You are on page 1of 26

‫س ِم اللَّـ ِه ال َّر ْح َم ٰـ ِن ال َّر ِح ِ‬

‫يم‬ ‫بِ ْ‬
‫( َوقَا َل ُمو َ‬
‫س ٰى يَا قَ ْو ِم ِإنْ ُك ْنتُ ْم آ َم ْنتُ ْم بِاهَّلل ِ فَ َعلَ ْي ِه تَ َو َّكلُوا ِإنْ ُك ْنتُ ْم‬
‫سلِ ِمينَ * فَقَالُوا َعلَى هَّللا ِ ت ََو َّك ْلنَا َربَّنَا اَل ت َْج َع ْلنَا فِ ْتنَةً لِ ْلقَ ْو ِم الظَّالِ ِمينَ *‬ ‫ُم ْ‬
‫س ٰى َوَأ ِخي ِه َأنْ تَبَ َّوآ‬ ‫*وَأ ْو َح ْينَا ِإلَ ٰى ُمو َ‬ ‫َونَ ِّجنَا بِ َر ْح َمتِكَ ِمنَ ا ْلقَ ْو ِم ا ْل َكافِ ِرينَ َ‬
‫ش ِر‬ ‫صاَل ةَ ۗ َوبَ ِّ‬ ‫اج َعلُوا بُيُوتَ ُك ْم قِ ْبلَةً َوَأقِي ُموا ال َّ‬ ‫ص َر بُيُوتًا َو ْ‬ ‫لِقَ ْو ِم ُك َما بِ ِم ْ‬
‫س ٰى َربَّنَا ِإنَّكَ آتَيْتَ فِ ْرع َْونَ َو َمَأَلهُ ِزينَةً َوَأ ْم َوااًل فِي‬ ‫*وقَا َل ُمو َ‬ ‫ا ْل ُمْؤ ِمنِينَ َ‬
‫ش ُد ْد‬‫س َعلَ ٰى َأ ْم َوالِ ِه ْم َوا ْ‬ ‫سبِيلِكَ ۖ َربَّنَا ا ْط ِم ْ‬ ‫ضلُّوا عَنْ َ‬ ‫ا ْل َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َربَّنَا لِيُ ِ‬
‫اب اَأْللِي َم* قَا َل قَ ْد ُأ ِجيبَتْ‬ ‫َعلَ ٰى قُلُوبِ ِه ْم فَاَل يُْؤ ِمنُوا َحتَّ ٰى يَ َر ُوا ا ْل َع َذ َ‬
‫َدع َْوتُ ُك َما فَا ْستَقِي َما َواَل تَتَّبِ َعانِّ َسبِي َل الَّ ِذينَ اَل يَ ْعلَ ُمونَ )‬

‫سورة يونس‬
‫االية ( ‪)89 - 84‬‬

‫ا‬
‫االهداء‬
‫الى معلم اإلنسانية الى الرسول االكرم الى خاتم األنبياء و المرسلين‬
‫النبي محمد (صلى هللا عليه و سلم)‬
‫إلى صاحب السيرة العطرة‪ ،‬والفكر ال ُمستنير؛‬
‫(والدي الحبيب)‪ ،‬أطال هللا في ُعمره‪.‬‬
‫إلى من وضعتني على طريق الحياة‪ ،‬وجعلتني رابطة الجأش‪،‬‬
‫‪ ‬وراعتني حتى صرت كبيرة‬
‫(أمي الغالية)‪،‬‬
‫إلى إخوتي؛ و اخواتي من كان لهم بالغ األثر في كثير من العقبات والصعاب‪.‬‬
‫إلى جميع أساتذتي الكرام؛ ممن لم يتوانوا في مد يد العون لي‬
‫ُأهدي إليكم بحثي هذا‬

‫رسل‬

‫الشكر و التقدير‬

‫ب‬
‫أول مشكور هو هللا عز وجل‪ ،‬ثم والداي على كل مجهوداتهم@ منذ والدتي إلى هذه اللحظات‪،‬‬
‫أنتم كل شيء أحبكم في هللا أشد الحب‪.‬‬
‫يسرني أن أوجه شكري لكل من نصحني أو أرشدني أو وجهني أو س@@اهم معي في إع@@داد ه@@ذا‬
‫المحتويات‬

‫ج‬
‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬ ‫ت‬
‫أ‬ ‫االية‬ ‫‪1‬‬
‫ب‬ ‫االهداء‬ ‫‪2‬‬
‫ج‬ ‫الشكر و التقدير‬ ‫‪3‬‬
‫‪1‬‬ ‫المقدمة‬ ‫‪4‬‬
‫‪2‬‬ ‫المبحث األول ‪ :‬التعريف بموسى عليه السالم‬ ‫‪5‬‬
‫أواًل ‪ :‬اسمه ونسبه عليه السالم‪:‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪2‬‬ ‫ثان ًيا‪ :‬زمانه عليه السالم‪:‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪2‬‬ ‫ثال ًثا‪ :‬مكانته‪:‬‬ ‫‪8‬‬
‫‪4‬‬ ‫صفاته و اخالقه (عليه السالم)‬ ‫‪9‬‬
‫‪5‬‬ ‫الخ ْلقية‪:‬‬
‫أواًل ‪ :‬صفاته َ‬ ‫‪10‬‬
‫‪5‬‬ ‫ثان ًيا‪ :‬صفاته الخلقية‪:‬‬ ‫‪11‬‬
‫‪6‬‬ ‫آيات موسى عليه السالم ومعجزاته‬ ‫‪12‬‬
‫‪11‬‬ ‫موسى عليه السالم والسحرة‬ ‫‪13‬‬
‫‪14‬‬ ‫نجاة موسى عليه السالم ومن معه‬ ‫‪14‬‬
‫‪19‬‬ ‫الخاتمة‬ ‫‪15‬‬
‫‪26‬‬ ‫المصادر‬ ‫‪16‬‬

‫د‬
‫المقدمة‬
‫أصطفى هللا عز وج ل بش ر بعينهم من أج ل أن ي نزل عليهم اله دي والرس ل من أج ل هداي ة الن اس‬
‫والدعوة إلى دين هللا الواحد األحد‪ ،‬وقد فضل هللا عز وجل الرسل على األنبياء لكونهم يحملون رسالة من هللا‬
‫عز وجل وقد فضل هللا عز وجل سيدنا موسى عليه السالم بالكالم معه‪ ،‬وق د ت ربى موس ى علي ه الس الم في‬
‫منزل واحد من الطغاة وهو فرعون ويع ود نس ب س يدنا موس ى علي ه الس الم إلى س يدنا يعق وب بن إس حاق‬
‫عليهما السالم‪.‬‬
‫و على مر قرون من الزمن‪ ،‬أرسل هللا تع الى األنبي اء لهداي ة الن اس‪ ،‬ولم يكتفي بن بي واح د‪ ،‬وإنم ا‬
‫رحمته ‪-‬عز وجل‪ -‬اقتضت أن يرسل لهم النبي تلو اآلخر حتى ال تكون لهم الحج ة ي وم القيام ة‪ ،‬ب أن تبلغ وا‬
‫دين هللا الحق وشريعته‪ ،‬ومن بينهم النبي موُ سى ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬الذي جاءت قص ته في آي ات وس ور‬
‫عدة‪ ،‬مبينا ً للناس العبر المستخلصة من هذه القصة‪ ،‬ومن خالل هذا البحث‪ ،‬سوف نروي قصة النبي‪.‬‬
‫ان قصص األنبياء هي من األمور المشوقة ‪ ،‬وال تي تس اعد على معرف ة الكث ير عن حي اة األنبي اء ‪،‬‬
‫ومراحل حياتهم ‪ ،‬وكيف وصلت لهم الرسالة ‪ ،‬وحالهم مع ق ومهم ‪ ،‬ومؤك د أن هن اك الكث ير من ال دروس ‪،‬‬
‫والعبر التي يمكن لإلنسان أن يتعلمها ‪ ،‬ويعلمها ألبنائه من خالل قصص األنبياء ‪ ،‬ومعرفة ما القوه من أجل‬
‫أن ينشروا دين هللا – عز وجل – في األرض ‪ ،‬وأعظم قصص األنبياء هي‪ ‬قصة موس ي علي ه الس الم‪ ‬حيث‬
‫تحتوي على الكثير من األحداث العظيمة التي غيرت شكل التاريخ ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫المبحث األول‬
‫التعريف بموسى (عليه السالم)‬
‫أواًل ‪ :‬اسمه ونسبه عليه السالم‪:‬‬
‫لم يذكر القرآن شيًئ ا عن نسب نبي‪ ‬هللا موسى عليه السالم وال عن والده أو والدته‪ ،‬لكن ‪ ‬ذكر في غير‬
‫موض ع ب القرآن الك ريم أن موس ى أ ٌخ له ارون‪ ‬علي ه الس الم‪ ‬وق د ت وهم البعض ك القرظي (‪ )1‬أنهم ا أخ وان‬
‫للسيدة‪ ‬العذراء مريم‪ ،‬لقوله عز وجل على لسان بني إسرائيل‪ ( :‬يَا ُأ ْختَ هَارُونَ َما َكانَ َأب ِ‬
‫ُوك ا ْم َرَأ َس وْ ٍء َو َم ا‬
‫ك بَ ِغيًّا) (‪ ، )2‬ولتشابه اسمي أبي موسى‪ ‬وأبي مريم‪ ،‬فكالهما اسمه (عمران)‪.‬‬ ‫َت ُأ ُّم ِ‬
‫َكان ْ‬
‫والحقيقة أن التباعد الزمني بين‪ ‬موسى وعيسى عليه السالم أم ٌر ثابت بالقرآن الك ريم‪ ،‬يق ول هللا‪ ‬ع ز‬
‫وس ى ِإ ْذ قَ الُوا لِنَبِ ٍّي لَهُ ُم ا ْب َع ْ‬
‫ث لَنَ ا َملِ ًك ا نُقَاتِ لْ‬ ‫وجل في قصة داود ‪َ(:‬ألَ ْم تَ َر ِإلَى ْالمَِإل ِم ْن بَنِي ِإ ْس َراِئي َل ِم ْن بَ ْع ِد ُم َ‬
‫يل هَّللا ِ َوقَ ْد ُأ ْخ ِرجْ نَ ا ِمن‬
‫وا َو َما لَنَا َأالَّ نُقَاتِ َل فِي َسبِ ِ‬
‫وا قَالُ ْ‬
‫ب َعلَ ْي ُك ُم ْالقِتَا ُل َأالَّ تُقَاتِلُ ْ‬
‫ال هَلْ َع َس ْيتُ ْم ِإن ُكتِ َ‬ ‫فِي َسبِي ِل هَّللا ِ قَ َ‬
‫ب َعلَ ْي ِه ُم ْالقِتَ ا ُل تَ َولَّوْ ْا ِإالَّ قَلِيالً ِّم ْنهُ ْم َوهَّللا ُ َعلِي ٌم بِالظَّالِ ِمينَ ) (‪ . )3‬ف داود علي ه الس الم ك ان‬ ‫ارنَ ا َوَأ ْبنَآِئنَ ا فَلَ َّما ُكتِ َ‬
‫ِديَ ِ‬
‫بين‪ ‬موسى وعيسى عليه السالم‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬زمانه عليه السالم‪:‬‬
‫ليس في القرآن‪ ‬الكريم ما يمكن من خالله تحديد الفترة الزمنية ال تي ول د‪ ‬فيه ا ن بي هللا موس ى علي ه‬
‫السالم بدقة‪ ،‬لكن الثابت‪ ‬في القرآن أن مبعثه كان ساب ًقا على نبي هللا‪ ‬داود عليه السالم‪ ،‬وتحدثت بعض اآليات‬
‫القرآني ة عن ج انب من‪ ‬ال زمن ال ذي ول د في ه‪ ،‬حيث ع اش بن و إس رائيل ف ترة طويل ة‪ ‬في ظ ل االض طهاد‬
‫ب من تأييدهم للغزاة الهكسوس ال ذين‪ ‬حكم وا مص ر وت آمرهم على المص ريين‪ ،‬واس تحقارهم‬ ‫الفرعوني بسب ٍ‬
‫لعبادة المصريين‪ ،‬فضال عن‪ ‬عقيدتهم بأنهم شعب هللا المختار (‪. )4‬‬
‫وبل غ بهم التنكي ل أن‪ ‬أص در فرع ون ق رارً ا يقض ي ب ذبح أبن اء اإلس رائيليين واس تحياء‬
‫نسائهم‪ ‬وتسخيرهم في أعمال الخدمة الشاقة‪ ،‬وفي س ورة القص ص بعض التفص يل‪ ‬لمعان اتهم في ه ذه الف ترة‬
‫العصيبة من تاريخ بني إسرائيل‪.‬‬
‫رض‬
‫ِ‬ ‫ق لِقَوم يُؤ ِمنُ ونَ * ِإ َّن فِر َع ونَ َعاَل فِي ٱَأل‬ ‫ك ِمن نَّبَِإ ُمو َس ٰى َوفِرعَونَ با َ‬
‫لح ِّ‬ ‫وا َعلَي َ‬‫يقول‪ ‬تعالى‪ ( :‬نَتلُ ْ‬
‫فس ِدينَ * َونُ ِري ُد َأن نَّ ُم َّن‬ ‫َو َج َع َل َأهَلهَا ِشيَعا يَستَض ِعفُ طَٓاِئفَة ِّمنهُم يُ َذبِّ ُح َأبنَٓا َءهُم َويَست ِ‬
‫َحيۦ نِ َسٓا َءهُم ِإنَّهۥُ َكانَ ِمنَ ٱل ُم ِ‬
‫ي فِر َع ونَ‬ ‫رض َونُ ِر َ‬
‫ِ‬ ‫رض َونَج َعلَهُم َأِئ َّمة َونَج َعلَهُ ُم ٱل ٰ َو ِرثِينَ * َونُ َم ِّكنَ لَهُم فِي ٱَأل‬
‫ِ‬ ‫وا فِي ٱَأل‬‫َعلَى ٱلَّ ِذينَ ٱستُض ِعفُ ْ‬
‫وا يَح َذرُونَ ) (‪. )5‬‬ ‫َو ٰهَ ٰ َمنَ َو ُجنُو َدهُ َما ِمنهُم َّما َكانُ ْ‬

‫‪ )(1‬تاريخ الرسل و الملوك‪ ،‬الطبري ‪.387/1‬‬


‫‪ )(2‬سورة مريم‪ ،‬االية (‪.)28‬‬
‫‪ )(3‬سورة البقرة‪ ،‬االية (‪.)246‬‬
‫‪ )(4‬الدين و حاجة اإلنسانية اليه عبر الرساالت اإللهية‪ ،‬محمود مزروعة‪ ،‬ص ‪.147 – 146‬‬
‫‪ )(5‬سورة القصص‪ ،‬االيات ( ‪.)6 – 3‬‬
‫‪2‬‬
‫ونطالع في السورة الثانية من الكتاب الكريم تذكير‪ ‬المولى جل جالله لبني إسرائيل بإنج ائهم من ه ذا‬
‫ب يُ َذبِّحُونَ َأبنَ ٓا َء ُكم َويَس تَحيُونَ نِ َس ٓا َء ُكم َوفِي ٰ َذلِ ُكم‬ ‫ال فِرعَونَ يَسُو ُمونَ ُكم س ُٓو َء ٱل َع َذا ِ‬ ‫االضطهاد‪( ‬إذ نَجَّي ٰنَ ُكم ِّمن َء ِ‬
‫َظيم) (‪.)6‬‬ ‫بَٓاَل ء ِّمن َّربِّ ُكم ع ِ‬
‫ومثلها ‪ ( :‬يُقَتِّلُونَ َأ ْبنَٓا َء ُك ْم َويَ ْستَحْ يُونَ نِ َسٓا َء ُك ْم ) ‪.‬‬
‫(‪)2‬‬

