You are on page 1of 22

‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬

‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬


‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫النظرية البيئية (اإليكولوجية البشرية) يف تفسري االحنراف واجلرمية‬


‫عرض حتليلي نقدي‬
‫‪The Ecological (Human Ecology) Theory in Explaining Deviance and‬‬
‫‪Crime: A Critical Analysis‬‬
‫األستاذ الدكتور مجال معتوق ‪ ،‬جامعة علي لونيسي البليدة‪02‬‬
‫‪matouk59@yahoo.fr‬‬

‫ملخص ‪ :‬هندف من خالل هذه املسامهة العلمية إىل تقدمي عرض حتليلي للنظرية البيئية يف تفسري االحنراف و اجلرمية‬
‫‪ ،‬من خالل عرض للسياق الفكري واالجتماعي للنظرية ‪ ،‬وأهم املبادئى االساسية وكذا الدراسات املنجزة يف جمال‬
‫االحنراف و اجلرمية و إرجاعها إىل العوامل البيئية و اجلغرافية ‪ ،‬مث خنتم يف االخري بعرض أهم االنتقادات املوجهة‬
‫هلذه النظرية ‪ ,‬و هذا بغية تبيان اإلضافة اليت قدمتها هذه النظرية اىل حقل السوسولوجيا بصفة عامة و ميدان‬
‫االحنراف و اجلرمية بصفة خاصة و مدى اإلرهاصات اليت تركتها لدى املنشغلني يف هذا اجملال اذ تعد نظرية البيئية‬
‫من النظرايت االكثر انتشارا حبكم تبنيها من كثري من املختصني يف ميدان علم االجتماع اجلرمية و االحنراف و اختاذها‬
‫سبيال لتفسري الكثري من الظواهر اإلجرامية و إرجاعها اىل عوامل بيئية مكانية مرتبطة ابالفراد ‪.‬‬
‫الكلمات املفتاحية‪ :‬النظرية البيئية‪ ،‬االنحراف‪ ،‬الجريمة‪.‬‬
‫‪Abstract:‬‬
‫‪The aim of this scientific contribution is to provide an in-depth analysis of the ecological‬‬
‫‪theory in explaining deviance and crime. This will be achieved through an examination of the‬‬
‫‪theoretical and social context of the theory, a presentation of its core principles, and an‬‬
‫‪overview of studies conducted in the field of deviance and crime, linking them to‬‬
‫‪environmental and geographical factors. In conclusion, the most significant criticisms directed‬‬
‫‪toward the theory will be presented, in order to highlight its impact on the field of sociology‬‬
‫‪in general and criminology in particular. The ecological theory is among the most widely‬‬
‫‪adopted theories, as it has been embraced by many experts in the field of criminal sociology‬‬
‫‪who have employed it to interpret numerous criminal phenomena and associate them with‬‬
‫‪localized environmental factors tied to individuals.‬‬

‫‪Keywords: Ecological theory, Deviance, Crime.‬‬

‫‪5‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫مقدمة‬
‫لقد شكلت النظرية اإليكولوجية (البيئية) إحدى أهم احملاوالت العملية يف تفسري السلوكيات املنحرفة‬
‫واالجرامية يف الوالايت املتحدة األمريكية يف بداية القرن العشرين‪.‬‬
‫كما ارتبط اسم هذه النظرية مبدرسة شيكاغو "‪ "l'école de Chicago‬وذلك ملا هلذه املدرسة من‬
‫وزن يف الساحة العلمية واإلقدام على الدراسات األمربيقية بكل أنواعها يف أمريكا وذلك من خالل اختاذها ملدينة‬
‫شيكاغو خمربا حيا لنشاطاهتا حول العديد من القضااي واملشكالت اليت كانت تعيشها هذه املدينة والنامجة عن التغري‬
‫االجتماعي السريع والعنيف يف آن واحد‪ .‬ابإلضافة إىل إفرازات كل من اهلجرة الوافدة على مدينة شيكاغو والتصنيع‪.‬‬
‫كما شهدت هذه املدينة والدة أول قسم لعلم االجتماع وهذا ما زاد يف االهتمام يف دراسة املشكالت‬
‫االجتماعية اليت انتشرت بسرعة يف هذه املنطقة من امريكا مثل‪ :‬جنوح األحداث‪ ،‬اإلدمان أبنواعه املختلفة‪ ،‬منو‬
‫وانتشار العصاابت االجرامية‪ ،‬السرقة‪ ،‬البغاء‪ ،‬اجلرمية‪ ،‬النزوح‪ ،‬الصراعات االثنية والثقافية بني املهاجرين الوافدين من‬
‫أوراب ومن أمريكا الالتينية‪ ،‬وآسيا وحىت إفريقيا‪.‬‬
‫ويف ظل هذه البيئة الناشطة ظهرت مدرسة تسمى ابملدرسة البيئية أو اإليكولوجية االجتماعية ‪Ecologie‬‬
‫‪ ،Sociale‬واليت حاول أصحاهبا من أمثال إيزا ابرك ‪ ،Ezra Park‬أرنست بريجس ‪ E. Burgess‬وليام‬
‫إسحاق توماس ‪ William Isaac Thomas‬وغريهم من الباحثني السوسيولوجيني‪ ،‬فهم هذه املشكالت يف‬
‫إطار مقاربة جديدة‪ ،‬أال وهي املقاربة البيئية‪ .‬مبتعدين بذلك عن التفسريات البيولوجية والنفسية اليت كانت سائدة‪.‬‬
‫ومتخذين من املدينة والبيئة االجتماعية عامال حامسا يف تفسري هذه املشكالت‪.‬‬
‫ويف هذا الفصل سوف نسلط الضوء على إسهامات هذه النظرية يف تفسري السلوك املنحرف واالجرامي‬
‫مع إظهار جماالت تدخل هذه النظرية وحدودها‪.‬‬
‫‪1-1‬مدخل عام‪:‬‬
‫الكالم عن النظرية البيئية االجتماعية أو اإليكولوجية جيران إىل القيام حبفرايت يف ثنااي الرتاث النظري‬
‫االجتماعي ‪-‬الفكر االجتماعي ‪-‬وإسهامات احلضارات القدمية يف جمال الثنائية البيئة االجتماعية‪ /‬سلوكيات األفراد‬
‫وطبائعهم‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫تنطلق الكتاابت اخلاصة ابلنظرية البيئية االجتماعية على أن هذه النظرية حديثة العهد‪ ،‬وأهنا مل تعرف من‬
‫قبل‪ ،‬وأن أول من اندى هبا هم أنصار أو مؤسسوا مدرسة شيكاغو االمريكية‪.‬‬
‫حنن ال ننكر الدور اهلام واحلاسم ملدرسة شيكاغو يف وضع األسس العلمية والنزعة املوضوعية هلذه النظرية‬
‫يف حماولة منها تفسري املشكالت اليت كانت تتخبط فيها أمريكا عامة ومدينة شيكاغو خاصة‪ ،‬إال أن هذا ال يعين‬
‫أبن التفسري اإليكولوجي أو البيئي مل يكن معروفامن قبل‪ .‬بل هناك العديد من األعمال واحملاوالت اجلادة اليت سعى‬
‫أصحاهبا سواء عند الغربيني قدميا أو العرب واملسلمينمن خالهلا االعتماد على العامل البيئي يف تفسري الظواهر‬
‫االجتماعية‪ .‬حيث نشري إىل أنه مثال قد وجدان أن ابن خلدون قد اعتمد على عامل البيئة يف تفسري طبائع األفراد‪،‬‬
‫كما قام بتحليل عالقة الفرد ابلبيئة والتأثريات املتبادلة وتعد رؤيته هذه توفيقية حيث مل ينطلق من التفسري املطلق‬
‫للعوامل البيئية يف التأثري على سلوكيات األفراد كما وجدانه مثال عند كل من مجاعة اخوان الصفا يف كتاهبم الرسائل‬
‫أو عند العامل والقاضي والفقيه صاعد األندلسي يف كتابه "طبقات األمم" والذي ابلغ فيه فيما خيص أتثري العوامل‬
‫البيئية يف مزاج وخصائص األفراد وحىت يف الذكاء وهذا عندما ربط الغباء واجلهل ابحلرارة‪ ،‬دون ان ننسى العامل واملؤرخ‬
‫والفقيه تقي الدين املقريزي صاحب كتاب "إغاثة األمة يف كشف الغمة" واملخطوطات املقريزية‪ ،‬حيث أعطى دورا‬
‫حامسا للبيئة االجتماعية والطبيعية يف صقل سلوكيات األفراد‪.‬‬
‫كما نشري أن االهتمام ابلعامل البيئي مل يقتصر فقط على املفكرين والعلماء املسلمني والعرب‪ ،‬بل امتد إىل‬
‫العديد من األجناس وخاصة الغربيني‪ ،‬ومنهم نذكر اسهامات العامل مونتيسكيو صاحب كتاب "روح القوانني"‬
‫‪ L'esprit des Lois‬وكذلك كتاب "الرسائل الفارسية "‪ "Les Lettres persanes‬دون أن ننسى كذلك‬
‫املفكر السياسي الكبري ماكيافيلي صاحب كتاب "األمري" ‪ La prince‬وغريهم من املفكرين والعلماء التابعني‬
‫للتيار التنويري واملوسوعي‪.‬‬
‫لقد ساهم هؤالء يف فهم دور البيئة يف انتشار العمران والنظم االجتماعية والسياسة املختلفة‪ ،‬وكيف تساهم‬
‫هذه األخرية يف النهوض االجتماعي والثقايف‪ ،‬وتكون عامال مسامها يف انتشار األمراض االجتماعية على حد تعبري‬
‫عامل االجتماع الفرنسي اميلدوركامي‪Durkheim‬‬

‫‪7‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫‪-2‬فحوى النظرية البيئية (اإليكولوجية)‪:‬‬


