Professional Documents
Culture Documents
3
مقدمة
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم عىل سيدنا حممد أفضل النبيني
وخامتهم ،وعىل آله وصحبه املهديني ،ومن اتبعهم بإحسان إىل يوم الدين؛ وبعد:
فقد جاءت جمموع ٌة من طالب العلم من بعض البالد العربية لزياريت
وتطرق
ا عَّمن،
خالل األيام القليلة املاضية ،وسعدت باستضافتهم يف منزيل يف ا
بعض احلضور يف جمالسنا إىل الرأي الغريب الذي أثاره د .عدنان إبراهيم مؤخر ًا،
ُ
وهو َج ْز ُمه ا
بأن النار تفنى ،فانتهزت بعد مغادرهتم فرصة لسَّمع ما قاله ،وكيفية
الكفار املعاندين الذين هم أهلها املحكوم
َ تقريره إياه ،فوجدته فعال جيز ُم ا
بأن
عليهم باخللود والتأبيد فيها يف كثري من النصوص الدينية الوثيقةََ ،ي ُرجون منها ـ
وإن كان هو يفضل التعبري بـ(ُي َرجون!) ـ وذلك بعد أن يتطهروا فيها بَّم يالقونه
من العذاب واآلالم ،وذلك ملدة ال تتجاوز يوم ًا واحد ًا عند ربك! ويساوي
مخسني ألف سنة مما نعدُّ ! ويمكن أن يكون ألف سنة كذلك! وبعد خروجهم من
النار يدخلهم اهلل تعاىل برمحته اجلن َة ،ويصبحون إخوانًا مع املؤمنني باهلل تعاىل من
األنبياء والرسل عليهم السالم ،وسائر املؤمنني.
يعم مجيع الكفار قاطبة ،وال َيتص بالكفار
وأن هذا احلكم الذي حيكم به ُّ
املعارصين ،بل ا
إن مجيع املعاندين من اإلنس منذ بدء اخلليقة مصريهم إىل الدخول
يف اجلنة ،وخترب النار بعد خروجهم منها.
4
ويلزمه بالرضورة أن يكون حكمه كذلك يف كفار اجل ِّن ،وإن مل يتطرق
لذلك يف خطبته التي سمعتها ،ومنهم إبليس اللعني اليائس من رمحة اهلل تعاىل،
فإنه عىل طريقة هذا القائل يؤول مقامه الدائم منعمـًا يف اجلنة مع األنبياء والرسل
أمجعني ،ويصبح مرض ًّيا من اهلل تعاىل حمبوب ًا ممدوح ًا!! ،خالدً ا يف اجلنة!!.
تدل عىل ذلك ،وأبرز عن رأيه خمالف ًا ألعالم أن األدلة الرشعية ُّ وأعلن ا
األمة ،وتشبث برأي بعض املعتدِّ ين بأنفسهمِ ،م ْن َق ْب ِله ،املنحرفني عن أهل ِّ
احلق،
رصحوا هبذا الرأي الباطل الذي ال يدُ ُّل عليه دليل قويم ،وال هيدي إليه
الذين ا
رصاط مستقيم .ورشع يف حماولة هدم أدلة املخالفني الذين هم باقي األمة
اإلسالمية ،وحماولة تصحيح أدلة ابن تيمية ،وابن قيم اجلوزية ،ممن خالف خلود
الكفار يف العذاب.
ولكن أحدً ا من هؤالء مل يرصح بجرأة هذا املعارص بأن الكفار قاطبة
َيرجون من النار ويدخلون اجلنة ،بل إن ابن عريب احلامتي؛ ا ادعى أن أهل النار،
الذين هم أهلها؛ خالدون يف النار أبد ًا ،ال َيرجون منها ،وغاية األمر؛ ا
أن عذاهبم
ينقلب ـ بعد فرتة من الزمان ـ إىل عذوبة ،ويصبحون متلذذين بالنار ،بحيث لو
ُ
خرجوا منها إىل اجلنة تعذبوا وتأملوا.
أ اما ابن تيمية ،ومعه تلميذه ابن قيم اجلوزية ،فَّمل يف ظاهر كالمه إىل ا
أن
أهل النار من الكفار َيـفنون وتفنى معهم النار بعد فرتة من العذاب ،ومل جيرؤ عىل
الترصيح بأهنم َيرجون منها ويدخلون اجلنة! ،وإن كان يف بعض كالمه ما قد
5
يشري بذلك! ،وقد بينت املذاهب املختلفة يف هذه املسألة يف كتايب( :أصحاب النار
ومصريهم) ،الذي طبع قبل سنوات قليلة.
ورأيت اعتدا َده به ،وجراءته عىل زعم أنـاه
ُ سمعت رأي د .عدنان،
ُ فلَّم
وخصوصا ابن ِ
شبهات املستدلني، احلق ،واستهانته بأدلة اخلصوم ،وتعظيمه
ً
تيمية ،وابن قيم اجلوزية ،فإنه هلَّم جمرد تابع ،وال يفعل أكثر من تكرار شبهاهتَّم،
عزمت عىل كتابة ر ٍّد وجيز عليه ،أبني له فيه املغالطات والتحكَّمت التي وقع فيها
ُ
باختصار وإجياز لضيق الوقت.
نفورا
نفرت منه ً
ُ سمعت قوله هذا ،وطريقته يف تقريره،
ُ ويعلم اهلل أنني ملا
ُ
األعذار من ُ
قبل ،وإن كنت أخالفه يف كثري من آرائه ،مع َ ُ
أحتمل له وكنت
ُ كبريا،
ً
أين ال أشك ُ
ِّك يف نواياه بحسب الظاهر ،ولكني ال أثق بطريقته وال بقدرته عىل
النظر الدقيق بالقدر الذي يزعمه لنفسه ،وال يعجبني ذلك كله منه ،ملا أراه عيانًا
من ختلل الفساد فيها ،والضعف والتهافت يف زواياه ،مع أنه يدعي كثري ًا أنه تفوق
صح فال
يف االطالع والقراءة ،والذكاء ..إلخ ،ولكن ذلك عندي جمرد ادعاء ،إن ا
ووقعت يف أثناء اطالعي
ُ يميزه عن كثري غريه ممن هم كذلك بل أكثر مما يتوهم!،
مقادير من مواضع الزلل التي وقع فيها يف خمتلف كالمه ،وذلك
َ عىل كالمه عىل
يصح نف ُيه ،وال التشكيك فيه؛
ُ ظاهرا ال
ً مع شهاديت بيشء كثري له ،وبذله جهدً ا
خالف! ،وهذا يشري إىل فضيلة له؛ ال ينبغي
َ لنرش ما يعتقد صوا َبه ،وإن خالف من
بالعاقل التصدي لنفيها ،وكأين كنت أرى كثري ًا من ردوده يشوهبا انفعاالت
6
نفسانية من بعض الرادين عليه الذين شككوا فيه ،وقدحوا يف مقاصده! واهتموه
كثريا عندما يتكلم معهم ،وال ريب يف تأثره هبذه
بشتى التهم ،ورأيته ينفعل ً
وقلت أال يعلم أن هؤالء الذين اعتلق معهم
ُ األحوال كلها ،ولكني ملتُه يف نفيس،
اعتادوا الر اد عىل خصومهم هبذه الطرق والتشنيعات التي يكثرون فيها من
االفرتاء والتهويل والتشغيب والتعايل...الخ ،والذي له عقل رجيح؛ ال يلتفت
يرص عىل احلرص عىل تسديد طريقته ونظره.
إليهم ،وال يعتد بموقفهم ،بل ُّ
وقد اشتغل أخري ًا بمحاولة الر ِّد عىل املالحدة يف زعمهم عد َم وجود اهلل
قلت يف نفيس إن ذلك أقوم مما كان
تعاىل والتشكيك يف رضوريات الدين ،وقد ُ
تلبس فيه من ُ
قبل ،وال أشك أن ذلك أ ادى به إىل إعادة النظر يف بعض آرائه التي
رصح بخطبته هذه ،وشبهة
كان يعتقد هبا ،ومنها خلود أهل النار فيها ،كَّم ا
املالحدة التي يعتمدون فيها عىل القدح يف عدل اهلل تعاىل بناء عىل عدم التساوي
بني مدة الكفر والضالل ،ومدة التعذيب يف الدار اآلخرة ،وهو تشكيك شهري،
معل وم للناظرين يف علم أصول الدين ،وطرق الرد عليه معروفة ،ولكن إذا كان
هؤالء يشككون يف أصل وجود اهلل تعاىل فمن املتوقع أن يشككوا يف بعض أفعال
اهلل تعاىل وأحكامه ،وال ينبغي للعاقل أن يطمح يف حتقيق ما مل حيصل عىل يد
األنبياء عليهم الصالة والسالم أمجعني ،وهو إجلاء الكفار أمجعني إىل االعرتاف
بسداد الدين ،وصحة أحكامه ،ورضورة االلتزام برشيعتهَ { ،و َما َأ ْك َثر الن ِ
َّاس َو َل ْو
7
والرد عليهم بَّم يطيقه من دون اضطرار إلبطال بعض الرضوريات من الدين،
بأدلة وبغري أدلة ،بدعوى احلرص عىل إلزامهم برضورة اإليَّمن واخلضوع له.
وعىل كل حال ،فلن ننساق إىل حماولة حتليل الدواعي التي دعته إىل هذا
القول ،فلعل هلذا حم ً
ال آخر.
ولكنا سنحرص ههنا عىل أن نلفت نظره إىل بطالن األدلة التي اعتمد
عليها ،وأن ما توهم أنه فتوحات إنَّم هو أباطيل وتشغيبات وتومهات ،ومن
واجبنا أن نقوم بالرد عليه ،خصوص ًا يف هذا املقام ،الذي هو باتفاق املؤمنني من
أصول الدين ،عل ًَّم بأن ما ذكرناه هنا ليس مجيع ما يمكن أن نقوله ونقرره ،وما
بيناه من طرق االستدالل إن هو إال ملعات مما نعلمه ،ولكنا حرصنا عىل إبطال ما
متسك هو به ،بالقدر الذي نعتقد كفايته ،بال معاندة وال جلاج.
وقد كتبت هذه الكلَّمت يف نحو يومني ،مع كثرة االنشغال ،وتفرق
األحوال ،واهنَّمكنا يف وظائف األهل ،وطالب العلم ،وغريه من مشاغل الدنيا،
ال نريد يف ذلك؛ إال وجه اهلل تعاىل ،وال نطمح إال يف بذل الوسع يف داللته ،وغريه
واحلق الظاهر ،وال نرغب إال يف
ِّ ممن اغرت بقوله ،وقول ابن تيمية؛ إىل اهلدى،
اإلشارة إىل األساليب املغالطية ،والترسعات املنهجية ،التي وقع فيها ،فض ً
ال عن
الدعاوى اهلائلة؛ التي يكثر منها ،يف خمتلف دروسه وخطبه ،مع أن أكثر تلك
الفتوحات! ،والدقائق التي يزعمها! ،ال ترقى إىل هذه املنزلة ،التي يرفع شأهنا
إليها ،نعم نحن ال نغمطه ح اقه ،ونعرتف بجهده ،ونرغب يف تقويمه أسلوبه،
8
يقوم أحوا َله ،فيجعله
وعدم اندفاعه وراء رغباته وهواه ،ألنـاا نرجو اهلل تعاىل أن ِّ
أن ي َق َع ر ِّدي هذا موق َعه الذي أ ُّ
حب له يف من الدعاة إىل احلق؛ ال إىل سواه ،وآمل ْ
نفسه.
ولوال أنه بادر إىل اإلعالن عن رأيه ـ مع خطورته ـ ونرشه عىل الناس
ِ
أقدمت عىل نرش هذا الر ِّد ملن شاء ،إال بعد أن ُأطل َعه هو عليه ،و َأ ْح ِر َ
ص ُ عامة ،ملا
ِ
وجاد ْْلم بالتي هي َأ ْح َسن} وهي ال بعموم قوله تعاىل{ :
عىل مباحثته ،عم ً
سارع إليه!،
َ أحسن ،لوال ما
ُ ذكرت ،مما يصدق عليه أنه
ُ املنهج الذي
َ تشمل
وندعو اهلل تعاىل؛ أن هيدينا وإياه؛ إىل سواء السبيل ،والصال ُة والسالم عىل سيدنا
حممد خاتم النبيني ،واحلمد هلل رب العاملني.
9
متهيد
بعض الناس؛ إذا خطر هلم خاطر ،تسارع إىل نظرهم أهنم جمتهدون أفذاذ،
وأهنم بعض أفراد من جنس البرش ،اجتمع هلم الذكاء ،يف أرقى صوره ،فرتاهم
يسارعون إىل التمسك بَّم جترأوا عليه ،بغري نظر سديد ،وإن ادعوا أهنم وصلوا يف
الفكر واملعرفة واالطالع إىل أعىل عليني.
ونحن ال هيمنا الدعاوى التي ينثرها املدعون ،بل ننظر إىل ما يقدمون بني
يدي دعاوهيم ،من أدلة قاهرة ،أو لفتات نادرةُّ ،
تدل عىل ما يزعمون ،فإن رأينا
هذا فيهم ،شهدنا هلم بالفضل والعال ،وإال فال ،بل رددنا عليهمّ ،
لعل ر ادنا
يعيدهم إىل يشء من الرتوي؛ الذي فقدوه ،ويبطئهم عن الترسع الذي اخرتقوه.
ومعلوم أن مسألة أن النار تفنى؛ أو هي خالدة أبد ًا ،من أخطر املسائل
العقائدية ،ولذلك؛ فإنه جيب عىل من َيوض فيها ،ويرتئي رأي ًا ،أو يرجح نظر ًا،
أن يكون معتمد ًا عىل األدلة القوية الراسخة ،ال عىل جمرد (يبدو يل) ،و(كأن اهلل
خطر يل)! ،ونحو ذلك من العبارات التي ال عربة هبا
أراد أن يقول) ،أو (وهذا مما َ
يف هذه املجاالت.
وال َيفى أن خلود املؤمنني يف اجلنة ،من أوضح الواضحات ،يف اآليات
واألحاديث ،ويف رشائع اهلل تعاىل؛ إىل أنبيائه ،ويف أديانه؛ التي أوجب عليهم بياهنا
للناس ،ومثل هذه العقيدة ،ينبغي أن تكون واضحة ظاهرة ،وهي كذلك بفضل
اهلل تعاىل.
10
وكذلك يقال األمر نفسه؛ يف مسألة فناء النار ،أو عدم فنائها ،فإن كان
القائل بعدم الفناء ـ وهو مجيع من يعتدُّ به من املسلمني ـ يعتمد عىل أدلة يزعم أهنا
ظاهرة ،دالة داللة قوية عىل ما يقول ،وعىل ما ينسبه إىل الرشيعة ،فعىل من يريد
ترجيح الرأي القائل بأن النار تفنى ،وذلك بعد أن يتطهر أصحاهبا من أدراهنم،
تم فيهم ذلك ،مل يعد هناك ُّ
والتأمل ،حتى إذا ا ويتخلصوا من خطاياهم ،بالتعذب؛
ما يوجب أن يبقوا فيها ،وكأن وجودهم فيها كان عن ِ
موجب عىل من وضعهم
فيها ،وهو امللك الديان ،الذي ال جيب عليه يشء من األفعال ،وال يلزمه أمر من
األمور احلادثة ،بل كل ما ُحيدثه؛ فإنَّم هو بأمره ،وإرادته ،وتدبريه.
يبق هناك ما يدعو إلبقائهم ،ولذلك فينبغي إدخاهلم يف
فال يقال إنه مل َ
اجلنة ،كأن األصل أن الواجب عىل اهلل؛ والذي ينبغي عليه ـ حاشاه! ـ هو إدخال
الناس أمجعني يف اجلنة!
أقول :عىل من يريد أن يثبت هذا الرأي الغريب الشاذ ،أن يثبته بأدلة ال
تنزل عن أدلة اجلمهور يف القوة والوضوح! ،وهيهات!.
والذي أعلمه من مذاهب املسلمني يف النار؛ أهنم أمجعوا عىل أن الكفار
الذين هم أهل النار وأصحاهبا ،يبقون فيها ما دامت موجودة ،وعىل أهنم ال
يدخلون اجلنة أبد ًا ،وال يرحيون رحيها.
ومل أعرف أحد ًا من ُ
قبل؛ جترأ عىل القول :بأن أهل النار ـ الذين هم أهلها
ـ يبقون فيها فرتة وجيزة؛ باإلضافة إىل عمر اجلنة ،وهذه الفرتة هي يوم واحد (إما
11
مخسون ألف سنة ،أو ألف سنة مما تعدون) ،ثم َيرجون لزام ًا ،ولعمري إن هذه
القالة ،توافق ما ا ّدعاه اليهود ألنفسهم خاصة؛ عدا الناس أمجعني ،عندما قالوا:
ك بِ َأ ََّّن ْم َقالو ْاَ :لن متَ َ َّسنَا النَّار؛ إِالَّ َأ َّيام ًا َّم ْعدو َداتَ ،وغ ََّره ْم ِِف ِدين ِ ِهم َّما كَانو ْا
{ َذلِ َ
وأيضا قوهلمَ { :و َقالو ْاَ :لن متَ َ َّسنَا النَّار؛ إِالَّ َأ َّياماًً ون}(آل عمران،)42/ َي ْف ََت َ
ون َع َىل ا هِ
هلل َما هلل َع ْهدَ ه؟!َ ،أ ْم تَقول َ فا هُيلِ َ
َّم ْعدو َد ًة ،ق ْل َأ ََّّت َْذت ْم ِعندَ اهللهِ َع ْهد ًاَ ،ف َلن ْ
ون}(البقرة.)00/
الَ َت ْع َلم َ
فاليهود ا ّدعوا أن النار لن متسنا إال أيا ًما معدودة ،أ اما سائر اخللق،
فسيبقون يف النار إىل األبد.
وكَّم نرى؛ فإن اهلل تعاىل كذهبم ،فقال{ :أَّتذتم عند اهلل عهد ًا} فإن كان
األمر كذلك ،فلن َيلف اهلل تعاىل عهده ،ولكن شيئ ًا من هذا مل حيدث ،فلم
يعدكم اهلل تعاىل بيشء نحو ذلك ،وال وعد غريكم أيض ًا بذلك ،فأنتم كاذبون عىل
اهلل تعاىل؛ حني تزعمون ذلك.
أن اليهود الذين قامت عليهم احلجة من الكفار أيض ًا يف
ومن املعلوم ا
الرشيعة اإلسالمية ،فلو كانت جهنم تزيل عنهم أدراهنم ،وتنقيهم وتطهرهم بعد
ٍ
واحد ،وصدق القائل :بأن جهنم إنَّم جعلت لذلك ،أي :للتنقية، عذاب يوم
12
والتطهري ،وإزالة األدران ،واملعايص عن قلوب البرش ،ألزالت ذلك عنهم أيض ًا
يف تلك األيام التي زعموها ،أو يف اليوم الواحد الذي يقول به القائل.
وبغض النظر عن عدد األيام التي زعموا فيها بقاءهم يف النار ،فلم يكن
العدد املعني هو حمل النزاع ،وال وقع اخلالف فيه ،ولذلك نكرت األيام ،وأطلقت
تعرف ،فصارت تصدق عىل أي أيام ،خصوص ًا أهنا جاءت يف مقام التحقري
ومل ا
والتقليل لأليام ،فمهَّم كان عددها ،فقد نفى اهلل تعاىل ذلك.
نفسه؛ أن يقول :إنَّم تسلط النفي عىل زعمهم ،أن هلم
وقد يتصور ملن سفه َ
عهد ًا عند اهلل تعاىل؛ بأن ال يبقوا إال أيام ًا ،أي :قليلة.
فنقول له :ليس يف كالمهم دعوى ذلك ،ولكن كالم اهلل الراد عليهم،
معناه ،إنه ال يصدق ما تزعمون إال بوعد؛ وعهد من اهلل تعاىل ،بأن ال تبقوا فيها
إال أيام ًا ،وبخالف ذلك ـ أي :ومع فرض عدم وجود ذلك العهد ـ فليس لكم
أن ختصوا أنفسكم هبذه اخلصيصة ،فض ً
ال أن يدّ عيها غريكم ،فلم يبق إال أن البقاء
يف النار ،ليس حمصورا بأيا ٍم ،عىل حدٍّ زعمهم.
بل هو مطلق وبقاء خالد ما دامت السموات واألرض.
الس ََم َوات ومن املعلوم أهنَّم تبقيان أبد ًاَ { ،ي ْو َم ت َبدَّ ل األَ ْرض غَ ْ َري األَ ْر ِ
ض َو َّ
اح ِد ا ْل َق َّه ِ
ار}( ،إبراهيم ،)20/وال دليل عىل انعدامهَّم ،أو ختلل وبرزو ْا هللهِ ا ْلو ِ
َ َََ
الفناء عليهَّم ،بعد عملية التبديل (اليوم اآلخر ،واحلياة الباقية) التي اختلف فيها
13
األعالم؛ هل هي عن إعدام؛ وإفناء تا ٍّم ،ألجزائهَّم؟ ،أو جمرد تغري لنظامهَّم ،الذي
كان ،واخرتاع نظام آخر جديد؛ يبقى ويدوم؟!.
وما دام ال يوجد وعد؛ وال عهد من اهلل تعاىل ،فال شك يف بطالن
دعواهم ،القائلة :بأهنم ال يبقون يف النار؛ إال أيا ًما معدودة ،بل احلق أهنم يبقون
فيها ما دامت السموات واألرض خالدين فيها أبد ًا.
ويف الطربي؛ يف تفسري قوله تعاىلَ { :و َقالواَ :ل ْن متَ َ َّسنَا النَّار؛ إِ َّال َأ َّيام ًا
ون َع َىل ا َِّ
هلل َما هلل َع ْهدَ ه!َ ،أ ْم تَقول َ ف ا َّ ُيلِ َ
َم ْعدو َد ًة ،ق ْل َأ َّ ََّت ْذت ْم ِعنْدَ اهللَِّ َع ْهد ًا؟!َ ،ف َل ْن ْ
َ
رسول اهلل صىل اهلل عليه ون} ،قال( :عن عكرمة؛ قال :خاصمت اليهو ُد
َال َت ْع َلم َ
وسلم؛ فقالوا :لن ندخل النار؛ إال أربعني ليلة ،وسيخلفنا فيها قوم آخرون ـ
يعنون حممد ًا؛ وأصحابه ـ فقال رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم بيده عىل
رءوسهم :بل أنتم فيها خالدون ،ال َيلفكم فيها أحد ،فأنزل اهلل جل ثناؤه:
14
وما سواه يعدُّ خترص ًا ،ألنه سيكون يف مقابل الراجح ،والواجب العمل
بالراجح؛ يف مقابل املرجوح.
ومن يرجح املرجوح فإنَّم يرجحه هلواه ،ومن يزعم أن مثل قوله{ :إال ما
15
فإن كان اعرتاضهم عىل تأبيد التعذيب ،لطوله؛ وعدم انتهائه ،مع قرص
فرتة معصيتهم ،فهذا االعرتاض وارد أيض ًا؛ عىل تطويل املدة أكثر من مدة
كفرهم ،فإن ضوعفت مرتني أو ثالث مرات ،فَّم هي احلكمة؟! ،التي من أجلها
تضعف املدة مخسني ألف سنة؟!( ،وهو مقدار يوم عند ربك) ،ولو اعتربنا عمر
ك ل واحد من الكفار مائة عام ،لكانت فرتة التضعيف مخسَّمئة مرة ،وهي لعمري
طويلة جد ًا فعالً ،ولو قسناها بمقياس الرغبات التي يقيسون هبا؛ وحيتجون هبا،
لكانت خارجة عن احلكمة.
فإن قيل :إن هذه املدة الزمة لتطهري أدران الكفر من نفوسهم.
نقول :أليس اهلل تعاىل بقادر عىل إزالة أدران الكفر؛ يف أقل من هذه املدة،
بل يف حلظة واحدة من نفوسهم.
فليكن العذاب مدة تساوي مدة الكفر واإلحلاد ،وما زاد عىل ذلك؛ فهو
خارج عن احلكمة والصحة إذن!.
إن الناظر؛ إن سلم بصحة اعرتاضهم هذا ،فإنه يرد عليه كل ذلك ،بل
أكثر منه ،وال يمكنه اخلالص منه.
كثري من كلَّمت ابن تيمية ،واملعاين التي بثها
وقد علقت يف نفس د .عدنان ٌ
يف ثناياه ،ومنها :اغرتاره بأن اخلطأ الذي وقع فيه اجلهمية؛ أهنم قالوا :بفناء اجلنة؛
والنار كليهَّم ،ومل يقولوا :بفناء النار فقط ،يعني :أن االعرتاض عىل اجلهمية؛ مل
16
يكن ليقع عليهم ،لو قالوا :بفناء النار فقط ،وقالوا :ببقاء اجلنة ،ولكنهم ملا قالوا
بفنائهَّم مع ًا ،اعرتض عليهم السلف واخللف! ،وهذا الفهم غريب عجيب.
فاملسألة أن املسلمني أمجعوا ـ ملا رأوه من األدلة القرآنية؛ واألحاديث
النبوية ـ عىل ا
أن كال من اجلنة والنار باقية؛ ال تفنى؛ وال َيرج منها أهلها ،وهذا
يعني :إمجاعهم عىل بقاء اجلنة ،وإمجاعهم كذلك عىل بقاء النار ،فهَّم أمران جممع
عليهَّم ،واملسألة ليست إمجاع ًا واحد ًا ،برشط اجلمع بني القول ببقاء اجلنة والنار،
ٍ
خمالف اإلمجاع! ،ومجيع املعتربين من أهل إن من فرق بينهَّم؛ يكون غري بحيث ا
العلم؛ يعلمون مع ثبوت هذا اإلمجاع ،ا
أن َم ْن أنكر بقاء اجلنة ،أو بقاء النار ،فإنه
يكون خمالف ًا لإلمجاع أيض ًا.
وما زعمه عدنان إبراهيم تبع ًا وتقليد ًا؛ بال ٍ
متعن! البن تيمية ،من أن هناك
فر ًقا بني قول اجلهمية ،وقول من أنكر بقاء النار فقط ،بحيث يكون من أنكر بقاء
مؤثر ،وينتج عنه عدم لزوم
ٌ النار فقط ،غري مناقض لإلمجاع ،وأن هذا الفرق
التشنيع عىل املخالف وتغليطه ،حتى وإن قال :ببقاء اجلنة فقط؛ وفناء النار! ،فهذا
استقر يف خلده ،تقليدً ا حمض ًا البن تيمية ،ال اتباع ًا للدليل ،وال حتقيق ًا
ّ جمرد وهم،
من عنده.
ولذلك فقد تسلل ابن تيمية؛ خلرق هذا اإلمجاع ،بطرق سخيفة ،وزاد هذا
يف اخلرق ،م ْن َب ْعده حلدِّ القول رصاح ًة ،بأن أهل النار؛ ال يفنون مع النار ،بل
17
يدخلون اجلنة مجيع الكفار؛ إنسهم وجنهم ،ويلزمهم بالرضورة؛ أن يشملوا يف
هذا احلكم شيطاهنم وإبليسهم ،أوهلم ومتأخرهم!.
وقد تعلق هذا املتعلق بأمور ضعيفة للتمسك بقوله؛ الذي ال نراه إال قوالً
بال دليل راجح ،بل جمرد شبهات ،وأمور مشتبهة ،يتمسك هبا بعض الناس،
يقدموهنا عىل املحكَّمت الظاهرات؛ من الكتاب والسنة ،لدوا ٍع تدعوهم إىل
ذلك!.
األمر األول ـ الذي تعلق به النايف خللود النار ـ :زعم أن اخللود وضع يف
اللغة؛ للبقاء املتطاول ،وزعمه أنه يفيد االنتهاء ،ولكنه غفل عن أن املدة الطويلة؛
تصدق عىل املدة الطويلة الدائمة التي ال تنقطع ،وعىل املدة الطويلة؛ باإلضافة إىل
غريها ،وإن كانت تنقطع وتنتهي ،وكان هلا حدٌّ .
وكل ما قاله يف هذا الباب ،إنَّم هو عن غفلته ،ولظنه أن اخللود إنَّم وضع
للمدة الطويلة برشط أن تنتهي ،ولكن لو كان األمر كذلك ،ملا جاز أن يوصف
بقاء املؤمنني يف اجلنة باخللود ،فإنه يكون عندئذ منقطع ًا ،واإلمجاع واقع عىل أنه
غري منقطع ،وال ٍ
منته.
اْلالِد َ
ون}( ،األنبياء ،)12/فهل اخللود ههنا؛ يعني :البقاء لفرتة طويلة معلومة َْ
18
يعني هل املنفي؛ هو :أن بعض البرش قبلك عاشوا مدة طويلة؟! ،أم ان
املنفي هو أن ال أحد من البرش قبلك عاش خالد ًا؟!.
وربَّم يزعم زاعم؛ ا
أن الذي ذكره د .عدنان ،هو ما قرره الراغب
األصفهاين ،وليس كذلك.
تربي اليشء
فالذي قرره الراغب ،وغريه ـ كَّم سنذكر ـ أن اْللود( :هو ِّ
من اعَتاض الفساد ،وبقاؤه عىل احلالة التي هو عليها) ،فهذا هو األصل يف
اخللود ،فهو عدم التغري عن احلالة التي عليها.
ولذلك قرر الراغب أن( :كل ما يتباطأ عنه التغيري والفساد؛ تصفه العرب
ثاِف :خوالد ،وذلك لطول مكثها؛ ال لدوام بقائها) ،وهذا هو ِ
باْللود ،كقوْلم لِل ه
املثال الذي تلقفه د .عدنان ـ من كتب اللغة ـ يف اجتهاداته التي أراها مترسعة!،
فظ ان لتعجله؛ أن اخللود عند الراغب؛ هو :ما كان كخلود األثايف فقط ،فقال يف
خطبته :إن اخللود يقال يف اللغة للبقاء املتطاول! ،وليس األمر كذلك ،بل هو
عكسه؛ عند ذوي األفهام.
فاْللود :وضع ـ كَّم يقرره الراغب ـ عىل عدم التغري عن احلالة التي عليها
اليشء ،وهو الذي عرب عنه الراغب بعدم الفساد.
تغري األحجار التي يضعوهنا
باحلس املبارشَ ،
ِّ وملا كان العرب ال يلحظون
سموها باخلوالد ،وذلك لعدم حلاظهم التغري ،ال
حتت النار؛ حلمل القدر مثالً ،ا
زعم. ّ
ألن اخللود هو املكث الطويل ،بقيد الطول مع النهاية ،كَّم َ
19
وقال الراغب( :واْل َلد :اسم للجزء الذي بقى من اإلنسان عىل حالته،
فال يستحيل ما دام اإلنسان حي ًا؛ استحالة سائر أجزائه).
وقال( :أصل امل ْخ َلد :الذي يبقى مد ًة طويلة ،ومنه قيل :رجل خم َلـِدٌ ملن
أبطأ عنه الشيب ،ودا ابة خملدة؛ هي :التي تبقى ثناياها حتى خترج رباعيتها ،ثم
ِ
للمبق ِّي دائ ًَّم) ،وهذه االستعارة للفظ املخ َلد ،ألن اللفظ هو املستعار. استعري
ثم قال الراغب( :واْللود يف اجلنة؛ بقاء األشياء عىل احلالة التي عليها،
من غري اعرتاض الفساد عليها ،قال تعاىل{ :أولئك أصحاب اجلنة؛ هم فيها
خالدون}{ ،ومن يقتل مؤمن ًا متعمد ًا؛ فجزاؤه جهنم ،خالد ًا فيها} ،وقوله
20
ال واحد ًا ،أي :له معنى واحد يف اللغة ،وهو
أرأيت كيف جعله أص ً
َ
الثبات واملالزمة.
فإذا قيل :إن الكفار خالدون ،كان معناه وحدَ ه كافي ًا؛ إلفادة بقائهم ثابتني
ال أيض ًا عىل بقائها يف نفس األمر ،كقوله تعاىل يف
يف النار ،ماكثني فيها ،وكان دلي ً
اجلنة ،إن أهلها خالدون فيها ،يفيد بقاءهم فيها ،وبقاء وجودها يف نفسها أيضا.
إذ ال معنى للقول :بأهنم خالدون فيها مطلق ًا ،أي :ثابتون فيها ،مع القول
بأهنا يف نفسها ستفنى ،فإن هذا يستلزم بالرضورة؛ عدم خلودهم فيها.
وال معنى للقول :بأن أهل النار من الكفار؛ خالدون يف النار ،عىل سبيل
احلقيقة ،ثم يقال :إن النار تفنى ،بل يقال بعد ذلك :إن أهل النار من الكفار
والزنادقة؛ َيرجون منها ،ويشار إىل أهنم قد يدخلون يف اجلنة ،ويصبحون من
أهل اجلنة؛ وأصحاهبا الدائمني فيها! ،لعمري هذا قلب لألمور ،وحتريف لكالم
رب العاملني!.