‫وقد روى الطبري عن ابن إسحاق قوله‪( :‬كان فرعون يع ذب ب ني إس رائيل فيجعلهم خ دمًا وخ واًل ‪،‬‬
‫وصنفهم في أعماله‪ ،‬فصنفٌ يبنون‪ ،‬وص نفٌ يحرث ون‪ ،‬وص نفٌ ‪ ‬يزرع ون ل ه‪ ،‬فهم في أعمال ه‪ ،‬ومن لم يكن‬
‫منهم في‪ ‬صنعة له من عمله‪ :‬فعليه الجزية ‪-‬فسامهم‪ -‬كما قال هللا‪ ‬عز وجل سوء العذاب)(‪. )3‬‬
‫وروي أن فرعون كان قد رأى‪ ‬رؤيا هالت ه؛ رأى ن ارً ا خ رجت من بيت المق دس ف دخلت‪ ‬دور القب ط‬
‫ببالد مص ر‪ ،‬إال بي وت ب ني إس رائيل‪ ،‬مض مونها أن‪ ‬زوال ملك ه يك ون على ي دي رج ل من ب ني إس رائيل‪،‬‬
‫ويقال‪ :‬بل تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج‪ ‬رجل منهم‪ ،‬يكون لهم به دولة ورفعة‪...‬فعن د‬
‫ذلك أمر‪ ‬فرعون بقتل ك ل ذك ر يول د بع د ذل ك من ب ني إس رائيل‪ ،‬وأن ت ترك البن ات‪ ،‬وأم ر باس تعمال ب ني‬
‫إسرائيل في مشاق األعمال‪ ‬وأراذلها (‪. )4‬‬
‫ولذلك كان وصف القرآن الكريم لهم ‪ ( :‬الَّ ِذينَ َكانُوا يُ ْستَضْ َعفُونَ )(‪ . )5‬ومنَّ هللا ج َّل جاللُ ه على‪ ‬ب ني‬
‫يل قَ ْد َأن َج ْينَا ُك ْم ِّم ْن َعد ُِّو ُك ْم )(‪.)6‬‬
‫إسرائيل بالنجاة في غير موضع بالقرآن‪ ،‬من مثل قوله‪ (  :‬يابني ِإس َْراِئ َ‬
‫ب ْال ُم ِهي ِن )(‪. )7‬‬
‫وقوله تعالى ‪َ ( :‬ولَقَ ْد نَ َّج ْينَا بَنِي ِإ ْس َراِئي َل ِمنَ ْال َع َذا ِ‬
‫ليس هذا فحسب؛‪ ‬ففي موضع آخر يذكر نبي هللا موسى عليه السالم‪ ‬بني إس رائيل بنعم ة هللا الس ابغة‬
‫وس ٰى لِقَوْ ِم ِه ْاذ ُك رُوا نِ ْع َم ةَ هَّللا ِ‬ ‫ال ُم َ‬ ‫عليهم بأن كتب لهم النجاة‪ ‬من السخرة التي عاشوا فيها أم ًدا بعي ًدا‪َ ( : ‬وِإ ْذ قَ َ‬
‫ب َويُ َذبِّحُونَ َأ ْبنَ ا َء ُك ْم َويَ ْس تَحْ يُونَ نِ َس ا َء ُك ْم ۚ َوفِي ٰ َذلِ ُكم بَاَل ٌء‬ ‫نجا ُكم ِّم ْن آ ِل فِرْ عَوْ نَ يَسُو ُمونَ ُك ْم سُو َء ْال َع َذا ِ‬ ‫َعلَ ْي ُك ْم ِإ ْذ َأ َ‬
‫ِّمن َّربِّ ُك ْم َع ِظي ٌم)(‪. )8‬‬
‫ثال ًثا‪ :‬مكانته‪:‬‬
‫نص القرآن الكريم في أكثر من آية على‪ ‬مكان ة موس ى الكليم علي ه الس الم بين األنبي اء‪ ،‬وأش ار إلى‬
‫عظم‪ ‬هذه المكانة؛ فقال تعالى مجمال هذه المناقب ومبي ًنا هذه‪ ‬المكانة ‪َ ( :‬و َكانَ ِعن َد هَّللا ِ َو ِجيهًا)(‪. )9‬‬
‫والوجيه هو صاحب المكانة والمنزلة الرفيعة (‪. )10‬‬
‫ب موس ى إنَّهُ‬ ‫ومن أكثر اآليات‪ ‬تأكي ًدا على هذه المكانة العظيمة قول هللا عز وجل ‪ ( :‬واذكرْ في الكتا ِ‬
‫ور اَأْل ْي َم ِن َوقَ َّر ْبنَاهُ ن َِجيًّا * َو َوهَ ْبنَ ا لَ هُ ِمن رَّحْ َمتِنَ ا َأ َخ اهُ‬ ‫ب ُّ‬
‫الط ِ‬ ‫كانَ ُمخلَصًا وكانَ رسوالً نبيًّا * َونَا َد ْينَاهُ ِمن َجانِ ِ‬
‫هَارُونَ نَبِيًّا)(‪. )11‬‬
‫‪ )(6‬سورة البقرة‪ ،‬االية (‪.)49‬‬
‫‪ )(2‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪.)141‬‬
‫‪ )(3‬الطبري‪ ،‬مصدر سبق ذكره‪.‬‬
‫‪ )(4‬تفسير القران العظيم ‪ 116/1‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ )(5‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪.)137‬‬
‫‪ )(6‬سورة طه‪ ،‬االية (‪.)80‬‬
‫‪ )(7‬سورة الدخان‪ ،‬االية (‪.)30‬‬
‫‪ )(8‬سورة إبراهيم‪ ،‬االية (‪.)60‬‬
‫‪ )(9‬سورة األحزاب‪ ،‬االية (‪.)69‬‬
‫‪ )(10‬المحور الوجيز‪ /‬ابن عطية ‪ ،401/4‬الكشاف‪ ،‬الزمخشري ‪.586/3‬‬
‫‪ )(11‬سورة مريم‪ ،‬االية (‪.)53-51‬‬
‫‪3‬‬
‫ويمكننا إيجاز بعض مناقبه عليه السالم كما وردت في‪ ‬القرآن الكريم على النحو التالي‪:‬‬
‫أواًل ‪ :‬أنه كان (مخلصً ا) لقوله سبحانه ‪ ( :‬إنَّهُ كانَ ُمخلَصًا )(‪ )1‬أي أن هللا تعالى اصطفاه واستخلصه‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬جمعه بين‪ ‬الرسالة والنبوة عند من فرق بينهما لقوله ‪ ( :‬وكانَ رسوالً نبيًّا )(‪.)3( )2‬‬
‫ثال ًثا‪ :‬تكليم هللا جل جالله له‪ ،‬لقوله سبحانه ‪َ ( :‬و َكلَّ َم هَّللا ُ ُمو َس ٰى تَ ْكلِي ًما)(‪. )4‬‬
‫راب ًعا‪ :‬علو مكانته‪ ،‬لقوله‪ ‬عز وجل‪َ ( :‬وقَ َّر ْبنَاهُ نَ ِجيًّا )(‪. )5‬‬
‫وفيه‪ ‬رأيان‪« :‬قرب المكان»‪ ،‬وقيل‪( :‬قرب المنزلة)‪ ،‬وسواء أكان هذا‪ ‬أم ذاك فإنم ا ي دل على عل و مكانت ه‬
‫عليه السالم‪.‬‬
‫اص طَفَ ْيتُكَ َعلَى النَّ ِ‬
‫اس بِ ِر َس ااَل تِي َوبِكَاَل ِمي)‬ ‫خامس@@@ا‪ :‬اص@@@طفاء هللا تع@@@الى له‪ ،‬وذل ك لقول ه ‪ِ ( :‬إنِّي ْ‬
‫(‪)6‬‬
‫ً‬
‫ولقوله‪ ‬سبحانه‪َ (:‬وَأنَا ْ‬
‫اختَرْ تُكَ فَا ْستَ ِم ْع لِ َما يُو َح ) ‪.‬‬
‫(‪)7‬‬

‫صفاته و اخالقه (عليه السالم)‬


‫الخ ْلقية‪:‬‬
‫أواًل ‪ :‬صفاته َ‬
‫ليس في القرآن ما يدل على شيء من أوصاف‪ ‬موسى عليه السالم الخلقية‪ ،‬سوى آية تشير إلى قوت ه‬
‫البدنية‪ ‬التي ميزته‪ .‬يقول تعالى ‪َ ( :‬و َد َخ َل ْال َم ِدينَةَ َعلَ ٰى ِحي ِن َغ ْفلَ ٍة ِّم ْن َأ ْهلِهَا فَ َو َج َد فِيهَ ا َر ُجلَي ِْن يَ ْقتَتِاَل ِن ٰهَ َذا ِمن‬
‫ض ٰى َعلَ ْي ِه ۖ قَ ا َل ٰهَ َذا ِم ْن‬ ‫ِشي َعتِ ِه َو ٰهَ َذا ِم ْن َعد ُِّو ِه ۖ فَا ْستَغَاثَهُ الَّ ِذي ِمن ِشي َعتِ ِه َعلَى الَّ ِذي ِم ْن َع ُد ِّو ِه فَ َوكَزَ هُ ُمو َس ٰى فَقَ َ‬
‫ين )(‪. )8‬‬ ‫ض ٌّل ُّمبِ ٌ‬ ‫َع َم ِل ال َّش ْيطَ ِ‬
‫ان ۖ ِإنَّهُ َع ُد ٌّو ُّم ِ‬
‫وأورد‪ ‬ابن إسحاق ما يفيد قوة موسى عليه السالم وبسطته‪ ،‬يقول‪( :‬وكان موس ى ق د أوتي بس طة في‬
‫الخلق‪ ،‬وشدة في‪ ‬البطش؛ فغضب بعدوهما فنازعه (فوكزه موسى) وكزة قتله منها‪ ‬وهو ال يريد قتله)(‪. )9‬‬
‫وفي السنة النبوية عن ابن‪ ‬عباس رضي هللا عنهما عن النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ( ‬وأما موسى فآد ٌم‬
‫سبط كأنه من رجال وقد اختلف المفس رون في مع نى ال وكز‪ ،‬فقي ل ‪ :‬ال دفع ب أطراف األص ابع‪ ،‬وقي ل‬ ‫ٌ‬ ‫جسي ٌم‬
‫بجمع الكف ‪ .‬فوكز اي فطعن ودفع بيده العدو‪ ،‬وهو رجل لم يعط احد من اهل ذلك الزمان مثل م ا اعطي‬ ‫(‪)10‬‬

‫من القوى الذاتيه والمعنوية(‪ .)11‬وقيل ان الوكز واللكز واللهز واللهد بمعنى واحد وهو الض رب بجم ع الك ف‬
‫الجامع الحكام القرآن (‪ )12‬وفي حديث آخ ر البن عب اس رض ي هللا عنهم ا عن الن بي ص لى هللا علي ه وس لم ‪:‬‬

‫‪ )(1‬سورة مريم‪ ،‬االية (‪.)51‬‬


‫‪ )(2‬سورة مريم‪ ،‬االية (‪.)51‬‬
‫‪ )(3‬قال فخر الدين الرازي «وال شك أنهما وصفان مختلفان«‪ ،‬انظر‪ :‬مفاتيح الغيب ‪.٢١/٥٤٨‬‬
‫‪ )(4‬سورة النساء‪ ،‬االية (‪.)164‬‬
‫‪ )(5‬سورة مريم‪ ،‬االية (‪.)52‬‬
‫‪ )(6‬قول ابن عطية‪« :‬قال الجمهور هو تقريب التشريف بالكالم والنبوءة‪ ،‬وقال ابن عباس‪ :‬بل أدني موسى من الملكوت ورفعت‬
‫له الحجب حتى سمع صريف األقالم‪ ،‬وقاله ميسرة‪ ،‬وقال سعيد‪ :‬أردفه جبريل‪ ،‬و«النجي»‪ ،‬فعيل من المناجاة وهي المسارة‬
‫بالقول‪ ،‬وقال قتادة‪ :‬نجيًا معناه نجا بصدقة» المحرر الوجيز ‪.٤/٢٠‬‬
‫‪ )(7‬سورة طه‪ ،‬االية (‪.)130‬‬
‫‪ )(8‬سورة القصص‪ ،‬االية (‪.)15‬‬
‫‪ )(9‬جامع البيان‪ ،‬الطبري ‪.19/540‬‬
‫‪ )(10‬مفتاح الغيب ‪.۲۰۰ / ٢٤‬‬
‫‪ )(11‬نظم الدرر البقاعي ‪.١٤/٢٥٦‬‬
‫‪ )(12‬القرطبي ‪۲٦۰ / ۱۳‬‬
‫‪4‬‬
‫( رأيت ليلة اسري بي موسى رجالً آدم طواالً جعداً)(‪ ،)1‬وفي حديث آخر عن ابي هريره رضي هللا عن ه ان ه‬
‫كان ‪ ( :‬رجل الرأس) (‪. )2‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬صفاته الخلقية‪:‬‬


‫‪ .1‬المروءة‪.‬‬
‫تتجلى هذه الصفة‪ ‬في عدة م واطن‪ ،‬منه ا م ا ح دث م ع الرج ل ال ذي من‪ ‬ش يعته حين استنص ره على‬
‫المصري‪ .‬يقول تعالى ‪َ ( :‬و َد َخ َل ْال َم ِدينَةَ َعلَ ٰى ِحي ِن َغ ْفلَ ٍة ِم ْن َأ ْهلِهَا فَ َو َج َد فِيهَا َر ُجلَي ِْن يَ ْقتَتِاَل ِن ٰهَ َذا ِم ْن ِش ي َعتِ ِه‬
‫ال ٰهَ َذا ِم ْن َع َم ِل‬ ‫ض ٰى َعلَ ْي ِه ۖ قَ َ‬ ‫َو ٰهَ َذا ِم ْن َعد ُِّو ِه ۖ فَا ْستَغَاثَهُ الَّ ِذي ِم ْن ِشي َعتِ ِه َعلَى الَّ ِذي ِم ْن َع ُد ِّو ِه فَ َوكَزَ هُ ُمو َس ٰى فَقَ َ‬
‫ين )(‪. )3‬‬ ‫ض ٌّل ُمبِ ٌ‬ ‫ال َّش ْيطَا ِن ۖ ِإنَّهُ َع ُد ٌّو ُم ِ‬
‫فمروءة موسى عليه السالم منعته من تجاهل استغاثة رجل‪ ‬من بني قومه‪ ،‬ورغم أنه عليه السالم ندم‬
‫فيما بعد‪ ‬على تسرعه وانفعاله الذي أدى إلى قتل المصري؛ إال‪ ‬أنه كان دليال على مروءته وشهامته‪.‬‬
‫وفي قصة البنتين اللتين‪ ‬سقى لهما دليل على مروءته؛ فلم يستطع عليه السالم أن‪ ‬يتجاوز أزمتهما‪،‬‬
‫أو يتخلى عن معونتهما‪ ،‬كما تجلت‪ ‬مروءته في عدم انتظار األج ر من أح د ق ال تع الى‪ ( : ‬فَ َس قَ ٰى لَهُ َم ا ثُ َّم‬
‫ي ِم ْن َخ ْي ٍر فَقِ ي ٌر )(‪ . )4‬وك انت ه ذه‪ ‬الم روءة أح د األس باب ألن‬ ‫تَ َولَّ ٰى ِإلَى الظِّ ِّل فَقَ ا َل َربِّ ِإنِّي لِ َم ا َأ ْن َز ْلتَ ِإلَ َّ‬
‫يخطبه الرجل البنته‪.‬‬
‫‪ .٢‬الوفاء بالوعد‪.‬‬
‫ي‬ ‫قال ِإنِّي ُأ ِري ُد َأ ْن ُأ ْن ِك َحكَ ِإحْ دَى ا ْبنَتَ َّ‬‫جرى اتفاق بين الشيخ الكبير وموسى عليه السالم‪ ‬قال تعالى ‪َ ( :‬‬
‫ج ۖ فَِإ ْن َأ ْت َم ْمتَ َع ْشرًا فَ ِم ْن ِع ْن ِدكَ ۖ َو َما ُأ ِري ُد َأ ْن َأ ُش َّ‬ ‫ْأ‬
‫ق َعلَ ْي كَ ۚ َس ت َِج ُدنِي ِإ ْن َش ا َء‬ ‫هَاتَ ْي ِن َعلَ ٰى َأ ْن تَ ج َُرنِي ثَ َمانِ َي ِح َج ٍ‬
‫ي ۖ َوهَّللا ُ َعلَ ٰى َم ا نَقُ و ُل َو ِكي ٌل *‬ ‫ْت فَاَل ُع ْد َوانَ َعلَ َّ‬ ‫ضي ُ‬ ‫ك بَ ْينِي َوبَ ْينَ كَ ۖ َأيَّ َم ا اَأْل َجلَ ْي ِن قَ َ‬ ‫ال ٰ َذلِ َ‬
‫هَّللا ُ ِمنَ الصَّالِ ِحينَ * قَ َ‬
‫ت نَ ارًا لَ َعلِّي آتِي ُك ْم‬ ‫ال َأِل ْهلِ ِه ا ْم ُكثُ وا ِإنِّي آن َْس ُ‬ ‫ور نَارًا قَ َ‬ ‫الط ِ‬‫ب ُّ‬ ‫َس ِم ْن َجانِ ِ‬ ‫ار بَِأ ْهلِ ِه آن َ‬‫ض ٰى ُمو َسى اَأْل َج َل َو َس َ‬ ‫فَلَ َّما قَ َ‬
‫ار لَ َعلَّ ُك ْم تَصْ طَلُونَ ) ‪.‬‬ ‫ِم ْنهَا بِخَ بَ ٍر َأوْ َج ْذ َو ٍة ِمنَ النَّ ِ‬
‫(‪)5‬‬

‫والشاهد أن موسى عليه السالم قد‪ ‬أوفى بعهده مع الشيخ‪.‬‬


‫‪ .٣‬قوة الحجة والمنطق‪.‬‬
‫يقدم لنا القرآن في أكثر من موضع حوارات موسى عليه‪ ‬السالم مع فرعون‪ ،‬وفيه ا دلي ل على ق وة حجت ه‬
‫ومنطقه‪ ،‬ولنا‪ ‬أن نتمثل في ذلك حواره مع فرعون الذي سأله قال تعالى ‪( :‬قَا َل فَ َما بَا ُل ْالقُرُو ِن اُأْلولَ ٰى)(‪ )6‬؛‬