‫هناك رأي يعزو االجرام إىل النمو العمراين احلضري‪ ،‬الذي ميتاز ابلتعبري الثقايف السريع‪ ،‬وازدايد نسبة‬
‫املهاجرين من القرى إىل املدن زايدة هائلة‪ ،‬كما هو ملموس منذ سنوات طويلة يف القاهرة واالسكندرية وبغداد‬
‫والرايض ودمشق وتونس واجلزائر والدار البيضاء‪ ،‬واختالف الثقافات الفرعية‪ ،‬وكثافة القرى والبوادي‪ ،‬بل تناقضها‬
‫مع ثقافة اجملتمع ككل من وجوه كثرية‪ ،‬وانتشار العالقات العابرة غري املتينة اليت ال تشعر األفراد ابلطمأنينة و راحة‬
‫البال من جهة‪ ،‬وال جتعلهم حيتمون بسيادة معايري خلقية مستقرة واحدة‪ ،‬فاملعايري السائدة‪ ،‬تصبح مضطربة ومتضاربة‪،‬‬
‫فيؤدي هذا االهتزاز اجملتمعي والبلبلة الفكرية واختالط احلابل ابلنابل إىل حالة من الفوضى اليت أطلق عليها اصطالح‬
‫الالمعيارية‪( .‬حسين الساعاتي‪ ،1987 ،‬ص‪ .‬ص‪)106 ،105 .‬‬
‫يعد مفهوم البيئة او احليز العمراين (االيكولوجي) من املفاهيم الرئيسية ابلنسبة هلذه النظرية‪ ،‬حيث تنطلق‬
‫يف تفسري ظاهرة االحنراف واجلرمية اليت هتمنا هنا يف هذه الدراسة‪ ،‬انطالقا من أتثريات هذه البيئة على الفرد وكيف‬
‫تنعكس هذه التأثريات على سلوكياته‪.‬‬
‫حول الدراسات اليت كانت مبثابة نقطة أتسيس هلذه النظرية‪ ،‬جند الدكتور امحد مصطفى وآخرون يقولون‪:‬‬
‫"ومن أهم الدراسات اليت أجريت يف هذا الشأن تلك اليت قام هبا " كليفوردشو"منذ عام ‪ 1930‬واليت أثبت خالهلا‬
‫أن معدل االجرام يرتفع يف وسط مدينة شيكاغو‪ ،‬ويهبط تدرجييا كلما بعدت املسافة عن ذلك الوسط‪ ،‬أي يف‬
‫ضواحي املدينة واملناطق الصناعية هبا‪ .‬والحظ أيضا أن أعلى معدالت اجلرمية ومناطق متركز العصاابت االجرامية‬
‫( أحمد مصطفى عبد‬ ‫توجد يف األماكن املكتظة ابلسكان واملفككة اجتماعيا والواقعة ابلقرب من مراكز األعمال"‪.‬‬
‫هللا أبو عبيلة وآخرون‪ ،2015 ، ،‬ص‪).138 .‬‬
‫هذه الدراسة اليت قام هبا "كليفورد شو" رفقة زمالئه فريديرك زربوخ ‪ Frederic Zorbaugh‬وليوانر‬
‫كوترال ‪ Leonard Cottrell‬وهنري ماك كي ‪ Henry MC Kay‬واليت أجريت سنة ‪ 1929‬حتت عنوان‬
‫‪ ،Delinquency Areas‬واليت أحصوا فيها ‪ 60000‬إقامة جملرمني ومنحرفني‪ .‬قد توصلوا أن معدل اجلرمية‬
‫واالحنراف خيتلف من حي آلخر يف املدينة‪ .‬األحياء الفقرية املوجودة أمام املركز التجاري واخلدمايت هي اليت توجد‬
‫فيها أعلى نسبة من اجملرمني‪ .‬بعده جند كل من كليفورد شو وماك كي يطوران سنة ‪ 1942‬ما مسي ابإليكولوجيا‬

‫‪8‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫االحنرافية ويربطان منو االحنراف والفوضى مبفهوم اختالل النظام االجتماعي‪ ،‬أو ما ميكن ترمجته بفساد النظام‬
‫االجتماعي‪.Desorganisation Sociale‬‬
‫)‪( Sophie Body - Grendrot , 2002, http//journals. Openedition. org/remi/2647.‬‬
‫لقد استطاع كل من كليفورد وزميله ماك كي حتديد العالقة الوطيدة بني كل من االحنراف واجلرمية واملدينة‬
‫من حيث بنيتها الفيزيقية واملتمثلة يف الوضع املتدهور من حيث نوعية السكان‪ ،‬اخلدمات وانعدام املرافق الضرورية‬
‫للحياة‪ ،‬ابإلضافة إىل اهلجرة وما ينتج عنها من صراع ثقايف وعرقي والتفكك بكل أنواعه سواء على مستوى األسرة‬
‫أو ابقي املؤسسات األخرى‪ .‬وعليه أصبحت املدينة تفرخ االحنراف واجلرمية‪ ،‬ويشري "شو" إىل أن معدل اجلرمية يرتفع‬
‫يف املناطق اليت هجرها سكاهنا األصليون تدرجييا وحل حملهم فيها أانس هامشيون يكادون يعيشون على احلد‬
‫الكفاف كالسود واملهاجرين‪( " .‬أحمد مصطفى عبد هللا أبو عبيلة وآخرون‪ ،1965،‬ص‪)148 .‬‬
‫وابلتايل فإن الظروف االجتماعية غري املواتية ‪-‬يف منطق النظرية اإليكولوجية أو البيئية ‪-‬من اخنفاض مستوى‬
‫املعيشة واجلهل واالزدحام والسكن غري الصاحل ال تفسر بذاهتا الظاهرة االجرامية‪ ،‬وإمنا تبدو كإفراز أو أعراض لنظام‬
‫(أحمد مصطفى عبد هللا أبو عبيلة‬ ‫اجتماعي متفسخ تغيب عنه مقومات وخصائص التنظيم االجتماعي السليم‪." .‬‬
‫وآخرون‪ ،1965،‬ص‪)148 .‬‬
‫ترتكز نظرية اإليكولوجيا االجتماعية ‪-‬البشرية‪-‬على فكرة أساسية وهي أن هناك ارتباط وثيق وعضوي بني‬
‫كل من األفراد والبيئة اليت يعيشون يف كنفها‪ ،‬وعليه يوجد أتثري واضح وقوي على األفراد وحياهتم االجتماعية‪ .‬وهذا‬
‫ما أشران إليه وقلنا أبن الثنائية البيئة والبشر يعدان من املواضيع القدمية واليت انشغل هبا الباحثون وعلماء االجتماع‬
‫ابخلصوص‪ .‬وقد يكون أتثري البيئة على األفراد أكثر عمق وقوة يف اجملتمعات البسيطة مقارنة ابجملتمعات املتطورة‬
‫واملعقدة من حيث التقدم التكنولوجي واحلضاري‪ ،‬إال أن البيئة االجتماعية هي املهيمنة من حيث الفعالية واحلضور‬
‫يف حياة األفراد بداخل اجملتمعات املتطورة‪ .‬وعليه نقول أبن التأثري للبيئة الطبيعية أقوى يف اجملتمعات البسيطة وأقل‬
‫يف اجملتمعات املتطورة والنامية‪ ،‬بينما البيئة االجتماعية يكون أتثريها على احلياة االجتماعية لألفراد أقوى يف اجملتمعات‬
‫املتطورة واملعقدة مقارنة ابجملتمعات البسيطة‪.‬‬
‫كما تزداد اجلرائم ومظاهر االحنراف يف اجملتمعات املتطورة واملعقدة أين يكون أتثري البيئة االجتماعية أقوى‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫إذ تعترب نظرية منوذج النطاق الدائري لربجس ‪ Burgess‬من النظرايت الرائدة اليت انبثقت عن هذا‬
‫االجتاه يف تفسري السلوك االجرامي واملنحرف وذلك من خالل تطبيقها على مدينة شيكاغو‪ ،‬فلقد وجد "برجس"‬
‫ان املناطق املتامخةملركز املدينة التجاري يرتفع فيها معدالت اجلرمية واالحنراف‪ ،‬بينما تنخفض تلك املعدالت يف‬
‫املناطق البعيدة عن املركز‪ ،‬وقد علل "برجس" ذلك بسوء الظروف السكنية والفقر وكثرة األجانب وعوامل التغري‬
‫السكاين تتميز هبا األحياء املتامخة ملركز املدينة واليت أطلق عليها "برجس" اسماألحياء االنتقالية‪( .‬ناجي محمد هالل‪،،‬‬

‫‪ ،2002‬ص‪)267- 266 .‬‬

‫تعد نظرية منوذج النطاق الدائري لربجس من النظرايت األساسية للنظرية اإليكولوجية‪ ،‬كما أن العامل أرنيست‬
‫برجس رائد املدرسة البيئية وأحد مؤسسي مدرسة شيكاغو قد حاول من خالل دراسته عن املدينة فهم كيف هذه‬
‫البيئة مبقدورها أن تؤثر يف سلوكيات وتصرفات األفراد‪ ،‬وقد توصل إىل أن االحنراف واجلرمية مها نتاج للعديد من‬
‫املشكالت أو األسباب منها خاصة‪ :‬ظروف السكن وطبيعته‪ ،‬حيث وجد أن املنحرفني واجملرمني يقيمون يف سكنات‬
‫هشة ومتدهورة وال تليق لإلقامة وذلك النعدامها على أدىن شروط السكن‪ ،‬ابإلضافة إىل هذا طبيعة اجملتمع والذي‬
‫يتميز ابحلركية والالاستقرار من حيث التنقل الدائم للسكان وكذلك تنوع األجناس والعرقية مما ينتج عنه الصراعات‬
‫الثقافية والتكتالت على شكل جيتوهات )‪ ،(Ghetto‬ابإلضافة إىل الفقر املدقع واحلرمان بكل أنواعه‪ ،‬هذه‬
‫العوامل تكون مساعدة على انتشار اجلرمية بكل أنواعها‪.‬‬
‫إال ان هذه النظرية ‪-‬نظرية البيئة ‪-‬تبلورت بشكل أدق وأكثر نضجا على يد ''شو'' و ''مكاي''‬
‫حىت أن اسم هذه النظرية قد ارتبط ابمسهما مؤخرا ولقد انتهيا من دراستهم االيكولوجية املتعددة عن االحنراف إىل‬
‫(ناجي محمد هالل‪ ،2002 ،،‬ص‪)267- 266 .‬‬ ‫صياغة نظرية عرفت ابسم مناطق اجلناح‪.‬‬
‫وفيما خيص مضمون النظرية املسماة بنظرية "مناطق اجلناح" هو‪" :‬نسبة اجلنوح تتفاوت ابختالف بعد‬
‫املنطقة أو قرهبا عن قلب املدينة وعن املركز الصناعي للمدينة‪ ،‬وقد وجد شو أن نسبة اجلنوح تقل تدرجييا كلما‬
‫ابتعدان عن قلب املدينة متجهني حنو ضواحيها‪ ،‬ولعلى نسبة اجلناح هي تلك املناطق اليت حتيط ابملراكز الصناعية‬
‫كمنطقة املعامل واملراكز التجارية ومستودع البضائع وهو يرى أن هذه املنطقة برتكيبها املادي والثقايف اخلاص تظهر‬
‫لنا أعلى نسبة جلنوح األحداث من جهة‪ ،‬وأعلى نسبة للعود إىل اجلرمية من جهة أخرى‪ .‬ويعلل "شو" هذه الظاهرة‬
‫مبا يدعوه بظاهرة اجلنوح اجلماعية وهي ظاهرة اجتماعية تصاحب التغريات البنائية اليت تشهدها وتتميز هبا املدن‬

