You are on page 1of 332

‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫مؤلف جماعي‬

‫تنسيق‪:‬‬
‫سعيد الحاجي‬

‫صيف عام ‪2020‬‬


‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫عنوان الكتاب‪:‬‬

‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫تنسيق‪ :‬سعيد الحاجي‬

‫الطبعة‪ :‬األولى ‪2020‬‬

‫ردمك‪ISBN: 978- 9920- 611- 03- 9 :‬‬

‫منشورات مركز تكامل‬


‫للدراسات واألبحاث‬

‫مطبعة قرطبة‪ ،‬أكادير‬


‫تصميم الغالف‪ :‬عبد الخالق الطالل‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الفهرس‪:‬‬

‫تقديم ‪5 ..................................................................................................................................‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة جائحة كورونا؟ ترتيبات نظرية وإجرائية لبناء عتبة الفهم األولي ‪.........‬‬
‫إبراهيم القادري بوتشيش ‪11......‬‬
‫الكوليرا والكورونا من الحدود البيولوجية إلى العوملة الفيروسية ‪.................................................‬‬
‫محمد حبيدة ‪37......‬‬
‫الجوائح وجدلية الدولة والحضارة ‪............................................................................................‬‬
‫عبدالواحد أكمير ‪51.....‬‬
‫التاريخ بين الجدوى واملوضوع وآليات االشتغال ‪.........................................................................‬‬
‫الطيب بياض ‪75.....‬‬
‫"الكورونا" وأخواتها في سياق التاريخ ‪.........................................................................................‬‬
‫محمد األزهر غربي ‪99.....‬‬
‫هل استعادة املؤرخ ملا حدث في املاض ي سيفيد في فهم ما يجري زمن " كورونا "؟‪..........................‬‬
‫البضاوية بلكامل ‪129.....‬‬
‫الكورونا واستنهاضات العقل اإلنساني ‪......................................................................................‬‬
‫مشير باسيل عون ‪163.....‬‬
‫جائحة كورونا‪ ..‬بين درس التاريخ والعودة للفردانيات ‪.................................................................‬‬
‫أسامة الزكاري ‪197.....‬‬
‫السلوك التضامني خالل أزمة كورونا‪ :‬التاريخ مدخال للفهم والتفسير‪...........................................‬‬
‫سعيد الحاجي ‪209......‬‬
‫املؤرخ وجائحة "كوفيد ‪ :"19‬مالحظات أولية ‪.............................................................................‬‬
‫محمد مزيان ‪229......‬‬
‫مرض كوفيد‪ 19-‬عام ‪ :2020‬قراءة في اإلحصائيات الطبية والتجارب العالجية ‪..............................‬‬
‫ابراهيم أوباها ‪............‬‬
‫الحسين املكحول ‪............‬‬
‫مبارك أركوكو ‪261......‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫تقديم‪:‬‬

‫بعدما اكتسب فيروس كورونا املستجد طابعه الكوني‪ ،‬أغلقت مختلف‬

‫دول العالم حدودها‪ ،‬وأخضعت شعوبها لتدابير وقائية صارمة على رأسها‬

‫الحجر الصحي‪ ،‬الذي ألزم الناس بيوتهم وسط املخاوف من التعرض لإلصابة‬

‫بالوباء‪ .‬في هذه الظروف‪ ،‬لم يعد العالم فقط أمام أزمة صحية‪ ،‬بل أمام أزمة‬

‫كبرى متعددة املستويات‪ ،‬اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ونفسيا‪ ،...‬الش يء‬


‫الذي حرك املتخصصين في مختلف املجاالت ملناقشة مظاهر األزمة وتداعياتها‬

‫الحالية واملستقبلية‪ ،‬وذلك بدرجة متفاوتة اختلفت حسب قوة كل مظهر من‬

‫مظاهرها‪.‬‬

‫وإذا كان التفاعل اآلني مع األحداث الكبرى في العالم مألوفا من طرف‬

‫املتخصصين في بعض الحقول املعرفية‪ ،‬كاالقتصاد والقانون وعلم النفس‬


‫واالجتماع والعلوم السياسية وغيرها‪ ،‬فإن االنطباع السائد بخصوص حقول‬

‫أخرى مثل حقل التاريخ‪ ،‬يجعلنا أمام فكرة سائدة تعتبر املؤرخ غير معني‬

‫بالتفاعل مع الحدث اآلني‪ ،‬وهو ما قد ينطبق على أزمة كورونا الحالية‪ .‬ومن‬

‫هنا تأتي مشروعية السؤال‪ :‬أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪5‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ال يتعلق األمر بمحاولة فهم األزمة لذاتها‪ ،‬ألن األمر ينطوي على مخاطر‬

‫منهجية بالنسبة للمؤرخ‪ ،‬أهمها خطر التفسير باالستناد على معطيات ظرفية‬

‫قابلة للتغير في أي لحظة‪ .‬بل بمحاولة فهم تداعيات األزمة على مختلف‬
‫املستويات انطالقا من األزمات املماثلة التي عرفها التاريخ‪ ،‬فتفسير عدم‬

‫انضباط املجتمع لتدبير وقائي معين‪ ،‬قد يجد نفسه في خلفية ثقافية تشكل‬

‫امتدادا لبنية تشكلت على مدى عقود أو قرون (قدرية اإلصابة على سبيل‬
‫املثال)‪ ،‬وتدخل الدولة لتعزيز حضورها في املجتمع عبر رجال السلطة‪ ،‬يحيلنا‬

‫على أدوار ثابتة للدولة وبنفس اآلليات في أزمات مماثلة خالل فترات تاريخية‬

‫سابقة‪ .‬ومحاولة استشراف مستقبل العالقات بين الدول‪ ،‬يجعل من املعطى‬


‫التاريخي عامال مهما في تحديد طبيعة التحول الذي قد تفرزه أزمة كورونا على‬

‫هذا املستوى‪ .‬كما أن غياب تمثل املجتمع لحالة الوباء الكوني‪ ،‬يجعل املؤرخ‬

‫مؤهال أكثر من غيره لتشكيل هذا التمثل لدى املجتمع‪ ،‬انطالقا من قدرته على‬

‫استحضار أزمات املاض ي واستخالص معاملها بما يتوفر عليه من أدوات منهجية‪.‬‬

‫كل هذا مع التأكيد على أن هناك من الباحثين‪ ،‬من سيرى بأن مساهمة املؤرخ‬

‫قد ال تفض ي بالضرورة إلى فهم يذكر لألزمة إال بعد مرورها بفترة وظهور كل‬
‫التفاصيل املرتبطة بها‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫إن املساهمات التي قدمها بعض املؤرخين في النقاش الدائر اليوم‪ ،‬سواء‬

‫تعلق األمر بالندوات التفاعلية على األنترنيت والتي عوضت الندوات الحضورية‬

‫الفعلية للباحثين‪ ،‬أو تفاعالت املؤرخين مع وسائل اإلعالم وغيرها‪ ،‬هي‬


‫مساهمات تستحق توثيقها في كتاب جماعي‪ ،‬نظرا ألهميتها في تحديد طريقة‬

‫تفاعل املؤرخ مع حدث آني كوني‪ ،‬لم يسبق أن خلف نفس التأثير على كل‬

‫شعوب العالم في نفس املرحلة الزمنية‪ .‬وهو ما قد يعطي لألجيال الالحقة من‬
‫الباحثين فكرة عن الزوايا التي يمكن للمؤرخ من خاللها أن يتفاعل مع‬

‫األحداث املماثلة‪ ،‬أخذا بعين االعتبار أن حدثا بهذه الخصوصيات وبطابعه‬

‫الكوني قد يتكرر أكثر من مرة‪ ،‬وقد ال يتكرر أبدا‪.‬‬

‫ال يتعلق األمر في هذا الكتاب الجماعي بدراسات أكاديمية تتعلق بتاريخ‬

‫األوبئة في املغرب والعالم‪ ،‬بقدر ما هي مقاالت تأملية لعينة من املؤرخين الذين‬

‫ينتمون إلى أجيال مختلفة ومباحث تاريخية متنوعة‪ ،‬الهدف منها اإلجابة على‬

‫السؤال املطروح بخصوص دور املؤرخ في فهم األزمة إلى جانب املتخصصين في‬

‫الحقول املعرفية األخرى‪ ،‬وكذلك توثيق التفاعل اآلني للمؤرخ معها‪ ،‬والذي‬

‫يهدده خطر التواري خلف ما سيكتبه املؤرخون بعد اكتمال الصورة وعودتهم‬
‫إ لى مكانهم الذي يراه البعض طبيعيا بعد توفر املسافة الزمنية الكافية مع‬

‫‪7‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الحدث‪.‬‬

‫انطلقت األجوبة على السؤال املطروح في هذا الكتاب من زوايا متعددة‪،‬‬

‫فابراهيم القادري بودشيش ذهب إلى أن دور املؤرخ في فهم أزمة كورونا يتحدد‬
‫آنيا في محاولة بناء عتبة الفهم األولي لألزمة‪ ،‬عبر مجموعة من الترتيبات‬

‫النظرية واإلجرائية‪ ،‬بينما اختار محمد حبيدة وضع أزمة كورونا في سياق‬

‫املقارنة مع وباء الكوليرا إلبراز االنتقال من الحدود البيولوجية إلى العوملة‬


‫الفيروسية‪ .‬فيما فضل عبد الواحد أكمير االنطالق من زاوية تأثير الجوائح على‬
‫الدولة والحضارة الستشراف تأثير وباء كورونا على البنيات السياسية للدول‬

‫والحضارات‪ .‬أما الطيب بياض فبقي وفيا النشغاالته املنهجية املتعلقة بالتاريخ‬
‫الراهن‪ ،‬وطرح مسألة التاريخ بين الجدوى واملوضوع وآليات االشتغال‪ .‬واختار‬

‫محمد األزهر غربي العودة لسياقات األوبئة عبر وضع وباء كورونا في سياقه‬

‫التاريخي إسوة باألوبئة املماثلة التي عرفها التاريخ‪ .‬وكان تاريخ الفلسفة حاضرا‬

‫عبر ميشيل باسيل عون الذي حاول رصد دور أزمة كورونا في استنهاض العقل‬

‫اإلنساني‪ ،‬بينما حاول أسامة الزوكاري فهم مسألة العودة إلى الفردانيات في‬

‫زمن الوباء‪ .‬وكانت البضاوية بلكامل واضحة في طرح سؤالها حول جدوى العودة‬
‫إلى التاريخ لفهم ما يجري خالل أزمة كورونا‪ .‬وقدم محمد مزيان مالحظات‬

‫‪8‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫أولية حول عالقة املؤرخ بكوفيد ‪ .19‬أما سعيد الحاجي فقد اختار إبراز دور‬

‫التاريخ في فهم وتفسير السلوك التضامني للدولة واملجتمع خالل أزمة كورونا‪.‬‬

‫وقد ختمنا هذا العمل الجماعي بقراءة في املعطيات اإلحصائية والتجارب‬


‫العالجية املتعلقة بوباء كورونا إلى حدود تاريخ صدور الكتاب‪ ،‬والتي أنجزها‬

‫إبراهيم أوباها والحسين املكحول وامبارك اركوكو‪ ،‬لكي يكون القارئ أمام‬

‫صورة واضحة لطبيعة الوضع الوبائي الذي استلزم انخراط املؤرخ إلى جانب‬
‫غيره من املتخصصين في محاولة فهم األزمة‪.‬‬

‫إجماال‪ ،‬فإن هذا العمل الجماعي يسعى إلى تقديم فكرة محورية تتمثل‬

‫في ضرورة توثيق حضور املؤرخ في األحداث الراهنة‪ ،‬والتشجيع على مراكمة ما‬
‫يرتبط بهذا الحضور‪ ،‬فاملؤرخ وإن كان يضطلع بمهمة كتابة التاريخ انطالقا‬

‫من مسافة معينة‪ ،‬سواء كانت زمنية أو منهجية‪ ،‬فإن هذا ال يعني غياب إمكانية‬

‫تفاعله مع الحاضر بقدر تفاعله مع املاض ي‪.‬‬

‫وفي الختام‪ ،‬أود التعبير عن امتناني وشكري لألساتذة الذين دعموا فكرة‬

‫هذا العمل‪ ،‬وأخص بالذكر األستاذ عبد الرحيم العالم منسق املجلس العلمي‬

‫ملركز تكامل للدراسات واألبحاث‪ ،‬واملؤرخ املغربي األستاذ الطيب بياض على‬
‫مقترحاته القيمة ومواكبته للعمل منذ بداية إنجازه على أرضية الندوة‬
‫‪9‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫التفاعلية التي نظمها املركز في نفس املوضوع‪ ،‬وكذلك املؤرخ املغربي األستاذ‬

‫إبراهيم القادري بودشيش على تصويباته وتوجيهاته الدقيقة‪ ،‬إضافة إلى كل‬

‫األساتذة املشاركين بمقاالتهم‪ ،‬والذين شجعوا فكرة التأسيس لكتابات تفتح‬


‫باب النقاش حول التاريخ اآلني وأهميته‪ .‬والشكر موصول أيضا إلى باقي أعضاء‬

‫الفريق الذي انتدبه املركز لإلشراف على هذه السلسلة‪ ،‬األساتذة‪ :‬دة‪ ،‬نجاة‬

‫عماري‪ ،‬د‪ .‬حفيظ هروس‪ ،‬د‪ .‬ربيع أوطال‪ .‬وكذلك مصمم الغالف السيد عبد‬
‫الخالق الطالل ومطبعة قرطبة بأكادير‪.‬‬
‫سعيد الحاجي‬

‫القصر الكبير‪ ،‬في ‪ 07‬غشت ‪2020‬‬

‫‪10‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة جائحة كورونا؟‬

‫ترتيبات نظرية وإجرائية لبناء عتبة الفهم األولي‬

‫إبراهيم القادري بوتشيش‬

‫جامعة موالي إسماعيل بمكناس‬

‫‪11‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪12‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫لم يسلط الضوء على سؤال األوبئة والجوائح في اإلسطوغرافيا التاريخية‬


‫املغربية إال في دائرة ضيقة تتسم باملحدودية واالبتسار‪ ،‬وسقف ال يتجاوز‬

‫الشذرات والنتف املتفرقة‪ .‬فإذا استثنينا ابن خلدون‪ 1‬وابن الخطيب‪ 2‬وغيرهما‬
‫من املؤرخين الذين ّ‬
‫يعدون على رؤوس أصابع اليد‪ ،‬فإن الوباء ظل هامشيا‬

‫ومعزوال في ثنايا السردية التاريخية‪ .‬بل إن "الخبر الوبائي" لم يحتل سوى موقع‬

‫هامش ي لدى املؤرخين اآلخرين الذين حشروه في خانة األخبار العامة‪ ،‬ووضعوه‬
‫ضمن النصوص "الباردة"‪ ،‬بعيدا عن ّ‬
‫حر املعارك‪ ،‬لذلك غالبا ما كان يتم‬

‫تأجيل ذكرها حتى آخر أحداث سنة من السنوات‪ ،‬أو في آخر مفاصل الروايات‬
‫ّ‬
‫يحتل‬ ‫الخاصة بعهد ملك من امللوك أو األمراء الذين أرخوا لهم‪ ،‬من دون أن‬
‫الوباء في منهجيتهم مركزية الخبر التاريخي‪ ،‬أو يوضع فوق مشرحة التحليل‬

‫والتفسير‪ ،‬أو يخضع لعملية الفهم واالستيعاب والتدقيق واستخراج‬

‫‪ 1‬تعرض عبد الرحمن بن خلدون لذكر الطاعون الجارف الذي ّ‬


‫حل باملعمور خالل القرن‬
‫‪ 8‬هـ‪14 /‬م في كتاب املقدمة‪ ،‬ط‪ ،3‬دار إحياء التراث العربي‪ ،‬بيروت‪( ،‬دون تاريخ)‪ ،‬ص ‪32‬‬
‫– ‪.33‬‬
‫‪ 2‬عرف لسان الدين باهتمامه بالطب‪ ،‬وله عدة كتب في هذا الحقل العلمي منها على سبيل‬
‫حب"‪ ،‬و" الوصول لحفظ الصحة في الفصول"‪ ،‬و"‬ ‫طب ملن ّ‬
‫املثال ال الحصر‪ " :‬عمل من ّ‬
‫كتاب في عالج السموم"‪ .‬لكن أهم كتبه في الطب تتمثل في " مقالة مقنعة السائل عن‬
‫هز العالم في منتصف القرن ‪ 14‬م‪/‬‬ ‫املرض الهائل" التي كتبها عن الطاعون الجارف الذي ّ‬
‫‪ 8‬هـ‪ ،‬ودام زهاء سنتين‪ .‬وانتهى من تأليفها سنة ‪ 761‬هـ ‪ .‬واملقالة حققتها الباحثة حياة‬
‫قارة‪ ،‬وصدرت عن دار األمان‪ ،‬الرباط‪.2015 ،‬‬
‫‪13‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الخالصات‪ ،‬مما ال يسمح للباحث بوضع اليد على الضوابط واآلليات املتحكمة‬

‫في فهم تاريخ األوبئة‪.‬‬

‫يختلف الحال في التاريخ الراهن‪ ،‬حيث أصبح وعي املؤرخ أكثر نضجا‪،‬‬
‫ّ‬
‫وتسيد‬ ‫وأكثر انفتاحا وتفاعال مع قضايا عصره بفضل تأثير الثورات املنهجية‪،‬‬

‫التكنولوجيا الرقمية‪ ،‬وتحوالت املعرفة التاريخية‪ ،‬وتداخل العلوم وتطور‬

‫حقول املعرفة‪ .‬ومن هذا املنطلق يتأسس السؤال الذي طرحه مركز تكامل‬

‫للدراسات واألبحاث‪ :‬أي دور للمؤرخ في فهم أزمة جائحة كورونا؟‪ ،‬وهو السؤال‬

‫اإلشكالي الذي سنسعى من خالله إلى كشف الخيوط الناظمة لعملية فهم‬

‫أبعاد هذه الجائحة‪ ،‬وتقديم بعض األجوبة املمكنة عنها‪.‬‬

‫أحسب أن السؤال املثار ذو طبيعة مركبة‪ ،‬فهو يروم إعادة التفكير في‬

‫مسؤولية املؤرخ وانخراطه وتفاعله مع قضايا مجتمعه‪ ،‬وعدم بقائه في مقعد‬


‫املتفرج أو املراقب عن بعد‪ ،‬ومن ّ‬
‫ثم توسيع مساحات حضوره في الحراك املدني‬ ‫ّ‬

‫والنقاش املجتمعي‪ ،‬حتى يكون له دور ملحوظ‪ ،‬وصوت مسموع في املجتمع‪،‬‬

‫وهي املسؤولية التي دافع عنها بحرارة "مارك بلوك" األب الروحي ملدرسة‬

‫‪14‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الحوليات‪ .1‬كما يسعى السؤال في الوقت ذاته إلى استكشاف آليات االشتغال‬
‫املنهجي التي تتيح للمؤرخ بناء رؤية لفهم أزمة جائحة كورونا‪ّ ،‬‬
‫وتلمس خيوط‬

‫األجوبة املمكنة‪ ،‬ملا يحتمل أن تفرزه من تغ ّيرات في شكل الخريطة الجيو‪-‬‬

‫سياسية‪ ،‬وما يرتبط بذلك من أسئلة التاريخ الراهن‪ ،‬الستشراف ما يلوح في‬
‫تمر دون أن تنحت ّ‬
‫تغيرات وتقلبات ال في‬ ‫أفق مستقبل العالم‪ ،‬ألن األزمات ال ّ‬

‫الزمن البشري فحسب‪ ،‬بل أيضا في آليات وطرق التفكير‪.‬‬

‫تأسيسا على ذلك‪ ،‬فإن بناء محاور الفهم ألزمة جائحة كورونا يحتاج في‬

‫تقديري إلى ترتيبات نظرية‪ ،‬وإلى تفعيل إجرائي تطبيقي‪.‬‬

‫‪ -1‬فرضيات وترتيبات نظرية للوقوف على عتبة الفهم األولي ألزمة جائحة‬
‫كورونا‪:‬‬
‫ّ‬
‫حتى ال نظلم املؤرخ‪ ،‬وال نضخم دوره ونكلفه ما فوق طاقته في فهم‬

‫جائحة كورونا‪ ،‬ال أعتقد أن املطلوب منه هو الفهم الصحيح لهذه األزمة‪ ،‬بل‬

‫‪ 1‬يقول مارك بلوك حول مسؤولية املؤرخ وتفاعله مع قضايا مجتمعه‪ ،‬وما اعتبره‬
‫مسؤولية أخالقية‪(( :‬إذا كانت الحقيقة غاية علم التاريخ‪ ،‬فإن األخالق هي منتهاه))‪ .‬ينظر‪:‬‬
‫‪Apologie pour l'Histoire ou métier d'Historien, Arman Colin, Paris 1993, p 28.‬‬
‫ويعتبر ان ((العلم التاريخي ال يكتمل اال في االخالق))‪ ،‬ينظر مقدمة جاك لوجوف لكتاب‬
‫مارك بلوك في ترجمته العربية‪ :‬دفاعا عن التاريخ أو مهنة املؤرخ‪ ،‬ترجمة أحمد الشيخ‪،‬‬
‫القاهرة ‪ ،2013‬ط‪ ،2‬املركز العربي اإلسالمي للدراسات الغربية‪ ،‬ص ‪.75‬‬
‫‪15‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫فهمها بطريقة صحيحة‪ ،‬وهو ما يستلزم التأني والتروي واالنضباط‪ ،‬ومحاولة‬


‫التشخيص والتعقل القادر على تفكيك الحدث‪ ،‬وفحص ّ‬
‫مكوناته‪ ،‬وتحديد‬

‫السياقات املؤطرة له‪ ،‬والتعلق بكل آليات الفهم وتشبيكاتها‪ ،‬لفرز األصوب‬
‫منها‪ ،‬وتركيب بناء مقبول في التفسير‪.‬‬

‫إن فهم مثل هذه األحداث املفصلية في التاريخ‪ ،‬يبدأ ‪ -‬فيما أرجح ‪-‬‬

‫بسؤال‪ ،‬وينتهي بتناسل أسئلة أخرى‪ ،‬دون االدعاء بالقدرة على تقديم جواب‬
‫دقيق مكتمل األركان‪ ،‬علما أن الفهم يصبح أكثر تعقيدا بالنسبة لحدث من‬

‫طينة وباء كورونا الذي أحدث شرخا في رتابة مسيرة التاريخ الراهن‪ ،‬وصار لغزا‬
‫ّ‬
‫محيرا‪ .‬لذلك فإن فهمه او باألحرى إمكانية فهمه ال يخلو من ّ‬
‫مطبات‪ ،‬بسبب‬
‫اللبس الذي ّ‬
‫يلفه‪ ،‬واالستعصاء على اختراق أسواره التي تحجب عن املؤرخ‬

‫عددا من الحقائق املنظمة لعملية الفهم واإلدراك‪ .‬فاألزمات في التاريخ ال تقدم‬


‫للمؤرخ معلومات ناضجة ومستوفية‪ ،‬بل غالبا ما ّ‬
‫تمده بمعلومات مبتورة أو‬
‫ّ‬
‫عصية على الفهم‪ ،‬مما قد يؤجل عملية الفهم إلى ما بعد نهاية‬ ‫مشوهة أو‬

‫األزمة‪ ،‬وهو عادة ما يستحبه املؤرخ‪ ،‬ملا يتيحه ذلك من مهلة ومسافة للتفكير‬

‫والتأمل‪.‬‬

‫كما أن وباء كوفيد ‪ 19‬حدث آني بامتياز‪ ،‬ال يزال يتسم بفورانه‪ ،‬وال‬
‫‪16‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ّ‬
‫تزال لحظاته في طور التشكل بإيقاع سريع ال يسمح باملراقبة الدقيقة‪ .‬لذلك‬

‫فإن فهمنا ملستغلقاته لن يتجاوز عتبة الفهم األولي‪ ،‬في انتظار أن ينقشع‬
‫الضباب‪ ،‬وتتضح الرؤية‪ّ .‬‬
‫ولعل أقص ى سقف يمكن أن يبلغه املؤرخ في رحلة‬
‫الفهم هو ما نعته الفيلسوف األملاني إيمانويل كانط بـ "الجرأة على الفهم"‪،‬‬

‫إلدراك األحداث وتفاعالتها‪ ،‬وتقديم التشخيص األولي من أجل فهم أفضل‬

‫لألزمة‪ ،‬دون الزعم بإمكانية تقديم إجابات دقيقة‪.‬‬


‫ّ‬
‫مع ذلك‪ ،‬ثمة محددات أرى أنها تشكل خيوطا موجهة آلليات فهم أزمة‬

‫كورونا‪ ،‬وترتيب خريطة طريق تحليلها‪:‬‬

‫‪ -‬أوال‪ :‬إن املؤرخ بحكم مهنته‪ ،‬ومسؤوليته األخالقية التي دافع عنها مارك‬
‫بلوك‪ ،‬جعل هذا األخير حسب تقريض جاك الجوف لكتابه‪ ،‬قادرا على ((تحويل‬

‫واقعه املعيش إلى مادة للتفكير التاريخي))‪ ،1‬مما يعني أن عطاء الواقع‪ ،‬ومعايشة‬

‫املؤرخ له‪ ،‬يجعل الحدث املعاش يصبح مادة للتفكير والتأمل بالنسبة له‪ ،‬وهو‬

‫ما ينطبق على عالقة املؤرخ بالوباء الذي يعيش هذه األيام لحظاته‪ ،‬مما يشكل‬

‫لديه موضوعا دسما للتفكير والفهم واالستيعاب‪.‬‬

‫‪ 1‬ينظر أيضا املقدمة التي كتبها جاك لوجوف حول الكتاب السالف الذكر‪ ،‬دفاعا عن‬
‫التاريخ‪.... ،‬م‪.‬س‪ ،‬ص ‪.57‬‬
‫‪17‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪ -‬ثانيا‪ :‬إن وباء كورونا حدث معاش ‪ ،Evénement vécu‬ال يزال املؤرخ‬

‫يعيش في قلب حركيته‪ ،‬ويحيا لحظات أهواله بالساعات والدقائق‪ ،‬ويقرأ عن‬

‫قرب انعكاساته وتأثيراته في وجدان الناس ومشاعرهم‪ ،‬ويتابع عن كثب‬


‫تطوراته وخرائطه املتغيرة وامللتوية أحيانا بفعل الصدمة الفجائية التي يعرفها‬

‫التاريخ البشري في هذه اللحظة‪ .‬لقد وجد املؤرخ نفسه فجأة لصيقا بالحدث‪،‬‬

‫غير مغترب عن الزمن الذي يؤرخ له‪ .‬إنه حدث لحظي يطرح سؤاال راهنيا على‬
‫لحظة تاريخية ساخنة‪ ،‬تجعل منه مؤرخا آنيا بامتياز‪ ،‬وكلما كان املؤرخ قريبا‬

‫من الحدث‪ ،‬كانت مصادره وآليات اشتغاله أكثر وفرة وحظا للفهم واالستيعاب‪.‬‬

‫‪ -‬ثالثا‪ :‬إن زمن كورونا زمن غير طبيعي‪ ،‬بل يمكن وصفه بأنه زمن غريب‪،‬‬
‫زمن ما فوق املألوف‪ّ ،‬‬
‫تغيرت فيه املفاهيم والسلوكات الطبيعية‪ ،‬وانقلبت فيه‬
‫املعادالت‪ ،‬حيث ساوى بين الطبقات‪ ،‬بل وحتى بين الدول‪ ،‬فلم تعد الفوارق‬

‫بين الدول املصنعة والفقيرة‪ ،‬حيث أصبح الجميع على قدم املساواة في‬
‫الضعف وقلة الحيلة أمام فيروس دقيق ال يرى بالعين املجردة‪ ،‬مما ّ‬
‫هز‬

‫اليقينيات والنزعات الوثوقية واملسلمات ومنطق العقل املطلق‪ .‬وال ريب أن هذه‬
‫املعطيات غير املألوفة في مرحلة تاريخية غريبة‪ّ ،‬‬
‫يهيج غريزة الفهم لدى املؤرخ‪،‬‬
‫ّ‬
‫وينشط مسالك تفكيره لتفسير ما يحدث‪ ،‬دون أن يجرأ على استخالص األجوبة‬

‫‪18‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الحاسمة بسبب خروج املرحلة عن دائرة اليقين‪ ،‬وإمكانية اختراق التفسيرات‬

‫الغيبية لهذه الدائرة‪.‬‬

‫‪ -‬رابعا‪ :‬إن الحجر املنزلي الذي يعيشه املؤرخ وغيره من خدام املعرفة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والتدبر‪ ،‬فاالنعزال والتأمل عادة ما يزيد من‬ ‫هذه األيام‪ ،‬هو فرصة للتفكر‬
‫طاقة العمق الفكري‪ ،‬ويساهم في إتقان األسئلة وبنائها بناء سليما‪ّ ،‬‬
‫ويحفز على‬

‫متابعة املوضوع بدقة‪ ،‬وبعين فاحصة من أجل الفهم وإعادة الفهم‪ .‬ألم يكن‬
‫الحجر الصحي الذي خضع له العالم الفيزيائي "إسحاق نيوتن" إبان اجتياح‬

‫وباء الطاعون مدينة لندن سنة ‪ ،1665‬وانعزاله في الريف مدة ‪ 18‬شهرا‪،‬‬

‫فرصة ذهبية اكتشف خاللها أشهر نظرياته العلمية كحساب التفاضل‬


‫والتكامل‪ ،‬وقوانين الحركة والجاذبية كما أكدت ذلك الكاتبة "ميغان جونز" في‬

‫تقرير نشرته مجلة "ريدرز دايجست" األميركية؟‪ .1‬ألم يقدم أشهر الفنانين‬
‫واملبدعين لوحاتهم الفنية في ّ‬
‫عز أوبئة الطاعون كإدوارد مونش‪Edvard Munch‬‬

‫صاحب لوحة "بورتيرية شخص ي مع األنفلوانزا اإلسبانية" وسالفاتور روزا‬

‫‪ Salvator Rosa‬وغيرهما‪ ،‬ناهيك عن املسرحيات واألعمال الروائية التي ولدت‬

‫‪1‬‬ ‫‪Meghan Jones, « 8 Geniuses Who Made History in Quarantine », Reader's‬‬


‫‪Digest. In : https://www.rd.com/list/geniuses-in-quarantine/‬‬
‫‪19‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫من رحم أوبئة الطاعون كما تشهد بذلك أعمال ولیام شکسبير الذي نسج‬

‫أجمل رواياته املسرحية إبان الطاعون الذي عصف ببريطانيا في أواخر‬

‫القرن‪16‬م‪ .1‬فالحجر الصحي في هذا السياق يشكل فرصة علمية للمؤرخ كغيره‬
‫من املفكرين للتأمل والتفكير‪ ،‬بغية فهم الوباء وقراءته قراءة تاريخية صاحية‬

‫وعميقة‪.‬‬

‫‪ -‬خامسا‪ :‬إن مراحل األزمات التي ّ‬


‫تسببها األوبئة واملجاعات أو الحروب‪،‬‬
‫تؤدي في الغالب األعم إلى تكسير رتابة التفكير ّ‬
‫والقيم الجاهزة‪ ،‬وتجنح نحو‬

‫إبداع أسئلة جديدة‪ ،‬وابتكار رؤى إضافية تتقوى من خاللها ملكة التفكير‬

‫والفهم لدى املؤرخ‪ .‬إنها لحظة الرجة التي يستيقظ فيها العقل من جديد‪،‬‬
‫ويراجع ذاته‪ ،‬ويعيد ترتيب األولويات‪ .‬فاإلنسان كما يرى املفكر الفرنس ي جيل‬

‫دولوز ‪ ،Deleuze‬ال يفكر إال عندما يكون في عنق الزجاجة‪ ،‬وفي زمن املحن‬
‫ّ‬
‫ولعل ما كتبه املؤرخ العربي ابن خلدون في "املقدمة"‪ ،2‬واملؤرخ‬ ‫واألزمات‪.‬‬

‫والفيلسوف اإليطالي "جيامباتستا فيكو" في "أصول العلم الحديث"‪ ،3‬واملؤرخ‬

‫‪1 Ibid, «8 Geniuses…. » op.cit.‬‬

‫‪ 2‬ابن خلدون‪ ،‬املقدمة‪ ،...‬املرجع السابق والصفحة نفسها‪.‬‬


‫‪3‬‬
‫‪Vico, Giambattista, Principi de Scienza Nuova, (Classici Vol. 142) Formato‬‬
‫‪Kindle 1725.‬‬
‫‪20‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الفرنس ي "مارك بلوك" في " مهنة املؤرخ"‪ 1‬وغيرهم‪ ،‬قرائن تؤكد ارتباط األزمة‬

‫بيقظة عقل املؤرخ‪ ،‬وصقل ملكته الفكرية للفهم‪.‬‬

‫ويخيل إلينا أيضا أن قراءة أزمة كورونا هي قراءة مفتوحة تنتظمها‬


‫خيوط متشابكة‪ ،‬يمكن أن ّ‬
‫تتم عبر مجموعة من دوائر الفهم‪ ،‬وترتب بناء على‬

‫مجموعة من الفرضيات‪ ،‬منها أن هذا الحدث حدث كوني ال يمكن فهمه إال في‬

‫سياق عالمي متصل‪ ،‬أصبح يعرف في قاموس املؤرخين بالتاريخ املتصل‬


‫ّ‬
‫‪ ،Histoire connectée2‬وهو ما يمكن من فهم سرعة انتشار الوباء في جهات‬

‫العالم األربع انتشار النار في الهشيم‪ .‬لذلك فاألمر في تقديري يستدعي فهم‬

‫الجائحة ضمن منظومة "الزمن العالمي" الذي أصبحت الحضارات تعيش فيه‬
‫كزمن بشري متزامن على الكرة األرضية‪ .‬وأحسب أن هذا املنظور النسقي‬

‫الكوني يجعلنا نتجاوز الفهم السطحي املبني على قضايا جزئية ومبعثرة ‪...‬‬

‫وتقوم فرضية الفهم الثانية على أساس أن سؤال فهم أزمة كورونا هو‬

‫سؤال إبستيمولوجي يستدعي استنطاقه منهجيا من خالل مجموعة من‬

‫‪1‬‬
‫‪Bloch, Marc, Apologie pour l'Histoire ou métier d'Historien, op.cit.‬‬
‫‪ 2‬أحيل هنا على املقال املفيد حول التاريخ العالمي املتصل على‪:‬‬
‫‪Douki Caroline, Minard Philippe, «Histoire globale, histoires connectées : un‬‬
‫‪changement d'échelle historiographique? Introduction», Revue d’histoire‬‬
‫‪moderne et contemporaine, 5/2007, n° 54-4bis, p. 7-21‬‬
‫‪21‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫املقاربات‪ ،‬منها على سبيل املثال‪ :‬هل تفهم هذه األزمة الوبائية كحدث ظرفي؟‬

‫أم أنها وليدة بنية تمتد في الزمن الطويل؟ وما عالقتها بالنزيف الديموغرافي‬

‫الذي تخلفه على مستوى الطاقة البشرية واالنكماش االقتصادي وخراب‬


‫العمران؟ وهل تندرج ضمن قوانين الحتمية التاريخية التي ّ‬
‫تفسر األحداث‬

‫الكبرى في سياق إيقاع يسير وفق خطاطة زمنية عاملية تتحكم في مسار‬

‫وانعطافات التاريخ البشري وفق ما تقول به املدرسة املادية التاريخية؟ أم أن‬


‫مجرى التاريخ يتغير من وضع آلخر دون أن يخضع لسنن أو قوانين كما ذهب‬

‫إلى ذلك "بول ريكور"‪ ،1‬و"كارل بوبر"‪ 2‬اللذان اعتبرا مقولة قوانين التاريخ كبوة‬

‫معرفية تنافي العلم؟‬

‫وفي نفس املنحى‪ ،‬نتساءل حول إمكانية فهم أزمة كورونا من مرجعية‬

‫السؤال الحضاري انطالقا من املنظور الخلدوني الذي يعتبر األوبئة عامال‬

‫مفسرا لصعود وسقوط امبراطوريات وحضارات فشلت في السيطرة على‬

‫الوباء‪ ،‬مما أحدث تحوالت تاريخية لم يغفل ابن خلدون وضع إصبعه عليها‬

‫‪ 1‬درويش‪ ،‬حسام الدين‪ ،‬إشكالية املنهج في هيرمينوطيقا بول ريكور وعالقتها بالعلوم‬
‫اإلنسانية واالجتماعية‪ :‬نحو تأسيس هيرمينوطيقا للحوار‪ ،‬ط‪ ،1‬منشورات املركز العربي‬
‫لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬بيروت‪ ،2016 :‬ص‪.404‬‬
‫‪ 2‬بوبر‪ ،‬كارل‪ ،‬بؤس اإليديولوجيا‪ :‬نقد مبدأ األنماط في التطور التاريخي‪ ،‬ترجمة عبد‬
‫الحميد صبرة‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيروت ‪ ،)1992‬ص ‪.146‬‬
‫‪22‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫من خالل سرده خبر وباء الطاعون‪ ،‬واعتباره عامال حاسما في تحوالت التاريخ‬
‫ّ‬
‫واملعبرة‪:‬‬ ‫البشري في القرن ‪14‬م كما يتجلى ذلك في كلماته املختصرة‬

‫((‪ ...‬وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول واالنقباض‪ ،..‬وإذا‬


‫تبدلت األحوال جملة‪ ،‬فكأنما تبدل الخلق من أصله‪ ،‬وتحول العالم بأسره‪،‬‬
‫وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث‪ ،‬فاحتاج لهذا العهد من يدون‬

‫أحوال الخليقة واآلفاق وأجيالها والعوائد والنحل التي تبدلت ألهلها‪. )) 1‬‬
‫فضال عن ذلك‪ ،‬هل نبني فرضية فهمنا ألزمة كورونا على ّ‬
‫محك السؤال‬

‫الوجودي؟ خاصة أن اإلنسان في زمن األوبئة يكون على خط التماس بين البقاء‬

‫واملوت‪ ،‬وتكون نفسه في لحظة هروب وشيك من الجسد املحتضر‪ .‬لذلك يفهم‬
‫الوباء في هذه الحالة بوصفه خطا رفيعا يفصل بين الفناء واالستمرار‪ ،‬ومن‬
‫ّ‬
‫ثم يمكن أن يكون سلطان الخوف من املوت مصدر فهم للمؤرخ‪ ،‬قد يوظفه‬

‫ألجل اإلمساك بمواقف وذهنيات غير مألوفة في السردية التاريخية في الزمن‬

‫الطبيعي‪.‬‬

‫في نفس السياق النظري‪ ،‬نتساءل هل يمكن فهم أزمة كورونا في سياق‬

‫‪ 1‬ابن خلدون‪ ،‬املقدمة‪....‬م‪.‬س‪ ،‬ص‪.33‬‬


‫‪23‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫سؤال األخالق الذي طرحه "مارك بلوك"‪ ،‬والقاض ي بأن مسؤولية املؤرخ التي‬

‫تفرضها أخالقية حرفته‪ ،1‬تتجلى في البحث عن الحقيقة التي ال تنفصل عن‬


‫ّ‬
‫املتسيد اليوم‪ ،‬والقائم على‬ ‫مبدأ الحق والعدالة‪ .‬والحال أن نظام العوملة‬
‫الرأسمالية املتوحشة‪ ،‬غادر كليا دائرة األخالق‪ ،‬وآثر الربح على صحة البشر‪،‬‬
‫القيم اإلنسانية التي ّ‬
‫شيدتها‬ ‫وفرض تنميطا ثقافيا سعى من خالله إلى طمس ّ‬

‫الحضارات السابقة‪ .‬ومن قلب هذه الدائرة الالأخالقية يتم تدفق املعلومات‬
‫التي يبني عليها املؤرخ فهمه ألزمة جائحة كورونا‪ .‬وبالتالي يصبح فهمه متأرجحا‬

‫بين القيم األخالقية‪ ،‬والحقيقة واملراوغة‪ ،‬وصراع الخير والشر‪.‬‬

‫وعلى املستوى املنهجي‪ ،‬نرى أن لكل زمن سلطته املعرفية التي تنتج‬
‫الخيوط الناظمة للفهم‪ .‬وقد جاء وباء كورونا في زمن ّ‬
‫تحولت فيه الثقافة إلى‬

‫ثقافة رقمية توجهها تكنولوجيا املعرفة‪ ،‬واقتصاد املعرفة‪ ،‬ثم مجتمع املعرفة‪،‬‬

‫ما يجعل العالم يتكلم بلغة جديدة ينبغي للمؤرخ استحضارها في آليات‬

‫اشتغاله إلنتاج فهم أفضل ألزمة كورونا الحالية‪ .‬لذلك عندما نقوم بفحص‬

‫دور املؤرخ في فهم األزمة على ضوء منظور مدرسة الحوليات الذي تأسس في‬

‫مرحلة ثالثينيات القرن املاض ي‪ ،‬ال يمكن إال أن يكون فهمنا قاصرا إذا اقتصرنا‬

‫‪1 Bloch, Marc, Apologie…op.cit, p28.‬‬

‫‪24‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫على مفاهيمها فحسب‪ ،‬دون االستناد إلى فائض املعرفة الذي أعقبها‪ ،‬على‬

‫الرغم من أهمية منهج مدرسة الحوليات في استقصاء دور املؤرخ في فهم‬

‫األزمات‪ .‬وآية ذلك أن العالم كائن متحرك دائم التغيير‪ ،‬يتجدد باستمرار‪،‬‬
‫وتتجدد معه روح التاريخ ومناهجه‪ ،‬خصوصا بعد أن تم االنتقال في ظل‬

‫الجغرافيا االتصالية (الكونكتوجرافيا ‪ )Connectography‬من املفهوم‬

‫التقليدي للحضارات والدول‪ ،‬القائم على قاعدة الحدود‪ ،‬إلى حضارة‬


‫الشبكات العاملية القائمة على بنيات االتصال وسالسل التوريد التي توحد‬

‫الشعوب‪ ،‬وتضمن السيولة االقتصادية انطالقا من القوة الناعمة القائمة‬

‫على التواصل واالندماج‪ ،‬بدل االحتالل العسكري التقليدي الذي ساد في‬
‫القرن املاض ي‪ ،‬وهو ما يعكسه نموذج طريق الحرير الصيني الرابط بين‬

‫شنغهاي ولشبونة‪ 1.‬وعلى محك هذا التنافس الناعم بين القوى الدولية‬

‫والحضارات‪ ،‬يمكن استحضار أسئلة حول أصل فيروس كوفيد ‪ ،19‬وهل‬

‫هو طبيعي املنشأ‪ ،‬أم بيولوجي يسعى لصناعه الخوف والغلب؟‪ ،‬ومن ثم‬

‫‪ 1‬للتوسع في مفهوم الجغرافيا االتصالية كنمط لالقتصاد التوسعي الناعم الرابط بين‬
‫املدن الذكية الصناعية الكبرى‪ ،‬وكاقتصاد بديل في املستقبل‪ ،‬يراجع‪:‬‬
‫‪Parag Khanna, Connectography: Mapping the Global Network Revolution,‬‬
‫‪Printed in USA , on acid free paper, First edtion, Random House 2016.‬‬

‫‪25‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫وضع كل هذه املمكنات كفرضيات قابلة للنقاش‪ .‬وأحسب أن املؤرخ ال‬

‫يمكن أن يغفل هذا التحوالت والسناريوهات املمكنة في عملية الفهم والبناء‬

‫لقراءة أزمة كورونا الحالية وإدراكها‪.‬‬

‫‪ -2‬على مستوى األجرأة‪:‬‬

‫ال يتأتى فهم وإدراك أزمة كورونا اعتمادا على الخلفيات النظرية‬
‫ّ‬
‫فحسب‪ ،‬بل يستدعي تدخل املؤرخ لتطعيمها بإجراءات تطبيقية لتعميق‬
‫الفهم‪ .‬ومن بين النماذج التي تحتاج إلى األجرأة والتطبيق‪ ،‬إعادة قراءة‬

‫النصوص الخاصة بماض ي الجوائح واألوبئة على ضوء العلوم الحديثة‪،‬‬


‫الستخراج إحصائيات ومبيانات حول أعداد املوتى‪ ،‬وتحليل ّ‬
‫معدالت الفتك‬
‫واإلصابة‪ ،‬وطرق التصدي واملواجهة‪ ،‬ثم الوقوف على الغالف الزمني الذي كان‬
‫يستغرقه الوباء‪ ،‬وتحصيل ّ‬
‫املعدل والنسب‪ ،‬وتحديد خرائط االنتشار املكاني‪،‬‬

‫واالنعكاسات الديموغرافية‪ ،‬بهدف املقارنة مع الوضع الوبائي الحالي‪،‬‬

‫واستكشاف املعطيات وتوظيفها للفهم من زاوية تاريخية‪ .‬كما يمكن استنتاج‬

‫دالالت بعض الظواهر الثقافية املصاحبة لألزمة مثل ثقافة التضامن‪ ،‬خاصة‬

‫في ظل األزمة التي يشهدها املجتمع املغربي على غرار املجتمعات األخرى‪.‬‬
‫فاستعادة الذاكرة التاريخية ّ‬
‫لقيم التآزر والتالحم‪ ،‬قمين برفع منسوب السلوك‬
‫‪26‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ّ‬
‫القيمي داخل املجتمعات في مواجهة األزمة الحالية‪ ،‬ورسم الخطوط األولية‬

‫لنظام القول في مواجهة الوباء من خالل التعاضد املجتمعي‪ ،‬والتالحم الوطني‪.‬‬

‫كما أن العودة إلى التراث مهم للفهم‪ ،‬وهي قاعدة سبق أن أثارها جورج‬
‫هانز غادامير في كتابه " الحقيقة واملنهج"‪ ،‬وجعلها بمثابة بوصلة مرشدة للفهم‬

‫(براديغم)‪ .‬فأي باحث – كما يؤكد‪ -‬ال يستطيع الفهم‪ ،‬دون االعتماد على إدراك‬
‫مسبق ملا ّ‬
‫يود فهمه‪1‬؛ وبالتالي يتأسس فهم ظاهرة األوبئة وما يتمخض عنها من‬
‫أزمات‪ -‬فيما نرى‪ -‬من التصورات التي يستنبطها املؤرخ انطالقا من املرجعية‬

‫التراثية في املجال الصحي‪.‬‬

‫وفي هذا املنحى‪ ،‬ال يمكن إنكار ما يتيحه النبش في التراث من إمكانية‬
‫استكشاف ما يزخر به من إسهامات وتجارب للوقاية من األوبئة كالحجر الصحي‬

‫الذي عاشه املغاربة كغيرهم من الشعوب في بعض مراحل تاريخهم‪،2‬‬

‫والكمامات الوقائية التي ثبت استعمالها في املجال الحضاري اإلسالمي للوقاية‬

‫‪ 1‬غادامير‪ ،‬هانز جورج‪ ،‬الحقيقة واملنهج‪ ،‬الخطوط األساسية لتأويلية فلسفية‪ ،‬ترجمة‬
‫حسن ناظم وعلي حاكم صالح‪ ،‬طرابلس‪ :‬دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع ‪ ،2007‬ص‬
‫‪.30‬‬
‫‪ 2‬حول الحجر الصحي باملغرب وموقف الفقهاء منه‪ ،‬يراجع‪ :‬محمد األمين البزاز‪ ،‬تاريخ‬
‫األوبئة واملجاعات باملغرب خالل القرنين الثامن عشر والتاسع عشر‪ ،‬منشورات كلية‬
‫اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط‪ ،‬سلسلة رسائل وأطروحات‪ ،‬رقم ‪ ،18‬مطبعة النجاح‬
‫الجديدة‪ ،‬الدار البيضاء ‪ ،1992‬مبحث " أدبيات الكرنتينة"‪ ،‬ص ‪.406 -403‬‬
‫‪27‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫من األمراض التي تسببها طرق االشتغال في بعض املهن وفق ما تشير إليه كتب‬

‫الحسبة حول صانع الخبز في املشرق اإلسالمي واألندلس‪ ،‬إذ ورد في أحد‬
‫مؤلفات الحسبة ما يلي‪(( :‬وال يعجن إال وعليه ملعبة ضيقة األكمام‪ ،‬ويكون‬
‫ّ‬
‫متلثما أيضا‪ ،‬ألنه ربما عطس أو تكلم فقطر ش يء من بصاقه أو مخاطه في‬

‫العجين))‪.1‬‬

‫كما ّ‬
‫تم تطبيق قاعدة التباعد االجتماعي ووسائل الوقاية الصحية‬
‫والنظافة والتطهير التي أثبتت األبحاث وجودها ضمن التنزيالت الطبية التي‬

‫نهجها ابن سينا وغيره من أطباء العرب‪ ،2‬وغيرها من االبتكارات التي من شأنها‬

‫أن تطور فهم املؤرخ ملختلف وسائل الوقاية من األوبئة‪ ،‬والتي توص ي بها حاليا‬
‫منظمة الصحة العاملية‪ ،‬مما يجعل املاض ي زمنا يعيش في قلب الحاضر‪.‬‬

‫‪ 1‬املاوردي‪ ،‬علي بن محمد بن حبيب الشافعي‪ ،‬الرتبة في طلب الحسبة‪ ،‬دراسة وتحقيق‬
‫أحمد جابر بدران‪ ،‬مركز الدراسات الفقهية واالقتصادية‪ ،‬منشورات عالء سرحان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫دار الرسالة‪ ،‬القاهرة ‪ ،2002‬ص ‪ .186‬وامللعبة معناه ثوب من غير ّ‬
‫كم حسب ما ورد عند‬
‫املحقق‪.‬‬
‫وحول األندلس‪ ،‬أنظر ما ذكره السقطي املالقي األندلس ي حو شروط الوقاية الصحية‬
‫ل‬
‫ملهنة الخبازين‪ ،‬كتاب في آداب الحسبة‪ ،‬نشره املستشرق ليفي بروفنسال‪ ،‬طبعة باريس‬
‫‪ ،1931‬ص ‪.31 ،30‬‬
‫‪2‬البكري‪ ،‬عادل‪" ،‬الطب الوقائي عند العرب"‪ ،‬مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق‪،‬‬
‫الجزء‪, 2‬املجمع العلمي العربي‪ ،‬دمشق‪ ، 1970.‬ص ‪.274 -273‬‬

‫‪28‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫وفي سياق اإلجراءات التطبيقية التي تشحذ فكر املؤرخ لفهم وإدراك‬
‫أزمة كورونا‪ ،‬نحسب أنه ليس ثمة آلية إجرائية لفهم هذه األزمة أكثر من‬
‫إنصات املؤرخ إلى نبضات املجتمع في هذه اللحظة الفارقة‪ ،‬ألن في عملية الفهم‬
‫تصبح كينونة اإلنسان املبحوث عنه وعن تاريخه الداخلي (األفكار واملشاعر‬
‫والتمثالت) في عمق اهتمامات املؤرخ‪ ،‬وذلك من خالل متابعته ألحوال الناس‬
‫ّ‬
‫وجس نبض عملية‬ ‫ممن تعرضوا للبطالة‪ ،‬أو أقفلت محالت بيعهم‪ ،‬وتقييم‬
‫التعليم عن بعد‪ ،‬بإيجابياتها وسلبياتها‪ ،‬ورصد املواضيع الساخرة التي واكبت‬
‫كورونا من نكت وطرائف‪ ،‬فضال عن كافة أنماط الفعل التي تظهر في شكل‬
‫قولي أو غير قولي‪ ،‬وكل ما يندرج في ما يسميه بول ريكور ب" حضارة الكالم"‪،1‬‬
‫والتقاط هذه املشاهد بدقة‪ ،‬ألنها تحمل رسائل بالغية ّ‬
‫تعبر عن مواقف‬
‫وذهنيات تجاه وباء كورونا‪ ،‬وتحتاج إلى تخزين فوري لذاكرة جماعية بالصوت‬
‫والصورة‪ ،‬تستثمر في مرحلة التحليل والتفسير‪ .‬وبنفس القدر‪ ،‬ينبغي أن‬
‫ّ‬
‫يستغل كل ما ورد من معطيات وتدوينات في منصات التواصل االجتماعي‬
‫وغيرها من تقنيات التعبير‪ ،‬لكونها مكتبات حية تساعد على تخصيب مادته‬
‫التاريخية وتخزينها تمهيدا لفهم هذه األزمة‪.‬‬

‫‪1 Ricœur, Paul, Histoire et vérité, 3ed, Seuil, Paris 1967, p263.‬‬

‫‪29‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫قد تكون أجرأة بعض هذه التطبيقات تستلزم بحوثا ميدانية على عينة‬

‫من األفراد من خالل ما يعرف "بالوصف املكثف" ‪ ،Thick description‬اعتمادا‬


‫على وجهات النظر التي ّ‬
‫يعبر عنها املواطنون في تفاعلهم االجتماعي مع هذه‬
‫الجائحة‪ .‬بيد أن البحوث امليدانية متعذرة اليوم بسبب الحجر املنزلي‪ ،‬لكن‬

‫يمكن تعويضها بالوسائل التكنولوجية الحديثة واإلمكانيات الوسائطية املتاحة‬

‫عبر تطبيقات الحواسيب املتطورة والهواتف الذكية‪ .‬وال شك أن نتائجها‬


‫ستكون مؤشرات تساعد املؤرخ على الفهم‪.‬‬

‫وباملثل‪ ،‬فإن فهم املؤرخ لجائحة كورونا يعتمد في جانبه التطبيقي أيضا‬

‫على املصادر األساسية من إحصائيات ومؤشرات األمن الصحي العالمي‪(GHS 1‬‬


‫)‪ ،index‬باإلضافة إلى الدراسات واألفكار التي طرحها املتخصصون واملفكرون‬

‫الذين استطلعت آراؤهم حول هذه الجائحة‪ ،2‬وتوظيف كل هذه املعطيات وفق‬

‫منهج استقرائي‪.‬‬

‫وأخيرا يبدو لي أن فهم املؤرخ ألزمة جائحة كورونا ال يكتمل من دون‬

‫‪1‬‬‫‪Global Health Security Index, in : https://www.ghsindex.org/‬‬


‫‪ 2‬ينظر املقال النشور في مجلة ‪" :Foreign Policy‬رؤى مختلفة ملا سيبدو عليه العالم بعد‬
‫تم استطالع املجلة آلراء عدد من املتخصصين في االقتصاد العالمي حول‬ ‫«كورونا"‪ ،‬وفيه ّ‬
‫مستقبل العالم في ظل جائحة كورونا‪ :‬ينظر‪ :‬املوقع اإللكتروني‪:‬‬
‫‪https://www.emaratalyoum.com/politics/news/2020-05-04-1.1344243‬‬
‫‪30‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫محاولة استشراف املستقبل‪ ،‬إذ ال يمكن فهم هذه األزمة بمعزل عن معرفة‬

‫تداعياتها واحتماالتها وتفاعالتها عامليا‪ ،‬والتفكير مستقبال بعقل جماعي تشاركي‬

‫تبادلي‪ .‬ومن هنا يمكن التخطيط لتكوين مختبرات جامعية تحت إشراف شعب‬
‫التاريخ‪ ،‬تكون متخصصة في تاريخ األوبئة‪ ،‬على أن يشارك فيها أيضا‬

‫متخصصون في الطب‪ ،‬ألن ذلك يساهم في فهم تاريخ األوبئة من زاوية طبية‪.‬‬

‫كما يمكن لعلم النفس والسوسيولوجيا وغيرها من حقول املعرفة أن تقدم‬


‫إضاءات وأشعة جديدة في املوضوع‪ ،‬تصبح فيها الحقول املعرفية املتنوعة‬

‫سوقا مشتركة قائمة على التبادل والتفاعل‪.‬‬

‫وبهدف الرفع من جودة الفهم واإلدراك ملفاتيح األزمات كأزمة جائحة‬


‫كورونا‪ ،‬ينبغي السعي إلى تكوين مؤرخ ال يحمل صفة الذات املؤرخة أو املفكرة‬

‫فحسب‪ ،‬بل مؤرخ معلوماتي مندمج في العالم الرقمي‪ .‬وإذا كنا قد طرحنا هذه‬

‫الفكرة منذ عشرين سنة خلت في كتابنا "مستقبل الكتابة التاريخية في عصر‬

‫العوملة واإلنترنيت"‪ ،1‬فقد أثبتت األزمة الحالية أن فهم كورونا واستشراف ما‬
‫ّ‬
‫متكيفا مع عالم جديد‪،‬‬ ‫سيتبعها من أحداث تاريخية كبرى‪ ،‬تتطلب مؤرخا‬

‫‪ 1‬إبراهيم القادري بوتشيش‪ ،‬مستقبل الكتابة التاريخية في عصر العوملة واإلنترنيت‪،‬‬


‫منشورات الزمن‪ ،‬مطبعة النجاح الجديدة‪ ،‬الدار البيضاء ‪ ،2001‬ص ‪.76 - 48‬‬
‫‪31‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫عالم لم يعد يعتمد على املادة كرأسمال‪ ،‬بل على االفكار الرقمية‪ ،‬والبرامج‬

‫املرقمنة التي بدونها ينخفض منسوب الفهم‪ .‬وهذا ما يساعد على الرفع من‬

‫قيمة التاريخ‪ ،‬وتسويق إنتاجه‪ ،‬ويسمح للمؤرخ بموطأ قدم بين املفكرين‬
‫واملتدخلين في الشأن العام‪ ،‬بدل أن يبقى على قارعة الطريق‪.‬‬

‫حاولنا في هذا الدراسة التحليلية املتواضعة التي أسسناها على مصادر‬

‫واجتهادات خاصة‪ ،‬رسم خريطة طريق للمؤرخ بغية فهم أزمة جائحة كورونا‪،‬‬
‫وتحديد آليات االشتغال املنهجي التي نرى أنها تقود نحو مسالك الفهم الصحيح‪،‬‬

‫وتوظيف املعطيات اإليجابية التي تتيح له بناء رؤية سليمة لفهم هذه األزمة‪،‬‬

‫وتلمس خيوط األجوبة املمكنة حولها‪ .‬كما ّبينا في الوقت ذاته الصعوبات التي‬
‫ّ‬

‫تعتور عملية الفهم‪ ،‬واملالبسات التي تشوش عليها‪ .‬وفي كل األحوال‪ ،‬وبالنظر‬
‫ّ‬
‫للبس والغموض الذي ال يزال يلف هذا الحدث املفصلي في تاريخ اإلنسانية‪،‬‬

‫فإننا توصلنا إلى نتيجة نعتبرها مؤقتة‪ ،‬مفادها أن فهم املؤرخ لهذا األزمة‬

‫الوبائية التي هزت مسار التاريخ البشري‪ ،‬ال يمكن أن يتجاوز في اللحظة الراهنة‬

‫عتبة الفهم األولي‪ ،‬في انتظار أن يبوح الحدث بكل أسراره وألغازه مستقبال‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫مصادر ومراجع البحث‬


‫باللغة العربية‪:‬‬
‫‪ -‬ابن الخطيب‪ ،‬لسان الدين‪ ،‬مقنعة السائل عن املرض الهائل‪ ،‬تحقيق حياة‬
‫قارة‪ ،‬دار األمان‪ ،‬الرباط‪.2015 ،‬‬
‫‪ -‬ابن خلدون‪ ،‬عبد الرحمن‪ ،‬كتاب املقدمة‪ ،‬ط‪ ،3‬دار إحياء التراث العربي‪،‬‬
‫بيروت‪( ،‬دون تاريخ)‪.‬‬
‫‪ -‬البزاز‪ ،‬محمد األمين‪ ،‬تاريخ األوبئة واملجاعات باملغرب خالل القرنين الثامن‬
‫عشر والتاسع عشر‪ ،‬منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط‪،‬‬
‫سلسلة رسائل وأطروحات‪ ،‬رقم ‪ ،18‬مطبعة النجاح الجديدة‪ ،‬الدار البيضاء‬
‫‪.1992‬‬
‫‪ -‬البكري‪ ،‬عادل‪" ،‬الطب الوقائي عند العرب"‪ ،‬مجلة مجمع اللغة‬
‫العربية بدمشق‪ ،‬لجزء‪, 2‬املجمع العلمي العربي‪ ،‬دمشق‪.1970‬‬
‫‪ -‬بلوك‪ ،‬مارك‪ ،‬دفاعا عن التاريخ أو مهنة املؤرخ‪ ،‬ترجمة أحمد الشيخ‪،‬‬
‫القاهرة ‪ ،2013‬ط‪ ،2‬املركز العربي اإلسالمي للدراسات الغربية‪.‬‬
‫‪ -‬بوبر‪ ،‬كارل‪ ،‬بؤس اإليديولوجيا‪ :‬نقد مبدأ األنماط في التطور التاريخي‪،‬‬
‫ترجمة عبد الحميد صبرة‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيروت ‪.1992‬‬

‫‪33‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪ -‬درويش‪ ،‬حسام الدين‪ ،‬إشكالية املنهج في هيرمينوطيقا بول ريكور وعالقتها‬


‫بالعلوم اإلنسانية واالجتماعية‪ :‬نحو تأسيس هيرمينوطيقا للحوار‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫منشورات املركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬بيروت‪ ،2016 :‬ص‪.404‬‬
‫‪ -‬استطالع مجلة ‪ Foreign Policy‬آلراء عدد من املتخصصين في االقتصاد‬
‫العالمي حول مستقبل العالم في ظل جائحة كورونا نشر تحت عنوان‪" :‬رؤى‬
‫مختلفة ملا سيبدو عليه العالم بعد «كورونا"‪ ،‬في املوقع اإللكتروني‪:‬‬
‫‪https://www.emaratalyoum.com/politics/news/2020-05-04-1.1344243‬‬

‫‪ -‬السقطي‪ ،‬املالقي األندلس ي حول شروط الوقاية الصحية ملهنة الخبازين‪،‬‬


‫كتاب في آداب الحسبة‪ ،‬نشره املستشرق ليفي بروفنسال‪ ،‬طبعة باريس‬
‫‪،1931‬‬
‫‪ -‬غادامير‪ ،‬هانز جورج‪ ،‬الحقيقة واملنهج‪ ،‬الخطوط األساسية لتأويلية‬
‫فلسفية‪ ،‬ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح‪ ،‬طرابلس‪ :‬دار أويا للطباعة‬
‫والنشر والتوزيع ‪.2007‬‬
‫‪ -‬املاوردي‪ ،‬علي بن محمد بن حبيب الشافعي‪ ،‬الرتبة في طلب الحسبة‪ ،‬دراسة‬
‫وتحقيق أحمد جابر بدران‪ ،‬مركز الدراسات الفقهية واالقتصادية‪ ،‬منشورات‬
‫عالء سرحان‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الرسالة‪ ،‬القاهرة ‪.2002‬‬

‫‪34‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

:‫باللغات األجنبية‬
- Bloch, Marc, Apologie pour l'Histoire ou métier d'Historien, Arman
Colin, Paris 1993.
- Douki, Caroline, Minard Philippe «Histoire globale, histoires
- connectées : un changement d'échelle
historiographique? Introduction», Revue d’histoire moderne et
contemporaine, 5/2007, n° 54 - 4bis, p. 7 - 21.
- Global Health Security Index, in : https://www.ghsindex.org/
- Parag, Khanna, Connectography: Mapping the Global Network
Revolution, Printed in USA , on acid free paper, First edtion, Random
House 2016.
- Meghan Jones, « 8 Geniuses Who Made History in Quarantine »,
Reader's Digest. In : https://www.rd.com/list/geniuses-in-quarantine/
- Ricœur, Paul, Histoire et vérité, 3ed, Seuil, Paris 1967.
- Vico, Giambattista, Principi de Scienza Nuova, (Classici Vol. 142)
Formato kindle 1725.

35
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪36‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الكوليرا والكورونا من الحدود البيولوجية إلى‬

‫العوملة الفيروسية‬

‫محمد حبيدة‬

‫جامعة ابن طفيل‪ ،‬القنيطرة‬

‫‪37‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪38‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫منذ سنوات ‪ ،1970‬مع موجة التاريخ االجتماعي واألنثروبولوجيا‬


‫التاريخية‪ ،‬تعددت الدراسات عن األمراض واألوبئة‪ ،‬من طاعون وكوليرا وجدري‬

‫وتيفوس ومالريا‪ ،‬وغيرها‪ ،‬بقلم مؤرخين محترفين ساهموا في توسيع دائرة‬


‫الفهم‪ ،‬بعدما كان هذا املوضوع حكرا على األخصائيين في العلوم الطبية‬

‫والبيولوجية‪ .‬مثال‪ ،‬ملا ضربت اإلنفلونزا اإلسبانية العال َـم سنة ‪ ،1918‬الحظ‬
‫سلم منه الكهول‬
‫الجميع كيف أن املرض عصف باليافعين والشبان بينما ِ‬
‫والشيوخ‪ .‬وكان جواب املؤرخين محوريا بهذا الصدد‪ ،‬ملا أبانوا عن أن ً‬
‫وباء‬

‫مماثال‪ ،‬وهو اإلنفلونزا الروسية‪ ،‬كان قد اجتاح أوروبا قبل هذا التاريخ بثالثين‬

‫سنة (عام ‪ ،)1889‬مما دفع باملختصين في الطب وعلم األحياء إلى استنتاج ما‬
‫مفاده أن الشبان في نهاية القرن التاسع عشر كانوا قد اكتسبوا من جراء ذلك‬

‫مناعة ساعدتهم على مقاومة وباء ‪ 1918‬وهم كهول وشيوخ‪ .‬ثم إن الحجر‬

‫الصحي الذي عاشه العالم في ربيع هذا العام (‪ )2020‬وتسبب في قلق األهالي‬

‫في مختلف أنحاء املعمور له جذور تاريخية‪ ،‬إذ يعود إلى العصر القديم‪ ،‬مع‬

‫النهج الذي رسمه الطبيب اإلغريقي أبقراط‪.‬‬

‫وقد تناولت هذه الدراسات التاريخية الوباء كظاهرة شاملة ذات تأثير‬
‫على االقتصاد والديموغرافيا والطبائع‪ ،‬وباعتباره عامال محفزا على التطور‬

‫‪39‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫العلمي‪ .‬ومعنى ذلك أنها أكدت على آليات التحول التي نقلت العالم الغربي من‬
‫ً‬
‫املقاربة الغيبية إلى املعالجة العلمية‪ ،‬والتي جعلت من الطب "تقنية" تستند‬
‫ً‬
‫ابتداء من عصر الصناعة‪ ،‬حيث ما فتئت أمور الصحة‬ ‫إلى املالحظة والتجربة‪،‬‬
‫تتطور إلى وقتنا الراهن‪.‬‬

‫في عصر الصناعة هذا‪ ،‬أي في القرن التاسع عشر الذي يوافق الحداثة‬

‫الكبرى وما خلقته من تحوالت في حياة األوروبيين املادية‪ ،‬ظهر وباء الكوليرا‬
‫الذي َّ‬
‫يسمى أيضا بالخوف األزرق‪ ،‬حيث كانت تعلو الجلد زرقة بسبب اإلسهال‬

‫الحاد والقيء‪ .‬وقد عصفت الكوليرا بحياة مئات اآلالف من البشر‪ ،‬في آسيا‬
‫وأوروبا وشمال إفريقيا‪ ،‬ليس فقط َّ‬
‫عامة الناس‪ ،‬من البروليتاريين‪ ،‬خاصة في‬
‫أوروبا‪ ،‬الذين عاشوا خالل القرن التاسع عشر ظروفا حياتية مزرية في املدن‬

‫الصناعية نتيجة االكتظاظ والسكن غير الالئق وقلة النظافة وغياب قنوات‬
‫الصرف الصحي‪ ،‬بل ّ‬
‫خاصة الناس أيضا‪ .‬الفيلسوف األملاني هيجل‪ ،‬مثال‪ ،‬كان‬

‫قد ذهب ضحية هذا الوباء عام ‪ ،1831‬مثله في ذلك مثل العالم الفرنس ي‬
‫ُ‬
‫شامبليون الذي فك رموز اللغة املصرية القديمة‬ ‫جون فرانسوا‬

‫(الهيروغليفية)‪ ،‬واملستكشف املالحي الروس ي فاسيلي غولوفنين‪ .‬ففي عامي‬


‫‪ 1831‬و‪ 1832‬كانت الكوليرا‪ ،‬التي انطلقت من الهند وانتشرت باتجاه اليابان‬

‫‪40‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫والصين شرقا وأوروبا وبلدان الحوض املتوسط غربا‪ ،‬والتي نعتها ِألكسندر مورو‬
‫دو جونيس في التقرير َّ‬
‫املقدم للمجلس األعلى للصحة الفرنس ي ِبـ "وباء الكوليرا‬
‫وذكرت الجميع بأهوال طاعون‬ ‫َّ‬
‫الخبيث"‪ ،‬قد خدشت معالم هذه الحداثة‬
‫القرون الوسطى‪ .‬باريس وحدها‪ ،‬في ربيع عام ‪ ،1832‬توفي بها ‪ 18402‬شخص‬

‫(من أصل ‪ 785862‬نسمة)‪.‬‬

‫ومن أوروبا انتقل وباء الكوليرا إلى املغرب عام ‪ ،1834‬بحكم االتصاالت‬
‫التجارية مع بلدانها‪ .‬وقد انكب عدد من الباحثين املغاربة على دراسة هذا الوباء‬

‫الذي تسبب في موت "خلق كثير وجم غفير"‪ ،‬في مقدمتهم محمد األمين البزاز‪،‬‬

‫في كتابه "تاريخ األوبئة واملجاعات باملغرب"‪ ،‬الذي أورد شهادة إخبارية تقول‪:‬‬
‫"هو ريح ما سمعوا به‪ ،‬قاتل من حينه‪ ،‬ويسمونه عندنا في املغرب بأسماء‬

‫الكوليرة والريح األصفر وبوقليب‪ ..‬إذا أصاب الرجل تغير لونه واسود جفن عينه‬
‫ُ‬
‫ويجعله يقيء من أعلى ويسهل من أسفله‪ ،‬ومن الناس من يشتكي مع ما ذكر‬
‫َ‬
‫وجع رجليه ويموت في الحين"‪.‬‬

‫لكن ما يحتفظ به املؤرخ‪ ،‬فيما وراء الشهادات‪ ،‬واإلحصائيات التي‬

‫صارت موثوقة في هذا الوقت‪ ،‬هو املآس ي االجتماعية الفظيعة التي أفرزها هذا‬
‫وترمل ُّ‬
‫وتيت ٍم‪ ،‬والتي لم يستسلم لها املجتمع‪ ،‬حيث أبان‬ ‫وتشرد ُّ‬
‫ُّ‬ ‫موت‬
‫ٍ‬ ‫الوباء‪ ،‬من ٍ‬
‫‪41‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الناس عن قيم التضامن والتكافل التي وإن كانت تختلف باختالف املجتمعات‪،‬‬
‫ً‬
‫فإن قيمها اإلنسانية كانت كونية‪ .‬هذا ما أبانت عنه عمليات عالج املرض ى‪،‬‬
‫ً‬ ‫ومساعدة الفقراء‪ّ ،‬‬
‫وتبني األيتام‪ .‬كما لعبت السلطات دورا كبيرا في التخفيف‬
‫ِ‬
‫من معاناة الناس‪ .‬في املغرب‪ ،‬مثال‪ ،‬كان املخزن ُ‬
‫يوزع الصدقات على املحتاجين‪،‬‬
‫ُ‬
‫ويعاقب املضاربين الذين كانوا يستغلون األزمة لتخبئة‬ ‫وفق إشارات الوثائق‪،‬‬

‫سقط الضرائب على األسواق‪،‬‬ ‫ُ‬


‫املواد الغذائية والزيادة في أسعارها‪ ،‬كما كان ي ِ‬
‫خرج ما في مخازنه من حبوب لضمان وفرتها في األسواق‪ ،‬وخلق توازن بين‬ ‫ُ‬
‫وي ِ‬
‫العرض والطلب‪.‬‬

‫ما يظهر من تجربة األوبئة هذه‪ ،‬التي ال يتسع املقام للتفصيل في حيثياتها‬
‫البيولوجية ووتيرة انتشارها وحجم نتائجها‪ ،‬هو أنها َّ‬
‫دشنت منذ كارثة الطاعون‬

‫سلسل من التحول االجتماعي والفكري‪ ،‬وذلك‬ ‫ٍ‬ ‫األسود‪ ،‬خاصة في أوروبا‪ ،‬مل‬
‫ُّ‬
‫بتفكك النظام اإلقطاعي‪ ،‬والشك الذي صار يخيم على إيمان الناس بتعاليم‬
‫َّ‬
‫بغي ٍب لم ُي ْج ِد نفعا‪ .‬فقد مكن الوباء شيئا فشيئا‬
‫متمسكة ْ‬‫ّ‬
‫الكنيسة‪ ،‬ألنها ظلت ِ‬
‫من تعويض سلطة الرهبان بسلطة قوات حفظ األمن التي استندت إليها الدول‬

‫القومية الصاعدة‪ ،‬والتي كانت ضرورية لفرض الحجر الصحي كوسيلة فعالة‬
‫للحد من انتشار العدوى عبر االختالط واالكتظاظ‪ .‬وكانت "الكرنتينة" التي‬

‫‪42‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫قضت‪ ،‬في القرون الوسطى‪ ،‬بحبس املطعونين في محالت سكناهم ملدة أربعين‬
‫يوما تفاديا للعدوى‪ ،‬قد ُ‬
‫است ِلهمت من نهج الطبيب اإلغريقي أبقراط الذي كان‬
‫يرى بأن املرض ال يتطور بعد أربعين يوما من االنعزال‪ .‬وقد تمت عمليات العزل‬

‫هذه بقرار محلي من سلطات املدينة أو قومي مصادق عليه من طرف الدولة‪،‬‬

‫كما حصل في إيطاليا وفرنسا‪ .‬وما لبثت هذه الطريقة في مكافحة الوباء أن‬
‫تعززت مع الوقت في معظم دول أوروبا إلى أن صارت سياسة رسمية في القرن‬
‫ُ‬
‫التاسع عشر مع تفش ي وباء الكوليرا‪ ،‬حيث ش ِّددت املراقبة على املوبوئين‪ ،‬على‬
‫الرغم من القالقل االجتماعية التي َّ‬
‫تسببت فيها عمليات العزل هذه‪ .‬ثم تحول‬

‫هذا النهج إلى سياسة دولية ملا نادت فرنسا عام ‪ 1834‬بتوحيد مقاييس الحجر‬
‫الصحي‪ ،‬والتي لم يصادق عليها املجتمع الدولي إال سنة ‪ 1851‬خالل أول مؤتمر‬

‫طبي عالمي انعقد بمدينة باريس‪.‬‬

‫لقد كان القرن التاسع عشر مفصليا في عملية مكافحة الوباء‪ ،‬إذ‬

‫استطاع األطباء‪ ،‬الذين تعاظمت سلطتهم بفضل تقدم العلم‪ ،‬معالجة‬

‫املصابين بالكوليرا بطريقة مرتبطة بالبحث العلمي‪ ،‬حيث اتخذت هذه املكافحة‬
‫شكل ثورة علمية مع عالمي البكتيريا‪ ،‬األملاني روبيرت ُك ْ‬
‫وش مكتشف "بكتيريا‬
‫الكوليرا"‪ ،‬والفرنس ي لويس باستور مكتشف التلقيح‪ .‬منذ ذلك الوقت‪ ،‬أصبح‬

‫‪43‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫العنصر َ‬
‫املرض ي الرئيس ي الواجب االحتماء منه هو امليكروب الذي ال لون له‬

‫وال رائحة‪ ،‬والذي ال يمكن الكشف عنه إال بواسطة املجهر‪ .‬وبذلك تغيرت‬
‫املمارسات الصحية رأسا على عقب‪َّ ،‬‬
‫تعززت مع إقرار أولى عمليات الفحص‬
‫املنتظمة والفعالة عند الدخول إلى نيويورك عام ‪.1887‬‬

‫هكذا‪ ،‬في هذا القرن‪ ،‬استطاع الغرب رسم حدود بيولوجية بين عاملين‬

‫متفاوتين‪ :‬عالم أوروبا وأمريكا الشمالية وحتى اليابان التي استطاعت اللحاق‬
‫بالركب الغربي مع ثورة امليجي‪ ،‬من جهة‪ ،‬وباقي العالم (آسيا وإفريقيا) من جهة‬

‫ثانية‪ ،‬حيث صارت األوبئة ميدانا مواتيا للتعبير عن "تفوق" أوروبا العلمي‪ ،‬كما‬
‫ُ‬
‫أبان عن ذلك باتريس بوردولي وجون إيف رولو في دراسة تحت عنوان "الخوف‬
‫األزرق"‪ .‬وقد تجلى ذلك من خالل إجراءات الحجر الصحي‪ ،‬واالكتشافات‬

‫الطبية واملخبرية‪ ،‬والتجارب السريرية‪ ،‬واملؤتمرات الصحية الدولية التي‬

‫انعقدت في كبريات املدن األوروبية‪ ،‬واملجالت املتخصصة‪ ،‬والتجهيزات‬

‫الصحية‪ ،‬التي جعلت من الطب مؤسسة قائمة على البحث العلمي‪ .‬أما في‬

‫املجتمعات الهندية والعربية اإلسالمية‪ ،‬ومجتمعات أخرى في آسيا وإفريقيا‪،‬‬

‫فقد ظل الناس أوفياء لطرق العالج التقليدية ومتشبثين بالغيب‪ .‬في املغرب‬
‫مثال‪ ،‬عارض الفقهاء تدابير "الكرنتينة" التي سهر عليها املجلس الصحي الدولي‬

‫‪44‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ً‬
‫بطنجة‪ ،‬ومجالس أخرى مماثلة في تونس ومصر‪ ،‬حيث رأوا فيها "بدعة" وإجر ًاء‬
‫"اقتداء باألعاجم"‪ ،‬كما َّ‬
‫عبر عن ذلك العربي‬ ‫ً‬ ‫"ممنوعا عرفا وشرعا"‪ ،‬باعتبارها‬

‫املشرفي وأحمد بن خالد الناصري وأبو القاسم الزياني‪ ،‬إنكارا لحقيقة العدوى‪.‬‬
‫ً‬ ‫مع موجة االستعمار‪َّ ،‬‬
‫عمت الثورة العلمية الباستورية (نسبة للويس‬

‫باستور)‪ ،‬القائمة على أساس التشخيص واملجهر والتحليالت الطبية‪ ،‬أقطار‬

‫عريضة من العالم‪ .‬في املغرب مثال‪ ،‬الذي عانى لقرون طويلة من األوبئة شأنه‬
‫في ذلك شأن باقي املجتمعات البشرية‪ ،‬لعب "معهد باستور"‪ ،‬الذي رأى النور‬

‫بالدار البيضاء عام ‪ 1929‬بمبادرة من الطبيب الفرنس ي إميل ُرو‪ ،‬دورا كبيرا في‬
‫االنتقال من طب تقليدي إلى طب حديث‪ّ .‬‬
‫ويبين الباحث بوجمعة رويان في‬
‫ِ‬
‫كتابه "الطب االستعماري الفرنس ي باملغرب"‪ ،‬كيف أظهرت هذه املؤسسة‬
‫َ‬
‫للجميع تفوق العلم على الشعوذة والدجل‪ ،‬ل ّـما َّزودت املستشفيات‬
‫َّ‬
‫واملستوصفات بكميات كبيرة من اللقاح‪ ،‬إذ وفرت ما بين ‪ 1932‬و‪ 1935‬ما‬

‫يقرب من أربعة ماليين جرعة لقاحية ألغراض طبية مختلفة‪ ،‬إيذانا بمرحلة‬

‫جديدة اتسعت فيها دائرة عمليات التلقيح وآليات العالج املرتبطة باإلسعافات‬

‫واألدوية ولوازم النظافة في معالجة األمراض واألوبئة‪.‬‬

‫ظهر التلقيح إذن‪ ،‬وتحسنت الخدمات الطبية وتضاعف عدد البشر‪.‬‬


‫‪45‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫وبعد الحرب العاملية الثانية‪ ،‬ازدادت ثقة الناس في العلوم البيولوجية‬

‫والطبية‪ ،‬ونسوا كوارث املاض ي الوبائية‪ ،‬خاصة ملا اكتشف العلماء املضادات‬

‫الحيوية‪ ،‬ورأت منظمة الصحة العاملية النور عام ‪ ،1947‬وتعددت اللقاءات‬


‫العلمية عبر العال م ومعها تبادل الخبرات‪ .‬وأبان التقدم العلمي عن فعاليته في‬

‫مواجهة التهديدات الوبائية التي مثلتها اإلنفلونزا‪ :‬اإلنفلونزا اآلسيوية (‪،)1957‬‬

‫وإنفلونزا الخنازير في الواليات املتحدة (‪ ،)1976‬وإنفلونزا الطيور في هونغ كونغ‬


‫(‪ .)1997‬وحدث ما لم يكن في الحسبان‪ ،‬حيث ظهر وباء جديد في متم عام‬

‫‪ 1919‬بالصين‪ :‬فيروس كورونا املستجد الذي أثار جدال واسعا بين املختصين‬

‫واملهتمين‪ ،‬وأربك حسابات الجميع‪ ،‬من عالم االقتصاد إلى عالم السياسة‪.‬‬

‫لكن وباء اليوم يختلف عن وباء األمس‪ ،‬ألنه َّ‬


‫كسر "الحدود البيولوجية"‬

‫وجم َع الدول املتقدمة‬


‫التي أقامها الغرب في القرن التاسع عشر كما ذكرنا‪َ ،‬‬

‫واألقل تقدما في سلة واحدة‪ ،‬لعبت فيها العوملة دورا كبيرا‪ ،‬بواسطة اإلعالم‬

‫الدولي الذي نقل الهلع الذي تسبب فيه فيروس كورونا على الهواء مباشرة‪،‬‬
‫َّ َ بؤر ّ‬
‫تفشيه من آسيا إلى أوروبا فإلى أمريكا‪ ،‬مرورا بالحوض املتوسط‬
‫ِ‬ ‫وتتبع‬

‫وإفريقيا وباقي بلدان العالم‪ .‬لقد الحظ الجميع كيف تقاسم البشر عبر أرجاء‬
‫املعمور‪ ،‬سلوكيات وتدابير وقائية جديدة في سياق الحجر الصحي الدولي‪ ،‬من‬

‫‪46‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫واجتناب‬
‫ٍ‬ ‫وتباعد بدني بين الناس‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫واحتياط‪ ،‬وارتد ٍاء للكمامة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫خوف‬
‫ٍ‬
‫ونظافة لأليدي‪ ،‬وغيرها‪.‬‬ ‫للمصافحات ُ‬
‫والقبالت‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫املسمى كوفيدا‪ ،‬يطرح على املؤرخ من األسئلة أكثر‬ ‫غير أن هذا الوباء‬
‫مما يدفعه على إيجاد األجوبة‪ .‬هذا‪ ،‬ألن تفسير ما هو راهني ليس باألمر الهين‪،‬‬
‫ألن " َ‬
‫مؤرخ الراهن يجهل نتيجة ما ُ‬
‫يدرسه"‪ ،‬كما يقول جون الكوتير في بحث‬ ‫ِ‬
‫مرجعي عن "التاريخ الفوري"‪ .‬ومرد ذلك أن نقص املسافة الزمنية بين الدارس‬
‫تعليق‪.‬‬ ‫َ‬
‫والتشخيص إلى‬ ‫تشخيص‪،‬‬ ‫َ‬
‫التفسير إلى‬ ‫ّ‬
‫يحول‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وموضوع الدراسة قد ِ‬
‫َُ‬
‫وهما معا‪ ،‬أي التشخيص والتعليق‪ ،‬ال ينجوان مهما غل َب التفسير من‬
‫َ‬
‫املخرج هو‬ ‫التشويش الطبيعي الذي تمارسه تقلبات الساعة‪ .‬ولذلك‪ ،‬يبقى‬
‫السؤال‪ ،‬والسؤال التأويلي‪ .‬مع تكنولوجيا االفتعال البيولوجي‪ ،‬ومع تضارب‬

‫نتائج الورقات العلمية املنشورة في املجالت املتخصصة‪ ،‬ومع املخططات‬

‫االستراتيجية التي تحاك بدوائر القرار في الدول العظمى‪ ،‬ال أحد يعرف حقيقة‬

‫هذا الفيروس التاجي‪ .‬هل األمر يتعلق بحرب بيولوجية كما يقول البعض؟ هل‬

‫تجربة ربيع ‪ 2020‬مجرد تمرين ملواجهة األسوأ في القادم من السنين‪ ،‬في شكل‬
‫أمراض وأوبئة منحدرة من ْ‬
‫سارس كورونا‪( 1-‬كما حصل في أعوام ‪،2004-2002‬‬
‫ُ‬
‫دورة من فيروسات كورونا تحت مسمى‬
‫و‪ ،2009‬و‪ ،)2012‬والتي قد تدخلنا في ٍ‬

‫‪47‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫"الكورونات" أو َ‬
‫"الكو ِارين" مثلما هو األمر بالنسبة لطواعين املاض ي‪ ،‬وفي عوملة‬
‫ُ‬
‫فعفع املجتمعات واالقتصاديات على نحو دوري؟‬
‫فيروسية من شأنها أن ت ِ‬
‫وبغض النظر عن هذا السؤال أو ذاك‪ ،‬يبقى الدرس َ‬
‫العملي واآلني‪ ،‬على‬
‫املستوى الوطني بالخصوص‪ ،‬هو درس الحياة‪ ،‬كون أن االستثمار في البحوث‬

‫الطبية واألساليب الوقائية املواتية واألنظمة الغذائية الصحية‪ ،‬هو السبيل‬

‫الوحيد ملستقبل بيئي يضمن السالمة لجميع األجيال‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫مراجع‪:‬‬

‫‪ -‬البزاز (محمد أمين)‪ ،‬تاريخ األوبئة واملجاعات باملغرب في القرنين الثامن عشر‬
‫والتاسع عشر‪ ،‬منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط‪.1992 ،‬‬

‫‪ -‬رويان (بوجمعة)‪ ،‬الطب الكولونيالي الفرنس ي باملغرب‪ ،1945-1912 ،‬الرباط‬


‫نيت‪.2013 ،‬‬

‫‪ -‬فانيورون (فريدريك)‪" ،‬اإلنفلونزا اإلسبانية‪ :‬عودة إلى وباء ‪،"1919-1918‬‬


‫ترجمة محمد حبيدة‪ ،‬منشورة بموقع مؤسسة مؤمنون بال حدود‪ ،‬بتاريخ ‪15‬‬
‫أبريل ‪.)https://www.mominoun.com( 2020‬‬

‫‪ -‬املشرفي (العربي)‪ ،‬أقوال املطاعين في الطعن والطواعين‪ ،‬تحقيق الحسين‬


‫الفرقان‪ ،‬الرباط‪ ،‬منشورات دار التوحيدي‪.2014 ،‬‬

‫‪- Bourdelais (P.) et Raulot (J.-Y.), Une peur bleue. Histoire du choléra‬‬
‫‪en France, 1832-1854, Paris, Payot, 1987.‬‬
‫‪- Grmek (M. D.), éd., Histoire de la pensée médicale en Occident,‬‬
‫‪Paris, Seuil (t. 1: Antiquité et Moyen Age; t. 2: De la Renaissance aux‬‬
‫‪Lumières; t. 3: Du romantisme à la science moderne), 1995-1999.‬‬

‫‪- Lacouture (J.), «L’histoire immédiate», in J. Le Goff )dir.(, La Nouvelle‬‬


‫‪Histoire, Bruxelles, Editions complexe, 1988, pp. 229-254.‬‬

‫‪49‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

- Raoult (D.), Epidémies. Vrais dangers et fausses alertes. De la grippe


aviaire au Covid-19, Paris, Michel Lafon, 2020.

