Professional Documents
Culture Documents
تفصيل الخلق والأمر2
تفصيل الخلق والأمر2
ابن سينا
بين
قصور المتفلسفة وافتراء المتقولة
الجزء الثاني
رشيد بلواد
المحتوى
2
55 شرح بعض سنن الصالة
55 -خصوص المبلغ عن اإلمام (المسمع)
55 -خصوص القراءة في الصالة
54 -السترة
55 -العارض في الصالة
102 الفصل الثالث وراء المذاهب شيطان يدعو إلى االختالف والتفرق
-1دعوة التفرق المذهبي نقيض دعوة اإلسالم :مثا الشروط التعجيزية لالجتماع
102 على صالة الجمعة
104 -2قصور العقو المذهبية البشرية عن التشريع في دين هللا تعالى
105 -5عدم اإلحاطة والتجزيئية النمطية التقليدية المحجورة للمذاهب الفقهية
112 -4السعة التشريعية المجيدة ال تنبغي إال هلل العليم الحكيم
111 المصادر والمراجع
3
الباب األول
4
الفصل األول
الحمد هلل الذي به الحو والقوة ،الهادي إلى الحق وإلى صراط مستقيم ،والصالة والسالم على
محمد رسو هللا وخاتم النبيئين ،أنز إليه القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه،
أما بعد؛
إذا تم لنا بحمد هللا تعالى واستوفى الوضوح للبيان حقه في كشف زيف مقولة حوار األديان،
المقولة التي ليست في حكم الشرع لمن يبصر إال سبيال عليه شيطان يدعو للكفر وإلى عذاب
السعير؛ ذلك أنهم يكذبون ويكفرون بالحقيقة الكبرى لتاريخ الكون والبشرية وقانون محور
الكتاب والنبوة ،الذي يحيل إليه الحق سبحانه بصائر وتذكرة في قوله العلي الحكيم:
{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش'
يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره' أال له الخلق
واألمر' تبارك هللا رب العالمين' ادعوا ربكم تضرعا وخفية' إنه ال يحب المعتدين' وال
تفسدوا في األرض بعد إصالحها' وادعوه خوفا وطمعا' إن رحمة هللا قريب من
المحسنين' وهو الذي يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته' حتى إذا أقلت سحابا ثقاال
سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات' كذلك نخرج الموتى لعلكم
تذكرون' والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه' والذي خبث ال يخرج إال نكدا' كذلك
نصرف اآليات لقوم يشكرون' لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقا يا قوم اعبدوا هللا ما لكم
من إله غيره' إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم'} (األعراف)51..55
وكل ما سطرناه في هذا الكتاب وعرضنا له بشأن أو الكون وبدء الخلق ،مجراته
ونجومه وكواكبه ،وخلق بني آدم وعرض تاريخه ،ومحور الرساالت والنبوة ،كل ذلك
من نور وتالوة بالحق لهاته اآليات المحكمات .وال شك أن القارئ اللبيب قد استشف
5
الوجه الذي أردناه من هذه المرافعة التاريخية والمعارفية ،المرافعة والصدع بكلمة الحق
التي يدرك حجاجها وحجيتها كل إنسان ينعم بنعمة العقل والفؤاد ،سواء كان فردا من
عامة الناس في حظه من العلم أو خاصتهم ،مقال بنزر من التفكر أو فيلسوفا سار في
التفكر سيرا مؤصال للمشهود في العين والعقل من األشياء والحقائق إلى معين الصدور
ومشاربها األولى؛ فالمحور والقضية أساسها قانوني ،هو المحور القانوني التي تحيل
إليه هذه اآليات لئال يبقى حجة بعد القرآن المجيد .فقانون التفسير للتكوين المادي للكون،
وعلى افتراض أية نظرية ،سواء نظرية االنفجار الكبير أو ما يكون من نظرية سواها،
وقانون الخلق البيولوجي إلى خلق اإلنسان ،وقانون محور الكتاب والنبوة ،وقانون
النفس البشرية إلى هذه اللحظة التي نقرأ فيها هذه الكلمة وكأنها دارة داللية يخترقها
وجودنا ،واآلن الذي نحيا به ويعيشه حدثا وجوديا كل واحد منا بحو وقوته وقيوميته
عز وجل ،كله قانون مفصل لقانون واحد ،كما يفصل مسار الشعاع الضوئي حسب
الوسط الذي يخترقه ،مثاال أبسط مثا على األبعاد والفضاءات الوجودية.
هذا هو الحق ،وهو أعلى مستويات علم الكتاب ،ومن ثمة ال تستغرب إذا قلنا وأكدنا على قولنا
بأن علماء بني إسرائيل اليوم يعلمون علم اليقين أن مقولة حوار األديان باطلة ،ليس لها مثقا
ذرة من صدق إال الكفر ،وإنهم ليكتمون الحق وهم يعلمون .وما حقيقة علمائنا أو ممن لهم
ألقاب العالمية كثير منهم ،إال الجهل المركب الفظيع ،ركبوا تقليد تحريف آيات هللا تفسيرا
كالوسطية ،فأصبح هذا الشعار عندهم ميسما للفقه ولالعتدا -وإنما الوسطية العدالة والشهود
ووسيط اإلبالغ واإلرسا -وال يعلمون أن بني إسرئيل أمسوا بعلم الكتاب والقرآن العظيم أعلم
منهم؛ ذلك أنهم بحقيقة التصديق والهيمنة للقرآن لما بين يديه من الكتاب أعلم ،يعرفون أنه
الحق كما يعرفون أبناءهم ،ويدركون حق اإلدراك بطالن مقولة حوار األديان بهذه الصيغة،
ألن قانون الوجود واحد ودين هللا واحد .كما أن مجادلة أهل الكتاب منافية حقيقة وتركيبا لتعدد
األديان ،ألن محورية الكتاب وجوهريته القانونية واحدة ،وهذا هو المعنى الصحيح ال غيره
لشبه المفهوم (أهل الكتاب)؛ يقو هللا سبحانه وتعالى ومن أصدق من هللا قيال:
{يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير'
قد جاءكم من هللا نور وكتاب مبين يهدي به هللا من اتبع رضوانه سبل السالم' ويخرجهم من
الظلمات إلى النور بإذنه' ويهديهم إلى صراط مستقيم'}(المائدة.)11..11
وكذلك إذا تم لنا ،بقدر ما وفقنا إليه ،إذا تم التحليل التاريخي للظاهرة التفرقية الكالمية
واستجالء نشوئها وبنيتها من خال أنجع المعايير النقدية العلمية..
6
فاآلن نحن على عزم بحو هللا وقوته ،مستبصر صوب التحمل بواجب الحق في التنبيه وتعيين
أخطر وأشر ما بد في منهاج األمة وشريعتها ،من حدثان ومما بد من بعد رسو هللا عليه
الصالة والسالم ،وما تقرر من ضال وباطل المذاهب الفقهية التي شاقت الحق على ما جاء
ونز من المعنى في أساس القرآن وأم الكتاب{:غير المغضوب عليهم وال
الضالين'}(الفاتحة.)4
. . .
نبدأ من حيث انتهى التأصيل الحقائقي ،نبدأ من الحقيقة الوجودية الكبرى بالمعنى اإلدراكي
والعلمي ،الحقيقة التي تلكأت الفلسفة الغربية في شقها المادي أن تقر بها ،وتعلنها حقيقة وجب
على العقل إن أراد لنفسه العلمية التسليم بها قانونا مبدئيا ،حقيقة الصلة بين الوجود الواعي وما
يعبر عنه بالتواجد ،صلته بالحق ،وسبحان هللا رب العرش الكريم.
روينا عن حذيفة بن اليمان وعن أبي ذر رضي هللا عنهما قاال :كان رسو هللا صلى هللا عليه
وسلم إذا استيقظ قا :
1
((الحمد هلل الذي أحيانا بعد ما أماتنا ،وإليه النشور))
وعن أبي هريرة رضي هللا عنه عن النبي صلى هللا عليه وسلم قا :
2
((إذا استيقظ أحدكم فليقل الحمد هلل الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره))
وإن الذكر ال يكون إال بالوعي ،أي بالعقل المفكر؛ وهذا بالذات يتجاوز حدود التأصيل
الديكارتي للوجود حيث ليس يقف غاية في إثبات الوجود ،بل يذهب تأصيال ليصل هذا الوجود
بصفته الحدثية والكينوناتية بالعرش الكريم ،مرجعا وسلما بالبيان لما نتلوه من الحق في قوله
تعالى العلي العظيم{:الحي القيوم}.
هذا الخط العالئقي واالرتباطي ،وهذا الشعاع على مثل حقيقة شعاع العمق الكوني الذي مثل
سلم الصعود ،ومطية مفتاح البناء التكويني للكون المادي ،مجراته وهاالته ،ونجومه وكواكبه،
والذي يوجب من المسلمات ما يوجب شرطا ال مندوحة عنه ،محتما مسلمة الوحدة االنتظامية
القانونية ،بمعنى التوافق الكامل لجميع القوانين الجزئية المتخذة التكوينية؛ وبلفظ أكثر سدادا
من جهة المالءمة البيانية للحق تأصيال :وحدة الروح القانونية ،مصدرا قانونيا ومشكاة قانونية
واحدة.
1رواه البخاري
2رواه ابن السني
7
كما أنه على نظام هذا القانون سلما للقو في بناء اإلنسان خلقة وبيئة وجودية ،مستغرقة
الوجود كله ،حتى آخر نقطة من نقاطه وآخر لحظة من لحظات وأنفاس وجود كل واحد منا،
كما تم تأصيله على نور العلم الحق والقرآن العظيم في السياق واآليات من سورة األعراف،
ابتداءا من حقيقة قوله تعالى{:إن ربكم الذي خلق السماوات واألرض} إلى مسار القصص
واالختراق القصصي للتاريخ الوجودي البشري ،الممثل في قصص األنبياء عليهم السالم مع
أقوامهم ،إلى مجا نبوة ورسالة نبينا محمد صلى هللا عليه وسلم ،مجا طورنا وتواجدنا ،إلى
هذه اللحظة التي نعيش ونحيا بمرتكز وجودها وكينونتها الموصولة في قيوميتها بالعرش؛ فاهلل
تعالى ذو العزة والجبروت هو الصمد الذي تصمد إليه الكائنات والخالئق جميعا ،وهو الحي
القيوم يمسك السماوات واألرض أن تزوال ،ال حو وال قوة إال به ،سبحانه وتعالى ذي الجال
واإلكرام ،رب العرش العظيم .وهو هللا سبحانه نور السماوات واألرض؛ فأشعة الخلق واألمر
ال واسط فيها بين المخلوقات وربها الكريم ،فاطرها ومجبلها ومشرع وجودها ودينها ،ال ملك
مقرب وال نبي وال حبر وال عالم ،وال اإلمام مالك وال أبو حنيفة وال غيرهما .ومن لم يبصر
بهذا الحكم والحق المبين فيما تلونا من الهدى والقرآن العظيم ،بأن التشريع ومذهب القانون هو
هلل الواحد الصمد ،ال شريك له في الملك وال يشرك في حكمه أحدا ،فإن للسياق كما للسورة
بمجملها ،وقد أشرنا إليه من قبل ،إن جاز أن تحدد له آية تكاد تختز المعاني كلها فهي قوله
عز وجل:
{أال له الخلق واألمر' تبارك هللا رب العالمين'}
إن هذا الحكم العلي الحكيم ،حكم الحق ممن خلق األرض والسماوات العلى ،رب العرش
العظيم ،ليكفي لمن كان له قلب يعقل به ،وكان حفيا بأن يسمع قو الحق فيتبعه ،أن ال يشكن
في بطالن المذهبية وفساد المذهبية الفقهية المقيتة؛ وما هي لو يعلمون بفقهية ،ولكنها تفرقة
خاطئة ضالة مضلة ،وكيف يكون للفقه أن يدعو إلى نقيض حقيقته وإلى خالف الحق في
أخص خصائصه ،وميزة انتظامه والوحدة القانونية ألحكامه؟ أال إنه قد أنز بالحق قوله
تعالى:
{أفال يتدبرون القرآن' ولو كان من عند غير هللا لوجدوا فيه اختالفا كثيرا'}(النساء)11
{أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون'}(آ عمران)45
فالتشريع والفقه كأصل وامتداد استنباطي لزمه عدم االختالف ضرورة وشرطا الزبا محتما،
وال يتم من بعد ذلك القو وقبو الحكم به إال بشرط الكفاية كما سيأتي بعد الحديث عنه فيما
يلي.
8
إن خاصة عدم اختالف الحق في قوانينه ،والوحدة القانونية المنتظمة ألحكامه ،تطرح بشكل
جدي وملفت سؤا المصداقية والمشروعية بالنسبة ألقوا عدة ،وأحكام كثيرة منسوبة
للمذاهب هاته المسماة فقهية؛ لكن ما يلبث العجب أن يزو حين نولي وجوهنا ونتفحص الجهة
المقابلة لمسار األمة في االستخالف التاريخي .فلئن كان المسلمون في قرون خلت قد بلغوا في
عمارة األرض شأوا عظيما ،وسبقوا غيرهم من األمم في مضمار العلوم البحتة والطبيعية على
أعلى إمكان مستويات التوافق التاريخي للعقل والتفكير اإلنساني ،فإنهم اليوم يا للحسرة معطل
تواجدهم موءودة عقولهم ،عالة على غيرهم ،يلبسون ما ال يصنعون ويركبون ،رضوا بأن
يكونوا مع التابعين لعدوهم مستذلين ،حقيقة دويالتهم الطوائفية أهل ذمة يتكفل األمريكيون
واليهود والنصارى بأمنهم ،ويحجرون على ركازهم وأموالهم؛ فاهلل المستعان والواقع ال
يرتفع؛ وهو الحق شاخص إال من أعماه الدجل واتبع أعداء األمة في خيانتهم الكبرى وغيهم
وضاللهم؛ يحسبون األمر للقوة األرضية وقد خلت من قبلهم األمم ،ولينصرن هللا من ينصره؛
إذا جاء أمره ال يؤخر ،و إن هللا بالغ أمره ،إنه قوي عزيز؛ يقو سبحانه وتعالى:
{يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا اليهود والنصارى أولياء' بعضهم أولياء بعض' ومن يتولهم منكم
فإنه منهم' إن هللا ال يهدي القوم الظالمين' فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون
نخشى أن تصيبنا دائرة' فعسى هللا أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في
أنفسهم نادمين'}(المائدة.)54-55
إن هذا التخلف لشرط المالءمة التاريخية ،لهو حاسم حكما عند الراسخين في العلم بالنظر للبعد
المقاصدي للشريعة ،على زيف ادعاء الكفاء والتمثيلية التشريعية لما يدعى بالمذاهب الفقهية،
وأنها ليست في حقيقة أمرها إال واقع التبديل لما أنز من الكتاب من بعد ما جاءتهم البينات من
ربهم؛ يقو هللا تعالى محذرا هذه األمة من أن تحذو حذو المشركين وتضل ضال األمم من
قبلها:
{وال تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا' كل حزب بما لديهم
فرحون'}(الروم)51-50
{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء' إنما أمرهم إلى هللا' ثم ينبئهم بما كانوا
يفعلون'}(األنعام)110
يقو اإلمام محمد بن علي الشوكاني رحمه هللا:
9
< ..فهل تزعمون أن رسو هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قا عليكم بسنة أبي حنيفة ومالك
3
والشافعي وابن حنبل حتى يتم لكم ما تريدون؟ >..
والنتيجة الثانية من بعد أمر تفرق الدين بتلبيس المذاهب واستدراج الشيطان ومكره هي
المخالفة لسعة وامتداد سريان الحق وكتاب هللا سبحانه وأمره المجيد .وهي مخالفة تؤو إلى
خطب جلل وأمر عظيم ،هو التوقيف الفعلي لشريعة الكتاب المنز أمرا من عند هللا العزيز
الحكيم ،يسع العالمين إلى يوم الدين ،بالرغم مما يدعونه ويزعمونه ويحسبون أنهم على شيء؛
فالمذهبية بالمنطق الصارم والحق الذي تقوم عليه السماء واألرض إنما تعني سلب عامل
السريان المطلق المجيد ،أي وجود حد حتمي قريب إلمكان وشرط االجتهاد .يقو األستاذ
محمد محجوبي:
<ومن نتائج التعصب المذهبي أن انتشرت ظاهرة االلتزام الكامل بمذهب معين دون الخروج
عنه إلى مذهب آخر ،وباألحرى استنباط األحكام الشرعية من األدلة التفصيلية مباشرة ،وإال
4
اعتبر ذلك من أنواع االنحراف والخروج عن الجماعة>
واألنكى من ذلك كله مما يحق القو به بسنة هللا تعالى التي ال تتبد وال تتحو كنتيجة حتمية
لحصر امتداد سريان الحق هو تعطيل العقل الحضاري واالستخالفي ،مما يعني الخروج للفرد
والمؤسسات االجتماعية والعمرانية من المسار القانوني للكون وللتاريخ .وههنا نرى موضعا
مسددا للقو العلمي ومقا د .ريتا فرج الكاتبة والباحثة اللبنانية بعنوان (اإلسالم والحداثة
والواقع المأزوم) 5الذي ننقل منه شطره األو وجاء فيه:
<هل اإلسالم في أزمة؟هل النصوصية تتجاوز أسئلة الواقع؟ ما معنى أن يتحو اإلسالم
التاريخي إلى نص مقدس؟ ما هي حدود الشراكة العلمية بين الدين والعلم؟ ولماذا ينظر إلى
اإلسالم من قبل بعض الدوائر الغربية كونه غير قابل إلحداث التحوالت الكبرى كما جرى مع
المسيحية الغربية؟ وما معنى هذا الحضور الكثيف للتيارات اإلسالموية في األزمنة الراهنة؟
أال يمكن المواءمة بين الحداثة واإلسالم المصدري؟
إشكاليات متشابكة يمكن طرحها والبناء عليها .ولعل المعطى األبرز الجامع لها يتجلى في
الشراكة بين اإلسالم والحداثة .وإذا ما قاربنا إرهاصات التحديث في العالم العربي سياسيا
وثقافيا ومجتمعيا لوجدنا حراكا بطيئا لم يصل حتى اللحظة إلى درجة الثورة على التقليد
3انظر مفهوم الحكمة والمنهاج في الجزء األو من تذكرة العلماء في الربانية والمنهاج
4محمد محجوبي :مدخل لدراسة الفقه اإلسالمي -طبع ونشر وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية بالمملكة المغربية -1552ص245
5القدس العربي -العدد 2010\1\14 -1551
10
والتنصيص ،كالذي وقع في أوروبا إبان الثورة الفرنسية وبعدها ،ولكنه يخفي في بنيته
مؤشرات مرتقبة سيطا أمدها لإلجابة عن واقع مأزوم وصل إلى طريق مسدود بفعل عوامل
تاريخية مختلفة لم يقدم الجواب الديني حلوال لها .واالنسداد الالهوتي الراهن ،إذا جاز التعبير،
ال يرتبط بالنص اإلسالمي فقط؛ فالمجتمعات حين تدخل في حالة من االستالب المعرفي
والعلمي والسياسي ،تعكس مأزقها على الدين وبالعكس ،وإال كيف يمكن تفسير ما توصلت إليه
الحضارة اإلسالمية عشية ألقها زمن العباسيين؟ وكيف يمكن قراءة حركة االجتهاد ما قبل هذه
المرحلة وخاللها؟
واليوم حين نسأ عن المواءمة بين اإلسالم والحداثة ،بعد أن خلص عميد المستشرقين برناند
لويس في أطروحته الشهيرة(اإلسالم في أزمة) ،ال ينطلق تساؤلنا من أسس واهية ،فالمجا
العربي اإلسالمي يشهد حاالت من التذرير والتفكيك ال تقل خطورة عن عجز النصوص
الفقهية في محاكاة التغيير>
هذا ال شك ما يمثل شرط العقل االجتهادي ،وأمكن أن نسميه للتدليل على حقيقته الجوهرية
الخطيرة والعظمى بالعقل التاريخي؛ ثم ليكون الربط على واقع ما هو في الحا بالمكون
السياسي هذا مما جاء في النصف الثاني من المقا السديد الثاقب:
<التجربة التركية ،مع حزب العدالة والتنمية تمثل الفيصل؛ فهي تجربة راشدة تبرهن على أن
العجز ال يتعلق بالنص القرآني ،وإنما يرتبط مباشرة بالواقع المأزوم ،خصوصا في العالم
العربي؛ وإال كيف نشرح فشل الحركات اإلسالمية وعلى رأسها اإلخوانية المصرية في
صياغة طروحات حداثوية؟
األزمة عندنا أزمة بنيوية يطا تأثيرها االجتماع والسياسة واالقتصاد والثقافة ،وال يمكننا في
هذا المجا أن نغفل قدرة األنظمة العربية السلطانية على عرقلة مطالب التحديث ،التي
أصبحت في األزمنة المعاصرة حاجة ضرورية يفرضها القلق النهضوي في محيط عربي غير
قادر على استنهاض معاركه التنموية والعلمية>
بالطبع البد أن نتوقف هنا بقصد تحديد أمرين ،أولهما أن معنى الحداثة مواءمة وانتظاما مع
مادة المقا ومنحاه التفكيري هو بمعنى التحديث ،أي الحداثة المقابل للقدامة .أما األمر الثاني
فلعله أكبر من أن يقرر ولو إشارة بهذه السطحية ،نريد بالطبع سؤا بل وحقيقة فشل أو عدم
الفشل حقيقة للجهد اإلخواني .هذا من جهة تحديد مستويات وأبعاد التأثير التي قد ال تتجلى إال
بمقاربات أكثر علمية وتحليال ،كذلك من حيث تداخل العوامل المعاكسة للسير التاريخي
الطبيعي التي يبقى فيها عامل األنظمة الداخلية الحاكمة دون القوة الوهمية التي تعطى لها،
11
والتي من المؤكد أنها دون قوة العامل التاريخي االجتماعي ،الذي من المفترض أن ينجلي في
مفكريه الحقيقيين التاريخيين.
هكذا أوهنا بالذات تكمن عالقة اإلشكا الفقهي بالسياسي .وبه نلفي تفسيرا واضحا ونافلة من
القو لما ذهبنا إليه في بناء وتحليل ظاهرة التفرق بمختلف مشاربه وصبغاته ،وفي ارتباطه
وكذا تعليله بالتكتالت العصبية وسواها من التكتالت .يقو األستاذ محجوبي:
<أما في عصر التعصب المذهبي فإن الوالة والحكام أنفسهم لم يكونوا يختارون لتولي القضاء
إال من تمذهب بمذهبهم الفقهي الذي يرتاحون إليه ويعتقدون أنه المذهب المفضل على غيره
من سائر المذاهب األخرى ،مما شجع على اهتمام الفقهاء بمذهب واحد بحسب البلد الذي هم
6
فيه>
فيكفي إذا دخو هذه النسبية العاملية في كينونة وقيام المذهبية ،نسبية ليست من الحق في
شيء ،للحسم في حكم ردها ونبذها ،وذلك بالقوة االعتبارية والتقديرية للموضوع وخطره
وشأنه.
وكما أشرنا إليه ،يعلل الفقيه القرطبي المشهور ،فقيه المسلمين الكبير رحمه هللا ،يعلل ابن حزم
انتشار كل مذهب من المذاهب الفقهية بتقريب األمراء لفقهاء هذا المذهب ويقو :
< مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان مذهب أبي حنيفة في المشرق ،فإنه لما
ولي قضاء القضاة أبو يوسف كان القضاة من قبله ،فكان ال يولي قضاء البالد من أقصى
المشرق إلى أقصى أعما إفريقيا إال أصحابه والمنتمين إلى مذهبه .ومذهب مالك بن أنس
عندنا ،فإن يحيى بن يحيى كان مكينا من السلطان مقبو القو في القضاة ،فكان ال يلي قاض
من أقطارنا إال بمشورته واختياره ،وال يشير إال بأصحابه ومن كان على مذهبه ،والناس
سراع إلى الدنيا والرياسة فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به>-الحميدي-جذوة
7
المقتبس-ص>-511
وطبعا فقد تم البيان واستوفى بخصوص هذه العالقة التكوينية للتفرق الموهن أهله ،عالقته
بالعوامل التكتلية التي ال أساس لها من الحق تقوم عليه ،وذلك في تفسيرنا وتطرقنا للتفرقين أو
النوعين األولين من التفرق.
كما أن الجدلية في العالقة بين الشيع السياسية وفتاوى معينة لها قيمة مؤشراتية وبيانية لهذه
العالقة في كينونتها وطبيعتها المقاصدية التي تبقى مرجوحة ألن تعتبر مقاصد شرعية .وعلى
12
أي فإن التأثير البيني المنعكس بين الوظيفة الحقة والتكتالت األرضية ،أي التأثير ما بين الديني
والسياسي ،على معنى القاموس المتداو المبتسر ،إذ الوجود مطلقه ديني ،هذا التأثير متضمن
بيانيا في ما تلونا قبل حين من آيات القرآن المجيد المسطرة على عالقة تفرق الدين بالتشيع،
أي التفرق التكتالتي .وليس يعدم المتفحص على اختالف درجات الدراسة ومستويات النظر
من كم هائل واف من الوضوح واإلثبات لهذا االرتباط العضوي السياسي االجتماعي ،الذي
غالبا ما تأتي مقولة (الشعوب على دين ملوكها) لإلعراب والتعبير عنه .غير أن األمر الواجب
ذكره واستحضاره حيثما لزم محاجة دعاة ربوبية البشر وعبوديتهم ،وهم يزعمون ملبسين
االقتداء بالعلماء أئمة ورثة األنبياء ،هو معنى الربانية وشرطها المتمثل في الجمع بين الحكمة
واألصو بما نز من الحق والعلم المبين في قوله عز وجل{:ولكن كونوا ربانيين بما كنتم
تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون'}(آ عمران )41مما تناولنا إطاره الفقهي في الجزء األو
من المنهاج ،ضمن النظمة المفاهيمية للسنة واالتباع والنمطية والربانية.
ولو ذهبنا في مطلق البيان وحكم العلم بغية تسوير الموضوع في جوانب تحديده وحقيقته ،لقلنا
بأن كل ما يناقض ويخالف خاصة المجد في الحق من حيث مجا سريانه ،والقرآن مجيد
ومبارك كما مجا رسالته صلى هللا عليه وسلم إلى يوم الدين ،فكل ما يخالفها ويناقض أحادية
المشكاة القانونية والتشريعية ،ووحدة األمة وتكتلها الموحد على صبغة الحق ،ال على ما دونها
وما سواها ،من عصبية أو قومية أو قطرية جاهلية معتبرة غاية ومستقرا لذاتها ،كل ذلك
باطل ،وإنها ال تعمى األبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .وإن أيا وكال من يدعو
إلى ذلك بأي حا كان وادعاء ،فحقيقته شيئية يسخرها الباطل كيف يشاء .وكذلك كان فيمن
قبلنا من اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون هللا ،ضلوا وأضلوا كثيرا وضلوا جميعا عن
سواء السبيل ،ملبسين أمرهم على الناس يدعون الحق واالقتداء بالعلماء ورثة األنبياء ،وهم
يعلمون تلبيسهم الحق بالباطل وكذب دعواهم وكذب ما يزعمون.
هذا الشرط الرباني ،وهو ضمن آية المنهاج من سورة آ عمران ،هو شرط الكفاية؛ والشرط
الضروري الذي يسبقه الذي اعتبرناه في عدم االختالف التوافقي مع األصو ومع الحق ،لن
يكون منتجا عنه حتما التحديد الحل للسؤا أو النازلة الفقهية .فكل حقائق المجا والحق ال
تناقض بينهما ،وال تختلف مع المجا ككل؛ لكنها ال تبقى كذلك في متعلقها ومناطات مقوالتها
وقيمها .وبناء عليه يتنز شرط الحكمة للتوافق الكامل مع الحق على تبع مناطاته بإمكاناتها
الالمعدودة والالمحدودة ،حيث مجالها هو مجا التواجد واالستخالف ،مجا العبادة الكلي.
فكما سلف في الجزء األو من المنهاج ،وتم تأكيده في غيره من المواضع فها هنا بؤرة
13
اإلشكا .فبالنسبة لهذا الوصف الحقائقي وموافقته للحق وتطابقه مع الواقع ،فالحكم فيه موحد
على الخط العلمي البين البارز :ابن عباس والبخاري والعسقالني ،خط ذي مرجع قوي
موصو بواثق العلم وعروته الوثقى ،اآلية من سورة آ عمران التي أمكن إن أمكن وجاز
تسميتها بآية المنهاج.
وإذا تقرر هذا ،وأبصرنا بهذه الحقيقة المحورية الكبرى في منهاج االستخالف ،فال يبقى شأن
التحقيق وتفعيله إال في تعيين مكونات هذين الشرطين معا ،شرطي ومكوني الربانية ،اآللية
المنهاجية للفقه والتشريع وإنزا أمر هللا تعالى بالحق؛ وبتعبير واضح مبسط يكون السؤا :ما
هو اإلطار الضوابطي لعملية استنباط قو الحق وحكمه في مجا االستخالف ،مجا االمتداد
التواجدي؟
إن البيان األولي لتحقيق االمتداد وعملية التنزيل واالستنباط نجعله أو نراه ممثال في األثرين
المحفوظين ،األو المقترن ببعثه صلى هللا عليه وسلم معاذا بن جبل رضي هللا عنه إلى اليمن؛
هذا األثر يد على مكونية االجتهاد وعلى إطاره العملي .والثاني رسالة أمير المؤمنين وخليفة
رسو هللا صلى هللا عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي هللا عنه إلى قاضيه أبي موسى
األشعري رضي هللا عنه التي نصها:
<بسم هللا الرحمان الرحيم ،من عبد هللا عمر بن الخطاب إلى عبد هللا بن قيس ،سالم عليك.
أما بعد؛ فإن القضاء فريضة محكمة ،وسنة متبعة ،فافهم إذا أدلي إليك ،ال ينفع تكلم بحق ال نفاذ
له ،وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى ال ييأس الضعيف من عدلك وال يطمع
الشريف في حيفك.
البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ،والصلح جائز بين المسلمين إال صلحا أحل حراما
أو حرم حالال .ال يمنعك قضاء قضيته باألمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع
الحق؛ فإن الحق قديم ،وإن الحق ال يبطله شيء ،ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب أو السنة .اعرف األمثا واألشباه ثم
قس األمور عند ذلك؛ فاعمد إلى أحبها عند هللا وأشبهها بالحق فيما ترى .واجعل للمدعي أمدا
ينتهي إليه؛ فإن أحضر بينة أخذ بحقه ،وإال وجهت القضاء عليه؛ فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ
في العذر.
المسلمون عدو بعضهم على بعض إال مجلودا في حد أو مجربا في شهادة زور ،أو ظنينا في
والء أو قرابة.
14
إن هللا تولى منكم السرائر وأدرأ عليكم بالبينات ،وإياك والقلق والضجر والتأذي بالناس
والتنكر للخصوم في مواطن الحق التي يوجب هللا بها األجر ويحسن بها الذخر؛ فإنه من يصلح
نيته فيما بينه وبين هللا ولو على نفسه يكفه هللا ما بينه وبين الناس ،ومن تزين للناس بما يعلم هللا
منه غير ذلك يشنه هللا؛ فما ظنك بثواب عند هللا في عاجل رزقه وخزائن رحمته ،والسالم
8
عليك>
هذه الرسالة هي بمثابة نص قانوني إطار ،إطار جامع مانع في ضوابط االستنباط والمعايير
المنجزة المتداد الحق .والمكونات الداللية للنص تمثيلها بين جلي كالتالي:
شرط عدم االختالف يمثله(:إال صلحا أحل حراما أو حرم حالال)
والتوافق مع النازلة يمثله(:الفهم الفهم...إلى قوله :وأشبهها بالحق فيما ترى)
والمعايير التأطيرية كأحكام مرتبطة بإطار اإلعما والحكم من اعتبار للبيئة االجتماعية
وأحكامها الشرعية واألخالقية العامة ،كل ذلك ضمن الواصل الجامع بين الحكمة والدراسة
الممثل في شرط الربانية .لكن التأصيل للموضوع في كليته وصلب حقيقته وماهيته ،وبصفة
أساس وأخص نسبة درجته في الحق ،تأصيل امتداد الحق المنوط تكليفا بالعبد علما مستنبطا
وتعيينا عمليا هو ما لزم إبرازه هنا مما يمثله ويد عليه قوله(:ال يمنعك قضاء قضيته ...إلى
قوله خير من التمادي في الباطل)
فهذا هو المؤطر لقدر الحكم ونسبة القو اإلنساني مهما كان هذا اإلنسان في نفسه أو عند
الناس .إن الحق قديم وبه تم الخلق وقامت السماوات واألرض ،وإن مشكاته هي ذات مشكاة
رساالت الحق وكتبه سبحانه وتعالى إلى خلقه من بني آدم على مسار التاريخ ومساحة وجود
البشر على األرض كما هو في سياق سورة األعراف في قوله عز وجل{:ولقد جئناهم بكتاب
فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون'}(األعراف )51حيث الضمير في (جئناهم) يعود
على بني آدم في األرض ومسار التاريخ جميعا.
وهذا اإلنسان كيفما اعتبر وجب عليه العمل بإمكان الرجوع في قضاء قضاه باألمس ،وهو أمر
يوجبه الحق ويلزمه .فانظر وقاني هللا وإياك إلى ما يؤو إليه استبدا أحكام وأقوا صرف
مذهبية منسوبة إلى رجا من الناس ،وهي أحكام ال تخرج عن أسر شروطها التعيينية
والتحيينية محددة بها كأحكام قانونية ،استبدالها بما هو من المشكاة المجيدة في قانون وتشريع
الخليقة إلى يوم الدين ،بما نز من السماء في الكتاب وتم تبيانه بنبوته صلى هللا عليه وسلم،
توثيق وتحقيق ودراسة ألحمد سحنون -ص -515طبع ونشر وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية -1552 -محمد محجوبي-
8ص245
15
مشكاة قانونا ونورا مجيدا منفتحا ،من لدن حكيم خبير يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون
إلى يوم الدين؛ فماذا بعد الحق إال الضال ..
إن الحق قديم ،وهذا هو المبدأ الثابت والقانون العروة؛ كل قوانين األمر والخلق في الكون مما
موضوعه العلوم تجليات له وتفصيل؛ هو الذي حملنا عليه هذا البناء من علم الحق في هذا
الكتاب ،قانون الكون المشهود وقانون الكتاب قرآنا منزال وتشريعا قانون واحد ،وهذا هو دليل
الحسم في بطالن وباطل األرباب المذاهبية ،المنسوبة والموسومة بأسماء علماء ورجا
صالحين برءاء من هذه المذاهب ،التي لم تنشأ إال من بعدهم كدأب قوم نوح في صالحيهم ،ود
وسواع ويغوث ويعوق ونسر ،وزيغهم عن الحق وضاللهم.
<وقد فارق ابن القاسم الذي رويت عنه المدونة مالكا في حياته وتوطن مصر كما هو مبسوط
في كتب التاريخ ،ويد على ذلك قو سحنون راويها :كنت عند ابن القاسم وأجوبة مالك ترد
عليه ،فقا لي ما يمنعك من السماع منه؟ قلت :قلة الدراهم .وروي عنه أنه قا :قبح هللا الفقر،
أدركنا مالكا وقرأنا على ابن القاسم .وسحنون وصل إلى ابن القاسم سنة ثمان وسبعين ومائة
وهو ابن ثمان عشرة سنة ،وتوفي مالك رضي هللا عنه في ربيع األو سنة تسع وتسعين
9
مائة>.
وكذلك باطل ترسيخ المذهبية تقليدا ،فإنها حجة واهية كما نتلوه في حجة هللا البالغة والقرآن
المجيد{:ولقد آتينا إبراهيم رشده وكنا به عالمين' إذ قا ألبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم
لها عاكفون' قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين'}(األنبياء)55..51
يقو عفيف عبد الفتاح طبارة بخصوص هذا التعليل الباطل:
<كان تعليل هؤالء القوم لعبادتهم األصنام هو أنهم وجدوا آباءهم عابدين لها فاقتدوا بهم.
هذه هي الحجة الواهية التي يبرزها المفسدون في وجوه المصلحين في كل زمان ،وما أوهاها
10
من حجة يعطلون بها عقولهم ويصبحون منقادين لسلفهم كالبهائم>.
وإنه يكفي استدالال بما نز من الحق لمن ابتغى الهدى وتحرى الحق في أحادية ناموس الخلق
واألمر ،حجة داحضة لمن قا وجدنا آباءنا على مذهب فنحن على آثارهم مقتدون ،كما كان
حجة داحضة لمن قا بحوار األديان ،أن نتلو قوله تعالى مؤمنين به:
{أال له الخلق واألمر'}(األعراف)55
محمد بن أبي مدين الشنقيطي :الصوارم واألسنة في الذب عن السنة-ص-52ط1555-2ه1545-م-وزارة األوقاف والشؤون
9اإلسالمية بالمغرب
10مع األنبياء في القرآن الكريم -عفيف عبد الفتاح طبارة-فصل 'إبراهيم وعبادة األصنام'-ص-101ط-14دار العلم للماليين -بيروت
16
{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى
وعيسى أن أقيموا الدين وال تتفرقوا فيه'}(الشورى)11
وهذا قوله سبحانه وتعالى أتى على الذي أحسن بيانا في وحدة ناموس الطبيعة والشريعة:
{إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش' يدبر األمر'
ما من شفيع إال من بعد إذنه' ذلكم هللا ربكم' فاعبدوه' أفال تذكرون'}(يونس)5
وقوله سبحانه:
{ألمر' تلك آيات الكتاب' والذي أنز إليك من ربك الحق' ولكن أكثر الناس ال يؤمنون' هللا الذي
رفع السماوات بغير عمد' ترونها' ثم استوى على العرش' وسخر الشمس والقمر' كل يجري
ألجل مسمى' يدبر األمر' يفصل اآليات لعلكم بلقاء ربكم توقنون'}(الرعد.)2-1
وكذلك على هذه الحقيقة السابقة للحقائق أمرا مسلما بها واآلية العلمية معلم الحق في العلوم
كلها تم على بصيرة وبرهان من الحق دحض المعنى الخاطئ للربوبية في مقولة التقسيم
الجائرة الفاصلة بغير الحق فصال غير جائز للربوبية عن األلوهية.11
وإيجاز التذكرة بهذه الحقيقة المنتظمة ألمر الخلق والتشريع ،قانونا واحدا نصا وإحالة ،نذارة
بالغة ،هذا قو هللا تعالى فيه لمن ألقى السمع وهو شهيد:
{حم' تنزيل الكتاب من هللا العزيز الحكيم' ما خلقنا السماوات واألرض وما بينهما إال بالحق
وأجل مسمى' والذين كفروا عما أنذروا معرضون'}(األحقاف)2-1
{وبالحق أنزلناه' وبالحق نز '}(اإلسراء)105
بناء عليه لو سعينا في تمثيل ووضع قضية المذاهب الفقهية المضلة أهلها على حذو من قبلهم،
فرقوا دينهم وكانوا شيعا ،موضعها على نسبة الحق والصراط المستقيم ،فأمره جلي ساطع
برهانه وحاسم دليله من خال العالقة التأصيلية لهذا االرتباط واألحادية القانونية الممثلة كما
يلي:
17
قانون الوجود
-الحق-
من هنا يتبين لنا أن عمل الفقيه هو الدراسة وبذ الجهد في تحديد تقاطع القانون مع المجا
التواجدي .وجلي أن الطبيعة مجا عمل العالم الطبيعي والتواجد الحياتي ونوازله إذا لم يكن
فيها حكم أصل ،فهذا من عمل ووظيفة الفقيه والعالم الرباني ،العالم باألصو والمستنبط
المحقق بالحكمة .وهذا التعريف أدق تحديدا وانطباقا لغيره من التعاريف التي ال تخرج عن
تعريف الفارابي رحمه هللا تعالى كون <صناعة الفقه – هي التي بها يقتدر اإلنسان على أن
يستنبط تقدير شيء مما لم يصرح واضع الشريعة بتحديده على األشياء التي صرح فيها
بالتحديد والتقدير ،وأن يتحرى حسب غرض واضع الشريعة بالعلة التي شرعها في األمة لها
شرع> 12وكما قا ابن خلدون رحمه هللا تعالى< :الفقه معرفة أحكام هللا تعالى في أفعا
المكلفين بالوجوب والجذر والندب والكراهة واإلباحة .وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصه
13
الشارع لمعرفتها من األدلة ،فإذا استخرجت األحكام من تلك األدلة قيل لها فقه>
هذا وإذا كان للعالم وللعلم فضل عظيم ومزية تفضل كل المزايا مما جاء تقريره وعلمه في
حديث رسو هللا صلى هللا عليه وسلم:
((من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك هللا به طريقا من طرق الجنة .وإن المالئكة لتضع
أجنحتها رضى لطالب العلم .وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في األرض والحيتان
12أبو نصر الفارابي :إحصاء العلوم -ص -15قدم له وشرحه وبوبه الدكتور علي بوم لحم -دار ومكتبة الهال -ط1551-1
13نفس المصدر -أسفل نفس ص.