‫‪10‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫الكبرية كالتحضر والتصنيع والتعقد االجتماعي وطبيعة العالقات االجتماعية وحجم السكان وكثافتهم وخصائصهم‬
‫العرقية‪ ،‬حيث أن سرعة التحضر وتعقد العالقات االجتماعية واحلراك االجتماعي والتباين العرقي للسكان له أمهية‬
‫(عدنان الدوري‪،1984 ،‬‬ ‫ابلغة يف إفراز التفكك االجتماعي الذي بدوره حيدث ارتفاع يف معدالت االحنراف واجلناح‬
‫ص‪.)98- 96 .‬‬

‫كما ان األنشطة الروتينية أبعدت الكثري من أفراد اجملتمع عن منازهلم وأسرهم وممتلكاهتم‪ ،‬مما أدى إىل غياب‬
‫احلماية الالزمة عنها‪ ،‬وهو ما ينطبق على املوظف الذي يتطلب عمله الذهاب بعيدا عن منزله ويف ساعات متأخرة‬
‫من الليل مبنطقة غري آمنة‪ ،‬فهذا النشاط الروتيين يعرض صاحبه لالعتداء أكثر من املوظف الذي يبدأ عمله يف‬
‫(حميد بن ناصر الحجري نقل عن‬ ‫الساعة السابعة والنصف صباحا وينتهي يف الساعة الثانية والنصف بعد الظهر‪.‬‬
‫الموقع‪ https: //www. rop. gov. com :‬تاريخ تصفح المقال ‪).2019/08/12 :‬‬
‫نشري هنا أن النشاطات الروتينية اليت ميارسها الفرد يف حياته اليومية ميكن أن تساهم يف أن يكون ضحية‬
‫كما رأينا مع د‪ .‬محيد بن انصر احلجري‪ ،‬حيث االنتقال للعمل مثال بعيدا ويف أوقات مظلمة والعودة يف أوقات‬
‫متأخرة للبيت قد تساهم يف تعرض ممتلكات هذا الفرد إىل السرقة واالعتداء‪ ،‬وحىت هو قد يتعرض لالعتداءات نظرا‬
‫لكونه يغادر البيت يف أوقات جد مبكرة لاللتحاق ابلعمل أو العودة يف الليل بعد االنتهاء من العمل‪ .‬ومن جهة‬
‫أخرى ميكن أن تساهم هذه النشاطات الروتينية يف إقبال أصحاهبا على املمارسات االجرامية كوهنم جمرد أجانب يف‬
‫بيئات جديدة ال يعرفهم الناس فيها وابلتايل هذا يسهل عليهم االنتقال إىل األفعال اإلجرامية‪.‬‬
‫نقول أبن هذه النظرية الفرعية اليت اندى هبا العديد من علماء مدرسة شيكاغو ومن أنصار التفسري‬
‫اإليكولوجي البشري‪ ،‬تعد من النظرايت الصغرى)‪ (Micro‬ميكن اعتمدها يف تفسري اجلرائم النفعية وابخلصوص‬
‫واليت تنتشر بقوة يف األحياء السكنية‪ ،‬خاصة يف أوقات معينة من النهار وفصل الصيف (العطل) أين يرتك الكثري‬
‫من السكان مساكنهم لقضاء عطلهم بعيدا عن البيت‪ ،‬أضف إىل ذلك انعدام الرقابة وعدم تدخل اجلريان أمام‬
‫األفعال اإلجرامية واالعتدائية‪.‬‬
‫ومن بني الصياغات أيضا املرتبطة بنظرية األنشطة الروتينية ما قدمه " كوهني" و "ماركوس فيلسون"‪ ،‬فاجلرمية‬
‫يف رأيهما تظهر حيث تتطابق عناصر ثالثة يف الزمان واملكان وهي‪:‬‬
‫‪-1‬وجود اجملرم املتحفز أو املدفوع الرتكاب اجلرمية‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫‪-2‬األهداف املقصودة من وراء اجلرمية‪.‬‬


‫‪-3‬غياب من لديه القدرة على صد أو احلد من وقوع اجلرمية‪.‬‬
‫وابختبار هذا املدخل‪ ،‬قد وجدوا أن زايدة معدالت اجلرمية واالحنراف يف الوالايت املتحدة بعد احلرب‬
‫العاملية الثانية ممكنة الفهم يف ضوء ما طرأ على اجملتمع األمريكي من تغري‪ ،‬خاصة ما يتعلق يف مزاولة األنشطة احلياتية‬
‫(عبد هللا حسين خليفة‪ ،1994 ، ،‬ص‪ .‬ص‪).73 ،72 .‬‬ ‫بعيدا عن املنزل ومشاركة املرأة يف العمل‪" .‬‬
‫وهذا ينطبق كذلك على اجلزائر خاصة بعد خروجها من االستعمار الفرنسي والوضعية املنهارة اليت ترك‬
‫املستعمر البالد فيها من فقر ودمار‪ ،‬كما أن الكثري قد استولوا مثال على املساكن واألراضي اليت كان يستغلها‬
‫املعمرون )‪ ،(colons‬وغريها من السلوكيات األخرى‪.‬‬
‫‪-3‬مناذج من الدراسات البيئية واجلرمية واالحنراف‪:‬‬
‫‪ 1-3‬منوذج ''كليفورد شو''‪:‬يف سنة ‪ 1921‬قام "كليفوردشو" بتحديد املناطق السكنية ملائة ألف من‬
‫تالميذ املدارس املنحرفني ومن اجملرمني الكبار يف مدينة شيكاغو‪ ،‬وأخرج يف سنة ‪ 1929‬نتيجة دراسته‪ ،‬ويعترب كتابه‬
‫كالسيكيا يف امليدان‪ ،‬لقد وجد "شو" أن معظم أفراد العينة يرتكزون يف مناطق معينة مالصقة لألحياء التجارية‬
‫واألحياء الصناعية‪ ،‬وانتهى إىل أنه ما دام املنحرفون من أفراد العينة يرتكزون يف هذه املناطق فمن املمكن التسليم أبن‬
‫السلوك املنحرف يرتبط مبواطن اجتماعية معينة ترتبط بدورها ابلنمو الطبيعي للمدينة‪.‬‬
‫فاملناطق اليت تكون يف عملية حتول من مناطق سكنية إىل مناطق جتارية ختلق أمناط إجرامية تشكل اجتاهات‬
‫(سعد جالل‪ ،‬دون سنة‪ ،‬ص‪. )226 .‬‬ ‫وسلوك األفراد الذين يعيشون يف املنطقة وتتحول املنطقة إىل منطقة االحنراف"‪.‬‬
‫أما كيف يتم تعلم السلوك املنحرف‪ ،‬فقد أوضحه "شو" بدراسة مخسة أخوة كانوا يعيشون على ضفاف‬
‫هنر شيكاغو‪ ،‬بدأ االحنراف معهم كلعبة يلعبوهنا مع غريهم من األطفال ممن هلم نفس الظروف‪ ،‬فبدال من الذهاب‬
‫إىل املدرسة‪ ،‬يتسكع اإلخوة وأصدقاؤهم لسرقة أشياء اتفهة من احلوانيت‪ ،‬ودعم هذا السلوك املبكر األمناط اخللقية‬
‫السائدة بني احملطني هبم من الكبار‪ ،‬وعدم وجود الوقت الكايف لدى اآلابء للسيطرة على األبناء‪ ،‬وهكذا أخذ األوالد‬
‫(سعد جالل‪ ،‬دون سنة‪ ،‬ص‪. )226 .‬‬ ‫ابلتدرج ينحدرون إىل اجلرمية‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫‪ 2-3‬دراسة ''برجس''‪:‬من الدراسات اليت تتقصى أسباب اجلرمية من خالل دراسة البيئة (أو إيكولوجية‬
‫اجلرمية)‪ ،‬الدراسة اليت أجراها برجس على مدينة شيكاغو مشريا أبنه ميكن تطبيق نتائجها‪ ،‬ليس على مدينة شيكاغو‬
‫فحسب‪ ،‬بل على أية مدينة أخرى تشاهبها يف املعطيات الطبيعية‪.‬‬
‫وقد أطلق برجس على نظريته هذه اسم"نظرية اجملتمع يف منطقة املركز" ووجد من خالهلا أن املنطقة الدائرية‬
‫امللتصقة مبنطقة املركز مباشرة‪ ،‬إمنا هي منطقة حتول (انتقالية) ابملدينة‪ ،‬حيث تزحف حنوها مراكز التجارة واالقتصاد‪،‬‬
‫ويكون من نتائج ذلك أن تصبح مناطق املركز ابملدينة‪ ،‬حيث تتواجد أقدم وأهم االحياء السكنية‪ ،‬تتميز ابحتوائها‬
‫على أقدم املباين السكنية وأقلها تناسبا ومتطلبات السكن احلديث‪ ،‬مما يؤدي إىل هجرها من قبل سكاهنا األصليني‬
‫الذين ميكنهم توفري مساكن الئقة ألنفسهم تتوفر فيها متطلبات احلياة العصرية‪ ،‬وإبخالء هذه املناطق من قبل‬
‫الفئات السكنية ذات املدخول املتوسط فما فوق‪ ،‬تصبح جاهزة الستقبال الفئات األقل منها دخال‪ ،‬وهي الفئات‬
‫املتنقلة وعرب القارة‪ ،‬عالوة على ذلك فإن هذه الفئات ترحل وتنتقل حيث تتواجد فرص جديدة للعمل وكسب‬
‫الرزق‪ ،‬وحيث أصبحت هذه املناطق تشكل عصب التجارة واالقتصاد يف املدينة‪ ،‬وكنتيجة لقدمها‪ ،‬فإن خمططاهتا‬
‫تصبح غري مناسبة ملا تتطلب من طرق ونظام مواصالت وخدمات‪ ،‬وبذلك تصاب املنطقة بتغريات شاملة يف طرقها‬
‫ومبانيها‪ ،‬مع ما يتطلب ذلك من هدم وإخالء تصب املنطقة من جرائه الفوضى وعدم االستقرار بسبب نزوح بعض‬
‫السكان وقدوم غريهم‪ ،‬وابلتايل انقطاع العالقات والصالت اليت كانت تربط الفرد ابلفرد اآلخر‪ ،‬مما يؤدي إىل وهن‬
‫(مصطفى عبد المجيد كارده‪ ،1985 ، ،‬ص‪ .‬ص‪)285 ،284 .‬‬ ‫جهاز الضبط االجتماعي التقليدي‪.‬‬
‫فعال لقد رأينا مثال أنه يف مدينة البليدة ومع التوسع العمراين‪ ،‬وانتشار التجارة البازارية ‪-‬احملالت الكربى‪-‬‬
‫واضطرار السكان األصليني مغادرة وسط املدينة وشراء األراضي خارجي املدينة يف مناطق كبوعرفة وقرواو‪ ،‬وغريها‬
‫من املناطق األخرى‪ ،‬وبيع أوكراء مساكنهم يف وسط املدينة‪ ،‬وألفراد جاءوا من خارج املدينة حبثا عن العمل وضمان‬
‫لقمة العيش‪ ،‬مع اإلقامة يف مساكن السكان األصليني يف االحياء العريقة والقدمية للمدينة‪ ،‬خاصة يف أحياء مثل‬
‫"زنقة ستة" وهو حي قدمي وحي "شارع اجلزائر"‬
‫الذي يطلق عليه "روداجلي" ‪ Rue d'Alger‬وغريها من األحياء األخرى‪ ،‬نالحظ أن معدالت اجلرمية قفزت يف‬
‫هذه املناطق القدمية‪ ،‬القاطنة من طرف سكان وافدين على املنطقة من أجل العمل‪ ،‬وتعد ابلنسبة للكثري من السكان‬
‫اجلدد هذه املناطق مبثابة مناطق عبور‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫‪3 -3‬احلي وصناعة املنحرف حسب العامل "شو" ‪:Shaw‬‬


