Professional Documents
Culture Documents
مقدمة :
الصحافة االستقصائية مهمتها الكشف عن األمور التي يتم إخفاؤها إما عن
عمد من قبل شخص في موقع سلطة ،أو عن طريق الخطأ ،خلف كتلة فوضوية
من الحقائق والظروف وتحليل وكشف جميع الحقائق ذات الصلة للجمهور ،وبهذه
الطريقة تساهم الصحافة االستقصائية بشكل حاسم في حرية التعبير وتطوير وسائل
اإلعالم.
يستمر النقاش حول مساءلة وسائل اإلعالم والمعايير المهنية واألخالقية
التي تزود الصحفيين بمبادئ توجيهية ومواد تدريبية حول أفضل طريقة لممارسة
مهنتهم ،وبالتعاون مع منظمة إعالميون من أجل الصحافة االستقصائية العربية تم
إطالق أول دليل للصحفيين االستقصائيين في الدول العربية بعنوان استقصاء قائم
على القصة.
1
أو سنوات في البحث عن موضوع واحد ،وعلى عكس التقارير التقليدية حيث
يعتمد المراسلون على المواد التي توفرها الحكومة والمنظمات غير الحكومية
والوكاالت األخرى.
تعتمد التقارير االستقصائية على المواد التي تم جمعها من خالل مبادرة
المراسل الخاص ،وتهدف هذه الممارسة إلى فضح األمور العامة التي يتم إخفاؤها
بطريقة أخرى.
2
عربية) و(الكتاب المرجعي في الصحافة االستقصائية) ،لكن يظل العمل
قائما على مرتكزات أو متطلبات أساسية هي الحقائق والمعلومات
االستقصائي ً
الخفية ،وأصالة البحث في القصة ،والقواعد العلمية والمهنية لالستقصاء ،والرقابة
على المؤسسات العامة ،وفي عمقها تبرز المعرفة الحفرية/العميقة في معالجة
القصة ،إذ تشكل هذه المحددات والمرتكزات Tخصوصية العمل الصحفي
االستقصائي التي تختلف عن الممارسة الصحفية التقليدية.
الصحافة االستقصائية تتجاوز القصص اإلخبارية في ذاتها ،إذ تتفاعل
الصحافة التقليدية مع األحداث وصناع األجندة اإلخبارية ،كما وتعتمد بصور ٍة
كليا على مواد ومعلومات وفَّرها آخرون (أجهزة حكومية ومؤسسات
وأحيانا ًّ
ً عامة
عامة وخاصة…) ،ويستكمل البحث بشأنها بسرعة ،وقد تقوم القصة على الحد
األدنى الضروري من المعلومات ،ويمكن لتصريحات المصادر أن تحل محل
التوثيق ،كما تعتمد على جمع ردود فعل حيالها ،في حين أن المعلومات التي
يكشفها العمل االستقصائي ال يمكن نشرها إال إذا تم التأكد من ترابطها واكتمالها،
بحيث يستمر البحث حتى يتم التثبت من القصة ،وقد يستمر بعد نشرها ،كما
يتطلب التحقيق توثيقًا لدعم تصريحات المصادر أو إنكارها.
كما وتهدف الصحافة التقليدية إلى خلق صورة موضوعية للعالم كما هو،
وال تأمل في الوصول إلى نتائج أبعد من مجرد إخبار الجمهور باألحداث والوقائع،
بينما يستخدم العمل االستقصائي بطرق موضوعية مواد ومعلومات حقيقية تتحول
إلى حقائق تستهدف كشف وضع معين أو تعريته وعرض اتجاه التغيير ،هذا
ويساعد التفريق بين الصحافة االستقصائية والتقليدية في تحديد أهمية النموذج
اهتماما
ً االستقصائي لوسائل اإلعالم ،خاصة التلفزيونية ،والتي أخذت تولي
ظا لهذا النموذج ،كما نالحظ في الخرائط البرامجية للقنوات العالمية مثل
ملحو ً
3
– )CNN – BBCالجزيرة) ،وذلك في سياق الرؤية ،والسعي للبحث عن الحقيقة
وعرض مختلف اآلراء وفتح أبواب النقاش أمام المشاهد.
وهنا تبرز مسوغات وأبعاد مختلفة تظهر أهمية الصحافة االستقصائية
أساسا بخصوصية النموذج المعرفي الذي تؤسس له
ً لوسائل اإلعالم ،والتي ترتبط
قواعد العمل الصحفي االستقصائي ،والذي يمكن تسميته بالمعرفة الحفرية للواقع،
الناتجة عن البحث في وقائع األحداث والتنقيب في النصوص والقصاصات
اإلخبارية والوثائق الرسمية والتاريخية ،والوثائق المهملة ،ما يجعل العمل
االستقصائي يلبي حق المواطن في المعرفة وإ دراك خلفيات ما يجري عبر
استجالء الحقيقة ،والكشف عن المستور أو المسكوت عنه ،وهو ما ال توفره أو
تتيحه التغطية الصحفية التقليدية ،السيما في اإلعالم الرسمي العربي الذي ال يزال
خادما للسلطة.
ً إعالما
ً
وسما أو عالمة أو بصمة
وهكذا يصبح النموذج الصحفي االستقصائي ً
إعالمية تميز هذه الوسيلة اإلعالمية وتمد في عمرها المهني ،وتكسبها بصمتها
وفاعليتها في المجتمع ،بل وتقربها من المواطن وقضاياه ،وذلك بإخضاعها
السلطات الثالث ،التنفيذية والتشريعية والقضائية ،للتشريح والمراقبة ،وكشف
الفساد وتعرية الفاسدين ،مما يحقق لها القوة والكسب المعنوي والصدقية العالية،
كما أن الزخم اإلعالمي والسياسي الذي يخلقه هذا النموذج من خالل الملفات التي
يتناولها بالتحقيق والتحري يكسب الوسيلة اإلعالمية سمعة مهنية تزيد من شعبيتها،
أيضا في الواجهة اإلعالمية والسياسية،
وإ قبال الجمهور عليها ،وهو ما يضعها ً
سواء وقت النشر أو بعده.
