You are on page 1of 1

‫الجمعة ‪ 15‬جمادى األولى ‪1431‬هـ ‪ 30 -‬نيسان ‪ 2010‬م‬

‫‪II‬‬

‫اإلنسان‪ :‬كائن اجتماعي قادر على التفكير المتعالي واإلنتاج‬


‫الذات والموضوع‬ ‫د‪ .‬توفيق شومر*‬
‫ضمن هذه الرؤية لإلنسان‪ ،‬لنفكر معاً في عالقة‬ ‫يعتقد بعضهم أن تعريف مفهوم كاإلنسان هو‬
‫اإلنسان بالذات والموضوع‪ .‬يجب في البداية أن‬ ‫قضية سهلة‪ ،‬لكنها في الواقع واحدة من أصعب‬
‫نضع تصوراً حول كيفية الوصول إلى المعرفة‬ ‫العمليات الفكرية والفلسفية؛ ألنها باألساس هي‬
‫التي تدفعنا للسؤال الذي بين أيدينا اآلن‪ .‬نعرف‬ ‫تعريف من إنسان ما لمفهوم اإلنسان‪ ،‬وبالتالي هي‬
‫أن اإلنسان بشكله الحالي وجد على األرض منذ‬ ‫انعكاس ضروري لرؤيته عن ذاته ألنه في تعريفه‬
‫ما يقرب من مليوني عام‪ ،‬كما تثبت المستحثات‬ ‫يعرف ذاته‪.‬‬
‫والهياكل العظمية التي وجدناها هنا وهناك‪ .‬ولكننا‬ ‫ولكنه في الوقت عينه موضوع للمعرفة ألن‬
‫ال يمكننا أن نتتبع كيف كان يفكر أو يتصرف إال منذ‬ ‫التعريف المفهومي هو بالضرورة تعريف لقضية‬
‫زمن أقل من هذا بكثير ويعود إلى ما ال يزيد على‬ ‫ما‪ ،‬وفي هذه الحالة هي تعريف لإلنسان كموضوع‬
‫ثالثين ألف سنة من اليوم‪ .‬ولكننا من خالل قراءتنا‬ ‫للمعرفة‪.‬‬
‫لهذا التاريخ المعروف للبشر يمكننا االستدالل على‬ ‫المشكلة المرافقة لهذه القضية تكمن بأن‬
‫الكثير مما نحتاجه لإلجابة عن التساؤل‪.‬‬ ‫اإلنسان هو جزء من الواقع الموضوعي كونه يعيش‬
‫فاإلنسان العاقل ال��ذي نتحدث عنه اآلن كان‬ ‫على هذا الكوكب الذي يعرف باألرض‪ ،‬ويتم دراسة‬
‫يملك القدرات العقلية عينها التي نملكها اليوم‪.‬‬ ‫تركيبه البيولوجي وشكله من منطلق كونه جزءاً‬
‫فعلى الرغم من أننا ال يمكننا أن نرفض فكرة‬ ‫من هذا الواقع‪.‬‬
‫النشوء واالرتقاء إال أننا نعتقد أنه وبغض النظر عن‬ ‫دراسة التركيب البيولوجي والتركيب الجيني‬
‫االنتقال من شكل إلى آخر أو من الخلق بهذا الشكل‪،‬‬ ‫لإلنسان هو جزء من العلوم التي تعرف بأنها علوم‬
‫فإن اإلنسان الذي يحمل مواصفات اإلنسان الحالي‬ ‫بحتة‪ ،‬وهي ليست إشكالية بأي شكل من األشكال‪.‬‬
‫والذي نعرف بوجوده منذ مئات اآلالف من السنين ال‬ ‫إذن يمكن من هذه الرؤية األولية لإلنسان أن‬
‫بد أن يكون يمتلك بالقوة وبالفعل قدرات اإلنسان‬ ‫نصل إلى أنه "الذات" في ثنائية الذات والموضوع‪.‬‬
‫الحالي‪ ،‬بالرغم من عدم تحصيله للمعرفة التي‬ ‫لكنه أيضاً جزء من الواقع الذي يحيا به‪ .‬وبالتالي‬
