‬فإن هؤالء من بين الرعاية أحوج إلى اإلنصاف من‬
‫غيرهم‪ ،‬وكل فأعذر إلى اهلل في تأدية حقه‪.2‬‬
‫وتعهد أهل اليتيم‪ ،‬وذوي الرمة في السن ممن ال حيلة له‪ ..‬ثم احتمل الخرق منهم والعيي وانح‬
‫عنهم الضيق واألنف يبسط عليك اهلل بذلك أكناف رحمته‪ 3‬إن التعاليم اإلسالمية قدمت برنامجاً‬
‫شمولياً لرعاية الفئات الخاصة‪ ،‬فقد جاءت اآليات القرآنية واألحاديث النبوية واضحة جلية في‬
‫إلزام األمة برعايتهم واألخذ بيدهم ودمجهم في المجتمع‪.‬‬

‫ذوي االحتياجات الخاصة في الدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية‪:‬‬


‫الدولة الحديثة تهتم بمواطنيها من ذوي االحتياجات الخاصة وتوفر الرعاية الصحية‬
‫واالجتماعية والنفسية لهم وتعمل على‪:‬‬
‫ـ تتبنى إ ستراتيجية وطنية بهدف تطوير سياسات وخدمات الرعاية والتأهيل وذلك بالتعاون مع‬
‫المنظمات الدولية واإلقليمية ذات الصلة‪.‬‬
‫‪ 1‬الطبقات الكبرى (‪.)380 /5‬‬
‫‪ 2‬شرح نهج البالغة نق ً‬
‫ال عن رعاية الفئات الخاصة‪ ،‬ص‪.75 :‬‬
‫‪ 3‬رعاية الفئات الخاصة‪ ،‬ص‪.75 :‬‬

‫‪400‬‬
‫ـ اال رتقاء بالوعي العام لدى المجتمع بأفراده ومؤسساته وزيادة الفهم حول حقوق والتزامات‬
‫وإمكانيات األفراد ذوي االحتياجات الخاصة‪ ،‬والعمل على إتاحة الفرص الكافية والمالئمة لهم‬
‫وذلك لتحقيق مشاركتهم الكاملة في كل الجوانب الحياتية‪.‬‬
‫ـ ضمان حصول ذوي االحتياجات الخاصة على أدوات وخدمات االتصال والمعلومات وفرص‬
‫التعليم المالئم وفق قدرتهم واحتياجاتهم ومشاركتهم في األنشطة الرياضية والترفيهية‪.‬‬

‫ـ تدعيم كافة القطاعات ذات الصلة بذوي االحتياجات الخاصة باإلمكانات المادية والبشرية‬
‫الالزمة للقيام بمهامها‪.‬‬
‫ـ وضع بنية معلوماتية تجمع كافة البيانات والمعلومات الخاصة بعدد ذوي االحتياجات الخاصة‬
‫في الدولة‪ ،‬وكذلك المؤسسات العالمة في مجال اإلعاقة ومراعاة أن تكون تلك المعلومات دقيقة‬
‫وشاملة ومتكاملة ودائمة المراجعة والتحديث باسلوب علمي منهجي متكامل‪.‬‬
‫ـ سن التشريعات ذات الصلة بذوي االحتياجات الخاصة بحيث تتضمن آليات تطبيق وتنفيذ‬
‫فعالة ومضمونة لحماية حقوقهم وتطوير القائم من تلك التشريعات‪.‬‬
‫ـ تهيئة بيئات خالية من المعوقات والموانع في المباني والطرق ووسائل االنتقال واألماكن‬
‫العامة كمتطلب هندسي في التصميم والتخطيط مع العمل على إصالح وترميم البيانات‬
‫والوسائل المستخدمة من قبل الجمهور كلما أمكن ذلك‪.‬‬
‫ـ تبني برامج ومنهجية واضحة بهدف الوقاية من اإلعاقة والرعاية الصحية وتحسين الظروف‬
‫الصحية واإلجراءات الوقائية من األمراض والحوادث التي تتسبب في اإلصابة باإلعاقة وذلك‬
‫عن طريق الرعاية الصحية األولية والوقائية والتعليم العام‪.‬‬
‫ـ التأهيل والتدريب والتشغيل لذوي االحتياجات الخاصة بهدف تحقيق أعلى مستوى ممكن من‬
‫االستقاللية لهم وألسرهم‪.‬‬

‫‪401‬‬
‫ـ تدعيم أواصر التعاون اإلقليمي والدولي من خالل تأسيس نظم وآليات ربط لشبكات فعالة‬
‫للمشاركة وتبادل المعلومات والمصادر والخبرات حول قضايا اإلعاقة وذوي االحتياجات‬
‫الخاصة على الصعيدين اإلقليمي والدولي‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ البيئة‪:‬‬
‫حرص اإلسالم على حماية البيئة بكافة مكوناتها وذلك بإنشاء تصور كامل للحياة ونظامها وما‬
‫تتطلبه من نهضة أو تطور وفق قواعد ثابتة ال تتغير وال تتبدل مع تغير الزمان والمكان‪ ،‬وهذا‬
‫ما يعطي المبادئ البيئية اإلسالمية صفة الصالحية التي تحقق ألفرادها السعادة والرخاء في‬
‫الدنيا واآلخرة‪ ،‬والمبادئ اإلسالمية للبيئة لم تكن ضرباً من الخيال وال أسطورة من أساطير‬
‫اليونان والرومان وإنما هي جزء من الفطرة التي فطر اهلل عليها الناس‪ ،‬في توجه صادق إلى‬
‫خالق الخلق كله‪ ،‬قال تعالى ‪﴿ :‬فَأَقِم وَجهَ َ‬
‫ك لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطرَةَ اهللِ الَّتِي فَطَ َر النَّاسَ عَلَيهَا‬

‫ال يَعلَمُونَ﴾ (الروم‪ ،‬آية ‪.)30 :‬‬


‫ِن أَكثَ َر النَّاسِ َ‬
‫ال تَبدِي َل لِخَلقِ اهللِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَك َّ‬
‫َ‬

‫فالطبيعة بما فيها من موارد هبة اهلل لعباده من ماء وتربة وشمس وهواء‪ ،‬فمن حق اإلنسان في‬
‫هذا المجتمع أن تحفظ له ـ إن أمكن ـ هذه الموارد الطبيعية التي ساقها اهلل تعالى إليه‪ ،‬غير أن‬
‫الحضارة الحديثة رغم خدماتها وإنجازاتها التي ال تنكر جرات على الجسد البشري ويالت‬
‫كثيرة‪ ،‬سوى إصابات العمل التي سلف ذكرها‪ ،‬منها تلوث البيئة‪.‬‬
‫فالبيئة هي المنزل وما يحيط بالفرد أو المجتمع ويؤثر فيهما‪ ،‬يقال‪ :‬بيئة طبيعية‪ ،‬وبيئة‬
‫اجتماعية‪ ،‬وبيئة سياسية‪ ،‬والمقصود هنا األول ـ الطبيعة ـ‪ 1‬التي هي مدار حديثنا‪ ،‬وأما التلوث‬
‫فهو التلطخ‪ ،‬وتلوث الماء أو الهواء ونحوه‪ ،‬خالطه مواد غريبة ضارة‪.2‬‬
‫واإلسالم دعا إلى سالمة البيئة وإفسادها على الناس‪ ،‬والنبي صلى اهلل عليه وسلم أكد هذه‬
‫المعاني‪ ،‬بدعوته إلى تطهير البيئة من المفاسد التي تلوثها منها‪:‬‬

‫‪ 1‬المسؤولية الجسدية في اإلسالم‪ ،‬عبد اهلل إبراهيم‪ ،‬ص‪.374 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.374 :‬‬

‫‪402‬‬
‫أ ـ النهي عن البول في الماء الراكد‪:‬‬
‫الماء نعمة من اهلل تعالى خلقه ليشرب منه الناس‪ ،‬ويغسلون ويسقون حيواناتهم ومزروعاتهم‪،‬‬
‫َي أَفَالَ يُؤ ِمنُونَ﴾ (األنبياء‪ ،‬آية ‪.)30 :‬‬
‫ُل شَيء ح ٍّ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬وجَعَلنَا مِ َ‬
‫ن المَاء ك َّ‬

‫هذه النعمة ـ الماء ـ تنقلب إلى ضرر محض إذا عبثت به يد اإلنسان بالتلوث‪ ،‬وكم من‬
‫األمراض تنشأ من المستنقعات ذات المياه الملوثة‪ ،‬لذا نهى النبي صلى اهلل عليه وسلم عن‬
‫تلويث الماء سيما الراكد منه‪ ،‬فقد روى جابر بن عبد اهلل رضي اهلل عنهما‪ ،‬أنه نهى صلى اهلل‬
‫عليه وسلم أن يبال في الماء الراكد‪ ،1‬ألن الجاري متغير متبدل ال تتحقق فيه علة الضرر ـ‬
‫التلويث ـ على الكائنات الحية بخالف الراكد‪.‬‬
‫ب ـ تطهير المساجد وتطبيقها‪:‬‬
‫تجمع تعاليم اإلسالم بين الحرص على النظافة واللين والمسامحة‪ ،‬فقد روى أنس بن مالك‬
‫رضي اهلل عنه قال‪ :‬بينما نحن في المسجد مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إذا جاء أعرابي‬
‫فقام يبول في المسجد‪ ،‬فقال أصحاب النبي صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬مه مه»‪ ،2‬قال صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪« :‬ال تزرموه»‪ ،3‬فتركوه حتى بال‪ ،‬ثم إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم دعاه‬
‫فقال‪« :‬إن هذه المساجد ال تصلح لشيء من هذا البول وال القذر‪ ،‬إنما هي لذكر اهلل عز وجل‬
‫والصالة وقراءة القرآن»‪ ،‬قال‪ :‬فأمر رجالً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه‪ ،4‬فال شك‬
‫أن هذا األعرابي الحديث عهد باإلسالم لم يكن يقيم وزناً للبيئة‪ ،‬ولم يعرف تعاليم اإلسالم بعد‪،‬‬
‫فبال في أطهر مكان وأكرم بيئة بعد بيت اهلل الحرام‪ ،‬فبين له النبي صلى اهلل عليه وسلم أن‬
‫المساجد ال يليق بها هذا األمر‪ ،‬غير منفر وال مفناد ولما كان فرش المسجد النبوي الشريف‬
‫الحصا فإن صبا بعض الماء على البول يكفي‪ ،‬كما أنه صلى اهلل عليه وسلم نهى عن تلويث‬
‫المسجد بالبزاق ونحوه‪ ،‬وعن أبي ذر رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬

‫‪1‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.281 :‬‬


‫‪ 2‬مه‪ :‬اسم فعل أمر بمعنى أكفف يفيد الزجر‪.‬‬
‫‪ 3‬زرم‪ :‬قطع‪ :‬أي ال تقطعوا عليه بوله‪.‬‬
‫‪ 4‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪ .285 :‬شنه‪ :‬صبه متفرقاً‪.‬‬

‫‪403‬‬
‫« عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها‪ ،‬فوجدت في محاسن أعمالها األذى يماط‪ 1‬من‬
‫الطريق‪ ،‬ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة‪ ،2‬تكون في المسجد ال تدفن»‪ ،3‬بل أمر‬
‫بتنظيف المساجد وتطييبها‪ ،‬فقد روت السيدة عائشة رضي اهلل عنها قالت‪ :‬أمر رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطياب‪».4‬‬
‫ج ـ نظافة الطرق والمرافق العامة‪:‬‬
‫إن أكثر األماكن التي يرتادها الناس الطرق العامة وموارد المياه وأماكن الجلوس‪ ،‬كالظل‬
‫ونحوه‪ ،‬لذا حذر اإلسالم من تلويثها خاصة فإن ذلك يكون إيذاء للناس من جهة‪ ،‬ألنها أماكن ال‬
‫غنى لهم عنها‪ ،‬ومجلبة للعن فاعله من جهه ثانية‪ ،‬فعن معاذ بن جبل رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬اتقوا المالعن الثالث‪ :‬البراز في الموارد‪ ،‬وقارعة الطريق‪،‬‬
‫والظل»‪.5‬‬
‫فال شك أن تلويث هذه األماكن أكثر ضرراً من غيرها‪ ،‬فالناس يكثرون فيها فيحصل الضرر‪،‬‬
‫لذا كان التحذير منفراً واصفاً الفعل بأنه مجلبة محصنة للعن الناس وشتمهم ألن الطباع السليمة‬
‫تنفر من ذلك فضالً عن تلويث البيئة ويمكن أن يقاس على ذلك من يدخن في الصاالت العامة‬
‫والحافالت واألماكن العامة‪ ،‬ألنه إنشاء ألذى وضرر في أماكن يرتادها الناس‪ ،‬فيفسد البيئة‬
‫ويستجلب لنفسه اللعن‪.6‬‬
‫د ـ عدم حجب الريح عن الجار‪:‬‬
‫لقد بيَّن صلى اهلل عليه وسلم أن الهواء الطلق من حق اإلنسان أن يشمه وال يجوز أن يحجب‬
‫عنه بحال‪ ،‬فقال مخاطباً الجار في حسن الجوار‪« :‬وال تستظل عليه بالبنيان فتحجب عنه‬
‫الريح إال بإذنه»‪ .7‬فهذا الحديث إرشاد للجار‪ ،‬وإشارة إلى أن الهواء من حق اإلنسان ال يجوز‬
‫حجبه عنه إال بإذنه‪ ،‬ويلحق بذلك أشعة الشمس ألنها أكثر أهمية في بعض البلدان واألماكن‬

‫‪ 1‬يماط‪ :‬ينحى ويبعد‪.‬‬


‫‪ 2‬النخاعة‪ :‬البلغم يخرجه اإلنسان من حلقه‪.‬‬
‫‪3‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.553 :‬‬
‫‪ 4‬سنن أبي داود‪ ،‬الحديث رقم‪.455 :‬‬
‫‪ 5‬سنن أبي داود‪ ،‬الحديث رقم‪.26 :‬‬
‫‪ 6‬المسؤولية الجسدية في اإلسالم‪ ،‬ص‪.377 :‬‬
‫‪ 7‬كنز العمال (‪ .)24932 /9‬المسؤولية الجسدية‪ ،‬ص‪.377 :‬‬

‫‪404‬‬
‫والفصول فالهواء والشمس من عناصر البيئة الطبيعية‪ ،‬ال يجوز التفريط بهما وإذا كان حجب‬
‫الريح عن الجار مرفوض‪ ،‬فمن باب أولى أال يضع القمامة أمام داره‪ ،‬أو أن يرفع صوت‬
‫المذياع والمسجل والتلفاز‪ ،‬فيؤذيه بالصخب‪ ،‬وأن ال يفتح على داره فوهات دخان الحمامات‬
‫والمطابخ‪ ،‬فكل ذلك يندرج تحت قوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال ضَرر وال ضِرار»‪ ،1‬ومما تقدم‬
‫تبيا ن لنا حرص اإلسالم على البيئة‪ ،‬ففي نظافتها ونقائها طيبة النفوس‪ ،‬وسالمة األجساد‪ ،‬ولما‬
‫كان الغراس والزرع يزيد البيئة نضارة وجماالً حث عليه اإلسالم‪ ،‬فعن أنس بن مالك رضي‬
‫اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً‬
‫فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إال كان له به صدقة»‪.2‬‬
‫*ـ الملوثات الحديثة للبيئة‪:‬‬
‫كانت ملوثات البيئة في الماضي ساذجة ويسيرة‪ ،‬وقد توسعت في العصر الحديث نتيجة الثورة‬
‫الصناعية‪ ،‬فجاء بعضها مؤثراً على السمع كالصخب أو ملوثاً للهواء كالدخان والغازات‬
‫وبعضها اآلخر مشوهاً لألجساد‪ ،‬كالتلوث اإلشعاعي‪ ،‬ومنها ما يبعث الروائح الكريهة وينقل‬
‫الجراثيم وهي الملوثات بالفضالت اآلدمية كالقمامة وغيرها‪.‬‬
‫ـ الصخب وأثره على السمع‪:‬‬
‫هناك صخب يشوه البيئة ويعكر صفوها ويصم اآلذان معرضاً إياها للصمم أحياناً مثل‪ :‬أزيز‬
‫الطائرات‪ ،‬وأصوات السيارات‪ ،‬ومحركات المصانع‪ ،‬وطنين المراوح وأجهزة تكييف الهواء‪،‬‬
‫وصفير الراديو والتلفاز‪ ،‬فهذا الصخب الدائم الضوضاء يتسبب في انكماش األوعية الدموية‪،‬‬
‫وشحوب الجلد‪ ،‬وانقباض العضالت‪ ،‬ويندفع "األدرونالين" في مجاري الدم‪ ،‬حيث يحدث توتراً‬
‫عصيباً‪.‬‬
‫ـ التلوث بالدخان والغازات‪:‬‬
‫إن دخان المصانع والقطارات وغاز السيارات العادم واحتراق الغابات‪ ،‬وتقلص األشجار‬
‫الخضراء‪ ،‬ضربة خطيرة للجسد البشري‪ ،‬عندما أحدث تلوث الهواء الذي هو بأمس الحاجة‬

‫‪ 1‬الموطأ‪ ،‬مالك ابن أنس‪ ،‬األشباه والنظائر للسيوطي قاعدة رابعة‪.‬‬


‫‪2‬أخرجه مسلم‪ ،‬الحديث رقم‪.1553 :‬‬

‫‪405‬‬
‫إليه غير أنه يمكن الحد من هذا التوث بالعمل على توسيع الرقعة الخضراء‪ ،‬وذلك بغرس‬
‫األشجار‪.1‬‬
‫ـ التلوث اإلشعاعي‪:‬‬
‫إن المخلفات بالء على البشرية وخطر عظيم على الجسد البشري‪ ،‬يشوهه إذا لم يفنيه‪ ،‬إذا‬
‫أهملت ولم يمكن التخلص منها‪ ،‬لذا يجب أن توضع في أوعية ال تتآكل أو تصدأ حيث ال توجد‬
‫كائنات حية‪ ،‬وحيث ال تكشفها الظواهر الجيولوجية كالزالزل فتعيدها للوجود‪.‬‬
‫ـ التلوث بالفضالت اآلدمية‪:‬‬
‫من المعلوم أن القمامة لها أثر سيىء على البيئة‪ ،‬فمنها تنبعث الروائح الكريهة والجراثيم‬
‫المختلفة والناقلة لألمراض‪ ،‬وكل ذلك يصل إلى الجسد البشري عن طريق الهواء وغيره‪،‬‬
‫ويمكن التخلص من التلوث بهذه بأن توقد في مراجل المصانع‪ ،‬فبذلك يتخلص بها من جهة‪،‬‬
‫ويستفاد منها كطاقة من جهة ثانية‪.‬‬
‫كما أن مجاري المياه ـ البواليع ـ تشكل خطراً ال يقل عن خطر القمامة‪ ،‬وإن لم يكن أكثر‪ ،‬فهي‬
‫تفسد البيئة أيماا إفساد إذا لم يحسن إحكامها وتصريفها‪ ،‬فإذا تجمعت في منخفض من األرض‬
‫شكلت مستنقعات من الجراثيم الناقلة لألمراض وإذا ما سلطت هذه على مياه األنهار أو البحار‬
‫كان التلوث المائي أيضاً‪ ،‬واألحسن في ذلك سقاية المزروعات بها مع الحذر الشديد‪ ،‬وإشراف‬
‫أهل الخبرة الزراعية والصحية على ذلك ألن الحاصل من تلوث الماء هو عين ما حذر منه‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم كما ورد في الحديث "البراز في الموارد"‪ .‬واألحسن من ذلك كله أن‬
‫تعالج هذه المياه لتخليصها من الميكروبات الضارة الناقلة لألمراض والمواد السامة‪.2‬‬
‫هذه بعض الملوثات األساسية للبيئة‪ :‬الصخب والدخان والغازات السامة‪ ،‬واإلشعاع الذري‪،‬‬
‫والفضالت اآلدمية وغيرها كثير‪ ،‬إنما اقتصرت في الدراسة على هذه األنواع ألنها أكثر‬
‫شمولية وأشد خطراً على الجسد البشري من غيرها فهناك التلوث بالنفايات النفطية‪ ،‬من جراء‬
‫غسل وتنظيف ناقالت النفط في البحار‪ ،‬وهناك التلوث المعدني والكيماوي الناشىء عن إلقاء‬