ً فضاًل عن مدخالت اإلعالنات التي تجنيها تلك الوسيلة
مثيرا
هذا ويبدو تعاظم اهتمام القنوات اإلخبارية بالصحافة االستقصائية ً
النتباه كثير من الباحثين ،إذ تزايدت المساحة الزمنية لهذا النموذج في القنوات
اإلخبارية مقابل تراجع حضوره في الصحافة المكتوبة ،وذلك بسبب األزمة التي
4
تعيشها الصحافة الورقية في ظل تراجع قارئيها وتحول العادات االتصالية
للجمهور باتجاه اإلعالم الجديد وشبكات التواصل االجتماعي ،إضافة إلى ارتفاع
الكلفة المالية إلنجاز التحقيقات الصحفية واألعمال االستقصائية ،كما ساهمت عدة
عوامل في اهتمام القنوات اإلخبارية بالصحافة االستقصائية ،أهمها تطور
التكنولوجيا ،والتي سهلت تطور الصحافة االستقصائية ،خاصةً التصوير الرقمي
ودقة معداته التي باتت تتيح التصوير حتى بالكاميرا الخفية ،وسرعة تجميع
متوفرا في بداية الستينيات
ً المعلومات واللقاء بمصادرها ،وهو األمر الذي لم يكن
من القرن الماضي.
كما أن شدة التنافس بين القنوات اإلخبارية ،جعل الصحافة االستقصائية
تسهم في تنويع المنتج الصحفي وتحريره من سلطة التشابه والتماثل نتيجة تداول
األخبار عينها من المصادر ذاتها أو المتشابهة ،وهذا أدى بدوره إلى تنويع المادة
الصحفية وإ خراجها من قوالب التعبير السردية المهيمنة مثل الخبر والتقرير
متوفرا عبر منصات كثيرة ،وال يشكل
ً اإلخباري ،السيما أن الخبر العادي أصبح
توافره عند قناة أو أخرى فوراق تذكر بينها ،إذ بقليل من البحث يمكن تمييز الخبر
الصادق من الكاذب ،بل يمكن حتى إضافة المعلومات الجديدة للقصة الخبرية من
قبل المتلقي نفسه من خالل التجوال عبر عدة مصادر خبرية ،ولكن ما يصنع
الفرق في الصحافة االستقصائية هو كشف الفساد المستور أو جريمة حدثت في
الخفاء باألدلة الدامغة ،خاصةً حين تكون جهات نافذة متورطة في مثل هذه
القضايا.
ًّ
أساسيا في اهتمام وسائل هذا َّ
وشكل التنافس بين القنوات التليفزيونية عاماًل
اإلعالم بالعمل االستقصائي بوصفه الممارسة الصحفية التي تميز بين المؤسسة
اإلعالمية الناقلة لألخبار (القناة العادية) ،والمؤسسة التي تبحث في أسباب األحداث
وتداعياتها ،إذ إن أبرز المؤسسات اإلعالمية في العالم اليوم تعمل على إنجاز
5
تحقيقات استقصائية للفضائح والتجاوزات التي تسبب فيها الساسة ورجال المال
واألعمال بحرفية وعمق كافيين ،مما يحقق لها الشهرة والموثوقية العالمية.
أيضا بين القنوات اإلخبارية واإلعالم الجديد الذي
كما أن هناك تنافس ً
يسعى إلى تقديم إعالم بديل يقف فوق أرضية األخبار ،فالصحافة االستقصائية في
هذه الحالة هي الحجة الدامغة لدحض الفكرة التي ترى أن االستغناء عن القنوات
ممكنا ،وأن المواطن الذي يملك كاميرا في هاتفه ال يمكن أن يكون
ً اإلخبارية ليس
ًّ
صحفيا محققًا ،أي ينجز تحقيقات صحفية بكل ما تقتضيه متطلباتها المهنية
وأخالقياتها ،فأمام كثرة المعلومات وتدفقها ،والتي تتطلب من المواطن/المشاهد
متابعتها ،تضاءلت قدرته على فهمها في ظل ضغط الوقت والسرعة ،غير أن
الصحافة االستقصائية تسعى إلى تلبية هذه المهمة.
هذا وأسهمت وسائل اإلعالم المتنوعة في تجريد الصحافة االستقصائية من
طابعها النخبوي ونزعتها الثقافية والفكرية الموجهة إلى الصفوة التي تملك خلفية
معرفية في السياسة واالقتصاد والمال والعلم ،وبذلك تقدم الحقائق بشكل بسيط
أثر قوي في تحديد
وسهل ومكثف ،وبتقنيات مرئية تغري بالمتابعة ،مما كان له ٌ
وتوجيه سلوكات األفراد باتجاه المشاركة والتفاعل مع هذه األحداث وتطوراتها
تطورا في الحس النقدي للجمهور ،إذ بدل أن يكون الجمهور سلبي ،وهو ما ِّ
يشكل
ً
ًّ
صحفيا مشار ًكا في رصد وتقييم ما يحيط به من أحداث أصبح المشاهد اليوم
ومستجدات ،ما يجعل القنوات اإلخبارية تحرص على مواكبة الوعي والثقافة
العالية للمشاهد عبر العمل االستقصائي.
وتكمن مهام الصحافة االستقصائية في اآلتي :
تكمن أهميتها في الكشف عن كافة الحقائق والمعلومات ،التي تسعى جهات -1
معينة في المجتمع بإخفائها عن الرأي العام.
6
تقوم الصحافة االستقصائية بالكشف عن الحقائق والبيانات عن القضايا، -2
التي تكون مرتبطة بشكالً أو بآخر بنظام المجتمع .ويقوم بإثارة االنتباه إلى
مواطن الخلل في نظام المجتمع أو الفشل المتحقق في النظام العام.
تقوم الصحافة االستقصائية بأصالة البحث في القصص ،التي تلعب دور في -3
تقديم المبادرات الفردية والجهد الذي يقوم به المحرر .ويكون هذا الجهد
متسم بالذاتية الفردية في إنجاز مسارات العمل االستقصائي.
تلعب الصحافة االستقصائية أهمية في وسائل اإلعالم ،من خالل ما تقدمه -4
من قواعر علمية ومهنية في البحث ،التحري والتحقق من كافة المعلومات،
مع أهمية التركيز على اختبار الفرضيات المقدمة.
تقوم بعملية المعالجة العميقة لكافة المعلومات؛ وذلك من خالل التركيز على -5
المنهاج المختلفة سواء كانت تاريخية ،اجتماعية ،نفسية ،أو حتى ثقافية.
تقوم بعملية الرقابة على كافة المؤسسات العامة ،مع أهمية التركيز على -6
مراقبة أيضاً أداء المسؤولين في كافة دوائر السلطة والشخصيات العامة.
تقوم بفرض المساءلة النقدية وضرورة تحديد المسؤولية عن كافة -7
السلوكيات الخاطئة وغير السليمة ،التي تكون في خدمة للمصلحة العامة.