‫‪ )(1‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ ،‬كتاب أحاديث األنبياء‪ ،‬باب أحب الصالة إلى هللا صالة داود وأحب الصيام إلى هللا صيام داود‪،‬‬
‫رقم ‪.٣٢٠٧‬‬
‫‪ )(2‬اخرجه البخاري في صحيحه‪ ،‬كتاب أحاديث االنبياء‪ ،‬باب احب الصالة إلى هللا صاله داود رقم ‪ ٣٢٠٦‬ومسلم في صحيحه‬
‫كتاب اإليمان باب اإلسراء برسول هللا صلى هللا عليه وسلم من حديث أبي هريره أيضا رقم ‪٢٥٠‬‬
‫‪ )(3‬سورة القصص ‪ ،‬االية (‪.)15‬‬
‫‪ )(4‬سورة القصص ‪ ،‬االية (‪.)24‬‬
‫‪ )(5‬سورة القصص ‪ ،‬االية (‪.)29 - 27‬‬
‫‪ )(6‬سورة طه‪ ،‬االية (‪)51‬‬
‫‪5‬‬
‫ض لُّ َربِّي َواَل يَ ْن َس ى * الَّ ِذي‬ ‫ب ۖ اَل يَ ِ‬ ‫ال ِع ْل ُمهَا ِع ْن َد َربِّي فِي ِكتَ ا ٍ‬ ‫فجاءت إجابته شافية كافية قال تعالى ‪ ( :‬قَ َ‬
‫ت َش تَّ ٰى * ُكلُ وا‬ ‫ض َم ْهدًا َو َسلَكَ لَ ُك ْم فِيهَا ُسبُاًل َوَأ ْن َز َل ِمنَ ال َّس َما ِء َما ًء فََأ ْخ َرجْ نَا بِ ِه َأ ْز َوا ًج ا ِم ْن نَبَ ا ٍ‬ ‫َج َع َل لَ ُك ُم اَأْلرْ َ‬
‫ت ُأِلولِي النُّهَ ٰى )(‪. )1‬‬ ‫ك آَل يَا ٍ‬ ‫َوارْ عَوْ ا َأ ْن َعا َم ُك ْم ۗ ِإ َّن فِي ٰ َذلِ َ‬
‫فقد استخدم عليه السالم مفردات البيئة التي‪ ‬يعيش فيه ا (األرض‪ ،‬الس ماء‪ ،‬المط ر‪ ،‬النب ات‪ ،‬األنع ام)‬
‫ليقرب الصورة للمخاطبين (فرعون ومأله) وهذا أوقع في تعج زيهم وإقام ة الحج ة عليهم‪ ،‬وبل غ‪ ‬ب ه التح دي‬
‫خَذتَ ِإ ٰلَهًا َغي ِْري َأَلجْ َعلَنَّكَ ِمنَ ْال َم ْسجُونِينَ )(‪. )2‬‬ ‫مداه عندما قال له فرعون قال تعالى ‪ ( :‬قَا َل لَِئ ِن اتَّ ْ‬
‫ت بِ ِه ِإ ْن ُك ْنتَ ِمنَ الصَّا ِدقِينَ )(‪. )3‬‬ ‫ال فَْأ ِ‬‫ين * قَ َ‬ ‫ال َأ َولَوْ ِجْئتُكَ بِ َش ْي ٍء ُمبِ ٍ‬ ‫فجاء رده منطقيًا قال تعالى ‪ ( :‬قَ َ‬
‫فألزم فرعون الحجة وتحداه في يوم‪ ‬يجتمع فيه الناس ليشاهدوا بأعينهم‪.‬‬
‫‪ .٤‬اللجوء إلى هللا واليقين به‪.‬‬
‫من يطالع قصة موسى عليه السالم يعرف مدى‪ ‬تعلق قلبه بخالقه تع الى‪ ،‬فإلي ه يك ل أم ره يستنص ره‬
‫كبير من هذا التضرع‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ب‬‫على‪ ‬أعدائه‪ ،‬ويطلب منه النجدة والمعونة‪ ،‬وتكشف هذه اآليات عن جان ٍ‬
‫ال ُمو َس ٰى يَا قَوْ ِم ِإ ْن ُك ْنتُ ْم آ َم ْنتُ ْم بِاهَّلل ِ فَ َعلَ ْي ِه ت ََو َّكلُوا ِإ ْن ُك ْنتُ ْم ُم ْسلِ ِمينَ * فَقَ الُوا َعلَى هَّللا ِ‬
‫يقول عز وجل‪َ ( :‬وقَ َ‬
‫وس ٰى َوَأ ِخي ِه‬ ‫ت ََو َّك ْلنَا َربَّنَا اَل تَجْ َع ْلنَا فِ ْتنَةً لِ ْلقَوْ ِم الظَّالِ ِمينَ * َونَجِّ نَا بِ َرحْ َمتِ َك ِمنَ ْالقَوْ ِم ْال َكافِ ِرينَ * َوَأوْ َح ْينَا ِإلَ ٰى ُم َ‬
‫ت‬ ‫ال قَ ْد ُأ ِجيبَ ْ‬
‫الص اَل ةَ ۗ َوبَ ِّش ِر ْال ُم ْؤ ِمنِينَ * قَ َ‬ ‫َأ ْن تَبَ َّوآ لِقَوْ ِم ُك َما بِ ِمصْ َر بُيُوتًا َواجْ َعلُوا بُيُ وتَ ُك ْم قِ ْبلَ ةً َوَأقِي ُم وا َّ‬
‫يل الَّ ِذينَ اَل يَ ْعلَ ُمونَ )(‪. )4‬‬ ‫َد ْع َوتُ ُك َما فَا ْستَقِي َما َواَل تَتَّبِ َعانِّ َسبِ َ‬
‫فق د ط الب قوم ه بالتوك ل على هللا‪ ،‬ثم دع ا رب ه‪ ‬تع الى أن يع ذب فرع ون وقوم ه بس بب‬
‫تكبرهم‪ ‬وتكذيبهم‪.‬‬
‫وتنقل لنا اآليات صورة حية من تضرعه إلى هللا‪ ‬تعالى واستعانته ب ه في قول ه ج ل جالل ه ‪َ ( :‬ربِّ لَ و ِش ئتَ‬
‫ض لُّ بِهَ ا َمن ت ََش ٓا ُء َوتَه ِدي َمن ت ََش ٓا ُء َأنتَ‬ ‫ك تُ ِ‬ ‫َأهلَكتَهُم ِّمن قَب ُل َوِإ ٰيَّ َي َأتُهلِ ُكنَا بِ َما فَ َع َل ٱل ُّسفَهَٓا ُء ِمنَّٓا ِإن ِه َي ِإاَّل فِتنَتُ َ‬
‫رحمنَا َوَأنتَ خَي ُر ٱل ٰ َغفِ ِرينَ * َوٱكتُب لَنَا فِي ٰهَ ِذ ِه ٱل ُّدنيَا َح َسنَة َوفِي ٱ ٓ‬
‫أل ِخ َر ِة ِإنَّا هُدنَٓا ِإلَيكَ )(‪. )5‬‬ ‫َولِيُّنَا فَٱغفِر لَنَا َوٱ َ‬
‫وقد تجلى‪ ‬تعلق موسى عليه السالم بربه حتى في أشد المواقف‪ ‬وأكثره ا ض ي ًقا وكر ًب ا‪ ،‬فعن دما ه رب‬
‫وأتباعه من فرعون؛‪ ‬أدركهم وجنوده عند البحر؛ فدب الخوف في قلوب أص حاب موس ى‪ ‬وظن وا أنهم أحي ط‬
‫ين )(‪. )6‬‬ ‫بهم‪ ،‬لكنه عليه السالم صاح وكله ثقة‪ ‬في ربه وخالقه ‪ ( :‬قَا َل َكٓاَّل ِإ َّن َم ِع َي َربِّي َسيَه ِد ِ‬
‫‪ .٥‬حب هللا واالستئناس به‪.‬‬
‫توضح لنا اآليات الكريمة كيف كان موس ى علي ه‪ ‬الس الم كث ير األنس برب ه ج ل جالل ه‪ ،‬وينق ل لن ا‬
‫القرآن كيف‪ ‬أسهب في الحديث مع مواله عندما سأله‪َ ( :‬و َما تِ ْلكَ بِيَ ِمينِكَ يَا ُمو َس ٰى )(‪. )7‬‬

‫‪ )(1‬سورة طه‪ ،‬االية (‪.)54-52‬‬


‫‪ )(2‬سورة الشعراء‪ ،‬االية (‪.)29‬‬
‫‪ )(3‬سورة الشعراء‪ ،‬االية (‪.)31-30‬‬
‫‪ )(4‬سورة يونس‪ ،‬االية (‪.)89-84‬‬
‫‪ )(5‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪.)156-155‬‬
‫‪ )(6‬سورة الشعراء‪ ،‬االية (‪.)62‬‬
‫‪ )(7‬سورة طه‪ ،‬االية (‪.)17‬‬
‫‪6‬‬
‫وهو سؤال كما قيل‪( :‬ليؤنسه‪ ‬ويبسطه بالكالم)‪ ،)1( ‬ويستوجب إجاب ة بكلم ة واح دة (عص ا) أو‪ ‬كلم تين نح و‬
‫اي َأت ََو َّكُأ َعلَ ْيهَا َوَأهُشُّ‬
‫َص َ‬
‫ال ِه َي ع َ‬ ‫(هذه عصا)؛ لكن موسى عليه السالم وجدها ‪ ‬فرصة فأفاض في القول‪ ( : ‬قَ َ‬
‫آربُ ُأ ْخ َر ٰى )(‪. )2‬‬ ‫بِهَا َعلَ ٰى َغنَ ِمي َولِ َي فِيهَا َم ِ‬
‫لقد استرسل موسى عليه السالم كما يقول‪ ‬البقاعي‪( :‬مستأنسًا بلذيذ المخاطبة قول ه بيا ًن ا لمنافعه ا خو ًف ا من‬
‫األمر بإلقائها كالنعل‪ ،‬أي‪ :‬أعتمد وأرتفق وأتمكن إذا‪ ‬أعييت‪ ،‬أو عرض لي ما يحوجني إلى ذل ك من زل ق‪ ‬أو‬
‫هبوط أو صعود أو طفرة أو ظالم ونحو ذلك؛‪ ‬ثم ث نى بع د مص لحة نفس ه ب أمر رعيت ه فق ال‪( :‬ﮃ)‪ ‬أي أخب ط‬
‫الورق)(‪. )3‬‬
‫وبلغ هذا االستئناس ذروته عندما‪ ‬طلب موسى عليه السالم من ربه عز وج ل أن ي راه‪ ،‬وه و طلب عجيب‬
‫ال لَ ْن تَ َرانِي َو ٰلَ ِك ِن ا ْنظُ رْ ِإلَى‬ ‫ال َربِّ َأ ِرنِي َأ ْنظُ رْ ِإلَ ْي كَ ۚ قَ َ‬ ‫قال تعالى ‪ ( :‬وَلَ َّما َجا َء ُمو َس ٰى لِ ِميقَاتِنَا َو َكلَّ َمهُ َربُّهُ قَ َ‬
‫ق قَ ا َل‬‫ص ِعقًا ۚ فَلَ َّما َأفَ ا َ‬ ‫وس ٰى َ‬‫ْال َجبَ ِل فَِإ ِن ا ْستَقَ َّر َم َكانَ هُ فَ َس وْ فَ تَ َرانِي ۚ فَلَ َّما تَ َجلَّ ٰى َربُّهُ لِ ْل َجبَ ِل َج َعلَ هُ َد ًّك ا َوخَ َّر ُم َ‬
‫ْت ِإلَ ْيكَ َوَأنَا َأ َّو ُل ْال ُمْؤ ِمنِينَ )(‪. )4‬‬
‫ُس ْب َحانَكَ تُب ُ‬
‫‪ .٦‬التواضع والحرص على التعلم‪.‬‬
‫عن أبي بن كعب رضي‪ ‬هللا عنه عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪ ‬إن ‪ ( :‬موسى قام خطيبًا في ب ني‬
‫ِب هللا عليه‪ ‬إذ لم َي ُر َّد العلم إلي ه‪ ،‬فق ال ل ه‪ :‬بلى‪ ،‬لي عب ٌد‪ ‬بمجم ع‬ ‫إسرائيل فسئل‪ ‬أي الناس أعلم؟ فقال‪ :‬أنا‪ .‬ف َعت َ‬
‫البحرين هو أعلم منك‪ .‬قال‪ :‬أي رب ومن لي‪ ‬به؟ وربما قال س فيان‪ :‬أي رب وكي ف لي ب ه‪ ‬ق ال تأخ ذ حو ًت ا‬
‫مكتل حيثما فقدت الحوت‪ ‬فهو ثم‪. )5()...‬‬ ‫ٍ‬ ‫فتجعله في‬
‫فاصطحب غالمه يوشع بن نون‪ ‬قال تعالى ‪ ( :‬ف ََو َجدَا عَبدا ِّمن ِعبَا ِدنَ ٓا َءاتَي ٰنَ هُ َرح َم ة ِّمن ِعن ِدنَا َوعَلَّم ٰنَ هُ ِمن‬
‫ص برا *‬ ‫ك َعلَ ٰ ٓى َأن تُ َعلِّ َم ِن ِم َّما ُعلِّمتَ رُش دا * قَ ا َل ِإنَّكَ لَن تَس ت َِطي َع َم ِع َي َ‬ ‫وس ٰى هَ ل َأتَّبِ ُع َ‬‫لَّ ُدنَّا ِعلما * قَ ا َل لَهُۥ ُم َ‬
‫عص ي لَ كَ َأم را * قَ َ‬
‫ال فَ ِإ ِن‬ ‫ص ابِرا َوٓاَل َأ ِ‬ ‫ال َس تَ ِج ُدنِ ٓي ِإن َش ٓا َء ٱهَّلل ُ َ‬‫َو َكيفَ تَصبِ ُر َعلَ ٰى َما لَم تُ ِحط بِ ِهۦ ُخ برا * قَ َ‬
‫ك ِمنهُ ِذكرا) ‪.‬‬
‫(‪)6‬‬
‫ث لَ َ‬ ‫ٱتَّبَعتَنِي فَاَل تَسئلني عن شيء َحتَّ ٰ ٓى ُأح ِد َ‬
‫تقدم لنا اآليات‪ ‬السابقة جانبًا من تواضع موسى بن عمران عليه السالم‪ ‬بداي ة من التماس ه العلم من العب د‬
‫الص الح‪ ( : ‬هَ ل َأتَّبِ ُع كَ َعلَ ٰ ٓى َأن تُ َعلِّ َم ِن ِم َّما ُعلِّمتَ رُش دا)(‪ )7‬وهي عب ارة تش ير إلى‪ ‬خفض الجن اح من جانب ه‪،‬‬
‫ووضع نفسه في موضع المريد من‪ ‬شيخه‪ ،‬وكذا نزوله على شروط المعلم لصحبته‪ ،‬وفي هذا درس‪ ‬بالغ لك ل‬
‫طالب العلم على النحو الذي ستظهره هذه الدراسة‪ ‬في مبحث مستقل‪.‬‬
‫‪ .٧‬النهي عن المنكر‪.‬‬
‫رغم الوعد‪ ‬الذي وعده موسى عليه السالم للعبد الصالح بأن يصبر على‪ ‬صحبته وال يكثر من س ؤاالته إال‬
‫ق‬‫خَرقتَهَ ا لِتُغ ِر َ‬ ‫ال َأ َ‬ ‫أنه لم يطق صبرً ا بعدما رآه يخرق السفينة ‪ ( :‬فَٱنطَلَقَا َحتَّ ٰ ٓى ِإ َذا َر ِكبَا فِي ٱ َّ‬
‫لس فِينَ ِة خ ََرقَهَ ا قَ َ‬

‫‪ )(1‬التسهيل لعلوم التنزيل‪ ،‬ابن جزي ‪.7/2‬‬


‫‪ )(2‬سورة طه‪ ،‬االية (‪.)18‬‬
‫‪)(3‬نظم الدرر ‪.١٢/٢٨٠‬‬
‫‪ )(4‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪.)143‬‬
‫‪ )(5‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ ،‬كتاب أحاديث األنبياء‪ ،‬باب حديث العبد الصالح مع موسى عليه السالم‪ ،‬رقم ‪.٣٢٢٠‬‬
‫‪ )(6‬سورة الكهف‪ ،‬االية (‪.)70-65‬‬
‫‪ )(7‬سورة الكهف‪ ،‬االية (‪.)66‬‬
‫‪7‬‬
‫يت َواَل تُ ر ِهقنِي‬ ‫َؤاخ ذنِي بِ َم ا ن َِس ُ‬ ‫صبرا * قَا َل اَل تُ ِ‬ ‫ك لَن تَست َِطي َع َم ِع َي َ‬ ‫َأهلَهَا لَقَد ِجئتَ َشيئ‍ًٔا ِإمرا * قَا َل َألَم َأقُل ِإنَّ َ‬
‫مري عُسرا)(‪.)1‬‬ ‫ِمن َأ ِ‬
‫ٰ‬
‫ال‬‫َير نَفس لَّقَ د ِجئتَ َش ي‍ٔئا نُّك را * قَ َ‬ ‫وقتل الغالم ‪ ( :‬فَٱنطَلَقَا َحتَّ ٰ ٓى ِإ َذا لَقِيَا ُغلَما فَقَتَلَهُۥ قَا َل َأقَتَلتَ نَفسا َز ِكيَّةَ بِغ ِ‬
‫صبرا )(‪. )2‬‬ ‫ك لَن تَست َِطي َع َم ِع َي َ‬ ‫َألَم َأقُل لَّ َ‬
‫ك ِإنَّ َ‬
‫ُضيِّفُوهُ َما فَ َو َجدَا فِيهَ ا ِج دَارا ي ُِري ُد‬ ‫وا َأن ي َ‬‫وإقامة الجدار ‪ ( :‬فَٱنطَلَقَا َحتَّ ٰ ٓى ِإ َذٓا َأتَيَٓا َأه َل قَريَ ٍة ٱستَط َع َمٓا َأهلَهَا فََأبَ ْ‬
‫َأن يَنقَضَّ فََأقَا َمهُۥۖ قَا َل لَو ِشئتَ لَتَّخَذتَ َعلَي ِه َأجرا )(‪. )3‬‬
‫فلم يترك موسى‪ ‬عليه السالم فرصة إال نهى فيه ا ‪-‬عم ا رآه منك رً ا‪ -‬قب ل أن يت بين ل ه األم ر‪ ،‬ومم ا عاب ه‬
‫وا اَل يَتَنَ اهَونَ عَن ُّمن َك ر فَ َعلُ وهُ‬ ‫القرآن على بني‪ ‬إسرائيل في غير موضع عدم نهيهم عن المنكر ألنهم‪َ ( : ‬ك انُ ْ‬
‫وا يَف َعلُونَ )(‪. )4‬‬ ‫ئس َما َكانُ ْ‬ ‫لَبِ َ‬
‫‪ .٨‬قوة اإلرادة‪.‬‬
‫وقد‪ ‬أسهم في اكتسابه هذه اإلرادة الصلبة كثرة المحن والتجارب التي‪ ‬مر بها منذ كان رضيعً ا وضعته أم ه‬
‫رض‬ ‫وا ٱَأل َ‬ ‫وم ٱد ُخلُ ْ‬ ‫في الصندوق‪ ،‬وقبل ذلك من يقينه الذي ال يفتر بربه تعالى‪ ،‬فعندما ناشد قومه قائال‪ٰ ( : :‬يَقَ ِ‬
‫وس ٰ ٓى ِإ َّن فِيهَ ا قَوم ا َجب ِ‬
‫َّارينَ َوِإنَّا‬ ‫ُوا ٰ َخ ِس ِرينَ * قَالُ ْ‬
‫وا ٰيَ ُم َ‬ ‫ار ُكم فَتَنقَلِب ْ‬ ‫وا َعلَ ٰ ٓى َأدبَ ِ‬
‫َب ٱهَّلل ُ لَ ُكم َواَل تَرتَ ُّد ْ‬
‫ٱل ُمقَ َّد َسةَ ٱلَّتِي َكت َ‬
‫ُوا ِمنهَا فَِإنَّا ٰ َد ِخلُونَ )(‪. )5‬‬ ‫ُوا ِمنهَا فَِإن يَخ ُرج ْ‬ ‫لَن نَّد ُخلَهَا َحتَّ ٰى يَخ ُرج ْ‬
‫لقد راعتهم قوة أعدائهم الجبارين‪ ،‬ونسوا أن النصر‪ ‬ليس بالكثرة وال بالعتاد؛ وتناسوا وص ية موس ى علي ه‬
‫وم ِإن ُكنتُم َءا َمنتُم بِٱهَّلل ِ فَ َعلَي ِه تَ َو َّكلُ ٓو ْا ِإن ُكنتُم ُّمسلِ ِمينَ )(‪. )6‬‬ ‫ال ُمو َس ٰى ٰيَقَ ِ‬ ‫السالم لهم‪َ ( : ‬وقَ َ‬
‫وقد أورد القرطبي أن‪ ‬بني إسرائيل عن دما امتنع وا عن الجه اد‪ ،‬عوقب وا بالتي ه أربعين س نة‪ ،‬إلى أن م ات‬
‫أولئك العصاة ونشأ أوالدهم‪ ،‬فقاتلوا الجبارين‪ ‬وغلبوهم(‪. )7‬‬
‫بر ُح َحتَّ ٰ ٓى َأبلُ َغ َمج َم َع‬
‫وعندما ذهب لمالقاة العبد الصالح قال لفتاه يوشع بن‪ ‬نون ‪َ ( :‬وِإذۡ قَا َل ُمو َس ٰى لِفَت َٰىهُ ٓاَل َأ َ‬
‫مض َي ُحقُبا )(‪. )8‬‬ ‫ين َأو َأ ِ‬ ‫ٱلبَح َر ِ‬
‫أي‪ :‬ال أزال أسير حتى‪ ‬أبلغ المكان الموع ود ول و س رت في س بيله أزما ًن ا طويل ة‪ ،‬وذل ك من بئ عن دأب ه‬
‫وارتفاع همته‪.‬‬
‫هذه هي بعض‪ ‬صفات نبي هللا موسى عليه السالم التي نص عليها الق رآن‪ ‬الك ريم في كث ير من المواض ع‪،‬‬
‫وهي صفات بشرية‪ ،‬وليست من‪ ‬الخوارق التي ال يدركها اإلنسان مهما سعى إليها واجتهد‪.‬‬