‫‪ 1‬المسؤولية الجسدية في اإلسالم‪ ،‬ص‪.383 :‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.385 :‬‬

‫‪406‬‬
‫فضالت المصانع الكيماوية والبتروكيماوية‪ ،‬ومصانع الفوالذ على السواحل والتي تلقى في مياه‬
‫البحار أيضاً‪ ،‬كما يجب أن ال يفوتنا خطر األسلحة الحديثة الملوثة للجو المشوهة لألجساد فهي‬
‫الخانقة أحياناً‪ ،‬والقاتلة أحياناً أخرى والتي ال يقف خطرها عند حدود الجيوش العسكرية‪ ،‬بل‬
‫تتعداهم إلى عامة الناس‪ ،‬وال تزال آثار التشوه النووي لدى اليابانيين من جراء تفجير القنبلة‬
‫الذرية عام ‪1945‬م على هيروشيما وهذه األسلحة مثل‪:‬‬
‫ـ األسلحة النووية‪ ،‬كالقنابل الذرية والهيدروجينية والنيتروجينية‪.‬‬
‫ـ األسلحة الكيماوية‪ ،‬كالغازات الحربية والمواد الحارقة "كالنابالم" والمواد الدخانية‪.‬‬
‫ـ األسلحة البيولوجية‪ ،‬وهي تستخدم في صور مستحضرات بيولوجية سائلة أو جافة من‬
‫الميكروبات المعدنية‪ ،‬أو استخدام الحشرات الناقلة لألمراض وسيلة لنقل الميكروبات‪.1‬‬

‫البيئة في الدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية‪:‬‬


‫تعمل الدولة الحديثة على تأسيس مجتمع متميز بالوعي البيئي وقادر على حماية البيئة وتوازنها‬
‫الطبيعي تحقيقاً للتنمية الشاملة‪ ،‬والمستدامة لكل األجيال‪ ،‬فمن أهداف الدولة في موضوع البيئة‪:‬‬
‫ـ الحفاظ على البيئة مسؤولية الدولة‪ ،‬والمواطن على حد سواء‪.‬‬
‫ـ وضع منظومة من التشريعات الصارمة التي تكفل الحفاظ على البيئة وتضمن توافق كافة‬
‫المنشآت واألنشطة للمعايير العالمية في الحفاظ على البيئة‪.‬‬
‫ـ أن يكفل التخطيط العمراني تظل كافة األنشطة الصناعية الرئيسية والمغذية الضارة بالبيئة‬
‫إلى خارج نطاق الحيز العمراني‪.‬‬
‫ـ تفعيل دور الدولة على صعيد الحفاظ على البيئة على المستوى الدولي‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫االنخراط في االتفاقيات والمعاهدات الدولية ذات الصلة‪.‬‬
‫ـ تشجيع الجمعيات والمنظمات األهلية على االنخراط في المشاريع ذات الصلة بالحفاظ على‬
‫البيئة‪.‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.386 :‬‬

‫‪407‬‬
‫ـ تشجيع االستثمارات في قطاعات الطاقة النظيفة والمتجددة‪.‬‬
‫ـ سن التشريعات الالزمة لتنظيم االستخدام المستدام للمياه‪.‬‬
‫ـ تبني خطة عملية منهجية إلجراء بحوث وقياسات‪ ،‬ووضع مبادئ توجيهية إلدارة ارتفاع‬
‫منسوب المياه الجوفية بالدولة‪.‬‬
‫ـ وضع نظم لرصد نسب التلوث الناجمة عن حرق الغاز وكافة مصادر الطاقة األخرى‪ ،‬والحد‬
‫من االنبعاث الحراري‪.‬‬
‫ـ إنشاء قاعدة بيانات وإدارات متخصصة للتخفيف من حدة الملوثات غير الصحية المحولة‬
‫جواً‪.‬‬
‫ـ وضع مبادئ توجيهية لتشجيع سياسية إعادة تدوير المخلفات التي تنتجها المؤسسات التجارية‬
‫والصناعية‪.‬‬
‫ـ زيادة المساحات الخضراء وإنشاء أحزمة خضراء حول المدن من األشجار المعمرة‪.‬‬
‫ـ إعداد ومر اقبة وتطبيق المقاييس واللوائح ذات الصلة بجودة الهواء والمحافظة على البيئة‬
‫البحرية واستخدام المياه وتنقيتها ومنع تلوث األراضي‪ ،‬وزيادة مساحات استصالحها والحد من‬
‫الضوضاء‪.‬‬
‫ـ المحافظة على الصحة العامة من خطر استخدام النفايات والمواد المشتعلة والمؤينة والخطرة‬
‫والمتفجرة والملوثة‪.‬‬
‫ـ الشراكة بين القطاعين العام والخاص وصوالً إلى المشاركة في الحفاظ على البيئة‪.‬‬
‫ـ مكافحة التلوث وترشيد استخدام الموارد الطبيعية في الزراعة والصناعة من أولويات‬
‫السياسة البيئية للدولة‪.‬‬
‫ـ تمكين الدوائر والهيئات الحكومية من إدارة البيئة وذلك من خالل تطوير اللوائح واألنظمة‬
‫التي تكفل مراقبة أنشطة القطاع الخاص الضارة بالبيئة حال وجودها‪.‬‬

‫‪408‬‬
‫ـ إنشاء إطار قانوني للبيئة ينظمها ويعمل على حمايتها في جميع القطاعات العاملة في الدولة‬
‫وبخاصة قطاع البناء والتشييد والنقل والمواصالت والطيران والصحة والسياسة والطاقة‬
‫والنفط والغاز والصناعة وغيرها‪.‬‬
‫ـ إعداد إ ستراتيجيات بحماية البيئة ووسائل لحمايتها ومراقبة وتحليل أي أنشطة ضارة بها في‬
‫شتى المجاالت كالهواء والمياه والضوضاء والنفايات‪.‬‬
‫ـ بناء مؤسسات بيئية فعالة ومتطورة تقوي اإلحساس العام بأهمية وسالمة البيئة وتستخدم‬
‫أحدث ا لتقنيات للحفاظ عليها‪ ،‬على أن تقوم تلك المؤسسات تنظيم برامج توعية بيئية ووضع‬
‫خطط خاصة لحماية البيئة وإجراء البحوث المتعلقة بذلك‪.‬‬
‫ـ دعم الجهود الدولية للتقليل من اآلثار الضارة للتغير المناخي‪ ،‬والعمل على خفض االنبعاث‬
‫الحراري‪.‬‬

‫‪9‬ـ الصحة‪:‬‬
‫اإلنسان يكون صحيحاً إذا كان على الحال التي خلقها اهلل عليها في بدنه وروحه‪ ،‬فإذا خرج عن‬
‫الحال التي فطر اهلل العباد عليها اعتل بدنه واعتلت روحه‪ ،‬واحتاج إلى معالجة حتى يتعافى‬
‫بعودته إلى الخلقة السوية وخير ما تعالج به األمراض القرآن الكريم‪ ،‬وقد دل على أن القرآن‬
‫شفاء نصوص من القرآن الكريم‪:‬‬
‫ـ قال تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَد جَاءتكُم مَّوعِظَة مِّن رَِّّبكُم وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ‬

‫وَهُدًى وَرَحمَة لِّلمُؤمِنِينَ﴾ (يونس‪ ،‬آية ‪ .)57 :‬أي‪ :‬من الشبه والشكوك‪ ،‬وهو إزالة ما فيها من‬

‫دنس‪.1‬‬
‫ن‬
‫ال يَزِي ُد الظَّالِمِي َ‬
‫ن وَ َ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و ُننَزِّ ُل مِ َ‬
‫ن القُرآنِ مَا هُ َو شِفَاء وَرَحمَة لِّلمُؤ ِمنِي َ‬

‫إَالَّ خَسَارًا﴾ (اإلسراء‪ ،‬آية ‪ .)82 :‬يقول تعالى عن كتابه الذي أنزل على محمد وهو القرآن‬
‫‪ 1‬تفسير ابن كثير (‪.)509 /3‬‬

‫‪409‬‬
‫الكريم الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلقه تنزيل من حكيم حميد إنه شفاء ورحمة‬
‫للمؤمنين‪ ،‬أي يذهب ما في القلوب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيع وميل‪ ،‬فالقرآن‬
‫الكريم يشفي من ذلك كله‪.1‬‬
‫ـ وقال تعالى‪﴿ :‬وَلَو جَعَلنَاهُ قُرآنًا أَعجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوالَ فُصِّلَت آيَاتُهُ أَأَعجَمِيٌّ َوعَرَب ٌّ‬
‫ِي قُل‬

‫ن فِي آذَانِهِم وَقر وَهُ َو عَلَيهِم عَمًى‬


‫ال يُؤمِنُو َ‬
‫هُ َو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ َ‬
‫ن مِن مَّكَان بَعِيد﴾ (فصلت‪ ،‬آية ‪.)44 :‬‬
‫أُولَئِكَ ُينَادَو َ‬

‫والقرآن الكريم ينفرد بمعالجة أمراض النفوس والقلوب دون سواه وعملية إصالح النفس‬
‫البشرية أطلق عليها القرآن "تزكية النفس" وعملية إفساد هذه النفس سماها "بتدسية النفس"‬
‫وأقسم الحق سبحانه وتعالى أقساماً سبعة في مطلع سورة الشمس على أن المفلح من زكى‬
‫نفسه‪ ،‬والخائن الخاسر من دساها‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وَالشَّم ِ‬
‫س وَضُحَاهَا * وَالقَمَ ِر إِذَا تَالَهَا *‬

‫وَالنَّهَا ِر إِذَا جَالَّهَا *وَاللَّي ِل إِذَا يَغشَاهَا * وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَاألَرضِ َومَا طَحَاهَا *‬
‫وَنَفس وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقوَاهَا * قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَد خَابَ مَن‬
‫دَسَّاهَا﴾ (الشمس‪ ،‬آية ‪ 1 :‬ـ ‪.)10‬‬

‫وقال في موضع آخر‪﴿ :‬قَد أَفلَحَ مَن تَزَكَّى﴾ (األعلى‪ ،‬آية ‪ .)14 :‬وقال لموسى عندما أرسله‬

‫ك‬ ‫إلى فرعون‪﴿ :‬اذهَب إِلَى فِرعَو َ‬


‫ن إِنَّهُ طَغَى * فَقُل هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهدِيَ َ‬

‫ك فَتَخشَى﴾(النازعات‪ ،‬آية ‪ 17 :‬ـ ‪.)19‬‬


‫إِلَى رَبِّ َ‬

‫ولما كان القرآن هو طب القلوب ودواؤها وبه تتحقق تزكية النفوس واألرواح‪ ،‬فإنه بمثابة‬
‫ت‬
‫إِلَيكَ رُوحًا مِّن أَمرِنَا مَا كُن َ‬ ‫الروح ألرواحنا والنور لبصائرنا ‪﴿ :‬وَكَذَلِ َ‬
‫ك أَوحَينَا‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه (‪.)343 /4‬‬

‫‪410‬‬
‫ال اإلِيمَانُ وَلَكِن جَعَلنَاهُ نُورًا نَّهدِي بِهِ مَن نَّشَاء مِن عِبَادِنَا﴾‬
‫تَدرِي مَا الكِتَابُ وَ َ‬

‫(الشورى‪ ،‬آية ‪.)52 :‬‬


‫فقد وصف اهلل عز وجل الوحي بوصفين‪ :‬األول‪ :‬أنه روح‪ ،‬والثاني‪ :‬أنه نور‪ ،‬وبالروح تكون‬
‫الحياة وبالنور تكشف الظلمات‪ ،‬ولذا فإن اهلل يحيي بهذا القرآن من ماتت قلوبهم وعميت‬
‫بصائرهم بالكفر والضالل " َأ َو مَن كَانَ مَيتًا فَأَحيَينَاهُ وَجَعَلنَا لَهُ نُورًا يَمشِي بِ ِه فِي‬
‫النَّاسِ كَمَن مَّثَلُ ُه فِي الظُّلُمَاتِ لَيسَ ِبخَارِج مِّنهَا" (األنعام‪ ،‬آية ‪.)122 :‬‬
‫وأمراض القلوب التي أنزل القرآن شفاء لها نوعان‪ :‬أمراض شبهات تجعل اإلنسان في حيرة‬
‫وقلق وضياع‪ ،‬وأمراض شهوات‪ ،‬فأمراض الشبهات مذكورة في مثل قوله تعالى‪﴿ :‬فِي قُلُوبِهِم‬

‫مَّرَض فَزَادَهُمُ اهللُ مَرَضاً﴾ (البقرة‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬

‫وأمراض الشهوات مذكورة في قوله تعالى‪﴿ :‬فَالَ تَخضَع َ‬


‫ن بِالقَولِ فَيَطمَ َع الَّذِي فِي قَلبِهِ‬

‫مَرَض﴾ (األحزاب‪ ،‬آية ‪.)32 :‬‬

‫وهذان النوعان من أمراض القلوب أصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده‪ ،‬وشقاؤه في‬
‫معرفته لربه واستقامته على طاعته‪ ،‬والبعد عما نهى عنه وحذر منه‪ ،‬إن أكثر أمراض النفوس‬
‫تأتي من الشيطان والنفس األمارة بالسوء فالشيطان يستعين على بلوغ غرضه من اإلنسان‬
‫بالنفس األمارة بالسوء وليس من طريق للخالص من الشيطان إال بااللتجاء إلى اهلل وقد علمنا‬
‫اهلل أن نلجأ إليه دائماً ونحتمي من نزغات الشيطان‪.1‬‬
‫ن * وَأَعُو ُذ بِكَ رَبِّ أَن يَحضُرُونِ﴾‬ ‫﴿وَقُل ر ِّ‬
‫َّب أَعُوذُ ِبكَ مِن هَمَزَاتِ الشَّيَاطِي ِ‬

‫(المؤمنون‪ ،‬آية ‪ 97 :‬ـ ‪.)98‬‬

‫‪ 1‬دراسات فقهية في قضايا طبية (‪ ،)13 /1‬عمر األشقر‪ ،‬محمد عثمان شبير‪ ،‬د‪ .‬عارف علي عارف‪.‬‬

‫‪411‬‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬قُل أَعُوذُ بِر ِّ‬
‫َب النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الوَسوَاسِ‬

‫س فِي صُدُو ِر النَّاسِ* مِنَ الجِنَّ ِة َو النَّاسِ﴾ (الناس‪ ،‬آية ‪ 1 :‬ـ ‪.)6‬‬
‫الخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَس ِو ُ‬

‫أ ـ من يذهب إلى أن النصوص عامة في أمراض القلوب واألبدان‪:‬‬


‫ويذهب جمهور علماء أهل السنة إلى أن النصوص المقررة لكون القرآن شفاء عامة في‬
‫أمراض القلوب واألبدان‪ ،‬وفي ذلك يقول العالمة ابن القيم رحمه اهلل تعالى‪ :‬قال اهلل تعالى‪:‬‬
‫ن القُرآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحمَة لِّلمُؤ ِمنِينَ﴾ (اإلسراء ‪ ،‬آية ‪.)82 :‬‬ ‫﴿وَُنن ِّ‬
‫َز ُل مِ َ‬

‫والصحيح أن (مِنَ) هنا لبينان الجنس ال التبعيض‪ ،‬وقال تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَد جَاءتكُم‬

‫عظَة مِّن رَّبِّكُم وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾ (يونس ‪ ،‬آية ‪.)57 :‬‬
‫مَّو ِ‬

‫فالقرآن هو الشفاء التام من جميع األدوار القلبية والبدنية وأدواء الدنيا واآلخرة‪ ،‬وما كل أحد‬
‫يؤهل ويوفق لالستشفاء به‪ ،‬وإذا أحسن العليل التداوي به‪ ،‬ووضعه على دائه بصدق وإيمان‬
‫وقبول تام واعتقاد جازم‪ ،‬واستيفاء شروطه لم يقاومه الداء أبداً‪ ،‬وكيف تقاوم األدواء كالم رب‬
‫األرض والسماء الذي لو نزل على الجبال لصدعها أو على األرض لقطعها‪ ،‬فما من مرض‬
‫من أمراض القلوب‪ ،‬واألبدان إال وفي القرآن سبيل الداللة على دوائه وسببه والحماية منه لمن‬
‫رزقه اهلل فهماً في كتابه‪.1‬‬
‫ب ـ األدلة على أن القرآن شفاء ألمراض األبدان‪:‬‬
‫وعلى كل فسواء أكانت النصوص القرآنية المقررة لكون القرآن شفاء خاصة بأمراض القلوب‬
‫أو شاملة لها وألمراض األبدان‪ ،‬فقد قامت أدلة كثيرة على أن القرآن شفاء ألمراض األبدان‪،‬‬
‫ومن هذه األدلة‪:‬‬
‫‪ ‬ـ ثبت أن القرآن يطهر األرواح ويباركها ويصلحها‪ ،‬وإذا صلحت األرواح كان في‬
‫صالحها صالح لألبدان‪ ،‬يقول ابن القيم‪ :‬قد علم أن األرواح متى قويت وقويت النفوس‬

‫‪ 1‬زاد المعاد (‪.)178 / 3‬‬

‫‪412‬‬
‫والطبيعة تعاونا على رفع الداء وقهره‪ ،‬فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه‪ ،‬وفرحت‬
‫بقربها من بارئها وأنسها به‪ ،‬وجهاً له‪ ،‬وتنعمها بذكره وإنصراف قواها كلها إليه‬
‫وجمعها عليه واستعانتها به‪ ،‬وتوكلها عليه أن يكون لها ذلك من أكبر األدوية‪ ،‬وتوجب‬
‫لها هذه القوة رفع األلم بالكلية‪.1‬‬
‫‪ ‬ـ ثبوت معالجة الرسول صلى اهلل عليه وسلم بال َّرقي وإرشاد أصحابه إلى المعالجة به‬
‫والرقية كما يقول ابن األثير‪ :‬العودة التي يُرقي بها صاحب اآلفة‪ ،‬كالحمى والصرع‬
‫وغير ذلك من اآلفات‪.2‬‬
‫ويقول القرافي في تعريفها‪ :‬الرقى ألفاظ خاصة يحدث عندها الشفاء من األسقام‬
‫واألدواء واألسباب المهلكة‪ ،‬وال يقال لفظ رقى على ما يحدث ضرراً بل ذلك يقال له‪:‬‬
‫السحر‪.3‬‬
‫واألحاديث التي تدل على مشروعية الرقي متواترة تواتراً معنوياً‪ ،‬فهي وإن اختلفت ألفاظها‬
‫ووقائعها إال أن كل واحد منها يدل على مشروعية الرقي‪.‬‬
‫وقد يقال‪ :‬نعم صح أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم عالج المرض بالرقي‪ ،‬وأرشد أصحابه إلى‬
‫المعالجة بها ولكن هذه في الرقية بغير القرآن‪.‬‬
‫والجواب على هذين من وجهين‪:‬‬
‫‪ ‬ـ إذا ثبت أن الرقي عامة مماا يشفي من األمراض واألسقام فإن كالم اهلل أفضل ما يقري‬
‫به‪ ،‬ألن له من الخصائص ما ليس بغيره‪ ،‬وفي ذلك يقول ابن القيم ـ فيما نقله عنه ابن‬
‫حجر العسقالني‪ :‬إذا ثبت أن لبعض الكالم خواص ومنافع فما الظن بكالم رب‬
‫العالمين‪.4‬‬
‫وقراءة القرآن من أنفع األدوية لألدواء التي يسببها الجان‪ ،‬أو يكون له دخل في اإلصابة‬
‫بها‪ ،‬كتلبس الجان باإلنسان‪ ،‬والسحر والعين والحسد ونحوها‪.‬‬

‫‪ 1‬زاد المعاد‪.)66 :3( :‬‬


‫‪ 2‬النهاية في الغريب الحديث (‪.)254 / 2‬‬
‫‪ 3‬الفروق (‪.)147 / 4‬‬
‫‪ 4‬فتح الباري (‪.)198 / 10‬‬