‫يتأثر املسكن واحلي الذي يقيم فيه احلدث ابلظروف االقتصادية لألسرة‪ ،‬فمع اخنفاض دخل األسرة قد‬
‫تضطر للسكن يف حي متواضع‪ ،‬ومسكن يتناسب مع هذا الدخل املنخفض‪ ،‬وغالبا ما يكون هذا املسكن ضيق‬
‫املساحة‪ ،‬رديء اإلضاءة والتهوية‪ ،‬ويتكدس فيه كل أفراد األسرة وهذا له أكرب أثر يف استقرار الصغري داخل املنزل‬
‫أو الثورة عليه واهلروب عنه إىل الطريق‪ ،‬لسيما يف أوقات الفراغ حيث يكثر يف الطريق بؤر االجرام‪ .‬وفيما يتعلق‬
‫ابحلي فقد عاجل كثري من العلماء موضوع احلي وأبرزوا عالقته ابالحنراف واجلرمية‪ .‬فقد أظهر "كليفورد شو" يف إحدى‬
‫دراساته اليت تناولت مخسة إخوة أشقاء‪ ،‬عرفوا بتارخيهم اإلجرامي الطويل حبيث يلعب احلي دورا كبريا يف اجلنوح أو‬
‫اجلرمية‪ ،‬لقد وصف "شو" هذا احلي أبنه كان منطقة جناح‪ ،‬متيز بكل أسباب عدم التنظيم االجتماعي‪ ،‬وأنه كان‬
‫بيئة فاسدة‪ ،‬شجعت هؤالء اإلخوة على ارتكاب اجلرمية‪ ( .‬جالل الدين عبد الخالق‪ ،‬السيد رمضان‪ ،2001 ،‬ص‪)76 .‬‬
‫إن قضية عالقة احلي الذي يقوم فيه األفراد ونوعيته‪ ،‬ومدى أتثريه يف سلوكياهتم يف املستقبل‪ ،‬تعد من‬
‫املسائل اهلامة واملؤكدة‪ ،‬كما أن النتائج اليت توصل إليها العامل "كليفورد شو" حول نوعية احلي واالحنراف واجلرمية‪،‬‬
‫ال ختص فقط اجملتمع األمريكي أو الغريب كما يعتقد البعض‪ ،‬بل إهنا عاملية‪.‬‬
‫فمثال عندان يف اجلزائر بينت العديد من الدراسات اليت أشرفنا عليها واملنجزة من طرف طلبة املاجستري‬
‫والدكتوراه‪ ،‬أن هناك عالقة قوية بني نوعية احلي الذي يقطن فيه األفراد وإقباهلم على السلوك املنحرف‪ ،‬فمثال وجدان‬
‫أن السلوك املنحرف يزداد عند األطفال الذين يقطنون يف األحياء الشعبية واليت حتتوي على بناايت من "عمارات"‬
‫واخلاصة ابملواطنني البسطاء وأغلبيتهم من الطبقة الدنيا والوسطى‪ ،‬حيث هذه السكنات قد مسيت ب اقفاص‬
‫لألسود")‪ ،(Cages à lions‬فهي جمرد جدران جمتمعة‪ ،‬تفتقر ألدين شروط احلياة الكرمية‪ ،‬وهي الوسيلة رقم واحد‬
‫اليت جلأت اليها اجلهات املسؤولة حلل أزمة السكن الكبرية اليت يعاين منها البلد‪ .‬ففي هذه السكنات املتميزة ابلضيق‬
‫واملساحة احملدودة‪ ،‬تضطر األسر بدفع أطفاهلا إىل الشارع‪ ،‬حيث يتحول هذا األخري إىل متنفس وجمال بديل عن‬
‫املنزل‪ .‬وإذا قمنا بعملية حسابية جند ان معظم الوقت يقضيه األطفال يف الشارع وهذا إبيعاز ودفع من طرف‬
‫األمهات‪ ،‬اللوايت يدفعنا أببنائهن إىل الشارع كون املنزل ال يستوعبهم‪ ،‬وهذا حىت تتفرغ األم لواجباهتا املنزلية‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫ففي الشارع يتعلم األطفال أجبدايت االحنراف واجلرمية‪ ،‬كما الحظنا كذلك يف ساحات هذه األحياء –‬
‫أي اخلاصة ابلعمارات – تكثر الفوضى واالعتداءات وخاصة سرقة بعض لوازم السيارات وغريها من مظاهر العنف‬
‫واالحنراف‪.‬‬
‫ويف هذا السياق جند الدكتور جالل ثروت يقول‪" :‬واملعروف أن شخصية الفرد تتكون من دورين هامني‪:‬‬
‫األول‪ :‬هو دور الفرد يف احلي الذي يعيش فيه‪ ،‬والثاين‪ :‬هو مكانة احلي بني األحياء األخرى‪ ،‬والدور الذي يلعبه‬
‫احلي يف اجملتمع الكبري الذي حيتويه‪ ،‬فاحلي الذي تتوافق قيمه مع قيم اجملتمع الكبري يكون حيا سواي‪ ،‬يهيئ للطفل‬
‫جوا يكسبه الشعور ابحرتام النظافة والقانون‪.‬‬
‫وحني خيرج احلي يف قيمه االجتماعية على ما هو متعارف عليه يف اجملتمع الكبري فإن هذا احلي يصبح‬
‫مصدرا لتكوين بعض االجتاهات اخلاطئة‪ ،‬ويفشل عندئذ يف توجيه قيم أفراده‪ ،‬وضبط سلوكهم‪ ،‬وبذلك قد يضع‬
‫الطفل يف بعض مواقف وظروف تقوده إىل االحنراف واجلرمية‪( .‬جالل ثروت‪ ،1983 ، ،‬ص‪)135 .‬‬
‫‪-4‬املنهجية املعتمدة من طرف رواد هذه النظرية (اإليكولوجيا)‪:‬‬
‫اعتمد علماء االجتماع التابعني ملدرسة شيكاغو على مناهج وتقنيات مسحت هلم جبمع العديد من البياانت‬
‫واملعلومات اخلاصة مبواضيع متنوعة تدور يف فلك االحنراف واجلرمية‪ ،‬فقد استطاعوا أن يوفقوا بني كل من املنهج‬
‫الكيفي واملنهج الكمي‪.‬‬
‫جند أن هناك تطبيق مكثف عند الرواد األوائل (اجليل األول) واملتكون من "ألبيون مسول" ‪Albion‬‬
‫‪ ،Small‬و"وليام إسحاق توماس" ‪ ،W. I. Thomas‬والبولوين " فلوراين تزانيسكي" و "إزرا ابرك" ‪Ezra‬‬
‫‪ ،Park‬و"أرنست برجس" ‪ E. Burgess‬للمنهج الكيفي‪ ،‬حيث جندهم قد اعتمدوا علىدراسات احلالة وعلى‬
‫املالحظة ابملشاركة‪ ،‬وتقنية قصة احلياة والسري الذاتية واملقابالت‪ ،‬ابإلضافة إىل االعتماد املكثف على املالحظة‬
‫البسيطة وذلك لتسجيل املعطيات‪.‬‬
‫إال أن هذا مل مينعهم من االعتماد على االحصائيات الرمسية‪ ،‬خاصة تلك املتوفرة لدى أقسام الشرطة‪.‬‬
‫جند مثال يف الدراسة الرائدة "الفالح البولوين‪ ،‬قصة رحلة مهاجر" اليت أجنزها "وليام إسحاق توماس"‬
‫والبولوين "فلوراين تزانيسكي" االعتماد على الرسائل اليت كان يبعث هبا واليت يتلقاها املهاجرين البولونيني من ذويهم‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫حيث جاء يف مقدمة هذه الدراسة على لسان "توماس"‪" :‬تعود بداية اهتمامي ابلواثئق الشخصية إىل‬
‫رسالة طويلة التقطتها يف يوم ماطر‪ ،‬يف ممر خلف منزلنا‪ :‬هي رسالة كتبتها شابة كانت تتابع دراستها يف املشفى‪،‬‬
‫موجهة إىل ولدها‪ .‬خيص حمتواها العالقات واملناقشات ضمن العائلة‪" .‬‬
‫ها حنن يف بداية العقد الثاين من القرن العشرين يف شيكاغو‪ ،‬والرجل الذي اكتشف هذه الرسالة ضمن كيس مرمي‬
‫من انفذة أحد املنازل هو وليام توماس (‪ ،)1947 – 1863‬مدرس السوسيولوجيا يف جامعة شيكاغو‪ .‬كان‬
‫توماس يهتم يف تلك الفرتة حتديدا بنمط حياة اجلاليات املهاجرة يف شيكاغو‪ .‬وقد حصل على اعتمادات من مؤسسة‬
‫فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه‪ ، ،‬ترجمة إياس حسن‪، ،‬‬ ‫خاصة للشروع ببحثه حول مصري املهاجرين البولونيني‪( .‬‬
‫دمشق‪ ،‬سوريا‪ ،2010 ،‬ص‪)93 .‬‬
‫لإلشارة هنا إىل أنه ال ميكن ألي أحد من علماء االجتماع أن يهتم ويتفطن للقيمة اليت حتملها هذه الرسالة‬
‫وغريها من الرسائل األخرى اليت سوف يشرتيها من أصحاهبا هبدف دراسة وضعية املهاجرين البولونيني ومدى‬
‫اندماجهم يف اجملتمع األمريكي‪.‬‬
‫كانت شيكاغو آنذاك منوذجا أوليا ‪ Prototype‬للحواضر األمريكية الناشئة‪ .‬فقد منت كالفطور على‬
‫مدى نصف قرن‪ ،‬وزاد‪ .‬سكاهنا من ‪ 300‬ألف عام ‪ 1870‬إىل ما يزيد عن مليون عام ‪ ،1890‬مث إىل ‪ 2‬مليون‬
‫عام ‪ ،1910‬كي يصل إىل تعدادها إىل ‪ 3,4‬مليون عام ‪ !1930‬املدينة تتألق بنزعتها احلداثية‪ :‬انطحات سحاب‪،‬‬
‫( فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه‪ ، ،‬ترجمة‬ ‫صناعات‪ ،‬ـ خمازن كبرية‪ ،‬مناطق جتارية‪ ،‬متاحف‪ ،‬مشايف‪ ،‬جامعة‪....‬‬
‫إياس حسن‪ ، ،‬دمشق‪ ،‬سوريا‪ ،2010 ،‬ص‪)93 .‬‬
‫لكن املدينة كانت جتذب أيضا موجات من املهاجرين الباحثني عن العمل‪ ،‬فهي مكان ترتكز فيها جيوب‬
‫الفقر‪ ،‬حيث ختيم اجلرمية والتسول والكحول والبغاء‪ .‬وكبقية املدن األمريكية الكربى‪ ،‬تعترب شيكاغو مدينة عديدة‬
‫اإلثنيات‪ ،‬وبنيت من خالل أحياء هلذه اإلثنيات‪ .‬يف البداية وصل اإليرلنديون واألملان واالسكندينافيون‪ ،‬وبعدها‬
‫وصل اإليطاليون واليوانن ويهود أورواب وسود اجلنوب‪ .‬أما البولونيون فيشكلون إحدى اجلاليات األحدث وصوالت‬
‫واألكثر أمهية‪ ( .‬فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه‪ ، ،‬ترجمة إياس حسن‪ ، ،‬دمشق‪ ،‬سوريا‪ ،2010 ،‬ص ‪،‬ص‪)94 ،93، .‬‬
‫سوف نرى كيف استطاع جمموعة من علماء االجتماع أن حيولوا مدينة كاملة حبجم شيكاغو إىل خمرب‬
‫للدراسات التطبيقية‪ ،‬كما جعلوا من علم االجتماع أداة للتغري وتقدمي اخلدمة السوسيولوجية للمسؤولني حىت يتسىن‬

