You are on page 1of 162

2

3
‫مقدمة‬
‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم عىل سيدنا حممد أفضل النبيني‬
‫وخامتهم‪ ،‬وعىل آله وصحبه املهديني‪ ،‬ومن اتبعهم بإحسان إىل يوم الدين؛ وبعد‪:‬‬
‫فقد جاءت جمموع ٌة من طالب العلم من بعض البالد العربية لزياريت‬
‫وتطرق‬
‫ا‬ ‫عَّمن‪،‬‬
‫خالل األيام القليلة املاضية‪ ،‬وسعدت باستضافتهم يف منزيل يف ا‬
‫بعض احلضور يف جمالسنا إىل الرأي الغريب الذي أثاره د‪ .‬عدنان إبراهيم مؤخر ًا‪،‬‬
‫ُ‬
‫وهو َج ْز ُمه ا‬
‫بأن النار تفنى‪ ،‬فانتهزت بعد مغادرهتم فرصة لسَّمع ما قاله‪ ،‬وكيفية‬
‫الكفار املعاندين الذين هم أهلها املحكوم‬
‫َ‬ ‫تقريره إياه‪ ،‬فوجدته فعال جيز ُم ا‬
‫بأن‬
‫عليهم باخللود والتأبيد فيها يف كثري من النصوص الدينية الوثيقة‪ََ ،‬ي ُرجون منها ـ‬
‫وإن كان هو يفضل التعبري بـ(ُي َرجون!) ـ وذلك بعد أن يتطهروا فيها بَّم يالقونه‬
‫من العذاب واآلالم‪ ،‬وذلك ملدة ال تتجاوز يوم ًا واحد ًا عند ربك! ويساوي‬
‫مخسني ألف سنة مما نعدُّ ! ويمكن أن يكون ألف سنة كذلك! وبعد خروجهم من‬
‫النار يدخلهم اهلل تعاىل برمحته اجلن َة‪ ،‬ويصبحون إخوانًا مع املؤمنني باهلل تعاىل من‬
‫األنبياء والرسل عليهم السالم‪ ،‬وسائر املؤمنني‪.‬‬
‫يعم مجيع الكفار قاطبة‪ ،‬وال َيتص بالكفار‬
‫وأن هذا احلكم الذي حيكم به ُّ‬
‫املعارصين‪ ،‬بل ا‬
‫إن مجيع املعاندين من اإلنس منذ بدء اخلليقة مصريهم إىل الدخول‬
‫يف اجلنة‪ ،‬وخترب النار بعد خروجهم منها‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫ويلزمه بالرضورة أن يكون حكمه كذلك يف كفار اجل ِّن‪ ،‬وإن مل يتطرق‬
‫لذلك يف خطبته التي سمعتها‪ ،‬ومنهم إبليس اللعني اليائس من رمحة اهلل تعاىل‪،‬‬
‫فإنه عىل طريقة هذا القائل يؤول مقامه الدائم منعمـًا يف اجلنة مع األنبياء والرسل‬
‫أمجعني‪ ،‬ويصبح مرض ًّيا من اهلل تعاىل حمبوب ًا ممدوح ًا!!‪ ،‬خالدً ا يف اجلنة!!‪.‬‬
‫تدل عىل ذلك‪ ،‬وأبرز عن رأيه خمالف ًا ألعالم‬ ‫أن األدلة الرشعية ُّ‬ ‫وأعلن ا‬
‫األمة‪ ،‬وتشبث برأي بعض املعتدِّ ين بأنفسهم‪ِ ،‬م ْن َق ْب ِله‪ ،‬املنحرفني عن أهل ِّ‬
‫احلق‪،‬‬
‫رصحوا هبذا الرأي الباطل الذي ال يدُ ُّل عليه دليل قويم‪ ،‬وال هيدي إليه‬
‫الذين ا‬
‫رصاط مستقيم‪ .‬ورشع يف حماولة هدم أدلة املخالفني الذين هم باقي األمة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وحماولة تصحيح أدلة ابن تيمية‪ ،‬وابن قيم اجلوزية‪ ،‬ممن خالف خلود‬
‫الكفار يف العذاب‪.‬‬
‫ولكن أحدً ا من هؤالء مل يرصح بجرأة هذا املعارص بأن الكفار قاطبة‬
‫َيرجون من النار ويدخلون اجلنة‪ ،‬بل إن ابن عريب احلامتي؛ ا ادعى أن أهل النار‪،‬‬
‫الذين هم أهلها؛ خالدون يف النار أبد ًا‪ ،‬ال َيرجون منها‪ ،‬وغاية األمر؛ ا‬
‫أن عذاهبم‬
‫ينقلب ـ بعد فرتة من الزمان ـ إىل عذوبة‪ ،‬ويصبحون متلذذين بالنار‪ ،‬بحيث لو‬
‫ُ‬
‫خرجوا منها إىل اجلنة تعذبوا وتأملوا‪.‬‬
‫أ اما ابن تيمية‪ ،‬ومعه تلميذه ابن قيم اجلوزية‪ ،‬فَّمل يف ظاهر كالمه إىل ا‬
‫أن‬
‫أهل النار من الكفار َيـفنون وتفنى معهم النار بعد فرتة من العذاب‪ ،‬ومل جيرؤ عىل‬
‫الترصيح بأهنم َيرجون منها ويدخلون اجلنة!‪ ،‬وإن كان يف بعض كالمه ما قد‬

‫‪5‬‬
‫يشري بذلك!‪ ،‬وقد بينت املذاهب املختلفة يف هذه املسألة يف كتايب‪( :‬أصحاب النار‬
‫ومصريهم)‪ ،‬الذي طبع قبل سنوات قليلة‪.‬‬
‫ورأيت اعتدا َده به‪ ،‬وجراءته عىل زعم أنـاه‬
‫ُ‬ ‫سمعت رأي د‪ .‬عدنان‪،‬‬
‫ُ‬ ‫فلَّم‬
‫وخصوصا ابن‬ ‫ِ‬
‫شبهات املستدلني‪،‬‬ ‫احلق‪ ،‬واستهانته بأدلة اخلصوم‪ ،‬وتعظيمه‬
‫ً‬
‫تيمية‪ ،‬وابن قيم اجلوزية‪ ،‬فإنه هلَّم جمرد تابع‪ ،‬وال يفعل أكثر من تكرار شبهاهتَّم‪،‬‬
‫عزمت عىل كتابة ر ٍّد وجيز عليه‪ ،‬أبني له فيه املغالطات والتحكَّمت التي وقع فيها‬
‫ُ‬
‫باختصار وإجياز لضيق الوقت‪.‬‬
‫نفورا‬
‫نفرت منه ً‬
‫ُ‬ ‫سمعت قوله هذا‪ ،‬وطريقته يف تقريره‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ويعلم اهلل أنني ملا‬
‫ُ‬
‫األعذار من ُ‬
‫قبل‪ ،‬وإن كنت أخالفه يف كثري من آرائه‪ ،‬مع‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫أحتمل له‬ ‫وكنت‬
‫ُ‬ ‫كبريا‪،‬‬
‫ً‬
‫أين ال أشك ُ‬
‫ِّك يف نواياه بحسب الظاهر‪ ،‬ولكني ال أثق بطريقته وال بقدرته عىل‬
‫النظر الدقيق بالقدر الذي يزعمه لنفسه‪ ،‬وال يعجبني ذلك كله منه‪ ،‬ملا أراه عيانًا‬
‫من ختلل الفساد فيها‪ ،‬والضعف والتهافت يف زواياه‪ ،‬مع أنه يدعي كثري ًا أنه تفوق‬
‫صح فال‬
‫يف االطالع والقراءة‪ ،‬والذكاء ‪..‬إلخ‪ ،‬ولكن ذلك عندي جمرد ادعاء‪ ،‬إن ا‬
‫ووقعت يف أثناء اطالعي‬
‫ُ‬ ‫يميزه عن كثري غريه ممن هم كذلك بل أكثر مما يتوهم!‪،‬‬
‫مقادير من مواضع الزلل التي وقع فيها يف خمتلف كالمه‪ ،‬وذلك‬
‫َ‬ ‫عىل كالمه عىل‬
‫يصح نف ُيه‪ ،‬وال التشكيك فيه؛‬
‫ُ‬ ‫ظاهرا ال‬
‫ً‬ ‫مع شهاديت بيشء كثري له‪ ،‬وبذله جهدً ا‬
‫خالف!‪ ،‬وهذا يشري إىل فضيلة له؛ ال ينبغي‬
‫َ‬ ‫لنرش ما يعتقد صوا َبه‪ ،‬وإن خالف من‬
‫بالعاقل التصدي لنفيها‪ ،‬وكأين كنت أرى كثري ًا من ردوده يشوهبا انفعاالت‬

‫‪6‬‬
‫نفسانية من بعض الرادين عليه الذين شككوا فيه‪ ،‬وقدحوا يف مقاصده! واهتموه‬
‫كثريا عندما يتكلم معهم‪ ،‬وال ريب يف تأثره هبذه‬
‫بشتى التهم‪ ،‬ورأيته ينفعل ً‬
‫وقلت أال يعلم أن هؤالء الذين اعتلق معهم‬
‫ُ‬ ‫األحوال كلها‪ ،‬ولكني ملتُه يف نفيس‪،‬‬
‫اعتادوا الر اد عىل خصومهم هبذه الطرق والتشنيعات التي يكثرون فيها من‬
‫االفرتاء والتهويل والتشغيب والتعايل‪...‬الخ‪ ،‬والذي له عقل رجيح؛ ال يلتفت‬
‫يرص عىل احلرص عىل تسديد طريقته ونظره‪.‬‬
‫إليهم‪ ،‬وال يعتد بموقفهم‪ ،‬بل ُّ‬
‫وقد اشتغل أخري ًا بمحاولة الر ِّد عىل املالحدة يف زعمهم عد َم وجود اهلل‬
‫قلت يف نفيس إن ذلك أقوم مما كان‬
‫تعاىل والتشكيك يف رضوريات الدين‪ ،‬وقد ُ‬
‫تلبس فيه من ُ‬
‫قبل‪ ،‬وال أشك أن ذلك أ ادى به إىل إعادة النظر يف بعض آرائه التي‬
‫رصح بخطبته هذه‪ ،‬وشبهة‬
‫كان يعتقد هبا‪ ،‬ومنها خلود أهل النار فيها‪ ،‬كَّم ا‬
‫املالحدة التي يعتمدون فيها عىل القدح يف عدل اهلل تعاىل بناء عىل عدم التساوي‬
‫بني مدة الكفر والضالل‪ ،‬ومدة التعذيب يف الدار اآلخرة‪ ،‬وهو تشكيك شهري‪،‬‬
‫معل وم للناظرين يف علم أصول الدين‪ ،‬وطرق الرد عليه معروفة‪ ،‬ولكن إذا كان‬
‫هؤالء يشككون يف أصل وجود اهلل تعاىل فمن املتوقع أن يشككوا يف بعض أفعال‬
‫اهلل تعاىل وأحكامه‪ ،‬وال ينبغي للعاقل أن يطمح يف حتقيق ما مل حيصل عىل يد‬
‫األنبياء عليهم الصالة والسالم أمجعني‪ ،‬وهو إجلاء الكفار أمجعني إىل االعرتاف‬

‫بسداد الدين‪ ،‬وصحة أحكامه‪ ،‬ورضورة االلتزام برشيعته‪َ { ،‬و َما َأ ْك َثر الن ِ‬
‫َّاس َو َل ْو‬

‫ني}‪[ ،‬يوسف‪ ،]301/‬وما ينبغي عليه أن يقوم بإظهار حجته‪،‬‬‫ِِ‬


‫ت بِم ْؤمن َ‬
‫َح َر ْص َ‬

‫‪7‬‬
‫والرد عليهم بَّم يطيقه من دون اضطرار إلبطال بعض الرضوريات من الدين‪،‬‬
‫بأدلة وبغري أدلة‪ ،‬بدعوى احلرص عىل إلزامهم برضورة اإليَّمن واخلضوع له‪.‬‬
‫وعىل كل حال‪ ،‬فلن ننساق إىل حماولة حتليل الدواعي التي دعته إىل هذا‬
‫القول‪ ،‬فلعل هلذا حم ً‬
‫ال آخر‪.‬‬
‫ولكنا سنحرص ههنا عىل أن نلفت نظره إىل بطالن األدلة التي اعتمد‬
‫عليها‪ ،‬وأن ما توهم أنه فتوحات إنَّم هو أباطيل وتشغيبات وتومهات‪ ،‬ومن‬
‫واجبنا أن نقوم بالرد عليه‪ ،‬خصوص ًا يف هذا املقام‪ ،‬الذي هو باتفاق املؤمنني من‬
‫أصول الدين‪ ،‬عل ًَّم بأن ما ذكرناه هنا ليس مجيع ما يمكن أن نقوله ونقرره‪ ،‬وما‬
‫بيناه من طرق االستدالل إن هو إال ملعات مما نعلمه‪ ،‬ولكنا حرصنا عىل إبطال ما‬
‫متسك هو به‪ ،‬بالقدر الذي نعتقد كفايته‪ ،‬بال معاندة وال جلاج‪.‬‬
‫وقد كتبت هذه الكلَّمت يف نحو يومني‪ ،‬مع كثرة االنشغال‪ ،‬وتفرق‬
‫األحوال‪ ،‬واهنَّمكنا يف وظائف األهل‪ ،‬وطالب العلم‪ ،‬وغريه من مشاغل الدنيا‪،‬‬
‫ال نريد يف ذلك؛ إال وجه اهلل تعاىل‪ ،‬وال نطمح إال يف بذل الوسع يف داللته‪ ،‬وغريه‬
‫واحلق الظاهر‪ ،‬وال نرغب إال يف‬
‫ِّ‬ ‫ممن اغرت بقوله‪ ،‬وقول ابن تيمية؛ إىل اهلدى‪،‬‬
‫اإلشارة إىل األساليب املغالطية‪ ،‬والترسعات املنهجية‪ ،‬التي وقع فيها‪ ،‬فض ً‬
‫ال عن‬
‫الدعاوى اهلائلة؛ التي يكثر منها‪ ،‬يف خمتلف دروسه وخطبه‪ ،‬مع أن أكثر تلك‬
‫الفتوحات!‪ ،‬والدقائق التي يزعمها!‪ ،‬ال ترقى إىل هذه املنزلة‪ ،‬التي يرفع شأهنا‬
‫إليها‪ ،‬نعم نحن ال نغمطه ح اقه‪ ،‬ونعرتف بجهده‪ ،‬ونرغب يف تقويمه أسلوبه‪،‬‬

‫‪8‬‬
‫يقوم أحوا َله‪ ،‬فيجعله‬
‫وعدم اندفاعه وراء رغباته وهواه‪ ،‬ألنـاا نرجو اهلل تعاىل أن ِّ‬
‫أن ي َق َع ر ِّدي هذا موق َعه الذي أ ُّ‬
‫حب له يف‬ ‫من الدعاة إىل احلق؛ ال إىل سواه‪ ،‬وآمل ْ‬
‫نفسه‪.‬‬
‫ولوال أنه بادر إىل اإلعالن عن رأيه ـ مع خطورته ـ ونرشه عىل الناس‬
‫ِ‬
‫أقدمت عىل نرش هذا الر ِّد ملن شاء‪ ،‬إال بعد أن ُأطل َعه هو عليه‪ ،‬و َأ ْح ِر َ‬
‫ص‬ ‫ُ‬ ‫عامة‪ ،‬ملا‬
‫ِ‬
‫وجاد ْْلم بالتي هي َأ ْح َسن} وهي‬ ‫ال بعموم قوله تعاىل‪{ :‬‬
‫عىل مباحثته‪ ،‬عم ً‬
‫سارع إليه!‪،‬‬
‫َ‬ ‫أحسن‪ ،‬لوال ما‬
‫ُ‬ ‫ذكرت‪ ،‬مما يصدق عليه أنه‬
‫ُ‬ ‫املنهج الذي‬
‫َ‬ ‫تشمل‬
‫وندعو اهلل تعاىل؛ أن هيدينا وإياه؛ إىل سواء السبيل‪ ،‬والصال ُة والسالم عىل سيدنا‬
‫حممد خاتم النبيني‪ ،‬واحلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫متهيد‬
‫بعض الناس؛ إذا خطر هلم خاطر‪ ،‬تسارع إىل نظرهم أهنم جمتهدون أفذاذ‪،‬‬
‫وأهنم بعض أفراد من جنس البرش‪ ،‬اجتمع هلم الذكاء‪ ،‬يف أرقى صوره‪ ،‬فرتاهم‬
‫يسارعون إىل التمسك بَّم جترأوا عليه‪ ،‬بغري نظر سديد‪ ،‬وإن ادعوا أهنم وصلوا يف‬
‫الفكر واملعرفة واالطالع إىل أعىل عليني‪.‬‬
‫ونحن ال هيمنا الدعاوى التي ينثرها املدعون‪ ،‬بل ننظر إىل ما يقدمون بني‬
‫يدي دعاوهيم‪ ،‬من أدلة قاهرة‪ ،‬أو لفتات نادرة‪ُّ ،‬‬
‫تدل عىل ما يزعمون‪ ،‬فإن رأينا‬
‫هذا فيهم‪ ،‬شهدنا هلم بالفضل والعال‪ ،‬وإال فال‪ ،‬بل رددنا عليهم‪ّ ،‬‬
‫لعل ر ادنا‬
‫يعيدهم إىل يشء من الرتوي؛ الذي فقدوه‪ ،‬ويبطئهم عن الترسع الذي اخرتقوه‪.‬‬
‫ومعلوم أن مسألة أن النار تفنى؛ أو هي خالدة أبد ًا‪ ،‬من أخطر املسائل‬
‫العقائدية‪ ،‬ولذلك؛ فإنه جيب عىل من َيوض فيها‪ ،‬ويرتئي رأي ًا‪ ،‬أو يرجح نظر ًا‪،‬‬
‫أن يكون معتمد ًا عىل األدلة القوية الراسخة‪ ،‬ال عىل جمرد (يبدو يل)‪ ،‬و(كأن اهلل‬
‫خطر يل)!‪ ،‬ونحو ذلك من العبارات التي ال عربة هبا‬
‫أراد أن يقول)‪ ،‬أو (وهذا مما َ‬
‫يف هذه املجاالت‪.‬‬
‫وال َيفى أن خلود املؤمنني يف اجلنة‪ ،‬من أوضح الواضحات‪ ،‬يف اآليات‬
‫واألحاديث‪ ،‬ويف رشائع اهلل تعاىل؛ إىل أنبيائه‪ ،‬ويف أديانه؛ التي أوجب عليهم بياهنا‬
‫للناس‪ ،‬ومثل هذه العقيدة‪ ،‬ينبغي أن تكون واضحة ظاهرة‪ ،‬وهي كذلك بفضل‬
‫اهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫وكذلك يقال األمر نفسه؛ يف مسألة فناء النار‪ ،‬أو عدم فنائها‪ ،‬فإن كان‬
‫القائل بعدم الفناء ـ وهو مجيع من يعتدُّ به من املسلمني ـ يعتمد عىل أدلة يزعم أهنا‬
‫ظاهرة‪ ،‬دالة داللة قوية عىل ما يقول‪ ،‬وعىل ما ينسبه إىل الرشيعة‪ ،‬فعىل من يريد‬
‫ترجيح الرأي القائل بأن النار تفنى‪ ،‬وذلك بعد أن يتطهر أصحاهبا من أدراهنم‪،‬‬
‫تم فيهم ذلك‪ ،‬مل يعد هناك‬ ‫ُّ‬
‫والتأمل‪ ،‬حتى إذا ا‬ ‫ويتخلصوا من خطاياهم‪ ،‬بالتعذب؛‬
‫ما يوجب أن يبقوا فيها‪ ،‬وكأن وجودهم فيها كان عن ِ‬
‫موجب عىل من وضعهم‬
‫فيها‪ ،‬وهو امللك الديان‪ ،‬الذي ال جيب عليه يشء من األفعال‪ ،‬وال يلزمه أمر من‬
‫األمور احلادثة‪ ،‬بل كل ما ُحيدثه؛ فإنَّم هو بأمره‪ ،‬وإرادته‪ ،‬وتدبريه‪.‬‬
‫يبق هناك ما يدعو إلبقائهم‪ ،‬ولذلك فينبغي إدخاهلم يف‬
‫فال يقال إنه مل َ‬
‫اجلنة‪ ،‬كأن األصل أن الواجب عىل اهلل؛ والذي ينبغي عليه ـ حاشاه! ـ هو إدخال‬
‫الناس أمجعني يف اجلنة!‬
‫أقول‪ :‬عىل من يريد أن يثبت هذا الرأي الغريب الشاذ‪ ،‬أن يثبته بأدلة ال‬
‫تنزل عن أدلة اجلمهور يف القوة والوضوح!‪ ،‬وهيهات!‪.‬‬
‫والذي أعلمه من مذاهب املسلمني يف النار؛ أهنم أمجعوا عىل أن الكفار‬
‫الذين هم أهل النار وأصحاهبا‪ ،‬يبقون فيها ما دامت موجودة‪ ،‬وعىل أهنم ال‬
‫يدخلون اجلنة أبد ًا‪ ،‬وال يرحيون رحيها‪.‬‬
‫ومل أعرف أحد ًا من ُ‬
‫قبل؛ جترأ عىل القول‪ :‬بأن أهل النار ـ الذين هم أهلها‬
‫ـ يبقون فيها فرتة وجيزة؛ باإلضافة إىل عمر اجلنة‪ ،‬وهذه الفرتة هي يوم واحد (إما‬

‫‪11‬‬
‫مخسون ألف سنة‪ ،‬أو ألف سنة مما تعدون)‪ ،‬ثم َيرجون لزام ًا‪ ،‬ولعمري إن هذه‬
‫القالة‪ ،‬توافق ما ا ّدعاه اليهود ألنفسهم خاصة؛ عدا الناس أمجعني‪ ،‬عندما قالوا‪:‬‬

‫ك بِ َأ ََّّن ْم َقالو ْا‪َ :‬لن متَ َ َّسنَا النَّار؛ إِالَّ َأ َّيام ًا َّم ْعدو َدات‪َ ،‬وغ ََّره ْم ِِف ِدين ِ ِهم َّما كَانو ْا‬
‫{ َذلِ َ‬

‫وأيضا قوهلم‪َ { :‬و َقالو ْا‪َ :‬لن متَ َ َّسنَا النَّار؛ إِالَّ َأ َّياماً‬‫ً‬ ‫ون}(آل عمران‪،)42/‬‬ ‫َي ْف ََت َ‬
‫ون َع َىل ا هِ‬
‫هلل َما‬ ‫هلل َع ْهدَ ه؟!‪َ ،‬أ ْم تَقول َ‬ ‫فا ه‬‫ُيلِ َ‬
‫َّم ْعدو َد ًة‪ ،‬ق ْل َأ ََّّت َْذت ْم ِعندَ اهللهِ َع ْهد ًا‪َ ،‬ف َلن ْ‬

‫ون}(البقرة‪.)00/‬‬
‫الَ َت ْع َلم َ‬
‫فاليهود ا ّدعوا أن النار لن متسنا إال أيا ًما معدودة‪ ،‬أ اما سائر اخللق‪،‬‬
‫فسيبقون يف النار إىل األبد‪.‬‬

‫وقوهلم‪{ :‬أيام ًا معدودة}؛ أي‪ :‬قليلة‪ ،‬حمصورة‪ ،‬ثم يزعمون؛ أهنم‬


‫سيدخلون اجلنة‪.‬‬

‫وكَّم نرى؛ فإن اهلل تعاىل كذهبم‪ ،‬فقال‪{ :‬أَّتذتم عند اهلل عهد ًا} فإن كان‬
‫األمر كذلك‪ ،‬فلن َيلف اهلل تعاىل عهده‪ ،‬ولكن شيئ ًا من هذا مل حيدث‪ ،‬فلم‬
‫يعدكم اهلل تعاىل بيشء نحو ذلك‪ ،‬وال وعد غريكم أيض ًا بذلك‪ ،‬فأنتم كاذبون عىل‬
‫اهلل تعاىل؛ حني تزعمون ذلك‪.‬‬
‫أن اليهود الذين قامت عليهم احلجة من الكفار أيض ًا يف‬
‫ومن املعلوم ا‬
‫الرشيعة اإلسالمية‪ ،‬فلو كانت جهنم تزيل عنهم أدراهنم‪ ،‬وتنقيهم وتطهرهم بعد‬
‫ٍ‬
‫واحد‪ ،‬وصدق القائل‪ :‬بأن جهنم إنَّم جعلت لذلك‪ ،‬أي‪ :‬للتنقية‪،‬‬ ‫عذاب يوم‬

‫‪12‬‬
‫والتطهري‪ ،‬وإزالة األدران‪ ،‬واملعايص عن قلوب البرش‪ ،‬ألزالت ذلك عنهم أيض ًا‬
‫يف تلك األيام التي زعموها‪ ،‬أو يف اليوم الواحد الذي يقول به القائل‪.‬‬
‫وبغض النظر عن عدد األيام التي زعموا فيها بقاءهم يف النار‪ ،‬فلم يكن‬
‫العدد املعني هو حمل النزاع‪ ،‬وال وقع اخلالف فيه‪ ،‬ولذلك نكرت األيام‪ ،‬وأطلقت‬
‫تعرف‪ ،‬فصارت تصدق عىل أي أيام‪ ،‬خصوص ًا أهنا جاءت يف مقام التحقري‬
‫ومل ا‬
‫والتقليل لأليام‪ ،‬فمهَّم كان عددها‪ ،‬فقد نفى اهلل تعاىل ذلك‪.‬‬
‫نفسه؛ أن يقول‪ :‬إنَّم تسلط النفي عىل زعمهم‪ ،‬أن هلم‬
‫وقد يتصور ملن سفه َ‬
‫عهد ًا عند اهلل تعاىل؛ بأن ال يبقوا إال أيام ًا‪ ،‬أي‪ :‬قليلة‪.‬‬
‫فنقول له‪ :‬ليس يف كالمهم دعوى ذلك‪ ،‬ولكن كالم اهلل الراد عليهم‪،‬‬
‫معناه‪ ،‬إنه ال يصدق ما تزعمون إال بوعد؛ وعهد من اهلل تعاىل‪ ،‬بأن ال تبقوا فيها‬
‫إال أيام ًا‪ ،‬وبخالف ذلك ـ أي‪ :‬ومع فرض عدم وجود ذلك العهد ـ فليس لكم‬
‫أن ختصوا أنفسكم هبذه اخلصيصة‪ ،‬فض ً‬
‫ال أن يدّ عيها غريكم‪ ،‬فلم يبق إال أن البقاء‬
‫يف النار‪ ،‬ليس حمصورا بأيا ٍم‪ ،‬عىل حدٍّ زعمهم‪.‬‬
‫بل هو مطلق وبقاء خالد ما دامت السموات واألرض‪.‬‬

‫الس ََم َوات‬ ‫ومن املعلوم أهنَّم تبقيان أبد ًا‪َ { ،‬ي ْو َم ت َبدَّ ل األَ ْرض غَ ْ َري األَ ْر ِ‬
‫ض َو َّ‬
‫اح ِد ا ْل َق َّه ِ‬
‫ار}‪( ،‬إبراهيم‪ ،)20/‬وال دليل عىل انعدامهَّم‪ ،‬أو ختلل‬ ‫وبرزو ْا هللهِ ا ْلو ِ‬
‫َ‬ ‫َََ‬
‫الفناء عليهَّم‪ ،‬بعد عملية التبديل (اليوم اآلخر‪ ،‬واحلياة الباقية) التي اختلف فيها‬

‫‪13‬‬
‫األعالم؛ هل هي عن إعدام؛ وإفناء تا ٍّم‪ ،‬ألجزائهَّم؟‪ ،‬أو جمرد تغري لنظامهَّم‪ ،‬الذي‬
‫كان‪ ،‬واخرتاع نظام آخر جديد؛ يبقى ويدوم؟!‪.‬‬
‫وما دام ال يوجد وعد؛ وال عهد من اهلل تعاىل‪ ،‬فال شك يف بطالن‬
‫دعواهم‪ ،‬القائلة‪ :‬بأهنم ال يبقون يف النار؛ إال أيا ًما معدودة‪ ،‬بل احلق أهنم يبقون‬
‫فيها ما دامت السموات واألرض خالدين فيها أبد ًا‪.‬‬

‫ويف الطربي؛ يف تفسري قوله تعاىل‪َ { :‬و َقالوا‪َ :‬ل ْن متَ َ َّسنَا النَّار؛ إِ َّال َأ َّيام ًا‬
‫ون َع َىل ا َِّ‬
‫هلل َما‬ ‫هلل َع ْهدَ ه!‪َ ،‬أ ْم تَقول َ‬ ‫ف ا َّ‬ ‫ُيلِ َ‬
‫َم ْعدو َد ًة‪ ،‬ق ْل َأ َّ ََّت ْذت ْم ِعنْدَ اهللَِّ َع ْهد ًا؟!‪َ ،‬ف َل ْن ْ‬

‫َ‬
‫رسول اهلل صىل اهلل عليه‬ ‫ون}‪ ،‬قال‪( :‬عن عكرمة؛ قال‪ :‬خاصمت اليهو ُد‬
‫َال َت ْع َلم َ‬
‫وسلم؛ فقالوا‪ :‬لن ندخل النار؛ إال أربعني ليلة‪ ،‬وسيخلفنا فيها قوم آخرون ـ‬
‫يعنون حممد ًا؛ وأصحابه ـ فقال رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم بيده عىل‬
‫رءوسهم‪ :‬بل أنتم فيها خالدون‪ ،‬ال َيلفكم فيها أحد‪ ،‬فأنزل اهلل جل ثناؤه‪:‬‬

‫{وقالوا‪ :‬لن متسنا النار؛ إال أياما معدودة})‪.‬‬


‫وال يصح الزعم بأن النفي تسلط عىل حرصهم مك َث ُهم يف النار؛ بأيام‬
‫معدودة‪ ،‬يعتقدوهنا يف ذهنهم‪ ،‬وقيل‪ :‬أربعني يوم ًا‪ ،‬وقيل‪ :‬غريها‪ ،‬بل إن النفي‬
‫تسلط عىل زعمهم مكثهم يف النار أيام ًا‪ ،‬بال تقييد‪ ،‬أن تكون تلك األيام أربعني؛‬
‫أو غريها‪ ،‬أكثر‪ ،‬أو أقل؛ ألن األصل إطالق البقاء يف النار‪ ،‬وتقييده بمدة؛ ال‬
‫ٍ‬
‫وختييل‪.‬‬ ‫يصح أن يقال به؛ إال بدليل قويم‪ ،‬ال بمجرد زع ٍم‪،‬‬
‫وال يصح القول يف هذه املسألة؛ إال عن علم‪ ،‬أي دليل يقيني راجح‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫وما سواه يعدُّ خترص ًا‪ ،‬ألنه سيكون يف مقابل الراجح‪ ،‬والواجب العمل‬
‫بالراجح؛ يف مقابل املرجوح‪.‬‬

‫ومن يرجح املرجوح فإنَّم يرجحه هلواه‪ ،‬ومن يزعم أن مثل قوله‪{ :‬إال ما‬

‫شاء اهلل؛ ِف معرض ذكر عذاب النار}‪ ،‬وجه ٌّ‬


‫قوي لرتجيح الفناء‪ ،‬وإخراج أهل‬
‫النار منها‪ ،‬وإدخاهلم إىل اجلنة‪ ،‬فهو لعمري؛ ال يعرف ما حقيقة الرتجيح‪ ،‬وال‬
‫الرجحان‪ ،‬وال النظر‪ ،‬ولكنه يتبع هواه‪ ،‬فهو ال يستنكف عن الترصيح ا‬
‫بأن السبب‬
‫الذي أداه به األمر إىل إعادة النظر يف هذه املسألة‪ ،‬هو اعرتاض كثري من الناس عىل‬
‫قول من يقول‪ :‬بأن الكفار خالدون يف النار أبد ًا‪.‬‬
‫والقوي‬
‫ُّ‬ ‫نعم هو قول عظيم‪ ،‬وعذاب عظيم‪ ،‬ولكنه الظاهر من اآليات‪،‬‬
‫بأدلته؛ ال بمجرد اهلوى‪ ،‬وال التعصب‪ ،‬وال التعنت‪.‬‬
‫وكأن هؤالء القائلني يستنكرون عىل اهلل تعاىل؛ أن يبقيهم بإرادته‪،‬‬
‫ومشيئته‪ ،‬يف عذاب النار‪ ،‬خصوص ًا؛ وهم من املكذبني له‪ ،‬املنكرين لدينه‪،‬‬
‫املبطلني لرساالته‪ ،‬الدائمني عىل ذلك‪ ،‬بعد قيام احلجة عليهم؛ يف دار االختبار‪.‬‬
‫ال إهل ًا‪ ،‬فال ينبغي أن تفعل ما يرضنا‪،‬‬
‫كنت فع ً‬
‫وكأهنم يقولون هلل تعاىل‪ :‬إذا َ‬
‫وال ما ينافر مشاعرنا‪.‬‬
‫ولعمري؛ فإن اعرتاضهم هذا عىل تأبيد النار‪ ،‬والتعذيب فيها‪ ،‬لوارد عىل‬
‫تطويل املدة التي يعذبون فيها‪ ،‬فال أحد منهم عاش يف األرض كافر ًا؛ مدة مخسني‬
‫ألف سنة‪ ،‬وال عرش معشار هذه املدة‪ ،‬فكيف يعاقبه اهلل تعاىل هذه املدة الطويلة؟‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫فإن كان اعرتاضهم عىل تأبيد التعذيب‪ ،‬لطوله؛ وعدم انتهائه‪ ،‬مع قرص‬
‫فرتة معصيتهم‪ ،‬فهذا االعرتاض وارد أيض ًا؛ عىل تطويل املدة أكثر من مدة‬
‫كفرهم‪ ،‬فإن ضوعفت مرتني أو ثالث مرات‪ ،‬فَّم هي احلكمة؟!‪ ،‬التي من أجلها‬
‫تضعف املدة مخسني ألف سنة؟!‪( ،‬وهو مقدار يوم عند ربك)‪ ،‬ولو اعتربنا عمر‬
‫ك ل واحد من الكفار مائة عام‪ ،‬لكانت فرتة التضعيف مخسَّمئة مرة‪ ،‬وهي لعمري‬
‫طويلة جد ًا فعالً‪ ،‬ولو قسناها بمقياس الرغبات التي يقيسون هبا؛ وحيتجون هبا‪،‬‬
‫لكانت خارجة عن احلكمة‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬إن هذه املدة الزمة لتطهري أدران الكفر من نفوسهم‪.‬‬
‫نقول‪ :‬أليس اهلل تعاىل بقادر عىل إزالة أدران الكفر؛ يف أقل من هذه املدة‪،‬‬
‫بل يف حلظة واحدة من نفوسهم‪.‬‬
‫فليكن العذاب مدة تساوي مدة الكفر واإلحلاد‪ ،‬وما زاد عىل ذلك؛ فهو‬
‫خارج عن احلكمة والصحة إذن!‪.‬‬
‫إن الناظر؛ إن سلم بصحة اعرتاضهم هذا‪ ،‬فإنه يرد عليه كل ذلك‪ ،‬بل‬
‫أكثر منه‪ ،‬وال يمكنه اخلالص منه‪.‬‬
‫كثري من كلَّمت ابن تيمية‪ ،‬واملعاين التي بثها‬
‫وقد علقت يف نفس د‪ .‬عدنان ٌ‬
‫يف ثناياه‪ ،‬ومنها‪ :‬اغرتاره بأن اخلطأ الذي وقع فيه اجلهمية؛ أهنم قالوا‪ :‬بفناء اجلنة؛‬
‫والنار كليهَّم‪ ،‬ومل يقولوا‪ :‬بفناء النار فقط‪ ،‬يعني‪ :‬أن االعرتاض عىل اجلهمية؛ مل‬

‫‪16‬‬
‫يكن ليقع عليهم‪ ،‬لو قالوا‪ :‬بفناء النار فقط‪ ،‬وقالوا‪ :‬ببقاء اجلنة‪ ،‬ولكنهم ملا قالوا‬
‫بفنائهَّم مع ًا‪ ،‬اعرتض عليهم السلف واخللف!‪ ،‬وهذا الفهم غريب عجيب‪.‬‬
‫فاملسألة أن املسلمني أمجعوا ـ ملا رأوه من األدلة القرآنية؛ واألحاديث‬
‫النبوية ـ عىل ا‬
‫أن كال من اجلنة والنار باقية؛ ال تفنى؛ وال َيرج منها أهلها‪ ،‬وهذا‬
‫يعني‪ :‬إمجاعهم عىل بقاء اجلنة‪ ،‬وإمجاعهم كذلك عىل بقاء النار‪ ،‬فهَّم أمران جممع‬
‫عليهَّم‪ ،‬واملسألة ليست إمجاع ًا واحد ًا‪ ،‬برشط اجلمع بني القول ببقاء اجلنة والنار‪،‬‬
‫ٍ‬
‫خمالف اإلمجاع!‪ ،‬ومجيع املعتربين من أهل‬ ‫إن من فرق بينهَّم؛ يكون غري‬ ‫بحيث ا‬
‫العلم؛ يعلمون مع ثبوت هذا اإلمجاع‪ ،‬ا‬
‫أن َم ْن أنكر بقاء اجلنة‪ ،‬أو بقاء النار‪ ،‬فإنه‬
‫يكون خمالف ًا لإلمجاع أيض ًا‪.‬‬
‫وما زعمه عدنان إبراهيم تبع ًا وتقليد ًا؛ بال ٍ‬
‫متعن! البن تيمية‪ ،‬من أن هناك‬
‫فر ًقا بني قول اجلهمية‪ ،‬وقول من أنكر بقاء النار فقط‪ ،‬بحيث يكون من أنكر بقاء‬
‫مؤثر‪ ،‬وينتج عنه عدم لزوم‬
‫ٌ‬ ‫النار فقط‪ ،‬غري مناقض لإلمجاع‪ ،‬وأن هذا الفرق‬
‫التشنيع عىل املخالف وتغليطه‪ ،‬حتى وإن قال‪ :‬ببقاء اجلنة فقط؛ وفناء النار!‪ ،‬فهذا‬
‫استقر يف خلده‪ ،‬تقليدً ا حمض ًا البن تيمية‪ ،‬ال اتباع ًا للدليل‪ ،‬وال حتقيق ًا‬
‫ّ‬ ‫جمرد وهم‪،‬‬
‫من عنده‪.‬‬
‫ولذلك فقد تسلل ابن تيمية؛ خلرق هذا اإلمجاع‪ ،‬بطرق سخيفة‪ ،‬وزاد هذا‬
‫يف اخلرق‪ ،‬م ْن َب ْعده حلدِّ القول رصاح ًة‪ ،‬بأن أهل النار؛ ال يفنون مع النار‪ ،‬بل‬

‫‪17‬‬
‫يدخلون اجلنة مجيع الكفار؛ إنسهم وجنهم‪ ،‬ويلزمهم بالرضورة؛ أن يشملوا يف‬
‫هذا احلكم شيطاهنم وإبليسهم‪ ،‬أوهلم ومتأخرهم!‪.‬‬
‫وقد تعلق هذا املتعلق بأمور ضعيفة للتمسك بقوله؛ الذي ال نراه إال قوالً‬
‫بال دليل راجح‪ ،‬بل جمرد شبهات‪ ،‬وأمور مشتبهة‪ ،‬يتمسك هبا بعض الناس‪،‬‬
‫يقدموهنا عىل املحكَّمت الظاهرات؛ من الكتاب والسنة‪ ،‬لدوا ٍع تدعوهم إىل‬
‫ذلك!‪.‬‬
‫األمر األول ـ الذي تعلق به النايف خللود النار ـ‪ :‬زعم أن اخللود وضع يف‬
‫اللغة؛ للبقاء املتطاول‪ ،‬وزعمه أنه يفيد االنتهاء‪ ،‬ولكنه غفل عن أن املدة الطويلة؛‬
‫تصدق عىل املدة الطويلة الدائمة التي ال تنقطع‪ ،‬وعىل املدة الطويلة؛ باإلضافة إىل‬
‫غريها‪ ،‬وإن كانت تنقطع وتنتهي‪ ،‬وكان هلا حدٌّ ‪.‬‬
‫وكل ما قاله يف هذا الباب‪ ،‬إنَّم هو عن غفلته‪ ،‬ولظنه أن اخللود إنَّم وضع‬
‫للمدة الطويلة برشط أن تنتهي‪ ،‬ولكن لو كان األمر كذلك‪ ،‬ملا جاز أن يوصف‬
‫بقاء املؤمنني يف اجلنة باخللود‪ ،‬فإنه يكون عندئذ منقطع ًا‪ ،‬واإلمجاع واقع عىل أنه‬
‫غري منقطع‪ ،‬وال ٍ‬
‫منته‪.‬‬

‫اْل ْلدَ َأ َفإِن ِّم َّ‬


‫ت َفهم‬ ‫ك ْ‬‫وأين هو من قوله تعاىل‪َ { :‬و َما َج َع ْلنَا لِ َب ََش ِّمن َق ْبلِ َ‬

‫اْلالِد َ‬
‫ون}‪( ،‬األنبياء‪ ،)12/‬فهل اخللود ههنا؛ يعني‪ :‬البقاء لفرتة طويلة معلومة‬ ‫َْ‬

‫االنتهاء؟!‪ ،‬أم هو البقاء بال هناية؟!‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫يعني هل املنفي؛ هو‪ :‬أن بعض البرش قبلك عاشوا مدة طويلة؟!‪ ،‬أم ان‬
‫املنفي هو أن ال أحد من البرش قبلك عاش خالد ًا؟!‪.‬‬
‫وربَّم يزعم زاعم؛ ا‬
‫أن الذي ذكره د‪ .‬عدنان‪ ،‬هو ما قرره الراغب‬
‫األصفهاين‪ ،‬وليس كذلك‪.‬‬
‫تربي اليشء‬
‫فالذي قرره الراغب‪ ،‬وغريه ـ كَّم سنذكر ـ أن اْللود‪( :‬هو ِّ‬
‫من اعَتاض الفساد‪ ،‬وبقاؤه عىل احلالة التي هو عليها)‪ ،‬فهذا هو األصل يف‬
‫اخللود‪ ،‬فهو عدم التغري عن احلالة التي عليها‪.‬‬
‫ولذلك قرر الراغب أن‪( :‬كل ما يتباطأ عنه التغيري والفساد؛ تصفه العرب‬
‫ثاِف‪ :‬خوالد‪ ،‬وذلك لطول مكثها؛ ال لدوام بقائها)‪ ،‬وهذا هو‬ ‫ِ‬
‫باْللود‪ ،‬كقوْلم لِل ه‬
‫املثال الذي تلقفه د‪ .‬عدنان ـ من كتب اللغة ـ يف اجتهاداته التي أراها مترسعة!‪،‬‬
‫فظ ان لتعجله؛ أن اخللود عند الراغب؛ هو‪ :‬ما كان كخلود األثايف فقط‪ ،‬فقال يف‬
‫خطبته‪ :‬إن اخللود يقال يف اللغة للبقاء املتطاول!‪ ،‬وليس األمر كذلك‪ ،‬بل هو‬
‫عكسه؛ عند ذوي األفهام‪.‬‬
‫فاْللود‪ :‬وضع ـ كَّم يقرره الراغب ـ عىل عدم التغري عن احلالة التي عليها‬
‫اليشء‪ ،‬وهو الذي عرب عنه الراغب بعدم الفساد‪.‬‬
‫تغري األحجار التي يضعوهنا‬
‫باحلس املبارش‪َ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫وملا كان العرب ال يلحظون‬
‫سموها باخلوالد‪ ،‬وذلك لعدم حلاظهم التغري‪ ،‬ال‬
‫حتت النار؛ حلمل القدر مثالً‪ ،‬ا‬
‫زعم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ألن اخللود هو املكث الطويل‪ ،‬بقيد الطول مع النهاية‪ ،‬كَّم َ‬

‫‪19‬‬
‫وقال الراغب‪( :‬واْل َلد‪ :‬اسم للجزء الذي بقى من اإلنسان عىل حالته‪،‬‬
‫فال يستحيل ما دام اإلنسان حي ًا؛ استحالة سائر أجزائه)‪.‬‬
‫وقال‪( :‬أصل امل ْخ َلد‪ :‬الذي يبقى مد ًة طويلة‪ ،‬ومنه قيل‪ :‬رجل خم َلـِدٌ ملن‬
‫أبطأ عنه الشيب‪ ،‬ودا ابة خملدة؛ هي‪ :‬التي تبقى ثناياها حتى خترج رباعيتها‪ ،‬ثم‬
‫ِ‬
‫للمبق ِّي دائ ًَّم)‪ ،‬وهذه االستعارة للفظ املخ َلد‪ ،‬ألن اللفظ هو املستعار‪.‬‬ ‫استعري‬
‫ثم قال الراغب‪( :‬واْللود يف اجلنة؛ بقاء األشياء عىل احلالة التي عليها‪،‬‬

‫من غري اعرتاض الفساد عليها‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬أولئك أصحاب اجلنة؛ هم فيها‬

‫خالدون}‪{ ،‬ومن يقتل مؤمن ًا متعمد ًا؛ فجزاؤه جهنم‪ ،‬خالد ًا فيها}‪ ،‬وقوله‬

‫تعاىل‪{ :‬يطوف عليهم ولدان خم َّلدون}‪.‬‬


‫قى‪ ،‬وعىل هذا قوله‬
‫واحلكم عليه بكونه ُم ْب ً‬
‫ُ‬ ‫قى‪،‬‬
‫وإخالد اليشء‪ :‬جعله ُم ْب ً‬
‫سبحانه‪{ :‬ولكنه أخلد إىل األرض}‪ ،‬أي‪ :‬ركن إليها؛ ظان ًا أنه َيلد فيها)اهـ‪.‬‬
‫هذا هو كالم الراغب؛ فهو خمالف مطلق ًا ملا قاله د‪ .‬عدنان‪ ،‬بل إن هذا‬
‫القائل بفناء النار ـ وأن هذا ظاهر القرآن؛ أو مدلول آياته ـ قد عكس كالم‬
‫الراغب‪.‬‬
‫وكذلك قرر العالمة اللغوي األريب ابن فارس؛ الذي ال ُّ‬
‫يقل عن‬
‫الراغب؛ يف تدقيقه اللغوي‪ ،‬يف املقاييس‪ ،‬فقال‪( :‬خلد‪ ،‬اْلاء والدال والالم؛ أصل‬
‫واحد‪ُّ ،‬‬
‫يدل عىل الثبات واملالزمة)‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫ال واحد ًا‪ ،‬أي‪ :‬له معنى واحد يف اللغة‪ ،‬وهو‬
‫أرأيت كيف جعله أص ً‬
‫َ‬
‫الثبات واملالزمة‪.‬‬
‫فإذا قيل‪ :‬إن الكفار خالدون‪ ،‬كان معناه وحدَ ه كافي ًا؛ إلفادة بقائهم ثابتني‬
‫ال أيض ًا عىل بقائها يف نفس األمر‪ ،‬كقوله تعاىل يف‬
‫يف النار‪ ،‬ماكثني فيها‪ ،‬وكان دلي ً‬
‫اجلنة‪ ،‬إن أهلها خالدون فيها‪ ،‬يفيد بقاءهم فيها‪ ،‬وبقاء وجودها يف نفسها أيضا‪.‬‬
‫إذ ال معنى للقول‪ :‬بأهنم خالدون فيها مطلق ًا‪ ،‬أي‪ :‬ثابتون فيها‪ ،‬مع القول‬
‫بأهنا يف نفسها ستفنى‪ ،‬فإن هذا يستلزم بالرضورة؛ عدم خلودهم فيها‪.‬‬
‫وال معنى للقول‪ :‬بأن أهل النار من الكفار؛ خالدون يف النار‪ ،‬عىل سبيل‬
‫احلقيقة‪ ،‬ثم يقال‪ :‬إن النار تفنى‪ ،‬بل يقال بعد ذلك‪ :‬إن أهل النار من الكفار‬
‫والزنادقة؛ َيرجون منها‪ ،‬ويشار إىل أهنم قد يدخلون يف اجلنة‪ ،‬ويصبحون من‬
‫أهل اجلنة؛ وأصحاهبا الدائمني فيها!‪ ،‬لعمري هذا قلب لألمور‪ ،‬وحتريف لكالم‬
‫رب العاملني!‪.‬‬
‫احللبي؛ يف‪( :‬عمدة احلفاظ)‪ ،‬عىل ما قرره يف‬
‫ُّ‬ ‫الراغب السمني‬
‫َ‬ ‫وافق‬
‫وقد َ‬
‫معنى اخللود‪ ،‬فقال‪( :‬وأصل اْللود‪ :‬تربي اليشء من أعراض الفساد‪ ،‬وبقاؤه عىل‬
‫احلالة التي هي عليه‪ ،‬والعرب؛ تصف باْللود‪ ،‬كل ما تباطأ تغريه وفساده)‪.‬‬
‫وضعف السمني احللبي ـ رصاحة ـ قول من قال‪ :‬إن اخللود هو املكث‬
‫الطويل‪ ،‬وكذلك ضعف قول من قال‪ :‬إن اخللود هو الذي ال هناية له‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫(اخللد‪ :‬قيل؛ هو‪ :‬املكث الطويل‪ ،‬وقيل؛ هو‪ :‬الذي ال هناية له‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫لساهبم‪ :‬عليه ختليد أهل الكبائر‪ ،‬وقد حققنا هذا‬
‫وهو أشبه بقول املعتزلة ِّ‬
‫يف األحكام والتفسري‪ ،‬ولو اقتىض التأبيد؛ ملا جاء مع لفظ األبد‪ ،‬وأجابوا عنه‬
‫بإرادة التأكيد‪ ،‬واألصل عدمه)‪.‬‬
‫وأما قول الزخمَشي يف أساسه ـ وهو الذي ربَّم اعتمد د‪ .‬عدنان عىل أول‬
‫نظره فيه ـ‪( :‬خلد باملكان؛ وأخلد‪ :‬أطال به اإلقامة‪ ،‬وما بالدار إال صم خوالد؛‬
‫وهي‪ :‬األثاِف‪ ،‬وخلد ِف السجن‪ ،‬وخلد ِف النعيم‪ ،‬بقي فيه أبد ًا خلود ًا)‪.‬‬
‫فهذا ال يتعارض مع ما ذكره الراغب وغريه‪ ،‬من أن األصل يف خلد؛ هو‪:‬‬
‫عدم التحول‪ ،‬والتربي عن الفساد‪ ،‬ثم يستعار ملا كان كذلك‪ ،‬ولو يف ظاهر األمر‪،‬‬
‫وهذا املعنى استعَّمل للفظ يف بعض معناه‪ ،‬وليس بالرضورة احلقيقة فيه‪.‬‬
‫فإن كان األمر املوصوف باخللود ال يتغري وال يعتوره حتول‪ ،‬كان فع ً‬
‫ال‬
‫خالد ًا حقيقة‪ ،‬وإال فهو خالد يف نظر واصفه بذلك‪ ،‬وعىل ذلك خترج هذه‬
‫االستعَّمالت‪.‬‬
‫فظهر بذلك بطالن ما قرره مدّ عي فناء النار‪ ،‬من أن اخللود هو جمرد‬
‫املكث الطويل؛ الذي ينتهي‪ ،‬بل‪( :‬هو عدم التغري وعدم التحول عنها)‪.‬‬
‫وليتنبه أن السمني احللبي يتكلم عن املعنى املوضوع له اللفظ‪ ،‬وال يريد‬
‫أن معنى اخللود؛ يتناىف مع التأبيد‪ ،‬بل إنه يقول؛ إن معناه ليس هو الذي ال هناية‬
‫له‪ ،‬وهو معنى لفظ التأبيد‪ ،‬ولو كان هو عني معناه‪ ،‬ملا كان جائز ًا تقييده بالتأبيد‪،‬‬
‫ألنه تكرار حمض‪ ،‬إن جاز مل يفد؛ إال التأكيد‪ ،‬واألصل التأسيس؛ ال التأكيد‪ ،‬كَّم‬

‫‪22‬‬
‫هو معلوم عند أهل العلم‪ ،‬فمعنى التأبيد؛ مغاير ملعنى التخليد‪ ،‬وإن كانا ال‬
‫يتنافيان بل جيتمعان‪ ،‬فَّم ال يتغري يف كل األزمان‪ ،‬مؤ ابد كذلك‪.‬‬
‫األمر الثاين ـ الذي تعلق به النايف خللود النار ـ‪ :‬زعمه أن األبد يفيد نفس‬
‫معنى اْللود!‪ ،‬وهو املدة املتَمدية؛ التي حكم أَّنا منتهية!‪.‬‬
‫ولكن هذا املعنى الذي يزعمه د‪ .‬عدنان لألبد‪ ،‬ليس هو املعنى الذي ذكره‬
‫حرض عىل االستفادة منه!‪،‬‬
‫الراغب املحقق املدقق يف معاين املفردات!‪ ،‬الذي ا‬
‫فقد قال الراغب؛ يف معنى األبد‪( :‬قال تعاىل‪{ :‬خالدين فيها أبد ًا} األبد عبارة‬
‫عن مدة الزمان؛ املمتد الذي ال يتجزأ‪ ،‬ما يتجزأ الزمان‪ ،‬وذلك أنه يقال‪ :‬زمان‬
‫كذا‪ ،‬وال يقال‪ :‬أبد كذا‪.‬‬
‫يضم إليه‬ ‫وكان حقه أال يثنى‪ ،‬وال جيمع‪ ،‬إذ ال يتصور حصول ٍ‬
‫أبد آخر‪،‬‬
‫ُّ‬
‫فيثنى به‪ ،‬لكن قيل‪ :‬آباد‪ ،‬وذلك عىل حسب ختصيصه؛ يف بعض ما يتناوله‪،‬‬
‫كتخصيص اسم اجلنس؛ يف بعضه‪ ،‬ثم يثنى وجيمع‪.‬‬
‫عىل أنه ذكر بعض الناس‪ ،‬أن آباد ًا؛ مو الد‪ ،‬وليس من كالم العرب العرباء‪.‬‬
‫دائم‪ ،‬وذلك عىل التأكيد‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬أبد آبدٌ ‪ ،‬وأبيدٌ أي ٌ‬
‫وتأ ابد اليشء‪ :‬بقي أبد ًا‪ ،‬ا‬
‫ويعرب به عَّم يبقى مدة طويلة)‪.‬‬
‫فهذا كالم رصيح؛ يف أن األبد‪ ،‬ال هناية له‪ ،‬أما إطالقه عىل املدة الطويلة‪،‬‬
‫ظ يف بعض ما يتضمنه‪ ،‬كَّم قال‪ ،‬وهذا ليس استعَّمالً حقيقي ًا‪ ،‬بل‬ ‫فاستعَّمل ل ال ْف ِ‬
‫ٌ‬
‫جماز‪.‬‬
‫ٌ‬