‫‪413‬‬
‫‪ ‬ـ صح في األحاديث أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم رقى بكتاب اهلل‪ ،‬كما صح أنه أقر‬
‫من رقى بكتاب اهلل‪ ،‬ففي صحيحي البخاري ومسلم والموطأ والسنن ألبي داود‬
‫والترمذي عن عائشة رضي اهلل عنها أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬كان إذا‬
‫اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث‪.1‬‬
‫وفي سنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري‪ :‬أن النبي صلى اهلل عليه وسلم كان يتعوذ‬
‫ويقول‪« :‬أعوذ باهلل من الجان‪ ،‬ومن عين اإلنسان»‪ .‬فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما‪،‬‬
‫وترك ما سواهما‪.2‬‬
‫وصح في صحيحي البخاري ومسلم والسنن ألبي داود والترمذي أن رجالً من صحابة‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رقى رجالً كان سيداً في قومه من لدغة حية أو عقرب‬
‫بفاتحة الكتاب‪ ،‬فشفاه اهلل وأخذ على رقيه أجراً‪ ،‬فذكروا ذلك للنبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فأقره على رقيته وعلى ما أخذه من أجر على رقيته‪.3‬‬
‫وأورد صاحب جامع األصول حديثاً آخر رواه أبو داود ذكر فيه أن صحابياً رقى‬
‫معتوهاً في القيود بفاتحة الكتاب فشفاه اهلل وأن الرسول صلى اهلل عليه وسلم أقره على‬
‫رقيته وعلى ما أخذه من أجر عليها‪.4‬‬
‫*ـ ومماا يدل على صحة التشافي بالرقي وأعظمها الرقى القرآنية أنه ثبت بما ال يقبل‬
‫الشك أن الرقي ذات تأثير على أمراض األبدان‪ ،‬وهذا أمر مشاهد في كل عصر‬
‫ومصر‪ ،‬يقول ابن حزم‪ :‬جربنا من كان يرقي الدمل الحاد القوي الظهور في أول‬
‫ظهوره‪ ،‬فيبدأ من يومه ذاك بالذبول‪ ،‬ويتم يبسه في اليوم الثالث‪ ،‬ويقلع كما تقلع قشرة‬
‫القرحة إذا تم يبسها جربنا ذلك ما ال نحصيه‪ ،‬وكانت هذه المرأة ترقي أحد دملين قد‬
‫دفعا على إنسان واحد‪ ،‬وال ترقي الثاني‪ ،‬فيبس الذي رقت‪ ،‬ويتم ظهور الذي لم ترق‪،‬‬

‫‪ 1‬جامع األصول (‪.)562 /7‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه‪.)563 /7( ،‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه (‪ 566 /7‬ـ ‪.)568‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه (‪.)569 /7‬‬

‫‪414‬‬
‫ويلقى منه حامله األذى الشديد‪ ،‬وشاهدنا من كان يرقى الورم المعروف بالخنازير‪،‬‬
‫فيندمل ما يفتح منها‪ ،‬ويذبل ما لم ينفتح‪ ،‬ويبرأ‪.1‬‬
‫وقد ثبت في صحيح األحاديث أن الذين رَقوا بالقرآن شفى اهلل على أيديهم من رقوه‪.2‬‬
‫‪ ‬ـ االستشفاء بالقرآن ليس قصراً على الرقية به‪:‬‬
‫ما قرره الحق تبارك وتعالى من كون القرآن شفاء ليس قصراً على قراءة القرآن على‬
‫المريض‪ ،‬بل هي دائرة أوسع من ذلك بكثير‪ ،‬ويمكننا أن ندرك سعة هذه الدائرة من‬
‫خالل األمور اآلتية‪:‬‬

‫األول‪ :‬داللة القرآن على قواعد العالج وأصوله‪:‬‬


‫حوت النصوص من الكتاب والسنة األصول والقواعد التي تدل على كيفية معالجة‬
‫األبدان‪ ،‬بل دلت على تفاصيل مهمة في عالج األمراض وفي ذلك يقول ابن القيم‪،‬‬
‫قواعد طب األبدان ثالثة‪ :‬حفظ الصحة‪ ،‬والحمية على المؤذي‪ ،‬واستفراغ المواد‬
‫الفاسدة‪ ،‬وذكر المولى تبارك وتعالى هذه األصول الثالثة في ثالثة مواضع‪.‬‬
‫ن مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَر فَعِدَّة مِّن أَيَّام أُخَرَ﴾ (البقرة ‪ ،‬آية‬
‫ـ فقال في آية الصوم‪﴿ :‬وَمَن كَا َ‬

‫‪.)185 :‬‬

‫فأباح الفطر للمريض لعذر المرض‪ ،‬وللمسافر طلباً لحفظ صحته وقوته لئال يذهبها الصوم في‬
‫السفر الجتماع شدة الحركة‪ ،‬وما يوجبه من التحلل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تحلل‪ ،‬فتخور‬
‫القوة وتضعف‪ ،‬فأباح للمسافر الفطر حفاظاً لصحته وقوته عما يضعفها‪.‬‬

‫ـ وقال في آية الحج‪َ ﴿ :‬فمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَو ِب ِه أَذًى مِّن رَّأسِهِ فَفِديَة مِّن صِيَام‬

‫أَو صَدَقَة أَو نُسُك﴾ (البقرة ‪ ،‬آية ‪ .)196 :‬فأباح للمريض‪ ،‬ومن به أذى من رأسه من قمل‬

‫‪ 1‬الفصل في الملل واألهواء (‪.)4 /2‬‬


‫‪ 2‬دراسات فقهية في قضايا طيبة معاصرة (‪.)17 / 1‬‬

‫‪415‬‬
‫أو حكة أو غيرهما أن يحلق رأسه في اإلحرام استفراغاً لمادة األبخرة الرديئة التي أوجبت له‬
‫األذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر‪ ،‬فإذا حلق رأسه‪ ،‬ففتحت المسام‪ ،‬فخرجت بتلك األبخرة‬
‫منها‪ ،‬فهذا االستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه‪.‬‬

‫واألشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشر‪ :‬الدم إذا هاج‪ ،‬والمني إذا سيغ‪ ،‬والبول‪ ،‬والغائط‪،‬‬
‫والريح‪ ،‬والقيء‪ ،‬والعطاس‪ ،‬والنوم‪ ،‬والجوع والعطش‪.‬‬

‫وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داء من األدواء وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها‪ ،‬وهو‬
‫البخار المحتقن في الرأس على استفراغ ما هو أصعب منه‪ ،‬كما هي طريقة القرآن التنبيه‬
‫باألدنى على األعلى‪.‬‬

‫وأما الحمية فقال في آية الوضوء‪﴿ :‬وَإِن كُنتُم مَّرضَى أَو عَلَى سَفَر أَو جَاء أَحَد مِّنكُم‬

‫(النساء ‪ ،‬آية ‪.)43 :‬‬ ‫َممُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾‬


‫مِّن الغَآئِطِ أَو الَمَستُ ُم النِّسَاء فَلَم تَجِدُوا مَاء فَتَي َّ‬

‫فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حمية له أن يصيب جسده ما يؤذيه‪ ،‬وهذا تنبيه‬
‫على الحمية من كل مؤذ له من داخل أو خارج‪.1‬‬
‫وقد عقب ابن القيم على كالمه هذا الذي نقلناه عنه بقوله‪ :‬فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول‬
‫الطب الثالثة ومجامع قواعده‪.2‬‬
‫وقد أطال ابن القيم بعد ذلك في ذكر هدي النبي صلى اهلل عليه وسلم في الطب والمعالجة في‬
‫نفسه وأهله وأصحابه‪ ،‬وذكر في ذلك هديه في األمر بالتداوي في معالجة استطالق البطن‪،‬‬
‫والطاعون‪ ،‬وداء االستسقاء‪ ،‬وهديه بالمعالجة بالعسل والحجامة والكي‪ ،‬وهديه في معالجة‬
‫الصرع وغير ذلك مما يجعل ما أورده فيه مؤلفاً مستقالً بذاته‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الطب الوقائي في الكتاب والسنة‪:‬‬

‫‪ 1‬زاد المعاد بتصرف يسير (‪.)64 / 3‬‬


‫‪ 2‬المصدر نفسه (‪.)64 / 3‬‬

‫‪416‬‬
‫والنوع الثاني الذي يوسع دائرة االستشفاء بالقرآن هو الطب الوقائي الذي يستفاد من جملة‬
‫األحكام والتوجيهات التي جاء بها القرآن وصحيح األحاديث‪ ،‬وهذا باب واسع‪ ،‬فالنصوص‬
‫اآلمرة بالطهارة والنظافة كثيرة جداً‪ ،‬بل إن طهارة البدن عبادة ال تتم الصالة بغيرها فقد أوجب‬
‫اهلل االغتسال من الجنابة‪ ،‬كما أوجب الغسل على المرأة إذا طهرت من حيضها ونفاسها‪،‬‬
‫وحبب الرسول صلى اهلل عليه وسلم االغتسال في كل جمعة‪ ،‬ولم يكتف بذلك بل أوجب‬
‫الوضوء كلما أراد الصالة إذا خرج منه بول أو غائط أو ريح‪ ،‬والوضوء يشمل غسل‬
‫األعضاء الظاهرة من الوجوه واأليدي واألرجل‪ ،‬كما أمر بمسح الرؤوس‪ .‬وأمرت النصوص‬
‫بغسل اليدين عند االستيق اظ من نوم الليل‪ ،‬وحببت غسلهما عند الطعام‪ ،‬وأمرت باالستنجاء من‬
‫البول والغائط‪ ،‬وهي عملية يطهر المسلم فيها مخرج البول والغائط بعد خروجهما منه‪ ،‬وأمرت‬
‫الشريعة المباركة بقص األظافر وقص الشارب ونتف شعر اإلبط وحلق شعرالعانة‪ ،‬كما‬
‫أوجبت الختان في حق الذكور‪.‬‬
‫وحثَّ الرسول صلى اهلل عليه وسلم كثيراً على تطهير الفم بالسواك‪ ،‬وأخبر أنه مطهرة للفم‬
‫مرضاة للرب‪ ،‬وكما حثَّ أيضاً على نظافة المساكن وأفنية البيوت‪ ،‬وأمر برفع األذى عن‬
‫الطريق‪ ،‬وجعله إحدى خصال اإليمان‪ ،‬ونهى أشد النهي عن إيذاء المسلمين في طرقاتهم‬
‫وأماكن جلوسهم وموارد مياههم‪.‬‬
‫ونهى النبي صلى اهلل عليه وسم عن دخول البالد الموبوءة باألمراض المعدية‪ ،‬ونهى من كان‬
‫في تلك الديار عن الخروج منها‪ ،‬وهذه أفضل وسيلة لمنع انتشار األمراض واألوبئة التي تنتقل‬
‫بالعدوى السريعة‪ ،‬وهذا ما يسمى اليوم بالحجر الصحي‪.‬‬
‫وشرع لنا تناول الطيبات من األطعمة واألشربة‪ ،‬ونهانا عن تناول الخبيث منها‪ ،‬ونهانا عن‬
‫اإلسراف في تناول الطعام والشراب‪ ،‬وحرم علينا األكل من الميتة والدم ولحم الخنزير‪ ،‬كما‬
‫نهانا عن الخمر والمخدرات وشرع لنا الزواج ونهى عن الزنا واللواط‪.‬‬
‫ومن تتبع ما جاء به اإلسالم مما يقيم صحة اإلنسان‪ ،‬ويحفظ بدنه‪ ،‬ويدفع عنه األسقام فإنه يجد‬
‫منهاجاً كامالً يحفظ اهلل به اإلنسان من كثير من األسقام‪ ،‬وقد استقرأ علماء الشريعة التشريعات‬

‫‪417‬‬
‫التي جاء بها الكتاب والسنة فوجدوا أن الشريعة وضعت لجلب المصالح للعباد ودفع المفاسد‬
‫عنهم‪ ،‬ووجدوا أن تشريعات هذا الدين تتجه كلها إلى أن تحفظ على الناس دينهم وأنفسهم‬
‫وعقولهم وأنسابهم وأموالهم‪.1‬‬
‫الثالث‪ :‬علوم الطب من فروض الكفاية‪:‬‬
‫اعتبر علم الطب من العلوم المهمة في الحياة البشرية‪ ،‬وبتطبيقه كثير من المصالح العظيمة‬
‫والمنافع الجليلة‪ ،‬التي منها حفظ الصحة ودفع ضرر األسقام واألمراض عن بدن اإلنسان‪،‬‬
‫فيتقوى المسلم بذلك على طاعة ربه تعالى ومرضاته‪.‬‬
‫والبد للمجتمع من وجود الطبيب‪ ،‬وتختلف حاجته إليه بحسب اختالف الظروف واألحوال‪،‬‬
‫وإذا لم تسد حاجة المجتمع إلى األطباء‪ ،‬فإن حياة الناس وأرواحهم ستكون مهددة بخطر‬
‫األمراض وجراحات الحروب والحوادث التي تفضي بهم إلى الموت والهالك في الغالب‪.‬‬
‫ولما كانت شريعتنا اإلسالمية مبنية على الرحمة بالخلق ودفع المشقة والحرج عنهم في‬
‫التكاليف والتشريعات التي جاءت بها‪ ،‬فإنها راعت تلك الحاجة التي البد من سدها في‬
‫المجتمعات المسلمة‪ ،‬فأجازت تعلم الطب وتعليمه‪.2‬‬
‫قال النووي رحمه اهلل‪ :‬وأما العلوم العقلية‪ ،‬فمنها ما هو فرض كفاية كالطب والحساب المحتاج‬
‫إليه‪.3‬‬
‫وقال الغزالي رضي اهلل عنه‪ :‬وال يستبعد عد الطب والحساب من فروض الكفاية‪ ،‬فإن الحرف‪،‬‬
‫والصناعات التي البد للناس منها في معايشهم كالفالحة فرض كفاية‪ ،‬فالطب والحساب أولى‪.4‬‬
‫فقوله‪ :‬المحتاج إليه‪ :‬فيه دليل على أن الحكم بفرضية الطب على الكفاية إنما هو مبني على‬
‫وجود الحاجة إليه‪ ،‬وال شك في أن هذه الحاجة موجودة في كل زمان ومكان‪ ،5‬ولكنها تتفاوت‬
‫في قدرها على حسب تفاوض الظروف واألحوال‪ ،‬وفقهاء اإلسالم وأئمته األعالم نجدهم‬
‫ينصون في كتبهم على حكم فرضية تعلم الطب على الكفاية‪ ،‬بل لم يقف األمر عند ذلك‪ ،‬وإنما‬
‫‪ 1‬دراسات فقهية في قضايا طبية معاصرة (‪ 18 / 1‬ـ ‪.)21‬‬
‫‪ 2‬أحكام الجراحة الطبية‪ ،‬د‪ .‬محمد الشنقيطي‪ ،‬ص‪ 73 :‬ـ ‪.74‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.74 :‬‬
‫‪ 4‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.75 :‬‬
‫‪ 5‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.75 :‬‬

‫‪418‬‬
‫تعداه إلى شحذ الهمم وحفزهم النفوس وتعلمه‪ ،‬حتى قال الشافعي‪ :‬ال أعلم علماً بعد الحالل‬
‫والحرام أنبل من الطب‪.1‬‬
‫وقد بيا ن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لكل داء دواء‪ ،‬فإذا أصيب الداء برأ بإذن اهلل عز‬
‫وجل‪.2‬‬
‫وقال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ما أنزل اهلل داء إال أنزل له شفاء»‪.3‬‬
‫أن كال الحديثين الشريفين دالَّ على أنه ما من داء إال وقد جعل اهلل له دواء‪ ،‬وإذا كان األمر‬
‫كذلك فإنه يشرع لإلنسان أن يستعمل الدواء الذي عرف تأثيره في الداء بالعادة والتجربة‪.4‬‬
‫وعن أسامة بن شريك رضي اهلل عنه قال‪ :‬أتيت النبي صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه كأنما‬
‫على رؤوسهم الطير‪ ،‬فسلمت ثم قعدت‪ ،‬فجاء األعراب من ههنا وههنا فقالوا‪ :‬يا رسول اهلل‬
‫أنتداوى؟ فقال‪« :‬تداووا فإن اهلل تعالى لم يضع داء إال وضع له دواء غير داء واحد‪:‬‬
‫الهرم»‪.5‬‬
‫إن هؤالء الصحابة رضي اهلل عنهم سألوا النبي صلى اهلل عليه وسلم عن التداوي‪ ،‬فأجابهم‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم بجوازه وندبهم إليه بقوله «تداووا» وهذا اللفظ عام‪.6‬‬

‫الصحة في الدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية‪:‬‬


‫تهتم الدولة الحديثة بصحة مواطنيها النفسية والقلبية والعقلية والروحية والبدنية‪ ،‬وتلتزم‬
‫بالتوجيهات الربانية في هذا المجال وفي غيره وهي تستهدف إلى‪:‬‬
‫ـ توفير رعاية صحية الئقة لكل مواطن‪.‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.76 :‬‬


‫‪ 2‬رواه مسلم (‪.)20 /4‬‬
‫‪ 3‬رواه البخاري (‪.)8 /4‬‬
‫‪ 4‬أحكام الجراحة الطبية‪ ،‬ص‪.86 :‬‬
‫‪ 5‬سنن الترمذي (‪ ،)258 /3‬حديث حسن صحيح‪.‬‬
‫‪ 6‬أحكام الجراحة الطبية‪ ،‬ص‪.87 :‬‬

‫‪419‬‬
‫ـ تنظيم القطاع الطبي العام والخاص وفق إستراتيجية وطنية للرعاية الصحية في الدولة‪.‬‬
‫‪ -‬إعتبار الصحة الوقائية ركن من أركان السياسة التنموية للدولة‪.‬‬
‫ـ تطوير نظام الرعاية الصحية حتى يرتقي إلى مستوى المعايير العالمية‪.‬‬
‫ـ تحسين خدمات المستشفيات من خالل تحديد مهامها وتصنيفها وتعيين نطاق عملها وتحسين‬
‫فرص إجراء العمليات الطبية السريعة‪.‬‬
‫ـ تحسين تصميم الرعاية المستمرة‪ ،‬وخدمات الصحة النفسية وتقديم خدمات الطوارئ‪،‬‬
‫والوصول إلى صيدليات المجتمع ورفع كفاءتها‪.‬‬
‫ـ تأمين الوصول إلى بيانات رعاية صحية دقيقة‪.‬‬
‫ـ تعزيز مشاركة القطاع الخاص‪ ،‬وتحسين إدارة الصحة العامة مع نظام شامل للتغذية‪،‬‬
‫والنشاط البدني‪ ،‬والتركيز على التعليم التخصصي الصحي وضمان خبرة وتأهيل أخصائي‬
‫الرعاية الصحية وجودة مرافقها‪ ،‬ومنتجاتها‪ ،‬واالستجابة لشكاوي المرضى وضمان حقوقهم‪.‬‬
‫ـ استقاللية وتعزيز موازنة قطاع الصحة‪.‬‬
‫ـ سد وتفعيل مظلة التأمين الصحي الشامل لتضم كافة المواطنين دون تفرقة ولتغطي كافة‬
‫مناطق الدولة بذات القدر واالهتمام‪.‬‬
‫ـ إدارة أكثر كفاءة وفاعلية للعالج الطبي الصحي خارج الدولة‪.‬‬
‫ـ دعم النظام الصحي ببحوث عالية الجودة‪.‬‬
‫ـ ربط عدد األطباء وعدد األسرة في المستشفيات بتعداد المواطنين الذين يقطنون في دائرتها‪.‬‬
‫ـ االهتمام بجدول األجور لكافة العاملين بالقطاع الصحي‪ ،‬بما يلبي متطلبات الحياة الحديثة‪.‬‬
‫ـ االهتمام بتأهيل وتدريب األطباء والعاملين بالقطاع الصحي‪ ،‬وذلك على نحو علمي منهجي‪،‬‬
‫وتبادل الخبرات العلمية والعملية مع كافة القطاعات النظيرة في الخارج‪.‬‬
‫ـ تطبيق ال مركزية التخطيط والتنفيذ واتخاذ القرار من حيث إعطاء الصالحيات المالية‬
‫واإلدارية لمكاتب الشؤون الصحية في المناطق والبلديات وصوالً إلى معالجة كافة أوجه‬
‫القصور في السياسة الصحية بالنسبة للمناطق النائية والمهمشة والمحرومة‪.‬‬