‫‪16‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫هلم التدخل من أجل إصالح األوضاع املعيشية للسكان والعمل على التصدي للتفكك االجتماعي الذي أصاب‬
‫اجملتمع بسبب التغري االجتماعي والثقايف السريع وما أفرزه من مشكالت اجتماعية كاالحنراف واجلرمية‪.‬‬
‫إن مصادفة اكتشاف ابقة الرسائل هي نعمة ابلنسبة لتوماس‪ ،‬فهذه الرسائل اليت كتبتها فتاة شابة ومهاجرة‬
‫إىل أهلها‪ ،‬حتكي عن ظروف حياهتا وعملها واحلوادث اليومية ومشاكلها وآماهلا‪...‬إهنا يف نظر عامل االجتماع مادة‬
‫ال يغين عنها شيء ( فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه‪ ، ،‬ترجمة إياس حسن‪ ، ،‬دمشق‪ ،‬سوريا‪ ،2010 ،‬ص ‪)94 ،‬‬
‫ولكي يقود حبثه بنجاح‪ ،‬طلب توماس مساعدة شخص بولوين‪ ،‬هو فلوراين تزانييكي (‪،)1959 – 1881‬‬
‫وهو فيلسوف حتول إىل السوسيولوجيا‪ .‬وكان يدير مجعية من أجل املهاجرين القادمني من فرصوفيا‪ .‬قرر االثنان نشر‬
‫إعالن يف جريدة بولونية هي‪DziennikChicagosti‬بغيةمجع رسائل املهاجرين‪ ،‬وسرعان ما مجعا كمية هامة‬
‫من الرسائل والواثئق‪ ،‬ستشكل مادة كتاب ضخم من ‪ 5‬جملدات‪ ،‬هو‪ :‬الفالح البولوين يف أوراب وأمريكا‪ ،‬الذي ظهر‬
‫فيليب كابان وجان فرانسوا دورتيه‪ ، ،‬ترجمة إياس حسن‪ ، ،‬دمشق‪ ،‬سوريا‪ ،2010 ،‬ص‬ ‫جملده األول عام ‪1918‬م‪( .‬‬
‫‪)94‬‬
‫خمطط جممل الكتاب واضح‪ ،‬وهو وصف مسار زمرة اجتماعية‪ .‬خصصت اجمللدات االوىل للحالة البدائية‪:‬‬
‫العائلة الفالحية‪ ،‬النظام االجتماعي‪ ،‬احلياة االقتصادية يف بولونيا‪ .‬والثاين يصف "خلل التنظيم عند اجلماعات‬
‫األولية" (العائلةـ‪ ،‬جاليات العمل) الذي قاد البعض إىل ترك بلدهم (اجلزء الرابع)‪ .‬وأخريا أييت دور االستقرار يف‬
‫أمريكا‪ ،‬الذي يتصف إبعادة تشكيل اجلالية وابضطراب تنظيمها‪ :‬فساد األخالق واضطراب االستقرار العائلي‪ ،‬مث‬
‫فيليب كابان وجان فرانسوا‬ ‫اجلنوح خبصوص بعضها‪ .‬وهذا هو موضوع اجمللد األخري الذي ظهر عام ‪1920‬م (‬
‫دورتيه‪ ، ،‬ترجمة إياس حسن‪ ، ،‬دمشق‪ ،‬سوريا‪ ،2010 ،‬ص ‪،‬ص‪)95 ،94، .‬‬
‫لقد استطاع "توماس" بفضل مساعدة "فلوراين تزانييكي" احلصول على العديد من الرسائل وذلك كما‬
‫أشران عن طريق شرائها من عند بعض املهاجرين البولونيني مث القيام بتحليل حمتواها وفقا للمنهجية واألهداف‬
‫املسطرة‪.‬حيث كانت دراسة وصفية حتليلية‪ ،‬مسحت مبعرفة من هو املهاجر البولوين‪ ،‬ما هي قصة حياته‪،‬مساره املهين‬
‫يف بولونيا‪ ،‬ظروفهاملعيشية يف البلد االم‪ ،‬وصوله إىل أمريكا‪ ،‬مسألة االندماج يف اجملتمع اجلديد‪ ،‬االغرتاب من جديد‬
‫والتفكك الذي أصابه وكيف حتول البعض إىل منحرفني وجمرمني‪ ،‬إهنا فعال دراسة مؤسسة للدراسات السوسيوجلية‬
‫الكيفية‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫لإلشارة فقد اعتمدت الدراسات اإليكولوجية على العديد من املناهج والتقنيات‪ ،‬منها الكمية واألخرى‬
‫كيفية ويف بعض احلاالت املزج بني االثنني‪ .‬كما ال ننسى استخدامات املنهج األنثروبولوجي من طرف الرواد األوائل‬
‫وعلى رأسهم إزرا ابرك‪ ،‬والذي يعد األول من جلأ إىل توظيف املالحظةابملشاركة يف الدراسات اجلنائية واحلضرية‪.‬‬
‫‪-5‬أهم األفكار اليت اندت هبا هذه النظرية‪:‬‬
‫ظهر ألول مرة مصطلح اإليكولوجيا ‪ Ecologie‬يف ‪ ،1869‬وهذا من خالل استخدامه من طرف عامل‬
‫األحياء األملاين "أرنست هيكل")‪ (Ernest Haeckel‬املولد سنة ‪ 1834‬واملتويف يف ‪ ،1919‬والذي كان له‬
‫الفصل يف التعريف بنظرية التطور لشارل داروين )‪ (Darwin‬يف أملانيا‪ .‬نشري كذلك أنه ابإلضافة إىل ختصصه يف‬
‫البيولوجيا كان فيلسوفا ومفكرا حرا‪.‬‬
‫لقد ساهم يف إدخال بعض املصطلحات البيولوجيا احلديثةكالشعبة وعلم البيئة وقد وصف السياسة‬
‫ابلبيولوجيا التطبيقية‪ ،‬كما عرف "هيكل" اإليكولوجيا البيولوجية ابلعلم الذي يدرس التشابه املتبادل بني كل من‬
‫النبااتت واحليواانت اليت تعيش معا يف مناطق طبيعية‪ ،‬مطبقا بذلك النظرية التطورية الداروينية‪.‬‬
‫يف عام ‪ 1915‬نشر عامل االجتماع األمريكي روبرت برك ‪ R. Park‬وهو من العلماء املؤسسني ملدرسة‬
‫شيكاغو أبمريكا‪ ،‬مقاال حتت عنوان "املدينة"‪ .‬وبعد انضمامه إىل مدرسة شيكاغو بفضل األستاذ الكبري "توماس"‬
‫‪ ،Thomas‬أصبحت أعماله من أهم األعمال حول اإليكولوجيا واجلرمية رفقة كل من "برجس" و"شو" و"ماكي"‬
‫وغريهم من العلماء اآلخرين‪.‬‬
‫كما وظف كل من العامل "إزرا ابرك" وزميله "أرنست برجيس" مصطلح "اإليكولوجيا البشرية" يف كتاهبما‬
‫املسمى "مقدمة يف علم االجتماع"‪.‬‬
‫أما العامل "أرنست ‪ Ernest Burgess‬فنجده يف سنة ‪ 1923‬ينشر مقاله الشهري حول الطرح‬
‫اإليكولوجي والنمو حتت عنوان "منو املدينة" ويعد هذا العمل من األعمال املؤسسة لإليكولوجيا احلضرية‪ .‬يرى‬
‫برجيس أن املدينة تنمو على شكل دوائر مركزية تدور حول مركز (قلب) املدينة والذي ميثل املنطقة التجارية‪ ،‬ويف‬
‫الدوائر احمليطة بذلك املركز جند دوائر أخرى على اجلهة املشكلة احلافة اخلارجية للمدينة‪.‬‬
‫وحسب برجيس جند املناطق التالية‪:‬‬