‫‪ )(1‬سورة الكهف‪ ،‬االية (‪.)73 -71‬‬


‫‪ )(2‬سورة الكهف‪ ،‬االية (‪.)76 -74‬‬
‫‪ )(3‬سورة الكهف‪ ،‬االية (‪.)77‬‬
‫‪ )(4‬سورة المائدة‪ ،‬االية (‪.)79‬‬
‫‪ )(5‬سورة المائدة‪ ،‬االية (‪.)22-21‬‬
‫‪ )(6‬سورة يونس‪ ،‬االية (‪.)84‬‬
‫‪ )(7‬الجامع الحكام القران ‪.126/6‬‬
‫‪ )(8‬سورة الكهف ‪ ،‬االية (‪.)60‬‬
‫‪8‬‬
‫آيات موسى عليه السالم ومعجزاته‬
‫من الناس من‪ ‬ال يؤمن لنبي وال برسالة إال برؤية آيات معجزات حسية‪ ‬ملموس ة يراه ا رأي العين‪،‬‬
‫فإذا جاء نبي من األنبي اء ومع ه‪ ‬معج زة من المعج زات الب اهرة فال يمل ك أص حاب العق ول واألفه ام‬
‫الحصيفة‪ ‬إال أن يؤمنوا‪.‬‬
‫يقول النيسابوري‪( :‬دعوى الرسالة إن اقترنت بظهور‪ ‬المعجزة على يده تحقق صدقه) ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬

‫ويقول صاحب الظالل‪( :‬وكم‪ ‬من ماليين الذرات الميت ة أو الجام دة كالعص ا تتح ول في ك ل‪ ‬لحظ ة‬
‫إلى خلية حية ولكنها ال تبهر اإلنسان كما يبهره‪ ‬أن تتحول عصا موسى حية تس عى! ذل ك أن اإلنس ان‬
‫أسير‪ ‬حواسه‪ ،‬وأسير تجاربه‪ ،‬فال يبعد كثيرا في تصوراته عم ا تدرك ه‪ ‬حواس ه‪ .‬وانقالب العص ا حي ة‬
‫تسعى ظاهرة حسية تصدم حسه فينتبه‪ ‬لها بشدة)(‪. )2‬‬
‫لكن الحقيقة أن هناك على م ر الت اريخ من‪ ‬ينك ر المعج زات واآلي ات اس تكبارً ا في األرض وعت ًوا‬
‫كما‪ ‬فعل المكذبون من قوم نوح وصالح وغيرهم‪ .‬وفي القرآن الك ريم‪ ‬ثم ة إش ارات إلى بعض اآلي ات‬
‫المعجزات التي زود هللا تعالى‪ ‬به ا موس ى علي ه الس الم في مواجه ة فرع ون وقوم ه ال ذين‪ ‬اس تخفهم‬
‫فرعون فأعماهم عن الحق‪ ،‬ثم في مواجهة بني إسرائيل‪ ‬الذين اعتادوا تك ذيب الرس ل وج دالهم ج داال‬
‫وا َس ِمعنَا َوَأطَعنَا َوٱس َمع َوٱنظُرنَا لَ َكانَ َخ يرا لَّهُم َوَأق َو َم َو ٰلَ ِكن لَّ َعنَهُ ُم ٱهَّلل ُ بِ ُكف ِر ِهم فَاَل‬ ‫عقيمًا‪َ (: ‬ولَو َأنَّهُم قَالُ ْ‬
‫يُؤ ِمنُونَ ِإاَّل قَلِيال)(‪.)3‬‬
‫لقد ورد في موضعين بالقرآن الكريم أن‪ ‬هللا عز وج ل ع زز نبي ه موس ى علي ه الس الم بتس ع‪ ‬آي ات‬
‫معجزات‪.‬‬
‫ال لَهُۥ فِر َع ونُ ِإنِّي‬ ‫ت بَيِّنَت فَسئل بني إسرائيل إذ َج ٓا َءهُم فَقَ َ‬ ‫ٰ‬ ‫يقول تعالى‪َ ( :‬ولَقَد َءاتَينَا ُمو َس ٰى تِس َع َءا ٰيَ ِ‬
‫ك ٰيَ ُمو َس ٰى َمسحُورا)(‪. )4‬‬ ‫َأَلظُنُّ َ‬
‫ت ِإلَ ٰى فِرعَونَ َوقَ و ِم ِه‬ ‫سع َءا ٰيَ ٍ‬
‫َير س ُٓوء فِي تِ ِ‬ ‫ضٓا َء ِمن غ ِ‬ ‫ك تَخرُج بَي َ‬ ‫وقال تعالى ‪َ ( :‬وَأد ِخل يَدَكَ فِي َجيبِ َ‬
‫وا قَوما ٰفَ ِسقِينَ )(‪. )5‬‬ ‫ِإنَّهُم َكانُ ْ‬
‫لكنك إذا ما عددت اآليات المعجزات التي‪ ‬تحدث عنها المؤرخون والمفسرون لوجدتها تتعدى التسع‪.‬‬

‫‪ )(1‬غرائب القران‪.5/268‬‬
‫‪ )(2‬في ضالل القران‪ ،‬سيد قطب ‪.4/2333‬‬
‫‪ )(3‬سورة النساء‪ ،‬االية (‪.)46‬‬
‫‪ )(4‬سورة االسراء‪ ،‬االية (‪.)101‬‬
‫‪ )(5‬سورة النمل‪ ،‬االية (‪.)12‬‬
‫‪9‬‬
‫ت بَيِّ ٰنَت فَس ئل ب ني‬ ‫وس ٰى تِس َع َءا ٰيَ ِ‬ ‫لكن تفسيرً ا‪ ‬مغايرً ا يفسر اآليات في قوله تع الى‪َ ( :‬ولَقَ د َءاتَينَ ا ُم َ‬
‫بعيدا‪ ‬عن فكرة المعجزات ويقصد بها بعض األحكام التي جاءت بها‪ ‬شريعة موس ى علي ه‬ ‫إسرائيل)(‪ً   )1‬‬
‫السالم‪. )2( ‬‬
‫ثم ة خالف في تحدي د اآلي ات‪ ‬التس ع‪ ،‬ف ذهب ابن عب اس رض ي هللا عنهم ا إلى أنه ا‪:‬‬
‫( يده‪ ،‬وعصاه‪ ،‬ولسانه‪ ،‬والبح ر‪ ،‬والطوف ان‪ ،‬والج راد‪ ،‬والقم ل‪ ،‬والض فادع‪ ،‬وال دم آي ات مفص الت‪.‬‬
‫وقال الضحاك‪ :‬إلقاء العصا مرتين عند فرعون‪ ،‬ونزع‪ ‬يده‪ ،‬والعقدة التي ك انت بلس انه‪ ،‬وخمس آي ات‬
‫في األعراف‪ :‬الطوفان‪ ،‬والجراد‪ ،‬والقمل‪ ،‬والضفادع‪ ،‬والدم‪.‬‬
‫وقال آخرون نحوا من هذا القول‪ ،‬غير أنهم جعلوا آيتين منهن‪ :‬إحداهما الطمسة‪ ،‬واألخرى الحجر‪.‬‬
‫ومنهم‪ ‬من جعلوا اثنتين منهن‪ :‬إحداهما السنين‪ ،‬واألخرى النقص من الثمرات‪.‬‬
‫ومنهم من جعل وا الس نين‪ ،‬والنقص من الثم رات آي ة واح دة‪ ،‬وجعل وا ‪ ‬التاس عة تلق ف العص ا م ا‬
‫يأفكون(‪.)3‬‬
‫وكلها ‪-‬كما رأينا‪ -‬مما‪ ‬ورد في القرآن ذكره‪.‬‬
‫أما الطاهر ابن عاشور فقال إنه ا‪( :‬بي اض ي ده كلم ا أدخله ا في جيب ه وأخرجه ا‪ ،‬وانقالب العص ا‬
‫حية‪ ،‬والطوفان‪ ،‬والجراد‪ ،‬والقمل‪ ،‬والضفادع‪ ،‬والدم‪ ،‬والرجز‪ ،‬والقحط)(‪. )4‬‬
‫(‪)5‬‬
‫وجمعها الفيروزآبادي في قوله‪: ‬‬
‫سنة‪ ،‬بحر‪ ،‬جراد‪ ،‬وقمل د ٌم‪ ،‬ويدٌ‪ ،‬بعد الضفادع طوفان‬ ‫ٌ‬ ‫صا‪،‬‬ ‫ع ً‬
‫بدأت المعجزات أو‪ ‬اآليات المعجزة لموس ى علي ه الس الم ب اثنتين كم ا في اآلي ة‪ ( : ‬ٱس لُك يَ دَكَ فِي‬
‫ان ِمن َّربِّكَ ِإلَ ٰى فِر َع ونَ‬ ‫ك بُر ٰهَنَ ِ‬ ‫بۖ فَ ٰ َذنِ َ‬
‫ك ِمنَ ٱلرَّه ِ‬ ‫َاح َ‬
‫ك َجن َ‬ ‫َير س ُٓوء َوٱض ُمم ِإلَي َ‬ ‫ضٓا َء ِمن غ ِ‬ ‫ك تَخرُج بَي َ‬ ‫َجيبِ َ‬
‫وا قَوما ٰفَ ِسقِينَ )(‪. )6‬‬ ‫َومَِإَل ْي ِهۦ ِإنَّهُم َكانُ ْ‬
‫والبرهانان هنا حس ب م ا ذك ر القرط بي‪ :‬العص ا و اليد(‪  )7‬لكن‪ ‬تك ذيبهم ف اق ك ل التص ورات ‪( :  ‬‬
‫ك بِ ُمؤ ِمنِينَ ‪.)8() ‬‬‫وا َمه َما تَأتِنَا بِ ِهۦ ِمن َءايَة لِّتَس َح َرنَا بِهَا فَ َما نَحنُ لَ َ‬ ‫َوقَالُ ْ‬
‫وهنا أرسل هللا عز وجل عليهم من اآليات‪ ‬ما فيه عذابهم‪.‬‬
‫ص لَت فَٱس تَكبَر ْ‬
‫ُوا‬ ‫ٰ‬ ‫لض فَا ِد َع َوٱل َّد َم َءا ٰيَت ُّمفَ َّ‬ ‫لج َرا َد َوٱلقُ َّم َل َوٱ َّ‬‫لطوفَانَ َوٱ َ‬‫يقول تعالى ‪ ( :‬فَأر َسلنَا َعلَي ِه ُم ٱ ُّ‬
‫جر ِمينَ )(‪. )9‬‬ ‫وا قَوما ُّم ِ‬ ‫َو َكانُ ْ‬
‫ليس هذا فحسب‪ ،‬لكن هناك‪ ‬آيات أخرى عني بها بنو إسرائيل الذين اعتادوا تكذيب الرسل‪ ،‬منها‪:‬‬
‫وس ٰى لَن نُّؤ ِمنَ لَ كَ َحتَّ ٰى نَ َرى ٱهَّلل َ‬ ‫‪ ‬الم@@وت بالص@@اعقة ثم اإلحي@@اء‪ :‬ففي القرآن‪ ( : ‬و إذ قُلتُم ٰيَ ُم َ‬
‫ص ِعقَةُ َوَأنتُم تَنظُرُونَ * ثُ َّم بَ َعث ٰنَ ُكم ِّمن بَع ِد َموتِ ُكم لَ َعلَّ ُكم تَش ُكرُونَ )(‪. )10‬‬ ‫هرة فََأ َخ َذت ُك ُم ٱل ٰ َّ‬
‫َج َ‬
‫‪ )(1‬سورة االسراء‪ ،‬االية (‪.)101‬‬
‫‪ )(2‬جامع البيان‪ ،‬الطبري ‪.17/566‬‬
‫‪ )(3‬المصدر السابق ‪.١٧/٥٦٤‬‬
‫‪ )(4‬الجامع الحكام القران‪ ،‬القرطبي ‪.13/285‬‬
‫‪ )(5‬القاموس المحيط‪ ،‬الفيروزآبادي ‪.١/٧٠٧‬‬
‫‪ )(6‬سورة القصص‪ ،‬االية (‪.)32‬‬
‫‪ )(7‬الجامع الحكام القران‪ ،‬القرطبي ‪.13/285‬‬
‫‪ )(8‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪.)132‬‬
‫‪ )(9‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪.)133‬‬
‫‪ )(10‬سورة البقرة‪ ،‬االية (‪.)56-55‬‬
‫‪10‬‬
‫‪ ‬الغمام والمن والسلوى‪ :‬كم ا في‪ ‬ق ول هللا تع الى ‪َ ( :‬وظَلَّلنَ ا َعلَي ُك ُم ٱل َغ َم ا َم َوَأن َزلنَ ا َعلَي ُك ُم ٱل َم َّن‬
‫ت َما َرزَق ٰنَ ُكم َو َما ظَلَ ُمونَا َو ٰلَ ِكن َكانُ ٓو ْا َأنفُ َسهُم يَظلِ ُمونَ )(‪. )1‬‬ ‫وا ِمن طَيِّ ٰبَ ِ‬ ‫َّلو ٰى ُكلُ ْ‬‫َوٱلس َ‬
‫وا ِرجزا ِّمنَ ٱل َّس َمٓا ِء بِ َما َك انُ ْ‬
‫وا‬ ‫‪ ‬االبتالء بالرجز‪ :‬كما في قوله عز وجل‪( :‬فََأنزَلنَا َعلَى ٱلَّ ِذينَ ظَلَ ُم ْ‬
‫يَف ُسقُونَ )(‪. )2‬‬
‫صاكَ ٱل َح َج َر فَ ٱنفَ َج َرت‬ ‫ضرب بِّ َع َ‬ ‫‪ ‬تفجير المياه‪ :‬يقول تعالى‪َ ( :‬وِإ ِذ ٱستَسقَ ٰى ُمو َس ٰى لِقَو ِم ِهۦ فَقُلنَا ٱ ِ‬
‫وا فِي‬ ‫رِّزق ٱهَّلل ِ َواَل تَعثَ ْ‬‫ِ‬ ‫ُوا ِمن‬ ‫وا َوٱش َرب ْ‬ ‫ِمن هُ ٱثنَتَ ا عَش َرةَ عَين ا قَ د َعلِ َم ُك لُّ ُأنَ اس َّمش َربَهُم ُكلُ ْ‬
‫رض ُمف ِس ِدينَ )(‪.)3‬‬‫ِ‬ ‫ٱَأل‬
‫‪ ‬إحياء‪ ‬قتيل بني إس@@رائيل‪ :‬يقول ع ز وج ل ‪ِ ( :‬إذ قَتَلتُم نَفس ا فَ ٱ ٰ َّد َٰٔرتُم فِيهَ ا َوٱهَّلل ُ ُمخ ِرج َّما ُكنتُم‬
‫ُحي ٱهَّلل ُ ٱل َموت َٰى َوي ُِري ُكم َءا ٰيَتِ ِۦه لَ َعلَّ ُكم تَعقِلُ ونَ * ثُ َّم قَ َس ت‬ ‫كي ِ‬ ‫عضهَا َك ٰ َذلِ َ‬ ‫ضربُوهُ بِبَ ِ‬ ‫تَكتُ ُمونَ * فَقُلنَا ٱ ِ‬
‫لح َج ا َر ِة لَ َم ا يَتَفَ َّج ُر ِمن هُ ٱَألن ٰهَ ُر َوِإ َّن‬ ‫ار ِة َأو َأ َش ُّد قَس َوة َوِإ َّن ِمنَ ٱ ِ‬ ‫قُلُوبُ ُكم ِّمن بَع ِد ٰ َذلِكَ فَ ِه َي َكٱل ِح َج َ‬
‫(‪)4‬‬
‫ق فَيَخ ُر ُج ِمنهُ ٱل َمٓا ُء َوِإ َّن ِمنهَا لَ َما يَهبِطُ ِمن خَشيَ ِة ٱهَّلل ِ َو َما ٱهَّلل ُ بِ ٰ َغفِ ٍل َع َّما تَع َملُ ونَ )‬ ‫ِمنهَا لَ َما يَ َّشقَّ ُ‬
‫‪.‬‬
‫وا َمٓا‬ ‫‪ ‬رفع الجبل فوقهم‪ :‬ففي القرآن ‪َ ( :‬وِإذ نَتَقنَا ٱل َجبَ َل فَوقَهُم َكَأنَّهُۥ ظُلَّة َوظَنُّ ٓو ْا َأنَّهُۥ َواقِ ُع بِ ِهم ُخ ُذ ْ‬
‫ُوا َما فِي ِه لَ َعلَّ ُكم تَتَّقُونَ )(‪. )5‬‬ ‫َءاتَي ٰنَ ُكم بِقُ َّوة َوٱذ ُكر ْ‬
‫على أن البعض قد اعتبر تكليم هللا‪ ‬تعالى لموسى عليه السالم أعظم معجزة له‪ ،‬والحقيقة أن ه‪ ‬وإن ك ان‬
‫في التكليم تكريمًا إلهيًا غير مسبوق‪ ‬لنبيه بيد أنه ال يعتبر معج ز ًة في مواجه ة قوم ه‪ ،‬ذل ك‪ ‬أن م ا دار‬
‫بجانب الطور أمر يخصه لم يشهده غيره‪ ،‬وال يمكن تصديقه إال ممن آمن ل ه بالفع ل‪ ،‬وإال فكي ف‪ ‬لمن‬
‫كذبه أن يؤمن بتكليم ربه‪ ،‬في حين يكذب باآليات‪ ‬األكثر ظهورً ا كالعصا واليد‪.‬‬
‫يتجلى الت أثير اإليج ابي له ذه اآلي ات‪ ‬اإللهي ة المعج زة في قص ة س حرة فرع ون ال ذين جيء بهم‬
‫لمجابهة‪ ‬معجزة عصا موسى عليه السالم‪ ،‬فجاؤوا وليس أحد أحرص منهم‪ ‬على إرضاء فرعون ونيل‬
‫جائزته وقربه‪ ،‬لكن المعجزة التي رأوها ‪-‬وهم من أسحر الناس‪ -‬جعلتهم يقرون بنبوة موسى إذ ‪ ‬ال قبل‬
‫لهم بما جاء به من معجزة العصا الحقيقية‪ ‬ال التي تعتمد على إبهار الناس على غير الحقيقة‪ ،‬وينقل ‪ ‬لنا‬
‫ال َءا َمنتُم لَهُۥ قَب َل‬ ‫القرآن كيف تحول هؤالء السحرة في لحظات من خندق ‪ ‬الكفر إلى خندق اإليمان ‪ ( :‬قَ َ‬
‫ٰ‬
‫حر فَلَ َس وفَ تَعلَ ُم ونَ ُأَلقَطِّ َع َّن َأي ِديَ ُكم َوَأر ُجلَ ُكم ِّمن ِخلَ ف‬ ‫لس َ‬ ‫َأن َءا َذنَ لَ ُكم ِإنَّهُۥ لَ َكبِ ي ُر ُك ُم ٱلَّ ِذي عَلَّ َم ُك ُم ٱ ِّ‬
‫ضي َر ِإنَّٓا ِإلَ ٰى َربِّنَا ُمنقَلِبُونَ * ِإنَّا نَط َم ُع َأن يَغفِ َر لَنَا َربُّنَا خَ ٰطَ ٰيَنَٓا َأن ُكنَّٓا َأ َّو َل‬ ‫وا اَل َ‬ ‫صلِّبَنَّ ُكم َأج َم ِعينَ * قَالُ ْ‬ ‫َوُأَل َ‬
‫ٱل ُمؤ ِمنِينَ )(‪.)6‬‬
‫وهكذا يفعل اإليمان بالقلوب النقية الصافية‪ ،‬بينما يستمر الجاح دون‪ ‬على جح ودهم ال يؤمن ون رغم‬
‫وضوح اآليات وإبهارها!‬