‫‪420‬‬
‫ـ تشجيع مشاركة المجتمع في إدارة النظم الصحية على مستوى الوحدات الصحية والمراكز‬
‫والمستشفيات‪.‬‬
‫ـ وضع سياسة لألدوية وإعادة تنظيم اإلمدادات الطبية والدوائية‪.‬‬
‫ـ ا ستقاللية المستشفيات المركزية من خالل تفويض السلطات وتشكيل مجالس إدارة ومجالس‬
‫أمنًا من الوزارة والمجتمع لإلشراف على تقديم الخدمة ومراقبة اإليرادات‪.‬‬
‫ـ تحفيز مشاركة القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية وتشجيع األساليب المبتكرة في‬
‫الرعاية الصحية‪.‬‬
‫ـ وضع خطة منهجية لتلبية االحتياجات الصحية لكافة المواطنين‪ ،‬وذلك من خالل تبني حزمة‬
‫من البرامج ذات الصلة بالصحة اإلنجابية‪ ،‬وتدريب قابالت المجتمع لما لهن من دور كبير في‬
‫سالمة األمهات واألطفال وتقديم خدمة رعاية الحوامل والرعاية لما بعد الوالدة وتنظيم األسرة‬
‫وإنشاء المراكز التخصصية في مكافحة األوبئة والتحصين والتطعيم واألمصال‪ ،‬والصحة‬
‫الوقائية والعمل على اعتمادها كمراكز تعاونية إقليمية لمنظمة الصحة العالمية في الدولة‪.‬‬

‫‪ 10‬ـ السياحة‪:‬‬
‫ن‬
‫ن السَّاجِدونَ اآلمِرُو َ‬
‫ن السَّائِحُونَ الرَّاكِعُو َ‬
‫ن الحَامِدُو َ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬التَّائِبُو َ‬
‫ن العَابِدُو َ‬

‫ن لِحُدُو ِد اهللِّ وَبَشِّ ِر المُؤ ِمنِينَ﴾ التوبة ‪ ،‬آية ‪:‬‬


‫عنِ المُنكَ ِر وَالحَافِظُو َ‬
‫ن َ‬
‫بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهُو َ‬

‫‪.)112‬‬

‫‪421‬‬
‫وفي هذه اآلية أوصاف امتدح اهلل بها عباده المؤمنين ومن تلك الصفات ﴿السَّائِحُونَ﴾‪.‬‬

‫ُن مُسلِمَات مُّؤمِنَات‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬عَسَى رَبُّ ُه إِن طَلَّقَك َّ‬
‫ُن أَن يُبدِلَهُ أَزوَاجًا خَيرًا مِّنك َّ‬

‫قَانِتَات تَائِبَات عَابِدَات سَائِحَات ثَِّيبَات وَأَبكَارًا﴾ (التحريم ‪ ،‬آية ‪.)5 :‬‬

‫وسبب نزول هذه اآلية إن نساء النبي صلى اهلل عليه وسلم اجتمعن في الغيرة عليه‪ ،‬فقال عمر‬
‫رضي اهلل عنه لهن‪ :‬عسى ربه إن طلقكن أن يبد له أزواجاً خيراً منكن" فنزلت اآلية‪.1‬‬
‫وفيها وصف للنساء الالئي يتزوجهن الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ومن تلك الصفات أنهن‬
‫(سَائِحَات )‪ ،‬وتنوعت أقوال المفسرين في المراد بالسياحة في هاتين اآليتين على عدة أقوال‪،‬‬
‫فقيل‪ :‬إنها الصيام‪ ،‬وقيل‪ :‬الجهاد في سبيل اهلل‪ ،‬وقيل‪ :‬الهجرة‪ ،‬وقيل السفر لطلب العلم‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫الجوالت بالفكر في توحيد اهلل‪ ،‬وقيل‪ :‬السير في األرض لالعتبار‪.2‬‬
‫وهذه التفسيرات تدخل في خالف التنوع ال خالف التضاد‪ ،‬وحديثنا هنا عن السياحة بمعنى‬
‫السير في األرض‪ ،‬واللسان العربي يدل بوضوح على أن معنى السياحة هو السير في األرض‪،‬‬
‫ف‬
‫ُم انظُرُوا كَي َ‬ ‫والقرآن الكريم يدعم هذا االتجاه‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬قُل سِيرُوا فِي األَر ِ‬
‫ض ث َّ‬

‫كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ﴾ (األنعام ‪ ،‬آية ‪.)11 :‬‬

‫ئ النَّشأَةَ‬
‫شُ‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬قُل سِيرُوا فِي األَرضِ فَانظُرُوا كَي َ‬
‫ف بَدَأَ الخَلقَ ثُمَّ اهللُ يُن ِ‬

‫ُل شَيء قَدِير﴾ (العنكبوت ‪ ،‬آية ‪.)20 :‬‬


‫اآلخِرَةَ إِنَّ اهللَ عَلَى ك ِّ‬

‫إن القول بأن السياحة هو السير في األرض ال ينفي إرادة اآلية لبعض ما قد تتضمنه السياحة‬
‫من فرائض الدين وشعب اإليمان‪ ،‬كالجهاد في سبيل اهلل‪ ،‬أو الهجرة‪ ،‬أو السفر لطلب العلم أو‬
‫الجوالن بالفكر‪ ،‬فهذه المعاني منها ما هو قريب جداً من معنى السير‪ ،‬ومنها ما هو البعيد عنه‬

‫‪ 1‬أخرجه البخاري‪ ،‬الحديث رقم‪.4916 :‬‬


‫‪ 2‬السياحة‪ ،‬د‪ .‬علي بن أحمد‪ ،‬ص‪.38 :‬‬

‫‪422‬‬
‫دون نفرة منه‪ ،‬غير أن كل هذه الشعائر في القريب منها والبعيد يشملها معنى السير في‬
‫األرض‪.1‬‬
‫والسياحة في المفهوم اإلسالمي لها ضوابط منها المتعلقة بالسائح‪ ،‬وعلى سبيل الذكر‪ ،‬كإحسان‬
‫القصد في السياحة‪ ،‬أن ال تفضي السياحة إلى الوقوع في المحذور الشرعي‪ ،‬اكتمال شروط‬
‫السفر بالنسبة للمرأة السائحة‪ ،‬تحمل السائح مسؤولياته في الدعوة وقيامه بها‪ ،‬واتباع السائح‬
‫لألنظمة المتعلقة بالسياحة التي ال تخالف الشريعة اإلسالمية‪.‬‬
‫وهناك ضوابط للسياحة متعلقة بالمكان (الموقع السياحي) ومنها‪ ،‬أن يكون الموقع السياحي‬
‫مباحاً‪ ،‬وأن يكون مأمون الفتنة على الضرورات الخمس‪ ،‬الدين‪ ،‬النفس‪ ،‬العقل‪ ،‬العرض‬
‫والمال‪ .‬وعدم غلبة الوصف الممنوع شرعاً على الموقع السياحي المباح وأن يراعي الموقع‬
‫السياحي خصوصية المجتمع المسلم‪.‬‬
‫أ ـ الترويح على النفس أمر فطري‪:‬‬
‫طلب الترويح أمر فطري في اإلنسان‪ ،‬ولذا فإن اإلسالم‪ ،‬وهو دين الفطرة يقر مبدأ الترويح‬
‫عن النفس‪ ،‬ومن المعلوم أن قدوتنا في الحفاظ على الزمن وإعماره على الوجه الشرعي‬
‫الصحيح هو نبينا محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬والناظر في سيرته صلى اهلل عليه وسلم يجد أن‬
‫من جملة هديه مؤانسته ألهله ومداعبته إياهم‪ ،‬وإدخال السرور عليهم‪ ،‬وكان ذلك إدراكاً منه‬
‫لحقيقة النفس البشرية‪ ،‬فتمكين القلوب من حقها في الراحة‪ ،‬وترويح النفس بالمباح يجعل المرء‬
‫أكثر مواصلة على العطاء واالجتهاد فيه‪ ،‬فالمرء غير مضيِّع لعمره‪ ،‬إن تفكَّه أو مازح‪ ،‬أو‬
‫ساح ضمن ضوابط الشرع‪ ،‬ولكنه من غير شك من أشد الناس ضياعاً لعمره إن كان ديدنه‬
‫وشغله وخلقه‪ .‬وذكر ابن عاشور رحمه اهلل تعالى عند قوله تعالى‪﴿ :‬أَرسِلهُ مَ َعنَا غَدًا يَرتَع‬

‫وَيَلعَب وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (يوسف ‪ ،‬آية ‪.)12 :‬‬

‫إن ال ُمراد بذلك االستجمام ورفع السآمة‪ ،‬وقال وهو مباح في جميع الشرائع إذا لم يكن دأباً‪.2‬‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪.‬‬
‫‪ 2‬التحرير والتنوير (‪.)29 / 12‬‬

‫‪423‬‬
‫وقد نص الفقهاء على إباحة الترويح المتمثل في النزهة والفرجة خاصة‪ ،‬وجعلوا السفر لطلب‬
‫ذلك مثاالً من أمثلة السفر المباح‪.1‬‬
‫ب ـ التفكر في الكون من دوافع السياحة‪:‬‬
‫ئ النَّشأَةَ‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬قُل سِيرُوا فِي األَرضِ فَانظُرُوا كَي َ‬
‫ف بَدَأَ الخَلقَ ثُمَّ اهللُ يُنشِ ُ‬

‫ُل شَيء قَدِير﴾ (العنكبوت ‪ ،‬آية ‪ ،)20 :‬وال ريب أن األمر بالنظر‬
‫ِن اهللَ عَلَى ك ِّ‬
‫اآلخِرَةَ إ َّ‬

‫في مخلوقات اهلل يفيد السائح تعظيم اهلل من خالل تأمله وتفكره فيما ذرأ في األرض من‬
‫مخلوقات‪ ،‬وتلك المخلوقات التي أمرنا بالنظر إليها متعددة في شأن اإلنسان‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫﴿فَليَنظُ ِر اإلِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ (عبس ‪ ،‬آية ‪.)24 :‬‬

‫وقال‪﴿ :‬وَفِي أَنفُسِكُم أَفَالَ تُبصِرُونَ﴾ (الذاريات ‪ ،‬آية ‪.)31 :‬‬

‫ف خُِلقَت﴾ (الغاشية ‪ ،‬آية ‪:‬‬


‫وفي شأن الحيوانات قال تعالى‪﴿ :‬أَفَالَ يَنظُرُونَ إِلَى اإلِبِ ِل كَي َ‬

‫‪.)17‬‬
‫ف يُحيِي‬ ‫كما أمر بالنظر إلى آثار رحمته فقال تعالى‪﴿ :‬فَانظُر إِلَى آثَارِ رَحمَ ِ‬
‫ت اهللِ كَي َ‬

‫ُل شَيء قَدِير﴾ (الروم ‪ ،‬آية ‪:‬‬


‫ض بَعدَ مَو ِتهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحيِي المَوتَى وَهُ َو عَلَى ك ِّ‬
‫األَر َ‬

‫‪.)50‬‬
‫وفي النظر في اآلفاق قال تعالى‪﴿ :‬سَنُرِيهِم آيَا ِتنَا فِي اآلفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِم حَتَّى يَ َتبَيَّ َ‬
‫ن لَهُم‬

‫ُل شَيء شَهِيد﴾ (فصلت ‪ ،‬آية ‪.)53 :‬‬


‫ك أَنَّهُ عَلَى ك ِّ‬
‫ف بِرَبِّ َ‬
‫أَنَّهُ الحَقُّ أَوَلَم يَك ِ‬

‫فاآليات اآلمرة بالنظر إلى اإلنسان والنبات‪ ،‬والحيوان‪ ،‬وآثار رحمته واآلفاق والكون وغير‬
‫ذلك‪ ..‬تهدي السائح إلى السير للوقوف على هذه المشاهد التي قد ال يكون بعضها في أرضه‪،‬‬

‫‪ 1‬السياحة‪ ،‬ص‪.222 :‬‬

‫‪424‬‬
‫فال شك أن األرض قطع متجاورات بعضها‪ ،‬فأرض فيها سهل وجبل‪ ،‬وأرض فيها بر وبحر‪،‬‬
‫وأرض فيها عيون متفجرة ومعادن مفتنة وأخرى منها مساقط مياه‪ ،‬وأرض فيها دواب منبثة‪،‬‬
‫وأخرى تتميز بتكوينات األرض الفريدة‪ ،‬وأخرى أرضها ممهدة بألوان النبات وأنواع األشجار‬
‫وأ صناف الثمار المختلفة األلوان والروائح‪ ،‬والوقوف على ذلك للنظر إليه بعين البصر‬
‫والبصيرة يتطلب السير والسياحة‪.1‬‬
‫فالسياحة بدافع التأمل والتفكر المفضية إلى زيادة اإليمان ورسوخ اليقين من األعمال التي جاء‬
‫الترغيب بها في اإلسالم‪ ،‬وهذا يتطلب حفظ العقل من كل ما يأثر فيه حتى يقوم بوظيفته في‬
‫التفكر‪.‬‬

‫جـ ـ دافع االعتبار‪:‬‬


‫من أهم دوافع السياحة الوقوف على أحوال األمم البائدة لالعتبار‪ ،‬وقد جاء القرآن الكريم في‬
‫ف كَانَ‬
‫ظرُوا كَي َ‬ ‫كثير من آياته مرغباً في ذلك قال تعالى‪﴿ :‬أَ َو لَم يَسِيرُوا فِي األَر ِ‬
‫ض فَيَن ُ‬

‫عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبلِهِم كَانُوا هُم أَشَدَّ مِنهُم قُوَّةً وَآثَارًا فِي األَرضِ فَأَخَذَهُمُ اهللُ‬
‫ن اهللِ مِن وَاق﴾ (غافر ‪ ،‬آية ‪.)21 :‬‬
‫بِذُنُو ِبهِم وَمَا كَانَ لَهُم مِّ َ‬

‫ف كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬أَوَلَم يَسِيرُوا فِي األَر ِ‬
‫ض فَيَنظُرُوا كَي َ‬

‫ع َمرُوهَا أَكثَ َر مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتهُم رُسُلُهُم‬


‫كَانُوا أَشَدَّ مِنهُم قُوَّةً وَأَثَارُوا األَرضَ وَ َ‬
‫ت فَمَا كَانَ اهللُ لِيَظلِمَهُم وَلَكِن كَانُوا أَن ُفسَهُم يَظِلمُونَ﴾ (الروم ‪ ،‬آية ‪.)9 :‬‬
‫بِالبَيِّنَا ِ‬

‫واستدُل بهذه اآليات على استحباب السياحة في األرض وتطلب اآلثار ـ داخل الدولة اإلسالمية‬
‫وفي العالم ـ والتشجيع عليها‪.‬‬

‫د ـ الدعوة للتميز العالمي في مفهوم السياحة‪:‬‬


‫‪ 1‬إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم ألبي السعود (‪.)139 / 8‬‬

‫‪425‬‬
‫عندما تضع الدولة أنظمة وقوانين ولوائح متعلقة بالسياحة ال تخالف الشرع اإلسالمي يعطيها‬
‫تميزاً عالمي ًا في الجذب السياحي‪ ،‬فال شك أن المواقع السياحية‪ ،‬التي تحقق تعاليم اإلسالم‬
‫وتسترشد به تؤثر تأثيراً بالغاً في السائح‪ ،‬وفي الموقع السياحي من جهة أخرى فتعزز العبودية‬
‫هلل في نفس السائح وتزكيها وتصلح جوانب منها تثمر في صالحه وإنسانيته وسلوكه البشري‬
‫وتؤثر أيضاً في الموقع السياحي بما تزيل من أسباب اإلسائة واالعوجاج السلوكي بداية من‬
‫القصد من السياحة ونهاية السلوك العملي حيث تهيىء بمجموع ذلك كله مكاناً مستقراً يأمن‬
‫الناس فيه على أعراضهم وأنفسهم وعقولهم وأموالهم‪ ،‬وهي بهذا اإلرساء الخلقي واألمني‬
‫تكون عالمة أمان من عذاب إلهي بإذن اهلل تعالى‪ ،‬وتسهم في نماء الموقع السياحي والمحافظة‬
‫عليه من العبث في االستخدام واإلسراف والتبذير‪.‬‬
‫والشك أن التميز العالمي في مفهوم السياحة التي تقدمها الدول اإلسالمية للمسلمين وغيرهم‬
‫يحقق حاجات السائح النفسية والجسدية‪ ،‬وهذه الحاجات من عوامل الجذب التي تساهم في إيجاد‬
‫منتج سياحي فريد من نوعه ينسجم مع تعاليم ديننا وحضارتنا وقيمنا وتقاليدنا وأعراضنا‪،‬‬
‫وتقدم للسائحين الجمال والمتعة والبهجة في دائرة المباح شرعًا وعقالً‪.‬‬
‫وبدالً من أن تقدم لهم الخمور وغيرها من المحرمات ونشرع ونقنن ونصدر لوائح من أجل‬
‫تقديمها للسوَّاح‪ ،‬نعرض عليهم ونقدم لهم أساليب حضارية متقدمة من خالل مثقفينا وعلمائنا‬
‫وأبناء شعبنا المتواجدين في المواقع السياحية وغيرها أهم ما في الوجود ((اإلسالم العظيم))‬
‫الذي يدين به هذا الشعب العظيم والذي يتفق مع العاطفة والعقل والحس اإلنساني‪ ،‬فالكثير من‬
‫السائحين قد ملَّ طرق الخمور والرذائل والفحش والتهتك والخالعة والمجون‪ ،‬ويبحث عن‬
‫السعادة الحقيقية الغافلون عنها‪ ،‬والتي تكفل لهم العيش الرغيد المطمئن‪ ،‬وغافلون عن منهج‬
‫الحياة الذي يرسم لهم طريق الحرية الحقيقة من الشهوات واألهواء التي أسرت قلوبهم وعقولهم‬
‫بالعبودية المطلقة لغير اهلل‪ ،‬وغافلون عن الطريق التي توصل إلى جنات الخلد‪.1‬‬
‫ال يَشقَى﴾ (طه ‪ ،‬آية ‪.)123 :‬‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬فَمَ ِ‬
‫ن اتَّبَ َع هُدَايَ فَالَ يَضِلُّ َو َ‬

‫‪ 1‬السياحة‪ ،‬ص‪.737 :‬‬

‫‪426‬‬
‫ولذلك نحسن للسائحين األجانب ونجزل لهم العطاء الثمين‪ ،‬مع روائع بالدنا السياحية في‬
‫الواحات والجبال والسهول والمدن‪.‬‬
‫إن الهداية ضالة كل البشر‪ ،‬تتبع أهميتها من تطلعات العالم المتيقظ اليوم لمعالم السعادة وبحثه‬
‫عن الحقيقة في كل مسلك سواء كان مكثاً أو إقامة أو سفر أو سياحة‪ ،‬والعالم يتطلع بلسان‬
‫الحال اليوم إلى من يهديه إلى الحق في عصر ساد فيه الجفاف الروحي واالنقطاع عن اهلل‬
‫والصدود عن تراث النبيين‪.‬‬
‫وما الذي يمنع أن تكون بالد ودول المسلمين عامل مهم في تحقيق الهدف من تذوق الجمال‬
‫بأ بعاده المختلفة وتحقيق المتعة الحقيقية التي ترشد السياح إلى اآلخرة وعالمها وفي نفس الوقت‬
‫تمكنهم من استشعار الجديد فتلتقي لدى جواب اآلفاق منهم البهجة والمتعة مع الهداية والسعادة‬
‫التي طالما يبحث عنها أي إنسان‪.1‬‬