50
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الجوائح وجدلية الدولة والحضارة‬

‫عبدالواحد أكمير‬

‫جامعة محمد الخامس‪ ،‬الرباط‬

‫‪51‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪52‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫مقدمة‪:‬‬

‫هناك عالقة سببية بين الجوائح وبين الدول والحضارات‪ ،‬وهي عالقة‬
‫ً‬
‫معقدة ومتشابكة‪ ،‬وال تعطي دائما نفس النتائج‪ .‬الضحايا املباشرون للجوائح‬
‫هم املجتمعات‪ ،‬فهي تهاجم السكان الذين يشكلون تلك املجتمعات‪ ،‬ومنهم‬
‫تتغذى‪ .‬ولكنها في املرحلة املوالية تهاجم الدول‪ ،‬وقد تضعفها وتغرس فيها بذور‬
‫ً‬
‫السقوط التدريجي‪ ،‬ولكن هذا ليس بالقانون الثابت؛ فالجوائح ـ خصوصا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫العنيفة منها ـ قد تقوض دوال‪ ،‬ولكنها كذلك قد تقوي دوال أخرى‪ ،‬وهو ما يعني‬

‫أن العالقة التجاذبية بينهما ليست محسومة‪ ،‬بل تدخل فيها عناصر مركبة‬

‫ومعقدة‪ ،‬هي التي تحسم املعركة في األخير‪.‬‬


‫ً‬
‫هذا بالنسبة للدول‪ ،‬أما بالنسبة للحضارات فإن املواجهة تأخذ مسارا‬

‫آخر؛ فالجوائح ال تستطيع قتلها مهما كانت شراستها‪ ،‬وإذا قتلتها فتلك ليست‬

‫بحضارات وإنما مجرد ثقافات‪ .‬وسنقدم في هذه الورقة بعض األمثلة‬

‫املحسوسة للثقافة التي ال ترقى إلى مستوى الحضارة‪ .‬عندما تشعر الحضارات‬

‫أن الجوائح تهددها باملوت وتريد أن تفعل فيها ما فعلته في املجتمعات والدول‪،‬‬
‫ً‬
‫تفر وتنجح دائما في ذلك‪ ،‬لتصل إلى أماكن ليست فيها جوائح وال خطر املوت‪.‬‬
‫هناك تتخلى عن بعض خصوصياتها للتمكن من مواصلة إشعاعها في البيئة‬
‫‪53‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الجديدة‪ .‬وهذا يدخل في إطار املاهية الحضارية؛ فكل حضارة هي في حاجة إلى‬

‫بذور الحضارات السابقة‪ ،‬لذا فالحضارة ال تلد ذاتها‪ ،‬بل تولد من خالل عملية‬

‫اخصاب مع حضارة أخرى ـ قد تكون في نفس مستواها وقد تكون أقل أو أرقى‬
‫منها ـ وذلك هو تالقح الحضارات‪.‬‬

‫هذا الكالم النظري سأعتمده كآليات لتفكيك العالقة بين الجوائح‬

‫والدول والحضارات عبر التاريخ‪ ،‬منذ توفرت أقدم املصادر عن الجوائح وإلى‬
‫اليوم‪ ،‬مع مراعاة االختصار حتى ال تتجاوز هذه املقالة املجال املخصص لها‪.‬‬

‫‪1‬ـ الجوائح والحضارة اليونانية‪:‬‬

‫أقدم جائحة نتوفر على معلومات تاريخية بصددها هي حمى التيفويد‬


‫التي ضربت أثينا في القرن الخامس قبل امليالد‪ ،‬ونعلم عنها من املؤرخ‬

‫"ثوقيديدس" الذي ترك معلومات عن الوباء وأثار في كتابه "تاريخ الحرب‬

‫البيلوبونيسية"‪ .‬وقد قتل الوباء حوالي خمسين ألف شخص (ربع سكان‬
‫املدينة)‪ ،‬أي أكثر مما قتلت الحرب‪ .‬وكان هو العدو الفعلي الذي َّ‬
‫عرض أثينا‬
‫ً‬
‫للهزيمة‪ ،‬وأفقدها هبتها‪ .‬ولكن الوباء وضع كذلك حدا لتلك الحروب بين املدن‬
‫الدول‪ ،‬بل ولذلك التمزق السياس ي في اليونان القديمة‪ ،‬لتحل محله في القرن‬

‫املوالي دولة مركزية تعتبر واحدة من أهم االمبراطوريات في التاريخ‪ ،‬تلك التي‬
‫‪54‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫أسسها اإلسكندر املقدوني‪ .‬إمبراطورية قوضت بشكل كبير اإلمبراطورية‬

‫الفارسية بعدما جردتها من جل أراضيها في أسيا الصغرى‪ .‬وقد كانت األوبئة‬


‫ً‬
‫كثيرا ما تتفش ى بين الجنود خالل الحمالت التي قام بها اإلسكندر املقدوني‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫شرقا وغربا‪ ،‬ولكنها لم تستطع أن تقض ي على اإلمبراطورية‪ ،‬ألن قوة الدولة‬

‫كانت أكبر من قوة الوباء‪ ،‬عكس ما كان عليه الحال في أثينا عندما ضربها‬

‫الوباء‪.‬‬

‫هذا على مستوى الدولة‪ ،‬أما على مستوى الحضارة‪ ،‬فاألمر مختلف‪،‬‬

‫فلما ضرب الوباء أثينا‪ ،‬كانت هذه األخيرة تضع اللبنات األولى للحضارة‬

‫اإلغريقية؛ فقد كان على رأسها "بريكليس"‪ ،‬واضع أسس الديموقراطية في‬
‫العالم‪ ،‬ومؤسس مبدأ األخالق في السياسة‪ .‬وقد وصل "بريكليس" إلى السلطة‬

‫عن طريق االنتخابات‪ ،‬كعضو بـ "مجلس العموم" الذي يحكم الدولة‪ ،‬قبل أن‬
‫ً‬
‫يصبح رئيسا للمجلس‪ .‬وحرص وهو في السلطة على ربط املسؤولية باملحاسبة‪.‬‬

‫وقد توفي بالوباء‪ ،‬ولكن موته لم يكن يعني موت حضارة أثينا‪ ،‬بل إن موروثها‬

‫الحضاري هو الذي سيتم اعتماده لبناء الحضارة اإلغريقية‪ ،‬والتي وصلت‬

‫أوجها في القرن املوالي مع كبار الفالسفة واألطباء مثل أبقراط وسقراط‬


‫وأفالطون وأرسطو الذي يرجع إليه الفضل فيما اغترفه اإلسكندر املقدوني من‬

‫‪55‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫فكر سياس ي وفلسفي‪ ،‬ألنه أستاذه األول الذي لقنه مبادئ العلمين وهو في‬

‫مطلع شبابه‪.‬‬

‫‪2‬ـ الجوائح في اإلمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية‪:‬‬

‫أخذنا كنموذج الطاعون األنطوني وطاعون جستينيان‪ ،‬وضرب األول‬


‫ً‬
‫اإلمبراطورية الرومانية في القرن الثاني امليالدي‪ ،‬وكان سببا في مقتل املاليين‪.1‬‬

‫وقد سمي باألنطوني نسبة إلى الساللة األنطونية التي كانت تحكم آنذاك‪ .‬تأثيره‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫على الدولة كان قويا في البداية‪ ،‬وكان سببا في نهاية الساللة األنطونية ووصول‬

‫ساللة أخرى إلى الحكم‪ .‬ولكن الدولة استعادت عافيتها بعد ذلك‪ ،‬بل وتوسعت‬
‫ً‬
‫شرقا بشكل كبير‪ .‬لذا فإن التغييرات السياسية العميقة التي ستحدث فيما‬
‫بعد‪ ،‬مثل االنقسام إلى إمبراطوريتين (الرومانية الشرقية والرومانية الغربية)‪،‬‬

‫ومثل سقوط اإلمبراطورية الرومانية الغربية‪ ،‬لم يكن سببه ـ املباشر على األقل‬

‫هو الوباء؛ فاالنقسام إلى إمبراطوريتين كان بسبب الصراع على السلطة‪،‬‬

‫وسقوط االمبراطورية الرومانية الغربية كان بسبب هجمات الشعوب‬

‫الجرمانية‪ .‬وقد حدث االنقسام بعد قرنين من الوباء‪ ،‬في حين أن سقوط‬

‫‪ 1‬ـ كل األرقام التي ترد في هذا املقال بخصوص عدد الضحايا يجب أخذها بتحفظ‪ ،‬فهي‬
‫مجرد تقديرات من قبل املصادر التاريخية التي تحدثت عن الجوائح‪ ،‬وقد استقتها تلك‬
‫املصادر من الذاكرة الجماعية التي تميل بطبعها إلى التضخيم‪.‬‬
‫‪56‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫اإلمبراطورية الرومانية الغربية حدث بعد ثالثة قرون من الوباء‪.‬‬

‫هذا بخصوص عالقة الجائحتين بالدولة‪ ،‬أما بخصوص عالقتهما‬

‫بالحضارة‪ ،‬فلم يكن لهما عليها تأثير كذلك‪ ،‬وقد قاومته الحضارة الرومانية‬
‫الغربية‪ ،‬بدليل أن "ماركوس أوريليوس" الذي حدث الوباء في عهده‪ ،‬يجسد‬
‫ً‬
‫قمة هذه الحضارة؛ فهو باإلضافة إلى كونه إمبراطورا‪ ،‬يعتبر أحد أهم فالسفة‬

‫اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬وكتابه "تأمالت" (‪ ،)Méditations‬بقي لقرون‪ ،‬من أهم‬


‫مصادر التشريع الروماني‪ .‬وحتى عندما ضيق الطاعون األنطونوني الخناق على‬

‫هذه الحضارة خالل املرا حل املوالية‪ ،‬فإنها فرت إلى مكان آخر‪ ،‬لتنبعث بقوة‬

‫وعنفوان مع اإلمبراطور "قسطنطين"‪ ،‬الذي نقل العاصمة إلى القسطنطينية‪،‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ابتداء من ذلك التاريخ‪،‬‬ ‫وكان ذلك يعني فجرا جديدا للحضارة الرومانية؛ ألنه‬

‫ستصبح املسيحية وألول مرة ديانة الدولة‪ ،‬مع ما يمثل الدين بالنسبة لتشكيل‬

‫الفكر الحضاري‪ ،‬بحيث تم صبغ الحضارة الرومانية بطابع مسيحي من خالل‬

‫الفن والهندسة املعمارية‪ ،‬كما يظهر في الكنائس التي شيدت في تلك املرحلة‪.‬‬

‫وكان انتقال هذه الحضارة إلى الشرق مع انقسام اإلمبراطورية الرومانية إلى‬

‫غربية وشرقية‪ ،‬فرصة المتزاج هذه األخيرة بالحضارة اليونانية‪ ،‬بل وأصبحت‬
‫اإلمبراطورية الرومانية الشرقية الوارث الطبيعي لحضارة اإلغريق‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫بالنسبة لطاعون "جستينيان" (نسبة إلى االمبراطور "جستينيان") الذي‬

‫ضرب اإلمبراطورية البيزنطية في القرن السادس امليالدي‪ ،‬فقد ظهر في مصر‬


‫قبل أن يمتد إلى بقية أنحاء اإلمبراطورية‪ ،‬وقدر عدد ضحاياه بسبب طول‬

‫مدته الزمنية باملاليين كذلك‪ ،‬وأحدث رجة في الدولة‪ ،‬لكنه لم يقض عليها‪،‬‬

‫بدليل االنتصارات العسكرية التي حققها االمبراطور "جيستينيان"؛ فهو الذي‬

‫استعاد روما‪ ،‬كما اتسعت امبراطوريته في آسيا الصغرى والبلقان‪ ،‬ناهيك عن‬
‫بالد الشام ومصر وشمال إفريقيا وجنوب إسبانيا‪.‬‬

‫وكما لم تنل الجائحة من الدولة فإنها لم تنل من الحضارة‪ ،‬ويعتبر‬


‫ً‬
‫"جستينيان" (على غرار ماركوس أوريليوس) رمزا لهذه الحضارة‪ ،‬فهو من كبار‬
‫املشرعين‪ ،‬بل وعلى امتداد قرون‪ ،‬كان القانون الذي وضعه والذي حمل اسمه‬

‫من أهم مصادر التشريع‪ .‬وإليه يرجع الفضل كذلك في وضع أولى القوانين التي‬
‫عرفها التاريخ واملتعلقة بالجوائح‪ ،‬مثل قانون الحجر الصحي‪ ،‬وقانون‬

‫األربعينية‪ ،‬الذي كان ُيفرض بمقتضاه على كل من دخل اإلمبراطورية‪ ،‬قضاء‬

‫مدة من الوقت في جزيرة معزولة‪ .‬ومع جستينيان كذلك‪ ،‬سيعرف الفكر الديني‬
‫ً‬
‫تطورا غير مسبوق‪ ،‬بحيث في عهده ظهرت األرثوذوكسية كفرع من فروع‬
‫املسيحية‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪3‬ـ الجوائح بين الدولة والحضارة اإلسالمية‪:‬‬

‫أشهر هذه الجوائح هو طاعون َعمواس‪ 1‬الذي ضرب بالد الشام خالل‬

‫الفتوحات اإلسالمية (حوالي ‪ 640‬م)‪ .‬وهو امتداد لطاعون جيستنيان الذي‬


‫ضرب في القرن السابق اإلمبراطورية البيزنطية‪ .‬وحسب املصادر التاريخية‪،‬‬
‫ً‬
‫تراوح عدد ضحاياه ما بين ‪ 25‬و‪ 30‬ألفا‪ ،‬من بينهم مجموعة من الصحابة‪،‬‬
‫ً‬
‫مثل معاذ بن جبل‪ ،‬وأبي عبيدة بن الجراح الذي كان واليا على الشام وقت‬
‫الوباء‪ .‬ولتفادي وصوله إلى شبه الجزيرة العربية‪ ،‬أمر الخليفة عمر بن الخطاب‬

‫بتطبيق الحجر الصحي‪ .‬وقد استمرت الطواعين في الدولة اإلسالمية‪ ،‬خالل‬


‫ُ‬
‫القرن املوالي‪ ،‬حيث ضرب طاعون غراب بالد الشام سنة ‪743‬م‪ ،‬ثم تاله‬
‫طاعون مسلم بن قتيبة الذي حدث في نفس املنطقة سنة ‪748‬م‪.‬‬
‫َّ‬
‫عندما نبحث في الكيفية التي أثرت بها هذه الجوائح على مسار الدولة‬

‫والحضارة اإلسالمية‪ ،‬نجد أن طاعون عمواس لم ينل من الدولة؛ فبعد فتح‬

‫الشام‪ ،‬وفي خضم الطاعون‪ ،‬قام عمرو بن العاص بفتح مصر‪ ،‬وبعد زوال‬

‫الوباء‪ ،‬تواصلت الفتوحات اإلسالمية في العقود املوالية نحو بالد املغرب ثم‬

‫األندلس‪ .‬أما بالنسبة للطاعونين اآلخرين‪ ،‬فقد ساهما بشكل فعال في زوال‬

‫‪ 1‬ـ نسبة إلى بلدة صغيرة كانت توجد قرب القدس‬


‫‪59‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الخالفة األموية‪ ،‬ذلك ألن العباسيين استغلوا الوضعية املأساوية التي تعرفها‬

‫البالد بسبب الوباء‪ ،‬للقضاء على الدولة األموية‪.‬‬

‫وهنا أريد أن أحلل األوبئة الثالثة من الناحية السياسية؛ فطاعون‬

‫عمواس صادف دولة في طور النشوء والنمو واالمتداد والحماس‪ ،‬ويكفي‬

‫التذكير بأن السورة الوحيدة التي تنبأ فيها القرآن بانتصار املسلمين‪ ،‬تهم هذه‬

‫املرحلة‪ .1‬وبالتالي ما كان هذا الطاعون وال املؤامرات السياسية التي تعرف ب‬
‫"الفتنة الكبرى"‪ ،‬لتقوض قوة هذه الدولة‪ ،‬التي كانت تستند على ركيزتين عندما‬

‫تتوفران تعطيان القوة للدولة آنذاك‪ ،‬هما الدين والسياسة‪ .‬لكن الوضع‬

‫سيختلف بالنسبة ملرحلة الطاعونين املواليين‪ ،‬حيث بدأ الضعف والفساد‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫واالنهيار يدب في الدولة األموية‪ ،‬وبالتالي الطاعون كان فقط عنصرا مكمال‬

‫لذلك االنهيار املنتظر‪.‬‬

‫هذا من حيث عالقة الجائحة بالدولة‪ ،‬أما بخصوص عالقة الجائحة‬

‫بالحضارة‪ ،‬فهنا الجائحة األولى جاءت قبل تأسيس املسلمين للحضارة؛ فشبه‬

‫ََۡ َۡ‬ ‫ُ‬ ‫ٓ‬


‫ۡرضٓ َو ُه ِ‬
‫مٓم ۢن َٓب ۡع ِدٓ‬ ‫وم‪ٓ ِ ٓ٢‬‬
‫ِفٓأدَنٓٱۡل ِ ٓ‬ ‫ٱلر ُٓ‬ ‫فيها‪﴿ :‬ال ٓٓم‪ٓ١‬غل َِب ِ‬
‫تٓ ُّ‬
‫جاء ۡ َ‬ ‫‪ 1‬يتعلق األمر بسورة الروم التي‬
‫ۡ‬ ‫َ‬ ‫َُۡ َ ۢ َۡ ُ َََۡ َۡ َ ُ ُۡ ۡ ُ َ‬ ‫ۡ‬ ‫َ ه‬ ‫ۡ‬ ‫ََ ۡ َ ۡ َ‬
‫ۡصٓ‬
‫ون‪ٓ٤‬بِن َ ِ‬
‫ُ‬ ‫ٓس َٓيغل ُِب ٓ‬
‫ون‪ِِ ٓ ٣‬ف ٓبِضعِ ٓ ِسن ِي َِّۗٓلِلِٓٱۡلم ٓرٓمِنٓقبل ٓو ِمن ٓبع ُۚدٓويومئ ِ ٖذ ٓيفرح ٓٱلم َؤمِن ٓ‬ ‫غلبِهم‬
‫ه‬ ‫َ‬ ‫ه ِ َ ُ ُ َ َ َ ٓ ُ َ ُ َ ۡ َ ُ ه ُ َ ۡ َ ه َ ُ ۡ ُ ه ُ َ ۡ َ ُ َ َ َٰ ه ۡ َ‬
‫سَٓلٓ‬ ‫ٱّلِلٓ ٓوعد ٓه ٓۥٓولكِنٓأكَثٓٱنلٓا ِ ٓ‬ ‫ٱّلِلَُِۖٓلُٓيلِفٓ ٓ‬
‫ِيم‪ٓ٥‬وعدٓ ٓ‬ ‫يزٓٱلرح ٓ‬ ‫ٱّلِلُِۚٓينۡصٓمنٓيشاءُۖٓوهوٓٱلع ِز ٓ‬ ‫ٓ‬
‫ََُۡ َ‬
‫ون‪. ﴾٦‬‬ ‫يعلم ٓ‬
‫‪60‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫َ‬
‫الجزيرة العربية قبل اإلسالم هي أرض بداوة‪ ،‬وشرط الحضارة وهو امل َد ِنية كان‬
‫ً‬
‫منتفيا فيها آنذاك‪ .‬ونعلم أن ُع ْمر الحضارات الحق ُ‬
‫لع ْمر الدول؛ فعندما تنشأ‬

‫الدولة وتصبح مهيكلة‪ ،‬تبحث عن جينات حضارات أخرى وتضعها في حاضنة‪،‬‬


‫ً‬
‫وهذه الحاضنة تتطلب وقتا حتى يقع داخلها اإلخصاب الحضاري‪ .‬وعندما وقع‬

‫طاعون عمواس‪ ،‬كانت تلك الجينات الزالت تتبلور‪ ،‬على اعتبار أن ما بين تفش ي‬

‫هذا الطاعون وتأسيس الخالفة الراشدية هناك فقط سبع سنوات‪ .‬أما‬
‫بالنسبة للطاعونين اآلخرين‪ ،‬والذين ساهما في القضاء على دولة بني أمية‪،‬‬
‫ً‬
‫فإنهما لم يستطيعا خنق الحضارة األموية الناشئة‪ ،‬ألنها فرت بعيدا إلى أرض‬

‫األندلس‪ ،‬حيث أسس األمويون هناك واحدة من أهم الحضارات في التاريخ‪.‬‬

‫نستمر مع الحضارة اإلسالمية‪ ،‬ونتوقف عند الطاعون الذي ضرب‬

‫الدولة املوحدية في املغرب واألندلس في القرن الثاني عشر امليالدي‪ ،‬فقد أرغم‬

‫الوباء‪ ،‬الخليفة املوحدي يوسف بن عبد املومن على مغادرة إشبيلية والعودة‬

‫على وجه السرعة إلى املغرب‪ ،‬بعد أن تفش ى الطاعون في جنوده‪ ،‬وقتل‬

‫مجموعة من كبار رجال الدولة‪ .‬وهنا أريد التذكير أن الطواعين كانت تكثر أثناء‬

‫الحصارات العسكرية‪ ،‬وهذه ظاهرة ميزت الدولة املوحدية‪ ،‬بسبب حروبها‬


‫ً‬
‫الكثيرة‪ ،‬خصوصا في األندلس‪ ،‬وتقدم لنا مصادر التاريخ‪ ،‬الظروف املأساوية‬

‫‪61‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫للحصارات سواء التي يقوم بها املسلمون أو النصارى‪ ،‬فالجوع وقلة املاء واملوت‬

‫بسبب الحصار يؤدي إلى تعفن الجثث‪ ،‬وإلى انتشار الوباء‪.‬‬

‫ولكن ذلك الوباء رغم شراسته‪ ،‬لم ينل من قوة الدولة‪ ،‬بل ستحقق‬
‫الدولة بعد ذلك أهم انتصاراتها مع يعقوب املنصور‪ ،‬الذي كون امبراطورية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫تمتد من إسبانيا شماال إلى الحدود املصرية الليبية شرقا‪ .‬وهذا يدل على أن‬

‫الوباء منح للدولة تجربة في تنظيم الغزوات‪ ،‬وفي كيفية الحصار‪ ،‬ومتى يجب‬
‫رفعه حتى ال يتضرر الجنود‪ ،‬ومن خاللهم يتضرر املجتمع‪.‬‬

‫بالنسبة للحضارة‪ ،‬يلفت انتباهنا أن واحدة من أزهى مراحل الحضارة‬

‫املغربية األندلسية‪ ،‬هي التي عرفتها البالد بعد الوباء املشار إليه‪ .‬فإلى تلك‬
‫املرحلة يعود تشييد أهم معالم العمارة مثل الخيرلدا‪ ،‬وبرج الذهب‪ ،‬وحصن‬

‫الفرج بإشبيلية‪ ،‬وجامع حسان بالرباط‪ ،‬ومسجد الكتبية بمراكش‪ .‬وكانت‬

‫األوبئة من أسباب تقدم الطب‪ ،‬وإلى تلك الفترة ينتمي كبار أطباء البالط‬

‫املوحدي مثل ابن رشد وابن طفيل وابن زهر‪.‬‬

‫‪4‬ـ الجوائح والنهضة األوربية‪:‬‬

‫يتعلق األمر بالطاعون األسود الذي ضرب أوروبا في منتصف القرن‬

‫‪62‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الرابع عشر امليالدي وامتد خارجها‪ .‬نحن نتحدث عن مرحلة مفصلية في تاريخ‬
‫ً‬
‫أوروبا هي التي تسمى القرون الوسطى املتأخرة‪ .‬كان الوباء شرسا حيث قتل‬
‫ً‬
‫املاليين‪ ،‬كما أنه دام عقودا‪ .‬فكيف كان أثره على الدولة والحضارة؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫من الناحية السياسية أضعف الوباء دوال ولكنه بعث دوال أخرى‪ .‬خالل‬

‫القرن الرابع عشر كانت أوروبا تعرف ما يسمى بحروب املائة سنة‪ ،‬والتي‬

‫تواجهت فيها فرنسا مع إنجلترا‪ ،‬لتمتد بعد ذلك املواجهة إلى دول أخرى‪ ،‬سواء‬
‫في شمال أو جنوب أوربا‪ .‬لكن في خضم كل ذلك‪ ،‬وبعد زوال الوباء‪ ،‬تأسست‬

‫الدول املهيكلة‪ ،‬وبدأت النواة األولى ملا سيعرف بالدول الحديثة في إيطاليا‬

‫وإسبانيا وفرنسا وإنجلترا وغيرها‪.‬‬

‫هذا على املستوى السياس ي‪ ،‬أما على املستوى الحضاري‪ ،‬فإن هذا‬
‫ً‬
‫الوباء كان بكل املقاييس باعثا للحضارة الرومانية‪ ،‬لذا فالذي حدث في أوروبا‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫خالل هذه املرحلة ليس تالقحا أو استنساخا حضاريا‪ ،‬مثلما حدث مع‬

‫الحضارة اإلسالمية التي تالقحت مع اإلغريقية أو الفارسية أو البيزنطية‪ ،‬وانما‬

‫انبعاث حضاري‪ .‬هناك نهوض بعد قرون من الركود الحضاري‪ ،‬الذي عادت‬

‫عقبه أوروبا إلى ما يسمى بالعصر الكالسيكي واملوروث اليوناني الروماني‪ ،‬أي‬
‫أن الذين صنعوا حضارة عصر النهضة‪ ،‬هم أحفاد الذين فرت منهم الحضارة‬
‫‪63‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫في القرن الخامس امليالدي‪.‬‬

‫لقد كان سقوط روما سنة ‪ 476‬م‪ ،‬يعني نهاية املدن والعودة إلى البوادي‬

‫في إطار الفيودالية‪ ،‬فجاء الطاعون األسود في القرن الرابع عشر‪ ،‬ليفني البادية‬
‫من سكانها‪ ،‬ويقض ي على نظام القن‪ ،‬وتعود الحياة للمدن‪ ،‬وتنبعث املدنية التي‬

‫هي أساس الحضارة‪ .‬حدث ذلك في التجارة‪ ،‬حيث بدأت النواة األولى‬

‫للبرجوازية‪ ،‬بفضل املدن اإليطالية وتجارتها الخارجية مع الشرق‪ ،‬وقد ازدهرت‬


‫ٌ‬
‫مدن مثل البندقية وجنوة والتي بدأ تجارها يخترقون اآلفاق ويعبرون املتوسط‬
‫ً‬
‫شماال وجنوبا شرقا وغربا‪ ،‬ويصلون عبر طريق الحرير إلى الهند والصين‪،‬‬

‫ويعودون بالحرير والتوابل والثروات (حالة عائلة ماركو بولو معبرة)‪ .‬وقد سمح‬
‫تراكم الثروة في التجارة‪ ،‬بتأسيس النواة األولى للصناعة وكذا تأسيس أولى‬

‫األبناك في أوروبا‪.‬‬

‫ازدهار االقتصاد أدى إلى ازدهار املجتمع‪ ،‬بحيث لم تبق البرجوازية‬

‫كنظام اقتصادي فقط‪ ،‬وإنما أصبحت طبقة اجتماعية أزاحت طبقة النبالء‬

‫من قمة الهرم االجتماعي‪ .‬ومع البرجوازية خرج الفكر من األديرة‪ ،‬وحل محل‬

‫االسكوالئية التعليم الجامعي العلمي‪ ،‬وبرزت جامعات مثل بولونيا ‪Bolonia‬‬


‫والسربون وأكسفورد‪ .‬وظهر املفكرون الذين مهدوا للنهضة‪ ،‬من أمثال "دانتي"‬
‫‪64‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫و"بيتراركا"‪ ،‬وتطورت علوم الطب‪ ،‬وتقهقر الفكر الغيبي الذي روجت له‬

‫الكنيسة‪ ،‬بعد أن اقتنع الناس بأن الذي سينقذهم من الوباء هو الطب وليس‬

‫الدعاء والتضرع‪.‬‬

‫‪5‬ـ جوائح اكتشاف أمريكا‪:‬‬

‫الوباء الذي ضرب العالم الجديد هو نتيجة للتطور الذي عرفته أوروبا‬

‫والتي أصبحت حضارتها مسيطرة على العالم‪ .‬ففي نهاية القرن الخامس عشر‬
‫امليالدي حدث اكتشاف أمريكا‪ ،‬وفي القرن السادس عشر حدث ما يسمى‬

‫بمرحلتي الغزو والتعمير لنفس القارة‪ .‬وقد نجم عن ذلك إبادة مئات اآلالف‬

‫من الهنود‪ ،‬لكن موتهم لم يكن بسبب الحروب فقط‪ ،‬ألن مدة هذه الحروب‬
‫كانت قصيرة وقد حسمتها أسلحة النار بسرعة‪ ،‬وإنما أكبر عدد منهم ماتوا‬

‫باألوبئة التي حملها معهم األوربيون‪ .‬لم تكن أعراض تلك األوبئة تظهر على‬

‫الذين أتوا بها من أوروبا‪ ،‬فهم حاضنون للوباء ولكن غير متأثرين به‪ ،‬ألن‬

‫أجسامهم اكتسبت املناعة الطبيعية‪ ،‬بخالف الهنود الذين لم تكن أجسامهم‬

‫متعودة عليها‪ .‬وزاد في تأزيم الوضعية‪ ،‬ضعف بنية الهنود التي أنهكها‬

‫استغاللهم املكثف في الضيعات الفالحية وفي مناجم الذهب والفضة‪.‬‬

‫من الناحية السياسية‪ ،‬أسفر غزو أمريكا وإبادة الهنود‪ ،‬عن اختفاء‬
‫‪65‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫تلك الكيانات القديمة‪ ،‬مثل دولتي األزطك (املكسيك الحالية) واإلنكا (البيرو‬

‫الحالية)‪ ،‬وأصبحت كل األراض ي املكتشفة بالعالم الجديد تابعة للتاجين‬

‫اإلسباني والبرتغالي‪ ،‬قبل أن تدخل على الخط دول أخرى مثل إنجلترا وفرنسا‬
‫وهولندا‪ ،‬التي سيطرت على أجزاء من أمريكا الوسطى والشمالية‪.‬‬

‫هذا بالنسبة للدولة‪ ،‬أما بالنسبة للحضارة‪ ،‬فالذي سيقع هو غرس‬

‫حضارة جديدة‪ .‬ألول مرة سيتم غرس حضارة من األساس‪ ،‬ألن النموذج‬
‫املوجود لم يكن مهيأ للتالقح‪ .‬نحن هنا نتحدث عن نموذج متفرد؛ فكل‬

‫الحضارات التي تحدثنا عنها في النماذج السابقة‪ ،‬هي حضارات متالقحة‪ ،‬لها‬

‫جينات تغرس في أرض جديدة فتتالقح وتتناسل‪ ،‬ولكن مع وصول اإليبيريين‬


‫إلى العالم الجديد‪ ،‬وجدوا حضارات لم تتالقح مع غيرها‪ ،‬لذا أنا أفضل أن‬

‫أتحدث عن ثقافات وليس حضارات العالم الجديد قبل وصول املكتشفين‪.‬‬

‫والثقافات بخالف الحضارات‪ ،‬ليست مرتبطة بالضرورة باملدنية‪ ،‬بل الثقافة‬

‫هي انعكاس ملستوى معين من التفكير والعادات والذهنيات والسلوكات‬

‫والعالقات االجتماعية وأنماط اإلنتاج ملجموعة بشرية محددة‪ .‬أما إذا ألححنا‬
‫على وصف ما كان عند الهنود بحضارة كما يريد البعض‪ ،‬فهي في تقديري‬

‫حضارة من التاريخ القديم تنتمي إلى التاريخ الحديث‪ ،‬ألن كل عناصرها‬

‫‪66‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫أصبحت متجاوزة عندما تم اكتشاف أمريكا‪.‬‬

‫‪6‬ـ جوائح الثورة الصناعية‪:‬‬

‫أخذنا كنموذج للتحليل ما يسمى بالطاعون العظيم‪ ،‬الذي ضرب‬

‫إنجلترا في ستينات القرن السابع عشر‪ ،‬فهو على شراسته لم ينل من الدولة‪،‬‬

‫فقد أصبحت إنجلترا تقود العالم منذ ذلك التاريخ‪ ،‬وانتصرت في كل حروبها‬
‫ً‬
‫على القوى األوربية األخرى (إسبانيا وفرنسا وهولندا)‪ .‬أما داخليا فقد حدث‬
‫بعد الطاعون أهم ثورة في تاريخ إنجلترا‪ ،‬وهي الثورة املجيدة لسنة ‪،1689‬‬

‫والتي أقرت بشكل ال رجعة فيه الديموقراطية البرملانية‪ ،‬التي وضعت قطيعة‬

‫مع نظام االستبداد الذي فرضه "كرومويل" من قبل‪.‬‬

‫وكما لم ينل الطاعون من الدولة ألنها قوية‪ ،‬لم ينل من الحضارة ألنها‬

‫بنيت على أسس متينة‪ ،‬فقد ازدهر الفن واألدب وبدأت تظهر البوادر األولي‬

‫لعصر األنوار اإلنجليزي (سابق لعصر األنوار الفرنس ي)‪ .‬وإلى هذه املرحلة تنتمي‬

‫الثورة التجارية التي قادت فيما بعد إلى الثورة الصناعية‪ ،‬وأصبحت‬

‫املركانتيلية اإلنجليزية مركانتيلية صناعية‪ ،‬ال تسعى إلى تخزين الذهب كما تفعل‬

‫املركنتيلية اإلسبانية‪ ،‬وإنما لتسخيره في الصناعة‪ .‬وأدركت إنجلترا‪ ،‬أن ثروة‬


‫األمم هي في التصدير وفي ميزان تجاري مربح وفي الرأسمالية‪ ،‬وكل هذه األشياء‬
‫‪67‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫وجد فيها "أدم سميت" مادة لنظرياته في االقتصاد السياس ي‪ ،‬التي ضمنها كتابه‬
‫ثروة األمم‪ .‬بكلمة واحدة‪ ،‬إنجلترا القرن السابع عشر‪ ،‬كرست مسألة التجاوز‬
‫ً‬
‫بين الغرب وبقية العالم‪ ،‬بحيث أصبح منذ ذلك التاريخ "الشرق شرقا والغرب‬
‫ً‬
‫غربا"‪ ،‬ليس كمفهومين جغرافيين وإنما حضاريين‪.‬‬

‫وما قيل عن االقتصاد يقال عن العلوم‪ ،‬فالقضايا العلمية التي اهتم‬

‫بها "إسحاق نيوتن" أثناء فترة الحجر الصحي الذي فرضه الوباء‪ ،‬كانت نقطة‬
‫االنطالق لنظريته العلمية حول قانون الجاذبية‪ ،‬بل وكانت نقطة االنطالق لكل‬
‫النظريات العلمية التي وضعها فيما بعد‪ ،‬حول امليكانيكا الكالسيكية‪ ،‬وقانون‬

‫الحركة الثالثية‪ ،‬ونظرية األلوان‪ ،‬ونظرية الشمس كنموذج للكون والتي قادته‬
‫الختراع التلسكوب‪.‬‬

‫ونحن نصل إلى هذا املستوى من التحليل في عالقة الجوائح بالدول‬

‫والحضارات‪ ،‬قد يكون من املفيد وضع مقارنة مع مغرب نفس املرحلة‪ ،‬فقد‬

‫ضربه طاعون جارف في مطلع القرن السابع عشر‪ ،‬ذهب ضحيته اآلالف‪ ،‬من‬

‫بينهم السلطان أحمد املنصور الذهبي‪ .‬من الناحية السياسية كانت الدولة‬

‫السعدية على عهد املنصور الذهبي‪ ،‬ثالث أهم امبراطورية في العالم اإلسالمي‬
‫بعد تلك التي أسس العثمانيون والصفويون‪ .‬وقد قام املنصور الذهبي بغزو‬
‫‪68‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫بالد السودان‪ ،‬في عمل غير مسبوق في التاريخ‪ ،‬بحيث اخترقت قواته الصحراء‬

‫الكبرى‪ .‬ولكن بعد وفاته ستدخل الدولة في حرب أهلية بين أبنائه‪ ،‬وبما أن‬

‫الطاعون استمر‪ ،‬فقد تحالف الوباء مع الحرب ليساهما في تقويض أسس‬


‫الدولة التي ما فتئت أن سقطت‪.‬‬

‫هذا من الناحية السياسية‪ ،‬أما من حيث الحضارة‪ ،‬فلم يكن بإمكان‬

‫الدولة السعدية ـ على غرار الدولتين العثمانية والصفوية ـ أن تحقق أي‬


‫مساهمة في الحضارة اإلنسانية التي أصبحت مركزة في أوروبا‪ .‬لقد وقع التجاوز‬
‫ً‬
‫الحتمي الذي ال رجعة فيه‪ ،‬وأصبح العالم اإلسالمي مستهلكا للحضارة وليس‬
‫ً‬
‫منتجا لها‪.‬‬

‫‪7‬ـ جوائح القرنين األخيرين‪:‬‬

‫‪ -‬النموذج األول الذي أخذناه‪ ،‬هو التيفوس الذي تفش ى في حملة نابليون‬

‫على روسيا سنة ‪ ،1812‬وكان من أسباب فقدان الجيوش للقدرة على مقاومة‬

‫البرد القارس الذي تحالف مع الوباء ليبيد معظم الجيش‪ ،‬وكان قوامه حوالي‬

‫نصف مليون جندي‪ ،‬لم ينج منهم إال بضعة آالف‪ .‬وسيتكبد نابليون بعد ذلك‬

‫مجموعة من الخسائر آخر في إيطاليا‪ ،‬بحيث شهدت معركة "واترلو" نهاية‬


‫الحلم البونابارتي سنة ‪ .1815‬وقد كانت لهذه النهاية انعكاسات خطيرة على‬
‫‪69‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫السياسة الداخلية والخارجية لفرنسا‪ ،‬ولكن البالد استعادت عافيتها بعد‬

‫سنوات من ذلك‪ ،‬بدليل أنها استعمرت الجزائر في ‪ ،1833‬في إطار مشروع‬

‫استعماري ال يتأتى إال لدولة قوية‪ ،‬وهو املشروع الذي سيتكرس خالل النصف‬
‫الثاني من القرن التاسع عشر‪ ،‬بمناطق أخرى من املعمور‪.‬‬

‫وما يقال عن االشعاع السياس ي يقال عن االشعاع الحضاري‪ ،‬فالوباء‬


‫الذي نال من قوات نابليون‪ ،‬لم يقوض الحضارة الفرنسية‪ ،‬بل كان نابليون‬

‫نفسه‪ ،‬أول من نقل حضارة الغرب إلى الشرق‪ ،‬وأول من أعاد اكتشاف حضارة‬

‫الشرق من خالل حملته على مصر‪.‬‬

‫‪ -‬النموذج الثاني هو االنفلونزا اإلسبانية‪ ،1‬التي قتلت املاليين خالل‬


‫الحرب العاملية األولى‪ .‬الجائحة لم يكن لها تأثير كبير على مجريات الحرب‬

‫ونتائجها رغم تفشيها في جبهات القتال‪ ،‬والسبب هو أنها لم تظهر إال في السنة‬

‫األخيرة من الحرب‪ ،‬وبعد أن أصبح انتصار الحلفاء شبه مؤكد‪ .‬كما لم يكن لها‬

‫دور في خلق رجة حضارية‪ ،‬ألن الهيمنة الحضارية كانت قد حسمت لبلدان‬

‫بعينها‪ ،‬كانت أكبر من أن تقوضها األوبئة؛ فالواليات املتحدة التي ضربتها‬

‫‪ 1‬ـ لم تمس الجائحة إسبانيا‪ ،‬وإنما سميت باإلسبانية ألن الصحافة اإلسبانية كتبت عنها‬
‫أكثر من صحافة البلدان التي كانت تخوض الحرب‪ ،‬والتي تجاهلتها حتى ال تؤثر بما تنشره‬
‫عنها‪ ،‬على معنويات الجنود‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الجائحة أكثر من أي بلد آخر‪ ،‬ورغم األعداد املهولة من القتلى‪ ،‬لم تنل منها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حضاريا‪ ،‬بل كانت نهاية الحرب مؤشرا لهيمنة أمريكا على العالم من الناحية‬
‫ً‬
‫الحضارية‪ ،‬إذا أعطينا للحضارة مفهوما علميا تكنلوجيا وليس تراثيا‪.‬‬

‫‪ -‬النموذج الثالث هو جائحة كرورنا‪ ،‬وهنا أريد القول إنه بالنسبة‬

‫للمؤرخ‪ ،‬ربما يحتاج إلى بعض الوقت ليقوم بالتحليل بنفس املنهجية التي‬

‫اعتمدتها طيلة هذه الورقة‪ ،‬ألن املؤرخ في نهاية املطاف له جانبه الذاتي‪ ،‬وهو‬
‫الجانب الذي قد َيضعف عندما يتحدث عن مرحلة بعيدة عنه في الزمن‪،‬‬

‫وذلك مما يساعده على تحليل األشياء بموضوعية أكبر‪ ،‬ولكن هذا الجانب‬
‫ً‬
‫الذاتي يكون قويا عندما يؤرخ ملرحلة عاشها وتفاعل معها‪ .‬ونحن نعلم أن مسار‬
‫ً‬
‫جائحة كرورنا لم ينكشف بعد‪ .‬وبما أن الحديث هو عن حدث يتطور يوما عن‬
‫يوم‪ ،‬فإنني سوف أمزج هنا بين التحليل التاريخي والتحليل السياس ي‪ ،‬ألقول‬

‫إنه مهما أخذه مسار الجائحة‪ ،‬فتأثيرها على الدول‪ ،‬سيمس بالخصوص‬

‫السياسة الداخلية لهذه الدول‪ .‬وهنا الذي أتوقعه هو صعود التيارات‬

‫الشعبوية والقومية‪ ،‬التي ستقوم بحمالت انتخابية‪ ،‬تريد من خاللها أن تكسب‬


‫ً‬
‫نقاطا للوصول إلى السلطة‪ .‬وستعتبر أن ارتفاع عدد ضحايا كرونا‪ ،‬كان بسبب‬
‫ً‬
‫السياسات الحكومية‪ .‬كما ستحاول أن تلعب بورقة الهجرة ـ كما فعلت دائماـ‬

‫‪71‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫لكن ستضيف معطيات جديدة‪ ،‬مثل األزمة االقتصادية التي نجمت عن‬

‫الجائحة‪ ،‬ومثل الزعم بأن املهاجرين السريين قد يحملون معهم الوباء وقت‬

‫وصولهم إلى أوروبا‪.‬‬

‫هذا بالنسبة للجانب السياس ي أما على املستوى الحضاري‪ ،‬فحضارة‬

‫الغرب ستستمر هي املهيمنة‪ ،‬ولن تنال منها الجائحة مهما بلغت ضراوتها‪.‬‬

‫الحضارة الغربية متحكمة في العالم من خالل مسلسل تاريخي بدأ مع النهضة‬


‫األوروبية‪ .‬ربما ستحسن الصين موقعها على املستوى االقتصادي والتكنولوجي‬

‫مستفيدة من األزمة‪ ،‬لكنها لن تتبوأ الزعامة الحضارية‪ ،‬ألن الزعامة الحضارية‬

‫هي قضية ثقافية‪ ،‬وهي قضية سياسية‪ .‬الصين لن تحقق الزعامة السياسية‬
‫ألن نظامها السياس ي مفتقد للديمقراطية‪ ،‬ولن تحقق الزعامة الحضارية ألن‬

‫ثقافتها‪ ،‬ولغتها‪ ،‬وإثنيتها‪ ،‬وعقليتها وعاداتها‪ ،‬غريبة عن بقية العالم ـ بخالف‬

‫الثقافة الغربية ـ وكل هذا سيجعلها غير قادرة على زحزحة الغرب عن هذه‬

‫الزعامة الحضارية‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫خاتمة‪:‬‬

‫ألخص كل ما سلف ذكره‪ ،‬بالقول إن العالقة السببية بين الجوائح‬

‫والدول والحضارات‪ ،‬ليست عالقة ثابتة أو مطلقة‪ ،‬بل هي القاعدة التي‬

‫يكسرها االستثناء‪ ،‬ذلك ألن علم التاريخ ال يسري عليه االستنتاج االستداللي‬

‫وال االستنتاج االستنباطي‪ ،‬فهذه االستنتاجات تنتمي إلى علم املنطق‪ ،‬وقد‬

‫تصلح للعلوم الطبيعية والتجريبية‪ ،‬وليس لعلم التاريخ‪ ،‬ألن علم التاريخ ال‬

‫منطق له‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪74‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫التاريخ بين الجدوى واملوضوع وآليات االشتغال‬

‫الطيب بياض‬

‫كلية اآلداب والعلوم االنسانية‪ ،‬عين الشق الدار البيضاء‬

‫‪75‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪76‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ال يمكن أن نجادل في ِعبر التاريخ وما يمكن أن يقدمه من دروس‪ ،‬لكن‬

‫وظيفته ليست في تقديم املوعظة من خالل تنبيه الخلف إلى مزالق السلف‬

‫ومهالكه‪ ،‬بل في تقديم أجوبة على قضايا مجتمعية‪ ،‬باعتباره علما انسانيا‬

‫واجتماعيا له أدواته وآليات اشتغاله الكفيلة بتقديم عناصر إجابة وفهم ملا‬

‫يعتصر العصر من تعقيدات‪.‬‬

‫يعيش العالم اليوم على وقع جائحة كورونا وتداعيتها‪ ،‬ويحبس أنفاسه‬

‫تطلعا للخالص‪ .‬ترنو العيون إلى ترياق تجود به مراكز البحث يقي شر الوباء‪،‬‬

‫وتشرئب األعناق إلى انبعاث الدخان األبيض من أسطح إحدى املختبرات ُمبشرا‬

‫بلقاح يخلص من هذا البالء‪ .‬لكن هل على املؤرخ أن ينتظر نهاية هذا املخاض‬

‫ليخص املوتى بطقوس جنائزية على مقاسه‪ ،‬تعوضهم بعضا من الدفن املغبون‬

‫الذي انتهوا إليه بدون تشييع وال وداع أحبة؟ وهل من واجبه‪ ،‬من باب‬

‫االنضباط لقواعد صنعته‪ ،‬أال يخوض في بنية لم تكتمل صيرورتها بعد لتتيح‬

‫له التقاط حدث مؤشر على ذلك‪ ،‬يسعفه في التأريخ وربما التحقيب؟ أم هي‬

‫فرصته لكي ال يبقى حبيس الكتابة عن األموات‪ ،‬ويقدم لألحياء ما يجعل‬

‫صنعته معبرة فعال عن طلب اجتماعي ومستجيبة لحاجة مجتمعية‪ ،‬صنعة‬

‫‪77‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫موضوعها اإلنسان وليس املاض ي‪1‬؟‬

‫يقدم مارك بلوك درسا بليغا في هذا الشأن من خالل تجربته مع الحرب‬

‫العاملية الثانية‪ ،2‬ويمدنا فرانسوا فوريه بنماذج تطبيقية على تفاعل املؤرخ مع‬
‫ُ‬
‫قضايا عصره امللحة واآلنية طيلة أربعين سنة من خالل إطالالته التحليلية في‬

‫مجلتي فرانس أوبسرفاتور والنوفيل أوبسرفاتور‪ .3‬ربما هنا ال ِعبر الحقيقية التي‬

‫تجعل مؤرخ اليوم الذي درج على وصف التحوالت الكبرى واملحطات التاريخية‬

‫الشائكة دون أن يعيشها‪ ،‬أمام امتحان حقيقي ليكون شاهدا وفاعال ومتفاعال‬

‫مع محطة مفصلية أصابت الناس بالفزع والهلع والجزع‪ ،‬لذلك يراهنون على‬

‫حكمة املؤرخ التي تجعله قادرا بكل هدوء على استحضار البنية املمتدة في‬

‫الزمن الطويل لسبر أغوار القوى العميقة املفسرة ملا تحبل به الظرفية من‬

‫التباس وغموض‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫‪Marc Bloch, Apologie pour l’Histoire ou métier d’Historien, édition critique‬‬
‫‪préparée par Etienne Bloch, Armand Colin, Paris, 1993, pp. 81-83‬‬
‫‪2 Marc Bloch, L’étrange défaite, témoignage écrit en 1940, Gallimard, Paris, 1990.‬‬
‫‪3 François Furet, Un itinéraire intellectuel, L’historien journaliste, de France-‬‬

‫‪Observateur au nouvel Observateur (1958-1997), édition établie et préfacée par‬‬


‫‪Mona Ozouf, Calmann-Lévy, Paris, 1999, p. 7.‬‬
‫‪78‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪ -‬ما جدوى التاريخ؟‬

‫اختار باتريك بوشرون أن يدشن دخوله لكوليج دو فرانس بدرس افتتاحي‬

‫يوم ‪ 17‬دجنبر ‪ 2015‬تحت عنوان نعتقد أنه منتقى بعناية‪" :‬ما يستطيعه‬
‫التاريخ"‪ .‬فهو يعي جيدا قيمة املنصب ورمزية املكان‪ ،‬وداللة عنوان الدرس‬

‫االفتتاحي في مؤسسة تتربع على عرش املعمار الجامعي الفرنس ي‪ .‬كما يستحضر‬

‫وال شك رهانات الحقل املعرفي الذي ينتمي‪ ،‬إليه بالقياس إلى ما راكمه الرواد‬
‫إنتاجا وتدافعا مع باقي فروع العلوم اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬من أجل الريادة‬

‫والقيادة في مختلف املواقع‪ .‬وقد كان حريصا على جعل املؤرخ في قلب الحدث‪،‬‬

‫جاهزا لتقديم عناصر تفسير ملا استجد من وقائع وأحداث مرتبطة بمتغيرات‬
‫العصر‪ ،‬كيف ال وهو الذي كان عليه أن ينفعل وجدانيا كأي مواطن مع ُم َ‬
‫صاب‬

‫جلل َه َّز بالده‪ ،‬ويتفاعل علميا مع نفس الحدث في سخونته كمؤرخ؛ مفتتحا‬

‫محاضرته بالقول‪" :‬عدت بعد شهر إلى ساحة الجمهورية‪ .‬كنت مثل اآلخرين‪،‬‬

‫ومع السواد األعظم منهم‪ ،‬حزينا وغير مصدق ملا وقع‪ .1‬كانت شمس نونبر تلقي‬

‫بأشعة تكاد تكون وقحة بال مباالتها املتعالية على أحزان الناس‪ .‬فمنذ يناير‬

‫‪ -1‬يشير املحاضر إلى العمليات االنتحارية التي عرفتها باريس في ‪ 13‬نونبر ‪ 2015‬مخلفة عددا‬
‫كبيرا من القتلى‪ ،‬وتلتها وقفات اإلدانة واالحتجاج في ساحة الجمهورية وسط باريس‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪ ،2015‬أصبح الزمن يمر على الحجر األبيض‪ ،‬الذي يشكل أساس تمثال ماريان‪،‬‬

‫كأنه موجة عاتية تتكسر على الجرف‪ .‬كان الزمن ينساب‪ ،‬ومعه الليالي واأليام‪،‬‬

‫واألمطار والرياح تبلل رسوم األطفال وتجعل ألوانها شاحبة‪ ،‬تبعثر األشياء‪،‬‬
‫وتمحو الشعارات‪ ،‬فتخفف من غضبها‪ .‬كنا ّ‬
‫نسر إلى أنفسنا‪ :‬هذا التمثال‬
‫املعلمة الذي يرفع عاليا في السماء ذاكرة نشيطة‪ ،‬حية وهشة‪ ،‬وكنا نقول‬

‫ليست املدينة سوى هذا‪ ،‬أي هذه الطريقة التي تجعل املاض ي قابال للسكن‬
‫وللحضور بيننا‪ ،‬حيث تجمع تحت خطوات أقدامنا شظاياه املبعثرة‪ .‬والتاريخ‬

‫هو كل هذه األشياء متى عرف كيف يستضيف من نفس الجبهة الوتائر البطيئة‬
‫وف َ‬‫ُ‬
‫جاءة األحداث"‪.1‬‬ ‫للديمومة‬

‫كان بوشرون املؤرخ كما املواطن يقع تحت تأثير الضربات االنتحارية‬

‫التي هزت باريس ومعها الرأي العام الفرنس ي قبل حوالي شهر من تقديم هذه‬

‫املحاضرة‪ ،‬لذلك عندما بادر بطرح السؤال أين يكمن الخطر؟ ما انفك يرحل‬

‫في الزمن ذهابا وإيابا بين الحاضر واملاض ي‪ ،‬باحثا أحيانا على متوازيات بينهما‪،‬‬

‫لتقديم عناصر إجابة عن ما يشغل بال معاصريه‪ ،‬مستلهما أحد أهم إشراقات‬

‫‪ -1‬باتريك بوشرون‪ ،‬ما يستطيعه التاريخ‪ ،‬ترجمة جالل الحكماوي‪ ،‬الدار البيضاء‪،2018 ،‬‬
‫ص ‪.10-9‬‬
‫‪80‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫مارك بلوك في منافحته املنهجية دفاعا عن التاريخ‪.1‬‬

‫استهل هذا املؤرخ الفذ (مارك بلوك) كتابه املوسوم بـ "دفاعا عن التاريخ‬

‫أو صنعة املؤرخ" بسؤال أكثر عمقا وربما استفزازا للذات وماهية اشتغالها‪ ،‬ما‬
‫جدوى التاريخ؟ وقدم االستفهام على لسان طفل صغير موجه ألب مؤرخ‪،‬‬

‫بصيغة واضحة ال لبس فيها‪" :‬هال شرحت لي يا أبت إذن ما جدوى التاريخ؟"‪.2‬‬
‫قد يكون السؤال مباغتا فال تسعف سرعة البديهة في إرواء الظمأ‪ ،‬وقد تعوق‬

‫وس َّن السائل‪ ،‬لكن على‬


‫القدرة التواصلية إيصال املعنى بشكل مبسط ينسجم ِ‬
‫املؤرخ في كلتا الحالتين أن يجعل من هذا االستفزاز املنتج نقيشة مطالب بفك‬

‫رموزها أو تميمة مالزمة له‪ ،‬ال لطرد النحس‪ ،‬بل إلذكاء سؤال أعمق وأعقد‬
‫يتعلق بشرعية التاريخ‪ ،‬فمسألة االستطاعة أو العجز (ما يستطيعه التاريخ)‬

‫تبدو ثانوية‪ ،‬أو على األقل الحقة تتقدمها وتعلو عليها مسألة شرعية الوجود‬

‫وماهيته وغايته‪ .‬ذلك هو االنشغال املعرفي والقلق الفكري الذي الزم مارك‬

‫بلوك في عز الحرب العاملية الثانية والذي حرص على التجنيد فيها رغم كل‬

‫مبررات اإلعفاء‪ ،‬فما إن انتهى الضابط‪ /‬املؤرخ بلوك من كتابة شهادته‪/‬وصيته‬

‫‪1 Marc Bloch,‬‬ ‫‪Apologie, op. cit., pp. 89-98.‬‬


‫‪2 Ibid., P. 69.‬‬

‫‪81‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫لعموم القراء عن الهزيمة الغريبة‪ 1،‬حتى انبرى لكتابة ما يحصن به حرفة‬

‫أولئك الذين جرى نعتهم بـ" قبيلة املؤرخين"‪ .‬والتحصين هنا مزدوج؛ من اساءة‬

‫الذات لفهم قواعد حرفتها‪ ،‬ومن تطاول املتربصين بها املحتقرين لها في شكلها‬
‫الوضعاني التقليدي‪ .‬لذلك جاءت الصيغة األولى للعنوان الفرعي للكتاب على‬

‫شكل سؤال مزدوج‪" :‬كيف وملاذا يشتغل املؤرخ"‪ .2‬فوضع من خالل هذا‬

‫الكتاب‪ /‬املرافعة خارطة طريق لعمل علمي ومجدد‪ ،‬ونصب في الوقت نفسه‬
‫ص ٍّد أمام النزوعات الهيمنية للسوسيولوجيا الدوركايمية‪ .‬إذ مثلما‬
‫متاريس َ‬

‫صاغ الخليل بن أحمد الفراهيدي علم العروض على إيقاع نغمات علم‬

‫املوسيقى الذي برع فيه خارج أسطورة طقطقات مطارق الصفارين على‬
‫َ‬
‫الطسوت‪َ ،‬د ْوز َن مارك بلوك أوتار التاريخ على ميزان اإلنسان ومقام اإلشكال‬

‫بعيدا عن أصنام الحدث والفرد واألصول‪ .‬فتوجهاته التجديدية تغذت من‬


‫التجريبي‪3،‬‬ ‫تطور الفكر العلمي سواء في العلوم الرياضية أو الفزيائية أو الطب‬

‫وهو الذي لم يوفر علما من العلوم املسماة صحيحة أو دقيقة (رياضيات‪ ،‬علوم‬

‫طبيعة‪ ،‬علوم الحياة‪ ،‬اإلحصاء‪ ،‬الفيزياء‪ )...‬إال واستدعاه لخدمة قضيته‬

‫‪1 Marc Bloch,‬‬ ‫‪L’étrange défaite, op.cit.‬‬


‫‪2 Marc Bloch,‬‬ ‫‪Apologie, op. cit., p. 7.‬‬
‫‪ 3‬فرانسوا دوس‪ ،‬التاريخ املفتت‪ ،‬من الحوليات إلى التاريخ الجديد‪ ،‬ترجمة محمد الطاهر‬
‫املنصوري‪ ،‬املنظمة العربية للترجمة‪ ،‬بيروت‪ ،2009 ،‬ص ‪.59-58‬‬
‫‪82‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫املركزية‪ .‬يتعلق األمر بتميز وعلمية الحقل املعرفي الذي يعتز باالنتماء إليه‪ .‬ودون‬

‫مركب نقص تجاه أي من هذه التخصصات العلمية يعلن‪" :‬أن وحدها العلوم‬

‫التي تفلح في تأسيس روابط شارحة بين الظواهر‪ ،‬تستحق أن تسمى علوم‬
‫صحيحة"‪ .1‬ووحده التاريخ بين سائر فروع العلوم االنسانية واالجتماعية‪ ،‬وفي‬

‫عالقته معها‪ ،‬يمكن أن يكون شبيها مقابال للرياضيات في عالقتها بباقي العلوم‬

‫املسماة صحيحة؛ فمثلما ال يمكن لدراس ي الفيزياء أو اإلحصاء أو املحاسبة أو‬


‫الهندسة االستغناء عن الرياضيات في مجاالت أبحاثهم‪ ،‬يستحيل على علماء‬

‫االقتصاد واالجتماع والسياسة فهم مواضيعهم دون الرجوع بشكل أو بآخر‬

‫للتاريخ‪ .‬لذلك ما على التاريخ إن أراد أن يحجز له مكانا بين العلوم إال أن يقترح‬
‫ترتيبا عقالنيا ومعقولية متقدمة‪ ،‬بدل االقتصار على تقديم إحصاء بسيط‪.‬‬

‫فمارك بلوك ال يرى من مهام التاريخ الكشف عن القوانين الخاطئة‪ ،‬الستحالة‬

‫األمر بفعل تواتر املصادفات‪ ،‬لكن ال يتصوره صالحا كحقل معرفي إال وهو‬

‫مشبع بالعقالنية والوضوح وكل ما يدرك بالعقل‪ ،‬األمر الذي يجعل علميته‬

‫مستمدة من مقاربة املؤرخ ومنهجه وليس من طبيعة موضوعه‪ .‬وفي مسيره‬

‫نحو ما يدرك بالعقل ال بالحواس يحتل التاريخ مكانة أصيلة بين تخصصات‬

‫‪1 Marc Bloch,‬‬ ‫‪Apolog‬‬


‫‪ie, op. cit., p. 16.‬‬
‫‪83‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫املعرفة اإلنسانية‪ ،‬مثل أغلب العلوم وربما تفوق عليها بفعل الزمن‪ ،‬الذي‬

‫يشكل جزء ال يتجزأ من موضوعه‪ ،‬إذ هو "علم متحرك"‪ ،‬وليحافظ على علميته‬

‫عليه عدم الكف عن الحركة والتقدم‪ ،‬مثلما على املؤرخ أن ال يكون كائنا‬
‫جالسا فيتحول إلى بيروقراطي التاريخ‪ ،‬بل حرفته تقتض ي منه املسير الدائم‬

‫نحو واجبه في البحث واملغامرة‪.1‬‬

‫عندما يثير مارك بلوك سؤال "شرعية التاريخ" منذ الصفحة األولى من‬

‫كتابه‪ ،‬فاإلشكال االبستيمولوجي للتاريخ يتجاوز عنده املستوى املعرفي‬

‫والعلمي‪ ،‬ليأخذ لبوس املواطنة ووازع األخالق‪ .‬فعلى عاتق املؤرخ تقع‬

‫مسؤوليات ينبغي القيام بها‪ ،‬وهو في ذلك ال يختلف عن أي حرفي ُيفترض فيه‬

‫اإلخالص لواجبات صنعته‪ ،‬بضمير منهي‪ .2‬وألجل ذلك ينبغي تصحيح املسار‪،‬‬

‫وتنقية الشوائب‪ ،‬وكسر جرة النمطي‪ ،‬وإعادة توجيه البوصلة‪ ،‬بما ينسجم‬

‫وجدوى التاريخ وشرعيته وقواعد حرفته‪ .‬لذلك اقترح ما يجوز اعتباره خارطة‬

‫طريق لحنطة املؤرخين‪ ،‬يمكن تكثيف عناصرها فيما يلي‪:‬‬

‫‪1 Ibid.‬‬
‫‪2 Marc Bloch,‬‬ ‫‪Apologie, op.cit., pp. 12-13.‬‬
‫‪84‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪ -‬موضوع التاريخ‪:‬‬

‫"نقول أحيانا‪ :‬التاريخ علم املاض ي‪ ،‬يا له من كالم س يء‪ ،‬وإنه ألمر سخيف‬
‫ّ‬
‫أن يكون املاض ي في حد ذاته موضوعا للعلم"‪ 1.‬هكذا ُيهشم مارك بلوك الجرة‬
‫فوق رؤوس اإلخباريين ورواة السير ومحنطي التاريخ‪ .‬ثم سرعان ما ينتقل من‬

‫هدم القديم إلى بناء الجديد‪ ،‬وفي رسمه ملعالم املمكن بدل القائم يستحضر‬

‫اجتهادات السلف املجدد في جعل اإلنسان موضوعا للتاريخ وغايته في اآلن‬


‫نفسه‪" ،‬في الواقع تعلمنا منذ زمن طويل‪ ،‬من خالل شيوخنا العظماء من أمثال‬

‫ميشلي وفوستيل دو كوالنج أن ندرك أن موضوع التاريخ بطبيعته هو‬

‫اإلنسان"‪ 2،‬أو ملزيد من الدقة "يجب إضافة اإلنسان في الزمن"‪ .3‬فالزمن‬


‫بطبيعته مستمر‪ ،‬لكنه دائم التغيير أيضا‪ ،‬ومن تناقض هذين امليسمين الذين‬

‫يسمانه‪ ،‬تنشأ اإلشكاليات الكبرى للبحث التاريخي‪ .4‬فاملؤرخ شديد االلتصاق‬

‫بالزمن‪ ،‬ال يخرج منه أبدا‪ ،‬تقوده مراوحة ضرورية إلى أن يصيخ السمع أحيانا‬

‫للموجات الكبرى للظواهر املرئية العابرة في الزمن من جانب إلى آخر‪ ،‬والقبض‬

‫‪1 Ibid., p. 81.‬‬


‫‪2 Ibid., p. 83.‬‬
‫‪3 Ibid., p. 84.‬‬
‫‪4 Ibid., p. 85.‬‬

‫‪85‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫أحيانا على اللحظة اإلنسانية حيث يجري تكثيف هذه التيارات في العقدة‬

‫القوية للوعي‪ .1‬فيصير التاريخ بذلك علما لإلنسان في الزمن املستمر واملمتد‬

‫لكن أيضا املتغير؛ أي علم التغيرات والتبدالت في أحوال الناس وطباعهم‬


‫وذهنياتهم بل وحتى أجسادهم‪ .2‬وعلى املؤرخ أن يعي أن صنعته في بعديها الفني‬

‫والعلمي تتطلب حرفية عالية‪ ،‬فلغتها الجميلة تجعلها فنا مشتهى‪ ،‬وصرامتها‬

‫املنهجية ترقى بها ملصاف العلم املبتغى‪.‬‬

‫‪ -‬املؤرخ والوثيقة‪:‬‬

‫يقتفي املؤرخ األثر ويبحث عن السر ويطمح إلى التفسير‪ ،‬لكن يفسر‬

‫ماذا؟ ويفسر بماذا؟ هل يفسر الوقائع واألحداث؟ أم يفسر مضامين املادة لفهم‬
‫ُ‬
‫ما جرى؟ واملادة هنا قد تكون نقيشة أو لقى أثرية أو رواية مكتوبة أو شفوية‪،‬‬

‫هي في نهاية املطاف شواهد على املؤرخ أن يبرع في اقتناص شواهده أوال‪ ،‬وأال‬

‫يطمئن إليها ثانيا‪ ،‬وهو وحده املؤهل لتحديد قيمتها ومنحها الحياة وشرعية‬

‫الوجود في مختبره‪ ،‬بعد جسها وفحصها واالطمئنان إلى مصداقيتها‪ .‬وواهم في‬
‫نظره من يعتقد أن الوثيقة تقول‪ ،‬فهي ُتستنطق ُوت َّ‬
‫قول لكي تبوح باألسرار‬