‫موسى عليه السالم والسحرة‬


‫‪ )(1‬سورة البقرة‪ ،‬االية (‪.)57‬‬
‫‪ )(2‬سورة البقرة‪ ،‬االية (‪.)59‬‬
‫‪ )(3‬سورة البقرة‪ ،‬االية (‪.)60‬‬
‫‪ )(4‬سورة البقرة‪ ،‬االية (‪.)74-72‬‬
‫‪ )(5‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪.)171‬‬
‫‪ )(6‬سورة الشعراء‪ ،‬االية (‪.)51-49‬‬
‫‪11‬‬
‫لم تثمر دعوة موسى‪ ‬عليه السالم فرعون إلى‪ ‬اإليمان باهلل الخالق بعد أن تس اءل األخ ير بعنجهي ة‪: ‬‬
‫(فَ َمن َّربُّ ُك َما ٰيَ ُمو َس ٰى )(‪. )1‬‬
‫ي َأعطَ ٰى ُك َّل َشي ٍء َخلقَهۥُ ثُ َّم هَد َٰى )(‪. )2‬‬ ‫ورد موسى بثقة المؤمن‪ ‬بربه وخالقه‪َ ( : ‬ربُّنَا ٱلَّ ِذ ٓ‬
‫رض َو َما بَينَهُ َمٓا ِإن ُكنتُم ُّموقِنِينَ )(‪. )3‬‬
‫ِ‬ ‫ت َوٱَأل‬ ‫ال َربُّ ٱل َّس ٰ َم ٰ َو ِ‬ ‫( قَ َ‬
‫رض‬‫واشتد النقاش وتساءل فرع ون م رة أخ رى في ص لف‪ ،‬فأج اب موس ى ‪ ( :‬ٱلَّ ِذي َج َع َل لَ ُك ُم ٱَأل َ‬
‫خرجنَا بِ ِهۦ َأزا ٰ َوجا ِّمن نَّبَات َشتَّى )(‪. )4‬‬ ‫ك لَ ُكم فِيهَا ُسبُال َوَأن َز َل ِمنَ ٱل َّس َمٓا ِء َمٓاء فََأ َ‬ ‫َمهدا َو َسلَ َ‬
‫وهنا لم يجد فرعون ًبدا من اللجوء إلى سلطته وقوته الغاش مة ال تي ال يع رف‪ ‬غيره ا‪ ،‬وتل ك ع ادة‬
‫ال لَِئ ِن‬
‫الطغاة الذين ال يحتكمون إلى قواعد العقل‪ ‬والمنطق وإنما تتجاوز أحالمهم سقف المعق ول‪ ( : ‬قَ َ‬
‫َيري َأَلج َعلَنَّكَ ِمنَ ٱل َمسجُونِينَ )(‪. )5‬‬ ‫ٰ‬
‫ٱتَّخَذتَ ِإلَهًا غ ِ‬
‫ال َأ َولَو ِجئتُكَ بِ َشيء ُّمبِين)(‪. )6‬‬ ‫لكن‪ ‬موسى‪ ‬عليه السالم فاجأه مرة أخرى بتح ٍد ملموس‪ ( : ‬قَ َ‬
‫ص ِدقِينَ )(‪. )7‬‬ ‫ت بِ ِهۦٓ ِإن ُكنتَ ِمنَ ٱل ٰ َّ‬ ‫ال فَأ ِ‬
‫ولم‪ ‬يتوقع فرعون حجم التحدي فقال من فوره ‪ ( :‬قَ َ‬
‫ٰ‬
‫يضٓا ُء لِلنَّ ِظ ِرينَ ) ‪.‬‬
‫(‪)8‬‬
‫َصاهُ فَِإ َذا ِه َي ثُعبَان ُّمبِين * َونَ َز َع يَ َدهُۥ فَِإ َذا ِه َي بَ َ‬ ‫وهنا ألقى موسى‪ ( : ‬فَألقَ ٰى ع َ‬
‫كانت اآليتان مبهرتين لفرعون ومن حوله؛ لكن ه اعت اد االس تكبار‪ ‬واعت ادوا المذل ة والمهان ة‪ ،‬ومن‬
‫حر ِهۦ فَ َما َذا تَأ ُمرُونَ )(‪. )9‬‬ ‫ُخر َج ُكم ِّمن َأر ِ‬
‫ض ُكم بِ ِس ِ‬ ‫ثم‪ ( : ‬قَا َل لِلمَِإَل َحولَهُۥ ِإ َّن ٰهَ َذا لَ ٰ َس ِح ٌر َعلِيم* ي ُِري ُد َأن ي ِ‬
‫ففرعون هنا‪ ‬يبحث عن غطاء وظهير له في مواجهته مع موسى عليه‪ ‬السالم بعد أن اتهمه بالسحر‪،‬‬
‫وتلك أول م رة يق ر ب أن‪ ‬هن اك ش عبًا ل ه س يادة وق رار؛ ب ل يح دثهم بص يغة‪ ‬ال عه د لهم به ا‪ ( ‬فَ َم ا َذا‬
‫رس ل فِي‬ ‫رج ه َوَأخَ اهُ َوَأ ِ‬ ‫تَأ ُمرُونَ ) ؟! ولن يعدم‪ ‬البطان ة ال تي تس ول للح اكم ك ل الش رور ‪ ( : ‬ق الُ ٓو ْا َأ ِ‬
‫(‪)10‬‬

‫ك بِ ُكلِّ ٰ َس ِح ٍر َعلِيم )(‪. )11‬‬ ‫ٱل َمدَٓاِئ ِن ٰ َح ِش ِرينَ * يَأتُو َ‬


‫اتفق الطرفان على مواجهة علنية‪ ‬في يوم معلوم يحشد فيها كل ط رف قوت ه ويش حذ همت ه‪ ( : ‬قَ ا َل‬
‫لزينَ ِة َوَأن يُح َش َر ٱلنَّاسُ ضُحى)(‪. )12‬‬ ‫َمو ِع ُد ُكم يَو ُم ٱ ِّ‬
‫وسواء أكان يوم الزينة يوم عي ٍد‪ ‬لهم‪ ،‬أم س وقا ك انوا ي تزينون فيه(‪)13‬أم ك ان ي وم احتف الهم‪ ‬بفيض ان‬
‫لس َح َرةَ ِإن‬ ‫اس هَل َأنتُم ُّمجتَ ِمعُونَ * لَ َعلَّنَ ا نَتَّبِ ُع ٱ َّ‬ ‫يل لِلنَّ ِ‬ ‫ت يَوم َّمعلُوم * َوقِ َ‬ ‫النيل(‪ ( : )14‬فَ ُج ِم َع ٱلس ََّح َرةُ لِ ِمي ٰقَ ِ‬
‫وا هُ ُم ٱل ٰ َغلِبِينَ )(‪. )15‬‬ ‫َكانُ ْ‬

‫‪ )(1‬سورة طه‪ ،‬االية (‪.)49‬‬


‫‪ )(2‬سورة طه‪ ،‬االية (‪.)50‬‬
‫‪ )(3‬سورة الشعراء‪،‬االية(‪.)24‬‬
‫‪ )(4‬سورة طه‪ ،‬االية (‪.)53‬‬
‫‪ )(5‬سورة الشعراء‪ ،‬االية(‪.)29‬‬
‫‪ )(6‬سورة الشعراء‪ ،‬االية (‪.)30‬‬
‫‪ )(7‬سورة الشعراء‪ ،‬االية (‪.)31‬‬
‫‪ )(8‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪.)108-107‬‬
‫‪ )(9‬سورة الشعراء‪ ،‬االية (‪)35-34‬‬
‫‪ )(10‬سورة الشعراء‪ ،‬االية (‪.)35‬‬
‫‪ )(11‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪.)112-111‬‬
‫‪ )(12‬سورة طه‪ ،‬االية (‪.)59‬‬
‫‪ )(13‬جامع البيان الطبري ‪.323/18‬‬
‫‪ )(14‬سورة الشعراء‪ ،‬االية (‪.)40-38‬‬
‫‪ )(15‬سورة الشعراء‪ ،‬االية (‪.)40-38‬‬
‫‪12‬‬
‫معتمدا على إعالمه المضلل الذي‪ ‬جعل من موسى النبي عليه‬ ‫ً‬ ‫إن فرعون‪ ‬هنا يحشد الناس ويشحنهم‬
‫اس هَل َأنتُم ُّمجتَ ِمعُونَ * لَ َعلَّنَا نَتَّبِ ُع‬ ‫ٰ‬
‫ت يَوم َّمعلُوم * َوقِي َل لِلنَّ ِ‬ ‫السالم ساحرً ا مجنو ًنا‪( : ،‬فَ ُج ِم َع ٱل َّس َح َرةُ لِ ِميقَ ِ‬
‫وا هُ ُم ٱل ٰ َغلِبِينَ )(‪. )1‬‬
‫ٱل َّس َح َرةَ ِإن َكانُ ْ‬
‫ويبدو أنه اعتاد تسخير شعبه‪ ‬دون مقابل في حين تكتظ خزائنه ب األموال المكدس ة‪ ،‬ومن‪ ‬ثم اش ترط‬
‫وا لِفِر َع ونَ َأِئ َّن لَنَ ا َأَلج رًا ِإن ُكنَّا نَحنُ‬ ‫السحرة أن يتقاضوا أجرً ا عن هذا العمل‪ ( : ‬لَ َّما َجٓا َء ٱل َّس َح َرةُ قَالُ ْ‬
‫ٱل ٰ َغلِبِينَ * قَ َ‬
‫ال نَ َعم َوِإنَّ ُكم ِإذا لَّ ِمنَ ٱل ُمقَ َّربِينَ )(‪. )2‬‬
‫وهكذا الحكام الجائرون ال يتركون طري ًقا إال‪ ‬سلكوه في سبيل تثبيت أركان ملكهم العضوض‪.‬‬
‫وبدأ المش هد األول‪ ‬من المواجه ة العلني ة بين موس ى علي ه الس الم والس حرة ال ذين ج اؤوا ‪ ‬إلبط ال‬
‫وا ٰيَ ُمو َس ٰ ٓى ِإ َّمٓا َأن تُلقِ َي َوِإ َّمٓا َأن نَّ ُكونَ نَحنُ ٱل ُملقِينَ )(‪. )3‬‬‫سحره‪ ،‬وخيره السحرة‪ ( : ‬قَالُ ْ‬
‫وا َمٓا َأنتُم ُّملقُونَ )(‪. )4‬‬ ‫وهنا‪ ( : ‬فَلَ َّما َجٓا َء ٱلس ََّح َرةُ قَا َل لَهُم ُّمو َس ٰ ٓى َألقُ ْ‬
‫ونشط السحرة للمنازلة وكلهم ثق ة أنه ا محس ومة ال‪ ‬محال ة لهم‪ ،‬ولم ينس وا أن يقس موا بفرع ون أن‬
‫الغلبة ستكون‪ ‬لهم‪ ،‬فليس أحب إليهم في هذا اآلن من إرضاء الطاغية‪ ‬وإعالء شأنه بين قومه‪ ( : ‬فََألقَ ْ‬
‫وا‬
‫وا بِ ِع َّز ِة فِرعَونَ ِإنَّا لَنَحنُ ٱل ٰ َغلِبُونَ )(‪. )5‬‬ ‫صيَّهُم َوقَالُ ْ‬ ‫ِحبَالَهُم َو ِع ِ‬
‫ويبدو أن‪ ‬موس ى علي ه الس الم ه و اآلخ ر لم يتوق ع أن تظه ر عص ي‪ ‬الس حرة كثع ابين أو حي ات‪،‬‬
‫ال‬ ‫والحقيقة أنها لم تكن حيات حقيقية‪ ‬لكن خيل للحاضرين من السحر أنها تس عى‪ ،‬يحكي الق رآن‪ ( : ‬قَ َ‬
‫حر َع ِظيم )(‪. )6‬‬ ‫اس َوٱستَرهَبُوهُم َو َجٓا ُءو بِ ِس ٍ‬ ‫وا َس َحر ُٓو ْا َأعيُنَ ٱلنَّ ِ‬ ‫وا فَلَ َّمٓا َألقَ ْ‬
‫َألقُ ْ‬
‫حر ِهم َأنَّهَا تَس َع ٰى )(‪. )7‬‬ ‫صيُّهُم يُخَ يَّ ُل ِإلَي ِه ِمن ِس ِ‬ ‫وا فَِإ َذا ِحبَالُهُم َو ِع ِ‬ ‫( قَا َل بَل َألقُ ْ‬
‫يقول‪ ‬ابن عطي ة‪( :‬والظ اهر من اآلي ات والقص ص في كتب المفس رين أن‪ ‬الحب ال والعص ي ك انت‬
‫تنتقل بحيل السحر وبدس األجس ام الثقيل ة المياع ة‪ ‬فيه ا‪ ،‬وك ان تحركه ا يش به تح رك ال ذي ل ه إرادة‬
‫كالحيوان‪ ،‬وهو‪ ‬السعي فإنه ال يوصف بالسعي إال من يمشي من الحيوان‪ ،‬وذهب قوم إلى أنه ا لم تكن‬
‫تتحرك؛ لكنهم سحروا أعين‪ ‬الناس‪ ،‬وكان الناظر يخيل إليه أنها تتحرك وتنتقل لكن‪ ‬اآليات توض ح أن‬
‫َفس ِهۦ ِخيفَة ُّمو َس ٰى )(‪. )8‬‬‫س فِي ن ِ‬ ‫موسى عليه السالم قد خاف وهاله سعي‪ ‬العصي؛‪ ( ‬فََأو َج َ‬
‫قال البيضاوي‪( :‬فأض مر فيه ا خو ًف ا من مفاجأت ه على‪ ‬م ا ه و مقتض ى الجبل ة البش رية‪ ،‬أو من أن‬
‫ك فال يتبعوه)(‪. )9‬‬ ‫يخالج‪ ‬الناس ش ٌ‬
‫َف ِإنَّكَ َأ ْنتَ اَأل ْعلَى)(‪. )10‬‬ ‫وهنا يأتي التثبيت اإللهي له‪ ‬فيزداد ثقة بربه‪ ( : ‬قُ ْلنَا ال تَخ ْ‬