‫هـ ـ اإلصالح السياحي‪:‬‬


‫نظراً ألن المفاهيم تجاه السياحة يعتريها عدم الوضوح بسبب ممارسات كثير من المؤسسات‬
‫واألفراد في العالم اإلسالمي وبسبب هيمنة المنظمات العالمية على المجال السياحي بأبعاده‬
‫تنظيماً وتنظيراً مما ترتب عليه األخذ بالمفاهيم التي ال تنسجم مع تعاليم اإلسالم وال تتوافق مع‬
‫ثقافتنا وتراثنا ومنظومتنا الحضارية‪ ،‬علينا أن نضع مفهوم السياحة بحيث يكون مفهوماً ينطلق‬
‫من المبادئ اإلسالمية ويستمد أسسه من أصالة الشريعة وفي الوقت نفسه يواكب العصر بأبعاد‬
‫السياحة المختلفة ليتبلور من خالل ذلك مفهوم متميز للسياحة يقدم لدى الوزارات والهيئات‬
‫السياحية في العالم اإلسالمي‪ ،‬ويقوم العتماده لدى المنظمة العالمية للسياحة ومن ثم تعميم ذلك‬
‫المفهوم وبثه خالل وسائل اإلعالم في مواسم السياحة ليرسخ في أذهان الشعوب المسلمة‬
‫وغيرها أفراداً ومجتمعات ومؤسسات وعلى ضوء ذلك المفهوم تحدد األطر العامة للسياحة في‬
‫بالد المسلمين‪ ،‬إن شعوبنا اإلسالمية تتطلع للحفاظ على هويتها والبعد عن التقليد والمحاكاة‬

‫‪ 1‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.239 :‬‬

‫‪427‬‬
‫والتبعية للغرب في النطاق السياحي وغيره‪ ،‬ومن أهم ما يميزها تطهيرها من الفساد الخلقي‬
‫وإقامة أنشطة وبرامج ثقافية متنوعة وهادفة تلبي حاجات السائح وتستند إلى عوامل النجاح‪.1‬‬
‫بدالً من أن نقدم للسواح المحرمات والموبقات علينا أن ننشىء مراكز خاصة تستقطب السواح‬
‫غير المسلمين والمسلمين‪ ،‬تعنى بابتكار برامج سياحية خاصة بهم تقدم ضمن اإلطار العام‬
‫للبرنامج السياحي المرسوم ويكون اختصاصها تصميم برامج راقية ذات صلة بالحضارة‬
‫اإلنسانية واإلسالمية كمدخل‪ ،‬ومن أبرز أهدافها الدعوة إلى القيم الرفيعة واألخالق الحميدة‬
‫وتصحيح صورة اإلسالم لدى اآلخرين وفق أطر واضحة تراعي خصائص المواقع السياحية‬
‫ويشرف عليها أهل االختصاص في مجالي الدعوة والسياحة يقدمون منظومة متكاملة تراعي‬
‫االختصاص والتميز والخصوصية الحضارية في العمل السياحي بما يساهم في تنمية السياحة‬
‫باعتبارها مصدراً اقتصادياً من جهة وبما يخدم السواح في دنياهم وأخراهم‪ ،‬والمرجعية‬
‫ُل شَيء وَهُدًى‬ ‫اإلسالمية قادرة على ذلك‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬وَنَزَّلنَا عَلَي َ‬
‫ك الكِتَابَ تِبيَانًا لِّك ِّ‬

‫وَرَحمَ ًة وَبُشرَى لِلمُسلِمِينَ﴾ (النحل‪ ،‬آية ‪.)89 :‬‬

‫ن تَفسِيرًا﴾(الفرقان‪ ،‬آية ‪.)33 :‬‬


‫َق وَأَحسَ َ‬
‫ك بِالح ِّ‬
‫ك بِ َمثَل إِالَّ جِئنَا َ‬ ‫ـ وقال تعالى‪َ ﴿ :‬و َ‬
‫ال يَأتُونَ َ‬

‫إن إقبال السائحين غير المسلمين إلى بالدنا بالطريقة التي تعودوا عليها بالمفهوم الغربي‬
‫للسياحة يترتب عليه انتهاك ألحكام الشريعة اإلسالمية ومقاصدها الكبرى‪ ،‬ومن تلك السلبيات‬
‫في حالة غياب الضوابط والرقابة‪:‬‬
‫ـ انتشار السلوكيات المحرمة والظواهر الغربية على المجتمع وأخالقه ومبادئه مثل شرب‬
‫الخمر وتقديمها في المناسبات وعري األجساد وكشف العورات ‪...‬الخ‬
‫ـ مخالطات الشباب بالفتيات السائحات وقضاء الوقت معهن في برامج الترويح مما يجلب لهم‬
‫أفكارًا ومعتقدات مخالفة لتعاليم اإلسالم وأعراف وتقاليد مجتمعاتنا‪.‬‬

‫‪ 1‬السياحة‪ ،‬ص‪.756 :‬‬

‫‪428‬‬
‫ـ انتشار الزنا والفواحش بين الشباب نظراً ألن غالب السائحين غير المسلمين "األجانب"‬
‫بأديانهم المختلفة ال يعبأون بأمر الزنا‪ ،‬ومن ثم فإن اختالط السائحين بالشباب وما يقع من‬
‫مزاح ومؤانسة وحديث ومصاخبة وخلوة ومعانقة كل ذلك مدعاة لوقوع مثل هذه المحرمات‪.‬‬
‫ـ ترويج المخدرات داخل البالد واألفالم الخليعة وغير ذلك من المفاسد‪.‬‬
‫ـ ترسل بعض الدول جواسيس من خالل الغطاء السياحي لجمع المعلومات عن الشعوب‬
‫والعمل على إ ضعافها وبقائها في حالة مزرية من التخلف واالنحطاط والعمل على تدمير‬
‫األخالق والقيم والمبادئ الرفيعة‪.‬‬
‫وال شك إن استفحال الذنوب في مجتمع ما مرتبط بظروف‪ ،‬أهمها الترف الذي يدفع اإلنسان‬
‫إلى التمرد من كل قيد يثقل حريته الشخصية‪ ،‬ثم يكون هذا التمرد سبب انفالت الفرد في طريق‬
‫األهواء‪ ،‬والبحث عن مظانها‪ ،‬وهذا يؤدي إلى االنحالل‪ ،‬ثم االستخفاف بالتعاليم الربانية‪.‬‬
‫إن اهلل عز وجل قد قرر في كتابه مصير الهالك للمجتمع الذي يأخذ بأسباب الهالك‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬وَإِذَا أَرَدنَا أَن نُّهلِ َ‬
‫ك قَريَةً أَمَرنَا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا القَو ُل‬

‫فَدَمَّرنَاهَا تَدمِيرًا﴾ (اإلسراء‪ ،‬آية ‪.)16 :‬‬

‫فاهلل جعل الحياة سنناً ال تتبدل‪ ،‬فحين توجد األسباب تتبعها النتائج‪ ،‬وهنا يبرز دور الجهات‬
‫المعينة في العالم اإلسالمي في عدم السماح بأعراض الفساد وأسبابه ودعاته من المترفين‬
‫بالبروز‪ ،‬وإصالح نظامها السياحي المتضمن للبرامج‪ ،‬والخطط وغير ذلك لئال يسمح بوجود‬
‫الخمور والفجور باسم السياحة ويساير دور الجهات دور العقالء من أهل البالد في توعية‬
‫وإرشاد المجتمع بخطورة هذا األمر من إنزال العقوبات اإللهية من غالء وزالزل وبراكين‬
‫وفوضى وتنافر وتناحر وصراع وقتال‪..‬الخ‬
‫إن الذنوب والمعاصي وانتهاك حرمات اهلل تعالى تهلك أصحابها‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬أَلَم يَرَوا كَم‬

‫ض مَا لَم نُمَكِّن لَّكُم وَأَرسَلنَا السَّمَاء‬


‫أَهلَكنَا مِن قَبلِهِم مِّن قَرن مَّكَّنَّاهُم فِي األَر ِ‬

‫‪429‬‬
‫جعَلنَا األَنهَارَ تَجرِي مِن تَح ِتهِم فَأَهلَكنَاهُم بِذُنُوبِهِم وَأَنشَأنَا مِن بَعدِهِم‬
‫عَلَيهِم مِّدرَارًا وَ َ‬
‫قَرنًا آخَرِينَ﴾ (األنعام‪ ،‬آية ‪.)6 :‬‬

‫ومن اعتبر أحوال العالم قديماً وحديثاً وما يعاقب به من يسعى في األرض بالفساد وإقامة الفتن‬
‫واالستهانة بحرمات اهلل‪ ،‬علم أن النجاة في الدنيا واآلخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون‪.‬‬
‫والمنكرات تجلب الفساد في األرض‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ظَهَ َر الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَح ِر بِمَا‬

‫جعُونَ﴾ (الروم‪ ،‬آية ‪.)40 :‬‬


‫ض الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُم يَر ِ‬
‫كَسَبَت أَيدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَع َ‬

‫ومن آثار الذنوب والمعاصي أنها تحدث في األرض أنواعاً من الفساد في المياه والهواء‬
‫والزروع والثمار والمساكن والفساد اإلداري واالقتصادي والسياسي واإلعالمي‪...‬الخ‬
‫ولهذا يمثل التمسك بأحكام الشريعة اإلسالمية العظيمة والعمل بها السد المنيع الوقائي بإذن اهلل‬
‫من العقاب اإللهي لما تسهم به من تقليل الفساد ومنع أسباب العقاب‪ ،‬ويكون ذلك بدفع الدولة‬
‫للمجتمع إلى الصالح من خالل ما تتضمنه من جهود وبرامج توصل إلى هذه الغاية‪ ،‬قال‬
‫ك لِيُهلِكَ القُرَى بِظُلم وَأَهلُهَا مُصلِحُونَ﴾ (هود‪ ،‬آية ‪.)117 :‬‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬ومَا كَانَ رَبُّ َ‬

‫السياحة في الدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية‪:‬‬


‫تراعي الدولة أحكام اإلسالم في المجال السياحي وتعمل على أن تكون لها مكانتها على خارطة‬
‫السياحة العالمية إلبراز القيم الحضارية والثقافية التي تؤمن بها‪ ،‬وتعتبر التنمية االقتصادية‬
‫واالجتماعية الشاملة أحد أهدافها التنمية السياحية‪ ،‬لما لها من القدرة على تحسين ميزان‬
‫المدفوعات وتوفير فرص عمل وخلق فرص مدرة للدخل‪ ،‬وتدفق رؤوس األموال األجنبية‬
‫لالستثمار في المشاريع السياحية وزيادة الناتج القومي وتوفير فرص عمل جديدة والمساهمة‬
‫في تحسين أسلوب ونمط الحياة االجتماعية والثقافية لعموم أفراد المجتمع والدولة تعمل على‪:‬‬
‫ـ زيادة وتشجيع االستثمارات في قطاع المشروعات السياحية‪ ،‬وذلك من خالل تطبيق حزمة‬
‫من اإل عفاءات الغير بيئية على واردات السياحة وتدعيم وتطوير وزيادة رقعة مشاريع البنى‬
‫التحتية في الدولة‪.‬‬
‫‪430‬‬
‫ـ تبني خطة إ ستراتيجية وطنية للعمل على النهوض بالواقع السياحي في الدولة من حيث‬
‫استثمار وتوظيف رؤوس األموال الوطنية واألجنبية وتعزيز المزايا التنافسية للمشاريع‬
‫السياحية‪.‬‬
‫ـ االهتمام بالمؤسسات التعليمية ذات الصلة بقطاع السياحة مثل كليات السياحة والفنادق‪،‬‬
‫والعمل على رفع مستوى التأهيل والتدريب للعاملين بذلك القطاع‪.‬‬
‫ـ العمل على نشر الوعي الثقافي لدى المواطنين بأهمية السياحة واستخدام اإلعالم السياحي‬
‫كأحد المصادر الرئيسة في ذلك‪.‬‬
‫ـ دعم انتظام األنشطة السياحية من خالل تدعيم وتطوير وإنشاء شبكات النقل البري والبحري‬
‫والجوي‪ ،‬وضمان وصول السائح من الطرق إلى كل مواقع الجذب السياحي في الدولة‪.‬‬
‫ـ االهتمام بالمناطق األثرية والمدن الحضارية وخصوصاً المواقع الدينية والمباني التاريخية‪،‬‬
‫وإجراء أعمال الصيانة والترميم وإعادة البناء المتعلقة بها وإجراء المزيد من أعمال التنقيب‬
‫والعمل على وضع نظام مبرمج لزيادة وجذب السائحين لهذه المناطق‪.‬‬
‫ـ تنمية الصناعات الصغيرة والحرفية ذات الطابع التراثي وذلك المرتبطة بشكل مباشر بدعم‬
‫الصناعة السياحية وتحديد المواقع المخصصة والصالحة لالستثمار السياحي‪.‬‬
‫ـ تحفيز وتنشيط دور القطاع الخاص ورجال األعمال الجتذاب رؤوس األموال باتجاه الفرص‬
‫المربحة وتعظيم الحوافز المالية االقتصادية في مجال االستثمار السياحي‪.‬‬
‫ـ ضمان مشاركة الخبرات الوطنية واألجنبية المؤهلة والمدربة في دعم قطاع السياحة‪.‬‬
‫ـ إقامة ورعاية المهرجانات السياحية والثقافية بصفة دورية‪ ،‬وذلك في مناطق الجذب السياحي‬
‫وبالتنسيق مع الجهات والدوائر ذات الصلة على المستويين سواء على المستوى المحلي‬
‫والدولي‪.‬‬

‫‪11‬ـ موارد الدولة‪:‬‬

‫‪431‬‬
‫كانت الموارد المالية في عهد النبي صلى اهلل عليه وسلم تقتصرعلى الزكاة والغنائم والفيء‬
‫والجزية‪ ،‬وكانت تصرف في المصارف التي حددها اهلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم ولم يكن‬
‫لرسول صلى اهلل عليه وسلم بيت مال بل كان يقسم الفيء من يومه‪ .‬وفي عهد الخلفاء الراشدين‬
‫تطورات الموارد المالية‪ ،‬وأصبح من مصادر بيت المال الخراج والعشور‪..‬الخ‬
‫وتطورت مؤسسات موارد الدولة مع الزمن وكانت الدولة تراقب على جباية الزكاة من‬
‫واجبات الدولة‪ ،‬وقد لخص د‪ .‬يوسف القرضاوي فوائد تولي الدولة لجباية الزكاة فيما يلي‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬إن كثيراً من األفراد قد تموت ضمائرهم أو يصيبهم السقم والهزل فال ضمان للفقير إذا‬
‫ترك حقه لمثل هؤالء‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬في أخذ الفقير حقه من الحكومة ال من الشخص الغني حفظ ًا لكرامته‪ ،‬وصيانة لماء‬
‫وجهه أن يراق بالسؤال ورعاية لمشاعره أن يجرحها المن أو األذى‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬إن ترك هذا األم ر لألفراد يجعل التوزيع فوضى‪ ،‬فقد ينتبه أكثر من غني إلعطاء فقير‬
‫واحد‪ ،‬على حين يغفل عن آخر فال يفطن له أحد‪ ،‬وربما كان أشد فقراً‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬إن صرف الزكاة ليس مقصوراً على األفراد من الفقراء والمساكين وأبناء السبيل‪ ،‬فمن‬
‫الجهات التي تصرف فيها الزكاة‪ ،‬مصالح عامة للمسلمين ال يقدرها األفراد‪ ،‬وإنما يقدرها أولو‬
‫األمر وأهل الشورى في الجماعة المسلمة‪ ،‬كإعطاء المؤلفة قلوبهم‪ ،‬وإعداد العدة للجهاد في‬
‫سبيل اهلل‪ ،‬وتجهيز الدعاة إلبالغ رسالة اإلسالم في العالمين‪.‬‬
‫خامساً‪ :‬إن اإلسالم دين ودولة وقرآن وسلطان‪ ،‬والبد لهذا السلطان وتلك الدولة من مال تقيم‬
‫به نظامها وتنفذ به مشروعاتها‪ ،‬والبد لهذا المال من موارد والزكاة مورد هام دائم لبيت المال‬
‫في اإلسالم‪.1‬‬
‫وكانت الدولة اإلسالمية في عهدها الزاهر تقوم بوسائل الرقابة المالية واإلدارية على خير وجه‬
‫ومن أهم هذه الوسائل‪:‬‬
‫أ ـ اختيار الموظفين‪:‬‬

‫‪ 1‬فقه الزكاة (‪ 756 /2‬ـ ‪.)757‬‬

‫‪432‬‬
‫إن أول خطوة في الرقابة هي حسن اختيار العمال الذين سيتولون اإلشراف على تنفيذ‬
‫األعمال‪ ،‬وجباية األموال‪ ،‬وتوصيل الحقوق إلى أهلها‪ ،‬وبمقدار النجاح في هذه الخطوة يكون‬
‫النجاح في بقية الخطوات وبمقدار الفشل فيها تفرغ كل الخطوات التالية من مضمونها‪.1‬‬
‫ولهذا عد الماوردي من واجبات اإلمام‪ :‬استكفاء األمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من‬
‫األعمال‪ ،‬ويكل إليهم من األموال‪ ،‬وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من األعمال‪ ،‬ويكل إليهم‬
‫من األموال‪ ،‬لتكون األعمال بالكفاءة مضبوطة‪ ،‬واألموال باألمناء محفوظة‪ ،‬اهلل عز وجل‬
‫ت إِلَى أَهلِهَا﴾ (النساء‪ ،‬آية ‪.)58 :‬‬
‫يقول‪﴿ :‬إِنَّ اهللَ َيأمُ ُركُم أَن تُؤدُّوا األَمَانَا ِ‬

‫والمناصب والمسؤوليات من األمانات التي يجب أن تؤدى إلى أهلها‪ ،‬فقد بيان النبي صلى اهلل‬
‫عليه وسلم أن تعيين العاملين في مختلف المواقع أمانة‪ ،‬فعن أبي هريرة رضي اهلل عنه أن‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم قال لمن سأله عن الساعة‪« :‬فإذا ضيعت األمانة فانتظر الساعة»‪،‬‬
‫فقال‪ :‬وما إضاعتها؟ قال‪« :‬إذا وسد األمر إلى غير أهله فأنتظر الساعة»‪.2‬‬
‫وعن أبي ذر الغفاري رضي اهلل عنه قال‪ :‬قلت يا رسول اهلل أال تستعملني؟ قال‪ :‬فضرب بيده‬
‫على منكبي ثم قال‪« :‬يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً‪ ،‬وإنها يوم القيامة خزي وندامة إال من أخذها‬
‫بحقها وأدى الذي عليه فيه»‪ .3‬قال النووي ‪ :‬هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الواليات‪ ،‬ال‬
‫سيما لمن كان فيه ضعف عن قيام وظائف تلك الوالية‪ ،‬وأما الخزي والندامة فهو في حق من‬
‫لم يكن أهالً لها‪ ،‬أو كان أهالً ولم يعدل فيها فيخزيه اهلل تعالى يوم القيامة‪.4‬‬
‫ـ الشروط التي يجب توفرها في الموظفين‪" :‬القوة واألمانة"‪:‬‬
‫يجب أن يتوفر في الموظف شرطان أساسيان‪ ،‬هما‪ :‬القوة واألمانة وقد أخذ العلماء هذين‬
‫ت‬ ‫الشرطين من قول اهلل تعالى‪﴿ :‬قَالَت إِحدَاهُمَا يَا أَبَتِ استَأجِرهُ إِنَّ خَي َر مَ ِ‬
‫ن استَأجَر َ‬

‫‪ 1‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.241 :‬‬


‫‪ 2‬البخاري‪ ،‬ك العلم‪ ،‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.242 :‬‬
‫‪ 3‬مسلم في اإلمارة‪ ،‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.242 :‬‬
‫‪ 4‬شرح النووي على مسلم (‪.)177 /12‬‬

‫‪433‬‬
‫ض‬ ‫القَوِيُّ األَمِينُ﴾ (القصص‪ ،‬آية ‪ .)26 :‬ومن قوله اهلل تعالى‪﴿ :‬اجعَلنِي عَلَى خَزَآئِ ِ‬
‫ن األَر ِ‬

‫إِنِّي حَفِيظ عَلِيم﴾ (يوسف‪ ،‬آية ‪.)55 :‬‬

‫فقوله ﴿إنِّي حَفِيظ عَلِيم﴾‪ .‬أي‪ :‬أمين أحفظ ما تستحفظنيه عالم بوجوه التصرف‪ ،‬وصفاً لنفسه‬