تقوم بنشر كافة المعلومات التي تساهم في تحفيز الرأي العام ،كما دفع -8
السلطة للقيام بعمليات اإلصالح والتغيير.
7
دفع القنوات اإلخبارية في
شدة التنافس بين القنوات اإلخبارية :وهو ما َ -2
اختيار والتنويع في إخراج المضامين الصحفية ،مستخدماً مختلف القوالب
السردية واألكثر استعماالً؛ كالخبر والتقرير اإلخباري والذي يختلف شكله
من قناة ألخرى.
التنافس بين القنوات اإلخبارية واإلعالم الجديد :والذي يسعى في مقدمته -3
تقديم إعالم بديل يقف ما وراء األخبار ،فالمواطن الذي يمتلك هاتفاً حديثاً
ال يمكن أن يكون صحفياً محققاً؛ بحيث ال يستطيع كتابة تحقيقات صحفية
ذات مهنية وأخالقية.
كثرة المعلومات المتضمنة وتدفقها :حيث تتطلب الصحافة االستقصائية من -4
المتلقي متابعة كافة المعلومات المتدفقة عن المضامين المتوافرة ،باإلضافة
إلى قدرتهم على فهمها في ظل ظروف الوقت والسرعة.
قيام القنوات التلفزيونية بالتخلص من الطابع النخبوي في الصحافة -5
االستقصائية :متجهة بذلك إلى فئات الصفوة من الجمهور المتلقي والذي
يمتلك خلفيات معرفية كافية ،سواء كانت في السياسة ،االقتصاد ،المال أو
حتى العلم .ويتم تقديم المعلومات والحقائق بشكل مبسط ،سهل ومكثف
مستخدماً كافة التقنيات المرئية الحديثة والتي تستحوذ متابعة الجمهور
تجاهها.
8
االستقصائية"،
ّ سمى ب"الصحافة
ولكن حقيقةً ،هناك نوع آخر من الصحافة ُي ّ
حيث يتمثّل مفهوم "االستقصاء"
التقليدية"ُ ،
ّ وهو ُمختلف في مفهومه عن "الصحافة
عملية،
عقلية وإ جراءات ّ
عمليات ّتتبع األثر ،وهو عبارة عن مزيج من ّلوحده في ُّ
االستقصائية"ُ ،يصبح
ّ ويتكون مفهوم "الصحافة
ّ وعندما يتم دمجه مع "الصحافة"
علمية في البحث ،للوصول إلى الحقائق
منهجية ،تتناول طريقة ّ
ّ المعنى هو أساليب
المستترة ،وكشف األسرار.
ُ
االستقصائية" و"الصحافة
ّ بالمقارنة بين النوعين" ،الصحافة
وعندما نقوم ُ
فاألول،
تميز الواحد منهما عن اآلخرّ ،
أن هناك فروقات واضحة ّ
التقليدية" ،نجد ّ
ّ
فصلة من خالل سرد البيانات والمعلومات ،ووجهات
القضية بطريقة ُم ّ
ّ يتناول
القضية المطروحة ،بينما
ّ المختلفة ،وذلك بهدف إيجاد حل أو قرار في
النظر ُ
عين ،تتم بشكل سطحي
التقليدية" ،هي عبارة عن تحقيقات في موضوع ُم ّ
ّ "الصحافة
بناء على منظور اجتماعي أو ديني ،بخالف
دون الخوض في تفاصيل الموضوعً T،
االستقصائية" ،التي تسعى إلى كشف الحقيقة والفساد والدعوة إلى
ّ "الصحافة
المساءلة.
ُ
عمليات البحث ،والمصادر ،ففي
أن ُهناك فروقًا أخرى ،من جانب ّ
كما ّ
االستقصائية" ،ال يتم نشر المعلومات إال عند التأ ّكد من اكتمالها
ّ "الصحافة
حيث تقوم
أن البحث ُمستمر حتى بعد نشر المعلوماتُ ،
وترابطها ،إضافةً إلى ّ
الممكن أن
مما يعني ّأنها من ُ
حصلةّ ،الم ّ
الحد األقصى من المعلومات ُالقصة على ّ
ّ
االستقصائية" ،توثيقًا لدعم تصريحات
ّ تكون طويلة ًّ
جدا ،كما تتطلّب "الصحافة
المصادر أو إنكارها.
بالنسبة لل"الصحافة التقليديةّ" ،فهي تجمع المعلومات وتنشرها على
أما ّّ
القصة يتم
ّ ًّ
شهريأ ،وعندما تكتمل ًّ
أسبوعيا أو حددةًّ ،
يوميا أو زمنية ُم ّ
فترات ّ
أن القصة تقوم على الحد األدنى
نشرها ،دون االستمرار في البحث بعد ذلك ،كما ّ
9
أما تصريحات الممكن أن تكون قصيرة ًّ
جداّ ، الضروري من المعلومات ،التي من ُ
فيمكن أن تحل محل التوثيق.
المصادر ُ
أن ُهناك اختالفات من جانب العالقات بالمصادر ،ف"الصحافة
كما ّ
زيفة،
إلحتمالية وجود معلومات ُم ّ
ّ االستقصائية" ،ال ُيمكن افتراض الثقة بالمصدر،
ّ
ويتحدى الصحفي بصراحة القصة التي يرويها،
ّ الرسمية،
ّ وتقوم بإخفاء المعلومات
يتصرف به أي مصدر ُمنفرد
ّ مما
والتصرف بها أكثر ّ
ّ كما يقوم بجمع المعلومات
من مصادره.
التقليدية" ،تثق في المصدر دون التحقّق
ّ ومن جهة أخرى ،نجد أن "الصحافة
الرسمية ،والصحافي خاضع لقبول الرواية
ّ منه ،كما أنها تقوم بتقديم المصادر
تتصرف بها ُمعظم مصادره.
ّ مما
يتصرف بمعلومات أقل ّ
ّ وأيضا
ً الرسمية للقصة،
ّ
أن "الصحافة
حيث ّ
للمقارنة بينهما هو من جانب "النتائج"ُ ،
والوجه األخير ُ
االستقصائية" ،يرفض الصحفي قبول العالم كما هو ،من أجل تحقيق الهدف وهو
ّ
أن القصة
ومدقّقًا في حقائق القصة ،كما ّ
للقضية ،ويسعى أن يكون عاداًل ُ
ّ إيجاد حل
يتعرض
يجب أن تُبنى بشكل درامي ،لوقع التأثير ،وفي حال حصول األخطاءّ ،
رسمية.