‫‪18‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫‪-1‬املنطقة التجارية‪ :‬هي مبثابة مركز للنشاطات التجارية‪ ،‬وتتكون من املتاجر واملصانع ويقطنها نسبة قليلة من‬
‫السكان مقارنة ابملناطق األخرى‪.‬‬
‫‪-2‬مناطق التحول‪ :‬وأتيت هذه املناطق مباشرة بعد قلب املدينة ويقطنها عدد كبري من العمال (تتشكل من الطبقة‬
‫العاملة) وتضم البناءات واملساكن القدمية واليت تنعدم فيها شروط احلياة الكرمية‪ ،‬من حيث السكن‪ ،‬صرف‬
‫املياه‪...‬إخل‪ ،‬إهنا مناطق رخيصة يقطنها املهاجرون نظرا لثمن الكراء الرخيص وقرهبا من املصانع وأماكن العمل‪ ،‬إهنا‬
‫مناطق ال تصلح للسكن‪ ،‬وهي مبثابة مناطق حتول أو عبور يرتكها هؤالء العمال واملهاجرين عند حتسن ظروفهم‬
‫املادية للتوجه إىل املنطقة الثالثة‪.‬‬
‫‪-3‬مناطق إقامة الطبقة العاملة‪ :‬جند فيها عمال الصناعة وهم من ذوي الدخل احملدود ويسكن فيها العمال لقرهبا‬
‫من أماكن عملهم وكذا التخلص من نفقات (مصاريف) االنتقال واإلجيارات املرتفعة‪ .‬إال أهنا أحسن بكثري مقارنة‬
‫من مناطق التحول‪.‬‬
‫‪-4‬مناطق سكنية أفضل وفيها مساكن فردية أي خاصة بكل أسرة‪ ،‬وجند فيها كذلك الفيالت (البناايت الفاخرة)‬
‫والعمارات‪ ،‬ويسكنها أصحاب الدخول املرتفعة‪.‬‬
‫‪-5‬مناطقهامشية‪ :‬تقع هذه املناطق منفصلة على املنطقة املبنية احلضرية الرئيسية للمدينة‪ ،‬معظم سكاهنا هم من‬
‫يقومون برحلة يومية من أجل العمل‪.‬‬
‫وتدعيما لدراسات برجيس‪ ،‬أجريت العديد من الدراسات نذكر‪:‬‬
‫الدراسة اليت قام هبا "كليفورد شو" ‪Shaw‬منذ عام ‪ 1930‬واليت أثبت من خالهلا أن معدل اإلجرام يرتفع يف‬
‫وسط مدينة شيكاغو ويهبط تدرجييا كلما بعدت املسافة عن ذلك الوسط‪ ،‬أي يف ضواحي املدينة واملناطق الصناعية‬
‫هبا‪ .‬والحظ أيضا أن أعلى معدالت اجلرمية ومناطق متركز العصاابت اإلجرامية توجد يف األماكن املكتظة ابلسكان‬
‫واملفككة اجتماعيا والواقعة ابلقرب من مراكز األعمال‪ .‬فقد الحظ أن تلك املناطق اليت أمساها مناطق‬
‫اجلنوح‪-Delinquency Area‬معاانهتا من عدم كفاءة السكن‪ ،‬وعدم وجود أماكن ملمارسة األنشطة الرايضية‪،‬‬
‫وزايدة نسبة تشغيل األطفال‪ ،‬وكثرة اهلروب من املدارس‪ ،‬وعدم جتانس العنصر البشري نتيجة كثرة املهاجرين‪.‬‬
‫كما بينت العديد من الدراسات السوسيولوجية وخاصة تلك اليت قام هبا أنصار مدخل "النوافذ املكسرة"‬
‫أو "التسامح صفر" ‪ ،Tolérance Zéro‬وكذلك الدراسات اليت اجراها العامل "كليفورد شو"‪ ،‬أن معدالت‬

‫‪19‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫اجلرمية ترتفع يف املناطق اليت هجرها سكاهنا األصليون تدرجييا‪ ،‬وحل حملهم فيها أانس هامشيون‬
‫)‪ ،(Marginalisés‬فقراء‪ ،‬منعدمي الدخل‪ ،‬يتشكلون ابخلصوص من السود واملهاجرين‪ ،‬ابإلضافة إىل كوهنم‬
‫ينتمون إىل ثقافات غري متجانسة‪ ،‬مما يؤدي إىل انتشار الصراعات الثقافية والعرقية فيما بينهم‪ .‬ابإلضافة غلى انتشار‬
‫صور التفكك االجتماعي وانعدام التماسك والتالحم االجتماعي فيما بينهم‪ .‬كل هذا يزيد يف انتشار صور االحنراف‬
‫واجلرمية فيما بينهم‪.‬‬
‫‪ -‬لقد شجعت معادلة اإلنسان والبيئة يف ظهور اإليكولوجيا البشرية اليت هتتم بدراسة العالقات املكانية والزمنية بني‬
‫البشر وأتثريها مبا يف البيئة من قوى توافقية توزيعية انتقائية‪ ،‬وأن ما يقوم به الكائن البشري من عالقات مكانية هو‬
‫يف احلقيقة نتيجة مباشرة لعمليات التنافس واالنتقاء أو االنتخاب‪ ،‬ومبا أن العالقات املكانية يف حالة تغري مستمر‬
‫كلما طرأت عوامل جديدة‪ ،‬فإهنا تعمل على تشويش العالقات اإلنسانية مع الطبيعة البشرية يف عالقات مكانية‬
‫معينة حبيث أنه كلما تغريت تغري‪ ،‬وابلتايل األساس الفيزيقي الذي تستند عليه العالقات االجتماعية الذي يؤدي إىل‬
‫حدوث املشكالت االجتماعية والسياسة يف اجملتمع‪ ( .‬السيد عبد العاطي‪ ،‬أبو بكر أحمد باقادر‪1409 ، ،‬ه‪ ،‬ص‪)82 .‬‬
‫‪ -‬فظهرت تطبيقات مدرسة شيكاغو لتوضيح هذه العالقات من خالل النموذج الذي اقرتحه بريجس‪ ،‬والذي‬
‫وصف آلية التغري يف مدينة شيكاغو‪ ،‬والذي تقوم فكرته على تعاقب النطاقات املركزية من قلب املدينة التجاري‬
‫حىت األطراف مبسافات فاصلةـ فاملدينة إذا منت وتوسعت من حوهلا تشكلت يف سياق هذا النمو اجملموعات‬
‫االجتماعية وحركة تنقالهتا يف كل نطاق‪ ،‬وتعكس األنشطة فيها حمصلة القوى االقتصادية وسهولة الوصول ملركز أو‬
‫قلب املدينة التجاري‪( .‬فؤاد بن غضبان‪ ،2011 ،‬ص‪)30 .‬‬
‫كما ركز بريجس على أمهية االنتقال يف العالقات االجتماعية‪ ،‬غري أن دراسة ورث ‪Wirth‬سنة ‪1939‬‬
‫عن احلضرية كأساس للحياة االجتماعية انتقدت مفاهيم بريجس معتربا أهنا تقود إىل التفكك االجتماعي ممثال يف‬
‫أشكال اجلرمية والفساد واحنراف األحداث ونتشرد األطفال يف منطقة االنتقال‪( .‬فؤاد بن غضبان‪ ،2011 ،‬ص‪)30 .‬‬
‫وقد شهدت العشرينيات والثالثينات من القرن العشرين تطورا يف الدراسات اإليكولوجية املكانية للجرمية‬
‫أمريكا من طرف شو ‪ Shaw‬ومكاي ‪ Mc kay‬واللذان طبقا لنموذج بريجس على دراستهما على جنوح‬
‫األحداث يف شيكاغو‪ .‬وقد حددت هذه الدراسة مكان املنحرفني من األحداث ابستخدام خرائط نقطية إلظهار‬
‫التباين املكاين يف حتليلهما خلمس وسبعني (‪ )75‬جمتمعا حمليا‪ ،‬وطباقا استنتاج النموذج املكاين يف اجتاه منطه العام‬

