You are on page 1of 2

‫‪ 

‬الحديث‪ ،‬من زمنه بشكل عام‪98.‬‬

‫ولذلك‪ ،‬استمر اهتمام الباحثين والدارسين لنتاجاته الفكرية والفلسفية ليس من منظور‬
‫ُتراثي تقييمي فقط‪ ،‬بل من مبدأ علمي له صلة بمجريات األحداث والوقائع الحياتية‬
‫واالجتماعية والسياسية‪ ،‬التي لم تظهر جراء أسباب داخلية بحتة‪ ،‬وإنّما مرتبطة‬
‫بمسبّبات خارجية أدت إلى حدوثها ووقوعها‪.‬‬

‫إن هدف ابن خلدون من إدخال قانون السببية في بحوث التاريخ‪ ،‬إلثبات أنه علم من بين‬
‫العلوم وظاهرة من بين الظواهر الطبيعية‪ ،‬التي تقوم على ُأسس الحقائق الواقعية في‬
‫المشاهدة والتجربة وقوة المالحظة‪ ،‬وما يتبع ذلك من أقيسة يقينية في العالم‬
‫المحسوس‪.‬‬

‫ومن هنا‪ ،‬ركّز ابن خلدون على دور العقل والحواس ضمن نطاق التجربة وتمحيص‬
‫الحقائق واستقراء الحوادث‪ ،‬أما غيرها من البحوث الذهنية في الماورائيات والمنطق‬
‫فهي تجريدية بعيدة من إقامة البراهين عليها في الواقع المادي‪ ،‬وبذلك ال يمكن أن تفيد‬
‫وتخدم العلوم الطبيعية‪.‬‬

‫كان موقف ابن خلدون واضحاً منذ البدء‪ ،‬إذ تميّز بنزعة تجريبية جلية في نهجه ومنهجه‬
‫العلمي في التاريخ وفي علم العمران (علم االجتماع) على ح ٍد سواء‪.‬‬

‫وعندما أبعد التجريدات من الفحص والمالحظة‪ ،‬ألن طبيعتها مبنية على تصوّرات نتائجها‬
‫المعرفية غير طبيعة الواقع العياني المحسوس‪.‬‬

‫فعلى سبيل المثال‪ ،‬من الوهم االعتقاد أن األقيسة المنطقية كفيلة بمعرفة حقائق‬
‫األشياء الطبيعية‪ ،‬التي تخضع للتجربة الحسية‪ .‬فالمنطق ُينظم المعرفة ال يصنعها‪.‬‬

‫وهكذا أراد ابن خلدون أن ُيبلط الطريق بُأسس معرفية توصلنا إلى أحكام يقينية‪ ،‬يمكن‬
‫الوثوق فيها واالعتماد عليها‪ .‬فالعقل والحواس والخبرة الشخصية وتمحيص الحقائق‬
‫الجزئية وفهم الواقعات واستقراء الحوادث تجاه األشياء الطبيعية‪ ،‬كلها تؤدي بنا إلى‬
‫استخراج نتائج يقينية‪.‬‬

‫التنبؤ العلمي بالمستقبل‪  ‬‬

‫من بين النظريات التي وضعها ابن خلدون قوله‪ ،‬إن األحداث والوقائع التي تجري في‬
‫الزمن الحاضر ولها ما ُيماثلها من األحداث والوقائع التي جرت في الزمن الماضي وفي‬
‫المكان نفسه‪ ،‬فإنه يمكننا أن نتنبأ بمستقبلها‪.‬‬