ّ رسمية أو غير
ّ الصحفي لجزاءات
التأمل في
يتقبل الصحفي العالم كما هو ،دون ُّ
التقليدية"ّ ،
ّ أما في "الصحافة
ّ
ًّ
موضوعيا قدر اإلمكان، الوصول إلى نتائج أبعد ،ويسعى الصحفي إلى أن يكون
همة ،وقد يرتكب الصحفي األخطاء لكن ال يتم
الدرامية ليست ُم ّ
ّ أن البنية
كما ّ
العناية بها.
10
لصياغة فرضية حول إجابته ومعناه االجتماعي ،ويقوم بعد ذلك بإجراء المزيد من
أحيانا أشبه
ً األبحاث ،واتباع المسارات الورقية ،وإ جراء المقابالت التي قد تبدو
باالستجوابات ،وجمع مجموعة من األدلة ويكون بعضها مفصل للغاية أو تقني.
يطبق الصحفيون معايير معترف بها تتعلق بتلك المستخدمة في المحاكم،
صالحا وما إذا كان ذلك بمثابة دليل قاطع،
ً وفيما يتعلق بما يمكن اعتباره دليالً
ونظرا لوجود قوانين التشهير مثل التجديف ،يجب أال يختلف معيار التحقيق
ً
والتحقق من صحة الصحفي عن تلك الخاصة بالمحقق الذي يجمع قضية االدعاء.
في بعض األحيان ما يجب طرحه حقًا هو هل من الجيد أن يتصرف
الصحفيون االستقصائيون مثل المحققين ،بما في ذلك العمل السري واستخدام
تقنيات مثل الميكروفونات والكاميرات المخفية ،ويستخدم الصحفيون االستقصائيون
بما في ذلك بعض من أفضلهم هذه األساليب ،لكن من الجدير بالذكر أن نطاق
عمل المحقق السري ،و حقوق المواطنين الذين تحقق الشرطة معهم ،تخضع عادة
لإلطار القانوني ،ويعتمد الصحفيون على أخالقياتهم وال ُيستثنون من قوانين
الخصوصية ،لذلك من أجل ضمان الصحافة األخالقية وتجنب المالحقة القضائية،
يحتاج الصحفيون االستقصائيون إلى النظر بعناية في كل موقف قبل أن يتصرفوا
بهذه الطريقة.
تضيف الكاميرات والمسجالت المخفية فقط إلى مخزن األدلة الخام وال
تحل محل التحليل والتحقق ووضع سياق لهذا الدليل وإ نشاء قصة ذات مغزى،.
ويتوفر قدر هائل من األدلة في مستندات يمكن الوصول إليها للجمهور ،إذا كنت
تعرف ببساطة مكان البحث وكيفية تجميعها.
في حين أن الصحفيين االستقصائيين والمحققين متشابهون في نواح كثيرة،
أيضا بعمل مختلف ،وفي بعض األحيان ال يكون الغرض من
إال أنهم يقومون ً
التحقيقات الصحفية هو إثبات الذنب ولكن مجرد الشهادة ،ويتوقف المحققون عندما
11
يتمكنون من إثبات من ارتكب الجريمة ،وتذهب التقارير االستقصائية إلى أبعد من
مجرد العثور على إجابة ،وإ نه يجمع الحقائق الصحيحة ويصلح الحقائق ،ويكشف
معنى القصة ويظهر نمطا في األحداث أو األفعال أو األدلة ،وبالتالي تشرح
القصص االستقصائية سياق القضية ودقتها ،بدالً من مجرد توجيه أصابع االتهام
إلى المتهم.
بالتأكيد ال تسعى التقارير االستقصائية إلى إنتاج رواية متوازنة بشكل
مصطنع لجانبين من القصة ،بدالً من ذلك تهتم هذه الممارسة أكثر بالتأكد من
القصة التي سيتم تقديمها ،ويجب أال يكون هناك مواربة حول قد نكون مخطئين أو
قد نكون مخطئين في التفسير ،إذا كانت هذه الشكوك ال تزال قائمة فإن التحقيق لم
يتعمق بالقدر الكافي والقصة ليست جاهزة للنشر ،وال يوجد جانبان فقط للقصة،
والتوازن في قصة استقصائية يأتي من شرح هذه الجوانب العديدة ونقل ليس فقط
ما يحدث ،ولكن يترك المحقق تفسير الظروف المخففة لمحامي الدفاع.
12
تشترك الصحافة االستقصائية مع البحث العلمي في وضع الفرضيات،
واختبارها ،والعمل على إثباتها .فأفضل التحقيقات االستقصائية استندت إلى
فرضية ،باعتبارها أفضل وسيلة للتوصل إلى :ماذا حدث؟ وكيف حدث؟ ولماذا
حدث؟
مقترح ُي ِّ
شخص مشكلة تُعرف الفرضية في الصحافة االستقصائية على أنها َ
أو قضية مطروحة للتقصي والبحث والتوثيق؛ بهدف الوصول إلى حقيقة ما جرى،
ٍ
بشكل عبر خلق عالقات بين الحقائق ،حتى لو لم تكن مؤكدة بشكل تام ،وتجيب
مؤقت على الروابط بين الفعل (الحدث) ،والفاعل (المتسبب) ،والمفعول به
(الضحية) ،وحجم المشكلة وتأثيرها ،م ِّ
شكلة بذلك أركان الفرضية. ُ
في الصحافة االستقصائية الدليل ،ألن الشك 84يجب أال يرقى إليه الشك.
يفس ر لصالح تناقض الفرضية كان التحقيق االستقصائي يقدم احتماالت
وإ ذا َّ 85
وعجز ُ الصحفي عن إقامة الدليل
ْ ينضج ْ بعد
وليس أدلة ،فإن التحقيق لمَ ُ 86.