‫‪23‬‬
‫الراغب السمني احللبي‪ ،‬فقال‪( :‬األبد الزمان الطويل املمتدّ غري املتجزئ‪،‬‬
‫َ‬ ‫ووافق‬

‫أخص من الزمان‪ ،‬قال تعاىل‪{ :‬خالدين فيها أبد ًا} أي زمان ًا؛ ال انقضاء‬
‫ّ‬ ‫فهو‬
‫آلخره)‪.‬‬
‫وفرق الراغب بني األمد واألبد‪ ،‬فقال‪( :‬واألمد واألبد؛ يتقاربن‪ ،‬لكن‬
‫ا‬
‫األبد‪ :‬عبارة عن مدة الزمان؛ التي ليس هلا حدّ حمدود؛ وال يتقيد‪ ،‬ال يقال‪ :‬أبدُ‬
‫كذا‪ ،‬واألمد‪ :‬مدة هلا حد جمهول‪ ،‬إذا أطلق‪....‬الخ)‪.‬‬
‫فبطل ما قرره مدا عي فناء النار؛ بمجرد ظهور داللة األبد‪ ،‬عىل الدوام‬
‫بغري انقطاع‪ ،‬وداللة اخللود؛ عىل عدم التحول والتغري عَّم هو عليه‪ ،‬وارتبا ُطهَّم‬
‫مع ًا‪ ،‬له داللة رصحية عىل عدم فنائها!‪.‬‬
‫ولذلك فإننا نفهم متام ًا ملاذا استبعد د‪ .‬عدنان اللجو َء إىل الراغب يف بيان‬
‫َ‬
‫ومال إىل ما نقل ما ذكره الزخمَشي يف معجمه الشهري‪( :‬أساس‬ ‫كلمة األبد‪،‬‬
‫البالغة) من بعض استعَّمالت العرب‪ ،‬فنقل عنه قوهلم‪( :‬ال أفعله أبد اآلباد‪ ،‬وأبد‬
‫األبيد‪ ،‬وأبد اآلبدين‪ ،‬وتقول‪ :‬رزقك اهلل عمر ًا طويل اآلباد؛ بعيد اآلماد)‪.‬‬
‫واحتج نايف بقاء النار؛ بمجرد ذلك‪ ،‬عىل أن اآلباد تنقطع‪ ،‬وتنتهي‪ ،‬وإال‬
‫ما مجعت (أبد اآلباد)‪ ،‬أو أهنا تنتهي‪ ،‬ألهنا تعلقت بَّم ينتهي (عمرا طويل‬
‫اآلباد)!!‪ ،‬ومن الظاهر؛ أن هذه استعَّمالت للفظ‪ ،‬مبنية عىل نوع من املبالغة‪،‬‬
‫وجتوز كَّم هو ظاهر‪ ،‬ال حقيقة ما وضع له‪ ،‬وقد وضح الراغب وغريه أصلها‪،‬‬
‫التي نتجت عنه فيَّم نقلناه عنه‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫ومن التفت إىل ما ذكرناه ال يتعلق هبذه الشبه واملشاغبات!‪.‬‬
‫وكذلك قول ابن فارس‪( :‬أبد اْلمزة والباء والدال؛ يدل بناؤها عىل طول‬
‫املدة‪ ،‬وعىل التوحش‪ ،‬قالوا‪ :‬األبد الدهر‪ ،‬والعرب؛ تقول‪ :‬أبد أبيد‪ ،‬كَم يقولون‬
‫دهر دهري)‪.‬‬
‫بمجر ِد ِه؛ ال ُّ‬
‫يدل عىل االنقطاع‪ ،‬كَّم يزعم د‪ .‬عدنان إبراهيم!‪،‬‬ ‫ا‬ ‫طول املُدا ِة‬
‫َف ُ‬
‫فلو فرضنا أن العرب وضعت هذه الكلمة عىل طول املدة‪ ،‬فمن أين أهنا وضعتها‬
‫عىل طول املدة؟!‪ ،‬بقيد االنقضاء واالنقطاع!!‪.‬‬
‫القرائن املتكاثرة‪ ،‬الدالة عىل‬
‫ُ‬ ‫أال يكفي عندئذ محلها عىل عدم االنقطاع؛‬
‫ذلك‪ ،‬ومقابلتها بتأبيد املؤمنني؛ وختليدهم ونحو ذلك‪ ،‬مما هو كثري يف القرآن‪،‬‬
‫ُيرجو ْا ِم َن الن ِ‬
‫َّار؛ َو َما هم‬ ‫كعدم خروجهم‪ ،‬وتأمل قوله تعاىل‪{ :‬ي ِريد َ‬
‫ون َأن َ ْ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ار ِج ِ‬
‫يم}(املائدة‪ ،)13/‬فإنه كاف وحده؛ لذي ٍّ‬
‫لب‬ ‫بِخَ ِ َ‬
‫ني من َْها‪َ ،‬و َْل ْم َع َذ ٌ‬
‫اب ُّمق ٌ‬
‫لفهم ما قرره العلَّمء‪.‬‬
‫وسوف نتكلم قريب ًا عن اإلخراج واخلروج (خم َرجني‪ ،‬وخارجني) والفرق‬
‫ب أن تفريقه ِمن َْح ٌة‪ ،‬وفتوحات‬ ‫ِ‬
‫بينهَّم‪ ،‬ومل َ تعلق هبَّم القائل بفناء النار!‪ ،‬وإن َحس َ‬
‫عليه من اهلل!!‪ ،‬وأن تفرده هبا !!!؛ متي ٌز يستحق عليه التعظيم والتوقري!‪.‬‬
‫ويبقى السؤال‪ :‬مل عزف د‪ .‬عدنان إبراهيم ها هنا‪ ،‬عن الرجوع إىل‬
‫الراغب‪ ،‬واحتج بَّم سوغت له نفسه من بعض استعَّمالت العرب؟!‪ ،‬أمل يعرف‬
‫أن العلَّمء قدحوا يف قوهلم‪( :‬آباد)‪ ،‬كَّم نقله الراغب بأنه مو الد‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫وعىل فرض كونه عربي ًا خالص ًا‪ ،‬أال يسعه أن َيرجه عن قرب عىل أساس‬
‫أنه استعَّمل‪ ،‬كَّم قرره الراغب وغريه‪ ،‬فهذا أوفق وأقرب إىل النظر السديد‪.‬‬
‫أم إن املراد زعزعة داللة اآلية؛ عن معناها كيفَّم كان؟!‪.‬‬
‫أهذا هو التحقيق واالجتهاد؛ الذي نسمع دائ ًَّم دعواه منه؟!‪.‬‬
‫وقوله يف خطبته‪( :‬األبد؛ يقال‪ :‬للمدة الطويلة‪ ،‬ال للمدة التي ال تنتهي)‪.‬‬
‫وقد ُّ‬
‫يدل عىل أنه يفهم من املدة الطويلة؛ أي‪( :‬إهنا طويلة؛ بقيد أن‬
‫تنتهي)‪ ،‬أي‪ :‬الطويلة املنتهية‪ ،‬مع أهنم لو اقترصوا يف بيان معنى األبد‪ ،‬عىل ما قال‬
‫ـ أي‪( :‬املدة الطويلة فقط) ـ لكانت حمتملة لعدم االنتهاء‪ ،‬ولكان محلها عىل‬
‫االنتهاء؛ حمتاج ًا لقرينة أيض ًا‪ ،‬ال الطويلة غري املنتهية!‪ ،‬وهذا منافاة منه لكالم أكثر‬
‫اللغويني‪ ،‬فإهنم فرسوا األبد؛ باملدة غري املنتهية‪ ،‬فقد نصوا كَّم أوردناه عىل أهنا‬
‫تقال‪ :‬للمدة التي ال تنتهي‪ ،‬وإطالقها عىل املدة الطويلة املنتهية‪ ،‬بلحاظ؛ نوع جماز‪،‬‬
‫واستعَّمل خاص‪.‬‬
‫ولو كانت ال تقال للمدة غري املنتهية‪ ،‬فكيف تواتر عن العلَّمء أن يفهموا‬
‫من التأبيد؛ عدم االنتهاء!‪ ،‬ليختلفوا بعد ذلك يف علم األصول‪ ،‬يف لفظ التأبيد‬
‫بخصوصه‪.‬‬
‫وكيف تفهم قول من قال‪:‬‬
‫اجلهاد ما َب ِقينـا أ َبدا‬
‫ِ‬ ‫عىل‬ ‫حم همدا‬
‫نحن الذين بايعوا َ‬

‫‪26‬‬
‫هل تفهم منها‪ :‬إننا بايعناه مدة طويلة منتهية‪ ،‬أو تفهم منها‪ :‬بايعناه ما دمنا‬
‫باقني؛ ولو بقينا أبد ًا‪ ،‬أي بال هناية‪ ،‬وذلك مع علمهم أهنم سيموتون‪.‬‬

‫ات اهللَِّ م َب ِّينَات‪ِّ ،‬ليخْ ِر َج‬ ‫وكيف تفهم قوله تعاىل‪{ :‬رسوالً يتْلو ع َليكم آي ِ‬
‫َ ْ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ُّور‪َ ،‬و َمن ي ْؤ ِمن بِا َِّ‬
‫هلل؛ َو َي ْع َم ْل‬ ‫ات‪ِ ،‬من ال ُّظلَم ِ‬
‫ت إِ َىل الن ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫احل ِ‬
‫ا َّل ِذين آمنوا وع ِملوا الص َِ‬
‫َّ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫ين فِ َيها َأ َبد ًا‪َ ،‬قدْ َأ ْح َس َن اهللَّ َله‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َصاحل ًا‪ ،‬يدْ خ ْله َجنَّات َ َْت ِري من َ َْتت َها ْاألَ َّْنَار؛ َخالد َ‬

‫ِر ْزق ًا}‪( ،‬الطالق‪ ،)33/‬هل تفهم منها‪ :‬أهنم خالدون يف اجلنات مدة طويلة‬
‫منقطعة؟!‪.‬‬

‫وكيف تفهم قوله تعاىل واصفا اليهود‪َ { :‬و َلن َيت ََمن َّْوه َأ َبد ًا} (البقرة‪/‬‬
‫‪ ،)59‬أي‪ :‬لن يتمنوا املوت؛ مع زعمهم أن الدار اآلخرة خالصة هلم‪ ،‬من دون‬
‫الناس‪.‬‬
‫هل تفهمها‪ :‬أهنم لن يتمنوا املوت مدة متطاولة منتهية!‪ ،‬ثم سيتمنونه!‪.‬‬
‫ونراه قد عكس املقام‪ ،‬أو حتكم؛ فقال‪( :‬إن (أبد ًا) ال يفهم منها البقاء‬
‫املتَّمدي؛ ال إىل هناية‪ ،‬إال بقرينة‪ ،‬ويفهم منها‪ :‬لذاهتا البقا َء الطويل املنتهي‪ ،‬الذي له‬
‫هناية فقط)‪.‬‬
‫واحتج القائل بفناء النار؛ عىل زعمه‪ ،‬أن التأبيد ال يفيد عدم االنقطاع‪ ،‬بل‬

‫وك لِ ْلخروجِ ‪،‬‬ ‫است َْأ َذن َ‬ ‫ِ‬ ‫يفيده‪ ،‬بنحو؛ قوله تعاىل‪َ { :‬فإِن َّر َج َع َ‬
‫ك اهلله إِ َىل َطآئ َفة ِّمنْه ْم‪َ ،‬ف ْ‬
‫َفقل‪َّ :‬لن ََّتْرجو ْا م ِعي َأبد ًا‪ ،‬و َلن ت َقاتِلو ْا م ِعي عدو ًا‪ ،‬إِنَّكم ر ِضيتم بِا ْلقع ِ‬
‫ود َأ َّو َل‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ َ ه‬ ‫َ َ َ َ‬

‫ني}‪( ،‬التوبة‪ ،)01/‬وقوله تعاىل لرسوله عليه الصالة‬ ‫مرة؛ َفا ْقعدو ْا مع َْ ِ ِ‬
‫اْلالف َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َّ‬
‫‪27‬‬
‫حق املنافقني‪َ { :‬والَ ت َص ِّل َع َىل َأ َحد ِّمنْهم َّم َ‬
‫ات َأ َبد ًا‪َ ،‬والَ تَق ْم َع َ َىل‬ ‫والسالم؛ يف ّ‬

‫ون}‪( ،‬التوبة‪َ ،)02/‬فإِ ان‬ ‫هلل ورسولِ ِه؛ وماتو ْا وهم َف ِ‬ ‫ِ‬
‫اسق َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ََ‬ ‫َق ْ ِربه‪ ،‬إِ ََّّن ْم َك َفرو ْا بِا هِ َ َ‬
‫ب املَْ ْغ ِف َرةَ‪ ،‬واملغفرة تنايف تأبيد العذاب‪ ،‬وقوله تعاىل‪:‬‬ ‫َص َال َت ُه َع َل ْي ِه الس َالم؛ ت ِ‬
‫ُوج ُ‬ ‫ا ُ‬
‫يه‪ ،‬فِ ِ‬
‫يه َأبد ًا؛ ملََّس ِجدٌ أسس ع َىل ال َّت ْقوى ِمن َأو ِل يوم‪َ ،‬أح ُّق َأن تَقوم فِ ِ‬
‫ِ ِ‬
‫يه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َّ َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِّ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫{الَ تَق ْم ف َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِر َج ٌال ُيِ ُّب َ‬
‫ين}‪( ،‬التوبة‪َ { ،)300/‬وا َّلذ َ‬
‫ين‬ ‫ون َأن َي َت َط َّهرو ْا؛ َواهلله ُي ُّ‬
‫ب ا ْمل َّط ِّه ِر َ‬
‫ني َج ْلدَ ًة‪َ ،‬و َال َت ْق َبلوا‬‫ِ‬ ‫َات؛ ثم ََل ي ْأتوا بِ َأربع ِة شهدَ اء‪َ ،‬ف ِ‬ ‫ون املْحصن ِ‬
‫اجلدوه ْم َث ََمن َ‬
‫ْ‬ ‫ََْ َ‬ ‫َّ ْ َ‬ ‫َي ْرم َ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ك هم ا ْل َف ِ‬ ‫َْل ْم َش َها َد ًة َأ َبد ًا‪َ ،‬وأ ْو َلئِ َ‬
‫ون}‪( ،‬النور‪َ { ،)2/‬و َد َخ َل َج َّنتَه؛ َوه َو َظاَل ٌ‬
‫اسق َ‬

‫ِّلنَ ْف ِس ِه‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ما َأظ ُّن َأن َتبِيدَ َه ِذ ِه َأ َبد ًا}‪( ،‬الكهف‪.... )19/‬الخ‪.‬‬
‫وحاصل استدالله؛ أن كل ما تعلق به التأبيد‪ ،‬عرفنا أنه مل يدم أبد ًا‪،‬‬
‫فاستنتج من ذلك؛ أن التأبيد ال يفيد عدم االنتهاء‪.‬‬
‫واحلقيقة أنه لو أنصف‪ ،‬لعرف أن عدم بقاء هذه األمور املحكوم عليها‬
‫بتأبيد‪ ،‬إنَّم جاء ال لنفس كلمة‪( :‬أبد ًا)‪ ،‬بل ألنا عرفنا عدم بقاء كل ما قيد؛ ما تعلق‬
‫به بالتأبيد‪ ،‬فصار معنى التأبيد ههنا‪ :‬ما بقيت املت القات‪ ،‬وقد علمنا أهنا ال تبقى‪،‬‬
‫فالتأبيد صار مقيد ًا لتقيد ما تعلق به‪ ،‬وملحدوديته‪ ،‬وليس العكس‪ ،‬وهو عدم‬
‫داللة التأبيد؛ عىل عدم النهاية‪ ،‬إال بقرينة!‪ ،‬فهذا هو قلب األمور وعكسها‪ ،‬بال‬
‫قرينة‪ ،‬وال دليل!‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫ولو أنصف فع ً‬
‫ال؛ لعرف أنه جيب أن يلتزم بَّم أمر به اهلل تعاىل‪ ،‬عىل سبيل‬
‫التأبيد‪ ،‬ما دام مكلف ًا ‪ ،‬وذلك عىل فرض بقاء وجود ما تعلق به ذلك كله عىل‬
‫التأبيد‪ ،‬ولكن مع علمنا بعدم بقائها‪ ،‬فيتعلق هبا األمر اإلهلي املؤبد مد َة بقائها‪.‬‬
‫ومع ا‬
‫أن هذا هو الظاهر البني‪ ،‬ولكنه أعرض عنه ونأى!‪ ،‬وأما قول‬
‫صاحب اجلنة يف اآلية الكريمة‪ ،‬فغاية األمر أن حكمه بتأبيد اجلنة؛ كان تابع ًا‬
‫لومهه‪ ،‬والزم ًا عن أمله ومتنياته‪ ،‬ولذلك كان ظامل ًا لنفسه بنص اآلية!‪ ،‬عىل أن‬
‫نفس هذه اآلية؛ تفيد أن التأبيد يفيد عد َم االنقطاع‪ ،‬ال طول املدة‪ ،‬برشط‬
‫ظن ٌ‬
‫باطل؛ كَّم هو معلوم‪.‬‬ ‫االنقطاع‪ ،‬ألن ظنه أهنا ال تبيد أبد ًا‪ُّ ،‬‬

‫وليتأمل القارئ الكريم يف قوله تعاىل‪َ { :‬قالو ْا‪َ :‬يا م َ‬


‫وسى؛ إِنَّا َلن َّندْ خ َل َها‬

‫ون}‪،‬‬ ‫نت ورب َك َف َقاتِال؛ إِنَّا هاهنَا َق ِ‬ ‫ِ‬


‫اعد َ‬ ‫َ‬ ‫ب َأ َ َ َ ُّ‬
‫َأ َبد ًا‪َّ ،‬ما َدامو ْا ف َيها‪َ ،‬فا ْذ َه ْ‬
‫(املائدة‪ ،)42/‬ليعلم صحة ما قلناه وقررناه‪ ،‬فإن عدم دخوهلم هاهنا؛ مقيد‬

‫بـ(أبد ًا)‪ ،‬ثم ق ِّيد هذا التأبيد بقوهلم‪{ :‬ما داموا فيها} لئال يفهم أهنم لن‬
‫يدخلوها أبد ًا؛ مهَّم حصل‪ ،‬سواء ظلوا فيها‪ ،‬أو خرجوا منها‪.‬‬

‫و َق ْوله َت َع َاىل ـ ِحكَا َي ٌة َع ْن ا ال ِذي َن نَا َف ُقوا ـ‪َ { :‬لئِ ْن أ ْخ ِر ْجت ْم؛ َلنَخْ ر َج َّن‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ ِ‬
‫َم َعك ْم‪َ ،‬و َال نطيع فيك ْم أ َحدً ا أ َبدً ا‪َ ،‬وإِ ْن قوت ْلت ْم؛ َلنَن َ‬
‫ُْصنَّك ْم‪َ ،‬و َاهللَّ َي ْش َهد َّإَّن ْم‬

‫ون}‪َ ،‬وك َِذ ُ ُهب ْم ِيف َخ َ ِرب ِه ْم َع ْن ا ُْمل ْس َت ْق َب ِل‪ ،‬ألن التأبيد يستلزم أهنم ال يطيعون‬ ‫َلك ِ‬
‫َاذب َ‬
‫أحد ًا يف الزمان املستقبل‪ ،‬بصورة مستمرة؛ ال منقطعة‪ ،‬ولو كانت (أبد ًا) تفيد املدة‬
‫الطويلة املنقطعة‪ ،‬ملا لزم بالرضورة كذهبم إذا أطالوا املدة ثم أطاعوا فيهم أحد ًا‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫وها َيا َبنِي َط ْل َح َة َخالِدَ ًة‬
‫وتأمل قول الرسول عليه الصالة والسالم‪( :‬خذ َ‬
‫خم َّلدَ ًة فِيك ْم َأ َبدً ا‪َ ،‬ال َين ِْزع َها ِمنْك ْم َّإال َظ ِاَل ٌ)‪ ،‬فإنه يفيد قطع ًا؛ أن هذا احلكم جيب‬
‫َ‬
‫بقاؤه يف بني طلحة‪ ،‬ما داموا موجودين عىل األرض مكلفني‪ ،‬وهذا معنى التأبيد‬
‫ها هنا‪ ،‬أي لو فرضنا استمرار وجودهم أبد ًا‪ ،‬لوجب بقاء هذا احلكم متعلق ًا هبم‬
‫أبد ًا‪ ،‬كذلك بال انقطاع‪ ،‬وال غاية‪ ،‬وال هناية‪.‬‬
‫وال نريد االستقصاء يف االستعَّمالت اللغوية‪ ،‬والعرفية‪ ،‬والرشعية؛ هلذه‬
‫الكلمة‪ ،‬وصاحبتها‪ ،‬فَّم ذكرناه يكفي اللبيب‪ ،‬لنقض كالم القائل‪ :‬بفناء النار‪،‬‬
‫معتمد ًا عىل دعواه‪ ،‬التي ال تسلم بال بينة‪ ،‬وال حجة ظاهرة!‪.‬‬
‫األمر الثالث ـ الذي احتج به القائل بفناء النار ـ‪ :‬احتج فقال‪ :‬إن اهلل تعاىل‬
‫مل يؤبد مقام الكفار؛ إال يف ثالثة مواضع‪ ،‬وقابل هذه الثالثة‪ ،‬بثالثة أخر‪ ،‬تفيد‬
‫التشكيك هبذا التأبيد والتخليد‪ ،‬واعترب ذلك إشارة لنفي التأبيد‪ ،‬وفناء النار!!!‪،‬‬
‫وقال هذه ثالثة بثالثة؛ ووصف هذا املسلك بطريق املقابلة!!!‪ ،‬ونحن نسميه‬
‫(طريق املقابلة املزعومة الفاسدة)!‪ ،‬والنايف لبقاء النار؛ يتبع هذا األسلوب من‬
‫النظر‪ :‬وهو يعلم متاما أن اآليات األوىل املفيدة للتأبيد والتخليد‪ ،‬حمكمة عند‬
‫العلَّمء‪ ،‬وأقل ما يقال فيها عند اآلخرين‪ :‬إهنا ظاهرة مرجحة؛ لعدم خروجهم من‬
‫النار مع بقاء أهلها فيها‪ ،‬والظهور بالرجحان؛ نوع من اإلحكام‪.‬‬
‫وهو ويعلم أيض ًا أن أكثر ما يقال يف اآليات التي جعلها مقابلة هلذه‬
‫الثالث املحكمة ـ حال جعلها دالة عىل ما يريد من معنى الفناء ـ أهنا متشاهبة‪،‬‬

‫‪30‬‬
‫وهي إن كانت حمتملة ـ عىل زعم من يدعي ذلك ـ فاحتَّمهلا موهوم مرجوح‪،‬‬
‫بحسب الداللة؛ ال ظهور له‪ ،‬وال رجحان‪.‬‬
‫والسؤال‪ :‬كيف جيعل املتشابه حاكَّم عىل املحكم‪ ،‬واملرجوح راجح ًا عىل‬
‫الراجح‪ ،‬ثم يبطل داللة املحكم باملتشابه‪ ،‬هل هذا هو الطريق اجلديد من‬
‫االجتهاد الذي يدعوننا إليه؟!‪.‬‬
‫ولنبدأ من أول الطريق‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫إن الناس معرتفون بأن تنصيص اهلل تعاىل عىل ختليد املؤمنني يف اجلنة‪،‬‬
‫وعىل تأبيد مقامهم فيها؛ ٌّ‬
‫دال عىل أهنم ال ََيرجون منها (بفتح الياء)‪ ،‬وال َُيرجون‬
‫منها (بضم الياء)!‪ ،‬وأن هذه الداللة وحدَ ها حمكم ٌة؛ ال تعارضها داللة أخرى‪،‬‬
‫وراجحة جيب العمل هبا‪ ،‬وينبغي اعتقادها‪ ،‬فَّم بالك إذا انضم إىل هذا األسلوب‬
‫البياين أساليب أخر؛ تدل عىل املعنى نفسه!‪ ،‬وبيان ذلك كَّم يأيت‪:‬‬

‫‪31‬‬
‫أوال‪ :‬ذكر اآليات الناصة عىل التأبيد والتخليد للمؤمنني ِف اجلنة‬
‫فلنستعرض أوال اآليات الدالة عىل التخليد والتأبيد ألهل اجلنة‪:‬‬

‫ات‪َ ،‬سندْ ِخله ْم َجنَّات‬ ‫احل ِ‬‫‪3‬ـ قال تعاىل‪{ :‬وا َّل ِذين آمنو ْا وع ِملو ْا الص َِ‬
‫َّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫اج ُّم َط َّه َر ٌة‪َ ،‬وندْ ِخله ْم ظِـ ًّ‬
‫ال‬ ‫ِ‬ ‫َ َْت ِري ِمن َ َْتتِها األََّنار‪َ ،‬خالِ ِد ِ‬
‫ين ف َيها َأ َبد ًا‪َّْ ،‬ل ْم ف َيها َأزْ َو ٌ‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬

‫َظلِي ً‬
‫ال}‪( ،‬النساء‪.)93/‬‬

‫قال الطربي يف تفسري آية النساء (‪{ :)93‬خالدين فيها أبد ًا}‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫(باقني فيها أبد ًا؛ بغري هناية‪ ،‬وال انقطاع‪ ،‬دائ ًَّم ذلك هلم فيها أبد ًا)‪.‬‬
‫فتأمل كيف فرس خالدين فيها أبد ًا‪ :‬بأهنم باقون بغري هناية؛ وال انقطاع‪،‬‬
‫الطربي عدم االنقطاع!‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫وأكد فقال‪ :‬دائ ًَّم؛ ذلك هلم فيها أبد ًا‪ ،‬فمن أين فهم اإلمام‬
‫يد ْب ِن ج َب ْري‪ِ ،‬يف َق ْو ِل‬‫وجاء يف تفسري ابن أيب حاتم يف هذه اآلية‪َ ( :‬عن س ِع ِ‬
‫ْ َ‬
‫ين فِ َيها} َي ْعنِي‪ :‬ال َي ُموت َ‬
‫ُون)‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫اهللا َت َع َاىل‪َ { :‬خالد َ‬
‫َقو ُله َتع َاىل‪َ {( :‬أبد ًا} َعن ِعك ِْرم َة‪َ ،‬أو س ِع ِ‬
‫يد ْب ِن ج َب ْري‪َ ،‬ع ِن ا ْب ِن َع َّباس‪:‬‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫{ َخالِ ِد ِ‬
‫ين ف َيها َأ َبد ًا} َق َال‪ :‬ال انْق َط َ‬
‫اع)‪.‬‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫فز ْد تأ ُّم َلك؛ لتعرف أن السلف كانوا يعرفون أن التأبيد يعني عدم‬
‫االنقطاع‪ ،‬وها هو ابن عباس يقرر ذلك؛ رصاحة‪ ،‬ويرويه عنه األكابر‪ ،‬ليعرف‬
‫بطالن ما نسب إليه‪ ،‬وإىل غريه‪ ،‬مما َيالف رصيح القرآن يف هذا املقام‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫وقال ابن كثري‪( :‬وهم خالدون فيها أبد ًا‪ ،‬ال حيولون‪ ،‬وال يزولون‪ ،‬وال‬
‫يبغون عنها حوالً)‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪4‬ـ قوله تعاىل‪{ :‬أ ْو َلـئِ َ‬
‫ك َم ْأ َواه ْم َج َهنَّم َوالَ ََيِد َ‬
‫ون َعن َْها َحميص ًا‪َ ،‬وا َّلذ َ‬
‫ين‬
‫ين فِ َيها‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫احلات َسندْ خله ْم َجنَّات َ َْت ِري من َ َْتت َها األَ َّْنَار‪َ ،‬خالد َ‬
‫آمنو ْا وع ِملو ْا الص َِ ِ‬
‫َّ‬ ‫َ َ َ‬
‫هلل ِقي ً‬
‫ال}‪( ،‬النساء‪.)344/‬‬ ‫َأ َبد ًا‪َ ،‬و ْعدَ اهللهِ َح هق ًا؛ َو َم ْن َأ ْصدَ ق ِم َن ا هِ‬
‫قال الطربي يف تفسري آية األحزاب (‪( :)59‬يقول‪ :‬باقني يف هذه اجلنات‬

‫التي وصفها {أبد ًا}‪ ،‬دائ ًَّم)‪ ،‬ففرس األبد؛ بالدوام‪.‬‬

‫ني ِصدْ قه ْم‪َْ ،‬ل ْم َجن ٌ‬


‫َّات‬ ‫ِِ‬
‫الصادق َ‬‫‪1‬ـ قال تعاىل‪َ { :‬ق َال اهلله‪َ :‬ه َذا َي ْوم َين َفع َّ‬
‫ِض اهلله َعنْه ْم؛ َو َرضو ْا َعنْه‪َ ،‬ذلِ َك‬‫ِ‬ ‫َ َْت ِري ِمن َ َْتتِ َها األَ َّْنَار‪َ ،‬خالِ ِد َ ِ َ‬
‫ين ف َيها أ َبد ًا‪َّ ،‬ر َ‬
‫ا ْل َف ْوز ا ْل َعظِيم}‪( ،‬اجلن‪.)335/‬‬

‫يم}‪( ،‬التوبة‪.)44 /‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪2‬ـ { َخالِ ِد ِ‬


‫ين ف َيها َأ َبد ًا‪ ،‬إِ َّن اهللهَ عندَ ه َأ ْج ٌر َعظ ٌ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫نص ِ‬ ‫ون ِم َن ا ُْمل َه ِ‬
‫وهم‬‫ار َوا الذي َن ا ات َب ُع ُ‬ ‫اج ِري َن َواألَ َ‬ ‫ون األَ او ُل َ‬ ‫‪9‬ـ { َو ا‬
‫السابِ ُق َ‬
‫اات َ ْجت ِري َ ْحتت ََها األَ ْهن َ ُار َخالِ ِدي َن‬
‫ان ر ِِض اهللُّ َعنْهم ور ُضو ْا َعنْه و َأ َعدا َهلم جن ٍ‬
‫ُْ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ ْ ََ‬
‫ٍ‬
‫بِإ ْح َس ا َ‬
‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم } التوبة ‪.300‬‬ ‫ف َيها َأ َبد ًا َذل َك ا ْل َف ْو ُز ا ْل َعظ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ْ‬
‫ني ا َّلذ َ‬
‫ين َي ْع َملو َن‬ ‫‪5‬ـ { َق ِّي ًَم لينْذ َر َبأس ًا َشديد ًا م ْن َلدنْه‪َ ،‬وي َب ِّ َ‬
‫َش املْ ْؤمن َ‬

‫يه َأ َبد ًا }‪( ،‬الكهف‪.)1 /‬‬ ‫ات؛ َأ َّن َْلم َأجر ًا حسن ًا ماكِثِني فِ ِ‬
‫احل ِ‬
‫الص َِ‬
‫َ‬ ‫ْ ْ َ َ َ‬ ‫َّ‬

‫‪33‬‬
‫ك َي ْوم ال َّتغَاب ِن‪َ ،‬و َمن ي ْؤ ِمن بِاهللَِّ‪َ ،‬و َي ْع َم ْل‬
‫اجل ْم ِع؛ َذلِ َ‬
‫َي َمعك ْم لِ َي ْو ِم َْ‬
‫‪3‬ـ { َي ْو َم َ ْ‬
‫ين فِ َيها‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َصاحل ًا‪ ،‬ي َك ِّف ْر َعنْه َس ِّيئَاته‪َ ،‬ويدْ خ ْله َجنَّات َ َْت ِري من َ َْتت َها ْاألَ َّْنَار‪َ ،‬خالد َ‬
‫ِ‬

‫َأ َبد ًا؛ َذلِ َك ا ْل َف ْوز ا ْل َعظِيم }‪( ،‬التغابن‪.)5 /‬‬

‫ين َآمنوا َو َع ِملوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫‪0‬ـ { َّرسوالً؛ َيتْلو َع َل ْيك ْم آ َيات اهللَِّ‪ ،‬م َب ِّينَات‪ِّ ،‬ليخْ ِر َج ا َّلذ َ‬
‫احل ًا؛ يدْ ِخ ْله َجنَّات‬
‫ُّور‪ ،‬ومن ي ْؤ ِمن بِاهللَِّ‪ ،‬ويعم ْل ص ِ‬
‫َََْ َ‬
‫ِ‬ ‫الص َِ ِ ِ‬
‫احلات م َن ال ُّظل ََمت إِ َىل الن ِ َ َ‬ ‫َّ‬

‫ين فِ َيها َأ َبد ًا‪َ ،‬قدْ َأ ْح َس َن اهللَّ َله ِر ْزق ًا}‪( ،‬الطالق‪/‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َْت ِري من َ َْتت َها ْاألَ َّْنَار‪َ ،‬خالد َ‬
‫‪.)33‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪5‬ـ { َجزَاؤه ْم عندَ َر ِِّّبِ ْم؛ َجنَّات َعدْ ن‪َْ َ ،‬ت ِري من َ َْتت َها ْاألَ َّْنَار‪َ ،‬خالد َ‬
‫ين‬

‫يش َر َّبه}‪( ،‬البينة‪.)0/‬‬‫ِ‬ ‫هلل عنْهم‪ ،‬ورضوا عنْه‪َ ،‬ذلِ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َ‬


‫ك ملَ ْن َخ َ‬ ‫َ‬ ‫ف َيها أ َبد ًا‪َّ ،‬ر َ‬
‫ِض ا َّ َ ْ َ َ‬
‫ومل يقل أحد من املعتربين؛ إن هذه األساليب البيانية‪ ،‬ال تفيد التأبيد‪،‬‬
‫واملقام‪ ،‬وعدم خروج الناس من اجلنة‪.‬‬
‫بل كل أحد يقرأ هذه التعبريات؛ فإنه يقطع باخللود‪ ،‬والتأبيد‪ ،‬وعدم‬
‫اخلروج‪ ،‬وببقاء اجلنة كذلك‪ ،‬ويقطع بأن بقاءهم يف اجلنة؛ مؤبدين فيها غري‬
‫خارجني!‪ ،‬وال ُخم ْ َرجني!‪ ،‬منها؛ يستلزم بالرضورة بقاء اجلنة‪.‬‬
‫وأكد اهلل تعاىل ذلك التأبيد‪ ،‬والبقاء يف اجلنة هلم‪ ،‬بأساليب أخرى‪ ،‬كَّم هو‬
‫اجلن َِّة َخالِ ِدين فِيها‪ ،‬ما دام ِ‬
‫ين س ِعدو ْا؛ َف ِفي َْ‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫َ َ َ َ َ‬ ‫معلوم كقوله تعاىل‪َ { :‬و َأ َّما ا َّلذ َ‬

‫َمذوذ}‪( ،‬هود‪،)300/‬‬ ‫الس ََم َوات َواألَ ْرض؛ إِالَّ َما َشاء َر ُّب َ‬
‫ك‪َ ،‬ع َطاء َغ ْ َري َ ْ‬ ‫َّ‬

‫‪34‬‬
‫ِ‬
‫ب؛ َو َما هم ِّمن َْها بِمخْ َر ِج َ‬
‫ني}‪،‬‬ ‫وكقوله تعاىل‪{ :‬الَ َي َم ُّسه ْم ف َيها ن ََص ٌ‬
‫(احلجر‪ ،)20/‬وبغري ذلك من األساليب البيانية‪.‬‬
‫وسيأيت الكالم عىل ما متسك به؛ النايف لبقاء النار‪ ،‬من أثر الفرق بني‪:‬‬
‫خارجني؛ وخمرجني‪ ،‬وعدا ه التنبه إىل ذلك من فضائله املتميزة!‪ ،‬ومل يقل أحد‪ :‬إنه‬
‫لو مل جيئ نحو هذه األساليب التأكيدية؛ لتنضم إىل ما ذكر ‪ ،‬فإن ما مىض غري‬
‫ٍ‬
‫كاف‪ ،‬يف إفادة التأبيد والبقاء يف اجلنة‪ ،‬وعدم اخلروج منها‪ ،‬مع بقاء اجلنة يف‬
‫ذاهتا!‪ ،‬كَّم يزعم صاحبنا يف النار!‪ ،‬وما دام نفس التخليد والتأبيد كافي ًا‪ ،‬إلرادة‬
‫البقاء‪ ،‬وعدم اخلروج‪ ،‬والدوام يف الظرف املخلدين فيه‪ ،‬فهذا التعبري وحدَ ه ٍ‬
‫كاف‪،‬‬
‫يف الداللة عىل دوام وعدم انقطاع وجود عذاب النار‪ ،‬وأهلها فيها‪ ،‬أي‪ :‬عىل عدم‬
‫خروجهم منها‪ ،‬وعىل عدم فنائها‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬ذكر اآليات الواردة ِف َّتليد وتأبيد أهل النار فيها‪ ،‬بالنص الُصيح‪:‬‬
‫ورد يف النار وعذاهبا‪ ،‬وتقييده بالتخليد كثري ًا‪ ،‬وبلغ ذلك حوايل الثالثني‬
‫مرة‪ ،‬يمكنكم النظر يف القرآن لتالوهتا‪ ،‬وتدبرها‪.‬‬
‫ِ‬
‫الكفار يف مواضع‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫وورد ذكر التخليد مع التأبيد؛ يف حق‬

‫هلل لِ َيغ ِْف َر َْل ْم‪َ ،‬والَ‬


‫ين َك َفرو ْا َو َظ َلمو ْا؛ ََل ْ َيك ِن ا ه‬ ‫ِ‬
‫‪3‬ـ قال تعاىل‪{ :‬إِ َّن ا َّلذ َ‬

‫َان َذلِ َك َع َىل اهللهِ َي ِسري ًا}‪،‬‬


‫ين فِ َيها َأ َبد ًا‪َ ،‬وك َ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ل َي ْهد ََي ْم َط ِريق ًا‪ ،‬إِالَّ َط ِر َيق َج َهن ََّم َخالد َ‬
‫(‪ ،)355‬النساء‪.‬‬

‫وقوله تعاىل‪{ :‬يسري ًا} أي‪ :‬ال يصعب عليه‪ ،‬وال يستعظمه‪.‬‬
‫ونقل ابن أيب حاتم بسنده؛ َعن ِعك ِْرم َة‪َ ،‬أو س ِع ِ‬
‫يد ْب ِن ج َب ْري‪َ ،‬ع ِن ا ْب ِن‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫عباس‪َ :‬خالِ ِد ِ‬
‫اع َله)‪.‬‬‫ين ف َيها َأ َبد ًا‪ ،‬قال‪ :‬ال انْق َط َ‬
‫َ‬ ‫َ َّ‬
‫فهذان أمران‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن اهلل تعاىل قال إنه ال هيدي الكفار إىل طريق إال طريق جهنم‪،‬‬
‫خالدين فيها أبد ًا‪ ،‬وصاحبنا القائل بفناء النار‪ ،‬يقول‪ :‬بل إنه تعاىل هيدهيم طريق ًا‬
‫آخر غري طريق جهنم بعد خروجهم منها!‪ ،‬فمن أصدق من اهلل تعاىل قي ً‬
‫ال!‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬ما نقله ابن أيب حاتم هنا مرة أخرى‪ ،‬عن ابن عباس؛ وهو‪ :‬منقول‬

‫عن عكرمة‪ ،‬عن سعيد بن جبري‪ ،‬وفيه تفسري‪{ :‬خالدين فيها أبد ًا}‪ :‬أي بال‬
‫انقطاع‪.‬‬
‫وصاحبنا لقائل بفناء النار تبع ًا البن تيمية‪ ،‬يقول بل بانقطاع‪.‬‬
‫‪36‬‬
‫وأمر ثالث‪ :‬إن اهلل تعاىل يقرر أن بقاء الكفار يف جهنم خالدين فيها أبد ًا‬
‫أمر يسري وغري مستعظم عنده وغري مستصعب‪ ،‬ولكن صاحبنا مع غريه‪ ،‬يقول بل‬
‫أمر يصعب أن نصدق أن يفعله اهلل‪ ،‬بل هو خمالف للحكمة‪ ،‬ولذلك ال بد أن‬
‫هو ٌ‬
‫َيرجهم منها!‪ ،‬فأي القولني نصدق!‪.‬‬

‫ين فِ َيها‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬


‫ين؛ َو َأ َعدَّ َْل ْم َسعري ًا‪َ ،‬خالد َ‬
‫ِ‬ ‫‪3‬ـ قال تعاىل‪{ :‬إِ َّن ا ََّ‬
‫هلل َل َع َن ا ْلكَاف ِر َ‬

‫ون َولِ هي ًا َو َال ن َِصري ًا}(‪ )59‬األحزاب‪.‬‬


‫َأ َبد ًا‪َّ ،‬ال ََيِد َ‬
‫يقول اإلمام الطربي‪ ،‬وهو من السلف‪( :‬يقول تعاىل ذكره‪ :‬إن اهلل أبعد‬

‫الكافرين به من كل خري‪ ،‬وأقصاهم عنه‪َ { ،‬و َأ َعدَّ َْل ْم َس ِعرياً} يقول‪ :‬وأعد هلم‬

‫ين فِ َيها َأ َبد ًا} يقول‪ :‬ماكثني‬ ‫ِِ‬


‫يف اآلخرة نار ًا‪ ،‬تتقد وتتسعر ليصليهموها { َخالد َ‬

‫ون َولِ هي ًا} يتوالهم‪ ،‬فيستنقذهم من السعري‬


‫ِف السعري أبد ًا‪ ،‬إىل غري َّناية {ال ََيِد َ‬

‫التي أصالمهوها اهلل { َوال ن َِصري ًا} ينرصهم‪ ،‬فينجيهم من عقاب اهلل إياهم‪.‬‬
‫ها هو يفرس التأبيد والتخليد؛ بأنه ال َّناية له‪ ،‬بالنص‪ ،‬وبُصاحة‪ ،‬فمن أين‬
‫فهم ذلك‪.‬‬
‫وها هو ينفي مع اهلل تعاىل أن جيد الكفار هلم نصري ًا؛ وولي ًا‪ ،‬فَّمذا يقول‬
‫القائل بفناء النار؟!‪ ،‬هل هلم ويل ونصري َيرجهم منها؟!‪ ،‬ويقطع عنهم‬
‫العذاب؟!‪ ،‬أم يقول‪ :‬إن اهلل تعاىل ينرصهم‪ ،‬بأن يطهرهم من ذنوهبم بالعذاب‪ ،‬يف‬

‫‪37‬‬
‫النار‪ ،‬وال يعود هناك داع‪ ،‬للتعذيب واإلبقاء يف النار‪ ،‬وال يعود للنار فائدة‪ ،‬وال‬
‫املطهرون!!‪.‬‬
‫لوجودها‪ ،‬فيفنيها اهلل تعاىل؛ وَيرجهم منها‪ ،‬إىل أين؟!‪ ،‬وهم ا‬

‫ين فِ َيها َأ َبداً} أي‪ :‬ماكثني مستمرين‪ ،‬فال خروج‬ ‫ِِ‬


‫وقال ابن كثري‪َ { :‬خالد َ‬
‫هلم منها‪ ،‬وال زوال هلم عنها‪.‬‬
‫ولنتأمل قلي ً‬
‫ال يف مفهوم اللعن املتعلق بالكفرين‪ ،‬واللعن؛ هو‪ :‬الطرد‬
‫واإلبعاد‪ ،‬عن ماذا يطردون ويبعدون؟!‪.‬‬
‫ثم لو فرضنا مع القائل بفناء النار‪ ،‬وبأهنم يتطهرون‪...‬هل يصدق قول‬
‫اهلل تعاىل بأهنم ملعونون‪ ،‬ال سيَّم وقد أخرجهم عىل حد زعم صاحبنا ـ من النار‬
‫وأفناها‪ ،‬فلم يلعنهم‪ ،‬ومماذا يطردهم‪.‬‬

‫ْشك بِ ِه َأ َحد ًا‪ ،‬ق ْل إِ ِّين َال َأ ْملِك‬ ‫‪4‬ـ قال تعاىل‪{ :‬ق ْل إِن َََّم َأ ْدعو َر ِّيب؛ َو َال أ ْ ِ‬

‫َض ًا؛ َو َال َر َشد ًا‪ ،‬ق ْل إِ ِّين َلن َيِ َري ِين ِم َن اهللَِّ َأ َحدٌ ‪َ ،‬و َل ْن َأ ِجدَ ِمن دونِ ِه م ْلت ََحد ًا‪،‬‬ ‫َلك ْم َ ه‬
‫ين فِ َيها‬ ‫ِِ‬
‫هلل َو َرسو َله‪َ ،‬فإِ َّن َله ن َ‬
‫َار َج َهن ََّم َخالد َ‬ ‫إِ َّال َب َالغ ًا ِّم َن اهللَِّ َو ِر َس َاالتِ ِه‪َ ،‬و َمن َي ْع ِ‬
‫ص ا ََّ‬

‫َأ َبد ًا} ّ‬


‫اجلن‪.‬‬
‫قال ابن عاشور؛ متابع ًا يف ذلك اإلمام ابن عطية‪( :‬قال أهل السنهة‪ :‬آيات‬
‫يصح نفوذ ك ّلها‪ ،‬لوجهه بسبب تعارضها‪ ،‬كقوله‬
‫ّ‬ ‫الوعد ظاهرة العموم‪ ،‬وال‬

‫وتوىل} [الليل‪ ،]39،35 :‬وقوله‪:‬‬


‫ه‬ ‫تعاىل‪{ :‬ال يصالها إاله األشقى الذي ه‬
‫كذب‬

‫فإن له نار جهنهم}‪[ ،‬اجلن‪ ، ]41:‬فال بدّ أن نقول‪ :‬إ ّن‬


‫{ومن يعص اهلل ورسوله ه‬
‫آيات الوعد لفظها لفظ العموم‪ ،‬واملراد به اخلصوص‪ :‬يف املؤمن املحسن‪ ،‬وفيمن‬
‫‪38‬‬
‫سبق يف علم اهلل تعاىل العفو عنه دون تعذيب من العصاة‪ّ ،‬‬
‫وأن آيات الوعيد لفظها‬
‫عموم واملراد به اخلصوص يف الكفرة‪ ،‬وفيمن سبق علمه تعاىل أنّه ّ‬
‫يعذبه من‬
‫العصاة)‪.‬‬
‫ونصوص واضحة؛ عىل بقائهم أبد ًا‪ ،‬مستمرين يف‬
‫ٌ‬ ‫وهذه تعابري رصحية‪،‬‬
‫ُّ‬
‫وتدل بالرضورة عىل أن النار باقية‪ ،‬فمجرد وصف اجلنة والنار باخللود‪،‬‬ ‫النار‪،‬‬
‫مر بيانه‪ ،‬أهنا ال تتحول عَّم وضعها اهلل تعاىل عليها‪ ،‬وال تنقلب‪،‬‬
‫فهذا يعني كَّم ّ‬
‫وكل ذلك بإذن اهلل تعاىل‪ ،‬وإرادته‪ ،‬وفعله‪.‬‬

‫وقد أكد القرآن ذلك املعنى بأساليب أخر‪ ،‬كقوله تعاىل‪{ :‬أولئك ليس‬

‫ْلم ِف اآلخرة إال النار}‪ ،‬فصار هلم يف اآلخرة عىل قول عدنان إبراهيم أمر آخر‬
‫غري النار‪ ،‬فإهنم سيخرجون منها‪ ،‬ومل يذكر لنا أهنم سينعدمون!‪ ،‬فأين يذهبون؟‪.‬‬

‫وقوله تعاىل‪{ :‬ال َيدون عنها حميصاً}‪ ،‬وعىل قول عدنان إبراهيم‪ :‬بل‬
‫سيجدون عنها حميص ًا‪ ،‬وَيرجون منها‪ ،‬بل ستكون النار سبب سعادهتم‪ ،‬ألهنا‬
‫ستطهرهم‪ ،‬وتنقيهم من أدران الرشك واملعايص‪ ،‬ليخرجوا منها‪ ،‬ومل يرصح بعد‬
‫أين يذهبون!‪ ،‬إال أنه أشار بإشارات؛ يفهم منها الواحد ما يفهم!‪ ،‬كَّم سنرى!!‪.‬‬

‫وقوله تعاىل‪{ :‬ليس مُصوف ًا عنهم}‪ ،‬بل سيرصف عنهم‪ ،‬ويرصفون‬


‫عنه‪ ،‬هذا عىل قول د‪ .‬عدنان‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫وقوله تعاىل‪{ :‬أولئك يئسوا من رمحتي}‪ ،‬يقول د‪ .‬عدنان‪ :‬بل مل ييأسوا‬
‫إال يف ذلك اليوم‪ ،‬الذي مقداره مخسون ألف سنة‪ ،‬أما بعد ذلك؛ فرمحة اهلل هي‬
‫الغالبة‪ ،‬وستسعهم‪ ،‬فأين سيقبعون بعد أن يتطهروا من الرشك؟!‪.‬‬

‫وقوله تعاىل‪{ :‬نار مؤصدة}‪ ،‬وهي عىل قول عدنان إبراهيم؛ مل تعد‬
‫مؤصدة‪ ،‬بل تفتح هلم‪.‬‬

‫وقوله تعاىل‪{ :‬وما هم عنها بغائبني}‪ ،‬وعدنان إبراهيم يقول‪ :‬بل‬


‫سيغيبون عنها‪ ،‬ثم تفنى‪.‬‬
‫وال ندري أين يذهبون بعد؟!‪ ،‬أإىل نار أخرى أم ماذا؟‪.‬‬
‫اين َأ ْه ِل ا ْلكِت ِ‬
‫َاب‪َ ،‬من َي ْع َم ْل‬ ‫ِ‬
‫وتأمل اآليات اآلتية‪َّ { :‬ل ْي َس بِ َأ َمان ِّيك ْم؛ َوال َأ َم ِ ِّ‬
‫ون اهللهِ؛ َولِ هي ًا‪َ ،‬والَ ن َِصري ًا}‪( ،‬النساء‪{ ،)341/‬إِ َّن‬
‫َيزَ بِ ِه‪َ ،‬والَ ََيِدْ َله ِمن د ِ‬
‫سوء ًا ْ‬

‫َتدَ َْل ْم ن َِصري ًا}(النساء‪َ { ،)329/‬ف َأ َّما‬ ‫َّار َو َلن َ ِ‬ ‫ني ِِف الدَّ ْر ِك األَ ْس َف ِل ِم َن الن ِ‬ ‫ِِ‬
‫املْنَافق َ‬
‫وره ْم‪َ ،‬و َيزيدهم ِّمن َف ْضلِ ِه‪َ ،‬و َأ َّما‬
‫يه ْم أج َ‬ ‫ت‪َ ،‬في َو ِّف ِ‬ ‫احلا ِ‬
‫ا َّل ِذين آمنو ْا وع ِملو ْا الص َِ‬
‫َّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ون اهللهِ َولِ هياً‬
‫ون َْلم ِّمن د ِ‬
‫ين ْاستَنكَفو ْا َو ْاس َتك َْربو ْا؛ َفي َع ِّذِّب ْم َع َذاب ًا َألي ًَم‪َ ،‬والَ ََيِد َ‬ ‫ِ‬
‫ا َّلذ َ‬

‫ون اهللَِّ؛ َما ََل ْ ي َنز ِّْل بِ ِه س ْل َطان ًا‪،‬‬


‫ون ِمن د ِ‬
‫َوالَ ن َِصري ًا}‪( ،‬النساء‪َ { ،)331/‬و َي ْعبد َ‬

‫ني ِمن ن َِّصري}‪( ،‬احلج‪{ ،)33/‬ق ْل َمن َذا ا َّل ِذي‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬


‫َو َما َل ْي َس َْلم بِه ع ْل ٌم‪َ ،‬و َما لل َّظامل َ‬
‫ون َْلم ِّمن د ِ‬
‫مح ًة‪َ ،‬و َال ََيِد َ‬ ‫ِ‬
‫ون اهللَِّ‬ ‫َي ْعصمكم ِّم َن اهللَِّ إِ ْن َأ َرا َد بِك ْم سوء ًا َأ ْو َأ َرا َد بِك ْم َر ْ َ‬

‫ون َولِ هي ًا َو َال‬


‫ين فِ َيها َأ َبد ًا؛ َّال ََيِد َ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َول هي ًا؛ َو َال نَصري ًا}‪( ،‬األحزاب‪َ { ،)33/‬خالد َ‬

