You are on page 1of 176

‫صوت الرّب‬

‫عظات في أناجيل اآلحاد‬


‫األب توماس فامفينيس‬

‫ترمجة دير السيّدة‪-‬كفتون‬

‫أبرشيّة طرابلس والكورة وتوابعهما للروم األرثوذكس‬

‫‪2014‬‬

‫‪1‬‬
‫األحد قبل الظهور‬

‫(مر‪)8-1:1‬‬

‫الزمن اخلَ ِ‬
‫الص ّي‬ ‫ّ‬
‫"ها أان أُرسل مالكي‪...‬ليُِع َّد طر َ‬
‫يقك أمامَك"‬

‫ِ‬
‫نستحضر إىل أذهاننا يف هذا‬ ‫اإلهلي العظيم‪ ،‬نرى مناسباً أن‬ ‫ر‬ ‫فيما نبدأ العام اجلديد‪ ،‬قُبيل ِ‬
‫عيد الظّهوِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حقائق حم ّددة هلا عالقة مباشرًة خبالصنا‪.‬‬
‫َ‬ ‫األوان‬

‫املرتا ِوحة ما َ‬
‫بني الوالدة واملوت‪،‬‬ ‫قيس الفرتةَ َ‬
‫رحم‪ ،‬يَ ُ‬
‫عدو ال يَ َ‬ ‫الزَم ُن ٍ‬
‫قاس‪ .‬إنَّه ٌّ‬ ‫ابلنّسبة إىل غري املؤمنني‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫وظلمة أخرى‪ّ .‬أما ابلنّسبة إىل العائشني يف الكنيسة‪ ،‬الّذين انلوا الوالدة اجلديدة‬ ‫الفاصلة ما بني ٍ‬
‫ظلمة‬ ‫َ‬ ‫واملسريَة‬
‫معىن آخر‪ .‬يصبح كلُّه هتيئةً مكثَّفةً‪ ،‬ال للموت‪ ،‬بل للحياة‪ ،‬أي لكيفيّة‬ ‫ِ‬
‫الزمن ً‬ ‫ابملعموديّة‪ ،‬فاألمور خمتلفة‪ .‬يتَّخ َذ ّ‬
‫ِ‬ ‫الزَم ِن عمل يوحنّا ِ‬ ‫نعمة هللا الّيت ختلِّص اإلنسان‪ .‬فالكنيسةُ تُو ِ‬
‫اكتساب ِ‬
‫ِ‬
‫سابق املسيح‪" :‬تُع ُّد طر َ‬
‫يق‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫داخل‬
‫َ‬ ‫ل‬
‫ُ‬ ‫اص‬ ‫ُ‬
‫لوب الناس‪.‬‬‫ب" يف قُ ِ‬ ‫الر ِّ‬
‫َّ‬
‫من ساحةُ قتال‬
‫الز ُ‬
‫ّ‬ ‫‪‬‬

‫نتذو َق احليا َة األبديّةَ من ُذ اآلن‪ .‬علينا أن‬


‫نكسب خاللَه اخلالص‪ ،‬واستغاللُنا ّإّيه ل َّ‬ ‫َ‬ ‫الزمن لكي‬
‫أُعطي لنا ّ‬
‫الزائالت‪ .‬فإ ْذ‬ ‫لصاق ذهنِنا ِ ِ‬ ‫ات امل ِ‬
‫عاديَة هلل‪ ،‬الّيت حتُا ِو ُل إِ َ‬ ‫تال مع القو ِ‬ ‫نتذ ّكر دائما أ ّن الزمن هو ساحةُ قِ ٍ‬
‫ابملاد ّّيت و ّ‬
‫ّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إنتباهنا عن مشاكِلِنا احلقيقيّة‪ ،‬لتُوقِ َعنا يف َشَرِك املشاكل الومهيّة‪ .‬حتاول أن‬ ‫ادث هلا َوقْ ُع اإلنفجار تَْن تَزِعُ َ‬
‫حبو َ‬
‫تُ ِ‬
‫داخل‬
‫الشيطا ُن َ‬ ‫ضع ّ‬‫اجهه بطريقة خاطئة‪ ،‬ال توصلنا إىل نتيجة‪ .‬لقد َو َ‬ ‫الشَّر من خا ِرجنا‪ ،‬فنو َ‬
‫حّت نرى ّ‬ ‫ضلّلَنا‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫فخاخه كلَّها‪ ،‬ورتَّب فيه هجماتِه املؤذية كلّها‪.‬‬
‫الزمن َ‬ ‫ّ‬
‫ب الذات الّذي خينُق قلبَنا‪،‬‬ ‫نكسر خاللَه‪ ،‬بطاعتِنا للمسيح‪ُ ،‬ع َ ِ‬ ‫إالّ أ ّن الزمن يصبح خالصيًّا عندما ِ‬
‫قال ُح ّ‬ ‫ّ‬
‫ونفتَ ُح َمعرباً تن ُف ُذ منه نعمة هللا إىل داخلنا‪ ،‬وهي "نعمة هللا املخلِّصة مجيع النّاس"(تيطس‪ .)11:2‬يعلّم الق ّديس‬

‫‪2‬‬
‫جتعل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ‬
‫أعماق قلبنا من ُذ حلظة معموديّتنا‪ ،‬ولكن من غري أن َ‬ ‫ذّيذوخس أسقف فوتيكي أ ّن نعمةَ هللا تسكن‬ ‫ُ‬
‫كل إرادتِه‪ ،‬أبرزت هذه النّعمةُ حضورها يف النَّ ْفس‪ٍ .‬‬ ‫ملموسا‪ .‬فإذا بدأَ اإلنسا ُن ُُِي ُّ‬
‫حينئذ‪ ،‬إذا‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ب هللاَ من ِّ‬ ‫ً‬ ‫حضورها‬
‫َ‬
‫عربا تَنفذ منه نعمة هللا إىل داخلنا"‪ ،‬حنن الّذين نِْلنا املعموديّة األرثوذكسيّة‪ ،‬فهذا يعين ابلنّسبة‬ ‫قلنا إنّنا "نَفتَ ُح َم ً‬
‫اكنة يف نفوسنا‪ .‬هذا متاماً ما ترمي إليه احلياة الكنسيّة كلُّها‪ .‬هذه املسرية ّ‬
‫املتجهة‬ ‫نعمة املعمودية الس ِ‬‫إلينا تفعيل ِ‬
‫ّ ّ‬
‫سابقا بكرازةِ التّوبة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫يتهيأ ً‬
‫يتيسر للمرء اتّباعُ هذه املسرية إذا مل ّ‬
‫حنو ال ّداخل هي جوهر التّوبة‪ .‬ولكن ال َّ‬
‫املؤِّدب إىل املسيح‬ ‫‪‬‬
‫ِ‬
‫ت علينا‪ .‬فنحن ال نُدرك‬ ‫أيضا‪ ،‬مها عاقبةُ األهواء الّيت استحو َذ ْ‬ ‫الس ْه َو ع ِن هللا‪ ،‬وعن أنفسنا ً‬ ‫إ ّن اجلهل و َّ‬
‫تشوب أفعالَنا‪ .‬نرى اخلطاّي يف التّع ِّدّيت اجلَسيمة وحدها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مدى سوء حالتنا ال ّداخليّة‪ ،‬وال مدى اخلطيئة الّيت قد‬
‫فس ميت‪ ،‬أو عمله انقص‪،‬‬ ‫إحساس النّ ِ‬ ‫فإما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ُ‬ ‫وحي هذا هو عاقبةُ سقوطنا وكسلنا يف آن‪ّ .‬‬ ‫الر ِّ‬
‫س ّ‬‫وإّّنا فقدان احل ّ‬
‫اخلي من سلوك طريق التّوبة من تلقاء أنفسنا‪.‬‬ ‫د‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫الش‬
‫َّ‬ ‫هذا‬ ‫مينعنا‬ ‫حبيث‬ ‫‪،‬‬ ‫كثرية‬ ‫ا‬
‫ر‬
‫ً‬ ‫ا‬
‫ر‬ ‫وابلتّايل يس ُكت الضَّمري ِ‬
‫م‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فال ب ّد أن َُيُثَّنا عليها أحد ما‪ ،‬أو يُْل ِه َمنا ّإّيها ُمْل ِهم‪.‬‬

‫ياع يف النّفس‪ََ ،‬نَ َم عنه فُقدان‬


‫وض ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫السقوط من فساد‪َ ،‬‬
‫هذا ما فَ َعلَه هللا بناموسه املكتوب‪ .‬فإ ّن ما تَب َع ّ‬
‫ِ‬
‫"كمؤدبنا إىل املسيح"‬ ‫هي ابهلل‪ .‬لذلك أعطاهم هللا النّاموس املكتوب مبوسى‬ ‫غالبيّ ِة النّاس اتّصاهلَم الش َ‬
‫ّ‬ ‫َّف ّ‬
‫(غال‪.)24:3‬‬

‫للشعب‪ .‬يقول‬ ‫إ ّن موسى واألنبياء ظلّوا على اتصال مفتوح ابهلل‪ .‬هلذا استطاعوا أن يَْن ُقلوا مشيئتَه ّ‬
‫الشريعة املكتوبة‪ ،‬بل أن نق ّدم حيا ًة طاهرة‬
‫الذهيب الفم إنّه كان من املفروض أالّ حنتاج إىل مساعدة ّ‬
‫ّ‬ ‫الق ّديس‬
‫القدس بدالً من الكتاب‪.‬‬
‫َ‬ ‫وح‬
‫الر َ‬
‫متتلك النّفوس ّ‬
‫حبيث ُ‬‫ُ‬
‫املسيحي قَ ْب َل املعموديّة وبع َدها‬
‫ّ‬ ‫التّعليم‬ ‫‪‬‬
‫ب الستقبال املسيح‪ .‬تُعلِّ ُم‬ ‫َّع َ‬
‫فتهيءُ الش ْ‬
‫السابق‪ِّ ،‬‬‫عاهتا‪ ،‬يف القيام بعمل يوحنّا ّ‬‫ور َ‬ ‫تستمر‪ُ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫إ ّن الكنيسة‬
‫ِ‬ ‫امل ِزمعني أن يعتمدوا‪ ،‬وكذلك ُهت ِّيءُ أعضاءَها َّ‬
‫صف املختارين‬ ‫املعمدين للمجيء الثّاين للمسيح‪ ،‬لكي تَُرتّبَ ُهم يف ِّ‬
‫ُ‬
‫املسيحي‪ ،‬ولتهيئة أولئك الّذين سيَنالون‬
‫ّ‬ ‫عليم‬‫للت‬
‫ّ‬ ‫كبرية‬ ‫ة‬
‫ًّ‬‫أمهي‬ ‫تويل‬ ‫الكنيسة‬ ‫الت‬‫ز‬ ‫وما‬ ‫الفردوس‪.‬‬ ‫يف‬ ‫أعين‬ ‫ار‪،‬‬
‫ر‬ ‫األب‬
‫سر الكنيسة ابلكامل‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫حقائق إميانيَّة نظريّة‪ ،‬بل أدخلَْت ُهم يف ّ‬
‫َ‬ ‫ضع‬
‫املعموديّة من البالغني‪ .‬مل تكتَف بتعليمهم ب َ‬
‫‪3‬‬
‫واجل ِّديَّةُ الّيت واجهت هبا الكنيسة انتساب أعضاء جد ٍد ِ‬
‫جلسدها تُظهر مدى اجل ّديّة الّيت جيب أن نبُديها حيال‬ ‫َ ُُ‬
‫الرعاة‪ ،‬الّذين‬
‫صغارا‪ .‬هذه مسؤوليّةُ ُّ‬
‫عائي ألعضاء الكنيسة‪ ،‬الّذين انلوا املعموديّة ً‬
‫الر ّ‬
‫يين واإلرشاد ّ‬ ‫التّعليم ال ّد ّ‬
‫ي ن ِظّمون عمل التعليم الديين يف الكنيسة‪ ،‬ولكنّها أيضا مسؤوليةُ الو ِ‬
‫الدين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َ ّ‬ ‫َُ‬
‫هدف احلياة الكنسيّة هو تفعيل نعمة املعموديّة املق ّدسة الكامنة يف أعماق قلبنا‪.‬‬ ‫َش ْران‪ ،‬إ ّن َ‬
‫سبق وأ َ‬
‫كما َ‬
‫تتغري األزمنة‪،‬‬
‫السابق‪ .‬قد ّ‬ ‫بقوة وبوضوح كرازة التّوبة الّيت اندى هبا ّ‬ ‫يين‪ ،‬جيب أن نسمع ّ‬ ‫من خالل التّعليم ال ّد ّ‬
‫تتغري‪ .‬ال يرتوي اإلنسان بشيء من املخلوقات‪ .‬لذلك‪ ،‬يف أفضل‬ ‫ولكن امليول العميقة اجلوهريّة يف اإلنسان ال ّ‬
‫ّ‬
‫الصحراء‪ .‬وهذا لن ُي ّق َقه مكانيًّا‪ ،‬بقدر ما ُي ّق ُقه يف طريقة‬
‫الغش إىل ّ‬
‫يهرب من عامل ّ‬
‫ب أن َ‬ ‫حلظات حياته‪ ،‬سيطلُ ُ‬
‫العاملي الصاخب‪ .‬لعلّه هناك‪ ،‬يف ذلك اهلدوء‪ ،‬يستطيع أن خيترب كرازة‬ ‫ّ‬ ‫حياته‪ ،‬من خالل ابتعاده عن طريق الفكر‬
‫للزمن‪.‬‬
‫التّوبة ويعتنقها‪ ،‬وهذه "الغربة" تعطي القيمة األكثر جوهريّةً ّ‬

‫‪4‬‬
‫األحد بعد الظهور‬

‫(مت‪)17 -12 :4‬‬


‫ّ‬

‫السموات‬
‫الباب إىل ملكوت ّ‬
‫"توبوا فقد اقرتب ملكوت السّموات"‬

‫الروح‬
‫بقوة ّ‬
‫الروحيّة‪ ،‬تلك احلياة الّيت تتولّد يف اإلنسان ّ‬
‫أساس احلياة ّ‬
‫كشف املسي ُح َ‬
‫َ‬ ‫األول‪،‬‬
‫يف ندائه ّ‬
‫ات"(مّت‪ .)17 :4‬التّوبة بدء اخلالص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫القدس‪ ،‬ومشاركة اإلنسان نفسه‪" .‬توبوا فقد اقرتب ملكوت ّ‬
‫السمو‬
‫توجهاته‪ .‬جيب أن يقصي‬ ‫جذري يف داخله‪ ،‬إىل تغيري ّ‬
‫ّ‬ ‫فلكي يقرتب اإلنسان من املسيح‪ُ ،‬يتاج إىل القيام بتغيري‬
‫مكاَنا هللا وشريعته‪ .‬ينبغي‬
‫اخلاصة‪ ،‬وأن يضع َ‬‫بكل رغباهتا وأهدافها ّ‬
‫عن مركز اهتماماته ذاتَهُ اخلاطئة [أاننيّ تَه]‪ّ ،‬‬
‫أن تَنتَظم حياتُه مبشيئة هللا ووصاّي املسيح‪.‬‬

‫نقي‪ ،‬وأن يتواجد واخلطيئة‪.‬‬ ‫ِ‬


‫إ ّن األمر الوحيد املتع ّذر على جربوت هللا القدير هو أن يسكن يف قلب غري ّ‬
‫وهتيء له مكاانً‪ .‬فاهلل اليفتقد اإلنسا َن‬‫حبريّة‪ّ ،‬‬ ‫حر يف جوهره‪ ،‬وهو يسكن يف القلوب الّيت تت ّقبله ّ‬ ‫هللا وح َده ٌّ‬
‫روح آخر‪،‬‬‫فهما من ٍ‬ ‫الضغط‪ُ ،‬‬ ‫فوق القياس‪ّ .‬أما الطُّغيان و ّ‬ ‫افتقاد املتسلّط‪ ،‬بل يريد ُحّريَّتنا‪ِّ ،‬‬
‫ويكرم سيادةَ نفسنا َ‬ ‫َ‬
‫عف إرادتِنا بِ َشِّره‪ .‬من هنا أ ّن‬
‫وض ِ‬ ‫ِ‬
‫بغش‪ ،‬ومل يتوقّف عن استغالل تَ َق ُلقلنا ُ‬‫روح ذاك الّذي أخرجنا من الفردوس ّ‬ ‫ِ‬
‫ط دخول املسيح فينا‪.‬‬ ‫الشيطان‪ ،‬وشر ُ‬‫انتصاران على ّ‬
‫ُ‬ ‫حريتنا‪ ،‬هي‬‫التّوبة‪ ،‬الّيت هي مثرة ّ‬
‫الربيّة مبعموديّة التّوبة "جاء‪...‬يكرز ويقول‪:‬‬ ‫يوحنا ِ‬
‫يبشر يف ّ‬
‫سابقه‪ ،‬الّذي كان ّ‬ ‫عمل ّ‬‫وإّّنا املسيح يُتابع َ‬
‫ا"(مّت‪ .)17 :4‬ولكن كيف الوصول إىل التّوبة؟‬
‫توبو ّ‬
‫‪ ‬هللا يُبادر‬

‫وح َده َمن ذا َق مرارةَ اخلطيئة ميكنه أن يتوب‪ :‬فما دمنا مأسورين بل ّذة اخلطيئة ال نستطيع أن نتوب‬
‫توبة حقيقيّة‪ .‬مثّ إ ّن خربة الق ّديسني امل ّذ َخرة يف تراث كنيستنا تقول إنّنا ال نقدر أن نعرف اخلطيئة الّيت تُ َش ِّوه‬
‫حبال خفيّة‪ .‬ولكن ما إن‬ ‫نفسنا إالّ إذا أانرتنا نعمة هللا‪ .‬فما دامت نفسنا مظلمة‪ ،‬تبقى اخلطيئة مالكةً عليها ٍ‬
‫ُ‬ ‫َ‬

‫‪5‬‬
‫حّت تنكشف دانءة أهوائها‪ .‬هذا يعين أ ّن التّوبة تنشأ يف دواخل اإلنسان بتد ّخل‬
‫يفتقدها شعاع من نعمة هللا‪ّ ،‬‬
‫احلق يقبلوا" (‪1‬تيم‪ .)4 :2‬هو واقف على ابب قلبنا‬‫هللا ّأوال‪" .‬هللا يريد مجيع النّاس أن خيلصوا وإىل معرفة ّ‬
‫شّت من حياتنا‪ ،‬وأيضاً مبقابلة أشخاص يوحون لنا بوجود حياة‬ ‫الرسل الق ّديسني‪ ،‬أبحداث ّ‬ ‫يقرع‪ :‬يقرع بكالم ّ‬
‫اخلاصة‪.‬‬
‫يتوقف على مشيئتنا ّ‬
‫خمتلفة‪ّ .‬أما قبول هذه ال ّدعوة أو رفضها‪ ،‬واستثمار حمبّة هللا أو التّن ّكر هلا‪ ،‬فذلك ّ‬
‫ليب‬
‫الس ّ‬
‫اإلجيايب أو ّ‬
‫ّ‬ ‫إ ّن دعوة هللا تشمل مجيع النّاس‪ ،‬ولكن‪ ،‬ابلطّبع‪ ،‬ال يستجيبون هلا مجيعهم‪ .‬فاملوقف‬
‫شك أ ّن املسيح لن ييأس من قساوة قلبنا‪ ،‬بل‬
‫الّذي سنأخذه من هذه ال ّدعوة هو اللّحظة احلامسة يف حياتنا‪ .‬ال ّ‬
‫نسقطن يف اخلمول‪ّ ،‬يئسني بسبب الوقت الثّمني الّذي‬
‫ّ‬ ‫حّت النّفس األخري‪ .‬لذلك ال‬
‫سيظل يقرع ابب قلبنا ّ‬
‫ّ‬
‫الضائع‪ ،‬بل فلنحاول استغالل الوقت الباقي لدينا‪.‬‬
‫أضعناه‪ ،‬وال نف ّكر ّن يف هذا الوقت ّ‬
‫‪ ‬نوعيّة التّوبة‬

‫تتوقّف نوعيّة التّوبة بدرجة كبرية على مفهومنا للخطيئة‪ .‬التّوبة من نتائج اخلطيئة‪ ،‬ولو حفظنا ثوب‬
‫املعموديّة نقيًّا ملا احتجنا إىل املعموديّة الثّانية‪ ،‬الّيت هي التّوبة‪ .‬فإذا أردان أن نعطي تعريفاً شامالً وموجزاً‬
‫الشخصي مع هللا"‪َّ .‬‬ ‫َّ‬ ‫ه‬
‫وإّنا‬ ‫للخطيئة‪ ،‬لَُقلنا إَّنا انفصالنا عن هللا‪ .‬إَنا "تَغَُّربنا عن نبع احلياة"‪ ،‬وفقداننا "للحوار ّ ّ‬
‫يتم ابجلحود‪ ،‬أعين بنُكران وجود هللا‪ ،‬أو رفض مشيئته‪ .‬فإذا قُلنا إنَّنا مؤمنون‪ ،‬هذا يعين‬ ‫االنفصال عن هللا ُّ‬
‫ِ‬
‫كل‬
‫بكل ما أَعلَنه لنا املسيح‪ ،‬حبيث يُضحي ُّ‬ ‫نؤمن بوجود هللا‪ ،‬واثنيًّا أنَّنا نقبل كلمتَه‪ .‬كذلك‪ ،‬نَث ُق ِّ‬
‫أمرين‪َّ :‬أوالً أنّنا ُ‬
‫وشرعةً حلياتنا‪َّ .‬أما إن مل نُطع وصاّيه‪ ،‬فمهما تكن أقوالنا‪ ،‬يبقى أنَّنا فعليًّا ال نضع‬ ‫ما قاله ابلنسبة إلينا كلمةَ حق ِ‬
‫ّ‬
‫فيه ثقتنا‪ ،‬وهبذا حنن َُنينه‪ .‬لذلك "فاخلطيئة هي املَعصية" (‪1‬يو‪ .)4 :3‬اخلطيئة عصيان هللا‪ .‬وعلى ذلك‬
‫اخلارجي لوصاّيه‪ .‬عالقتنا ابهلل شخصيّة‪ّ .‬أما‬
‫ّ‬ ‫فعالقتنا ابهلل ليس هلا طابع احملكمة القانوينّ‪ ،‬وال ُّ‬
‫تنحد ابخلضوع‬
‫الوث الق ّدوس‬‫فكل وصيّ ٍة حتوي داخلها الثّ َ‬‫رفض حملبهته‪ ،‬ويؤول إىل انقطاع شركته بنا‪ُّ .‬‬ ‫عصياننا لشريعته فهو ٌ‬
‫قرا‬
‫املسيح معرفة أفضل‪ ،‬ويتّحد به‪ ،‬ويُضحي َم ًّ‬ ‫ُيب املسيح ُيفظ وصاّيه‪ ،‬وهكذا يعرف‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫بكامله‪ ،‬ولذلك من ّ‬
‫للثّالوث الق ّدوس‪ .‬ولكن عندما نقتصر على مفاهيم قانونية وخلُقية للخطيئة‪َ ،‬حنصر التّوبةَ يف ٍ‬
‫أعمال ظاهريّة‪ ،‬وال‬ ‫ُُ‬ ‫ّ ُ ّ‬
‫نَغوص يف العمق‪.‬‬

‫مسريةُ التوبة‬ ‫‪‬‬

‫‪6‬‬
‫ب‬ ‫يره ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َ‬ ‫ابلر ّ‬
‫"من يؤمن ّ‬ ‫يكتب الق ّديس مكسيمس املعرتف‪ ،‬واصفاً مسريَة النّفس التّائبة‪ ،‬فيقول‪َ :‬‬
‫ومن يصرب يف‬ ‫اجلحيم ُميسك عن األهواء‪ ،‬ومن ُميسك عن األهواء يصرب يف األحزان‪َ .‬‬ ‫ره ِ‬
‫ب‬ ‫ومن يَ َ‬‫اجلحيم‪َ .‬‬
‫َ‬
‫كل تعلّ ٍق‬
‫أرضي‪ .‬وال ّذهن املنقطع عن ِّ‬‫ّ‬ ‫كل تعلّ ٍق‬
‫هن عن ِّ‬
‫الرجاء ابهلل يقطع ال ّذ َ‬
‫األحزان يكتسب رجاءً ابهلل‪ .‬و ّ‬
‫وحترق األهواء‪،‬‬ ‫وتستمد حرارهتا من خوف اجلحيم‪ُ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫تتأسس على اإلميان‪،‬‬
‫أرضي يقتين احملبّةَ‪ .‬هذا يعين أ ّن التّوبة َّ‬
‫ّ‬
‫أرضي‪ .‬حينئذ‪ ،‬تبلغ بنا التّوبة إىل اقتناء احملبّةَ‬ ‫تتوصل إىل االنعتاق من ِ ٍ‬
‫كل رابط ّ‬ ‫ّ‬ ‫وابلصرب واالتّكال على هللا َّ‬ ‫ّ‬
‫اخلالصة هلل والناس‪.‬‬

‫السموات ملكوت حمبّة هللا‪ ،‬واملسيح ملك هذا‬ ‫ِ‬


‫إ ّن كمال النّاموس واألنبياء هو وصيّةُ احملبّة‪ .‬فملكوت ّ‬
‫األول هذا دعاان لنصري مواطين هذا امللكوت‪ ،‬كاشفاً لنا يف الوقت نفسه الطّريق‪ .‬لقد هداان‬
‫امللكوت‪ .‬ويف ندائه ّ‬
‫الصادقة والعميقة الّيت تتولّد من اإلميان بشخصه‪.‬‬
‫السموات‪ .‬هذه هي التّوبة ّ‬
‫إىل ابب ملكوت ّ‬

‫‪7‬‬
‫األحد الثّاين عشر من لوقا‬

‫الُبْص)‬
‫( لو‪ُ ،19-12 :17‬‬
‫الُبص ِ‬
‫وشفاؤه‬ ‫ََ‬
‫"اذهبوا وأروا أنفسكم للكهنة"‬
‫جحود املشفيِّني التّسعة‪ ،‬واستعداد "الغريب"‬ ‫الربص‪ ،‬يستوقف ذهنَنا‬‫مقطع العشرة ُ‬
‫سمع َ‬ ‫عادةً‪ ،‬عندما نَ ُ‬
‫ُ َ‬
‫القصة‬
‫لالعرتاف ابجلميل‪ ،‬وقد رجع بعد شفائه‪ ،‬وشكر املسيح‪ .‬إالّ أ ّن اآلابء الق ّديسني يستنبطون لنا من هذه ّ‬
‫نفوسنا‪.‬‬
‫اخلارجي‪ ،‬ويكشفون مثاراً روحيّة تغ ّذي َ‬
‫ّ‬ ‫معاين أخرى‪ ،‬فينتزعون قشرَة الظاهر‬

‫القصة النّموذجيّة من األمور الالّفتة‪.‬‬


‫إذاً‪ ،‬سنحاول اليوم أن نكشف عن بعض ما تنطوي عليه هذه ّ‬
‫ِظ ُّل النّاموس‬ ‫‪‬‬

‫ص ُعب‬‫كانت عناصر النّاموس كلُّها رسوماً ملا حصل يف زمن املسيح والكنيسة‪ ،‬وظالالً للحقائق الّيت َ‬
‫أسري جسده‪ ،‬ومعرفته اجلسدانيّة‪ ،‬لذلك كلّمه‬‫ائيلي أن يراها بنظره احلسري‪ .‬هذا األخري كان َ‬ ‫الشعب اإلسر ّ‬ ‫على ّ‬
‫الربص ُُي َسبون‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫شنيعا‪ ،‬و ُ‬
‫املوسوي‪ ،‬كان مرتبطًا ابخلطيئة‪َ ،‬ن ًسا ً‬
‫ّ‬ ‫فالربص إذاً‪ ،‬مبا يوافق النّاموس‬
‫هللا أبمثال جسديّة‪َ .‬‬
‫صحة اإلسرائيليّني‬
‫هدفَت إىل محاية ّ‬ ‫الشريعة املوسويّة َ‬‫نصوصا كثرية من ّ‬
‫ً‬ ‫مدنَّسني‪ً .‬‬
‫طبعا‪ ،‬ال ينكر أحد أ ّن‬
‫مترر إشارات‬‫ت صفة رمزيّة‪ ،‬وأرادت أن ِّ‬ ‫اجلسديّة‪ ،‬ولكن ال ب ّد من القول ّإَنا َرَمت إىل أبعد من ذلك‪ّ .‬اخت َذ ْ‬
‫الصفة‬
‫املتنوعة األشكال‪ .‬ويوضح لنا َمثَل آخر هذه ّ‬ ‫الروحيّة من جراثيم اخلطيئة ّ‬ ‫الشعب ّ‬
‫تساعد على محاية ّ‬
‫إنسان ميت‪ .‬من خالل هذين‬ ‫جسد ٍ‬ ‫الربص‪ ،‬يُ َع ُّد أيضاً َنسني الّذين يلمسون َ‬ ‫لل ّشريعة املوسويّة‪ .‬فباإلضافة إىل ُ‬
‫األمرين‪ ،‬كلّم هللا شعبَه عن َناسة اخلطيئة‪ ،‬ويف الوقت نفسه‪ ،‬عن َناسة الّذين يتّصلون من غري متييز ٍ‬
‫أبانس‬
‫خاطئني‪.‬‬
‫ِ‬
‫اخلطيئة‬ ‫ص‬
‫بَ َر ُ‬ ‫‪‬‬

‫‪8‬‬
‫ٍ‬
‫بسهولة إىل‬ ‫وابئي‪ ،‬ينتقل‬
‫ختص الّذي يرتكبها وحده‪ّ .‬إَنا مرض ّ‬ ‫ليست اخلطيئة حداثً شخصيًّا‪ ،‬وال هي ُّ‬
‫الربص‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الشخصيّة‪ ،‬ويُ َف ّكك وحدةَ اجملتمع‪ .‬فاخلطيئة إذاً هي ظاهرة ض ّد اجملتمع‪ .‬و ُ‬
‫يدب يف العالقات ّ‬
‫اآلخرين‪ُّ .‬‬‫َ‬
‫الشريعة املوسويّة‪ ،‬لكي‬ ‫الّذين يرمزون إىل اخلطأة‪ ،‬اعتادوا أن يعيشوا خارج املدن‪ ،‬وهناك التقاهم املسيح‪ .‬مثّ إ ّن ّ‬
‫نفسه‪ ،‬ما يدعو إىل‬‫ص إىل أماكن غري مأهولة‪ .‬ابلتّايل‪ ،‬إضافة إىل أ ّن اخلاطىء يؤذي َ‬ ‫الرب َ‬
‫حتمي املواطنني‪ ،‬عزلَت ُ‬
‫الراثء‪ ،‬فهو يظلم الّذين معه‪ ،‬ألنّه يرى فيهم أدوات يستغلّها للّ ّذة‪ .‬ال يقدر أن يرى يف اآلخرين أيقونةَ املسيح‪،‬‬‫ّ‬
‫ِ‬
‫نفس ميتة فارغة من نعمة الروح القدس‪ ،‬هي ُمعدية‪،‬‬ ‫إّّنا أدوات ألهوائه‪ .‬وهذه العقليّة الّيت تكشف عن ٍ‬
‫كالربص‪.‬‬
‫ََ‬
‫الضرر النّاجم عن االتّصال ابملوتى‬
‫مقدار َّ‬
‫َ‬ ‫الشريعة املوسويّة‬
‫إ ّن اخلاطىء ميت روحيًّا‪ .‬ولكي تُظهر ّ‬
‫الرسول إىل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الرسالة نفسها أوصلها بولس ّ‬
‫الروحيّني من غري متييز‪َ ،‬حسبَت َمن يَستَند إىل جسد ميت َن ًسا‪ .‬هذه ّ‬
‫ّ‬
‫السليمة"‬
‫األخالق ّ‬
‫َ‬ ‫الرديئة تفسد‬ ‫أهل كورنثوس بطريقة خمتلفة‪ ،‬عندما َكتَب‪" :‬ال تضلّوا‪ ،‬إ ّن املعاشرات ّ‬
‫الغشاشني‪ ،‬واحملتالني‪ ،‬والفوضويّني‪ ،‬والّذين‬
‫الربص‪ ،‬أن يشري إىل ّ‬ ‫(‪1‬كو‪ .)33 :15‬لقد أراد النّاموس‪ ،‬من خالل ََ‬
‫ِ‬
‫الغضب‪ ،‬كلّها جتعل‬
‫الشُّر‪ ،‬و ُ‬‫الغش‪ ،‬و ّ‬‫ومتلونة‪ ،‬هكذا ُّ‬
‫ص بَشرةَ اجلسد خشنة ّ‬ ‫حيفظون اإلساءةَ‪ .‬وكما جيعل َ‬
‫الربَ ُ‬
‫فس‬ ‫ّ‬‫الن‬ ‫تصيب‬ ‫يت‬‫ل‬
‫ّ‬ ‫ا‬ ‫اض‬‫ر‬ ‫األم‬ ‫تنشر‬ ‫اجملتمع‪،‬‬ ‫يف‬ ‫للوابء‬ ‫بؤرة‬ ‫فس‬ ‫الن‬
‫ّ‬ ‫هذه‬ ‫مثل‬ ‫هة‪.‬‬‫ومشو‬
‫َّ‬ ‫بة‪،‬‬‫النّفس غليظة ومتقلِّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ص اخلطيئة‪.‬‬
‫وحي بََر َ‬
‫الر ّ‬ ‫اخلالدة‪ ،‬وتنقل إىل اجلهاز ّ‬
‫شفاء‬
‫شايف وال ّ‬
‫ال ّ‬ ‫‪‬‬

‫الربص‪ ،‬انهيك عن سواهم من النّاس‪ ،‬أراد املسيح أن يُظهر أنّه هو شايف‬ ‫من خالل شفائه للعشرة ُ‬
‫هلم نُنعِ ُم النّظَر‬
‫البشري املنفسد َبربص اخلطيئة‪ .‬ولكن ّ‬
‫ّ‬ ‫الصحةَ للجنس‬
‫النّفس‪ ،‬وأنّه هو الّذي يستطيع أن يعطي ّ‬
‫يف بعض تفاصيل طريقة شفاء الربص‪ .‬لقد استجاب املسيح دعاء الربص‪ ،‬فأرسلهم إىل الكهنة‪ِ ،‬‬
‫كمتممني‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مرضه‬
‫فمن يعرف َ‬ ‫حّت يتح ّققوا من شفائهم‪ .‬وميكننا أن نرى يف هذه النّقطة رمساً ِّ‬
‫لسر االعرتاف‪َ .‬‬ ‫للشريعة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫وحي‪ ،‬ويعرف أهواءَه وخطاّيه بتواض ٍع‪" ،‬يرفع صوتَه" حنو املسيح‪ ،‬ويصلّي له‪ ،‬معرتفاً خبطاّيه ذهنيًّا‪ .‬يقوم مبا‬
‫الر ّ‬
‫ّ‬
‫الروحي‪ .‬وصالة‬
‫ّ‬ ‫الصحيح أمام الكاهن‪ ،‬أي األب‬
‫نسميه اعرتافاً ذهنيًّا‪ ،‬وهذا األخري هو شرط االعرتاف ّ‬
‫ّ‬
‫الشفاء‪.‬‬
‫اإلعرتاف هذه بَ ْدءُ ّ‬

‫‪9‬‬
‫فالصالة إذاً‪ ،‬هي‬
‫الربص‪ ،‬فيما أطاعوا وذهبوا إىل الكهنة‪" ،‬بينما هم ذاهبون برئوا"(لو‪ّ .)14 :17‬‬ ‫مثّ إ ّن ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ومؤسسي الكنيسة‪.‬‬‫نفحة ُحميِيَة‪ ،‬تبعث يف داخلنا رغبات روحيّةً كانت مائتة‪ .‬توحي لنا بطاعة اآلابء الق ّديسني‪ّ ،‬‬
‫الصالة غري املرتبطة ابلتّوبة‪ ،‬وغري املؤديّة إىل ممارسة أسرار‬ ‫الرغبةَ يف االعرتاف‪ ،‬وحتثُّنا على ِّ‬ ‫ِ‬
‫سر التّوبة‪ّ .‬أما ّ‬ ‫تُش ّدد ّ‬
‫الكنيسة‪ ،‬فهي جمازفة روحيّة خطرة‪ .‬إذاً‪ ،‬يف طاعتنا ُلرتاث الكنيسة‪ ،‬ولْل َو ْح ِي الّذي تَ َبعثُهُ نعمةُ هللا فينا‪ ،‬عندما‬
‫نتطهر‪ .‬من اآلن‬
‫وحي الكاهن‪ ،‬من اآلن‪"- ،‬فيما هم ذاهبون"‪ّ ،-‬‬ ‫الر ّ‬
‫الروحيّة ألبينا ّ‬
‫نقرر أن نكشف جراحاتنا ّ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫انتباهنا بسهولة‪ ،‬ولكنّنا‬
‫ألَنا أتسر َ‬ ‫تحررين من قيودها‪ .‬أجل‪ ،‬ما زلنا خناف اخلطيئة‪ّ ،‬‬ ‫نكتسب ّقوةً ض ّد اخلطيئة‪ ،‬م ّ‬
‫نتذوق حيا ًة ذات نوعيّة أخرى‪.‬‬ ‫وجهنا عن إُياءاهتا‪ ،‬ألنّنا بدأان ّ‬
‫نستطيع أن نصرف َ‬
‫يستغل‬
‫ّ‬ ‫املهم أن يعرف املؤمن ال ّد َور الكبري الّذي يلعبه الكاهن يف حياته‪ .‬ومهمٌّ أيضاً أن يعرف كيف‬
‫من ّ‬
‫عمق يف حياة الكنيسة‪ ،‬جيب أالّ تبقى غري‬‫الروحيّة الّيت تؤول إىل التّ ّ‬
‫الرغبات ّ‬ ‫يؤجل‪ .‬ف ّ‬
‫يتأخر أو ّ‬‫ظروفه‪ ،‬فال ّ‬
‫ُمشبَعة‪ .‬واإلهلامات الّيت تولّد التّوبةَ جيب أن تتغ ّذى دائماً ابألعمال‪ ،‬وابالعرتاف معاً‪.‬‬

‫جادة العمل‪ .‬هناك‪" ،‬فيما هم‬


‫بشّت الطّرائق‪ ،‬الب ّد أن خترجنا إىل ّ‬
‫إ ّن احلركة الّيت تثريها نعمةُ هللا فينا‪ّ ،‬‬
‫ذاهبون"‪ ،‬سوف نتح ّقق من جت ّددان‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫األحد الرابع عشر من لوقا‬

‫(‪ ،43-35 :18‬شفاء األعمى)‬

‫سؤال املسيح‬
‫"ماذا تريد أن أصنع لك؟"‬
‫فلما استخرب عن حضور املسيح‪ ،‬ترك‬ ‫السبيل خارج أرُيا‪ّ .‬‬ ‫كان األعمى يطلب صدقةً من مجيع عابري ّ‬
‫متضرعاً إليه وقائالً‪ّ" :‬ي يسوع ابن داود ارمحين"‪ .‬ومل يثنه عن إحلاحه التّع ّقل املزعوم‪،‬‬ ‫مجيع الناس‪ ،‬والتفت حنوه‪ّ ،‬‬
‫صَر َخ أَ ْكثَ َر َكثِ ًريا‪َّ « :‬ي ابْ َن َد ُاوَد‪ْ ،‬ار َمحِْين!» (‪ .)18 :29‬إالّ أ ّن عدم إذعانه‬
‫الّذي أبداه اجملتمع حوله‪ " ،‬أ ََّما ُه َو فَ َ‬
‫انتباه املسيح‪ ،‬فدعاه‪ ،‬وسألَه‪" :‬ماذا تريد أن أصنع‬
‫وتوسله امللحاح يف آن‪ ،‬اجتذاب إليه َ‬
‫ضغوطات من حوله‪ّ ،‬‬ ‫لل ّ‬
‫لك؟" سؤال املسيح هذا‪ ،‬الّذي يبدو غريباً للوهلة األوىل‪ ،‬له فحوى عميقة‪ .‬ترى هل ُيتاج أحد أن يسأل‬
‫نور عينيه‪ ،‬طبعاً‪ .‬هكذا أجاب األعمى‪" :‬أن أبصر"‪.‬‬
‫عما يريد؟ َ‬
‫األعمى ّ‬
‫وجوده فعالً‪ ،‬حبيث يصري الشفاء منها مهَّه‬
‫املهم أن يعرف اإلنسان مشكلتَه األساسيّة الّيت تع ّذب َ‬
‫من ّ‬
‫يعرب عنه يف حواره مع املسيح من خالل الصالة‪ .‬إ ّن عقم صالتنا يعود بدرجة كبرية إىل عدم‬‫اهلم ّ‬
‫األول‪ .‬وهذا ّ‬
‫ّ‬
‫التأمل يف املعىن الّذي خيفيه سؤال املسيح‪.‬‬
‫معرفتنا ما جيب طلبه‪ ،‬وال كيف نطلب‪ .‬من هنا أمهيّة ّ‬
‫املشكلة األساسيّة‬ ‫‪‬‬

‫"رمحاك ّي ابن داود"‪ .‬أي أنّه أراد من املسيح أن يعطف عليه‬


‫الرمحة‪ُ :‬‬
‫إ ّن ما طلبه األعمى من املسيح هو ّ‬
‫واملستمرة‪ .‬وما ّ‬
‫الرمحة الّيت نطلبها يف قولنا "ّي‬ ‫ّ‬ ‫الرمحة هو صالة الكنيسة ال ّدائمة‬
‫ويساعده‪ .‬هذا ال ّدعاء وطلب ّ‬
‫نفوسنا من أمراض‬ ‫ريب يسوع ارمحين"‪ ،‬سوى نعمة هللا‪ ،‬وعمله ِّ‬
‫املطهر املُنري‪ ،‬الّذي يشفي َ‬ ‫رب ارحم" أو "ّي ّ‬
‫اضع أنّنا حباجة إىل‬
‫األهواء‪ .‬كلمة "رمحة" حتوي طلبات النّفس املصلّية كلّها‪ .‬عندما نقول "ارحم" نعرتف بتو ٍ‬
‫العام‬
‫لكن هذا الطّلب ّ‬ ‫الرمحة‪ ،‬أي إىل إحسان هللا لنا كفقراء ومرضى‪ ،‬غري قادرين على العمل بوصاّي اإلَنيل‪ .‬و ّ‬ ‫ّ‬
‫تغري صفاهتا دائماً‪،‬‬
‫وتغريات‪ّ .‬‬‫عمليا‪ .‬فاآلابء الق ّديسون يقولون إ ّن الصالة فيها تب ّدالت ّ‬
‫جيب أن يتّخذ تطبيقاً ًّ‬
‫‪11‬‬
‫عمل نعمله‪ .‬وهي ليست مستقلّة عن جهادان‬‫كل ٍ‬ ‫احلها‪ ،‬ومنها يتشبّع ُّ‬ ‫ط بسائر تفاصيل احلياة الروحية ومر ِ‬ ‫وتَرتب ُ‬
‫ّ ّ‬
‫اجلوهر‪ ،‬املشكلة هي نفسها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ض ّد األهواء‪ ،‬كما ال ميكن أن تتجاهل مشاكلنا اليوميّة‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬من حيث‬
‫ميزق وجودان‪ ،‬ويعرقل عمل النّفس‪ ،‬فيجعلنا غري‬
‫مرد ّ‬‫كل مكان‪ّ :‬إَنا متَُّرُدان على مشيئة هللا‪ .‬وهذا التّ ّ‬
‫دائماً ويف ّ‬
‫كل ما تثريه فينا الطّبيعة من اخلارج‪ّ .‬إَنا اخلطيئة مبختلف َمظاهرها‪.‬‬‫قادرين على مقاومة ّ‬
‫الصوت"‪ .‬فهو‬
‫مبجرد "إخراج ّ‬‫يتم فجأ ًة‪ّ ،‬‬
‫يعلّم آابؤان الق ّديسون أ ّن شفاءان من مرض اخلطيئة واألهواء ال ّ‬
‫الصرب‪ ،‬واملثابرة‪ .‬يف هذه املسرية‪ ،‬ويف هذه احلرب‬
‫يتبع ترتيباً معيّناً‪ ،‬ومسرية متنامية‪ ،‬وُيتاج إىل كثري من الوقت‪ ،‬و ّ‬
‫مرة ما اهلوى الّذي يع ّذبنا‪ ،‬أو ُياربنا عن قرب‪ ،‬ونبادره ّأوالً بسهام ّ‬
‫الصالة‪ .‬إ ّن‬ ‫كل ّ‬
‫الروحيّة‪ ،‬جيب أن نعرف ّ‬ ‫ّ‬
‫األساسي أو‬
‫ّ‬ ‫مربزا اهلوى‬
‫املسيح يريد دائماً أن َنيبه داخل صالتنا عن سؤال‪" :‬ماذا تريد أن أصنع لك؟"‪ً ،‬‬
‫ئيسي ليس سوى عدم إحساس النّفس‪ ،‬وعدم معرفتنا لذواتنا‪.‬‬ ‫الر ّ‬‫املشكلة األساسيّة الّيت تع ّذبنا‪ .‬طبعاً إ ّن اهلوى ّ‬
‫تتضمن صالتنا كلمات مثل "أضىء ظلميت"‪"...‬أريد أن أبصر"‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫عندئذ‪ ،‬ميكن أن ّ‬
‫سؤال يَدينُنا‬ ‫‪‬‬

‫وتوجهاتنا‪ .‬فلو فَ َحصناها‪ ،‬لوجدانها مراراً ال‬


‫إ ّن يف سؤال املسيح "ماذا تريد أصنع لك؟" دينونة لنيّتنا ّ‬
‫حق التّق ّدم على اآلخرين‪،‬‬
‫تعرف ماذا تريد من املسيح‪ .‬وهذا ما حصل أيضاً مع تلمي َذي املسيح عندما طلبا منه َّ‬
‫عندئذ قال هلما‪" :‬أنتما ال تعلمان ماذا تسأالن"(مر‪ .)10 :38‬ويف‬ ‫ٍ‬ ‫الصليب‪.‬‬‫فيما هو يكّلمهم على تضحية ّ‬
‫ه"(مّت‪ّ .)33 :6‬أما حنن‪ ،‬فبسبب افتقاران إىل النّضوج‬ ‫ٍ‬
‫وبر ّ‬ ‫سياق آخر نصحهم أن "اطلبوا ّأوالً ملكوت هللا َّ‬
‫كل عمل نعمله ينبغي أن‬ ‫ختص هللا‪ ،‬و ّ‬
‫الشخصيّة‪ .‬طبعاً إ ّن حياتنا كلّها ّ‬
‫يتدّن خلدمة مصاحلنا ّ‬ ‫وحي‪َ ،‬نعل هللا ّ‬
‫الر ّ‬ ‫ّ‬
‫كل ما تنطوي عليه حياتنا حبضرة هللا‪ .‬ولكن ّي هلول‬
‫نباشره بربكته هو‪ .‬هذا يتطلّب إمياانً حيًّا‪ ،‬واستعداداً ليستنري ّ‬
‫ما ُيصل مع كثريين من النّاس‪ ،‬إذ ّإَنم يصبّون اهتمامهم كلّه يف تصريف أعماهلم‪ ،‬من غري أن يتوقّفوا طويالً عند‬
‫ابلسهولة نفسها الّيت‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫املنجم‪ ،‬فيقصدون هذا األخري ّ‬ ‫املؤدية إىل َناحها‪ .‬عندئذ يساوون بني الكاهن و ّ‬ ‫السبل ّ‬ ‫ّ‬
‫يستدعون هبا الكاهن‪ .‬هذه مشكلة حقيقيّة فيها دينونة ملسيحيّتنا‪ .‬فنحن نطلب ّأوالً سائر األمور‪ ،‬ونرتك‬
‫ملكوت هللا‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫اخلاص‬
‫ّ‬ ‫جواب األعمى وجوابنا‬ ‫‪‬‬
‫ٍ‬
‫حاالت أخرى‪،‬‬ ‫إ ّن األعمى أجاب تلقائيًّا عن سؤال املسيح‪" :‬أن أبصر"‪ .‬يف حالة األعمى‪ ،‬كما يف‬
‫يوجه املسيح أسئلته يف سياق احلوار الّذي يدور بينه وبني اإلنسان املق ِرتب إليه‪ ،‬مريداً أن يظهر إميا َن ذلك‬
‫ّ‬
‫اإلنسان‪ ،‬وفضيلته وشفافيّة مطلَبه‪ .‬كذلك يريد أن يسمع احلاضرون مجيعاً الطّلب‪ ،‬ليتأ ّكدوا فيما بعد أنّه أعطى‬
‫ب منه متاماً‪ .‬فاملسيح يعطينا ما نطلبه‪ ،‬شرط أالّ ينايف هذا الطّلب مشيئته‪ ،‬ويش ّكل خطراً على خالصنا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ما طُل َ‬
‫الرب‪" :‬تسألون وال تنالون‬
‫نتضرع إىل هللا ليصري خادماً لنيّتنا اخلاطئة‪ .‬يقول يعقوب أخو ّ‬‫إنّه ملن التّجديف أن ّ‬
‫السؤال‪ ،‬لرغبتكم يف اإلنفاق على أهوائكم"(يع‪.)3 :4‬‬
‫ألنّكم ال حتسنون ّ‬
‫بكل تفاصيل‬
‫إ ّن عدم حتقيق هللا إلحدى رغباتنا هلو بركة وعطف خاص من لدنه‪ .‬فهو ُيبّنا ويعتين ّ‬
‫حياتنا‪ .‬يريد أن جيعلنا مشاهبني له ابلّنعمة‪ ،‬ال أن يراان نغرق يف الوحل‪.‬‬

‫األساسي جواب ا ألعمى للمسيح‪" :‬أن أبصر"‪ .‬فلنطلب أن يفتح ذهننا "لنفهم الكتب"‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فليكن طلبنا‬
‫بوضوح "طريق الرب" يف كل ٍ‬
‫ظرف‪.‬‬ ‫أعني أنفسنا‪ ،‬علّنا نرى‬
‫ّ‬ ‫َ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وأن ينري َ‬

‫‪13‬‬
‫األقمار الثّالثة ّ‬
‫(مت ‪)19-14 :5‬‬

‫"أنتم نور العامل"‬


‫الق ّديسون هم أتكيد اإلَنيل ودليل اإلميان‪ ،‬لذلك هم "نور العامل"‪ .‬استناروا فأانروا‪ .‬ورؤساء الكهنة‬
‫الشموس"‪ .‬فإ ّن نور النّعمة الّذي سكن يف‬ ‫دعون "أقمار األلوهة املثلّثة ّ‬
‫تكرمهم الكنيسة اليوم يُ َ‬
‫الثالثة الّذين ّ‬
‫الصمت‪ .‬فاض كلمةَ تعليم‪ ،‬وجرى َسيلُه يف‬ ‫شع يف العامل‪ ،‬ومل يتم ّكن من االختفاء "حتت مكيال" ّ‬ ‫نفوسهم َّ‬
‫يوضع على منارة‬ ‫ِ‬
‫ابلروح القدس َ‬ ‫فروى شعباً متعطّشاً إىل معرفة هللا‪ .‬وإذا بسراج قلبهم املشتعل ّ‬ ‫الكنيسة‪ّ ،‬‬
‫املسيح‪ ،‬وأحبّوه‪ ،‬ورغبوا يف خالص العامل كأنّه خالصهم ال ّذايتّ‪ .‬ألجل ذلك انصرفوا إىل‬
‫َ‬ ‫األسقفيّة‪ .‬لقد عرفوا‬
‫الضخم‪.‬‬‫عائي ّ‬
‫الر ّ‬
‫عملهم ّ‬
‫قرأ يف تذكار األقمار الثّالثة يدعوان إىل النّظر يف بعض دقائق‬
‫يلي الّذي ح ّددته الكنيسة ليُ َ‬
‫إ ّن الفصل اإلَن ّ‬
‫الرسوليّة ألقمار الكنيسة الثّالثة‪.‬‬
‫احلياة ّ‬
‫نور العامل‬ ‫‪‬‬
‫تبعين فال ِ‬
‫ميش يف الظّالم" (يو‪ .)12 :8‬ولكي يؤّكد ّاحتاده‬ ‫إ ّن املسيح قال عن نفسه "أان نور العامل‪َ ،‬من ي ْ‬
‫مين‪ ،‬ومن احتقركم فقد احتقرين" (لو‪:10‬‬ ‫"من مسع منكم فقد مسع ّ‬ ‫بتالميذه‪ ،‬قال هلم عندما أرسلهم إىل الكرازة‪َ :‬‬
‫"فكر املسيح"‪ ،‬ومل ُييوا هم‪ ،‬بل كان "املسيح ُييا‬
‫سل َ‬ ‫الر ُ‬
‫الرسل هو كالم املسيح‪ .‬لقد اقتىن ّ‬ ‫‪ .)16‬ذلك أ ّن كالم ّ‬
‫كل زمن‪.‬‬ ‫يعربون عن مشيئة هللا يف ّ‬
‫فيهم"‪ .‬وهذا ما ُيصل مع الق ّديسني يف العصور كلّها‪ّ .‬إَنم "أفواه الكلمة"‪ّ ،‬‬
‫اترخيي صعب‪ .‬هذا‬
‫ّ‬ ‫الصحيح خالل منعطَف‬ ‫لقد حفظ رؤساء األساقفة الثّالثة سفينةَ الكنيسة يف اجملرى ّ‬
‫لم ِهم وحدمها‪ .‬فما ال ّذكاء والعلم إالّ أدااتن يف يد اإلنسان‪ .‬واستعماهلما‬ ‫أيت نتيجة ذكائهم وال ِع ِ‬ ‫النّجاح مل ِ‬
‫انفعني أو ُمسيئَني‪ .‬وإ ّن ما ّنّى يف الق ّديسني مواهبَهم الطّبيعيّة وبَْل َوَر ثقافتَهم اهللّينيّة الواسعة هو‬
‫يوضحهما ّإما َ‬
‫حيا ُهتم املوافقة ملشيئة هللا‪ ،‬واجملتذبة نور هللا إىل نفوسهم‪ .‬مل يكونوا فالسفة يطلقون نظرّّيت حول هللا‪ ،‬بل‬
‫عما عاينوه‪ ،‬فأتى كالمهم انبعاً عن خربة‪ .‬إ ّن النّظر إىل الق ّديسني‬
‫ثوذكسي للكلمة‪ .‬حت ّدثوا ّ‬
‫ّ‬ ‫الهوتيّني ابملعىن األر‬
‫ُيط من قيمتهم‪ .‬فتعليم رؤساء األساقفة الثالثة يتماهى‬ ‫كفالسفة مف ّكرين يدافعون عن تعليم الفلسفة اإلنسانيّة ُّ‬

‫‪14‬‬
‫للمعزي‪،‬‬ ‫وتعليم الكنيسة‪ ،‬ويهدف لالرتقاء ابإلنسان إىل استنارة ا ّلروح القدس‪ .‬يرمي إىل َج ِ‬
‫عل اإلنسان إانءً ّ‬
‫نور ِّ‬
‫احلق يف العامل‪.‬‬ ‫ومصباحاً ينشر َ‬
‫َح هل النّاموس‪"...‬‬ ‫ِ‬
‫"مل آت أل ُ‬ ‫‪‬‬

‫سويل‪،‬‬
‫الر ّ‬
‫كالمهم امتداداً للوعظ ّ‬
‫يظن كثريون أ ّن رؤساء الكهنة الثّالثة جلبوا إىل العامل آراء جديدة‪ ،‬فجاء ُ‬
‫ُّ‬
‫مؤسسي احلضارة املسيحيّة اليواننيّة‪ ،‬كحضارة جديدة يف التّاريخ‪ّ .‬أما‬ ‫وقَ َرنوا املسيحيّة ابحلضارة اهللّينيّة‪ ،‬فأضحوا ّ‬
‫اخلاصة‪ ،-‬فينسبون إليهم‪،‬‬
‫يكرموا الق ّديسني‪- ،‬ولكن وفق مقاييسهم ّ‬ ‫الّذين ُيملون هذا التّفكري‪ ،‬ويف نيّتهم أن ّ‬
‫من حيث ال يدرون‪ ،‬صفات كبار اهلراطقة الّذين بلبلوا كنيسةَ املسيح‪ .‬ذلك أ ّن اهلراطقة قَرنوا مناهج الفلسفة‬
‫املسيحي‪ ،‬أو ابألحرى أخضعوا اإلميا َن حلكم املنطق‪ .‬وفيما حاولوا أن يفهموا عقائد الكنيسة مبناهج‬ ‫ّ‬ ‫ابإلميان‬
‫ساورهم االعتقاد الشيطاينّ ّأَنم قادرون على إضافة تعليم‬ ‫ٍ‬
‫احلكمة البشريّة‪ ،‬وقعوا يف ضالالت كبرية‪ .‬كذلك َ‬
‫الرسل الق ّديسني‪ .‬هؤالء وحدهم‬ ‫جديد على ما أُعلن يوم العنصرة‪ ،‬أو ّأَنم يستطيعون قول ما خيتلف عن تعليم ّ‬
‫تتطور يف فهمها للحقيقة‪ ،‬كما لو ّأَنا مل تتسلّمها كاملةً يف يوم العنصرة‪.‬‬
‫يعتقدون أ ّن الكنيسة ميكنها أن ّ‬
‫من ال ّدالئل الكثرية الّيت تُظ ِهر عظمةَ رؤساء األساقفة الثالثة‪ ،‬العالمتان التّاليتَان‪ّ :‬أوالً‪ّ ،‬أَنم أطاعوا تقليد‬
‫الرسل الق ّديسني‪ ،‬وتشبّهوا به‪ ،‬وصاروا هم أنفسهم ذلك التّقليد‪ .‬مل يزيدوا أموراً خمالفة‪ ،‬وال حذفوا منه شيئاً‪.‬‬ ‫ّ‬
‫مؤسسة على احلقيقة الّيت أعلنها‬ ‫اثنياً‪ ،‬أخذوا التّساؤالت الّيت طرحتها الفلسفة اليواننيّة‪ ،‬وأعطوا عنها أجوبةً َّ‬
‫ابلروح املسيحيّة‪.‬‬
‫املسيح‪ .‬إذاً‪ ،‬هبذا املعىن‪ ،‬ميكننا أن نتكلّم عن إقران رؤساء األساقفة الثالثة الفلسفة اليواننيّة ّ‬
‫عطشا مل تقدر املعرفة البشريّة أن ترويه‪ .‬وهكذا‬ ‫نفوسهم‪ ،‬ولريوي ً‬ ‫ب ُ‬ ‫فتعليم املسيح أتى ليجيب إىل أعمق َمطلَ ٍ‬
‫الناموس واألنبياء"‪ ،‬فقادوا فلسفة اإلغريق إىل خمرج‬ ‫َ‬ ‫الرسل طريقةَ حياهتم‪ .‬ومن غري أن "ُيلّوا‬ ‫أصبحت كلمةُ ّ‬
‫البشري‬
‫ّ‬ ‫آزق الّيت وقعت فيها‪ .‬مل يصوغوا إمياانً جديداً‪ ،‬إّّنا أانروا طُُرقاً مظلمة للفكر‬
‫ألَنم عرفوا امل َ‬
‫اإلميان ابملسيح ّ‬
‫بوساطة اإلميان غري املغشوش‪.‬‬

‫"الّذين يعملون ويعلِّمون‪"...‬‬ ‫‪‬‬

‫‪15‬‬
‫الشياطني أو شفاء املرضى‪ ،‬بل‬ ‫يف ملكوت السموات‪ ،‬لن يتعظَّم الّذين اكتفوا بكرازة اإلَنيل‪ ،‬أو إخراج ّ‬
‫وت‬‫الّذين حفظوا وصاّي املسيح‪ ،‬وعلّموا النّاس إمياَنم املعاش‪ " :‬وأ ََّما من ع ِمل وعلَّم‪ ،‬فَه َذا ي ْدعى ع ِظيما ِيف ملَ ُك ِ‬
‫ُ َ َ ً َ‬ ‫َ َْ َ َ ََ َ‬ ‫َ‬
‫الشعب وشفائه‪ ،‬من دون ان‬ ‫موهبيت الوعظ وصنع العجائب خلدمة ّ‬ ‫َّ ِ‬
‫"(مّت‪ .)19 :5‬إذاً‪ ،‬قد يُعطي هللا َ‬ ‫الس َم َاوات ّ‬
‫ابلضبط يف نعمة الكهنوت األسراريّة‪ .‬ويش ِّدد املسيح لدى سامعيه على‬ ‫صاحب املوهبة‪ ،‬كما ُيصل ّ‬ ‫ُ‬ ‫خيلص هبما‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫عندئذ‬ ‫رب‪ ،‬أليس ابمسك تنبّأان‪ ،‬وابمسك أخرجنا شياطني؟"‬ ‫رب‪ّ ،‬ي ّ‬ ‫أ ّن كثريين سيقولون يف يوم ال ّدينونة‪ّ" :‬ي ّ‬
‫اإلمث"(مّت‪ .)23-22 :7‬وهكذا رؤساء الكهنة‪ :‬علّموا‬ ‫ّ‬ ‫عين ّي فاعلي‬
‫قط‪ ،‬اذهبوا ّ‬ ‫إين مل أعرفكم ُّ‬‫سيجيبهم هو‪ّ " :‬‬
‫الشعب‪ .‬فالق ّديس يوحنّا‬
‫ألَنم "عملوا"‪ .‬نعرف من سريهتم ّأَنم عربوا ابهلدوئيّة والنّسك قبل أن يتسلّموا رعايةَ ّ‬
‫ّ‬
‫الرهبان‪ ،‬كما عاش لوحده يف إحدى املغاور‪ .‬والق ّديسان‬ ‫الشيوخ ّ‬‫الذهيب الفم نسك ع ّد َة سنوات بقرب أحد ّ‬‫ّ‬
‫متمر َسني على حفظ وصاّي املسيح‪،‬‬ ‫ابسيليوس الكبري وغريغوريوس الالهويت عاشا فرتةً يف هدوء البنطس‪ِّ ،‬‬
‫ّ‬
‫الكتب ويصلّيان‪ .‬هكذا جاءت كلمتُهم عمالً خمتََرباً‪ ،‬لذلك أثّرت يف نفوس سامعيهم ونقلت إليهم‬ ‫َ‬ ‫يدرسان‬
‫احلياة‪ .‬فخيبة الوعظ الكُبى أن خيرج عن إطار حياة الواعظ‪ّ .‬أما سرية ّ‬
‫الرؤساء الثّالثة‪ ،‬فسطعت َّ‬
‫أشد ملعاانً‬
‫من كالمهم‪ ،‬وهلذا كانوا عظماء "عند هللا والنّاس"‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫مت‬
‫األحد السّادس عشر من ّ‬
‫(مت‪)30-14 :25‬‬
‫ّ‬

‫املواهب والكسل‬
‫"أيّها العبد الشرّير الكسالن‪"...‬‬
‫عبيده‬
‫وحي‪ .‬يُذ ّكران مبحبّة هللا الّذي جعل َ‬‫الر‬
‫ّ‬ ‫الكسل‬ ‫نوم‬ ‫ل‬‫بوق يوقظنا من ثَِق ِ‬
‫إ ّن مثَل الوزانت هو صوت ٍ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ّ‬
‫مؤمتَنني على غناه‪ ،‬كما يذ ّكران مبسؤوليّتنا جتاه اهلبات املعطاة لنا‪.‬‬

‫الشرير الكسالن‪ ،‬بعد أن نتناول ّأوالً موضوع الوزانت وكيفيّة‬


‫انتباهنا على العبد ّ‬
‫يف التفسري اآليت‪ ،‬سنرّكز َ‬
‫مضاعفتها‪.‬‬

‫‪ ‬الوزانت (املواهب)‬

‫لكن‬
‫الوزانت يف املثَل هي مواهب خمتلفة مينحها هللا لعبيده‪ ،‬ألنّه ما من إنسان ال أيخذ موهبةً من هللا‪ .‬و ّ‬
‫اآلخرين‪ ،‬وتلك الّيت أعطاان ّإّيها‪،‬‬
‫احلسد‪ ،‬الّذي يظهر بطرائق خمتلفة‪ُ ،‬يجب عنّا رؤية املواهب الّيت زيّن هللا هبا َ‬
‫غري قانعني‪ّ .‬أما اإلنسان العائش يف ُمناخ‬ ‫ِ‬
‫املتنوعة‪ ،‬فنبقى َ‬‫فاحلسد يُعد ُم قلبَنا اإلحساس بعطاّي هللا ّ‬
‫لكي نفرح هبا‪َ .‬‬
‫األمور‬
‫َ‬ ‫مرهفاً‪ ،‬ويرى‬
‫الصادقة‪ ،‬فيكتسب إحساساً روحيًّا َ‬ ‫التّقوى األرثوذكسيّة‪ ،‬واملُدا ِوم على الصالة املتواضعة ّ‬
‫يتحرر من أتثري األهواء داخليًّا‪ ،‬يفرح ويستمتع ابخلليقة‪ ،‬ألنّه يرى فيها عنايةَ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫بشكل خمتلف متاماً‪ .‬وبقدر ما ّ‬
‫حمل احلسد الفر ُح والعرفا ُن ابجلميل هلل الّذي يُنعِم على اخلليقة بعطاّي جزيلة‪ .‬ويف‬ ‫ٍ‬
‫حينئذ‪َُ ،‬يُ ّل َّ‬ ‫اخلالق وحمبّ تَه‪.‬‬
‫الشخصيّة‪ ،‬وتنشأ يف قلبه الرغبة يف حياةٍ روحيّة أعمق‪.‬‬ ‫السليم بصغارتِه ّ‬
‫الوقت عينه‪ ،‬ينمو فيه اإلحساس ّ‬
‫نوعني‪ :‬املواهب "الطّبيعيّة"‪ ،‬أي القدرات (امللَكات)‬ ‫أما املواهب الّيت يعطيها هللا‪ ،‬في ِ‬
‫مكن فصلُها إىل‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫يق اخلالص‪ .‬إ ّن‬‫كل إنسان‪ ،‬واملواهب "اخلالصيّة"‪ ،‬أي املواهب الّيت تفتح لنا طر َ‬ ‫اخلاصة أو املهارات الّيت لدى ّ‬ ‫ّ‬
‫الص ّحة‪،‬‬
‫القوة اجلسديّة‪ ،‬و ّ‬
‫الطبيعي‪ ،‬وإىل ّ‬
‫ّ‬ ‫األول‪ .‬ينظرون‪ ،‬مثالً‪ ،‬إىل ال ّذكاء‬
‫معظم النّاس ال يرى سوى النّوع ّ‬

‫‪17‬‬
‫الق ُدرات الفنّ يّة‪ ،‬وسواها‪ ...‬ولكنّهم ال يُ َق ِّدرون بََركة املعموديّة األرثوذكسيّة‪ ،‬وال إمكانيّة‬
‫واجلمال‪ ،‬والغىن‪ ،‬و ُ‬
‫توبة يدفعنا هللا إليها أبقو ٍال و ٍ‬
‫أحداث وتغيريات داخليّة‪،‬‬ ‫االشرتاك يف جسد املسيح ودمه‪ ،‬وال ابب التّوبة املفتوح‪ٍ ،‬‬

‫حسب حالة ٍّ‬


‫كل منّا‪.‬‬

‫مضاعفة الوزانت‬ ‫‪‬‬

‫شاكرا‪ .‬فمع العلم أب َّنا ليست ُملكنا‪ ،‬بل هي من جزيل‬


‫إن هللا يعطينا مواهب تتطلّب منّا جتاوابً ً‬
‫وخبثِنا‪.‬‬
‫نطمَرها بكسلنا ُ‬
‫َنتم هبا ونكثّرها‪ ،‬ال أن ُ‬
‫ِ‬
‫إنعامات هللا‪ ،‬جيب أن ّ‬
‫ئيسي عن طريق الكنيسة‪ ،‬وتتضاعف ابخنراطنا الكامل يف‬ ‫تُعطى لنا املواهب "اخلالصيّة" بشكل ر ّ‬
‫جسد املسيح‬
‫الروح القدس مبسحة املريون‪ ،‬ونتناول َ‬ ‫نلبس املسيح ابملعموديّة‪ ،‬وننال مواهب ّ‬
‫الكنيسة‪ .‬فنحن ُ‬
‫َ‬
‫الرسويل‬
‫ّ‬ ‫ودمه‪ .‬هذه األمور كلُّها تعطينا احلياة‪ ،‬ال بل فيض حياة‪ ،‬عندما نضع َ‬
‫نفوسنا يف الطّاعة الكاملة للتقليد‬ ‫َ‬
‫اآلابئي‪ّ .‬أما املواهب "الطبيعيّة" فتتضاعف عندما نربطها حبفظ وصاّي هللا‪ ،‬أي عندما ال نستخدمها يف خدمة‬
‫و ّ‬
‫الفضة‪ ،‬أو يف خدمة جمدان الفارغ‪ ،‬بل نضعها عند "صيارفة" الكنيسة‪ ،‬أي يف خدمة‬ ‫وحب ّ‬ ‫حب ال ّذات ّ‬ ‫ّ‬
‫نتنعم به‪.‬‬
‫إخوتنا‪ ،‬وَنعل اآلخرين مشاركني يف األمور ما ّ‬
‫الشرير‬
‫العبد ّ‬ ‫‪‬‬

‫مهما‪ ،‬ألنّه‬
‫دورا ًّ‬
‫الشرير الكسالن‪ ،‬الّذي أخفى موهبتَه ومل يكثّرها‪ً ،‬‬
‫يف هذا املثَل‪ ،‬تلعب شخصيّة العبد ّ‬
‫كل ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫عمل صاحلٍ‪،‬‬ ‫الكسل موت للنّفس‪ ،‬يُبع ُد اإلنسا َن عن ِّ‬
‫ليب‪ .‬ف َ‬
‫الس ّ‬
‫يذ ّكران أبخطار أساسيّة عن طريق مثاله ّ‬
‫احلرية‬
‫كر يف العمق عطيّةَ ّ‬ ‫الشر‪ .‬واإلنسان الّذي يستسلم للجمود‪ ،‬يُن ُ‬ ‫كل ضروب ّ‬ ‫اب على ّ‬ ‫وهكذا يفتح األبو َ‬
‫الكربى‪ ،‬وهي أن نعرف ما عندان من مواهب "على صورة هللا" معرفةً أساسيّة‪ .‬مثّ إ ّن األمل الناتج من العمل‪ ،‬سواء‬
‫احلريّة ترتبط ابألمل والعرق‪ .‬إالّ أ ّن الكسل‬
‫روحي‪ ،‬فيه أتكيد حلّريّتنا‪ .‬فمهما يبدو األمر غريباً‪ّ ،‬‬
‫جسدي أم ٌّ‬‫ٌّ‬ ‫هو‬
‫يدفن "ما هو على صورة هللا" يف تُراب حياة بال شخصيّة‪ ،‬حياة خمنوقة ابلغرائز البهيميّة‪ ،‬وابألهواء احليوانيّة أو‬
‫الوحشيّة‪.‬‬