يقو ض أسس
الذي يثبت الفعل (الحدث) وصلة الفاعل الفرضية ويهدمها َ ،بهِّ ،
فاألصل والطبيعي أن الفعل (الحدث) لم يقع ،وأن الفاعل لم يقم به ،وأن نقض ذلك
يتطلب أدلة صحيحة وصالحة لإلثبات ،يجلبها الصحفي المتقصي .التحقيق
االستقصائي يبدأ بفرضية ،وهي تبدو بصورة الشك في البداية بأن هذا الفعل قد
وقع ،وأن الفاعل قد قام به ،ويعمل الصحفي االستقصائي الجيد على تحويل الشك
ف ِ
ش ل َ بعد استنفاد كل الطرائق واألساليب والظن واالحتمال إلى يقين ،فإن ْ َ
تحقيق ا
ً دون الوصول إلى اليقين يكون قد أنتج مادة صحفية إعالمية ،لكنها ليست
استقصائيا إال بالقناعة ،وال قناعة إال باليقين ،وال ،وال
ّ استقصائيا .فال تحقيق
ً
يزول الشك 87يقين إال بزوال الشك إال بالدليل الصحيح الصالح لإلثبات .إن
الشك يتعلق بالوقائع ،هل الوقائع صحيحة؟ ما هي األدلة التي تعزز صحتها؟ هل
الوقائع منطقية؟ هل هناك أدلة تناقض الوقائع؟ ما هي هذه األدلة؟ هل هي ورقية
13
ومستندات رسمية؟ هل هي شهادة منفردة أو شهادات مترابطة ومتسلسلة ومنطقية؟
وهناك شك ثان منطقي الدراسة بعد يأتي ومعقول ،والتمحيص ،ووزن األدلة
سند ا ودقة ،وسالمة من العيوب .الصحفي الجيد يبحث عن
وترجيح ّأيها أقوى ً
األدلة المتناقضة للفرضية ،فهي الطريقة األسلم لتجنب الوقوع في التخمين ،ألن
األدلة المتناقضة ربما 88والشك تحسم أن الفعل (الحدث) لم يقع كما ورد في
الفرضية ،وأن الفاعل لم تتوفر لديه النية الرتكاب الخطأ ،وأن الخطأ نتج عن
إرادة أخرى .لذا يجب أن ُينصف الفاعل ،ويبحث الصحفي عن العدالة والدقة
واإلنصاف ،فربما تُظهر األدلة والبراهين أن الخطأ لم ينتج عن نية وإ صرار مثل
التواطؤ ،بل نتج عن إهمال وتقصير ،وهما أمران مختلفان -من حيث الحقيقة-
رغم أن النتيجة كانت واحدة.
14
ويتفق الباحثون في مجال فنيات تحرير االستقصاء المكتوب على وجود
ثالثة قوالب رئيسية شائعة في صياغة التحرير في الصحافة المكتوبة ،هي على
التوالي:
(أ) قالب العرض الموضوعي:
يعرض فيه المحرر الصحفي القضية أو المشكلة التي يتناولها التحقيق
بشكل موضوعي من خالل مقدمة تعمل على إثارة اهتمام القارئ بالموضوع،
ويقوم على عرض الزوايا الرئيسية في الموضوع ثم التدرج في عرض باقي
الزوايا وفقًا ألهمية كل منها ،وتعد تغطية صحيفة “واشنطن بوست” لفضيحة
بارزا على هذا القالب الفني.
نموذجا ً
ً “واترجيت”
(ب) قالب الوصف التفصيلي:
يقدم فيه المحرر الصحفي في مستهل التحرير إما وصفًا للحدث بصورة
عامة وسريعة أو وصفًا لجزء بارز منه ويترك الوصف التفصيلي للجسم ،وتأتي
خاتمة التحقيق للربط بين تفاصيل الحدث ،وهو القالب الذي طبقته التحقيقات
الصحفية األمريكية في فضيحة “وايت وتر” ( )White waterالمتعلقة بتوجيه
اتهامات إلى كل من بيل كلينتون وزوجته هيالري بالتورط بقضايا خاصة بالفساد
والرشوة أثناء مشاركة كل منهما في أحد مشروعات التطوير العقاري في منطقة
“وايت وتر” بالواليات المتحدة األمريكية([.)]24
(ج) قالب السرد القصصي:
يلجأ المحقق في كثير من األحيان إلى كتابة التحقيق الصحفي على هيئة
تماما القصة األدبية من حيث أسلوب السرد الصحفي وال تختلف إال في
قصة تشبه ً
كونها تقوم على وقائع حقيقية وليست أحداث من نسج خيال الكاتب.
وتستند كل رحلة استقصائية مبنية على سرد غني إلى أربعة أركان قوامها
حروف ( )Cالمعروفة ،وهي:
15
-1الشخصيات ( :)Caractersحيث يقدم المحقق وصفًا عنها ،الدخول بتفاصيل
تظهر حاالتها والبحث عن شيء بارز فيها.
-2السياق ( :)Contextويتضمن الوصف والتحديد الدقيق لإلطار الزماني
والمكاني لحيثيات القصة.
-3الصراع ( :)Conflictوهو الجزء المشوق في القصة ،فإن لم يكن هناك
صراع فال وجود لمعنى القصة ،بل إن هذه المرحلة المرتبطة بالذروة وتصاعد
األحداث هي التي تعطي قوة وأهمية للقصة الصحفية ،فهي عنصر المفاجأة الذي
يشد انتباه القارئ ،وهي الحبكة التي تستبطن تبعات القصة وباقي تفاصيلها المهمة.
-4الخاتمة ( :)Conclusionوهي اإلطار الذي يتم فيه تلخيص النتائج وإ ظهار
مخرجات المساءلة التي تضمنها السرد الصحفي.
وجدير بالذكر أن مثل هذا القالب قد وظف بشكل واسع في تغطية
غالبا ما يتم دفنها في
االنحرافات التي تورطت فيها الحكومة األمريكية والتي ً
الصفحات الداخلية ،في حين تظهر القصص المثيرة للمشاعر واألحاسيس في
الصفحات األولى.
ومهما تكن طبيعة القالب الفني المعتمد ال بد على الصحفي االستقصائي
جيدا ،واختيار األدلة ،وربط األجزاء واستنتاج الصالت
فحص المالحظات ً
واختبار الجانب األخالقي عندما ال يشعر بالراحة تجاه تلك الحقائق.
فهذه المعايير المهنية واألخالقية هي وحدها الحاسم في الحكم على
موضوعية واحترافية أي تغطية استقصائية سواء كانت في الصحافة المكتوبة ،أو
في اإلعالم السمعي البصري أو اإللكتروني ،كما سنبرزه في الجزء الثاني من هذه
الدراسة ،إن شاء اهلل.
16
أخالقيات الصحافة االستقصائية وقوانينها :
ال ُب ّد من التأكيد على أنه يوجد مجموعة من األخالقيات والمعايير ،حيث
يتم استعمالها داخل المحتويات الصحفية بكافة أشكالها ،وعليه فلقد أكد العديد من
الباحثين والدارسين في مجاالت اإلعالمية ،على َّ
أن األخالقيات التي يتم استعمالها
في الصحافة االستقصائية جزءاً إلى يتجزأ عن مفهوم األخالقيات الصحفية بشكل
عام.