احللبي؛ يف( :عمدة احلفاظ) ،عىل ما قرره يف
ُّ الراغب السمني
َ وافق
وقد َ
معنى اخللود ،فقال( :وأصل اْللود :تربي اليشء من أعراض الفساد ،وبقاؤه عىل
احلالة التي هي عليه ،والعرب؛ تصف باْللود ،كل ما تباطأ تغريه وفساده).
وضعف السمني احللبي ـ رصاحة ـ قول من قال :إن اخللود هو املكث
الطويل ،وكذلك ضعف قول من قال :إن اخللود هو الذي ال هناية له ،فقال:
(اخللد :قيل؛ هو :املكث الطويل ،وقيل؛ هو :الذي ال هناية له.
21
لساهبم :عليه ختليد أهل الكبائر ،وقد حققنا هذا
وهو أشبه بقول املعتزلة ِّ
يف األحكام والتفسري ،ولو اقتىض التأبيد؛ ملا جاء مع لفظ األبد ،وأجابوا عنه
بإرادة التأكيد ،واألصل عدمه).
وأما قول الزخمَشي يف أساسه ـ وهو الذي ربَّم اعتمد د .عدنان عىل أول
نظره فيه ـ( :خلد باملكان؛ وأخلد :أطال به اإلقامة ،وما بالدار إال صم خوالد؛
وهي :األثاِف ،وخلد ِف السجن ،وخلد ِف النعيم ،بقي فيه أبد ًا خلود ًا).
فهذا ال يتعارض مع ما ذكره الراغب وغريه ،من أن األصل يف خلد؛ هو:
عدم التحول ،والتربي عن الفساد ،ثم يستعار ملا كان كذلك ،ولو يف ظاهر األمر،
وهذا املعنى استعَّمل للفظ يف بعض معناه ،وليس بالرضورة احلقيقة فيه.
فإن كان األمر املوصوف باخللود ال يتغري وال يعتوره حتول ،كان فع ً
ال
خالد ًا حقيقة ،وإال فهو خالد يف نظر واصفه بذلك ،وعىل ذلك خترج هذه
االستعَّمالت.
فظهر بذلك بطالن ما قرره مدّ عي فناء النار ،من أن اخللود هو جمرد
املكث الطويل؛ الذي ينتهي ،بل( :هو عدم التغري وعدم التحول عنها).
وليتنبه أن السمني احللبي يتكلم عن املعنى املوضوع له اللفظ ،وال يريد
أن معنى اخللود؛ يتناىف مع التأبيد ،بل إنه يقول؛ إن معناه ليس هو الذي ال هناية
له ،وهو معنى لفظ التأبيد ،ولو كان هو عني معناه ،ملا كان جائز ًا تقييده بالتأبيد،
ألنه تكرار حمض ،إن جاز مل يفد؛ إال التأكيد ،واألصل التأسيس؛ ال التأكيد ،كَّم
22
هو معلوم عند أهل العلم ،فمعنى التأبيد؛ مغاير ملعنى التخليد ،وإن كانا ال
يتنافيان بل جيتمعان ،فَّم ال يتغري يف كل األزمان ،مؤ ابد كذلك.
األمر الثاين ـ الذي تعلق به النايف خللود النار ـ :زعمه أن األبد يفيد نفس
معنى اْللود! ،وهو املدة املتَمدية؛ التي حكم أَّنا منتهية!.
ولكن هذا املعنى الذي يزعمه د .عدنان لألبد ،ليس هو املعنى الذي ذكره
حرض عىل االستفادة منه!،
الراغب املحقق املدقق يف معاين املفردات! ،الذي ا
فقد قال الراغب؛ يف معنى األبد( :قال تعاىل{ :خالدين فيها أبد ًا} األبد عبارة
عن مدة الزمان؛ املمتد الذي ال يتجزأ ،ما يتجزأ الزمان ،وذلك أنه يقال :زمان
كذا ،وال يقال :أبد كذا.
يضم إليه وكان حقه أال يثنى ،وال جيمع ،إذ ال يتصور حصول ٍ
أبد آخر،
ُّ
فيثنى به ،لكن قيل :آباد ،وذلك عىل حسب ختصيصه؛ يف بعض ما يتناوله،
كتخصيص اسم اجلنس؛ يف بعضه ،ثم يثنى وجيمع.
عىل أنه ذكر بعض الناس ،أن آباد ًا؛ مو الد ،وليس من كالم العرب العرباء.
دائم ،وذلك عىل التأكيد.
وقيل :أبد آبدٌ ،وأبيدٌ أي ٌ
وتأ ابد اليشء :بقي أبد ًا ،ا
ويعرب به عَّم يبقى مدة طويلة).
فهذا كالم رصيح؛ يف أن األبد ،ال هناية له ،أما إطالقه عىل املدة الطويلة،
ظ يف بعض ما يتضمنه ،كَّم قال ،وهذا ليس استعَّمالً حقيقي ًا ،بل فاستعَّمل ل ال ْف ِ
ٌ
جماز.
ٌ
23
الراغب السمني احللبي ،فقال( :األبد الزمان الطويل املمتدّ غري املتجزئ،
َ ووافق
أخص من الزمان ،قال تعاىل{ :خالدين فيها أبد ًا} أي زمان ًا؛ ال انقضاء
ّ فهو
آلخره).
وفرق الراغب بني األمد واألبد ،فقال( :واألمد واألبد؛ يتقاربن ،لكن
ا
األبد :عبارة عن مدة الزمان؛ التي ليس هلا حدّ حمدود؛ وال يتقيد ،ال يقال :أبدُ
كذا ،واألمد :مدة هلا حد جمهول ،إذا أطلق....الخ).
فبطل ما قرره مدا عي فناء النار؛ بمجرد ظهور داللة األبد ،عىل الدوام
بغري انقطاع ،وداللة اخللود؛ عىل عدم التحول والتغري عَّم هو عليه ،وارتبا ُطهَّم
مع ًا ،له داللة رصحية عىل عدم فنائها!.
ولذلك فإننا نفهم متام ًا ملاذا استبعد د .عدنان اللجو َء إىل الراغب يف بيان
َ
ومال إىل ما نقل ما ذكره الزخمَشي يف معجمه الشهري( :أساس كلمة األبد،
البالغة) من بعض استعَّمالت العرب ،فنقل عنه قوهلم( :ال أفعله أبد اآلباد ،وأبد
األبيد ،وأبد اآلبدين ،وتقول :رزقك اهلل عمر ًا طويل اآلباد؛ بعيد اآلماد).
واحتج نايف بقاء النار؛ بمجرد ذلك ،عىل أن اآلباد تنقطع ،وتنتهي ،وإال
ما مجعت (أبد اآلباد) ،أو أهنا تنتهي ،ألهنا تعلقت بَّم ينتهي (عمرا طويل
اآلباد)!! ،ومن الظاهر؛ أن هذه استعَّمالت للفظ ،مبنية عىل نوع من املبالغة،
وجتوز كَّم هو ظاهر ،ال حقيقة ما وضع له ،وقد وضح الراغب وغريه أصلها،
التي نتجت عنه فيَّم نقلناه عنه.
24
ومن التفت إىل ما ذكرناه ال يتعلق هبذه الشبه واملشاغبات!.
وكذلك قول ابن فارس( :أبد اْلمزة والباء والدال؛ يدل بناؤها عىل طول
املدة ،وعىل التوحش ،قالوا :األبد الدهر ،والعرب؛ تقول :أبد أبيد ،كَم يقولون
دهر دهري).
بمجر ِد ِه؛ ال ُّ
يدل عىل االنقطاع ،كَّم يزعم د .عدنان إبراهيم!، ا طول املُدا ِة
َف ُ
فلو فرضنا أن العرب وضعت هذه الكلمة عىل طول املدة ،فمن أين أهنا وضعتها
عىل طول املدة؟! ،بقيد االنقضاء واالنقطاع!!.
القرائن املتكاثرة ،الدالة عىل
ُ أال يكفي عندئذ محلها عىل عدم االنقطاع؛
ذلك ،ومقابلتها بتأبيد املؤمنني؛ وختليدهم ونحو ذلك ،مما هو كثري يف القرآن،
ُيرجو ْا ِم َن الن ِ
َّار؛ َو َما هم كعدم خروجهم ،وتأمل قوله تعاىل{ :ي ِريد َ
ون َأن َ ْ
ٍ ِ ار ِج ِ
يم}(املائدة ،)13/فإنه كاف وحده؛ لذي ٍّ
لب بِخَ ِ َ
ني من َْهاَ ،و َْل ْم َع َذ ٌ
اب ُّمق ٌ
لفهم ما قرره العلَّمء.
وسوف نتكلم قريب ًا عن اإلخراج واخلروج (خم َرجني ،وخارجني) والفرق
ب أن تفريقه ِمن َْح ٌة ،وفتوحات ِ
بينهَّم ،ومل َ تعلق هبَّم القائل بفناء النار! ،وإن َحس َ
عليه من اهلل!! ،وأن تفرده هبا !!!؛ متي ٌز يستحق عليه التعظيم والتوقري!.
ويبقى السؤال :مل عزف د .عدنان إبراهيم ها هنا ،عن الرجوع إىل
الراغب ،واحتج بَّم سوغت له نفسه من بعض استعَّمالت العرب؟! ،أمل يعرف
أن العلَّمء قدحوا يف قوهلم( :آباد) ،كَّم نقله الراغب بأنه مو الد.
25
وعىل فرض كونه عربي ًا خالص ًا ،أال يسعه أن َيرجه عن قرب عىل أساس
أنه استعَّمل ،كَّم قرره الراغب وغريه ،فهذا أوفق وأقرب إىل النظر السديد.
أم إن املراد زعزعة داللة اآلية؛ عن معناها كيفَّم كان؟!.
أهذا هو التحقيق واالجتهاد؛ الذي نسمع دائ ًَّم دعواه منه؟!.
وقوله يف خطبته( :األبد؛ يقال :للمدة الطويلة ،ال للمدة التي ال تنتهي).
وقد ُّ
يدل عىل أنه يفهم من املدة الطويلة؛ أي( :إهنا طويلة؛ بقيد أن
تنتهي) ،أي :الطويلة املنتهية ،مع أهنم لو اقترصوا يف بيان معنى األبد ،عىل ما قال
ـ أي( :املدة الطويلة فقط) ـ لكانت حمتملة لعدم االنتهاء ،ولكان محلها عىل
االنتهاء؛ حمتاج ًا لقرينة أيض ًا ،ال الطويلة غري املنتهية! ،وهذا منافاة منه لكالم أكثر
اللغويني ،فإهنم فرسوا األبد؛ باملدة غري املنتهية ،فقد نصوا كَّم أوردناه عىل أهنا
تقال :للمدة التي ال تنتهي ،وإطالقها عىل املدة الطويلة املنتهية ،بلحاظ؛ نوع جماز،
واستعَّمل خاص.
ولو كانت ال تقال للمدة غري املنتهية ،فكيف تواتر عن العلَّمء أن يفهموا
من التأبيد؛ عدم االنتهاء! ،ليختلفوا بعد ذلك يف علم األصول ،يف لفظ التأبيد
بخصوصه.
وكيف تفهم قول من قال:
اجلهاد ما َب ِقينـا أ َبدا
ِ عىل حم همدا
نحن الذين بايعوا َ
26
هل تفهم منها :إننا بايعناه مدة طويلة منتهية ،أو تفهم منها :بايعناه ما دمنا
باقني؛ ولو بقينا أبد ًا ،أي بال هناية ،وذلك مع علمهم أهنم سيموتون.
ات اهللَِّ م َب ِّينَاتِّ ،ليخْ ِر َج وكيف تفهم قوله تعاىل{ :رسوالً يتْلو ع َليكم آي ِ
َ ْ ْ َ َ َّ
ُّورَ ،و َمن ي ْؤ ِمن بِا َِّ
هلل؛ َو َي ْع َم ْل اتِ ،من ال ُّظلَم ِ
ت إِ َىل الن ِ
َ َ
احل ِ
ا َّل ِذين آمنوا وع ِملوا الص َِ
َّ َ َ َ َ
ين فِ َيها َأ َبد ًاَ ،قدْ َأ ْح َس َن اهللَّ َله ِِ ِ ِ ِ ِ
َصاحل ًا ،يدْ خ ْله َجنَّات َ َْت ِري من َ َْتت َها ْاألَ َّْنَار؛ َخالد َ
ِر ْزق ًا}( ،الطالق ،)33/هل تفهم منها :أهنم خالدون يف اجلنات مدة طويلة
منقطعة؟!.
وكيف تفهم قوله تعاىل واصفا اليهودَ { :و َلن َيت ََمن َّْوه َأ َبد ًا} (البقرة/
،)59أي :لن يتمنوا املوت؛ مع زعمهم أن الدار اآلخرة خالصة هلم ،من دون
الناس.
هل تفهمها :أهنم لن يتمنوا املوت مدة متطاولة منتهية! ،ثم سيتمنونه!.
ونراه قد عكس املقام ،أو حتكم؛ فقال( :إن (أبد ًا) ال يفهم منها البقاء
املتَّمدي؛ ال إىل هناية ،إال بقرينة ،ويفهم منها :لذاهتا البقا َء الطويل املنتهي ،الذي له
هناية فقط).
واحتج القائل بفناء النار؛ عىل زعمه ،أن التأبيد ال يفيد عدم االنقطاع ،بل
وك لِ ْلخروجِ ، است َْأ َذن َ ِ يفيده ،بنحو؛ قوله تعاىلَ { :فإِن َّر َج َع َ
ك اهلله إِ َىل َطآئ َفة ِّمنْه ْمَ ،ف ْ
َفقلَّ :لن ََّتْرجو ْا م ِعي َأبد ًا ،و َلن ت َقاتِلو ْا م ِعي عدو ًا ،إِنَّكم ر ِضيتم بِا ْلقع ِ
ود َأ َّو َل ْ َ َ َ َ ه َ َ َ َ
ني}( ،التوبة ،)01/وقوله تعاىل لرسوله عليه الصالة مرة؛ َفا ْقعدو ْا مع َْ ِ ِ
اْلالف َ َ َ َ َّ
27
حق املنافقنيَ { :والَ ت َص ِّل َع َىل َأ َحد ِّمنْهم َّم َ
ات َأ َبد ًاَ ،والَ تَق ْم َع َ َىل والسالم؛ يف ّ
ون}( ،التوبةَ ،)02/فإِ ان هلل ورسولِ ِه؛ وماتو ْا وهم َف ِ ِ
اسق َ َ ْ ََ َق ْ ِربه ،إِ ََّّن ْم َك َفرو ْا بِا هِ َ َ
ب املَْ ْغ ِف َرةَ ،واملغفرة تنايف تأبيد العذاب ،وقوله تعاىل: َص َال َت ُه َع َل ْي ِه الس َالم؛ ت ِ
ُوج ُ ا ُ
يه ،فِ ِ
يه َأبد ًا؛ ملََّس ِجدٌ أسس ع َىل ال َّت ْقوى ِمن َأو ِل يومَ ،أح ُّق َأن تَقوم فِ ِ
ِ ِ
يه َ َ ْ َّ َ ْ َ ِّ َ َ ْ {الَ تَق ْم ف َ
ِ ِ ِر َج ٌال ُيِ ُّب َ
ين}( ،التوبةَ { ،)300/وا َّلذ َ
ين ون َأن َي َت َط َّهرو ْا؛ َواهلله ُي ُّ
ب ا ْمل َّط ِّه ِر َ
ني َج ْلدَ ًةَ ،و َال َت ْق َبلواِ َات؛ ثم ََل ي ْأتوا بِ َأربع ِة شهدَ اءَ ،ف ِ ون املْحصن ِ
اجلدوه ْم َث ََمن َ
ْ ََْ َ َّ ْ َ َي ْرم َ ْ َ
ِ ك هم ا ْل َف ِ َْل ْم َش َها َد ًة َأ َبد ًاَ ،وأ ْو َلئِ َ
ون}( ،النورَ { ،)2/و َد َخ َل َج َّنتَه؛ َوه َو َظاَل ٌ
اسق َ
ِّلنَ ْف ِس ِهَ ،ق َالَ :ما َأظ ُّن َأن َتبِيدَ َه ِذ ِه َأ َبد ًا}( ،الكهف.... )19/الخ.
وحاصل استدالله؛ أن كل ما تعلق به التأبيد ،عرفنا أنه مل يدم أبد ًا،
فاستنتج من ذلك؛ أن التأبيد ال يفيد عدم االنتهاء.
واحلقيقة أنه لو أنصف ،لعرف أن عدم بقاء هذه األمور املحكوم عليها
بتأبيد ،إنَّم جاء ال لنفس كلمة( :أبد ًا) ،بل ألنا عرفنا عدم بقاء كل ما قيد؛ ما تعلق
به بالتأبيد ،فصار معنى التأبيد ههنا :ما بقيت املت القات ،وقد علمنا أهنا ال تبقى،
فالتأبيد صار مقيد ًا لتقيد ما تعلق به ،وملحدوديته ،وليس العكس ،وهو عدم
داللة التأبيد؛ عىل عدم النهاية ،إال بقرينة! ،فهذا هو قلب األمور وعكسها ،بال
قرينة ،وال دليل!.
28
ولو أنصف فع ً
ال؛ لعرف أنه جيب أن يلتزم بَّم أمر به اهلل تعاىل ،عىل سبيل
التأبيد ،ما دام مكلف ًا ،وذلك عىل فرض بقاء وجود ما تعلق به ذلك كله عىل
التأبيد ،ولكن مع علمنا بعدم بقائها ،فيتعلق هبا األمر اإلهلي املؤبد مد َة بقائها.
ومع ا
أن هذا هو الظاهر البني ،ولكنه أعرض عنه ونأى! ،وأما قول
صاحب اجلنة يف اآلية الكريمة ،فغاية األمر أن حكمه بتأبيد اجلنة؛ كان تابع ًا
لومهه ،والزم ًا عن أمله ومتنياته ،ولذلك كان ظامل ًا لنفسه بنص اآلية! ،عىل أن
نفس هذه اآلية؛ تفيد أن التأبيد يفيد عد َم االنقطاع ،ال طول املدة ،برشط
ظن ٌ
باطل؛ كَّم هو معلوم. االنقطاع ،ألن ظنه أهنا ال تبيد أبد ًاُّ ،
بـ(أبد ًا) ،ثم ق ِّيد هذا التأبيد بقوهلم{ :ما داموا فيها} لئال يفهم أهنم لن
يدخلوها أبد ًا؛ مهَّم حصل ،سواء ظلوا فيها ،أو خرجوا منها.
و َق ْوله َت َع َاىل ـ ِحكَا َي ٌة َع ْن ا ال ِذي َن نَا َف ُقوا ـَ { :لئِ ْن أ ْخ ِر ْجت ْم؛ َلنَخْ ر َج َّن
ِ َ َ ِ ِ
َم َعك ْمَ ،و َال نطيع فيك ْم أ َحدً ا أ َبدً اَ ،وإِ ْن قوت ْلت ْم؛ َلنَن َ
ُْصنَّك ْمَ ،و َاهللَّ َي ْش َهد َّإَّن ْم
ون}َ ،وك َِذ ُ ُهب ْم ِيف َخ َ ِرب ِه ْم َع ْن ا ُْمل ْس َت ْق َب ِل ،ألن التأبيد يستلزم أهنم ال يطيعون َلك ِ
َاذب َ
أحد ًا يف الزمان املستقبل ،بصورة مستمرة؛ ال منقطعة ،ولو كانت (أبد ًا) تفيد املدة
الطويلة املنقطعة ،ملا لزم بالرضورة كذهبم إذا أطالوا املدة ثم أطاعوا فيهم أحد ًا.
29
وها َيا َبنِي َط ْل َح َة َخالِدَ ًة
وتأمل قول الرسول عليه الصالة والسالم( :خذ َ
خم َّلدَ ًة فِيك ْم َأ َبدً اَ ،ال َين ِْزع َها ِمنْك ْم َّإال َظ ِاَل ٌ) ،فإنه يفيد قطع ًا؛ أن هذا احلكم جيب
َ
بقاؤه يف بني طلحة ،ما داموا موجودين عىل األرض مكلفني ،وهذا معنى التأبيد
ها هنا ،أي لو فرضنا استمرار وجودهم أبد ًا ،لوجب بقاء هذا احلكم متعلق ًا هبم
أبد ًا ،كذلك بال انقطاع ،وال غاية ،وال هناية.
وال نريد االستقصاء يف االستعَّمالت اللغوية ،والعرفية ،والرشعية؛ هلذه
الكلمة ،وصاحبتها ،فَّم ذكرناه يكفي اللبيب ،لنقض كالم القائل :بفناء النار،
معتمد ًا عىل دعواه ،التي ال تسلم بال بينة ،وال حجة ظاهرة!.
األمر الثالث ـ الذي احتج به القائل بفناء النار ـ :احتج فقال :إن اهلل تعاىل
مل يؤبد مقام الكفار؛ إال يف ثالثة مواضع ،وقابل هذه الثالثة ،بثالثة أخر ،تفيد
التشكيك هبذا التأبيد والتخليد ،واعترب ذلك إشارة لنفي التأبيد ،وفناء النار!!!،
وقال هذه ثالثة بثالثة؛ ووصف هذا املسلك بطريق املقابلة!!! ،ونحن نسميه
(طريق املقابلة املزعومة الفاسدة)! ،والنايف لبقاء النار؛ يتبع هذا األسلوب من
النظر :وهو يعلم متاما أن اآليات األوىل املفيدة للتأبيد والتخليد ،حمكمة عند
العلَّمء ،وأقل ما يقال فيها عند اآلخرين :إهنا ظاهرة مرجحة؛ لعدم خروجهم من
النار مع بقاء أهلها فيها ،والظهور بالرجحان؛ نوع من اإلحكام.
وهو ويعلم أيض ًا أن أكثر ما يقال يف اآليات التي جعلها مقابلة هلذه
الثالث املحكمة ـ حال جعلها دالة عىل ما يريد من معنى الفناء ـ أهنا متشاهبة،
30
وهي إن كانت حمتملة ـ عىل زعم من يدعي ذلك ـ فاحتَّمهلا موهوم مرجوح،
بحسب الداللة؛ ال ظهور له ،وال رجحان.
والسؤال :كيف جيعل املتشابه حاكَّم عىل املحكم ،واملرجوح راجح ًا عىل
الراجح ،ثم يبطل داللة املحكم باملتشابه ،هل هذا هو الطريق اجلديد من
االجتهاد الذي يدعوننا إليه؟!.
ولنبدأ من أول الطريق ،فنقول:
إن الناس معرتفون بأن تنصيص اهلل تعاىل عىل ختليد املؤمنني يف اجلنة،
وعىل تأبيد مقامهم فيها؛ ٌّ
دال عىل أهنم ال ََيرجون منها (بفتح الياء) ،وال َُيرجون
منها (بضم الياء)! ،وأن هذه الداللة وحدَ ها حمكم ٌة؛ ال تعارضها داللة أخرى،
وراجحة جيب العمل هبا ،وينبغي اعتقادها ،فَّم بالك إذا انضم إىل هذا األسلوب
البياين أساليب أخر؛ تدل عىل املعنى نفسه! ،وبيان ذلك كَّم يأيت:
31
أوال :ذكر اآليات الناصة عىل التأبيد والتخليد للمؤمنني ِف اجلنة
فلنستعرض أوال اآليات الدالة عىل التخليد والتأبيد ألهل اجلنة:
اتَ ،سندْ ِخله ْم َجنَّات احل ِ3ـ قال تعاىل{ :وا َّل ِذين آمنو ْا وع ِملو ْا الص َِ
َّ َ َ َ َ َ
اج ُّم َط َّه َر ٌةَ ،وندْ ِخله ْم ظِـ ًّ
ال ِ َ َْت ِري ِمن َ َْتتِها األََّنارَ ،خالِ ِد ِ
ين ف َيها َأ َبد ًاَّْ ،ل ْم ف َيها َأزْ َو ٌ
َ َْ َ
َظلِي ً
ال}( ،النساء.)93/
قال الطربي يف تفسري آية النساء ({ :)93خالدين فيها أبد ًا} ،يقول:
(باقني فيها أبد ًا؛ بغري هناية ،وال انقطاع ،دائ ًَّم ذلك هلم فيها أبد ًا).
فتأمل كيف فرس خالدين فيها أبد ًا :بأهنم باقون بغري هناية؛ وال انقطاع،
الطربي عدم االنقطاع!. ُّ وأكد فقال :دائ ًَّم؛ ذلك هلم فيها أبد ًا ،فمن أين فهم اإلمام
يد ْب ِن ج َب ْريِ ،يف َق ْو ِلوجاء يف تفسري ابن أيب حاتم يف هذه اآليةَ ( :عن س ِع ِ
ْ َ
ين فِ َيها} َي ْعنِي :ال َي ُموت َ
ُون). ِِ
اهللا َت َع َاىلَ { :خالد َ
َقو ُله َتع َاىلَ {( :أبد ًا} َعن ِعك ِْرم َةَ ،أو س ِع ِ
يد ْب ِن ج َب ْريَ ،ع ِن ا ْب ِن َع َّباس: َ ْ َ ْ َ ْ ُ َ
ِ { َخالِ ِد ِ
ين ف َيها َأ َبد ًا} َق َال :ال انْق َط َ
اع). َ
ِ
فز ْد تأ ُّم َلك؛ لتعرف أن السلف كانوا يعرفون أن التأبيد يعني عدم
االنقطاع ،وها هو ابن عباس يقرر ذلك؛ رصاحة ،ويرويه عنه األكابر ،ليعرف
بطالن ما نسب إليه ،وإىل غريه ،مما َيالف رصيح القرآن يف هذا املقام.
32
وقال ابن كثري( :وهم خالدون فيها أبد ًا ،ال حيولون ،وال يزولون ،وال
يبغون عنها حوالً).
ِ ِ 4ـ قوله تعاىل{ :أ ْو َلـئِ َ
ك َم ْأ َواه ْم َج َهنَّم َوالَ ََيِد َ
ون َعن َْها َحميص ًاَ ،وا َّلذ َ
ين
ين فِ َيها ِِ ِ ِ ِ
احلات َسندْ خله ْم َجنَّات َ َْت ِري من َ َْتت َها األَ َّْنَارَ ،خالد َ
آمنو ْا وع ِملو ْا الص َِ ِ
َّ َ َ َ
هلل ِقي ً
ال}( ،النساء.)344/ َأ َبد ًاَ ،و ْعدَ اهللهِ َح هق ًا؛ َو َم ْن َأ ْصدَ ق ِم َن ا هِ
قال الطربي يف تفسري آية األحزاب (( :)59يقول :باقني يف هذه اجلنات
يه َأ َبد ًا }( ،الكهف.)1 / ات؛ َأ َّن َْلم َأجر ًا حسن ًا ماكِثِني فِ ِ
احل ِ
الص َِ
َ ْ ْ َ َ َ َّ
33
ك َي ْوم ال َّتغَاب ِنَ ،و َمن ي ْؤ ِمن بِاهللََِّ ،و َي ْع َم ْل
اجل ْم ِع؛ َذلِ َ
َي َمعك ْم لِ َي ْو ِم َْ
3ـ { َي ْو َم َ ْ
ين فِ َيها ِِ ِ ِ ِ ِِ
َصاحل ًا ،ي َك ِّف ْر َعنْه َس ِّيئَاتهَ ،ويدْ خ ْله َجنَّات َ َْت ِري من َ َْتت َها ْاألَ َّْنَارَ ،خالد َ
ِ
ين فِ َيها َأ َبد ًاَ ،قدْ َأ ْح َس َن اهللَّ َله ِر ْزق ًا}( ،الطالق/ ِِ ِ ِ
َ َْت ِري من َ َْتت َها ْاألَ َّْنَارَ ،خالد َ
.)33
ِِ ِ ِ ِ
5ـ { َجزَاؤه ْم عندَ َر ِِّّبِ ْم؛ َجنَّات َعدْ نَْ َ ،ت ِري من َ َْتت َها ْاألَ َّْنَارَ ،خالد َ
ين
َمذوذ}( ،هود،)300/ الس ََم َوات َواألَ ْرض؛ إِالَّ َما َشاء َر ُّب َ
كَ ،ع َطاء َغ ْ َري َ ْ َّ
34
ِ
ب؛ َو َما هم ِّمن َْها بِمخْ َر ِج َ
ني}، وكقوله تعاىل{ :الَ َي َم ُّسه ْم ف َيها ن ََص ٌ
(احلجر ،)20/وبغري ذلك من األساليب البيانية.
وسيأيت الكالم عىل ما متسك به؛ النايف لبقاء النار ،من أثر الفرق بني:
خارجني؛ وخمرجني ،وعدا ه التنبه إىل ذلك من فضائله املتميزة! ،ومل يقل أحد :إنه
لو مل جيئ نحو هذه األساليب التأكيدية؛ لتنضم إىل ما ذكر ،فإن ما مىض غري
ٍ
كاف ،يف إفادة التأبيد والبقاء يف اجلنة ،وعدم اخلروج منها ،مع بقاء اجلنة يف
ذاهتا! ،كَّم يزعم صاحبنا يف النار! ،وما دام نفس التخليد والتأبيد كافي ًا ،إلرادة
البقاء ،وعدم اخلروج ،والدوام يف الظرف املخلدين فيه ،فهذا التعبري وحدَ ه ٍ
كاف،
يف الداللة عىل دوام وعدم انقطاع وجود عذاب النار ،وأهلها فيها ،أي :عىل عدم
خروجهم منها ،وعىل عدم فنائها.
35
ثاني ًا :ذكر اآليات الواردة ِف َّتليد وتأبيد أهل النار فيها ،بالنص الُصيح:
ورد يف النار وعذاهبا ،وتقييده بالتخليد كثري ًا ،وبلغ ذلك حوايل الثالثني
مرة ،يمكنكم النظر يف القرآن لتالوهتا ،وتدبرها.
ِ
الكفار يف مواضع ،وهي: وورد ذكر التخليد مع التأبيد؛ يف حق
وقوله تعاىل{ :يسري ًا} أي :ال يصعب عليه ،وال يستعظمه.
ونقل ابن أيب حاتم بسنده؛ َعن ِعك ِْرم َةَ ،أو س ِع ِ
يد ْب ِن ج َب ْريَ ،ع ِن ا ْب ِن ْ َ َ ْ
ِ عباسَ :خالِ ِد ِ
اع َله).ين ف َيها َأ َبد ًا ،قال :ال انْق َط َ
َ َ َّ
فهذان أمران:
األول :أن اهلل تعاىل قال إنه ال هيدي الكفار إىل طريق إال طريق جهنم،
خالدين فيها أبد ًا ،وصاحبنا القائل بفناء النار ،يقول :بل إنه تعاىل هيدهيم طريق ًا
آخر غري طريق جهنم بعد خروجهم منها! ،فمن أصدق من اهلل تعاىل قي ً
ال!.
والثاين :ما نقله ابن أيب حاتم هنا مرة أخرى ،عن ابن عباس؛ وهو :منقول
عن عكرمة ،عن سعيد بن جبري ،وفيه تفسري{ :خالدين فيها أبد ًا} :أي بال
انقطاع.
وصاحبنا لقائل بفناء النار تبع ًا البن تيمية ،يقول بل بانقطاع.
36
وأمر ثالث :إن اهلل تعاىل يقرر أن بقاء الكفار يف جهنم خالدين فيها أبد ًا
أمر يسري وغري مستعظم عنده وغري مستصعب ،ولكن صاحبنا مع غريه ،يقول بل
أمر يصعب أن نصدق أن يفعله اهلل ،بل هو خمالف للحكمة ،ولذلك ال بد أن
هو ٌ
َيرجهم منها! ،فأي القولني نصدق!.
الكافرين به من كل خري ،وأقصاهم عنهَ { ،و َأ َعدَّ َْل ْم َس ِعرياً} يقول :وأعد هلم
التي أصالمهوها اهلل { َوال ن َِصري ًا} ينرصهم ،فينجيهم من عقاب اهلل إياهم.
ها هو يفرس التأبيد والتخليد؛ بأنه ال َّناية له ،بالنص ،وبُصاحة ،فمن أين
فهم ذلك.
وها هو ينفي مع اهلل تعاىل أن جيد الكفار هلم نصري ًا؛ وولي ًا ،فَّمذا يقول
القائل بفناء النار؟! ،هل هلم ويل ونصري َيرجهم منها؟! ،ويقطع عنهم
العذاب؟! ،أم يقول :إن اهلل تعاىل ينرصهم ،بأن يطهرهم من ذنوهبم بالعذاب ،يف
37
النار ،وال يعود هناك داع ،للتعذيب واإلبقاء يف النار ،وال يعود للنار فائدة ،وال
املطهرون!!.
