Professional Documents
Culture Documents
مدينة الله
مدينة الله
األول من كتابات القدّ يس أغوسطينوس
الكتاب ّ
توطئة
عن مدينة هللا المجيدة ،في رحلتها ال ّدنيويّة حيث تسير وسط األثمة و"بإيمانها تحيا"* ،أو في
ثبات مستقرّها األبديّ الّذي "بالصّبر تنتظره"* "إلى أن يعود القضاء إلى الع%%دل"* ،فتنال%%ه بف%%ائق
برّها في نصر نهائيّ وسالم تا ّم ،اعتزمت ال ّدفاع كما وعدتك يا بنيّ مركلّين%%وس العزي%%ز في ه%%ذا
الكتاب الّذي بدأت #تأليفه ض ّد من يؤثرون على مؤسّسها آلهتهم؛ وهو عمل عظيم وعسير ولكنّ
"هللا معتصم %لنا"* .إذ أعلم إلى أيّة قوى جبّارة أحتاج ألثبت للمتكبّرين عظم%%ة فض%%يلة ال ّتواض%%ع،
الزمان الرّفعة الحقيقيّة الّتي لم الّذي به تسمو فوق %ك ّل المعالي ال ّدنيويّة المتقلّبة الخاضعة لحركيّة ّ
ومؤس%س تل%%ك المدين%%ة الّ%تي ّ يختلسها الكبْر البشريّ ب%ل منحته%%ا ال ّنعم%ة اإلله ّي%%ة .فق%%د كش%%ف مل%ك
اعتزمن%%ا الح%%ديث عنه%%ا لش%%عبه في الكت%%اب المقّ %دس حكم ال ّن%%اموس اإللهيّ " :هللا يق%%اوم المتك ّب%%رين
ويعطي ال ّنعمة للمتواضعين"* %.هذا الفضل الّذي هو هلل ،تريد ال ّنفس المنتفخة كبرا انتحال%%ه وتحبّ
أن ُتحمد به ويقال إ ّنها "تعفي الخاضعين و ُترضخ المتكبّرين"* .لذا يجب أالّ نغفل مدين%%ة األرض
الس%يطرة، الش%عوب ،تحت س%يطرة حبّ ّ بالس%يطرة ،تق%ع هي نفس%ها ،وإن أخض%عت ّ الّتي لهوسهاّ %
وأن نقول ما يقتضي موضوع %هذا الكتاب الّذي شرعنا #وتسمح به قدرتنا.
ّ
1-1في أعداء اسم المسيح الذين أعفاهم البرابرة عند نهب المدينة مراعاة السم المسيح
من هذه المدينة فعال يأتي الخصوم الّذين يجب ال ّدفاع عن مدينة هللا ض ّدهم .ومع أنّ كث%%يرين
الص%الح ،إالّ أنّ
منهم ،بعد إصالح خطإ الكفر ،يص%%يرون فيه%%ا مواط%%نين على درج%%ة كب%%يرة من ّ
كثيرين يتميّزون %حقدا عليها ،ويجحدون %أنعم فاديها الجليّة ،ح ّتى أ ّنهم ما ك%%انوا ليحرّك%%وا %ألس%%نتهم%
الس%المة الّ%%تي بذمّها ل%%و لم يج%%دوا عن%%د ف%%رارهم %من س%%يوف األع%%داء في حرم%%ة بقاعه%%ا المق ّدس%%ة ّ
يتباهون اآلن بهاَ .أولم يُعف البرابرة أولئك الرّوم%%ان ش%%انئي اس%%م المس%%يح مراع%اة الس%%م المس%%يح
شهداء ومشاهد %الرّسل* %الّتي آوت ذويها واألغراب الالّج%%ئين إليه%%ا تحديدا؟ تشهد بذلك مزارات ال ّ
بال تمييز أثناء نكبة المدينة* .إلى أعتابها كان الع%%دوّ ينش%%ر الّ %دمار بوحش%يّة ،وهن%%ا وج%%دت حميّ%ا
ال ّتقتيل ح ّدها ،إلى هنا كان يقود أعداء انقلبوا رحماء من أعفوهم كذلك خ%%ارج تل%%ك األم%%اكن كيال
يقعوا في قبضة آخرين ال يتحلّون بنفس الرّ حمة .كان نفس أولئك الّ%%ذين يعيث%%ون فتك%%ا على ع%%ادة
الحرب خارجها يأتونها %فيحرّمون فيها على أنفسهم ما يحلّه قانون الحرب كابحين وحش%يّة القت%ال
وكابتين رغبة األسر .هكذا نجا كثيرون يذمّون اآلن عصر المسيحيّة وينسبون للمسيح م%%ا ع%%انت
وأولى %بهم ،ل%%و ك%%انوا المدينة من ويالت ،لك ّنهم ال ينسبون الفضل في بقائهم لمسيحنا بل لقدرهمْ ،
يعقلون ،أن ينسبوا المحن القاسية والممضّة الّتي عانوا من األعداء إلى ال ّتدبير اإللهيّ ال%%ذي دأب
ّ
بالثن%%اء بتل%%ك والحريّة ّ
َ على إصالح وعقاب مفاسد البشر بالحروب ،وعجم حياة األبرار %الصّالحة
أخ %ر .ك%%ان أح%%رى بهم مقام أرقى وأبقى أو يستبقيها على هذه األرض لمهمّات َ المحن لينقلها إلى ٍ
أن ينسبوا %للعصور المسيحيّة إعف%%اء براب%%رة سّ %فاحين لهم خالف%%ا ألع%%راف الح%%رب مراع%%اة الس%%م
المسيح في ش ّتى األماكن أو في مآو آمنة فسيحة مكرّسة السم المسيح اختيرت إلي%%واء حش%%ود %من
الالّجئين لمعاملتهم برحم%%ة متناهي%%ة ،ومن ث ّم يحم%%دوا هللا ويه ّب%%وا %ص%%ادقي الع%%زم فينض%%ووا ليق%%وا
أنفسهم عذاب ال ّنار األبديّة تحت اسمه -ذاك االسم الّذي انتحله كث%%يرون منهم زورا ليق%%وا أنفس%%هم
1
عذاب البليّة الحاضرة .فما كان كثيرون ممّن نراهم اليوم يسبّون بس%%فاهة وص%%فاقة خّ %دام المس%%يح
لينجوا من ذلك الهالك والرّدى %المحتوم %لو لم ينتحلوا %صفة خ ّدام المسيح .والي%%وم ه%%ا هم في ك ْب%%ر
الظلم%ات األبديّ%ة عقاب%ا، كنود وسُعر كفور يص ّدون عن اس%مه زائغ%%ة أفئ%دتهم عن اله%%دى لين%%الوا ّ
نيوي ّ
الزائل. بعدما فزعوا إليه قوال بأفواههم ورياء لينعموا بال ّنور ال ّد ّ%
ّ
1-2في أنّ ال ّناس لم يخوضوا الحروب قط ليعفي الغالبون المغلوبين مراعاة آللهتهم
أخبار الحروب العديدة الّتي اندلعت قبل تأسيس رومية أو بعد نشأتها وبسط %نفوذه%%ا مدوّ ن%%ة،
فليقرؤوها %وليُظهروا %أيّة مدينة غزاه%%ا أع%%داء أج%%انب ،ف%%أعفى الغ%%زاة* من وق%%ع في قبض%%تهم من
األهالي الالّجئين إلى معابد آلهتهم ،أو قائدا بربر ّيا %أوع%%ز ب%%أالّ يُمسّ أح%%د بع%%د اقتح%%ام %المدين%%ة إن
يلطخ الموق%%د الّ%%ذي أش%%عل وُ جد في هذا المعبد أو ذاك .ألم ير أيناس برياموس %في الهيكل "ودم%%ه ّ
الس%امق وأوديس%يوس" %بع%%دما ذبح%%ا ح%%رس الحص%%ن ّ ّ بيده ناره المق ّدسة"*؟ أولم يمس%%ك ديومي%%دس%
ّ
ال ّتمثال المق ّدس ،ولم يتو ّرعا عن وضع أيديهما الملطخة بال ّدماء على ش%%رائط اإلله%%ة الع%%ذراء"*؟
لكن غير صحيح ما يلي" :منذ تلك اللّحظة انهارت واض%%محلّت آم%%ال اليون%%ان"* ،فالحق%%ا غلب%%وا،
الحقا محقوا طروادة بالحديد %وال ّنار ،الحقا ضربوا عن%%ق بري%%اموس %بع%%دما لج%%أ إلى المعب%%د ،وم%%ا
أحرس %ها ُت%%رى؟ ذاكَ هلكت طروادة إذن لفقدان مينرفة .فماذا %فقدت مينرفة لتهل%%ك هي األخ%%رى؟
لعمري صحيح إذ أمكن بعد قتلهم أخذها من معبدها :فما كان صنمها يحفظ البشر بل كان البش%%ر