كما تشتمل أخالقيات الصحافة على التصرفات والسلوكيات والتي ال ُب ّد من
استعمالها داخل إعداد وإ نتاج التقارير االستقصائية أو التحقيقات الصحفية ،بحيث
تكون المؤسسة اإلعالمية هي المسؤول األساسي واألول في عملية اإلشراف على
األحكام الدستورية والقانونية واألخالقية ،والتي يتم استعمالها من أجل النشر
الصحفي.
كما ال ُب ّد من التركيز على األخالقيات الصحفية االستقصائية تساهم في
توفير الطرق واألدلة الصحفية الضرورية؛ وذلك من أجل الوصول إلى نتائج
إيجابية و مناقشات صحفية تتم ما بين المسؤولين عن األخالقيات الصحفية،
باإلضافة إلى ذلك فإن العديد من المؤسسات اإلعالمية تلجأ إلى إنشاء الدستور
صحفي خاص بها؛ وذلك من أجل إصدار األحكام بناء على االتهامات أو
تصرفات الخاطئة التي يقوم بها الصحفيين االستقصائيين.
كما تسعى األخالقيات المستخدمة في الصحافة االستقصائية إلى تحقيق
األهداف المعنية في الحقيقة الصحفية ،باإلضافة إلى الوصول إلى الصعوبات التي
قد يواجهها الصحفي االستقصائي في الوصول إلى المعلومات الصحفية
االستقصائية؛ وذلك من أجل ومواجهتها والتغلب عليها.
كما تؤكد األخالقيات الصحفية االستقصائية على َّأنها ال تقتصر فقط على
أساليب الوصول إلى المعلومات اإلعالمية ،وإ َّنما القضايا األخالقية المعنية في
17
الفساد ،باإلضافة إلى الممارسات التي تتم بين الصحفيين وذلك في حصولهم على
الرشاوي ،أو دفعهم لمجموعة من األموال مقابل الوصول إلى المصادر
اإلخبارية المتنوعة.
لذا َّ
فإنه الضروري Tالتأكيد على ضرورة وجود مجموعة من
األيديولوجيات ،باإلضافة إلى السياسات التحريرية والتي بدورها تساهم في توفير
الفرص؛ وذلك من أجل انتشار الصحف الحزبية االستقصائية ،وهو ما يساهم في
ضرورة وجود طاقم وكادر إعالمي صحفي استقصائي يساهم في الوصول إلى
الوقائع اإلعالمية المعنية بالمجتمع اإلعالمي المحلي.
مع أهمية التركيز على ضرورة إنشاء وإ عداد مجموعة من الحمالت
اإلعالمية ،والتي تساهم في الحفاظ على النظام السياسي ومصلحته ،وذلك على
اعتبار أن الحمالت اإلعالمية تلعب دور كبير في التأثير على األخالقيات الصحفية
االستقصائية ،مع أهمية أن تكون مرتبط بشكل كبير في القضايا اإلعالمية
االستقصائية.
18
وركز المنتدى على محاور عدة منها تأثير المجتمع على الصحافة
االستقصائية وعالقة هذا الفن الصحفي بالديمقراطية ومعوقاتها ومشاكلها.
كما تطرق المنتدى إلى محور بعنوان “الصحافة االستقصائية بين عيوب
اإلعداد المهني للصحفيين وغياب ثقافة االستقصاء في المؤسسات اإلعالمية” ،إلى
جانب عرض تجارب وشهادات حول الصحافة االستقصائية.
وقالت الدكتورة فاطمة السويدي العميد المساعد للتواصل وعالقات المجتمع
بكلية اآلداب والعلوم إن موضوع المنتدى يكتسب أهمية خاصة في عصر
الفضائيات ومواقع التواصل االجتماعي “التي أصبح المواطن أمامها عاجزا عن
فهم القضايا المحيطة به ال من قلة المعلومات بل من كثرتها وتضاربها حتى
أصبح عاجزا عن فك رموز رسائلها اإلعالمية التي يتلقاها وبكثافة عالية”.
وأضافت أن المنتدى يناقش قضية تعد من أهم قضايا الساعة وهي الصحافة
االستقصائية ومدى التميز في الممارسة اإلعالمية واالرتقاء بمستواها العلمي
والقيمي والمهني الذي أصبح حاجة ملحة لخدمة القضايا الوطنية واإلنمائية
للمجتمع.
وأشارت في كلمتها االفتتاحية للمنتدى إلى أن أهمية اإلعالم تكمن في
قدرته على التأثير الصحيح في الرأي العام ،مؤكدة على ضرورة إعداد الكوادر
اإلعالمية المتميزة التي ترتقي بالرسالة اإلعالمية وتوظفها التوظيف الصحيح.
الصحافة االستقصائية التي تعرف بأنها صحافة العمق لعبت دورا في
ثورات الربيع العربي تمثل في تسريع عجلة التغيير.
بدوره قال الدكتور نور الدين ميالدي رئيس قسم اإلعالم بجامعة قطر إن
موضوع الصحافة االستقصائية من الموضوعات Tالساخنة في العالم أجمع ،مبينا أن
المنتدى يأتي في إطار إثارة الحوار حول هذا الموضوع وبيان مدى حضوره في
العالم العربي واإلسالمي.
19
ورأى أن الصحافة االستقصائية التي تحظى باهتمام كبير في العالم المتقدم
متواضعة جدا في العالم العربي إن لم تكن منعدمة ،مرجعا ذلك إلى عوامل عدة
منها قلة اإلمكانات المادية في أغلب المؤسسات اإلعالمية العربية وضعف
الخبرات وعامل الوقت والزمن.
كما بين الدكتور ميالدي أن الصحافة االستقصائية التي تعرف بأنها
صحافة العمق لعبت دورا في ثورات الربيع العربي تمثل في تسريع عجلة
التغيير ،مشيرا في السياق ذاته إلى دورها المتميز في محطات تاريخية مهمة في
العالم الغربي.
بدوره قال خالد السيد رئيس تحرير جريدة “البنن سوال” إن الصحافة
االستقصائية لم تأخذ مساحتها الحقيقية في العالم العربي رغم المحاوالت للنهوض
بها ،مشيرا إلى أن صعوبة الوصول Tإلى المعلومة تعد من أهم العوائق التي حالت
دون تطور هذا الفن الصحفي.
وركز السيد في حديثه على تأثير المجتمع على الصحافة االستقصائية
وخاصة في منطقة الخليج محددا أهم العوامل المجتمعية المؤثرة في غياب هذا
اللون الصحفي مثل العادات والتقاليد والقبيلة والعائلة والوازع الديني “أي الفهم
المغلوط لبعض النصوص الدينية” ،إلى جانب العوامل االقتصادية والخلل في
التركيبة السكانية وإ سناد مهمة الرقابة على الفساد للحكومة فقط دون إشراك
منظمات المجتمع المدني.