‫أنظر متّى ‪( 27 :25‬المترجم)‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪18‬‬
‫الشرير الكسالن‪:‬‬
‫من املفيد أن نشري إىل بعض ما يظهر يف حالة العبد ّ‬
‫الرب مزيج‬
‫فعما ابحملبّة‪ .‬ذلك أ ّن العالقة احلقيقيّة مع ّ‬ ‫حقيقيا م ً‬
‫ًّ‬ ‫الرب‪ ،‬ولكن ليس خوفاً‬
‫ّأوالً‪ ،‬إنّه خياف َّ‬
‫البغض‪ .‬عندما خناف هللا من دون أن‬ ‫َ‬ ‫فالشوق وحده خيلق الوقاحة‪ ،‬واخلوف وحده يولّد‬ ‫الشوق‪ّ .‬‬ ‫من اخلوف و ّ‬
‫حنبّه‪ ،‬أي من دون أن نؤمن يف الوقت نفسه بصالحه وحمبّته للبشر‪ ،‬نُ َش ِّوه صورةَ هللا داخلنا‪ .‬يصري هللا قاسيًّا‪،‬‬
‫ر"(مّت‪ .)24 :25‬وهذا املوقف من هللا هو نتيجة الكسل‬ ‫"ُيصد من حيث مل يزرع‪ ،‬وجيمع من حيث مل يب ُذ ّ‬
‫الشر الّذي يتولّد من الكسل‪.‬‬
‫وحي‪ .‬إنّه ّ‬
‫ا ّلر ّ‬
‫الشرير مل يب ّدد الوزنةَ‪ ،‬بل احتفظ هبا ساملة‪ .‬حافظ عليها وأرجعها إىل سيّ ِده من دون‬‫اثنيًا‪ ،‬إ ّن العبد ّ‬
‫"استثمار"‪ .‬ولكن يف النّهاية‪ ،‬احملافظة على املواهب ال ختلّصنا‪ .‬تتميز برتافُِقها واإلميان ٍ‬
‫إبله ٍ‬
‫قاس‪ُ ،‬متش ّدد عدمي‬ ‫ّ َ‬
‫املروي مبحبّة املسيح‪ .‬فما ُدمنا ّنتنع عن تبديد مواهبِنا يف‬
‫وحي هي اخلوف ّ‬ ‫الر ّ‬
‫احملركة للتّق ّدم ّ‬
‫القوة ّ‬
‫ولكن ّ‬
‫الرمحة‪ّ .‬‬‫ّ‬
‫اضني به‪ ،‬وال نتق ّدم حنو األعلى‪،‬‬
‫اخلطيئة خوفًا من العقاب‪ ،‬حنن يف منزلة العبيد‪ .‬وعندما نقبع يف هذا الوضع ر َ‬
‫نربهن أنّنا عبيد أشرار وكسالنون‪.‬‬

‫إ ًذا‪ ،‬ينبغي أن نضاعف الوزانت الّيت أعطاان ّإّيها هللا‪ ،‬وال نكتفي ابحلفاظ عليها‪ .‬فاحلياة الّيت أُعطيناها‪،‬‬
‫كل مواهبها‪ ،‬جيب أالّ تبقى بال ٍّ‬
‫ّنو‪ .‬جيب أن ترتفع إىل فَلَك احلياة اإلهليّة‪ ،‬وأن تتّحد حبياة املسيح‪ ،‬وإالّ‪،‬‬ ‫مع ِّ‬
‫الشرير الكسالن‪."...‬‬
‫وجه لنا حنن أيضاً هذه الكلمة‪" :‬أيّها العبد ّ‬‫ستُ َّ‬

‫‪19‬‬
‫مت‬
‫األحد السّابع عشر من ّ‬
‫(‪ ،28-21 :15‬أحد الكنعانيّة)‬

‫البشري واإلميان ابهلل‬


‫ّ‬ ‫األمل‬
‫"فلَم ُجيبها بكلمة"‬

‫تعج ابألواثن‪ ،‬وقادها إىل‬


‫أخرجه األمل من دائرة احلياة املعتادة‪ ،‬احلياة الّيت ّ‬
‫إ ّن املرأة الكنعانيّة هي شخص َ‬
‫التطرق إليها‪ .‬ولكنّنا نكتفي‬
‫قصة املرأة الكنعانيّة نقاط كثرية ميكن ّ‬ ‫احلقيقي‪ .‬يف ّ‬
‫ّ‬ ‫مقابلة شخصيّة مع املسيح‪ ،‬اإلله‬
‫ات كثرية وال يستجيب‬ ‫معرفة أعمق للحياة‪ ،‬وكيف أ ّن هللا "يصمت" مر ٍ‬ ‫أبن ننظر كيف أ ّن األمل يقود اإلنسان إىل ٍ‬
‫ّ‬
‫لصرخات األمل‪.‬‬

‫سبب األمل‬ ‫‪‬‬

‫البشري‪ ،‬وليس فيه وحده‪ ،‬بل كذلك يف اخلليقة كلِّها‪ .‬فهي ُّ‬
‫"تئن‬ ‫ّ‬ ‫كس ٍّم يف اجلنس‬
‫ب األمل ُ‬ ‫لقد َد َّ‬
‫ض" مع اإلنسان منذ حلظة فقداننا الفردوس‪ ،‬عندما لَبِ ْسنا األقمصة اجللديّة للفساد واملوت‪ ،‬وجئنا إىل‬ ‫وتتمخ ُ‬
‫ّ‬
‫وعوسجا"‪.‬‬
‫ً‬ ‫الشقاء واألمل الّذي يُنبِت "شوكاً‬
‫مكان ّ‬
‫الشيطان‪ ،‬عصياننا لنَبع احلياة وطاعتنا‬ ‫األول لألمل هو عصياننا ملشيئة هللا وطاعتنا لكلمة ّ‬ ‫السبب ّ‬ ‫إ ّن ّ‬
‫البشري‪ ،‬مستغالًّ قابليّ تَه للفساد‬ ‫اجلنس‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫للروح املميت‪ .‬جيب أن نعرف جيّداً أ ّن ال ّشيطان هو الّذي يُتع ُ‬ ‫ّ‬
‫تبني أيضاً‬
‫ليب الشيطان وكراهيّ تَه من جهة‪ ،‬كما ّ‬ ‫ألَنا تكشف أسا َ‬ ‫فقصة أيّوب الص ّديق بَليغة التّعبري‪ّ ،‬‬
‫واملوت‪ّ .‬‬
‫الروحيّة‪ ،‬ال بل إىل‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ُيول مرارَة ُس ّم األمل إىل دواء يستعيد به اإلنسا ُن عافيتَه ّ‬
‫أتديب هللا من جهة أخرى‪ .‬فاهلل ّ‬‫َ‬
‫ٍ‬
‫وسيلة تكشف عظمةَ األبرار‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫كن‬
‫لن أبداً أن نقوم بتحليالت واستنتاجات‪ ،‬وال نرت ّ‬
‫املتنوعة واآلالم‪ ،‬ال حناو ّ‬
‫فإذا ما أحاطت بنا األحزا ُن ّ‬
‫األفكار تُغرقنا‪ ،‬بل لنطلنب رمحةَ إله احملبة مبعر ٍفة متواضعة ِ‬
‫ألنفسنا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ ّ‬
‫مثار األمل‬
‫ُ‬ ‫‪‬‬

‫فيحوله إىل دو ٍاء‬


‫نفوس النّاس ابليأس‪ّ ،‬أما هللا ّ‬
‫فالشيطان يريده ُمسًّا لكي يقتل َ‬
‫قلنا إ ّن األمل ُس ٌّم ودواء معاً‪ّ .‬‬
‫املشاعر الداخليّة امليتة‪ .‬إ ّن اإلنسا َن الّذي يتأ ّمل ويصلّي يكتسب إحساساً ابحلياة ال‬
‫َ‬ ‫يرد العافيةَ إىل النّفس ويوقظ‬‫ّ‬
‫الرسائل‪ .‬ولَئِن يفهم جيّداً‬ ‫جهاز استقبال يتل ّقى من حمبّة هللا َّ‬
‫أدق ّ‬ ‫نفس املتأ ّمل املصلّي َ‬‫يدركه اآلخرون‪ .‬تصبح ُ‬
‫قابليّةَ احلياة البيولوجيّة للفساد‪ ،‬إالّ أنّه‪ ،‬يف الوقت نفسه‪ ،‬تنمو فيه الصال ُة ال ّداخليّة‪ ،‬فيدرك ما هي احلياة احلقيقيّة‬
‫النفس ابإلميان وتتن ّفس الصال َة‪ ،‬يدفع األملُ اإلنسان إىل اخلروج من‬‫ُ‬ ‫احلقيقي‪ .‬وعندما تتش ّدد‬
‫ّ‬ ‫وما هو املوت‬
‫اخلاصة‪ ،‬ويصلّي ألجلهم‪ ،‬فتشمل صالتُه العاملَ كلَّه‪ .‬إىل ذلك‪ ،‬يقول‬ ‫أاننيّته‪ ،‬فيتأ ّمل مع املتألّمني وسط مصائبهم ّ‬
‫شخص ما‪ ،‬جيب أن نصلّي‬ ‫ٍ‬ ‫تقليد الق ّديسني إ ّن الصالة املسموعة هي الصالة املصحوبة ابألمل‪ .‬فعندما نتأ ّمل ألجل‬‫ُ‬
‫له‪ .‬إّّنا األمل دعوة إىل الصالة‪.‬‬

‫لشخصي‪ّ .‬أما غري املؤمن‬


‫ّ‬ ‫فاإلنسان املتأ ّمل الّذي يؤمن ويصلّي ينفتح على إخوته ويشمل العامل كلَّه يف أمله ا‬
‫معىن حلياته وأن جيد خمرجاً‪ ،‬فينغلق على أاننيّته وأتيت العواقب‬
‫أو قليل اإلميان‪ ،‬الّذي ُياول أن يعطي ابلصالة ً‬
‫َناح اآلخرين وجي ِّدف على هللا‪ ،‬منقطعاً عن الكنيسة‪.‬‬ ‫عشر‪ُ ،‬يسد َ‬ ‫بغيض امل َ‬
‫َ‬ ‫وخيمةً لنفسه ولِ َمن حولَه‪ُ .‬ميسي‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫ينساق إىل هالك نفسه وهو ممتلىء مرارة‪ .‬هذه العوارض غالباً ما تظهر لدى أشخاص ينزل هبم حزن كبري‪ .‬فبدل‬
‫السري وأمواهتم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أنفسهم دواءَ اخللود والتواصل ّ‬ ‫حضورهم إىل الكنيسة‪ ،‬ينقطعون عنها كلّيًّا‪ ،‬فيحرمون َ‬ ‫َ‬ ‫أن يكثّفوا‬
‫ومن الواضح أ ّن مشكلة احملزونني ال تكمن يف كياَنم بل يف طريقة مواجهتهم لألحزان‪.‬‬

‫صمت املسيح‬ ‫‪‬‬

‫حّت النفور‪ .‬ومل ينجح‬


‫يكتف املسيح بعدم اإلجابة‪ ،‬بل أبدى ازدراءً شديداً ّ‬ ‫أمام صرخات الكنعانية‪ ،‬مل ِ‬
‫ّ‬
‫نفس‬ ‫ت‬ ‫تفت‬
‫ّ‬ ‫أن‬ ‫املفرتض‬ ‫من‬ ‫كان‬ ‫قاسية‬ ‫ٍ‬
‫بكلمات‬ ‫التّالميذ يف ثنيه عن موقفه "املتش ّدد"‪ ،‬بل َح َدوهُ على التّل ّفظ‬
‫َ‬
‫الكنعانيّة‪ ،‬أن تطرحها يف أعماق اليأس‪ ،‬وتقودها إىل إنكار حمبّة املسيح‪ .‬أجل‪ ،‬شايف إسرائيل‪ ،‬الّذي أبرأ‬
‫أّن للمحبّة أن‬
‫متجسدة‪ ،‬ولكن ّ‬
‫ّ‬ ‫النور للعميان‪ ،‬ال ميكن أن يكون إالّ احملبّة‬‫ص وأعطى َ‬ ‫الرب َ‬
‫وطهر ُ‬
‫املمسوسني‪ّ ،‬‬
‫‪21‬‬
‫(مّت‪" ،)24 :15‬ليس‬ ‫الضالّة من آل إسرائيل ّ‬ ‫رسل إالّ إىل اخلراف ّ‬
‫متييزا بني األشخاص؟ "مل أُ َ‬
‫تُبدي قسوًة أو ً‬
‫ولكن إميان الكنعانيّة مل يف ّكر هكذا‪ .‬مل تنفصل عن‬
‫للكالب"(مّت‪ّ .)26 :15‬‬
‫ّ‬ ‫خبز البَنني ويُلقى‬
‫يؤخ َذ ُ‬
‫حسناً أن َ‬
‫املسيح‪ ،‬وقد امتألت من احلكمة املتواضعة وإدانة الذات‪ .‬تبنّت كلمتَه القاسية‪ ،‬وقالت‪" :‬إ ّن الكالب أتكل من‬
‫األممي‪ .‬مل حتقد على إسرائيل‪.‬‬
‫الفتات الّذي يسقط من موائد أرابهبا"(‪ .)27 :15‬مل تنجرح كرامتها النتمائها ّ‬
‫يهمها هو املسيح‪ ،‬لذلك مل خيب رجاؤها يف ما تطلبه‪ .‬ويف‬
‫فأملها جتاوز احلدود اجلغرافيّة ونفذ إىل مركز احلياة‪ .‬ما ّ‬
‫لك كما‬‫النهاية‪ ،‬إذ هبا تسمع من املسيح الكلمة الّيت كانت فعالً يف الوقت نفسه‪ّ" :‬ي امرأة عظيم إميانك فليكن ِ‬
‫ِ‬
‫أردت"(‪.)28 :15‬‬

‫يصمت‬
‫ُ‬ ‫مهمة ودقيقة جدًّا من دقائق احلياة الروحيّة‪ :‬كثرياً ما‬
‫قصة املرأة الكنعانيّة تكشف لنا زاويةً ّ‬
‫إ ّن ّ‬
‫حيال‬
‫"َند"‪َ .‬ند يف حياة ق ّديسني كثريين أ ّن املسيح يُبدي َ‬ ‫املسيح‪ .‬نصلّي وال يبارك صالتَنا‪" .‬نَطلب" وال َِ‬
‫ُ‬
‫ِج إىل النور‬
‫صالهتم "قسوًة" ابلغة‪ ،‬على ح ّد التعبري‪ .‬ولكن ما هذه سوى أتديب حمبّة املسيح‪ ،‬مينحنا ّإّيه لكي ُخير َ‬
‫الصرب واجللَد‪ ،‬ولكي نتعلَّم الصالةَ املتواضعة‪ .‬فبهذه الصالة نطرد عنّا ِشحنةَ الكربّيء‬
‫ما فينا من قوى خفيّة على ّ‬
‫الشيطانيّة ونثبت يف حمبّة املسيح املتواضعة‪ .‬هكذا تعّلمنا خربة الق ّديسني أ ّن الصالة املتواضعة هي الّيت ستسمع‬
‫يف النهاية‪" :‬فلي ُكن كما ِ‬
‫أردت"‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫شار‬
‫أحد الفرّسيّ والع ّ‬
‫(لو‪)14-10 :18‬‬

‫يسي‬
‫الفر ّ‬
‫تشامخ ّ‬
‫"وقف الفرّيسيّ يصلّي يف نفسه هكذا‪"...‬‬
‫احلقيقي‬
‫ّ‬ ‫ار‪ ،‬لكي تُظ ِهر لنا املضمو َن‬
‫‪2‬‬
‫العش‬
‫سي و ّ‬
‫الفري ّ‬
‫الرتيودي ‪ ،‬وضعت كنيستُنا املق ّدسة َمثَ َل ّ‬‫يف بدء فرتة ّ‬
‫العشار‪ .‬يعلّمنا الصالة الّيت تثمر اخلالص‪ ،‬ويدلُّنا على‬ ‫تنهد ك ّ‬ ‫هلذه الفرتة املباركة‪ .‬فزمن الرتيودي زمن الصالة وال ُّ‬
‫الفريسيّة‪ ،‬وينكشف ما لألهواء من أقنعة مقرفة‬ ‫تتمزق أقنعة الكربّيء ّ‬ ‫خماطر ال ّذهنيّات الفاسدة‪ .‬يف هذه الفرتة ّ‬
‫نفوسنا‪ .‬وما يستدعي االستغراب حقًّا أنّه‪ ،‬فيما حتاول الكنيسة يف هذه الفرتة أن تنتزع بتأديبها أقنعةَ‬ ‫تشوه َ‬ ‫ّ‬
‫الكذب واملراءاة من حياة أبنائها‪ ،‬يطلب العامل أن يتسلّى متن ّكراً ابألقنعة ومتخ ّفياً ابلوجوه املستعارة‪ ،‬الّيت يفضح‬
‫يشتد التضارب بني العامل وروح الكنيسة‪.‬‬‫حتط من شخصه‪ .‬يف هذه الفرتة ُّ‬ ‫ات داخليّة ُّ‬‫كثري منها عور ٍ‬

‫العشار‪ ،‬وهذا يساعدان على حتديد بعض ما يه ّدد‬


‫يسي و ّ‬
‫الفر ّ‬
‫هلم بنا ندقّق يف بعض معاين مثَ َل ّ‬
‫ولكن َّ‬
‫احلياة الروحيّة من التشويه‪.‬‬

‫‪ ‬عودة اإلنسان إىل حالته األوىل‬

‫يسي‪.‬‬
‫لفر ّ‬
‫الروحي الّذي يعاين منه ا ّ‬
‫ّ‬ ‫ال ب ّد أن نشري إىل حقائق معيّنة‪ ،‬لكي نكشف جذور املرض‬

‫لقد ُجبِلنا "على صورةِ هللا"‪ ،‬وإّّنا "صورة هللا الّذي ال يُرى"(كور‪ )15 :1‬هي املسيح ابن هللا‪ّ .‬أما حنن‬
‫فصورة املسيح‪ .‬املسيح هو مثالنا‪ ،‬وحياة الكنيسة كلُّها هتدف إىل أن "نلبس" حنن "الرتابيّني" صورَة‬
‫نصري مشاهبني للمسيح‪ .‬لذلك نسري قُ ُد ًما‪ ،‬انظرين إىل ُمبدئ إمياننا‬‫ماوي"(‪1‬كور‪ ،)49 :15‬يعين أن َ‬ ‫"الس ّ‬
‫ّ‬
‫كل ما بيننا وبني شخص املسيح من األواثن‪.‬‬ ‫ومتممه يسوع"(عرب‪ .)2 :12‬ال حن ّدق يف األواثن‪ ،‬بل نسحق َّ‬ ‫ّ‬
‫مستقل‪ ،‬أعين‬ ‫كل كيان‬
‫األول‪ .‬من هنا أ ّن َّ‬ ‫فاملسيح حياة العامل‪ .‬يف شخصه ُِ‬
‫اسرتَّدت طبيعتُنا واستعادت مجا َهلا ّ‬
‫ّ‬

‫صوم الكبير واآلحاد األربعة الّتي تهيّؤه‪ ،‬حيث يت ّم استخدام كتاب التّريودي الّذي تحمل اسمه (المترجم)‪.‬‬
‫هي فترة تشمل ال ّ‬ ‫‪2‬‬

‫‪23‬‬
‫متغريا‬ ‫كل إنسان يريد اسرتداد مسريته الطبيعيّة ال ب ّد له يف تَ َق ُّدمه من أن يقابل َ‬
‫وجهه بوجهَ املسيح كما يف مرآة‪ًّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫القوة‪.‬‬
‫"على صورة خالقه" ومستمدًّا منه ّ‬
‫يسي مل َير‬
‫الفر ّ‬‫يسي‪ّ .‬‬ ‫الفر ّ‬
‫وحي الّذي يعاين منه ّ‬
‫الر ّ‬
‫هذه احلقائق األساسيّة ستساعدان على إدراك أصل ال ّداء ّ‬
‫"رج َع إىل نفسه"‪ ،‬بل "وقف يصلّي يف‬ ‫أبعد من ذاته‪" ،‬وقف يصلّي يف نفسه‪("...‬لوقا ‪ .)11 :18‬ليس أنّه ِ‬
‫نفسه"‪ .‬يعين ذلك أنّه مل جيمع نفسه لكي يوجهها صوب هللا‪ ،‬ولكنّه كان يصلّي إىل هللا ملتفتاً حنو وثن ِ‬
‫نفسه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫اصل‪ّ ،‬أما هو فانغلق على نفسه يف أاننيّته‪ .‬انغلق على حمبّته لذاته‪،‬‬ ‫يف اجلوهر‪ ،‬مل ِّ‬
‫يصل‪ .‬إ ّن الصالة انفتاح وتَو ُ‬
‫كل ما هو يل‪ "...‬يعين أنّه اخندع ِلقناع ّادعاء احلقيقة‪ ،‬لصنم‬ ‫حّت على ّادعاء الرمحة‪" :‬أ ِّ‬
‫ُعشر َّ‬ ‫وكانت ذاتُه قادرة ّ‬
‫ظاهري للنّاموس‪ ،‬أل ّن مهَّه كلَّه أن‬ ‫اعتمد على ٍ‬
‫ٍّ‬ ‫حفظ‬ ‫الرب واحملبّة‪ .‬مل يعرف ما هلاتني الفضيلتني من ّقوة حقيقيّة‪َ .‬‬
‫ّ‬
‫نفسه املعبودة كانت مثالَه األعلى‪.‬‬ ‫يظهر ًّ ِ‬
‫حّت يف وقت الصالة‪ ،‬فكشفت هذه الصالة أ ّن َ‬ ‫قناع الربارة ّ‬
‫س َ‬ ‫ابرا‪ .‬لَب َ‬
‫حلقة ُمفرغة ال خروج له منها‪ .‬كان عنده ما نشاهده سائداً اليوم يف احلضارة الغربيّة املعاصرة من تركيز‬ ‫عاش يف ٍ‬
‫على اإلنسان وعشق لألان‪.‬‬

‫‪ ‬الصالة غري املثمرة‬

‫طلب الرمحةَ والترب َير من هللا‪.‬‬ ‫ِ‬


‫نفسه‪ ،‬بل َ‬
‫يربر َ‬‫اض َع ق ّدام هللا‪ .‬مل ُياول أن ّ‬
‫العش ُار إىل بيته ُم َّربراً ألنّه تو َ‬
‫نزل ّ‬‫َ‬
‫اخلاص‪ ،‬ومعرفة ّقوة هللا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يقول اآلابء إ ّن معرفته كانت مزدوجة‪ :‬معرفة ضعفه‬
‫جهة أخرى‪ ،‬مل جيد الفريسي عيباً يف ِ‬
‫نفسه عندما كان يصلّي‪ .‬خبالف أبرار العهد القدمي الّذين كّلما‬ ‫من ٍ‬
‫ّ ّ‬
‫أنفسهم "أرضاً خاطئة"‪ ،‬راح يصلّي داخل‬ ‫عاينوا هللا هتفوا "أان أرض ورماد"‪ ،‬وخبالف الق ّديسني الّذين رأوا َ‬
‫ولكن الصالة تقوم أيضاً على االعرتاف‬ ‫اهليكل مسرتسالً يف الشكر على فضائله‪ .‬أجل ُّ ِ‬
‫الشكر قوام الصالة‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬
‫طرق التوبة‪ ،‬يعين ذلك ّإما أنّنا مسَوان على‬
‫والطلب‪ .‬فعندما ال نعرتف خبطاّيان وال نطلب إىل هللا أن يفتح لنا َ‬
‫يسي يربز يف ازدواج شكرانه ابإلدانة‪ .‬جمّد‬ ‫ٍ‬
‫الفر ّ‬
‫اجلسد وصران نعيش كاملالئكة‪ ،‬أو أنّنا يف ضالل فظيع‪ .‬إ ّن ضالل ّ‬
‫نفسه يتّضع"‪ .‬رجع إىل بيته فارغاً من نعمة هللا‪.‬‬
‫نفسه وأدان الع ّشار‪ .‬هكذا ابنت صالته عقيمة‪ ،‬أل ّن "من يرفع َ‬
‫َ‬
‫‪ ‬تُبير الذات واإلدانة‬

‫‪24‬‬
‫يربر هللا اإلنسا َن‪ ،‬يبحث هذا اإلنسان عن املديح‬
‫إ ّن تربير ال ّذات له عالقة مباشرة ابإلدانة‪ .‬عندما ال ّ‬
‫تفوقَه عليهم‪:‬‬ ‫ِ‬
‫شخصي ّإما يف احلكم على اآلخرين أويف مقارنة نفسه ابألدّن منه‪ ،‬حماوالً بذلك أن يُظهَر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال‬
‫للعشار‪ ،‬ألنّه‬
‫يسي تكمن يف إدانته ّ‬‫الفر ّ‬
‫ألين لست كسائر النّاس‪ "...‬جيد األنبا دورواثوس أ ّن خطيئة ّ‬ ‫"أشكرك ّ‬
‫يسي بعض فرائض الناموس اخلارجيّة الدقيقة‪ ،‬وحبفظه‬ ‫ِ‬
‫الفر ّ‬‫يقول إ ّن الشكر على الفضائل أمر ممدوح‪ .‬لقد َحف َظ ّ‬
‫ابكتفاء ذايتّ‪ .‬فهو إنسان صحيح ال ُيتاج إىل طبيب‪ ،‬ويشبه‪ّ ،‬ي لألسف‪ ،‬بعض املسيحيّني الّذين‬ ‫ٍ‬ ‫هلا َش َعَر‬
‫وسهلة‪ ،‬إالّ ّأَنا ال جتلب اخلالص وحدها‪.‬‬
‫َُيُ ّدون احلياة املسيحيّة بفرائض خارجيّة تَ َقويّة دقيقة َ‬
‫نفسه وال يدين اآلخرين‪ ،‬بل يدين نفسه‪،‬‬ ‫انل اخلالص‪ .‬ال يَُزّكي َ‬
‫مثال اإلنسان الّذي َ‬ ‫العشار فهو ُ‬‫ّأما ّ‬
‫يتمجد‪ ،‬ولذلك فهو عبد لرأي اآلخرين‪ .‬إنّه شخصيّة مأساويّة‪.‬‬
‫يسي يطلب أن ّ‬ ‫الفر ّ‬ ‫حرا من رأي اآلخرين‪ّ .‬‬
‫فيصري ًّ‬
‫حماولَة ّيئسة "ليُقنِ َع" هللا أيضاً بفضيلته‪ ،‬وهو يدين اآلخرين كلَّهم‪ .‬فهو ال جيرؤ على تسليم‬
‫صالته يف جوهرها َ‬
‫قناع الربارة‪.‬‬
‫حّت أمام هللا يلبس َ‬
‫أمره حلكم هللا‪ .‬مل تسمح له كربّيؤه ابالسرتحام‪ّ .‬‬
‫العشار‪"...‬‬
‫ضاع ّ‬ ‫ِ‬
‫يسي ولنتعلّم اتّ َ‬
‫الفر ّ‬
‫الراغبني يف اخلالص‪" ،‬فلنَرذُل ك ََرب ّ‬
‫ّأما حنن ّ‬

‫‪25‬‬
‫أحد االبن الشاطر‬

‫(لوقا‪)32-11 :15‬‬

‫خالص االبن الشاطر‬


‫"أقوم وأمضي إىل أيب‪"...‬‬
‫ابحلريّة‬ ‫ِ‬
‫تعرب عن نفسها ّ‬‫األب يف مثَل االبن الشاطر ُج َّل انتباهنا‪ّ .‬إَنا حمبّة ّ‬
‫اليوم سوف تستقطب حمبّةُ ّ‬
‫طابع عالقة هللا ابإلنسان‪ .‬وهي أيضاً السبب الرئيس لعودة اإلبن الشاطر‬ ‫والتضحية‪ ،‬وحتيط أببلغ وصف َ‬
‫وخالصه‪.‬‬

‫ختصه‬
‫حصة املرياث الّيت ّ‬ ‫خيصين من املال"‪ ،‬يعين ّ‬‫يف هذا املثل‪ ،‬يطلب اإلبن األصغر "النّصيب الّذي ُّ‬
‫تتمرُد اخلطيئة على هللا اخلالق‪ ،‬بصفتها أحدث عهداً من‬ ‫وتبعده عن سلطة أبيه‪" ،‬عائشاً إبسراف"‪ .‬هكذا ّ‬
‫يلي‪ ،‬وهو‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫ط‬
‫ُ‬ ‫جسم‬ ‫ك‬ ‫‪،‬‬ ‫ذلك‬ ‫بعد‬ ‫فينا‬ ‫فدخل‬ ‫‪،‬‬ ‫الشر‬
‫ُّ‬ ‫ا‬‫أم‬ ‫‪.‬‬ ‫قنا‬‫الفضيلة‪ .‬فالفضيلة زِرعت يف طبيعتنا منذ أن خلِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫غريب عن طبيعتنا‪ .‬إنّه يفسدان‪ ،‬ويُبعدان عن بيت أبينا‪ -‬أعين به ملكوت نعمة هللا‪ ،-‬مثّ يطرحنا إىل اجلوع‬
‫الروحي يف بقعة املواطنني األشرار‪ .‬يستعبدان ألانس جعلوا من األهواء الرديئة طريقةَ حياهتم اليومية‪ٍ .‬‬
‫حينئذ أنخذ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ ّ‬
‫اإلَنيلي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫كل ما أعطاان هللا من املواهب‪ ،‬مثل اإلبن الشاطر يف املثل‬ ‫خيصنا من املال"‪ ،‬يعين ّ‬
‫معنا "النصيب الّذي ُّ‬
‫ونب ّذرها يف اخلطيئة‪" ،‬عائشني إبسراف"‪.‬‬

‫روحي‬
‫إ ّن اللحظة احلامسة يف املثَل هي عودة اإلبن الشاطر‪ .‬واللحظة احلامسة يف حياتنا هي الشعور جبوع ّ‬
‫احلي‪ .‬وهذه‬ ‫ُُي ِ‬
‫األبوي هو كنيسة هللا ّ‬
‫ّ‬ ‫فضل عنهم اخلبز"‪ .‬البيت‬
‫األبوي‪ ،‬الّذين "يَ ُ‬
‫ّ‬ ‫ضر إىل ذاكرتنا "أُ َجراء البيت"‬
‫القوة‬ ‫ِ‬
‫محبة اآلب هي ّ‬
‫الذكرى‪ ،‬إذا غ ّذاها إميانُنا مبحبّة اآلب لنا‪ ،‬تؤول بنا إىل القول‪" :‬أقوم وأمضي إىل أيب"‪ .‬ف ّ‬
‫احملركة الّيت تُن ِهض االبن الشاطر من موته‪.‬‬‫ّ‬
‫‪ ‬تذ ّكر احملبّة األبويّة‬

‫‪26‬‬
‫األب يف املثل هو هللا‪ .‬ومبا أنّه ال يريد عبيداً بل أبناءً‪ ،‬فهو ال ُياول أن يثين‬
‫"هللا حمبّة" (‪1‬يو‪ .)16 :4‬و ّ‬
‫كل إنسان يهجره ويبتعد عن "سلطة" وصاّيه‪ .‬ولكن ما إن يعود االبن الشاطر‪" ،‬وكان‬ ‫االبن عن قراره‪ ،‬وهو قرار ّ‬
‫هبي‬ ‫ٍ‬
‫يحوله من عبد للمواطنني األشرار إىل إبن ّ‬ ‫األبوي‪ ،‬ف ّ‬
‫ّ‬ ‫حّت يعانقه مبحبّته‪ ،‬ويقوده إىل البيت‬
‫مل يزل بعيداً"‪ّ ،‬‬
‫مللكوته‪.‬‬

‫رد االبن الشاطر عن قرار العودة‪.‬‬‫سائر العوائق القادرة على ّ‬‫القوة الّيت أبطلَت َ‬
‫إ ّن ذكرى احملبّة األبويّة هي ّ‬
‫عندما يسقط اإلنسان يف اخلطيئة‪ ،‬يفقد دالّته أمام هللا‪ .‬يعيش خبالف مشيئته تعاىل‪ ،‬ويناهض وصاّيه اإلهليّة‬
‫ترد أحداً"‪ ،‬إالّ أ ّن اإلنسان يعيش‬
‫عدوه‪ .‬طبعاً‪ ،‬يبقى هللا "احملبّة الّيت ال ّ‬
‫أبعماله‪ .‬يف هذه احلالة‪ ،‬يشعر أ ّن هللا ُّ‬
‫املثقلني أبمحال اخلطاّي كلّهم لكي يرُيهم‪ ،‬هو‬
‫وتذكر حمبّة هللا‪ ،‬اإلله الّذي ينتظر َ‬‫عمليًّا هذه العداوة يف داخله‪ُّ .‬‬
‫احملبة ال ميكننا أن نلفظ وال كلمة صالة واحدة‪ ،‬وابلتّايل‪ ،‬ال‬‫ممارسة مرتبطة بصالة التوبة‪ .‬فمن دون تَ َذ ُّكر هذه ّ‬
‫نقدر أن نعود إىل املسيح ونرتبط به‪.‬‬

‫عزة النّفس‪ ،‬متتزج فيها املعرفة‪ ،‬ولو البسيطة‪ ،‬حلالتهم الروحيّة‬


‫كثريون من الناس عندهم نوع غريب من ّ‬
‫السيّئة‪ ،‬بنوع من الكرامة هو يف احلقيقة وجه من وجوه اليأس الشيطاينّ‪ .‬هؤالء أينَفون من استخدام وسائل‬
‫العودة إىل هللا والتوبة‪ ،‬بعد أن ب ّذروا أكثر أوقات حياهتم يف اإلحلاد‪ ،‬واجلحود واخلطيئة‪ .‬يستخ ّفون هبذه األمور‪.‬‬
‫وعزة‬
‫فإذا بنا أمام إحدى احلاالت حيث يَظهر شيطان اليأس ورفض التوبة مبظهر مالك نور‪ ،‬مالك الكرامة ّ‬
‫كل أساليب‬
‫احلق يقبلوا"‪ ،‬فتطيح ب ّ‬
‫الناس كلّهم أن خيلصوا وإىل معرفة ّ‬
‫النفس‪ّ .‬أما ذكرى حمبّة هللا لنا‪ ،‬وهو يريد َ‬
‫اض درب العودة‪ ،‬وتب ّددها‪.‬‬
‫الشرير الّيت حتاول اعرت َ‬
‫ّ‬
‫الروحي‬
‫ّ‬ ‫‪ ‬الشعور ابجلوع‬

‫عندما عاش االبن الشاطر يف الرفاهيّة‪ ،‬استسلم للّ ّذات‪" ،‬مبَ ِّذ ًرا َمالَهُ" يف اخلالعة‪ .‬وما إن بدأ يعاين‬
‫أيضا‬
‫أحضَر إىل ذهنه ذكرى "بيت أبيه"‪ .‬وهكذا ً‬ ‫حّت رجع إىل نفسه‪ .‬فاإلحساس ابجلوع َ‬ ‫احلرمان واجلوع‪ّ ،‬‬
‫الروحي من مخول الطّيش ويعيدان إىل أنفسنا وإىل ذكر هللا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يوقظنا اإلحساس ابجلوع‬

‫‪27‬‬
‫أحدا ال‬
‫بيت أبيه وما فيه من حياة‪ .‬وكان هذا شر َط عودته‪ .‬هذا معناه أ ّن ً‬ ‫لقد عرف االبن الشاطر َ‬
‫يستطيع أن يتوب إن مل يعرف احليا َة الّيت يعطيها الروح القدس‪ ،‬ولو معرفة يسرية‪ .‬وكما ذكران يف مكان آخر‪ ،‬إ ّن‬
‫توبة اإلنسان تتح ّقق مببادرةٍ من هللا‪ ،‬وابفتقاد نعمته ّإّيان‪.‬‬

‫يعلّم اآلابء الق ّديسون أ ّن اإلنسان الّذي مل يتقبّل نعمةَ هللا بعد‪ ،‬يكون راضياً حباله‪ .‬فهو يشبه إنساانً‬
‫مغلقاً عليه يف السجن‪ ،‬ال يعرف أ ّن حدود الدنيا ُّ‬
‫متتد أبعد من جدران زنزانته‪ .‬ولكن حاملا ترفعه نعمةُ هللا إىل‬
‫ٍ‬
‫عندئذ يرى‬ ‫حر منها يف الوقت نفسه‪.‬‬ ‫روحي‪ ،‬تتب ّدل األمور‪ .‬يصبح أشبه بنس ٍر يُشرف على الدنيا‪ ،‬وهو ٌّ‬ ‫ٍّ‬
‫علو ّ‬
‫السماء الالمتناهيّة‪ ،‬ويفرح ألنّه دخل طريق "كمال الكاملني الّذي ال ينتهي"‪ .‬من َمثَّ ال يقدر أن جيد راحتَه أبداً‬
‫يشرد قليالً بسبب عدم نضوجه أو‬ ‫يف قفص اللّ ّذات اجلسديّة‪ ،‬وال يف قفص السعادة البشريّة املخلوقة‪ .‬ومهما ُ‬
‫بكل الوسائل‪ .‬يشت ّد إحساسه ابحلرمان‪ ،‬فيجوع‬ ‫حترَره ّ‬
‫احلريّة جتتذبه أيضاً‪ ،‬وحتاول أن ّ‬
‫ضعف أرادته‪ ،‬تعود مساء ّ‬
‫ويعطش إىل ّبر هللا وإىل شركة الروح القدس‪.‬‬

‫‪" ‬أقوم وأمضي إىل أيب‪"...‬‬

‫حسيًّا‪ ،‬فكيف‬
‫ط‪ ،‬وال اختربت حياةَ الروح القدس ّ‬ ‫عل كثريين ُيلو هلم القول‪" :‬إ ّن نعمة هللا مل تفتقدين ق ّ‬
‫ل ّ‬
‫أتذ ّكر ما أجهله؟" يقول أحد الق ّديسني يف كنيستنا‪" :‬علينا أن نفعل ما نعرفه‪ ،‬وسيُكشف لنا ما َنهله"‪ .‬فاهلل‬
‫متنوعة‪ ،‬ولكنّنا نتجاهلها بسبب حياتنا املفعمة ابالنشغاالت‪ّ ،‬ي لألسف‪ ،‬فنرتكها غري‬ ‫يعطينا نعمتَه بطرائق ّ‬
‫ونصم آذاننا عن صوت الضمري‪ ،‬وعن إهلامات النعمة‪.‬‬ ‫وَنتم وننهمك أبمور كثرية‪ّ ،‬‬ ‫مستثمرة‪ّ .‬‬
‫َ‬
‫خالصه يف ذلك القرار‪ّ .‬أما حنن فلنستجب لدعوة هللا‬
‫َ‬ ‫قال االبن الشاطر‪ " :‬أقوم وأمضي‪ "...‬فوجد‬
‫الشريرة‪.‬‬
‫ابحلزم نفسه‪ .‬فاهلل يريدان أبناءً مللكوته‪ ،‬ال عبيداً لألهواء ّ‬

‫‪28‬‬
‫أحد مرفع اللحم‬
‫(مت ‪)46-31 :25‬‬
‫ّ‬
‫إخوة املسيح‬
‫"مبا أنّكم فعلتموه أبحد إخويت هؤالء الصّغار فيب فَعلتُم‪"...‬‬

‫يقود إىل اجلنب والكسل الروحي‪ .‬لذلك ح ّدد‬


‫فاؤل‪ ،‬ما مل يقرتن إبحساس املسؤوليّة واخلوف‪ ،‬قد َ‬ ‫إ ّن التّ َ‬
‫اآلابء الق ّديسون أن يُقرأ إَنيل الدينونة يف الكنائس املق ّدسة‪ ،‬بعد قراءة ٍ‬
‫كلّ من إَنيل الفرّيسيّ والعشّار وإَنيل‬
‫االبن الشاطر‪ .‬فمحبّةُ هللا الّيت تربّر العشّار وتَقبل االبنَ الشاطر‪ ،‬فتُلهم صالةَ العشّار وحتفز االبن الشاطر إىل‬
‫طريق العودة‪ ،‬ستكون مقياساً "مييّز" بني اخلراف واجلداء‪ ،‬يف َناية هذا العامل الفاسد‪ ،‬عندَ احلضور الثاين اجمليد‬
‫للمسيح‪.‬‬
‫قياس هو احملبّة‪ .‬ولكنّنا نَلحظ أيضاً ذكر إخوة املسيح الّذين‬‫يبدو جليًّا يف قراءة إَنيل الدينونة أ ّن امل َ‬
‫فعلتم"(مّت‪ .)40 :25‬هذا يُعطينا سبيالً لنقرأ‬
‫ّ‬ ‫نفسه هبم‪" :‬مبا أنّكم فعلتموه أبحد إخويت هؤالء الصغار فيب‬ ‫وحد َ‬ ‫ّ‬
‫نص إَنيل الدينونة من منظا ٍر خمتلف‪ .‬ترى‪َ ،‬م ْن ُهم إخوةُ املسيح يف الكتاب املق ّدس وعند اآلابء الق ّديسني؟‬
‫ّ‬

‫‪ ‬الصانعون مشيئةَ اآلب‬


‫السؤال‪َ " :‬م ْن ِه َي أ ُِّمي‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫طلب ُّأم املسيح وأوالد يوسف يف وقت ما أن َيروهُ ويُكلّموه‪ ،‬طر َح هذا ّ‬ ‫عندما َ‬
‫صنَ ُع َم ِشيئَةَ أَِيب الّذي ِيف‬ ‫‪:‬ها أ ُِّمي َوإِ ْخ َويت‪ .‬أل َّ‬
‫َن َم ْن يَ ْ‬ ‫َوَم ْن ُه ْم إِ ْخ َويت؟" مثّ قال‪ ،‬وهو يشريُ إىل تالميذه‪َ " :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫(مّت‪ .)50-49 :12‬إذاً‪ ،‬إخوة املسيح هم العائشون حبسب وصاّيه‪ .‬هؤالء‬ ‫ُخ ِيت َوأ ُّمي" ّ‬
‫الس َم َاوات ُه َو أَخي َوأ ْ‬
‫املباركني" عن ميني اآلب‪.‬‬‫يُصبحون " َ‬
‫إىل ذلك‪َ ،‬ند يف تراث الكتاب املق ّدس واآلابء الق ّديسني أ ّن التواضع هو "حلّةُ األلوهة"‪ ،‬وأ ّن جمد‬
‫فالصليب أبلغ تعبري عن حمبّة هللا لإلنسان‪ ،‬أل ّن هللا ليس عنده تغيري وال تبديل‪ ،‬ال زّيدة وال‬
‫الصليب‪ّ .‬‬
‫املسيح هو ّ‬
‫الكل وتواضعه األقصى‪ ،‬بني العدل واحملبّة‪ .‬هذه األمور تتناقض‬ ‫ِ‬
‫تضاد عنده بني صفته كضابط ّ‬ ‫نقصان‪ .‬ما من ّ‬
‫حضوره رهيبًا‬ ‫مبجده"‪ ،‬سيكون‬‫ابلنسبة إلينا‪ ،‬حنن اخلاضعني لألهواء واملشتتني‪ .‬لذلك‪ ،‬عندما "أييت املسيح ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫‪29‬‬
‫سر الصليب يف‬ ‫وعظمة التواضع‪ .‬فالّذين عاشوا َّ‬ ‫َ‬ ‫جمد الصليب‪ ،‬وعدالةَ احملبّة‬
‫ومبهجاً يف الوقت نفسه‪ .‬سيكون َ‬
‫قلوهبم لتسكن احملبّةُ فيها‪ ،‬سوف يبتهجون يف حضور املسيح‪ ،‬وسيتح ّقق‬ ‫حياهتم الشخصيّة‪ ،‬وابلتواضع أفسحوا َ‬
‫ٍ‬
‫بوقاحة وأطاعوا معلّم احلقد واألهواء‬ ‫آلخرون‪ ،‬الّذين أمهلوا وصاّي هللا‬ ‫أي اشتياق‪ّ .‬أما ا َ‬
‫ما تشتاق إليه نفوسهم و ّ‬
‫كوْو َن بلهيب انر احملبّة الّيت مل يؤمنوا هبا‪.‬‬
‫حضور املسيح رهيباً‪ ،‬ويُ َ‬ ‫ُ‬ ‫فسيتم هلم العكس‪ .‬سوف جيدون‬
‫ّ‬ ‫األخرى‪،‬‬
‫األولون هم أخوة املسيح بينما يقول ِ‬
‫لآلخرين "ال أعرفكم"‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪ِ ‬‬
‫آخري النّاس يف األرض‬
‫يُدعى إخوة املسيح يف هذه احلياة أيضاً األصا ِغر بني الناس‪ ،‬ممَّن ُيتملون أحزاانً خمتلفة‪ ،‬كالفقراء‪،‬‬
‫خلقْته قساوةُ الناس‪ ،‬مبطالً سائر ألوان‬ ‫درجة من السلّم الّذي َ‬‫آخر ٍ‬ ‫واملرضى واملساجني‪ .‬فاملسيح يضع نفسه يف ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫كخدمة‬ ‫أي خدمة هلم‬ ‫ِ‬
‫الفائق على السموات يدعو إخوًة له آخر الناس يف األرض‪ ،‬وينظر إىل ّ‬ ‫التمييز بني الناس‪ُ .‬‬
‫سدى له ابل ّذات‪.‬‬
‫تُ َ‬
‫بوضوح كم العنصريّة خطأ كبري‪ ،‬أو‬ ‫ٍ‬ ‫اجلنس البشري‪ .‬إىل ذلك‪ُّ ،‬‬
‫يدل‬ ‫ِ‬ ‫هبذه الطريقة يسرتجع وحد َة‬
‫ّ‬
‫احتقارا‪ -‬وفقاً للموطن‪،‬‬
‫ً‬ ‫ابألحرى‪ ،‬كم هي خطيئة فظيعة‪ ،‬وأعين ابلعنصريّة التّمييز بني الناس‪ ،‬سواء تكرميًا أو‬
‫خاص ًة يف ّأّيمنا بسبب التّصعيد الكبري للحركات العنصريّة‪،‬‬ ‫واللّون‪ ،‬واجلنس‪ ،‬والغىن‪ ،‬أو ال ّدين‪ .‬هذا كلُّه له أمهيّة ّ‬
‫تتأجج بداعي الفوارق الدينيّة‪ .‬فاألرثوذكسيّة حتوي احلقيقةَ كلَّها وتعرف أ ّن اخلالص كامن يف‬ ‫واحلروب الّيت ّ‬
‫احملبة ال‬ ‫كل ٍ‬ ‫ِ‬
‫عمل خارج عن ّ‬ ‫حرية‪ ،‬وابلتّايل أ ّن َّ‬
‫كنفها‪ .‬ولكنّها تعرف يف الوقت نفسه أنّه ال خالص من دون ّ‬
‫نشر اإلميان بوساطة "حروب‬ ‫يتم ُ‬ ‫قيمة له‪ .‬لذلك احلروب الدينيّة ال معىن هلا إطالقًا ابلنسبة إىل الكنيسة‪ ،‬كأن ّ‬
‫ط السيطرة الروحيّة عن طريق أالعيب ديبلوماسيّة مدروسة جيّ ًدا‬ ‫يتم بَ ْس ُ‬
‫الفتوحات‪ ،‬أو كأن ّ‬ ‫مق ّدسة" على طريقة ُ‬
‫خيطّط هلا الباابوات ‪.‬‬
‫آخر الناس إخوة مللك السموات‪َ ،‬من تُراه يستطيع املفاخرة أبنّه أرفع شأانً منهم؟‬ ‫فإذا كان ِ‬
‫حب الذات‪ ،‬أي من االنشغال‬ ‫ِ‬
‫البشري هذه خبروجنا من ّ‬ ‫ّ‬ ‫إىل ذلك‪ ،‬ميكننا أن نعيش وحدة اجلنس‬
‫وتدل على طريقة‬ ‫تعرب عن هذه الوحدة ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الكامل بنفوسنا ومبتطلّبات جسدان‪ .‬فوصيّة "أحبب قريبَك كنفسك" ّ‬

‫‪30‬‬
‫أنفسنا‪ ،‬ونعيش اإلنسانيّة‬
‫حنب َ‬‫اآلخرين كما ُّ‬
‫حنب َ‬‫البشري‪ .‬هكذا ّ‬
‫ّ‬ ‫عيشها‪ ،‬ويرى فيها الق ّديسون وحد َة اجلنس‬
‫كمتساوية يف اجلوهر ومتع ّددة الوجوه‪ ،‬كما ابلضبط نعرتف أبلوهة متساوية يف اجلوهر بثالثة أقانيم‪.‬‬
‫الصغار‪ ،‬بل يشعرون بوحدة احلال‬ ‫فالّذين وصلوا إىل خربة هذه الوحدة‪ ،‬ال يكتفون خبدمة إخوة املسيح ّ‬
‫"م ْن ميرض وال أمرض أان؟"(كو‪:11-2‬‬ ‫ِ‬
‫ثقل أحزاَنم كلّه‪ ،‬متاماً كما قال بولس الرسول‪َ :‬‬‫وإّيهم‪ ،‬فيَ ْحملون َ‬
‫ّ‬
‫"مباركو اآلب" الّذين سوف يرثون ملكوتَه‪.‬‬‫‪ .)29‬هؤالء الناس هم الربكة احلقيقيّة للمسكونة‪ ،‬ولكنّهم أيضاً َ‬
‫اخلفي‬
‫‪ ‬إنسان القلب ّ‬
‫الالهويت اجلديد للخطر الكامن يف أن حنسب عطيّةَ املال البسيطة غري‬‫ّ‬ ‫لقد تص ّدى الق ّديس مسعان‬
‫شف‬
‫املزعجة بطاقة دخول إىل ملكوت السموات‪ ،‬فيما ترتافق مراراً كثرية ابلعجرفة العظيمة وضرب الطبول‪ ،‬ف َك َ‬
‫احلقيقي‪ .‬إ ّن أخ املسيح يف مقطع إَنيل اليوم‪ ،‬أعين اجلائع أو العطشان‪ ،‬أو املريض أو‬
‫ّ‬ ‫عمق كالم املسيح‬‫لنا َ‬
‫املسجون‪ ،‬هو النّفس اإلنسانيّة‪" ،‬إنسان القلب اخلفي"(‪1‬بط ‪ .)4 :3‬هذا األخري‪ ،‬مّت مل َّ‬
‫يتغذ بوصاّي املسيح‪،‬‬ ‫ّ‬
‫املتنوعة وطُرِح يف سجن األهواء‪ُ ،‬يكم علينا "ابلنار‬ ‫ُصيب أبمراض اخلطاّي ّ‬ ‫ومل يَرِو َ‬
‫عطشهُ ابلصالة‪ ،‬مّت أ َ‬
‫نفوسنا‪ .‬فهو ٍ‬
‫حباجة لغذاء الوصاّي‪ ،‬وملاء الصالة‪،‬‬ ‫األبدية"‪ .‬يف هذه احلالة ُيتاج لزّيرتنا‪ ،‬وهي االهتمام من أجل ِ‬
‫ّ‬
‫وحترر من األهواء‪ .‬هكذا تلبس النّفس الفقرية العارية غىن ِ‬
‫نعمة الروح‬ ‫ُ‬ ‫كلوم اخلطاّي ُِّ‬
‫وألدوية النّسك الّيت تشفي َ‬
‫القدس‪.‬‬
‫ط احملبّة اخلالصة حنو الناس أمجعني‪.‬‬
‫ألَنا َشر ُ‬ ‫قبل ِّ‬
‫كل شيء‪ّ ،‬‬ ‫هللا يريد هذه احلسنة الداخليّة َ‬

‫‪31‬‬
‫أحد مرفع اجلنب‬
‫(مت‪)21-14 :6‬‬
‫ّ‬
‫احلقيقي‬
‫ّ‬ ‫الصوم‬
‫"وأبوك الّذي ينظر يف اخلفية هو جيازيك علنًا"‬

‫املرّن يف‬
‫بعيين الكبري‪ ،‬وينفتح أمامنا "ميدا ُن الفضائل" الّذي يدعوان ّ‬ ‫ِ‬
‫ها حنن نقف عند عتبة الصوم األر ّ‬
‫احلسن" (اإلينوس‪َ ،‬س َحر مرفع اجلنب)‪ .‬ويف الوقت نفسه‪ ،‬نتذ ّكر‬ ‫الكنيسة إىل دخوله‪" ،‬متمنطقني جبهاد الصوم َ‬
‫‪3‬‬
‫احلقيقي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الصوم‬ ‫يقة‬
‫َ‬ ‫ر‬ ‫ط‬ ‫ة‬‫ّ‬‫اإلَنيلي‬ ‫يف قراء السنكسار اليوم ّي طرد آدم من الفردوس‪ ،‬ونتعلّم من القراءة‬
‫عزم اثبت شجاع‪ .‬وإ ّن الصوم سالح رهيب بني‬ ‫عمل صا ٍحل ومقدام‪ُ ،‬يتاج إىل ٍ‬
‫فلكي ينطلق املرءُ يف أي ٍ‬
‫هن ابلعافية‬ ‫يدي املسيحي اجملاهد‪ .‬إنّه الس ّكينة "الباترة من القلب َّ ٍ‬
‫كل رذيلة" (اإلينوس أيضاً)‪ .‬ابلصوم ُيظى الذ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نظام السقوط الّذي كان سائداً‪ .‬فقبل السقوط‪ ،‬كانت الشركة مع نعمة الروح القدس غذاءَ‬ ‫احلريّةَ‪ ،‬وينقلب ُ‬ ‫و ّ‬
‫النفس‬
‫ُ‬ ‫الطبيعي هبا‪ .‬ولكن بعد السقوط‪ ،‬ملا فقدت‬ ‫ّ‬ ‫النفس ومتعتَها‪ ،‬فيما استمتع اجلسد مبل ّذات النفس الرتباطه‬
‫ّ‬
‫ت لسلطان الّل ّذات‬ ‫خضع ْ‬
‫َ‬ ‫حتولت حنو اجلسد‪ ،‬وحاولت أن جتد فيه ما فقدته‪ .‬وهكذا‬ ‫شركتَها ابلروح القدس‪ّ ،‬‬
‫احلريف للكلمة‪ ،‬وتقوده من غري إرادته إىل الفساد والشقاء‪.‬‬ ‫اجلسد ابملعىن ّ‬
‫َ‬ ‫"متتص"‬
‫ّ‬ ‫اجلسدانيّة‪ ،‬وبدأت‬
‫ضع‬ ‫إذاً‪ ،‬حنن حناول ابلصوم أن نطلق حريةَ النفس‪ ،‬وأن نعتقها من روابط الل ّذات اجلسدية‪ .‬حناول أن ُخن ِ‬
‫ّ‬ ‫َ ّ‬
‫حركات اجلسد والشهوة لسلطان العقل‪ .‬فمن املعروف أ ّن الغضب يثور عاد ًة إذا مل تُ ّلب شهوتُه اجلاحمة‪ّ .‬أما إذا‬
‫طبيعي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يتحرك أيضاً بشك ٍل‬
‫ت خاضعة للعقل‪ ،‬فيهدأ الغضب ويستطيع أن ّ‬ ‫طبيعي‪ ،‬وظلّ ْ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫كت الشهوةُ‬
‫حتر ْ‬
‫ّ‬
‫حترك بشك ٍل‬‫الغضب هو عصب النفس‪ .‬ومّت ّ‬ ‫َ‬ ‫حتول الرغبات الصاحلة إىل أفعال‪ .‬إ ّن‬
‫القوة الّيت ّ‬
‫يعين أن يصري هو ّ‬
‫شكل الصرب والشجاعة‪ ،‬وكالمها ضرورّّين يف احلرب الروحيّة الالمنظورة‪.‬‬ ‫طبيعي‪ّ ،‬اختذ َ‬‫ّ‬
‫النفس ّقوًة لتلتفت إىل هللا يف‬
‫َ‬ ‫تعوده هذا األخري من املتع والل ّذات‪ ،‬مينح‬ ‫اجلسد ما ّ‬
‫َ‬ ‫الصوم‬
‫ُ‬ ‫وإ ْذ ُيرم‬
‫عمل الصوم قيمةً روحيّة‪ .‬يف صحراء‬
‫الصالة براحة‪ ،‬بصفاء‪ ،‬من غري تشتّت‪ .‬وكذلك الصالة واملطالعة يعطيان َ‬
‫احلِرمان تُ َع ُّد مائدةُ الروح‪ .‬طبعاً إ ّن الصوم احلقيقي ال يقتصر على جتنّب بعض املآكل ببساطة‪ ،‬وليس جمََّرد ٍ‬
‫عمل‬ ‫ّ‬

‫تالوة تُعلِن العيد المقام في ك ّل يوم سواء عيد قدّيس أو أحد مميّز أو عيد سيّدي‪(.‬المترجم)‬ ‫‪3‬‬

‫‪32‬‬
‫اس كلّها‪ ،‬وكذلك بصوم النفس‬
‫صوم الطعام بصوم احلو ّ‬
‫خارجي‪ ،‬بل ُيوي عمقاً وعرضاً‪ .‬وجيب أن يرتفق ُ‬ ‫ّ‬
‫املفعمة ابألهواء‪.‬‬
‫داخلي عن التخيّالت والرغبات واألفكار َ‬
‫ال ّ‬
‫احلقيقي من شروط وميّزات أساسيّة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫نتبني ما للصوم‬
‫يف قراءة إَنيل اليوم نقدر أن ّ‬
‫‪ ‬غفران الزالّت‬
‫كل ٍ‬
‫عمل‬ ‫نبين عليه َّ‬ ‫ِ‬ ‫قبل أن يتكلّم املسيح على طر ِ‬
‫األساس الّذي ُخي ّولنا أن َ‬
‫َ‬ ‫وضع‬
‫احلقيقي‪َ ،‬‬
‫ّ‬ ‫يقة الصوم‬ ‫َ‬
‫عربُ عن ذلك عادةُ‬ ‫اآلخرين‪ ،‬الّذي هو بدوِره شرط لغفران خطاّيان حنن‪ .‬وممّا يُ ِّ‬ ‫صاحلٍ‪ .‬إنّه الغفران الواجب لزالّت َ‬
‫لآلخرين يف ّأول صالة غروب خشوعيّة‪ ،‬عشيّة األثنني الّذي يبدأ الصوم‬ ‫يطلب الغفرا َن ويهبَه َ‬ ‫ِ‬
‫الشعب املؤمن أن َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بعض‬‫تنعنا عن ِ‬ ‫احلسن وحنن ُمعتَقون من رابط الظل ِم‪ .‬فإذا ام ْ‬ ‫الكبري‪ ،‬وذلك هبدف التق ّدم من جهاد الصوم َ‬
‫صومنا بال قيمة‪ .‬يصريُ يف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وننهش بعضنا بعضاً" ابحلقد وحفظ اإلساءة واإلدانة‪ ،‬يكون ُ‬ ‫ُ‬ ‫املآكل‪ ،‬وما زلنا "َنرح‬
‫َند‬
‫أيضا مشاركون يف اجلهاد‪ ،‬وابلتايل أنّنا قد ُ‬ ‫ضمريان ابلفكرة أنّنا حنن ً‬ ‫َ‬ ‫يت‬ ‫جوه ِره عمالً شيطانيًّا‪ُ ،‬‬
‫ُياول أن ُمي َ‬
‫التوبة والتواضع‪ .‬فهااتن الفضيلتان اللّتان‬ ‫بروح ِ‬ ‫بعيين الكبري ِ‬
‫نعرب ّبوابةَ الصوم األر ّ‬ ‫نصيبًا مع األتقياء‪ .‬علينا إذاً أن َُ‬
‫ط ابلرأفةِ‬ ‫احلقيقي يرتب ُ‬ ‫تْنموان ابلصوم‪ ،‬ال ميكنهما أن تتواجدا مع أفكا ِر ِ‬
‫حفظ اإلساءة والكراهيّة‪ .‬فالصوم‬
‫ّ‬
‫والغفران‪ .‬هو األرض املخ ِ‬
‫صبة الّيت تُعطي مثرَة احملبّة الغنيّة‪.‬‬ ‫ُ ْ‬

‫‪" ‬يف اخلِْفية"‬


‫املسيح مراراً بضرورة‬ ‫اآلخرين‪ ،‬بل أحراراً من أتثريات احمليط‪ ،‬يُذ ّكُِران‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫مبا أنّه جيب أالّ نكو َن عبيداً آلراء َ‬
‫بعيدا عن عيون الناس‪" .‬عندما‬ ‫أي وصيّة‪ ،‬كالصالة واإلحسان‪ ،‬يف اخلفية‪ .‬واآلن يف الصوم‪ ،‬نصنع ذلك ً‬ ‫حفظ ّ‬
‫ت فَ َم َّت‬ ‫ِ‬
‫َجَرُه ْم‪َ .‬وأ ََّما أَنْ َ‬
‫استَ ْوفَ ْوا أ ْ‬
‫أجر له‪ " ،‬قَد ْ‬
‫التصرف ال َ‬‫تصومون‪ ،‬ال تكونوا كاملرائني العابسني‪ "...‬مثل هذا ّ‬
‫َّاس ِ‬ ‫ِ‬ ‫صمت فَادهن رأْسك وا ْغ ِسل وجه ِ‬
‫ظ وصاّي‬ ‫"(مّت‪ .)18-17 :6‬فإنّنا ال حنف ُ‬ ‫ك‪ ،‬ل َك ْي الَ تَظْ َهَر للن ِ َ‬
‫صائ ًما ّ‬ ‫ُْ َ ُْ ْ َ َ َ َ ْ َ َْ َ‬
‫بشخص املسيح‪ ،‬وأل ّن حفظَها يوصلنا إىل اال ّحت ِاد به‪.‬‬
‫ِ‬ ‫لنتمج َد من الناس‪ ،‬بل حنفظُها حمبّةً‬
‫هللا ّ‬
‫مهمة جدًّا‪ .‬فإىل جانب املعىن الظاهر‪،‬‬
‫وجهك" ّ‬
‫اغسل َ‬‫أسك‪ ،‬و ْ‬ ‫إ ّن التفسريات الّيت تُعطى لآلية "ادهن ر َ‬
‫غسل هو‬
‫حتمل هذه اآلية معىن آخر أعمق‪ .‬فالوجه الّذي يُ ُ‬‫الصائم أن يتباهى يف إظهار ذاته‪ُ ،‬‬ ‫الّذي هو جتنّب ّ‬
‫جيتذب ابلصالة‬
‫ُ‬ ‫دهن هو الذهن حينما‬
‫بدموع التوبة‪ ،‬فيما الرأس الّذي يُ ُ‬
‫ِ‬ ‫يغتسل‬
‫ُ‬ ‫الداخلي‪ ،‬حينما‬
‫ّ‬ ‫إنسان القلب‬

‫‪33‬‬
‫السماوي‬
‫ّ‬ ‫حترق املراءاة من جذوِرها‪ ،‬وهي الّيت يراها ُ‬
‫اآلب‬ ‫الروح القدس ورمحة هللا‪ .‬هذه األعمال الداخليّة ُ‬ ‫نعمةَ ِ‬
‫ويطمئن هلا‪.‬‬
‫ُّ‬
‫ضة‬ ‫‪ ‬حتويل ُح ِّ‬
‫ب الف ّ‬
‫إ ّن اإلنسان الّذي يستهويه اجلسد ُم َقيَّد بل ّذاته‪ .‬خياف أن ُُْيَرَمها ألَتفه األسباب‪ .‬وحمبّةُ اجلسد هذه تقود‬
‫الفضة‪ ،‬حيث إنّه يريد أن‬
‫وحب ّ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫حب القنية ّ‬
‫كل ما يهواه اجلسد‪ .‬هلذا يسقط اإلنسان من حمبّة اللّذة إىل ّ‬ ‫إىل حمبّة ّ‬
‫القلق الدائم‬ ‫ٍ‬
‫يقتين خريات كثرية‪ .‬ومبا أ ّن األمور املاديّة كلّها تَ ْفسد وتشيخ‪ ،‬وتزول‪ ،‬يتسلّط على هذا اإلنسان ُ‬
‫حب‬
‫ضة للصدأ والسوس واللصوص‪ .‬لذلك َم ْن ينطلق يف جهاد الصوم عليه أن يرفع َّ‬ ‫اهلم‪ .‬فكنوزه األرضيّة ُع ْر َ‬
‫و ّ‬
‫ُيب هبا‬
‫ابلقوة نفسها الّيت ّ‬
‫وُيوله انحية كنوز السماء‪ .‬جيب أن يرغب يف اخلريات السماويّة ّ‬
‫الفضة عن األرض‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫مثل‬
‫حب الذات‪ .‬ومن احملتمل أن يهدف ُ‬ ‫ابت دليالً واضحاً على ّ‬ ‫صومه بال معىن‪ ،‬أو َ‬
‫األمور املاديّة‪ .‬وإالّ أمسى ُ‬
‫الصوم‬
‫ُ‬ ‫نكر أمهيّةَ هذين األمرين‪ ،‬لن يق ّد َم هذا‬
‫صحته‪ .‬فرغم أ ّن أحداً ال يُ ُ‬
‫هذا الصوم إىل مجال اجلسد أو ّ‬
‫جوهري أكثر‪ ،‬وما يدوم أكثر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لإلنسان ما هو‬

‫نفسنا بكنوِز السماء‪ .‬آمني‪.‬‬


‫للروح القدس‪ ،‬ورغبةً يف أن تغتين ُ‬
‫إنّنا نصوم حمبّةً ابجلسد الّذي نريده هيكالً ِ‬

‫‪34‬‬
‫أحد األرثوذكسيّة‬

‫(يو‪)52-44 :1‬‬

‫بالد األرثوذكسيّة والتجارب املعاصرة‬

‫تعال وانظُ ْر"‬


‫"الّذي كتب عنه موسى يف الناموس واألنبياء وجدانه‪َ ...‬‬

‫نعرتف هبا يف دستوِر اإلميان‪ .‬وهي‬ ‫ُ‬ ‫إ ّن كنيسةَ املسيح األرثوذكسيّة هي واحدة ُمق ّدسة جامعة رسوليّة‪ ،‬كما‬
‫تعييدان لرفع األيقوانت‬ ‫مشوه‪ ،‬اإلميان الّذي "ثبت املسكونة"‪ .‬فاليوم إذاً‪ ،‬يف ِ‬ ‫غري َّ‬
‫َّ‬ ‫فظت إميان الرسل واآلابء َ‬
‫الّيت ح ْ‬
‫جعل‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫املق ّدسة نعيّ ُد كأرثوذكسيّني النتصار كنيستنا على اهلرطقات كلّها‪ .‬إنّه انتصار على ضالل متع ّدد الوجوه‪َ ،‬‬
‫هوةِ اهلالك‪ .‬فكنيسةُ املسيح األرثوذكسيّة‬ ‫وقاد ُهم إىل ّ‬
‫متنوعة‪َ ،‬‬ ‫الناس ينحرفون عن الطريق القومية بتعاليم ملحدة ِّ‬
‫َ‬
‫ينشغل‬
‫ُ‬ ‫جمرد صياغة نظريّة لعقائد‬ ‫خالص العامل‪ .‬صوُهتا هو الالّهوت ذو الرأي املستقيم‪ .‬وهذا األخري ليس ّ‬ ‫ُ‬ ‫هي‬
‫عقل اإلنسان‪ ،‬ونقبلُها حنن بال جدل‪ .‬إنّه ّأوالً حياة وخربة‪ .‬عندما تتكلّ ُم الكنيسةُ ابلالّهوت‪ ،‬ال ُحتَلِّ ُل عقليًّا‪،‬‬
‫هبا ُ‬
‫البشري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الكالم‬
‫َ‬ ‫تستخدم‬
‫ُ‬ ‫وعندما تَعِظ‪ ،‬ال تلجأ إىل إقناع الناس حبقائقها من خالل التحليالت املنطقيّة‪ .‬أجل‪،‬‬
‫ْم ِة ا ِإلنْ َسانِيَّ ِة الْ ُم ْقنِ ِع"(‪1‬كو‪.)4-2 :1‬‬ ‫تعرف عجزه‪ ،‬لذلك ال حتاول حتقيق هدفها "بِ َكالَِم ِْ‬
‫احلك َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ولكنّها‬
‫فيليبس الرسول لنثاانئيل‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫كالم‬
‫احلقيقي‪ .‬وجوهر ما تقولُه يف وعظها هو ُ‬ ‫ّ‬ ‫ي‬
‫السر ّ‬
‫جسد املسيح ّ‬ ‫فالكنيسة هي ُ‬
‫تكرز هبا‪.‬‬ ‫"تعال وانظر"‪ .‬تدعو الناس إىل ٍ‬
‫شخصي مع املسيح‪ ،‬وإىل الّتيقُّن ابخلربة من احلقيقة الّيت ُ‬
‫ّ‬ ‫لقاء‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫"جعِ َل لسقوط وقيام كثري من الناس" (لو‪ )34 :2‬حبسب نبؤةِ مسعان‪ ،‬هكذا‬ ‫ولكن‪ ،‬كما أ ّن املسيح ُ‬
‫قاوم"‪ .‬واألمر املؤسف أنّه‪ ،‬إىل جانب تلفيقات اهلراطقة الّذين‬
‫ثوذكسي يف املسيح هو "عالمة تُ َ‬
‫ّ‬ ‫اإلميان األر‬
‫ت‬ ‫ِّ‬
‫سنوض ُح ظاهرتني معاصرتني تثبّ ُ‬ ‫روحها‪.‬‬
‫تشوه َ‬
‫يشوهون حقيقةَ املسيح‪ ،‬تربز يف ِ‬
‫نطاق األرثوذكسيّة نظرّّيت ِّ‬ ‫ِّ‬
‫هذه النظريّة‪.‬‬

‫‪ ‬إحدار األرثوذكسيّة إىل مستوى األيديولوجيا (النظريّة الفكريّة)‬


‫‪35‬‬
‫ثوذكسي يف البلقان واإلحتاد‬ ‫بقوة الرتتيبات اجلديد َة الّيت يشهدها الشعب األر‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫يف ّأّيمنا هذه‪ ،‬خنترب ّ‬
‫‪4‬‬
‫ثوذكسي هو ميزة رئيسة هلويّتهم‪ ،‬ويرونه‬
‫ّ‬ ‫ر‬ ‫األ‬ ‫ن‬
‫بعضهم أ ّن اإلميا َ‬
‫ضمن هذه التغيريات‪ ،‬يشعر ُ‬
‫السوفيايتّ السابق ‪َ .‬‬
‫ثوذكسي إىل مستوى النظريٍّة‬
‫ّ‬ ‫عنصراً ملذهبيّتهم الوطنيّة‪ .‬يف الواقع‪ ،‬ومن دون نيّ ٍة سيّئة‪ ،‬أخفض هؤالء اإلميان األر‬
‫شوهته‬ ‫ٍ‬
‫الفكريّة(األيديولوجيات)‪ ،‬أي إىل شعار لصراعات ال صلةَ هلا‪ ،‬يف أحيان كثرية‪ ،‬بتجلّي اإلنسان بعد أن ّ‬
‫اخلطيئة ‪.‬‬

‫تعرف حدوداً‬
‫التحزابت القوميّة وال األيديولوجيّات‪ .‬هي جوه ُر احلياة الّيت ال ُ‬ ‫األرثوذكسيّة ال توافق ّ‬
‫ارق قوميّة‪ .‬األرثوذكسيّة هي كنيسة‪ ،‬هي جسد املسيح و"مشاركة يف التألّه"‪ .‬تش ُمل سائر األمم‪ ،‬وال ينبغي أن‬ ‫وفو َ‬
‫احلي‪.‬‬ ‫ه‬ ‫لإلل‬ ‫حتو ُل األمم إىل كنيس ٍ‬
‫ة‬ ‫تنحصر يف األُطر الضيّقة‪ ،‬ألحد املذاهب القوميّة‪ّ .‬إَنا ِّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ُيب أهلَه وأقاربَه‪ .‬إالّ أ ّن حمبَّته هذه‪ ،‬ضمن ِّ‬
‫سر‬ ‫ُيب وطنَه و ِّ‬
‫يكرُمه‪ ،‬كما ُّ‬ ‫ثوذكسي ُّ‬ ‫طبعاً‪ ،‬اإلنسان األر‬
‫ّ‬
‫كحقيقة جامعة‪ ،‬ال تعرف قيوداً وال تناقضات‪.‬‬‫ٍ‬ ‫وتصبح مسكونيّة‪ .‬األرثوذكسيّة‪،‬‬ ‫الكنيسة‪ ،‬تفيض‬
‫ُ‬
‫‪ ‬التقوى "الشكليّة"‬

