You are on page 1of 16

‫المندوبيّة الجهويّة للتّربية بباجة‬

‫المستمر‬
‫ّ‬ ‫المركز الجهوي للتّربية والتّكوين‬

‫حلقة تكوينيّة حول المنزع العقلي في األدب العربي ‪ :‬الجاحظ نموذجا‬

‫التّاريخ ‪2013/12/07 :‬‬

‫إعداد ‪ :‬سمير السّعيدي ‪ /‬متفقّد المادة‬

‫الت ّخطيط ‪:‬‬

‫المدرسين‬
‫ّ‬ ‫تصورات‬
‫ّ‬ ‫‪ -1‬االنطالق من‬
‫صعوبات المعرفيّة والمنهجيّة والتّعليميّة المتعلّقة بتدريس المنزع العقلي‬‫‪ -2‬في تشخيص ال ّ‬
‫‪ -3‬في تحديد المفاهيم‬

‫‪ -1-3‬المنزع ‪ :‬المعاني والدّالالت‬

‫‪ -2-3‬العقل لغة واصطالحا وحضورا في األدبيات العربيّة القديمة‬

‫‪ -4‬مجاالت المنزع العقلي عند الجاحظ‬

‫‪ -1-4‬العقل واألدب ‪ :‬من البكائيّة والغنائيّة إلى العقالنيّة‬

‫‪ -2-4‬العقل والنّقل ‪ :‬نحو إرساء منظومة فكريّة اعتزالية يتناغم فيها العقل مع النّقل‬

‫‪ -3-4‬العقل والمعرفة ‪ :‬نحو إرساء معرفة عقليّة ‪/‬علميّة وإرباك ثقافة التّسليم وإقامة حضارة‬
‫الحوار والجدل الفكري‬

‫‪ -4-4‬العقل واإلنسان ‪ :‬اإلنسان مشروع يتأسّس ال يكتمل ّإال بالعقل‬

‫‪ -5-4‬العقل واألخالق ‪ :‬نحو إقامة منظومة أخالقيّة تتوافق وأحكام العقل والدّين‬

‫‪ -5‬أسلوب الجاحظ في الكتابة‬


‫‪ -6‬محدوديّة النّزعة العقليّة عند الجاحظ‬
‫‪ -7‬الخاتمة‬
‫‪ -1-3‬المنزع ‪ :‬المعاني والدّالالت‬
‫• معنى المغالبة ‪ :‬ونازعتني إلى هواها نزاعا ‪ :‬غالبتني ونزعتها أنا غلبتها‬
‫ي شيئا نازعته نفسه إليه ‪/‬هو ينزع‬ ‫الرغبة الجامحة ‪ :‬ويقال لإلنسان إذا َه ِو َ‬ ‫• معنى ّ‬
‫إليه نزاعا (اللّسان)‬
‫شعر ‪ :‬تمثّل ‪ :‬ويقال ّ‬
‫للرجل إذا استنبط‬ ‫• معنى البيان والتّفحّص ‪ :‬وانتزع باآلية وال ّ‬
‫عز وج ّل ‪ :‬قد انتزع معنى جيّدا أي استخرجه (اللّسان)‬ ‫ّللا ّ‬
‫معنى آية من كتاب ّ‬
‫التصرف على نحو ما "نزعة‬‫ّ‬ ‫• النّزعة ‪ :‬هي اتّجاه فطري أونفسي إلى شيء ‪ ،‬إلى‬
‫إلى الشكّ " ‪ ...‬وهي استعداد عقلي التّخاذ منحى معيّن استجابة لدافع داخل ّ‬
‫ي (ميل‬
‫‪/‬اتّجاه )(المنجد في اللّغة العربيّة المعاصرة – دار المشرق بيروت ط ‪)2‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -2-3‬العقل لغة واصطالحا وحضورا في األدبيّات العربيّة القديمة‬

‫العقل لغة ‪:‬‬

‫الربط ‪ :‬عقل البعير يعقله عِقال وعقّله واعتقله ‪ :‬ثنّى وظيفه مع ذراعه وشدّهما جميعا‬ ‫• معنى ّ‬
‫في وسط الذّراع ‪ ،‬وكذلك النّاقة ‪ ،‬وكذلك الحبل هو العقال والجمع عُقُ ٌل (لسان العرب )‬
‫• معنى اإلمساك حقيقة ومجازا ‪ :‬وعقل الدّواء بطنه يع ِقلُهُ ويعقُلُهُ عقال أمسكه ‪ :‬وقيل ‪ :‬العاقل‬
‫الذي يحبس نفسه عن هواها ‪ ،‬أخذ من قولهم قد اعتقل لسانه إذا ُحبس و ُمنع الكالم (اللّسان)‬
‫• العقل أداة للفهم والتّمييز ‪ :‬والعقل القلب ‪ ،‬والقلب العقل وس ّمي العقل عقال ألنّه يعقل‬
‫التورط في المهالك أي يحبسه وقيل ‪ :‬العقل هو التّميّز الذي به يتميّز اإلنسان‬ ‫ّ‬ ‫صاحبه عن‬
‫عن سائر الحيوان ويقال لفالن قلب عقول ولسان سؤول ‪ ،‬وقلب عقول فه ٌم ‪ ،‬وعقل الشيء‬
‫الفراء في قوله تعالى ّ‬
‫"إن في ذلِكَ‬ ‫يع ِقلُهُ عقال فهمه ‪ ...‬وقد يعبّر بالقلب عن العقل قال ّ‬
‫لذكرى لمن كان لهَ قلبٌ " أي عقل (اللّسان)‬
‫َ‬
‫‪/‬الرشد ‪/‬ال ّنهى ‪/‬ال ّلبّ ‪ )...‬ليست غريبة عن األدب العربي ‪ ،‬فقد‬ ‫ّ‬
‫إن لفظة العقل ومرادفاتها (الحلم ّ‬
‫ومرة‬
‫ّ‬ ‫مرة بمعنى الدّية في شعر االّنّابغة الذّبياني‬
‫ورد المصطلح في أكثر من بيت شعري فاستعمل ّ‬
‫القوة العاقلة في شعر ميمون بن قيس واستعمل‬ ‫ومرة بمعنى ّ‬
‫والربط في شعر زهير ّ‬‫بمعنى التّقيّد ّ‬
‫في شعر اإلسالم بمعنى المرجع الذي يعود إليه اإلنسان أو بمعنى الميزة التي تميّز الكائن المدرك‬
‫عن سواها مما يعقل ‪.‬‬

‫العقل اصطالحا ‪ :‬العقل بين المنظومة الفلسفيّة اإلغريقيّة والمنظومة الفكريّة العربيّة اإلسالميّة‬

‫إن البحث في مسألة المنزع العقلي في األدب العربي يواجه صعوبتين أوالها متعلّقة بالمفهوم‬ ‫ّ‬
‫وثانيها متعلّقة بتعدّد مجاالته‬

‫أ‪ /‬ما تعلّق بالمفهوم ‪:‬‬

‫يعرف العقل عند اإلغريق بأنّه فعل ابستمولوجي أساسي يت ّم من خالله التعقّل وإنتاج المعرفة العقليّة‬ ‫ّ‬
‫قوة طبيعيّة للنّفس متهيّئة لتحصيل‬ ‫أو العلم بأوسع معانيه سعيا إلى تكوين نظرة شاملة عن العالم فهو ّ‬
‫المعرفة العلميّة وهي معرفة مختلفة عن المعرفة الدّينيّة المستندة إلى اإليمان وهي – العقالنيّة‬
‫أن قوانين العقل مطابقة لقوانين‬ ‫اإلغريقية – تقول بأوليّة العقل وبقدرته على إدراك الحقيقة والسّبب ّ‬
‫وأن كل موجود معقول وك ّل معقول موجود وبذلك يكون العقل قادرا على‬ ‫األشياء الخارجيّة ّ‬
‫اإلحاطة بك ّل شيء دون عون خارجي يأتيه من القلب أو الغريزة أو الدّين فأرسطو مثال درس‬
‫طبيعة عنده غاية وليست وسيلة (دراسة‬ ‫طبيعة ودرس طبائع الحيوان وكانت غايته علميّة بحتة فال ّ‬ ‫ال ّ‬
‫ذرات‬ ‫تصور الكائنات أعدادا أو هي مجموعة ّ‬ ‫ّ‬ ‫طبيعة ) أو فيتاغورس الذي‬ ‫القوانين التي تحكم ال ّ‬
‫تتحرك دون غاية أو خالق على حدّ ديمقرطيس ‪.‬‬‫ّ‬

‫وتصورات حول‬ ‫ّ‬ ‫أ ّما العقل في المنظومة الفكريّة العربيّة اإلسالميّة فهو عبارة عن مجموعة أفكار‬
‫‪ّ/‬للا) بما يعني ّ‬
‫أن البنية‬ ‫األلوهيّة واإلنسان والكون ‪ ،‬هو رؤية للعالم لتحقيق انسجام ثنائيّة (اإلنسان ّ‬
‫العقليّة تتض ّمن مجالين ‪ :‬مجال المعرفة والتّنظير ومجال الممارسة والتأسيس وهذا ما كان الجاحظ‬
‫( ‪150‬ه ‪255/165-‬ه )واعيا به فهو وإن خاض في مسائل معرفيّة ‪ /‬علميّة فلسفيّة ‪/‬عقائديّة ‪...‬فليثبت‬

‫‪2‬‬
‫ّللا تعالى وبالحكمة‬
‫متقربا إلى ّ‬
‫ّ‬ ‫قدرة هللا في الكون وليدافع عن شريعته بأدلّة عقليّة فيكون بالدّين‬
‫ّللا تعالى في هذا العالم " وليكون عم ُل الدّنيا سلّما إلى عمل اآلخرة وليترقّى من‬
‫متصفّحا لقدرة ّ‬
‫معرفة الحواس إلى معرفة العقول ومن معرفة الرويّة من غاية إلى غاية حتّى ال يرضى من العِلم‬
‫والعمل ّإال بما أدّاه على الثّواب الدّائم ونجّاه من العقاب األليم " الحيوان ج‪ 2‬ص‪)116‬‬