يحفظون الصّنم .كيف كانت ُتعب%%د إذن لتح%%رس ال%%وطن والمواط%%نين وهي لم تس%%تطع %أن تح%%رس
ح ّتى حرسها؟%
الرومان في ظ ّنهم بأنّ آلهة المدينة الّتي لم تستطع حماية طروادة ستنفعهم تهور ّ 1-3مدى ّ
لمثل هذه اآللهة وكل الرّومان فرحين حماية مدينتهم! %فأيّ خطإ يثير الرّ ثاء! ث ّم هم يستشنعون%
أن نقول عن آلهتهم هذه الحقائق ،وال يستشنعون أقوال ك ّتابهم الّذين بالعكس ي%%دفعون أج%%را لتعلّم
حكومي وتشريفات رس%ميّة .فعن%د فرجيلي%%وس% ّ% ما كتبوا ،ويعتبرون معلّميهم جديرين أيضا براتب
الغض%ة المتش%بّعة به%%ذاّ الّ%%ذي يق%%رأه ص%%بيانهم -ب%%ال ّتحقيق كيال يمح%%و ال ّنس%%يان ذك%%راه من نفوس%%هم
"الزجاج%%ة الجدي%%دة شاعر العظيم األشهر واألفض%ل %من كّ %ل اآلخ%%رين ،وف%ق %بيت هوراتي%%وسّ %: ال ّ
الطرواديّين تحرّ ض ضّ %%دهم تحفظ العطر المسكوب فيها طويال"* -نرى يونون في غضبها على ّ
أيليوس ملك الرّياح قائلة" :أمّة عدوّ ة لي تمخر سفينتها البح%%ر الترّي%%نيّ حامل%%ة معه%%ا إلى إيطالي%%ة
إليوم وآلهتها الهزيمة"* .أفلتلك اآلله%%ة الهزيم%%ة ك%%ان يح%%رو بعقالء أن يكل%%وا رومي%%ة كيال ت%%ذوق
طعم الهزيمة؟
ّ
لكن قد يقال إنّ يونون كانت تتكلم كامرأة غضبى ال تعي م%%ا تق%%ول ،أفال يق%%ول أين%%اس نفس%%ه
شاعر مرارا بال ّتقيّ " :بنثوس اُألثريسيّ نفسه ،كاهن الحص%%ن وفويب%%وس %،يحم%%ل في الّذي ينعته ال ّ
الص%غير ويج%%ري في هل%%ع نح%%و ب%%اب المعب%%د"*؟ أال يده المق ّدسات واآللهة الهزيمة ويجّ %ر حفي%%ده ّ
يخبرنا أنّ تلك اآللهة الّتي ال يتر ّدد في نعتها بالهزيم%%ة في عهدت%%ه ال العكس ،ل ّم%%ا يق%%ول مخاطب%%ا
نفسه" :لك تكِل طروادة مق ّدساتها وآلهته%%ا"*؟ إذن إن ك%%ان فرجيلي%%وس ي%دعو تل%ك األص%نام آله%%ة
وهزيمة ويخبرنا أ ّنها وُ كلت لبشر لتنجو بنحو ما بصفتها مغلوب%%ة ،ف%%أيّ خب%%ل تص%%وّ ر أنّ رومي%%ة
وُ كلت بحكمة إلى مثل أولئك الوكالء ،وأ ّنها ال يمكن أن تدمَّر ما لم تفقدهم؟ ب%%ل ه%%ل إجالل آله%%ة
مغلوبة كنصراء وحماة سوى االعتماد على صكوك س%يّئة ال آله%%ة ج ّي%%دة*؟ فب%%دال من تص%%وّ ر %أنّ
رومية ما كانت ل ُتمنى بهذا ال ّدمار لو لم تهلك قبُ %ل تل%%ك اآلله%%ة ،كم أحك ُم االعتق%%اد ب%%األحرى %ب%%أنّ
تلك اآللهة كانت ستهلك حتما منذ أمد لو لم تحفظه%%ا رومي%%ة ق%%در إمكانه%%ا! من ال ي%%رى إذن عن%%د
االعتبار مدى سخف ظ ّنها أ ّنها لن ُتغلب وهي في عهدة حماة مغلوبين ،وأ ّنها هلكت أل ّنه%%ا فق%%دت
آلهتها الحارسة ،بينما يكفي سببا لهالكها إرادتها ا ّتخاذ أشياء آيلة إلى الهالك حماة؟ إذن فقد ك%%ان
شعراء وهم يكتبون عن اآللهة الهزيمة تلك األبي%%ات ،ال ش%%عراء يس%%تهويهم زخ%%رف الك%%ذب ب%%ل ال ّ
أناسا صادقين تف%%رض عليهم الحقيق%ة االع%%تراف به%%ا .لكن س%%يت ّم البحث في ه%%ذه المس%%ائل بعناي%%ة
2
وإسهاب في موضع %آخر أنسب ،أمّا اآلن فسأنهي %بعجل قدر المستطاع ما كنت أع%%تزم قول%%ه عن
أولئك الجاحدين الّذين في كفرهم يعزون للمسيح م%%ا يقاس%%ون من ويالت ج%%زاء وفاق%%ا على فس%%اد%
%نزلون ح ّتى لمالحظت%%ه، شدائد بفض%%ل المس%%يح ،فال يتّ % أخالقهم .أمّا أ ّنهم ُنجّوا رغم ذلك من تلك ال ّ
وال ينف ّكون في غيّهم المسعور ،يسلقون اسمه بألسنتهم الّ%%تي انتحل%%وا به%%ا نفس ذل%%ك االس%%م لحف%%ظ
حياتهم وك ّفوها خوفا في تلك البق%%اع المكرّس%%ة ل%%ه ،لحف%%ظ س%%المتهم وكيال ين%%الهم هن%%اك من الع%%دا
مكروه ،ح ّتى إذا خرجوا منها قذفوه بال ّ
شتائم العدائيّة.
الرس::ل حمت من يحم أحدا من اليون:ان وكن:ائس ّ 1-4 1-4معبد يونون في طروادة لم ْ
البرابرة كل ّ من لجؤوا إليها
شعب الرّومانيّ ،لم تستطع كما قلت بمعابد آلهتها حماية أهاليها من ن%%ار طروادة نفسها ،أ ّم ال ّ
وأوديس%يوس الّ %رهيب كان%%ا يحتفظ%%ان، ّ وحديد اليونان وهم يعبدون نفس اآلله%%ة .ب%%ل إنّ "ف%%ونكس
حارسيْن مختارين ،بالغنائم في معبد يونون .هن%%اك ُك ّدس%%ت كن%%وز %ط%%روادة المنهوب%%ة من المعاب%%د
المحترقة وهياكل اآللهة ،وأق%%داح ال%ّ %ذهب المص%%مت والمالبس المس%%لوبة .وحوله%%ا يق%%ف األطف%%ال
واألمّهات الجازعات طابورا %طويال *".هكذا اختير المكان المخصّص لتلك اإلله%%ة العظيم%%ة كم%%ا
نرى ال لمنع اقتياد %األسرى منه بل لالستمتاع* بحشد األسرى داخله .واآلن قارن حرم أيّ واحد
من جمع األرباب أو من رعاع اآللهة ،بل أخت وعقيلة يوبتر %نفسه وملكة اآللهة كلّه%%ا بم%%زارات
رسلنا .هن%%اك ك%%ان الغ%%زاة يحمل%%ون األس%%الب المنتزع%%ة من اآلله%%ة والمعاب%د %المحترق%%ة ال لر ّده%%ا
للمغلوبين بل لقسمتها بين الغالبين ،أمّا هنا فح ّتى ما عُثر عليه في مكان آخ%%ر وه%%و خ%%اصّ به%%ذه
المشاهد المق ّدسة يُر ّد إليها بإجالل وتوقير مل%%ؤه ال ّتق%وى .هن%اك ُتفق%د وهن%%ا ُتحف%%ظ الح ّر ّي%%ة ،هن%اك
يُحبس األسرى وهنا يُمنع اإلسار ،هناك يحشر المواطنين أعدا ٌء غالظ السترقاقهم %وهن%%ا يقت%%ادهم
المتحض%رين
ّ أعداء رؤفاء %لتحريرهم ،أخيرا بينما اختار هناك معب َد يون%%ون جش%%ع وك ْب%%ر اليون%%ان
اختار هن%%ا تل%%ك الكن%%ائس المقام%ة للمس%%يح حلم وتواض%ع %ال%%برابرة الّ%%ذين م%%ا زال%%وا على همجيّتهم
البدائيّة .قد يقال إنّ اليونان في غمار انتصارهم ع ّفوا عن معابد اآللهة الّتي هم أيضا من عب%%دتها
الط%رواديّين البائس%ين الالّج%ئين إليه%ا ،إ ّنم%ا اختل%ق تل%ك القص%ص ولم يجترئوا على قتل أو أس%ر ّ
شعراء؛ كالّ بل لم يزد عن تصوير أس%%اليب األع%%داء العاد ّي%%ة عن%%د ت%%دمير فرجيليوس %على عادة ال ّ
المدن.