‫جتس ِد اإلله‪ .‬واإلنسان الصادق يف تقواه هو املستقيم ا ّلرأي‪.‬‬ ‫التقوى هي اإلميان واحلياة املرتبطان ِّ‬
‫بسر ُّ‬
‫يقتصر اإلهتداء إىل‬
‫ُ‬ ‫ولكن يف ّأّيمنا‪ ،‬حيث يدور كالم كثري على األرثوذكسيّة وعلى اآلابء الّذين ي ِّ‬
‫عربون عنها‪،‬‬
‫الرتاثيّة للتقوى‪ ،‬وابستعادة اإلنتاجات الفنّية‬
‫اهري ابألشكال ّ‬ ‫األرثوذكسيّة يف كثري من احلاالت على التشبّه الظّ ّ‬
‫ويس ُعنا القول هنا إنّنا إزاء "ثقافة أرثوذكسيّة"‪ ،‬ولكنّنا يف هذه‬
‫سر الكنيسة‪َ .‬‬
‫جوهري يف ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫املاضية من دون اشرت ٍاك‬
‫اخلشوعي‬ ‫جو الصالة‬‫الفن البيزنطي مثالً‪ ،‬أو الرتتيل البيزنطي‪ ،‬مبعزل عن ِّ‬
‫"قوهتا"‪ .‬فإذا أُعيد إحياء ّ‬
‫احلال نرفض ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وعن إرشاد اآلابء الشايف‪ ،‬يبقى هذان صوراتن عن املاضي ال حياة فيهما وال ّقوة‪ .‬يدالّن على الروح احملافِظة‪ ،‬وال‬
‫يكوانن ترا ًاث حيًّا‪.‬‬
‫ّ‬

‫ي ويوغوسالفيا السابقة إلى دويالت مستقلّة (كرواتيا‪ ،‬صربيا‪ ،‬الجبل األسود‪ )...‬حيث لعبت الطائفيّة ً‬
‫دورا‬ ‫يعني األب توماس هنا إعادة تقسيم االتّحاد السوفيات ّ‬
‫‪4‬‬

‫ُ‬
‫أساسيًّا في تحديد الدولة األ ّمة (المترجم)‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫ِ‬
‫وحياهتا‪ّ .‬إَنما فنّان الهوتيّان‬ ‫إىل ذلك‪َ ،‬ند يف اإليقونة والرتتيل تعبري عن الهوت الكنيسة كلّه‬
‫املستمعني‪ .‬فإنشاد التسابيح ليس هدفُه حتريك اخليال‪ ،‬بل‬ ‫جهدا كبريا من ِ‬
‫الناظرين و ِ‬
‫نُسكيّان‪ ،‬لذلك يتطلّبان ً ً‬
‫الذهن قدرًة أوفر على إدر ِاك املعاين الروحيّة‪ .‬كذلك اإليقونة‪ ،‬ابلصوم‬
‫ُ‬ ‫تليني النفس وإمخاد األهواء‪ ،‬لكي يكتسب‬
‫يد أن ُمتيت شهوة الل ّذات احلسية الدنيوية‪ ،‬وأن توفّر من خالل الق ّديسني‪ ،‬نور ٍ‬
‫حياة‬ ‫العني‪ ،‬تر ُ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الّذي تفرضه على َ‬
‫أخرى‪ ،‬هي حياة املسيح الّذي "يصوره" الروح القدس يف ِ‬
‫قلوب املؤمنني‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫هذا يعين أ ّن الرتتيل وكتابة اإليقوانت ليسا فنَّني ُمستقلَّني‪ .‬ابلنسبة إىل املؤمن فيهما كشف للحياةِ يف‬
‫الرتاث‬
‫نرفض ّ‬
‫حسب مراءا ًة عندما ُ‬
‫الروحي‪ .‬فبهما نصلّي‪ّ .‬أما االنبهار هبما فيُ َ‬
‫ّ‬ ‫خدما َجتَ ُّد َده‬
‫املسيح‪ .‬ومها ُجمنَّدان لي ُ‬
‫مضموَنما‪.‬‬
‫َ‬ ‫يكون‬
‫ثوذكسي الّذي ّ‬
‫ّ‬ ‫سكي األر‬
‫النّ ّ‬
‫الغش فيه‬
‫ه‬ ‫‪ ‬قلب‬

‫ظفر‬
‫غش فيه تَ ُ‬ ‫قلب اإلنسان‪ .‬ويف القلب املتواضع الّذي ال ّ‬ ‫ّنو احلياة األرثوذكسيّة هو ُ‬‫إ ّن مرَكز ّ‬
‫ويسرتِجع صورته الساقطة يف اإلنسان‪ .‬فاحلياة األرثوذكسيّة طاعة لوصاّي‬ ‫األرثوذكسيّة‪ ،‬أل ّن فيه يتجلّى هللا‪َ ،‬‬
‫الداخلي من أس ِر األهواء‪ ،‬كما ترمي إىل انعتاق‬ ‫اإلنسان‬ ‫هتدف إىل ِ‬
‫انعتاق‬ ‫ُ‬ ‫ار‬
‫ر‬ ‫األس‬ ‫املسيح‪ ،‬ومشاركة يف ِ‬
‫نعمة‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫الشّر"‪ .‬إ ّن نثاانئيل ّنوذج ممَُيّ ز لإلنسان املستع ّد أن‬ ‫الذهن من الكربّيء‪ ،‬واملكر‪ ،‬عساه يصبح "متو ِ‬
‫اضعاً ال يعرف ّ‬ ‫ُُ‬
‫غش فيه‪ .‬لذلك‪ ،‬بعد حديثه الوجيز مع‬ ‫حقيقي ال َّ‬
‫ّ‬ ‫ائيلي‬
‫ظهور املسيح العظيم‪ .‬وكما قال املسيح‪ ،‬هو إسر ّ‬ ‫يَقبَل َ‬
‫يل!" (يو‪ .)5 :1‬يف هذا اإلنسان‬ ‫اعرتف بظهوِره العظيم وقَبِلَه‪ّ" :‬ي معلِّم‪ ،‬أَنْت ابن هللاِ! أَنْت ملِ ُ ِ ِ‬
‫ك إ ْسَرائ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َ َُ ُ َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫املسيح‪،‬‬
‫غش فيه‪.‬‬
‫النقي الّذي ال ّ‬ ‫ِ‬
‫لتوه‪ ،‬عرف ابن هللا وملك إسرائيل‪ ،‬ألنّه شاهده ابلعني الداخليّة لقلبه ّ‬ ‫الّذي رآه ّ‬
‫ِ‬
‫بنقاوة‬ ‫املسيح‬ ‫اف آابئها الّذين كانوا يرون‬‫اف الكنيسة األرثوذكسيّة‪ .‬هو اعرت ُ‬‫اف نثاانئيل هو اعرت ُ‬ ‫إعرت ُ‬
‫َ‬
‫س‪.‬‬ ‫فيليب‬ ‫فعل‬ ‫كما‬ ‫بعد‬ ‫فيما‬ ‫ين‬
‫ر‬ ‫اآلخ‬ ‫عون‬ ‫د‬
‫َ‬ ‫ي‬ ‫‪،‬‬ ‫ونه‬‫ر‬ ‫ي‬ ‫ذي‬‫ل‬
‫ّ‬ ‫ا‬ ‫وإىل‬ ‫الون‪.‬‬
‫ز‬ ‫ي‬ ‫وما‬ ‫م‪،‬‬ ‫ِ‬
‫قلوهب‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫‪37‬‬
‫األحد الثاين من الصوم(مر‪)12-1 :2‬‬

‫املَحمولون من أربعة‬
‫"فأتوه مبُخلّ ٍع ُيملُه أربعة‪"...‬‬

‫خنلص يف كنيسة املسيح "مع مجيع الق ّديسني"‬ ‫ُ‬ ‫ص وحدان‪.‬‬ ‫فردّي‪ .‬ال نقدر أن خنلُ َ‬
‫اخلالص إَنازاً ًّ‬
‫ُ‬ ‫ليس‬
‫السقف"‪ ،‬وأنزلوه ممَُ ّدداً ق ّدام‬
‫َ‬ ‫(أفس‪ .)18 :3‬فاملخلّع يف إَنيل اليوم احتاج إىل مساعدةِ أربعة رجال‪" ،‬كشفوا‬
‫ُ‬
‫عربت عنه‪ .‬فلو نظَْران إىل‬ ‫صحةَ النفسيّة واجلسديّة هو إميا َُنم‪ ،‬والطريقة الذكيّة الّيت ّ‬
‫قعد ال ّ‬
‫نح امل َ‬‫َ‬ ‫املسيح‪ .‬وإ ّن ما َم‬
‫ُ‬
‫عاصر هو مشلول روحيًّا‪ ،‬فاقد احلركة يف سرير‬ ‫احلدث يف إطار اخلربة الكنسيّة‪ ،‬ألَم َكننا القول إ ّن اإلنسان املُ َ‬ ‫هذا َ‬
‫وإمياَنم أن يعربوا‬‫خبربهتم ِ‬‫حباجة "إىل أربعة" لِيقرتب من املسيح‪" .‬األربعة" هم الّذين يعرفون ِ‬ ‫اجلمود الروحي‪ ،‬وهو ٍ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫اجز الّيت تعرقل مسريةَ اإلنسان الروحيّة‪.‬‬
‫احلو َ‬
‫نعيش "صحراءَ املدن"‪ ،‬مع تفاقم‬
‫إ ّن ما فَقدتهُ اجملتمعات املعاصرة هو الشركة احلقيقيّة بني الناس‪ .‬فأمسينا ُ‬
‫اجملتمع‬
‫ابلسكان‪ .‬وسط هذا َ‬ ‫املستمرة‪ ،‬والطّرقات الع ّامة املكْتظّة ُّ‬
‫ّ‬ ‫الضوضاء‪ ،‬وتكاثر أدوات التواصل‪ ،‬واحلركة‬
‫ُ‬
‫اآلخرين‪ .‬فيبقى جمتمع الكنيسة‪،‬‬ ‫وحيدا‪ ،‬منغلِقاً على ِ‬ ‫ِ‬
‫منقطعا عن َ‬
‫ً‬ ‫نفسه‪،‬‬ ‫احملتشد‪ ،‬يَلفى اإلنسان املعاصر نفسه ً ُ‬
‫وحيدا من ِ‬
‫مأزق االنعزال‪.‬‬ ‫خمرجا ً‬
‫املسيح املُمت ّد إىل األبد‪ً ،‬‬
‫األخوَة يف‬
‫ّ‬ ‫يعيش‬
‫يعيش شركةَ الكنيسة؟ كيف يقدر أن َ‬
‫ولكن يُطرح السؤال‪ :‬كيف ميكن للمرء أن َ‬
‫أعمق متطلّبات النفس البشريّة؟‬ ‫املسيح‪ ،‬الّيت ّ‬
‫تليب َ‬
‫رعاة حقيقيني‪ ،‬وإىل آابء روحيني‪ ،‬وإىل ٍ‬
‫إخوة‬ ‫حباجة إىل ٍ‬
‫ٍ‬ ‫أشران إىل أنّنا حنتاج "أربعةً"‪ ،‬أي أنّنا‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لقد سبق و ْ‬
‫يف املسيح‪ ،‬وإىل ق ّديسني‪.‬‬

‫الرعاة‬
‫‪ُّ ‬‬

‫‪38‬‬
‫يقول لتالميذه إ ّن "احلصاد كثري ّأما‬
‫اعي هلا"‪ .‬كان ُ‬
‫شعب إسرائيل أبنّه "خراف ال ر َ‬
‫وصف املسيح َ‬
‫َ‬ ‫مرًة‪،‬‬
‫ّ‬
‫لريسل عملةً‪ ،‬أي الرعاة الّذين‬
‫َ‬ ‫رب احلصاد‬‫(مّت‪ ،)37 :9‬وكان ُيثّهم على الصالة إىل ِّ‬‫العملة فقليلون" ّ‬
‫سيكلّمون قلوب الشعب‪ ،‬حبسب ِ‬
‫كلمة النيب‪" :‬اندوا‪ ،‬اندوا شعيب‪ .‬أيّها الكهنة تكلّموا يف ِ‬
‫قلب أورشليم" (إش‪:4‬‬ ‫ّ‬
‫‪.)2-1‬‬

‫ثوذكسي واحلياة‪ ،‬هم نقاط‬


‫ّ‬ ‫كخلفاء للرسل ابلسيامة‪ ،‬ولكن أيضاً ابإلميان األر‬
‫إ ّن رعا َة الكنيسة القانونيّني‪ُ ،‬‬
‫الرتابط يف الكنيسة‪ .‬ويقول الق ّديس إغناطيوس املتو ّشح ابهلل‪" :‬حيث يكون األسقف هناك البيعة"‪ .‬ليس الرعاة‬
‫احلس ّي يف‬ ‫ممثّلي املسيح على األرض‪ ،‬وكأنّه بعيد جدًّا عنّا‪ ،‬وهو ٍ‬
‫سر حضور املسيح ّ‬
‫حباجة إىل مندوبني‪ .‬بل هم ُّ‬ ‫َ‬
‫البابوي‪ .‬كهنوهتم هو خدمة‬
‫نيوي و ّ‬‫العامل‪ .‬فكهنوهتم هو كهنوت املسيح‪ ،‬وليس سلطةً قانونيّة حبسب املفهوم ال ّد ّ‬
‫عار الصليب ِ‬
‫ألجل خالص العامل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫أرجل تالميذه‪ ،‬وقَب َل َ‬
‫غسل َ‬‫الشعب وعالجه‪ .‬له امتياز تواضع املسيح‪ ،‬الّذي َ‬
‫صحة اإلميان‪ ،‬فالطاعة هلم هي الطاعة‬ ‫ِ‬
‫ما من كنيسة من دون رعاة قانونيّني‪ .‬وما داموا حمافظني على ّ‬
‫املشوشة مع وظيفتها الطبيعيّة‪ .‬هي تقومي‬ ‫ِ‬
‫معىن أتديبيًّا‪ ،‬بل تعين تكييف نفوسنا ّ‬
‫للكنيسة‪ .‬وهذه الطاعة ليس هلا ً‬
‫ثقل مرضنا وأيتون بنا إىل املسيح‪.‬‬ ‫نفوسنا املخّلعة ِ‬
‫بقوة املسيح الكلّيّة القدرة‪ .‬فالرعاة ُيملون َ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫‪ ‬اآلابء الروحيّون‬

‫آابء‬ ‫س‬ ‫ي‬‫َ‬‫ل‬ ‫ن‬ ‫يح‪ ،‬و ِ‬


‫لك‬ ‫ِ‬ ‫س‬‫كان الرسول بولس يقول‪" :‬ألَنَّه وإِ ْن َكا َن لَ ُكم رب وات ِمن الْمرِش ِدين ِيف الْم ِ‬
‫ْ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫ْ ََ َ‬ ‫َُ‬
‫عرب‬
‫متر َ‬‫وع ِاب ِإل َِْن ِيل" (‪1‬كو‪ .)15 :4‬فالطاعة لرعاة الكنيسة القانونيّني ُّ‬ ‫يح يَ ُس َ‬‫َين أ ََان َولَ ْدتُ ُك ْم ِيف الْ َم ِس ِ‬ ‫ِ‬
‫َكثريُو َن‪ .‬ألِّ‬
‫الروحي‬
‫ّ‬ ‫فاألب‬
‫ّ‬ ‫اإلداري‪.‬‬
‫القانوين و ّ‬
‫ّ‬ ‫الروحي‪ ،‬لذلك ال ينبغي أن تعارض األ ّبوة الروحيّة بناء الكنيسة‬
‫ّ‬ ‫لألب‬
‫الطاعة ّ‬
‫ِ‬
‫ابلنسبة إلينا‪،‬‬ ‫هو الّذي جي ّددان يف املسيح بوساطة قوانني الكنيسة وأسرارها‪ .‬هو الّذي يرشدان إىل ِّ‬
‫سر الكنيسة‪.‬‬

‫عتقنا من أس ِر األفكار ويفتح لنا طر َ‬


‫يق‬ ‫احلرية الروحيّة‪ .‬يُ ُ‬
‫خيرجنا من مصر األهواء إىل ّ‬
‫الشخصي‪ ،‬الّذي ُ‬
‫ّ‬ ‫هو موسى‬
‫ِ‬
‫لتقليد الكنيسة‬ ‫خنضع‬ ‫الكنسي‪ ،‬وبوساطته‬ ‫حامل التقليد‬ ‫الروحي هو‬ ‫األب‬
‫االقرتاب من املسيح شخصيًّا‪ُّ .‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫‪39‬‬
‫الروحي تعطي الكنيسة صفة شخصيّة خلدمتِها الرعائيّة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫األب‬
‫ولألسقف‪ ،‬كونه وكيل هذا التقليد‪ .‬من خالل ّ‬
‫أسباب أهوائها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫شفائي يف أحلك دّيجري نفوسنا وتعاجلُ‬
‫ّ‬ ‫بشكل‬ ‫فتدخل‬

‫األخوة يف املسيح‬
‫ّ‬ ‫‪‬‬

‫األخ يف‬
‫الروحي هو أيضاً ُّ‬ ‫فاألب‬ ‫ٍ‬
‫عالقات سليمة بني اإلخوة يف املسيح‪.‬‬ ‫ختلق‬
‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫األبوة الروحيّة ُ‬
‫عالقةُ ّ‬
‫املسيح‪ ،‬وال جي ِّددان من خالل ِ‬
‫نفسه بل "ابإلَنيل"‪ ،‬أل ّن األب املشرتك هو املسيح‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬

‫فتنحل مشكلةُ الفرديّة‬


‫ُّ‬ ‫وعندما نعيش يف أخويّة الكنيسة ابملسيح‪ ،‬نرضي حاجةَ ِ‬
‫النفس البشريّة األساسيّة‪.‬‬
‫شوشة‪ ،‬وتتح ّقق الشركة‪.‬‬
‫املعاصرة املُ ّ‬
‫ص وحدان‪.‬‬ ‫نقدر أن خنلُ َ‬
‫نفهمه هو أنّنا ال ُ‬ ‫أهم ما علينا أن َ‬ ‫إ ًذا‪ ،‬حنن حباجة إىل إخوة وآابء ورعاة‪ .‬و ّ‬
‫اآلخرين‪ ،‬وأن ننفتِ َح على إخوتِنا‪ ،‬ونتّخذ أابً روحيًّا‪ ،‬ونرتبط برعاةِ الكنيسة القانونيّني‪.‬‬
‫نطلب مساعد َة َ‬
‫ينبغي أن َ‬
‫كيز على األان الّذي يولّ ُده اجملتمع اليومي امل ْسرف‪ ،‬ال يدعنا نلجأ إىل ِ‬
‫مثل هذه املخارج‬ ‫ولكن مبا أ ّن الرت َ‬
‫ّ ُ‬
‫التزود إبهلام أقوال الق ّديسني وحياهتم‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫اخلالصيّة‪ ،‬حنن حباجة إىل ّ‬
‫‪ ‬الق ّديس غريغوريوس ابالماس‬

‫عاشت حقيقةَ املسيح‬ ‫ْ‬ ‫بعيين الكبري‪ ،‬تُ ِربُز لنا كنيستُنا شخصيّات عظيمة من إمياننا‪،‬‬
‫خالل الصوم األر ّ‬
‫شعب هللا‬ ‫حياهتم وأقو ِاهلم يف إرشاد ِ‬ ‫بعمل رسويل‪ ،‬واستمروا يف ِ‬
‫وعربت عنهما‪ .‬هؤالء قاموا ٍ‬ ‫وحقيقة الكنيسة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نكرُم ذكراه اليوم‪ ،‬كاستِ ْمرا ٍر‬
‫وإهلامه‪ .‬وإحدى هذه الشخصيّات الكبرية هي الق ّديس غريغوريوس ابالماس‪ ،‬الّذي ِّ‬
‫تعليمه‬
‫ثوذكسي يف حقبة صعبة من التاريخ‪ ،‬وجاء ُ‬ ‫ّ‬ ‫دعم أبناء جنسنا يف اإلميان األر‬ ‫ألحد األرثوذكسيّة‪ .‬هذا َ‬
‫يسي القرن الرابع عشر‪ ،‬ولديه كالم كثري لإلنسان‬ ‫كل ما لكنيستنا من الهوت ونُسك‪ .‬هو أحد ق ّد ّ‬ ‫خالصةَ ّ‬
‫اب الكنيسة وتُ ْدخلنا إىل ِّ‬
‫سر اخلالص‪،‬‬ ‫تفتح لنا أبو َ‬
‫ألَنا ُ‬
‫املعاصر‪ ،‬إنسان األاننيّة وحبّه ال ّذات‪ .‬فلنتعلّم إذاً أقوالَه‪ّ ،‬‬
‫سر ال ّشركة احلقيقيّة مع هللا والناس‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪40‬‬
41
‫`‬
‫األحد الثالث من الصوم (السجود للصليب) (مر‪)1 :9-34 :8‬‬

‫نب) والصليب‬
‫اخلوف (اجلُْ ُ‬
‫"أل ّن من يستحي يب‪ ...‬يستحي به إبنُ البشر‪"...‬‬
‫كل ٍ‬ ‫ِ‬
‫سيف ذي ح ّدين" (عرب‪ ،)12 :4‬ولّد‬ ‫ترد َد اإلنسان يف قبول كلمة املسيح "األمضى من ِّ‬ ‫إ ّن ُّ‬
‫ابب ملكوت السموات‪.‬‬ ‫وتغلق أمام الّذين يقبلوَنا َ‬ ‫ُ‬ ‫القلب‪،‬‬
‫َ‬ ‫س‬
‫الذهن‪ ،‬وتدنّ ُ‬
‫َ‬ ‫تظلم‬
‫هرطقات وتعاليم خاطئة ُ‬
‫ألَنا كلمةُ الصليب‪ .‬ففي قراءةِ إَنيل‬ ‫ُيتاج إىل اجلرأة ونكران الذات‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬
‫أحدهم كلمةَ املسيح‪ُ ،‬‬ ‫يقبل ُ‬ ‫وابلتايل‪ ،‬ل َ‬
‫استَ َحى ِيب َوبِ َكالَِمي ِيف‬ ‫أجيال البشر كلِّها ابلقول‪" :‬أل َّ‬
‫َن َم ِن ْ‬
‫بوضوح عاقبة جبنِنا‪ ،‬متوجها إىل ِ‬
‫ًّ‬ ‫ُْ‬ ‫ٍ‬ ‫املسيح‬
‫ُ‬ ‫يبني‬
‫اليوم‪ّ ،‬‬
‫قائل إنّه كالم ٍ‬ ‫ب ٍ‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫ِ ِ ِ ِِ‬ ‫اس ِق ْ ِ ِ‬ ‫اجلِ ِيل الْ َف ِ‬
‫"م ْن‬
‫قاس‪َ ،‬‬ ‫اخلَاط ِئ‪ ،‬فَإ َّن ابْ َن اإلنْ َسان يَ ْستَحي به َم َّت َجاءَ مبَ ْجد أَبيه‪ُ ."...‬‬
‫ور َّ‬ ‫ه َذا ْ‬
‫جه ٍة ولديه سلطا ُن هذا العامل‪.‬‬ ‫كل ّ‬ ‫اصران من ِّ‬
‫وقوي جدًّا‪ُُ ،‬ي ُ‬ ‫علين ّ‬‫مساعه؟"‪ .‬نكرا ُن املسيح هو خطر ّ‬ ‫يستطيع َ‬
‫بعض تفاصيل املقطع الّذي ذكرانه سابقاً‪ ،‬وأن‬ ‫شري إىل ِ‬ ‫ٍ‬
‫نقاوم بش ّدة "رؤساء هذا الدهر؟" من املفيد أ ْن نُ َ‬ ‫كيف َ‬
‫نقوم بعمليّة تشريح للنّظر يف ُجْبنِنا بقدر ما يسمح لنا ُ‬
‫ضعفنا‪.‬‬

‫‪ ‬املسيح وكلمته‬

‫ميكن لإلنسان أن يعرتض على ما ذكرانه سابقاً قائالً‪" :‬كيف نزعم أ ّن نكرا َن املسيح هو "اإلميان"‬
‫املسيطر يف العامل احلاضر‪ ،‬فيما نشهد سقوط األنظمةً امللحدة‪ ،‬ويرت ُك اإلميا ُن ابملسيح حًّرا يف ٍ‬
‫اضطهدتْهُ‬
‫َ‬ ‫بالد‬ ‫ُ‬ ‫ُْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫بيد أ ّن نكرا َن املسيح ميكن أن‬
‫سابقاً"؟ هنا ينبغي التأكيد أ ّن احلّريّة الدينيّة الّيت تُعطيها الدولة هلا أمهيّة كبرية‪َ ،‬‬
‫حّت‬
‫الالمباالة‪ ،‬أو ّ‬ ‫ش يف ِ‬ ‫ٍ‬
‫شّت أسباب ُ‬ ‫قلب اإلنسان‪ْ ،‬خمفيًّا وراء ّ‬ ‫يعش َ‬
‫خارجي‪ .‬ميكن أن ّ‬
‫ّ‬ ‫إرهاب‬ ‫عاش من دون‬
‫يُ َ‬
‫يغيب عن ذهننا أ ّن احلريّة الدينيّة ال‬
‫الفريسيّني يف زمن املسيح‪ .‬كذلك جيب أالّ َ‬
‫خلف التديّن ال ّدقيق‪ ،‬مثل ّ‬

‫‪42‬‬
‫الرتبية املدرسيّة‪،‬‬
‫تتوقّف على قوانني الدولة فحسب‪ ،‬بل تتوقّف أيضاً على وسائل اإلعالم‪ ،‬وعلى ّنط العيش‪ ،‬و ّ‬
‫بعض األمور‪.‬‬ ‫ِ‬
‫هلم نُنعم النظر يف َ‬ ‫والذهنيّة املُهيمنة على غالبيّة الشعب‪ .‬ولكن ّ‬
‫ط بينهما‪.‬‬‫"م ْن استحى يب وبكالمي‪ "...‬فيُميّز بني شخصه وكلِمته‪ ،‬ويف الوقت نفسه يرب ُ‬ ‫يقول املسيح‪َ :‬‬
‫ُ‬
‫"مبجد أبيه"‪ ،‬هم الّذين استحوا أن يعرتفوا ّإما بشخصه كإله وإنسان‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫املسيح هبم عندما سيأيت‬ ‫الّذين سيستحي‬
‫ُ‬
‫وإما بكلِمته‪ .‬هناك نوعان من النكران يف املوقف الّذي يتّخذونه ُجت َاه اإلميان ابملسيح‪.‬‬
‫ّ‬
‫الثوار ولكن ليس كإله‪ .‬انبَهروا‬ ‫ِ‬ ‫الّذين ينتمون إىل ِ‬
‫املسيح كأحد الفالسفة‪ ،‬وكأحد ّ‬ ‫َ‬ ‫الفئة األوىل يََرون‬
‫طابع‬
‫كل ٍ‬ ‫البشري‪ ،‬انزعني عنه َّ‬
‫ّ‬ ‫صروه ابملستوى‬
‫بتعليمه الّذي يََرون ُخالصتَه يف "املوعظة على اجلبل"‪ ،‬ولكنّهم َح َ‬
‫إهلي‪ .‬هؤالء الناس ليس هلم أيّة عالقة ابلكنيسة‪ ،‬يقيمون خارج حظريهتا‪ ،‬والقيمة الوحيدة الّيت جيدون فيها ّأَنا‬‫ّ‬
‫أخالق اجملتمع‪ ،‬وتضبطه من االحنالل الناجم عن تفاقُم األهواء‪.‬‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُهت ّذ ُ‬
‫ّأما الفئة الثانيّة لناكري املسيح‪ ،‬فهي داخل حظرية الكنيسة‪ .‬هم الّذين يؤمنون ابملسيح اإلله اإلنسان‬
‫كالم املسيح ُمبالِغاً‪ ،‬ال ميكن تطبيقه يف عص ِران‪ .‬مييّزون‬ ‫شكليًّا‪ ،‬ويعرتفون إبميان الكنيسة املستقيم‪ ،‬ولكنّهم يََرون َ‬
‫الرهبان‪ ،‬جاهلني أنّه ما ِم ْن تفر ٍيق كهذا‪ ،‬أل ّن‬ ‫خيص ّ‬
‫مانيني وما ُّ‬
‫خيص املسيحيّني العْل ّ‬
‫بني وصاّي اإلَنيل‪ :‬بني ما ُّ‬
‫وس‪َ ،‬وإَِّّنَا َعثَ َر‬
‫َّام ِ‬ ‫َن َم ْن َح ِف َ‬
‫ظ ُك َّل الن ُ‬ ‫الرب‪" :‬أل َّ‬
‫قول يعقوب أخي ّ‬ ‫حيا َة الكنيسة واحدة‪ .‬كذلك ينسون ما يوافق َ‬
‫ص َار ُْجم ِرًما ِيف الْ ُك ِّل "(يع‪.)10 :2‬‬ ‫ِ ٍ‬
‫ِيف َواح َدة‪ ،‬فَ َق ْد َ‬
‫نب واإلعرتاف‬
‫‪ ‬اجلُْ ُ‬

‫أمام حقيقة املسيح؟ أحياانً كثرية نَقلَق الفتفاران إىل شجاعة االعرتاف‬
‫نب اإلنسان َ‬
‫إالم يعود ُج ْ ُ‬
‫ولكن َ‬
‫نشعر أبنّنا خائنون إلمياننا‪ ،‬انكرون السم‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫بيئة تنكره‪ ،‬أو ِّ‬‫ابملسيح يف ٍ‬
‫تشوه حقيق َة شخصه‪ .‬عندئذ ميكن أن َ‬ ‫ُ‬
‫األسباب‪:‬‬ ‫تردد‪ .‬وميكننا أن نصنّف نوعني من‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫أسباب ُجبننا وأن نعاجلها من دون ّ‬
‫َ‬ ‫َند‬
‫املسيح‪ .‬ولكن علينا أن َ‬
‫األسباب اخلارجيّة و األسباب الداخليّة‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫أشران هي التلفيزيون‪ ،‬وّنط العيش‪ ،‬والرتبية املدرسيّة‪ ،‬والذهنيّة السائدة يف‬
‫األسباب اخلارجيّة‪ ،‬كما سبق و ْ‬
‫َ‬
‫اجملتمع‪ .‬فاجلحود أو اإلحلاد ال يُنادى هبما ابلضرورة مناداة ظاهريًّة وعدائيًّة‪ .‬ميكن ممارستها يف ضمائر املسيحيّني‬
‫وسائل اإلعالم علنًا أساليب حياة خمالفة‬
‫ُ‬ ‫بطرائق أكثر فاعليّة من املعارك على اجلبهة‪ .‬ومن هذا مثالً أن تُظ ِهر‬
‫فعالة وحيدة للبقاء‪ ،‬واألهواء املخالفة‬ ‫ٍ‬
‫يتم إبراز الفساد كطريقة ّ‬‫فرضا‪ .‬ومن هذا أن ّ‬ ‫فرضها ً‬‫متاما للمسيحيّة‪ ،‬فتَ ُ‬
‫ً‬
‫ماض ّبراق‪ ،‬صاحل للعرض يف ُمْت َحف‬ ‫يتم إظهار الكنيسة برتاثها كجزء من ٍ‬ ‫للطبيعيّة كحاالت طبيعيّة‪ .‬كذلك أن ّ‬
‫ومثُل أخرى للحياة‪ .‬هذه كلّها تُنشئ بيئةً عدائيّة حلقيقة اإلميان‪.‬‬ ‫ِ‬
‫نتمسك بقيَم ُ‬
‫لمتخصصني والفضوليّني‪ ،‬فيما ّ‬‫ّ‬ ‫ل‬
‫اختارها هي احنراف عن اإلنسانيّات‬‫املسيحي أب ّن احلياة الّيت َ‬
‫ّ‬ ‫روحي هو احملاولة اخلبيثة إلقناع‬
‫إ ّن أسوأ إرهاب ّ‬
‫بعامة‪.‬‬
‫ّ‬
‫البشري عن فه ِم األلوهة‪ ،‬وقصور اإلرادة البشريّة‬
‫ّ‬ ‫عجز املنطق‬
‫و ّأما األسباب الداخليّة‪ ،‬كما ذكران‪ ،‬فاثنان‪ُ :‬‬
‫اتما‪ .‬فاأللوهة تكشف ِ‬
‫نفسها وال يكتشفها املنطق‪ .‬هلذا قال لنا املسيح‪" :‬بِ ُد ِوين‬ ‫حفظ وصاّي املسيح حفظًا ًّ‬ ‫عن ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الَ تَ ْقد ُرو َن أَ ْن تَ ْف َعلُوا َشْي ئًا"(يو‪ .)15 :15‬إذاً حفظ وصاّيه ُيصل مبؤازرةِ النعمة اإلهليّة‪ .‬واإلميان الّذي خيلّ ُ‬
‫ص‬
‫إهلي إنساينّ‪.‬‬ ‫هو عمل ّ‬
‫عيش الصليب‬
‫ُ‬ ‫‪‬‬

‫املسيحي حياة َمصلوبة‪ ،‬حيث‬


‫ّ‬ ‫الهوت الكنيسة هو "جلجلةُ العقل" وحياهتا عيش الصليب‪ .‬حيا ُة‬
‫َ‬ ‫إ ّن‬
‫غلب العامل‪ .‬لذلك ال خياف اعتداءاته‬ ‫يت املؤمن العامل وميوت من أجل العامل‪ .‬يعيش ِ‬
‫ُمي ُ‬
‫بقوة املسيح القائم الّذي َ‬
‫ُ ّ‬ ‫ُ َ‬
‫املسيح‬
‫َ‬ ‫وُيب‬
‫صليب املسيح بطريقتني‪ .‬يؤمن ّ‬
‫َ‬ ‫ُيمل عاد ًة‬
‫الشاب‪ُ ،‬‬
‫وخاصةً ّ‬
‫َّ‬ ‫املسيحي املعاصر‬
‫ّ‬ ‫"اإلرهابيّة" اخلبيثة‪.‬‬
‫يف عاٍمل غري م ٍ‬
‫بال به‪ ،‬ويصلّي بني أانس ال يصلّون‪.‬‬ ‫ُ‬
‫كل مؤمن‪.‬‬
‫حمور حياة ّ‬
‫بعيين الكبري جيب أن يكو َن َ‬
‫إ ّن الصليب الّذي تربزه الكنيسة يف وسط الصوم األر ّ‬
‫آمني‪.‬‬

‫‪44‬‬
45
‫األحد الرابع من الصوم (مر‪)31-17 :9‬‬

‫واالست ْقسامات‬
‫الشرير ْ‬
‫ّ‬
‫أيّها الروح األصمّ األبكم‪ ،‬أان آمرك اخرجْ منه‪"...‬‬

‫"م ْن له‬ ‫أعمال إبليس" (‪1‬يو‪ .)8 :3‬أتى لِ ِّ‬


‫يحرَر اإلنسا َن من َ‬ ‫َ‬ ‫ينقض‬ ‫املسيح إىل العامل "لكي‬ ‫جاء‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫لقد َ‬
‫أمرا‬
‫توسعت املعارف كثرياً‪ُُ ،‬ي َسب الكالم على الشيطان ً‬
‫سلطان املوت"‪ ،‬أي الشيطان‪ .‬يف ّأّيمنا هذه حيث ّ‬
‫وقادت أانساً‬
‫ْ‬ ‫ٍ‬
‫أبشكال خمتلفة‪،‬‬ ‫داخل جمتمعنا‪،‬‬ ‫ت يف الوقت نفسه‬ ‫سخيفاً جدًّا‪ .‬إالّ أ ّن عبادةَ الشيطان تغَْلغلَ ْ‬
‫َ‬
‫الضروري أن‬ ‫ِ‬
‫مناسبة قراءة إَنيل شفاء الشاب املمسوس اليوم‪ ،‬أرى من‬ ‫كثريين إىل حاالت ِ‬
‫مرعبة‪ .‬لذلك‪ ،‬يف‬
‫ّ‬
‫شخص الشيطان وطريقة عمله‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫حول‬
‫نورد بعض األفكار َ‬

‫‪ ‬من دواعي الفضول احملفوفة ابخلطر‬

‫نلفت إليه هو أ ّن املشاركة يف جلسات استدعاء األرواح هي عمل طائش مليء‬


‫أهم و ّأول ما جيب أن َ‬
‫إ ّن ّ‬
‫يشهدوا "األمور العجيبة"‪،‬‬
‫يتشوقون ل َ‬
‫ابخلطَر‪ .‬كثريون من الشباب يشاركون يف احتفاالت عبادة الشيطان‪ ،‬وهم ّ‬
‫ِ‬
‫متورطني يف دوائر مظلمة ألانس فوضويّني يستغّلوَنم‪ .‬إىل‬
‫أنفسهم ّ‬ ‫مأْخوذين ّ‬
‫حبب اجملازفة‪ .‬نتيجةً لذلك‪ ،‬جيدون َ‬
‫اخلاصة ملَن يقرتبون منه ّ‬
‫أبي طريقة‪ .‬لذلك‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬ ‫ينقل طاقته‬
‫شخص ُ‬ ‫ٌ‬ ‫نعرف أ ّن الشيطان هو‬ ‫ذلك‪ ،‬جيب أن َ‬
‫عامة‪ ،‬عندما ال‬ ‫احتفاالت شيطانية فحسب‪ ،‬بل أيضاً يف مساع ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫استقسامات ّ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫متابعة‬ ‫كم ُن اخلطر العظيم يف‬
‫يَ ُ‬
‫اخلي‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫"حسيًّا" بدرع نعمة هللا ال ّد ّ‬
‫نكون ُمتسلّحني ّ‬
‫شوهة عن إمياننا‪،‬‬
‫كونوا صورًة ُم َّ‬
‫وّي لألسف‪ ،‬إ ّن عبادة الشيطان تستشري يف ّأّيمنا بني مسيحيّني كثريين‪ّ ،‬‬
‫شك يف أ ّن‬
‫الشريرة وتَص ّدي الكنيسة هلا ابالستقسامات واألسرار الكنسيّة‪ .‬وال ّ‬
‫عمل األرواح ّ‬
‫يسيطر عليها ُ‬
‫ُ‬ ‫صورًة‬

‫‪46‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الناس ابهلل‪ .‬غري ّأَنا يف‬
‫أعمال الشيطان وتُْتح َد َ‬
‫طل َ‬ ‫الكنيسة‪ ،‬الّيت هي املسيح املُْمت ّد يف ال ّدهور‪ ،‬موجودة لتُ ْب َ‬
‫االستِ ْقسامات‪ ،‬ولكن ال تنحصر هبا‪ .‬ففي كالمه على‬ ‫تتضمن ْ‬ ‫اخلاصة‪ ،‬الّيت قد ّ‬
‫سبيل ذلك تلجأ إىل طريقتها ّ‬
‫الشياطني الّذين سكنوا الشاب‪ ،‬قال املسيح يف إَنيل اليوم‪" :‬هذا اجلنس ال ميكن أ ْن خير َج بشيء إالّ ابلصالة‬
‫روح الزّن‪،‬‬
‫والصوم"(مر‪ .)29 :2‬واآلابء الّذين لديهم موهبةُ متييز األرواح يشرحون أ ّن الّذي متلّك الشاب كان َ‬
‫النفس من أهو ِاء‬
‫َ‬ ‫لذلك قال املسيح إ ّن هذا الروح ال خيرج إالّ "ابلصالة والصوم"‪ .‬فالصالة والصوم يشفيان‬
‫الفسق‪ ،‬ويبطالن عمل األرواح الشريرة‪ .‬إذاً‪ ،‬حنن ٍ‬
‫حباجة إىل متييز األرواح‪ ،‬وليس إىل التهافت من دون متييز على‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫كز اهتمامنا كمسيحيّني جيب أن يكون املسيح‪ ،‬وطريقة‬ ‫أماكن تُ ْقرأُ فيها اال ْستقسامات علناً‪ .‬هذا يعين أ ّن مر َ‬
‫فوضون ألجل املسوسني‪ّ .‬أما حنن‬ ‫َّاحتاده ابلناس‪ ،‬ال الشيطان وأعماله‪ .‬فالكنيسة لديها ق ّديسوها وأعضاؤها امل َّ‬
‫ُ‬
‫ونوجهه حنو املسيح‪ .‬علينا أالّ نبايل للشيطان‪ ،‬بل أن‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫كلّنا فعلينا أن ِّ‬
‫حنو َل انتباهنا عن شبكة األعمال الشيطانيّة‪ّ ،‬‬
‫ُيتمل َم ْن ال يبايل به؟‬
‫ُ‬ ‫متكرب‬
‫فأي ّ‬ ‫حق اعتداءات الشيطان ِّ‬
‫املتكرب‪ُّ .‬‬ ‫تس ُ‬‫اسم املسيح دائماً‪ .‬هذه الالمباالة ْ‬
‫نذكر َ‬
‫‪ ‬الشيطان وعمله‬

‫"أعماق الشيطان"‪ .‬كما يقول الرسول بولس‪" :‬ال َنهل‬


‫َ‬ ‫إ ّن الق ّديسني‪ ،‬الّذين ّاحتدوا ابملسيح‪ ،‬عرفوا‬
‫بعض احلقائق‬ ‫ِ‬
‫متنح املعرفة احل ّقة حلبائل الشيطان‪ .‬وسوف نذكر اتليًّا َ‬
‫أفكاره"(‪2‬كو‪ .)11 :2‬إ ّن معرفة املسيح ُ‬ ‫َ‬
‫األساسيّة عن شخصيّة الشيطان وعمله‪ُ ،‬م ْستندين إىل تقليد كنيستنا‪.‬‬

‫‪ -1‬ليس الشيطان سيّئاً يف طبيعته‪ .‬كان خليقة هللا "احلسنة جدًّا"‪ ،‬مثّ انفسد بسبب كربّيئه وتوطّ َد يف‬
‫الشر‪.‬‬
‫ّ‬
‫شريرة‪ ،‬ولكن منها ما يفوق سواه يف‬ ‫ٍ‬
‫للشر‪ .‬الشياطني ّ‬
‫‪ -2‬الشياطني أشخاص قائمون يف درجات خمتلفة ّ‬
‫النجس‪ ،‬عندما خيرج من اإلنسان‪َْ " ،‬جيتَ ُاز ِيف أ ََماكِ َن‬
‫َ‬ ‫الروح‬
‫مّت إ ّن َ‬
‫اخلباثة‪ .‬يقول املسيح يف إَنيل ّ‬
‫يرجع إىل املكان الّذي خر َج منه‪ ،‬وعندما جيده فارغاً من‬ ‫لَي ِ‬
‫احةً"‪ ،‬وألنّه الجيد‪ُ ،‬‬
‫ب َر َ‬
‫س ف َيها َماء‪ ،‬يَطْلُ ُ‬
‫ْ َ‬

‫‪47‬‬
‫"(مّت‪:12‬‬
‫اك ّ‬ ‫َشَّر ِمْنهُ‪ ،‬فَتَ ْد ُخ ُل َوتَ ْس ُك ُن ُهنَ َ‬
‫ُخَر أ َ‬ ‫ِ‬
‫نعمة هللا يعود اثنيةً‪َ " ،‬و َأيْ ُخ ُذ َم َعهُ َسْب َعةَ أ َْرَو ٍاح أ َ‬
‫‪.)45‬‬

‫يكتب الرسول بولس عن البشر "ِيف‬‫‪ -3‬الشياطني لديها عقليّات وتعاليم خمتلفة‪ ،‬حتاول نقلَها إىل الناس‪ُ .‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ ِ‬
‫احا ُمضلَّةً َوتَ َعال َيم َشيَاط َ‬
‫ني"(‪1‬تيمو‪.)1 :4‬‬ ‫األ َْزمنَة األَخ َرية" ّأَنم س َ ْريتَ ّدون َع ِن ا ِإلميَان‪َ " ،‬اتبِع َ‬
‫ني أ َْرَو ً‬
‫جم النفس‪ ،‬وبعضها اآلخر‬ ‫ِ‬
‫‪ -4‬وفْقاً للق ّديس ذّيذوخس فوتيكيس أ ّن بعض الشياطني رشيق خفيف يها ُ‬
‫أكثر ماديّة فيحا ِر ُ‬
‫ب بواسطة اجلسد‪.‬‬

‫القوة الشيطانيّة إىل النّاس‪ .‬فاملخيّلة ُم ْش ََرتكة بني الشياطني والناس‪ ،‬وإذا مل‬
‫‪ -5‬إ ّن املخيّلة هي قناة تنقل ّ‬
‫ينتبه اإلنسا ُن هلا‪ ،‬ميكن أن يتل ّقى أضراراً روحيّة ُخميفة‪ .‬احلياةُ الروحيّة ال تنمو بوجود التخيُّل‪ .‬على‬
‫العكس‪ ،‬بقدر ما يتق ّدم املؤمنون يف القداسة‪ ،‬بقدر ما ينعتقون من عمل اخليال‪ .‬من هنا أ ّن تراث‬
‫ينشغل ابألفكار وأسباهبا‪ ،‬وبقيود األهواء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫نسكي جبملته‪ ،‬وهو جوهر األرثوذكسيّة‪،‬‬ ‫كنيستنا ال ّ‬
‫وابألمراض الروحيّة الّيت تسبّبها‪ ،‬وبطريقة شفائها‪.‬‬

‫عمل املسيح والق ّديسني‬


‫ُ‬ ‫‪‬‬

‫يف قراءة إَنيل اليوم وشفاء الشاب املمسوس‪ ،‬أظهر املسيح رسالتَه احلقيقيّة يف العامل‪ ،‬وهي‪ ،‬من جهة‪،‬‬
‫وتستمر‬ ‫طرد" الشياطني من الناس‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ُّ‬ ‫انعتاق البشر من سيطرة الشياطني‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬تعلّم الطريقة الّيت هبا "يُ َ‬
‫الشريرة من‬
‫عمل املسيح هذا داخل التاريخ بواسطة ق ّديسيها‪ .‬فالق ّديسون هم طاردو األرواح ّ‬ ‫كنيستُنا يف ِ‬
‫تحصنني ض ّد‬
‫حّت يصبحوا ُم ّ‬
‫الناس روحيًّا‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬
‫املسكونة عن طريق صلواهتم وتعاليمهم‪ .‬يطردون الشياطني‪ ،‬ويَ ْشفون َ‬
‫تظهر دائماً عالماهتا لرؤيتنا احلسرية‪.‬‬
‫الشريرة‪ ،‬الّيت قد ال ُ‬
‫هجمات الشيطان ّ‬
‫سك يف طوِر سيناء‪،‬‬
‫وخمرجي األرواح‪ .‬نَ َ‬
‫السينائي كاتب "السلّم" هو من أعظم الشافني ُْ‬
‫ّ‬ ‫يس يوحنّا‬
‫إ ّن الق ّد َ‬
‫مج َعت يف أقوال‬ ‫حرب الشيطان‪ ،‬ولكن أيضاً من افتقادات ِ‬
‫نعمة هللا‪ .‬هذه اخلربة ُِ‬ ‫حيث اكتسب خربةً كبرية من ِ‬
‫َ َ‬
‫‪48‬‬
‫كتاب "السلّم"‪ ،‬الّذي هو رسالة طويلة إىل رهبان دير الق ّديسة كاترينا املق ّدس‪ .‬وإذ تربز لنا الكنيسة شخصه‬
‫درس كلمتِه اخلالصيّة للنفس واالقتداء هبا‪.‬‬
‫اليوم‪ ،‬ت ْدعوان إىل ِ‬

‫‪49‬‬
‫األحد اخلامس من الصوم‬

‫(مر‪)45 -32 :10‬‬

‫اجمل ُد والسلطة‬

‫"إ ّن الّذين ُُيسَبون رؤساء األمم يسودوَنم‪...‬فال يكون هكذا فيكم‪"...‬‬

‫اجملالس األوىل‪ .‬كلَّ َمهم عن اآلالم‪،‬‬


‫َ‬ ‫سيحدث له"‪ ،‬أخذوا يطلبون‬
‫ُ‬ ‫فيما كان املسيح يُْنبءُ تالمي َذه "مبا‬
‫كلمة له‪" ،‬ويف اليوم الثالث يقوم"‪ .‬لذلك‬ ‫آخر ٍ‬ ‫ف سوى عند ِ‬ ‫ولكن ذهنَهم مل يتوقّ ْ‬
‫والبصاق واجلَلد‪ ،‬واملوت‪ّ ،‬‬
‫اآلخ ُر عن يسارك يف‬ ‫ِ‬
‫لس واحد عن ميينك و َ‬ ‫اقرتب منه ابنا زبدى وطلبا منه املشاركة يف جمده‪" ،‬أعطنا أن َن َ‬ ‫َ‬
‫ذكَرهم "بكأْ ِسه"‪ ،‬أي آبالمه‪ .‬فإ ّن املشارُكني يف‬
‫جادة الصواب‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬
‫عيدهم املسيح إىل ّ‬ ‫جمدك"(مر‪ .)37 :10‬ولكي يُ َ‬
‫ُ‬
‫اجملد و"اجملالس‬
‫جمده هم الّذين ُيملون صليبَه طوعاً‪ ،‬ومييتون خطيئتهم على صليب وصاّيه‪ .‬لذلك الّذين يطلبون َ‬
‫األوىل" اليعلمون ما يطلبون‪ ،‬بينما الّذين لديهم معرفة‪ ،‬يفتخرون "بصليب املسيح" و"بضعفاهتم"‪ .‬جيدون الراحة‬
‫أطاع‬
‫نفسه و َ‬
‫"وضع َ‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫بشكل أفضل‪ ،‬وهو الّذي‬ ‫يف ق ِرب التواضع‪ّ ،‬‬
‫ألَنم يعرفون هناك حمبّةَ املسيح الضابطة الكل‬
‫حّت املوت موت الصليب"(يف‪.)8 :2‬‬ ‫ّ‬
‫يف قراءةِ إَنيل اليوم‪ ،‬تُعطى لنا الفرصة لِنتكلّ َم على َمصلوبيّة الكنيسة‪ ،‬وكذلك على طريقة بلوغ اجملد‪.‬‬
‫فيتحول إىل‬
‫العام لإلنسان الساقط‪ّ ،‬‬
‫الروحي ّ‬
‫ّ‬ ‫التشوه‬
‫ينحرف بسبب ّ‬ ‫ُ‬ ‫امليل رغبة طبيعيّة للنفس البشريّة‪ ،‬ولكنّه‬
‫هذا ُ‬
‫اآلخرين‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫نزعة للهيمنة والتّسلّط على َ‬

‫سبون رؤساء"‬
‫‪" ‬الّذين ُحي َ‬
‫"لستُما ْتعلمان ما‬ ‫إزاء ِ‬
‫ابين زبدى من املسيح أ ْن جيلسا عن ميينه وعن يساره "يف جمده"‪ ،‬أجاهبما ْ‬
‫طلب َ‬
‫تطلبان"‪ .‬ولكن يف موضع آخر‪ ،‬عندما سأله بطرس "ها حنن قد تركنا كل ٍ‬
‫شيء وتبعناك‪ ،‬فماذا يكون‬ ‫َّ‬ ‫َ‬

‫‪50‬‬
‫يد‪ ،‬مّت جلَس ابن ا ِإلنْس ِ‬
‫ان َعلَى‬ ‫لنا؟"(مّت‪ ،)27 :19‬أجابه املسيح‪" :‬إِنَّ ُكم أَنْتم الّذين تَبِعتم ِوين‪ِ ،‬يف الت ِ ِ‬
‫َّجد َ َ َ َ ْ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ُ ُ َ ُْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫"(مّت‪ .)28 :19‬هذا‬ ‫ُكرِس ِي َْجم ِدهِ‪َْ ،‬جتلِسو َن أَنْتم أَيضا علَى اثْين ع َشر ُكرِسيًّا تَ ِدينُو َن أَسبا َط إِسرائِ‬
‫يل االثْ َْين َع َشَر ّ‬
‫َْ ْ َ َ‬ ‫ُ ُ ْ ْ ً َ َْ َ َ ْ‬ ‫ْ ّ‬
‫شيء وتبعوا املسيح‪ ،‬سوف يتنعمون مبج ِد ِ‬
‫ملكه‪.‬‬ ‫يعين أ ّن الّذين هجروا كل ٍ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬

‫جمد الناس فارغ‪ ،‬والّذين يطلبونه ُمصابون ابجملد الباطل‪ .‬بقدر ما‬ ‫وجمد هللا‪ُ .‬‬
‫جمد الناس ُ‬
‫هناك جمدان‪ُ ،‬‬
‫جوعهم‪ّ .‬أما جم ُد هللا فهو ّقوة هللا ونعمته وفعله الّيت هبا َ‬
‫خلق العاملَ ويسود‬ ‫يزداد ُ‬
‫ُياولون أن يشبعوا منه‪ ،‬بقدر ما ُ‬
‫الكو َن‪ ،‬وهي تُنريُ اإلنسا َن وتؤِّهلُه بصفتها املنرية واملؤِّهلة‪ .‬جمد هللا هو حياة النفس ومتعة الق ّديسن يف الدهر‬
‫يت اإلميا َن‪.‬‬ ‫ِ‬
‫جمد الناس ُمي ُ‬
‫بعظمة هللا‪ ،‬أل ّن َ‬ ‫جمد الناس الفارغ ال يقدرون أ ْن يشعروا‬ ‫احلاضر واآليت‪ .‬فالّذين يطلبون َ‬
‫بعضكم من بعض‪.‬‬
‫بوضوح يف إَنيل يوحنّا‪" :‬كيف تقدرون أ ْن تؤمنوا وأنتم تقبلون جمداً ُ‬
‫ٍ‬ ‫وهذا ما يقولُه املسيح‬
‫ومن‬
‫يؤمن‪َ ،‬‬ ‫واجملد الّذي من اإلله الواحد لستم تطلبونه؟"(يو‪ .)44 :5‬إذاً‪َ ،‬من يطلب َ‬
‫جمد الناس ال يستطيع أ ْن َ‬
‫جمد هللا‪.‬‬
‫ليس له إميان ال يقدر أن يشتهي َ‬

‫يشع من وجوه‬ ‫جمد هللا‪ ،‬اجملد الّذي ُّ‬


‫ميل النفس إىل احلصول على اجملد هدفُه أن يشتهي اإلنسان َ‬
‫إ ّن َ‬
‫الق ّديسني ًّبرا‪ ،‬وتواضعا‪ ،‬وحمبّة‪ .‬وهذه الصفات معاكسة ً‬
‫متاما ملا يعرفه "أصحاب اجملد" يف هذا الدهر‪" .‬الّذي َن‬
‫َن ُعظَ َماءَ ُه ْم يَتَ َسلَّطُو َن َعلَْي ِه ْم"(مرقس‪ .)42 ،10‬هذا يعين أ ّن الّذين يُع ّدون‬
‫وَنُ ْم‪َ ،‬وأ َّ‬ ‫ُُْي َسبُو َن ُرَؤ َساءَ األ َُم ِم يَ ُس ُ‬
‫ود َ‬
‫كل العامل‪،‬‬
‫شائعا يف ّ‬
‫رؤساء األمم َجيورون عليهم‪ ،‬وكبار قومهم يضغطون عليهم‪ .‬يف زمن املسيح‪ ،‬كان هذا األمر ً‬
‫ظ‪ .‬ولئِن َّ‬
‫قل عدد األنظمة الديكتاتوريّة يف العامل‪ ،‬إالّ أ ّن األنظمة الّيت‬ ‫ُيصل أيضاً يف ّأّيمنا هذه‪ ،‬لسوء احل ِّ‬
‫ُ‬ ‫ولكنّه‬
‫يُقال عنها دميوقراطيّة‪ ،‬تعرف أساليب بديعة يف املصاحل احلزبيّة واملاليّة لتسيطر أو تطيل سلطتَها‪ .‬من خالل‬
‫املفاهيم‪ُ ،‬ممارسني هبذا أسوأ أشكال الديكتاتوريّة‪.‬‬
‫َ‬ ‫احلمالت اإلعالنيّة والدعاوة خيتلقون ما يشاؤون من‬

‫يتسىن لرؤساء هذا العامل أن يفرضوا‬


‫ولكن ما جيب أن يستقطب ُج َّل انتباهنا هو كلمة املسيح‪ .‬ومهما ّ‬
‫على الشعب مناهج وطرائق للحياة معاكسة لطبيعة اإلنسان احلقيقيّة ‪" -‬على صورِة هللا"‪ ،‬تبقى سلطتهم هذه‬

‫‪51‬‬
‫وسراب‪ .‬مل يذكر املسيح "رؤساء األمم"‪ ،‬بل "الّذين يُع ّدون رؤساء"‪ .‬والرؤساء احلقيقيّون هم تالميذ املسيح‬
‫طيفا َ‬
‫ً‬
‫ورسله وق ّديسو الكنيسة‪.‬‬

‫‪ ‬شهوة السلطة‬

‫دخلت سلُطات هذا العامل يف حياة الناس بعد فقدان الفردوس‪ .‬السلطات عاقبةُ السقوط‪ ،‬غري أ ّن هللا‬ ‫ْ‬
‫فقد ارتباطَه ابهلل‪ .‬ما ِم ْن سلطة "إالّ من عند هللا"(رو‪:13‬‬ ‫ألَنا ضروريّة من أجل أتديب اجملتمع الّذي َ‬
‫ابرَكها‪ّ ،‬‬
‫اآلخرين‪ ،‬هو‬ ‫يسيطر على َ‬
‫َ‬ ‫دليل العبوديّة الداخليّة‪َ .‬من يريد أ ْن‬
‫اآلخرين ُ‬
‫‪ ،)1‬فيما شهوة التسلّط والسيطرة على َ‬
‫يتحرُر اإلنسان داخليًّا من سيطرةِ األهواء ابلصالة وحفظ‬
‫وتكشف لنا خربةُ الق ّديسني أنّه بقدر ما َّ‬
‫ُ‬ ‫عب ٌد داخليًّا‪.‬‬
‫حريةَ الناس‬
‫ُيرتم كثرياً ّ‬ ‫وم ِّ‬
‫تحرراً من أتثريات احمليط‪ُ .‬‬ ‫آلخرين ُ‬
‫رهف اإلحساس يف عالقاته اب َ‬
‫يصبح ُم َ‬
‫وصاّي املسيح‪ُ ،‬‬
‫اآلخرون‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وُيزن من األعماق عندما يُبطلُها َ‬
‫الّذين يُعاشرهم‪َ ،‬‬

‫‪" ‬فال يكون هكذا فيكم"‬

‫أصبح "عبداً" ابختيا ِره هو‬


‫وم ْن َ‬‫نفسه "خادماً" للجميع هو "عظيم"‪َ ،‬‬ ‫جعل َ‬‫كل َم ْن َ‬‫ابلنسبة إىل املسيح‪ُّ ،‬‬
‫أيت لِيخدم بل لِي ِ‬
‫خد َم"(مر‪ .)45 -10‬يف‬ ‫َ‬ ‫احلقيقي إذاً‪ ،‬هو َمن يقتدي ابملسيح الّذي "مل ِ ُ ْ َ‬
‫ّ‬ ‫"األول"‪ .‬فالرئيس‬
‫َّ‬
‫املسيح‬
‫ُ‬ ‫احلقيقية الّيت ختدم الناس بروح التواضع واحملبّة‪ .‬لقد حطّم‬
‫ّ‬ ‫أقو ِال املسيح هذه تتّ ُ‬
‫صف أخالقيّة السلطة‬
‫عرب‬
‫يتوجه َ‬‫صنم السلطة الدنيويّة‪ُ ،‬معلنًا مصلوبيّة الكنيسة‪ .‬وبقوله "ال يكون هكذا فيكم"(مر‪ّ ،)43 -10‬‬ ‫َ‬
‫مسل َككم مرسوم يف الصليب‪ .‬ليس فيه ميزة دنيويّة وال‬
‫يقول هلم إ ّن ْ‬
‫تالميذه إىل أعضاء الكنيسة كافّة‪ .‬وكأنّه ُ‬
‫اآلخرين‪.‬‬
‫أجل َ‬‫نفوذ‪ ،‬بل فيه ّقوةُ القيامة‪ .‬هو احملبّة املصلوبة من ِ‬

‫روح اخلدمة والتواضع‬


‫حوهلا إىل ِ‬
‫اآلخرين‪ ،‬ولْنُ ّ‬
‫فْلنصلب حنن أيضاً ّي إخويت الرغبةَ األثيمة يف التسلّط على َ‬
‫جمد القيامة ِ‬
‫بنعمة هللا‪ .‬آمني‪.‬‬ ‫نشرتك يف ِ‬
‫واحملبّة‪ ،‬وهكذا ُ‬

‫‪52‬‬
‫أح ُد الشعانني(يو‪)18-1 :12‬‬

‫الشعب املُتقلِّب‬

‫ف النَّخْ ِل وَخَرَجُوا ِلِلقَ ِائِه‪"...‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬


‫"‪...‬مسعَ اجلمعُ أ ََّن يَسُوعَ آت ِإ َىل أُورُشَليمَ‪ ،‬فَأَخَ ُذوا سُعُ َ‬
‫فالشعب الّذي‬ ‫إ ّن اهلتاف "أوصنّا ُمبارك اآليت‪ُ "...‬مرتبط يف ذاكرةِ الكنيسة بصرخة "اصلُْبهُ‪ ،‬اصلُْبهُ"‪ّ .‬‬
‫ُيكم عليه ابملوت‪ ،‬بعد ّأّيٍم قليلة‪ ،‬ألنّه‬‫املسيح اليوم هبتافات الظّفر‪ ،‬ويزعزعُ مدينةَ أورشليم‪ ،‬سوف ُ‬
‫َ‬ ‫يستقبل‬
‫ُ‬
‫بشخص يسوع املسيّا اآليت‪ ،‬بينما مل يُِرْد الرؤساء‬
‫ِ‬ ‫اعرتف عن بساطة‬
‫َ‬ ‫ابن هللا"(يو‪ .)7 :19‬فالشعب‬ ‫نفسه َ‬
‫"جعل َ‬‫َ‬
‫مبوت لعازر‪ ،‬متّخذين حرفيّةَ الناموس سنداً ِألهوائهم‪،‬‬
‫حسدهم‪ .‬ما زالوا يف ِّكرون ِ‬‫بسبب ِ‬ ‫ِ‬ ‫العميان أن يؤمنوا به‬
‫آمن كثريون من اليهود ابملسيح‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ألنّه بسبب قيامته َ‬
‫الشعب يهتف‪ ،‬والرؤساء يقولون للمسيح‪،‬‬ ‫وجت ُّه ِم الرؤساء ِ‬
‫وقلقهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫إ ّن هتاف الشعب ابملسيح يتضارب ََ‬
‫"أتسمع ما يقول هؤالء؟" فيسمعون منه هذا اجلواب "نعم‪ ،‬أما‬ ‫وهم م ْغتاظون ومنزعجون ِ‬
‫حبجة تع ّدي الناموس‪ْ :‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫؟"(مت‪ .)16 :21‬هتافات الشعب كانت هي التّسبيح‬ ‫أت تسبيحا ّ‬ ‫ضع هيّ َ‬ ‫قرأمت ُّ‬
‫قط‪ :‬من أفواه األطفال والر ّ‬
‫لكن بساطة الشعب‬ ‫حليب الشريعة املوسويّة كما ليخدعوا املسيح‪ .‬و ّ‬
‫َ‬ ‫الّذي خر َج من أفواه األطفال الّذين رضعوا‬
‫الرتبية ال ّدينيّة يف‬
‫الرعاية وإىل ّ‬
‫الشعب إىل ّ‬‫شر مل ترتبط مبعر ِفة اإلميان‪ .‬لقد افتقر ذلك ّ‬ ‫ِ‬
‫ابلنسبة إىل ال ِّ‬ ‫وطفوليّته‬
‫الفريسيّون معرفةً حقيقيّة‪ ،‬بل قيّدوه بتوصيات انموسيّة ال تُطاق التزمت حرفيّة‬
‫يؤمن له الكتبةُ و ّ‬ ‫األساس‪ .‬مل ّ‬
‫احلقيقي‪ ،‬وال عرف بوضوح‬
‫ّ‬ ‫صوت الراعي‬
‫َ‬ ‫وجوهره‪ .‬لذلك مل يكن قادراً على أ ْن ُمييَِّز‬
‫َ‬ ‫روحه‬
‫لت َ‬ ‫وج ِه ْ‬
‫الناموس َ‬
‫ط أهدافَه القوميّة بظهور املسيح وعملِه‪ .‬وهكذا َّ‬
‫اَنر وراءَ هوى الرؤساء‬ ‫ِ‬
‫شخص املسيح‪ .‬خل َ‬ ‫الكلمة النبويّة عن‬
‫البشري‪ ،‬إىل قتل املسيح ابلصْلب‪.‬‬ ‫الّذين حرفوا احلقيقة‪ ،‬وانقاد إىل أفظع جر ٍ‬
‫مية يف التاريخ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫الداخلي‬
‫ّ‬ ‫‪ ‬احلاجة إىل العمل‬

‫‪53‬‬
‫ُيرُره من ن ِري الرومانيّني‪ّ .‬‬
‫ولكن املسيح‬ ‫"ملك إسرائيل"‪ ،‬رئيسا ذا سلطة كونيّة سوف ِّ‬
‫ً‬ ‫الشعب ينتظر َ‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫ب أملَه بتلك األهداف القوميّة ذات املرمى القصري‪ .‬مل يكن الرومانيّيون املشكلة‪ ،‬بل اخلطيئة واملوت‪ ، .‬كان‬‫خيّ َ‬
‫املشكلة يف اإلنسا َن ابل ّذات‪ ،‬اليهودي واليوانين والروماين على السواء‪ .‬إنّه اإلنسان العائش يف القلق ِ‬
‫ومأزق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫نتائج‬ ‫ِ‬ ‫املوت‪ ،‬وهو جيهل اآلب السماوي‪ .‬فقد أتى املسيح إىل العامل لِ‬
‫يحمل على عاتقه َ‬ ‫يكشف له عن أبيه‪ ،‬ول َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫نور املعرفة احلقيقيّة واحلياة إبرسال‬ ‫ريفع طبيعتَنا إىل ِ‬‫ِ‬
‫عرش الثالوث الق ّدوس‪ ،‬ومينحنا َ‬ ‫ويغلب املوت‪ .‬أتى ل َ‬
‫َ‬ ‫اخلطيئة‬
‫الروح القدس‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كل إنسان‪ .‬ال‬ ‫وضع الشعب العرباينّ املُتقلّب هذا يؤّك ُد األمهيّة الكبرية لتنمية البذار اجليّدة الكامنة يف ِّ‬ ‫إ ّن َ‬
‫يدخل ميدا َن اإلميان‪.‬‬ ‫لكي‬ ‫الذات‬ ‫على‬ ‫ٍ‬
‫وعمل‬ ‫صحيح‬ ‫يكفي أ ْن يكون اإلنسان صاحلاً بطبيعتِه‪ُ .‬يتاج إىل ٍ‬
‫إرشاد‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫ب ّمنا‬‫ت وتنمو‪ ،‬تتطلّ ُ‬‫فبذار الفضائل كامنة فينا منذ "تكويننا"‪ّ .‬إَنا عطيّةُ هللا يف طبيعتنا‪ .‬ولكن‪ ،‬لكي تنبُ َ‬ ‫ُ‬
‫اختياران الذايتّ الصاحل‪ .‬إ ّن "ما هو على صورة هللا" موهوب لنا‪ .‬يبقى أن‬ ‫ب‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫احلرة لوصاّي هللا‪ ،‬تتطلّ ُ‬ ‫الطاعة ّ‬
‫الروحي‪،‬‬ ‫نكتسب ما هو "على مثاله"‪ ،‬عن طر ِيق اجلهاد الروحي‪ ،‬والتعاون بني حريتنا ِ‬
‫ونعمة هللا‪ .‬يف هذا اجلهاد‬
‫ّ‬ ‫ّّ‬ ‫ّ‬
‫ص يف أحد جماالت العلم يتطلّب‬ ‫ال ب ّد أن نتعلّم على ِ‬
‫التخص َ‬
‫ّ‬ ‫الروحيني يف الكنيسة‪ .‬إذا كان‬
‫ّ‬ ‫يد الق ّديسني وآابء‬
‫ِ‬
‫ومعرفة اإلميان‪ .‬يف هذه احلالة‪،‬‬ ‫التمرس على يد أساتذة خمُْتربين يرشدونه‪ ،‬فكم ابألحرى اكتساب احلياة‬ ‫ال ّدرس و ّ‬
‫أشد ضرورة‪.‬‬‫حضور املعلِّم امل ْستنري َّ‬
‫َ‬ ‫يبدو‬
‫ُ ُ‬
‫اإلرشاد‬
‫مشاكل ْ‬
‫ُ‬ ‫‪‬‬

‫قول إ ّن املشاكل الّيت تعرتض إرشاد الشعب كثرية ِّ‬


‫ومتنوعة‪ .‬سوف نشريُ إىل اثنتني منها قد‬ ‫هنا جيب ال َ‬
‫َ‬
‫األهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تكوان‬

‫ُيمل األساقفةُ وكهنةُ الكنيسة مسؤوليّةَ‬ ‫ِ‬


‫بشكل احلمالن"‪ ،‬أعين اهلراطقة‪ُ .‬‬ ‫دمر "للذائب‬
‫عمل املُ ّ‬
‫‪ -1‬ال ُ‬
‫الديين‪،‬‬ ‫التعليم‬ ‫عمل‬ ‫يف‬ ‫ة‬‫ترب‬ ‫خم‬
‫ُ‬ ‫كثرية‬ ‫ات‬‫شخصي‬ ‫م‬ ‫هل‬
‫َ‬ ‫حو‬ ‫وجيتمع‬ ‫الصعبة‪.‬‬ ‫الروحي‬ ‫د‬ ‫د‬
‫ّ‬ ‫التج‬ ‫إرشاد الشعب يف مسريةِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫‪54‬‬
‫انفتاح‬
‫تعرقل َ‬‫وهدف هذا العمل هو إبعاد العقبات اخلارجيّة والداخليّة الّيت ُ‬
‫ُ‬ ‫التبشريي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الرعائي‬
‫ّ‬ ‫عمل الكنيسة‬
‫تنظّم َ‬
‫اإلنسان على ِ‬
‫نعمة هللا‪ .‬ولكن إىل جانب هؤالء املسؤولني يف الكنيسة‪ ،‬يتأثّر شعبنا بعوامل أخرى كثرية غريبة عن‬
‫األرثوذكسيّة وعن تراثنا‪.‬‬

‫الشعب‪ُ ،‬متخ ّفني‬


‫َ‬ ‫احلقيقي‪ُ .‬ياولون أ ْن يرشدوا‬
‫ّ‬ ‫هؤالء هم خمتلف اهلراطقة الّذين ال يُظ ِهرون دائماً وجههم‬
‫املؤمن عن جذع‬ ‫لكن رسالتَهم َّ‬
‫ضد اإلَنيل‪ .‬هدفُهم أن يَب ُرتوا َ‬ ‫الكتاب املق ّدس الّذي ميسكونه يف أيديهم‪ .‬و ّ‬
‫َ‬ ‫وراءَ‬
‫األرثوذكسية‪ ،‬وأن ُيملوا كل مسيحي مستع ّد لإلميان ولكن غري مث ّقف على خيانة ِ‬
‫جلسد املسيح‪ ،‬أي الكنيسة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ألَنم يقنعون الّذين يتبعوَنم أبن خيونوا ما يف نفوسهم من إميان صحيح‬
‫دور رؤساء إسرائيل‪ّ ،‬‬
‫يلعب اهلراطقة َ‬
‫ُ‬
‫الديين "هل هم من‬
‫إرشادان ّ‬ ‫خالصي‪ ،‬وأن يقتلوه‪ .‬من هنا احلاجة إىل "متيي ِز أرواح" الّذين يُريدون أ ْن ّ‬
‫يتعهدوا َ‬ ‫ّ‬
‫هللا"(‪1‬يو‪ .)1 -4‬وامل ْقياس هو عالقتُهم بيسوع اإلله واإلنسان القائم يف الكنيسة‪ .‬فإذا ساعدوان على االتّصال‬
‫"هم من هللا"‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫أسرارها‪ ،‬حينئذ ُ‬ ‫ابلق ّديسني وابلرعاة‪ ،‬وحبياة الكنيسة و ْ‬
‫لقبول إرشاد الرعاة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫استعداد غالبية الناس ِ‬ ‫‪ -2‬تكمن الصعوبةُ الكربى عند إرشاد الشعب يف عدم‬
‫ّ‬
‫فمن‬
‫وقد ينجم هذا عن أسباب كثرية‪ ،‬أمهُّها الشلل واملوت الداخليَّني‪ ،‬وموت الرغبات الروحيّة عند كثريين‪َ .‬‬
‫يشتهي أن ُييا يف الروح القدس يشعر حباج ٍة ماسة إىل م ٍ‬
‫رشد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ ّ ّ‬
‫إرشاد الكنيسة‪ ،‬فال حنكم ظلماً على شعب العربانيّني املتقلِّب‪ .‬جيب أن‬
‫ابلتايل‪ ،‬إذا مل نضع أنفسنا حتت ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫نعصى املعلّمني الكذبة‪ ،‬ونطيع تراث آابئنا الق ّديسني‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫أح ُد الفصح‬