‫صادر‬ ‫يقول ح ّمادي ص ّمود في مقال بعنوان الوعي باألجناس األدبيّة في كتاب الحيوان للجاحظ ال ّ‬
‫في مجلّة حوليات الجامعة التّونسيّة العدد ‪ 2001 45‬ص ‪ " 206‬المعنى األسنى عنده (الجاحظ)‬
‫هو الحكمة باعتبارها مدلول الكون بما فيه ‪.‬يقول صاحب الحيوان في جملة نعتقد أنّها تحيط‬
‫بتصوره للوجود وتكشف غايته من التّأليف ‪ :‬ووجدنا كون العالم بما فيه من حكمة ‪.‬وبناء على معنى‬
‫ّ‬
‫المعاني هذا ومقول ِة المقوالت ‪ ،‬سيُرتّبُ الموجودات في أقسام وأصناف تخدم مباشرة غرضه وتُعينُه‬
‫ي من التأ ّمل في الخلق "‪.‬‬
‫على إقامة مشروعه الفكر ّ‬
‫السر تحقيق عبد السّالم هارون دار الجيل المجلّد ‪ 1‬ص ‪"141‬‬ ‫ّ‬ ‫ويقول الجاحظ في رسالة كتمان‬
‫وإنّما س ّمي العقل عقال وحجرا ‪ ،‬قال تعالى "هل في ذلك قسم لذي حجر ألنّه يزم اللّسان ويخطمه‬
‫والمضرة ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ويُش ّكله ويُريّثه ‪ ،‬ويقيّد الفضل ويعقله على أن يمضي ُفرطا في سبيل الجهل والخطأ‬
‫كما يعقل البعير ‪ ،‬ويحجر على اليتيم ‪ .‬وإنّما اللسان ترجمان القلب ‪ ،‬والقلب خزانة للخواطر‬
‫شهوات واألهواء وتنتجه‬ ‫وشر ‪ ،‬وما تولّده ال ّ‬
‫ّ‬ ‫واألسرار وكل ما يعيه من ذلك عن الحواس من خير‬
‫الحكمة والعلم ‪ " ...‬فإذا رحنا نتساءل عن الغرض الذي نزع إليه الجاحظ من وراء كتبه أساسا‬
‫أن االستدالل على وجود الخالق واالهتداء إلى‬ ‫والرسائل والهدف الذي يرمي إليه التّضح ّ‬
‫الحيوان ّ‬
‫بديع حكمته وبالغ قدرته وكمال وحدته من خالل ما تجلّي في مخلوقاته وكائناته هو هدفه األسمى‬
‫يقول مح ّمد عبد المنعم خفاجي في كتابه أبو عثمان الجاحظ دار الكتاب اللّبناني بيروت ط ‪1973 1‬‬
‫ّللا‬
‫ص‪.‬ص ‪ " 159/158‬وكان الجاحظ يميل إلى استخدام العقل واالعتماد عليه في تفسير كتاب ّ‬
‫صحيح عنده أساس من أسس التّشريع‬ ‫ّللا على ظاهر معناه فالعقل ال ّ‬
‫ويُخاصم من يُفسّر كتاب ّ‬
‫شكل الذي يوضع عادة وهو القياس المفيد في عرف الفقهاء‪"...‬إضافة إلى‬ ‫ووضعه في شكل غير ال ّ‬
‫صة والعا ّمة على حدّ السّواء والعمل على إزالة‬‫نشر بذور المعرفة والثّقافة والوعي في صفوف الخا ّ‬
‫ما علق ببعض األذهان من معتقدات خاطئة وأوهام كاذبة‬

‫ب‪ /‬ما تعلّق بتجلّيات العقل ومجاالته‬

‫النرى لزاما أوان دراستنا لمسألة المنزع العقلي في األدب العربي القديم أن نهت ّم بالعقل من حيث‬
‫ألن من شأن ذلك أن يُدخلنا في متاهات فكريّة نحن في غنى عنها‬ ‫بنيته ومن حيث هو مقولة فلسفيّة ّ‬
‫أن أدباء المنزع العقلي لم يُنسّقوا أفكارهم تنسيقا دقيقا شامال ولم يتناولوا مواضيع معرفيّة أو‬ ‫ذلك ّ‬
‫طبيعة ‪ /‬فلسفة العلوم ‪ /‬فلسفة األخالق ‪ )...‬بل ألّفوا كتبا موسوعيّة كثيرة‬ ‫فلسفيّة بعينها (فلسفة ال ّ‬
‫شملت مو اضيع مختلفة متآلفة أحيانا متداخلة أحيانا أخرى فالجاحظ خاض في مسائل المعرفة والعلم‬
‫والدّين واألدب والسّياسة واالجتماع وغرائب الحيوان والفنون ‪ ...‬وتبعا لذلك تجلّى المنزع العقلي‬
‫في مجاالت متعدّدة يمكن إجمالها في جملة من الثّنائيات ‪ :‬العقل واألدب ‪/‬العقل والنّقل ‪/‬العقل‬
‫والمعرفة ‪/‬العقل واإلنسان ‪/‬العقل واألخالق ‪ ...‬وهي ثنائيّات إذا جمعنا شتاتها وألّفنا بينها تم ّكنّا من‬
‫يتحرك في حدودها العقل العربي‬ ‫ّ‬ ‫معرفة آليات اشتغال المنظومة الفكريّة العربيّة والمجاالت التي‬

‫‪ -4‬مجاالت المنزع العقلي عند الجاحظ‬

‫‪3‬‬
‫‪ -1-4‬العقل واألدب ‪ :‬من البكائيّة والغنائ ّية إلى العقالن ّية‬

‫التصور الذي تنقله ال ّلغة العربيّة المعجميّة يرتبط دوما بالذّات وحاالتها الوجدانيّة‬
‫ّ‬ ‫إن العقل في‬‫ّ‬
‫طبيعة‬ ‫وأحكامها القيميّة م ّما يجعله متّجها دوما إلى السّلوك البشري بالدّرجة األولى ث ّم إلى ال ّ‬
‫وظواهرها فهو في نفس الوقت عقل وقلب وفكر ووجدان وتأ ّمل وعبرة ‪ ،‬ولئن كانت لفظة العقل‬
‫صدمة الحضاريّة‬ ‫فإن استعمالها في إنشاء المعرفة حديث ولّدته تلك ال ّ‬
‫مألوفة في األدبيّات العربيّة ّ‬
‫مع األمم األخرى عن طريق التّرجمة التي أوجدت توجّها جديدا في األدب العربي القديم وكان البدّ‬
‫من االنتقال ‪ -‬أو على األق ّل المزاوجة بينهما‪ -‬من خطاب وجداني (البكاء على األطالل ‪/‬العشق‬
‫طبيعة بمختلف ظواهرها فحصل‬ ‫‪/‬الجنون ‪)...‬إلى خطاب عقلي موضوعه اإلنسان بك ّل أبعاده وال ّ‬
‫التحول مع الجاحظ في مضامين األدب فأضحى العلم والمنطق في خدمة األدب تأثّرا بالمنطق‬ ‫ّ‬
‫أن العصر يحتاج‬ ‫اليوناني وبالمنظومة االعتزاليّة ودعا إلى أن يكون األدب "خزينة المعارف " ذلك ّ‬
‫إلى المنظومة الموسوعيّة وقد واكب تلك الحاجة إحساس مستحكم في نفوس أدباء تلك الفترة‬
‫بضرورة األخذ من اآلخر دون أن يُلغي ذلك إنشاء معقوليّة عربيّة تنقد حينا وتتجاوز أخرى وتبدع‬
‫ثالثة‬

‫صة وأدباء المنزع العقلي عا ّمة ممارسة ضرب من التّفكير‬ ‫وبهذا الوعي الجديد أمكن للجاحظ خا ّ‬
‫العقالني جعل من القيم السّائدة موضوع تساؤل وعيا بمنزلة المثقّف في المجتمع متجاوزا بذلك‬
‫منهجيّة التقبّل السّائدة وبذلك أصبح التّفكير العقالني موضوعا لألدب وضرورة منهجيّة وفكريّة‬
‫إلثبات الذّات أمام الغزو الثّقافي لآلخر يقول الجاحظ في تمجيد العقل (الحيوان ج‪1‬ص‪" )205‬‬
‫ولألمور حكمان ‪ :‬حكم ظاهر للحواس وحكم باطن للعقول ‪ ،‬والعقل هو الحجّة "ويقول في رسالة‬
‫إن العيون لتخطىء ّ‬
‫وإن‬ ‫التّربيع والتّدوير ص‪ 463.‬من طبعة مكتبة دار الهالل ‪ " 1987‬ولعمري ّ‬
‫صحيحة ّإال للعقل إذ كان زماما على‬‫الحواس لتكذب ‪ ،‬وما الحكم القاطع ّإال للذّهن وما االستبانة ال ّ‬
‫األعضاء وعيارا على الحواس " ويقول في الحيوان ج‪2‬ص‪ " 544/543‬معتبرا العقل هبة إلهيّة‬
‫أفتظن ّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫شأن في العقل والمعرفة واالستطاعة‬ ‫في اإلنسان وهو واحد لدى البشر جميعا " وإنّما ال ّ‬
‫يخص بهذه الخصال بعض خلقه دون بعض ‪ ،‬ث ّم ال يطالبهم ّإال كما طالب بعض من‬ ‫ّ‬ ‫هللا ّ‬
‫عز وج ّل‬
‫أعدمه ذلك وأعراهُ منه ؟ ! فلم أعطاه العقل ّإال لالعتبار والتّفكير "‬

‫إن األدب أحد الفنون بل هو أبرزها وأقدرها على التّعبير واالنتشار والتّأثير ول ّما كانت الفنون‬ ‫ّ‬
‫فإن األدب يعتبر من أه ّم ركائز‬ ‫محام َل يعبّر اإلنسان من خاللها عن مواقفه من الكون والمجتمع ّ‬
‫التّعبير ولذلك ارتبط مفهوم األدب عند الجاحظ بالبيان فكان مرادفا له بمعنى اتّخاذ اللّغة سبيال‬
‫للتّعبير عن الذّات والحقيقة يقول الجاحظ في الحيوان ج‪2‬ص ‪ " 117‬وهو البيان الذي جعله ّ‬
‫ّللا‬
‫شبهة ‪،‬‬ ‫ومعرفا لمواضع سدّ ال َخلّ ِة ورفع ال ّ‬
‫ّ‬ ‫تعالى سببا فيما بينهم ‪ ،‬ومعبّرا عن حقائق حاجاتهم ‪،‬‬
‫وألن أكثر النّاس على النّاس أفهم منهم عن األشباح المماثلة ‪ ،‬واألجسام الجامدة‬ ‫ّ‬ ‫ومداواة الحيرة ‪،‬‬
‫ُتعرف ما فيها من دقائق الحكمة وكنوز اآلداب ‪ ،‬وينابيع العلم ‪ّ ،‬إال‬ ‫‪ ،‬واألجرام السّاكنة ‪ ،‬التي ال ي ّ‬
‫صبر على‬ ‫بالعقل الثّاقب اللّطيف ‪ ،‬وبالنّظر التّام النّاقد وباألداة الكامنة ‪ ،‬وباألسباب الوافرة ‪ ،‬وال ّ‬
‫مكروه الفكر ‪ ،‬واالحتراس من وجوه الخدع ‪ ،‬والتّحفّظ من دواعي الهوى "‬

‫التمرس بقراءة اآلثار‬


‫ّ‬ ‫أن امتالك القدرة على صناعة األدب هي إلى حدّ بعيد ثمرة‬ ‫و يعتبر الجاحظ ّ‬
‫أن جميع طاقات اإلنسان هي‬ ‫‪ ،‬والجهد الدّائب على التعلّم والتثقّف والتّثاقف فضال عن اعتباره ّ‬
‫كمبدأ عام وليدة الدّربة يقول " واإلنسان بالتعلّم والتكلّف ‪ ،‬وبطول االختالف إلى العلماء ‪ ،‬ومدارسة‬
‫‪4‬‬
‫الحكماء ‪ ،‬يجود لفظُه ‪ ،‬ويحسن أدبه ‪ ،‬وهو يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التعلّم ‪ ،‬وفي فساد‬
‫البيان إلى أكثر من ترك التخيّر "‬