‫‪1 Ibid., pp.166-167.‬‬


‫‪2 Marc Bloch,‬‬ ‫‪Apologie, op. cit., p.24.‬‬
‫‪86‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫والخفايا‪ .‬واملؤرخ النبيه هو الذي يتوسل ُع ّدة منهجية وتكوينا عابرا للحقول‬

‫املعرفية ليتقمص دور املحقق الذكي في العالقة مع وثائقه‪ ،‬وإال صار هو في‬

‫خدمة هذه الوثائق‪ ،‬يعيد تركيب التاريخ حسب األهواء الواردة فيها‪ .‬فأكثر‬
‫النصوص والوثائق األثرية وضوحا وإرضاء‪ ،‬ال تتحدث إال عندما نعرف كيف‬

‫نستنطقها‪ 1.‬وسيكون من غير املجدي تصور أن كل إشكالية تاريخية‪ ،‬تتطلب‬

‫في تحليلها نوعا خاصا وفريدا من الوثائق‪ .‬إذا كلما طمح البحث التاريخي‬
‫للوصول إلى أعماق الحقائق‪ ،‬كلما تلمس إدراكها تحت األشعة املتقاطعة‬

‫للشواهد املتنوعة في طبيعتها‪.2‬‬

‫‪ -‬مركزية النقد التاريخي‪:‬‬

‫يدرك أكثر املحققين من رجال الشرطة سذاجة أنه من غير املعقول‬

‫االطمئنان إلى أقوال الشهود‪ ،‬كما جرى منذ القدم رفض القبول األعمى‬
‫ُ‬
‫للشواهد التاريخية‪ .‬فقد أثبتت التجارب القديمة لإلنسانية‪ ،‬أن النصوص ترد‬

‫إلى غير أصولها‪ ،‬وليست كل الروايات صحيحة‪ ،‬فيما اآلثار املادية يمكن‬

‫تزويرها‪ .‬لذلك فعلمية التاريخ ارتبطت بثورة الشك في املسلمات واليقينيات‪.‬‬

‫‪1 Ibid, p.109.‬‬


‫‪2 Ibid., p.111.‬‬

‫‪87‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫حصل التقدم الحقيقي في اليوم الذي لعب فيه الشك دور الفاحص‪،‬‬

‫حيث جرى وضع القواعد املوضوعية التي ميزت بشكل تدريجي بين الكذب‬

‫والحقيقة‪ ،‬وأرست أسس الفرز واالنتقاء‪ 1.‬جرى ذلك على مراحل منذ مطلع‬
‫القرن السابع عشر‪ ،‬إذ انطلق مع دانيال بابينبروك‪ ،‬ثم تعمق تدريجيا مع كل‬

‫من جون مابيلون وريتشار سيمون‪ .‬وهو جيل مؤسس ّلقح التاريخ بالنقد‪،‬‬

‫والذي تعزز بعملي سبينوزا "رسالة في الالهوت والسياسة" و"خطاب في املنهج"‬


‫لديكارت‪2.‬‬

‫يبقى على املؤرخ إذن أن يتقن دور قاض ي تحقيق غاضب من بعض‬

‫األدلة التمهيدية‪ ،‬حيث ُي َس ِ ّهل غياب الحذر فرض الصور املشينة‪ ،‬وهو يدرك‬
‫بعيدا عن السذاجة أن شهوده يمكنهم أن يخادعوا أو يكذبوا‪ .‬لكن ينشغل‬

‫قبل كل ش يء بجعلهم يتحدثون‪ ،‬لكي يفهمهم‪ 3.‬فاملالحظة والشك والسعي‬

‫للفهم والتفسير‪ ،‬واملقابلة بين الشواهد والنفاذ للمسكوت عنه فيها َبن َفس‬

‫نقدي‪ ،‬وقوة استشعار حادة تميز بين املحتمل وغير القابل لالحتمال‪ ،‬كلها‬
‫َُ‬
‫مداخل تؤ ِّمن للتاريخ مكانا محترما بين العلوم‪.‬‬

‫‪1 Marc Bloch,‬‬ ‫‪Apologie, op. cit., p.120.‬‬


‫‪2 Ibid., p.122.‬‬
‫‪3 Ibid., p.126.‬‬

‫‪88‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪ -‬املؤرخ والقاض ي‪:‬‬

‫يقول بول ريكور‪" :‬وماذا بأمر املواجهة بين مهمة القاض ي ومهمة املؤرخ؟‬

‫إن ظروف النطق بالحكم داخل محكمة قد فتحت‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬ثغرة في الجبهة‬
‫املشتركة التي يحتفظ بها املؤرخ في وجه الخطأ والظلم‪ .‬على القاض ي أن يقض ي‬

‫إنها وظيفته‪ .‬عليه أن ينهي‪ .‬عليه أن َي ُب َّت (…) كل هذا ال يقوم به املؤرخ‪ ،‬وال‬
‫يستطيع أن يقوم به‪ ،‬وال يرغب في أن يقوم به‪ ،‬وإن حاول وجازف بأن ّ‬
‫ينصب‬
‫ِ‬
‫نفسه وحده محكمة للتاريخ‪ ،‬فإن ذلك سيكون على حساب االعتراف بالطابع‬
‫املؤقت لحكم يعترف ُّ‬
‫بتحيزه‪ ،‬بل حتى بطابعه النضالي‪ .‬لكن عندها فإن حكمه‬

‫الجسور يخضع لنقد جماعة العاملين بكتابة التاريخ‪ ،‬ولنقد الجمهور املستنير‪،‬‬
‫وسيكون ُم َّ‬
‫صنفه عرضة لسيرورة ال تنتهي من املراجعات تجعل من كتابة‬

‫التاريخ إعادة كتابة مستديمة‪ .‬هذا االنفتاح على إعادة الكتابة هو عالمة‬

‫االختالف بين حكم تاريخي مؤقت وبين حكم قضائي نهائي"‪ 1.‬ذاك ما سبق أن‬

‫نبه إليه مارك بلوك بشكل أكثر صرامة‪ ،‬قبل أزيد من نصف قرن‪ ،‬إذ يرى جاك‬

‫لوغوف في تقديمه لكتاب بلوك عن صنعة املؤرخ أن رفيق درب لوسيان فيفر‬

‫‪ 1‬بول ريكور‪ ،‬الذاكرة‪ ،‬التاريخ‪ ،‬النسيان‪ ،‬ترجمة وتقديم وتعليق جورج زيناتي‪ ،‬دار الكتاب‬
‫الجديد املتحدة‪ ،‬بيروت‪ ،2009 ،‬ص ‪.478-477‬‬
‫‪89‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫في تأسيس مجلة الحوليات‪ ،‬كان يمقت املؤرخين الذين يصدرون األحكام‬

‫عوض أن يعمدوا إلى الفهم‪ ،‬وهو الحريص على ترسيخ أقدام مهنتهم بشكل‬

‫أعمق في الحقيقة واألخالق‪ ،‬إذ الحقيقة غاية علم التاريخ واألخالق منتهاه‪ 1.‬ألم‬
‫يكن املنصب الذي شغله جول ميشلي في كوليج دو فرانس بين ‪ 1838‬و‪1851‬‬

‫هو كرس ي التاريخ واألخالق؟‬

‫‪ -‬املنزع اإلشكالي للتاريخ‪:‬‬

‫سبق لفرانسوا سيميان منذ سنة ‪ 1903‬أن هاجم النمط السائد في‬
‫املعرفة التاريخية املوسوم بالوضعاني‪ ،‬إذ "دعا املؤرخين ليتخلصوا من بهرجهم‬
‫ليجددوا أنفسهم‪ ،‬واعتمد الصورة املجازية لبايكون عن »أصنام قبيلة‬
‫املؤرخين«‪ ،‬وعددها ثالثة‪ ،‬وكلها غير مفيدة‪ .‬هناك أوال »الصنم السياس ي«‪ ،‬أي‬
‫الدراسة املهيمنة‪ ،‬أو على األقل االهتمام الدائم بالتاريخ السياس ي‪ ،‬يضاف إليه‬
‫»الصنم الفردي أو العادة الراسخة في فهم التاريخ كتاريخ لألفراد«‪،‬‬
‫وأخيرا»صنم التسلسل التاريخي‪ ،‬أي عادة الضياع في البحث عن األصول«‪ .‬وهو‬
‫ُ‬
‫بذلك يضع موضع الشك وبصورة واضحة قدرة هذا العلم القديم القائم الذي‬
‫هو التاريخ‪ ،‬أن يتشكل كطريقة ايجابية للمعرفة‪ .‬وعلى العكس من ذلك فعلم‬

‫‪1 Marc Bloch,‬‬ ‫‪Apologie, op. cit., p.28.‬‬


‫‪90‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫االجتماع الناش ئ يقترح نفسه أن يكون » مدونة للعلوم االجتماعية«‪ .‬إنه يدعو‬
‫املؤرخين إلى العبور من املفرد إلى الظاهرة املنتظمة وإلى العالقات الثابتة التي‬
‫تسمح باستنباط قوانين علمية ومنظومات السببية"‪.1‬‬

‫هذا االستفزاز املنتج الذي جرى تخصيبه في مجلة التوليف التاريخي‬


‫لصاحبها هنري بير‪ ،‬ساعد مارك بلوك ولوسيان فيفر على َه ِّد املعبد على رؤوس‬
‫حراسه من الوضعانيين‪ ،‬قبل أن يحين موعد تصفية الحساب مع‬
‫ُ‬
‫املستص ِغرين لصنعة املؤرخين في ُبعدها اإلشكالي‪ .‬فكان سر نجاح ثنائي جامعة‬
‫ستراسبورغ‪ ،‬ومعهما تجربة الحوليات‪ ،‬واكتساح مفهومهما الجديد للتاريخ‬
‫نابع‪ ،‬كما نبه إلى ذلك جاك لوغوف‪ ،‬من أمرين‪ :‬نحتهما ملفهوم جديد للتاريخ‬
‫قائم على أساس إشكالي ومنفتح على باقي الحقول املعرفية‪ ،‬ثم من مدة‬
‫صالحية هذا املفهوم الذي أحكم مارك بلوك إتقانه في كتابه‪ /‬املرافعة عن‬
‫ً‬
‫التاريخ‪ .‬فإلى حدود اليوم‪ ،‬وبعد مرور ما يقرب من الثمانين َح ْوال‪ ،‬مازال طرح‬
‫مارك بلوك يحتفظ ببريقه وجدته‪ ،‬وإن كان قد أخذ سره معه عن فهمه ملوقف‬
‫املؤرخ اتجاه املستقبل‪ ،‬فقد ترك هذا اإلشكال في ُعهدة املؤرخين وعلى‬
‫عاتقهم‪" 2.‬إن املؤرخ بالنسبة إلى مارك بلوخ ولوسيان فيفر ال يستطيع أن‬

‫‪ 1‬فرانسوا دوس‪ ،‬التاريخ املفتت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.49‬‬


‫‪2 Marc Bloch,‬‬ ‫‪Apologie, op. cit.,p.31.‬‬
‫‪91‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫يكتفي بالكتابة ت حت إمالء الوثائق‪ ،‬عليه أن يسائلها ويضعها ضمن إشكالية‪.‬‬


‫إنهما يقترحان ضد التاريخ ‪ -‬الرواية الذي ينادي به النغلوا وسينيوبوس تاريخا‪-‬‬
‫مشكال‪ ،‬يكون أرضية نظرية ملفهومية تاريخ بنيوي مستقبلي‪ .‬لم يعد التقسيم‬
‫التاريخي يتمفصل إذا وفق حقبات كالسيكية ولكن وفق مشكالت يتم إبرازها‬
‫والبحث عن حلول لها"‪.1‬‬

‫لقد كان جاك لوغوف شديد الوضوح في جوابه عن سؤال لبرنار بيفو‪،‬‬

‫في برنامجه الثقافي الشهير أبسطروف‪ ،‬حول التاريخ الجديد‪ ،‬بالقول‪ ":‬التاريخ‬
‫الجديد هو تاريخ إشكالي"‪.2‬‬

‫‪ -‬تفاعل املؤرخ مع أزمة كورونا‪:‬‬

‫يذكرنا فرانسوا بداريدا بأنه "في مواجهة توقعات املجتمع واهتمام‬


‫ً‬
‫الجمهور ٌيطلب من املؤرخ أن يفك اشتباك األحداث‪ ،‬وأن يوفر خيطا هاديا‪،‬‬

‫باملزج بين دوره كناقد والدور املدني األخالقي‪ .‬وحتى حين ال يتعلق األمر بمحاولة‬

‫إعداد وتقديم املؤرخ‪ ،‬عبر االحتكام لخبرته الكبيرة‪ ،‬بصفته حكيم البلدة‬
‫املعترف به‪ ،‬فعلينا أن نشدد على اعتالء املنبر استجابة لقضايا العصر‪-‬‬

‫‪ 1‬فرانسوا دوس‪ ،‬التاريخ املفتت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.118‬‬


‫‪2‬‬ ‫‪Hervé Coutau- Bégarie, Le phénomène nouvelle Histoire, grandeur et‬‬
‫‪décadence de l’école des annales, Ed, économica, Paris, 1989, P.32.‬‬
‫‪92‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫املشروط بااللتزام الصارم بقواعد البحث العلمي – هو أمر مشروع تماما من‬

‫حيث أنه يمد التاريخ بعمق كبير"‪ . 1‬قبل أن ينبه إلى "انفجار املعرفة التاريخية‬

‫الذي يحدث عقب اتساع مجال املؤرخ إلى مجاالت جديدة لم تكتشف حتى‬
‫اآلن‪ ،‬ومهما كان من حسن اطالع املؤرخ على العالم حوله‪ ،‬فهو يخطو على‬

‫صراط ضيق يسير بين املهمتين املتعارضتين املطلوب منه إنجازهما‪ .‬إن عليه‬

‫من ناحية أن ينأى بنفسه عن األساطير الكامنة في العقل العادي‪ ،‬وأن يبتعد‬
‫عن تشوهات الذاكرة الجماعية‪ ،‬حتى يتسنى له وضعها إلى جانب خطاب يخلو‬

‫من الغموض‪ ،‬يكون مؤيدا بالبراهين وعقالنيا في "في نفس الوقت"‪ .‬ومن ناحية‬

‫أخرى فبوصف املؤرخ بانيا وناشرا للمعرفة‪ ،‬عليه أن يساهم في صوغ الضمير‬
‫التاريخي وذاكرة معاصريه‪ ،‬بعبارة أخرى‪ ،‬إن كونه فاعال اجتماعيا ال يفصله‬
‫باحثا"‪2.‬‬ ‫عن كونه‬

‫يدفعنا اتساع مجال املؤرخ إلى مجاالت جديدة لم تكتشف حتى اآلن‪،‬‬

‫إلى طرح جملة أفكار حول مدى تدخله وتفاعله مع قضية عصره الحالية‬

‫املتمثلة في جائحة كرونا وما أفرزته من تداعيات‪ ،‬وعن آليات اشتغاله الكفيلة‬

‫‪ 1‬فرانسوا بداريدا‪" ،‬املمارسة واملسؤولية التاريخية"‪ ،‬ترجمة بهلول شريف‪ ،‬مجلة‬


‫ديوجين‪ ،‬العدد ‪ ،168‬دجنبر ‪ ،1994‬ص ‪.3‬‬
‫‪ 2‬فرانسوا بداريدا‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.4-3‬‬
‫‪93‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫بجعله ليس فقط في صلب انشغاالت مجتمعه بل في صلب انشغاالت اإلنسانية‬

‫جمعاء‪ .‬إذ هي فرصته لركوب قطار التجديد عبر مواضيع جديدة وإشكاليات‬

‫جديدة بمقاربات جديدة‪.‬‬

‫ما يستعطيه التاريخ اليوم بلغة باتريك بوشرون هو استدعاء البنيات‬


‫املمتدة في الزمن الطويل والسياقات املفسرة للمستبطن والخفي فيما جرى‬

‫ويجري اليوم‪ ،‬الكاشفة لبيئة االستنبات ومنحى التبلور ومسار التطور‪.‬‬

‫هل سننساق مرة أخرى مع القراءات التي ال ترى من جبل الجليد سوى‬

‫وجهه الظاهر‪ ،‬فتتحدث عن الجوائح كما لو أنها وحدها املسؤولة عما حصل‬

‫ويحصل‪ ،‬متناسية السياق الذي جاءت فيه والواقع الهش املهترئ الذي‬
‫وجدته‪ ،‬ولم تعمل في الواقع سوى على تعميق جراحه؟‬
‫ُ‬
‫كيف قدر للبشرية أن تعيش من جديد سلوكات وممارسات حسبت أن‬

‫الزمن قد طواها إلى غير رجعة؟ ليس فقط عودة أسلوب تبادل البضائع بما‬

‫يقابلها نقدا على الطريقة الفينيقية في زمن كورونا‪ ،‬لتفادي االحتكاك املباشر‬

‫ونقل العدوى‪ ،‬لكن األدهى واألشد غرابة هو عودة القرصنة وتحلل منظومة‬

‫أخالقية قيمية في مجال العالقات الدولية؟!‬

‫‪94‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫في زمن اختار فيه البعض أن يتحدث عن مناعة القطيع املعبرة عن‬

‫داروينية اجتماعية في لبوس مادي مفتقد ألي حس إنساني‪ ،‬وانتقاء في النوع‬

‫البشري بإرادة البشر لتحديد من يعالج ومن يترك ملصيره‪ ،‬وأمام عودة‬
‫املالتوسية في صيغتها األكثر شراسة ومعادلة الربح ولو على حساب صحة‬

‫االنسان‪ ،‬حيث الوفرة على حساب الجودة والجانب الصحي‪ ،‬ناهيك عن‬
‫ٌ‬
‫األخطار البيئية‪ ،‬سقطت أقنعة النيوليبرالية وطرح سؤال األولوية هل لإلنسان‬
‫أم لالقتصاد؟ وكذا التمايز بين القيمة التبادلية والقيمة االستعمالية‬

‫للبضائع؟ وما أثر كل ذلك على مختلف اقتصادات العالم وتداعياتها على‬

‫الفئات األكثر هشاشة؟‬

‫هل نحن أمام نهاية للتاريخ أم أمام سقوط مدوي لنهاية التاريخ مع ظهور‬

‫تباشر نهاية القطبية األحادية؟‬

‫أي خصائص تميز هذه الجائحة عن سابقتها طبيا واجتماعيا واقتصاديا‬


‫َ ُّ‬
‫ونفسيا في زمن ت َحكم كبريات شركات األدوية في العالم‪ ،‬والرهاب املوجه إعالميا‬

‫بضخ رهيب لإلشاعات وتوظيف الفيروسات في لعبة األمم؟‬

‫ماذا عن وقع كل ما حصل على البنيات الذهنية السائدة في زمن الثورة‬


‫الرقمية واستمرار التمترس خلف الهوية؟ وأي عاهات نفسية قد يحملها‬
‫‪95‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫القاصرون املحاصرون في بيوتهم‪ ،‬القابعون خلف شاشات حواسبهم زمن‬

‫الحجر الصحي؟‬

‫هل نحن حقا أمام محطة جديدة للتحقيب أم أمام مؤشرات تحول في‬
‫طور التشكل لم تنضج شروط اكتماله بعد؟‬

‫تلك جملة أوراش‪ ،‬إلى جانب أخرى‪ ،‬يسمح توسع مجاالت املؤرخ‬

‫باالنخراط فيها‪ ،‬بانفتاح منتج ومبدع على باقي الحقول املعرفية‪ ،‬مع ضرورة‬
‫الخلق واالبتكار في زاوية املعالجة‪ .‬وألن الظرفية استثنائية وغير مسبوقة‪،‬‬

‫فاملقاربات السائدة بما فيها آخر اجتهادات التاريخ الجديد قد تحتاج بدورها‬

‫مبتكر لسبر األغوار وكشف األسرار‪.‬‬ ‫ََ‬


‫إلى نفس تجديدي ِ‬

‫‪96‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫بيبليوغرافيا مساعدة‪:‬‬

‫‪ -‬بداريدا فرانسوا‪" ،‬املمارسة واملسؤولية التاريخية"‪ ،‬ترجمة بهلول شريف‪،‬‬


‫مجلة ديوجين‪ ،‬العدد ‪ ،168‬دجنبر ‪.1994‬‬

‫‪ -‬بوشرون باتريك‪ ،‬ما يستطيعه التاريخ‪ ،‬ترجمة جالل الحكماوي‪ ،‬الدار‬


‫البيضاء ‪.2018‬‬

‫‪ -‬بياض الطيب‪ ،‬الصحافة والتاريخ‪ ،‬إضاءات تفاعلية مع قضايا الزمن الراهن‪،‬‬


‫منشورات دار أبي راقراق‪ ،‬الرباط‪ ،‬الطبعة الثانية‪.2019 ،‬‬

‫‪ -‬حبيدة محمد‪ ،‬املدارس التاريخية‪ ،‬برلين‪ -‬السوربون‪ -‬استراسبورغ‪ ،‬من املنهج‬


‫إلى التناهج‪ ،‬دار األمان‪ ،‬الرباط‪.2018 ،‬‬

‫‪ -‬حبيدة محمد‪ ،‬كتابة التاريخ‪ ،‬قراءات وتأويالت‪ ،‬در أبي رقراق‪ ،‬الرباط‪.2013 ،‬‬

‫‪ -‬دوس فرانسوا‪ ،‬التاريخ املفتت‪ ،‬من الحوليات إلى التاريخ الجديد‪ ،‬ترجمة‬
‫محمد الطاهر املنصوري‪ ،‬املنظمة العربية للترجمة‪ ،‬بيروت‪.2009 ،‬‬

‫‪ -‬ريكور بول‪ ،‬الذاكرة‪ ،‬التاريخ‪ ،‬النسيان‪ ،‬ترجمة وتقديم وتعليق جورج زيناتي‪،‬‬
‫دار الكتاب الجديد املتحدة‪ ،‬بيروت‪.2009 ،‬‬

‫‪- Bloch Marc, Apologie pour l’Histoire ou métier d’Historien, édition‬‬


‫‪critique préparée par Etienne Bloch, Armand Colin, Paris, 1993.‬‬

‫‪- Bloch Marc, L’étrange défaite, témoignage écrit en 1940, Gallimard,‬‬

‫‪97‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

Paris, 1990.

- Coutau-Bégarie Hervé, Le phénomène Nouvelle Histoire, Grandeur


et décadence de l’école des Annales, Ed, économica, Paris, 1989.
- Furet François, Un itinéraire intellectuel, L’historien journaliste, de
France-Observateur au nouvel Observateur (1958-1997), édition
établie et préfacée par Mona Ozouf, Calmann-Lévy, Paris, 1999.

98
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫"الكورونا" وأخواتها في سياق التاريخ‬

‫محمد األزهر غربي‬


‫كلية اآلداب والفنون واإلنسانيات‪ ،‬منوبة‪ ،‬تونس‬

‫‪99‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪100‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫يصف املتنبي الحمى بـ‪" :‬الزائرة" التي ُتباغت املريض وتسري منه مسرى‬

‫الدم‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬

‫فليـ ـ ـ ـست تزور إال في الظ ـ ـ ـ ـالم‬ ‫وزائرتي كـ ـ ـ ـ ـ ـ ـأن به ـ ـ ـ ـ ـ ـا حيـ ـ ـ ـ ـ ـاء‬

‫فع ـ ـافته ـ ـ ـا وباتت في عظ ـ ـ ـ ـامي‬ ‫بذات لها املطارف والحشايـ ـا‬

‫ومنه ُيعتبر ُّ‬


‫تعرض البشرية لألمراض واألوبئة والكوارث الطبيعية كالزالزل‬
‫الشأن‪2‬‬ ‫ّ‬
‫وتتعدد األمثلة في هذا‬ ‫والفيضانات ظاهرة قديمة قدم اإلنسانية‪1‬‬

‫صور األد ب بعض الحاالت املأساوية التي عاشتها بعض املجتمعات بسبب‬ ‫ُ ّ‬
‫لي ِ‬
‫ُ‬
‫الطاعون مثل رواية ألبر كامو ‪،3 Albert Camus La peste‬التي نشرت ألول مرة‬

‫في جوان ‪ ،1947‬ليكون بالتالي لجائحة الكورونا التي يتعرض لها العالم منذ‬
‫نهاية عام ‪ 2019‬أخواتها وسابقاتها التي نحاول التعرض إليها بالتركيز على بعض‬

‫الحاالت في سياق مسار تاريخي عام‪.‬‬

‫ولعل أهم خاصية لجائحة الكورونا َّأنها لم تطرق باب فرد أو فئة أو‬
‫ّ‬
‫متحدية العلماء واألطباء‪ ،‬عابثة‬ ‫جهة َّ‬
‫وإنما زارت اإلنسانية جمعاء و"دون حياء"‬
‫ِ‬

‫‪ - 1‬انظر مثال‪ :‬ثريا مرابط أزوال‪ ،‬الزالزل الكبرى باملنطقة املغربية وملفاتها على االنسان‬
‫ومحيطه‪ ،‬الرباط‪ ،‬مطبعة بني يزناسن‪.2005 ،‬‬
‫‪2 Citons le proverbe : « choisir entre la peste et le choléra ».‬‬
‫‪3 Gallimard, 1947.‬‬

‫‪101‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫بالرؤساء والعظماء في مشهد سريالي ساخرة من نواميس الكون كسخرية‬

‫املعري أو دانتي‪ ،‬ولقد اختلف تفاعل الطبيب ورجل السياسة وعالم االقتصاد‬

‫وعالم االجتماع مع هذا الحدث كل من موقعه وزاوية نظره‪ ،‬ولعل القاسم‬


‫املشترك بينهم هو البحث عن "أصل الداء" لتحديد طرق مقاومته‪.‬‬
‫ضمن هذا السياق َيعتبر الطبيب َّ‬
‫أن جائحة كوفيد ‪ 19‬ناجمة عن قدرة‬
‫ُّ‬
‫التجدد والتطور تحاول األجسام مقاومتها باكتساب مناعة‬ ‫الفيروسات على‬
‫جديدة تكون بمثابة األسلحة املضادة للمنظمات الفيروسية‪ ،‬في حين يذهب‬
‫عالم الطبيعة إلى َّ‬
‫أن املنظومة الكونية اختلت بفعل سوء تصرف اإلنسان‬ ‫ِ‬
‫فثأرت لنفسها الستعادة توازنها البيئي (مثل ثقب األزون)‪ ،‬كما يعتبر الفقيه أن‬
‫الجوائح من صنع هللا يبعثها عقابا للبشر ولسنا في حاجة إلى سرد النصوص‬
‫التي ُّ‬
‫تعج بها الكتب املقدسة في هذا الصدد‪ ،‬ويحاول بعض علماء اإلسالم‬

‫الربط بين التفسير الطبيعي والتفسير الديني الذي يعتبر سلوك اإلنسان‬
‫ّ‬
‫متناسقا مع املنظومة الكونية حيث ُ"يسخر" هللا "النواميس" الطبيعية لجزائه‬
‫َ‬
‫﴿ ٓظ َه َرٓ‬ ‫أو لعقابه ويعتمد في هذا الصدد على اآلية القرآنية التي تقول بأنه‪:‬‬
‫ُ ْ‬ ‫ه‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬ ‫ۡ‬
‫َ‬
‫مٓب ۡع َضٓٱَّلِيٓ َع ِملوآ﴾‪ 1‬بل دفعت‬
‫ِيق ُه َ‬
‫اسٓ ِِلذ‬ ‫بٓ َٓوٱۡلَ ۡح ٓرٓب َمآك َس َب ۡ‬
‫تٓأيۡدِيٓٱنله ِ ٓ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٱلف َس ُٓ‬
‫ادٓ ِِفٓٱل َ ِٓ‬

‫‪ 1‬اآلية ‪ 40‬سورة الروم‬


‫‪102‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫املقاربة التوفيقية بين الديني والعلمي بعض املفسرين إلى ش يء من املبالغة‪،‬‬


‫حيث اعتبر اإلمام محمد عبده َّ‬
‫أن الطير األبابيل التي بعثها هللا لم تكن سوى‬

‫جراثيم أرسلت عقابا ألصحاب الفيل‪.‬‬

‫ولعل السؤال الذي ُيطرح هو اآلتي‪ :‬هل للمؤرخ رأي في املسألة أم هو‬

‫قابع في ماضيه ال صلة له بواقع اليوم ومصير الغد؟‬

‫لعل خاصية املؤرخ َّأنه منذ الوهلة األولى يفر إلى مخبره ويبحث بمجهره‬
‫ّ‬
‫وينقب في خاليا جسم اإلنسانية املتمثل في املاض ي ليجد حاالت شبيهة‬
‫ِ‬
‫ُ ّ‬
‫شخصها الستقرائها وفهمها ومقارنتها بالحاضر الستنباط السلوكيات في‬
‫في ِ‬
‫املستقبل‪ ،‬وهو ما سنحاول القيام به بصفة محدودة حسبما تقتضيه حدود‬

‫هذه الورقة‪.‬‬

‫أصبحت دراسة املجاعات واألوبئة اختصاصا تاريخيا قائما بذاته يندرج‬


‫ضمن تخصص أوسع هو الديموغرافيا التاريخية‪ 1‬التي ُت َّ‬
‫صنف ضمن التاريخ‬

‫االجتماعي في عالقته بالتاريخ االقتصادي والسياس ي‪ .‬ولقد اهتمت بعض‬

‫الدراسات العربية وخاصة املغاربية بهذا التخصص سواء في املغرب أو في تونس‬

‫‪1 Collectif,‬‬ ‫‪La démographie historique en Tunisie et dans le Monde Arabe, Tunis,‬‬
‫‪Cérès Productions et Institut d’Education et de Formation continue, 1993.‬‬
‫‪103‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫أو في الجزائر‪ 1‬نذكر منها دراسة األستاذ محمد األمين البزاز حول تاريخ األوبئة‬

‫واملجاعات باملغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر‪ ،2‬وكذلك دراسة‬

‫األستاذ حسين بوجرة حول الطاعون وبدع الطاعون‪ :‬الحراك االجتماعي في‬

‫بالد املغرب بين الفقيه واألمير والطبيب‪.3‬‬

‫ولسنا في حاجة لدراسة ظاهرة وبائية ّ‬


‫معينة في تاريخ بالد املغرب باعتبار‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫أن ذلك متوفر في الدراسات التاريخية‪ ،‬وحسبنا في هذه الورقة أن نذكر بعض‬
‫ما َّ‬
‫صورته املصادر التي عاش أصحابها انتشار األوبئة فوصفوا حالة السكان‬
‫وهلعهم وتدهور االقتصاد وعجز ّ‬
‫الساسة‪ ،‬غايتنا في ّ‬
‫كل ذلك أن يصل القارئ‬

‫بنفسه إلى املعلومة التاريخية ليقارن األمس باليوم‪ ،‬وسنقتصر في هذا الصدد‬

‫على مصادر يتعلق أولها بالكوليرا في البالد التونسية سنة ‪ 1849‬بتونس ثم‬

‫بطاعون ‪ 1720‬بمرسيليا‪.‬‬

‫‪Vivre et mourir à Alger. L’Algérie ottomane au XVIe-XVIIe siècles :‬‬


‫‪1 Farid Khiari,‬‬

‫‪un destin confisqué, Paris, L’Harmattan, 2002.‬‬


‫‪2‬محمد األمين البزاز‪ ،‬تاريخ األوبئة واملجاعات باملغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع‬
‫عشر‪ ،‬سلسلة رسائل وأطروحات‪ ،‬رقم ‪ ،18‬منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫بالرباط‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬مطبعة النجاح الجديدة‪ ،‬الرباط ‪.1992‬‬
‫‪3‬حسين بوجرة‪ ،‬الطاعون وبدع الطاعون الحراك االجتماعي في بالد املغرب بين الفقيه‬
‫واألمير والطبيب ‪ ،1800-1350‬مركز دراسات الوحدة العربية سلسلة أطروحات‬
‫الدكتوراه‪ ،‬بيروت ‪.2011‬‬
‫‪104‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫أوال‪ :‬الكوليرا بالقطر التونس ي في ‪1849‬‬

‫أورد أحمد ابن أبي الضياف ِمؤرخ البالط الحسيني ما يلي‪:‬‬

‫"وفي السابع عشر من محرم فاتح سنة ‪1266‬هـ‪ ،‬ست وستين ومائتين‬

‫وألف (األحد ‪ 16‬محرم ‪ 2-‬ديسمبر ‪1849‬م‪ ،).‬ظهر في اململكة التونسية مرض‬


‫وبائي ُي َّ‬
‫عبر عنه في أرض الحجاز بالريح األصفر‪ ،‬وأصله من أمراض الهند‪ّ ،‬‬
‫وعبر‬
‫ِ‬
‫عنه في بالدنا بالكوليرة من طرف أطباء اإلفرنج‪.‬‬
‫ّ‬
‫فيصفر لونه‬ ‫وصورته ‪ -‬والعياذ باهلل ‪ -‬أن ُيصيب اإلنسان إسهال وقيئ‬

‫وقل من ينجو‪ ،‬ولم ُيتقدم مثله‬ ‫ّ‬


‫ويسود‪ ،‬ويموت في ساعات أو قليل من األيام‪ّ ،‬‬

‫في هذا القطر وأول ظهوره في جبل الرقبة‪ ،1‬ثم انتقل إلى باجة‪ 2‬ليستمر بها‬
‫ويموت بها الكثير‪ ،‬فعزم الباي بإشارة بعض األطباء على التحفظ من وصوله‬
‫إلى الحاضرة بمنع الخلطة‪ ،‬فأمر أمير لواء عسكر َّ‬
‫الخيالة‪ ،‬أبا العباس أحمد أن‬
‫يرتب ّ‬
‫عسة‪ 3‬من العسكر تمنع القادمين من باجة ونواحيها إلى الحاضرة‪ .‬وأمر‬

‫أبا الفالح صالح بن محمد كاهية أن يتوجه في عقد من الخيل لجهة أخرى‪،‬‬

‫‪ 1‬منطقة جبلية تقع في الشمال الغربي التونس ي على الحدود مع الجزائر وهي حاليا منطقة‬
‫غار الدماء‬
‫‪ 2‬أهم مدينة تقع في الشمال التونس ي في مجال الحبوب وتبعد قرابة مائة كلم الحاضرة‬
‫تونس‬
‫‪ 3‬حراسة‬
‫‪105‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ومن املقدور ال يغني الحذر‪ ،‬وارتحل الباي إلى بستان وزيره أبي النخبة مصطفى‬
‫ّ‬
‫بقرطاجنة على ساحل بحر حلق الوادي‪ ،‬يوم الخميس‬ ‫خزنه دار املعروف‬

‫الثامن والعشرين من محرم (‪ 13‬ديسمبر)‪ ،1‬ومعه خواص أتباعه‪ .‬واستصحب‬


‫ّ‬
‫لعسته عددا من العسكر في أخبية‪ّ ،‬أمر عليهم الشريف أبا محمد حسن‬

‫املقرون (أمير لواء)‪ ،‬وأمر صهره وزير الحرب أبا النخبة مصطفى (باشا أغا) أن‬

‫يتوجه (بأهله) إلى بستانه املعروف بالكرم‪ .‬على حال التحفظ‪ ،‬وهو لصق‬
‫قرطاجنة‪ ،‬بحيث يأتى كل يوم لالجتماع بالباي‪( .‬والوزير خزنة دار بأهله في‬

‫مسكن وحده بقرطاجنة) وأقام متحفظا على عادة الكرنتينة‪ .2‬واشتد خوفه‬

‫من املرض‪ ،‬وضيق بعدم الخلطة في الكرنتينة تضييقا ال يلزم عند األطباء‪،‬‬
‫حتى قال بعضهم إن التحفظ بالكرنتينة لم يكن في امللة اإلسالمية‪ ،‬وهي من‬

‫اختراع األمم اإلفرنجية‪ ،‬فنحن أدرى بكيفيتها‪ ،‬فيعرض عنهم‪ ،‬حتى وقع‬

‫اإلرجاف بأنه سافر من اململكة خفية وأبقى ختمه بيد وزيره أبى النخبة‬

‫مصطفى خزنه دار‪ ،‬فصار يخرج بعض األيام أمام القصر‪ ،‬وربما يصل إلى‬

‫قرب أخبية ال عسكر لتراه الناس‪ .‬وقلت له يوما‪" :‬قد بالغنا في الخوف"‪ ،‬فقال‬

‫بديهة‪" ː‬يقبح الخوف إذا كان من قرن تراه ويراك وتنال منه وينال منك‪ ،‬أما‬

‫‪ 1849 1‬م‬
‫‪2 Mise en quarantaine.‬‬

‫‪106‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫من سطوة هللا فإذا لم يجمل الخوف فال يقبح‪ ،‬ولعل الشجاعة في مثله من‬

‫سوء األدب مع هللا‪ ،‬ولسنا من رجال التوكل"‪ ،‬ثم قال لي‪" ː‬لو سبق القضاء‬

‫والقدر ومت بذا املرض وأخش ى أن أقول عند حلوله لو فعلت الكرنتينة ما حل‬
‫ّ‬
‫بي‪ ،‬مع اعتقادي أن ال فاعل إال هللا‪ ،‬وكان الشيخ محمد بيرم ألف رسالة لعمي‬

‫في جواز التحفظ من الوباء"‪ ،‬فأرخيت له العنان‪ ،‬إذ لم يكن موضع جدال‪.‬‬
‫وقال بعض الحاضرين‪ ،‬وهو أبو النخبة مصطفى خزنه دار‪" ː‬إن ّ‬
‫ميت الوباء‬
‫شهيد"‪ ،‬وقد جاز التحفظ منه‪ ،‬وهذا ال نص في أن ّ‬
‫ميته شهيد‪ .‬وسأل عن‬
‫ذلك‪ ،‬فكتب له العالم النحرير أبو عبد هللا محمد الطيب الرياحي بان ّ‬
‫ميته‬

‫شهيد‪ ،‬ألنه مبطون واملبطون شهيد‪ ،‬كما هو صريح حديث املوطأ‪ ،‬في تقرير‬
‫نفيس‪.‬‬

‫وخالفه الشيخ املفتي أبو عبد هللا محمد بن سالمة‪ ،‬وكل منهما مات بهذا‬

‫املرض رحمهما هللا‪ .‬وملا قرب املولد النبوي من السنة ‪1266‬هـ‪ ،‬كاتب شيخ‬

‫العصر إمام الجامع األعظم‪ ،‬أبا إسحاق إبراهيم الرياحي‪ ،‬باالجتماع يوم املولد‬

‫على العادة‪ ،‬وال يتوقف على قدومه‪ .‬وأمر بالزيت ملآذن البالد وغير ذلك مما‬

‫عوده‪ ،‬ووقع االجتماع وإطالق املدافع‪ ...‬وفي أيام مقامه بقرطاجنة‪ ،‬أتى قنصل‬
‫من دولة االنبريـال‪ ،‬فخرج وقابله مقابلة كرنتينة‪ ،‬واتى بمكاتيب من دولته‬

‫‪107‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫تقتض ي عمل شروط‪ ،‬وأحسن قبوله ووعده أن يكون عمل الشروط بعد زوال‬

‫املرض والخروج من الكرنتينة‪ .‬وعاقه املرض عن إتمامها فعقدها ابن عمه‬

‫بعده‪.‬‬
‫لم يزل على هذا الحال من شدة التحفظ والحذر‪ ،‬وهو مع ذلك لم يفرط‬

‫في ش يء من سياسة اململكة‪ .‬وتأتيه املكاتيب من كل ناحية ومطالب العسكر‪،‬‬

‫فيصدر جوابها‪ ،‬على كثرتها‪ ،‬من الغد‪ .‬ولم يكن معه من الكتبة غيري‪ ،‬وغير اال‬
‫كتب البارع أبي عبد هللا محمد العزيز بوعتور‪ ،‬وهو يحرضنا على االستعجال‬

‫بأجوبة املكاتيب‪.‬‬
‫وفي قرطاجنة أتاه نعي أمير لواء الخيالة أبي العباس احمد‪ ،‬وهو املأمور‬
‫ّ‬
‫بالعسة‪ ،‬في الجهة الغربية‪ .1‬فكاتب االالي وعزاهم بأميرهم‪ .‬ثم انتقل من‬

‫قرطاجنة سادس ربيع الثاني (الثالثاء ‪ 19‬فيفري ‪1850‬م‪ ).‬إلى املحمدية‪ ،‬وهو‬

‫في التحفظ الكرنتينة‪ ،‬وفيها أولى أبا محمد خير الدين أمير لواء عسكر الخيالة‪.‬‬

‫ثم وقع بها املرض فرجع إلى باردو‪ ،‬فوقع به املرض‪ ،‬فانتقل إلى غار امللح‬

‫أواخر رجب من السنة (أوائل جوان ‪1850‬م‪ ،).‬وصاحبها يومئذ أبو الفالح صالح‬

‫بن عثمان شيبوب‪ ،‬أمير لواء عسكرها املعاوضين‪ .‬وفيها أتاه نعي الشيخ املفتي‬

‫‪108‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫أبي عبد هللا محمد ابن سالمة‪ ،‬فوقع بها املرض وكثر في العسكر‪ ،‬فرجع إلى‬

‫املحمدية في شعبان (جوان – جويلية) واستقر بها ثم رجع الى قرطاجنة ثانيا‪،‬‬

‫ومعه االكتب البارع ابو عبد هللا محمد الباجي املسعودي‪ ،‬ألنه سرحني إلى‬
‫حمام األنف ملرض أصابني‪ .‬وقد كان هم بالتوجه إلى باجة‪ ،‬لوال أعيان من‬

‫رجال الدولة عارضوا ميلة‪ .‬وهو وان اشتد جزعه في هذا املرض إال انه فعل مع‬

‫أهل الحاضرة في أيامه ما لم يزل ذكره حسنا جميال‪.‬‬


‫وذلك أن هذا املرض ملا أتى الحاضرة نزل أوال بفقرة اليهود‪ ،‬واشتد عليهم‬
‫خطبه‪ّ ،‬‬
‫وفر القريب من قريبة‪ ،‬فأحضر لهم قشلة سوق الوزر‪ ،‬ونقل إليها‬

‫املرض ي‪ ،‬وأجرى عليهم الجرايات الواسعة‪ ،‬وتطوع ملداواة الفقراء الطبيب‬


‫مصكر والصبنيولي‪ ،‬وله بذلك يد حسنة في البالد اقتضت مزيد حبه‪ .‬وجعل‬

‫بربض ي املدينة أطباء‪ ،‬وصرف في هذه الشدة أمواال عظيمة‪ ،‬مع طعام وكسوة‬

‫للفقراء من أي ملة [تشهد بذلك صحائف الدفاتر] ويأتيه كل يوم عدد من‬

‫مات بالحاضرة‪ .‬وممن مات من أعيانها في أول األمر الفقيه املاجد أبو عبد هللا‬

‫محمد ابن اإلمام أبي عبد هللا محمد الشريف‪ ،‬والعالم النحرير أبو عبد هللا‬

‫محمد الطيب ابن عالم امللة أبي إسحاق إبراهيم الرياحي‪ ،‬فاهتز ملوته وتأسف‬
‫لفقده‪ ،‬وكانت له صبـ ـابة في الش ـ ـيخ والده‪ ،‬فأمره أن اكتب عنه معزي ـ ـا وهو في‬

‫‪109‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫قيد الكرنتينة‪...‬‬

‫وملا وصل املكتوب إلى الشيخ وهو في [حزن] مأتمه أمر الكاتب البارع‬

‫تلميذه أبا عبد هللا محمد الباجي السعودي‪ ،‬وكان حاضرا بين يديه‪ ،‬أن يكتب‬
‫جوابه‪ ،‬فكتب عنه‪ ،‬بعد صدر بليغ‪ .‬وإنما لم ننقل هذا الجواب بتمامه الن من‬
‫الشدة في هذه الكرنتينة َّ‬
‫أن املكاتيب ملا تأتي يقع تبخيرها‪ ،‬ثم يخرج لها الكاتب‬

‫وهي عند أخبية العسة‪ ،‬وال تدخل ساحة القصر الذي به الباي‪ ،‬وهو من الزيادة‬
‫في الغلو‪.‬‬

‫واشتد حال هذا املرض في شعبان‪ ،‬ومات بسببه في الحاضرة أكثر من‬

‫مائتين في اليوم ‪ ،‬فأشار العالم الفقيه القاض ي الحنفي أبو النخبة الشيخ‬
‫مصطفى ابن شيخ اإلسالم أبي عبد هللا محمد بن حسن بيرم بجمع أربعين‬

‫شريفا اسمهم محمد‪ ،‬يجتمعون في جامع الزيتونة من الصباح إلى الظهر‪،‬‬

‫ويقرؤون سورة يس أربعين مرة‪ ،‬ويدعون هللا بدعوات حررها لهم‪ ،‬ناقال ذلك‬

‫من بعض الكتب [عن بعض الصالحين‪ ،‬واألعمال بالنيات] ‪،‬فاجتمعوا [بجامع‬

‫الزيتونة ] وتضرعوا إلى من يجيب املضطر إذا دعاه‪ ،‬فتراجعت الشدة ونقص‬

‫عدد املوتى من ذلك اليوم شيئا بعد ش يء‪ ،‬حتى اضمحل بفضل هللا ورحمته"‪.1‬‬

‫‪ 1‬احمد ابن ابي الضياف‪ ،‬إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد األمان‪،‬تحقيق‬
‫لجنة من وزارة الشؤون الثقافية‪ ،‬املجلد الثاني الباب السادس ص‪.136-128‬‬
‫‪110‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫خلق الوباء ذعرا كبيرا لدى الباي وحاشيته مما جعله ّ‬


‫يتنقل من إقامة‬
‫ّ‬
‫والتحري من‬ ‫إلى أخرى ّيتخذ كل إجراءات الحجر الصحي من ذلك "الكرنتينة"‬
‫ّ‬
‫املكاتيب التي ترد عليه وهو ما لم يمنعه من إدارة شؤون البالد بل وظف أمواال‬

‫وانتدب أطباء للمرض ى وهو ما يشبه السياسات الصحية املتبعة اليوم من قبل‬
‫ّ‬
‫الصحي الذي قد يكون ناجما عن‬ ‫الدول األمر الذي ّ‬
‫يدل على نوع من الوعي‬
‫تواجد أطباء أوروبيين بالبالط الحسيني ومع ذلك ّ‬
‫انجر عن هذا الوباء الذي‬

‫دام قرابة السنة تراجع ديمغرافي حيث هلك يوميا ما يناهز مائتي شخص‪ ،‬مما‬

‫جعل البالد تفقد حوالي ‪ 100‬ألف من سكانها حسب شهادة الطبيب األملاني‬

‫غوستاف نختغال‪ 1‬في وقت ناهز عدد سكانها قرابة املليون نسمة‪ .2‬وقد اقتصر‬

‫صاحب اإلتحاف كشاهد عيان على فئتين تضررتا من الوباء هما بعض األعيان‬

‫من العلماء وكذلك فئة فقراء اليهود املتواجدين بمدينة تونس‪.‬‬

‫‪ 1‬منير الفندري‪ ،‬البالد التونسية بين ‪ 1866 -1863‬من خالل رسائل الطبيب األملاني‬
‫غوستاف نختغال طبيب املحلة‪ ،‬مركز النشر الجامعي تونس ‪ ،2003‬ص ‪.254‬‬
‫‪2 Nous citons quelques estimations faites pour la Tunisie par des voyageurs‬‬

‫‪européens au milieu du XIXème siècle :‬‬


‫‪-1845 Richardson…………………2 061 000‬‬
‫‪- 1853 Pellissier de Reynaud……..800 000‬‬
‫‪Cité par Moncer Rouissi, Population et société au Maghreb, Tunis, Cérès‬‬
‫‪Productions, 1983, p. 47.‬‬
‫‪111‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫أما عن مصدر الكوليرا فهو منطقة "الرقبة‪ "1‬املوجودة في شمال غربي‬

‫البالد التونسية وهي متاخمة للحدود الجزائرية وليست بعيدة عن السواحل‬


‫ّ‬
‫الشمالية وخاصة طبرقة‪ .‬وال يشير النص إلى مصدر الوباء وهل هو "محلي" أم‬
‫ّ‬
‫هو وافد من الجزائر إما ّبرا أو بحرا أو من غيرها من البلدان‪ ،‬وإذا دققنا في‬

‫األمر‪ ،‬فان الغرب الجزائري اجتاحه في ‪ 1849‬وباء الكوليرا عن طريق باخرة‬

‫قادمة من مرسيليا إلى وهران وقد تكون بذلك حركة املالحة البحرية في الحوض‬
‫ّ‬
‫للمتوسط أو حركة الهجرة ‪2‬من الغرب الجزائري‪ ،‬إثر سياسة "األرض‬ ‫الغربي‬

‫املحروقة" التي سلكها بيجو ‪ Bugeaud‬هي التي حملت العدوى إلى الحدود‬

‫التونسية ومنها إلى مدينة باجة ثم إلى مدينة تونس‪ .‬وقد أشارت بعض‬

‫الدراسات التاريخية إلى عودة وباء الكوليرا إلى البالد التونسية سنة ‪1856‬قادما‬
‫في هذه ّ‬
‫املرة من طرابلس إلى جربة والى الجنوب الشرقي للبالد التونسية‪.3‬‬

‫حسب بعض النصوص املصدرية التي تتحدث عن مدينة أوروبية يشبه‬

‫‪1‬هي منطقة غار الدماء حاليا‪.‬‬


‫‪ 2‬عبد الكريم املاجري‪ ،‬هجرة الجزائريين والطرابلسية واملغاربة الجواونة إلى تونس‬
‫‪ 1937 -1831‬دراسة تاريخية إلشكالية االستعمار والهجرة وتشكل الجاليات املغاربية‬
‫بتونس وخصوصياتها االجتماعية والقانونية‪ ،‬الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون‬
‫الرسم‪ ،‬تونس‪ ،2010 ،‬ص ‪.107-63‬‬
‫‪3 Lucette Valensi, Fellahs Tunisiens. L’économie rurale et la vie des campagnes‬‬

‫‪aux 18e et 19e siècles, Paris La Haye, Mouton, 1977, p.284‬‬


‫‪112‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ وسنقتصر على بعض النصوص‬،‫موقعها موقع مدينة تونس وهي مرسيليا‬

.1720 ‫الفرنسية التي وصفت حالة املجتمع واالقتصاد خالل طاعون‬

1720 ‫ الطاعون األسود بمرسيليا في‬:‫ثانيا‬

‫ الوافدة من املشرق‬Saint Antoine ‫قدم "الطاعون األسود" عبر باخرة‬


ّ ‫املحملة بمواد أولية لصناعة األقمشة حيث‬
‫دب املرض واملوت إلى بعض ركابها‬

‫ ودخلت‬1720 ‫ ماي‬25 ‫ويوم أرست بميناء مرسيليا أصبحت املدينة مهددة منذ‬
‫ ونذكر بعض الشهادات في هذا الصدد‬.1‫في مرحلة الحجر الصحي واالقتصادي‬

:‫مع الحرص على املحافظة على لغتها األصلية‬


« Toutes les portes de la ville ont peine à suffire à la foule de ceux
qui sortent…Presque tous les intendants de la Santé, ceux du bureau
de l’Abondance, les conseillers de la ville, les commissaires de police,
les recteurs de tous les hôpitaux et de toutes les maisons et œuvres
charitables, les commissaires mêmes qu’on vient d’établir depuis
quelques jours seulement dans les paroisses et dans les quartiers, pour

1 Paul Gaffarel, La peste de 1720 à Marseille et en France, d’après des documents


inédits, Paris, Hachette, 2016.
113
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

vaquer au soulagement des pauvres, les artisans et tous métiers et ceux


qui sont les plus nécessaires à la vie…, tout déserte, tout abandonne,
tout fuit…, l’aspect de la ville excite déjà compassion، tout y a l’air de
désolation ; tous les magasins, toutes les boutiques sont partout
généralement fermés, la plupart même des maisons, des églises et des
couvents ; toutes les places publiques sont désertes et personne n’est
plus par les rues que des pauvres gémissants ; le port est dans un
dérangement total, les galères sont retirées du quai et tous les
vaisseaux et bâtiments marchands sont hors de l’amarre et à l’écart.
Cette superbe Marseille, peu de jours avant si florissante, cette
source d’abondance, et si l’on ose dire, de félicité, n’est lus que la vraie
image de la Jérusalem désolée »1.
ّ
‫وتقـ ـدم مص ـ ـ ـادر أخرى بعض الصور املكمـ ـلة للوحة التي رسمها طـ ـاعون‬

‫ بمدينة مرسيليا وهي تتحدث عن انتقال املرض‬1720

1 Pichattyde Croissainte, Journal de ce qui s’est passé en la ville de Marseille


depuis qu’elle est affligée de la contagion, Mareille 17 aout 1720, Archives de la
Chambre de commerce de Marseille, G-18.

114
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

« On ne pouvait plus ignorer qu’un seul malade suffit pour


infecter toutes autres personnes qui se trouvaient dans sa maison ; on
disait publiquement, et on le savait par expérience, qu’une personne
mourait brusquement, dès qu’elle se sentait le moindre mal ; un
charbon, un clou, un frisson, une défaillance du cœur, tout était mortel.
La crainte, l’épouvante fait abandonner les malades, et, dès le premier
symptôme qu’on apercevait en eux,on déserte les maisons suspectes :
chacun se charge de quelque ballot, se cherche un asile ; la maladie se
répand ainsi et se multiplie à vue d’œil »1

ّ
:‫وتصور شهادة أخرى حالة املصاب بالطاعون وسلوكه كما يلي‬

« Il est séquestré dans un galetas, ou dans l’appartement le plus


reculé de la maison, sans meubles, sans commodité, couvert de vieux
haillons et de ce qu’on a de plus usé, sans autre soulagement à ses
maux qu’une cruche d’eau qu’on a mis en fuyant auprès de son lit et
dont il faut qu’il s’abreuve lui-même, malgré sa langueur et sa faiblesse,

1P. Giraud, Journal, manuscrit de la Bibliothèque de la ville de Marseille, n°


49 420.
115
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

souvent obligé de venir chercher son bouillon à la porte de la chambre


et de se trainer après pour reprendre le lit. Il a beau se plaindre et gémir,
il n’y a personne qui l’écoute, et on lui crie, de plus loin que l’on peut,
qu’il ait bon courage, tandis qu’on le lui abat par cruel délaissement,
heureux si on lui livre un domestique ; tout le reste de la famille
s’enferme dans l’appartement le plus éloigné de la chambre du malade,
ou même abandonne tout à fait la maison »1.

‫كانت مدينة مرسيليا في مطلع القرن الثامن عشر أهم ميناء تجاري‬

‫ تحاول من خالله فرنسا ربط مبادالت تجارية مع‬،‫فرنس ي يقع في املتوسط‬


ّ
‫املغرب واملشرق لتتجاوز تخلفها أمام الهيمنة البريطانية التي انتقلت من‬

‫ ربط التجار الفرنسيون شبكة عالقات تجارية مع‬،‫ لذلك‬.‫املتوسط إلى األطلس ي‬
ّ ‫ الذين تردد الكثير منهم على مرسيليا التي أصبحت‬2"‫"املشارقة‬
‫تورد الحبوب‬

‫ من‬،‫والزيوت واألقمشة والحرير مما جعلها تتأثر اقتصاديا واجتماعيا بالشرق‬

1 Bertrand, Relation historique de la peste à Marseille en 1720, t. 117, cité par


Pierre Léon, Economies et sociétés préindustrielles, T. 2 1650-1780, Paris,
Armand Colin, 1970, p. 59.
« Les Levantins »2
116
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ذلك طاعون ‪ 1720‬الذي كان أخر حلقة في املنظومة الديموغرافية التقليدية‬

‫بفرنسا‪.‬‬

‫لكن ما الذي تغير‪-‬انطالقا من املصادر التونسية والفرنسية التي‬


‫أوردناها‪ -‬بين األمس واليوم؟‬

‫تكاد طرق العدوى والسلوكيات املتبعة إزاءها ومشاعر الخوف والهلع‬

‫واالحتياطات هي نفسها التي تعيشها اإلنسانية اليوم أمام جائحة الكورونا‪ ،‬وال‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يهمنا الوباء في حد ذاته بقدر ما تهمنا التمثالت التي يحملها‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬تمثالت الوباء‬

‫‪-‬اآلخر مصدر الوباء‪ :‬تحمل جل املواقف باألمس واليوم تصورا يجعل‬


‫مصدر املرض هو اآلخر ثقافيا‪ .‬وفي هذا الصدد‪ ،‬يعتبر املسلمون أن النصارى‬

‫هم سبب الداء في حين يرى هؤالء العكس‪ ،‬واعتبراليهود أحيانا أخرى مصدرا‬

‫للعدوى‪ .‬ولئن كانت هذه التمثالت اليوم غير معلنة فهي ال تزال حاضرة في‬

‫الذهنيات وهو ما يفسر تنامي السلوكيات العنصرية في سياق جائحة الكورونا‪.‬‬

‫وبذلك يوجد في الذهنية العـ ـامة مزج بين الوباء واآلخر إلى حد تحولهم ـا‬
‫إلى "عدو" مشترك‪ ،‬وبذلك يوظف الوباء دائما ضمن دائرة الصراع الحضاري‬

‫‪117‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫كما يحصل اليوم بين الواليات املتحدة والصين من ناحية والواليات املتحدة‬

‫وإيران من ناحية أخرى‪ .‬ويصل هذا التصور الخطير إلى حد اعتبار الجار أو‬

‫شخص من العائلة هو اآلخر‪ ،‬وتكون النتيجة هي العزلة املادية واملعنوية ومزيد‬


‫التقوقع على الذات ورفض اآلخر‪.‬‬

‫‪ -‬الشرق منتج للوباء‪ :‬تتفق اغلب النصوص في أن الوباء قادم من‬

‫الشرق‪ ،‬حيث يعتبر الحجيج بالنسبة إلى مسلمي الغرب اإلسالمي مصدرا‬
‫النتقال العدوى‪ ،‬ويعتبر التجار القادمين من الهند أو عبر "طريق الحرير" في‬

‫املخيال األوروبي حملة لألمراض‪ .‬ولعل الغريب في األمر أن سكان الحوض‬


‫الغربي للمتوسط سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين يلتقون في "اتهام" الشرق‬

‫بإنتاج الوباء وتصديره‪ ،‬ويصبح حينئذ اآلخر الثقافي مجسدا في آخر مجالي‪ ،‬وهو‬

‫ما يزيد من "قتامة" صورته مثلما صور أحد التجار الهولنديين حالة املرض ى‬

‫في الهند في منتصف القرن السابع عشر‪ ،‬وكأن األمر غريب وخاص بهذه البالد‬

‫وهو بعيد كل البعد عن أوروبا‪.‬‬

‫‪"Des gens errent, ici et là, sans secours, ayant abandonné leur‬‬

‫‪ville ou leur village. Leur état se reconnaît aussitôt : Les yeux‬‬


‫‪profondément enfoncés, les visages blêmes, les lèvres couvertes‬‬
‫‪118‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪d’écume; la mâchoire inférieure saille, les os percent la peau, le ventre‬‬

‫‪prend comme un sac vide; certains beurlent de faim en réclamant‬‬

‫‪l’aumône. Des centaines et centaines de mille de gens mourraient, au‬‬


‫‪point que le pays était entièrement couvert de cadavres، qui restaient‬‬

‫‪sans sépultures; il s’en dégageait une telle puanteur, que l’air en était‬‬

‫‪rempli et empesté »1.‬‬

‫لقد انتاب نفس الشعور البالد األوربية والواليات املتحدة األمريكية ملا‬
‫ظهرت الكورونا التي سماها البعض "مرضا صينيا"‪ ،‬ولذلك صنع الغرب الشرق‬
‫كما بين ذلك إدوارد سعيد ليثبت ّ‬
‫تفوقه واستعالءه‪ ،‬وإذا اتفق الغرب عل أن‬
‫ّ‬
‫ومصدر له فما هي الطريق التي يمر منها الطاعون حسب‬ ‫الشرق منتج للوباء‬

‫نفس التمثالت؟‬

‫‪ -‬طريق الطاعون‪ :‬لقد كان الطاعون حسب الذهنية السائدة ّ‬


‫يمر من‬

‫الشرق عبر الطرق البحرية‪ ،‬ولذلك كانت سفن التجار والحجاج أهم ناقل‬

‫للعدوى‪ ،‬وكانت املواني املتوسطية هي الباب الذي ينفذ منه الوباء‪ ،‬ولئن‬

‫‪1‬‬ ‫‪"Témoignage d’un marchand hollandais dans l’Inde de 1630-1931", cité par‬‬
‫‪Ferdinand Braudel., Civilisation matérielle et capitalisme, Paris, A. Colin, 1967, T.‬‬
‫‪I, p. 58.‬‬
‫‪119‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫اقتصرنا في النصوص التي أوردناها على مدينتي تونس ومرسيليا‪ ،‬فإن غيرهما‬

‫من املدن املتوسطية كانت مرافئ أو محطات ينزل بها املرض‪ ،‬وقد اشتهرت املدن‬

‫االيطالية أو اإلسكندرية بمثل هذا الدور حيث تتحول شبكة املدن إلى شبكة‬
‫ّ‬
‫وينجر عن ذلك أن أهم قواعد الحجر الصحي تبلورت بهذه الفضاءات‬ ‫للوباء‪،‬‬
‫التي ّ‬
‫يضر ركود اقتصادها ببقية أنحاء العالم‪ .‬ويمكن الحديث عن وجود ثنايا‬
‫أخرى النتقال العدوى وهي الطرق ّ‬
‫البرية كطريق الحج أو القوافل التجارية‬
‫الصحراوية أو طريق الحرير عبر آسيا الصغرى‪.‬‬
‫ولعل الجديد في األمر هو أن النقل الجوي أصبح أهم سبيل ّ‬
‫لتنقل‬ ‫ّ‬

‫العدوى وانتشارها عبر العالم‪ ،‬وال يقف األمر عند كثافة شبكة النقل الجوي‬

‫وعدد املسافرين في العالم‪ ،‬بل يجب األخذ بعين االعتبار معطى آخر جديد وهو‬

‫سرعة الحركة مثلما هو األمر بالنسبة إلى العملة التي يجب عدم االقتصار على‬

‫النظر إلى حجمها وإنما يجب األخذ بعين االعتبار سرعة تداولها‪ ،‬وهوما يجعل‬

‫الكورونا اليوم ظاهرة عاملية على عكس الجوائح السابقة التي اقتصرت على‬

‫مجاالت جغرافية دون سواها‪.‬‬

‫ّ‬
‫بتصور أصل املرض‪،‬‬ ‫‪ -‬تم ـثالت الشف ـاء‪ :‬تكون في الغـ ـالب األعم مرتب ـطة‬
‫حيث يهرع البعض للعبادة والتوسل إلى هللا مثلما حصل في تونس في ‪،1850‬‬
‫‪120‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫انطالقا من عقيدة دينية تعتبر هللا مصدر الداء والشفاء‪ ،‬ويسود التشاؤم صنفا‬

‫آخر من الناس ال يرون سبيال للشفاء‪ ،‬ولذلك يستسلمون للوباء الذي يعتبرونه‬

‫منذرا بالنهاية الفردية أو الجماعية أو بزوال الدنيا‪ .‬وعلى عكس ذلك‪ ،‬يعتقد‬
‫البعض أن الشفاء بيد اإلنسان‪ ،‬وبالتالي عليه السعي واالجتهاد للحصول على‬

‫الدواء‪ ،‬يدفعه في ذلك التفاؤل واالعتقاد في الغد األفضل‪.‬‬

‫وانطالقا من املاض ي يمكن للمؤرخ أن ينظر لظاهرة الكورونا من زوايا‬


‫متعددة‪ ،‬يتعلق بعضها باالختصاص الضيق كالتأثير في مجتمع محلي أو تاريخ‬
‫املؤرخ هو الزمن والنظرة على املدى‬
‫العلوم والتقنيات‪ ،‬ولكن أهم يمتلكه ِ‬
‫الطويل كما حددها فردينان برودال‪ 1‬في دراسته للمتوسط وللثقافة املادية‬
‫بصفة عامة‪ ،‬وهي الزاوية التي سنعتمدها في هذا الصدد لتحليل ظاهرة‬
‫الكورونا‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬الكورونا" في مرآة املدى الطويل‬

‫إذا نظرنا إلى جائحة الكورونا من الزاوية التاريخية فهي تتميز عن أخواتها‬
‫ببعدها العالمي من حيث الظرفية التي برزت فيها ومن حيث مدى انتشارها‪،‬‬
‫فلئن اقتصرت األوبئة سابقا على املدن واملرافئ وعلى جهات من العالم دون‬

‫‪Longe durée1‬‬
‫‪121‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫سواها‪َّ ،‬‬
‫فإن الكورونا اكتسحت العالم كله وبسرعة فائقة ولم تخل منها أي‬
‫منطقة ولو كانت نائية‪ ،‬ويرجع ذلك لحركة التنقل التي فرضها االقتصاد‬
‫املعولم وتطور وسائل النقل والى مستوى التشبيك الذي وصلت إليه‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وربما تمثل "النزلة االسبانية" التي اجتاحت جزءا هاما من العالم‬
‫غداة الحرب العاملية األولى مرحلة انتقالية بين األوبئة اإلقليمية والتقليدية‬
‫واألوبئة املعاصرة واملعوملة‪.‬‬

‫وال يقتصر بعد العوملة املتعلق بـالكورونا وبكل األوبئة التي ستظهر الحقا‬

‫على انتشارها الكوني‪ ،‬وإنما يشمل جوانب أخرى تتمثل في سرعة انتقال‬

‫املعلومات املتعلقة بتقنيات التحاليل واألدوية وخاصة في كيفية "إدارة األزمة"‪.‬‬


‫حيث تكاد تتبع جل البلدان سياسات الحجر الصحي بنفس الطريقة وفي‬

‫توقيت موحد وتتخذ نفس اإلجراءات الوقائية‪ ،‬وكأن العالم قرية واحدة وكأن‬

‫اإلنسانية جسم أصيب بمرض تشخيصه معلوم‪ .‬وأصبحت بذلك منظمة‬

‫الصحة العاملية تحدد سياسات الدول والحكومات في املجال الصحي‬

‫واالجتماعي وتوجه الطواقم الطبية‪ ،‬ولعل هذه املركزة الصحية كادت تقض ي‬

‫على العوملة األمريكية‪ ،‬وهو ما يفسر سياسة املقاومة واملواجهة التي توخاها‬

‫‪122‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ّ‬
‫يذكرنا بمقاومة‬
‫الرئيس األمريكي اتجاه منظمة الصحة العاملية‪ ،‬األمر الذي ِ‬
‫"القارة العجوز" للعوملة األمريكية إبان ظهورها‪.‬‬

‫وستؤدي عاملية الوباء ومركزة السياسات الصحية إلى تحوالت في‬


‫مستوى صنع القرار‪ ،‬من شأنها إضعاف القرار الوطني أو "السيادي" الذي‬

‫أصبح رهين معطيات خارجية ال تتحكم فيها الدول‪ ،‬بل صار رجل السياسة‬

‫ينتظر تعليمات الخبراء والعلماء واألطباء التي تمر عبر ِمؤسسات دولية‪ ،‬وانتقلنا‬
‫من سلطة الساسة إلى سلطة العلماء الذين أصبحوا ّ‬
‫يلقبون بـ "الجيوش‬

‫البيضاء" و"الطواقم الطبية"‪ُ ،‬لينعت مثال وزير الصحة التونس ي بـ "الجنرال"‪.‬‬

‫إضافة إلى شعور قادة الدول بتبعيتهم وبسرعة االنتقال‪ ،‬فأكثروا من البروز في‬
‫اإلعالم بزيارة املخابر واملستشفيات التي أصبحت تشبه ميادين املعارك‪ّ ،‬‬
‫وقدموا‬

‫لبيانات الصحية كما لو كانت بيانات عسكرية‪ ،‬وأعلنوا عن انتظار موجات‬

‫كبيرة وكأنها "أم املعارك"‪ ،‬ليعلن في األخير "االنتصار" على فيروس ّلقب بـ‬

‫"العدو" وأعدت "استراتيجيات "املقاومة " تحسبا لعودته‪.‬‬

‫هل وقع افتعال معركة ليكتسب الساسة شرعية فقدوها فترة بفعل‬

‫األزمات االقتصادية واالجتماعية أم انتقلنا عبر التاريخ من دولة الفالسفة إلى‬


‫دولة الفقهاء ثم إلى دولة العسكر والى دولة رجال األعمال واألموال لنصل اليوم‬
‫‪123‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫إلى دولة العلماء؟‬


‫ّ‬
‫سيحتد فيها الصراع بين مواقع النفوذ التي تقف‬ ‫يبدو َّ‬
‫أن املرحلة املقبلة‬

‫وراء املخابر وصناعة األدوية واملستلزمات الطبية‪ 1‬لتكون حافزا لخروج‬


‫االقتصاد العالمي من أزمته املتواصلة التي من املتوقع أن تضاعف من‬
‫ّ‬
‫التحركات االجتماعية التي ستقمع بعلة ضرورة التضحية التي تستلزمها‬
‫ّ‬
‫مخلفات الحرب على العدو الذي ال يزال جاثما‪ ،‬وال بد من "مجهود تعبوي"‬
‫مالي وشعبي ملقاومته‪.‬‬
‫وال يدخل هذا الرأي في سياق التنبؤ َّ‬
‫وإنما يفرضه مسار التطور التاريخي‬

‫على املدى الطويل واملتوسط‪ ،‬وبحكم تخصصنا في مجال التاريخ االقتصادي‬


‫َّ‬
‫فإننا سنحاول النظر للموضوع من هذه الزاوية‪.‬‬

‫لقد تميزت مرحلة النصف قرن األخير بهيمنة الرأسمالية التي تحولت‬

‫منذ نهاية االشتراكية إلى رأسمالية متوحشة‪ ،‬وكأنها تثأر لنفسها من كل القيود‬
‫التي فرضتها عليها الحكومات منذ نظرية االقتصادي كينز خالل ثالثينات القرن‬

‫املاض ي‪ .‬وزادت أزمة ‪ 2008‬من تفاقم حدة الرأسمالية في صيغتها األمريكية‪،‬‬

‫‪ 1‬وقع الحديث في املغرب عن "دبلوماسية ّ‬


‫الكمامة"‪.‬‬
‫‪124‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫وتجلى ذلك في تفاقم دور الرأسمال املالي الذي أصبح يعتمد املضاربة سعيا‬

‫ملزيد من الربح عوضا عن اإلنتاج وخلق الثروة‪ ،‬كما تجلى في نوع من القرصنة‬

‫أو الصعلكة الجديدة املتمثلة في االستراتيجيات العسكرية الصدامية وافتعال‬


‫األزمات لتبرير اإلغارة على املواد وافتكاكها واحتكارها‪ .‬وأصبحت بذلك الثروة ال‬

‫تنتج عن طريق االستثمار والعمل وإنما عن طريق اإلغارة والنهب على طريقة‬

‫القبائل في القرون الوسطى األوروبية‪ ،‬وهو ما يعتبر مفارقة غريبة تتمثل في‬
‫انحراف الرأسمالية عن جذورها ومبادئها الليبرالية املمتثلة أساسا في الحرية‬

‫واملنافسة النزيهة واالبتعاد عن االحتكار‪ .‬وبذلك‪ ،‬ال توجد اليوم في العالم‬

‫منظومة رأسمالية كالتي حددها أدام سميث ودافيد ريكاردو وغيرهما من‬
‫املنظرين‪ ،‬وكل ما في األمر أننا نعيش اليوم منظومة اقتصادية هجينة أقرب ما‬

‫تكون إلى مزيج من الرأسمالية واالقتصاد املوجه والتوحش القروسطي‬

‫والهيمنة االستعمارية‪ ،‬كل ذلك في إطار مركزية جديدة تتمثل في العوملة‬

‫األمريكية‪.‬‬

‫لقد أربكت الكورونا هذه املنظومة‪ ،‬وهو ما يفسر مواقف الرئيس‬

‫األمريكي املضطربة واملتوترة وعدم نجاحه في إدارة األزمة‪ ،‬ورغبته في توجيه‬


‫األنظار إلى أطراف أخرى استفادت من الجائحة‪ ،‬وهو ما سيحيلنا على مرحلة‬

‫‪125‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫جديدة على املدى القصير واملتوسط قد تؤدي إلى تحوالت جوهرية على املدى‬

‫الطويل‪.‬‬

‫لقد استفحلت الكورونا بادئ األمر في الصين وإيران وهما البلدان‬


‫املعاديان ألمريكا مما جعل الشكوك تتجه إلى اإلدارة األمريكية في صنع‬

‫الفيروس‪ ،‬ولكن عندما انتشر الوباء في الواليات املتحدة األمريكية أصبحت‬

‫االتهامات عكسية إلى حد السعي إلى تحميل الصين مسؤولية الضرر الذي‬
‫حصل في العالم‪ ،‬وليست املعركة في حقيقة األمر سوى معركة اقتصادية حيث‬

‫ترغب الواليات املتحدة بحملتها الدعائية إضعاف القوة االقتصادية الصينية‬

‫الصاعدة‪ ،‬في حين تسعى هذه األخيرة في صمت إلى "إعانة" الدول األوروبية‬
‫واإلفريقية املتضررة لكسب أسواقها وتصدير التقنيات والبضائع و"الخبرة‬

‫الصينية"‪ .‬ويبدو لنا أن منهجية العمل والطرق املتوخاة من هذا الطرف أو ذاك‬

‫ستؤدي إلى املزيد من هيمنة مركز العوملة الجديدة املتمثل في الصين وضعف‬

‫املركز القديم املتمثل في أمريكا‪ ،‬ليعيش العالم بال شك مرحلة انتقالية هي‬

‫مرحلة االستقطاب الثنائي الصيني األمريكي‪ ،‬لكن ستؤول األمور إلى صالح‬

‫الصين مثلما عاش العالم فترة استقطاب روس ي‪-‬أمريكي انتهت لصالح أمريكا‪.‬‬

‫ست ـ ـ ـترك الج ـ ـ ـ ـائحة آث ـ ـ ـارا نفس ـ ـ ـية وفكرية قد تولد نظريـ ـ ـات جديـ ـ ـدة في‬
‫‪126‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الفلسفة واالقتصاد والسياسة‪ ،‬مثلما تمخضت عن الحرب العاملية الثانية‬

‫الوجودية والبنيوية في بعدها االجتماعي واالقتصادي‪ .‬وال شك أنها ستوحي‬

‫للفنانين بلوحات يعبرون من خاللها بأصناف فنونهم‪ ،‬عن بعض هذه املشاهد‬
‫ولكن يبقى املشكل األساس ي في فهم طبيعة ظاهرة "الكورونا" بكل تعقيداتها‬

‫وأبعادها‪.‬‬

‫فإذا كانت أخواتها السابقة لها ظاهرة وبائية برزت بصفة طبيعية تاركة‬
‫َّ ّ‬
‫بأنها وظفت من قبل "يد خفية" تحرك األمور‬ ‫آثارا مختلفة‪ ،‬فإن كورونا تميزت‬

‫منذ بداية الجائحة لتوجه الساسة واألطباء والشعوب‪ ،‬ولكن املشكل األساس ي‬

‫هو في طبيعة وحقيقة هذه "اليد الخفية" التي سيكشف عنها التاريخ‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪128‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫هل استعادة املؤرخ ملا حدث في املاض ي سيفيد‬

‫في فهم ما يجري زمن " كورونا "؟‬

‫البضاوية بلكامل‬

‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬

‫جامعة محمد الخامس‪ ،‬الرباط‬

‫‪129‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪130‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫لم يكن املؤلف بمعزل يوما ما عن محيطه‪ ،‬سواء كان مؤرخا أو فقيها‬

‫أو فيلسوفا أو رساما أو نحاتا ‪ ،...‬فهو يعيش ويتفاعل معه في لحظات الفرح‪،‬‬

‫وأيضا في أوقات الشدائد‪ .‬ولعل تدوين التاريخ الذي ارتكز على التأريخ لألحداث‬
‫الكبرى‪ ،‬جعل أعمال البشر األخرى فرعية وليست هامشية‪ ،‬بدليل أن أب‬