‫‪20‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫املنتظم‪ ،‬فاجلرمية تقل كلما اجتهنا من املركز حنو األطرافواستندت النتائج على عدد من املتغريات أمهيها‪ :‬الفقر‪،‬‬
‫وتدين مستوى السكن‪ ،‬ـ واالنتقال‪ ،‬وعدد املواليد بني السكان الغرابء‪ ،‬وبناء عليهما مت حتديد أربع (‪ )04‬أشكال‬
‫رئيسية لالحنراف هي جنوح األحداث‪ ،‬جرائم البالغني‪ ،‬العودة يف اجلرمية‪ ،‬واجملرمون الفارون أو اهلاربون من العقاب‪،‬‬
‫مث مت التثبت فيهما صحة النتائج اليت توصال إليها‪( .‬فؤاد بن غضبان‪ ،2011 ،‬ص‪.‬ص‪) 31 ، 30،‬‬
‫ويف سنة ‪1969‬م أعاد الباحثان دراستهما‪ ،‬وأكدت النتائج استمرارية اجتاه النمط العام للجرمية حنو‬
‫األطراف بشكل مواز حلركة االنتقال‪( .‬فؤاد بن غضبان‪ ،2011 ،‬ص‪)31 .‬‬
‫وفيما خيص دور العوامل اخلارجية يف تفريخ السلوك املنحرف واإلجرامي مثل‪ :‬مجاعة الرفاق‪ ،‬أصدقاء‬
‫املدرسة‪ ،‬األسرة‪ ،‬احلي الذي يقطن فيه املنحرف أو اجملرم‪ ،‬نوعية السكن‪...‬إخل‪.‬‬
‫جند أنه ابلنسبة للحي والذي يقصد به هؤالء الباحثون (اإليكولوجيون) املنطقة )‪(Zone‬واليت يقطن فيها‬
‫الفرد ويتفاعل فيها مع سكاهنا‪ ،‬أي اجلريان‪ .‬وجد هؤالء الباحثون أن السلوك املنحرف واإلجرامي هو نتيجة طبيعة‬
‫للتفاعل الطويل والعميق بني كل من الفرد وهؤالء السكان (اجلريان) وابقي الظروف اخلارجية اليت يتميز هبا هذا احلي‬
‫أو املنطقة‪.‬‬
‫‪ -‬ومثال عن هذا نشري إىل دراسة العامل "شو" ‪ Shaw‬واليت تناول فيها ابلدراسة مخسة إخوة أشقاء‪ ،‬عرفوا بتارخيهم‬
‫اإلجرامي وكيف أن هذا احلي الذي يقطنون فيه لعب دورا مهما يف سلوكهم املنحرف واإلجرامي‪ ،‬وقد وصف "شو"‬
‫هذا احلي ابحلي الفاسد والذي تكثر فيه الفوضى وانعدام التنظيم االجتماعي‪.‬‬
‫‪ -‬ومن ميزات احلي الفاسد كما بينته البحوث اإليكولوجية نذكر‪:‬‬
‫‪-1‬االزدحام السكاين‪.‬‬
‫‪-2‬تنتشر فيه صور الفقر املدقع‪.‬‬
‫‪-3‬انتشار صور الرذيلة والفساد األخالقي‪.‬‬
‫‪-4‬كثرة املدمنني على الكحول واملخدرات وابقي املنشطات االخرى‪.‬‬
‫‪-5‬انتشار السرقة واجلرائم البسيطة واليت تعد جزءا من احلياة اليومية يف احلي‪.‬‬
‫‪-6‬احلي يتميز ابلفوارق االجتماعية بني قاطنيه‪.‬‬
‫‪-7‬تقطن فيه األقليات العرقية واملهاجرين‪ ،‬حيث ميتاز بعدم التجانس‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫‪-8‬يتميز ابالنغالق‪ ،‬وهو عبارة عن ‪Ghetto‬‬


‫‪-9‬تكثر فيه االعتداءات واجلرائم اجلنسية‪.‬‬
‫‪-10‬تكثر فيه العصاابت‪.‬‬
‫‪ 11‬اجملال مقسم بني العصاابت‪.‬‬
‫‪-12‬تكثر فيه الصراعات العرقية‪.‬‬
‫‪-6‬أهم االنتقادات اليت وجهت هلذه النظرية‪:‬‬
‫‪-1‬أثبتت بعض الدراسات خطأ النظرايت اإليكولوجية يف تفسري جنح األحداث وذلك الن تفاوت معدالت اجلناح‬
‫من الصعب قياسها ببعد املنطقة أو قرهبا عن مركز املدينة‪ ،‬إذ أن مثل هذه العالقة قد تكون حمض صدفة‬
‫‪-2‬انتقد بعض أنصار التفسري النفسي للجرمية واالحنراف االجتاه اإليكولوجي بوجه عام حيث أوضحوا أن السلوك‬
‫املنحرف ميكن ان ينشأ يف منازل ومناطق تتمتع بقدر وافر من الرخاء االقتصادي وظروف معيشية حسنة‪ ،‬مؤكدين‬
‫(عدنان الدوري ‪،1984،‬ص‪. )97 .‬‬ ‫يف ذلك على أمهية العوامل النفسية يف تفسري السلوك املنحرف‪.‬‬
‫‪-3‬لقد ابلغت هذه النظرية يف دور العامل البيئي متجاهلة بذلك العديد من العوامل األخرى كالعامل النفسي على‬
‫سبيل املثال‪ ،‬وهذا ما أكدته الدراسات احلديثة واليت تعمل على التوفيق بني العوامل ابلرغم من التباين الشديد بينها‪.‬‬
‫‪-4‬مل تفسر لنا هذه النظرية أسباب عدم احنراف أو إقبال بعض األفراد الذين يعيشون يف بيئات مفككة وتعرف‬
‫الفقر والعنف بكل أنواعه‪ .‬وعليه ال ميكن القول أبن الذين يقطنون يف بيئات مفككة ويسودها الفوضى والعوز بكل‬
‫أنواعه هم أكثر عرضة لالنتقال إىل الفعل االحنرايف واالجرامي‪ ،‬وابلتايل هذه النظرية هلا بعد عنصري كوهنا تركز فقط‬
‫على عرق دون اآلخر ولون بشرة دون اآلخر‪...‬إخل‪.‬‬
‫‪ -5‬انتقدت دراسة "شو" وزمالئه يف اهنا مل تدرس سوى حاالت االحنراف اليت ظهرت أمام احملاكم‪ ،‬وأهنا مل تدرس‬
‫مدى نشاط البوليس ال كما وال نوعا‪ ،‬وأن كثريا من اجلهات ترعى حاالت االحنراف اليت كانت تقدم للمحاكم‪،‬‬
‫وابلتايل مل تكن إحصائيات احملاكم مضبوطة‪ ،‬وأن األحياء يف مدينة شيكاغو كانت ختتلف من حيث التكوين‬
‫العنصري‪ ،‬وهذا له أثره يف معاقبة رجال البوليس ألبناء األجناس املختلفة‪ ،‬وان التقسيم الذي وضع لبيان اجتاهات‬
‫منو املدينة قد ال ينطبق على منو مدينة أخرى‪ ،‬كما انه مل يفرق بني مناطق تفريخ املنحرفني واملناطق اليت يتم فيها‬
‫(سعد جالل‪ ،‬دون سنة‪ ،‬ص‪،‬ص‪.)227 ،226 .‬‬ ‫النشاط املنحرف‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫‪-6‬ففي دراسة حلسن الساعايت للحصول على رسالة الدكتوراه يف سنة ‪1946‬يبني أن األحياء املتخلفة يف القاهرة‬
‫مثل ابب الشعرية وبوالق تنخفض فيها نسبة من يتم القبض عليهم‪ ،‬وهذا يعزي إىل أن األحداث املنحرفني ينزحون‬
‫إىل األحياء القريبة املتقدمة اقتصاداي للقيام بنشاطهم حيث يتم القبض عليهم‪ .‬وقد مسى املناطق األوىل مبناطق التفريخ‬
‫(سعد جالل‪ ،‬دون سنة‪ ،‬ص‪،‬ص‪،226 .‬‬ ‫أو الطرد‪ ،‬ومسى املناطق األخرى مبناطق اجلذب كحي عابدين واملوسكى‪.‬‬
‫‪.)227‬‬

‫‪-7‬ويف حبث الدكتور للسيد عويس حاول تطبيق مفهوم مناطق االحنراف على جمتمع غري غريب (يف مصر) ويف رأيه‬
‫أن مفهوم "منطقة االحنراف" يبدو أن له فائدته على الرغم من االنتقادات اليت توجه إليه‪ ،‬غري أنه حيذر من استخدام‬
‫املفهوم لتبسيط مشكلة االحنراف واجلرمية‪ ،‬ويبني أن املفهوم قد يكون له فائدته يف البحوث اجلنائية إذا ما أدخلت‬
‫(سعد جالل‪ ،‬دون سنة‪ ،‬ص‪،‬ص‪.)227 ،226 .‬‬ ‫عليه التنقيحات الالزمة‪.‬‬
‫‪-8‬فعال هناك ما يسمى ابخلصوصية الثقافية‪ ،‬وان كل نظرية هي وليدة بيئة اجتماعية ثقافية معينة‪ ،‬ال ميكن تطبيقها‬
‫آليا على ابقي اجملتمعات األخرى‪ .‬وهلذا جيب مراعاة مبدأ اخلصوصية‪ ،‬إال أننا نرى أبن هذه النظرية ميكن االستفادة‬
‫منها خاصة ابلنسبة للدول السائرة يف طريق النمو‪ ،‬مثل الدول العربية عامة‪ ،‬واليت تعرف حركة حضرية وصناعية ال‬
‫يستهان هبا‪ ،‬وابلتايل هذا يرتتب عنه العديد من الظواهر االجتماعية مع نشأة املدن اجلديدة‪ ،‬وكذلك مصري املدن‬
‫واألحياء القدمية‪ ،‬وهذا ما الحظناه مثال يف اجلزائر يف األحياء اجلديدة مثل أحياء "عدل" )‪ (A. D. L‬وغريها من‬
‫األحياء اجلديدة‪.‬‬
‫‪-9‬وحنن بدوران نشاطر الدكتور سعد جالل عندما يصرح قائال‪ ...." :‬أنه وإن كان مفهوم مناطق االحنراف مفهوما‬
‫يصلح كنقطة بداية لدراسة اجلرمية واالحنراف إال أنه جيب أال ينظر إىل هذه املناطق على أهنا السبب يف وجود‬
‫(سعد جالل‪ ،‬دون سنة‪ ،‬ص‪،‬ص‪.)227 ،226 .‬‬ ‫االحنراف‪" .‬‬
‫بل جيب البحث يف عوامل أو أسباب أخرى وراء انتشار االحنراف واجلرمية بدال من الوقوف عند عامل‬
‫"مناطق االحنراف"‪ ،‬على أساس أنه العامل الوحيد يف تفريخ االحنراف واجلرمية‪ ،‬وهذا خطأ يف نظر املقارابت التفسريية‬
‫اجلديدة للمشكالت االجتماعية‪.‬‬
‫‪-10‬ومن بني االنتقادات اليت نضيفها هناهو ان هذه النظرية ذات توجه عنصري‪ ،‬كوهنا الصقت االحنراف واجلرمية‬
‫ابلفئات االجتماعية الدنيا املسحوقة اجتماعيا واقتصاداي وثقافيا‪ .‬حيث اهنا تذهب اىل القول ابنكل من االحنراف‬