وأكد خالد السيد أنه خالل مسيرته الصحفية لم يجد أي تحفظ من الحكومة
حول نشر بعض الموضوعات لكنه أشار إلى التحفظ المجتمعي ..وقال “مجتمعاتنا
محافظة وهناك موضوعات ال يستطيع أحد التطرق إليها”.
جهود من أجل تطوير فن الصحافة االستقصائية في العالم العربي ليؤدي
دوره الرقابي وتعزيز الشفافية
20
إلى ذلك قال اإلعالمي حفيظ دراجي “من قناة الجزيرة” خالل حديثه عن
عالقة الصحافة االستقصائية بالديمقراطية إن هذا الفن الصحفي يكاد يكون منعدما
في العالم العربي “وإ ن وجد في بعض األحيان فأسبابه ظرفية”.
وأضاف أن هناك شروطا موضوعية الزدهار الصحافة االستقصائية أهمها
المناخ السياسي وما يتصل به من ديمقراطية حقيقية وحريات فضال عن القوانين
والتشريعات لضمان الحقوق ،واإلعالمي المؤهل والجرأة والدقة وغيرها من
العوامل.
بدوره أرجع الدكتور عبدالمطلب صديق من “صحيفة الشرق القطرية” إلى
أن هناك معوقات مختلفة تحول دون تطور فن الصحافة االستقصائية في العالم
العربي ومنها عوائق تشريعية وسياسية ومهنية والتغير المتسارع في أنماط القراءة
ووسائل التواصل االجتماعي وغياب القوانين الداعمة لحق الحصول على المعلومة
وضعف مفاهيم الثقافة المحاسبية.
وتطرق الدكتور كمال حميدو من قسم اإلعالم بجامعة قطر إلى محور
“الصحافة االستقصائية بين عيوب اإلعداد المهني للصحفيين وغياب ثقافة
االستقصاء في المؤسسات اإلعالمية”.
ودعا المتحدثون المؤسسات األكاديمية واإلعالمية والمدنية إلى بذل جهود
من أجل تطوير فن الصحافة االستقصائية في العالم العربي ليؤدي دوره الرقابي
وتعزيز الشفافية ومواجهة الفساد وإ حداث التغيير المنشود بما يخدم المصلحة العام.
مشكالت الصحافة االستقصائية في الوطن العربي:
تُعبِّر "الصحافة االستقصائية" عن نوع مختلف من التحقيقات الصحفية ،حيث تتسم
عنى بتتبع األثر ،والبحث فيما وراء المعلومة وليس نقلها فقط ،ومن ثم
بالعمق ،وتُ َ
استخالص نتائج مدققة ،يفترض أن تتسم بالحياد وعدم تأثرها بتوجهات وقناعات
ثم تأتي أهمية وحساسية هذا النوع من التحقيقات
الصحفي االستقصائي ،ومن َّ
21
االستقصائية التي تولت مهمة كشف الفساد والتجاوزات في القطاعين الحكومي
والخاص منذ أن عرفتها األوساط الصحفية العالمية.
ًّ
عالميا ،فإن ظهوره في منطقة وعلى الرغم من ِق َدم مفهوم الصحافة االستقصائية
نظرا لغياب هذا المفهوم عن التقاليد الصحفية المتعارف
الشرق األوسط ُيعد حديثًاً ،
عليها في المنطقة ،فيما يرجع ظهور أول تحقيق صحفي استقصائي في المنطقة
إلى حقبة الخمسينيات من القرن الماضي ،غير أن خفوتًا قد اعترى هذا النمط من
الصحافة نتيجة العديد من التحديات التي حالت دون استمراره بنفس القوة على
الساحة الصحفية في دول المنطقة ،إلى أن أتاحت مساحات الحرية الممنوحة
لوسائل اإلعالم بشكل عام الفرصة لعودة الصحافة االستقصائية مرة أخرى.
تأثيرات مباشرة:
ُيمكن القول إن التحوالت السياسية التي شهدتها العديد من الدول العربية منذ عام
،2011قد أتاحت الفرصة لعودة نمط التحقيق االستقصائي ،وهو ما ينعكس بشكل
كبير من خالل حرص العديد من المؤسسات على إطالق برامج ووحدات للتدريب
على التحقيقات االستقصائية في دول عدة مثل تونس واليمن والعراق وسوريا
واألراضي الفلسطينية.
ففي هذا السياق ،أطلق صحفيون سوريون بالتعاون مع مجموعة من األكاديميين
وخبراء اإلعالم "وحدة التحقيقات االستقصائية السورية" ( )Sirajفي نوفمبر
.2016كما تأسست كل من "الجمعية التونسية للصحافة االستقصائية" و"شبكة
المحققين االستقصائيين في فلسطين" في العام ذاته ،وتم إطالق "رابطة اإلعالميين
االستقصائيين اليمنيين" عام ،2012و"شبكة الصحافة االستقصائية العراقية" (
)NIRIJعام .2011
نوعا ما في هذا
وقبل ذلك ،اتخذت كل من األردن والمغرب خطوات مبكرة ً
اإلطار ،حيث تم تدشين شبكة "إعالميون من أجل صحافة استقصائية عربية" (
22
)ARIJفي األردن عام ،2005والتي تعد أول شبكة في المنطقة العربية معنية
بصحافة االستقصاء ،بينما أطلقت "الجمعية المغربية من أجل صحافة االستقصاء" (
)AMJIفي المغرب عام .2009
وقد واكب هذا االهتمام الحديث بالصحافة االستقصائية في دول المنطقة ،تطويع
لهذا النمط من الصحافة من قبل وسائل اإلعالم العربية ليتناسب مع البيئة
اإلعالمية السائدة فيها ،مع االحتفاظ بمالمح الوظيفة األساسية للصحافة
االستقصائية المعنية بكشف الفساد ،فظلت القضايا المطروحة على أجندة الصحافة
االستقصائية في المنطقة العربية منصبة على الملفات المتعلقة بتجاوزات القطاع
الخاص ،ورجال األعمال النافذين ،والقضايا البيئية ،وحقوق العمال في مواجهة
رأس المال ،وغيرها من الملفات المشابهة .