‫التاريخ اإلغريقي "هيرودوت"(‪ )Hérodote‬نقل التاريخ من عالم األسطورة إلى‬

‫الواقع‪ ،‬فاهتم في حديثه عن الحروب امليدية (‪ 448- 498‬ق‪.‬م‪ ).‬التي جمعت‬


‫بالد فارس العظمى ومدينة أثينا الصغرى‪ ،‬بسرد تاريخ باقي الشعوب واألمم التي‬

‫تدور في فلك القوتين املتصارعتين‪ ،‬بهدف أن ال يطوي النسيان أعمال البشر‪.1‬‬

‫وانصب أيضا اهتمام معاصره املؤرخ اإلغريقي "ثيوسيديدس" (‪)Thucydide‬‬


‫ق‪.‬م)‪3.‬‬ ‫(‪ 395 -465‬ق‪.‬م)‪ 2،‬على تدوين أخبار الحروب البيلوبونيزية (‪404- 431‬‬
‫التي جمعت املدينتين اإلغريقيتين أثينا وإسبرطة‪ ،‬ولكنه تميز عنه بكونه هو أول‬

‫‪ 1‬قال حرفيا ‪ -‬حسب ما ورد في نص املترجم له‪ -‬ما يلي‪" :‬هذه أبحاث هيرودوت‬
‫الهاليكرناس ي كتبها ليبقى ذكر أفعال الرجال حيا ومآثر اإلغريق والبرابرة وأعمالهم املجيدة‬
‫خالدة‪ ،‬وهدفي منها توثيق أسباب النزاع بينهم"‪ ،‬أنظر‪:‬‬
‫تاريخ هيرودوت‪ ،‬ترجمة عبد اإلله املالح هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث‪ ،‬أبو ظبي‪،2007،‬‬
‫ط‪ ،2 .‬ص‪.27.‬‬
‫‪ 2‬يقترح هرنشو تاريخا آخر لوالدة ووفاة "ثيوسيديدس" (حوالي ‪ 401 – 471‬ق‪.‬م‪ ،).‬أنظر‪:‬‬
‫ج‪.‬هرنشو‪ ،‬علم التاريخ‪ ،‬ترجمه وعلق حواشيه وأضاف إليه فصال في التاريخ عند العرب‬
‫عبد الحميد عبادي‪ ،‬دار الحداثة‪ ،‬بيروت‪ ،1988،‬ص‪.30.‬‬
‫‪ 3‬ثيوسيديدس‪ ،‬حروب البيلوبونيز‪ ،‬الكتاب الثاني‪ ،‬الفقرة ‪( 47‬ويكيبيديا)‪.‬‬
‫‪131‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫وأقدم من أرخ للوباء الذي ضرب مدينة أثينا خالل القرن الخامس قبل امليالد‪1.‬‬

‫"ثيوسيديدس" هو شاهد على عصره بحديثه عن رخاء وحروب ووباء‬

‫عاصمة العلم والعلماء أثينا آنذاك‪ ،‬بما تحمل لفظة "شاهد" من دالالت‬
‫عميقة‪ .‬ويعد نصه املستقى من مؤلفه "حروب البيلوبونيز" أقدم وثيقة مكتوبة‬

‫حول جائحة الطاعون‪ ،‬كما يكتس ي أهمية قصوى‪ ،‬ألن صاحب النص الذي‬

‫عاين وعانى من الوباء‪ ،‬أراد أن تتعلم األجيال كيف تواجه هذا املجهول‪ ،‬حيث‬
‫قال‪" :‬أترك للطبيب وللعاديين مهمة إبداء رأيهم حول املرض بتحديد مصدره‬

‫الفعلي وتفسير األسباب من وجهة نظرهم التي أدت لهذا االضطراب‪ ،‬والتي‬

‫جعلت (املرض) قادرا على ممارسة هذا الفعل‪ .‬بالنسبة لي‪ ،‬أتحدث عن املرض‬
‫كما يظهر‪ ،‬وأتوقف عند عالماته حتى إذا تكرر ال نكون أمام املجهول‪ .‬هذا ما‬

‫سأقدمه بحكم أنني عانيت شخصيا منه‪ ،‬ورأيت بنفس ي باقي األشخاص‬
‫به"‪2.‬‬ ‫املصابين‬

‫ما الجدوى من تذكر املاض ي في زمن "كورونا" الذي يقترن أيضا بالحديث‬

‫‪ 1‬تحدث "ثيوسيديدس" عن وباء الطاعون الذي ضرب أثينا بشكل متوال بين سنتي ‪-430‬‬
‫‪ 426‬ق‪.‬م‪ ،.‬ألنه أصيب به‪ ،‬وكان أحد الناجين منه‪ ،‬هو والفيلسوف اإلغريقي املشهور‬
‫"سقراط" (‪ 399- 469( )Socrate‬ق‪.‬م‪ ).‬الذي تولى رعاية املصابين باملرض وهم يلفظون‬
‫أنفاسهم األخيرة دون خوف أو تردد‪ ،‬وكأنه يشير إلى "مناعة القطيع"‪.‬‬
‫‪ 2‬ثيوسيديدس‪ ،‬حروب البيلوبونيز‪ ،‬الكتاب الثاني‪ ،‬الفقرة ‪( 47‬ويكيبيديا)‪.‬‬
‫‪132‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫عن مصير العوملة؟‬

‫استفاد املؤرخ "ثيوسيديدس" من الدرس القاس ي للطاعون األثيني‪ ،‬فقد‬


‫أحص ى هو ومعاصروه حوالي ‪ 30‬سببا لحدوث الوباء‪ ،‬وخلص إلى القول‪:‬‬
‫"أتوقف عند عالماته حتى إذا تكرر ال نكون أمام املجهول"‪ .‬أراد أن تتعلم‬
‫األجيال كيف تواجه "املجهول"‪ ،‬هو ذاك الذي نسميه اليوم بـ "الخفي"‪ ،‬والذي‬
‫جعلنا نعتقد بأن كل األشياء صالحة ألن تكون سببا لظهور الجائحة‪ ،‬بدءا من‬
‫"الخفافيش"‪ ،‬وانتهاء بالحروب "البكتيرية والفيروسية"‪.‬‬

‫هل استعادة ما حدث تفيد في فهم ما يجري في عاملنا على مرأى ومسمع‬
‫منا؟‬

‫منطقي أن يؤمن "ثيوسيديدس" ‪ -‬أب النقد التاريخي ‪ -‬ونؤمن معه‬


‫كممتهنين للتاريخ‪ ،‬بأنه "علم دقيق بحوادث املاض ي قد يفيد‪ ،‬ألنه من املحتمل‬
‫أن يحدث في املستقبل ش يء من قبيل ما حدث في املاض ي" ‪.1‬‬

‫هل خلف لنا الكتاب بصفة عامة واألطباء بشكل خاص بعده ما يفيد‬
‫في معرفتنا بأنواع الطواعين التي سادت في عصرهم؟‬

‫ما هي أشكال التدابير التي اعتمدت آنذاك؟‬

‫‪1‬هرنشو‪ ،‬علم التاريخ‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.31.‬‬


‫‪133‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫هل يجب على املؤرخ املعاصر لـ"كرونا" أن يحبس نفسه في برج عاجي؟‬

‫هل تحركت يراعته في محاولة لترك بصماته حول هذه الجائحة كما‬
‫فعل سابقوه بدءا من املؤرخ "ثيوسيديدس"؟‬

‫يمكن اعتبار األسئلة املذكورة أعاله بمثابة حقل معرفي يحفز الدعوة‬
‫للكتابة‪ ،‬ويمكن أن يساهم في ميالد عدة أطروحات تمتح من املاض ي دروسا‬
‫وعظات تساعد على معرفة أنواع األوبئة وطرق تدبيرها‪ ،‬بل محاولة فهمها كما‬
‫أوص ى بذلك مؤرخ حروب اإلغريق وأيضا مؤرخ وبائها "ثيوسيديدس"‪ ،‬وأكرر‬
‫قوله لقيمته‪ ،‬حيث قال‪" :‬بالنسبة لي‪ ،‬أتحدث عن املرض كما يظهر‪ ،‬وأتوقف‬
‫عند عالماته حتى إذا تكرر ال نكون أمام املجهول‪ ،‬هذا ما سأقدمه بحكم أنني‬
‫عانيت شخصيا من املرض‪ ،‬ورأيت بنفس ي باقي األشخاص املصابين به "‪.‬‬

‫من جتهي كمتخصصة في التاريخ بشكل عام‪ ،‬والتاريخ القديم بشكل‬


‫خاص‪ ،‬نبهتني "جائحة كرونا" لتتبع ما يروج عبر مختلف املنابر واملنصات التي‬
‫تحركت بسبب الجائحة‪ ،‬وكذلك عمدت اللتقاط اإلشارات الواردة ببعض‬
‫املصادر التي أشتغل على مضامينها ألكثر من ثالثة عقود‪ ،‬يتعلق األمر باملصادر‬
‫التالية‪:‬‬

‫الجامع ملفردات األدوية واألغذية‪ ،‬لعبد هللا ابن البيطار املالقي (توفي‬

‫‪134‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪646‬ه ‪ 1248/‬م‪،1 ).‬‬

‫تذكرة أولي األلباب والجامع للعجب العجاب‪ ،‬لداود بن عمر األنطاكي‬


‫(القرن ‪11‬ه‪16/‬م) ‪،2‬‬

‫الطب العربي في عصر دول املغرب األقص ى‪ ،‬ملحمد بن أحمد الكانوني‬


‫(‪1311-1357‬ه‪1938-1893/.‬م) ‪3‬‬ ‫العبدي‬

‫وبما أن املناسبة شرط‪ ،‬بمعنى آخر يلزم الحديث عن دور املؤرخ خالل‬
‫جائحة كرونا‪ ،‬وليس الحديث عن املؤسسات أو املفردات الطبية‪ ،‬انتقيت‬
‫املصدر األخير "الطب العربي في عصر دول املغرب األقص ى"‪ ،‬للفقيه ‪ -‬املؤرخ‬
‫لتاريخ الطب‪ ،‬محمد الكانوني العبدي‪ .‬وال أرى أبلغ من عباراته في تقديمه‬
‫لكتابه‪ ،‬قال‪" :‬وها أنا اآلن أتقدم إلى أبناء املغرب خاصة وإلى غيرهم عامة بهذا‬

‫‪ 1‬أحمد املالقي ابن البيطار‪ ،‬الجامع ملفردات األدوية واألغذية‪ ،‬تحقيق الفاروقي إبراهيم‬
‫العقار الدسوقي‪ ،‬القاهرة ‪ 1191‬هـ‪ 4 ،‬أجزاء‪.‬‬
‫‪ 2‬داود بن عمر األنطاكي‪ ،‬تذكرة أولي األلباب والجامع للعجب العجاب‪ ،‬دار الفكر‬
‫للطباعة والنشر والتوزيع‪( ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬
‫‪ 3‬نجد ترجمة الفقيه في هذبن العملين‪ ،‬وقد تسللت أخطاء مطبعية في املؤلف األول حول‬
‫تاريخ والدة الفقيه‪ ،‬أنظر‪:‬محمد السعيدي الرجراجي‪ ،‬الفقيه محمد بن أحمد العبدي‬
‫الكانوني‪ ،‬حياته وفكره ومؤلفاته‪ ،‬منشورات جمعية آسفي للبحث والتوثيق‪ ،‬دار وليلي‬
‫للطباعة والنشر‪ ،‬مراكش‪ ،2000 ،‬ص‪ .50-32.‬محمد بن أحمد الكانوني العبدي‪ ،‬الطب‬
‫العربي في عصر دول املغرب األقص ى‪ ،‬تحقيق عالل ركوك ومحمد بالوز‪ ،‬جامعة محمد‬
‫الخامس السويس ي‪ ،‬منشورات كلية الطب والصيدلة بالرباط‪ ،‬مطابع الرباط نت‪ ،‬الرباط‬
‫‪ ،2013‬ص‪.13-9.‬‬
‫‪135‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الكتاب الذي ال شك سيكون تاجا على جبين تاريخ املغرب وبرهانا على ما‬
‫املستقبلية"‪1.‬‬ ‫لعظماء رجاله من أعمال خالدة وأثار ماجدة تفخر بها األجيال‬

‫يزدان مؤلف الفقيه الكانوني باملعطيات التي تفيد في االعتزاز بتراثنا‬


‫الطبي‪ ،‬وتتيح كذلك إمكانية فهم موضوعنا‪ ،‬إذ يشير املؤلف للكتابات حول‬
‫موضوع األوبئة‪ ،‬وأيضا للتدابير والعالجات املعتمدة من لدن مخلف الدول التي‬
‫تعاقبت على حكم البالد‪ .‬وهو على خالف الكثيرين‪ ،‬يعترف بازدهار العلوم‬
‫واملعارف عبر تاريخ املغرب‪ ،‬حيث قال "سابق املغاربة األمم الراقية في كل‬
‫ميادين الحياة‪ ،‬فنبغ عدد من العظماء واملفكرين في كل العلوم والفنون"‪ ،‬ومنها‬
‫بطبيعة الحال العلوم الطبية على اعتبار أنها موضوع كتابه‪.‬‬

‫املؤلف واملؤلف‪ :‬الفقيه الكانوني مؤلف كتاب الطب في املغرب‪:‬‬

‫‪ -‬تعريف املؤلف‪:‬‬

‫هو الفقيه محمد بن أحمد الزيدي الجحش ي الكانوني العبدي‪ 2،‬ولد‬

‫‪ 1‬محمد بن أحمد الكانوني العبدي‪ ،‬تاريخ الطب العربي باملغرب‪( ،‬مبيضة للفقيه املنوني‬
‫استخرجها من مخطوط بتاريخ ‪ 24‬جمادى األولى ‪/1371‬مارس ‪ ،)1952‬ص‪.18.‬‬
‫‪ 2‬خصص األستاذ الباحث محمد السعيدي الرجراجي مؤلفه املعنون‪" :‬الفقيه محمد بن‬
‫أحمد العبدي الكانوني"‪ ،‬ص‪ 334 –211 .‬للتعريف بالفقيه وبمؤلفات ودفاتر الكانوني‬
‫وتقديم نماذج منها‪ .‬كما نجد تعريفا به وبأعماله ضمن التحقيق‪ :‬محمد بن أحمد الكانوني‬
‫العبدي‪ ،‬الطب العربي في عصر دول املغرب األقص ى‪ ،‬ص‪.16- 9.‬‬
‫‪136‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫عام ‪1311‬ه‪ 1893 /‬م برباط أبي زكريا بشمال مدينة أسفي‪ ،‬ومات في ريعان‬
‫شبابه في ‪ 15‬رمضان ‪1357‬ه‪ 8 /‬نوفمبر ‪1938‬م‪ .‬بإحدى مستوصفات مدينة‬
‫الدار البيضاء متأثرا بحقنة أصابت منه مقتال‪ .‬درس القرآن الكريم بمدينة‬
‫الغربية بدكالة‪ ،‬وختمه بمنطقة الشراردة بسهل الغرب‪1.‬وأنهى حفظه بسال‬
‫سنة ‪ 1330‬ه‪ .‬أرسله عمه للقرويين‪ ،‬فتتلمذ على يد العديد من الشيوخ‪،‬‬
‫وأجازه العالمة أبا شعيب الدكالي عام ‪1339‬ه‪ .‬حل بعد ذلك بسيدي كانون‬

‫حيث تعاطى للتدريس والتأليف‪ ،‬وبهذه البقعة الطيبة حمل لقب الكانوني‪،‬‬
‫وقد تعرف عليه أعيان مدينة آسفي حيث كان يدرس أبناؤهم‪ ،‬فحفزوه‬
‫لالنتقال إلى مدينة آسفي‪ .‬تولى هناك التدريس ‪1342‬ه‪ ،‬ثم عمل عدال شرعيا‬
‫وإماما بضريح الشيخ أبي محمد صالح‪.‬‬

‫مؤلفات الفقيه الكانوني وكتابه "تاريخ الطب العربي في عصور دول املغرب"‪:‬‬

‫تهم كتب العالمة عدة حقول معرفية‪ :‬الفقه والحديث والفتوى واألعالم‬
‫وحياة الرسول الكريم والتاريخ املحلي‪ ،‬وشهيرات نساء املغرب والرياضة‬
‫والطب‪ ،..‬ناهيك عن الدفاتر‪ ،‬وهي من الحجمين الصغير واملتوسط ‪ .2‬تحتوي‬

‫‪ 1‬انتقلت تربيته ألخواله بعدما توفي والده وعمره ال يتعدى سنتين‪ ،‬ولعمه بعد وفاة والدته‪.‬‬
‫‪ 2‬عدد محمد السعيدي مؤلفات الفقيه‪ ،‬وأحص ى ‪ 19‬دفترا مع تقديم نماذج ملحتويات‬
‫بعضها‪ ،‬للمزيد‪ :‬محمد السعيدي الرجراجي‪ ،‬الفقيه محمد بن أحمد العبدي الكانوني‪،‬‬
‫ص‪.355- 216.‬‬
‫‪137‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫على معلومات قيمة في شتى دروب املعرفة‪ ،‬فعلى سبيل املثال‪ :‬برر في الدفتر‬
‫‪ 11‬سبب العزوف عن الكتابة في تاريخ الطب قائال‪" :‬ال يخلو أن الطب كان يعد‬
‫قائمة من قوائم الفلسفة وبابا من أبوابها لهذا كان يظن به سوء العقيدة‪.‬‬
‫والنار الزالت وقت ما تنشب في الكتب الفلسفية والكتب الطبية تتبعها في‬
‫ذلك‪...‬وأما الطب املغربي األندلس ي ‪ ...‬فجاء ”مسيو رونو ” وتعاطى البحث فيه‬
‫ولنا منه أبحاث جيدة‪...‬كتاب االقتصاد والتيسير ينبئ مما كان عليه الطب‬
‫األندلس ي الرفيع"‪.‬‬

‫النسخ املعتمدة من طرف املحققين ملؤلف "الطب العربي في عصر دول‬

‫املغرب األقص ى"‪:1‬‬

‫اعتمد املحققان عالل ركوك ومحمد بالوز على نسختين للتحقيق‪:‬‬

‫‪ -‬نسخة ‪ :1‬هي نسخة الخزانة الوطنية تحت رقم ‪ 019‬الرباط ‪ 1970‬ر‬


‫‪ ،175‬ال تحمل اسم الناسخ وال تاريخ النسخ‪ ،‬تتضمن ‪ 114‬صفحة و‪129‬‬

‫ترجمة‪.‬‬

‫نسخة ‪ :2‬هي نسخة الخزانة الحسنية مكتوبة بخط اليد وال تحمل اسم‬

‫‪ 1‬النسخة املعتمدة من لدن املحققين تعد من أكمل النسخ حول تاريخ الطب املغربي‪ ،‬وال‬
‫حاجة لنذكر بأن جهود املحققين هامة وبأن الشباب الجامعي مدعو لدراستها ودراسة باقي‬
‫املخطوطات التي ستنير طريقهم حول تاريخ الطب ببالدنا‪.‬‬
‫‪138‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الناسخ وال تاريخ النسخ‪.‬‬

‫من جهتنا اعتمدنا على"املبيضة" التي سلمنا إياها العالمة الفقيه‬

‫الفقيد محمد املنوني‪ ،‬وهي جاهزة للطبع‪ ،‬وقد قمنا برقنها‪ 1.‬يعرف الفقيه‬
‫املنوني مصدر املبيضة قائال‪" :‬استخرجت هذه النسخة من مبيضتها املوجودة‬

‫بالخزانة األحمدية بفاس لصاحبها الصديق العزيز املؤرخ الباحث املؤلف‬

‫الفاتح بيته وخزانته للقاصدين أبي خليل عبد السالم ابن سودة ‪ ...‬الذي أعارني‬
‫هذه املبيضة ليلة الجمعة ‪ 24‬جمادى اآلخرة عام ‪ 1371‬ه‪ 21 /.‬مارس سنة‬

‫‪ 1952‬م‪ “.‬ويضيف قائال‪" :‬املرجح أن املؤلف أخرج نسخة تامة من هذا‬

‫التأليف‪ .‬فقد قرأت بخط املؤلف كإعالن عن هذا ما يلي‪« :‬تاريخ الطب العربي‬
‫باملغرب» تأليـ ــف محمد بن أحمد العبدي"‪.‬‬

‫وفي تقديم العالمة املنوني ملحتوى املبيضة‪ ،‬يقول‪ " :‬يشتمل هذا الجزء‬

‫‪ 1‬الذي يقع في صحائف ‪ 94‬مع الصحائف ‪ 10‬من الجزء ‪ 2‬بعده على تأليف‬

‫‪ 1‬ساعدتني أختي زعيمة بلكامل يومها (في بداية التسعينات) على رقن املبيضة على أمل‬
‫نشرها نزوال عند رغبة الفقيه املنوني‪ ،‬وأيضا من أجل إفادة املهتمين بتاريخ الطب‪ ،‬قدمت‬
‫يومها نسخة للزميل بوجمعة رويان بسبب اهتمامه بموضوع الطب خالل عصر الحماية‪،‬‬
‫ليكون املخطوط بمثابة أرضية ألطروحته‪.،‬وبما أن األستاذ الفقيد عالل ركوك أخبرني‬
‫بتوفره على نسخ أخرى‪ ،‬آثرنا أن يتولى نشرها‪ ،‬فهو سليل مدينة آسفي التي أحسنت‬
‫للفقيه الكانوني‪ ،‬وأردت أن يكون عمله هدية لألسفيين باعتباره أحد أبنا ء آسفي الصامدة‬
‫‪.‬‬
‫‪139‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫مهم في "تاريخ الطب العربي باملغرب األقص ى"‪ ،‬مؤلفه‪ :‬مؤرخ أسفي البحاثة‬

‫الجليل محمد بن أحمد الكانوني العبدي أصال املتوفي عام ‪ .1938-1357‬وقد‬

‫عنونت هذه النسخة ب"الطب العربي في عشر دول باملغرب األقص ى" ثم رأيته‬
‫مسمى "تاريخ الطب العربي باملغرب"‪.1‬‬

‫افتتح الفقيه الكانوني من جهته مؤلفه بمقدمة تحدث فيها عن نشوء‬

‫الطب في األمة اإلسالمية إلى أن بلغ درجة االزدهار‪ ،‬فنظرية النشوء واالرتقاء‬
‫حاضرة في الفكر العربي وواضحة عند العالمة ابن خلدون‪ ،‬ومتجذرة في فكر‬

‫الكانوني‪ ،‬لقد قسم الفقيه الكانوني الطب باملغرب وفق هذه النظرية إلى أربعة‬

‫أدوار‪ 2،‬هي على النحو التالي‪:‬‬

‫دور التكوين والتربية من أواخر القرن الثاني إلى أوائل الرابع عصر الدولة‬

‫اإلدريسية ومن كان في أعقابها‪.‬‬

‫دور االزدهار في القرون الثالثة الرابع والخامس والسادس حيث صار‬

‫املغرب أوال تابعا لألندلس أواخر الدولة األموية‪ ،‬ثم ثانيا صار األندلس تابعا‬

‫‪ 1‬املبيضة ‪ ،‬ص‪.18.‬‬
‫‪ 2‬قسم املحققان عالل ركوك ومحمد بالوز املصدر إلى ‪ 6‬فصول متتبعين التسلسل التاريخ‬
‫للدول الحاكمة‪ ،‬أنظر‪ :‬محمد بن أحمد الكانوني العبدي‪ ،‬الطب العربي في عصر دول‬
‫املغرب األقص ى‪ ،‬م‪.‬س‪ ،.‬ص‪.183 – 31.‬‬
‫‪140‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫للمغرب في عصر الدولتين املرابطية واملوحدية‪.‬‬

‫عصر الوقوف والركود في القرنين السابع والثامن عصر الدولة املرينية‬

‫عصر التقهقر واالنحطاط في القرن التاسع فما بعده‪.‬‬

‫آمن الفقيه الكانوني في حديثه عن الدولة اإلدريسية (أواسط القرن ‪2‬‬

‫إلى أواسط القرن ‪4‬ه) ‪ -‬التي أدرجها ضمن الدور األول‪ -‬بأن ”دولة شريعتها‬

‫اإلسالم الذي يأمر بالطب ال يسعها جهل الطب"‪ .‬وأردف قائال‪" :‬هذا ما ال‬
‫يستسيغه الطبع السليم والعقل املستقيم"‪ .‬وتلخص الفقرة املوالية رأيه في‬

‫موضوع عدم توفر معلومات كافية عن الطب في البدايات وفي زمن األدارسة‬

‫يقول‪" :‬إن الطب في القرن الرابع وخصوصا أواخره بلغ الغاية في الرقي‬
‫واالزدهار‪ ،‬فهو والحالة هذه ال يبلغ تلك الدرجة إال بعد تكوينه تدريجيا على‬
‫قاعدة النشوء واالرتقاء في الكائنات وهذا من الوضوح باملكان الذي ال يجهل"‪1.‬‬

‫بديهي أن ال نجد بمؤلف الكانوني في هذا الدور األول ما يدل على الطب‬

‫واألطباء‪ ،‬ناهيك عن معطيات حول األوبئة موضوع بحثنا‪ ،‬ألن املرحلة هي‬

‫مرحلة النشأة‪ ،‬وبالتالي تنصب اهتمامات املؤرخين القدماء في تدوينهم على‬

‫‪ 1‬املبيضة‪ ،‬ص‪.35.‬‬
‫‪141‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫بعض األولويات‪ ،‬ومنها تتبعهم للفتوحات‪ ،‬والحديث عن نشأة اإلمارات والدول‪.‬‬

‫اعتبر عصر الدولتين املرابطية واملوحدية ‪ -‬أدرجهما ضمن الدور الثاني‪-‬‬

‫من أزهى عصور الحضارة املغربية في امليدان الطبي‪ ،‬ففي ترجمته للطبيب‬
‫األندلس ي أبو بكر محمد الحفيد بن عبد هللا بن زهر االشبيلي (‪504‬ه ‪595 -‬ه‬

‫‪1199-1110/‬م‪ ).‬تحدث عن تحضير هذا الطبيب "الترياق الخمسيني " للخليفة‬

‫يعقوب املنصور املوحدي‪ .1‬وفي ترجمته للطبيب "أبو العباس أحمد بن محمد‬
‫بن أبي الخليل مفرج األموي موالهم االشبيلي النباتي" ( توفي حوالي سنة ‪637‬‬

‫هـ‪1239/‬م‪ 2،).‬أورد قصة طريفة تفيد من جهة في معرفة كيفية تحضير املغاربة‬
‫"للترياق الكبير" ‪ .‬نستشف من عباراته حنكة ومهارة الخليفة يعقوب املنصور‬

‫املوحدي في إبطال بيع الخمر‪ ،‬ويظهر كذلك مدى ذكائه في التأكد من نجاعة‬

‫خطته‪ ،‬ومما جاء في النص ‪ " :3‬كان املنصور قد أبطل بيع الخمر ونصب عليها‬

‫‪ 1‬محمد بن أحمد الكانوني العبدي‪ ،‬الطب العربي في عصر دول املغرب األقص ى‪ ،‬ص‪.91.‬‬
‫‪ 2‬نجد اختالفا في بعض املعلومات بين ما ورد في تحقيق املخطوط من لدن عالل ركوك‬
‫ومحمد بالوز‪ ،‬وما جاء في املبيضة ملخطوط الكانوني من النسخة التي زودني بها الفقيد‬
‫العالمة محمد املنوني‪ ،‬وأرجعتها للفقيه من يوم تسلمها منه‪:‬‬
‫محمد بن أحمد الكانوني العبدي‪ ،‬تاريخ الطب العربي باملغرب‪( ،‬مبيضة للفقيه املنوني‬
‫استخرجها من مخطوط بتاريخ ‪ 24‬جمادى األولى ‪/1371‬مارس ‪.)1952‬‬
‫محمد بن أحمد الكانوني العبدي‪ ،‬الطب العربي في عصر دول املغرب األقص ى‪ ،‬م‪.‬س‪،.‬‬
‫ص‪.116- 114.‬‬
‫‪ 3‬نجد النص في املبيضة‪ ،‬وليس في التحقيق‪.‬‬
‫‪142‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫رقابة شديدة فأراد أن يختبر هل يوجد منها ش يء في رعيته فقال ألبي جعفر‬

‫هذا أريد منك أن تجمع لي أدوات الترياق الكبير وتركبه فامتثل أمره وجمع تلك‬

‫األدوات إلى أن أعوزه وجود الخمـر فأنهى ذلك إلى الخليفة فقال له تطلبه في‬
‫كل ناحية لعله يوجد عند أحـد فتطلبه في كل وجه فلم يجد شيئا منه فقال‬

‫له املنصور وهللا ما كان قصدي بتركيب الترياق في هذا الوقت إال لنختبر هل‬

‫بقي من الخمر ش يء أم ال"‪.‬‬

‫يعد إعمال الرقابة على الخمر وصانعيه أمر مثير لالنتباه‪ ،‬وإدراجه ضمن‬

‫عناصر "الترياق األكبر" أكثر إثارة‪ ،‬ألنه يبين اختالف عناصر الترياق من عصر‬

‫آلخر‪ ،‬ومن جهة ألخرى بأطراف املعمور‪ .‬فالترياق الكبير الذي جاء في ترجمة‬
‫الكانوني للطبيب مفرج األموي االشبيلي‪ ،‬هو دواء مركب من عدة عناصر لدرء‬

‫السموم‪ ،‬وينسب صنعه للطبيب اإلغريقي املسمى "أندرو ماخوس القديم"‪،‬‬

‫حضره من أربعة مفردات طبية هي‪" :‬حب الغار" و"املر" و"القسط"‬

‫و"الجنطيانا"‪ ،‬وسماه "ترياق األربع"‪ ،‬وحمل مسميات أخرى ومنها تسميته بـ‬

‫"الهاديي"‪ ،‬ومعناه "الترياق األكبر"‪ ،‬وهو املشار إليه من لدن الخليفة املنصور‪،‬‬

‫ولكن ال نعرف من عناصره إال شرابا واحدا "الخمر" بالرغم من احتفاظه‬


‫بتسمية قديمة‪ ،‬وال نعرف املواد املستعملة لتحضير الترياق الخمسيني ألبي بكر‬

‫‪143‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫بن زهر‪.‬‬

‫لقد زاد األطباء في عدد عناصر الترياق حتى وصل إلى سبعين مفردة‪،‬‬

‫ناهيك عن األقراص‪ ،‬وحمل كل صنف مسمى خاص‪ ،‬ذكر داود األنطاكي في"‬
‫تذكرته" بأن العدد األقص ى ملفردات الترياق "ست وتسعون"‪ ،‬وأقلها "أربع‬

‫وستون"‪ ،‬وبين كيفية صنعه واملدة التي تحتاجها مختلف هذه التراكيب لتندمج‬

‫بينها‪ ،‬ووفق عباراته‪" ،‬يلزم لتحقيق الفائدة أن ال تقل عن عشر سنوات‪.‬‬


‫ونصف"‪ .‬أجاز بعض األطباء استعماله قبل املدة املشار إليها‪ ،‬إال أن صاحب‬

‫مقترح "ستة أشهر" هو الطبيب اإلغريقي املشهور "جالينوس" )‪-121() Galien‬‬

‫‪201‬م‪ . 1 ).‬لقد جعل مادة الخشخاش ‪/‬األفيون أحد عناصره‪.2‬‬

‫تعدد األطب ـاء املغاربة الذين اعتمدوا الترياق ملداواة السموم واألوبئة‬

‫‪ 1‬للمزيد حول الطبيب جالينوس (‪201- 121‬م‪:).‬‬


‫البضاوية بلكامل‪ ،‬مصادر ابن البيطار من خالل مؤلفه "الجامع ملفردات األدوية واألغذية‬
‫"كمثال نبتة الفربيون"‪ ،‬مائدة مستديرة في موضوع الفالحة والتقنيات الفالحية بالعالم‬
‫اإلسالمي في العصر الوسيط‪ ،‬مؤسسة عبد العزيز آل سعود‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬أيام ‪-18‬‬
‫‪ 21‬دجنبر ‪ ،2008‬منشورات عكاظ‪ ،2011،‬ص‪39.‬‬
‫‪Gourivetch D., « Au temps de Galien, un médecin Grec dans l’empire Romain»,‬‬
‫‪Somogy éditions d’art 14 sept. Exposition de Mariement, Belgique 26 mai -2‬‬
‫)‪déc.2018,(clio-cr.clionautes.org‬‬
‫‪ 2‬أنظر حول مفردة الترياق‪ :‬داود بن عمر األنطاكي‪ ،‬تذكرة أولي األلباب والجامع للعجب‬
‫العجاب‪ ،‬دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع‪( ،‬د‪.‬ت)‪ ،‬ص‪.96-92.‬‬
‫‪144‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪ -‬كما سنرى ‪ -‬وكتب بعضهم عنه كتبا ووضعوا رسائل منذ عصر الدولة‬

‫املوحدية وإلى مطلع القرن ‪ ،19‬فالحكيم أبو الوليد محمد بن رشد القرطبي‬

‫(‪ 591‬ه‪ 1194/‬م‪ ).‬على سبيل املثال ضمن كتاب "الكليات الطبية" رسالة في‬
‫الترياق‪1.‬‬

‫ما يثير االنتباه‪ ،‬هو أن أثينا بزعامة حاكمها "بركليز" التي كان داء‬

‫الطاعون ينخر أوصالها‪ ،‬ويتساقط قادتها كأوراق الخريف‪ 2.‬لم تعرف للوباء‬
‫سببا واحدا‪ .‬وتتكرر االنتكاسة الصحية عهد اإلمبراطور "مارك أنطوان" ووريثه‬

‫اإلمبراطور "كومود"‪ 3.‬خالل القرن الثاني للميالد الذي بلغت فيه الحضارة‬

‫الرومانية ذروتها في عدة مناحي‪ ،‬فيضربها الوباء بين سنتي ‪ .166 -165‬لقد‬
‫حضر الطبيب "جالينوس " لإلمبراطور الروماني "مارك أوريل" ترياقا أساسه‬

‫مادة "األفيون"‪ 4‬كما سبق ذكره‪ ،‬ولكنه لم يقم حيث الوباء‪ ،‬بل فر هاربا من‬

‫‪ 1‬للمزيد‪ :‬الكانوني‪ ،‬الطب العربي في عصر دول املغرب األقص ى‪ ،‬ص‪.100.‬‬


‫‪ 2‬توقفنا عند أنواع الجوائح قديما ضمن املقال التالي‪" :‬الجوائح عبر تاريخ املغرب القديم‪:‬‬
‫مساءلة املصادر"‪ ،‬الذي قدم للنشر ضمن الكتاب الجماعي لكلية اآلداب والعلوم‬
‫اإلنسانية بالرباط‪.‬‬
‫‪ 3‬ولذا سمي بالطاعون األنطونيني )‪ (la peste Antonine‬نسبة لألسرة الحاكمة‪ ،‬وسمي‬
‫كذلك بالطاعون الجاليني نسبة للطبيب اإلغريقي جالينوس الذي عاصر حدوث هذه‬
‫الجائحة على اعتبار انه كان الطبيب الخاص لإلمبراطور الروماني "مارك أوريل" ‪(Marc‬‬
‫)‪،Aurèle‬أنظر‪ :‬سورنيا‪ ،‬تاريخ الطب‪ ،‬ص‪.64- 62.‬‬
‫‪ 4‬للمزيد حول مفردة الترياق‪ ،‬أنظر‪ :‬داود بن عمر األنطاكي‪ ،‬تذكرة أولي األلباب والجامع‬
‫للعجب العجاب‪ ،‬دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع‪( ،‬د‪.‬ت)‪ ،‬ص‪.96-92.‬‬
‫‪145‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫العدوى‪1.‬‬

‫أما العلم الذي أطال الكانوني في التعريف به وبمؤلفه‪ ،‬فهو "علي بن‬

‫عبد هللا بن محمد بن هيدور التادلي الفاس ي أبو الحسن"‪( 2‬القرن ‪9‬ه‪ ).‬من‬
‫عصر بني مرين (أواسط القرن ‪7‬ه‪13/.‬م‪ .).‬كان إماما في الفرائض والحساب‪،‬‬

‫كما كان مشاركا في معارف وعلوم أخرى كالطب‪ ،‬وله في الطب" أثر جليل"‪:‬‬

‫رسالة "في نحو كراس"‪ ،‬سماها "املقالة الحكمية في األمراض الوبائية "‪ ،‬لقد‬
‫أرجع بن هيدور التادلي الفاس ي سبب الوباء لعاملين‪ ،‬هما‪ :‬فساد الهواء‬
‫واألغذية‪3.‬‬

‫أورد الكانوني ضمن مؤلفه "تاريخ الطب العربي‪ ،"...‬مقدمة رسالة أبي‬
‫الحسن الهامة‪ ،‬ولتعميم الفائدة نستحضرها كاملة في هذا املقام‪ ،‬ومما جاء‬

‫‪ 1‬تحدث املؤرخ ديون كاسيوس )‪ 235 -155( (DionCassius‬م(‪ ،‬عن الوباء األنطوني‬
‫والجالياني‪ ،‬وذكر بأنه كان يقض ي كل يوم على ‪ 2000‬شخص‪ ،‬وحسب أتروب (‪)Eutrope‬‬
‫( ‪ 387–363‬م) قتل خلقا كثيرا بربوع اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬ويفهم من أسبابه انتشار‬
‫العدوى من بؤرته نحو املناطق التي عبرها الفيلق الروماني خالل توجهه نحو روما من‬
‫أجل االحتفال بالنصر ضد الساسانيين‪ .‬للمزيد جوزيف كالس‪ ،‬مسيرة الطب في‬
‫الحضارات القديمة‪ ،‬تقديم شاكر مصطفى‪ ،‬دار طالس‪ ،‬دمشق‪ ،2008 ،‬ط‪ ،2 .‬ص‪-220.‬‬
‫‪ .224‬وأيضا‪Fr.gwe.wiki :‬‬
‫‪ 2‬توفي أبو الحسن بفاس‪ ،‬خالل مجاعة سنة ستة عشر وثمانمائة‪.‬‬
‫‪ 3‬للمزيد‪ :‬محمد بن أحمد الكانوني العبدي‪ ،‬الطب العربي في عصر دول املغرب األقص ى‪،‬‬
‫ص‪.154- 153.‬‬
‫‪146‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫فيها‪" :1‬الحمد هلل خالق املخلوقات وكون املكونات حتى يقول وبعد فإني وضعت‬

‫في هذه املقالة أنموذجا مختصرا مما قالته الحكماء ووسمته العلماء الوبائية‬

‫الكائنة عن فساد الهواء واألغذية‪ ،‬إذ هذا الزمان وقت كيانه ووجوده وإتيانـه‪،‬‬
‫فبادرت مؤلفا ما قالته الحكماء في دفعه ومداواته وحسم علته الكائنة في‬

‫أوقاته‪ :‬وذلك أن بناء اإلنسان ودوامه في عالمي الكون والفساد إنما هو بدوام‬

‫مزاجه االعتدالي الصحي الذي نشأ عليه ترتيب جسده بتأليف أخالطه الكائنة‬
‫عن غذائه ودوام استنشاقه الهواء املوافق ملزاجه في كميته وكيفيته‪ ،‬فإذا‬

‫اختل املزاج وخرج عن اعتداله الصحي بسبب ما يرد عليه من فساد الهواء‬

‫والغذاء اضطربت األخالط وفسد نظامها الصحي وفسدت األعضاء الرئيسية‬


‫األصلية بفسادها وانحل نظام ما تركب منها إما بسرعة وإما بمهلة فما كان‬

‫منها بسرعة ووبئ عم ناسا كثيرين سمي الطاعون والوبائي ويسمى أيضا املرض‬

‫الوافد هذا وأما سببه فإنه يقول‪" :‬إن سبب هذا املرض يكون من فساد الهواء‬

‫وتعفنه ويكون أيضا من فساد األغذية ويكون منهما معا وهو الطامة الكبرى‪.‬‬

‫فأما فساد الهواء وتعفنه فإنه يحدث بسبب مطارح أشعة الكواكب املفسدة‬

‫‪ 1‬نجد ترجمته ومقتطفات من رسالته حول الوباء باملبيضة وبالتحقيق‪ ،‬وأحيل على‬
‫التحقيق لتيسير تداول املعلومة‪ ،‬أنظر‪ :‬الكانوني‪ ،‬الطب العربي في عصر دول املغرب‬
‫األقص ى‪ ،‬ص‪.154- 153.‬‬
‫‪147‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫للمزاج املستولية على الفرانات وتحاويل السنين من غير نظر السعود املحللة"‪.‬‬

‫قال أيضا ‪" :1‬وكان شيخي رحمة هللا عليه يقول إذا ظهرت الخوارج‬

‫واشتدت الفتنة فحقق ظهور الغالء ألنه الزم لها‪ ،‬وإذا كان الغالء وطال‬
‫واشتدت أسبابه لزم منه الوباء‪ .‬وهذا علم صحيح وقانون مطـرد"‪ .‬ذكر كذلك‬

‫بأنه توجد طريقتان للعالج‪" :2‬وأما عالجـه فبطريقتين‪ :‬األولى طريقة أسرار‬

‫الحروف والتوجه هلل تعالى بالدعاء املأثور‪ ،‬والطريقة الثانية بالطريقة الطبية‬
‫يعني صالح األغذية والهواء"‪.‬‬

‫انتقل بنا الفقيه الكانوني‪ 3‬إلى علم آخر من نفس العصر‪ ،‬هو محمد بن‬

‫عبد هللا بن سعيد السليماني لسان الدين الخطيب املشهور بابن الخطيب وهو‬
‫من أعالم القرن ‪8‬ه‪14/.‬م ‪713-776( .‬ه‪1374-1313/.‬م‪ .).‬فبعدما قدم نبذة‬

‫مختصرة للتعريف به ال تتجاوز السطرين‪ ،‬آثر أن يتحدث عن أعماله في امليدان‬

‫الطبي‪ ،‬فقال‪" :‬له في الطب آثار غالية جليلة املقدار"‪ ،‬وعرض بعضها باختصار‪،‬‬

‫وبدورنا انتقينا من تآليف ابن الخطيب حول الطب رسالته في الطاعون الوافد‬

‫حوالي أواسط القرن الثامن الهجري املوافق للقرن الرابع عشر ميالدي‪ .‬سمى‬

‫‪ 1‬الكانوني‪ ،‬الطب العربي في عصر دول املغرب األقص ى‪ ،‬ص‪.154.‬‬


‫‪ 2‬الكانوني‪ ،‬الطب العربي‪ ،‬ص‪.154 .‬‬
‫‪ 3‬نفسه‪ ،‬ص‪.155.‬‬
‫‪148‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫بن الخطيب عمله "منفعة السائل في املرض الهائل"‪ 1.‬استعرض الكانوني‬

‫محتوى الرسالة بإيجاز مبهر‪ ،‬وعندما تقرأ للكاتب وللناقل‪ ،‬تخال نفسك وكأنك‬

‫تعيش الحاضر‪ ،‬وتستمع ملا يتردد عبر مختلف الوسائط السمعية‪-‬البصرية عن‬
‫داء "كرونا"‪ ،‬لن تجد أبلغ من الكالم الذي قيل‪.‬‬

‫وصف ابن الخطيب حسب عبارات الكانوني "ذلك الداء الوبيل"‪ ،‬وذكر‬
‫"أن وجود العدوى تثبته التجربة ثم البحث ودليل الحواس ثم الرواية املوثوق‬

‫بها عن انتقال املرض باملالبس واألوعية والحلي (كالقرط في األذن)‪ ،‬ومن‬

‫شخص آلخر في املنزل الواحد‪ ،‬وبإصابة بناء سليم بوصول مرض ى من أرض‬

‫موبوءة"‪.2‬‬

‫أدرج الكانوني كما ذكرنا سلفا دولة الشرفاء السعديين التي تولت‬

‫مقاليد الحكم خالل القرن ‪ 9‬ه‪ 15 /‬م‪ ،‬ضمن دور "التقهقر واالنحطاط في‬

‫القرن التاسع فما بعده"‪ ،‬ومع ذلك امتدحهم مدحا جميال‪ 3،‬وأرجع إليهم فضل‬

‫تجديد "املحاسن ونشر رواق الحضارة والعلوم والفنون في ربوع املغرب"‪.‬‬

‫وتوقف عند بيمارستان عبد هللا الغالب السعدي الذي أسسه سنة ‪981‬‬

‫‪ 1‬توجد نسخة منه باألسكوريال‪ :‬نفس اإلحالة‪.‬‬


‫‪ 2‬الكانوني‪ ،‬الطب العربي في عصر دول املغرب األقص ى‪ ،‬ص‪.155.‬‬
‫‪ 3‬الكانوني‪ ،‬الطب العربي‪ ،‬ص‪.167.‬‬
‫‪149‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ه‪1573/‬م‪ ،‬فوصفه وصفا دقيقا وتحدث عن العاملين فيه ومهامهم ‪.1‬كما‬

‫خصص مبحثا هاما حول ما سماه بـ "املحجــر الصحــي في عهد الدولــة السعدية‬

‫أو االعتن ــاء بالصحـة العامـة"‪.‬‬

‫لقد كانت بحوزة الفقيه الكانوني وثيقة تبين احتراز املنصور من األوبئة‪،‬‬

‫قال‪" :‬لدينا وثيقة مهمة تدل على مبلغ احتياط هذه الدولة من األمراض‬

‫الوبائية"‪ .‬تحفل الرسالة املؤرخة بتاريخ ‪1011‬ه‪1605/‬م‪ ،‬باملعلومات املتعلقة‬


‫بتدبير األمور خالل الوباء الذي ضرب سوس‪ .‬فالسلطان املنصور السعدي‬

‫(توفي ‪1012‬ه‪ 1606/‬م) الذي كان بفاس يدعو ابنه لالحتراس‪ ،‬ولكنه ينصحه‬

‫بمغادرة مراكش نحو سال في حالة إذا تبين بأن الوباء حل ولو بشخص واحد‪،‬‬
‫يرشده لتجنب فتح الرسائل‪ ،‬ودعوة قارئها الستعمال الخل الثقيف‪ ،‬ويبين‬

‫مكان حفظ الترياق الجديد‪ ،‬ويحدد املقدار الواجب استعماله منه‪ ،‬ويظهر بأن‬

‫هناك بديل للترياق بالنسبة للشباب الذين ال يطيقونه‪ .‬ويظهر أن األطباء‬

‫املغاربة إلى زمن السعديين تداولوا على األقل ترياقين "األكبر" و"الخمسيني" إن‬

‫‪ 1‬البضاوية بلكامل‪"،‬الوضع الطبي السعدي من خالل مؤلف‪ :‬تاريخ الطب العربي باملغرب‬
‫األقص ى ملحمد بن أحمد العبدي الكانوني (‪ 1310-1357‬هـ‪1941- 1893 /‬م)"‪ ،‬مائدة‬
‫مستديرة حول املعرفة الطبية وتاريخ األمراض في املغارب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬أيام ‪ 18‬إلى‬
‫‪ 20‬دجنبر ‪ ،2008‬منشورات عكاظ ‪ ،2011،‬ص‪.47- 29.‬‬
‫‪150‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫لم نقل أكثر‪ ،...‬فالخليفة املنصور يميز بين ترياق قديم وآخر جديد استعمال‬

‫لدرء الوباء‪ ،‬ولكن ال نعرف ماهية االثنين‪ .‬ويبدو بأن الوباء حل بالسوس قادما‬

‫إليها من الجنوب‪ ،‬ألن جميعنا يعرف حملة الخليفة نحو بالد السودان‪ ،‬ولعل‬
‫الوباء حل بها قادما مع ركب التجار‪ .‬كان الوباء مستفحال كما يتبن من شكاوي‬

‫ابن خالة األمير أبو فارس‪ ،‬أما حال فاس التي كان يقيم بها السلطان املنصور‪،‬‬

‫وحال سال التي يحث ابنه أبو فارس لطي املسافات والقدوم إليها‪ ،‬فأفضل‬
‫وأسلم‪1.‬‬

‫ملا ذكر‪ ،‬نقدم بدورنا الوثيقة االحترازية من زمن الخليفة املنصور‬

‫السعدي كاملة لإلفادة وتيسير املعرفة‪ ،‬وهي رسالة جوابية من السلطان‬


‫املنصور البنه‪ ،‬ومما جاء فيها‪" :‬كتب السلطان املنصور من فاس إلى خليفته‬

‫بمراكش ولده أبي فارس جوابا له عن إعالمه بظهور الوباء بسوس قائال في‬

‫جوابه‪ :‬إن أول ما تبادرون به قبل كل ش يء هو خروجكم إذا الح لكم ش يء من‬

‫عالمات الوباء ولو أقل القليل حتى بشخص واحد‪ ،‬ويبقى في القصبة وصيفنا‬

‫‪ 1‬جاء في رحلة الشهاب أحمـد أبو علي التي نقل أخبارها صاحب "زهـر البستان"‪ :‬أن الشهاب‬
‫ملا خرج من إسبانيا على طريق الجديدة في زي مسيحي فارا بنفسه أواخر القرن العاشر‬
‫وقدم على املنصور السعدي قال‪" :‬رحلنا إلى محلة السلطان موالي أحمد الذهبي وهي‬
‫مخيمة بتانسيفت بسبب وباء كان باملدينة"‪ ،‬تدل على انتشار الوباء بمراكش نفسها‪.‬‬
‫‪151‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫مسعود مع القائد محمد بن موس ى‪ ،...‬وتخرجون بالسالمة ثم ال تعملوا كعملنا‬

‫في االقتصار على الوسيلة والتغلب بها بل ال تزيدوا إذا خرجتم على املقام أكثر‬

‫من يومين ثم اطووا املراحل إلى أن تنزلوا بسال ثم ال تغفلوا عن استعمال‬


‫الترياق فالزموه ‪ ،‬وإذا استشعرتم منه حرارة وتخوفتموها فاستعملوا من الوزن‬

‫الوصف املعروف منه وال تهملوه‪ .‬وأما ولدك حفظه هللا فلما كان من سن‬

‫الشبيبة بحيث يمنعه الحال من املداومة على الترياق فها هي الشربة املعروفة‬
‫النافعة لذلك قد تركناها كثيرة هناك عند التونس ي فيكون يستعملها هو‬

‫واألبناء الصغار حتى إذا أحس ببرد املعدة من أجلها تعطون الترياق املرة واملرتين‬

‫على قدر الحاجـة فيعود إليها‪ .‬والبطاقة التي ترد عليكم من السوس من عند‬
‫الحاكم أو من عند خالكم أو ولد خالكم أو غيرهما ال تقرا وال تدخل دار بل‬

‫تعطى لكاتبكم هو يتولى قراءتها ويعرفكم مضمونها‪ ،‬الن كاتبكم يدخل‬

‫مجلسكم ويالبس مقامكم حتى هو ال يفتحها إال بعد أن تغمس في خل ثقيف‪،‬‬

‫وتنشر حتى تيبس وحينئذ يقرأها ويعرفكم بمضمونها‪ .‬وقد طالعنا كتاب ولد‬

‫خالكم أحمد بن محمد الصغير وصح عندنا من فحوى كالمه ما ذكرتم عنه‬

‫من انه أكثر من خبر الوباء ليجده ذريعة للخروج من السوس والذي تأمرونه‬
‫به أنكم تحذرونه من القدوم عليكم بمراكش‪ ،‬وأن ذلك ال يرضينا منه‪ ،‬إال أن‬

‫‪152‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫تفاحش املرض بتلكم الناحية فال عليه في الخروج والتنقل قرب البالد أو‬

‫يلتحق بمحلة أصحابه الذين بخنق الوادي‪ ،‬وأوصيكم أيضا إذا ظهر املرض‬

‫بتلك الناحية وخرجتم خروج سالمة بحول هللا وقوته‪ ،‬أال ال تتركوا وراءكم‬
‫بنت عمكم والدة ولدنا العزيزة وأمر يوسف العبد ان يخرج لكم من عند‬

‫صاحب بيت الثياب القدر املحتاج إليه من الترياق الجديد الذي كان بقية‬

‫املشور‪ ،‬ويدخله على أيديكم لدارنا واستدعوا أم املال قهرمانة الدار وأعطها‬
‫إياه برسم أهل دارنا وأمرها أن تعطيهم إياه في كل رابع من اليوم الذي يأكلون‬

‫فيه‪ ،‬وهي أيضا تأكل منه والعبد يوسف يأكل منه وحتى صاحب السقيف‬

‫أعطوه منه وهللا سبحانه يرعاكم ويتولى حفظكم انتم وأوالدكم وقد‬
‫استودعناكم هللا الذي ال تضيع لديه الودائع والسالم‪ ،‬وكان ذلك سنة‬

‫‪1011‬ه"‪.‬‬

‫نقرأ في املبيضة‪" :‬وهللا بمنه وبحرمة صفوة خلفه خير البشر محمد صلى‬

‫هللا عليه وسلم خير البشر يتولى حمايتكم جميعا ويحلكم من جميع كالءته‬

‫ورعايته حصنا منيعا وأن يعافي البالد والعباد بمنه وكرمه والقائد مسعود‬

‫النبيلي تعزمون الخ ما في االستقصاء "‪.‬‬

‫حل الطاعون بعد ذلك باملغرب األوسط كما يفهم من حديث الفقيه‬
‫‪153‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الكانوني عن أبي الحسن علي بن عبد الواحد األنصاري السجلماس ي الوالدة‪،‬‬

‫ورحل الرجل لفاس للتحصيل‪ ،‬ثم ألرض الحجاز‪ .‬ومنها عاد فاستقر بالجزائر‪،‬‬

‫و بها مات شهيدا ‪ -‬حسب عبارات الكانوني‪ -‬بداء الطاعون سنة ‪1045‬ه‪ .1‬ال‬
‫نعرف هل كان هذا الطاعون متوطنا باملغرب األوسط وحده‪ ،‬وليس بجهات‬

‫أخرى بأرض الشمال اإلفريقي؟‬

‫انتقل الفقيه الكانوني للحديث عن الدولة العلية الشريفة‪ ،‬ومما ورد‬


‫عنده من معطيات حول نشأتها قوله‪" :‬تملكت الدولة العلويـة املغرب أواخر‬

‫القرن الحادي عشر الهجري إلى اآلن‪ ،‬وقد وجدت املغرب يعاني من ضروب‬

‫الكوارث املتنوعة ألوانا ومن التفرق والشقاق صنوفا فجمعت كلمته ووحدت‬
‫وجهته وشجعت العلوم واملعارف بتشييد املدارس وإغداق األرزاق والجرايات‬

‫على أهل العلم وكانت لهم عناية خاصة باألطباء وخصوصا السلطان موالي‬

‫إسماعيل فقد كان له عدد من األطباء يالزمونه"‪.‬‬

‫يقدم الفقيه الكانوني شذرات عن املحج ــر الصح ــي أو العناي ــة بالصحة‬

‫العامـة خالل حكم السلطان املولى إسماعيل الذي تبنى سياسة االحتراز ومنع‬

‫اختالط األصحاء باملرض ى ملدة تصل إلى شهر‪ ،‬فقال‪" :‬كان السلطان املولى‬

‫‪ 1‬الكانوني ‪ ،‬الطب العربي ‪،‬ص‪.181.‬‬


‫‪154‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫إسماعيل له عناية بذلك ففي املنزع اللطيف لصديقنا النقيب موالي عبد‬

‫الرحمان بن زيدان ناقال عن الترجمان املعرب للزياني‪ :‬في سنة ‪1089‬ه كثر‬

‫الطاعون بفاس ومكناس فجعل السلطان املولى إسماعيل عسة العبيد بوادي‬
‫سبو وغيره من الطرق املؤدية لهما يمنعون الواردين على املدينتين من األصحاء‬

‫خوف انتشار هذا الداء أخذا باالحتياط وعمال باملأمور به شرعا‪ ،‬وأمر مع ذلك‬

‫بتحريق ما بسوق الخميس (ما من شأنه أن يوجد فيه املكروبات والعفونات)‬


‫ففـر من كان هناك من الناس وانقطع املرور ودام ذلك شهـرا "‪.‬‬

‫وفي ترجمته ملحمد بن يحيى بن الحسن بن محمد الشبي السوس ي‬

‫الحامدي ‪1164‬ه‪ ،‬امتدحه واعتبره من أفاضل أهل عصره علما ودينا وفضال‬
‫نافذا في دقائق العلوم من شيوخ اإلمام محمد بن احمد الحضيكي ترجمه في‬

‫طبقاته‪ ،‬وأضاف‪" :‬توفي بالوباء يوم األحـد آخر ربيع الثاني سنة أربع وستين‬

‫ومائة وألف وكان مولده يوم الثالثاء ‪ 18‬صفر ‪1102‬ه‪ .‬أردف قائال‪" :‬اطلعنا‬

‫على كتاب عنوانه (جملة الفوائد الطبية) للعالمة الولي الصالح سيدي محمد‬

‫هذا بن يحيى الشبي رض ي هللا عنه‪ ،‬افتتحه بحقيقة الطب والعلوم الرياضية‬

‫واإلنذارات والتحذيرات ثم أردفه بالكالم على املفردات من النبات والحيوان‬


‫واملعدن مرتبا ذلك على حروف املعجم ذاكرا أسمائها بحسب الوارد في كتب‬

‫‪155‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الطب ثم بما هو معروف باملغربية والبربرية ثم تكلم على األمراض وأسبابها‬

‫وعالماتها والعالجات مرتبا لألمراض على حروف املعجم‪ ،‬وفي هذا الفصل تكلم‬

‫على األوبئة كالما طويال سعا في االحتياط منه والتباعد عنه واتخاذ األدوية‬
‫وتطبيب األهوية"‪.‬‬

‫نجد في العهد االسماعلي اعتماد السلطان على عدة إجراءات ملنع تفش ي‬

‫الوباء ومنها منع اختالط السليم بالعليل‪ .‬كما أن أطباء املرحلة كتبوا في‬
‫املوضع‪ ،‬وجاءت نصائحهم موافقة ملا ينصح به األطباء اليوم من االحتياط‬

‫والتباعد واستعمال األدوية املناسبة وتنقية الهواء‪ .‬ونالحظ بأن فساد الهواء‬

‫حسب أطباء العصور القديمة هو املسبب األساس ي في انتشار األوبئة‪ .‬ألم تدق‬
‫املنظمات الدولية ناقوس الخطر حول تغير املناخ؟‬

‫توقف الكانوني عن ذكر األوبئة بعد السلطان املولى إسماعيل‪ ،‬وتحدث‬

‫عن تجديد بعض ملوك الدولة العلوية الشريفة‪ ،‬مؤسسة البيمارستان ‪1‬كما‬

‫هو معهود‪ ،‬وبذلك ينسب للسلطان العلوي موالي عبد الرحمن بناء املارستان‬

‫الجديد بمدينة الرباط‪ ،‬إال أن األوبئة واملجاعات ترتب عنهما تفاقم حال‬

‫‪ 1‬البضاوية بلكامل‪" ،‬بيمارستانات الرباط من األصول إلى بداية فترة الحماية"‪ ،‬مدينة‬
‫الرباط‪ ،‬التاريخ والذاكرة‪ ،‬مطابع الرباط نت‪ ،2016 ،‬ص‪.103- 85.‬‬
‫‪156‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫األوضاع الصحية‪ ،‬فعلى سبيل املثال كان غالء األسعار فاحشا خالل عام‬

‫‪1073‬ه ‪1759 /‬م‪ ،‬وكان عدد من دفن من األموات في مارستان فاس فقط‬

‫حسب الضعيف " أربعة وثمانون ألفا فيما قيل"‪.1‬‬

‫‪ 1‬عبد العزيز الخمليش ي‪ ،‬مدينة الرباط في القرن التاسع عشر (‪ ،)1912- 1818‬جوانب من‬
‫الحياة االجتماعية واالقتصادية‪ ،‬دكتوراه الدولة‪ ،‬كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‪،‬‬
‫الرباط‪ ،2007 ،‬ص‪ 111 .‬وهامش ‪.108‬‬
‫‪157‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪ -‬استنتاجات عامة‪:‬‬

‫تلوح للمهتم بتاريخ األوبئة معطيات تؤكد إسهام املؤرخ الفقيه ممثال‬

‫في محمد العبدي الكانوني‪ ،‬في تزويد قارئ كتابه بما يغذي فكره حول الطب‬
‫واألطباء باملغرب بغض النظر عن أصولهم‪ ،‬كما يتجلى فيها مدى حرص املغاربة‬

‫على االحتراز والتباعد واستعمال الترياقات ملحاولة درئها والحد من سطوتها‪.‬‬

‫فعلم التاريخ هو بالفعل علم دقيق بحوادث املاض ي قد يفيد‪ ،‬ألنه من املحتمل‬
‫أن يحدث في املستقبل ش يء من قبيل ما حدث في املاض ي‪ ،‬وما يحدث في القرن‬

‫‪ ،21‬زمن كرونا‪.‬‬

‫ال شك أن القارئ سيقتنع بأن كتاب الكانوني من املنوغرافيات الهامة‬


‫التي تستحق املزيد من العناية‪ ،‬حيث استعرض الفقيه املستنير تاريخ الطب‬

‫وأعالمه ومؤسساته من القرن ‪2‬ه إلى بداية القرن ‪ 14‬منه‪ ،‬بل استحضر‬

‫إسهامات األطباء سواء بداخل قصور الخلفاء أو امللوك أو بالبيمارستانات أو‬

‫بمنازل األطباء ودكاكينهم‪ ،‬كما تحدث –كما أسلفنا ذكره‪ -‬عن مؤلفات‬

‫بعضهم‪ ،‬وعن أشكال تدبيرهم لألوبئة بدعم من األسر الحاكمة‪ ،‬أو بمبادرات‬

‫خاصة‪ .‬وال يتوانى صاحب املؤلف بالدفاع عن أطروحته حول قيمة الحضارة‬
‫املغربية‪ ،‬وال نخالفه الرأي في ذلك‪.‬‬
‫‪158‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪ -‬ببليوغرافية‪:‬‬

‫‪ -‬مصادر‪:‬‬

‫‪ -‬داود بن عمر األنطاكي‪ ،‬تذكرة أولي األلباب والجامع للعجب العجاب‪ ،‬دار‬
‫الفكر للطباعة والنشر والتوزيع‪( ،‬د‪.‬ت)‪.‬‬

‫‪ -‬عبد هللا ابن البيطار املالقي‪ ،‬الجامع ملفردات األدوية واألغذية‪ ،‬تحقيق‬
‫الفاروقي إبراهيم العفار الدسوقي‪ ،‬القاهرة‪1291 ،‬ه‪.‬‬

‫‪ -‬تاريخ هيرودوت‪ ،‬ترجمة عبد اإلله املالح هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث‪ ،‬أبو‬
‫ظبي‪ ،2007 ،‬ط‪.2.‬‬

‫‪ -‬مراجع‪:‬‬

‫‪ -‬البضاوية بلكامل‪" ،‬مصادر ابن البيطار من خالل مؤلفه "الجامع ملفردات‬


‫األدوية واألغذية" كمثال نبتة الفربيون"‪ ،‬مائدة مستديرة في موضوع الفالحة‬
‫والتقنيات الفالحية بالعالم اإلسالمي في العصر الوسيط‪ ،‬مؤسسة عبد العزيز‬
‫آل سعود‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬أيام ‪ 21-18‬دجنبر ‪ ،2008‬منشورات عكاظ ‪،2011،‬‬
‫ص‪.177 – 147.‬‬

‫‪ -‬البضاوية بلكامل‪" ،‬الوضع الطبي السعدي من خالل مؤلف‪ :‬تاريخ الطب‬


‫العربي باملغرب األقص ى ملحمد بن أحمد العبدي الكانوني (‪ 1357-1310‬هـ‪/‬‬
‫‪1941- 1893‬م)"‪ ،‬مائدة مستديرة حول املعرفة الطبية وتاريخ األمراض في‬

‫‪159‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫املغارب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬أيام ‪ 18‬إلى ‪ 20‬دجنبر ‪ ،2008‬منشورات عكاظ‪،2011 ،‬‬


‫ص‪.47- 29.‬‬

‫‪ -‬البضاوية بلكامل‪" ،‬بيمارستانات الرباط من األصول إلى بداية فترة الحماية"‪،‬‬


‫مدينة الرباط‪ ،‬التاريخ والذاكرة‪ ،‬مطابع الرباط نت‪ ،2016 ،‬ص‪.103- 85.‬‬

‫‪ -‬عبد العزيز الخمليش ي‪ ،‬مدينة الرباط في القرن التاسع عشر (‪،)1912- 1818‬‬
‫جوانب من الحياة االجتماعية واالقتصادية‪ ،‬دكتوراه الدولة‪ ،‬كلية اآلداب‬
‫والعلوم اإلنسانية‪ ،‬الرباط‪.2007 ،‬‬

‫‪ -‬محمد السعيدي الرجراجي‪ ،‬الفقيه محمد بن أحمد العبدي الكانوني‪ ،‬حياته‬


‫وفكره ومؤلفاته‪ ،‬منشورات جمعية آسفي للبحث والتوثيق‪ ،‬دار وليلي للطباعة‬
‫والنشر‪ ،‬مراكش‪.2000 ،‬‬

‫‪ -‬جان شارل سورنيا‪ ،‬تاريخ الطب‪ ،‬ترجمة إبراهيم البجالتي‪ ،‬عالم املعرفة‬
‫‪ ،281‬الكويت‪.2002 ،‬‬

‫‪ -‬هرنشو‪ ،‬علم التاريخ‪ ،‬ترجمه وعلق حواشيه وأضاف إليه فصال في التاريخ‬
‫عند العرب عبد الحميد عبادي‪ ،‬دار الحداثة‪ ،‬بيروت‪.1988 ،‬‬

‫‪- Histoire de la médecine au Maroc et dans les pays arabes et‬‬


‫‪musulmans, Imprimerie Najah El Jadida, Casablanca, 1995‬‬

‫‪160‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

:‫ األنترنيت‬-

.)‫ (ويكيبيديا‬47 ‫ الفقرة‬،‫ الكتاب الثاني‬،‫ حروب البيلوبونيز‬،‫ ثيوسيديدس‬-

- Gourivetch D., « Au temps de Galien, un médecin Grec dans l’empire


Romain»,Somogy, éditions d’art 14 sept. Exposition de Mariement,
Belgique 26 mai -2 déc.2018,(clio-cr.clionautes.org) Fr.gwe.wiki.