‫يمتلكها اإلنسان اليوم‪ .‬فالعقل البشري الذي أنتج‬ ‫فإنه بهذا الوصف بالضرورة جزء من "الموضوع"‪.‬‬
‫األدوات الحجرية وصنع المحراث والعجل واكتشف‬ ‫السؤال هنا يكمن في كيفية التعامل مع هذه‬
‫النار ال يقل من حيث القدرة عن عقل اإلنسان اليوم؛‬ ‫الكينونة المستقلة التي تسمى إنسانا على أنها في‬
‫فصنع األدوات الحجرية ضمن المعرفة المتوفرة‬ ‫الوقت عينه ذات وموضوع‪.‬‬
‫حينها ال يقل أهمية عن صنع مركبات الفضاء‬
‫اليوم‪ .‬أي أن االختالف بيننا وبين اإلنسان األول‬ ‫مفهوم اإلنسان‬
‫ليس بالنوع وإنما بالدرجة‪.‬‬ ‫نجد تعريفات كثيرة لمفهوم اإلنسان منها على‬
‫لنحدد إذن مفاتيح العالقة بين الذات والموضوع‪:‬‬ ‫سبيل المثال أن اإلنسان حيوان ناطق‪ .‬ولكننا نعرف‬
‫اإلنسان يملك العقل ‪-‬المخيال لكنه يولد فارغاً من‬ ‫اليوم أن النطق ليس حكراً على اإلنسان بل هناك‬
‫أي معرفة‪ .‬يتلقى اإلنسان المعرفة في عالقته مع‬ ‫حيوانات أخرى تتميز بالنطق أيضاً‪ .‬قيل اإلنسان‬
‫الواقع المحيط ‪ -‬الموضوع من خالل قنوات تلق‬ ‫حيوان عاقل‪ .‬لكن يجب التعامل مع مفهوم العقل‬
‫أصبحت معروفة وواضحة لنا اليوم هي قنوات‬ ‫بدقة‪ .‬فهل نحن بصدد الحديث عن العقل المفكر‬
‫الحواس من لمس وبصر وسمع وتذوق وشم‪ .‬يراكم‬ ‫المنتج لمستويات عليا من التراكيب الفكرية‬
‫العقل المعرفة المتحصلة من هذه المصادر‪ ،‬لكنه‬ ‫المجردة‪ ،‬أم نتحدث عن القدرة على المعرفة؟ فإذا‬
‫يملك القدرة على أن يتعامل معها بشكل مجرد؛‬ ‫حددنا العقل في المستويات العليا من التفكير نجد‬
‫فبعد اختبارها ألول مرة يمكنه أن يعيد تخيلها‬ ‫أن التعريف حكر على اإلنسان مع أنه ليس كل إنسان‬
‫في العقل حتى ول��و لم تكن ملموسة بالفعل‬ ‫يتعامل مع هذه المستويات من التفكير التجريدي‪.‬‬
‫لديه‪ ،‬فيمكنه سماع الموسيقى بعقله ويمكنه‬ ‫أما العقل على مستوى المعرفة واإلدراك والتطبيق‬
‫مشاهدة األماكن بعقله من دون الحاجة للنظر‬ ‫فهذه مستويات قد نشترك فيها مع حيوانات مثل‬
‫وهكذا؛ فالمخيال يعطيه القدرة على التعامل مع‬ ‫الكلب الذي يعرف من صاحبه ومن عدوه‪ ،‬والذي‬
‫الملموسات بشكل مختلف‪.‬‬ ‫يدرك متى يكون صاحبه بمزاج للعب أو متى يكون‬
‫لكن العقل المفكر ال يتوقف عند حدود الملموسات‪.‬‬ ‫حزيناً‪ ،‬ويستطيع أن يطبق ما يتعلمه من معلمه‬
‫وه��ذا ه��و جمال العقل اإلن��س��ان��ي‪ ،‬ولكنه أيضاً‬ ‫بشكل بسيط أحياناً وبشكل خالق في أحيان أخرى‪.‬‬