‫‪40‬‬
‫ون فِيها؛ ربنَا َأ ْخ ِرجنَا َنعم ْل ص ِ‬ ‫ِ‬
‫احل ًا‪،‬‬ ‫ْ َْ َ‬ ‫نَصري ًا}‪( ،‬األحزاب‪َ { ،)59/‬وه ْم َي ْص َط ِرخ َ َ َ َّ‬
‫يه َمن ت ََذك ََّر‪َ ،‬و َجاءكم الن َِّذير؛‬ ‫غَري ا َّل ِذي كنَّا َنعمل‪َ ،‬أو ََل نعمركم؛ ما يت ََذكَّر فِ ِ‬
‫َّ َ‬ ‫َ ْ َ ِّ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َْ‬
‫َّصري}‪( ،‬فاطر‪َ { ،)13/‬و َل ْو َشاء ا َّ‬
‫هلل َجل َع َله ْم أ َّم ًة‬ ‫َفذوقوا َفَم لِل َّظاملِني ِمن ن ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َصري}‪،‬‬ ‫ون ما َْلم من و ِيل؛ و َال ن ِ‬ ‫ِ‬ ‫احدَ ًة‪ ،‬و َلكِن يدْ ِخل من ي َشاء ِِف ر ِ ِ‬ ‫و ِ‬
‫ِّ َ ي َ‬ ‫محته َوال َّظامل َ َ‬‫َ َْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫(الشورى‪ ،)0/‬وال يعجز املتمسك بومهه وهواه‪ ،‬أن يقول‪ :‬إهنم ال جيدون هلم‬
‫نصريا غري اهلل تعاىل‪ ،‬فيقول‪ :‬ولكنا نقول إن اهلل تعاىل يكون هلم نصري ًا‪ ،‬وذلك بعد‬
‫انقضاء مخسني ألف سنة أو ألف سنة! تقريب ًا!‪ ،‬وسيخرجهم من النار بعد أن يتم‬
‫تطهريهم!‪.‬‬
‫املطهرون؟!‪ ،‬وال يليق أن يعذبوا‬
‫فريد عليه السؤال‪ :‬أين يذهبون!‪ ،‬وهم ا‬
‫بعد تطهرهم وتزكيتهم؛ التي نفاها القرآن!‪ ،‬وهذا قلب ملفاهيم القرآن‪ ،‬الذي قرر‬
‫أن اهلل تعاىل ال يكون نصري ًا للكفار‪ ،‬ال يف الدنيا؛ وال يف اآلخرة‪.‬‬
‫عىل أن اآليات؛ تدل عىل أن النصري املنفي هنا‪ ،‬النصري الذي ينرصهم عىل‬
‫ما أراده اهلل تعاىل هلم؛ من العذاب‪ ،‬فيمنع العذاب عنهم ويدفعه‪.‬‬
‫وقد يقول قائل‪ :‬ولكنهم بعد أن يدخلوا فيها‪ ،‬ال يعودون كفار ًا‪ ،‬فإن النار‬
‫تطهرهم‪ ،‬وتزيل األدناس التي يف قلوهبم‪ ،‬وجتعلهم مؤمنني راضني‪ ،‬فريىض عنهم‬
‫نرصهم بقطع عذاب النار وإفنائها‪ ،‬فال ينرص كفار ًا‪ ،‬يف‬ ‫اهلل تعاىل حينئذ‪ْ ،‬‬
‫فإن َ َ‬
‫حقيقة األمر‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫ال عن أن نفي النصري عام‪ ،‬فإنه مل َي ِرد أن االعرتاف والتصديق‬
‫فنقول‪ :‬فض ً‬
‫الذي حيصل يف نفوس الناس‪ ،‬يف اآلخرة ينفعهم‪ ،‬وال يقلب حقائقهم؛ التي‬
‫يرتتب عليها اجلزاء والثواب‪ ،‬وهي التي اكتسبوها يف احلياة الدنيا‪ ،‬وهي املعتربة‬
‫يف اليوم اآلخر‪ ،‬وإن اآليات التي نقلناها؛ ترد عىل هذا القيل برصاحة‪.‬‬
‫عالوة عىل ذلك‪ ،‬فقد ورد بالنصوص القاطعة؛ أن النار ال تزكيهم‪ ،‬وال‬
‫تطهرهم‪ ،‬أي إن اهلل تعاىل ال يطهرهم‪ ،‬وال يزكيهم بالنار؛ وال بيشء آخر‪ ،‬فإن‬
‫ال ظاهر ًا ي ُّ‬
‫دل عىل ما تزعمون؛ فدلونا عليه!‪.‬‬ ‫وجدتم دلي ً‬
‫ويف القرآن أساليب كثرية‪ ،‬تؤكد هذا املعنى الذي وضحناه‪ ،‬وتقرره مرة‬
‫السبكي يف رسالته املعروفة التي رد فيها عىل ابن‬
‫ه‬ ‫بعد أخرى‪ ،‬ذكرها اإلمام التقي‬
‫تيمية القائل بفناء النار‪.‬‬
‫وقول القائل بنفي النار؛ بأهنم سيتطهرون يف النار‪ ،‬عن طريق العذاب‬
‫األليم‪ ،‬فَّم نعلمه؛ أن اهلل تعاىل رصح يف القرآن‪ ،‬أنه ال يزكيهم؛ وال ينظر إليهم‪،‬‬

‫ون بِ ِه َث َمن ًا َقلِي ً‬


‫ال‪،‬‬ ‫َاب‪َ ،‬و َي ْش ََت َ‬ ‫ون َما َأن َز َل اهلله ِم َن ا ْلكِت ِ‬ ‫ين َيكْتم َ‬ ‫ِ‬
‫فقال‪{ :‬إِ َّن ا َّلذ َ‬
‫وَّن ْم إِالَّ الن ََّار‪َ ،‬والَ ي َك ِّلمهم اهلله َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة‪َ ،‬والَ ي َز ِّك ِ‬
‫يه ْم؛‬ ‫ون ِِف بط ِ ِ‬
‫ك َما َي ْأكل َ‬‫أو َلـئِ َ‬

‫ون بِ َع ْه ِد اهللهِ‬ ‫ِ‬


‫يم}‪( ،‬البقرة‪ ،)332/‬وقال تعاىل‪{ :‬إِ َّن ا َّلذ َ‬
‫ين َي ْش ََت َ‬ ‫ِ‬
‫اب َأل ٌ‬ ‫َو َْل ْم َع َذ ٌ‬
‫هلل؛ َوالَ َينظر‬ ‫اآلخ َر ِة‪َ ،‬والَ ي َك ِّلمهم ا ه‬
‫ك الَ َخال ََق َْلم ِِف ِ‬
‫ْ‬ ‫ـئ َ‬‫ال‪ ،‬أو َل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َأ ْي ََم َِّن ْم َث َمن ًا َقلي ً ْ‬

‫يم}‪( ،‬آل عمران‪.)33/‬‬ ‫ِ‬ ‫إِ َل ْي ِه ْم َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة‪َ ،‬والَ ي َزك ِ‬


‫اب َأل ٌ‬‫ِّيه ْم َو َْل ْم َع َذ ٌ‬

‫‪42‬‬
‫ومل يقيد نفي تزكيتهم بيوم واحد‪( ،‬حتى لو كان يساوي مخسني ألف سنة‬
‫أو ألف سنة مما نعدُّ ) حتى يقول املتوهم‪ :‬إنه بعد انتهاء ذلك اليوم؛ سيزكيهم‪.‬‬

‫وعرب يف القرآن بالفعل املضارع‪{ :‬وال يزكيهم} إلفادة االستمرار‬


‫التجددي‪ ،‬كَّم هو معلوم يف علم البالغة‪ ،‬فكيف جيرؤ املخالف؛ بأن يقول إن اهلل‬
‫سيزكيهم ويطهرهم؛ من النجاسات الكفرية‪ ،‬واملعايص‪ ،‬والرشك‪ ،‬بالعذاب‬
‫األليم‪ ،‬الذي قدره عليهم يف النار‪ ،‬فإذا تطهروا؛ مل يعد هناك داع لبقائهم يف‬
‫النار؟!‪.‬‬
‫فمن نصدق؟!؛ القرآن‪ ،‬أم عدنان؟!‪ ،‬ومع ظهور ذلك كله‪ ،‬وكونه حمك ًَّم‪،‬‬
‫راجح ًا ظاهر ًا‪ ،‬إال أنا نرى القائل بفناء النار؛ يتشبث بمجرد أوهام‪ ،‬وألفاظ ال‬
‫داللة ظاهرة فيها‪ ،‬بل هي كَّم يعرتف متشاهبات‪ ،‬فنراه يقدمها؛ عىل املحكم من‬
‫الكتاب!‪ ،‬سخافة حجة املقابلة؛ ألهنا ال أساس هلا هنا‪.‬‬
‫يقول‪ :‬قابل اهلل تعاىل هذه اآليات الثالث؛ بثالثة أخر‪ ،‬أبطلت التأبيد‬
‫وأزالته‪ ،‬أي‪ :‬أشارت إىل ذلك‪.‬‬
‫ويقول‪ :‬إنه مل جيد أحد ًا التفت إىل هذا املعنى؛ وهلذه املقابلة!!‪ ،‬ويكتفي‬
‫هبذه املقابلة!!‪ ،‬للقول برتجيح عدم بقاء النار‪ ،‬وعدم استمرار العذاب ألهل‬
‫الكفر‪.‬‬
‫بل يزيد ويقول‪ :‬إن هؤالء يصبحون مؤمنني‪ ،‬ويقبل اهلل تعاىل منهم‬
‫اإليَّمن؛ بعد عذاب يدوم لفرتة معينة‪ ،‬أي‪ :‬يوم واحد (= مخسني ألف سنة مما نعدُّ ‪،‬‬

‫‪43‬‬
‫وربَّم يكون ألف سنة)‪ ،‬وبعد انتهاء هذه املدة‪ ،‬ال ُي ِبقي اهللُ تعاىل يف النار أحد ًا‪ ،‬بل‬
‫َيرجهم‪ ،‬وأشار إىل أنه ربَّم يدخلهم اجلنة‪ ،‬ألهنم مطهرون ُم َزك َ‬
‫اون‪ ،‬وتال قوله‬

‫ين}‪ ،‬ليفهم السامع‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬


‫تعاىل يف أهل اجلنة‪َ { :‬س َال ٌم َع َل ْيك ْم ط ْبت ْم َفا ْدخل َ‬
‫وها َخالد َ‬
‫وحدَ ه؛ أن الكفار إذا متت تزكيتهم وتطهريهم‪ ،‬فيصبحون طيبني‪ ،‬واجلنة ال‬
‫يدخلها إال طيبون‪ ،‬والكفار قبل تزكيتهم؛ غري طيبني‪ ،‬وبعدها يصبحون مطهرين‬
‫أي طيبني‪.‬‬
‫وللقارئ؛ أو السامع عندئذ‪ ،‬أن يفهم وحدَ ه من دون ترصيح من د‪.‬‬
‫عدنان أهنم يف اجلنة بأدنى تأمل!‪ ،‬أو ربَّم يقول بفنائهم‪ ،‬أو بإدخاهلم دار ًا أخرى؛‬
‫غري النار‪ ،‬تليق هبم‪ ،‬فإن مجيع املقدمات التي حيتاج إليها‪ ،‬للتوصل إىل تلك‬
‫النتيجة قد حصلت‪ ،‬ومتهدت له‪.‬‬
‫ونحن نطلب من د‪ .‬عدنان أن يوضح رأيه يف هذه النقطة‪ ،‬ويبينها متام ًا‬
‫وبرصاحة‪ ،‬ملا هلا من أمهية‪ ،‬مع أدلة ظاهرة عليها‪ ،‬تصله أن تقيمها‪ ،‬وترفع‬
‫أركاهنا‪ ،‬ال عىل جمرد يبدو يل‪ ،‬وأميل‪ ،‬ونحو ذلك؛ مما ال يفيد يف هذا املقام‪.‬‬
‫ومل ْ أعرف أن جمرد مقابلة املحكم باملتشابه‪ ،‬يكفي يف قوانني االجتهاد‪ ،‬عند‬
‫أحد من املعتربين‪ ،‬الستنباط مجيع هذه األحكام‪ ،‬واللوازم اهلائلة!‪ ،‬وال أرى ذلك‬
‫إال متسك ًا باملتشابه‪ ،‬وتقدي ًَّم له عىل املحكم‪ ،‬بل ال أراه إال إبطاالً ملُ ْح َك ٍم؛ بدعوى‬
‫مع املتشابه!‪ ،‬وهذا ليس بطريق اجتهادي معترب؛ وال حمرتم‪ ،‬عند أهل‬
‫التقابل َ‬
‫العلم‪ ،‬ولكنه شائع عند فرق املبتدعة‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫ثم هذا القول الذي يقرره هنا‪ ،‬وهو خروج الكفار مجيع ًا من النار؛ بعد‬
‫مدة معينة معلومة‪ ،‬وصريورهتم مؤمنني َم ْر ِض اي ًا عنهم‪ ،‬وفناء النار‪ ،‬بعد خروجهم‬
‫منها‪ ،‬ويشري إىل احتَّمل دخوهلم اجلنة بعد ذلك األمر‪ ،‬الذي مل جيرؤ عىل الترصيح‬
‫به أحد من املسلمني من قبل!!‪ ،‬ال ابن تيمية؛ وال ابن عريب‪ ،‬وال غريمها أبد ًا‪.‬‬
‫بل اتفق املسلمون مجيع ًا؛ عىل أن أهل النار ـ الذين هم أهلها ـ ال َيرجون‬
‫منها أبد ًا‪ ،‬وزعم ابن عريب ـ أهنم مع كوهنم ال َيرجون منها ـ ينقلب عذاهبم‬
‫عذوبة‪ ،‬أما ابن تيمية فزعم هو ـ يف ظاهر قوله؛ واملشهور عنه ـ وابن قيم اجلوزية‬
‫ووافقهَّم القرضاوي وغريه؛ من املقلدين هلم‪ ،‬أن النار تفنى‪ ،‬ومل يقل إن الكفار‬
‫يدخلون اجلنة‪ ،‬بل أفهم ظاهر كالمه‪ ،‬أن النار تفنى‪ ،‬ويفنى أهلها معها‪ ،‬ومل‬
‫يرصح بوضوح بأهنم َُي َرجون منها‪ ،‬ويدخلون اجلنة‪ ،‬وإن ُوجدت كلَّمت منه ربَّم‬
‫تشري إىل هذا املعنى!‪.‬‬
‫وحاول السيد أمحد الغَمري أن يوفق بني قول ابن تيمية وابن عريب بطريقة‬
‫عجيبة ال تليق!‪ ،‬حماوالً أال َيالف واحد ًا منهَّم‪ ،‬ملا له من ميل غريب إىل ذلك‬
‫الرأي‪ ،‬وقد بينت ذلك كله يف كتايب‪( :‬أصحاب النار)‪ ،‬الذي صدر قبل سنني‪.‬‬
‫عىل أن البن قيم اجلوزية يف بعض كتبه؛ كالم ًا يدل برصحيه‪ ،‬عىل أن‬
‫الكفار ال يقبلون أن تتغري نفوسهم‪ ،‬وتتطهر بالنار‪ ،‬كَّم تتطهر نفوس العصاة من‬
‫املؤمنني‪ ،‬بل تبقى كَّم هي؛ فال يليق هبا دخول اجلنة‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫فهل يعقل أن تكون هذه العقيدة؛ التي يقرتحها د‪ .‬عدنان هنا هي العقيدة‬
‫احلقة الصحيحة‪ ،‬ثم ال يوجد أحد من قبله ـ خالل أربعة عرش قرن ًا ـ قال هبا‪ ،‬وال‬
‫عرفها!!‪ ،‬أي عقيدة هذه؛ التي متثل أص ً‬
‫ال من أصول الدين‪ ،‬ثم ال يعلمها أحد من‬
‫املسلمني؛ إال واحد يف هذا القرن!‪.‬‬
‫وربَّم يكون هذا األمر نفسه‪ ،‬مؤدي ًا إىل الشك يف الدين اإلسالمي‪ ،‬فقد‬
‫يقول قائل‪ :‬إذا كان أغلب املسلمني منذ أربعة عرش قرن ًا؛ حتى اآلن‪ ،‬يعتقدون‬
‫خلود الكفار يف النار‪ ،‬وقد تبني أن اعتقادهم هذا باطل‪ ،‬واحلقيقة أن اخللود املؤبد‬
‫للكفار سيكون يف اجلنة مع املؤمنني!‪ ،‬فَّم الذي يؤمننا أن تنقض عقائد اإلسالم‬
‫األخرى بعد مدة‪ ،‬ويطلع علينا آخر ينكر أمرا آخر!‪.‬‬
‫فهذا األمر إنَّم يبعث عىل الشك يف أصول الدين‪ ،‬وال يقوهيا يف نفوس‬
‫املنكرين املالحدة؛ كَّم يتوهم الواهم‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫ما هي قصة املقابلة؛ التي اعتمد عليها د‪ .‬عدنان إبراهيم؟‪.‬‬
‫زعم القائل بفناء النار؛ أن هذه اآليات الثالث‪ ،‬التي فيها التأبيد للكفار يف‬
‫مر إيرادها‪ ،‬و ُيفهم منها عدم خروجهم منها‪ ،‬وعدم إخراجهم‪،‬‬
‫النار‪ ،‬وقد ا‬
‫يقول‪ :‬قد ور َد يف القرآن ثالث آيات تقابلها أيض ًا‪ ،‬ختلخل هذه األبدية الدائمة؛‬
‫املفهومة من اآليات السابقة!‪ ،‬فنتج عنده‪ ،‬أن اهلل تعاىل أشار إىل انتهاء العذاب‬
‫الدائم املخلد املؤبد؛ باآليات الثالث السابقة‪ ،‬هبذه اآليات الثالث التي يعرتف‬
‫بوجود اختالف عظيم يف داللتها‪ ،‬وبأن وجه داللتها عىل ما يريد هو من‬
‫املتشاهبات‪ ،‬ال من املحكَّمت‪ ،‬وبذلك يتساوى األمر ـ عنده! ـ ويرجع األمر إىل‬
‫جمرد مكث طويل يف النار‪ ،‬مقداره يوم واحد مما عند ربك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فثالث آيات؛ يزعم أن داللتها حمتملة عىل االنقطاع والفناء ـ جمرد‬
‫أهنا حمتملة‪ ،‬ال نص ًا‪ ،‬وال ظاهر ًا‪ ،‬وال راجح ًا!! ـ تكفي عند عدنان إبراهيم‪ ،‬ومن‬
‫سلفه للقول؛ بأن ما دلت عليه اآليات الظاهرات الواضحات واملحكَّمت عند‬
‫أكثر املسلمني فرق ًا وعلَّمء‪ ،‬ليس عىل ظاهره‪ ،‬وال هو عىل ما نفهمه‪ ،‬بل جيب‬
‫تقييده بَّم حتتمله ـ يف زعمه طبع ًا ـ تلك اآليات املتشاهبة؛ التي ليس هلا ظهور عىل‬
‫ما يريد من معنى الفناء وسواه‪.‬‬
‫هذا هو خالصة منهج املقابلة املزعوم من د‪ .‬عدنان!!‪ ،‬وزعم أن هذا من‬
‫الفتوحات‪ ،‬وقال إنه مل يسبقه أحدٌ ؛ إىل االلتفات إىل ذلك!!‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫فلنرشع يف حتليل كالمه ـ والكالم عليه بَّم يليق ـ ا‬
‫إن اآليات الثالث التي‬
‫يريدها‪:‬‬

‫اجل ِّن َق ِد ْاس َت ْك َث ْرتم ِّم َن‬


‫ُيَشه ْم ََجِيع ًا َيا َم ْع ََش ِْ‬
‫َ‬ ‫‪3‬ـ قوله تعاىل‪َ { :‬و َي ْو َم ِ ْ‬
‫ِ‬ ‫نس َو َق َال َأ ْولِ َيآؤهم ِّم َن ا ِ‬
‫ي‬‫نس َر َّبنَا ْاست َْمت ََع َب ْعضنَا بِ َب ْعض َو َب َل ْغنَا َأ َج َلنَا ا َّلذ َ‬ ‫إل ِ‬ ‫ا ِ‬
‫إل ِ‬

‫ليم}‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ين فِ َيها إِالَّ َما َشاء اهلله إِ َّن َر َّب َ‬ ‫ِِ‬ ‫َأ َّج ْل َ‬
‫يم َع ٌ‬
‫ك َحك ٌ‬ ‫ت َلنَا َق َال النَّار َم ْث َواك ْم َخالد َ‬
‫(األنعام‪.)340/‬‬

‫اآلخ َر ِة َذلِ َك َي ْو ٌم‬


‫اف ع َذاب ِ‬
‫ك آل َي ًة ملَِّ ْن َخ َ َ َ‬‫‪4‬ـ قوله تعاىل‪{ :‬إِ َّن ِِف َذلِ َ‬
‫ت الَ‬ ‫ك يوم م ْشهود‪ ،‬وما ن َؤ ِّخره إِالَّ ِألَجل معدود‪ ،‬يوم ي ْأ ِ‬ ‫ِ‬
‫ََْ َ‬ ‫َ َّ ْ‬ ‫ٌ ََ‬ ‫وع َّله النَّاس َو َذل َ َ ْ ٌ َّ‬
‫َمم ٌ‬
‫َّ ْ‬
‫َّار َْل ْم فِ َيها زَفِ ٌري‬
‫ين َشقو ْا َف ِفي الن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫َت َك َّلم َن ْف ٌس إِالَّ بِإِ ْذنه َفمنْه ْم َشقي َو َسعيدٌ ‪َ ،‬ف َأ َّما ا َّلذ َ‬
‫ك إِ َّن َر َّب َ‬
‫ك َف َّع ٌال‬ ‫الس ََم َوات َواألَ ْرض إِالَّ َما َشاء َر ُّب َ‬ ‫ِ‬ ‫و َش ِه ٌيق َخالِ ِد ِ‬
‫ين ف َيها َما َد َامت َّ‬‫َ‬ ‫َ‬

‫ملَِّا ي ِريد}‪( ،‬هود‪304/‬ـ‪.)303‬‬

‫ني فِ َيها َأ ْح َقاب ًا‪َّ ،‬ال‬ ‫ِ‬


‫ني َمآب ًا‪َ ،‬البِث َ‬
‫ِ ِ‬ ‫‪1‬ـ {إِ َّن جهنَّم كَان ْ ِ‬
‫َت م ْر َصاد ًا‪ ،‬ل ْل َّطاغ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ْشاب ًا‪ ،‬إِ َّال َمحِي ًَم َوغ ََّساق ًا‪َ ،‬جزَاء ِو َفاق ًا‪ ،‬إِ ََّّن ْم َكانوا َال َي ْرجو َن‬ ‫يذوق َ ِ‬
‫ون ف َيها َب ْرد ًا َو َال َ َ‬ ‫َ‬
‫شء َأ ْح َص ْينَاه كِتَاب ًا‪َ ،‬فذوقوا َف َلن ن َِّزيدَ ك ْم إِ َّال‬ ‫ِ ِ‬
‫ح َساب ًا‪َ ،‬وك ََّذبوا بِآ َياتنَا ك َّذاب ًا‪َ ،‬وك َّل َ ْ‬
‫ِ‬

‫َع َذاب ًا}‪( ،‬النبأ‪43/‬ـ‪.)43‬‬

‫وهو يعرتف أن اآلية األوىل؛ وفيها‪{ :‬إال ما شاء}‪ ،‬والثانية؛ وفيها‪:‬‬

‫{إال ما شاء ربك} من اآليات‪ ،‬التي اختلف يف تفسريمها‪ ،‬وما يعتمد عليه يف‬

‫‪48‬‬
‫اآلية من االستدالل‪ ،‬وهو االستثناء وما يراد به‪ ،‬إن محلناه عىل ما يريد من املعنى‬
‫املؤدي إىل القول بفناء النار‪ ،‬فداللته مع أهنا غري ظاهرة (ال هي بنص؛ وال‬
‫براجح)‪ ،‬فإهنا أيض ًا تستلزم التعارض؛ مع ما يظهر من اآليات السابقة املحكمة‬
‫الظاهرة‪ ،‬ومع األحاديث النبوية‪ ،‬ومع أقوال العلَّمء؛ من لدن الصحابة‪ ،‬إىل هذا‬
‫العرص‪ ،‬إال قول ابن تيمية‪ ،‬ومن تبعه‪ ،‬وربَّم لذلك هو راجح‪ ،‬ولذلك ينبغي‬
‫القول به!‪ ،‬ال نعلم!‪.‬‬
‫وإذا كان محلهَّم عىل ما يريد من إفناء النار‪ ،‬وإخراج أهلها يستلزم‬
‫التعارض‪ ،‬مع غريها من الراجحات؛ بال بينة‪ ،‬وال دليل‪ ،‬فهذا يستدعي عند أهل‬
‫النظر؛ كوهنَّم من املتشاهبات عىل هذا املعنى‪ ،‬ومعلوم أن املتشابه إذا كان ظاهر ًا‪،‬‬
‫يف الداللة‪ ،‬فينبغي تأويله؛ ورصف معناه إىل ما يوافق املحكم‪ ،‬فكيف إذا كان غري‬
‫ظاهر‪ ،‬وال ّ‬
‫دال داللة حقيقة‪ ،‬بل كل ما يملكه صاحبة‪( :‬أرى)‪ ،‬و(يبدو)‪ ،‬ويعتمد‬
‫عىل أفهام باطلة لالستثناء كَّم سنرى!‪.‬‬
‫ومها ليستا حمكمتني يف املعنى الذي يريده‪ ،‬هذا أقل ما يقال فيهَّم‪.‬‬
‫فكيف تسنى له؛ أن جيعلهَّم مما يقابل املحكم من القرآن‪ ،‬الذي فيه التخليد‬
‫والتأبيد‪ ،‬ثم جيعل املتشابه حاك ًَّم عىل املحكم‪ ،‬وكان الواجب عليه أن يسلك‬
‫السبيل القويم‪ ،‬فيحكم عىل املتشابه باملحكم‪ ،‬ويقيده به‪ ،‬ال كَّم فعل!‪.‬‬
‫وأما اآلية الثالثة‪ ،‬فليس فيها ـ باعرتافه ـ داللة قوية عىل عدم التأبيد‪ ،‬ألن‬

‫{أحقاب ًا} نكرة‪ ،‬وهي صادقة عىل الفرتة املحدودة‪ ،‬وعىل غري املحدودة‪،‬‬

‫‪49‬‬
‫واألوىل يف هذا املقام‪ ،‬مقام التهديد والوعيد‪ ،‬أن حتمل عىل ما يوافق التأبيد‬
‫والتخليد‪ ،‬بتكثري األحقاب‪ ،‬املتوعد تعذيب الكفار فيها‪ ،‬الذي يالئمه الدوام‬
‫واالستمرار‪ ،‬ال االنقطاع والفناء‪ ،‬لينقطع رجاؤهم من اخلروج منها‪ ،‬أو العفو‬
‫عنهم‪ ،‬وهو املناسب ملعنى التهديد؛ الذي سيقت له اآلية الكريمة‪.‬‬
‫فاحلاصل أن املعنى الذي يقرتحه لنا‪ ،‬غري مناسب للمقصود من اآلية‪،‬‬
‫وال لسياقها‪ ،‬وال يدل عليه لفظها‪ ،‬وال يستفاد من داللته!‪ ،‬فكيف جيعله أهالً‬
‫لتقييد؟!‪ ،‬أو رصف الظاهر عن ظهوره؟!‪ ،‬وسنزيد هذا املعنى بيانا قريب ًا‪.‬‬
‫فَّم قام به القائل بفناء النار؛ خمالف ملا ينبغي أن ُيسلك يف أصول االجتهاد‬
‫املعترب متام ًا‪ ،‬أهذا هو االجتهاد الذي يدعو إليه ويدعيه؟!‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫تعليق إَجايل عىل كالم د‪ .‬عدنان ِف هذه اآليات الثالث‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬نقد ما قرره يف قوله تعاىل‪{ :‬البثني فيها أحقاب ًا}‪:‬‬


‫ملا تكلم د‪ .‬عدنان عىل اآليات الثالث‪ ،‬التي يقول إهنا تقابل اآليات التي‬

‫ورد فيها التخليد والتأبيد‪ ،‬اعرتف بأن االحتجاج بقوله تعاىل‪{ :‬البثني فيها‬

‫أحقاب ًا} ضعيف جد ًا‪ ،‬وقال‪( :‬أن االستدالل ِّبا ـ أي ‪:‬عىل انقطاع وجود النار ـ‬
‫ضعيف‪ ،‬ألن مفهوم العدد؛ من أضعف املفهومات‪ ،‬وهذا تعبري أصويل‪ ،‬من َل يقرأ‬
‫عل جيد ًا‪ ،‬ولكن ال َ‬
‫وقت لدي‪ ،‬العدد ال مفهوم له عند‬ ‫أصول الفقه‪ ،‬فلن يفهم ه‬
‫أكثر العلَمء‪ ،‬ونعَتف أن مفهوم العدد من أضعف املفهومات)‪.‬‬
‫نقول‪ :‬حسن ًا؛ إذا كان االستدالل هبا ضعيف ًا‪ ،‬وداللة املفهوم ـ عموم ًا ـ مل‬
‫يقل هبا كثري من األصوليني‪ ،‬ومن أضعفها مفهوم العدد واللقب‪ ،‬وأنت ايض ًا‬

‫تعرتف هبذا الضعف؛ وتقول‪( :‬إن مفهوم العدد ضعيف جد ًا)‪َ ،‬‬
‫فلم إذن جتعل‬
‫هذا الوجه من االستدالل باآلية‪ ،‬وهو هبذه املنزلة من االستدالل الضعيف‪،‬‬
‫العتَّمده عىل داللة مفهوم العدد‪ ،‬التي هي من أضعف الدالالت؛ فض ً‬
‫ال عن أن‬
‫نفس داللة املفهوم ـ مطلق ًا ـ فيها خالف بني األعالم‪ ،‬وفوق ذلك فإن هذا‬
‫املفهوم َيالف داللة املنطوق‪ ،‬كَّم هو معرتف به‪ ،‬فأنت تعتمد إذن عىل أضعف ما‬
‫يمكن أن يوجد من دليل فيه‪ ،‬خالف ِف أصله!‪.‬‬
‫وبعد ذلك كله تبيح لنفسك؛ أن جتعل هذه املرتبة الضعيفة للداللة‪ ،‬تقابل‬
‫آية من اآليات الثالثة‪ ،‬التي فيها التخليد والتأبيد‪ ،‬وأقل ما يقال فيها إهنا ظاهرة‬

‫‪51‬‬
‫الداللة عىل عدم الفناء واستمرار الدوام!‪ ،‬أال جيوز لنا أن نستغرب عندما نراك‬
‫تتبع هذه الطريقة امللتوية من االستدالل والرتجيح؟!‪.‬‬
‫ثم إن املرء ليستغرب منك‪ ،‬تورد ذلك الكالم يف خطبة مجعة‪ ،‬عىل عامة‬
‫الناس‪ ،‬وهي مسألة خطرية جد ًا‪ ،‬وتقول إنه متوقف عىل مفهوم العدد؛ الذي ال‬
‫وقت لديك لرشحه‪ ،‬وتعرتف فوق ذلك أنه ضعيف جد ًا‪ ،‬مع العلم أن رشح‬
‫َ‬
‫مفهوم العدد؛ ال حيتاج وقت ًا أكثر مما احتجته لرشح وجه االستدالل باالستثناء‪،‬‬
‫وحماولة توجيهه ليكون داالً عىل ما ترغب فيه وترتئيه‪ ،‬وإن قتادة ـ وهو من كبار‬

‫املفرسين املتقدمني كَّم هو معلوم ـ قال يف تفسري قوله تعاىل‪{ :‬البثني فيها‬

‫أحقاب ًا}‪( :‬البثني ِف جهنم أحقاب ًا‪ :‬ال انقطاع ْلا)‪ ،‬فها هو قتادة من أعالم‬
‫مفرسي السلف؛ يقرر إفادة اآلية لعدم االنقطاع‪.‬‬
‫وأيض ًا‪ ،‬فإهنم اختلفوا يف احل ِ‬
‫قب كم هو؟‪ ،‬فروي عن النبي عليه السالم؛‬
‫أنه ثالثون ألف سنة‪ ،‬قال مكي بن أيب طالب؛ يف تفسريه‪( :‬وهو مجع اجلمع‪،‬‬
‫واحدُ ه‪ :‬حقبة‪ ،‬مجعت عىل حقب‪ ،‬ومجعت حقب عىل أحقاب ًا‪.‬‬

‫حل ْق ُ‬
‫ب ثالثة مائة سنة‪ ،‬كل سنة‬ ‫وجيوز أن يكون أحقاب‪ ،‬مجع ُح ْقب‪ ،‬وا ُ‬
‫ثالث مائة وستون يوم ًا‪ ،‬كل يوم ألف سنة من سنني الدنيا‪ ،‬قاله بشري بن كعب‪.‬‬
‫وقال عل بن أيب طالب‪ :‬احلقب ثَّمنون سنة‪ ،‬كل سنة اثنا عرش شهر ًا‪ ،‬كل‬
‫شهر ثالثون يوم ًا‪ ،‬كل يوم ألف سنة من سنني الدنيا‪ ،‬وهو قول ابن جبري‪ ،‬وقاله‬
‫الربيع بن أنس‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫وقال أبو هريرة‪ :‬احلقب ستون سنة‪ ،‬كل سنة ثالث مائة وستون يوم ًا‪ ،‬كل‬
‫يوم ألف سنة من سنني الدنيا‪.‬‬
‫وقال قتادة‪ :‬احلقب ثَّمنون سنة؛ من سني اآلخرة‪ ،‬وقال‪ :‬هي أحقاب ال‬
‫انقطاع هلا‪ ،‬كلَّم مىض حقب؛ جاء حقب بعده‪.‬‬
‫وقال احلسن‪ :‬أما األحقاب؛ فليس هلا عدة‪ ،‬إال اخللود يف النار‪ ،‬ولكن ذكر‬
‫أن احلقب سبعون سنة؛ كل يوم منها كألف سنة مما نعد)‪.‬‬
‫وها هو احلسن يرصح بإفادة األحقاب ـ الواردة يف اآلية ـ للخلود ِف‬
‫النار‪.‬‬
‫فتأمل يف هذه األقوال؛ التي يقول هبا السلف‪ ،‬من عرص الصحابة‪،‬‬
‫والتابعني‪ ،‬وتابعيهم‪ ،‬إىل هذا الزمان‪ ،‬وهم جممعون عىل أمرين‪:‬‬
‫األمر األول‪ :‬أن عذاب أهل النار ال ينقطع‪.‬‬
‫واألمر الثاين‪ :‬أن الفرتة التي يعذب فيها أهل النار‪ ،‬ليست جمرد يوم واحد‬
‫من أيام اآلخرة‪ ،‬وهو مخسون ألف سنة‪ ،‬أو ألف سنة‪ ،‬كَّم قلت أنت‪ ،‬بل أكثر من‬
‫ذلك كثري ًا‪.‬‬
‫وبذلك يظهر لك ـ وفقك اهلل! ـ مدى التخابط؛ الذي ينتاب استدالالتك‬
‫وتوجيهاتك؛ املتعسفة لآليات‪.‬‬

‫وبعض املفرسين ـ من املتقدمني واملتأخرين ـ ذكر أن قوله تعاىل‪{ :‬البثني‬

‫فيها أحقاب ًا}‪ ،‬متعلق بقوله‪{ :‬ال يذوقون فيها برد ًا؛ وال ْشاب ًا}‪ ،‬ثم بعد ذلك‬

‫‪53‬‬
‫يعذبون بغري هذا العذاب ما شاء اهلل‪ ،‬كَّم ذكره البيضاوي يف تفسريه‪ ،‬ومكي بن أيب‬
‫طالب وغريمها من املفرسين‪.‬‬
‫وبذلك يكون املراد أهنم يدومون أحقاب ًا ا‬
‫معذبني‪ ،‬هبذا اللون من العذاب‪،‬‬
‫قررت أنت‪.‬‬
‫َ‬ ‫ثم ينتقلون إىل غريه‪ ،‬وال يدل ذلك عىل انقطاع أصل العذاب‪ ،‬كَّم‬

‫يتم االستدالل بقوله تعاىل‪{ :‬أحقاب ًا} عىل االنقطاع‪،‬‬


‫وحينئذ فإن مل ا‬
‫بداللة املفهوم لضعفه‪ ،‬فإنه حيتمل يف نفسه التكرر؛ بال حدٍّ لتنكريه مع اجلمع‪،‬‬
‫فاألصل أن حيمل عىل ما يوافق املنطوق املنصوص به‪ ،‬الظاهر من آيات أخر‪ ،‬ال‬
‫ال هلا‪ ،‬مبط ً‬
‫ال لداللتها!‪.‬‬ ‫أن جيعل مقاب ً‬
‫وذلك ألن املفهوم ال يعارض املنطوق‪ ،‬كَّم تقرر يف أصول الفقه‪،‬‬
‫خصوصا إذا كان السياق َيدم إرادة بقائهم يف النار‪ ،‬ال إخراجهم‪ ،‬ألن املقام مقام‬
‫هتديد ووعيد‪ ،‬ال مقام ترغيب وحتبيب!‪.‬‬
‫وكَّم قرر بعض املفرسين‪ ،‬فإن اآلية ال إشكال فيها‪ ،‬وال تشري أص ً‬
‫ال إىل‬
‫احتَّمل انقطاع العذاب عن الكفار‪ ،‬وذلك عىل مذهب من ال يقول بمفهوم‬
‫املخالفة‪ ،‬وهم كثري‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬التعليق عىل كالمه عىل آية هود واألنعام‪:‬‬
‫يف احلقيقة لو كان من يريد ترجيح قول؛ عىل قول‪ ،‬أو وجه عىل آخر؛ من‬
‫وجوه التفسري‪ ،‬يتبع هذه الطريق التي اتبعها د‪ .‬عدنان يف حتليل اآليات‪ ،‬ملا وجدنا‬
‫أحد ًا يتكلم يف قرآن أبد ًا‪ ،‬ولكان أكثر أعالم املفرسين ـ من شتى الفرق اإلسالمية‬
‫ـ يتكلمون كالم ًا فارغ ًا‪ ،‬أو هواء‪ ،‬عىل حد حكمه؛ عىل بعض وجوه تفسري آية‬
‫هود!‪.‬‬
‫تكلم عىل آية هود‪ ،‬فقال‪( :‬إَّنا من أشبه اآليات ِف كتاب اهلل)‪ ،‬والقاعدة‬
‫التي اتبعها يف حتليل اآلية‪( :‬أن ما بعد إال؛ يأيت خمالف ًا ملا قبلها‪.‬‬

‫وما قبل إال‪{ :‬خالدين فيها ما دامت السموات واألرض} أي‪ :‬مدة‬

‫بقاء السموات واألرض‪ ،‬واالستثناء‪{ :‬إال ما شاء ربك} إذن تكون الثانية‬
‫خمالف ًا ملا قبل إال)‪.‬‬
‫أقول‪ :‬هكذا حيل صاحبنا ـ الفاضل ـ املشكلة بسهولة‪ ،‬يقول‪ :‬ما بعد إال‬
‫َيالف ما قبلها‪ ،‬وما قبلها يفيد اخللود ما دامت السموات واألرض‪ ،‬فَّم بعدها ال‬
‫يفيد اخللود؛ مدة بقاء السموات واألرض‪ ،‬ويف رأيه أن هذا يستلزم أنه يفيد‬
‫انقطاع اخللود واستمرار الدوام يف النار من جهة املستقبل‪ ،‬وانتهى األمر!!‪.‬‬
‫وَل يسأل نفسه‪ :‬إذا كان ما قبلها يفيد البقاء؛ ما دامت السموات‬
‫واألرض‪ ،‬فكيف ينفي االستثناء أصل ما أثبت‪ ،‬واملفروض أن َيرج بعض ما‬
‫يدخل حتت املستثنى منه‪ ،‬ال أن ينفيه من أصله‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫فإن نفي ما حتت اللفظ؛ رفع له‪ ،‬ونسخ‪ ،‬وإخراج بعضه عن حكمه؛ هو‬
‫االستثناء‪.‬‬
‫فإذا كان املثبت قبل االستثناء هو الدوام للبث يف الدارين‪ ،‬بقيد دوام‬
‫االستمرار واألبدية‪ ،‬فجاء االستثناء؛ ورفع األبدية‪ ،‬وهي دوام االستمرار يف‬
‫املستقبل‪ ،‬لكان هذا رفع ًا باالستثناء؛ ألصل مفهوم ما أثبته‪ ،‬وهو غري جائز يف‬
‫االستثناء‪.‬‬
‫فاالستثناء ال يتسلط عىل املفهوم لينفيه‪ ،‬بل عىل بعض أفراده؛ ليخرجها‬
‫من حكمه‪.‬‬

‫صح أن يكون نافي ًا مفهو َم ما قبل {إال}‪،‬‬


‫ولو كان ما يقرره استثناء؛ ملا ا‬
‫بل غاية ما يصح منه‪ ،‬إخراج بعض ما يدخل حتت املستثنى منه‪ ،‬من احلكم‬
‫املحكوم عليه به فقط‪ ،‬وهذا ال يستلزم نفي ما قبلها بالرضورة‪.‬‬
‫وسنبني ذلك بتفصيل أكثر قريب ًا‪.‬‬
‫ثم‪ ،‬رشع يف مناقشة اآلراء األخرى‪:‬‬
‫ومن ا‬
‫وحكم عىل قول من قال‪( :‬املستثنى مدة بقائهم ِف الربزخ أو احلساب)‪،‬‬

‫بأنه خمالفة للنظم؛ ولظاهر اآلية‪ ،‬ورد ذلك ألن اآلية تقول‪{ :‬خالدين فيها}‪،‬‬
‫واالستثناء من هذا‪.‬‬
‫ووصف قول من قال‪( :‬ينتقلون من النار؛ إىل الزمهرير)‪ ،‬بأنه كالم هواء‬
‫وفارغ‪ ،‬ألن النار هي كل هذا‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫وعىل قول من قال‪( :‬الثنية يراد ِّبا‪ :‬الزيادة عىل ذلك)‪( :‬بأنه حمتمل‪ ،‬ولكنا‬
‫سوف نرى)!‪.‬‬
‫أي‪ :‬سوف يرينا كيف يرده ويبطله!!‪ ،‬وال يظهر يل بوضوح كيف يكون‬
‫قول من قال‪ :‬إن املستثنى؛ هو املدة ما قبل الدخول يف النار‪ ،‬خمالف ًا للنظم بوضوح‬
‫هكذا‪ ،‬أال حيتمل يا د‪ .‬عدنان أهنم يقولون بقول أهل السنة واجلَّمعة‪ ،‬من أن اجلنة‬
‫والنار موجودتان اآلن‪ ،‬يف حال وجود السموات واألرض‪ ،‬ولكنهم يف حال‬
‫الربزخ‪ ،‬واحلساب‪ ،‬وبعد إعادة خلق السموات واألرض؛ ال يكونون قد دخلوا‬
‫يف النار بعد‪.‬‬
‫وملا كان احلكم املثبت يف اآلية الكريم ـ وهو خلودهم يف النار ـ معلق ًا‬
‫بمدة بقاء السموات واألرض‪ ،‬فقد حتقق عىل هذا الفرض؛ وجود السموات‬
‫واألرض‪ ،‬مع عدم كوهنم داخلني يف النار‪ ،‬ولذلك فإنه من السائغ استثناء هذه‬
‫الفرتة‪ ،‬أو كال الفرتتني‪ ،‬وال يكون خروج ًا عن النظم القرآين عىل هذا الفرض‪.‬‬
‫وتبقى اآلية دالة عىل اخللود الدائم‪ ،‬إلطالقه عن التقييد؛ بعد ذلك‬
‫االستثناء‪ ،‬وتنتهي شبهة القائلني بفناء النار من أصلها‪ ،‬هبذه الطريقة!‪.‬‬
‫ثم باهلل عليك‪ ،‬إن قول من قال‪ :‬بأن املستثنى هو خلودهم يف النار‪ ،‬معترب ًا‬
‫النار نوع ًا من أنواع العذاب‪ ،‬ال دار العذاب‪ ،‬فقال بعد ذلك‪َ :‬يرجون من‬
‫العذاب بالنار‪ ،‬إىل الزمهرير‪ ،‬فهو ال يبني قوله مالحظ ًا يف ذلك االسم اللقبي‬
‫ذكرت‪ ،‬بل مالحظ ًا أصل الوضع للنار‪ ،‬املستعملة للتعذيب‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫الشامل ملا‬ ‫للدار‪ ،‬هلا‬

‫‪57‬‬
‫املقابلة للزمهرير‪ ،‬وال سيَّم أهنا مستخدمة يف القرآن هبذا الوجه‪ ،‬وقد علم أن يف‬
‫دار العقاب؛ عذاب ًا بالنار‪ ،‬وعذاب ًا بالزمهرير‪ ،‬ويؤيد ذلك ـ ولو من جهة ـ الوجه‬

‫السابق املذكور يف قوله تعاىل {أحقاب ًا}‪.‬‬


‫ٍ‬
‫بإطالق بأنه كالم فارغ وهواء!!‪،‬‬ ‫فكيف أمكنك أن حتكم عىل هذا القول؛‬
‫وقد قال به بعض أكابر العلَّمء‪ ،‬واحتمله املحققون منهم!!‪.‬‬
‫أإىل هذا املنهج من النظر يف تفسري الكتاب تدعو أصحابك‪ ،‬واملتأثرين‬
‫بك‪ ،‬يا صاحبنا؛ الذي ندعو اهلل تعاىل أن يوفقه توفيق ًا‪ ،‬ويسدده ويوجه قلبه‪ ،‬إىل ما‬
‫فيه اخلري للدين!‪.‬‬
‫وأما ما قررته من احتَّمل داللة االستثناء‪ ،‬عىل الزيادة يف العذاب‪ ،‬فنشكر‬
‫لك جمرد احتَّملك إ ّياه‪ ،‬وعدم وصفه باهلواء والفارغ‪ ،‬وسوف نناقش طريقة‬
‫إبطالك إياه‪.‬‬
‫وقد اعتمد د‪ .‬عدنان يف سبيل ترجيح عدم داللة الثنية‪ ،‬عىل الزيادة‪ ،‬عىل‬
‫ما نقله الطربي من قول بعضهم‪ ،‬وها نحن نسوق لك َ‬
‫لفظ د‪ .‬عدنان وذكر أنه ال‬
‫يسوقه باللفظ بل باملعنى والرشح‪ ،‬يقول د‪ .‬عدنان‪( :‬قال الطربي‪ ،‬وقال آخرون‪:‬‬
‫أوق َفنا اهللُ عىل معنى االستثناء يف املؤمنني‪ ،‬فهو حمتمل للزيادة والنقصان‪ ،‬فهو‬
‫حيتمل أهنم َيرجون؛ أو َُيرجون ‪ ،‬ال ندري!‪ ،‬لكنا علمنا‪ ،‬أن املراد هو الزيادة‪،‬‬

‫التي جتعل بقاءهم دائ ًَّم؛ غري منقطع يف اجلنة‪ ،‬لقوله تعاىل‪{ :‬عطاء غري َمذوذ}‬
‫أي‪ :‬غري مقطوع‪ ،‬أي‪ :‬ممتد‪ ،‬أي‪ :‬يبقيهم ويديمهم إىل غري هناية‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫أما يف حق األشقياء {فعال ملا يريد}‪{ ،‬حكيم عليم} عجيب!‪ ،‬ال‬
‫ندري هل املستثنى هو النقصان‪ ،‬سوف نرى بعضهم؛ قال‪ :‬ال يفيد‪ ،‬ألنه أخرب عن‬

‫أهل جهنم‪ ،‬أهنم ال َيرجون من النار {وما هم بخارجني منها‪ ،‬وْلم عذاب‬

‫مقيم}‪{ ،‬كلَم أرادوا أن ُيرجوا منها من غم أعيدوا فيها}‪ ،‬ورشع يف توضيح‬


‫الفرق بني ُيرجون وُيرجون‪ ،‬هذا هو كالم د‪ .‬عدنان إبراهيم‪.‬‬
‫إذن هو يرجع إىل طريقة املقابلة ويطبقها بأسلوبه الغريب‬
‫العجيب‪....‬وسوف نطبق لك هذه الطريقة عىل أصوهلا الحق ًا‪ ،‬وإن مل تكن الزمة‬
‫يف القرآن دائَّم‪ ،‬كَّم يقرره املفرسون يف كتب التفسري‪.‬‬
‫ولكنك سرتى الفرق بني تطبيقنا هلذه املقابلة‪ ،‬بني آيتي سورة هود؛‬
‫الواردتني يف الذين سعدوا‪ ،‬والذين شقوا‪ ،‬وطريقة تطبيقه هو‪ ،‬لرتى ما وقع فيه‬
‫صاحبنا من جتاوزات‪.‬‬
‫وكَّم رأيت فقد اعتمد صاحبنا؛ عىل ما ذكره اإلمام الطربي‪ ،‬وها نحن‬
‫فعرفنا معنى‬
‫نسوقه لك بلفظه‪( :‬وقال آخرون‪ :‬أخربنا اهلل بمشيئته ألهل اجلنة‪ ،‬ا‬
‫ُثنْياه‪ ،‬بقوله‪{ :‬عطاء غري َمذوذ}‪ ،‬أهنا يف الزيادة عىل مقدار مدا ة السموات‬
‫واألرض‪.‬‬
‫قال‪ :‬ومل َيربنا بمشيئته يف أهل النار‪ ،‬وجائز أن تكون مشيئته يف الزيادة‪،‬‬
‫وجائز أن تكون يف النقصان‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫ذكر من قال؛ ذلك‪ :‬حدثني يونس؛ قال‪ :‬أخربنا ابن وهب؛ قال‪ ،‬قال ابن‬

‫زيد‪ ،‬يف قوله‪{ :‬خالدين فيها؛ ما دامت السموات واألرض‪ ،‬إال ما شاء ربك}‪،‬‬

‫فقرأ حتى بلغ‪{ :‬عطاء غري َمذوذ}‪ ،‬قال‪ :‬وأخربنا بالذي يشاء ألهل اجلنة‪،‬‬

‫فقال‪{ :‬عطاء غري َمذوذ}‪ ،‬ومل َيربنا بالذي يشاء ألهل النار)‪.‬‬
‫إذن هؤالء اآلخرون‪ ،‬مل يذكر منهم الطربي إال ابن زيد‪ ،‬وغاية ما ذكره؛‬
‫أنه اعرتف أن اهلل تعاىل‪ ،‬مل َيربنا بالذي شاءه ألهل النار‪ ،‬هل الزيادة؟!‪ ،‬أو‬
‫النقصان؟!‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬نعم‪ ،‬نقول؛ وعىل سبيل التنزل‪ ،‬عىل فرض أن االستثناء ههنا من‬

‫املدة املذكورة‪ ،‬وأيض ًا عىل فرض أن التعبري بقوله‪{ :‬ما دامت السموات‬

‫واألرض} ال يفيد الدوام‪ ،‬فغاية األمر أنه مل يذكر يف هذه اآلية بالذات ما الذي‬
‫أراده اهلل تعاىل ألهل النار‪ ،‬ولكن ذلك ال يستلزم أنه مل يذكر ذلك يف آيات أخر‪،‬‬
‫فقد بني اهلل تعاىل؛ أن عذاهبم يكون غرام ًا‪ ،‬ودائ ًَّم‪ ،‬وأبد ًا‪ ،‬وال َيرجون منها‪ ،‬إىل‬
‫غري ذلك مما أرشنا إليه وبيناه‪.‬‬
‫فلو فرضنا أن اهلل تعاىل مل يذكر ما أعده للكفار هنا‪ ،‬فقد ذكره يف غري هذا‬
‫ال حمك ًَّم‪ ،‬واألصل‬
‫املوضع‪ ،‬وغاية األمر أن هذه اآلية تكون جمملة‪ ،‬وغريها مفص ً‬
‫حسب القواعد األصولية الراسخة املعتربة؛ تقديم املحكم‪ ،‬عىل املجمل غري‬
‫املبني‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫ثم كيف ُّ‬
‫يدل قوله‪( :‬إنه َل يذكر لنا ما أعده للكافرين) عىل أنه أراد انقطاع‬
‫ال عن أن ّ‬
‫يدل عىل أن العذاب ال يكون أكثر من يوم واحد عند‬ ‫العذاب‪ ،‬فض ً‬
‫ربك!! لعمري إن هذا استدالل عجيب!‪ ،‬فع ً‬
‫ال وغريب!‪.‬‬
‫ثم نحن ال نسلم أنه ال يستفاد استمرار نعيم أهل اجلنة؛ إال من قوله‬

‫تعاىل‪{ :‬عطاء غري َمذوذ} بل يستفاد‪ ،‬مما قبله‪ ،‬ويكون قوله تعاىل‪{ :‬عطاء غري‬

‫َمذوذ} وصف حلال هذا العطاء ومنشئه‪ ،‬هل هو لوجوبه عليه تعاىل‪ ،‬أو إنه‬
‫بتفضله ومنته‪ ،‬بال سبق وجوب؛ كَّم سنفصله الحق ًا‪.‬‬
‫وذلك فض ً‬
‫ال عن استفادة هذا املعنى من آيات كثرية يف الكتاب العزيز‪.‬‬
‫والذي نعتمده يف معرفة بقاء نعيم أهل اجلنة؛ بدون لفت النظر إىل ما وراء‬

‫االستثناء‪ ،‬أن اهلل تعاىل قال‪{ :‬ما دامت السموات واألرض}‪ ،‬والسموات‬
‫واألرض دائمة أبد ًا‪ ،‬بعد إعادة إنشائها يف يوم القيامة‪ ،‬ومل يرد أن اهلل تعاىل يفنيها‬
‫مرة أخرى‪ ،‬عىل القول بإفنائها قبل ذلك‪ ،‬وهو ما سنبينه بيانا أكثر قريب ًا‪.‬‬
‫فيكفي إذن؛ معرفة استمرار دوام السموات واألرض‪ ،‬لنعرف عدم‬