‫‪ )(1‬سورة الشعراء‪ ،‬االية (‪.)40-38‬‬


‫‪ )(2‬سورة الشعراء‪ ،‬االية(‪.)42-41‬‬
‫‪ )(3‬سورة األعراف‪ ،‬االية(‪.)115‬‬
‫‪ )(4‬سورة يونس‪ ،‬االية (‪.)80‬‬
‫‪ )(5‬سورة الشعراي‪ ،‬االية (‪.)44‬‬
‫‪ )(6‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪.)116‬‬
‫‪ )(7‬سورة طه‪ ،‬االية(‪.)66‬‬
‫‪ )(8‬سورة طه‪ ،‬االية (‪)67‬‬
‫‪ )(9‬انوار التنزيل ‪.23/4‬‬
‫‪ )(10‬سورة طه‪ ،‬االية (‪.)68‬‬
‫‪13‬‬
‫ال‬‫وترصد آيات سورة يونس‪ ‬تغير لهجة موسى عليه السالم بعد التثبيت حيث قال‪ ‬لهم ‪ ( :‬لَ َّما َأ ْلقَوْ ا قَ َ‬
‫ق بِ َكلِ َماتِ ِه َولَوْ‬ ‫ق هَّللا ُ ْال َح َّ‬
‫ُمو َس ٰى َما ِجْئتُم بِ ِه السِّحْ ُر ۖ ِإ َّن هَّللا َ َسيُب ِْطلُهُ ۖ ِإ َّن هَّللا َ اَل يُصْ لِ ُح َع َم َل ْال ُم ْف ِس ِدينَ *‪َ  ‬وي ُِح ُّ‬
‫َك ِرهَ ْال ُمجْ ِر ُمونَ )(‪. )1‬‬
‫يقول صاحب‪ ‬الظالل‪( :‬ال تخف إنك أنت األعلى‪ .‬فمعك الحق‪ ،‬ومعهم الباطل‪ .‬معك العقيدة‪ ،‬ومعهم‬
‫الحرفة‪ .‬معك اإليمان بصدق م ا أنت علي ه‪ ،‬ومعهم األج ر على المب اراة ومغ انم الحي اة‪ .‬أنت متص ل‬
‫طاغية جبارً ا)(‪. )2‬‬ ‫ً‬ ‫بالقوة الكبرى‪ ،‬وهم يخدمون مخلو ًقا بشريًا فانيًا مهما يكن‪ ‬‬
‫اح ٍر ۖ َواَل يُ ْفلِ ُح‬ ‫ص نَعُوا َك ْي ُد َس ِ‬ ‫ص نَعُوا ۖ ِإنَّ َم ا َ‬ ‫ف َم ا َ‬ ‫ك ت َْلقَ ْ‬ ‫ق َما فِي يَ ِمينِ َ‬ ‫ويأتي النداء مرة أخرى ‪َ ( :‬وَأ ْل ِ‬
‫ْث َأتَى )(‪. )3‬‬ ‫َّاح ُر َحي ُ‬ ‫الس ِ‬
‫ك ۖ فَِإ َذا ِه َي ت َْلقَفُ‬ ‫َصا َ‬‫قع َ‬ ‫وامتثل‪ ‬موسى عليه السالم لألمر فألقى عصاه‪َ ( : ‬وَأوْ َح ْينَا ِإلَ ٰى ُمو َس ٰى َأ ْن َأ ْل ِ‬
‫َما يَْأفِ ُكونَ )(‪. )4‬‬
‫وهنا فج أ الس حرة أن‪ ‬الحي ة العظيم ة ق د ابتلعت حب الهم وعص يهم فلم يب ق له ا أث ر ‪ ‬على األرض؛‬
‫فأيقنوا أن عدوهم ليس بالساحر العليم كما‪ ‬قال فرع ون‪ ،‬لكن ه ن بي ج اء بمعج زة ب اهرة واض حة‪ ،‬فال‬
‫ق َوبَطَ َل َم ا َك انُوا يَ ْع َملُ ونَ ‪ * ‬فَ ُغلِبُ وا هُنَالِ كَ َوانقَلَبُ وا‬ ‫يع رف‪ ‬الس حر إال من يمارس ه‪ ( ،‬فَ َوقَ َع ْال َح ُّ‬
‫صا ِغ ِرينَ ‪َ  * ‬وُأ ْلقِ َي الس ََّح َرةُ َسا ِج ِدين َ‪ * ‬قَالُوا آ َمنَّا بِ َربِّ ْال َعالَ ِمينَ *‪َ  ‬ربِّ ُمو َس ٰى َوهَارُونَ )(‪. )5‬‬ ‫َ‬
‫لقد تولد لديهم‪ ‬إيمان يقيني ال يقبل الشك بنبوة موسى عليه الس الم‪ ،‬ف أعلنوا‪ ‬إيم انهم دون النظ ر إلى‬
‫ردة فع ل فرع ون ال ذي ال يع رف‪ ‬االستس الم وي أبي الهزيم ة؛ ألن نفس ه المتك برة ال تستس يغ أن‬
‫ي ؤمن‪ ‬لن بي‪ ،‬فض ال عن أن يك ون من ب ني إس رائيل ال ذين يس تعبدهم‪ ‬ويس تعملهم في أش ق األعم ال‬
‫وأحطها‪ ،‬ولذلك فقد صاح فيهم‪ ‬متهمًا إياهم بالتواطؤ مع موسى‪( ‬آ َمنتُم بِ ِه قَب َْل َأ ْن آ َذنَ لَ ُك ْم ۖ ِإ َّن ٰهَ َذا لَ َم ْك ٌر‬
‫َّمكَرْ تُ ُموهُ فِي ْال َم ِدينَ ِة لِتُ ْخ ِرجُوا ِم ْنهَا َأ ْهلَهَا )(‪. )6‬‬
‫وهكذا أهل الباطل ال يسمعون‪ ‬إال صوت أنفسهم‪.‬‬
‫وإمعا ًنا في تضليل الجماهير المحتش دة يتهم‪ ‬الس حرة بالت آمر علي ه م ع موس ى‪ِ( : ‬إنَّهُ لَ َكبِ ي ُر ُك ُم الَّ ِذي‬
‫عَلَّ َم ُك ُم السِّحْ َر)(‪. )7‬‬
‫وع النَّ ْخ ِل َولَتَ ْعلَ ُم َّن َأيُّنَ ا‬ ‫ص لِّبَنَّ ُك ْم فِي ُج ُذ ِ‬ ‫ف َوُأَل َ‬ ‫ويتوعدهم غاض بًا‪( ‬فَُأَلقَطِّ َع َّن َأ ْي ِديَ ُك ْم َوَأرْ ُجلَ ُكم ِّم ْن ِخاَل ٍ‬
‫َأ َش ُّد َع َذابًا َوَأ ْبقَ ٰى )(‪. )8‬‬
‫ت‬‫وهو التهديد الذي‪ ‬كان كفيال بإثناء هؤالء عن الدين الجديد‪ ،‬أو حتى المواربة‪ ‬بكتم اإليم ان إلى وق ٍ‬
‫تق وى في ه ش وكة ن بي هللا ومن‪ ‬مع ه؛ لكن اإليم ان ق د تغلغ ل في قل وبهم في لحظ ة ص دق‪ ‬م ع‬
‫َط َم ُع َأن يَ ْغفِ َر لَنَا َربُّنَا خَ طَايَانَا َأن ُكنَّا َأ َّو َل ْال ُمْؤ ِمنِينَ )‬ ‫ضي َْر ۖ ِإنَّا ِإلَ ٰى َربِّنَا ُمنقَلِبُونَ * ِإنَّا ن ْ‬ ‫أنفسهم‪ ( ‬قَالُوا اَل َ‬
‫(‪.)9‬‬
‫‪ )(1‬سورة يونس‪ ،‬االية (‪.)82-81‬‬
‫‪ )(2‬في ظالل القران ‪.2342/4‬‬
‫‪ )(3‬سورة طه‪ ،‬االية (‪.)69‬‬
‫‪ )(4‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪.)117‬‬
‫‪ )(5‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪.)122-118‬‬
‫‪ )(6‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪.)123‬‬
‫‪ )(7‬سورة طه‪ ،‬االية (‪.)71‬‬
‫‪ )(8‬سورة طه‪ ،‬االية (‪.)71‬‬
‫‪ )(9‬سورة الشعراء‪ ،‬االية (‪.)51-50‬‬
‫‪14‬‬
‫ت َربِّنَا لَ َّما َجا َء ْتنَا ۚ َربَّنَا َأ ْف ِر ْغ َعلَ ْينَا َ‬
‫ص ْبرًا َوت ََوفَّنَا ُم ْسلِ ِمينَ )(‪. )1‬‬ ‫( َو َما تَنقِ ُم ِمنَّا ِإاَّل َأ ْن آ َمنَّا بِآيَا ِ‬
‫يق ول‪ ‬ابن قيم الجوزي ة‪( :‬ولم ا تمكن اإليم ان من قل وبهم علم وا أن‪ ‬عقوب ة ال دنيا أس هل من عقوب ة‬
‫اآلخرة وأقل بقاء‪ ،‬وأن ما‪ ‬يحصل لهم في اآلخرة من ثواب اإليمان أعظم وأنفع وأكثر‪ ‬بقاء)(‪. )2‬‬
‫إن هذا النموذج اإليماني الفريد الذي ضربه سحرة‪ ‬فرعون ليؤكد أن القلوب الص افية من الخص وبة‬
‫بحيث ينبت فيها‪ ‬اإليمان ويترعرع؛ بل ويثم ر في لحظ ات مع دودات‪ ،‬فه ا هم يتحول ون‪ ‬إلى مجابه ة‬
‫ض‬‫ت َوالَّ ِذي فَطَ َرنَا ۖ فَ ا ْق ِ‬ ‫ك َعلَ ٰى َما َجا َءنَا ِمنَ ْالبَيِّنَا ِ‬ ‫فرعون بجبروته وصولجانه قائلين ‪ ( :‬قَالُوا لَن نُّْؤ ثِ َر َ‬
‫ضي ٰهَ ِذ ِه ْال َحيَاةَ ال ُّد ْنيَا *ِإنَّا آ َمنَّا بِ َربِّنَا لِيَ ْغفِ َر لَنَا خَ طَايَانَا َو َما َأ ْك َر ْهتَنَا َعلَ ْي ِه ِمنَ السِّحْ ِر‬ ‫َما َأنتَ قَ ٍ‬
‫اض ۖ ِإنَّ َما تَ ْق ِ‬
‫وت فِيهَا َواَل يَحْ يَ ٰى *) َو َمن يَْأتِ ِه ُمْؤ ِمنًا قَ ْد‬ ‫ت َربَّهُ ُمجْ ِر ًما فَِإ َّن لَهُ َجهَنَّ َم اَل يَ ُم ُ‬ ‫ۗ َوهَّللا ُ َخ ْي ٌر َوَأ ْبقَ ٰى * ِإنَّهُ َمن يَْأ ِ‬
‫ات َع ْد ٍن تَجْ ِري ِمن تَحْ تِهَا اَأْل ْنهَا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَ ا ۚ َو ٰ َذلِ كَ‬ ‫ات ْال ُعلَ ٰى * َجنَّ ُ‬ ‫ت فَُأو ٰلَِئكَ لَهُ ُم ال َّد َر َج ُ‬‫َع ِم َل الصَّالِ َحا ِ‬
‫َج َزا ُء َمن تَ َز َّك ٰى ) ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬

‫ق ال البق اعي‪( :‬أي إنم ا حكم ك في م دتها‪ ‬على الجس د خاص ة‪ ،‬فهي س اعة تعقب راح ة‪ ،‬ونحن ال‬
‫نخاف‪ ‬إال ممن يحكم على الروح وإن فني الجسد‪ ،‬فذاك هو‪ ‬الشديد الع ذاب‪ ،‬ال دائم الج زاء ب الثواب أو‬
‫العقاب)(‪. )4‬‬
‫إن قصة‪ ‬موسى عليه السالم مع فرعون في كل فص ولها ومراحله ا تمث ل‪ ‬ص ورة الص راع األزلي‬
‫بين الح ق والباط ل‪ ،‬لكن ذروت ه تتجلى‪ ‬في ه ذا المش هد المفعم ب اليقين حين يتمكن اإليم ان من‬
‫القلب‪ ،‬وسيظل س حرة فرع ون مض رب المث ل في اإليم ان ب الحق وال دفاع عن‪ ‬العقي دة‪ ،‬كم ا س يظل‬
‫فرعون مثاال حيًا للتكبر والعجب بالرأي‪ ‬واتباع هوى نفسه التي أوردته المهالك‪.‬‬

‫نجاة موسى عليه السالم ومن معه‬


‫ظل فرعون وقومه يكابرون ويجادلون رغم يقينهم بصدق‪ ‬موسى ودعوته‪َ ( ‬و َج َحدُوا بِهَا َوا ْستَ ْيقَنَ ْتهَا‬
‫َأنفُ ُسهُ ْم ظُ ْل ًما َو ُعلُ ًّوا ۚ فَانظُرْ َك ْيفَ َكانَ عَاقِبَةُ ْال ُم ْف ِس ِدينَ )(‪. )5‬‬
‫ت لَ ُكم ِّم ْن‬ ‫وبلغ‪ ‬بفرعون الجنون مداه حيث ادعى األلوهية فقال ‪َ ( :‬وقَا َل فِرْ عَوْ نُ يَا َأيُّهَ ا ْال َمُأَل َم ا َعلِ ْم ُ‬
‫وس ٰى َوِإنِّي َأَلظُنُّهُ ِمنَ‬ ‫ص رْ حًا لَّ َعلِّي َأطَّلِ ُع ِإلَ ٰى ِإ ٰلَ ِه ُم َ‬
‫ِإ ٰلَ ٍه َغي ِْري فََأوْ قِ ْد لِي يَا هَا َمانُ َعلَى الطِّي ِن فَاجْ َعل لِّي َ‬
‫ْال َكا ِذبِينَ )(‪. )6‬‬
‫وهذا‪ ‬حال المهووسين بالسلطة ال ينظرون إال في مرآة أنفسهم فال ‪ ‬يرون غيرها‪ ،‬وإن استعانوا فإنما‬
‫جهال كهامان وغيره‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫يستعينون برؤوس‬
‫ً‬
‫تحريض ا‬ ‫لم يقر فرعون بالهزيمة أمام موسى‪ ‬عليه السالم والسحرة وازداد‪ ‬عت ًوا‪ ،‬وازداد الفراعن ة‬
‫على اإلسرائيليين ( َوقَ َ ُأَل‬
‫ض َويَ َذ َركَ َوآلِهَتَكَ ۚ‬ ‫ال ْال َم ِمن قَوْ ِم فِرْ عَوْ نَ َأتَ َذ ُر ُمو َس ٰى َوقَوْ َمهُ لِيُ ْف ِسدُوا فِي اَأْلرْ ِ‬
‫قَا َل َسنُقَتِّ ُل َأ ْبنَا َءهُ ْم َونَ ْستَحْ يِي نِ َسا َءهُ ْم َوِإنَّا فَوْ قَهُ ْم قَا ِهرُونَ )(‪. )7‬‬

‫‪ )(1‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪)126‬‬


‫‪ )(2‬الصواعق المرسلة‪ ،‬ابن قيم ‪.1389/4‬‬
‫‪ )(3‬سورة طه‪ ،‬االية (‪.)76-72‬‬
‫‪ )(4‬نظم الدرر ‪.١٢/٣١٣‬‬
‫‪ )(5‬سورة النمل‪ ،‬االية (‪.)19‬‬
‫‪ )(6‬سورة القصص‪ ،‬االية (‪.)28‬‬
‫‪ )(7‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪.)127‬‬
‫‪15‬‬
‫وزادوا في عت وهم وتحريض هم‪ ‬وق رروا مواص لة اإلب ادة الجماعي ة ألبن اء المؤم نين (فَلَ َّما َج ا َءهُم‬
‫(‪)1‬‬
‫ضاَل ٍل)‬ ‫ق ِم ْن ِعن ِدنَا قَالُوا ا ْقتُلُوا َأ ْبنَا َء الَّ ِذينَ آ َمنُوا َم َعهُ َوا ْستَحْ يُوا نِ َسا َءهُ ْم ۚ َو َما َك ْي ُد ْال َكافِ ِرينَ ِإاَّل فِي َ‬ ‫بِ ْال َح ِّ‬
‫‪.‬‬
‫لعلهم يرجع ون‪ ،‬فلم يج د موس ى س وى مطالب ة قوم ه بالص بر إلى ي وم يفتح‪ ‬هللا ع ز وج ل عليهم‬
‫ُورثُهَا َمن يَ َشا ُء ِم ْن ِعبَا ِد ِه‬ ‫ض هَّلِل ِ ي ِ‬ ‫بالتمكين والنصر‪ ( ‬قَا َل ُمو َس ٰى لِقَوْ ِم ِه ا ْستَ ِعينُوا بِاهَّلل ِ َواصْ بِرُوا ۖ ِإ َّن اَأْلرْ َ‬
‫َس ٰى َربُّ ُك ْم َأن يُ ْهلِ كَ َع ُد َّو ُك ْم‬ ‫ۖ َو ْال َعاقِبَةُ لِ ْل ُمتَّقِينَ * قَالُوا ُأو ِذينَا ِمن قَ ْب ِل َأن تَْأتِيَنَا َو ِمن بَ ْع ِد َم ا ِجْئتَنَ ا ۚ قَ ا َل ع َ‬
‫ض فَيَنظُ َر َك ْيفَ تَ ْع َملُونَ )(‪. )2‬‬ ‫َويَ ْست َْخلِفَ ُك ْم فِي اَأْلرْ ِ‬
‫فاض الكيل بموسى عليه السالم ومن معه من تكذيب‪ ‬فرعون وقومه ال ذين أعلن وا في تح ٍد ص ٍ‬
‫ارخ‬
‫ك بِ ُمْؤ ِمنِينَ )(‪. )3‬‬ ‫ْح َرنَا بِهَا فَ َما نَحْ نُ لَ َ‬‫لنبوته‪َ ( : ‬وقَالُوا َم ْه َما تَْأتِنَا بِ ِه ِم ْن آيَ ٍة لِّتَس َ‬
‫فأرسل هللا تعالى‪ ‬على الفراعنة س وء الع ذاب‪ ،‬وج اءتهم آي ات الع ذاب الواح دة تل و األخ رى‪ ‬لعلهم‬
‫يرجعون‪ ،‬ويسجل لنا القرآن الكريم صورً ا شتى‪ ‬من هذه العذابات التي ذكرنا بعضها عند الحديث عن‬
‫آيات‪ ‬موسى ومعجزاته‪.‬‬
‫ت لَ َعلَّهُ ْم يَ َّذ َّكرُونَ * فَ ِإ َذا َج ا َء ْتهُ ُم‬ ‫ص ِّمنَ الثَّ َم َرا ِ‬ ‫يقول عز وجل ‪َ ( :‬ولَقَ ْد َأخ َْذنَا آ َل فِرْ عَوْ نَ بِال ِّسنِينَ َونَ ْق ٍ‬
‫ص ْبهُ ْم َسيَِّئةٌ يَطَّيَّرُوا بِ ُمو َس ٰى َو َمن َّم َعهُ ۗ َأاَل ِإنَّ َما طَاِئ ُرهُ ْم ِعن َد هَّللا ِ َو ٰلَ ِك َّن َأ ْكثَ َرهُ ْم‬ ‫ْال َح َسنَةُ قَالُوا لَنَا ٰهَ ِذ ِه ۖ َوِإن تُ ِ‬
‫الطوفَ انَ‬‫ك بِ ُم ْؤ ِمنِينَ * فََأرْ َس ْلنَا َعلَ ْي ِه ُم ُّ‬ ‫ْح َرنَا بِهَا فَ َم ا نَحْ نُ لَ َ‬ ‫اَل يَ ْعلَ ُمونَ * َوقَالُوا َم ْه َما تَْأتِنَا بِ ِه ِم ْن آيَ ٍة لِّتَس َ‬
‫ت فَا ْستَ ْكبَرُوا َو َكانُوا قَوْ ًما ُّمجْ ِر ِمينَ )(‪. )4‬‬ ‫صاَل ٍ‬‫ت ُّمفَ َّ‬ ‫ضفَا ِد َع َوال َّد َم آيَا ٍ‬ ‫َو ْال َج َرا َد َو ْالقُ َّم َل َوال َّ‬
‫ولما تضاعف عليهم العذاب لم يجدوا إال أن يلجؤوا‪ ‬إلى موسى ليكشف عنهم الض ر م ع وع د منهم‬
‫ك بِ َما َع ِه َد ِعندَكَ ۖ لَِئن َك َش ْفتَ َعنَّا الرِّجْ َز‬ ‫ع لَنَا َربَّ َ‬ ‫بأن يؤمنوا ( َولَ َّما َوقَ َع َعلَ ْي ِه ُم الرِّجْ ُز قَالُوا يَا ُمو َسى ا ْد ُ‬
‫(‪)5‬‬
‫ك بَنِي ِإ ْس َراِئي َل * فَلَ َّما َك َش ْفنَا َع ْنهُ ُم الرِّجْ َز ِإلَ ٰى َأ َج ٍل هُم بَالِ ُغوهُ ِإ َذا هُ ْم يَن ُكثُ ونَ )‬ ‫لَنُْؤ ِمن ََّن لَكَ َولَنُرْ ِسلَ َّن َم َع َ‬
‫‪.‬‬
‫ضاقت‪ ‬السبل بفرعون ولم يجد وسيلة إليقاف الدعوة الجديدة‪ ،‬فالقتل والتشريد ‪ ‬والسحل والتعذيب لم‬
‫يجد مع أتباع موسى نف ًعا‪ ،‬ومن ثم يحتاج إلى تغيير خطته‪ ،‬فكان التفكير في وسيلة‪ ‬ناجعة يتخلص به ا‬
‫من هذا الذي يؤرق ملكه وملك أبنائ ه‪ ‬من بع ده‪ ،‬فك ان ق راره ب التخلص من موس ى نفس ه متناس يًا ‪ ‬أن‬
‫الفكرة ال تموت وأنه مهما تضافرت المحن سيظل هناك‪ ‬مؤمنون يض حون من أج ل ال دين ب أغلى م ا‬
‫ُظ ِه َر فِي‬ ‫ع َربَّهُ ۖ ِإنِّي َأخَافُ َأن يُبَ د َِّل ِدينَ ُك ْم َأوْ َأن ي ْ‬ ‫ال فِرْ عَوْ نُ َذرُونِي َأ ْقتُلْ ُمو َس ٰى َو ْليَ ْد ُ‬ ‫لديهم؛ فقال‪َ ( :‬وقَ َ‬
‫ض ْالفَ َسا َد)(‪.)6‬‬ ‫اَأْلرْ ِ‬
‫إنه يتحدث إلى قومه كأنهم أص حاب ق رار‪ ،‬والحقيق ة‪ ‬أنهم لم يكون وا يو ًم ا أص حاب ق رار في ه ذا‬
‫الحكم‪ ‬االستبدادي؛ إنما أراد أن يحشد الرأي العام كله ضد النبي‪ ‬الجديد ومن معه ليتوقفوا عن اإليم ان‬
‫به رغبًا أو‪ ‬رهبًا‪ ..‬إنه يستعدي جزءًا من الشعب على جز ٍء آخر اختار اإليمان بالرسالة الجديدة‪.‬‬