‫المعضلة في الوقت عينه‪ .‬فالعقل ‪ -‬المخيال يتعامل‬ ‫ويعرف اإلنسان أحياناً على أنه كائن اجتماعي‪،‬‬
‫مع مؤثرات أخرى تحرك فيه إمكانية التجريد ألمور‬ ‫ولكننا لسنا الوحيدين الذين ال يمكننا العيش إال مع‬
‫قد ال تكون موجودة في الواقع أساساً‪ ،‬أو قد ال تكون‬ ‫الجماعة‪ .‬وقد يكون أكثر التعريفات تماسكا وتميزاً‬
‫ملموسة بالفعل‪ .‬وهذا يدفعنا للتفكير بمستوى‬ ‫هو تعريف ك��ارل ماركس لإلنسان كونه إنسانا‬
‫آخر من مصادر المعرفة المختلفة عن الحواس‬ ‫بورتريه لكارل يونغ بريشة الزميل احسان حلمي‬ ‫عامال ومنتجا‪ .‬أي أنه ربط تميز اإلنسان بالقدرة‬
‫والمتعدية لها وه��ي‪ :‬الشعور والمالحظة واللغة‬ ‫على العمل والقدرة على اإلنتاج‪.‬‬
‫والمنطق (البرهان والحجة)‪ ،‬وهذه المصادر تختلف‬ ‫لكنني أعتقد أن التعريف ال يمكن أن يكون بهذه‬
‫عن مصادر الحواس في أنها تتأثر بمؤثرات ملموسة‬ ‫البساطة؛ فاإلنسان كائن معقد وبالتالي ستكون‬
‫مباشرة لكنها تتعدى في تأثيرها الملموسات‪ ،‬وتنتج‬ ‫الطبيعة والطبيعة المؤنسنة‬ ‫عن طبيعته أيضاً والسؤال حول وج��وده وض��رورة‬ ‫مهمة تعريفه كمفهوم معقدة بمقدار نسبة رقيه‬
‫مركبات يمكن أن يتمكن اآلخرون من التعامل معها‬ ‫لكن اإلنسان ال يحيا في فلكه الخاص وفي فكره‬ ‫هذا الوجود وغايات هذا الوجود مركب أساسي في‬ ‫وتعقده كإنسان‪.‬‬
‫ولكنها في األغلب عصية عن أن تفهم من اآلخرين‪.‬‬ ‫الخاص بل هو جزء ال يتجزأ من هذه الطبيعة التي‬ ‫تفكيره العام‪ .‬لذلك بحث منذ البدء الحصول عن‬ ‫لهذا فأنا أعرف اإلنسان بأنه كائن اجتماعي قادر‬
‫فحب شخص للتعامل مع شخص آخر بعينه بالرغم‪،‬‬ ‫ننتمي إليها‪ .‬ولكنه ونظراً لقدرته على اإلنتاج‬ ‫أكثر منطقية عن األسئلة التي لم يتمكن في السابق‬ ‫إجابات لألسئلة التي تواجهه‪ .‬وبما أنه لم يتمكن‬ ‫على التفكير المتعالي‪ ،‬يملك قدرة على التركيب‬
‫من وضوح العالقة‪ ،‬ال يمكن تفسيره بالملموسات‬ ‫والعمل واإلبداع تمكن من تشكيل واقعه وطبيعته‬ ‫من اإلجابة عنها‪ ،‬لكنه اآلن تحول ليكون أسير الحلم‪.‬‬ ‫من الوصول إلى العديد من اإلجابات فإن ذلك تحول‬ ‫المجرد الذي قد ال يرتبط بشكل مباشر بالمؤثرات‬
‫بل ال بد أن نتعامل معه بمنطلق عاطفي شعوري ال‬ ‫بشكل يتناسب مع احتياجاته‪ .‬فعبر مئات اآلالف من‬ ‫وبالتالي مع تمكنه من اإلجابة عن األسئلة بقيت‬ ‫ليكون نقاطا مظلمة في نسيجه العقلي تتفوق في‬ ‫التي يتعامل معها من الواقع المحيط به‪ ،‬ويمتاز‬