‫‪ -2-4‬العقل والنّقل ‪ :‬نحو إرساء منظومة فكريّة يتناغم فيها العقل مع النّقل‬

‫مكوناتها‬
‫أن العقل في الفكر اليوناني ينظر إلى األشياء نظرة موضوعيّة تبحث فيها عن ّ‬ ‫ذكرنا سابقا ّ‬
‫الذّاتية وع ّما هو جوهري فيها ‪ ،‬أ ّما العقل في األدبيات العربيّة القديمة فإنّه يربط بين العقل وواجد‬
‫طبيعة‬ ‫فتصوروا العقل تابعا سواء أكان في بنيته أم في فعله لعقل ثابت وخالد ومفارق لل ّ‬ ‫ّ‬ ‫الوجود‬
‫وللعقول الفرديّة معا هو العقل ‪/‬هللا أو العقل الفعّال فاألدب العربي القديم وإن تجاوز دائرة البكائيّة‬
‫شرعيّة فالجاحظ‬ ‫التحرك خارج المقدّس خارج دائرة العلوم ال ّ‬
‫ّ‬ ‫والغنائيّة أو زاوج بينهما فإنّه لم يستطع‬
‫والرسائل طبائع الحيوان ومشاغل اإلنسان من منظور عقلي صرف فإنّه‬ ‫وإن تناول في الحيوان ّ‬
‫والرواة‬
‫للرواية ّ‬ ‫التحرك خارج دائرة المقدّس الدّيني فما أقدم عليه من تنقية للتّراث ونقد ّ‬‫ّ‬ ‫لم يستطع‬
‫وشكّ في األسانيد والمتون وإخضاع الحيوانات وطبائعها لالختبار ودراسة أحوال الناس وأجناسهم‬
‫ّللا ومنزلته وبديع خلقه بمنهج‬ ‫وفق منهج علمي يجري إلى هدف معلوم هو التّدليل على وجود ّ‬
‫الزيات "‬ ‫عقلي فتالزم بذلك النقل والعقل يقول الجاحظ في مقدّمة الحيوان متوجّها إلى الوزير ابن ّ‬
‫ّللا على إتمامه إذ كنت ألتمس به ّإال إفهامك مواقع الحجج ّّلل وتصاريف‬ ‫ولوال أرجو من عون ّ‬
‫تدبيره " يقول فرحات الدّشراوي في مقال له بعنوان منزلة العقل عند ابن خلدون عن هذا التّالزم‬
‫بين العقل والنّقل "تطبّعت المعرفة اإلسالميّة في عصور ازدهارها بطابع النّظر العقلي المندمج‬
‫شعور والعقيدة فحدث فيها االنسجام المتين بين عنصري العقل والعقيدة انسجاما‬ ‫الروح وال ّ‬
‫بطابع ّ‬
‫ليس له مثيل في سائر الدّيانات األخرى "‬

‫وقد كان تعامل الجاحظ مع المسائل العقائديّة تعامال نقديّا حجاجيّا جدليّا في أحيان كثيرة أسوة‬
‫صة أنّه آمن منذ البدء‬
‫بمنهجه القائم على العقل لذلك كان تأثير النّقل على عقل الجاحظ ضعيفا خا ّ‬
‫بتنمية األجيال للمعرفة اإلنسانيّة ا لمتالحقة يمكن معها الحديث عن " عقل تاريخي " يأخذ من‬
‫الحضارات ويُضيف لها أشياء دون أن يدّعي التّمام والكمال‬

‫صة فيما تعلّق بثنائيّة العقل‬


‫وهذا ما يدفعنا إلى البحث في مرجعيات المنزع العقلي عند الجاحظ خا ّ‬
‫والنّقل ؟‬

‫ظام (ت‬ ‫أتيح للجاحظ أن يلقّن مبادئ الحجاج والمناظرة من شيخه أبي اسحاق ابراهيم بن سيّار النّ ّ‬
‫‪231‬ه) الذي أذكى في نفسه نوازع التطلّع والتّمحيص والنّظر واالستدالل واالستنباط م ّما خلّف فيه‬
‫طالع على معارف عصره واإلحاطة بعلوم األوائل عربا ويونانا‬ ‫أثرا بالغا منحه القدرة على اال ّ‬
‫األول "االعتزال وفضله " والثّاني‬ ‫وفرسا وهنودا ‪ ...‬وبيان ذلك أنّه ألّف في علم الكالم كتابين ّ‬
‫"فضيلة المعتزلة " الفرقة التي لم يُخف الجاحظ االنتماء إليها يقول في رسالة في الحكمين ضمن‬
‫الرسائل التّي شرحها علي أبو َملحِ م منشورات دار الهالل بيروت ط‪ 1‬ص‪ " 380‬اخترنا االعتزال‬ ‫ّ‬
‫ومفخرا " ويقول في الحيوان ج‪ 4‬ص‪ 206.‬مدافعا عن المعتزلة "إنّه لوال‬ ‫ً‬ ‫مذهبا وجعلناه نحلة‬
‫المتكلّمين لهلكت العوام من جميع األمم ‪ ،‬ولوال مكان المعتزلة لهلكت العوام من جميع النّحل ‪ ،‬فإن‬
‫لم أقل ولوال أصحاب إبراهيم وإبراهيم لهلكت العوام من المعتزلة ‪،‬فإنّي أقول ‪ :‬إنّه قد أَنه َج لهم‬
‫سبال وفتق لهم أمورا واختصر لهم أبوابا ظهرت فيها المنفعة وشملتهم بها النّعمة "‬

‫‪5‬‬
‫وتعود أصول الحجاج في خطاب الجاحظ إلى علم الكالم القائم على البرهنة العقليّة في المسائل‬
‫المتعلّقة بطبائع الحيوان وباإللهيات والعقائد ‪...‬أين يتوجّب على المتكلّم أن يؤسّس مواقفه الكالميّة‬
‫على براهين نظريّة داعمة ومؤيّدة ‪ ،‬لقد أفاد الجاحظ من تم ّكنه من مبحث علم الكالم في حقل األدب‬
‫صة ‪ ،‬فالنّاظر في خطاب الجاحظ األدبي يلمس بجالء تا ّم أثر النّزعة الكالميّة‬ ‫عا ّمة والسّرد خا ّ‬
‫االعتزاليّة وهيمنتها على أسلوبه يقول الجاحظ عن دواعي تأليفه لكتاب الحيوان " وإن اعتمدنا في‬
‫هذه الكتب على األخبار ع ّما في أجناس الحيوان من الحجج المتظاهرة ‪ ،‬وعلى األدلّة المترادفة‬
‫شاها من‬ ‫وعلى التّنبيه على ما جلّلها ّ‬
‫ّللا تعالى من البرهنات التي ال تعرف حقائقها ّإال بالفكرة وغ ّ‬
‫فرق فيها من الحكم العجيبة واألحساس الدّقيقة ‪،‬‬ ‫العالمات التي ال تنال منافعها ّإال بالعبرة وكيف ّ‬
‫صنعة اللّطيفة ‪ ،‬وما ألهمها من المعرفة وحشاها من الجبن والجرأة ‪"...‬‬ ‫وال ّ‬
‫إن مقاربة طبائع الحيوان عن طريق المعاينة والمشاهدة والمالحظة والحجّة والدّليل وهي خطى‬ ‫ّ‬
‫تمث ّل أدوات استقرائيّة تكشف حقائق أجناس الحيوان عن طريق رصد استجاباتها ومعرفة‬
‫خصائصها ‪ .‬ويبيّن المعجم اللّغوي الذي يستعمله الجاحظ أثر النّزعة الكالميّة فألفاظ (الحجج‬
‫المتظاهرة ‪ ،‬واألدلّة المترادفة ‪ ،‬والبرهانات ‪ ،‬والحقائق ‪ ،‬والعالمات ‪ ،‬واألحساس الدّقيقة تنتمي‬
‫ّللا ّ‬
‫عز وج ّل لم يردّد‬ ‫إلى لغة المتكلّمين ومصطلحاتهم يقول في الحيوان ج‪ 1‬ص ‪ّ "209/208‬‬
‫إن ّ‬
‫والحث على التّفكير والتّرغيب في النّظر وفي التثبّت والتوقّف ّإال وهو يريد‬
‫ّ‬ ‫في كتابه ذكر االعتبار‬
‫أن يكونوا علماء من تلك الجهة حكماء من هده التّعبئة"‬

‫ينتمي الجاحظ إلى أبرز فرقة إسالمية وهي المعتزلة التي أطلق عليها أتباعها "أهل العدل والتّوحيد‬
‫" ألنّهم أسّسوا فرقتهم على أصول خمسة ‪:‬‬

‫ّللا فرديّة ال كثرة فيها بوجه من الوجوه ‪ ،‬وقد تع ّمقوا في معنى‬ ‫‪ -‬التّوحيد ويتل ّخص في ّ‬
‫أن حقيقة ّ‬
‫صفات ‪ ،‬وخلق‬ ‫التّوحيد هذا وحلّلوا نتائجه المنطقيّة فتناولوا في هذا المبحث مسائل الذّات وال ّ‬
‫الرسائل السّياسيّة جمعها وشرحها‬ ‫القرآن ‪ ،‬تأويل القرآن يقول في رسالة في الحكمين وهي من ّ‬
‫علي أبو َملحِ م ص‪" 380.‬وقالت المعتزلة هو شيء وليس كمثله شيء ‪ ،‬وليس بجسم وليس‬
‫عِلمه بفعل وال صنع ‪ ،‬وإنّما قولنا ‪ :‬له علم كقولنا ‪ :‬هو عالم نريد أنّه ال يخفى عليه خافية "‬
‫أن الثّواب على‬ ‫‪ -‬الوعد والوعيد وهو مبدأ يتعلّق بأعمال اإلنسان وحكمها الدّيني ‪.‬فهم يعتبرون ّ‬
‫وأن العقاب على المعاصي البدّ منه يقول في الحيوان ج‪1‬ص ‪.‬ص ‪209/208‬‬ ‫ي ّ‬‫الحسنات حتم ّ‬
‫ّللا ّ‬
‫عز‬ ‫والرديء من الجيّد بالعيون المجعولة لذلك لما جعل ّ‬ ‫" ولوال تميّز المضار من المنافع ّ‬
‫أحس الخير) إذا كانت األمور المميّزة عنده‬ ‫ّ‬ ‫وج ّل العيون المدركة ‪ ،‬واإلنسان الحسّاس (الذي‬
‫يضر أخذه فيأخذ ما يُحبّ ويدع ما يكره ويشكر‬ ‫ّ‬ ‫أخذ ما يحتاج إليه وترك ما يستغني عنه وما‬
‫على المحبوب ويصبر على المكروه حتى يذكر بالمكروه كيفيّة العقاب ويذكر بالمحبوب كيفيّة‬
‫الثّواب "‬
‫‪ -‬العدل اإللهي وهو مرتبط بمبدأ الوعد والوعيد وقد حاول المعتزلة التع ّمق في هذا المبدأ‬
‫ّللا يريد‬ ‫أن هللا يسير بالخلق إلى غاية ّ‬
‫وأن ّ‬ ‫ّللا اليكون مطلقا ّإال إذا اعتبرنا ‪ّ :‬‬ ‫واعتبروا ّ‬
‫أن عدل ّ‬
‫وأن اإلنسان خالق ألفعاله يقول الجاحظ في رسالة‬ ‫الشر وال يأمر به ّ‬ ‫ّ‬ ‫ما يكون لخلقه وال يريد‬
‫المعاش والمعاد تحقيق عبد السالم هارون ج‪1‬ص‪" 105.‬دعاهم بالتّرغيب إلى جنّته وجعلها‬
‫عوضا م ّما تركوا في جنب طاعته أو زجرهم بالتّرهيب بالنّار عن معصيته و ّ‬
‫خوفهم بعقابها‬