‫انقطاع هذا النعيم والعطاء‪ ،‬قبل الوصول إىل قوله تعاىل‪{ :‬إال ما شاء ربك عطاء‬

‫غري َمذوذ}‪.‬‬
‫وكذلك نقول‪ ،‬إنه يكفي معرفة أن السموات واألرض؛ تدومان بعد‬

‫الس ََم َوات‪َ ،‬و َب َرزو ْا هللهِ‬ ‫البعث‪ ،‬وإعادة خلقهَّم‪َ { :‬ي ْو َم ت َبدَّ ل األَ ْرض غَ ْ َري األَ ْر ِ‬
‫ض‪َ ،‬و َّ‬

‫‪61‬‬
‫اح ِد ا ْل َق َّه ِ‬
‫ار}‪( ،‬إبراهيم‪ ،)20/‬ملعرفة أن األصل؛ دوام ما علق بدوام‬ ‫ا ْلو ِ‬
‫َ‬
‫السموات واألرض‪ ،‬وهو هنا كل من نعيم أهل اجلنة‪ ،‬وعذاب أهل النار‪.‬‬
‫غاية األمر؛ أنا ال نسلم البن زيد فهمه للقرآن هبذه الطريقة‪ ،‬لو كان قائ ً‬
‫ال‬
‫بانقطاع العذاب‪ ،‬وهو مل يقل بذلك‪ ،‬غاية األمر؛ أنه قال بأن اهلل مل َيربنا بالذي‬
‫يشاؤه ألهل النار‪ ،‬يف هذه اآلية خصوص ًا‪ ،‬ال يف مجيع القرآن‪ ،‬فإنه تعاىل أخربنا‬
‫بمراده يف آيات أخرى؛ فيها التأبيد؛ والتخليد هلم‪ ،‬وعدم اخلروج؛ وعدم‬
‫اإلخراج‪.‬‬
‫العقيل‪ ،‬فيتم األمر‬
‫ّ‬ ‫وحينئذ حيمل اجلواز املذكور ـ يف كالمه ـ عىل اجلواز‬
‫بجواز استمرار التعذيب أبد ًا أيض ًا‪.‬‬
‫ولو كان استمرار التعذيب حماالً منافي ًا للعقل؛ ولألحكام الرشعية‪ ،‬أو ملا‬
‫هو معلوم من الدين ـ عند ابن زيد ـ جلزم أن األصل؛ هو‪ :‬االنقطاع‪ ،‬كَّم جزم‬
‫صاحبنا‪ ،‬أو كَّم مال؛ ألنه يعرب بامليل يف هذا املقام!‪.‬‬
‫ويبدو أن ابن زيد؛ مل يكن يقول إن الكفار يف عذاهبم يف النار‪ ،‬يتطهرون؛‬
‫ويزكيهم اهلل تعاىل‪ ،‬ليخرجهم من النار‪ ،‬ولذلك أبقى األمر إلرادة اهلل تعاىل‪،‬‬
‫الفاعل املختار‪ ،‬الذي بني إرادته يف آيات أخر‪.‬‬
‫أما صاحبنا الفاضل؛ فيجزم بأنه ال يعود هناك دا ٍع‪ ،‬إلبقاء الكفار يف النار‪،‬‬
‫بعد تطهريهم وتنقيتهم من الكفر والرشك‪ ،‬فيخرجون من النار‪ ،‬فشتان ما بني‬
‫القولني إذن‪ ،‬وفرق ما بني القائلني‪ ،‬وسيأيت زيادة تفصيل ملا أوردناه هنا قريب ًا‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫مطلب ِف َتليل اآليات الثالث التي اعتمد عليها القائل بفناء النار‬
‫فلنورد بعض الكالم؛ نحلل به هذه اآليات الثالث‪ ،‬لنرى هل تدل فع ً‬
‫ال‬
‫عىل ما يقرتحه صاحبنا‪ ،‬أو أهنا تدل عىل ما َيالفه وينافيه‪ ،‬وهل يمكن أن حتتمل‬
‫املعنى املراد له‪ ،‬الداعي له‪ ،‬أو أهنا يستحيل محلها عليه؟!‪ ،‬ونرجو أن نكون‬
‫مصيبني فيَّم نقول‪.‬‬

‫ين فِ َيها‪ ،‬إِالَّ َما َشاء اهلله‪ ،‬إِ َّن‬ ‫ِِ‬


‫أوالً‪ :‬قوله تعاىل ‪َ { :‬ق َال‪ :‬النَّار َم ْث َواك ْم؛ َخالد َ‬

‫ليم}‪( ،‬األنفال‪ ،)340/‬إما أن يراد باْللود‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫َر َّب َ‬


‫يم َع ٌ‬
‫ك َحك ٌ‬
‫‪3‬ـ عدم التحول عن األمر‪ ،‬بحيث يبقى احلكم؛ ما بقي األمر الذي تعلق‬
‫به اخللود‪.‬‬
‫وها هنا يفرتض أن النار أبدية؛ ال تفنى‪ ،‬وال تبيد‪ ،‬ويلزم عىل ذلك أن‬
‫يكون اخللود فيها كذلك‪ ،‬ال يفنى‪ ،‬وال يبيد‪ ،‬وال يتحول أهلها عنها‪ ،‬ألن احلكم‬
‫وقع عليهم أهنم خالدون فيها‪.‬‬
‫‪4‬ـ أو يراد باخللود؛ البقاء مدة طويلة يف النار ثم تنتهي‪ ،‬فعىل املعنى األول‬
‫من اخللود؛ وهو البقاء يف النار‪ ،‬بال حتول عنها‪ ،‬بحيث ال يعودون فيها‪:‬‬
‫يظهر من اآلية أن الكفار خالدون يف النار‪ ،‬وجمرد اخللود كَّم يالحظ‪ ،‬كاف يف‬
‫بقائهم ما بقيت النار‪ ،‬وإال مل يصدق معنى اخللود‪ ،‬وقد سبق ذلك‪.‬‬

‫والسؤال هنا‪ :‬عن االستثناء بقوله تعاىل {إال ما شاء اهلل} ما املراد به؟‪،‬‬
‫هل استثنى من أصل اخللود؟‪ ،‬بحيث يقول‪ :‬أنتم لستم خالدين‪ ،‬بمعنى‪ :‬أنتم‬

‫‪63‬‬
‫لستم باقني يف النار؛ بال انقطاع‪ ،‬بل‪ :‬سينقطع خلودكم املثبت سابق ًا‪ ،‬هل هذا‬
‫املعنى هو املراد هنا!‪.‬‬
‫يعني‪ :‬إذا كان اْللود‪ :‬هو دوام الوجود؛ بال انقطاع‪ ،‬وال حتول عن النار‪،‬‬
‫نفي هذا املعنى الثابت قبله؟!‪.‬‬
‫فهل يمكن أن يكون االستثناء؛ قد أثبت َ‬
‫إن كان األمر كذلك‪ ،‬فإن اخللود ال يبقى خلود ًا‪ ،‬والدوام ال يبقى دوام ًا‪،‬‬
‫واآلية ينفي آخرها َ‬
‫أوهلا‪ ،‬وهذا تناقض؛ ال جيوز محل القرآن عليه‪ ،‬إذا كان‬
‫االستثناء يعني ههنا‪ :‬انقطاع دوامهم يف النار‪ ،‬إما بفناء النار‪ ،‬أو بخروجهم منها‪،‬‬
‫إما بأنفسهم؛ أو بإخراج اهلل تعاىل إياهم منها‪ ،‬عىل مجيع هذه االحتَّمالت‪ ،‬يلزم‬
‫نفي اخللود الثابت؛ يف أول اآلية‪.‬‬
‫َ‬
‫إبطال‬ ‫ولذلك ال يصح أن ُحيمل االستثناء عىل نحو هذا املعنى‪ ،‬املستلزم‬
‫ما قبله‪.‬‬
‫ولكن لو كان املراد من اْللود‪ :‬هو البقاء مدد ًا متوالية؛ بال هناية‪ ،‬فيكون‬
‫املراد من اخللود ها هنا‪ ،‬أن الكفار سيبقون يف النار مدد ًا‪ ،‬ال هناية هلا‪ ،‬ما دامت‬
‫النار موجودة‪.‬‬
‫فإما أن يقع االستثناء عىل بعض املدد املوجودة فيها النار‪ ،‬وذلك قبل‬
‫دخول الكفار فيها‪ ،‬أو بعض املدد؛ بعد الدخول فيها‪ ،‬ويف أثناء املكوث‪ ،‬أو عىل‬
‫نفي استمرار البقاء‪ ،‬وهو املنايف للخلود من أصله‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫فإن محلنا االستثناء عىل عدم مكوث الكفار يف النار؛ قبل دخوهلم فيها‪،‬‬
‫فيكون معنى اآلية‪ :‬إنكم ستبقون خالدين فيها‪ ،‬ما دامت النار‪ ،‬إال تلك املدة التي‬
‫مل ندخلكم فيها ‪ ،‬وهي املدة الشاملة لفرتة احلياة الدنيا‪ ،‬واحلساب إىل إدخاهلم‬
‫ودع ِهم فيها ا‬
‫دع ًا‪ ،‬ويكون االستثناء يف هذه احلالة؛ منقطع ًا‪ ،‬وإال؛ بمعنى‪:‬‬ ‫النار‪ِّ ،‬‬
‫لكن‪.‬‬
‫وإن محلنا االستثناء عىل بعض فرتات الزمان‪ ،‬بعد دخوهلم فيها‪ ،‬فيكون‬
‫معنى اآلية‪ :‬أنكم ستخرجون من النار؛ لبعض الفرتات‪ ،‬ثم ستدخلوهنا بعد‬
‫ذلك‪ ،‬وتبقون فيها إىل األبد؛ بال حتول عنها‪ ،‬وهذا املعنى؛ ال ينايف أصل التأبيد‪،‬‬
‫ولكنه استثناء بعض اجلملة‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ :‬فقد ُي ْبطِل معنى اخللود‪ ،‬وهو عدم التحول واالنقطاع عنها‪،‬‬
‫املقيد مع إطالقه‪ ،‬وعدم تقييده الدوا َم‪ ،‬ألن استثناء بعض الفرتات؛ من مدة ال‬
‫هناية هلا‪ ،‬ال ينفي ال هنايتها‪.‬‬
‫وهذا موافق ملفهوم االستثناء يف األصول‪ ،‬أنه إخراج بعض اجلملة‪،‬‬
‫فاجلملة؛ هي‪ :‬الالهناية من املدد هنا‪ ،‬وإخراجهم عن املكوث يف النار؛ بعض تلك‬
‫املدد‪ ،‬ال ينايف تأبيد بقائهم‪ ،‬من الطرف األخري‪ ،‬ولكنه ينايف ظاهر ما يفيده اخللود‪،‬‬
‫الذي يعني عدم التحول عنها‪ ،‬ما داموا قد دخلوها‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫فمن قال بإمكان خروج الكفار لبعض فرتات لزيادة التنكيل هبم‪ ،‬وتشفي‬
‫املؤمنني منهم‪ ،‬ثم عودهتم إليها‪ ،‬مع بقائهم فيها بعد ذلك أبد ًا‪ ،‬فهو حمتاج لنص؛‬
‫ونقل يعتمد عليه‪ ،‬وإال فهو خالف الظاهر املفهوم‪ ،‬من هذه اآلية الكريمة‪.‬‬
‫وأما املعنى الثالث ـ وهو املنبني عىل كون االستثناء نفي ًا ملفهوم اخللود‪،‬‬
‫وهو عدم التحول ـ فاالستثناء يكون؛ بإثبات التحول عن النار‪ ،‬فيكون معنى‬
‫اآلية‪ :‬النار مثواكم؛ باقني فيها‪ ،‬ال تتحولون عنها‪ ،‬وال خترجون منها‪ ،‬بحيث ال‬
‫تعودون فيها‪ ،‬بل خترجون؛ وتتحولون عنها‪.‬‬
‫ومن الظاهر أن هذا معنى متناقض‪ ،‬ال يليق محل اآلية عليه‪.‬‬
‫وأما باعتبار محل اخللود عىل املعنى الثاين املقرتح‪ ،‬وهو البقاء فيها مدة‬
‫طويلة منتهية‪ ،‬فال ُيتمل االستثناء؛ إال أحد معنيني‪:‬‬
‫األول‪ :‬إما أن يستثنى بعض املدة الطويلة‪ ،‬بحيث يظل الباقي طويالً‪،‬‬
‫ال‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫متناف‪ ،‬مع مقدم اآلية‪ ،‬عىل فرض أن اخللود هو البقاء طوي ً‬ ‫وهذا غري‬
‫سبق‪.‬‬
‫وإن تعارض‪ ،‬مع ما يفيده اخللود؛ من عدم التحول كَّم َ‬
‫ولكنا بينّا أن اخللود؛ هو‪ :‬عدم التحول عن اليشء‪ ،‬واالستمرار فيه‪ ،‬وال‬
‫حيمل عىل البقاء الطويل فيه‪ ،‬إال بقرينة‪.‬‬
‫وإذا صح هذا هنا‪ ،‬فإنه يصح استثناء بعض املدة الطويلة‪ ،‬التي ال تتناهى‪،‬‬
‫كَّم ذكرنا يف احلالة األوىل‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫الثاين‪ :‬وإما أن يكون االستثناء إخراج ًا ألصل البقاء‪ ،‬عن كونه طويالً‪،‬‬
‫وهذا مناقض ألصل اخللود؛ والبقاء الطويل‪ ،‬كَّم هو ظاهر‪ ،‬كأنك تقول‪ :‬إن‬
‫معنى اآلية‪ :‬سيبقى الكفار فيها مدة طويلة‪ ،‬ال بل سيبقون فيها مدة غري طويلة‪،‬‬
‫وهو تناقض بني‪.‬‬
‫وكَّم ال جيوز تقدير هذا املعنى هنا‪ ،‬فكذلك ال جيوز تقديره؛ ثمة عىل‬
‫التقدير السابق‪ ،‬بدعوى أن االستثناء إنَّم نفى أصل البقاء الالمتناهي‪ ،‬مما يعني أن‬
‫البقاء ٍ‬
‫متناه‪.‬‬
‫واْلالصة‪ :‬أن دعوى أن االستثناء يبطل قيد اخللود (وذلك سواء كان‬
‫اخللود هو املكوث بال هناية‪ ،‬أو كان املكوث الطويل يف النار‪ ،‬ونفي قيد اخللود‬
‫عىل األول يستلزم كون املدة متناهية‪ ،‬وحمدودة‪ ،‬ونفي قيد اخللود عىل الثاين‬
‫يستلزم كون املدة غري طويلة بل قصرية) يستلزم وقوع التنايف يف اآلية الكريمة‪،‬‬
‫إبطال تاليها ملقدمها‪ ،‬وهذا باطل يف التفسري‪.‬‬
‫إذن تبقى االحتَمالت املمكنة‪:‬‬
‫األول‪ :‬عىل تقدير أن اخللود؛ هو‪ :‬املكوث؛ بال حتول ما دامت النار‪ ،‬وهو‬
‫مستلزم لبقاء النار أبد ًا‪ ،‬كَّم هو ظاهر اآليات الكثرية‪:‬‬
‫أن مكوث الكفار يكون دائ ًَّم‪ ،‬وال متناهي ًا يف النار‪ ،‬بعد دخوهلم فيها‪،‬‬
‫وهذا ال ينايف عدم دخوهلم فيها؛ بعد وجودها‪ ،‬وقبل يوم احلساب‪ ،‬وإدخاهلم يف‬

‫‪67‬‬
‫النار‪ ،‬وال ينايف أيض ًا؛ تقدير خروجهم منها‪ ،‬بعض الفرتات القليلة‪ ،‬مع رجوعهم‬
‫إليها بعد ذلك‪ ،‬واستمرار مكوثهم؛ عىل سبيل الدوام‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬عىل تقدير أن اخللود هو املكث الطويل‪ ،‬فيكون من املحتمل أهنم‬

‫َيرجون بعض الفرتات؛ القصرية نسبي ًا؛ بحيث ال يستلزم ذلك اخلروج‪َ ،‬‬
‫نفي قيد‬
‫الطول‪ ،‬الثابت بأصل اخللود‪.‬‬
‫واملعول عليه ِف الَتجيح بني املعنيني‪ ،‬إنَّم هو أصل معنى‪ :‬اخللود‪ ،‬هل هو‬
‫َّ‬
‫البقاء الطويل املنقطع؟!‪ ،‬أو هو عدم التحول‪ ،‬واالنقطاع عن النار بإطالق‪ ،‬ال‬
‫ُي َق ايدُ إال بقرينة؛ كَّم تقتضيه القواعد األصولية؟!‪.‬‬
‫فإما أن يكون استعَّمل اخللود يف املعنيني؛ (أعني‪ :‬طول البقاء مع االنقطاع‬
‫واالنتهاء‪ ،‬واملكث بال حتول)؛ متساوي ًا ِف اللغة‪ ،‬أي‪ :‬مشرتك ًا فيهَّم‪ ،‬أو حقيقة ِف‬
‫ِ‬
‫أصل وضعٍ) َماز ًا ِف اآلخر‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫استعَّمل‪ ،‬أو‬ ‫ِ‬
‫(لغلبة‬ ‫أحدمها‬
‫ومن جهة أخرى‪ :‬إما أن نعرف بنصوص أخرى (غري هذه اآليات‬
‫الثالث) أن النار تفنى‪ ،‬أو ال نعرف أهنا تفنى‪ ،‬بل نعرف أهنا باقية‪.‬‬
‫فهذان طريقان لرتجيح مدلول اآلية الكريمة‪.‬‬
‫فأما بلحاظ معنى اْللود‪:‬‬
‫فقد تقرر لغة؛ أن األصل يف اللفظ أن يكون له معنى واحد‪ ،‬واالشرتاك‬
‫خالف األصل‪ ،‬فاألصل أن نرجح أحد املعنيني؛ عىل اآلخر‪ ،‬وفرض االشرتاك‬
‫مرجوح‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫فإن كان اخللود يعني املكوث مدة طويلة؛ برشط االنقطاع‪ ،‬فال يصح لغة‬
‫تقييده؛ بَّم يفيد عدم االنقطاع‪ ،‬كالتأبيد‪ ،‬وعد ِم اخلروج منها‪ ،‬الوارد يف حق أهل‬
‫اجلنة‪ ،‬وبغري ذلك من االستعَّمالت‪ ،‬التي تدل عىل أن اخللود مقيد بالتأبيد؛ وبغريه‬
‫مما يفيد نفي االنقطاع‪.‬‬
‫وهذا يكون خروج ًا؛ عن حقيقة اللفظ إىل املجاز‪ ،‬فحقيقته الطول مع‬
‫االنقطاع؛ كَّم يفرتضه املفرتضون‪ ،‬وتقييده بَّم يقتيض عدم االنقطاع‪ ،‬خروج‬
‫وإخراج له عن أصل وضعه‪ ،‬هو خالف األصل‪.‬‬
‫أما لو قلنا‪ :‬إن اخللود يفيد عدم التحول‪ ،‬فيمكن تقييده بحسب حال‬
‫تربي اليشء من اعَتاض الفساد‪ ،‬وبقاؤه عىل‬
‫املق ايد به‪ ،‬أي بتعبري الراغب‪( :‬هو ِّ‬
‫احلالة التي هو عليها)‪ ،‬فلو قيدناه بالتأبيد‪ ،‬ألفاد القيد أن هذا البقاء مؤبدٌ ‪ ،‬أي‬
‫مستمر يف األزمان كلها‪ ،‬ال يتحول عن حاله‪ ،‬وهذا ليس فيه إخراج للفظ عن‬
‫وضعه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لذات‪َ ،‬علِ ْمنا أهنا‬ ‫منسوب‬ ‫ولو قلنا‪ :‬إن اخللود غري مقيد بالتأبيد‪ ،‬ولكنه‬
‫ٌ‬
‫فإن هذا أيض ًا يستلزم أن اخللود مؤبد أيض ًا‪ ،‬لتأبد الذات‬ ‫باقي ٌة ِ‬
‫دائ َم ٌة يف الوجود‪ ،‬ا‬ ‫َ‬
‫املقيد هبا اخللود‪ ،‬أو املتعلق هبا‪ ،‬أو بظرفها‪.‬‬
‫إخراج اللفظ عن حقيقته‪ ،‬كَّم ترى‪،‬‬
‫َ‬ ‫وعىل االحتَّملني؛ فال يقتيض ذلك‬
‫ويزيد يف املعنى‪ ،‬وال يكون التأبيد تأكيد ًا كَّم زعم بعضهم‪ ،‬وال مناقض ًا‪ ،‬وال‬
‫منافي ًا‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫إذن يتبني لنا أن محل اخللود عىل املعنى الذي ذكره الراغب وغريه‪ ،‬مما‬
‫وضحناه هو األصل فهو الواجب‪.‬‬
‫وأما بلحاظ بقاء ظرف اْللود‪ ،‬وهو النار هنا‪:‬‬
‫فاألصل أن النار باقية‪ ،‬وداللة ظواهر اآليات تؤيد ذلك‪ ،‬وتأكيد النار‬
‫باألبد؛ ونحوها‪ ،‬من األلفاظ الدالة عىل البقاء واالستمرار‪ ،‬يقتيض ذلك‪.‬‬
‫فإذا كانت النار يف نفسها باقية‪ ،‬أي‪ :‬بإبقاء اهلل؛ ال لذاهتا‪ ،‬فَّم َيلد فيها‪،‬‬
‫فهو باق بالرضورة‪ ،‬ألن ما يالبسه من العذاب‪ ،‬مقيد بظرف وجوده يف النار‪.‬‬
‫فيظهر من ذلك أن الصواب‪ :‬محل اخللود عىل عدم التحول‪ ،‬والقول بأن‬
‫النار باقية‪ ،‬وأهنا حمل تعذيب الكفار‪ ،‬الذين ال َيرجون منها؛ ما داموا كفار ًا‪ ،‬وال‬
‫يتحول عذاهبم إىل عذوبة‪.‬‬
‫وأما ما اعتمده بعض الناظرين؛ يف هذه املسألة‪ ،‬من أن النار تفنى ألهنا‬
‫غضب اهلل‪ ،‬أو ألهنا نتيج ُة ِ‬
‫صفة ٍ‬
‫فعل هلل تعاىل‪ ،‬ونحو ذلك فسوف نأيت عليه قريب ًا‪.‬‬
‫وسيأتيك زيادة تقرير ملفهوم اآلية‪ ،‬يف مناقشتنا وحتليلنا لآلية الواردة يف‬
‫سورة هود‪ ،‬وستزداد قناعة بَّم نقرره هنا بإذن اهلل تعاىل‪ ،‬وينكشف لك كثري من‬
‫املغالطات‪ ،‬التي وقع فيها صاحبنا الفاضل‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫كالم بعض العلَمء ِف هذه اآلية‪:‬‬
‫سنكتفي هنا بإيراد كلَّمت؛ لبعض العلَّمء األعالم‪ ،‬يف هذه اآلية الكريمة‪،‬‬
‫مما له تعلق باملقام‪ ،‬والتعليق عىل بعض املواضع فيها‪ ،‬ولو أردنا االستقصاء لطال‬
‫األمر‪ ،‬ولكن نرجو أن يكون ما أوردناه كافي ًا‪.‬‬

‫قال الطربي؛ يف تفسريه‪( :‬القول يف تأويل قوله‪َ { :‬ق َال النَّار َم ْث َواك ْم‬

‫يم}‪( ،‬األنعام‪ ،)340/‬قال أبو‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َخالِ ِد ِ‬


‫اء اهللَّ إِ َّن َر َّب َك َحك ٌ‬
‫يم َعل ٌ‬ ‫ين ف َيها إِال َما َش َ‬
‫َ‬
‫عَّم هو قائل هلؤالء الذين حيرشهم يوم‬
‫جعفر‪ :‬وهذا خرب من اهلل تعاىل ذكره؛ ّ‬
‫القيامة من العادلني به؛ يف الدنيا األوثان‪ ،‬ول ُق َرنائهم من اجلن‪ ،‬فأخرج اخلرب عَّم‬
‫هو كائ ٌن‪ُ ،‬خم ْ َرج اخلرب عَّم كان‪ ،‬لتقدُّ م الكالم قب َله بمعناه واملراد منه‪ ،‬فقال‪ :‬قال اهلل‬

‫ربه عنهم‪{ :‬النار مثواكم}‪ ،‬يعني نار‬


‫ألولياء اجلن من اإلنس‪ ،‬الذين قد تقدا م خ ُ‬
‫جهنم {مثواكم}‪ ،‬الذي تثوون فيه‪ ،‬أي تقيمون فيه)‪.‬‬
‫أمر‬ ‫ونقل عن ابن عباس أنه كان يتأول يف هذا االستثناء‪ّ :‬‬
‫أن اهلل جعل َ‬
‫هؤالء القوم؛ يف مبلغ َع َذابه إ ّياهم إىل مشيئته‪.‬‬
‫حدثني املثنى؛ قال‪ :‬حدثنا عبد اهلل بن صالح؛ قال‪ :‬حدثني معاوية بن‬

‫ين فِ َيها؛‬ ‫ِِ‬


‫صالح‪ ،‬عن عيل بن أيب طلحة‪ ،‬عن ابن عباس‪َ { :‬ق َال‪ :‬النَّار َم ْث َواك ْم َخالد َ‬
‫ٍ‬ ‫يم}‪ ،‬قال‪ :‬إن هذه اآلية‪ :‬آي ٌة؛ ال ينبغي‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اء اهللَّ‪ ،‬إِ َّن َر َّب َ‬
‫ألحد أن‬ ‫يم َعل ٌ‬
‫ك َحك ٌ‬ ‫إِ َّال َما َش َ‬
‫حيكم عىل اهلل يف خلقه‪ ،‬أن ال ينزهلم جنا ًة‪ ،‬وال نار ًا)‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫ولكني أرى ا‬
‫أن قول ابن عباس ال يفيد إال ما هو معلوم‪ ،‬من أن ال أحد‬
‫حيكم عىل اهلل تعاىل‪ ،‬وال أحد بوجب عليه‪ ،‬أن يدخل أحد ًا جن ًة؛ أو نار ًا‪ ،‬وهذا‬
‫معلوم متفق عليه‪ ،‬وال أحد من أهل احلق خمالف له‪.‬‬
‫وال أعلم عال َم اعتمد الطربي يف قوله إن ابن عباس يري أن‪( :‬مبلغ‬
‫عذاب الكفار إىل إرادة اهلل تعاىل)‪ ،‬املفيد لرتدده يف خلودهم يف النار؛ معذبني فيها‪،‬‬
‫وهو خمالف لإلمجاع‪ ،‬كَّم قال ابن عطية يف تفسريه معلق ًا‪ ،‬عىل ما نقله الطربي؛ عن‬
‫ابن عباس رِض اهلل عنه‪( :‬قال القاِض أبو حممد‪ :‬واإلمجاع عىل التخليد األبدي يف‬
‫الكفار‪ ،‬وال يصح هذا عن ابن عباس رِض اهلل عنه)‪.‬‬
‫يعني إنه يستحيل أن يصح نقل هذا القول‪ ،‬إذا كان فيه تشكيك يف بقاء‬
‫الكفار خالدين يف النار‪ ،‬ألن هذا جممع عليه‪.‬‬
‫وربَّم وجدت كلَّمت غريها عن ابن عباس تفيد ما أشار إليه الطربي‪ ،‬وقد‬
‫أوردنا منها؛ تفسريه للخلود بعدم االنقطاع‪ ،‬كَّم نقلناه عن ابن أيب حاتم‪ ،‬يف‬
‫تفسريه‪ ،‬ولذلك قال أبو حيان يف تفسريه البحر املحيط‪( :‬وروي عن ابن عباس أنه‬
‫قال‪ :‬هذه اآلية توجب الوقف يف مجيع الكفار؟‪.‬‬
‫قيل‪ :‬ومعنى ذلك؛ أهنا توجب الوقف فيمن مل يمت‪ ،‬إذ قد يسلم‪ ،‬وروي‬
‫عنه أيض ًا أنه قال‪ :‬جعل أمرهم يف مبلغ عذاهبم‪ ،‬ومدّ ته إىل مشيئته‪ ،‬حتى ال حيكم‬
‫اهلل يف خلقه‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫وعنه أيض ًا؛ أنه قال يف هذه اآلية‪ :‬أنه ال ينبغي ألحد أن حيكم عىل اهلل يف‬
‫خلقه ال ينزهلم جنة؛ وال نار ًا‪.‬‬
‫قال ابن عطية‪ :‬اإلمجاع عىل التخليد األبدي يف الكفار‪ ،‬وال يصح هذا عن‬
‫ابن عباس؛ انتهى‪.‬‬
‫وقد تعلق قوم بظاهر هذا االستثناء‪ ،‬فزعموا أن اهلل َيرج من النار كل بر‬
‫وفاجر ومسلم وكافر وأن النار ختلو وخترب ‪ ،‬وقد ذكر هذا عن بعض الصحابة‬
‫وال يصح وال يعترب خالف هؤالء وال يلتفت إليه)‪.‬‬
‫وقال النسفي‪( :‬إال ما شاء اهلل؛ أي‪َ :‬يلدون يف عذاب النار األبد‪ ،‬كله؛ إال‬
‫ما شاء اهلل‪ ،‬إال األوقات التي ينقلون فيها‪ ،‬من عذاب السعري؛ إىل عذاب‬
‫الزمهرير‪ ،‬إن ربك حكيم؛ فيَّم يفعل بأوليائه‪ ،‬وأعدائه‪ ،‬عليم بأعَّمهلم؛ فيجزى‬
‫ك ً‬
‫ال عىل وفق علمه)‪.‬‬

‫وقال البيضاوي‪{(:‬إِالَّ َما َشاء اهلل} إال األوقات التي ينقلون فيها من‬

‫النار؛ إىل الزمهرير‪ ،‬وقيل‪{ :‬إِالَّ َما َشاء اهلل}‪ ،‬قبل الدخول؛ كأنه قيل‪ :‬النار‬
‫َم ْث َواك ُْم أبد ًا؛ إال ما أمهلكم)‪.‬‬
‫وأنت ترى أن البيضاوي ذكر االحتَّملني؛ اللذين قلنا يف حتليلنا لآلية‪،‬‬
‫وداللتها أهنَّم حمتمالن‪ ،‬وإن رجح واحد ًا عىل اآلخر‪ ،‬ومل يذكر الثالث (وهو قطع‬
‫استمرار بقائهم يف النار)‪ ،‬املنايف ألصل استمرار البقاء‪ ،‬ألنه ينايف ما قررته اآلية‬
‫من اخللود يف النار املعلوم استمرار بقائها‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫وقال اإلمام الرازي‪( :‬قال تعاىل‪َ { :‬ق َال النار َم ْث َواك ْم}‪ ،‬املثوى‪ :‬املقام؛‬
‫واملقر؛ واملصري‪ ،‬ثم ال يبعد أن يكون لإلنسان مقام ومقر‪ ،‬ثم يموت‪ ،‬ويتخلص‬
‫باملوت؛ عن ذلك املثوى‪ ،‬فبني تعاىل؛ أن ذلك املقام واملثوى‪ ،‬خملد مؤبد‪ ،‬وهو‬

‫قوله‪{ :‬خالدين فِ َيها}‪.‬‬

‫ثم قال تعاىل‪{ :‬إِالَّ َما َشاء اهلل}‪ ،‬وفيه وجوه‪:‬‬


‫األول‪ :‬أن املراد منه؛ استثناء أوقات املحاسبة‪ ،‬ألن يف تلك األحوال‪،‬‬
‫ليسوا بخالدين يف النار ‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬املراد؛ األوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار؛ إىل عذاب‬
‫الزمهرير‪ ،‬وروي أهنم يدخلون وادي ًا فيه برد شديد‪ ،‬فهم يطلبون الرد من ذلك‬
‫الربد إىل حر اجلحيم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬قال ابن عباس‪ :‬استثنى اهلل تعاىل قوم ًا؛ سبق يف علمه‪ ،‬أهنم‬
‫يسلمون ويصدقون النبي صىل اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وعىل هذا القول جيب أن تكون «ما» بمعنى «من»‪ ،‬قال الزجاج‪ :‬والقول‬

‫األول أوىل‪ ،‬ألن معنى االستثناء؛ إنَّم هو من يوم القيامة‪ ،‬ألن قوله‪َ { :‬و َي ْو َم‬

‫ُيَشه ْم ََجِيع ًا}‪ ،‬هو‪ :‬يوم القيامة‪.‬‬


‫َْ‬

‫ثم قال تعاىل‪{ :‬خالدين فِ َيها}‪ ،‬منذ يبعثون‪{ ،‬إِالَّ َما َشاء اهلل}‪ ،‬من‬
‫مقدار حرشهم من قبورهم‪ ،‬ومقدار مدهتم يف حماسبتهم‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫الرابع ‪ :‬قال أبو مسلم‪ :‬هذا االستثناء؛ غري راجع إىل اخللود‪ ،‬وإنَّم هو‬
‫راجع إىل األجل املؤجل هلم‪ ،‬فكأَّنم قالوا‪ :‬وبلغنا األجل؛ الذي أجلت لنا‪ ،‬أي‪:‬‬

‫الذي سميته لنا؛ إال من أهلكته قبل األجل املسمى‪ ،‬كقوله تعاىل‪َ { :‬أ ََل ْ َي َر ْو ْا ك َْم‬

‫َأ ْه َل ْكنَا ِمن َق ْبلِ ِهم همن َق ْرن}‪( ،‬األنعام‪ ،)5 /‬وكَّم فعل يف قوم نوح‪ ،‬وعاد‪ ،‬وثمود‪،‬‬
‫ممن أهلكه اهلل تعاىل‪ ،‬قبل األجل الذي لو آمنوا‪ ،‬لبقوا إىل الوصول إليه‪.‬‬
‫فتلخيص الكالم أن يقولوا‪ :‬استمتع بعضنا ببعض‪ ،‬وبلغنا ما سميت لنا‬
‫من األجل؛ إال من شئت أن خترتمه؛ فاخرتمته قبل ذلك بكفره وضالله‪.‬‬
‫واعلم أن هذا الوجه ـ وإن كان حمتم ً‬
‫ال ـ إال أنه ترك لظاهر ترتيب ألفاظ‬
‫هذه اآلية‪ ،‬وملا أمكن إجراء اآلية عىل ظاهرها‪ ،‬فال حاجة إىل هذا التكلف‪.‬‬

‫يم}‪ ،‬أي‪ :‬فيَّم يفعله من ثواب‪ ،‬وعقاب؛‬‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ثم قال‪{ :‬إِ َّن َر َّب َك َحك ٌ‬
‫يم َعل ٌ‬
‫وسائر وجوه املجازاة‪ ،‬وكأنه تعاىل؛ يقول‪ :‬إنَّم حكمت هلؤالء الكفار؛ بعذاب‬
‫األبد‪ ،‬لعلمي أهنم يستحقون ذلك؛ واهلل أعلم)‪.‬‬

‫هلل}‪ ،‬استثناء؛ ليس من‬ ‫وقال القرطبي‪َ { :‬خالِ ِد ِ‬


‫ين ف َيها إِ َّال َما َش َ‬
‫اء ا َّ‬ ‫َ‬
‫األول‪.‬‬
‫قال الزجاج‪ :‬يرجع إىل يوم القيامة‪ ،‬أي‪َ :‬خال ِ ِدي َن فِ َيها؛ إِ اال َما َشا َء اهللاُ من‬
‫مقدار حرشهم‪ ،‬من قبورهم‪ ،‬ومقدار مدهتم يف احلساب‪ ،‬فاالستثناء قطع‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬يرجع االستثناء إىل النار‪ ،‬أي‪ :‬إال ما شاء من تعذيبكم بغري النار‪ ،‬يف‬
‫بعض األوقات‪.‬‬
‫‪75‬‬
‫وقال ابن عباس‪ :‬االستثناء ألهل اإليَّمن‪ ،‬فـ(ما) عىل هذا بمعنى‪( :‬من)‪.‬‬
‫وعنه أيض ًا؛ أنه قال‪ :‬هذه اآلية توجب الوقف يف مجيع الكفار‪ ،‬ومعنى‬
‫ذلك‪ :‬أهنا توجب الوقف فيمن مل يمت‪ ،‬إذ قد يسلم‪.‬‬

‫وقيل‪{ :‬إال ما شاء} من كوهنم يف الدنيا بغري عذاب‪.‬‬


‫وقال ابن عطية‪( :‬قال القاِض أبو حممد‪ :‬ويتجه عندي يف هذا االستثناء؛‬
‫أن يكون خماطبة للنبي صىل اهلل عليه وسلم وأمته‪ ،‬وليس مما يقال يوم القيامة‪،‬‬
‫واملستثنى؛ هو‪ :‬من كان من الكفرة يومئذ يؤمن يف علم اهلل‪ ،‬كأنه ملا أخربهم أنه‬

‫قال للكفار‪{ :‬النار مثواكم} استثنى هلم من يمكن أن يؤمن‪ ،‬ممن يرونه يومئذ‬

‫كافر ًا‪ ،‬وتقع (ما) عىل صفة من يعقل‪ ،‬ويؤيد هذا التأويل؛ اتصال قوله‪{ :‬إن‬

‫ربك حكيم عليم} أي‪ :‬بمن يمكن أن يؤمن منهم‪ ،‬و{حكيم عليم} صفتان‬
‫مناسبتان هلذه اآلية‪ ،‬ألن ختلد هؤالء الكفرة يف النار‪ ،‬فعل صادر عن حكم وعلم‬
‫بمواقع األشياء)‪.‬‬
‫وعلق عليه صاحب البحر املحيط؛ فقال‪( :‬وهو تأويل حسن)‪.‬‬

‫وقال السمرقندي؛ يف بحر العلوم‪{( :‬إِالَّ َما َشاء اهلل}‪( :‬قال الكلبي‪:‬‬

‫مشيئة اهلل من كل يشء‪ ،‬ويقال‪{ :‬إال ما شاء} الربزخ‪ ،‬والقيام ُة‪ ،‬قد شاء اهلل هلم‬
‫اخللو َد فيها)‪.‬‬

‫ويقال‪{ :‬إِالَّ َما َشاء اهلل}‪َ ،‬يرج منها من أهل التوحيد)‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫وخلص ابن جزي‪ ،‬يف التسهيل؛ وجوه اآلية‪ ،‬فقال‪{ :‬إال ما شاء}‪:‬‬
‫قيل‪ :‬االستثناء من الكاف وامليم؛ يف‪( :‬مثواكم) فَّم بمعنى‪( :‬من)‪ ،‬ألهنا‬
‫وقعت عىل صنف من اجلن واإلنس‪ ،‬واملستثنى عىل هذا من آمن منهم‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬االستثناء من مدة اخللود‪ ،‬وهو الزمان الذي بني حرشهم؛ إىل‬
‫دخول النار‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬االستثناء من النار؛ وهو دخوهلم الزمهرير‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬ليس املراد هنا باالستثناء اإلخراج‪ ،‬وإنَّم هو عىل وجه األدب مع‬
‫اهلل وإسناد األمور إليه‪.‬‬
‫وبناء عىل أن االستثناء حقيقي ذكر أبو حيان؛ يف البحر املحيط الوجوه يف‬
‫املستثنى منه‪ ،‬فقال‪( :‬وإذا كان استثناء حقيقة؛ فاختلفوا يف الذي استثنى ما هو؟‪.‬‬
‫فقال قوم‪ :‬هو استثناء أشخاص من املخاطبني؛ وهم من آمن يف الدنيا‬
‫بعذاب‪ ،‬كان من هؤالء الكفرة‪ ،‬وملا كان هؤالء صنف ًا؛ ساغ يف العبارة عنهم ما‪،‬‬

‫فصار كقوله‪{ :‬فانكحوا ما طاب لكم من النساء}‪ ،‬حيث وقعت عىل نوع من‬
‫يعقل‪ ،‬وهذا القول بعد‪ ،‬ألن هذا خطاب للكفار يوم القيامة‪ ،‬فكيف يصح‬
‫االستثناء؟!‪ ،‬فيمن آمن منهم يف الدنيا‪ ،‬ورشط من أخرج باالستثناء‪ ،‬احتاد زمانه‪،‬‬
‫وزمان املخرج منه‪.‬‬
‫فإذا قلت‪( :‬قام القوم؛ إال زيد ًا)‪ ،‬فمعناه‪ :‬إال زيد ًا‪ ،‬فإنه ما قام‪ ،‬وال يصح‬
‫أن يكون املعنى‪( :‬إال زيد ًا)‪ ،‬فإنه ما يقوم يف املستقبل‪ ،‬وكذلك‪(:‬سأَضب القوم‬

‫‪77‬‬
‫إال زيد ًا)‪ ،‬معناه‪( :‬إال زيد ًا) فإين ال أرضبه يف املستقبل‪ ،‬وال يصح أن يكون املعنى‪:‬‬
‫(إال زيد ًا) فإين رضبته أمس‪ ،‬إال إن كان االستثناء منقطع ًا‪ ،‬فإنه يسوغ‪ ،‬كقوله‬

‫تعاىل‪{ :‬ال يذوقون فيها املوت؛ إال املوتة األوىل}‪ ،‬أي‪ :‬لكن املوتة األوىل يف‬
‫الدنيا فإهنم ذاقوها‪.‬‬
‫وقال قوم‪ :‬املستثنى؛ هم‪ :‬العصاة؛ الذين يدخلون النار من أهل التوحيد‪،‬‬
‫أي‪ :‬إال النوع الذي دخلها من العصاة‪ ،‬فإهنم ال َيلدون يف النار‪.‬‬

‫وقال قوم‪ :‬االستثناء من األزمان؛ أي‪{ :‬خالدين فيها} أبد ًا؛ إال الزمان‬
‫الذي شاء اهلل‪ ،‬أن ال َيلدون فيها‪ ،‬واختلف هؤالء يف تعيني الزمان‪.‬‬
‫فقال الطربي‪( :‬هي املدّ ة التي بني حرشهم؛ إىل دخوهلم النار‪ ،‬وساغ هذا‬

‫من حيث العبارة؛ بقوله‪{ :‬النار مثواكم}‪ ،‬ال َيص بصيغتها؛ مستقبل الزمان‬
‫دون غريه)‪.‬‬
‫وقال الزخمَشي‪( :‬إال ما شاء؛ أي‪َ :‬يلدون يف عذاب األبد كله‪ ،‬إال أي‪:‬‬
‫األوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار‪ ،‬إىل عذاب الزمهرير‪ ،‬فقد روي‪ :‬أهنم‬
‫يدخلون وادي ًا من الزمهرير‪ ،‬ما يميز بعض أوصاهلم من بعض؛ فيتعاوون‪،‬‬
‫ويطلبون الر ّد إىل اجلحيم)‪.‬‬
‫وقال احلسن ‪( :‬إال من كوهنم يف الدنيا بغري عذاب‪ ،‬وهذا راجع إىل‬
‫الزمان‪ ،‬أي‪ :‬إال الزمان الذي كانوا فيه يف الدنيا‪ ،‬بغري عذاب‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫ويرد عىل هذا القول؛ ما يرد عىل من جعله استثناء‪ ،‬من األشخاص الذين‬
‫آمنوا يف الدنيا)‪.‬‬
‫وقال الفراء‪( :‬إال؛ بمعنى‪ :‬سواء)‪ ،‬واملعنى‪ :‬سواء ما يشاء‪ ،‬من زيادة يف‬
‫العذاب‪ ،‬وجييء إىل هذا الزجاج)‪.‬‬
‫وقال غريه‪ :‬إال ما شاء؛ من النكال والزيادة عىل العذاب‪ ،‬وهذا راجع إىل‬

‫االستثناء من املصدر‪ ،‬يدل عليه معنى الكالم‪ ،‬إذ املعنى تعذبون بالنار‪{ :‬خالدين‬

‫فيها} إال ما شاء من العذاب؛ الزائد عىل النار‪ ،‬فإنه يعذبكم به‪ ،‬ويكون إذ ذاك؛‬
‫استثناء منقطع ًا‪ ،‬إذ العذاب الزائد عىل عذاب النار؛ مل يندرج حتت عذاب النار‪،‬‬
‫والظاهر‪ :‬أن هذا االستثناء هو‪ ،‬من متام كالم اهلل للمخاطبني‪ ،‬وعليه جاءت‬
‫تفاسري االستثناء)‪.‬‬
‫ومما حيسن سَّمعه من التفسري هلذه اآلية‪ ،‬ما قرره العالمة ابن عاشور‪ ،‬قال‪:‬‬
‫(واملثوى‪ :‬اسم مكان؛ من َثوى باملكان‪ ،‬إذا أقام به‪ ،‬إقام َة سكنى‪ ،‬أو إطالة مكث‪،‬‬

‫وقد ب ّني ال ّثواء باخللود؛ بقوله‪{ :‬خالدين فيها}‪.‬‬

‫وقوله‪{ :‬خالدين فيها}‪ ،‬هو من متام ما يقال هلم‪ ،‬يف احلرش ال حمالة‪،‬‬
‫ألناه منصوب عىل احلال؛ من ضمري‪( :‬مثواكم)‪ ،‬فال بدّ أن يتع ّلق بَّم قبله‪.‬‬

‫وأ ّما قوله‪{ :‬إال ما شاء}‪ ،‬فظاهر النظم؛ أنّه من متام ما يقال هلم‪ّ ،‬‬
‫ألن‬
‫األصل يف االستثناء؛ أن يكون إخراج ًا‪ ،‬ممّا قبله من الكالم‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫وجيوز أن يكون من خماطبة اهلل لرسوله صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقع‬

‫اعرتاض ًا‪ ،‬بني ما ّ‬


‫قصه عليه من حال املرشكني‪ ،‬وأوليائهم يوم احلرش‪ ،‬وبني قوله‬

‫له‪{ :‬إن ربك حكيم عليم}‪ ،‬ويكون الوقف عىل قوله‪{ :‬خالدين فيها}‪.‬‬

‫واالستثناء يف قوله‪{ :‬إال ما شاء} عىل التّأويلني؛ استثناء إ اما من عموم‬

‫دل عليها قوله‪{ :‬خالدين فيها}‪ ،‬إذ اخللود؛ هو‪ :‬إقامة األبد‪،‬‬
‫األزمنة‪ ،‬ا ّلتي ّ‬
‫يعم األزمان ك ّلها‪ ،‬فـ(ما) ظرفية مصدرية‪ ،‬فلذلك يكون الفعل بعدها؛‬
‫واأل َبد؛ ّ‬
‫يف تأويل َمصدر‪ ،‬أي‪ :‬إالّ وقت مشيئة اهلل إزالة خلودكم‪ ،‬وإ اما من عموم‬

‫اخلالدين‪ ،‬ا ّلذي يف ضمري {خالدين}‪ ،‬أي‪ :‬إالّ فريق ًا شاء اهلل؛ أن ال َيلدوا يف‬
‫النّار‪.‬‬
‫ُ‬
‫حيث ما‬ ‫املفرسين‪ ،‬من‬
‫وهبذا صار معنى اآلية؛ موضع إشكال عند مجيع ّ‬
‫وأهنم خم ّلدون‬ ‫تقرر يف الكتاب‪ ،‬والسنّة‪ ،‬وإمجاع األ ّمة؛ ّ‬
‫أن املرشكني ال ُيغفر هلم‪ ،‬ا‬ ‫ّ‬
‫يف النّار؛ بدون استثناء فريق‪ ،‬وال زمان‪.‬‬
‫يتم‪ ،‬وبعضها بعيد‪ ،‬إذا ُجعل‬
‫أحص ْي ُت هلم عرشة تأويالت‪ ،‬بعضها ال ّ‬
‫وقد َ‬

‫قوله ‪{ :‬إال ما شاء}‪ ،‬من متام ما يقال للمرشكني؛ وأوليائهم يف احلرش‪ ،‬وال‬

‫يستقيم منها إالّ واحد‪ ،‬إذا جعل االستثناء مع َ‬


‫رتض ًا؛ بني حكاية ما يقال للمرشكني‬
‫يف احلرش‪ ،‬وبني ما خوطب به النّبي صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬فيكون هذا االعرتاض‬
‫ِ‬
‫األحياء‪ ،‬ا ّلذين يسمعون التّهديد‪ ،‬إعذار ًا هلم أن يسلموا‪،‬‬ ‫خطاب ًا للمرشكني‬

‫‪80‬‬
‫فتكون (ما) مصدرية؛ غري ظرفية‪ ،‬أي‪ :‬إالّ مشيئة اهلل عد َم خلودهم‪ ،‬أي‪َ :‬‬
‫حال‬
‫مشيئته‪.‬‬
‫وهي حال توفيقه بعض املرشكني لإلسالم يف حياهتم‪ ،‬ويكون هذا بيان ًا‬
‫وحتقيق ًا للمنقول عن ابن ع هباس‪ :‬استثنى اهلل قوم ًا؛ سبق يف علمه اأهنم ُيسلمون‪.‬‬
‫وعنه أيض ًا‪ :‬هذه اآلية؛ توجب الوقف يف مجيع الكفار‪ ،‬وإذا صح ما نقل‬
‫عنه‪ ،‬وجب تأويله‪ ،‬بأنه صدر منه قبل علمه بإمجاع أهل العلم‪ ،‬عىل ّ‬
‫أن املرشكني ال‬
‫يغفر هلم‪.‬‬
‫فإهنا قد تستعمل للعاقل‬
‫ولك أن جتعل (ما) عىل هذا الوجه موصولة‪ ،‬ا‬
‫بكثرة‪.‬‬

‫وإذا جعل قوله‪{ :‬خالدين} من مجلة املقول يف احلرش؛ كان تأويل اآلية‪:‬‬
‫ٍ‬
‫حالة‪ ،‬وإناَّم هو كناية‪ ،‬يقصد منه ّ‬
‫أن‬ ‫أن االستثناء ال يقصد به إخراج أوقات؛ والَ‬
‫ّ‬
‫هذا اخللود قدّ ره اهلل تعاىل‪ ،‬خمتار ًا ال مكره له عليه‪ ،‬إظهار ًا لتَّمم القدرة‪ ،‬وحمض‬
‫ألبطلت ذلك‪.‬‬
‫ُ‬ ‫اإلرادة‪ ،‬كأناه يقول‪ :‬لو شئت‬

‫بأن اهلل ذكر نظريه يف نعيم أهل اجلنّة‪ ،‬يف قوله‪َّ { :‬‬
‫فأما‬ ‫وقد ي ْعضد هذا؛ ّ‬
‫السَموات‬‫الذين َشقوا؛ ففي النهار‪ْ ،‬لم فيها زفري وشهيق‪ ،‬خالدين فيها‪ ،‬ما دامت ه‬
‫إن ربك فعال ملا يريد‪ ،‬وأما الذين ِ‬
‫سعدوا؛ ففي اجلنهة‬ ‫ه‬ ‫َّ‬ ‫واألرض‪ ،‬إاله ما شاء ر هبك‪ ،‬ه ه‬

‫السَموات واألرض‪ ،‬إاله ما شاء؛ ر هبك عطاء غري َمذوذ}‪،‬‬


‫خالدين فيها‪ ،‬ما دامت ه‬
‫(هود‪305 /‬ـ ‪ ،)300‬فانظر كيف ع ّقب قوله‪{ :‬إال ما شاء ر هبك} يف عقاب‬
‫‪81‬‬
‫إن ر هبك ف َّعال ملا يريد} (هود‪ ،)303 /‬وكيف ع اقب‬
‫الشقاوة بقوله‪ { :‬ه‬
‫أهل ّ‬

‫السعادة بقوله‪َ { :‬عطاء غري َمذوذ}‪،‬‬


‫قوله‪{:‬إال ما شاء ر هبك} يف نعيم أهل ّ‬
‫(هود‪ ،)300/‬فأ ْبطل ظاهر االستثناء بقوله‪{ :‬عطاء غري َمذوذ}‪ ،‬فهذا معنى‬
‫ثم املصري بعد ذلك‪ ،‬إىل األد ّلة الدّ الة عىل ّ‬
‫أن خلود املرشكني‬ ‫الكناية؛ باالستثناء‪ّ ،‬‬
‫اليشء بَّم يشبه‬ ‫غري خمصوص‪ ،‬بزمن؛ وال بحال‪ ،‬و َي ُ‬
‫كون هذا االستثناء من تأكيد ّ‬ ‫ُ‬
‫ضدّ ه‪.‬‬

‫وقوله‪{ :‬إن ربك حكيم عليم} تذييل‪ ،‬واخلطاب للنّبي صىل اهلل عليه‬

‫وسلم‪ ،‬فإن كان قوله‪{ :‬خالدين فيها إال ما شاء اهلل}‪ ،‬من بقية املقول؛ ألولياء‬

‫اجل ّن يف احلرش‪ ،‬كان قوله‪{ :‬إن ربك حكيم عليم}‪ ،‬مجلة معرتضة؛ بني اجلمل‬
‫أن ما رتّبه اهلل عىل الرشك؛ من اخللود‪ ،‬رتّبه بحكمته ِ‬
‫وع ْلمه‪ ،‬وإن‬ ‫املقولة‪ ،‬لبيان ّ‬
‫ّ‬
‫ال معرتض ًا‪ ،‬كان قوله‪{ :‬إن ربك‬
‫كان قوله‪{ :‬خالدين} إلخ‪ ،‬كالم ًا مستق ً‬