‫باألمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه‪ ،‬فقد تضمنت وصف يوسف بالصفتين‬
‫الالزمتين لتولي المسؤولية وهما الحفظ والعلم اللتان‪ :‬تعمان وجوه المعرفة والضبط للخزائن‪.1‬‬
‫قال ابن تيمية‪ :‬والقوة في كل والية بحسبها فالقوة في قيادة الجيوش غير القوة في الحكم بين‬
‫الناس والقوة في ضبط الدخل والخرج غير القوة المطلوبة في الفتوى‪ ،‬وهكذا‪ ،‬والقوة تتضمن‬
‫العلم والقدرة وتتنافى مع الضعف والعجز‪ ،‬ولهذا نصح النبي صلى اهلل عليه وسلم أبا ذر ـ وهو‬
‫الصادق التقي البار ـ أن ال يتأمر على اثنين‪ ،‬فقال له‪ :‬يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك‬
‫ما أحب لنفسي ال تأمرني على اثنين‪ ،‬وال تولين مال يتيم‪ ،2‬وقد أشار الذهبي إلى قوة أبي ذر‬
‫في بدنه وشجاعته‪ ،‬وحمل الضعف على ضعف الرأي في إدارة الحكم وأن فيه حدة تتنافى مع‬
‫اإلمارة التي تتطلب الحلم والمداراة‪.3‬‬
‫أما األمانة التي هي ركن الوالية األساسي فتتضمن العدالة وتتنافى مع الفسق‪ ،‬قال ابن تيمية‪:‬‬
‫ال وترك خشية الناس‪ ،‬وهذه الخصال‬
‫واألمانة ترجع إلى خشية اهلل وأال يشتري بآياته ثمناً قلي ً‬
‫الثالث التي أخذها اهلل على كل من حكم على الناس في قوله تعالى‪﴿ :‬فَالَ تَخشَوُا النَّاسَ‬

‫ال تَشتَرُوا بِآيَاتِي ثَ َمنًا قَلِيالً َومَن لَّم يَحكُم بِمَا أَن َز َل اهللُ فَأُولَـئِكَ هُمُ‬
‫ن وَ َ‬
‫وَاخشَو ِ‬
‫الكَافِرُونَ﴾ (المائدة‪ ،‬آية ‪.)44 :‬‬

‫وتأمل حرص النبي صلى اهلل عليه وسلم على استعمال األمناء‪ ،‬فعن حذيفة رضي اهلل عنه أن‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم قال ألهل نجران‪ :‬ألبعثن إليكم رجالً أميناً حق أمين فاستشرف لها‬

‫‪ 1‬التسهيل ابن جزي‪ ،‬ص‪.316 :‬‬


‫‪ 2‬السياسة الشرعية‪ ،‬ص‪.20 :‬‬
‫‪ 3‬سير أعالم النبالء (‪.)54 /3‬‬

‫‪434‬‬
‫أصحاب النبي صلى اهلل عليه وسلم فبعث أبا عبيدة‪ ،1‬وكان عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه‬
‫يحرص على تعيين أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬حتى إن أبا عبيدة قال له‪ :‬دئست‬
‫أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال له عمر‪ :‬يا أبا عبيدة إذا لم استعن بأهل الدين‬
‫على سالمة ديني فيمن أستعن؟ قال‪ :‬أما فعلت فأغنهم بالعمالة عن الخيانة‪ ،‬يقول‪ :‬إذا استعملتهم‬
‫على شيء فأجزل لهم في العطاء والرزق ال يحتاجون‪ ،2‬وكان يستشير كثيراً في تعييناته وقد‬
‫بحث مرة إلى أهل الكوفة يبعثون إليه رجالً من أخيرهم وأصلحهم وإلى أهل البصرة كذلك‪،‬‬
‫وإلى أهل الشام كذلك‪ ،‬قال فبعث إليه أهل الكوفة عثمان بن فرقد‪ ،‬وبعث إليه أهل الشام معن‬
‫بن يزيد‪ ،‬وبعث إليه أهل البصرة الحجاج بن عالط كلهم سلميون‪ ،‬قال فاستعمل كل واحد منهم‬
‫على خراج أرضه‪.3‬‬
‫ـ القواعد الشرعية التي يجب على ولي األمر اتباعها في االختيار‪:‬‬
‫ـ وجوب تولي األصلح‪:‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمر عليهم أحداً‬
‫محاباة فعليه لعنة اهلل ال يقبل اهلل من صرفاً وال عدالً حتى يدخله جهنم»‪.4‬‬
‫ـ وجوب اختيار األمثل من الموجود‪:‬‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬فَاتَّقُوا اهللََّ مَا استَطَعتُم﴾ (التغابن‪ ،‬آية ‪.)16 :‬‬

‫وقال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ذروني ما تركتم‪ ،‬فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم‬
‫واختالفهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء‬
‫فاجتنبوه»‪ ،5‬وسئل اإلمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو أحدهما قوي فاجر‪،‬‬

‫‪ 1‬البخاري‪ ،‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.244 :‬‬


‫‪ 2‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.244 :‬‬
‫‪ 3‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.244 :‬‬
‫‪ 4‬الحاكم في المستدرك (‪ )93 /4‬صحيح اإلسناد‪.‬‬
‫‪ 5‬البخاري‪ ،‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.246 :‬‬

‫‪435‬‬
‫واآلخر صالح ضعيف‪ ،‬مع أيهما يغزي؟ فقال‪ :‬أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على‬
‫نفسه وأما الصالح الضعيف فصالحه لنفسه وضعفه للمسلمين‪ ،‬ويغزى مع القوي الفاجر‪.1‬‬
‫ـ ال تجوز المحاباة عند تولية المناصب‪:‬‬
‫فال يجوز التعيين على أساس القرابة النسبية وال الصلة الحزبية‪ ،‬وإنما يكون االختيار على‬
‫األسس الشرعية‪ ،‬فإن عدل عن األحق األصلح إلى غيره ألجل قرابة بينهما‪ ،‬أو والء عتاقة أو‬
‫صداقة‪ ،‬أو موافقة بلد أو مذهبه‪ ،‬أو طريقة أو جنس كالعربية والفارسية والتركية والرومية أو‬
‫الرشوة يأخذها منه أو منفعة أو غير ذلك من األسباب أو لضغن‪ 2‬في قلبه على األحق‪ ،‬أو‬
‫عداوة بينهما فقد خان اهلل ورسوله والمؤمنين ودخل فيما نهى عنه في قوله تعالى‪﴿:‬يَا أَيُّهَا‬

‫ال تَخُو ُنوا اهللَ وَالرَّسُو َل َوتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعَلمُونَ﴾ (األنفال‪ ،‬آية ‪:‬‬
‫الَّذِينَ آمَنُوا َ‬

‫َن اهللَ عِندَهُ أَجر عَظِيم﴾‬


‫‪ .)27‬ثم قال ‪﴿ :‬وَاعلَمُوا أَنَّمَا أَموَالُكُم وَأَوالَ ُدكُم فِتنَة وَأ َّ‬

‫(األنفال‪ ،‬آية ‪.)28 :‬‬


‫ـ طلب الوالية سبب في الحرمان منها‪:‬‬
‫فقد بيا ن النبي صلى اهلل عليه وسلم أن من حصل على المنصب من غير طلب فإن اهلل يعينه‬
‫عليه بخالف من سأله‪ ،‬فعن عبد الرحمن بن سمرة قال‪ ،‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال‬
‫تسأل اإلمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت‬
‫عليها»‪.3‬‬
‫ومن المعلوم أن كل والية ال تخلو من مشقة‪ ،‬فمن لم يكن له من اهلل إعانة تورط فيما دخل فيه‬
‫وخسر دنياه وعقباه فمن كان ذا عقل لم يتعرض للطلب أصالً‪ ،‬بل إذا كان كافياً وأعطيها من‬
‫غير مسألة فقد وعده الصادق باإلعانة وال يخفى ما في ذلك من الفضل‪.4‬‬

‫‪ 1‬السياسة الشرعية‪ ،‬ص‪.22 :‬‬


‫‪ 2‬الضغن‪ :‬الحقد كالضغينة وقد ضغن‪ :‬حقد‪.‬‬
‫‪ 3‬البخاري‪ ،‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.248 :‬‬
‫‪ 4‬فتح الباري (‪.)133 /13‬‬

‫‪436‬‬
‫وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إنكم ستحرصون على اإلمارة وستكون ندامة يوم‬
‫القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة»‪ ،1‬وقد حذر العلماء إسناد المناصب إلى من يحرص‬
‫عليها‪.2‬‬
‫ض إِنِّي حَفِيظ‬ ‫وأما قول يوسف عليه السالم في كتاب اهلل‪﴿ :‬اجعَلنِي عَلَى خَزَآئِ ِ‬
‫ن األَر ِ‬

‫عَلِيم﴾ (يوسف‪ ،‬آية ‪.)55 :‬‬

‫فالتوفيق بينه وبين ما سبق أن نقول‪ :‬إن يوسف عليه السالم كان بين قوم كفار‪ ،‬فأراد‬
‫استصالحهم ودعاءهم إلى اهلل تعالى بالسعي في هذه الوالية دون غيرها‪ ،‬ألن المتولي ألرزاق‬
‫العباد تذل له الرقاب‪ ،‬وتخضع له الجبابرة‪ ،‬وال يستغني أحد عن بابه‪ ،‬فلهذا طلب هذه المرتبة‬
‫دون اإلمارة والوزارة‪ ،‬وغير ذلك من الواليات‪ ،3‬فيوسف عليه السالم‪ :‬إنما قال ذلك ليتوصل‬
‫إلى إمضاء أحكام اهلل تعالى وإقامة الحق وبسط العدل‪ ،‬والتمكن مما ألجله تبعث األنبياء إلى‬
‫العباد‪ ..‬فطلب التولية ابتغاء وجه اهلل ال لحب الملك والدنيا‪.4‬‬
‫والذي نخلص إليه أن الذي يسأل اإلمارة ويحرص رغبة في الدنيا فإنه ال يولى‪ ،‬أما من رأى‬
‫أنه ال يوجد من يقوم مقامه فتقدم ألداء الواجب‪ ،‬ال طلباً لمال أو جاه‪ ،‬فتوليته مطلوبة مشروعة‪،‬‬
‫وال تترتب عليها أي مفسدة من المفاسد التي ترتب على تولية من يطلب المنصب رغبة في‬
‫الدنيا‪.5‬‬

‫ب ـ اإلشراف‪:‬‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته‪ ،‬فاألمير الذي على الناس‬
‫راعٍ وهو مسؤول عن رعيته»‪.6‬‬

‫‪ 1‬البخاري في األحكام‪ ،‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.248 :‬‬


‫‪ 2‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.248 :‬‬
‫‪ 3‬تبصرة الحكام البن فرحون (‪.)6 /1‬‬
‫‪ 4‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.249 :‬‬
‫‪ 5‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.250 :‬‬
‫‪ 6‬البخاري ومسلم‪ ،‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.251 :‬‬

‫‪437‬‬
‫وقد نص الماوردي على أن من واجبات اإلمام‪ :‬أن يباشر بنفسه مشارفة األمور‪ ،‬وتصفح‬
‫األحوال‪ ،‬لينهض بسياسة األمة وحراسة الملة‪ ،‬وال يعول على التفويض تشاغالً بلذة أو عبادة‬
‫قد يخون األمين ويغش الناصح‪.1‬‬
‫وقيادة الدولة تشرف بالطرق التالية‪:‬‬
‫ـ مالحظة الموظف أثناء العمل‪.‬‬
‫ـ تبادل وجهات النظر‪.‬‬
‫ـ تخطيط العمل‪.‬‬
‫ـ االجتماعات‪.‬‬
‫ـ المتابعة اإلدارية بواسطة تقرير العمل‪.‬‬
‫ـ التفتيش الدوري والتفتيش المفاجئ‪.‬‬
‫فاال شراف عبارة عن متابعة األمور أوالً بأول‪ ،‬واالتصال المستمر بالعمال والحصول على‬
‫المعلومات دائماً بمختلف الوسائل وتصحيح االنحرافات في أسرع وقت‪.2‬‬
‫واالشراف يحقق األغراض التالية‪:‬‬
‫ـ التأكد من أن العمل ينفذ وفقاً لمبادئ وأصول اإلدارة ووفقاً للخطة‪.‬‬
‫ـ مساعدة الموظفين على إتقان أعمالهم‪.‬‬
‫ـ إلمام المشرف باألعمال التي تمت‪ ،‬مع اكتشاف ما قد يكون هناك من صعوبات تعترض‬
‫التنفيذ وبحث وسائل التغلب عليها‪.‬‬
‫ـ توجيه وتعليم الموظفين بما يجعلهم أقل احتياجاً لإلشراف في المستقبل‪.‬‬
‫ـ تقييم قدرة ودرجة إتقان الموظفين ألعمالهم‪.‬‬
‫ـ التنسيق بين جهود الموظفين‪.3‬‬

‫‪ 1‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.251 :‬‬


‫‪ 2‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.252 ،251 :‬‬
‫‪ 3‬مبادئ اإلدارة العامة‪ ،‬فوزي حبيش‪ ،‬ص‪.72 :‬‬

‫‪438‬‬
‫ومن نماذج اإلشراف في الدولة اإلسالمية ما رواه عبد الرزاق عن ابن طاووس عن أبيه أن‬
‫عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه قال‪ :‬أرأيتم إن استعملت عليكم خير من أعلم‪ ،‬وأمرته بالعدل‬
‫أقضيت ما علي؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬ال حتى أنظر في عمله أعمل ما أمرته أم ال‪1‬؟‬
‫وروى الطبري عنه قال‪ :‬أنا مسؤول عن أمانتي وما أنا فيه ومطلع على ما يحضرني بنفسي‬
‫إن شاء اهلل ال أكله إلى أحد‪ ،2‬وفي قوله‪ :‬ال أكله إلى أحد " داللة على أنه مادام يستطيع‬
‫اإلشراف والمتابعة بنفسه فإنه ال يكل أداء هذا الواجب إلى غيره‪ ،‬أما البعيد فإنه يستعين عليه‬
‫بأهل األمانة والكفاءة والتقوى‪ ،‬الذين ال يكون التعاون إال معهم‪."3‬‬
‫ـ الزيارات التفقدية‪:‬‬
‫ومن وسائل اإلشراف الزيارات التفقدية‪ ،‬فقد كان عمر رضي اهلل عنه يقول‪ :‬لئن عشت إن شاء‬
‫اهلل ألسيرن في الرعية حوالً فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني‪ ،‬أما هم فال يصلون إلي‪،‬‬
‫وأما عمالهم فال يرفعونها إلي‪:‬‬
‫فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين‬
‫ثم أسير إلى الجزيرة‪ ،‬فأقيم فيها شهرين‬
‫ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين‬
‫ثم أسير إلى البحرين‪ ،‬فأقيم بها شهرين‬
‫ثم أسير إلى الكوفة‪ ،‬فأقيم بها شهرين‬
‫ثم أسير إلى البصرة‪ ،‬فأقيم بها شهرين‬
‫واهلل لنعم الحول هذا‪.4‬‬
‫وقال‪ :‬إني قد بدأ لي أن أطوف على المسلمين في بلدانهم وقد خرج عمر بن الخطاب رضي‬
‫اهلل عنه في زيارة تفقدية إلى الشام ضمن هذه الزيارات التي كان يرى أهميتها‪ ،‬وقد أبدأ بالشام‬
‫الذي ضاعت فيه مواريث المسلمين‪ ،‬بسبب الوباء وفي هذه الزيارة قسم عمر األرزاق وسمى‬

‫‪ 1‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.)253 :‬‬


‫‪ 2‬تاريخ الطبري (‪.)215 /4‬‬
‫‪ 3‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.253 :‬‬
‫‪ 4‬تاريخ المدينة‪ ،‬عمر بن شبة (‪.)821 /3‬‬

‫‪439‬‬
‫الشواتي‪ ،1‬والصوائف‪ ،2‬وسد فروج الشام‪ 3‬ومسالحها‪ ،4‬وأخذ يدور بها ‪:‬أي الشام" وسمى ذلك‬
‫في كل كوزة‪ ،5‬كما يقول الطبري‪ ،6‬وفي هذه الزيارة عزل وولى‪ ،‬وكان فيمن عزل شرحبيل‬
‫بن حسنة وولى مكانه معاوية بن أبي سفيان‪ .7‬وكان ممن ولى في هذه الزيارة أبو موسى‬
‫األشعري على السواحل الشامية وودع الناس بخطبة بليغة قال فيها بعد أن حمد اهلل وأثنى‬
‫عليه‪ :‬أال أني قد وليت عليكم‪ ،‬وقضيت الذي علي في الذي والني اهلل من أمركم ـ إن شاء اهلل ـ‬
‫قسطنا بينكم فيئكم ومنازلكم ومغازيكم‪ ،‬وأبلغنا ما لديكم فجندنا لكم الجنود‪ ،‬وهيأنا لكم الفروج‪،‬‬
‫وبوأناكم ووسعنا عليكم ما بلغ فيئكم وما قاتلتم عليه من شامكم وسمينا لكم من أطعمتكم‪ ،‬وأمرنا‬
‫لكم بعطائكم وأرزاقكم ومعاونكم‪ ،‬فمن علم علم شيء ينبغي العمل به‪ ،‬فبلغنا نعمل به إن شاء‬
‫اهلل تعالى وال قوة إال باهلل‪.8‬‬
‫ال‬
‫ومن هنا نعرف برنامج هذه الجوالت التفقدية‪ ،‬فليس أكالً وشرباً ونزهة وتفرجاً واستقبا ً‬
‫وتوديعاً فحسب‪ ،‬وإنما هي تخطيط وجهاد وعزل وتولية‪ ،‬وحل للمشكالت العالقة‪ ،‬وبسط‬
‫العدل‪ ،‬وتعميق لإلصالح‪ ،‬وتوجيه وإرشاد‪ ،‬وإعالن عام يشجع الناس على بذل النصيحة‬
‫للحاكم ويدعوهم إلى التفكير في مصالح األمة فيقول‪ :‬من علم علم شيء ينبغي العمل به فبلغنا‬
‫نعمل به‪ ،‬إن شاء اهلل تعالى وال قوة إال باهلل‪.9‬‬

‫ـ مؤتمر الحج‪:‬‬

‫‪ 1‬الشواتي‪ :‬غزوات الشتاء‪.‬‬


‫‪ 2‬والصوائف‪ :‬غزوات الصيف غزوة الروم‪.‬‬
‫‪ 3‬الفروج‪ :‬الثغور‪.‬‬
‫‪ 4‬مسالحها‪ :‬جمع مسلحة وهي الثغر‪.‬‬
‫‪ 5‬كوزة‪ :‬الصقع‪ :‬الناحية‪.‬‬
‫‪ 6‬تاريخ الطبري (‪.)203 /4‬‬
‫‪ 7‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.255 :‬‬
‫‪ 8‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪ ،255 :‬تاريخ الطبري (‪.)204 /4‬‬
‫‪ 9‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.256 :‬‬

‫‪440‬‬
‫من وسائل اإلشراف‪ :‬االجتماعات‪ ،‬ومن أهم االجتماعات اإلسالمية اجتماع المسلمين في موسم‬
‫الحج‪﴿ :‬لِيَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم وَيَذكُرُوا اسمَ اهللِ فِي أَيَّام مَّعلُومَات عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن‬