18
في جوف الماء ،وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب .وإن
العلماء ورثة األنبياء ،وإن األنبياء لم يورثوا دينارا وال درهما ،وإنما ورثوا العلم ،فمن أخذه
14
أخذ بحظ وافر))
وعن أبي أمامة الباهلي رضي هللا عنه قا :
((ذكر لرسو هللا صلى هللا عليه وسلم رجالن أحدهما عابد واآلخر عالم ،فقا رسو هللا
صلى هللا عليه وسلم:
فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم .ثم قا رسو هللا صلى هللا عليه وسلم:
إن هللا ومالئكته وأهل السماوات واألرض حتى النملة في جحرها ،وحتى الحوت ،ليصلون
15
على معلم الناس الخير))
فلئن كان هذا الفضل العظيم والدرجة العليا ما صح به الخبر فضال للعالم عما سواه ،موثوقا
بأصدق تقييم وأحق معيار ،فشأن الفقيه والرباني أعظم ،ألنه واسطة الوصل بين التنزيل
المجيد والنواز المحدثة المستجدة المنفتحة اإلمكان؛ هو المترجم ،وهو القارئ القانوني لقانون
الكون وظواهر الطبيعة ،ومعادالته المتجلية وكتاباتها ،وفقهها العلمي والتصوري؛ القارئ لهذا
القانون في مجا حياة واجتماع اإلنسان ،وسياسته ومؤسساته اإلدارية واالجتماعية وغيرها.
وإن هذا التحديد والتمييز الفقهي العلمي مستلزم وموجب التسطير عليه تذكرة علمية مقررة،
حقيقة وقوال مبدئيا ،مؤصال ومبنيا عليه ما يليه وما بعده من األقوا واألحكام ،ونسج الحقائق
والفكر والمقو ،في التقرير المثبت البن حجر العسقالني والبخاري وابن عباس في الفصل
بين العالم والفقيه أو بين الحافظ والرباني بيانا نتلوه في قوله تعالى{:ولكن كونوا ربانيين بما
كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون'}(آ عمران.)41
فيستنبط إذا بكفل استيفاء البصيرة والبينة في العلم أن القوة القارئية ،بله التشريعية ،المالئمة
والالزمة لمجا تعاصري وباألحرى لقرن أو قرنين أو ما يزيد ،ال يسطيعها إنسان وال أي
مخلوق كان ،ألن شرط مجد السريان ال يكفله إال مطلق العلم ،مما ليس يختص به غير هللا
سبحانه وتعالى وسع علمه السماوات واألرض ،وهو الحكيم الخبير .وبناء عليه فحقيقة وشأن
هؤالء الرجا والصالحين من األئمة والعلماء ،اإلمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي
حنيفة وغيرهم ،ال يعدو وال ينبغي له أن يجاوز سقف الوظيفة وشرف الفضل الذي كتبه هللا
14عن أبي الدرداء رضي هللا عنه :أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارمي -باب العلم من األبواب المنتخبة
15رواه الترمذي
19
تعالى العزيز الحكيم لذرى ورثة األنبياء وأعلم أهل األرض المثبت في حديث رسو هللا صلى
16
هللا عليه وسلم((:إن هللا يبعث لهذه األمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها))
هذه الحقيقة والقانون الحق ال ريب فيه ،هو الذي يفسر ذلكم المسار والصعود العلمي والفقهي
البن تيمية في معراج قانون الكتاب والشريعة كما يقو الدكتور محمد يوسف موسى في مؤلفه
(ابن تيمية) من سلسلة (أعالم العرب):
< ..وكان من الطبيعي أن يكون ترتيب آرائه وفتاويه على هذا النحو ،فقد كان أو أمره حنبليا
كما عرفنا ،ومن تم كان يتقيد غالبا بمذهب إمامه بعد بحث واقتناع بأدلته .ثم انتقل به الزمن
والبحث خطوة أخرى ،فطوف في محيط المذاهب المعروفة ،وحلق في سماواتها ،فكان يفتي
بما يراه الحق غير متقيد بمذهب واحد منها ،وإن كانت فتاواه في هذه الحقبة ال تخرج عن
دائرتها جميعا.
وحين صارت دراساته عميقة كل العمق ،واستحصد عقله تفكيره ،كانت له اجتهادات بعقله في
17
دائرة النصوص ومقاصد الشريعة العامة ،خالف فيها المذاهب جميعا>. .
بل وإننا هنا نهيب بأولي البصائر والراسخين في العلم الذين ال يخافون في هللا لومة الئم
وما كان لهم أن تأخذهم العزة بما وجدوا عليه قومهم من هذه المذاهب ،نهيب بهم ونستنهضهم
إن هم رأوا شيئا مما أخذ هللا عليهم الميثاق بتبيانه للناس وعدم كتمانه ،من كون أو صيحة
بالحق صادعة بأمره كانت هي كلمة ما أمسى بعد حين من اختالط الحق بباطل البيان ،يسمى
ويوصد عليه بهذا الحصر والوصف بالمذهب الظاهري ،الذي < أو من نشر مبادئه في
األندلس وعرف به أهله هو عبد هللا بن محمد بن قاسم بن هال المتوفى سنة 242ه115 -م،
وكان من أوائل الظاهريين عامة؛ كان في بدايته مالكيا ،لكنه رحل إلى المشرق وتتلمذ على
صاحب المذهب داود الظاهري ،ونسخ كتبه بخطه ،وأقبل إلى األندلس ،وكان يجمع بين
المذهبين الشافعي والظاهري ،غير أنه في نهاية المطاف انقطع إلى المذهب الظاهري فاجتهد
في نشره.
وإذا كان عبد هللا لم يؤثر بشكل واضح في نشر المذهب الظاهري -ألن هذا المذهب لم يظهر
بوضوح إال في القرن الثالث الهجري -فإن الفقيه الشهير القاضي منذر بن سعيد البلوطي يعتبر
18
المدافع الحقيقي عن المذهب الظاهري في األندلس)
20
وجاء على حاشية النص والقو ما هو أجدر بالتنصيص عليه أكثر من غيره حكمة للبيان
والمقصد والغاية في استجالء الصورة:
<هو منذر بن سعيد بن عبد هللا بن عبد الرحمان البلوطي( ...)511 -111( )555-242رحل
إلى المشرق ودرس على شيوخه :فقد سمع بمكة من محمد بن المنذر النيسابوري ،وروى
بمصر عن أبي العباس بن والد ،كما روى عن أبي جعفر النحاس(راجع :المقري في
النفح .)221\2:وعندما عاد إلى بلده أنكر تقليد المالكيين ،واجتهد في إذاعة مبدإ دراسة
األصو بحرية (وهو الذي قا به داود)..
يقو سعيد بن منذر البلوطي رحمه هللا (معيبا على المالكية تقليدهم األعمى لإلمام مالك
وتابعيه ما يلي:
طلبت دليال -هكذا قا مالك عذيري من قوم يقولون -كلما
وقد ال تخفى عليه المسالك فإن عدت قالوا :هكذا قا أشهب
فإن زدت قالوا :قا سحنون ومثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك
فإن قلت :قا هللا ،ضجوا وأكثروا وقالوا جميعا :أنت قرن ماحك
19
) أتت مالك في ترك ذاك المسالك وإن قلت :قا الرسو ،فقولهم
وإذا تبين أن األمر هاهنا مرده السعة العلمية ،وجاء ذلك يؤكده القرآن العظيم بقوة حتى ال تز
األهواء بأصحابها ،وفيمن قبلنا العبرة والمثالت ،جاء حكما ثابتا وأصال للمعرفة والعلم كال
ومطلقا ،حيث أتى دليال في اختصاص هللا تعالى الذي يعلم والناس ال يعلمون ،اختصاصه
سبحانه بالتشريع:
{وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنز هللا قالوا نتبع ما ألفينا عليه آباءنا' أو لو كان آباؤهم ال يعقلون شيئا
وال يهتدون'}(البقرة )115
{وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنز هللا وإلى الرسو قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا' أو لو كان
آباؤهم ال يعلمون شيئا وال يهتدون'}(المائدة )105
{كتب عليكم القتا وهو كره لكم' وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم' وعسى أن تحبوا شيئا
وهو شر لكم' وهللا يعلم' وأنتم ال تعلمون'}(البقرة )214
إذا تبين هذا حكما صريحا بنصه ،فإن ما يستنبط فقها من آيات القرآن الحكيم من سورة الكهف
في شأن قصة موسى عليه السالم مع الرجل الصالح ،ينطبق به دليل األقصى واألحرى لمن
رضي باهلل ربا وبمحمد رسوال ،ولم يغش قلبه وتعم بصيرته المذهبية المفرقة للدين ،التي هي
21
في حقيقتها حذو ما حذا من قبلنا من اتخاذ العلماء واألحبار أربابا من دون هللا وإن اختلفت
أسماء مكونات هذه الحقيقة وصيغتها.
فدعوة داود (الظاهري) إذا هي دعوة للحق في فقه الشريعة اإلسالمية ودين هللا الحق ،ليس
يصح أن تعتبر هذا االعتبار المغرض كونها مذهبا على غرار ومعنى ما يسمى بالمذاهب
الفقهية ،مع تقرير الحكم ببطالن وضال ابن حزم المجزوم به في رده للقياس < :نجده ينطلق
في (كتابه األحكام) في الرد على القائلين بالقياس من قو <ال إله إال هللا> أي أن هللا واحد وال
معبود غيره ،بعث رسوله صلى هللا عليه وسلم إلى الجن واإلنس من أجل التوحيد الذي ينبني
عليه اإلسالم .وقبل نزو الشرائع كان كل شيء مباحا ،وبعدها أتى تعالى باألوامر والنواهي،
فما أمر به فهو واجب ،وما نهى عنه فهو حرام ،وما لم يأمر به وال نهى عنه فهو مباح مطلق
حال كما كان .هذا أمر معروف بفطرة العقو من كل أحد ،ففي ماذا يحتاج إلى القياس أو إلى
الرأي؟>
ثم يضيف:
<أليس من أقر بما ذكرنا ،ثم أوجب ما ال نص بإيجابه ،أو حرم ما ال نص بالنهي عنه ،قد
20
شرع في الدين ما لم يأذن به هللا تعالى؟ وقا ما ال يحل القو به؟>
ال جدا في تعصب ابن حزم هنا لحكم خاطئ جلي خطؤه يرده صريح القرآن وما ال يقوم
التشريع به للبيئة التكليفية المنفتحة والمتسعة إال به ،فالخطاب القرآني مجيد واالعتبار
واالستنباط من الكتاب والسنة شريعة ذلك وطريقه ،ومنواله وسبيله الذي به يحصل تنزيله
وتحقيقه .وال جدا كذلك أن رد أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي على ابن حزم كان فيه
البيان األوفى واألبلج.
ولنعد إلى ما قاله الشوكاني رحمه وإلى إنكاره ،ولنتدبر كالمه جيدا ،وإنه الحق ال ريب لمن
أراد أن يذكر وأسلم وجهه هلل رب العالمين ،ال لوالءات ضيقة محدودة وإن تلبست كما هو دأب
الباطل وتلبيس إبليس ،ولو تلبست بالحق وبمسمى المذهب الفقهي:
< ...فهل تزعمون أن رسو هللا صلى هللا عليه وآله وسلم قا عليكم بسنة أبي حنيفة ومالك
والشافعي وابن حنبل حتى يتم لكم ما تريدون؟>..
عن مالك بن أنس رحمه هللا أنه قا :
<إنما أنا بشر أخطئ وأصيب ،فانظروا في رأيي ،فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه ،وكل ما
21
لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه>
22
وعن الشافعي رحمه هللا قوله:
<كل مسألة يصح فيها الخبر عن رسو هللا صلى هللا عليه وسلم عند أهل النقل بخالف ما قلت
22
فأنا راجع عنها في حياتي ومماتي>
يقو القاضي محمد سويد جزاه هللا تعالى عن المسلمين خير الجزاء في كتابه (المذاهب
اإلسالمية الخمسة والمذهب الموحد):
<ولست أنكر أو أتنكر لسادتنا األئمة ،ولكنهم هم الذين سينكرونني وينكرونك لو قدر لهم أن
يعودوا أحياء إلينا ،وهم الذين سيقولون لك ولي :أردنا لكم الهداية وأردتم الضال .فتحنا لكم
23
األبواب فأقفلتموها .لم نقل لكم بالمذهبية ولم نقل لكم اجعلوها دينكم>.
والحق إنهم جعلوها دينا ،كل مذهب هو في الواقع والحقيقة دين مهما سموا الحقائق وواقع بغير
صفته وحقيقته ،فهم بدلوا من بعد رسو هللا صلى هللا عليه وسلم ،وفرقوا دينهم وكانوا شيعا،
أي فرقا ومذاهب ،وهذا صنيع وسبيل ما أضل به الشيطان من قبلهم من األمم .يقو محمد بن
أبي مدين الشنقيطي في كتابه القيم 'الصوارم واألسنة في الذب عن السنة':
<وفي الرد على من أخلد إلى األرض وجهل أن االجتهاد في كل عصر فرض للسيوطي ما
نصه :قا ابن حزم :ويكفي في إبطا التقليد أن القائلين به مقرون على أنفسهم بالباطل ألن كل
طائفة من الحنفية والمالكية والشافعية مقرة بأن التقليد ال يحل ،وأئمتهم الثالثة قد نهوا عن
تقليدهم ثم مع ذلك خالفوهم وقلدوهم وهذا عجب ما مثله عجب حيث أقروا ببطالن التقليد ثم
24
دانوا هللا به .ا ه المراد منه بلفظه>
وهذا والعياذ باهلل السميع العليم ،هذا ما يرى بواحا في هذه المذاهب التي فرق أصحابها الدين
الذي بعث به محمد صلى هللا عليه وسلم دينا قيما وجعلوه شيعا ،فينشئون األطفا والنشء وهم
برءاء ال يعلمون ما يفعل بهم هؤالء الرهط ،ينشئونهم على دين مذهب اإلمام الذي للحوزة
وللقطر ،وما هو بدين هللا الحق يقينا.
<وفي الجزء الثاني من زاد المعاد البن قيم الجوزية في فصل ألفاظ كان صلى هللا عليه وسلم
يكره أن تقا ،ما نصه :ومنها الدعاء بدعوى الجاهلية والتعزي بعزائهم كالدعاء إلى القبائل
21الرسائل السلفية ،انظر مفهوم الحكمة والمنهاج في الجزء األو من تذكرة العلماء في الربانية والمنهاج
22نفس المرجع
المذاهب اإلسالمية الخمسة والمذهب الموحد :القاضي محمد سويد -العبادات والمعامالت في أدق تفاصيلها عند المذاهب الخمسة-
23دار التقريب بين المذاهب اإلسالمية -بيروت -لبنان -ط -1554 -2ص504
الصوارم واألسنة في الذب عن السنة :محمد بن أبي مدين الشنقيطي -ص-115ط-2طبع وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية
24بالمغرب
23
والعصبية لها ولألنساب ،ومثله التعصب للمذاهب والطرائق والمشايخ وتفضيل بعضها على
بعض بالهوى والعصبية وكونه منتسبا إليه فيدعو إلى ذلك ويوالي ويعادي عليه ويزن الناس به
25
كل هذا من دعوى الجاهلية.ا ه المراد منه بلفظه>
إن الحق قديم وإن هللا سبحانه نور السماوات واألرض ،ال إله إال هو الحي القيوم .فالفقه
موصو أبدا بالحق ،وبالحق تكون الحياة ،وبه يكون ويتحقق قوام الكينونة والسيرورة الحقة
والقوية في الوجود وفي التاريخ .بل إن هؤالء ينقضون القرآن كونه مباركا ،والمبارك والمجيد
خاصتان متسايرتان في الحق .هكذا يأتي تفسير اقتران الموات التاريخي بكبت الفقه وحصره
أن ينطلق ويسير كما هو الحق منفتحا مجيدا ال يحده من أمر الوجود شيء .وإنما يحصر الفقه
ويضيق على الحق من أجل المذاهب وركودها الفقهي ،قربانا للعالقة العضوية بالعصبة
السياسية والحزبية ،ومصلحة الذات الحاكمة والمستبدة.
وإن من أهم مقوالت محمد الغزالي رحمه هللا كون االستبداد السياسي منتجا للشلل الفكري
والعقلي .ها هنا موقع ومعنى المقولتين الجامعتين في قاموس التاريخ الفكري والسياسي ،مقولة
(روح القوانين) ومقولة (عدو الشعب)؛ ذلك أنه من جهة وجانب مكون المسؤولية وعنصره
الجوهري في قيام وكينونة االجتماعي كبناء ،وكذا من جهة وجوب ولزوم درء أي علة قد
تسبب االختال لهذا النظام والبناء ،وقد تأتي عليه من قواعده وتؤدي بتراكم متوالي إلى تخلفه
وانحطاطه؛ من أجل هذا كله فإن الوصل البياني والبنيوي بحديث السفينة حق وثابت؛ فإنه لو
ترك هذا الرهط من المفسدين في األرض والتاريخ ،لو تركوا وشأنهم لوقع المحذور ،ولحل
الهالك والتخلف والهوان باألمة جميعا ،وإن يكاد الحا والواقع يا للحسرة يكون هو حا األمة
اليوم .اليوم األمة مستباحة طوال وعرضا من شرقها إلى مغربها ،يقتل وينكل برجالها،
ويستحيى مغتصبات نساؤها على هو مريع أشد من رعب القاصفات والزالز ،ينوء كالكل
رعبها شيوخا ونساء وأطفاال رضعا؛ والراسخون في العلم أولو التأويل للحقائق ال يقصرون
الفاعل الحقيقي لذا الدمار والهالك حزب الشيطان أعداء هللا ورسوله اليهود والصليبيين ،الذين
يعلمهم كل مؤمن ال زا له من نور الحق قبس يبصر به؛ ولكن السبب كل السبب فيمن أغرى
باألمة أعداءها وغدا بعد أمة من الدهر طابورا خامسا عدوا للشعب وإن ادعى ما ادعى هو
وسدنته ،مفكرو الوظيفية األرضية البحتة والنفعية ،الذين ال يعرفون منطقا للوجود وال يفقهون
له وجودا؛ ولكنها أكبر المفارقات حين يرون حقيقة أنفسهم امتدادا للوجود المطلق ،ويعلمون
أنهم كانوا أجهل الكائنات بالكون وأبعدها عن المعرفة والعلم الحق .إن روح االستبداد هي
25نفس المصدر-ص151
24
العدو ،آثر ويؤثر الحفاظ على نفسه ولو على حساب السير التاريخي ألمة بأكملها ،يختز
عقلها في عقله وروح نظامه ،فتعطل روح اإلبداع والخلق ،الذي ال مندوحة عنه في السير قدما
على قوة التاريخ واألمم ودار الحرب في الحرب والسالم؛ فإن عدوك الحقيقي هو من جردك
من سالحك فجعلك مؤخرة األمم في الصناعة وفي طاقة وقدرة الذود عن حياض وبيضة
اإلسالم ،فترك الما والعرض والدين والعقل والمسلمين جميعا شيئا مكشوفا مستباحا للكفار؛
فبربك أي صفة شرعية باقية لهؤالء؟ وال يدافع عنهم إال عدو للحق أو جاهل أراه غباؤه قوال
ما يقو ومداهنته لعين الباطل حكمة ودعوة بمقصدها بالتي هي أحسن؛ وإن أو ما يسري
وينطلي عليه الدجل هؤالء المسمون علماء ذوو األلقاب ،المفتقدون لنور القلب وشعلة العقل
المعبر عنه في القرآن بالفؤاد.
في هذه العالقة وارتباط االقتطاع السيادي ووأد وحصر العقل الفقهي باالستبداد السياسي يقو
األستاذ محمد محجوبي:
<ويمكن إجما األسباب الداعية إلى ظاهرة التقليد فيما يلي:
أوال ضعف السلطان السياسي للخلفاء العباسيين ،فلم تعد دولتهم في وحدتها ومجدها كما كانت
من قبل ،وإنما انقطعت أجزاؤها وقامت في أنحائها دويالت ،مما أثر في حياة الفقه والفقهاء.
ففي هذا العصر انقطعت الروابط السياسية بين أقاليم االمبراطورية اإلسالمية .ففي األندلس
استقلت الدولة األموية عن الخالفة اإلسالمية ،فأطلق عبد الرحمان الناصر على نفسه لقب
''أمير المؤمنين'' بعدما أحس بضعف الدولة العباسية؛ وفي تونس أسس الشيعة اإلسماعيلية
دولتهم ''الفاطمية'' بزعامة عبيد هللا المهدي الفاطمي ،الذي لقب هو اآلخر بأمير المؤمنين؛
وفي مصر ظهر محمد اإلخشيد؛ وبالموصل وحلب ظهر بنو حمدان؛ وباليمن ازدهر المذهب
الشيعي الزيدي؛ أما في بغداد فإن دولة الديلم ،المعروفة بدولة بني بويه ،فكانت هي صاحبة
األمر والنهي ،أما بنو العباس فلم يبق لهم من الدولة إال مجرد اإلسم؛ وفي شرق العراق وجدت
الدولة الساسانية؛ وهكذا في باقي األقاليم .ومع ذلك ،فلم يأفل نجم العلماء كما أفل نجم
السياسيين ،إال أن ضعف حرية التعبير كان له األثر الواضح على كبت قرائح العلماء عامة
26
والفقهاء خاصة؛ فأجبروا على تقليد المذهب السائد في إقليمهم>
وهاهنا يبرز ويظهر بشكل واضح واقع اختال التوازن ،التوازن واالنتظام الحق لالجتماع
التاريخي سيرورة تواجدية واستخالفا ،بعلة وعامل غلبة التكتل األرضي الذي غدا بسنن
االجتماع الفاعل والمؤثر والموجه ،وأصبحت الحقيقة الشرعية والفقهية تابعة محض تابعة؛
25
فكيف والحا هاته أن يكون المكون الشرعي والفقهي متوافقا مع طبيعة ووجوب سريانه
وانفتاحه انفتاح هيمنة الحق الذي به قيومية الكون ونور السماوات واألرض وما فيهن،
والتاريخ الكوني ،واالجتماع اإلنساني على وجه التخصيص؟
لقد أولى المسلمون وببداهة الحق اهتماما عظيما بالجانب المعرفي والعلمي توافقا مع كونه
قوام كل شيء في بيئتهم الكونية ،تحقيقا حثيثا لشروط االستخالف على هدي الناموس والميزان
الذي به الخلق واألمر؛ فقد تم منذ أو عصر التصنيف والتدوين القيام بأعما التدبر
واالستقراء والتقعيد وغيرها من وسائل وآليات النهج المعرفي؛ فتم على هذا المنوا حصو
كم كاف وغزير من التعريفات والتقعيدات المؤسسة لنشأة صرح عظيم في مسار المعرفة
والعلم اإلنساني ،وعلى صلة أقرب وثوقا بالمصادر العليا لمعايير العقل والعلم اإلنسانيين،
نظام متكامل مما موضوعه الفقه في أصوله وأحكامه وضوابط اجتهاده وربانيته على مطلق
الشروط اإلنسانية ،له امتداد حق في تجديد المنهاج اإلنساني العلمي ،ونقله بأمر ربه من
التفكير المجرد إلى المنهاج التجريبي ،بارزة آياته في تاريخ العلم وأعالمه الكبار األجالء
جزاهم هللا خير الجزاء وتجاوز عن سيآتهم ،إنه سبحانه ولي ذلك وقادر عليه ،فله الحمد في
األولى واآلخرة ،وهو الغفور الرحيم.
وليس عجبا أن يقترن هذا اإلبداع التحديدي والقواعدي ،واإلنشاء التعييني لألحكام والحقائق
المميزة في الحقل الفقهي والتشريعي باإلنشاء واإلبداع العلمي في شتى حقو الخلق الطبيعي،
في الطب والفلك والفيزياء وفي علوم الطبيعة ،بكل ما ينجلي من مستوياتها ويظهر من هيآتها؛
فكل اإلنراء واإلبداع أمر واحد وحقيقة واحدة ،حقيقة الصعود في مدارج الناموس وسلم
الحق .فالفقيه أو اإلبدانية والتحري واالجتهاد الفقهي الحق والموزون ،واإلبدانية
الرياضية كما نظرنا في ذلك وبيناه من خالل النظريات المعيارية في إنرائها الخلقي نلى
سلم الصعود في القوانين التي ترد إليه الظواهر الطبيعية الفيزيائية ،هما من جهة البعد
القانوني أمر واحد وحقيقة واحدة.
ولن نكون أبعد عن التأطير لقيمة هذا اإلنتاج الفقهي والعلمي لإلنسانية بالعقل اإلسالمي
والديني المحض ،الذي بحق كان اإلضافة الالزمة للتمهيد للتفكير والنهج التطبيقي أساس
الطفرة الحديثة والمعاصرة في تكنولوجيا الحضارة ،لن نكون أبعد عن التأطير من جانب
المعيار التقييمي إذا ما أولينا االعتبار حقيقته ،اعتبار جوار وحقل الرسالة والذكر المنز من
السماء ووهجها نورها المحرر للتفكير اإلنساني من إصر وتبعية التكتالت األرضية ،عصبية
كانت أو سياسية أو استبدادية؛ بهذا الشرط وقوة االجتماع وتحرر العقل اإلنساني ،فطرة هللا
26
التي فطر الخلق والتفكير عليها ،بلغت اإلنسانية في هذا الطور اإلسالمي شأوا عظيما .وإنها
لحقيقة أعظم وأكبر من أن يعتم عليها .ومؤخرا أحدث كتاب المؤرخ سيلفان غوغنهايم الذي
أنكر إسهام التاريخ والفكر اإلسالمي في مسار العقل والعلم اإلنسانيين ،أحدث ضجة مدوية،
وردة فعل ثائرة مستنكرة ،ال من مفكرينا وكتابنا الذين بات عندهم صهوة الشهرة عين اإلنكار
واالنسالخ من الحقيقة والهوية ،ولكن من متحرري وحقيقي العلمية من مؤرخي وأساتذة
جامعات وجمعيات من مختلف بلدان أوروبا ومعاهدها ،فكل أوالء النفر من أحرار اإلنسانية
يشهدون بمرور نسق العلم اإلنساني وعقله إلى الطور الحضاري الغربي وهجا بعديا للطور
اإلسالمي ،والعطاء الكبير لعلمائه ومفكريه وفالسفته ،حامال للنتاج اليوناني باقتدار عقلي
جدير بالتقدير والتنويه.
شاهدنا من هذا كله هو التأطير ،وتحديد حركة العقل الفقهي وتواجده بدرجته الصحيحة وقدره
الحق والصحيح؛ فالشريعة والتنزيل وتعيين األحكام الفقهية وقيمها ،ذلك يعلو درجة األشخاص
واألزمنة العمرية لهذا الجيل ،وهذا العالم وذاك .إنما درجة الفقه والتشريع هي درجة وقوة
هيمنة الحق قانونا ليس لإلنسان فحسب ولطور محصور من األطوار ،بل للكون كله جميعا،
ليس يخرج من هيمنته حين أو حا من أحيان وأحوا الخلق ،كل في كتاب .فالفقه والحدس
العلمي الطبيعي أبدا موصو بفقه قوله تعالى:
{أال له الخلق واألمر' تبارك هللا رب العالمين'}(األعراف)55
وإن لمسنا استحسان قو بالحق مبين ،فنقو بأن هذه اآلية العظيمة من حيث الضبط الظاهر
المحدد لبيانها ،جامعة ألمور عظيمة وحقائق ثالثة ،نورا ومبادئ ألي تفكر (فلسفة) يربأ بنفسه
عن االنحصار في كبرياء الزيف وفي هذه الضآلة واألفق المحدود للتفكر اإلنساني مصدرا
للحقائق المبدئية:
أولها االختصاص في الخلق واألمر المستنبط منه الوحدة القانونية.
ثانيها مكون الربوبية لكل الكون والخلق داللة وفاقا بالحق لشأن المبدإ األو .
ثالثها المجد لشأنه تعالى الخالق العليم.
هكذا إذن يتبين لنا أن أي عطل أو إخال بالتوازن سيحو دون السريان ويحصر إعما الحق
في المجا التواجدي ويحو دون االمتداد الطبيعي لنور الحق والتشريع المساير؛ ويبدأ عصر
الموات القانوني في االجتماع والعمران ،ويحل التقليد والجمود؛ وبهذا الصدد يقو محمد
محجوبي:
27
<يبدأ هذا العصر من حوالي منتصف القرن الرابع الهجري إلى بداية القرن العشرين .ولم يبق
الفقه على حالته وإنما اعتراه الضعف والركود شيئا فشيئا .فأفتى العلماء بسد باب االجتهاد
27
ودعوا إلى تقليد فقهاء المذاهب وعدم التحو عنها>
هذا الجمود التقليداني وإبدا المجا الفقهي المطلق للحق بالمذهبية التي مهما كانت فمجالها
محدود الستنادها لمرجع وعقل بشري محدود ،هو في الحقيقة تجلي واضح لموات الحركة
الفقهية الصحيحة ،ألن الفقه هو مطابقة الحق ،والحق ال انحسار له .ولألسف تم تحييد المعنى
الصحيح للفقه وللفقيه ،وعلى أثره السيئ ومقتضاه اختفت الحقيقة العلمية وحاق بوارها وتم
إعدام األثر العلمي ،ذلك أن األصو وعلمها إنما هو بغاية توظيفها الفقهي كأطراف أولى
وأولية ،كأصو تحديدية لمسالك وخطوط الحق ومنحاه على غرار تحديد مناحي وخطوط
المجاالت الفيزيائية.
لقد أمسى الفقه ممثال باألشخاص ،ومساره الذي يستوجب أن يكون حقال اتساعيا مستمرا
ومتصال من الحقائق والقيم والتحديدات العلمية ،مختزال في طبقات العلماء المذهبية؛ كل
مذهب بطبقاته ،مما هو على أشد الصور مخالفة ألخص ما به الحق عما سواه من الباطل
واألرباب المتعددين يتحدد ،خاصة عدم االختالف .والحق واحد ،والحق ال يحده شيء.
وسبحان هللا رب العالمين.
إن هللا بالغ أمره و هو العزيز الحكيم ،مهما كانت المقاومة السلبية ألهل الكفر وكوابح المذاهب
المتخذة أربابا آلهة من دون هللا بصبغتها التقليدانية التي ال تنبغي للحق ،فاهلل واسع عليم متم
نوره ،وبالغ الدين إنما تحققه المجلي لحقيقته هو من ذات بالغه وبيانه .فهاهنا موقع الخبر
ونبإ العلم الحق الذي تلونا آنفا الذي مفاده أن هللا سبحانه وتعالى يبعث لهذه األمة على رأس كل
مائة سنة من يجدد لها دينها.28
بعث لنور الفقه والعلم الرباني الحصيف ،واستمرارية لظهور علماء مجددين ،عرى وحججا
للحق ظاهرة ،تذكرة يجليها هؤالء الشهود من أجلة العلماء الربانيين من شعلة الرعيل األو
من أمثا الشافعي ومالك وأبي حنيفة وابن حنبل ،أوالء الذين اتخذهم الجهلة والمضلون بزعم
االقتداء أربابا ،وما الدين في الحق إال التشريع ،وهذه السلسلة من نور الربانية المجيد امتدت
على مسار القرون جميعا لكل طور علماؤه وأعالمه مثل أبي حامد الغزالي وابن حزم وابن
العربي وابن تيمية وصوال إلى محمد بن علي الشوكاني والكثيرين من زمرة خير البرية من
28
الفقهاء المجددين والعلماء ،إلى طور العاملين في هذا المنوا الحق المنير ،الممثل بحق
بيوسف القرضاوي والسالكين صراط الحق المستقيم من العلماء والدعاة ،وهللا عز وجل على
كل شيء وكيل ،وعنده تعالى خير الجزاء وأحسن الثواب ،وهو سبحانه وتعالى أعلم بالمهتدين.
وفي صلة بهذا التنازع في العقل اإلسالمي ،التنازع األصل والمنهاج الحق وبين ما جبلت عليه
النفوس من التقليد بغض النظر عن الخلفيات بريئة كانت أو غير بريئة لها مصالح معينة
مسطورة ،نسوق هنا نصا تأريخيا قيما:
<علي بن سليمان البجمعاوي نسبة إلى قرية آيت بوجمعة من ربع آيت واودانوست ،قد كان
ناصري الطريقة .كان البجمعاوي المذكور أكبر فقهاء إينولتان في القرن الماضي ،فقد رحل
إلى الشرق وأخذ عن عدد من علمائه ،وكتب عددا من الشروح على مصنفات فقهية
و29حديثية .ووضع سنة1212ه رسالة غريبة في مضمونها ،ووجهها إلى علماء اآلفاق
ومشايخهم وملوكهم ليؤلفوا في عدم تفضيل مذهب (فقهي) أو طريق (صوفية) .وعلل ذلك
بكون كل أهل طريق أو مذهب يزعمون أنهم األهل باألفضلية واألولى بالتقديم على من خالفهم
وباينهم ،فكثرت بذلك دعاويهم ،فلم يدر من كان محقا أو عابثا ،فتفرقت بذلك األقوا وتمزقت
هنالك األحوا حتى أنه وقع من سفهاء تلك المذاهب والطرق السباب بعضهم لبعض .وقد
اقترح على ملوك المسلمين أن يأمروا العلماء بوضع تصانيف غير مطولة في الموضوع .فإن
اتفق أعالم كل مذهب على النهج الذي ينبغي سلوكه ،لكي ال تتعارض المذاهب ،بعثوا بما
كتبوه إلى حضرة من الحضرات كأحد الحرمين الشريفين أو مصر ،حيث يجتمع أولئك األعالم
لتصفح المصنفات قصد اعتماد واحد منها يكون مرجع المسلمين .وقد اقترح البجمعاوي أن يتم
30
ذلك االجتماع بعد مضي أربع سنين على ألف ومائتين واثنين وثمانين>>.
الشاهد لدينا هو دعوة هذا الرجل رحمه هللا تعالى وغفر له ،وإبصاره بباطل التفرق المذهبي،
وإن لم يقف على الحق في بطالن التصوف والصوفية ،وكذلك استغراب الكاتب المؤرخ لهذه
الدعوة ،الدعوة التي لم تكن األولى في موطن هذا الرجل وبيئته العلمية ،وإن اتخذت أشكاال
مختلفة وعلى درجات متباينة ال يستشفها إال التحليل العلمي للفكر التاريخي ،التحليل
الموضوعي والمجرد عن خلفيات المواقف وإصر اإلكراهات االنتمائية واألفكار والدعائم
التكوينية.
29
إن المجا العلمي بصبغته النقدية الفاحصة للنهج الفقهي وآللياته التي تتحكم فيه ،كان ابن حزم
رحمه هللا هو مشكاته وشعلته ومركزه ،وهنا نعني بالضبط الحقل التاريخي والجوار المباشر.
هذا بالذات هو ما جعل التساؤ له أسبابه في مدى تأثير ابن حزم على المهدي بن تومرت الذي
ال مرية قد أبصر بالضال الفقهي المذهبي الملبس لبوس المالكية ،المخالف لصحيح العلم
والفقه ،والذي ليس له كما هو شأن غيره وقبيله بالكتاب والسنة من صلة إال االدعاء والحكم
على المخالف بالضال والزندقة .فابن تومرت أثار قضية المكون البياني األعلى ممثال بقوة
في الصفات ،وخرق المجا المذهبي بتقليديته وجليديته المتكلسة ،وهذا ما يوجب النظر فيمن
يقو بأن ابن تومرت عاش مالكيا ،ذلك أن الحقل والروح التجددية في فقه الدين التي نشأ فيها
هي التي ،بعد جدلية تاريخية ،أنتجت وتمخض عنها شعلة التجديد الفقهي في عهد يعقوب
المنصور الموحدي حفيد عبد المؤمن بن علي الكومي خليفة المهدي بن تومرت ،الذي يقو
بشأنه أحد الذين كتبوا عن الدعوة الموحدية بالمغرب ،األستاذ عبد هللا علي عالم:
< يعقوب المنصور يأخذ بالمذهب الموحدي:
لم يظهر إعجاب الموحدين بالحزمية في عهد المهدي بن تومرت ،الذي عاش مالكيا ومات
مالكيا ،كما لم يظهر هذا اإلعجاب في عهد عبد المؤمن بن علي خليفة المهدي ،إذ كان ابن
حزم أشد علماء المسلمين كراهية للمهدوية والعصمة واإلمامة ،ألنه اعتبر هذه المبادئ
متسربة إلى المسلمين من عقائد اليهود والنصارى كما قلنا.
فلما كان عهد الخليفة الثالث يعقوب المنصور ،ذلك الخليفة المتحرر؛ الذي كان أو خليفة
موحدي سخر بالمهدوية ومبادئها على نحو ما سخر منها ابن حزم تماما ،وجدت الحزمية
طريقها إلى المغرب الموحدي ،إذ اشتدت محاربة يعقوب المنصور لمذهب مالك 31ال كراهية
آلثار المرابطين ،بل رغبة صادقة في نشر المذهب الحزمي الظاهري.
ويذكر المراكشي أن المنصور اشتد في حملته على العلماء المالكية ،وأمر بإحراق كتب
المذهب بعد أن يؤخذ ما فيها من حديث رسو هللا صلى هللا عليه وسلم ،ومن آيات القرآن
الكريم .وقد أحرق من كتب المالكية أعظمها في أنحاء البالد كمدونة سحنون ،وكتاب ابن
32
يونس ،ونوادر ابن أبي زيد ومختصره ،وكتاب التهذيب للبرادعي ،وواضحة ابن حبيب .
30
ويقو المراكشي :لقد شهدت منها وأنا يومئذ بمدينة فاس ،يؤتى منها (أي من هذه الكتب)
باألحما ،فتوضع ويطلق فيها النار.33
ويزيد المراكشي قائال :وتقدم المنصور إلى الناس في ترك االشتغا بعلم الرأي والخوض في
شيء منه ،وتوعد في ذلك بالعقوبة الشديدة ،وأمر جماعة ممن عنده من العلماء المحدثين بجمع
األحاديث من المصنفات العشرة في الصالة وما يتعلق بها على نحو األحاديث التي جمعها
35 34
محمد بن تومرت في الطهارة >.
إن بالغ ابن حزم التاريخي سيبقى صوتا مدويا حجة للحق على المقلدين الذين ال يلوون على
شيء ،يقولون وجدنا آباءنا على مذهب وأحكام رجل صالح من أئمة المسلمين وعلمائهم فنحن
على مذهبهم عابدون . .وإنما الحق في كل ذلك األصو والدراسة والفقه منفتح إلى كل اآلفاق
إلى يوم الدين ،ومن غير ركون إلى الرأي وال إلى األهواء.
إن هذا الفقه السوي الحكيم ،وهو الشأن العظيم الذي بدوره لم يسلم من كيد اللعين وأعوانه
وأشيائه ولسانه ،هذا الفقه والضبط الصحيح للدين واالتباع والشريعة ،بدوره تعرض ويتعرض
إلى اليوم لمحاولة الحجب والكفر والستر ،بتسميته وجعله مذهبا قسيما للمذاهب أو قل األديان
التي تفرق إليها الدين الحق شيعا ،فسمي بالمذهب الظاهري .وإنما هو الدعوة إلى العودة
والتشريع بالكتاب والسنة المعين الذي ال ينضب والنور المجيد الذي يسع العالمين في اآلفاق
وأطوار االستخالف والعمران إلى يوم الدين ،وهاتان الخاصتان المجد والمباركة ال تنبغيان إال
لنور هللا تعالى.