‫(يو‪)17 -1 :1‬‬

‫القيامة وضمريُان‬

‫"كان يف العامل وكُوّن العاملُ به ومل يعرفْهُ العامل"‬

‫لب املسرية‬ ‫ِ‬ ‫فيما حنن متّشحون ٍ ٍ‬


‫عمق احلدث الّذي قَ َ‬‫نعيش َ‬‫بلبلس ّبراق يف عيد القيامة البهيج‪ ،‬حناول أ ْن َ‬ ‫ُ‬
‫مشوع القيامة يف أيدينا‪،‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫معىن حلياتنا‪ .‬لذلك نفر ُح‪ ،‬حاملني َ‬ ‫البشري‪ .‬فإ ّن قيامةَ املسيح تُعطي ً‬
‫ّ‬ ‫للجنس‬ ‫املأساويّة‬
‫يوم املعموديّة اجلماعيّة‬ ‫الفصح َ‬
‫ُ‬ ‫جرن الكنيسة‪ .‬يف الكنيسة األوىل كان‬ ‫بشموع معموديتنا يف ِ‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫وهي تذ ّكُِران‬
‫يوم اليعروه‬ ‫وبدخوهلم يف ٍ‬
‫ِ‬ ‫"بقيامة" املستنريين حديثاً من ِ‬
‫ماء جرن املعموديّة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ط قيامةُ املسيح‬ ‫للموعوظني‪ .‬وترتب ُ‬
‫ُْ‬
‫عيد القيامة إبعادةِ ِ‬
‫خلق العامل الّذي حت ّق َق يف‬ ‫سابق لليوم الثامن من اخللق‪ .‬يذ ّكُِران ُ‬
‫تذو ٍق ٍ‬‫مساء للده ِر اجلديد‪ ،‬يف ّ‬
‫ابن هللا احتاداً وثيقاً بطبيعتِنا‪ .‬وهكذا ّاختذت األلوهة نفس املسيح املصلوب َمركبةً‬ ‫شخص املسيح‪ .‬فقد ّاحت َد ُ‬ ‫ِ‬
‫وحرَر "املكبّلني منذ‬ ‫أبطل ّقوَة املوت‬ ‫حضور األلوهة يف اجلحيم‬ ‫أانرت ظلماته‪ .‬إ ّن‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫دخلَت هبا إىل مملكة اجلحيم و ْ‬
‫ُ‬
‫خاص‪.‬‬
‫سر املعموديّة بشكل ّ‬ ‫ط حبياتنا الشخصيّة عن طريق ِّ‬
‫الدهر"‪ .‬وهذا احلدث امل ْفرح يرتب ُ‬
‫ُ‬
‫حناول أ ْن نفعل ِ‬
‫نعمة املعموديّة املق ّدسة الّيت فينا‪ ،‬وعندما‬ ‫حنن نعيش معىن عيد الفصح األعمق عندما ُ‬
‫ّ‬
‫نور العامل احلاضر دائماً يف اخلليقة‪ -‬الّذي "كان يف العامل"‪ .‬هذه اهلبة تُ ْعطى لنا عندما‬ ‫ِ ِ‬
‫يصبح ملموساً لنفوسنا ُ‬
‫ُ‬
‫أحدا ال يعرف املسيح‪ ،‬حاكم هذا العامل وخالقه‪ ،‬إن مل ُُياول‬ ‫تبهو نفوسنا ِ‬
‫بثياب الفضائل املتّشحة ابلنور‪ .‬فإ ّن ً‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أ ْن يتشبه بفضائلِه‪ .‬أما القسم اآلخر من العامل "فلم يعرفْه"‪ .‬وترمز مشوع الفصح املضاءة إىل ِ‬
‫هباء النفس الّيت‬
‫ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫شيء‪ .‬الشموع هي كيانُنا الّذي‬ ‫لبِست املسيح ابملعمودية املق ّدسة‪ ،‬كما ترمز إىل نوِر املسيح الّذي ينري كل ٍ‬
‫ُ ُ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫اليعروه مساء"‪.‬‬ ‫يَ ْس ُّ‬
‫تمد نوراً "من النور الّذي ْ‬

‫‪ ‬األعياد مقياس املسرية الروحيّة‬


‫‪56‬‬
‫ألَنا تكشف لنا مسريتَنا‬ ‫ّنر هبا مرور الكرام‪ ،‬تولّد أزمات يف ضمريان‪ّ ،‬‬
‫أعياد كنيستنا‪ ،‬عندما ال ّ‬ ‫إ ّن َ‬
‫خبربتنا املباشرة يف كثري من‬
‫حتمل رسائل حلقيقة وجوديّة ال عالقة هلا ْ‬
‫الروحيّة‪ .‬تُظهر يف حياتنا اليوميّة عاملاً آخر‪ ،‬و ُ‬
‫نفقد معىن حياتنا‪.‬‬
‫حاد لشهواتنا‪ ،‬يف ضعف حياتنا الروحيّة‪ ،‬وأحياانً كثرية ُ‬
‫األحيان‪ .‬حنن قائمون يف تنازع ّ‬

‫الرقص‬
‫ائد الغنيّة‪ ،‬و َ‬ ‫املشوي‪ ،‬واملو َ‬
‫ّ‬ ‫اخلروف‬
‫البيض األمحر‪ ،‬و َ‬ ‫األلعاب الناريّة الفصحيّة‪ ،‬و َ‬
‫َ‬ ‫ولو طرحنا جانباً‬
‫توعبت اآلن‬ ‫والضوضاء‪ ،‬وأردان يف ِ‬
‫اس ْ‬ ‫قام‪ "...‬وحدها‪ ،‬أو "إ ّن الرباّي أبسرها قد ْ‬ ‫"املسيح َ‬
‫ُ‬ ‫هدوء املشاعر أ ْن نسمع‬
‫غري‬ ‫اب جتد معاين هذه التسابيح يف نفوسنا؟ هل جتد ذهنَنا دائخاً وغري م ٍ‬ ‫نوراً"‪ ،‬تُرى أي جو ٍ‬
‫أتهب دائم ليُ َّ‬
‫بال‪ ،‬يف ّ‬ ‫َُ‬ ‫ّ‬
‫ليشرب من احلقيقة الّيت يق ِّدموَنا له؟ أجتد قلبَنا خامالً ّيئساً من‬
‫َ‬ ‫تكل‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫موضوع انشغاالته‪ ،‬أم عطشاانً برغبة ال ّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫حد ابلتسابيح‪ ،‬ولكي يروي عطشه ابلرجاء‪ ،‬سيّما رجاء القيامة؟‬ ‫خالصه‪ ،‬أم قلبًا ُمهيّأً ليتّ َ‬

‫ولكن هذا اليعين أ ّن‬


‫التمرس يف اهلدوئيّة‪ّ .‬‬ ‫عندما نواجه معاين األعياد‪ ،‬تنشأ فينا األزمات الضمرييّة إثر ّ‬
‫الروحي‪ّ .‬إَنا الطريقة الّيت تُعيِّ ُد هبل ُّ‬
‫كل‬ ‫ّ‬ ‫الحتفالنا‬
‫معىن‪ .‬ميكننا القول ّإَنا نتيجة طبيعيّة ْ‬
‫"ضجة" األعياد ليس هلا ً‬ ‫ّ‬
‫ُّد اخلليقة‪ .‬فاملسيحيّون كلُّهم‪ ،‬األبرار والظاملون‪ ،‬الزاهدون واملس ِرفون‪ ،‬الصائمون وغري‬ ‫احملسوسات واحلواس لِتجد ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ٍ‬
‫ألَنم يشعرون‬ ‫العامة للناس وفاحتتُها‪ .‬رّمبا ّ‬
‫خاصة‪ ،‬وهي سبب القيامة ّ‬ ‫الصائمني‪ ،‬يُعيِّدون لقيامة املسيح بطريقة ّ‬
‫ِ‬
‫بغض النظر عن إمياَنم وحياهتم‪.‬‬ ‫عامة للطبيعة البشريّة كلّها‪ .‬يستمت ُع فيها الناس كلّهم‪ِّ ،‬‬‫كلُّهم أب ّن القيامة هبة ّ‬
‫الفساد واملوت فسيَبطُالن‪ .‬طبعاً إ ّن الّذين مل يعيشوا يف‬
‫ُ‬ ‫سرتّد إىل هللا‪ّ .‬أما‬
‫فإ ّن طبيعةُ الكائنات كلّها سوف تُ ََ‬
‫قبل‬
‫نفوسهم من ُ‬‫ذاقتها ُ‬ ‫وآالمهم يف قيامتِهم‪ّ .‬أما اجلحيم الّيت ْ‬
‫ستستمر مشاكلُهم ُ‬ ‫ّ‬ ‫حياهتم وفقاً لِوصاّي املسيح‬
‫جحيمنا‬ ‫كل األمور الّيت ال تتعلّ ُق إبرادتنا‪.‬‬
‫وتسرتّد َّ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫فَسوف يعيشوَنا بعد ذلك أبجسادهم‪ .‬فإ ّن حمبّةُ هللا تصلح ْ‬
‫تعاكس حمبّةَ هللا‪.‬‬ ‫يت‬‫ل‬
‫ّ‬ ‫ا‬ ‫ادتنا‬
‫ر‬ ‫إ‬ ‫يف‬ ‫رة‬ ‫متج ِّ‬
‫ذ‬
‫ُ‬
‫"ضجةُ" عيد الفصح سببها بشرى إبطال املوت املْبهجة واجلامعة‪ّ .‬أما إذا انفصلَت عن معىن عيد‬
‫إذاً‪ّ ،‬‬
‫ُ‬
‫نفوسنا ابلشهوات الّيت تُ ْرضي أحاسيسنا اجلسديّة وحدها‪.‬‬
‫تقتل َ‬
‫ومميتة‪ُ .‬‬
‫الفصح تصري ُمزعجة ُ‬

‫‪57‬‬
‫احلقيقي‬
‫ّ‬ ‫التعيي ُد‬
‫‪ْ ‬‬

‫خيلق حزانً عند الرعاة وأعضاء الكنيسة الواعني‪ ،‬وهو جميءُ‬


‫احتفال الفصح الساطع الضياء فيه ظلٌّ ُ‬ ‫َ‬ ‫إ ّن‬
‫حشد كبري من املسيحيّني إىل "خدمة القيامة"(اهلجمة)‪ ،‬حني نُت ّممها خارج الكنائس‪ ،‬ليغادر معظمهم الكنيسةَ‬ ‫ٍ‬

‫اإلهلي‪.‬‬ ‫القيامة‬ ‫اس‬‫د‬‫ّ‬ ‫ق‬ ‫وإمتام‬ ‫‪،‬‬ ‫ر‬ ‫ح‬ ‫الس‬


‫َّ‬ ‫صالة‬ ‫متابعة‬‫عندما يدخل املوكب لِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫املسيح‪،‬‬ ‫اإلَنيلي إ ّن‬ ‫األول إلَنيل يوحنّا‪ ،‬يقول‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ويف قراءة إَنيل اليوم‪ ،‬وهي سبعة عشر آية من اإلصحاح ّ‬
‫كل إنسان أييت إىل العامل بصفته كلمةَ هللا‪" ،‬كان يف العامل وُك ِّون العاملُ به ومل يعرفه العامل"(يو‪:1‬‬
‫النور الّذي يُنريُ َّ‬
‫خالقه ولِريتب َ‬
‫ط‬ ‫يصف يف هذه اآلّيت مأساة اإلنسان كلَّها‪ ،‬وعجزه‪ ،‬أو ابألحرى‪ ،‬عدم استعداده لِ َ‬
‫يعرف َ‬ ‫‪ُ .)10‬‬
‫وخاصتُه مل تقبَ ْله"(يو‪ُ .)11 :1‬ميكنُنا‬ ‫خاصتِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫اإلَنيلي ُمتكلّماً عن جتس ّد املسيح‪ ،‬فيقول‪" :‬جاء إىل ّ‬
‫ُّ‬ ‫ويستمر‬
‫ُّ‬ ‫به‪.‬‬
‫نفسه للذين اليقبلونه‪ ،‬الّذين صلبوه يف النهاية‪ .‬ولكنّه يُعطي‬
‫املصلوبة‪ .‬أييت ويعطي َ‬
‫أ ْن نرى هنا حمبّةَ املسيح ْ‬
‫دم‪ ...‬بل من هللا"(يو‪.)13 :1‬‬ ‫أوالد هللا"(يو‪ ،)12 :1‬الّذين "ولدوا ليس من ٍ‬
‫الذين يَقبلونه ُسْلطاانً "أن يصريوا َ‬
‫ُ‬
‫لسر الشكر‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ابلعشاء الفصحي ِّ‬ ‫"خاصته"‬ ‫أصبحنا أنسباء املسيح ابملعموديّة‪ ،‬وأييت إلينا دائماً حنن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لقد ْ‬
‫عيش الفصح والتعييد له مها‬
‫اإلهلي من غري سبب‪ .‬فإ ّن َ‬
‫اس ّ‬ ‫ننكر قيامته وال نشرتك هبا عندما نبتعد عن الق ّد َ‬
‫وحنن ُ‬
‫اإلهلي‪ ،‬ويف األسرار الطاهرة‪ ،‬طبعا ال بداعي العادة‪ ،‬من دون التهيئة املناسبة‪ ،‬بل ابإلميان أ ّن‬
‫املُشاركة يف الق ّداس ّ‬
‫نعطش هلا يف صحراء الدهر احلاضر‬ ‫ُ‬ ‫ودمه مها " دواء اخللود"‪ .‬هذه هي احلياة احلقيقيّة الّيت‬
‫جسد املسيح َ‬
‫َ‬
‫القاحلة‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫أحد توما‬

‫(يو‪)31 -19: 20‬‬

‫من اجلحود إىل اإلميان‬

‫"أمّا توما‪...‬فلمْ يكن معهم"‬


‫إ ّن اجتماع تالميذ املسيح يف عشي ِة "أحد السبوت"‪ ،‬بعد الظهورات األوىل لِ ِ‬
‫قيامة املسيح‪ ،‬كان َجم َمع‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫وينقل إىل تالميذه اخلائفني‬ ‫ِ‬
‫اب م ْغلقة"‪ ،‬لكي يُؤّك َد قيامتَه َ‬
‫اإلجتماع أتى املسيح "واألبو ُ‬
‫ِ‬ ‫األول‪ .‬إىل هذا‬
‫الكنيسة ّ‬
‫عقل"‪ .‬املسيح حاضر دائماً يف كنيستِه‪" ،‬حيثما اجتمع اثنان أو ثالثة ابمسي فهناك‬ ‫كل ٍ‬ ‫"الفائق على ِّ‬
‫َ‬ ‫سالمه‬
‫َ‬
‫يفس ُرها‬ ‫ِ‬
‫أسباب غيابه ّ‬
‫ُ‬ ‫اجتماع الكنيسة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ولكن الرسول توما كان غائباً عن‬
‫وسطهم"(مّت‪ّ .)20 :18‬‬
‫ّ‬ ‫أكون يف‬
‫اآلابء الق ّديسون الّذين يقدرون أ ْن يروا عمل هللا من ِ‬
‫تفرد‬
‫لكل إنسان‪ .‬وكما نرى دائماً‪ّ ،‬‬ ‫الشخصيّة ِّ‬
‫خالل السرية ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫املسيح حمبّةً عميقة‪ ،‬وكان لَيب ُذل حياتَه من‬
‫َ‬ ‫أحب‬ ‫الرسول توما بطريقته ملواجهة آالم املسيح ِّ‬
‫املروعة واحلكم عليه‪َّ .‬‬
‫ت‬ ‫ِ‬
‫ثالث سنني ثبّ َ‬
‫اليومي ابملسيح لم ّدة َ‬
‫ّ‬ ‫أجله‪ ،‬ولكنّه أر َاد براهني َمْلموسة وحجج يفهمها عقله‪.‬وكما أ ّن اتصاله‬
‫املوت قد‬ ‫ِ‬
‫باشر ابملسيح القائم‪ ،‬لكي يؤمن أب ّن َ‬ ‫بشخصه وحمبَّ تَه له‪ ،‬هكذا احتاج إىل اتصال م َ‬ ‫يف داخله إميانَه‬
‫املوت إىل‬ ‫عُب‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫اح اآلالم يف اجلسد القائم‪ .‬يف آاثر املسامري‪ ،‬الّيت من خالهلا ََ‬
‫يلمس جر َ‬‫َ‬ ‫ضي عليه‪ .‬أر َاد أ ْن‬ ‫قُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُعطيت له‬
‫املوت ُمسيطراً عليها"‪ .‬ويف النهاية أ ْ‬
‫يبق ُ‬ ‫ش على حقيقة احلياة‪ ،‬حيث "مل َ‬ ‫جسد املسيح املصلوب‪ ،‬فتّ َ‬
‫وعرف حمبّةَ هللا‬
‫َ‬ ‫أصبح شاهداً للقيامة‬
‫نور األلوهة إىل نفسه‪َ .‬‬
‫عرب منه ُ‬
‫"آاثر املسامري" ابابً َ‬
‫أصبحت ُ‬
‫ْ‬ ‫هذه النعمة‪ ،‬ف‬
‫توصف حنو اإلنسان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الّيت ال‬

‫قصة "عدم إميان" الرسول توما‪.‬‬ ‫ولكن يبقى من املفيد أ ْن ننظر َّ‬
‫أبشد تدقيق يف ّ‬

‫‪59‬‬
‫اجتماع الكنيسة‬
‫ِ‬ ‫حاضر يف‬
‫ٌ‬ ‫املسيح‬
‫ُ‬ ‫‪‬‬

‫اجتماع التالميذ وانفصل عن إخوتِه‪ .‬وُميكننا القول بلغة اليوم إنّه كان غاب عن‬ ‫ِ‬ ‫الرسول عن‬
‫ُ‬ ‫غاب‬
‫سر الشكر‬ ‫اجتماع الكنيسة يف ِّ‬
‫ِ‬ ‫ُيصل مع الّذين يغيبون عن‬ ‫ث له ما‬
‫فح َد َ‬
‫الكنيسة‪ ،‬أي عن اجتماع املؤمنني‪َ .‬‬
‫ُ‬
‫ودمه يف ِّ‬
‫كل‬ ‫جبسده ِ‬‫سبب أو حلج ٍة اتفهة‪ .‬هؤالء ُيرمون أنفسهم حضور املسيح احلقيقي‪ .‬فاملسيح حاضر ِ‬ ‫بدون ٍ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫"املادّين" الوحيدان‬ ‫ودمه احلقيقيَّني مها العنصران‬ ‫اس إهلي‪ .‬إ ّن اخلبز واخلمر اللّ َذين يتحوالن إىل ِ‬
‫جسد املسيح ِ‬ ‫ق ّد ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫املسيح بكاملِه ‪ -‬طبيعة الكلمة البشريّة‪ .‬وبسبب ّاحتادمها ابألقْنوم الثاين‬
‫ُ‬ ‫ألَنما‬ ‫الّلذان نق ِّد ُم هلما سجوداً ًّ‬
‫عبادّي‪ّ ،‬‬
‫للثالوث الق ّدوس‪ ،‬مها ينبوع ِ‬
‫نعمة هللا‪.‬‬

‫ولبث غارقاً يف شكوكِه‬ ‫حضور املسيح‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫نفسه‬


‫حرم الرسول توما َ‬ ‫اجتماع التالميذ‪َ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫يف ابتعاده عن‬
‫ابجتماع املؤمنني يف الرعيّة‬
‫ِ‬ ‫ُيصل للّذين يعيشون حيا ًة "مسيحيّة" ال عالقة عضويّة هلا‬ ‫ُ‬ ‫األمر نفسه‬
‫واضطراابته‪ُ .‬‬
‫ألَنم اليقدرون أن يؤمنوا أبمور‬‫سر الشكر‪ .‬فأقو َال الق ّديسني وخرباهتم عليها عالمةُ استِ ْفهام ابلنسبة إليهم‪ّ ،‬‬ ‫و ِّ‬
‫سر الكنيسة‪ ،‬فيعرتفون خبربهتم األساسيّة من‬ ‫حضور املسيح الدائم يف ِّ‬
‫َ‬ ‫خارج خربهتم‪ّ .‬أما ق ّديسو هللا العائشون‬
‫وخيلق‬ ‫ِ‬
‫قول الق ّديسني هذا يرفضه بعض الناس كأنّه غريب عن الواقع‪ُ ،‬‬ ‫الرب"‪ُ .‬‬
‫خالل تعليمهم وحياهتم‪" :‬قد رأينا َّ‬
‫عند بعضهم اآلخر اعرتاضاً م ْقلِقاً‪" :‬إ ْن مل أ ِ‬
‫ُبصر‪...‬ال أؤمن"‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫للدخول‬ ‫كتفتيش يقود إىل "خربةٍ" مباركة‬
‫ٍ‬ ‫استمر‬
‫َّ‬ ‫يبق هذا االعرتاض عند حدود الفك ِر‪ ،‬بل‬ ‫ولكن إذا مل َ‬
‫اض الرسول توما‪ .‬هكذا‪" ،‬بعد مثانيّة ّأّيٍم"‬ ‫ٍ‬
‫الكامل يف حياة الكنيسة‪ ،‬عندئذ يؤول إىل النتيجة الّيت أحدثَها اعرت ُ‬
‫طلب "التلميذ غري املؤمن"‪ .‬إ ّن الطلبات الصادقة‬ ‫فيما التالمي ُذ جمتمعون اثنيّةً "وتوما معهم"‪ ،‬أتى يسوع وأجاب َ‬
‫محل نري وصاّي املسيح اخلفيف‪.‬‬ ‫ب حزماً وشجاعة يف ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫اجلريئة تنال الربكة‪ .‬عندئذ ال تُفهم اجلرأةُ كوقاحة‪ ،‬بل ُحت َس ُ‬
‫املنطق اجلسداينّ‪.‬‬
‫تغلب َ‬ ‫هي نكران ال ّذات الّذي يَشفي َ ِ‬
‫القوة الروحيّة الّيت ُ‬
‫ب الذات‪ ،‬و ّ‬ ‫مرض ُح ّ‬

‫‪60‬‬
‫‪ ‬احلاجة إىل التهيئة‬

‫مرةٍ؟ وفْقاً‬ ‫سبب دبر هللا أن يغيب الرسول توما عن دائرةِ التالميذ‪ ،‬عندما زارهم املسيح ِ‬
‫ألول ّ‬
‫ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫ألي ٍ ّ‬‫تُرى ّ‬
‫مهيأً لقبول حضور املسيح‬
‫غاب عن اجتماع التالميذ ألنّه مل يكن ّ‬ ‫لتفسري الق ّديس غريغوريوس ابالماس‪ ،‬لقد َ‬
‫ظهور املسيح اجلديد يف‬ ‫الناهض من بني األموات‪ .‬كان ٍ‬
‫حباجة إىل هتيئة ما‪ ،‬إىل أم ٍر‬
‫سبقت َ‬ ‫األّيم اليت َ‬
‫حصل يف ّ‬
‫َ‬
‫معا‬
‫وإّي ُهم هيّأا ً‬
‫الرب"‪ ،‬ابإلضافة إىل تفتيش اجلراح ّ‬
‫اآلخرين بتوما "قد رأينا َّ‬
‫هتاف التالميذ َ‬
‫اجتماع التالميذ‪ .‬إ ّن َ‬
‫يصبح شاهداً للقيامة‪.‬‬ ‫تربةَ ِ‬
‫نفس توما اخلَصبَة‪ ،‬وجعاله قادراً أ ْن َ‬
‫وحدهم‪ ،‬أي‬ ‫ِ ِ‬ ‫وقد يتولّ ُد يف ِ‬
‫املسيح بعد القيامة لتالميذه َ‬
‫ُ‬ ‫ظهر‬
‫"العام" سؤال ُمفيد هو التايل‪ :‬ملاذا َ‬
‫املنطق ّ‬
‫يكشف ألوهتَه‬ ‫حّت‬ ‫للّذين يقبلونه دون سواهم؟ أمل يكن ليندهش الناس أكثر لو حضر ٍ‬
‫َ‬ ‫"بقوة" إىل صالبيه‪ّ ،‬‬ ‫َ ّ‬
‫حضور املسيح واستعالنَه مها دينونة للعامل‪ ،‬ويصريان جحيماً لِغري األنقياء وغري املتهيّئني‪ .‬فمحبّةُ‬
‫َ‬ ‫للجميع؟ إ ّن‬
‫ُ‬
‫نوره سوف ُيرقُهم‪ .‬هذه الدينونة وهذا اهلالك أيتيان كنتيجة‬ ‫املسيح للبشر ُختفيه عن مضطهديه وصالبيه‪ ،‬أل ّن َ‬
‫حلضوِر املسيح الثاين امل َّ‬
‫مجد‪.‬‬
‫ُ‬
‫وهذه النقطة ابلذات توضحها جليًّا حادثة ظهوِر املسيح للوقا و ّ‬
‫كليواب‪ ،‬عندما كاان ذاهبني إىل عمواس‪.‬‬
‫ومجيع‬
‫دخل يف النقاش‪" ،‬مثّ ابتدأَ من موسى ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كت أعينُهما عن معرفته"‪َ .‬‬ ‫"كان يسوع ميشي معهما"‪ ،‬ولكن "أُمس ْ‬
‫ميكث معهما‪،‬‬ ‫قلوهبما عندما مسعاه‪ ،‬فأحلّا أ ْن‬
‫ختصة به"(لو‪ .)27 :24‬التهبت ُ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫األمور املُ ّ‬
‫َ‬ ‫فس ُر هلما‬
‫األنبياء يُ ّ‬
‫حت أعينُهما وعرفاه‪ .‬إذاً كان ينبغي أن يعلّمهما بدءًا‬‫كسَر انوَهلما"(لو‪ ،)30 :24‬فانفتَ ْ‬
‫وعندما "أخ َذ خبزاً و ّ‬
‫القائم‪.‬‬ ‫النعمة إىل ِ‬
‫مبوسى واألنبياء‪ ،‬وأن تتسرب انر ِ‬
‫املسيح َ‬ ‫َ‬ ‫قادرين على رؤّي‬
‫قبل أن يصبحا َ‬
‫َ‬ ‫ما‪،‬‬‫قلوهب‬ ‫َّ ُ‬

‫اجتماع التالميذ‪ ،‬بعد ان هتيّأ لإلعالن العظيم‪ ،‬قَبِ َل َ‬


‫افتقاد املسيح له‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫فعندما حضر الرسول توما يف‬
‫اجتماع الكنيسة حقيقةَ القيامة‪.‬‬ ‫حّت نعيش يف‬ ‫ِ‬
‫ِ‬ ‫شدان إىل معىن اإلستعداد أبقوال "خربة اآلابء العارفني"‪ّ ،‬‬
‫وهكذا ْأر َ‬
‫آمني‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫أح ُد حامالت الطيب‬

‫(مر‪)8 -1 :16 ،47 -43 :15‬‬

‫الشجاعة واخلوف‬

‫تالميذه ِولبطرس"‬
‫"اذهنب وقُلْن ِل ِ‬
‫ْ‬
‫ط‬ ‫اليقدر أن يغلب اخلوف‪ ،‬أل ّن احلساابت املستندة إىل احلواس اخلمس ِّ‬
‫حترُكه‪ .‬فهو يرتب ُ‬ ‫ُ‬ ‫املنطق البارد‬
‫إ ّن َ‬
‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫اخلوف ابستمرا ٍر‪ .‬هذا ال يقدر أن َ‬
‫يقود إىل‬ ‫القلق و ُ‬ ‫مبعرفة هذا العامل‪ ،‬لذلك يرى أخطاراً يف ِّ‬
‫كل مكان ويتملّ ُكه ُ‬
‫احلي‪ ،‬فعلى‬ ‫ٍ‬
‫املنطق لإلميان ّ‬
‫أخضع َ‬‫َ‬ ‫تلهمه نعمةُ هللا والّذي‬
‫قرارات شجاعة‪ ،‬وال إىل أعمال كبرية‪ّ .‬أما القلب الّذي ُ‬
‫كل احلاالت‪ .‬ال يتأثّر من‬ ‫لكل اخلليقة ويف ِّ‬
‫يعيش حضرةَ هللا وحمبّ تَه ِّ‬
‫يعرف ماذا يعين اخلوف‪ُ .‬‬
‫العكس‪ ،‬ال ُ‬
‫بغض العامل‪ .‬يعيش يف تواضع عميق ويف ٍ‬
‫سالم ال يتزعزع‪ ،‬أل ّن حمبّةَ هللا ومعرفة قدرته‬ ‫األحوال املعاكسة‪ ،‬وال من ِ‬
‫ُ‬
‫التكرب والثقة ابلنفس اململوءة ابلغرور‪َ .‬من يعتمد على‬ ‫ِ‬
‫حصناه بفضيلة الشجاعة‪ .‬فاخلوف هو نتيجة ّ‬
‫املطلقة قد ّ‬
‫قوي ويتباهى فقط عندما يكون خار َج الصعوابت‪ .‬ولكنّه ابملقابل‪ ،‬يف األخطار‪ ،‬وغالباً‬
‫يشعر أبنّه ٌّ‬
‫نفسه وحدها‪ُ ،‬‬
‫يد‬
‫اخلوف حالة طبيعيّة يف اإلنسان الّذي يواجه َوع َ‬
‫ُ‬ ‫يفقد شجاعتَه وينسى ّادعاءاته املتباهية‪.‬‬ ‫يف أتفه األمور‪ُ ،‬‬
‫لصوصي‪.‬‬ ‫هوى‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫هوى قاتل أو ً‬ ‫فس َد ضمريُهم من جرى ً‬ ‫املوت عارًّي من نعمة هللا‪ ،‬ابستثناء َم ْن َ‬
‫عما‬ ‫ابلنسبة إىل حياةِ‬
‫ِ‬
‫نسكي انفع جدًّا‪ ،‬يساعد القلب على االنفصال ّ‬
‫ّ‬ ‫س‬‫متر‬
‫ّ‬ ‫هي‬ ‫املوت‬ ‫خمافة‬
‫ُ‬ ‫الكنيسة‬
‫مثال‬
‫الروحي‪ .‬وخري مثال على ما قلناه هو ُ‬ ‫ِ‬
‫اجلهاد‬ ‫قوي يف‬
‫ّ‬ ‫فسده‪ ،‬وعلى االلتصاق بوصاّي هللا‪ .‬إنّه سالح ّ‬ ‫يُ ُ‬
‫خاصا مع يوسف ونيقودميوس والرسول بطرس‪.‬‬ ‫حامالت الطيب‪ ،‬اللوايت ِّ‬
‫تكرمهن كنيستُنا اليوم بشتكرميًا ًّ‬

‫حامالت الطيب والرسول بطرس‬


‫ُ‬ ‫‪‬‬

‫‪62‬‬
‫بالني ابملخاطر اخلارجيّة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هن‪ ،‬مل يُ َ‬ ‫أضرم نفوس ّ‬‫هن مندفعات ابلشوق الّذي َ‬ ‫إ ّن حامالت الطيب‪ ،‬فيما ّ‬
‫منطقهن بل إىل ِ‬ ‫دهن جسده امليت ابلطيب‪ .‬مل يصغني إىل ِ‬
‫قلوهب ّن‪ ،‬الّيت متلّكتها حمبّةُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫فأتني إىل ق ِرب يسوع لكي يَ َّ َ‬
‫وهن فرحات"‪ .‬هكذا‬ ‫ٍ‬
‫وهن ابكيات‪" ،‬سج ْدن له‪ ،‬إهلاً حيًّا‪ّ ،‬‬ ‫املسيح‪ .‬ويف النهاية‪ ،‬ذاك الّذي ُك ّن يطْلبنه كمائت ّ‬
‫بقيامة املسيح‪ .‬كانت لديهن احملبّة الغالبة املوت‪ ،‬احملبّة الّيت ال تسكن إالّ‬ ‫ات ِ‬ ‫بشرات للرسل‪ ،‬وأوَل كارز ٍ‬ ‫أصبحن ُم ِّ‬
‫ّ‬
‫أين احليا َة احلقيقيّة يف املسيح ويف‬ ‫يف ِ‬
‫ألَن ّن ر َ‬
‫اهلن"(لو‪ّ ،)3 :8‬‬ ‫املسيح "من أمو ّ‬‫َ‬ ‫قلوب املتواضعني‪ .‬لقد َخ َد ْم َن‬
‫يقني القيامة‪،‬‬
‫يعرفن َ‬ ‫هبن إىل اإلعراض عنه وكأنّه مضلٌّ‪ .‬وقبل أن َ‬ ‫هن موتُه‪ ،‬ولكن مل يَ ُؤ ْل ّ‬ ‫زعزع ّ‬
‫كالمه‪ .‬لقد َ‬
‫اجلسدي‪ .‬لقد فَ ِه ْم َن أ ّن احليا َة احلقيقيّة‬ ‫املنطق‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫هن للجسد املائت‪ .‬هذا يعين ّأَن ّن جتاوزن العاملَ و َ‬ ‫استمررن يف خدمت ّ‬
‫ْ‬
‫هلن معرفةُ قيامة‬ ‫ُعطيت ّ‬‫البيولوجي لإلنسان‪ ،‬كما نعرفُها اآلن‪ .‬وإىل ذلك‪ ،‬أ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ليست يف احملافظة على الكيان‬ ‫ْ‬
‫أين املسيح املصلوب قائما‪.‬‬
‫األجساد ابخلربة‪ ،‬فقد ر َ‬
‫ووصل أىل ح ِّد إنكار املسيح‪ ،‬وهو التلميذ‬
‫َ‬ ‫هوةِ الثقة ابلنفس‪،‬‬
‫ط بطرس الرسول يف ّ‬ ‫من جه ٍة أخرى‪ ،‬سق َ‬
‫ليلة اعتقالِه‪" :‬كلُّكم تش ّكون َّ‬
‫يف يف هذه الليلة"‪ ،‬مل يردك‬ ‫قال املسيح لِتالميذه يف ِ‬
‫فائقا‪ .‬وعندما َ‬
‫الّذي أحبَّه حبًّا ً‬
‫شك فيك اجلميع‬
‫عرتض قائالً‪" :‬إ ْن َّ‬
‫اآلخرين‪ ،‬فا َ‬
‫نفسه عن التالميذ َ‬
‫النبوي‪ ،‬بل ميّ َز َ‬
‫ّ‬ ‫الرب‬
‫كالم ّ‬
‫بطرس الرسول َ‬
‫الأشك أبداً" (مّت‪ .)33 :26‬لقد ارتبط شغفه للمسيح بثقتِه املطلقة ِ‬
‫بنفسه‪ .‬ولكن ملا اشت ّدت وطأة‬ ‫ُّ‬ ‫فأان‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الأعرف املسيح)‪.‬‬
‫ُ‬ ‫"(مّت‪ ،72 :26‬أي‬
‫الرجل ّ‬ ‫املسيح بقس ٍم ّ‬
‫إين مل أرى َ‬ ‫َ‬ ‫"أنكر‬
‫وصل إىل ح ّد أنّه َ‬
‫الصعوابت‪َ ،‬‬
‫هلن ‪" :‬اذهنب وقْلن‬
‫املالك الّذي كرز حلامالت الطيب ابلقيامة يقول ّ‬ ‫نسمع يف قراءةِ إَنيل اليوم َ‬
‫ُ‬ ‫مثّ‬
‫ِ‬
‫حلامالت الطيب‬ ‫شف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لتالميذه ولبطرس‪ ،‬أنّه يسبقكم إىل اجلليل‪ .‬هناك ترونه‪("...‬مر‪ .)7 -16‬هكذا َك َ‬
‫الباسالت أ ّن هللا قبل توبةَ الرسول بطرس‪ ،‬الّذي جنب أمام فتاة‪ .‬وعندما تب ّدلت ثقته ِ‬
‫بنفسه ابلتواضع‪ ،‬وغرقَت‬ ‫ُ‬ ‫َ ََ َ‬ ‫َ‬
‫صبح فيما بعد كارزاً جريئاً لإلَنيل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫رجع إىل تالميذ املسيح لكي يُ َ‬
‫املرة‪َ ،‬‬
‫دموع التوبة ّ‬
‫عجرفتُه ب ِ‬

‫‪63‬‬
‫واحلرية‬
‫‪ ‬العبوديّة ّ‬
‫هن‬
‫هبن‪ .‬مل تتأثّر حمبّ تُ ّ‬
‫رهن من األوضاع الصعبة احمليطة ّ‬
‫تحر ّ‬
‫ظهر ب ُّ‬
‫إ ّن عظمة النساء حامالت الطيب تَ ُ‬
‫احلرية واإلستقالليّة‪،‬‬
‫منحته َّن ّ‬
‫ُ‬ ‫شجاعتهن‬
‫ّ‬ ‫الفريسيّني ورؤساء إسرائيل له‪.‬‬ ‫للمسيح مبوتِه األليم‪ ،‬وال ِ‬
‫ببغض الكتبة و ّ‬
‫ارسه علينا بيئتنا‪ ،‬مثّ كيف‬
‫القوي الّذي مت ُ‬
‫األثر ّ‬
‫فسنحت لنا الفرصة أن نلقي نظرة سريعة إىل َ‬
‫وسط احلزن الكبري‪َ ،‬‬
‫تطور حياتنا الروحيّة‪.‬‬
‫ينعكس على ّ‬
‫ِ‬
‫"ملك اخلليقة" عبداً للمخلوقات‪ .‬فالعا َملُ‬
‫خضوعه لبيئته‪ ،‬وقد أمسى ُ‬
‫ُ‬ ‫سقوط اإلنسان هي‬ ‫أهم عواقب‬
‫إ ّن ّ‬
‫هاما يف هذه العبوديّة‪.‬‬
‫تلعب دوراً ًّ‬
‫اس ابإلمساك‪ُ ،‬‬
‫نلجم احلو َّ‬
‫نفس اإلنسان بقبضة األهواء‪ .‬وإذا مل ُ‬
‫خينق َ‬
‫اخلارجي ُ‬
‫ّ‬
‫حريةٌ للنفس‪.‬‬
‫احلواس هو ّ‬
‫ّ‬ ‫احلواس تقيي ٌد للنفس‪ ،‬كما على العكس‪ ،‬تقيي ُد‬
‫ّ‬ ‫حريةَ‬
‫يرد يف للفيلوكاليا أ ّن ّ‬
‫يوجه ذهنه حنو هللا يف‬
‫احلرية أو على العبوديّة هو الصالة‪ .‬فاستطاعة اإلنسان أن ّ‬
‫وأحد املقاييس لالستدالل على ّ‬
‫حريتِه الداخليّة‪ .‬هذا يعين أن اإلستقالليّة عن احمليط شرط من شروط‬ ‫أي ٍ‬
‫تدل على ّ‬‫ظرف‪ ،‬عن طريق الصالة‪ّ ،‬‬
‫نفسه بنفسه‪ .‬يضيع يف األفكا ٍر واهلواجس‪ ،‬وال يدع ذهنَه‬ ‫ِ‬
‫كل َمن "يتأثّر" ابلظروف اخلارجيّة ال يقود َ‬
‫الصال َة‪ُّ .‬‬
‫حرا ليتن ّفس عن طر ِيق الصالة‪.‬‬
‫ًّ‬
‫ِ‬
‫فضيلة الشجاعة‬ ‫تستند إىل‬
‫احلرية احلقيقيّة‪ ،‬الّيت ُ‬ ‫ِ‬
‫إن حامالت الطيب والرسول بطرس يقودوننا إىل طريق ّ‬
‫ط"‬
‫مي‪ ،‬احملبّة والتواضع مها "راب ُ‬ ‫َ َّ‬
‫املسيح وحتلوا بتواضع عميق‪ .‬وحبسب الق ّديس يوحنّا السلّ ّ‬ ‫الروحيّة‪ .‬لقد أحبّوا‬
‫اخلوف‪ ،‬بينما التواضع العميق‬ ‫تغلب‬ ‫الفضائل‪ ،‬حيث إ ّن الواحدة تَرفع‪ ،‬واألخرى تضب ُ ِ‬
‫َ‬ ‫ط ما ُرف َع‪ .‬فاحملبّةُ احلقيقيّة ُ‬ ‫ُ‬
‫يعتق من قيود االعتداد ابل ّذات‪ .‬وكالمها جيعل من اإلنسان عامالً ُشجاعاً لِ ِ‬
‫مشيئة هللا‪.‬‬ ‫ُ ُ‬

‫‪64‬‬
‫أح ُد املُخلّع‬

‫(يو‪)15-1 :5‬‬

‫شلل النفس‬
‫ُ‬
‫"أتريد أ ْن تربأ‪ ...‬ليس يل إنسان"‬

‫جيلس على سري ِره جامداً‪ ،‬بال حر ٍاك‪ ،‬وال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اقتنع أبنّه ليس لمشكلته خمرج‪ُ .‬‬ ‫املُخلّع يف إَنيل اليوم إنسان َ‬
‫جيده املسيح على هذه حلال‪ ،‬وله‬ ‫املالك ماءها‪ُ .‬‬
‫حرَك ُ‬‫وينزل يف الربكة ّأوالً مّت ّ‬
‫ع َ‬ ‫شلل اجلسد أن يُسر َ‬
‫يسمح له ُ‬
‫فيدخل‬ ‫ِ‬
‫للحصول عليه‪.‬‬ ‫سبيل له‬
‫ُ‬ ‫مثاين وثالثون سنة قابع جانب الربكة ّيئس‪ ،‬يَْب ُع ُد عن الشفاء رمية حجر‪ ،‬وال َ‬
‫املسيح معه يف حوا ٍر‪ ،‬ليعطيه فرصةَ التعبري عن أملِه‪ ،‬والبوح مبشكلتِه‪ُ .‬‬
‫يقول له‪" :‬أتريد أن تربأ؟" أمام سؤ ِال املسيح‬
‫يقول تلقائيًّا "نعم‪ّ ،‬ي رب"‪ ،‬بل يُ ْعرب ابألحرى عن سبب استحالة هذا الشفاء‪ّ" :‬ي رب‪ ،‬ليس يل‬
‫هذا‪ ،‬ال نراه ُ‬
‫حبجج املنطق‪ .‬فشفاؤه مستحيل‪ ،‬وهو‬
‫يتحرُك املاء"(يو‪ .)7 -5‬إنّه يدعم فقدان األمل ِ‬
‫َم ْن يلقيين يف الربكة عندما ّ‬
‫يصرب على‬‫ِ ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫القوَة وسط أيسه‪ ،‬ل َ‬
‫يستمد ّ‬ ‫ابت‬
‫أبرم تسويةً مع مشكلته‪ ،‬ومن هذه التسوية َ‬ ‫حي وميت‪ .‬هكذا َ‬ ‫بني ٍّ‬
‫ِ‬
‫جسده املخلّع‪.‬‬

‫الشفاء املرجتى من‬ ‫ويعطيه‬ ‫كإنسان‪،‬‬ ‫ه‬


‫سيزور‬ ‫ة‬ ‫الغنمي‬ ‫كة‬
‫الرب‬ ‫مياه‬ ‫يف‬ ‫الفاعل‬ ‫ذاك‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫ر‬‫يتصو‬‫ما كان املخلّع لِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫امش"(يو‪ .)8 -5‬وللحال‬ ‫يقة أخرى‪ .‬أما املسيح فأطاح ِ‬
‫بيأسه العقالين‪ ،‬وقال له‪" :‬قُم ِ‬
‫امحل سر َيرك و ِ‬ ‫الربكة بطر ٍ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫أعلن‬ ‫ِ‬
‫أظهر العجيبة جليًّا أمام اجلمع احملتشد‪ .‬وحبمله السرير على كتفيه‪َ ،‬‬
‫محل السر َير على َمنكبيه‪ ،‬و َ‬
‫تعاىف الرجل‪َ .‬‬
‫انعتاقَه من شلل اجلسد‪ ،‬ويف الوقت نفسه من شلل ِ‬
‫اليأس‪.‬‬

‫ننشغل بقصر النّظر عند اليهود‪ ،‬وعبادهتم احلَرفيّة للشريعة‪ ،‬ما جعلَهم يقولون‪" :‬إنّه سبت‪ .‬ال ُي ُّل‬
‫َ‬ ‫لن‬
‫جيد حججاً منطقيّة ليحطّ َم اإلنسان‪.‬‬
‫انتباهنا على اليأس الّذي ُ‬
‫حتمل سر َيرك"(يو‪ .)10 -5‬سنرّكز َ‬
‫لك أن َ‬

‫‪65‬‬
‫هجمات اليأس‬
‫ُ‬ ‫‪‬‬

‫ف على اإلنتباه‬
‫متنوعة وهو على أنواع ودرجات خمتلفة‪ ،‬تتوقّ ُ‬
‫حبجج ّ‬
‫قوي للشيطان‪ .‬يهامجنا ٍ‬
‫اليأس سالح ٌّ‬
‫ُ‬
‫ب لنا اليأس‪ ،‬أو ابألحرى إىل بعض احلوادث‬
‫واالهتمام اللّذين نوليهما ّإّيه‪ .‬سنشري إىل بعض العناصر الّيت تسبّ ُ‬
‫ليسيطر علينا‪.‬‬
‫َ‬ ‫اجملال‬
‫تفسح له يف َ‬
‫واحلاالت الّيت ُ‬
‫ف إىل ذلك‬ ‫أوالً‪ ،‬الصعوابت املعيشية‪ ،‬والضيقات‪ ،‬والفشل املهين‪ ،‬واألزمات االقتصادية والفقر‪ِ .‬‬
‫أض ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بشكل صحيح‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الرتمل والّتيتّم‪ .‬هذه كلُّها تُظلِ ُم اآلفاق يف وجهنا عندما ال نواجهها‬
‫املرض‪ ،‬واملوت‪ ،‬و ّ‬
‫ميرون هبذه الصعوابت‪ ،‬ينشأ يف‬ ‫ِ‬
‫ابإلميان والرجاء‪ ،‬فال نعود َند خمْرجاً‪ .‬وعندما ال يتوفّر َمن يش ّد ُد الّذين ّ‬
‫نفوسهم شعور شديد ابلوحدة‪ .‬خيتربون حب ّدةٍ كلمةَ املخلّع‪" :‬ليس يل إنسان"‪ .‬طبعاً اإلنسان الّذي مل‬ ‫ِ‬
‫املهين وجين‬ ‫ِ‬
‫َناح حياته مقتصراً على َناحه ّ‬ ‫ُيصر حياتَه يف النطاق الضيّق للحياة البيولوجيّة‪ ،‬ومل جيعل َ‬
‫بسهولة هبذا النوع من اليأس‪ .‬قد يتخبّط يف العاصفة كإنسان‪ ،‬ولكنّه ال خيتنق يف أمو ِاج‬ ‫ٍ‬ ‫املال‪ ،‬ال يُصاب‬
‫األفكار‪.‬‬

‫سمى وجوديّة‪ ،‬أعين األزمات النفسيّة الّيت يُعانيها أانس لديهم إحساس مرهف حنو‬ ‫اثنيًا‪ ،‬املشاكل الّيت تُ ّ‬
‫يهمهم اإلميان إذا مل يرتبط ابخلربة املعاشة‪.‬‬ ‫أمور ِ‬
‫حياهتم‪ .‬هؤالء ال ترضيهم املسيحيّة السطحيّة‪ ،‬كما ال‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫حمبة‪ ،‬تبدو احلياة بال معىن‪ .‬تظهر يف جوه ِرها منافية‬ ‫ِ‬
‫الفكر ابإلميان ابهلل‪ ،‬الّذي هو ّ‬
‫ولكن إن مل يستنر ُ‬
‫قلق خوف املوت‪ .‬ال يبدو فيها‬ ‫لدت؟" ويُنغّص حياتَنا ُ‬
‫ويسيطر عليها السؤال التايل‪" :‬ملاذا ُو ُ‬
‫ُ‬ ‫للعقل‪،‬‬
‫كأَنا تقود اإلنسان إىل طريق مسدودة‪ ،‬لذلك يبدو فقدان األمل وكأنّه حالتها الطبيعيّة‪ .‬وهذا‬ ‫مجال‪ ،‬و ّ‬
‫ِ‬
‫بصدق النيّة‬ ‫الشعور مثمر يف نظ ِر األرثوذكسيّة‪ ،‬شرط أالّ يقرت َن بغروِر املنطق وكلوم الكربّيء‪ّ .‬أما إذا حتلّى‬
‫واتضاع الفكر‪ ،‬فيبلغ إىل البحث عن خربة إميانيّة عميقة‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫بسرت النشاطات‬‫يتسرت اليأس املتولِّ ُد من هذا الفشل ِْ‬
‫افق مشيئةَ هللا‪ .‬وغالباً ما ّ‬ ‫اثلثًا‪ ،‬فَ َشلُنا يف ِ‬
‫العيش مبا يو ُ‬
‫ُ‬
‫حياة مسيحية تبدو ت قوية حبسب املقاييس الدنيوية‪ .‬وميكن ِ‬
‫للمرء أن‬ ‫اإلجتماعية الكثيفة‪ ،‬وُيتجب وراء ٍ‬
‫ّ‬ ‫ََ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ َ‬ ‫ّ‬
‫يتبني ذلك من ِ‬
‫ميل كثريين إىل الفصل بني اآلابء املصنَّفني "اجتماعيّني"‪ ،‬وأولئك املصنَّفني "هدوئيّني"‪،‬‬ ‫َّ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ختص الرهبان‪ّ .‬إَنم خيرقون الرتاث املق ّدس الواحد‪،‬‬
‫ختص العلمانيّني من املسيحيّني‪ ،‬ووصاّي ُّ‬‫بني وصاّي ُّ‬
‫أنفسهم ضعيفة‪ ،‬والوصاّي صعبةَ اإلحتمال‪ .‬يقولون‪" :‬هذا‬ ‫ِ‬
‫ليجدوا ما يستندون إليه يف ختاذهلم‪ .‬يرون َ‬
‫تطبيقها يف عص ِران"‪ .‬هذه هي األقوال الّيت تُ ّ‬
‫عربُ عن‬ ‫وذاك من األمور ليس لنا بل للرهبان‪ ،‬وال ميكن ُ‬
‫ِ‬
‫أيسهم يف العادة‪.‬‬

‫وسنَن جعْلناها أصناماً نعبُ ُدها‪ .‬من ذلك‪ ،‬الشعور أ ّن العامل كلَّه ُ‬
‫يزداد ابتعاداً‬ ‫ابعا‪ ،‬اخليبة من شخصيّات ُ‬ ‫رً‬
‫كل مكان‪ .‬يصادفون ظلمةَ‬ ‫وينقاد إىل الدمار الذايتّ‪ .‬كثريون من املؤمنني يرون أعداءَ اإلميان يف ِّ‬
‫ُ‬ ‫عن هللا‪،‬‬
‫الظالم‬
‫َ‬ ‫بصيص نور‪ّ .‬إَنم ّيئسون من مست ِ‬
‫قبل العامل‪ .‬ولكن عندما يرى املرءُ‬ ‫َ‬ ‫الشر يف ِّ‬
‫كل مكان‪ ،‬وال يرون‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الشرير"(‪1‬يو‪.)19 :5‬‬ ‫كل مكان‪ ،‬يعين ذلك أنّه يف حالة روحيّة خطرة‪ .‬أجل‪" ،‬العامل كلُّه حتت وطأة ّ‬
‫يف ِّ‬
‫يعتاد اإلنسان أن يرى الظلمةَ وحدها‪ ،‬قد أييت وقت‬
‫غري أ ّن أحبّاءَ املسيح ينتصرون على العامل‪ .‬وعندما ُ‬
‫وميسي يف خط ٍر أن يرى َ‬
‫"النور ظالماً"‪.‬‬

‫‪ ‬املسيح هو الرجاء الوحيد‬

‫يعرف‬
‫لكن املسيح‪ ،‬كلمةَ هللا‪ُ ،‬‬ ‫نفوسنا بطرائق متع ّددة‪ ،‬ويتوطّد فينا حبُجج منطقيّة‪ .‬و ّ‬
‫خيرتق َ‬
‫اليأس ُ‬‫قْلنا إ ّن َ‬
‫يعمل أبساليب ال يستوعبُها منطقنا‪ .‬لذلك جيب أالّ حن ّدد مستقبلَنا ُمسبقاً‪ ،‬مستندين إىل أفكا ِران‪ .‬فاملسيح‬ ‫أن َ‬
‫ِ‬
‫أنبع احليا َة من القرب‪ ،‬حيث مل يعد يسود املوت‪ ،‬هكذا‬ ‫ب التوقّعات كلَّها‪ .‬هو القيامة واحلياة‪ .‬وكما َ‬‫يعرف أن يقل َ‬
‫ُ‬
‫تثمر مثاراً غنيّة‪ .‬فال مصاعب احلياة‪ ،‬وال‬ ‫البشري مهما يقسو‪ ،‬وجيعلُها ُ‬‫ّ‬ ‫نبت الرجاءَ من صخرةِ اليأس‬
‫ميكنُه أن يُ َ‬
‫الشر الّذي يف العامل ميكنه أن يقوى على حمبّ ِة هللا الكلّية القدرة‪.‬‬
‫األزمات املعيشيّة‪ ،‬وال إرادتنا الضعيفة‪ ،‬وال ّ‬

‫‪67‬‬
‫ندعه يعمل حبسب عْل ِمه الشامل‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫نعرتف ق ّدامه بضعفنا‪ ،‬إبميان صادق‪ ،‬مثّ أن َ‬
‫يكفي أن َ‬

‫‪68‬‬
‫أح ُد السامريّة‬

‫(يوحنا‪) 42-5 :4‬‬

‫من املعصية إىل العبادة احل ّقة‬

‫"ّي رب أعطين هذا املاء‪ ...‬اذهيب وادعي رَجلَ ِك"‬

‫كشف هلا املسيح ت ْدرجييًّا عطيّةَ هللا‪.‬‬


‫َ‬ ‫إ ّن املاءَ الّذي طلبته السامريّة هو الروح القدس‪ .‬ويف حوا ِره معها‪،‬‬
‫املتجس َد‪،‬‬ ‫ابن هللا‬ ‫ِ‬ ‫التقاها عند بئر يعقوب فيما كان تعباً من الس ِري‬
‫ّ‬ ‫فطلب منها ماءً‪" :‬أعطيين ألشرب"‪ .‬ذلك أ ّن َ‬ ‫َ‬
‫مسح للطبيعة البشريّة أن‬ ‫ِ‬
‫شقاء اإلنسان الفاين‪ .‬فكان يتعب‪ ،‬وجيوع ويعطش‪َ .‬‬ ‫محل على عاتقه َ‬ ‫التام‪َ ،‬‬
‫اإلنسان ّ‬
‫تعمل فيه وفق خواصها الذاتية‪ .‬طبعاً إ ّن اجلوع والعطش مل يقوّي عليه‪ ،‬وال فُِرضا عليه حكْماً‪ ،‬بل أراد هو ِ‬
‫بنفسه‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كل أحزاَنا على عاتقه‪ .‬والدليل‬ ‫ِ‬
‫يعطش وجيوع‪ .‬محَلَْته احملبّة على "إفْر ِاغ ذاته"‪ ،‬أعين على اال ّحتاد جببلّته واختاذ ّ‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫غادرت السامريّة إىل املدينة‬ ‫ْ‬ ‫اجلوع والعطش‪ ،‬هو حو ُاره مع التالميذ بعدما‬ ‫على هذا األمر‪ ،‬أعين أنّه أقوى من ِ‬
‫كن السامريّة‪ ،‬الّيت سوف تُدعى فيما بعد‬ ‫لِت ِ ِ ِ‬
‫ذيع ألبناء بلدها اإلعالن الّذي تل ّقته‪ .‬كان املسيح قد َسأَهلا ماءً‪ ،‬ول ّ‬ ‫ُ َ‬
‫"ورجعت‬ ‫جرَهتا" يف النهاية‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫كت ّ‬‫أكثر من ذلك‪" ،‬تر ْ‬‫إثر النقاش أن تَسقيه‪ ،‬و َ‬ ‫ت َ‬ ‫املعظّمة يف الشهيدات فوتيين‪ ،‬نسيَ ْ‬
‫ُ‬
‫اب التايل‪" :‬يل طعام آكلُه ال تعرفونه أنتم"‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫اح التالميذ يقولون له "ر ّايب ُك ْل"‪ ،‬فتل ّقوا اجلو َ‬ ‫إىل املدينة"‪ .‬عندئذ‪ ،‬ر َ‬
‫ِ‬
‫خالص‬ ‫وعطش إىل‬ ‫جاع املسيح‬
‫أعمل مشيئةَ الّذي أرسلَين وأن أمتَّم عملَه"(يو‪َ .)24 :4‬‬
‫َ‬ ‫أردف "طعامي أن َ‬ ‫و َ‬
‫عاشت يف‬ ‫عت إىل األمور الكبرية‪ ،‬إالّ ّأَنا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫العامل‪ ،‬هذا اخلالص املطروح يف قضيّة املرأة السامريّة‪ .‬فلَئن تطلّ ْ‬
‫املعاصي‪.‬‬

‫يكشفها لنا لقاء املسيح ابلسامرية هو الرتابط ما بني طر ِ‬


‫يقة احلياة‬ ‫ُ‬ ‫إ ّن إحدى احلقائق الكبرية الّيت‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫عربُ عن إميانِه من خالل حياتِه‪.‬‬
‫واإلميان‪ .‬فاملؤمن األصيل يُ ّ‬

‫اإلهلي‬
‫‪ ‬احلياةُ الشخصيّة واإلعالن ّ‬
‫‪69‬‬
‫املسيح منها ماءً فذ ّكَرتْه بعدم‬
‫ُ‬ ‫طلب‬
‫هلُ َّم نتوقّف عند نقاط حم ّددة من حوار املسيح مع السامريّة‪ .‬لقد َ‬
‫نفسه إزاء ٍ‬
‫أرض‬ ‫ِ‬
‫وجد َ‬ ‫خمالطة اليهود للسامريّني‪ .‬فاليهود مؤمنون ابلناموس والسامريّون ُمرت ّدون عنه‪ .‬واملسيح ملا َ‬
‫ّ‬
‫بت منه ال‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يبذر كلمتَه‪ .‬بدأَ يكلّمها عن املاء الّذي كان ابستطاعته أن يعطيَها ّإّيه بنفسه‪ ،‬وإذا شر ْ‬
‫ُخمصبة‪ ،‬بدأ ُ‬
‫كالمه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تفهم َ‬ ‫تعطش أبداً‪ .‬وهكذا ارتقى بذهنها من مياه النبع إىل نعمة الروح القدس‪ّ .‬أما هي فلم ْ‬ ‫َ‬ ‫ميكن أن‬
‫وصف هلا‬ ‫احلي؟" (يو‪ .)11 :4‬ولكن عندما‬ ‫املاء‬ ‫لك‬ ‫أين‬ ‫ن‬ ‫فم‬ ‫واستدركت ِ‬
‫بقوهلا‪" :‬ال دلو عندك والبئر عميقة‪ِ ،‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫رب أعطين هذا املاء‬ ‫فقالت‪ّ" :‬ي ّ‬
‫ْ‬ ‫أظهرت ميالً إىل ما خيدم مصلحتَها‬
‫ْ‬ ‫تنفد‪،‬‬
‫املسيح ما هلذا "املاء" من ّقوة ال َ‬
‫املسيح جمرى احلديث إىل‬
‫ُ‬ ‫حوَل‬
‫أعطش فأعود إىل اإلستقاء من هنا" (يو‪ .)15 :4‬إزاءَ هذا الطلب‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫لكي ال‬
‫تعني كشف‬ ‫ِ‬
‫حياهتا الشخصية قائالً‪" :‬ادعي رجلَ ِ‬
‫شف العظيم‪ .‬فلكي تُعطى الروح القدس‪َّ ،‬‬ ‫ك"‪ .‬هنا بدأ ال َك ُ‬ ‫َُ‬ ‫ّ‬
‫تعرتف خبطيئتِها للمسيح‪ .‬يف هذه النقطة‬
‫َ‬ ‫حياهتا الشخصيّة أبعماقها املظلمة اآلمثة‪ .‬كان عليها أن‬ ‫النقاب عن ِ‬

‫قالت‬ ‫ٍ‬ ‫ظمة شخصية املرأة السامرية‪ ،‬ميزةُ اإلعرت ِ‬‫متاماً برزت‪ ،‬إىل جانب ع ِ‬
‫احلقيقي‪ .‬فهي مل تعرتض حب ّدة‪ ،‬وال ْ‬
‫ّ‬ ‫اف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َْ‬
‫اضها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نفسها‪ ،‬فأتى اعرت ُ‬ ‫تربَر َ‬
‫التدخل يف حياهتا الشخصيّة‪ .‬مل حتاول أن تتخ ّفى‪ ،‬وال أن ّ‬ ‫ُيق له ّ‬ ‫للمسيح إنّه ال ُّ‬
‫فت‬ ‫ِ‬ ‫إجيابيًّا‪ .‬إ ّن أتنيبه لِ ِ‬
‫ش إىل توسيع املعرفة‪ .‬الْتَ َ‬‫أشعل يف نفسها العط َ‬
‫َ‬ ‫شخصها مل يُ ْسخطها وال حطّمها‪ ،‬بل‬ ‫َ‬
‫نيب‪ .‬تعبّ َد آابؤان يف هذا اجلبل‪ ،‬وأنتم تقولون إ ّن‬
‫رب أرى أنّك ٌّ‬
‫اهتمامها إىل الصالة والعبادة احلقيقيّة ابهلل‪ّ" :‬ي ّ‬
‫خلف معاصيها‬‫أت َ‬ ‫خب ْ‬
‫دل على ّأَنا ّ‬‫املكان الّذي فيه جيب التعبّد هو يف أورشليم" (يو‪ .)20 :4‬هذا اال ْستِدراك َّ‬
‫جتد احليا َة‬
‫فهمها كان أن َ‬‫نفسها‪ُّ ،‬‬ ‫السميا ونقاوة ال توصف‪ .‬مل تستوقفها عزةُ ِ‬
‫صادق السعي إىل األموِر ُّ‬ ‫َ‬ ‫تطلُّعاً‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫مسع أ ّن هللاَ روح وأ ّن العبادة احلقيقيّة هلل تصريُ‬
‫أصبحت ّأوَل من َ‬
‫ْ‬ ‫تعبد هللا العبادة احل ّقة‪ .‬وهكذا‬
‫احلقيقيّة‪ ،‬وأن َ‬
‫أعلن هلا عن الثالوث‬
‫املسيح َ‬
‫َ‬ ‫وابلروح القدس‪ .‬معىن ذلك أ ّن‬
‫ِ‬ ‫احلق‪،‬‬ ‫"ابلروح و ِّ‬
‫احلق"‪ ،‬أعين ابملسيح الّذي هو ّ‬ ‫ِ‬
‫الروح القدس‪.‬‬
‫بنعمة ِ‬ ‫نعرف هللا ابملسيح يف ِ‬
‫جسده احلقيقي‪ ،‬أي الكنيسة‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫اإلهلي‪ ،‬وكيفيّة معرفته‪ .‬فنحن ُ َ‬
‫ّ‬
‫‪ ‬اإلميان واحلياة‬

‫‪70‬‬
‫حول حمورين‪ :‬االشرتاك ابألسرا ِر‪ ،‬وحفظ الوصاّي‬ ‫وتدور َ‬
‫ُ‬ ‫"احلياةُ ابملسيح" تعين احلياة "يف الكنيسة"‬
‫ظ الوصاّي اإلَنيليّة‬
‫ف الكنيسة‪ .‬احلياةُ الكنسيّة ال تُفهم من دون املشاركة يف األسرار‪ .‬وحف ُ‬ ‫ِ‬
‫اإلَنيليّة‪ .‬فاألسرار تؤلّ ُ‬
‫جيعلُنا قادرين على قبول ِ‬
‫نعمة األسرار‪ .‬إالّ أ ّن طريقةَ احلياة هذه تقتضي اإلميان املستقيم‪ .‬وهذا ليس قبوالً نظرًّّي‬
‫صاعقا ابخلطيئة الشخصية وابل ِ‬
‫بعد‬ ‫إلحدى العقائد‪ ،‬ال يؤثُِّر يف احلياة الشخصيّة‪ ،‬بل هو إميان يولِّ ُد توبةً وشعوراً ً‬
‫ّ‬
‫احلسنة‬ ‫ِ‬
‫عن هللا‪ .‬إ ّن خربَة التوبة الصادقة هي جوع وعطش إىل الصالة‪ ،‬واتّضاع الفكر‪ ،‬والرغبة يف تعلّم الطريقة َ‬
‫بيد أ ّن ما يش ِّد ُدان هو ارتبا ُ‬
‫ط احلياة ابإلميان‪ ،‬والعقيدة‬ ‫ت هبذه األمور‪ ،‬كما رأينا‪َ ،‬‬
‫ابحلق‪ .‬والسامريّة متيّ َز ْ‬
‫ِ‬
‫لعبادة هللا ّ‬
‫ابألخالق‪.‬‬

‫لِسنو ٍ‬
‫ات كثرية‪ ،‬تقبلنا‪ ،‬هنا يف موط ِن األرثوذكسية‪ ،‬أتثري ٍ‬
‫ات غريبة عن فك ِر الكنيسة املستقيم‪ ،‬ما زالت إىل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تعرقل مسريتَنا الروحيّة‪ ،‬بدل أن حتملنا على العودة إىل جذوِران األرثوذكسيّة‪ .‬أمسى اال ُ‬
‫نشغال ابلعقائد‪،‬‬ ‫اليوم ُ‬
‫يد‬ ‫ابلنسبة إىل كثريين‪ ،‬موضوعاً عقالنيًّا حبتاً‪ ،‬حبيث ال يكرتثون لضرورةِ ِ‬
‫تنقية القلب واإلستنارة ابلروح القدس‪ .‬بَ َ‬ ‫ِ‬
‫الروحي لإلنسان‪ ،‬و ّاحتاد قوى نفسه املشتّتة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫يقول إ ّن معرفةَ العقائد هي نتيجةُ التج ّدد‬
‫تقليد اآلابء الق ّديسني ُ‬
‫أ ّن َ‬
‫تطور دائم من‬ ‫ِ‬
‫وانعتاق ذهنه من ختيّالت اخلطيئة‪ .‬طبعاً هذه املسرية ال تتوقّف‪ ،‬ومعرفة هللا ال حدود هلا‪ .‬فهي ّ‬
‫اآلن وإىل الدهر اآليت‪.‬‬

‫إ ّن املرأ َة السامريّة فوتيين املعظّمة يف الشهيدات دلّتنا كيف يعربُ اإلنسان من املعصية إىل اإلميان وإىل‬
‫ُ‬
‫العبادة احل ّقة للثالوث الق ّدوس‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫أح ُد األعمى(يو‪)38 -1 :9‬‬

‫من اجملمع إىل املسيح‬


‫"فأخرجوه خارجاً‪"...‬‬

‫غري املتزعزع بشخص الّذي شفاه "فأخرجوه خارجاً"‪.‬‬ ‫الفريسيّون إميا َن األعمى منذ مولده‬
‫ُيتمل ّ‬ ‫مل‬
‫َ ُ‬ ‫ْ‬
‫استمروا يقولون له‪" :‬هذا اإلنسان ليس من هللا‪ ،‬ألنّه ال ُيفظ السبت" (يو‪ ،)16 :9‬فيجيبُهم هو ببساطةٍ‪" :‬إ ّن‬
‫ّ‬
‫قام به مل يكن‬
‫عيين‪ .‬العمل الّذي َ‬
‫فتح ّ‬
‫هللا ال يسمع للخطأة" (يو‪ .)31 :9‬قد ال تعرفون "من أين هو"‪ ،‬ولكنّه َ‬
‫اقتنع أبنّه مرتبط ابهلل‪.‬‬ ‫عمالً بشرًّّي‪ ،‬بل َخلقا جديدا‪ .‬مل يكن األعمى ُ‬
‫يعرف بعد ألوهةَ يسوع املتأنّس‪ ،‬ولكنّه َ‬
‫ظ مشيئتَه‪.‬‬
‫آمن أبنّه إنسان "يتّقي هللا" وُيف ُ‬
‫َ‬
‫فاز‬ ‫يقوم ِ‬ ‫ٍ‬
‫مبثل هذه اآلية؟ ولكن‪ ،‬يف النهاية‪َ ،‬‬ ‫ميكن إلنسان خاطىء أن َ‬ ‫الفريسيّون ُمنقسمني‪ :‬كيف ُ‬‫كان ّ‬
‫املوسوي "املتش ّددون"‪" ،‬وطرحوا" األعمى منذ مولِده خار َج اجملمع‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُحمافظو الناموس‬

‫صار الّذي كان أعمى خار َج اجملمع بسبب عرفانه ابجلميل لشافيه‪ ،‬وألنّه مل يستطع تقبُّل الفكرة أن‬
‫وجد الفريسيون أنفسهم يف ٍ‬
‫مأزق‪.‬‬ ‫شريعةَ موسى قد تتعارض وفرِح شفائه العظيم يف ِ‬
‫َ‬ ‫اسرتجاع عطيّة هللا الطبيعيّة‪ّ ّ َ .‬‬‫ْ‬
‫سلطتهم‪ .‬يف رأيِهم‪ ،‬كان‬ ‫ال قَ ِدروا أن ي ِ‬
‫وانزع ُهم َ‬
‫أقلق هدوءَهم َ‬‫املسيح الّذي َ‬
‫َ‬ ‫نكروا العجيبةَ‪ ،‬وال استطاعوا أن يقبلوا‬‫ُ‬
‫ِ‬
‫شافيه احرت ًاما‬ ‫عرض عن‬ ‫على األعمى منذ مولده أن يعطي جمداً هلل من ِ‬
‫أجل شفائه‪ ،‬ويف الوقت نفسه أن يُ َ‬
‫إمياَنم أييت ُمعاكساً‬
‫حادا بني واقع احلياة والناموس كما فهموه‪ .‬رأوا َ‬ ‫اعا ًّ‬ ‫للناموس‪ .‬هذا ُّ‬
‫يدل ّأَنم عاشوا صر ً‬
‫أنفسهم‪ .‬هذا كان أسهل خمرٍج هلم‪،‬‬ ‫حتولوا َّ‬
‫ضد املسيح بدل أن يعارضوا َ‬ ‫للحياة‪ ،‬وفيما تنازعتهم هذه التناقضات‪ّ ،‬‬
‫ففضل أن يصطدم بطر ِ‬
‫يقة‬ ‫َ‬ ‫يورطوا َمن كان أعمى يف مآزقهم‪ّ .‬أما هو ّ َ‬
‫ُيل مشكلتَهم‪ .‬مثّ حاولوا أن ّ‬
‫ولكنّه مل َّ‬
‫تفكريهم املريضة‪ ،‬ما ّأدى إىل طرده من جممع "األشرار"‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫"أتؤمن اببن هللا؟"‪ .‬من الالّفت أ ّن املسيح‬
‫ْ‬ ‫مسع املسيح ّأَنم "طرحوه خارجاً"‪ ،‬اقرتب منه وسألَه‪:‬‬
‫وعندما َ‬
‫جد ق ّدامه‬
‫فعل هذا ألنّه و َ‬ ‫أخرى‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫حاالت‬ ‫نفسه "ابن هللا" وليس "ابن اإلنسان"‪ ،‬كما يف‬
‫َ‬ ‫يف هذه اآلية مسّى َ‬
‫قطع‬
‫إنساانً ُمتهيّأً لقبول املعرفة الفائقة‪ ،‬وهي إعالن ألوهته‪ .‬فقد أُعطي َمن كان أعمى أن يعرف هللا بعد أن َ‬
‫ارتباطه ابلناس الّذين ّ‬
‫حرفوا حقيقةَ الناموس‪.‬‬

