Professional Documents
Culture Documents
الحديث03
الحديث03
ولذلك ،استمر اهتمام الباحثين والدارسين لنتاجاته الفكرية والفلسفية ليس من منظور
ُتراثي تقييمي فقط ،بل من مبدأ علمي له صلة بمجريات األحداث والوقائع الحياتية
واالجتماعية والسياسية ،التي لم تظهر جراء أسباب داخلية بحتة ،وإنّما مرتبطة
بمسبّبات خارجية أدت إلى حدوثها ووقوعها.
إن هدف ابن خلدون من إدخال قانون السببية في بحوث التاريخ ،إلثبات أنه علم من بين
العلوم وظاهرة من بين الظواهر الطبيعية ،التي تقوم على ُأسس الحقائق الواقعية في
المشاهدة والتجربة وقوة المالحظة ،وما يتبع ذلك من أقيسة يقينية في العالم
المحسوس.
ومن هنا ،ركّز ابن خلدون على دور العقل والحواس ضمن نطاق التجربة وتمحيص
الحقائق واستقراء الحوادث ،أما غيرها من البحوث الذهنية في الماورائيات والمنطق
فهي تجريدية بعيدة من إقامة البراهين عليها في الواقع المادي ،وبذلك ال يمكن أن تفيد
وتخدم العلوم الطبيعية.
كان موقف ابن خلدون واضحاً منذ البدء ،إذ تميّز بنزعة تجريبية جلية في نهجه ومنهجه
العلمي في التاريخ وفي علم العمران (علم االجتماع) على ح ٍد سواء.
وعندما أبعد التجريدات من الفحص والمالحظة ،ألن طبيعتها مبنية على تصوّرات نتائجها
المعرفية غير طبيعة الواقع العياني المحسوس.
فعلى سبيل المثال ،من الوهم االعتقاد أن األقيسة المنطقية كفيلة بمعرفة حقائق
األشياء الطبيعية ،التي تخضع للتجربة الحسية .فالمنطق ُينظم المعرفة ال يصنعها.
وهكذا أراد ابن خلدون أن ُيبلط الطريق بُأسس معرفية توصلنا إلى أحكام يقينية ،يمكن
الوثوق فيها واالعتماد عليها .فالعقل والحواس والخبرة الشخصية وتمحيص الحقائق
الجزئية وفهم الواقعات واستقراء الحوادث تجاه األشياء الطبيعية ،كلها تؤدي بنا إلى
استخراج نتائج يقينية.
من بين النظريات التي وضعها ابن خلدون قوله ،إن األحداث والوقائع التي تجري في
الزمن الحاضر ولها ما ُيماثلها من األحداث والوقائع التي جرت في الزمن الماضي وفي
المكان نفسه ،فإنه يمكننا أن نتنبأ بمستقبلها.
فالحوادث ،وفق مفهومه ،ترتبط مع بعضها بعضاً ارتباط العلة بالمعلول .ولذلك ،يؤكد في
كتاب "المقدمة" أن استقراء حوادث التاريخ ودراستها تقود إلى معرفة السبب ،التي من
د أن تعود إلى أسباب
شأنها أن تساعد على معرفة المسبب ،وأن مالمح المستقبل ال ب ّ
ُأ
تتفاعل في الزمن الحاضر .وعليه ،فإن المستقبل يمكن التنبؤ به على سس علمية.
بمعنى آخر ،بحسب مفهوم ابن خلدون ،عندما نحقق أي خبر أو حدث من أخبار وحوادث
تجري في الوقت الحاضر ،يجب علينا عرضه على مقياس العقل والبرهان من جهة،
ومقارنته مع ما يشابهه من وقائع التاريخ من جهة أخرى .فالظروف المتشابهة ينتج منها
وقائع متشابهة أيضاً ،وبذلك يكون بمقدورنا معرفة الحاضر بشكل صحيح ،وأن المعرفة
المتكاملة ال تتم لنا من دون معرفة الحوادث الماضية ،إذ نستطيع من خالل هذه العملية
النمطية بين الحاضر والماضي أن نستنبط أحوال المستقبل.
يقول ابن خلدون "أنّا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من
الترتيب واإلحكام وربط األسباب بالمسببات واتصال األكوان باألكوان واستحالة بعض
الموجودات إلى بعض".
فالتاريخ له قوانين وسنن يعمل من خاللها في مجرى الحوادث والواقعات ،التي أتاحتها
عوامل عدة وفق سياق قانون السببية الساري في كافة األحوال الطبيعية .إذ لكل
حادث سبب معقول يرجع إليه حدوثه ،فإذا تبيّنت األسباب فهمت الحادث وأثبَّته ،وإال
حق لك أن ترتاب وتبحث.
َّ
لذلك ،يهتم ابن خلدون في مبدأ "المطابقة" أو المقارنة بين الحاضر والماضي تجاه
األخبار والحوادث ،إذ إن استخدام المبدأ المقارن يساعدنا ليس فقط في تحديد صدق
وصحة الواقعات ،بل كذلك في استشفاف المستقبل وفقاً لنمطية كل واقعة من تلك
الوقائع.
كان اهتمام ابن خلدون بالعناصر الزمنية الثالث :الحاضر والماضي والمستقبل ،تشغل
مساحة ملحوظة في مجال تفكيره ،فال يكاد يصدر حكماً أو تقييماً تاريخياً أو اجتماعياً ،إال
وبانت فيه تلك العناصر من الزمن.
على سبيل الذكر ال الحصر ،عن كيفية تجاوز المزالت والمغاليط ،في ضرورة قياس
"الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب" ،تبين مدى تركيزه على عناصر الزمن ،الذي
بالقدر أن نفهم واقعات الحاضر ونقارنها بما يشابهها من الماضي لكي نستشف أمور
المستقبل .
إن النتيجة المنطقية التي توصل إليها ابن خلدون في إمكانية التنبؤ العلمي بالمستقبل،
قد شملت أيضاً اهتمامه الخاص بمفهوم الصيرورة ،فهي ظاهرة أخرى من ظواهر
الطبيعة ،التي تستحق البحث والدراسة.
فالتطور التدريجي في الحياة والمجتمع تلعب دوراً مهماً في أحوال األمم واألجيال .فلكل
وضعه الذي يتميّز فيه ،وأحواله وعوائده التي ال تبقى على طريقة واحدة ،بل
ُ جيل
تختلف باختالف الزمان والمكان.