161
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪162‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الكورونا واستنهاضات العقل اإلنساني‬

‫مشير باسيل عون‬

‫الجامعة اللبنانية‪ ،‬بيروت‬

‫‪163‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪164‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ّ‬
‫اإلنساني على تناول‬ ‫ّ‬ ‫ّيتضح للجميع ّ‬
‫أن جائحة الكورونا تستحث العقل‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فالتحديات جليلة‪ ،‬واالستثارات خطيرة‪،‬‬ ‫مبتكرا‪.‬‬ ‫جديدا‬ ‫طارئات الوجود تناوال‬
‫ّ‬ ‫ٌ ّ ُ‬ ‫ٌ‬
‫التحوالت الظاهرة‬ ‫حمالة أوجه‪ .‬حين ينظر املرء في‬ ‫واملآالت ملتبسة‪ ،‬رجراجة‪،‬‬
‫ّ‬
‫اإلنساني املعاصر في املسكونة‬ ‫تحرك االجتماع‬ ‫ّ‬
‫الخفية التي غدت ّ‬ ‫واالعتماالت‬
‫كف عن أن يكون ّ‬ ‫ّ َّ‬ ‫ً‬
‫قاطبة‪ ،‬يدرك ّ‬
‫مجرد حقبة وجيزة عابرة‬ ‫أن الوباء العالمي‬
‫ّ‬
‫مضطرة‬ ‫ّ‬
‫البشرية أضحت اليوم‬ ‫الكوني الصاخب‪ .‬انطباعي ّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫من حقب التاريخ‬
‫ّ‬
‫الحضارية التي نشأت في إثر هذه‬ ‫إلى ضبط مواقيت الزمان وفقا للقطيعة‬
‫ّ‬
‫ثم‪ ،‬ال ّبد من التفكر الرصين الهادئ في االستنهاضات التي أثارها‬
‫الجائحة‪ .1‬ومن ّ‬

‫العقلي األشمل‪ّ .‬أما السؤال األخطر الذي يجابهنا‬


‫ّ‬ ‫الوباء في مستوى االستبصار‬
‫التحري عن قدرة العقل على فهم الظاهرة ً‬
‫فهما‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املستجد‪ ،‬فهو‬ ‫به الواقع‬

‫ييهئ اإلنسان إلعادة‬ ‫مثمرا‪ .‬ذلك ّ‬


‫بأن مثل هذا الفهم هو الذي ّ‬ ‫ً‬
‫صائبا‪ً ،‬‬ ‫ً‬
‫سليما‪،‬‬
‫ّ‬
‫والجماعي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الفردي‬ ‫ّ‬
‫التاريخي‬ ‫ترتيب ّ‬
‫أولويات وجوده‬

‫‪ -‬الظاهرة الطارئة بين الفرادة واأللفة‪:‬‬

‫ّ‬
‫والتحري عن‬ ‫ال ّبد‪ ،‬في البداية‪ ،‬من االستقصاء في طبيعة الظاهرة‬

‫‪1‬‬‫‪Cf. Steven Taylor, The Pyschology of Pandemics. Preparing for the Next Global‬‬
‫‪Outbreak of Infectious Disease, Cambridge, Cambridge Scholars Publishing,‬‬
‫‪2019.‬‬
‫‪165‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫التاريخية‪ ،‬أم ّإنها تتغاير‬


‫ّ‬ ‫موقعها‪ ،‬هل تستوي في مقام املألوف من األحداث‬
‫ً‬
‫مطلقا هي واملظاهر التي عاينها اإلنسان واختبرها في سياق االعتالالت‬ ‫ً‬
‫تغايرا‬
‫ّ‬
‫البديهي القول‬ ‫ّ‬
‫اإلنساني؟‪ 1‬من‬ ‫ّ‬
‫والبيئية التي تعاقبت على الوجود‬ ‫ّ‬
‫البيولوجية‬
‫ّ‬
‫الشوكي‪ ،‬في عمق أعماق الكيان‬ ‫ّ‬
‫إن الكورونا قد أصابنا في الصميم‪ ،‬في النخاع‬
‫ّ‬
‫اإلنساني‪ .‬فاجأنا بحلوله فينا على غير استئذان‪ ،‬فإذا بنا ننتقل من مقام‬
‫ّ‬
‫اإلنسانية قد‬ ‫ّ‬
‫الكوروني‪ .‬قبل ذلك‪ ،‬كانت‬ ‫ّ‬
‫الكوني إلى مقام اإلنسان‬ ‫اإلنسان‬
‫تحوالت ّ‬
‫شتى في ّ‬
‫ّ‬
‫الحيوانية‬ ‫ّ‬
‫االنتصابية إلى‬ ‫ّ‬
‫الحيوانية‬ ‫هوية اإلنسان‪ ،‬من‬ ‫اختبرت ّ ٍ‬
‫ّ‬
‫واألخالقية‬ ‫ّ‬
‫والسياسية‬ ‫ّ‬
‫واالجتماعية‬ ‫ّ‬
‫الدينية‬ ‫ّ‬
‫بالحيوانية‬ ‫ّ‬
‫الكونية‪ ،‬مرو ًرا‬
‫ّ‬
‫اإلنسانية أضافت إلى وعي‬ ‫واآللية الرو ّ‬
‫بوتية‪ .‬جميع هذه املقامات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واالقتصادية‬
‫ّ‬
‫التحول‬ ‫اإلنسان تراكمات متدافعة جعلته يختزن الكثير من املعاني‪ .‬غير ّ‬
‫أن‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬
‫اإلنسانية هذه‪.‬‬ ‫ألم بنا يجعلنا نسائل جميع مقامات اله ّوية‬
‫األخير الذي ّ‬

‫ّ‬
‫الكوني‬ ‫ّ‬
‫واألطباء على الخطر املميت الذي ينشره هذا الوباء‬ ‫ُيجمع العلماء‬
‫ّ‬
‫اإلنسانية منذ أقدم العصور‪ .‬في القرن‬ ‫املستخرج من سلسلة قديمة أرعبت‬

‫‪1‬‬ ‫‪Cf. Frank M. Snowden, Epidemics and Society. From the Black Death to the‬‬
‫‪Present, Yale, Yale University Press, 2019; Mark Honigsbaum, The Pandemic‬‬
‫‪Century. One Hundred Years of Panic, Hysteria and Hubris, London, Hurst‬‬
‫‪Publishers, 2019.‬‬
‫‪166‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ّ‬
‫الكورونية املتالحقة‪ ،‬وكان‬ ‫العشرين وحده عانت املجتمعات ويالت السالالت‬
‫شك في ّ‬
‫أن‬ ‫السابع آخرها‪ ،‬وهو الضيف املقيت الكوفيد التاسع عشر‪ .‬ال ّ‬

‫ّ‬
‫الوبائية الجامحة‬ ‫األسئلة تتدافع في األذهان من أجل فهم هذه الظاهرة‬
‫ّ‬
‫املستجد‪ ،‬وإمكانات‬ ‫الجارفة الجائحة‪ .‬السؤال ّ‬
‫األول يتناول ّ‬
‫هوية الفيروس‬
‫ّ‬
‫البيولوجية‬ ‫قهرا ً‬
‫مبينا؛ والثاني يستجلي آثاره‬ ‫تفكيكه‪ ،‬وصعقه وتعطيله وقهره ً‬

‫ّ‬
‫الكوني؛ والثالث يستطلع عواقبه على املستويات‬ ‫ّ‬
‫اإلنساني‬ ‫في تركيبة الجسم‬
‫ُ‬
‫لست من‬ ‫ّ‬
‫والبيئية‪.1‬‬ ‫ّ‬
‫والسياسية‬ ‫ّ‬
‫واالقتصادية‬ ‫ّ‬
‫االجتماعية‬ ‫ّ‬
‫األنتروبولوجية و‬
‫ّ‬
‫الغيبية‪ .2‬حسبي أن‬ ‫ّ‬
‫البهلوانية أو املكاشفات‬ ‫الذين يركنون ً‬
‫طوعا إلى التنجيمات‬
‫مستنيرا بآ اء أهل االختصاص‪ّ ،‬‬
‫حتى أستطيع‬ ‫ً ر‬ ‫ّ‬
‫العلمي‪،‬‬ ‫ّ‬
‫التكويني‬ ‫أنظر في املسرى‬
‫ّ‬
‫التفكر الرصين الهادئ ّ‬ ‫ّ‬
‫البناء‪.‬‬ ‫الفلسفي في‬ ‫أن أدلو بدلوي‬
‫ٌّ‬ ‫إذا ثبت ّ‬
‫كونية‪ ،‬كان ال ّبد لإلنسان من أن يستعيد‬ ‫أن الظاهرة الطارئة‬
‫ّ‬
‫الحياتية الضاغطة‪ .‬ومن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ثم‪ ،‬أراني أسلك سبيل‬ ‫املستجدات‬ ‫الفلسفي في‬ ‫التفكر‬
‫كيانية ّ‬
‫عاملية أغلقت على الناس في‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفلسفي في أزمة‬ ‫لتأمل والنظر‬ ‫ّ‬
‫التدبر وا ّ‬

‫‪1‬‬ ‫‪Cf. John Authers, « How Coronavirus Is Shaking Up the Moral Universe »,‬‬
‫‪Bloomberg, Bloomberg Opinion, 29 mars 2020 (online).‬‬
‫‪2 Cf. Stephen T. Asma, « Does the Pandemic have a Purpose », The New York‬‬

‫‪Times, 16 April 2020 (online).‬‬


‫‪167‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ّ‬ ‫محاجرهم ومعازلهم ومآويهم‪ ،‬وأجبرتهم على التواصل ُ‬


‫الب ّ‬
‫عدي‪ .‬في ذلك كله‬
‫ٌ‬
‫إشارة إلى اقتراب زمن جديد يستلزم اإلصغاء إلى نداءاته‪ ،‬واالستجابة‬
‫ّ‬
‫لتحدياته‪ ،‬واالضطالع بمقتضياته‪.‬‬
‫الحر الناقد ّ‬
‫البناء يستنهض الذات إلى مناهضة‬ ‫الفلسفي ّ‬
‫ّ‬ ‫ذلك ّ‬
‫بأن الفكر‬
‫كائن فكري يعشق الطبيعة ً‬
‫عشقا‪ ،‬قبل‬ ‫مثل هذا االستئثار املقيت‪ .‬فاإلنسان ٌ‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫أن يكون ً‬


‫الكورونية التي‬ ‫منفعيا يستنزف الطبيعة استنزافا‪ .‬وما الكينونة‬ ‫كائنا‬
‫ّ‬
‫الذاتي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫النقدي‬ ‫اجتاحته سوى الدليل الدامغ على ضرورة تعزيز الوعي الفكر ّي‬

‫الطوعي ُيفض ي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الصح ّي‬ ‫بعضهم ّ‬
‫أن الحجر‬ ‫يظن ُ‬
‫اإلنساني أن ّ‬
‫ّ‬ ‫من غرائب املنطق‬
‫ّ‬
‫الفلسفي هو‪ ،‬في أصل دعوته‪،‬‬ ‫أن ّ‬
‫التأمل‬ ‫الفلسفي‪ ،‬في حين ّ‬
‫ّ‬ ‫باإلنسان إلى ّ‬
‫التأمل‬
‫الحر الذي ُي ّ‬
‫طل من علياء‬ ‫ّ‬
‫الطوعي‪ .‬فالفيلسوف هو املحجور ّ‬ ‫الباعث على الحجر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويتدبر‬ ‫يتبصر في إرباكاته‪ ،‬ويحلل تعقيداته‪،‬‬ ‫صومعته على وقائع الوجود‪،‬‬
‫ّ‬
‫الكوني األخطر‪ .‬وما من‬ ‫والسيما في أزمنة ّ‬
‫التأزم‬ ‫ّ‬ ‫مالبساته‪ ،‬ويستشرف آفاقه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تأزم أخطر من ذلك الذي يعطل كينونة الطبيعة التي هي األ ّم الحاضنة‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ظاهرة ّ‬
‫تترجح بين َ‬ ‫اليقين ّ‬
‫مقامين‪ :‬مقام املألوف املعهود من‬ ‫أن الكورونا‬
‫الطبيعية‪ ،‬ومقام الغريب الفريد من الطوارئ املباغتة‪ّ .‬‬
‫ثنائية املقام‬ ‫ّ‬ ‫الظواهر‬

‫‪168‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ًّ‬
‫عصية على اإلدراك البسيط‪ .‬لذلك ينبغي تناولها في‬ ‫التي تصطبغ بها تجعلها‬
‫ّ‬ ‫املترجحة ّ‬
‫البينية ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حتى يستطيع املرء أن يستصفي منها دالالتها‪ .‬تذكرني‬ ‫وضعيتها‬
‫ّ‬
‫األملاني مارِتن هايدغر (‪-1889‬‬ ‫ّ‬
‫الوضعية بالتنازع الذي استجاله الفيلسوف‬ ‫هذه‬
‫ّ‬
‫اإلنساني الذي يختبر القلق في مواجهة غرابة‬ ‫‪ً )1976‬‬
‫ناشبا في عمق الكائن‬
‫ّ‬
‫كائنيته وغرابة الكائنات عينها (‪ .)Unheimlichkeit‬وعليه‪ ،‬ال ينفع اإلنسان أن‬
‫املبنية على َ"ت ُّ‬
‫صيد‬ ‫الذاتية اليسيرة ّ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫معرفته‬ ‫يلوذ باأللفة املصطنعة التي ّ‬
‫تزينها له‬

‫يتصدى لغرابة الكائنات وغرابة الكينونة‬ ‫ّ‬ ‫االختبارات املعيشة"‪ ،1‬بل ينبغي له أن‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫استنادا إلى اختبار معنى الكينونة في تجلياتها وانحجاباتها‪ ،‬في إقباالتها وإدباراتها‪،‬‬
‫ّ‬
‫في تكشفاتها وتوارياتها‪.‬‬

‫‪ -‬التنازع التأويلي في معنى الكورونا‪:‬‬

‫لذلك يسأل الناس عن السبيل األضمن الذي ّ‬


‫يؤهلهم إلدراك املعنى‬
‫ُ‬
‫إسناده إلى ظاهرة الكورونا‪ .‬على وجه العموم‪ ،‬يتناول‬ ‫األنسب الذي يجدر‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫الناس في جميع املجتمعات والثقافات هذه الجائحة تناوال يستند إلى علومهم‬
‫وتصوراتهم واختباراتهم‪ُ .‬‬
‫فيسبغون عليها من املعاني ما يغترفونه من‬ ‫ّ‬ ‫ومعارفهم‬

‫‪1‬‬ ‫‪Heidegger, Beiträge zur Philosophie. Vom Ereignis, GA 65, Frankfurt,‬‬


‫‪Klostermann, 1989, p. 124.‬‬
‫‪169‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫سب ًال أربعة ّ‬


‫تيهئ‬ ‫والفكرية‪ .1‬من الواضح ّ‬
‫أن هناك ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫العلمية‬ ‫ُمختمر خالصاتهم‬
‫ُ‬
‫عنيت بها سبيل‬ ‫اإلنسان للمجازفة ّ‬
‫بتخير املعنى األنسب وإطالقه واعتماده‪،‬‬
‫ّ‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وسبيل األدب‬ ‫ّ‬
‫وضعية‪ ،‬وسبيل العلوم‬ ‫ّ‬
‫الطبيعية أو ال‬ ‫العلوم‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الطبيعية تحلل الظاهرة‬ ‫والفنون‪ ،‬وسبيل الالهوت والفلسفة‪ .‬العلوم‬
‫ّ‬
‫وتحوالتها وآثارها وعالجاتها‪.‬‬ ‫ُوت ّ‬
‫شرحها‪ ،‬وتقف على جميع عناصرها وعواملها‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫اإلنسانية‬ ‫العلمية واجبة ملزمة للعقل السليم‪ .‬العلوم‬ ‫نتائج هذه األبحاث‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحرًيا ً‬
‫حرى ّ‬‫تت ّ‬
‫اإلنسانية في انفعاالت النفس (علوم‬ ‫دقيقا عن تجليات الحياة‬
‫ّ‬
‫الفردية‬ ‫ّ‬
‫البنيوية‬ ‫ّ‬
‫الذهنية‬ ‫النفس)‪ ،‬وتفاعالت االجتماع (علوم االجتماع)‪ ،‬واآلثار‬
‫ّ‬
‫االقتصادية (علوم‬ ‫ّ‬
‫والجماعية (علوم األنتروبولوجيا)‪ ،‬واالنعكاسات‬
‫والسياسية (علوم السياسة)‪ ،‬وا ّ‬
‫لبيئية (علوم البيئة)‪ ،‬وما إلى ذلك‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫االقتصاد)‪،‬‬
‫ّ ُ‬
‫اإلنسانية تنير الوعي املستقيم‪ ،‬وتمنح اإلنسان القدرة‬ ‫خالصات هذه التناوالت‬
‫ّ‬
‫الشرعي بين‬ ‫تصور الوجود ُّ‬
‫وتأوله ورعايته‪ ،‬وذلك على الرغم من التباين‬ ‫على ّ‬

‫متمر ٌد من العلوم‬
‫حقل ّ‬ ‫ّ‬
‫الخلفيات واملناهج واألساليب‪ .2‬اآلداب والفنون‪ ،‬وهي ٌ‬

‫‪1‬‬ ‫‪Cf. François Borella, Critique du savoir politique, Paris, Puf, 1990.‬‬
‫كان ‪2‬‬ ‫ّ‬
‫الوضعية‪ ،‬يخالف بعض املخالفة ما‬ ‫ّ‬
‫اإلنسانية من العلوم‬ ‫حين ّ‬
‫يميز ديلتاي العلوم‬
‫ّ‬
‫العقلية‪.‬‬ ‫ّ‬
‫اإلنسانية‬ ‫يذهب إليه كانط من إصرار على تناول شروط املعرفة لدى الكائنات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الواقعية التي يختبرها الكائن اإلنساني في قرائن‬ ‫ً‬
‫حصرا باإلمكانات‬ ‫ثم‪ ،‬فهو ُيعنى‬‫ومن ّ‬
‫ّ‬
‫التاريخية‪ .‬راجع‪:‬‬ ‫ّ‬
‫محدوديته‬
‫‪170‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ً‬ ‫َ ّ‬
‫الترنم املطرب‪ ،‬وترسمه ً‬ ‫ّ ُ‬
‫رسما مزخرفا تستطلع‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬تنشد الواقع إنشاد‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فتوحات هذه ّ‬ ‫ً‬
‫التلمسات تغني الوجدان‬ ‫أبعادا دفينة لم تألفها الذائقة‪.‬‬ ‫فيه‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫اإلنساني من غير أن تلجئه إلى تصديقها ومبايعتها على اإلطالق‪.‬‬

‫ّ‬
‫العقلية)‪ ،‬وهما‬ ‫ّ‬
‫الديني) والفلسفة (الحكمة‬ ‫أعتقد ّ‬
‫أن الالهوت (الخطاب‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫علمان ّ‬
‫معرفي واضح‬ ‫يتربعان في أصل العلوم كلها من غير أن يحظيا بحقل‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫سائر العلوم‪ ،‬يستطيعان أن يبتدعا‬ ‫املعالم كالحقول األخرى التي تنشط فيها‬
‫إن ّ‬
‫الدين‬ ‫برمته‪ .1‬وقد قيل ّ‬
‫اإلنساني ّ‬
‫ّ‬ ‫املعنى األشمل واألرحب واألعمق في الوجود‬
‫ِ‬
‫ُ‬
‫الالهوت معنى‬ ‫الحب‪ ،‬فيما الفلسفة ّ‬
‫تأم ُل الفكر (سالمة موس ى)‪ .‬يبني‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫طرب‬
‫ّ‬
‫الدهرية ما‬ ‫اعيا في فطنته‬ ‫ّ‬
‫خلفية التسليم بحقائق اإليمان‪ ،‬مر ً‬ ‫الوجود على‬
‫أفرجت عنه قر ُ‬
‫ائح الناس على تعاقب األجيال‪ ،‬فيما الفلسفة تسائل الوجود‬
‫ّ‬ ‫العلمية‪ ،‬والخالصات اإلن ّ‬
‫ّ‬ ‫ً ًّ‬
‫والتلمسات‬ ‫سانية‪،‬‬ ‫مبنية على مجموع النتائج‬ ‫مساءلة‬
‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫الوجدانية املعتلنة في ُ‬
‫ّ‬
‫الفلسفي مقترنة‪ ،‬والحال‬ ‫السبل الثالثة‪ .‬صعوبة النظر‬
‫ّ‬
‫التبحر في جميع اختبارات الناس وجميع مداركهم ومعارفهم‪.‬‬ ‫هذه‪ ،‬بإمكان‬

‫‪Wilhelm Dilthey, Gesammelte Schriften, Stuttgart, B. G. Teubner, 1958, VII, p. 9.‬‬


‫‪1 Cf. Philippe Capelle et Jean Greisch (éd.), Raison philosophique et christianisme‬‬

‫‪à l’aube du troisième millénaire, coll. « Philosophie & Théologie », Paris, Cerf,‬‬
‫‪2004.‬‬
‫‪171‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ُ‬
‫الناس في جائحة الكورونا‬ ‫إذا كان األمر على هذا النحو‪ّ ،‬‬
‫فإن ما يقوله‬
‫يختلف من سبيل إلى آخر‪ .‬مشكلة املعنى ّ‬
‫أن الناس يستخرجونه من غير أن‬
‫ّ‬
‫الوضعية والعلوم‬ ‫ّ‬
‫يميزوا في وعيهم التأثيرات التي أتتهم عن طريق العلوم‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫اإلنسانية واآلداب والفنون والالهوت والفلسفة‪ .‬فاإلنسان هو ثمرة التفاعل‬

‫الناشط بين جميع هذه املكتسبات‪ .‬حين ينظر الناس في الكورونا‪ ،‬يخرجون‬
‫ّ‬
‫بتصور هو أشبه بخليط من جميع ما استق ّر في قاع وعيهم‪ ،‬على التباس خطير‬
‫وتشوش مربك‪ .‬الثابت ّ‬
‫أن اإلنسان ال يجوز له أن يبحث عن معنى هذه الظاهرة‬ ‫ّ‬
‫اإلنسانية‪ّ ،‬‬
‫ألن هذين السبيلين ال يملكان‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الوضعية‪ ،‬وال في العلوم‬ ‫ال في العلوم‬
‫جدارة مثل هذا القول‪ ،‬وال هما ّيدعيان القدرة على استخراج املعنى في ّ‬
‫قضية‬
‫ّ‬
‫اإلنساني‪ .1‬يبقى سبيل اآلداب والفنون‪ ،‬وسبيل الالهوت‪ ،‬وسبيل‬ ‫الوجود‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫يتحدث الناس عن‬ ‫السبيل األخير في هذا التفكر‪ .‬حين‬ ‫الفلسفة‪ .‬يعنيني‬
‫ّ‬
‫الفلسفي‬ ‫ّ‬
‫بديهيات السبيل‬ ‫الكورونا‪ ،‬يلجؤون إلى سبيل من هذه ُ‬
‫السبل‪ .‬من‬ ‫ٍ‬

‫ّ‬
‫الوضعية ال يجوز لها أن تفرض‬ ‫األملاني نوربرت إلياس ّ‬
‫أن العلوم‬ ‫ّ‬ ‫‪ّ 1‬‬
‫يبين عالم االجتماع‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬
‫اإلنسانية‪" :‬يفترض املرء أنه من‬ ‫اإلنسانية الذي ترعاه العلوم‬ ‫خالصاتها على حقل الحياة‬
‫األصلي‪ ،‬أي العلوم الفيز ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫يائية‪ ،‬إلى جميع‬ ‫العلمية‘ من حقلها‬ ‫البديهي أن تنقل ’الطريقة‬
‫مما تكون عليه من‬‫أيضا إلى علوم اإلنسان‪ ،‬وذلك على الرغم ّ‬ ‫ثم ً‬ ‫الحقول األخرى‪ ،‬ومن ّ‬
‫ُ‬
‫الف طبيعة املشاكل التي نقع عليها في مستوى آخر من االندماج"‪.‬‬ ‫اخت ٍ‬
‫‪Elias Norbert, Engagement et distanciation, trad. de l’allemand par Michèle‬‬
‫‪Hulin, Paris, Fayard, 1993, p. 32.‬‬
‫‪172‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ّ‬
‫إلنساني ليس فيه معنى‬ ‫ّ‬
‫التاريخي والواقع ا‬ ‫القو ُل ّ‬
‫إن الواقع ّ‬
‫املاد ّي والواقع‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫موضوعي لصيق به‪ ،‬ينبغي لجميع البشر أن يعتمدوه حقيقة مطلقة في جميع‬

‫األحوال والقرائن‪.1‬‬
‫األملاني فريدريخ نيتشه (‪ّ )1844-1900‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أن الوقائع ال‬ ‫ِ‬ ‫يذكرنا الفيلسوف‬
‫ٌ‬
‫وجود لها بمعزل عن التأويالت التي يسوقها اإلنسان لها‪ .2‬فاألمور مرهونة بمن‬
‫ٌ‬
‫َينظر إليها وفيها‪ ،‬أي هي مقترنة باملنظار (الوسيلة أو السبيل)‪ ،‬وباملنظور (الرؤية‬
‫املبنية)‪ .‬لذلك شاع ّ‬
‫أن نيتشه يناصر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفكرية‬ ‫ّ‬
‫وبالنظرية (العمارة‬ ‫أو ُ‬
‫البعد)‪،‬‬
‫ُ‬
‫الواقع وجهة نظر‪ .‬فالحرب التي ما عاينها‬ ‫حتى أضحى‬ ‫كل ش يء ّ‬ ‫ّ‬
‫املنظورية في ّ‬
‫ّ‬ ‫تحدث عنها ّ ٌ‬‫قط‪ ،‬فما ّ‬ ‫ٌ ّ‬
‫محل ٌل‪ ،‬وما ذكرها ر ٍاو‪ ،‬وما‬
‫مؤرخ‪ ،‬وما استجالها ِ‬
‫ِ‬ ‫أحد‬

‫بأن الحادثة بخبرها‪،‬‬‫حيز االفتراض املحض‪ .‬ذلك ّ‬ ‫باحث‪ ،‬لن تحدث ّإال في ّ‬
‫ٌ‬
‫وثقها‬
‫ّ‬

‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬


‫جميع هذه‬ ‫ّ‬
‫والقصة بسردها‪ ،‬والوجود بتعبيره؛ وإال انعدمت‬ ‫والف ْعلة بتناولها‪،‬‬
‫وتكثفت وتعاظمت ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتنوعت‪ ،‬اكتنزت‬ ‫الوقائع‪ .‬كلما احتشدت التفسيرات‬

‫‪1‬‬ ‫‪Cf. Paul Watzlawick (dir.), L’invention de la réalité. Contributions au‬‬


‫‪constructivisme, Paris, Seuil, 1996.‬‬
‫‪2 Johann Nepomuk Hofman, Wahrheit, Perspektive, Interpretation. Nietzsche‬‬

‫‪und die philosophische Hermeneutik, Berlin-New York, Walter De Gruyter, 1994‬‬


‫‪(« Interpretation als Akt der Schwächung. Nietzsche als Inaugurator einer‬‬
‫‪Hermeneutik der Postmoderne » S. 177-182).‬‬
‫‪173‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ً ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬


‫كونية ناجزة‪ .‬اإلهمال التفسير ّي‬ ‫الواقعة واغتنت وتضخمت واستوت حقيقة‬

‫املطلق يوازي سقوط األشياء في العدم‪.‬‬

‫ُ‬
‫الناس على‬ ‫أعود إلى الكورونا ألسأل عن مصدر التفسيرات التي ّ‬
‫يخرجها‬

‫وجوه متضاربة‪ .‬قبل النظر في معنى هذه الظاهرة‪ ،‬يختلف الناس في قضايا‬
‫َ‬
‫علمية محضة ال ّتتصل بالرؤى واملعاني والقيم‪ .‬أسوق مثالين على االختالف‬ ‫ّ‬
‫ً‬
‫التأويلي هذا‪ .‬يختلف العلماء ّأوال في مسألة االختيار بين مناعة القطيع أو الحجر‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫الصح ّي الشامل‪ ،‬ويختلفون ً‬
‫ثانيا في مسألة نجوع دواء املالريا (الكلوروكين‬
‫ً‬
‫مشروعا‬ ‫ّ‬
‫التأويلي‬ ‫ّ‬
‫ومشتقاته) في القضاء على فيروس الكورونا‪ .‬إذا كان االختالف‬
‫متفاقما ًّ‬
‫حادا في حقول‬ ‫ً‬ ‫في مسائل العلم‪ ،‬فحري بنا أن نقبل به ُم ًّ‬
‫شتدا‬
‫ً‬ ‫االستدالل ّ‬
‫الحر على معاني الظاهرة‪ .‬منهم من يعاين في الكورونا إخفاقا للعقل‬
‫ّ‬ ‫البلية الب ّ‬ ‫ً‬
‫وسقوطا للعلم‪ ،‬ومنهم من يستطلع بها آثار ّ‬
‫الكونية‪ ،‬ومنهم يستد ّل‬ ‫يئية‬
‫ً‬
‫قصاصا‬ ‫اإلنساني‪ ،‬ومنهم من ّ‬
‫يتأولها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫البيولوجية في الكائن‬ ‫بها على انهيار املنعة‬
‫إلهيا ينذر بقيام الساعة وأزوف يوم الدين‪ .‬والحال ّ‬
‫أن هذه التفسيرات وغيرها‬ ‫ًّ‬
‫ثم‪ّ ،‬‬
‫فإن االنتقال من‬ ‫ّ‬
‫وتصوراتهم‪ .‬ومن ّ‬ ‫ّ‬
‫تعبر عن أحوال أصحابها واقتناعاتهم‬

‫الالهوتي)‪ ،‬مرو ًرا‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الغيبي (السبيل‬ ‫العلمي (السبيل ا ّ‬
‫ألول) إلى االستنتاج‬ ‫ّ‬ ‫التحليل‬

‫‪174‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ّ‬
‫الوجدانية (اآلداب والفنون)‪،‬‬ ‫ّ‬
‫اإلنسانية) واملكاشفة‬ ‫ّ‬
‫العيني (العلوم‬ ‫باالستجالء‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الفلسفي (السبيل األخير)‪.‬‬ ‫يجب أن تضبطه سلطة العقل الذي ينير التفكر‬

‫وحدها الفلسفة ترعى معنى الوجود في خفر املساءلة‪ ،‬وحيطة الباحث‪ ،‬وفطنة‬
‫ّ‬ ‫الناظر‪ ،‬وحكمة املستبصر‪ ،‬وحياد امللتزم‪ .‬ذلك ّ‬
‫بأن الفلسفة راعية العلوم كلها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اليقينية املتصلبة‪،‬‬ ‫ورقيبها الساهر الفطن‪ ،‬ترفض الخضوع لسلطان املعارف‬
‫ّ‬
‫القصية واآلفاق الرحبة حيث اإلملام باملشهد األشمل يضعها في‬ ‫وتهوى األعماق‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اإلنساني القصوى‪ .1‬الفلسفة ناسكة التخوم‪،‬‬ ‫مسؤولية صون حدود الوجود‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫جليسة املشارف‪ ،‬وسيطة النفائس‪.‬‬

‫ّ‬
‫الحيوانية‬ ‫اختالل عضوي يصيب الكائنات ّ‬
‫الحية‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫شك في ّ‬
‫أن الكورونا‬ ‫ال ّ‬

‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫اختالل ينبثق من منطق التفاعالت الناشطة في صميم‬ ‫واإلنسانية‪ .‬غير أنه‬ ‫منها‬
‫ٌ‬
‫موبوءة في أصل ُّ‬ ‫الجنس البشر ّي‪ .‬ذلك ّ‬
‫ُ‬
‫تكونها‪،‬‬ ‫بأن الحياة‬ ‫الحياة التي منها أتى‬
‫ً‬ ‫ّ ً‬ ‫مئات مليارات الفيروسات ّ‬‫ُ‬
‫صحة واعتالال‪.‬‬ ‫الحية التي تفعل بها‬ ‫تستوطنها‬
‫ّ‬
‫املشتقة منها سوى دالئل املنعة‬ ‫الحياة هي الفيروس األعظم‪ ،‬وما الفيروسات‬

‫‪1‬‬ ‫‪Cf. Carl Leonhard Reinhold, Über das Fundament des philosophischen‬‬
‫‪Wissens. Über die Möglichkeit der Philosophie als strenge Wissenschaft,‬‬
‫‪Hamburg, Felix Meiner Verlag, 1978.‬‬
‫‪175‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ّ‬
‫الفردية‪ .‬كان الناس يموتون في العصور القديمة‬ ‫أو الضعف في مسرى الكائنات‬
‫بسبب من الجهل املفروض عليهم‪ّ .‬أما اليوم‪ ،‬فالناس يموتون من ّ‬
‫جراء الجهل‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التقني‪ .1‬من عالمات‬ ‫العلمي‬ ‫الذي يفرضونه على أنفسهم‪ ،‬وهم في ذروة التملك‬

‫التقني‪ُ ،‬يهملون علوم الحياة‪ ،‬وعلوم‬


‫ّ‬ ‫هذا الجهل ّأنهم‪ ،‬على الرغم من اقتدارهم‬
‫ّ‬
‫الكياني‪ ،‬ويركنون إلى علوم املوت‪ ،‬وعلوم املنفعة‪،‬‬ ‫النضج‪ ،‬وعلوم االستصالح‬
‫ّ‬
‫الكوني‪.‬‬ ‫ّ‬
‫األناني‪ ،‬وعلوم الغلبة‪ ،‬وعلوم االستفساد‬ ‫وعلوم االستئثار‬
‫وعليه‪ّ ،‬‬
‫فإن التفسيرات التي يختلف الناس في نسبها إلى الكورونا ينبغي‬
‫التروي ّ‬
‫ألن هذه الظاهرة ستنقض ي كغيرها من الظاهرات‪ّ .‬أما‬ ‫أن تدفعهم إلى ّ‬
‫ّ ّ ُ‬ ‫ّ‬
‫ستخلفها‪ ،‬فيجب أن توقظ فينا َّ‬
‫حتى ننقذ‬ ‫حس النقد الذاتي‬ ‫الصدمة التي‬

‫ذواتنا من غربة امل ّادة‪ ،‬ووحشة الصحراء‪ ،‬ونذير الهالك‪ .‬ليس الكورونا نهاية‬
‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫أخالقي‬ ‫عطل‬ ‫العالم‪ ،‬وال انهيار النظام األرض ّي‪ ،‬وال إعالن مجيء املخلص‪ ،‬بل‬
‫ُ‬
‫الناس من غفلتهم‪ ،‬فيستخدمون‬ ‫اإلنساني‪ .‬فإ ّما أن ينهض‬
‫ّ‬ ‫أصاب صميم الفهم‬
‫ّ‬
‫والنفسية‬ ‫علومهم من أجل استصالح الكائن البشر ّي في جميع أبعاده الجسد ّية‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫والروحية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫الناس إلى املعاناة في‬ ‫تمر هذه الجائحة مرو ًرا مبتذال‪ ،‬ويعود‬
‫وإما أن ّ‬

‫‪1‬‬ ‫‪Cf. Nicholas Négroponte, L’homme numérique, Paris, Robert Laffont, 1995.‬‬
‫‪176‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫القريب من ّ‬
‫األيام‪.‬‬

‫‪ -‬العقل اإلنساني والتحديات الكونية املصيرية‪:‬‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ظني ّ‬


‫في ّ‬
‫اإلنساني‬ ‫األخالقي مقترن أوثق االقتران بتعطل العقل‬ ‫أن العطل‬
‫ّ‬
‫الحق بين العقل النظر ّي‬ ‫ّ‬
‫اإلنساني هو ثمرة االنسجام‬ ‫عينه‪ .‬ذلك ّ‬
‫بأن النضج‬
‫ُ‬ ‫اإلنساني في وجوه ّ‬
‫شتى‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫والعقل الع ّ‬
‫الشلل‬ ‫فإما أن يصيبه‬ ‫العقل‬ ‫ملي‪ .‬يتعطل‬
‫األنانية الخبيثة‪ّ ،‬‬
‫وإما أن يهيمن‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫أهواء الغرائز‬ ‫البيولوجي‪ّ ،‬‬
‫وإما أن تسيطر عليه‬ ‫ّ‬
‫والصوفي ُ‬
‫ّ‬ ‫يبي ُ‬ ‫وإما أن ّ‬
‫تروضه الغ ّ‬ ‫اإليديولوجي‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ات‬ ‫ات املترجرجة‬ ‫ّ‬ ‫عليه التصل ُب‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الضبابية‪ّ .‬‬ ‫والوجداني ُ‬
‫ّ‬
‫يجر مثل هذا التعطل على اإلنسان ويالت‬ ‫ات‬ ‫الرخوة‬

‫الوجودية‪ .‬فإذا بالكائن البشر ّي‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الذاتي‪ ،‬والغربة‬ ‫ّ‬
‫والتغرب‬ ‫ّ‬
‫الكياني‪،‬‬ ‫االغتراب‬
‫ُ‬
‫األحوال الضاغطة‪،‬‬ ‫حية ّ‬
‫تسيرها‬ ‫آلية ّ‬ ‫ّ‬
‫يتحول إلى كتلة ّ‬ ‫السليم السو ّي‬

‫إنزع العقل عن اإلنسان‪ ،‬فإذا به‬ ‫ة‪.‬‬ ‫ّ‬


‫املستبد‬ ‫ُ‬
‫واألحكام‬ ‫السائدة‪،‬‬ ‫والتصو ُ‬
‫رات‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يتحول إلى آلة همجية‪ ،‬وجسد غريزي‪ ،‬وساحر مشعوذ‪ ،‬وراقص م ٍ‬
‫نتش يترنح‬

‫على أمواج األوهام‪.‬‬

‫وثيقا بطرائق تعيين ّ‬ ‫ً‬


‫ارتباطا ً‬ ‫ال ريب في ّ‬
‫هوية‬ ‫أن مشكلة العقل ترتبط‬
‫ّ‬
‫االجتماعية‪،‬‬ ‫تتنوع ّ‬
‫بتنوع البيئات التر ّ‬
‫اثية‪ ،‬والتقاليد‬ ‫اإلنسان‪ .‬وهي طر ُ‬
‫ائق ّ‬

‫‪177‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ينية‪ّ .‬‬
‫لكل فضاء‬ ‫اإليديولوجية‪ ،‬واملذاهب ّ‬
‫الد ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفكرية‪ ،‬واألنظومات‬ ‫ّ‬
‫والتصورات‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬
‫ّ‬
‫اإلنساني بأسره‪،‬‬ ‫الكيان‬ ‫فكر ّي تعريف يجعل العقل ّإما سلطة عليا بها ينتظم‬
‫َ ٌ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الذاتية األخرى‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ً َ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫وإما أداة خاضعة تقودها ملكة من‬ ‫كات‬
‫مساويا املل ِ‬ ‫وإما شريكا‬
‫َ‬
‫امللكات‪ ،‬كالوجدان أو العاطفة أو اإلحساس أو الحدس‪ّ .1‬أما األمر الثابت في‬

‫أن العقل ينبغي أن يكون وحده ميزان االستقامة‪ ،‬ومقياس‬ ‫هذا ّكله‪ ،‬فهو ّ‬

‫ّ‬
‫الصحة‪ ،‬وقسطاس الوضوح‪ ،‬ومحكمة اإلصابة‪ ،‬ونور املوجودات واألشياء‬

‫والكائنات‪.‬‬

‫فيزن‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫ومن ثم‪ ،‬فإن الحضارات اإلنسانية حين تتقابل وتتعارض وتتواجه‪ِ ،‬‬
‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫اإلنساني السليم‪ ،‬واألمانة‬ ‫خصوصية بعضها اآلخر بميزان األداء‬ ‫بعضها‬
‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األخالقي‪ ،‬إنما‬ ‫والرقي‬ ‫االجتماعي الفاعل‪،‬‬ ‫املوضوعية‪ ،‬واالنتظام‬ ‫الكيانية‬

‫تتفحص مقام العقل ووظيفته وأثره وفعله الناشب في تضاعيف الوجود‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫املل ُ‬ ‫العقل ّأوًال‪ ،‬ومن ّ‬
‫ُ‬ ‫اإلن ّ‬
‫كات األخرى‪ ،‬وقد ائتمرت بأحكام‬ ‫ثم تنبسط‬ ‫ساني‪ .‬يأتي‬

‫العقل السليم‪ .‬فاملجتمعات بعقول أهلها‪ ،‬والحضارات ببصائر أقوامها‪،‬‬


‫املصيرية العظمى‪ّ ،‬‬
‫فإن املجتمعات‬ ‫ّ‬ ‫والتاريخ بحكمة أبنائه‪ّ .‬أما القرارات‬

‫‪1‬‬‫‪Cf. Merlin Donald, Origins of Modern Mind. Three Stages in the Evolution of‬‬
‫‪Culture and Cognition, Harvard, Harvard University Press, 1993.‬‬
‫‪178‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫تتخير منها ما يالئم خير‬ ‫اإلنسانية ّ‬


‫املتكلة على عقول أبنائها السليمة هي التي ّ‬ ‫ّ‬

‫ومتطلبات وجودهم‪ ،‬ومقتضيات ّ‬‫ّ‬ ‫ّ‬


‫سويتهم‬ ‫الناس ِكلهم في جميع أبعاد حياتهم‪،‬‬

‫وأمنهم وهنائهم وسعادتهم‪.‬‬

‫ُ‬
‫العقل‬ ‫أن أزمة الكورونا أتت تفضح االلتواءات التي ُ‬
‫ابتلي بها‬ ‫أعتقد ّ‬

‫وإبان عدوانها وفي إثر استفحال عواقبها ّ‬


‫الفتاكة‪.‬‬ ‫البشر ّي قبل انفجار العدوى ّ‬

‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ّ َ ّ‬ ‫ما انفجرت العدوى ّإال ّ‬


‫جسيما‪ ،‬وما‬ ‫اإلنساني تعطل تعطال‬ ‫ألن العقل‬
‫ّ‬
‫متعط ًال‪ .‬في النوع ّ‬ ‫عواقب الكورونا ّإال ّ‬
‫ُ‬
‫األول من‬ ‫ألن العقل ما برح‬ ‫استفحلت‬
‫ّ‬
‫جانب من جوانب الوجود‬ ‫ٍ‬ ‫التعطل إصر ٌار على استخدام العقل في تطوير‬
‫ّ‬
‫االقتصادي في أقص ى اندفاعاته‬ ‫ّ‬
‫ولوجي‬ ‫عنيت به النشاط التكن‬‫ُ‬ ‫ّ‬
‫اإلنساني‪،‬‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫باألنانيات‬ ‫تشب ٌث انتحاري‬
‫التعطل ّ‬ ‫ّ‬
‫واالستهالكية‪ .‬في النوع الثاني من‬ ‫ّ‬
‫اإلنتاجية‬
‫ّ‬
‫الكوني‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الجماعية املؤدلجة املتنافسة املتقاتلة على ساحة اإلفناء‬

‫يورغن هابرماس (‪ )....-1929‬على إدراك ِع َبر‬ ‫ّ‬


‫األملاني ِ‬ ‫يساعدنا الفيلسوف‬
‫ّ‬
‫والتعطل الثاني‪ .‬ذلك ّ‬ ‫ّ‬
‫بأن مشروعه الفكر ّي يقوم على انتقاد‬ ‫التعطل ّ‬
‫األول‬
‫ّ‬
‫االستغاللي‪ ،‬وتأهيل العقل‬ ‫ّ‬
‫الوظيفي‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الروبوتي‪،‬‬ ‫ّ‬
‫اآللي‪،‬‬ ‫ّ‬
‫األداتي‪،‬‬ ‫العقل‬

‫‪179‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ُ‬
‫موضع الخطر‬ ‫البناء‪ .1‬هو العقل ُ‬
‫عينه‬ ‫التهذيبي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التشاوري‪ ،‬السليم‪ ،‬املنفتح‪،‬‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫مشروعا‬ ‫الغربية ليست‪ ،‬في نظره‪،‬‬ ‫األعظم ومنارة الخالص األرقى‪ .‬فالحداثة‬
‫ً‬
‫اإلنساني‪ّ .‬إنها حداثة العقل املستنير‬
‫ّ‬ ‫فاشال‪ ،‬وليست ً‬
‫طورا من أطوار الجنون‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يصحح ّ‬ ‫ّ‬
‫ويقوم ويهذب ويعالج ويستدرك ويتخطى ويبتكر‪.‬‬ ‫الذي يستطيع أن‬
‫كل قول اعتبا ّ‬
‫طي يدين الحداثة‬ ‫ّ‬
‫ويتجنب ّ‬ ‫لذلك يرفض هابرماس نغمة النحيب‪،‬‬
‫ّ‬
‫ويسخفها ويدعو إلى دفنها وتجاوزها‪.‬‬

‫الغربية ّأنها تستطيع أن تنتقد ذاتها من غير وجل‬


‫ّ‬ ‫أعظم ما في الحداثة‬
‫ُ‬
‫األ ّ‬ ‫الذاتي هو ُ‬
‫روب ّية‪ .‬فالكورونا أتى على‬ ‫عين الحداثة‬ ‫ّ‬ ‫أو ارتباك؛ ال بل االنتقاد‬
‫ّ‬
‫الغربي الذي أسرف في إخضاع املوجودات واألشياء‬ ‫جراء ّ‬
‫تأزم العقل‬ ‫الناس من ّ‬
‫عقل الحداثة ُ‬
‫عينه أن يعالج‬ ‫والكائنات لسلطة اإلنتاج املتزايد‪ .‬لذلك يستطيع ُ‬

‫ّ‬
‫الذاتية التي تتجاوز انسدادات الفهم ّ‬ ‫األول ّ‬ ‫ّ‬
‫التعطل ّ‬
‫اآللي‬ ‫بقوته الحكيمة‬
‫َ‬
‫العقل‪ ،‬وتقض ي‬ ‫ضبابية ُت ّ‬
‫ذل‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫عوضا من البحث عن حلول‬ ‫ّ‬
‫التكنولوجي املحض‪،‬‬
‫شر ميتة‪ .‬وكذلك عقل الحداثة ً‬
‫أيضا يستطيع‬ ‫على الحداثة‪ ،‬وتميت اإلنسان َّ‬

‫‪1‬‬‫‪Cf. Jürgen Habermas, « Vom praktischen, ethischen und moralischen Gebrauch‬‬


‫‪der praktischen Vernunft », Diskurethik, Philosophische Texte (Band III), Berlin,‬‬
‫‪Suhrkamp Insel, 2009.‬‬
‫‪180‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اإلنسانية‬ ‫أن يعالج التعطل الثاني على قدر ما يستنهض في فضيلة الشورى‬

‫مي‪ ،‬والتبادل االختبار ّي‪ ،‬والتسامر‬ ‫املعرفي‪ ،‬والتقابس َ‬


‫القي ّ‬ ‫ّ‬ ‫طاقات التضامن‬
‫ِ‬
‫ّ‬
‫الوجداني‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫وأيضا قدرة للعقل‬ ‫في أصل أزمة الكورونا تعط ٌل يصيب مقام العقل‪،‬‬
‫ّ‬
‫االستثمارية التي يزخر بها‬ ‫ّ‬
‫اإلنتاجية‬ ‫عينه على تصويب األمور وضبط االندفاعة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الذاتي‪ .‬في عاقبة أزمة الكورونا تعط ٌل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التاريخي‬ ‫التحقق‬ ‫ّ‬
‫العقلي الرامي إلى‬ ‫املسعى‬
‫ّ‬
‫الكوني‬ ‫ّ‬
‫األنانيات املستفحلة تتعارك على االستئثار بمنافع الضرر‬ ‫آخر يجعل‬
‫ّ‬
‫يتحول إلى‬ ‫الي ٌ‬
‫قادر على أن‬ ‫العقلي االنعز ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بالتوحد‬ ‫الذي أصاب الجميع‪ .‬فإذا‬

‫معترك نقاش ّي تشترك فيه جميع الحضارات والثقافات والبيئات واملجتمعات‬


‫ٌ‬ ‫ّ‬
‫التعطل الثاني ً‬ ‫ّ‬
‫أيضا قدرة على املعالجة‬ ‫والتيارات واملذاهب واملدارس‪ .‬في‬

‫الشاملة‪.‬‬

‫ّ‬
‫العلمي املحض‪.‬‬ ‫بيد ّ‬
‫أن معالجة الكورونا يجب أن تتجاوز حدود التناول‬

‫وإما أن تسقط في انغالقات‬ ‫ّ‬


‫حضارية‪ّ ،‬‬ ‫الكورونية ّإما أن تكون‬
‫ّ‬ ‫فاملعالجة‬
‫ً‬ ‫ُ‬ ‫األداتي ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الناس في الكورونا تناقشا‬ ‫األول‪ .‬لذلك ال يجوز أن يتناقش‬ ‫التعطل‬
‫اإلنساني وضوابطه ومعاييره ُومنسلكاته‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫متفل ًتا من ّ‬
‫يصر‬ ‫كل أحكام التالقي‬

‫‪181‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫هابرماس في هذا السياق على ّ‬


‫التقيد بأربعة مبادئ كبرى من أجل النجاح في‬
‫ّ‬
‫الذاتية‬ ‫مسعى املناقشة الواعية‪ ،‬الراقية‪ ،‬املثمرة‪ .1‬املبدأ ّ‬
‫األول هو القدرة‬
‫فكل إنسان قادر‪ ،‬سليم الوعي‪ ،‬صحيح املبنى ا ّ‬
‫لعقلي‪ ،‬يجوز‬ ‫ّ‬
‫الكيانية‪ُّ .‬‬ ‫ّ‬
‫والسوية‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫كل إنسان‬ ‫الحرّية واملساواة‪ ،‬إذ ّ‬
‫إن ّ‬ ‫له أن يشترك في املناقشة‪ .‬املبدأ الثاني هو ّ‬
‫قادر سو ّي له ّ‬
‫الحق عينه في استثارة املسألة التي يستصوبها ويستعظم أمرها‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫الحرّية نفسها في تسويغ الخالصات التي ُيفض ي إليها والدفاع عنها واالنتصار‬
‫وله ّ‬

‫ّ ّ‬
‫حر يجب أن تنطوي‬ ‫ّ ّ‬
‫قادر سو ٍي ٍ‬
‫لها‪ .‬املبدأ الثالث هو الصدق‪ ،‬إذ إن كل إنسان ٍ‬
‫اصده على أنقى االستعدادات‪ ،‬وأطهر الرغبات‪ ،‬وأجمل املشاريع‪ ،‬وأبهى‬‫مق ُ‬

‫الشر‪ ،‬ويعقد َ‬
‫التطلعات‪ .‬فال يشترك في املناقشة من يضمر ّ‬‫ّ‬
‫ضميره على‬
‫ِ‬ ‫غيب‬
‫ّ‬
‫ويتعمد الكذب والنفاق‪ ،‬وال يثبت على عهد‪.‬‬ ‫الغدر‪،‬‬
‫ّ‬
‫ّأما املبدأ الرابع‪ ،‬فيخرج من دائرة الصفات الثالث التي ينبغي أن يتحلى‬

‫بها الناس املتناقشون‪ ،‬ويتناول طبيعة املسائل والخالصات واألحكام التي يمكن‬
‫ّ‬
‫مسلكية ينبغي أن‬ ‫كل قاعدة‬ ‫أهل الحوار‪ .‬يعتقد هابرماس ّ‬
‫أن ّ‬ ‫أن يجمع عليها ُ‬

‫‪1‬‬‫‪Cf. Jürgen Habermas, « Kommunikatives Handeln und detranszendentalisierte‬‬


‫‪Vernunft », Rationalitäts- und Sprachtheorie, Philosophische Texte (Band II),‬‬
‫‪Berlin, Suhrkamp Insel, 2009.‬‬
‫‪182‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ً‬
‫ّ‬
‫الكونية الشاملة في‬ ‫يقبل بها جميع املتشاورين قبوال يجعلها ّتتصف بصفة‬
‫ّ‬
‫الفعلية‪ّ .‬‬
‫وكل ما ال يقبل به‬ ‫ّ‬
‫العملية‪ ،‬ونتائجها‬ ‫ّ‬
‫النظرية‪ُ ،‬ومستتلياتها‬ ‫منطوياتها‬
‫ّ‬
‫األخالقي‬ ‫الناس قبو َل اإلجماع يجب أن يسقط‪ .‬شأنها في ذلك ُ‬
‫شأن الواجب‬ ‫ُ‬

‫ّ‬
‫األملاني كانط (‪ )1724-1804‬على نصرة الواجب‬ ‫ّ‬
‫الكوني الذي عقده الفيلسوف‬
‫ٌ‬
‫واجب‪ ،‬بمعزل عن التسويغات والتبريرات وامليول والغايات واملقاصد‬ ‫بما هو‬
‫ّ‬
‫والنتائج‪ّ .‬أما القلة الخبيثة التي ترفض تدابير الخير املوضوعة لجميع الناس في‬
‫ُ‬
‫املسكونة‪ ،‬فيجب عليها أن تقنع الناس املجمعين على الصالح بنزاهة ّنياتها‪،‬‬
‫ّ‬
‫وبصوابية رفضها‪ ،‬وبجدارة طرحها املخالف‪.‬‬

‫ّ‬
‫الكيانية‬ ‫وعليه‪ّ ،‬‬
‫فإن تشاور الناس في أزمة الكورونا وفي جميع األزمات‬
‫ّ‬
‫الذاتية‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬يجب أن ُيبنى على أساس االستعدادات‬
‫ّ‬ ‫التي تعصف بالحياة‬
‫ّ‬
‫الكوني الشامل‪ .‬حيئنذ ال تملك‬ ‫ّ‬
‫التشاورية الثالثة‪ ،‬وعلى قاعدة املبدإ‬
‫ّ‬
‫البشرية‬ ‫املجتمعات والسلطات ومراكز النفوذ ومنتديات القرار أن تفرض على‬
‫ُ‬
‫الناس القادرون‪ ،‬األحرار‪ ،‬املتساوون‪ ،‬السليمون في بنيانهم‬ ‫ً‬
‫أحكاما ال يقبل بها‬
‫ّ‬
‫املتبصر‪.‬‬ ‫ّ‬
‫العقلي ووعيهم‬
‫أن املشكلة األعوص هي ّ‬
‫أن أحوال التاريخ البشر ّي أفضت بالناس‬ ‫بيد ّ‬

‫‪183‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫إلى االختالف في اكتساب مراتب العقل نفسها‪ ،‬والفوز بدرجات الوعي عينها‪،‬‬
‫ّ‬
‫املتقدم ومنها‬ ‫ٌ‬
‫مستويات‪ ،‬منها‬ ‫ّ‬
‫والتنعم بخيرات األرض ذاتها‪ .‬فإذا باملجتمعات‬
‫ّ‬
‫املتأخر‪ ،‬ومنها القادر ومنها العاجز؛ وإذا بالناس مر ُ‬
‫اتب‪ ،‬منهم الفقير ومنهم‬
‫ّ‬
‫الغني‪ ،‬ومنهم الحكيم ومنهم الجاهل‪ ،‬ومنهم الصالح ومنهم الشرير‪ .‬فكيف لنا‪،‬‬
‫ّ‬
‫تشاورية راقية تساعدنا‬ ‫والحال هذه‪ ،‬أن نعقد الشروط املثلى في بناء حالة‬
‫ّ‬
‫البشرية جمعاء؟‬ ‫الكيانية التي ّ‬
‫تهدد مصير‬ ‫ّ‬ ‫على تجاوز األزمات‬
‫ّ‬
‫أعود إلى مسألة تعطل العقل وأعاين فيها أصل املصائب والويالت‪ .‬إذا‬
‫ً‬
‫قسمة بين الناس‪ ،‬على ّ‬
‫حد قول الفيلسوف‬ ‫كان العقل هو أعدل املزايا‬

‫إن جميع الناس يحصلون عليه‬ ‫الفرنس ّي ُ نه دكارت (‪ ،)1596-1650‬إذ ّ‬


‫رِ ِ‬
‫حصولهم على الحياة‪ّ ،‬‬
‫فإن البشر ال يرعونه الرعاية عينها‪ ،‬وال يستخدمونه‬
‫االستخدام ذاته‪ ،‬وال ّ‬
‫يطورونه التطوير نفسه‪ .1‬وهنا أصل املشكلة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫آتيا من التربية الصبور على رعاية العقل ّ‬
‫الحل ً‬
‫أرى َّ‬
‫حتى ال يتعطل‪ .‬ذلك‬

‫ّ‬
‫اللبنانيين (‪ )....-1921‬في تمييز‬ ‫ّ‬
‫الكونية‪ ،‬يجتهد شيخ الفالسفة‬ ‫ّ‬
‫التعد ّدية‬ ‫‪ 1‬في مسعى تأصيل‬
‫أن الناس مختلفون‪.‬‬ ‫"اإلنسانية واحدة‪ ،‬على ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الثقافية‪:‬‬ ‫تنوع االستثمارات‬‫وحدة العقل من ّ‬
‫أن وجهات النظر عديدة"‬ ‫أن الثقافات متباينة‪ .‬الحقيقة واحدة‪ ،‬على ّ‬ ‫العقل واحد‪ ،‬على ّ‬
‫(بولس الخوري‪ ،‬العالم العربي والتحول االجتماعي الثقافي‪ ،‬شركة املطبوعات للتوزيع‬
‫والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،2007 ،‬ص ‪.)19‬‬
‫‪184‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ّ‬
‫معنوية‪ ،‬على ما يذهب إليه هابرماس‬ ‫رمزية و ُ‬
‫هياكل‬ ‫ّ‬
‫بأن األشخاص هم ًبنى ّ‬

‫ُ‬
‫نفسه‪ ،‬يختزنون في باطنهم اختمارات الحياة التي اقتبلوها واختبروها على تراخي‬
‫األيام‪ .‬ال ّبد ًإذا من ترميم ثقة الناس بالعقل السليم ّ‬
‫حتى ننجو من هذه األزمة‬ ‫ّ‬

‫ّ‬
‫اإلنسانية تتبلور وتتجوهر‬ ‫ّ‬
‫الكونية األخرى املقبلة علينا‪ .‬فالقيمة‬ ‫ومن األزمات‬
‫في عمق ّ‬
‫التأزم‪ ،‬ال في منبسطات الرخاء‪.‬‬

‫‪ -‬السند العقالني في االنهمام الوجودي األرقى‪:‬‬

‫ّ‬
‫اإلنساني‪ ،‬يصبح في اإلمكان االنصراف إلى‬ ‫حين يستقيم مقام العقل‬
‫شتى‪ .‬ال ريب في ّ‬
‫أن جائحة‬ ‫كيفيات ّ‬
‫األمور الجليلة في الوجود واالنهمام بها على ّ‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الجوهرية في املسرى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الوجودي‬ ‫األولويات‬ ‫الكورونا تحث اإلنسان على استصفاء‬
‫سبل املواجهة‬ ‫والجماعي‪ .‬واالستصفاء هذا شرط الشروط في ّ‬
‫تدبر ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الفردي‬
‫ّ‬
‫الحصيفة مع نوائب الدهر‪ .‬فال االستعظام وال االستصغار يمكن اإلنسان من‬
‫الكونية‪ّ .‬يتفق العلماء على خطر الكورونا‪ّ ،‬‬
‫ولكنهم ال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بمسؤولياته‬ ‫االضطالع‬
‫ّ‬
‫البشرية‪ .‬فالعلوم تستطيع أن تجترح‬ ‫يتطرفون في أحكامهم‪ ،‬وال ّ‬
‫يتنبأون بنهاية‬ ‫ّ‬

‫ّ‬ ‫البيولوجي‪ .‬غير ّ‬


‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫العلمي‬ ‫أن مرحلة االنتظار‬ ‫طليعية في معالجة االختالل‬ ‫حلوال‬

‫وضعت الناس في مواجهة املوت املحتمل من دون االستعداد النفس ّي املالئم‪.‬‬


‫ّ‬
‫املوتية التي تنتاب اإلنسان‪ :‬اإلبطاء‬ ‫عامالن خطيران يضاعفان ح ّدة املخاوف‬
‫‪185‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫والتريث الضرور ّي‬ ‫التحو ّلية التي ّ‬


‫يتلبس بها فيروس الكورونا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫في إدراك الهيئات‬
‫ُ‬
‫وانتفاء الدواء‬ ‫ُ‬
‫جهل املرض‬ ‫في اكتشاف الدواء الشافي وتصنيعه وتسويقه‪.‬‬
‫يجعالن اإلنسان ّ‬
‫يتخيل الفظائع ويستبق اإلمكانات املفجعة‪ .‬في أقص ى هذه‬
‫قضاء ً‬
‫مبرما ينتزع الناس من أوهام منعتهم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫اإلمكانات ينتصب املو ُت‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬


‫املسيحية القديمة التي كانت‬ ‫الرهبانيات‬ ‫االستباق بحكمة‬ ‫يذكرني هذا‬
‫ّ‬
‫عظمية تنتصب في صدر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تحث الرهبان على ّ‬
‫كل غرفة‬ ‫التأمل املطرد في جمجة‬
‫أن استباق منظر‬‫سكية هذه ّ‬
‫الروحي في املمارسة الن ّ‬
‫ّ‬ ‫من غرف الدير‪ .‬واليقين‬
‫ّ‬
‫املوت‪ ،‬وقد نزع عن وجه اإلنسان جماالته املألوفة‪ ،‬يهذب األخالق‪ ،‬ويرتقي‬
‫ّ‬
‫الفنائية‬ ‫َ‬
‫جوهر‬ ‫متنسك‬ ‫لكل ّ‬
‫مترهب ّ‬ ‫بالنفس إلى مراتب الفضيلة السامية‪ّ ،‬‬
‫ويبين ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫الفلسفي‪ ،‬يمكن استحضار‬ ‫ّ‬
‫البشرية‪ .‬في سياق التفكر‬ ‫التي ُجبلت عليها الكينونة‬
‫ّ‬ ‫األملاني تن هايدغر الذي كان يعتقد ّ‬
‫االستباقي‬ ‫أن اختبار املوت‬ ‫ّ مارِ‬ ‫الفيلسوف‬

‫اإلنساني أن ُيمسك بمعنى وجوده‪،‬‬


‫ّ‬ ‫هو السبيل الوحيد الذي يتيح للكائن‬
‫ّ ّ‬ ‫وبمعنى الكائنات واألشياء‪ ،‬وبمعنى الكينونة عينها‪ .1‬فاالنفر ّ‬
‫تصح إال في‬ ‫ادية ال‬
‫ّ‬
‫الذاتي األقص ى‪ ،‬يمكن اإلنسان أن يشارك‬ ‫ّ‬
‫الفردي‬ ‫املوت‪ .‬ما خال هذا االختبار‬

‫‪1‬‬ ‫‪Heidegger, Sein und Zeit, GA 2, Frankfurt, Klostermann, 1977 (§ 52 : « Das‬‬


‫‪alltägliche Sein zum Ende und der volle existenziale Begriff des Todes », S. 339-‬‬
‫‪345).‬‬
‫‪186‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الحياتية‪ .‬ذلك ّ‬
‫بأن املوت ينهي وجود الفرد‪ُ ،‬ويبطل‬ ‫ّ‬ ‫الناس في سائر اختباراته‬
‫ًّ ّ‬ ‫ّ‬
‫حقا إال من‬ ‫الذاتي إلى غير رجعة‪ .‬لذلك ال يختبر املوت‬ ‫املشاركة‪ ،‬ويطوي الزمن‬

‫يموت‪.‬‬
‫َ‬
‫استباق املوت‬ ‫ٌ‬
‫وبعض آخر‬ ‫بعض ّ‬
‫منا قد يرى في الكورونا جمجة الراهب‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫َ‬
‫لحالين‪ ،‬يشعر الناس اليوم ّ‬ ‫الف ّ‬
‫بأنهم أمام ثقب‬ ‫ردي عند هايدغر‪ .‬في كلتا ا‬

‫تعود الهروب من الذات‬ ‫وجودي أسود‪ ،‬مظلم‪ ،‬خاو‪ ،‬سحيق القاع‪َ .‬من َّ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫ّ‬
‫االستهالكي‪ ،‬يجد‬ ‫واالنغماس في الجمهور ّ‬
‫املغفل والضجيج الصاخب واإللهاء‬
‫ّ‬
‫واالرتخائية‬ ‫ّ‬
‫يولوجية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫االنعطابية الب‬ ‫ًّ‬
‫مضطرا إلى مواجهة نفسه أمام مرآة‬ ‫نفسه‬
‫ّ‬
‫اإلنساني‬ ‫بأن الجسم‬‫التاريخية‪ .‬ذلك ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الوجودية‪ ،‬والز ّ‬
‫ائلية‬ ‫ّ‬
‫والعابرية‬ ‫امل ّاد ّية‪،‬‬
‫ََ‬
‫ّ‬
‫الجسداني‪-‬‬ ‫العصبي ونظامه الخلو ّي ومبناه‬
‫ّ‬ ‫شديد االنعطاب في جهازه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واملادة تتراخى وتتهاوى وتتفكك في الطبيعة وفي البيئة‪ ،‬واألفراد‬ ‫النفساني‪،‬‬

‫أليما في الحروب والجرائم والفظائع‬ ‫ً‬


‫عبورا ً‬ ‫والجماعات واألمم يعبرون‬
‫ّ‬
‫الكونية تتعاقب على إيقاع االستضعاف‬ ‫واالنتهاكات والتصفيات‪ ،‬واألزمنة‬
‫ّ‬
‫والترهل الحضار ّي‪.‬‬ ‫ّ‬
‫الذاتي‬

‫ّ‬
‫التاريخية لكي‬ ‫ُ‬
‫والحال هذه‪ ،‬من أن يغتنم هذه الفرصة‬ ‫ال ّبد لإلنسان‪،‬‬
‫ّ‬
‫ويتبصر في مصيره ومصير نظرائه البشر‪ ،‬ويسترجع‬ ‫ّ‬
‫الذهنية‪،‬‬ ‫يستجمع قواه‬
‫‪187‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫املعنى الذي ُيسبغه هو على حياته‪ُ .‬‬


‫لست من ّ‬
‫محبي الجماجم‪ ،‬وال من الناظرين‬
‫جزء من الحياة‪ ،‬ال يستوي ً‬
‫واقعا‬ ‫إلى املوت نظرة االضطراب املفجوع‪ .‬فاملوت ٌ‬
‫َ‬
‫اإلنسان وأبهجته وأشهدته‬ ‫عينها‬
‫ُ‬
‫الحياة ُ‬ ‫سليما في أفق الحياة ّإال إذا ّ‬
‫هنأت‬ ‫ً‬
‫ّ‬
‫والسيما‬ ‫ًّ‬
‫أساسيا ينبغي أن يضطلع به‪،‬‬ ‫سهاما‬ ‫حكمتها البليغة‪ .‬غير ّ‬
‫أن لإلنسان إ ً‬ ‫َ‬

‫ّ‬
‫األولويات‬ ‫في زمن الشدائد‪ .‬من مستلزمات هذا اإلسهام أن يستصفي اإلنسان‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫واألساسيات والجواهر في حياته‪ .‬إذا كان املوت أعظم األمور قسطا وعدال بين‬
‫الناس‪ّ ،‬‬
‫فإن االستعداد له يختلف باختالف التص ّورات واالقتناعات‬

‫واالختبارات‪.‬‬
‫إحساس ي ّ‬
‫أن اختبار استباق املوت أمام هول الكورونا يساعد ّ‬
‫كل إنسان‬
‫األهم ّ‬
‫تنع ًما بمكاشفة‬ ‫األمر ُّ‬ ‫ّ‬
‫الشخصية‪ .‬قد يكون ُ‬ ‫األهم في حياته‬ ‫على ّ‬
‫تخير األمر ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ابتهاجا بإنجاز‬ ‫وجدانية عميقة‪ ،‬سحيقة التطلب‪ ،‬بليغة اإلفصاح‪ .‬وقد يكون‬

‫مكان من إمكانات املستقبل‪ .‬وقد يكون‬


‫اف إ ٍ‬
‫من إنجازات املاض ي‪ ،‬أو باستشر ِ‬
‫ّ‬
‫عالئقية كانت تستعص ي َّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬
‫معنوية أو‬ ‫فكرية أو‬ ‫ً‬
‫فتحا للذات على مستحيالت ّ‬
‫غار ُ‬
‫مدفنها في غياهب‬ ‫إيجابية ّبناءة َ‬
‫ّ‬ ‫االستعصاء‪ .‬وقد يكون إخر ً‬
‫اجا لطاقة‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫تأم ًال ً‬ ‫ّ‬
‫املتأملة‪ .‬وقد يكون ّ‬
‫الدهرية التي تنطوي‬ ‫رهيفا في خزائن الحكم‬ ‫النفس‬
‫ً‬
‫صافيا على مقام االنعتاق‬ ‫اإلنسانية‪ .‬وقد يكون ً‬
‫شدوا‬ ‫ّ‬ ‫عليها تر ُ‬
‫اثات الحضارات‬

‫‪188‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ً‬
‫هادئا على ّ‬ ‫ً‬ ‫من ضرورات املألوف من الحياة الجارية‪ .‬وقد يكون‬
‫كل‬ ‫ثورانا‬
‫ً‬ ‫العبوديات ّ‬
‫واإليديولوجية التي ّ‬
‫تكبل اإلنسان تكبيال‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واالجتماعية‬ ‫املاد ّية‬ ‫ّ‬

‫أن جسامة املخاطر التي تحدق بنا من ّ‬


‫جراء‬ ‫في جميع األحوال‪ ،‬أعتقد ّ‬
‫الذاتي ّ‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫البناء‪ .‬فالناس‪،‬‬ ‫الكورونا يمكنها أن تنقلب فسحة نادرة من االسترجاع‬

‫في زمن العوملة الجارفة‪ ،‬فقدوا القدرة على اإلمساك بذواتهم الباطنة املحجوبة‪،‬‬

‫املسيرة الزائفة‪.‬‬ ‫الخارجية ّ‬


‫الخداعة واألخبار َّ‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬
‫وتعودوا االنجراف في سيل األحداث‬
‫ّ‬
‫الخارجي ال يبني الذات‪ ،‬والخبر املنشور ال يصقل الكيان‪ .‬وحده‬ ‫فالحدث‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫الطوعية يمكنه أن يمنحنا القدرة‬ ‫الذاتي الذي تكسبنا ّإياه الخلوة‬
‫ّ‬ ‫االسترجاع‬
‫ّ‬
‫اإلنساني األرحب الذي ينبغي لنا أن نعتصم به في مسرى‬ ‫على ابتداع املعنى‬
‫الحياة‪ .‬فمن يسترهب ذاته املنفردة‪ ،‬ال يستطيع أن يستأنس بصحبة اآلخرين‬

‫وبخيرات الوجود‪ .‬فالناس يهربون من الذين يهربون من ذواتهم‪ ،‬ويبحثون عن‬


‫ً‬
‫رضيا‪ .‬فال ّبد إذا من معاشرة الذات في صميم‬ ‫وج ًدا ًّ‬‫الذين وجدوا ذواتهم ْ‬
‫الكياني وتحتضنه ّ‬
‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫حتى‬ ‫عقالنية ترأف باالنعطاب‬ ‫اإلنساني معاشرة‬ ‫جوهرها‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الحياتية مسلك البناء واإلغناء‪.‬‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬وتسلك األحداث‬ ‫الصالت‬ ‫تستقيم‬

‫‪189‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫خاتمة‪ :‬مناهضة العبث االنتهاكي‪:‬‬


‫أس الكالم في هذا ّكله ّ‬
‫أن العقل هو املنارة الهادية التي ينبغي لها أن‬ ‫ر‬
‫ّ‬
‫اإلنساني األقوم‪ .‬والعقل‪ ،‬في هذا املقام‪ ،‬هو السلطة العليا‬ ‫َ‬
‫سبيل الفهم‬ ‫تض يء‬
‫ّ‬
‫تخول اإلنسان تمييز الصواب من الخطأ‪ ،‬والرشد من الضالل‪ ،‬والصالح‬
‫التي ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫من الفساد‪ّ .‬‬
‫ولكنه ٌ‬
‫اإلنسانية‪.‬‬ ‫عقل يحتاج إلى مؤازرة جميع ملكات الحكمة‬
‫ّ‬
‫الوجودية‬ ‫ّ‬
‫اإلنساني سوى مشكاة األنوار التي منها تنبثق الهداية‬ ‫ليس العقل‬
‫ّ‬
‫الكوني‬ ‫ّ‬
‫األخالقي‬ ‫ّ‬
‫الحس‬ ‫ُ‬
‫حسب اإلنسان أن يصقل عقله بمكتسبات‬ ‫األرحب‪.‬‬
‫ّ‬
‫التضامني الرقيق‪.‬‬ ‫ً‬
‫مقرونا باالستنفار‬ ‫ُ‬
‫االستبصار‬ ‫ّ‬
‫حتي يأتي‬

‫ّ‬ ‫ُ‬
‫األ َول املمكنة ّ‬
‫الكونية تزخر بطاقات هائلة من‬ ‫أن الطبيعة‬ ‫من املعاينات‬
‫ً‬
‫حقوال ّ‬
‫جهن ّ‬
‫مية من التدمير‬ ‫اإلخصاب واإلغناء واإلبداع‪ ،‬قد تنقلب هي بعينها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذاتي ّ‬
‫ّ‬
‫الفتاك‪ .‬املسألة كلها تتعلق بقرار اإلنسان في مطالع القرن الحادي‬
‫ّ‬
‫املالي في‬ ‫والعشرين‪ .‬ال يأتي مثل هذا القرار من تواطؤات هياكل النفوذ‬
‫ّ‬
‫الدوائي‪،‬‬ ‫ّ‬
‫العاملية‪ ،‬وأصحاب شركات السالح‪ ،‬ومختبرات التصنيع‬ ‫البورصات‬
‫ّ‬
‫اإليديولوجي‬ ‫ّ‬
‫والخفي‪ ،‬ومجموعات التأثير‬ ‫وأهل النفوذ السياس ّي الظاهر‬
‫ّ‬
‫الكونية‪ .‬ال يجوز للناس أن يستسلموا الرتكابات هذه‬ ‫املحتجبة في املحافل‬

‫‪190‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫تقرر وحدها مصير الجنس البشر ّي على‬ ‫ّ‬


‫الكونية الخمسة التي ّ‬ ‫ّ‬
‫السلطوية‬ ‫املعابد‬
‫ّ‬ ‫كوكب األرض‪ .‬من الواجب أن تنشأ في موازاة هذه القوى الر‬
‫أسمالية الظاملة‬
‫ّ‬ ‫ّ ٌ ٌّ‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬
‫اإلنسانية‬ ‫حرة تستلهم أصفى ما بلغته العلوم‬ ‫فكرية عقالنية‬ ‫منتديات‬
‫املعاصرة‪ ،‬وفي طليعتها الفلسفة‪ ،‬من حكمة بليغة في ّ‬
‫تصور مقام اإلنسان في‬
‫ُ‬
‫عنيت بها الكون والحياة والوعي‪.‬‬ ‫سياق الكينونات الثالث العظمى‪،‬‬
‫ّ‬ ‫القول األوضح في هذا السياق ّ‬
‫أن الكورونا ال معنى له إال ذلك الذي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫يجعله م ً‬
‫ذهنيات الخوف والجشع‬ ‫التحرر من‬ ‫أخالقيا يستحثنا على‬ ‫همازا‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫واالستماتة التي ّ‬
‫األنانية املستقبحة‪ .‬مثل‬ ‫مطية لالستزادة‬ ‫تحول فينا الرجاء‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫الكوني‪ .‬وما‬ ‫االقتصادي‬ ‫الذهنيات أمست ضاربة في عمق أعماق النظام‬ ‫هذه‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫إنسانية شاملة تستصفي الضرور ّي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أخالقية‬ ‫ّ‬
‫عقالنية‬ ‫من فكاك منها إال بصحوة‬
‫ّ‬
‫اإلنسانية التي تتيح للناس أن‬ ‫وتعزز املغني من املفاتحات‬ ‫من الحاجات ّ‬
‫املاد ّية‪ّ ،‬‬

‫إلنسانيتهم التائقة إلى ّ‬


‫املودة والتعاطف والتضامن‬ ‫ّ‬ ‫يحيوا في رعاية راقية رقيقة‬
‫ٌ‬
‫سواء من ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫جراء الكورونا أو من‬ ‫والتقابس‪ .‬فالناس سيموتون عاجال أم آجال‪،‬‬

‫املهم أن يحيوا قبل‬ ‫ّ‬


‫وكونية أخرى‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫وبيولوجية‬ ‫ّ‬
‫ونفسية‬ ‫ّ‬
‫جسدية‬ ‫ّ‬
‫جراء اعتالالت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫العقلي‪ .‬ليس يفيد اإلنسان أن‬ ‫الكيانية وبزادهم‬ ‫موتهم حياة تليق بكرامتهم‬

‫‪191‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫غفلة عن ّ‬
‫نوعية الحياة‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬
‫البشرية في زمن الكورونا‪ ،‬وهو في‬ ‫ينتحب على مصير‬
‫ٌ‬
‫وانغماس‬ ‫انقالب إلى ّ‬
‫ضفة أخرى من الحياة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫التي ينبغي له أن يحياها‪ .‬املوت‬
‫ُ‬
‫سلطته الوحيدة أن‬ ‫لجة الفيروس األعظم‪ .‬وما من سلطة لإلنسان عليه‪.‬‬ ‫في ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫منتظما في تدفقها‪ ،‬ناشطا‬ ‫يتدبر اآلن شؤون الحياة ما دام سالكا في شعابها‪،‬‬
‫ّ‬
‫اإلنسانية في عمق‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان حياته‬ ‫في اعتماالتها‪ .‬معنى الكورونا أن يحيا‬
‫ّ‬
‫ورقة املعاشرة‪ ،‬ودفء ّ‬ ‫ّ‬
‫األخوة‪ ،‬وصدق‬ ‫التبصر‪ ،‬ورجاحة الرأي‪ ،‬وحكمة القرار‪،‬‬

‫التضامن‪ ،‬وبهجة اإلبداع‪ ،‬ونور الكون‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

:‫مراجع البحث‬

- John AUTHERS, « How Coronavirus Is Shaking Up the Moral


Universe », Bloomberg, Bloomberg Opinion, 29 mars 2020 (online).

- Stephen T. ASMA, « Does the Pandemic have a Purpose », The New


York Times, 16 April 2020 (online).
- François BORELLA, Critique du savoir politique, Paris, Puf, 1990.

- Philippe CAPELLE et Jean GREISCH (éd.), Raison philosophique et


christianisme à l’aube du troisième millénaire, coll. « Philosophie &
Théologie », Paris, Cerf, 2004.

- DILTHEY, Gesammelte Schriften, Stuttgart, B. G. Teubner, 1958, VII.

- Merlin DONALD, Origins of Modern Mind. Three Stages in the


Evolution of Culture and Cognition, Harvard, Harvard University Press,
1993.

- HABERMAS, « Vom praktischen, ethischen und moralischen Gebrauch


der praktischen Vernunft », Diskurethik, Philosophische Texte (Band
III), Berlin, Suhrkamp Insel, 2009.

- HABERMAS, « Kommunikatives Handeln und detranszendentalisierte

193
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

Vernunft », Rationalitäts- und Sprachtheorie, Philosophische Texte


(Band II), Berlin, Suhrkamp Insel, 2009.

- HEIDEGGER, Beiträge zur Philosophie. Vom Ereignis, GA 65, Frankfurt,


Klostermann, 1989.

- HEIDEGGER, Sein und Zeit, GA 2, Frankfurt, Klostermann, 1977 (§ 52 :


« Das alltägliche Sein zum Ende und der volle existenziale Begriff des
Todes », S. 339-345).

- Johann Nepomuk HOFMAN, Wahrheit, Perspektive, Interpretation.


Nietzsche und die philosophische Hermeneutik, Berlin-New York,
Walter De Gruyter, 1994 (« Interpretation als Akt der Schwächung.
Nietzsche als Inaugurator einer Hermeneutik der Postmoderne » S.
177-182).

- Mark HONIGSBAUM, The Pandemic Century. One Hundred Years of


Panic, Hysteria and Hubris, London, Hurst Publishers, 2019.
- Nicholas NEGROPONTE, L’homme numérique, Paris, Robert Laffont,
1995.

- Elias NORBERT, Engagement et distanciation, trad. de l’allemand par


Michèle Hulin, Paris, Fayard, 1993.

194
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

- Carl Leonhard REINHOLD, Über das Fundament des philosophischen


Wissens. Über die Möglichkeit der Philosophie als strenge
Wissenschaft, Hamburg, Felix Meiner Verlag, 1978.
- Frank M. SNOWDEN, Epidemics and Society. From the Black Death to
the Present, Yale, Yale University Press, 2019.
- Steven TAYLOR, The Pyschology of Pandemics. Preparing for the Next
Global Outbreak of Infectious Disease, Cambridge, Cambridge
Scholars Publishing, 2019.

-Paul WATZLAWICK (dir.), L’invention de la réalité. Contributions au


constructivisme, Paris, Seuil, 1996.