‫‪ ‬املقاطعة والرفض‬

‫شخصي مع املسيح اإلله اإلنسان‪ .‬وابلتايل جاء اإلميان الّذي ُو َلد فيه نتيجة‬ ‫لقد حظي األعمى ب ٍ‬
‫لقاء‬
‫ّ‬ ‫َ َ‬
‫الفريسيّون فلم‬
‫عالقة شخصيّة‪ ،‬ومثرة خربة‪ .‬مل يتعلّم عن هللا من خالل املطالعة‪ ،‬بل عرفَه من خالل شفائه‪ّ .‬أما ّ‬
‫ِ‬
‫بعالقاهتم احليّة والكيانيّة مع هللا‪ .‬لقد َعَرفوه من خالل الناموس ونصوص األنبياء‪ ،‬ولكن مل‬ ‫يكن هلم أن يفتخروا‬
‫غابت عنهم نعمةُ النبوءة‪ ،‬وهذا ما حاولوا أن يسرتوه خبضوعهم األعمى حلرفيّة الناموس‪.‬‬ ‫خيتربوا خربة األنبياء‪ْ .‬‬
‫الناموس كفالسفة وليس كالهوتيّني‪.‬‬
‫َ‬ ‫ولو أردان استخدام الّلغةَ املعاصرة‪ ،‬ابستطاعتنا القول إ َّنم كانوا يدرسون‬
‫الكتاب‬ ‫فسرين الّذين يستندون إىل الدراسات األدبيّة والتارخييّة يف تفسريهم‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُيصل مع املُ ّ‬
‫ُ‬ ‫روحه‪ ،‬كما‬
‫َجهلوا َ‬
‫مسامهة هذه الدراسات‪ ،‬لكن ال بد من التأكيد أ ّن النصوص‬‫ِ‬ ‫املق ّدس‪ ،‬من دون سواها‪ .‬وال نرمي إىل التقليل من‬
‫املق ّدسة‪ ،‬وفق تراثنا‪ ،‬ال يفهمها إالّ الّذين لديهم خُبة مؤلِّفيها الق ّديسني ذاهتا‪.‬‬

‫يعارض عقليّةَ العامل الساقط كلَّها‪ .‬واحلقيقة هي أ ّن‬ ‫ُ‬ ‫احلي مزعج للّذين ال ميلكونه‪ .‬فهذا اإلميا ُن‬ ‫اإلميا ُن ّ‬
‫بوضوح‬ ‫قبل إىل مقاطعة "روح العامل"‪ .‬هذا ما يقوله لنا‬ ‫ٍ‬
‫ٍ‬ ‫يعيش املسيحيّة أبصالة‪ ،‬ينبغي له أن يُ َ‬ ‫اإلنسان‪ ،‬لكي َ‬
‫اجلَ َس ِد‪،‬‬
‫الق ّديس يوحنّا الالهويتّ‪ ،‬كاتباً‪" :‬الَ ُِحتبُّوا الْ َعا َملَ َوالَ األَ ْشيَاءَ الّيت ِيف الْ َعاَِمل"‪" ،‬ألَ َّن ُك َّل َما ِيف الْ َعاَِمل‪َ :‬ش ْه َوَة ْ‬
‫ون‪ ،‬وتَعظُّم الْمعِيشة" (يو‪ .)16 :2‬وفيما ُياول اإلنسان أن جيعل من وصاّي املسيح ِشرعةً لِ ِ‬
‫وجوده‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َو َش ْه َوَة الْ ُعيُ ِ َ َ َ َ َ‬
‫يتحرُك أبحكام األهواء‪ .‬طبعاً هذا االصطدام ليس خارجيًّا بقدر ما هو‬
‫يصطدم ال حمالة بعقليّة اجملتمع الّذي ّ‬
‫ُ‬
‫داخلي‪ ،‬وهو يكمن يف التص ّدي ملتطلّبات اخلطيئة‬
‫ّ‬ ‫طدام بروح العامل حدث‬
‫داخلي‪ .‬العامل يف داخلنا‪ ،‬وابلتايل االص ُ‬
‫ّ‬

‫‪73‬‬
‫يعيش معنا‪ ،‬وال حنن‬
‫رفض العامل لنا‪ .‬فال العامل يستطيع أن َ‬
‫ب َ‬ ‫الداخلي يسبّ ُ‬
‫ّ‬ ‫ول ّذة األهواء الظاهرة‪ .‬هذا الصدام‬
‫معه‪.‬‬

‫‪ ‬االنفصال السليم واالنعزال املريض‬

‫كثريون من املسيحيّني ينجذبون بش ّدةٍ إىل الروحيّات عندما يبدأون يعيشون حيا َة الكنيسة بدقّة أكرب‪.‬‬
‫أمست يف نظرهم‬ ‫ِ‬
‫هلم أشواق ال تتوفّ ُر يف حميطهم‪ ،‬أل ّن التمتّعات املاضية وعاداهتا فقدت معناها ابلنسبة إليهم‪ ،‬أو َ‬
‫آخرون أنفسهم يف منعطف‬ ‫بعضهم العاملَ ويصبحون رهباانً‪ ،‬فيما جيد َ‬
‫يهجر ُ‬ ‫منافية ملشيئة هللا‪ .‬يف هذه احلال‪ُ ،‬‬
‫سليما‬ ‫عندئذ يرتبص هبم خطر االنغالق على ِ‬ ‫ٍ‬ ‫حرج من ِ‬
‫الوقيت ليس ً‬ ‫ّ‬ ‫ال‬
‫ُ‬ ‫ز‬ ‫االنع‬ ‫‪.‬‬ ‫موات‬
‫ً‬ ‫يكون‬ ‫هذا‬‫ف‬ ‫هم‪.‬‬‫أنفس‬ ‫ّ‬ ‫م‪.‬‬ ‫حياهت‬
‫يفرتض هذا االنقطاع عن‬ ‫تعرف الكلل يف الصالة والعيش ٍ‬
‫بتوبة عميقة‪ .‬عندئذ‬ ‫رغبة ال ُ‬‫إالّ عندما أييت نتيجة ٍ‬
‫ُ‬
‫الناس تنميةَ ٍ‬
‫عالقة شخصيّة ابهلل وحواراً حيًّا معه‪ .‬لذلك ال يولّد هذا االنعزال القلق والعصبيّة‪ ،‬وال إدانة العامل‪ ،‬بل‬
‫وشعورا ابالكتفاء‪ .‬مينح حمبّةً للعامل‪ ،‬تَُرت َج ُم صالةً‪ ،‬ال إدانةً عقيمةً لآلخرين‪ .‬وال جيوز أبداً‬
‫ً‬ ‫يعطي سالماً يف القلب‬
‫الداخلي‪ .‬ال‬
‫ّ‬ ‫النمو‬
‫أن تتجاهل الصالةُ الواجبات حنو العائلة‪ .‬كما أ ّن اخللل يف عالقة الزوجني ال يساعد على ّ‬
‫ُيتاج إىل الناس‪ .‬كذلك العائلة ال‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫يعيش وحيداً‪ ،‬وإن مل يعش خماطباً هللا ابستمرار‪ ،‬عندئذ ُ‬
‫يقدر اإلنسان أن َ‬ ‫ُ‬
‫تنعزل عن بقيّة العامل‪ ،‬من دون عوقب وخيمة ومؤملة ألعضائها‪.‬‬
‫تستطيع أن َ‬

‫جممع اليهود اإلنسان األعمى منذ مولده‪ ،‬قَبِلَهُ املسيح‪ .‬وكذلك حنن‪ ،‬عندما نصطدم بعقليّة‬
‫رفض ُ‬‫عندما َ‬
‫ٍ‬
‫عالقات جديدة وصحيحة تتماشى‬ ‫ننفتح على أعضاء املسيح‪ ،‬أي على كنيسته‪ ،‬وأن نُنشىءَ‬ ‫العامل‪ ،‬جيب أن َ‬
‫وتطلّعاتنا‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫األول (األحد قبل العنصرة)‬
‫أح ُد اآلابء اجملمع املسكوينّ ّ‬

‫(يو‪)13 -1 :17‬‬

‫ثوذكسي والوحدة‬
‫ّ‬ ‫اإلميان األر‬

‫ت ِاإللهَ ا ْحلَِق ِيقيَّ وَحْدَ َك وَيَسُوعَ الْمَِسيحَ الّذي أ َْرسَلْتَهُ"‬ ‫هذِه ِهيَ ا ْحلَيَاةُ األَبَِديَّةُ‪ :‬أَ ْن يَعِْرفُ َ‬
‫وك أَنْ َ‬
‫"و ِ‬
‫َ‬
‫كرَم تذكا ُر اآلابء الثالمثئة والثمانية َع َشر‬
‫ت كنيستُنا املق ّدسة أن يُ َّ‬ ‫ِ‬
‫بعد عيد صعود املسيح العظيم‪َ ،‬عيَّ نَ ْ‬
‫اليومي‪ ،‬هو أ ّن‬
‫ّ‬ ‫وفق السنكسار‬ ‫وسبب حتديد هذا العيد‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫األول يف نيقيا البيثينيّة‪.‬‬‫اجملمع املسكوينّ ّ‬
‫الّذين أقاموا َ‬
‫عيد الصعود كعقيدةٍ يف الكنيسة‪ .‬ذلك أ ّن‬ ‫األول الق ّديسني ح ّددوا اإلميا َن الّذي أعلنه ُ‬ ‫آابء اجملمع املسكوينّ ّ‬
‫ٍ‬
‫عني‪ ،‬وإّّنا هلا مضمون الهويتّ‬ ‫جمرد تذ ّكر بسيط حلدث ُم ّ‬ ‫األعياد الكنسيّة‪ ،‬ال سيّما األعياد السيّديّة‪ ،‬ليست ّ‬
‫َ‬
‫حتفال الواعي هبا مها اعرتاف ابإلميان‪.‬‬
‫عميق‪ ،‬فلذلك تكريسها واال َ‬

‫ٍ‬
‫بشكل ال‬ ‫كل تدب ٍري‬
‫البشري‪ ،‬بعد أن أمتّ َّ‬
‫ّ‬ ‫املتحد ابجلسد‬
‫تعرتف الكنيسة أ ّن "ابن هللا ّ‬
‫ُ‬ ‫يف عيد الصعود‪،‬‬
‫احلق الّذي بفضل ألوهته‬
‫األبوي"‪ .‬فهو املساوي لآلب يف الكرامة‪ ،‬واإلله ّ‬
‫ّ‬ ‫"عاد" أيضاً "إىل العرش‬ ‫يوصف"‪َ ،‬‬
‫ابن هللا خملوق‪،‬‬ ‫أصبحت طبيعتُنا معادلةً هلل‪ ،‬مبا ّأَنا أُجلِ َست على ِ‬
‫عرش الثالوث الق ّدوس‪ .‬وإز َاء قول آريوس إ ّن َ‬ ‫ْ‬
‫ابن هللا "مسا ٍو لآلب يف‬
‫أساس حياهتا‪ ،‬والقائل إ ّن َ‬ ‫ُ‬ ‫األول إبميان الكنيسة‪ ،‬الّذي هو‬
‫اجملمع املسكوينّ ّ‬
‫ُ‬ ‫أقر‬
‫َّ‬
‫اجلوهر"‪ .‬فلو مل يكن إهلاً حقيقيًّا‪ ،‬لتع ّذر القول إ ّن اإلنسان "على صورة هللا"‪ ،‬أل ّن هذا الكالم هو مرادف لتألّه‬
‫س لِيؤّهلَنا حنن"‪ .‬وإ ّن اإلميان أب ّن املسيح هو إله وإنسان‬
‫قال الق ّديس أثناسيوس الكبري‪" :‬هو أتنّ َ‬
‫اإلنسان‪ ،‬كما َ‬
‫شرط ِخلالصنا‪.‬‬

‫املهمة‪ ،‬على‬
‫قراءةُ إَنيل اليوم‪ ،‬وهي جزء من صالة يسوع الكهنوتيّة‪ ،‬تدلّنا‪ ،‬إىل جانب بعض احلقائق ّ‬
‫ِ‬
‫بشخص املسيح‪.‬‬ ‫خيتص‬
‫أمهّيّة اإلميان الصحيح يف ما ُّ‬

‫‪75‬‬
‫‪ ‬احلياة األبديّة‬

‫ت‬ ‫املسيح إىل العامل لكي يُعطي اإلنسا َن الفاين احليا َة األبديّة‪ .‬واحلياة األبديّة هي " أَ ْن يَ ْع ِرفُ َ‬
‫وك أَنْ َ‬ ‫ُ‬ ‫لقد أتى‬
‫يح الّذي أ َْر َسْلتَهُ" (يو‪ .)3 :17‬إ ّن يسوع‪ ،‬يف صالتِه‪ ،‬علّ َم ُر ُسلَه أ ّن احليا َة‬ ‫ِ‬ ‫ا ِإلله ْ ِ ِ‬
‫وع الْ َمس َ‬
‫احلَقيق َّي َو ْح َد َك َويَ ُس َ‬ ‫َ‬
‫األبديّة هي معرفةُ هللا اآلب‪ ،‬ويسوع املسيح‪ ،‬اإلله اإلنسان‪ .‬وكما سلّمنا اآلابءُ الق ّديسون‪ ،‬ليست هذه املعرفة‬
‫ُيب املسيح‬ ‫توهب ملَن ّ‬ ‫عقليّة‪ ،‬بل هي مثرةُ الشركة مع هللا‪ .‬إ ّن َمن َ‬
‫عرف هللا كان ّمتحداً به‪ .‬واحلياة األبديّة َ‬
‫عاش املسيح أثناءَ حضوره على األرض‪ .‬والطريق إىل هذا‬ ‫يعيش يف هذا العامل كما َ‬‫وُيفظ وصاّيه‪ ،‬حماوالً أن َ‬
‫كل ٍ‬ ‫ِ‬ ‫التعم ُق يف ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ظرف‪ ،‬جيب أن‬ ‫سر إفراغ املسيح لذاته‪ .‬يف ِّ‬ ‫املشاركةُ مبعرفة يف حياة الكنيسة‪ ،‬و ّ‬
‫النهج احليايتّ هي َ‬
‫اآلخرون احليا َة‬ ‫ف اإلنسان وسلوَكه‪ .‬ومبا أ ّن حمبّة املسيح هي تضحية يف ِ‬ ‫ِ‬
‫عيش َ‬ ‫سبيل أن ي َ‬ ‫تصر َ‬
‫توجه حمبّةُ املسيح ُّ‬
‫ّ‬
‫فعل اإلنسان ُمطابقاً لِ ِّرد فعل املسيح‪ .‬هكذا سريم صورة عن املسيح للعامل‪ ،‬متق ّد ًما يف‬
‫رد ِ‬
‫احلقيقيّة‪ ،‬جيب أن أييت ُّ‬
‫التشبّه به قدر اإلمكان‪.‬‬

‫‪ ‬الوحدة واالنشقاقات‬

‫التغيري يف اإلميان يفصلُنا‬


‫َ‬ ‫ِ‬
‫بشخص املسيح‪ ،‬أل ّن‬ ‫طاملا جاهد اآلابءُ الق ّديسون لكي ُيفظوا اإلميا َن القوميَ‬
‫أش ْران‪ ،‬وإذا كانت املعرفةُ تعين اال ّحتاد به والشركة‬
‫عن احلياة األبديّة‪ .‬إذا كانت احلياةُ األبديّة معرفةَ املسيح‪ ،‬كما َ‬
‫معه‪ ،‬ابلتايل إ ّن اإلميان املغلوط دليل على غياب اال ّحتاد ابملسيح‪ ،‬حبيث ننفصل عن هللا‪.‬‬

‫غياب العالقة‬
‫َ‬ ‫إ ّن فقدان اال ّحتاد ابملسيح والشركة معه يولِّ ُد االنشقاقات يف جسد الكنيسة‪ ،‬أل ّن‬
‫سر اإلميان‪ .‬فوحدةُ الكنيسة تستن ُد‬ ‫يرتك مكاانً لِ ِّ‬
‫نمو األفكار البشريّة غري القادرة على إدراك ِّ‬ ‫الشخصيّة ابملسيح ُ‬
‫احلقيقي إالّ بني‬
‫ّ‬ ‫إىل "وحدة اإلميان ومعرفة ابن هللا" (أفس‪ .)13 :4‬طبعاً‪ ،‬هذه الوحدة ال تتّخ ُذ شكلَها‬
‫اهلدف املنشود‪ .‬وهلذا السبب أعطى املسيح الكنيسةَ‬ ‫َ‬ ‫الق ّديسني‪ّ .‬أما ابلنسبة إىل أعضاء الكنيسة الباقني‪ ،‬فتبقى‬

‫عربُ‬
‫يح" (أفس‪ .)12 :4‬ويُ َّ‬‫ان َج َس ِد الْ َم ِس ِ‬
‫اخلِ ْدم ِة‪ ،‬لِب ْن ي ِ‬ ‫ِ‬
‫مبشرين ورعاة‪ ،‬ومعلّمني للكنيسة "ل َع َم ِل ْ َ ُ َ‬ ‫رسالً وأنبياء‪ ،‬و ِّ‬

‫‪76‬‬
‫اإلهلي حيث نصلّي "من أجل‪ّ ...‬احتاد اجلميع" أو لكي يُعطينا هللا‬ ‫عن هذا الشوق إىل الوحدة مراراً يف الق ّداس ّ‬
‫احد)‪ ،‬والوحدة‬‫احد‪ ."...‬يعين نطلب الوحدة يف حتديد اإلميان (بف ٍم و ٍ‬‫احد وف ٍم و ٍ‬
‫بقلب و ٍ‬ ‫ِ‬
‫ّنج َد ونسبّح امسَه ٍ‬
‫َ‬ ‫"أن ّ‬
‫عطاء‬ ‫(بقلب و ٍ‬
‫ٍ‬
‫تطلب ً‬ ‫ُ‬ ‫القلب هو العضو الّذي به نعرف هللا‪ .‬غري أ ّن صال َة الوحدة‬‫َ‬ ‫احد)‪ ،‬أل ّن‬ ‫يف معرفة هللا‬
‫لنودع‬
‫اإلحتاد يف اإلميان‪ْ ...‬‬ ‫يعلن الكاهن قبل املناولة اإلهليّة "بعد التماسنا ّ‬ ‫ِ‬
‫كامالً ألنفسنا إىل هللا‪ ،‬وألجل هذا ُ‬
‫كل حياتنا للمسيح اإلله"‪.‬‬
‫ذواتنا وبعضنا بعضاً‪ ،‬و ّ‬
‫ثوذكسي‬
‫ّ‬ ‫‪ ‬اهلرطقة والالّهوت األر‬

‫بعض املسيحيّني العقالنيّني يكنّون‬


‫فيما أخذ آابءُ الكنيسة ُياربون اهلرطقات حمبّةً ابهلل والبشر‪ ،‬ما زال ُ‬
‫ثوذكسي ما‬
‫ّ‬ ‫احرتاماً عميقاً للهراطقة‪ُ .‬يسبوََنُم عباقرة انبغني‪ ،‬وسبباً لِ ِ‬
‫صوغ عقائد اإلميان‪ ،‬وأ ّن ك َنز الالهوت األر‬
‫إمياَنا عندما تدعو الضرورةُ‪ .‬فهي تفعل ذلك‬ ‫غ الكنيسةُ َ‬
‫مهم أ ْن تصو َ‬
‫لوالهم‪ .‬أجل‪ ،‬إنّه حدث ٌّ‬
‫كان عندان ُ‬
‫ضالل اهلراطقة‪ .‬هبذا املعىن‪ ،‬كان ميكننا القول‬
‫تقلب َ‬
‫السهو الّذي يعاين منه ذهنُنا‪ ،‬ولكي َ‬
‫لتحارب َ‬ ‫ئيسي‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫بشكل ر ّ‬
‫نشعر بعرفان اجلميل حيال‬ ‫عقل أن َ‬ ‫ثوذكسي‪ .‬ولكن بقدر ما ال يُ َ‬
‫ّ‬ ‫إ ّن اهلرطقةَ صارت الدافع إىل الالهوت األر‬
‫نعرتف جبميل اهلراطقة من أجل الّالهوت‬ ‫َ‬ ‫عقل كذلك أن‬ ‫حجةً الكتشاف الدواء‪ ،‬ال يُ َ‬‫املرض‪ ،‬ألنّه صار ّ‬ ‫َ‬
‫يصف حيا َة الكنيسة الّيت يعرفُها أعضاءُ الكنيسة احلقيقيّون من قَْب ِل حتديد اإلميان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ثوذكسي‪ .‬فالالهوت‬
‫ّ‬ ‫األر‬
‫التقي "حيث‬ ‫ِ‬
‫قول الق ّديس مسعان ّ‬ ‫فيتم ُ‬
‫واستقامةُ الرأي‪ ،‬إذا رافقتها حياة مطابقة هلا‪ُ ،‬حتضر هللاَ إىل قلب اإلنسان‪ّ ،‬‬
‫هللا ُيكم‪ ،‬ال حاجة لكتاب"‪.‬‬

‫تعرب عنه كلمات بشريّة‪.‬‬‫هياكل مصنوعات األّيدي‪ ،‬هكذا ال ميكن أن ّ‬


‫َ‬ ‫إذاً‪ ،‬كما أ ّن هللا ال يسكن يف‬
‫ولكن كما يساعدان اهليكل على الرتكيز والصالة‪ ،‬هكذا الكلمة امللهمة من هللا تفتح ذهننا على معاين خالدة‪.‬‬
‫ُ‬
‫يعربون عن حكمة الكنيسة هي الطريق األمينة ابلنسبة إلينا‪ ،‬حنن‬
‫فالطاعةُ لتعليم اآلابء املتو ّشحني ابهلل الّذين ّ‬
‫نكتسب املعرفةَ احلقيقيّة هلل‪ ،‬الّيت هي احلياة األبديّة‪.‬‬
‫َ‬ ‫الشر‪ .‬هذه هي الطريقة الوحيدة لكي‬
‫املتقلّبني امليّالني إىل ّ‬

‫‪77‬‬
78
‫أح ُد العنصرة‬

‫(يو‪)12 -8 ،52-37 :7‬‬

‫الروح القدس والكنيسة‬

‫"إ ْن عطش أحد فليُقِبل إيلَّ ويشرب‪"...‬‬

‫احلقيقي هو اقتناء الروح القدس" (البار سريافيم ساروف)‪ .‬وعمل الكنيسة‬ ‫ّ‬ ‫"هدف حياتنا املسيحيّة‬
‫الرعائي كلّه يهدف إىل ذلك‪ .‬إ ّن ابن هللا ّاختذ جسداً لكي نتّخذ حنن الروح‪ .‬طبعاً كان الروح القدس يفعل يف‬ ‫ّ‬
‫لكن هؤالء نزلوا بعد موهتم إىل‬ ‫ِ‬
‫ب بعد‪" .‬كان الروح يتكلّم ابألنبياء"‪ ،‬و ّ‬ ‫لكن املوت مل ي ُكن قد ُغل َ‬
‫العهد القدمي‪ ،‬و ّ‬
‫إانء‬
‫تتحرر طبيعتُنا من طغيان املوت فحسب‪ ،‬بل أصبحت ً‬ ‫اجلحيم‪ّ .‬أما بعد جتس ّد املسيح‪ ،‬وصلبه وقيامته‪ ،‬فلم ّ‬
‫ٍ‬
‫ابستحقاق "ملغفرة اخلطاّي‬ ‫ودمه "دواء اخللود"‪ ،‬يتناوله املؤمنون املتق ّدمون إليه‬
‫جسد املسيح ُ‬‫لنعمة هللا‪ .‬أصبح ُ‬
‫وحلياةٍ أبديّة"‪.‬‬

‫عمل الكنيسة‬
‫ُ‬ ‫‪‬‬

‫إ ّن الروح القدس يسرتيح يف اإلبن‪ ،‬كلّه ٌّ‬


‫حال فيه بداعي احملبّة‪ .‬هكذا أصبحت طبيعتُنا يف شخص اإلبن‬ ‫ُ‬
‫كل شرائع البيعة (الكنيسة)"‪.‬‬ ‫حمالًّ يسرتيح فيه الروح القدس‪ ،‬كما نرتّل يف استشريات غروب العنصرة‪ُّ :‬‬
‫"يضم َّ‬
‫كل مطلَب‬‫احلق"‪ ،‬جييب ّ‬ ‫فالكنيسة هي جسد املسيح وخزانة النعمة‪ .‬الروح القدس ينفخ فيها‪ ،‬ومبا أنّه "روح ّ‬
‫كل رغباته الّيت ال ميكن أن‬ ‫ٍ‬
‫موقع جهادات اإلنسان و ّ‬
‫تسعى إليه نفس اإلنسان ابجتهاد‪ .‬هكذا تضحي الكنيسة َ‬
‫البشري‪ ،‬حتوي يف جوه ِرها‬
‫ّ‬ ‫الذهن‬
‫ُ‬ ‫كل التساؤالت الّيت طرحها وما زال يطرحها‬‫أي خملوق‪ .‬ف ُّ‬
‫تتح ّقق عن طريق ّ‬
‫وفعل حبسب الق ّديس مكسيموس املعرتف‪ .‬كما أ ّن‬‫احلق والصالح اللّذين يُظهران هللا كجوه ٍر ٍ‬ ‫البحث عن ّ‬
‫كلها ختفي يف أعماقِها الرغبة يف ٍ‬
‫جمتمع ٍ‬
‫كامل‪ ،‬حيث الوحدة ال َحت ُّد ّ‬
‫احلرية‪،‬‬ ‫التساؤالت والثورات االجتماعيّة َّ‬
‫احلرية ال تلغي احملبّةَ‪ .‬إ ّن ما تطلبه يف الصميم هو شركة الروح القدس‪ ،‬الّذي هو حياة أعضاء الكنيسة احلقيقيّني‪.‬‬
‫و ّ‬
‫‪79‬‬
‫عط كنيسةُ املسيح حلوالً ملا تواجهه الروح البشريّة من مشاكل‬ ‫كتب األب يوستينوس بوبوفيتش‪" :‬لو مل تُ ِ‬
‫َ ّ‬
‫النفس البشريّة‪ .‬ال تبقى على السطح‪،‬‬ ‫ب‬ ‫ذ‬
‫ّ‬ ‫تع‬ ‫يت‬‫ل‬
‫ّ‬ ‫ا‬ ‫املشاكل‬ ‫أبدية‪ ،‬لكانت غري انفعة"‪ .‬فالكنيسة تَ َنف ُذ إىل ِ‬
‫أعماق‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫احلق والصالح‪.‬‬
‫املسيح‪ ،‬وهو ّ‬
‫َ‬ ‫معىن ‪ ،‬وهتَب للناس‬
‫لذلك كثريون ال يفهموَنا بسهولة‪ .‬ختلّص احلياة وتعطيها ً‬
‫جتعل الّذين يعطشون حقًّا إىل احلياة أعضاء املسيح ِ‬
‫بنعمة الروح القدس‪ّ .‬أما الّذين يكتفون ابملظاهر فيَحرمون‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫أنفسهم احلياة احلقيقيّة الّيت تق ّد ُمها الكنيسة‪ .‬ينعثرون من بعض األشخاص وبعض األحداث‪ ،‬فيفقدون اجلوهرَة‬ ‫َ‬
‫اجلزيلةَ الثمن‪.‬‬

‫احلقيقي من كالم املسيح "يف اليوم األخري العظيم من العيد" (يو‪ ،)37 :7‬أي‬
‫ّ‬ ‫يظهر عمل الكنيسة‬
‫إذاً‪ُ ،‬‬
‫إيل ويشرب"‪ .‬فالكنيسة هي املسيح املُمت ّد يف األبد‪ ،‬وعملها الدائم هو‬ ‫عطش أحد فليُ ْقبل َّ‬
‫َ‬ ‫عيد املظال‪" :‬إ ْن‬
‫أن توفّر عطيّةَ الروح القدس املج ِّددة للناس الّذين يعطشون إىل هللا‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪ ‬الكنيسة‪ ،‬جس ُد املسيح‬

‫"بشكل ألس ٍن انريّة"‪ّ ،‬‬


‫حوَل الكنيسة املوجودة منذ خلق العامل‬ ‫ِ‬ ‫نزول الروح القدس على تالميذ املسيح‬
‫إ ّن َ‬
‫بشكل ألس ٍن‬
‫ِ‬ ‫الروح القدس‬
‫ظهر ُ‬ ‫فعيد اخلمسني هو يوم ميالد الكنيسة كجسد املسيح‪ .‬لقد َ‬ ‫إىل جسد املسيح‪ُ .‬‬
‫شري إىل "مساواته يف الطبيعة" للمسيح الكلمة‪ ،‬كما أ ّن الطاقة احملرقة واملنرية يف آن للكرازة الرسوليّة‬ ‫َ‬ ‫انريّة لِي‬
‫ُ‬
‫ُ‬
‫شكل النار" (الق ّديس غريغوريوس ابالماس)‪ .‬الكرازة الرسوليّة هي كرازةُ الكنيسة‪ ،‬وهي‬ ‫وحترق "ب ِ‬ ‫ت لتنري ُ‬ ‫احندر ْ‬
‫َ‬
‫حترق اخلطيئةَ وعباد َة األواثن‪ ،‬أي املفاهيم اخلاطئة عن احلياة وعن‬
‫أيضاً كلمةُ الق ّديسني والرعاة احلقيقيّني‪ .‬هي ُ‬
‫تكشفها مع ِّ‬
‫كل‬ ‫ُ‬ ‫حر ٍية ُمضلّلة‪ ،‬بل‬ ‫هللا "كنا ٍر ُمهلكة"‪ .‬وال ُختفي اخلطيئةَ حتت س ِرت ّ‬
‫احملبة العاطفيّة أو خلف ّ‬
‫ٍ‬
‫ضعيف داخل نور احلقيقة‪.‬‬ ‫متنحه حمبّةُ هللا‪ ،‬وتب ّددها ٍّ‬
‫كظل‬ ‫أسباهبا ودوافعها‪ ،‬ابلتمييز الّذي ُ‬

‫حتمل ّقوَة هللا‪ .‬هي نتيجة النعمة الّيت هلا "شكل ألس ٍن انريّة" و ّ‬
‫حتول الصيّادين‬ ‫إن كلمةَ الرسل والق ّديسني ُ‬
‫إىل رعاةٍ للكنيسة حكماء غري هيّابني‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫‪ ‬احلياة "يف الروح القدس"‬

‫حي" (يو‪ .)38 :7‬هذا قاله املسيح "عن‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬


‫آمن يب‪ ،‬كما قال الكتاب‪ ،‬جتري من بطنه أَنار ماء ّ‬ ‫"م ْن َ‬
‫َ‬
‫اإلَنيلي لنا‪ .‬اإلميان بشخص املسيح هو الصخرة الّيت‬
‫ُّ‬ ‫أوضحه‬
‫َ‬ ‫الروح" الّذي كان املؤمنون ُمزمعني أن ينالوه كما‬
‫احلق وقاعدته" (تيمو‪" .)15 :3‬روح احل ّق" إذاً‪ ،‬يُعطى‬
‫أبَنا "عمود ّ‬
‫بُنيت عليها كنيستُه‪ ،‬وفقاً للرسول بولس ّ‬
‫أنفسهم على قاعدة الرسل واألنبياء‪" ،‬يسوع املسيح نفسه هو حجر الزاوية"‬
‫للذين يؤمنون ابملسيح‪ ،‬وقد بنوا َ‬
‫نشري إىل أمرين‪:‬‬
‫(أفس‪ .)20 :2‬لكن ينبغي أن َ‬
‫اخلارجية لطقوس العبادة وللوصاّي اإلهليّة‪ ،‬إّّنا هي حياة‬
‫ّ‬ ‫ستنفد يف املمارسة‬
‫‪-1‬احلياة يف الكنيسة ال تُ َ‬
‫ماء املعموديّة الّذي جي ّددان‪ ،‬ويُعطى لنا ابملسحة املق ّدسة (املريون)‪ِّ .‬‬
‫ُيو ُل‬ ‫"ابلروح القدس"‪ .‬الروح القدس يق ّدس َ‬
‫املسيح" يف‬
‫َ‬ ‫"ويكون صورة‬
‫ّ‬ ‫اخلمر إىل جسد امليسيح ودمه‪ ،‬وهو ال ّداعي إىل التوبة‪ .‬ينريُ الظلمةَ اخلارجيّة‪،‬‬
‫اخلبز و َ‬
‫َ‬
‫الداخلي‪ .‬وما قاله املسيح‬ ‫جهاد املؤمنني‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫انفتاح الذهن والقلب على نعمة الروح القدس يوطّ ُد َ‬ ‫قلوب الناس‪ .‬فإ ّن َ‬
‫حي"‪ ،‬هو ما اختربه أعضاء الكنيسة امل َم َّجدون‪ ،‬أي الق ّديسون‪.‬‬ ‫"جتري من بطنِه أَنار ٍ‬
‫ماء‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫هتب حيث تشاء" (يو‪.)8 :3‬‬ ‫ُيد الروح القدس نشاطَه أبعضاء الكنيسة وحدهم‪" :‬الروح ُّ‬ ‫‪ -2‬ال ُّ‬
‫آاثرها‪ .‬والّذين جتتذهبم نعمةُ هللا‪ ،‬تقودهم"إىل‬
‫ائق يصعب على الذهن البشري الفقري أن يقتفي َ‬ ‫يفعل يف العامل بطر َ‬
‫َ‬
‫طرق تعرفها حكمةُ هللا وحدها‪ .‬تُن ّقيهم مسبقاً لكي حتوهلم يف ِ‬ ‫كل احلقيقة"‪ ،‬يف ٍ‬
‫اآلخر إىل "أبناء الكنيسة‬ ‫ّ‬ ‫ُْ‬ ‫ِّ‬
‫املستنرين"‪.‬‬
‫ُ‬
‫كل و ٍ‬
‫احد مبفرده‪،‬‬ ‫البشري جبملته‪ ،‬كما يف تفاصيل حياة ِّ‬
‫ّ‬ ‫الروح القدس حاضر يف اتريخ خالص اجلنس‬
‫كما قال الق ّديس ابسيليوس الكبري‪" :‬احلاضر يف ٍ ٍ‬
‫كل مكان"‪ .‬فبحسب الق ّديس نفسه‪ ،‬ميت ّد الروح‬ ‫كل واحد ويف ِّ‬
‫ّ‬
‫"هلم واسكن‬‫بقوته‪ ،‬إالّ أ ّن املستح ّقني وحدهم يشرتكون به‪ .‬فلتكن صالتُنا بال انقطاع حنوه‪َّ :‬‬
‫القدس إىل اجلميع ّ‬
‫كل ٍ‬
‫دنس" آمني‪.‬‬ ‫وطهران من ِّ‬
‫فينا ّ‬

‫‪81‬‬
82
‫أحد مجيع الق ّديسني‬

‫(مت‪)30-27: 19 ،38 -37 ،33 -32 :10‬‬


‫ّ‬

‫الق ّديسون ودينونةُ العامل‬


‫"مّت جلس إبن اإلنسان على كرسي ِ‬
‫جمده‪ ،‬جتلسون أنتم أيضاً‪ ...‬تدينون أسبا َط إسرائيل اإلثين عشر"‬ ‫ُ‬

‫املسيح أكثر من ِّ‬


‫كل ما يف العامل‪ .‬وال تنتمي هذه احملبّة إىل الطبيعة املخلوقة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫إ ّن ق ّديسي الكنيسة أحبّوا‬
‫(األب صفرونيوس)‪ .‬هذا‬
‫ّ‬ ‫يعرب عن كمال احملبّة"‬
‫حّت أبغضوا ذواهتم‪ ،‬وهذا حدث " ّ‬
‫إّّنا هي هبةُ هللا‪ .‬أحبّوا هللا ّ‬
‫ِ‬
‫هوى‪ .‬وصلوا إىل َمقت "األان" عندما قارنوا أنفسهم بيسوع‬
‫كل ً‬‫حب الذات‪ ،‬وهو مصدر ِّ‬‫يعين ّأَنم انتصروا على ّ‬
‫احلقيقي واإلله املتأنّس‪ .‬فهو يكشف لِق ّديسيه عن اإلله الكامل وأيضاً عن اإلنسان الكامل يف شخصه‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان‬
‫أقاموا عالقة شخصيّة مع املسيح من خالل الصالة وأسرار الكنيسة‪ .‬فقد أحبّوا وصاّيه‪ ،‬وحبفظهم هلا عرفوه‬
‫ابلقوة واإلرادة البشريّتَني‬
‫معرفة أعمق‪ .‬ذلك أ ّن وصاّي املسيح تفوق املقاييس البشريّة‪ ،‬وليس ممكن أن ُيفظوها ّ‬
‫الشر األوىل‪ ،‬أي الكربّيء‪ .‬والتواضع‬
‫وحدمها‪ .‬من هنا أ ّن فضيلةُ الق ّديسني األساسيّة هي التواضع‪ ،‬شايف علّةَ ّ‬
‫بقوةِ الروح القدس‪ .‬لذلك نعيّد يوم األحد بعد العنصرة جلميع الق ّديسني معاً‪،‬‬‫املقرون ابلصالة يش ّدد اإلنسا َن ّ‬
‫ألَنم مثرة يوم اخلمسني‪ .‬فهم مثار ّقوة الروح القدس املق ِّدسة يف الكنيسة‪.‬‬
‫ّ‬

‫مهمة من قراءة اإلَنيل‪ ،‬تكشف لنا الطريقة الّيت ستجري هبا‬ ‫ِ‬
‫يف عظة اليوم‪ ،‬سوف نتوقّف عند نقطة ّ‬
‫دور الق ّديسني مضمون احلياة الكنسيّة من منظا ٍر خمتلف‪.‬‬
‫دينونةُ العامل‪ ،‬حيث يُربز لنا ُ‬

‫‪ ‬الق ّديسون سيدينون العامل‬

‫‪83‬‬
‫تفوق احملبّةَ الطبيعيّة‬
‫املسيح بوضوح أ ّن حمبّ تَنا جتاهه ال تتوقّف عند حدود الطبيعة‪ ،‬بل ُ‬
‫َ‬ ‫بعد أن أظهر‬
‫ٍ‬
‫وتبعه‪ .‬فإىل‬
‫كل شيء َ‬ ‫األم واألوالد‪ ،‬كشف لِتالميذه اجملد العظيم الّذي سيملكه َم ْن ترك َّ‬
‫القويّة جتاه األب و ّ‬
‫جانب عدم عبورهم الدينونة‪ ،‬سوف يدين الرسل العامل مع املسيح‪ .‬وعن سؤال بطرس "ها حنن ترْكنا كل ٍ‬
‫شيء‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫(مّت‪ ،)27 :19‬أجاب املسيح قائالً‪" :‬يف التجديد" أي عند جتديد العامل‪" ،‬مّت‬ ‫وتبعناك‪ ،‬فماذا يكون لنا؟" ّ‬
‫جمده جتلسون أنتم أيضاً على اثين عشر كرسيًّا تدينون أسبا َط إسرائيل اإلثين‬ ‫جلس ابن اإلنسان على كرسي ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫املسيح‬
‫َ‬ ‫"ابن اإلنسان" سيدين العامل مع تالميذه‪ .‬وجيب أالّ يغيب عن انتباهنا أ ّن‬
‫(مّت‪ .)28 :19‬إذًا ُ‬ ‫عشر" ّ‬
‫إبن‬ ‫ِ‬
‫نفسه هنا "ابن اإلنسان"‪ .‬نقرأ يف إَنيل يوحنّا أن هللا اآلب أعطى البنه سلطاانً "أن يدين أيضاً ألنه ُ‬
‫سمي َ‬ ‫يُ ّ‬
‫اإلنسان" (يو‪.)27 :5‬‬

‫وصف يوم الدينونة يف إَنيل‬ ‫ِ‬ ‫يصف لِسامعيه َّ‬


‫سر دينونة العامل‪ .‬إ ّن َ‬ ‫ائق كثرية لكي َ‬
‫استخدم املسيح طر َ‬
‫َ‬ ‫لقد‬
‫نكشف لنا اليوم تفصيل مه ّم جدًّا من هذا‬
‫ُ‬ ‫(مّت‪ .)46 -31 :25‬وي‬ ‫بفص ِل "اجلداء" عن "اخلراف" ّ‬ ‫مّت معروف ْ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫"مبجد" يف شخص ابن هللا‪ .‬سوف يُستَعلَن مثالُنا‪،‬‬ ‫احلقيقي‬ ‫اإلنسان‬ ‫ن‬‫السر‪ .‬سوف فدينونةُ العامل سوف تُعلِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ميل قلوبِنا‪ .‬فالدينونة يف جوهرها هي مقارنة‪ ،‬مبا أ ّن اجلميع‬
‫كاشفا َ‬
‫وسيجلب هذا اإلعالن معصيتَنا إىل النور‪ً ،‬‬
‫تتم املقارنة بني املسيح والناس فحسب‪ ،‬بل بني الق ّديسني‪ ،‬تالميذ املسيح األبديّني‪،‬‬
‫سيخرجون إىل النور‪ .‬لن ّ‬
‫وبني الناس‪ .‬سوف يديننا الناس الّذين يعيشون معنا‪ ،‬أو الّذين عاشوا معنا حبسب العادات اخلارجيّة نفسها‪ ،‬ومل‬
‫عذار‬ ‫ِ‬
‫كل ما سنق ّدم لضمائران من أ َ‬ ‫فعل كثريون‪ ،‬بل حفظوا وصاّي املسيح‪ .‬هؤالء سيسحقون ّ‬ ‫يتكاسلوا‪ ،‬كما َ‬
‫آابء‪ ،‬أصدقاء وأقارب من‬‫لكي نُسكتها‪ .‬هكذا إذاً‪ ،‬وفقاً للق ّديس مسعان الالهويت اجلديد "سيدان آابء من ٍ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫كل إنسان خاطىء "سريى إزاءه َمن يُشبهه وسيُدان منه" يف يوم الدينونة‬
‫أصدقاء وأقارب‪ ،‬إخوة من إخوة‪ "...‬و ّ‬
‫الرهيب‪.‬‬

‫‪ ‬الدينونة قبل اجمليء الثاين‬

‫‪84‬‬
‫ألَنم عربوا هبا خالل حياهتم‪ .‬قد يثري هذا‬
‫خالل جميء املسيح الثاين لن يعرب ق ّديسو هللا ابلدينونة ‪ّ ،‬‬
‫الكالم االستغراب لدى مساعنا ّإّيه‪ ،‬ولكنّه احلقيقة الّيت سلّمنا ّإّيها تراث اآلابء الق ّديسني‪ .‬فحياة الق ّديسني‬
‫البشري أن يدرَكها‪ .‬لذلك ال نُدقِّق يف أقو َال اآلابء‬
‫ّ‬ ‫مسترتة "مع املسيح يف هللا" (كو‪ ،)3 :3‬وال ميكن للذهن‬
‫نفسنا إزاءها‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وخرباهتم مب ْج َهر املَنطق‪ ،‬وال نعارضها بل نعارض أ َ‬
‫ط‬
‫عرب الق ّديسون الدينونةَ املستقبلة قبل رقادهم‪ .‬فمخافةُ املوت ترتب ُ‬
‫هم جدًّا أن يتعلّ َم املرء كيف َ‬‫حقًّا ُم ٌّ‬
‫عيش‬ ‫ِ‬
‫يتغري موقفنا من املوت عندما يصبح مضمو ُن حياتنا األرضيّة َ‬ ‫أساسا مبخافة الدينونة الّيت تتبعه‪ .‬وابلتّايل ّ‬
‫ً‬
‫الدينونة املستقبلة‪ .‬وفقاً للق ّديس مسعان الالهويتّ إ ّن نعمةَ هللا تنكشف للعائشني َ‬
‫وفق مشيئته‪ .‬وهذا ال َكشف‬
‫يسي الكنيسة لديهم فكراً متواضعاً جدًّا عن‬
‫اإلهلي هو دينونة لإلنسان‪ ،‬لذلك نرى أ ّن أبر َار العهد القدمي وق ّد ّ‬
‫ّ‬
‫ظ الوصاّي جيعل من‬ ‫أنفسهم‪ّ .‬أما الكربّيء‪ ،‬فعلى العكس‪ ،‬ت ُّ‬
‫دل على أ ّن نعمةَ هللا غائبة عند اإلنسان‪ .‬هلذا حف ُ‬
‫اإلنسان مسكناً هلل‪ ،‬واكتشافه لذاته ُي ّق ُق الدينونةَ‪.‬‬

‫من خالل هذا كلّه يظهر أ ّن الكنيسةَ تدخلنا يف شركة مع هللا‪ ،‬وتقودان إىل عيش الدينونة قبل اجمليء‬
‫اان حقيقيًّا‪" ،‬له حياة‬ ‫ٍ‬
‫مجيعا‪ .‬املؤمن إميً ً‬
‫الثاين‪ .‬عندئذ يتج ّدد العامل وينتصر َنائيًّا على املوت‪ .‬ولكن لن يُدان الناس ً‬
‫عمل‬
‫أبديّة وال أييت إىل دينونة"(يو‪،)24 :5‬كما يقول السيّد املسيح‪ .‬إذاً‪ ،‬على أساس هذه احلقائق‪ ،‬أيخ ُذ ُ‬
‫حر ٍية‬
‫حرية ال تعرف حدوداً‪ ،‬إىل ّ‬
‫الكنيسة أبعاداً أوسع من الّيت نعطيها له حنن عاد ًة‪ .‬فهو يقود اإلنسان إىل ٍ‬
‫ّ‬
‫تكون مثرةَ الطاعة ِ‬
‫ملشيئة هللا‪ ،‬وتتخطّى أيضاً َّ‬
‫حد الدينونة األخرية‪.‬‬

‫مي هو‪:‬‬ ‫ِ‬


‫نفوسنا حلكم هللا ضمن األعمال اليوميّة؟ جواب الق ّديس يوحنّا السلّ ّ‬ ‫ولكن كيف نسلّ َم َ‬
‫الرب وميزانه وعرش دينونته‪ ،‬الّذي يسبق العرش اآليت"‪ .‬فبالصالة‬
‫"ابلصالة"‪ ،‬أل ّن الصالةَ احلقيقيّة "هي حمكمةُ ّ‬
‫كشف نعمةُ هللا خطيئتنا وتقودان إىل التوبة الصادقة وإىل تغيري ِ‬
‫نفوسنا‪ .‬آمني‪.‬‬ ‫تَ ِ‬
‫ُ‬

‫األحد الثاين بعد العنصرة‬


‫‪85‬‬
‫(مّت‪)23 -18 :4‬‬
‫ّ‬

‫الدعوة واالستجابة‬
‫"هلمَّ ورائي فأجعلكما صيّادَي الناس"‬

‫إ ّن احلياةَ من دون املسيح ليست حياةً حقيقيّة‪ ،‬بل هي موت‪ .‬لذلك مهما يغتين العامل ابملظاهر‪ ،‬ليس له‬
‫أدّن قيمة إالّ يف وجه اإلله اإلنسان‪ .‬هذا ما كان تالمي ُذ املسيح يعرفونه جيدًّا‪ ،‬ولذلك هجروا كل ٍ‬
‫شيء وتبعوه‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬
‫(مّت‪ ،)18 :4‬ويعقوب‬ ‫ِ‬
‫وجدهم املسيح منشغلني بعملهم‪ .‬كان أندراوس وبطرس يرميان "الشبكة يف البحر" ّ‬ ‫لقد َ‬
‫أتت دعوةُ املسيح مقتضبة حتمل معاين كثرية‪" :‬هل هم ورائي فأجعلكما‬ ‫ويوحنّا يُصلحان شبا َكهما مع أبيهما‪ْ .‬‬
‫كب‪،‬‬
‫الشباك‪ ،‬واملر َ‬
‫َ‬ ‫ويوحنا‬
‫حارًة وفوريّة‪ .‬ترك يعقوب ّ‬ ‫(مت‪ّ .)19 :4‬أما تلبية التالميذ فكانت ّ‬ ‫ادي الناس" ّ‬ ‫صيّ َ‬
‫الطماع امل ِج ّد‪ ،‬وهو مثال اإلنسان احلكيم يف نظر‬
‫ّ‬ ‫وأابمها‪ ،‬وتبِعا يسوع‪ .‬فلو قِ ْسنا قر َار هؤالء مبقاييس اإلنسان‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫أتعاهبم من غري نتيجة‪ .‬فيا ترى ماذا‬
‫منطقي‪ .‬لقد تركوا عملَهم يف وسطه‪ ،‬و َ‬ ‫وغري‬
‫ّ‬ ‫هذا العامل‪ ،‬لبَدا قر ُارهم ُمبالَغًا َ‬
‫عرضها عليهم املسيح‪ ،‬مهنةُ "صيّ َادي الناس"؟‬
‫كانت تعين هلم هذه مهنة جديدة َ‬

‫درك مدى عمقها ورحابتها‪.‬‬


‫يدرك عظمةَ دعوةَ هللا‪ .‬ال ميكنه أن يُ َ‬
‫البشري احملدود ال ميكنه أن َ‬
‫ّ‬ ‫العقل‬
‫إ ّن َ‬
‫ضح قليالً عندما ترتبط مبقاطع أخرى من الكتاب املق ّدس‪ .‬فنجد هذه‬
‫ولكن يبدو أ ّن صفةَ "صيّ َادي الناس" تت ّ‬
‫املعاين يف قول بولس الرسول‪" :‬حنن محقى من أجل املسيح‪ ...‬حنن ضعفاء‪ ...‬صران شبه أقذار العامل" (‪1‬كو‪:4‬‬
‫(مّت‪:16‬‬
‫يتبعين فليكفر بنفسه‪ّ "...‬‬
‫القول "من أراد أن َ‬
‫"هلم ورائي" تساوي يف املعىن َ‬
‫‪ .)13 -10‬وكذلك عبارة ّ‬
‫يق‬
‫يق احملبّة املصلوبة‪ .‬طبعاً مل يستطع هؤالء أن يعرفوا منذ البدء‪ ،‬الطر َ‬
‫فتح طر َ‬
‫املسيح‪ ،‬يف دعوته للرسل‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫‪ .)24‬إ ّن‬
‫ضه إليهم املسيح‪.‬‬‫الّيت اختاروها‪ .‬إالّ ّأَنم برهنوا عن حتلّيهم ابلشروط الالّزمة للعمل العظيم الّذي ّفو َ‬

‫مين فال يستح ّقين"‬‫أحب أابً أو ًّأما أكثر ّ‬


‫الرسل األربعة يطبّقون اآلية "من َّ‬
‫َ‬ ‫يف قراءة إَنيل اليوم‪ ،‬نرى‬
‫شهود عيان للعجائب الباهرة‪ ،‬وقبل أن يسمعوا هذه اآلية‪ ،‬لبّوا دعوَة املسيح‬
‫(مّت‪ .)37 :10‬فقبل أن يصبحوا َ‬ ‫ّ‬
‫‪86‬‬
‫صوت الناموس‬
‫َ‬ ‫وحارة‪ .‬هذا يشري إىل أ َّنم كانوا "أرضاً صاحلة"‪ ،‬و ّأَنم مسعوا بوضوح يف أنفسهم‬
‫تلبيةً سريعة ّ‬
‫الداخلي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الطبيعي‪ ،‬أال وهو الضمري‪ ،‬أي إَنيلنا‬
‫ّ‬
‫أي لقاء ُم ْسبَق‬
‫مّت ال يذكر َّ‬
‫األولني‪ .‬فإَنيل ّ‬
‫ولكن هل ّم ننظر أبش ّد تدقيق إىل دعوة املسيح للتالميذ ّ‬
‫للمسيح بتالميذه‪ ،‬وهذا يولّد حريةً مباركة‪ .‬كيف وافق هؤالء األربعة‪ ،‬املزمعون أن يصبحون تالمي َذه فيما بعد‪،‬‬
‫حياهتم السابقة كلَّها‪ ،‬ويدخلوا يف ٍ‬
‫مسرية‬ ‫موافقة فوريّة على دعوة معلّ ٍم جمهول‪ ،‬السيّما وقد طلب منهم أن ينكروا َ‬
‫جيهلون َنايتَها؟‬

‫‪ ‬الدعوة الثانية‬

‫الذهيب الفم يوضح لنا هذا الغموض‪ ،‬فيلفتنا إىل اختالف إَنيل يوحنّا عن سواه يف‬‫ّ‬ ‫إ ّن الق ّديس يوحنّا‬
‫دل تالمي َذه على املسيح‪ ،‬ونرى أ ّن‬
‫وصف دعوة الرسولني أندراوس وبطرس‪ .‬يف هذا اإلَنيل‪ ،‬نرى يوحنّا السابق ي ّ‬
‫يوحنا‪ّ .‬أما يف قراءة إَنيل اليوم‪ ،‬فكان يوحنّا يف سجن هريودس‪ ،‬وقد‬
‫أندراوس هو أحد الّذين استجابوا إلشارة ّ‬
‫جرى ذلك يف فرتةٍ زمنيّة أخرى‪.‬‬

‫اخلارجي الب ّد أن يرى يف األمر تضارابً‪ .‬ولكنّه ليس‬


‫ّ‬ ‫النصوص املق ّدسة من مظهرها‬
‫َ‬ ‫فهم‬
‫وإ ّن من ُياول َ‬
‫مّت‬
‫كذلك‪ .‬فاإلَنيليّان يصفان حدثني خمتلفني ينرياننا متاماً بشأن السؤال املطروح‪ .‬إ ّن دعوة التالميذ يف إَنيل ّ‬
‫املدعو ّأوالً‪ ،‬يعين ّأول من دعاه املسيح‪،‬‬
‫هي الدعوة الثانية‪ ،‬وقد سب َقْتها تلك الواردة يف إَنيل يوحنّا‪ .‬وأندراوس ّ‬
‫يفسر تلبيتَه السريعة للدعوة‪ .‬مل يكن يسوع ابلنسبة إليهم معلّماً جمهوالً‪ ،‬بل امتلكوا‬
‫أقام معه يوماً كامالً‪ ،‬وهذا ما ّ‬
‫شهادة يوحنّا له‪ ،‬وقد ثبّتتها خربهتم الشخصيّة‪.‬‬

‫عفوّي‪ ،‬بل الثمرة الناضجة إلعداد‬


‫متسرعاً و ًّ‬
‫إذاً نفهم من ذلك أ ّن قر َار التالميذ ابتّباع املسيح مل يكن ّ‬
‫ائيلي‪ ،‬منتظرين املسيّا‪،‬‬
‫عمدان هلم وخلربهتم الشخصيّة‪ .‬فقد عاش التالميذ أانساً على رجاء الشعب اإلسر ّ‬‫يوحنّا املَ َ‬
‫احلق الصادرة عن هللا‪ .‬وجدوا يف‬
‫رهف‪ ،‬ففهموا كلمةَ ّ‬ ‫روحي ُم َ‬ ‫ٍ‬
‫حبس ّ‬ ‫النبوي األصيل‪ .‬متتّعوا ّ‬
‫ّ‬ ‫وانتموا إىل الرتاث‬

‫‪87‬‬
‫كل ما كان يعطي احلياة معناها يف نظر‬ ‫كل شيء وتبعوه‪ .‬ازدروا ب َّ‬ ‫"كالم احلياة األبديّة"‪ ،‬ولذا هجروا َّ‬
‫َ‬ ‫املسيح‬
‫أرضي‪ .‬هكذا‬ ‫اآلخرين وال يزال‪ ،‬مربهنني هبذا عن جرأةٍ ونكر ٍان للذات مها خري دليل على التحرر من كل ر ٍ‬
‫ابط‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫وخاصةً من رسله‪ ،‬مبعىن ّأَنم أمتّوا الشرو َط املطلوبة ليصبحوا "صيّادي الناس"‪،‬‬
‫ّ‬ ‫توفّر لديهم ما يريده هللا من رجاله‪،‬‬
‫أي أدوات حتقق هبا نعمة هللا عمل اخلالص يف العامل‪.‬‬

‫‪" ‬صيّادو الناس"‬

‫تمزق الشبكة وتستعيد‬


‫القوة ل ّ‬
‫وختَرج من املياه‪ ،‬تتخبّط‪ ،‬وكثرياً ما جتد ّ‬
‫إ ّن السمكة‪ ،‬حينما تقع يف الشباك ُ‬
‫الصور ورموز الكون املستخدمة يف الكتاب‬
‫َ‬ ‫حريتَها داخل املياه‪ .‬تشعر ابلصيّاد والشباك أعداءَ هلا ُمهلكني‪ّ .‬أما‬
‫ّ‬
‫اخلالصي‪ .‬ليس‬
‫ّ‬ ‫معىن جديداً يدخل يف إطار التدبري‬
‫تعرب عن ثناّي أسرار هللا‪ ،‬وتكسب ً‬ ‫املق ّدس فتحاول أن ّ‬
‫لشباك الرسل يف حبر العامل هدف إخراج الناس من بيئتهم الطبيعيّة‪ ،‬لتُقيّ َدهم وُمتيتَهم‪ .‬فكلمتهم إّّنا تصطادان من‬
‫حبر اخلباثة‪ ،‬من مياه اإلحلاد واخلطيئة العكرة‪ ،‬وتُغلق علينا يف شبكة وصاّي هللا اخلالصيّة‪ ،‬الّيت لنا أن نفلت منها‬
‫لننعتق من سلطتهم‪ .‬نتخبّط مثل السمك‬ ‫ِ‬
‫إذا غلَبنا صغَر النفس‪ .‬واحلق‪ ،‬إنّنا كثرياً ما نعارض الّذين يساعدوننا‪َ ،‬‬
‫حلريتنا‪ ،‬فنبدأ َنامجهم‪.‬‬
‫خارج املياه‪ .‬نراهم أعداءَ ّ‬
‫األبوة الروحيّة‪ .‬إ ّن الرسل اصطادوا املسكونة من حياة عبادة‬
‫هذا هو نصيب احلياة الرسوليّة‪ ،‬وصليب ّ‬
‫اخلالصي عن اخلطيئة‪ .‬وهبوها حيا َة النعمة واقتادوها من املوت إىل احلياة‪ .‬ولكنّهم‬
‫ّ‬ ‫األواثن وقادوها إىل املوت‬
‫كالمهم‪ّ .‬أما هم‪ ،‬فلم‬
‫مشاكل كثرية بسبب صغر النفس لدى امللحدين واإلخوة الكذبة‪ ،‬الّذين مل يتقبّلوا َ‬
‫َ‬ ‫واجهوا‬
‫ط عن حمبّة العامل وعن االصطياد فيه‪ ،‬إن جاز القول‪ ،‬إىل حني استشهادهم‪.‬‬
‫يتوقّفوا ق ّ‬

‫‪88‬‬
‫األحد الثالث بعد العنصرة‬

‫(مّت‪)33 -22 :6‬‬


‫ّ‬

‫االنقسام بني سيّدين‬


‫"ال يقدر أحد أن خيدمَ سيّدين"‬

‫أضعاف ما‬
‫َ‬ ‫أضعاف و‬
‫َ‬ ‫يدمر الطبيعة‪ .‬فرغبة اإلنسان غري املستكينة يف زّيدة املمتلكات وإنفاقُه‬
‫إ ّن الطمع ّ‬
‫شّت النّظرّّيت الفلسفيّة‬
‫ُيتاج إليه أَخالّ توازن البيئة الطبيعيّة‪ .‬وقد اعتدان‪ ،‬كلّما طرأت مشكلة ما‪ ،‬أن نبتدع ّ‬
‫حل‬ ‫ِ‬
‫(األيديولوجيّات) واألساليب لمواجهتها‪ ،‬كما نرى يف ما يُعرف ابملشاكل البيئيّة الّيت هت ّدد كوكبَنا‪ .‬إالّ أ ّن ّ‬
‫كل نظريّة فلسيّة‬
‫ألَنا هي أيضاً ختلق مشاكل‪ ،‬وفيها انتهاك للحقيقة‪ُّ .‬‬ ‫املشاكل ال يكمن يف النظرّّيت‪ّ ،‬‬
‫آخر‪ ،‬يف‬ ‫ٍ‬
‫حل املشاكل يكمن يف مكان َ‬ ‫(أيديولوجية) بشريّة هي ديكتاتوريّة روحيّة تعيق رؤيتنا لألمور بوضوح‪ .‬ف ُّ‬
‫الداخلي الّذي منه تنبع املشكلة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عالج تف ّكك اإلنسان‬

‫عناصر الطبيعة‪ :‬إنّه قَل ُقنا من أجل‬


‫َ‬ ‫لشر الّذي يزعزع‬
‫احلقيقي ل ّ‬
‫ّ‬ ‫إ ّن قراءة إَنيل اليوم تدلّنا على السبب‬
‫ض‬ ‫الطعام واللباس‪ ،‬واضطرابنا من السؤال "ماذا سنأكل ونشرب أو ماذا سنلبس؟"‪ .‬يصري هذا السؤال ً‬
‫عذااب يَ ُق ّ‬
‫مضجعنا عندما تنقسم نفوسنا بني هللا و "املال"‪ ،‬أي عندما ال نضع رجاءَان كلّه على هللا‪ ،‬بل نعتمد ابألكثر يف‬
‫أحدا ال يقدر أن يكون "خادماً‬
‫ولكن ً‬
‫عام‪ّ .‬‬
‫حياتنا على الغىن‪ ،‬ظانّني أنّه ضمانة مأكلنا ولباسنا‪ ،‬وراحتنا بشكل ّ‬
‫كالم املسيح هذا يوضح أن الّذين يعتمدون يف حياهتم على أمور أو على قوى خارجة‬
‫(مّت‪ُ .)6:24‬‬
‫لسيّدين" ّ‬
‫احلقيقي‪ ،‬بل يعيشون‬
‫ّ‬ ‫الكل‬
‫برب ّ‬ ‫عن هللا‪ ،‬هم يف احلقيقة بعيدون جدًّا عنه‪ .‬ليس هللا سيّ َدهم‪ ،‬أي ال يرتبطون ّ‬
‫وثنيًّا‪ ،‬أل ّن عبادة األواثن يف جوهرها هي اعتماد حياتنا على املخلوقات ال على هللا‪ .‬هي اإللتصاق ابخلليقة‬
‫وليس ابخلالق‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫‪" ‬ال هتت ّموا"‪ ،‬ولكن ليس " ال تعملوا"‬

‫ّنر به مرور الكرام‪ .‬فلنطرح‬ ‫ِ‬


‫احلل‪ ،‬شرط أالّ ّ‬
‫إ ّن هذا الكالم اإلَنيل ّي البسيط يُربز إزاءان مسائل صعبة ّ‬
‫بعض األسئلة الّمتولّدة من قراءة إَنيل اليوم‪.‬‬

‫املسيح يربط العبوديّةَ للمال ابالنشغال من أجل الطعام والشراب واللباس‪5.‬من هنا الوصيّة‪" :‬ال‬
‫َ‬ ‫نرى‬
‫(مّت‪ .)25 :6‬هذه األمور كلّها تبحث عنها‬
‫هتتموا حلياتكم مبا أتكلون ومبا تشربون‪ ،‬وال ألجسادكم مبا تلبسون" ّ‬
‫ّ‬
‫عرب عنه ابلعمل‪ ،‬فيا ترى‪ ،‬ما معىن العمل‪ ،‬الّذي هو‬
‫األمم‪ ،‬أي الوثنيّيون‪ .‬ولكن ما هو هذا االهتمام؟ االهتمام يُ َّ‬
‫أيضاً وصيّة من هللا؟ إ ّن هللا قبل السقوط أعطى اجلنّة آلدم "ليعملها وُيفظها" (تك‪ .)2:15‬وبعد السقوط قال‬
‫خبزك" (تك‪ .)19 :3‬أال تشمل كلمة "عرق جبينك" اجتهاد اإلنسان من أجل توفري‬
‫له "بعرق جبينك أتكل َ‬
‫احلق إن عرق اجلبني عند آدم ونسله ال أييت من التعب اجلسدي فحسب‪ ،‬بل أيضاً من ِ‬
‫قلق النفس‬ ‫حاجاته؟ ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫"بعرِق جبينك‬
‫عرق اإلنسان ابملوت‪ .‬قال آلدم‪َ :‬‬
‫الّيت تواجه مشاكل املعيشة الضخمة‪ .‬ومن الالفت أن هللا يربط َ‬
‫أخذت‪ ،‬ألنّك تراب وإىل الرتاب تعود" (تك‪ .)3:19‬قبل‬
‫َ‬ ‫حّت تعود إىل األرض الّيت منها‬
‫خبزك‪ّ ،‬‬
‫سوف أتكل َ‬
‫السقوط‪ ،‬محَ َل العمل معىن خمتلفاً‪ .‬مل يرتبط بقلق املعيشة‪ ،‬بل وفقاً للق ّديس غريغوريوس الالهويتّ كان العمل‬
‫هتتموا" ال تعين أن "ال تعملوا"‪ ،‬وال أيضاً "ال تبالوا‬
‫هتماما ابألمور اإلهليّة‪ .‬جيب أن نشري هنا إىل أ ّن وصيّة "ال ّ‬
‫ا ً‬
‫أنكر اإلميان"‬
‫خباصته‪ ...‬فقد َ‬
‫ابلّذين تتعلّق حياهتم بكم" (الواقعني حتت مسؤوليّتكم)‪" .‬إن كان أحد ال يعتين ّ‬
‫(‪1‬تيمو‪ .)5:8‬فال نودع "بعضنا بعضاً" وحياتنا كلَّها ّقوةَ أيدينا‪ ،‬بل لنرتك نتيجةَ تعبنا كلّه بني يدي هللا‪ .‬فنحن‬
‫يهتم بسائر تفاصيل حياتنا‪ ،‬وأ ّن شعرة واحدة من رؤوسنا ال تسقط من دون مشيئته‪.‬‬
‫نؤمن أ ّن هللا ّ‬
‫اخلِنا‪ ،‬حيث‬
‫وابلو ِصية "ال هتتموا" يريد املسيح أن ينتزع انتباهنا من األشياء اخلارجية ويوجهه إىل دو ِ‬
‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ ّ‬
‫الداخلي الّذي‬
‫ّ‬ ‫العمل‬
‫َ‬ ‫نمي‬
‫ويكرسنا لألمور اجلوهريّة‪ ،‬وأن نُ ّ‬
‫يعتقنا من االضطراابت الباطلة ّ‬
‫ملكوتُه‪ .‬ويريد أن َ‬

‫يستخدم النّص اليونان ّ‬


‫ي لفظة "م ّمون" وهو إله المال عند الشعوب القديمة (المترجم)‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪90‬‬
‫(مّت‪ ،)33 :6‬وسائر األمور األخرى‬
‫وبره" ّ‬
‫ملكوت هللا َّ‬
‫َ‬ ‫ُيركه ّأوالً التفتيش عن النعمة ابلصالة‪" .‬اطلبوا ّأوالً‬
‫ّ‬
‫ستُعطى لكم من دون أن تقلقوا‪.‬‬

‫‪ ‬الشعور مع الطبيعة‬

‫احلس جتاهها‪.‬‬ ‫ِ‬


‫يدمرها اإلنسان بدل أن "ُيفظَها" بعمله‪ .‬هذا ُيصل ألنّنا فقدان َّ‬ ‫إذاً‪ ،‬فلنعد إىل البيئة الّيت ّ‬
‫أمسينا ال نرى اخلليقةَ كعطيّ ٍة من هللا‪ .‬وهكذا نتمتّع بثمارها‪ ،‬ولكن من دون شكر‪.‬‬
‫مشاعران و َ‬
‫ُ‬ ‫ظت‬
‫قد غلُ ْ‬

‫لق جتاه احلاجات اليوميّة خيلق ما يُعرف ابملشاكل البيئيّة‪ .‬يتولّد القلق من‬
‫لقد سبق وأشران إىل أ ّن الق َ‬
‫احلي الّذي يولّده اإلميان ابهلل‪ ،‬تؤول بنا‬ ‫ٍ‬
‫اجملهول‪ ،‬ووجود املوت يع ّذبنا بضمري مريض‪ .‬عندما ننفصل عن الرجاء ّ‬
‫الصعوابت إىل األاننيّة‪ .‬وإ ّن عدم األمان الّذي نشعر به يرمينا يف االنشغال املضطرب جبمع الغىن واخلريات‪،‬‬
‫كل موارد الغىن‬
‫ّنو الصناعة‪ ،‬واألسلحة الناريّة واستنزاف ّ‬
‫يؤمن حاجتنا‪ .‬إذاً‪ ،‬ميكن القول إ ّن طريقة ّ‬
‫عساان َند ما ّ‬
‫يف األرض هي األسباب األساسيّة لدمار البيئة‪ ،‬وهي عوارض حضارة يتملّكها خوف املوت‪ .‬فاحلضارة فقدت‬
‫وثن الرفاهيّة املاديّة مكا َن هللا‪.‬‬
‫ألَنا أقامت َ‬
‫الّرجاء ّ‬
‫ٍ‬
‫حباجة إىل عني‬ ‫انبق احلقل"‪ .‬حنن‬
‫أتملوا ز َ‬
‫هتتموا‪ّ ...‬‬
‫حل هذه املشاكل كّلها يكمن يف وصيّة "ال ّ‬ ‫إ ّن َّ‬
‫حنتاج أيضاً إىل نور اإلميان ابملسيح‬
‫أدق التفاصيل‪ .‬و ُ‬
‫وقوتَه يف اخلليقة كلّها‪ ،‬وعنايتَه يف ّ‬
‫بسيطة‪ ،‬لعلّنا نرى حمبّ َة هللا ّ‬
‫الّذي ميأل حياتَنا ابلرجاء‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫األحد الرابع بعد العنصرة‬

‫(مت‪)19 -14 :5‬‬


‫ّ‬

‫كمال الناموس واجملامع املسكونيّة‬


‫"مل ِ‬
‫آت ألحلّ‪ ،‬بل ألكمّل"‬
‫إ ّن شخص املسيح هو مركز اتريخ العامل أبسره‪ .‬فهو "األلف والياء‪ ،‬األول و ِ‬
‫اآلخر‪ ،‬البداية والنهاية"‬ ‫ّ‬
‫(رؤ‪ .)13 :22‬لذلك مسرية املؤمنني املسيحيّني الروحيّة ختتلف متاماً عن مسرية سواهم من البشر‪ .‬هدفهم ليس‬
‫اكتشاف ما ال نعرفه من نواميس الطبيعة‪ ،‬وال ابتكار أنظمة ترمي إىل إصالح اجملتمع عساه يصبح أكثر عدالةً‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫ات تتالشى‬‫كذلك ال يفتّشون عن علّة الكون يف مبادىء مطلقة ال شخصية ‪ ،‬وال يهدفون إىل الذوابن‪ ،‬كقطر ٍ‬
‫ّ‬
‫اإلحماء من الوجود‪ ،‬كما ال يقبلون اخلضوع‬
‫حميط الوعي الكوينّ‪ ،‬وهو غري املوجود‪ .‬املؤمنون ال يرغبون يف ّ‬
‫لنواميس طبيعيّة ال شخصيّة ‪ .impersonels‬حياهتم مركزها املسيح الّذي أتى وسيأيت أيضاً‪ ،‬احلاضر يف العامل‪،‬‬
‫حية تشمل معاين احلياة كلّها‪.‬‬
‫واملُنتَظر يف الوقت نفسه‪ ،‬إذ إننا نرتبط به بعالقة شخصيّة ّ‬

‫كز العامل شخص واحد هو يف الوقت‬


‫احلق واحلياة" (يو‪ .)6 :14‬يعين ذلك أن مر َ‬
‫املسيح هو "الطريق و ّ‬
‫ورب ضابط الكل‪ :‬إنّه اإلله اإلنسان‪.‬‬
‫نفسه إنسان مثلنا ّ‬