لوجودها ،فيفنيها اهلل تعاىل؛ وَيرجهم منها ،إىل أين؟! ،وهم ا
ْشك بِ ِه َأ َحد ًا ،ق ْل إِ ِّين َال َأ ْملِك 4ـ قال تعاىل{ :ق ْل إِن َََّم َأ ْدعو َر ِّيب؛ َو َال أ ْ ِ
َض ًا؛ َو َال َر َشد ًا ،ق ْل إِ ِّين َلن َيِ َري ِين ِم َن اهللَِّ َأ َحدٌ َ ،و َل ْن َأ ِجدَ ِمن دونِ ِه م ْلت ََحد ًا، َلك ْم َ ه
ين فِ َيها ِِ
هلل َو َرسو َلهَ ،فإِ َّن َله ن َ
َار َج َهن ََّم َخالد َ إِ َّال َب َالغ ًا ِّم َن اهللَِّ َو ِر َس َاالتِ ِهَ ،و َمن َي ْع ِ
ص ا ََّ
وقد أكد القرآن ذلك املعنى بأساليب أخر ،كقوله تعاىل{ :أولئك ليس
ْلم ِف اآلخرة إال النار} ،فصار هلم يف اآلخرة عىل قول عدنان إبراهيم أمر آخر
غري النار ،فإهنم سيخرجون منها ،ومل يذكر لنا أهنم سينعدمون! ،فأين يذهبون؟.
وقوله تعاىل{ :ال َيدون عنها حميصاً} ،وعىل قول عدنان إبراهيم :بل
سيجدون عنها حميص ًا ،وَيرجون منها ،بل ستكون النار سبب سعادهتم ،ألهنا
ستطهرهم ،وتنقيهم من أدران الرشك واملعايص ،ليخرجوا منها ،ومل يرصح بعد
أين يذهبون! ،إال أنه أشار بإشارات؛ يفهم منها الواحد ما يفهم! ،كَّم سنرى!!.
39
وقوله تعاىل{ :أولئك يئسوا من رمحتي} ،يقول د .عدنان :بل مل ييأسوا
إال يف ذلك اليوم ،الذي مقداره مخسون ألف سنة ،أما بعد ذلك؛ فرمحة اهلل هي
الغالبة ،وستسعهم ،فأين سيقبعون بعد أن يتطهروا من الرشك؟!.
وقوله تعاىل{ :نار مؤصدة} ،وهي عىل قول عدنان إبراهيم؛ مل تعد
مؤصدة ،بل تفتح هلم.
َتدَ َْل ْم ن َِصري ًا}(النساءَ { ،)329/ف َأ َّما َّار َو َلن َ ِ ني ِِف الدَّ ْر ِك األَ ْس َف ِل ِم َن الن ِ ِِ
املْنَافق َ
وره ْمَ ،و َيزيدهم ِّمن َف ْضلِ ِهَ ،و َأ َّما
يه ْم أج َ تَ ،في َو ِّف ِ احلا ِ
ا َّل ِذين آمنو ْا وع ِملو ْا الص َِ
َّ َ َ َ َ
ون اهللهِ َولِ هياً
ون َْلم ِّمن د ِ
ين ْاستَنكَفو ْا َو ْاس َتك َْربو ْا؛ َفي َع ِّذِّب ْم َع َذاب ًا َألي ًَمَ ،والَ ََيِد َ ِ
ا َّلذ َ
40
ون فِيها؛ ربنَا َأ ْخ ِرجنَا َنعم ْل ص ِ ِ
احل ًا، ْ َْ َ نَصري ًا}( ،األحزابَ { ،)59/وه ْم َي ْص َط ِرخ َ َ َ َّ
يه َمن ت ََذك ََّرَ ،و َجاءكم الن َِّذير؛ غَري ا َّل ِذي كنَّا َنعملَ ،أو ََل نعمركم؛ ما يت ََذكَّر فِ ِ
َّ َ َ ْ َ ِّ ْ َْ َْ
َّصري}( ،فاطرَ { ،)13/و َل ْو َشاء ا َّ
هلل َجل َع َله ْم أ َّم ًة َفذوقوا َفَم لِل َّظاملِني ِمن ن ِ
َ َ
َصري}، ون ما َْلم من و ِيل؛ و َال ن ِ ِ احدَ ًة ،و َلكِن يدْ ِخل من ي َشاء ِِف ر ِ ِ و ِ
ِّ َ ي َ محته َوال َّظامل َ ََ َْ َ َ َ َ
(الشورى ،)0/وال يعجز املتمسك بومهه وهواه ،أن يقول :إهنم ال جيدون هلم
نصريا غري اهلل تعاىل ،فيقول :ولكنا نقول إن اهلل تعاىل يكون هلم نصري ًا ،وذلك بعد
انقضاء مخسني ألف سنة أو ألف سنة! تقريب ًا! ،وسيخرجهم من النار بعد أن يتم
تطهريهم!.
املطهرون؟! ،وال يليق أن يعذبوا
فريد عليه السؤال :أين يذهبون! ،وهم ا
بعد تطهرهم وتزكيتهم؛ التي نفاها القرآن! ،وهذا قلب ملفاهيم القرآن ،الذي قرر
أن اهلل تعاىل ال يكون نصري ًا للكفار ،ال يف الدنيا؛ وال يف اآلخرة.
عىل أن اآليات؛ تدل عىل أن النصري املنفي هنا ،النصري الذي ينرصهم عىل
ما أراده اهلل تعاىل هلم؛ من العذاب ،فيمنع العذاب عنهم ويدفعه.
وقد يقول قائل :ولكنهم بعد أن يدخلوا فيها ،ال يعودون كفار ًا ،فإن النار
تطهرهم ،وتزيل األدناس التي يف قلوهبم ،وجتعلهم مؤمنني راضني ،فريىض عنهم
نرصهم بقطع عذاب النار وإفنائها ،فال ينرص كفار ًا ،يف اهلل تعاىل حينئذْ ،
فإن َ َ
حقيقة األمر.
41
ال عن أن نفي النصري عام ،فإنه مل َي ِرد أن االعرتاف والتصديق
فنقول :فض ً
الذي حيصل يف نفوس الناس ،يف اآلخرة ينفعهم ،وال يقلب حقائقهم؛ التي
يرتتب عليها اجلزاء والثواب ،وهي التي اكتسبوها يف احلياة الدنيا ،وهي املعتربة
يف اليوم اآلخر ،وإن اآليات التي نقلناها؛ ترد عىل هذا القيل برصاحة.
عالوة عىل ذلك ،فقد ورد بالنصوص القاطعة؛ أن النار ال تزكيهم ،وال
تطهرهم ،أي إن اهلل تعاىل ال يطهرهم ،وال يزكيهم بالنار؛ وال بيشء آخر ،فإن
ال ظاهر ًا ي ُّ
دل عىل ما تزعمون؛ فدلونا عليه!. وجدتم دلي ً
ويف القرآن أساليب كثرية ،تؤكد هذا املعنى الذي وضحناه ،وتقرره مرة
السبكي يف رسالته املعروفة التي رد فيها عىل ابن
ه بعد أخرى ،ذكرها اإلمام التقي
تيمية القائل بفناء النار.
وقول القائل بنفي النار؛ بأهنم سيتطهرون يف النار ،عن طريق العذاب
األليم ،فَّم نعلمه؛ أن اهلل تعاىل رصح يف القرآن ،أنه ال يزكيهم؛ وال ينظر إليهم،
42
ومل يقيد نفي تزكيتهم بيوم واحد( ،حتى لو كان يساوي مخسني ألف سنة
أو ألف سنة مما نعدُّ ) حتى يقول املتوهم :إنه بعد انتهاء ذلك اليوم؛ سيزكيهم.
43
وربَّم يكون ألف سنة) ،وبعد انتهاء هذه املدة ،ال ُي ِبقي اهللُ تعاىل يف النار أحد ًا ،بل
َيرجهم ،وأشار إىل أنه ربَّم يدخلهم اجلنة ،ألهنم مطهرون ُم َزك َ
اون ،وتال قوله
44
ثم هذا القول الذي يقرره هنا ،وهو خروج الكفار مجيع ًا من النار؛ بعد
مدة معينة معلومة ،وصريورهتم مؤمنني َم ْر ِض اي ًا عنهم ،وفناء النار ،بعد خروجهم
منها ،ويشري إىل احتَّمل دخوهلم اجلنة بعد ذلك األمر ،الذي مل جيرؤ عىل الترصيح
به أحد من املسلمني من قبل!! ،ال ابن تيمية؛ وال ابن عريب ،وال غريمها أبد ًا.
بل اتفق املسلمون مجيع ًا؛ عىل أن أهل النار ـ الذين هم أهلها ـ ال َيرجون
منها أبد ًا ،وزعم ابن عريب ـ أهنم مع كوهنم ال َيرجون منها ـ ينقلب عذاهبم
عذوبة ،أما ابن تيمية فزعم هو ـ يف ظاهر قوله؛ واملشهور عنه ـ وابن قيم اجلوزية
ووافقهَّم القرضاوي وغريه؛ من املقلدين هلم ،أن النار تفنى ،ومل يقل إن الكفار
يدخلون اجلنة ،بل أفهم ظاهر كالمه ،أن النار تفنى ،ويفنى أهلها معها ،ومل
يرصح بوضوح بأهنم َُي َرجون منها ،ويدخلون اجلنة ،وإن ُوجدت كلَّمت منه ربَّم
تشري إىل هذا املعنى!.
وحاول السيد أمحد الغَمري أن يوفق بني قول ابن تيمية وابن عريب بطريقة
عجيبة ال تليق! ،حماوالً أال َيالف واحد ًا منهَّم ،ملا له من ميل غريب إىل ذلك
الرأي ،وقد بينت ذلك كله يف كتايب( :أصحاب النار) ،الذي صدر قبل سنني.
عىل أن البن قيم اجلوزية يف بعض كتبه؛ كالم ًا يدل برصحيه ،عىل أن
الكفار ال يقبلون أن تتغري نفوسهم ،وتتطهر بالنار ،كَّم تتطهر نفوس العصاة من
املؤمنني ،بل تبقى كَّم هي؛ فال يليق هبا دخول اجلنة.
45
فهل يعقل أن تكون هذه العقيدة؛ التي يقرتحها د .عدنان هنا هي العقيدة
احلقة الصحيحة ،ثم ال يوجد أحد من قبله ـ خالل أربعة عرش قرن ًا ـ قال هبا ،وال
عرفها!! ،أي عقيدة هذه؛ التي متثل أص ً
ال من أصول الدين ،ثم ال يعلمها أحد من
املسلمني؛ إال واحد يف هذا القرن!.
وربَّم يكون هذا األمر نفسه ،مؤدي ًا إىل الشك يف الدين اإلسالمي ،فقد
يقول قائل :إذا كان أغلب املسلمني منذ أربعة عرش قرن ًا؛ حتى اآلن ،يعتقدون
خلود الكفار يف النار ،وقد تبني أن اعتقادهم هذا باطل ،واحلقيقة أن اخللود املؤبد
للكفار سيكون يف اجلنة مع املؤمنني! ،فَّم الذي يؤمننا أن تنقض عقائد اإلسالم
األخرى بعد مدة ،ويطلع علينا آخر ينكر أمرا آخر!.
فهذا األمر إنَّم يبعث عىل الشك يف أصول الدين ،وال يقوهيا يف نفوس
املنكرين املالحدة؛ كَّم يتوهم الواهم.
46
ما هي قصة املقابلة؛ التي اعتمد عليها د .عدنان إبراهيم؟.
زعم القائل بفناء النار؛ أن هذه اآليات الثالث ،التي فيها التأبيد للكفار يف
مر إيرادها ،و ُيفهم منها عدم خروجهم منها ،وعدم إخراجهم،
النار ،وقد ا
يقول :قد ور َد يف القرآن ثالث آيات تقابلها أيض ًا ،ختلخل هذه األبدية الدائمة؛
املفهومة من اآليات السابقة! ،فنتج عنده ،أن اهلل تعاىل أشار إىل انتهاء العذاب
الدائم املخلد املؤبد؛ باآليات الثالث السابقة ،هبذه اآليات الثالث التي يعرتف
بوجود اختالف عظيم يف داللتها ،وبأن وجه داللتها عىل ما يريد هو من
املتشاهبات ،ال من املحكَّمت ،وبذلك يتساوى األمر ـ عنده! ـ ويرجع األمر إىل
جمرد مكث طويل يف النار ،مقداره يوم واحد مما عند ربك.
إذن :فثالث آيات؛ يزعم أن داللتها حمتملة عىل االنقطاع والفناء ـ جمرد
أهنا حمتملة ،ال نص ًا ،وال ظاهر ًا ،وال راجح ًا!! ـ تكفي عند عدنان إبراهيم ،ومن
سلفه للقول؛ بأن ما دلت عليه اآليات الظاهرات الواضحات واملحكَّمت عند
أكثر املسلمني فرق ًا وعلَّمء ،ليس عىل ظاهره ،وال هو عىل ما نفهمه ،بل جيب
تقييده بَّم حتتمله ـ يف زعمه طبع ًا ـ تلك اآليات املتشاهبة؛ التي ليس هلا ظهور عىل
ما يريد من معنى الفناء وسواه.
هذا هو خالصة منهج املقابلة املزعوم من د .عدنان!! ،وزعم أن هذا من
الفتوحات ،وقال إنه مل يسبقه أحدٌ ؛ إىل االلتفات إىل ذلك!!.
47
فلنرشع يف حتليل كالمه ـ والكالم عليه بَّم يليق ـ ا
إن اآليات الثالث التي
يريدها:
ليم}، ِ ين فِ َيها إِالَّ َما َشاء اهلله إِ َّن َر َّب َ ِِ َأ َّج ْل َ
يم َع ٌ
ك َحك ٌ ت َلنَا َق َال النَّار َم ْث َواك ْم َخالد َ
(األنعام.)340/
{إال ما شاء ربك} من اآليات ،التي اختلف يف تفسريمها ،وما يعتمد عليه يف
48
اآلية من االستدالل ،وهو االستثناء وما يراد به ،إن محلناه عىل ما يريد من املعنى
املؤدي إىل القول بفناء النار ،فداللته مع أهنا غري ظاهرة (ال هي بنص؛ وال
براجح) ،فإهنا أيض ًا تستلزم التعارض؛ مع ما يظهر من اآليات السابقة املحكمة
الظاهرة ،ومع األحاديث النبوية ،ومع أقوال العلَّمء؛ من لدن الصحابة ،إىل هذا
العرص ،إال قول ابن تيمية ،ومن تبعه ،وربَّم لذلك هو راجح ،ولذلك ينبغي
القول به! ،ال نعلم!.
وإذا كان محلهَّم عىل ما يريد من إفناء النار ،وإخراج أهلها يستلزم
التعارض ،مع غريها من الراجحات؛ بال بينة ،وال دليل ،فهذا يستدعي عند أهل
النظر؛ كوهنَّم من املتشاهبات عىل هذا املعنى ،ومعلوم أن املتشابه إذا كان ظاهر ًا،
يف الداللة ،فينبغي تأويله؛ ورصف معناه إىل ما يوافق املحكم ،فكيف إذا كان غري
ظاهر ،وال ّ
دال داللة حقيقة ،بل كل ما يملكه صاحبة( :أرى) ،و(يبدو) ،ويعتمد
عىل أفهام باطلة لالستثناء كَّم سنرى!.
ومها ليستا حمكمتني يف املعنى الذي يريده ،هذا أقل ما يقال فيهَّم.
فكيف تسنى له؛ أن جيعلهَّم مما يقابل املحكم من القرآن ،الذي فيه التخليد
والتأبيد ،ثم جيعل املتشابه حاك ًَّم عىل املحكم ،وكان الواجب عليه أن يسلك
السبيل القويم ،فيحكم عىل املتشابه باملحكم ،ويقيده به ،ال كَّم فعل!.
وأما اآلية الثالثة ،فليس فيها ـ باعرتافه ـ داللة قوية عىل عدم التأبيد ،ألن
{أحقاب ًا} نكرة ،وهي صادقة عىل الفرتة املحدودة ،وعىل غري املحدودة،
49
واألوىل يف هذا املقام ،مقام التهديد والوعيد ،أن حتمل عىل ما يوافق التأبيد
والتخليد ،بتكثري األحقاب ،املتوعد تعذيب الكفار فيها ،الذي يالئمه الدوام
واالستمرار ،ال االنقطاع والفناء ،لينقطع رجاؤهم من اخلروج منها ،أو العفو
عنهم ،وهو املناسب ملعنى التهديد؛ الذي سيقت له اآلية الكريمة.
فاحلاصل أن املعنى الذي يقرتحه لنا ،غري مناسب للمقصود من اآلية،
وال لسياقها ،وال يدل عليه لفظها ،وال يستفاد من داللته! ،فكيف جيعله أهالً
لتقييد؟! ،أو رصف الظاهر عن ظهوره؟! ،وسنزيد هذا املعنى بيانا قريب ًا.
فَّم قام به القائل بفناء النار؛ خمالف ملا ينبغي أن ُيسلك يف أصول االجتهاد
املعترب متام ًا ،أهذا هو االجتهاد الذي يدعو إليه ويدعيه؟!.
50
تعليق إَجايل عىل كالم د .عدنان ِف هذه اآليات الثالث:
ورد فيها التخليد والتأبيد ،اعرتف بأن االحتجاج بقوله تعاىل{ :البثني فيها
أحقاب ًا} ضعيف جد ًا ،وقال( :أن االستدالل ِّبا ـ أي :عىل انقطاع وجود النار ـ
ضعيف ،ألن مفهوم العدد؛ من أضعف املفهومات ،وهذا تعبري أصويل ،من َل يقرأ
عل جيد ًا ،ولكن ال َ
وقت لدي ،العدد ال مفهوم له عند أصول الفقه ،فلن يفهم ه
أكثر العلَمء ،ونعَتف أن مفهوم العدد من أضعف املفهومات).
نقول :حسن ًا؛ إذا كان االستدالل هبا ضعيف ًا ،وداللة املفهوم ـ عموم ًا ـ مل
يقل هبا كثري من األصوليني ،ومن أضعفها مفهوم العدد واللقب ،وأنت ايض ًا
تعرتف هبذا الضعف؛ وتقول( :إن مفهوم العدد ضعيف جد ًا)َ ،
فلم إذن جتعل
هذا الوجه من االستدالل باآلية ،وهو هبذه املنزلة من االستدالل الضعيف،
العتَّمده عىل داللة مفهوم العدد ،التي هي من أضعف الدالالت؛ فض ً
ال عن أن
نفس داللة املفهوم ـ مطلق ًا ـ فيها خالف بني األعالم ،وفوق ذلك فإن هذا
املفهوم َيالف داللة املنطوق ،كَّم هو معرتف به ،فأنت تعتمد إذن عىل أضعف ما
يمكن أن يوجد من دليل فيه ،خالف ِف أصله!.
وبعد ذلك كله تبيح لنفسك؛ أن جتعل هذه املرتبة الضعيفة للداللة ،تقابل
آية من اآليات الثالثة ،التي فيها التخليد والتأبيد ،وأقل ما يقال فيها إهنا ظاهرة
51
الداللة عىل عدم الفناء واستمرار الدوام! ،أال جيوز لنا أن نستغرب عندما نراك
تتبع هذه الطريقة امللتوية من االستدالل والرتجيح؟!.
ثم إن املرء ليستغرب منك ،تورد ذلك الكالم يف خطبة مجعة ،عىل عامة
الناس ،وهي مسألة خطرية جد ًا ،وتقول إنه متوقف عىل مفهوم العدد؛ الذي ال
وقت لديك لرشحه ،وتعرتف فوق ذلك أنه ضعيف جد ًا ،مع العلم أن رشح
َ
مفهوم العدد؛ ال حيتاج وقت ًا أكثر مما احتجته لرشح وجه االستدالل باالستثناء،
وحماولة توجيهه ليكون داالً عىل ما ترغب فيه وترتئيه ،وإن قتادة ـ وهو من كبار
املفرسين املتقدمني كَّم هو معلوم ـ قال يف تفسري قوله تعاىل{ :البثني فيها
أحقاب ًا}( :البثني ِف جهنم أحقاب ًا :ال انقطاع ْلا) ،فها هو قتادة من أعالم
مفرسي السلف؛ يقرر إفادة اآلية لعدم االنقطاع.
وأيض ًا ،فإهنم اختلفوا يف احل ِ
قب كم هو؟ ،فروي عن النبي عليه السالم؛
أنه ثالثون ألف سنة ،قال مكي بن أيب طالب؛ يف تفسريه( :وهو مجع اجلمع،
واحدُ ه :حقبة ،مجعت عىل حقب ،ومجعت حقب عىل أحقاب ًا.
حل ْق ُ
ب ثالثة مائة سنة ،كل سنة وجيوز أن يكون أحقاب ،مجع ُح ْقب ،وا ُ
ثالث مائة وستون يوم ًا ،كل يوم ألف سنة من سنني الدنيا ،قاله بشري بن كعب.
وقال عل بن أيب طالب :احلقب ثَّمنون سنة ،كل سنة اثنا عرش شهر ًا ،كل
شهر ثالثون يوم ًا ،كل يوم ألف سنة من سنني الدنيا ،وهو قول ابن جبري ،وقاله
الربيع بن أنس.
52
وقال أبو هريرة :احلقب ستون سنة ،كل سنة ثالث مائة وستون يوم ًا ،كل
يوم ألف سنة من سنني الدنيا.
وقال قتادة :احلقب ثَّمنون سنة؛ من سني اآلخرة ،وقال :هي أحقاب ال
انقطاع هلا ،كلَّم مىض حقب؛ جاء حقب بعده.
وقال احلسن :أما األحقاب؛ فليس هلا عدة ،إال اخللود يف النار ،ولكن ذكر
أن احلقب سبعون سنة؛ كل يوم منها كألف سنة مما نعد).
وها هو احلسن يرصح بإفادة األحقاب ـ الواردة يف اآلية ـ للخلود ِف
النار.
فتأمل يف هذه األقوال؛ التي يقول هبا السلف ،من عرص الصحابة،
والتابعني ،وتابعيهم ،إىل هذا الزمان ،وهم جممعون عىل أمرين:
األمر األول :أن عذاب أهل النار ال ينقطع.
واألمر الثاين :أن الفرتة التي يعذب فيها أهل النار ،ليست جمرد يوم واحد
من أيام اآلخرة ،وهو مخسون ألف سنة ،أو ألف سنة ،كَّم قلت أنت ،بل أكثر من
ذلك كثري ًا.
وبذلك يظهر لك ـ وفقك اهلل! ـ مدى التخابط؛ الذي ينتاب استدالالتك
وتوجيهاتك؛ املتعسفة لآليات.
فيها أحقاب ًا} ،متعلق بقوله{ :ال يذوقون فيها برد ًا؛ وال ْشاب ًا} ،ثم بعد ذلك
53
يعذبون بغري هذا العذاب ما شاء اهلل ،كَّم ذكره البيضاوي يف تفسريه ،ومكي بن أيب
طالب وغريمها من املفرسين.
وبذلك يكون املراد أهنم يدومون أحقاب ًا ا
معذبني ،هبذا اللون من العذاب،
قررت أنت.
َ ثم ينتقلون إىل غريه ،وال يدل ذلك عىل انقطاع أصل العذاب ،كَّم
54
ثاني ًا :التعليق عىل كالمه عىل آية هود واألنعام:
يف احلقيقة لو كان من يريد ترجيح قول؛ عىل قول ،أو وجه عىل آخر؛ من
وجوه التفسري ،يتبع هذه الطريق التي اتبعها د .عدنان يف حتليل اآليات ،ملا وجدنا
أحد ًا يتكلم يف قرآن أبد ًا ،ولكان أكثر أعالم املفرسين ـ من شتى الفرق اإلسالمية
ـ يتكلمون كالم ًا فارغ ًا ،أو هواء ،عىل حد حكمه؛ عىل بعض وجوه تفسري آية
هود!.
تكلم عىل آية هود ،فقال( :إَّنا من أشبه اآليات ِف كتاب اهلل) ،والقاعدة
التي اتبعها يف حتليل اآلية( :أن ما بعد إال؛ يأيت خمالف ًا ملا قبلها.
وما قبل إال{ :خالدين فيها ما دامت السموات واألرض} أي :مدة
بقاء السموات واألرض ،واالستثناء{ :إال ما شاء ربك} إذن تكون الثانية
خمالف ًا ملا قبل إال).
أقول :هكذا حيل صاحبنا ـ الفاضل ـ املشكلة بسهولة ،يقول :ما بعد إال
َيالف ما قبلها ،وما قبلها يفيد اخللود ما دامت السموات واألرض ،فَّم بعدها ال
يفيد اخللود؛ مدة بقاء السموات واألرض ،ويف رأيه أن هذا يستلزم أنه يفيد
انقطاع اخللود واستمرار الدوام يف النار من جهة املستقبل ،وانتهى األمر!!.
وَل يسأل نفسه :إذا كان ما قبلها يفيد البقاء؛ ما دامت السموات
واألرض ،فكيف ينفي االستثناء أصل ما أثبت ،واملفروض أن َيرج بعض ما
يدخل حتت املستثنى منه ،ال أن ينفيه من أصله.
55
فإن نفي ما حتت اللفظ؛ رفع له ،ونسخ ،وإخراج بعضه عن حكمه؛ هو
االستثناء.
فإذا كان املثبت قبل االستثناء هو الدوام للبث يف الدارين ،بقيد دوام
االستمرار واألبدية ،فجاء االستثناء؛ ورفع األبدية ،وهي دوام االستمرار يف
املستقبل ،لكان هذا رفع ًا باالستثناء؛ ألصل مفهوم ما أثبته ،وهو غري جائز يف
االستثناء.
فاالستثناء ال يتسلط عىل املفهوم لينفيه ،بل عىل بعض أفراده؛ ليخرجها
من حكمه.
بأنه خمالفة للنظم؛ ولظاهر اآلية ،ورد ذلك ألن اآلية تقول{ :خالدين فيها}،
واالستثناء من هذا.
ووصف قول من قال( :ينتقلون من النار؛ إىل الزمهرير) ،بأنه كالم هواء
وفارغ ،ألن النار هي كل هذا.
56
وعىل قول من قال( :الثنية يراد ِّبا :الزيادة عىل ذلك)( :بأنه حمتمل ،ولكنا
سوف نرى)!.
أي :سوف يرينا كيف يرده ويبطله!! ،وال يظهر يل بوضوح كيف يكون
قول من قال :إن املستثنى؛ هو املدة ما قبل الدخول يف النار ،خمالف ًا للنظم بوضوح
هكذا ،أال حيتمل يا د .عدنان أهنم يقولون بقول أهل السنة واجلَّمعة ،من أن اجلنة
والنار موجودتان اآلن ،يف حال وجود السموات واألرض ،ولكنهم يف حال
الربزخ ،واحلساب ،وبعد إعادة خلق السموات واألرض؛ ال يكونون قد دخلوا
يف النار بعد.
وملا كان احلكم املثبت يف اآلية الكريم ـ وهو خلودهم يف النار ـ معلق ًا
بمدة بقاء السموات واألرض ،فقد حتقق عىل هذا الفرض؛ وجود السموات
واألرض ،مع عدم كوهنم داخلني يف النار ،ولذلك فإنه من السائغ استثناء هذه
الفرتة ،أو كال الفرتتني ،وال يكون خروج ًا عن النظم القرآين عىل هذا الفرض.
وتبقى اآلية دالة عىل اخللود الدائم ،إلطالقه عن التقييد؛ بعد ذلك
االستثناء ،وتنتهي شبهة القائلني بفناء النار من أصلها ،هبذه الطريقة!.
ثم باهلل عليك ،إن قول من قال :بأن املستثنى هو خلودهم يف النار ،معترب ًا
النار نوع ًا من أنواع العذاب ،ال دار العذاب ،فقال بعد ذلكَ :يرجون من
العذاب بالنار ،إىل الزمهرير ،فهو ال يبني قوله مالحظ ًا يف ذلك االسم اللقبي
ذكرت ،بل مالحظ ًا أصل الوضع للنار ،املستعملة للتعذيب
َ َ
الشامل ملا للدار ،هلا
57
املقابلة للزمهرير ،وال سيَّم أهنا مستخدمة يف القرآن هبذا الوجه ،وقد علم أن يف
دار العقاب؛ عذاب ًا بالنار ،وعذاب ًا بالزمهرير ،ويؤيد ذلك ـ ولو من جهة ـ الوجه
التي جتعل بقاءهم دائ ًَّم؛ غري منقطع يف اجلنة ،لقوله تعاىل{ :عطاء غري َمذوذ}
أي :غري مقطوع ،أي :ممتد ،أي :يبقيهم ويديمهم إىل غري هناية.
58
أما يف حق األشقياء {فعال ملا يريد}{ ،حكيم عليم} عجيب! ،ال
ندري هل املستثنى هو النقصان ،سوف نرى بعضهم؛ قال :ال يفيد ،ألنه أخرب عن
أهل جهنم ،أهنم ال َيرجون من النار {وما هم بخارجني منها ،وْلم عذاب
59
ذكر من قال؛ ذلك :حدثني يونس؛ قال :أخربنا ابن وهب؛ قال ،قال ابن
زيد ،يف قوله{ :خالدين فيها؛ ما دامت السموات واألرض ،إال ما شاء ربك}،
فقرأ حتى بلغ{ :عطاء غري َمذوذ} ،قال :وأخربنا بالذي يشاء ألهل اجلنة،
فقال{ :عطاء غري َمذوذ} ،ومل َيربنا بالذي يشاء ألهل النار).
إذن هؤالء اآلخرون ،مل يذكر منهم الطربي إال ابن زيد ،وغاية ما ذكره؛
أنه اعرتف أن اهلل تعاىل ،مل َيربنا بالذي شاءه ألهل النار ،هل الزيادة؟! ،أو
النقصان؟!.
فنقول :نعم ،نقول؛ وعىل سبيل التنزل ،عىل فرض أن االستثناء ههنا من
املدة املذكورة ،وأيض ًا عىل فرض أن التعبري بقوله{ :ما دامت السموات
واألرض} ال يفيد الدوام ،فغاية األمر أنه مل يذكر يف هذه اآلية بالذات ما الذي
أراده اهلل تعاىل ألهل النار ،ولكن ذلك ال يستلزم أنه مل يذكر ذلك يف آيات أخر،
فقد بني اهلل تعاىل؛ أن عذاهبم يكون غرام ًا ،ودائ ًَّم ،وأبد ًا ،وال َيرجون منها ،إىل
غري ذلك مما أرشنا إليه وبيناه.
فلو فرضنا أن اهلل تعاىل مل يذكر ما أعده للكفار هنا ،فقد ذكره يف غري هذا
ال حمك ًَّم ،واألصل
املوضع ،وغاية األمر أن هذه اآلية تكون جمملة ،وغريها مفص ً
حسب القواعد األصولية الراسخة املعتربة؛ تقديم املحكم ،عىل املجمل غري
املبني.
60
ثم كيف ُّ
يدل قوله( :إنه َل يذكر لنا ما أعده للكافرين) عىل أنه أراد انقطاع
ال عن أن ّ
يدل عىل أن العذاب ال يكون أكثر من يوم واحد عند العذاب ،فض ً
ربك!! لعمري إن هذا استدالل عجيب! ،فع ً
ال وغريب!.
ثم نحن ال نسلم أنه ال يستفاد استمرار نعيم أهل اجلنة؛ إال من قوله
تعاىل{ :عطاء غري َمذوذ} بل يستفاد ،مما قبله ،ويكون قوله تعاىل{ :عطاء غري
َمذوذ} وصف حلال هذا العطاء ومنشئه ،هل هو لوجوبه عليه تعاىل ،أو إنه
بتفضله ومنته ،بال سبق وجوب؛ كَّم سنفصله الحق ًا.
وذلك فض ً
ال عن استفادة هذا املعنى من آيات كثرية يف الكتاب العزيز.
والذي نعتمده يف معرفة بقاء نعيم أهل اجلنة؛ بدون لفت النظر إىل ما وراء
االستثناء ،أن اهلل تعاىل قال{ :ما دامت السموات واألرض} ،والسموات
واألرض دائمة أبد ًا ،بعد إعادة إنشائها يف يوم القيامة ،ومل يرد أن اهلل تعاىل يفنيها
مرة أخرى ،عىل القول بإفنائها قبل ذلك ،وهو ما سنبينه بيانا أكثر قريب ًا.
فيكفي إذن؛ معرفة استمرار دوام السموات واألرض ،لنعرف عدم
انقطاع هذا النعيم والعطاء ،قبل الوصول إىل قوله تعاىل{ :إال ما شاء ربك عطاء
غري َمذوذ}.
وكذلك نقول ،إنه يكفي معرفة أن السموات واألرض؛ تدومان بعد
الس ََم َواتَ ،و َب َرزو ْا هللهِ البعث ،وإعادة خلقهَّمَ { :ي ْو َم ت َبدَّ ل األَ ْرض غَ ْ َري األَ ْر ِ
ضَ ،و َّ
61
اح ِد ا ْل َق َّه ِ
ار}( ،إبراهيم ،)20/ملعرفة أن األصل؛ دوام ما علق بدوام ا ْلو ِ
َ
السموات واألرض ،وهو هنا كل من نعيم أهل اجلنة ،وعذاب أهل النار.
غاية األمر؛ أنا ال نسلم البن زيد فهمه للقرآن هبذه الطريقة ،لو كان قائ ً
ال
بانقطاع العذاب ،وهو مل يقل بذلك ،غاية األمر؛ أنه قال بأن اهلل مل َيربنا بالذي
يشاؤه ألهل النار ،يف هذه اآلية خصوص ًا ،ال يف مجيع القرآن ،فإنه تعاىل أخربنا
بمراده يف آيات أخرى؛ فيها التأبيد؛ والتخليد هلم ،وعدم اخلروج؛ وعدم
اإلخراج.