شائعة تدمير المدن 1-5رأي كاتون في عادة األعداء ال ّ
وهي أساليب لم يفت كاتون أيضا ،حسب ما ذكر سالّستيوس المؤرّ خ المشهور %بحبّه للحقيقة،
والص%بيان ،ان%%تزاع
ّ الص%بايا
شيوخ حول المت%%آمرين :خط%%ف ّ ال ّتذكير بها في خطبته أمام مجلس ال ّ
األطف%%ال من أحض%%ان آب%%ائهم ،معامل%%ة أمّه%%ات الع%%ائالت كم%%ا يطيب للمنتص%%رين ،نهب المعاب%%د
والبيوت ،قتل األهالي وإحراق المباني ،أخ%%يرا نش%%ر األس%%لحة وجثث القتلى والّ %دماء واله%%ول في
ك ّل مكان .لو لم يذكر المعابد لج%%ال ببالن%ا أنّ من ع%ادة األع%داء إعف%اء معاب%د اآلله%%ة .ب%%ل لم تكن
المعاب%%د الرّومان ّي%%ة تخش%%ى تل%%ك االنتهاك%%ات من أع%%داء أج%%انب ،وإ ّنم%%ا من كاتلين%%ا وش%%ركائه ،من
شيوخ ومواطنين رومان .لك ّنهم ال جرم فجرة وقتلة وخونة. أعضاء بارزين بمجلس ال ّ
ّ
يتورعوا في المدن التي غزوها عن قتل المغلوبين في معابدها ّ الرومان لم
1-6في أنّ ّ
ّ ُ ّ ّ
فيم يتيه بنا الحديث إذن بعيدا بين شتى األمم المتحاربة التي لم تعف قط المغلوبين في معابد
آلهتهم ،لننظر إلى الرّومان أنفسهم ،أجل لنذكر ونعتبر الرّومان أنفس%%هم الّ%%ذين قي%%ل فيهم ،ك%%أبرز
مناقبهم ،إ ّنهم "يعفون الخاضعين ويرضخون المتمّ %ردين" ،وي%%ؤثرون ال ّتج%%اوز %عن اإلس%%اءة على
ر ّدها ،لمّا غزوا مدنا كبيرة كثيرة لبسط نفوذهم واحتلّوها ودمّروها ،ليق ْل لن%%ا قّ %راء أخب%%ارهم أيّ%ة
معابد استثنوا من ال ّتخريب لتأمين وتحري%ر %كّ %ل من يلج%%ؤون إليه%%ا .أم لعلّهم ك%%انوا يفعل%%ون ذل%%ك
وإ ّنما أغفله مؤرّ خو مآثرهم؟ مهال ،كيف أمكن ت%%رى ألولئ%%ك الّ%%ذين دأب%%وا على البحث بقص%%ارى
3
الس%اطعة على تق%%واهم في نظ%%رهم .يق%%ال إنّ م%%رقس الش%واهد ّ جهدهم عن مناقبهم أن يهملوا تل%%ك ّ
مركلّ%%وس ،الّ%%ذي ه%%و من ألم%%ع حمل%%ة االس%%م الرّوم%%انيّ والّ%%ذي %اس%%تولى على سرقوس%%ة ج%%وهرة
المدائن ،بكاها قبل تدميرها* ،وأه%%رق دموع%%ه قب%%ل دمائه%%ا حس%%رة عليه%%ا ،واعت%%نى ك%%ذلك بحف%%ظ
األعراض الواجب حفظها ح ّتى لدى األعداء .فقبل اإليعاز في غمار انتص%%اره باكتس%%اح المدين%%ة،
حظر بمرسوم %أن يُمسّ أيّ شخص حرّ .مع ذلك تعرّضت المدينة لل ّتدمير وفق عرف الح%%روب،
وال نقرأ في أيّ مصدر أنّ الحلم والسّماحة بلغا بهذا القائد ح ّد ال ّنهي عن إي%%ذاء ك ّ %ل من يلج%%أ إلى
هذا المعب%د أو ذاك؛ وم%ا ك%ان ذل%ك ليُغف%ل ل%ه قطع%ا %بينم%ا لم يغف%ل ل%ه بك%اؤه وال نهي%ه عن هت%ك
األعراض .بالمثل يُمدح فابيوس %،مدمّر تارنتوم ،باستنكافه عن نهب تماثيل اآللهة ،إذ يُروى أ ّن%%ه
الس %مح: لمّا طلب منه كاتبه أوامره بشأن تماثيل اآللهة الّتي ُأخذ عدد كبير منها ،تبّل بملحة حلمه ّ
سأل كيف كانت ،ولمّا ُأخبر بأنّ تماثيل كثيرة كانت فض%%ال عن ض%%خامتها %مس%لّحة ق%%ال" :لن%%تركْ
لل ّتارنتيّين آلهتهم الغضبى!"* %إذن ما دام كتبة مآثر الرّومان لم يغفلوا بكاء ذاك وال دعابة هذا ،ال
سماحة ذاك المتع ّفف%%ة وال حلم ه%%ذا المتف ّك%%ه ،ل%%و أعفي بعض األه%%الي احترام%%ا ألح%%د آلهتهم بمن%%ع
القتل واألسر في أحد المعابد كيف ال يذكرونه؟
1-7في نكبة المدينة ،ما ت ّم من أعمال العنف وقع وف:ق ع:ادة الح:رب ،أ ّم:ا م:ا ت ّم من مظ:اهر
الرحمة فأتى من بركة اسم المسيح ّ
إذن كّ %ل م%ا ار ُتكب من أعم%ال ال ّتخ%ريب وال ّتقتي%ل وال ّنهب واإلح%راق وال ّتروي%ع %خالل نكب%ة
رومية األخيرة ت ّم طبقا لما جرت عليه العادة في الحروب .أمّا ما ت ّم وفق أس%%لوب مس%%تج ّد -حيث
بدت وحشيّة البرابرة في ظاهرة غير مسبوقة على ق%%در ع%%ال من الرّف%%ق بل%%غ حّ %د تع%%يين كن%%ائس
يؤذ فيها أو يُسب منها أح%%د ،ب%%ل اقت%%اد إليه%%افسيحة جُمع فيها األهالي لتجنيبهم أعمال العنف ،فلم َ
عدي َد المواطنين أعداء رؤف%%اء إلطالق س%%راحهم ،ولم يُحش%%دوا فيه%%ا ليحملهم أس%%رى أع%%داء جف%%اة
عتاة ،-فمن ال يرى أ ّن%%ه يجب أن يع%%زى الس%م المس%يح وعص%ر المس%يحيّة أعمى ،ومن ي%راه وال
الس%لوك إلى وحش%يّة ينوّ ه به جاحد ،ومن يخالف من ينوّ ه به أرعن .حاش%%ا أن ينس%%ب عاق%%ل ذل%%ك ّ
السّ %فاحين العت%%اة وكبحهم %وليّنهم %بنح%%و عجيب َمن ق%%ال ق%%ديما %على ال%%برابرة ،فإ ّنم%%ا أرهب أولئ%%ك ّ
لسان نبيّه" :أفتقد بالعصا معصيتهم %وبالضّربات إثمهم ،لك ّني ال أقطع عنهم رحمتي%*".
والض ّراء يشترك غالبا فيهما األبرار واألشرار ّ س ّراء
1-8في أنّ ال ّ
هنا لقائل أن يقول" :لماذا إذن أصابت تلك ال ّرحمة ال ّربّانيّة ك%%ذلك الكف%%رة والجاح%%دين؟" أليّ
والص%الحين ويُمط%%ر ّ سبب ،في اعتقادنا ،سوى أنّ مانحه%%ا ه%%و "من يُطل%%ع شمس%%ه على األش%%رار
ك أنّ البعض منهم ،لمّا يتف ّك%%رون في أنعم%%ه ،يثوب%%ون عن الكف%%ر ّ
والظالمين"* .ال ش ّ على األبرار
ويتوبون ،لكنّ آخرين كما يقول الرّسول* "يحتقرون غنى لطفه واحتماله وأناته وبقس%%اوة قل%%وبهم%
غير ال ّتائبة ي ّدخرون ألنفسهم غضبا ليوم الغضب واعتالن دينونة هللا العادلة ،الّ%ذي س%يكافئ %كّ %ل
الص%بر،واحد بحسب أعماله"* .لكنّ أناة هّللا تدعو األشرار %إلى ال ّتوبة ،كما يعلّم س%وطه األخي%ار ّ
كذلك تنال رحمت%ه األخي%ار إلك%رامهم ،كم%ا يص%يب بأس%ه األش%رار لعق%ابهم .فق%د ش%اءت العناي%ة
اإللهيّة أن ُتع ّد ليوم آت خ%يرات لألب%رار لن ينعم به%ا األثم%ة ،وللفجّ%ار أنك%اال س%يُج َّنبها األخي%ار.
لك ّنها شاءت أن يشترك في الخيرات وال%%ويالت ال ّدنيو ّي%%ة كال الف%%ريقين ،كيال نف%%رط في حبّ تل%%ك
الخيرات الّتي نرى األشرار أيضا يملكونها ،وال في تحاشي تلك األسواء الّتي غالبا م%%ا يتع%%رّ ض
له%%ا ك%%ذلك األخي%%ار .فض%%ال عن ذل%%ك يه ّم كث%%يرا كي%%ف نتعام%%ل م%%ع م%%ا ن%%دعوه س%%رّ اء أو ضّ %راء،
تحطمه جزعا بالياه%%ا ،بينم%%ا المس%%يء يتل ّقى البالي%%ا ّ فالصّالح ال تستخ ّفه طربا مس ّرات ال ّدنيا ،وال
عقابا ألنّ ال ّس ّراء تفس%%ده .م%%ع ذل%%ك كث%%يرا م%%ا يب%%دي لن%%ا هللا أيض%%ا بجالء في ه%%ذا ال ّتوزي%%ع إحك%%ام
ْق ليوم ال ّدينونة أيّ عق%%اب، تدبيره :فلو أنزل في هذه الحياة بك ّل خطيئة عقابا بيّنا لحسبناه لم يستب ِ%
وبالمقابل لو لم يعاقب بنحو صريح أيّة خطيئ%%ة في الحاض%ر %لظن ّن%%ا أن ال وج%%ود للعناي%%ة اإللهيّ%ة.