‫‪ ‬اآلابء الق ّديسون واجملامع املسكونيّة‬

‫ظهر عدد كبري‬


‫املعمدين مل يدركوا كلّهم بسهولة حقيقة شخص املسيح‪ .‬يف اتريخ الكنيسة‪َ ،‬‬
‫إ ّن املسيحيّني َّ‬
‫أتثر‬ ‫ٍ‬
‫من احلكماء والفهماء حبسب العامل وهؤالء مل يستطيعوا تقبّ َل إميان الكنيسة ببساطة قلب‪ .‬منهم من ّ‬
‫اجهت الكنيسة‬ ‫ٍ‬
‫الشعب تعاليم هرطوقيّة‪ .‬حينئذ و ْ‬
‫َ‬ ‫ابليهوديّة‪ ،‬ومنهم ابلفلسفة اليواننيّة‪ ،‬فأفسدوا اإلميان وعلّموا‬

‫‪( Systèmes de réforme sociologique6‬المترجم)‪.‬‬


‫ُعرف في الديانات الشرقيّة الّتي تس ّمي هللا "المطلَق" أو "الالمتناهي" ‪( L’Infini, L’ Absolu‬المترجم)‪.‬‬
‫‪ 7‬هذا ما ي َ‬

‫‪92‬‬
‫ثوذكسي مبصطلحات‬
‫ّ‬ ‫اهلرطقات بتعاليم اآلابء الق ّديسني امللهمة من هللا‪ .‬لقد التأموا يف جمامع‪ ،‬وح ّددوا اإلميا َن األر‬
‫ُ‬
‫وشارك فيها ممثّلون عن‬
‫َ‬ ‫ُعطي صفة املسكونيّة‪ .‬هذه دعا إليها أابطرة‬ ‫أهم تلك اجملامع ما أ َ‬ ‫هلا سلطة جامعة‪ .‬و ّ‬
‫الكنائس احمللّية كلّها‪.‬‬

‫وجيب القول إ ّن انعقاد أحد اجملامع‪ ،‬مع مراعاة الشروط القانونيّة كلّها‪ ،‬ال يش ّكل ضمانة أرثوذكسيّته‪.‬‬
‫اجملمع ال يصنع‬
‫األب رومانيذس أ ّن َ‬ ‫كتب ّ‬ ‫فالضمانة يف الكنيسة هي اآلابء الق ّديسون الّذين تتبعهم اجملامع‪َ .‬‬ ‫ّ‬
‫آابءً بل يتألّف من آابء‪ ،‬لذلك هو ُملهم من هللا‪ .‬جممع بدون أشخاص ُم َلهمني إهليًّا ال يكون ُملهماً من هللا‪،‬‬
‫الفرق بني اجملامع األرثوذكسيّة وغري األرثوذكسيّة‪ .‬والكنيسة‪ ،‬يف إحضارها اليوم إىل ذهنِنا اجملامع‬
‫فس ُر َ‬ ‫وهذا ما ي ّ‬
‫ٍ‬
‫بلهجة قاطعة اإلميا َن القومي‬ ‫انتصرت على هرطقات القرون الثمانية األوىل‪ ،‬تريد أن تُظ ِهَر‬ ‫املسكونيّة السبعة الّيت‬
‫ْ‬
‫تود تكرميَ اآلابء الق ّديسني الّذين عقدوها‪.‬‬
‫بشخص املسيح ويف الوقت نفسه ّ‬

‫ونعرتف ابجلميل‬
‫ُ‬ ‫نعرتف إبميان اجملامع املسكونيّة السبعة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫العيد اليوم يعين إعرتافاً ابإلميان وعرفاانً ابجلميل‪.‬‬
‫فنمجده‪.‬‬
‫هلل الّذي أعطاان "اآلابءَ أنواراً على األرض"‪ّ ،‬‬
‫"كملته" بصياغتها له كي‬
‫عاشت الكنيسة مبوجبه‪ ،‬إّّنا ّ‬
‫ْ‬ ‫"حبل الناموس" الّذي‬
‫مل تَ ُقم اجملامع املسكونيّة ّ‬
‫"ُيل ملء الالهوت‬ ‫ٍ‬
‫عربت يف ظروف خمتلفة عن احلقيقة القائلة إنّه يف املسيح ّ‬ ‫تؤم َن على حياة أعضائها‪ّ .‬‬ ‫ّ‬
‫جسدّي" (كول‪.)9 :2‬‬ ‫ًّ‬

‫ألكمل"‬ ‫ِ‬
‫ألحل بل ّ‬
‫‪" ‬مل آت ّ‬
‫(مّت‪ .)17 :5‬قبل أن‬
‫ألكمل" ّ‬‫ألبطل بل ّ‬
‫َ‬ ‫جئت‬
‫ألبطل الشريعة أو األنبياء‪ ،‬ما ُ‬
‫َ‬ ‫جئت‬
‫أين ُ‬ ‫"ال تظنّوا ّ‬
‫ليكمله‪ .‬وهكذا‬ ‫يعطي املسيح وصاّيه الّيت تفوق الناموس القدمي‪ ،‬قال إنّه مل ِ‬
‫تقليد موسى واألنبياء بل ّ‬
‫أيت ليُلغي َ‬ ‫َ‬
‫أر َاد أن يتدارك إحداث االضطراب لدى الّذين آمنوا أ ّن الناموس هو من هللا‪ ،‬ولو مل ُيفظوه‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫التجسد‪ ،‬كان‬
‫ّ‬ ‫أبعادا إجتماعيّة‪ .‬فقبل‬
‫إ ّن كالم املسيح هذا له مضمون الهويتّ‪ ،‬ولكن لنا أن نعطيه ً‬
‫املسيح يكشف ذاته لألنبياء بصفته "الكلمة" ويل ّقنهم تدرجييًّا معرفةَ هللا الثالوث‪ .‬إذاً الناموس القدمي هو عمله‬
‫ض ذاته‪ .‬فقد جاء ذلك الناموس مبا يناسب قَسوَة قلب الشعب‪ ،‬لذلك مل يكن كامالً‪.‬‬
‫اخلاص‪ ،‬ولو ألغاه لَناقَ َ‬
‫ّ‬
‫يستشف ألوهيّ تَه من خالل‬
‫ّ‬ ‫حّت يقدر أن‬
‫الشعب حلضور املسيح‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫أشار إىل اخلطيئةَ وتكلّ َم أبمثال جسديّة‪ .‬هيّأ‬
‫َ‬
‫اين إىل‬ ‫حضوره اجلسدي‪ .‬ومبجيئه‪ ،‬كمل املسيح الناموس ‪ ،‬ومل ي ِ‬
‫وحوله من جسد ّ‬ ‫احلقيقي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫كشف معناه‬‫َ‬ ‫بطْلهُ‪.‬‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫روحاينّ‪ ،‬حبيث ال يتوقّف عند اإلشارة إىل اخلطيئة‪ ،‬بل يتق ّدم إىل أتمني شفائها‪ .‬لقد أخ َذ املسيح طبيعتَنا البشريّة‬
‫ٍ‬
‫ومشرب‪ .‬جعلنا ابملعموديّة‬ ‫ٍ‬
‫كمأكل‬ ‫وق ّد َمها هلل اآلب خاضعة ُمطيعة‪ ،‬فجعَلها مصدراً لنعمتِه‪ ،‬وسلّمنا ّإّيها‬
‫ومسحة املريون أعضاء ِ‬
‫جسده املق ّدس‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫الطبيعي‪ .‬وحنن‪،‬‬ ‫اجملتمع‬ ‫ر‬‫تطو‬ ‫أجل‬ ‫من‬ ‫ًّا‬
‫جد‬ ‫مهم‬
‫ٌّ‬ ‫"‬ ‫ألحل‬ ‫فالبعد االجتماعي لكلمة املسيح "مل ِ‬
‫آت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫أنشطتَ ِه ُخيطىء‬
‫كمسيحيني مؤمنني‪ ،‬ليس دوران أن نلغي ما ينقص بل أن نكمله‪ .‬اإلنسان يف كل جماالت ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بح الكثري أو‬‫اخلري‪ .‬يف عامل يرى الل ّذ َة أو الطمع يف الر َ‬
‫وحّت يف اخلطيئة يطلب َ‬
‫بسبب مفهومه املغلوط للخري‪ّ ،‬‬
‫الشرعي لل ّذة اجلسديّة‪ ،‬وابملل ّذات الروحيّة وابإلكتفاء‬
‫ّ‬ ‫أمورا حسنة‪ ،‬ال ب ّد أن نذ ّكر ابالستخدام‬
‫الثأر من األعداء ً‬
‫من جهة اخلريات املاديّة‪ ،‬وابلشغف ابلروحيّات‪ .‬كما جيب أن نلفت إىل كبح الغضب املدفوع من املصلحة‬
‫احلق‪.‬‬
‫كل خطيئة واحنراف عن ّ‬
‫الشخصيّة‪ ،‬ال "الغضب الكلّي العدل" الواجب ض ّد ّ‬
‫اإلجيايب‪ ،‬ال سيّما أ ّن هذه عقليّة‬ ‫عامةً عن النقد العقيم‪ ،‬وحتثّنا على العمل‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫ألحل" تثنينا ّ‬
‫إ ّن عبارة "مل آت ّ‬
‫ٍ‬
‫مبضمون‬ ‫كملوها"‬
‫يرتددوا يف استعمال مصطلحات الفلسفة اليواننيّة بل " ّ‬ ‫آابء اجملامع املسكونيّة‪ ،‬الّذين مل ّ‬
‫ثوذكسي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أر‬

‫‪ ‬احملبّة كمال الناموس‬

‫‪94‬‬
‫"ليكم َل" الناموس‪ .‬وحبسب بولس الرسول‪" ،‬احملبّة هي كمال الناموس" (رو‪:13‬‬ ‫ّ‬ ‫إذاً‪ ،‬أتى املسيح‬
‫احلق يتماهى واحملبّة‪ .‬هذا يعين أنّه ما من ح ّق‬
‫أظهر لنا أ ّن ّ‬
‫حقيقة هللا واإلنسان‪َ .‬‬
‫َ‬ ‫‪ .)10‬لقد كشف املسيح لنا‬

‫خارج احملبّة‪ ،‬وما من حمبّة خارج احل ّق‪ .‬ذلك أل ّن احملبّة ليست مشاعر ظاهريّة‪ ،‬وال ّ‬
‫احلق أمر يتعلّق ابملنطق‬
‫اجلامد‪ .‬فمعرفة احلق هي الدخول يف شر ٍ‬
‫كة مع املسيح اإلله واإلنسان‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فظت اجملامع املسكونيّة السبعة شرو َط احملبّة‬
‫فمن خالل حتديدها لإلميا َن الصحيح بشخص املسيح‪َ ،‬ح ْ‬
‫اخلالصة‪ ،‬ومنحتنا فرصة اخلالص‪ ،‬الّذي هو الشركة مع املسيح والتّحاد به‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫األحد اخلامس بعد العنصرة‬

‫(مت‪)1 :9 ، 34 -28 :8‬‬


‫ّ‬

‫الشرير‬
‫ضعف ّ‬‫ُ‬
‫نذهب إىل قطيع اخلنازير"‬
‫َ‬ ‫كنت خترجنا ف ْأذَن لنا أن‬
‫"إ ْن َ‬
‫"شرسني جدًّا"‪،‬‬
‫اجلرجسيّني‪ ،‬خرجا من بني القبور‪ ،‬وكاان َ‬ ‫ِ‬
‫املمسوسني الل َذين صادفهما املسيح يف كورة ْ‬
‫َ‬ ‫إ ّن‬
‫بدت على وجهيهما عالمات عذاب الشياطني‪،‬‬ ‫مير من تلك الطريق‪َ .‬‬ ‫حّت مل يقدر أحد أن َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عدائيَّني وخطَرين‪ّ ،‬‬
‫وقد َس َكنا القبور‪ ،‬الّيت هي رمز للموت و"لألعمال املائتة"‪ .‬فالشيطان هو روح ُمميت‪ ،‬يعيقنا عن القيام بوصاّي‬
‫حبجج خمتلفة‪ ،‬وجيذبنا إىل عمل اخلطيئة املائت‪.‬‬
‫هللا احمليية ٍ‬

‫"شرسان ًّ‬
‫جدا" وشريفان يف القلب‬ ‫َ‬ ‫‪‬‬

‫سر يف حياة الكنيسة‪ ،‬سر ال ميكن أن يدرَكه بسهولةٍ‬ ‫ِ‬


‫ملشيئة هللا‪ .‬فالطاعة ٌّ‬ ‫حياةُ النفس هي الطاعة‬
‫ّ‬
‫ي لديه‪ .‬فالطاعة كناية عن انقياد نفسنا إىل حركتِها الطبيعيّة‬
‫اإلنسان املعاصر الّذي يفتخر بتنمية الفك ِر النقد ّ‬
‫الفضائل الّيت فيها‬
‫َ‬ ‫تنمي‬
‫النفس بال شفاء‪ ،‬أل ّن الوصاّي ّ‬
‫َ‬ ‫صحتها‪ .‬عندما ال نطيع مشيئةَ هللا نرتك‬‫واسرتجاع ّ‬
‫تستحوذ على‬
‫الشريرة‪ .‬إذاً‪ ،‬اخلطيئة واألهواء‪ ،‬هي أبواب للشياطني‪ ،‬ل ْ‬
‫عمل األرواح ّ‬
‫يسهل َ‬
‫يح هللا‪ ،‬وعصياَنا ّ‬
‫يسرت ُ‬
‫التصرف ال ينقذان‪ ،‬إذ ال يستطيع الناس أن يقرتبوا منّا‪.‬‬
‫اإلنسان وجتعله "شرساً جدًّا"‪ .‬يف هذه احلال التصنّع يف ّ‬
‫الداخلي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اجلو اخلانق الّذي خيلقه تسلّط األهواء‬
‫ُيررهم‪ ،‬بل يقيّدهم وسط االضطراب و ّ‬
‫فحضوران ال يرُيهم وال ّ‬
‫اخلارجي‪ ،‬ولكنّهم مه ّذبون يف القلب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أصول التهذيب‬
‫إالّ أ ّن بعض الناس هم "بركة من هللا"‪ .‬قد ال يعرفون َ‬
‫احلرية والراحة للّذين يقرتبون منهم‪ّ .‬إَنم متاماً‬
‫كل كياَنم احملبّة احلقيقيّة و ّ‬
‫يسكن هللا يف قلوهبم الطاهرة‪ ،‬وتنبع من ّ‬
‫تصرفاهتم‪.‬‬
‫بعكس "الشرسني جدًّا" واملتصنّعني يف ّ‬

‫‪96‬‬
‫املهمة الّيت تشري إليها قراءةُ إَنيل اليوم‪ ،‬عن ّقوةِ الشياطني وضعفهم‪.‬‬
‫ولكن لنرى بعض النقاط ّ‬
‫كل شيء يف يد املسيح‬
‫‪ّ ‬‬
‫ضجة كبرية حول عبادة الشيطان وعواقبها الفظيعة على اتبعيها‪ .‬قيل عنها كالم‬
‫تدوي ّ‬
‫يف الزمن األخري ّ‬
‫تتضمن أيضاً تقريب ضحاّي بشريّة‪ .‬من ذلك‬
‫كثري‪ ،‬مسؤول وغري مسؤول‪ ،‬كلّه إدانة هلذه العبادة الفظيعة الّيت ّ‬
‫كلّه علينا أن نلفت إىل ما يلي‪:‬‬

‫لكن بعض املراحل االبتدائيّة‬


‫عاما‪ ،‬و ّ‬
‫خلق نفوراً ًّ‬
‫إ ّن النهاية الّيت يؤول إليها "التعاون" مع الشيطان هي ما َ‬
‫ِ‬
‫الس ْح ُر على أشكاله املختلفة‪ ،‬وإحداها علم الفلَك واألبراج‪.‬‬
‫كبريا من جمتمعنا‪ّ .‬إَنا ّ‬
‫ذب جزءًا ً‬
‫هلذا "التعاون" جتت ُ‬
‫ِ‬
‫الس ْحر وعبادة الشيطان‪.‬‬ ‫إذًا‪ ،‬قبل كل ٍ‬
‫الناس خلف ّ‬
‫َ‬ ‫اف‬‫ر‬ ‫اَن‬ ‫أسباب‬ ‫عن‬ ‫البحث‬ ‫جيب‬ ‫شيء‬ ‫ّ‬
‫يرغب إبجياد‬
‫يتأرجح يف الفراغ‪ ،‬و ُ‬
‫ُ‬ ‫يف احلقيقة إ ّن انفصال اإلنسان عن هللا يرتكه ضائعاً وسط أخطا ٍر كثرية‪.‬‬
‫ُمتّكأ يركن إليه‪ .‬يشغله املستقبل اجملهول بش ّدةٍ‪ ،‬كما تشغله مشكلة املرض‪ ،‬واألمل‪ ،‬واخلوف من قوى الظلمة‪ .‬ويف‬
‫القوة والتسلّط على‬
‫الوقت نفسه‪ ،‬يف غياب هللا‪ ،‬يشعر أ ّن إرضاء أهوائه هو مجال احلياة الوحيد‪ .‬فالل ّذة واملال‪ ،‬و ّ‬
‫الريبة يف اقتنائها وعبور فرتة التمتّع‬
‫ملوثة ب ُس ّم ّ‬
‫يد أ ّن هذه األمور كلّها ّ‬ ‫اآلخرين هي كلّها القوى ِّ‬
‫احملركة لنشاطاته‪ .‬بَ َ‬ ‫َ‬
‫معاد هلل‪ ،‬يَعِ ُد اإلنسان ابكتساب هذه املِتَع املخالفة للناموس وبضمان استمرارها‪.‬‬ ‫هبا سريعا‪ .‬والشيطان‪ ،‬كفك ٍر ٍ‬
‫ً‬
‫ُيب‬ ‫ٍ‬
‫وحريته‪ ،‬تضلّله هذه الوعود بسهولة‪ ،‬ألنّه ّ‬
‫الشخصي ّ‬
‫ّ‬ ‫يتدرب على النظر إىل حياته من منظار جهاده‬‫فمن مل ّ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫الس ْحر وعبادة الشيطان الطريقةَ‬
‫احللول السريعة‪ .‬كما أ ّن حضارة "الكومبيوتر" ختلق هذه العقليّة‪ .‬هلذا يرى يف ّ‬
‫َ‬
‫مدمرة‪.‬‬ ‫السريعة حلَ ِّل مشاكل وجوده‪ .‬و ّ‬
‫لكن هذا ضالل خميف له عواقب ّ‬
‫املدمر‪ ،‬كما تدلّنا على ضعفها‬
‫ّأما تالوة إَنيل اليوم فتجلو أمامنا األفق‪ ،‬إذ تدلّنا على جنون الشياطني ّ‬
‫حّت مستقبلها اخلاص ال‬‫الكبري إزاء املسيح‪ .‬فهي ال حت ّدد املستقبل وال تعرفه‪ .‬ليس مستقبل الناس فحسب‪ ،‬بل ّ‬
‫حترٍك هلا يتوقّف على‬
‫ير‪.‬كل ّ‬
‫كل شيء يف يد املسيح‪ ،‬والشياطني تطلب اإلذ َن للدخول يف قطيع اخلناز ّ‬‫تعرفه‪ .‬ف ّ‬
‫‪97‬‬
‫ِ‬
‫املدمرة‪ .‬لقد مسح املسيح بدخوهلا إىل قطيع اخلنازير لكي َّ‬
‫يدل‬ ‫إرادةِ املسيح‪ .‬حمبةُ املسيح هي الّيت حت ّد من ِ‬
‫حريتها ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اندفع من على اجلرف إىل البحر ومات يف املياه"‬ ‫ِ‬
‫املدمر‪" ،‬وإذا قطيع اخلنازير كلّه قد َ‬‫على جنون الشياطني ّ‬
‫(مّت‪ .)32 :8‬إ ّن رعايةَ اخلنازير املخالفة للناموس –وقد حظّرهتا الشريعة اليهوديّة‪ -‬كانت بيئة حتبّها الشياطني‪،‬‬
‫ّ‬
‫شفاء‬
‫جيد فيها اإلنسان أماانً وال ثبااتً‪ ،‬وال ً‬
‫ولكنّها احتاجت إىل إ ْذن املسيح لتمكث فيها‪ .‬إذاً‪ ،‬ليس ممكناً أن َ‬
‫حتل املشاكل‪ ،‬بل مشيئتها هي الدمار‪ .‬وعندما‬ ‫وال معرفة املستقبل‪ ،‬وهي تضلّله ابلتخيّالت‪ .‬ال تشفي وال ّ‬
‫أذى كبري‪.‬‬
‫"تعطي" شيئاً‪ ،‬ترمي إىل إحداث ً‬
‫‪ ‬الشياطني خملوقات فاسدة‬

‫الضجة احلاصلة أحياانً بداعي نشاط‬‫ّ‬ ‫التطرق إليها هي التالية‪ :‬إىل جانب‬
‫نود ّ‬‫النقطة األخرية الّيت ّ‬
‫تفاسري خمتلفة لألحداث احلاصلة‪ .‬لن‬
‫َ‬ ‫وجودها‪ ،‬فيُعطون‬
‫الشياطني وعبادهتا‪ ،‬يستصعب بعض النّاس أن يقبلوا َ‬
‫ننشغل ابألقوال الّيت تقودهم إىل مفاهيمهم اخلاطئة‪ .‬سنكتفي ابلتوقُّف عند جواب بعض املؤمنني‪ ،‬الّذين يدينوَنم‬
‫َ‬
‫آمنت ابهلل‪ ،‬تؤمن بوجود الشياطني"‪ .‬هذا صحيح‬‫معربين عن رأيهم هبذا القول‪" :‬إذا َ‬ ‫بسبب عدم إمياَنم‪ّ ،‬‬
‫نظن عبادة‬
‫ابلطبع‪ ،‬ولكنّه ُيوي خطراً‪ .‬اخلطر هو أن نست ّدل على اإلميان ابهلل من اإلميان بوجود الشياطني‪ ،‬وأن ّ‬
‫الشيطان تنفي عباد َة املسيح‪ .‬والواقع أ ّن بعض الناس يعيشون مسيحيّةً يسيطر عليها حضور الشياطني املرعب‪.‬‬
‫كل ما ُيصل هلم‪ ،‬وخوف هللا السالم ّي ليس أمامهم‪ ،‬بل اخلوف املقلق من‬ ‫يشتبهون بقوى شيطانيّة يف ّ‬
‫آخر‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫الشياطني‪ .‬واحلق ّإَنم يسقطون‪ ،‬من دون وعي‪ ،‬يف اإلميان مببدأَين (املانويّة)‪ .‬يرون الشيطا َن من جهة كإله َ‬
‫أي إله الشّر‪ ،‬ويرون الثالوث الق ّدوس من جهة كإله اخلري‪.‬‬

‫ولكن الشياطني خملوقات ضعيفة وفاسدة‪ ،‬ال تقوى إطالقًا على الّذين يعيشون وصاّي املسيح خبلوص نيةٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويلتصقون به‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫األحد السادس بعد العنصرة‬

‫(مت‪)18 -1 :9‬‬
‫ّ‬

‫مشكلة أتنيب الضمري‬


‫"ثق ّي بينّ‪ ،‬مغفورة لك خطاّيك"‬
‫ْ‬
‫كأَنا مبتورة‪ ،‬ليس هلا‬
‫دوَنا األَنيليّون لنا – وأيضاً كلمة الق ّديسني – ّ‬
‫كثرياً ما تبدو كلمةُ املسيح كما ّ‬
‫تكملة‪ .‬فهي ال جتيب مباشرًة عن األسئلة الّيت تُطرح‪ ،‬بل تُعطي أجوبةً عن أسئلة مل تُطرح‪ .‬تواجه مشاكل قد ال‬
‫ملحاحا لِوقت الحق‪ .‬إ ّن أتكيد هذا الشعور بعدم اكتمال الكلمة‬
‫ً‬ ‫تبدو ظاهرة يف احلال‪ ،‬بينما ترتك ما نظنّه‬
‫ٍ‬
‫مشكلة‬ ‫كل‬
‫اجها َّ‬
‫كل إنسان يقرتب منه‪ ،‬مو ً‬‫الداخلي الّذي ُجيريه املسيح مع ّ‬
‫ّ‬ ‫دليل ضعفنا يف متابعة احلوار‬
‫ليس إالّ َ‬
‫مشاكل اإلنسان احلقيقيّة انطالقاً من أسباهبا‪ .‬ويعطينا‬
‫َ‬ ‫املسيح والق ّديسون يعاجلون‬
‫من جذورها وليس سطحيًّا‪ .‬ف ُ‬
‫شفاءُ املخلَّع يف قراءة إَنيل اليوم مثاالً ُمميّزاً على ذلك‪.‬‬

‫املرض إىل اجلسد‪ .‬لذلك‪ ،‬يف‬


‫تنقل َ‬‫النفس املريضة ُ‬
‫تشل قواها وتزعزعها‪ .‬و ُ‬
‫إ ّن اخلطيئة مرض النفس‪ُّ ،‬‬
‫نفسه ّأوالً وقال له‪" :‬مغفورة لك‬ ‫َّ‬
‫املسيح إميا َن الناس الّذين أحضروا املخلع إليه‪ ،‬شفى َ‬
‫ُ‬ ‫إَنيل اليوم‪ ،‬ملا رأى‬
‫ّ‬
‫شلل اجلسد‪ ،‬من أجل عدم إميان الكتبة‪.‬‬
‫ارض"‪ ،‬وهي ُ‬
‫سبب املرض‪ ،‬مثّ شفى أيضاً "العو َ‬
‫خطاّيك"‪ .‬هكذا ألغى َ‬
‫غرق يف اليأس لِسببني‬
‫حتلّى الرجال الّذين أحضروا املخلَّع ابإلميان والرجاء‪ّ ،‬أما املخلَّع نفسه‪ ،‬فيبدو أنّه َ‬
‫كشفت كلمةُ املسيح حالتَه الداخليّة‪ :‬يظهر‬
‫ْ‬ ‫األول ألجل مرض اجلسد‪ ،‬والثاين ألجل مرض النفس‪ .‬إذًا‬
‫رئيسيّني‪ّ :‬‬
‫وحاربَتهُ اخلطيئة‪ .‬شعر أ ّن اخلطيئة مرتبطة بشلل اجلسد‪ ،‬ويف الوقت نفسه رأى أنّه عاجز عن‬
‫أنّه فقد شجاعتَه‪َ ،‬‬
‫جراء ذكرى خطاّيه‪ .‬لذلك‪ ،‬حينما رأى املسيح املأساةَ الّيت عاشها حتت حجاب‬ ‫مو ِ‬
‫الضمري من ّ‬ ‫اجهة توبيخات ّ‬
‫(مّت‪ .)2 :9‬أعطاه مغفرةَ اخلطاّي ويف الوقت نفسه‬
‫بين‪ ،‬مغفورة لك خطاّيك" ّ‬‫"ثق ّي ّ‬
‫اجلسدي‪ ،‬قال له‪ْ :‬‬
‫ّ‬ ‫مرضه‬

‫‪99‬‬
‫يتشجع‪ .‬فكلمةُ املسيح الوجيزة هذه تدلّنا على الدرب املستقيم أيضاً يف مرحلة حرجة من حياتنا‬
‫ّ‬ ‫قال له أن‬
‫الروحيّة‪.‬‬

‫‪ ‬نشوء أتنيب الضمري‬

‫أظلمت صورة هللا يف اإلنسان‪ ،‬من‬


‫نفس اإلنسان أتنيب الضمري‪ .‬فاخلطيئة َ‬
‫أهم املشاكل الّيت ترهق َ‬
‫من ّ‬
‫الذهن الغارق يف األهواء يقا ِوم‪ ،‬فيما الضمري يؤنّب‪ .‬وابلتايل ال ّ‬
‫تنفك تصطدم "شريعة الذهن"‬ ‫ُ‬ ‫دون أن متحوها‪.‬‬
‫فعل‬
‫مستمرة إىل التوبة‪ ،‬كما ّأَنا ُ‬
‫ّ‬ ‫"بشريعة اجلسد" الّيت حتاربنا ابلشهوات اجلسدانيّة‪ .‬فتوبيخات الضمري دعوات‬
‫النعمة الّيت نلناها ابملريون‪ ،‬وهي تنشأ من ِ‬
‫معرفة هللا ومن املعرفة الواضحة للخطيئة‪ .‬لقد أُعطينا بنعمة املريون‬
‫اإلَنيلي‪" :‬و ّأما أنتم فلكم‬
‫ّ‬ ‫موهبة املعرفة الروحيّة الّيت ُيملها أعضاء الكنيسة األحياء كلّهم‪ .‬يقول الرسول يوحنّا‬
‫ف إحساسنا حبركات اخلطيئة يف‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫كل شيء" (‪1‬يو‪ .)20 :2‬فإ ّن معرفةَ هللا تُره ُ‬
‫مسحة من الق ّدوس وتعلمون َّ‬
‫ومن يعرف هللاَ حقيقةً‪ ،‬يعرف‬
‫نكون فكرة متواضعة عن أنفسنا‪َ ،‬‬
‫داخلنا‪ .‬لذلك ترتبط معرفةُ هللا احلقيقيّة أبن ّ‬
‫حالتَه اخلاطئة ٍ‬
‫بعمق‪.‬‬

‫عمدوا على اسم الثالوث الق ّدوس‪ .‬فالناموس‬ ‫طبعاً‪ ،‬إ ّن الّذين ال يعانون من توبيخات الضمري هم َم ْن مل يُ َّ‬
‫ات أخرى كثرية‪ .‬تُ ِ‬
‫داخلُه األفكار املسبقة‬ ‫الطبيعي يعرتض اخلطيئةَ داخلهم‪ ،‬ولكن صوتَه ضعيف‪ ،‬وخيتلط أبصو ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واملفاهيم الوثنيّة‪ .‬الشيء نفسه ُيصل للّذين ال يصونون نعمةَ املعموديّة املق ّدسة حبياةٍ الئقة‪ .‬فالروح القدس الّذي‬
‫ويؤدبه مبساعدة الناموس املكتوب على التمييز بني احلقيقة والضالل‪ .‬هكذا مبقداره‬ ‫الذهن ّ‬‫َ‬ ‫أنخذه ابملسحة ُُييي‬
‫عمد‪ ،‬فال يصل إىل دقِّة متييز‬
‫يدرك مّت يُرضي عملُه هللاَ‪ ،‬ومّت يعاكس مشيئتَه‪ّ .‬أما "غري املستنري" أي غري امل َّ‬
‫أن َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫القوة ذاهتا‪ .‬إذاً‪ ،‬أتنيب الضمري هو من‬‫نعمة الروح القدس‪ ،‬وابلتايل ليس للمراقبة الداخليّة ّ‬‫املؤمن الّذي يصون َ‬
‫"مواهب خت ِم الروح القدس" الّيت أخذانها يف ِّ‬
‫سر املريون‪.‬‬

‫‪ ‬مواجهة أتنيب الضمري‬

‫‪100‬‬
‫بعض‬
‫ط َ‬ ‫الصعب‪ .‬وسوف خن ّ‬
‫إ ّن مواجهةَ توبيخات الضمري هي من الفصول املوجعة لعلم دراسة األفكار ّ‬
‫اخلطوط األساسيّة بشأَنا‪.‬‬

‫يغري‬
‫توبيخ الضمري هو الطريقة الّيت يستخدمها هللا لكي يوقظنا من الغفوة الروحيّة‪ .‬فهو يريد به أن َّ‬
‫مشاكل كثرية‪ .‬جيعل‬
‫َ‬ ‫ولكن عندما ال يقودان التوبيخ الضمري إىل التوبة‪ ،‬خيلق لنا‬
‫الدرب اخلاطئة الّيت اخت ْذانها‪ّ .‬‬
‫َ‬
‫مرهفاً‪ ،‬إالّ أ ّن بعض النفوس قد ال تدرك يف احلال سببَه وهدفَه‪ ،‬فتقاوم بطرائق خمتلفة‪ .‬من هنا‬ ‫إحساس النفس َ‬
‫ُيوَل أملَ أتنيب الضمري إىل أمل التوبة‪ .‬وهلذا يَصدُّه بعضهم وُياول أن‬ ‫ٍ‬
‫حّت يقدر أن ّ‬ ‫احلاجة إىل مرشد مناسب ّ‬
‫آخرون ُياولون إزالتَه‪ُ ،‬مبَ ّدلني أهواءَهم إىل مظهر‬ ‫ينساه‪ ،‬خمتارا أّناط حياة مليئة ابل ٍ‬
‫ضجة الكبرية اخلارجيّة‪ .‬و َ‬‫ّ‬ ‫ً‬
‫شرعي‪.‬‬ ‫للناموس‬ ‫ف‬ ‫املخال‬ ‫و‬ ‫‪،‬‬ ‫طبيعي‬ ‫الطبيعي‬ ‫غري‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫أب‬ ‫هم‬ ‫أنفس‬ ‫قنعني‬‫وم‬ ‫‪،‬‬ ‫ابلالهوت‬ ‫م‬‫ّ‬‫ل‬‫التك‬ ‫حّت‬ ‫أو‬ ‫ال ٍ‬
‫فلسفة‬
‫ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫وآخرون يضعفون إزاء هذا التأنيب‪ ،‬فيَغرقون يف اليأس‪ .‬كثريون من املؤمنني ينتمون إىل النوع األخري فيجاهدون‬ ‫َ‬
‫الشر" أي الشياطني‪ .‬فاليأس أييت‬ ‫تفاصيل األساسيّة للحرب َّ‬
‫ضد "أرواح ّ‬ ‫َ‬ ‫حلفظ وصاّي هللا‪ ،‬ولكنّهم ال يعرفون ال‬
‫من فكرةِ غياب املخرج إزاء أمل أتنيب الضمري‪ .‬هذا يعين أنّه‪ ،‬يف العمق‪ ،‬تسيطر القناعة أب ّن اخلطاّي ال تُ َ‬
‫غفر‪.‬‬
‫احلقيقي لليأس هو‬
‫ّ‬ ‫احلق إ ّن السبب‬
‫خصم خالصنا حبذاقة كبرية‪ .‬و ّ‬‫الروحي الّذي يستغلّه ُ‬ ‫ّ‬ ‫وهذا من عوارض اجلُْنب‬
‫نفسنا‪ ،‬ألنّه ال يقبل أنّنا فعْلنا طوعيًّا ما خيالف إرادة هللا‪ ،‬وال يدعنا نلتفت بتواض ٍع إىل ِ‬
‫رمحة هللا‪.‬‬ ‫تقديران أ ِ‬

‫كل فك ٍر ّ‬
‫يوخبنا من هللا‪ .‬فكثرياً ما يزرع فينا الشيطان مثل هذه‬ ‫اآلثوسي‪ ،‬ليس ّ‬
‫ّ‬ ‫حسب الق ّديس نيقودميوس‬
‫األفكار املباركة ظاهرًّّي هبدف إقالقنا وجعلنا نفقد رجاءان‪ .‬يستغل كثرياً ثقتنا ِ‬
‫بنفوسنا‪ ،‬فيما األفكار اآلتية من هللا‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫سالمية‪ ،‬ومع أمل أتنيب الضمري‪ ،‬حتملنا على الرجاء ب ِ‬
‫رمحة هللا وصالحه‪.‬‬ ‫ّ‬
‫لكل و ٍ‬ ‫ِ‬
‫احد منّا‬ ‫إ ّن شر َط مغفرةِ اخلطاّي هو الثقة برمحة هللا والثقة بصالحه‪ .‬وبوساطة املخلَّع ّ‬
‫يوجه املسيح ِّ‬
‫بين"‪ .‬فخطاّيان ليست أقوى من رمحتِه‪.‬‬ ‫"ثق ّي ّ‬
‫دعوتَه ْ‬

‫‪101‬‬
‫األحد السابع بعد العنصرة‬

‫(مت‪)35 -27 :9‬‬


‫ّ‬

‫واحلرية‬
‫العجائب ّ‬
‫أين أقدر أن أفعلَ هذا؟"‬
‫"أتُؤمنان ّ‬
‫(مّت‪:9‬‬
‫املسيح "يصرخان ويقوالن ارمحنا ّي ابن داود" ّ‬ ‫َ‬ ‫حبسب قراءة إَنيل اليوم‪ ،‬كان األعميان يتبعان‬
‫مستمرة‪ ،‬مثّ تبعا املسيح‪ .‬وعندما‬
‫ّ‬ ‫اخهما صال ًة‬‫صر ُ‬‫إبحلاح‪ .‬خر َج ُ‬
‫عربا عنه ٍ‬ ‫‪ .)27‬مل يكتفيا ابالسراع يف الطلب‪ ،‬بل ّ‬
‫أفعل‬ ‫أن‬ ‫أقدر‬ ‫أين‬ ‫"أتؤمنان‬ ‫املسيح‪:‬‬ ‫سأهلما‬ ‫ٍ‬
‫عندئذ‬ ‫أتيا إىل "البيت"‪ ،‬تبني أن صراخهما استند إىل ٍ‬
‫إميان متني‪.‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫مس املسيح أعينَهما‬ ‫ِ‬
‫هذا؟" فأجااب بدون ت ّردد‪" :‬نعم ّي سيّد"‪ .‬كان اعرتاف اإلميان هذا شرطاً لشفائهما‪ .‬فلَ َ‬
‫مسبقا نتيجةَ فعله‪ ،‬مثّ أظهَر‬
‫(مّت‪ .)29 :9‬ترك املسيح إمياَنما ُي ّدد ً‬
‫وقال‪" :‬حبسب إميانكما ليكن لكما" ّ‬
‫حقيقي واعرتافهما صادق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫شفاءُمها أ ّن إمياَنما‬

‫يتبني لنا كم‬


‫يف حادثة شفاء األعميَني هذه وصف لعالقةُ اإلميان ابلعجائب‪ .‬ولكن يف الوقت نفسه‪ّ ،‬‬
‫حريتَنا‪.‬‬
‫يعتين املسيح حبياة البشر‪ ،‬وكيف يدبّر حياتَنا من دون أن يلغي ّ‬
‫وحرية الضمري‬
‫‪ ‬العجائب ّ‬
‫(مّت‪.)30 :9‬‬ ‫بعد شفاء األعميَني أوصامها املسيح بلهجة صارمة أالّ يُ ْعلنا العجيبةَ‪" ،‬أنظرا ال يعلم أحد" ّ‬
‫حلر ِية ضمري‬
‫أين أقدر أن أفعل هذا؟" نرى احرت َام املسيح الكبري ّ‬ ‫وإذا ربطْنا وصيّ َة املسيح هذه ابلسؤال "أتؤمنان ّ‬
‫مدهش‪ .‬يعرف جبلَّتَه‬
‫ٍ‬ ‫أحد على قبول شخصه‪ ،‬وال يريد أن أييت ذلك نتيجةً ح ٍ‬
‫دث‬ ‫اإلنسان‪ .‬فهو ال يريد إجبار ٍ‬

‫مبا أنّه اخلالق‪ ،‬ويعرف كم يعاين املخلوق من طائلة احلقائق الوضعيّة‪ ،‬الّيت ال تستجيب ملقاصد قلبِه‪ .‬عندما سأل‬
‫األمور يف نصاهبا القانوينّ‪ .‬فالعجيبة هي نتيجة اإلميان‪،‬‬
‫وضع َ‬ ‫أفعل هذا؟" َ‬
‫أين أقدر أن َ‬
‫املسيح األعميَني‪" :‬أتؤمنا ّ‬

‫‪102‬‬
‫باعا ُيبّون‬
‫باعا له‪ ،‬مل يُرد أتْ ً‬
‫دهش العاملَ ويُنشئ أتْ ً‬
‫يصنع العجائب ليُ َ‬
‫وليس اإلميان نتيجة العجيبة‪ .‬مل يُرد املسيح أن َ‬
‫خرب تالمي َذ‬ ‫مصلحتهم الشخصية‪ ،‬بل أراد تالمي ًذا‪ .‬كان يصنع العجائب من حمبته ملخلوقاته البائسة‪ ،‬و ِ‬
‫أيضا ليُ َ‬‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫أتت عجائبُه عالمةً ِحلضوره‪ ،‬تُنبء الّذين انتظروه مبجيئه‪ ،‬ولذلك تُدعى‬‫موسى واألنبياء احلقيقيّني عن جميئه‪ْ .‬‬
‫شوهوا‬‫الفريسيّني الّذين نقضوا وصيّةَ هللا من أجل احملافظة على تراثهم اخلاص‪ ،‬و ّ‬
‫وجه إىل الكتبة و ّ‬ ‫"عالمات"‪ .‬مل تت َّ‬
‫تقليد موسى‪ ،‬بل إىل الّذين عاشوا يف إميان األنبياء‪.‬‬

‫فقد أ ّكدت "عالمات" املسيح هذا اإلميا َن وك ّملَته‪ .‬مثّ إ ّن عمق اإلميان يرتبط بعمل القلب يف ٍّ‬
‫جو من‬
‫احلرية‪ .‬من هنا أ ّن العجيبة ال تولّد اإلميان‪ .‬والّذين ال يقتنعون من كالم موسى واألنبياء‪" ،‬وال إ ْن قام واحد من‬
‫ّ‬
‫العجائب‬
‫َ‬ ‫حب املصلحةَ الشخصيّة عند الّذين مل ينظروا إىل‬‫األموات يص ّدقون" (لو‪ .)31 :16‬ولقد وبّخ املسيح ّ‬
‫احلق أقول لكم أنتم تطلبونين ليس‬ ‫"احلق ّ‬
‫كعالمات‪ ،‬بعد معجزة تكثري األرغفة اخلمسة و "السمكتَني"‪ ،‬قائالً‪َّ :‬‬
‫عين‪ ،‬ال ألنّكم‬ ‫ألنّكم رأيتم آّيت بل ألنّكم أكلتم اخلبز فشبعتم" (يو‪ٍ .)26 :6‬‬
‫آخر‪ ،‬قال هلم‪" :‬تفتّشون ّ‬ ‫بكالم َ‬ ‫َ‬
‫اخلبز وشبعتم"‪.‬‬
‫أين ابن هللا الّذي ّاحت َد بطبيعتكم‪ ،‬بل "ألنّكم أكلتم َ‬
‫اقتنعتم من "العالمات" ّ‬

‫يصنع عجائب ويُ ّبني أنّه ابن هللا‪ .‬ولكنّه مل يصنع عجائب‪ ،‬أل ّن‬ ‫ِ‬
‫يف جتر َبيت املسيح األُولَيَ ْني‪ ،‬أوح َي له أن َ‬
‫الفضويل‪.‬‬ ‫تعط جواابً لل ّذهن امللحد‬ ‫العجيبة ال ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫‪ ‬الضغط يف عمل اإلحسان‬

‫التامة وغىن صالحه‪ ،‬يصنع العجائب‬ ‫ِ‬


‫نود أن نشري إىل نقطة دقيقة هي أ ّن املسيح‪ ،‬يف قدرته ّ‬
‫إىل هذا‪ّ ،‬‬
‫شعور العرفان‬
‫فائقا‪ ،‬ويريد أن يتولّد فينا َ‬
‫حريتَنا احرت ًاما ً‬
‫ط على الّذين انلوا اإلحسان‪ .‬إنّه ُيرتم ّ‬
‫من دون أن يضغ َ‬
‫ابجلميل‪.‬‬

‫الشفاء‬
‫َ‬ ‫لكما"(مّت‪ ،)30 :9‬يُظ ِه ُر‬
‫ّ‬ ‫يف الكلمة الّيت قاهلا عند شفائه األعميّني‪" :‬حبسب إميانكما ليكن‬
‫اخلاصة‬
‫ّ‬ ‫حّت ال نرى العجيبة كعمل ّقوته‬
‫ص إمياَنما‪ ،‬مثّ ترك ّقوتَه تظهر‪ّ ،‬‬
‫تفح َ‬
‫نتيجةً إلميان األعميَني‪ .‬لقد ّ‬

‫‪103‬‬
‫أيضا كيف‬
‫احلي‪ ،‬و ً‬ ‫َّ‬
‫وحدها‪ .‬لقد شارك األعميان يف املسؤوليّة أيضاً‪ ،‬وهكذا علمنا املسيح كيف تظهر ّقوة اإلميان ّ‬
‫إحساس‬
‫َ‬ ‫نتصرف والّذين حنسن إليهم‪ .‬ينبغي أن نسعى جاهدين إىل تقليص األسباب الّيت تولّد عندهم‬‫جيب أن ّ‬
‫اآلخر‪.‬‬
‫العرفان ابجلميل‪ .‬وهذا األمر يتطلّب مشاركةً حقيقيّة ألمل َ‬
‫ِ‬
‫حب الذات يكتسب‬
‫فمن ينعتق من ّ‬
‫أبدا‪َ .‬‬
‫نشجع على نكران اجلميل‪ ،‬كالّ ً‬
‫حنن ال نريد هبذا الكالم إن ّ‬
‫الروحي املرهف الكبري‪ ،‬يعرتف ابجلميل‬
‫ّ‬ ‫بصنيعه‪ .‬وبفضل إحساسه‬ ‫ُيب هللاَ ويعرتف َ‬‫قلبًا مليئًا بعرفان اجلميل‪ّ .‬‬
‫لكل الناس أيضاً‪ ،‬ممَّن سامهوا يف مسريتِه الروحيّة‪ّ ،‬إما ابإلحسان أو ابلتجارب‪ .‬إالّ أ ّن العرفان ابجلميل لدى‬
‫ِّ‬
‫حلريتِه‪.‬‬
‫يتنق من األهواء‪ ،‬هو ثقل ال ُُيتَمل ويشعر به كأنّه قيد ّ‬
‫اإلنسان الّذي مل َّ‬
‫ٍ‬
‫عندئذ نكون ح ّكاماً‬ ‫اآلخرين العرفا َن ابجلميل‪ ،‬هذا يعين أنّنا َنهل طبيعتَنا‪.‬‬
‫عندما ُحنسن ونطلب من َ‬
‫احملسن‬
‫مربًرا أش ّد التربير‪ ،‬ولكنّه ضغط يف عمق أعماق النفس‪ .‬وإ ّن إنكار اجلميل عند َ‬
‫ط َّ‬‫أردّيء ألنّنا ّنارس ضغ ً‬
‫إحساس العرفان ابجلميل‪ .‬تُعارض احملسنني‬
‫َ‬ ‫يدل على أ ّن النفس الّيت تسيطر عليها األهواء ال حتتمل‬ ‫إليهم قد ّ‬
‫بكل‬
‫حريتَها‪ .‬لذلك عندما حنسن‪ ،‬ال ينبغي أن نطلب اجلزاء‪ .‬بل علينا أن حناول ّ‬ ‫كأَنم أعداء يغتصبون ّ‬ ‫إليها و ّ‬
‫الشعور ابإلحسان‪ .‬هذه إحدى امليزات الدقيقة و "العجيبة" للحياة يف املسيح‪.‬‬ ‫احملسن إليهم ّ‬ ‫ٍ‬
‫طريقة أن َننّب َ‬
‫اآلخرون إبحساننا‪ ،‬بل حنن أنفسنا‬
‫وهذا ما تعنيه قولة "ال تعرف مشالك ما تفعل ميينك"‪ .‬ليس فقط أالّ يعرف َ‬
‫أالّ نعرف به‪ ،‬أي أالّ نتكلّم عنه إيكرام وال حنفظه يف ذاكرتِنا‪.‬‬

‫احلرية‪.‬‬
‫اليوم يعلّمنا املسيح طريقةَ اإلحسان العمليّة الّيت ال تستعبد ّ‬

‫‪104‬‬
‫األحد الثامن بعد العنصرة‬

‫(مت‪)22 -14 :14‬‬


‫ّ‬

‫ِّ‬
‫املقربون واملق هربون‬
‫"أخذ األرغفةَ اخلمسة والسمكتّني‪ ،‬رفع نظرَه حنو السماء وابرك"‬

‫السمكتني حتمل معاين كثرية لعص ِران املرّكِز على اإلنسان والرفاهيّة‪.‬‬
‫إ ّن عجيبة تكثري األرغفة اخلمسة و ّ‬
‫أتمله من جوانب كثرية‪ .‬وابختصا ٍر‪ ،‬يَ َس ُعنا القول إ ّن‬ ‫ِ‬
‫تدخل املسيح كخالق يف مشكلة اخلمسة آالف رجل ميكن ّ‬
‫ف ّ‬
‫ويقرُهبا لآلب‬
‫يكشف عن هللا كخالق‪ ،‬وأيضاً كرئيس كهنة عظيم للخليقة‪ .‬فاملسيح أيخذ اخلليقةَ ّ‬ ‫ُ‬ ‫هذا العمل‬
‫"أكل اجلميع فشبعوا"‪ .‬يف طريقة صنع العجيبة ‪-‬‬
‫السماوي‪ ،‬مثّ للناس بعد أن تتبارك‪ ،‬فتبقى "من غري أن تنفد"‪َ .‬‬
‫ّ‬
‫املقرب"‬ ‫لكن ِّ‬
‫"املقرب و َّ‬ ‫لسر اإلفخارستيّة اإلهليّة‪ .‬و ّ‬
‫اآلابئي رمساً ُمسبقاً ّ‬ ‫وابرك"‪ ،-‬يرى تراثنا‬
‫نظره حنو السماء َ‬
‫ّ‬ ‫"رفع َ‬
‫َ‬
‫نزل من السماء" (يو‪ .)58 :6‬أل ّن ما ّقربه املسيح لآلب‬ ‫سر الشكر هو املسيح نفسه‪" ،‬اخلبز الّذي َ‬ ‫يف ّ‬
‫اإلهلي‪.‬‬ ‫السماوي هو طبيعتُه البشريّة‪ ،‬أي أ ّن املسيح هو ِّ‬
‫املقرب‪ ،‬القابل واملوزَّع" كما نقول يف الق ّداس ّ‬
‫"املقرب و َّ‬ ‫ّ‬
‫و"املقرب"‪.‬‬ ‫املقرب"‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫َّ‬ ‫كإله هو "القابل" القرابن‪ ،‬بينما كإنسان هو " ّ‬
‫أيضا‪ّ .‬أما‬
‫إ ّن تشبُّ َهنا الكامل ابملسيح هو أمر مستحيل‪ .‬فهو إنسان كامل ولكنّه حبسب الطبيعة إله اتمٌّ ً‬
‫أردان احلفا َظ على‬
‫سلك هو‪ ،‬هذا طبعاً إ ْن ْ‬
‫السلوك ضمن اخلليقة كما َ‬
‫حنن فصورة عنه‪ ،‬ما يعين أنّه علينا حماولة ّ‬
‫نقرب‬
‫مستمرا‪ ،‬حبيث ّ‬
‫ًّ‬ ‫صورة هللا فينا‪ .‬سلوكنا (حياتنا) حبسب مثال املسيح ينبغي أن يكون فعال كهنوتيًّا‬
‫اخلليقة ونفوسنا هلل‪.‬‬

‫‪ ‬املُ ِّ‬
‫قربون‬

‫‪105‬‬
‫خاص‬
‫خاصته ألنّه ُمبدعها‪ّ .‬أما حنن فال ّنلك ما هو ّ‬ ‫ابان هلل اآلب‪ّ .‬إَنا ّ‬
‫املسيح هو الذي يرفع اخلليقة قر ً‬
‫خنلق شيئاً من العدم‪ .‬وهكذا أنخذ ممّا أعطاان هللا ونق ّدمه له‪ ،‬وحنن نشعر يف‬
‫بنا من اخلليقة‪ ،‬ألنّنا ال نقدر أن َ‬
‫اإلهلي قائلني "الّيت لك ممّا لك نق ّدمها لك"‪.‬‬
‫األعماق أنّه ليس ملكنا‪ .‬هذا ما نعرتف به حقيقةً يف الق ّداس ّ‬
‫وتقريب اخلليقة هلل ُيصل بطرائق كثرية‪ ،‬سنشري إىل بعضها فيما يلي‪.‬‬

‫اإلحساس أبنّنا ال ّنلكها‪ .‬لقد سلّ َمنا هللا ّإّيها الستخدامها‬


‫َ‬ ‫نمي داخلنا‬
‫نقرب اخلليقةَ هلل عندما نُ ّ‬
‫‪ّ - "1‬‬
‫حب القنية واإلحساس‬
‫يغلب هوى ّ‬
‫الداخلي الّذي ُياول أ ْن َ‬
‫ّ‬ ‫وتدبريها‪ ،‬وسنعطيه جواابً عن ذلك كلّه‪ .‬فالنّسك‬
‫ٍ‬
‫كهدية وبركة‪.‬‬ ‫اخلاصة يرتك اخلليقةَ بني يدي هللا‪ ،‬فيما نقبلها منه‬
‫ابمللكيّة ّ‬
‫الروحي علينا استخدام األشياء املاديّة وفقاً لوصيّة املسيح‪ .‬وهكذا أتخذ‬
‫ّ‬ ‫ننجح يف اجلهاد‬
‫‪ -"2‬لكي َ‬
‫حلب الذات‪ ،‬خادمةً للحياة وليس للموت‪ .‬ترتبط‬ ‫تدل على احملبّة وليس دعماً ّ‬
‫عدا روحيًّا‪ .‬تصبح وسيلةً ّ‬
‫املادة بُ ً‬
‫ّ‬
‫وابآلخر‪ ،‬وال ننفقها على إرضاء‬
‫َ‬ ‫اخلاصة بنا‬
‫ابحلاجة وليس ابلرغبة‪ .‬نستخدمها ألجل حاجات اجلسد الضروريّة ّ‬
‫الرغبة اجلاحمة‪ .‬رغبتنا داخل احلكمة والعظمة الّيت تنظر إىل اخلليقة املاديّة كلّها تلتفت إىل خالقها‪ .‬وعندما‬
‫نستخدم اخلليقةَ وفقاً لوصيّة هللا‪ ،‬نضع حياتَنا كلّها بني يديه‪.‬‬

‫ضمريان‬
‫ظ َ‬ ‫‪ -"3‬إ ّن ضمريان يشرف على عالقتنا ابألشياء املاديّة‪ .‬يقول األنبا دوروثيوس إنّه جيب أن حنف َ‬
‫نرتك‬
‫الروحي املرهف‪ .‬ال ينبغي أن َ‬
‫ّ‬ ‫نقيًّا جتاه األشياء املاديّة‪ .‬هذا يتطلّب إحرتاماً للخليقة أييت نتيجةً إلحساسنا‬
‫أيضا‪ .‬هنا تثري انتباهنا حركة تالميذ‬
‫ألي شيء إىل احملافظة عليه ً‬ ‫شيئاً ليَتلَف‪ .‬جيب أن هتدف طريقة استخدامنا ّ‬
‫سر الفاضلة بعدما أكل اجلميع "فشبعوا"‪ .‬وفقاً إلَنيل يوحنّا متّ هذا بوصيّ ٍة من املسيح‪،‬‬ ‫ِ‬
‫املسيح الّذين مجعوا الك َ‬
‫"لكي ال يضيع شيء" (يو‪ .)12 :6‬إ ًذا‪ ،‬يكون ضمريان نقيًّا جتاه األشياء عندما نستخدمها بطريقة موافقة ِ‬
‫ملشيئة‬
‫وخنضعها‬
‫حنرر اخلليقةَ من سوء استخدامنا هلا ُ‬
‫التدبريي‪ّ .‬‬
‫ّ‬ ‫هللا‪ .‬وعندما نصغي إىل الضمري‪ ،‬نشرتك يف عمل هللا‬
‫لسيادة املشيئة اإلهليّة‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫ي‬
‫اإلهلي‪ ،‬أو الزيت كعنصر م ّاد ّ‬
‫صني للق ّداس ّ‬ ‫املخص َ‬
‫َّ‬ ‫نقرب اخلليقةَ هلل بشكل اخلبز واخلمر‬
‫‪ -"4‬أخرياً‪ّ ،‬‬
‫كري األمثار وأتعابَنا للكنيسة عربون شكر‪ ،‬وأيضاً‬
‫نقرب بوا َ‬
‫ملسحة الزيت‪ ،‬أو املاء يف خدمة تقديس املاء‪ ،‬كما ّ‬
‫تعرب عن‬
‫نقرب اهلداّي املاديّة شكليًّا أو من ابب العادة فحسب‪ ،‬بل جيب أن ّ‬
‫لكي تَتبارك‪ .‬ولكن ال ينبغي أن ّ‬
‫تقريب حياتنا كلّها إىل هللا‪.‬‬

‫‪ ‬املق هربون‬

‫حّت املوت موت‬


‫نفسه وأطاع ّ‬
‫وضع َ‬
‫ابان هلل اآلب‪" ،‬و َ‬
‫أنفسنا هلل؟ لقد رفع املسيح طبيعتَنا قر ً‬
‫قرب َ‬‫كيف ن ّ‬
‫أنفسنا هلل بطاعتنا ملشيئته‪ .‬والطاعة‬ ‫ِ‬
‫نقرب َ‬
‫الصليب" (فيل‪ .)8 :2‬قَب َل طبيعتَنا يف شخصه طائعاً هللا اآلب‪ .‬وحنن ّ‬
‫ملشيئة هللا تربطنا أبسرار الكنيسة‪ .‬فنحن نطيع مشيئتَه عندما نعتمد وُّن َسح ابملريون ونتناول‪ .‬هذه الطاعة ترتّب‬
‫كل حركاهتا العميقة‪ .‬مثالً‪ ،‬عندما خندم‬
‫عالقاتنا اإلجتماعيّة من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى تدخل إىل نفوسنا وتنظّم َّ‬
‫نفسنا هلل‪،‬‬
‫نقرب أ َ‬
‫جسدي أو بكلمة تعزية‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫كل ما ُيتاجونه‪ ،‬سواء ب ٍ‬
‫عمل‬ ‫إخوتَنا‪ ،‬الّذين هم أيقوانت املسيح‪ ،‬يف ّ‬
‫ونسلّمها لطاعة مشيئته‪.‬‬

‫كل‬ ‫ِ‬
‫إ ّن تقريب نفوسنا هلل مي َارس أبكثر نقاوة من خالل عمل الصالة‪ .‬الصالة تُرغ ُم املصلّي على إبعاد ّ‬
‫اخلاصة بشأن هللا والعامل‪ .‬الصالة‬
‫ميت إىل املصلحة الشخصيّة‪ ،‬وعلى إنكار أوهامه ومفاهيمه ّ‬ ‫فك ٍر من األهواء ّ‬
‫الصالة تعلّم احملبّة الّيت تعطيها‬
‫جسدا‪ ،‬ذبيحةً حيّة‪ّ .‬‬
‫نفسا ً‬ ‫جتتذب نعمةَ هللا إىل اإلنسان‪ ،‬فيق ّدم هلل كيانه كلّه‪ً ،‬‬
‫أبعاداً كونيّة‪ ،‬وهكذا تنشر بركةَ هللا الكلّي الصالح يف املسكونة كلّها‪.‬‬

‫هللا يبارك اخلليقةَ‪ ،‬ويكثّر اخلريات وينقلها للناس حسب مصلحتهم احلقيقيّة‪ .‬حنن َمدينون "بعضنا‬
‫حبم ٍد وشك ٍر لكي يباركه‪.‬‬
‫كل ما بني أيدينا من عناصر اخلليقة هلل ْ‬
‫نقرب ّ‬
‫لبعض"‪ ،‬وعلينا أن ّ‬

‫‪107‬‬
‫األحد التاسع بعد العنصرة‬

‫(مت‪)34 -22 :14‬‬


‫ّ‬

‫اجلرأة واخلالص‬
‫"فمرين أن آيت إليك على املاء"‬
‫ْ‬
‫يتم هذا اللقاء على‬ ‫ٍ‬
‫خضم عواصف األحوال السيّئة والظروف الصعبة‪ّ .‬‬
‫يتم لقاءُان ابملسيح يف ّ‬
‫مرات كثرية ّ‬
‫ّ‬
‫انتباهه حنو "الريح املعاكسة"‪ ،‬فريى‬
‫يوجه َ‬ ‫كل َمن ّ‬
‫وتغر ُق ّ‬
‫"أرض" ال يثبّتها غري اإلميان‪ .‬فقلّةُ اإلميان تفتح الوهد َة ّ‬
‫بقوة الكلمة الّيت أبدعت الطبيعة‪ .‬ذلك أ ّن لقاءَ املسيح‬
‫يشك ّ‬
‫هياج عناصر الطبيعة وبسبب منطقه اململوء جبنًا ُّ‬
‫يف التجارب الكبرية ُيتاج إىل جرأةٍ ونكر ٍان للذات‪ .‬علينا أالّ ننسى أنّه داخل اضطراب األمواج مل يقدر التالميذ‬
‫الوديع املتواضع القلب‪،‬‬
‫َ‬ ‫املتجسدة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الكل مألهم خوفاً‪ ،‬وظنّوا أ ّن احملبّة‬
‫يتعرفوا وجه معلّمهم‪ .‬فحضوره الضابط ّ‬
‫أن ّ‬
‫خضم‬ ‫البهي يف‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫درك بسهولة وجهَ املسيح ّ‬ ‫جمرد َخيال‪" ،‬ومن اخلوف صرخوا"‪ .‬إ ًذا حنن ال نستطيع أن ن َ‬ ‫هو ّ‬
‫األحوال الصعبة‪ ،‬أل ّن حضوره خييفنا‪ .‬نقاوم رؤيته ابلصراخ‪ ،‬وال أعين ابلصالة بل بصوت الفزع واليأس اللّذين ال‬
‫أيتيان بنتيجة‪ .‬طبعاً‪ ،‬إ ّن املسيح ال يرتكنا يف اضطراب أمواج األفكار املظلمة‪ ،‬بل يُعطينا الشجاعةَ بكلمته‬
‫يتوجه إىل مسعنا‪ .‬عندما ال يراه ذهننا‪،‬‬
‫"تشجعوا أان هو ال ختافوا"‪ .‬وألنّنا ال نستطيع أن ندرَكه أبعني نفوسنا‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫يسندان بسماع كلمته‪ .‬يف هذه احلالة حنتاج إىل جمازفة بطرس الرسول اجلريئة "ّي سيّد إن كنت أنت هو ُ‬
‫فم ْرين أن‬
‫(مّت‪ .)28 :14‬وليست كلمةُ بطرس هنا تعبرياً عن نقص يف اإلميان‪ ،‬بل تعبرياً عن احملبّة‬
‫آيت إليك على املاء" ّ‬
‫لكن اخلوف من الضالل‬ ‫الروح "هل هو من هللا" (‪1‬يو‪ .)1 :4‬أجل رغب يف لقاء معلّمه‪ ،‬و ّ‬
‫ب َ‬ ‫والتّمييز‪ .‬لقد َجَّر َ‬
‫بعض خفاّي حمبّة املسيح غري‬
‫تفحص حقيقة األمر الظاهر‪ .‬بدأ يفهم يف ختبّط األمواج َ‬ ‫حد من شوقه‪ ،‬لذلك ّ‬ ‫َّ‬
‫امل ْدركة‪ .‬طلب عطيّةَ هللا الّيت تزدري ابملخاطر‪ ،‬ويف الوقت نفسه أخر َج ذاتَه من أمان املركب إىل هياج األمواج‪.‬‬
‫ُ‬

‫‪108‬‬
‫خاطر حبياتِه لكي يلتقي ابملسيح‪ ،‬ترسم معامل مسريتِنا‬
‫َ‬ ‫إن جرأة بطرس الرسول املليئة ابجملازفة‪ ،‬وقد‬
‫خضم حياتنا اليوميّة اهلائجة املليئة ابملخاطر املفاجئة‪.‬‬
‫الروحيّة‪ ،‬يف ّ‬
‫‪ ‬اجلرأة واخلوف‬

‫أنفسنا من التعلّق أبشياء وأفكار‪.‬‬


‫ينبت فينا علينا أن نن ّقي َ‬
‫يتطلّب اإلميان جرأ ًة ونكراانً للذات‪ ،‬ولكي َ‬
‫عتق من الفزع الّذي ختلقه احملبّة الكبرية ألنفسنا‪ ،‬عندما نوجد أمام املخاطر‪ .‬لذلك من‬ ‫ٍ‬
‫فاألمر حباجة إىل أن نْن َ‬
‫ُ‬
‫نصبح ُجمازفني‪.‬‬
‫الضروري أن َ‬
‫ّ‬
‫األصح أن يالح َظ املرءُ أ ّن هذه األمور كلّها هي نتيجة اإلميان وليست شروطاً له‪ .‬ولكن يف هذه احلالة‬
‫ّ‬
‫معا‪ ،‬والواحدة تغ ّذي األخرى‪ .‬اإلميان‬
‫نفصل الشروط عن النتائج‪ .‬ميكن القول ّإَنا تظهر وتنمو ً‬
‫َ‬ ‫ال نقدر أن‬
‫يؤمن هبا‪.‬‬ ‫تفعل اإلميا َن ابألكثر وجتذب نعمةَ هللا‪ ،‬وهذه بدورها تعلّم َ‬
‫القلب احلقيقة الّيت ُ‬ ‫يُغ ّذي اجلرأةَ‪ ،‬واجلرأةُ ّ‬
‫غري أ ّن اجلرأة ال تعين الوقاحة‪ ،‬فالوقاحةُ يولّدها عدم اإلميان‪ّ ،‬أما اجلرأةُ الّيت نتكلّم عنها فيولّدها اإلميان‪ .‬اإلميان‬
‫اخلوف واحملبةَ داخله‪ ،‬وهذان ال يرتكان للوقاحة واجلُْنب مكاانً‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُيمل‬

‫يقع يف الضالل‪ ،‬لذلك خيتار‬


‫عجزه‪ ،‬ويعرف كم من السهل أن َ‬
‫اإلنسان اجلريء املؤمن خياف ألنّه يعرف َ‬
‫شفيت" املسيح‪ .‬جرأته هي نتيجة اخلوف‪ .‬قد يبدو الرابط غريباً‪ ،‬ولكنّه بدء‬ ‫"طرقاً صعبةً" "من أجل كالم َ‬
‫نعمة هللا يقود اإلنسان إىل قرار ٍ‬
‫ات جريئة‬ ‫اخلالص‪ .‬فاخلوف من املوت األبدي ومن اخلطيئة الّيت تفصلنا عن ِ‬
‫ّ‬
‫ُّت الذهن يف أموِر هذا العامل الباطلة اخل ّداعة‪.‬‬
‫حب الراحة اجلسديّة وتَ َشت َ‬
‫حب الذات و َّ‬
‫تعارض َّ‬

‫عتباطية‬
‫‪ ‬اجلرأة واال ّ‬

‫نشري إىل ما يشيع يف عص ِران من سوء الفهم ملعىن اجلرأة‪ .‬بشكل ّ‬


‫عام‪ ،‬احلياة األرثوذكسيّة هي‬ ‫نود هنا أن َ‬
‫ّ‬
‫للسري فوق ٍ‬
‫حبل يف‬ ‫مستمرة ّ‬
‫ّ‬ ‫"جنون سليم"‪ ،‬هي "جهالة" ابلنسبة إىل حكماء هذا العامل‪ ،‬وهي أيضاً جمازفة‬

‫‪109‬‬
‫وخالصنا‪ .‬مسريتُنا هي رقص‬
‫ُ‬ ‫لكن ما َنازف به هو حبّنا لذواتنا‪ ،‬وجمدان الفارغ‪ ،‬وراحة أهوائنا‪ ،‬ال إميانُنا‬
‫اهلواء‪ .‬و ّ‬
‫كل عج ٍز رذيلتان تبعداننا عن اهلدف‪.‬‬
‫كل مبالغة و ّ‬
‫على احلبل‪ ،‬أل ّن ّ‬
‫احلرية الّيت يتن ّفس هبا‬
‫فهم ّ‬‫صل بني اجلرأةَ والطاعة لتعاليم اآلابء الق ّديسني‪ .‬هؤالء أساؤوا َ‬
‫بعض النّاس فَ َ‬
‫ُ‬
‫أنفسهم مستقيمي الرأي‪ ،‬فيما يتجاسرون على تفسري املوضوعات الالهوتيّة وحتليلها‬ ‫اآلابئي‪ .‬فهم ُيسبون َ‬‫ّ‬ ‫تراثنا‬
‫تكفلها خربةُ ق ّديسينا‪ .‬إ ّن اآلابء الق ّديسني "جازفوا" من خالل نسكهم وحمبّتهم‪ .‬مل أيسفوا على‬‫بطريقة ال َ‬
‫يسرون كلّما محلهم‬
‫اضع‪ ،‬لذلك كانوا ّ‬
‫اجلسد للنفس وأحبّوا التو َ‬
‫َ‬ ‫خالصهم حقًّا‪ .‬أخضعوا‬
‫َ‬ ‫ألَنم أحبّوا‬
‫أجسادهم‪ّ ،‬‬
‫تدعم الفرديّة‪ّ .‬أما حنن‪ ،‬فبالتفاسري‬
‫اإلميان وحمبّة الناس على "اجملازفة" بكرامتهم ومقامهم‪ ،‬أي ابألمور الّيت ُ‬
‫اإلعتباطيّة ال َنازف بفرديّتنا بل خبالصنا‪ .‬ذلك أ ّن روح الفرديّة حتطّمها الطاعة‪ .‬فاجلرأةُ غري املنهزمة تتول ّد من‬
‫خوف االبتعاد عن هللا‪ ،‬وليس لديها أيّة عالقة ابالعتباطيّة‪ .‬فيما اجلرأة اإلعتباطيّة تتولّد من انعدام اخلوف‪ ،‬أي‬
‫من الضالل‪.‬‬

‫‪ ‬اجلرأة وقلّة اإلميان والصالة‬

‫كأَنا أرض‬
‫اخترب ّقوةَ كلمة املسيح‪ .‬كان يدوس املياه و ّ‬
‫عندما اجرتأ الرسول بطرس على َخوض األمواج َ‬
‫خاصَتها الطبيعيّة‪ ،‬فبدأ خياف‪.‬‬
‫انتباهه‪ ،‬لذلك أظهرت املياه ّ‬‫ّيبسة‪ .‬غري أ ّن ّقوَة الرّيح وهتديد الطبيعة انتزعا َ‬
‫الذهيب الفم أ ّن املسيح أنّبَه وأَنضه من غري أن يوقف‬ ‫رب َنّين"‪ .‬هنا يالحظ الق ّديس يوحنّا‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫عندئذ صر َخ "ّي ّ‬
‫جترأ الرسول بطرس‬
‫يغرق بسبب هياج الرّيح‪ ،‬بل لقلّة إميانه‪ .‬فقد ّ‬ ‫يوضح له أنّه مل ْ‬
‫َ‬ ‫هبوب الرّيح‪ .‬لقد أراد أن‬
‫َ‬
‫جترأ وقام أبصعب األمور‪ .‬وفيما هو يعيش األعجوبةَ خاف الرّيح عندما صار قريبًا من املسيح‬
‫وخر َج فوق املياه‪ّ ،‬‬
‫يد أُّنُلة‪ .‬ولكن‪" ،‬ال يستفيد اإلنسان شيئاً ولو كان أقرب ما ميكن إىل املسيح إن مل يقرتب عن إميان"‪.‬‬‫ِ‬
‫قَ‬

‫‪110‬‬
‫صرخة صالة‪ .‬هكذا يعلّمنا كيف أ ّن ُجلّة التجارب الّيت حتاول أن‬
‫َ‬ ‫إ ّن نتيجة عدم إميانه أخرجت منه‬
‫تنجينا‬ ‫ِ‬
‫حتولنا من أانس خائفني إىل أانس جريئني‪ّ ،‬‬ ‫تغرقنا‪ ،‬تصبح من جديد أرضاً اثبتة‪ .‬الصالة تُتح ُدان ابملسيح‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫عدم إمياننا إبظهار اإلميان الّذي يصنع العجائب‪.‬‬
‫من الغرق وتصلح َ‬