‫حكيم عليم}‪ ،‬تذيي ً‬


‫ال لالعرتاض‪ ،‬وتأكيد ًا للمقصود؛ من املشيئة‪ ،‬من جعل‬
‫وج ْعل النّجاة من ذلك‬ ‫استحقاق اخللود يف العذاب‪ ،‬منوط ًا باملوافاة عىل ّ‬
‫الرشك‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫اخللود؛ منوطة باإليَّمن‪.‬‬
‫واحلكيم‪ :‬هو ا ّلذي يضع األشياء يف مناسباهتا‪ ،‬واألسباب ملس ّبباهتا‪.‬‬
‫والعليم‪ :‬ا ّلذي يعلم ما انطوى عليه مجيع خلقه‪ ،‬من األحوال املستح ّقة‬
‫لل ّثواب والعقاب)‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫وقال األلويس(‪( :)0/43‬ونقل عن بعضهم؛ أن هذا االستثناء معذوق‬
‫بمشيئة اهلل تعاىل‪ ،‬رفع العذاب‪ ،‬أي‪َ :‬يلدون إىل أن يشاء اهلل تعاىل لو شاء‪.‬‬
‫وفائدته‪ :‬إظهار القدرة واإلذعان؛ بأن خلودهم إنَّم كان ألن اهلل ـ تعاىل‬
‫شأنه ـ قد شاءه‪ ،‬وكان من اجلائز العقيل يف مشيئته‪ ،‬أن ال يعذهبم‪ ،‬ولو عذهبم ال‬
‫َيلدهم‪ ،‬وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه‪ ،‬وإنَّم هو مقتىض مشيئته وإرادته عز‬
‫وجل‪ ،‬ويف اآلية عىل هذا؛ دفع يف صدور املعتزلة‪ ،‬الذين يزعمون أن ختليد الكفار‬
‫واجب عىل اهلل تعاىل‪ ،‬بمقتىض احلكمة‪ ،‬وأنه ال جيوز يف العقل مقتىض ذلك‪ ،‬ولعل‬
‫هذا هو احلق الذي ال حميص عنه‪ ،‬ويف معناه ما قيل‪ :‬املراد املبالغة يف اخللود‪،‬‬
‫بمعنى أنه ال ينتفي إال وقت مشيئة اهلل تعاىل‪ ،‬وهو مما ال يكون؛ مع إيراده يف‬
‫صورة اخلروج‪ ،‬واطَّمعهم يف ذلك؛ هتك ًَّم وتشديد ًا لألمر عليهم‪ ،‬ومن أفاضل‬
‫العرصيني األكابر‪ ،‬من ادعى ذلك الوجه له‪ ،‬وأنه قد خلت عنه الدفاتر‪ ،‬وهو‬
‫مذكور يف غري ما موضع‪ ،‬فإن كان ال يدري؛ فتلك مصيبة‪ ،‬وإن كان يدري؛‬
‫فاملصيبة أعظم‪ ،‬وسيأيت إن شاء اهلل تعاىل تتمة الكالم؛ يف ذلك عند قوله سبحانه‪:‬‬

‫ك} (هود‪.))300/‬‬
‫{إِالَّ َما َشاء َر ُّب َ‬

‫‪83‬‬
‫َّار َْل ْم فِ َيها‬
‫ين َشقو ْا َف ِفي الن ِ‬ ‫ِ‬
‫ثاني ًا‪ :‬بيان وجه داللة قوله تعاىل‪َ { :‬ف َأ َّما ا َّلذ َ‬
‫ك‬‫الس ََم َوات َواألَ ْرض إِالَّ َما َشاء َر ُّب َك إِ َّن َر َّب َ‬ ‫ِ‬ ‫زَفِري و َش ِه ٌيق َخالِ ِد ِ‬
‫ين ف َيها َما َد َامت َّ‬
‫َ‬ ‫ٌ َ‬

‫َف َّع ٌال ملَِّا ي ِريد}‪( ،‬هود‪ ،)701/‬عىل عدم الفناء بإَياز‪.‬‬

‫داللة صيغة‪{ :‬ما دامت السموات واألرض} عىل الدوام بل انقطاع‬


‫عند العرب‬

‫قال ابن جرير‪( :‬قوله‪{ :‬خالدين فيها؛ ما دامت السموات واألرض‪ ،‬إال‬

‫ما شاء ربك إن ربك فعال ملا يريد}‪ ،‬يعني تعاىل ذكره بقوله‪( :‬خالدين فيها)‪،‬‬
‫البثني فيها‪ ،‬ويعني بقوله‪( :‬ما دامت السموات واألرض)‪ ،‬أبد ًا؛ وذلك أن العرب‬
‫إذا أرادت أن تصف اليشء بالدوام؛ أبد ًا‪ ،‬قالت‪ :‬هذا دائم؛ دوام السموات‬
‫واألرض‪ ،‬بمعنى‪ :‬أنه دائم أبد ًا‪ ،‬وكذلك يقولون‪( :‬هو ٍ‬
‫باق ما اختلف الليل‬
‫والنهار)‪.‬‬
‫و(ما سمر ابنا َس ِمري)‪ ،‬و(ما ألألت الع ْفر بأذناِّبا)‪ ،‬يعنون بذلك كله‬

‫(أبد ًا)‪ ،‬فخاطبهم ـ جل ثناؤه ـ بَّم يتعارفون به بينهم‪ ،‬فقال‪{ :‬خالدين فيها ما‬

‫دامت السموات واألرض}‪ ،‬واملعنى يف ذلك‪( :‬خالدين فيها أبد ًا))‪.‬‬


‫وسنتبع هنا طريقة املقابلة؛ واملقارنة‪ ،‬وسنحاول أن تكون بصورة‬
‫صحيحة؛ كَّم وعدناكم‪ ،‬وال بدا أن نتذكر قوله تعاىل؛ يف الذين ُس ِعدوا‪ ،‬لكي نقارن‬
‫بينهَّم‪ ،‬فنفهم هذه بتلك‪:‬‬

‫‪84‬‬
‫اجلن َِّة َخالِ ِدين فِيها ما دام ِ‬
‫ين س ِعدو ْا َف ِفي َْ‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫َ َ َ َ َ‬ ‫قال تعاىل‪َ { :‬و َأ َّما ا َّلذ َ‬

‫َمذوذ}‪( ،‬هود‪ ،)300/‬فال فرق‬ ‫الس ََم َوات َواألَ ْرض إِالَّ َما َشاء َر ُّب َ‬
‫ك َع َطاء غَ ْ َري َ ْ‬ ‫َّ‬
‫بني اآلية الواردة يف املؤمنني‪ ،‬والواردة يف األشقياء من حيث‪:‬‬
‫ـ كل من اآليتني؛ فيها حكم باْللود يف دار الثواب (اجلنة)‪ ،‬أو دار‬
‫العقاب (النار)‪.‬‬

‫ـ كل من اآليتني؛ فيها استثناء وهو قوله تعاىل {إال ما شاء ربك} وقد‬

‫الس ََم َوات َواألَ ْرض إِالَّ َما‬ ‫ِ‬ ‫جاء بنفس الصيغة يف اآليتني‪َ { :‬خالِ ِد ِ‬
‫ين ف َيها َما َد َامت َّ‬
‫َ‬

‫ك}‪ ،‬فهذه الصيغة من التخليد؛ وقرن اخللود ببقاء السموات واألرض‪،‬‬ ‫َشاء َر ُّب َ‬
‫واالستثناء‪ ،‬وردت بالصورة نفسها‪ ،‬يف حق الذين َش ُقوا‪ ،‬والذين ُس ِعدوا!‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لو قلنا‪ :‬إن ال اثن ِ اي َة (االستثناء) ينفي الدوام األبدي يف النار‪ ،‬يف حق‬
‫الكفار‪ ،‬فينبغي أن نقول إنه ينفيه أيض ًا يف حق املؤمنني يف اجلنة‪.‬‬
‫ولكن‪ :‬من املقطوع به ا‬
‫أن الثن اية ال تنفي التأبيد عن بقاء املؤمنني ولبثهم يف‬
‫اجلنة‪.‬‬
‫الرضوري أن ال تنفي الثنية التأبيد عن لبث الكفار يف النار‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫إذن‪ :‬فمن‬
‫ويبقى أن يقال‪ :‬إنا فهمنا بقا َء املؤمنني يف اجلنة‪ ،‬ال من جمرد التخليد‪ ،‬بل‬

‫من قوله تعاىل‪{ :‬عطاء غري َمذوذ}‪ ،‬أما االستثناء فيفهم االنقطاع واالنتهاء‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫نقول‪ :‬هذ ا غلط ظاهر‪ ،‬فلو كان االستثناء يفيد انتهاء بقاء املؤمنني يف اجلنة‬

‫مستقبالً‪ ،‬لتناقض مع قوله تعاىل‪{ :‬عطاء غري َمذوذ}‪ ،‬فهذا يفيد اتفاق ًا عدم‬
‫االنقطاع‪ ،‬وأنتم تزعمون أن االستثناء يفيد االنتهاء‪ ،‬وهو تناقض‪ ،‬والتناقض يف‬
‫اآلية ممنوع‪.‬‬
‫إذن ال يصح أن يقال‪ :‬إن الثنية؛ تفيد انتهاء لبث املؤمنني يف اجلنة‪.‬‬
‫وكذلك ينبغي أن يقال‪ :‬إن االستثناء ال يصح أن يفيد انتهاء لبث الكفار‬
‫يف ِ‬
‫النار‪.‬‬
‫ويبقى البحث إذن ِف فائدة االستثناء‪.‬‬
‫إما أن يكون استثناء من الذين حكم عليهم بالبقاء يف الدارين أبد ًا‪،‬‬
‫وحينئذ‪ :‬إن قلنا ا‬
‫إن املستثنى منه هو األشقياء‪ ،‬وهم عموم الداخلني يف النار‪،‬‬
‫فيمكن أن يكون املستثنى من الدوام فيها‪ ،‬هم أهل املعايص من املؤمنني‪ ،‬وذلك‬
‫ألن ظاهر الذين شقوا عام‪ ،‬حيتمل دخول أهل املعايص األشقياء‪ ،‬والكفار‪،‬‬
‫فيصح عىل هذا الوجه‪ ،‬استثناء أهل املعايص من التأبيد يف النار‪ ،‬ويكون هؤالء‬
‫هم املستثنني أيض ًا يف آية الذين ُس ِعدوا‪.‬‬
‫أ ّما إذا‪:‬‬
‫ـ كان االستثناء من املدة التي قبله‪ ،‬فهذه املدة هي التأبيد‪ ،‬بقرينة ما نقلناه‬
‫عن الطربي‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫ـ وكان معنى االستثناء هو قطع التأبيد‪ ،‬ونفي استمرار البقاء يف الدار؛ ال‬
‫إىل هناية‪ ،‬فيكون معنى اآلية الواردة يف الذين ُس ِعدوا عىل هذا الوجه اآليت‪:‬‬
‫‪3‬ـ معنى القسم الذي قبل االستثناء‪ :‬إن املؤمنني البثون يف اجلنة أبد ًا‪،‬‬
‫وباقون فيها بقا ًء ال ينقطع وال هناية له‪.‬‬
‫‪4‬ـ ومعنى االستثناء‪ :‬إهنم ال يبقون أبد ًا‪ ،‬بل يبقون‪ ،‬فرتة أقل من األبد‪.‬‬
‫ومن الظاهر أن هذا تناقض مع التأبيد‪ ،‬فهذه الطريقة ليست استثنا ًء‪ ،‬بل‬
‫نفي ًا للمستثنى منه‪ ،‬إن فرض املستثنى منه األزمنة املتوالية‪ ،‬ال إىل هناية‪ ،‬أي‪ :‬إىل‬
‫األبد‪.‬‬
‫ويكون معنى اآلية الواردة يف الذين َش ُقوا عىل هذا الوجه‪:‬‬
‫‪3‬ـ معنى القسم الذي قبل االستثناء‪ :‬إن الذين شقوا البثون يف النار أبد ًا‪،‬‬
‫وباقون فيها؛ بقا ًء ال ينقطع وال هناية له‪.‬‬
‫‪4‬ـ ومعنى االستثناء‪ :‬إهنم ال يبقون أبد ًا‪ ،‬بل يبقون‪ ،‬فرتة أقل من األبد‪.‬‬
‫ومن الظاهر أن هذا تناقض مع التأبيد‪ ،‬فهذه الطريقة ليست استثنا ًء‪ ،‬بل‬
‫نفي ًا للمستثنى منه‪ ،‬إن فرض املستثنى منه األزمنة املتوالية‪ ،‬ال إىل هناية‪ ،‬أي‪ :‬إىل‬
‫األبد‪.‬‬
‫ومن الظاهر أيض ًا؛ أن هذه الطريقة يف فهم االستثناء باطلة‪ ،‬ألهنا تناقض‬
‫ما تثبته اآلية‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫وهذا الفهم لالستثناء‪ ،‬مبني عىل توهم فاسد‪ ،‬وهو أن االستثناء ينتفي به‬
‫أصل املستثنى منه‪ ،‬ويبطل مفهو َمه ِم ْن أصلِه‪.‬‬
‫ولكن املعلوم عند طالب العلم‪ ،‬أن االستثناء إنَّم َيرج بعض ما دخل يف‬
‫املستثنى منه‪ ،‬من احلكم املحكوم به عليه‪ ،‬وال َيرجه من مفهومه‪ ،‬وال ينفي أصل‬
‫املستثنى منه‪ ،‬أي‪ :‬إننا إذا قلنا‪( :‬جاء القوم؛ إال زيد ًا)‪.‬‬
‫فإن االستثناء‪( :‬بإال) ‪ ،‬ال يفيد أن القوم ما جاءوا‪ ،‬بل َيرج بعض ما‬
‫واملخرج هنا هو زيدٌ ‪.‬‬
‫َ‬ ‫اندرج حتت مفهوم القوم؛ من األفراد‪ ،‬من حكم املجيء‪،‬‬
‫وهكذا ‪ :‬فإذا كان معنى اآلية‪ :‬إن الذين شقوا‪ ،‬والذين سعدوا‪ ،‬يبقون ما‬
‫دامت السموات واألرض‪ ،‬وعرف أن السموات واألرض تبقيان أبد ًا‪ ،‬فمعنى‬
‫ذلك أن السعداء واألشقياء؛ يبقون أبد ًا كذلك‪.‬‬
‫فال يصح أن يكون االستثناء نافي ًا ألصل البقاء األبدي‪ ،‬بل غاية ما يصح‬
‫أن يفيده؛ عدم لبثهم يف بعض املدد الزمانية املتوالية‪ ،‬التي ُمت َ ِّث ُل بتواليها بال هناية‬
‫مفهو َم األبد‪ ،‬كَّم حررناه‪.‬‬
‫وبذلك ال ينتفي مفهوم األبدية يف املقامني‪ ،‬وال يبقى إشكال يف اآليتني‪.‬‬
‫تم إخراجها يف احلالتني‪ ،‬وقد ذكر‬
‫وحينئذ‪ :‬ينبغي البحث عن املدة التي ا‬
‫املفرسون احتَّمالت ذلك‪.‬‬
‫ويمكن الرجوع إىل التفاسري ملعرفة اإلمكانات التي ذكروها يف ذلك‪،‬‬
‫والرتجيح بينها وفق األدلة املعتربة‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫وبذلك تنحل اإلشكالية يف فهم اآليتني من أصلها‪.‬‬

‫مالحظة‪ :‬نحن مل نذكر مجيع احتَّمالت قوله تعاىل‪{ :‬إال ما شاء ربك}‬
‫التي ذكرها املفرسون‪.‬‬
‫وفيها أيض ًا‪ :‬غنية عن الوقوع يف املحال‪ ،‬أو االلتزام بالقول بفناء النار‪،‬‬
‫فلريجع إليها‪ .‬واقترصنا عىل ما ذكرناه ألنه حمل الدعوى‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫بيان معنى قوله تعاىل‪{ :‬عطاء غري َمذوذ}‬

‫ويبقى البحث عن معنى قوله تعاىل؛ يف حق السعداء‪{ :‬عطاء غري‬

‫َمذوذ} هل هو تقييد؛ ملا كان أثبته اهلل تعاىل هلم من قبل‪ ،‬أي‪ :‬هل ما أثبته اهلل‬
‫تعاىل للسعداء يف اآلية‪ ،‬حيتمل أن يكون عطاء جمذوذ ًا‪ ،‬وحيتمل أن يكون عطاء‬
‫ِ‬
‫جمذوذ‪ ،‬فبني اهلل تعاىل أن املراد أن عطاءه غري جمذوذ‪.‬‬ ‫غري‬
‫من الواضح أن الناظر احلصيف؛ ال يقطع بتهور‪ ،‬أن األمر كذلك‪ ،‬بدون‬

‫وفكر‪ ،‬بل إن قوله تعاىل‪{ :‬عطاء غري َمذوذ} فيه‪:‬‬


‫ٍ‬ ‫نظر‬
‫(أ) تقرير وتأكيد؛ ملا قرره من الدوام للعطاء‪ ،‬ما دامت السموات‬
‫واألرض‪.‬‬
‫(ب) وإضافة معنى جديد‪ :‬وهو أن بقاءهم يف اجلنة؛ إنَّم هو بعطاء اهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬أي‪ :‬ال عن وجوب عليه‪ ،‬وكان جيوز أن ال يفعله‪ ،‬فال جيب عليه فعل من‬
‫األفعال مطلق ًا‪.‬‬
‫وأن ما منحه إياهم هو نعمة هلم؛ ال نقمة‪ ،‬كَّم فعل يف حق الكفار يف النار‪.‬‬
‫فمفهوم العطاء يتضمن هذين األمرين كَّم ال َيفى‪.‬‬
‫وكذلك نقول يف حق الكفار‪ ،‬من باب املقابلة الصحيحة‪ ،‬فإن اآلية تدل‬
‫أبدي‪ ،‬ولكن هذا ال يقال عليه عطاء‪ ،‬ألن العطاء‬
‫ٌّ‬ ‫عىل أن بقاءهم يف النار دائم‬
‫رمحة ونعمة‪ ،‬وهم يف نقمة وعذاب‪ ،‬فبني اهلل تعاىل أن ما حكم به عىل الكفار؛ إنَّم‬
‫هو بفعله واختياره‪ ،‬بال سبق وجوب‪ ،‬وأنه كان جيوز أال يفعله‪ ،‬لوال أنه بينه يف‬
‫‪90‬‬
‫رشيعته‪ ،‬كَّم أن ما فعله باملؤمنني من بقائهم يف اجلنة؛ إنَّم هو بإرادته واختياره‪،‬‬
‫وكان جيوز يف العقل أال يفعله‪ ،‬فال جيب عليه ثواب هلم‪ ،‬وال عقاب عىل الكفار‪.‬‬
‫املتضمن‬
‫ا‬ ‫ولذلك نرى أنه يف آية األشقياء؛ جرد مفهوم النعمة‪ ،‬والرمحة‪،‬‬

‫يف قوله‪{ :‬عطاء غري َمذوذ} وأبقى ما ُّ‬


‫يدل عىل أنه بإرادته واختياره‪ ،‬فقال جل‬

‫من قائل‪{ :‬إن ربك فعال ملا يريد} فال موجب عليه‪ ،‬وال مانع له مما يريد‪ ،‬وال‬

‫يشء مما يريده؛ يستلزم القبح‪ ،‬والذم‪ ،‬أو النقص‪ ،‬وقوله يف آية األنعام‪{ :‬حكيم‬

‫عليم} ال ينايف هذا املعنى‪ ،‬ألن كل هذا يفعله اهلل تعاىل بعلمه وحكمته‪ ،‬حيث‬
‫ّبني لكل إنسان‪ ،‬ما يرتتب عىل أفعاله يف اآلخرة‪ ،‬فهو يضع األمور يف حملها؛ بال‬
‫فتم األمر بفضل اهلل تعاىل‬
‫موانع متنَ ُعه‪ ،‬ا‬
‫َ‬ ‫وجوب‪ ،‬أو ِع َل ٍل تدفعه لذلك‪ ،‬أو‬
‫ٍ‬ ‫سبق‬
‫برفع الوهم املذكور ملن تعلق بذلك للقول بفناء النار‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫بيان الفهم املغلوط الذي متسك به القائل بفناء النار‬
‫فهم القائل بفناء النار‪ ،‬بناء عىل أن مفهوم االستثناء‪ ،‬ا‬
‫أن حكم ما بعد إال‬

‫َيالف ما قبلها‪ .‬فقرر قائال‪( :‬ما قبل إال‪{ :‬خالدين فيها مدة بقاء السموات‬

‫واألرض})‪( :‬وحاصل املعنى كَّم نقول به‪ ،‬أي‪ :‬إهنم البثون يف النار أبد ًا‪ ،‬ال‬
‫َيرجون منها‪ ،‬بنا ًء عىل كون هذه العبارة مما يقال ليفيد التأبيد والدوام‪ ،‬أو ألن‬
‫السموات واألرض دائمة)‪.‬‬
‫وعليه فَّم بعد إال‪ :‬ينبغي أن يكون بناء عىل اقرتاحه‪ :‬أهنم غري خالدين فيها‬
‫مدة بقاء السموات واألرض‪ ،‬بل ينقطع لبثهم مع دوام السموات واألرض‪.‬‬
‫(وحاصل املعنى املقرتح الذي يقرتحه صاحبنا‪ ،‬أي‪ :‬إهنم غري البثني يف‬
‫النار أبد ًا‪ ،‬بل َيرجون منها)‪.‬‬
‫أن هذا ليس استثناء؛ مما قبل‪( :‬إال)‪ ،‬بل نفي ًا له من أصله‪.‬‬
‫ومل يلتفت إىل ّ‬
‫ألنه إذا كان املثبت قبل‪( :‬إال) هو البقاء؛ تلك املدة التي تدومها السموات‬
‫واألرض‪ ،‬فاالستثناء؛ ينفي أن يكون البقاء هو املدة التي تدوم فيها السموات‬
‫واألرض‪ ،‬وهذا نفي ملا أثبت‪ ،‬وليس إخراج ًا لبعض ما اندرج حتته‪ ،‬كَّم يقتضيه‬
‫مفهوم االستثناء!!‪.‬‬
‫أن االستثناء‪ :‬إخراج بعض ما لواله لدخل يف اجلملة‪.‬‬
‫والتحقيق َّ‬
‫واإلخراج يكون من احلكم؛ ال من عني املفهوم‪ ،‬كَّم وضحناه يف مثال‬
‫(جاء القوم؛ إال زيد ًا)‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫وبناء عىل ذلك‪ :‬فَّم قبل‪( :‬إال)‪ :‬إن الذين سعدوا البثون يف اجلنة مدة دوام‬
‫السموات واألرض‪ ،‬ومن املعلوم أن هذه املدة أزمنة متطاولة متوالية‪.‬‬
‫فَم بعد‪( :‬إال) يكون‪ :‬إهنم ال يلبثون فيها بعض األزمنة‪ ،‬التي تكون فيها‬
‫السموات واألرض موجودة‪ ،‬وهي األزمنة التي يكونون فيها مث ً‬
‫ال يف احلساب‪،‬‬
‫قبل دخول كل فريق من الفريقني دار البقاء‪ ،‬وإنَّم ساغ االستثناء؛ ألن اآلية حكم‬
‫فيها بأنه ما دامت السموات واألرض‪ ،‬فهم البثون يف اجلنة والنار‪ ،‬ولكن يف فرتة‬
‫احلساب والبعث‪ ،‬تكون السموات واالرض موجودة؛ ودائمة‪ ،‬وفيها اجلنان‬
‫والنريان‪ ،‬وال يكون أي من الفريقني قد دخل دار بقائه بعدُ ‪.‬‬
‫وال يقال هنا ‪ :‬إن النفي ينبغي أن يكون من املدة التي يكونون قد دخلوا‬
‫فيها النار‪ ،‬ألن اخللود ـ كَّم قلنا ـ هو لبثهم فيها‪ ،‬وهو هنا مقيد بدوام السموات‬
‫واألرض‪ ،‬مستثنى منه بعض املدة؛ التي مل يلبثوا فيها‪ ،‬يف تلك األوقات املحتملة‪.‬‬
‫فاحلكم باخللود إذن مقيد بمدة دوام السموات واألرض‪ ،‬مستثنى منها‬
‫عدم كوهنم فيها‪ ،‬وهو معنى صحيح‪ ،‬ال يرد عليه ما يستحق أن ينقضه عند‬
‫التدبر‪.‬‬
‫وال يصح أن يقال‪ :‬إن االستثناء ينبغي أن يكون برشط الدخول‪ ،‬أي‪ :‬بعد‬
‫الدخول يتم االستثناء‪ ،‬فال يشء يوجب ذلك‪ ،‬ويمكن تقدير التقديم والتأخري‬

‫اف َع َذ َ‬
‫اب‬ ‫ك آل َي ًة؛ َِّمل ْن َخ َ‬ ‫إن ِِف َذلِ َ‬ ‫نحوي ًا بسهولة‪ ،‬ومن تأمل قوله تعاىل‪َّ { :‬‬
‫وع َّله النَّاس‪َ ،‬و َذلِ َك َي ْو ٌم َّم ْشهو ٌد‪َ ،‬و َما ن َؤ ِّخره إِالَّ ِألَ َجل‬
‫َمم ٌ‬ ‫اآلخ َر ِة‪َ ،‬ذلِ َ‬
‫ك َي ْو ٌم َّ ْ‬ ‫ِ‬

‫‪93‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َشقو ْا؛‬ ‫َّم ْعدود‪َ ،‬ي ْو َم َي ْأت الَ َت َك َّلم َن ْف ٌس إِالَّ بِإِ ْذنه‪َ ،‬فمنْه ْم َشقي َو َسعيدٌ ‪َ ،‬ف َأ َّما ا َّلذ َ‬
‫ِ‬ ‫َّار َْلم فِيها زَفِري و َش ِه ٌيق‪َ ،‬خالِ ِد ِ‬ ‫ِ‬
‫الس ََم َوات َواألَ ْرض‪ ،‬إِالَّ َما‬ ‫ين ف َيها َما َد َامت َّ‬
‫َ‬ ‫ٌ َ‬ ‫َففي الن ِ ْ َ‬
‫ين فِ َيها‪َ ،‬ما‬ ‫ك َفع ٌال َِّملا ي ِريد‪ ،‬و َأما ا َّل ِذين س ِعدو ْا؛ َف ِفي َْ ِ ِ ِ‬
‫اجلنَّة َخالد َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫ك‪ ،‬إِ َّن َر َّب َ َّ‬ ‫َشاء َر ُّب َ‬

‫َمذوذ}‪ ،‬عرف أن هذا‬ ‫الس ََم َوات َواألَ ْرض‪ ،‬إِالَّ َما َشاء َر ُّب َ‬ ‫ِ‬
‫ك‪َ ،‬ع َطاء غ ْ َ‬
‫َري َ ْ‬ ‫َد َامت َّ‬
‫إخبار من اهلل تعاىل عن أحوال املؤمنني والكفار‪ ،‬وأهنم سيكونون خالدين يف تلك‬
‫الفرتة التي حررناها‪.‬‬
‫ومن تأمل اآليتني؛ وعرف املقابلة حق املعرفة‪ ،‬اتضح له ما نقول‪،‬‬
‫وابتعدت عن نفسه كافة الشبهات‪.‬‬
‫مع أن لالستثناء يف هذه اآليات؛ احتَّمالت أخرى‪ ،‬لعلنا نكتب فيها بحث ًا‬
‫ضافي ًا عىل حدا‪ ،‬نفصل فيه الوجوه‪ ،‬ونبني الراجح؛ من املرجوح‪.‬‬
‫ولكن اقترصنا هنا عىل هذه االحتَّمالت؛ ألهنا حمل الدعوى‪ ،‬فيتحقق هبذا‬
‫التخريج‪ ،‬ثبوت التأبيد؛ مع حتقيق االستثناء‪ ،‬لبعض الفرتات‪ ،‬التي ال ينايف‬
‫إخراجها التأبيدَ ‪.‬‬
‫ُ‬

‫‪94‬‬
‫دعوى عدم داللة‪{ :‬ما دامت السموات واالرض} عىل التأبيد‬

‫قد يزعم زاعم بومهه؛ أن قوله تعاىل‪{ :‬ما دامت السموات واألرض}‬
‫وتقييد التخليد هبا؛ غري دال بذاته عىل التأبيد‪ ،‬بل عىل مدة طويلة‪ ،‬ثم تنقطع مدة‬
‫بقائهَّم‪.‬‬

‫ويزعم أن قوله تعاىل‪{ :‬عطاء غري جمذوذ}‪ ،‬هو ا ُّ‬


‫لدال عىل التأبيد‬
‫واالستمرار‪.‬‬

‫وهذا الوصف غري موجود يف آية الذين شقوا‪ ،‬واملوجود فيها‪{ :‬إن ربك‬

‫فعال ملا يريد}‪.‬‬

‫فاجلواب‪ :‬لو كان قوله تعاىل‪{ :‬ما دامت السموات واألرض} ال يعني‬
‫أكثر من املدة؛ التي تبقى فيها السموات واألرض‪ ،‬وأهنا مدة متناهية‪ ،‬ملا كان قوله‬

‫تعاىل‪{ :‬عطاء غري َمذوذ} يفيد أكثر؛ من أن عطاءه يف هذه املدة غري جمذوذ‪،‬‬
‫أي‪ :‬غري مقطوع‪.‬‬
‫ال؛ عىل استمرار وجود اجلنة‪ ،‬كَّم ال ُّ‬
‫تدل عىل استمرار‬ ‫فال ُّ‬
‫تدل اآلية أص ً‬
‫النار ‪ ،‬سواء بسواء‪ ،‬ولكنا نعلم أن هذا التعبري‪ ،‬يفيد التأبيد واالستمرار‪ ،‬كَّم‬
‫قررناه ُ‬
‫قبل‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫وبيان كيفية إفادته استمرار البقاء‪:‬‬
‫‪7‬ـ إما من استمرار بقاء السموات واألرض‪ ،‬بصورة جديدة ِف يوم‬
‫القيامة‪ ،‬كَّم تفيده اآليات املذكورة أدناه‪.‬‬

‫اح ِد‬
‫ض والسَموات وبرزو ْا هللهِ ا ْلو ِ‬
‫َ‬ ‫َََ‬ ‫قال تعاىل‪َ { :‬ي ْو َم ت َبدَّ ل األ ْرض غ ْ َ‬
‫َري األَ ْر ِ َ َّ َ َ‬ ‫َ‬
‫ور َف َف ِزع من ِِف السَمو ِ‬
‫ات َو َمن ِِف‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ار}‪( ،‬إبراهيم‪َ { ،)20/‬و َي ْو َم ين َفخ ِِف ُّ‬
‫الص ِ‬ ‫ا ْل َق َّه ِ‬

‫ين}‪( ،‬النمل‪َ { ،)03/‬و َما َقدَ روا اهللََّ‬ ‫ِ‬ ‫ْاألَ ْر ِ‬


‫هلل َوكل َأت َْوه َداخ ِر َ‬ ‫ض إِ َّال َمن َشاء ا َّ‬
‫ات بِ َي ِمين ِ ِه س ْب َحانَه‬
‫َموات َم ْط ِو َّي ٌ‬
‫الس َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َح َّق َقدْ ِره َو ْاألَ ْرض ََجيع ًا َق ْب َضته َي ْو َم ا ْلق َي َامة َو َّ‬
‫ور َفص ِع َق من ِِف السَمو ِ‬ ‫ِ‬
‫ات‬ ‫َّ َ َ‬ ‫َ‬ ‫الص ِ َ‬‫ون}‪( ،‬الزمر‪َ { ،)53/‬ونف َخ ِِف ُّ‬ ‫َو َت َع َاىل َع ََّم ي ْ ِ‬
‫َشك َ‬

‫يه أ ْخ َرى َفإِ َذا هم ِق َيا ٌم َينظرو َن}‪،‬‬


‫ض إِ َّال من َشاء اهللَّ ثم ن ِف َخ فِ ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َو َمن ِِف ْاألَ ْر ِ‬

‫(الزمر‪.)50/‬‬
‫ومن املعلوم أن التخليد للمؤمنني والكفار يف اجلنة والنار؛ إنَّم يكون بعد‬
‫إعادة خلق السموات واألرض‪ ،‬عىل النحو املذكور يف هذه اآليات‪ ،‬إذ قبل ذلك؛‬
‫ال ختليد فيهَّم؛ وال خلود‪ ،‬بل ال دخول للناس فيهَّم أص ً‬
‫ال‪ ،‬ومل يرد يف الرشيعة أنه‬
‫بعد إعادة خلقهَّم وإجيادمها‪ ،‬يفنيهَّم اهلل تعاىل‪ ،‬ويقطع وجودمها‪ ،‬بل تقرر يف‬
‫النصوص لبقاء والتأبيد هلَّم مع ًا‪.‬‬
‫وهذا هو املقصود ما دامت السموات واألرض يف هذه املقامات‪ ،‬ألن‬
‫اجلنة والنار‪ ،‬وإن كانتا موجودتني قبل اليوم اآلخر‪ ،‬عىل قول أهل السنة‪ ،‬لكن ال‬
‫ختليد فيهَّم؛ ألحد من املكلفني‪ ،‬فالتخليد املذكور إذن؛ إنَّم يراد به بعد إعادة‬
‫‪96‬‬
‫إنشائهَّم مرة أخرى‪ ،‬وتسميان سموات؛ وأرض ًا‪ ،‬كَّم ترى بعينك‪ ،‬وإن مل نعرف‬
‫حقيقتهَّم التفصيلية‪ ،‬فمعرفة أصل وجودمها آنذاك‪ ،‬واستمرار الوجود‪ ،‬وكون‬
‫ذلك معلوم ًا من الدين بالرضورة‪ ،‬يكفي إلفادة القارئ؛ أن من كان خلوده يف‬
‫اجلنة والنار مستمر ًا مدة بقاء السموات واألرض الدائمتني‪ ،‬فإن خلود أهل اجلنة‬
‫يف اجلنة؛ بال خروج‪ ،‬وال انقطاع‪ ،‬وخلود أهل النار يف النار كذلك؛ بال خروج‪،‬‬
‫وال انقطاع‪ ،‬يكون هو املفهوم الظاهر‪ ،‬ملن كان من املنصفني‪ ،‬ال من املتعنتني‪،‬‬
‫املتعسفني‪.‬‬
‫‪4‬ـ أو من صريورة هذا التعبري مث ً‬
‫ال؛ يراد به التأبيد‪ ،‬كَّم وضحه الطربي‬
‫فيَّم نقلناه عنه‪ ،‬وذكره غريه من املفرسين‪ ،‬ووافقوه عليه‪.‬‬
‫وعىل القولني؛ فالظاهر من األسلوب والتعبري‪ ،‬أن البقاء يف اجلنة مؤ ابد؛‬

‫غري منقطع‪ ،‬وأن معرفة ذلك ال تتوقف عىل قوله تعاىل‪{ :‬عطاء غري َمذوذ}‪.‬‬
‫وكنا نريد ذكر كالم بعض املفرسين هنا مع شهرته‪ ،‬ولكن رأينا ما أوردناه‬
‫كافي ًا يف املقام‪ ،‬ولعلنا نعود إليه الحق ًا‪.‬‬

‫ني فِ َيها‬‫ِ‬
‫ني َمآب ًا‪َ ،‬البِث َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ثالث ًا‪ :‬قوله تعاىل‪{ :‬إِ َّن جهنَّم كَان ْ ِ‬
‫َت م ْر َصاد ًا‪ ،‬ل ْل َّطاغ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫ْشاب ًا‪ ،‬إِ َّال َمحِي ًَم َوغ ََّساق ًا‪َ ،‬جزَاء ِو َفاق ًا}‪،‬‬ ‫َأح َقاب ًا‪َّ ،‬ال يذوق َ ِ‬
‫ون ف َيها َب ْرد ًا َو َال َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫(النبأ‪43/‬ـ‪.)45‬‬

‫‪97‬‬
‫ٍ‬
‫بضعف شديد عىل الفناء‪ ،‬ولكن من‬ ‫جعل د‪ .‬عدنان هذه اآلية؛ دالة‬
‫الظاهر‪ ،‬أن كلمة أحقاب ًا‪ ،‬ال تدل بنفسها؛ عىل انتهاء اللبث‪ ،‬ولذلك يمكن تقييدها‬
‫بعدد معني‪ ،‬وبالتأبيد‪ ،‬كأن تقول‪ :‬أحقاب ًا ثالثة‪ ،‬وأحقاب ًا مؤبدة مستمرة‪.‬‬
‫وما كان كذلك؛ ال يقال إنه دليل يف نفسه‪ ،‬عىل أحد االحتَّملني‪ ،‬بل يقال‬
‫إنه حيتملهَّم‪ ،‬وفرق بني األمرين عظيم‪.‬‬
‫ولذلك قال‪ :‬إن الداللة ال تتم إال بناء عىل مفهوم العدد‪ ،‬وهو قول‬
‫ضعيف يف ًأصول الفقه‪.‬‬
‫ومع ذلك تراه يتمسك به‪ ،‬بل إن كل ما رأيناه يتمسك به ضعيف‬
‫ضعيف‪ ،‬ومن الغريب أن يعرتف بضعفه ثم يرص عىل التمسك به‪.‬‬
‫وأيض ًا‪ :‬فإن (أحقاب ًا) نكرة‪ ،‬ومجع‪ ،‬صحيح أن االسم (حقب) يدل عىل‬
‫عدد من السنني‪ ،‬واجلمع معدود‪ ،‬ولكنه غري حمدد‪ ،‬واألحقاب مجع قلة‪ ،‬يتناول‬
‫من ثالثة إىل عرشة‪ ،‬والنكرة من املطلق يف أصول الفقه‪ ،‬واملطلق يقبل العموم‬
‫البديل كَّم هو معلوم يف األصول‪ ،‬فيصح عندئذ أن يكون معنى اآلية‪ :‬أي البثني‬
‫أحقاب وهكذا‪ ،‬وال دليل عىل انتهاء األحقاب برمتها‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫فيها أحقاب ًا‪ ،‬وبعدها‬
‫حل ْقب عدد ما من السنني‪ ،‬فكونه‬
‫ولذلك فال يعارض هذا ما علم من أن ا ُ‬
‫عدد ًا ال يستلزم نفي ما عداه‪ ،‬وأما اللفظ فهو نكرة‪ ،‬بصيغة اجلمع‪ ،‬يف مقام‬
‫التهديد والوعيد‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫ولذلك رأينا أعاظم املفرسين من املتقدمني واملتأخرين؛ ال يقولون إن‬
‫كون احلقب عدد ًا معين ًا‪ ،‬وكون اجلمع معدود ًا‪ ،‬يستلزم وجود حد حمدود‪ ،‬تقف‬
‫مر نقل بعض كالمهم‪.‬‬
‫األحقاب املذكورة هنا‪ ،‬وقد ا‬
‫ُ‬ ‫عنده‬
‫ثم اعرتافه بأن مفهوم العدد ضعيف‪ ،‬ومع ذلك يتمسك هبذا الضعيف‪،‬‬
‫وجيعله مقابل املحكم الظاهر؛ من اآليات الثالثة‪ ،‬التي جعل هذه اآلية تقابلها‪،‬‬
‫وتفتح للكفار باب الدخول إىل اجلنة‪ ،‬بعد أن يتطهروا ويصريوا مؤمنني‪ ،‬وزاد‬
‫مر اجح ًا!!‪ ،‬لعمري إنني مل أكن أتوقع منه‬
‫عىل ذلك فجعله حاك ًَّم عليها مقدم ًا َ‬
‫السري يف هذه السكة من طرق االستدالل‪ ،‬وواهلل إن هذا ال يستحق أن يكون‬
‫استدالالً‪ ،‬بل هو عبارة عن طرق ملفقة‪ ،‬يراد منها أن توصله إىل غاية يريدها‬
‫وهيواها‪ ،‬أما أن يكون الدليل الراجح قاده إليها‪ ،‬فال وألف ال‪.‬‬
‫وبذلك يبطل ما ا ّدعاه من املقابلة الثالثية التي تفرد هبا‪ ،‬ومل جيد أحد ًا قال‬
‫هبا‪ ،‬ومل يتنبه إىل أن عدم وجود أحد يقول هبا‪ ،‬ربَّم يكون أعظم دليل عىل ضعفه‪،‬‬
‫وعدم وجود اعتبار هلا‪ ،‬خصوص ًا يف هذا املقام العظيم‪ ،‬الذي هو أعظم من الدنيا‬
‫وما فيها‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫األمر الرابع‪ :‬متسكه بالفرق بني (خمرجني) و(خارجني)‬
‫زعم أن هناك فرق ًا يف هذا املقام بني (خمرجني) يف قوله تعاىل يف حق‬
‫ِ‬
‫ب َو َما هم ِّمن َْها بِمخْ َر ِج َ‬
‫ني}‪( ،‬احلجر‪،)20/‬‬ ‫املؤمنني‪{ :‬الَ َي َم ُّسه ْم ف َيها ن ََص ٌ‬
‫ِ‬
‫وبني (خارجني) يف قوله تعاىل يف حق الكفار‪َ { :‬و َق َال ا َّلذ َ‬
‫ين ا َّت َبعو ْا َل ْو َأ َّن َلنَا ك ََّر ًة‬
‫رسات َع َل ْي ِه ْم َو َما هم‬ ‫َ‬ ‫َربؤو ْا ِمنَّا ك ََذلِ َ‬
‫ك ي ِرَيِم اهلله أ ْع ََم َْل ْم َح َ َ‬
‫َف َنت َ ِ‬
‫َربأ منْه ْم ك َََم ت َ َّ‬
‫َ َّ‬
‫ُيرجو ْا‬ ‫ون َأن َ ْ‬ ‫َّار}‪( ،‬البقرة‪ ،)353/‬وكذا قوله تعاىل‪{ :‬ي ِريد َ‬ ‫ني ِم َن الن ِ‬‫بِخَ ا ِر ِج َ‬

‫يم}‪( ،‬املائدة‪ ،)13/‬وقرر‬ ‫ِ‬ ‫ار ِج ِ‬ ‫ِم َن الن ِ‬


‫َ‬
‫الفرق‬ ‫اب ُّمق ٌ‬ ‫َّار َو َما هم بِخَ ِ َ‬
‫ني من َْها َو َْل ْم َع َذ ٌ‬
‫عىل الوجه اآليت‪:‬‬
‫أهل اجلنة ال يطرأ يف باهلم أن َيرجوا من اجلنة بإرادهتم ورغبتهم‪ ،‬وملا‬
‫إخراجهم غصب ًا‪ ،‬فقد نفى اهلل تعاىل وجود أي‬
‫َ‬ ‫بقي وهم إمكان أن يوجد من يريد‬

‫أحد يمكن أن يقوم بإخراج أهل اجلنة من اجلنة‪{ :‬وما هم منها بمخرجني}‪.‬‬
‫أما (خارجون) ُّ‬
‫فتدل عىل أهنم يريدون أن ََيرجوا بأنفسهم وإرادهتم‪،‬‬

‫ولذلك جاء يف القرآن يف حق الكفار‪{ :‬وما هم بخارجني من النار}‪{ ،‬وما هم‬

‫بخارجني منها}‪.‬‬

‫قال‪( :‬ولو قال مرة‪{ :‬وما هم منها بمخرجني}‪ ،‬يف حق الكفار؛ النقطع‬
‫األمل)‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫وقال‪ :‬إن هذا الفرق مما هداه اهلل تعاىل إليه‪ ،‬ومل يسبق إليه‪ ،‬إنَّم هو من‬
‫اجتهاده!‪.‬‬
‫ثم سأل سؤاالً حاصله‪( :‬قد يورد بعضهم قوله تعاىل يف آخر اجلاثية‪:‬‬

‫ون ِمن َْها‬ ‫هلل هزو ًا َوغ ََّرتْكم َْ‬


‫احل َياة الدُّ ْن َيا َفا ْل َي ْو َم َال ْ‬
‫ُي َرج َ‬ ‫{ َذلِكم بِ َأنَّكم َّاَّت َْذتم آي ِ‬
‫ات ا َِّ‬ ‫ْ َ‬
‫ون}(‪ ،)19‬وفيها ورد بأن الكفار ال َُيرجون من النار‪ ،‬فبطل إذن‬
‫َو َال ه ْم ي ْس َت ْعتَب َ‬
‫ِ‬
‫الفرق)‪.‬‬ ‫اعتمدت عليه من‬
‫َ‬ ‫ما‬
‫وأجاب‪( :‬يف آخر اجلاثية؛ منع اهلل تبارك وتعاىل أهنم َُيرجون منها‪ ،‬لكن‬

‫ق ّيده باليوم‪{ :‬فاليوم ال ُيرجون} أمل أقل لكم هذا كالم احلق‪ ،‬ال إله إال هو‪،‬‬
‫(فاليوم)‪ ،‬ملاذا قال‪( :‬فاليوم) تعرفون ملاذا؟!‪ ،‬ألنه يبدو واهلل تبارك وتعاىل ـ وهو‬
‫أرحم الرامحني؛ وخري الغافرين ـ أعلم وأحكم‪ ،‬أن عذاب كل من دخل النار‪ ،‬من‬
‫هؤالء الكافرين واملرشكني هو يوم‪ ،‬لكن هذا اليوم؛ كَّم قال بن القيم ـ ابن القيم‬
‫قال هذا ـ هذا اليوم؛ قدّ رته نصوص صحيحة‪ ،‬بخمسني ألف سنة‪ ،‬ورد عن‬
‫رسول اهلل‪ ،‬أن هذا اليوم مخسون ألف سنة‪ ،‬يساوي مخسني ألف سنة‪ ،‬انتهى هذا‬
‫هو‪.‬‬
‫يوم ال أكثر من ذلك‪ ،‬ملاذا؟‪ ،‬ملاذا أضاف اهلل العذاب إىل يوم؟‪ ،‬فكأن اهلل‬
‫يرسل إلينا رسالة من وراء وراء؛ يقول‪ :‬عذاب هؤالء؛ ال جياوز يوم ًا من أيامي‪،‬‬
‫إما أن يكون هذا اليوم ـ وهذا األرجح كَّم قدرته النصوص الصحيحة أحاديث‬

‫‪101‬‬
‫الصحاح عن رسول اهلل ـ يساوي مخسني ألف سنة‪ ،‬ـ وهذا يشء خميف جد ًا ـ‪،‬‬

‫وإما أن يكون يوم ًا من أيام اهلل‪{ :‬إن يوم ًا عند ربك؛ كألف سنة مما يعدون})‪.‬‬
‫يريد أن يقول‪ :‬إنكم اليوم ال ُخترجون من النار‪ ،‬ولكن غد ًا أنا أخرجكم‬
‫منها‪ ،‬هكذا يفهم عدنان إبراهيم هذا النص‪.!!...‬‬

‫وقال د‪ .‬عدنان عن أهل اجلنة‪( :‬إن اهلل مل يؤمنهم من يشء‪ ،‬لن يفعلوه‬
‫أبد ًا‪ ،‬أي‪ :‬أن َُيرجوا‪ ،‬ولكن أمنهم مما َيافون‪َ ،‬يافون من ماذا؟‪ ،‬أن َُيرجوا كَّم‬
‫قال جهم بن صفوان‪ ،‬أو أن يفنَوا يفنيهم اهلل‪ ،‬أو كَّم قال أبو اْلذيل العالم تنعدم‬
‫حركاهتم‪ ،‬ويصبحون كالعدم‪.‬‬
‫قال اهلل ْلم‪ :‬أنا أمنتكم من أن أخرجكم‪ ،‬لن تتعلق إراديت ومشيئتي يوم ًا؛‬
‫من األبد والدهر؛ أن أخرجكم منها‪ ،‬اهلل أكرب؛ ما أعظم كرم اهلل‪ ،‬وسكت اهلل عن‬

‫خرجني} لئال يقطع هذا األمل‪،‬‬


‫أن يقول يف حق أهل النار‪{ :‬وما هم منها بم َ‬
‫ملن تدبر يف كتاب اهلل‪ ،‬كأنه يقول نعم ـ وال نفرتي عىل اهلل الكذب ـ سيأيت يوم أنا‬
‫أخرجكم منها)‪.)21:40( ،‬‬
‫اجلواب‪ :‬ال ا‬
‫شك يف إدراك وجود هذا الفرق بني ُخم ْ َرجني وخارجني‪ ،‬من‬
‫حيث اللغة‪ ،‬وهذا ال حيتاج إىل تأمل عظيم‪ ،‬فأي دارس للغة العربية؛ يدركه‬
‫بمجرد النظر والتأمل‪ ،‬وال يتوقف علمه عىل فتوحات خاصة‪ ،‬كَّم توهم‬
‫صاحبنا!‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫فالفرق بني (خرج) املسند للفاعل‪ ،‬و(أ ِ‬
‫خرج) املسند للمفعول‪ ،‬واضح‬
‫ظاهر كالشمس‪ ،‬فال داعي للمبالغة يف إظهار ذلك‪ ،‬وكأنه وقع عىل نكتة خفية؛ ال‬
‫يدركها إال املتعمقون املدققون‪.‬‬
‫ولكنا نقول له‪ :‬لو تأملنا قلي ً‬
‫ال زيادة عىل تأملك‪ ،‬لعرفنا أن صيغة‪:‬‬
‫(خمرجني)‪ ،‬تتضمن نوع ًا من القرس؛ الواقع عىل إرادة الذي يتسلط عليه اإلخراج‪،‬‬
‫ولكن صيغة‪( :‬خارجني) املشتقة من خرج‪ ،‬تطلق عىل من خرج بإرادته‪ ،‬أو صدق‬
‫عليه فعل اخلروج؛ ولو قرس ًا‪.‬‬
‫خارج‪ ،‬فمن وقع عليه اإلخراج‬
‫ٌ‬ ‫وذلك ألننا نقول‪ :‬أخرجتك؛ فأنت‬
‫َيرج‪ ،‬ومن َيرج؛ فهو خارج‪ ،‬ويبقى الكالم بعد ذلك‪ :‬عىل أن اخلروج هل هو‬
‫بإرادته؛ أو قرس ًا عنه‪ ،‬حيتاج إىل قرينة؟!‪.‬‬
‫فلو تسلط النفي عىل (خارجني) الستلزم ذلك نفي كوهنم خارجني‬
‫مطلق ًا‪ ،‬سواء كانوا خارجني بإرادهتم‪ ،‬أم كانوا خارجني غصب ًا عنهم‪.‬‬

‫يعني لو نظرنا يف قوله تعاىل‪{ :‬وما هم بخارجني من النار}‪ ،‬الستلزم‬


‫نفي اخلروج بإرادهتم‪ ،‬إنكم ال َخت ُرجون منها‪ ،‬بإرادتكم‬
‫ذلك بالرضورة؛ َ‬
‫ورغبتكم‪ ،‬ويستلزم أيض ًا‪ :‬نفي وقوع اإلخراج عليهم‪ ،‬أي‪ :‬وال َيرجكم أحدٌ‬
‫منها‪.‬‬
‫أما لو تسلط النفي عىل اإلخراج‪ ،‬الذي يشتق منه أخرج‪ ،‬وخم َرج‪ ،‬ملا‬
‫استلزم ذلك نفي خروجهم من حيث الصيغة‪ ،‬بل يتضمن فقط نفي اإلخراج من‬

‫‪103‬‬
‫الغري‪.‬‬

‫فلو تأملنا يف قوله تعاىل‪َ { :‬و َما هم ِّمن َْها بِمخْ َر ِج َ‬


‫ني}‪ ،‬لعرفنا أن النفي إنَّم تسلط‬
‫عىل اإلخراج‪ ،‬الذي اشت اُق منه اسم املفعول‪( :‬خم َرج) املأخوذ من الفعل املتعدي‬
‫(أخرج) ‪ ،‬ال يقع عليكم فعل اإلخراج من غريكم‪ ،‬وهذا استلزم ذلك؛ إال نفي‬
‫قرسهم عىل اخلروج‪.‬‬
‫إن كل من أخرج؛ فال شك أنه خارج يف هناية املطاف‪.‬‬
‫فكل من خترجه من الغرفة َيرج منها‪ ،‬قرس ًا‪ ،‬أو رغبة منه‪.‬‬
‫فاإلخراج يستلزم اخلروج‪ ،‬غاية األمر‪ :‬أن اخلروج املنفي يف اإلخراج‬
‫املفرتض يف حالة الكفار؛ ال يكون بدء ًا منهم؛ بإرادهتم‪ ،‬واختيارهم‪ ،‬بل بإرادة‬
‫الواحد القهار‪.‬‬
‫ولكن لو سألنا أنفسنا‪ :‬هل إذا قال هلم اهلل تعاىل‪ ،‬لقد انتهت فرتة عذابكم‪،‬‬
‫التي هي اليوم عندك‪ ،‬هل تراهم حيتاجون إلخراج مضاد إلرادهتم‪ ،‬أم تراهم‬
‫يتسارعون يف اخلروج منها‪ ،‬بعد السَّمح هلم بذلك‪ ،‬وتيسري السبل؟!‪.‬‬
‫هل يد ُّعون دع ًا؛ عند اإلخراج؟‪ ،‬أم تراهم َيرجون بإرادهتم بعدما كانوا‬

‫ممنوعني من اخلروج‪ ،‬الذي كانوا يتوقون إليه دائ ًَّم‪ ،‬وحياولونه مرار ًا؟‪{ ،‬ك َّل ََم‬

‫يق}‪،‬‬ ‫احل ِر ِ‬
‫اب َْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َأ َرادوا َأن َ ْ‬
‫ُيرجوا من َْها م ْن غَ يم أعيدوا ف َيها َوذوقوا َع َذ َ‬

‫ُيرجوا ِمن َْها‬


‫ين َف َسقوا َف َم ْأ َواهم النَّار ك َّل ََم َأ َرادوا َأن َ ْ‬ ‫ِ‬
‫(احلج‪َ { ،)44/‬و َأ َّما ا َّلذ َ‬