شأن مماثل في نعم ال ّدنيا :لو لم يمنحها هللا بسخاء ظاهر لبعض من يطلبونها لقلنا إ ّنه%%ا ليس%%ت وال ّ
4
من شأنه ،وبالمقابل لو منحها لك ّل من يطلبونها %لظن ّنا من واجبنا أن نخدم%ه ألج%ل تل%ك المكاف%آت
فقط ولما جعلتنا تلك الخدمة أتقياء بل طمّاعين وجشعين باألحرى .بل قُسمت هذه األم%%ور بحيث
يبتلى األخيار واألشرار على ح ّد سواء ،ال ألنّ ال فرق %بينهم ما دام ال يوج%%د ف%%رق %في م%%ا يبتلى
به كال الفريقين .إذ يبقى هناك ف%%رق بين المبتلين ح ّتى م%%ع تش%%ابه بل%%واهم ،ورغم ال ّتع%%رّ ض لنفس
يدخن ،ونفس الذهب يتوهّج وال ّتبن ّ البأساء ال تستوي %الفضيلة والرّذيلة .فكما أنّ نفس ال ّنار تجعل ّ
بالزيت وإن عُص%ر بنفس المكبس، الثفل ّ ضربة المد ّقة تسحق القشّ وتن ّقي القمح ،وكما ال يمتزج ّ
الص%%الحين ف%%تز ّكيهم %وتن ّقيهم وتستص%%فيهم وعلى األش%%رار %فت%%دينهم ك%%ذلك تق%%ع نفس البليّ%%ة على ّ
وتدمّرهم %وتمحقهم .ل%%ذلك ن%%رى في نفس المحن%%ة األش%%رار %يلعن%%ون هللا ويجّ %دفون علي%%ه واألخي%%ار
يدعونه ويسبّحونه .ما يفرّق بين الفريقين بشأو ليس نوع الباليا بل كيفيّة تحمّلها :كما تخضخض
نفس الحركة الحمأة فتنشر نتنا كريها ،والبخور فيتضوّ ع طيبا ذكيّا*.
جراءها على األخيار واألشرار نفس ال ّنقمات 1-9في أسباب المفاسد الّتي ينزل هللا ّ
هل تع ّرض المسيحيّون إذن في هذا ال ّدمار إلى سوء لم يسمح لهم -إن اعت%%بروا تل%%ك الوق%ائع%
بإيمان صادق -بال ّتق ّدم على طريق الخالص؟ أوّ ال بتفكيرهم بدخور %في تلك اآلثام الّتي استوجبت
نقمة هللا فمأل العالم بتلك ال ُكرب العظام ،فمهم%ا %بع%%دوا عن األثم%%ة الكف%%رة الفج%%رة ال يبل%%غ بع%%دهم
عنهم قدرا يخوّ لهم ال ّتفكير بأ ّنهم برءاء من اآلثام فيخطر %بب%%الهم أ ّنهم ال يس%%تح ّقون معان%%اة آالم في
الثن%%اء معرّض%%اهذا العالم بسببها .فبغضّ ال ّنظر عن كون أيّ بشر مهما بدت حياته جديرة بف%%ائق ّ
للوقوع أحيانا في شراك شهوات الجسد ،وح ّتى إن لم يصل األمر ح ّد السّقوط في هاوي%%ة الكب%%ائر
وبؤرة المخازي %وشناعة الكفر ،قد يقع ،نادرا ال محالة ،في الخطايا ،أو أكثر كلّما كانت أصغر،
بغضّ ال ّنظر عن ذلك َمن سنجد في نهاية األم%%ر أ ّن%%ه يتعام%%ل ويتع%%ايش %م%%ع أولئ%%ك الخط%%أة الّ%%ذين
بسبب كبرهم المقيت وفجورهم وجشعهم وآثامهم المنكرة يمح%%ق هللا األرض حس%%بما أن%%ذر العب%%اد
الحق أ ّنا غالبا ما نتقاعس مخطئين عن وعظهم وإرشادهم% ّ كما يجب ال ّتعامل والعيش مع أمثالهم؟
بل وح ّتى تقريعهم وتقويمهم %أحيانا ،إمّا نفورا من ذلك العم%ل وإمّ%ا ا ّتق%اء إغ%اظتهم %وإمّ%ا اجتن%اب
عداوتهم مخافة أن يعرقلونا %أو يؤذونا %في شؤون دنيانا سواء ما يبتغي جش%عنا نيل%%ه ف%وق %كّ %ل م%ا
الص%الحون بنهج عيش األش%رار وتحاش%وا% لدينا أو ما يخشى جزعنا فقدانه .هك%ذا ح ّتى إن س%يء ّ
استحقاق ما ُأعّ %د لهم في اآلخ%%رة من ع%%ذاب اله%%ون ،يس%%تح ّقون م%%ع ذل%%ك ،لتغاض%%يهم عن خطاي%%ا
اآلخرين الجديرة باإلدانة مخافة أذايا بسيطة وهيّنة قد تنالهم منهم ،أن يمسّهم معهم عذاب الحي%%اة
ال ّدنيا وإن ُأعفوا من عذاب الحي%%اة األبد ّي%%ة .أج%%ل يس%%تح ّقون فعال أن ي%%نزل هللا عليهم عذاب%%ه معهم
فيذوقوا مرارة تلك الحياة الّ%%تي كره%%وا ح ّب%ا ً لحالوته%%ا أن يُم%%رّوا للخط%%أة في الخط%%اب* .أ ّم%%ا من
يمتنع عن تقريع وتقويم المسيئين أل ّنه يتحيّن فرصة أنسب ،أو يخشى أن يصيروا %بس%%بب وعظ%%ه
أسوأ أو يمنعوا آخ%%رين ض%%عفاء من رياض%%ة أنفس%%هم على حي%%اة ال%%برّ وال ّتق%%وى ويض%%غطوا عليهم
الش%هوات ب%%ل من وحي المح ّب%%ة في هللا. ويص ّدوهم عن اإليم%%ان ،فال يب%%دو موقف%%ه من إمالء حبّ ّ
يخطأ من يعيشون بأسلوب مختلف ويستنكفون عن سيّ ء األعمال إذ يتغاض%%ون عن خطاي%%ا َ فإ ّنما
اآلخرين الّتي واجبهم إصالحها أو إدانتها ،متج ّنبين إغاظتهم مخافة أن ي%%ؤذيهم %الخط%%أة في مت%%اع
الص%الحون بوج%%ه طيّب وحالل ،لكن بش%%غف يتج%%اوز الحّ %د الّ%%ذي يناس%%ب ال ّدنيا الّذي يستمتع ب%%ه ّ
مسافرين متغرّبين في هذا العالم يحملون عال َيهم رج%%اء االلتح%%اق ب%%الوطن العل%%ويّ .وليس أولئ%%ك
الض%عاف الّ%%ذين يعيش%%ون في ظّ %ل ال ّزوج ّي%%ة ولهم أو يح ّب%%ون أن يك%%ون لهم أبن%%اء ويملك%%ون بيوت%%ا
ّ
ّ ّ
وعبيدا -أولئك الذين يخاطبهم الرّسول في الكنائس لتنبيههم وإرشادهم %إلى األس%%لوب ال%%ذي ينبغي
الزوج%ات م%%ع أزواجهنّ واألزواج م%ع زوج%اتهم %،واألبن%اء م%ع آب%%ائهم واآلب%اء م%%ع أن تعيش ب%ه ّ
أبنائهم ،والعبيد مع أسيادهم واألسياد %مع عبيدهم -هم وحدهم يحبّون اقتناء الكثير من متاع الّ %%دنيا
ويأسفون لفقدانه ويوجلون بسببه من إغاظة من تسوؤهم %حياتهم المألى بالقبائح واآلثام %.بل ح ّتى
الزوج ّي%%ة ويكتف%%ون بالكف%%افأولئك الّذين بلغوا في الحياة درجة عليا من الصّالح وال تكبّلهم قيودّ %
من القوت والكس%%اء ،إذ كث%%يرا م%%ا يمنعهم الخ%%وف على س%%معتهم وس%%المتهم من مكائ%%د وهجم%%ات
5
الذميم%%ة- األشرار -ح ّتى إن لم يبلغ بهم درجة إتيان أفعال مماثلة رض%%وخا %لتهدي%%داتهم وأس%%اليبهمّ %
من تقريعهم %على تلك الفع%%ال الّ%%تي ال يرتكبونه%ا %هم أنفس%هم بينم%ا يمكنهم أن يص%لحوا %ب%ال ّتقريع*
بعضا منه%%ا ،وذل%%ك كيال يعرّض%%وا %س%%المتهم وس%%معتهم ،إن لم يتم ّكن%%وا من إص%%الحهم ،للمخ%%اطر
والمهالك ،ال باعتبار أنّ مصلحة تعليم ال ّناس تقتضي سالمتهم وحسن س%%معتهم ،ب%%ل انقي%%ادا وراء
شعب وتع%%ذيب أو إمات%%ة أجس%%ادهم ضعفهم الّذي يهمّه إطراء األلسن وحكم ال ّناس ويخشى إدانة ال ّ
أي إذعانا لقيود حبّ ال ّدنيا ال استجابة لواجب المحبّة.