‫‪6‬‬
‫والرهبة على حدود العدل وموازين ال َّنصفة وعدّلهم تعديال‬ ‫ّ‬ ‫الرغبة‬
‫على ترك أمره‪...‬ث ّم أقام ّ‬
‫شر يره "‬
‫ذرة ّ‬‫ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ّ‬ ‫متّفقا فقال "فمن يعمل مثقال ّ‬
‫أن المعاصي في نظرهم تنقسم إلى صغائر وكبائر‬ ‫‪ -‬المنزلة بين المنزلتين يستند هذا المبدأ إلى ّ‬
‫ومرتكب الكبائر ليس مؤمنا وال هو كافر وإنّما هو بين منزلة المؤمن ومنزلة الكافر وهو يخلّد‬
‫ّللا وآمن برسله يقول في رسالة في الحكمين ص‪" 380.‬وقالت‬ ‫في النّار ولو صدّق بوحدانيّة ّ‬
‫صا وال نس ّميه‬
‫المعتزلة هو فاسق (من شهد ولم يعمل واعتقد ‪ :‬التعريفات الجرجاني) كم س ّماه ن ّ‬
‫كافرا فيُلزمنا أن نلزمه أحكام الكفّار وليس ذلك حكمه ‪ ،‬وال نقول مؤمن ‪ ،‬فيلزمنا واليتُه ومدحه‬
‫وإيجاب الثّواب إليه ‪ ،‬وقد أخبرنا ّ‬
‫ّللا تعالى أنّه مشؤوم من أهل النّار ‪ ،‬فنزعم أنّه في النّار مع‬
‫الكافر وأنّه ال يجوز أن يكون في الجنّة مع المؤمن "‬
‫‪ -‬األمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يعمد الجاحظ في كتاباته إلى عقلنة السّلوك وصوال إلى‬
‫هدف وهو سعادة الدّارين أو الفوز بالمعاش والمعاد‬

‫تمثّل هذه األصول مبادئ المعتزله التي ينبغي التّسليم بها واإلقرار بصحّتها عن طريق المحاججة‬
‫أن العقل هو طريق المعرفة ّ‬
‫وأن‬ ‫العقليّة المفضية إلى الدّالالت المؤيّدة ‪ ،‬ويكاد المعتزلة يجمعون ّ‬
‫ّللا الذي اليعرف بطريق الضّرورة وال بطريق المشاهدة‬‫االستدالل العقلي يقود حتما إلى معرفة ّ‬
‫للحواس وحكم باطن‬
‫ّ‬ ‫يقول في الحيوان ج‪ 1‬ص‪.‬ص ‪ " 205/204‬ولألمور حكمان ‪ :‬حكم ظاهر‬
‫للعقول والعقل هو الحجة "‬

‫لقد أرسى المعتزلة دعائم حركة عقليّة واسعة كان لها أكبر األثر في فكر الجاحظ وأدبه إذ دعا إلى‬
‫شرعيّة من جهة وأساليب‬ ‫احترام العقل وتمجيده والتّعويل عليه في استنباط الكثير من األحكام ال ّ‬
‫التّفكير السّليم من جهة أخرى‬

‫‪ -3-4‬العقل والمعرفة ‪ :‬نحو إرساء معرفة عقليّة وإرباك ثقافة الت ّسليم وإقامة حضارة الحوار‬
‫والجدل الفكري‬

‫ك ّل االتّجاهات العقليّة في أدبنا العربي القديم صريحة في ربط العقل بالتّجربة والبرهان والعقل‬
‫شموليّة فال نراه يؤمن كثيرا بما يصله من أخبار‬‫ي ينشد المعرفة اليقينيّة وال ّ‬
‫الجاحظي هو عقل عمل ّ‬
‫أن الدسّاس تلد ‪ "...‬فك ّل معرفة ال تحصل عن طريق التّجربة‬ ‫وروايات "زعم ابن أبي العجوز ّ‬
‫هي معرفة ظنّية ‪ ،‬وهذا ما جعل العقل عند الجاحظ همزة وصل بين اإلنسان واإلنسانيّة باعتبار‬
‫المعرفة ال يمكن أن يستأثر بها جيل دون جيل أو عصر د ون عصر بل هي حلقات متواصلة متكاملة‬
‫ّللا وحكمته من خالل‬ ‫ومتعاقبة وتغدو الحقائق العلميّة مع التّجربة حقائق وجوديّة تبرهن على وجود ّ‬
‫مخلوقاته فكيف أرسى الجاحظ قواعد المعرفة العقليّة ؟‬

‫الرواية ‪/‬الخبر‬
‫أ‪ّ /‬‬
‫صي الحقائق لدى الجاحظ إلى تتبّع المصادر من مؤلّفات قديمة أو معاصرة له‬ ‫الرغبة في تق ّ‬
‫قادت ّ‬
‫صي إلى تلقّط‬
‫الرغبة في التق ّ‬
‫ومن شعر عربي ومن آيات قرآنيّة ومن أحاديث نبويّة ‪ ،‬كما قادته ّ‬
‫األخبار فراح يقارن بينها وبين األقوال مناقشا تارة هازئا ومستغربا تارة أخرى ولطالما نقد الجاحظ‬
‫وجروا النّاس إلى الضّالل العلمي‬‫ّ‬ ‫والرواة والمفسّرين ألنّهم طالما أفسدوا الحقائق‬
‫ّ‬ ‫المحدّثين‬
‫ظام يقول في الحيوان ج‪1‬‬‫والمذهبي وهو كثيرا ما يهاجمهم في كتبه وينهج في ذلك منهج أستاذه الن ّ‬
‫فإن كثيرا منهم يقول بغير رواية على غير أساس‬ ‫ص‪ " 343.‬ال تسترسلوا إلى كثيرا من المفسّرين ّ‬
‫‪7‬‬
‫" فهو – الجاحظ – قليل الثّقة كثير الشكّ لعلمه بطبيعة البشر وميلهم إلى التّحريف والتّزييف لكن‬
‫فإن مصدر المعرفة عند الجاحظ يبقى الخبر ومنتهى الخبر أن يُثبت أو يُلحق بالقياس‬‫شك ّ‬‫رغم ذلك ال ّ‬
‫العقلي والتّجربة لذلك فوسائل المعرفة عند الجاحظ ثالث ‪:‬‬

‫الرواة الثّقات‬‫الرواية التي ال شكّ في صحّتها من نوع ما يرويه ّ‬ ‫أ‪ /‬الخبر القاهر ‪ :‬يقصد به الجاحظ ّ‬
‫ّ‬
‫يقول "إذا لم تأتنا في تحقيق األخبار شعر شائع أو خبر مستفيض لم نلتفت لفتة " ويتجلى روح‬
‫طئه في أمور كثيرة مقدّما البراهين‬ ‫الجدل الفكري عندما عرض الجاحظ لكتاب أرسطو وراح يُخ ّ‬
‫والحجج ذاكرا أقوال العرب يقول "وقد سمعنا ما قال صاحب المنطق وما يليق بمثله أن أخذ على‬
‫نفسه في الكتب شهادات ال يحقّقها االمتحان وال يعرف صدقها أشباهه من العلماء " ونجده أحيانا‬
‫أخرى يعذره ويلوم المترجمين الذين لم يحسنوا نقل فكرته نقال صحيحا‬
‫ظاهر‪ :‬يقصد به المعاينة والتّجربة أ ّما المعاينة فترتكز أساسا على مالحظة الحيوان‬ ‫ب‪/‬العيان ال ّ‬
‫في طريق عيشه وطباعه وغرائزه " وليس يشفيني ّإال المعاينة "أ ّما التّجربة فتكون عادة لتصحيح‬
‫الخبر وتقريره إن ثبتت استقامته يقول الجاحظ في الحيوان ج‪ 4‬ص ‪" 123‬والحيّة مشقوقة اللّسان‬
‫وأظن أنّه ل ّما رأى افتراق‬
‫ّ‬ ‫أن لبعض الحيّات لسانين وهذا عندي غلط‬ ‫سوداؤه ‪ ،‬وزعم بعضهم ّ‬
‫طرف اللّسان قضى ّ‬
‫بأن لها لسانين "‬
‫مقومات أساسيّة تقوم على مراحل أه ّمها‪:‬‬ ‫وقد عمد الجاحظ إلى أن يجعل لهذا العقل التّجريبي ّ‬
‫ألن في تنويعها سعيا إلى الت ّدقيق فيغيّر الحوافز واألمكنة والنّماذج‬ ‫‪ -‬تعديد التّجارب وتنويعها ّ‬
‫ألن في تعدّد الحقائق انبعاث االطمئنان ووصوال إلى اليقين‬ ‫ّ‬
‫يمررها على محكّ العقل‬ ‫‪ -‬اعتماده تجارب غيره من الثّقات ممن ال يورد أخبارهم ّإال بعد أن ّ‬
‫يقول في الحيوان " وخبّرني من ال أردّ خبره "‬
‫شخصيّة الستخراج القانون بعد مراجعة المادّة وغربلتها وتصحيحها‬ ‫‪ -‬اعتماده على التّجربة ال ّ‬
‫ومعاينتها إيمانا بمبدأ "ال تُشفني ّإال المعاينة "‬
‫ج‪ /‬الشكّ المنهجي ‪ :‬لم يكتف الجاحظ بالشكّ أساسا من أسس منهجه في البحث العلمي بل عرض‬
‫لمكانة الشكّ وأه ّميته من النّاحية النّظريّة في كثير من مواضع كتبه ‪ ،‬ومن أه ّم ما قاله في ذلك في‬
‫الحيوان ج‪ 6‬ص‪ " 35.‬فاعرف مواضع الشكّ وحاالته الموجبة له لتعرف بها مواضع اليقين ‪،‬‬
‫تعرف التوقّف ث ّم‬ ‫والحاالت الموجبة له وتعلّم الشكّ في المشكوك فيه تعلّما فلو لم يكن في ذلك ّإال ّ‬
‫التثبّت ‪ ،‬لقد كان ذلك م ّما يُحتاج إليه ‪ ".‬فالجاحظ يردّ الشكّ لمحض الشكّ ‪ ،‬وال يقبل أن يكون الشكّ‬
‫إن الشكّ الجاحظي هو شكّ منهجي‬ ‫طريقة ذاتها ‪ّ .‬‬ ‫كيفما اتّفق وال في ك ّل أمر على حدّ سواء وال بال ّ‬
‫فقد أراده طلبا للحقيقة الجليّة الواضحة التي ال تقبل تفاوتا في الدّرجات‬
‫فالمعرفة عند الجاحظ تخضع للقياس والتّجربة والمعاينة واالختبار واالستفسار وسلوك طريق‬
‫الزمن وعلى هذا األساس ألغى‬ ‫بتطور ّ‬
‫ّ‬ ‫تتطور‬
‫ّ‬ ‫الشكّ الموصل إلى المعرفة وبرد اليقين والمعرفة‬
‫الجاحظ الحواجز بين الحضارات في سبيل إدراك الحقيقة وراجع األرصدة وحاول تنقيتها من‬
‫ي سالح الشكّ طريقا إلى‬ ‫ضالالت والنّقائص وحاول أن يسلّط على المنقول والمسموع والمرو ّ‬ ‫ال ّ‬
‫اليقين‬
‫د‪/‬العقل المستد ّل‪ :‬وهو الحجّة النّهائيّة والمرجع األخير في تصحيح األخبار وتصويب المعاينة‬
‫ألن الحواس تخطئ وبالعقل يكون اليقين ويبقى العقل المستد ّل الملكة القادرة على تأسيس المعرفة‬ ‫ّ‬
‫يقول في الحيوان ج‪1‬ص ‪" 204‬فال تذهب إلى ما تريك العين واذهب إلى ما يريك العقل "‬
‫سس ال يكتمل ّإال بالعقل‬ ‫‪ -4-4‬العقل واإلنسان ‪ :‬اإلنسان مشروع يتأ ّ‬