العقيل ،فيتم األمر
ّ وحينئذ حيمل اجلواز املذكور ـ يف كالمه ـ عىل اجلواز
بجواز استمرار التعذيب أبد ًا أيض ًا.
ولو كان استمرار التعذيب حماالً منافي ًا للعقل؛ ولألحكام الرشعية ،أو ملا
هو معلوم من الدين ـ عند ابن زيد ـ جلزم أن األصل؛ هو :االنقطاع ،كَّم جزم
صاحبنا ،أو كَّم مال؛ ألنه يعرب بامليل يف هذا املقام!.
ويبدو أن ابن زيد؛ مل يكن يقول إن الكفار يف عذاهبم يف النار ،يتطهرون؛
ويزكيهم اهلل تعاىل ،ليخرجهم من النار ،ولذلك أبقى األمر إلرادة اهلل تعاىل،
الفاعل املختار ،الذي بني إرادته يف آيات أخر.
أما صاحبنا الفاضل؛ فيجزم بأنه ال يعود هناك دا ٍع ،إلبقاء الكفار يف النار،
بعد تطهريهم وتنقيتهم من الكفر والرشك ،فيخرجون من النار ،فشتان ما بني
القولني إذن ،وفرق ما بني القائلني ،وسيأيت زيادة تفصيل ملا أوردناه هنا قريب ًا.
62
مطلب ِف َتليل اآليات الثالث التي اعتمد عليها القائل بفناء النار
فلنورد بعض الكالم؛ نحلل به هذه اآليات الثالث ،لنرى هل تدل فع ً
ال
عىل ما يقرتحه صاحبنا ،أو أهنا تدل عىل ما َيالفه وينافيه ،وهل يمكن أن حتتمل
املعنى املراد له ،الداعي له ،أو أهنا يستحيل محلها عليه؟! ،ونرجو أن نكون
مصيبني فيَّم نقول.
والسؤال هنا :عن االستثناء بقوله تعاىل {إال ما شاء اهلل} ما املراد به؟،
هل استثنى من أصل اخللود؟ ،بحيث يقول :أنتم لستم خالدين ،بمعنى :أنتم
63
لستم باقني يف النار؛ بال انقطاع ،بل :سينقطع خلودكم املثبت سابق ًا ،هل هذا
املعنى هو املراد هنا!.
يعني :إذا كان اْللود :هو دوام الوجود؛ بال انقطاع ،وال حتول عن النار،
نفي هذا املعنى الثابت قبله؟!.
فهل يمكن أن يكون االستثناء؛ قد أثبت َ
إن كان األمر كذلك ،فإن اخللود ال يبقى خلود ًا ،والدوام ال يبقى دوام ًا،
واآلية ينفي آخرها َ
أوهلا ،وهذا تناقض؛ ال جيوز محل القرآن عليه ،إذا كان
االستثناء يعني ههنا :انقطاع دوامهم يف النار ،إما بفناء النار ،أو بخروجهم منها،
إما بأنفسهم؛ أو بإخراج اهلل تعاىل إياهم منها ،عىل مجيع هذه االحتَّمالت ،يلزم
نفي اخللود الثابت؛ يف أول اآلية.
َ
إبطال ولذلك ال يصح أن ُحيمل االستثناء عىل نحو هذا املعنى ،املستلزم
ما قبله.
ولكن لو كان املراد من اْللود :هو البقاء مدد ًا متوالية؛ بال هناية ،فيكون
املراد من اخللود ها هنا ،أن الكفار سيبقون يف النار مدد ًا ،ال هناية هلا ،ما دامت
النار موجودة.
فإما أن يقع االستثناء عىل بعض املدد املوجودة فيها النار ،وذلك قبل
دخول الكفار فيها ،أو بعض املدد؛ بعد الدخول فيها ،ويف أثناء املكوث ،أو عىل
نفي استمرار البقاء ،وهو املنايف للخلود من أصله.
64
فإن محلنا االستثناء عىل عدم مكوث الكفار يف النار؛ قبل دخوهلم فيها،
فيكون معنى اآلية :إنكم ستبقون خالدين فيها ،ما دامت النار ،إال تلك املدة التي
مل ندخلكم فيها ،وهي املدة الشاملة لفرتة احلياة الدنيا ،واحلساب إىل إدخاهلم
ودع ِهم فيها ا
دع ًا ،ويكون االستثناء يف هذه احلالة؛ منقطع ًا ،وإال؛ بمعنى: النارِّ ،
لكن.
وإن محلنا االستثناء عىل بعض فرتات الزمان ،بعد دخوهلم فيها ،فيكون
معنى اآلية :أنكم ستخرجون من النار؛ لبعض الفرتات ،ثم ستدخلوهنا بعد
ذلك ،وتبقون فيها إىل األبد؛ بال حتول عنها ،وهذا املعنى؛ ال ينايف أصل التأبيد،
ولكنه استثناء بعض اجلملة.
ومع ذلك :فقد ُي ْبطِل معنى اخللود ،وهو عدم التحول واالنقطاع عنها،
املقيد مع إطالقه ،وعدم تقييده الدوا َم ،ألن استثناء بعض الفرتات؛ من مدة ال
هناية هلا ،ال ينفي ال هنايتها.
وهذا موافق ملفهوم االستثناء يف األصول ،أنه إخراج بعض اجلملة،
فاجلملة؛ هي :الالهناية من املدد هنا ،وإخراجهم عن املكوث يف النار؛ بعض تلك
املدد ،ال ينايف تأبيد بقائهم ،من الطرف األخري ،ولكنه ينايف ظاهر ما يفيده اخللود،
الذي يعني عدم التحول عنها ،ما داموا قد دخلوها.
65
فمن قال بإمكان خروج الكفار لبعض فرتات لزيادة التنكيل هبم ،وتشفي
املؤمنني منهم ،ثم عودهتم إليها ،مع بقائهم فيها بعد ذلك أبد ًا ،فهو حمتاج لنص؛
ونقل يعتمد عليه ،وإال فهو خالف الظاهر املفهوم ،من هذه اآلية الكريمة.
وأما املعنى الثالث ـ وهو املنبني عىل كون االستثناء نفي ًا ملفهوم اخللود،
وهو عدم التحول ـ فاالستثناء يكون؛ بإثبات التحول عن النار ،فيكون معنى
اآلية :النار مثواكم؛ باقني فيها ،ال تتحولون عنها ،وال خترجون منها ،بحيث ال
تعودون فيها ،بل خترجون؛ وتتحولون عنها.
ومن الظاهر أن هذا معنى متناقض ،ال يليق محل اآلية عليه.
وأما باعتبار محل اخللود عىل املعنى الثاين املقرتح ،وهو البقاء فيها مدة
طويلة منتهية ،فال ُيتمل االستثناء؛ إال أحد معنيني:
األول :إما أن يستثنى بعض املدة الطويلة ،بحيث يظل الباقي طويالً،
ال. ٍ
متناف ،مع مقدم اآلية ،عىل فرض أن اخللود هو البقاء طوي ً وهذا غري
سبق.
وإن تعارض ،مع ما يفيده اخللود؛ من عدم التحول كَّم َ
ولكنا بينّا أن اخللود؛ هو :عدم التحول عن اليشء ،واالستمرار فيه ،وال
حيمل عىل البقاء الطويل فيه ،إال بقرينة.
وإذا صح هذا هنا ،فإنه يصح استثناء بعض املدة الطويلة ،التي ال تتناهى،
كَّم ذكرنا يف احلالة األوىل.
66
الثاين :وإما أن يكون االستثناء إخراج ًا ألصل البقاء ،عن كونه طويالً،
وهذا مناقض ألصل اخللود؛ والبقاء الطويل ،كَّم هو ظاهر ،كأنك تقول :إن
معنى اآلية :سيبقى الكفار فيها مدة طويلة ،ال بل سيبقون فيها مدة غري طويلة،
وهو تناقض بني.
وكَّم ال جيوز تقدير هذا املعنى هنا ،فكذلك ال جيوز تقديره؛ ثمة عىل
التقدير السابق ،بدعوى أن االستثناء إنَّم نفى أصل البقاء الالمتناهي ،مما يعني أن
البقاء ٍ
متناه.
واْلالصة :أن دعوى أن االستثناء يبطل قيد اخللود (وذلك سواء كان
اخللود هو املكوث بال هناية ،أو كان املكوث الطويل يف النار ،ونفي قيد اخللود
عىل األول يستلزم كون املدة متناهية ،وحمدودة ،ونفي قيد اخللود عىل الثاين
يستلزم كون املدة غري طويلة بل قصرية) يستلزم وقوع التنايف يف اآلية الكريمة،
إبطال تاليها ملقدمها ،وهذا باطل يف التفسري.
إذن تبقى االحتَمالت املمكنة:
األول :عىل تقدير أن اخللود؛ هو :املكوث؛ بال حتول ما دامت النار ،وهو
مستلزم لبقاء النار أبد ًا ،كَّم هو ظاهر اآليات الكثرية:
أن مكوث الكفار يكون دائ ًَّم ،وال متناهي ًا يف النار ،بعد دخوهلم فيها،
وهذا ال ينايف عدم دخوهلم فيها؛ بعد وجودها ،وقبل يوم احلساب ،وإدخاهلم يف
67
النار ،وال ينايف أيض ًا؛ تقدير خروجهم منها ،بعض الفرتات القليلة ،مع رجوعهم
إليها بعد ذلك ،واستمرار مكوثهم؛ عىل سبيل الدوام.
والثاين :عىل تقدير أن اخللود هو املكث الطويل ،فيكون من املحتمل أهنم
َيرجون بعض الفرتات؛ القصرية نسبي ًا؛ بحيث ال يستلزم ذلك اخلروجَ ،
نفي قيد
الطول ،الثابت بأصل اخللود.
واملعول عليه ِف الَتجيح بني املعنيني ،إنَّم هو أصل معنى :اخللود ،هل هو
َّ
البقاء الطويل املنقطع؟! ،أو هو عدم التحول ،واالنقطاع عن النار بإطالق ،ال
ُي َق ايدُ إال بقرينة؛ كَّم تقتضيه القواعد األصولية؟!.
فإما أن يكون استعَّمل اخللود يف املعنيني؛ (أعني :طول البقاء مع االنقطاع
واالنتهاء ،واملكث بال حتول)؛ متساوي ًا ِف اللغة ،أي :مشرتك ًا فيهَّم ،أو حقيقة ِف
ِ
أصل وضعٍ) َماز ًا ِف اآلخر. ٍ
استعَّمل ،أو ِ
(لغلبة أحدمها
ومن جهة أخرى :إما أن نعرف بنصوص أخرى (غري هذه اآليات
الثالث) أن النار تفنى ،أو ال نعرف أهنا تفنى ،بل نعرف أهنا باقية.
فهذان طريقان لرتجيح مدلول اآلية الكريمة.
فأما بلحاظ معنى اْللود:
فقد تقرر لغة؛ أن األصل يف اللفظ أن يكون له معنى واحد ،واالشرتاك
خالف األصل ،فاألصل أن نرجح أحد املعنيني؛ عىل اآلخر ،وفرض االشرتاك
مرجوح.
68
فإن كان اخللود يعني املكوث مدة طويلة؛ برشط االنقطاع ،فال يصح لغة
تقييده؛ بَّم يفيد عدم االنقطاع ،كالتأبيد ،وعد ِم اخلروج منها ،الوارد يف حق أهل
اجلنة ،وبغري ذلك من االستعَّمالت ،التي تدل عىل أن اخللود مقيد بالتأبيد؛ وبغريه
مما يفيد نفي االنقطاع.
وهذا يكون خروج ًا؛ عن حقيقة اللفظ إىل املجاز ،فحقيقته الطول مع
االنقطاع؛ كَّم يفرتضه املفرتضون ،وتقييده بَّم يقتيض عدم االنقطاع ،خروج
وإخراج له عن أصل وضعه ،هو خالف األصل.
أما لو قلنا :إن اخللود يفيد عدم التحول ،فيمكن تقييده بحسب حال
تربي اليشء من اعَتاض الفساد ،وبقاؤه عىل
املق ايد به ،أي بتعبري الراغب( :هو ِّ
احلالة التي هو عليها) ،فلو قيدناه بالتأبيد ،ألفاد القيد أن هذا البقاء مؤبدٌ ،أي
مستمر يف األزمان كلها ،ال يتحول عن حاله ،وهذا ليس فيه إخراج للفظ عن
وضعه.
ٍ
لذاتَ ،علِ ْمنا أهنا منسوب ولو قلنا :إن اخللود غري مقيد بالتأبيد ،ولكنه
ٌ
فإن هذا أيض ًا يستلزم أن اخللود مؤبد أيض ًا ،لتأبد الذات باقي ٌة ِ
دائ َم ٌة يف الوجود ،ا َ
املقيد هبا اخللود ،أو املتعلق هبا ،أو بظرفها.
إخراج اللفظ عن حقيقته ،كَّم ترى،
َ وعىل االحتَّملني؛ فال يقتيض ذلك
ويزيد يف املعنى ،وال يكون التأبيد تأكيد ًا كَّم زعم بعضهم ،وال مناقض ًا ،وال
منافي ًا.
69
إذن يتبني لنا أن محل اخللود عىل املعنى الذي ذكره الراغب وغريه ،مما
وضحناه هو األصل فهو الواجب.
وأما بلحاظ بقاء ظرف اْللود ،وهو النار هنا:
فاألصل أن النار باقية ،وداللة ظواهر اآليات تؤيد ذلك ،وتأكيد النار
باألبد؛ ونحوها ،من األلفاظ الدالة عىل البقاء واالستمرار ،يقتيض ذلك.
فإذا كانت النار يف نفسها باقية ،أي :بإبقاء اهلل؛ ال لذاهتا ،فَّم َيلد فيها،
فهو باق بالرضورة ،ألن ما يالبسه من العذاب ،مقيد بظرف وجوده يف النار.
فيظهر من ذلك أن الصواب :محل اخللود عىل عدم التحول ،والقول بأن
النار باقية ،وأهنا حمل تعذيب الكفار ،الذين ال َيرجون منها؛ ما داموا كفار ًا ،وال
يتحول عذاهبم إىل عذوبة.
وأما ما اعتمده بعض الناظرين؛ يف هذه املسألة ،من أن النار تفنى ألهنا
غضب اهلل ،أو ألهنا نتيج ُة ِ
صفة ٍ
فعل هلل تعاىل ،ونحو ذلك فسوف نأيت عليه قريب ًا.
وسيأتيك زيادة تقرير ملفهوم اآلية ،يف مناقشتنا وحتليلنا لآلية الواردة يف
سورة هود ،وستزداد قناعة بَّم نقرره هنا بإذن اهلل تعاىل ،وينكشف لك كثري من
املغالطات ،التي وقع فيها صاحبنا الفاضل.
70
كالم بعض العلَمء ِف هذه اآلية:
سنكتفي هنا بإيراد كلَّمت؛ لبعض العلَّمء األعالم ،يف هذه اآلية الكريمة،
مما له تعلق باملقام ،والتعليق عىل بعض املواضع فيها ،ولو أردنا االستقصاء لطال
األمر ،ولكن نرجو أن يكون ما أوردناه كافي ًا.
قال الطربي؛ يف تفسريه( :القول يف تأويل قولهَ { :ق َال النَّار َم ْث َواك ْم
71
ولكني أرى ا
أن قول ابن عباس ال يفيد إال ما هو معلوم ،من أن ال أحد
حيكم عىل اهلل تعاىل ،وال أحد بوجب عليه ،أن يدخل أحد ًا جن ًة؛ أو نار ًا ،وهذا
معلوم متفق عليه ،وال أحد من أهل احلق خمالف له.
وال أعلم عال َم اعتمد الطربي يف قوله إن ابن عباس يري أن( :مبلغ
عذاب الكفار إىل إرادة اهلل تعاىل) ،املفيد لرتدده يف خلودهم يف النار؛ معذبني فيها،
وهو خمالف لإلمجاع ،كَّم قال ابن عطية يف تفسريه معلق ًا ،عىل ما نقله الطربي؛ عن
ابن عباس رِض اهلل عنه( :قال القاِض أبو حممد :واإلمجاع عىل التخليد األبدي يف
الكفار ،وال يصح هذا عن ابن عباس رِض اهلل عنه).
يعني إنه يستحيل أن يصح نقل هذا القول ،إذا كان فيه تشكيك يف بقاء
الكفار خالدين يف النار ،ألن هذا جممع عليه.
وربَّم وجدت كلَّمت غريها عن ابن عباس تفيد ما أشار إليه الطربي ،وقد
أوردنا منها؛ تفسريه للخلود بعدم االنقطاع ،كَّم نقلناه عن ابن أيب حاتم ،يف
تفسريه ،ولذلك قال أبو حيان يف تفسريه البحر املحيط( :وروي عن ابن عباس أنه
قال :هذه اآلية توجب الوقف يف مجيع الكفار؟.
قيل :ومعنى ذلك؛ أهنا توجب الوقف فيمن مل يمت ،إذ قد يسلم ،وروي
عنه أيض ًا أنه قال :جعل أمرهم يف مبلغ عذاهبم ،ومدّ ته إىل مشيئته ،حتى ال حيكم
اهلل يف خلقه.
72
وعنه أيض ًا؛ أنه قال يف هذه اآلية :أنه ال ينبغي ألحد أن حيكم عىل اهلل يف
خلقه ال ينزهلم جنة؛ وال نار ًا.
قال ابن عطية :اإلمجاع عىل التخليد األبدي يف الكفار ،وال يصح هذا عن
ابن عباس؛ انتهى.
وقد تعلق قوم بظاهر هذا االستثناء ،فزعموا أن اهلل َيرج من النار كل بر
وفاجر ومسلم وكافر وأن النار ختلو وخترب ،وقد ذكر هذا عن بعض الصحابة
وال يصح وال يعترب خالف هؤالء وال يلتفت إليه).
وقال النسفي( :إال ما شاء اهلل؛ أيَ :يلدون يف عذاب النار األبد ،كله؛ إال
ما شاء اهلل ،إال األوقات التي ينقلون فيها ،من عذاب السعري؛ إىل عذاب
الزمهرير ،إن ربك حكيم؛ فيَّم يفعل بأوليائه ،وأعدائه ،عليم بأعَّمهلم؛ فيجزى
ك ً
ال عىل وفق علمه).
وقال البيضاوي{(:إِالَّ َما َشاء اهلل} إال األوقات التي ينقلون فيها من
النار؛ إىل الزمهرير ،وقيل{ :إِالَّ َما َشاء اهلل} ،قبل الدخول؛ كأنه قيل :النار
َم ْث َواك ُْم أبد ًا؛ إال ما أمهلكم).
وأنت ترى أن البيضاوي ذكر االحتَّملني؛ اللذين قلنا يف حتليلنا لآلية،
وداللتها أهنَّم حمتمالن ،وإن رجح واحد ًا عىل اآلخر ،ومل يذكر الثالث (وهو قطع
استمرار بقائهم يف النار) ،املنايف ألصل استمرار البقاء ،ألنه ينايف ما قررته اآلية
من اخللود يف النار املعلوم استمرار بقائها.
73
وقال اإلمام الرازي( :قال تعاىلَ { :ق َال النار َم ْث َواك ْم} ،املثوى :املقام؛
واملقر؛ واملصري ،ثم ال يبعد أن يكون لإلنسان مقام ومقر ،ثم يموت ،ويتخلص
باملوت؛ عن ذلك املثوى ،فبني تعاىل؛ أن ذلك املقام واملثوى ،خملد مؤبد ،وهو
األول أوىل ،ألن معنى االستثناء؛ إنَّم هو من يوم القيامة ،ألن قولهَ { :و َي ْو َم
ثم قال تعاىل{ :خالدين فِ َيها} ،منذ يبعثون{ ،إِالَّ َما َشاء اهلل} ،من
مقدار حرشهم من قبورهم ،ومقدار مدهتم يف حماسبتهم.
74
الرابع :قال أبو مسلم :هذا االستثناء؛ غري راجع إىل اخللود ،وإنَّم هو
راجع إىل األجل املؤجل هلم ،فكأَّنم قالوا :وبلغنا األجل؛ الذي أجلت لنا ،أي:
الذي سميته لنا؛ إال من أهلكته قبل األجل املسمى ،كقوله تعاىلَ { :أ ََل ْ َي َر ْو ْا ك َْم
َأ ْه َل ْكنَا ِمن َق ْبلِ ِهم همن َق ْرن}( ،األنعام ،)5 /وكَّم فعل يف قوم نوح ،وعاد ،وثمود،
ممن أهلكه اهلل تعاىل ،قبل األجل الذي لو آمنوا ،لبقوا إىل الوصول إليه.
فتلخيص الكالم أن يقولوا :استمتع بعضنا ببعض ،وبلغنا ما سميت لنا
من األجل؛ إال من شئت أن خترتمه؛ فاخرتمته قبل ذلك بكفره وضالله.
واعلم أن هذا الوجه ـ وإن كان حمتم ً
ال ـ إال أنه ترك لظاهر ترتيب ألفاظ
هذه اآلية ،وملا أمكن إجراء اآلية عىل ظاهرها ،فال حاجة إىل هذا التكلف.
قال للكفار{ :النار مثواكم} استثنى هلم من يمكن أن يؤمن ،ممن يرونه يومئذ
كافر ًا ،وتقع (ما) عىل صفة من يعقل ،ويؤيد هذا التأويل؛ اتصال قوله{ :إن
ربك حكيم عليم} أي :بمن يمكن أن يؤمن منهم ،و{حكيم عليم} صفتان
مناسبتان هلذه اآلية ،ألن ختلد هؤالء الكفرة يف النار ،فعل صادر عن حكم وعلم
بمواقع األشياء).
وعلق عليه صاحب البحر املحيط؛ فقال( :وهو تأويل حسن).
وقال السمرقندي؛ يف بحر العلوم{( :إِالَّ َما َشاء اهلل}( :قال الكلبي:
مشيئة اهلل من كل يشء ،ويقال{ :إال ما شاء} الربزخ ،والقيام ُة ،قد شاء اهلل هلم
اخللو َد فيها).
76
وخلص ابن جزي ،يف التسهيل؛ وجوه اآلية ،فقال{ :إال ما شاء}:
قيل :االستثناء من الكاف وامليم؛ يف( :مثواكم) فَّم بمعنى( :من) ،ألهنا
وقعت عىل صنف من اجلن واإلنس ،واملستثنى عىل هذا من آمن منهم.
وقيل :االستثناء من مدة اخللود ،وهو الزمان الذي بني حرشهم؛ إىل
دخول النار.
وقيل :االستثناء من النار؛ وهو دخوهلم الزمهرير.
وقيل :ليس املراد هنا باالستثناء اإلخراج ،وإنَّم هو عىل وجه األدب مع
اهلل وإسناد األمور إليه.
وبناء عىل أن االستثناء حقيقي ذكر أبو حيان؛ يف البحر املحيط الوجوه يف
املستثنى منه ،فقال( :وإذا كان استثناء حقيقة؛ فاختلفوا يف الذي استثنى ما هو؟.
فقال قوم :هو استثناء أشخاص من املخاطبني؛ وهم من آمن يف الدنيا
بعذاب ،كان من هؤالء الكفرة ،وملا كان هؤالء صنف ًا؛ ساغ يف العبارة عنهم ما،
فصار كقوله{ :فانكحوا ما طاب لكم من النساء} ،حيث وقعت عىل نوع من
يعقل ،وهذا القول بعد ،ألن هذا خطاب للكفار يوم القيامة ،فكيف يصح
االستثناء؟! ،فيمن آمن منهم يف الدنيا ،ورشط من أخرج باالستثناء ،احتاد زمانه،
وزمان املخرج منه.
فإذا قلت( :قام القوم؛ إال زيد ًا) ،فمعناه :إال زيد ًا ،فإنه ما قام ،وال يصح
أن يكون املعنى( :إال زيد ًا) ،فإنه ما يقوم يف املستقبل ،وكذلك(:سأَضب القوم
77
إال زيد ًا) ،معناه( :إال زيد ًا) فإين ال أرضبه يف املستقبل ،وال يصح أن يكون املعنى:
(إال زيد ًا) فإين رضبته أمس ،إال إن كان االستثناء منقطع ًا ،فإنه يسوغ ،كقوله
تعاىل{ :ال يذوقون فيها املوت؛ إال املوتة األوىل} ،أي :لكن املوتة األوىل يف
الدنيا فإهنم ذاقوها.
وقال قوم :املستثنى؛ هم :العصاة؛ الذين يدخلون النار من أهل التوحيد،
أي :إال النوع الذي دخلها من العصاة ،فإهنم ال َيلدون يف النار.
وقال قوم :االستثناء من األزمان؛ أي{ :خالدين فيها} أبد ًا؛ إال الزمان
الذي شاء اهلل ،أن ال َيلدون فيها ،واختلف هؤالء يف تعيني الزمان.
فقال الطربي( :هي املدّ ة التي بني حرشهم؛ إىل دخوهلم النار ،وساغ هذا
من حيث العبارة؛ بقوله{ :النار مثواكم} ،ال َيص بصيغتها؛ مستقبل الزمان
دون غريه).
وقال الزخمَشي( :إال ما شاء؛ أيَ :يلدون يف عذاب األبد كله ،إال أي:
األوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار ،إىل عذاب الزمهرير ،فقد روي :أهنم
يدخلون وادي ًا من الزمهرير ،ما يميز بعض أوصاهلم من بعض؛ فيتعاوون،
ويطلبون الر ّد إىل اجلحيم).
وقال احلسن ( :إال من كوهنم يف الدنيا بغري عذاب ،وهذا راجع إىل
الزمان ،أي :إال الزمان الذي كانوا فيه يف الدنيا ،بغري عذاب.
78
ويرد عىل هذا القول؛ ما يرد عىل من جعله استثناء ،من األشخاص الذين
آمنوا يف الدنيا).
وقال الفراء( :إال؛ بمعنى :سواء) ،واملعنى :سواء ما يشاء ،من زيادة يف
العذاب ،وجييء إىل هذا الزجاج).
وقال غريه :إال ما شاء؛ من النكال والزيادة عىل العذاب ،وهذا راجع إىل
االستثناء من املصدر ،يدل عليه معنى الكالم ،إذ املعنى تعذبون بالنار{ :خالدين
فيها} إال ما شاء من العذاب؛ الزائد عىل النار ،فإنه يعذبكم به ،ويكون إذ ذاك؛
استثناء منقطع ًا ،إذ العذاب الزائد عىل عذاب النار؛ مل يندرج حتت عذاب النار،
والظاهر :أن هذا االستثناء هو ،من متام كالم اهلل للمخاطبني ،وعليه جاءت
تفاسري االستثناء).
ومما حيسن سَّمعه من التفسري هلذه اآلية ،ما قرره العالمة ابن عاشور ،قال:
(واملثوى :اسم مكان؛ من َثوى باملكان ،إذا أقام به ،إقام َة سكنى ،أو إطالة مكث،
وقوله{ :خالدين فيها} ،هو من متام ما يقال هلم ،يف احلرش ال حمالة،
ألناه منصوب عىل احلال؛ من ضمري( :مثواكم) ،فال بدّ أن يتع ّلق بَّم قبله.
وأ ّما قوله{ :إال ما شاء} ،فظاهر النظم؛ أنّه من متام ما يقال هلمّ ،
ألن
األصل يف االستثناء؛ أن يكون إخراج ًا ،ممّا قبله من الكالم.
79
وجيوز أن يكون من خماطبة اهلل لرسوله صىل اهلل عليه وسلم ،وقع
له{ :إن ربك حكيم عليم} ،ويكون الوقف عىل قوله{ :خالدين فيها}.
دل عليها قوله{ :خالدين فيها} ،إذ اخللود؛ هو :إقامة األبد،
األزمنة ،ا ّلتي ّ
يعم األزمان ك ّلها ،فـ(ما) ظرفية مصدرية ،فلذلك يكون الفعل بعدها؛
واأل َبد؛ ّ
يف تأويل َمصدر ،أي :إالّ وقت مشيئة اهلل إزالة خلودكم ،وإ اما من عموم
اخلالدين ،ا ّلذي يف ضمري {خالدين} ،أي :إالّ فريق ًا شاء اهلل؛ أن ال َيلدوا يف
النّار.
ُ
حيث ما املفرسين ،من
وهبذا صار معنى اآلية؛ موضع إشكال عند مجيع ّ
وأهنم خم ّلدون تقرر يف الكتاب ،والسنّة ،وإمجاع األ ّمة؛ ّ
أن املرشكني ال ُيغفر هلم ،ا ّ
يف النّار؛ بدون استثناء فريق ،وال زمان.
يتم ،وبعضها بعيد ،إذا ُجعل
أحص ْي ُت هلم عرشة تأويالت ،بعضها ال ّ
وقد َ
قوله { :إال ما شاء} ،من متام ما يقال للمرشكني؛ وأوليائهم يف احلرش ،وال
80
فتكون (ما) مصدرية؛ غري ظرفية ،أي :إالّ مشيئة اهلل عد َم خلودهم ،أيَ :
حال
مشيئته.
وهي حال توفيقه بعض املرشكني لإلسالم يف حياهتم ،ويكون هذا بيان ًا
وحتقيق ًا للمنقول عن ابن ع هباس :استثنى اهلل قوم ًا؛ سبق يف علمه اأهنم ُيسلمون.
وعنه أيض ًا :هذه اآلية؛ توجب الوقف يف مجيع الكفار ،وإذا صح ما نقل
عنه ،وجب تأويله ،بأنه صدر منه قبل علمه بإمجاع أهل العلم ،عىل ّ
أن املرشكني ال
يغفر هلم.
فإهنا قد تستعمل للعاقل
ولك أن جتعل (ما) عىل هذا الوجه موصولة ،ا
بكثرة.
وإذا جعل قوله{ :خالدين} من مجلة املقول يف احلرش؛ كان تأويل اآلية:
ٍ
حالة ،وإناَّم هو كناية ،يقصد منه ّ
أن أن االستثناء ال يقصد به إخراج أوقات؛ والَ
ّ
هذا اخللود قدّ ره اهلل تعاىل ،خمتار ًا ال مكره له عليه ،إظهار ًا لتَّمم القدرة ،وحمض
ألبطلت ذلك.
ُ اإلرادة ،كأناه يقول :لو شئت
بأن اهلل ذكر نظريه يف نعيم أهل اجلنّة ،يف قولهَّ { :
فأما وقد ي ْعضد هذا؛ ّ
السَمواتالذين َشقوا؛ ففي النهارْ ،لم فيها زفري وشهيق ،خالدين فيها ،ما دامت ه
إن ربك فعال ملا يريد ،وأما الذين ِ
سعدوا؛ ففي اجلنهة ه َّ واألرض ،إاله ما شاء ر هبك ،ه ه
وقوله{ :إن ربك حكيم عليم} تذييل ،واخلطاب للنّبي صىل اهلل عليه
وسلم ،فإن كان قوله{ :خالدين فيها إال ما شاء اهلل} ،من بقية املقول؛ ألولياء
اجل ّن يف احلرش ،كان قوله{ :إن ربك حكيم عليم} ،مجلة معرتضة؛ بني اجلمل
أن ما رتّبه اهلل عىل الرشك؛ من اخللود ،رتّبه بحكمته ِ
وع ْلمه ،وإن املقولة ،لبيان ّ
ّ
ال معرتض ًا ،كان قوله{ :إن ربك
كان قوله{ :خالدين} إلخ ،كالم ًا مستق ً
82
وقال األلويس(( :)0/43ونقل عن بعضهم؛ أن هذا االستثناء معذوق
بمشيئة اهلل تعاىل ،رفع العذاب ،أيَ :يلدون إىل أن يشاء اهلل تعاىل لو شاء.
وفائدته :إظهار القدرة واإلذعان؛ بأن خلودهم إنَّم كان ألن اهلل ـ تعاىل
شأنه ـ قد شاءه ،وكان من اجلائز العقيل يف مشيئته ،أن ال يعذهبم ،ولو عذهبم ال
َيلدهم ،وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه ،وإنَّم هو مقتىض مشيئته وإرادته عز
وجل ،ويف اآلية عىل هذا؛ دفع يف صدور املعتزلة ،الذين يزعمون أن ختليد الكفار
واجب عىل اهلل تعاىل ،بمقتىض احلكمة ،وأنه ال جيوز يف العقل مقتىض ذلك ،ولعل
هذا هو احلق الذي ال حميص عنه ،ويف معناه ما قيل :املراد املبالغة يف اخللود،
بمعنى أنه ال ينتفي إال وقت مشيئة اهلل تعاىل ،وهو مما ال يكون؛ مع إيراده يف
صورة اخلروج ،واطَّمعهم يف ذلك؛ هتك ًَّم وتشديد ًا لألمر عليهم ،ومن أفاضل
العرصيني األكابر ،من ادعى ذلك الوجه له ،وأنه قد خلت عنه الدفاتر ،وهو
مذكور يف غري ما موضع ،فإن كان ال يدري؛ فتلك مصيبة ،وإن كان يدري؛
فاملصيبة أعظم ،وسيأيت إن شاء اهلل تعاىل تتمة الكالم؛ يف ذلك عند قوله سبحانه:
ك} (هود.))300/
{إِالَّ َما َشاء َر ُّب َ
83
َّار َْل ْم فِ َيها
ين َشقو ْا َف ِفي الن ِ ِ
ثاني ًا :بيان وجه داللة قوله تعاىلَ { :ف َأ َّما ا َّلذ َ
كالس ََم َوات َواألَ ْرض إِالَّ َما َشاء َر ُّب َك إِ َّن َر َّب َ ِ زَفِري و َش ِه ٌيق َخالِ ِد ِ
ين ف َيها َما َد َامت َّ
َ ٌ َ
َف َّع ٌال ملَِّا ي ِريد}( ،هود ،)701/عىل عدم الفناء بإَياز.