ّ
ليعذب الصّالحون أيضا مع المس%%يئين ل ّم%%ا يش%%اء هللا أن يس%لط لذلك يبدو لي هذا مبرّرا كافيا َّ
َ
عذاب ال ّدنيا أيضا عقابا لفساد األخالق .هكذا إذن يع%َّ %ذبون مع%%ا ال أل ّنهم يعيش%%ون مع%%ا بس%%وء ب%%ل
أل ّنهم يحبّون معا ،ال بنفس ال ّدرجة ال محالة لكن بنفس نوع الحبّ ،هذه الحياة الّ %دنيا الّ%%تي يح%%رو
باألخيار ازدراؤها %لحمل اآلخرين بال ّتقريع وال ّتقويم %على أن يسعوا لآلخرة س%%عيها .ف%%إن رفض%%وا%
الس%عي له%%ا فليحتمل%%وهم %أع%%داء وليح ّب%%وهم ،فم%%ا دام%%وا على قي%%د الحي%%اة يظّ %ل االنض%%مام إليهم في ّ
احتمال تغيّر إرادتهم با ّتجاه الصّالح واردا .في هذا المضمار يتح ّم%%ل وزرا %ال أق%%ول مس%%اويا %ب%%ل
أش ّد بكثير أولئك الّذين قيل عنهم على لسان ال ّنبيّ " :تلك ال ّنفس تكون قد ُأخذت في إثمها لك ّني من
شعب ،في الكن%%ائس لش%%جب الخطاي%%ا يد الرّقيب أطلب دمها"* فقد أقيم الرّقباء ،أي الوكالء على ال ّ
دون تس%%اهل م%%ع أح%%د .ك%%ذلك ي%%أتي غ%%يرهم الّ%%ذي لم يو َّكل بتل%%ك المه ّم%%ة ذنب%%ا ،وإن لم يكن بنفس
الحجم ،ل ّم%%ا ي%%رى في من جمعت%%ه بهم ض%%رورات ه%%ذه الحي%%اة كث%%يرا من الم%%ذا ّم يجب اللَّفت إليه%%ا
الطرف متحاشيا %إغاظتهم مراعاة لخيرات هذه الحي%%اة الّ%%تي ال جن%%اح علي%%ه في وانتقادها ،فيغضّ ّ
الص%الحين في ه%%ذه الّ %دنيا أدواء ال ّتم ّتع بها ،لك ّنه يبدي كلفا مفرطا بها .ويوجد %سبب آخر لتصيب ّ
مس %ت أ ّي%%وب :ه%%و اختب%%ار اإلنس%%ان لنفس%%ه ومعرف%%ة مق%%دار ح ّب%%ه هلل بتق%%وى مج %رّدة من ك%%الّتي ّ
األغراض.
الص ّديقين ال يخسرون شيئا عند فقدان متاع الدّ نيا ّ 1-10في أنّ
الص%حيح وال ّتمعّن فيه%%ا ،انظ%%ر إن ك%%ان يمسّ المؤم%%نين بعد اعتبار هذه األم%%ور %على الوج%%ه ّ
األتقياء ش ّر ال ينقلب خ%%يرا لهم ،إالّ إن حس%%بنا لغ%%وا ب%%اطال ق%%ول الرّس%%ول" :ونحن نعلم أنّ الّ%%ذين
يحبّون هللا ك ّل شيء يعاونهم للخير *".يق%%ال :لك ّنهم فق%%دوا كّ %ل م%%ا يملك%%ون .واإليم%%ان؟ وال ّتق%%وى؟
وخيرات اإلنسان ال ّداخليّ الّذي هو غنيّ عند هللا؟ تلك هي ثروات المسيحيّين الّذين كان الرّس%%ول
الثراء عند هللا يقول" :وفي الحقيقة ال ّتقوى المقترن%%ة بالقناع%%ة هي تج%%ارة عظيم%%ة .أل ّن%%ا لم العظيم ّ
ندخل العالم بشيء ومن الواضح أ ّنا ال نستطيع %أن نخرج منه بشيء .فإذا كان لنا القوت والكسوة
فإ ّنا نقتنع بهما .أمّا الّذين يرومون الغنى فيسقطون في ال ّتجربة والف ّخ وفي %شهوات كث%%يرة س%%فيهة
مض ّرة تغرق ال ّناس في العطب والهالك .ألنّ حبّ المال أصل ك ّل شرّ وهو الّذي رغب فيه ق%%وم
تلفت في ذل%ك الّ %دمار كّ %ل ْ فضلّوا عن اإليمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كث%%يرة *".إن ك%%ان إذن َمن
ثرواتهم %ال ّدنيويّة يملكونها %بال ّنحو الّذي سمعوا من ذلك المعلّم الفقير ظاهرا والغ%نيّ باطن%%ا ،أع%%ني
إن ك%%انوا "يس%تعملون ه%ذا الع%الم ك%أ ّنهم ال يس%%تعملونه"* يمكنهم الق%ول م%ع ذاك الّ%%ذي ابتلي بالء
عظيما فلم يُغلب" :عريانا خرجت من جوف أمّي وعريانا أعود إلى هناك .الرّ بّ أعطى وال%%رّ بّ
أخذ فليكن اسم ال ّربّ مباركا %*".كعبد صالح كان يعتبر ثروة عظيمة مشيئة ر ّب%%ه ،في%%ثري %روح ّي%ا%
با ّتباعها بد ّقة ،وال يأسف لتجريده حيّا من ذلك المتاع الّذي لن يلبث أن يتخلّى عن%%ه ب%%الموت .أ ّم%%ا
المؤمنون األضعف الّذين وإن لم يفضّلوا تلك الخيرات ال ّدنيو ّي%%ة على المس%%يح م%%ا انف ّك%%وا متعلّقين
به%ا بق%در م%ا من الح%%رص ،فق%د أدرك%%وا بفق%دانها م%%دى خط%%يئتهم بحبّه%%ا .إذ ت%ألّموا بالق%در الّ%%ذي
ذك%رت من كالم الرّس%ول أعاله .ك%ان ال بّ %د من تلقينهم درس ُ عرّضوا به أنفسهم لآلالم وف%ق %م%ا
ّ
ال ّتجربة أل ّنهم تلهّوا منذ أمد طويل عن درس أقواله .فل ّم%%ا ق%%ال الرّس%%ول" :ال%%ذين يروم%%ون %الغ%%نى
الثروات ال امتالكها ،فلق%%د أوص%%انا %في ك حبّ ّ يسقطون في ال ّتجربة.00إلخ" ،كان يؤاخذ بدون ش ّ
موضع آخر قائال" :وصّ أغني%%اء الّ %دهر الحاض%%ر أن ال يس%%تكبروا %وال ي ّتكل%%وا على الغ%%نى الغ%%ير
الثابت بل على هللا الحيّ الّذي يؤتينا ك ّل شيء بكثرة لنتم ّتع به .وأن يصنعوا خ%%يرا ويتموّ ل%%وا %من ّ
6
األعمال الصّالحة ويكونوا %أسخياء في ال ّتوزيع مرتاحين إلى المؤاس%%اة .مّ %دخرين ألنفس%%هم أساس%%ا
الطريق%%ة في ث%%رواتهم حسنا للمستقبل ح ّتى يفوزوا %بالحياة الحقيقيّة *".من ك%%انوا يتص%%رّفون به%%ذه ّ
الطفيف%%ة ،وفرح%%وا %بخ%%يرات حفظوه%%ا بنح%%و آمن بإعطائه%%ا %زوا %بأرب%%اح وف%%يرة عن خس%%ائرهم ّ تعّ %
بسهولة ،أكثر ممّا أسفوا على الّتي فقدوها بسهولة أكبر بال ّتشبّث بها بإشفاق .فإ ّنما أمكن أن يتلف
في األرض ما تراخى صاحبه عن نقله منها .أ ّم%%ا من عمل%%وا بوص%يّة ربّهم إذ يق%%ول" :ال تك%%نزوا%
لكم كنوزا على األرض حيث يُفسد السّوس واآلكلة وبنقُب السّارقون ويسرقون؛ لكن اك%%نزوا %لكم
الس%ارقون وال يس%%رقون؛ أل ّن%%ه حيث الس%ماء حيث ال يُفس%%د س%%وس وال آكل%%ة وال ينقُب ّ كن%%وزا %في ّ
يكون كنزك هناك يك%%ون قلب%%ك"* ،فق%%د اخت%%بروا في أ ّي%%ام المحن%%ة كم ك%%انوا أعق%%ل وأص%%وب %بع%%دم
االس%%تخفاف بوص%%ايا %أص%%دق معلّم وآمن وأض%%من ح%%ارس ل%%ثرواتهم .فلئن ف%%رح الكث%%يرون ب%%أنّ
ثرواتهم %كانت في موضع %ا ّتفق أن لم يصل إليه العدوّ ،فكم أمكن لمن نقلوا ك%%نزهم عمال بوص %يّة
ربّهم إلى حيث ال يمكن الوص%%ول أب%%دا أن يبتهج%%وا بثق%%ة وطمأنين%%ة أك%%بر .من ه%%ؤالء ص%%ديقنا
بولينوس أسقفّ ن%وال* الّ%%ذي تخلّى اختياريّ%ا %عن ثروات%ه الواس%%عة ليص%ير %فق%يرا مع%دما وصّ %ديقا
الثراء عند هللا ،فلمّا عاث البرابرة فسادا في نوال ووق%%ع بين أي%%ديهم ج%%أر إلى هللا في قلب%%ه- واسع ّ
الذهب والفضّة ،فإ ّنك تعلم أين أعذب من أجل ّ كما علمنا منه الحقا -بهذا ال ّدعاء" :اللّه ّم ال تدعْ ني َّ
توجد ك ّل أمالكي ".فعال كان يحتفظ بها حيث دعاه إلى إخفائها وكنزه%ا من أنب%أ من%ذ أم%د طوي%ل
عن حلول هذه المصائب بالعالم .بذلك أمكن لمن عملوا بوصيّة ربّهم أين وكيف يجب أن يكنزوا%
أالّ يفقدوا في غزوات البرابرة ثرواتهم %ال ّدنيويّة ،أمّا من لم يمتثلوا لها مع األسف فإن لم يتعلّم%%وا
من الحكمة السّابقة قد تعلّموا من ال ّتجربة الالّحقة ماذا يجب أن يفعلوا بها.