وإن هذا ليكفل توحيد األمة بنسف المذاهب المفرقة أهلها شيعا .وبمعنى واضح فالحق والحل
لهذا اإلشكا التفرقي هو عين الحل الذي تبناه يعقوب المنصور الموحدي ،ويكون الحل الذي
خلص إليه صاحب كتاب المذاهب اإلسالمية الخمسة والمذهب الموحد ،وهو الحل الظاهر
الذي ينادي به أمناء هذه األمة الناصحين لدينها ،وهو ما دعا إليه كما أشرنا آنفا الفقيه
البوجمعاوي ،يكون هذا الحل متضمنا ومرحلة أولى الزمة .يقو القاضي محمد سويد:
<ال أريد أن أهدم يا أخي بل أريد من المؤتمرات اإلسالمية التي تقام هنا وهناك أن تختار
األفضل من أقوا أئمتنا واألكثر التصاقا بالشريعة ،واألكثر مالءمة للعقل ومقتضيات العصر
31
ثم تقدم مذهبا واحدا جامعا ال مفرقا ،شامخا ال يعلوه شموخ ،ومتينا ال تنا منه ثغرة ،الصقا
باإلسالم ال بالسياسة ،ذلك هو مذهب اإلسالم .ومتى أصبح ذلك حقيقة اطمأنت قلوبنا وهدأت
نفوسنا ورددنا قوله تعالى:
36
{وأن هذه أمتكم أمة واحدة' وأما ربكم فاتقون'}(المؤمنون>)52
ويقو :
<إن الحث على توحيد األمة ذات الرسالة الواحدة واللغة الواحدة واألرض الواحدة والتاريخ
الواحد واآلما واألهداف الواحدة واجب على كل من يهتم بها ويفكر بتطورها إلى األفضل
لتعود كما كانت خير أمة أخرجت للناس .ومن هنا ننطلق القتراح الحلو التي تساهم في توحيد
األمة فنقو :
إن األمر ينحصر في نظرنا في توحيد المحاكم الشرعية وتوحيد دور اإلفتاء بالدرجة األولى
وفي المجالس الشرعية العليا وفي دوائر األوقاف اإلسالمية ما دامت أركانها قائمة على الخير
37
واإلعمار>.
ومن بديهي الحكم وجلي االستنباط أنه لما كان الحق واسعا مجيدا ال يحق فيه الوقف وال ينبغي
له االنحسار ،فاإلشكا الحقيقي أو لنقل من أهمها وأخطرها على وجه الفرض واللزوم بقصد
مسار االستخالف القوي العزيز ،هو إزاحة ونسف كل الحواجز وشتى المقاومات السلبية ،أنى
كان أصلها ومصدرها ،من صرف نظام األمة في خدمة االستبداد أو غيرها من العوامل
المهلكات ،ولو كان وضعها الرسمي أضفي عليه ما يضفى على المقدسات ،ومن جعل الفقه
تابعا للقطرية والتكتالت واألغراض محض أرضية والسياسية في صيغة مذهبية يعلم هللا تعالى
باطلها وزيفها ،ويعلمونه هم كذلك ،ويتخذونها وليجة وشعارات وظيفية لمآرب الطاغوت الذي
هم تمثيالته وتجلياته البشرية ،ولكن أكثر الناس ال يعلمون.
إذا علم هذا ثبت الحكم من غير مرية من أن ما يزعمونه فقها إنما هو محض الوهم ،ألن الفقه
إنما هو حركة المسايرة للحق ،وإذ علم إعدام هذا المجا علم يقينا عدمية أية حركية فيه.
وبقو مبين فالفقه كتحقق للحق تابع أبدا إيجابا وسلبا للسير الطبيعي في التاريخ واالستخالف.
حقيقة معبرة ومكون قد يكفي بسبيل المثل في توضيح الصورة وحقيقة هذا الواقع ،تطالعك
وأنت تقف على أبواب المساجد ملصقات تعلن تأطير مسابقات ودورات مباريات لألطفا ،
32
مخصوصة في فقه اإلمام مالك قصرا دون غيره ،أال إن هذا تلبيس عظيم ..ودعوة باسم الدين
للجاهلية التي نهى عنها اإلسالم وعلى روح مخالفة لما جاء به محمد رسو هللا صلى هللا عليه
وسلم؛ هي دعوة بالمعايير الواضحة للحق هدفها ترسيخ التفرقة خدمة للقطرية السياسية
والتكتالت محض أرضية ودنيوية .ثم إن هذا كما هو الصحيح أن كل مذهب إذا أخذ لوحده
ليس هو اإلسالم قطعا ،وإنما اإلسالم هو كل ما جاء به الشرع جميعا ،وهو من عند هللا العليم
الخبير ،أصله محدد مكمل بالقرآن وسنة محمد األمين رسو هللا صلى هللا عليه وسلم خاتم
النبيئين والرسل ،منفتح إلى يوم الدين بعلم الكتاب والدراسة والربانيين ،ليس منحصرا في قو
رجل من الناس وال رجا من الناس علمهم ال يجاوز أرنبة أنفه؛ وهللا واسع عليم< .قا أبو
العباس تقي الدين بن تيمية في فتاويه ما نصه :جاءني بعض فقهاء الحنفية فقا لي :أستشيرك
في أمر ،فقلت :ما هو؟ قا :أريد أن أنتقل عن مذهبي .قلت له :لم؟ قا :ألني أرى األحاديث
الصحيحة كثيرا تخالفه 38>...وقصة مالك مع الخليفة العباسي بشأن الموطإ مشهورة.
ولئن ثبت أن ليس كل ما يصح يستد به وليس كل ما تصدره الخصوم كاذبا فال يؤخذ به ،فإنه
بخصوص هذه النقاط الثالثة ،دالئل الضال البعيد للمذهبية ،التي أوالها االختالف ،ألن الفقه
والتشريع لنفس األمة الواحدة هو امتداد لسريان الحق الذي ال ينبغي له االختالف .والثانية
إحال دين مبتدع وشريعة ابتدعوها محل الدين الحق والشريعة الواحدة التي جاء بها رسو
هللا صلى هللا عليها وسلم واضحة نقية ال يزيغ عنها إال هالك ،وهي شريعة األمة جميعا،
ووحدة األمة التي سطرها القرآن العظيم الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه،
سطرها حقيقة ال يماري فيها وال يجاد فيها بأية حا وصيغ االستدراك إال من أعماه هللا من
بعد ما جاءه العلم أو سعى بالضال في دين هللا العزيز الحكيم؛ يقو سبحانه وتعالى في مثل
هؤالء منكرا ومحذرا{:أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون'}(آ عمران)45؛ فإن اتخاذ شرائع
مبتدنة باسم مذاهب فقهية محض تلبيس ،ويكفي أن التشريع نظمة متجانسة متوافقة ،نظمة
لها روحها التشريعي ،يكفي للحكم في شأنها ،وال يلتفت على الملبس عليهم المقتفين أثر
الضالين ممن زين لهم سوء عملهم ويحسبون أن هذه المذاهب هي داخل إطار اإلسالم ،ولكنها
في الحق شرائع شتى واإلسالم برئ منها ،فاإلسالم نظام تشريعي من عند هللا تعالى ،وهذه
المذاهب نظمات وتشريعات مغلقة ،روحها مختلفة عن دين هللا تعالى العليم الحكيم .والنقطة
الصوارم واألسنة في الذب عن السنة -محمد بن أبي مدين -ص-154ط1555-2ه1545-م-طبع وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية
38بالمغرب
33
الثالثة هي تبعية هذه المذاهب التي أحلها أصحابها محل الدين ،تبعيتها للتكتالت األرضية
ودونيتها ،وهذه أقصى حدود ودركات األمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
لنسمع إلى بيانات من حق ظاهر ،والمقو أدنى في درجات الحقائق من الحكمة التي أجاز
الشرع الحنيف األخذ بها استقالال عن مصدرها:
يقو شيخ الشيعة د .محمد التيجاني في مؤلفه (الشيعة هم أهل السنة-ص:)14
<كيف ال نعجب من الذين يزعمون بأنهم أهل السنة والجماعة وهم جماعات متعددة مالكية
39
وحنفية وشافعية وحنبلية ،يخالفون بعضهم في األحكام الفقهية>
ويقو نعمة هللا الجزائري في مؤلفه (قصص األنبياء):
40
< ..وقد جعلوا المذاهب األربعة وسائط وأبوابا بينهم وبين ربهم>..
ويقو محمد التيجاني في المؤلف نفسه المذكور أعاله كما نقلناه عن ذات المصدر:
< ..وبهذا نفهم كيف انتشرت المذاهب التي ابتدعتها السلطات الحاكمة وسمتها بمذاهب أهل
السنة والجماعة>
وقا مبينا ومؤكدا:
< والذي يهمنا في هذا البحث أن نبين باألدلة الواضحة بأن المذاهب األربعة ألهل السنة
والجماعة هي مذاهب ابتدعتها السياسة>..
34
الفصل الثاني
إذا كان الحكم بالرد إلى البعد القانوني وحيثياثه ومعاييره على اعتبار وحكم الماهية القانونية
للفقه والتشريع حكما حاسما وظاهرا ،إال لمن طمس عقله وضمرت بفعل التهجين والتقليد ما
أنعم الخالق الكريم عليه من نعمة الفؤاد وملكة التمييز ،التي لو يعلم بها قوة الحياة الكريمة
حقا ،تحمله في فضاءات الكون الواسع ،على قدر تحرره من قيود العبودية لغير هللا والتقليد
المخالف لشريعة الحق التي بعث بها هللا تعالى رسوله محمدا صلى هللا عليه وسلم ،شريعة
واحدة موحدة ،ال مذاهب شذر مدر تدعو للتفرقة ،وتنقض بواحا صراحا صريح الوحي وقد
نز فيه قوله تعالى لسانا عربيا مبينا:
{وأن هذه أمتكم أمة واحدة' وأنا ربكم فاتقون' فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا' كل حزب بما لديهم
فرحون'}(المؤمنون)54-55
{وال تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدهم جاءهم البينات' وأولئك لهم عذاب عظيم}(آ
عمران)105
وهنا ال مندوحة للصدع بأمر من الحق مبين من القو جزما من غير تلكؤ وال نظر خرص من
بعيد ،كون أي من قائل في حيز الخالف واالختالف ما يناقض التنزيل ،كما هو شأن من يأخذ
بسبق االختالف على المذاهبية أصال في اعتباره لشريعة اإلسالم ودين هللا تعالى العزيز
الحكيم؛ فهذا قد تبين أنه ليس أهال لدرجة هذا األمر ولو نودي في قوم أبطأ بهم نور عقل
االستخالف والتاريخ بأعلى األلقاب .فالدين الذي جاء به الرسو صلى عليه وسلم دين واحد
شريعته واحدة ،األصل في فقهها الوحدة ،ومن قدم عليها مكون االختالف أصال فهو إن اعتقد
في نفسه اإليمان والصالح وكان أمر سريرته وقلبه اإلسالم ،إنما هو جاهل استعصى عليه
35
نسق في اإلدراك وتمثل الحقائق ،فليمسك وليحجم ،فذاك أمر وقدر أواله الحق سبحانه خلقا من
عباده ،فضال واصطفاء وابتالء..
إذا كان هذا الحكم حاسما واضحا وضوح اختالف الليل والنهار ،ومثبتا إثبات عدم تساوي
المتعدد للواحد ،وبينا على قدر مباينة الحق للباطل ،فإن ما أفضت إليه المذاهبية ،وهي وإن
ادعت ما ادعت بشرية في حقيقتها ،إنما هو العطل والتوقف عن مسايرة التاريخ .فدين هللا
تعالى وشريعته هي من عنده سبحانه ،وأحوا الخلق والكون كل يوم في تجدد وفي كل آن ،فال
ينبغي بالحق حكما لها وتقنينا وتشريعا إال هللا سبحانه ،وهللا واسع عليم .فانظر إلى أي
الضال ،هذا الذي حل باألمة بهذا التلبيس والتضليل كما حاق بالذين من قبلنا من تفرقهم
ومذاهبهم المختلقة على فترة من نزو الكتاب.
ما كان للمذهبية أن تتحمل أكثر من طاقتها ،وما كان لها أن تسير أكثر من حدود وسعة
نظرها ،فمرجع نظرها بشري ،وكل ما هو بشري محدود ،وأفقه له منتهى قريب محتوم .فترى
ما قد يكون وراء هذه االستمرارية واإلقرار بذينك التخلف والجمود بالفقه ،وهو الدين
والشريعة ،وهو الحقيقة واإلسالم عن الربانية شرط االستخالف؟
أما ذات اإلشكا الفقهي هذا الذي كنهه االستيعابية والمسايرة القانونية والتشريعية ،فهو ذو
طبيعة متصلة حقيقة وجوهرا بالنظمة التشريعية التي عنصر ماهيتها العلم .فلو كانت علة
العطل التاريخي وعرقلة أن يعود الناس إلى شريعة هللا الواسعة التي ال شريعة تقبل عند هللا
سواها ،لو كانت العلة في هذا اإلطار لكان األمر هينا ،ألن إشكاالت الفكر موضعها الفكر
وخطبها مهما عسر حله استجالء األفكار .إذن فليس من تفسير إال أن التفرق المبقي على
العطل والجمود مشدود وأسير وظيفي لبنية روحها تفرقية ،ليس منادح لها عنه ،التفرق
والقطرية والمذهبية إكسير حياتها والشرط اللئيم البقائها واستمراريتها ،وحدة األمة الذي أمر
به هللا تعالى نقيض لمنظارها ،ال تحفل بمحاربة أمر قدر احتفالها بمحاربتها إياه ولو كانت
كلمة وشعار سلطانها اإلسالم ،وليس لإلسالم في هذه األمة حقيقة مسارية في التاريخ
واالستخالف ،والصدقية والعزة والمنعة ،إال بقدر ما تحققه لنفسها من الوحدة والشريعة
اإلسالمية الحقة .ثم إن اإلسالم نظاما وشريعة هو نقيض االستبداد ونقيض الكسروية في أية
صورة كانت ،وأحكام الكتاب واإلسالم التي أرسل بها هللا تعالى محمدا صلى هللا عليه وسلم ال
تتوافق البتة وال ينبغي لها ذلك ،فالنقيضان ال يجتمعان ،ولو اتبع الحق أهواءهم لفسد أمر الدين
والتبس الحق بالباطل في واقع األمة ،تحسب نفسها على دين هللا وما هي عليه ،وترى
36
المغضوب عليه والضالين هم اليهود والنصارى وقد حل بها وحذت حذوهم ،وهو الحق ،ولن
تجد لسنة هللا تحويال ولن تجد لسنة هللا تبديال.
وهب جدال ،وذلك ما يدعيه القوم أنهم على المحجة البيضاء ،وأنهم على آثار السلف والجماعة
سائرون وبهم مقتدون ،وإنما ما يقا عنهم من تعطيل حقيقة الدين قربانا للحفاظ على نظام
الملوكية وتوريث األمر والسلطان ،وكونهم آثروا ملك الدنيا ال يبغون عنها غيرها ،إنما ذلك
فسوق عن إهاب الحق وباطل من القو ،بغيا وحسدا ،وإرجافا غرضه بث الفتنة في دار
السالم واألمن ،والرخاء والرفاه ،نعما مترعة أبوابها فضال لسياسة أولي األمر المصطفين
ملوكا أبد الدهر ذرية ليس على األرض وتحت السماء أهل وال بشر من األمة كفؤا لها عنصرا
ونبوغا :رضع أمراء على المهد دون الفصا ،شيوخ تسلب هيبة الوقار ،علماء يدعون على
المنابر بالفردوس األعلى ،والوالء للرضع األمراء..
هذا واقع وحقيقة ملء الفضاء ليس ينكرها حتى جدران بيوت هللا والليل والنهار؛ ولكن إن نحن
سلمنا بقولهم وذهبنا جدال في تصديق دعواهم ،أنخنا بكاهل القضية على مقتضى هذا االدعاء
والقو قد أقررنا به وسلمنا به ،فلزم بمقتضاه حقيقته ،وإن لكل شيء حقيقة ،وحقيقة اإلسالم
وشريعته قد نالت وأجمع المجتهدون والربانيون من علماء اإلسالم تحققها على ضوء المقاصد
في الكليات الخمس .فأين هي الكليات ،وما هو حالها ،وما البقية فيها؟؟
كل بالد المسلمين والعُرْ ب خاصة استبيحت ،استحر القتل بأهلها وانتهكت أعراضهم ،وهل
بقي من دين لحكومات تبرم على األشهاد بعث نساء أمة اإلسالم سبايا االرتزاق ألهل الكفر،
إماء وكواعب أترابا من غير خيل وال ركاب ،سياسة لمن يدعون السنية والجماعة ،غيدا يجني
التوت في حقو البين ،ليس مسافة يوم وليلة ،نزيالت نزال بأراضي منخفضات؛ هذا بيان..
أما الما فكله ظاهره وباطنه ،ركازه ومتداوله ،جامده وسائله جميعه تحت تصرف عدو
اإلسالم ،عنوة تارة وأخرى في صفقات خيالية يغني علم العالمين بها أن نذكر منها ،سواء في
صيغ العبث العمراني الذي انقلب آية عبثا ،أضحوكة تاريخية حين يتفاقم ويكون التفاقم كبيرا
جدا بين اإلنسان في بعد مدنيته الذي ال تخطئه معايير اللسان واالجتماع ،وما يدعيه لنفسه
ويراد له من نمط تواجدي ،بهلوانا تاريخيا ومسخا ال منتسخا حضاريا ،أو فيما ظاهره
تعامالت تجارية في مختلف المناحي الممكنة والمالئمة لهذا الحجر واالستعمار كصفقات
األسلحة والمهمات األمنية والعسكرية.
وذكرى فقهية فالكليات الخمس هي مناط حقيقة الدين والغاية المقصد في تحقق الشريعة على
داللة القانون والكتاب والتنزيل ،المعبر عنه عموما ومطلقا باألحكام .فهي بحق شاهد الحقيقة
37
ومرآة صدق لئال يكون للناس على هللا حجة بعدها؛ وكيف يصرف قوم عن شاهد بين ودليل
ظاهر حين يكون هذا الدليل والشاهد هو عين الحا وذات الواقع الذي يعيشونه ويشهدونه.
في هذا الليل الذي آذن أن يعقب غلسه إسفار ،وتذهب إلى األبد العبودية السياسية لغير هللا الذي
خلق وله اختصاص الحكم حكما بالحق قائما بعلم مطلق حكيما خبيرا ،يسع علمه سبحانه
وتعالى أبعاد الوجود كلها واألحوا ،يهيمن على التاريخ وعلى كل آن وحدث وجودي بالحق،
هو األو سبحانه رب العرش العظيم رب العالمين ،ال يكون أمر في التاريخ والوجود في
األرض حتى يفصل ويدبر شأنه في السماء ،فأنى توفك العقو النيرة وتصرف األفئدة المدعية
للتفكر األعلى عن حل سؤا ما العمل؟ وما الصبغة األسمى في االجتماع البشري ومنحاه
األمثل في الحضارة والتاريخ..
في هذا الحيز من الوجود التاريخي ،واإلنسان مسؤو عن عمله فذاك حقيقة االستخالف ،وكل
من عند هللا ،ليس ينقض الحق الحق ،سالت دماء االنعتاق في الباستيل فأعتقت أرواحا بشرية
من عبودية الملوك ،والناس بعضهم لبعض وكانوا يدعون الكذب أنهم أهل دين وعدالة ،ولكنها
عدالة كل الشعب فيها موؤود ،والدين سلطان .حررت الثورة الفرنسية نحو السواسية في
االحتكام للقانون ،ولو كان قانونا ليس يستمد روحه إال من قوة الوضع واإلجماع .وعلى هذه
السنة المحمودة عند هللا القوي العزيز بوجوب عدم الركون للظالمين واالستكانة التاريخية
المهينة والرضا بها للنفس والذرية واألحفاد ،والسعي في تحقق الحق قانونا وجوديا على قدر
التحري والجهد واإلمكان كان من شأن الثورة البلشفية ما غير تاريخ البشرية برمته ،فأرعبت
قوة الحق ولو في حدود إسقاطها المدرك عند البالشفة ورجا الثورة برغم المثالب التي ال
يخلو عنها ومنها أي مسار تاريخي ،وما يجهله األعداء أو يتجاهلونه هو أنه بقدر قوة المسار
وعظمته تكون مقاومة أمشاج أزمات وعراقيل ،أرعب الحق في صورة بناء ثوري محض
بشري صروح االستعمار الرهيب واالمبريالية المتوحشة بمختلف ألوانها الفاشية وديمقراطيتها
الكاذبة وإنسانيتها التمساحية .وهل ثمة اليوم خير من أمن األوطان وحفظ الما والولد ،وأي
شيء في الدين يبقى؟ وإنما الدين أحكاما مقامها اإلعالم ،أمة لها سيادة على وطنها وطن ودار
اإلسالم..
وعلى هذه السنة التاريخية المجيدة التي ستبقى ما بقي رجا في بقعة أية بقعة من بقاع
األرض ،زهق باطل البشر الذين يريدون استعباد الناس ،وتبين للعالمين ،وقد مكر كبراء العالم
على مشارف انتهاء الحرب العالمية الثانية مكرا وجهلوا جهال مستخفا بكرامة الشعوب
فشيأوها وأوطانها ومصيرها ،مقايضة ال يولون على شيء من مبادئ ثوراتهم وديمقراطياتهم،
38
تبين أن إرادة الشعب إذا ما أراد الحياة قاهرة ،تخسف على حين غرة بالملوك ويخر السقف من
فوقهم؛ قد برهن الحق من خال الثورة اإليرانية لمن شاء أن يذكر و يهتدي أن اإلسالم ال
يرضى أهله بغير ما جاء به رسو هللا صلى هللا عليه وسلم نظاما وسياسة لمجتمع المسلمين،
فما جاء اإلسالم إال ليقلع الكسروية والعبودية للبشر واالستئثار بخيرات األرض من دونهم
وأكل أموالهم ،فهذه وإن ادعى أهلها الكذب أنهم يعبدون هللا ويخدمون دينه شاكلة الملوك
والكهنوت ال تنبغي في دين هللا تعالى الذي له الكبرياء ذي العزة والجبروت ..وإنها لثورة
وقومة لتحرير البالد والعباد من العبادة المكرهة للشاه والسقف الحمائي إلى القانون المطلق
طريق الحياة الفاضلة في التاريخ..سننه ونسقه ،من أدق خاطرة تخالج اآلن التواجدي ألية خلية
في وجود اإلنسان ،إلى أكبر عامل توجيهي وجودي من مدرك ومفترض من مؤسسات الفكر
واالجتماع اإلنساني..
يقو الكاتب والسياسي السوري ميشيل كيلو في مقا له وبعنوان يفي بداللة الواقع (رجا
السلطة يقامرون بالوطن؟) وإن كان االستفهام يسلب تمام تقرير الحا ،وهو واقع حقيقة على
أم األشهاد ،فإذا ما شهد باألعيان فصل األمر في األقوا ؛ يقو الشاهد بالحق على هذه العالقة
التي ما هي بحقيقة عالقة الحاكم بالمواطن وال بالرعية ،ولكن بصاحب المتاع بمتاعه يتصرف
فيه كيفما شاء ،وهي ال شك عالقة تغييب تاريخي ألمة استحالت من بعد عدالة العمرين ،ومن
بعد زمن كان كل مولود ذكر فيها يمكن أن يصبح خليفة رئيسا للدولة اإلسالمية ،استحالت
بعده بشقاء فروق الدماء والقبلية الجاهلية األولى غثاء كغثاء السيل ،يقو الكاتب:41
< ثمة اقتناع رسخته التجارب ،جعل مواطنين عربا كثيرين يعتقدون أن القوى الحاكمة في
عديد من بلدانهم تعطي سلطتها األولوية على وطنها ،بل وتضعها في مواجهته .وثمة تطبيقات
فاقعة لهذه الظاهرة برزت مؤخرا بصورة سافرة ،لمس المواطن وجودها في مناطق عديدة
أهمها السودان والعراق ،وبدرجة أقل في اليمن ولبنان.
هناك ،بخصوص ترجيح كفة السلطة على كفة الوطن ،رواية قديمة عن آخر خلفاء بني
42
العباس ،الذي قا ردا على تحذيره من غزو مغولي كان يكتسح العراق (:بغداد تكفيني) .
فكشف بقوله هذا وجود نوع من الحكام ال يرى من وطنه غير سلطته وكرسيه .وصار هذا
الخليفة بعد ذلك التاريخ نموذجا يشهد على خيانة أمانة الحكم ،جعلته العرب مضرب األمثا
وتخوفت من تكراره واعتبره وصمة عار في جبين كل من يفعل شيئا مشابها في أي حين وأية
39
أرض ،باعتبار أن تفضيل السلطة على الوطن ،إن تعارضت مصالحهما أو تناقض وضعهما،
يعد جريمة ال تغتفر ألي حاكم ،بما أن للسلطة مهاما محددة تتصل حصرا بإدارة شؤون وطنها
بأكثر الصور فاعلية ،وحمايته من أي عدو داخلي أو خارجي .فليس من حقها إذن وضع نفسها
فوق وطنها أو في مواجهته .وإال انقلبت من جهة تحميه إلى خطر يهدد وجوده ،وصار
التخلص منها مصلحة وطنية عليا>
هذا على دليل الفقه باعتباره تحري الحق في إقامة الدين وتحقيق األحكام مما يعبر عنه
بالكليات الخمس .فهذه حقائق ثالث دليل الصدق بعضها لبعض؛ الدين إنما هو واقع وحقيقة
ونظام ،يعاش على مستوى الفرد والمجتمع والمؤسسات جميعها ،السياسي منها والمالي ،ومن
سعى للتفرقة بينهما فإنما هو عدو هلل ولرسوله ولروح النظام االجتماعي ألمة اإلسالم .ثم إنه ال
يمكن البتة الحديث عن حياة فقهية دونما وجود لبيئة هذه الحياة التي جعل هللا تعالى أهم سننها
الالنمطية والسيرورة قدما في التاريخ فقها ودينا قيما مجيدا في فضاء الوجود مطلقا ليس يحده
من البريئة إال كافرا أو جهوال.
كذلك مما يعلمه رجا الفكر التاريخي االجتماعي والسياسي أن الفقه باعتباره هو عين تحقق
الدين اإلسالمي ،ال يمكن له أن يجد شروطه إال في بنيات محددة وداخل أنظمة سياسية
واقتصادية؛ أما مقوالت المستبد العاد فإنما هي دليل تهافت وال علمية كلمات ونتاجات
أصحابها ،ولو حشر بعضهم في ثلة مقاالت األنوار والموسوعيين ،فإنه بالحتم الحق تتوافق
طباقا أنظمة االجتماع بعالقات اإلنتاج؛ وإننا نتلو من محكم الحق واآليات قو هللا تعالى العليم
الحكيم{:ما أفاء هللا على رسوله من أهل القرى فلله وللرسو ولذي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل كي ال يكون دولة بين األغنياء منكم'}(الحشر )4وكما قا أبو بكر
الصديق رضي هللا عنه بصرامة الموقن في الحق والعلم اليقين<:وهللا ألقاتلن من فرق بين
الصالة والزكاة>؛ وأن هذين الشرطين كفيالن على بعد المالءمة البنيوية لضمان وكفل
عالقات إنتاجية متزنة متطورة غير نمطية ،وعادلة غير استغاللية واستعبادية ،ال ينبغي فيها
الملوكية وال االستبداد ،ال السياسي وال المالي ،بله أن تصبح الشعوب قطعانا تورث واألرض
وما فيها وما أنز هللا الرزاق فيه من رزق ليكون أصال لكل الناس سواء.
هناك ارتباط تواجدي للفقه كحقيقة بالوضعية التاريخية التي هي حا وواقع االستخالف
األرضي ،فالعقل الفقهي والعقل الحضاري كالهما نلى ذات السلم ،وال حركة لألول دون
الثاني أبدا ،ومن ادنى غير ذلك فقد افترى افتراء بينا ،ألنه ببساطة ال حركة في غير وسيط؛
وما يذكر إال البصائر واأللباب .فحفظ أقوال السلف من الفقهاء شيء والكينونة أو الحقيقة
40
الفقهية شيء آخر .فال انفتاح وال انطالق للعقل الفقهي من غير شرط انفتاح الرباني
لالستخالف في العصر والتاريخ؛ وأي إخالل ببنية الحق فيهما معا قد تؤدي إلى توقفهما
جميعا.
وبناء عليه ،فدعوى أن هناك حياة وتواجدا فقهيا مسايرا دعوى باطلة ،وهذه حالة األمة بين
تخلفها ،ظاهر توقف عقلها في مسايرة العالمين في التقانة والصناعة ،حتي مكبرات الصوت
في المساجد ومكيفات الهواء في القر والحر تثير في قرارة النفس وفي قلب كل مسلم حي أيما
اشمئزاز وأيما استفزاز بالحروف الالتينية الدالة على األمم المصنعة لها ،وكأن لهم عقوال غير
عقولنا وأعينا غير عيوننا ،وكأن ابن سينا رحمه هللا لم يكن من أمتنا .فاللهم ربنا رب العالمين،
فرج كربة هذه األمة وحل عطلها الفقهي والحضاري ،وأهلك اللهم أعداءها من بني جلدتها
المستبدين وسدنتهم الضالين المضلين..
الواقع شاهد على نفسه ،وإنما ما بقي هو خيط رفيع بقية من العلماء الربانيين الصالحين شهودا
وحجة للناس وتذكرة لعلهم يرجعون من بعد هذا الموات المسجى بباطل المذاهب الفقهية ،التي
ركن إليها ووجد فيها المستند المفرقون أمتهم عددا؛ كل رهط من دهاة الغصب بمصر وقطر
من أقطار أمة الشهود هو السيد والرب ،دينه المذهب حتى ال يقو ديني غير دين أولئك ،وهذا
مكمن التلبيس العظيم للحق بالباطل ،الدين المذهب والمذهب غير المذهب.
41
الباب الثاني
42
الفصل األول
تجزئة األحكام التي في كليتها هي اإلسالم دين هللا الذي بعث به نبيه محمدا صلى هللا عليه
وسلم ،تجزئتها أو باألصح تعبيرا وبيانا تجزئة الدين وجعله مذاهب وأجزاء عضين لن يبقي
حقيقته؛ إنما هي وإن سميت على أسماء أحبار من هذه األمة وعباد صالحين ،فهي بشرية
محضة وال يماري فيها إال من ذهب نوره واتبع هواه وأضله هللا على علم من بعد ما جاءتهم
البينات .هذا االنفصا وهذا الفسوق عن إهاب وحقيقة الدين كما أنزله هللا العليم الحكيم،
سيجعل ال ريب هذه المذاهب المزعومة دينا أنظمة محدودة السعة ،ال ينبغي لها االمتداد ال في
األحوا وال اآلماد؛ هي منفصلة منقطعة عن الروح الموحى ،الذي هو القوة والسعة المجيدة
لإلسالم ،دينا قيما مسايرا ،يسع الوجود ومجا التاريخ واالستخالف إلى يوم الدين؛ فال جرم
أن يصيب هذه المذاهب التي يدعي أصحابها أنها من عند هللا وما هي من عند هللا ،ألن تجزيء
الشيء أو اعتباره التجزيئي ال يبقي على حقيقته أبدا ،ال جرم أن يصيبها العطل ويبلس الذين
فرقوا دينهم وأمتهم شيعا بغيا على بني جلدتهم ومن أجل أنظمة تاريخية سياسية باطلة ،ومكر
أولئك هو يبور ،وليتبين أنها ليست من عند هللا الحكيم الخبير ،وأن هللا تعالى يسمع من يشاء
وما أنت بمسمع من القبور.
أما وقد وقفنا على هذه الحقيقة واألمر الجلي عساه أن يجلي عن األبصار غشاوة ما جبلت عليه
النفوس من الركون إلى التقليد ،فإننا نهيب بأمر حري بنا أن ننتبه إليه ،واخلولق وأشدد بقوة
البرهان المستمد منه ،ذلكم اتباع النور وتالوة الحق واآلية من قوله تعالى ،وهو هللا ال إله إال
هو رب العرش العظيم ،وسع كل شيء علما ،وهللا يعلم وأنتم ال تعلمون ،قوله سبحانه وتعالى:
{أفال يتدبرون القرآن' ولو كان من عند غير هللا لوجدوا فيه اختالفا كثيرا'}(النساء)11
وإن تعجب فعجب من يدعي أن هذه المذاهب ،كل مذهب منها هو من عند هللا ،وأنظمة بشرية
في العلم والفكر أقل منها خطال واختالفا ،فهي تعج باالختالف والتناقض ،فما أعظمها فرية أن
يدعى أنها الدين والشريعة؛ وإنما دين اإلسالم وشريعة مصدره الحق ومرجعه علي حكيم.
وأما البشري وما اختلط به مما في األرض فسرعان ما تعتريه عوارض الحدثان ،فيقصر
43
وينحسر عن السير واالمتداد في مطلق األرض وواسع اآلفاق ،فالجوهرية المباركة والمجيدة
هي لنور هللا تعالى؛ يقو هللا تعالى{:ق' والقرآن المجيد'}(ق{)1وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم
له منكرون'}(األنبياء ،)50ومن يقو بالمذهبية سواء في األصو أو في الفروع كما يلبس
إبليس على بعضهم ألن الفروع إن هي إال قراءة وتنزيل لألصو على االمتداد واألحوا التي
ال تنحصر ،من يقو بالمذهبية فقد زعم ،أدرك ذلك أم لم يشعر به ولم يلق له با ،أن لهؤالء
األئمة البشر ميزات ليست لغيرهم وال لألنبياء عليهم السالم حتى.
ثم ال بد لنا من التحديد بدءا لما نعني به هنا من معنى التناقض واالختالف ،وقد رأينا كثيرا مما
كتب حصرا حو هذا الموضوع ،موضوع الخالف واالختالف؛ وإنه من غير التوجه رأسا
إلى جذر اإلشكا والسؤا لن يتوخى أكثر مما كان ،إال قولين وإن كان حيز سريانهما
محدودا ،أولهما :االختالف بمعنى الالمطابقة مما هو متوافق مع التفسير التأصيلي للمذاهب
الفقهية ،أي بحسب البيآت االستخالفية بأبعادها التاريخية االجتماعية والجغرافية .والثاني
يذهب بمسافة أكثر نحو جذر اإلشكا وذلك بالرد لالعتبار السائد لألثر(:اختالف أمتى رحمة)
كما ذهب إليه علماء كبار وأئمة فقهاء؛ وبرهانهم في قولهم فاقع وحجتهم في ذلك ظاهرة ،وهو
أن هذا االعتبار مناقض ألساس ظاهر من أسس الدين ولشرط قائم لقيام األمة ،شرط الوحدة
والتوحد ال التفرق والتشرذم عضين ،كما أفضى الحا بها اليوم بشعار المذاهب المبتدعة اآليلة
باألمة إلى مزيد من الضعف والوهن والضال ؛ فمن يرجح أثرا أو قراءة أو تأويال على القرآن
المحكم المبين فإنما يعني ذهوب نوره فال يكونن من الممترين.
إذا فشطر من اإلشكا وكثير مما كتب كان أمره مقضيا بالفصل المدرك لما بين االختالفين من
اختالف كبير ،وبين بينهما شاسع كما يبين المشرق عن المغرب والشيء عن غيره ومما سواه.
فاالختالف التعددي بادئ الحكم ال ينبغي أن يختلط أمره في القلوب واألذهان باالختالف
البنيوي الذي نز اللفظ على معناه في اآلية الكريمة المحكم بيانها من القرآن العظيم؛ وإنه
يكفي درءا لهذا الخلط استحضار عامل التعدي واللزوم ،فبه يبرز البون ويظهر أن شتان ما
بين المعنيين.
ال شك أن الصورة قد اتضحت ،وأن رد العلماء لألثر اآلنف ذكرا هو في كنهه وإن احتمل
على ضعف ثبوته ،رد ودرء للقراءة وحمل اللفظة على الداللة البنيوية التي هي داللة اآلية
البينة؛ ثم إن االختالف التعددي له كل اإلمكان في االعتبار حكما تشريعيا واحدا؛ فهذا من
أبجديات ما يعلم ويفقه في علم المنطق بما هو ،ال كما يتصوره من يفتري على هللا الكذب
ويضل الناس عن علم الحق ،ولكن بما هو علم أساس الحساب واألهلة ،وميزان علم صناعة
44
والقيام بفريضة وأمر هللا ذي العزة والجبروت{:وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط
الخيل ترهبون به عدو هللا وعدوكم وآخرين من دونهم ال تعلمونهم' هللا يعلمهم' وما تنفقوا من
شيء في سبيل هللا يوف إليكم وأنتم ال تظلمون'}(األنفا )11وقوله عز وجل{:لقد أرسلنا
رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط' وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد
ومنافع للناس' وليعلم هللا من ينصره ورسله بالغيب' إن هللا قوي عزيز'}(الحديد .)24ذلك ،وقد
أمكن كذلك بالحق على بعد الحكمة في غير النقطة التشريعية الواحدة اعتبار التعددية ،إال أن
تصغى وتنحو إلى حقيقة االختالف البنيوي ،الذي يتحو االعتبار به والنظر إلى اإلطار
الواحد والكلية الواحدة ،كنظمة ومرجعية قانونية وتشريعية واحدة ،ال ينبغي لها التناقض
البنيوي والمعاييري؛ وذلكم بالضبط والتحديد ما سنقدم على رجاء التوفيق والسداد من هللا
العلي الحكيم ،الهادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ،أن نبينه ونجلي ما تعج به المذاهب من
االختالف البنيوي ،سواء باعتبارها مذهبا ونظمة دينية مستقلة لوحدها ،أو بعدم إهما أنها في
الحقيقة تدعي كونها مذاهب دين واحد؛ واإلسالم وأحكام القرآن وبيان رسو هللا صلى هللا
عليه وسلم الذي ترك أمته على المحجة البيضاء براء من هذا التفرق واالختالف.
وموازاة مع ذلكم ،والحا أن الدين كله قد تم بيانه واستكمل ،وشأن الصالة خاصة قد استوفى
بالصحبة الشريفة والسنة المستفيض نقلها عمال وخبرا على نور وهدي أمره عليه الصالة
والسالم((:صلوا كما رأيتموني أصلي)) ،من أجل ذلك فكل ما تبين أنه الحكم الصحيح دللنا
عليه .وإنه لمن دواعي لزوم النظر في مسمى المذاهب الفقهية وأحرى أن تسمى المذاهب
الدينية ،أن يتفرق فيها الدين وأحكامه الشرعية البينة ،وكل منها أقسم على أن يخالف قسيمه.
وهذا المنوا يأتي على توافق يفرضه إطار الدراسة والنقد الموجه أساسا في هذا القسم والحيز
منه استنادا على القراءة النقدية لمرجع فقهي على المذاهب األربعة وتحديدا(:كتاب الفقه على
المذاهب األربعة -تأليف عبد الرحمان الجزيري -إشراف مكتب البحوث والدراسات -دار
الفكر للطباعة والنشر والتوزيع -الطبعة األولى)1551؛ سيكون إذا نظرنا وبحسب ما يرى
مستوفيا الغرض وكفاية البرهان على ترتيب مباحث المصنف أوال بأو ،على أوضح صورة
وأبسط عرض لحقيقة المذاهب ،التي تعالى هللا الحق أن تكون هي اإلسالم وشرعته ،الشرعة
الواحدة الكاملة المنزهة عن كل نقيصة وعن كل اختالف ،من سعى في تفرقتها كان سعيه
باطال مدحورا وكان من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا؛ فدين هللا ال يتجزأ؛ هي الحق من علي
حكيم؛ والحق محيط ال يتجزأ وال يختلف؛ ومن يستنكف ويتبع غير دين هللا الواحد األحد فليس
له في الدنيا وال في اآلخرة من ولي من بعده؛ وإن الدين عند هللا اإلسالم ،والمذاهب هاته ليست
45
هي إياه يقينا؛ وال يغرنكم باهلل الغرور فإنما كان ضال اليهود والنصارى من بعد ما جاءهم
العلم بغيا بينهم؛ وهللا غني عن العالمين.
. . .
لنشرع إذا في نقد القو المذهبي من غير إكسابه درجة العقل والنظمة التوليفية والفكرية ألنه
دونها وبعيد عنها كل البعد؛ وسنعتمد على مفهوم المعيار الدا في خصوصه على الفردانية
والتضارب والتغيير للموازين من غير استقرار على حا وميزان واحدة ،مما يد بالطبع
والبديهة على افتقاد أي مرجع للحق والميزان.