مهما شهدته الصحافة االستقصائية في دول المنطقة ،وهو اتجاهها
غير أن تحوال ًّ
بقوة نحو االهتمام بقضايا اإلرهاب والحركات المتطرفة ،حتى إن هذا النمط من
كبيرا ذا صدى في مناطق الصراع
طا ًالتحقيقات االستقصائية قد شهد نشا ً
بالمنطقة ،على الرغم من خطورتها ،وعدم القدرة على توفير الحماية الالزمة
للصحفيين القائمين على هذه التحقيقات.
إذ تعود بداية هذا االتجاه إلى حقبة الحرب على اإلرهاب في أفغانستان ثم الحرب
على العراق التي شهدت تحقيقات استقصائية عدة اتسمت باألهمية ،لعل من بينها
مرورا بالعديد من التحقيقات التي تناولت
ً تحقيق "تجاوزات سجن أبو غريب"،
ممارسات تنظيم "داعش" في مناطق سيطرته على بعض المدن العراقية ،كان
صالحا للعيش "الذي
ً مكانا
أبرزها "المسيحيون بعد الموصل :الشرق األوسط لم يعد ً
نشرته صحيفة "الحياة" في 22أغسطس ،2014والذي تناول قضية النزوح
المبكر لمسيحيي العراق من مدينة الموصل عقب دخول تنظيم "داعش" ،وسيطرته
عليها.
23
أيضا في سوريا منذ قيام الثورة
كما كان للصحافة االستقصائية حضور قوي ً
وحتى اآلن ،حيث نشط صحفيون استقصائيون أجانب وسوريون في الكشف عن
تجاوزات النظام بحق المتظاهرين ،ثم متابعة العمليات العسكرية بعد تعقد الوضع
في سوريا ،ودخول العديد من األطراف إلى ساحة الصراع ،كما استطاعت
الصحافة االستقصائية الكشف عن حصار بلدة مضايا.
وإ لى جانب ذلك ،تم توظيف "الصحافة االستقصائية" بشكل كبير في وسائل اإلعالم
ًّ
عالميا من نشاط للتحقيقات االستقصائية المرئية في المنطقة .فعلى عكس ما ساد
طا لهذا النمط من التحقيقات شهدته وال تزال
في وسائل اإلعالم المقروءة ،فإن نشا ً
وسائل اإلعالم المرئية في الدول العربية منذ سنوات ،ربما كان في طليعتها
برنامج "سري للغاية" على قناة "الجزيرة" ،وكذلك برنامج "صناعة الموت" على
قناة العربية ،وبرنامج "المحققون" على قناة "مدى 1تي في" المغربية.
وفي إطار اهتمام وسائل اإلعالم المرئية بالتحقيقات االستقصائية ،عملت أكثر من
شبكة تلفزيونية على إنشاء وحدات استقصائية لتعزيز مصداقية ما تعرضه من
تقارير حول أكثر القضايا أهمية ،حيث أسست قناة "الجزيرة" "وحدة التحقيقات
االستقصائية" عام ،2012وكذلك قامت قناة "أون تي في" المصرية بإنشاء أول
وحدة للصحافة االستقصائية التلفزيونية بمصر خالل العام نفسه ،وذلك بالتعاون مع
شبكة الصحفيين الدوليين "."IJNet
تحديات متعددة:
تُواجه الصحافة االستقصائية والتحقيقات االستقصائية التلفزيونية في دول المنطقة
العديد من التحديات التي تحد من انتشار هذا النمط من التحقيقات ،على الرغم من
األهمية المفترضة لها ،وتتمثل أهم هذه التحديات في:
-1عدم توافر الحماية الالزمة للفريق المتقصي :وهى مشكلة هيكلية يعاني منها
الصحفيون حول العالم ،وتنصرف بالضرورة إلى الصحفيين االستقصائيين ،حيث
24
ال توفر أغلب المؤسسات اإلعالمية الحماية الواجبة للصحفيين في المناطق
الخطرة ،من خالل التنسيق مع الجهات المعنية في هذه المناطق ،وهو أمر يزداد
صعوبة في إطار التحقيقات االستقصائية التي تتطلب في أحيان كثيرة التكتم
والسرية ،ال سيما إذا ما كانت تختص بقضية فساد سياسي أو اقتصادي ،وهو ما
عرض الصحفي في كثير من األحيان للعقاب المباشر إذا ما انكشف أمره من قبل
ُي ِّ
صى عنهم .
المستَ ْق َ
أصحاب المصالح ُ
-2قلة اإلمكانيات المادية للعديد من وسائل اإلعالم ال سيما الصحفية :فبخالف
غيرها من أنماط التغطية الصحفية ،تحتاج التحقيقات االستقصائية لموارد مالية
لتغطية تكاليف سفر مفترضة لفريق العمل االستقصائي ،ال سيما وأن التحقيق
االستقصائي يستغرق بطبيعته وقتًا أطول للحصول على المعلومات ،والخروج
بتقرير نهائي لما تم رصده منها .وكذلك استعداد المؤسسات اإلعالمية للدخول في
صراعات وربما مالحقات قضائية من قبل أصحاب المصالح ،في الوقت الذي
تعاني فيه العديد من المؤسسات الصحفية من أزمات مالية ،تتسبب في عجزها عن
الوفاء بمستحقات العاملين فيها.
-3غياب قوانين تكفل الحق في الوصول للمعلومات :حيث ال يزال العمل
اإلعالمي بشكل عام في العديد من دول المنطقة يعاني من غياب أطر قانونية تتيح
وتسمح بالحصول على المعلومات ومن ثم تداولها ،وهو األمر الذي يزيد من
صعوبة العمل االستقصائي القائم على حقائق ومعلومات وليس اجتهادات شخصية،
وبالتالي يقع الصحفي المستقصي في ورطة كيفية الحصول على المعلومات بطرقه
الخاصة من خالل عالقاته الشخصية وغيرها من الطرق بهدف تقليص مساحة
عرض العمل االستقصائي لمواجهة
الخطأ الناتج عن نقص المعلومات ،األمر الذي ُي ِّ
مشكلة عدم المهنية إذا لم يلتزم المستقصي بإبراز حقيقة عدم قدرته على الحصول
على معلومة ما.
25
وفي النهاية يمكن القول إن مستقبل الصحافة االستقصائية ،على أهميتها ونجاح
مرهونا بوجود تمويل مالي ودعم
ً توظيفها في وسائل إعالم دول المنطقة ،يظل
قانوني لمثل هذا النمط من التحقيقات ،حتى يتسنى له ممارسة دور محوري في
كشف الحقائق والتجاوزات دون الوقوع في فخ االستسهال وعدم المهنية.
26