صحيح أنّ بعض األخيار ،ومن بينهم مسيحيّون ،ع ُّذبوا ليس%لّموا لألع%داء خ%يراتهم؛ لكن م%ا
أمكنهم تسليم وال خسران* خير هم به أخيار .أمّا إن اخت%%اروا %ال ّتع%%ذيب على تس%%ليم معب%%ود اإلثم*
ال%ذهب ،كم ك%%ان يج%در فما هم باألخيار .والحال أ ّنهم ُأنذروا ،هم الّذين قاسوا %م ّر الع%%ذاب بس%بب ّ
بهم أن يتحمّلوا ألجل المسيح فيتعلّموا %أن يحبّوه ه%%و الّ%%ذي يهب من يتع%ّ %ذبون ألجل%%ه ث%%روة ال ّنعيم
والفض%ة اللّ%%ذين ك%ان غبن%ا حقيق%ا بالرّث%%اء تح ّم%%ل الع%%ذاب ألجلهم%ا ،س%واءّ الذهباألبديّ بدال من ّ
شدائد أضاع المس%%يح ب%%اإلقرار %ب%%ه وال إلخفائهما بالكذب أو تسليمهما باإلقرار %.فال أحد في تلك ال ّ
حفظ ذهبه إالّ بإنكاره .لذلك ربّما كانت تلك األنكال ،بتعليمها %حبّ الخير الّذي ال يدرك%%ه الفس%%اد،
أنفع من تلك الخيرات الّتي ما ف%%تئت تع%ّ %ذب أص%%حابها بحبّه%%ا دون كس%%ب أ ّي%%ة منفع%%ة .ص%%حيح أنّ
بعض المواط%%نين الّ%%ذين ال يملك%%ون ش%%يئا يس %لّمونه تعرّض%%وا هم أيض%%ا لل ّتع%%ذيب ،ألنّ الغ%%زاة لم
يص ّدقوهم .هم أيضا ربّما ك%%انوا يح ّب%%ون امتالك أم%%وال ولم يكون%%وا فق%%راء بزه%%د اختي%%اريّ وقلب
نقيّ ،فلزم أن يبيَّن لهم أ ّنهم بحبّها ال بامتالكه%%ا اس%تح ّقوا ذل%%ك الع%ذاب .أمّ%ا من ك%انوا الختي%%ارهم
عذب الغزاة أحدهم ظ ّنا أ ّن%%ه يمل%%ك حياة أفضل ال يملكون ذهبا وال فضّة ،فال أدري إن حصل أن ّ
ك أنّ من ك%%ان يُقّ %ر في غم%%رات ال ّتع%%ذيب بفق%%ره ال ّنقيّ من حبّ أمواال ،لكن ح ّتى إن حصل فال ش ّ
يعذب وه%%و عرض ال ّدنيا كان يق ّر بالمسيح ،لذا ما أمكن ،ح ّتى إن لم ينجح في إقناع األعداء ،أن َّ
ّ%
يستحق مكافأة في السّماء. يقرّ بفقره ال ّنقيّ دون أن
يقال أيضا إنّ مجاعة طويلة فتكت كذلك بالمسيحيّين .ذلك أيضا يحوّ له المؤمنون الصّالحون
إلى ص%%الحهم إذ يتحمّلون%%ه بقلب تقيّ نقيّ .فالّ%%ذين أفنتهم %تل%%ك المجاع%%ة ان%%تزعتهم من أدواء ه%%ذه
الحياة كما يخلّصنا الموت من أسقام البدن .أمّا من لم ت%ذهب بهم فعلّمتهم %العيش على الكف%%اف من
الرّزق والمواظبة أكثر على الصّوم.
1-11في حتم ّية انتهاء الحياة ال ّدنيا طالت أم قصرت
صحيح كذلك أنّ كثيرا من المسيحيّين قُ ّتلوا وأبيدوا %بميتات فظيعة شتى .ذلك وإن شق تحمّله
ّ ّ
ك بين ك ّل من ُخلقوا لهذه الحياة :فمعل%%وم أنّ م%%ا من أح%%د م%%ات لم يكن مقض%يّا مآل مشترك بال ش ّ
ّ
بأن يموت يوما ما ،وأنّ نهاية الحي%%اة تس%%اوي %بين الطويل%%ة والقص%%يرة ،فال أفض%%ل أو أس%%وأ ،وال
أطول أو أقصر في أشياء استحالت عدما على ح ّد سواء .ث ّم فيم يه ّم نوع الموت الّ%%ذي ينهي ه%%ذه
7
الحياة ما دام من تنتهي حياته غير مجبر على الم%%وت ثاني%%ة؟ ك%%ذلك م%%ا دامت ميت%%ات ال تحص%%ى
ته ّدد ك ّل الفناة في غمار الحوادث اليوميّة لهذه الحي%%اة ،وم%%ا دمت ال أعلم يقين%%ا أ ّي%%ا منه%%ا س%%تكون
نص%%يبي ،أتس%%اءل إن لم يكن تحمّ%%ل إح%%داها ب%%الموت خ%%يرا من الخ%%وف باس%%تمرار منه%%ا كلّه%%ا
باالستمرار %في الحياة .ال أجهل كم نؤثر االستمرار في العيش طويال تحت وطأة الخوف من ك ّل
تلك الميتات على الموت بالفعل م ّرة هي األولى واآلخرة فال نخشى بعد أيّا منها .لكنّ فرار حسّ
الجسد الضّعيف %الفزع من المصير المحتوم ش%يء ،وش%يء س%واه م%ا يقنعن%ا ب%ه ال ّتفك%ير العقالنيّ
َ
الم%وت ش%رّ ا غ%ي ُر م%ا الصّافي .ال يجب فعال أن ن ُع ّد ش ّرا موتا سبقته حي%اة ص%الحة ،إذ ال يجع%ل
ّ
الموت .لذا ال يجب أن ينشغل كثيرا من هم آيلون حتما إلى الموت بالحادث الذي س%%يموتون َ يتبع
ّ
به ،بل فقط بالمح ّل الذي سيُجبرون على االنتق%ال إلي%ه ب%الموت .وبم%ا أنّ المس%يحيّين يعلم%ون أنّ
موت المسكين ال ّتقيّ بين ألسنة الكالب وهي تلحس قروحه أفضل بكثير من م%%وت الغ%%نيّ الك%%افر
في األرجوان والب ّز ،فيم تضير تلك الميتات الفظيعة الموتى الّذين عاشوا حياة تقوى وصالح؟*
1-12في أنّ منع دفن جثث المسيح ّيين ال ُيفقدهم شيئا
يتيس%ر ال محال%%ة دفن الكث%%يرين .ذاك أيض%%ا ال يخش%%اه في هذه الكوم%%ة الكب%%يرة من الجثث لم ّ
الحق بأنّ افتراس %السّباع لألجساد ال يمنع بعثه%%ا و"ال تهل%%ك من ّ اإليمان الصّادق الواثق من وعد
الحق قطعا ليقول" :ال تخ%افوا %ممّن يقت%ل الجس%%د وال يس%تطيع %أن يقت%ل ّ رؤوسها %شعرة"* .ما كان
ال ّنفس"* لو كان يمنع الحيا َة األخرى ما ش%%اء األع%%داء أن يفعل%%وا بأجس%%اد %القتلى .اللّه ّم إالّ إن بل%%غ
الزعم بأ ّنه ال ينبغي الخوف قبل الموت ممّن يقتل%%ون الجس%%د وينبغي %الخ%%وف من الخرق بأح ٍد ح ّد ّ
ٌأ
عدم السّماح بعد الموت بدفن الجسد الّذي غدا بال حياة! خط إذن قول المسيح" :من يقت%%ل الجس%%د
ليس ل%ه بع%%د أن يفع%%ل أك%%ثر"* إن ك%%انوا يملك%%ون ح ّق%%ا ه%%ذه الق%%درة على فع%%ل م%%ا يش%%اؤون بجثث
الحق ،فهو يقول إنّ القاتلين يفعلون ش%%يئا س%%اعة القت%%ل ّ األموات .بل حاشا أن يكون خطًأ ما يقول
يتأثر بالقتل ،أمّا بعده فما لهم ما يفعلون ألنّ الجس%%د الّ%%ذي قتل%%وا غ%%دا خل%%وا ألنّ الحسّ في الجسد ّ
من الحسّ تماما .كثرة من أجساد المسيحيّين لم توارها األرض ،لكن ال أحد فص%%ل أ ّي%%ا منه%%ا عن
السّماء واألرض الّتي يمألها كلّها بحضوره من يعلم من أين سيبعث ك َّل ما خلق .يق%%ول ص%%احب
المزامير ال محالة" :جعلوا جثث عبيدك طعاما لطيور السّماء ،لحو َم أصفيائك لوحوش األرض؛
سفكوا دماءهم حول أورشليم مثل الم%%اء ولم يكن من دافن"* لكن إلظه%%ار وحش%يّة مرتك%%بي تل%%ك
الفظائع ال إلب%%راز ب%%ؤس من تعرّض%%وا له%%ا .فح ّتى %إن ب%%دت تل%%ك المحن قاس%%ية وش%%ا ّقة* في نظ%%ر
الش%ؤون أع%%ني العناي%%ة بش%%عائر% موت أصفيائه"* .وبال ّتالي ك ّل تلك ّ ُ البشر" ،كريم في عيني ال ّربّ
المأتم والقيام بال ّدفن ومراسيم %الجنازة هي لعزاء األحي%%اء أك%%ثر م ّم%%ا هي إلس%%عاف %األم%%وات .وإن
يكن ثمّة نفع للكافر في إقامة مأتم مفتخر ،فثمّة مضرّ ة لل ّتقيّ في إقام%%ة م%%أتم متواض%%ع أو ال م%%أتم
إطالقا .أع ّد طاقم الخدم لسيّدهم المسجّى باألرجوان مأتما ساطعا %في أعين ال ّن%%اس ،لكنّ المس%%كين
ت له مأتما أسطع في عيني هللا المالئك ُة القائمة على خدمته ،الّتي لم تضعه في جدث المق ّرح أع ّد ْ
من المرمر %بل نقلته إلى حضن إبراهيم.