46
الفصل الثاني
هو عند الحنفية النظافة عن حدث أو خبث؛ وهو تعريف فاسد ظاهر وبين فساده ،ألنها حكم
شرعي وصفة وحالة شرعية ،ووجودها مستقل عنهما ،نعني عن الحدث والخبث؛ كما أنها في
جوهر المعنى ومن جهة البيان والداللة ليست فعل نظافة؛ هي حالة تحصل به وليس هو إياها.
فساد هذا التعريف البنائي والتقعيدي لما بعده قد ولد وأنتج ضروبا من االختال والخطإ في
القو بعضها من بعض ،وأودى باالبتعاد عن حقيقة الفقه وروحه ،والتكلف والتمحل والسؤا
عن أشياء ليست منه ،كالغاية وتكلف البحث والخرص في معرفة وتحديد مقاصد وحكمة
الشارع من أحكامه ،فذلك ليس موضوعه الفقه كعلم مختص بأحكام الشريعة.
وتعريف الحنابلة والشافعية ال يبعد عن تعريف الحنفية وإن قا الحنابلة كونها ارتفاع الحدث
وقا الشارح أن معناه< :زوا الوصف المانع من الصالة ونحوها> فقد عرفت بما هي مستقلة
عنه وجودا؛ كما أن العالقة الشرطية ال تنتج أبدا وال تكفي في التعريف ،وهذا معلوم في ميزان
الحق والمنطق.
هاهنا قو المالكية أصح األقوا وأقربها للحق بكون الطهارة صفة حكمية وإن كان التعريف
أو النقل الذي جاء عند المؤلف في شرحه غير صحيح ،وذلك في قوله:
<المالكية -قالوا :الطهارة صفة حكمية توجب لموصوفها استباحة الصالة>..
فالصحيح والسليم هو :تجيز ويصح معها.
وقد لمسنا نفس الخطإ في نوعه ،ولعله اختال وقع عند المصنف في قوله وهو يعرض
لتعريف الشافعية بأنها (فعل شيء تستباح به الصالة من وضوء وغسل وتيمم وإزالة نجاسة أو
فعل ما في معناهما ،وعلى صورتهما ،كالتيمم واألغسا المسنونة والوضوء على الوضوء)
قا <:وقوله :أو ما في معناهما ،كالوضوء على الوضوء ،واألغسا المسنونة ،معناه أنها
47
طهارة شرعية ،ومع ذلك لم يترتب عليها استباحة الصالة ،ألن الصالة مستباحة بالوضوء
األو وبدون غسل مسنون ،ألن الذي يمنع من الصالة الجنابة ،واالغتسا منها واجب ال
مسنون ،فال بد من إدخالها في التعريف حتى ال يخرج عنه ما هو منه>
أقو بأن لفظ ،ولعله من قو المؤلف ،لفظ( :يترتب) ينسف ويهدم صحة الكالم .وكذلك
فالجنابة ،أي الغسل منها ،داخل في التعريف الوارد في مادة (غسل).
وخالصة القو :إن كل هذا االختالف والخلط مرده البناء على تعريف للطهارة كونها فعال،
وهو تعريف فاسد بين فساده ،غير صحيح.
أما قو المؤلف <:وبهذا تعلم أن النجاسة تقابل الطهارة> على داللة اللفظ الشرعي والفقهي
فهو قو غير صحيح البتة وغير سليم تصورا ،ألن الطهارة حكم شرعي ،أما النجاسة وذلك
هو عموم ما تد عليه لغة وفقها ،إنما هي محسوس من الذوات وشيء ماهيته نجسة ،فكيف يا
ترى يسلم تصور من تساوت عنده الصفة والذات ،وهما جوهران يتباينان تمايز الوجود
والعدم؟ فالحا ال تقابلها إال الحا .فهي كما جاء في 'مبحث النجاسة' عند عبد القادر الرحباوي
في كتابه 'الصالة على المذاهب األربعة مع أدلة أحكامها :النجاسة هي القذارة التي يجب على
43
المسلم أن يتنزه عنها ويغسل ما أصابه منه>.
وبالطبع ،وإن كان المعنى المعجمي لمادة (نجس) أصله الماهية والمحسوس ،فقد يجوز
تصريفه على المجاز ،وهذا ما نلفيه ونقرره إثباتا من قو المؤلف في اآلية من كتاب هللا تعالى
العزيز الحكيم{:إنما المشركون نجس}(التوبة< :)21فالمراد به النجاسة المعنوية التي حكم بها
الشارع ،وليس المراد أن ذات المشرك نجسة كنجاسة الخنزير> وإن كان حكمه وقوله هذا
ليس مطلق االتفاق.
أما بخصوص الكالم في طهارة ونجاسة األعيان وميتتها ودمها ،فاألصل الحديث وقوله عليه
الصالة والسالم (( :أحلت لنا ميتتان ودمان :السمك والجراد ،والكبد والطحا )) أخرجه ابن
ماجة وأحمد .كما أن اإلجماع في خصوص هذا الحيز والمسائل ليس بمتعسر بالدليل الفقهي
والمرجحات المختبرية الطبية والصيدلية ونحوها ،وال عبرة لمن أراد الخالف للخالف.
أما سؤا تخليل الخمر فيجلي ويبرز الميز بين المسكر والمنجس؛ وكالهما في واقع الحا
مادة طبيعية إحداهما تؤثر في العقل لخاصات حيوية كيميائية ،واألخرى خاصاتها كذلك ،وبه
يظهر أو اختالف على مستوى العلم واإلدراك .وإذا ما نظرنا إلى السؤا بغض النظر عن
كتاب الصالة على المذاهب األربعة مع أدلة أحكامها-عبد القادر الرحباوي-ص-55دار السالم للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة-
-43القاهرة
48
وجود أو عدم وجود ألصو علمية من الكتاب والسنة قد تفصل في الحكم من أوله ،فلئن كان
شيء في الشرع يتغير حكمه بتدخل اإلنسان فيلزم إبعاد شرط (بنفسه) في التخليل ،ومن ثم
يكون قو المالكية والحنفية أصح.
ها هنا تناقض الشافعية ظاهر و مثا جلي مبرز ألولي األلباب في خروج المذهبية المجزئة
للدين عن روح الشريعة ،فالعقل البشري وهو قصارى ما تبلغه المذهبية أمره كمن ال يهدي إال
أن يهدى ،إنما اإلسالم شريعة مباركة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ،واسعة لما في السماوات
واألرض ،ال تتجزأ أمرا من لدن حكيم عليم:
يقو الشافعية في تخليل الخمر<:ولو نزعت النجاسة في الحا > .فهذا معياره المباينة القطعية؛
أما حكمهم في الصوف والشعر والريش والوبر بالنجاسة إال إذا انفصلت بنتف وكانت في
أصولها رطوبة أو دم أو قطعة لحم لم تقصد ،أي ال قيمة لها في العرق ،يعني أنها طاهرة ،فهذا
ميزانه ومعياره التقدير ،الذي هو معيار الحنفية في حكم تخليل الخمر.
فانظر إلى هذا التضارب المذهبي العجيب ،وكل منها يدعي بحاله أنه نظمة ودين قائم بذاته؛
فالعبرة بالواقع ال بتلبيس الحق بالباطل وتسمية الحقائق والوقائع بغير أسمائها؛ فكل ما ليس
ينتظم ويعج باالختالف ليس من عند هللا تعالى العليم الحكيم.
كذلك نرصد هاهنا خروج الحنابلة عن ميزانهم ومعيارهم األو بأخذهم واعتبارهم للتقدير،
معيار الشافعية في الحكم في نجاسة الميتة بقولهم <:ولكن يعفى عنها إذا وقع شيء منها بنفسه
في الماء أو المائع فإنه ال ينجسه إال إذا تغير>
هذا القو يؤكد ما قلناه من االختالف الكثير؛ ففي مسافة قد ال يختلف فيها عقل طفل لم يبلغ
الحلم نلفي هذا التفاقم المعاييري عند مذهب الشافعية الذي يدعي كما سواه من المذاهب وتزعم
لنفسها أنها الدين وأنها اإلسالم ،في االنتقا من معيار المباينة القطعية ثنائي قيمة الحكم إلى
معيار غيره مضافا إليه قيم الشرط واالستثناء.
نعود للحنابلة ،فاستشهادهم باآلية الكريمة{:ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى
حين'}(النحل )10ال يتم إال باستحضار قوله صلى هللا عليه وسلم في شاة ميمونة رضي هللا
عنها ((:إنما حرم أكلها)) وفي رواية ((لحمها)) ،فد على أن غير اللحم جائز كما جاء ذكره
عند المؤلف.
كذلك فاإلجماع هاهنا ميسر بالتحري الفقهي والفحص المختبراتي.
وأخذ الحنابلة بالتقدير في فضالت ما يؤكل لحمه هو خالف معيارهم وميزانهم في مسألة
تخليل الخمر.
49
كذا قولهم بنجاسة القلس والقيء من غير تفصيل هو من غير مرية مخالف ألصل الدين
وأساس الشريعة ،المنطبق بمبدإ رفع الحرج المنصوص عليه في محكم القرآن والبيان النبوي
الشريف لدين هللا القيم الحنيف وشريعته السمحاء.
أما في باب ومبحث ما يعفى عنه من النجاسة فيكاد يكون الميزان واحدا عند كل المذاهب
المفرقة ألمر دينها وهللا غالب على أمره ولكن أكثر الناس ال يعلمون.
ثم إنه على سبيل استيفاء حق القو والمقام في مبحث ما سبق أن نذكر باألصل والقاعدة
الفقهية األصولية المتمثلة في الحديث المتفق عليه وقوله عليه الصالة والسالم:
(( هو الطهور ماؤه الحل ميتته))
50
-في مبحث حكم الماء الطهور
قبل مواصلة عرض هذا الخضم من التناقضات لألقوا المذهبية التي يريد لها أصحابها أن
تكون دينا ،بل يزعمون أنها اإلسالم ،لنتوقف قليال بقصد تبيان وتحديد معنى المعيار كمفهوم
أساس يتوقف عليه االستيعاب الصحيح لهذا النقد الدقيق والممحص للموضوع التشريعي لدى
المذاهب الفقهية.
نعني هنا بالمعيار كل أركان المقاربة والقياس مما يفيد تضمن عنصر المالءمة المعاييرية،
ليكون لكل حيز وطبيعة موضاعاتية صنفها المعاييري األحادي أو المتعدد ،وسواء كان التعدد
على مطلق االختالف أو التباين أو التضاد أو التناقض .ومثل المعيار الفقهي مثل المعيار
النظري العلمي مطلقا ،فمثال ال يمكن أن نقبل بوجود نظرية فيزيائية موحدة ،تارة تعتمد كثافة
مادية كونية معينة ،وتارة أخرى في ذات البناء تعتمد قيمة أخرى تخالفها.
واقتضاء لمبدإ التناسق هناك صلة توافقية بين عناصر مطلق األصناف المعاييرية مما ينتج
عنه وجود شبه مصفوفات تميز المنتظم من الفكر واألحكام عما ليس منه.
في هذا المبحث بالخصوص ،مبحث حكم الماء الطهور تتجلى الحقيقة الواقعية للفقه عند
الناس ،بل عند من يعتبر نفسه فقيها ولربما عالما في مجاله .ولخطر وأهمية هذا النقد يجب أن
نقدم الحد األدنى الالزم للبيان واإليضاح.
جاء عند المؤلف ما يلي:
حكم الماء الطهور <<
أما حكم الماء الطهور ،فهو ينقسم إلى قسمين :أحدهما :األثر الذي رتبه الشارع عليه وهو أنه
يرفع الحدث األصغر واألكبر ،فيصح الوضوء به واالغتسا من الجنابة والحيض ،وتزا به
النجاسة المحسة وغيرها ،وتؤدى به الفرائض والمندوبات وسائر القرب ،كغسل الجمعة
والعيدين وغير ذلك من العبادات ،وكذا يجوز استعماله في العادات من شرب وطبخ وعجن
وتنظيف ثياب وبدن وسقي زرع ونحو ذلك .ثانيهما :حكم استعماله ،والمراد به ما يوصف به
استعماله من وجوب وحرمة .ومن هذه الجهة تعتريه األحكام الخمسة ،وهي الوجوب،
والحرمة ،والندب ،واإلباحة ،والكراهة .والمراد بالندب ما يشمل السنة ،وذلك ألن المندوب
51
والمسنون شيء واحد <عند بعض األئمة> ومختلفان عند البعض اآلخر كما سيأتي في
مندوبات الوضوء .فأما ما يجب فيه استعما الماء ،فهو أداء فرض يتوقف على الطهارة من
الحدث األكبر واألصغر كالصالة ،ويكون الوجوب موسعا إذا اتسع الوقت ،ومضيقا إن ضاق.
وأما ما يحرم فيه استعما الماء فأمور :منها :أن يكون الماء مملوكا للغير ولم يأذن في
استعماله ،ومنها :أن يكون مسبال للشرب ،فالماء الموجود في األسبلة لخصوص الشرب يحرم
الوضوء منه ،ومنها :أن يترتب على استعماله ضرر ،كما إذا كان الوضوء أو الغسل بالماء
يحدث عند الشخص مرضا أو زيادته ،كما يأتي في مباحث التيمم وكذا إذا كان الماء شديد
الحرارة أو البرودة وتحقق الضرر باستعماله .ومنها :أن يترتب على استعما الماء عطش
حيوان ال يجوز إتالفه شرعا ،فكل هذه األحوا يحرم استعما الماء فيها وضوءا أو غسال.
فإذا توضأ شخص من سبيل أعد ماؤه للشرب ،أو توضأ من ماء يحتاج إليه لشرب حيوان ال
يصح إتالفه ،أو توضأ وهو مريض مرضا يزيد بالوضوء فإنه يحرم عليه ذلك ،ولكن هذا
الوضوء يكون صحيحا تصح الصالة به .وأما ما يندب فيه استعما الماء فهو الوضوء على
الوضوء ،وغسل يوم الجمعة .وأما ما يباح فيه استعما الماء فهو األمور المباحة من شرب
وعجن وغير ذلك .وأما ما يكره فيه استعما الماء ،فأمور :منها :أن يكون شديد الحرارة أو
البرودة شدة ال تضر بالبدن ،وعلة الكراهة أنه في هذه الحالة يصرف المتوضئ عن الخشوع
هلل ويجعله مشغوال بألم الحر والبرد ،وربما أسرع في الوضوء أو الغسل فلم يؤدهما على
الوجه المطلوب ،ومنها الماء المسخن بالشمس ،فإنه يكره استعماله في الوضوء والغسل
بشرطين :الشرط األو :أن يكون موضوعا في إناء من نحاس أو رصاص أو غيرهما من
المعادن غير الذهب والفضة .أما الموضوع في إناء من ذهب أو فضة فإنه إذا سخن بالشمس
ال يكره الوضوء منه .الشرط الثاني :أن يكون في بلد حار ،فإذا وضع الماء المطلق في إناء من
نحاس<حلة أو دست> ووضع في الشمس حتى سخن فإنه يكره الوضوء منه واالغتسا به،
كما يكره غسل ثوب به ووضعه على البدن مباشرة وهو رطب .وقد علل بعضهم الكراهة بأن
استعماله على هذا الوجه ضار بالبدن ،وهي علة غير ظاهرة ألن الضرر إذا تحقق كان
استعماله حراما ال مكروها .والواقع أن الضرر ال يظهر إال إذا كان باإلناء صدأ واستعمل من
الداخل .وعلل بعضهم الكراهة بأن هذا الماء توجد به زهومة تستلزم التنفير منه ،فمتى وجد
غيره كره استعماله ،وإال فال كراهة ،وكذا سائر المياه المكروهة فإن كراهتها ترتفع إذا لم
يوجد غيرها .هذا وقد ذكر الفقهاء مكروهات أخرى في المياه؛ فيها تفصيل المذاهب>>
52
إن الماء الطهور ليس موضوع الفعل الشرعي ،إنما هو مادته؛ فما جاء في قو المؤلف:
<تعتريه األحكام الخمسة> ضرب من الخطل ومختل القو مما ال يخفى وما ال يفسر إال
باالفتقاد للعتبة الشرطية في آلية التفكير وأهلية الممارسة الفكرية والعلمية ،وباألحرى أن يهم
ذلك شأنا عظيما مرتبطا بعلم الدين وفقه الشريعة.
إن ما توهمه المؤلف من اإلسنادات ،فهي تهم شرعا عموم التصرف في األشياء ال خصوص
الماء؛ ولهذا أتى تناقضه في قوله <:فإنه يحرم عليه ذلك ،ولكن هذا الوضوء يكون صحيحا
تصح الصالة به> فكأن قوة جوهر السؤا كونه مرتبطا بحكم مادة ال بعمل قد ثقل وزنه وغلب
تصور المؤلف الخاطئ .فالوجوب ال يكون إال في األعما ال في حكم الشرع على المواد
واألشياء؛ فهذه حكمها فيه يكون على شريط الحل والجواز والكراهية والحرمة؛ بل إن حكم
الماء الطهور مستنبط ومتصل مباشرة بتعريفه وتميزه عن غيره من الماء الطاهر غير
الطهور ،والماء المتنجس .فالطهور طهارته مطلقة؛ والطاهر دونه ،يحل في العادات ،وال يحل
في العبادات اصطالحا .فاألصل فيهما إذا هو من تعريفهما وتمايزهما ،وال يتغير هذا الحكم إال
بعروض أحوا تطرأ عليهما؛ وذلك ما يزيح الحكم من الحل والجواز إلى الحرمة والكراهة.
لزم التنبيه أن قو المالكية ،وبه قا الحنابلة أيضا ،بقصر الكراهة في الماء المستعمل على
وضوء الصالة المفروضة دون غيره من المندوب كوضوء النوم قو فيه مقا ،ألن الوضوء
حالة وحكم ،فهو إما حاصل أو غير حاصل ،ثنائي قيمة الحكم ال ثالث لهما .وتحري رفع
الخالف ممكن بالرجوع إلى المستوفى من أصو الكتاب والسنة.
53
-في شروط الوضوء
من أشد اإلشكاالت وأكثرها تسببا في عدم استقامة وسالمة القو الفقهي عدم إدراك حقيقة الفقه
من حيث التصنيف لمجاالت القو والفكر بذات الميز بين البيان العلمي والبيان الشعري.
فالقو في مجا الفقه ال يكون إال علميا بالمعنى البحث للعلمية ،واأللفاظ في القيم واألحكام
خاصة هي قاموس علمي ،فأيما هفوة وزلة لعلة عارضة أو بنيوية هي بمثابة من يخطئ في
عدد أو رقم ما في بناء وتركيب حسابي أو إحصائي .يقو المصنف:
< ولما كانت الصالة ال تحل إال بالوضوء أو ما يقوم مقامه ،فإنه يفترض أن يتوضأ للصالة،
على أن الصالة تجب بدخولها وجوبا موسعا ،فكذلك الوضوء التي ال تصح بدونه ،ومعنى كون
الوجوب موسعا أن للمكلفين أن يصلوا أو الوقت ووسطه وآخره ،فإذا لم يبق على الوقت إال
زمن يسير ال يسع إال الوضوء والصالة ،فإنه في هذه الحالة يكون الوجوب مضيقا ،بحيث
يجب عليه أن يتوضأ ويصلي فورا .وإذا أخر الوضوء والصالة يأثم.
وكما أن الوضوء فرض على من يريد أن يصلي الفرض ،فهو فرض على من يريد أن يصلي
النفل ،فمتى عزم على الدخو في صالة النفل فإنه يجب عليه أن يتوضأ فورا ،وإال حرم عليه
أن يصلي بدون وضوء.
وإذا عرفت أن دخو الوقت شرط لوجوب الوضوء فقط ،تعرف أنه يصح الوضوء قبل دخو
الوقت ،فليس دخو الوقت شرطا لصحة الوضوء ،إال إذا كان المتوضئ معذورا>
اختال يلي اختالال وتفاقمات تترى حتى ولدت ضروبا من القو ال يستسيغه ال الفؤاد وال
اللسان ،تارة في البناء وأخرى في المعنى والمقو كقوله < :وإذا عرفت أن دخو الوقت
شرط لوجوب الوضوء فقط> إذ ال يحمل لفظ الوجوب إال على قاموسه الفقهي أي ليس يحمل
إال على المعنى االصطالحي الشرعي ،وقوله <:وإذا أخر الوضوء والصالة يأثم> فالسليم
واألصح< :وإذا أخر الصالة يأثم> وإذا لزم هاهنا من الجهة التعليمية أو التأصيلية حتى أصل
شاهد ومحدد فلنتل قوله تعالى في آية الوضوء من سورة المائدة{ :يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم
إلى الصالة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق' وامسحوا برؤوسكم' وأرجلكم إلى
الكعبين'}(المائدة )1فالقرآن العظيم هو الحق من ربك وأنز بالحق ،كل لفظ فيه إنما هو
بالحق ،والتأصيل العلمي والفقهي يكون على أساس التركيب اللغوي بميزان الرحمان واللسان.
فلفظ ومادة البيان(إذا) الواردة في اآلية تفيد الوصل االشتراطي والتبعي ألمر وفعل الوضوء
54
بالقيام إلى الصالة وقصده؛ فهو أمر غير مستقل ال ينفصل بذاته شرعا تعبديا حتى يناط له
اللفظ الدا على هذه الجوهرية المستقلة في الشرع التي يد عليها لفظ (فرض).
-ضالل وخالف مذهبي كبير ال يجوز في حق ترريع دين هللا العزيز الحكيم
المالكية :اإلسالم شرط صحة فقط؛ '' فالكفار عندهم مخاطبون بفروع الشريعة ،فتجب عليهم
العبادات ويعاقبون على تركها ،وال تصح منهم إال بعد اإلسالم ،وإنما ال تصح منهم حا
الكفر ،ألن العبادات جميعها متوقفة على النية عندهم ،وستعرف قريبا أن من شروط صحة
النية اإلسالم.
الحنفية :قالوا إن اإلسالم من شروط الوجوب فقط ،ال من شروط الوجوب والصحة معا ،عكس
المالكية ،فالكافر غير مخاطب بفروع الشريعة عندهم ،وإنما لم يعدوه من شرائط الصحة ألن
الوضوء عندهم ال يتوقف على نية ،ألن النية ليست من فرائضه كما ستعرفه بخالف التيمم،
فإنه ال يصح من الكافر لتوقفه على النية ،ألنه فرض في التيمم كما يأتي ''
على مرجع نظمة الصحة والوجوب بالسلب واإليجاب يكون هنا قوال الحنفية والمالكية
متضادين تضادا يجلي إلى أي حد هي بعيدة عن الحق هذه المذاهب سواء آعتبرت مذهبا مذهبا
أو اعتبرت جميعا ،بعدها عن الحق في نوره وكفل صدق الحق في أحكامه وحفظ الميزان؛ هي
دليل بين على ضال حل باألمة حذت فيه حذو من قبلنا من أهل الكتاب بدلوا دينهم واتبعوا
أهواءهم من بعد ما تبين لهم الهدى وجاءهم الحق ورسو مبين؛ أال إن اإلسالم شريعة
وشرعة واحدة ،ال مذاهب شرعات أديانا متضاربة ،فتعالى هللا الحق ،ورسوله الكريم األمين
عليه الصالة والسالم براء من أن يكون هذا هو األمر المنز إلى هذه األمة أمة واحدة؛ كفى
تنائيا عن الحق واألوبة لألمة أسلم؛ هو أمر جليل له أهله من رجا العزم المصطفون من
العلماء والدعاة ،الذين يقا لهم إن الزمن غير ذاك الزمان ،ورهان أهل الدين قوة وسلطانا
ضامر حكمته وحكمه الخرس والمداراة ،فقالوا إنما نحن مادة الحق ،نوقد لهيب النار من
الرماد ،ونصدع و ال نكتم ذاك أفضل الجهاد ،أال إن الحيوان ال هنالك بل هناك خلف الجدار...
ألن نهلك في سبيل الحق خير من نزعم أن هذه المذاهب هي دين هللا ...
إن البون شاسع والزعم كاذب من أن يدعي أحد أن هذه المذاهب مجتمعة وفرادى تصلح ألن
تكون منظومات قانونية ألي مجا وأيا كان موضوعها ،بله أن تكون هي القانون المطلق
وشريعة هللا تعالى الذي له علم ما كان وما يكون وهو أعلم بما خلق الحكيم الخبير .فإنك تجد
55
منظومة قانونية محدودة في مجا سريانها وموضوعها قد تستغرق في إعدادها وصياغتها
العمل المضني والجهد الكبير ،تتضافر فيها وتجتمع جهود العدد الكبير الذي ال حصر له من
الكفاءات المعرفية والخبرات حتى تتم هذه المنظومة من المساطر كال واحدا ،خلوا أو كذلك
هي الغاية ،من أي تناقض أواختالف ،ورغم كل ذلك يبقى الحديث عن عيوب مساطرية أو
بعد حين وأمد على جنب غير بعيد عن وجوب المالءمة أو التحيين القانونين.
فكيف إذا وهذه المذاهب كلها عيوب مساطرية ،وضروب من القو واختالف كثير أن تقبل،
بل وأن يدعى ويرسخ أنها مذاهب إسالمية ،بالمعنى الخطير أنها تمثل اإلسالم ،وهي قد فسقت
عن أمره بتلبيس وكيد عظيم أنها مذاهب له ،أال إن الذين يفترون على هللا الكذب ال يفلحون .أال
يعلم هؤالء أن القرآن وبيانه النبوي الشريف هو نور الحق إلى يوم القيامة مبارك مجيد ،وهذه
الخاصة ال تنبغي إلنس وال جان ،ألن المستخلف عليه منفتح إلى قيام الساعة؟ وإن هؤالء وهللا
لمثل من قا فيهم هللا تعالى{:أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون'}( عمران.)45
وفي إإليقاظ للسنوسي كما ساقه ابن أبي مدين الشنقيطي في الصوارم:
<وقد علم من كالم األئمة رضي هللا عنهم أن من قلد واحدا منهم في نازلة بعد ظهور كون
رأيه فيها مخالف نص كتب أو سنة فهو كاذب في دعواه التقليد له ،متبع لهواه وعصبيته ،وهو
بريء منه ،فهو معه بمنزلة أحبار أهل الكتاب مع أنبيائهم يدعون اتباعهم مع الكفر بمحمد
44
صلى هللا عليه وسلم وقد أمروهم باتباعه واإليمان به ونصرته>.
فالمستنبط الجلي هنا لمن خاف مقام ربه أن ال موضع قدم أصال للفظ المذهب في دين هللا
تعالى ،ومن يبد دين هللا من بعد ما جاءتهم البينات فإنما هو كما يعلم.
إن هذا االختالف العقيم والتضاد ال يستند في حقيقته إال للتجزئة والمذاهبية القائمة والمستندة
على حقيقة الخالف ،إذ يعلم بادئ الرأي أن ال تعدد بغير اختالف؛ وذلك أن هذا التضاد لو رد
إلى الحق مرجع شريعة رب العالمين ،المرجع الواحد الذي ال يتعدد وال يتجزأ ،والمشكاة الحقة
لمطلق أحكام العباد في شتى النواز وعموم أقضية الخلق واألحوا ،الرتفع وحل بسبيل أيسر
من االستنباط على اإلمكان برفع الجهالة وتعيين الحكم األقرب إلى السداد .فشرور انسداد سبل
االجتهاد ووأد قلوب العقل لعلوم التفكير وبناء هيئات السير في آفاق تسخير أبعاد األرض بسبر
ناموس الخلق وقوانين الذرة والفلك ،ال ريب المذاهبية أم الشرور ،بل إنها بتفريق الدين شيعا
انفصل أمرها نن روحه ومركاته.
56
فالشريعة هي أحكام الكتاب أنز بالحق والميزان ،وال يحق أن يفرض الالحق قبل السابق وال
التبعات على أساس وأصل مشروعيتها .فالعبادة عمل وجهته المعبود جل وعال في مجا
تواجدي قانونه اإليمان ،يتجلى تحققه في اإلسالم على نسق توجيه رسو هللا صلى هللا عليه
وسلم لمعاذ بن جبل رضي هللا عنه حين بعثه إلى اليمن ،النسق التراتبي الممثل صيغة قانونية
وبيانا محددا واضحا بلفظ (فإن هم) أي بداللة التحيين الشرطي والمراحلي لنهج العمل
واألحكام ،وهذا مكون قمن بالفقهاء وأهل العلم األخذ به وعدم إغفاله لما يترتب عليه خاصة
في أحكام الكفر واإليمان في صلتها بالفروض واألركان.
ويظهر تفاقم المالكية ومنطلقهم الفاسد على مستوى النتاج إذ قالوا< :ويعاقبون على تركها>
وهم أصال محكومون شرعا بشديد الوعيد جهنم خالدين فيها.
أما الحنفية فباإلضافة لما بيناه بخصوص(وجوب) الوضوء كحكم شرعي مستقل ،ألنه مرتبط
بالصالة ،والصالة ال تحل وال تصح إال من مسلم .وهم إن قالوا الكافر غير مخاطب بفروع
الشريعة ،فهم خاطئون خطأ فاحشا كبيرا بقولهم كون النية ليست من فرائض الوضوء
بزعمهم؛ فهو كقولهم الفكر أو العقل ليس من مكونات المرء .فالنية أصل اكتسابي إرادي
وفكري في كل عبادة؛ ولهذا ال يقبل وال يعتبر عمل المجنون وقبيله .كما أن صحة العمل ال
تكون إال في مجا اعتباره أوال ،وهو ال اعتبار له دون إسالم ،وإنما الوجوب يكون بعد
اإلسالم.
فهذا الخالف يبين ويجلي ضال الفريقين معا .وكذا يبرز أثر خلفية الخالف ومكونه التأسيسي
ونزعته ما ذا نتاجها ومآلها على الدين ،وعلى تصور وفهم الناس للشريعة ،وهي أصال من
عند هللا تعالى أحكم الحاكمين.
يجدر بالتنبيه هنا أن بلوغ الدعوة إنما هو شرط زائد ألنه متضمن في شرط اإلسالم.
وبتحليل لعمق بنيتي القولين يظهر أنهما معا اختلقا الخالف اختالقا على نسق تام لجماعة
السفسطائيين من أهل يونان أو ظهورهم؛ ذلك أن المالكية في قولهم :الكافرون أيضا
مخاطبون بفروع الشريعة ،فقولهم الشريعة بما هي متضمنة في العبادة من قوله تعالى{:يا أيها
الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون'}(البقرة)20
وبما أن هذه العبادات بالتعريف الشرعي المنز هي ذات اإلسالم وحقيقته كما هو مسطر
ويعلم من حديث جبريل ،فاألمر هذا والخطاب بأمر الشريعة كلها هو أمر بالدخو في دين هللا
تعالى اإلسالم ،وبناء عليه يتبين أن كل مقولة تفصل بينهما كما هو الحا هنا في مقو المالكية
57
هو قو سفسطائي ال غبار عليه ،ووضوحه حصو مفارقة اعتبار الشيء شرطا لذاته ،وكل
ما زاد من القو كون العمل ال يقبل حا الكفر وموضوع النية إنما هو موصو بمنهدم أصال.
أما األحناف وهاهنا سر االختالف ومكمن التضليل وااللتباس ،هو أن اعتبارهم لمفهوم فروع
الشريعة ليس هو ذاته اعتبار المالكية بإهما بياني لداللة (فروع) واعتباره بمعنى العبادة؛
فالحنفية عنوا بالخطاب معنى تفصيل حقيقة اإلسالم بمعنى يراد به هنا اإليمان والشهادة
بالحق ،تفصيل التكليف والتشريع ،وقولهم هذا تبعا لمادة البيان هو األصح ،وهو الذي يساير
كذلك ويوافق التراتبية في التكليف ،المؤصلة في كثير من آي القرآن الحكيم وفي وصيته صلى
هللا عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي هللا عنه في بعثته إلى اليمن .لكن بالطبع وكما بيناه تم فصل
مكون من جوهره ،أي النية كمكون جوهري لمطلق السلوك اإلنساني ،ليتم البناء سفسطة على
جوهرين اثنين مختلفين هما في الحقيقة مكونان جوهريين لجوهر وحقيقة واحدة.
بيد أن األهم من الجهة التحليلية والنقدية هو الجامع الخطابي للقولين معا ،ومدى بل والقدرة
التسويغية ألي قلب ،بمعنى عقل مخاطب في استقبا هذا المجموع من األقوا قوال واحدا
معتبرا يا للعجب فقها وعلما.
58
-فرائض الوضوء
هاهنا يلزم التنبيه على كون قولنا فيما سبق بخصوص لفظ واسم (الفرض) بالنسبة للوضوء،
فقد سطرنا على االستقال لتقرير خطإ البيان؛ فصحة اللفظ استعماال تكون بحسب السياق؛
ومثاله داللة لفظ (الرب) ،فقد يعني الخالق جل وعال وقد يراد به المعنى المطلق للسيد
والمالك ،ولذا جاء النهي في الحديث عن استعما لفظ الرب في سياقات معينة.
أما هنا في تركيب فرائض الوضوء ،فالبيان مستساغ متوازن ،بل إن ما أوردناه من تحليل
هناك بخصوص الوضوء ،وعدم ترادف والجواز المطلق في االستبدا بين الشرط والفرض
وغيره ،نجده عند المؤلف تذكيرا وتفصيال في قوله < :ثم إن الفقهاء اصطلحوا على أن
الفرض مساو للركن ،فركن الشيء وفرضه شيء واحد ،وفرقوا بينهما وبين الشرط بأن
الفرض أو الركن ما كان من حقيقة الشيء ،والشرط ما توقف عليه وجود الشيء>
بالطبع فقولهم الفرض هنا مساو للركن مقيد بإضافته ،أي فرض شيء ما أو أمر ما ،ال داللته
مستقال غير مضاف .وبما أنه ليس كل شرط فرض حقيقة ومعنى ،فالوضوء ليس إال شرطا
للصالة ال يصح في الميزان والبيان القو بأنه من فرائض الصالة وال أن يقا هو فرض
شرعي ،إن هو إال شرط نز تقريره وهو الهدي للعلم السوي الصحيح نتلوه في آية الوضوء
من القرآن العظيم .إن المؤمن لوجل في عموم القو أن يقدم بين يدي هللا ذي العزة والجبروت
الذي له الخلق واألمر ورسوله النبي األمين صلى هللا عليه وسلم ،فكيف إذا هم ذلك شأنا
خطيرا وبناء المكونات والحيثيات التقعيدية والتعريفات المؤسسة لعلم الفقه وعليها يقوم
التوجيه والتحديد حتى ألحكام الدين والشرع لعموم األمة واآلماد والعباد؟
وقو المؤلف <:ومن شروط صحتها (أي الصالة) دخو الوقت ،فإذا صلى قبل الوقت فإنه قد
يكون أتى بحقيقة الصالة ،ولكنها تكون باطلة في نظر الشريعة>
هذا لعمري من أفسد األقوا المبرزة لفساد التصور لحقيقة األشياء ذاتها ولذات وحقيقة الصالة
على صفة التخصيص .فإنما الفكر بالقلب واللسان ،وإذا ما أصاب وكان مكمن العي والخلل
العقل فما يكون اللسان بعده إال بيان وترجمان .ذلكم هو التقييم الصحيح لهذا القو وما جاء
على قبيله ومثله كثير ظال وأثرا لعوج في اإلدراك ومدى العقل لألمور.
أال إن حقيقة الشيء جوهره ،وجوهر الصالة عباداتي ،والعبادة عمل مخصوص موجه بإطار
هيآتي وزمني مخصوص .إذن فالزمن من مكونات الجوهر ،إذا افتقد استحا وصار الجوهر
إلى جوهر آخر غيره.
59
وهذا المكون بالذات هو الذي يوجب إهما ما ذهب إليه الشافعية من زيادة شرط العلم بكيفية
الوضوء وتمييز الفرض عن غيره ومصاحبة النية؛ فذلك كله محصل بالنية األولى والقصد
والعقل .فكل عمل وسلوك لإلنسان يتنز من سلم الهم واإلرادة ثم العزم ثم التحقق؛ فالصيغة
والهيئة إذا سابقة للتحقق ،وكافل سيرورتها وتحققها العقل والبدن معا.
فهذا دليل بالحق إذن بأن النية مكون في حقيقة العمل ومن ثم في العبادة .فهي على هذا فوق
درجة الشرط اصطالحا؛ ومنه يقضى على بينة وأساس من العلم والحق مكين بخطإ الحنابلة
الذين قالوا بالشرطية والحنفية الذين قالوا بسنيتها ،أي جعلوها دون الركن .كذلك قو الحنابلة
بوجوب تقدم االستجمار أو االستنجاء على الوضوء قو ال أساس له وال أصل له ،فهو قو
مردود.
نفس المكون ،المكون الجوهري للنية المثبت بدليل العلم والبرهان ومما ليس فيه حظ قطميرا
للرأي ،الذي أهمل قو الشافعية في شروطهم الزائدة ،كذلك يهمل قو المالكية بشروطهم في
النية :التمييز والجزم ،فهما من حقيقتها ،وال حقيقة لها من دونهما؛ فال يمكن أن نقو أن صبيا
غير مميز أو أن مجنونا بأنه نوى ،ألن النية ال تصدر إال عن عقل مدرك ثابت.
والقو في النية ومصاحبتها وخاصة عند الشافعية إشكاله والكالم فيه رهين معرفة ومدى إلمام
الفقيه بالعلم العصبي والطبي في حد أدنى منه ،وإال كان متكلما وخائضا في أمر بغير سلطان
من الحق وال أثارة من علم ،وذلك ظلم بين وتعسف ظاهر؛ ذلك وإن كل قو في هذا شأنه شأن
كبير وخطره عظيم ،ألنه القاعدة التأسيسية التي على أساسها يتشكل ويتوجه عموم القو في
الفقه وأحكام الدين.
اختال الحقائق بخصوص النية وتجليه يبرز على مناحي عدة ويخلق نقاطا ظاهرة من التكلف
البعيد والتمحل كما هو في قو الحنابلة:
< إنها شرط لصحة الوضوء ،فلو لم ينو لم يصح وضوؤه وإن كانت ليست فرضا داخال في
حقيقة الوضوء>
. . .
وأمكن استخالص وجمع أبرز نقاط االختالف أو الخالف بخصوص القو الفقهي للوضوء بما
يلي:
-1النية؛ وهو إشكا معرفي بحث.
-2الترتيب؛ والحنابلة أحق.
-5مرجوحية قو الحنابلة في اعتبارهم الفم واألنف من الوجه.
60
ومنه يستنبط اإلمكان الميسر بالحق في وحدة القول الفقهي التي هي الحق من ربك ال
التريع والتفرق في الدين ،وما الدين في أصله إال شريعة وأحكام.
. . .
من أهم البؤر ضد -بنائية ونقاط الخالف على مستوى أساس وقاعدة البناء الفقهي الصحيح
والسليم إشكا الخالف في تعريف وتحديد مفهوم السنة ،خالف وإشكا ليس يرجع وغير
مرتبط باالصطالح الذي يتحتم فيه هنا مراعاة المعاني والفروق الدقيقة ،إنما هو إشكا علمي
إدراكي بالدرجة األولى .ومنه يتوصل ويتبين خطأ الشافعية والحنابلة في قولهم بالترادف بين
السنة والمندوب والمستحب والتطوع .كذلك يتبين خطأ ترقية السنة إلى الواجب عند الحنفية.
والقو األكثر سدادا في تعريف السنة وغيرها من المندوب خاصة هو المسند للمالكية .فالسنة
ما ثبت فعله ولم يحكم بفرضيته ،فيثاب فاعله وال وزر على تاركه.
أما المندوب فهو دون السنة ،وقد يأتي في حقيقته ومعناه مرادفا للمستحب.
كما أن الفرق بين السنة المؤكدة وغير المؤكدة ثابت ووارد عمال سنة وعلما ،حكمهما إذا
مختلف ،وقو الحنابلة فيه أكثر سدادا ،وذلك في حكم كراهية ترك السنة المؤكدة عند القدرة.
ومن تفاقمات الحنفية والبرهان في حقيقة عدم ثباتهم على نظر مرجعي مستقر وميزان واحد
وقد قالوا بأن النية ليست فرضا في الوضوء ويكون صحيحا دونها ثم نلفيهم يقولون <:إذا أراد
المتوضئ أن يضع يده في الماء القليل ويبقى على حاله طهورا غير مستعمل فعليه أن ينوي
االغتراف من هذا الماء دون الغسل ،بمعنى أن يقو في نفسه :نويت أن أغترف من هذا الماء
ثم يغسل به العضو الذي يريد غسله ،وبذلك ال يستعمل الماء،ألنه إنما يستعمل إذا نوى أن
يتوضأ به من أو األمر ،ألنك قد عرفت فيما مضى أن الماء ال يستعمل إال إذا أريد باستعماله
العبادة>
هذا بالطبع حين تعسر إفراغ الماء بغير إدخالها بدءا في اإلناء .ورغم التكلف ،وإن شئنا رغم
التنطع والغلو في هذه األمور الميسرة شرعا ،فإننا هنا نناقش ونبين تناقضات قو البشر الذي
أراد به أصحابه والمقلدون لهم أن يكون دينا وشريعة للعباد يتعبد بها.