‫‪111‬‬
‫األحد العاشر بعد العنصرة‬

‫(مت‪)23-14 :17‬‬

‫اإلميان‪ ،‬والصالة والصوم‬


‫"هذا اجلنس ال خيرج إالّ ابلصالة والصوم"‬

‫ابلصرع بعد نزول املسيح من جبل التجلّي‪ ،‬جبل اثبور‪ .‬فاملسيح‪،‬‬‫وقعت حادثة شفاء الشاب املصاب ّ‬ ‫ْ‬
‫وعجزه عن معرفة "خالقه"‪.‬‬
‫عدم إميان الكون‪َ ،‬‬
‫جمد هيأته اإلهليّة "ملُختاري التالميذ" الثالثة‪ ،‬يواجه َ‬
‫بُ َعيد إظهاره َ‬
‫ابلصرع إليهم‪ ،‬ولكنّهم مل يقدروا أن‬
‫األب احلزين ابنَه املصاب ّ‬‫حّت التالميذ اعرتاهم عدم اإلميان‪ .‬لقد أخذ ُّ‬
‫ف ّ‬
‫يشفوه‪ .‬فلئن أخذوا موهبةَ إخراج الشياطني "ابسم" املسيح‪ ،‬إالّ ّأَنم مل يستطيعوا يف هذه احلالة أن يعملوا‬
‫ابملوهبة‪ .‬حبسب قول املسيح‪ ،‬لقد حدث هذا "لعدم إمياَنم"‪ .‬فالصالة "ابسم" املسيح تتطلّب إمياانً حيًّا‬
‫أبمساء كثرية‪ .‬ويف حني أتنّسه‪ ،‬أظهر نفسه لنا ابسم "يسوع" الّذي معناه هللا‬ ‫ٍ‬ ‫نفسه‬
‫أظهر َ‬‫بشخصه‪ .‬إ ّن هللا َ‬
‫ٍ‬
‫وخبوف وتقوى وحمبّة‪ .‬ال نعطي األلفاظ‬ ‫حقيقي ابإلميان‪،‬‬ ‫املخلّص‪ .‬إذاً‪ ،‬يف صالتنا‪ ،‬حنن نلفظ أمساء هللا ابعرت ٍ‬
‫اف‬
‫ّ‬
‫اليت حتمل إسم االله ّقوة ِس ْحريّة‪ .‬ولكن عندما نتل ّفظ هبا إبميان وتقوى‪" ،‬حقًّا إنّنا مجيعاً ّنتلك هللا مع لفظنا‬
‫ٍ‬
‫عندئذ‪ ،‬ننال ما نطلبه‪.‬‬ ‫أمساءه" كما يقول األرمشندريت صفرونيوس‪.‬‬

‫حتول اإلنسا َن الضعيف إىل ملك على اخلليقة كلّ ّي القدرة‪ .‬حبسب الق ّديس‬
‫اجلبال‪ ،‬و ّ‬
‫اإلميان هو ّقوة تنقل َ‬
‫بقوة مسيطرة على اخلليقة‪ ،‬وأكثر‬
‫جيعل اإلنسا َن مشاهباً لإلله اخلالق‪ .‬هذا يعين أنّه مي ّده ّ‬
‫اسحق السرّيينّ‪ ،‬اإلميان ُ‬
‫ٍ‬
‫خليقة جديدة كما يفعل هللا‪ ...‬ومراراً يستطيع أن‬ ‫من ذلك‪ ،‬جيعله خالقاً من العدم‪" .‬أل ّن لإلميان سلطة إبداع‬
‫الكل من العدم" (الق ّديس اسحق السرّيينّ)‪ .‬فإذا أخذان بوصف الق ّديس اسحق هلذا اإلميان‪ ،‬ليس من‬ ‫يصنع َّ‬
‫سري‬
‫القوة الّيت تنظّم َ‬
‫مكان عند املؤمن لفقدان الرجاء‪ .‬ال يتزعزع إذا جرت الظواهر الطبيعيّة وفق سنّتها‪ .‬ذلك أ ّن ّ‬
‫األمور كامنة يف داخله‪.‬‬
‫‪112‬‬
‫املسيح يربط اإلميا َن ابلصالة والصوم‪ .‬يف البدء قال إ ّن التالميذ تع ّذ َر عليهم‬
‫َ‬ ‫يف قراءة إَنيل اليوم‪ ،‬نسمع‬
‫شفاء الشاب بسبب عدم إمياَنم‪ ،‬مثّ علّ َم أ ّن هذا اجلنس (من الشياطني) "ال خيرج إالّ ابلصالة والصوم"‪ .‬إذاً من‬
‫املفيد أن نرى كيف يرتبط اإلميان ابلصالة والصوم‪.‬‬

‫‪ ‬اإلميان والصالة‬

‫موحد‪،‬‬
‫الداخلي غري َّ‬
‫ّ‬ ‫الداخلي يف نفسنا هلا أتثري على صالتنا‪ .‬فعندما يكون إنساننا‬
‫ّ‬ ‫إ ّن حالةَ اإلنقسام‬
‫عدو خالصنا‪ ،‬ويرتعد‪ّ .‬أما الصالة‪ ،‬فهي‬
‫يتسمر يف إسم هللا‪ ،‬بل ينغلب لألفكار الّيت يزرعها ّ‬
‫يتشتّت إنتباهنا وال ّ‬
‫توحد اإلنسا َن داخليًّا عندما يُل ِه ُمها اإلميان‪ .‬فاإلميان هو يقني القلب أ ّن هللا كلّ ّي القدرة‪ ،‬وممتلىء من احملبّة‪ .‬إنّه‬
‫ّ‬
‫الداخلي على النفس‪ ،‬الّذي‬
‫ّ‬ ‫القليب أييت نتيجة العمل‬
‫قليب‪" ،‬رؤّي وإدراك يف القلب"‪ .‬هذا النوع من اإلميان ّ‬
‫حس ّ‬ ‫ٌّ‬
‫العقلي"‪ ،‬الّذي يدفع املرءَ إىل اجلهاد ض ّد األهواء‬
‫ّ‬ ‫يبدأ ابلتسليم لعقائد التقوى‪ .‬هذا يعين أنّه ينطلق من "اإلميان‬
‫ثوذكسي واملذاهب‬
‫ّ‬ ‫األساسي بني اإلميان األر‬
‫ّ‬ ‫ثوذكسي قيمة عمليّة كبرية‪ .‬فالفارق‬
‫ّ‬ ‫واخلطيئة‪ .‬من هنا أ ّن لإلميان األر‬
‫األخرى هو أ ّن هذا اإلميان يقود اإلنسا َن إىل جهاد التوبة والتطهري‪ ،‬ويرفعه إىل "املثال"‪ ،‬وميكنه أن يولّ َد فيه‬
‫القليب‪.‬‬
‫اإلميا َن ّ‬

‫مورست ابالستقالل عن اإلميان‪ ،‬متُسي ممارسةً ذهنيّة وأتمالًّ‪ ،‬على حن ِو ما َ‬


‫تفهمها‬ ‫ْ‬ ‫إ ّن الصال َة إذا‬
‫احلي‪ .‬فاإلميان القومي يهدي مسريَة ذهننا‪ ،‬فيما‬
‫الدّيانت الشرقيّة‪ّ .‬أما الصالة األرثوذكسيّة‪ ،‬فهي حوار مع اإلله ّ‬
‫يغرق ذهنَنا يف‬
‫فإما ّ‬ ‫ُيول ذهنَنا حنو أصنام ِّ‬
‫مشوهة هلل‪ ،‬وال يتيح لنا أن ننشىء حواراً حيًّا معه‪ّ .‬‬ ‫اإلميان اخلاطىء ّ‬
‫العدم أو خينقه يف ختيّالت شيطانيّة‪ .‬من هنا أ ّن اإلميان القومي شرط للصالة القلبيّة‪ .‬ومع هذا‪ ،‬كثريون من املؤمنني‬
‫يش ّكون يف فاعليّة صالهتم‪ّ .‬أما املسيح فيقول لنا يف قراءة إَنيل اليوم إنّه "إذا كان لنا إميان مبقدار حبّة خردل‪،‬‬
‫شك يف دقّة هذا الكالم‬
‫نقول هلذا اجلبل انتقل حاالً إىل هناك فينتقل"‪ .‬ولكن ابت معروفًا أ ّن الغالبيّة منّا‪ ،‬ت ّ‬
‫عما لإلميان من ّقوة‪ ،‬ال عن‬
‫تعرب ّ‬
‫عندما تواجه املشاكل‪َ .‬حن َسبُه ابألحرى صورة قويّة‪ ،‬فيها بعض املبالغة‪ ،‬تريد أن َّ‬
‫القلب‬
‫ُ‬ ‫الشك هو جتديف على هللا‪ ،‬حيث يكذب‬
‫َّ‬ ‫ّقوته املطلقة‪ .‬ويقول الق ّديس يوحنّا كرونشتادت‪" :‬إ ّن‬
‫‪113‬‬
‫عريه أدّن انتباه‪ .‬إ ّن األفكار‬ ‫ٍ‬
‫سامة‪ ،‬واألحرى أن نزدري به‪ ،‬وال نُ َ‬
‫بوقاحة"‪ .‬لذلك جيب أن خنافَه خوفَنا من أفعى ّ‬
‫وجوده من هللا‪ ،‬وأ ّن هللا قادر‬ ‫ُّ‬
‫يستمد َ‬ ‫كل موجود‬
‫الشك وعدم اإلميان هي أ ّن ّ‬ ‫الّيت تساعدان على التخلّص من ّ‬
‫على حتقيق ما نطلبه منه‪ .‬ففي هللا جتتمع القدرة املطلقة‪ ،‬واحملبّة القصوى‪.‬‬

‫‪ ‬اإلميان والصوم‬

‫الصوم مرتبط ابلصالة وبتجديد اإلنسان‪ ،‬وكالمها نتيجةُ عمل اإلميان‪ .‬وممارسة الصوم مبا يوافق اإلميان‬
‫ُ‬
‫للمعزي‪ .‬غري ّأَنا وفق تعليم الفيلوكاليا‪ ،‬ال‬
‫القومي شرط الكتساب سائر الفضائل‪ ،‬الّيت جتعل اإلنسان إانءً صاحلًا ّ‬
‫حده ابهلل‪ .‬فالصالة هي الّيت توفّ ُر لإلنسان إمكانية اال ّحتاد ابهلل‪.‬‬
‫تُْت ُ‬

‫مثال املسيح‪،‬‬
‫مباشراً‪ .‬حنن نصوم ألنّنا بذلك نتّبع َ‬
‫صوم الكنيسة يرتبط ابإلميان ارتباطاً َ‬
‫إذًا من الواضح أ ّن َ‬
‫كلمتهم‪ .‬ونقوم هبذا العمل ألنّنا نبتغي تنقيةَ ذهننا من اخلياالت الّيت يولّدها االستعباد للّ ّذات‬
‫ورسله‪ ،‬ونطيع َ‬
‫العقلي إىل‬
‫ّ‬ ‫نصل من اإلميان‬
‫مرهفاً مبفاعيل النعمة اإلهليّة‪ .‬ونصوم ألنّنا نريد أن َ‬
‫يكتسب إحساساً َ‬
‫َ‬ ‫املاديّة‪ ،‬لكي‬
‫ّ‬
‫القليب‪.‬‬
‫اإلميان ّ‬
‫الصوم عن اإلميان‪َ ،‬نعله عمالً بشرًّّي‪ ،‬وترويضاً لإلرادة ال خيرجنا من دائرة املوت‪ّ .‬نارس‬
‫َ‬ ‫نفصل‬
‫ُ‬ ‫عندما‬
‫َندف إىل ل ّذة الروح‪ ،‬يف‬
‫بوذي‪ .‬عندما نسعى إىل إماتة ل ّذة اجلسد من غري أن َ‬ ‫الصوم كالبوذيّني‪ ،‬ونقوم ٍ‬
‫بعمل ّ‬ ‫َ‬
‫عالقة شخصيّة مع هللا‪ ،‬نصري أعداءًا للحياة‪ُ ،‬مستَعبَدين للعقليّة البوذيّة الّيت تنظر إىل احلياة البشريّة نظرةً سلبيّة‪.‬‬

‫اإلهلي‪.‬‬
‫إ ّن الضالالت كلّها تنشأ عن الفصل بني احلياة واإلميان‪ ،‬والفصل بني املمارسة اليوميّة واإلعالن ّ‬
‫ِ‬
‫مبمارسة الصالة والصوم‪ ،‬فيُبيد الضالالت كلَّها‪ ،‬ويطرد الشياطني الّيت ختلقها‪.‬‬ ‫ّأما اإلميان القومي‪ ،‬املتّحد‬

‫‪114‬‬
‫األحد احلادي عشر بعد العنصرة‬

‫(مت‪)25 -23 :18‬‬


‫ّ‬

‫ال َدين والرأفة ابإلخوة‬


‫"أيّها العبد الشرّير‪ ...‬كان ينبغي أنّك أنت أيضاً ترحم العبدَ رفيقك كما رمحْتُك أان"‬

‫حياهتا‪ .‬فنحن ال َند تضارًاب بني الرمحة والعدل‪،‬‬


‫تعيش كنيستنا تزاوج يف املفاهيم ال يفهمه الّذين جيهلون َ‬
‫الشر‬ ‫ِ‬
‫بني اخلوف واحملبّة‪ ،‬بني الناموس والنعمة‪ .‬كلّها تُعاش كمراحل ملسرية اإلنسان الروحيّة الواحدة من جحيم ّ‬
‫رب"‬
‫النيب‪" :‬من أجل رمحتك وعدالتك أسبّحك ّي ّ‬ ‫احلرية‪ .‬يقول داود ّ‬ ‫إىل فردوس النعمة‪ ،‬ومن العبوديّة إىل ّ‬
‫"كل و ٍ‬
‫احد‬ ‫كدّي ٍن عادل ليجازي َّ‬ ‫(مز‪ .)1 :100‬إذاً‪ ،‬الرمحة تسبق واحلكم يتبعها‪ .‬يعطي هللا ّأوالً نعمتَه مثّ أييت ّ‬
‫حسب أعماله"‪ .‬ال ُياسب على األعمال الّيت تفوق طاقتَنا‪ ،‬بل يعطينا نعمتَه وفيما بعد يديننا على مقدار‬
‫العيش حبسب‬
‫َ‬ ‫الثمار الّيت أنتجناها من عطيّته‪ .‬وخوف الدينونة يوقظ فينا الوعي إىل تفعيل النعمة‪ ،‬فنحاول‬
‫اخلوف‬
‫َ‬ ‫أوامرها‪ .‬هكذا‪ ،‬من اخلوف الّذي "له عذاب" (‪1‬يو‪ )18 :4‬نعرب إىل احملبّة الّيت "تطرح إىل خارج"‬
‫املع ِّذب‪ .‬كذلك احملبّة الّيت هي ملء الناموس‪ ،‬تكشف العبور من حرفيّة الوصاّي اإلهليّة إىل روحيّتها‪ ،‬أي من‬
‫الطاعة اخلارجيّة ملشيئة هللا إىل ضبط حركات النفس كلّها وفقاً لوصاّيه‪.‬‬

‫علي"‪ ،‬وقد سيطر عليه خوف‬ ‫"متهل َّ‬


‫َنح يف طلب ترك ديونه بقوله ّ‬ ‫ِ‬
‫إ ّن "املَدين بعشرة آالف وزنة" َ‬
‫"امللك"‪ ،‬إالّ أنّه مل يتق ّدم يف احملبة‪ .‬مل يكمل مسرية انعتاقه ‪ ،‬فخسر كل ٍ‬
‫شيء‪ .‬يف قراءة إَنيل اليوم إذاً يرتسم‬ ‫َ َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يتم وصف العواقب الفظيعة الّيت آل إليها الرجل الّذي مل‬ ‫ٍ‬
‫جبالء ترتيب مسرية اإلنسان الروحيّة‪ .‬ويف الوقت نفسه ّ‬
‫تصرفه‪.‬‬
‫يُرد أن مياثل رمحةَ هللا يف ّ‬
‫‪ ‬القرض واإلحساس ابل َدين‬

‫‪115‬‬
‫كل اجتماع‬
‫عبيده" داخل الكنيسة دائماً‪ُّ .‬‬‫السماوي‪ُ" ،‬ياسب َ‬‫ّ‬ ‫اإلَنيلي هو اآلب‬
‫ّ‬ ‫إ ّن "امللك" يف املثل‬
‫اإلهلي هو اتصال ابهلل اآلب‪ ،‬الّذي يرّكز ّأوالً على العفو عن ديون الناس‬
‫للمؤمنني‪ ،‬سيّما االجتماع يف الق ّداس ّ‬
‫"كمدينني بعشرةِ آالف وزنة" لنطلب االنعت َ‬
‫اق‬ ‫الروحيّة‪ .‬فالكنيسة "خيمة اجتماع هللا مع الناس"‪ ،‬ندخل إليها َ‬
‫أنفسنا أيضاً‪.‬‬
‫آخر طالبني أمور أخرى‪ ،‬هذا يعين أنّنا َنهل رسالتها و َ‬‫من ديوننا‪ .‬وعندما ندخل الكنيسةَ بفك ٍر َ‬
‫حضر املدين بعشرة آالف وزنة‬‫َ‬ ‫كل زواّي حياتنا‪ .‬لقد‬
‫ّ‬ ‫احلي أب ّن هللا حاضر يف‬
‫ّ‬ ‫بديْنِنا هو نتيجة اإلميان‬
‫فاإلحساس َ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ق ّدام املَلك‪ ،‬وكلّمه وجهاً لوجه‪ .‬هذا ما حيصل معنا عن طريق الصالة الصادقة‪ ،‬الّيت هي اخلروج من ّ‬
‫التفرد يف‬
‫احلي‪ .‬فهذا احلوار يكشف لنا شخصيّ تَنا احلقيقيّة‪،‬‬
‫الكالم عن طلباتنا الشخصيّة واإلنفتاح على احلوار مع هللا ّ‬
‫ويبني لنا ثروتنا املسلوبة املختلَسة من مال غريب‪ .‬هكذا نكتشف ق ّدام هللا جلّةَ شروران‪.‬‬
‫ّ‬
‫ين كان قرضاً‪" .‬فتحنّن سيّ ُد‬
‫الد َ‬
‫اإلَنيلي فيما بعد إ ّن َ‬
‫ّ‬ ‫"قُ ّدم إليه واحد َمدين بعشرة آالف وزنة"‪ .‬يقول لنا‬
‫(مّت‪ .)27 :18‬ولكن ما هو القرض الّذي أنخذه من هللا وحنن َمدينون إبرجاعه؟‬ ‫ذلك العبد وترك له ديونَه" ّ‬
‫كمدينني بسماع آالف‬ ‫ٍ‬
‫كل كلمة إهليّة نسمعها يف الكنيسة‪ ،‬إنّه "أقوال هللا" الّيت نُدان عليها " َ‬
‫قرض هللا هو ّ‬
‫األقوال من هللا‪ ...‬أو مبئة وزنة" (الق ّديس غريغوريوس ابالماس)‪ .‬فاهلل يعطينا نعمتَه دائماً "وبطرائق كثرية"‪ ،‬وحنن‬
‫كل وجودان إىل هللا‪ ،‬وإحياء صورة‬
‫بذار الفضائل يف داخلنا‪ .‬إيفاء الدَّين هو إعادة ّ‬
‫ندين له ابستثمارها‪ُ ،‬منَ ّمني َ‬
‫هللا فينا‪ .‬حنن ندين هلل بعطاّيه‪ ،‬كما لو بعشرة آالف وزنة‪ ،‬عندما تبقى النعمة الّيت متأل قلبَنا ابلقراءات والرتاتيل‬
‫القوة‬
‫يف الكنيسة غري فاعلة‪ .‬ولكن عندما نشعر بديَننا وضعفنا يف العيش وفق روح الكلمة الكنسيّة‪ّ ،‬نلك ّ‬
‫"متهل علينا‪."...‬‬
‫إليفائه ابلصالة املتواضعة‪ّ :‬‬

‫‪ ‬شروط الغفران‬

‫تبني لنا املراحل التالية‪:‬‬


‫إ ّن مسرية املَدين بعشرة آالف وزنة ّ‬

‫ابلدين املرتبط خبوف "امللك"‪.‬‬


‫ّأوالً‪ ،‬اإلحساس َ‬

‫‪116‬‬
‫اثنيًا‪ ،‬طلب الرمحة بتواضع‪.‬‬

‫اثلثًا‪ ،‬نوال الغفران‪.‬‬

‫العبد (املدين‬
‫عاد ُ‬ ‫َ‬ ‫ابعا‪ ،‬انعدام الشفقة لدى العبد جتاه رفيقه‪ ،‬وما فيه من نكران لرمحة السيّد‪ ،‬وبسببه‬
‫ً‬ ‫ر‬
‫َ‬
‫كم ِدين‪.‬‬
‫األول) إىل وضعه َ‬
‫ّ‬
‫الشكلي‪ .‬فاهلل‬
‫ّ‬ ‫سر اإلعرتاف‬
‫سر مغفرة اخلطاّي‪ ،‬الّذي ال يتوقّف عند ممارسة ّ‬
‫ضمن هذه املسرية يرتسم ُّ‬
‫يتم فيها انتقال نعمة هللا آليًّا‪ .‬مثّ إ ّن االعرتاف‬
‫جمرد إجراءات شكليّة ّ‬
‫يعطي مغفرَة اخلطاّي ضمن شروط‪ ،‬وليست ّ‬
‫سر اإلعرتاف‬
‫وحّت اجمليء إىل ّ‬
‫ننس أن كثريين يعرتفون خبطاّيهم ابفتخار‪ّ .‬‬
‫ابخلطيئة ليس دائماً برهاانً للتوبة‪ ،‬وال َ‬
‫خالصي‪ ،‬عندما يرتبط "مبعرفة الذات"‪ ،‬إبدانة‬
‫ّ‬ ‫يتم دائماً بصدق‪ .‬فاالعرتاف ابخلطيئة هو بطولة‪ ،‬هو عمل‬ ‫ال ّ‬
‫الذات‪ ،‬وابلرغبة يف تغيري طريقة احلياة ويف إمتام مشيئة هللا يف حياتنا الشخصيّة‪.‬‬

‫ينقاد اإلنسان إىل االعرتاف بسبب الضغوطات النفسيّة الّيت ُُيدثها تقديره الكبري لذاته‪.‬‬
‫من املمكن أن َ‬
‫كل شيء‪ ،‬عندما نعطي‬ ‫يلوث أقدس نواّي النفس‪ .‬قبل ّ‬ ‫فإ ّن هوى الكربّيء الدقيق جدًّا والّذي تصعب غلبتُه ّ‬
‫طابعا قانونيًّا‪ ،‬قد تصدر رغبتنا يف نوال املغفرة عن األاننيّة‪ .‬وميكننا إدراك ذلك من عالقاتنا ابلناس‬
‫عالقتنا ابهلل ً‬
‫اآلخرين‪ ،‬كما العبد يف‬
‫اآلخرين‪ .‬عندما يتملّكنا روح الغرور واالستعداد إىل االنتقاد‪ ،‬ونكون قساةً جتاه زالّت َ‬‫َ‬
‫مرة إىل إحياء شعوران اجملروح بنقاوتنا الداخليّة‪.‬‬
‫كل ّ‬
‫سر اإلعرتاف حاجتُنا يف ّ‬
‫املثل‪ ،‬من املُحتمل أن تقودان إىل ّ‬
‫لكن من يتوب حقًّا ال يف ّكر هكذا‪ .‬فهو ال يدين اآلخرين‪ ،‬وال يف ّكر يف عدم مساحمة " رفقائه العبيد " "من‬ ‫و ّ‬
‫مهم‬
‫سر اإلعرتاف أمر ّ‬ ‫خلاصة‪ .‬طبعاً إ ّن مزاولة ّ‬
‫القلب"‪ ،‬ألنّه يشعر أب ّن حياتَه كلّها تعتمد على مغفرة زالّته ا ّ‬
‫ٍ‬
‫بسهولة كلّما حنرتق من‬ ‫حّت ولو يف غياب الشروط املناسبة‪ .‬فنحن بقرب نبع نستطيع به أن نروي ظمأان‬ ‫جدًّا‪ّ ،‬‬
‫العطش‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫غري مس ّدد‪.‬‬ ‫ِ‬
‫إ ّن هللا يرتك لنا "ديوننا" ويطلب منّا الرمحةَ والشفقة واحملبّة حنو إخوتنا البشر‪ ،‬وإالّ بَق َي َدينُنا َ‬
‫فعالقتنا ابهلل تنتظم حبسب مواقفنا جتاه الناس‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫األحد قبل رفع الصليب‬

‫(يو‪)17 -13 :3‬‬

‫الصليب عود اخلالص‬


‫"كما رفع موسى احليّةَ يف الربّية‪ ،‬هكذا ينبغي أن يُرفع ابن اإلنسان"‬
‫تعرب عنه ٍ‬
‫جبالء طريقة تعييدان لألحداث املرتبطة به‪ .‬ففي‬ ‫األساسي للصليب يف حياة الكنيسة ِّ‬
‫ّ‬ ‫إ ّن املعىن‬
‫الرابع عشر من أيلول‪ ،‬نقيم ذكرى رفع الصليب الكرمي يف العامل أمجع‪ .‬وحت ّدد الكنيسة فرتة هتيئة ما قبل العيد‪،‬‬
‫مكرسة "لِ ُعود خالصنا املغبوط"‪ .‬تتح ّدث التسابيح‬ ‫بعده‪ .‬واآلحاد الّيت قبل الصليب وبعده ّ‬‫وفرتة امتداد ما َ‬
‫احلقيقي‪ ،‬وعن طريقة املشاركة يف‬
‫ّ‬ ‫والقراءات الّيت تُتلى يف الكنائس املق ّدسة عن مكانة الصليب يف وجدان املؤمن‬
‫سر الصليب‪.‬‬
‫نعمة ّ‬
‫الربية وبني صليب‬
‫وما يلفت انتباهنا يف قراءة إَنيل اليوم العالقة بني احليّة النحاسيّة الّيت رفعها موسى يف ّ‬
‫احلقيقي يف العهد القدمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املسيح‪ .‬واملسيح نفسه يلفت إىل هذه العالقة‪ ،‬كاشفاً عن معىن احلدث‬

‫‪ ‬احليّة النحاسيّة والصليب‬

‫التذمر على هللا وعلى موسى‬


‫آل به إىل ّ‬ ‫ضل يف الصحراء‪َ ،‬‬ ‫إ ّن صغر النفس عند الشعب العرباينّ‪ ،‬عندما ّ‬
‫وع ِميَت عيونه عن‬
‫شعَر أ ّن العبوديّة أكثر احتماالً من حياة الصحراء القاسية‪َ ،‬‬
‫بعد أن أخرجاه من أرض مصر‪َ .‬‬
‫ف عن املأساة‬ ‫ِ‬
‫فيت ال َكشف والنبوءة‪َ .‬ك َش َ‬
‫منحه هللا ّإّيه ّاختذ ص َ‬
‫مشاهدة عطاّي هللا‪ .‬إالّ أ ّن هذا التدريب الّذي َ‬
‫الداخليّة ألبناء إسرائيل‪ ،‬وأنبأ رمزًّّي عن خالصهم من هذه املأساة‪ .‬كانت األفاعي الّيت أماتت العربانيّني صوراً‬
‫الربية‬
‫نفوسهم‪ّ .‬أما احليّة النحاسيّة الّيت رفعها موسى يف ّ‬
‫السامة وإلحلاد الّيت أماتت َ‬
‫حسية عن أفكار اخلطيئة ّ‬ ‫ّ‬

‫‪119‬‬
‫"من له سلطة املوت" أي‬
‫املسيح عليه َ‬
‫ُ‬ ‫سحق‬
‫حسب وصاّي هللا‪َ ،‬فرَمَزت إىل الصليب‪ ،‬وإىل عود اخلالص‪ ،‬الّذي َ‬
‫الشيطان‪.‬‬

‫"منزهاً عن التأ ّمل"‪ .‬إنّه جسد‬


‫جسد املسيح "متأثّراً ابجللدات"‪ ،‬ويف الوقت عينه َّ‬
‫على الصليب‪ ،‬نرى َ‬
‫اقب خطيئة العامل على عاتقه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫سم‪ .‬لقد محل املسيح عو َ‬
‫إنسان‪ ،‬ولكن بغري خطيئة‪ ،‬كما احليّة النحاسيّة بدون ّ‬
‫سلطة املوت إالّ‬ ‫ٍ‬
‫خطيئة‪ ،‬ولذلك كان موتُه َجوراً‪ .‬فيه ارتكب الشيطان اختال ًسا للسلطة‪ ،‬ألنّه مل ميلُك َ‬ ‫وهو بال‬
‫"أحب‬ ‫ابدر هللا الّذي‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫ظلمه الالحمدود‪ .‬لذلك َ‬
‫على الّذين اَنرحوا بشوكة اخلطيئة‪ّ .‬أما يف حالة املسيح‪ ،‬فح ّق َق َ‬
‫موت اخلطيئة‪ .‬فاحليّة النحاسيّة ترمز إىل‬
‫العدل"‪ ،‬وألغى سلطتَه مبوت املسيح‪ .‬من هنا أنّنا نرى على الصليب َ‬ ‫َ‬
‫الداخلي‪ ،‬أي كياننا كلَّه عند الصليب‪ ،‬ننتعش‬
‫ّ‬ ‫انتباهنا‬
‫موت احليّة العقليّة‪ ،‬إىل موت الشيطان‪ .‬وفيما َنعل َ‬
‫بسبب إماتة املوت والشيطان وأنيت إىل الشركة مع احلياة احلقيقيّة‪ ،‬أعين املسيح‪.‬‬

‫جمرد شكل‪ ،‬وال رمزاً لفكرةٍ ما‪ ،‬بل يشمل‬


‫من الواضح أ ّن الصليب ال ينفصل عن املصلوب‪ ،‬ألنّه ليس ّ‬
‫الصليب عن القيامة‪ ،‬ولو َمل يرتبط‬
‫َ‬ ‫حمبّةَ هللا كلَّها للعامل‪ .‬إنّه ّ‬
‫قوة هللا الّيت جت ّدد اخلليقةَ‪ .‬وابلتايل‪ ،‬ال ينفصل‬
‫ابب احلياة‪ .‬وحتمل هذه احلقيقة نتائجها يف احلياة اليوميّة‬
‫الصليب ابلقيامة لكان أدا ًة للقتل‪ّ .‬أما اآلن فهو ُ‬
‫ثوذكسي‪ .‬فهذا األخري ال يعيش حاالت من‬
‫ّ‬ ‫يعرب عن حياة املؤمن األر‬
‫للمؤمن‪ ،‬حيث إ ّن تزاوج الصليب والقيامة ّ‬
‫فرحا مف ِرطًا‪ ،‬بل يعيش احلز َن والفرح معاً‪ .‬لذلك نرتّل‪ّ" :‬ي ّ‬
‫رب إ ّن‬ ‫جهة واحدة‪ :‬ال حزًان من غري تعزية‪ ،‬وال ً‬
‫صليبك هو حياة وقيامة لشعبك"‪ ،‬فنحن كنيسة القيامة‪ ،‬والصليب مركز حياهتا‪.‬‬

‫‪ ‬اإلميان والصليب‬

‫كل من يؤمن به"‬ ‫ابن اإلنسان لكي ال يهلك ُّ‬ ‫الربية‪ ،‬هكذا ينبغي أن يُرفع ُ‬ ‫"كما رفع موسى احليّة يف ّ‬
‫(يو‪ .)15 -14 :3‬يف هذه اآلية الكثيفة ابملعاين‪ ،‬نرى اإلميا َن مرتبطاً ابلصليب‪ ،‬حامالً احلياةَ األبديّة كنتيجة‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫"كل من لُدغ‬
‫وهكذا‪ ،‬يوازي اإلميان بشخص املسيح رؤية احليّة النحاسيّة آنذاك‪ .‬ابلنسبة إىل احليّة النحاسيّة‪ّ ،‬‬
‫فكل َمن يؤمن به‪ ...‬له احلياة األبديّة"‪.‬‬
‫ونظر إليها ُييا" (عدد‪ّ ،)8 :21‬أما اآلن‪ّ " ،‬‬
‫َ‬
‫ثوذكسي هو صليب ألنّه ُيوي كلمةَ الصليب‪ ،‬الّيت هي "عند اهلالكني جهالة‪ ،‬و ّأما عندان‬
‫ّ‬ ‫اإلميان األر‬
‫مصلواب"‪ ،‬ويرشد‬
‫ً‬ ‫وإّيه‬
‫ثوذكسي يكرز "بيسوع املسيح ّ‬
‫ّ‬ ‫حنن املخلَّصني فهي ّقوة هللا" (‪1‬كو‪ .)18 :1‬فاإلميان األر‬
‫املؤمنني إىل مشاركة نعمة الصليب‪ .‬وإّّنا نشارك نعمة الصليب ابلطاعة ملشيئة هللا‪ ،‬الّيت مراراً كثرية تصطدم‬
‫نسمر جسد اخلطيئة طوعاً‬
‫احلقيقي‪ ،‬عندما ّ‬‫ّ‬ ‫يتم انتصاران‬
‫مبشيئتنا الذاتيّة الفانية اخلاطئة‪ .‬وإثر هذا االصطدام‪ّ ،‬‬
‫الطوعي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫على صليب وصاّي املسيح‪ .‬فهذا األمل يتولّد من اإلميان‪ ،‬واإلميان يقودان إىل أمل التوبة الشايف‬

‫إنّنا نعيش يف عص ٍر يعارض سلوك الكنيسة يف هذه املصلوبيّة‪ .‬اإلنسان املليء ابألهواء يُعتَرب إنساانً‬
‫كل احلقائق‪ .‬وفق عقليّة العامل املعاصر‪ ،‬يريد كثريون أن تكون الكنيسة متساهلة‬
‫"طبيعيًّا" وقد أمسى مقياس ّ‬
‫تربر خطيئته‪ ،‬بل تعطيه ّقوةً ليتخلّص منها‪.‬‬
‫احلق إ ّن الكنيسة رؤوفة ابخلاطىء‪ ،‬ولكنّها ال ّ‬
‫واخلطيئة‪ .‬و ّ‬

‫‪ ‬الرؤاي واإلميان ابلصليب‬

‫ابب األسرار‪ ،‬وبعيين اإلميان الكبريتني نشاهد أسر َار هللا‪.‬‬


‫وفقاً للق ّديس اسحق السرّيينّ‪ ،‬اإلميان هو ُ‬
‫ك اجملد املصلوب‬ ‫ِ‬
‫البشري‪ .‬هبذا اإلميان نرى َمل َ‬
‫ّ‬ ‫فاإلميان هو نور يبحث يف أماكن مظلمة ابلنسبة إىل الذهن‬
‫تذمر لدى هللا خالل التجارب املختلفة‬
‫الربية‪ ،‬وعندما نبدأ ن ّ‬
‫ونُشفى من لس ِع اخلطيئة‪ .‬فحياتنا هي مسرية يف ّ‬
‫مي يف نفوسنا‪.‬‬
‫حّت تسكب مسّها اجلهنّ ّ‬
‫سامة ملؤها عدم اإلميان واخلطيئة ّ‬
‫ومصاعب احلياة‪ ،‬نطلق العنان ألفكار ّ‬
‫إيالما وإماتةً‪ .‬تغلق علينا يف حلقات دنيئة ألفكار مظلمة‪ ،‬وال‬
‫التذمر هي أكثر األفكار ً‬ ‫فاألفكار الناشئة عن ّ‬
‫رسائل هللا املخفيّة يف الظروف املعاكسة من حياتنا‪.‬‬
‫َ‬ ‫تدعنا نرى معىن األحداث‪ .‬وال ترتكنا نسمع‬

‫‪121‬‬
‫إ ّن اإلميان بصليب املسيح وقيامته هو شركة مع القائم من األموات الّذي غلب املوت‪ .‬هذه الشركة الّيت‬
‫تذوق ُمسبق حلياة الدهر‬
‫هي طاعة ملشيئته وصالة ابمسه‪ ،‬هي رؤية "كما يف مرآة"‪ ،‬أي ّأَنا مل تكتمل بعد‪ّ .‬إَنا ّ‬
‫اآليت‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫األحد بعد رفع الصليب‬

‫(مر‪)1 :9 ،38 -34 :8‬‬

‫صليب العائلة‬
‫ُ‬
‫"من أراد أن يتبعين‪ ،‬فلينكر نفسَه‪"...‬‬

‫وصف حيا َة تالميذه مستخدماً صورة احملكوم عليه‪ ،‬الّذي‬


‫َ‬ ‫يصل إىل اآلالم والصلب‪،‬‬
‫املسيح قبل أن َ‬
‫َ‬ ‫إ ّن‬
‫كل األهواء الّذي هو األاننيّة‪ ،‬أي‬
‫جذر ّ‬
‫ينكر َ‬
‫نفسه‪ ،‬يعين هذا أن َ‬
‫ينكر َ‬
‫ُيمل صليبَه‪ .‬من يريد أن يتبعه عليه أن َ‬
‫ُيمل صليبَه‪ ،‬مبعىن أن أيخ َذ على عاتقه اجلهاد من أجل حفظ وصاّي‬ ‫حمبّة ذواتنا مبا ينايف املنطق‪ ،‬ومن مثّ أن َ‬
‫املسيح‪ .‬أن أتبع املسيح يعين أن أقتدي حبياتِه‪ .‬أتبعه إىل جلجلة احملبّة‪ .‬فالصليب هو احملبّة الّيت تصبح ذبيحة‬
‫بوضوح‬
‫ٍ‬ ‫حب الذات‪ ،‬يتق ّدم يف معرفة املسيح ويرى‬
‫يتحرر املؤمن من عقاالت ّ‬
‫ليعيش العامل حياة حقيقيّة‪ .‬وفيما ّ‬
‫َ‬
‫صليب إخوتِه الّذين ال‬
‫َ‬ ‫جحود العامل‪ .‬يعيش مأساة الكون شخصيًّا ‪ ،‬فينوح ويصلّي من أجل العامل‪ ،‬وُيمل‬
‫َ‬
‫يفصلهم عن نفسه‪.‬‬

‫نتبني كيف على‬


‫املسيح إبخالص‪ ،‬حيث ّ‬
‫َ‬ ‫إ ّن كتاابت الق ّديسني وأخبار حياهتم تصف خربَة الّذين يتبعون‬
‫مهم جدًّا‪ .‬إ ّن محل الصليب هو طريقة حياة املؤمنني‬
‫اإلنسان أن أيخ َذ صليبَه ويتبع املسيح‪ .‬وهناك يظهر أمر ّ‬
‫كرا على الرهبان وال على‬ ‫ِ‬
‫بغض النظر عن أّناط حياهتم اخلارجيّة‪ .‬فحياة الصليب ليست ح ً‬ ‫احلقيقيّني كلّهم‪ّ ،‬‬
‫بعض األشخاص املنعزلني عن اجملتمع‪ ،‬بل هي أيضاً مسة أصحاب املَِهن وأرابب العائالت‪ ،‬والّذين لديهم مراكز‬
‫مسؤوليّة وميارسون السلطة يف اجملتمع‪.‬‬

‫فاليوم مبوجب دعوة املسيح "من أراد أن يتبعين‪ ...‬فليحمل صليبَه ويتبعين"‪ ،‬ومبا أ ّن سنة ‪ 1994‬قد‬
‫تكرست للعائلة‪ ،‬سنرسم يف بعض اخلطوط كيفيّة عيش الصليب يف حياة العائلة‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪123‬‬
‫‪ ‬صليب العالقة الزوجيّة‬

‫كل إنسان لديه اترخيه اخلاص وتراثه‪ .‬وإ ّن اجتماع‬‫يتكرر وجوده‪ّ .‬‬ ‫كل إنسان هو شخص فريد وال ّ‬ ‫ّ‬
‫عضوي ُلرتاثَني خمتلفني‪ .‬عاد ًة عندما يفقد الزوجان محاستهما اخلارجيّة األوىل ويعرب‬
‫ّ‬ ‫شخصني ابلزواج هو تصادم‬
‫وجي إىل مرحلة أعمق‪ ،‬تظهر تضارابت وانشقاقات تتطلّب نضوجاً كبرياً لكي يتخطّياها‪ .‬والكنيسة‪ ،‬من‬
‫الز ّ‬
‫اللقاء ّ‬
‫لزوجني مساعدةً جوهريّة‪ .‬ال تفحص‬
‫املعرب عنهما أيضاً يف طقس الزواج‪ ،‬متنح ا َ‬
‫سر الزواج وتعليمها‪َّ ،‬‬
‫خالل نعمة ّ‬
‫تشق‬
‫البشري مأزقاً‪ّ .‬إَنا ّ‬
‫ّ‬ ‫أكثر من خمرٍج حيث يرى املنطق‬
‫كل شيء‪ ،‬ولذلك تُعطي َ‬ ‫األمور كأ ّن اإلنسا َن هو مركز ّ‬
‫َ‬
‫العالقة الثنائيّة للزوجني وجتعلها ثالثيّة‪ .‬فاملصلحة الشخصيّة دائماً تتد ّخل بني اإلثنني‪ ،‬ولكن عندما تُضاف إىل‬
‫آخر‪ ،‬فتكتسب ّإجتاهاً روحيًّا‪.‬‬ ‫ان‬‫مضمو‬ ‫العالقة‬ ‫أتخذ‬ ‫ٍ‬
‫عندئذ‬ ‫الروحي‪،‬‬ ‫األب‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الزوجني حقيقةُ الكنيسة الّيت يظهرها ّ‬ ‫ّ‬
‫وسر الشكر واملسيح‪.‬‬ ‫ال يبقى مرجع ارتباط اإلثنني يف شخصيهما وال يف عالقتهما‪ ،‬بل يف الشركة مع الكنيسة ّ‬
‫تتقوى عالقةُ الزوجني ضمن الشرك ة مع الكنيسة‪ .‬اهلدف هو كماهلما يف املسيح‪ ،‬وجتاوز الرتكيز‬ ‫سر الزواج ّ‬
‫يف ّ‬
‫قانوينّ‪ ،‬يعرتف بشخصني كزوجني‪ ،‬بل‬ ‫جمرد عقد ٍ‬ ‫التمرس يف احملبّة‪ .‬الزواج ليس أمراً سهالً وال هو ّ‬
‫الشخصي‪ ،‬و ّ‬
‫ّ‬
‫ٍ‬
‫وإرشاد مستنري‪ .‬إ ّن دورة "ّي‬ ‫وسر عظيم‪ .‬يتتطلّب صلباً‪ ،‬وُيتاج محل الصليب بتوفيق إىل ّقوة نعمة هللا‬ ‫هو نري ٌّ‬
‫إشعيا اطرب مرتكضاً"‪ ،‬حتمل معنًا الفتًا‪ ،‬فالرقص هو رمز احلياة الّيت يرشد الكاهن الزوجني إىل درهبا ماسكاً‬
‫اإلَنيل‪ ،‬فيما نسمع أيضاً طروابرية "أيّها الشهداء الق ّديسون الّذين جاهدمت حسناً وتكلّلتم"‪ .‬إ ّن الكاهن يرشد‬
‫الزوجني إىل اجلهاد يف اكتساب احملبّة احلقيقيّة بنور اإلَنيل وليس آبرائه الشخصيّة‪.‬‬

‫‪ ‬صليب تربية األوالد‬

‫إذا كانت عالقةُ الزوجني احلقيقيّة صليباً‪ ،‬فهذا يصري أثقل عندما يظهر األوالد‪ .‬املوضوعات الّيت نتناوهلا‬
‫عامة حم ّددة كما يف بعض املؤلّفات‬
‫اليوم مع ّقدة وال جتوز لنا املبالغة يف تبسيطها‪ .‬حنن َند مرجعنا يف مبادىء ّ‬
‫نتوجه إىل ٍ‬
‫أانس هم أعضاء الكنيسة األرثوذكسيّة‪ .‬يف العالقة مع األوالد‬ ‫املميّزة‪ ،‬آخذين بعني اإلعتبار دائماً أنّنا ّ‬
‫نريد أن نش ّدد على النقاط اآلتية‪:‬‬
‫‪124‬‬
‫الفن يف‬
‫‪ -1‬ال أيخذ األوالد منّا ما نريد أن ننقلَه إليهم بل ما حنن عليه‪ .‬احملبّة والصدق يف حياتنا مها ّ‬
‫تربيتهم‪ .‬فمهما نقول هلم من التعاليم العقليّة‪ ،‬ومهما نتّبع من أساليب الرتبية‪ ،‬إذا مل نؤمن مبا نقوله‪ ،‬سيأخذ‬
‫ردةُ‬
‫اخلاصة‪ّ .‬‬
‫األوالد أخرياً بعدم إمياننا‪ .‬خيلق األهل توتّرات كثرية يف عالقتهم أبوالدهم عندما يرون فيهم أهواءَهم ّ‬
‫رد َة الفعل الوحيدة اإلحساس ابملسؤولية والتوبة والصالة‪.‬‬
‫الفعل هذه غريزيّة‪ ،‬واألجدر أن تكون ّ‬

‫ينموا عالقتَهم الشخصيّة به‪ ،‬كما‬


‫خيصون هللا وينبغي أن ّ‬
‫‪ -2‬األوالد ليسوا ملكنا‪ّ ،‬إَنم أشخاص أحرار‪ّ .‬‬
‫خيصون اجملتمع والكنيسة‪ .‬فهذا ما يعنيه "إدخال الطفل إىل الكنيسة" أي "رتبة األربعني" كما هي العادة‪،‬‬
‫ّأَنم ّ‬
‫َنتم إذا‪ ،‬يف مساعدة‬
‫تستَأمننا عليه اثنيةً لكي ننشئه حبسب تعليمها‪ّ .‬‬
‫الطفل إىل الكنيسة‪ ،‬وهذه األخرية ْ‬
‫َ‬ ‫فنقرب‬
‫ّ‬
‫ظ على "صورة هللا" طاهراً‪ ،‬وليتق ّد َم إىل ما هو "على مثال هللا"‪ .‬هذا ال يعين أنّنا َندف إىل تشويهه‬
‫الولد ليحاف َ‬

‫وفق نزواتنا‪ ،‬بل حنرتم طبيعتَه ّ‬


‫وحريتَه‪ .‬كثريون من األهايل يريدون أن ُي ّقق أوالدهم النجاحات الّيت فشلوا فيها‬
‫حّت يرضوا رغبتهم هذه املنحرفة‪.‬‬
‫أنفسهم‪ ،‬ويع ّذبوَنم ّ‬

‫ُيصل إن‬
‫َ‬ ‫‪ -3‬جيب أن نعطي لألوالد إمكانيّة اكتساب عالقات صحيحة ابلكنيسة‪ .‬هذا ميكن أن‬
‫ٍ‬
‫بشكل صحيح‪ .‬طبعاً جتوز اإلستثناءات ولكن هذا هو املبدأ‪ .‬ينبغي أن نقيم عالقة بني‬ ‫عشنا حنن يف الكنيسة‬
‫ومنصة القراءة والرتتيل‪ ،‬والطقوس‪ ،‬وأن نقيم رابطًا بينهم وبني شخصيّات الكنيسة‪-‬‬
‫األوالد والكنيسة‪ ،‬واهليكل‪ّ ،‬‬
‫جو صالة‪ ،‬حبيث‬
‫جو بيتنا ّ‬
‫نظام بيتنا‪ ،‬وصار ّ‬
‫نظام الكنيسة َ‬
‫أيضا‪ .‬إذا أصبح ُ‬
‫من كهنة وأساقفة‪ ،-‬وبني تعاليمها ً‬
‫لينموا عالقات صحيحة‬ ‫ٍ‬
‫العشار‪ ،‬عندئذ نعطي إمكانيّات كثرية ألوالدان ّ‬
‫تتم هذه األمور ّفريسيًّا‪ ،‬بل بروح ّ‬
‫ال ّ‬
‫ابلكنيسة‪.‬‬

‫أوالدهم مركزاً حلياهتم‪ .‬فوصلوا إىل‬


‫بعضهم جعلوا َ‬‫‪ -4‬األوالد ليسوا أصناماً‪ .‬وحنن نقول هذا أل ّن َ‬
‫النفسي‪ .‬مراراً كثرية أييت نتيجة فشل الزوجني يف‬
‫الروحي و ّ‬
‫ّ‬ ‫نضوجهم‬
‫َ‬ ‫مرض اإلحاطة هبم إحاطة مبالغة‪ ،‬ما مينع‬
‫العاطفي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫فيتحوالن حنو األوالد لكي ميألا فرا َغهما‬
‫عالقتهما ّ‬

‫‪125‬‬
‫كل شيء حمالًّ للشهادة الطوعيّة‪ً ،‬‬
‫وصلبا‬ ‫كل ما أشران إليه أ ّن العائلة جيب أن تكون قبل ّ‬‫من الواضح يف ّ‬
‫الطبيعي لألوالد‪ .‬وعليها أن‬ ‫النمو‬
‫و‬ ‫ية‬‫احلر‬
‫و‬ ‫ة‬ ‫للمحب‬ ‫ً‬‫ا‬‫مسكن‬ ‫تصبح‬ ‫ٍ‬
‫حينئذ‬ ‫حلب الذات‪ ،‬وعيشاً إلَنيل السالم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫تكو َن طر ًيقا إىل املشاركة يف صليب املسيح الّذي ينبع منه الغفران والقيامة للعامل أمجع‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫األول من لوقا‬
‫األحد ّ‬

‫(لو‪)11 -1 :5‬‬

‫الشخص‪ ،‬والكلمة والطاعة‬


‫"ولكن على كلمتك ألقي الشبكة‪"...‬‬

‫كل ما ُيدث لنا‪ .‬لوال‬ ‫نشكر هللا على ّ‬


‫ليس من السهل إرضاءُ هللا من دون التجارب‪ ،‬لذلك ينبغي أن َ‬
‫فشل الرسول بطرس يف اصطياد السمك يف الليل‪ ،‬ملا َنح يف النهار (البار مرقس)‪ ،‬وملا أ ِ‬
‫ُعط َي بركة املسيح الّيت‬
‫أوصل إىل النجاح‪ ،‬وحيث توقّفت القوى البشريّة‬ ‫َ‬ ‫الشباك إىل درجة عدم احتمال ثقل السمك‪ .‬فالفشل‬
‫َ‬ ‫مألت‬
‫ت بركةُ املسيح‪.‬‬
‫أتَ ْ‬

‫العمل‬
‫ُ‬ ‫بني فشل الليل وَناح النهار متّت أحداث تُظهر كيف يصبح غريُ املستطاع ممكناً‪ ،‬وكيف يصبح‬
‫كثري الثمر‪.‬‬
‫العقيم َ‬
‫يشفي‬ ‫يسوع‬
‫املسيح عن طريق أخيه أندراوس‪ ،‬كما من خالل شفاء محاته‪ .‬رأى َ‬ ‫َ‬ ‫عرف مسعان بطرس‬
‫يدنو ابلسفينة إىل الشاطىء ليكلّ َم اجلموع‪ ،‬أطاع يف‬
‫وخيرج الشياطني‪ ،‬لذلك عندما طلب منه املسيح أن َ‬
‫املرضى ُ‬
‫جعل أدا َة عمله‬
‫حّت إنّه َ‬
‫الليل والفشل يف العمل مل يُعيقا استعداده لطاعة الكلمة وخدمتها‪ّ ،‬‬
‫تعب ّ‬ ‫احلال‪ .‬إ ّن َ‬
‫نشري إىل‬
‫مصدر "َناح النهار" وصيد السمك الوافر‪ .‬فلو أردان أن َ‬
‫ُ‬ ‫الفاشل منرباً للمسيح‪ .‬يف هذه النقطة يكمن‬
‫اهتمامه بشخص املسيح‪ ،‬وحسن نيّته لسماع‬ ‫ف بطرس‪ ،‬الستطعنا أن نذكر‬ ‫بعض الصفات السامية يف تصر ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫كلمته والطاعة لوصيّته‪.‬‬

‫‪ ‬العطش إىل هللا‬

‫‪127‬‬
‫شخص املسيّا‪ .‬كذلك‬
‫َ‬ ‫كما سابق والحظنا‪ ،‬إ ّن الرسول بطرس رأى عجائب املسيح‪ ،‬وهي من ميزات‬
‫التقاه شخصيًّا بوساطة أخيه أندراوس (يو‪ .)43 :1‬هذا يعين أنّه أخذ معلومات كافية عن شخص املسيح سواء‬
‫من اآل َخرين أم من خربته الشخصيّة‪ .‬فقد انشغل مبجيئه ورغب يف االرتباط به‪ .‬هذه األمور كلّها تسمح لنا أن‬
‫بشكل صحيح‪ .‬كان إحساسه‬ ‫ٍ‬ ‫نستنتج أنّه كان يف داخله معاانة ومطاليب جعلته قادراً على إدراك األمور‬
‫َ‬
‫طاهرا‪ ،‬لذلك مل يَغرق يف الكماليّات‪ .‬حفظ يف داخله العطش إىل هللا وإىل رسوله يف العامل‪ ،‬وبدا‬
‫الداخلي ابألمور ً‬
‫ّ‬
‫كز حياته‪ .‬يف احلقيقة‬
‫شخص املسيّا مر َ‬
‫ُ‬ ‫احتل‬
‫اجلسدي ومن الفشل يف عمله‪ .‬لقد َّ‬
‫ّ‬ ‫هذا العطش أقوى من التعب‬
‫حتركنا‪ .‬ال يلهبنا التفتيش عن شخص املسيح‪،‬‬
‫إنّنا حنن املسيحيّني‪ ،‬يف معظمنا‪ ،‬ليس لدينا أشواق روحيّة مضطرمة ّ‬
‫حّت ال يبقى‬
‫نتمم واجباتنا الدينيّة والتزاماتنا حنو هللا هبدف إسكات ضمريان‪ّ ،‬‬
‫بل نعيش حيا ًة مسيحيّة عاديّة‪ّ .‬‬
‫سىن لنا أن ننشغل بقضاّي أخرى أكثر "جوهرية"‪ ،‬غري منزعجني من عذاب التوبيخ‪ .‬هكذا نبقى‬ ‫يوخبنا‪ ،‬ولكي يت ّ‬
‫ّ‬
‫ديين‪ ،‬ألنّه ال ميكننا أن ننعتق من اخلطيئة إالّ بتنمية العالقة الشخصيّة مع‬
‫على اخلطيئة‪ ،‬ساترين إّّيها بقناع ّ‬
‫املسيح‪.‬‬

‫بتوجهات‬
‫أيضا ّ‬ ‫فاالهتمام بشخص املسيح ٌّ‬
‫سر يتح ّقق يف قلب اإلنسان‪ ،‬ومينحه ّقوةَ هللا الّيت تتعلّق ً‬
‫احلرة‪.‬‬
‫شخصيّة اإلنسان‪ ،‬وابختياراته ّ‬
‫‪ ‬مساع الكلمة‬

‫املعرب عنها ابلكلمة‬


‫ينبوع احلياة‪ .‬هذه احلياة َّ‬
‫لقد ارتبط الرسول بطرس ابملسيح ألنّه وجد يف شخصه َ‬
‫ج ّددت كيانَه‪ .‬ففي أحد األوقات‪ ،‬عندما ابتعد كثريون من التالميذ عن املسيح‪ّ ،‬اجتهَ حنو اإلثين عشر وسأهلم‪:‬‬
‫رب إىل من نذهب؟ وكالم احلياة األبديّة‬ ‫ٍ‬
‫"ألعلّكم أنتم أيضاً تريدون أن متضوا؟"‪ .‬عندئذ أجابَه بطرس‪ّ" :‬ي ّ‬
‫عطشه إىل‬
‫اإلحساس ابحلياة األبديّة‪ .‬لذلك كان ُ‬
‫َ‬ ‫عندك" (يو‪ .)68 -67 :6‬لقد اخترب بطرس يف أقوال املسيح‬
‫الصحة الروحيّة‪ ،‬يقول الق ّديس غريغوريوس‬
‫ّ‬ ‫هللا يف الوقت نفسه عطشاً إىل مساع كلمته‪ .‬هذا العطش دليل‬
‫صحة النفس"‪.‬‬ ‫النيصصي‪" :‬كما أ ّن الشهيّة دليل ّ‬
‫صحة اجلسد‪ ،‬كذلك الرغبة يف مساع األقوال الروحيّة دليل ّ‬
‫‪128‬‬
‫القلب وال تدعه ميوت‪ .‬يقول الق ّديس ابسيليوس الكبري‪ُ " :‬ك ْن سامعاً للمعاين الصاحلة‬
‫فاألقوال الروحيّة تغ ّذي َ‬
‫وينس َقها‪ ،‬بل ليتشبّه هبا‬
‫تصري مواداً ينشغل هبا الذهن‪ ،‬ليس لكي ُيلّلَها ّ‬
‫القلب"‪ .‬على املعاين أن َ‬
‫فحفظها يصون َ‬
‫األصح ليسلك مبوجبها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أو‬

‫داخلي‪ ،‬وهو من العوارض‬ ‫ومن البديهي أ ّن عدم االستعداد لسماع "املعاين الصاحلة" هو دليل ٍ‬
‫مرض‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫أسباب أخرى‪.‬‬ ‫تشري إىل موت القلب‪ .‬طبعاً جيب أن نوضح هنا أ ّن عدم استعدادان لسماع الكلمة قد أييت من‬
‫مربًرا يف ّأّيمنا‪،‬‬
‫جمرد ًة من غناها‪ .‬ولكن هذا ليس ّ‬
‫أحياان عندما نسمع كلمةَ الكنيسة ّ‬
‫مثالً‪ ،‬من اليأس الّذي جيّربنا ً‬
‫أل ّن َمن يعطش للحقيقة لديه‪ ،‬إىل جانب الكتاب املق ّدس‪ ،‬مكتبات بكاملها فيها كتاابت اآلابء منقولة إىل اللغّة‬
‫الّيت ترضي متطلّباته‪.‬‬

‫‪ ‬طاعة الوصيّة‬

‫بعد أن أَنى املسيح كالمه من منت سفينة بطرس‪ ،‬قال له‪" :‬ابتعِ ْد إىل العمق وألقوا شبا َككم للصيد"‪ ،‬أي‬
‫إرموا شباككم اثنيةً يف املياه العميقة لتصطادوا السمك‪ .‬كان هذا األمر يتعارض وخربة الرسول بطرس يف مهنته‪.‬‬
‫األمر‬
‫أطاع َ‬‫ولكن الكلمة الّيت مسعها من املسيح والعجائب الّيت رآها أقنعته أن ال يعتمد على خربته البشريّة‪َ .‬‬
‫الليل كلّه ومل أنخذ شيئاً‪ ،‬ولكن على كلمتك ألقي الشبكة" (لو‪ .)5 :5‬هكذا أتت‬‫نفسه‪" ،‬قد تعبنا َ‬‫وختطّى َ‬
‫سرها‪ .‬برهنت ّأَنا نتيجة اإلميان ال اإلكراه‪ ،‬و ّأَنا جتعل‬
‫مثارها‪ ،‬كشفت عن إحدى خفاّي ّ‬
‫الربكة وأظهرت الطاعةُ َ‬
‫غري املستطاع ممكناً‪ .‬هكذا فإ ّن الطاعة ختتلف جذرًّّي عن النظام‪ .‬الثاين فيه غصب وإجبار‪ّ ،‬أما األوىل فرتبط‬
‫َ‬
‫عالجي‪ :‬نرغب يف الشفاء‪ ،‬لذلك‬
‫ّ‬ ‫أسلوب‬
‫ٌ‬ ‫حبرية‪ .‬الطاعة يف الكنيسة‬
‫احلرية‪ .‬نطيع الّذين حنبّهم حقًّا ّ‬
‫ابحملبّة و ّ‬
‫حر يرتبط مبعرفة مرضنا والرغبة يف إجياد طبيب‪.‬‬
‫نطيع من يقدرون على شفائنا‪ّ .‬إَنا اختيار ٌّ‬
‫لقد وجد بطرس "الّذي كتب عنه موسى"‪ ،‬وأطاع أمره‪ .‬فإن ِ‬
‫رغْبنا حنن أيضاً يف لقاء املسيح‪ ،‬ينبغي أن‬ ‫َ َ‬
‫كل انتظا ٍر أ ّن اخلريات ستُعطى لنا "ابلربكات"‪.‬‬
‫نطيع الّذين يرشدوننا يف سعينا إليه‪ .‬هكذا ميكننا أن نرجو ْبع َد ِّ‬
‫َ‬

‫‪129‬‬
‫األحد الثاين من لوقا‬

‫(لو‪)36 -31 :6‬‬

‫سهولة الوصااي وصعوبتها‬


‫"كما تريدون أن يفعلَ الناسُ بكم افعلوا أنتم أيضاً هبم هكذا"‬

‫اإلَنيلي‪ .‬وتعليم املسيح‬


‫ّ‬ ‫دوَنا لوقا‬
‫إ ّن قراء َة إَنيل اليوم هي جزء من موعظة املسيح "على اجلبل"‪ ،‬كما ّ‬
‫كلّه مكثّف فيها‪ ،‬فهو نواهتا‪ .‬إ ًذا‪ ،‬الفرصة متاحة لنا اليوم لنش ّد َد على بعض النقاط األساسيّة يف وصاّي املسيح‪.‬‬
‫وهذه النقاط يدلّنا عليها الق ّديس غريغوريوس ابالماس‪.‬‬

‫‪ ‬الكلمة املغروسة‬

‫املسيح اخلالق يعرف قدراتنا جيّداً‪ .‬لذا عندما أعطاان الوصاّي‪ ،‬مل أيمران مبا ال عالقة له بطبيعتنا‪ .‬تعليمه‬
‫وفقا هلذا التعليم الّذي سوف يعطينا ّإّيه‪ .‬إذاً‪ ،‬وصااي املسيح مغروسة يف اإلنسان‬ ‫يوافق طبيعتنا‪ ،‬ألنّه جبَ لَنا ً‬
‫ٍ‬
‫بوداعة الكلمة املغروسة القادرة‬ ‫ابلفطرة‪ .‬هذا ما يقوله لنا الق ّديس يعقوب أخو الرب ٍ‬
‫جبالء عندما يوصي‪" :‬إقبلوا‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫نفوسكم" (يع‪ .)21 :1‬الكلمة مغروسة‪ ،‬ولكن ينبغي أن نقبلَها عن طريق التعليم‪ ،‬ألنّنا َنهل طبيعتنا‪.‬‬ ‫ص َ‬ ‫أ ْن ختلّ َ‬
‫الداخلي‪ .‬لقد وضع هللا "املعرفة‬
‫ّ‬ ‫تغربنا وتشتّتنا‬
‫كتايب ليست سوى دليل ّ‬ ‫شفهي أو ّ‬
‫ّ‬ ‫واحلاجة إىل وجود تعلي ٍم‬
‫ائعه يف أذهاننا‪ .‬فمشيئته هي الّيت أتت بنا إىل الوجود‪ ،‬وهي الّيت حتفظنا فيه‪.‬‬ ‫كتب شر َ‬‫العمليّة" يف طبيعتنا‪ ،‬و َ‬
‫نعيش احليا َة الّيت أعطاان‪.‬‬
‫ولكنّنا عاد ًة َنهل كيف يريدان هللا أن َ‬
‫إذاً كلمة املسيح مغروسة يف طبيعة اإلنسان‪ ،‬ولكن يبدو أ ّن إدراك معناها يفوق الطاقات البشريّة‪،‬‬
‫واالقتداء هبا أييت بعد حماوالت طويلة األمد‪ .‬وزمن حياتنا هو الفرصة املعطاة لنا لنبدأَ هبذه احملاوالت لالقتداء‬
‫معا‪ .‬هي "الطريق الضيّقة احملزنة"‪ ،‬ولكنّها "محل خفيف" أيضاً‪.‬‬
‫بوصاّي هللا‪ّ .‬إَنا مسرية دامية وسهلة ً‬

‫‪130‬‬
‫‪ ‬سهولة الوصااي‬

‫الناس بكم افعلوا أنتم أيضاً هبم هكذا"‬


‫يفعل ُ‬‫قراءة إَنيل اليوم تصف سهولةُ الوصاّي "كما تريدون أن َ‬
‫اآلخرين‪ .‬يشريُ يف الوقت نفسه إىل‬
‫تعليمه كلّه عن عالقتنا ابلناس َ‬
‫(لو‪ .)31 :6‬يف هذه القاعدة يكثّف املسيح َ‬
‫ألَنا‬
‫مجيعا‪ .‬هي عادلة ّ‬
‫أ ّن وصاّيه ليست مغروسة فينا وحسب بل هي عادلة وسهلة‪ ،‬انفعة ومفهومة من الناس ً‬
‫الطبيعي‪ .‬وهي‬
‫ّ‬ ‫ميل اإلنسان‬
‫ألَنا توافق َ‬
‫اآلخرين‪ ،‬وسهلة ّ‬
‫اخلاصة ويف أفعال َ‬ ‫املقاييس نفسها يف أفعالنا ّ‬
‫َ‬ ‫تفرتض‬
‫اآلخرين بدقٍّة‪.‬‬
‫رض فردوساً‪ ،‬وسهلةُ الفهم ألنّنا نفهم جيّداً حقوقنا ونعرف ما نطلبه من َ‬
‫انفعة ألنّه هبا تصبح األ ُ‬
‫األمر الوحيد الّذي تطلبه الوصاّي منّا هو ما نريده ونطلبه لنفوسنا يف سبيل أن نعطيه بوفرةٍ َ‬
‫لآلخرين‪ .‬هكذا‬
‫نقلب حالةَ السقوط رأساً على عقب‪.‬‬

‫حقائق كبرية عن طريق أفكا ٍر بسيطة‪ .‬ال مبعىن أ ّن الفكرة تستوعب احلقيقةَ‪،‬‬
‫َ‬ ‫نقارب‬
‫َ‬ ‫فنحن نستطيع أن‬
‫املادة واألهواء‪ .‬على سبيل املثال‪ ،‬إذا‬
‫بعض احلواجز ّ‬
‫يق لكي نقارهبا عن طريق اخلربة‪ ،‬مزيلة َ‬
‫ولكنّها تفتح لنا الطر َ‬
‫شتما‪ ،‬أو ّنيمة أو حماولة فسخ الزواج بسبب هوى شخص اثلث‪،‬‬
‫كذاب أو غشًّا‪ ،‬أو غضبًا أو ً‬
‫رأينا عند اآلخرين ً‬
‫تعرضنا ملثل هذه األشياء السيّئة غري الشرعيّة‪ ،‬نرى جتنّبها سهالً وموافقاً حلياة اإلنسان الطبيعيّة‪ .‬ألنّنا إن‬
‫مثّ ّ‬
‫احلجةَ أب ّن الفضيلة‬
‫يل ّ‬ ‫يتصرفون هكذا‪ .‬ميكن هلذه الفكرة أن تز َ‬‫حنكم على َمن ّ‬‫وجدان جتنّ بَها صعباً‪ ،‬ملا وجب أن َ‬
‫مفر منه‪ ،‬ممّا يُبقينا مستسلمني ألهوائنا‪.‬‬
‫صعبة وأ ّن الشَّر ال َّ‬

‫‪ ‬الصعوبة العمليّة‬

‫يدل على العكس‪ ،‬حيث يبدو أ ّن حفظَها‬


‫لكن الواقع ّ‬ ‫شك أ ّن املنطق يُقنعنا بسهولة ِ‬
‫تطبيق الوصاّي‪ ،‬و ّ‬ ‫ال ّ‬
‫يتطلّب غصباً‪ .‬أحياانً يقول املسيح‪ ،‬الّذي دلّنا اليوم على "سهولة حفظها"‪ ،‬إ ّن ملكوته "يُغصب والغاصبون‬
‫(مّت‪ .)12 :11‬ملكوت السموات هو ملكوت احملبّة‪ ،‬الّيت هي "كمال الناموس"‪ ،‬هو امللكوت‬ ‫خيتطفونه" ّ‬
‫حضوره ابلفضائل الّيت تكتسبها النفس‪ .‬إذاً‪،‬‬
‫َ‬ ‫الّذي يقيم يف الناس أي "يف داخلكم" (لو‪ ،)21 :17‬ولكنّه يُظهر‬

‫‪131‬‬
‫حب الذات‪،‬‬
‫وعدم الشفقة على ّ‬
‫الغصب هو ابب امللكوت‪ ،‬به نعرب إىل احملبّة‪ .‬يعين أ ّن احملبّة تتطلّب القسوة َ‬
‫كرهنا للخطيئة‪.‬‬
‫على أاننيّتنا‪ .‬تتطلّب توبتَنا و َ‬
‫الناس بكم افعلوا أنتم أيضاً هبم هكذا"‪ ،‬يفهمون‬
‫يفعل ُ‬‫عندما يسمع بعض الناس القول "كما تريدون أن َ‬
‫لكن اخلطأة يفعلون هذا‬ ‫ذلك فقط يف نطاق دائرة األصدقاء الضيّق‪ .‬يُعطون وينالون ابملساواة‪ُُِ ،‬يبّون ُ‬
‫وُيَبّون‪" ،‬و ّ‬
‫أيضاً"‪ .‬إ ّن التقيّد ابلقاعدة الذهبيّة ضمن دائرة الناس الّذين ليس عندان مشكلة معهم فحسب‪ ،‬ال يعتقنا من‬
‫اخلطيئة‪ ،‬ال خيلّصنا‪ .‬يكمن اخلالص يف اخلروج من الدوائر الضيّقة لذوي اآلراء املتشاهبة‪ ،‬وال يرتبط تطبيق الوصاّي‬
‫بنوعيّة الناس الّذين نتصل هبم‪ .‬طبعاً هذا ال يعين أنّنا ال حنتاج إىل دائرتنا الضيّقة الّيت ترُينا وتش ّددان يف اإلميان‪،‬‬
‫خارجها‪.‬‬
‫عما هو َ‬
‫ولكن ال ينبغي أن خيتلف تطبيق وصاّي املسيح يف دائرتنا ّ‬
‫روحي‪ .‬وقد‬ ‫ٍ‬
‫اخلاصة هي نتيجة مرض ّ‬
‫ننمي بذا َر احملبّة يف قلوبنا ّ‬
‫اآلخرون دون أن ّ‬
‫إ ّن الرغبة يف أن ُيبّنا َ‬
‫املنزهة عن املصلحة الشخصيّة‪ ،‬بل رغبةً يف أن ُيبّوننا‪.‬‬
‫اآلخرين‪ ،‬ال بدافع احملبّة ّ‬
‫حنسن إىل َ‬
‫ُيدث مراراً كثرية أن َ‬
‫شرير‪.‬‬
‫احملسن إليه هل هو صاحل أم ّ‬‫غري أ ّن احملبّة احلقيقيّة ال تتماشى واملصلحة‪ ،‬فال تضع شروطًا‪ ،‬وال تنظر إىل َ‬
‫حتب من دون أن تنتظر أو أن تطلب مقابالً‪ .‬هذه احملبّة دليل‬
‫القرض‪ ،‬و ّ‬
‫َ‬ ‫ال تُق ِرض مرجتيةً أن تنال ما يساوي‬
‫الصليب كصفة‬
‫َ‬ ‫جسدي ُيمل‬
‫ّ‬ ‫الصحة الّيت اكتُسبت من خالل غصب الذات يف جهاد نفسي و‬
‫الصحة النفسية‪ّ ،‬‬‫ّ‬
‫رئيسيّة‪.‬‬

‫ولكن‪ ،‬ملاذا حتتاج "كلمة املسيح املغروسة" إىل هذا املقدار من الغصب لكي يستوعبها وجودان؟ اجلواب‬
‫موح ًدا‬
‫حّت تلك الساعة َّ‬
‫اإلحساس الّذي كان ّ‬
‫َ‬ ‫جزأت‬ ‫كامن يف حادثة السقوط املزع ِزعة الّيت ّ‬
‫جزأت احملبّة‪ ،‬كما ّ‬
‫آلخرين‪،‬‬
‫وروحي‪ ،‬واحملبّة أيضاً انقسمت إىل حمبّة لنفوسنا وحمبّة ل َ‬
‫ّ‬ ‫جسدي‬
‫ّ‬ ‫جتزأ إىل‬
‫و"كامالً"‪ .‬هذا اإلحساس ّ‬
‫فتمسكنا مبحبّة ذواتنا‪ ،‬و َأمْتنا حمبّة القريب‪ .‬هذا االختيار هو ما جيعل من محل الوصاّي اخلفيف صليباً ثقيالً‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪132‬‬
‫األحد الثالث من لوقا‬