‫بَهِيمَ ِة األَنعَامِ﴾ (الحج‪ ،‬آية ‪.)28 :‬‬

‫وقد كان عمر رضي اهلل عنه مالزماً للحج في سني خالفته وكان من سيرته أن يأخذ عماله‬
‫بموافاته كل سنة في موسم الحج ليحجزهم‪ ،1‬وبذلك عن الرعية ويحجز عنهم الظلم ويتعرف‬
‫أحوالهم عن قرب وليكون للرعية وقت معلوم ينهون إليه شكاويهم‪.2‬‬
‫ـ إستطالع األخبار‪:‬‬
‫قد يتم اإلشراف بواسطة التقارير والمعلومات التي تصل إلى المسؤول اإلداري فيكون بواسطة‬
‫المعلومات متابعاً للعمل مشرفاً عليه‪ ،‬ومراقباً له‪ ،‬روى الطبري أن عمر رضي اهلل عنه كان ال‬
‫يأتيه أحد إال سأله عن الوجه الذي يجيء منه‪ ،‬وفي قصة التحقيق مع خالد بن الوليد رضي اهلل‬
‫عنه قال الراوي وكان عمر ال يخفى عليه شيء من عمله‪ ،3‬وهذا ما عبر عنه الجاحظ بقوله‬
‫عن عمر‪ :‬كان علمه بمن نأى عنه من عماله ورعيته كعلمه بمن يأت معه في مهاد واحد وعلى‬
‫وساد واحد‪ ،‬فلم يكن له في قطر من األقطار وال ناحية من النواحي‪ ،‬عامل وال أمير جيش إال‬
‫وعليه ال يفارقه ما وجده كانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب عنده في كل مُمس ومصبح‪ ،‬وأنت‬
‫ذلك في كتبه إلى عماله وعمالهم حتى كان العامل منهم ليتهم أقرب الخلق إليه وأخصهم به‪.4‬‬
‫ج ـ متابعة العمال ومحاسبتهم وما يترتب على ذلك‪:‬‬
‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وخلفاؤه يحاسبون العمال على الصدقات والفيء وغير‬
‫ذلك ومحاسبة النبي صلى اهلل عليه وسلم ألحد عماله ثابتة في الصحيح‪ ،‬فعن أبي حميد‬
‫الساعدي‪ ،‬قال استعمل النبي صلى اهلل عليه وسلم رجالً من بني أسد يقال له ابن اللتيبة‪ ،‬على‬
‫صدقه فلما قدم قال‪ :‬هذا لكم وهذا أهدي لي‪ ،‬فقام النبي صلى اهلل عليه وسلم على المنبر فحمد‬

‫‪ 1‬ليحجزهم‪ :‬ليمنعهم‪.‬‬
‫‪ 2‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.257 :‬‬
‫‪ 3‬تاريخ الطبري (‪.)67 /4‬‬
‫‪ 4‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.258 :‬‬

‫‪441‬‬
‫اهلل وأثنى عليه ثم قال‪« :‬ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول هذا لك وهذا لي؟ فهال جلس في بيت‬
‫أبيه وأمه‪ ،‬فينظر أيهدى له أم ال؟ والذي نفسي بيده ال يأتي بشيء إال جاء به يوم القيامة يحمله‬
‫على رقبته إن كان بعيراً له رغاء‪ ،‬أو بقرة لها خوار‪ ،‬أو شاة تيعر»‪ ،‬ثم رفع يديه حتى رأينا‬
‫عفرتي إبطيه «أال هل بلغت؟ أال هل بلغت؟»‪ ،1‬وفي رواية‪ :‬استعمل رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم رجالً من األسد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللتيبية فلما حاسبه‪ ،2‬قال المهلب‪:‬‬
‫حديث الباب أصل في محاسبة المؤتمن‪.3‬‬
‫ـ عهد التعيين‪:‬‬
‫كان عهد التعيين الذي يتضمن و صفاً كامالً للمهمة‪ ،‬وشرحاً واضحاً للواجبات والصالحيات‬
‫وحقوق الرعية‪ ،‬أساساً ممتازاً للرقابة اإلدارية والمالية‪ ،‬منسجماً مع تعاليم اإلسالم‪ ،‬في البيان‬
‫والوضوح واإلبالغ واإلنذار قبل المعاقبة‪ ،‬فعندما كان عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه يعين‬
‫عامالً‪ ،‬فإنه كان يعطي عهد تعيين يحتوي على أمر تنصيبه وتحديد ما يحول من صالحيات‪،‬‬
‫وما يكلف من واجبات‪ ،‬ويحمل هذا األمر خاتم الخليفة أو توقيعه ويشهد عليه عدد من‬
‫المهاجرين واألنصار‪ ،‬وقبل أن يبرح العامل المدينة مباشرة يجتمع الناس في المسجد‪ ،‬ويقرأ‬
‫على المأل األمر أو عهد التعيين وبذلك يعرف كل مواطن حقيقة سلطات الوالة والعمال‬
‫وواجباتهم‪.4‬‬
‫د ـ كيف يتم التحقيق مع العمال؟‬
‫كان عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه يحاسب عماله محاسبة دقيقة‪ ،‬ويحقق معهم تحقيقاً صارماً‬
‫ال مجاملة فيه وال محاباة‪ ،‬أداء للواجب ونصحاً للرعية مع ما يكن لهم من المحبة والود وإليك‬
‫نموذج من هذه التحقيقات‪:‬‬
‫*ـ التحقيق مع سعد بن أبي وقاص رضي اهلل عنه‪:‬‬

‫‪ 1‬البخاري في كتاب األحكام‪ ،‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.262 :‬‬


‫‪ 2‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.262 :‬‬
‫‪ 3‬فتح الباري (‪.)586 /4‬‬
‫‪ 4‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.263 :‬‬

‫‪442‬‬
‫اتهم بعض أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص رضي اهلل عنه بأغرب التهم‪ ،‬حتى أُتهم بأنه ال‬
‫يحسن يصلي‪ ،‬وعندما أرسل عمر مسؤول التحقيقات عنده ‪:‬محمد بن مسلمة ليحقق في‬
‫مضمون هذه الشكاوي‪ ،‬وكان عمر إذا أحب أن يؤتى باألمر كما يريد بعث محمد بن مسلمة‪،‬‬
‫وسأله عنه في مساجد الكوفة أثنوا عليه خيراً‪ ،‬إال واحداً ممن كانوا يتحاملون عليه‪ ،‬وهو أسامة‬
‫بن قتادة فإنه قال عن سعد‪ :‬إنه ال يقسم بالسوية وال يعدل في الرعية وال يغزو في السرية وقد‬
‫دعا سعد فقال‪ :‬اللهم إن كان قالها كذباً ورياءً وسمعة فأعم بصره وأكثر عياله وعرضه‬
‫لمضالت الفتن‪ ،‬وقد استجاب اهلل دعاء سعد فطال عمر الرجل‪ ،‬وكثر عياله ووصلت به الفتنة‬
‫إلى حد أنه كان يسمع بخبر المرأة فيأتيها حتى يحبسها‪ ،‬فإذا عثر عليه قال‪ :‬دعوة سعد الرجل‬
‫المبارك‪.1‬‬
‫وكانت نتيجة التحقيق تبرئة سعد مما نسب إليه‪ ،‬ومع ذلك فقد عزله عمر بن الخطاب درءًا‬
‫للفتنة‪ ،2‬حتى ال تبقى حجة لناقد أو مشاغب‪ ،‬ألن مذهبه في هذا الخصوص ـ حسب قوله ـ إن‬
‫تغيير الوالي أيسر من تغيير الرعية‪.3‬‬
‫وكان يقول‪ :‬أهون علي شيء أصلح به قوماً أن أبدلهم أميراً مكان أمير‪ ،4‬ولكن عمر كان‬
‫حريصاً في الوقت ذاته على تبرئة ساحته وكان عمر رضي اهلل عنه مقتنعاً بكفاءته ولذلك‬
‫أوصى باستعماله فقال‪ :‬إن ولي سعد اإلمارة فذاك‪ ،‬وإال فأوصي الخليفة بعدي أن يستعمله فإني‬
‫لم أعزله عن عجز وال خيانة‪.5‬‬
‫وكان عمر وهو يحاسب سعد بن أبي وقاص يقول له عزمت عليك أال تدعو على أخيك‬
‫ويضحكه‪ ،‬وإذا ذهب غضبه‪ ،‬قال‪ :‬تعالى نتحاسب فإنه اليوم أيسر عليك من غد‪ ،6‬وهذه الواقعة‬
‫نستفيد منها في مجال الرقابة‪:‬‬

‫‪ 1‬تاريخ الطبري (‪.)120 /4‬‬


‫‪ 2‬البداية والنهاية (‪.)81 /8‬‬
‫‪ 3‬عمر بن الخطاب وأصول السياسة‪ ،‬سليمان الطماوي‪ ،‬ص‪.286 :‬‬
‫‪ 4‬الطبقات الكبرى البن سعد (‪.)284 /3‬‬
‫‪ 5‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪ ،269 :‬طبقات ابن سعد (‪.)137 /3‬‬
‫‪ 6‬تخريج الدالالت السمعية‪ ،‬ص‪.254 :‬‬

‫‪443‬‬
‫ـ أن جميع عمال عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه كانوا سواء أمام المحاسبة والتحقيق‪ ،‬فعلى‬
‫الرغم من فضل سعد بن أبي وقاص‪ ،‬وتهافت التهم الموجهة إليه فقد خضع كغيره للتحقيق‪.1‬‬
‫ـ علنية التحقيق وا ستخدام المساجد وسيلة لهذه العلنية‪ ،‬األمر الذي يبعد التحقيق عن أية شبهة‬
‫تستر أو تمالئ مع العمال المدعى عليهم‪ ،‬وهذا يشبه المبدأ القضائي المتبع اآلن وهو علنية‬
‫المحاكمات‪.‬‬
‫ـ االهتمام بالشكاوي المقدمة من عامة المسلمين مهما كان المدعي عليه‪.‬‬
‫ـ السرعة في القيام بالتحقيق والبث في األمر واالبتعاد عن االجراءات الرتيبة الطويلة‬
‫المناقضة لتحقيق األهداف الرقابية‪.2‬‬
‫كما تم التحقيق مع أبي موسى األشعري ومع النعمان بن نضلة ومع عياض بن غنم وخالد بن‬
‫الوليد وقام بعزل الكثير من الوالة‪.‬‬
‫هـ ـ إحصاء أموال الموظفين عند تولي العمل‪:‬‬
‫روى ابن سعد وابن الجوزي عن الشعبي أن عمر كان إذا استعمل عامالً كتب ماله‪ ،3‬وعن‬
‫عبد اهلل بن المبارك‪ :‬قال كان عمر بن الخطاب يكتب أموال عماله إذا والهم ثم يقاسمهم ما زاد‬
‫على ذلك وربما أخذه منهم‪.4‬‬
‫وقال ابن حبيب المالكي‪ :‬وكان عمر إذا ولي أحداً أحصى ماله لينظر ما يزيد ولذا شاطر‬
‫العمال أموالهم حيث كثرت وعجز عن تمييز ما زادوه بعد الوالية قاله مالك وشاطر أبا هريرة‬
‫وأبا موسى وغيرهما‪.5‬‬
‫لقد كان عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه بعد أن يتعرف على الوضع المالي للعامل قبل‬
‫الوالية‪ ،‬يتابعه متابعة دقيقة فإذا أثرى وزاد ثراؤه عن الحد المعقول دل ذلك عند الفاروق عمر‬
‫رضي اهلل عنه على نوع من استغالل النفوذ‪ ،‬أو استخدام المنصب أو االستفادة من جاه العمل‬
‫في كسب المال‪ ،‬األمر الذي يقتضي المحاسبة والمقاسمة أو المصادرة على حسب قوة القرائن‬
‫‪ 1‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.270 :‬‬
‫‪ 2‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.270 :‬‬
‫‪ 3‬الطبقات الكبرى (‪.)307 /3‬‬
‫‪ 4‬فتوح البلدان‪ ،‬ص‪.307 :‬‬
‫‪ 5‬مواهب الجليل شرح مختصر خليل (‪ 119 /6‬ـ ‪.)120‬‬

‫‪444‬‬
‫ووضوح األدلة‪ ،‬وقد قاسم عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه سعد ابن أبي وقاص ومعاوية بن‬
‫أبي سفيان وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد وأبا هريرة‪.1‬‬
‫وقد بنى الفقهاء على هذه السنة العمرية قولهم‪ :‬ويحصى ما عند القاضي حين واليته‪ ،‬ويأخذ ما‬
‫اكتسبه زائداً على رزقه‪.2‬‬
‫إن البداية الصحيحة للرقابة المالية اإلدارية هي‪ :‬تطبيق دعائم النظام السياسي اإلسالمي التي‬
‫منها‪ :‬سيادة الشرع التي تقتضي خضوع الدولة لحكم اإلسالم‪ ،‬واالنصياع ألوامره ونواهيه‪،‬‬
‫والتزام جميع السلطات البرلمانية والقضائية والتنفيذية بنصوصه وتعاليمه وأحكامه ومنها إقامة‬
‫العدل والشورى‪ ،‬والبيعة االختيارية التي تقتضي أن تعقد األمة عقداً تلتزم بموجبه بالسمع‬
‫والطاعة للرئيس المنتخب ويلتزم الرئيس بموجبه بقيادة األمة بكتاب اهلل تعالى وسنة رسوله‬
‫صلى اهلل عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين‪.‬‬

‫موارد الدولة الحديثة ذات المرجعية اإلسالمية‪:‬‬


‫البد من التركيز على غرس القيم اإليمانية في مختلف مؤسسات التكوين المهني حتى نخرج‬
‫موظفين مؤهلين لحمل األمانة بعد أن أصبحت مؤسساتنا تخرج الهثين وراء المال إال من رحم‬
‫ربك‪.3‬‬
‫ـ الرقابة والتدقيق على كافة موارد الدولة وفقاً للقوانين واللوائح واألنظمة المالية والمحاسبية‪.‬‬
‫ـ تحديث أساليب الرقابة المالية في الدولة وجعلها متسقة مع المعايير العالمية ذات الصلة‪،‬‬
‫سواء ما تعلق منها بالتقارير الرقابية أو تقارير التدقيق والتفتيش والمتابعة‪.‬‬
‫ـ تجنب الخلط الشائع بين مفاهيم الموازنة والحساب الختامي‪ ،‬وبين الموازنة العامة والموازنة‬
‫االقتصادية والحسابات القومية‪ ،‬والموازنة العامة وموازنة المشروعات الخاصة‪ ،‬وإيالئها ذات‬
‫القدر من االهتمام والتدقيق والمراجعة‪.‬‬

‫‪ 1‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.290 :‬‬


‫‪ 2‬مواهب الجليل شرح مختصر خليل (‪.)119 /6‬‬
‫‪ 3‬الرقابة اإلدارية‪ ،‬ص‪.300 :‬‬

‫‪445‬‬
‫ـ مراقبة مدى شرعية وقانونية ومالءمة القروض التي تبرمها الدولة سواء كانت مقرضة أو‬
‫مقترضة‪.‬‬
‫ـ مراقبة وتدقيق كافة أوجه االستثمار ألموال الدولة في الداخل والخارج‪.‬‬
‫ـ فحص وتدقيق الحسابات الختامية لكافة أجهزة الدولة وهيئاتها ومؤسساتها‪.‬‬
‫ـ التدقيق والمراجعة لكافة قرارات اإلعفاء التي تتخذها سلطات الدولة لألفراد أو لألشخاص‬
‫من الحقوق المترتبة على كاهلهم للدولة‪.‬‬
‫ـ الرقابة الصارمة على إعداد الموازنة العامة وتنفيذها‪.‬‬
‫ـ ضمان االستخدام األمثل للموارد المادية والبشرية والتقنية للدولة بما يقلل الهدر في موارد‬
‫الدولة‪ ،‬ويحكم توجيه تلك الموارد نحو خدمة المواطن أيما كان وأينما وجد‪.‬‬
‫ـ حسن اختيار وتدريب وتأهيل واالرتقاء بخبرات كافة الكوادر البشرية العاملة في حقل‬
‫المحاسبة والتدقيق والمراجعة لموازنة الدولة وأوجه اإلنفاق‪.‬‬
‫ـ سن التشريعات الالزمة إلحكام الرقابة على إيرادات ونفقات الدولة وتدقيق أوجه الصرف‪،‬‬
‫وتغليظ العقوبات على كافة أوجه الفساد والرشوة والغش والمحسوبية والمحاباة واالبتزاز‬
‫والتدليس واإلهمال وهدر المال العام واالستيالء وتسهيل االستيالء عليه‪ ،‬وتغليب المصالح‬
‫االقتصادية لبعض األشخاص أو الجهات على المصلحة االقتصادية للدولة‪.‬‬
‫ـ أن تتسم دواوين وأجهزة الرقابة والمحاسبة بالحياد والنزاهة واالستقاللية عن أجهزة الدولة‬
‫إدارياً ومالياً وسياسياً‪.‬‬
‫ـ زيادة رقعة التعاون وتبادل الخبرات بين األجهزة الرقابية المالية واإلدارية والمحاسبية داخل‬
‫الدولة‪ ،‬وكافة المنظمات اإلقليمية والدولية ذات الصلة بالرقابة المالية الحكومية‪ ،‬وفي طليعتها‬
‫المنظمة الدولية لألجهزة العليا للرقابة المالية العامة والمحاسبة وهي أعلى هيئة تنظيمية دولية‬
‫لشؤون الرقابة المالية الحكومية‪.‬‬

‫‪446‬‬
‫ـ عدالة توزيع عائدات النفط‪ ،‬وسائر ثروات البالد بين مواطنيها ومدنها وأقاليمها على نحو‬
‫عادل متوازن ووفقاً لمنهج علمي‪ ،‬يحفظ حق األجيال القادمة ويرفع الظلم عن المناطق والمدن‬
‫والمواطنين الذين حرموا من ثروات بالدهم لردح طويل من الزمن‪.‬‬
‫ـ إبرام عقود بيع النفط بشكل شفاف ومعلن وإيجاد آلية تكفل الرصد والرقابة والمحاسبة عن‬
‫كافة ما يتعلق بمفردات موازنة الدولة‪ ،‬وسبل إنفاقها‪ ،‬وذلك بما يكفل القضاء على سوء اإلنفاق‬
‫وتبديد ثروات البالد‪.‬‬
‫ـ فتح ملفات الفساد المرتبطة بكبار موظفي الدولة الذين تورطوا في هدر وسرقة األموال‬
‫العامة ومحاربة الرشوة والمحسوبية واالستيالء على المال العام والتالعب بمقدرات الدولة‪.‬‬
‫ـ إرساء مفاهيم الشفافية والمساءلة العامة‪ ،‬والعمل على تغيير وإعادة تسويق الدولة ككيان‬
‫محارب للفساد المالي واإلداري والسياسي‪ ،‬وذلك خروجاً من تلك الصورة القاتمة التي رسمتها‬
‫النظم االستبدادية لبعض دول المنطقة والتي عبرت عنها منظمة الشفافية الدولية من خالل‬
‫موقعها بعض الدول العربية واإلسالمية مرتبة متدنية بين دول العالم في هذا المجال‪.‬‬

‫‪447‬‬
‫الخاتمة‬

‫وبعد‪ ،‬فهذا ما يسره اهلل لي من جمع وترتيب وتحليل في هذا الكتاب فيما يتعلق بـ‬
‫"الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها"‪.‬‬
‫فما كان فيه من صواب فهو محض فضل اهلل عليَّ‪ ،‬فله الحمد والمناة‪ ،‬وما كان فيه من خطأ‬
‫فأستغفر اهلل تعالى وأتوب إليه واهلل ورسوله بريء منه وحسبي أني كنت حريصاً أال أقع في‬
‫الخطأ وعسى أال أحرم من األجر‪.‬‬
‫وأدعو اهلل تعالى أن ينفع بهذا الكتاب إخواني المسلمين‪ ،‬وأن يذكرني من يقرؤه في دعائه‪ ،‬فإن‬
‫دعوة األخ ألخيه في ظهر الغيب مستجابة إن شاء اهلل تعالى‪.‬‬
‫وأختم هذا الكتاب بقول اهلل تعالى‪ ﴿:‬رَبَّنَا اغفِر لَنَا وَ ِ‬
‫إلِخوَا ِننَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِاإلِيمَانِ َوالَ تَجعَل فِي‬

‫ك رَؤُوف رَّحِيم﴾ (الحشر ‪ ،‬آية ‪.)10 :‬‬


‫ِال لِّلَّذِينَ آمَنُوا رََّبنَا إِنَّ َ‬
‫قُلُوبِنَا غ ًّ‬

‫‪448‬‬
‫فهرس لكتاب‬

‫‪1‬‬ ‫المقدمة‬

‫‪25‬‬ ‫المبحث األول‪ :‬مفهوم الدولة‪.‬‬

‫‪25‬‬ ‫أوال‪ :‬الدولة لغة وإصطالحاً‪:‬‬


‫‪25‬‬ ‫‪ 1‬ـ الدولة لغة‪.‬‬
‫‪26‬‬ ‫‪ 2‬ـ الدولة اصطالحاً‪.‬‬
‫‪26‬‬ ‫أ ـ الدولة في الفكر اإلسالمي‪.‬‬
‫‪28‬‬ ‫ب ـ الدولة في الفكر الغربي‪.‬‬
‫‪28‬‬ ‫‪ ‬ـ الدولة في الفكر الشيوعي االشتراكي‪.‬‬
‫‪29‬‬ ‫‪ ‬ـ الدولة في الفكر الليبرالي‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬الدولة اإلسالمية‪.‬‬