قال ابن جرير( :قوله{ :خالدين فيها؛ ما دامت السموات واألرض ،إال
ما شاء ربك إن ربك فعال ملا يريد} ،يعني تعاىل ذكره بقوله( :خالدين فيها)،
البثني فيها ،ويعني بقوله( :ما دامت السموات واألرض) ،أبد ًا؛ وذلك أن العرب
إذا أرادت أن تصف اليشء بالدوام؛ أبد ًا ،قالت :هذا دائم؛ دوام السموات
واألرض ،بمعنى :أنه دائم أبد ًا ،وكذلك يقولون( :هو ٍ
باق ما اختلف الليل
والنهار).
و(ما سمر ابنا َس ِمري) ،و(ما ألألت الع ْفر بأذناِّبا) ،يعنون بذلك كله
(أبد ًا) ،فخاطبهم ـ جل ثناؤه ـ بَّم يتعارفون به بينهم ،فقال{ :خالدين فيها ما
84
اجلن َِّة َخالِ ِدين فِيها ما دام ِ
ين س ِعدو ْا َف ِفي َْ ِ
ت َ َ َ َ َ قال تعاىلَ { :و َأ َّما ا َّلذ َ
َمذوذ}( ،هود ،)300/فال فرق الس ََم َوات َواألَ ْرض إِالَّ َما َشاء َر ُّب َ
ك َع َطاء غَ ْ َري َ ْ َّ
بني اآلية الواردة يف املؤمنني ،والواردة يف األشقياء من حيث:
ـ كل من اآليتني؛ فيها حكم باْللود يف دار الثواب (اجلنة) ،أو دار
العقاب (النار).
ـ كل من اآليتني؛ فيها استثناء وهو قوله تعاىل {إال ما شاء ربك} وقد
الس ََم َوات َواألَ ْرض إِالَّ َما ِ جاء بنفس الصيغة يف اآليتنيَ { :خالِ ِد ِ
ين ف َيها َما َد َامت َّ
َ
ك} ،فهذه الصيغة من التخليد؛ وقرن اخللود ببقاء السموات واألرض، َشاء َر ُّب َ
واالستثناء ،وردت بالصورة نفسها ،يف حق الذين َش ُقوا ،والذين ُس ِعدوا!.
إذن :لو قلنا :إن ال اثن ِ اي َة (االستثناء) ينفي الدوام األبدي يف النار ،يف حق
الكفار ،فينبغي أن نقول إنه ينفيه أيض ًا يف حق املؤمنني يف اجلنة.
ولكن :من املقطوع به ا
أن الثن اية ال تنفي التأبيد عن بقاء املؤمنني ولبثهم يف
اجلنة.
الرضوري أن ال تنفي الثنية التأبيد عن لبث الكفار يف النار.
ِّ إذن :فمن
ويبقى أن يقال :إنا فهمنا بقا َء املؤمنني يف اجلنة ،ال من جمرد التخليد ،بل
من قوله تعاىل{ :عطاء غري َمذوذ} ،أما االستثناء فيفهم االنقطاع واالنتهاء.
85
نقول :هذ ا غلط ظاهر ،فلو كان االستثناء يفيد انتهاء بقاء املؤمنني يف اجلنة
مستقبالً ،لتناقض مع قوله تعاىل{ :عطاء غري َمذوذ} ،فهذا يفيد اتفاق ًا عدم
االنقطاع ،وأنتم تزعمون أن االستثناء يفيد االنتهاء ،وهو تناقض ،والتناقض يف
اآلية ممنوع.
إذن ال يصح أن يقال :إن الثنية؛ تفيد انتهاء لبث املؤمنني يف اجلنة.
وكذلك ينبغي أن يقال :إن االستثناء ال يصح أن يفيد انتهاء لبث الكفار
يف ِ
النار.
ويبقى البحث إذن ِف فائدة االستثناء.
إما أن يكون استثناء من الذين حكم عليهم بالبقاء يف الدارين أبد ًا،
وحينئذ :إن قلنا ا
إن املستثنى منه هو األشقياء ،وهم عموم الداخلني يف النار،
فيمكن أن يكون املستثنى من الدوام فيها ،هم أهل املعايص من املؤمنني ،وذلك
ألن ظاهر الذين شقوا عام ،حيتمل دخول أهل املعايص األشقياء ،والكفار،
فيصح عىل هذا الوجه ،استثناء أهل املعايص من التأبيد يف النار ،ويكون هؤالء
هم املستثنني أيض ًا يف آية الذين ُس ِعدوا.
أ ّما إذا:
ـ كان االستثناء من املدة التي قبله ،فهذه املدة هي التأبيد ،بقرينة ما نقلناه
عن الطربي.
86
ـ وكان معنى االستثناء هو قطع التأبيد ،ونفي استمرار البقاء يف الدار؛ ال
إىل هناية ،فيكون معنى اآلية الواردة يف الذين ُس ِعدوا عىل هذا الوجه اآليت:
3ـ معنى القسم الذي قبل االستثناء :إن املؤمنني البثون يف اجلنة أبد ًا،
وباقون فيها بقا ًء ال ينقطع وال هناية له.
4ـ ومعنى االستثناء :إهنم ال يبقون أبد ًا ،بل يبقون ،فرتة أقل من األبد.
ومن الظاهر أن هذا تناقض مع التأبيد ،فهذه الطريقة ليست استثنا ًء ،بل
نفي ًا للمستثنى منه ،إن فرض املستثنى منه األزمنة املتوالية ،ال إىل هناية ،أي :إىل
األبد.
ويكون معنى اآلية الواردة يف الذين َش ُقوا عىل هذا الوجه:
3ـ معنى القسم الذي قبل االستثناء :إن الذين شقوا البثون يف النار أبد ًا،
وباقون فيها؛ بقا ًء ال ينقطع وال هناية له.
4ـ ومعنى االستثناء :إهنم ال يبقون أبد ًا ،بل يبقون ،فرتة أقل من األبد.
ومن الظاهر أن هذا تناقض مع التأبيد ،فهذه الطريقة ليست استثنا ًء ،بل
نفي ًا للمستثنى منه ،إن فرض املستثنى منه األزمنة املتوالية ،ال إىل هناية ،أي :إىل
األبد.
ومن الظاهر أيض ًا؛ أن هذه الطريقة يف فهم االستثناء باطلة ،ألهنا تناقض
ما تثبته اآلية.
87
وهذا الفهم لالستثناء ،مبني عىل توهم فاسد ،وهو أن االستثناء ينتفي به
أصل املستثنى منه ،ويبطل مفهو َمه ِم ْن أصلِه.
ولكن املعلوم عند طالب العلم ،أن االستثناء إنَّم َيرج بعض ما دخل يف
املستثنى منه ،من احلكم املحكوم به عليه ،وال َيرجه من مفهومه ،وال ينفي أصل
املستثنى منه ،أي :إننا إذا قلنا( :جاء القوم؛ إال زيد ًا).
فإن االستثناء( :بإال) ،ال يفيد أن القوم ما جاءوا ،بل َيرج بعض ما
واملخرج هنا هو زيدٌ .
َ اندرج حتت مفهوم القوم؛ من األفراد ،من حكم املجيء،
وهكذا :فإذا كان معنى اآلية :إن الذين شقوا ،والذين سعدوا ،يبقون ما
دامت السموات واألرض ،وعرف أن السموات واألرض تبقيان أبد ًا ،فمعنى
ذلك أن السعداء واألشقياء؛ يبقون أبد ًا كذلك.
فال يصح أن يكون االستثناء نافي ًا ألصل البقاء األبدي ،بل غاية ما يصح
أن يفيده؛ عدم لبثهم يف بعض املدد الزمانية املتوالية ،التي ُمت َ ِّث ُل بتواليها بال هناية
مفهو َم األبد ،كَّم حررناه.
وبذلك ال ينتفي مفهوم األبدية يف املقامني ،وال يبقى إشكال يف اآليتني.
تم إخراجها يف احلالتني ،وقد ذكر
وحينئذ :ينبغي البحث عن املدة التي ا
املفرسون احتَّمالت ذلك.
ويمكن الرجوع إىل التفاسري ملعرفة اإلمكانات التي ذكروها يف ذلك،
والرتجيح بينها وفق األدلة املعتربة.
88
وبذلك تنحل اإلشكالية يف فهم اآليتني من أصلها.
مالحظة :نحن مل نذكر مجيع احتَّمالت قوله تعاىل{ :إال ما شاء ربك}
التي ذكرها املفرسون.
وفيها أيض ًا :غنية عن الوقوع يف املحال ،أو االلتزام بالقول بفناء النار،
فلريجع إليها .واقترصنا عىل ما ذكرناه ألنه حمل الدعوى.
89
بيان معنى قوله تعاىل{ :عطاء غري َمذوذ}
َمذوذ} هل هو تقييد؛ ملا كان أثبته اهلل تعاىل هلم من قبل ،أي :هل ما أثبته اهلل
تعاىل للسعداء يف اآلية ،حيتمل أن يكون عطاء جمذوذ ًا ،وحيتمل أن يكون عطاء
ِ
جمذوذ ،فبني اهلل تعاىل أن املراد أن عطاءه غري جمذوذ. غري
من الواضح أن الناظر احلصيف؛ ال يقطع بتهور ،أن األمر كذلك ،بدون
من قائل{ :إن ربك فعال ملا يريد} فال موجب عليه ،وال مانع له مما يريد ،وال
يشء مما يريده؛ يستلزم القبح ،والذم ،أو النقص ،وقوله يف آية األنعام{ :حكيم
عليم} ال ينايف هذا املعنى ،ألن كل هذا يفعله اهلل تعاىل بعلمه وحكمته ،حيث
ّبني لكل إنسان ،ما يرتتب عىل أفعاله يف اآلخرة ،فهو يضع األمور يف حملها؛ بال
فتم األمر بفضل اهلل تعاىل
موانع متنَ ُعه ،ا
َ وجوب ،أو ِع َل ٍل تدفعه لذلك ،أو
ٍ سبق
برفع الوهم املذكور ملن تعلق بذلك للقول بفناء النار.
91
بيان الفهم املغلوط الذي متسك به القائل بفناء النار
فهم القائل بفناء النار ،بناء عىل أن مفهوم االستثناء ،ا
أن حكم ما بعد إال
َيالف ما قبلها .فقرر قائال( :ما قبل إال{ :خالدين فيها مدة بقاء السموات
واألرض})( :وحاصل املعنى كَّم نقول به ،أي :إهنم البثون يف النار أبد ًا ،ال
َيرجون منها ،بنا ًء عىل كون هذه العبارة مما يقال ليفيد التأبيد والدوام ،أو ألن
السموات واألرض دائمة).
وعليه فَّم بعد إال :ينبغي أن يكون بناء عىل اقرتاحه :أهنم غري خالدين فيها
مدة بقاء السموات واألرض ،بل ينقطع لبثهم مع دوام السموات واألرض.
(وحاصل املعنى املقرتح الذي يقرتحه صاحبنا ،أي :إهنم غري البثني يف
النار أبد ًا ،بل َيرجون منها).
أن هذا ليس استثناء؛ مما قبل( :إال) ،بل نفي ًا له من أصله.
ومل يلتفت إىل ّ
ألنه إذا كان املثبت قبل( :إال) هو البقاء؛ تلك املدة التي تدومها السموات
واألرض ،فاالستثناء؛ ينفي أن يكون البقاء هو املدة التي تدوم فيها السموات
واألرض ،وهذا نفي ملا أثبت ،وليس إخراج ًا لبعض ما اندرج حتته ،كَّم يقتضيه
مفهوم االستثناء!!.
أن االستثناء :إخراج بعض ما لواله لدخل يف اجلملة.
والتحقيق َّ
واإلخراج يكون من احلكم؛ ال من عني املفهوم ،كَّم وضحناه يف مثال
(جاء القوم؛ إال زيد ًا).
92
وبناء عىل ذلك :فَّم قبل( :إال) :إن الذين سعدوا البثون يف اجلنة مدة دوام
السموات واألرض ،ومن املعلوم أن هذه املدة أزمنة متطاولة متوالية.
فَم بعد( :إال) يكون :إهنم ال يلبثون فيها بعض األزمنة ،التي تكون فيها
السموات واألرض موجودة ،وهي األزمنة التي يكونون فيها مث ً
ال يف احلساب،
قبل دخول كل فريق من الفريقني دار البقاء ،وإنَّم ساغ االستثناء؛ ألن اآلية حكم
فيها بأنه ما دامت السموات واألرض ،فهم البثون يف اجلنة والنار ،ولكن يف فرتة
احلساب والبعث ،تكون السموات واالرض موجودة؛ ودائمة ،وفيها اجلنان
والنريان ،وال يكون أي من الفريقني قد دخل دار بقائه بعدُ .
وال يقال هنا :إن النفي ينبغي أن يكون من املدة التي يكونون قد دخلوا
فيها النار ،ألن اخللود ـ كَّم قلنا ـ هو لبثهم فيها ،وهو هنا مقيد بدوام السموات
واألرض ،مستثنى منه بعض املدة؛ التي مل يلبثوا فيها ،يف تلك األوقات املحتملة.
فاحلكم باخللود إذن مقيد بمدة دوام السموات واألرض ،مستثنى منها
عدم كوهنم فيها ،وهو معنى صحيح ،ال يرد عليه ما يستحق أن ينقضه عند
التدبر.
وال يصح أن يقال :إن االستثناء ينبغي أن يكون برشط الدخول ،أي :بعد
الدخول يتم االستثناء ،فال يشء يوجب ذلك ،ويمكن تقدير التقديم والتأخري
اف َع َذ َ
اب ك آل َي ًة؛ َِّمل ْن َخ َ إن ِِف َذلِ َ نحوي ًا بسهولة ،ومن تأمل قوله تعاىلَّ { :
وع َّله النَّاسَ ،و َذلِ َك َي ْو ٌم َّم ْشهو ٌدَ ،و َما ن َؤ ِّخره إِالَّ ِألَ َجل
َمم ٌ اآلخ َر ِةَ ،ذلِ َ
ك َي ْو ٌم َّ ْ ِ
93
ِ ِ ِ ِِ ِ ِ
ين َشقو ْا؛ َّم ْعدودَ ،ي ْو َم َي ْأت الَ َت َك َّلم َن ْف ٌس إِالَّ بِإِ ْذنهَ ،فمنْه ْم َشقي َو َسعيدٌ َ ،ف َأ َّما ا َّلذ َ
ِ َّار َْلم فِيها زَفِري و َش ِه ٌيقَ ،خالِ ِد ِ ِ
الس ََم َوات َواألَ ْرض ،إِالَّ َما ين ف َيها َما َد َامت َّ
َ ٌ َ َففي الن ِ ْ َ
ين فِ َيهاَ ،ما ك َفع ٌال َِّملا ي ِريد ،و َأما ا َّل ِذين س ِعدو ْا؛ َف ِفي َْ ِ ِ ِ
اجلنَّة َخالد َ َ َ َّ ك ،إِ َّن َر َّب َ َّ َشاء َر ُّب َ
َمذوذ} ،عرف أن هذا الس ََم َوات َواألَ ْرض ،إِالَّ َما َشاء َر ُّب َ ِ
كَ ،ع َطاء غ ْ َ
َري َ ْ َد َامت َّ
إخبار من اهلل تعاىل عن أحوال املؤمنني والكفار ،وأهنم سيكونون خالدين يف تلك
الفرتة التي حررناها.
ومن تأمل اآليتني؛ وعرف املقابلة حق املعرفة ،اتضح له ما نقول،
وابتعدت عن نفسه كافة الشبهات.
مع أن لالستثناء يف هذه اآليات؛ احتَّمالت أخرى ،لعلنا نكتب فيها بحث ًا
ضافي ًا عىل حدا ،نفصل فيه الوجوه ،ونبني الراجح؛ من املرجوح.
ولكن اقترصنا هنا عىل هذه االحتَّمالت؛ ألهنا حمل الدعوى ،فيتحقق هبذا
التخريج ،ثبوت التأبيد؛ مع حتقيق االستثناء ،لبعض الفرتات ،التي ال ينايف
إخراجها التأبيدَ .
ُ
94
دعوى عدم داللة{ :ما دامت السموات واالرض} عىل التأبيد
قد يزعم زاعم بومهه؛ أن قوله تعاىل{ :ما دامت السموات واألرض}
وتقييد التخليد هبا؛ غري دال بذاته عىل التأبيد ،بل عىل مدة طويلة ،ثم تنقطع مدة
بقائهَّم.
وهذا الوصف غري موجود يف آية الذين شقوا ،واملوجود فيها{ :إن ربك
فاجلواب :لو كان قوله تعاىل{ :ما دامت السموات واألرض} ال يعني
أكثر من املدة؛ التي تبقى فيها السموات واألرض ،وأهنا مدة متناهية ،ملا كان قوله
تعاىل{ :عطاء غري َمذوذ} يفيد أكثر؛ من أن عطاءه يف هذه املدة غري جمذوذ،
أي :غري مقطوع.
ال؛ عىل استمرار وجود اجلنة ،كَّم ال ُّ
تدل عىل استمرار فال ُّ
تدل اآلية أص ً
النار ،سواء بسواء ،ولكنا نعلم أن هذا التعبري ،يفيد التأبيد واالستمرار ،كَّم
قررناه ُ
قبل.
95
وبيان كيفية إفادته استمرار البقاء:
7ـ إما من استمرار بقاء السموات واألرض ،بصورة جديدة ِف يوم
القيامة ،كَّم تفيده اآليات املذكورة أدناه.
اح ِد
ض والسَموات وبرزو ْا هللهِ ا ْلو ِ
َ َََ قال تعاىلَ { :ي ْو َم ت َبدَّ ل األ ْرض غ ْ َ
َري األَ ْر ِ َ َّ َ َ َ
ور َف َف ِزع من ِِف السَمو ِ
ات َو َمن ِِف َّ َ َ َ َ ار}( ،إبراهيمَ { ،)20/و َي ْو َم ين َفخ ِِف ُّ
الص ِ ا ْل َق َّه ِ
(الزمر.)50/
ومن املعلوم أن التخليد للمؤمنني والكفار يف اجلنة والنار؛ إنَّم يكون بعد
إعادة خلق السموات واألرض ،عىل النحو املذكور يف هذه اآليات ،إذ قبل ذلك؛
ال ختليد فيهَّم؛ وال خلود ،بل ال دخول للناس فيهَّم أص ً
ال ،ومل يرد يف الرشيعة أنه
بعد إعادة خلقهَّم وإجيادمها ،يفنيهَّم اهلل تعاىل ،ويقطع وجودمها ،بل تقرر يف
النصوص لبقاء والتأبيد هلَّم مع ًا.
وهذا هو املقصود ما دامت السموات واألرض يف هذه املقامات ،ألن
اجلنة والنار ،وإن كانتا موجودتني قبل اليوم اآلخر ،عىل قول أهل السنة ،لكن ال
ختليد فيهَّم؛ ألحد من املكلفني ،فالتخليد املذكور إذن؛ إنَّم يراد به بعد إعادة
96
إنشائهَّم مرة أخرى ،وتسميان سموات؛ وأرض ًا ،كَّم ترى بعينك ،وإن مل نعرف
حقيقتهَّم التفصيلية ،فمعرفة أصل وجودمها آنذاك ،واستمرار الوجود ،وكون
ذلك معلوم ًا من الدين بالرضورة ،يكفي إلفادة القارئ؛ أن من كان خلوده يف
اجلنة والنار مستمر ًا مدة بقاء السموات واألرض الدائمتني ،فإن خلود أهل اجلنة
يف اجلنة؛ بال خروج ،وال انقطاع ،وخلود أهل النار يف النار كذلك؛ بال خروج،
وال انقطاع ،يكون هو املفهوم الظاهر ،ملن كان من املنصفني ،ال من املتعنتني،
املتعسفني.
4ـ أو من صريورة هذا التعبري مث ً
ال؛ يراد به التأبيد ،كَّم وضحه الطربي
فيَّم نقلناه عنه ،وذكره غريه من املفرسين ،ووافقوه عليه.
وعىل القولني؛ فالظاهر من األسلوب والتعبري ،أن البقاء يف اجلنة مؤ ابد؛
غري منقطع ،وأن معرفة ذلك ال تتوقف عىل قوله تعاىل{ :عطاء غري َمذوذ}.
وكنا نريد ذكر كالم بعض املفرسين هنا مع شهرته ،ولكن رأينا ما أوردناه
كافي ًا يف املقام ،ولعلنا نعود إليه الحق ًا.
ني فِ َيهاِ
ني َمآب ًاَ ،البِث َ
ِ ِ ثالث ًا :قوله تعاىل{ :إِ َّن جهنَّم كَان ْ ِ
َت م ْر َصاد ًا ،ل ْل َّطاغ َ َ َ َ
ْشاب ًا ،إِ َّال َمحِي ًَم َوغ ََّساق ًاَ ،جزَاء ِو َفاق ًا}، َأح َقاب ًاَّ ،ال يذوق َ ِ
ون ف َيها َب ْرد ًا َو َال َ َ َ ْ
(النبأ43/ـ.)45
97
ٍ
بضعف شديد عىل الفناء ،ولكن من جعل د .عدنان هذه اآلية؛ دالة
الظاهر ،أن كلمة أحقاب ًا ،ال تدل بنفسها؛ عىل انتهاء اللبث ،ولذلك يمكن تقييدها
بعدد معني ،وبالتأبيد ،كأن تقول :أحقاب ًا ثالثة ،وأحقاب ًا مؤبدة مستمرة.
وما كان كذلك؛ ال يقال إنه دليل يف نفسه ،عىل أحد االحتَّملني ،بل يقال
إنه حيتملهَّم ،وفرق بني األمرين عظيم.
ولذلك قال :إن الداللة ال تتم إال بناء عىل مفهوم العدد ،وهو قول
ضعيف يف ًأصول الفقه.
ومع ذلك تراه يتمسك به ،بل إن كل ما رأيناه يتمسك به ضعيف
ضعيف ،ومن الغريب أن يعرتف بضعفه ثم يرص عىل التمسك به.
وأيض ًا :فإن (أحقاب ًا) نكرة ،ومجع ،صحيح أن االسم (حقب) يدل عىل
عدد من السنني ،واجلمع معدود ،ولكنه غري حمدد ،واألحقاب مجع قلة ،يتناول
من ثالثة إىل عرشة ،والنكرة من املطلق يف أصول الفقه ،واملطلق يقبل العموم
البديل كَّم هو معلوم يف األصول ،فيصح عندئذ أن يكون معنى اآلية :أي البثني
أحقاب وهكذا ،وال دليل عىل انتهاء األحقاب برمتها.
ٌ فيها أحقاب ًا ،وبعدها
حل ْقب عدد ما من السنني ،فكونه
ولذلك فال يعارض هذا ما علم من أن ا ُ
عدد ًا ال يستلزم نفي ما عداه ،وأما اللفظ فهو نكرة ،بصيغة اجلمع ،يف مقام
التهديد والوعيد.
98
ولذلك رأينا أعاظم املفرسين من املتقدمني واملتأخرين؛ ال يقولون إن
كون احلقب عدد ًا معين ًا ،وكون اجلمع معدود ًا ،يستلزم وجود حد حمدود ،تقف
مر نقل بعض كالمهم.
األحقاب املذكورة هنا ،وقد ا
ُ عنده
ثم اعرتافه بأن مفهوم العدد ضعيف ،ومع ذلك يتمسك هبذا الضعيف،
وجيعله مقابل املحكم الظاهر؛ من اآليات الثالثة ،التي جعل هذه اآلية تقابلها،
وتفتح للكفار باب الدخول إىل اجلنة ،بعد أن يتطهروا ويصريوا مؤمنني ،وزاد
مر اجح ًا!! ،لعمري إنني مل أكن أتوقع منه
عىل ذلك فجعله حاك ًَّم عليها مقدم ًا َ
السري يف هذه السكة من طرق االستدالل ،وواهلل إن هذا ال يستحق أن يكون
استدالالً ،بل هو عبارة عن طرق ملفقة ،يراد منها أن توصله إىل غاية يريدها
وهيواها ،أما أن يكون الدليل الراجح قاده إليها ،فال وألف ال.
وبذلك يبطل ما ا ّدعاه من املقابلة الثالثية التي تفرد هبا ،ومل جيد أحد ًا قال
هبا ،ومل يتنبه إىل أن عدم وجود أحد يقول هبا ،ربَّم يكون أعظم دليل عىل ضعفه،
وعدم وجود اعتبار هلا ،خصوص ًا يف هذا املقام العظيم ،الذي هو أعظم من الدنيا
وما فيها.
99
األمر الرابع :متسكه بالفرق بني (خمرجني) و(خارجني)
زعم أن هناك فرق ًا يف هذا املقام بني (خمرجني) يف قوله تعاىل يف حق
ِ
ب َو َما هم ِّمن َْها بِمخْ َر ِج َ
ني}( ،احلجر،)20/ املؤمنني{ :الَ َي َم ُّسه ْم ف َيها ن ََص ٌ
ِ
وبني (خارجني) يف قوله تعاىل يف حق الكفارَ { :و َق َال ا َّلذ َ
ين ا َّت َبعو ْا َل ْو َأ َّن َلنَا ك ََّر ًة
رسات َع َل ْي ِه ْم َو َما هم َ َربؤو ْا ِمنَّا ك ََذلِ َ
ك ي ِرَيِم اهلله أ ْع ََم َْل ْم َح َ َ
َف َنت َ ِ
َربأ منْه ْم ك َََم ت َ َّ
َ َّ
ُيرجو ْا ون َأن َ ْ َّار}( ،البقرة ،)353/وكذا قوله تعاىل{ :ي ِريد َ ني ِم َن الن ِبِخَ ا ِر ِج َ
أحد يمكن أن يقوم بإخراج أهل اجلنة من اجلنة{ :وما هم منها بمخرجني}.
أما (خارجون) ُّ
فتدل عىل أهنم يريدون أن ََيرجوا بأنفسهم وإرادهتم،
بخارجني منها}.
قال( :ولو قال مرة{ :وما هم منها بمخرجني} ،يف حق الكفار؛ النقطع
األمل).
100
وقال :إن هذا الفرق مما هداه اهلل تعاىل إليه ،ومل يسبق إليه ،إنَّم هو من
اجتهاده!.
ثم سأل سؤاالً حاصله( :قد يورد بعضهم قوله تعاىل يف آخر اجلاثية:
ق ّيده باليوم{ :فاليوم ال ُيرجون} أمل أقل لكم هذا كالم احلق ،ال إله إال هو،
(فاليوم) ،ملاذا قال( :فاليوم) تعرفون ملاذا؟! ،ألنه يبدو واهلل تبارك وتعاىل ـ وهو
أرحم الرامحني؛ وخري الغافرين ـ أعلم وأحكم ،أن عذاب كل من دخل النار ،من
هؤالء الكافرين واملرشكني هو يوم ،لكن هذا اليوم؛ كَّم قال بن القيم ـ ابن القيم
قال هذا ـ هذا اليوم؛ قدّ رته نصوص صحيحة ،بخمسني ألف سنة ،ورد عن
رسول اهلل ،أن هذا اليوم مخسون ألف سنة ،يساوي مخسني ألف سنة ،انتهى هذا
هو.
يوم ال أكثر من ذلك ،ملاذا؟ ،ملاذا أضاف اهلل العذاب إىل يوم؟ ،فكأن اهلل
يرسل إلينا رسالة من وراء وراء؛ يقول :عذاب هؤالء؛ ال جياوز يوم ًا من أيامي،
إما أن يكون هذا اليوم ـ وهذا األرجح كَّم قدرته النصوص الصحيحة أحاديث
101
الصحاح عن رسول اهلل ـ يساوي مخسني ألف سنة ،ـ وهذا يشء خميف جد ًا ـ،
وإما أن يكون يوم ًا من أيام اهلل{ :إن يوم ًا عند ربك؛ كألف سنة مما يعدون}).
يريد أن يقول :إنكم اليوم ال ُخترجون من النار ،ولكن غد ًا أنا أخرجكم
منها ،هكذا يفهم عدنان إبراهيم هذا النص.!!...
وقال د .عدنان عن أهل اجلنة( :إن اهلل مل يؤمنهم من يشء ،لن يفعلوه
أبد ًا ،أي :أن َُيرجوا ،ولكن أمنهم مما َيافونَ ،يافون من ماذا؟ ،أن َُيرجوا كَّم
قال جهم بن صفوان ،أو أن يفنَوا يفنيهم اهلل ،أو كَّم قال أبو اْلذيل العالم تنعدم
حركاهتم ،ويصبحون كالعدم.
قال اهلل ْلم :أنا أمنتكم من أن أخرجكم ،لن تتعلق إراديت ومشيئتي يوم ًا؛
من األبد والدهر؛ أن أخرجكم منها ،اهلل أكرب؛ ما أعظم كرم اهلل ،وسكت اهلل عن
102
فالفرق بني (خرج) املسند للفاعل ،و(أ ِ
خرج) املسند للمفعول ،واضح
ظاهر كالشمس ،فال داعي للمبالغة يف إظهار ذلك ،وكأنه وقع عىل نكتة خفية؛ ال
يدركها إال املتعمقون املدققون.
ولكنا نقول له :لو تأملنا قلي ً
ال زيادة عىل تأملك ،لعرفنا أن صيغة:
(خمرجني) ،تتضمن نوع ًا من القرس؛ الواقع عىل إرادة الذي يتسلط عليه اإلخراج،
ولكن صيغة( :خارجني) املشتقة من خرج ،تطلق عىل من خرج بإرادته ،أو صدق
عليه فعل اخلروج؛ ولو قرس ًا.
خارج ،فمن وقع عليه اإلخراج
ٌ وذلك ألننا نقول :أخرجتك؛ فأنت
َيرج ،ومن َيرج؛ فهو خارج ،ويبقى الكالم بعد ذلك :عىل أن اخلروج هل هو
بإرادته؛ أو قرس ًا عنه ،حيتاج إىل قرينة؟!.
فلو تسلط النفي عىل (خارجني) الستلزم ذلك نفي كوهنم خارجني
مطلق ًا ،سواء كانوا خارجني بإرادهتم ،أم كانوا خارجني غصب ًا عنهم.
103
الغري.
ممنوعني من اخلروج ،الذي كانوا يتوقون إليه دائ ًَّم ،وحياولونه مرار ًا؟{ ،ك َّل ََم
يق}، احل ِر ِ
اب َْ ِ ِ ِ ِ َأ َرادوا َأن َ ْ
ُيرجوا من َْها م ْن غَ يم أعيدوا ف َيها َوذوقوا َع َذ َ
104
َّار ا َّل ِذي كنتم بِ ِه تك َِّذب َ
ون}، اب الن ِ أ ِعيدوا فِ َيها َو ِق َ
يل َْل ْم ذوقوا َع َذ َ
(السجدة.)40/
فالذي منعه عنهم؛ حصول اخلروج منهم مطلق ًا ،وهذا يستلزم بالرضورة
عدم حصول اإلخراج ،ألن اإلخراج يف حالتهم؛ يستلزم اخلروج اإلرادي
املرغوب فيه بالرضورة ،والذي يطلق عليه اتفاق ًا ،إهنم حال السَّمح هلم باخلروج،
فهم خارجون.
ولكنا نعلم أن اهلل تعاىل نفى عنهم أن يكونوا خارجني من النار.
إذن :اإلخراج يستلزم اخلروج بالرضورة يف حالة الكفار ،ألن بقاءهم يف
النار غري مرغوب هلم.
بخالف اإلخراج ـ لو وقع ـ للمؤمنني من اجلنة ،فإنه سيستلزم بالرضورة
مضادة إرادهتم ورغبتهم واختيارهم ،ألن بقاءهم فيها مرغوب فيه منهم.
إذن :يتبني لنا من هذا التحليل ،أنه يدل عىل خالف ما يريد نايف بقاء النار.
يعني :أن جمرد نفي اهلل تعاىل؛ حتقق كوهنم خارجني من النار ،يستلزم
بالرضورة ،نفي وقوع إخراجهم.
ألن احلاصل ألهل النار ،ليس هو إخراج غريهم إ ّياهم ،بل حماولتهم هم
اخلروج ،فجاء النفي بصيغة الفاعل املفيدة للدوام االستمراري ،لنفهم منها أن
نفي خروجهم من النار دائم.