‫‪8‬‬
‫أن العقل عنده يرتبط على الدّوام بالسّعادة في‬‫صة ّ‬ ‫ثنائيّة العقل ‪/‬اإلنسان مبثوثة في كتب الجاحظ خا ّ‬
‫المعاش والفوز بالمعاد فكيف يحقّق العقل جوهر اإلنسان فعليّا أو كيف يستكمل العقل اإلنسان‬
‫استكماال أخيرا ؟‬
‫أ‪ /‬البعد االجتماعي‪:‬‬
‫اخضع الجاحظ اإلنسان والمجتمع عموما إلى التأ ّمل العقلي فكشف أدبه عن نزعة إنسانيّة تجلّت‬
‫في الدّعوة إلى تالقح الحضارات بتبادل المعارف وتنميتها عبر األجيال بعد تدقيقها وتحقيقها ‪ ،‬كم‬
‫شعوبيين الذين ثلبوا العرب وقد كان في ردّ الجاحظ‬ ‫دعا الجاحظ إلى نبذ العصبيات في ردّه على ال ّ‬
‫صب الضيّق واالنتماء العرقي رغم‬ ‫الكثير من الموضوعيّة والنّزاهة وكثيرا من الترفّع عن التع ّ‬
‫الزنوج لضعف في عقولهم يقول في رسائله‬ ‫ميله للجنس العربي فنجده يحاجج من أرجع سخاء ّ‬
‫تحقيق عبد السالم هارون ج‪1‬ص ‪ "130‬وقد قال ناس ‪ :‬إنّهم صاروا أسخياء لضعف عقولهم ‪،‬‬
‫ولقصر روياتهم ‪...‬فقلنا لهم بئس ما أثنيتم على السّخاء واألثرة ‪ ،‬وينبغي في هذا القياس أن يكون‬
‫أوفر النّاس عقال وأكثر النّاس علما أبخل النّاس بُخال وأقلّهم خيرا " والجاحظ درس أحوال‬
‫أن كل أ ّمة وكل جنس يتّصف بصفات وخصائص يمتازبها‬ ‫المجتمعات ووصل بعد نظر عقلي إلى ّ‬
‫شعر والعناية باللّغة ‪ ،‬وقيافة األثر وحفظ األنساب‬ ‫عن غيره فوجّه العرب قِواهم واهتمامهم إلى قول ال ّ‬
‫وتعرف األنواء والبصر بالخيل والحرب فبلغوا في ذلك الغاية وأدركوا ك ّل أمنية‬ ‫ّ‬ ‫واالهتداء بالنّجوم‬
‫صغَار الجزية ‪ ،‬ولم‬‫‪ ،‬ولم يكونوا أصحاب تجارة أو صناعة أو طبّ أو حساب أو فالحة لخوفهم من َ‬
‫يكونوا فقراء حتّى اإلدقاع وال أغنياء إلى الحدّ الذي يورث البالدة ‪ ،‬وإنّما كانوا أصحاب أذهان حدا ٍد‬
‫ونفوس أبيّة وإحساس مرهف ‪ ،‬وك ّل هذا يتالءم مع حياة البداوة والفيافي ويُعين على النبوغ في‬
‫اآلداب (رسالة مناقب التّرك ج‪ 1‬ص‪ 69‬وما بعدها ومثل هذا الكالم نجده في الحيوان والبيان‬
‫والرسالة العثمانيّة والعبّاسية ) ومثلما تحدّث عن العرب تحدّث عن التّرك يقول في نفس‬ ‫والتّبيين ّ‬
‫الرسالة – مناقب التّرك‪ -‬ج‪1‬ص‪ " 71‬أ ّما التّرك فلم ينصرف اهتمامهم وانشغالهم إلى الطبّ والتجارة‬ ‫ّ‬
‫وشق األنهار وجباية الغالّت وإنّما كانوا أصحاب عمد‬ ‫ّ‬ ‫صناعة والفالحة والهندسة وال إلى البنيان‬ ‫وال ّ‬
‫صيد‬ ‫وس ّكان فياف وأرباب مواش ‪ ،‬وهم أعراب العجم ‪،‬ولم يكن ه ّمهم غير الغزو والغارة وال ّ‬
‫الرسالة‬
‫وركوب الخيل ومقارعة األبطال وطلب الغنائم " ويقول عن اليونانيين في نفس ّ‬
‫وتفرغوا للنّظر في األسباب والعلل ألنّهم لم‬
‫ّ‬ ‫ج‪1‬ص‪" 186/167‬أ ّما اليونانيون فقد اهت ّموا بالفلسفة‬
‫يكونوا تجّارا أو صنّاعا بأكفّهم ‪ ،‬وال أصحاب زرع وبناء وغرس وال أصحاب جمع ومنع وحرص‬
‫يفرغون المف ّكرين ويجرون عليهم كفايتهم ‪.‬‬ ‫وكدّ ‪ ،‬وكان الملوك ّ‬
‫ب‪ /‬البعد السياسي‬
‫الرسائل ويمكن إجمال هذه اآلراء‬ ‫صة ّ‬ ‫وردت آراء الجاحظ السّياسيّة مبثوثة هنا وهناك في كتبه خا ّ‬
‫والمواقف في ‪:‬‬
‫بدأ اتّصال الجاحظ بالسّلطة في البصرة متردّدا على دار اإلمارة في مناسبات عدّة وتع ّمقت‬ ‫‪-‬‬
‫عالقته بالسّلطة لتبلغ شأنا كبيرا في خالفة المأمون فكان من بين الذين أنيط بهم إعداد الكتب‬
‫والرسائل في موضوع اإلمامة ‪ ،‬وفي بغداد أصبح يتردّد على بالط المأمون فاستكتب في ديوان‬ ‫ّ‬
‫أن هدا األخير لم يكن شديد‬ ‫واستمرت صلة الجاحظ بالسّلطة في خالفة المتو ّكل غير ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرسائل‬‫ّ‬
‫طد عالقاته برجاالت الدّولة اآلخرين ‪ ،‬وال سيما الوزراء منهم‬ ‫الحماسة لعالقاته وفي األثناء و ّ‬
‫الرجل بالسّلطة وطيدة حيث كان يتحدّث بصفة‬ ‫فأهداهم كتبه ورسائله ومصنّفاته لذلك كانت عالقة ّ‬
‫االنتساب إليها "أصحابنا وخلفاؤنا وملوكنا " وربّما قاده ذلك إلى اإلسهام في صنع سياسة الدّولة‬

‫‪9‬‬
‫وصياغة مقوالتها والمشاركة في توجيهها فقد كلّفه المأمون بوضع رسالة في موضوع اإلمامة‬
‫(رسالة الردّ على النصارى )‬
‫دافع الجاحظ في رسالتيه الموسومتين بالعبّاسيّة التي نشرها حسن السندوبي ورسالة في‬ ‫‪-‬‬
‫الرسول حين انتقد سياسة ك ّل‬ ‫حق العلويين في ميراث ّ‬ ‫الحكمين التي شرحها علي أبو ملحم عن ّ‬
‫الرسالة األولى لقضيّة إرث الخالفة باألصل ‪،‬وصوال‬ ‫تعرضت ّ‬ ‫من أبي بكر وعمر تجاه المسالة فقد ّ‬
‫طريق (انظر كتاب الجاحظ حياته وأثاره لطه الجابري القاهرة‬ ‫حق العبّاسيين فيها عن هذا ال ّ‬
‫إلى ّ‬
‫الرسالة العبّاسية " ص‪77‬‬ ‫‪ )1962‬إضفاء لطابع القداسة على تولّي العبّاسيين للخالفة يقول في ّ‬
‫وأن أسبابهم غير أسباب‬‫نبوة ّ‬‫وأن ملكهم في مغرس ّ‬ ‫بحق العصبة والعمومة ‪ّ ،‬‬ ‫أنّهم ملكوا بالميراث و ّ‬
‫بني مروان ‪"...‬وبذلك يكون قد خالف المعتزلة التي تقول باالختيار في تولّي اإلمامة ويقول في‬
‫ّللا – هذه سيرته وطريقته في أدنى أوليائه ‪،‬‬ ‫رسالة في الحكمين ص ‪ " 381‬فمن كانت – حفظه ّ‬
‫فكيف تظنّه في أرفع أوليائه ‪ ،‬فهذا ما ال يح ّل لي أن أظنّه بعلي بن أبي طالب "‬
‫أن الخروج‬ ‫تعرض إلى مسألة الخروج عن السّلطان ليعتبر ّ‬ ‫في رسالته الموسومة بالعثمانيّة ّ‬ ‫‪-‬‬
‫عليه أمر غير ممكن عمليّا ونظريّا فدعا إلى ضرورة القبول والتّسليم بالسّلطان القائم واصفا‬
‫متأول ناقم ‪ ،‬ومن محكوم ساخط ‪ ،‬ومن‬ ‫ّ‬
‫"فإن السّلطان ال يخلو من ّ‬ ‫المعارضة بصفات سلبيّة يقول‬
‫طل متصفّح ‪ ،‬ومن معجب برأي ذي خطل في بيانه ‪... ،‬ومن‬ ‫معدول عن الحكم زار ‪ ،‬ومن متع ّ‬
‫محروم قد اضطغنه الحرمان ‪ ،‬ومن لئيم قد أفسده اإلحسان ‪ ،‬ومن مستبطىء قد أخذه إضعاف‬
‫صارم بطاعتها‬ ‫حقّه ‪...‬وصاحب فتنة خامل في الجماعة رئيس في الفرقة " فالعا ّمة "كالس ّكين ال ّ‬
‫التهور إذا خرجت عليه " (العثمانيّة ص ‪ 252‬تحقيق عبد السالم هارون‬ ‫ّ‬ ‫لإلمام ‪ ،‬لكنّها شديدة‬
‫القاهرة ‪)1955‬‬
‫قوة العقل والعلم والحزم والعزم وأن يكون‬ ‫شروط الواجب توفّرها في إمام المسلمين ّ‬ ‫من ال ّ‬ ‫‪-‬‬
‫مشهورا معروفا بالفضل ال يطمع أحد في مجاراته ومنافسته " وانفراد السّيد بالسيادة كانفراد‬
‫الرؤساء تجتمع الكلمة وتكون األلفة ‪ ،‬ويصلح شأن الجماعة‬ ‫اإلمام باإلمامة وبالسّالمة من تنازع ّ‬
‫‪،‬وإذا كانت الجماعة انتهى األعداء وانقطعت األهواء "(الجاحظ فصل من صدر كتابه "الجوابات‬
‫في اإلمامة ص ‪230‬تحقيق يحيى الجبوري مجلّة المورد بغداد عدد‪ 4‬ص ‪229‬‬