195
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪196‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫جائحة كورونا‪ ..‬بين درس التاريخ والعودة‬

‫للفردانيات‬

‫أسامة الزكاري‬

‫باحث في التاريخ املعاصر والراهن‬

‫‪197‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪198‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ضربت جائحة كورونا العالم عند نهاية سنة ‪ ،2019‬وامتدت ارتداداتها‬

‫على نطاق واسع خالل املراحل املوالية في سرعة قياسية جعلت الجميع يقف‬

‫مندهشا أمام هول ما يقع من تفاعالت يومية مسترسلة‪ .‬وإذا كانت الجوائح‬

‫واألوبئة واملجاعات والكوارث الطبيعية‪ ،‬من الظواهر التي شكلت أزمات بنيوية‬

‫للدول وللمجتمعات البشرية منذ أقدم العصور‪ 1،‬فاملؤكد أن الجائحة الحالية‬

‫قد استنفرت العالم وجعلته يعيد مساءلة الكثير من يقينياته ومن طوباوياته‪،‬‬

‫بعد أن وقف الجميع منكسرا أمام حالة العجز املطلق في مواجهة الكارثة‪ .‬لم‬

‫ينفع التطور الطبي الكبير‪ ،‬ولم تشفع آليات تحصين دول الشمال من "لوثة"‬

‫دول الجنوب‪ ،‬في حماية العالم من االمتداد السريع لـ "بقعة الزيت"‪ ،‬ولم تنفع‬

‫التقليعات السياسية التفاؤلية املبشرة بـ"خيرات" العوملة وبـ"بركة" الليبرالية‬

‫الجديدة‪ ،‬في تجنيب العالم رذاذ الفيروس القاتل‪ .‬لقد أعادت هذه الجائحة‬

‫التشكيك في املسلمات التي جعلت النظام العالمي يطمئن لعناصر سطوته‬

‫وألذرع هيمنته‪ ،‬عبر االمتداد الواسع ملرجعيات الاليقين التي أضحى يتداولها‬

‫الباحثون واملفكرون في سياق جهودهم لإلمساك بتبعات األزمة وبنتائجها‬

‫‪1‬‬ ‫‪Elisabeth Carpentier, Autour de la peste noire : famines et épidémies dans‬‬


‫‪l’histoire du 14° siècle, in, Annales, Economies, sociétés, civilisations. 17 année,‬‬
‫‪n. 6, 1962.‬‬
‫‪199‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫املتناسلة‪.‬‬

‫في هذا اإلطار‪ ،‬وجد مؤرخ الراهن نفسه مضطرا "لالستنجاد" بالرائد‬

‫فرنان بروديل من أجل تفكيك أسس "التاريخ الطويل املدى"‪ 1،‬ووضع‬

‫التداعيات الحالية داخل سياقاتها الكبرى املميزة‪ ،‬فوباء كورونا لم يكن األول‬

‫من نوعه‪ ،‬ولن يكون األخير‪ .‬لذلك‪ ،‬أضحى من الوارد إعادة النظر في عناصر‬

‫التحقيب التاريخي‪ ،‬عبر الحديث عن زمن ما قبل وباء كورونا وزمن ما بعدها‪.‬‬

‫ومعلوم أن هذا املنحى‪ ،‬قد اتخذ تمظهرات عميقة انعكست على واقع الفرد‬

‫والجماعة والدولة‪ ،‬أهمها تعزيز الشعور الفرداني لدى املؤرخ واملفكر واملثقف‪،‬‬

‫وبداية ارتفاع دعوات إعادة االعتبار ملركزية الدولة القطرية ووظيفتها الرئيسية‬

‫في تأمين وجودها وفي تعزيز سيادتها وفي حماية أمنها‪ .‬لذلك‪ ،‬ارتفعت عدة‬

‫أصوات مطالبة بمراجعة أنظمة االندماج اإلقليمي على املستوى العالمي‪،‬‬

‫مثلما هو الحال مع تجربة االتحاد األوربي‪ ،‬أو مع تجربة النافتا بأمريكا‬

‫الشمالية‪ ،‬أو تجربة األسيان بجنوب شرق آسيا‪ .‬وتزامن ذلك‪ ،‬مع صعود‬

‫‪ 1‬تالحظ عودة متزايدة للمؤرخين املغاربة الستلهام "دروس بروديل"‪ ،‬أحيل على سبيل‬
‫املثال على‪ :‬محمد الغرايب‪ ،‬الفقر والحرابة في القرن ‪16‬م‪ -‬فيرنان بروديل‪ ،‬ضمن كتاب‬
‫"األزمات والهشاشة باملغرب‪ -‬مقاربات متقاطعة"‪ ،‬منشورات الجمعية املغربية للبحث‬
‫التاريخي‪ ،2019 ،‬ص‪.93 .‬‬
‫‪200‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ملحوظ لشعبية اليمين املتطرف الشعبوي بخطاباته الهوياتية املتقوقعة على‬

‫ذاتها وعلى مسلماتها‪ ،‬مثلما يقع –اآلن‪ -‬في دول مثل إيطاليا وإسبانيا والنمسا‬

‫وأملانيا‪...‬‬

‫وعلى املستوى الوطني‪ ،‬فال شك أن واقع الحظر الصحي املعمول به‬

‫ببالدنا هذه األيام‪ ،‬أضحى يوفر شروطا مالئمة إلعادة ترتيب األولويات‬

‫الثقافية‪ ،‬إلى جانب استحضار الزوايا املغيبة في التعاطي مع مختلف أنساق‬

‫اإلبداع والكتابة‪ ،‬وإنتاج املعرفة‪ ،‬وتداول الفنون ومختلف التعبيرات الرمزية‬

‫للتراث الالمادي لألفراد وللمجتمع‪ .‬وعلى هذا األساس‪ ،‬بدأنا ننحو نحو إعادة‬

‫صياغة أسئلتنا الثقافية الكبرى‪ ،‬من زاوية تنظيم العودة الستلهام "روحانيات‬

‫الخطاب" في مجمل انشغاالتنا الثقافية الفردية والجماعية‪ .1‬وبما أن السياق‬

‫يسمح بتوفير حيز زمني ال بأس به‪ ،‬مما يشكل مدخال للتأمل في الظاهرة على‬

‫مستوى أجواء القلق العارم املرتبط بها‪ ،‬فاملؤكد أن املقاربة العلمية الطبية ال‬

‫تفيد بشكل كبير في إنتاج األسئلة املهيكلة لإلبداع وللتفكير وللكتابة‪ ،‬بالنظر‬

‫للتطورات السريعة املرتبطة بوقوفنا عند خط التماس مع شبح املوت‪ ،‬وهو‬

‫‪ 1‬كريم العرجاوي‪ ،‬املناخ واملجتمع‪ ،‬مالحظات حول أثر األزمات املناخية على مغاربة القرن‬
‫‪17‬م‪ ،‬ضمن كتاب "األزمات والهشاشة باملغرب"‪ ،‬م‪.‬س‪ ،‬ص‪.218 .‬‬
‫‪201‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الخط الذي جعلنا أمام موجة هروب جماعية إلعادة مقاربة قضايا املصير‬

‫واملآل‪ ،‬الفناء واالندثار‪ ،‬األمر الذي خلق حالة توتر نفس ي جمع بين واقع‬

‫"مصادرة" الحرية الفردية من جهة‪ ،‬وبين إعادة مساءلة مضامين "خطاب‬

‫الروحانيات" القادر – لوحده ‪ -‬على خلق الطمأنينة النفسية الضرورية لكل‬

‫محاوالت التعايش مع واقع الوباء الطارئ‪ .‬في هذا اإلطار‪ ،‬يقدم االشتغال على‬

‫املتون الصوفية متعة استثنائية لتحقيق مدارج "الحلول"‪ ،‬ومدارك "الوجد"‪،‬‬

‫وسمو "األنوار"‪ ،‬ومنازع "الفناء"‪ .‬وهي صفات تعطي للكتابة التاريخية قوتها‬

‫الروحانية الضرورية لالرتقاء من مستوى القلق التقريري املباشر تجاه املوت‬

‫الزاحف بقوة‪ ،‬إلى مستوى االستيعاب النظري والثقافي التأصيلي لفعل الكتابة‬

‫والتنظير واإلبداع‪ .‬وفي كل هذه الحاالت‪ ،‬تبدو العزلة عنصرا ناظما لكل‬

‫محاوالت التأسيس للنزوعات الفردانية الضرورية لصناعة مختلف مجاالت‬

‫التميز اإلبداعي‪ ،‬نثرا وشعرا وتشكيال وتجسيدا موسيقيا ومسرحيا وسينمائيا‪،...‬‬

‫والتميز املعرفي‪ ،‬سوسيولوجيا وتاريخيا ولسانيا‪...‬‬

‫يستطيع الوباء أن يتحول إلى نقاط مفصلية في تجارب الكتابة لدى‬

‫الذوات املنتجة للقيم الرمزية واملادية املهيكلة لتميز الفرد والجماعة داخل‬

‫‪202‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫وسطهما اإلنساني الواسع‪ ،‬ولنا في التاريخ دروس وعبر‪ .‬في هذا اإلطار‪ ،‬يمكن‬

‫االستدالل –على سبيل املثال‪ -‬بما كتبه ابن خلدون على هامش معاينته لوباء‬

‫"الطاعون األكبر" خالل القرن ‪14‬م‪ .‬ألم تكن عزلة ابن خلدون ضرورية إلنتاج‬

‫تخريجاته النظرية حول "العمران" وحول "العصبية والدولة"؟ ألم يسمح له‬

‫الحظر الصحي بتوفير الشروط املثلى إلعادة تركيب وقائع تاريخ املغرب وتقديمه‬

‫في عمله التصنيفي الهام "كتاب العبر وديوان املبتدأ والخبر في أيام العرب‬

‫والعجم ومن عاصرهم من ذوي السلطان األكبر"؟ وما يقال عن ابن خلدون‪،‬‬

‫ينطبق على الكثير من تجارب الكتابة املرتبطة بضغط األوبئة واملجاعات‬

‫والكوارث الطبيعية التي ساهمت في تعميم حالة من العزلة الجماعية‪ ،‬ومن‬

‫املكاشفة الجريئة لتسمية األمور بمسمياتها الحقيقية‪ ،‬بعد أن يتم إسقاط‬

‫أوهام املثقف‪ ،‬وبعد أن يترك هذا املثقف جانبا نرجسياته املزمنة‪ ،‬وبعد أن‬

‫يعيد اختبار يقينياته ومسلماته‪ .‬وبهذه الصفة‪ ،‬يتحول العزل املرتبط بالوباء‬

‫إلى أرضية لالشتغال الفلسفي املتحرر من قيود رقابة املثقف على ذاته أوال‪،‬‬

‫وعلى إنتاجه ثانيا‪ ،‬ثم على تحوالت محيطه ثالثا‪ .‬أضف إلى ذلك‪ ،‬أن ظروف‬

‫العزلة الوبائية تشكل فرصة هامة لتطويع القراءات ولتوسيع مداركها‪ ،‬بعد أن‬

‫يتخلى املثقف عن عناصر يقينياته املتوارثة‪.‬‬


‫‪203‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫يحبل التراث العالمي بتراكمات جمة عن ما يمكن وصفه بـ"أدب األوبئة"‪،‬‬

‫أو بنفسيات األوبئة‪ ،‬أو بذهنيات األوبئة التي تخلق تفسيرات غيبية وخرافية‬

‫متداخلة ومعبر عنها بأشكال مختلفة سواء من طرف نخب املجتمع أم من‬

‫طرف عامة الناس‪ .1‬وهي كلها تمظهرات وتسميات لواقع الكتابة املتفاعلة مع‬

‫ضغط شبح املوت الزاحف‪ ،‬حيث الخوف من املجهول‪ ،‬وحيث البحث عن‬

‫السكينة‪ ،‬وحيث املالذ إلى الروحانيات املطهرة للنفوس من األهواء ومن‬

‫الخطايا‪ .‬وفي جميع الحاالت‪ ،‬هي عودة عميقة لربط جسور األلفة مع‬

‫الحميميات املخصوصة‪ ،‬بلغتها الشفيفة غير املكترثة لتدفق أنهار املعلومات‬

‫"السريعة" وتفسيراتها املرتبطة بثمار ضغط الثورة الرقمية التواصلية الحديثة‬

‫املوجهة ملضامين الذاكرة الجماعية‪.‬‬

‫وبذلك تصبح حالة العزلة أو الحظر‪ ،‬أو لنقل "الفردانية" في بعدها‬

‫الرمزي املعرفي‪ ،‬حجر األساس إلعادة تحقيق التصالح الضروري بين املؤرخ‬

‫ومواضيعه وأسئلته وقضاياه‪ ،‬وفق املدارج التراتبية املؤطرة لفعل العزلة‬

‫والقائمة على عناصر "التخلي" و"التحلي" ثم "التجلي"‪ .‬ولعل ذلك‪ ،‬من حسنات‬

‫‪ 1‬إدريس بلعابد‪ ،‬ذهنيات التحليل الغيبي للجوائح والكوارث باملغرب خالل العصر‬
‫الحديث‪ ،‬ضمن كتاب "األزمات والهشاشة باملغرب"‪ ،‬م‪.‬س‪ ،‬ص‪.326 .‬‬
‫‪204‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ضغط املرحلة‪ ،‬حيث تتحول العزلة إلى فرصة لتقييم حصيلة منجز‬

‫الكاتب‪/‬املؤرخ‪ ،‬وإلعادة ترتيب أولوياته‪ ،‬وإلعادة إثارة األسئلة املغيبة داخل‬

‫عوامله املخصوصة‪ ،‬وداخل انتظاراته املؤجلة‪ ،‬وداخل "مغارات" اجتهاداته‬

‫املميزة لهويته الفردية الخاصة‪.‬‬

‫من املؤكد أن األمر سيحمل في طياته عودة تأصيلية ملنظومة القيم التي‬

‫تنتظم في إطارها حياة الفرد والجماعة‪ .‬ويبدو أن ذلك سيتم بشكل راشد عبر‬

‫التدرج الهادئ عبر املراحل الثالث لألزمة‪ ،‬مرحلة الصدمة من خطورة ما وقع‬

‫ومن سرعة انتشاره ومن آثاره الكارثية‪ ،‬ثم مرحلة الدهشة من عجز عقل‬

‫اإلنسان عن التصدي للجائحة‪ ،‬ثم مرحلة استيعاب الظاهرة بالبحث في‬

‫تفاصيل األسئلة املولدة لالنتقال التاريخي املرتبط –عموما‪ -‬بارتدادات الجوائح‬

‫والكوارث على املسار التاريخي العام وعلى الذاكرة الجماعية املشتركة‪ ،‬بما لذلك‬

‫من انعكاسات مباشرة على واقع الدولة واملجتمع‪.‬‬

‫في ثنايا هذا التحول العام‪ ،‬ينتصب صوت املؤرخ حاسما عبر توليد‬

‫األسئلة الضرورية لتعزيز املشترك بين الجماعة‪ 1،‬ولترشيد االنتقال التاريخي‪،‬‬

‫‪ 1‬نحيل في هذا اإلطار على النبش املؤسس الذي اعتمده املرحوم محمد األمين البزاز في‬
‫أطروحته املرجعية‪ :‬تاريخ األوبئة واملجاعات باملغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر‪،‬‬
‫‪205‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ولفهم ميكانزمات التحول الناظمة للعالقات القائمة‪/‬واملفترضة بين عناصر‬

‫الثبات والتحول في وعي الناس وفي نظمهم املعيشية وفي مجمل أنساقهم‬

‫الرمزية املشتركة‪ .‬ويبدو أن العدة املنهجية للمؤرخ تصبح ضرورية لتحقيق هذا‬

‫الهدف‪ ،‬وذلك في مختلف املستويات املرتبطة باحترام املسافة الضرورية عن‬

‫األحداث والوقائع‪ ،‬وتجميع املعطيات‪ ،‬وتصنيف املضامين‪ ،‬واستثمار األدوات‬

‫النقدية‪ ،‬وتشريح التمثالت‪ ،‬قبل إعادة تركيب الوقائع والتنظير ملحدداتها‬

‫ولعناصر تغيرها ووقعها في الزمن وفي املكان‪ .‬هي العدة املنهجية الضرورية‬

‫للمؤرخ في سعيه لفهم ضمان االنتقال السلس للتداعيات‪ ،‬في أفق التأصيل‬

‫الستيعاب الظاهرة‪ ،‬احتراما للشرط التاريخي املميز لـ "صنعة" كتابة التاريخ‬

‫وألدوارها املعرفية الكبرى‪.‬‬

‫يستطيع املؤرخ إعادة ترتيب فوض ى العالم‪ ،‬لذلك‪ ،‬فإن قلقه يصبح‬

‫مشروعا‪ .‬ويستطيع السوسيولوجي تفسير التعبيرات العامة عن ارتدادات‬

‫الظاهرة لدى الفرد ولدى الجماعة‪ ،‬لذلك‪ ،‬فإن قلقه يصبح مشروعا‪.‬‬

‫منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط‪ .1992 ،‬ونحيل كذلك على‪ :‬الحسين‬
‫بولقطيب‪ ،‬جوائح وأوبئة مغرب عهد املوحدين‪ ،‬منشورات الزمن‪ .2002 ،‬وعلى‪:‬‬
‫‪Rosenberger (B) et Triki (H), Famines et épidémies au Maroc aux 16° et 17°‬‬
‫‪siécles, Hespéris-Tamuda, 1973-1974‬‬

‫‪206‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ويستطيع األنتروبولوجي تفكيك الرموز املؤطرة للسلوك وللموقف وللتمثالت‪،‬‬

‫لذلك‪ ،‬فإن قلقه يصبح – مرة أخرى‪ -‬مشروعا‪ .‬هي حالة "القلق املعمم" التي‬

‫ال يمكن إال أن تفرز أدوات استيعاب تحوالت الراهن‪ .‬وداخل متاهات هذا‬

‫"القلق املعمم"‪ ،‬تنتصب ذات املؤرخ‪ ،‬كضمير مؤطر لخصوبة الذاكرة‬

‫الجماعية‪ ،‬في سعيها نحو االرتقاء بمكوناتها إلى مصاف الذاكرة التاريخية‪.‬‬

‫وعلى أساس ذلك‪ ،‬فإن حالة االنزواء التي أثرنا سياقاتها أعاله‪ ،‬تصبح‬

‫خيارا وحيدا أمام املؤرخ وهو يتأمل محتويات "فرن األحداث اآلنية"‪ ،‬ليس –‬

‫فقط ‪ -‬بهدف التجميع الكمي لألرقام وللمعطيات وللوقائع ولألخبار‬

‫وللتفسيرات‪ ،‬ولكن – أساسا ‪ -‬بهدف استخالص نظيمة الحدث وبناه املركبة‪،‬‬

‫في عمقها التاريخي املسترسل‪ ،‬وفي تمظهراتها الراهنة املتغيرة‪ ،‬وفي آفاق تفسير‬

‫تحوالتها املنتظرة‪ .‬ال شك أن جائحة كورونا ستسمح بمساءلة أدوات اشتغال‬

‫املؤرخ‪ ،‬قصد تكييفها مع ظروف املرحلة‪ .‬فالنقد التاريخي – في عمقه املعرفي‬

‫‪ -‬يظل سؤاال مشرعا الحتواء قلقنا الجماعي‪ ،‬بنفس القدر الذي ينخرط في‬

‫مشاريع تحديث ذهنيات تلقي الوقائع وتشريحها واستيعاب محركاتها وتوظيف‬

‫شواهدها ورصد امتداداتها‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الئحة بيبليوغرافية مرتبطة باملوضوع‪:‬‬

‫‪ -‬محمد األمين البزاز‪ ،‬األوبئة واملجاعات باملغرب في القرنين الثامن عشر‬


‫والتاسع عشر‪ ،‬منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط‪.1992 ،‬‬
‫‪ -‬الحسين بولقطيب‪ ،‬جوائح وأوبئة مغرب عهد املوحدين‪ ،‬منشورات الزمن‪،‬‬
‫‪.2002‬‬
‫‪ -‬محمد الغرايب‪ ،‬الفقر والحرابة في مغرب القرن ‪16‬م –فرنان بروديل‪ ،‬ضمن‬
‫كتاب "األزمات والهشاشة باملغرب‪ -‬مقاربات متقاطعة"‪ ،‬منشورات الجمعية‬
‫املغربية للبحث التاريخي‪.2019 ،‬‬
‫‪ -‬كريم العرجاوي ‪ ،‬املناخ واملجتمع‪ -‬مالحظات حول أثر األزمات املناخية على‬
‫مغاربة القرن ‪17‬م‪ ،‬ضمن كتاب "األزمات والهشاشة باملغرب‪ -‬مقاربات‬
‫متقاطعة"‪ ،‬م‪.‬س‪.‬‬
‫‪ -‬إدريس بلعابد ‪ ،‬ذهنيات التحليل الغيبي للجوائح والكوارث باملغرب خالل‬
‫العصر الحديث‪ ،‬ضمن كتاب "األزمات والهشاشة باملغرب‪ -‬مقاربات‬
‫متقاطعة"‪ ،‬م‪.‬س‪.‬‬
‫‪- Elisabeth Carpentier, Autour de la peste noire: famines et épidémies‬‬
‫‪dans l’histoire du 14° siècle, in, Annales, Economies, sociétés,‬‬
‫‪civilisations. 17 année, n. 6, 1962.‬‬
‫‪- Rosenberger (B) et Triki (H), Famines et épidémies au Maroc aux 16°‬‬
‫‪et 17°‬‬
‫‪208‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫السلوك التضامني خالل أزمة كورونا‪ :‬التاريخ‬

‫مدخال للفهم والتفسير‬

‫سعيد الحاجي‬

‫جامعة سيدي محمد بن عبد هللا‪ ،‬فاس‬

‫‪209‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪210‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫استطاعت أزمة فيروس كورونا أن تحتكر لنفسها لقب أول أزمة شملت‬

‫جميع دول العالم بدون استثناء في القرن الواحد والعشرين‪ ،‬هذه األزمة التي‬

‫أفرزت وضعا غير مسبوق أدى إلى إقرار إجراءات وقائية على رأسها الحجر‬

‫الصحي الذي منع بموجبه التنقل بين الدول وداخلها‪ ،‬تفاديا النتقال العدوى‬

‫التي أثبت األطباء أنها تنتقل بسرعة في حالة فيروس كورونا أكثر من أي فيروس‬

‫آخر‪ .‬الش يء الذي أدخل العالم فيما يشبه السبات الكوني وحالة الجمود‬

‫والترقب أمام كائن مجهري ال يعرف اإلنسان كيف يحاربه‪.‬‬

‫مع مرور الوقت‪ ،‬أفرز الخوف من الفيروس تخوفات أخرى على‬

‫مستويات عدة‪ ،‬فتوقف االقتصاد كان من بين نتائجه تأثر ماليين الناس سلبا‬

‫بوضعية الجمود الجديدة‪ ،‬وهذا ما حول أزمة كورونا إلى محرك لعملية تفقير‬

‫ضخمة وسريعة‪ ،‬نتج عنها فقدان شرائح واسعة ملداخيلها وتحول املنتمين إليها‬

‫من أجراء أو ممارسين ملهن حرة تدر مدخوال محترما‪ ،‬إلى شرائح تنتظر ما‬

‫ستجود به مخططات الدولة عليها من دعم ومساعدات تضمن لها البقاء في‬

‫مستوى الحد األدنى من العيش‪ .‬وقد كانت وضعية اقتصاديات الدول عامال‬

‫حاسما في التخفيف من آثار األزمة على مواطنيها‪ ،‬إذ أن الدول ذات‬

‫‪211‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫االقتصاديات القوية عبأت ميزانيات هائلة لتقديم املساعدات املالية لألسر‬

‫املتضررة‪ ،‬قصد مساعدتها على ضمان الحد األدنى من حاجياتها‪ ،‬والحفاظ‬

‫على مستوى أدنى من االستهالك يجنب الدورة االقتصادية الشلل التام‪ ،‬مما‬

‫قد يحول األزمة من اقتصادية إلى اجتماعية تؤدي في النهاية إلى أزمات سياسية‬

‫مفتوحة على املجهول‪.‬‬

‫أما في الدول ذات االقتصاديات املحدودة‪ ،‬ومن بينها املغرب‪ ،‬فقد‬

‫حاولت الدولة بسرعة التدخل للتخفيف من حدة التداعيات السلبية لألزمة‬

‫االقتصادية‪ ،‬لكن ذلك التدخل كان محدودا ومرتبطا بفترة معينة فرضت‬

‫الدولة فيها على الناس عدم العمل وااللتزام بالحجر الصحي تفاديا النتشار‬

‫العدوى‪ .‬وبقدر ما كان تدخل الدولة في املغرب غير كاف عموما لجميع الفئات‬

‫املتضررة‪ ،‬على غرار الدول ذات االقتصاديات املماثلة‪ ،‬والتي ترتفع فيها معدالت‬

‫الفقر والبطالة والتهميش‪ ،‬فإن ما يساهم في التخفيف بشكل أكبر من تداعيات‬

‫األزمة‪ ،‬خصوصيات املجتمعات ومدى تجذر ثقافة التضامن داخلها‪ ،‬وهو‬

‫تضامن غير مؤسساتي يخضع ملنطق مجتمعي صرف مستند إما على أعراف‬

‫محلية أو معتقدات دينية أو تمثل الناس في املجتمع لألواصر العائلية‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫لقد كان دور هذه اآلليات بارزا في املجتمع املغربي خالل أزمة كورونا‪،‬‬

‫وبالرغم من تخصيص الدولة ملبالغ بسيطة من الدعم لبعض الفئات‪ ،‬إال أن‬

‫هناك آليات تضامنية قوية تحركت داخل املجتمع‪ ،‬وكان دورها يوازي دور‬

‫الدولة في التخفيف من وقع األزمة على الشرائح الهشة‪ ،‬ولعل هذا يفتح مجاال‬

‫واسعا لرصد جزء من بنية سلوكية ممتدة في الزمن الزالت ماثلة إلى اليوم في‬

‫املجتمع املغربي‪ ،‬على الرغم من تطور نمط االستهالك وتقلص حجم األسرة‬

‫وتراجع الروابط االجتماعية مقارنة مع ما كانت عليه في مراحل زمنية سابقة‪.‬‬

‫إن نمط االستهالك الجديد وتزايد النزعة الفردانية التي تجنح نحو‬

‫صياغة نموذج استهالكي يقلص االستفادة منه ويحصره داخل محيط الفرد‬

‫في األسرة الصغيرة‪ ،‬ويجعل االستفادة تضعف تدريجيا كلما تجاوزنا هذه‬

‫األسرة‪ ،‬هذا النمط قد يعرف نوعا من االنقالب خالل األزمات املماثلة ألزمة‬

‫كورونا في املجتمعات ذات الخصوصية املماثلة للمجتمع املغربي‪ .‬وإذا كان تاريخ‬

‫املغرب حافال باألزمات واملجاعات واألوبئة التي تسببت في هزات عنيفة للمجتمع‬

‫املغربي‪ ،‬فإن أهم ما يسجل في مختلف هذه األزمات‪ ،‬حضور السلوك التضامني‬

‫وثقافة التآزر بين مختلف فئات املجتمع‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫إن بروز السلوك التضامني بهذه القوة في املجتمع املغربي على الرغم من‬

‫التطور الذي عرفه‪ ،‬يجعل املؤرخ مرة أخرى في موقع التفسير استنادا إلى ما‬

‫يتوفر عليه من أدوات منهجية‪ ،‬ومن إملام بالسياقات التي تجعله يرصد عناصر‬

‫االستمرارية في بنية اجتماعية متحولة بشكل سريع في عالم اليوم‪ .‬وقد يكون‬

‫املؤرخ من أكثر املتدخلين قوة في األزمة الحالية على هذا املستوى‪ .‬إذ أن‬

‫املتخصص في االقتصاد قد يعتبر أشكال التآزر االجتماعي بمثابة مؤشرات‬

‫ساهمت في الحفاظ على استمرار الفئات الهشة في تحريك النسق االستهالكي‪،‬‬

‫كما أن املتخصص في علم النفس قد يفسرها بالخوف الذي يدفع الفرد إلى‬

‫إنقاذ املقربين منه‪ ،‬والفقيه قد يعتبرها امتثاال لتعاليم الدين التي تحث على‬

‫التضامن وغيرها‪ ،...‬لكن ال أحد من هؤالء املتخصصين في حقول معرفية‬

‫مختلفة‪ ،‬قادر على وضع هذه األشكال في سياقها التاريخي وإبراز مكانتها ضمن‬

‫عناصر االستمرارية في بنية املجتمع‪ ،‬ومقارنتها مع األشكال األخرى املوجودة‬

‫داخل املجتمع في األوقات العادية‪.‬‬

‫ومن جهة أخرى‪ ،‬فإن املؤرخ هو األكثر قدرة على قياس تأثير أشكال‬

‫التآزر على املجتمع‪ ،‬وتحديد مستوياتها انطالقا من املقارنة مع األشكال التي‬

‫‪214‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫كانت تتم خالل مراحل زمنية سابقة‪ .‬وعلى هذا األساس‪ ،‬يمكن الوقوف على‬

‫ثالث مستويات أساسية في النسق التضامني باملغرب‪.‬‬

‫‪ -‬املستوى األول‪ :‬السلوك التضامني الفردي‬

‫أثرت األزمات والكوارث الطبيعية كثيرا في سلوك اإلنسان املغربي عبر‬

‫التاريخ‪ ،‬مما جعله يطور أساليب مواجهتها حسب ما توفر لديه من إمكانيات‪،‬‬

‫ورغم أن الجيل الذي يعيش أزمة كورونا الحالية‪ ،‬أبعد ما يكون عن آخر‬
‫األزمات التي عرفها املغرب في الثالثينات واألربعينات من القرن ‪ ،20‬إال أن‬

‫سلوكه التضامني اتسم بنفس املميزات التي طبعت السلوك التضامني الفردي‬

‫في املغرب خالل فترات مختلفة‪ .‬ولم تفلح التطورات املتسارعة في النيل من‬
‫بعض اآلليات التوقعية لألزمات‪ ،‬مثل آلية االدخار‪ 1.‬خصوصا في ظل النظام‬

‫االقتصادي املغربي الذي يتميز بعدم االستقرار وقلة الفرص واتساع شريحة‬

‫الفقراء‪ ،‬مما يولد لدى باقي الفئات خوفا فطريا من أزمة توقع حدوثها في أية‬

‫لحظة رغم أنها قد ال تعرف ماهيتها‪ .‬وإذا كان التضامن بين األفراد ليس‬

‫‪ - 1‬تحدث عن هذه اآللية الهادي بياض‪ ،‬وأكد على تجذرها في املجتمع املغربي من خالل‬
‫تقنيات تخزين املحاصيل الزراعية في السنوات الفالحية الجيدة‪ ،‬انظر الهادي البياض‪،‬‬
‫الكوارث الطبيعية وأثرها في سلوك اإلنسان في املغرب واألندلس (ق ‪ 8 – 6‬ه ‪ /‬ق ‪– 12‬‬
‫‪ 14‬م)‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،2008 ،‬ص ‪195‬‬
‫‪215‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫بالسلوك الغريب عن املجتمع املغربي‪ ،‬فإن أزمة كورونا سجلت العودة القوية‬

‫والنشاط البارز ملنظومة التآزر االجتماعي بين أفراد املجتمع بغض النظر عما‬

‫تقدمه الدولة‪ .‬وبالعودة إلى محددات السلوك التضامني الفردي فسنجد‬


‫املحدد الديني بالدرجة األولى‪ 1،‬ثم الروابط العائلية والقبلية‪ ،‬ثم الروابط‬
‫العائلي‪2.‬‬ ‫اإلنسانية التي تجعل سلوك التضامن يتجاوز الدين أو االرتباط‬

‫إن أية محاولة لفهم السلوك التضامني بين أفراد املجتمع في أزمة‬
‫كورونا‪ ،‬ال يمكن أن تتم بمعزل عن املعطى التاريخي الذي سيقدم للمتخصص‬

‫في علم االجتماع وعلم النفس واالقتصاد‪ ،...‬مساحات إضافية ومداخل أكثر‬

‫أهمية لفهم هذا السلوك‪ 3.‬ألنه جزء من بنية ممتدة في الزمن امتدادا عميقا‪،‬‬
‫فال دين كان دائما محركات للتضامن بين األفراد‪ ،‬واألمر هنا ال يقتصر على‬

‫اإلسالم فقط‪ ،‬إذ أن السلوك التضامني في املغرب تاريخيا كان يحركه أيضا‬

‫الدين اليهودي على مستوى املجموعات اليهودية‪ 4.‬وإذا كان السلوك التضامني‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ُ ْ‬
‫َ‬
‫ٓخ ۡۡي‪ٓٞ‬ل ُ‬ ‫َ‬‫َ‬
‫نت ۡمٓت ۡعل ُم ٓ‬
‫ون﴾ اآلية‪)280 ،‬‬ ‫ك ۡمٓٓإ ِنٓك‬ ‫‪ - 1‬جاء في سورة البقرة‪َ ٓ﴿ :‬وأنٓت َص هدقوا‬
‫‪ - 2‬تجسده املساعدات والتبرعات التي يقدمها األفراد امليسورون ألفراد آخرين ال يعرفونهم‪،‬‬
‫عبر وساطة جمعيات أو أفراد آخرين يتولون توزيع هذه املساعدات على املحتاجين‪.‬‬
‫‪ - 3‬استند إميل دوركايم على العودة لدراسة املجتمعات البدائية لتتبع مسار التغيير الذي‬
‫وصلت إليه املجتمعات الحديثة‪ ،‬انظر‪ :‬زكرياء اإلبراهيمي‪ ،‬إميل دوركايم والتأسيس‬
‫السوسيولوجي للحداثة‪ ،‬موقع مؤمنون بال حدود‪ 29 ،‬شتنبر ‪ ،2016‬ص ‪06‬‬
‫‪ - 4‬كانت الطوائف اليهودية تتوفر على ما يعرف بصناديق األعمال الخيرية التي تقدم‬
‫املساعدات للفقراء في أوقات األزمة‪ ،‬انظر‪ :‬حاييم الزعفراني‪ ،‬ألف سنة من حياة اليهود‪،‬‬
‫‪216‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫بين األفراد في أوربا يرتبط غالبا بأوقات األزمة‪ ،‬فإن هذا السلوك في املجتمع‬

‫املغربي لم يكن يرتبط بأزمة معينة‪ ،‬بقدر ما كان سلوكا دائما يكرس ربط‬

‫التضامن االجتماعي مباشرة بالثواب اإللهي‪ ،‬ويمتد تأثير الدين على السلوك‬
‫التضامني للفرد‪ ،‬إلى حد إضفاء مسألة األبدية على ذلك السلوك وجعله‬
‫متجاوزا لحياة الفرد إلى ما بعد وفاته‪ ،‬ويمثل تخصيص األمالك للعمل الخيري‬

‫بموجب "الوقف" أسمى تجليات السلوك التضامني لدى األفراد‪ 1.‬لذلك‪ ،‬تحول‬

‫التضامن بين األفراد إلى نسق يشتغل بشكل تلقائي ودائم مع تسجيل حيوية‬

‫كبيرة في أوقات االزمات‪ ،‬بشكل حوله إلى عنصر من عناصر استمرارية بنية‬

‫قديمة ممتدة في املجتمع املغربي إلى اليوم‪.‬‬

‫على مستوى آخر‪ ،‬فإن الرابط العائلي من بين العوامل املتحكمة في‬

‫السلوك التضامني خالل أزمة كورونا الحالية‪ ،‬وإذا كان مفهوم األسرة والعائلة‬

‫تاريخ‪ ،‬ثقافة‪ ،‬دين‪ .‬ترجمة أحمد شحالن‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬طبع املترجم‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬‬
‫‪ ،1987‬ص ‪133‬‬
‫‪ - 1‬كان بعض الناس يوصون بتخصيص مداخيل جزء من ممتلكاتهم لتوزيع اإلعانات على‬
‫الفقراء بشكل أسبوعي‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك عادة "خبز الخميس" التي كانت معروفة في‬
‫تطوان‪ ،‬حيث كان يتم بموجبها توزيع كمية من الخبز على الفقراء من طرف املحسنين كل‬
‫خميس‪ .‬انظر‪ :‬محمد األمين البزاز‪ ،‬تاريخ األوبئة واملجاعات باملغرب في القرنين الثامن عشر‬
‫والتاسع عشر‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬سلسلة رسائل وأطروحات رقم ‪ ،18‬منشورات كلية اآلداب‬
‫والعلوم اإلنسانية بالرباط‪.1992 ،‬ص ‪355‬‬
‫‪217‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫في القرن ‪ 16‬مثال يختلف عن نظيره في القرن ‪ 21‬بفعل تأثره بتطور نمط‬

‫العيش‪ ،‬وتقليص مساحة العائلة الكبيرة املتشابكة القريبة جغرافيا والقائمة‬

‫على املشترك حتى في أدق مظاهر الحياة مثل األكل والنوم وغير ذلك‪ .‬فإن‬

‫مفهوم العائلة في األزمة الحالية سرعان ما يتوسع ليتخذ شكله التقليدي‬

‫بسبب اآلليات التضامنية التي تمتد لتشمل أفرادا أبعد داخل العائلة الواحدة‪،‬‬

‫فيما وصفه أحمد التوفيق بـ "التضامن القرابي"‪ 1.‬وهذا ما يحيلنا على السلوك‬

‫التضامني الذي يطبع الفرد داخل القبيلة‪ ،‬عبر اعتماده آلليات من قبيل‬

‫"التويزة" وغيرها خالل أوقات األزمة‪ 2.‬ومرة أخرى‪ ،‬فاملدخل التاريخي البد منه‬

‫لتفسير استمرار دينامية النسق التضامني على مستوى األفراد خالل أزمة‬

‫كورونا‪ ،‬طاملا أن األمر جزء من بنية مجتمعية ثابتة وليس سلوكا طارئا على‬

‫املجتمع املغربي‪ ،‬يمكن اجتزاؤه وإخضاعه لزاوية تحليل أحادية من طرف علم‬

‫االجتماع أو علم النفس على سبيل املثال‪.‬‬

‫‪ - 1‬أحمد التوفيق‪ ،‬املجتمع املغربي في القرن ‪( 19‬إينولتان ‪ ،)1912 – 1850‬الطبعة األولى‪،‬‬


‫سلسلة رسائل وأطروحات رقم ‪ ،63‬منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط‪،‬‬
‫مطبعة النجاح الجديدة‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،2011 ،‬ص ‪382‬‬
‫‪ - 2‬املريني العياش ي‪ ،‬النضال الجبلي‪ ،‬األنظمة االجتماعية الجبلية والنظام االقتصادي‪،‬‬
‫الجزء الثالث‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬مؤسسة التغليف والطباعة والنشر والتوزيع الشمال‪،‬‬
‫طنجة‪ ،1988 ،‬ص ‪120‬‬
‫‪218‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪ -‬املستوى الثاني‪ :‬السلوك التضامني للدولة‬

‫أخذت الدولة املغربية على عاتقها مسؤولية دعم الفئات األكثر تضررا‬

‫من جائحة كورونا‪ ،‬خصوصا وأن فئات عديدة اضطرت للتوقف عن العمل‪،‬‬

‫وإذا كانت الدولة املغربية العصرية لها من اآلليات ما يمكنها من تحديد الفئات‬

‫املستهدفة بالدعم على وجه أدق‪ ،‬فإن املقاربة التاريخية تحيلنا على الحضور‬

‫الدائم للدولة على مستوى دعم الفئات الهشة‪ ،‬ولعل املقارنة بين أشكال‬

‫الدعم التي كانت تقدمها الدولة املوحدية على سبيل املثال في فترات املجاعات‬

‫واألوبئة‪ 1،‬وبين أشكال الدعم الحالية‪ ،‬ستكشف لنا عن سلوك مؤسساتي‬

‫يمتد لقرون في املغرب‪ ،‬وهو سلوك نابع من حرص السالطين على التقيد‬

‫بتعاليم اإلسالم التي تحث على اإلحسان‪ 2،‬ومن ضرورة تكريس الدولة لصورتها‬

‫كحامية وضامنة الستقرار ومعيشة املواطن خالل األزمات‪ ،‬وال يرتبط هذا‬

‫‪ - 1‬بسبب العدد الكبير للفقراء املحتاجين للدعم في األزمة الغذائية التي عصفت بالدولة‬
‫املوحدية سنة ‪ ،1171‬عمد الخليفة عبد املومن املوحدي إلى "وضع معايير النتقاء البؤساء‪،‬‬
‫بحيث لم يكن هؤالء يتوقعون التفاتة رسمية من هذا القبيل"‪ .‬أنظر‪ :‬الهادي البياض‪،‬‬
‫الكوارث الطبيعية‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ .254‬كما أمر السلطان الحسن األول بتوزيع‬
‫الصدقات على الناس في مجاعة ‪ .1878‬انظر‪ :‬أبو العباس أحمد بن خالد الناصري‪،‬‬
‫االستقصا ألخبار دول املغرب األقص ى‪ ،‬الجزء التاسع‪ ،‬تحقيق جعفر الناصري ومحمد‬
‫الناصري‪ ،‬دار الكتاب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،1997 ،‬ص ‪165‬‬
‫‪ - 2‬محمد األمين البزاز‪ ،‬األوبئة واملجاعات في املغرب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪370‬‬
‫‪219‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الدور فقط بتطور مس األدوار املنوطة بالدولة‪ ،‬أو أن تقديم الدعم خالل‬

‫األزمات مرتبط بالدولة العصرية‪ ،‬بل إن ما تقوم به الدولة حاليا هو ما كانت‬

‫تقوم به دولة املوحدين‪ ،‬ثم دولة املخزن منذ ظهورها إلى حدود مرحلة‬
‫للمخزن"‪1.‬‬ ‫الحماية‪ ،‬وهو ما وصفه محمد األمين البزاز بـ "الدور االجتماعي‬

‫إن التطور الذي عرفته الرأسمالية كنظام اقتصادي‪ ،‬وما ارتبط بها من‬

‫ضعف حضور البعد االجتماعي واالهتمام بالفئات الضعيفة في نسقها اإلنتاجي‬

‫واالستهالكي‪ 2،‬لم يمنع من ممارسة الدولة لدورها االجتماعي‪ ،‬خصوصا وأن‬

‫حرص الدولة على استقرار املجتمع هو من حرصها على وجودها كجهاز ونسق‬

‫للحكم‪ ،‬والتاريخ حافل باألزمات االجتماعية واالنتفاضات التي رافقت بعض‬

‫املجاعات التي عرفها املغرب‪ ،‬والتي كانت توجه شحنة السخط في نهاية املطاف‬
‫أزماتها‪3.‬‬ ‫نحو الدولة‪ ،‬طاملا أن الفئات الهشة تعتبرها املسؤول الرئيس ي عن‬

‫‪ - 1‬نفس املرجع‪ ،‬ص ‪361‬‬


‫‪ - 2‬فرناند بروديل‪ ،‬ديناميكية الرأسمالية‪ ،‬ترجمة‪ :‬شفيق محسن‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دار‬
‫الكتاب الجديدة املتحدة‪ ،‬بنغازي‪ ،‬ليبيا‪ ،2008 ،‬ص ‪51‬‬
‫‪ -3‬قام الفقراء بعد طاعون سنة ‪ 1603‬بمهاجمة حقول السكر التي يشرف عليها املخزن‬
‫في سوس‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪- Bernard ROSENBERGER et Hamid TRIKI. - Famines et épidémies au Maroc aux‬‬
‫‪XVIe et XVIIe siècles, Hespéris-Tamuda, Vol. XV. Fasc. Unique, 1974, p 64‬‬

‫‪220‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫وهذا ما يؤكد على أن املدخل التاريخي مهم جدا لفهم سلوك الدولة‪ ،‬خاصة‬

‫عندما يتسم التعاقد بينها وبين املواطنين بالهشاشة وانعدام الثقة في بعض‬

‫املحطات‪ ،‬وهذا ما نجده على الخصوص في الدول العصرية التي ال تزال‬

‫محتفظة ببعض عناصر البنية التقليدية التي تأبى االشتغال وفق منطق‬

‫التعاقد املكرس للحقوق والواجبات‪ .‬واملؤرخ في هذه الحالة‪ ،‬مؤهل لتقديم‬

‫تفسيرات لسلوك الدولة التضامني انطالقا من املدخل التاريخي‪.‬‬

‫املستوى الثالث‪ :‬السلوك التضامني للمؤسسات الغير الرسمية‬

‫إذا كان الدور التضامني للدولة واألفراد قد أظهر فعاليته الكبير في‬

‫التخفيف من آثار األزمة في املجتمع املغربي‪ ،‬فإن أزمة كورونا أظهرت عنصرا‬

‫آخر ال يقل فعالية عن دور الدولة واألفراد‪ ،‬واملتمثلة في جمعيات املجتمع‬

‫املدني التي تعبأت لجمع وتوزيع املساعدات التضامنية‪ ،‬وهذه اآللية تعد بمثابة‬

‫جسر للدعم يصل بين الدولة وأفراد املجتمع املستهدفين من جهة‪ ،‬ووسيطا‬

‫بين أفراد لديهم اإلمكانيات لتقديم املساعدة والفئات املحتاجة من جهة أخرى‪.‬‬

‫وانطالقا من كون جمعيات املجتمع املدني أكثر قربا من السكان طاملا أنها‬

‫تتشكل منهم في األحياء والتجمعات السكانية في املدن والبوادي‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫رغم أن مفهوم املجتمع املدني هو مفهوم عصري‪ 1،‬لكنه يمثل لنا آلية‬

‫من آليات تنشيط النسق التضامني خالل األزمات‪ ،‬والبد من التأكيد على أن‬

‫املجتمع والدولة كالهما كان محتاجا خالل أوقات األزمات ملثل هذه اآلليات‬

‫التي تساعد على التخفيف من انعكاساتها السلبية على الناس‪ ،‬إلى درجة أن‬

‫الدور املحوري للمجتمع املدني جعلت مايكل إدواردز يصفه بـ "الفكرة‬

‫العظيمة"‪ 2.‬وإذا كانت أوربا لم تعرف في الفترات التاريخية السابقة وجود آليات‬

‫للوساطة بين الدولة واملجتمع فيما يتعلق بالجانب التضامني‪ ،‬فإن املغرب كان‬

‫دائما يتوفر على هذه اآلليات‪ ،‬وعلى رأسها مؤسسة الزوايا باعتبارها مؤسسات‬

‫غير رسمية‪ ،‬لكنها كانت تضطلع بشكل مستمر بمهام أساسية داخل النسق‬

‫التضامني‪ ،‬سواء عبر إيواء عابري السبيل وتزويدهم باملؤونة‪ ،‬أو توزيع اإلعانات‬

‫خالل أوقات األزمات كاملجاعات واألوبئة وغيرها‪ 3.‬إذ أن الزوايا كانت تتوفر‬

‫بحكم مكانتها في املجتمع‪ ،‬على رصيد مهم من األراض ي الفالحية ومخازن‬

‫‪ - 1‬حول تطور مفهوم املجتمع املدني‪ ،‬انظر‪ :‬محمد يحيى حسني‪ ،‬مفهوم املجتمع املدني‬
‫لدى أنطونيو جرامش ي من خالل كراسات السجن من التثوير إلى الحياد‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫منشورات املركز الديمقراطي العربي‪ ،‬برلين‪ ،‬أملانيا‪ ،2017 ،‬ص ‪04‬‬
‫‪ - 2‬مايكل إدواردز‪ ،‬املجتمع املدني‪ :‬النظرية واملمارسة‪ ،‬ترجمة‪ :‬عبد القادر شاهين‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪ ،‬منشورات املركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الدوحة‪ ،2015 ،‬ص ‪11‬‬
‫‪ - 3‬محمد جادور‪ ،‬مؤسسة املخزن في تاريخ املغرب‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬مؤسسة امللك عبد‬
‫العزيز آل سعود‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،2011 ،‬ص ‪266‬‬
‫‪222‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫األقوات وغير ذلك‪ ،‬مما كان يتيح لها أدوارا مهما في النسق التضامني‪ ،‬كما أن‬

‫استفادت بشكل كبير عبر رمزيتها في املجتمع‪ ،‬من آليات تفويت األمالك بصيغة‬

‫الوقف من طرف األشخاص الذين كانوا يرون في هذه العملية زيادة في الثواب‬

‫الدنيوي واألخروي‪ ،‬وهو ما جعلها تتوفر على اإلمكانيات الالزمة للقيام بدورها‬
‫األزمات‪1.‬‬ ‫التضامني خالل‬

‫ورغم أن الزوايا هي مؤسسات دينية إسالمية املرجعية‪ ،‬وتختلف عن‬

‫بعضها على املستوى الطقوس ي‪ ،‬إال أن ذلك لم يمنعها من تبني سلوك تضامني‬

‫ال يميز بين املنتمين إليها واملنتمين إلى زوايا أخرى أو بين املسلم وغير املسلم‪،‬‬

‫بدليل استفادة اليهود املغاربة على سبيل املثال مما كانت تتيحه الزوايا من‬
‫املغرب‪2.‬‬ ‫مساعدات خالل أوقات األزمات التي عرفها‬

‫إن اآلليات الثالث املذكورة التي تشكل أسس النسق التضامني الذي‬

‫ظهر خالل أزمة كورونا الحالية باملغرب‪ ،‬ساهمت بشكل كبير في التخفيف من‬

‫انعكاساتها على شرائح واسعة في املجتمع‪ ،‬والتحليل السليم لهذه اآلليات ينبغي‬

‫أن يتم عبر وضعها في سياقها التاريخي إلبراز انتمائها لبنية قائمة ممتدة في‬

‫‪ - 1‬نفس املرجع‪ ،‬ص ‪270‬‬


‫‪ - 2‬محمد األمين البزاز‪ ،‬األوبئة واملجاعات‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪356‬‬
‫‪223‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الزمن‪ ،‬حافظت على جوهرها رغم التغيرات الشكلية الكبيرة التي أصبحت‬

‫تعرفها اآلليات التضامنية‪ ،‬ورغم مأسسة أشكال التضامن الرسمي على طول‬

‫السنة (مؤسسة محمد الخامس للتضامن مثال)‪ ،‬إال أن السلوك التضامني‬

‫يبقى في جميع األحوال جزءا من بنية املجتمع املغربي‪ ،‬والذي يظهر بشكل أكثر‬

‫نشاطا خالل األزمات‪.‬‬

‫ظاهريا‪ ،‬قد يبدو بأن املؤرخ بعيد عن تحليل الحدث اآلني وتفاعالته‪،‬‬

‫وأن ذلك القلق املنهجي املتمثل في ضرورة أخذ املسافة الزمنية الكافية مع‬

‫الحدث‪ ،‬قد يضعه في موقع االنتظار والترقب ملا ستؤول إليه األحداث وما‬

‫سيظهر من معطيات تساعده على تكوين صورة واضحة يبني عليها تحليالته‬

‫وتفسيراته‪ ،‬وإذا كان التقيد باملنهج واالحتكام إليه هو ما يميز وجهة النظر‬

‫األكاديمية للمؤرخ عن غيرها‪ .‬فإن هذا املوقع الذي يضع فيه املؤرخ نفسه‪ ،‬في‬

‫الوقت الذي يتفاعل فيه متخصصون في مجاالت أخرى مع التطورات اآلنية‬

‫للحدث ويقومون بتفسيرها والتعليق عليها‪ ،‬قد يقوض أحد أدواره األساسية‬

‫املتمثلة في تفسير الحاضر باملاض ي‪ .‬خصوصا وأن مسألة ثبات البنيات‬

‫واستمرارها في الزمن‪ ،‬محدد أساس ي لرصد مدى تطور املجتمعات‪ ،‬ومن شأن‬

‫‪224‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الحديث مثال عن السلوك التضامني خالل األزمة الحالية دون ربطه ببنية‬

‫سائدة‪ ،‬أن ينزع عن املجتمع أحد أهم خصوصياته التي ارتبطت به وتشكل‬

‫جزءا من ثقافته‪ ،‬ويحولها إلى ردود فعل مستحدثة مع أزمة عاملية جديدة‪ ،‬في‬

‫الوقت الذي يمكن للمؤرخ – بشكل حصري – أن يثبت بأن السلوك التضامني‬

‫في املغرب‪ ،‬يدخل في حكم ثبات الخاصية في البنية مع تجدد آليات تفعليها في‬

‫الزمن‪ ،‬وهو ما يجعل رؤية املؤرخ مكلمة لرؤى باقي املتخصصين في املجاالت‬

‫األخرى‪ ،‬فيما وصفه لوسيان فيفر بـ "كسر عقلية االختصاص وإطالق مبدأ‬

‫تعددية األنظمة املعرفية (‪ )Pluridisciplinarité‬والدعوة إلى اتحاد العلوم‬


‫واالجتماعية"‪1.‬‬ ‫اإلنسانية‬

‫كما أن التعليق على الحدث اآلني يبرز الزوايا التي يمكن للمؤرخ أن‬

‫يتفاعل انطالقا منها مع الحدث‪ ،‬ويساهم في فهم بعض تطوراته بناء على‬

‫التجارب السابقة التي عرفها التاريخ‪ ،‬فهو األقدر على ضبط السياقات‬

‫التاريخية أكثر من غيره‪ .‬وهذا ما ال يمنع من جعل خالصاته اآلنية مفتوحة على‬

‫ما يلحق بالحدث من تطورات الحقا‪ ،‬وإذا كان املتخصصون في بعض الحقول‬

‫‪ - 1‬وجيه كوثراني‪ ،‬تاريخ التأريخ‪ ،‬اتجاهات‪ ،‬مدارس‪ ،‬مناهج‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬منشورات‬
‫املركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الدوحة‪ ،2015 ،‬ص ‪208‬‬
‫‪225‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫املعرفية األخرى‪ ،‬قادرون على صياغة خالصاتهم النهائية في مرحلة التفاعل‬

‫اآلني‪ ،‬فاملؤرخ ربما من بين الفاعلين القالئل الذين ال يستطيعون الوصول إلى‬

‫خالصات نهائية سواء خالل الحدث أو بعده‪ ،‬طاملا أن حقل التاريخ هو حقل‬

‫املفاجآت بامتياز‪ ،‬وطاملا أن نقيشة صغيرة في سفح جبل قد تغير قناعة ظلت‬

‫ثابتة لدى املؤرخين ملئات السنين‪.‬‬

‫تأسيسا على ما سبق‪ ،‬فإن فهم السلوك التضامني الذي برز خالل أزمة‬

‫كورونا الحالية بمستوياته الثالث املتمثلة في الدولة‪ ،‬األفراد واملؤسسات‬

‫الوسيطة‪ ،‬قد يجعل املؤرخ متصدرا لقائمة املتدخلين الذين يجب عليهم‬

‫تقديم التفسير التاريخي لسيرورة نسق تضامني تجذر في املجتمع لقرون طويلة‪،‬‬

‫إلى درجة لم تفلح معها كل التطورات التي عرفتها األنماط االستهالكية والنظم‬

‫االقتصادية املتطورة والتحوالت املجتمعية األخرى‪ ،‬في نزع خصوصياته املحلية‬

‫املستمدة من الدين والروابط االجتماعية والخوف على قوة ومركزية الدولة‬

‫خالل األزمات‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫بيبليوغرافيا‪:‬‬

‫‪ -‬الهادي البياض‪ ،‬الكوارث الطبيعية وأثرها في سلوك اإلنسان في املغرب‬


‫واألندلس (ق ‪ 8 – 6‬ه ‪ /‬ق ‪ 14 – 12‬م)‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬دار الطليعة للطباعة‬
‫والنشر‪ ،‬بيروت‪.2008 ،‬‬

‫‪ -‬زكرياء اإلبراهيمي‪ ،‬إميل دوركايم والتأسيس السوسيولوجي للحداثة‪ ،‬موقع‬


‫مؤمنون بال حدود‪ 29 ،‬شتنبر ‪.2016‬‬

‫‪ -‬حاييم الزعفراني‪ ،‬ألف سنة من حياة اليهود‪ ،‬تاريخ‪ ،‬ثقافة‪ ،‬دين‪ .‬ترجمة‬
‫أحمد شحالن‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬طبع املترجم‪ ،‬الدار البيضاء‪.1987 ،‬‬

‫‪ -‬محمد األمين البزاز‪ ،‬تاريخ األوبئة واملجاعات باملغرب في القرنين الثامن عشر‬
‫والتاسع عشر‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬سلسلة رسائل وأطروحات رقم ‪ ،18‬منشورات‬
‫كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط‪.1992 ،‬‬

‫‪ -‬أحمد التوفيق‪ ،‬املجتمع املغربي في القرن ‪( 19‬إينولتان ‪،)1912 – 1850‬‬


‫الطبعة األولى‪ ،‬سلسلة رسائل وأطروحات رقم ‪ ،63‬منشورات كلية اآلداب‬
‫والعلوم اإلنسانية بالرباط‪ ،‬مطبعة النجاح الجديدة‪ ،‬الدار البيضاء‪.2011 ،‬‬

‫‪ -‬املريني العياش ي‪ ،‬النضال الجبلي‪ ،‬األنظمة االجتماعية الجبلية والنظام‬


‫االقتصادي‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬مؤسسة التغليف والطباعة والنشر‬
‫والتوزيع الشمال‪ ،‬طنجة‪.1988 ،‬‬

‫‪227‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪ -‬أبو العباس أحمد بن خالد الناصري‪ ،‬االستقصا ألخبار دول املغرب األقص ى‪،‬‬
‫الجزء التاسع‪ ،‬تحقيق جعفر الناصري ومحمد الناصري‪ ،‬دار الكتاب‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬الطبعة األولى‪.1997 ،‬‬

‫‪ -‬فرناند بروديل‪ ،‬ديناميكية الرأسمالية‪ ،‬ترجمة‪ :‬شفيق محسن‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬


‫دار الكتاب الجديدة املتحدة‪ ،‬بنغازي‪ ،‬ليبيا‪.2008 ،‬‬

‫‪ -‬محمد يحيى حسني‪ ،‬مفهوم املجتمع املدني لدى أنطونيو جرامش ي من خالل‬
‫كراسات السجن من التثوير إلى الحياد‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬منشورات املركز‬
‫الديمقراطي العربي‪ ،‬برلين‪ ،‬أملانيا‪.2017 ،‬‬

‫‪ -‬مايكل إدواردز‪ ،‬املجتمع املدني‪ :‬النظرية واملمارسة‪ ،‬ترجمة‪ :‬عبد القادر‬


‫شاهين‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬منشورات املركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪،‬‬
‫الدوحة‪.2015 ،‬‬

‫‪ -‬محمد جادور‪ ،‬مؤسسة املخزن في تاريخ املغرب‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬مؤسسة امللك‬
‫عبد العزيز آل سعود‪ ،‬الدار البيضاء‪.2011 ،‬‬

‫‪ -‬وجيه كوثراني‪ ،‬تاريخ التأريخ‪ ،‬اتجاهات‪ ،‬مدارس‪ ،‬مناهج‪ ،‬الطبعة الثالثة‪،‬‬


‫منشورات املركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الدوحة‪ ،2015 ،‬ص ‪208‬‬

‫‪- Bernard ROSENBERGER et Hamid TRIKI. - Famines et épidémies au‬‬


‫‪Maroc aux XVIe et XVIIe siècles, Hespéris-Tamuda, Vol. XV. Fasc.‬‬
‫‪Unique, 1974.‬‬

‫‪228‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫املؤرخ وجائحة "كوفيد ‪ :"19‬مالحظات أولية‬

‫محمد مزيان‬

‫جامعة ابن طفيل‪ ،‬القنيطرة‬

‫‪229‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪230‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫مقدمة‪:‬‬

‫أثارت سرعة انتشار جائحة كورونا "كوفيد ‪ "19‬في أرجاء املعمور خالل‬

‫ظرف وجيز اندهاش ومخاوف الجميع‪ ،‬وأظهرت عيوب املنظومة الصحية‬

‫العاملية وضعف استعداد العالم ملثل هذه الجوائح‪ .‬إذ ظهر أن العالم في مهب‬

‫الريح خاصة أمام هذا الخطر القادم من الشرق‪ ،‬مع العلم أن تأثيرات هذه‬

‫الجائحة بدأت تظهر للعيان وبدا أنها امتدت إلى املجاالت االقتصادية‬

‫واالجتماعية والنفسية وكذا على مستوى العالقات بين الدول‪.‬‬

‫أبرزت الجائحة كذلك أهمية املعرفة وقدرتها على إعادة تركيب وصياغة‬

‫واقع مغاير‪ .‬فالظرفية التي يعيشها العالم اليوم تعتبر ظرفية استثنائية بعدة‬

‫مقاييس وتقع خارج الزمن االعتيادي لهذا أصبح التاريخ مدخال ضروريا لفهم‬

‫الجائحة في تاريخيتها واستيعاب التدابير املتخذة ملواجهتها‪ .‬فأمام حجم التغيرات‬

‫التي أحدثها فيروس "كوفيد‪ "19‬انطلقت موجة من التفكير الجماعي والفردي‬

‫ومن تخصصات معرفية مختلفة‪ ،‬فتناسلت الندوات وامللتقيات االفتراضية‬

‫وظهرت كتابات عديدة الستجالء أصل الجائحة وتداعياتها السوسيو‬

‫اقتصادية‪ ،‬وأشكال التعامل املجتمعي والعالئقي وتفكيك إشكالية الحياة التي‬

‫‪231‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ظهر أنها ازدادت تعقيدا‪ ،‬وبدا اإلنسان يتجه نحو االنعزال أكثر من االجتماع‬

‫واالنفتاح على اآلخر‪ .1‬ووضعت قضايا التنمية والبيئية واملواطنة العاملية‬

‫موضع تساؤالت‪ ،‬كما طرحت مسألة ترتيب العالقات بين العلوم االجتماعية‬

‫واإلنسانية واملعارف الحقة في زمن الكورونا الذي أصبح موضوعا للتفكير‪،‬‬

‫ووضعت التاريخ واملؤرخ موضع مساءلة حول ما يمكن أن يقدمه ويسهم به‬

‫في موضوع متشعب ومتعدد املشارب‪.‬‬

‫وفق هذا السياق تهدف هذه الورقة إلى إبراز أهمية التاريخ ودور املؤرخ‬

‫وكيف يمكن للتاريخ كسيرورة أن يساهم في فهم الجائحة ككارثة عاملية كشفت‬

‫عن هشاشة الوضع الصحي‪ ،‬ذلك أن إلقاء نظرة على تاريخ األوبئة التي عصفت‬

‫بالعالم وباملجال املتوسطي وباملغرب بشكل خاص وخلفت مآس ي كارثية‪،‬‬

‫وأبرزت تفاعل معها اإلنسان وفق ما توفر لديه من إمكانات علمية وعملية‪،‬‬

‫اختلفت من مجال إلى آخر وفق البنية الفكرية التي يتحرك داخلها‪.‬‬

‫‪ - 1‬ينظر في هذا الصدد الكتاب الجماعي الذي أصدرته جامعة ابن طفيل تحت عنوان‪،‬‬
‫الحياة في زمن الفيروس التاجي "كوفيد ‪"19-‬؟ تحت إشراف جمال الكركوري وأحمد‬
‫الفرحان‪( ،‬الرباط نت‪ ،‬يونيو ‪ .)2020‬ضم هذا العمل أبحاث من تخصصات مختلفة‬
‫وباللغتين العربية والفرنسية بلغت ‪ 29‬مقال باإلضافة إلى عدد من املالحق ذات الصلة‬
‫باملوضوع‪ ،‬أجمعت على مقاربة الجائحة برؤية علمية رصينة وأبرزت الهواجس العلمية‬
‫للباحثين‪ ،‬بغية فهم الحاضر وتوثيقه وتقديم مادة علمية لتصبح مرجعا وتساهم في‬
‫التوثيق لهذه الجائحة‪.‬‬
‫‪232‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫أوال‪ :‬اإلنتاج التاريخي حول األوبئة باملغرب‪ :‬رصد أولي‪.‬‬

‫إن الحديث عن تاريخ الجوائح هو حديث عن تاريخ متجدد يحدد عالقة‬

‫املجتمع بذاكرته الجماعية وبخريطته الباتولوجية‪ ،‬وظروف انتاج وتداول‬

‫املعرفة‪ ،‬والنظر إلى التاريخ بوصفه سيــرورة اجتماعية تاريخية‪ ،‬ومعرفة كذلك‬

‫بتلك السيرورة‪ .‬لهذا الحظنا إبان انطالق جائحة "كوفيد ‪ ،"19‬واتخاذ‬

‫السلطات الوصية ملجموعة من التدابير املندرجة ضمن سياسة الطوارئ‬

‫الصحية والحجر الصحي‪ ،‬اإلقبال املتزايد على األبحاث التاريخية حول موضوع‬

‫الوباء وتمت استضافة عدد من املؤرخين لتنشيط ندوات افتراضية‪ ،‬كما‬

‫أنجزت العديد من الصحف الوطنية ملفات هاجسها النهل من دروس املاض ي‬

‫الوبائي واستجالء طريقة تعامل املخزن والساكنة مع الوضع الصحي املتردي‪،‬‬

‫ومحاولة املقارنة بين ما وقع في املاض ي وما يجري اليوم‪.‬‬

‫لهذا يسمح تتبع ما أنتج حول تاريخ الوباء باملغرب بالوقوف على التداخل‬

‫بين تخصصات مختلفة ومتنوعة‪ ،‬تتقاطع فيها السردية التاريخية باألبحاث‬

‫املخبرية والبيولوجية واإلحصاء واالقتصاد والسيكولوجيا‪ ،‬زيادة على رسم‬

‫الخريطة الوبائية للمغرب وفهم التمثالت وبروز القيم التضامنية وقت األزمات‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫والواقع أن كثرة األوبئة واملجاعات التي عركت املغرب قد وفرت أمام‬

‫الباحثين مجاالت للدراسة والبحث‪ ،‬فظهرت إخباريات وسرديات عديدة‪،‬‬

‫تناولت الوباء في مأساويته‪ ،‬أو في كونه شكل حدثا مفصليا في مرحلة تاريخية‬
‫معينة‪ .‬وباالطالع على ما أنتج في موضوع األوبئة من دراسات تاريخية‪ً 1،‬‬
‫غالبا ما‬

‫قدمت هذه املصادر‪ ،‬السردية في الغالب‪ ،‬تقييمات سريعة؛ باعتمادها على‬

‫معطيات وأرقام غير مضبوطة‪ ،‬كما لجأت إلى ما توفر لديها من وثائق نوازلية‬

‫أو عدلية أو فقهية‪ .‬نقول إن املؤرخين املغاربة قد حققوا بعض التراكم املعرفي‬

‫في هذا الباب‪ ،‬إذ تمخضت مجهوداتهم عن بروز أبحاث تناولت موضوع الجوائح‬

‫واملجاعات باملغرب وغطت مراحل مختلفة من تاريخ املغرب من ذلك مثال‬

‫‪ - 1‬اليسمح الوقت باإلحاطة بجميع ما أنتج في ميدان األوبئة واملجاعات التي ضربت املغرب‬
‫في مختلف فتراته‪ ،‬فهناك العديد منها مازال مخطوطا‪ ،‬كما أن هناك إشارات مهمة متفرقة‬
‫في املصادر مثل حسن الوزان في كتابه وصف افريقيا‪ ،‬وكتابات الناصري في االستقصا‬
‫ألخبار دول املغرب االقص ى؛ واملختار السوس ي في املعسول‪ ،‬وابن زيدان في االتحاف‪ ،‬كما‬
‫أن هناك معلومات قيمة تتضمنها النوازل الفقهية واإلجازات الطبية واملواقف من املرض‪،‬‬
‫مثل ما ألفه الحضيكي والفقيه َمحمد الرهوني وعلي بن عبد هللا بن محمد بن هيدور‬
‫(املتوفي سنة ‪816‬هـ‪1413/‬م)‪"،‬املقالة الحكيمة في األمراض الوبائية"‪ .‬والعربي بن عبد‬
‫القادر بن علي املشرفي‪( ،‬ت سنة ‪ 1313‬هـ‪1895/‬م)‪ ،‬له تأليف سماه‪" ،‬أقوال املطاعين‬
‫في الطعن والطواعين"‪ .‬وسنكتفي باإلشارة إلى ما ألفه بعض الباحثين املعاصرين حول‬
‫الوباء وطرق التطبيب وتوظيف سلطات الحماية للتطبيب كآلية من آليات االختراق‬
‫السلمي‪.‬‬
‫‪234‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫كتابات كل من محمد األمين البزاز‪ ،1‬والحسين بولقطيب‪ ،2‬وعبد الهادي‬

‫بياض‪ ،3‬وأحمد املكاوي‪ ،4‬وبوجمعة رويان‪.5‬‬

‫باإلضافة إلى بعض الدراسات باللغة الفرنسية املهتمة بتاريخ األوبئة‬

‫واملجاعات مثل‪ :‬العمل الذي قدمه برنارد روزنبرجي وحميد تريكي بعنوان‬

‫املجاعات واألوبئة باملغرب خالل القرن ‪ 16‬و‪.6 17‬‬

‫عالوة على العديد من املؤلفات التي أنجزت خالل سنوات الحماية‬

‫الفرنسية على املغرب والتي أنجزها أطباء وباحثون مثل الدراسات واألبحاث‬

‫‪ -1‬محمد األمين البزاز‪ ،‬تاريخ األوبئة واملجاعات باملغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع‬
‫عشر‪ ،‬منشورات كلية اآلداب والعلوم االنسانية (الرباط ‪.)1992‬‬
‫‪ -2‬الحسين بولقطيب‪ ،‬جوائح وأوبئة مغرب عهد املوحدين‪ ،‬منشورات الزمن (‪.)2002‬‬
‫‪ - 3‬عبد الهادي بياض‪ ،‬الكوارث الطبيعية وأثرها سلوكيات وذهنيات اإلنسان املغرب‬
‫واألندلس‪ ،‬دار الطليعة‪( ،‬بيروت ‪)2011‬‬
‫‪ -4‬أحمد املكاوي‪ ،‬الدور االختراقي واالستعماري للطبابة األوروبية في املغرب‪( ،‬منشورات‬
‫الزمن‪)2009 ،‬‬
‫‪ -5‬بوجمعة رويان‪ ،‬الطب الكولونيالي الفرنس ي باملغرب ‪( ،1945-1912‬الرباط نت‪،‬‬
‫‪.)2013‬‬
‫‪6‬‬
‫‪- Bernard Rosenberger et Hamid Triki. "Famines et épidémies au X Maroc aux‬‬
‫‪XVI" et XVII" siècles, Hesperis Tamuda , Vol. XIV. 1973 - Fase. Unique pp 109-175‬‬
‫‪; et Vol. XV. - Fasc. unique 1974 pp 5-104‬‬
‫تمت ترجمة هذا العمل من طرف عبد الرحيم حزل‪ ،‬تحت عنوان‪ :‬املجاعات واألوبئة‬
‫باملغرب خالل القرنين ‪ 16‬و‪ ،17‬منشورات (جذور للنشر‪)2007 ،‬؛ وهناك طبعة أخرى‬
‫عن منشورات دار األمان‪( ،‬الرباط ‪.)2010‬‬
‫‪235‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫التي قام بها الدكتور هنري بول جوزيف رونو‪. 1 )Renaud, Dr H.P.J ( ،‬‬

‫كان الهدف من األبحاث التي قام بها "رونو" هو الوقوف على الوضعية‬

‫الوبائية باملغرب وإبراز ما عاشه هذا البلد من مآس ي وأوبئة‪ ،‬لتبرير احتالله ومن‬

‫تم توظيف الطبابة كآلية للتسرب السلمي‪ ،‬وهو ما يبرز توظيف املعرفة في‬

‫تسهيل االحتالل ويبرز أيضا العالقة امللتبسة واملتفاعلة بين الطب والتوغل‬

‫االستعماري وهي عالقة لم تكن وليدة التجربة االستعمارية الفرنسية باملغرب‪،‬‬

‫بل غالبا ما كانت العالقة بينهما تعبر في كثير من األحيان على املنحى التصاعدي‬

‫للحركة االستعمارية في مختلف مناطق العالم وكذا عن تطور الطب‪ ،‬فقد‬

‫ُوظف الطب االستعماري للمساعدة في إرساء سلطان القوى االستعمارية في‬

‫إفريقيا وآسيا واألمريكيتين‪ ،‬إذ ردد املارشال ليوطي بأن الطبيب يضفي النبل‬

‫‪ - 1‬نذكر منها على سبيل الذكر‬


‫‪Renaud, Dr H.P.J, "Recherches historiques sur les épidémies au Maroc la peste‬‬
‫‪de 1799", Hesperis, 1921, T.I, 2éme trimestre, pp. 160-182.‬‬
‫‪-Renaud, Dr H.P.J, "La peste de 1818 au Maroc ", Hesperis, 1923, T. III, 1er‬‬
‫‪trimestre, pp. 13-36‬‬
‫‪-Renaud, Dr H.P.J, "Un nouveau document marocain sur la peste de 1799 ",‬‬
‫‪Hesperis, 1925, T. V, 1er trimestre, pp. 83-90.‬‬
‫‪- Renaud, Dr H.P.J, "Recherches historiques sur les épidémies du Maroc IV., les‬‬
‫‪pestes du milieu du XVIIIème siècle" , Hesperis, 1939, T. XXVI, 4éme trimestre,‬‬
‫‪pp. 293-320‬‬
‫‪236‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫على االستعمار ويبرره‪ 1،‬ويشير الباحث بوجمعة رويان في قراءته لكتاب "هنري‬

‫بول جوزيف رونو"‪ 2،‬والصادر عن مصالح الصحة العمومية باملغرب سنة‬

‫‪ ،1922‬على أنه وفي الوقت الذي كان فيه األطباء يجوسون عبر مناطق املغرب‬

‫لتمشيط الساحة أمام الجيوش الفرنسية وهي تتوغل في دكالة والشاوية‬

‫وزعير‪ ،‬تغافل "رونو" عن دور تلك الجيوش في املساهمة في نشر الوباء بهذه‬

‫الدرجة أو تلك‪ .‬وفي الوقت ذاته كذلك‪ ،‬كانت الدبلوماسية الفرنسية نشيطة‬

‫في كسب جوالتها في املفاوضات مع السلطان واالستعداد لبدء املفاوضات مع‬

‫أملانيا في سنة ‪ ،1911‬وهي سنة طاعون مخيف‪.3‬‬

‫والبين أن اهتمام املؤرخين املغاربة بتاريخ الوباء تنازعه منهجان‬

‫مختلفان‪ ،‬هما املنهج الوضعي الذي اعتمد على الحدث بشكل منفصل في مدة‬

‫زمنية قصيرة كما تحدد دور املؤرخ في كشف املاض ي‪ ،‬اكتشاف الحقيقة‪ ،‬أو‬

‫التقرب منها على األقل‪ .‬وفي وجهة النظر هذه‪ ،‬ليست القوة إشكالية‪ ،‬وال صلة‬

‫‪ -1‬دافيد أرنولد‪ ،‬الطب اإلمبريالي واملجتمعات املحلية‪ ،‬عالم املعرفة‪ ،‬املجلس الوطني‬
‫للثقافة والفنون واآلداب – الكويت ‪ ،1998‬ص ‪15‬‬
‫‪2 - H.P. Renaud, La peste au Maroc. Etude d’épidémiologie et de géographie‬‬

‫‪médicale, Rabat, 1922‬‬


‫‪ -3‬بوجمعة رويان‪" ،‬علم األوبئة والجغرافية الطبية في املغرب" على الرابط‬
‫‪ https://ribatalkoutoub.com/?p=3205‬تاريخ االطالع ‪2020-6-24‬‬
‫‪237‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫لها ببناء السرد بما هو كذلك‪ .‬والتاريخ في أفضل األحوال‪ ،‬هو حكاية عن القوة‪،‬‬

‫حكاية عن أولئك الذين انتصروا‪ .‬األطروحة التي مفادها أن التاريخ شكل من‬

‫أشكال القص أو التخييل قديمة قدم التاريخ نفسه‪ ،‬وإن اختلفت الحجج‬

‫املستخدمة في الدفاع عنها أشد االختالف‪ 1.‬وتندرج في هذا الصدد كتابات‬

‫اإلخباريين املغاربة أو كتابات الفقهاء واإلجازات الطبية‪ ،‬في حين عرف البحث‬

‫التاريخي الحديث ظهور أعمال تناولت مسألة األوبئة تساوقا مع تطور مناهج‬

‫الكتابة التاريخية التي بشرت بها مدرسة الحوليات‪ ،‬وهو املمثل في االتجاه الثاني‬

‫املؤمن بضرورة االنفتاح على تاريخ اإلنسان العادي واالقتصاد واملجتمع‬

‫والعقليات والديموغرافيا والجغرافيا التاريخية وعلى حقول معرفية أخرى‪.‬‬

‫ومن تم التأريخ للجوائح في عموميتها وفي سيرورتها وتداعياتها‪ ،‬عوض االكتفاء‬

‫برصد الظاهرة‪ .‬لكن هذا االتجاه يصطدم بعدة عوائق منها عائق الرصيد‬

‫الوثائقي‪ ،‬أي عدم وجود محفوظات‪ ،‬ووثائق‪ ،‬باستثناء املصادر األجنبية‪،‬‬

‫وخاصة األوروبية‪ ،‬لهذا لجأ أصحاب هذا االتجاه إلى تنويع الوثائق وتوسيع‬

‫دائرتها لتشمل كل مخلفات اإلنسان‪ ،‬فتنوعت بالضرورة مواضيع البحث‬

‫‪ -1‬ميشيل رولف ترويو‪" ،‬القوة في الحكاية"‪ ،‬ترجمة ثائر ديب‪ ،‬مجلة أسطور‪ ،‬العدد ‪،9‬‬
‫يناير ‪ ،2019‬صص ‪182-161‬‬
‫‪238‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫والغوص في التواريخ االجتماعية والبنيات االقتصادية والذهنيات وتاريخ األوبئة‬

‫والكوارث الطبيعية واملناخ‪ ،‬إلى غير ذلك من املواضيع املرتبطة بتطور املناهج‬

‫التاريخية في الغرب وخاصة مع مدرسة الحوليات‪.1‬‬

‫ويشير الباحث عبد األحد السبتي إلى أن البحث التاريخي الجامعي حول‬

‫األوبئة حديث نسبيا‪ ،‬حداثة االهتمام بالتاريخ االجتماعي وتاريخ الذهنيات‬

‫وتاريخ الطب وغيرها من الفروع املعرفية األخرى‪ ،‬وهو ما يترجمه عدد األبحاث‬

‫والدراسات املنشورة‪ ،‬وهي إما مقاالت أو فصول في كتب زيادة على األبحاث‬

‫األكاديمية غير منشورة التي تظل حبيسة الرفوف‪.2‬‬

‫وهو ما نستشف منه أن املؤرخ املغربي لم يكن بمعزل عن التحوالت‬

‫املنهجية التي مست الكتابة التاريخية على الصعيد العالمي‪ ،‬فأقبل على انتاج‬

‫معرفة تاريخية تتماهي مع املناهج الجديدة وفق رؤية تنضبط للواقع وللظروف‬

‫املحيطة بإنتاج املعرفة التاريخية والفاعلين فيها وآليات انتاجها‪ .‬وفي هذا‬

‫‪ -1‬للتعمق أكثر في هذه الفكرة ينظر كتاب‪ ،‬محمد حبيدة‪ ،‬املدارس التاريخية برلين باريس‬
‫استراسبورغ من املنهج إلى التناهج‪( ،‬دار األمان الرباط ‪)2019‬‬
‫‪2 -Sebtti Abdelahad, «Epidémies et culture des calamités à propos de la longue‬‬

‫‪expérience marocaine», Actes de la session plénière solennelle, de l’Académie‬‬


‫‪Hassan II des Sciences et Techniques, 2010. pp. 127 -132‬‬
‫‪239‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الصدد يشير الباحث محمد حبيدة إلى تعدد الدراسات واألبحاث عن األوبئة‪،‬‬

‫خاصة عقب اإلنفلونزا اإلسبانية التي اجتاحت العالم ‪ .1919-1918‬وكانت في‬

‫البداية بقلم املختصين في العلوم البيولوجية والطبية‪ ،‬مثل البحث الذي أنجزه‬

‫الطبيب الفرنس ي "جون نويل بيرابين" الذي كتب عام ‪ 1979‬مؤلفا مرجعيا عن‬

‫تاريخ األوبئة في البلدان األوروبية واملتوسطية‪ .‬زيادة على الكتاب الجماعي‬

‫الصادر تحت عنوان "تاريخ الفكر الطبي في أروبا في ثالث مجلدات‪.1‬‬

‫ثانيا‪ :‬تزايد الطلب االجتماعي على الدراسات التاريخية واملحاذير املنهجية‪.‬‬

‫‪ -1‬الطلب االجتماعي على التاريخ‪.‬‬

‫سبقت اإلشارة إلى أنه مع تفش ي جائحة "كوفيد ‪ "19‬تزايد اإلقبال على‬

‫كتابات تاريخ األوبئة وأدب الوباء‪ ،‬ونذكر على سبيل املثال "الطاعون" أللبير‬

‫كامي )‪ (Albert Camus‬و"الحب في زمن الكوليرا" لغابرييل غارسيا ماركيز‬

‫(‪ ،)Gabriel García Márquez‬وتمت قراءة رواية "عيون الظالم" من جديد‬


‫"د ْ‬
‫ين كونتز" )‪ ،(Dean Koontz‬و"العمى" لجوزيه ساراماغو ( ‪José de Sousa‬‬ ‫ِ‬

‫‪ - 1‬محمد حبيدة‪" ،‬تاريخ الوباء من الطاعون األسود إلى الكورونا" ضمن كتاب‪ ،‬الحياة في‬
‫زمن الفيروس التاجي "كوفيد ‪"19-‬؟ (أشراف جمال الكركوري وأحمد الفرحان)‪ ،‬الرباط‬
‫نت يونيو‪ (2020‬صص ‪ 23-14‬ص ‪15‬‬
‫‪240‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪ .)Saramago‬كما تم الرجوع بقوة إلى الكتابات التاريخية التي تناولت تاريخ‬

‫األوبئة للبحث عن العالقة بين ما حدث وما يحدث ومحاولة سد الفراغات أو‬

‫تجاوز األخطاء السابقة أو املواقف الخاطئة‪ .‬فما دالالت ذلك؟‬


‫ُ‬
‫يسمح لنا رصد أولي وتتبع ملا أنتج خالل فترة الحجر الصحي‪ ،‬بالقول إن‬

‫انخراط املؤرخ في النقاش املجتمعي حول الجوائح وتداعياتها والبحث عن‬

‫نماذج لها في تاريخ العالم وتاريخ البحر املتوسط وتاريخ املغرب‪ ،‬تم باستحضار‬

‫التفاعالت املجالية واألطر املكانية وتطوراتها البطيئة في الزمن‪ ،‬في مجاالت‬

‫جغرافية متباينة كاملجال املتوسطي واملجال الصحراوي ثم املغرب خالل القرن‬

‫التاسع عشر واللحظة االستعمارية‪ ،1‬وتم الوقوف على أن تاريخ الوباء والجوائح‬

‫واملسغبة التي عصفت باملغرب لم تكن وليدة البيئة املحلية ولكن أغلبها كان‬

‫قادما من الخارج‪ ،‬واألمثلة على ذلك كثيرة‪ ،‬فخالل الفترة القديمة‪ ،‬تأثر شمال‬

‫أفريقيا بالكامل بأوبئة مختلفة مرتبطة بنزوح الجيوش في الحروب‬

‫اإلمبراطورية‪ ،‬وال سيما وباء ‪ 430‬قبل امليالد‪ ،‬ووباء ‪125‬عام قبل امليالد‪،‬‬