‫‪104‬‬
‫َّار ا َّل ِذي كنتم بِ ِه تك َِّذب َ‬
‫ون}‪،‬‬ ‫اب الن ِ‬ ‫أ ِعيدوا فِ َيها َو ِق َ‬
‫يل َْل ْم ذوقوا َع َذ َ‬
‫(السجدة‪.)40/‬‬
‫فالذي منعه عنهم؛ حصول اخلروج منهم مطلق ًا‪ ،‬وهذا يستلزم بالرضورة‬
‫عدم حصول اإلخراج‪ ،‬ألن اإلخراج يف حالتهم؛ يستلزم اخلروج اإلرادي‬
‫املرغوب فيه بالرضورة‪ ،‬والذي يطلق عليه اتفاق ًا‪ ،‬إهنم حال السَّمح هلم باخلروج‪،‬‬
‫فهم خارجون‪.‬‬
‫ولكنا نعلم أن اهلل تعاىل نفى عنهم أن يكونوا خارجني من النار‪.‬‬
‫إذن‪ :‬اإلخراج يستلزم اخلروج بالرضورة يف حالة الكفار‪ ،‬ألن بقاءهم يف‬
‫النار غري مرغوب هلم‪.‬‬
‫بخالف اإلخراج ـ لو وقع ـ للمؤمنني من اجلنة‪ ،‬فإنه سيستلزم بالرضورة‬
‫مضادة إرادهتم ورغبتهم واختيارهم‪ ،‬ألن بقاءهم فيها مرغوب فيه منهم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬يتبني لنا من هذا التحليل‪ ،‬أنه يدل عىل خالف ما يريد نايف بقاء النار‪.‬‬
‫يعني‪ :‬أن جمرد نفي اهلل تعاىل؛ حتقق كوهنم خارجني من النار‪ ،‬يستلزم‬
‫بالرضورة‪ ،‬نفي وقوع إخراجهم‪.‬‬
‫ألن احلاصل ألهل النار‪ ،‬ليس هو إخراج غريهم إ ّياهم‪ ،‬بل حماولتهم هم‬
‫اخلروج‪ ،‬فجاء النفي بصيغة الفاعل املفيدة للدوام االستمراري‪ ،‬لنفهم منها أن‬
‫نفي خروجهم من النار دائم‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫ففهم من ذلك عدم وقوع إخراج غريهم إياهم‪ ،‬وذلك بخالف النفي‬
‫املتعلق باملؤمنني‪ ،‬فقد جاء نفي كوهنم ُخمرجني‪ ،‬أي‪ :‬إن املنفي هو وجود أحد‬
‫يتدخل ويقرسهم عىل اخلروج‪ ،‬ضدّ رغبتهم البقاء يف اجلنة‪.‬‬
‫وليس ذلك‪ :‬ألهنم َيافون أن َيرجهم اهلل تعاىل‪ ،‬فإهنم آمنوا بوعده‬
‫وخربه‪ ،‬الذي ال يكذبه بأهنم خالدون فيها أبد ًا‪ ،‬وجمرد نفي املُ ِ‬
‫خرج يف حالة أهل‬
‫اجلنة‪ ،‬سيستلزم منا أن نفهم عد َم وجود اخلروج‪ ،‬ال لنفس الصيغة‪ ،‬بل ألن إرادة‬
‫اخلروج ال حتصل هلم ملا جيدونه من رغبة يف البقاء يف اجلنة‪ ،‬وشوق ومتسك هبا‬
‫عظيم‪.‬‬
‫بخالف ما جيده أهل النار الكفار‪ ،‬من كراهية‪ ،‬وخوف‪ ،‬ورغبة عنها‪ ،‬ويف‬
‫اخلروج منها‪.‬‬
‫فاالحتَّمل الوحيد؛ ألن َيرجوا من النار‪ ،‬إنَّم هو وجود نصري هلم من‬
‫دون اهلل تعاىل‪ ،‬وهو غري موجود‪ ،‬أو أن حياولوا اخلروج بأنفسهم‪ ،‬وسيحاولون‬
‫ذلك مرار ًا‪ ،‬ولكنهم كلَّم أردوا اخلروج منها‪ ،‬أعيدوا فيها‪.‬‬
‫تم أيض ًا نفي كوهنم خارجني من النار‪ ،‬أال يكفي ذلك إلفادة بقائهم‬
‫فإذا ا‬
‫فيها؟‪ ،‬وقطع احتَّمل إخراجهم منها أيض ًا؟‪ ،‬عند أهل العقل‪ ،‬والتدبر‬
‫الصحيح؟!‪.‬‬
‫هذا هو التعليل الالئق بالقرآن‪ ،‬وهو امل اط ِر ُد مع قواعد اللغة ولطائفها‪،‬‬
‫نفسه قلي ً‬
‫ال لدركها‪ ،‬ال أن يكتفي بسوق‬ ‫التي كان ينبغي بالدكتور عدنان أن جيهد َ‬

‫‪106‬‬
‫القدر الذي يعرفه من قواعد اللغة‪ ،‬ويقرسها قرس ًا‪ ،‬ويلوي أعناقها‪ ،‬للوصول إىل‬
‫ما يرغب بالوصول إليه! ولو بالتعنت والتحكم!‪.‬‬
‫وإذا بطل ما متسك به من الفرق بني الكلمتني‪ ،‬وظهر أن النفي الوارد‬
‫يبق علينا إال أن نبني فائدة ذكر اليوم يف‬
‫عليهَّم يدل عىل خالف ما أراده هلَّم‪ ،‬مل َ‬

‫ُي َرجو َن ِمن َْها}‪.‬‬


‫قوله تعاىل‪َ { :‬فا ْل َي ْو َم َال ْ‬

‫‪107‬‬
‫بيان فائدة ذكر اليوم‬
‫جاء يف سورة اجلاثية ذكر اليوم؛ ويف غريها‪ ،‬ويف أغلب املواضع يراد به‬
‫اليوم اآلخر‪ ،‬الذي ال يوم بعده‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫منها قوله تعاىل‪َ { :‬وت ََرى ك َّل أ َّمة َجاث َي ًة ك ُّل أ َّمة تدْ َعى إِ َىل كت ِ َ‬
‫َاِّبا ا ْل َي ْو َم‬

‫َنساك ْم ك َََم ن َِسيت ْم لِ َقاء‬ ‫ون}‪( ،‬اجلاثية‪َ { ،)40‬و ِق َ‬


‫يل ا ْل َي ْو َم ن َ‬ ‫َْتز َْو َن َما كنت ْم َت ْع َمل َ‬

‫ين}‪( ،‬اجلاثية‪ ،)12/‬وهاتان‬ ‫َي ْو ِمك ْم َه َذا َو َم ْأ َواك ْم النَّار َو َما َلكم ِّمن ن ِ ِ‬
‫َّاِص َ‬
‫اآليتان يف اجلاثية أيض ًا‪ ،‬فهل يستفاد منهَّم؛ أن اهلل تعاىل سيتذكر الكفار غد ًا‪،‬‬
‫وسيكون هلم غد ًا نارصون ينرصوهنم؟!‪.‬‬
‫وقد أطلق يف اآلية؛ ويف غريها‪ ،‬أهنم ال جيزون إال ما كانوا يعملون‪ ،‬أي‪:‬‬
‫ما كانوا يعملون يف الدنيا‪ ،‬ال بَّم يلقونه من العذاب يف اآلخرة‪.‬‬
‫فكيف يشري القائل بالنار إىل أن الكفار؛ ربَّم سيؤول هبم األمر إىل‬
‫الدخول يف اجلنة!‪ ،‬وما دام املراد من اليوم هو‪( :‬اليوم اآلخر)‪ ،‬فكيف تسنى من‬
‫ذكر اليوم أن يفهم د‪ .‬عدنان بوجود يوم بعد ذلك اليوم‪َ ،‬يرجهم اهلل تعاىل فيه من‬
‫النار‪ ،‬فاليوم اآلخر يطلق عىل الفرتة املمتدة؛ منذ بدء يوم القيامة‪ ،‬إىل ما ال هناية‬
‫له‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ين الَ ي ْؤ ِمن َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هلل‬
‫ون َما َح َّر َم ا ه‬ ‫ون بِاهللهِ َوالَ بِا ْل َي ْو ِم اآلخ ِر َوالَ َ‬
‫ُي ِّرم َ‬ ‫{ َقاتلو ْا ا َّلذ َ‬
‫َاب َحتَّى ي ْعطو ْا ِْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون ِدين َْ ِ‬ ‫ِ‬
‫اجل ْز َي َة َعن َيد‬ ‫ين أوتو ْا ا ْلكت َ‬ ‫احل ِّق م َن ا َّلذ َ‬ ‫َو َرسوله َوالَ َيدين َ َ‬
‫ون بِاهللهِ وا ْليو ِم ِ‬
‫اآلخ ِر‬ ‫ين ي ْؤ ِمن َ‬ ‫ون}‪( ،‬التوبة‪{ ،) 45/‬الَ يست َْأ ِذن َ ِ‬ ‫وهم ص ِ‬
‫َ َْ‬ ‫ك ا َّلذ َ‬ ‫َْ‬ ‫اغر َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫‪108‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َأن ِ‬
‫ني}‪( ،‬التوبة‪ ،)22/‬وإذا كان اليوم‬ ‫َياهدو ْا بِ َأ ْم َواْل ْم َو َأنفس ِه ْم َواهلله َعل ٌ‬
‫يم بِاملْتَّق َ‬ ‫َ‬
‫اآلخر‪ ،‬فال يوم بعده‪ ،‬فيبطل أصل الوهم الذي تعلق به عدنان إبراهيم تبع ًا البن‬
‫قيم اجلوزية‪.‬‬

‫ون بِ َع ْه ِد اهللهِ‬ ‫ِ‬


‫ويسمى أيض ًا يف القرآن بيوم القيامة‪{ :‬إِ َّن ا َّلذ َ‬
‫ين َي ْش ََت َ‬
‫اآلخ َر ِة‪َ ،‬والَ ي َك ِّلمهم اهلله‪َ ،‬والَ َينظر‬
‫ك الَ َخال ََق َْلم ِِف ِ‬
‫ْ‬
‫ال‪ ،‬أو َل ِ‬
‫ـئ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َأ ْي ََم َِّن ْم َث َمن ًا َقلي ً ْ‬

‫يم}‪( ،‬آل عمران‪ ،)33/‬فتأمل‬‫ِ‬ ‫إِ َل ْي ِه ْم َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة‪َ ،‬والَ ي َز ِّك ِ‬


‫اب َأل ٌ‬
‫يه ْم َو َْل ْم َع َذ ٌ‬
‫كيف رصح هنا؛ أنه ال يزكي الكفار‪ ،‬ثم يطلب منا‪ ،‬أن نسلم ملن جيتهد‪ ،‬فيقول إنه‬
‫يطهر الكفار من كفرهم وذنوهبم‪ ،‬حتى يرىض عنهم‪ ،‬فأين يصري هبم بعد‬
‫صريورهتم طيبني اجلنة؟!‪.‬‬
‫ِ‬
‫يتلوم عدان إبراهيم هنا قوله تعاىل‪َ { :‬س َال ٌم َع َل ْيك ْم ط ْبت ْم َفا ْدخل َ‬
‫وها‬

‫ين}‪( ،‬الزمر‪ ،)31/‬فاهلل تعاىل يقول‪( :‬وال يزكيهم)‪ ،‬وعدنان إبراهيم‬ ‫ِِ‬
‫َخالد َ‬
‫يقول‪( :‬يطهرهم من خبث ودنس ونجاسة الرشك والكفر واملعصية)‪ ،‬واجلنة ال‬
‫يدخلها إال طيب‪ ،‬وقد صاروا طيبني اآلن‪ ،‬بعد ختليصهم من الدنس والرشك‬
‫والكفر وبعد تطهريهم!‪.‬‬

‫ك‪َ ،‬أ ْو‬‫ون إِالَّ َأن ت َْأتِيهم املَْآلئِكَة‪َ ،‬أ ْو َي ْأ ِ َِت َر ُّب َ‬
‫واهلل تعاىل يقول‪َ { :‬ه ْل َينظر َ‬
‫ك‪ ،‬يوم ي ْأ ِِت بعض آي ِ‬ ‫ِ‬
‫َت‬‫ات َر ِّب َك؛ الَ َين َفع َن ْفس ًا إِ َيَمَّنَا ََل ْ تَك ْن َآمن ْ‬ ‫َ‬ ‫َي ْأ ِ َِت َب ْعض آ َيات َر ِّب َ َ ْ َ َ َ ْ‬

‫ون}‪( ،‬األنعام‪،)390/‬‬ ‫ت ِِف إِ َيَم َِّنَا َخ ْري ًا‪ ،‬ق ِل انتَظِرو ْا إِنَّا منتَظِر َ‬
‫ِمن َق ْبل‪َ ،‬أ ْو ك ََس َب ْ‬

‫‪109‬‬
‫نص يف أن اإليَّمن والتطهر املزعوم؛ نتيجة التعذيب بالنار‪ ،‬ال ينفع؛ أي‪:‬‬
‫وهذا ٌّ‬
‫نفس مل تكن آمنت من قبل يف احلياة الدنيا‪.‬‬
‫ال يقول‪ :‬بل ينفعها‪ ،‬وال يعود هناك دا ٍع هلل لكي يعذهبم‪،‬‬
‫فَّم بالنا نسمع قائ ً‬
‫ألنه إنَّم يعذهبم ألجل الكفر والفساد‪ ،‬الذي يتلبسون به‪ ،‬وقد زال عنهم‪ ،‬فال بدا‬

‫السا َعة ي ْبلِس‬


‫نم دخوهلم اجلنة بعد ذلك! سبحان اهلل!‪َ { ،‬و َي ْو َم تَقوم َّ‬
‫ون}‪( ،‬الروم‪ ،)34/‬أي ينقطع رجاؤهم النقطاع حجتهم‪.‬‬
‫املْ ْج ِرم َ‬
‫ولكن صاحبنا يقول إن الرجاء موجود وأكيد‪ ،‬ولو بال حجة هلم‪.‬‬

‫اب}‪( ،‬ص‪،)35/‬‬ ‫وقوله‪{ :‬و َقالوا ربنَا عجل َّلنَا ِق َّطنَا َقب َل يو ِم ِْ‬
‫احل َس ِ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َ َّ َ ِّ‬ ‫َ‬
‫ِق َّطنا‪ :‬أي الكتاب‪ ،‬والقط‪ :‬الصحيفة التي أحصت كل يشء‪ ،‬يطلبون التعجيل قبل‬
‫يوم احلساب لينتهوا منه‪ ،‬ألن احلساب بعده عذاب؛ ال هناية له‪.‬‬
‫وقد يضاف اليوم اآلخر؛ لبعض ما حيصل فيه‪ ،‬كيوم احلساب‪ ،‬ويوم‬
‫التغابن‪ ،‬ويوم اخلروج‪ ،‬ويوم اخللود‪ ،‬ويوصف بأنه يوم مقيم وعظيم وحميط‬
‫وعقيم أي ال يوم بعد وال ليل‪.‬‬

‫اش َع ًة َأ ْب َصاره ْم ت َْر َهقه ْم ِذ َّل ٌة َذلِ َ‬


‫ك ا ْل َي ْوم‬ ‫وجاء يف الكفار معرف ًا بالالم‪َ { :‬خ ِ‬

‫يم}‪،‬‬‫ِ‬ ‫ا َّل ِذي كَانوا يو َعد َ‬


‫ون}‪( ،‬املعارج‪َ { ،)22/‬ف َل ْي َس َله ا ْل َي ْو َم َهاهنَا َمح ٌ‬
‫(احلاقة‪ ،)19/‬فهل يعني هذا؛ أن له غد ًا محيم‪ ،‬أي‪ :‬قريب ينتفع به‪ ،‬وقوله تعاىل‪:‬‬

‫‪110‬‬
‫ين َك َفروا َال َت ْعت َِذروا ا ْل َي ْو َم إِن َََّم َْتز َْو َن َما كنت ْم َت ْع َمل َ‬
‫ون}‪،‬‬ ‫ِ‬
‫{ َيا َأ ُّ ََيا ا َّلذ َ‬
‫(التحريم‪ ،)3/‬فهل يعني ذلك اعتذروا غدا ال اليوم‪.‬‬

‫وح إِ َل ْي ِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫َتى َع َىل اهللهِ كَذب ًا َأ ْو َق َال أ ْوح َي إِ َ َّيل َو ََل ْ ي َ‬
‫ِ‬
‫وقوله‪َ { :‬و َم ْن أ ْظ َلم مم َّ ِن ا ْف َ َ‬
‫َ‬
‫ات املَْو ِ‬ ‫ون ِِف غَمر ِ‬ ‫َزل اهلله َو َل ْو ت ََرى إِ ِذ ال َّظامل ِ َ‬ ‫ش ٌء َو َمن َق َال َسأ ِنزل ِم ْث َل َما َأن َ‬
‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ََ‬ ‫َ ْ‬
‫اب ْاْل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون بِ ََم كنت ْم‬ ‫َوا َْملآلئكَة َباسطو ْا َأ ْيدَيِ ْم َأ ْخ ِرجو ْا َأنف َسكم ا ْل َي ْو َم َْتز َْو َن َع َذ َ‬

‫احل ِّق َوكنت ْم َع ْن آ َياتِ ِه ت َْس َتك ِْرب َ‬


‫ون}‪( ،‬األنعام‪ ،)51/‬هل‬ ‫ون َع َىل اهللهِ غَ ْ َري َْ‬
‫تَقول َ‬
‫يقال‪ :‬إهنم اليوم جيزون عذاب اهلون‪ ،‬وغد ًا َيرجون منها فأين يدخلون!!‪.‬‬

‫وقوله‪َ { :‬ب ْل هم ا ْل َي ْو َم م ْست َْسلِم َ‬


‫ون}‪( ،‬الصافات‪ ،)45/‬هل يعني أهنم‬
‫غد ًا غري مستسلمني؟!‪.‬‬
‫وهذا ونحوه من الصيغ الوارد ختالف فهم د‪ .‬عدنان عندما اعتمد عىل‬
‫مفهوم املقابلة يف كالمه السابق‪.‬‬

‫ون ِمنْ َها‪َ ،‬و َال ه ْم ي ْس َت ْعتَبون}‪،‬‬ ‫وذلك يف قوله تعاىل‪َ { :‬فا ْل َي ْو َم َال ْ‬
‫ُي َرج َ‬
‫(اجلاثية‪ ،)19/‬حيث اعتمد عىل مفهوم املخالفة من ذكر اليوم‪ ،‬بافرتاض وجود‬
‫غد ًا َيرجون فيه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقوله تعاىل‪َ { :‬فا ْل َي ْو َم َال َي ْملك َب ْعضك ْم ل َب ْعض؛ َّن ْفع ًا َو َال َ ه‬
‫َض ًا‪َ ،‬ونَقول‬

‫َّار ا َّلتِي كنتم ِ َِّبا تك َِّذب َ‬


‫ون}‪( ،‬سبأ‪ ،)24/‬هل يصح‬ ‫اب الن ِ‬
‫ين َظ َلموا ذوقوا َع َذ َ‬
‫ِ ِ‬
‫ل َّلذ َ‬
‫أن نستنتج منه؛ أن غد ًا يملك بعضهم لبعض نفع ًا‪ ،‬أو رض ًا‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫احد ًا؛ َوا ْدعوا ثبور ًا كَثِري ًا}‪،‬‬
‫وقوله‪َ { :‬ال تَدْ عوا ا ْليوم ثبور ًا و ِ‬
‫َ‬ ‫َْ َ‬
‫(الفرقان‪ ،)32/‬هل يفيدهم أن هلم غد ًا أن يدعوا ثبور ًا واحد ًا فقط‪.‬‬

‫ون}‪( ،‬املؤمنون‪ ،)59/‬هل‬ ‫وقوله‪َ { :‬ال َ ْجت َأ ُروا ا ْل َي ْو َم إ انكُم ِّمناا َال ت َ ُ‬
‫ُنرص َ‬ ‫ِ‬

‫يفيد الكفار؛ وال شقي ًا‪ ،‬أهنم إن جأروا غدا فإهنم س ُينرصون؟!‪ ،‬أو أن اهلل لن‬
‫ينرصهم اليوم‪ ،‬بل سينرصهم بعد ذلك اليوم‪ ،‬الذي ال بعدَ له‪ ،‬إذ هو آخر‪.‬‬

‫ُص؛ َي ْو َم َي ْأتو َننَا‪َ ،‬لكِ ِن ال َّظامل ِ َ‬


‫ون ا ْل َي ْو َم ِِف‬ ‫َ ِ‬ ‫َ ِ‬
‫وقوله تعاىل‪{ :‬أ ْسم ْع ِِّبِ ْم َوأ ْب ْ‬
‫َض َالل ُّمبِني}‪( ،‬مريم‪ ،)10/‬يفيد عىل طريقته يف التحقيق؛ أن الظاملني غد ًا ليسوا‬
‫يف ضالل مبني‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫وقوله‪{ :‬ث َّم َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة ْ‬
‫ين كنت ْم‬‫ْشكَآئ َي؛ ا َّلذ َ‬ ‫ُي ِزَيِ ْم‪َ ،‬و َيقول‪ :‬أ ْي َن َ‬
‫يهم؟!‪َ ،‬ق َال ا َّل ِذين أوتو ْا ا ْل ِع ْلم‪ :‬إِ َّن ِْ‬ ‫ت َشا ُّق َ ِ‬
‫وء‪َ ،‬ع َىل‬
‫ْي ا ْل َي ْو َم؛ َوا ْل ُّس َ‬
‫اْلز َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ون ف ِ ْ‬
‫ين}‪( ،‬النحل‪ ،)43/‬فهل سيكون اخلزي غد ًا عىل املؤمنني!‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ا ْلكَاف ِر َ‬

‫ف َع َل ْيكم ا ْل َي ْو َم َو َال َأنت ْم‬ ‫وقوله تعاىل ِف املؤمنني‪{ :‬يا ِعب ِ‬


‫اد َال َخ ْو ٌ‬ ‫َ َ‬

‫ون}‪( ،‬الزخرف‪ ،)50/‬هل نفهم من ذلك‪ ،‬عىل طريقته املقرتحة‪ ،‬أهنم ال‬
‫َ َْتزَن َ‬
‫َيافون وال حيزنون اليوم؟!‪ ،‬بل َيافون وحيزنون غد ًا؟!‪.‬‬

‫تأمل قول أصحاب اجلنة الذين؛ ابتالهم اهلل إذ قالوا‪{ :‬فانطلقوا وهم‬

‫يتخافتون‪ ،‬أن ال يدخلنها اليوم عليكم مسكني}‪ ،‬فهل تراهم أرادوا ال يدخلنا‬
‫اليوم مسكني‪ ،‬بل يدخلها غد ًا!‪ ،‬أم أرادوا اليوم وغدا وهكذا بال انقطاع!‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫قال َمازف ًا‪( :‬قال العالمة ابن القيم ـ رمحه اهلل تعاىل ـ يف حادي األرواح‪:‬‬
‫وجدنا أن اهلل تبارك وتعاىل يف كتابه؛ كلَّم أوعد هؤالء الكافرين‪ ،‬والشاردين‪،‬‬
‫واملرشكني؛ بعذاب اآلخرة ـ أهيا اإلخوة ـ ويف مواضع كثرية جعله مضاف ًا إىل يوم‪،‬‬
‫فهو‪( :‬عذاب يوم عظيم)‪( ،‬يوم عقيم)‪( ،‬يوم أليم)؛ ملاذا يوم‪ ،‬يوم‪ ،‬يوم؟!‪ ،‬أنظر‬
‫أنظر‪ ،‬هذا من حسن تدبره رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬قال‪ :‬ومل نجد اهلل تبارك وتعاىل مرة‬
‫واحدة؛ جعل نعيم أهل اجلنان نعيم يوم‪ ،‬وال مرة‪ ،‬وال مرة‪ ،‬أضاف النعيم إىل‬
‫يوم)‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫اجلن َِّة ا ْل َي ْو َم ِِف شغل‬
‫نقد تأويله املعارض َة بقوله تعاىل‪{ :‬إِ َّن َأ ْص َحا َب َْ‬

‫َفاكِه َ‬
‫ون}‪( ،‬يس‪.)55/‬‬

‫لكن أهنم {اليوم ِف شغل فاكهون} هذا ليس إضافة النعيم إىل‬
‫الصنعاين ـ أنا قرأت رده طبع ًا ـ‪ ،‬هنا‬
‫ه‬ ‫اليوم‪...‬انتبهوا‪ ،‬وهنا أخطأ العالمة األمري‬
‫كبا به جواده‪ ،‬كبا به جواد التبيان والدليل مل يصب املحز‪ ،‬قال هنا‪ :‬اهلل قال نفس‬
‫اليشء‪ ،‬أن أصحاب اجلنة اليوم يف شغل فاكهون‪ ،‬فرق كبري بني أن يكون اليوم يف‬
‫شغل؛ وغد ًا يف شغل‪ ،‬وبعد غد يف شغل‪ ،‬وإىل أبد األبيد؛ يف شغل‪ ،‬وبني أن جيعل‬
‫الصنعاين أخطأ رمحة اهلل عليه‪ ،‬نعم لكل جواد‬
‫ه‬ ‫نعيمهم؛ نعيم يوم‪ ،‬انتبهوا هنا‬
‫كبوة‪ ،‬ويبقى كالم ابن القيم عىل اجلادة‪ ،‬يبقى قوي ًا ظاهر ًا‪ ،‬ملاذا أضاف اهلل العذاب‬
‫إىل يوم؟‪ ،‬فكأن اهلل يرسل إلينا رسالة من وراء وراء‪ ،‬يقول عذاب هؤالء ال جياوز‬
‫يوم ًا من أيامي)‪.‬‬
‫نقول له‪ :‬إنَّم أضاف اهلل تعاىل العذاب إىل اليوم‪ ،‬وقد عرفنا أن املراد باليوم‬
‫اليوم اآلخر‪ ،‬وهو لقب ال مفهوم له‪ ،‬ألن العذاب واقع يف اليوم اآلخر‪ ،‬ومعلوم‬
‫أن خالق العذاب هو اهلل تعاىل‪ ،‬وهو عذاب اهلل‪ ،‬وإذا ربط العذاب بيوم وكان‬
‫ذلك اليوم مقيَّم‪ ،‬وغراما وعقيَّم ال يوم بعده‪ ،‬فمن أين يفهم من إضافة العذاب‬
‫لليوم أن العذاب يكون مدة يوم واحد فقط!‪ ،‬من بني أيام أخرى بعده‪ ،‬ال يكون‬
‫فيها عذاب‪ ،‬مل ال يكون العذاب مضاف ًا لليوم اآلخر‪ ،‬الذي ال يوم بعده‪ ،‬كَّم هو‬
‫ظاهر‪ ،‬مما يستلزم بقاء العذاب‪ ،‬وعدم توقيته بالفرتة املقرتحة‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫وأيض ًا؛ فاليوم قد يطلق‪ ،‬ويراد به مطلق الزمان‪ ،‬قل‪ ،‬أو كثر من ليل‪ ،‬أو‬
‫فلم تفرتض أن اليوم‬
‫هنار‪ ،‬كَّم ذكره السمني احللبي يف عمدة احلفاظ (‪َ ،)195/2‬‬
‫يراد يوم واحد معني منقطع‪ٍ ،‬‬
‫منته‪ ،‬دون هذا املعنى‪.‬‬

‫اجلن َِّة ا ْل َي ْو َم ِِف شغل َفاكِه َ‬


‫ون}‪( ،‬يس‪ ،)99/‬واملراد‬ ‫ـ {إِ َّن َأ ْص َح َ‬
‫اب َْ‬

‫باليوم هنا يوم القيامة أيض ًا‪ ،‬بطوله‪ ،‬ومع حلاظ عدم انقطاعه‪ ،‬وهذا نص رصيح‬
‫ذكر!؟ واملراد باليوم هنا يوم‬
‫واضح يف خالف ما زعمه‪ ،‬وإن حاول تأويله بَّم َ‬
‫القيامة‪ ،‬أي اليوم اآلخر‪ ،‬الذي هو علم والعلم ال مفهوم له‪ ،‬وال يوم بعدَ ه‪ ،‬وقد‬
‫بني األعالم املفرسون من السلف‪ ،‬أن الش ُغل هو النعيم‪ ،‬كَّم روي عن َماهد؛‬

‫واحلسن‪ ،‬قال البيضاوي‪{( :‬إِ َّن أصحاب اجلنة اليوم ِف شغل فاكهون}‬

‫متلذذون يف النعمة من الفكاهة‪ ،‬ويف تنكري {شغل} وإهبامه تعظيم ملا هم فيه‬
‫من البهجة والتلذذ‪ ،‬وتنبيه عىل أنه أعىل ما حييط به األفهام ويعرب عن كنهه‬

‫الكالم‪ ،‬وقرأ ابن كثري‪ ،‬ونافع‪ ،‬وأبو عمرو {ِف شغل} بالسكون)‪.‬‬
‫لش ُغل‪ :‬العارض‬
‫الش ْغل؛ وا ُّ‬
‫وقد جاء يف املفردات للراغب األصفهاين‪ ( :‬ا‬
‫الذي ُيذهل اإلنسان‪( ،‬إن أصحاب اجلنة اليوم ِف شغل فكهون)‪ ،‬و ُقرئ‪ُ :‬ش ْغل‪،‬‬
‫ٌ‬
‫مشغول)‪ ،‬وهلذا املعنى فقد ورد عن السلف تفسريهم هذه اآلية‪:‬‬ ‫وقد ُش ِغ َل فهو‬
‫يف شغل؛ عَّم يلقى ُ‬
‫أهل النار‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫ا‬
‫املعذبني يف النار‬ ‫وقال السمني احللبي‪( :‬أي يف تشاغل عن أهليهم‬
‫ينسوهنم فال يذكروهنم‪ ،‬وقيل‪ :‬يف اشتغال باللذات عكس حال أهل الدنيا‪ ،‬فإن‬
‫َ‬
‫شغلهم يف كد الدنيا وتعبها‪ ،‬وال لذة منها إال بعد مشقة السعي يف حتصيلها)‪.‬‬
‫فظهر أن التأويل الذي اقرتحه هلذه اآلية ليهرب من معارضتها ملا اخرتعه‬
‫من داللة فائدة اليوم مبني عىل تصوره أن اآلية تتحدث عن فرتة زمانية معينة‪،‬‬
‫وهي يف احلقيقة تتكلم عن وصف أحوال أهل اجلنة يف اليوم اآلخر‪ ،‬اخلالد‪ ،‬وإن‬
‫أمكن إطالق األيام عىل فرتات منه‪ ،‬ولكنه بمجمله يوم واحد كَّم نالحظ يف‬
‫القرآن‪ ،‬واحلكم تعلق به من اجلهة األوىل‪ ،‬ال من حيث اشتَّمله عىل فرتات كثرية‬
‫متوالية ال إىل هناية‪ ،‬فإن إطالق اليوم مستغرق جلميع أجزائه‪.‬‬
‫خالصة‪ :‬بعد هذه اجلولة يف القرآن العظيم‪ ،‬الستعَّمالت اليوم اآلخر‪،‬‬
‫منكر ًا‪ ،‬ومعرف ًا‪ ،‬ومضاف ًا‪ ،‬وما ختلل ذلك من إشارات تكفي إلبطال زعم نايف بقاء‬
‫طهرين من الكفر‪ ،‬واألدناس‪ ،‬وآثار‬
‫النار‪ ،‬وانقالب أحواهلم إىل أن يكونوا م ا‬
‫املعايص‪ ،‬فأين يذهبون بعد تطهريهم؟!‪.‬‬
‫نقول‪ :‬إنا ما زلنا نالحظ أن طرق االجتهاد!؛ التي يتبعها د‪ .‬عدنان هي‬
‫أضعف الطرق‪ ،‬وهو يتمسك بأدنى وهم‪ ،‬ويسارع إىل ترجيحه وتقديمه؛ عىل‬
‫الدالالت الظاهرات القاطعة!‪ ،‬ال ليشء؛ إال ألنه يريد إقناع املالحدة القائلني إننا‬
‫ال نؤمن باهلل‪ ،‬وال ننساق له‪ ،‬وال نخضع إال إذا تعهد لنا أنه لن يعذبنا أبد الدهر‪،‬‬
‫ولن يبقينا خلدين يف النار‪ ،‬أما إذا فعل ذلك‪ ،‬أو أوعد عىل ذلك‪ ،‬فإننا نكفر به‪،‬‬

‫‪116‬‬
‫فإن ذلك ال جيوز له‪ ،‬وال يستحق أن يكون إهل ًا إن قام به!‪ ،‬هذا هو املنطلق الذي‬

‫َيضع له د‪ .‬عدنان‪ ،‬ويعتقده حجة ظاهرة‪ ،‬وغفل عن أن اهلل تعاىل‪{ :‬فعال ملا‬

‫يريد} كَّم رصح يف غري موضع‪ ،‬وإدخال املؤمنني اجلن َة بفعله وإرادته‪ ،‬كَّم أن‬
‫النار بفعله وإرادته‪ ،‬ال دافع له؛ وال موجب عليه‪ ،‬إال اختياره جل‬
‫إدخال الكفار َ‬
‫شأنه‪ ،‬وما يريدونه ليس إال حتجري ًا عىل الفاعل املختار‪.‬‬
‫فانساق يف حواره مع املالحدة؛ إىل هذه احلجة التي عجز عن دفعها‪ ،‬إال‬
‫بإنكار الواضحات بأساليب واحتجاجات هابطة‪ ،‬ال تقوى عند أدنى نظر‪،‬‬
‫ويتمسك باملتشابه من القرآن‪ ،‬مؤوالً له حسب رغبته وهواه؛ بال دليل ظاهر‪،‬‬
‫ويقدمه عىل املحكم الظاهر‪ ،‬وكنا نتمنى أال يفعل ذلك‪ ،‬ويتأنى قلي ً‬
‫ال؛ واهلل!‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫األمر اْلامس‪ :‬متسكه بروايات وآثار ضعيفة وغري ظاهرة الداللة‬
‫متسك نايف بقاء النار؛ بحجج ضعيفة فيَّم مىض‪ ،‬وبدالالت واهية‪ ،‬مقدم ًا‬
‫إ ّياها عىل األدلة الظاهرة القوية املحكمة‪.‬‬
‫وهو هنا يستأنف مسريته عىل النهج نفسه‪ ،‬ويسارع إىل التمسك بآثار‬
‫ضعيفة‪ ،‬وهو يعلم أهنا ضعيفة‪ ،‬ومع ضعفها؛ فهي إما مؤولة‪ ،‬أو مناقضة‪ ،‬ملا هو‬
‫ظاهر حمكم‪.‬‬
‫فكان املنهج الصحيح يف النظر واالستدالل‪ ،‬يقتيض منه أن ال يقدمها عىل‬
‫سواها‪ ،‬بل يؤخرها إىل مستواها الالئق هبا‪ ،‬ويفعل كَّم فعل األئمة العظام من أهل‬
‫السنة‪ ،‬كاإلمام تقي الدين السبكي‪ ،‬وغريه‪ ،‬وال يقتدي باملبتدعة واملنحرفني إىل‬
‫هواهم وما يتومهونه كشف ًا‪.‬‬
‫ومن اخلطأ املنهجي أن يتصدى واحد؛ إلثبات خالف الظاهر‪ ،‬واملحكم‬
‫من القرآن والسنة‪ ،‬اعتَّمد ًا عىل نحو تلك الدالالت الضعيفة بل الباطلة‪.‬‬
‫وقد تعلق بآثار يعرف متام ًا أهنا ضعيفة واهية‪ ،‬ال يصح ألحد أن يتمسك‬
‫هبا يف مثل هذا املقام‪ ،‬وال أدري إذا كان حيتج بمثل هذه الروايات الضعيفة؛ عن‬
‫غري املعصومني‪ ،‬واملعارضة للصحيح الثابت واملروي يف الكتاب والسنة‪ ،‬فلم‬
‫يعرتض عىل الشيعة وغريهم من فرق اإلسالم‪ ،‬عندما يتعلقون بَّم هو أقوى‬
‫بمراتب مما يتمسك به‪ ،‬ويف مطالب أقل قدر ًا من هذه املسألة التي يعرتف‬
‫بخطورهتا وأصالتها‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫ومن أعجب العجب؛ يف طريقة استدالله‪ ،‬أنه اقتدى خطى ابن تيمية‪،‬‬
‫وابن قيم اجلوزية؛ عندما اعتربا جمرد سكوت عبد بن محيد عىل هذه الروايات‬
‫توثيق ًا هلا‪ ،‬واعرتاف ًا هبا‪ ،‬وأن للقول بالفناء حظ ًا من النظر‪.‬‬
‫وكان األوىل به أن يعلم أن عبد بن محيد وغريه‪ ،‬ملا كانوا يعرفون هذه‬
‫الروايات‪ ،‬ومرتبته يف معايري النظر واالجتهاد؛ فلم حيوجهم األمر إىل الرد عليها‪،‬‬
‫وقد فعل غريهم‪.‬‬
‫وربَّم مل يكونوا يتوقعون أن بعض الذين يدعون االجتهاد؛ سينخدعون‬
‫هبا‪.‬‬
‫قال األلويس يف تفسريه‪( :‬ومن الناس من متسك بصدر اآلية؛ أنه ال يبقى‬
‫يف النار أحد‪ ،‬ومل يقل بذلك يف اجلنة‪ ،‬وتقوى مطلبه ذاك‪ ،‬بَّم أخرجه ابن املنذر‪،‬‬
‫عن احلسن‪ ،‬قال‪ :‬قال عمر‪( :‬لو لبث أهل النار يف النار كقدر رمل عالج‪ ،‬لكان‬
‫هلم يوم َيرجون فيه)‪.‬‬
‫وبَّم أخرج إسحق بن راهويه‪ ،‬عن أيب هريرة؛ قال‪( :‬سيأيت عىل جهنم يوم‬

‫ال يبقى فيها أحد)‪ ،‬وقرأ‪َ { :‬و َس ِعيدٌ َف َأ َّما الذين َشقو ْا}‪( ،‬هود‪)305/‬اآلية‪،‬‬
‫وأخرج ابن املنذر‪ ،‬وأبو الشيخ؛ عن إبراهيم؛ قال‪ :‬ما يف القرآن آية أرجى ألهل‬
‫النار من هذه اآلية‪{ :‬خالدين فِيها ما دام ِ‬
‫ت‪ ،‬السموات واالرض‪ ،‬إِالَّ َما َشاء‬ ‫َ َ َ َ‬
‫ك}‪( ،‬هود‪ ،)003 /‬قال‪ :‬وقال ابن مسعود‪( :‬ليأتني عليها زمان تصفق فيه‬
‫َر ُّب َ‬

‫‪119‬‬
‫أبواهبا)‪ ،‬وأخرج ابن جرير‪ ،‬عن الشعبي؛ قال‪( :‬جهنم أرسع الدارين عمران ًا؛‬
‫وأرسعهَّم خراب ًا)‪ ،‬إىل غري ذلك من اآلثار)‪.‬‬
‫وقد نص ابن اجلوزي عىل وضع بعضها‪ ،‬كخرب عبد اهلل بن عمرو بن‬
‫العاص‪( :‬يأيت عىل جهنم يوم ما فيها من ابن آدم أحد تصفق أبواهبا‪ ،‬كأهنا أبواب‬
‫وأو ل البعض بعضها؛ ومر يشء من الكالم يف ذلك‪ ،‬وأنت تعلم أن‬
‫املوحدين)‪ّ ،‬‬
‫خلود الكفار؛ مما أمجع عليه املسلمون‪ ،‬وال عربة باملخالف ‪ ،‬والقواطع أكثر من أن‬

‫حتىص ‪ ،‬وال يقاوم واحد ًا منها ٌ‬


‫كثري من هذه األخبار‪ ،‬وال دليل يف اآلية عىل ما‬
‫يقوله املخالف؛ ملا علمته من الوجوه فيها‪ ،‬وال حاجة إىل دعوى النسخ فيها‪ ،‬كَّم‬
‫روي عن السدى‪ ،‬بل ال يكاد يصح القول بالنسخ؛ يف مثل ذلك)‪.‬‬
‫ومن قبله تكفل اإلمام السبكي بالرد عىل ابن تيمية ملا اقرتف هذه املقالة‪،‬‬
‫وبني أن احلسن‪ ،‬مل ِ‬
‫يرو عن عمر‪ ،‬فالرواية عنه ضعيفة‪.‬‬
‫وقد بينا كثري ًا مما يتعلق بذلك‪ ،‬وقول من قال‪ :‬إن اهلل تعاىل مل يبني ما يفعل‬
‫بالكفار‪ ،‬نقول‪ :‬بل بينه‪ ،‬فقال غري مرة؛ إهنم خالدون فيها أبد ًا‪ ،‬وقال‪ :‬إهنم ال‬
‫َيرجون منها‪ ،‬وغري ذلك؛ مما فيه كفاية‪ ،‬ملن ألقى السمع‪.‬‬
‫قال اإلمام تقي الدين السبكي؛ وهو ينقد ابن تيمية يف قوله بفناء النار‪ ،‬ملا‬
‫جاء إىل مناقشته فيَّم اعتمد عليه من هذه الروايات‪( :‬ومن جاء إىل كلَّمت ِتر ُد عن‬
‫السلف؛ يف ترغيب‪ ،‬أو ترهيب‪ ،‬أو غري ذلك‪ ،‬فأخذ بظاهرها؛ وأثبتها أقواالً‪،‬‬
‫ا‬
‫وأضل‪.‬‬ ‫ا‬
‫ضل‬

‫‪120‬‬
‫وليس ذلك من دأب العلَّمء‪ ،‬ودأب العلَّمء التنقري عن معنى الكالم؛‬
‫واملراد به‪ ،‬وما انتهى إلينا عن قائله‪ ،‬فإذا حتققنا أن ذلك مذهبه واعتقاده‪ ،‬نسبناه‬
‫إليه‪ ،‬وأما بدون ذلك فال‪ ،‬وال سيَّم يف مثل هذه العقائد‪ ،‬التي املسلمون مطبقون‬
‫فيها عىل ٍ‬
‫يشء‪ ،‬كيف ُي ْع َمدُ إىل خالف ما هم عليه‪ ،‬ينسبه إىل جلة املسلمني‪ ،‬وقدوة‬
‫املؤمنني وجيعلها مسألة خالف كمسألة يف باب الوضوء؟!‪ ،‬ما أبعد َم ْن صنع هذا‬
‫عن العلم واهلدى!!‪ ،‬وهذه بدعة من أنجس البدع‪ ،‬أضل اهلل من قاهلا عىل‬
‫عل ٍم)اهـ‪.‬‬
‫وأما ما روي عن عمر بن اْلطاب رِض اهلل تعاىل عنه‪( :‬لو لبث أهل النار‬
‫ِف النار‪ ،‬بقدر رمل عالج‪ ،‬لكان ْلم عىل ذلك يوم ُيرجون)‪ ،‬فاحلسن مل يسمع من‬
‫عمر‪ ،‬قال السبكي‪( :‬وقد رأيت هذا األثر؛ يف تفسري عبد بن محيد‪ ،‬يف موضعني يف‬
‫أحدمها‪َ( :‬يرجون)‪ ،‬ويف اآلخر (يرجون)‪ ،‬ال ترصيح فيه ‪ ،‬فقد حيصل هلم رجاء‬
‫ثم ييأسون‪.‬‬
‫و(َيرجون) حيتمل أن يكون من النار؛ إىل الزمهرير‪ ،‬وحيتمل أن يكون‬
‫ذلك يف عصاة املؤمنني‪ ،‬فلم جيئ يف يشء من اآلثار إنه يف الكفار)‪.‬‬
‫وأما ما زعم أن اجلرجري ينبت يف النار‪ ،‬فهو ضعيف‪ ،‬وليس مسند أمحد‪.‬‬
‫وأما ما ورد عن ابن مسعود رِض اهلل عنه؛ قال‪( :‬ليأتني عىل جهنم زمان‬
‫ليس فيها أحد‪ ،‬وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاب ًا)‪.‬‬
‫وعن أيب هريرة رِض اهلل عنه مثله‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫فهذا كله ال يثبت‪ ،‬وإن ثبت؛ فمعناه عند أهل السنة‪ :‬أنه ال يبقى أحد من‬
‫أهل اإليَّمن من العصاة‪ ،‬وال حيمل عىل الكفار‪ ،‬ومتى كان قول بعض الصحابة‬
‫غري املسند‪ ،‬وغري املوافق آليات القرآن خمصص ًا‪ ،‬أو نافي ًا لظاهر القرآن‪.‬‬
‫وهذه اآلثار كلها عىل فرض ثبوهتا‪ ،‬فال ُّ‬
‫تدل عىل فناء النار‪ ،‬بل عىل بقائها‪،‬‬
‫والدعوى التي يدعيها صاحبنا؛ هي فناء النار‪ ،‬فأين الدليل عىل الفناء املزعوم؟‪.‬‬
‫وانظر إىل لطف جواب السبكي؛ عىل من متسك بَّم نقل عن الشعبي‪ ،‬من‬
‫قوله‪( :‬جهنم أرسع الدارين عمران ًا‪ ،‬وأرسعهَّم خراب ًا)‪ ،‬فقال‪( :‬أنا أعيذ الشعبي‬
‫من ذلك‪ ،‬فإنه يقتيض خراب اجلنة)‪ ،‬وذلك‪ :‬ألن ظاهره أن ك ً‬
‫ال من اجلنة والنار‬
‫خترب‪ ،‬ولكن الدار التي خترب أوالً هي النار‪ ،‬وهذا القول باطل)‪.‬‬
‫قال الصنعاين؛ يف رده عىل ابن تيمية‪( :‬واما قول شيخ اإلسالم يف صدر‬
‫املسألة؛ إن أبا سعيد اْلدري نقل عنه القول بفناء النار؛ فإنه استدل لذلك‪ ،‬بأنه‬
‫قال أبو نرضة‪ ،‬عن أيب سعيد‪ ،‬أو قال‪ :‬جابر أو بعض أصحاب النبي صىل اهلل عليه‬

‫وسلم‪( :‬اتت هذه اآلية عىل القرآن كله‪{ :‬إال ما شاء ربك إن ربك فعال ملا‬

‫يريد}‪( ،‬هود‪.)303 /‬‬


‫وأقول‪:‬‬
‫أوال‪ :‬هذا األثر نسبه احلافظ السيوطي؛ يف الدر املنثور‪ ،‬إىل ختريج عبد‬
‫ً‬
‫الرزاق‪ ،‬وابن الَشيس‪ ،‬وابن جرير‪ ،‬وابن املنذر‪ ،‬والطرباين‪ ،‬والبيهقي؛ يف األسَمء‬
‫والصفات‪ ،‬ولفظه‪ :‬عن أيب نرضة‪ ،‬عن جابر بن عبد اهلل‪ ،‬وأيب سعيد‪ ،‬أو رجل من‬

‫‪122‬‬
‫أصحاب النبي صىل اهلل عليه وسلم؛ (إال ما شاء ربك‪ ،‬إن ربك فعال ملا يريد)‪،‬‬
‫قال‪ :‬هذه اآلية قاضية عىل القرآن كله‪ ،‬يقول‪ :‬حيث كان يف القرآن خالدين فيها‬
‫تأيت عليه) انتهى‪.‬‬
‫وقد نقل ابن تيمية هذه الرواية أيض ًا‪ ،‬ونسبها إىل ختريج ابن جرير أيض ًا‪،‬‬
‫وال َيفى أوالً انه شك أبو نرضة يف قائل هذا القول‪ ،‬وردده بني ثالثة معلومني؛‬
‫وجمهول‪ ،‬وهذا الشك‪ ،‬وإن كان انتقاالً؛ من ثقة‪ ،‬إىل ثقة‪ ،‬عىل رأي من يقول كل‬
‫الصحابة عدول‪ ،‬غري ضائر يف الرواية‪ ،‬إال أنه ال يصح معه اجلزم؛ بنسبة القول‬
‫بفناء النار‪ ،‬إىل أيب سعيد‪ ،‬حيث أن مستند القول به؛ هو هذا األثر‪ ،‬ألن هذا أثر مل‬
‫يتم اجلزم به‪ ،‬يف رواية أنه أليب سعيد‪.‬‬
‫فكيف جيزم بنسبة هذا املدلول أعني القول بفناء النار وذهاهبا إىل أيب‬
‫سعيد كَّم فعله شيخ اإلسالم ومل يثبت عنه الدليل؟‪.‬‬
‫وثانيا‪ :‬وهو عىل تقدير ثبوته عنه‪ ،‬فإنه ال داللة فيه عىل مدعاه‪ ،‬وهو فناء‬
‫ً‬
‫النار‪ ،‬وال رائحة داللة‪ ،‬بل غاية ما فيه؛ أن كل وعيد يف القرآن‪ ،‬ذكر فيه اخللود‬
‫ألهل النار‪ ،‬فإن آية االستثناء حاكمة عليه‪ ،‬وهي عبارة جمملة؛ ال تدل عىل املدعى‬
‫بنوع من الدالالت الثالث‪ ،‬بل حيتمل إنه أراد أهنا فرست بآيات اخللود‪ ،‬التي‬
‫وردت يف القرآن‪ ،‬يف خلود أهل النار‪ ،‬كَّم أخرجه البيهقي‪ ،‬يف البعث والنشور؛‬

‫عن ابن عباس‪ ،‬يف قوله تعاىل‪{ :‬إال ما شاء ربك}‪( ،‬هود‪ ،)303 /‬قال‪ :‬فقد‬
‫شاء ربك‪ ،‬أن َيلد هؤالء يف النار‪ ،‬وهؤالء يف اجلنة) انتهى‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫وكَّم نرى‪ ،‬فإن كل من ا ّدعى أن الصحابة قالوا بيشء من هذه العقيدة‪،‬‬
‫فإنَّم اعتمد عىل آثار ضعيفة‪ ،‬وغري رصحية‪ ،‬وحتتمل التأويل‪ ،‬أو إن مل حتتمله؛ فهي‬
‫معارضة ملا هو ظاهر يف القرآن‪ ،‬وما كان كذلك‪ ،‬فال ينبغي أن يلتفت إليه!؟‬
‫وهذه الكلَّمت تكفي من يريد احلق‪ ،‬واهلل املوفق‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫األمر السادس‪ :‬الذي اعتمد عليه القائل بفناء النار‪ :‬زعمه أن النار‬
‫منقطعة؛ ألَّنا موجب غضبه‪ ،‬واجلنة دائمة؛ ألَّنا موجب رمحته‪.‬‬
‫اليشء إذا وجب عن اليشء‪ ،‬فإنه ال يعرتض طريقه معرتض‪ ،‬وال يتوقف‬
‫عىل إرادة؛ إذا كان املتو اقف عليه واجب ًا‪.‬‬
‫وصاحبنا هذا يدعونا ألن نقول معه‪ :‬إن هلل تعاىل صفات ذات‪ ،‬وصفات‬
‫فعل‪ ،‬وأن بعض خملوقاته‪ ،‬الزمة لزوم ًا ذاتي ًا‪ ،‬عن صفات فعله‪ ،‬وبعض خملوقاته‬
‫الزمة لزوم ًا ذاتي ًا عن صفات فعله‪ ،‬وال أدري إن كان يقول إن هناك أمور ًا الزمة‬
‫عن عني ذاته‪ ،‬أو ال يقول!‪.‬‬
‫وهذا املسلك للفهم؛ ليس أكثر من رجوع إىل طرق املتفلسفة القدماء‬
‫الذين أظهر أعالم أهل السنة عوار أفكارهم‪.‬‬
‫فَّم الذي يريده بقوله‪ :‬إن اهلل تعاىل له صفات ذاتية؛ كالرب‪ ،‬والرمحة‪،‬‬
‫واجلود‪ ،‬وأن هذه الصفات تستلزم لذاهتا؛ بعض األفعال‪ ،‬كإجياد اجلنة‪ ،‬وإدخال‬
‫الناس فيها‪.‬‬
‫أما نحو‪ :‬الغضب والسخط فأسَّمء فعلية‪ ،‬ووجود النار‪ ،‬وتعذيب أهلها‬
‫موجبات هذه األسَّمء الفعلية‪.‬‬
‫فيها‪ ،‬من َ‬
‫هل يريد أن نفس كون اهلل تعاىل جواد ًا ورحي ًَّم‪ ،‬يقتيض هذه األفعال‪ ،‬من‬
‫ِ‬
‫يقتض إذن عدم إجياد النار من أصلها‪ ،‬أو مل مل‬ ‫فلم مل‬
‫إفناء النار‪ ،‬وإنشاء اجلنة‪َ ،‬‬