قولهم هنا في نية استعما الماء بنية غير نية العبادة حتى ال يكون الماء مستعمال حكما شرعيا
يعني ميزانا أن النية لها عاملية تغيير حقيقة العمل والشيء جوهرا وصبغة ،وإن كل ما له هذه
العاملية والفعل والقوة فهو مكون؛ وبما أن ماهيته ليست مرتبطة بالمادة والشروط الخاصة
للعمل فهو مكون ثابت في عموم الشروط والمواد ،وبالتالي هو ثابت للعمل مطلقا .وإذا علم أن
الحنفية قالوا بعدم فرضيتها ،أي النية ،في الوضوء ،وهو عمل ،فهذا يد على تناقض صريح
61
ظاهر في إطار العقل أو القو الحنفي ،ال يقبل وال يمكن بحا أن يقوم عليه بناء وهيكلة
علمية .أما إن نحن حاولنا تصويبه وتصحيحه وقلنا بأن النية متضمنة بالقوة والفعل في العمل،
ألن العمل أصله ومبتدؤه الهم واإلرادة الممثالن بالعقل ،لزم إذن عدم القو بالنية في اغتراف
الماء ألنها متضمنة في العمل ،ولكن يحل محلها شرط العلم .والناتج هو أن الحنفية تناقضوا
بين أمرين قريبين مسافة.
يقو المؤلف في حديثه عن النية في موضع تطرقه وعرضه لفرائض الصالة:
< الحنفية – قالوا :إن النية شرط ثبتت شرطيتها باإلجماع ال بقوله تعالى {:وما أمروا إال
ليعبدوا هللا مخلصين له الدين}(البينة ،)5ألن المراد بالعبادة في هذه اآلية التوحيد ،وال بقوله
صلى هللا عليه وسلم ((:إنما األعما بالنيات)) ،ألن المراد ثواب األعما .أما صحة األعما
فمسكوت عنها.
والواقع أن هذه األدلة تحتمل المعنى الذي قاله الحنفية ،كما تحتمل المعنى الذي قاله غيرهم .أما
اآلية فألن عبادة هللا ليست مقصورة على التوحيد ،بل المتبادر منها إخالص النية في عبادة هللا
مطلقا...
وأما الحديث فألن ثواب األعما إذا حبط فإنه ال يكون لها أية فائدة ،وال معنى لقولهم :إن
العمل صحيح مع بطالن ثوابه>...
قبل هذا وذاك ليس المجا هنا مجا تضارب األقوا ومضمارا لشعري الخطاب ،إنما هو علم
على ميزان أقوم العلوم مسطرة قواعده وأحكامه بالمبين من البيان واللسان .من أجل ذلك
فالمعيار الذي يجب أال يغفل طرفة عين عند المتصدي لهذا العلم ،حديثا مصنفا أو مدرسا
شارحا ،هو معيار البيان العلمي الدقيق في كل لفظة منه كما ال يبد في الخطاب العلمي
الطبيعي رقم بغيره.
نبين هذا بالقو كون المقو أعاله للمصنف هو خطاب وكالم غير علمي باالصطالح
والحقيقة ،وذلك طبعا بتقرير خطإ الحنفية من الجوانب كلها جميعا ،ألن زلتهم وخطأهم الفقهي
هنا مرده باألساس االفتقاد كلية هنا لحقيقة التفكير السوي المستحضر للقلب أي للعقل .ونعني
بعدم علمية كالم المصنف تحديدا المواد البيانية والمعجمية في أصولها( :المتبادر) و(ال يكون
لها أية فائدة) و(ال معنى لقولهم) .فهذا في التحليل اإلدراكي – األلسني ال سبيل إلسناده إلطار
القو العلمي.
وإليك التصويب تمثيال من بعد التعيين :فالعنصر البياني (المتبادر منها) يبد ب( المراد بها)
أو (داللتها) أو ما كان من هذا المعنى على االنطباق .وأما المادتان األخريان فمحمولتان
62
كلتاهما بالتصور واإلدراك الخاطئ للسؤا وموضوع اإلشكا ،وهذا يتصل بالعقل واإلدراك
ال بالعلم والمعرفة ،وال بالبيان إال باعتباره ترجمانا لثاني األصغرين .ذلك أن اإلشكا هنا
يخص العالقة الجوهرية للنية في العمل كمكون جوهري وموجه محدد صبغته في ذات اآلن؛
فالحنفية تجاوزوا ما ال يحق أبدا تجاوزه والقفز عليه من كون ثواب األعما محددا بجوهرها
صبغة ووجهة ،وبهذا الجوهر يكون صالحها؛ فقولهم باطل مختل في جزئياته وفي كليته،
وتلك طبيعة من يسعى للخالف ألجل الخالف ،فيناقض الحق ويخالف بدهي نسقه وهو يعلم.
وأما المؤلف فقد سايرهم حتى ضل موضوع السؤا وافتقد صلة الوعي به واإلدراك ،وذلك ما
تد عليه كلماته بكل وضوح.
بيد أنه في إطار النقد العلمي والزم نصحه ليس األمر هنا عارضا ،لكنه قد يكون معرفيا
متصال بعلم ميزان الحقائق أي المنطق ،وهو علم حق؛ وإنما التبست المفاهيم والحقائق على
أناس فحصل به ضال وتضليل؛ وهللا تعالى إنما خلق السماوات واألرض بالحق وأجل
مسمى ،وأنز الكتاب بالحق والميزان ،جعل سبحانه االختالف لبنة أساسا في الخلق والتفكير؛
وهللا يعلم والناس ال يعلمون.
بإيجاز نقو إن اآلية الكريمة داللتها مبدئية إفادتها تحديد الدين وتعيين المعبود؛ فالنية بالنسبة
لمفهوم اآلية كنسبة النقطة إلى الفضاء .فهي تحقق عناصري لها تحقق اآلني والمفرد للثابت
الشامل والدائم المطلق .أما قو الحنفية بأن معنى العبادة بخصوص بيان اآلية وصلتها
بالموضوع هو التوحيد فقو فيه خبط وخلط ،إذ أن التوحيد كما هو في االصطالح السائد هو
المأمور به في الخطاب واآلية ،وتبعا لمكوناته وأيضا لما جاء في مواضع أخر من القرآن
فمعنى قوله تعالى{:مخلصين له الدين حنفاء} ليس متضمنا سياقا في مدلو وحمولة
{ليعبدوا} ،وهذا مكمن االختال في قولهم .بل إن عموم وشمولية توجيه العبادة هلل عز وجل
المأمور به في هذه اآلية ،وبالنظر لبيانها وكفاية داللتها على كل أحوا العبادة وأحيانها ،وفي
كل أمر من الحياة وكل آن ولحظة من لحظاتها ،هو دليل على كون النية ليست شرطا بل هي
مكون في العمل مما تحقق بيانه قبل؛ ولقوة هذا األصل على مستوى التأسيس والبناء الصحيح
والحق لصرح علم الفقه ،علما قائما على الذي أحق ،كان كلما تعلق األمر بصلة بهذا األصل،
أصل التحديد والحكم الفقهي للنية إال واختلط األمر عند الحنفية.
وبخصوص تعبير المؤلف بشأن اآلية البينة< :والواقع أن هذه اآلية تحتمل المعنى الذي قاله
الحنفية ،كما تحتمل المعنى الذي قاله غيرهم> فهذا قو بينه وبين تفسير اآلية وعلم التفسير
برزخ ال يتصالن ،ألننا لسنا في سياق متغير نتحدث فيه عن الدالالت المعجمية للحقل الداللي
63
للفظ معين ،ال بل نحن بشأن آية القو فيها معرفة علم أو جهل .والبون على بون الكالم
اإلنشائي عن القو العلمي.
وإذا كان وصل النية باآلية تضمنيا ،فالحديث إنما داللته وفحوى بيانه هو النية .وفيه بيان
جوهريتها ودحض القو بشرطيتها ،ألن الشرط ال يغير الجوهر .كما أبى األحناف إال أن
يثبتوا من ذاتهم تناقضا جليا لموازينهم حين غيروا صبغة الماء بالنية .أما ما ورد عندهم شرحا
للحديث وكالما بخصوصه وبيانا فهو بعيد خارج إطاره وليس من مراده وال مضمونه ،فإن
موضوعه الماهية والجوهر ،وليس الثواب متعلقا به إال على اللزوم والتبع .أما صحة األعما
فليس مسكوتا عنها كما دللنا عليه بدءا ،فهي من أساس الثواب وشرطه ،وهو خاصة الحقة
لكينونة وحصو الماهية والجوهر.
إذن فاألمر ليس ما قاله الحنفية ،ولكن النية صلتها باآلية تضمنية وبالحديث تطابقية .وإن كان
هذا يجلي شيئا فإنما هي طبيعة الحق البنيوية ومناعته الذاتية ،التي تجلي أي موضع وحدث من
االختال ،بحيث أن كل خلل ومخالفة لجادة الحق ال تنفك عن تبعات من الخلل متالحقة ناتجة
عنها ،نظام إنذار ذاتي للحق ومبرزا مميزا للمنتظم من الفكر واألحكام عما ليس ببناء حق ،كما
هو حقيقة هذه المسماة مذاهب فقهية وهللا تعالى بريء منها ورسوله والراسخون في العلم ،ألنه
كما قلناه ونؤكده كل سبيل من السبل كان افتقد مكونا جوهريا من دين هللا العليم الحكيم،
كوحدته التشريعية شرعة ومذهبا ،بمعنى دينا واحدا وإطارا فقهيا واحدا ال يتفرق وال يتجزأ،
دينا واحدا ألمة المسلمين جميعا ،من سعى وذهب هذه المذاهب التفريقية للدين وعدد السبل،
فحكمه في القرآن صريح ،وهو ليس من اإلسالم والحق في شيء؛ وإن أهل الكتاب وكان بينهم
علماؤهم وأحبارهم قد فرقوا دينهم واتبعوا السبل فضلوا عن صراط هللا المستقيم؛ ومن يضلل
هللا فلن تجد له سبيال.
ولمزيد من توضيح الصورة ولتستبين حقيقة هذه المذاهب وحقيقة خالفاتها الواهية المختلقة
بغرض التفرقة والتمايز ،وبالنظر إلى موضع النية كموضع أمثل يجلي هذه الحقيقة ويبرزها،
وذلك ألولية اعتبارها وسبقها ،وما كان أوليا في التقعيد والتحديد كان بسيطا وأقل مما يليه
تعقيدا؛ من أجل هذا نسوق مثال وضربا من االختالف بخصوص النية الذي يظهر جليا لمن
حباه هللا تعالى بحظ ولو يسير من الحكمة والمعايير البنيوية التي يقوم عليها العلم ،أي علم
ككيان وبناء ،لم يكن ليجد له موقعا لوال غياب الحقيقة العلمية خاصة في شرطيها األساسين:
شرط الوضوح وشرط االقتصاد؛ والوضوح متضمن طبعا ومتحصل لمكونات القو العلمي
المؤسسة على المرجع والدليل .يقو الشارح:
64
< أما طلبة العلم الذين يريدون أن يعرفوا اصطالح كل مذهب ،فعليهم أن يعرفوا أن المالكية
والشافعية اتفقوا على أن النية ركن من أركان الصالة ،فلو لم ينو الصالة فإنه ال يقا له قد
صلى أصال .والحنفية اتفقوا على أنها شرط ،بمعنى أنه إن لم يأت بها فإنه يكون قد صلى
صالة باطلة>
من األسس المجمع عليها لدى العالمين بالحق أن القواعد واألحكام في األبنية العلمية تستمد من
الغالب والعام ،أما النادر فال حكم له ،ويلحق على االستثناء المعين .وقد علم بدليل الخبرة
ومجمع العلوم الطبية والتجريبية ذات الصلة أن كل عمل إنساني منطلقه األو الهم واإلرادة
مما موقعه ومحله الدماغ ،المكافئ بيانا للفكر والقلب؛ وذلك بالذات هو ما ينطبق ويعبر عنه
بالنية .فمن أدى عمال فمنطلقه مؤكد يقينا يقين اقتران الرأس بالجسد والمبدإ بالمتم .ومن ثمة
يظهر مدى فساد القولين السابقين ،ومدى ما أشرب القوم من التكلف والعسف البعيد عن
العلمية ،وعن التفكير السوي ،وإن شرع هللا تعالى منهم براء .وكما أخبرنا رسو هللا صلى
عليه وسلم فإنه ما أوتي قوم الجد إال ضلوا؛ وأي ضال أعظم من القو ببطالن أمر عظيم
وهو عند هللا صحيح؛ والصالة بين العبد وربه الودود الرحيم ،وهي قبل ذلك وبعده عمود
اإلسالم؟ وأي ضال أبعد من أن تشرب األقطار ،وقد نز أمره وحكمه تعالى أن هذه أمتكم
أمة واحدة ،أن تشرب المذهبية حتى أنز كل إمام في قوم مذهبه إلها من دون هللا وهم ال
يشعرون؟ وما العبرة إال بالواقع والحقيقة ال بتسمية األشياء بغير أسمائها ،وإال ما معنى وما
الحقيقة أن ينشأ النشء منذ صغره على الحب والتقديس الذي ال يحق وال يجوز وال يكون إال
للرب المعبود ،فيجعلونه لشخص إمام مذهب معين؟ وكما قلنا فالعبرة بالحا وبواطن وكنه
الحقائق ،فما معنى هذه المباريات تحت مسمى االهتمام بالعلوم الشرعية والفقه ،التي تقتصر
على مؤلف وحيد ،مثال هاهنا عندنا موطأ اإلمام مالك دون غيره؟ وليعلم وسيذكر من يخشى
أن فرض وترسيخ وإشراب الناس هذا التصور للرسالة التي بعث بها محمد رسو هللا صلى
هللا عليه وسلم ،إن هذا أقرب للكفر منه إلى ما يزعمونه من االهتمام بدين هللا تعالى وبالعلوم
الشرعية.
قبل هذا ،وعلى مثل القيمة االستجالئية للنية في يسر إبرازها وكشفها لحقيقة الخالفات
المذهبية ،خالف مثير ال يستسيغ عاقل أن يقره على خالفه في إطار أعلى من العلم ممثال لبيان
دين هللا تعالى وأسسه العلمية ،خالف في تعريف وتحديد الصالة حتى ،الصالة المعلومة
بالضرورة عند عموم المسلمين ركنا من اإلسالم .وإنه يكفي أنها ركن من اإلسالم ،وأنها
الفاصل العملي بين الكفر واإليمان ،وأنها عمود الدين ،ويكاد يكون العلم والفقه كله في حديثه
65
وأمره صلى هللا عليه وسلم ((:صلوا كما رأيتموني أصلي)) ،إنه هذا ليكفي ليحسم ويحكم على
هذا الخالف وعلى موضعه بأنه محض االختالق والجهل يقينا .فإن االختالف والخالف ليس
بممتنع إطالقا ولكن على مستوى دون مستوى القاعدة المتحراة المقررة أساسا علميا ألمر يعلم
يقينا أنه الدين ،والدين إنما هو من عند هللا جل وعال.
إذا كان التعريف للصالة ،أي االصطالح الشرعي عندهم ،تابع موصو لحكمها فهذا فيه
الكفاية لتحديد وتقييم درجة العقل في بنائهم هذا الذين يزعمون ويريدون به الشريعة وعلم
الفقه؛ بل وعلى داللة االصطالح الشرعي سجود التالوة صالة لدى الحنابلة والمالكية.
أما قولهم في حكم النية والصالة غير المفروضة وكيفيتها ،فهذا حيز كما كان شأن موضوع
النية كله يبرز بقوة ما حصل من االختالف الكثير عند هؤالء القوم في قولهم الذي يريدون به
ويزعمونه أنه هو الفقه وأنه الدين والشريعة؛ وإنما هو اختالف وجد بأقوالهم إلى عين
الدجل ،ذلك أن ما يراد به فقها يستد به على الشرع محض خبط وخلط ال يميز مبدؤه عن
منتهاه.
وننقل هاهنا ما جاء في المرجع المعتمد على القدر المناسب والغاية المتوخاة من هذا النقد:
< الحنفية -قالوا :ال يشترط تعيين صالة النافلة ،سواء كانت ستا أو ال ،بل يكفي أن ينوي
مطلق الصالة ،إال أن األحوط في السنن أن ينوي الصالة متابعا لرسو هللا صلى هللا عليه
وسلم ،كما أن األحوط في صالة التراويح أن ينوي التراويح ،أو سنة الوقت ،أو قيام الليل ،وإذا
وجد جماعة يصلون وال يدري أهم في صالة التراويح أم في صالة الفرض وأراد أن يصلي
معهم فلينو صالة الفرض ،فإن تبين أنهم في صالة الفرض أجزأه ،وإن تبين أنهم في التراويح
انعقدت صالته.
الحنابلة -قالوا :ال يشترط تعيين السنة الراتبة بأن ينوي سنة عصر ،أو ظهر كما يشترط تعيين
سنة التراويح ،وأما النفل المطلق فال يلزم أن ينوي تعيينه ،بل يكفي فيه نية مطلق الصالة.
الشافعية -قالوا :صالة النافلة إما أن يكون لها وقت معين كالسنن الراتبة وصالة الضحى ،وإما
أن ال يكون لها وقت معين ولكن لها سبب كصالة االستسقاء ،وإما أن تكون نفال مطلقا؛ فإن
كان لها وقت معين أو سبب فإنه يلزم أن يقصدها ويعينها بأن ينوي سنة الظهر مثال ،وأنها
قبلية أو بعدية ،كما يلزم أن يكون القصد والتعيين مقارنين ألي جزء من أجزاء التكبير ،وهذا
هو المراد بالمقارنة واالستحضار العرفيين ،وقد تقدم مثله في صالة الفرض .وال يلزم فيها نية
النفلية ،بل يستحب .أما إن كانت نفال مطلقا ،فإنه يكفي فيها مطلق قصد الصالة حا النطق
بأي جزء من أجزاء التكبير ،وال يلزم فيها التعيين ،وال نية النفلية ،ويلحق بالنفل المطلق في
66
ذلك كل نافلة لها سبب ،ولكن يغني عنها غيرها كتحية المسجد ،فإنها سنة لها سبب وهو دخو
المسجد ،ولكن تحصل في ضمن أي صالة يشرع فيها عقب دخوله المسجد.
المالكية -قالوا :الصالة غير المفروضة إما أن تكون سنة مؤكدة ،وهي صالة الوتر والعيدين
والكسوف واالستسقاء ،وهذا يلزم تعيينها في النية بأن ينوي صالة الوتر أو العيد ،وهكذا؛ وإما
أن تكون رغيبة ،وهي صالة الفجر ال غير ،ويشترط فيها التعيين أيضا بأن ينوي صالة الفجر؛
وإما أن تكون مندوبة كالرواتب والضحى والتراويح والتهجد ،وهذه يكفي فيها نية مطلق
الصالة ،وال يشترط تعيينها ،ألن الوقت كاف في تعيينها>
إن الذي هو أجدر بالفصل في هذه األمور واألسئلة ليس كل الناس وال مطلق من نا لقب
العالم أو اعتبر عندهم من العلماء ،بل الربانيون أولو العلو في درجات العلم والحكمة على
مقتضى سلم األحكام بالحق المنصوص عليه في قوله تعالى:
{قل أأنتم أعلم أم هللا'}(البقرة)155
{أو لو كان آباؤهم ال يعلمون شيئا وال يهتدون'}(المائدة)101
{أو لو كان آباؤهم ال يعقلون شيئا وال يهتدون'}(البقرة)140
فليس كل المسائل والقضايا العلمية والنواز حلها ومردها من جهة مدى العلم ودرجته مستوى
واحدا ،بل هي في ذلك درجات ،ودرجة ما ارتبط منها بالصالة خاصة هو أعالها.
عالوة على ما أثبتناه من الحكم في شأن النية مكونا جوهريا للعمل ،لو تم عرض هذه األقوا
على أهل المعرفة والخبراء المختصين بعلم الدماغ وبالشبكة العصبية التي تربط بين الفكر
والخاليا الدماغية من ناحية كبؤرة محركاتية أصل ،والعمل الجسدي كانبثاق وفيض حركي
جسدي وفعلي تحققي ،لتبين أنه ضرب من الكالم بعيد كل البعد عن الحق وال صلة له بما
تتأسس عليه العلوم من األحكام واألقوا .
إن قصر النية عند الشافعية على السنن الراتبة دون مطلق النفل بعدمها يرده كل عقل سوي
بأدنى معطى العلم ،بله أن يكون مختصا بالفقه حرفته العلم والفكر ممن ال أقرب حقيقة ومعنى
للميزان فيه من العقل.
ولهؤالء جميعا ،أصحاب هذه األقوا والذين أقروهم عليها وجعلوها يا للعجب فقها وعلما يقوم
دين الناس وتوجيه قلوبهم عليها ،ليأخذ كل واحد منهم على عاتقه وليسأ نفسه هل حدث له
مرة أن هم وعزم الذهاب إلى المسجد خارجا من بيته فوجد نفسه في السوق مثال أو في مكان
آخر غير المسجد .وإن مثل العالقة بين هذه األسئلة والكفاءة العقلية كما جاء ذكر شرطها في
اآلية من سورة البقرة صريحا حتى ال يكون للملبسين الملحدين في هذا الشرط العظيم في
67
الخلق واالستخالف حظ مما هو دأبهم ،مثل ما بينه رسو هللا صلى هللا عليه وسلم في سؤا
وشأن الجهر بالدعاء والذكر في حديث الصحيحين عن أبي موسى األشعري رضي هللا عنه:
(( كنا مع رسو هللا صلى هللا عليه وسلم في غزوة ،فجعلنا ال نصعد شرفا وال نهبط واديا إال
رفعنا أصواتنا بالتكبير ،قا :فدنا منا فقا :يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم ،فإنكم ال تدعون
أصم وال غائبا ،إنما تدعون سميعا بصيرا ،إن الذين تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته،
45
يا عبد هللا بن قيس أال أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ ال حو وال قوة إال باهلل))
إن القرآن العظيم بالحق نز ،والنية بالحق مكون في سلوك اإلنسان ،والشريعة كلها بالحق من
عند هللا العليم الحكيم؛ فبذلك تبوأت النية من حيث العلم مكان الصدر واألولية ألنها هي نواة
العمل بصبغته ،ومن ران على قلبه غشاوة المذهبية بغير هدى من الحق فإنما نذكره عسى
يتذكر بقوله تعالى المبين{:قل أتحاجوننا في هللا وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم'
ونحن له مخلصون'}(البقرة)151
فذلكم الشأن العظيم للنية ،وقد رشد البخاري -وقد آتاه هللا الحكمة -حين أصدر مصنف الصحيح
بحديث النيات اقتضاء حكيما وترتيبا نظيما نبه إليه منوها الفقيه العالم ابن حجر العسقالني،
الذي قل من العلماء قاطبة من بلغ ما بلغ من دقة البيان وسداد التفسير وسعة العلم.
ثم إن لم يرعو من أشرب من هؤالء حب المذهبية حتى نسوا الذكر ونبذوا على حين من الدهر
ما هو من الحقائق أصل وبينات ،فهذه أحاديث رسو هللا صلى هللا عليه وسلم فيها الكفاء كل
الكفاء تقريرا بالوحي الكريم يغني عن أي درس بشأن المكون الجوهري للنية في األعما ،
ومن لم يجعل هللا له نورا فما له من نور:
عن عمر بن الخطاب رضي هللا عنه الخليفة الراشد الثاني لرسو هللا صلى هللا عليه وسلم قا :
سمعت رسو هللا صلى هللا عليه وسلم يقو :
(( إنما األعما بالنيات ،وإنما لكل امرئ ما نوى :فمن كانت هجرته إلى هللا ورسوله فهجرته
إلى هللا ورسوله ،ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ،أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر
إليه)).46
وفي الحديث القدسي فيما يرويه رسو هللا صلى هللا عليه وسلم عن ربه ذي الجال واإلكرام:
(( إن هللا كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك:
68
فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها هللا تبارك وتعالى عنده حسنة كاملة ،وإن هم بها فعملها كتبها
هللا عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ،وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها هللا
47
عنده حسنة كاملة ،وإن هم بها فعملها كتبها هللا سيئة واحدة))
وفيما رواه الشيخان أيضا عن أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي هللا عنه أن رسو هللا
صلى هللا عليه وسلم قا :
(( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتو في النار ،قلت :يا رسو هللا هذا القاتل فما با
المقتو ؟ قا :
-إنه كان حريصا على قتل صاحبه)).
فمن ينكر أن النية مكون جوهري في العمل فكأنما ينكر الوجود في حقائقه وتجليات الحق فيه،
بل ويؤو به المآ وقد آض به إلى اإللحاد في أمر أساس تقوم العبادة عليه؛ فأنى يصرفون؟
ونافلة في ذكر وتوضيح ما حصل عند أصحاب المذاهب من التفاقم جراء مخالفتهم لصريح
الحق قربانا للتمايز المذهبي وعصبيته الجاهلية ،التفاقم الذي يعبر عنه قو المالكية:
< وإما أن تكون مندوبة كالرواتب والضحى والتراويح والتهجد ،وهذا يكفي فيها نية مطلق
الصالة وال يشترط تعيينها ،ألن الوقت كاف في تعيينها>
وإذا علمت أن النية من ذات العمل وأن الكون أساسه البنيوي مبدأ االختالف فهذا القو محض
خلط باطل هو للخرف أقرب منه لقو سوي البشر.
وما يؤكد هذا الحكم هو ما جاء عندهم من الخلط على حين من تراكم االختالف والتناقضات
في قولهم بالنية شرطا واستصحابا ،جزئيا أو مستغرقا مستمرا ،اسمع لما يقو من يدعي تعيين
الدين وانظر إلى شرط المرجع القانوني في لغته وبيانه ،جاء في حكم التلفظ بالنية:
< يسن أن يتلفظ بلسانه بالنية ،كأن يقو بلسانه أصلي فرض الظهر مثال ألن في ذلك تنبيها
للقلب ،فلو نوى بقلبه صالة الظهر ولكن سبق لسانه فقا :نويت أصلي العصر فإنه ال يضر،
ألنك قد عرفت أن المعتبر في النية إنما هو القلب ،والنطق باللسان ليس بنية وإنما هو مساعد
على تنبيه القلب ،فخطأ اللسان ال يضر ما دامت نية القلب صحيحة>
أما قو الحنفية في من وجد قوما يصلون ولم تتعين له الصالة ،فهو قو عار عن كل مرجح
يؤخذ به من أصل أو أثارة من علم ،ومعارض ألساس القصد والوضوح في سلوك العبد
والعبادة واالستخالف ،وهو قو كما تقرر له تبعات ال تتفق مع الشرع والعقل.
47
متفق عليه
69
وأكثر ما يظهر فيه التفاقم هو أن يؤو تراكم األخطاء واالختالف منشأ غلو في الدين وإيغاال
في تكلف وعسر في الدين ليس منه في شيء وال أمر به سبحانه وتعالى وال رسوله الكريم
عليه الصالة والسالم .هكذا نلفي الشارح يقو :
< فعلى مقلدي الحنفية أن يراعوا ذلك ،وال يفصلوا بين التكبيرة وبين النية ،ألنه أفضل ،ويرفع
الخلف>
< وإنما ذكرنا هذا الخالف ليعلم الناظر في هذا أن مقارنة النية لتكبيرة اإلحرام عند المالكية له
منزلة ،فال يصح إهماله بدون ضرورة :من نسيان أو نحوه>
< الشافعية -قالوا :إن النية ال بد أن تكون مقارنة لتكبيرة اإلحرام بحيث لو تقدمت عليها أو
تأخرت بزمن ما ،فإن الصالة ال تصح كما بيناه في مذهبهم في مبحث كيفية النية>
إنه وهللا ليخشى من مجاراة ومسايرة هذه األقوا البعيدة كل البعد عما فطر هللا تعالى عليه
القلوب السوية ووهبها من سوي الفكر والميزان ،يخشى أن يصاب العقل بشيء وذهوبه حتى.
إنه ال المحتوى وال تراكيب القو وكأنه نموذج في الطب األلسني لالختالالت العقلية بذي
موضع قبو فيما يراد به قوال علميا ،بله أن تكون أو تدعي أنها الدين والفقه .وهل لقوله( :ألنه
أفضل) و(عند المالكية له منزلة) ،هل له من صلة بالقو العلمي وطبيعته؟ وهل على قو
حظه من العلم ال يساوي مثقا ذرة يريد الضالون المركب خطير جهلهم والملبس عليهم أن
يوجهوا ويؤسسوا علم الدين والفقه لدينهم؟ سبحانك هذا بهتان عظيم..
ولما كان الخطأ ال يفضي إال للخطإ والضال إال لما هو أضل وأبعد منه ،فقد بلغ التفاقم عند
القوم بخصوص نية اإلمام إلمامته ،وتبعية صالة المأمومين من جهة الصحة والبطالن سلبا
وإيجابا لنيته ،مبلغا يعجب المرء من إجماعهم عليه وتقريره ومظاهر الفسوق عن السوية
والميزان فيه بارزة ظاهرة .وهذا للتمثيل قو المالكية:
<< قالوا :يشترط نية اإلمام في كل صالة تتوقف صحتها على الجماعة ،وهي الجمعة،
والمغرب والعشاء المجموعتان ليلة المطر تقديما ،وصالة الخوف وصالة االستخالف ،فلو
ترك اإلمام نية اإلمامة في الجمعة بطلت عليه وعلى المأمومين ،ولو تركها في الصالتين
المجموعتين بطلت الثانية ،وأما إذا تركها في صالة الخوف فإنها تبطل على الطائفة األولى من
المأمومين فقط ،ألنها فارقت في غير محل المفارقة ،وتصح لإلمام وللطائفة الثانية .أما صالة
االستخالف فإن نوى الخليفة فيها اإلمامة صحت له وللمأمومين الذين سبقوه ،وإن تركها
صحت وبطلت على المأمومين>
ونحوه عند الشافعية:
70
< ثانيها :الصالة التي جمعت للمطر جمع تقديم ،كالعصر مع الظهر ،والعشاء مع المغرب،
فإنه يجب عليه أن ينوي اإلمامة في الصالة الثانية فقط بخالف األولى ألنها وقعت في وقتها>
هذه ال ريب أقوا ال مصداقية لها ،فاسدة خاطئة ال تصح من أي وجه نظرت إليها ،والسبب
في ذلك أنها نتاج إلدراك قد أضل النية في تحديدها ولتصور غير صحيح لحقيقتها.
71
-تكبيرة اإلحرام الفرض الثاني في الصالة
فرضية تكبيرة اإلحرام ومكونيتها الجوهرية في الصالة أمر من الدين معلوم بالضرورة سنة
عملية مثبتة متواترة على درجة أعلى أصو التشريع لما يفيده الخبر من أنه صلى هللا عليه
وسلم أوتي القرآن ومثله معه ولما نز من هدي الكتاب في قوله عز وجل:
{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نز إليهم ولعلهم يتفكرون'}(النحل )44
قا صلى هللا عليه وسلم:
48
(( مفتاح الصالة الطهور ،وتحريمها التكبير ،وتحليلها التسليم)) أما قو الشارح بشأن هذا
الحديث <:وهذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن> فمن وجه االستدال لحكم فرضية
تكبيرة اإلحرام هو قو ليس مستقيما وغير سديد إال أن يقيد بجانب الحديث ،ومن حيث الحكم
الفقهي فالسنة المتواترة ال ينبغي لها هذا التعبير وهذا اللفظ أي قوله ( :وهذا أصح شيء في
الباب وأحسن) ،فهو قو ال يقبل وال يصح ال في منظار تقييمه وال في بيانه.
كذلك االستدال باآلية من القرآن الكريم{:وربك فكبر'}(المدثر )5فبالرغم من شيوعه ترديدا
وتقليدا ليس استدالال صحيحا ،وإن ما يرده بادئ األمر سبب نزو اآلية ثم إطار تفسيرها
البين.
والحنفية الذين شذوا بقولهم بشرطية تكبيرة اإلحرام ،وكذلك في لفظها ،ليس لهم دليل إال
مذهب المخالفة وخلفية االختالف ،ذلك أن الترجيح من أهم ما تتقرر به األحكام وتتأسس عليه
قواعد كليات العلم ،وإن قو الحنفية هنا ليس مرجوحا فحسب بل مخالف لما ثبت من الحق
والسنة .يقو الشارح ناقال لقولهم ومعلقا:
<إن تكبيرة اإلحرام ليست ركنا على الصحيح ،وإنما هي شرط من شروط صحة الصالة ،وقد
يقا :إن التكبيرة يشترط لها ما يشترط للصالة من طهارة وستر عورة إلخ ،فلو كانت شرطا لم
يلزم لها ذلك ،أال ترى أن نية الصالة تصح من غير المتوضئ ومن مكشوف العورة عند من
يقو أنها شرط .والجواب عن ذلك أن تكبيرة اإلحرام متصلة بالقيام الذي هو ركن من أركان
الصالة ،فلذا اشترط لها ما اشترط للصالة من طهارة ونحوه.
وقد عرفت أن هذا فلسفة فقهية ال يترتب عليها فائدة عملية إال لطلبة العلم الذين قد يبنون على
هذا أحكاما دقيقة في الصالة ونحوه ،وإال فتكبيرة اإلحرام أمر الزم ال بد منه باتفاق الجميع كما
كررنا غير مرة>
72
إننا هنا في الحقيقة أمام متاهات من الكالم ليس لها ميزان ينتظمها وال منحى ،بل ما هو جلي
من مثلها هو قانون التوليد المجاالتي كل اختالف على مستوى ما من الحقائق إذا ما بلغ حدا
معينا ولد اختالفا على مستوى أكبر منه وأعقد ،فالتفاقم ومناقضة الحق وسوي القو والميزان
عندهم انفرط عقده وتفاحش تراكما حتى استساغ فكرهم وأصبح مقبوال عندهم كما تلفظ به
الشارح :قالوا (أي الحنفية) :إن تكبيرة اإلحرام ليست ركنا على الصحيح.
ومثل هذا كمثل ما قبله من األقوا التي ال هي مقبولة في الفقه وال هي مقبولة أصال في أي
إطار علمي ،حيث شرط الحكم العلمي تقريرا وتقعيدا عدم البناء على الالمحدد والمبهم.
كما أن الغالب في طبيعة هذه التراكيب ،وكما هو الحا هنا ،هو تركيبها المتناقض داخليا بفعل
أقطاب داللية غير متناسقة ومتعارضة أحيانا؛ وهذا هو الذي يفسر اعتماد المذهبية عليها،
فقطبيتها مولد لالختالف وكافل الستمراره.
واستدال الحنفية هنا المركب والمعلل حجة عليهم ال لهم مما هو عند المناطقة معارضة على
السبيل القلب؛ وبيانه نقطتان:
-األولى :بطالن وفساد حجية القو < :أال ترى أن نية الصالة تصح من غير المتوضئ ومن
مكشوف العورة عند من يقو إنها شرط>
وبطالنه من عدم سالمة تصور حقيقة النية التي ليست بمادة لفظية يحتويها اللفظ وال منوطا
حكمها وما يترتب عنه بالتلفظ كما هو شأن ألفاظ المعامالت والخطوبة والنكاح والطالق
وألفاظ القبو واإليجاب .ولقد بينا من قبل بناء على هذا الجهل والتصور الملتبس والخاطئ،
بينا فساد وعدم صحة القو بشرطية النية.
إنما النية هم معقود في القلب المتضمن للحقيقة البيولوجية للعقل ،هم على إنشاء عمل ما ،ال
تزا قائمة حتى يكون مبدأ العمل منها وهي منطلقه ومن جوهره.
-الثانية :أن التالزم الوجودي بين تكبيرة اإلحرام والطهارة الشرعية ملزم لمكونيتها في
الصالة ال استقالليتها وال شرطيتها تبعا ،ألن استقاللها مع تالزمها والطهارة الشرعية يوجب
كونها عبادة مستقلة وعمال تعبديا مستقال كالصالة والطواف وقراءة القرآن من المصحف
ومسه؛ ولما كان العلم بالفرائض والعبادات متواترا محفوظا ،ولم يثبت أن التكبير تعبد شرعي
يتقرب به عبادة موجبا أو مشترطا الوضوء ،د هذا استدالال واستنادا على األصو التي ال
مرية فيها أن تكبيرة اإلحرام ركن من أركان الصالة.
73
فقو الحنفية واستداللهم عليه كل ذلك باطل مردود عليهم .يقو هللا تعالى الذي أنز الكتاب
وبعث رسوله الكريم صلى هللا عليه وسلم ليبين للناس ما نز إليهم وقد أكمل به الدين وأتم به
النعمة ،وما هذه المذاهب إال شرائع بشرية وضال مبين ،يقو الحق سبحانه:
{ولو كان من عند غير هللا لوجدوا فيه اختالفا كثيرا'}(النساء.)11
كما أن أساس قولهم مبناه مقولة إفادة عدم شرطية الوضوء في تكبيرة اإلحرام من عدميتها في
النية ،وهذه وإن ساقوها ليعللوا عدم تحققها ،فهي منقوضة شرعا ومنطقا ،ألن من الزمها تبعا
لمرجعهم الشرطي في اعتبار النية وتكبيرة اإلحرام أن يكون عدم شرطية الوضوء شرط
ضروري في كل شرط للصالة ،وهذا فاسد ليس أقوى عليه داللة من شرطية الوضوء ذاته في
الصالة.
استدال الحنفية هذا إذن بناء أسس على جرف هار صنف خالص من األبنية السوفسطائية.
وحين تكون الوحدة أهم أسس الدين وأمرا عظيما يدعو الكتاب والسنة أكثر مما يدعو إليه ،نجد
نزعة الفرقة هاهنا عند الحنفية كما هو دأب المذاهب هاته كلها جميعا تدعو للتفرقة وتنزع إليها
صبغة نقيضا لصبغة الحق ولما يدعو إليه ،فهذا قولهم وإن شئت قل خوضهم بغير وازع من
خوف ووجل من هللا ذي العزة والجبروت الذي أنز الكتاب وأكمل الدين وأتم النعمة ،قا
الشارح:
< ولم يشترط الحنفية أن تكون تكبيرة اإلحرام باللغة العربية ،فلو نطق بها بلغة أخرى فإن
صالته تصح سواء كان قادرا على النطق بها بالعربية أو عاجزا ،إال أنه إن كان قادرا يكره له
تحريما أن ينطق بها بغير العربية>
ها هنا يالحظ األسلوب التقطيبي بقوة لغرض المذهبية ،ذلك وأنه قد جاء وتقرر القو عندهم
بغير االقتصار على اللفظ الشرعي للتكبير(هللا أكبر) وجواز كل لفظ دا على التعظيم،
باستنادهم وتحويرهم لسياقات الكالم بوصله بقوله سبحانه وتعالى{وربك فكبر}(المدثر ،)5وقد
تبين وأشرنا إلى عدم صحة هذا الوصل المراد به وصال تاما انطباقيا بتكبيرة اإلحرام.