‫و"طاعون جستنيان" (‪ 552‬قبل امليالد)‪ ،‬وكان الطاعون العظيم في منتصف‬

‫‪1 Sebtti Abdelahad, op.,cit , p. 128‬‬

‫‪241‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ً‬
‫القرن الرابع عشر أكثر أمواج الطاعون فتكا‪.1‬‬

‫أما في الزمن الراهن فقد تفاعل عدد من الباحثين املغاربة مع انتشار‬

‫وباء كورونا فأنجزوا مجموعة من املقاالت‪ ،‬جعلت من التاريخ ميدانا خصبا‬

‫لتذكير القراء بما عاشه املغرب وخارجه من أوبئة ومجاعات‪ ،‬لدرجة يمكن‬

‫القول معها بوجود طفرة في املقاالت وفي امللفات الصحفية حول األمراض التي‬

‫أنهكت املجتمع املغربي عبر التاريخ‪ ،‬على اعتبار أن األوبئة غالبا ما شكلت حدثا‬

‫مأساويا ولكن في الوقت نفسه يمكن أن تكون حدثا مفصليا في مرحلة تاريخية‬

‫معينة‪ ،‬مثلما تمخض عن وباء الطاعون األسود (‪ ،)1348-1350‬على املدى‬

‫املتوسط والبعيد‪ ،‬من بروز حركة انعتاق وتحرر فكري أدت في النهاية الى انهيار‬

‫النظام االقطاعي‪ ،‬وتراجع سلطة الكنيسة‪ ،‬وبدأ التطلع إلى نظام اقتصادي‬

‫واجتماعي جديد قائم على العقالنية‪ ،‬ولذلك َيعتبر املؤرخون الطاعون األسود‬

‫بداية عصر النهضة األوروبية‪.‬‬

‫وعليه‪ ،‬فقد تساءل عدد من الباحثين عن دور التاريخ‪ ،‬والحاجة إلى‬

‫املؤرخ في مثل هذا الظرف الوبائي‪ ،‬وهل يمكن الحديث عن تحقيب تاريخي‬

‫‪1 Ibidem‬‬

‫‪242‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫جديد اعتبارا لدور األوبئة في سقوط وقيام الحضارات‪ .1‬ومنهم من رجع إلى‬

‫كتابات عبد الرحمن بن زيدان واملختار السوس ي ومحمد األمين البزاز واألرشيف‬

‫الفرنس ي قبيل توقيع معاهدة الحماية وبعدها‪ .‬وخصص الباحث عبد الواحد‬

‫أكمير حلقات مصورة للحديث عن الجوائح وجدلية الدولة والحضارة وبؤس‬

‫تاريخانية الوباء‪ ،‬إذ تحدث عن وجود عالقة سببية بين الجوائح والدول‬

‫والحضارات‪ ،‬حيث أشار إلى أن الجوائح قد تضعف الدول أو تعجل بانهيارها‬

‫أو تكون سببا في تأسيس وقيام دول جديدة‪ .‬أما الحضارة فهي تحاول املقاومة‬

‫والصمود أو التكيف مع ظرفية الوباء من ذلك مثال انتقالها إلى فضاءات‬

‫جديدة خصبة لتنمو من جديد وفق شروط محددة‪ .‬لهذا استعرض هذه‬

‫العالقة راجعا إلى أقدم األوبئة مثل وباء التيفوس كأقدم وباء ضرب أثينا خالل‬

‫القرن الخامس قبل امليالد‪ ،‬وأفنى ربع ساكنة أثينا وكان ذلك سببا في زوالها‪.‬‬

‫وكان سببا في انبعاث دولة أخرى هي اإلمبراطورية التي أسسها اإلسكندر‬

‫املقدوني في القرن الرابع قبل امليالد‪ .‬ليعرج بعد ذلك على أهم األوبئة التي‬

‫عصفت بالعالم القديم وما خلفته من هدر ديموغرافي أثر على مسار األسر‬

‫‪ - 1‬إبراهيم القادري بوتشيش‪" ،‬هل ّ‬


‫يقرب وباء كورونا نهاية العوملة وبداية تحقيب جديد‬
‫للتاريخ؟" على الرابط ‪ https://www.hespress.com/histoire/465665.html‬تاريخ‬
‫االطالع ‪2020-4-6‬‬
‫‪243‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الحاكمة‪ .‬كما يشير إلى ما ضرب الغرب اإلسالمي وأروبا من األوبئة خالل‬

‫العصور الوسطى والحديثة‪ ،‬وظهور البورجوازية وضعف البوادي بسبب الوباء‬

‫خاصة الطاعون‪ ،‬وتطور على مستوى الفكر والبنيات وتراجع املدارس‬

‫اإلسكوالئية والتعليم الكنس ي‪ ،‬وظهور الجامعات العصرية‪.1‬‬


‫ً‬
‫وذهب باحث آخر إلى القول بأن األوبئة كانت سببا في إعادة التفكير في‬
‫َّ‬
‫العديد من املمارسات واملفاهيم واملواقف‪ ،‬فنشأت سلطة جديدة مثلها األطباء‬

‫بدل سلطة الكنسية‪ ،‬واستطاع األطباء مكافحة وباء الكوليرا بطريقة مرتبطة‬

‫بالبحث العلمي‪ ،‬فتغيرت املمارسات الصحية رأسا على عقب‪ ،‬وشكلت ثورة‬

‫علمية مع لويس باستور‪ 2.‬فيما أشار الباحث اجميلي إلى أهمية التاريخ‬

‫الديموغرافي لدراسة وباء الطاعون األسود رغم غياب اإلحصائيات وعدم‬

‫معرفة العدد اإلجمالي للسكان‪ ،‬ويقر بأن الدراسات التي أنجزت حول تاريخ‬

‫املغرب لم تشر إلى تقدير عدد السكان‪ ،‬فقبل كتاب وصف إفريقيا للحسن‬

‫‪ -1‬ينظر‪ ،‬عبد الواحد أكمير‪" ،‬الجوائح وجدلية الدولة والحضارة" على الرابط‬
‫‪https://www.youtube.com/watch?v=33H4GzSwvNg&feature=youtu.be&fbclid‬‬
‫‪=IwAR09KRWvEIzYobPDRoq5taI9VLr7X1fjV_qOmW_nwPL5eYOWzbEhsiTrm‬‬
‫تاريخ االطالع ‪82020-6-23‬‬
‫‪ - 2‬محمد حبيدة‪ ،‬من وباء "الكوليرا" إلى جائحة "الكورونا" … املوت يرسم معالم الغد"‬
‫على الرابط‪ https://www.hespress.com/histoire/465330.html‬تاريخ االطالع‪-4-2 ،‬‬
‫‪2020‬‬
‫‪244‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الوزان ال يوجد مصدر حاول الوقوف على تقدير عددهم‪.1‬‬

‫وتفاعل عدد من الباحثين مع الحدث عن طريق إجراء حوارات‬

‫صحفية‪ 2‬بهدف تقريب عموم القراء واملشاهدين من هذا الوضع وإبراز‬

‫خطورته‪ ،‬والوقوف على االجراءات االحترازية املتبعة والبحث في متون التاريخ‬

‫عن تجارب مماثلة‪ ،‬مثل الوقوف على اإلنفلونزا اإلسبانية ‪ 1919-1918‬كوباء‬

‫مأساوي خلف ماليين الضحايا وأبان عن الحاجة إلى اللقاحات‪ ،‬وظهرت‬

‫باستمرار بعض األسئلة في األدبيات حول أصوله وتفشيه وعدد ضحاياه في‬
‫بؤرها وعند تنقلها‪ ،‬والرد االجتماعي على الجائحة‪.3‬‬

‫وانخرطت كذلك مجلة رباط الكتب في التعريف بتاريخ األوبئة واملنجز‬

‫حولها بإعدادها مللف حول كتابات الوباء وانجاز قراءات في كتب من مختلف‬
‫اآلفاق‪ ،‬تاريخية وفقهية وأدبية وطبية‪ ،‬وباللغات العربية والفرنسية‬

‫واإلنجليزية‪ .‬وبغية إغناء النقاش الدائر حول الوباء وتوسيع دائرة الفهم‪ .‬وال‬

‫‪ - 1‬اجميلي حميد‪" ،‬الطاعون األسود" على الرابط‬


‫‪ https://www.hespress.com/writers/466474.html‬تاريخ االطالع‪2020-4-6 ،‬‬
‫‪ -2‬ينظر على سبيل املثال ال الحصر امللف الذي أعدته جريدة أخبار اليوم عدد ‪،3147‬‬
‫بتاريخ ‪23‬مارس‪2020‬؛ زيادة على امللف الذي أنجزته مجلة زمان عدد ‪ 79‬ماي ‪.2020‬‬
‫‪ -3‬فريدريك فانيورون‪ ،‬اإلنفلونزا اإلسبانية عودة إلى وباء ‪ "1919-1918‬ترجمة حبيدة‬
‫محمد‪ ،‬على الرابط ‪ /https://www.mominoun.com/articles‬تاريخ االطالع‪-4-16 ،‬‬
‫‪2020‬‬
‫‪245‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫شك أن النقاش سوف يتسع في املستقبل ليشمل تاريخ واجتماعيات األوبئة في‬

‫الزمن الراهن‪ ،‬اعتبارا من أن الجائحة الحالية هي امتداد لجوائح املاض ي‪ ،‬وهي‬

‫تعبر في آن واحد عن تحوالت نوعية تتصل بسياق العوملة‪.1‬‬


‫ّ‬
‫وشكل الجانب املنهجي ومساءلة درس التاريخ اإلجتماعي بالجامعات‬

‫املغربية مدخال للورقة التي قدمها الباحث مصطفى نشاط‪ ،‬من خالل حديثه‬

‫عن الحاجة إلى إعادة النظر في درس التاريخ االجتماعي بالجامعة املغربية‪.‬‬
‫واستثمار بعض الدروس من تاريخ األوبئة والكوارث في أفق بناء طالب مواطن‬

‫إيجابي‪ .‬بينما تناول املحور الثالث تعليم الدرس التاريخي عن بعد بالجامعة‬

‫املغربية زمن كورونا‪ 2.‬ويقول إن‪" :‬الحاجة أصبحت ماسة إلى إعادة النظر في‬
‫الدرس التاريخي بالجامعة املغربية‪ ،‬وذلك بإيالء مزيد من االهتمام بالتاريخ‬

‫االجتماعي‪ ،‬ومن ضمنه تاريخ األوبئة والكوارث الطبيعية التي بدونها قد ال‬

‫نستوعب بعض األسباب الحائلة دون حصول اإلقالع‪ .‬وبمراعاة كيفية‬

‫استقبال بعض املغاربة للوباء الحالي‪ ،‬تبدو الحاجة ماسة أيضا لتدريس‬

‫‪ -1‬أصدرت مجلة رباط الكتب ملفا بعنوان “الجائحة وما أدراك ما الجائحة”‪ ،‬من تنسيق‬
‫األستاذين عبد األحد السبتي ومحمد حبيدة‪.‬‬
‫على الرابط ‪https://ribatalkoutoub.com/?p=3184‬‬
‫‪ -2‬هل يعيد "كورونا" النظر في درس التاريخ االجتماعي بالجامعات؟ على الرابط‬
‫‪ https://www.hespress.com/orbites/474629.html‬تاريخ االطالع ‪2020-6-25‬‬
‫‪246‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫تالميذنا وطالبنا مجموعة من الصفحات املشرقة من تاريخنا‪ ،‬من أجل‬

‫التحسيس واملعرفة التاريخية وتغيير بعض املسلمات‪.1‬‬

‫وهو ما يبرز ضرورة خروج التاريخ من دائرة التخصص الضيق والكتابة‬


‫للمشتغلين بهذا الحقل املعرفي وحدهم‪ ،‬واالنفتاح على شبكة واسعة من‬

‫القراء‪.‬‬

‫‪ -2‬الفهم كمدخل للكتابة التاريخية حول جائحة "كوفيد‪"19‬‬

‫يسمح استعراض هذه الحصيلة األولية حول ما أنجز من دراسات ذات‬

‫الصلة باملعرفة التاريخية زمن الحجر الصحي املطبق باملغرب منذ ‪ 16‬مارس‬

‫‪ ،2020‬بالوقوف على أهمية استحضار التاريخ‪ ،‬ذلك الحاضر‪ /‬الغائب في‬

‫ثقافتنا‪ ،‬وفق الباحث أبطوي‪ ،‬خاصة في ارتباطه باملعارف العلمية والطبية‪.‬‬

‫رغم تعدد الدعوات في ثقافتنا الحديثة لالهتمام بالتاريخ واالنتباه لتأثير الزمن‪،‬‬

‫فإن الوعي بفعل التاريخ ال يهيكل رؤيتنا للعالم وفهمنا لوجودنا في الزمن‬

‫املتحرك فقط بل يكفل لنا عالقة سوية مع املاض ي‪ 2.‬ويحتم علينا ذلك التنبيه‬

‫‪ -1‬نفسه‬
‫‪ -2‬محمد أبطوي‪" ،‬دراسة الوباء وسبل التحرز منه‪ :‬األوبئة في الطب العربي وفي التاريخ‬
‫الثقافي واالجتماعي"‪ ،‬سلسلة دراسات‪ ،‬املركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات ‪ 22‬يونيو‬
‫‪ 2020‬ص ‪1‬‬
‫‪247‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫إلى األهمية الكبيرة للبحث املتعدد االختصاصات في التاريخ الوبائي؛ ليس‬

‫إلرساء "تفسير طبي للتاريخ"‪ ،‬بل للحفر في أحد عوامل التراجع التاريخي الذي‬
‫ّ‬
‫ألم بنا منذ القرن الخامس عشر‪ ،‬ولجمع املعطيات املفيدة في فهم الطاعون‬

‫كمعضلة من معضالت الصحة العامة في الحاضر‪ .‬أوبئة املاض ي ليست‬

‫موضوعا مهما للبحث األكاديمي فحسب‪ ،‬بل تندرج في ترسانة اإلجراءات‬

‫املعتمدة ملواجهة سيناريو الكارثة املحتملة في املستقبل‪.1‬‬

‫فالتاريخ وفق هذا املستوى هو أحد املعارف االستراتيجية الكتشاف‬

‫الثوابت والحفاظ على الهوية وعلى ترسيخ القيم‪ ،‬كما يمكنه أن يكون فن‬

‫القطائع‪ ،‬فهو يعرف كيف يتالعب بالنظام القسري للتسلسالت الزمنية وبالتالي‬

‫كيف يكون مثيرا للحيرة وللدهشة‪ .‬فهو يزعج الجينيالوجيات ويثير قلق الهويات‬

‫ويفتح فضاء زمنيا يستطيع من خالله املستقبل أن يستعيد حقوقه الكاملة في‬

‫الشك‪ ،‬وأن يرحب‪ ،‬بالتالي‪ ،‬بكل ما يسمح بتعقل الحاضر وبفهمه‪.2‬‬

‫يسمح لنا درس التاريخ لزمن األوبئة بالوقوف على أهمية الفهم في هذا‬

‫‪ -1‬نفسه‪ ،‬ص ‪2‬‬


‫‪ - 2‬باتريك بوشرون‪" ،‬ماذا يستطيع التاريخ؟ من أجل تأمين علمي جديد لنظام الحقيقة‬
‫ملهنة التاريخ"‪ .‬ترجمة محمد مستعد‪ ،‬على الرابط‬
‫‪ https://ribatalkoutoub.com/?p=2402‬تاريخ االطالع‪2018-7-2 ،‬‬
‫‪248‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الفرع املعرفي كمدخل لفهم هذا الواقع الوبائي‪ ،‬وكخطوة منهجية مقترنة‬

‫بالتفسير ومرتبطة بالوثيقة أو الشاهدة وبعمل الذاكرة وبالتأويل‪ ،‬مع اإلشارة‬


‫ُ‬
‫إلى أن خطوة الفهم يمكن مقاربتها من زوايا متعددة‪ ،‬لكنها تجمع على أهميتها‬
‫وضرورتها الستجالء معالم الواقعة التاريخية‪ .‬فالتاريخ يستمد وظيفته‬

‫املجتمعية كما حددتها الوثائق التربوية من مساهمته مع العلوم االجتماعية‬

‫األخرى في تكوين إنسان يفهم مجتمعه‪ ،‬ويتموضع فيه حتى يصبح مشاركا‬
‫وفاعال فيه‪ .‬كما يمده باملعالم األساسية لفهم العالم والتنظيم املعقلن للحاضر‬

‫وتنمية الحس النقدي للمتعلم‪ .‬وعليه يتضح الحضور املضمر والعلني لعملية‬

‫الفهم في التاريخ وأهميتها في بناء التعلمات‪ ،‬واتخاذ املواقف واألكثر من ذلك‬


‫تكوين إنسان قادر على التحليل واكتساب األدوات املنهجية ملساءلة التاريخ‬

‫بفكر نقدي‪.1‬‬

‫يقع الرهان إذن‪ ،‬على إشكالية فهم جائحة "كوفيد ‪ "19‬وتداعياتها‬

‫باعتبارها أحد املفاتيح األساسية في تكوين شخصية القارئ واالنتقال به من‬

‫املتلقي السلبي للمعلومة إلى العامل ملناهج الشك والنقد البناء‪ ،‬لهذا يمكن‬

‫‪ - 1‬وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين األطر والبحث العلمي‪ ،‬التوجيهات التربوية‬
‫والبرامج الخاصة بتدريس مادتي التاريخ والجغرافيا بسلك التعليم الثانوي التأهيلي‪،‬‬
‫الرباط ‪ 2007‬ص ‪3‬‬
‫‪249‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫اعتبار الفهم التاريخي أحد امليكانيزمات املهمة الستجالء خصائص املاض ي‬

‫والحاضر‪ ،‬والعالقات املتفاعلة بينهما‪ ،‬وعالقة العلة واملعلول‪ ،‬ففهم الظواهر‬

‫يقتض ي إخضاعها ملناهج وأدوات ووسائل عمل من أجل تفكيك عناصرها‬


‫وتقريب املعرفة التاريخية من املتعلم بشكل خاص وإلى العموم بشكل عام‪.‬‬

‫لهذا ال يمكن للمؤرخ أن يظل بعيدا عن تنوير الرأي العام واملساهمة في النقاش‬

‫الدائر حول الجائحة ومصدرها ومثيالتها من الجوائح التي ضربت العالم في‬
‫فترات مختلفة كما وضحنا أعاله‪.‬‬

‫الش يء الذي يبرز وظيفة الفهم في التاريخ‪ ،‬بمعنى أننا نلجأ للتاريخ من‬

‫أجل فهم الحاضر ثم بالحاضر لفهم املاض ي‪ ،‬ومنه تتجلى إذا قدرة املعرفة‬

‫التاريخية على تمثل املاض ي كش يء لم يوجد أبدا‪ ،‬فال وجود للحاضر دون وجود‬

‫للماض ي‪ ،‬فمن الجلي القول إن التاريخ يكتب من الحاضر بفعل أسئلة يلقيها‬

‫على املاض ي مع ضرورة التزود بعدة نظرية ومنهجية ومعرفية تساعد على الحفر‬

‫املنهجي والكتابة التاريخية‪ ،‬لهذا يدعو "ميشيل دوسيرتو" (‪ )De Certeau‬إلى‬

‫البحث عن اآلثار التي خلفها الحدث معتبرا أنها تشكل معنى مفتوح دائما‪ ،‬كما‬

‫حدد الفعل التاريخي أو صنعة التاريخ في ثالث عناصر هي انتاج فضاء اجتماعي‪،‬‬

‫واعتبار التاريخ ممارسة‪ ،‬أي أن املؤرخ هو سيد التقنيات عبر توظيف األرشيف‬
‫‪250‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫واملصادر وإعادة توزيعها وفق مساحة جديدة غالبا ما تحددها كتلة الوثائق‬

‫والخيارات التي ينبغي عليه اتخاذها‪ ،‬وثالثا‪ ،‬جعل التاريخ كتابة بمعنى الوظيفة‬

‫الرمزية لكتابة املؤرخين عن مجتمع ما‪.1‬‬

‫لهذا تبرز تلك العالقة الجدلية بين ضرورة الفهم الذي يغلف عمل‬

‫املؤرخ في شموليته‪ ،‬مادام التاريخ مغامرة روحية تمنح فيها شخصية املؤرخ‬

‫حرية التصرف‪ .‬هكذا يكتسب التاريخ عند املؤرخ قيمة وجودية‪ ،‬ويكتسب من‬

‫هذه القيمة الوجودية معناه وأهميته وقيمته‪ .‬ويضيف‪ ،‬يشكل هذا التصور‬

‫جوهر الفلسفة النقدية‪ ،‬والبؤرة التي يكتس ي بها كل ما عداها النظام‬

‫والوضوح‪ ،‬ولذلك يندمج الفهم بحقيقة التاريخ‪ ،‬فليس الفهم هو الجانب‬

‫الذاتي والتفسير هو الجانب املوضوعي‪ ،‬تتألف الحقيقة املزدوجة للتاريخ من‬

‫الحقيقة املنقولة عن املاض ي‪ ،‬ومن الشهادة التي يقدمها املؤرخ‪ .2‬فليس لدى‬

‫املؤرخ الطموح أن يقوم بـ "إعادة إحياء املاض ي" وإنما ينشد بالتحديد إعادة‬

‫بناء سلسلة تنطبق على املاض ي‪ ،‬وهو ما يساعد على تحقيق املوضوعية‬

‫‪1 François Dosse « Michel de Certeau‬‬ ‫‪et l'écriture de l'histoire » Dans Vingtième‬‬
‫‪Siècle. Revue d'histoire 2003/2 (no 78), pages 145 - 156‬‬
‫‪ -2‬بول ريكور‪ ،‬الزمان والسرد الحبكة والسرد التاريخي‪ ،‬ج‪ ،1‬ترجمة سعيد الغانمي وفالح‬
‫رحيم‪ ،‬دار الكتاب الجديدة املتحدة (بيروت ‪ ،)2006‬ص ‪158‬‬
‫‪251‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫التاريخية في نظر ريكور‪ ،‬إذ تتحقق هذه املهمة من خالل قيام املؤرخ ببناء‬

‫السالسل السببية للوقائع‪ ،‬ثم يقوم بتحليلها بهدف فهم مجموع الوقائع‬

‫والروابط العضوية التي تتجاوزها كل سببية تحليلية‪ 1.‬وتتجلى أهمية فهم‬

‫التاريخ في فهم املاض ي والحاضر‪ ،‬فأحدهما مرتبط باآلخر ومرتبط به ومتفاعل‬

‫معه‪ ،‬وهو ما سماه جاك لوغوف بـ"الوظيفة االجتماعية للتاريخ"‪.2‬‬

‫من زاوية أخرى وعلى الصعيد املنهجي أثبتت الجائحة انخراط املؤرخ في‬

‫التأريخ للزمن اآلني املرتبط بحدث معيش‪ ،‬تتداوله وكاالت األنباء والجرائد‬

‫وعقدت حوله ندوات افتراضية عن ُبعد‪ ،‬وأبرزت‬


‫ومنصات التواصل االجتماعي ُ‬

‫أن على املؤرخ اقتحام الزمن اآلني أو التاريخ الفوري وأال يظل حبيس املاض ي‪،‬‬

‫وأال يكون كجامع التحف املغلقة على عبادة املاض ي وفق تعبير مارك بلوخ‪.3‬‬

‫التاريخ اآلني يمكن أن ينهل وينفتح على الدراسات السوسيولوجية وباقي‬

‫‪ -1‬حسام الدين درويش‪ ،‬إشكالية املنهج في هيرمينوطيقا بول ريكور وعالقتها بالعلوم‬
‫اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬نحو تأسيس هيرمينوطيقا الحوار‪ ،‬املركز العربي لألبحاث‬
‫ودراسات السياسات‪( ،‬بيروت ‪ ،)2016‬ص ‪379‬‬
‫‪ -2‬جاك لوغوف‪ ،‬التاريخ والذاكرة‪ ،‬ترجمة جمال شحيد‪ ،‬املركز العربي لألبحاث ودراسة‬
‫السياسات‪ ،‬ط‪( 1‬بيروت ‪ )2017‬ص ‪181‬‬
‫‪ -3‬جاك لوغوف‪ ،‬التاريخ الجديد‪ ،‬ترجمة محمد الطاهر املنصوري‪ ،‬املنظمة العربية‬
‫للترجمة (بيروت ‪ )2007‬ص ‪122‬‬
‫‪252‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الحقول املعرفية األخرى‪ ،‬وهو ما يوضح التغير الذي طرأ على مستوى الوثيقة‪،‬‬

‫إذ يجب التنبيه إلى الفرق العميق بين التحقيق الصحفي الذي تمليه أحداث‬

‫الساعة وسرعة اإلجابة من جهة‪ ،‬والبحث في الحدث من جهة ثانية‪ .‬لكن وجب‬

‫التنبيه إلى أن ذلك يستدعي ضبطا منهجيا ألدوات التحليل العلمي وطرق جمع‬

‫املعطيات الجديدة‪ ،‬واالستناد إلى مجموعة من املفاهيم‪ ،‬يجملها "برنارد بيالر"‬

‫في تحديد مفهوم الظاهرة وما ينبعث في الواقع االجتماعي كمعطى بارز نسبيا‪،‬‬

‫وهو ما يتطلب مقاربة متعددة التخصصات أو عابرة للتخصصات‪ .‬ثانيا‪،‬‬

‫الكشف عن زمنية اجتماعية تمكن من الكشف عن الخبايا واملكبوتات‬

‫االجتماعية‪ ،‬وبمقدور الحدث أن يكون منطلقا لديناميات اجتماعية جديدة‪.1‬‬

‫‪ - 1‬برنارد بيالر‪" ،‬التاريخ الفوري"‪ ،‬ترجمة محمد حبيدة ضمن الكتابة التاريخية‪ :‬التاريخ‬
‫والعلوم االجتماعية التاريخ والذاكرة‪-‬تاريخ العقليات‪( ،‬افريقيا الشرق ‪ )2015‬صص‬
‫‪.121-126‬‬
‫‪253‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫على سبيل الختم‪:‬‬

‫خالصة القول‪ ،‬يمكن القول إن املؤرخ انخرط في النقاش الدائر‪ ،‬فقد‬

‫اكتسب التاريخ اآلني مشروعيته املنهجية واملعرفية واقتحم الحاضر في تميز‬

‫عن التحقيق الصحفي‪ ،‬وأبانت جائحة "كوفيد ‪ "19‬عن هذا التوجه وعلى قدرة‬

‫التاريخ تكسير الجدران العازلة وتحطيم األصنام‪ ،‬مع ضرورة االنفتاح على فروع‬

‫املعرفة اإلنسانية‪ ،‬والتعامل مع الوثائق واالرشيفات الوطنية والدولية وهي‬

‫املغايرة ملا اعتاد املؤرخ التعامل معها وتوظيفها في أبحاثه‪ ،‬فالثورة الناعمة في‬
‫ُ‬
‫مفهوم الوثيقة املرقمنة مغايرة لتلك التي اعتاد املؤرخ فك شيفراتها‪ ،‬فتسارع‬

‫األخبار والصور والتحليالت وإحصائيات عدد املصابين وعدد الوفيات‬


‫ُ‬
‫والناجين‪ ،‬وكلفة ذلك على الصعيد االقتصادي وانعكاساته السياسية على‬

‫الدول الوطنية والنظام العالمي والتكتالت اإلقليمية‪ ،‬عبر املواقع اإللكترونية‬

‫واإلعالمية ومنصات التواصل االجتماعي‪ ،‬أصبحت كلها ناقلة للخبر‪ ،‬الش يء‬

‫الذي يطرح إشكاالت منهجية أمام املؤرخ بخصوص التعامل مع هذا الزخم‬

‫من املعلومات واألحداث املتجددة على مدار الساعة‪ ،‬والتمييز بين صحيحها‬

‫وخطئها وتجريدها من أيديولوجيتها‪ ،‬واالبتعاد عن االستعجال في إصدار‬

‫‪254‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫األحكام‪ .‬لهذا‪ ،‬وخدمة للمعرفة التاريخية‪ ،‬يتدخل املؤرخ من أجل ترتيب‬

‫املعطيات وتحليلها وتقديم تفسيرات لها‪ ،‬خاصة وأنها لم تبح بكل أسرارها‪.‬‬

‫فاملعطيات الرقمية اليوم متوفرة ويمكن تحليل منحنياتها‪ ،‬كما يمكن‬

‫االستفادة من الوسائل التقنية لالحتفاظ باملعطيات وتخزينها ُبغية الحصول‬

‫على إحصائيات نهائية ووضع صورة عن هذه األزمة عندما تنجلي‪.‬‬

‫ومن املهم اإلشارة إلى أن املؤرخ لجائحة كوفيد‪ 19-‬يجمع اليوم بين كونه‬

‫مختصا في الدراسات التاريخية يمتلك أدوات منهجية تمكنه من تحليل وتفسير‬

‫الظاهرة‪ ،‬وأيضا فهو هو شاهد على مرحلة معيشة بتجلياتها وانعطافاتها‪ ،‬وبكل‬

‫ما يحمله الشاهد من انفعاالت نفسية ووجدانية‪ .‬كما أن املوضوع يضم فئات‬

‫مجتمعية مختلفة من الحاكم إلى املهمش‪ ،‬زيادة على أن الوباء مس كذلك‬

‫مختلف األجناس واألعمار‪ ،‬لهذا على املؤرخ االنتباه إلى التغيرات التي مست‬

‫هذه الفئات إبان الحجر‪ ،‬وكذا مدى وقع الوباء على ذهنية وتمثالت الفئات‬

‫املختلفة وممارساتها االجتماعية والسلوكية‪ ،‬وعدم االقتصار فقط على فئة‬

‫دون أخرى‪ ،‬وهو األمر الذي لن يتأتى إال عن طريق انجاز بحوث علمية تركيبية‬

‫تتقاطع فيها التخصصات املعرفية‪ ،‬وفروع الدارسات التاريخية من تاريخ‬

‫‪255‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫اجتماعي إلى تاريخ طبي‪ ،‬وتاريخ الذهنيات وغيرها من الفروع‪ .‬من أجل إثراء‬

‫وإغناء البحث التاريخي والخروج من شرنقته والغوص في عوالم وتخصصات‬

‫جديدة‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الئحة البيبليوغرافيا املعتمدة‬

‫‪ -‬أبطوي محمد‪" ،‬دراسة الوباء وسبل التحرز منه‪ :‬األوبئة في الطب العربي وفي‬
‫التاريخ الثقافي واالجتماعي"‪ ،‬سلسلة دراسات‪ ،‬املركز العربي لألبحاث ودراسة‬
‫السياسات (‪ 22‬يونيو ‪)2020‬‬

‫‪ -‬اجميلي حميد‪" ،‬الطاعون األسود" على الرابط‬

‫‪( https://www.hespress.com/writers/466474.html‬تاريخ االطالع‪-4-6 ،‬‬


‫‪)2020‬‬

‫‪ -‬أرنولد دافيد‪ ،‬الطب اإلمبريالي واملجتمعات املحلية‪ ،‬عالم املعرفة‪ ،‬املجلس‬


‫الوطني للثقافة والفنون واآلداب – (الكويت ‪.)1998‬‬

‫‪ -‬أكمير عبد الواحد‪" ،‬الجوائح وجدلية الدولة والحضارة" على الرابط‬

‫‪https://www.youtube.com/watch?v=33H4GzSwvNg&feature=youtu‬‬
‫‪.be&fbclid=IwAR09KRWvEIzYobPDRoq5taI9VLr7X1fjV_qOmW_nwP‬‬
‫‪( -L5eYOWzbEhsiTrm8‬تاريخ االطالع ‪)2020-6-23‬‬

‫‪ -‬البزاز محمد األمين‪ ،‬تاريخ األوبئة واملجاعات باملغرب في القرنين الثامن عشر‬
‫والتاسع عشر‪ ،‬منشورات كلية اآلداب والعلوم االنسانية (الرباط ‪.)1992‬‬
‫‪ -‬القادري بوتشيش إبراهيم‪" ،‬هل ّ‬
‫يقرب وباء كورونا نهاية العوملة وبداية‬
‫تحقيب جديد للتاريخ؟" على الرابط‬

‫‪257‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪( https://www.hespress.com/histoire/465665.html‬تاريخ االطالع ‪-4-6‬‬


‫‪) 2020‬‬

‫‪ -‬الكركوري جمال والفرحان أحمد‪( ،‬إشراف) الحياة في زمن الفيروس التاجي‬


‫"كوفيد ‪"19-‬؟ (الرباط نت يونيو‪.)2020‬‬

‫‪ -‬بوشرون باتريك‪" ،‬ماذا يستطيع التاريخ؟ من أجل تأمين علمي جديد لنظام‬
‫الحقيقة ملهنة التاريخ"‪ .‬ترجمة محمد مستعد‪ ،‬على الرابط‪:‬‬

‫‪( https://ribatalkoutoub.com/?p=2402‬تاريخ االطالع‪)2018-7-2 ،‬‬

‫‪ -‬بولقطيب الحسين‪ ،‬جوائح وأوبئة مغرب عهد املوحدين‪( ،‬منشورات الزمن‬


‫‪.)2002‬‬

‫‪ -‬بيالر برنارد‪" ،‬التاريخ الفوري"‪ ،‬ترجمة محمد حبيدة‪ ،‬ضمن الكتابة التاريخية‪:‬‬
‫التاريخ والعلوم االجتماعية التاريخ والذاكرة‪-‬تاريخ العقليات‪( ،‬افريقيا الشرق‬
‫‪)2015‬‬

‫‪ -‬ترويو ميشيل رولف‪" ،‬القوة في الحكاية"‪ ،‬ترجمة ثائر ديب‪ ،‬مجلة أسطور‪،‬‬
‫العدد ‪ ،9‬يناير ‪ ،2019‬صص ‪182-161‬‬

‫‪ -‬حبيدة محمد‪ ،‬املدارس التاريخية برلين باريس استراسبورغ من املنهج إلى‬


‫التناهج‪( ،‬دار األمان الرباط ‪)2019‬‬

‫‪ -‬حبيدة محمد‪ ،‬من وباء "الكوليرا" إلى جائحة "الكورونا" … املوت يرسم معالم‬

‫‪258‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الغد" على الرابط‪https://www.hespress.com/histoire/465330.html‬‬


‫(تاريخ االطالع‪) 2020-4-2 ،‬‬

‫‪ -‬درويش حسام الدين‪ ،‬إشكالية املنهج في هيرمينوطيقا بول ريكور وعالقتها‬


‫بالعلوم اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬نحو تأسيس هيرمينوطيقا الحوار‪ ،‬املركز‬
‫العربي لألبحاث ودراسات السياسات‪( ،‬بيروت ‪.)2016‬‬

‫‪ -‬رويان بوجمعة‪" ،‬علم األوبئة والجغرافية الطبية في املغرب" على الرابط‬

‫‪( https://ribatalkoutoub.com/?p=3205‬تاريخ االطالع ‪)2020-6-24‬‬

‫‪ -‬ريكور بول‪ ،‬الزمان والسرد الحبكة والسرد التاريخي‪ ،‬ج‪ ،1‬ترجمة سعيد‬
‫الغانمي وفالح رحيم‪ ،‬دار الكتاب الجديدة املتحدة (بيروت ‪)2006‬‬

‫‪ -‬فانيورون فريدريك‪ ،‬اإلنفلونزا اإلسبانية عودة إلى وباء ‪ "1919-1918‬ترجمة‬


‫حبيدة محمد‪ ،‬على الرابط ‪( /https://www.mominoun.com/articles‬تاريخ‬
‫االطالع‪)2020-4-16 ،‬‬

‫‪ -‬لوغوف جاك‪ ،‬التاريخ والذاكرة‪ ،‬ترجمة جمال شحيد‪ ،‬املركز العربي لألبحاث‬
‫ودراسة السياسات‪ ،‬ط‪( 1‬بيروت ‪)2017‬‬

‫‪ -‬لوغوف جاك‪ ،‬التاريخ الجديد‪ ،‬ترجمة محمد الطاهر املنصوري‪ ،‬املنظمة‬


‫العربية للترجمة (بيروت ‪)2007‬‬

‫‪ -‬نشاط مصطفى‪ ،‬هل يعيد "كورونا" النظر في درس التاريخ االجتماعي‬

‫‪259‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

:‫بالجامعات؟ على الرابط‬

-6-25 ‫ (تاريخ االطالع‬https://www.hespress.com/orbites/474629.html


)2020

،‫ وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين األطر والبحث العلمي‬-


‫التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادتي التاريخ والجغرافيا بسلك‬
2007 ‫ الرباط‬،‫التعليم الثانوي التأهيلي‬

- François Dosse «Michel de Certeau et l'écriture de l'histoire» Dans


Vingtième Siècle. Revue d'histoire 2003/2 (no 78), pp145 – 156
- Sebtti Abdelahad, «Epidémies et culture des calamités à propos de la
longue expérience marocaine», Actes de la session plénière solennelle,
de l’Académie Hassan II des Sciences et Techniques, 2010. pp. 127 -
132

260
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫مرض كوفيد‪ 19-‬عام ‪ :2020‬قراءة في‬

‫اإلحصائيات الطبية والتجارب العالجية‬

‫ابراهيم أوباها‬

‫باحث في امليكروبيولوجيا وتفاعالت النبات ‪ -‬الكائنات الحية الدقيقة‬

‫الحسين املكحول‬

‫باحث في سلك دكتوراه بكلية الحقوق – سطات‬

‫مبارك أركوكو‬

‫باحث في سلك دكتوراه بكلية الحقوق ‪ -‬سطات‬

‫‪261‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪262‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫مقدمة‪:‬‬

‫ال شك أن أزمة كورونا‪ ،‬التي أضحت تشغل بال كافة دول العالم من‬
‫ً‬
‫أقصاه إلى أقصاه تعد تحديا غير مسبوق‪ ،‬ابتدأت في منتصف شهر دجنبر‬

‫‪ ،2019‬عندما أصيب مجموعة من الناس يرتبط الكثير منهم بوجودهم في سوق‬

‫شعبي في مدينة وهان الصينية‪ ،‬بالتهاب رئوي حاد دون أي أسباب واضحة‪،‬‬

‫بعد ذلك ربط العلماء الصينيون االلتهاب الرئوي بساللة جديدة عرفت بإسم‬

‫كوفيد ‪ ،119-‬وفي ‪ 10‬يناير ‪ 2020‬تم اإلبالغ عن أول حالة وفاة و‪ 41‬إصابة‬

‫‪ - 1‬تعد فيروسات كورونا فصيلة كبيرة من الفيروسات التي تسبب اعتالالت تتنوع بين‬
‫الزكام وأمراض أكثر وخامة‪ ،‬مثل متالزمة الشرق األوسط التنفسية)‪، (MERS-CoV‬‬
‫ومتالزمة االلتهاب الرئوي الحاد الوخيم (سارس ‪) (SARS-CoV).‬ويمثل فيروس كورونا‬
‫املستجد )‪ (nCoV‬ساللة جديدة لم يسبق تحديدها لدى البشر من قبل‪.‬‬
‫وتعد فيروسات كورونا حيوانية املصدر‪ ،‬ويعني ذلك أنها تنتقل بين الحيوانات والبشر‪.‬‬
‫وتوصلت االستقصاءات املستفيضة إلى َّ‬
‫أن فيروس كورونا املسبب ملتالزمة االلتهاب الرئوي‬
‫الحاد الوخيم (سارس) قد انتقل من َس َنانير َّ‬
‫الزباد إلى البشر‪ ،‬بينما انتقل فيروس كورونا‬
‫املسبب ملتالزمة الشرق األوسط التنفسية من الجمال الوحيدة السنام إلى البشر‪ .‬وينتشر‬
‫ُ‬
‫العديد من فيروسات كورونا املعروفة بين الحيوانات‪ ،‬ولم تصيب البشر بعد‪.‬‬
‫اضا تنفسية والحمى والسعال وضيق النفس‬ ‫وتشمل األعراض الشائعة للعدوى أعر ً‬
‫وصعوبات في التنفس‪ .‬وفي الحاالت األكثر وخامة‪ ،‬قد تسبب العدوى االلتهاب الرئوي‪،‬‬
‫ومتالزمة االلتهاب الرئوي الحاد الوخيم‪ ،‬والفشل الكلوي‪ ،‬وحتى الوفاة‪.‬‬
‫انظر‪. http://www.emro.who.int/:‬‬
‫‪263‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ً‬
‫سريريا ناجمة عن هذا الفيروس الجديد‪ ، 1‬وبحلول ‪ 22‬يناير ‪،2020‬‬ ‫مؤكدة‬

‫انتشر الفيروس في املدن واملقاطعات الرئيسية الصينية‪ ،‬وقد تم اإلبالغ عن‬

‫‪ 571‬حالة مؤكدة و‪ 17‬وفاة‪ ،‬وإلى حدود تلك الفترة كان هذا الفيروس يعتبر‬

‫مشكلة صينية بحثة‪ ،‬يشاهد العالم فصولها دون مباالة والحياة مستمرة بكل‬

‫تفاصيلها‪ ،‬إلى أن أصبح هذا الفيروس في أغلب بقاع العالم‪ ،‬وبات عابرا‬

‫للحدود‪ ،‬ال يفرق بين قوة عظمى وعالم ثالث‪ .‬ومن هنا كان قد انتشر الفيروس‬

‫ليجتاح ما يزيد عن ‪ 140‬دولة في العالم‪ ،‬لتصنفه منظمة الصحة العاملية وباءا‬

‫عامليا‪.2‬‬

‫وترتيبا على اعتباره من طرف منظمة الصحة العاملية كجائحة‪ ،‬سارعت‬

‫مختلف الدول املوبوءة إلى اتخاذ مجموعة من اإلجراءات والتدابير الهادفة إلى‬

‫الحد من انتشار هذا الفيروس‪ ،‬حيث تباينت اإلجراءات من دولة إلى أخرى‬

‫‪1‬‬ ‫‪-Qin, Amy; Hernández : "China Reports First Death From New Virus".‬‬
‫‪Newspaper The New York Times, Number -Javier C. (2020-01-10) -.‬‬
‫‪https://www.nytimes.com.‬‬
‫‪ - 2‬أعلنت منظمة الصحة العاملية التابعة لألمم املتحدة يوم ‪ 2020-03-11‬وذلك على‬
‫لسان مديرها العام" تيدروس أدهانوم غيبرييسوس" أنه بات يعتبر الفيروس املسبب ملرض‬
‫"كوفيد‪ "19-‬الذي أصاب أكثر من ‪ 110‬آالف شخص حول العالم منذ دجنبر ‪ ،2019‬والذي‬
‫تفش ى حول العالم "جائحة"‪ ،‬أي أنه وباء متفش ي عامليا‪.‬‬
‫انظر املوقع الرسمي ملنظمة الصحة العاملية‪https://www.who.int/ar :‬‬
‫‪264‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ارتباطا بدرجة تفش ي الفيروس فيها ومدى قدرة منظومتها الصحية على‬

‫استيعاب هذا املتغير الجديد‪.‬‬

‫وتبعا لتداعيات الفيروس على مختلف مناحي الحياة الطبيعية‪ ،‬وإيمانا‬

‫منها بقدسية الحق في الحياة‪ ،‬هدفت الدول إلى إطالق برامج األبحاث وتطوير‬

‫اللقاحات‪ ،‬قصد إيجاد عالج فعال لهذا الفيروس املستجد‪ ،‬وإلى حدود كتابة‬

‫هذه األسطر تتباين وثيرة تقدم هذه االبحاث‪ ،‬فيما يبقى الكثير منها قيد‬

‫الكتمان العتبارات عديدة‪.‬‬

‫بناء على ما قيل سنحاول رصد تطور الحالة الوبائية في املغرب وفي‬

‫أغلب دول العالم‪ ،‬وكيف تحارب الدول هذا العدو الغير مرئي املشترك؟ ما‬

‫الذي يحدد استراتيجية كل دولة؟ وملاذا تأخرت دول كبرى في وضع‬

‫استراتيجيات ملواجهته؟ وأين وصلت مختلف التجارب السريرية إليجاد لقاح‬

‫فعال لهذا الفيروس؟‬

‫وملقاربة هذه االشكاليات سوف نعتمد على التقسيم التالي‪:‬‬

‫املحور األول‪ :‬تطور الحالة الوبائية بالعالم وباملغرب‬

‫املحور الثاني‪ :‬التدابير الوقائية للحد من انتشار الفيروس‬


‫‪265‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫املحور الثالث‪ :‬التجارب السريرية ورهان إيجاد لقاح لفيروس كورونا‬

‫املحور األول‪:‬‬

‫تطور الحالة الوبائية بالعالم وفي املغرب‬

‫أوال‪ :‬تطور الحالة الوبائية بالعالم‬

‫إن تتبع تطور الحصيلة الوبائية لفيروس كورونا عبر العالم‪ ،‬فرض علينا‬

‫اعتماد اإلحصائيات التي تقدمها منظمة الصحة العاملية في تقاريرها اليومية‬

‫بخصوص تطور الحالة الوبائية بالعالم‪ ،‬وكذلك موقع "وورلد ميترز"‬

‫املتخصص في رصد ومتابعة حاالت فيروس كورونا في العالم‪.1‬‬

‫وحسب االحصائيات املعلن عنها بلغ مجموع الحاالت املصابة في العالم‬

‫بهذا الفيروس إلى حدود يوم فاتح يوليوز‪ 2020-‬ما يقارب ‪12.000.000‬‬

‫مصاب‪ ،‬منها ‪ 4.054.153‬حاالتهم نشطة‪ ،‬ومجمل هذه االصابات هي في حالة‬

‫‪( .https://www.worldometers.info/coronavirus/#countries- 1‬تاريخ آخر اطالع‪،‬‬


‫فاتح يوليوز)‬
‫وورلد ميترز هو موقع ويب مرجعي يوفر إحصاءات ملواضيع متنوعة‪ ،‬تمتلكه وتديره شركة‬
‫داداكس املحدودة للبيانات بواسطة فريق دولي من املطورين والباحثين واملتطوعين‪.‬‬
‫‪266‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫معتدلة عددهم ‪ 3.996.485‬بنسبة ‪ %99‬من مجموع االصابات النشطة‪ ،‬في‬

‫حين ‪ 60.867‬مصاب حالتهم خطيرة وحرجة بنسبة تقدر ب ‪ %1‬من مجمل‬

‫اإلصابات النشطة‪ .1‬أما ما يتعلق بحاالت الشفاء فقد بلغت ‪ 5.376461‬حالة‬

‫شفاء من هذا الفيروس بنسبة ‪ %92‬من مجموع الحاالت املؤكد إصابتها‬

‫بفيروس كوفيد ‪ ،19-‬في حين بلغ عدد الوفيات ‪ 497.363‬حالة وفاة بنسبة‬

‫تقدر بـ ‪.%.8‬‬

‫من خالل اإلحصائيات املقدمة أعاله‪ ،‬يتبين أن مستوى االنتشار الكبير‬

‫الذي عرفه فيروس كورونا كوفيد ‪ 19-‬في العالم‪ ،‬وقوة قدرته على العدوى‬

‫واالنتشار فكل مصاب يمكن أن ينقل العدوى إلى أشخاص أخرين بمعدل ‪2‬‬

‫إلى ‪ ،%4.5‬وهو ما يعكس مدى خطورة تفش ي هذا الفيروس الذي أربك مجمل‬

‫النظم الصحية للدول حتى تلك التي لها قدرة أكثر على التحمل‪.2‬‬

‫وفي ذات السياق‪ ،‬سوف نحاول الوقوف على توزيع الحالة الوبائية حول‬

‫القارات لعلنا نقترب من معرفة سبب تفش ي هذا الفيروس بهذا الشكل السريع‬

‫‪1-https://www.worldometers.info/coronavirus/#countries‬‬ ‫‪( .‬تاريخ آخر اطالع‪،‬‬


‫فاتح يوليوز)‬
‫‪ - 2‬تقرير ملنظمة الصحة العاملية حول استراتيجية كوفيد ‪ 19‬املحدثة ‪ ،‬صدر بتاريخ ‪14‬‬
‫أبريل ‪.2020‬ص‪2.‬‬
‫‪267‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫عامليا‪ ،‬رغم أن أغلب الدول فرضت مجموعة من اإلجراءات والتدابير االحترازية‬

‫الصحية كتعليق كل الرحالت الجوية وفرض حجر صحي على عدة مدن ومنها‬

‫من قام بإغالق تام للحدود‪.‬‬


‫جدول‪ :1‬توزيع الحاالت املؤكدة حسب القارات‬

‫الوفيات‬ ‫الشفاء‬ ‫االصابات‬ ‫القارة‬

‫‪164,873‬‬ ‫‪1,301,988‬‬ ‫‪2,976,803‬‬ ‫أمريكا الشمالية‬

‫‪79,564‬‬ ‫‪1,172,972‬‬ ‫‪2,050,155‬‬ ‫أمريكا الجنوبية‬

‫‪190,324‬‬ ‫‪1,337,971‬‬ ‫‪2,397,490‬‬ ‫أوروبا‬

‫‪126‬‬ ‫‪8,570‬‬ ‫‪9,273‬‬ ‫استراليا‬

‫‪9,317‬‬ ‫‪175,746‬‬ ‫‪362,938‬‬ ‫افريقيا‬

‫‪53,289‬‬ ‫‪1,383,129‬‬ ‫‪2,135,089‬‬ ‫آسيا‬

‫من خالل الجدول أعاله‪ ،‬يتبين أن هناك تفاوتا بخصوص حاالت‬


‫االصابة بهذا الفيروس بين القارات‪ ،‬حيث تتصدر القارة األمريكية معدل‬
‫االصابات بنسبة ‪ %29.9‬بأمريكا الشمالية و‪ %20.6‬بأمريكا الجنوبية‪ ،‬وتليها‬
‫القارة األوروبية التي عرفت هي األخرى تفش ي واسع لهذا الفيروس وقد بلغت‬
‫نسبة االصابات حوالي ‪ %24.1‬من اجمالي االصابات في العالم‪ ،‬ثم بعد ذلك‬
‫‪268‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫تأتي القارة األسيوية بنسبة بلغت ‪ ،%21.5‬وتليها قارة أفريقيا بنسبة ‪%3.6‬‬
‫وأخير القارة األسترالية‪.‬‬
‫الدول‪1‬‬ ‫جدول‪ :2‬توزيع الحالة الوبائية لدى بعض‬

‫مجموع‬ ‫الحاالت‬ ‫حاالت‬ ‫مجموع‬ ‫مجموع‬


‫الدولة‬
‫االختبارات‬ ‫النشطة‬ ‫الشفاء‬ ‫الوفيات‬ ‫االصابات‬
‫‪5,215,922‬‬ ‫‪17,638‬‬ ‫‪187,615‬‬ ‫‪34,708‬‬ ‫‪239,961‬‬ ‫ايطاليا‬
‫‪1,384,633‬‬ ‫‪57,807‬‬ ‫‪75,351‬‬ ‫‪29,778‬‬ ‫‪162,936‬‬ ‫فرنسا‬
‫‪5,412,655‬‬ ‫‪7,873‬‬ ‫‪177,500‬‬ ‫‪9,026‬‬ ‫‪194,399‬‬ ‫املانيا‬
‫الواليات‬
‫‪31,354,678 1,356,660 1,068,768‬‬ ‫‪127,640‬‬ ‫‪2,553,068‬‬ ‫املتحدة‬
‫األمريكية‬
‫‪2,925,935‬‬ ‫‪526,419‬‬ ‫‪697,526‬‬ ‫‪56,109‬‬ ‫‪1,280,054‬‬ ‫البرازيل‬
‫‪90,410,000‬‬ ‫‪405‬‬ ‫‪78,444‬‬ ‫‪4,634‬‬ ‫‪83,483‬‬ ‫الصين‬
‫‪1,583,542‬‬ ‫‪29,155‬‬ ‫‪180,661‬‬ ‫‪10,364‬‬ ‫‪220,180‬‬ ‫ايران‬
‫‪1,479,759‬‬ ‫‪52,632‬‬ ‫‪120,471‬‬ ‫‪1,474‬‬ ‫‪174,577‬‬ ‫السعودية‬
‫‪135,000‬‬ ‫‪43,398‬‬ ‫‪16,737‬‬ ‫‪2,620‬‬ ‫‪62,755‬‬ ‫مصر‬

‫‪ - 1‬احصائيات يقدمها موقع ‪:‬‬


‫‪.https://www.worldometers.info/coronavirus/#countries‬‬
‫‪269‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪627,379‬‬ ‫‪2.934‬‬ ‫‪8.723‬‬ ‫‪220‬‬ ‫‪11.877‬‬ ‫املغرب‬

‫هذه اإلحصائيات تتعلق بانتشار الفيروس لدى بعض الدول في العالم‪،‬‬

‫وما يالحظ هو تباين تفش ي االصابة بفيروس كوفيد‪ 19-‬فيما بينهم‪ .‬وتسجل‬

‫الواليات املتحدة األمريكية أعلى معدل اصابات بنسبة تبلغ ‪ %25.7‬من مجموع‬

‫االصابات في العالم‪ .‬وتليها البرازيل بنسبة ‪ %12.8‬ثم بعد ذلك تأتي الدول‬

‫األوروبية باعتبارها أول مناطق تفش ي فيروس كورونا بعد الصين‪ ،‬حيث كانت‬

‫إيطاليا أول دولة أوربية تأثرت بهذا الوباء‪ ،1‬ثم توالت ظهور حاالت االصابة‬

‫املؤكدة بدول اوروبية أخرى (الحالة الصفر) كفرنسا وأملانيا واسبانيا‪ ،‬وحسب‬

‫اإلحصائيات التي أوردناها أعاله يظهر لنا جليا مدى قوة انتشار الفيروس لدى‬

‫أغلب البلدان‪.‬‬

‫ويرجع سبب تفش ي الوباء في هذه الدول إلى التباين في تبني اإلجراءات‬

‫االحترازية املتدرجة والجزئية فمثال إيطاليا انتظرت حتى يوم ‪ 22‬فبراير ‪2020‬‬

‫لتقر أول حجر صحي ل ‪ 50‬ألف شخص في املناطق الشمالية من إيطاليا؛ حيث‬

‫أغلقت املدارس ومنعت األنشطة الرياضية‪ ،‬لكن يبدو أن قرار الحجر الصحي‬

‫‪1 - Amante, Angelo; Pollina, Elvira -Reuters Magazine‬‬


‫‪.«Two first coronavirus‬‬
‫‪cases confirmed in italy» WORDLD NEWS-30 JANUARY 2020 / 11:05 PM.‬‬
‫‪270‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الذي أقر يوم ‪ 8‬مارس ‪ 2020‬كان متأخرا‪ ،‬بعد أن وصلت الحاالت املصابة‬

‫قرابة ‪ 20‬ألف مصاب‪ .‬وبقيت نسب االصابات في ارتفاع طيلة شهر مارس إلى‬

‫بداية شهر ماي‪ ،‬وهو ما وضع القطاع الصحي اإليطالي وبعض الدول األوروبية‬

‫كإسبانيا تحت الضغط الشديد‪ ،‬إلى درجة أنه فرض على األطباء االختيار‬

‫الصعب حول من يتلقى العالج أوال إلنقاذ حياته؟ ومن يحرم منه وفقا لتقييم‬

‫الحالة املرضية لقدرتها على االستجابة للعالج؟‪.1‬‬

‫وبالتالي هذا التباين على مستوى نسب االصابة بين أغلب دول العالم‪.‬‬

‫لدرجة أنه لم يشكل الفارق الزمني بين تسجيل أول إصابة عامال أساسيا في‬

‫ارتفاع عدد االصابات‪ ،‬هو أمر يجعلنا نتساءل عن مختلف العوامل املساهمة‬

‫في تباين معدالت انتشار الفيروس بين دول العالم؟‬

‫يعد االختالف في التدابير التي اعتمدتها أغلب دول العالم عامال رئيسيا‬

‫في تباين نسب االصابة‪ ،‬والتي تتجلى أساسا في تتبع الحاالت التي أصيبت ورصد‬

‫‪ - 1‬انهيار منظومات الحماية الصحية واالجتماعية‪ ،‬ونموذج دولة الرفاه االجتماعي في دول‬
‫كان يضرب بها املثل في ذلك؛ حتى إننا لم نعد نميز بين هشاشة تلك املنظومة في هذه‬
‫الدول ونظائرها بعض دول الفقيرة‪ ،‬وانهزمت قيم التضامن وانكشفت خلفيات بعض‬
‫الدول التي كانت تقدم نفسها على أنها مهد للقيم والتضامن والديمقراطية‪ ،‬خاصة بعد‬
‫أحداث مصادرة الكمامات واملعدات الطبية بين عدة دول فيما بينها‪.‬‬
‫‪271‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫املخالطين والرفع من عدد االختبارات‪ ،‬باإلضافة إلى توقيت وكيفية إعالن حالة‬

‫الطوارئ وما تبعها من فرض إلجراءات الحجر الصحي‪ ،1‬فأغلب البلدان التي‬

‫تقيدت بهذه اإلجراءات في تدبيرها لهذه الجائحة وذلك حسب ما أقرته منظمة‬

‫الصحة العاملية في تقاريرها‪ ،‬أن هذه األخيرة استطاعت التحكم في حالتها‬

‫الوبائية‪ ،‬وهو انعكس بشكل إيجابي على قدرتها في تقديم الرعاية السريرية‬

‫ذات الجودة‪ ،‬وتقليل الوفيات الناجمة عن أسباب أخرى من خالل استمرار‬

‫توفير الخدمات الصحية الضرورية بشكل آمن‪ ،‬كدولة نيوزيلندا التي حققت‬

‫هدفها الطموح املتمثل في محاصرة انتشار فيروس كورونا‪ ،2‬بعد خطوات تعتبر‬

‫من أول وأقس ى إجراءات العزل الذاتي في العالم‪ ،‬وهو ما جعلها تصل إلى معدل‬

‫‪ - 1‬الفرق بين العزل الذاتي والحجر الصحي الذاتي والتباعد الجسدي‪:‬‬


‫‪ -‬الحجر الصحي يعني تقييد األنشطة وعزل األشخاص غير املرض ى هم أنفسهم ولكنهم‬
‫ربما تعرضوا لإلصابة بعدوى كوفيد‪ .19-‬والهدف هو منع انتشار املرض في الوقت الذي ال‬
‫تكاد تظهر أي أعراض على الشخص‪.‬‬
‫‪ -‬أما العزل فيعني عزل األشخاص املرض ى الذين تظهر عليهم أعراض كوفيد‪ 19-‬ويمكنهم‬
‫نقل عدواه‪ ،‬ملنع انتشار املرض‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ -‬ويعني التباعد الجسدي االبتعاد عن اآلخرين جسديا‪ .‬وتوص ي املنظمة باالبتعاد عن‬
‫اآلخرين مسافة متر واحد (‪ 3‬أقدام) على األقل‪ .‬وهي توصية عامة يتعين‬
‫على الجميع تطبيقها حتى لو كانوا بصحة جيدة ولم يتعرضوا لعدوى كوفيد‪.19-‬‬
‫انظر املوقع االلكتروني الخاص بمنظمة الصحة العاملية‪https://www.who.int.‬‬
‫‪ (.‬املوقع الرسمي لوزارة الصحة بنيوزيلندا) (تاريخ آخر ‪2 -https://www.health.govt.nz/‬‬

‫اطالع‪ ،‬فاتح يوليوز)‬


‫‪272‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫قليل في عدد االصابات بلغ ‪1,522‬اصابة ‪ ،‬تعافت منها ‪ 1,484‬حالة ‪ ،‬وماتت‬

‫‪ 22‬حالة‪.1‬‬

‫ومن بين الدول التي اعتمدت هذه املقاربة في التصدي لهذه الجائحة‬

‫أيضا‪ ،‬وتمكنت من السيطرة على الوضع الوبائي بها‪ ،‬الصين البلد مصدر هذه‬

‫الجائحة والتي قامت بإجراءات فعالة‪ ،‬كاإلغالق الشامل للمدن التي تعرف‬

‫تفشيا للفيروس وتمكينها من اإلمدادات الالزمة على وجه السرعة في محاولة‬

‫لحصر امتداد الفيروس وتقليل حاالت اإلصابة‪ .‬وقد تمكنت في ‪ 10‬مارس ‪2020‬‬

‫الصين من السيطرة على الفيروس‪ ،‬وهو األمر الذي وصفته منظمة الصحة‬

‫العاملية باالحتواء الفعال والناجع‪ ،‬وقد سعت الصين إلى نقل نموذجها إلى‬

‫الدول املصابة‪.2‬‬

‫وكذلك نشير وحسب اإلحصائيات املعلن عنها والتي تبين أن نسبة الفتك‬

‫في دول العالم العربي والدول اإلفريقية هي نسب قليلة مقارنة مع باقي دول‬

‫‪1‬‬ ‫(تاريخ ‪- https://www.worldometers.info/coronavirus/country/new-zealand‬‬


‫آخر اطالع‪ ،‬فاتح يوليوز)‬
‫‪ - 2‬اعالن الرئيس الصيني‪ ،‬ش ي جين بينغ‪ ،‬يوم ‪10‬مارس‪ 2020‬على أنه "تمت السيطرة‬
‫عمليا" على تفش ي فيروس كورونا املستجد في مقاطعة هوبي بؤرة انتشاره وعاصمتها‬
‫ووهان‪.‬‬
‫‪273‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫العالم‪ ،‬وهذا يرجع إلى عدة أسباب أهمها‪ ،‬أن هذه الدول لم تصل بعد ملرحلة‬

‫الذروة‪ ،‬لهذا االصابات فيها ال تزال قليلة ولم ينتشر الفيروس في كل املدن‬

‫عكس الدول األخرى كالدول األوربية ألن املواصالت بينهم سريعة‪ ،‬وهو ما‬

‫يجعل التواصل بينهم بشكل مستمر وبالتالي كان الفيروس يتنقل بينهم بشكل‬

‫سريع‪.‬‬

‫وتجدر اإلشارة إلى أنه بداية من شهر يونيو ‪ 2020‬بدأت دول عديدة في‬

‫أوروبا وآسيا واملنطقة العربية تخفيف إجراءات العزل املتخذة ملواجهة انتشار‬

‫جائحة فيروس كورونا بعدما أصبحت تشهدا انخفاضا في تسجيل عدد‬

‫اإلصابات‪ ،‬في ظل تحذيرات من منظمة الصحة العاملية من ذروة ثانية للمرض‬


‫ُ‬
‫في الدول التي شهدت تراجع اإلصابات بالفيروس‪ ،‬في حال خففت اإلجراءات‬

‫بشكل أسرع من الالزم‪.‬‬

‫أما فيما يتعلق بالفئات العمرية األكثر إصابة بفيروس كورونا حسب‬

‫مختلف بلدان العالم‪ ،‬أشارت مجموعة من األبحاث حسب ما أعلنت عنه‬

‫منظمة الصحة العاملية أن املرض ال يستهدف فئة عمرية محددة‪ ،‬غير أن‬

‫‪274‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫مضاعفاته الوخيمة تسجل بنسبة أكبر عند املسنين‪.1‬‬

‫فحسب نتائج دراسة أجرتها منظمة الصحة العاملية على ‪ 56‬ألف مريض‬

‫"صيني" بفيروس كورونا كوفيد‪ ،19-‬ملعرفة نسب تأثير الفيروس على مختلف‬

‫الفئات العمرية‪ 2‬والتي حددت نسب التأثير فيما يلي‪:‬‬

‫جدول‪ :3‬معدل الوفيات حسب الفئات العمرية‬

‫معدل الوفيات‬ ‫الفئات العمرية‬

‫‪14.8%‬‬ ‫فوق ‪ 80‬سنة‬

‫‪8%‬‬ ‫ما بين‪ 70‬و ‪ 79‬سنة‬

‫‪3.8%‬‬ ‫ما بين ‪ 60‬و ‪ 69‬سنة‬

‫‪1.3%‬‬ ‫ما بين ‪ 50‬و ‪ 59‬سنة‬

‫‪0.4%‬‬ ‫ما بين ‪ 40‬و ‪ 49‬سنة‬

‫‪ - 1‬منظمة الصحة العاملية‪ ،‬مرض فيروس كورونا (كوفيد‪ :)19-‬سؤال وجواب‪.‬‬


‫انظر املوقع االلكتروني‪( https://www.who.int:‬تاريخ آخر اطالع‪ ،‬فاتح يوليوز)‬
‫ُ‬
‫‪ - 2‬نشر هذا التقرير في ‪ 27‬فبراير ‪ 2020‬على املوقع الرسمي ملنظمة الصحة العاملية‬
‫‪275‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪0.2%‬‬ ‫ما بين‪ 10‬و ‪ 39‬سنة‬

‫‪0.0%‬‬ ‫ما بين ‪ 0‬و ‪ 9‬سنة‬

‫يشير الجدول أعاله إلى أن خطر الوفاة يكون أقل بالنسبة للفئة العمرية‬
‫عاما‪ ،‬ولكنه مرتفع بالنسبة للفئة العمرية فوق ‪ً 50‬‬
‫عاما‪ ،‬ويختلف‬ ‫تحت ‪ً 50‬‬

‫هذا املعدل بين الجنسين‪ %4.7 ،‬رجال و‪ %2.8‬نساء‪.1‬‬

‫ثانيا‪ :‬تطور الحالة الوبائية باملغرب‬

‫منذ أن أعلن عن تفش ي فيروس كورونا كوفيد‪ 19-‬بجمهورية الصين‬

‫الشعبية في ‪ 31‬دجنبر ‪ ،2019‬عملت الدولة املغربية على ترصد الوباء من خالل‬

‫املنظومة الوطنية للمراقبة الوبائية‪ ،‬كما هيأت كل ما يتعلق بوسائل‬

‫التشخيص الفيروس ي والوقاية منه‪ ،‬لتفادي انتشار هذا الفيروس بشكل‬

‫خطير‪.2‬‬

‫وبلغ عدد املصابين بفيروس كورونا باملغرب منذ تسجيل الحالة األولى‬

‫‪1 -https://www.breizh-info.com/).Coronavirus – Quel taux de mortalité par âge‬‬

‫)‪((2020‬تاريخ آخر اطالع‪ ،‬فاتح يوليوز ‪et sexe ? Situation statistique au 17 mars‬‬
‫‪ - 2‬بالغ صحفي صادر عن وزارة الصحة‪ ،‬حول فيروس كورونا املستجد في الصين ‪24 ،‬‬
‫يناير ‪.2020 ،‬‬
‫‪276‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫يوم ‪ 2‬مارس ‪ 20201‬إلى حدود يوم ‪ 27‬يونيو‪ ،2020‬ما مجموعه ‪11.877‬حالة‬

‫مؤكدة وهو ما يشكل ‪ %0.1‬من مجموع االصابات بهذا الفيروس في العالم‪،‬‬

‫وعدد الوفيات املسجلة بلغ ‪ 220‬وفاة بنسبة ‪ %1.84‬من مجموع االصابات‬

‫بهذا الفيروس في املغرب ‪ ،‬أما ما يتعلق بحاالت الشفاء‪ ،‬فقد بلغت ‪ 8723‬حالة‬

‫شفاء أي نسبة ‪ %73.39‬من مجموع اإلصابات‪ ،‬وتبقى ‪ 2934‬من الحاالت‬

‫النشطة التي تتلقى العالج ونسبتها ‪ %24.83‬منهم ‪ 2927‬مصاب حالتهم مستقرة‬

‫و‪ 7‬مصابين يوجدون تحت العناية املركزة ‪.2‬‬

‫نتساءل إلى أي حد تعكس هذه األرقام فعليا واقع انتشار الفيروس؟‬

‫مبيان‪ :1‬تطور لحالة الوبائية في املغرب حسب احصائيات وزارة الصحة‬

‫‪ - 1‬البالغ رقم ‪ 10‬الصادر عن وزارة الصحة أعلنت فيه إلى علم الرأي العام أنه تم تسجيل‬
‫أول حالة إصابة مؤكدة بفيروس كورونا املستجد‪.‬‬
‫‪ -2‬البوابة الرسمية لفيروس كورونا باملغرب‪( http://www.covidmaroc.ma/ :‬تاريخ آخر‬
‫اطالع‪ ،‬فاتح يوليوز ‪)2020‬‬
‫‪277‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫من خالل املبيان أعاله يتضح لنا مستوى تطور الحالة الوبائية باملغرب‪،‬‬

‫بدءا من تسجيل أول حالة إلى حدود يوم ‪ 27‬يونيو ‪ ،2020‬والذي تميز بعدة‬

‫خصائص أولها أن األرقام واملؤشرات الصادرة من منتصف شهر ماي ‪2020‬‬

‫عن الجهات الوصية‪ ،‬توحي أن الوضعية الوبائية باملغرب اتسمت بنوع من‬

‫عدم االستقرار‪ ،‬والخاصية االساسية التي تميز الوضعية الوبائية باملغرب‪ ،‬أنه‬

‫لم يصل إلى مستوى مرتفع في تفش ي الفيروس عكس ما عرفته عدة دول أخرى‪،‬‬

‫كالدول األوروبية القريبة منه جغرافيا كإسبانيا التي بلغت فيها نسب الحاالت‬

‫املؤكد إصابتها بفيروس كورونا كوفيد‪ 19-‬إلى حدود ‪ 27‬يونيو ‪ 2020‬ما يقارب‬

‫‪ 294,985‬حالة مؤكدة‪ ،‬توفيت منها ‪ 28,338‬حالة وفاة ناجمة عن اإلصابة‬

‫‪278‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫بهذا الفيروس وبعد الدول العربية املجاورة‪. 1‬‬

‫وعلى املستوى املحلي يتضح أيضا من خالل مقارنة االرقام املسجلة‬

‫بشكل يومي أن منحنى تطور الحالة الوبائية باملغرب يتصف بالتذبذب‪ ،‬ويرجع‬

‫هذا إلى ظهور مجموعة البؤر الوبائية في أوساط عائلية أو مهنية وصناعية‬

‫حسب ما تعلن عنه الجهات الوصية في تقاريرها اليومية‪ ،2‬وقد سجل في األيام‬

‫األخيرة من شهر يونيو ‪ 2020‬ارتفاعا غير مسبوق وهو ما يعتبر غير عاديا‬

‫خصوصا في هذه الفترة املتميزة بتخفيف إجراءات الحجر الصحي واستئناف‬

‫األنشطة االقتصادية‪.‬‬

‫وما يفسر هذا االرتفاع هو ارتباط أو تموقع هذه اإلصابات بهذا الفيروس‬

‫ببؤر مهنية‪ ،‬إضافة إلى تطور جاهزية الرصد واالستقصاء الوبائي والكشف‬

‫املبكر وهذا املعطى يتجلى في اكتشاف حاالت بدون أعراض وإن كانت تكون‬

‫خفيفة وحميدة‪.3‬‬

‫وبالتالي ضبط منحنى تطور الحالة الوبائية باملغرب والحديث عن‬

‫‪1 -https://www.worldometers.info/coronavirus/#countries.‬‬

‫‪ - 2‬يمكن الرجوع في هذا الصدد إلى التقارير الصحافية اليومية التي تقدمها وزارة الصحة‪.‬‬
‫‪ - 3‬بالغ صحفي صادر عن وزارة الصحة يوم السبت ‪ 27‬يونيو ‪.2020‬‬
‫‪279‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫التحكم في انتشار الوباء‪ ،‬يرتكز على معايير دولية موضوعة من قبل منظمة‬

‫الصحة العاملية وهي كالتالي‪:‬‬

‫الحاالت النشطة‪ :‬من خالل اإلحصائيات‪ ،‬يتضح أن الحاالت النشطة‬

‫باملغرب‪ ،‬في انخفاض مستمر بداية من ‪ 26‬أبريل‪ ،‬لتعود إلى االرتفاع مؤخرا‬

‫خاصة مع نهاية شهر يونيو ‪ 2020.‬وحاليا تشكل نسبة الحاالت النشطة‬

‫‪ %24.83‬من إجمالي عدد اإلصابات‪.‬‬

‫معامل انتقال العدوى‪ :‬ان انخفاض مؤشر انتقال العدوى كما هو محدد‬

‫في الضابط العملي ‪ (Ro)1‬الذي يرصد نسبة توالد الفيروس‪ ،‬ويبلغ معامل‬

‫انتقال العدوى باملغرب ‪.%0.76‬‬

‫‪2‬‬ ‫نسبة اإلماتة‪ :‬حيث وصلت ‪% 1.84‬‬

‫أما فيما يتعلق بتوزيع الحاالت جهويا‪ ،‬تحتل مدينة الدار البيضاء الرتبة‬

‫األولى على مستوى هذا التصنيف بمعدل ‪ 19‬حالة نشطة لكل ‪ 100.000‬ألف‬

‫‪ - 1‬رقم التكاثر أو إعادة إنتاج الفيروس و يرمز له ببساطة بالحرف االنجليزي "‪ "R‬اختصارا‬
‫لكلمة‪Reproduction.‬‬
‫ما هو الرقم"‪ "R‬؟‬
‫هو مختصر لرقم التكاثر‪ ،‬وهو مصطلح يستخدم في علم األوبئة‪( ،‬في إشارة إلى تكاثر‬
‫الفيروس وإنتقاله إلى أشخاص جدد)‪ ،‬ويمثل طريقة لتقييم قدرة املرض على االنتشار‪.‬‬
‫‪ - 2‬البوابة الرسمية لفيروس كورونا باملغرب‪http://www.covidmaroc.ma/:‬‬
‫‪280‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫نسمة‪ ،‬ثم بعد ذلك كل من (الرباط –مراكش –طنجة‪ -‬فاس) بمعدل ‪ 5‬حاالت‬

‫نشطة لكل ‪ 100.000‬ألف نسمة‪ ،‬أما بالنسبة لباقي املدن يسجل معدل ‪2‬‬

‫حاالت إلى حالة وحيدة نشطة لكل ‪ 100.000‬ألف نسمة‪.1‬‬

‫جدول ‪ :4‬توزيع حاالت الوبائية حسب الجهات‪:‬‬

‫‪2‬‬ ‫نسبة االصابة‬ ‫عدد االصابات‬ ‫الجهات‬


‫‪28,01 %‬‬ ‫‪3340‬‬ ‫الدار البيضاء‪-‬سطات‬
‫‪15,89 %‬‬ ‫‪1884‬‬ ‫مراكش – أسفي‬
‫‪17,54 %‬‬ ‫‪2078‬‬ ‫طنجة ‪ -‬تطوان – الحسيمة‬
‫‪10,09 %‬‬ ‫‪1196‬‬ ‫فاس – مكناس‬
‫‪16,21 %‬‬ ‫‪1922‬‬ ‫الرباط ‪ -‬سال – القنيطرة‬

‫‪ - 1‬املرجع السابق‪.‬‬
‫‪ -2‬املرجع السابق‪.‬‬
‫‪281‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪4,94 %‬‬ ‫‪586‬‬ ‫درعة تافياللت‬


‫‪1,70 %‬‬ ‫‪201‬‬ ‫الجهة الشرقية‬
‫‪1,25 %‬‬ ‫‪150‬‬ ‫بني مالل – خنيفرة‬
‫‪0,76 %‬‬ ‫‪90‬‬ ‫سوس – ماسة‬
‫‪0,60 %‬‬ ‫‪71‬‬ ‫كلميم ‪ -‬واد نون‬
‫‪2,93 %‬‬ ‫‪347‬‬ ‫العيون ‪ -‬الساقية الحمراء‬
‫‪0,09 %‬‬ ‫‪11‬‬ ‫الداخلة ‪ -‬وادي الذهب‬