‫‪ -5-4‬العقل واألخالق ‪ :‬نحو اعتماد منظومة أخالقيّة تتوافق وأحكام العقل‬

‫صة األخالقيّة منها في سبيل‬


‫انتقد الجاحظ في كتبه األنماط السّلوكيّة المستهجنة في المجتمع خا ّ‬
‫إرساء منظومة أخالقيّة تتوافق وأحكام العقل وتعاليم الدّين يقول عن منهجه في معرفة الحالل‬
‫والحرام ‪ " :‬إنّما يُعرف الحالل والحرام بالكتاب النّاطق ‪ ،‬وبالسنّة المجمع عليها ‪ ،‬والعقول‬
‫صحيحة ‪ ،‬والمقاييس ا لمعينة" فكتب الجاحظ " تعلّم العقل ّأوال واألدب ثانيا " إذ حوت الكثير‬‫ال ّ‬
‫الرؤى والمواقف األخالقيّة ‪.‬‬
‫من ّ‬
‫أ ّما القيم األخالقيّة فقد كان نصيبها أكثر من سبعة كتب ورسائل كثيرة فقد تناول األمانة واالئتمان‬
‫السر وحفظ اللّسان‪ ،‬كما كانت رسالته الموسومة‬ ‫ّ‬ ‫السر في رسالة كتمان‬
‫ّ‬ ‫صة فيما تعلّق بحفظ‬
‫خا ّ‬
‫صصة لمسألة األخالق في بعديها النّظري والعملي يقول "دعاهم بالتّرغيب إلى‬ ‫بالمعاش والمعاد مخ ّ‬
‫جنّته وجعلها عوضا م ّما تركوا على ُجنب طاعته أو زجرهم بالتّرهيب بالنّار من معصيته و ّ‬
‫خوفهم‬
‫والرهبة على حدود العدل " ‪.‬‬
‫الرغبة ّ‬‫بعقابها على ترك أمره ‪،‬ث ّم أقام ّ‬

‫‪10‬‬
‫شرائح االجتماعيّة وفق االنتماءات المهنيّة‬ ‫وقد تناول في كتبه ورسائله أخالق مختلف الفئات وال ّ‬
‫ووفق االنتماءات الجغرافيّة أو العرقيّة وحتّى وفق الخصائص البيولوجيّة أو الفيزيولوجيّة فوفق‬
‫الرسائل التّالية ‪ :‬فخر السّودان على البيضان ‪/‬ومناقب التّرك ‪/‬والعبّاسية‬
‫االنتماء الجغرافي كانت له ّ‬
‫الرسائل التّالية ‪ :‬ذ ّم أخالق الكتّاب ‪/‬والمعلّمين ‪/‬والقيان‬
‫والنّابتة ‪ ...‬ووفق االنتماء المهني كتب ّ‬
‫الرسائل التّالية ‪:‬‬
‫طبيعة والخصائص البيولوجيّة والفيزيولوجيّة كتب ّ‬ ‫‪/‬وطبقات المغنّين‪ ....‬ووفق ال ّ‬
‫مفاخرة الغلمان والجواري ‪/‬والنّساء ‪ /‬والبرصان والعرجان والعميان والحوالن ‪( ...‬انظر كتاب‬
‫عزت السّيد أحمد منشورات اتّحاد العرب دمشق ‪)2005‬‬ ‫فلسفة األخالق عند الجاحظ للدّكتور ّ‬

‫ُعدهن عن اتّباع األخالق المحمودة في رسالة القيان ص‪.‬ص‪84/83‬‬ ‫ّ‬ ‫يقول في ذ ّم القيان نتيجة ب‬
‫"وكيف تسلم القينة من الفتنة أو يمكنها أن تكون عفيفة ‪ ،‬وإنّما تكتسب األهواء وتتعلّم األلسن‬
‫واألخالق بالمنشأ وهي تنشأ من لدن مولدها إلى أوان وفاتها بما يصدّ عن ذكر ّ‬
‫ّللا من لهو الحديث‬
‫‪ ،‬وصنوف اللّعب واألخانيث وبين الخلفاء والمجّان ‪ ،‬ومن ال يسمع منه كلمة جدّ وال يرجع منه إلى‬
‫ثقة ‪ ،‬وال دين وال صيانة مروءة "‬

‫تحرر المجتمع واختالط أجناسه‬ ‫كما كان له موقف ّمما انتشر في عصره من ظاهرة اللّواط نتيجة ّ‬
‫وما أفرزه من أنماط سلوكيّة مستهجنة من المجون والخالعة والعبث نجد لها صدى في قصائد‬
‫الرسائل " والذي‬ ‫شار بن برد ‪/‬أبو نواس ‪/‬سلم الخاسر ‪ /‬والبة بن الحباب ‪ )..‬يقول في ّ‬ ‫شعراء (ب ّ‬
‫ال ّ‬
‫ُعوض في اآلخرة‬ ‫ّ‬
‫وعز لم ي ّ‬ ‫شهوة ُمعيبة في نفسها قبيحة في عينها ّ‬
‫أن هللا تعالى‬ ‫أن هذه ال ّ‬
‫يد ّل على ّ‬
‫شهوة الولدان من ترك لوجهه في الدّنيا شهوة الغلمان كما سقى في اآلخرة من تركها في الدّنيا‬
‫بالرجال والنّساء بالنّساء انقطاع النّسل وفي انقطاع النّسل بطالن جميع الدّين‬
‫الرجال ّ‬ ‫‪...‬وفي اكتفاء ّ‬
‫والدّنيا ‪ "...‬ولكثرة ما شاع خبر اللّواط واشتهر ‪ ،‬وكثر الميل نحو تفضيل الغلمان على الجواري في‬
‫الرسائل‬ ‫مختلف طبقات المجتمع دفع بالجواري إلى التشبّه بالغلمان في الملبس والمظهر يقول في ّ‬
‫"إن من فضل الغالم على الجارية ّ‬
‫أن‬ ‫ج‪ 2‬ص‪ 195‬تحقيق عبد السالم هارون دار الجيل بيروت ّ‬
‫الجارية إذا وصفت بكمال الحسن ‪ :‬قيل ‪ :‬كأنّها غالم " وفي المقابل نجده في رسائله يمتدح الخمرة‬
‫يقول في رسالة إلى الحسن بن وهب في مدح النّبيذ وصفة أصحابه " ‪...‬وسأصف لك شرف النّبيذ‬
‫شيوخ في طبائع الشبّان ويردّ الشبّان في نشاط‬ ‫في نفسه وفضيلته في غيره ‪...‬وهو الذي يردّ ال ّ‬
‫صبيان وليس يخاف شاربه ّإال مجاوزة السّرور إلى األشر ومجاوزة األشر إلى البطر ‪"...‬‬ ‫ال ّ‬
‫أن اإلفراط والتّفريط أمران مرذوالن‬‫وللجاحظ منهج في األخالق يقوم على الوسطيّة فلقد بدا له ّ‬
‫ت كما ال يجوز أن يستسهل مسالك التّفريط التي‬ ‫كالهما ‪ ،‬ولذلك ال ينبغي أن يجنح المرء إلى العَن ِ‬
‫تبدو يسيرة سهلة ولذلك قال قي رسالة المعاش والمعاد ج‪1‬ص ‪ 117‬اإلفراط في الجود يُوجبُ‬
‫صة واإلفراط‬ ‫التّبذير ‪ ،‬واإلفراط في التّواضع يُوجب المذلّة ‪ ،‬واإلفراط في الكِبر يدعو إلى مقت الخا ّ‬
‫في المؤانسة يدعو إلى خلطاء السّوء ‪ ،‬واإلفراط في االنقباض يوحش ذا النّصيحة ‪ ،‬وآفة األمانة‬
‫صدّيق تصديق الكذبة "‬
‫ائتمان الخانة ‪ ،‬وآفة ال ِ ّ‬
‫‪.‬عزت السّيد أحمد منشورات اتّحاد الكتّاب العرب دمشق‬
‫(راجع كتاب فلسفة األخالق عند الجاحظ د ّ‬
‫‪ 2005‬ص‪)68.‬‬

‫‪-5‬أسلوب الجاحظ في الكتابة‬

‫‪11‬‬
‫عرف أسلوب الجاحظ بايقاعاته وقصر عباراته واستطراداته مع جمعه بين الجدّ والهزل فكتاب‬
‫الحيوان كثرت فيه االستطرادات إذ لم يقتصر فيه على الموضوع الذي يد ّل عليه عنوان الكتاب بل‬
‫وتطرق إلى مواضيع من قبيل سياسة األفراد واألمم والجغرافيا‬ ‫ّ‬ ‫تناول فيه معارف طبيعيّة وفلسفيّة‬
‫صلة بعلم الكالم يقول في مقدّمة الكتاب " متى‬ ‫والطبّ وعادات األعراب والمسائل العقديّة ذات ال ّ‬
‫خرج القارئ من آي القرآن صار إلى األثر ‪ ،‬ومتى خرج من أثر صار إلى خبر ‪ ،‬ث ّم يخرج من‬
‫شعر إلى النّوادر ‪ ،‬ومن النّوادر إلى حكم عقليّة ومقاييس شداد ‪ ،‬ث ّم ال‬‫شعر ‪ ،‬ومن ال ّ‬
‫الخبر إلى ال ّ‬
‫يترك هذا الباب ولعلّه أن يكون أثقل والملل أسرع حتّى يفضي به إلى مزح وفكاهة ‪ "...‬ومن بين‬
‫أساليبه في الكتابة نقف عند ‪:‬‬