‫يمكن رده للمنطق‪ .‬الشعور هنا يحركه مؤثر خارجي‬ ‫السنين تمكن اإلنسان من تطوير بيئته وتغييرها‬ ‫اإلجابة المخيالية ممسكة بتالبيب دماغه‪ .‬وتحولت مع‬ ‫قدرتها على مخياله‪ .‬ألن��ه في كل مرحلة يحاول‬ ‫بقدرته على العمل والوقوف بشكل قائم والتحرك‬
‫لكنه في نهاية التحليل عبارة عن تركيب عقلي‬ ‫إلى الحد التي أصبحت معه هذه الطبيعة تختلف‬ ‫الوقت لتكون مكونا أساسيا من مكونات رؤيته للعالم‪.‬‬ ‫فيها الرد على تلك التساؤالت يصطدم مرة أخرى‬ ‫على قدميه من دون الحاجة لالتكاء على يديه‪،‬‬
‫نفسي ال يمكن تبريره بشكل منطقي برهاني في‬ ‫بشكل جوهري عن الطبيعة المجردة‪ .‬فنحن اليوم ال‬ ‫وبما أنها الحل السهل فكانت المالذ لكل من ال يريد أن‬ ‫بحائط يصده عن الوصول إلى مراده‪ .‬لكنه يحاول أن‬ ‫وقادر على النطق وتكوين أدوات التخاطر المعقدة‬
‫كثير من األحيان‪.‬‬ ‫نستطيع أن نتعامل مع الطبيعة على أرضنا بشكل‬ ‫يتعب نفسه بالتفكير باإلجابات التي تحتاج إلى الكثير‬ ‫يستخدم مخياله في اقتراح حلول تريحه من الحائط‬ ‫كاللغة والموسيقى والمنطق‪ ،‬ويتميز بقدرته على‬
‫كلما كانت المعرفة المتراكمة في العقل قليلة‪،‬‬ ‫مجرد‪ .‬فهي بالضرورة محتكمة لتدخل اإلنسان‬ ‫من الجهد‪ .‬أما الحلم فقد بدأ يتجسد وحول اإلنسان‬ ‫أمامه فيحول الحائط إلى حلم متواصل يتضخم‪ .‬يبدأ‬ ‫اإلنتاج والتأثير في واقعه المحيط وتغيير هذا‬
‫كانت ال��ت��س��اؤالت التي يثيرها العقل البشري‬ ‫بها ولذلك فهي بالضرورة طبيعة مختلفة يمكن‬ ‫كل قدراته إلى وضعها األمثل وألصقها بالحلم‪ .‬فهل‬ ‫بتقديم اإلجابات المحتملة من واقع الحلم إلى الواقع‬ ‫الواقع ليكون محيطاً أفضل لمتطلباته البيولوجية‬
‫قليلة‪ ،‬لكنها تتضاعف بشكل متسارع مع زيادة‬ ‫تسميتها بالطبيعة المؤنسنة‪ :‬أي الطبيعة التي‬ ‫هذا يحول الحلم إلى واقع؟‬ ‫الحقيقي ليصبح الحلم أكثر واقعية من الواقع نفسه‪.‬‬ ‫والنفسية‪ .‬وأضيف إلى هذه العوامل قدرته على‬
‫المعرفة‪ .‬وهذا يدفعنا لالعتقاد بأن اإلنسان األول‬ ‫تمكن اإلنسان من تطويعها لتكون عوناً له‪.‬‬ ‫يتغلب عليه ويستمر بالتمسك به ألنه المخرج السهل‬ ‫الشعور والتعبير عن العاطفة‪ ،‬وقدرته على تشكيل‬
‫بدأ بمراكمة المعرفة إلى الحد الذي دفعه لتركيب‬ ‫المعرفة والمعرفة الجمعية‬ ‫لمعاناته‪ .‬لكنه مع الوقت يصل أكثر فأكثر إلى إجابات‬ ‫عاطفة معقدة ومركبة‪ :‬الحب والكراهية‪ ،‬العطف‬
‫مركبات تجريدية لم تكن مألوفة له فيما قبل‪ .‬إذا ما‬ ‫قضية أخرى مهمة هنا‪ :‬فاإلنسان الفرد قد تكون‬ ‫والشفقة‪ ،‬وغيرها من العواطف التي يمكن تركيبها‪.‬‬