اعتزمت رد تخرّصاتهم %عن مدينة هللا .م%%ع ذل%%ك أب%%دى فالس%%فتهم ّ ُ يضحك من هذا الكالم من
استخفافهم بمسألة دفنهم .بل كثيرا ما رأينا جيوشا ج ّرارة قبيل الموت من أجل ال%%وطن األرض%%يّ
ال تعير باال بمثوى أجس%ادها أو أليّ%ة س%باع س%تكون طعام%ا .عن ه%ذا الموض%وع %أمكن أن يق%ول
شعراء ويحظوا باالستحسان" :يجد في السّماء غطاء من لم يجد مرمدة لرماد جثمان%%ه"*. بعض ال ّ
وهم غير مح ّقين في تعيير المسيحيّين بعدم دفن أجسادهم الّتي وعد هللا بإعادة تكوين لحمها وك ّل
أعضائها %ال من األرض فقط بل كذلك من جوف بق ّي%%ة العناص%%ر الخفيّ حيث تبّ %ددت جثثهم هب%%اء
منثورا في السّاعة المق ّدرة لبعثها بكامل هيئتها.
ص ّديقين
مبرر دفن أجساد ال ّ 1-13ما ّ
م%%ع ذل%%ك ال ينبغي إهم%%ال أجس%%اد الم%%وتى وتركه%%ا في الع%%راء ،وب%%األخصّ أجس%%اد األب%%رار
8
والمؤمنين األتقياء الّتي استخدمها %الرّوح كآنية للكرامة إلنجاز ش ّتى أعمال البرّ .فإن ك%%ان ل%%رداء
المعزة #بق%%در م%%ا يك ّن%%ون ل%%ه من
ّ وخاتم األب وما شابههما ممّا كان يحمل في حياته عند بنيه من
ّ ّ
فائق المحبّة ،فال ينبغي بحال من األحوال االس%تخفاف باألجس%اد ال%تي هي ب%التحقيق أوث%ق ص%لة
وارتباطا %بنا من أيّة حلية حملنا ،فما هي وسائل زين%%ة أو وقاي%%ة تقَّ %دم لن%%ا من الخ%%ارج ب%%ل تق%%ترن
ص ّديقين األوّ لين وتش%%ييع جن%%ائزهم وت%%رتيب بطبيعتنا كبشر .لذلك اع ُتني بب ّر وتقوى %بإقامة مآتم لل ّ
دفنهم ،وأوصوا %هم أنفسهم في حياتهم %بنيهم ب%%دفن ،وأحيان%ا %نق%%ل جثم%%انهم %.وارتض%ى %هللا طوب ّي%%ا*
الث%%الث من بين األم%%وات لدفنه الموتى بشهادة مالك ال ّربّ .وربّنا %المسيح نفسه الّذي قام في اليوم ّ
الثمن نوّ ه -موصيا من خالل ذلك ال ّتنويه -بمب ّرة المرأة ال ّديّنة الّتي أفاضت على جسده طيبا كثير ّ
الص%ليب واهت ّم%%وا بتكفين%%ه وش%كر %في اإلنجي%%ل من تل ّق%%وا جس%%ده من على ّ إعدادا لدفنه ،كم%%ا ُذك%%ر ُ
ودفنه بعناية وإجالل .ح ّقا ال تفيد هذه المصادر %المق ّدسة بوج%%ود %أيّ حسّ في جثث هام%%دة ،وإ ّنم%%ا
تعني أنّ العناية اإللهيّة الّتي ترتضي تلك ال ّتطوّ عات المألى بالب ّر وال ّتق%%وى تهت ّم بأجس%%اد الم%%وتى
إلنم%%اء إيمانن%%ا ب%%البعث .فيه%%ا نتعلّم ك%%ذلك لمص%%لحة خالص%%نا أيّ ث%%واب عظيم يمكن أن يج%%ازي
إحساننا إلى األحياء ال ّنابضين باإلحساس ،ما دام هللا ال يضيع أجر برّنا واعتنائنا بأجس%%اد بش%%ريّة
الصّ %ديقين تتعلّ%%ق ب%%دفن أو نق%%ل أجس%%ادهم أرادوا بارحتها الحياة .هناك طبعا أقوال أخرى لآلب%%اء ّ
شأن. إفهامنا أ ّنهم قالوها بوحي الرّوح ،لكن ليس هذا مح ّل الحديث عنها ويكفي ما قلنا بهذا ال ّ
لكن إن كان فقدان المتطلّبات الضّروريّة لحفظ بقاء األحياء كالقوت والكسوة ،مهما سبّب من
األلم ،ال يكسر طاقة الصّالحين على ال ّتحمّل والصّبر %وال يستأصل ال ّتقوى من قلوبهم ب%%ل يجعله%%ا
الش%عائر المأتم ّي%%ة ودفن بالمراس أكثر عطاء ،فما أعجز غياب تل%%ك الّ%%تي تس%%تلزمها %ع%%ادةُ إقام%%ة ّ
أجس%%اد الم%%وتى عن جعلهم يبتئس%%ون بع%%دما نعم%%وا بالرّاح%%ة األبد ّي%%ة في مقام%%ات األب%%رار المخف%%اة
شعائر جثث المسيحيّين أثناء ذلك الّ %دمار الّ%ذي تعرّض%ت بحجب الغيب! لذا لمّا حُرمت من تلك ال ّ
له رومية أو المدن األخرى ،ال جناح على األحي%%اء الّ%%ذين لم يس%%تطيعوا إقامته%%ا ،وال ض%%ير على
األموات الّذين ال يمكن أن يحسّوا بها.
الص ّديقين الّذين لم تغب عنهم أبدا تعزيات هللا 1-14في أسر ّ
قد يقال :لكنّ عديدا من المسيحيّين اقتيدوا %أسرى %كذلك .ذاك أمر مؤس%%ف ح ّق%%ا إن أمكن أن
يُقتادوا إلى مكان لم يجدوا فيه إلههم .ث ّم إنّ في الكتاب المق ّدس أعظم عزاء على هذا القرح :فلق%%د
كالثالثة ودانيال* وأنبياء آخرون ،ولم يتخ ّل عنهم هللا واهب العزاء .ال ش ّ % وقع في األسر األبناء ّ
إذن أ ّنه لم يتخ ّل عن عباده المؤمنين لمّا وقعوا %تحت سيطرة شعب همجيّ ال محالة لكن إنس%%انيّ ،
الس%خرية من ه%%ذه الوق%%ائع هو الّذي لم يتخ ّل عن نبيّه في جوف الحوت .يؤثر %من نناضل ض ّدهم ّ
شهير، على تصديقها ،مع أ ّنهم يص ّدقون %ما جاء في كتبهم عن أريوس %المثيمنيّ عازف القيثارة ال ّ
قص %ة س %يّدنا%أ ّنه عند سقوطه من على متن السّفينة وقع على ظهر دلفين حمل%%ه إلى اليابس%%ة .لكنّ ّ
يونس أصعب على ال ّتص%%ديق :هي ب%%ال ّتحقيق أص%%عب على ال ّتص%%ديق أل ّنه%%ا أعجب ،وهي أعجب
ألنّ قدرة أعظم تتجلّى فيها.