واتباعا للحق وتوافقا مع الشرع الحنيف ومقاصده التي يبقى أبرزها رفع الحرج ودرء المفاسد
والمشقة والعنت ،فشريعة الحق،شريعة اإلسالم التي نز ها القرآن وبينها رسو هللا صلى هللا
عليه وسلم ،حنيفية سمحة رحمة للعالمين ومن ابتغى غير هدي هللا ورسوله وشدد على الناس
في أمر دينهم فقد استنكف عن الحنيفية السمحة والدين الحق واتبع السبل وضل سواء السبيل؛
توافقا مع ذلك واقتضاء فإن ما أسند قوال للمالكية هو األصح؛ فاأللفاظ الشرعية من تكبيرة
اإلحرام واألذان واإلقامة والصالة والتلبية وغيرها ،كل ذلك مأمور به على التسديد والتقريب
74
في األداء والنطق من غير تقصير وال سعي في اإلخال ببنية األلفاظ ومخارجها ومنطقها؛ وقد
أوفينا البيان بصدده في الجزء والكتاب الرابع المخصص لألداء القراءاتي للقرآن الكريم .قا
هللا تعالى{:يا أيها الذين آمنوا ال تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم' وإن تسألوا عنها حين
ينز القرآن تبد لكم عفا هللا عنها' وهللا غفور حليم' قد سألها قوم من قبلكم فأصبحوا بها
كافرين'}(المائدة .)104-105في معرض بيانه وتفسيره لهذه اآلية ساق ابن كثير رحمه هللا
حديث رسو هللا صلى هللا عليه وسلم الذي أخرجه ابن جرير رحمه هللا تعالى عن أبي أمامة
الباهلي رضي هللا عنه قا :
(( قام رسو هللا صلى هللا عليه وسلم في الناس فقا :كتب عليكم الحج؛ فقام رجل من
األعراب فقا :أفي كل عام؟ قا :فعال كالم رسو هللا صلى هللا عليه وسلم وأسكت وأغضب
واستغضب ومكث طويال ثم تكلم فقا :من السائل؟ فقا األعرابي :أنا ذا؛ فقا :ويحك ،ما ذا
يؤمنك أن أقو نعم؟ وهللا لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لكفرتم؛ أال إنه إنما أهلك الذين من
قبلكم أئمة الحرج ،وهللا لو أني أحللت جميع ما في األرض وحرمت عليكم منها موضع خف
لوقعتم فيه؛ قا :فأنز هللا عند ذلك{يا أيها الذين آمنوا ال تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}
إلى آخر اآلية))
وإذا علمنا أن المذاهب المسماة تلبيسا عظيما بالفقهية إن هي إال حذو من سبقنا في التفرق شيعا
وتبديل الدين بشتى المسميات والذرائع وقد أضل الشيطان من قبلهم جبال كثيرا ،فإنها سدنتها
وأقوالها عين ما حذر هللا تعالى منه ورسوله المرسل رحمة للعالمين من أئمة الحرج ممن أهلك
من قبلنا .وهذا لمن التمس الحقيقة في هذا الحكم ،هذا كما أورده المصنف قو الحنفية ومذهبهم
في تكبيرة اإلحرام مثال ويزعمون بيان الدين للناس كما هو في الحق وليس سواه:
< -أن ال يحذف الهاء من لفظ الجاللة ،فإن حذفها بطلت صالته.
-أن يمد الالم الثانية من لفظ الجاللة ،فإذا لم يمدها اختلف في صحة تكبيرته ،وفي حل ذبيحته،
فينبغي اإلتيان بذلك المد احتياطا.
-أن ال يمد همزة هللا وهمزة أكبر ،فلو قا :هللا أكبر بالمد لم تصح صالته ،ألن المد معناه
االستفهام ،ومن يستفهم عن وجود هللا فال تصح صالته ،وإن تعمد هذا المعنى يكفر؛ فالذين
يذكرون هللا بمد الهمزة مخطئون خطئا فاحشا لما فيه من اإليهام وإن كان غرضهم النداء .أما
إذا كان غرضهم االستفهام فإنهم يرتدون عن اإلسالم .وعلى كل حا فإن المد في الصالة
49
مبطلها ،وقد عرفت أن الشافعية موافقون على هذا>
49
ص 215
75
إنه ال يستقيم شأن امرئ في التصدي للعلم والفقه إال أن يكون له نصيب معلوم من الحكمة،
وهؤالء وهللا ال حظ لهم منها ولو كان القدر الذي يميز به الطفل الصغير وينظم الكلم وبنات
األفكار فيخرج كالمه سويا معقوال .إن هذا الحد الفاحش من التنطع في إثارة ما ليس مفكرا فيه
والسؤا وبث تردد الوسوسة وإشكا الصحة والبطالن فيما ال يمكن للعاقل أن يطرحه البتة
ليس مرده الغلو وإن كان شجية ونزعة عند هؤالء ،إنما هو سفل اإلدراك وفساد آليته وكأنه
خبل وعته على مستوى العقل والتفكير واهتماماته المعقولة والموزونة .ثم إنه ليس من العقل
في شيء والمقام مقام مؤمن متوجه إلى ربه في الصالة أن يفترض مثل هاتيك االفتراضات
البعيدة إال عمن اختلط عليه عقله .فهذا ال شك مذهب بعيد في خلق بؤر االختالف من خال
مكونات قطبية غير متناسقة متعارضة أو حتى غير معقولة كما هو األمر هنا.
إن القصور البشري الذي تمثله هذه المذاهب في ادعائها ما ال ينبغي إال لمرجع من علي حكيم
جلي أبدا ال ينفك بالنسبة للمستبصر الحصيف ظاهرا يتخذ أحيانا حالة تناقضات صارخة دالة
على أن هذه األقوا من الضال نسبتها لدين هللا الحق المنزه عن كل تناقض واختالف.
والحنفية هنا الذين يقولون هذا بالنسبة لتكبيرة اإلحرام وشددوا على العباد في أمر النطق بغير
سلطان أتاهم هم الذين يقولون وقالوا بعدم ركنيتها ،فكيف جاز وانتظم عندهم التكفير أو
البطالن فحسب لمن أخل بمخرج في حرف من حروفها مع كونها ليست ركنا في الصالة
وجاز عندهم إبدالها بأي لفظ دا على التعظيم ،بل وإن كان بغير العربية ،وإن كان قادرا
عليها .إن هذا ما عنينا به وأسميناه لفظا علميا على مدلو ملموس بالتقطيبية البيانية وإن من
البيان لسحرا على جهتي السلب واإليجاب ،ناهيك عن التناقض الفاحش المنكر والفظيع تحت
كنف أشرف العلوم وأخطرها علم بيان الدين والشريعة ،وهللا عزيز حكيم.
76
-الفرض الثالث في الصالة القيام
يقو المؤلف < :اتفقت المذاهب على أن القيام فرض على المصلي في جميع ركعات الفرض
بشرط أن يكون قادرا على القيام ،فإن عجز عن القيام لمرض ونحوه فإنه يسقط عنه ،ويصلي
على الحالة التي يقدر عليها كما سيأتي في مبحث صالة المريض.
أما صالة السنن والمندوبات ونحوها فإن القيام ال يفترض فيها ،بل تصح من قعود ولو كان
المصلي قادرا على القيام ،وهذا الحكم متفق عليه ،إال أن الحنفية لهم تفصيل في بعض الصالة
غير المفروضة ،فانظره تحت الخط.
والقيام فرض ما دام المصلي واقفا لقراءة مفروضة أو مندوبة ،فكل ما يطلب منه فعله حا
القيام فإنه يقع في قيام مفروض ،وهذا الحكم متفق عليه بين الشافعية والحنابلة ،أما الحنفية
والمالكية فانظر مذهبهما تحت الخط>
وما تحت الخط من قو الحنفية الذي ذكر هو أنهم جعلوا حكم القيام للقراءة حكمها ،ففرضه
للقراءة المفروضة ،وهي عندهم ما قدره آية طويلة او ثالث قصار ،وبالنسبة للواجب منها
وهو عندهم دون الفرض حكمها حكمه وكذلك للمندوب ،لكنهم في هذا كله لم يجيزوا تجزئتها
بين القيام والقعود ،وهو حكم متفق عليه ،ألن ذلك من شأنه اإلخال بهيئة الصالة.
من أهم ما سطرنا عليه أن التفاقم األبعد والضال المبين ال يأتي مرة واحدة ولكن على نقاط
من التفاوت يلي بعضها بعضا حتى يتولد وينتج عن تراكمها وتسلسل إخالالتها بالميزان
والحق أمرا باطال منكرا وعجبا ،وتتسوغ حينه ضروب من القو واألحكام حتى وهي محض
الباطل المؤطرة بالخطإ والمبنية عليه .وكذلك يبقى أشد الشروط في األهلية العلمية والفقهية
خاصة هو الحكمة المحددة هنا في ملكة التمييز على بعدي أو باألصح فضاءي الحقائق
والبيان ،فيميز بإحقاق هذا الشرط األدعياء من المغرضين .أما األدعياء فباإلهما واإلسقاط
قانونا،وأما المغرضون فمن سفسطة األبنية واختالق مرتكزات خاطئة باطلة خال هذه األبنية
أنوية اإلنتاج التسلسلي للباطل.
إن من يقرأ قو الشارح يخرج بإفادة الخيار مطلقا في القيام في صالة غير الفريضة ،وهذا
ليس الفقه والضبط الصحيح لعبادة الصالة وهيئتها ،فاألصل القيام فيها جميعا ،ومن تيسير
الشرع الحكيم أن أجاز على صيغة ورتبة التوسعة والرخصة ،أجاز الصالة من قعود في
النافلة ،لكن ما يلزم هؤالء علمه والتسطير عليه هو أن حكم هذه التوسعة والرخصة ليس
ينطبق بحا من األحوا رتبة وحكم الخيار مطلقا.
77
-الفرض الرابع قراءة الفاتحة
خالف الحنفية الجميع بقولهم بعدم فرضية قراءة الفاتحة ،وزعموا أن دليلهم هو في قوله
تعالى{فاقرأوا ما تيسر منه'}(المزمل )11وفي حديث المسيء صالته المثبت في الصحيحين
وقوله عليه الصالة والسالم ((:إذا قمت إلى الصالة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم اقرأ ما
تيسر من القرآن)) وفي قوله صلى هللا عليه وسلم ((:ال صالة إال بقراءة)) أي على معنى
اإلطالق.
إن هذا لعمري لهو الصنف والسبيل المزعوم استشهادا ،وإن هو إال باطل من القو ،مصدر
تفاقم بناء الفقه اإلسالمي كما هو في مدونات والمقو المذهبي .ومثل هذا االستشهاد كمثل من
تساء عن سيء من الخلفية والطوية عن عدم إشارة القرآن للشأن والنظم السياسية وفيه قوله
سبحانه وتعالى {:ما فرطنا في الكتاب من شيء'}(األنعام)55؛ ذلك أن أخطر التلبيسات
المغرضة في أي خطاب كان هو ما توسل موضوعا ووليجة في تلبيسه التباسا مهجنا مقررا
شائعا إن إهماال أو تقليدا ،وهذا غالبه المادة المعجمية المتمثلة شيوعا على غير اإلدراك
لداللتها الصحيحة ،أو بإخال خفي على مستوى نسيج القو مما يعبر عنه بالهيكلة المنطقية
وإن شئت قل القلبية أو العقلية لهذا القو والحكم .وتشابه هاتين الطريقتين الماكرتين
وخطرهما ال يكمن في سهولة االعتماد عليهما فحسب ،بل في المجا الخطابي المستهدف بهذا
الخداع والتلبيس الذي قد يصل أحيانا فيسري وينطلي على العموم إال قليال منهم.
طبيعة الخطإ األو بخصوص لفظ الكتاب في اآلية الكريمة يكفي فيه التذكير من كون علماء
أو ممن يعتبرون كذلك عند الناس يأخذون معنى الكتاب بنسق سكوني معجمي داللته القرآن؛
وإن أدنى تحو متدبر كما هو مأمور به شرعا كفيل بتحديد المعنى الذي نز به اللفظ في هذه
اآلية وفي سياقها الحكيم ،إن معنى الكتاب فيه الكتاب السجل الجامع الحافظ للسماوات
واألرض ،فال شيء يضل وي ُُنسى ،الخلق والوقائع كلها؛ وقد تم بحمد هللا العليم الحكيم القيام
بدرس دقيق لهذا المبحث في المؤلف الثالث ضمن رباعية المنهاج .يقو هللا تعالى:
{إنما يستجيب الذين يسمعون' والموتى يبعثهم هللا' ثم إليه يرجعون' وقالوا لوال نز عليه آية
من ربه' قل إن هللا قادر على أن ينز آية' ولكن أكثرهم ال يعلمون' وما من دابة في األرض
وال طائر يطير بجناحيه إال أمم' ما فرطنا في الكتاب من شيء' ثم إلى ربهم يحشرون'}
(األنعام.)55..54
78
وكذلك ما يزعمه الحنفية على الناس هاهنا بخصوص عدم فرضية قراءة الفاتحة في الصالة
استشهادا واستدالال ليس كذلك ،فهي صروف ومناحي من المغالطات المعتمد فيها والمعو
عليه تكامل اإلخالالت الجزئية الموزعة على مساحة ومسار القو حتى يكون تجميعها الباطل
على حين غرة بمنزلة الحكم المستنبط.
ولئن كان السبب الرئيس هو الجهل بصفة عامة وبلفظ جامع ،فإننا نقو على مستوى الظاهر
وبادئ التحليل والتفسير إن التحريف هنا يعتمد أو علته التباسان بخالف األو الذي كان لبسا
واحدا ،وهو اللبس اللغوي ،فعالوة على بطالن اعتبار التكافؤ الداللي الشرعي للقرآن
بالصالة ،ألن مجرد توسط المجاز ينفي االنطباق سواء سببيا أو عناصريا تمثيليا أو بنيويا
محاكاتيا ،من ثمة فالذين يبتغون الشاهد لزعم الحنفية في قوله سبحانه{وال تجهر بصالتك وال
تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيال'}(اإلسراء )105أي بمعنى (وال تجهر بقراءتك) هو دليل على
القلب ال دليال لهم ،إذ المعلوم أن الصالة في لسان العرب تعني الدعاء وتنتقل باالصطالح
لتعبر عن الهيئة التعبدية المعلومة بالضرورة ،ذانك معنيان ،هما الداللتان اللسانيتان للفظ ،مما
يوجب ويحتم أن ال تكون إفادة الصالة معنى القراءة والعكس إال عن طريق وتوسط المجاز،
والمجاز يوجب ويلزم عدم االنطباق؛ عالوة على هذا اإلخال ،الذي وإن اعتبرناه جزئيا فهو
بدوره نتاج وتجميع إخالالت واختالالت معرفية دونه تسلسال ونتاجا ،نجد على مستوى
الوصل بالحديثين إخالال مركبا متصال بالحكمة كشرط أكيد ال مندوحة عنه للفقيه ،متمثلة هنا
في حقيقتها الكاملة أي بمكونيها :األصو كمكون معرفي علمي ،واإلدراك والتصور كمكون
آلياتي وعملي الذي يدخل ضمنه مفهوم الحكمة العملية العقلية والمنطقية .وبالطبع فمن دون
هذا ليس إال التضليل والتحريف كما هو الواقع والشأن هاهنا .فالنص الشرعي ،أي نص ،ال
يعتبر وال يؤخذ إال في اإلطار الكلي للدين بما هو مجموع من األحكام منزلة بالحق ال ينبغي
لها التعارض وال االختالف .ولما كانت قراءة الفاتحة معلوم أمرها ثابت بالسنة المتواترة
المحفوظة باالتباع المتصل عن رسو هللا صلى هللا عليه وسلم فال مثقا ذرة من الحق لمن
يقو بما يعارض هذا اإلطار ويسعى سعيا مناقضا لثبوتية هذا األصل من الدين .وقصارى ما
يجوز كما أشار إليه ابن رشد رحمه هللا هو ابتغاء تقرير النص بسبيل من التأويل في حدود
ضوابطه ومساطره.
لكن األمر هنا ليس ببعيد عن منا التمحيص بمرجع الحق وساطع البرهان والتفسير المبين.
سئل الصحابي الجليل عبد هللا بن مسعود رضي هللا عنه فيما ساقه ابن كثير من رواية األعمش
عن إبراهيم:
79
(( لم لم تكتب الفاتحة في مصحفك؟
فقا :لو كتبتها لكتبتها في أو كل سورة..
قا أبو بكر بن أبي داود :يعني حيث يقرأ في الصالة.
قا :واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها)).
فهذا هو التصور والضبط واالعتبار الصحيح والسوي الذي تم به الدين وعلمه وفقهه ،وهو
مرسخ في تقريره ذكرى لمن أراد أن يتذكر من صحابي من أو كتاب الوحي ومن أو من
صدع به في مكة ونا في سبيله ما نا من األذى من مشركي قريش وصناديدهم؛ وهو
االعتبار والتصور الذي عليه إدراك أولي األبصار والسلف من الفقهاء بل والمتواتر عمليا
ومعلوما بالضرورة عند أهل اإلسالم كما أفاده البيان الواضح البن أبي داود في هذا األثر؛
إذن فقوله عليه الصالة والسالم (( :ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن)) متضمن بالضرورة
للفاتحة.
قا ابن كثير في معرض تفسيره لسورة المزمل في رد ودحض االستشهاد المزعوم للحنفية:
< وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت ،وهو في الصحيحين أيضا ،أن رسو هللا
صلى هللا عليه وسلم قا :
(( ال صالة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسو هللا صلى هللا عليه وسلم قا :
(( كل صالة ال يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام))
وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعا:
(( ال تجزئ صالة من لم يقرأ بأم القرآن))>
كذلك فلفظ وداللة (أم القرآن ) في الحديثين معا هي على توافق حقائقي وداللي مع هذا
االعتبار الذي هو االعتبار المستفاض تقريرا بالعلم والعمل ومتفق عليه تناسقا واتساقا مع
الكتاب والسنة ،وما يجاد في برهان الصدق إال المبطلون.
ثم إنه ال غرابة من قو الحنفية هذا ،فعلى شاكلته وبالخلفية ذاتها المستشفة من التواطؤ على
سلوكها ونهجها ،خلفية السعي في المخالفة لمحض ومجرد غاية تكريس االختالف وقد جاء
التحذير من ذلك بيانا بليغا في قوله تعالى وهو العزيز الحكيم{:وال تكونوا كالذين تفرقوا
واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات' وأولئك لهم عذاب عظيم}(آ عمران ،)105كذلك تمت
قراءتهم لألصل العلمي وقوله وحكمه عليه الصالة والسالم:
(( من كان له إمام فقراءة األمام له قراءة))
80
وحتى ال ننساق فنسرف ونطنب ،فإن مجرد اإلجماع واالتفاق على وجود وشرعية ثنائية
مفهومي المطلق والمقيد وكونها معيارا وأداة ووسيلة شرعية مثبتة ومقررة بسلطان الحق،
ومن دونها ال يمكن ألية نظرية أن تؤسس للبناء الفقهي اإلسالمي على وجه التحديد
والتخصيص ،إن ذلكم وهو الحق من هللا ذي العزة والجال ليكفي لرد االستلزام بالقراءة
المطبقة للحنفية ومن شاكلهم.
إن السديد بمعايير البناء العلمي المطلق أن يحدد توازن النقطة بأي وزانة كانت من خال
الفضاء ككل ال العكس ،ومن ثمة يحمل الحديث لزوما علميا بالحق بقصره أوال على الجماعة
بداهة ثم للصالة الجهرية ،ذلك أنه بالحق الذي تقوم عليه السماوات واألرض والخلق جميعا
واإلنسان بفؤاده ،أي دماغه وعقله ،وسمعه وبصره كما تم تفصيله العلمي في الجزء الرابع
المخصص لألداء القراءاتي ،يعتبر حدوث القراءة جهرا أثرا واقعيا وحقيقة قراءة للجمع
وللجماعة؛ أما في عدم الجهر فقراءة اإلمام سرا تعتبر قراءة وحدوثا قراءاتيا مفردا مستقال،
ألنه معزو صوتيا ولسانيا عن المأمومين .وهذا التداخل والتقاطع الداللي بين النصوص هو
الذي يوجب االعتبار الكلي ال الفردي المستقل للنص كما كان شأن الحنفية آنفا.
على هذا السير السوي والمسلك العلمي األقوم نجد أنفسنا من غير فسوق عن فضاء الفقه الحق
ال مجرد األهواء الذاهبة بأهلها كل مذهب ال يلوون على شيء وقد جاءهم من ربهم الهدى
ورسو من هللا وكتاب مبين .نجد أنفسنا في كما موضع االتفاق والحق مع ما هو ثابت
محفوظ مما رواه اإلمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى األشعري قا :قا رسو هللا صلى
هللا عليه وسلم:
(( إنما جعل اإلمام ليؤتم به ،فإذا كبر فكبروا ،وإذا قرأ فأنصتوا))
وذكر بقية الحديث .وهكذا رواه بقية أهل السنة أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن
أبي هريرة عن النبي صلى هللا عليه وسلم أنه قا ((:وإذا قرأ فأنصتوا )) وقد صححه مسلم
بن الحجاج أيضا ،فد هذان الحديثان على صحة هذا القو ؛ وهو قو قديم للشافعي رحمه هللا-
وهللا أعلم -ورواية عن اإلمام أحمد بن حنبل رحمه .أورد هذا ابن كثير في تفسيره بخصوص
سورة الفاتحة.
مقابل هذا هناك تطرف يقو بوجوب قراءة الفاتحة في كل األحوا استنادا أو كما جاء في
األثر الذي ر واه مسلم في صحيحه أنه قيل ألبي هريرة رضي هللا عنه ( :إنا نكون خلف
اإلمام ،فقا :إقرأ بها في نفسك) .ومنهم من قا بقراءتها مدة سكتة اإلمام.
81
ولئن كان إشكا االستدال والتعارض والترجيح قد فصلنا فيه القو وبيناه وهلل الحمد بشكل
واضح في معرض إشكا (كفر دون كفر) في الجزء الثاني ،وأوضحنا وسطرنا على خطر
ووجوب االعتبار والفقه الصحيح لدالالت االصطالحات الحديثية ،فرب حديث هو على
معايير الحديث في أعلى درجات الصحة قد يكون في الحق غير ثابت ،ورب حديث ضعيف
واه بمعايير المحدثين هو في الحق ثابت حق .كما أن قو الصحابي وإن ثبت ليس مسلما
بصحته وأحقيته ،وإال حقت العصمة للصحابي مطلقا ،وهذا ال يحق فقد عارض الصحابة
رضي هللا عنهم بعضهم بعضا ،وليس في ذلك ما يخالف الحق ،فإن العصمة ليست إال للوحي
الكريم كتابا وسنة ثابتة صحيحة .هذا معيار من ناقضه نقض الحق من مبدئه وأصوله.
لئن كان هذا أمرا بينا ،فقولهم بوجوب قراءة الفاتحة مطلقا ،بل وتحديدا في آنات السكت
لإلمام ،أمر ال شك يجلي أثر التقليد والترديد في األقوا على ملكة العقل حتى وكأنه ال يبقي
من أثرها شيئا وال يذر ،ذلك أن هللا تعالى خلق اإلنسان وجعل نظمة إدراكه بالنسبة لبعد الزمن
نقطاتية ،بمعنى أنه ال يمكن إلدراك اإلنسان أن يتواجد في نقطتين مختلفتين في آن زمني
واحد ،وهذا أمر مجمع عليه في العالمين إال من ال يعقل وال يفقه معنى ما يقو .من ثمة
وبحقيقة وما تقرر من انطباق اإلدراك بكل آن من تماس الحواس ممثال في آنية التمركز
العصبي التجميعي ،فال يمكن أن يحصل السماع بل اإلنصات لقراءة اإلمام مع القراءة القلبية
في ذات اآلن .أما السعة الزمنية التي قد يرجوها البعض في آنات السكت لإلمام فهي ليست
شرطا أصال قبل أن تشترط كفايتها ابتداعا وتكلفا.
82
-الفرض الخامس من فرائض الصالة الركوع
لئن كان الركوع من حيث إيحائه وتمثيله الداللي أقرب أو كأنه ذات التجسيد لإلطاعة
والخضوع الذي نز بيانه في قوله سبحانه وتعالى{:وقالوا سمعنا وأطعنا'}(البقرة ،)214فقد
جاءت األقوا كلها بخصوصه قوال واحدا مجسدة لالتباع واإلئتمار لما جاء في بيانه وهيئته
في صالته وسنته عليه الصالة والسالم ،واجتمع القو في هيئته وحصوله باالنحناء بوصل
اليدين للركبتين وتسوية الظهر إال الحنفية الذين قالوا <:يحصل الركوع بطأطأة الرأس ،بأن
ينحني انحناء يكون إلى حا الركوع أقرب .فلو فعل ذلك صحت صالته .أما كما الركوع
فهو انحناء الصلب حتى يستوي الرأس بالعجز>
عالوة على شقوة النزعة الخالفية كمكون جوهري ظاهر وجلي عند الحنفية غير خفي ،وكذا
انتقاض القو وانحالله داخليا في تركيب (يكون إلى حا الركوع أقرب) وهو بصدد تحديد
الركوع ذاته ،فإن عرض هذا القو على األصل الممثل في حكم الشارع وقوله صلى هللا عليه
وسلم ((:صلوا كما رأيتموني أصلي)) وعلى الحجية المجمع عليها تأصيال وفقها لحديث
المسيء صالته ،فقو األحناف هذا مردود ال يلتفت إليه وليس له من مكونات القو الذي يراد
به حكما فقهيا ذرة من أهلية وال مشروعية ،إنما هو قو أريد به بث الخالف ال غير ،ذلك أن
الحق هنا بين ال سبيل لالختالف فيه.
83
-فرائض -السجود وشروطه
-الرفع من الركوع
-الرفع من السجود
-االنتدال
-الطمأنينة
هنا ال موجب لالختالف ،ويكفي الدليل العملي لفرضية السجدتين العامل الحاسم في تقييم
األقوا وتصحيحها ورد ما ال يوافق لزومتيها ومقتضى هذه الفرضية مما كان من قبيل قو
الحنفية في الركوع .كما أننا نجد في قو الشافعية موجها لهذه كله في شرطية عدم إطالة
الجلوس بين السجدتين .نعني بهذا أن المؤطر سواء في الحكم أو في الهيئة هو التالزم البيني
في استيفاء وحصو حقيقة الركوع والسجدتين والرفع منهما واالعتدا والطمأنينة ،وكذلك
بين السجدة ثم الرفع منها والجلوس والسجدة الثانية واالعتدا والطمأنينة.
كل األقوا مع فرضية الجلوس األخير بقدر حصو السالم المفروض والتسليمة على األدنى،
وذلك تبعا لحديث عبد هللا بن عمرو بن العاص رضي هللا عنهما إذ قا له رسو هللا صلى هللا
عليه وسلم:
(( إذا رفعت رأسك من السجدة األخيرة وقعدت قدر التشهد فقد تمت صالتك))
هو فرض عند الشافعية والحنابلة ال عند األحناف والمالكية الذين يعتبرونه سنة.
84
-الفرض الثالث نرر السالم
-الفرض الرابع نرر ترتيب األركان
تواطأ فقه الكل وأجمعوا على أن التسليم المحل ال يكون إال بلفظ السالم ،وإال بطلت الصالة،
إال الحنفية فسقوا عن هذا التواطؤ الفقهي واإلجماع وقالوا يخرج من الصالة بكل عمل مناف
ولو كان بنقض الوضوء؛ ثم هم يقولون :ولفظ السالم ليس فرضا وإنما هو واجب؛ وما كان
دليلهم إال أنهم قالوا :لقد قا الرسو صلى هللا عليه وسلم حين علمه التشهد ((:إذا قلت هذا فقد
قضيت صالتك ،إن شئت أن تقوم فقم ،وإن شئت أن تقعد فاقعد)) فلم يأمره – يقو الحنفية-
بالخروج من الصالة بلفظ السالم.
هذا عين ما سلكوه من طريق الباطل بشأن قراءة الفاتحة مما يعلمون بطالنه أكثر من غيرهم
ألن المخادع والمدلس أو من يعلم بهذا الزيف والتدليس؛ وإنه في علم البيان المتفق عليه لدى
بني اإلنسان والعالمين ظاهر عدم االستلزام ومن تم التلبيس المتعمد فيما يخادعون به
المخاطب الساذج أنه استشهاد وإن هو في حقيقته إال محض الخداع وبين االستجها .إن هللا
تعالى خلق اإلنسان وعلمه البيان ،ومكون الحكمة في البيان كمكونها في خلق ذات اإلنسان
جبلة وخلقا ،وإذا كان أبرز ميزات الحكمة القصد واالختزا ،فإنما ذلك تناسقا مع البنية
العالئقية للحقائق واألشياء والحيثيات المؤثثة والمركبة لكل أبعاد األحوا واألحداث ،ليكون
بإدراك القلب السوي الذي يعقل بعضها مستلزما لبعض؛ فإن أيقظك أحد من نومك وقا لك:
إذهب فصل؛ فالوضوء بالبداهة وميزان البيان اإلنساني متضمن مستلزم ألن طرفي الخطاب
عنصران معرفيان مجاليان .إن الخروج من الصالة ولفظه وصيغته مكون جوهري من حقيقة
وجوهر الصالة ،والصالة عبادة وأمر العبادة توقفي ،ومن يضلل هللا فال هادي له.
أما بخصوص الترتيب ،فبعد ذكر االتفاق الحاصل فيه إال األحناف قا المؤلف وهو يعرض
قولهم:
<الحنفية قالوا :إن الترتيب المذكور شرط لصحة الصالة ال فرض ،وعلى كل حا فال بد منه،
إال أنهم قالوا إذا ركع قبل القيام ،ثم سجد وقام فإن ركوعه هذا ال يعتبر ،فإذا ألغى الركوع
األو ثم ركع وسجد فإن الركعة تعتبر له ،وعليه أن يسجد للسهو إن وقع منه ذلك سهوا ،فإن
فعله عمدا بطلت صالته .وهذا إذا ركع بدون أن يقوم .أما إذا قام ولم يقرأ ثم ركع فإن صالته
85
تكون صحيحة ألن القراءة ليست فرضا في جميع الركعات ،بل هي فرض في ركعتين ،فإذا
أدى ركعتين بدون قراءة فإنه يفترض عليه الترتيب في الركعتين الباقيتين>
التحليل العلمي الفقهي المتضمن لبعدي العقل والمنطق لهذا القو مادة ونصا ،العقل نور
والمنطق ميزانه وأنسقه ،وبغض النظر عن افتقاد الشرط البياني ضمن شروط األهلية العلمية،
يفضي ويخلص أمر بين وحقيقة ظاهرة هو البنية السفسطية المتوسلة والمعتمدة في تحويرها
وخداعها بأصح المعنى على إقحام المباين في موضوع القضية ثم جعل حكمه يسري ويمتد
على الموضوع األصل.
الحديث هنا إنما هو على الترتيب في البناء الفعلي للصالة الذي يختز أوليا في بنية الركعة إذ
كل صالة وحدتها البنيوية هي الركعة .بيد أن الحنفية ،وقد أبانوا هنا على غلبة شقوة التفرقة
والمخالفة شرعة خالصة هي طريقة وشارع الهم والفكر عندهم ،نراهم أقحموا -ذاك ما تفتق
عنه نظرهم وبئس النظر -أقحموا القراءة على غير صلة موزونة وجعلوها موضوع سؤا
الترتيب ،وهذا لعمري أخس شواكل الخداع ويكفي تذكرة ألهل الخطاب أن نستحضر فقط
مقولة وتركيب الفقهاء بالنسبة للمسبوق ،مقولتهم :البناء في األفعا والقضاء في األقوا ،حتي
يمتاز المكونان وينجلي واضحا أكثر ما يكون الوضوح هذا الخداع والتلبيس المراد عند
الحنفية.
ورغم كل هذا فالحق له حصانته ومناعته بدرء بنيته وحقائقه لكل ما ليس منه وال يستقيم
وسوي األفئدة والميزان ،فهم أبدا مرجوحون محاصرون بهذا القهر تراهم قد استحالت أقوالهم
ضربا من الخلط عوجا كله وأمتا ،وهذا قولهم في الترتيب رغم ما سعوا في نقضه ،يقولون
بخصوصه(:وعلى كل حا فال بد منه) فالحق في استلزام وتناسق األركان الفعلية بعضها
ببعض ملزم بالحق في ترتيبها ،ومن أذهب هللا عقله وقد وأده بالتقليد فما له من نور
86
.
حقيقة الحنفية كما هي في الحق حقيقة هاتيك المذاهب كلها ،وما اإلسالم إال دين واحد وما
األمة في أمر هللا سبحانه إال أمة واحدة ،تبرز هنا ماثلة بوضوح نزعة االختالف بأين كان
سبيله ولو كان هذا السبيل هو التحريف المغرض المتعمد ،فإننا هنا نرى ذات الطريقة في
السفسطة واإلخال بالحق والميزان ،نعني عند الحنفية في الجلوس بين السجدتين ،التي
سلكوها في إبطالهم لفرضية قراءة الفاتحة في الصالة ،حيث زعموا الدليل قائما واالستشهاد
منجزا بالحديث الثابت الصحيح المتفق عليه وفيه أن رسو هللا صلى هللا عليه وسلم رأى رجال
يصلي صالة ناقصة (هذا هو التعبير الوارد هنا) فعلمه كيف يصلي فقا له:
(( إذا قمت إلى الصالة فكبر ،ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ،وفي بعض الروايات (فاقرأ بأم
القرآن) وقا :ثم اركع حتى تطمئن راكعا ،ثم ارفع حتى تعتد قائما ،ثم اسجد حتى تطمئن
ساجدا ،ثم ارفع حتى تستوي قائما ،ثم افعل ذلك في صالتك كلها))
في عرضه لقو الحنفية وشرحه يقو المؤلف:
< إن الحديث المذكور ال يد على الفرضية ،وإنما يد على أن النبي صلى هللا عليه وسلم
يريد تعليم الرجل الصالة الكاملة المشتملة على الفرائض والواجبات والسنن ،وليس المقام
محتمال للشرح والبيان ،ولهذا لم يذكر في الحديث النية والقعود األخير مع أنه فرض باتفاق،
وكذلك لم يذكر التشهد األخير مع أنه فرض عند بعض األئمة ،وكذلك لم يشتمل الحديث على
أشياء كثيرة كالتعوذ ونحوه؛ فد ذلك كله على أن الغرض إنما هو تعليم الرجل كيفية الصالة
بطريق عملي ،حتى إذا تعلمها أمكنه أن يفهم ما هو فرض وما هو واجب أو مسنون>
وذكر رد األئمة الثالثة في قولهم:
<إن طلب هذه األعما من الرجل دليل على فرضيتها ،وإنما لم يذكر له باقي الفرائض ألن
الرجل أتي بها ،وهذا حسن>
وأردف معقبا:
< وهذا حسن إذا د عليه دليل في الحديث ،ولكن أين الدليل؟ على أن االحتياط إنما هو في
اتباع رأي األئمة الثالثة ،خصوصا أن الحنفية قالوا :إنها واجبة بمعنى أن الصالة تصح بدونها
مع اإلثم كما تقدم>
87
بالطبع ما ورد هنا قوال لألئمة الثالثة ال يتجاوز درجة الفصل على االحتما وال يقوم مقام
الفصل في الحجاج؛ كذلك المادة البيانية الواردة عند المؤلف (االحتياط) ال ينبغي أن تكون وأن
توجه األقوا الفقهية بها في حيز ودرجة علمية كهذا الشأن .فمن خال هذا وبناء من جهة
التصويب على ما سلف بيانه في فرضية قراءة الفاتحة في توضيح وتحديد مكمن التغليط
والتلبيس على الناس وإضاللهم بدجل من القو وتحريف الكلم وأنساق الفؤاد والعقل التي
عليها يكب وينسج الفكر حتي يصبح جمال من البيان وأقواال وأحكاما؛ من خال هذا وذاك ال
يسعنا وقد أضنانا وقد استشعرنا قدرا من اإلسراف كما عبر عنه الشوكاني ومن قبله ابن حزم
رحمهما هللا في مجادلة ال الجهل فحسب وإنما قوم بات من بعد حين على إشرابهم عبادة
المذهبية ،بات همهم كله االختالف والعمل على االختالف فقط ،نقو بأن هذا الكالم الصادر
عنهم وهذا المستوى الذي هو السائد والواقع في اعتبار العلم الشرعي والفقهي ،يكفي أن نقو
كونه عينة لهذا الواقع ولهذه الحقيقة.
88
واجبات الصالة
يذكر المؤلف هاهنا ويعرض للتحديد المفاهيمي واالصطالحات الفقهية للمذاهب المبتدعة التي
أبت إال الخالف وقد نز في الذكر أن دين هللا واحد وأن أمة اإليمان واإلسالم أمة واحدة.
فالمالكية والشافعية عندهم الفرض والواجب عموما بمعنى واحد ،وليس عندهم إال الفرض
والسنة إال في حيز وفقه الحج فهناك فرق بين الفرض والواجب ،حيث الفرض ما يبطل به
الحج بتخلفه والواجب ما يلزم عليه الهدي .لكن الحنفية عندهم دوما الواجب دون الفرض
وفوق السنة؛ وقالوا واجبات الصالة ال تبطل الصالة بتركها الذي يوجب سجود السهو ،وإن
تركها عمدا وجب عليه إعادة الصالة ،وإن لم يعد صحت صالته مع اإلثم؛ وقالوا دليل وجوبها
مواظبة النبي صلى هللا عليه وسلم عليها.
لنحلل ولندرس مكونات هذا القو في أوله ،أي قبل الدخو في تحديد هذه الواجبات.
إن قولهم يكون دليل وجوبها هو مواظبة النبي صلى هللا عليه وسلم هو إقرار بالتحقق الواقعي
لمكون عملي من خال دليل الثبوت واالطراد ،ألن حقيقة المكون المباينة والمميز له عن
العارض في اإلعما هو درجة تحققه العملي وظهوره المطرد.
فيظهر هنا جليا نزوعهم الجحودي وسعيهم الحثيث في إبطاء الحق وناموسه بشكل صارخ
صريح ،ذلك أن الصالة في تحديدها إنما هي بالنص واألصل الشرعي في قوله وأمره صلى
هللا عليه وسلم:
(( صلوا كما رأيتموني أصلي))
والبعد العملي أو الماهية القانونية لهذا المحدد الشرعي هو نفسه وهو ذاته في قوله وأمره عليه
الصالة والسالم ((:خذوا عني مناسككم))
لكن وكما أخبرنا عليه الصالة والسالم وحذرنا منه ومن سوء الوقوع فيه هو أنه ما أوتي قوم
الجد إال ضلوا؛ فإنك تجد االختالف قد بدأ هينا أو ما بدأ ربما يجد له مسوغا ومنشئا طبيعيا
بحكم االختالف البداهي للعقو وسعة أفقها ومداركها ،لكن ما يلبث الخالف أن يمتد ويتسع ال
بحق المسوغات العلمية والمعاييرية ،وإنما بغيا ومجادلة إلبقاء شروخ التفرقة والشقاق
واالختالف.
وإن هم قالوا هنا استدالال لحجية الواجب بدليل السنة والمواظبة ،فدليل األحرى يلزمهم أن
تكون قوة الدليل والحجة أكبر بل ألزم وأجدر أال يخسروا فيها ميزان الحق بالنسبة لقراءة
89
الفاتحة وللترتيب؛ كيف واألمر أمر تنز من السماء؛ أال يظن أوالء أن لعملهم وضاللهم هذا
وإضاللهم تبعات جلال عظاما ويوم القيامة حمال ثقيال أوزارا.
إن تناقضاتهم بخصوص تحديد واجبات الصالة كأنها الفراش حو نار متطاير .أوال قولهم
بالصفة الواجبية أي الوجوب في قراءة الفاتحة وبضم السورة لها واجبين مستقلين .فماذا يعني
هذا تحليليا؟
أوال االعتبار التعددي المختلف للواجبين -درجة السنية المؤكدة عندهم -للفاتحة وللسورة (أي
قراءتيهما) تعني الوزن أو الكتلة غير المنعدمة للعنصرين في القاموس الفقهي ،الذي هو
قاموس علمي بحث.
وعدم فرضية – بمعنى سنية -قراءة الفاتحة يجيز تبعا لهم عدم تحققها ،وبالتالي فالضم هنا
مقيد بالتحقق للمفهوم إليه ،وعدمه يفرض تبعا لهم انتقا قراءة السورة من الوجوب – السنة-
إلى الفرضية؛ ها هنا تصبح السنية والفرضية سواء في قراءة الفاتحة أو قراءة السورة
محتملتين قيمة الحكم ،وهذا باطل إال أن نرجع إلى قولهم األو كون الفرض هو القراءة مطلقا
أي بما قرأوا به وتأولوا به تحكما ال بعلم وبحق ،بما تأولوا به اآلية والحديث{:اقرأوا من تيسر
منه} و(( اقرأ ما تيسر معك من القرآن)) ولكنهم قرروا بكون (السورة) و(الضم) لفظين
قاموسيين علميين غير منعدمي الكتلة ،كما قوتهما التحققية هي قوة المواظبة ،وهل شيء أقوى
في اإلعما إثباتا وصدقا من مطرد التحقق.