‫المالءمة بين اللّفظ والمعنى أو بين المقال والمقام يقول في الحيوان "لك ّل ضرب من الحديث‬ ‫‪-‬‬
‫ضرب من اللّفظ‪ ،‬ولك ّل نوع من المعاني نوع من األسماء فالسّخيف للسّخيف ‪ ،‬والخفيف‬
‫للخفيف‪،‬والجزل للجزل "‬
‫الدقّة في األسلوب ينتقي اللّفظ الدّال على المعنى ‪ ،‬ويلتفت في أثناء االنتقاء إلى الجرس‬ ‫‪-‬‬
‫وقوة الدّاللة وينتقي عادة األلفاظ بمعانيها الحقيقيّة دون أن يميل إلى المعاني المجازيّة‬ ‫واإليقاع ّ‬
‫رغبة في مخاطبة عقل القارئ إضافة إلى دقّة األداء اللّغوي ودقّة األفكار والتّراكيب واإلطناب‬
‫شعر واألمثال‬ ‫واالستطراد والقدرة على اإلضحاك واإلكثار من االستشهاد بالقرآن والحديث وال ّ‬
‫واالبتعاد عن التكلّف‬
‫تداخل المعاجم (الفلسفة ‪/‬المنطق ‪/‬علم الكالم ‪)...‬‬ ‫‪-‬‬
‫التّصنيف والتّبويب ‪ :‬أسلوب يعكس الحرص على التّدقيق واالستقصاء في تتبّع المفاهيم ‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫إن العالم‬‫ونمذجة الموجودات ضمن أبواب وأصناف وأنواع وأجناس يقول في الحيوان "وأقول ّ‬
‫بما فيه من األجسام على ثالث أنحاء متّفق ومختلف ومتضادّ وكلّها في جملة القول جماد‬
‫‪...‬والحيوان على أربعة أقسام ‪ :‬شيء يمشي وشيء يطير وشيء ينساح ‪"...‬‬
‫ظاهرة الواحدة‬ ‫الرياضي االستداللي المنطقي ‪ :‬يتمثّل في طريقة النّظر إلى ال ّ‬ ‫األسلوب ّ‬ ‫‪-‬‬
‫درج من العام إلى الخاص ‪ ،‬ومن اإلجمال إلى التّفصيل‬ ‫وتحليلها تحليال قائما على منطق رياضي يت ّ‬
‫وصوال إلى ضبط قانون نهائي للمتشعّب باعتماد آلية االستدالل المنطقي من قبيل " ووجدنا كون‬
‫العالم فيه حكمة ووجدنا الحكمة على ضربين ‪ :‬شيء جعل حكمة وهو ال يعقل الحكمة ‪ ،‬وال عاقبة‬
‫الحكمة وشيء جعل حكمة وهو يعقل الحكمة وعاقبة الحكمة فاستوى بذلك العاقل وغير العاقل‬
‫‪"....‬‬
‫اعتماد أساليب الدّحض وإسقاط حجج الخصم عنده ‪ :‬طرح مسألة أو رأي بهدف تخطئته‬ ‫‪-‬‬
‫وبيان تهافته ومواضع تضاربه مع العقل مع تقديم الحجج ال ُمضادّة واألمثلة التي تنقضه ومن‬
‫والتدرج من قضيّة إلى أخرى‬ ‫ّ‬ ‫شي‬ ‫طعن في تسلسل القضايا وبيان اختالل التم ّ‬ ‫وسائله في ذلك ال ّ‬
‫وكشف الت ّناقض في حجج الخصم واستخدام الحجج المضادّة أو السّالبة‬
‫الموضوعيّة ‪ :‬في النّظر إلى األشياء فال يتجنّى على أحد ّإال بما فيه أو على ماقاله ويعرض‬ ‫‪-‬‬
‫إلى ك ّل األراء قبل أن يدلي برأيه "قالوا ‪ ....‬وقد قال ناس ‪...‬فقلنا"‬
‫األسلوب الحجاجي ‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫أ‪ /‬تعريف الحجاج ‪:‬هو مجموع تقنيات الخطاب التي من شانها أن تؤدّي باألذهان إلى التّسليم بما‬
‫يعرض عليه من أطرروحات ‪ ،‬أو أن تزيد من درجة ذلك التّسليم "برلمان وتيتكا " وهو العمليّة‬
‫والتصورات لدى مخاطبه بالوسائل اللّغويّة‬‫ّ‬ ‫التي يسعى من خاللها المتكلّم إلى تغيير نظام المعتقدات‬

‫‪12‬‬
‫‪.‬فالحجاج يهدف إلى التّأثير في فكر المتل ّقي وحمله على تعديل رؤيته أو مواقفه أو تعديل سلوكه‬
‫تمش عقلي يقوم على التّفكير والمنطق من جهة وإلى التّأثير بشتى الوسائل الوجدانيّة‬ ‫ّ‬ ‫باالستناد إلى‬
‫صياغة واألسلوب واألدوات الحجاجيّة‬ ‫والنّفسيّة من جهة أخرى ‪ ،‬مع توظيف الوسائل اللّغويّة (ال ّ‬
‫المتنوعة )‬
‫ّ‬
‫ب‪ /‬بنية النصّ الحجاجي ‪ :‬وتقوم على ثالثة أقسام كبرى ‪:‬‬
‫‪ -‬طرح القضيّة التي يراد تأييدها أو دحضها‬
‫القوة في المقولة التي يراد دحضها باستخدام األدلّة والحجج‬ ‫‪ -‬تحليل جوانب ّ‬
‫صل إلى نتيجة يخلص إليها التّحليل السّابق (تأييد القضيّة أو إسقاطها ‪ ،‬أو اتّخاذ موقف‬ ‫‪ -‬التو ّ‬
‫توفيقي من هذا وذاك‬
‫ج‪ /‬وظائف الحجاج عند الجاحظ ‪ :‬ال تخرج وظائف الحجاج عنده عن الوظائف التي يُستخدم من‬
‫أجلها الحجاج عا ّمة ويمكن اختزاتها في أربع وظائف ‪:‬‬
‫شرع من وجهة‬ ‫‪ -1‬اإلفناع وهذا ما نجده بكثرة في مناقشة المسائل االعتقاديّة إلثبات مقوالت ال ّ‬
‫نظر عقليّة‬
‫‪ -2‬المداولة ‪ :‬وهي التي يكون فيها الحجاج وسيلة التّخاذ قرار بأفضل الحلول كأن يطرح‬
‫قضيّة أو يبسط أطروحة فيعرض أكثر من رأي فيها أو أكثر من تقسير أو تأويل لها ث ّم يتصدّى‬
‫لها من جوانب الضّعف بالنّقد والتّجريح وصوال إلى ترجيح رأي أو ح ّل أو إلى استبقاء صحّتها‬
‫(رسالة فخر السّودان على البيضان )‬
‫‪ -3‬إثبات صحّة كالم أو رأي أو حكم ‪ :‬ويكون بطرح مسألة أو بسط رأي بهدف إثبات أوجه‬
‫صحّته واالحتجاج له باألدلّة الدّاعمة فكثيرا ما يعمد إلى تأكيد أقوال شيوخه وأساتذته من أئ ّمة‬
‫صالح ‪.‬‬
‫االعتزال وكذلك آراء السّلف ال ّ‬
‫صة فيما تعلّق بالمسائل األخالقيّة‬‫‪ -4‬تغيير موقف أو سلوك خا ّ‬
‫وتنوعت نذكر منها ‪:‬‬
‫ج‪ /‬أنواع الحجج‪ :‬تعدّدت الحجج في كتابات الجاحظ ّ‬
‫‪ -‬الحجج الواقعيّة أو حجج استدعاء الواقع إ ّما مباشرة عن طريق المعاينة والتّجربة أو عن‬
‫شهادات "حدّثني صديق أنّه حبس كلبه " "‬ ‫صية وروايات ال ّ‬ ‫طريق الوثائق مثل ال ّ‬
‫شواهد الن ّ‬
‫ّللا خلق‬
‫أن ّ‬‫شاهد والمثل ) أو االنطالق من المسلّمات والبديهيات "اعلم ّ‬ ‫ومدار العلم على ال ّ‬
‫خلقه ‪ ،‬ث ّم طبعهم على حبّ اجترار المنافع ودفع المضار "‬
‫‪ -‬حجّة السّلطة‪ :‬االستشهاد برأي أو بسلوك شخصيّة تعدّ مرجعا أو سلطة في المجال لمنزلتها‬
‫أو شهرتها "فقد كان إسحاق من معادن العلم "‬
‫وم‪،‬والروم أبعد رؤية وأشدّ‬
‫ّ‬ ‫الر‬
‫صقالبة أبخل من ّ‬ ‫‪ -‬حجّة القياس أو حجّة المنطق "وقد رأينا ال ّ‬
‫صقالبة أسخى أنفُسا وأسمح أكفّا منهم "‬‫عقوال‪.‬وعلى قياس قولكم أن قد ينبغي أن تكون ال ّ‬
‫برية وأخرى بحريّة " ّ‬
‫وإن تلك األجناس‬ ‫‪ -‬حجّة المماثلة ‪ :‬كأن يقول بالمماثلة بين أصناف الحيوان ّ‬
‫وإن اختلفت في أمور فإنّها تتشابه وإن هذه األجناس من تلك ‪(...‬باب الحيّات)‬
‫‪ -‬حجّة المغالطة ‪ :‬عندما يتالعب الجاحظ بالحجج فيعمد إلى تشويه حجّة السّلطة " زعم أصحابنا‬
‫‪...‬تزعم األعراب وناس من ج ّهال أصحاب األخبار" ومن أدوات التّشويه والتّحريف ‪ :‬التّبسيط‬
‫والمبالغة والتّحذير ‪....‬‬
‫د ‪ /‬األساليب ال ّلغويّة الحجاجيّة ونذكر منها ‪:‬‬
‫صدق يوجب الثّقة والكذب يورث التّهمة "‬ ‫‪ -‬الموازنة بين الجمل‪" :‬ال ّ‬
‫‪13‬‬
‫ّ‬
‫ل‪...‬ألن‬ ‫التّعليل‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫شرطي التّالزمي "متى ذهب التّمييز ذهب الت ّخيير " أو‬ ‫الربط السّببي باستخدام التّركيب ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪-‬‬
‫ّ‬
‫‪...‬إال ‪ "....‬وغير ذلك من ألوان األساليب المعبّرة عن‬ ‫باستخدام أسلوب الحصر (ما ‪/‬ال ‪/‬لم‬
‫الشر صرفا لهلك الخلق ‪"...‬أو قوله في‬
‫ّ‬ ‫سابق لالحق "فلو كان‬ ‫التّفكير االستنتاجي واستدعاء ال ّ‬
‫الرسائل تحقيق عبد السّالم هارون في تفسير اآلية "وعلّم آدم األسماء كلّها " ولو أعطاه‬ ‫ّ‬
‫األسماء بال معان لكان كمن وهب شيئا جامدا ال حركة له "‬
‫التّركيب االسمي التّقريري الذي يستعمل في إعالن حقيقة أو إثبات مسلّمة ينطلق منها أو نتيجة‬ ‫‪-‬‬
‫والرهبة أصال ك ّل تدبير‬
‫"الرغبة ّ‬
‫ّللا" ويقول "لألمور حكمان ّ‬ ‫صل إليها "أبين الكالم كالم ّ‬‫يتو ّ‬
‫"‬
‫االستفهام اإلنكاري لالستبعاد أو الدّحض‬ ‫‪-‬‬
‫نجد كذلك تراكيب أخرى من قبيل تراكيب القصر "إنّما حثّوا على " إضافة إلى أساليب التّأكيد‬ ‫‪-‬‬
‫والنّفي والتّمثيل والتّدليل والميل إلى التّأثير في المتلقّي بمخاطبة وجدانه وشعوره عن طريق‬
‫شر أو نفع‬‫استثارة مجاالت العاطفة االنسانيّة ومختلف نوازعها وما فيه من ألم أو ضرر أو ّ‬
‫باستعمال أسلوب التّرغيب والتّرهيب‬
‫‪ -5‬حدود ال ّنزعة العقليّة عند الجاحظ‬