‫‪ )(1‬سورة غافر‪ ،‬االية (‪.)25‬‬


‫‪ )(2‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪.)129-128‬‬
‫‪ )(3‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪.)132‬‬
‫‪ )(4‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪.)133-130‬‬
‫‪ )(5‬سورة األعراف‪ ،‬االية (‪)135-134‬‬
‫‪ )(6‬سورة غافر‪ ،‬االية (‪.)26‬‬
‫‪16‬‬
‫وألن الدنيا ال تعدم الخير‪ ‬مهما عال شأن الباطل وأهله؛ فق د ان برى رج ل م ؤمن في‪ ‬م وطن الفس اد‬
‫ومتحدثا بلغ ة العق ل والمنط ق‪ ،‬وق د قص الق رآن م ا‬ ‫ً‬ ‫ومعطن االستبداد مداف ًعا عن موسى عليه السالم‪ ‬‬
‫كان‪ ‬منه‪.‬‬
‫ول َرب َِّي هَّللا ُ َوقَ ْد‬ ‫آل فِرْ عَوْ نَ يَ ْكتُ ُم ِإي َمانَهُ َأتَ ْقتُلُونَ َر ُجاًل َأن يَقُ َ‬ ‫يقول عز وجل ‪َ ( :‬وقَا َل َر ُج ٌل ُّمْؤ ِم ٌن ِّم ْن ِ‬
‫ُص ْب ُكم بَعْضُ الَّ ِذي يَ ِع ُد ُك ْم ۖ ِإ َّن هَّللا َ اَل‬ ‫صا ِدقًا ي ِ‬‫ك َ‬ ‫ك َكا ِذبًا فَ َعلَ ْي ِه َك ِذبُهُ ۖ َوِإن يَ ُ‬ ‫ت ِمن َّربِّ ُك ْم ۖ َوِإن يَ ُ‬ ‫َجا َء ُكم بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫ْأ‬
‫س هَّللا ِ ِإن‬ ‫نص ُرنَا ِمن بَ ِ‬ ‫ض فَ َمن يَ ُ‬ ‫ك ْاليَوْ َم ظَا ِه ِرينَ فِي اَأْلرْ ِ‬ ‫ف َك َّذابٌ *يَا قَوْ ِم لَ ُك ُم ْال ُم ْل ُ‬ ‫يَ ْه ِدي َم ْن ه َُو ُمس ِ‬
‫ْر ٌ‬
‫ال الَّ ِذي آ َمنَ يَا قَوْ ِم ِإنِّي َأخَافُ‬ ‫َجا َءنَا ۚ قَا َل فِرْ عَوْ نُ َما ُأ ِري ُك ْم ِإاَّل َما َأ َر ٰى َو َما َأ ْه ِدي ُك ْم ِإاَّل َسبِي َل ال َّر َشا ِد * َوقَ َ‬
‫وح َوعَا ٍد َوثَ ُمو َد َوالَّ ِذينَ ِمن بَ ْع ِد ِه ْم ۚ َو َما هَّللا ُ ي ُِري ُد ظُ ْل ًم ا لِّ ْل ِعبَ ا ِد‬ ‫ب قَوْ ِم نُ ٍ‬ ‫ب * ِم ْث َل َدْأ ِ‬ ‫َعلَ ْي ُكم ِّم ْث َل يَوْ ِم اَأْلحْ َزا ِ‬
‫َاص ٍم ۗ َو َمن يُضْ لِ ِل هَّللا ُ فَ َما‬ ‫* َويَا قَوْ ِم ِإنِّي َأخَافُ َعلَ ْي ُك ْم يَوْ َم التَّنَا ِد * يَوْ َم تُ َولُّونَ ُم ْدبِ ِرينَ َما لَ ُكم ِّمنَ هَّللا ِ ِم ْن ع ِ‬
‫ك ِّم َّما َجا َء ُكم بِ ِه ۖ َحتَّ ٰى ِإ َذا هَلَ كَ قُ ْلتُ ْم لَن‬ ‫ت فَ َما ِز ْلتُ ْم فِي َش ٍّ‬ ‫لَهُ ِم ْن هَا ٍد * َولَقَ ْد َجا َء ُك ْم يُو ُسفُ ِمن قَ ْب ُل بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫ف ُّمرْ تَابٌ )(‪. )1‬‬ ‫ُضلُّ هَّللا ُ َم ْن هُ َو ُمس ِ‬
‫ْر ٌ‬ ‫ث هَّللا ُ ِمن بَ ْع ِد ِه َر ُسواًل ۚ َك ٰ َذلِكَ ي ِ‬ ‫يَ ْب َع َ‬
‫وس ٰى َربَّنَ ا ِإنَّكَ آتَيْتَ فِرْ َع وْ نَ َو َمَأَلهُ‬ ‫ال ُم َ‬ ‫ضاق موسى عليه السالم بفرعون وقومه فدعا‪ ‬قائاًل ‪َ ( :‬وقَ َ‬
‫اش ُد ْد َعلَ ٰى قُلُ وبِ ِه ْم فَاَل‬ ‫اط ِمسْ َعلَ ٰى َأ ْم َوالِ ِه ْم َو ْ‬ ‫ضلُّوا عَن َسبِيلِكَ ۖ َربَّنَا ْ‬ ‫ِزينَةً َوَأ ْم َوااًل فِي ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َربَّنَا لِيُ ِ‬
‫اب اَأْللِي َم‪. )2()  ‬‬ ‫يُْؤ ِمنُوا َحتَّ ٰى يَ َر ُوا ْال َع َذ َ‬
‫ف ِّمن فِرْ َع وْ نَ َو َملَِئ ِه ْم َأن‬ ‫وس ٰى ِإاَّل ُذ ِّريَّةٌ ِّمن قَوْ ِم ِه َعلَ ٰى خَ وْ ٍ‬ ‫وفي النهاي ة لم ي ؤمن ل ه‪ ( ‬فَ َم ا آ َمنَ لِ ُم َ‬
‫ْرفِينَ )(‪. )3‬‬ ‫ض َوِإنَّهُ لَ ِمنَ ْال ُمس ِ‬ ‫يَ ْفتِنَهُ ْم ۚ َوِإ َّن فِرْ عَوْ نَ لَ َعا ٍل فِي اَأْلرْ ِ‬
‫وقد اختلف في المراد‪ ‬بالذرية في اآلية‪ ،‬يق ول البيض اوي(ِإاَّل ُذرِّ يَّةٌ ِّمن قَوْ ِم ِه) ‪ ‬إال أوالد من أوالد‬
‫(‪)4‬‬

‫قومه بني إسرائيل دعاهم‪ ‬فلم يجيبوه خو ًفا من فرعون إال طائفة من شبانهم‪ ،‬وقي ل‪ :‬الض مير لفرع ون‬
‫والذرية طائفة من شبانهم آمنوا به‪ ،‬أو‪ ‬م ؤمن آل فرع ون وامرأت ه آس ية وخازن ه وزوجت ه وماش طته‬
‫ف‪ ‬من فرعون ومالئهم أي‪ :‬مع خوف منهم‪ ،‬والضمير لفرعون وجمع ه‪ ‬على م ا ه و المعت اد‬ ‫على خو ٍ‬
‫في ضمير العظماء‪ ،‬أو على أن‪ ‬المراد بفرعون آله كما يقال‪ :‬ربيعة ومضر‪ ،‬أو للذرية أو للقوم ‪.‬‬
‫(‪)5‬‬

‫ْر بِ ِعبَا ِدي لَ ْياًل ِإنَّ ُك ْم ُمتَّبَعُونَ )(‪. )6‬‬ ‫حانت ساعة النجاة فجاء األمر اإللهي إلى‪ ‬موسى‪ ‬عليه السالم‪( ‬فََأس ِ‬
‫عدو يتربص به‪ ،‬وقوله تعالى‪( : ‬لَ ْياًل ) يرد الرواية القائلة‪ ‬إن اتفا ًقا ج رى‬ ‫فالليل ستر لكل من فر من‪ٍ  ‬‬
‫على أن يترك فرعون موس ى وقوم ه‪ ‬يخرج ون من مص ر ح تى يتخلص من الع ذابات ال تي أح اطت‬
‫بقومه‪ ‬غير أن فرعون حنث بعهده وأتبعهم ه و وجن وده؛ ول و ك ان‪ ‬ه ذا ال رأي ص حيحً ا لم ا نص حوا‬
‫بالخروج ليال كما نقل‪ ‬لنا القرآن الك ريم‪ ،‬كم ا إن الرواي ة ال تي ت ذهب إلى أن ه‪ ‬تبعهم بع د أن علم ب أن‬
‫نساء اليهود قد استعاروا الحلي‪ ‬من المصريات على أن يعيدوه ثم خرجوا به(‪. )7‬‬
‫هي‪ ‬رواية متهافتة تستحيل عقال فكي ف يع ير المص ريون حليهم النفيس ة اليه ود‪ ‬الممته نين في ذل ك‬
‫الوقت؟!‬

‫‪ )(1‬سورة غافر‪ ،‬االية (‪.)34-28‬‬


‫‪ )(2‬سورة يونس‪ ،‬االية (‪.)88‬‬
‫‪ )(3‬سورة يونس‪ ،‬االية (‪.)83‬‬
‫‪ )(4‬سورة يونس‪ ،‬االية (‪.)83‬‬
‫‪ )(5‬انوار التنزيل ‪.121/3‬‬
‫‪ )(6‬سورة الدخان‪ ،‬االية (‪.)23‬‬
‫‪ )(7‬انظر قصص األنبياء‪ ،‬عبد الوهاب النجار‪ ،‬ص ‪.257‬‬
‫‪17‬‬
‫اض ِربْ لَهُ ْم طَ ِريقً ا‬ ‫ْر بِ ِعبَا ِدي فَ ْ‬ ‫وأمر موسى عليه السالم من قبل‪ ‬ربه ( َولَقَ ْد َأوْ َح ْينَا ِإلَ ٰى ُمو َس ٰى َأ ْن َأس ِ‬
‫فِي ْالبَحْ ِر يَبَسًا اَّل تَخَافُ َد َر ًكا َواَل ت َْخ َش ٰى )(‪. )1‬‬
‫منوطا بها شق البح ر ب إذن هللا‬ ‫ً‬ ‫وهكذا يكون للعصا‪ ‬دور آخر جديد‪ ،‬فبعد أن كانت حية تسعى صار‬
‫تعالى‪ ،‬لكن فرعون وقومه‪ ‬لم يكونوا ليذروهم يخرجون من مصر دون مالحقة‪ ( ،‬فا ْتبَعُوهُم ُّم ْش ِرقِينَ )‬
‫(‪.)2‬‬
‫نت‬‫ال آ َم ُ‬ ‫ق قَ َ‬ ‫( َو َجا َو ْزنَا بِبَنِي ِإ ْس َراِئي َل ْالبَحْ َر فََأ ْتبَ َعهُ ْم فِرْ عَوْ نُ َو ُجنُو ُدهُ بَ ْغيًا َو َع ْد ًوا ۖ َحتَّ ٰى ِإ َذا َأ ْد َر َك هُ ْال َغ َر ُ‬
‫َت بِ ِه بَنُو ِإس َْراِئي َل َوَأنَا ِمنَ ْال ُم ْسلِ ِمينَ )(‪. )3‬‬ ‫َأنَّهُ اَل ِإ ٰلَهَ ِإاَّل الَّ ِذي آ َمن ْ‬
‫ورغم أن هللا عز‪ ‬وجل طمأن موسى بأال يخاف لحاق فرعون وجنوده إال أن‪ ‬الخوف قد عاوده م رة‬
‫أخرى‪ ،‬لكن سرعان ما ازداد ثقة‪ ‬بخالقه الذي كثيرً ا ما لج أ إلي ه في ملمات ه؛‪ ‬فص ار مص در اطمئن ان‬
‫لقومه بعد تسلل الرعب إليهم‪ ،‬ويصور القرآن هذا المشهد‪.‬‬
‫وس ٰى ِإنَّا لَ ُم ْد َر ُكونَ *قَ ا َل َكاَّل ۖ ِإ َّن َم ِع َي َربِّي‬ ‫ص َحابُ ُم َ‬ ‫يق ول تع الى ‪ ( :‬فَلَ َّما تَ َرا َءى ْال َج ْم َع ا ِن قَ ا َل َأ ْ‬
‫ق َكالطَّوْ ِد ْال َع ِظ ِيم )(‪. )4‬‬ ‫ق فَ َكانَ ُكلُّ فِرْ ٍ‬ ‫صاكَ ْالبَحْ َر ۖ فَانفَلَ َ‬ ‫َسيَ ْه ِدي ِن * فََأوْ َح ْينَا ِإلَ ٰى ُمو َس ٰى َأ ِن اضْ ِرب بِّ َع َ‬
‫ُك ْالبَحْ َر َر ْه ًوا ۖ ِإنَّهُ ْم جُن ٌد ُّم ْغ َرقُونَ )(‪. )5‬‬ ‫وعندها مر موسى وقومه وخاطبه ربه قائال ‪َ ( :‬وا ْتر ِ‬
‫وفي‪َ ( ‬ر ْه ًوا) وجه ان‪ :‬أح دهما س اك ًنا أي‪ :‬ال تض ربه‪ ‬ثاني ًة واترك ه على هيئت ه من انتص اب الم اء‬
‫وكون الطريق يب ًسا‪ .‬وذلك أن موسى أراد أن يضربه حتى ينطبق خو ًفا من أن ي دركهم ق وم فرع ون‪،‬‬
‫وهللا تعالى أراد أن‪ ‬يدخل القبط البحر ثم يطبقه عليهم‪ .‬وثانيهما‪ :‬أن الرهو‪ ‬الفجوة الواس عة أي‪ :‬اترك ه‬
‫مفتوحً ا منفجرً ا على حاله)‪.‬‬
‫في اللحظة التي بدأ البحر ينطبق فيها على فرعون وجن وده‪ ‬بع د اجتي از موس ى علي ه الس الم ومن‬
‫َت بِ ِه بَنُ و ِإ ْس َراِئي َل َوَأنَ ا ِمنَ‬ ‫نت َأنَّهُ اَل ِإ ٰلَ هَ ِإاَّل الَّ ِذي آ َمن ْ‬‫معه وبدأت المياه في‪ ‬االرتفاع قال فرع ون ( آ َم ُ‬
‫ْال ُم ْسلِ ِمينَ )(‪.)6‬‬
‫لكن توبته المزعومة لم تكن لتنفع ه في ه ذا‪ ‬ال وقت؛ ألنه ا لم تكن عن إيم ان وقناع ة وإنم ا كع ادة‬
‫قومه‪ ‬الذين طلبوا من موسى أن يكشف عنهم الرجز ووع دوه باإليم ان‪ ‬ب ه ح ال كش فه‪ ،‬وس رعان م ا‬
‫عاودوا الكفر وحنثوا بالعهد‪ ،‬وقد‪ ‬أراد من وراء ذلك أن يدفع عن نفسه الغرق‪ ،‬وال‪ ‬يلتفت إلى م ا قال ه‬
‫البعض من أن فرعون عندما رأى‪ ‬البحر قرر عدم الولوج غير أن جبريل مكر ب ه‪ ،‬فأقب ل‪ ‬على ف رس‬
‫أنثى‪ ،‬فأدناها من حصان فرعون‪ ،‬فطفق فرسه ال‪ ‬يقر؛ فما ملك فرعون فرسه أن ولج على أثره(‪ )7‬فلو‬
‫صدقت نية فرعون في عدم متابعة موسى لصحت توبته‪ ،‬فاهلل ال يظلم الناس شيًئ ا‪.‬‬
‫َص يْتَ قَ ْب ُل َو ُكنتَ ِمنَ ْال ُم ْف ِس ِدينَ * فَ ْاليَوْ َم نُنَجِّي كَ بِبَ َدنِكَ‬ ‫وهنا جاءه الرد اإللهي‪ ‬الحاسم‪ ( ‬آْل نَ َوقَ ْد ع َ‬
‫اس ع َْن آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ) ‪.‬‬ ‫لِتَ ُكونَ لِ َم ْن خَ ْلفَكَ آيَةً ۚ َوِإ َّن َكثِيرًا ِّمنَ النَّ ِ‬
‫(‪)8‬‬