ثم إنهم قالوا بوجوب< :قراءة التشهد الذي رواه ابن مسعود ويجب القيام إلى الركعة الثالثة
عقب تمامه فورا ،فلو زاد الصالة على النبي صلى هللا عليه وسلم سهوا سجد للسهو ،وإن تعمد
وجبت إعادة الصالة وإن كانت صحيحة> وهذا بالطبع في القعود األو .
ورود هذا ضمن واجبات الصالة يفيد ويعني أن درجة وحكم نفي والمنع من الصالة على النبي
صلى هللا عليه وسلم في القعود األو أعلى عندهم من درجة قراءة الفاتحة ،غير ثابتة
الفرضية ،وقد يستغنى ويستكفى بغيرها وتصح الصالة من غير وجوب إعادة.
ولئن كان عدم إتمام ذكر التشهد كما ذكرناه وجعله أولو العلم من عالمات الفقه والغور في ثنايا
العلم وحكمته ،فإن هذا االعتبار عندهم أعوج غير قوم ،تمادوا وخالوا الغي يسيرا فأرخى الليل
ظلمته وليس الحطب بليل سرى فيحمد ،هم الذين سعوا في الحق مجادلين يبتغون الفرقة
والخالف ويجحدون حتى سقط في أيديهم وأبلسوا وأظلم عليهم وذهب نورهم.
إن هللا تعالى وهو العزيز الحكيم أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله،
واصطفى سبحانه وتعالى لصحبته صفوة الناس حكمة بالغة وحفظا للدين متواترا على االتباع
90
بالشهود ،وإن كان طائفة من أمتنا نسوا على حين من الدهر ،فإننا نذكرهم بأن إطار الصحبة
واالجتماع النبوي الشريف ،االجتماع المؤسساتي الحق واألمثل واقعا ونموذجا تاريخيا
للعالمين ،وكل ذي علم راسخ في الوجود هو عليه من الشاهدين؛ هذا اإلطار واالعتبار للسنة
والجتماعها الوظيفي متصل في الحق بقوله عز وجل{:اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم
نعمتي ورضيت لكم اإلسالم دينا'}(المائدة)4؛ المعنى التأكيدي والمسطر عليه لالصطفاء
التأسيسي والوظيفة البيانية للدين كله في أحكام وأركانه ،وهيئة عبادات ومناسكه ،هذا الشأن
العلمي والفقهي العظيم الذي من افتقده وتر العلم والفقه كله الممثل في حقيقة هذه اآلية البينة
العظيمة كان نورا على هديه رسخت قدم علم وفقه إمام اليمن الرباني محمد بن علي
الشوكاني ،الذي لم يشك أبدا في ضال المذاهبية وافترائها ودعواها الكاذبة المضلة والمفرقة
لألمة ،دعواها تمثيل اإلسالم ،وإنما اإلسالم شريعة واحدة ،وإن المذهب في الحقيقة اللغوية هو
الشريعة ،وإن أمة اإلسالم أمة واحدة .يقو هللا تعالى:
{ألم أعهد إليكم يا بني آدم أال تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني' هذا صراط
مستقيم' ولقد أضل منكم جبال كثيرا' أفلم تكونوا تعقلون'}(يس' )11. . 55
91
سنن الصالة
يقو المؤلف:
<ولعل قائال يقو :لماذا جعل الشارع بعض أفعا الصالة فرضا الزما وبعضها غير الزم؟
والجواب :أن هللا تعالى أراد أن يخفف عن عباده ويجعل لهم الخيار في بعض األعما ليجز
لهم الثواب عليها ،فإذا تركوها باختيارهم فقد حرموا من الثواب وال عقوبة عليهم ،وذلك من
محاسن الشريعة اإلسالمية التي رفعت عن الناس الحرج في التكاليف ،ورغبتهم في الجزاء
الحسن ترغيبا حسنا>
هاهنا ال شك ينجلي أحد اإلشكاالت الكلية التي تهم البناء الفقهي واعتباره وتصوره عند من
يمثله في مدرك الناس سواء طلبة العلم منهم أو عامتهم ،هو إشكا معياري له صلة بالبعد
والملكة الترتيبية لألشياء والحقائق.
فالصحيح هو أن الصالة سابقة في التحديد ،وأن من تحديدها وجوهرها وحقيقتها التي ال تتجزأ
ما نسميه اصطالحا فقهيا بالسنن ،ال أن الشارع قا :انظروا فهذا الجزء المفروض من أداه
كان مصليا ،وهذه من شاء أتى بها ومن لم يشأ فال إثم عليه .بمعنى أن تصور المؤلف الذي
يعرض هنا للمذاهب الفقهية األربعة ،تصوره للسنة وتمثله لمفهومها كحكم شرعي على
مستوى ثان ليس يطابق حقيقتها ،وبمعنى أوضح تمثله إياها معجميا ليس صحيحا .ويكفي بيانا
في بعد هذا التصور وهذا االعتبار لحقيقة السنن في الصالة ،يكفي عدم مسايرته الحقائقية وال
توافقه ال اقتضاء وال تأصيال مع األصل الشرعي المحكم الجامع:
((صلوا كما رأيتموني أصلي))
العابد ليس في خيرة من أمر العبادة؛ ورحمة هللا تعالى كتبت عنوانا معلقا فوق العرش قبل أن
يخلق سبحانه السماوات واألرض ،تجليها مطلق سار في خلقه والدين كله رحمة ويسر ،يقو
سبحانه:
{إن هللا بالناس لرؤوف رحيم'}(البقرة)142
{وما جعل عليكم في الدين من حرج'}(الحج )41
{يريد هللا بكم اليسر وال يريد بكم العسر'}(البقرة)114
فاللفظ وقولهم إياه (من محاسن الشريعة) ينبغي مراجعته وباعتبار أمر هللا تعالى كله حسن
وكما وباعتبار شيوع التقليد حتى في األقوا وافتقاد الغالب للدقة في معرفة فروق المعاني
والتراكيب ،فالخطأ والسوء بجهالة وارد راجح ،من أجله وجب الرد لهذا التعبير مطلقا .وكما
92
قلنا فالسنن من ذات الصالة وحقيقتها ،والصالة سابقة لالصطالح الذي غايته عالقة معرفية
وعقلية بمعنى فقهية علمية.
إن هللا جل وعال ،وهو سبحانه الود الرحيم ،جعل التسديد والتقريب قانونا تواجديا متجليا أكثر
ما يكون التجلي في نظام النسق المهيكلة لهذا التواجد الممثلة في الدين وتشريعاته من حيث هي
تكاليف محددة من ضمن ما هي محددة به بأبعاد الزمن والكم والهيئة ،وهذا القانون هو رحمة
من هللا تعالى أحكم الحاكمين بالحق ،وهو في كنهه يختز العالقة العظيمة بين التشريع والعلم.
فاإلنسان في صلته الوجودية والتواجدية بهذا الفضاء وبهذه األبعاد خاضع ألسره الخلقي
ومحدودية الضبط واالنضباط مما أسميناه بالمسألة البعدية .وفي هذا المعنى ورد وبه يفسر
ويأو قو رسو هللا صلى هللا عليه وسلم ((:ولكن سددوا وقاربوا)) الذي يتضح مغزاه
ومدلوله أكثر بربطه ووصله بتسوية الصف في الصالة ،فأمر التسوية ثابت ولكن درجة
التسوية هي على التقريب والتسديد.
وعلى بعد تعميمي في مستوى التكليف ورحمته تعالى ودين هللا كله رحمة وهو الحق نز قوله
عز وجل:
{علم أن لن تحصوه فتاب عليكم' فاقرأوا ما تيسر من القرآن' علم أن سيكون منكم مرضى
وآخرون يضربون في األرض يبتغون من فضل هللا وآخرون يقاتلون في سبيل
هللا'}(المزمل)11
فقوله تعالى{لن تحصوه} يد ويفيد سعة التكليف وطاقته رحمة منه سبحانه إنه كان عليما
حكيما.
فهذا معيار حق ،معيار العلم بحقيقة وقانون التسديد والتقريب في الشريط األدائي للتكليف
والعبادة ،ال ما تصوروه عن محدودية في اإلدراك وقصور في فهم واستيعاب الحقائق وكأن
السنن أشياء وأمور زائدة ليست من ذات وجوهر الصالة .ولمزيد من اإليضاح بغاية إزالة هذا
االلتباس وتداخل المفاهيم والمدركات نقو بأن ضابطه اعتبار صلة مسمى السنة في هيئة
وأداء حقيقة الصالة والسنة المرادف حكما للنافلة والرواتب اعتبارا منحوا إلى االشتراك
اللفظي فحسب ،فذلك قمن أن يرفع اللبس ويصوب ضبط هذه األشياء في التصور واإلدراك.
هذا العقد واالرتباك المفضي حتما للتفاقم واالختالف وإن كان ذلك غير جلي لعسر تفسيره
وارتباطه بالجذر اإلدراكي والبياني الذي هو نواة ومشكاة الفكر وأصل كل ما يلفظ من الكلم
والقو سليما كان أو سقيما ،وإنما لسان ترجمان القلب دليل على محض السريرة والعقل؛ هذا
االختالف نلمسه ونراه ظاهرا وواضحا أكثر عند الشافعية في اصطالحهم المتداخل(:الركن-
93
الهيئة -األبعاض) واختالله وعدم انتظامه ،فجعلوا السنة قسمين أبعاضا وهيئات ،بيد أنهم
عرفوها بإضافة سلبية بعضها إلى البعض اآلخر .والمالحظ أكثر من غيره هو تفاوت
الدرجات السلمية وتداخله بين عناصر األبعاض والهيئات ،منها جعلهم دعاء القنوت وأيضا
الصالة على النبي صلى هللا عليه وسلم بعده بعضا أي من األبعاض ،والتشهد األو كذلك،
فسووا بينهما في سلم ودرجة الحكم؛ وهذا يعود بنا إلى تمايز السنية الذي أشرنا إليه.
وسووا في ذلك أيضا بين الجلسة الخفيفة بين يدي القيام إلى الركعة الثانية أو الرابعة ،وهذه من
أهم دالئل الخلل المعياري عند القائلين بهذه الجلسة الخفيفة التي في الحق لم تصح ولم تثبت إال
بقيد التحيين ،أي أنه صلى هللا عليه وسلم لم يكن يفعلها إال في فترة من حياته عليه الصالة
والسالم مما يعلمه كل من سار ونا حظا عتبة فقهية وعلمية.
قلنا بأنهم سووا في الدرجة بين حكم هذه الجلسة وحكم قراءة السورة والخشوع في الصالة،
قالوا هي كلها سواء عناصر هيئاتية .وهذا القو من حيث حدة تفاقمه وبروز وصريح هذا
التفاقم يضاهي الحدة غير الخفية للحنفية حتى كأنه شيء يراد ،وببساطة ألن هذا ال يختلف وال
يقبل عند طفل ال يزا في زمن اللهو يسيل من أنفه المخاط.
ثم هم يقولون من شأن اإلمام بداهة أمرا حاصال أن يترك زمنا يتيح فيه للمأموم قراءة الفاتحة،
ويكون له هو ذكرا وتسبيحا وشيئا مثله.
وإن تعجب فعجب من يفسر ويقو بأن إسدا اليدين وعدم وضع اليد اليمنى على اليسرى
معلل بداللة وتأصيل أن االعتماد في حفظ شيء إذا خيف عليه ال يكون باليدين كما هو العادة
وإنما هو يكون بالقلب.
94
شرح بعض سنن الصالة
95
ركب اختالفها لتختلف األمة وتفرق دينها وتتبع السبل فتضل عن سبيل هللا ويحق عليها القو
في أمم من خال من أمم التاريخ..
متجهات التأسيس للدين عند هذه المذاهب كما هو ظاهر جلي كأنه وجودهم من األقوا بشأن
فرض ومكون جوهري أولي للصالة التي هي أساس للدين كله وعماده ،هذه الموجهات
المؤسسة لكل ما يلي للبناء وللفقه كله ألن الحقائق عند هللا أحكم الحاكمين لها انتظام ال ينفطر
وال يختلف انتظام موزون ،هذه الموجهات عالقتها الوجودية التناقض والتنافر فال ينبني عليها
اجتماع وال اتفاق ،بل هي أبدا مفرقة ودين هللا ال اختالف فيه وأمة اإلسالم أمة واحدة..
إن مجرد هذه الموجهات كافية في الحق ليعلم ويقطع باليقين أن هذه المذاهب هي بذات سبيل
مقيم ،وما كان هللا أن يأمر بالكفر بعد اإليمان ويستبد شرائع مذاهب متناقضة بالدين الحق
الذي نز به القرآن العظيم وبينه محمد رسو هللا صلى هللا عليه وسلم.
هللا تعالى ذو العزة والجبروت يقو :
{إن هذه أمتكم أمة واحدة' وأنا ربكم فاعبدون'}'األنبياء)51
ويقو سبحانه ،وما كان لمؤمن وال مؤمنة أن تكون لهم الخيرة ،وما كان لمؤمن سوي العقل
يخاف ربه أن يخالف أمره ويسعى في عصيان أمره ،يقو سبحانه:
{وال تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا' كل حزب بما لديهم
فرحون'}(الروم )50
{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى
وعيسى أن أقيموا الدين وال تتفرقوا فيه'}(الشورى)41
وهؤالء أجمعوا أمرهم أن يفرقوا الدين ويدعون الناس أن يفرقوا أمرهم ويكونوا شيعا ،أجمعوا
على عدم االجتماع في صالة واحدة ألنه ببساطة ال يصلون جميعا بعضهم ببعض أو مع بعض
كما يتبين من اختالفهم في شروط انعقاد الجمعة وصحتها إال ببطالن صالة بعضهم أو صالتهم
جميعا ،والصالة عماد الدين والدين روح االجتماع البشري الحق الذي أرسل به الخالق سبحانه
وتعالى مالئكته ورسله وأنبياءه ،فهل من شك وهل يرتاب عاقل من بعده في كون ما تدعو إليه
المذاهب هذه؟ إنما هي دعوة الشيطان لعنه هللا ،فهذا بناؤها وهذا ما تدعو إليه ،وهللا ال يهدي
القوم الفاسقين.
هذا ال شك فيه قل من كثير من مظاهر االختالف واالختال إن على مستوى المذهب والحزب
الواحد أو علو المستوى الجامع الذي يبقى لزوم تمثيله اإلسالم وشريعة المسلمين ،يبقى أمرا
مفروضا من قبل ومن بعد.
96
-السترة
على هذا المنوا في وضع الصورة المذاهبية في حقيقتها حتى ال يغتر بها ،هذا مثل من هذه
التفاقمات التي حاشا أن تكون من ذات ومشكاة شرع هللا وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلم،
ألن الحق أبدا سوي مستقيم ال عوج فيه وال تناقض؛ هو مثل قو الشافعية وإن شئت قلت
اختالف واختالط الشافعية في السترة للصالة على الذي يلي:
<ال يحرم المرور بين يدي المصلي إال إذا اتخذ سترة بشرائطها المتقدمة وإال فال حرمة وال
كراهة وإن كان خالف األولى .فإذا تعرض المصلي للمرور بين يديه ولم يتخذ سترة ومر أحد
بين يديه ،فال إثم على أي واحد منهما؛ نعم يكره للمصلي أن يصلي في مكان يكون فيه عرضة
لمرور أحد بين يديه سواء مر أحد بين يديه أو لم يمر>(المؤلف المرجع -حكم المرور بين يدي
المصلي)
هذا والشافعية هم أشد تقييدا في شروط السترة من غيرهم ،فقد علقوا صحة أنواعها بتراتبها ،ال
يصح نوع إال بعد الذي قبله ،قالوا:
<فالمرتبة األولى :هي األشياء الثابتة الطاهرة كالجدران والعمد؛ والمرتبة الثانية :العصا
المغروزة ونحوها ،كاألثاث إذا جمعه أمامه بقدر ارتفاع السترة؛ المرتبة الثالثة :المصلى التي
يتخذها للصالة عليه ،سجادة وعباءة ونحوهما ،بشرط أن ال تكون من فرش المسجد ،فإنها ال
تكفي في السترة؛ الرابعة :الخط في األرض بالطو أو بالعرض ،وكونه بالطو أولى.
ويشترط في المرتبة األولى والثانية أن تكون ارتفاع ثلثي ذراع فأكثر ،وأن ال يزيد ما بينهما
وبين المصلي عن ثالثة أذرع فأقل من رؤوس األصابع بالنسبة للقائم ،ومن الركبتين بالنسبة
للجالس .ويشترط في المرتبة الثالثة والرابعة أن يكون امتدادهما جهة القبلة ثلتي ذراع فأكثر،
وأن ال يزيد ما بين رؤوس األصابع ونهاية ما وضعه من جهة القبلة عن ثالثة أذرع>
هم يقولون أوال ،أي الشافعية ،بأن ال حرمة وال كراهية في المرور بين يدي المصلي في حين
عدم اتخاذه سترة بالطبع بشروطها؛ هذا معناه حقائقيا ويستنبط منها حكم كون المرور محايدا
تأثيريا سواء على المصلي أو على المار؛ ثم هم يقولون يكره للمصلي أن يصلي في طريق
الناس بالطبع لعلة احتما مرور الناس بين أيديهم ،وبالتالي فالمرور أسند إليه الكراهة مما
يعني أنه غير محايد تأثيريا ،وهذا خلف؛ وهو تحقق جلي لقوله تعالى وهللا واسع عليم{:ولو
كان من عند غير هللا لوجدوا فيه اختالفا كثيرا'}(النساء)11
واإلشكا هنا فيما يخص إطارات القو هذه ،إطارات ما يعتبر ويسمى مذاهب فقهية هو
اختالط حقيقتي ومفهومي االجتهاد المطلق بما هو أقوا وآراء اجتهادية وبشرية محضة يعتب
97
فيها على السعة طبيعتها هاته ،واالجتهاد في إطار يراد له أن يكون تقعيدا مفصال للشرع بما له
صلة بالتنزيل والفتوى به ،وهذا المعنى الثاني هو الذي ورد فيه الوعيد والتحذير من القو فيه
إسرافا من غير رد إلى الحق والميزان في البيان بما هو هنا قواعد للنحو ،وفي الفروض
والواجبات بما هي أداء في الهيئة والتوقيت والكم ،وفي المعاني والمقوالت بما هي ميزان
صحة أنحاء وتراكيب التفكير والقو المنطبق بحقيقة المنطق.
إن الوجوب أو الفرضية ثم السنة فالندب ثم الكراهية فالنهي ثم الحرمة ،هي أحكام الشريط
الفقهي لألفعا ،وهي متماثلة زوجيا:
(-الوجوب ،الحرمة)
(-السنة ،النهي)
(-الندب ،الكراهية)
هذه األحكام بطبيعة الحا وكذا موضعها من الشريط األحكامي الفقهي سابقة سبق الحق للقو
البشري ،فال جرم أن الذين يخالفون ويعملون بما ينقض النظمة الحق لهذا الشريط ويبطلون
مقتضاه هم يخسرون الميزان وينكرون الحق ويبطلونه إما جهال مبينا أو مكرا مرادا مبيتا،
فمثلهم كمن ينكر الوجود ذاته ألن هذه تجليات قاهرة لإلدراك أعالم ومعالم الوجود .من أجل
ذلك كتب في الحق أن الحكم يتبع ويدور مع علته ،ومن ثمة هاهنا يؤو االختالف في األحكام
إلى عدم تطابق اإلدراك والفقه لدين هللا وسنة رسوله عليه الصالة والسالم .فيتبين أن اإلشكا
فقط هو في شرط الكفاءة العلمية واألهلية االستنباطية كما نتلوه في قوله تعالى:
{أفال يتدبرون القرآن' ولو كان من عند غير هللا لوجدوا فيه اختالفا كثيرا' وإذا جاءهم أمر من
األمن أو الخوف أذاعوا به' ولو ردوه إلى الرسو وإلى أولي األمر منهم لعلمه الذين
يستنبطونه منهم'}(النساء)12-11
فالتثبث في تعيين القو الحق تشريعا ،وتحصيل شروطه العلمية وكثافة هذه الشروط وتداخلها،
استخراج القو الحكم من عمق هذا الحقل وتحصيل عدم االختالف في ذلك امتدادا لعدم
اختالف الحق كفله الربانية المحققة للكتاب والدراسة مما ال يضفي على الحافظ صفتها حتى
يستوفي الحكمة شرطا الزبا مؤكدا؛ وهذا هو الذي يطرح ال شيء دونه في حقيقة الفقيه كما
سطر عليه وأكده أعلم الناس من بعد رسو هللا صلى هللا عليه وسلم وأفقهم وأكثر من تجلت
الحكمة في لسانهم ومصنفاتهم حبر األمة عبد هللا بن عباس رضي هللا عنهما ،واإلمام البخاري
وابن حجر العسقالني رحمهما هللا تعالى.
98
إن االشتراط بل والتشدد في تراتبية السترة لدى الشافعية يتفاقم وال يتناسق مع حكم المشترط له
الذي هو الندب وال كراهة في سلبه ،ألن الميل أو الحد لهذا القو يؤو ويصير إلى وصف
الالموجود بصفة الموجود ،وطرفه األقصى االشتراط والتراتبية حتى الصحة إيجابا في ما هو
مكروه أو منهي عنه من األمور .كما أن هذه الكثافة التوزيعية والفقهية التي مركز ثقلها في
المندوب وفيما ال كراهة في تركه هي حقيقة انخرام الحكمة ،والغلو الناتج عن افتقاد ملكة
التقدير.
والواقع أن جل األقوا المقدمة عند أصحابها كونها فقها لم تعين اإلشكا الحقيقي فيما يخص
السترة ،وهذا بين ظاهر يد عليه االعتبار المقترن بين أقوالهم في الحكم الشرعي لها
والشروط غير المناسبة للحكم ،وقولهم في حكم المرور بين يدي المصلين في المسجد ،القو
الذي يرد بقوة كل هذه األقوا رغما عنها للقوة التسديدية والمرجعية التصحيحية للثابت من
األصو والحق الوارد في بيان السنة وحكمه صلى هللا عليه وسلم بشأن السترة في الصالة،
الذي هو الحكم الصحيح وغيره مما يخالفه أو ال يتوافق معه ال يصح.
-العارض في الصالة
<الكالم إلنقاذ أعمى من الوقوع في هالك أو نحوه مبطل للصالة باتفاق ،ويجب على المصلي
في مثل هذه الحالة أن يتكلم ويقطع الصالة ،أما المخطئ ،وهو الذي يسبق لسانه إلى كلمة غير
القرآن فإن صالته ال تبطل بذلك عند ثالثة من األئمة ،وخالف الحنفية الذين قالوا ببطالن
50
صالته كذلك>
اعتبارا لعدم وجود أصل ودليل مثبت يناط إليه هذا القو أو باألصح هذا الحكم ،فالرد أولى به
والحكم السديد عدم قبوله ،ألنه في موضع المخالفة لما استفاض من أسس الشريعة علمه وتقرر
في الفقه مبدءا ومعيارا العمل به ،مبدأ رفع الحرج وقاعدة تقديم درء المفاسد .فالقو البشري
لم يكن له أبدا أن يستمد صحته من وجاهة إطاره واالعتبار المعنوي لمصدره ،إنما هو بذاته
وبقيمته من جهة الحق.
عالوة على هذا يرجع خطأ الحكم عند المذاهب كلها ها هنا إلى القصور في التصور والتقدير،
وخاصة لعنصر العارض واختالف أحواله من جهة التكليف عمال باألصل وقوله تعالى:
{ولكن ليبلوكم في ما آتاكم'}(المائدة)50
{ال يكلف هللا نفسا إال ما آتاها'}(الطالق)4
50
المرجع
99
فعالقة عارض األعمى ليست كعالقة السهو بالتكليف سواء.
وإذا كان األمر كنا بيناه بدءا بالنسبة لقو المذاهب الثالثة غير الحنفية ،فإن عدم التصور
المستوعب للمسألة وإدراك أهمية واختالف عامل العرض الذي بدوره يحكم بخطإ وبطالن
هذه األقوا المفتقدة للسداد ،فسوف يظهر أثر هذا اإلهما لعنصر وعاملية العارض في قو
المذاهب كلها إال الحنفية ببطالن صالة المنفرد إذا ما فتح إليه من غيره وكذا في االمتثا ألمر
غيره بسد فرجة في الصف في صالة الجماعة ،فإن أحكام األعما مرتبطة بمجا التكليف
والعالقة به ،وهو الحق الذي يظهر أكثر بعد أقوا المالكية والحنابلة هنا عن الطبيعة التناسقية
للحق خاصة وأنهم يقرون باألصل المبين والصريح الذي يقو ويقرر:
( إذا نابت أحدكم نائبة في الصالة فليسبح)
فتناقضهم واختالفهم وخلطهم في قو عارض األعمى وفتح الغير في الصالة وأمره بوصل
الصف وسد الفرجة تبرزه عالقة التماثل المعكوس.
وإن أردت أن تعيش العجب أمدا وأنت تعجب فاعلم أن الحنفية الذين أبطلوا صحة الصالة كما
المذاهب كلها وحتى في حالة الخطر ودرء الهالك عن األعمى ،والذين كما الحنابلة أبطلوا
صحة صالة من يدعو بخير الدنيا بما أمكن نوله من المخلوق أو بغير األلفاظ الواردة في بيان
الشرع ،إنهم هم الذين أجازوا عن اإلحرام في الصالة بتكبيرة اإلحرام بأي لفظ فيه معنى
التعظيم ونحوه ك<سبحان هللا أو الحمد هلل أو ال إله إال هللا أو يقو :هللا رحيم أو هللا كريم،
51
ونحو ذلك من الصيغ التي تد على تعظيم اإلله جل وعز خاصة>
قا الحنفية بخصوص ما يبطل من الدعاء في زعمهم< :أن ال يكون واردا في الكتاب الكريم
وال في السنة> و<إن كان ال يستحيل طلبه من العباد نحو :اللهم أطعمني تفاحا أو زوجني
بفالنة ،فإنه يبطل الصالة>
فعن أنس رضي هللا عنه قا :قا رسو هللا صلى هللا عليه وسلم:
(( ليسأ أحدكم ربه حاجته كلها ،حتى شسع نعله إذا انقطع))
52
زاد في رواية عن ثابت البناني مرسال ((:حتى يسأله الملح ،حتى يسأله شسعه إذا انقطع))
واعلم كذلك أن المالكية والحنابلة قالوا بعدم بطالن صالة من يسبق إمامه بركن عمدا ،وأنهم
جميعهم قالوا بعدم بطالن صالة من يجيب المؤذن .أما الحكم الثاني فباعتبار جدلي هو أوال
مكذب لحكم إبطا عارض األعمى وثانيا يحصل بالحكمين تناقض واختالف لجهة العارضين
51المرجع
52رواه الترمذي (كتاب الدعوات من األبواب المنتخبة من مشكاة المصابيح)
100
من التكليف؛ أما الحكم الثاني في سبق اإلمام العمد فهو والحكم الثاني معا يردان إلى حصو
أو عدم حصو االستيعاب والفقه للعبادة من كل وجوهها وكنه حقيقتها وأنساقها على ضوء
ومنحى أولى داللة اإلمامة ونسقها المشتمل والدا عليه قوله صلى هللا عليه وسلم((:إنما جعل
اإلمام ليؤتم به)).
وباختزا وإجما فالعمد في السبق حكمه اإلبطا والسهو بتقديره؛ وما هذه األقوا المتهافتة
التي ال تخضع لخاصات الحق والميزان للمذاهب هاته جميعا وكقو األحناف المصححين
لصالة الوتر مقدما على العشاء سهوا ،قولهم ببطالن صالة من يسبق إمامه بركن سهوا
ونسيانا ويقولون إال أن إذا عاد وأعاد بعد اإلمام وتبعه في صالته وسلم معه فإن صالته
تصح،هذه األقوا إنما تد بنفسها على أنها ليست أهال وما كان لها وما ينبغي أن تشرع للعباد
من دون هللا ولو أنها ال تصرح ذلك ،ولكنه الحا في لبوس وكذب أنها تمثل مذاهب ال مانع
الختالفها داخل إطار وحضيرة اإلسالم ،وهو أمر حتى لو زعموه يخالف حقيقة اإلسالم التي
من آكد وأخص جوهريتها عدم التبعيض والتجزيء وجعل الدين فرقا مذاهب عضين.
101
الفصل الثالث
-1دنوة التفرق المذهبي نقيض دنوة اإلسالم مثال الرروط التعجيزية لالجتماع نلى
صالة الجمعة
لنجعل خالصة ما أثبتناه وأوردناه من واضح األدلة والبيان في صيغة مختصرة ما أمكن لنا
ذلك وعلى نحو مختز جامع سواء على مستوى المادة والموضوع أو على مستوى المخاطب
الهدف الرئيس والمعني بهذا الخطاب فنقو بحمد هللا وتوفيقه:
إن المفاهيم التي تد عليها المواد البيانية وألفاظ :الشيطان والباطل والطاغوت في التفصيل
البياني التشريعي تلفى متطابقة بتأصيل علي حكيم كون الدين هو الحق ،والحق قوام السماوات
واألرض وما فيهن .ومن ثمة فمن اتبع الحق وما أنز من الكتاب على أنبياء هللا ورسله عليهم
الصالة والسالم فقد اهتدى وهدي إلى صراط مستقيم ،ومن نكب عن شرعه عز وجل فقد اتبع
السبل ،وإن على كل سبيل منها شيطانا يدعو إلى الكفر وإلى عذاب السعير.
إن هللا تعالى هو الحق وإن ما يدعون من دونه هو الباطل.
واعلم أن أهم وأخص خصائص دين الحق الوحدة التشريعية ألن المشكاة المرجع واحدة ،فما
عسى أن يقو من له قلب ،والقلب في البيان القرآني متضمن للعقل ،ما عسى حكمه أن يكون
فيمن أجمع أمره على أن تكون الفرقة واالختالف العنوان الذي يجمعهم.
كذلك وإن حق القو وحسم لمن يعقل بخصوص هذه المذاهب المفتراة من دون هللا وما لها من
سلطان إال كما قا األولون {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون'}
(الزخرف ،)21ليس لها مما تقوم عليه إال التقليد والتكريس ،إن حسم في ذلك حسما قاطعا
للتفاوت المعياري الدا على افتقاد االنتظام التفكيري القلبي بمعنى العقلي ،هذا االنتظام الذي
هو المميز لكتاب هللا العليم الحكيم وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلم النبي األمين .بل إن ما
يتخلل ما يزعمه هؤالء األدعياء فقها هو حقيقة ضرب من الخلط ال ريب فيه .فاالختالف
المعاييري يكفي لمن له قلب وألقى السمع وهو شهيد أن ينبذ هذه األرباب اآللهة المسماة تلبيسا
وتوهيما وتسمية لألشياء بغير أسمائها بالمذاهب الفقهية اإلسالمية ،واإلسالم منها براء ألن
102
اإلسالم دين واحد في إطاره ال يتجزأ ودين واحد في مشكاته التي هي عقله المشرع وسبحان
هللا رب العالمين{ :ولو كان من عند غير هللا لوجدوا فيه اختالفا كثيرا'}(النساء )11وهذه سبل
تدعو إلى نقيض ما يدعو إليه هللا تعالى الذي أنز الكتاب؛ يقو ذو هللا تعالى العزة والجال
وما كان لهم الخيرة من بعده وهو العزيز الحكيم:
{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى
وعيسى أن أقيموا الدين وال تفرقوا فيه' كبر على المشركين ما تدعوهم إليه' هللا يجتبي إليه من
يشاء ويهدي إليه من ينيب' وما تفرقوا إال من بعدما جاءهم العلم بغيا بينهم'}(الشورى)12-11
{وال تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد جاءتهم البينات' وأولئك لهم عذاب عظيم}(آ
عمران)105
ولئن كانت المذهبية وقد غلبت عليها شقوة وهوى الخالف حتى خالفت ونبذت صريح الكتاب
والسنة وراء ظهرها واتبعت ما يقتضيه نزوع الشقاق ،فإن المقاصد الشرعية وظاهر الحكمة
من العبادات والمحصل الدالة عليه أركانها ،يرد ويدحض أيما دحض كثيرا من األقوا الباطلة
المرتبطة بأحكام وأركان ظاهرة أبرز دالالتها والمقصد منها ،كفرضية الفاتحة في كل ركعة
من الصالة وفرضية صالة الجمعة المنصوص على فرضيتها في الكتاب والسنة إجماعا ،وإن
أساس الدين االجتماع وأبرز ما يقصد به نسقا مفروضا وحكمة جلية لكفل هذا النسق في
االجتماع اإلسالمي وكفل حقيقة الدين وتجليها هي صالة الجمعة.
هذا أمر بين ال يستطيع أحد أن يرده ،وال سبيل له إن أراد في رده؛ لكن انظر ما هي العالقة
في السلب واإليجاب وما موقف هذا الذي نسميه المذاهب اإلسالمية من هذا األمر العظيم الذي
ال مرية من عمل به كان مؤمنا حقيقة وللدين نصيرا ،ومن سعى سعيا غيره ظاهرا أو خفية
مقنعا بأسامي ومكر ،فبئس السعي سعيه وكفى بجهنم سعيرا؛ ولنذكر مرة أخرى أن التأصيل
والمعيار التقييمي لزم رده على هذا المستوى المعيار المرجعي أن الحق من هللا سبحانه وأن
الباطل نقيض الحق من الشيطان.
إذا اعتبرنا هذا المسمى مذاهب فقهية نظمة لها روح قانونية بمقاصد بالطبع محددة ،ونظرنا
في مقصدها المرجو والمراد من خال عناصر القو بشأن صالة الجمعة المفرق طبعا على
هذه األطراف األخطبوطية نجده سعيا حثيثا في عدم حصو االجتماع ،وبصورة علنية
فاحشة ،وذلك بنسف الحقيقة والمقصد الظاهر الذي أجمع عليه الراسخون في العلم والمؤمنون
الذي يريده هللا جلت قدرته وبينه وأكده الرسو صلى هللا عليه وسلم من صالة الجمعة ،الذي
هو االجتماع{ :واعتصموا بحبل جميعا' وال تفرقوا'}آ عمران)105
103
{وال تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات'}(آ عمران)104
{وال تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم'}(األنفا )44
<الحنفية -قالوا :يشترط في الجماعة التي تصح بها الجمعة أن تكون بثالثة غير اإلمام وإن لم
يحضروا الخطبة .فلو خطب بحضور واحد ثم انصرف قبل الصالة وحضر ثالثة رجا بعد
ذلك وصلى بهم صحت من غير أن يعيد عليهم الخطبة؛ ويشترط فيها أن يكونوا رجاال ولو
كانوا عبيدا أو مرضى أو مسافرين أو أميين أو بهم صمم ،ألنهم يصلحون لإلمامة في الجمعة،
إما لكل واحد ،وإما لمثلهم في األمي واألخرس بعد أن يخطب واحد غيرهم ،إذ ال يشترط أن
يكون الخطيب هو إمام الجمعة ،فصالحيتهم لالبتداء لغيرهم أولى ،بخالف النساء أو الصبيان،
فإن الجماعة في الجمعة ال تصح بهم وحدهم لعدم صالحيتهم لإلمامة بمثلهم فيها ،ويشترط أن
يستمروا مع اإلمام حتى يسجد السجدة األولى .فإن تركوه بعد ذلك بطلت صالتهم وحدهم
وأتمها هو جمعة؛ وإن تركوه قبل أن يسجد بطلت صالة الجميع عند أبي حنيفة؛ ويشترط في
اإلمام أن يكون ولي األمر الذي ليس فوقه ولي أو من يأذنه بإقامة الجمعة ،وهذا شرط في
صحة الجمعة .فلو لم يكن اإلمام ولي األمر أو نائبه لم تنعقد الجمعة وصالها الناس ظهرا،
ويجوز لمن أذنه اإلمام بإقامة الجمعة أن ينيب غيره ،وأن يصرح له بذلك.
المالكية -قالوا :أقل الجماعة التي تنعقد بها الجمعة إثنا عشر رجال غير اإلمام ،ويشترط فيهم
شروط؛ أحدها :أن يكونوا ممن تجب عليهم الجمعة ،فال يصح أن يكون منهم عبد أو صبي أو
امرأة؛ الثاني :أن يكونوا متوطنين ،فال يصح أن يكون منهم مقيم ببلد الجمعة لتجارة مثال أو
مسافر نوى اإلقامة أربعة أيام؛ الثالث :أن يحضروا من أو الخطبتين إلى تمام الصالة ،فلو
بطلت صالة واحد منهم ولو بعد سالم اإلمام وقبل صالته هو فسدت الجمعة على الجميع؛
الرابع :أن يكونوا مالكيين أو حنفيين ،فإن كانوا من الشافعية أو الحنابلة الذين يشترطون أن
53
يكون عدد الجماعة أربعين ،فال تنعقد الجمعة بهم إال إذا قلدوا مالكا أو أبا حنيفة>
أما داعي الفرقة فهو الشروط الصريحة في الحؤو دون االجتماع حتى في الدين والعبادة
واأليام والشعائر ،واالجتماع في الدين قلب وحدة األمة وشرطها ،فالروح المذاهبية وما تدعو
إليه هو الناقض االجتماعي المترجم بالتضاد الشرطي واالتفاق على عدم وحدة الشروط وعدم
االجتماع الذي يعبر عنه بصريح اللفظ الشرط الرابع أعاله.
104
وهذا الخبط والخلط الذي لم يتورع قائلوه من أن ينسبوه للفقه اإلسالمي ولشريعة دين هللا الذي
إنما هو الحق ،وهو كما الحكمة كل أحكامه أمر موزون ،تحتد درجة تفاقمه ويجلو ويتضح
عسفه في المقرر قوال للحنابلة:
<الحنابلة -قالوا :يشترط في جماعة الجمعة شروط :األو :أن ال يقل عددهم عن أربعين ،ولو
بإمام ،الثاني :أن يكونوا ممن تجب عليهم الجمعة بأنفسهم ،وهم األحرار الذكور البالغون
المستوطنون بالمحل الذي يصح أن تقام فيه الجمعة ،وهو البلد المبني بناء معتادا ،فال يصح أن
يكون من جماعة الجمعة رقيق وال أنثى وال صبي وال مسافر وال مقيم غير مستوطن وال
مستوطن بمحل خارج عن بلد الجمعة وإن وجبت عليه تبعا ،كما تقدم.
الثالث :أن يكونوا قد حضروا الخطبة والصالة وال يشترط أن يحضروا جميع الصالة .فلو
حضر األربعون جميع الخطبة وبعض الصالة قبل حضور ما يكمله ،فإنها تبطل .وتجب
إعادتها جمعة إن أمكن؛ ويستثنى من ذاك ما إذا كان المأمومون يرون بحسب مذهبهم أن
الجمعة تصح باثني عشر مثال ،ثم نقص عدد األربعين حتى صاروا اثني عشر ،فإن الصالة ال
تبطل عليهم ،ويجب على اإلمام أن يستخلف منهم من يتم صالتهم .أما هو فصالته باطلة حيث
كان مذهبه يشترط األربعين؛ فإن كان المأمومون أنه ال بد من أربعين واإلمام ال يرى ذلك ،ثم
نقص عددهم عن األربعين قبل حضور ما يتم به العدد المذكور ،فإن الصالة تبطل على
الجميع>.
باهلل عليكم هل هذه أقوا يصح أن تسند لدين اإلسالم وشريعته وفقه هذه الشريعة ،وهل يصح
أو هل يمكن أن يقوم اجتماع قوم عليها ،بله أن يحصل بها تحقق قوله تعالى {أن أقيموا الدين
وال تتفرقوا فيه}{ ،وأن هذه أمتكم أمة واحدة}؟
كال ،إن هذه أقوا وسعي ال يجتمع عليه ثالثة وال تقوم عليه جماعة وال دين .يقو فريد بن
أمين الهنداوي تعليقا وتحقيقا لكتاب 'فقه الكتاب والسنة ورفع الحرج عن األمة' البن تيمية في
'فصل في العدد للجمعة':
<قا اإلمام العالمة الشوكاني في مصنفه الجليل 'السيل الجرار' ( -:)254\1هذا االشتراط
(يقصد اشتراط األربعين) لهذا العدد ال دليل عليه قط ،وهكذا اشتراط ما فوقه من األعداد.
وأما االستدال بأن الجمعة أقيمت في وقت كذا وعدد من حضرها كذا ،فهذا استدال باطل ال
يتمسك به من يعرف كيفية االستدال .ولو كان هذا صحيحا لكان اجتماع المسلمين معه صلى
هللا عليه وسلم في سائر الصلوات دليال على اشتراط العدد.