‫‪30‬‬ ‫الً‪ :‬نشأة الدولة اإلسالمية‪:‬‬
‫أوً‬
‫‪30‬‬ ‫‪ 1‬ـ المرحلة السرية‪.‬‬
‫‪32‬‬ ‫‪ 2‬ـ مقر القيادة (دار األرقم بن أبي األرقم)‪.‬‬
‫‪33‬‬ ‫‪ 3‬ـ شخصية النبي صلى اهلل عليه وسلم وأثرها في صناعة القادة‪.‬‬
‫‪34‬‬ ‫‪ 4‬ـ المادة الدراسية في دار األرقم‪.‬‬
‫‪34‬‬ ‫‪ 5‬ـ انتشار الدعوة في بطون قريش‪.‬‬
‫‪36‬‬ ‫‪ 6‬ـ فقه النبي صلى اهلل عليه وسلم في التعامل مع السنن‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫أ ـ سنة التدرج‪.‬‬
‫‪38‬‬ ‫ب ـ سنة تغيير النفوس‪.‬‬

‫‪449‬‬
‫‪48‬‬ ‫جـ ـ سنة اإلبتالء‪.‬‬
‫‪52‬‬ ‫س ـ سنة األخذ باألسباب‪.‬‬
‫‪54‬‬ ‫ش ـ الطواف على القبائل طلباً للنصرة‪.‬‬
‫‪56‬‬ ‫ر ـ بيعة العقبة األولى‪.‬‬
‫‪58‬‬ ‫ز ـ بيعة العقبة الثانية‪.‬‬
‫‪66‬‬ ‫ع ـ الهجرة إلى المدينة‪.‬‬

‫‪76‬‬ ‫ثانياً‪ :‬دعائم دولة اإلسالم في المدينة‪.‬‬


‫‪76‬‬ ‫‪ 1‬ـ بناء المسجد‪.‬‬
‫‪78‬‬ ‫أ ـ المسجد من أهم الركائز في بناء المجتمع‪.‬‬
‫‪78‬‬ ‫ب ـ المسجد رمز لشمولية اإلسالم‪.‬‬
‫‪80‬‬ ‫جـ ـ التربية بالقدوة العملية‪.‬‬
‫‪82‬‬ ‫ح ـ االهتمام بالخبرة واالختصاص‪.‬‬
‫‪82‬‬ ‫س ـ شعار الدولة المسلمة‪.‬‬
‫‪85‬‬ ‫‪ 2‬ـ المؤاخاة بين المهاجر واألنصار‪.‬‬
‫‪87‬‬ ‫أ ـ آصرة العقيدة هي أساس االرتباط‪.‬‬
‫‪88‬‬ ‫ب ـ الحب في اهلل أساس بنية المجتمع‪.‬‬
‫‪89‬‬ ‫جـ ـ النصيحة بين المتآخين في اهلل‪.‬‬
‫‪90‬‬ ‫س ـ قيم إنسانية ومباديء مثالية‪.‬‬
‫‪91‬‬ ‫‪ 3‬ـ دستور دولة المدينة‪.‬‬

‫‪91‬‬ ‫‪ ‬ـ كتابه صلى اهلل عليه وسلم بين المهاجرين واألنصار نص الوثيقة‪.‬‬
‫‪96‬‬ ‫أ ـ تحديد مفهوم األمة‪.‬‬
‫‪97‬‬ ‫ب ـ مفهوم المواطنة‪.‬‬

‫‪450‬‬
‫‪97‬‬ ‫ج ـ إقليم الدولة‪.‬‬
‫‪98‬‬ ‫س ـ الحريات وحقوق اإلنسان‪.‬‬
‫‪104‬‬ ‫ر ـ المرجعية العليا هلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫‪109‬‬ ‫‪4‬ـ سنة التدافع وحركة السرايا‪.‬‬
‫‪112‬‬ ‫ـ التوجيه المعنوي‪.‬‬
‫‪113‬‬ ‫ـ التدريب العملي‪.‬‬
‫‪113‬‬ ‫ـ أهم السرايا والبعوث التي سبقت غزوة بدر الكبرى‪.‬‬
‫‪114‬‬ ‫‪ ‬ـ حراسة الصحابة للنبي صلى اهلل عليه وسلم الشخصية‪.‬‬
‫‪116‬‬ ‫‪ ‬ـ من أهداف السرايا‪.‬‬
‫‪117‬‬ ‫‪ ‬ـ عالقة هذه السرايا بحركة الفتوح‪.‬‬
‫‪120‬‬ ‫‪5‬ـ األمن‪.‬‬

‫‪123‬‬ ‫‪ ‬ـ معالم نبوية في التربية األمنية‪.‬‬


‫‪136‬‬ ‫‪6‬ـ التخطيط واإلدارة‪.‬‬
‫‪136‬‬ ‫أ ـ قصة يوسف عليه السالم‪.‬‬
‫‪142‬‬ ‫ب ـ من سيرة سيد الخلق صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫‪147‬‬ ‫‪ 7‬ـ االقتصاد‪.‬‬
‫‪152‬‬ ‫أ ـ تشريع فريضة الصيام‪.‬‬
‫‪153‬‬ ‫ب ـ تشريع زكاة الفطر‪.‬‬
‫‪154‬‬ ‫ج ـ صالة العيد‪.‬‬
‫‪154‬‬ ‫س ـ تشريع الزكاة‪.‬‬
‫‪160‬‬ ‫‪ ‬ـ اإلكتفاء الذاتي‪.‬‬
‫‪163‬‬ ‫أ ـ ضرورة التخطيط‪.‬‬
‫‪163‬‬ ‫ب ـ تهيئة الطاقات البشرية وحسن توزيعها‪.‬‬

‫‪451‬‬
‫‪163‬‬ ‫ج ـ حسن استغالل الموارد المتاحة‪.‬‬
‫‪164‬‬ ‫س ـ التنسيق بين فروع اإلنتاج‪.‬‬
‫‪165‬‬ ‫ك ـ تشغيل الثروة النقدية‪.‬‬
‫‪165‬‬ ‫‪ 8‬ـ اإلعالم‪.‬‬
‫‪166‬‬ ‫أ ـ مساعدة الرسول صلى اهلل عليه وسلم على حل المشاكل‪.‬‬
‫‪169‬‬ ‫ـ الحكمة‪.‬‬
‫‪169‬‬ ‫ـ الموعظة الحسنة‪.‬‬
‫‪169‬‬ ‫ـ الجدال بالتي هي أحسن‪.‬‬
‫‪169‬‬ ‫ـ الجهاد‪.‬‬
‫‪169‬‬ ‫ـ القدوة الحسنة‪.‬‬
‫‪171‬‬ ‫ـ الهجرة‪.‬‬
‫‪172‬‬ ‫ـ بناء المسجد‪.‬‬
‫‪173‬‬ ‫ـ بيعة الرضوان‪.‬‬
‫‪173‬‬ ‫ـ البعثات النبوية‪.‬‬
‫‪176‬‬ ‫‪ 9‬ـ البناء التربوي والعلمي‪.‬‬
‫‪178‬‬ ‫أ ـ أهم الوسائل والمباديء التربوية‪.‬‬
‫‪178‬‬ ‫ـ تكرار الحديث وإعادته‪.‬‬
‫‪178‬‬ ‫ـ التأني في الكالم والفصل بين الكلمات‪.‬‬
‫‪179‬‬ ‫ـ االعتدال وعدم االمالل‪.‬‬
‫‪179‬‬ ‫ـ ضرب األمثال‪.‬‬
‫‪180‬‬ ‫ـ طرح المسائل‪.‬‬
‫ـ القاء المعاني الغريبة المثيرة لالهتمام والداعية‬
‫‪181‬‬ ‫إلى االستفسار والسؤال‪.‬‬

‫‪452‬‬
‫‪181‬‬ ‫ـ استخدام الوسائل التوضيحية‪.‬‬
‫‪183‬‬ ‫ـ استعمال العبارة اللطيفة والرقيقة‪.‬‬
‫‪183‬‬ ‫ـ تشجيع المحسن والثناء عليه‪.‬‬
‫‪183‬‬ ‫ـ االشفاق على المخطيء وعدم تعنيفه‪.‬‬
‫‪184‬‬ ‫ـ عدم التصريح واالكتفاء بالتعريض فيما يذم‪.‬‬
‫‪185‬‬ ‫ـ الغضب والتعنيف متى كان لذلك دواع مهمة‪.‬‬
‫‪193‬‬ ‫‪ 10‬ـ القانون والسلطة القضائية‪.‬‬
‫‪195‬‬ ‫أ ـ درء المفاسد‪.‬‬
‫‪198‬‬ ‫ب ـ جلب المصالح‪.‬‬
‫‪199‬‬ ‫ـ إحياء مكارم األخالق ومحاسن العادات‪.‬‬
‫‪210‬‬ ‫‪ 11‬ـ السلطة التشريعية‪.‬‬
‫‪211‬‬ ‫أ ـ عندما توفي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫‪212‬‬ ‫ب ـ عصر التابعين‪.‬‬
‫‪214‬‬ ‫جـ ـ ولقد أوجدت األمة مؤسسات كبرى‪.‬‬
‫‪214‬‬ ‫س ـ كيفية االختيار وطريقة التكوين‪.‬‬
‫‪214‬‬ ‫ع ـ السلطة التشريعية في التعريف الدستوري‪.‬‬
‫‪216‬‬ ‫‪ 12‬ـ السلطة التنفيذية‪.‬‬
‫‪217‬‬ ‫‪ 13‬ـ المفاوضات السياسية‪.‬‬
‫‪233‬‬ ‫‪ 14‬ـ العالقات الخارجية‪.‬‬
‫‪257‬‬ ‫‪ 15‬ـ سياسة كسب األعداء‪.‬‬

‫‪266‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬وظائف الدولة واالهتمام بالمواطنين‪:‬‬


‫‪266‬‬ ‫‪ 1‬ـ السكن‪.‬‬
‫‪268‬‬ ‫ـ عدم االستيالء على منازل الغير‪.‬‬
‫‪453‬‬
‫‪269‬‬ ‫ـ استخدام المسكن بالشكل المناسب‪.‬‬
‫‪270‬‬ ‫‪ 2‬ـ العمل‪.‬‬
‫‪273‬‬ ‫أ ـ العمال‪.‬‬
‫‪274‬‬ ‫ب ـ أصحاب العمل‪.‬‬
‫‪275‬‬ ‫جـ ـ الدولة‪.‬‬
‫‪279‬‬ ‫‪ 3‬ـ الرياضة‪.‬‬
‫‪282‬‬ ‫ـ إعداد الجسد بدنياً للقتال‪.‬‬
‫‪282‬‬ ‫ـ المحافظة على لياقة الجسم‪.‬‬
‫‪282‬‬ ‫ـ االسهام في الوقاية من أمراض البدن‪.‬‬
‫‪283‬‬ ‫ب ـ أهمية األلعاب الرياضية من الناحينة النفسية‪.‬‬
‫‪283‬‬ ‫ـ دفع الملل عن النفس‪.‬‬
‫‪284‬‬ ‫ـ التخفيف من حدة الشهوة الجنسية‪.‬‬
‫‪285‬‬ ‫ـ منع األمراض النفسية المزاجية‪.‬‬
‫‪285‬‬ ‫ـ تهذيب النفس ودفعها لقبول الحق‪.‬‬
‫‪286‬‬ ‫جـ ـ أهمية الرياضة في الناحية االجتماعة‪.‬‬
‫‪287‬‬ ‫ر ـ أهمية الرياضة من الناحية السياسية‪.‬‬
‫‪288‬‬ ‫ك ـ أهمية الرياضة من الناحية االقتصادية‪.‬‬
‫‪290‬‬ ‫‪ 4‬ـ المرأة واألسرة‪.‬‬
‫‪306‬‬ ‫‪ 5‬ـ الطفولة والشباب‪.‬‬
‫‪332‬‬ ‫‪ 6‬ـ كبار السن‪.‬‬
‫‪337‬‬ ‫‪ 7‬ـ رعاية الفئات الخاصة‪.‬‬
‫‪338‬‬ ‫أ ـ رعاية األرامل‪.‬‬
‫‪342‬‬ ‫ب ـ تجهيز البنات الفقيرات‪.‬‬
‫‪343‬‬ ‫جـ ـ رعاية اللقطاء‪.‬‬
‫‪454‬‬
‫‪345‬‬ ‫س ـ رعاية العاهات واألمراض المزمنة‪.‬‬
‫‪351‬‬ ‫‪ 8‬ـ البيئة‪.‬‬
‫‪352‬‬ ‫أ ـ النهي عن البول في الماء الراكد‪.‬‬
‫‪353‬‬ ‫ب ـ تطهير المساجد وتطيبها‪.‬‬
‫‪353‬‬ ‫جـ ـ نظافة الطرق والمرافق العامة‪.‬‬
‫‪354‬‬ ‫ح ـ عدم حجب الريح عن الجار‪.‬‬
‫‪355‬‬ ‫ـ الملوثات الحديثة للبيئة‪.‬‬
‫‪355‬‬ ‫ـ الصخب وأثره على السمع‪.‬‬
‫‪355‬‬ ‫ـ التلوث بالدخان والغازات‪.‬‬
‫‪355‬‬ ‫ـ التلوث اإلشعاعي‪.‬‬
‫‪356‬‬ ‫ـ التلوث بالفضالت اآلدمية‪.‬‬
‫‪358‬‬ ‫‪ 9‬ـ الصحة‪.‬‬
‫‪361‬‬ ‫أ ـ من يذهب إلى أن النصوص عامة في أمراض القلوب واألبدان‪.‬‬
‫‪361‬‬ ‫ب ـ األدلة على أن القرآن شفاء ألمراض األبدان‪.‬‬
‫‪364‬‬ ‫األول‪ :‬داللة القرآن على قواعد العالج وأصوله‪.‬‬
‫‪365‬‬ ‫الثاني‪ :‬الطب الوقائي في الكتاب والسنة‪.‬‬
‫‪370‬‬ ‫‪ 10‬ـ السياحة‪.‬‬
‫‪372‬‬ ‫أ ـ الترويح على النفس أمر فطري‪.‬‬
‫‪372‬‬ ‫ب ـ التفكر في الكون من دواعي السياحة‪.‬‬
‫‪373‬‬ ‫جـ ـ دوافع االعتبار‪.‬‬
‫‪374‬‬ ‫س ـ الدعوة للتميز العالمي في مفهوم السياحة‪.‬‬
‫‪375‬‬ ‫ش ـ االصالح السياحي‪.‬‬
‫‪380‬‬ ‫‪ 11‬ـ موارد الدولة‪.‬‬

‫‪455‬‬
‫‪381‬‬ ‫أ ـ اختيار الموظفين‪.‬‬
‫‪385‬‬ ‫ب ـ االشراف‪.‬‬
‫‪389‬‬ ‫جـ ـ متابعة العمال ومحاسبتهم وما يترتب على ذلك‪.‬‬
‫‪390‬‬ ‫س ـ كيف يتم التحقيق مع العمال‪.‬‬
‫‪391‬‬ ‫ك ـ إحصاء أموال الموظفين عند تولي العمل‪.‬‬

‫‪395‬‬ ‫الخاتمة‪.‬‬
‫‪396‬‬ ‫فهرس الكتاب‪.‬‬

‫كتب صدرت للمؤلف‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ السيرة النبوية‪ :‬عرض وقائع وتحليل أحداث‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ سيرة الخليفة األول أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه‪ :‬شخصيته وعصره‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اهلل عنه‪ :‬شخصيته وعصره‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪ :‬شخصيته وعصره‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اهلل عنه‪ :‬شخصيته وعصره‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ سيرة أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب‪ :‬شخصيته وعصره‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ الدولة العثمانية‪ :‬عوامل النهوض والسقوط‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ تاريخ الحركة السنوسية في إفريقيا‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ تاريخ دولتي المرابطين والموحدين في الشمال اإلفريقي‪.‬‬
‫‪456‬‬
‫‪ 11‬ـ عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين‪.‬‬
‫‪ 12‬ـ الوسطية في القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ 13‬ـ الدولة األموية‪ ،‬عوامل االزدهار وتداعيات االنهيار‪.‬‬
‫‪ 14‬ـ معاوية بن أبي سفيان‪ ،‬شخصيته وعصره‪.‬‬
‫‪ 15‬ـ عمر بن عبد العزيز‪ ،‬شخصيته وعصره‪.‬‬
‫‪ 16‬ـ خالفة عبد اهلل بن الزبير‪.‬‬
‫‪ 17‬ـ عصر الدولة الزنكية‪.‬‬
‫‪ 18‬ـ عماد الدين زنكي‪.‬‬
‫‪ 19‬ـ نور الدين زنكي‪.‬‬
‫‪ 20‬ـ دولة السالجقة‪.‬‬
‫‪ 21‬ـ اإلمام الغزالي وجهوده في اإلصالح والتجديد‪.‬‬
‫‪ 22‬ـ الشيخ عبد القادر الجيالني‪.‬‬
‫‪ 23‬ـ الشيخ عمر المختار‪.‬‬
‫‪ 24‬ـ عبد الملك بن مروان وبنوه‪.‬‬
‫‪ 25‬ـ فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة‪.‬‬
‫‪ 26‬ـ حقيقة الخالف بين الصحابة‪.‬‬
‫‪ 27‬ـ وسطية القرآن في العقائد‪.‬‬
‫‪ 28‬ـ فتنة مقتل عثمان‪.‬‬
‫‪ 29‬ـ السلطان عبد الحميد الثاني‪.‬‬
‫‪ 30‬ـ دولة المرابطين‪.‬‬
‫‪ 31‬ـ دولة الموحدين‪.‬‬
‫‪ 32‬ـ عصر الدولتين األموية والعباسية وظهور فكر الخوارج‪.‬‬
‫‪ 33‬ـ الدولة الفاطمية‪.‬‬

‫‪457‬‬
‫‪ 34‬ـ حركة الفتح اإلسالمي في الشمال اإلفريقي‪.‬‬
‫‪ 35‬ـ صالح الدين األيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير البيت المقدس‪.‬‬
‫‪ 36‬ـ إستراتيجية شاملة لمناصرة الرسول صلى اهلل عليه وسلم دروس مستفادة من الحروب‬
‫الصليبية‪.‬‬
‫‪ 37‬ـ الشيخ عز الدين بن عبد السالم سلطان العلماء‪.‬‬
‫‪ 38‬ـ الحمالت الصليبية (الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة) واأليوبيون بعد صالح الدين‪.‬‬
‫‪ 39‬ـ المشروع المغولي عوامل اإلنتشار وتداعيات اإلنكسار‪.‬‬
‫‪ 40‬ـ سيف الدين قطز ومعركة عين جالوت في عهد المماليك‪.‬‬
‫‪ 41‬ـ الشورى في اإلسالم‪.‬‬
‫‪ 42‬ـ اإليمان باهلل جل جالله‪.‬‬
‫‪ 43‬ـ اإليمان باليوم اآلخر‪.‬‬
‫‪ 44‬ـ اإليمان بالقدر‪.‬‬
‫‪ 45‬ـ اإليمان بالرسل والرساالت‪.‬‬
‫‪ 46‬ـ اإليمان بالمالئكة‪.‬‬
‫‪ 47‬ـ اإليمان بالقرآن والكتب والسماوية‪.‬‬
‫‪ 48‬ـ السلطان محمد الفاتح‪.‬‬
‫‪ 49‬ـ العدالة والمصالحة الوطنية ضرورة دينية وإنسانية‪.‬‬
‫‪ 50‬ـ الحريات من القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ 51‬ـ المعجزة الخالدة‪.‬‬
‫‪ 52‬ـ الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها‪.‬‬

‫‪458‬‬

You might also like