‫من خالل هذه املعطيات التي أشرنا لها سلفا‪ ،‬يبدوا أن االستراتيجية‬

‫الوطنية للتحكم في الوباء جنبت بالدنا األسوأ والذي قدرته بعض الدراسات‬

‫والتقارير في تفادي أزيد من ‪ 9.000‬وفاة‪ ،‬واحتالل مراتب متقدمة في‬

‫التصنيفات العاملية " ملؤشر الصرامة" في تعامل الدول مع الوباء‪ ،‬حيث يحتل‬

‫الرتبة الثانية على مستوى شمال إفريقيا‪ ،‬والرتبة ‪ 51‬عامليا في تصنيف شمل‬

‫‪ 122‬دولة‪.1‬‬

‫‪ - 1‬عرض وزير الصحة أمام لجنة القطاعات االجتماعية بمجلس النواب يومه ‪ 28‬ماي‬
‫‪ ".2020‬جائحة كورونا ببالدنا‪ :‬تدابير التصدي وتصورات الخالص"‪.‬‬
‫‪282‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫املحور الثاني‪:‬‬

‫التدابير الوقائية للحد من انتشار الفيروس‬

‫عموما‪ ،‬تبنت دول العالم عدة استراتيجيات للتعامل مع انتشار وباء‬

‫فيروس كورونا‪ ،‬فبعض الدول أغلقت مدنها بشكل كامل كالصين مثال‪ ،‬وبعضها‬

‫تركت األمور اختيارية حسب حالة كل مدينة‪ ،‬والبعض األخر حاول تبني‬

‫سياسة مختلفة تقوم على ترك الوباء ينتشر بحثا عن مناعة طبيعية مكتسبة‪،‬‬

‫وبعد مرور عدة أشهر على انتشار وباء كوفيد‪ ،19‬أصبح لدينا تصورا عن نتيجة‬

‫كل إجراء‪ ،‬وقد قامت جامعة جونز هوبتكينز ‪Johns Hopkins University‬‬

‫‪283‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫بتقديم محاكاة لكل استراتيجية‪ ،‬وبالتالي معرفة كيف تؤثر كل استراتيجية على‬

‫حالة البلد‪.1‬‬

‫املحاكاة األولى‪ :‬في هذه الحالة سيتم ترك األمور بدون ضوابط (يعني في‬

‫حالة ما الدولة لم تقم بأي اغالق أو حجر صحي بل تعمل على ترك الفيروس‬

‫ينتشر ويأخذ املنحى الطبيعي الخاص به وهذه االستراتيجية تسمى سياسة‬

‫القطيع‪ ،2‬ماذا سيحدث؟‬

‫عندما يتحرك املريض املصاب بدون ضوابط يصيب األخرين وفي فترة‬

‫زمنية قصيرة‪ ،‬سيصاب أكبر عدد ممكن من األشخاص‪ ،‬وسيتعافى البعض‬

‫ويتوقف األمر في النهاية أمام معادلة قدرة الدولة على عالج كل املرض ى مقابل‬

‫عددهم املتزايد بكثافة في نفس الوقت‪.‬‬

‫وهذه االستراتيجية تصلح عندما يكون انتشار الفيروس بطيء‪ ،‬وليس له‬

‫نسب وفيات مرتفعة وال يترتب عنه ضغط على األنظمة الصحية‪ ،‬وهو ما دفع‬

‫‪1‬‬ ‫‪-https://www.jhu.edu/.‬‬
‫‪2‬‬‫‪(2020) The long road to‬تاريخ آخر اطالع‪ ،‬فاتح يوليوز ‪- https://www.jhu.edu/:‬‬
‫‪herd immunity "Achieving herd protection can stop the spread of an infectious‬‬
‫‪disease within a population, but as Bloomberg School experts explain, the U.S. is‬‬
‫‪nowhere near that point with SARS-CoV-2, and getting there could prove‬‬
‫"‪difficult.‬‬
‫‪284‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫عدة دول تبنت هذه االستراتيجية إلى التراجع عنها‪.‬‬

‫املحاكاة الثانية‪ :‬في هذه الحالة فرضت اجراءات مكنتها من فرض حجر‬

‫جزئي‪ ،‬مما سمح للمواطنين التحرك بدون قيود (عدم وجود تباعد اجتماعي)‪،‬‬

‫وفي هذه الحالة محاصرة الفيروس تبقى رهينة بدرجة وعي املواطنين وهذه‬

‫التجربة حققت نتائج مهمة في عدة بلدان كأملانيا‪.‬‬

‫املحاكاة الثالثة‪ :‬فرضت الدولة حجرا صحيا كامال يهدف إلى خلق تباعد‬

‫اجتماعي حيث بقي ثالثة أرباع السكان في البيوت‪ ،‬كيف سيتغير الحال؟‬

‫في هذه الحالة تتاح للدولة فرصة جيدة للتعامل مع املرض والسيطرة‬

‫عليه‪ ،‬االمر الذي يمكنها من أن تقدم الرعاية الالزمة للمرض ى‪ ،‬ألن اعدادهم‬

‫مناسبة للنظام الصحي‪ .‬وهذه االستراتيجية عملت ‪ 50%‬من بلدان العالم على‬

‫تطبيقها ‪ ،‬والتي فرضت حجر صحي كامال وتباعدا اجتماعيا وحظرا للتجوال‪،‬‬

‫باإلضافة إلى وعي املجتمع وهو ما يمكن الحكومات من أال تشل اقتصادها‬

‫بشكل كامل‪ ،‬حتى ال يتضرر بشكل كبير‪ ،‬وتضمن املحافظة على القدرات‬

‫األساسية واملوارد األساسية‪.‬‬

‫وبالتالي يبقى هذا السيناريو هو املناسب ملحاصرة الوباء لطاملا هناك وعي‬

‫‪285‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫مجتمعي‪ ،‬رغم أن هذا السيناريو إلى حد ما سيصطدم بعقليات الناس‬

‫املختلفة‪ ،‬ويبقى الرهان على الحكومات حول كيفية إيصال الرسالة إلى شعوبها‬

‫واتجاهاتها الفكرية‪.‬‬

‫املحاكاة الرابعة‪ :‬في هذه الحالة لم يخرج إال واحد من كل ‪ 8‬أفراد‪ ،‬وذلك‬

‫لضمان استمرارية املنظومة االقتصادية‪ .‬وهو مما سيؤدي إلى اصابة أقل عدد‬

‫من السكان‪ ،‬ويبقى القطاع الصحي واملنظومة كلها قادرة على التعامل بسهولة‬

‫مع اعداد املرض ى وسيتعافى الناس بسهولة ولن تتضرر الحاجيات األساسية‪.‬‬

‫رغم أنه سيناريو قاص ي وحاد لكنه سريع جدا في الحد من انتشار الفيروس‪.‬‬

‫فإلي أي مدى نجحت الدول في تطبيق هذه اآلليات في تدبيرها لهذه‬

‫األزمة الوبائية؟‬

‫تعتبر الصين مهد فيروس كورونا‪ ،‬وخصوصا مدينة ووهان التي تعد بؤرة‬

‫ظهور هذا األخير في أواخر شهر دجنبر ‪ ،2019‬ومنذ ذلك الوقت اتخذت الحكومة‬

‫الصينية إجراءات في محاولة للحد من انتقال املرض والتقليل من مخاطره على‬

‫الصحة العامة‪ ،‬وإذا كان العالم اليوم يجمع على تصدي الصين لجائحة‬

‫كورونا‪ ،‬رغم العدد املرتفع في حاالت اإلصابة‪ ،‬فإن تعاطيها مع الجائحة اتسم‬

‫‪286‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫بنوع من الخصوصية مقارنة مع باقي دول العالم‪ ،‬حيث لم تشمل إجراءات‬

‫التصدي فقط فرض الحجر الصحي‪ ،‬بل تعدته إلى اعتماد إجراءات غير‬

‫مشروعة من أجل التحكم في الفيروس من قبيل مضاعفة عمليات مراقبة‬

‫السكان والتجسس عليهم وصلت حتى االعتقال؛ إذ أن أول طبيب أشار إلى‬

‫خطورة الفيروس تم اعتقاله بتهمة نشر أخبار كاذبة قبل أن يتوفى بفعل‬

‫اصابته بالفيروس‪ .‬كما عملت الصين على االستخدام األمثل للتكنولوجيا‬

‫وذلك عبر خلق تطبيقات الكترونية ملراقبة تنقالت السكان الكترونيا‪ ،‬باإلضافة‬

‫إلى أن شركات االتصال تتعقب حركة السكان هي األخرى‪ ،‬ويتم التعرف عن‬

‫طريق الوجه على بعض االعراض األولية للمرض‪ ،‬كما لجأت بعض املدن إلى‬

‫تشجيع الناس بجوائز لإلبالغ عن جيرانهم املرض ى‪ ،‬كما اجرت الدولة عزال‬

‫صحيا واسعا وأغلقت عدة مدن‪ .1‬وهو االمر الذي دفع منظمة الصحة العاملية‬

‫إلى القول بأن دول العالم لن تملك القدرة على نهج خطى الصين في مجابهة‬

‫فيروس كورونا‪ ،‬وذلك لعدة اعتبارات من بينها اختالف األنظمة السياسية‬

‫ودرجات الديمقراطية واحترام حقوق االنسان‪.‬‬

‫‪ - 1‬إسماعيل عزام‪ ،‬الصين أم تايوان‪ ...‬أي تجربة يمكن االقتداء بها ملكافحة كورونا؟‪،‬‬
‫مقال منشور على الصفحة الرسمية لقناة ‪ DW‬األملانية‪،https://www.dw.com/ar ،‬‬
‫اطلع عليه بتاريخ ‪ 2‬يونيو ‪ 2020‬على الساعة ‪.16H30‬‬
‫‪287‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫وفي تجربة أخرى‪ ،‬تعتبر التايوان من الدول التي نجحت إلى حد كبير في‬

‫التصدي لجائحة كورونا‪ ،‬فرغم قربها الجغرافي من الصين بؤرة ظهور وتفش ي‬

‫الفيروس‪ ،‬وبالرغم من كون تايوان ليست عضوة في منظمة الصحة العاملية‪،‬‬

‫إال أنها تمكنت من التعاطي بشكل جيد مع كوفيد‪ ،19-‬وذلك عبر إدراك االبعاد‬

‫املحتملة لألزمة في الوقت املناسب‪ ،‬عبر استباق تطورات املوقف بخطوة أبعد‪،‬‬

‫باإلضافة إلى استفادتها من تجربة وباء سارس ‪ 2003/2002‬وإنشائها ملركز‬

‫للقيادة الصحية الوطنية )‪ ،(CECC‬والذي وفر البيانات للحكومة من أجل‬

‫التعامل مع الجائحة‪ ،‬كما قامت بدمج قاعدة بيانات التأمين الصحي الوطني‬

‫مع بيانات الهجرة والجمارك للتعرف على املرض ى املحتملين وفقا لسجالت‬

‫سفرهم‪ ،‬وبحلول منتصف فبراير‪ 2020‬كانت جميع املشافي والعيادات قادرة‬

‫على االطالع على سجالت سفر املرض ى‪ ،‬وفي وقت الحق طورت الحكومة برنامجا‬

‫يتيح للمسافرين العائدين إلى تايوان اإلبالغ عن خطوط سيرهم وتسجيل أي‬

‫تغييرات تطرأ على حالتهم الصحية‪.1‬‬

‫‪ - 1‬ويليام يانغ‪ ،‬هكذا خاضت تايوان معركتها الناجحة ضد كورونا‪ ،‬مقال منشور على‬
‫الصفحة الرسمية لقناة ‪ DW‬األملانية‪ ،https://www.dw.com/ar ،‬اطلع عليه بتاريخ ‪2‬‬
‫يونيو ‪ 2020‬على الساعة ‪.16H50‬‬
‫‪288‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫أما في الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬فقد تم تسجيل أول إصابة بتاريخ ‪21‬‬

‫يناير ‪ ،2020‬وفي حدود ‪ 23‬فبراير تم تسجيل ‪ 14‬حالة إصابة مؤكدة جلها‬

‫ملواطنين أمريكيين قادمين من الصين‪ ،‬ومع نهاية شهر ماي أصبحت أمريكا‬

‫تسجل مستويات قياسية في معدالت اإلصابة‪ ،‬بحيث أصبحت األولى عامليا من‬

‫حيث اإلصابة؛ إذ تقترب من حاجز مليوني حالة إصابة‪.‬‬

‫وقد قامت الحكومة الفيدرالية بمجموعة من اإلجراءات الوقائية ابتدأت‬

‫بمنح منظمة الغذاء والدواء اإلذن ملركز مكافحة األمراض والوقاية منها من‬

‫أجل انتاج أجهزة للكشف السريع عن اإلصابات املحتملة بكوفيد‪،19-‬‬

‫باإلضافة إلى الرفع من ميزانية تطوير اللقاحات بحوالي ‪8,3‬مليار دوالر‪ ،‬وإحداث‬

‫لجنة قيادة ملحاربة فيروس كورونا برئاسة ‪ Mike Pence‬نائب رئيس الواليات‬

‫املتحدة األمريكية‪.‬‬

‫كما أعلن الرئيس األمريكي عن حالة الطوارئ الصحية بتاريخ ‪ 13‬مارس‬

‫‪ ،2020‬وتفعيل قانون ‪ 1960‬املتعلق بحالة الطوارئ العسكرية وذلك من أجل‬

‫مضاعفة اإلنتاج فيما يخص وسائل الوقاية وأجهزة التنفس‪ ،‬باإلضافة إلى منح‬

‫اإلذن لعمالق السيارات ‪ GENERAL MOTORS‬من أجل انتاج أجهزة التنفس‬

‫‪289‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الصناعية ووسائل الوقاية‪ .‬كما أقرت الحكومة الفيدرالية إمكانية اللجوء إلى‬

‫القطاع الخاص من أجل الكشف عن اإلصابات املحتملة بفيروس كورونا‪،‬‬

‫وإقرار تأمين استثنائي لألطر الصحية ضد مخاطر اإلصابة بالفيروس‪ ،‬كما‬

‫عمدت أمريكا إلى غلق حدودها البرية والجوية باستثناء بعض مواطني كندا‬

‫العاملين بالواليات األمريكية‪.1‬‬

‫أما على املستوى االستشرافي‪ ،‬فقد أقرت الحكومة الفيدرالية برنامجا ملا‬

‫بعد كورونا يمر عبر ثالث مراحل تهم اإلجراءات الشخصية وكذلك تلك املتعلقة‬

‫بمقرات العمل واألماكن الخاصة‪ ،‬وكيفية العودة التدريجية للحياة الطبيعية‪،‬‬

‫وقد سمي هذا البرنامج ب "حماية"‪ ،‬ورصدت له ميزانية ضخمة ملواجهة تبعات‬

‫هذه الجائحة في مختلف امليادين‪.2‬‬

‫اما على املستوى الوطني‪ ،‬فمنذ ظهور فيروس كورونا عمدت الدولة على‬

‫اتخاذ تدابير صارمة وشجاعة جنبت بالدنا األسوأ‪ ،‬كما مكنت هذه التدابير‬

‫‪ - 1‬املوقع الرسمي ملعهد ‪ BROOKINGS‬لألبحاث والدراسات‪.‬‬


‫‪https://www.brookings.edu/research/the-federal-governments-coronavirus-‬‬
‫‪actions-and-failures-timeline-and-themes/‬‬
‫‪ - 2‬الدليل الرسمي لالعالنات والخدمات الحكومية االمريكية‪.‬‬
‫‪https://www.usa.gov/after-disaster‬‬
‫‪290‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫املغرب من احتالل مراكز متقدمة في التصنيفات العاملية '' ملؤشر الصرامة'' في‬

‫تعامل الدول مع الوباء (الرتبة ‪ 2‬على مستوى شمال افريقيا‪ ،‬و‪ 51‬عامليا في‬

‫تصنيف شمل ‪ 122‬دولة)‪ ،‬كما حظي املغرب بإشادة وتنويه عامليين بالتدابير‬

‫املتخذة وغير املسبوقة‪.‬‬

‫الشق املتعلق بإجراءات وتدابير السلطات العمومية‪: 1‬‬

‫منذ اإلعالن عن ظهور الوباء في الصين‬

‫تعيين مركز رئيس للتنسيق بين مختلف القطاعات واملتدخلين للتتبع‬

‫والدعم اللوجستيكي امليداني؛‬

‫إعادة تحيين خطة املراقبة واإلعداد ملجابهة األوبئة والجوائح؛‬

‫تشكيل اللجنة العلمية والتقنية الوطنية؛‬

‫االعداد املسبق لبعض البنيات االستشفائية وتأهيل اآلليات واملعدات‬

‫والوسائل الصحية بشكل احترازي؛‬

‫اإلسراع في إجالء ‪ 167‬مغربي من مدينة ووهان الصينية ووضعهم في‬

‫‪ - 1‬عرض وزير الصحة أمام لجنة القطاعات االجتماعية بمجلس النواب‪ ،‬بتاريخ ‪ 28‬ماي‬
‫‪2020‬‬
‫‪291‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫تدابير الحجر الصحي ملدة ‪ 20‬يوما؛‬

‫رفع درجة اليقظة وتعزيز الرقابة الصحية في املطارات الدولية واملوانئ‬

‫الوطنية؛‬

‫مراقبة جميع املسافرين القادمين من الدول املوبوءة عن طريق‬

‫الكاميرات الحرارية؛‬

‫فور ظهور أول حالة مؤكدة باملغرب (‪ 2‬مارس ‪)2020‬‬

‫إغالق املجال الجوي والبحري أمام املسافرين (‪ 15‬مارس ‪ )2020‬وإلغاء‬

‫التجمعات والتظاهرات وتوقيف الدراسة وإغالق املساجد واملحالت العمومية‬

‫غير الضرورية؛‬

‫إعالن حالة الطوارئ الصحية وتقييد الحركة في البالد إلى أجل غير‬

‫مسمى (‪ 20‬مارس ‪1)2020‬؛‬

‫‪ - 1‬مرسوم بقانون ‪ 2.20.292‬صادر في ‪ 28‬رجب ‪23( 1441‬مارس‪ )2020‬يتعلق بسن أحكام‬


‫خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات اإلعالن عنها‪ ،‬جريدة رسمية عدد ‪ 6867‬مكرر‪،‬‬
‫بتاريخ ‪ 29‬رجب ‪ 24( 1441‬مارس‪ ،)2020‬ص‪.1782.‬‬
‫‪ -‬مرسوم رقم ‪ 2.20.293‬صادر في ‪ 29‬رجب ‪ 24(1441‬مارس‪ )2020‬بإعالن حالة الطوارئ‬
‫الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني ملواجهة تفش ي فيروس كورونا‪-‬كوفيد ‪ ،19‬جريدة‬
‫رسمية عدد ‪ 6867‬مكرر‪ ،‬بتاريخ ‪ 29‬رجب ‪ 24( 1441‬مارس‪ ،)2020‬ص‪.1783‬‬
‫‪292‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫إحداث حساب خصوص ي "الصندوق الخاص بتدبير جائحة فيروس‬

‫كورونا" لضمان محاربة وباء فيروس كورونا‪1‬؛‬

‫التزام العزلة الصحية في املنازل كإجراء وقائي ضروري للحد من انتشار‬

‫الفيروس من ‪ 20‬مارس الى غاية ‪ 20‬أبريل ‪2020‬؛‬

‫رفع مستوى اليقظة من اللون األخضر إلى اللون البرتقالي باملركز الوطني‬

‫لعمليات طوارئ الصحة العامة بمديرية علم األوبئة ومكافحة األمراض؛‬

‫التنسيق بين مختلف املتدخلين والدعم اللوجيستيكي امليداني من خالل‬

‫املركز الرئيس للتنسيق بين القطاعات؛‬

‫اإلعالن عن تمديد حالة الطوارئ الصحية وتقييد حركة البالد إلى غاية‬

‫‪ 20‬ماي ‪2020‬؛‬

‫إلزامية وضع الكمامات الواقية بالنسبة لجميع األشخاص املسموح لهم‬

‫بالتنقل خارج مقرات سكنهم في الحاالت االستثنائية املقررة سلفا ابتداء من ‪7‬‬

‫‪ -1‬مرسوم رقم ‪ 2.20.269‬صادر في ‪ 21‬من رجب ‪16( 1441‬مارس‪ )2020‬بإحداث حساب‬


‫مرصد ألمور خصوصية يحمل اسم '' الصندوق الخاص بتدبير جائحة فيروس كورونا‬
‫كوفيد ‪ ،19‬جريدة رسمية عدد ‪ 6865‬مكرر بتاريخ ‪ 22‬رجب ‪ 17( 1441‬مارس‪ )2020‬ص‪.‬‬
‫‪.1540‬‬
‫‪293‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫أبريل‪ 2020‬وتقنين أسعارها واتخاذ إجراءات توفيرها في كل نقط البيع‬

‫باململكة‪1‬؛‬

‫حظر التنقل الليلي طيلة شهر رمضان من السابعة مساء إلى الخامسة‬

‫صباحا؛‬

‫تطوير تطبيق الكتروني يسمى ‪ WIQAYATI‬قابل للتنزيل على الهاتف‬

‫املحمول لتتبع تفاعالت الحاالت اإليجابية بمخالطيها املحتملين؛‬

‫تمديد حالة الطوارئ الصحية‪ 2‬بسائر التراب الوطني إلى غاية ‪ 10‬يوليوز‬

‫‪،2020‬‬

‫البدء في التخفيف التدريجي إلجراءات الحجر الصحي‪ ،‬عبر السماح بعودة‬

‫األنشطة االقتصادية واملهنية تدريجيا وفي احترام تام إلجراءات السالمة‪،‬‬

‫تقسيم التراب الوطني ملنطقتين مع تفاوت في إجراءات تخفيف الحجر‬

‫‪ - 1‬بيان مشترك لوزارات الداخلية‪ ،‬والصحة‪ ،‬واالقتصاد واملالية وإصالح اإلدارة‪،‬‬


‫والصناعة واالستثمار والتجارة واالقتصاد األخضر والرقمي‪ ،‬بتاريخ ‪ 7‬أبريل ‪.2020‬‬
‫‪ - 2‬مرسوم رقم ‪ 2.40.406‬صادر في ‪ 17‬من شوال ‪ 9( 1441‬يونيو ‪ )2020‬بتمديد مدة‬
‫سريان مفعول حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني ملواجهة تفش ي فيروس‬
‫كورونا‪ -‬كوفيد‪ 19‬وبسن مقتضيات خاصة بالتخفيف من القيود املتعلقة بها‪ ،‬جريدة‬
‫رسمية عدد ‪ 6889‬مكرر‪ ،‬بتاريخ ‪ 17‬شوال‪ 9( 1441‬يونيو‪ ،)2020‬ص‪.3394.‬‬
‫‪294‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الصحي‪ ،‬وذلك تبعا للحالة الوبائية للجهات واألقاليم‪ ،‬والعمل على تقييم هذه‬

‫األخيرة واإلجراءات املواكبة لها أسبوعيا؛‬

‫العمل على إجالء املغاربة العالقين بالخارج‪ ،‬وتسهيل عودتهم لبالدهم‬

‫وإخضاعهم إلجراءات الحجر الصحي؛‬

‫السماح بعودة قطاع املواصالت بين الجهات واالقاليم التي صنفت‬

‫ضمن املنطقة ‪ 1‬والتي شملها تخفيف إجراءات الحجر الصحي؛‬

‫الشق املتعلق بالتدابير االستثنائية للسلطات الصحية‪:‬‬

‫على مستوى الترصد واليقظة الوبائية‪:‬‬

‫إصدار دوريات بطريقة مستمرة حول تعريف الحالة وطرق التبليغ عنها؛‬

‫وضع برنامج لتكوين األطر الصحية على مستوى الجهات واألقاليم؛‬

‫مراقبة وتتبع الحالة الوبائية الدولية لهذا الفيروس بشكل متواصل من‬

‫طرف منظومة الرصد واملراقبة الوبائية لوزارة الصحة؛‬

‫تقييم يومي للخطر املشكل على البالد مع التحديث املنتظم إلجراءات‬


‫التصدي لهذا الفيروس؛‬

‫‪295‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫تعزيز النظام الوطني للمراقبة الوبائية لألمراض التنفسية الحادة‬

‫تفعيل خط هاتفي اقتصادي للتبليغ عن الحاالت املحتملة والتواصل‬

‫مع األطر الصحية واملواطنين عامة؛‬

‫تفعيل مراكز االتصال الخاص بالتواصل مع األطر الصحية واملواطنين‬

‫عامة للتبليغ عن الحاالت املحتملة؛‬

‫على مستوى تعبئة البنيات والتجهيزات والطواقم البشرية‬

‫تخصيص وتجهيز ‪ 72‬مؤسسة استشفائية بطاقة استيعابية اجمالية‬

‫وصلت إلى ‪ 13456‬سرسرا؛‬

‫تعبئة ‪ 1214‬سرير خاص باإلنعاش باملستشفيات العمومية؛‬

‫التزام ارباب املصحات الخاصة بتعبئة ‪ 504‬سرير اضافي لإلنعاش‬

‫تعبئة طاقم طبي من اختصاص ي في التخدير واالنعاش يبلغ ‪985‬‬

‫اقتناء مجموعة من املعدات والتجهيزات الطبية‬

‫إحداث وتجهيز مستشفيين عسكريين ميدانيين ببنسليمان والنواصر؛‬

‫تشييد مستشفى ميداني مؤقت بمكتب أسواق ومعارض الدار البيضاء‬

‫‪296‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫بطاقة استيعابية ‪ 700‬سريرا؛‬

‫تجهيز مختبر متنقل خاص بكوفيد ‪ 19‬ملراقبة املخالطين والحاالت‬

‫املشتبه بها لتوسيع االختبارات الفيروسية إلى أقص ى درجة ممكنة وتقليص‬
‫مدة ظهور نتائج التحليل خصوصا مع بلوغ ‪ 10‬آالف تحليلة يوميا؛‬

‫تجميع الحاالت النشيطة والحاالت اإليجابية املستقبلية املصابة بكورونا‬

‫بمستشفيين ميدانيين بكل من بنجرير وبنسيمان‪ ،‬بهدف فتح املجال في‬


‫مستشفيات اململكة لعالج األنواع األخرى من األمراض‪ ،‬وحماية الحاالت‬

‫اإليجابية وكذا محيطها العائلي واملنهي‪ ،‬وذلك مع توفير الرعاية الالزمة لها‪.‬‬

‫على مستوى التكفل والرعاية‬

‫تنظيم عدة لقاءات للجنة العلمية والتقنية الوطنية ملناقشة سبل‬

‫التكفل بحاالت كوفيد‪ 19-‬وتطورات الحالة الوبائية باملغرب؛‬

‫إصدار دورية للخطة التنظيمية للتكفل بحاالت كوفيد‪ 19-‬املحتملة‬


‫واملؤكدة باملؤسسات الصحية باملغرب وتحيينها حسب معطيات التكفل‬

‫والبروتوكوالت العالجية في شأنها؛‬

‫إصدار دورية حول التكفل بحاالت كوفيد‪ 19-‬باستعمال دواء‬

‫‪297‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الكلوروكين بعد املصادقة على ذلك من طرف اللجنة العلمية والتقنية‬

‫الوطنية؛‬

‫تزويد األقاليم والجهات بوسائل الوقاية الفردية؛‬

‫توفير مستلزمات ووسائل التشخيص الفيروس ي؛‬

‫تأهيل املختبرات الوطنية املدنية والعسكرية لتشخيص املرض؛‬

‫توفير وتعزيز الرعاية الصحية في معزل بالنسبة للحاالت املحتملة؛‬

‫إعداد وتنفيذ استراتيجية وطنية للكشف املبكر عن حاالت كوفيد‪19-‬‬

‫ووضع تدابير ومخططات للتعامل مع الجائحة‪.‬‬

‫على مستوى التواصل‪:‬‬

‫التواصل مع الرأي العام الوطني بطريقة مستمرة حول مستجدات‬

‫الوضع الوبائي العالمي والوطني عبر بالغات صحفية واستجوابات عبر القنوات‬

‫املرئية واملسموعة وكذلك الجرائد‬

‫موعد رسمي يومي إلعطاء تصريح صحفي بالحصيلة اليومية للحالة‬

‫الوبائية بالبالد؛‬

‫‪298‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫انتاج العديد من الوصالت التوعوية سواء املرئية أو املسموعة‬

‫للتحسيس بتدابير السالمة والحماية من خطر انتقال العدوى بين املواطنين‬

‫إجراءات لقاءات يومية تفاعلية من قبل أطباء مختصين بالوزارة على‬


‫مواقع التواصل االجتماعي التابعة للوزارة للرد على تساؤالت املواطنين؛‬

‫تفاعل الوزارة مع جميع األخبار الواردة من كل ربوع اململكة؛‬

‫توزيع العديد من املناشير وامللصقات التوعوية والتحسيسية املتعلقة‬


‫بفيروس كوفيد‪19-‬؛‬

‫الشق املتعلق بالتدابير االقتصادية واالجتماعية‪:1‬‬

‫إحداث لجنة اليقظة االقتصادية ملواجهة انعكاسات وباء فيروس‬


‫كورونا على االقتصاد وتحديد االجراءات املواكبة؛‬

‫تأجيل وضع التصاريح الضريبية للشركات إلى غاية نهاية يونيو ‪.2020‬‬

‫تعليق املراقبة الضريبية للشركات الصغرى واملتوسطة؛‬

‫تخفيض سعر الفائدة الرئيس ي إلى ‪%2‬؛‬

‫‪ - 1‬عرض وزير االقتصاد واملالية واإلصالح اإلدارة أمام مجلس النواب حول التدابير املالية‬
‫واالقتصادية ملجابهة ألزمة الناتجة عن جائحة كورونا كوفيد ‪ ،19‬بتاريخ ‪ 27‬أبريل ‪.2020‬‬
‫‪299‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫منح تعويض شهري إلى املنخرطين في صندوق الضمان االجتماعي‬

‫واملتوقفين مؤقتا عن العمل؛‬

‫تأجيل سداد القروض البنكية إلى غاية ‪ 30‬يونيو ‪2020‬؛‬

‫دعم أرباب األسر املتوفرين على بطاقة نظام املساعدة الطبية‬

‫دعم األسر التي تعمل في القطاع غير املهيكل؛‬

‫تجنيب املقاوالت الحاصلة على صفقات عمومية غرامات التأخر في‬


‫اإلنجاز الذي ال تتحمل مسؤوليته؛‬

‫إقرار معالجة محاسباتية استثنائية للتبرعات والتكاليف املرتبطة بفترة‬

‫حالة الطوارئ الصحية بتوزيعها على مدى ‪ 5‬سنوات‪.‬‬

‫‪300‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫املحور الثالث‪:‬‬

‫التجارب السريرية ورهان إيجاد لقاح لفيروس كورونا‬

‫إلى حدود كتابة هذه األسطر لم تتم املوافقة على أي عالج أو ثبت أنه‬

‫آمن وفعال لعالج ‪ ،COVID-19‬باستثناء ‪ ،Remdesivir‬الذي تم منحه إذن‬

‫استخدامه للطوارئ في الواليات املتحدة‪ ،1‬أو ‪ chloroquine‬الذي تم التصريح‬

‫باستخدامه في معظم الدول على أساس استخدامه ضمن برتوكول عالجي‬

‫‪1 - Sanders JM, Monogue ML, Jodlowski TZ, et al. Pharmacologic treatments for‬‬

‫‪coronavirus disease 201 9 (COVID-1 9): a review. JAMA. 2020 April 13.‬‬
‫‪301‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫للمصابين بداء كوفيد‪ ،19-‬أو كجزء من التجارب السريرية‪ .1‬غير أن استخدام‬

‫هذه العالجات قد تكون له آثار ضارة خطيرة مرتبطة بهذه األدوية‪ ،‬وأن هذه‬

‫اآلثار السلبية قد تتداخل مع املظاهر السريرية لـ ‪ ،COVID-19‬وقد تزيد هذه‬


‫األدوية ً‬
‫أيضا من خطر الوفاة عند مريض كبير السن أو مريض يعاني من حالة‬

‫صحية كامنة‪ .‬على سبيل املثال‪ :‬كلوروكين‪/‬هيدروكس ي كلوروكين‪،‬‬

‫أزيثروميسين‪ ،‬أوسيلتاميفير‪ ،‬ولوبينافير‪/‬ريتونافير يمكن أن يرتبطوا على األرجح‬


‫بزيادة خطر املوت املفاجئ‪ ،2‬كما يجب ً‬
‫أيضا مراعاة تفاعالت األدوية مع األدوية‬

‫الحالية للمريض‪ ،‬وفي هذا الصدد ومن أجل التوصل لعالج فعال أطلقت‬

‫منظمة الصحة العاملية وشركاؤها تجربة ‪ ،Solidarity‬وهي دراسة دولية كبيرة‬

‫ملقارنة أربعة عالجات مختلفة ( ‪lopinavir/ritonavir ،remdesivir‬‬

‫‪hydroxychloroquine‬‬ ‫أو‬ ‫‪،interferon‬‬ ‫‪beta،lopinavir/ritonavir،‬‬

‫‪ ،3)/chloroquine‬ومن جهتها أطلقت سبعة دول أوروبية (بلجيكا‪ ،‬هولندا‪،‬‬

‫‪1‬‬ ‫‪- McCreary EK, Pogue JM. Coronavirus disease 201 9 treatment: a review of‬‬
‫‪early and emerging options. Open Forum Infect Dis. 2020 Apr;7(4):ofaa1 05.‬‬
‫‪2 - Kalil AC. Treating COVID-1 9: off-label drug use, compassionate use, and‬‬

‫‪randomized clinical trials during pandemics. JAMA Mar 24.‬‬


‫‪3 - World Health Organization. WHO Director-General's opening remarks at the‬‬

‫‪media briefing on COVID-1 9 - 1 8 March 2020. 2020‬‬


‫‪302‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫بريطانيا‪ ،‬ليكسنبورغ‪ ،‬أملانيا‪ ،‬إسبانيا وفرنسا) مبادرة ‪ Discovery‬و هي أيضا‬

‫تجارب سرسرية ملقارنة أربع عالجات مختلفة و تضم هذه التجربة ‪3200‬‬

‫مصاب ‪ .1‬غير أن هذه املبادرات كلها الزالت بعيدة عن الوصول ألي عالج فعال‬

‫ونهائي‪ ،‬واتسمت إلى حدود الساعة ببطء مخرجاتها و كدا تعثر جهودها التي‬

‫اصطدمت باإلجراءات اإلدارية و صعوبة الوصول للمتطوعين‪ ،‬كما تبقى أعداد‬

‫األشخاص الدبن شملتهم هذه املبادرات ضعيفة جدا‪. 2‬‬

‫تميل األدوية التي يتم اختبارها من أجل إعادة استخدامها في عالج‬

‫‪ COVID-19‬إلى فئتين‪ :‬تلك التي تستهدف دورة التكاثر الفيروس ي‪ ،‬وتلك التي‬

‫تهدف إلى السيطرة على أعراض املرض‪ .‬في ما يلي سنجرد أهم العالجات التي‬

‫تم تداولها على املستويين الوطني والعالمي‪:‬‬

‫‪ hydroxychloroquine:‬و ‪Chloroquine‬‬

‫إن ‪ chloroquine‬و‪ hydroxychloroquine‬هي كوابح البوليميراز‬

‫‪1‬‬ ‫‪-« Lancement d’un essai clinique européen contre le Covid-19 », INSERM, 22‬‬
‫‪mars 2020 (consulté le 29 mai 2020).‬‬
‫‪2 - H. Morin Covid-19 : « Sur les essais cliniques, l’Europe est un échec ». Le‬‬

‫‪Monde du 4 mai. 2020‬‬


‫‪-Jean-Yves Nau. COVID-19: la faillite annoncée de l’essai clinique européen‬‬
‫‪discovery. Rev Med Suisse 2020; volume 16. 1062-1063. 20 mai 2020‬‬
‫‪303‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫تستخدم بشكل أساس ي كأدوية مضادة للمالريا‪ .‬في املالريا‪ ،‬تثبط الهيم‬

‫بوليميراز‪ ،‬مما يتسبب في تراكم الهيم السام في الطفيلي‪ ،‬مما يؤدي إلى موته‪.1‬‬
‫في حالة كوفيد‪ 19-‬يعتقد أن األدوية تبقي الفيروس ً‬
‫بعيدا عن الخاليا املضيفة‬

‫أو خاليا جسم اإلنسان عن طريق منع االرتباط بالجليكوزيل ملستقبالت‬

‫املضيف وكسر إنتاج البروتينات الفيروسية عن طريق تثبيط تحمض‬

‫‪chloroquine‬‬ ‫الدول‬ ‫من‬ ‫مجموعة‬ ‫واعتمدت‬ ‫اإلندوسومال‪،2‬‬

‫و‪ 3hydroxychloroquine‬كجزء من برتوكولها العالجي وفي مقدمتها املغرب‪،‬‬

‫حيث أصدرت وزارة الصحة بتاريخ ‪ 23‬مارس‪ .2020‬مذكرة باستخدام برتوكول‬

‫عالجي يرتكز على ‪ chloroquine-hydroxy‬و ‪ 4 Azithromycine‬لتكون بذلك‬

‫أول دولة إفريقية تنضم للدول التي أعلنت استخدامها لهذا العالج (فرنسا‪،‬‬

‫‪1 -Wang M, Cao R, Zhang L, et al. Remdesivir and chloroquine effectively inhibit‬‬

‫‪the recently emerged novel coronavirus (201 9-nCoV) in vitro. Cell Res. 2020‬‬
‫‪Mar;30(3):269-71‬‬
‫‪2- Cortegiani A, Ingoglia G, Ippolito M, et al. A systematic review on the efficacy‬‬

‫‪and safety of chloroquine for the treatment of COVID-1 9. J Crit Care. 2020‬‬
‫‪Jun;57:279-83.‬‬
‫‪3- Gautret P, Lagier JC, Parola P, et al. Hydroxychloroquine and azithromycin as a‬‬

‫‪treatment of COVID-1 9: results of an open-label non-randomized clinical trial.‬‬


‫‪Int J Antimicrob Agents. 2020 Mar 20:105949‬‬
‫الصحة بتاريخ ‪ 23‬مارس‪.‬‬ ‫املوجهة إلى منهي ّ‬ ‫‪ّ -4‬‬
‫الدورية الوزارية رقم ‪ّ 22‬‬
‫‪304‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ايطاليا‪ ،‬أمريكا‪ ،)...‬لتحدو مجموعة من الدول اإلفريقية حدو املغرب وأبرزها‬

‫السينيغال والجزائر وغينيا و تونس وتوغو ونيجيريا‪.‬‬

‫غير أنه وفي إعالن مفاجئ‪ ،‬أعلنت منظمة الصحة العاملية‪ ،‬يوم‬

‫االثنين ‪ 25‬ماي‪ ،‬إيقاف تجارب استخدام عقار هيدروكس ي كلوروكوين‬

‫املضاد للمالريا‪ ،‬في مواجهة فيروس كورونا املستجد (كوفيد‪ ،)19 -‬بسبب‬

‫مخاوف تتعلق بالسالمة‪ ،‬واتخذت منظمة الصحة العاملية القرار‪ ،‬بعد نشر‬

‫دراسة في مجلة ‪ The Lancet‬الطبية‪ ،‬الجمعة ‪ 22‬ماي‪ ،‬والتي سلطت الضوء‬

‫على خطورة العقار على مرض ى فيروس كورونا‪ ،‬حيث أثبتت الدراسة تزايد‬

‫معدالت الوفيات بين مرض ى فيروس كورونا الذين تم منحهم العقار‪ ،‬بسبب‬

‫أزمات قلبية‪.‬‬

‫بعد إعالن منظمة الصحة العاملية تعليق التجارب استخدام‬

‫كلوروكين‪ ،‬أعلنت املنظمة األوروبية أيضا إيقاف تجاربها والتي تندرج ضمن‬

‫مشروع ‪ .Discovrey1‬في فرنسا‪ ،‬أصدر املجلس األعلى للصحة العامة بيانا‬

‫‪1‬‬ ‫‪-Mandeep RM, Sapan SD, Frank R, Amit NP. Hydroxychloroquine or‬‬
‫‪chloroquine with or without a macrolide for treatment of COVID-19: a‬‬
‫‪multinational‬‬ ‫‪registry‬‬ ‫‪analysis.‬‬ ‫‪Lancet.‬‬ ‫‪2020‬‬ ‫‪May‬‬ ‫‪22,‬‬
‫‪DOI:https://doi.org/10.1016/S0140-6736(20)31180-6‬‬
‫‪305‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫حول استخدام الكلوروكين لعالج ‪ Covid-19‬بعد هذه الدراسة‪ ،‬وبالتالي تم‬

‫إلغاء املرسوم الذي يأذن بآستخدامه في املؤسسات االستشفائية الفرنسية‪.1‬‬


‫ً‬
‫مؤقتا‬ ‫على الرغم من قرار منظمة الصحة العاملية بتعليق استخدامه‬

‫قرر املغرب يوم األربعاء ‪ 27‬مايو ‪ 2020‬الحفاظ على بروتوكول الكلوروكين ضد‬

‫‪ ،Covid-19‬الوزارة الوصية وبعد استشارتها للخبراء واملختصين املغاربة وكدا‬

‫أطرها باتت مقتنعة باآلثار اإليجابية لهيدروكس ي كلوروكوين املرتبط‬

‫باألرتيميسينين‪ .‬وبحسب إحصائيات رسمية‪ ،‬تم شفاء ‪ 4،841‬حالة من أصل‬

‫‪ 7،554‬من حاالت الكوفيد‪ 19-‬املسجلة في البالد إلى حدود ‪ 26‬ماي‪ ،2020‬أي‬

‫بنسبة شفاء تبلغ ‪ ،٪64‬بعد البروتوكول املذكور‪ .‬والباقي قيد املعالجة‪ .2‬وتبقى‬

‫اململكة املغربية بعيدة كل البعد عن كونها حالة معزولة في شمال إفريقيا‪،‬‬

‫فجارتها املباشرة الجزائر حدت نفس الحدو باإلضافة لتشاد والسينيغال‪ .3‬هذا‬

‫املوقف الثابت واملوفق من طرف الدولة املغربية سرعان ما قابله تراجع منظمة‬

‫‪1‬‬ ‫‪-Avis relatif à l’utilisation de l’hydroxychloroquine dans le Covid-19, Haut‬‬


‫‪conseil de la santé publique, France. Site web :‬‬
‫‪https://www.hcsp.fr/explore.cgi/avisrapportsdomaine?clefr=837‬‬
‫?‪2 https://www.sante.gov.ma/sites/Ar/Pages/communiqu%C3%A9s.aspx‬‬

‫‪communiqueID=629.‬‬
‫‪3 -Présentation du ministre de la santé‬‬

‫‪306‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الصحة العاملية عن قرارها وقد جاء هذا القرار على لسان مديرها العام الذي‬

‫صرح يومه ‪ 03‬يونيو‪ 2020‬على استئناف التجارب السريرية الخاصة بهذا‬

‫العقار وذلك إثر سحب مجلة ‪ The lancet‬البريطانية الدراسة السالفة الذكر‪.1‬‬

‫كما عززت املنظمة قرارها بنتائج برنامج " اكتشاف " األوروبي و " عالج "‬

‫البريطاني التي أكد أن عالج ال يسبب املوت املفاجئ كما زعمت دراسة ‪The‬‬

‫‪ lancet‬السابقة قبل سحبها‪.2‬‬

‫‪Remdesivir‬‬

‫يعمل هذا العالج كمضاد للفيروسات بشكل واسع النطاق‪ ،‬وعلى‬


‫ً‬
‫املستوى املخبري أظهر نشاطا ضد متالزمة الجهاز التنفس ي الحادة الوخيمة‬
‫ً‬
‫ترخيصا‬ ‫(سارس ‪ )2‬في الواليات املتحدة‪ ،‬حيث أصدرت إدارة الغذاء والدواء‬

‫لالستخدام في حاالت الطوارئ من أجل عالج حاالت ‪ COVID-19‬املشتبه فيها‬

‫‪ -1‬ندوة الصحفية للمدير العام ملنظمة الصحة العاملية يوم ‪ 03‬يونيو ‪ 2020‬بمقرها‬
‫الرسمي بجنيف السويسرية‬
‫‪2 - Organisation mondiale de la santé, Informations actualisées sur‬‬

‫‪l’hydroxychloroquine. Initialement postées le 27 mai 2020, mises à jour le 17‬‬


‫‪juin 2020. https://www.who.int/fr/emergencies/diseases/novel-coronavirus-‬‬
‫‪2019/global-research-on-novel-coronavirus-2019-ncov/solidarity-clinical-‬‬
‫)‪(2020‬تاريخ آخر اطالع‪ ،‬فاتح يوليوز ‪trial-for-covid-19-treatments‬‬
‫‪307‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫أو املؤكدة في البالغين واألطفال‪ .1‬ومؤخرا قامت الوكالة األوروبية لألدوية‬

‫(‪ )EMA‬بإطالق برنامج إعادة التصميم و تطوير هذا العالج الذي كان في البداية‬

‫يستخدم ضد اإليبوال‪ .‬بعد خضوعه للتقييم و خاصة تقييم املخاطر‪ ،‬وفي هذا‬

‫اإلطار أصدرت الوكالة األوروبية لألدوية يوم الخميس ‪ 25‬يونيو ‪ 2020‬ترخيصا‬

‫مشروطا لتسويقه في جميع دول االتحاد األوروبي ضد كوفيد‪ ،19-‬فيما ينتظر‬

‫الخبراء األوروبيون ترخيص املفوضية األوروبي ‪.2‬‬

‫‪Lopinavir/ritonavir‬‬
‫تمت املوافقة ً‬
‫حاليا على كابح األنزيم البروتيني وهو مضاد للفيروسات‬

‫يستخدم لعالج عدوى فيروس نقص املناعة املكتسبة‪ .‬تم استخدام‬

‫‪ Lopinavir/ritonavir‬في التجارب السريرية لعالج كوفيد‪ .19-‬وقد أظهرت‬

‫دراسة أجريت على عينة صغيرة نتائج سريرية ملتبسة وغير جازمة بشأن‬

‫‪1‬‬ ‫‪- US Food and Drug Administration. Coronavirus (COVID-1 9) update: FDA‬‬
‫‪issues emergency use authorization for potential COVID-1 9 treatment.‬‬
‫‪https://www.fda.gov/news-events/press-announcements/coronavirus-covid-‬‬
‫‪19-update-fda-issues-emergency-use-authorization-potential-covid-19-‬‬
‫)‪(2020‬تاريخ آخر اطالع‪ ،‬فاتح يوليوز ‪treatment‬‬
‫‪2 - European Medicines Agency First COVID-19 treatment recommended for EU‬‬

‫‪authorization https://www.ema.europa.eu/en/news/first-covid-19-treatment-‬‬
‫)‪(2020‬تاريخ آخر اطالع‪ ،‬فاتح يوليوز ‪recommended-eu-authorisation‬‬
‫‪308‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫استخدام هذا النوع من العالج‪ .1‬كما أوضح تتبع الحالة املرضية لـ ‪ 200‬مريض‬

‫يعانون من مرض مزمنة ومصابون بفيروس كوفيد‪ 19-‬أن العالج باستخدام‬

‫‪ lopinavir/ritonavir‬أو عدمه لم يغير نسبة الوفيات أو التعافي‪ ،‬وكان معدل‬

‫حاليا أي دليل قوي‬ ‫ً‬


‫مماثال في كال الحالتين‪ .‬إذن ال يوجد ً‬ ‫الوفيات ملدة ‪ً 28‬‬
‫يوما‬

‫على فعالية ‪ lopinavir/ritonavir‬في عالج‪ .COVID-19 2‬كما خلصت الدراسات‬

‫إلى أنه يجب استخدامه فقط في سياق التجارب السريرية‪.3‬‬

‫بالزما النقاهة‬

‫تم استخدام بالزما النقاهة أو خاليا البالزما املستخرجة من أجسام‬

‫املرض ى الذين تعافوا من االلتهابات الفيروسية كعالج في حاالت تفش ي‬

‫الفيروسات السابقة بما في ذلك السارس وأنفلونزا الطيور وعدوى فيروس‬

‫‪1‬‬ ‫‪-Young BE, Ong SWX, Kalimuddin S, et al. Epidemiologic features and clinical‬‬
‫‪course of patients infected with SARS-CoV-2 in Singapore. JAMA. 2020 Mar‬‬
‫‪3;323(1 5):1 488-94.‬‬
‫‪2- Dashraath P, Jing Lin Jeslyn W, Mei Xian Karen L, et al. Coronavirus disease 201‬‬

‫‪9 (COVID-1 9) pandemic and pregnancy. Am J Obstet Gynecol. 2020 Mar 23‬‬
‫)‪3- National Institutes of Health. Coronavirus disease 201 9 (COVID-1 9‬‬

‫‪treatment guidelines. 2020‬‬


‫‪309‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫اإليبوال‪ . 1‬بدأت التجارب السريرية لتحديد سالمة وفعالية البالزما النقاهة‬

‫والتي تحتوي على أجسام مضادة لـ ‪ SARS-CoV-2‬في املرض ى الذين يعانون من‬

‫كوفيد‪ .2 19-‬وقد خلصت دراسة مقارنة لخمس دراسات أن بالزما النقاهة قد‬

‫تقلل من الوفيات لدى املرض ى املصابين بأمراض خطيرة‪ ،‬ولها تأثير مفيد على‬

‫األعراض السريرية‪ ،‬وتقلل من الحمل الفيروس ي‪.‬‬

‫في الواليات املتحدة االمريكية‪ ،‬تقوم إدارة الغذاء والدواء األمريكية‬

‫بتسهيل الوصول إلى بالزما النقاهة كوفيد‪ ،19-‬وتشجع إدارة الغذاء والدواء‬
‫)‪(FDA‬املرض ى الذين تعافوا للتبرع بالبالزما ‪ .3‬لكن ال توجد ً‬
‫حاليا أدلة كافية‬

‫للتوصية باستخدام أو ضد استخدام بالزما النقاهة‪ 4‬لعالج كوفيد‪ 19-‬لكن‬

‫الدراسات ال تزال جارية من أجل تطوير لقاحات باستخدام هذه الخاليا‬

‫‪1‬‬ ‫‪- Chen L, Xiong J, Bao L, et al. Convalescent plasma as a potential therapy for‬‬
‫‪COVID-1 9. Lancet Infect Dis. 2020 Apr;20(4):398-400.‬‬
‫‪2 - ClinicalTrials.gov. Anti-SARS-CoV-2 inactivated convalescent plasma in the‬‬

‫‪treatment of COVID-1 9. 2020‬‬


‫‪3 - US Food and Drug Administration. Coronavirus (COVID-1 9) update: FDA‬‬

‫‪encourages recovered patients to donate plasma for development of blood-‬‬


‫‪related therapies. 2020 [internet publication].‬‬
‫‪4 - US Food and Drug Administration. Investigational COVID-1 9 convalescent‬‬

‫‪plasma. 2020‬‬
‫‪310‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ومضادات األجسام التي تحتوي عليها‪.1‬‬

‫العالج بالخاليا الجذعية‬

‫تقوم مجموعة من املختبرات في العالم بالتحقق من نجاعة الخاليا‬

‫الجذعية في عالج مرض ى كوفيد‪ 19-‬في التجارب السريرية‪ُ .‬ويعتقد أن الخاليا‬

‫الجذعية الوسيطة يمكن أن تقلل من التغيرات املرضية التي تحدث في الرئتين‪،‬‬

‫وتمنع االستجابة االلتهابية املناعية الخلوية ‪.2‬‬

‫الغلوبولين املناعي‪ُ ،‬ويسمى ً‬


‫أيضا الغلوبولين املناعي البشري العادي‬

‫يتم تجربة الغلوبولين املناعي )‪ (IVIG‬في بعض املرض ى املصابين بكوفيد‬

‫املستجد‪ ، 3‬كما يتم تطوير عالج يعتمد على استخدام مزيج من األجسام‬
‫ً‬
‫مريضا يعانون من كوفيد‪19-‬‬ ‫املضادة ‪ .4‬ووجدت دراسة بأثر رجعي لـ ‪58‬‬

‫‪1‬‬ ‫‪- US Food and Drug Administration. Investigational COVID-1 9 convalescent‬‬


‫‪plasma: emergency INDs. 2020‬‬
‫‪2 - ClinicalTrials.gov. Mesenchymal stem cell treatment for pneumonia patients‬‬

‫‪infected with 201 9 novel coronavirus. 2020‬‬


‫‪3 - Jawhara S. Could intravenous immunoglobulin collected from recovered‬‬

‫‪coronavirus patients protect against COVID-1 9 and strengthen the immune‬‬


‫‪system of new patients? Int J Mol Sci. 2020 Mar 25;21(7).‬‬
‫‪4 - Regeneron. Regeneron announces important advances in novel COVID-1 9‬‬

‫‪antibody program. 2020‬‬


‫‪311‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الشديدة أن‪ ، IVIG‬عند استخدامه كعالج مساعد في غضون ‪ 48‬ساعة من‬

‫اإلصابة‪ ،‬قد يقلل من استخدام التهوية امليكانيكية أو التنفس االصطناعي‪،‬‬

‫ويقلل من البقاء في املستشفى ‪ /‬وحدة العناية املركزة‪ ،‬كما يقلل من الوفيات‬

‫قبل ‪ 28‬يوما من اإلصابة؛ ومع ذلك‪ ،‬كان لهذه الدراسة العديد من القيود التي‬
‫ً‬
‫حاليا أدلة كافية للتوصية إما‬ ‫أجبرت الباحثين على اإلقرار أنه ال توجد‬

‫باستخدام أو ضد استخدام ‪ IVIG‬لعالج كوفيد املستجد‪ 1‬من جانب آخر توص ي‬

‫لجنة املبادئ التوجيهية للمعاهد الوطنية للصحة األمريكية بعدم استخدام‬

‫‪IVIG‬غير الخاص بالسارس ‪- CoV-2‬لعالج كوفيد‪ 19-‬إال في سياق التجارب‬

‫السريرية ‪.2‬‬

‫لقاح )‪Bacille Calmette-Guerin (BCG‬‬

‫يتم اختبار لقاح ‪ BCG‬في بعض البلدان‪ ،‬كهولندا‪ ،‬استراليا وجنوب‬

‫إفريقيا‪ ،‬للوقاية من كوفيد‪ ،19-‬بما في ذلك العاملين في مجال الرعاية الصحية‪.‬‬

‫‪1 - Xie Y, Cao S, Li Q, et al. Effect of regular intravenous immunoglobulin therapy‬‬

‫‪on prognosis of severe pneumonia in patients with COVID-19. J Infect. 2020 Apr‬‬
‫‪10‬‬
‫)‪2 - National Institutes of Health. Coronavirus disease 201 9 (COVID-1 9‬‬

‫‪treatment guidelines. 2020‬‬


‫‪312‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫وهناك بعض األدلة على أن لقاح ‪ BCG‬يمنع التهابات الجهاز التنفس ي األخرى‬

‫لدى األطفال وكبار السن بواسطة تحريض الذاكرة املناعية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ال يوجد‬

‫دليل يدعم استخدامه في كوفيد‪ ،19-‬وال توص ي منظمة الصحة العاملية بذلك‬

‫للوقاية من كوفيد‪.1 19-‬‬

‫‪Bemcentinib‬‬
‫أظهر ‪ً Bemcentinib‬‬
‫سابقا ً‬
‫دورا في عالج السرطان‪ ،‬ولكن تم اإلعالن‬
‫ً‬
‫أيضا عن وجود نشاط مضاد للفيروسات في النماذج قبل السريرية‪ ،‬بما في‬

‫ذلك النشاط ضد السارس ‪-CoV-2.‬إنه املرشح األول الذي يتم اختياره كجزء‬

‫من دراسة ملعهد تسريع البحث والتطوير في اململكة املتحدة ضد كوفيد‪-‬‬

‫‪(ACCORD). 19‬كما يؤكد املركز البريطاني أن هذا العالج قد وصل للمرحلة‬

‫الثانية من البحث‪.2‬‬

‫مضادات الفيروسات األخرى‬

‫‪1‬‬ ‫‪- World Health Organization. Bacille Calmette-Guérin (BCG) vaccination and‬‬
‫‪COVID-1 9. 2020‬‬
‫‪2 - Department of Health and Social Care. COVID-1 9 treatments could be fast-‬‬

‫‪tracked through new national clinical trial initiative. 2020‬‬


‫‪313‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫تتم تجربة العديد من األدوية املضادة للفيروسات األخرى (العالج‬

‫ (على سبيل‬19-‫األحادي والعالج املركب) في املرض ى الذين يعانون من كوفيد‬

baloxavir ،favipiravir ،ganciclovir ،darunavir ،oseltamivir ،‫املثال‬

‫ قد يكون العالج أحادي‬،interferon) 1 ،ribavirin ،umifenovir ،marboxil


ً
‫ من حيث انخفاض تواجد‬19-‫ريتونافير في عالج كوفيد‬/‫متفوقا على لوبينافير‬

1 - Zeng YM, Xu XL, He XQ, et al. Comparative effectiveness and safety of ribavirin

plus interferonalpha, lopinavir/ritonavir plus interferon-alpha and ribavirin plus


lopinavir/ritonavir plus interferonalpha in patients with mild to moderate novel
coronavirus pneumonia. Chin Med J (Engl). 2020 May 5;133(9):1132-4.
- Chinese Clinical Trial Registry. Randomized, open-label, controlled trial for
evaluating of the efficacy and safety of baloxavir marboxil, favipiravir, and
lopinavir-ritonavir in the treatment of novel coronavirus pneumonia (COVID-1
9) patients. 2020
- Chinese Clinical Trial Registry. Clinical study of arbidol hydrochloride tablets in
the treatment of novel coronavirus pneumonia (COVID-1 9). 2020
- Chinese Clinical Trial Registry. Clinical study for safety and efficacy of favipiravir
in the treatment of novel coronavirus pneumonia (COVID-1 9). 2020
- Li H, Wang YM, Xu JY, et al. Potential antiviral therapeutics for 201 9 novel
coronavirus [in Chinese]. Zhonghua Jie He He Hu Xi Za Zhi. 2020 Mar
12;43(3):170-2.
- Synairgen. COVID-1 9. 2020
- ClinicalTrials.gov. Efficacy and safety of darunavir and cobicistat for treatment
of pneumonia caused by 201 9-nCoV (DACO-nCoV). 2020
- Deng L, Li C, Zeng Q, et al. Arbidol combined with LPV/r versus LPV/r alone
against corona virus disease 201 9: a retrospective cohort study. J Infect. 2020
Mar 11
314
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫األجسام الفيروسية ‪ ،1‬غير أنه شرع مجموعة من الخبراء في اختبار عالجات‬

‫مركبة (اإلنترفيرون بيتا ‪ 1‬بلوبينافير‪/‬ريتونافير)‪ ،‬وهم اآلن في املرحلة الثانية من‬

‫البحث‪.2‬‬

‫من جانب آخر نشرت مجلة ‪ Nature‬العلمية يوم ‪ 24‬يونيو ‪ 2020‬نتائج‬

‫ألبحاث خلصت لرسم الخريطة البروتينية للفيروس‪ ، 3‬هذا اإلكتشاف‬

‫سيساهم بشكل كبير في فك شفرة هذا املرض و تسريع وتيرة البحث عن دواء‬

‫فعال‪ .‬لكن بالنسبة ألي دواء‪ ،‬يحتاج الباحثون إلى تجارب إكلينيكية أو سريرية‬

‫صلبة‪ ،‬قبل استخدامها غير أن سرعة انتشار كوفيد‪ 19-‬واجتياحه للعالم فرض‬

‫سياسة استعجالية تقض ي بإصدار تراخيص مؤقتة واستعجالية الستعمال‬

‫بعض العالجات املقترحة‪ .‬غير أن العالم اليوم حريص على عدم تكرار األخطاء‬

‫التي ارتكبت مع الكلوروكين وهيدروكسيكلوروكين‪ ،‬والتي أصبحت مفرطة‬

‫بطريقة تعيق التجارب السريرية وإمدادات الدواء‪ .‬فاألصل في تجارب البحث‬

‫‪1 - Zhu Z, Lu Z, Xu T, et al. Arbidol monotherapy is superior to lopinavir/ritonavir‬‬

‫‪in treating COVID-19. J Infect. 2020 Apr 10‬‬


‫‪2 - Hung IF, Lung KC, Tso EY, et al. Triple combination of interferon beta-1 b,‬‬

‫‪lopinavir-ritonavir, and ribavirin in the treatment of patients admitted to hospital‬‬


‫‪with COVID-1 9: an open-label, randomized phase 2 trial. Lancet. 2020 May 8‬‬
‫‪3 -Nature, A finely detailed map reveals a viral protein’s Achilles heel.‬‬

‫‪https://www.nature.com/articles/d41586-020-00502-w‬‬
‫‪315‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫عن الدواء أن كل دواء قبل استعماله في املستشفيات أو طرحه في األسواق‬

‫يجب أن يمر من ستة مراحل ضرورية وملزمة حسب ما تقره منظمة الصحة‬

‫العاملية‪1‬ومنظمة الدواء والغذاء األمريكية وهي‪:2‬‬

‫تصميم اللقاحات‪ :‬يدرس العلماء أحد مسببات األمراض ويقررون كيف‬

‫سيحصلون على لقاح يسهل للجهاز املناعي للتعرف عليه أو سيقوم بالتصدي‬

‫املباشر للمرض‪.‬‬

‫دراسات على الحيوانات‪ :‬يتم اختبار لقاح جديد في النماذج الحيوانية‬


‫ً‬
‫بحثا عن املرض إلثبات أنه يعمل وليس له آثار ضارة شديدة‪.‬‬

‫التجارب السريرية (املرحلة األولى)‪ :‬تمثل االختبارات األولى في البشر‬

‫واختبار سالمة اللقاح وجرعته وآثاره الجانبية‪ .‬تسجل هذه التجارب فقط‬

‫مجموعة صغيرة من املرض ى‪.‬‬

‫التجارب السريرية (املرحلة الثانية)‪ :‬هذا تحليل أعمق لكيفية عمل‬

‫‪1 - ClinicalTrials.gov. Efficacy and safety of darunavir and cobicistat for treatment‬‬

‫‪of pneumonia caused by 201 9-nCoV (DACO-nCoV). 2020‬‬


‫‪2 -"Step 3. Clinical research". US Food and Drug Administration. 14 October‬‬

‫‪2016. Retrieved 1 February 2017.‬‬


‫‪316‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫ً‬
‫بيولوجيا‪ .‬تتضمن مجموعة أكبر من املرض ى ويتم تقييم‬ ‫الدواء أو اللقاح‬

‫االستجابات والتفاعالت الفسيولوجية مع العالج‬

‫التجارب السريرية (املرحلة الثالثة)‪ :‬تشهد املرحلة النهائية من التجارب‬

‫كمية أكبر من األشخاص الذين تم اختبارهم على مدى فترة طويلة من الزمن‪.‬‬

‫املوافقة التنظيمية‪ :‬وتمثل العقبة النهائية وهي الحصول على املوفقة‬

‫الستعمال الدواء من الوكاالت التنظيمية أو الوزارة املسؤول‪ ،‬وتمتل إدارة‬

‫الغذاء والدواء األمريكية‪ ،‬ووكالة األدوية األوروبية وإدارة السلع العالجية‬

‫األسترالية أكبر املؤسسات وأشدها تدقيقا؛ حيث تلقي نظرة على األدلة املتاحة‬

‫من التجارب ونتائجها وتخلص إلى ما إذا كان يجب إعطاء اللقاح للجميع‬

‫واعتماده كخيار عالجي‪.‬‬

‫خاتمة‪:‬‬

‫إلى حدود الساعة الزال فيروس كورونا املستجد يسجل أرقاما قياسية‬

‫في عدد اإلصابات املؤكدة‪ ،‬حيث يتزايد تفش ي الفيروس يوما بعد يوم ويجتاح‬

‫مختلف بقاع العالم‪ ،‬وتتأرجح درجة التفش ي حسب مستوى جهود الدول‬

‫وإجراءاتها في التصدي لهذه الجائحة؛ إذ يتضح أن بعض الدول قد نجحت في‬

‫‪317‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫التغلب على تفش ي الفيروس‪ ،‬وذلك بناء على جدية إجراءات الحجر الصحي‬

‫ومدى احترامه‪ ،‬في حين أن التراخي في فرض إجراءات الحجر الصحي والتباعد‬

‫االجتماعي‪ ،‬جعل دوال أخرى تعتبر بؤرا لتفش ي الفيروس‪ .‬وعلى املستوى الوطني‪،‬‬

‫فقد تمكن املغرب من فرض إجراءات احترازية فعالة قلصت بشكل كبير من‬

‫تفش ي الفيروس‪ ،‬وجنبت البالد سيناريو االنهيار أمام الفيروس‪ ،‬كما هو الحال‬

‫بالنسبة لبعض الدول األوروبية املجاورة‪.‬‬

‫أما على املستوى العالجي‪ ،‬فإلى حدود كتابة هذه األسطر لم تعلن أية‬

‫جهة على أن عالجا قد تجاوز هذه املراحل كلها فأغلب العالجات لم تتجاوز‬

‫املرحلة الثالثة وبالتالي ال يزال الحديث عن عالج فعال ونهائي لهذا الفيروس‬

‫بعيدا عن املتناول‪ ،‬رغم تضافر جهود املؤسسات الدولية ومؤسسات الصناعية‬

‫وحتى العسكرية منها لتسريع وتيرة البحث‪ ،‬لكن وحتى في حالة اختراع عالج‬

‫جديد يبدو أن إيصاله ملاليين املصابين سيكون تحديا جديدا‪.‬‬

‫‪318‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫الئحة املراجع‪:‬‬

‫الئحة املراجع بالعربية‪:‬‬

‫القوانين‪:‬‬

‫‪ -‬مرسوم بقانون ‪ 2.20.292‬صادر في ‪ 28‬رجب ‪23( 1441‬مارس‪ )2020‬يتعلق‬


‫بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات اإلعالن عنها‪ ،‬جريدة‬
‫رسمية عدد ‪ 6867‬مكرر‪ ،‬بتاريخ ‪ 29‬رجب ‪ 24( 1441‬مارس‪)2020‬‬

‫‪ -‬مرسوم رقم ‪ 2.20.293‬صادر في ‪ 29‬رجب ‪ 24(1441‬مارس‪ )2020‬بإعالن‬


‫‪319‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني ملواجهة تفش ي فيروس‬
‫كورونا‪-‬كوفيد ‪ ،19‬جريدة رسمية عدد ‪ 6867‬مكرر‪ ،‬بتاريخ ‪ 29‬رجب ‪1441‬‬
‫(‪ 24‬مارس‪)2020‬‬

‫‪ -‬مرسوم رقم ‪ 2.20.269‬صادر في ‪ 21‬من رجب ‪16( 1441‬مارس‪ )2020‬بإحداث‬


‫حساب مرصد ألمور خصوصية يحمل اسم '' الصندوق الخاص بتدبير جائحة‬
‫فيروس كورونا كوفيد ‪ ،19‬جريدة رسمية عدد ‪ 6865‬مكرر بتاريخ ‪ 22‬رجب‬
‫‪ 17( 1441‬مارس‪)2020‬‬

‫‪ -‬مرسوم رقم ‪ 2.40.406‬صادر في ‪ 17‬من شوال ‪ 9( 1441‬يونيو ‪ )2020‬بتمديد‬


‫مدة سريان مفعول حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني ملواجهة‬
‫تفش ي فيروس كورونا‪ -‬كوفيد‪ 19‬وبسن مقتضيات خاصة بالتخفيف من‬
‫القيود املتعلقة بها‪ ،‬جريدة رسمية عدد ‪ 6889‬مكرر‪ ،‬بتاريخ ‪ 17‬شوال‪1441‬‬
‫(‪ 9‬يونيو‪)2020‬‬
‫املوجهة إلى منهي ّ‬
‫الصحة بتاريخ ‪ 23‬مارس‬ ‫‪ّ -‬‬
‫الدورية الوزارية رقم ‪ّ 22‬‬

‫املواقع الرسمية‪:‬‬

‫‪ -‬البوابة الرسمية لفيروس كورونا باملغرب‪www.covidmaroc.ma‬‬

‫‪ -‬املوقع الرسمي ملنظمة الصحة العاملية املكتب اإلقليمي لشرق‬


‫املتوسط ‪www.emro.who.int‬‬

‫‪ -‬املوقع الرسمي ملنظمة الصحة العاملية ‪. www.who.int‬‬


‫‪320‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪ -‬املوقع الرسمي لوزارة الصحة املغربية ‪www.sante.gov.ma/‬‬

‫‪ -‬املوقع الرسمي ‪www.worldometers.inf‬‬

‫‪ -‬املوقع الرسمي لوزارة الصحة بنيوزيلندا‪www.health.govt.nzl.. :‬‬

‫‪ -‬املوقع الرسمي لجامعة هوبكينز‪www.jhu.edu‬‬

‫االمريكية‬ ‫الحكومية‬ ‫والخدمات‬ ‫لإلعالنات‬ ‫الرسمي‬ ‫الدليل‬ ‫‪-‬‬


‫‪www.usa.gov/after-disaster‬‬

‫لألبحاث والدراسات‬ ‫‪ -‬املوقع الرسمي ملعهد ‪BROOKINGS‬‬


‫‪www.brookings.edu/research‬‬

‫تقارير وندوات‪:‬‬

‫‪ -‬تقرير ملنظمة الصحة العاملية حول استراتيجية كوفيد ‪ 19‬املحدثة ‪ ،‬صدر‬


‫بتاريخ ‪ 14‬أبريل ‪2020‬‬

‫‪ -‬عرض وزير الصحة أمام لجنة القطاعات االجتماعية بمجلس النواب يومه‬
‫‪ 28‬ماي ‪ ".2020‬جائحة كورونا ببالدنا‪ :‬تدابير التصدي وتصورات الخالص‪.‬‬

‫‪ -‬ندوة الصحفية للمدير العام ملنظمة الصحة العاملية يوم ‪ 03‬يونيو ‪2020‬‬
‫بمقرها الرسمي بجنيف السويسرية‬

‫الئحة املراجع باللغة األجنبية‪:‬‬

‫‪Articles :‬‬
‫‪321‬‬
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

• Sanders JM, Monogue ML, Jodlowski TZ, et al. Pharmacologic


treatments for coronavirus disease 2019 (COVID-1 9): a review. JAMA.
2020 April 13

• McCreary EK, Pogue JM. Coronavirus disease 201 9 treatment: a


review of early and emerging options. Open Forum Infect Dis. 2020
Apr;7(4):ofaa1 05.

• Kalil AC. Treating COVID-1 9: off-label drug use, compassionate use,


and randomized clinical trials during pandemics. JAMA Mar 24

• Wang M, Cao R, Zhang L, et al. Remdesivir and chloroquine


effectively inhibit the recently emerged novel coronavirus (201 9-
nCoV) in vitro. Cell Res. 2020 Mar;30(3):269-71

• Cortegiani A, Ingoglia G, Ippolito M, et al. A systematic review on the


efficacy and safety of chloroquine for the treatment of COVID-1 9. J
Crit Care. 2020 Jun;57:279-83.

• Gautret P, Lagier JC, Parola P, et al. Hydroxychloroquine and


azithromycin as a treatment of COVID-1 9: results of an open-label
non-randomized clinical trial. Int J Antimicrob Agents. 2020 Mar
20:105949

322
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

• Dashraath P, Jing Lin Jeslyn W, Mei Xian Karen L, et al. Coronavirus


disease 201 9 (COVID-1 9) pandemic and pregnancy. Am J Obstet
Gynecol. 2020 Mar 23

• Young BE, Ong SWX, Kalimuddin S, et al. Epidemiologic features and


clinical course of patients infected with SARS-CoV-2 in Singapore.
JAMA. 2020 Mar 3;323(1 5):1 488-94.

• Chen L, Xiong J, Bao L, et al. Convalescent plasma as a potential


therapy for COVID-1 9. Lancet Infect Dis. 2020 Apr;20(4):398-400.

• Jawhara S. Could intravenous immunoglobulin collected from


recovered coronavirus patients protect against COVID-1 9 and
strengthen the immune system of new patients? Int J Mol Sci. 2020
Mar 25;21(7).

• Xie Y, Cao S, Li Q, et al. Effect of regular intravenous immunoglobulin


therapy on prognosis of severe pneumonia in patients with COVID-19.
J Infect. 2020 Apr 10

• Zeng YM, Xu XL, He XQ, et al. Comparative effectiveness and safety


of ribavirin plus interferonalpha, lopinavir/ritonavir plus interferon-
alpha and ribavirin plus lopinavir/ritonavir plus interferonalpha in

323
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

patients with mild to moderate novel coronavirus pneumonia. Chin


Med J (Engl). 2020 May 5;133(9):1132-4.

• Zhu Z, Lu Z, Xu T, et al. Arbidol monotherapy is superior to


lopinavir/ritonavir in treating COVID-19. J Infect. 2020 Apr 10

• Hung IF, Lung KC, Tso EY, et al. Triple combination of interferon beta-
1 b, lopinavir-ritonavir, and ribavirin in the treatment of patients
admitted to hospital with COVID-1 9: an open-label, randomised,
phase 2 trial. Lancet. 2020 May 8

• Mandeep RM, Sapan SD, Frank R, Amit NP. Hydroxychloroquine or


chloroquine with or without a macrolide for treatment of COVID-19: a
multinational registry analysis. Lancet. 2020 May 22.

• Li H, Wang YM, Xu JY, et al. Potential antiviral therapeutics for 201 9


novel coronavirus [in Chinese]

• Zhonghua Jie He He Hu Xi Za Zhi. 2020 Mar 12;43(3):170-2.


Synairgen. COVID-19. 2020

• H. Morin Covid-19 : « Sur les essais cliniques, l’Europe est un échec ».


Le Monde du 4 mai. 2020

• Jean-Yves Nau. COVID-19: la faillite annoncée de l’essai clinique


324
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

européen discovery. Rev Med Suisse 2020; volume 16. 1062-1063. 20


mai 2020

• Nature, A finely detailed map reveals a viral protein’s Achilles heel.


www.nature.com

• Deng L, Li C, Zeng Q, et al. Arbidol combined with LPV/r versus LPV/r


alone against corona virus disease 201 9: a retrospective cohort study.
J Infect. 2020 Mar 11

Reports and seminars:


• World Health Organization. WHO Director-General's opening
remarks at the media briefing on COVID-19 - 1 8 March 2020. 2020

• National Institutes of Health. Coronavirus disease 201 9 (COVID-1 9)


treatment guidelines. 2020

• ClinicalTrials.gov. Anti-SARS-CoV-2 inactivated convalescent plasma


in the treatment of COVID-19. 2020

• US Food and Drug Administration. Coronavirus (COVID-1 9) update:


FDA encourages recovered patients to donate plasma for development
of blood-related therapies. 2020 [internet publication].

325
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

• US Food and Drug Administration. Investigational COVID-1 9


convalescent plasma. 2020

• US Food and Drug Administration. Investigational COVID-1 9


convalescent plasma: emergency INDs. 2020

• ClinicalTrials.gov. Mesenchymal stem cell treatment for pneumonia


patients infected with 201 9 novel coronavirus. 2020

• Regeneron. Regeneron announces important advances in novel


COVID-1 9 antibody program. 2020

• World Health Organization. Bacille Calmette-Guérin (BCG)


vaccination and COVID-1 9. 2020

• Department of Health and Social Care. COVID-1 9 treatments could


be fast-tracked through new national clinical trial initiative. 2020

• Chinese Clinical Trial Registry. Randomized, open-label, controlled


trial for evaluating of the efficacy and safety of baloxavir marboxil,
favipiravir, and lopinavir-ritonavir in the treatment of novel
coronavirus pneumonia (COVID-1 9) patients. 2020

• Chinese Clinical Trial Registry. Clinical study of arbidol hydrochloride


tablets in the treatment of novel coronavirus pneumonia (COVID-1 9).
326
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

2020

• Chinese Clinical Trial Registry. Clinical study for safety and efficacy of
favipiravir in the treatment of novel coronavirus pneumonia (COVID-
1 9). 2020

• "Step 3. Clinical research". US Food and Drug Administration. 14


October 2016. Retrieved 1 February 2017.

• ClinicalTrials.gov. Efficacy and safety of darunavir and cobicistat for


treatment of pneumonia caused by 2019-nCoV (DACO-nCoV). 2020

• « Lancement d’un essai clinique européen contre le Covid-


19 », INSERM, 22 mars 2020 (consulté le 29 mai 2020)

• US Food and Drug Administration. Coronavirus (COVID-19) update:


FDA issues emergency use authorization for potential COVID-19
treatment. https://www.fda.gov/

• Organisation mondiale de la santé, Informations actualisées sur


l’hydroxychloroquine. Initialement postées le 27 mai 2020, mises à
jour le 17 juin 2020.

327
‫أي دور للمؤرخ في فهم أزمة كورونا؟‬

‫‪328‬‬

You might also like