105
والحاصل أن صالة الجماعة قد صحت بواحد مع اإلمام ،وصالة الجمعة هي صالة من
الصلوات .فمن اشترط فيها زيادة على ما تنعقد به الجماعة فعليه الدليل ،وال دليل .وقد عرفناك
غير مرة أن الشروط إنما تثبت بأدلة خاصة تد على انعدام شرطه .فإثبات مثل هذه الشروط
بما ليس بدليل أصال فضال عن أن يكون دليال على الشرطية مجازفة بالغة وجرأة على التقو
على هللا وعلى رسوله وعلى شريعته .والعجب من كثرة األقوا في تقدير العدد حتى بلغت إلى
خمسة عشر قوال ،وليس على شيء منها دليل يستد به قط؛ ال قو من قا :إنها تنعقد جماعة
الجمعة بما تنعقد به سائر الجماعات.انتهى.
وقا صديق حسن خان رحمه هللا تعالى:
فإذا لم يكن في المكان إال رجالن ،قام أحدهما يخطب واستمع له اآلخر ثم قاما فصليا صالة
الجمعة[.نقال عن األجوبة النافعة]54:
وقا الصنعاني في 'سبل السالم':)45\2(:
واإلثنان أقل ما تتم به الجماعة لحديث "اإلثنان جماعة" فتتم بهم في األظهر.انتهى.
ولتراجع البحث في بطون الكتب التي أشرنا إليها لتقف على حقيقة المذهبية وما افترضته في
54
هذه المسألة من أعاجيب وتضارب صارخ ،فإنا هلل وإنا إليه راجعون>.
واألصح الثابت بالحق والميزان في هذا الباب في شروط الوجوب والصحة هو قوله تعالى{:يا
أيها الذين آمنوا إذا نودي للصالة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر هللا وذروا البيع' ذلكم خير
لكم إن كنتم تعلمون'}(الجمعة )5و<ما روي عن طارق بن شهاب ،عن أبي موسى ،عن النبي
صلى هللا عليه وسلم" :الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إال أربعة :عبد مملوك ،أو
امرأة ،أو صبي ،أو مريض".
55
رواه الحاكم وقا :صحيح على شرط الشيخين .
وقد رواه أبو داود ،والبيهقي ،عن طارق بن شهاب عن النبي صلى هللا عليه وسلم ولم يذكر أبا
موسى ،وأعاله باإلرسا ؛ ألن طارقا رأى النبي عليه السالم ولم يسمع منه.56
إال أن رواية الحاكم التي ذكرها فيها أبا موسى تنفي هذه العلة؛ ومع قطع النظر عن رواية
الحاكم فإن عدم سماع طارق مع ثبوت صحبته ال تؤثر في صحة هذا الحديث؛ ألن غايته أنه
تعليقا :فريد بن أمين الهنداوي على كتاب 'فقه الكتاب والسنة ورفع الحرج عن األمة' تقي الدين بن تيمية -دار الكتب العلمية-
54بيروت-لبنان –ص155
55المستدرك211\1:
56سنن ابي داود ،210\1:السنن الكبرى114\5:
106
مرسل صحابي ،ومرسل الصحابي حجة على الراجح .ثم إن له سواهد ذكرها البيهقي
57
والدارقطني وغيرهما>...
فالثابت المنصوص عليه ولم يقيده وال وجهه مؤصل من مؤصالت الحق <أن اآلية أوجبت
الجمعة على كل من اجتمعت فيه شرائط التكليف بها؛ فال يخرج من هذا الحكم أحد إال بنص أو
إجماع؛ وقد خرج الفذ باإلجماع58؛ التفاق العلماء على اشتراط الجماعة لصحة الجمعة؛
والجماعة تنعقد باثنين ،ولم يرد دليل صحيح باشتراط عدد اكثر من ذلك لصحة الجمعة فتبقى
على األصل وهو :انعقادها بما تنعقد به الجماعة.
59
وفي المسألة مذاهب أخرى ،أوصلها بعض العلماء إلى خمسة عشر مذهبا> .
هاهنا يبرز لنا ركن فاسد مما أسست عليه هذه االختالفات المذهبية الفاسدة الباطلة المخالفة
للحق والميزان ،وهي الخلط بين الحكم بشرعية فعل وواقعة معينة وبين كونه أصال تشريعيا
وحكما ونصا مشرعا منصوصا .وهذا مستند المضلين والمفرقين ليس فقط في شأن فقه الحق
في صالة الجمعة ،بل في بناء هذه المذاهب المضلة المفرقة األمة شيعا .فإن من يشترط عددا
بعينه استنباطا من عدد في جمعة علمت شرعيتها؛ فهذا ال يفقه وليس له من حقيقة الحق
والميزان من شيء ،بله أن يتصدى للتشريع للناس وليمثل كما يزعمون مذهبا يدين الناس هلل
تعالى به ،سبحانك هذا جهل وضال عظيم ..
هل لهؤالء قلوب يعقلون بها؟ وهل من مسحة ورع لهذه القلوب تحجزهم دون ادعاء أن أقواهم
هاته هي شريعة هللا تعالى؟ سبحان هللا عما يقولون ...
أال إن هللا تعالى هو أحكم الحاكمين ،وشريعة هللا تعالى الحق ،والحق ال يختلف .فإن ما تمحلوه
وتكلفوه من القو نزوعا لحفظ التمايز بعضهم لبعض بغيا بينهم من بعد ما جاءهم البينات،
قولهم هنا في شرط انحفاظ العدد تقو على الحق بغير حق ،وقو بلسان الشيطان يدعون إلى
الفرقة وإلى عكس الحكمة الجلية للشريعة الحنيفية من صالة الجمعة .وأو ما يدحض هذا
السفه الذي ال زا يلقن بشتى ألوان التسويغ والتزيين من جعله مواد دراسية بل وشعبا قائمة
فقه اإلمام سعيد بن المسيب -أو تدوين لفقه اإلمام مقارنا بفقه غيره من العلماء -إعداد الدكتور هاشم جميل عبد هللا -الجزء الثاني-
57الكتاب الثاني عشر-ص-15-12مطبعة اإلرشاد -بغداد -الطبعة األولى1554 -ه1544-م
58المحلى41\5 :
59فقه األمام سعيد بن المسيب-ص11
107
بذاتها وكأنها حق كالفقه المقارن الذي يضاهي علم الدين المقارن ،نقضها المبين لمبدإ في
التشريع معلوم وأصل من الدين في الكتاب والسنة مسطر حكيم وذلك ما نتلوه من قوله
تعالى{:ليبلوكم فيما آتاكم'}(المائدة )50الموجه تحديدا بالمنحى الداللي لقوله سبحانه{:أال تزر
وازرة وزر أخرى'}(النجم )54وقوله عز وجل وهو اللطيف الخبير{:ال يكلف هللا نفسا إال ما
آتاها'}(الطالق.)4
والحكم الغاية من هذا كله لعلهم يذكرون أنه إذا كان العقل شرط التكليف ومن ال يعقل ال
يكلف ،فكيف لمن يعقل والشروط بقدرها ونسبها ،كيف له أن يشرع؟ وأمر نضيفه يضفى
بالحق على كل ما تقدم أننا نخاطب بكلماتنا المتواضعة هاته والتي ال ننزها أبدا عن مطلق
الخطإ ،أننا نخاطب المؤمنين حقا ،نخاطب من أسلم وجهه هلل حنيفا ولم يسلم عقله لألهواء
وكذلك ضل أكثر األولين بجعلهم الدين تقليدا لرجا منهم رهبان وأحبار؛ وإن مثل هذه
المذاهب المسماة كذبا وتلبيسا فقهية مثل ما أضل به الشيطان قوم نوح ،وما كان بدء أمرهم
ومكره في استدراجهم إال دعوى اتباع أئمة صالحين منهم وتعظيم أمرهم حتى عبدوهم
واتخذوهم آلهة من دون هللا العزيز الحميد؛ إنما الدين الكتاب والسنة ،والمؤمن الكيس
العاقل ال من وأد عقله فغدا مقتادا بغيره ،وليكن نهجه نهج قلب يعقل ،كما أفاد بحمد هللا جل
وعال أسيدا بن خضير رضي هللا عنه عقله وجعل نور الحق ميزانه وهو يتلقى خطاب
مصعب بن عمير رضي هللا عنه.
غاية األمر كله أن هذه المذاهب المسماة فقهية هي من باطل الشيطان عدو هللا الذي أقسم
ليُضلن الناس من بعد ما جاءتهم البينات كما أضل الذين من قبلهم ،وهذا كالم واضح عربي
مبين ،وقد أسهبنا فيه وأشار إليه وأنذر شره وضالله كثير من العلماء قديما وحديثا ،فيضل
هللا تعالى من يشاء ويهدي من يشاء .والقواعد الواهية التي يبنى عليه هذا البناء الشيطاني
والضال منها ما هو ذو طبيعة قانونية ،أي من جهة الصحة والفساد بالنسبة للحق الذي
تقوم عليه السماء واألرض ،مما يطلق عليه بالهيكلة المنطقية والميزان الذي به ال الشمس
ينبغي لها أن تدرك القمر وال الليل سابق النهار؛ ومنها ما اتصل بالعالقات والشروط
المجالية ،وهي التي تمثل شرط التثبيت والسيرورة.
ً
أو الباطل اللبس في جعل حكم الشرعية لفعل معين بمثابة الحكم األصل في الشرع ،وإنما هو
من دائرته ،وهذا مثاله الواضح اعتبار العدد في جمعات مختلفة أصال تشريعيا ،وهذا
قصور في الحكمة جلي.
108
-3ندم اإلحاطة والتجزيئية النمطية التقليدية المحجورة للمذاهب الفقهية
الثاني الجزئية ،فقد أجمع العلماء كلهم على أن العلم في المجموع ،وذلك ما تجلى بحق في
تغيير فتاوى وأقوا علماء وفقهاء بتغير المعطى العلمي وبلوغ علم؛ وهذا قد يفي تقريره
تبرير مالك للخليفة العباسي الرشيد 60بعدم حمل الناس على ما في الموطإ لكونه غير جامع
لتفرق العلم بتفرق أصحاب رسو هللا صلى هللا عليه وسلم في البالد ،فلكل منها من العلم ما
ليس في غيرها .وفي اإلعالم البن القيم ما نصه:
<ونحن نسأ المقلدين هل يمكن أن يخفى قضاء هللا ورسوله على من قلدتموه دينكم في كثير
من المواضع أم ال؟
فإن قالوا ال يمكن أن يخفى عليه ذلك أنزلوه فوق منزلة الخلفاء والصحابة كلهم؛ فليس أحد
منهم إال وقد خفي عليه بعض ما قضى هللا ورسوله به ،فهذا الصديق أعلم األمة به خفي
عليه أن الشهيد ال دية له حتى أعلمه به عمر فرجع إلى قوله ،وخفي على عمر وهو أعلم
األمة به بعد الصديق على اإلطالق تيمم الجنب فقا لو بقي شهرا لم يصل حتى يغتسل،
وخفي عليه سقوط طواف الوداع عن الحائض فكان يردهن حتى يطهرن ثم يطفن حتى بلغه
عن النبي صلى هللا عليه وسلم خالف ذلك فرجع عن قوله ،وخفي عليه شأن متعة الحج
وكان ينهى عنها حتى وقف على أن النبي صلى هللا عليه وسلم أمر بها فترك قوله وأمر
بها ،وخفي عليه جواز التسمي بأسماء األنبياء فنهى عنه حتى أخبره طلحة أن النبي صلى
هللا عليه وسلم كناه أبا محمد فأمسك هذا وأبو موسى ومحمد بن مسلمة وأبو أيوب من أشهر
الصحابة فلم يمر بباله رضي هللا عنه أمر هو بين يديه حتى نهى عنه ،وكما خفي عليه قوله
إنك ميت وإنهم ميتون وقوله وما محمد إال رسو قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل
انقلبتم على أعقابكم حتى قا :وهللا لكأني ما سمعتها قط قبل وقتي هذا ،وكما خفي عليه حكم
الزيادة في المهر على مهور أزواجه صلى هللا عليه وسلم وبناته حتى ذكرته تلك المرأة
بقوله تعالى وآتيتم إحداهن قنطار فال تأخذوا منه شيئا فقا كل أحد أفقه من عمر حتى
النساء ،وكما خفي عليه أمر الجد والكاللة وبعض أبواب الربا فتمنى أن رسو هللا صلى
هللا عليه وسلم كان عهد إليهم فيها عهدا ،وكما خفي عليه يوم الحديبية أو وعد هللا لنبيه
وأصحابه بدخو مكة مطلق ال يتعين لذلك العام حتى بينه له النبي صلى هللا عليه وسلمن
وخفي على عثمان أقل مدة الحمل حتى ذكره ابن عباس بقوله تعالى وحمله وفصاله ثالثون
60هناك من يقو أنه أبو جعفر المنصور ومنهم من يقو أنه المهدي ،فكلهم عاصر مالك ولقيهم.
109
شهرا مع قوله والوالدات يرضعن أوالدهن حولين كاملين فرجع إلى ذلك ،وخفي على ابي
موسى ميراث بنت االبن مع البنت السدس حتى ذكر له أن النبي صلى هللا عليه وسلم ورثها
ذلك ،وخفي على ابن عباس تحريم الحمر األهلية حتى ذكر له أن النبي صلى هللا عليه وسلم
حرمها يوم خيبر .وهذا باب واسع لو تتبعناه لجاء سفرا كبيرا ،فنسأ حينئذ فرقة التقليد :هل
يجوز أن يخفى على من قلدتموه بعض شأن رسو هللا صلى هللا عليه وسلم كما خفي على
سادات األمة أو ال؟
فإن قالوا :ال يخفى عليه وقد خفي على الصحابة مع قرب عهدهم بلغوا مبلغ مدعي العصمة في
األئمة.
وإن قالوا :بل يجوز ،وهو الواقع ،وهم مراتب في الخفاء في القلة والكثرة ،قلنا :فنحن نناشدكم
هللا الذي هو عند لسان كل قائل ولبه إذا قضى هللا ورسوله أمرا خفي على من قلدتموه هل
تبقى لكم الخيرة بين قبو قوله ورده أم تنقطع خيرتكم وتوجبون العمل بما قضاه هللا
ورسوله عينا ال يجوز سواء؟
فاعدوا لهذا السؤا جوابا ،وللجواب صوابا ،فإن السؤا واقع والجواب الزم والمقصود أن
هذا هو منعنا من التقليد ،فأين معكم حجة واحدة تقطع العذر وتسوغ لكم ما ارتضيتموه
61
ألنفسكم من التقليد؟>
هذا على بعد النقل بمعناه الصحيح الذي ال يعتبر إال شرطا ومكونا ضمن مكوني الدين الحق
والشريعة المنزلة من عند هللا تعالى على محمد صلى هللا عليه وسلم إلى مجا العالمين
وأطوار التاريخ إلى قيام الساعة ،ال المعنى المغرض الملتبس ،أما على البعد الثاني
المنصوص عليه قرآنا صريحا في آية المنهاج من سورة آ عمران{:ولكن كونوا ربانيين
بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون'}(آ عمران )41فاآلليات الفقهية امتدادا على
المفهوم الواضح والبسيط في خفاء بعض السنن والعلم على األكابر ومعرفة األصاغر لها
من حيث التعليل ،هذه اآلليات العلمية تزداد من حيث بلورتها وسعة ترتيبها ،ويكفي في هذا
دليل تطور لفظ الحديث واصطالحه وفي طور علمي وتقني ال يخرج عن طوره التاريخي
ككل ،وهللا تعالى جعل شريعة اإلسالم مجيدة وافية مهيمنة على التاريخ ونوازله وشروطه
انفتاحا غير محصور .ومن حصر دين هللا تعالى وشريعته في األقوا المذهبية النمطية فقد
سلك شعر بذلك أم لم يشعر مسلك من كفر بأن القرآن مجيد وبأن بيان النبي صلى هللا عليه
نقال عن الصوارم واألسنة في الذب عن السنة :محمد بن أبي مدين الشنجيطي-ط1555-2ه1545 -م طبع وزارة األوقاف والشؤون
61اإلسالمية بالمغرب -ص141-144
110
وسلم مطلق كما صدع به الربانيون من العلماء لئال يكون للناس على حجة بعد البالغ .قا
الشوكاني في كتابه القو المفيد في أدلة االجتهاد والتقليد ما نصه:
<وياهلل ما قنع هؤالء النوكى بما عليه من بدعة التقليد التي هي أم البدع حتى سدوا على أمة
محمد صلى هللا عليه وسلم معرفة الشريعة من كتاب هللا وسنة رسوله صلى هللا عليه وسلم
وإنه ال سبيل إلى ذلك وال طريق حتى كأن األفهام البشرية قد تغيرت والعقو اإلنسانية قد
ذهبت .وكل هذا حرص منهم على أن تعم بدعة التقليد كل األمة وأن ال يرتفع عن طريقهم
السافلة أحد من عباد هللا ،وكأن هذه الشريعة التي بين اظهرنا من كتاب هللا وسنة رسوله قد
صارت منسوخة والناسخ لها ما ابتدعوه من التقليد في دين هللا ،فال يعمل الناس بشيء مما
في الكتاب والسنة ،بل ال شريعة لهم إال ما تقرر في المذاهب أذهبها هللا .فإن يوافقها ما في
الكتاب والسنة فبها ونعمت ،والعمل على المذاهب ال على ما وافقها منهما .وإن يخالفها
أحدهما أو كالهما فال عمل عليه وال يحل التمسك به ،هذا حاصل قولهم ،ولكنهم رأوا
التصريح بمثل هذا يستنكره قلوب العوام فضال عن الخواص وتقشعر منه جلودهم ،فعدلوا
عن هذه العبارة الكفرية والمقالة الجاهلية إلى ما يوافقها في المفاد ولكن ينفق على العوام
بعض نفاق ،فقالوا قد انسد باب االجتهاد .ومعنى االنسداد المفترى أنه لم يبق في أهل هذه
الملة اإلسالمية من يفهم الكتاب والسنة ،وإذا لم لم يبق من هو كذلك لم يبق سبيل إليهما،
وإذا انقطع السبيل إليهما فكل حكم فيهما ال عمل عليه وال التفات إليه سواء وافق المذهب أو
خالفه ألنه لم يبق من يفهمه إلى آخر الدهر ،فكذبوا على هللا وادعوا عليه سبحانه أنه ال
يتمكن من أن يخلق خلقا يفهمون ما شرعه لهم وتعبدهم به حتى كأن ما شرعه لهم من كتابه
وعلى لسان رسوله صلى هللا عليه وسلم ليس بشرع مطلق بل شرع مقيد إلى غاية هي قيام
هذه المذاهب ،وبعد ظهورها ال كتاب وال سنة ،بل قد حدث من يشرع لهذه األمة شريعة
جديدة ويحدث لها دينا آخر وينسخ بما رآه من الرأي وما ظنه من الظن ما يقدمه من الكتاب
والسنة .وهذا وإن أنكروه بألسنتهم فهو الزم لهم ال محيص لهم عنه وال مهرب ،وإال فأي
معنى لقولهم قد انسد باب االجتهاد ولم يبق إال مجرد التقليد ،فإنهم إن أقروا بأنهم قائلون
بهذا لزمهم اإلقرار بما ذكرناه ،وعند ذلك نتلو عليهم :اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من
دون هللا ،وإن أنكروا القو بذلك وقالوا باب االجتهاد مفتوح والتمسك بالتقليد غير حتم ،فقل
لهم فما بالكم يا نوكى ترمون كل من عمل بالكتاب والسنة وأخذ دينه منهما بكل حجر ومدر
وتستحلون عرضه وعقوبته وتجلبون عليه بخيلكم ورجلكم وقد علموا وعلم كل من يعرف
ما هم عليه مصممون من تغليق باب االجتهاد وانقطاع السبيل إلى معرفة الكتاب والسنة
111
فلزمهم ما ذكرناه بال تردد ،فانظر أيها المنصف إلى هذه البدعة الشيطانية التي فرقت أهل
هذه الملة الشريفة وسيرتهم إلى ما تراه من التباين والتخالف .فلو لم يكن من شؤم هذه
التقليدات والمذاهب المبتدعات إال مجرد هذه الفرقة بين أهل اإلسالم مع كونهم أهل ملة
واحدة ونبي واحد وكتاب واحد لكان ذالك كافيا في كونها غير جائزة ،فكيف يحل لعالم أن
يقو بجواز التقليد الذي كان سبب فرقة أهل اإلسالم وانتشار ما كان عليه من النظام
62
والتقاطع بين أهله وإن كانوا ذوي أرحام >..
الثالث أن السعة التشريعية المنفتحة إلى يوم الدين ال تنبغي لنص من البشر أي كان ،والحق
منفتح أبدا بهذه السعة في القرآن المجيد وسنة رسو هللا صلى هللا عليه وسلم بشرط الربانية
التي تنسف وتدحض بالحق كل ادعاء بسد باب االجتهاد .فاهلل تعالى يقو {:فآمنوا باهلل
ورسوله والنور الذي أنزلنا'}(التغابن{ )1فاتقوا هللا يا أولي األلباب' الذين آمنوا قد أنز هللا
إليكم ذكرا رسوال يتلو عليكم آيات هللا مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من
الظلمات إلى النور'}(الطالق ،)11والمذهبية ،وهذه حقيقتها واضحة جلية ،تجعل وتحد هذا
النور وتحجزه في رجا بعينهم .تاهلل قد زين لهم الشيطان ولبس عليهم فهو وليهم،
يضاهون قوم نوح في عبادة رجا صالحين بكيد ادعاء االتباع لصالح عملهم وعلمهم .فهذا
هو الحق أبلج وليس لحسن النية وال الجهالة في اتباع ما وجدوا عليه آباءهم وأهواء ملوكهم
وضال علمائهم الذين أخذ هللا عليهم الميثاق ليبيننه للناس وال يكتمونه ،ليس في ذلك من
حجة عند هللا تعالى العزيز ذي االنتقام .فالسعة التشريعية المطلقة المستمرة التي هي
مصدر القانون والفقه المهيمن ال تنبغي إال هلل تعالى العليم الخبير ،فقوله تعالى الحق والحق
مهيمن على ما كان وما سيكون ،أما قو البشر فهو محصور على قدر حصر علمهم
ونسبته إلى علم هللا تعالى تعالى ،وسبحان هللا رب العالمين ..؛ هذه الحقيقة العلمية والفقهية
العظيمة هي التي نز بها العلم الحق في قوله تعالى{:وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا'
ما كنت تدري ما الكتاب وال اإليمان' ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا' وإنك
لتهدي إلى صراط مستقيم صراط هللا الذي له ما في السماوات وما في األرض' أال إلى هللا
تصير األمور'}(الشورى)50-45
62نفس المصدر-ص251-254
112
يقو عفيف طبارة< :هذه الروحانية اشتملت على العلوم اإللهية ،وأصو العقائد الدينية،
وقوانين الفضائل واآلداب ،وقواعد التشريع السياسي والمدني واالجتماعي ،وغيرها من
األصو التي أتى بها القرآن وسبق بها كل األوضاع البشرية التي من نوعها والتي يؤلف
63
مجموعها الصرح األدبي الضخم لهذه المدنية الحديثة>.
فالحق وحده هو المجيد والذي له سعة الفقه والتشريع إلى يوم الدين ،وما كان لقو بشر أن
ينحصر فيه نور هللا وهذا الروح من أمره العلي الحكيم ،ومنه يستبين أن الشيطان أتى
هؤالء حتى سلكوا في علمائهم وصالحي فقهائهم مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن
حنبل ما سلك قوم نوح في رجا من صالحي عبادهم وعلمائهم ود وسواع ويعوق ونسر؛
يقو هللا تعالى{:ولقد أضل منكم جبال كثيرا' أفلم تكونوا تعقلون'}(يس')11
يقو الشيخ محمد أبو زهرة في تقديمه لكتاب 'نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية
األربعة' 64وبعد أن نوه بتمايز هؤالء الرجا من علماء المسلمين مالك وأبي حنيفة
والشافعي وابن حنبل مما سارت عليه سنة خلق هللا تعالى من االختالف في الملكات
والخال ،حيث غلب على مالك االهتمام بالسنن ،وأبي حنيفة استنباط علل األحكام والقياس،
والشافعي االستنباط من النصوص بالعامل اللغوي الذي كان بارزا فيه ،وأحمد بحفظ
النصوص واآلثار؛ وبعد أن قا :
<ومن هنا جاءت المذاهب الفقهية األربعة مكملة لبعضها البعض>
بعدها يصرح ويصدع بالحقيقة التي ال بد كل أهل العلم عنها يوم القيامة مسؤولون ،يعلن
ويقو كلمة الحق دون مواربة عن هذه السبل المضلة أهلها ،يقو عما جعله الذين بدلوا من
بعد رسو صلى هللا عليه وسلم دينا ،والحقيقة والحا ال يرتفع ،اتخذوها وهم ال يشعرون:
<أما آفتها الدخيلة عليها فهو التعصب المذهبي الذي يزعم أن الحق محصور في مذهب من
هذه المذاهب ليوجب على المسلمين التمذهب به ،كالذي فعله صاحب كتاب (مغيث الخلق
في بيان المذهب الحق) في حصر المذهب الشافعي ،وكالذي فعله صاحب (النكث الظريفة
في ترجيح مذهب أبي حنيفة) فهو أمر ال يتفق مع الدين أوال ،وال مع المذاهب ثانيا .فلو
عرضت هذه العصبيات على األئمة أنفسهم لحاربوها أشد المحاربة وعزروا أصحابها على
رؤوس األشهاد .إن في سيرة األئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد قدوة لكل مسلم
63روح الدين اإلسالمي :عفيف عبد الفتاح طبارة-دار العلم للماليين -الطبعة-1511-24ص( :41روح القرآن)
نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية األربعة :تأليف العالمة أحمد تيمور باشا -الطبعة األولى 1411ه1550 -م -دار القادري
64للطباعة والنشر والتوزيع -بيروت
113
غيور على الحق ناصح لدينه ليتعلم منهم آداب العلم والتلقي والحوار واالتفاق على الحق
واالختالف في طلبه ،وما أجدر المسلمين اليوم أن ال يقتصروا في تعلم أحكام دينهم على
مذهب واحد بل يجعلوا المذاهب األربعة مذهبا واحدا وأقوا األئمة أقواال في المذهب،
المذهب اإلسالمي الجامع ويتخيروا منها ما قويت حجته ووضحت داللته>.
أما الشروط السلبية في تثبيت هذا الضال من بعد ما جاءهم البينات فأخطرها وأبرزها
التكتالت األرضية السياسية على قانون االنجذاب المجالي وسنة هللا تعالى في ترابط أبعاد
االجتماع البشري وتأثير بعضها في بعض وجدليتها التشكيلية ،وهذا هو المعلل والمفسر
لتزامن ترسيخ المذاهب المسماة فقهية المفرقة لألمة مع انحال الدولة العباسية وحدة تقطع
أوصا البالد اإلسالمية إلى تكتالت وانجذابات مجالية متقطعة همها وعلتها التواجدية
التمايز ولو كان على حساب الدين ،فهذا معلوم من سنن التاريخ ،وال داعي لإلعادة في
بيانه .فمن األمويين باألندلس وبؤر التولد السياسي القوية بشما إفرقيا الذي سيكون مهد
ظهور المهدوية بالعالم ومنشأ الدولة الفاطمية حيث بويع أو ما بويع عبيد هللا الفاطمي
بسجلماسة سنة 254ه ،إلى اإلخشيديين بمصر وسورية وبني حمدان بالموصل وحلب
والقرامطة بالبحرين والديلم بجرجان والبويهيين ببغداد ،وغيرها من التكتالت المجالية
المتقطعة األوصا .
الشرط الثاني في تثبيت هذا الضال هو جبلة التقليد.
وبخصوص المستوى الثاني ،مستوى التثبيت والترسيخ يقو أبو األعلى المودودي رحمه هللا:
<وحتى انقراض الدولة األموية لم يكن أحد يدعو نفسه حنفيا أو شافعيا ،إنما كانوا يستنبطون
المسائل باألدلة الشرعية على طريقة أئمتهم وأساتذتهم .ولما كان زمان الدولة العباسية اتخذ
كل واحد من المسلمين نسبة معينة له .وبلغ من شدة تقليدهم أن لم يكونوا يحكمون في أمر
بحجج القرآن والسنة ما لم يجدوا فيه نصا من نصوص أكابر مذهبهم ،وبذلك رسخت فيهم
واستحكمت بينهم االختالفات التي نشأت عن االختالف في تأويل القرآن والسنة بين علماء
السلف .ثم لما انقضت الدولة العربية وقام مقامها الحكم التركي وانتشر الناس في شتى
الممالك ،اتخذ كلهم ما كان يذكره من تعاليم مذهبه الفقهي أصال ومرجعا ،فأصبح ما كان
قبل ذلك في حكم المذهب المستنبط سنة مستقرة .وبقي مدار عملهم اآلن على أن يخرجوا
65
من ال ُمخرج ويُفرعوا من ال ُمفرع>.
معربا عن الفارسية ترجمه محمد عاصم حداد في :أبو األعلى المودودي -موجز تاريخ الدين وإحيائه وواقع المسلمين وسبيل
65النهوض بهم-ص -54-51الدار السعودية للنشر والتوزيع1405 -ه1515-م
114
فالمستنبط العلمي وبالغ النظر في الضال المسوغ بشتى أساليب الشيطان عدو هللا ومكره
للتفرق المذاهبي ،الذي يدعو إلى الفرقة وهللا تعالى يقو {:وأن هذه أمتكم أمة واحدة' وأنا
ربكم فاعبدون'}(األنبياء )51ويقو جل وعال وقوله تعالى أحق أن يتبع ،ال لسان الواقع
المفرق للمذاهب الفقهية ،يقو سبحانه{:وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه' وال تتبعوا
السبل فتفرق بكم عن سبيله' ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون'}(األنعام ،)154المستنبط العلمي
وبالغ النظر فيه هو مستويات ثالثة:
-1مستوى تجلي فساد البناء باالختالف الكثير تحققا للحق في قوله تعالى{:ولو كان من عند
غير هللا لوجدوا فيه اختالفا كثيرا'}(النساء ،)11واالختالف ليس فحسب في المقو
واألحكام التي يراد لها أن تكون دينا للناس وشريعة على المذهب ،بل يتجلى ويظهر معه
فساد البناء المذاهبي وهو تفسيره على المستوى البنيوي الهيكلي في االختالف المعاييري
الذي هو مرجع الوزن وعير الحكم الذي ليس القو إال صورته ونطقه الخارجي ،فالذي
يساهم ويحدد هو المعيار الفقهي والعقل مناط التكليف والحكمة شرط الربانية والفقيه ليس
بالحافظ ولكن الرباني كما هو في اآلية من سورة آ عمران وأكده ابن عباس رضي هللا
عنهما وساقه في مربط القو العلمي البخاري رحمه هللا في صحيحه.
-2مستوى البنية القانونية المتصلة طبعا بالمعايير كماهية ال كتجلي ،وهي الهيكلة للبناء .هذا
المستوى مرتبط بالحق والميزان ،وإذا فسد فسد كل شيء من بعده وال يرجى سالمة بناء
مختلة أسسه متفاقمة قواعده ،فالقصور في الملكة القلبية أو العقلية سمها كيفما شئت حقيقة،
وإنما هي حظ مكون في الحكمة ،القصور على مستوى افتقاد أدنى النسق كالقصور على
الميز بين الجزئي والكلي ،ومن افتقد لهذا كان لغيره من األنساق كمن يخاطب بلغة غير
لغته ،واللغة هنا درجات الحكمة واألنساق التفكيرية والتصورية ،فهذا بالحق والميزان ليس
له شرط الملكة في استنباط األحكام من األصو ومعطيات النواز ،وكيف من يختلط عنده
األمر بين الجزئي والكلي أن يسمو قلبه أو عقله سمه كيفما شئت ،أن يسمو إلى التمييز بين
البشري المحدود والمطلق المبارك المجيد؟؟
-5المستوى الثالث ،مستوى التثبيت لهذا البناء ،الذي مرتكزاه األساسان التكتالت األرضية
الدنيوية والتقليد.
هذه الحقائق ،وهذا البرهان العلمي بالحق الذي ال يزيغ عنه إال هالك داحض لباطل القو
واالحتجاج الخاطئ الذي يركن إليه المبررون والمسوغون لهذا الضال تلبيسا على غيرهم
أو التباسا على مستوى فقههم وعلمهم ،كتبرير اختالف المذاهب ،وكأنه أمر طبيعي ال
115
مناص منه وال مندوحة ،الختالف هؤالء الرجا البشر من عباد هللا الصالحين في فهم
القرآن والحديث الختالف وجوه الداللة في البيان والختالف المعلوم وحظ كل واحد منهم
وسعته ،66وإنه لسفه وجرم في جناب الحق عظيم أن تُجعل قراءة رجل من بعد رسو هللا
صلى هللا عليه وسلم وهي بالنسبة لنور هللا تعالى ومجا شريعته في القرآن والسنة كقطرة
من البحر ،أن تُجعل مذهبا ودينا محل اإلسالم ،وهذه حقيقتهم ،ألن المذهب هو الذي يمثل
اإلسالم عندهم ،فهم يقولون مثال ندين هللا بمذهب مالك والعقيدة األشعرية .وال غرو فإن هذا
التبرير له نظائر على كل أسس المنهاج اإلسالمي وتصوراته كاالعتبار الخاطئ للقراءات
مما بينا باطله في كتاب وجزء مخصوص ،ومثله في الخبر والصفات كقو أحمد بن محمد
بن المظفر بن المختار الرازي رحمه هللا الذي عاش في القرن السابع الهجري ،في كتابه
'حجج القرآن' ،وهو قو بين لبسه وضالله يقو فيه:
<فاستخرجت منه حجج كل طائفة على اختالف نحلهم وآرائهم وافتراق مللهم وأهوائهم،
(وأصلهم ثمان فرق) :الجبرية وفي مقابلتها القدرية ،والمرجئة وفي مقابلتها الوعيدية،
والصفاتية وفي مقابلتها الجهمية ،والشيعة وفي مقابلتها الخوارج .ومن هذه الفرق الثمان
تشعبت الفرق الثالث والسبعون .وما من فرقة إال ولها حجة من الكتاب ،وما من طائفة إال
وفيها علماء نحارير فضالء لهم في عقائدهم مصنفات ،وفي قواعدهم مؤلفات .وكل منهم
يُؤو دليل صاحبه على حسب عقيدته ووفق مذهبه .وما منهم من أحد إال ويعتقد أنه هو
المحق السعيد وأن مخالفه لفي ضال بعيد{ :كل حزب بما لديهم فرحون}(الروم.)52
وليس قصدنا بيان معقوالت المتكلمين من المتأخرين والمتقدمين ،ولكن القصد أن نذكر في
هذا الكتاب جميع حجج القرآن بطريق االستيعاب ،ثم نذكر حجج الحديث لكل قوم من القديم
والحديث لكيال يعجل طاعن بطعنه في فرقة وال يغلو قادح بقدحه في طائفة؛ ويعلم أن هذه
األدلة ما تعارضت إال ليقضي أمرا كان مفعوال ،من افتراق األمة على الثالث والسبعين،
67
تصديقا لقو رسو هللا صلى هللا عليه وسلم" :ستفترق أمتي ثالثا وسبعين فرقة الحديث"
68
وقوله تعالى{ :وعلى هللا قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين}>
إن هذا لتصور غير صحيح واعتقاد في الحق ليس برشيد ،فاهلل تعالى يقو :
انظر مثال :كتاب الصالة على المذاهب األربعة مع أدلة أحكامها :عبد القادر الرحباوي -دار السالم للطباعة والنشر والتوزيع
66والترجمة -القاهرة -الطبعة الرابعة -سبب اختالف األئمة-ص25
67الترقيم مني
كتاب حجج القرآن :أحمد بن محمد بن المظفر بن المختار الرازي -دار الكتب العلمية -بيروت –لبنان-ط1401-1ه1511-م-ص1
68
116
{إن هذه أمتكم أمة واحدة' وأنا ربكم فاعبدون' وتقطعوا أمرهم بينهم' كل إلينا
راجعون'}(األنبياء)52-51
فاآلية التي أوردها العالم في احتجاجه أعاله وحديث رسو هللا صلى هللا عليه وسلم داللته
توجه بالقرآن والسنة ال بغيرهما بله مما هو على نقيضهما ،فما كان للحق أن يدعو إلى أمر
ثم ينقضه ،إنما القراءة هنا لألصلين الكريمين قراءة النذر والوعيد مما قضاه الحق من
السنن التي ال تتخلف من أن يصيب هذه األمة بفعل البعد عن هللا تعالى والبغي بينهم
بعضهم على بعض فيحل الوعيد والمحذور كما أصاب األمم ممن قبلنا من اليهود
والنصارى؛ وهذا هو مناط السؤا وحيز االبتالء للعلماء خاصة ،وفي هذا تنشر الصحف
يوم القيامة .والشأن الثاني من الفقه أن الرجا ال يوجهون الحق ،فإنه أعظم من ذلك،
والقرآن هو الذي أنبأنا هللا تعالى بأنه كتاب مبارك ومجيد؛ فليذكر هؤالء قو الفاروق عمر
بن الخطاب رضي هللا عنه في رسالته لقاضيه أبي موسى األشعري بأن الحق قديم.
117
المصادر والمراجع
-القرآن الكريم
-صحيح البخاري
-فتح القدير
-تفسير ابن كثير
-األبواب المنتخبة من مشكاة المصابيح
-كتاب حجج القرآن :اإلمام أبو الفضائل أحمد بن محمد بن المظفر بن المختار الرازي
الحنفي -دار الكتب العلمية -بيروت لبنان -الطبعة األولى
-كتاب الفقه على المذاهب األربعة :عبد الرحمان الجزيري -إشراف دار البحوث والدراسات-
دار الفكر -للطباعة والنشر والتوزيع
-كتاب الصالة على المذاهب األربعة مع أدلة أحكامها :عبد القادر الرحباوي -دار السالم
للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة القاهرة
-مدخل لدراسة الفقه اإلسالمي :محمد محجوبي -الطبعة األولى2010
-دراسات في تاريخ األندلس وحضارتها من الفتح حتى الخالفة :الدكتور أحمد بدر-الطبعة
الثانية
-الدعوة الموحدية بالمغرب :عبد هللا علي عالم -الطبعة األولى -دار المعرفة
-المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر(إنولتان :)1512-1150أحمد التوفيق -جامعة محمد
الخامس أكدا -منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية بالرباط -سلسلة رسائل وأطروحات
-ال ننخدع :عبد هللا الموصلي
-الصوارم واألسنة في الذب عن السنة :محمد بن أبي مدين الشنقيطي -وزارة األوقاف
والشؤون اإلسالمية بالمغرب
-مع األنبياء في القرآن الكريم :عفيف عبد الفتاح طبارة -دار المالين ببيروت
روح الدين اإلسالمي -عرض وتحليل ألصو اإلسالم وآدابه وأحكامه تحت ضوء العلم
والفلسفة :عفيف عبد الفتاح طبارة -دار العلم للماليين -بيروت -لبنان -الطبعة-24
حزيران1511
118
-إحصاء العلوم :أبو نصر الفارابي -قدم له وشرحه وبوبه الدكتور علي بولحم -دار ومكتبة
الهال -الطبعة األولى1551 -
-ابن تيمية -سلسلة أعالم العرب :الدكتور محمد يوسف موسى
-ابن حزم الظاهري –حياته وعصره :محمد محجوبي
-الرسائل السلفية في إحياء سنة خير البرية :محمد بن علي الشوكاني
موجز تاريخ الدين وإحيائه وواقع المسلمين وسبيل النهوض بهم :أبو األعلى المودودي -معربا
عن الفارسية ترجمه محمد عاصم حداد -دار السعودية للنشر والتوزيع1405 -ه1515 -م
-فقه الكتاب والسنة ورفع الحرج عن األئمة :تقي الدين بن تيمية -دار الكتب العلمية -بيروت-
لبنان -تعليق فريد أمين الهنداوي
-المذاهب اإلسالمية الخمسة والمذهب الموحد :القاضي محمد سويد -دار التقريب بين
المذاهب اإلسالمية -بيروت -لبنان -الطبعة الثانية 1554
نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية األربعة :أحمد تيمور باشا -تقديم الشيخ محمد أبو
زهرة -الطبعة األولى 1411ه1550 -م -دار القادري للطباعة والنشر والتوزيع -بيروت
-القدس العربي العدد2010\1\14 -1551
119
120
121
122
123