‫قارنا هذا الفعل المعرفي مع بداية تحصيل المعرفة‬ ‫خصائصه الخاصة مختلفة في تصرفاته عن تصرف‬ ‫وبالتالي فهو ليس فقط كائناً عاطفياً وإنما هو‬
‫لدى األطفال ألدركنا الطريقة الممكنة التي دفعت‬ ‫المجموع البشري؛ ففي كثير من األحيان عندما‬ ‫يشكل عاطفته بأشكال مختلفة ومعقدة‪ .‬إلى هنا‬
‫للتفكير المتعالي‪ .‬فحال ما يبدأ الطفل بالتعرف‬ ‫يتم نقاش اإلنسان الفرد حول نقاط محددة فإنه‬ ‫يعتقد القارئ أن ما فعلته هو دمج كل التعريفات‬
‫على المعارف المختلفة يبدأ بسلسلة من التساؤالت‬ ‫يصل إلى نتائج قد تختلف جذرياً عن موقفه عند‬ ‫السابقة لكينونة اإلنسان بتعريف واحد متراكم‬
‫التي ال تنتهي والتي تبدأ بفكرة "لماذا؟"‪ .‬وهذا‬ ‫العقل البشري الذي أنتج األدوات‬ ‫مناقشته بوصفه ج��زءاً من المجموعة البشرية‬ ‫هناك تعريفات كثيرة لمفهوم اإلنسان‬ ‫يضم خالله التعريفات المفردة وبشكل جمعي‪ .‬قد‬
‫بالضبط ما حدث مع اإلنسان وهذا دفعه للتساؤل‬ ‫التي ينتمي إليها‪ .‬فمن الممكن على سبيل المثال‬ ‫يكون هذا صحيحاً لو أني توقفت هنا‪.‬‬
‫عن األسئلة الصعبة‪" :‬لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ وأين؟‬ ‫الحجرية وصنع المحراث والعجل‬ ‫ال الحصر أن يكون اإلنسان الفرد مقتنعاً بضرورة‬ ‫منها أن اإلنسان حيوان ناطق‪ .‬ولكننا‬ ‫ولكني أضيف إلى ذلك بأن اإلنسان كائن يتصرف‬
‫الطبيعة المحيطة هي التي تؤثر بالضرورة‬ ‫واكتشف النار ال يقل من حيث القدرة‬ ‫أن يتم التعامل مع حضارة إنسانية واحدة عابرة‬ ‫نعرف اليوم أن النطق ليس حكراً على‬ ‫بغباء في بعض األحيان ويبرر غباءه بتغليفه بغالف‬
‫بتراكم المعرفة لدى اإلنسان من خالل الحواس‪،‬‬ ‫للثقافات‪ .‬لكنه في الوقت عينه عندما يواجه قضية‬ ‫ال بحسب‬ ‫عقالني؛ فاإلنسان بالرغم من كونه عاق ً‬
‫لكن العقل ‪ -‬المخيال يتمكن من تركيب هذه‬
‫عن عقل اإلنسان اليوم؛ فصنع‬ ‫عالقته كإنسان ينتمي إلى مجموعة بشرية محددة‬
‫اإلنسان بل هناك حيوانات أخرى تتميز‬ ‫التعريف إال أنه يستخدم هذا العقل لقتل أقرانه من‬
‫المعرفة ومن دمجها مع المؤثرات األخ��رى مثل‬ ‫األدوات الحجرية ضمن المعرفة‬ ‫فإنه قد يطلب بتحرر ووحدة هذه المجموعة ويقدم‬ ‫بالنطق أيضاً‬ ‫البشر لمختلف األسباب‪ ،‬ويبرر هذا القتل بمختلف‬
‫الشعور واللغة والمالحظة والبرهان‪ ،‬فيركب منها‬ ‫خطابا بالضرورة يكون عدائيا للمجموعات البشرية‬ ‫ال مشروعاً‪ .‬وهو الكائن‬‫الحجج التي تجعل منه قت ً‬