‫‪125‬‬
‫ِ‬
‫يقتض أن ال يعذبوا فيها؛ إال حلظة واحدة؟‪ ،‬ومل مل تقتض رمحته؛ أن يزكي الكفار‬
‫يف املحرش!‪.‬‬
‫أليس اهلل تعاىل بقادر؛ عىل أن َيلق من األدلة الواضحة‪ ،‬يف هذه احلياة‬
‫الدنيا‪ ،‬ما يبعث الناس كلهم إىل اإليَّمن به‪ ،‬وبذلك فال يكفر أحد!‪.‬‬
‫ال إىل التكليف واالختبار‪ ،‬وهو يعلم عل ًَّم تام ًا أن‬
‫عرض لناس أص ً‬
‫ومل ا‬
‫منهم من يصري إىل الكفر‪ ،‬ومنهم من يصري مؤمن ًا‪ ،‬مل مل تقتض رمحته ما يستلزم‬
‫جعلهم كلهم مؤمنني!‪.‬‬
‫وهكذا نرى أن طريقة فهمه لألحاديث والصفات واألسَّمء اإلهلية‪،‬‬
‫طريقة غريبة تبعث عىل النحراف يف الفهم‪.‬‬
‫وهكذا يصل إىل تفسري احلديث القديس أن‪( :‬رمحتي سبقت غضبي)‪ ،‬بأن‬
‫هناك مصارعة؛ بني موجبات الصفات الذاتية‪ ،‬وبني موجبات األسَّمء الفعلية‪،‬‬
‫والذي يغلب بالطبع؛ هو موجب الصفات الذاتية‪ ،‬ولذلك فإن كل ما كان من‬
‫موجبات صفات‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫موجبات أسَّمء أفعاله‪ ،‬فهو ال شك منته وفان‪ ،‬والباقي إنَّم هو َ‬
‫ذاته‪.‬‬
‫أقول‪ :‬أال يعرف أن كل فعل فهو متوقف عىل صفة‪ ،‬فَّم من فعل إال‬
‫ويكون من تعلقات صفة‪ ،‬فيعود األمر إىل التنايف والتصارع بني الصفات اإلهلية!‪،‬‬
‫وهذا حمال باطل!‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫وقد قل اإلمام السبكي يف رده عىل ابن تيمية‪( :‬فإن قلت‪ :‬قد ذكر من‬
‫الوجوه الرشعية؛ أن اجلنة من مقتىض رمحته‪ ،‬والنار من عذابه‪ ،‬فالنعيم من‬
‫موجب أسَّمئه‪ ،‬التي هي من لوازم ذاته‪ ،‬فيجب دوامه بدوام معاين أسَّمئه‬
‫وصفاته‪ ،‬والعذاب من خملوقاته‪ ،‬قد يكون له انتهاء‪ ،‬ال سيَّم خملوق خلق حلكمة‬
‫تتعلق بغريه‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ومن أسَّمئه تعاىل شديد العقاب‪ ،‬واجلبار‪ ،‬والقهار‪ ،‬واملذل‪،‬‬
‫واملنتقم‪ ،‬فيجب دوامه؛ بدوام ذاته وأسَّمئه أيض ًا‪.‬‬
‫فنقول ْلذا الرجل‪ :‬إن كانت هذه األسَّمء والصفات تقتيض دوام ما‬
‫يقتضيه من األفعال فيلزم قدم العامل‪ ،‬وإن كانت ال تقتيض؛ فال يلزم دوام اجلنة‪،‬‬
‫فأحد األمرين الزم‪ ،‬لكالم هذا الرجل‪ ،‬وكل من األمرين باطل‪ ،‬فكالم هذا‬
‫الرجل باطل‪.‬‬
‫خرب إن رمحته وسعت كل يشء‪ ،‬و(سبقت رمحتي‬
‫فإن قلت‪ :‬قد قال‪ :‬قد ّ‬
‫غضبي)‪ ،‬فإذا قدر عذاب ال آخر له‪ ،‬مل يكن هناك رمحة البتة‪.‬‬
‫قلت‪ :‬اآلخرة داران‪ ،‬دار رمحة؛ ال يشوهبا يشء‪ ،‬وهي اجلنة‪ ،‬ودار عذاب؛‬
‫ال يشوبه يشء‪ ،‬وهي النار‪ ،‬وذلك دليل عىل القدرة‪ ،‬والدنيا خمتلطة هبذا وهبذا‪.‬‬
‫فقوله‪( :‬إذا قدر عذاب ال آخر له‪َ ،‬ل يكن هناك رمحة البتة) إن أراد نفي‬
‫الرمحة مطلق ًا‪ ،‬فليس بصحيح‪ ،‬ألن هناك كَّمل الرمحة يف اجلنة‪.‬‬
‫وإن أراد ‪( :‬مل يكن يف النار‪ ،‬قلنا‪ :‬مه)‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫يعني اكفف عن هذا القول؛ املعارض للقرآن‪ ،‬فألي يشء خلق اهلل تعاىل‬
‫النار إال للعذاب!‪.‬‬
‫َ‬
‫ويف كالم اإلمام السبكي؛ املبني عىل التحقيق الرصيح‪ ،‬بوجازته املعروفة‪،‬‬
‫كفاية ألويل النهى‪.‬‬
‫يقول د‪ .‬عدنان؛ مستمر ًا يف تعليله واحتجاجه‪( :‬ما كان موجب ذاته؛ فهو‬
‫يدوم بدوام ذاته‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وأما العذاب؛ فهو موجب فعله‪ ،‬فينقطع يف حلظة‬
‫معينة‪ ،‬ألنه مل يكن عبث ًا‪ ،‬بل حلكمة‪ ،‬وهي تطهري ًا هلم‪ ،‬من أدران الكفر واجلحود‪،‬‬
‫وقد خلقهم اهلل عىل الفطرة فاجتالتهم الشياطني‪ ،‬فإذا عادوا إىل صفاء الفطرة‪ ،‬مل‬
‫يكن ثمة موجب للعذاب فينتهي)‪.‬‬
‫يقول ما حاصله‪ :‬إن اهلل خلق الناس عىل الفطرة؛ فاجتالتهم الشياطني‪،‬‬
‫وانحرفوا عن اهلدى‪ ،‬ولذلك فإن العذاب ( كان حلكمة ـ هذا العذاب ـ سوف‬
‫نقف عليها بعيد قليل‪ ،‬تطهري ًا هلم من أدران الرشك‪ ،‬والوثنية‪ ،‬والكفر‪ ،‬واجلحود‪،‬‬
‫والعنود‪ ،‬والنكود‪ ،‬فإذا تطهروا ـ خالص ـ وعادوا إىل صفاء الفطرة‪ ،‬ورواقها‬
‫األول)‪ ،‬وأيض ًا‪( :‬فإذا عادوا إىل صفاء الفطرة؛ مل يكن ثمة موجب أن يبقوا يف‬
‫العذاب‪ ،‬فينتهي العذاب وَيرجون‪ ،‬واضح؟‪َ ،‬يرجون‪ ،‬ألنه انتهى‪ ،‬ألنه انتهى)‪.‬‬
‫أقول‪ :‬كالمه هذا فيه مغالطات‪ ،‬وأفهام باطلة‪ ،‬وتصورات سقيمة‪،‬‬
‫ويتضمن ما َيالف نصوص القرآن والسنة كَّم سنبني‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫فالنار كانت؛ ال للتطهري‪ ،‬بل للعذاب‪ ،‬ومل يقل اهلل تعاىل‪ :‬إنه سيخرجهم‬
‫النار‪ ،‬وكل هذه املقوالت من عندك‪،‬‬
‫منها‪ ،‬كَّم مل يقل؛ جل ذكره إنه يفني َ‬
‫وومهك‪ ،‬ووهم من تبعك‪ ،‬فاقتصد يف قولك‪ ،‬واتبع ظاهر القرآن‪ ،‬الذي قام عليه‬
‫الدليل‪ ،‬وكفى!‪.‬‬
‫ورد يف الصحاح‪( :‬إن رمحتي سبقت غضبي)‪ ،‬وورد‪( :‬إن رمحتي غلبت‬
‫غضبي)‪ ،‬ورد يف الصحاح؛ وغريها‪ ،‬عن أيب هريرة‪ :‬عن النبي صىل اهلل عليه‬
‫وسلم قال‪( :‬إن اهلل ملا قىض اخللق؛ كتب عنده فوق عرشه‪ ،‬إن رمحتي سبقت‬
‫غضبي)[ ر ‪ ،] 1044‬ويف البخاري أيض ًا‪ ،‬عن قتادة؛ أن أبا رافع‪ ،‬حدثه أنه سمع‬
‫أبا هريرة رِض اهلل عنه‪ ،‬يقول‪ :‬سمعت رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم؛ يقول‪:‬‬
‫(إن اهلل كتب كتاب ًا‪ ،‬قبل أن َيلق اخللق إن رمحتي سبقت غضبي‪ ،‬فهو مكتوب‬
‫عنده فوق العرش) [ر ‪ ،] 1044‬ويف مسند أمحد‪ ،‬عن أيب صالح عن أيب هريرة‬
‫عن النبي صىل اهلل عليه وسلم؛ قال‪ :‬إن اهلل عز وجل كتب كتاب ًا؛ بيده لنفسه‪ ،‬قبل‬
‫إن َيلق السَّموات واألرض‪ ،‬فوضعه حتت عرشه فيه‪( :‬رمحتي سبقت غضبي)‪،‬‬
‫إن رمحتي غلبت غضبي)‪ ،‬رواه‪ :‬البخاري(‪ ،)1352‬ومسلم(‪)4393‬؛‬
‫وحديث‪َّ ( :‬‬
‫وغريهم يف غري هذه املواضع‪ ،‬من حديث أيب هريرة رِض اهلل عنه‪.‬‬
‫وليس يف األمر مصارعة ومنافسة بني الصفات‪ ،‬حتى يقال‪ :‬إن آثار صفة‬
‫ما تفنى‪ ،‬وتبقى آثار الصفة األخرى‪ ،‬فإن اهلل هو الفاعل املختار‪ ،‬وهو الفعال ملا‬
‫واملعرب‬
‫ا‬ ‫يريد‪ ،‬وليس عني صفاته‪ ،‬بل هذه كلها أفعال هلل تعاىل؛ بإرادته‪ ،‬واختياره‪،‬‬

‫‪129‬‬
‫عنه يف احلديث السبق والغلبة‪ ،‬واملراد بالسبق والغلبة؛ كثرة اآلثار‪ ،‬وتقدمها عىل‬
‫اِض ِع َي ٌ‬
‫اض ا ْل َغ َل َب ُة ُهنَا‪،‬‬ ‫األخرى‪ ،‬قال العراقي يف طرح التثريب‪( :‬و َق َال ا ْل َق ِ‬
‫َ‬
‫ب املَْ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫الس ْب ُق بِ َم ْعنًى‪َ ،‬واملُْ َرا ُد ِ َهبا ا ْل َك ْث َر ُة َو ُّ‬
‫ال‪،‬‬ ‫ب َع َىل ُف َالن ُح ُّ‬‫ول‪ ،‬ك َََّم ُي َق ُال‪َ :‬غ َل َ‬
‫الش ُم ُ‬ ‫َو ا‬
‫َان َأ ْك َث َر ِخ َصال ِ ِه)‪ ،‬فمن املالحظ عند ذوي العقول‪،‬‬ ‫الش َجا َع ُة‪ ،‬إ َذا ك َ‬ ‫َأ ْو ا ْلك ََر ُم‪َ ،‬أ ْو ا‬
‫أن آثار الرمحة؛ أكثر‪ ،‬وأسبق‪ ،‬وأغلب من آثار الغضب‪ ،‬فاحلديث واضح؛ ال‬
‫حيتاج إىل تكلفات بعض الناس‪.‬‬
‫وإليك بعض ما قرره األعالم ِف ْشحه‪:‬‬
‫جاء يف مصنف عبدالرزاق[‪ ]40090‬عن معمر‪ ،‬عن احلكم بن أبان؛ أنه‬
‫سمع عكرمة؛ يقول‪( :‬إن اهلل تبارك وتعاىل‪ ،‬إذا فرغ من القضاء بني خلقه‪ ،‬أخرج‬
‫كتاب ًا من حتت العرش‪ ،‬فيه رمحتي سبقت غضبي‪ ،‬وأنا أرحم الرامحني‪ ،‬فيخرج من‬
‫النار مثل أهل اجلنة ـ أو قال‪ :‬مثيل أهل اجلنة ـ قال احلكم‪ :‬ال أعلم‪ ،‬إال قال مثيل‬
‫أهل اجلنة‪ ،‬فأما مثل فال أشك مكتوب منهم ـ وأشار احلكم إىل فخذه ـ عتقاء اهلل‪،‬‬
‫قال فقال رجل لعكرمة‪ :‬يا أبا عبد اهلل؛ إن اهلل يقول‪ :‬يريدون أن َيرجوا من النار‪،‬‬
‫وما هم بخارجني منها‪ ،‬قال‪ :‬ويلك أولئك أهلها‪ ،‬الذين هم أهلها)‪.‬‬
‫فهذا عكرمة ـ وهو من هو يف التفسري والعلم ـ يقرر أن هذا احلديث؛ ال‬
‫يستلزم إخراج أهل النار‪ ،‬الذين هم أهلها‪ ،‬وقد أقر فهم من قال‪ :‬إن قوله تعاىل‪:‬‬

‫{وما هم بخارجني من النار} يستلزم بقاءهم فيها‪ ،‬فلم يعرتض عليه‪ ،‬ومل يقل‬
‫خرجني‪ ،‬وبني وما هم منها بخارجني‪ ،‬كالفرق‬ ‫إن هناك فرق ًا؛ بني وما هم منها ُ‬
‫بم َ‬

‫‪130‬‬
‫ما بني السَّمء واألرض‪ ،‬ومل يزعم ا‬
‫أن‪ :‬األوىل تستلزم عدم خروجهم‪ ،‬والثانية ال‪،‬‬
‫كَّم سمعنا من صاحبنا املجتهد املعارص!‪.‬‬
‫قال ابن بطال‪( :‬وأما قوله‪( :‬كتب عنده‪ :‬إن رمحتي سبقت غضبي)‪ ،‬فهو ـ‬
‫واهلل أعلم ـ كتابه يف أم الكتاب‪ ،‬الذى قىض به‪ ،‬وخطه القلم‪ ،‬فكان من رمحته‬
‫تلك؛ أن ابتدأ خلقه بالنعمة؛ بإخراجهم من العدم إىل الوجود‪ ،‬وبسط هلم من‬
‫رمحته‪ ،‬يف قلوب األبوين؛ عىل األبناء‪ ،‬من الصرب عىل تربيتهم‪ ،‬ومبارشة أقذارهم‪،‬‬
‫ما إذا تدبره متدبر‪ ،‬أيقن أن ذلك من رمحته تعاىل‪.‬‬
‫ومن رمحته السابقة؛ أنه يرزق الكفار وينعمهم‪ ،‬ويدفع عنهم اآلالم‪ ،‬ثم‬
‫ربَّم أدخلهم اإلسالم؛ رمحة منه هلم‪ ،‬وقد بلغوا من التمرد عليه‪ ،‬واخللع لربوبيته‪،‬‬
‫غايات تغضبه‪ ،‬فتغلب رمحته؛ ويدخلهم جنته‪ ،‬ومن مل يتب عليه؛ حتى توفاه‪ ،‬فقد‬
‫رمحه مدة عمره‪ ،‬برتاخي عقوبته عنه‪ ،‬وقد كان له أال يمهله بالعقوبة ساعة كفره‬
‫به‪ ،‬ومعصيته له‪ ،‬لكنه أمهله رمح ًة له‪ ،‬ومع هذا؛ فإن رمحة اهلل السابقة‪ ،‬أكثر من أن‬
‫حييط هبا الوصف)‪.‬‬
‫ب َغ َضبِي)‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وجاء يف َتفة األحوذي‪َ (( :‬كتَب بِي ِد ِه َع َىل َن ْف ِس ِه َأ ان ر ْ َ ِ‬
‫محتي َت ْغل ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ي؛ ِيف‬ ‫َاب‪َ ،‬و ِيف ِر َوا َي ٍة لِ ْلبخَ ِ‬ ‫ون ا ْل ِكت ِ‬ ‫ْرس‪َ ،‬ع َىل ِحكَا َيتِ ِه‪َ ،‬م ْض ُم َ‬ ‫ِ‬
‫ار ِّ‬ ‫بِ َفت ِْح ْاهل َ ْم َزة؛ َو ُتك َ ُ‬
‫محتِي َس َب َق ْت َغ َضبِي‪.‬‬ ‫َب ِعنْدَ ُه َف ْو َق َع ْر ِش ِه‪َ ،‬أ ان َر ْ َ‬ ‫ِ ِ‬
‫الت ْاوحيد‪َ :‬أ ان اهللاَ ملَاا َق َىض ْ َ‬
‫اخل ْل َق‪َ ،‬كت َ‬
‫مح ِة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ب َغ َضبِي؛ ُه َو إِ َش َار ٌة إِ َىل َس َعة ا‬
‫الر ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫اجلز َِري‪َ :‬قو ُله‪ :‬إِ ان ر ْ َ ِ‬
‫محتي َت ْغل ُ‬ ‫َ‬ ‫َق َال َْ ُّ ْ ُ‬
‫ب َع َىل ُف َال ٍن ا ْلك َْر ُم‪َ ،‬أ ْي‪ُ :‬ه َو َأ ْك َث ُر ِخ َصال ِ ِه‪َ ،‬وإِ اال‬ ‫اخلَ ْل َق‪ ،‬ك َََّم ُي َق ُال‪َ :‬غ َل َ‬
‫و ُشم ِ‬
‫وهلَا ْ‬ ‫َ ُ‬

‫‪131‬‬
‫اب‪َ ،‬و ِص َفا ُت ُه َال‬ ‫اب َوا ْل ِع َق ِ‬ ‫َان إِ َىل إِ َرا َدتِ ِه لِل اث َو ِ‬
‫اجعت ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هلل؛ َو َغ َض ُب ُه‪ ،‬ص َفتَان َر ِ َ‬ ‫مح ُة ا اِ‬
‫َف َر ْ َ‬
‫از ل ِ ْل ُم َبا َل َغ ِة اِ ْنت ََهى‪.‬‬
‫يل املَْ َج ِ‬
‫امها ْاألُ ْخ َرى‪َ ،‬وإِن َاَّم َع َىل َسبِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ف بِ َغ َل َبة إِ ْحدَ ُ َ‬‫ُوص ُ‬ ‫ت َ‬
‫ازم ًا َو َوعَدَ َو ْعد ًا َال ِزم ًا‪،‬‬ ‫اخلَ ْل َق‪َ ،‬حك ََم ُحك ًَّْم َج ِ‬ ‫َو َق َال ال ِّطيبِ ُّي‪َ :‬أ ْي‪ :‬ملَاا َخ َل َق ْ‬
‫محتِي َس َب َق ْت َغ َضبِي‪َ ،‬فإِ ان املُْ َبال ِ َغ ِيف ُحك ِْم ِه‪ ،‬إِ َذا َأ َرا َد إِ ْحكَا َم ُه‬ ‫ف فِ ِيه؛ بِ َأ ان َر ْ َ‬ ‫َال ُخ ْل َ‬
‫مح ِة َأ اهنُ ْم‬ ‫ع َقدَ ع َلي ِه ِس ِج ًّال وح ِف َظه‪ ،‬ووجه املُْنَاسب ِة بني َقض ِ‬
‫اخلَ ْل ِق‪َ ،‬و َس ْب ِق ا‬
‫الر ْ َ‬ ‫اء ْ‬ ‫َ َ َْ َ َ‬ ‫َ َ ُ َ َ ْ ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ون ل ِ ْل ِع َبا َد ِة‪ُ ،‬شكْر ًا لِلنِّ َع ِم ا ْل َف ِائ َض ِة َع َل ْي ِه ْم‪َ ،‬و َال َي ْق ِد ُر َأ َحدٌ َع َىل َأ َد ِاء َح ِّق‬ ‫َخم ْ ُلو ُق َ‬
‫الشاكِ ِر‪ ،‬بِ َأ ان َو اىف َج َزا َء ُه‪،‬‬ ‫مح ُت ُه ِيف َح ِّق ا‬ ‫ون فِ ِيه‪َ ،‬ف َس َب َق ْت َر ْ َ‬
‫رص َ‬ ‫ُّ ِ‬
‫الشكْر‪َ ،‬و َب ْع ُض ُه ْم ُي َق ِّ ُ‬
‫َاب َو َر َج َع بِاملَْ ْغ ِف َر ِة‬
‫رص‪ ،‬إِ َذا ت َ‬ ‫رص‪َ ،‬و ِيف َح ِّق املُْ َق ِّ ِ‬ ‫احل ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َزا َد َع َل ْيه َما َال َيدْ ُخ ُل َ ْحت َت ْ َ‬
‫محتِي؛ َمتْثِ ٌيل ل ِ َك ْث َر ِ َهتا‪َ ،‬و َغ َل َبتِ َها َع َىل ا ْل َغ َض ِ‬
‫ب بِ َف َر َ ْ‬
‫يس‬ ‫او ِز‪َ ،‬و َم ْعنَى‪َ :‬س َب َق ْت َر ْ َ‬ ‫َوالت َاج ُ‬
‫ٍ‬
‫امها ْاألُ ْخ َرى)‪.‬‬ ‫ِر َهان ت ََسا َب َقتَا َف َس َب َق ْت إِ ْحدَ ُ َ‬
‫َب َع َىل َن ْفسه‪َ ،‬يدُ ّل‬ ‫وقال السندي؛ يف حاشيته‪ ،‬عىل ابن ماجه‪َ ( :‬و َق ْوله‪َ :‬كت َ‬
‫مح ِة؛ َما َال ُي َع ِامل‬ ‫اق َه َذا ا ْلك ََالم‪َ ،‬ع َىل َأ ان ُه َو َعدَ بِ َأ ان ُه َس ُي َع ِام ُل بِا الر ْ َ‬‫َع َىل َأ ان ُه َس َ‬
‫وىل ُدون ال اثانِ َية‪ِ ،‬ألَ ان‬ ‫محة َوا ْل َغ َضب‪ ،‬بِ َأ ان ْاألُ َ‬ ‫الر ْ َ‬ ‫ِ‬
‫ب‪َ ،‬ال َأ ان ُه إِ ْخ َبار َع ْن ص َفة ا‬ ‫بِا ْل َغ َض ِ‬

‫وىل؛ فِ َيَّم َس َب َق َأ ْك َثر ِمماا َف َع َل ِم ْن‬


‫يمة‪َ ،‬و ِألَ ان َما َف َع َل ِم ْن آ َثار ْاألُ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص َفاته ُك ّل َها كَام َلة َعظ َ‬
‫ِ‬

‫آ َثار ال اثانِ َية)‪.‬‬


‫محتِي‬ ‫ش‪ ،‬إن َر ْ َ‬ ‫قال الكشمريي يف فيض الباري‪ :‬قوله‪َ ( :‬ف ُه َو ِعنْدَ ُه َف ْو َق ال َع ْر ِ‬
‫ٍ‬
‫رب‪ ،‬عىل أن‬ ‫الشيخ األك ُ‬ ‫ُ‬ ‫ومتسك به‬ ‫َغ َل َب ْت َغ َضبِي)‪ ،‬ويف لفظ‪َ ( :‬س َب َق ْت َغ َضبِي)‪ ،‬ا‬
‫ٍ‬
‫ضب ت ََسابقا‪،‬‬ ‫ْرب أن الرمح َة والغ َ‬ ‫احلديث؛ َُي ِ ُ‬
‫َ‬ ‫ألحد‪ ،‬ألن‬ ‫عذاب اجلحيم؛ ال َيدُ و ُم‬

‫‪132‬‬
‫َف َس َب َق ْت رمحتُه غض َبه‪ ،‬فإذا َس َب َق ْت؛ َل ِز َم أن ال َي ْب َقى أحدٌ حتت غضبه تعاىل‪ ،‬و َيدُ ُخ َل‬
‫وجل‪ ،‬ولو ِ‬
‫عز ا‬
‫آخر ًا‪.‬‬ ‫ص من عذاب اهلل ا‬ ‫وَي ُل َ‬
‫ك ُّلهم يف رمحته تعاىل‪ْ َ ،‬‬
‫معذبني‪ ،‬لكوهنم‬ ‫يشون فيها غري ا‬ ‫النار تكون طبيع ًة هلم‪َ ،‬ف َي ِع ُ‬ ‫وذلك ألن َ‬
‫ناريي الطبع‪.‬‬
‫كَّمئي املَ ْول ِ ِد‪َ ،‬ي ْس ُك ُن يف املاء‪ ،‬وال يكون عليه ٌ‬
‫ضيق‪ ،‬وغريه لو َس َك َن فيه‬ ‫ِّ‬
‫مات من ساعته‪.‬‬
‫رس َم ِد ٌّي ملن فيها‪.‬‬
‫عذاب َ ْ‬
‫ٌ‬ ‫ومذهب اجلمهور‪ :‬أن جهنم‬
‫ُ‬ ‫قلت‪:‬‬

‫ت جلوده ْم َبدَّ ْلنَه ْم جلود ًا َغ ْ َري َها لِ َيذوقو ْا‬


‫قال تعاىل‪{ :‬ك َّل ََم ن َِض َج ْ‬

‫اب}‪( ،‬النساء‪.)95/‬‬ ‫ا ْل َع َذ َ‬
‫الس ْب ِق اية‪ ،‬فهي عندي يف جانب املبدأ دون املنتهى‪ ،‬ومعناه‪ :‬أن الرمح َة‬
‫وأ اما ا‬
‫فس َب َق ْت الرمحة قبل َس ْب ِق الغضب‪ ،‬فتقدا مت عليه من‬
‫والغضب ت ََسا َب َقا عند ربك‪َ ،‬‬
‫َ‬
‫هذا اجلانب‪.‬‬
‫الغضب َحيِ ُّل باملعايص‪ ،‬والرمحة منشؤها اجلود‪ ،‬فتأيت من غري‬
‫َ‬ ‫وذلك ألن‬
‫اقرتاف الس ِّيئات‪ ،‬واقتحام‬
‫َ‬ ‫استحقاق‪ .‬بخالف الغضب‪ ،‬فإنه َي ْنتَظِ ُر‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫سبب وال‬
‫الغي‪ ،‬فال يأيت حني يأيت إالا عىل َم ْه ٍل‪،‬‬
‫املوبقات‪ ،‬والرغبة عن التوبة‪ ،‬ثم التَّمدي يف ِّ‬
‫فاض َط ار‬
‫رب؛ يف اجلهة األخرى‪ْ ،‬‬ ‫ُ‬
‫الشيخ األك ُ‬ ‫َ‬
‫وأخذ ُه‬ ‫فتقدُّ مها َي ْظ َه ُر يف جانب املبدأ‪،‬‬
‫إىل خمالفة اجلمهور)‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫موجبات رمحته‪ ،‬والنار من موجبات غضبه‪،‬‬
‫ثم ما املراد بقوله إن اجلنة من َ‬
‫وهل جيب وجود املخلوقات؛ ملجرد اتصاف اهلل تعاىل بصفات‪ ،‬أم إن اهلل تعاىل‬
‫فعال ملا يريد!‪.‬‬
‫فحديث اإلجياب َُيرج مدخلية اإلرادة واالختيار‪ ،‬ويبطله من أصله‪ ،‬ولو‬
‫كان للرمحة موجبات لذات كوهنا صفة هلل تعاىل سواء كان ذاتية أو فعلية‪ ،‬لكان‬
‫العامل قدي ًَّم‪ ،‬والستحال عدمه‪ ،‬بل ربَّم استحال وجود النار من أصلها‪ ،‬ما دام‬
‫األمر مصارعة ومنافرة بني الصفات‪ ،‬فلتتغلب صفة الرمحة من أول األمر‪ ،‬وانتهى‬
‫الكالم‪ ،‬فال وجود لنار عندئذ‪ ،‬وال وجود إال للجنة‪.‬‬
‫أو لتوجد النار‪ ،‬وليرتتب عىل التغالب والسبق هبذا املعنى الغريب‬
‫النار‬
‫املفرتض غلبة الرمحة عىل الغضب فال يدخل أحد من العصاة وال الكفار َ‬
‫حلظ َة واحدة‪.‬‬
‫ومل َ إذن توجد النار من أصلها!‪ ،‬أليس هذا اللون من التفكري يفيض بنا إىل‬
‫جمرد هواء‪ ،‬ال إىل حتقيق يف علم التوحيد وال إىل أمر غريه‪ ،‬بل يفيض بنا إىل خلخلة‬
‫أركان الدين من أصلها‪.‬‬
‫ونحن ال َيفى علينا مقدار تأثر ابن تيمية بمقوالت ابن عريب يف هذا‬
‫الكالم كله‪ ،‬وقد أرشنا إىل ذلك‪ ،‬وأشار غرينا إىل قرب كالم ابن تيمية من كالم‬
‫ابن عريب يف هذه املسألة‪ ،‬وقد قلت كثري ًا إن ابن تيمية تأثر بابن عريب‪ ،‬بمقدار ما‬
‫ر اد عليه؛ يف وحدة الوجود‪ ،‬فقد تأثر به يف كثري من املقوالت األخر‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫وكذلك تأثر بابن رشد احلفيد الفيلسوف يف مسائل عدة‪.‬‬
‫عىل أن التحقيق يف مذهب األشاعرة؛ أن الرمحة صفة‪ ،‬ترجع إىل اإلرادة‪،‬‬
‫وليست صفة زائدة؛ عىل اإلرادة‪ ،‬وبعضهم قال‪ :‬إهنا ترجع إىل بعض تعلقات‬
‫اإلرادة والقدرة‪ ،‬فتكون من صفات الفعل‪.‬‬
‫وهذا نزاع مشهور بني الفريقني‪ ،‬وال يستلزم أحدمها ذلك التخريج‬
‫الغريب‪ ،‬الذي تتقول به هاته العصابة؛ من مدعي االجتهاد‪.‬‬
‫نعم إن اهلل تعاىل حكيم يف فعله‪ ،‬وحكمته؛ ال توجب عليه أن يفعل أمر ًا‬
‫موج َبا عن ذاته‪ ،‬أو‬
‫من األمور‪ ،‬وال تستلزم أن يصدر عنه يشء‪ ،‬وأن يكون َ‬
‫صفاته؛ لعني كوهنا صفة‪ ،‬بل أفعاله تابعة إلرادته‪ ،‬ومن قال بحكاية االستلزام‬
‫واإلجياب‪ ،‬فإنه يرجع إىل قول املتفلسفة القائلني بالعلة واملعلول‪ ،‬ومن تأثر هبم؛‬
‫ممن قال بوحدة الوجود‪ ،‬أو من املجسمة القائلني‪ ،‬بتأثر اهلل تعاىل بخلقه‪ ،‬وحدوث‬
‫احلوادث يف ذاته‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫الكفار‪ ،‬وُيرجهم من النار‬
‫َ‬ ‫يدعي د‪ .‬عدنان إبراهيم‪ :‬أن اهلل تعاىل ي َزكِّي‬

‫مطهرين!‪ ،‬واهلل تعاىل؛ يقول‪{ :‬وال يزكيهم وْلم عذاب أليم}‪.‬‬

‫وقد زعم أيض ًا‪ :‬أن الكفار يدخلهم اهلل تعاىل َ‬


‫النار؛ ألجل تزكيتهم‪،‬‬
‫وتطهريهم من أفعاهلم املشينة‪ ،‬فإذا تطهروا منها‪ ،‬أخرجهم منها‪( ،‬ومل يعد هناك‬
‫دا ٍع؛ وال موجب لبقائهم يف جهنم‪ ،‬ومل يعد هناك موجب لبقاء النار‪ ،‬وتفنى!)‪.‬‬
‫قال عدنان إبراهيم‪( :‬فإذا دخلوا النار وصلوها ـ والعياذ باهلل من مثل‬
‫مصريهم ومقامهم ـ وتطهروا من هذا كَّم قلت لكم‪ ،‬هل يبقى بعد ذلك من‬
‫موجب وداع ألن يطول‪ ،‬أو يستمر‪ ،‬أو يمتد مقامهم يف جهنم‪ ،‬ال خالص‪ ،‬ما‬
‫يبقى بعد هذا من موجب‪ ،‬ولذلك يبدوا أن هذه النار كَّم أشارت تلكم اآلثار‬
‫وبعض هذه الدالئل اخلفية‪ ،‬يف كتاب اهلل‪ ،‬أهنا تنتهي يف يوم من األيام‪ ،‬وتفنى‬
‫وَيرج منها هؤالء)‪.‬‬
‫هلل ِم َن ا ْلكِت ِ‬
‫َاب‪،‬‬ ‫ون َما َأنز ََل ا ه‬ ‫ين َي ْكتم َ‬ ‫ِ‬
‫ونيس أن اهلل تعاىل قال‪{ :‬إِ َّن ا َّلذ َ‬
‫ون ِِف بط ِ ِ‬
‫وَّن ْم إِالَّ الن ََّار‪َ ،‬والَ ي َك ِّلمهم اهلله‪،‬‬ ‫ال‪ ،‬أو َلـئِ َ‬
‫ك َما َي ْأكل َ‬ ‫ون بِ ِه َث َمن ًا َقلِي ً‬
‫َو َي ْش ََت َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة‪َ ،‬والَ ي َزك ِ‬
‫يم}‪( ،‬البقرة‪ ،)332/‬وقال‪{ :‬إِ َّن ا َّلذ َ‬
‫ين‬ ‫اب َأل ٌ‬ ‫ِّيه ْم‪َ ،‬و َْل ْم َع َذ ٌ‬
‫اآلخ َر ِة َوالَ ي َك ِّلمهم‬
‫ك الَ َخال ََق َْلم ِِف ِ‬
‫ْ‬ ‫ال أ ْو َلئِ َ‬
‫ون بِ َع ْه ِد اهللهِ َو َأ ْي ََم ِ َِّن ْم َث َمن ًا َقلِي ً‬
‫َي ْش ََت َ‬

‫يم}‪( ،‬آل عمران‪،)33/‬‬‫ِ‬ ‫اهلله َوالَ َينظر إِ َل ْي ِه ْم َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة َوالَ ي َز ِّك ِ‬


‫اب َأل ٌ‬
‫يه ْم َو َْل ْم َع َذ ٌ‬
‫فَّم باله يرى اهلل تعاىل يقول‪ :‬إنه ال يزكي الكفار‪ ،‬أي‪ :‬ال يطهرهم‪ ،‬ويعذهبم عذاب ًا‬
‫ألي ًَّم‪ ،‬ونراه يقول‪ :‬بل إن اهلل تعاىل يزكيهم ويطهرهم‪ ،‬حتى يدخلهم اجلنة‬
‫‪136‬‬
‫وينعمهم فيها؟!‪ ،‬فاهلل تعاىل يف رأيه يفعل األفعال‪ ،‬لدواع وموجبات‪ ،‬تستلزم‬
‫ِ‬
‫واملوجب‪ ،‬فليس هلل تعاىل بعد ذلك أن‬ ‫فع َله‪ ،‬فإذا ا‬
‫تم مقتىض احلكم‪ ،‬والداعي‪،‬‬
‫َ‬
‫الفعل‪ ،‬وليس هذا؛ إال عني اإلجياب عىل اهلل تعاىل‪.‬‬ ‫يفعل‬

‫‪137‬‬
‫مالحظة مهمة‪:‬‬
‫قد يقول بعضهم‪ :‬إن عدنان إبراهيم مال إىل فناء النار‪ ،‬ومال إىل عدم بقاء‬
‫النار‪ ،‬ومل جيزم بذلك‪ ،‬وقال إن األدلة ال تدل عىل بقاء النار جزم ًا‪ ،‬أال يكفي ميله‬
‫إىل ذلك كله للرد عليه؟!‪.‬‬
‫نقول‪ :‬بىل! فكَّم كفاه جمرد ميله للرد عىل من َيالفهم‪ ،‬فيكفينا جمرد ميله‬
‫ذاك؛ للرد عليه‪.‬‬
‫وقال‪ :‬إن الكفار يتطهرون من دنسهم وكفرهم يف العذاب‪ ،‬ثم َيرجهم‬
‫واملطهر من الكفر والدنس‪ ،‬يصبح طيب ًا بالرضورة‪.‬‬
‫ا‬ ‫اهلل تعاىل‪،‬‬
‫ومل يقل عدنان إبراهيم إن اهلل تعاىل يعدمهم ويفنيهم بعد ذلك‪ ،‬وذكر قوله‬

‫ين}‪( ،‬الزمر‪ ،)31/‬الواردة يف‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬


‫تعاىل‪َ { :‬س َال ٌم َع َل ْيك ْم ط ْبت ْم َفا ْدخل َ‬
‫وها َخالد َ‬
‫املؤمنني‪ ،‬ليقول‪ :‬إن الطيب يدخل اجلنة‪ ،‬وقال إن اجلنة ال يدخلها إال طيب‪.‬‬
‫وقال عدنان إبراهيم ما معناه‪( :‬إن ابن قيم اجلوزية؛ أشار إىل مآل الكفار‬
‫بعد خروجهم من النار‪ ،‬أي‪ :‬يذهبون بإشارات‪ ،‬ولكن ليس اآلن حمل الكالم‬
‫عليه‪ ،‬فهذا موضوع آخر)‪.‬‬
‫وقال بالنص‪( :‬يبدو أن احلكمة ـ أي حكمة التعذيب ـ أن يطهرهم من‬
‫خبث‪ ،‬ودنس‪ ،‬ونجاسة‪ ،‬الرشك والكفر‪ ،‬ألن اجلنة ـ هذا موضوع آخر ـ نذكره‬

‫بعد ذلك‪ ،‬كَّم أملع ابن القيم واهلل أعلم ـ ال يدخلها إال طيب { َس َال ٌم َع َل ْيك ْم طِ ْبت ْم‬

‫ين}‪ ،‬هؤالء ليسوا بطيبني‪ ،‬فال يدخلون اجلنة‪{ ،‬إنه من يَشك‬ ‫ِِ‬
‫َفا ْدخل َ‬
‫وها َخالد َ‬

‫‪138‬‬
‫باهلل فقد حرم اهلل عليه اجلنة}‪ ،‬فإذا دخلوها‪ ،‬وص َلوها‪ ،‬وتطهروا‪ ،‬هل يبقى‬
‫موجب أو دا ٍع لبقائهم يف جهنم؟!‪ ،‬ولذلك يبدو أن هذه النار تفنى‪ ،‬وَيرج منها‬
‫هؤالء)‪.‬‬
‫هذا هو كالم عدنان إبراهيم بنصه‪ ،‬ويعني أن الكفار إذا تطهروا من الكفر‬
‫والدنس‪ ،‬فمصريهم اجلنة‪ ،‬أو دار أخرى يثابون فيها‪ ،‬وهذا معنى اجلنة‪ ،‬أو أن اهلل‬
‫ِ‬
‫ويعدمم‪ ،‬وهذا ال دليل له عليه أبد ًا؟ كَّم ال دليل عىل فناء النار!‪،‬‬ ‫تعاىل يفنيهم‬
‫وهذا السؤال ينبغي عليه أن َييب عنه‪ ،‬وينبغي عىل مؤيديه أن يسألوه إياه!‪.‬‬
‫ابن تيمية عندما قال بقوله‬
‫وهذا هو نفس ما ألزم به اإلمام التقي السبكي؛ َ‬
‫هذا‪ ،‬فقال رمحه اهلل ‪(:‬وقد أخرب تعاىل أن أهل اجلنة والنار ال يموتون‪ ،‬فال بد هلم‬
‫واحلي ال َيلو‬
‫ّ‬ ‫من دار‪ ،‬وحمال أن يعذبوا بعد دخول اجلنة‪ ،‬فلم يبق إال دار النعيم‪،‬‬
‫من لذة أو من أملٍ‪ ،‬فإذا انتفى األمل تعينت اللذة الدائمة‪.‬‬
‫قلت ـ أي تقي الدين السبكي ـ‪( :‬قد رصح بَّم رصح به يف آخر كالمه‪،‬‬
‫فيقتيض أن إبليس‪ ،‬وفرعون‪ ،‬وهامان‪ ،‬وسائر الكفار يصريون؛ إىل النعيم املقيم‪،‬‬
‫واللذة الدائمة!!‪ ،‬وهذا ما قال به مسلم‪ ،‬وال نرصاين‪ ،‬وال هيودي‪ ،‬وال مرشك‪،‬‬
‫وال فيلسوف‪.‬‬
‫أما املسلمون؛ فيعتقدون دوام اجلنة والنار‪ ،‬وأما املرشك؛ فيعتقد عدم‬
‫البعث‪ ،‬وأما الفيلسوف فيعتقد أن النفوس الرشيرة يف أمل‪ ،‬فهذا القول الذي قاله‬
‫هذا الرجل؛ ما نعرف أحد ًا قاله‪ ،‬وهو خروج عن اإلسالم بمفتىض العلم إمجاالً)‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫هذا هو رد اإلمام التقي السبكي العلم املجتهد عىل ابن تيمية‪ ،‬ونالحظ أن‬
‫القول األخري الذي قال فيه‪ :‬إنه ال يعرف أحد ًا قال به‪ ،‬هو عني القول املفهوم من‬
‫كالم ابن عريب احلامتي يف كتبه‪ ،‬إال أنه مل يقل إن الكفار َيرجون من النار‪ ،‬بل قال‬
‫إن عذاهبم ينقلب عذوبة بعد فرتة معينة‪.‬‬
‫فاحلاصل‪ :‬أن هذا القول الذي يلزم ابن تيمية‪ ،‬ويلزم من يوافقه‪ ،‬مل يقل به‬
‫أحد عىل حد تقرير اإلمام السبكي‪.‬‬
‫فليتأمل هذا جيد ًا‪ ،‬وليعلم أنه قول خطري ينبغي بالعاقل أن حيتاط لنفسه‬
‫قبل االعتقاد به‪.‬‬
‫ونتساءل أيض ًا‪ :‬لو اقتنع بعض الناس أن الكفار؛ ال َيلدون يف النار‪،‬‬
‫واعتقدوا أهنم إما َيرجون منها بعد التطهر من ذنوهبم‪ ،‬إىل اجلنة‪ ،‬أو إىل دار‬
‫أخرى‪ ،‬أو يفنيهم اهلل تعاىل‪ ،‬واختاروا الكفر‪ ،‬وقالوا ال نصرب عىل شهواتنا‪ ،‬يف هذه‬
‫احلياة الدنيا‪ ،‬ونفضل أن نتنعم فيها‪ ،‬وليعذبنا اهلل ذلك اليوم املحدود‪ ،‬فإنه يطهرنا‬
‫بعد ذلك‪ ،‬ومهَّم فعل بنا فإنا راضون!‪ ،‬فإن أدخلنا اجلنة‪ ،‬أو يف دار أخرى‪ ،‬نكن‬
‫من السعداء أبد ًا؛ يف هناية األمر‪ ،‬وإن أفنانا؛ ا‬
‫فإن العذاب واآلالم تنقطع عنا‪ ،‬فإنا‬
‫ال نبقى موجودين‪.‬‬
‫فإن اختار هؤالء هذا القول؛ بناء عىل تقرير من يقرره‪ ،‬ثم إن كان األمر‬
‫احلق الذي يظهر يف يوم القيامة‪ ،‬أن النار ال تفنى‪ ،‬بل تبقى دار عذاب وآالم‪ ،‬ال‬
‫ينقلب فيها العذاب إىل عذوبة أبد ًا‪ ،‬وال هناية هلا‪ ،‬فأين يذهب هذا الذي حيرضهم‬

‫‪140‬‬
‫يف هذه احلياة الدنيا‪ ،‬عىل اعتقاد أهنا فانية‪ ،‬أال يكون هلم يف عنقه حق‪ ،‬فإهنم سوف‬
‫يتعلقون بعنقه‪ ،‬ويقولو ن هلل تعاىل‪ :‬يا رب هذا الذي أضلنا عن العقيدة‬
‫الصحيحة! فإثمنا يف عنقه!‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫األمر السابع‪ :‬الذي تعلق به‪ :‬زعمه أنه ورد تضخيم األجسام‪ ،‬ألهل النار‬
‫وأنه َل يرد هذا ِف حق أهل اجلنة‪.‬‬
‫وإنَّم أراد هبذا الزعم تفسري قوله؛ بأن عدد من يدخل اجلنة؛ أكثر مما يدخل‬

‫يف النار‪ ،‬ورد عىل من احتج بقوله تعاىل‪{ :‬ألمِلن جهنم منكم أَجعني}‪ ،‬وهذا‬
‫يستلزم كثرة الداخلني يف جهنم‪ ،‬ولكن هذا القول ال يرِض د‪ .‬عدنان إبراهيم‪،‬‬
‫فسارع إىل حماولة إبطال هذا التصور‪ ،‬مع وروده يف أحاديث‪ ،‬وتدل عليه آيات‬
‫القرآن‪ ،‬وجلأ إىل تصور آخر استمده بطريقة غريبة‪.‬‬
‫فقال‪ :‬إنه ورد أن أهل النار؛ يكون أحدهم بعد ما بني منكبيه ثالثة أيام‪،‬‬
‫ورضسه كجبل أحد‪.‬‬
‫وهذا يعني أن اهلل تعاىل يستطيع أن يمأل جهنم بخمسة‪ ،‬أو مائة‪ ،‬أو أي‬
‫عدد من الكفار‪.‬‬
‫وال يستلزم ذلك كثرة الداخلني‪ ،‬وا ّدعى أن هذا هو ما كان يريده سيدنا‬
‫حممد عليه الصالة والسالم؛ عندما قرر تضخيم حجم الكفار يف النار‪.‬‬
‫قال‪( :‬ومل يرد يشء من هذا يف حق أهل اجلنة‪ ،‬إال ما رواه أبو نعيم؛‬
‫صاحب احللية‪ ،‬عن سعيد بن جبري‪ ،‬من قوله‪ :‬ليس يأثره‪ ،‬وال يسنده‪ ،‬وهو بصيغة‬
‫التمريض؛ قال‪( :‬وكان يقال أن رجال أهل اجلنة تسعون ذراع ًا‪ ،‬وان نساء أهل‬
‫اجلنة ثَّمنون ذراع ًا)‪ ،‬هذا كالم ال يقام له وزن أبد ًا‪ ،‬ألنه ليس حديث ًا‪ ،‬وال آية‪،‬‬
‫ُ‬
‫مرسل هيان بن‬ ‫كالم فارغ؛ هكذا كان يقال‪ ،‬أبد ًا مل يقل قال النبي‪ ،‬ومل يرسله‪ ،‬هذا‬

‫‪142‬‬
‫بيان‪ ،‬مل يصح‪ ،‬مل يرد يشء يف هذا‪ ،‬لكن ورد الكثري الطيب يف حق أهل النار‪،‬‬
‫واآلن احلكمة العلة ملاذا؟‪ ،‬أنا أقول لكم‪ ،‬ألن من سيدخلها سيكون أقل عدد ًا‪،‬‬
‫عدد قليل يدخل جهنم‪ ،‬فع ً‬
‫ال هو الكافر‪ ،‬املعاند‪ ،‬املجرم‪ ،‬الذباح‪ ،‬السفاك؛ الخ‪،‬‬
‫من هؤالء الكفرة العتاة‪ ،‬والعياذ باهلل‪ ،‬من كل امللل‪ ،‬لكن ألنه أخذ عىل نفسه؛‬

‫واقسم ال إله إال هو‪{ :‬ألمالن جهنم} فكيف سيملؤها؟‪ ،‬هو يستطيع أن‬
‫يمألها بخمسة‪ ،‬أو بعرشة‪ ،‬أو بألف‪ ،‬أو بخمسة آالف‪ ،‬ألنه إذا كان رضسه مثل‬
‫جبل أحد؛ وبعد ما بني منكبيه؛ هل فهمتم هذه العلة؛ ملاذا النبي قال هذا اليشء؟‪،‬‬
‫ومل يوضح لنا؟ قال‪ :‬هذا ألقيه إليكم‪ ،‬وانتم فكروا‪.‬‬
‫كانه يقول لنا‪ :‬اهلل تبارك وتعاىل برمحته وحكمته؛ يملئ جهنم‪ ،‬لكن بعدد‬
‫قليل من هؤالء التاعسني االشقياء‪ ،‬أما اجلنة فتمتلئ أيض ًا من عند آخرها‪ ،‬ويبقى‬
‫فيها فضلة اهلل اعلم؛ يف خلقنا اجلديد‪ ،‬من غري أن تضخم أبداننا‪ ،‬ليس عندنا نص‬
‫فنبقى عىل األصل)‪.‬‬
‫أقول‪ :‬يف هذا الكالم ترسع خطري كعادته‪ ،‬فإننا نوافقه فيَّم ورد يف حق‬
‫الكفار من التضخيم‪ ،‬ولكنا ال نوافقه عىل أن ذلك يستلزم قلة من يدخلها‪ ،‬فإنه‬
‫ورد أن املؤمنني يكونون يف يوم القيامة قليلني جد ًا‪ ،‬باإلضافة إىل الكفار يف‬
‫أحاديث؛ عن رسول اهلل عليه أفضل الصالة والسالم‪ ،‬وال نوافقه فيزعمه احلكمة‬
‫التي افرتضها من التضخيم‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫وكذلك‪ :‬نقول أخطأ أيض ًا؛ مل قرر أنه مل يرد يشء يف تضخيم أهل اجلنة‪،‬‬
‫وإن مل يكن إىل حد الكفار‪ ،‬ولكن التضخيم وارد يف أحاديث صحيحة أيض ًا‪ ،‬وهو‬
‫جترأ عىل القول‪ ،‬بأن ما قيل فيها إنَّم هو كالم فارغ‪ ،‬وأنه مل يرد فيها حديث‬
‫صحيح‪ ،‬واألحاديث موجودة يف الصحيحني وغريمها؛ كَّم سرتى‪.‬‬
‫أما تضخيم أجسام الكفار يف النار‪ ،‬فقد ورد فع ً‬
‫ال‪ ،‬وال إشكال فيه‪ ،‬ولكنه‬

‫ال يستلزم أن هذه هي الطريقة الوحيدة؛ التي يتخرج هبا قوله تعاىل‪َ { :‬ق َال ْ‬
‫اخر ْج‬

‫ني}‪،‬‬ ‫ِلن جهنَّم ِمنكم َأ ِ‬ ‫ِمنْها م ْذؤوم ًا مدْ حور ًا ملََّن َتبِع َ ِ‬
‫َجع َ‬
‫ْ َْ‬ ‫ك منْه ْم ألَ ْم َّ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫ت كَلِ َمة َر ِّب َ‬
‫ك ألَ ْم َّ‬
‫ِلن‬ ‫(األعراف‪{ ،)30/‬إِالَّ َمن َّر ِح َم َر ُّب َك َولِ َذلِ َ‬
‫ك َخ َل َقه ْم َومتَ َّ ْ‬

‫ني}‪( ،‬هود‪َ { ،)335/‬و َل ْو ِش ْئنَا َآل َت ْينَا ك َّل َن ْفس‬ ‫َّاس َأ ِ‬ ‫جهنَّم ِمن ِْ ِ‬
‫اجلنَّة َوالن ِ ْ َ‬
‫َجع َ‬ ‫َ َ َ َ‬

‫ني}‪،‬‬ ‫َّاس َأ ِ‬ ‫ِل َّن جهنَّم ِمن ِْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫اجلنَّة َوالن ِ ْ َ‬
‫َجع َ‬ ‫هدَ َاها َو َلك ْن َح َّق ا ْل َق ْول منِّي َألَ ْم َ َ َ َ َ َ‬

‫ني}‪( ،‬ص‪،)09/‬‬ ‫ك ِمنْهم َأ ِ‬


‫نك َو ِمم َّن َتبِ َع َ‬
‫ِل َّن َج َهن ََّم ِم َ‬
‫(السجدة‪َ { ،)31/‬ألَ ْم َ َ‬
‫َجع َ‬
‫ْ َْ‬
‫وما ورد من كثري من األحاديث الدالة عىل كثرة الكفار‪ ،‬وهذا ما نشاهده يف‬
‫الواقع املعاش أيض ًا‪.‬‬
‫فاهتدى د‪ .‬عدنان إىل طريقته الغريبة هذه؛ ليقنع املالحدة‪ ،‬أن قلي ً‬
‫ال منهم‬
‫فقط سيدخل النار!!‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫ومل يلحظ يف فورة هجومه عىل هذه املعاين‪ ،‬أن جمرد التعبري القرآين؛ بدون‬
‫احلاجة إىل التمعن‪ ،‬والتدبر‪ ،‬والبحث‪ ،‬يف األحاديث‪ ،‬يستلزم كثرة الداخلني يف‬
‫النار الذين يصدق عليهم قسم اهلل تعاىل املذكور يف اآليات‪.‬‬
‫عىل أنا لن نطيل املكوث معه يف هذا املعنى الغريب املترسع‪ ،‬بل نريد‬
‫تنبيهه؛ إىل أن ما نفاه من تضخيم أجسام أهل اجلنة‪ ،‬وارد أيض ًا يف الصحاح‪ ،‬وأن‬
‫أهل العلم يعرفونه‪ ،‬وأنه مشهور بينهم‪ ،‬وما ذكره من نفي وجوده يف الصحاح‪،‬‬
‫وأن ما زعمه من ا‬
‫أن األصل بقاء الناس الذين يدخلون اجلنة عىل أصل حجمهم؛‬
‫الذين هم عليه يف الدنيا‪ ،‬جمرد ترسع ككثري من ترسعاته‪ ،‬وغفالته يف كالمه‪.‬‬
‫فقد ورد يف األحاديث أن حجمهم يكون عىل ستني ذراع ًا؛ عىل صورة آدم‬
‫عليه السالم‪ ،‬وهي أحاديث صحيحة أيض ًا‪ ،‬ال ينبغي أن يترسع بنفيها‪ ،‬قبل‬
‫البحث‪.‬‬
‫وهذه املالحظات كلها تدل عىل أن الرجل مترسع‪ ،‬مبالغ يف هجومه عىل‬
‫املعاين‪ ،‬بدون تدبر ٍ‬
‫كاف‪ ،‬وهذا يدل عىل كثري من اآلفات‪ ،‬التي نرجو أن ال يغرق‬
‫فيها‪ ،‬فإنا ال نتمنى له؛ إال الوقوف‪ ،‬والتدبر‪ ،‬والتأمل‪ ،‬بصورة أدق؛ وأحسن‪ ،‬لئال‬
‫يكون من الضالني املضلني؛ النافرين املنفرين‪ ،‬وهم حيسبون أهنم حيسنون صنع ًا‪.‬‬
‫وهاكم بعض األحاديث والروايات‪ ،‬وبعض تعليقات العلَّمء عليها‪:‬‬
‫حديث أيب هريرة؛ بلفظ‪( :‬خلق اهلل عز وجل آدم عىل صورته‪ ،‬طوله ستون ذراع ًا‪،‬‬