105
ففهم من ذلك عدم وقوع إخراج غريهم إياهم ،وذلك بخالف النفي
املتعلق باملؤمنني ،فقد جاء نفي كوهنم ُخمرجني ،أي :إن املنفي هو وجود أحد
يتدخل ويقرسهم عىل اخلروج ،ضدّ رغبتهم البقاء يف اجلنة.
وليس ذلك :ألهنم َيافون أن َيرجهم اهلل تعاىل ،فإهنم آمنوا بوعده
وخربه ،الذي ال يكذبه بأهنم خالدون فيها أبد ًا ،وجمرد نفي املُ ِ
خرج يف حالة أهل
اجلنة ،سيستلزم منا أن نفهم عد َم وجود اخلروج ،ال لنفس الصيغة ،بل ألن إرادة
اخلروج ال حتصل هلم ملا جيدونه من رغبة يف البقاء يف اجلنة ،وشوق ومتسك هبا
عظيم.
بخالف ما جيده أهل النار الكفار ،من كراهية ،وخوف ،ورغبة عنها ،ويف
اخلروج منها.
فاالحتَّمل الوحيد؛ ألن َيرجوا من النار ،إنَّم هو وجود نصري هلم من
دون اهلل تعاىل ،وهو غري موجود ،أو أن حياولوا اخلروج بأنفسهم ،وسيحاولون
ذلك مرار ًا ،ولكنهم كلَّم أردوا اخلروج منها ،أعيدوا فيها.
تم أيض ًا نفي كوهنم خارجني من النار ،أال يكفي ذلك إلفادة بقائهم
فإذا ا
فيها؟ ،وقطع احتَّمل إخراجهم منها أيض ًا؟ ،عند أهل العقل ،والتدبر
الصحيح؟!.
هذا هو التعليل الالئق بالقرآن ،وهو امل اط ِر ُد مع قواعد اللغة ولطائفها،
نفسه قلي ً
ال لدركها ،ال أن يكتفي بسوق التي كان ينبغي بالدكتور عدنان أن جيهد َ
106
القدر الذي يعرفه من قواعد اللغة ،ويقرسها قرس ًا ،ويلوي أعناقها ،للوصول إىل
ما يرغب بالوصول إليه! ولو بالتعنت والتحكم!.
وإذا بطل ما متسك به من الفرق بني الكلمتني ،وظهر أن النفي الوارد
يبق علينا إال أن نبني فائدة ذكر اليوم يف
عليهَّم يدل عىل خالف ما أراده هلَّم ،مل َ
107
بيان فائدة ذكر اليوم
جاء يف سورة اجلاثية ذكر اليوم؛ ويف غريها ،ويف أغلب املواضع يراد به
اليوم اآلخر ،الذي ال يوم بعده:
ِ ِ
منها قوله تعاىلَ { :وت ََرى ك َّل أ َّمة َجاث َي ًة ك ُّل أ َّمة تدْ َعى إِ َىل كت ِ َ
َاِّبا ا ْل َي ْو َم
ين}( ،اجلاثية ،)12/وهاتان َي ْو ِمك ْم َه َذا َو َم ْأ َواك ْم النَّار َو َما َلكم ِّمن ن ِ ِ
َّاِص َ
اآليتان يف اجلاثية أيض ًا ،فهل يستفاد منهَّم؛ أن اهلل تعاىل سيتذكر الكفار غد ًا،
وسيكون هلم غد ًا نارصون ينرصوهنم؟!.
وقد أطلق يف اآلية؛ ويف غريها ،أهنم ال جيزون إال ما كانوا يعملون ،أي:
ما كانوا يعملون يف الدنيا ،ال بَّم يلقونه من العذاب يف اآلخرة.
فكيف يشري القائل بالنار إىل أن الكفار؛ ربَّم سيؤول هبم األمر إىل
الدخول يف اجلنة! ،وما دام املراد من اليوم هو( :اليوم اآلخر) ،فكيف تسنى من
ذكر اليوم أن يفهم د .عدنان بوجود يوم بعد ذلك اليومَ ،يرجهم اهلل تعاىل فيه من
النار ،فاليوم اآلخر يطلق عىل الفرتة املمتدة؛ منذ بدء يوم القيامة ،إىل ما ال هناية
له.
ِ ين الَ ي ْؤ ِمن َ ِ ِ
هلل
ون َما َح َّر َم ا ه ون بِاهللهِ َوالَ بِا ْل َي ْو ِم اآلخ ِر َوالَ َ
ُي ِّرم َ { َقاتلو ْا ا َّلذ َ
َاب َحتَّى ي ْعطو ْا ِْ ِ ِ ون ِدين َْ ِ ِ
اجل ْز َي َة َعن َيد ين أوتو ْا ا ْلكت َ احل ِّق م َن ا َّلذ َ َو َرسوله َوالَ َيدين َ َ
ون بِاهللهِ وا ْليو ِم ِ
اآلخ ِر ين ي ْؤ ِمن َ ون}( ،التوبة{ ،) 45/الَ يست َْأ ِذن َ ِ وهم ص ِ
َ َْ ك ا َّلذ َ َْ اغر َ َ ْ َ
108
ِ ِ ِ ِ َأن ِ
ني}( ،التوبة ،)22/وإذا كان اليوم َياهدو ْا بِ َأ ْم َواْل ْم َو َأنفس ِه ْم َواهلله َعل ٌ
يم بِاملْتَّق َ َ
اآلخر ،فال يوم بعده ،فيبطل أصل الوهم الذي تعلق به عدنان إبراهيم تبع ًا البن
قيم اجلوزية.
ين}( ،الزمر ،)31/فاهلل تعاىل يقول( :وال يزكيهم) ،وعدنان إبراهيم ِِ
َخالد َ
يقول( :يطهرهم من خبث ودنس ونجاسة الرشك والكفر واملعصية) ،واجلنة ال
يدخلها إال طيب ،وقد صاروا طيبني اآلن ،بعد ختليصهم من الدنس والرشك
والكفر وبعد تطهريهم!.
كَ ،أ ْوون إِالَّ َأن ت َْأتِيهم املَْآلئِكَةَ ،أ ْو َي ْأ ِ َِت َر ُّب َ
واهلل تعاىل يقولَ { :ه ْل َينظر َ
ك ،يوم ي ْأ ِِت بعض آي ِ ِ
َتات َر ِّب َك؛ الَ َين َفع َن ْفس ًا إِ َيَمَّنَا ََل ْ تَك ْن َآمن ْ َ َي ْأ ِ َِت َب ْعض آ َيات َر ِّب َ َ ْ َ َ َ ْ
ون}( ،األنعام،)390/ ت ِِف إِ َيَم َِّنَا َخ ْري ًا ،ق ِل انتَظِرو ْا إِنَّا منتَظِر َ
ِمن َق ْبلَ ،أ ْو ك ََس َب ْ
109
نص يف أن اإليَّمن والتطهر املزعوم؛ نتيجة التعذيب بالنار ،ال ينفع؛ أي:
وهذا ٌّ
نفس مل تكن آمنت من قبل يف احلياة الدنيا.
ال يقول :بل ينفعها ،وال يعود هناك دا ٍع هلل لكي يعذهبم،
فَّم بالنا نسمع قائ ً
ألنه إنَّم يعذهبم ألجل الكفر والفساد ،الذي يتلبسون به ،وقد زال عنهم ،فال بدا
اب}( ،ص،)35/ وقوله{ :و َقالوا ربنَا عجل َّلنَا ِق َّطنَا َقب َل يو ِم ِْ
احل َس ِ ْ َْ َ َّ َ ِّ َ
ِق َّطنا :أي الكتاب ،والقط :الصحيفة التي أحصت كل يشء ،يطلبون التعجيل قبل
يوم احلساب لينتهوا منه ،ألن احلساب بعده عذاب؛ ال هناية له.
وقد يضاف اليوم اآلخر؛ لبعض ما حيصل فيه ،كيوم احلساب ،ويوم
التغابن ،ويوم اخلروج ،ويوم اخللود ،ويوصف بأنه يوم مقيم وعظيم وحميط
وعقيم أي ال يوم بعد وال ليل.
110
ين َك َفروا َال َت ْعت َِذروا ا ْل َي ْو َم إِن َََّم َْتز َْو َن َما كنت ْم َت ْع َمل َ
ون}، ِ
{ َيا َأ ُّ ََيا ا َّلذ َ
(التحريم ،)3/فهل يعني ذلك اعتذروا غدا ال اليوم.
ون ِمنْ َهاَ ،و َال ه ْم ي ْس َت ْعتَبون}، وذلك يف قوله تعاىلَ { :فا ْل َي ْو َم َال ْ
ُي َرج َ
(اجلاثية ،)19/حيث اعتمد عىل مفهوم املخالفة من ذكر اليوم ،بافرتاض وجود
غد ًا َيرجون فيه.
ِ ِ
وقوله تعاىلَ { :فا ْل َي ْو َم َال َي ْملك َب ْعضك ْم ل َب ْعض؛ َّن ْفع ًا َو َال َ ه
َض ًاَ ،ونَقول
111
احد ًا؛ َوا ْدعوا ثبور ًا كَثِري ًا}،
وقولهَ { :ال تَدْ عوا ا ْليوم ثبور ًا و ِ
َ َْ َ
(الفرقان ،)32/هل يفيدهم أن هلم غد ًا أن يدعوا ثبور ًا واحد ًا فقط.
ون}( ،املؤمنون ،)59/هل وقولهَ { :ال َ ْجت َأ ُروا ا ْل َي ْو َم إ انكُم ِّمناا َال ت َ ُ
ُنرص َ ِ
يفيد الكفار؛ وال شقي ًا ،أهنم إن جأروا غدا فإهنم س ُينرصون؟! ،أو أن اهلل لن
ينرصهم اليوم ،بل سينرصهم بعد ذلك اليوم ،الذي ال بعدَ له ،إذ هو آخر.
ون}( ،الزخرف ،)50/هل نفهم من ذلك ،عىل طريقته املقرتحة ،أهنم ال
َ َْتزَن َ
َيافون وال حيزنون اليوم؟! ،بل َيافون وحيزنون غد ًا؟!.
تأمل قول أصحاب اجلنة الذين؛ ابتالهم اهلل إذ قالوا{ :فانطلقوا وهم
يتخافتون ،أن ال يدخلنها اليوم عليكم مسكني} ،فهل تراهم أرادوا ال يدخلنا
اليوم مسكني ،بل يدخلها غد ًا! ،أم أرادوا اليوم وغدا وهكذا بال انقطاع!.
112
قال َمازف ًا( :قال العالمة ابن القيم ـ رمحه اهلل تعاىل ـ يف حادي األرواح:
وجدنا أن اهلل تبارك وتعاىل يف كتابه؛ كلَّم أوعد هؤالء الكافرين ،والشاردين،
واملرشكني؛ بعذاب اآلخرة ـ أهيا اإلخوة ـ ويف مواضع كثرية جعله مضاف ًا إىل يوم،
فهو( :عذاب يوم عظيم)( ،يوم عقيم)( ،يوم أليم)؛ ملاذا يوم ،يوم ،يوم؟! ،أنظر
أنظر ،هذا من حسن تدبره رمحه اهلل تعاىل ،قال :ومل نجد اهلل تبارك وتعاىل مرة
واحدة؛ جعل نعيم أهل اجلنان نعيم يوم ،وال مرة ،وال مرة ،أضاف النعيم إىل
يوم).
113
اجلن َِّة ا ْل َي ْو َم ِِف شغل
نقد تأويله املعارض َة بقوله تعاىل{ :إِ َّن َأ ْص َحا َب َْ
َفاكِه َ
ون}( ،يس.)55/
لكن أهنم {اليوم ِف شغل فاكهون} هذا ليس إضافة النعيم إىل
الصنعاين ـ أنا قرأت رده طبع ًا ـ ،هنا
ه اليوم...انتبهوا ،وهنا أخطأ العالمة األمري
كبا به جواده ،كبا به جواد التبيان والدليل مل يصب املحز ،قال هنا :اهلل قال نفس
اليشء ،أن أصحاب اجلنة اليوم يف شغل فاكهون ،فرق كبري بني أن يكون اليوم يف
شغل؛ وغد ًا يف شغل ،وبعد غد يف شغل ،وإىل أبد األبيد؛ يف شغل ،وبني أن جيعل
الصنعاين أخطأ رمحة اهلل عليه ،نعم لكل جواد
ه نعيمهم؛ نعيم يوم ،انتبهوا هنا
كبوة ،ويبقى كالم ابن القيم عىل اجلادة ،يبقى قوي ًا ظاهر ًا ،ملاذا أضاف اهلل العذاب
إىل يوم؟ ،فكأن اهلل يرسل إلينا رسالة من وراء وراء ،يقول عذاب هؤالء ال جياوز
يوم ًا من أيامي).
نقول له :إنَّم أضاف اهلل تعاىل العذاب إىل اليوم ،وقد عرفنا أن املراد باليوم
اليوم اآلخر ،وهو لقب ال مفهوم له ،ألن العذاب واقع يف اليوم اآلخر ،ومعلوم
أن خالق العذاب هو اهلل تعاىل ،وهو عذاب اهلل ،وإذا ربط العذاب بيوم وكان
ذلك اليوم مقيَّم ،وغراما وعقيَّم ال يوم بعده ،فمن أين يفهم من إضافة العذاب
لليوم أن العذاب يكون مدة يوم واحد فقط! ،من بني أيام أخرى بعده ،ال يكون
فيها عذاب ،مل ال يكون العذاب مضاف ًا لليوم اآلخر ،الذي ال يوم بعده ،كَّم هو
ظاهر ،مما يستلزم بقاء العذاب ،وعدم توقيته بالفرتة املقرتحة.
114
وأيض ًا؛ فاليوم قد يطلق ،ويراد به مطلق الزمان ،قل ،أو كثر من ليل ،أو
فلم تفرتض أن اليوم
هنار ،كَّم ذكره السمني احللبي يف عمدة احلفاظ (َ ،)195/2
يراد يوم واحد معني منقطعٍ ،
منته ،دون هذا املعنى.
باليوم هنا يوم القيامة أيض ًا ،بطوله ،ومع حلاظ عدم انقطاعه ،وهذا نص رصيح
ذكر!؟ واملراد باليوم هنا يوم
واضح يف خالف ما زعمه ،وإن حاول تأويله بَّم َ
القيامة ،أي اليوم اآلخر ،الذي هو علم والعلم ال مفهوم له ،وال يوم بعدَ ه ،وقد
بني األعالم املفرسون من السلف ،أن الش ُغل هو النعيم ،كَّم روي عن َماهد؛
واحلسن ،قال البيضاوي{( :إِ َّن أصحاب اجلنة اليوم ِف شغل فاكهون}
متلذذون يف النعمة من الفكاهة ،ويف تنكري {شغل} وإهبامه تعظيم ملا هم فيه
من البهجة والتلذذ ،وتنبيه عىل أنه أعىل ما حييط به األفهام ويعرب عن كنهه
الكالم ،وقرأ ابن كثري ،ونافع ،وأبو عمرو {ِف شغل} بالسكون).
لش ُغل :العارض
الش ْغل؛ وا ُّ
وقد جاء يف املفردات للراغب األصفهاين ( :ا
الذي ُيذهل اإلنسان( ،إن أصحاب اجلنة اليوم ِف شغل فكهون) ،و ُقرئُ :ش ْغل،
ٌ
مشغول) ،وهلذا املعنى فقد ورد عن السلف تفسريهم هذه اآلية: وقد ُش ِغ َل فهو
يف شغل؛ عَّم يلقى ُ
أهل النار.
115
ا
املعذبني يف النار وقال السمني احللبي( :أي يف تشاغل عن أهليهم
ينسوهنم فال يذكروهنم ،وقيل :يف اشتغال باللذات عكس حال أهل الدنيا ،فإن
َ
شغلهم يف كد الدنيا وتعبها ،وال لذة منها إال بعد مشقة السعي يف حتصيلها).
فظهر أن التأويل الذي اقرتحه هلذه اآلية ليهرب من معارضتها ملا اخرتعه
من داللة فائدة اليوم مبني عىل تصوره أن اآلية تتحدث عن فرتة زمانية معينة،
وهي يف احلقيقة تتكلم عن وصف أحوال أهل اجلنة يف اليوم اآلخر ،اخلالد ،وإن
أمكن إطالق األيام عىل فرتات منه ،ولكنه بمجمله يوم واحد كَّم نالحظ يف
القرآن ،واحلكم تعلق به من اجلهة األوىل ،ال من حيث اشتَّمله عىل فرتات كثرية
متوالية ال إىل هناية ،فإن إطالق اليوم مستغرق جلميع أجزائه.
خالصة :بعد هذه اجلولة يف القرآن العظيم ،الستعَّمالت اليوم اآلخر،
منكر ًا ،ومعرف ًا ،ومضاف ًا ،وما ختلل ذلك من إشارات تكفي إلبطال زعم نايف بقاء
طهرين من الكفر ،واألدناس ،وآثار
النار ،وانقالب أحواهلم إىل أن يكونوا م ا
املعايص ،فأين يذهبون بعد تطهريهم؟!.
نقول :إنا ما زلنا نالحظ أن طرق االجتهاد!؛ التي يتبعها د .عدنان هي
أضعف الطرق ،وهو يتمسك بأدنى وهم ،ويسارع إىل ترجيحه وتقديمه؛ عىل
الدالالت الظاهرات القاطعة! ،ال ليشء؛ إال ألنه يريد إقناع املالحدة القائلني إننا
ال نؤمن باهلل ،وال ننساق له ،وال نخضع إال إذا تعهد لنا أنه لن يعذبنا أبد الدهر،
ولن يبقينا خلدين يف النار ،أما إذا فعل ذلك ،أو أوعد عىل ذلك ،فإننا نكفر به،
116
فإن ذلك ال جيوز له ،وال يستحق أن يكون إهل ًا إن قام به! ،هذا هو املنطلق الذي
َيضع له د .عدنان ،ويعتقده حجة ظاهرة ،وغفل عن أن اهلل تعاىل{ :فعال ملا
يريد} كَّم رصح يف غري موضع ،وإدخال املؤمنني اجلن َة بفعله وإرادته ،كَّم أن
النار بفعله وإرادته ،ال دافع له؛ وال موجب عليه ،إال اختياره جل
إدخال الكفار َ
شأنه ،وما يريدونه ليس إال حتجري ًا عىل الفاعل املختار.
فانساق يف حواره مع املالحدة؛ إىل هذه احلجة التي عجز عن دفعها ،إال
بإنكار الواضحات بأساليب واحتجاجات هابطة ،ال تقوى عند أدنى نظر،
ويتمسك باملتشابه من القرآن ،مؤوالً له حسب رغبته وهواه؛ بال دليل ظاهر،
ويقدمه عىل املحكم الظاهر ،وكنا نتمنى أال يفعل ذلك ،ويتأنى قلي ً
ال؛ واهلل!.
117
األمر اْلامس :متسكه بروايات وآثار ضعيفة وغري ظاهرة الداللة
متسك نايف بقاء النار؛ بحجج ضعيفة فيَّم مىض ،وبدالالت واهية ،مقدم ًا
إ ّياها عىل األدلة الظاهرة القوية املحكمة.
وهو هنا يستأنف مسريته عىل النهج نفسه ،ويسارع إىل التمسك بآثار
ضعيفة ،وهو يعلم أهنا ضعيفة ،ومع ضعفها؛ فهي إما مؤولة ،أو مناقضة ،ملا هو
ظاهر حمكم.
فكان املنهج الصحيح يف النظر واالستدالل ،يقتيض منه أن ال يقدمها عىل
سواها ،بل يؤخرها إىل مستواها الالئق هبا ،ويفعل كَّم فعل األئمة العظام من أهل
السنة ،كاإلمام تقي الدين السبكي ،وغريه ،وال يقتدي باملبتدعة واملنحرفني إىل
هواهم وما يتومهونه كشف ًا.
ومن اخلطأ املنهجي أن يتصدى واحد؛ إلثبات خالف الظاهر ،واملحكم
من القرآن والسنة ،اعتَّمد ًا عىل نحو تلك الدالالت الضعيفة بل الباطلة.
وقد تعلق بآثار يعرف متام ًا أهنا ضعيفة واهية ،ال يصح ألحد أن يتمسك
هبا يف مثل هذا املقام ،وال أدري إذا كان حيتج بمثل هذه الروايات الضعيفة؛ عن
غري املعصومني ،واملعارضة للصحيح الثابت واملروي يف الكتاب والسنة ،فلم
يعرتض عىل الشيعة وغريهم من فرق اإلسالم ،عندما يتعلقون بَّم هو أقوى
بمراتب مما يتمسك به ،ويف مطالب أقل قدر ًا من هذه املسألة التي يعرتف
بخطورهتا وأصالتها.
118
ومن أعجب العجب؛ يف طريقة استدالله ،أنه اقتدى خطى ابن تيمية،
وابن قيم اجلوزية؛ عندما اعتربا جمرد سكوت عبد بن محيد عىل هذه الروايات
توثيق ًا هلا ،واعرتاف ًا هبا ،وأن للقول بالفناء حظ ًا من النظر.
وكان األوىل به أن يعلم أن عبد بن محيد وغريه ،ملا كانوا يعرفون هذه
الروايات ،ومرتبته يف معايري النظر واالجتهاد؛ فلم حيوجهم األمر إىل الرد عليها،
وقد فعل غريهم.
وربَّم مل يكونوا يتوقعون أن بعض الذين يدعون االجتهاد؛ سينخدعون
هبا.
قال األلويس يف تفسريه( :ومن الناس من متسك بصدر اآلية؛ أنه ال يبقى
يف النار أحد ،ومل يقل بذلك يف اجلنة ،وتقوى مطلبه ذاك ،بَّم أخرجه ابن املنذر،
عن احلسن ،قال :قال عمر( :لو لبث أهل النار يف النار كقدر رمل عالج ،لكان
هلم يوم َيرجون فيه).
وبَّم أخرج إسحق بن راهويه ،عن أيب هريرة؛ قال( :سيأيت عىل جهنم يوم
ال يبقى فيها أحد) ،وقرأَ { :و َس ِعيدٌ َف َأ َّما الذين َشقو ْا}( ،هود)305/اآلية،
وأخرج ابن املنذر ،وأبو الشيخ؛ عن إبراهيم؛ قال :ما يف القرآن آية أرجى ألهل
النار من هذه اآلية{ :خالدين فِيها ما دام ِ
ت ،السموات واالرض ،إِالَّ َما َشاء َ َ َ َ
ك}( ،هود ،)003 /قال :وقال ابن مسعود( :ليأتني عليها زمان تصفق فيه
َر ُّب َ
119
أبواهبا) ،وأخرج ابن جرير ،عن الشعبي؛ قال( :جهنم أرسع الدارين عمران ًا؛
وأرسعهَّم خراب ًا) ،إىل غري ذلك من اآلثار).
وقد نص ابن اجلوزي عىل وضع بعضها ،كخرب عبد اهلل بن عمرو بن
العاص( :يأيت عىل جهنم يوم ما فيها من ابن آدم أحد تصفق أبواهبا ،كأهنا أبواب
وأو ل البعض بعضها؛ ومر يشء من الكالم يف ذلك ،وأنت تعلم أن
املوحدين)ّ ،
خلود الكفار؛ مما أمجع عليه املسلمون ،وال عربة باملخالف ،والقواطع أكثر من أن
120
وليس ذلك من دأب العلَّمء ،ودأب العلَّمء التنقري عن معنى الكالم؛
واملراد به ،وما انتهى إلينا عن قائله ،فإذا حتققنا أن ذلك مذهبه واعتقاده ،نسبناه
إليه ،وأما بدون ذلك فال ،وال سيَّم يف مثل هذه العقائد ،التي املسلمون مطبقون
فيها عىل ٍ
يشء ،كيف ُي ْع َمدُ إىل خالف ما هم عليه ،ينسبه إىل جلة املسلمني ،وقدوة
املؤمنني وجيعلها مسألة خالف كمسألة يف باب الوضوء؟! ،ما أبعد َم ْن صنع هذا
عن العلم واهلدى!! ،وهذه بدعة من أنجس البدع ،أضل اهلل من قاهلا عىل
عل ٍم)اهـ.
وأما ما روي عن عمر بن اْلطاب رِض اهلل تعاىل عنه( :لو لبث أهل النار
ِف النار ،بقدر رمل عالج ،لكان ْلم عىل ذلك يوم ُيرجون) ،فاحلسن مل يسمع من
عمر ،قال السبكي( :وقد رأيت هذا األثر؛ يف تفسري عبد بن محيد ،يف موضعني يف
أحدمهاَ( :يرجون) ،ويف اآلخر (يرجون) ،ال ترصيح فيه ،فقد حيصل هلم رجاء
ثم ييأسون.
و(َيرجون) حيتمل أن يكون من النار؛ إىل الزمهرير ،وحيتمل أن يكون
ذلك يف عصاة املؤمنني ،فلم جيئ يف يشء من اآلثار إنه يف الكفار).
وأما ما زعم أن اجلرجري ينبت يف النار ،فهو ضعيف ،وليس مسند أمحد.
وأما ما ورد عن ابن مسعود رِض اهلل عنه؛ قال( :ليأتني عىل جهنم زمان
ليس فيها أحد ،وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاب ًا).
وعن أيب هريرة رِض اهلل عنه مثله.
121
فهذا كله ال يثبت ،وإن ثبت؛ فمعناه عند أهل السنة :أنه ال يبقى أحد من
أهل اإليَّمن من العصاة ،وال حيمل عىل الكفار ،ومتى كان قول بعض الصحابة
غري املسند ،وغري املوافق آليات القرآن خمصص ًا ،أو نافي ًا لظاهر القرآن.
وهذه اآلثار كلها عىل فرض ثبوهتا ،فال ُّ
تدل عىل فناء النار ،بل عىل بقائها،
والدعوى التي يدعيها صاحبنا؛ هي فناء النار ،فأين الدليل عىل الفناء املزعوم؟.
وانظر إىل لطف جواب السبكي؛ عىل من متسك بَّم نقل عن الشعبي ،من
قوله( :جهنم أرسع الدارين عمران ًا ،وأرسعهَّم خراب ًا) ،فقال( :أنا أعيذ الشعبي
من ذلك ،فإنه يقتيض خراب اجلنة) ،وذلك :ألن ظاهره أن ك ً
ال من اجلنة والنار
خترب ،ولكن الدار التي خترب أوالً هي النار ،وهذا القول باطل).
قال الصنعاين؛ يف رده عىل ابن تيمية( :واما قول شيخ اإلسالم يف صدر
املسألة؛ إن أبا سعيد اْلدري نقل عنه القول بفناء النار؛ فإنه استدل لذلك ،بأنه
قال أبو نرضة ،عن أيب سعيد ،أو قال :جابر أو بعض أصحاب النبي صىل اهلل عليه
وسلم( :اتت هذه اآلية عىل القرآن كله{ :إال ما شاء ربك إن ربك فعال ملا
122
أصحاب النبي صىل اهلل عليه وسلم؛ (إال ما شاء ربك ،إن ربك فعال ملا يريد)،
قال :هذه اآلية قاضية عىل القرآن كله ،يقول :حيث كان يف القرآن خالدين فيها
تأيت عليه) انتهى.
وقد نقل ابن تيمية هذه الرواية أيض ًا ،ونسبها إىل ختريج ابن جرير أيض ًا،
وال َيفى أوالً انه شك أبو نرضة يف قائل هذا القول ،وردده بني ثالثة معلومني؛
وجمهول ،وهذا الشك ،وإن كان انتقاالً؛ من ثقة ،إىل ثقة ،عىل رأي من يقول كل
الصحابة عدول ،غري ضائر يف الرواية ،إال أنه ال يصح معه اجلزم؛ بنسبة القول
بفناء النار ،إىل أيب سعيد ،حيث أن مستند القول به؛ هو هذا األثر ،ألن هذا أثر مل
يتم اجلزم به ،يف رواية أنه أليب سعيد.
فكيف جيزم بنسبة هذا املدلول أعني القول بفناء النار وذهاهبا إىل أيب
سعيد كَّم فعله شيخ اإلسالم ومل يثبت عنه الدليل؟.
وثانيا :وهو عىل تقدير ثبوته عنه ،فإنه ال داللة فيه عىل مدعاه ،وهو فناء
ً
النار ،وال رائحة داللة ،بل غاية ما فيه؛ أن كل وعيد يف القرآن ،ذكر فيه اخللود
ألهل النار ،فإن آية االستثناء حاكمة عليه ،وهي عبارة جمملة؛ ال تدل عىل املدعى
بنوع من الدالالت الثالث ،بل حيتمل إنه أراد أهنا فرست بآيات اخللود ،التي
وردت يف القرآن ،يف خلود أهل النار ،كَّم أخرجه البيهقي ،يف البعث والنشور؛
عن ابن عباس ،يف قوله تعاىل{ :إال ما شاء ربك}( ،هود ،)303 /قال :فقد
شاء ربك ،أن َيلد هؤالء يف النار ،وهؤالء يف اجلنة) انتهى.
123
وكَّم نرى ،فإن كل من ا ّدعى أن الصحابة قالوا بيشء من هذه العقيدة،
فإنَّم اعتمد عىل آثار ضعيفة ،وغري رصحية ،وحتتمل التأويل ،أو إن مل حتتمله؛ فهي
معارضة ملا هو ظاهر يف القرآن ،وما كان كذلك ،فال ينبغي أن يلتفت إليه!؟
وهذه الكلَّمت تكفي من يريد احلق ،واهلل املوفق.
124
األمر السادس :الذي اعتمد عليه القائل بفناء النار :زعمه أن النار
منقطعة؛ ألَّنا موجب غضبه ،واجلنة دائمة؛ ألَّنا موجب رمحته.
اليشء إذا وجب عن اليشء ،فإنه ال يعرتض طريقه معرتض ،وال يتوقف
عىل إرادة؛ إذا كان املتو اقف عليه واجب ًا.
وصاحبنا هذا يدعونا ألن نقول معه :إن هلل تعاىل صفات ذات ،وصفات
فعل ،وأن بعض خملوقاته ،الزمة لزوم ًا ذاتي ًا ،عن صفات فعله ،وبعض خملوقاته
الزمة لزوم ًا ذاتي ًا عن صفات فعله ،وال أدري إن كان يقول إن هناك أمور ًا الزمة
عن عني ذاته ،أو ال يقول!.
وهذا املسلك للفهم؛ ليس أكثر من رجوع إىل طرق املتفلسفة القدماء
الذين أظهر أعالم أهل السنة عوار أفكارهم.
فَّم الذي يريده بقوله :إن اهلل تعاىل له صفات ذاتية؛ كالرب ،والرمحة،
واجلود ،وأن هذه الصفات تستلزم لذاهتا؛ بعض األفعال ،كإجياد اجلنة ،وإدخال
الناس فيها.
أما نحو :الغضب والسخط فأسَّمء فعلية ،ووجود النار ،وتعذيب أهلها
موجبات هذه األسَّمء الفعلية.
فيها ،من َ
هل يريد أن نفس كون اهلل تعاىل جواد ًا ورحي ًَّم ،يقتيض هذه األفعال ،من
ِ
يقتض إذن عدم إجياد النار من أصلها ،أو مل مل فلم مل
إفناء النار ،وإنشاء اجلنةَ ،
125
ِ
يقتض أن ال يعذبوا فيها؛ إال حلظة واحدة؟ ،ومل مل تقتض رمحته؛ أن يزكي الكفار
يف املحرش!.
أليس اهلل تعاىل بقادر؛ عىل أن َيلق من األدلة الواضحة ،يف هذه احلياة
الدنيا ،ما يبعث الناس كلهم إىل اإليَّمن به ،وبذلك فال يكفر أحد!.
ال إىل التكليف واالختبار ،وهو يعلم عل ًَّم تام ًا أن
عرض لناس أص ً
ومل ا
منهم من يصري إىل الكفر ،ومنهم من يصري مؤمن ًا ،مل مل تقتض رمحته ما يستلزم
جعلهم كلهم مؤمنني!.
وهكذا نرى أن طريقة فهمه لألحاديث والصفات واألسَّمء اإلهلية،
طريقة غريبة تبعث عىل النحراف يف الفهم.
وهكذا يصل إىل تفسري احلديث القديس أن( :رمحتي سبقت غضبي) ،بأن
هناك مصارعة؛ بني موجبات الصفات الذاتية ،وبني موجبات األسَّمء الفعلية،
والذي يغلب بالطبع؛ هو موجب الصفات الذاتية ،ولذلك فإن كل ما كان من
موجبات صفات ٍ ٍ
موجبات أسَّمء أفعاله ،فهو ال شك منته وفان ،والباقي إنَّم هو َ
ذاته.
أقول :أال يعرف أن كل فعل فهو متوقف عىل صفة ،فَّم من فعل إال
ويكون من تعلقات صفة ،فيعود األمر إىل التنايف والتصارع بني الصفات اإلهلية!،
وهذا حمال باطل!.
126
وقد قل اإلمام السبكي يف رده عىل ابن تيمية( :فإن قلت :قد ذكر من
الوجوه الرشعية؛ أن اجلنة من مقتىض رمحته ،والنار من عذابه ،فالنعيم من
موجب أسَّمئه ،التي هي من لوازم ذاته ،فيجب دوامه بدوام معاين أسَّمئه
وصفاته ،والعذاب من خملوقاته ،قد يكون له انتهاء ،ال سيَّم خملوق خلق حلكمة
تتعلق بغريه.