‫منتجات عقلية‪ ،‬ومع الوقت تتراكم المركبات هذه‬
‫المتوفرة حينها ال يقل أهمية عن صنع‬ ‫األخرى التي تضطهده‪ .‬وهذا التناقض في المواقف‬ ‫الوحيد الذي ال يعتني ببيئته إلى الدرجة التي ينشر‬
‫لتصل إلى أن يكون لها حياة مستقلة عن المؤثرات‬ ‫مركبات الفضاء اليوم‬ ‫مبرر بشكل كامل‪ ،‬بل إنه في الواقع الملموس‬ ‫فيها مختلف أنواع النفايات‪ .‬واإلنسان الذي يعيش‬
‫األولى‪ .‬ونجد أن هذه الحياة المستقلة تتراكم لتنتج‬ ‫ليس تناقضاً على اإلطالق؛ فالفكر الخاص قد يكون‬ ‫على ه��ذه األرض التي يمكن اعتبارها جزيرة‬
‫أفكارا ومعتقدات تسيطر على طريقة تفكير اإلنسان‬ ‫صحيحاً بشكل نظري أو في المحصلة النهائية‪ ،‬لكن‬ ‫صغيرة ومعزولة في فضاء الكون الشاسع‪ ،‬ينفث‬
‫حتى بالمؤثرات والملموسات األساسية التي ولدت‬ ‫الواقع يفرض تفكيراً آخر يعتمد على معطيات هذا‬ ‫فيها السموم ويلوثها إلى الحد الذي سيكون من‬
‫عنده قناعاته الفكرية‪ .‬وبهذه الثنائية التبادلية‬ ‫الواقع‪.‬‬ ‫الصعب العيش فيها في المستقبل القريب ما لم‬
‫تتضح ثنائية العالقة بين الذات والموضوع‪.‬‬ ‫ترتبط هذه العالقة بين الفرد والمجموع بقضية‬ ‫يتوقف عن تصرفاته هذه‪ .‬ولكنه يتمادى في ذلك‬
‫ولكي ال أنهي المقال عند ه��ذا الحد الذاتي‬ ‫أخرى تتعلق بالعقل والمعرفة‪ .‬فعندما نتحدث عن‬ ‫إلى تبرير التلوث بحجج واهية مثل التقدم والحاجة‬
‫المسيطر ال بد لي أن أؤكد الموضوع واستقالليته عن‬ ‫المعرفة اإلنسانية فهل نحن نتحدث عن معرفة‬ ‫إلى سبل الراحة وغيرها من التبريرات التي عند‬
‫الذات العارفة‪ .‬وال بد أن أؤكد أن الواقع الموضوعي‬ ‫الفرد أم معرفة المجموع؟ بالتأكيد يتم التعامل مع‬ ‫محاكمتها بشكل عقالني دقيق‪ ،‬نكتشف أنها ما هي‬
‫المحيط هو الذي يدفع في النهاية إلثبات ضعف‬ ‫المعرفة اإلنسانية بوصفها معرفة تراكمية تجمع‬ ‫إال مبررات أصحاب المصانع لتبرير ربحهم‪ .‬فهل‬
‫أو خطأ المركبات المستقلة‪ ،‬وبالتالي نتمكن من‬ ‫في طياتها معرفة جميع األفراد‪ ،‬وهي بهذا الوصف‬ ‫بالفعل يحتاج اإلنسان إلى كل هذا التلوث لكي يحيا‬
‫محاكمتها والتعرف على خطئها ومحدوديتها‪ .‬إذن ال‬ ‫تتفوق على مجموع معرفة األفراد ألنها بالضرورة‬ ‫بشكل رغيد؟ هل بالفعل نحتاج للطائرات النفاثة‬
‫بد لنا أن نفكر ملياً بما يتملكنا من أفكار ومعتقدات‬ ‫أكثر من مجموع معرفة األف��راد‪ .‬وهنا نقول بأن‬ ‫الكثيرة لنقل المسافرين هنا وهناك؟ لماذا هذا‬