‫‪145‬‬
‫فلَّم خلقه؛ قال‪ :‬اذهب فسلم عىل أولئك النفر ـ وهم نفر من املالئكة جلوس ـ‬
‫فاستمع ما حي ُّيونك‪ ،‬فإهنا حتيتك وحتية من بعدك ‪ )...‬احلديث ‪.‬‬
‫‪،)5443‬‬ ‫والبخاري(‪،1145‬‬ ‫عبدالرزاق(‪،)35219‬‬ ‫أخرجه‬
‫ومسلم(‪ ،)4023‬وابن خزيمة يف التوحيد( ‪51/3‬ـ‪ ،)52‬وابن حبان(‪،)5354‬‬
‫وابن منده يف الرد عىل اجلهمية؛ ص(‪23‬ـ‪ ،)24‬والاللكائي يف رشح أصول اعتقاد‬
‫أهل السنة واجلَّمعة(‪ ،)334 ،333‬والبيهقي يف األسَّمء والصفات(‪،519‬‬
‫‪ ،)515‬والبغوي يف رشح السنة(‪.)1450‬‬
‫ويف مسند اإلمام أمحد‪ ،‬عن أيب صالح‪ ،‬عن أيب هريرة؛ قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫صىل اهلل عليه وسلم‪( :‬أن أول زمرة تدخل اجلنة عىل صورة القمر ليلة البدر‪ ،‬ثم‬
‫الذين يلوَّنم‪ ،‬عىل أشد ضوء كوكب درى ِف السَمء‪ ،‬إضاءة‪ ،‬ال يبولون‪ ،‬وال‬
‫يتغوطون‪ ،‬وال يتفلون‪ ،‬وال يمتخطون‪ ،‬أمشاطهم الذهب‪ ،‬ورشحهم املسك‪،‬‬
‫وَمامرهم األلوة‪ ،‬وأزواجهم احلور العني‪ ،‬أخالقهم عىل خلق رجل واحد‪ ،‬عىل‬
‫صورة أبيهم آدم؛ ِف طول ستني ذراع ًا)‪.‬‬
‫قال شعيب األرنؤوط‪ :‬إسناده صحيح؛ عىل رشط الشيخني‪ ،‬إن كان ذكر‬
‫أيب صالح فيه حمفوظ ًا‪.‬‬
‫َ‬
‫احلديث‪ ،‬عن أيب هريرة بسند آخر برقم[‪ ،]3245‬وحكم‬ ‫وأورد أمحد‬
‫عليه الشيخ شعيب؛ بأنه صحيح عىل رشط الصحيحني‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫جاء يف البعث والنَش للبيهقي‪ ،‬عن أيب هريرة‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل صىل‬
‫اهلل عليه وسلم‪( :‬أول زمرة تدخل اجلنة من أمتي عىل صورة القمر ليلة البدر‪ ،‬ثم‬
‫الذين يلوَّنم عىل أشد نجم ِف السَمء أضاءة‪ ،‬ثم هم بعد ذلك منازل‪ ،‬ال‬
‫يت غوطون‪ ،‬وال يبولون‪ ،‬وال يتمخطون‪ ،‬وال يبزقون‪ ،‬أمشاطهم الذهب‪ ،‬وَمامرهم‬
‫األلوة‪ ،‬ورُيهم املسك‪ ،‬أخالقهم عىل خلق رجل واحد عىل طول أبيهم آدم ستني‬
‫ذراع ًا)‪ ،‬رواه مسلم‪ ،‬يف الصحيح‪ ،‬عن أيب بكر بن أيب شيبة‪ ،‬وأيب كريب‪ ،‬عن أيب‬
‫معاوية‪ ،‬وأخرجاه من حديث مهام بن منبه‪ ،‬عن أيب هريرة‪ ،‬وقال يف رواية أيب‬
‫زكريا‪( :‬عىل خلق رجل واحد)‪.‬‬
‫وفيه عن أيب هريرة‪ ،‬أن رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم قال‪( :‬يدخل فقراء‬
‫املسلمني اجلنة؛ قبل أغنيائهم بنصف يوم‪ ،‬مقداره مخس مائة عام‪ ،‬عىل خلق آدم‪،‬‬
‫ثَمنية عَش ذراع ًا‪ِ ،‬ف سبعة أذرع)‪ ،‬قال شمري‪( :‬وما ذاك الذراع؟‪ ،‬قال‪ :‬كأطولكم‬
‫رج ً‬
‫ال)‪.‬‬
‫وقال البيهقي معلق ًا عىل الرواية التي فيها‪( :‬أن طول الواحد منهم ثَّمنية‬
‫عرش ذراع ًا)‪( :‬ورواية أيب صالح‪ ،‬ومهام ‪ ،‬وأيب زرعة ‪ ،‬عن أيب هريرة ‪ ،‬عىل صورة‬
‫آدم ستني ذراعا أصح من هذه الرواية)‪.‬‬
‫وفيه أيض ًا؛ عن أيب هريرة‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫(ليدخلن أهل اجلنة اجلنة؛ جرد ًا‪ ،‬مرد ًا‪ ،‬بيض ًا‪ ،‬جعاد ًا‪ ،‬مكحلني‪ ،‬أبناء ثالث‬
‫وثالثني‪ ،‬وهم عىل خلق آدم ستني ذراع ًا ِف سبعة أذرع)‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫وفيه أيض ًا‪ :‬حدثني الزبيدي حممد بن الوليد بن عامر‪ ،‬أن املقدام حدثهم‬
‫أن رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم؛ قال‪( :‬ما من أحد يموت سقط ًا‪ ،‬وال هرم ًا‪،‬‬
‫وإنَم الناس فيَم ذلك إال بعث ابن ثالثني سنة‪ ،‬فإن كان من أهل اجلنة‪ ،‬كان مسحة‬
‫آدم‪ ،‬وصورة يوسف‪ ،‬وقلب أيوب‪ ،‬ومن كان من أهل النار عظموا‪ ،‬وفخموا‬
‫كاجلبال)‪.‬‬
‫ِض اهللُ َعنْ ُه‪َ ،‬ع ْن َر ُسول اهلل‬‫ِ‬
‫ويف تفسري ابن أيب حاتم‪َ ،‬ع ْن أبى ه َر ْي َر َة َر َ‬
‫َص اىل اهللُ َع َل ْي ِه َو َس ال َم‪ِ ،‬يف َق ْول ِ ِه‪َ {(:‬ي ْوم َندْ عو ك هل أنَاس بِإِ َم ِام ِهم}‪َ ،‬ق َال‪ :‬يدعى‬
‫أحدهم‪ ،‬فيعطى كتابه بيمينه‪ ،‬ويمد َله ِف جسمه ستني ذراع ًا‪ ،‬ويبيض وجهه‪،‬‬
‫وَيعل َع َىل رأسه؛ تاج ًا ِم ْن نور يتِلأل‪ ،‬فينطلق إِ َىل أصحابه؛ فريونه ِم ْن بعيد‪،‬‬
‫فيقولون‪ :‬اللهم ائتنا ِّبذا‪ ،‬وبارك لنا ِف َه َذا‪ ،‬حتى يأتيهم‪َ ،‬ف َي ُق ُ‬
‫ول‪ :‬أبَشوا‪ ،‬لكل‬
‫رجل منكم مثل َه َذا‪ ،‬وأما الكافر فيسود وجهه‪ ،‬ويمد َله ِف جسمه ستني ذراع ًا‪،‬‬
‫َع َىل صورة آدم‪ ،‬ويلبس تاج ًا ِم ْن نار‪ ،‬فرياه أصحابه‪ ،‬فيقولون‪ :‬نعوذ باهلل ِم ْن ْش‬
‫َه َذا‪ ،‬اللهم ال تأتنا ِّبذا‪َ ،‬ق َال‪ :‬فيأتيهم‪ ،‬فيقولون‪َ :‬ر ُّبنَا اخره‪َ ،‬ف َيقول‪ :‬أبعدكم اهلل‬
‫فإن لكل رجل منكم مثل َه َذا)‪.‬‬

‫َان ِِف َه ِذ ِه َأ ْع َمى}‪.‬‬


‫َق ْول ُه َت َع َاىل‪َ { :‬و َم ْن ك َ‬
‫ويف الدر املنثور لإلمام السيوطي‪( :‬وأخرج ابن إسحاق يف املبتدأ‪ ،‬وابن‬
‫سعد‪ ،‬وأمحد‪ ،‬وعبد بن محيد‪ ،‬وابن أيب الدنيا؛ يف التوبة‪ ،‬وابن املنذر‪ ،‬وابن أيب‬
‫حاتم‪ ،‬واحلاكم؛ وصححه‪ ،‬وابن مردويه‪ ،‬والبيهقي؛ يف البعث والنشور‪ ،‬عن أيب‬

‫‪148‬‬
‫ال طواالً‪ ،‬كأنه‬
‫ابن كعب‪ ،‬عن النبي صىل اهلل عليه وسلم؛ قال‪( :‬إن آدم كان رج ً‬
‫نخلة سحوق؛ ستني ذراع ًا ‪ ،‬كثري شعر الرأس‪ ،‬فلَم ركب اْلطيئة‪ ،‬بدت له‬
‫عورته‪ ،‬وكان ال يراها قبل ذلك‪ ،‬فانطلق هارب ًا ِف اجلنة‪ ،‬فتعلقت به شجرة‪،‬‬
‫فأخذت بناصيته‪ ،‬فقال هلا‪ :‬ارسليني‪ ،‬قالت‪ :‬لست بمرسلتك‪ ،‬وناداه ربه‪ :‬يا آدم‬
‫أمني تفر؟‪ ،‬قال‪ :‬يا رب إين استحييتك‪ ،‬قال‪ :‬يا آدم اخرج من جواري‪ ،‬فبعزِت؛ ال‬
‫أساكن من عصاين‪ ،‬ولو خلقت ملء األرض مثلك خلق ًا‪ ،‬ثم عصوين؛ السكنتهم‬
‫عل؟‪ ،‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬يا آدم)‪.‬‬
‫دار العاصني‪ ،‬قال‪ :‬أرأيت إن أنا تبت‪ ،‬ورجعت أتتوب َّ‬
‫وأخرج ابن عساكر من حديث أنس مثله‪.‬‬
‫وقال السيوطي؛ يف الدر املنثور‪( :‬وأخرج الَتمذي؛ وحسنه‪ ،‬والبزار‪،‬‬
‫وابن أيب حاتم‪ ،‬وابن حبان‪ ،‬واحلاكم؛ وصححه‪ ،‬وابن مردويه‪ ،‬عن أيب هريرة‬

‫رِض اهلل عنه‪ ،‬عن رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم يف قوله‪{ :‬يوم ندعو كل أناس‬

‫بإمامهم}‪ ،‬قال‪ :‬يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه‪ ،‬و ُي َمدّ َل ُه يف جسمه ستني‬
‫ذراع ًا‪ ،‬ويبيض وجهه‪ ،‬وجيعل عىل رأسه تاج من نور يتألأل‪ ،‬فينطلق إىل أصحابه‬
‫فريونه من بعيد؛ فيقولون‪ :‬اللهم ائتنا هبذا‪ ،‬وبارك لنا يف هذا‪ ،‬حتى يأتيهم فيقول‪:‬‬
‫فيسود له وجهه‪ ،‬و ُي َمدّ له يف‬
‫ّ‬ ‫أبرشوا لكل رجل منكم مثل هذا‪ ،‬وأما الكافر‪،‬‬
‫جسمه؛ ستني ذراع ًا عىل صورة آدم‪ ،‬ويلبس تاج ًا من نار؛ فرياه أصحابه فيقولون‪:‬‬
‫نعوذ باهلل من رش هذا‪ ،‬اللهم ال تأتنا هبذا‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫قال فيأتيهم؛ فيقول‪ :‬ربنا ّ‬
‫أخ ْره فيقول ‪ :‬ابعدكم اهلل ‪ ،‬فإن لكل رجل منكم‬
‫مثل هذا)‪.‬‬
‫وورد نحو هذا يف خلق آدم؛ وأنه ستون ذراع ًا‪ ،‬عن أنس رِض اهلل عنه‪،‬‬
‫وعن أيب بن كعب‪.‬‬

‫وقال يف بحر العلوم يف وصف قوم عاد؛ عند قوله تعاىل‪َ { :‬و َزا َدك ُْم ِيف‬

‫اخلَ ْل ِق َب ْس َط ًة}‪( :‬قال ابن عباس رِض اهلل عنهَّم‪ ،‬كان أطوهلم مائة ذراع‪،‬‬
‫ْ‬
‫وأقرصهم ستني ذراع ًا‪.‬‬
‫وروى إبراهيم بن يوسف‪ ،‬عن املسيب‪ ،‬عن الكلبي؛ قال‪ :‬كان طول قوم‬
‫عاد أطوهلم مائة وعرشين ذراع ًا‪ ،‬وأقرصهم ثَّمنون ذراع ًا‪.‬‬
‫وقال مقاتل‪ ،‬عن قتادة‪( :‬كان طول كل رجل منهم؛ اثني عرش ذراع ًا)‪.‬‬

‫ين َك َفروا بِآ َياتِنَا‬ ‫ِ‬


‫وقال العالمة األلويس؛ يف تفسري قوله تعاىل‪{ :‬إِ َّن ا َّلذ َ‬
‫ِ‬ ‫يهم نَارا ك َّلَم ن ِ‬
‫ِ ِ‬
‫اب‬‫َري َها ل َيذوقوا ا ْل َع َذ َ‬
‫ت جلوده ْم َبدَّ ْلنَاه ْم جلو ًدا غ ْ َ‬
‫َض َج ْ‬ ‫ف ن ْصل ْ ً َ‬ ‫َس ْو َ‬

‫َان َع ِزيزًا َحكِ ًيَم}‪( :‬فاحلق أن العذاب عىل النفس احلساسة‪ ،‬بأي بدن‬ ‫إِ َّن ا ََّ‬
‫هلل ك َ‬
‫حلت‪ ،‬ويف أي جلد كانت‪ ،‬وكذا يقال يف النعيم‪ ،‬ويؤيد هذا؛ أن من أهل النار من‬
‫يمأل زاوية من زوايا جهنم‪ ،‬وأن سن اجلهنمي؛ كجبل أحد‪ ،‬وأن أهل اجلنة‬
‫يدخلوهنا؛ عىل طول آدم عليه السالم‪ ،‬ستني ذراع ًا‪ ،‬يف عرض سبعة أذرع)‪.‬‬
‫ويف عمدة القاري للعيني‪( :‬وقال القرطبي‪ :‬إن اهلل تعاىل يعيد أهل اجلنة إىل‬
‫خلقه أصلهم‪ ،‬الذي هو آدم عليه الصالة والسالم‪ ،‬وعىل صفته وطوله‪ ،‬الذي‬
‫‪150‬‬
‫خلقة اهلل عليه يف اجلنة‪ ،‬وكان طوله فيها ستني ذراع ًا يف االرتفاع‪ ،‬بذارع نفسه‪،‬‬
‫قال‪ :‬وحيتمل أن يكون هذا الذراع مقدر ًا بأذرعتنا؛ املتعارفة عندنا‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه كان‬
‫يقارب أعاله السَّمء‪ ،‬وأن املالئكة كانت تتأذى بن َف ِسه‪ ،‬فخفضه اهلل إىل ستني‬
‫ذراع ًا‪ ،‬وظاهر احلديث خالفه)‪.‬‬
‫الر از ِاق‪َ ،‬ع ْن‬ ‫ويف مسلم برقم [‪ ]5443‬ـ حدا ثنا حييى ب ُن َج ْع َفر‪ ،‬حدثنا َع ْبدُ ا‬
‫ورتِ ِه‪ُ ،‬طو ُل ُه‬
‫مها ٍم‪َ ،‬ع ْن أيب ُه َر ْي َر َة؛ َع ِن النبي؛ قال‪َ ( :‬خ َل َق اهلل آ َد َم َع َىل ُص َ‬
‫َم ْع َمر‪َ ،‬ع ْن َ ا‬
‫والئ َك الن َف ِر ِم َن املَال َِئك َِة‪،‬‬
‫ُّون ِذراع ًا‪َ ،‬ف َلَّم َخ َل َقه‪ ،‬قال‪ :‬اذهب َفس ِّلم َع َىل ُأ ِ‬
‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ا‬ ‫ِست َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َك؛ فإِهنا َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ال ُم َع َل ْيك ُْم‪،‬‬ ‫تك‪َ ،‬و َحت اي ُة ُذ ار ايت َك‪ ،‬فقال‪ :‬ا‬
‫الس َ‬ ‫حت اي َ‬ ‫ا‬ ‫حي ُّيون َ‬
‫فاستَم ْع ما ُ َ‬ ‫ُج ُل ٌ‬
‫وس‪ْ ،‬‬
‫مح ُة اهلل‪َ ،‬فك ُُّل َم ْن َيدْ ُخ ُل ا َ‬
‫جلنا َة؛ َع َىل‬ ‫مح ُة اهلل‪َ ،‬ف َزا ُدو ُه‪َ :‬و َر ْ َ‬‫ال ُم َع َل ْي َك َو َر ْ َ‬
‫الس َ‬‫فقا ُلوا‪ :‬ا‬
‫ص ِ‬
‫اآلن)‪.‬‬‫ص َب ْعدُ َحتاى َ‬ ‫ورة آ َد َم‪َ ،‬ف َل ْم َي َز ْل اخلَ ْل ُق َينْ ُق ُ‬
‫ُ َ‬
‫وقال العيني؛ يف ْشحه‪( :‬قوله‪ :‬عىل صورته‪ ،‬أي‪ :‬عىل صورة آدم‪ ،‬ألنه‬
‫ال ستني ذراع ًا‪ ،‬كَّم‬
‫أقرب‪ ،‬أي‪ :‬خلقه يف أول األمر‪ ،‬برش ًا سوي ًا‪ ،‬كامل اخللقة‪ ،‬طوي ً‬
‫هو املشاهد‪ ،‬بخالف غريه‪ ،‬فإنه يكون أوالً نطفة‪ ،‬ثم علقه‪ ،‬ثم مضغة‪ ،‬ثم جنين ًا‪،‬‬
‫ال‪ ،‬ثم رج ً‬
‫ال‪ ،‬حتى يتم طوله‪ ،‬فله أطوار‪.‬‬ ‫ثم طف ً‬
‫وقال ابن بطال‪ :‬أفاد بذلك إبطال قول الدهرية‪ ،‬إنه مل يكن قط إنسان‪ ،‬إالا‬
‫من نطفة‪ ،‬وال نطفة إالا من إنسان‪ ،‬وقول القدرية‪ :‬إن صفات آدم عىل نوعني؛ ما‬
‫خلقها اهلل تعاىل‪ ،‬وما خلقها آدم بنفسه)‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫ويف صحيح البخاري أيض ًا؛ برقم(‪َ ،)1035‬ح ِد ُ‬
‫يث َأ ِيب ه َر ْي َرة‪َ ( :‬خ َل َق اهللا‬
‫ُّون ِذ َراع ًا)‪ ،‬قال ابن حجر‪َ :‬ك َذا َو َق َع ِم ْن َه َذا ا ْل َو ْجه‪َ ،‬و َع ْبد اهللا‬ ‫آ َدم َو ُطوله ِست َ‬
‫ِ‬
‫الر ازاق‪َ ،‬ع ْن َم ْع َمر؛ َف َق َال‪:‬‬ ‫الر ِاوي‪َ ،‬ع ْن َم ْع َمر؛ ُه َو ا ْبن املُْ َب َارك‪َ ،‬و َقدْ َر َوا ُه َع ْبد ا‬
‫ا‬
‫الر َوا َية َت ْأ ِيت ِيف َأ اول‬ ‫ِِ‬ ‫( َخ َل َق اهللَّ آدم ع َىل صورته؛ وطوله ِست َ ِ‬
‫ُّون ذ َراع ًا)‪َ ،‬و َهذه ِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫اال ْستِ ْئ َذان‪َ ،‬و َقدْ َت َقدا َم ا ْلك ََالم َع َىل َم ْعنَى َه ِذ ِه ال ال ْف َظة؛ ِيف َأ ْثنَاء ِكتَاب ا ْل ِعتْق‪َ ،‬و َه ِذ ِه‬ ‫ِ‬

‫الض ِمري ِآل َدم‪َ ،‬واملَْ ْعنَى َأ ان اهللا َت َع َاىل َأ ْو َجدَ ُه َع َىل ْاهل َ ْي َئة‬
‫الر َوا َية ت َُؤ ِّيد َق ْول َم ْن َق َال‪ :‬إِ ان ا‬
‫ِّ‬
‫ا التِي َخ َل َق ُه َع َل ْي َها‪َ ،‬مل ْ َينْت َِقل ِيف الن ْاش َأة َأ ْح َو ًاال‪َ ،‬و َال ت ََر اد َد ِيف ْاألَ ْر َحام َأ ْط َوار ًا‪ ،‬ك َُذ ِّر ايتِ ِه‪،‬‬
‫ب َذل ِ َك بِ َق ْول ِ ِه‪:‬‬ ‫الروح‪ُ ،‬ث ام َع اق َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َب ْل َخ َل َق ُه اهللا َر ُج ًال كَام ًال َس ِو ًّيا؛ م ْن َأ اول َما َن َف َخ فيه ُّ‬
‫الض ِمري َأ ْيض ًا َع َىل آ َدم‪َ ،‬و ِق َيل َم ْعنَى َق ْوله‪( :‬ع ََىل‬ ‫ُّون ِذ َراع ًا)‪َ ،‬ف َعا َد ا‬ ‫( َوطوله ِست َ‬
‫ارك ُه ِيف َخ ْلقه َأ َحد‪ ،‬إِ ْب َطاالً ل ِ َق ْو ِل َأ ْهل ال اط َب ِائع‪.‬‬ ‫ورته)‪َ :‬أ ْي َمل ُي َش ِ‬
‫ْ‬ ‫ص َ‬
‫الذك ِْر َتنْبِ ًيها بِ ْاألَ ْع َىل َع َىل ْاألَ ْدنَى‪َ ،‬واهللاُ َأ ْع َلم‪.‬‬
‫ص بِ ِّ‬ ‫َو ُخ ا‬
‫ورة آ َدم)‪َ ،‬أ ْي َع َىل‬‫اجلنَّة َع َىل ص َ‬‫وقال ابن حجر‪َ ( :‬ق ْوله‪َ :‬فك هل َم ْن َيدْ خل َْ‬

‫ِص َفته‪َ ،‬و َه َذا َيدُ ّل َع َىل َأ ان ِص َفات النا ْقص ِم ْن َس َواد َو َغ ْريه‪َ ،‬تنْتِ ِفي ِعنْد ُد ُخول‬
‫الر ازاق ِيف ِر َوا َيته ُهنَا‪:‬‬ ‫اجلناة‪َ ،‬و َقدْ َت َقدا َم َب َيان َذل ِ َك ِيف‪َ ( :‬باب ِص َفة َْ‬
‫اجلنَّة) َو َزا َد َع ْبد ا‬ ‫َْ‬
‫ُّون ِذ َراع ًا)‪َ ،‬وإِ ْث َبات ا ْل َواو فِ ِيه‪ ،‬ل ِ َئ اال ُيت ََو اهم َأ ان َق ْوله‪( :‬طوله)‪َ ،‬ت ْف ِسري‬
‫( َوطوله ِست َ‬
‫اص َب ْعد ا ْل َعا ّم‪،‬‬ ‫ورة آ َدم)‪َ ،‬و َع َىل َه َذا َف َق ْوله‪( :‬طوله) إِ َل ْخ‪ِ ،‬م ْن ْ‬
‫اخلَ ّ‬
‫ِ ِِ‬
‫ل َق ْوله‪َ ( :‬ع َىل ص َ‬
‫َان ُطول‬ ‫محد‪ِ ،‬م ْن َط ِريق َس ِعيد ْبن املْ َس َّيب‪َ ،‬ع ْن َأ ِيب ه َر ْي َرة َم ْر ُفوع ًا‪( :‬ك َ‬ ‫ِ‬
‫َو َو َق َع عنْد َأ ْ َ‬
‫آخر‬ ‫الرزَّاق‪ِ ،‬م ْن َو ْجه َ‬ ‫آدم ِست َ ِ‬
‫ِّني ذ َراع ًا‪ِ ،‬يف َس ْب َعة َأ ْذ ُرع َع ْرض ًا)‪َ ،‬و َأ اما َما َر َوى َع ْبد َّ‬ ‫َ‬

‫‪152‬‬
‫الس ََمء‪َ ،‬ف َح َّطه اهللَّ‬‫َت ِر ْج َاله ِِف ْاألَ ْرض‪َ ،‬و َر ْأسه ِِف َّ‬ ‫َم ْر ُفوع ًا‪َ ( :‬أ َّن آ َدم ملََّا أ ْهبِ َط؛ كَان ْ‬
‫احلَ ِديث‬ ‫اهر ْ‬ ‫َان م ْف ِرط ال ُّطول؛ ِيف اِبتِدَ اء َخ ْلقه‪ ،‬و َظ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫ِّني ذ َراع ًا)‪َ ،‬ف َظاهره َأ ان ُه ك َ ُ‬
‫إِ َىل ِست ِ‬
‫َ‬
‫ِّني ِذ َراع ًا‪َ ،‬و ُه َو ا ُْمل ْعت ََمد‪.‬‬
‫الص ِحيح‪َ ،‬أ ان ُه ُخلِ َق ِيف اِ ْبتِدَ اء ْاألَ ْمر َع َىل ُطول ِست َ‬‫ا‬
‫وروى اِبن َأ ِيب حاتِم ـ بِإِسن ٍ‬
‫َاد َح َس ٍن ـ َع ْن أ َ ِّيب ْبن َك ْعب َم ْر ُفوع ًا‪َ ( :‬أ َّن اهللَّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ ْ‬
‫الر ْأس‪ ،‬ك ََأنَّه َنخْ َلة سحوق)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َخ َل َق آ َدم َرج ًال ط َواالً؛ كَثري َش ْعر َّ‬
‫اْل ْلق َينْقص؛ َحتَّى ْاآلن)‪َ ،‬أ ْي‪َ :‬أ ان ك ُّل َق ْرن َيكُون ن ََش ْأته‬ ‫َق ْوله‪َ ( :‬ف َل ْم َيز َْل َْ‬

‫ِيف ال ُّطول؛ َأ ْق َرص ِم ْن ا ْل َق ْرن ا ال ِذي َق ْبله‪َ ،‬فا ْنت ََهى َتنَا ُقص ال ُّطول إِ َىل َه ِذ ِه ْاألُ امة‬
‫َوا ْس َت َق ار ْاألَ ْمر َع َىل َذل ِ َك‪.‬‬
‫الش ْخص‬ ‫اْل ْلق َينْقص)‪َ ،‬أ ْي‪ :‬ك َََّم َي ِزيد ا‬ ‫َو َق َال اِ ْبن التِّني‪َ ( :‬ق ْوله‪َ :‬ف َل ْم َي َز ْل َْ‬

‫ني‪َ ،‬حتاى إِ َذا َك ُث َر ْت ْاألَ ايام‬‫َني‪َ ،‬و َال ا ْل َي ْو َم ْ ِ‬


‫اعت ْ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الس َ‬‫َش ْيئ ًا َف َش ْيئ ًا‪َ ،‬و َال َي َت َب اني َذل َك ف َيَّم َب ْني ا‬
‫وجد ْاآلن ِم ْن آ َثار‬ ‫احلكْم ِيف النا ْقص‪َ ،‬و َي ْشكُل َع َىل َه َذا؛ َما ُي َ‬
‫ِ‬
‫ني‪َ ،‬فك ََذل َك َه َذا ْ ُ‬ ‫َت َب ا َ‬
‫ِ‬ ‫السال ِ َفة‪ ،‬ك َِد َي ِ‬
‫اهتم َمل ْ َت ُك ْن ُم ْف ِر َطة‬ ‫ار َث ُمود‪َ ،‬فإِ ان َم َساك ْ‬
‫نهم تَدُ ّل َع َىل َأ ان َقا َم ْ‬ ‫ْاألُ َمم ا‬
‫دهم َق ِديم‪َ ،‬و َأ ان‬‫السابِق‪َ ،‬و َال َش اك َأ ان َع ْه ْ‬
‫ال ُّطول‪َ ،‬ع َىل حسب ما ي ْقت َِضيه ا ِ‬
‫الرتتيب ا‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ِ ِ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نهم َو َب ْني أ اول َهذه ْاأل امة‪َ ،‬و َمل ْ‬ ‫الز َمان ا الذي َب ْي ْ‬
‫نهم َو َب ْني آ َدم‪ُ ،‬دون ا‬‫الز َمان ا الذي َب ْي ْ‬ ‫ا‬
‫َي ْظ َهر ِيل إِ َىل ْاآلن َما ُي ِزيل َه َذا ْ ِ‬
‫اإل ْشكَال)‪.‬‬

‫وقال القرطبي؛ يف تفسريه‪{ :‬ذات العَمد‪ ،‬التي َل ُيلق مثلها ِف البالد}‪،‬‬


‫قال ابن عباس؛ يف رواية عطاء‪( :‬كان الرجل منهم؛ طوله مخسَّمئة ذراع‪ ،‬والقصري‬
‫منهم طوله ثالثَّمئة ذراع؛ بذراع نفسه‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫وروي عن ابن عباس أيض ًا‪ :‬أن طول الرجل منهم؛ كان سبعني ذراع ًا‪.‬‬
‫ابن العريب‪ :‬وهو باطل‪ ،‬ألن يف الصحيح‪( :‬إن اهلل خلق آدم طوله ستون‬
‫ذراع ًا ِف اْلواء‪ ،‬فلم يزل اْللق ينقص إىل اآلن)‪.‬‬
‫وزعم قتادة‪( :‬أن طول الرجل منهم اثنا عَش ذراع ًا)‪.‬‬
‫وإنَّم نقلنا هذه النقول هنا؛ مع كفاية بعضها‪ ،‬لندل القارئ عىل شهرة هذا‬
‫املعنى بني أهل العلم‪.‬‬
‫لعل ذلك يكون منبه ًا لألخ عدنان إبراهيم إىل وجوب اهلدوء قلي ً‬
‫ال‪،‬‬
‫وإعادة التدبر يف كثري مما يطرحه‪ ،‬وأن يعيد النظر يف األسلوب واملنهجية؛ التي‬
‫يطرح فيها أقاويله واجتهاداته‪ ،‬ألنا نأمل أن يكون من امللتزمني بمناهج النظر‬
‫الصحيح‪ ،‬ال املبطلني هلا‪ ،‬الذين يفتحون أبواب االنحراف للبرش‪ ،‬وهم ال‬
‫يعلمون‪ ،‬وحيسبون أهنم حيسنون صنع ًا‪.‬‬
‫وأما زعمه بأن هذا املعنى الذي ذكره لتوضيح كيفية ملء النار بأهلها‪:‬‬
‫عيل‪ ،‬ومل َأر َم ْن ن ابه إليه قبيل)‪ ،‬فهو كغريه من‬
‫(وهذا مما خطر يل‪ ،‬وهو مما فتح اهلل ّ‬
‫األقاويل السابقة‪ ،‬التي زعم أهنا من فتوحات اهلل تعاىل عليه‪ ،‬وتبني أهنا من‬
‫خطرات الشياطني‪ ،‬وشهوات نفسه‪ ،‬وظهر خمالفتها ألساليب النظر الصحيحة‬
‫القويمة الصائبة‪ ،‬وما كان كذلك؛ فال يقال فيه إنه من فتوحات اهلل تعاىل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بخمسة‪ ،‬أو‬ ‫عىل أنه ال يلزم أنه لو كان الكفار كجبال أحد‪ ،‬أن ُمت َ‬
‫أل جهنم‬
‫مائة‪ ،‬أو مخسة آالف‪ ،‬أو عرشة‪ ،‬أو مليون من البرش‪ ،‬وال يستلزم كوهنم مثل‬

‫‪154‬‬
‫اجلبال؛ أن يقل عددهم جد ًا كَّم يزعم د‪ .‬عدنان إبراهيم‪ ،‬وذلك ألن هذا مبني عىل‬
‫تصور عدم اتساع جهنم؛ إال لقدر وحجم حمدودين‪ ،‬وال أحسبه ينفي قدر َة اهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬عىل تضخيم حجم جهنم‪ ،‬بحيث تتسع ملاليني الناس‪ ،‬واجل ّن من الكفار‪،‬‬
‫مهَّم كان حجمهم!‪ ،‬فمهَّم زاد اهلل تعاىل من حجم الكفار‪ ،‬فال يستلزم هذا أبد ًا‬
‫مفرت ٍ‬
‫ض‪ ،‬لكي يلزم من ذلك أن متتلئ من عدد قليل‬ ‫َ‬
‫كون جهنم يف حجم ضيق َ َ‬
‫جد ًا منهم‪ ،‬ومع ظهور هذا املعنى؛ إال أنا نراه قد عزب عن ذهن الدكتور‬
‫نفسه عن السبب!‪.‬‬
‫عدنان!‪ ،‬وليسأل هو َ‬

‫‪155‬‬
‫األمر الثامن‪ :‬أنه تعلق بأن اإليعاد ـ ِف استعَمل العرب ـ يمكن أن يتخلف‬
‫بخالف الوعد‪.‬‬
‫وليس يف هذا املعنى ما يسنده؛ وال ما يقيم حجته‪ ،‬فإن غاية ما يفيده‬
‫االستعَّمل اللغوي‪ ،‬أن اإليعاد يمكن أن يتخلف لغة‪ ،‬وال يعترب ذلك نقص ًا ملن‬
‫العذاب‪ ،‬نعم هذا صحيح‪ ،‬ولكن من أين أن هذا‬
‫َ‬ ‫يعفو؛ عمن أوعده وتوعده‬
‫يستلزم لزوم خلف اإليعاد والوعيد‪...‬وال تتم حجته إال بأن يقرر وجوب‬
‫التخلف ال جمرد جوازه‪ ،‬ثم نزيد األمر تدقيق ًا وحتقيق ًا‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫إن ما ورد ِف أهل اجلنة؛ كان َمموع أمرين‪:‬‬
‫وعد وإخبار من اهلل تعاىل‪ ،‬أنه سوف يثيبهم اجلنة بفضله‪ ،‬وكالم اهلل تعاىل‬
‫وخربه؛ صدق وحق‪ ،‬ال يصح ختلفه‪ ،‬ألن ذلك يستلزم الكذب‪.‬‬
‫ونحن نعلم مجيعا أن تنعيم املؤمنني‪ ،‬وإثابتهم اجلنة؛ ليس بواجب عىل اهلل‬
‫ال عن أن يكون دائ ًَّم‪.‬‬
‫تعاىل‪ ،‬فض ً‬
‫فسمي خربه وعد ًا؛ يف مقابل الوعيد‪ ،‬ألن فيه إخبار ًا عن النعيم الذي‬
‫سوف يالقونه‪ ،‬بناء عىل غلبة استعَّمل الوعد يف اخلري‪ ،‬والوعيد يف غريه‪.‬‬
‫وما ورد ِف أهل ذنوب‪ :‬وعد هلم بالثواب يف اجلنة؛ عىل األعَّمل الصاحلة‬
‫تم‬ ‫ٍ‬
‫معاص وآثام‪ ،‬ولكن الوعيد ا‬ ‫التي قاموا هبا‪ ،‬ووعيد هلم عىل ما قاموا به من‬
‫تعليقه باملغفرة‪ ،‬وتم النص يف الرشيعة؛ عىل أن اهلل تعاىل له أن يغفر هلم‪ ،‬وأن يقبل‬
‫شفاعة الشافعني‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫فعلمنا أن األصل أهنم يعذبون‪ ،‬ولكن جيوز العفو عنهم‪ ،‬ولعفو يكون‬
‫بفضل اهلل تعاىل‪ ،‬وهذا قد يكون قبل تعذيبهم أو بعده‪.‬‬

‫{إِ ْن َ َْتتَنِبوا َك َبائِ َر َما تن َْه ْو َن َعنْه‪ ،‬ن َك ِّف ْر َعنْك ْم َس ِّيئَاتِك ْم‪َ ،‬وندْ ِخ ْلك ْم مدْ َخ ً‬
‫ال‬
‫ٍ‬
‫عاص فهو بالرضورة ا‬
‫معذ ٌب‪ ،‬وأنه ال جيوز‬ ‫ك َِري ًَم}فلم يوجد يف الرشيعة؛ أن كل‬
‫العفو عنه‪ ،‬فلذلك قلنا بقدر احلد الوارد يف الرشيعة‪ ،‬يف حق العصاة من املؤمنني‪.‬‬
‫أما الكفار‪ ،‬فالوارد يف حقهم كَّم رأينا‪ ،‬وعيد عىل أعَّمهلم‪ ،‬وورد أيض ًا‬
‫إخبار بأهنم خالدون فيها‪ ،‬وورد أيض ًا أهنم ال َُيرجون‪ ،‬وال يسمح هلم باخلروج‪،‬‬
‫وغري ذلك مما سبق بيانه‪.‬‬
‫فنحن إنَّم نتكلم بحسب احلد الوارد يف الرشيعة‪ ،‬يف حق هؤالء أيض ًا‪ ،‬فال‬
‫ال‪ ،‬ال دائ ًَّم‪ ،‬وال حلظة‪ ،‬بل إن‬
‫نقول‪ :‬إن تعذيب اهلل تعاىل إياهم يف النار واجب عق ً‬
‫اهلل تعاىل كان جيوز يف العقل املحض‪ ،‬أن ال يعذب أحد ًا من الناس‪ ،‬كَّم كان جيوز‬
‫أن ال يثيب أحد ًا‪ ،‬فال يشء من الثواب والعقاب عليه بواجب أصالً‪.‬‬
‫ال؛ ال سمع ًا‪،‬‬ ‫وهذا عىل أصل األشاعرة؛ من ّ‬
‫أن العفو عن الكفر جائز عق ً‬
‫ال؛ وال سمع ًا‪،‬‬
‫دون ظاهر كالم املاتريدية من أن العفو عن الكفر غري جائز عق ً‬
‫بالطبع‪.‬‬

‫فيقول األشاعرة مع اجلواز العقيل للعفو‪ :‬لكن ملّا َ َ‬


‫أخربنا جل ذكره‪ ،‬أن‬
‫أهل الكفر‪ ،‬والعناد‪ ،‬والرشك‪ ،‬والنفاق؛ سيكونون خالدين يف النار؛ معذبني ال‬
‫َيرجون منها‪ ،‬ا‬
‫وأن عذاهبم مؤبد؛ قلنا بَّم هو وارد يف الرشيعة‪ ،‬من خرب مقطوع به‪،‬‬

‫‪157‬‬
‫ومل نتعلق بَّم قد توحيه أوهام بعض الناس‪ ،‬فلم نقل‪ :‬إن الوعيد من حيث هو‬
‫وعيد؛ جيوز ختلفه‪ ،‬فلذلك فسوف يطهر هلل تعاىل الكفار‪ ،‬وَيرجهم من النار‬
‫مطهرين منها‪ ،‬بحيث يستلزم القول ببقائهم‪ ،‬وعدم موهتم يف الدار اآلخرة‪ ،‬وأهنم‬
‫داخلون يف دار للنعيم املقيم‪ ،‬بعد عذاهبم يف النار‪ ،‬وذلك لتعلقنا بمجرد إمكان‬
‫تعلق بَّم ال تعلق به‪ ،‬واستدالل بَّم ال داللة فيه‪،‬‬
‫ختلف الوعيد‪ ،‬مل نقل بذلك؛ ألنه ٌ‬
‫فإمكان اخللف يف اإليعاد‪ ،‬من حيث االستعَّمل اللغوي‪ ،‬والعرف البرشي؛ ال‬
‫يستلزم وجوب اخللف‪ ،‬وال وقوعه بالفعل‪ ،‬مطلق ًا‪ ،‬بل ينبغي التوقف يف ذلك‪،‬‬
‫عىل أن الوعيد الوارد‪ ،‬إذا كان أيض ًا بصيغة اخلرب‪ ،‬فإنا نحمله عىل الوعيد واخلربية‬
‫مع ًا‪ ،‬ونفهم منه الزميه‪ ،‬ومها وجوب الصدق‪ ،‬والتحقق ألنه خرب‪ ،‬وخرب اهلل تعاىل‬
‫ال يتخلف‪ ،‬وكونه وعيد ًا يف نفسه يستلزم كونه عذاب ًا ال تنعي ًَّم‪.‬‬
‫ِ َ‬
‫بل جاء ما يؤكد أن اهلل تعاىل ال يغفر الرشك‪{ :‬إِ َّن اهللهَ الَ َيغْفر أن ي ْ َ‬
‫َش َك‬

‫َتى إِ ْث ًَم َعظِي ًَم}‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ون َذلِ َك؛ َمل ِن َي َشاء‪َ ،‬و َمن ي ْ ِ ِ‬
‫َش ْك باهللهِ‪َ ،‬ف َقد ا ْف َ َ‬ ‫بِ ِه‪َ ،‬و َيغ ِْفر َما د َ‬

‫ك ملَ ِن َي َشاء َو َمن‬‫ون َذلِ َ‬ ‫َش َك بِ ِه َو َيغ ِْفر َما د َ‬ ‫ِ َ‬


‫(النساء‪{ ،)20/‬إِ َّن اهللهَ الَ َيغْفر أن ي ْ َ‬
‫ِ‬ ‫َش ْك بِاهللهِ َف َقدْ َض َّل َض َ ِ‬
‫ين َقالو ْا إِ َّن‬‫الالً َبعيد ًا}‪( ،‬النساء‪َ { ،)335/‬ل َقدْ َك َف َر ا َّلذ َ‬ ‫يْ ِ‬
‫ْسائِ َ‬
‫يل؛ ا ْعبدو ْا اهللهَ َر ِّيب َو َر َّبك ْم‪ ،‬إِنَّه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اهللهَ ه َو املَْسيح ا ْبن َم ْر َي َم‪َ ،‬و َق َال املَْسيح‪َ :‬يا َبني إِ ْ َ‬
‫نصار}‪،‬‬ ‫اجلنَّ َة‪ ،‬وم ْأواه النَّار‪ ،‬وما لِل َّظامل ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ني م ْن َأ َ‬
‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َش ْك بِاهللهِ؛ َف َقدْ َح َّر َم اهلله َع َليه َْ َ َ َ‬
‫َمن ي ْ ِ‬
‫ِ‬
‫(املائدة‪ ،)34/‬وقال تعاىل‪{ :‬إِ َّن ا َّلذ َ‬
‫ين َك َفروا َو َصدُّ وا َعن َسبِ ِ‬
‫يل اهللَِّ ث َّم َماتوا َوه ْم‬

‫‪158‬‬
‫ك َّف ٌار َف َلن َيغ ِْف َر اهللَّ َْل ْم}‪( ،‬حممد‪ ،)12/‬واملغفرة؛ من الغفر‪ ،‬وهو كَّم يقول‬
‫إلباس اليشء؛ ما يصونه عن الدنس‪ ،‬ومنع قيل اغفر ثو َبك يف‬
‫ُ‬ ‫الراغب‪( :‬ال َغ ْف ُر‪:‬‬

‫الوعاء‪ ،‬واص ُبغ ثو َبك فإنه أغ َف ُر َ‬


‫للوس ِخ)‪.‬‬
‫ول اهللاِ َص اىل‬ ‫ويف تفسري ابن أيب حاتم‪َ :‬ع ْن َجابِ ِر ْب ِن َع ْب ِد اهللَِّ؛ َق َال‪َ :‬ق َال َر ُس ُ‬
‫ت َله املَْغ ِْف َرة‪ ،‬إِ ْن‬‫هلل َش ْيئ ًا‪ ،‬إِال ح َّل ْ‬ ‫َشك بِا َِّ‬ ‫اهللاُ َع َل ْي ِه َو َس ال َم‪َ ( :‬ما ِم ْن َع ْبد َيموت؛ ال ي ْ ِ‬

‫َش َك بِ ِه‬ ‫ِ َ‬
‫هلل ال َيغْفر أ ْن ي ْ َ‬ ‫اء َع َّذ َبه‪َ ،‬ق َال‪ :‬إِ َّن اهللََّ ْاس َت ْثنَى‪َ ،‬ف َق َال‪ :‬إِ َّن ا ََّ‬
‫اء َغ َف َر َله‪َ ،‬وإِ ْن َش َ‬
‫َش َ‬
‫ك ملَ ِ ْن َي َشاء)‪.‬‬
‫ون َذلِ َ‬‫َو َيغ ِْفر َما د َ‬
‫ب اهللَّ َله الن ََّار ِِف‬ ‫َعن نَافِع‪َ ،‬ع ِن اب ِن عمر؛ َق َال‪( :‬كنَّا ال نَش ُّ ِ‬
‫يم ْن َأ ْو َج َ‬ ‫كف َ‬ ‫ََ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬

‫َش َك بِ ِه َو َيغ ِْفر َما‬ ‫ِ َ‬ ‫ِِ‬


‫ت َع َل ْينَا َهذه اآل َية‪{ :‬إِ َّن اهللََّ ال َيغْفر أ ْن ي ْ َ‬ ‫كِت ِ‬
‫َاب اهللَِّ‪َ ،‬حتَّى َن َز َل ْ‬
‫ك َمل ِن ي َشاء}‪َ ،‬ف َلَم س ِمعنَاها؛ َك َف ْفنَا ع ِن َّ ِ‬‫د َ ِ‬
‫الش َها َدة‪َ ،‬و َأ ْر َج ْينَا األم َ‬
‫ور إِ َىل اهللَِّ)‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ْ َ‬ ‫ون َذل َ ْ َ‬
‫وهذا الوارد عن نافع‪ ،‬ال يصح التعلق به‪ ،‬ومحله عىل الكفار أيض ًا‪ ،‬أي‪ :‬ال يصح‬
‫أن يقال‪ :‬إهنم يقولون إن الكفار؛ قد جيوز أن يغفر اهلل تعاىل‪ ،‬كَّم زعم يف حق‬
‫بعض ا لصحابة من قبل‪ ،‬فمن الواضح أنه يراد به العصاة من املؤمنني‪ ،‬الذي ورد‬
‫فيهم العذاب يف النار‪ ،‬ألن اهلل تعاىل؛ حكم بجواز املغفرة هلم هنا‪.‬‬
‫وإنَّم ال جيوز محل عموم كالم الصحايب عىل الكفار‪ ،‬ألنه َيالف رصيح‬
‫قول اهلل تعاىل‪ ،‬بعدم املغفرة ملن مات كافر ًا‪.‬‬
‫ويف تفسري ابن أيب حاتم‪َ ( :‬ع ِن اب ِن عباس؛ َقو َله‪{ :‬و َليس ِ‬
‫ت الت َّْو َبة} إِ َىل‬ ‫َ َْ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ْ َ َّ‬

‫ون َوه ْم ك َّف ٌار}‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ف َأن َْز َل اهللاُ َت َع َاىل َب ْعدَ َذل ِ َك‪{ :‬إِ َّن‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫َق ْوله‪َ { :‬وال ا َّلذ َ‬
‫ين َيموت َ‬
‫‪159‬‬
‫ون َذلِ َك َمل ِ ْن َي َشاء}‪َ ،‬ف َح ار َم اهللاُ املَْ ْغ ِف َر َة؛ َع َىل‬
‫َش َك بِ ِه‪َ ،‬و َيغ ِْفر َما د َ‬‫اهللََّ ال َيغ ِْفر َأ ْن ي ْ ِ‬

‫ات‪َ ،‬و ُه َو كَافِ ٌر)‪.‬‬ ‫َم ْن َم َ‬

‫قال الطربي؛ يف تفسري قوله تعاىل‪{ :‬إن اهلل ال يغفر أن يَشك به}‪( :‬يعني‬

‫بذلك جل ثناؤه‪{ :‬يا أَيا الذين أوتوا الكتاب؛ آمنوا بَم نزلنا مصدق ًا ملا معكم}‪،‬‬
‫وإن اهلل ال يغفر أن يرشك به‪ ،‬فإن اهلل ال يغفر الرشك به‪ ،‬والكفر‪ ،‬ويغفر ما دون‬
‫ذلك الرشك ملن يشاء من أهل الذنوب واآلثام)‪.‬‬

‫َش َك بِ ِه}‪ ،‬معناه ال‬ ‫ِ َ‬


‫وقال اإلمام الرازي‪( :‬قوله‪{ :‬إِ َّن اهلل الَ َيغْفر أن ي ْ َ‬
‫يغفر الرشك؛ عىل سبيل التفضل‪ ،‬ألنه باإلمجاع؛ ال يغفر عىل سبيل الوجوب‪،‬‬
‫وذلك عندما يتوب املرشك عن رشكه‪ ،‬فاذا كان قوله‪ :‬إن اهلل ال يغفر الرشك هو‬

‫ون َذلِ َك}‪،‬‬


‫أنه ال يغفره عىل سبيل التفضل‪ ،‬وجب أن يكون قوله‪َ { :‬و َيغ ِْفر َما د َ‬
‫هو أن يغفره عىل سبيل التفضل؛ حتى يكون النفي واالثبات متواردين عىل معنى‬
‫واحد)‪.‬‬
‫فهذا كله‪ ،‬وغريه كثري؛ يدل عىل ضعف ما متسك به املتمسك‪ ،‬من الفرق‬
‫بني الوعد والوعيد‪.‬‬
‫فإن يف عدم املغفرة للكفار أخبار ًا‪ ،‬ال جمرد وعيد‪ ،‬حتى يبقى جواز العفو‬
‫واملغفرة هلم‪.‬‬
‫فإن اخلرب الوارد بعدم املغفرة هلم؛ قط َع احتَّم َل ختلف الوعيد يف حقهم من‬
‫أصله‪ ،‬فلم يبق له متع الق‪.‬‬
‫‪160‬‬
‫خامتة‬
‫مل نذكر يف هذا الرد مجيع ما ختلل كالمه من أغاليط‪ ،‬ولكنا اقترصنا عىل ما‬
‫رأيناه أهم ما اعتمد عليه‪ ،‬ولعلنا إذا تنبهنا إىل أمور أخرى غريها‪ ،‬نرجع ونكتب‬
‫رد ًا عىل ما فاتنا‪.‬‬
‫ندعو اهلل تعاىل؛ أن يكون كالمنا هذا‪ ،‬قريب ًا إىل الصواب‪ ،‬فإنا ما كتبناه‬
‫ملجرد التشنيع عىل املخالف‪ ،‬وإنَّم لغضبتنا عىل الدين والتعاليم اإلسالمية‬
‫الصحيحة‪ ،‬أن متتدّ إليها أيدي اجلهلة‪ ،‬واملشككني‪ ،‬بناء عىل ما يقع فيه بعض‬
‫الدعاة إىل اهلل تعاىل‪ ،‬من املترسعني يف الفكر‪ ،‬الظانني أهنم من أملع الناس؛‬
‫وأشدهم ذكاء‪ ،‬ويف كالمهم كثري من األغاليط واالنحرافات وترسع ظاهر‪.‬‬
‫وال نريد أن يكون يف كالمنا هذا تنفري املردود عليه‪ ،‬فإنا ما زلنا نحسن‬
‫الظ ان فيه‪ ،‬وال نعتقد أنه قال ذلك إال العتقاده صوابه‪ ،‬وأنه من فتوحات اهلل تعاىل‬
‫عليه!‪ ،‬وأنه األقرب إىل فهم اإلسالم‪.‬‬
‫ومن املعلوم ا‬
‫أن جمرد ظنه ذلك‪ ،‬ال يستلزم كَّم هو ظاهر؛ أنه كذلك يف‬
‫نفس األمر‪ ،‬وغره فيَّم هو فيه اتباعه لبعض املنحرفني‪ ،‬عن مذهب أهل السنة‬
‫واجلَّمعة‪ ،‬كابن تيمية‪ ،‬وابن قيم اجلوزية يف هذه املسألة‪ ،‬وكَّم يظهر يل يف بعض‬
‫جوانب كالمه أنه يرهب جانب ابن عريب احلامتي كثري ًا‪ ،‬حتى إنه ملا نسب إليه‬
‫القول بانقالب عذاب أهل النار؛ الذين هم أهلها‪ ،‬إىل عذوبة‪ ،‬مل يستطع إال أن‬
‫يقول إن هذا رأيه‪ ،‬بحسب ظاهر كتبه التي بني أيدينا!‪ ،‬فرار ًا من الترصيح‬

‫‪161‬‬
‫بتخطئته!‪ ،‬مع أناه لو كان مفكر ًا حر ًا حقيقة ـ كَّم حيلو له دائ ًَّم أن يصف َ‬
‫نفسه ـ‬
‫الستطاع حترير رأي ابن عريب برصاحة‪ ،‬والترصيح بمخالفته؛ أو موافقته‪ ،‬كَّم‬
‫استطاع حترير رأي ابن تيمية‪ ،‬وغريه!‪ ،‬وهذا كله مما يبعثه عىل إعادة التأمل يف‬
‫حاله‪.‬‬
‫وملا مل يستطع أن يتخلص من أوهام هؤالء‪ ،‬علقت يف ذهنه‪ ،‬كَّم رصح‪،‬‬
‫واقتنع هبا‪ ،‬وانقاد هلا‪ ،‬خصوص ًا أنه كَّم يبدو؛ مل يستطع االنفكاك من بعض‬
‫شبهات املالحدة ـ كَّم أملحنا فيَّم سبق ـ عىل حكمة اهلل تعاىل‪ ،‬إال هبذه الطريقة‬
‫الباطلة‪ ،‬وحاول تدعيمها بيشء من عنده‪ ،‬ونحن نعتقد أهنم مل يوفقوا يف‬
‫االستدالل عىل هذه العقيدة الباطلة‪ ،‬كَّم مل يوفق هو‪ ،‬ومل يأت يف أغلب كالمه إال‬
‫غري واحد من‬
‫بتكرار ما قالوه‪ ،‬وقد تكفل بالرد عىل ابن تيمية‪ ،‬وابن قيم اجلوزية ُ‬
‫املخالف‬
‫ُ‬ ‫السبكي‪ ،‬رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬ولو أعاد‬
‫ه‬ ‫العلَّمء‪ ،‬عىل رأسهم اإلمام العلم التقي‬
‫النظر يف رسالة اإلمام السبكي قلي ً‬
‫ال‪ ،‬ومتعن فيَّم قررناه‪ ،‬فإننا نرجو أن يعيد النظر‬ ‫َ‬
‫يف فكره‪ ،‬وفيَّم اختاره من هذا الرأي الباطل‪.‬‬
‫واهلل اْلادي إىل سواء السبيل‪ ،‬وهو املوفق‪.‬‬
‫وليس لنا إىل غري اهلل تعاىل حاجة وال مذهب‬
‫سعيد فودة‬
‫‪9‬ـ‪5‬ـ‪2072‬م‬

‫‪162‬‬

You might also like