قلت :ومن أسَّمئه تعاىل شديد العقاب ،واجلبار ،والقهار ،واملذل،
واملنتقم ،فيجب دوامه؛ بدوام ذاته وأسَّمئه أيض ًا.
فنقول ْلذا الرجل :إن كانت هذه األسَّمء والصفات تقتيض دوام ما
يقتضيه من األفعال فيلزم قدم العامل ،وإن كانت ال تقتيض؛ فال يلزم دوام اجلنة،
فأحد األمرين الزم ،لكالم هذا الرجل ،وكل من األمرين باطل ،فكالم هذا
الرجل باطل.
خرب إن رمحته وسعت كل يشء ،و(سبقت رمحتي
فإن قلت :قد قال :قد ّ
غضبي) ،فإذا قدر عذاب ال آخر له ،مل يكن هناك رمحة البتة.
قلت :اآلخرة داران ،دار رمحة؛ ال يشوهبا يشء ،وهي اجلنة ،ودار عذاب؛
ال يشوبه يشء ،وهي النار ،وذلك دليل عىل القدرة ،والدنيا خمتلطة هبذا وهبذا.
فقوله( :إذا قدر عذاب ال آخر لهَ ،ل يكن هناك رمحة البتة) إن أراد نفي
الرمحة مطلق ًا ،فليس بصحيح ،ألن هناك كَّمل الرمحة يف اجلنة.
وإن أراد ( :مل يكن يف النار ،قلنا :مه).
127
يعني اكفف عن هذا القول؛ املعارض للقرآن ،فألي يشء خلق اهلل تعاىل
النار إال للعذاب!.
َ
ويف كالم اإلمام السبكي؛ املبني عىل التحقيق الرصيح ،بوجازته املعروفة،
كفاية ألويل النهى.
يقول د .عدنان؛ مستمر ًا يف تعليله واحتجاجه( :ما كان موجب ذاته؛ فهو
يدوم بدوام ذاته ،وصفاته ،وأما العذاب؛ فهو موجب فعله ،فينقطع يف حلظة
معينة ،ألنه مل يكن عبث ًا ،بل حلكمة ،وهي تطهري ًا هلم ،من أدران الكفر واجلحود،
وقد خلقهم اهلل عىل الفطرة فاجتالتهم الشياطني ،فإذا عادوا إىل صفاء الفطرة ،مل
يكن ثمة موجب للعذاب فينتهي).
يقول ما حاصله :إن اهلل خلق الناس عىل الفطرة؛ فاجتالتهم الشياطني،
وانحرفوا عن اهلدى ،ولذلك فإن العذاب ( كان حلكمة ـ هذا العذاب ـ سوف
نقف عليها بعيد قليل ،تطهري ًا هلم من أدران الرشك ،والوثنية ،والكفر ،واجلحود،
والعنود ،والنكود ،فإذا تطهروا ـ خالص ـ وعادوا إىل صفاء الفطرة ،ورواقها
األول) ،وأيض ًا( :فإذا عادوا إىل صفاء الفطرة؛ مل يكن ثمة موجب أن يبقوا يف
العذاب ،فينتهي العذاب وَيرجون ،واضح؟َ ،يرجون ،ألنه انتهى ،ألنه انتهى).
أقول :كالمه هذا فيه مغالطات ،وأفهام باطلة ،وتصورات سقيمة،
ويتضمن ما َيالف نصوص القرآن والسنة كَّم سنبني.
128
فالنار كانت؛ ال للتطهري ،بل للعذاب ،ومل يقل اهلل تعاىل :إنه سيخرجهم
النار ،وكل هذه املقوالت من عندك،
منها ،كَّم مل يقل؛ جل ذكره إنه يفني َ
وومهك ،ووهم من تبعك ،فاقتصد يف قولك ،واتبع ظاهر القرآن ،الذي قام عليه
الدليل ،وكفى!.
ورد يف الصحاح( :إن رمحتي سبقت غضبي) ،وورد( :إن رمحتي غلبت
غضبي) ،ورد يف الصحاح؛ وغريها ،عن أيب هريرة :عن النبي صىل اهلل عليه
وسلم قال( :إن اهلل ملا قىض اخللق؛ كتب عنده فوق عرشه ،إن رمحتي سبقت
غضبي)[ ر ،] 1044ويف البخاري أيض ًا ،عن قتادة؛ أن أبا رافع ،حدثه أنه سمع
أبا هريرة رِض اهلل عنه ،يقول :سمعت رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم؛ يقول:
(إن اهلل كتب كتاب ًا ،قبل أن َيلق اخللق إن رمحتي سبقت غضبي ،فهو مكتوب
عنده فوق العرش) [ر ،] 1044ويف مسند أمحد ،عن أيب صالح عن أيب هريرة
عن النبي صىل اهلل عليه وسلم؛ قال :إن اهلل عز وجل كتب كتاب ًا؛ بيده لنفسه ،قبل
إن َيلق السَّموات واألرض ،فوضعه حتت عرشه فيه( :رمحتي سبقت غضبي)،
إن رمحتي غلبت غضبي) ،رواه :البخاري( ،)1352ومسلم()4393؛
وحديثَّ ( :
وغريهم يف غري هذه املواضع ،من حديث أيب هريرة رِض اهلل عنه.
وليس يف األمر مصارعة ومنافسة بني الصفات ،حتى يقال :إن آثار صفة
ما تفنى ،وتبقى آثار الصفة األخرى ،فإن اهلل هو الفاعل املختار ،وهو الفعال ملا
واملعرب
ا يريد ،وليس عني صفاته ،بل هذه كلها أفعال هلل تعاىل؛ بإرادته ،واختياره،
129
عنه يف احلديث السبق والغلبة ،واملراد بالسبق والغلبة؛ كثرة اآلثار ،وتقدمها عىل
اِض ِع َي ٌ
اض ا ْل َغ َل َب ُة ُهنَا، األخرى ،قال العراقي يف طرح التثريب( :و َق َال ا ْل َق ِ
َ
ب املَْ ِ ٍ الس ْب ُق بِ َم ْعنًىَ ،واملُْ َرا ُد ِ َهبا ا ْل َك ْث َر ُة َو ُّ
ال، ب َع َىل ُف َالن ُح ُّول ،ك َََّم ُي َق ُالَ :غ َل َ
الش ُم ُ َو ا
َان َأ ْك َث َر ِخ َصال ِ ِه) ،فمن املالحظ عند ذوي العقول، الش َجا َع ُة ،إ َذا ك َ َأ ْو ا ْلك ََر ُمَ ،أ ْو ا
أن آثار الرمحة؛ أكثر ،وأسبق ،وأغلب من آثار الغضب ،فاحلديث واضح؛ ال
حيتاج إىل تكلفات بعض الناس.
وإليك بعض ما قرره األعالم ِف ْشحه:
جاء يف مصنف عبدالرزاق[ ]40090عن معمر ،عن احلكم بن أبان؛ أنه
سمع عكرمة؛ يقول( :إن اهلل تبارك وتعاىل ،إذا فرغ من القضاء بني خلقه ،أخرج
كتاب ًا من حتت العرش ،فيه رمحتي سبقت غضبي ،وأنا أرحم الرامحني ،فيخرج من
النار مثل أهل اجلنة ـ أو قال :مثيل أهل اجلنة ـ قال احلكم :ال أعلم ،إال قال مثيل
أهل اجلنة ،فأما مثل فال أشك مكتوب منهم ـ وأشار احلكم إىل فخذه ـ عتقاء اهلل،
قال فقال رجل لعكرمة :يا أبا عبد اهلل؛ إن اهلل يقول :يريدون أن َيرجوا من النار،
وما هم بخارجني منها ،قال :ويلك أولئك أهلها ،الذين هم أهلها).
فهذا عكرمة ـ وهو من هو يف التفسري والعلم ـ يقرر أن هذا احلديث؛ ال
يستلزم إخراج أهل النار ،الذين هم أهلها ،وقد أقر فهم من قال :إن قوله تعاىل:
{وما هم بخارجني من النار} يستلزم بقاءهم فيها ،فلم يعرتض عليه ،ومل يقل
خرجني ،وبني وما هم منها بخارجني ،كالفرق إن هناك فرق ًا؛ بني وما هم منها ُ
بم َ
130
ما بني السَّمء واألرض ،ومل يزعم ا
أن :األوىل تستلزم عدم خروجهم ،والثانية ال،
كَّم سمعنا من صاحبنا املجتهد املعارص!.
قال ابن بطال( :وأما قوله( :كتب عنده :إن رمحتي سبقت غضبي) ،فهو ـ
واهلل أعلم ـ كتابه يف أم الكتاب ،الذى قىض به ،وخطه القلم ،فكان من رمحته
تلك؛ أن ابتدأ خلقه بالنعمة؛ بإخراجهم من العدم إىل الوجود ،وبسط هلم من
رمحته ،يف قلوب األبوين؛ عىل األبناء ،من الصرب عىل تربيتهم ،ومبارشة أقذارهم،
ما إذا تدبره متدبر ،أيقن أن ذلك من رمحته تعاىل.
ومن رمحته السابقة؛ أنه يرزق الكفار وينعمهم ،ويدفع عنهم اآلالم ،ثم
ربَّم أدخلهم اإلسالم؛ رمحة منه هلم ،وقد بلغوا من التمرد عليه ،واخللع لربوبيته،
غايات تغضبه ،فتغلب رمحته؛ ويدخلهم جنته ،ومن مل يتب عليه؛ حتى توفاه ،فقد
رمحه مدة عمره ،برتاخي عقوبته عنه ،وقد كان له أال يمهله بالعقوبة ساعة كفره
به ،ومعصيته له ،لكنه أمهله رمح ًة له ،ومع هذا؛ فإن رمحة اهلل السابقة ،أكثر من أن
حييط هبا الوصف).
ب َغ َضبِي)، ِ وجاء يف َتفة األحوذيَ (( :كتَب بِي ِد ِه َع َىل َن ْف ِس ِه َأ ان ر ْ َ ِ
محتي َت ْغل ُ َ َ َ
ي؛ ِيف َابَ ،و ِيف ِر َوا َي ٍة لِ ْلبخَ ِ ون ا ْل ِكت ِ ْرسَ ،ع َىل ِحكَا َيتِ ِهَ ،م ْض ُم َ ِ
ار ِّ بِ َفت ِْح ْاهل َ ْم َزة؛ َو ُتك َ ُ
محتِي َس َب َق ْت َغ َضبِي. َب ِعنْدَ ُه َف ْو َق َع ْر ِش ِهَ ،أ ان َر ْ َ ِ ِ
الت ْاوحيدَ :أ ان اهللاَ ملَاا َق َىض ْ َ
اخل ْل َقَ ،كت َ
مح ِة، ِ
ب َغ َضبِي؛ ُه َو إِ َش َار ٌة إِ َىل َس َعة ا
الر ْ َ ِ اجلز َِريَ :قو ُله :إِ ان ر ْ َ ِ
محتي َت ْغل ُ َ َق َال َْ ُّ ْ ُ
ب َع َىل ُف َال ٍن ا ْلك َْر ُمَ ،أ ْيُ :ه َو َأ ْك َث ُر ِخ َصال ِ ِهَ ،وإِ اال اخلَ ْل َق ،ك َََّم ُي َق ُالَ :غ َل َ
و ُشم ِ
وهلَا ْ َ ُ
131
ابَ ،و ِص َفا ُت ُه َال اب َوا ْل ِع َق ِ َان إِ َىل إِ َرا َدتِ ِه لِل اث َو ِ
اجعت ِ ِ ِ
هلل؛ َو َغ َض ُب ُه ،ص َفتَان َر ِ َ مح ُة ا اِ
َف َر ْ َ
از ل ِ ْل ُم َبا َل َغ ِة اِ ْنت ََهى.
يل املَْ َج ِ
امها ْاألُ ْخ َرىَ ،وإِن َاَّم َع َىل َسبِ ِ ِ
ف بِ َغ َل َبة إِ ْحدَ ُ َُوص ُ ت َ
ازم ًا َو َوعَدَ َو ْعد ًا َال ِزم ًا، اخلَ ْل َقَ ،حك ََم ُحك ًَّْم َج ِ َو َق َال ال ِّطيبِ ُّيَ :أ ْي :ملَاا َخ َل َق ْ
محتِي َس َب َق ْت َغ َضبِيَ ،فإِ ان املُْ َبال ِ َغ ِيف ُحك ِْم ِه ،إِ َذا َأ َرا َد إِ ْحكَا َم ُه ف فِ ِيه؛ بِ َأ ان َر ْ َ َال ُخ ْل َ
مح ِة َأ اهنُ ْم ع َقدَ ع َلي ِه ِس ِج ًّال وح ِف َظه ،ووجه املُْنَاسب ِة بني َقض ِ
اخلَ ْل ِقَ ،و َس ْب ِق ا
الر ْ َ اء ْ َ َ َْ َ َ َ َ ُ َ َ ْ ُ َ ْ َ
ون ل ِ ْل ِع َبا َد ِةُ ،شكْر ًا لِلنِّ َع ِم ا ْل َف ِائ َض ِة َع َل ْي ِه ْمَ ،و َال َي ْق ِد ُر َأ َحدٌ َع َىل َأ َد ِاء َح ِّق َخم ْ ُلو ُق َ
الشاكِ ِر ،بِ َأ ان َو اىف َج َزا َء ُه، مح ُت ُه ِيف َح ِّق ا ون فِ ِيهَ ،ف َس َب َق ْت َر ْ َ
رص َ ُّ ِ
الشكْرَ ،و َب ْع ُض ُه ْم ُي َق ِّ ُ
َاب َو َر َج َع بِاملَْ ْغ ِف َر ِة
رص ،إِ َذا ت َ رصَ ،و ِيف َح ِّق املُْ َق ِّ ِ احل ْ ِ ِ
َو َزا َد َع َل ْيه َما َال َيدْ ُخ ُل َ ْحت َت ْ َ
محتِي؛ َمتْثِ ٌيل ل ِ َك ْث َر ِ َهتاَ ،و َغ َل َبتِ َها َع َىل ا ْل َغ َض ِ
ب بِ َف َر َ ْ
يس او ِزَ ،و َم ْعنَىَ :س َب َق ْت َر ْ َ َوالت َاج ُ
ٍ
امها ْاألُ ْخ َرى). ِر َهان ت ََسا َب َقتَا َف َس َب َق ْت إِ ْحدَ ُ َ
َب َع َىل َن ْفسهَ ،يدُ ّل وقال السندي؛ يف حاشيته ،عىل ابن ماجهَ ( :و َق ْولهَ :كت َ
مح ِة؛ َما َال ُي َع ِامل اق َه َذا ا ْلك ََالمَ ،ع َىل َأ ان ُه َو َعدَ بِ َأ ان ُه َس ُي َع ِام ُل بِا الر ْ ََع َىل َأ ان ُه َس َ
وىل ُدون ال اثانِ َيةِ ،ألَ ان محة َوا ْل َغ َضب ،بِ َأ ان ْاألُ َ الر ْ َ ِ
بَ ،ال َأ ان ُه إِ ْخ َبار َع ْن ص َفة ا بِا ْل َغ َض ِ
132
َف َس َب َق ْت رمحتُه غض َبه ،فإذا َس َب َق ْت؛ َل ِز َم أن ال َي ْب َقى أحدٌ حتت غضبه تعاىل ،و َيدُ ُخ َل
وجل ،ولو ِ
عز ا
آخر ًا. ص من عذاب اهلل ا وَي ُل َ
ك ُّلهم يف رمحته تعاىلْ َ ،
معذبني ،لكوهنم يشون فيها غري ا النار تكون طبيع ًة هلمَ ،ف َي ِع ُ وذلك ألن َ
ناريي الطبع.
كَّمئي املَ ْول ِ ِدَ ،ي ْس ُك ُن يف املاء ،وال يكون عليه ٌ
ضيق ،وغريه لو َس َك َن فيه ِّ
مات من ساعته.
رس َم ِد ٌّي ملن فيها.
عذاب َ ْ
ٌ ومذهب اجلمهور :أن جهنم
ُ قلت:
اب}( ،النساء.)95/ ا ْل َع َذ َ
الس ْب ِق اية ،فهي عندي يف جانب املبدأ دون املنتهى ،ومعناه :أن الرمح َة
وأ اما ا
فس َب َق ْت الرمحة قبل َس ْب ِق الغضب ،فتقدا مت عليه من
والغضب ت ََسا َب َقا عند ربكَ ،
َ
هذا اجلانب.
الغضب َحيِ ُّل باملعايص ،والرمحة منشؤها اجلود ،فتأيت من غري
َ وذلك ألن
اقرتاف الس ِّيئات ،واقتحام
َ استحقاق .بخالف الغضب ،فإنه َي ْنتَظِ ُر
ٍ ٍ
سبب وال
الغي ،فال يأيت حني يأيت إالا عىل َم ْه ٍل،
املوبقات ،والرغبة عن التوبة ،ثم التَّمدي يف ِّ
فاض َط ار
رب؛ يف اجلهة األخرىْ ، ُ
الشيخ األك ُ َ
وأخذ ُه فتقدُّ مها َي ْظ َه ُر يف جانب املبدأ،
إىل خمالفة اجلمهور).
133
موجبات رمحته ،والنار من موجبات غضبه،
ثم ما املراد بقوله إن اجلنة من َ
وهل جيب وجود املخلوقات؛ ملجرد اتصاف اهلل تعاىل بصفات ،أم إن اهلل تعاىل
فعال ملا يريد!.
فحديث اإلجياب َُيرج مدخلية اإلرادة واالختيار ،ويبطله من أصله ،ولو
كان للرمحة موجبات لذات كوهنا صفة هلل تعاىل سواء كان ذاتية أو فعلية ،لكان
العامل قدي ًَّم ،والستحال عدمه ،بل ربَّم استحال وجود النار من أصلها ،ما دام
األمر مصارعة ومنافرة بني الصفات ،فلتتغلب صفة الرمحة من أول األمر ،وانتهى
الكالم ،فال وجود لنار عندئذ ،وال وجود إال للجنة.
أو لتوجد النار ،وليرتتب عىل التغالب والسبق هبذا املعنى الغريب
النار
املفرتض غلبة الرمحة عىل الغضب فال يدخل أحد من العصاة وال الكفار َ
حلظ َة واحدة.
ومل َ إذن توجد النار من أصلها! ،أليس هذا اللون من التفكري يفيض بنا إىل
جمرد هواء ،ال إىل حتقيق يف علم التوحيد وال إىل أمر غريه ،بل يفيض بنا إىل خلخلة
أركان الدين من أصلها.
ونحن ال َيفى علينا مقدار تأثر ابن تيمية بمقوالت ابن عريب يف هذا
الكالم كله ،وقد أرشنا إىل ذلك ،وأشار غرينا إىل قرب كالم ابن تيمية من كالم
ابن عريب يف هذه املسألة ،وقد قلت كثري ًا إن ابن تيمية تأثر بابن عريب ،بمقدار ما
ر اد عليه؛ يف وحدة الوجود ،فقد تأثر به يف كثري من املقوالت األخر.
134
وكذلك تأثر بابن رشد احلفيد الفيلسوف يف مسائل عدة.
عىل أن التحقيق يف مذهب األشاعرة؛ أن الرمحة صفة ،ترجع إىل اإلرادة،
وليست صفة زائدة؛ عىل اإلرادة ،وبعضهم قال :إهنا ترجع إىل بعض تعلقات
اإلرادة والقدرة ،فتكون من صفات الفعل.
وهذا نزاع مشهور بني الفريقني ،وال يستلزم أحدمها ذلك التخريج
الغريب ،الذي تتقول به هاته العصابة؛ من مدعي االجتهاد.
نعم إن اهلل تعاىل حكيم يف فعله ،وحكمته؛ ال توجب عليه أن يفعل أمر ًا
موج َبا عن ذاته ،أو
من األمور ،وال تستلزم أن يصدر عنه يشء ،وأن يكون َ
صفاته؛ لعني كوهنا صفة ،بل أفعاله تابعة إلرادته ،ومن قال بحكاية االستلزام
واإلجياب ،فإنه يرجع إىل قول املتفلسفة القائلني بالعلة واملعلول ،ومن تأثر هبم؛
ممن قال بوحدة الوجود ،أو من املجسمة القائلني ،بتأثر اهلل تعاىل بخلقه ،وحدوث
احلوادث يف ذاته.
135
الكفار ،وُيرجهم من النار
َ يدعي د .عدنان إبراهيم :أن اهلل تعاىل ي َزكِّي
137
مالحظة مهمة:
قد يقول بعضهم :إن عدنان إبراهيم مال إىل فناء النار ،ومال إىل عدم بقاء
النار ،ومل جيزم بذلك ،وقال إن األدلة ال تدل عىل بقاء النار جزم ًا ،أال يكفي ميله
إىل ذلك كله للرد عليه؟!.
نقول :بىل! فكَّم كفاه جمرد ميله للرد عىل من َيالفهم ،فيكفينا جمرد ميله
ذاك؛ للرد عليه.
وقال :إن الكفار يتطهرون من دنسهم وكفرهم يف العذاب ،ثم َيرجهم
واملطهر من الكفر والدنس ،يصبح طيب ًا بالرضورة.
ا اهلل تعاىل،
ومل يقل عدنان إبراهيم إن اهلل تعاىل يعدمهم ويفنيهم بعد ذلك ،وذكر قوله
بعد ذلك ،كَّم أملع ابن القيم واهلل أعلم ـ ال يدخلها إال طيب { َس َال ٌم َع َل ْيك ْم طِ ْبت ْم
ين} ،هؤالء ليسوا بطيبني ،فال يدخلون اجلنة{ ،إنه من يَشك ِِ
َفا ْدخل َ
وها َخالد َ
138
باهلل فقد حرم اهلل عليه اجلنة} ،فإذا دخلوها ،وص َلوها ،وتطهروا ،هل يبقى
موجب أو دا ٍع لبقائهم يف جهنم؟! ،ولذلك يبدو أن هذه النار تفنى ،وَيرج منها
هؤالء).
هذا هو كالم عدنان إبراهيم بنصه ،ويعني أن الكفار إذا تطهروا من الكفر
والدنس ،فمصريهم اجلنة ،أو دار أخرى يثابون فيها ،وهذا معنى اجلنة ،أو أن اهلل
ِ
ويعدمم ،وهذا ال دليل له عليه أبد ًا؟ كَّم ال دليل عىل فناء النار!، تعاىل يفنيهم
وهذا السؤال ينبغي عليه أن َييب عنه ،وينبغي عىل مؤيديه أن يسألوه إياه!.
ابن تيمية عندما قال بقوله
وهذا هو نفس ما ألزم به اإلمام التقي السبكي؛ َ
هذا ،فقال رمحه اهلل (:وقد أخرب تعاىل أن أهل اجلنة والنار ال يموتون ،فال بد هلم
واحلي ال َيلو
ّ من دار ،وحمال أن يعذبوا بعد دخول اجلنة ،فلم يبق إال دار النعيم،
من لذة أو من أملٍ ،فإذا انتفى األمل تعينت اللذة الدائمة.
قلت ـ أي تقي الدين السبكي ـ( :قد رصح بَّم رصح به يف آخر كالمه،
فيقتيض أن إبليس ،وفرعون ،وهامان ،وسائر الكفار يصريون؛ إىل النعيم املقيم،
واللذة الدائمة!! ،وهذا ما قال به مسلم ،وال نرصاين ،وال هيودي ،وال مرشك،
وال فيلسوف.
أما املسلمون؛ فيعتقدون دوام اجلنة والنار ،وأما املرشك؛ فيعتقد عدم
البعث ،وأما الفيلسوف فيعتقد أن النفوس الرشيرة يف أمل ،فهذا القول الذي قاله
هذا الرجل؛ ما نعرف أحد ًا قاله ،وهو خروج عن اإلسالم بمفتىض العلم إمجاالً).
139
هذا هو رد اإلمام التقي السبكي العلم املجتهد عىل ابن تيمية ،ونالحظ أن
القول األخري الذي قال فيه :إنه ال يعرف أحد ًا قال به ،هو عني القول املفهوم من
كالم ابن عريب احلامتي يف كتبه ،إال أنه مل يقل إن الكفار َيرجون من النار ،بل قال
إن عذاهبم ينقلب عذوبة بعد فرتة معينة.
فاحلاصل :أن هذا القول الذي يلزم ابن تيمية ،ويلزم من يوافقه ،مل يقل به
أحد عىل حد تقرير اإلمام السبكي.
فليتأمل هذا جيد ًا ،وليعلم أنه قول خطري ينبغي بالعاقل أن حيتاط لنفسه
قبل االعتقاد به.
ونتساءل أيض ًا :لو اقتنع بعض الناس أن الكفار؛ ال َيلدون يف النار،
واعتقدوا أهنم إما َيرجون منها بعد التطهر من ذنوهبم ،إىل اجلنة ،أو إىل دار
أخرى ،أو يفنيهم اهلل تعاىل ،واختاروا الكفر ،وقالوا ال نصرب عىل شهواتنا ،يف هذه
احلياة الدنيا ،ونفضل أن نتنعم فيها ،وليعذبنا اهلل ذلك اليوم املحدود ،فإنه يطهرنا
بعد ذلك ،ومهَّم فعل بنا فإنا راضون! ،فإن أدخلنا اجلنة ،أو يف دار أخرى ،نكن
من السعداء أبد ًا؛ يف هناية األمر ،وإن أفنانا؛ ا
فإن العذاب واآلالم تنقطع عنا ،فإنا
ال نبقى موجودين.
فإن اختار هؤالء هذا القول؛ بناء عىل تقرير من يقرره ،ثم إن كان األمر
احلق الذي يظهر يف يوم القيامة ،أن النار ال تفنى ،بل تبقى دار عذاب وآالم ،ال
ينقلب فيها العذاب إىل عذوبة أبد ًا ،وال هناية هلا ،فأين يذهب هذا الذي حيرضهم
140
يف هذه احلياة الدنيا ،عىل اعتقاد أهنا فانية ،أال يكون هلم يف عنقه حق ،فإهنم سوف
يتعلقون بعنقه ،ويقولو ن هلل تعاىل :يا رب هذا الذي أضلنا عن العقيدة
الصحيحة! فإثمنا يف عنقه!.
141
األمر السابع :الذي تعلق به :زعمه أنه ورد تضخيم األجسام ،ألهل النار
وأنه َل يرد هذا ِف حق أهل اجلنة.
وإنَّم أراد هبذا الزعم تفسري قوله؛ بأن عدد من يدخل اجلنة؛ أكثر مما يدخل
يف النار ،ورد عىل من احتج بقوله تعاىل{ :ألمِلن جهنم منكم أَجعني} ،وهذا
يستلزم كثرة الداخلني يف جهنم ،ولكن هذا القول ال يرِض د .عدنان إبراهيم،
فسارع إىل حماولة إبطال هذا التصور ،مع وروده يف أحاديث ،وتدل عليه آيات
القرآن ،وجلأ إىل تصور آخر استمده بطريقة غريبة.
فقال :إنه ورد أن أهل النار؛ يكون أحدهم بعد ما بني منكبيه ثالثة أيام،
ورضسه كجبل أحد.
وهذا يعني أن اهلل تعاىل يستطيع أن يمأل جهنم بخمسة ،أو مائة ،أو أي
عدد من الكفار.
وال يستلزم ذلك كثرة الداخلني ،وا ّدعى أن هذا هو ما كان يريده سيدنا
حممد عليه الصالة والسالم؛ عندما قرر تضخيم حجم الكفار يف النار.
قال( :ومل يرد يشء من هذا يف حق أهل اجلنة ،إال ما رواه أبو نعيم؛
صاحب احللية ،عن سعيد بن جبري ،من قوله :ليس يأثره ،وال يسنده ،وهو بصيغة
التمريض؛ قال( :وكان يقال أن رجال أهل اجلنة تسعون ذراع ًا ،وان نساء أهل
اجلنة ثَّمنون ذراع ًا) ،هذا كالم ال يقام له وزن أبد ًا ،ألنه ليس حديث ًا ،وال آية،
ُ
مرسل هيان بن كالم فارغ؛ هكذا كان يقال ،أبد ًا مل يقل قال النبي ،ومل يرسله ،هذا
142
بيان ،مل يصح ،مل يرد يشء يف هذا ،لكن ورد الكثري الطيب يف حق أهل النار،
واآلن احلكمة العلة ملاذا؟ ،أنا أقول لكم ،ألن من سيدخلها سيكون أقل عدد ًا،
عدد قليل يدخل جهنم ،فع ً
ال هو الكافر ،املعاند ،املجرم ،الذباح ،السفاك؛ الخ،
من هؤالء الكفرة العتاة ،والعياذ باهلل ،من كل امللل ،لكن ألنه أخذ عىل نفسه؛
واقسم ال إله إال هو{ :ألمالن جهنم} فكيف سيملؤها؟ ،هو يستطيع أن
يمألها بخمسة ،أو بعرشة ،أو بألف ،أو بخمسة آالف ،ألنه إذا كان رضسه مثل
جبل أحد؛ وبعد ما بني منكبيه؛ هل فهمتم هذه العلة؛ ملاذا النبي قال هذا اليشء؟،
ومل يوضح لنا؟ قال :هذا ألقيه إليكم ،وانتم فكروا.
كانه يقول لنا :اهلل تبارك وتعاىل برمحته وحكمته؛ يملئ جهنم ،لكن بعدد
قليل من هؤالء التاعسني االشقياء ،أما اجلنة فتمتلئ أيض ًا من عند آخرها ،ويبقى
فيها فضلة اهلل اعلم؛ يف خلقنا اجلديد ،من غري أن تضخم أبداننا ،ليس عندنا نص
فنبقى عىل األصل).
أقول :يف هذا الكالم ترسع خطري كعادته ،فإننا نوافقه فيَّم ورد يف حق
الكفار من التضخيم ،ولكنا ال نوافقه عىل أن ذلك يستلزم قلة من يدخلها ،فإنه
ورد أن املؤمنني يكونون يف يوم القيامة قليلني جد ًا ،باإلضافة إىل الكفار يف
أحاديث؛ عن رسول اهلل عليه أفضل الصالة والسالم ،وال نوافقه فيزعمه احلكمة
التي افرتضها من التضخيم.
143
وكذلك :نقول أخطأ أيض ًا؛ مل قرر أنه مل يرد يشء يف تضخيم أهل اجلنة،
وإن مل يكن إىل حد الكفار ،ولكن التضخيم وارد يف أحاديث صحيحة أيض ًا ،وهو
جترأ عىل القول ،بأن ما قيل فيها إنَّم هو كالم فارغ ،وأنه مل يرد فيها حديث
صحيح ،واألحاديث موجودة يف الصحيحني وغريمها؛ كَّم سرتى.
أما تضخيم أجسام الكفار يف النار ،فقد ورد فع ً
ال ،وال إشكال فيه ،ولكنه
ال يستلزم أن هذه هي الطريقة الوحيدة؛ التي يتخرج هبا قوله تعاىلَ { :ق َال ْ
اخر ْج
ني}، ِلن جهنَّم ِمنكم َأ ِ ِمنْها م ْذؤوم ًا مدْ حور ًا ملََّن َتبِع َ ِ
َجع َ
ْ َْ ك منْه ْم ألَ ْم َّ َ َ َ َ َّ َ َ
ت كَلِ َمة َر ِّب َ
ك ألَ ْم َّ
ِلن (األعراف{ ،)30/إِالَّ َمن َّر ِح َم َر ُّب َك َولِ َذلِ َ
ك َخ َل َقه ْم َومتَ َّ ْ
ني}( ،هودَ { ،)335/و َل ْو ِش ْئنَا َآل َت ْينَا ك َّل َن ْفس َّاس َأ ِ جهنَّم ِمن ِْ ِ
اجلنَّة َوالن ِ ْ َ
َجع َ َ َ َ َ
144
ومل يلحظ يف فورة هجومه عىل هذه املعاين ،أن جمرد التعبري القرآين؛ بدون
احلاجة إىل التمعن ،والتدبر ،والبحث ،يف األحاديث ،يستلزم كثرة الداخلني يف
النار الذين يصدق عليهم قسم اهلل تعاىل املذكور يف اآليات.
عىل أنا لن نطيل املكوث معه يف هذا املعنى الغريب املترسع ،بل نريد
تنبيهه؛ إىل أن ما نفاه من تضخيم أجسام أهل اجلنة ،وارد أيض ًا يف الصحاح ،وأن
أهل العلم يعرفونه ،وأنه مشهور بينهم ،وما ذكره من نفي وجوده يف الصحاح،
وأن ما زعمه من ا
أن األصل بقاء الناس الذين يدخلون اجلنة عىل أصل حجمهم؛
الذين هم عليه يف الدنيا ،جمرد ترسع ككثري من ترسعاته ،وغفالته يف كالمه.
فقد ورد يف األحاديث أن حجمهم يكون عىل ستني ذراع ًا؛ عىل صورة آدم
عليه السالم ،وهي أحاديث صحيحة أيض ًا ،ال ينبغي أن يترسع بنفيها ،قبل
البحث.