‫‪ )(1‬سورة طه‪ ،‬االية (‪.)77‬‬


‫‪ )(2‬سورة الشعراء‪ ،‬االية (‪.)60‬‬
‫‪ )(3‬سورة يونس‪ ،‬االية (‪.)90‬‬
‫‪ )(4‬سورة الشعراء‪ ،‬االية (‪.)63-61‬‬
‫‪ )(5‬سورة الدخان‪ ،‬االية (‪.)24‬‬
‫‪ )(6‬سورة يونس‪ ،‬االية (‪.)90‬‬
‫‪ )(7‬انظر‪ :‬جامع البيان‪ ،‬الطبري ‪.١٩/٣٦٠‬‬
‫‪ )(8‬سورة يونس‪ ،‬االية (‪.)92-91‬‬
‫‪18‬‬
‫قال‪ ‬النيسابوري‪( :‬لتكون دليال على كمال قدرتنا وعنايتن ا‪ .‬وإن من اتب ع‪ ‬خ واص عبادن ا نجعل ه من‬
‫أهل النجاة والدرجات بعد أن كان‪ ‬من أهل الهالك والدركات)(‪.)1‬‬
‫ونظرً ا ألهمية ذلك اليوم‪ ‬الذي نجى هللا فيه موسى وقومه؛ فق د أوص ى الن بي‪ ‬ص لى هللا علي ه وس لم‬
‫بصيامه ففي حديث ابن عباس رضي‪ ‬هللا عنهما قال‪( :‬قدم الن بي ص لى هللا علي ه وس لم المدين ة‪ ‬ف رأى‬
‫اليهود تصوم ي وم عاش وراء؛ فق ال‪ :‬م ا ه ذا؟ ق الوا‪ :‬ه ذا‪ ‬ي و ٌم ص الح نجى هللا في ه ب ني إس رائيل من‬
‫(‪)2‬‬
‫عدوهم‪ ‬فصامه موسى؛ قال‪ :‬فأنا أحق بموسى منكم؛ فصامه وأمر‪ ‬بصيامه)‬
‫صا على صيامه حرصه على‪ ‬صيام الفريضة ففي حديث ابن عب اس رض ي هللا عنهم ا‬ ‫بل كان حري ً‬
‫ضا قال ‪( :‬ما رأيت النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ‬يتح رى ص يام فض له على غ يره إال ه ذا الي وم ي وم‬ ‫أي ً‬
‫عاشوراء‪ ‬وهذا الشهر يعني شهر رمضان) ‪.‬‬
‫(‪)3‬‬

‫إن نهاية فرعون وهامان وجنودهما‪ ‬المستحقة تجعل المؤمنين يثقون بنص ر ربهم وص دق موع وده‬
‫لهم بأن‪ ‬القهر واالستبداد مهما طال بهم فسيأتي اليوم الذي يس عدون ب ه‪ ‬وتق ر أعينهم‪َ ( ‬ونُ ِري ُد َأن نَّ ُم َّن‬
‫ض َونَجْ َعلَهُ ْم َأِئ َّمةً َونَجْ َعلَهُ ُم ْال َو ِ‬
‫ارثِينَ )(‪. )4‬‬ ‫َعلَى الَّ ِذينَ ا ْستُضْ ِعفُوا فِي اَأْلرْ ِ‬
‫ت لَيَ ْس ت َْخلِفَنَّهُ ْم فِي‬ ‫وتلك هي سنة هللا تعالى في خلقه‪َ ( : ‬و َع َد هَّللا ُ الَّ ِذينَ آ َمنُ وا ِمن ُك ْم َو َع ِملُ وا َّ‬
‫الص الِ َحا ِ‬
‫َض ٰى لَهُ ْم َولَيُبَ ِّدلَنَّهُم ِّمن بَ ْع ِد َخوْ فِ ِه ْم َأ ْمنًا‬ ‫اَأْلرْ ِ‬
‫ض َك َما ا ْست َْخلَفَ الَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ِه ْم َولَيُ َم ِّكن ََّن لَهُ ْم ِدينَهُ ُم الَّ ِذي ارْ ت َ‬
‫يَ ْعبُدُونَنِي اَل يُ ْش ِر ُكونَ بِي َش ْيًئا ۚ َو َمن َكفَ َر بَ ْع َد ٰ َذلِكَ فَُأو ٰلَِئكَ هُ ُم ْالفَا ِسقُونَ )(‪. )5‬‬

‫‪ )(1‬غرائب القرآن ‪.٣/٦١٠‬‬


‫‪ )(2‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ ،‬كتاب الصوم‪ ،‬باب صوم يوم عاشوراء‪ ،‬رقم ‪.٢٠٠٤‬‬
‫‪  )(3‬أخرجه البخاري في صحيحه‪ ،‬كتاب الصوم‪ ،‬باب صوم يوم عاشوراء‪ ،‬رقم ‪.٢٠٠٦‬‬
‫‪ )(4‬سورة القصص‪ ،‬االية (‪.)5‬‬
‫‪ )(5‬سورة النور‪ ،‬االية (‪.)55‬‬
‫‪19‬‬
‫الخاتمة‬
‫إن عناية هللا‪ ‬تعالى بموسى‪ ‬عليه السالم تجعل العاقل في اطمئنان لقضاء‪ ‬هللا‪ ،‬فمن يتخيل أن ينج و‬ ‫‪.1‬‬
‫الرضيع باإللقاء في البحر‪ ،‬ويربى في بيت عدوه وعدو قومه الذي سيزول ملكه على‪ ‬يده‪ ،‬ويجعل‬
‫زوجة الفرعون هي مربيته وحاضنته‪ ،‬والمصريون هم حاشيته‪ ‬وخدمه‪ ،‬وأم ه هي مرض عته‪ ،‬فال‬
‫امتدت يد الذبح إليه‪ ،‬وال‪ ‬هو فارق أمه‪ ،‬وقد رباه حتى شب من سيقف في‪ ‬وجهه يومًا؛ ي دعوه إلى‬
‫عبادة هللا الواحد‪ ،‬ورفع نير‪ ‬العبودية عن بني إسرائيل‪.‬‬
‫عاش موسى عليه السالم في بيت‪ ‬فرعون يرفل في النعيم لكنه لم ينس أصله وقضيته‪ ،‬فرعاية ‪ ‬هللا‬ ‫‪.2‬‬
‫تع الى ل ه وحفظ ه في بيت ع دوه لم تكن‪ ‬من أج ل حف ظ موس ى؛ ب ل لرس الة س يحملها ويكل ف‬
‫بتبليغها‪ ‬إلى فرعون للخروج ببني إسرائيل إلى األرض المقدسة التي كتب‪ ‬هللا لهم‪.‬‬
‫على الم ؤمن أن يس تعين دو ًم ا برب ه ليهدي ه‪ ،‬فموس ى علي ه الس الم ك ان دائ ًم ا معتم ًدا على‬ ‫‪.3‬‬
‫متخذا الوسائل واألسباب المناسبة‪ ،‬استعان‪ ‬بربه وقت خروجه من مص ر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫محتاطا في أمره‪،‬‬ ‫ربه‪ ،‬‬
‫وس اعة دخول ه م دين‪ ،‬وأثن اء عودت ه‪ ،‬ووقت مواجهت ه لفرع ون لم ا دع اه ثم آذاه وتبع ه ح تى‬
‫أغرق‪ ،‬وطول مخالطته لبني إسرائيل‪.‬‬
‫المروءة من أخالق العظماء التي تتجلى‪ ‬حينم ا يب ذل اإلنس ان من وقت ه وجه ده ومال ه وال ينتظ ر‬ ‫‪.4‬‬
‫جزا ًء‪ ‬أو شكورً ا من أحد‪ ،‬وال يجرمن النبالء أن المروءة‪ ‬قد تصل بأصحابها إلى حد إهالك الم ال‬
‫واألنفس‪.‬‬
‫عالة على أح د‪ ،‬فعم ل‬ ‫قيمة‪ ‬عظيمة أدركها األنبياء‪ ،‬فموسى عليه السالم لم يرض أن يكون‪ً  ‬‬ ‫ٌ‬ ‫للعمل‬ ‫‪.5‬‬
‫عقدا كام ‪-‬أو أقل قليال‪ -‬في خدمة‪ ‬صهره؛ لزواج ه من‬ ‫اًل‬ ‫أجيرً ا لسنوات طويلة‪ ،‬وقضى من‪ ‬عمره ً‬
‫ابنته‪ ،‬وهو الذي عاش في القصور لم‪ ‬يأنف خدم ة اآلخ رين‪ ،‬ولكن ه وطن نفس ه لتحم ل المش اق‪،‬‬
‫وتغير‪ ‬أحوال الزمان‪ ،‬ودار مع أحواله جميعًا بالرضى‪.‬‬
‫كثي ٌر من الناس ال يؤمن إال‪ ‬بم ا ه و محس وس وملم وس‪ ،‬وينك ر م ا ال يق ع تحت حواس ه‪ ،‬وه ذا‬ ‫‪.6‬‬
‫مج اف للواق ع‪ ،‬وم ا ال ي راه اإلنس ان أك ثر بكث ير مم ا‪ ‬ي راه‪ ،‬ول و أنك ر م ا ال يق ع تحت حس ه‬
‫ألنكر‪ ‬ضروريات‪ ،‬ولخسر خسرا ًنا مبي ًن ا؛ فالجن ة والن ار غيب‪ ،‬والقيام ة‪ ‬غيب‪ ،‬والمالئك ة غيب‪،‬‬
‫فإذا أنكر اإلنسان ما جاءت به الرسل‪ ‬لع دم وقوعه ا تحت حس ه‪ ،‬فالخس ران والب وار في انتظ اره‬
‫عند تحقق‪ ‬ما كان ينكره‪.‬‬
‫فارق بين الخوف المشروع والخوف المذموم؛ فطبيعة‪ ‬اإلنسان قد تخ اف وت رهب بعض األم ور‪،‬‬ ‫‪.7‬‬
‫فاإلنسان يخشى على نفسه‪ ‬التلف والهلكة‪ ،‬ويخشى من بعض الحيوان ات المفترس ة‪ ،‬ويخ اف على‬
‫أوالده‪ ‬وذويه فيضعف عند الضغط عليه ومساومته‪ ،‬فهذه فط رة في معظم‪ ‬البش ر‪ ،‬ولكن أص حاب‬
‫الهمم العالية يتجاوزون خوفهم‪ ،‬ويستمدون القوة من‪ ‬هللا تع الى‪ ،‬وال يجبن ون‪ ،‬ويواجه ون الش دائد‬
‫بعزم وثبات‪.‬‬
‫النسب‪ ‬غير مانع من االستعانة في العمل ال سيما ال دعوي طالم ا‪ ‬ك ان الش خص مهيًئ ا ل ذلك‪ ،‬فب ه‬ ‫‪.8‬‬
‫يكون شد العزم والتثبيت‪ ،‬وهو الخليفة والقائد في الغياب‪ ،‬وعليه يك ون التعوي ل في الش دائد‪ ،‬وق د‬
‫حاول موسى عليه السالم االستفادة من قدرات أخيه في‪ ‬خدمة الدعوة‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫المصادر‬
‫القران الكريم‬
‫الكتب‬
‫‪ .1‬ابن جزي‪ ،‬التسهيل لعلوم التنزيل‪.7/2 ،‬‬
‫‪ .2‬ابن عطية‪ ،‬المحور الوجيز‪ ،401/4 /‬الكشاف‪ ،‬الزمخشري ‪.586/3‬‬
‫‪ .3‬ابن قيم‪ ،‬الصواعق المرسلة‪.1389/4 ،‬‬
‫‪ .4‬انوار التنزيل ‪.121/3‬‬
‫‪ .5‬انوار التنزيل ‪.23/4‬‬
‫‪ .6‬تاريخ الرسل و الملوك‪ ،‬الطبري ‪.387/1‬‬
‫‪ .7‬تفسير القران العظيم ‪.116/1‬‬
‫‪ .8‬جامع البيان الطبري ‪.323/18‬‬
‫‪ .9‬جامع البيان‪ ،‬الطبري ‪.17/566‬‬
‫جامع البيان‪ ،‬الطبري ‪.١٩/٣٦٠‬‬ ‫‪.10‬‬
‫‪ .11‬جامع البيان‪ ،‬الطبري ‪.19/540‬‬
‫‪ .12‬الجامع الحكام القران ‪.126/6‬‬
‫‪ .13‬الجامع الحكام القران‪ ،‬القرطبي ‪.13/285‬‬
‫‪ .14‬سيد قطب‪ ،‬في ضالل القران‪.4/2333 ،‬‬
‫‪ .15‬صحيح البخاري ‪ ،‬كت اب أح اديث األنبي اء‪ ،‬ب اب أحب الص الة إلى هللا ص الة داود وأحب الص يام إلى هللا‬
‫صيام داود‪ ،‬رقم ‪.٣٢٠٧‬‬
‫‪ .16‬صحيح البخاري ‪ ،‬كتاب أح اديث االنبي اء‪ ،‬ب اب احب الص الة إلى هللا ص اله داود رقم ‪ ٣٢٠٦‬ومس لم في‬
‫صحيحه كتاب اإليمان باب اإلس راء برس ول هللا ص لى هللا علي ه وس لم من ح ديث أبي هري ره أيض ا رقم‬
‫‪٢٥٠‬‬
‫‪ .17‬صحيح البخاري ‪ ،‬كتاب أحاديث األنبياء‪ ،‬باب حديث العبد الصالح مع موسى عليه السالم‪ ،‬رقم ‪.٣٢٢٠‬‬
‫‪ .18‬صحيح البخاري ‪ ،‬كتاب الصوم‪ ،‬باب صوم يوم عاشوراء‪ ،‬رقم ‪.٢٠٠٤‬‬
‫‪ .19‬صحيح البخاري ‪ ،‬كتاب الصوم‪ ،‬باب صوم يوم عاشوراء‪ ،‬رقم ‪.٢٠٠٦‬‬
‫‪ .20‬عبد الوهاب النجار‪ ،‬قصص األنبياء‪.‬‬
‫‪ .21‬غرائب القرآن ‪.٣/٦١٠‬‬
‫‪ .22‬غرائب القران‪.5/268‬‬
‫‪ .23‬في ظالل القران ‪.2342/4‬‬
‫‪ .24‬القاموس المحيط‪ ،‬الفيروزآبادي ‪.١/٧٠٧‬‬
‫‪ .25‬القرطبي ‪۲٦۰ / ۱۳‬‬
‫‪ .26‬المحرر الوجيز ‪.٤/٢٠‬‬
‫‪ .27‬محمود مزروعة‪ ،‬الدين و حاجة اإلنسانية اليه عبر الرساالت اإللهية‪.‬‬
‫‪ .28‬مفاتيح الغيب ‪.٢١/٥٤٨‬‬
‫‪ .29‬مفتاح الغيب ‪.۲۰۰ / ٢٤‬‬
‫‪ .30‬نظم الدرر ‪.١٢/٣١٣‬‬
‫‪ .31‬نظم الدرر البقاعي ‪.١٤/٢٥٦‬‬

‫‪21‬‬
Introduction
God Almighty chose specific humans in order to send down guidance and
messengers to them in order to guide people and call to the religion of God, the
One and Only, and God Almighty preferred the messengers over the prophets
because they carry a message from God Almighty, and God Almighty favored our
master Moses, peace be upon him, by speaking with him And Moses, peace be
upon him, was raised in the house of one of the tyrants, who is Pharaoh, and the
lineage of our master Moses, peace be upon him, goes back to our master Jacob bin
Isaac, peace be upon them both.
And over the centuries of time, God Almighty sent prophets to guide people, and it
was not enough for one prophet, but rather His mercy - the Almighty - required
that He send them one prophet after another so that they would not have the
argument on the Day of Resurrection, by conveying the true religion of God and
His law, and among them was the Prophet Moses - upon him be peace and
blessings - whose story came in several verses and chapters, showing people the
lessons drawn from this story, and through this research, we will tell the story of
the Prophet.
The stories of the prophets are among the interesting things that help to know a lot
about the life of the prophets, the stages of their lives, how the message reached
them, and their situation with their people. It is certain that there are many lessons
and lessons that a person can learn and teach to his children through the stories of
the prophets. And knowing what they faced in order to spread the religion of God -
glory and majesty - on earth, and the greatest stories of the prophets is the story of
Moses, peace be upon him, as it contains many great events that changed the shape
of history.

You might also like