‫لنحدد أي��اً منها بالفعل يمكن تأكيده ودعمه‬ ‫هذه المعرفة هي نتاج مساهمة األفراد المفكرين‬ ‫االستعجال في العالم المعاصر؟ أليس من األجدر أن‬
‫بالبرهان والعقل والحجة لي ولآلخرين‪ ،‬وبين‬ ‫في إيجاد وتثبيت المعرفة على مر العصور‪ ،‬ولكن‬ ‫نتمكن من توزيع العمل على أكبر قدر ممكن من‬
‫األفكار والمعتقدات التي أتأثر بها ولكن ال يمكن أن‬ ‫ليس هناك إمكانية موضوعية ألي فرد محدد أن‬ ‫البشر حول العالم ليتمكن الجميع من نيل بعض‬
‫نقدم البرهان الواضح عليها‪.‬‬ ‫يتمكن من أن يتحصل على المعرفة كلها‪ .‬بل في‬ ‫ال من أن يتركز العمل بين جزء منهم بينما‬‫الراحة بد ً‬
‫قدرات الذات كبيرة جداً تصل إلى حد تضخيم الحلم‬ ‫الحقيقة أن اإلنسان الفرد ال يعرف إال اليسير من‬ ‫الماليين ال يجدون قوت يومهم؟‬
‫وتضخيم المجردات والخياالت لتعمي الواقع وتضلل‬ ‫هذه المعرفة‪.‬‬ ‫إذن فاإلنسان هو كائن معقد يملك عقال يمكنه من‬
‫العقل‪ ،‬لكن القدرة على التفكير السليم وعلى البرهان‬ ‫وبالتالي فالمعرفة الجمعية للبشرية تحمل في‬ ‫تكوين مجموعة من األفكار والصور‪ ،‬يمكن تصنيفها‬
‫والحجة والمالحظة السليمة تمكن العقل من الفصل‬ ‫طياتها الكثير مما ال يعرفه األفراد‪ ،‬ويجعل من هذه‬ ‫على أنها نتاج لمخيال‪ :‬تعبير مخيال لوصف العقل‬
‫بين الواقع وتبعاته وبين الخياالت والحلم وغيرها من‬ ‫ال في بحر‬‫الحقيقة أن اإلنسان الفرد سيبقى جاه ً‬ ‫يحدد الكثير من مهام اإلنسان‪ .‬فهو الذي يصنع أفكاره‬
‫المركبات األخرى‪ ،‬وبالتالي سيتمكن العقل من فرض‬ ‫العلم مهما تمكن من تحصيل المعرفة‪ .‬فهل هذا‬ ‫ومنتجاته قبل أن يتمكن من أن يحولها إلى جزء من‬
‫نفسه بعالقته بالواقع الموضوعي المحيط ليمسح‬ ‫يعطي التبرير الكافي بالقول بأنه "ذو العقل يشقى‬ ‫الواقع‪ .‬اإلنتاجية شيء أساسي في تحديد ماهية‬
‫الخيال وليبقى درب الحقيقة ناصعاً يوصلنا نحو تراكم‬ ‫في النعيم بعقله وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم "؟‬ ‫اإلنسان فاإلنسان منتج بطبيعته‪ .‬وهو ال يستطيع‬
‫معرفي جديد وأمل في مستقبل أفضل‪.‬‬ ‫بالتأكيد ال‪ .‬فالمطلوب اليوم أكثر من أي وقت سابق‬ ‫أن يعيش بال إنتاج‪ .‬واإلنسان يتأثر بمشاعر عاطفية‬
‫* رئيس قسم العلوم اإلنسانية – جامعة‬ ‫أن يتمكن اإلنسان من توظيف المعرفة الفردية‬ ‫متنوعة‪ ،‬مهما حاول أن يسيطر عليها فإنه ال يتمكن‬
‫فيالدلفيا‬ ‫بشكل جمعي ومن دون ذلك سينعم الجميع بالجهل‪.‬‬ ‫من محوها من التأثير في حياته وكينونته‪ .‬التساؤل‬

You might also like