‫‪23‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫و اجلرمية مها من ميزات امل(سعد جالل‪ ،‬دون سنة‪ ،‬ص‪،‬ص‪.)227 ،226 .‬انطق السكنية املتدهورة و الفقرية و اليت تنعدم‬
‫فيها شروط احلياة الكرمية و هذا حكقاسي و نوع من أنواع الوصم الذي فندته العديد من النظرايت النفسية و‬
‫االجتماعية و نذكر ابخلصوص كل من النظرية االشرتاكية‪ ،‬و نظرية اخلالطة الفارقة او التفاضلية‪ ،‬حيث على سبيل‬
‫املثال قد بني العامل ''ادوين سوزرالند'' ان األغنياء يرتكبون اجلرائم مبعدالت ال يستهان هبا و اهنم بفضل مكانتهم و‬
‫أمواهلم يستطيعون شراء القضاء و ضمان الدفاع هلم و ألبنائهم و هذا ما ال يستطيعفعله الفقراء و أبناء الطبقات‬
‫الدنيا‪.‬‬
‫‪-11‬كما أن هذه النظرية أمهلت طبيعة الفرد وتركيبته النفسية والعضوية ودرجة القابلية للتأثر ابحمليط (البيئة)‪ ،‬حيث‬
‫األفراد ليسوا متشاهبني أو الواحد نسخة مطابقة لآلخر‪ ،‬بل خيتلفون من حيث اجلانب النفسي والعضوي وهذا ما‬
‫جيعلهم يتأثرون بدرجات متباينة وغري متشاهبة مع املؤثرات اخلارجية‪.‬‬
‫‪-12‬لقد عيب على النظرية اإليكولوجية‪ ،‬أهنا مل تعط تفسريا شامال لكل صور السلوك االجرامي‪ ،‬وإمنا أنصب‬
‫‪www.‬‬ ‫اهتمامها يف دائرة جرائم األموال‪ ،‬وعلى األخص اليت تقع يف نطاق عصاابت األحداث اإلجرامية‪( .‬‬
‫‪elbassair. com‬موقع تم تصفحه بتاريخ‪)2020/06/07 :‬‬
‫هذا ما سبق اإلشارة إليه‪ ،‬وهو أن هذه النظرية شأهنا شأن العديد من النظرايت االخرى‪ ،‬اهتمت بنوع‬
‫معني من السلوك املنحرف واإلجرامي وأمهلت ابقي السلوك االحنرافية واإلجرامية األخرى‪ .‬كما اهنا تبقى نظرية‬
‫أحادية طرح‪ ،‬أي أهنا امهلت العديد من العوامل االجتماعية والنفسية يف تفسريها لالحنراف واجلرمية وركزت فقط‬
‫على العامل البيئي‬
‫خامتة‪:‬‬
‫لقد عرضنا أهم ما جاء يف الكتاابت اخلاصة ابلنظرية البيئية أو املسماة ابإليكولوجيا البشرية وكيفية تناوهلا‬
‫لظاهرة اجلرمية واالحنراف وتبني لنا أن هذه النظرية هي من املداخل الكربى )‪ (Macro‬وحتتوي أو تشمل على‬
‫العديد من النظرايت الصغرى‪ .‬أي ان هناك العديد من النظرايت ذات البعد التفسريي االيكولوجي يف ثنااي ما‬
‫يسمى ابملدخل االيكولوجي او االيكولوجية البشرية‪ ،‬ابإلضافة اىل وجود اختالفات عميقة بني هذه احملاوالت النظرية‬
‫البيئية‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫وكذلك متيزت هذه النظرية خبصوبة وتنوع الدراسات امليدانية واحلقلية اليت أجريت يف أمريكا وابخلصوص‬
‫يف مدينة شيكاغو‪ ،‬املدينة املسماة ابملخرب)‪(Ville Laboratoire‬‬
‫ارتبطت ابسم هذه املدينة ‪-‬شيكاغو‪-‬وخاصة بنشأة وتطور قسم علم االجتماع جبامعة شيكاغو‪ .‬إذ ال‬
‫ميكن الفصل بني هنضة هذا القسم وهذه النظرية‪ ،‬كون رواد هذه املدرسة والقسم هم مؤسسوا املدخل النظري البيئي‪.‬‬
‫لقد حاولت هذه النظرية تفسري ظاهرة االحنراف واجلرمية انطالقا من العامل البيئي‬
‫)‪ (Environnement‬ابإلضافة إىل اهتمامها بكل من مشكلة اهلجرة والصراعات الثقافية واألثنية‪.‬‬
‫هذا وقد سامهت هذه النظرية يف تقدمي العديد من اخلدمات العملية للجهات املسؤولة‪ ،‬حىت تتدخل من‬
‫أجل احلد من انتشار املظاهر االحنرافية واإلجرامية اليت كانت تنخر جسم اجملتمع األمريكي يف مرحلة حامسة من‬
‫مراحل اترخيه احلديث‪.‬‬
‫قائمة املراجع‬

‫أمحد مصطفى عبد هللا أبو عبيلة وآخرون‪ ،‬مدخل علم اجلرمية‪ ،‬دار البريوين للنشر والتوزيع‪ ،‬عمان‪،‬‬ ‫‪.1‬‬
‫اململكة األردنية اهلامشية‪.2015 ،‬‬
‫جالل الدين عبد اخلالق‪ ،‬السيد رمضان‪ ،‬اجلرمية واالحنراف من منظور اخلدمة االجتماعية‪ ،‬املكتب‬ ‫‪.2‬‬
‫اجلامعي احلديث‪ ،‬االسكندرية‪ ،‬مصر ‪،2001‬‬
‫جالل ثروت‪ ،‬الظاهرة االجرامية‪" ،‬دراسة يف علم اإلجرام وعلم العقاب"‪ ،‬مؤسسة الثقافة اجلامعية‪،‬‬ ‫‪.3‬‬
‫االسكندرية‪ ،‬مصر‪،1983 ،‬‬
‫حسني الساعايت‪ :‬النظرايت االجتماعية لتفسري السلوك االجرامي‪ ،‬ورقة مقدمة ألحباث الندوة العلمية‬ ‫‪.4‬‬
‫السادسة ‪-‬اخلطة املنية الوقائية العربية األوىل ‪-‬املركز العريب للدراسات األمنية والتدريب ابلرايض‪ ،‬الرايض‪،‬‬
‫العربية السعودية‪ ،1987 ،‬ص‪ .‬ص‪. .‬‬
‫محيد بن انصر احلجري نقل عن املوقع‪ https: //www. rop. gov. com :‬اتريخ تصفح‬ ‫‪.5‬‬
‫املقال ‪.2019/08/12 :‬‬
‫‪-‬سعد جالل‪ ،‬أسس علم النفس اجلنائي‪ ،‬دار املعارف ‪،‬القاهرة ‪،‬مصر‪.‬‬ ‫‪.6‬‬
‫السيد عبد العاطي‪ ،‬أبو بكر أمحد ابقادر‪ ،‬املدينة‪ :‬أتليف‪ :‬روبرت ابرك وارنست بريجس وروبرت‬ ‫‪.7‬‬
‫ماكنزي‪ ،‬وكالة ترب لإلعالن والنشر‪1409 ،‬ه‬

‫‪25‬‬
‫جــــامعـــة علي لونيسي البليدة‪2‬‬
‫مخبر الجريمة واالنحراف بين الثقافة والتمثالت االجتماعية‬
‫مجلة سوسيولوجيا الجريمة‬
‫للبحوث والدراسات العلمية يف الظواهر االجرامية‬

‫‪ .8‬عبد هللا حسني خليفة‪" ،‬احملددات االجتماعية لتوزيع اجلرمية على أحياء مدينة الرايض"‪ ،‬الكتاب السنوي‪،‬‬
‫مركز أحباث مكافحة اجلرمية‪ ،‬الرايض‪ ،‬اململكة العربية السعودية‪،1994 ،‬‬
‫‪ .9‬عدانن الدوري‪ ،‬أسباب اجلرمية وطبيعة السلوك االجرامي‪ ،‬منشورات ذات السالسل‪ ،‬الكويت‬
‫‪،.1984،‬‬
‫فؤاد بن غضبان‪ ،‬مدخل إىل اجلغرافية االجتماعية‪ ،‬دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع‪ ،‬عمان‪،‬‬ ‫‪.10‬‬
‫األردن‪2011 ،‬‬
‫فيليب كاابن وجان فرانسوا دورتيه‪ ،‬علم االجتماع من النظرايت الكربى إىل الشؤون اليومية‪،‬‬ ‫‪.11‬‬
‫أعالم وتواريخ وتيارات‪ ،‬ترمجة إايس حسن‪ ،‬دار الفرقد‪ ،‬دمشق‪ ،‬سوراي‪،‬‬
‫مصطفى عبد اجمليد كارده‪ ،‬مقدمة يف االحنراف االجتماعي‪ ،‬معهد اإلمناء العريب‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫‪.12‬‬
‫‪،1985‬‬
‫انجي حممد هالل‪" :‬االجتاهات النظرية واملنهجية احلديثة يف دراسة االحنراف االجتماعي"‪ ،‬اجمللة‬ ‫‪.13‬‬
‫العربية للدراسات األمنية والتدريب‪ ،‬اجمللد ‪ ،17‬العدد ‪ ،33‬جامعة انيف للعلوم األمنية‪ ،‬اململكة العربية‬
‫السعودية‪.2002 ،‬‬
‫‪1‬‬
‫موقع تم تصفحه بتاريخ‪www. elbassair. com 2020/06/07 :‬‬

‫‪-Sophie Body - Grendrot : les recherches sur les "lieux sensibles aux Etats-Unis" in Revue‬‬
‫‪Européenne de Migrations internationales, vol 18, No3, université de Poitier France, 2002,‬‬
‫‪http//journals. Openedition. org/remi/2647.‬‬

‫‪26‬‬

You might also like