‫للتحرر والجرأة بخوضه في مسائل معرفيّة وعقديّة برؤية عقليّة‬


‫ّ‬ ‫إذا كان العقل عند الجاحظ صورة‬
‫معتمدا النقد والحجاج والشكّ المنهجي والتّجربة العلميّة فإن النّظر العقلي في هذه المسائل بقي‬
‫محدودا وقد تجلّى ذلك في ‪:‬‬

‫تأثّر الجاحظ في كتاباته بالمنظومة الفكريّة والعقائديّة التي ينتمي إليها وهي منظومة المعتزلة‬ ‫‪-‬‬
‫فرغم خوضه في مسائل معرفيّة تتعلّق بالموجودات الدّنيويّة (إنسان ‪/‬حيوان ‪/‬جماد) فإنها بقيت‬
‫ّللا في الكون وإثبات مقولة‬ ‫منشدّة إلى غاياته العقائديّة المذهبيّة من خالل السّعي إلى إثبات قدرة ّ‬
‫طبيعة وسائ ُل إلدراك عظمة واجد الوجود وليست غاية تدرس لذاتها‬ ‫العدل االلهي فالعقل وال ّ‬
‫طبيعة كما في الفلسفة االغريقيّة‬ ‫كاكتشاف قوانين ال ّ‬
‫كتابات الجاحظ ال تخلو من نزعة "ايديولوجيّة " من خالل انسياقه وراء انتمائه االعتزالي‬ ‫‪-‬‬
‫ووراء الجدل الكالمي‬
‫سقوط الجاحظ أحيانا في تبريرات ال منطقيّة وخرافيّة ال تقوم على حجج‬ ‫‪-‬‬
‫صمت " ومنها انّك ال‬ ‫سقوطه أحيانا في التّناقض يقول الجاحظ في رسالة فضل الكالم على ال ّ‬ ‫‪-‬‬
‫الرسالة ص ‪ 231‬تحقيق عبد السالم‬ ‫‪...‬إال بالكالم " ونجده يقول في نفس ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّللا‬
‫تؤدّي شكر ّ‬
‫صامت لم يدخل الجنّة أبكم " ويقول في رسالة‬ ‫صا بالنّاطق دون ال ّ‬‫شكر خا ّ‬ ‫هارون " لو كان ال ّ‬
‫صمت زين العالم وستر الجاهل "‬ ‫فصل بين العداوة والحسد "ال ّ‬
‫الميل غير العلمي إلى ناقل الخبر دون غيره يقول في الحيوان ج‪ 2‬ص‪ " 13‬وزعم لي ابن أبي‬ ‫‪-‬‬
‫أن الدّسّاس تلد ‪ ،‬وكذلك خبّرني به مح ّمد بن أيّوب ابن جعفر عن أبيه ‪ ،‬وخبّرني به‬ ‫العجوز ‪ّ ،‬‬
‫الفضل بن إسحاق بن سليمان فإن كان خبرهما عن إسحاق فقد كان إسحاق من معادن العلم "‬
‫ّ‬
‫يطمئن إلى‬ ‫فاطمأن إلى إسحاق وهو سياسي تولى الوالية وهو من رجال الدّولة العبّاسيّة ولم‬ ‫ّ‬
‫الحواء العارف‬
‫ابن أبي العجوز وهو ّ‬
‫أدب الجاحظ وإن خاطب العقل وحفّزه على التّفكير والنّظر في شؤون اإلنسان وأحواله وفي‬ ‫‪-‬‬
‫عالم الحيوان وطبائعه فإنّه خاطب القلب وأمتعه م ّما أضفاه على أسلوبه من أساليب البينان‬
‫‪14‬‬
‫شعر وجمعه بين الجدّ والهزل يقول ابن‬ ‫والحكايات المتعدّدة واألمثال والمراوحة بين النّثر وال ّ‬
‫العميد عن كتاب الحيوان " كتاب علم في لباس أدب وأدب موضوعه العلم "‬
‫إن المنزع العقلي في األدب العربي كما يبدو في فيما كتبه الجاحظ لم يكن اختيار‬ ‫‪ -6‬الخاتمة‪ّ :‬‬
‫اعتباطيّا قاد إليه ترف فكري بل إنّه كان في جوهره موقف من العصر ومن قضايا اإلنسان غذّاه‬
‫شعور عميق بمنزلة المثقّف في المجتمع ومسؤولياته في تطوير السّلوك الفردي والجماعي وفي‬
‫إنشاء المعرفة‬
‫ّ‬
‫إن المنزع العقلي في األدب العربي القديم ‪:‬‬

‫صدمة مع اآلخر‬‫▪ أنشأته ال ّ‬


‫يتحرك داخل المقدّس ويقوم على مفهوم البيان غايته إصالح المعاش والفوز‬ ‫ّ‬ ‫▪ هو عقل‬
‫بالمعاد‬
‫▪ هو عقل إجرائي رغم المثاليّة التي تكتنفه وبذلك يكون المقصد األسمى من المنزع العقلي‬
‫إصالح الفرد في عالقتيه األفقيّة والعموديّة‬

‫هوامش البحث ‪:‬‬

‫الجاحظ ‪/‬كتاب الحيوان ‪ :‬تحقيق عبد السّالم هارون دار إحياء التّراث العربي بيروت ط‪3‬‬ ‫•‬
‫‪1969‬‬
‫‪/‬الرسائل ‪ :‬تحقيق عبد السّالم هارون مكتبة الخانجي القاهرة ‪1979‬‬ ‫الجاحظ ّ‬ ‫•‬
‫‪/‬الرسائل جمعها وشرحها حسن السّندوبي القاهرة ‪1933‬‬ ‫الجاحظ ّ‬ ‫•‬
‫‪/‬الرسائل جمعها وشرحها علي أبو ملحِ م دار مكتبة الهالل بيروت ط‪1987 1‬‬ ‫الجاحظ ّ‬ ‫•‬
‫الرسميّة للمعاهد الثّانويّة سبتمبر‪2006‬‬‫البرامج ّ‬ ‫•‬
‫طه الجابري ‪/‬الجاحظ حياته وآثاره القاهرة ‪1962‬‬ ‫•‬
‫مح ّمد عبد المنعم خفاجي ‪ ،‬أبو عثمان الجاحظ ‪ ،‬دار الكتاب اللّبناني بيروت ط‪1973 1‬‬ ‫•‬
‫عزت السّيد ‪/‬فلسفة األخالق عند الجاحظ منشورا اتّحاد النّاشرين العرب دمشق ‪2005‬‬ ‫د ّ‬ ‫•‬
‫( في الكتاب حديث عن عصر الجاحظ ومنهجه العلمي وفلسفة األخالق عنده )‬
‫طباعة والنّشر‬ ‫طبيعيّة عند الجاحظ ‪ ،‬دار الهداية لل ّ‬‫عزام ‪/‬في الفلسفة ال ّ‬
‫د محفوظ علي ّ‬ ‫•‬
‫طبيعة عند‬ ‫والتّوزيع ط‪ 1‬مصر ‪( 1995‬استفدنا في هذا الكتاب من المقارنة بين دراسة ال ّ‬
‫الجاحظ وعند أرسطو أو بين المنظومة الفكريّة العربيّة والمنظومة الفكريّة االغريقيّة )‬
‫ي ‪ /‬نظريّة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في النّقد األدبي دار الجدالوي‬ ‫مح ّمد عبد الغن ّ‬ ‫•‬
‫تعرضه لمفهوم األدب عند الجاحظ‬ ‫عمان ‪/‬األردن ‪( 1987‬استفدنا في هذا الكتاب من ّ‬
‫ناصر حامد أبوزيد‪ /‬دراسة في قضيّة المجاز في القرآن عند المعتزلة المركز الثّقافي‬ ‫•‬
‫العربي الدّار البيضاء ط‪1969 3‬‬
‫المعاجم‬
‫ابن منظور ‪ ،‬لسان العرب نط دار صادر بيروت ‪1968‬‬ ‫•‬
‫المنجد في اللّغة العربيّة المعاصرة ‪ ،‬دار الشرق بيروت ط‪2.‬‬ ‫•‬

‫المقاالت‬

‫‪15‬‬
‫د‪ .‬سمر روحي الفيصل ‪ ،‬أسلوب الجاحظ ‪،‬مجلّة التّراث العربي ‪ ،‬اتّحاد الكتّاب العرب‬ ‫•‬
‫‪،‬دمشق العدد ‪ 61‬السّنة ‪ 16‬أكتوبر ‪1995‬‬
‫د ‪ .‬مختار فطس ‪ ،‬اإلنسان في أدب الجاحظ ‪ ،‬مجلّة الـتّراث العربي ‪ ،‬اتّحاد الكتّاب العرب‬ ‫•‬
‫دمشق العدد ‪ 89‬السّنة‪ 23‬مارس ‪2003‬‬
‫د‪ .‬عبد الكريم اليافي ‪ ،‬كتاب الحيوان ألبي عثمان الجاحظ وعلم الجمال الحيواني ‪ ،‬مجلّة‬ ‫•‬
‫التّراث العربي ‪ ،‬اتّحاد الكتّاب العرب دمشق ‪ ،‬العدد ‪ 61‬السّنة ‪ 16‬أكتوبر‪1995‬‬
‫د‪ .‬موفّق سالم نوري ‪ ،‬الجاحظ بين الدّعاية السّياسيّة للسّلطة ومعتقده االعتزالي (دراسة‬ ‫•‬
‫تعرض فيه إلى مرجعيّات الجاحظ العقديّة‬ ‫نقديّة ) ‪ ،‬جامعة الموصل (مقال رقمي ّ‬
‫والسّياسيّة)‬
‫ح ّمادي ص ّمود ‪ ،‬الوعي باألجناس األدبيّة في كتاب الحيوان للجاحظ ‪ ،‬حوليات الجامعة‬ ‫•‬
‫التّونسيّة العدد ‪2001/ 45‬‬
‫د‪.‬هيثم سرحان‪ ،‬مرجعيات خطاب الحجاج في أدب الجاحظ (مقال رقمي )‬ ‫•‬
‫قصي المليّح ‪ ،‬مح ّمد الهادي حربوب ‪ ،‬نور الدّين الغيلوفي ‪،‬المنزع العقلي وحدة تكوينيّة‬ ‫•‬
‫المكونين في التّربية‬
‫ّ‬ ‫بالمركز الوطني لتكوين‬
‫كمال بوهالل‪ ،‬المنزع العقلي في األدب العربي دراسة منشورة على االنترنت استفدنا منها‬ ‫•‬
‫في القسم المتعلّق بالحجاج‬

‫‪16‬‬

You might also like