سد مثال أعلى على تح ّمل األسر اختيار ّيا بدافع الدّ ين ولم تس::عفه ّ
1-15في ريقولوس الذي يج ّ
مع ذلك اآللهة الّتي كان يعبد
عندهم مع ذلك مثال شهير ،ألحد رجالهم البارزين ،على تحمّل األسر اختياريّا وبدافع ال ّدين
%اني م%%رقس %ريقول%%وس %أس%%يرا في أي%%دي القرط%%اج ّنيّين ،وإليث%%ارهم ك%%ذلك .فق%%د وق%%ع القائ%%د الرّوم%ّ %
استرداد أسراهم من الرّومان على االحتفاظ بأسرى %الرّومان ،أرس%لوا إلى رومي%ة اللتم%اس ذل%ك
مع وفد من مفوّ ضيهم ريقولوس %بعدما حصلوا منه على تعهّد تحت القسم بالعودة إلى قرط%%اج %إن
طلب منه إذ لم يكن يرى مبادلة األسرى شيوخ بعكس ما ُ لم يح ّقق مبتغاهم %.فذهب وأقنع مجلس ال ّ
في صالح الجمهوريّة الرّومان ّي%%ة .بع%%د إقن%%اع الرّوم%%ان بوجه%%ة نظ%%ره لم ي%%ر ّدوه قس%%ر إرادت%%ه إلى
األعداء ،بل فعل من تلقاء نفسه وفاء بعهده .فقتلوه مسلّطين علي%%ه أفظ%%ع فن%%ون ال ّتع%%ذيب ،حبس%%وه
9
مرش%ق %بأسّ %نة ح%%ا ّدة ُأج%%بر على البق%%اء واقف%%ا داخل%%ه دون أن يس%%تطيع%
ّ في صندوق خش%%بيّ ض%يّق
ّ
ال ّتحرّك بأيّ ا ّتج%%اه دون الت%أذي بوخزه%%ا الم%%ب ّرح؛ به%ذا وبإرغام%ه على البق%اء س%اهدا باس%%تمرار
ّ
الثناء على شجاعته األعظم من بالئه العظيم .كان قد أقس%م %بآله%%ة ك ّ يحق ال ش ّ قضوا على حياتهّ .
يرى خصومنا أنّ حظر عبادتها سبّب ه%%ذه الك%%وارث للجنس البش%%ريّ :ف%%إن أرادت أو قبلت ،هي
الّ%تي ك%انت ُتعب%%د لتجع%ل ه%%ذه الحي%اة مر ّفه%%ة ،أن يتع%%رّ ض ذل%%ك الرّج%%ل الم%%وفي بعه%%ده إلى تل%%ك
األنكال ،ماذا كانت ستصنع أسوأ منها لو أغضبها بالحنث بيمينه؟
لكن لم ال أختم استداللي %باألحرى به%%ذين االس%%تنتاجين :أوّ ال من ال%%بيّن أنّ ذل%%ك الرّج%%ل عب%%د
اآللهة بتفان بلغ ح ّد الرّضى بمبارحة وطن%%ه وف%%اء بيمين%%ه ،ال لل%ّ %ذهاب إلى أيّ مك%%ان يعجب%%ه ،ب%%ل
للعودة إلى أعدائه اللّ ّد دون أدنى تر ّدد .فإن كان يرى في ذلك نفع%%ا لحيات%%ه الحاض%%رة ،وق%دُ %م%%ني
ك أ ّنه كان مخطئا في ظ ّنه ،ولقد علّمنا بمثاله أنّ ال نفع لآللهة الوثن ّي%%ة بذلك المصير %الفظيع ،ال ش ّ
في جلب سعادة ال ّدنيا مادام ذلك ال ّرجل المتفاني في عبادتها قد ُغلب واقتيد %أسيرا ،ولرفضه فع%%ل
وحشي مستج ّد لم يُسمع قب ُل بمثله .ثاني%%ا ،إن ك%%انت
ّ% غير ما أقسم عليه بع ّزتها %مات ضحيّة تعذيب
عبادة تلك اآللهة ُتجزى بال ّنعيم %بعد ه%%ذه الحي%%اة فلِم يثلب%%ون عص%%ر المس%%يحيّة زاعمين أنّ رومي%%ة
ُدهيت بتلك الكارثة النقطاعها عن عبادة آلهتها ،بينما كان ممكن%%ا أن تتع%%رّ ض ح ّتى وهي مث%%ابرة
على عبادته%%ا إلى مص%%ير %تعيس كالّ%%ذي آل إلي%ه ريقول%%وس؟ %اللّه ّم إالّ إن ع%%ارض مك%%ابر الحقيق%%ة
السّاطعة بعمى أرعن عجاب ،م ّدعيا سفها استحالة أن تشقى مدينة بأكملها تعبد تل%%ك اآلله%%ة ،وإن
أمكن ذلك بال ّنسبة لفرد واحد ألنّ قوّ ة اآللهة أقدر %على حفظ الجماعة من حفظ الفرد ،والح%%ال أنّ
الجماعة قوامها %األفراد.
أمّا إن قالوا إ ّنه أمكن لريقولوس ،وهو في األسر وتحت ال ّتعذيب الجسديّ ،أن ينعم بالسّعادة
الس%عادة.لفضيلة نفسه ،فليلتمسوا %باألحرى الفضيلة الحقيقيّة الّتي يمكن للمدينة أيضا أن تجد به%%ا ّ
فهي ال تستم ّد سعادتها من مصدر غير الّذي يستم ّد منه الفرد سعادته ،فما المدينة سوى مجموعة
من المواطنين تعيش في وئام .ال أجادل بعد في حقيقة الفضيلة الّتي يتحلّى به%%ا ريقول%%وس ،يكفي
في الوقت الحاضر %أنّ هذا المثال الرّائع يفرض عليهم االعتراف بأ ّن%%ه ال يجب أن يعب%%د اإلنس%%ان
اآللهة طمعا في الخيرات الجسديّة أو األعراض الّتي تأتيه من الخارج ،فإنّ ذل%%ك الرّج%%ل آث%%ر أن
يُحرم منها كلّها على إهانة اآللهة الّتي أقسم بها .لكن م%%ا العم%%ل م%%ع أن%%اس يفخ%%رون أن ك%%ان لهم
مواطن مثله ويخشون أن تكون لهم مدينة بمث%%ل ش%%يمه؟ إن لم يكون%%وا يخش%%ون ذل%%ك فليُق%%رّوا %إذن
بإمكان تع ّرض مدينة مواظبة على عبادة آلهتها لمثل م%%ا حص%%ل لريقول%%وس ،وليك ّف%%وا اف%%تراءاتهم
عن عص%%ر المس%%يحيّة .لكن بم%%ا أ ّنهم أث%%اروا %المس%%ألة ح%%ول المس%%يحيّين الّ%%ذين ُأس%%روا هم أيض%%ا،
فليتأمّل في هذا ويخرس من يسخرون بسفاهة وسخافة* من ال ّدين المنقذ ح ّق%%ا وص%%دقا %.إن لم يكن
عارا على آلهتهم أنّ ذلك الرّج%ل المتف%اني في عبادته%ا اض%طرّ لحرص%ه على الوف%اء بقس%مه إلى
مفارقة وطنه الّذي ليس له سواه ،ث ّم تعرّ ض عند أعدائه إلى عذاب لم يسبق له في القسوة مثي%%ل،
ومات بعد احتضار مرير ،فما أق ّل ح ّقهم في تعيير ال ّدين المسيحيّ بأس%%ر صّ %ديقيه الّ%%ذين يعلم%%ون
أ ّنهم غرباء ح ّتى في منازلهم وينتظرون الوطن العلويّ بإيمان صادق.
ّ ّ
تعرضت لها في األسر العذارى الن::اذرات العف:ة :أن تل:ّ :وث ّ
1-16هل أمكن للفواحش التي ر ّبما ّ
عفاف أنفسهنّ دون رضا إرادتهنّ
يتصوّ رون أ ّنهم يع ّي%%رون المس%%يحيّات بمثلب%%ة ك%%برى ل ّم%%ا يض%%يفون عارض%%ين ه%%وان أس%%رهنّ
الفواحش الّتي مورست ال على المحصنات واألبكار البالغات فقط بل كذلك على بعض من نذرن
هلل عذرتهنّ .في الحقيقة ال يقع في إشكال هنا اإليمان وال ال ّتقوى وال الفضيلة الّتي ندعوها الع ّفة،
بل الخيار بين صيانة العرض واالمتثال للعقل .ال يعنينا هنا الرّ ّد على أقوال الغير قدر م%%ا تهمّن%%ا
تعزية أخواتنا .ل ُنق ّر إذن ونؤ ّكد %أوّ ال أنّ الفضيلة الّتي بها نعيش باستقامة تمليها ال ّنفس مقرُّ ها على
أعضاء الجسد ،وأنّ زكاء الجسد مستم ّد من زكاء اإلرادة الّتي تسيّره فطالما %بقيت ثابتة وص%%امدة
ليس في ك ّل ما يفعل الغير بجسد أو في جسد أح%%د ال يس%%تطيع تحاش%%يه دون أن ي%%رتكب ه%%و ذات%%ه
10
إثما من إثم على المفعول به .لكن بما أنّ من الممكن ممارس%%ة فع%%ل على جس%%م الغ%%ير ال إلح%%داث
األلم فقط بل كذلك إلحداث اللّ ّذة ،ك ّل فعل من هذا القبيل ،ح ّتى إن لم يُزل العفاف إن ّ
تمس %كت ب%%ه
ال ّنفس بصمود قد يخدش* مع ذلك الحياء ،ج ّراء الخوف من أن يُظنّ أن ق%%د ت ّم برض%%ا اإلرادة م%%ا
لم يمكن ربّما وقوعه بدون التذاذ الجسد.
<<
11