‫فالحوادث‪ ،‬وفق مفهومه‪ ،‬ترتبط مع بعضها بعضاً ارتباط العلة بالمعلول‪ .‬ولذلك‪ ،‬يؤكد في‬
‫كتاب "المقدمة" أن استقراء حوادث التاريخ ودراستها تقود إلى معرفة السبب‪ ،‬التي من‬
‫د أن تعود إلى أسباب‬
‫شأنها أن تساعد على معرفة المسبب‪ ،‬وأن مالمح المستقبل ال ب ّ‬
‫ُأ‬
‫تتفاعل في الزمن الحاضر‪ .‬وعليه‪ ،‬فإن المستقبل يمكن التنبؤ به على سس علمية‪.‬‬
‫بمعنى آخر‪ ،‬بحسب مفهوم ابن خلدون‪ ،‬عندما نحقق أي خبر أو حدث من أخبار وحوادث‬
‫تجري في الوقت الحاضر‪ ،‬يجب علينا عرضه على مقياس العقل والبرهان من جهة‪،‬‬
‫ومقارنته مع ما يشابهه من وقائع التاريخ من جهة أخرى‪ .‬فالظروف المتشابهة ينتج منها‬
‫وقائع متشابهة أيضاً‪ ،‬وبذلك يكون بمقدورنا معرفة الحاضر بشكل صحيح‪ ،‬وأن المعرفة‬
‫المتكاملة ال تتم لنا من دون معرفة الحوادث الماضية‪ ،‬إذ نستطيع من خالل هذه العملية‬
‫النمطية بين الحاضر والماضي أن نستنبط أحوال المستقبل‪.‬‬

‫يقول ابن خلدون "أنّا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من‬
‫الترتيب واإلحكام وربط األسباب بالمسببات واتصال األكوان باألكوان واستحالة بعض‬
‫الموجودات إلى بعض"‪.‬‬

‫‪ ‬فالتاريخ له قوانين وسنن يعمل من خاللها في مجرى الحوادث والواقعات‪ ،‬التي أتاحتها‬
‫عوامل عدة وفق سياق قانون السببية الساري في كافة األحوال الطبيعية‪ .‬إذ لكل‬
‫حادث سبب معقول يرجع إليه حدوثه‪ ،‬فإذا تبيّنت األسباب فهمت الحادث وأثبَّته‪ ،‬وإال‬
‫حق لك أن ترتاب وتبحث‪.‬‬
‫َّ‬

‫لذلك‪ ،‬يهتم ابن خلدون في مبدأ "المطابقة" أو المقارنة بين الحاضر والماضي تجاه‬
‫األخبار والحوادث‪ ،‬إذ إن استخدام المبدأ المقارن يساعدنا ليس فقط في تحديد صدق‬
‫وصحة الواقعات‪ ،‬بل كذلك في استشفاف المستقبل وفقاً لنمطية كل واقعة من تلك‬
‫الوقائع‪.‬‬

‫كان اهتمام ابن خلدون بالعناصر الزمنية الثالث‪ :‬الحاضر والماضي والمستقبل‪ ،‬تشغل‬
‫مساحة ملحوظة في مجال تفكيره‪ ،‬فال يكاد يصدر حكماً أو تقييماً تاريخياً أو اجتماعياً‪ ،‬إال‬
‫وبانت فيه تلك العناصر من الزمن‪.‬‬

‫على سبيل الذكر ال الحصر‪ ،‬عن كيفية تجاوز المزالت والمغاليط‪ ،‬في ضرورة قياس‬
‫"الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب"‪ ،‬تبين مدى تركيزه على عناصر الزمن‪ ،‬الذي‬
‫بالقدر أن نفهم واقعات الحاضر ونقارنها بما يشابهها من الماضي لكي نستشف أمور‬
‫المستقبل‪ .‬‬

‫إن النتيجة المنطقية التي توصل إليها ابن خلدون في إمكانية التنبؤ العلمي بالمستقبل‪،‬‬
‫قد شملت أيضاً اهتمامه الخاص بمفهوم الصيرورة‪ ،‬فهي ظاهرة أخرى من ظواهر‬
‫الطبيعة‪ ،‬التي تستحق البحث والدراسة‪.‬‬

‫فالتطور التدريجي في الحياة والمجتمع تلعب دوراً مهماً في أحوال األمم واألجيال‪ .‬فلكل‬
‫وضعه الذي يتميّز فيه‪ ،‬وأحواله وعوائده التي ال تبقى على طريقة واحدة‪ ،‬بل‬
‫ُ‬ ‫جيل‬
‫تختلف باختالف الزمان والمكان‪.‬‬

You might also like