وهذه املالحظات كلها تدل عىل أن الرجل مترسع ،مبالغ يف هجومه عىل
املعاين ،بدون تدبر ٍ
كاف ،وهذا يدل عىل كثري من اآلفات ،التي نرجو أن ال يغرق
فيها ،فإنا ال نتمنى له؛ إال الوقوف ،والتدبر ،والتأمل ،بصورة أدق؛ وأحسن ،لئال
يكون من الضالني املضلني؛ النافرين املنفرين ،وهم حيسبون أهنم حيسنون صنع ًا.
وهاكم بعض األحاديث والروايات ،وبعض تعليقات العلَّمء عليها:
حديث أيب هريرة؛ بلفظ( :خلق اهلل عز وجل آدم عىل صورته ،طوله ستون ذراع ًا،
145
فلَّم خلقه؛ قال :اذهب فسلم عىل أولئك النفر ـ وهم نفر من املالئكة جلوس ـ
فاستمع ما حي ُّيونك ،فإهنا حتيتك وحتية من بعدك )...احلديث .
،)5443 والبخاري(،1145 عبدالرزاق(،)35219 أخرجه
ومسلم( ،)4023وابن خزيمة يف التوحيد( 51/3ـ ،)52وابن حبان(،)5354
وابن منده يف الرد عىل اجلهمية؛ ص(23ـ ،)24والاللكائي يف رشح أصول اعتقاد
أهل السنة واجلَّمعة( ،)334 ،333والبيهقي يف األسَّمء والصفات(،519
،)515والبغوي يف رشح السنة(.)1450
ويف مسند اإلمام أمحد ،عن أيب صالح ،عن أيب هريرة؛ قال :قال رسول اهلل
صىل اهلل عليه وسلم( :أن أول زمرة تدخل اجلنة عىل صورة القمر ليلة البدر ،ثم
الذين يلوَّنم ،عىل أشد ضوء كوكب درى ِف السَمء ،إضاءة ،ال يبولون ،وال
يتغوطون ،وال يتفلون ،وال يمتخطون ،أمشاطهم الذهب ،ورشحهم املسك،
وَمامرهم األلوة ،وأزواجهم احلور العني ،أخالقهم عىل خلق رجل واحد ،عىل
صورة أبيهم آدم؛ ِف طول ستني ذراع ًا).
قال شعيب األرنؤوط :إسناده صحيح؛ عىل رشط الشيخني ،إن كان ذكر
أيب صالح فيه حمفوظ ًا.
َ
احلديث ،عن أيب هريرة بسند آخر برقم[ ،]3245وحكم وأورد أمحد
عليه الشيخ شعيب؛ بأنه صحيح عىل رشط الصحيحني.
146
جاء يف البعث والنَش للبيهقي ،عن أيب هريرة ،قال :قال رسول اهلل صىل
اهلل عليه وسلم( :أول زمرة تدخل اجلنة من أمتي عىل صورة القمر ليلة البدر ،ثم
الذين يلوَّنم عىل أشد نجم ِف السَمء أضاءة ،ثم هم بعد ذلك منازل ،ال
يت غوطون ،وال يبولون ،وال يتمخطون ،وال يبزقون ،أمشاطهم الذهب ،وَمامرهم
األلوة ،ورُيهم املسك ،أخالقهم عىل خلق رجل واحد عىل طول أبيهم آدم ستني
ذراع ًا) ،رواه مسلم ،يف الصحيح ،عن أيب بكر بن أيب شيبة ،وأيب كريب ،عن أيب
معاوية ،وأخرجاه من حديث مهام بن منبه ،عن أيب هريرة ،وقال يف رواية أيب
زكريا( :عىل خلق رجل واحد).
وفيه عن أيب هريرة ،أن رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم قال( :يدخل فقراء
املسلمني اجلنة؛ قبل أغنيائهم بنصف يوم ،مقداره مخس مائة عام ،عىل خلق آدم،
ثَمنية عَش ذراع ًاِ ،ف سبعة أذرع) ،قال شمري( :وما ذاك الذراع؟ ،قال :كأطولكم
رج ً
ال).
وقال البيهقي معلق ًا عىل الرواية التي فيها( :أن طول الواحد منهم ثَّمنية
عرش ذراع ًا)( :ورواية أيب صالح ،ومهام ،وأيب زرعة ،عن أيب هريرة ،عىل صورة
آدم ستني ذراعا أصح من هذه الرواية).
وفيه أيض ًا؛ عن أيب هريرة ،قال :قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم:
(ليدخلن أهل اجلنة اجلنة؛ جرد ًا ،مرد ًا ،بيض ًا ،جعاد ًا ،مكحلني ،أبناء ثالث
وثالثني ،وهم عىل خلق آدم ستني ذراع ًا ِف سبعة أذرع).
147
وفيه أيض ًا :حدثني الزبيدي حممد بن الوليد بن عامر ،أن املقدام حدثهم
أن رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم؛ قال( :ما من أحد يموت سقط ًا ،وال هرم ًا،
وإنَم الناس فيَم ذلك إال بعث ابن ثالثني سنة ،فإن كان من أهل اجلنة ،كان مسحة
آدم ،وصورة يوسف ،وقلب أيوب ،ومن كان من أهل النار عظموا ،وفخموا
كاجلبال).
ِض اهللُ َعنْ ُهَ ،ع ْن َر ُسول اهللِ
ويف تفسري ابن أيب حاتمَ ،ع ْن أبى ه َر ْي َر َة َر َ
َص اىل اهللُ َع َل ْي ِه َو َس ال َمِ ،يف َق ْول ِ ِهَ {(:ي ْوم َندْ عو ك هل أنَاس بِإِ َم ِام ِهم}َ ،ق َال :يدعى
أحدهم ،فيعطى كتابه بيمينه ،ويمد َله ِف جسمه ستني ذراع ًا ،ويبيض وجهه،
وَيعل َع َىل رأسه؛ تاج ًا ِم ْن نور يتِلأل ،فينطلق إِ َىل أصحابه؛ فريونه ِم ْن بعيد،
فيقولون :اللهم ائتنا ِّبذا ،وبارك لنا ِف َه َذا ،حتى يأتيهمَ ،ف َي ُق ُ
ول :أبَشوا ،لكل
رجل منكم مثل َه َذا ،وأما الكافر فيسود وجهه ،ويمد َله ِف جسمه ستني ذراع ًا،
َع َىل صورة آدم ،ويلبس تاج ًا ِم ْن نار ،فرياه أصحابه ،فيقولون :نعوذ باهلل ِم ْن ْش
َه َذا ،اللهم ال تأتنا ِّبذاَ ،ق َال :فيأتيهم ،فيقولونَ :ر ُّبنَا اخرهَ ،ف َيقول :أبعدكم اهلل
فإن لكل رجل منكم مثل َه َذا).
148
ال طواالً ،كأنه
ابن كعب ،عن النبي صىل اهلل عليه وسلم؛ قال( :إن آدم كان رج ً
نخلة سحوق؛ ستني ذراع ًا ،كثري شعر الرأس ،فلَم ركب اْلطيئة ،بدت له
عورته ،وكان ال يراها قبل ذلك ،فانطلق هارب ًا ِف اجلنة ،فتعلقت به شجرة،
فأخذت بناصيته ،فقال هلا :ارسليني ،قالت :لست بمرسلتك ،وناداه ربه :يا آدم
أمني تفر؟ ،قال :يا رب إين استحييتك ،قال :يا آدم اخرج من جواري ،فبعزِت؛ ال
أساكن من عصاين ،ولو خلقت ملء األرض مثلك خلق ًا ،ثم عصوين؛ السكنتهم
عل؟ ،قال :نعم ،يا آدم).
دار العاصني ،قال :أرأيت إن أنا تبت ،ورجعت أتتوب َّ
وأخرج ابن عساكر من حديث أنس مثله.
وقال السيوطي؛ يف الدر املنثور( :وأخرج الَتمذي؛ وحسنه ،والبزار،
وابن أيب حاتم ،وابن حبان ،واحلاكم؛ وصححه ،وابن مردويه ،عن أيب هريرة
رِض اهلل عنه ،عن رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم يف قوله{ :يوم ندعو كل أناس
بإمامهم} ،قال :يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ،و ُي َمدّ َل ُه يف جسمه ستني
ذراع ًا ،ويبيض وجهه ،وجيعل عىل رأسه تاج من نور يتألأل ،فينطلق إىل أصحابه
فريونه من بعيد؛ فيقولون :اللهم ائتنا هبذا ،وبارك لنا يف هذا ،حتى يأتيهم فيقول:
فيسود له وجهه ،و ُي َمدّ له يف
ّ أبرشوا لكل رجل منكم مثل هذا ،وأما الكافر،
جسمه؛ ستني ذراع ًا عىل صورة آدم ،ويلبس تاج ًا من نار؛ فرياه أصحابه فيقولون:
نعوذ باهلل من رش هذا ،اللهم ال تأتنا هبذا.
149
قال فيأتيهم؛ فيقول :ربنا ّ
أخ ْره فيقول :ابعدكم اهلل ،فإن لكل رجل منكم
مثل هذا).
وورد نحو هذا يف خلق آدم؛ وأنه ستون ذراع ًا ،عن أنس رِض اهلل عنه،
وعن أيب بن كعب.
وقال يف بحر العلوم يف وصف قوم عاد؛ عند قوله تعاىلَ { :و َزا َدك ُْم ِيف
اخلَ ْل ِق َب ْس َط ًة}( :قال ابن عباس رِض اهلل عنهَّم ،كان أطوهلم مائة ذراع،
ْ
وأقرصهم ستني ذراع ًا.
وروى إبراهيم بن يوسف ،عن املسيب ،عن الكلبي؛ قال :كان طول قوم
عاد أطوهلم مائة وعرشين ذراع ًا ،وأقرصهم ثَّمنون ذراع ًا.
وقال مقاتل ،عن قتادة( :كان طول كل رجل منهم؛ اثني عرش ذراع ًا).
َان َع ِزيزًا َحكِ ًيَم}( :فاحلق أن العذاب عىل النفس احلساسة ،بأي بدن إِ َّن ا ََّ
هلل ك َ
حلت ،ويف أي جلد كانت ،وكذا يقال يف النعيم ،ويؤيد هذا؛ أن من أهل النار من
يمأل زاوية من زوايا جهنم ،وأن سن اجلهنمي؛ كجبل أحد ،وأن أهل اجلنة
يدخلوهنا؛ عىل طول آدم عليه السالم ،ستني ذراع ًا ،يف عرض سبعة أذرع).
ويف عمدة القاري للعيني( :وقال القرطبي :إن اهلل تعاىل يعيد أهل اجلنة إىل
خلقه أصلهم ،الذي هو آدم عليه الصالة والسالم ،وعىل صفته وطوله ،الذي
150
خلقة اهلل عليه يف اجلنة ،وكان طوله فيها ستني ذراع ًا يف االرتفاع ،بذارع نفسه،
قال :وحيتمل أن يكون هذا الذراع مقدر ًا بأذرعتنا؛ املتعارفة عندنا ،وقيل :إنه كان
يقارب أعاله السَّمء ،وأن املالئكة كانت تتأذى بن َف ِسه ،فخفضه اهلل إىل ستني
ذراع ًا ،وظاهر احلديث خالفه).
الر از ِاقَ ،ع ْن ويف مسلم برقم [ ]5443ـ حدا ثنا حييى ب ُن َج ْع َفر ،حدثنا َع ْبدُ ا
ورتِ ِهُ ،طو ُل ُه
مها ٍمَ ،ع ْن أيب ُه َر ْي َر َة؛ َع ِن النبي؛ قالَ ( :خ َل َق اهلل آ َد َم َع َىل ُص َ
َم ْع َمرَ ،ع ْن َ ا
والئ َك الن َف ِر ِم َن املَال َِئك َِة،
ُّون ِذراع ًاَ ،ف َلَّم َخ َل َقه ،قال :اذهب َفس ِّلم َع َىل ُأ ِ
َ ْ ُ ا ِست َ
ِ ِ َك؛ فإِهنا َ ِ ِ
ال ُم َع َل ْيك ُْم، تكَ ،و َحت اي ُة ُذ ار ايت َك ،فقال :ا
الس َ حت اي َ ا حي ُّيون َ
فاستَم ْع ما ُ َ ُج ُل ٌ
وسْ ،
مح ُة اهللَ ،فك ُُّل َم ْن َيدْ ُخ ُل ا َ
جلنا َة؛ َع َىل مح ُة اهللَ ،ف َزا ُدو ُهَ :و َر ْ َال ُم َع َل ْي َك َو َر ْ َ
الس َفقا ُلوا :ا
ص ِ
اآلن).ص َب ْعدُ َحتاى َ ورة آ َد َمَ ،ف َل ْم َي َز ْل اخلَ ْل ُق َينْ ُق ُ
ُ َ
وقال العيني؛ يف ْشحه( :قوله :عىل صورته ،أي :عىل صورة آدم ،ألنه
ال ستني ذراع ًا ،كَّم
أقرب ،أي :خلقه يف أول األمر ،برش ًا سوي ًا ،كامل اخللقة ،طوي ً
هو املشاهد ،بخالف غريه ،فإنه يكون أوالً نطفة ،ثم علقه ،ثم مضغة ،ثم جنين ًا،
ال ،ثم رج ً
ال ،حتى يتم طوله ،فله أطوار. ثم طف ً
وقال ابن بطال :أفاد بذلك إبطال قول الدهرية ،إنه مل يكن قط إنسان ،إالا
من نطفة ،وال نطفة إالا من إنسان ،وقول القدرية :إن صفات آدم عىل نوعني؛ ما
خلقها اهلل تعاىل ،وما خلقها آدم بنفسه).
151
ويف صحيح البخاري أيض ًا؛ برقم(َ ،)1035ح ِد ُ
يث َأ ِيب ه َر ْي َرةَ ( :خ َل َق اهللا
ُّون ِذ َراع ًا) ،قال ابن حجرَ :ك َذا َو َق َع ِم ْن َه َذا ا ْل َو ْجهَ ،و َع ْبد اهللا آ َدم َو ُطوله ِست َ
ِ
الر ازاقَ ،ع ْن َم ْع َمر؛ َف َق َال: الر ِاويَ ،ع ْن َم ْع َمر؛ ُه َو ا ْبن املُْ َب َاركَ ،و َقدْ َر َوا ُه َع ْبد ا
ا
الر َوا َية َت ْأ ِيت ِيف َأ اول ِِ ( َخ َل َق اهللَّ آدم ع َىل صورته؛ وطوله ِست َ ِ
ُّون ذ َراع ًا)َ ،و َهذه ِّ َ َ َ َ
اال ْستِ ْئ َذانَ ،و َقدْ َت َقدا َم ا ْلك ََالم َع َىل َم ْعنَى َه ِذ ِه ال ال ْف َظة؛ ِيف َأ ْثنَاء ِكتَاب ا ْل ِعتْقَ ،و َه ِذ ِه ِ
الض ِمري ِآل َدمَ ،واملَْ ْعنَى َأ ان اهللا َت َع َاىل َأ ْو َجدَ ُه َع َىل ْاهل َ ْي َئة
الر َوا َية ت َُؤ ِّيد َق ْول َم ْن َق َال :إِ ان ا
ِّ
ا التِي َخ َل َق ُه َع َل ْي َهاَ ،مل ْ َينْت َِقل ِيف الن ْاش َأة َأ ْح َو ًاالَ ،و َال ت ََر اد َد ِيف ْاألَ ْر َحام َأ ْط َوار ًا ،ك َُذ ِّر ايتِ ِه،
ب َذل ِ َك بِ َق ْول ِ ِه: الروحُ ،ث ام َع اق َ
ِ ِ ِ ِ
َب ْل َخ َل َق ُه اهللا َر ُج ًال كَام ًال َس ِو ًّيا؛ م ْن َأ اول َما َن َف َخ فيه ُّ
الض ِمري َأ ْيض ًا َع َىل آ َدمَ ،و ِق َيل َم ْعنَى َق ْوله( :ع ََىل ُّون ِذ َراع ًا)َ ،ف َعا َد ا ( َوطوله ِست َ
ارك ُه ِيف َخ ْلقه َأ َحد ،إِ ْب َطاالً ل ِ َق ْو ِل َأ ْهل ال اط َب ِائع. ورته)َ :أ ْي َمل ُي َش ِ
ْ ص َ
الذك ِْر َتنْبِ ًيها بِ ْاألَ ْع َىل َع َىل ْاألَ ْدنَىَ ،واهللاُ َأ ْع َلم.
ص بِ ِّ َو ُخ ا
ورة آ َدم)َ ،أ ْي َع َىلاجلنَّة َع َىل ص َوقال ابن حجرَ ( :ق ْولهَ :فك هل َم ْن َيدْ خل َْ
ِص َفتهَ ،و َه َذا َيدُ ّل َع َىل َأ ان ِص َفات النا ْقص ِم ْن َس َواد َو َغ ْريهَ ،تنْتِ ِفي ِعنْد ُد ُخول
الر ازاق ِيف ِر َوا َيته ُهنَا: اجلناةَ ،و َقدْ َت َقدا َم َب َيان َذل ِ َك ِيفَ ( :باب ِص َفة َْ
اجلنَّة) َو َزا َد َع ْبد ا َْ
ُّون ِذ َراع ًا)َ ،وإِ ْث َبات ا ْل َواو فِ ِيه ،ل ِ َئ اال ُيت ََو اهم َأ ان َق ْوله( :طوله)َ ،ت ْف ِسري
( َوطوله ِست َ
اص َب ْعد ا ْل َعا ّم، ورة آ َدم)َ ،و َع َىل َه َذا َف َق ْوله( :طوله) إِ َل ْخِ ،م ْن ْ
اخلَ ّ
ِ ِِ
ل َق ْولهَ ( :ع َىل ص َ
َان ُطول محدِ ،م ْن َط ِريق َس ِعيد ْبن املْ َس َّيبَ ،ع ْن َأ ِيب ه َر ْي َرة َم ْر ُفوع ًا( :ك َ ِ
َو َو َق َع عنْد َأ ْ َ
آخر الرزَّاقِ ،م ْن َو ْجه َ آدم ِست َ ِ
ِّني ذ َراع ًاِ ،يف َس ْب َعة َأ ْذ ُرع َع ْرض ًا)َ ،و َأ اما َما َر َوى َع ْبد َّ َ
152
الس ََمءَ ،ف َح َّطه اهللََّت ِر ْج َاله ِِف ْاألَ ْرضَ ،و َر ْأسه ِِف َّ َم ْر ُفوع ًاَ ( :أ َّن آ َدم ملََّا أ ْهبِ َط؛ كَان ْ
احلَ ِديث اهر ْ َان م ْف ِرط ال ُّطول؛ ِيف اِبتِدَ اء َخ ْلقه ،و َظ ِ
َ ْ
ِ
ِّني ذ َراع ًا)َ ،ف َظاهره َأ ان ُه ك َ ُ
إِ َىل ِست ِ
َ
ِّني ِذ َراع ًاَ ،و ُه َو ا ُْمل ْعت ََمد.
الص ِحيحَ ،أ ان ُه ُخلِ َق ِيف اِ ْبتِدَ اء ْاألَ ْمر َع َىل ُطول ِست َا
وروى اِبن َأ ِيب حاتِم ـ بِإِسن ٍ
َاد َح َس ٍن ـ َع ْن أ َ ِّيب ْبن َك ْعب َم ْر ُفوع ًاَ ( :أ َّن اهللَّ ْ َ ََ َ ْ
الر ْأس ،ك ََأنَّه َنخْ َلة سحوق). ِ ِ
َخ َل َق آ َدم َرج ًال ط َواالً؛ كَثري َش ْعر َّ
اْل ْلق َينْقص؛ َحتَّى ْاآلن)َ ،أ ْيَ :أ ان ك ُّل َق ْرن َيكُون ن ََش ْأته َق ْولهَ ( :ف َل ْم َيز َْل َْ
ِيف ال ُّطول؛ َأ ْق َرص ِم ْن ا ْل َق ْرن ا ال ِذي َق ْبلهَ ،فا ْنت ََهى َتنَا ُقص ال ُّطول إِ َىل َه ِذ ِه ْاألُ امة
َوا ْس َت َق ار ْاألَ ْمر َع َىل َذل ِ َك.
الش ْخص اْل ْلق َينْقص)َ ،أ ْي :ك َََّم َي ِزيد ا َو َق َال اِ ْبن التِّنيَ ( :ق ْولهَ :ف َل ْم َي َز ْل َْ
153
وروي عن ابن عباس أيض ًا :أن طول الرجل منهم؛ كان سبعني ذراع ًا.
ابن العريب :وهو باطل ،ألن يف الصحيح( :إن اهلل خلق آدم طوله ستون
ذراع ًا ِف اْلواء ،فلم يزل اْللق ينقص إىل اآلن).
وزعم قتادة( :أن طول الرجل منهم اثنا عَش ذراع ًا).
وإنَّم نقلنا هذه النقول هنا؛ مع كفاية بعضها ،لندل القارئ عىل شهرة هذا
املعنى بني أهل العلم.
لعل ذلك يكون منبه ًا لألخ عدنان إبراهيم إىل وجوب اهلدوء قلي ً
ال،
وإعادة التدبر يف كثري مما يطرحه ،وأن يعيد النظر يف األسلوب واملنهجية؛ التي
يطرح فيها أقاويله واجتهاداته ،ألنا نأمل أن يكون من امللتزمني بمناهج النظر
الصحيح ،ال املبطلني هلا ،الذين يفتحون أبواب االنحراف للبرش ،وهم ال
يعلمون ،وحيسبون أهنم حيسنون صنع ًا.
وأما زعمه بأن هذا املعنى الذي ذكره لتوضيح كيفية ملء النار بأهلها:
عيل ،ومل َأر َم ْن ن ابه إليه قبيل) ،فهو كغريه من
(وهذا مما خطر يل ،وهو مما فتح اهلل ّ
األقاويل السابقة ،التي زعم أهنا من فتوحات اهلل تعاىل عليه ،وتبني أهنا من
خطرات الشياطني ،وشهوات نفسه ،وظهر خمالفتها ألساليب النظر الصحيحة
القويمة الصائبة ،وما كان كذلك؛ فال يقال فيه إنه من فتوحات اهلل تعاىل.
ٍ
بخمسة ،أو عىل أنه ال يلزم أنه لو كان الكفار كجبال أحد ،أن ُمت َ
أل جهنم
مائة ،أو مخسة آالف ،أو عرشة ،أو مليون من البرش ،وال يستلزم كوهنم مثل
154
اجلبال؛ أن يقل عددهم جد ًا كَّم يزعم د .عدنان إبراهيم ،وذلك ألن هذا مبني عىل
تصور عدم اتساع جهنم؛ إال لقدر وحجم حمدودين ،وال أحسبه ينفي قدر َة اهلل
تعاىل ،عىل تضخيم حجم جهنم ،بحيث تتسع ملاليني الناس ،واجل ّن من الكفار،
مهَّم كان حجمهم! ،فمهَّم زاد اهلل تعاىل من حجم الكفار ،فال يستلزم هذا أبد ًا
مفرت ٍ
ض ،لكي يلزم من ذلك أن متتلئ من عدد قليل َ
كون جهنم يف حجم ضيق َ َ
جد ًا منهم ،ومع ظهور هذا املعنى؛ إال أنا نراه قد عزب عن ذهن الدكتور
نفسه عن السبب!.
عدنان! ،وليسأل هو َ
155
األمر الثامن :أنه تعلق بأن اإليعاد ـ ِف استعَمل العرب ـ يمكن أن يتخلف
بخالف الوعد.
وليس يف هذا املعنى ما يسنده؛ وال ما يقيم حجته ،فإن غاية ما يفيده
االستعَّمل اللغوي ،أن اإليعاد يمكن أن يتخلف لغة ،وال يعترب ذلك نقص ًا ملن
العذاب ،نعم هذا صحيح ،ولكن من أين أن هذا
َ يعفو؛ عمن أوعده وتوعده
يستلزم لزوم خلف اإليعاد والوعيد...وال تتم حجته إال بأن يقرر وجوب
التخلف ال جمرد جوازه ،ثم نزيد األمر تدقيق ًا وحتقيق ًا ،فنقول:
إن ما ورد ِف أهل اجلنة؛ كان َمموع أمرين:
وعد وإخبار من اهلل تعاىل ،أنه سوف يثيبهم اجلنة بفضله ،وكالم اهلل تعاىل
وخربه؛ صدق وحق ،ال يصح ختلفه ،ألن ذلك يستلزم الكذب.
ونحن نعلم مجيعا أن تنعيم املؤمنني ،وإثابتهم اجلنة؛ ليس بواجب عىل اهلل
ال عن أن يكون دائ ًَّم.
تعاىل ،فض ً
فسمي خربه وعد ًا؛ يف مقابل الوعيد ،ألن فيه إخبار ًا عن النعيم الذي
سوف يالقونه ،بناء عىل غلبة استعَّمل الوعد يف اخلري ،والوعيد يف غريه.
وما ورد ِف أهل ذنوب :وعد هلم بالثواب يف اجلنة؛ عىل األعَّمل الصاحلة
تم ٍ
معاص وآثام ،ولكن الوعيد ا التي قاموا هبا ،ووعيد هلم عىل ما قاموا به من
تعليقه باملغفرة ،وتم النص يف الرشيعة؛ عىل أن اهلل تعاىل له أن يغفر هلم ،وأن يقبل
شفاعة الشافعني.
156
فعلمنا أن األصل أهنم يعذبون ،ولكن جيوز العفو عنهم ،ولعفو يكون
بفضل اهلل تعاىل ،وهذا قد يكون قبل تعذيبهم أو بعده.
{إِ ْن َ َْتتَنِبوا َك َبائِ َر َما تن َْه ْو َن َعنْه ،ن َك ِّف ْر َعنْك ْم َس ِّيئَاتِك ْمَ ،وندْ ِخ ْلك ْم مدْ َخ ً
ال
ٍ
عاص فهو بالرضورة ا
معذ ٌب ،وأنه ال جيوز ك َِري ًَم}فلم يوجد يف الرشيعة؛ أن كل
العفو عنه ،فلذلك قلنا بقدر احلد الوارد يف الرشيعة ،يف حق العصاة من املؤمنني.
أما الكفار ،فالوارد يف حقهم كَّم رأينا ،وعيد عىل أعَّمهلم ،وورد أيض ًا
إخبار بأهنم خالدون فيها ،وورد أيض ًا أهنم ال َُيرجون ،وال يسمح هلم باخلروج،
وغري ذلك مما سبق بيانه.
فنحن إنَّم نتكلم بحسب احلد الوارد يف الرشيعة ،يف حق هؤالء أيض ًا ،فال
ال ،ال دائ ًَّم ،وال حلظة ،بل إن
نقول :إن تعذيب اهلل تعاىل إياهم يف النار واجب عق ً
اهلل تعاىل كان جيوز يف العقل املحض ،أن ال يعذب أحد ًا من الناس ،كَّم كان جيوز
أن ال يثيب أحد ًا ،فال يشء من الثواب والعقاب عليه بواجب أصالً.
ال؛ ال سمع ًا، وهذا عىل أصل األشاعرة؛ من ّ
أن العفو عن الكفر جائز عق ً
ال؛ وال سمع ًا،
دون ظاهر كالم املاتريدية من أن العفو عن الكفر غري جائز عق ً
بالطبع.
157
ومل نتعلق بَّم قد توحيه أوهام بعض الناس ،فلم نقل :إن الوعيد من حيث هو
وعيد؛ جيوز ختلفه ،فلذلك فسوف يطهر هلل تعاىل الكفار ،وَيرجهم من النار
مطهرين منها ،بحيث يستلزم القول ببقائهم ،وعدم موهتم يف الدار اآلخرة ،وأهنم
داخلون يف دار للنعيم املقيم ،بعد عذاهبم يف النار ،وذلك لتعلقنا بمجرد إمكان
تعلق بَّم ال تعلق به ،واستدالل بَّم ال داللة فيه،
ختلف الوعيد ،مل نقل بذلك؛ ألنه ٌ
فإمكان اخللف يف اإليعاد ،من حيث االستعَّمل اللغوي ،والعرف البرشي؛ ال
يستلزم وجوب اخللف ،وال وقوعه بالفعل ،مطلق ًا ،بل ينبغي التوقف يف ذلك،
عىل أن الوعيد الوارد ،إذا كان أيض ًا بصيغة اخلرب ،فإنا نحمله عىل الوعيد واخلربية
مع ًا ،ونفهم منه الزميه ،ومها وجوب الصدق ،والتحقق ألنه خرب ،وخرب اهلل تعاىل
ال يتخلف ،وكونه وعيد ًا يف نفسه يستلزم كونه عذاب ًا ال تنعي ًَّم.
ِ َ
بل جاء ما يؤكد أن اهلل تعاىل ال يغفر الرشك{ :إِ َّن اهللهَ الَ َيغْفر أن ي ْ َ
َش َك
َتى إِ ْث ًَم َعظِي ًَم}، ِ ون َذلِ َك؛ َمل ِن َي َشاءَ ،و َمن ي ْ ِ ِ
َش ْك باهللهَِ ،ف َقد ا ْف َ َ بِ ِهَ ،و َيغ ِْفر َما د َ
158
ك َّف ٌار َف َلن َيغ ِْف َر اهللَّ َْل ْم}( ،حممد ،)12/واملغفرة؛ من الغفر ،وهو كَّم يقول
إلباس اليشء؛ ما يصونه عن الدنس ،ومنع قيل اغفر ثو َبك يف
ُ الراغب( :ال َغ ْف ُر:
َش َك بِ ِه ِ َ
هلل ال َيغْفر أ ْن ي ْ َ اء َع َّذ َبهَ ،ق َال :إِ َّن اهللََّ ْاس َت ْثنَىَ ،ف َق َال :إِ َّن ا ََّ
اء َغ َف َر َلهَ ،وإِ ْن َش َ
َش َ
ك ملَ ِ ْن َي َشاء).
ون َذلِ ََو َيغ ِْفر َما د َ
ب اهللَّ َله الن ََّار ِِف َعن نَافِعَ ،ع ِن اب ِن عمر؛ َق َال( :كنَّا ال نَش ُّ ِ
يم ْن َأ ْو َج َ كف َ ََ ْ ْ
ون َوه ْم ك َّف ٌار}َ ،ق َالَ :ف َأن َْز َل اهللاُ َت َع َاىل َب ْعدَ َذل ِ َك{ :إِ َّن ِ ِِ
َق ْولهَ { :وال ا َّلذ َ
ين َيموت َ
159
ون َذلِ َك َمل ِ ْن َي َشاء}َ ،ف َح ار َم اهللاُ املَْ ْغ ِف َر َة؛ َع َىل
َش َك بِ ِهَ ،و َيغ ِْفر َما د َاهللََّ ال َيغ ِْفر َأ ْن ي ْ ِ
قال الطربي؛ يف تفسري قوله تعاىل{ :إن اهلل ال يغفر أن يَشك به}( :يعني
بذلك جل ثناؤه{ :يا أَيا الذين أوتوا الكتاب؛ آمنوا بَم نزلنا مصدق ًا ملا معكم}،
وإن اهلل ال يغفر أن يرشك به ،فإن اهلل ال يغفر الرشك به ،والكفر ،ويغفر ما دون
ذلك الرشك ملن يشاء من أهل الذنوب واآلثام).
161
بتخطئته! ،مع أناه لو كان مفكر ًا حر ًا حقيقة ـ كَّم حيلو له دائ ًَّم أن يصف َ
نفسه ـ
الستطاع حترير رأي ابن عريب برصاحة ،والترصيح بمخالفته؛ أو موافقته ،كَّم
استطاع حترير رأي ابن تيمية ،وغريه! ،وهذا كله مما يبعثه عىل إعادة التأمل يف
حاله.
وملا مل يستطع أن يتخلص من أوهام هؤالء ،علقت يف ذهنه ،كَّم رصح،
واقتنع هبا ،وانقاد هلا ،خصوص ًا أنه كَّم يبدو؛ مل يستطع االنفكاك من بعض
شبهات املالحدة ـ كَّم أملحنا فيَّم سبق ـ عىل حكمة اهلل تعاىل ،إال هبذه الطريقة
الباطلة ،وحاول تدعيمها بيشء من عنده ،ونحن نعتقد أهنم مل يوفقوا يف
االستدالل عىل هذه العقيدة الباطلة ،كَّم مل يوفق هو ،ومل يأت يف أغلب كالمه إال
غري واحد من
بتكرار ما قالوه ،وقد تكفل بالرد عىل ابن تيمية ،وابن قيم اجلوزية ُ
املخالف
ُ السبكي ،رمحه اهلل تعاىل ،ولو أعاد
ه العلَّمء ،عىل رأسهم اإلمام العلم التقي
النظر يف رسالة اإلمام السبكي قلي ً
ال ،ومتعن فيَّم قررناه ،فإننا نرجو أن يعيد النظر َ
يف فكره ،وفيَّم اختاره من هذا الرأي الباطل.
واهلل اْلادي إىل سواء السبيل ،وهو املوفق.
وليس لنا إىل غري اهلل تعاىل حاجة وال مذهب
سعيد فودة
9ـ5ـ2072م
162