‫(لو‪)16 -11 :7‬‬

‫مواجهة احملزونني‬
‫الرب حتنّن عليها وقال هلا ال تبكي‪"...‬‬
‫"فلمّا رآها ُّ‬

‫عند ابب مدينة انيني‪ ،‬واجه املسيح أحد أصعب مشاهد حياة اإلنسان‪ :‬امرأة أرملة ترافق إبنَها الوحيد‬
‫احلي يف أقسى تعابريها‪ .‬طبعاً‪ ،‬يف هذه اللحظات ليس من السهل أن‬
‫امليت إىل القرب‪ّ .‬إَنا عواقب البعد عن هللا ّ‬
‫يتكلّ َم اإلنسان مع احملزونني عن اخلطيئة الّيت هي علّة املوت‪ .‬فاملتألّمون ال ُيتملون احلقيقةَ كلّها‪ ،‬وحزَنم هو مثل‬
‫جرح ميت ّد يف اجلسد كلّه وجملّرد ملسه ُُيدث أملاً كبرياً‪.‬‬

‫حتنّن املسيح على املرأة وقال هلا‪" :‬ال تبكي‪ ،"...‬كان البكاء نتيجة احلزن‪ .‬إذاً‪ ،‬عندما قال هلا‪" :‬ال‬
‫تبكي‪ "...‬كان يهيّؤها للحدث الّذي سيلغي حزََنا‪ .‬مل يكن كالماً فارغاً وال تعزية ومهيّة‪ ،‬وكذلك مل تكن وصيّة‬
‫يوقف حز َن‬ ‫رد ٍ‬
‫فعل يشفي النفس‪ .‬لقد أراد املسيح أن َ‬ ‫طبيعي عند احلزاّن‪ ،‬هو ُّ‬ ‫متنع البكاء يف األحزان‪ .‬البكاء‬
‫ّ‬
‫املرأة حاالً‪ ،‬لذلك حيّاها بكلمة "ال تبكي‪ ."...‬تلك الكلمة نقلت معها التعزية‪ ،‬أل َّنا انبثقت من الّذي هو‬
‫احلياة والقيامة‪.‬‬

‫بعض األمور املتعلّقة مبوقفنا أمام احملزونني‪ .‬فمقاربة الناس‬


‫لنبني َ‬
‫أظن أ ّن قراءة إَنيل اليوم تعطينا الفرصة َّ‬
‫ّ‬
‫الرعائي‪ .‬إ ّن قيامة املسيح هي أساس كنيستنا وفعلها هو إبطال‬
‫ّ‬ ‫أهم نقاط عمل الكنيسة‬ ‫احملزونني هي إحدى ّ‬
‫الناس ينسون‬
‫جتعل َ‬
‫الروحي‪ّ ،‬أما عقيدهتا فهي اإلميان بقيامة األجساد املائتة‪ .‬إذاً‪ ،‬ال حتاول الكنيسة أن َ‬
‫ّ‬ ‫املوت‬
‫ملوت بل تساعدهم على أن يتخطّوه‪ .‬ال هتدف إىل جعلهم متّزنني نفسيًّا فحسب‪ ،‬حبثِّهم على التسليم هبذا‬ ‫ا َ‬
‫كشيء طبيعي‪ .‬بل تعلّمهم طريقة إبطاله‪ .‬فاملوت عدو‪ ،‬هو ِ‬
‫آخر ٍّ‬
‫عدو حلياتنا سيُبطل‪ .‬وحنن أنيت‬ ‫ٍ‬ ‫قدر‬
‫ّ‬ ‫القضاء وال َ‬

‫‪133‬‬
‫العامة ألجساد األموات كلّها يف‬
‫ننعتق منه انعتاقًا يبدأ من اآلن‪ ،‬إالّ أنّه سيكتمل ابلقيامة ّ‬
‫إىل الكنيسة لكي َ‬
‫جميء املسيح الثاين‪ .‬ولكن لننظر يف بعض النقاط العمليّة‪.‬‬

‫‪ ‬مشاركني يف األحزان‬

‫إ ّن املسيح "حتنّن" واقرتب من املرأة األرملة‪ .‬هكذا نقرتب من احملزونني مبحبّ ٍة‪ ،‬مشاركني أحزاَنم‪ .‬ال‬
‫سر‪:‬‬
‫لنتمم أحد واجباتنا االجتماعيّة‪ ،‬بل نذهب لنشاركهم حزََنم‪ ،‬ولكي نبكي مع الباكني‪ .‬املوت ٌّ‬ ‫نذهب ّ‬
‫الطبيعي وابملشيئة اإلهليّة‬
‫ّ‬ ‫صرا عن اجلسد‪ ،‬عن هذا التوافق والتناسق؟ ابلغريزة يدوم الرابط‬
‫النفس قَ ً‬
‫ُ‬ ‫"كيف تنفصل‬
‫النفسي‬
‫اجلسدي و ّ‬ ‫ّ‬ ‫مجيعا‪ ،‬يتزعزع كيا ُن اإلنسان‬
‫مفر منه لدى الناس ً‬ ‫يتف ّكك"‪ .‬جتاه هذا احلدث الّذي ال ّ‬
‫طبيعي وهو خاصيّة الطبيعة الّيت تقاوم احنال َهلا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ويضطرب‪ .‬هذا أمر‬

‫إحساس مضاعف‪ :‬االنفصال عن الشخص احملبوب‪ ،‬واإلحساس ابجلحيم ُمبتلِ ًعا‬ ‫ٍ‬ ‫يتألّف احلزن من‬
‫اتفها ال معىن له‪ ،‬وينقلب‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كل شيء ً‬‫عندئذ يبدو ُّ‬ ‫اجلميع‪ ،‬أي اليقني أب ّن هناك مواتً‪ ،‬وأن احلياة البيولوجيّة تنتهي‪.‬‬
‫املرات‪،‬‬ ‫احلق ّإَنا‪ ،‬يف بعض ّ‬
‫دائما‪ .‬و ّ‬
‫مشهد احلياة كلّه‪ .‬يف هذه احلالة ال تلقى املواعظ يف الشجاعة والصرب ترحيبًا ً‬
‫مشيئة إله‬
‫َ‬ ‫يفهم‬
‫تولّد اعرتاضاً قد يصل إىل الكفر ابهلل‪ .‬إذا مل يكن احملزون انضجاً نفسيًّا وروحيًّا‪ ،‬ال يستطيع أن َ‬
‫وجده يف أفضل ساعة له‪ ،‬أو ألنّه مل يُرد‬
‫يقبل أب ّن هللا أخ َذ هذا اإلنسا َن ألنّه َ‬
‫احملبّة يف املوت‪ .‬ال يقدر‪ ،‬مثالً أن َ‬
‫شاهدا يف حميطه‪ ،‬أي‬ ‫يصبح ً‬‫يتطور‪ ،‬أو أخرياً لكي َ‬
‫شرا ما قد بدأ ّ‬‫ليمنع ًّ‬
‫أن تفسده إحدى الشرور املستقبليّة‪ ،‬أو َ‬
‫دائما أن مييّ َز بني ما هو "برضى"‬
‫ليعلّ َم مبوته األمور الّيت مل يقدر أن يعلّ َمها حبضوره‪ .‬مثّ إ ّن احملزون قد ال يستطيع ً‬
‫ٍ‬
‫بسهولة مسؤوليّة اإلنسان الّيت خترج عن مشيئة هللا‪.‬‬ ‫يقبل‬
‫مشيئة هللا ما هو "بسماح منه"‪ .‬وابلتايل ال يستطيع أن َ‬
‫حضور هللا ملموساً عند احلزاّن إالّ من خالل اإلميان‪ ،‬إميان ال أييت عن طريق‬
‫َ‬ ‫َنعل‬
‫يف هذه احلالة‪ ،‬ال ميكن أن َ‬
‫حلقيقي هي أقوى من املوت‪،‬‬
‫اخلطاابت‪ ،‬بل عن طريق احملبّة واملشاركة يف احلزن‪ .‬احملبّة الّيت يلدها اإلميان ا ّ‬
‫وكلمتها‪ ،‬عندما تسنَح الفرصة‪ ،‬أتيت كلمةَ تعزية ورجاء‪ .‬ال ُحت ِدث جراحاً‪ ،‬وال هتيّج اجلراح‪ ،‬بل تشفيها‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫‪ ‬تراث الكنيسة وذهنيّة العامل‬

‫كلمة صالة إىل البيت الّذي عنده أحد املوتى‪ .‬فهذه الكلمة ُيتاجها ذوو‬
‫ترسل َ‬
‫تود دائماً أن َ‬
‫إ ّن كنيستنا ّ‬
‫ذهن اجلميع حنو هللا‪.‬‬
‫كتاب املزامري لكي يتّجهَ ُ‬
‫الراقد كما ُيتاجها الراقد نفسه‪ .‬من هنا العادة اجليّدة أبن نقرأ َ‬
‫هذا ما تريده الكنيسة‪ ،‬الّيت تعرف ما لنفس اإلنسان من حاجات حقيقيّة‪ ،‬عندما يكون يف اجلسد‪ ،‬كما‬
‫ُيل يوم‬
‫بشّت األمور التافهة للحياة اليوميّة‪ ،‬إىل أن ّ‬
‫عندما ينفصل عنه‪ .‬غري أ ّن العامل يفهم عكس ذلك‪ .‬ينشغل ّ‬
‫كل مساعدةٍ للراقد‪ .‬يف العادة‪ ،‬يكون الراقد يف غرفة (إذا مل يُ َ‬
‫قفل‬ ‫ال ّدفن أو إىل أن تنتهي التعازي التقليديّة‪ ،‬انكراً ّ‬
‫موت النفس ملن يتعلّق هبا‪.‬‬
‫شّت األقوال التافهة النافلة‪ ،‬الّيت تُنشىء َ‬
‫سمع يف أرجاء البيت ّ‬ ‫الرباد)‪ ،‬فيما تُ َ‬
‫عليه يف ّ‬
‫بتصرف النعامة‪ ،‬ألنّنا خنفي‬
‫هذه "املمارسة" هي نتيجة مخول العامل إزاء حدث املوت‪ ،‬وابعتمادها نتشبّه ّ‬
‫شعورا "ابألمان"‪ ،‬ولكن من غري أن نشارك‬
‫معا‪ .‬هذا يعطينا ً‬
‫اقد ً‬
‫املوت والر َ‬
‫أذهاننا داخل أحاديث تتجاهل َ‬
‫اخلاصة ‪.‬‬
‫جوهرًّّي يف أسى احملزونني‪ .‬فنحن نزعجهم وننقل هلم مهومنا ّ‬

‫عزون‬ ‫ِّ‬
‫"املتعزين" يُ ُّ‬ ‫‪‬‬

‫أقام إبنَها امليت‪ .‬فلكي جيلب حضوران تعزيةً للمحزونني ينبغي أن‬ ‫قال املسيح لألرملة "ال تبكي‪ ،"...‬مثّ َ‬
‫الروحي الّذي يقبل تعزية هللا‪ .‬إ ّن الق ّديس غريغوريوس‬ ‫حلزن‬ ‫ا‬ ‫ال‬
‫ً‬ ‫قلي‬ ‫ولو‬ ‫خنترب‬ ‫أن‬ ‫ينبغي‬ ‫ما‪.‬‬ ‫نقبل تعزيةَ هللا إىل ح ٍّ‬
‫د‬
‫ّ‬
‫السماوي بسبب اخلطيئة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ابالماس جيد يف قيامة إبن األرملة ّنوذجاً لتجديد أذهاننا‪ .‬نفسنا "أرملة" للخنت‬
‫وعندما تندب إبنَها الوحيد‪ -‬الذهن‪ -‬الّذي "ميوت" عن األهواء "حمموالً" خارج مدينة األحياء‪ ،‬تقبل زّيرة‬
‫املعزي الّيت متنح التعزية األبديّة‪.‬‬
‫ّ‬
‫يعزوا اآلخرين‪ّ ،‬أما حنن فلنصمت‪ ،‬متألّمني مع احملزونني‬
‫املعزي حقًّا يستطيعون أن ّ‬ ‫ِّ‬
‫"املتعزين" من الروح ّ‬
‫ومصلّني‪.‬‬

‫‪135‬‬
136
‫األحد الرابع من لوقا‬

‫(لو‪)15 -5 :8‬‬

‫كلمة هللا وكيف تُ ِ‬


‫ثمر‬
‫"الزرع هو كالم هللا‪"...‬‬

‫"حّت ّإَنم ُمبصرين‬


‫لقد كشف املسيح أسر َار ملكوت السموات لتالميذه‪ ،‬بينما كلّم اآلخرين "أبمثال"‪ّ ،‬‬
‫اس‬
‫ال يبصرون وسامعني ال يفهمون" (لو‪ .)10 :8‬كان التالميذ "من هلم أذانن للسمع"‪ ،‬وقد انفتحت حو ّ‬
‫كلمة املسيح‪َ .‬فف ْه ُم تعاليم املسيح مل يكن شأن املنطق وحده‪ ،‬إذ إ ّن الرسل مل‬
‫نفوسهم‪ ،‬فاستطاعوا أن يفهموا َ‬
‫بسطاء القلب‪ ،‬أانساً ليس فيهم‬
‫َ‬ ‫يفسروا عن طريق املنطق املعاين الغامضة وال أن يفهموها‪ .‬كانوا‬
‫يستطيعوا أن ّ‬
‫ٍ‬
‫بعطش دائم‪.‬‬ ‫الشر" لذلك ارتشفوا كلمةَ املسيح‬
‫للغش‪ .‬كان ذهنهم "متواضعاً عدميَ ّ‬
‫مكان ّ‬

‫‪ ‬كلمة األمثال‬

‫مثل الزارع مي ّكننا أن نعرض لبعض احلقائق األساسيّة يف استخدام أمثال املسيح‪ .‬كلمته‪ ،‬الّيت يشبّهها‬
‫إ ّن َ‬
‫اليوم ابلبذار‪ ،‬أُ ِلقيَت مر ًارا بشكل أمثال‪ .‬وهنا َند من يسيء فهم هذه النقطة متأثًّرا ببعض اآلراء حول إمكانيّة‬
‫"أبمثال" لكي يفهمه الناس بشكل أفضل وأوضح‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫يظن كثريون أن املسيح تكلّم‬
‫فهم الكلمة وطريقة نقلها‪ّ .‬‬
‫ولكن احلقيقة عكس ذلك‪ .‬مل يُِرد‬
‫يسهل إدراك معانيها السامية‪ّ .‬‬
‫فيأخذ أمثاالً من حياة سامعيه اليوميّة لكي ّ‬
‫انتباه سامعيه ابألمثال الغامضة‪ ،‬وأن‬
‫ط معاين الكلمة بل إخفاءها‪ .‬أراد املسيح أن يرّكز َ‬ ‫املسيح ابألمثال تبسي َ‬
‫الشر من نفوسهم‪ ،‬ألنّه عرفهم مأسورين ابالهتمامات املعيشيّة‪ ،‬وليس لديهم أشواق روحيّة عميقة‪ .‬لقد‬
‫لع َّ‬‫يقت َ‬
‫وألَنم "أكلوا" من "اخلبز"‪.‬‬
‫تبعوه من أجل أشفيته ّأوالً‪ّ ،‬‬

‫‪137‬‬
‫اهتموا يف اكتشاف معناه‪" .‬سأله تالميذه قائلني ما‬‫مثل الزارع‪ ،‬وحدهم تالميذه ّ‬‫ساق املسيح َ‬ ‫عندما َ‬
‫عسى أن يكون هذا املثل؟" (لو‪ ،)9 :8‬فأجاهبم املسيح‪" :‬لكم قد أُعطي أن تعرفوا أسر َار ملكوت هللا‪ "...‬لكم‪،‬‬
‫اآلخرون‪ ،‬فاكتفوا ابالستماع إىل ِ‬
‫وصف مشهد من احلياة‬ ‫وهتتمون لتعلموا معىن كالمي‪ّ .‬أما َ‬
‫أنتم ّي َمن تسألون ّ‬
‫حّت يدركوا عمق معاين املثل‪ .‬هكذا‪ ،‬مل يساعدهم املثل على فهم كلمة‬
‫الزراعيّة‪ ،‬ومل يكن لديهم "آذان للسمع" ّ‬
‫ٍ‬
‫بشكل أفضل‪.‬‬ ‫املسيح‬

‫‪ ‬الكلمة والّذي يقبلها‬

‫عرب عنها‬
‫القوة الّيت ختفيها البذار‪ ،‬وهلذا تُ َشبَّه هبا‪ .‬ولقد ّ‬
‫متفجرة‪ ،‬على مثال ّ‬
‫حتمل كلمةُ املسيح ّقوة حياة ّ‬
‫لكن هذه الكلمات‬ ‫ٍ‬
‫املسيح بكلمات بشريّة بسيطة‪ ،‬وكتبها رسلُه يف األانجيل‪ ،‬وهبذه الطريقة قبلها املؤمنون‪ .‬و ّ‬
‫كلمة هللا هي‬
‫ونور النعمة‪ ،‬والكلمة اخلالقة‪ ،‬وطاقة احلياة احلقيقيّة‪ .‬فإ ّن َ‬
‫البشريّة البسيطة تعرب من خالهلا ّقوةُ هللا ُ‬
‫خلقه‪.‬‬
‫ّقوة هللا‪ ،‬الّيت َخلَقت العاملَ وما زالت جت ّدد َ‬

‫ختص انحية‬
‫اسا مناسبة‪ ،‬وهي ال ّ‬ ‫هنا جيب التأكيد أ ّن كلمةَ املسيح ليست أمراً سهالً‪ ،‬بل تتطلّب حو ًّ‬
‫واحداً من كيان اإلنسان‪ .‬ال يقبلها العقل وحده‪ ،‬بل تتطلّب كيان اإلنسان بكامله‪ ،‬ابلنفس واجلسد‪ ،‬مع احلقيقة‬
‫ٍ‬
‫وإرشاد مناسبَني‪،‬‬ ‫يتعمق يف أسرار حياة الروح القدس‪ .‬فمن دون هتيئة‬ ‫عرب عنها‪ .‬ال يقدر العقل وحده أن ّ‬ ‫الذي ي ّ‬
‫أي القائل أبن املسيح كان يتكلّم‬‫ننفتح على دراسة املوضوعات املُلهمة من الروح القدس‪ .‬إن الر َ‬ ‫ال نقدر أن َ‬
‫يقة بسيطة‪ ،‬فيه بعض حقيقة‪ ،‬ولكنّه خيفي ضالالً أساسيًّا‪.‬‬ ‫ببساطة‪ ،‬ولذلك جيب أن يكرز بكلمته يف العامل بطر ٍ‬
‫ٍ‬
‫ُ َ‬
‫يف الواقع‪ ،‬إ ّن األقوال الغامضة واملظلمة‪ ،‬والكلمات ذات املعاين الصعبة والتعابري املع ّقدة‪ ،‬كلّها تشري إىل غياب‬
‫للتصرف احلسن‪،‬‬
‫كمجرد قواعد ُخلُقيّة ّ‬
‫ّ‬ ‫نور احلقيقة‪ .‬إالّ أ ّن كلمة املسيح ليست بسيطة‪ .‬طبعاً‪ ،‬إذا ُكنّا سنح ّدها‬
‫تكون يف الواقع بسيطة جدًّا‪ .‬ولكنّنا هكذا نقلّل من قيمتها‪ ،‬وَنهل غناها كلَّه‪ .‬كلمة املسيح بسيطة للبسطاء‬
‫تعمقوا يف معرفة أسرار‬
‫نفوسهم من غالظة األهواء وتن ّقت أذهاَنم بنعمة هللا‪ .‬وهؤالء كلّما ّ‬
‫وحدهم‪ ،‬الّذين أعتقوا َ‬
‫أنفسهم جهالء وأطفاالً إزاء جلّة حكمة هللا‪.‬‬
‫الروح‪ ،‬شعروا َ‬
‫‪138‬‬
‫‪ ‬الشروط لتثمر الكلمة‬

‫تساهم يف إمثار كلمة املسيح يف القلب‪.‬‬


‫َ‬ ‫ٍ‬
‫بشكل مميّز جدًّا الشروط الّيت جيب أن‬ ‫يصف مثل الزرع‬

‫ٍ‬
‫ابهتمامات أخرى‪ ،‬فلم يرتكوا حمالًّ ملا‬ ‫أذهاَنم‬
‫عظمتها‪ ،‬وقد مألوا َ‬
‫إ ّن الكلمة ال تثمر يف الّذين ال يدركون َ‬
‫أهم‪.‬‬
‫هو ّ‬
‫حّت صارت طريقاً تُرمى عليها كلمةُ هللا‪.‬‬
‫توبيخ قلوهبم‪ّ ،‬‬
‫ابلتايل‪ ،‬ال يدرك قيمةَ الكلمة أولئك الّذين فقدوا َ‬
‫احلق ابلضجيج الكبري‬
‫فعلى هذه الطريق تعرب أفكار الناس والشياطني وتعاليمهم من دون رقيب‪ ،‬فتخفي كلمةَ ّ‬
‫عجبون ابملظاهر وال يعملون يف العمق‪ .‬هؤالء‬ ‫ِ‬
‫الّذي ُُيدثُه الضالل والكذب‪ .‬كذلك ال تُثمر الكلمة يف الّذين يُ َ‬
‫داخلي يرافقها‪.‬‬ ‫يكتفون ببعض أوامر الناموس الشكليّة غري املؤملة‪ ،‬أو ببعض األنشطة اإلجتماعيّة من دون ٍ‬
‫عمل‬
‫ّ‬
‫كالصخر‪ ،‬ابردة يف صالهتا ويف حمبّة هللا والناس‪.‬‬
‫ّإَنم يتظاهرون ابلتقوى خارجيًّا‪ ،‬بينما تبقى قلوهبم قاسية ّ‬
‫ٍ‬
‫عندئذ من شأن اإلميان غري اجملبول ابلدماء‪،‬‬ ‫وتنكشف قساوهتم الداخليّة وقت التجارب‪ ،‬يف احلاالت الصعبة‪.‬‬
‫للتذمر واالبتعاد عن الكنيسة وإهانة هللا‪.‬‬
‫لينمي اجلذور‪ ،‬أن يعطي فرصةً ّ‬
‫الّذي ال جيد تربةً ّ‬
‫تثمر يف قلوب الّذين خيتنقون يف مشغوليّات احلياة‪ ،‬يف الغىن والل ّذات‪.‬‬
‫أخرياً‪ ،‬ال تقدر الكلمة أن َ‬
‫اخلاصة هي مدى‬
‫ّ‬ ‫حريتنا‬
‫إ ّن كلمة املسيح هي كلمة احلياة‪ ،‬تنقل حيا َة هللا إلينا مثل البذار‪ .‬ومشكلة ّ‬
‫إمثار الكلمة هو عطيّة من هللا‪ ،‬ولكنّه يتطلّب‬
‫احلقل‪ ،‬بل يكتفي ابلزرع‪ .‬ف ُ‬
‫يهيء الزارع َ‬ ‫استعداد قلوبنا‪ .‬يف املثل ال ّ‬
‫اخلاص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تعاونَنا‬

‫‪139‬‬
‫األحد اخلامس من لوقا‬

‫(لو‪)31 -19 :16‬‬

‫شفقة‬
‫آخرة انعدام ال ّ‬
‫ألين مع ّذب يف هذا اللهيب"‬
‫"‪ّ ...‬‬
‫الغين ولعازر الفقري إحدى املشاكل اإلجتماعيّة الكربى الّيت ختلق صدامات واضطراابت‬
‫نلمس يف مثل ّ‬
‫يف اجملتمعات البشريّة‪ ،‬وهي تكمن يف عدم توزيع الغىن ابلتساوي‪ ،‬وعدم شفقة األغنياء على الفقراء‪ .‬فالغىن صنم‬
‫والساجدين له كثُر‪ ،‬ليس من األغنياء وحدهم‪ ،‬بل من الفقراء أيضاً‪ ،‬أل ّن املشكلة اجلوهريّة ليست يف امتالك‬
‫وسيلة إىل ٍ‬
‫هدف للحياة‪.‬‬ ‫الغىن‪ ،‬بل يف حتويله من ٍ‬

‫ُيركه‬
‫لعبادة الغىن دور أساس يف إاثرة االضطراابت والثورات اإلجتماعيّة‪ ،‬وال نبالغ إذا قلنا إ ّن اجملتمع ّ‬
‫احلي‪،‬‬
‫التحوالت اإلجتماعيّة العميقة ال ترتبط بعظمة اإلقتصاد‪ ،‬بل يولّدها إميان الق ّديسني ّ‬
‫اإلقتصاد‪ .‬طبعاً إ ّن ّ‬
‫الفقري رئيساً‪،‬‬
‫آخر ابحلياة‪ .‬هذا اإلميان يقلب األنظمة السارية‪ ،‬فيجعل َ‬‫كل ّمن يقرتب منه إحساساً َ‬ ‫وهو مينح ّ‬
‫الغين وعن لعازر الفقري بعد‬
‫متوسالً إىل الفقري‪ .‬إ ّن الصورة الّيت تعطينا ّإّيها قراءة إَنيل اليوم عن حالة ّ‬
‫الغين ّ‬
‫و َّ‬
‫ألَنم ينظرون إىل الباطن ال‬
‫املوت تنظر إليها عيو ُن الق ّديسني النقية من اآلن يف وسط املظامل االجتماعيّة‪ .‬هذا ّ‬
‫إىل الظاهر‪ ،‬إىل آخرة الظلم‪ ،‬ال إىل ّقوته الطاغية‪ .‬فآخرة الظلم صراخ الغين اليائس‪ّ" :‬ي أيب ابراهيم ارمحين وأرسل‬
‫ويربَد لساين" (لو‪ .)24 :16‬ولكن ليس الغين العدمي الشفقة وحده سيكون‬ ‫ٍ‬
‫طرف إصبعه مباء ّ‬ ‫ليبل َ‬‫لعازر َّ‬
‫"املع ّذب" يف هليب جهنّم‪ ،‬بل كذلك الفقري العدمي الصرب‪" ،‬ابن الغضب"‪ ،‬ألنّه يف عوزه يرى الغىن كأنّه اخلري‬
‫البشر‪.‬‬
‫األمسى‪ ،‬فيصل إىل احلسد والبغض جتاه َ‬

‫‪ ‬عبادة األهواء كأواثن‬

‫‪140‬‬
‫حلب ال ّذات وألاننيته‪ ،‬مغلِقاً على نفسه‪" ،‬يتنعم كل ٍ‬
‫يوم مرتفّ ًها"‪ .‬حمبّته لنفسه أماتت‬ ‫ِ‬
‫ّ َّ‬ ‫ّ ُ‬ ‫غين املثَل عبداً ّ‬
‫كان ُّ‬
‫هتمه حالةُ لعازر الفقري‪ .‬استسلم كلّيًّا لراحته وغناه‪ ،‬ما مل مينعه من "اتّقاء هللا"‪ ،‬يعين من‬
‫طفتَه الطبيعيّة‪ ،‬فلم َّ‬
‫عا َ‬
‫اإلميان بوجوده‪ ،‬وحفظ بعض أوامر الناموس‪ .‬ونرى يف املثل أنّه مل يُ َدن من أجل عدم إميانه‪ ،‬بل من أجل قلّة‬
‫الغين مع ابراهيم‪ .‬لقد‬ ‫ِ‬
‫حمبّته‪ .‬هذا ما يؤّكده لنا الق ّديس غريغوريوس ابالماس‪ ،‬معلّقاً على الطريقة الّيت تكلّم هبا ُّ‬
‫نظن أنّه يتع ّذب ابلنار بسبب عدم إميانه"‪ .‬لقد دخل إىل‬
‫يدل "على أنه يتّقي هللا وال ّ‬
‫دعاه "ّي أيب ابراهيم" ممّا ّ‬
‫ٍ‬
‫كجاحد‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫كمحب لل ّذة‪ ،‬وليس‬ ‫ٍ‬
‫مكان العذاب كفاقد للرمحة و ّ‬
‫عابد أواثن‪ .‬عاش يف عبوديّة األهواء‪ ،‬ذلك‬
‫احلقيقي‪ ،‬ولكنّه يف احلقيقة كان َ‬
‫ّ‬ ‫ظن نفسه مؤمنًا ابإلله‬
‫رّمبا ّ‬
‫الشخصي منتشرة جدًّا بني املؤمنني‪ .‬يقول الق ّديس‬
‫ّ‬ ‫أ ّن تواجد اإلميان وعبوديّة األهواء حالة من االنفصام‬
‫املسيح ويسجد للصنم"‪ ،‬ويتابع رابطاً األهواء املختلفة ببعض‬
‫َ‬ ‫وحمب الل ّذة ينكر‬
‫عاشق اهلوى ُّ‬
‫أثناسيوس الكبري‪ُ " :‬‬
‫ومن يغلبه‬‫اآلهلة اليواننيّة القدمية‪ .‬مثالً‪َ ،‬من أتسره الل ّذات اجلسديّة ُيوي يف ذاته صنم أفروذييت ويسجد له‪َ ،‬‬
‫ط جنو َن هذا اهلوى يُنكر يسوع املسيح "ويعبد اإلله آرّي"‪ .‬وأخرياً َمن‬
‫أبي جهد ليضب َ‬
‫الغضب والغيظ وال يقوم ّ‬
‫اآلخرين "يسجد إلرموس الصنم ويعبد‬
‫الفضة ويبخل يف إعطاء احلسنات ويغلق أحشاءَه أمام مصيبة َ‬
‫ُيب ّ‬ ‫ّ‬
‫اخلليقة بدل اخلالق"‪.‬‬

‫أهواءه‪ ،‬ويف‬
‫ولكي يكون اإلميان مستقيماً جيب أن يرتبط مباشرةً ابلعمل‪ .‬ال يستطيع أحد أن يرضي َ‬
‫خالصه إبميانه‪ .‬اإلميان الّذي خيلّص ليس أفكاراً عن هللا ال عالقة هلا حبياته اليوميّة‪.‬‬
‫َ‬ ‫الوقت نفسه أن يرجو‬
‫انقساما رهيبًا يف شخصيّتنا‪ .‬هنا‪ ،‬ال ب ّد‬
‫ً‬ ‫كل أنشطتنا‪ ،‬وإالّ خنترب‬
‫ويوجه َّ‬
‫اإلميان خيلّص عندما يروي كيانَنا كلّه ّ‬
‫وجوده أب ّن‬
‫وشاح األرثوذكسيّة‪ .‬يربّر َ‬
‫كثريا ما يظهر البساً َ‬ ‫الروحي ً‬
‫ّ‬ ‫القول إ ّن هذا االنقسام الناجم عن الكسل‬
‫كل ما يهدف لضبط الشهوة ابلقوانني‬ ‫حريةً كبرية‪ -‬قد تصل ح ّد اخلطيئة‪ ،-‬وأ ّن ّ‬
‫ثوذكسي يعطي ّ‬‫ّ‬ ‫اإلميان األر‬
‫انموسي ضيّق‪ ،‬وهو انتج عن عقليّة "مبالِغة يف التقوى"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫والشرائع يضع احلياةَ يف إطار‬

‫‪141‬‬
‫الروحي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أجل إ ّن احلياة ال ميكن أن تنحصر يف القوانني والشرائع‪ ،‬ولكن إبمكاننا حتديد دائرة املوت‬
‫ولكن املسيح واألنبياء والرسل‬‫كذلك يتع ّذر علينا حتديد أوصاف احملبّة‪ ،‬مبا ّأَنا هللا ذاته الساكن يف اإلنسان‪ّ ،‬‬
‫أرشدوان إىل األسباب الّيت تغلق علينا يف سجن األاننيّة‪ ،‬وتقضي على احملبّة‪ .‬يعلّمنا املسيح يف هذا اليوم بشكل‬
‫خاص أ ّن اإلميان ال ُخيلِّص إن مل ترا فِ ْقهُ احملبّة‪ .‬وابلتايل ُ‬
‫يلفتُنا إىل أ ّن اإلميان قد ال يؤثّر على حمبّ تَنا لل ّذة وعدم‬ ‫ّ‬
‫شفقتنا‪ ،‬وهذان يقودان إىل هالك النفس‪.‬‬

‫‪ ‬مكان العذاب‬

‫نفسه "يف العذاب"‪ ،‬بينما ذهب لعازر الفقري إىل‬


‫الغين َ‬
‫الغين ولعازر انقلبت األدوار‪ ،‬وجد ُّ‬
‫بعد موت ّ‬
‫الغين مل يرتبط أبهوائه الكثرية وعدم توبته فحسب‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أحضان ابراهيم‪ ،‬حيث ُسكىن "الفرحني"‪ .‬وإ ّن عذاب نفس ّ‬
‫ألين بطريقة‬
‫وجه كالمه إىل إبراهيم‪ ،‬مل يقل له "ارمحين ّ‬
‫أيضا‪ .‬ومن الالفت أنّه ملّا ّ‬
‫حس التوبة لديه ً‬‫بل ابنعدام ّ‬
‫حيايت أشعلت هذه النار"‪ .‬مل يعرتف مبسؤوليّته يف احلال اليت وصل إليها‪ ،‬بل اشتكى بسبب آالمه‪ ،‬ولذلك ذ ّكره‬
‫ابراهيم "أبنّه استوىف خرياته يف حياته"‪.‬‬

‫إ ّن النفس املقيّدة بل ّذات اجلسد تدرك يف ساعة موهتا ّأَنا مربوطة‪ ،‬مسجونة داخل اجلسد‪ .‬تتع ّذب‬
‫ووح َد إرادتَه مبشيئة هللا يكون ساعة‬
‫ساد على رغباته ّ‬
‫التصور‪ ،‬بينما اإلنسان املنضبط‪ ،‬الّذي َ‬
‫وتعاين مبا يفوق ّ‬
‫وحرا‪ .‬يعيش احلضَرة اإلهليّة ابلصالة وينتقل إىل احلالة اجلديدة بسالم‪.‬‬
‫موته هادائً ًّ‬

‫لكل‬
‫إ ّن احملطّات اجلمركيّة الّيت تعربها النفس بعد خروجها من اجلسد‪ ،‬ابإلضافة إىل الشياطني املوازية ّ‬
‫هوى‪ ،‬هي األهواء ذاهتا عندما تطلب ما لِنفسها‪ .‬إالّ أ ّن هذه النفس فقدت اجلسد الذي كان يرضي رغباهتا‪.‬‬
‫هكذا أمست تعاين وختتنق من رغباهتا غري املشبَ َعة‪.‬‬
‫ُ‬

‫‪142‬‬
‫األسباب احلقيقيّة الّيت‬
‫َ‬ ‫نستشف من خالل الثورات االجتماعيّة وسائر أعمال الظّلم‬
‫ّ‬ ‫إذاً‪ ،‬لو استطعنا أن‬
‫الروحي واالستعباد لنزوات‬
‫ّ‬ ‫ُحتدثها‪ ،‬لَرأيناها انمجة عن صناعة األواثن وعبادهتا‪ ،‬وهاتَني تنشآن بدورمها من الكسل‬
‫األهواء اآلمثة‪ .‬كنّا شاهدان عالَماً بكامله يتالعب بنار اجلحيم‪.‬‬

‫التقي" يف هذا املثَل‪ ،‬وهي آخرة انعدام الشفقة‪.‬‬


‫الغين " ّ‬
‫صب أعيننا آخرة ّ‬
‫فلنجعل دائماً نُ َ‬

‫‪143‬‬
‫األحد السادس من لوقا‬

‫(لو‪)39 -26 :8‬‬

‫اإلميان واجلحود‬
‫"فطلب إليه كلُّ مجهور كورة اجلَدَ ِريّني أن يذهب عنهم‪...‬‬

‫فطلب إليه الرجل‪ ...‬أن يكون معه‪"...‬‬

‫خمتلفني‬ ‫نرى يف الرجل الذي تسكنه الشياطني "من ٍ‬


‫زمان طويل"‪ ،‬ويف أهل كورة اجلَ َدريّني أسلوبَني َ‬
‫جلس "البسا عاقال" قرب املسيح‪ ،‬يرغب يف اتّباعه‪ّ .‬أما‬
‫األول‪ ،‬بعد نواله الشفاء‪َ ،‬‬
‫ملواجهة شخص املسيح‪ .‬ف ّ‬
‫بتعاد عن دّيرهم‪.‬‬
‫كل ما يتعلّق ابلعجيبة خافوا وطلبوا من املسيح اال َ‬ ‫في وعلموا ّ‬ ‫اآلخرون فحاملا رأوا الّذي ُش َ‬
‫َ‬
‫فاحلدث نفسه‪ ،‬أعين عجيبة املسيح الكبرية الدالّة على ّقوته وحمبّته جلبلّته البائسة‪ ،‬أحدث ردود خمتلفة‪ .‬وهذه‬
‫ردات الفعل توضح لنا بعض احلقائق األساسيّة‪ :‬يظهر لنا اإلنسان يف سقوطه‪ ،‬كيف أمسى أكثر‬
‫االختالف يف ّ‬
‫وحرا يف اختياراته‪.‬‬
‫كل إنسان فريد من نوعه‪ ،‬ليس له مثيل‪ًّ ،‬‬
‫يبني أ ّن ّ‬
‫خالئق هللا َعجباً وتناقضاً‪ .‬كما ّ‬

‫حريةُ اإلختيار‬
‫‪ّ ‬‬
‫حريتنا‪ .‬ولو شئنا الكالم أبكثر تدقيق‪،‬‬ ‫إ ّن االلتصاق ابملسيح أو إنكاره خياران مطروحان إزاءان بفضل ّ‬
‫اخليارين‪ .‬فاملسيح يشمل اخلليقة كلّها‪ ،‬لذلك ترتبط اختياراتنا احلامسة املصرييّة‬
‫حريتنا تكمن يف هذين َ‬‫لقلنا إ ّن ّ‬
‫عما يسبّبه‪ ،‬هو من الوجوه السلبيّة حلّريتنا‪ .‬الّذين خيتارون هذا املوقف هم‬
‫بغض النظر ّ‬
‫بشخصه‪ .‬ورفض املسيح‪ّ ،‬‬
‫"الباردون"‪ ،‬الذين يقيمون خارج جسده ‪ -‬أعين الكنيسة – بسبب جحودهم‪ .‬هؤالء مسريهتم تؤول إىل الكارثة‪،‬‬
‫نغصب‬
‫َ‬ ‫حريتهم وال يغصبها‪ ،‬كما حنن ال نستطيع أن‬
‫اختيارهم بسلطته‪ ،‬ألنّه ُيرتم ّ‬
‫َ‬ ‫يغري‬
‫لكن املسيح ال يريد أن َّ‬
‫و ّ‬
‫حريتَه‪.‬‬
‫ّ‬

‫‪144‬‬
‫احلرية يف اخلَيار ليست عالمة الكمال‪ ،‬بل هي دليل عدم الكمال‪ .‬وفقاً لرتاث آابئنا الق ّديسني‪ ،‬إ ّن‬
‫طبعا ّ‬
‫ً‬
‫وح َد مشيئته مبشيئة هللا‪ .‬هذا صار مسكناً هلل‪ ،‬مثّ‪ ،‬بفضل حياة النعمة‪ ،‬جتاوز‬
‫اإلنسان احلُّر يف احلقيقة هو الّذي ّ‬
‫يدل على أنّنا مل نكتسب بعد‬ ‫الرتدد قبل االختيار‪ ،‬ف ّ‬
‫حدود الوالدة واملوت‪ ،‬ومها العائقان حلّرية اإلنسان‪ّ .‬أما ّ‬
‫َ‬
‫ِّ‬
‫كمحرك‬ ‫باحلرية الّيت تتّخذ احملبّة‬
‫احلرية‪ .‬ف ّ‬
‫حرية االختيار ال نصل إىل كمال ّ‬
‫معرفةً واضحة للخري‪ .‬طبعاً‪ ،‬يف غياب ّ‬
‫املسيح ونسمع كلمتَه‪ ،‬وإذا مل‬
‫َ‬ ‫حنب‬
‫احلرية من دون حمبّة هي كارثة‪ .‬فنحن ّ‬
‫ومقياس‪ ،‬خنتار مشيئةَ هللا ونتّحد به‪ .‬و ّ‬
‫التحرر‬
‫مجرد هتديد لراحتنا اجلسديّة ومل َنر فيها موهبةَ النعمة و ّ‬
‫نتبعه‪ .‬إذا فهمنا وصاّيه ك ّ‬
‫حنبّه حقيقةً ال نقدر أن َ‬
‫من سلطة اخلطيئة‪ ،‬نبتعد عن شخصه وعن كلمته‪ .‬مثل أهل كورة اجلَ َدريّني‪ ،‬نطلب "أن ينصرف عنّا" "ألنّه‬
‫ف ذي ح ّدين"‪.‬‬ ‫اعرتاان خوف عظيم" إزاء كالمه الّذي هو "أمضى من سي ٍ‬

‫‪ ‬إختيار اجلحود‬

‫تكمن دينونة العامل يف خياراته‪ .‬فنحن خنتار مصريان يف احلياة األبديّة‪ ،‬أي خنتار االشرتاك يف النور أو‬
‫رفضه‪ ،‬من خالل طريقة حياتنا وقناعاتنا الفكريّة‪ .‬فاملسيح يقول يف إَنيل يوحنّا‪ ،‬إن سبب إدانة اجلاحدين هو‬
‫شريرة"‬
‫لكن الناس أحبّوا الظلمةَ أكثر من النور "أل ّن أعماهلم كانت ّ‬
‫أن النور‪ -‬أي املسيح‪ -‬جاء إىل العامل‪ ،‬و ّ‬
‫(يو‪.)19 :3‬‬

‫آخر هلذا اخليار سوى أ ّن أعماهلم كانت‬ ‫ِ‬


‫هذا اجلحود نراه يف اختيار أهل كورة اجلَ َدريّني‪ .‬وما من سبب َ‬
‫"الرعاة" –وهم ّقواد هذا‬
‫منع التناول من حلم اخلنازير‪ّ .‬‬
‫الناموس الّذي َ‬
‫َ‬ ‫شريرة‪ .‬كانوا يرعون اخلنازير‪ ،‬وهبذا تع ّدوا‬
‫ّ‬
‫"كحمل ٍ‬
‫بريء"‪ .‬غري‬ ‫ٍ‬ ‫الرجل املخيف‪ ،‬أعين املمسوس‪،‬‬
‫العصيان‪ -‬أخربوا س ّكان املنطقة ابلعجيبة‪ .‬فقد أضحى ّ‬
‫أ ّن زمرة الشياطني اليت س َكنْتهُ دخلت يف قطيع اخلنازير "املتع ّدي الناموس" واختنقت يف البحر‪ّ .‬أما الس ّكان فلم‬
‫يفرحوا لشفاء ابن بلدهتم‪ ،‬بل اعرتاهم خوف عظيم انتج عن تع ّديهم للناموس‪ .‬مل يرتك هذا الرعب مكاانً للفرح‬
‫مقاييس نفوسهم‪ ،‬وخافوا سالم املسيح أكثر ممّا كانوا خيافون‬
‫َ‬ ‫ابنعتاق بلدهتم من اخلوف‪ .‬فقد خلخلَت املعصية‬

‫‪145‬‬
‫ارض اخلوف وأسبابه‪ ،‬ولكنّهم أحبّوا علّةَ الشر كثرياً جدًّا‪،‬‬
‫سالم املسيح إىل كورهتم‪ ،‬مزيالً عو َ‬
‫املمسوس‪ .‬أتى ُ‬
‫توبيخه‪.‬‬
‫لذلك مل ُيتملوا َ‬

‫‪ ‬إختيار اإلميان‬

‫حريتنا‪ .‬اإلميان ال‬


‫ثمر يتطلّب إستجابةَ ّ‬
‫اإلميان هبة من هللا‪ ،‬ولكنّه أيضاً فضيلة‪ .‬يزرعه هللا فينا‪ ،‬ولكي يُ َ‬
‫حيرر ويشفي‪ ،‬ويعتِق من أسر الشيطان واملا ّدة‪ .‬فقد زرع هللا اإلميا َن يف املمسوس‪ ،‬مر ً‬
‫يدا أن‬ ‫يغصب أحدا‪ ،‬بل ّ‬
‫قدمي‬
‫جلس "عند ّ‬ ‫جتاواب يف استعداده التّام‪ .‬وفيما َ‬
‫يعتقه من سلطة الشياطني‪ .‬كان شفاؤه دعوًة من هللا وجدت ً‬‫َ‬
‫"ربط بسالسل‬ ‫يتحرَر من الشياطني ُ‬
‫يسوع‪ ...‬طلب إليه‪ ...‬أن يكون معه"‪ ،‬طلب من املسيح أن يتبعه‪ .‬فقبل أن ّ‬
‫ط مبحبّة‬
‫ط ويساق من الشيطان إىل الرباري" (لو‪ّ .)29 :8‬أما اآلن فهو مربو ٌ‬
‫الرب َ‬ ‫ٍ‬
‫وقيود‪ ،‬حمروساً‪ ،‬وكان يقطع ُ‬
‫الذي شفاه‪ .‬لقد خلّصه املسيح من أس ِر الشياطني‪ ،‬ولكنّه مل يستعبده لنفسه‪ .‬يف البدء "كان يساق من‬
‫ليضيف‬
‫َ‬ ‫محاستَه‬
‫يستغل عرفانَه ابجلميل وال َ‬
‫ّ‬ ‫الشياطني‪ّ "...‬أما اآلن "فصرفه يسوع قائالً "ارجع إىل بيتك‪ ."...‬مل‬
‫أيضا‪ .‬وأعطاه‬
‫آخر يتبعه يف جوالته‪ .‬أرسله إىل بيته‪ ،‬أل ّن يف ذلك خالصاً لنفسه وألقاربه وأهل بلدته ً‬ ‫تلمي ًذا َ‬
‫وصيةً "ح ِّدث بكم صنع هللا بك"‪ .‬هكذا جعله رسوالً له‪ُ ،‬م ِّ‬
‫بشراً مبحبّته‪.‬‬

‫بشكل أفضل إىل الوصية "ح ِّدث بكم صنع هللا بك"‪ .‬مل يرسله املسيح ّ‬
‫ليبشَر مبجيء‬ ‫ٍ‬ ‫من املفيد أن ننتبهَ‬
‫سردّي‪ :‬ال ب ّد أ ّن يتكلّم عن خربة لقائه‬
‫املسيّا‪ ،‬وال بوجود هللا ووصاّيه‪ ،‬بل على األرجح كان مضمون بشاترته ًّ‬
‫ابهلل‪ ،‬معلنًا هذه اخلربة للّذين أعرضوا عن يسوع اإلله اإلنسان سابقاً‪ .‬ابلتايل إ ّن كالمه أتى كدعوةٍ جديدة ألهل‬
‫كورة اجلدريّني‪.‬‬

‫هذه الوصيّة يطيعها أيضاً ق ّديسو الكنيسة عندما يتكلّمون إىل الناس‪ُ" .‬ي ّدثون ب َكم صنع هللا هبم"‪ .‬ال‬
‫اخلاصة‪ ،‬بل خيربون كيف يشفي هللا اإلنسا َن ويعتقه من سلطة الشياطني‪،‬‬
‫يتح ّدثون عن مفاهيمهم وفلسفاهتم ّ‬
‫حرا ابحلقيقة‪.‬‬
‫االحتاد به‪ ،‬لعلّه يصبح أخاً للمسيح وواراثً له‪ ،‬أي ًّ‬
‫وكيف جيعله قادراً على ّ‬

‫‪146‬‬
147
‫األحد السابع من لوقا‬

‫(لو‪)56 -41 :8‬‬

‫اإلميان والشفاء‬
‫"مَن الّذي ملسين؟‪"...‬‬
‫قد "تزحم" اجلموع املسيح‪ ،‬ولكنّها مل ِ‬
‫ولكن كلمتَه مل تُ ِّ‬
‫غري‬ ‫الش ِركة احلقيقيّة معه‪ .‬تَ َبعْته ابجلسد‪ّ ،‬‬
‫أتت إىل َّ‬ ‫َ‬
‫نفوسها‪ .‬لبث الناس فيها منغلقني على أحكامهم املسبقة‪ ،‬وعلى شكوكهم‪ ،‬وعلى أهدافهم الضيّقة‪ .‬مل يكن‬
‫اإلميان قد أشرق فيهم بعد‪ ،‬لذلك بَ َدوا فاقدي النور جامدين‪ّ .‬إَنم "الشعب السالك يف الظلمة"‪ ،‬ومل يستطيعوا‬
‫وحل" فيما بينهم‪ّ .‬أما املرأة النازفة ال ّدم‬
‫جسدا " َّ‬
‫البسا ً‬
‫أعني نفوسهم على النور العظيم الذي أتى ً‬ ‫أن يفتحوا َ‬
‫طرق اإلميان‪ .‬أصبحت مرهفةَ اإلحساس جتاه‬ ‫فشعرت إبحساس خمتلف‪ ،‬أل ّن أيسها من أطبّاء البشر قد فتح هلا َ‬
‫اإلَنيلي مرقس أ ّن النازفة الدم قالت يف داخلها‪ ،‬وهي تقرتب من‬
‫ّ‬ ‫رسائل احلياة الّيت بعثها شخص املسيح‪ .‬يذكر‬
‫يدل هذا الكالم على إميان املرأة الكبري فحسب‪ ،‬بل‬ ‫شفيت"(مر‪ .)28 :5‬ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫ت ولو ثيابه‬
‫مس ْس ُ‬
‫املسيح‪":‬إ ْن َ‬
‫على املعرفة العميقة الّيت منحها ّإّيها اإلميان أيضاً‪ .‬لقد أيقنَت أ ّن نعمةَ هللا تعرب من الشخص إىل اجلَوامد‪،‬‬
‫قوتَه الشفائيّة بسبب مالمستها جس َده الكلِّ هي الطُّهر‪ .‬مل ينط ِو هذا اإلميان‬
‫وابلتايل أ ّن ثياب املسيح محلت ّ‬
‫على معتقدات وثنّية أو أوهام خرافيّة‪ .‬مل َتر يف األشياء املاديّة قوى ِسحريّة‪ ،‬بل ارتبط لديها اإلميان واحملبّة‬
‫القوى الشفائيّة‪ .‬هبذا اإلميان "جاءت من ورائه‬
‫مصدر ُ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫شخص اإلله اإلنسان‬ ‫بشخص املسيح‪ ،‬ووجدت يف‬
‫نزف دمها" (لو‪.)44 :8‬‬
‫دب ثوبه‪ ،‬ففي احلال وقف ُ‬
‫وملست ُه َ‬
‫الداخلي‬
‫ّ‬ ‫‪ ‬حوار اإلميان‬

‫‪148‬‬
‫الشفاء‪.‬أما يف حالة املرأة النازفة‬ ‫ٍ‬
‫حاالت أخرى جيري حوار بني املسيح واملريض‪ ،‬أو أهل بيته‪ ،‬قبل‬ ‫يف‬
‫ّ‬
‫سري‪ ،‬يف موضع‬ ‫ٍ‬
‫بشكل ّ‬ ‫مثل هذا احلوار‪ .‬غري أنّنا نستطيع االفرتاض أب ّن هذا احلوار حدث‬
‫الدم فلم ُيدث ُ‬
‫جعل‬
‫الدم على ملس ثوب املسيح‪َ ،‬‬ ‫الداخلي هذا‪ ،‬الّذي حدا انزفةَ ّ‬‫ّ‬ ‫القلب املستنري ابإلميان‪ .‬وحوار اإلميان‬
‫"م ْن ملسين‪...‬؟"‪ .‬وإزاء حرية التالميذ‪ ،‬الّذين أعربوا عن استغراهبم كيف يسأل‬
‫ضورها‪ ،‬ويقول‪َ :‬‬
‫ُيس حب َ‬ ‫املسيح ّ‬
‫"م ْن ملسين؟" فيما اجلموعُ حتوط به وتزمحه‪ ،‬عاد املسيح وقال إبحلاح‪" :‬قد ملسين أحدهم‪ "...‬مل ُيقل لسمين‬ ‫َ‬
‫علمت أ ّن ّقوةً قد‬
‫ُ‬ ‫"ألين‬
‫وض َح فيما بعد‪ ،‬هو أ ّن شخصاً اجتذب ّقوته وقدرته‪ّ :‬‬
‫السبب‪ ،‬كما ّ‬
‫كثريون بل واحد‪ .‬و ّ‬
‫ِ‬
‫لتالميذه أ ّن الشخص الّذي ملسه كان مستحقًّا لتقبُّ ِل نعمتِه بسبب‬ ‫ٍ‬
‫عندئذ شرح‬ ‫مين" (لو‪.)46 :8‬‬
‫خرجت ّ‬
‫إميانه‪.‬‬

‫ٍ‬
‫ابنتقاص يف‬ ‫أحس‬
‫مين" ال يعين أنّه َّ‬
‫"علمت أ ّن ّقوةً قد خرجت ّ‬
‫ُ‬ ‫هنا ينبغي التوضيح أ ّن قول املسيح‬
‫الكمية‪ ،‬إنّه ينبوع قوى ال تفرغ‪ ،‬ينبوع ال ينضب‪ ،‬وال ينقص وال يزيد‪ .‬ال‬ ‫ّقوته‪ .‬فاملسيح كإله ال خيضع ملفهوم ّ‬
‫يزيد ألنّه ما ِمن ٍ‬
‫شيء فوق هللا‪ ،‬فالزّيدة تتعلّق ابخلالئق واملخلوقات العابرة‪ .‬إذاً‪ ،‬عندما يقول‪" :‬علمت أ ّن ّقوًة‬ ‫ْ‬
‫آخر‪ .‬ويف الوقت نفسه‪ ،‬يريد‬ ‫ٍ‬
‫انتقلت إىل إنسان َ‬
‫ْ‬ ‫كل اخلليقة‬
‫مين" يقصد التصريح أب ّن ّقوتَه الضابطة ّ‬‫قد خرجت ّ‬
‫ليقول هلا‪" :‬ثقي ّي‬
‫ُيضرها إىل الوسط َ‬ ‫إمياَنا‪ ،‬وأن َ‬‫يكشف َ‬ ‫َ‬ ‫السري‪ ،‬وأن‬
‫عمل النازفة الدم ّ‬
‫بني َ‬‫هبذا القول أن ي َّ‬
‫ابنةُ‪ ،‬إميانك قد شفاك"‪ .‬هكذا يكرز أبسلوب االقرتاب من هللا‪ ،‬وبطريقة البلوغ إىل شركة ّقوته‪.‬‬

‫‪ ‬املعروفون واجملهولون عند املسيح‬

‫أظهر املسيح وسط اجلموع أنّه مل يشعر حبضور الناس الّذين يزمحونه‪ .‬هذا املوقف الغريب ابلنسبة إىل‬
‫لقد َ‬
‫األحاسيس اجلسدية يصفه املسيح نفسه يف كالمه عن الدينونة اآلتية‪ .‬حين ٍ‬
‫ئذ‪ ،‬كثريون من الّذين "ابمسه صنعوا‬ ‫ّ‬
‫(مّت‪ .)23 :7‬أي أنّه‬
‫عين ّي فاعلي اإلمث" ّ‬
‫ط‪ .‬اذهبوا ّ‬‫"إين مل أعرفكم ق ّ‬
‫ّقوات كثرية"‪ ،‬سيسمعون منه هذا الكالم‪ّ :‬‬
‫ط هؤالء الّذين كان يعمل بواسطتهم‪ .‬وإ ّن موقف املسيح هذا جيب أن يتقطب تفكريان‬
‫سيقول إنّه مل "يعرف" ق ّ‬
‫َمليًّا‪.‬‬
‫‪149‬‬
‫الشكليّات‪ ،‬فيما يكتفي بعضهم‬ ‫فكثريون من املسيحيّني يرون احليا َة املسيحيّة حمصورة يف حفظ بعض ّ‬
‫يتعمق فيها‬ ‫اآلخر ابالستعانة هبا ك ٍ‬
‫نفسي يف حلظات صعبة من حياهتم‪ ،‬كمخ ّفف ملعاانهتم‪ .‬وفريق اثلث ّ‬ ‫ّ‬ ‫سند‬ ‫َ‬
‫أكثر‪ :‬يشارك يف احملاضرات والطّقوس واالحتفاالت الدينيّة الباهرة ويقرأ الكتب‪ ،‬ويتناقش يف املسائل الالهوتيّة‪.‬‬
‫مهمة من احلياة الروحيّة‪ ،‬وهي عناصر احلياة املسيحيّة‪ ،‬إالّ ّأَنا قد ال تكفي خلالصنا‪ .‬وقد‬
‫هذه كلّها مظاهر ّ‬
‫حقيقية مع‬
‫ّ‬ ‫الضجة حول املسيح‪ ،‬كما هي حال اجلموع يف إَنيل اليوم‪ ،‬من دون أن نبين عالقة‬ ‫ّ‬ ‫تسهم يف‬
‫نتفوه بصالة صادقة‬
‫الداخلي مثل املرأة النازفة الدم‪ ،‬وكيف ّ‬
‫ّ‬ ‫ولعل املشكلة هي كيف نفاحتُه ابحلوار‬‫شخصه‪ّ .‬‬
‫مرةً‪ ،‬وهو يتكلّم على الصالة قائالً‪:‬‬
‫تساءل املسيح ّ‬
‫َ‬ ‫اضنا الروحيّة‪ .‬ولقد‬
‫جتتذب ّقوَة هللا الشافية‪ ،‬الّيت تزيل أمر َ‬
‫ابن اإلنسان ألعلّه جيد اإلميا َن على األرض" (لو‪ .)8 :18‬فالصالة تنبع من اإلميان‪ ،‬الّذي‬
‫"‪...‬ولكن مّت جاء ُ‬
‫نصري حقًّا عقليّني‪ ،‬أي متّحدين بعقل هللا الكلمة‪ ،‬أعين‬
‫هو بدوره انفصال عن عقليّة هذا العامل‪ ،‬من أجل أن َ‬
‫املسيحي هي اإلميان‪ .‬وهذه العقليّة الفائقة القدرة متتّع هبا املتباهلون من أجل املسيح وق ّديسو‬
‫ّ‬ ‫املسيح‪ .‬فعقليّة‬
‫كنيستنا كلّهم‪" .‬وهذه هي الغلبة الّيت تغلب العامل‪ :‬إميانُنا"(‪1‬يو‪ .)4 :5‬فالّذين ميتلكوَنا هم أحبّاء املسيح‬
‫املعروفون منه‪.‬‬

‫‪ ‬الكلمات‪ ،‬ثوب الكلمة‬

‫يعُب عن مشيئة اآلب‪.‬‬ ‫ب املسيح‪ .‬واملسيح يدعى كلمة هللا‪ ،‬ألنّه ّ‬


‫إ ّن النازفة الدم ُشفيت بلمسها ثو َ‬
‫"ثوب" هللا الكلمة‪ .‬فكالم الكتاب املق ّدس واآلابء هو ّقوة‬ ‫ٍ‬
‫ومشيئةُ هللا أُعطيت لنا بكلمات بشريّة‪ ،‬هي تنسج َ‬
‫تصوره‪ .‬إذاً‪ ،‬الكلمات نفسها مليئة أيضاً بقوى هللا‬
‫حّت عن طريق األلفاظ البشريّة اليت ّ‬
‫هللا ونعمته املنتقلتان لنا ّ‬
‫وح َّولنا ذهنَنا‬
‫الشافية‪ ،‬كما كان ثوب املسيح الّذي ملسته النازفة الدم‪ .‬فلو يئسنا من هذر حكماء هذا العامل‪َ ،‬‬
‫عندئذ سنُشفى من "نزف‬ ‫ٍ‬ ‫وقوة هللا‪.‬‬
‫إبميان إىل درس الكتاب املق ّدس واآلابء الق ّديسني‪ ،‬ستنتقل إلينا االستنارة ّ‬
‫دم" األفكار العقيمة الّذي دام سنني طويلة‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫األحد الثامن من لوقا‬

‫(لو‪)37 -25 :10‬‬

‫عمل الكنيسة‬
‫ُ‬
‫"‪ ...‬وأتى به إىل ٍ‬
‫فندق واعتىن به"‬

‫سرَده يسوع‬
‫كنسي عميق‪ ،‬وهو يُظهر رسالةَ الكنيسة احلقيقيّة يف العامل‪َ .‬‬
‫ٌّ‬ ‫له معىن‬ ‫السامري‬
‫ّ‬ ‫إ ّن مثَ َل‬
‫"من هو قرييب؟"‪ .‬هذا املثل‪ ،‬كما فهمه اآلابء الق ّديسون‬‫جيربه" قائالً َ‬
‫"انموسي‪ّ ...‬‬
‫ٌّ‬ ‫طرحهُ‬
‫ليجيب عن سؤال َ‬ ‫َ‬
‫أسباب التفريق بني الناس‪ .‬مثّ يطرح‬
‫َ‬ ‫يدل على جتاوز الكنيسة للمفاهيم العنصريّة الضيّقة‪ ،‬كما يوضح‬
‫وفسروه‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫كل إنسان يبتعد عن مكان حضرة هللا (أورشليم) ويقصد عاملَ اإلرتداد‬ ‫"وقع بني لصوص"‪ ،‬وهو ّ‬ ‫عالجا للّذي َ‬
‫ً‬
‫(أرُيا)‪.‬‬

‫الظاهري للمثَل‪ ،‬قبل أن نعرض لبعض التفاصيل املبنيّة على تفسري اآلابء الق ّديسني‬
‫ّ‬ ‫فلننظر يف املعىن‬
‫اجملازي‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪َ ‬م ْن هو قرييب؟‬

‫ألرث احلياةَ األبديّة؟"‪ ،‬مث أجاب هو نفسه‪ ،‬عندما كلّمه‬


‫الناموسي بطَرِح السؤال التايل‪" :‬ماذا أعمل َ‬
‫ّ‬ ‫بدأ‬
‫الناموسي إىل االعرتاف أبن حمبّة هللا الكاملة‬
‫ّ‬ ‫اضطر‬
‫املسيح سائالً ّإّيه‪" :‬ما هو مكتوب يف الناموس؟ كيف تقرأ؟" ّ‬
‫ٍ‬
‫عندئذ قال له املسيح‪" :‬إفعل هذا فتحيا"‪.‬‬ ‫وحمبة القريب كأنفسنا ي ِ‬
‫دخالن فينا احلياة األبديّة‪.‬‬‫ُ‬ ‫ّ‬
‫لكن اإلنسان الّذي عاش حرفيّةَ الناموس لديه مشكلتان أساسيّتان‪:‬‬
‫و ّ‬

‫‪151‬‬
‫احلقيقي‬
‫ّ‬ ‫يفهم مشوليّة احملبّة‪ .‬ميّ َز بني الناس من يهود وسامريّني‪ ،‬بني أانس آمنوا ابهلل‬
‫ّأوالً‪ ،‬مل يقدر أن َ‬
‫يستوعب أ ّن الّذي من دّي ٍنة أخرى أو متع ّدي الشريعة هو "قريبه"‪ ،‬فكانت‬
‫َ‬ ‫وأمميّني عابدي أواثن‪ .‬مل يقدر أن‬
‫حمبّته حمدودة‪.‬‬

‫أحس ابملقابل أنّه مل يستجب كلّيًّا‬ ‫ٍ‬


‫ابرا‪ ،‬كما يوصي النّاموس‪ ،‬ولكنّه ّ‬
‫ماسة ألن يكون ًّ‬
‫شعر حباجة ّ‬
‫اثنيًّا‪َ ،‬‬
‫ألَنا وصيّة من سفر الالويّني (‪ ،)18 :19‬وال أمكنَه أن‬
‫لوصيّة "أحبب قريبَك كنفسك"‪ .‬ال استطاع رفضها‪ّ ،‬‬
‫"ومن هو قرييب؟"‪.‬‬
‫نفسه‪َ :‬‬
‫يربَر َ‬
‫يهملها من غري تنفيذ‪ .‬لذا سأل مريداً أن ّ‬
‫صياغة السؤال اخلاطئة‪ ،‬بطر ٍ‬
‫يقة غري مباشرة‪ .‬كان ينبغي أن‬ ‫ِ‬ ‫ّأما اجلواب من خالل املثل‪ ،‬فبدأ بتصحيح‬
‫أوضح أ ّن‬
‫لآلخرين؟" مثّ َ‬‫أصبح قريباً َ‬
‫لي أن َ‬‫"من هو قرييب؟"‪ ،‬بل "كيف ع َّ‬ ‫طرح السؤال بطريقة أخرى‪ ،‬ال بقول َ‬ ‫يُ َ‬
‫يصبح قريبنا‪ ،‬لذلك جيب أالّ نسجن حمبّتنا يف قفص العنصريّة‪ ،‬أو يف احلدود الطائفيّة‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫إنسان ميكن أن‬ ‫كل‬
‫َّ‬
‫َ‬
‫السامري "الغريب اجلنس"‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الالوي كاان يعبدان هللا‪ ،‬غري أ َّنما خشيا االقرتاب من جريح اللصوص‪ّ .‬أما‬
‫فالكاهن و ّ‬
‫خماطرا‬
‫أظهر حمبّةً عمليّة‪ً ،‬‬
‫مع أنّه ال ينتمي إىل الشعب املتفاخر حبفظ الشريعة‪ ،‬فقد طبّق الشريعة حبذافريها‪َ .‬‬
‫لآلخرين عندما‬
‫حبياته‪ ،‬وهكذا أصبح "الّذي صنع الرمحةَ" قريباً "للّذي وقع بني اللصوص"‪ .‬إذاً‪ ،‬نصبح أقرابء َ‬
‫سامح عليه‪.‬‬
‫ولعل هذا هو "عدم التمييز" الوحيد الّذي نُ َ‬
‫حنب من غري متييز‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫السهل‪.‬‬
‫احلق من الباطل‪ ،‬وال متيّز بني الناس يف حاجاهتم‪ ،‬ليست ابألمر ّ‬
‫إالّ أ ّن هذه احملبّة الّيت متيّز ّ‬
‫الكنسي‪ .‬إذا أردان أن‬ ‫اجلهاد‬ ‫ممارسة‬ ‫عن‬ ‫ينتج‬ ‫ما‬ ‫وَناية‬ ‫كبري‬ ‫ليست عاطفة سطحية متقلّبة‪ ،‬إّّنا هي نتيجة ٍ‬
‫جهاد‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أبَنا إقتناء هذه احملبّة غري احملدودة الّيت ال تطلب ما لنفسها‪.‬‬
‫هدف احلياة الكنسيّة‪ ،‬نستطيع القول ّ‬
‫نصف َ‬
‫َ‬

‫‪ ‬السامري والفندق وصاحب الفندق‬

‫ُيلو للناس أمجعني التكلّم على احملبّة أو السماع عنها‪ ،‬ولكن علينا أن نكو َن واقعيّني‪ .‬فاحملبّة تتخطّى‬
‫ولكن حتطيم املوت والشركة مع‬ ‫قدرات اإلنسان املائت‪ ،‬ألنّه حيث املوت هناك تسيطر املصلحة الشخصيّة‪ّ .‬‬

‫‪152‬‬
‫سر الكنيسة يتطلّب منّا جهاداً‬
‫ّنو هذه الشركة الّيت تتح ّقق داخل ّ‬
‫احلب‪ .‬و ّ‬
‫املسيح القائم يعطياننا القدرة على ّ‬
‫كبريا‪ .‬يرى اآلابء الق ّديسون يف مثَل السامري الصاحل دقائق هذا اجلهاد املميّزة‪ ،‬وسنتح ّدث عن بعضها‪،‬‬
‫شخصيًّا ً‬
‫الذهيب الفم الّذي نعيّد له اليوم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يوحنا‬
‫خاصةً إىل الق ّديس ّ‬
‫مستندين ّ‬
‫السماوي إىل حمبّة نظام‬
‫ّ‬ ‫الفردوس (أورشليم) ونزل "من النظام‬
‫َ‬ ‫فقد‬
‫"الّذي وقع بني اللصوص" هو إنسان َ‬
‫حي وميت"‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫إنسان "بني ٍّ‬ ‫الشيطان"‪ .‬اللصوص هم الشياطني والسامري الصاحل هو املسيح الّذي اقرتب من‬
‫املعزية (ابلزيت) وابلكلمة املنبّهة‬
‫ومسح جراحاته ابلزيت وغسلها ابخلمر‪ ،‬أي أنّه اعتىن بكلوم النفس ابلكلمة ّ‬
‫اهتمامه عند صاحب الفندق‪ ،‬أي الرسل ورعاة الكنيسة‪-‬‬
‫َ‬ ‫الذهن املتشتّت" ابلتعليم‪ .‬من مثّ وضع‬
‫(اخلمر)‪" ،‬مجع َ‬
‫شفاءه "بوساطة أوامر العهد القدمي ووصاّيه"‪ ،‬أي ابلكلمة الّيت تعيد الشرعية إىل قوى‬
‫‪ ،‬موصيًا ّإّيهم أبن يتابعوا َ‬
‫صحته الروحيّة‬
‫يتحركون وفق مشيئة هللا اخلالقة‪ .‬إ ًذا يف الفندق‪ ،‬أي الكنيسة‪ ،‬يستعيد اإلنسان ّ‬
‫النفس لعلّهم ّ‬
‫الشخصي‪ ،‬ويُشفى من كلوم األهواء والشياطني‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إبرشاد الرعاة وجبهاده‬

‫‪ ‬الديناران‪ :‬احملبّة املضاعفة‬

‫فيما يرى الق ّديس مكسيموس املعرتف قراءةَ إَنيل اليوم من منظار خربة اجلهاد الدقيق َّ‬
‫ضد األهواء‪،‬‬
‫السامري (املسيح) إىل صاحب الفندق (الكاهن)‪ .‬هبذه‬
‫ّ‬ ‫يربط احملبّة حنو هللا والقريب ابلدينارين اللّذين أعطامها‬
‫املتنوعة هو ابتعاد‬
‫العام أبشكاله ّ‬
‫الشخصي و ّ‬
‫ّ‬ ‫للشر‬
‫األساسي ّ‬
‫ّ‬ ‫السبب‬
‫َ‬ ‫ئيسي‪ .‬إ ّن‬
‫عمل الكنيسة الر ّ‬
‫الطريقة‪ ،‬يكشف َ‬
‫الذهن عن هللا والتصاقه ابلشهوات‪ ،‬واجملد واألموال‪ .‬من هنا تربد احملبّة ويستعر البغض‪ .‬فمن دون احملبّة حنو هللا‬
‫ع الشهوات واألجماد واألموال منّا‪ .‬وهذه احملبّة تُعطى لنا جمّاانً يف الوحي الّذي ينقله‬
‫والقريب‪ ،‬ال نستطيع أن ننز َ‬
‫ُيركه الوحي مثْ َل حبّة اخلردل‪.‬‬
‫لنا تعليم الكنيسة‪ ،‬وابلنعمة الّيت تعطينا ّإّيها األسرار‪ .‬وتزداد احملبّة ابلعمل الّذي ّ‬
‫الذهن وتضبط الشهوات‪.‬‬
‫َ‬ ‫ألَنا تقنع‬
‫بوضوح‪" :‬احملبّة حنو هللا تقاوم الرغبة‪ّ ،‬‬
‫ٍ‬ ‫يقول الق ّديس مكسيموس هذا لنا‬
‫الذهن يزدري ابجملد واألموال‪ .‬هذه احملبّة املضاعفة هي الديناران‬
‫َ‬ ‫ألَنا جتعل‬
‫احملبّة حنو القريب تقاوم الغضب‪ّ ،‬‬
‫اللّذان أعطامها املخلّص لصاحب الفندق‪"...‬‬
‫‪153‬‬
‫ئيسي‪.‬‬
‫غرس هذه احملبّة املضاعفة يف قلوب املؤمنني هو عمل الكنيسة الر ّ‬
‫إ ّن َ‬

‫‪154‬‬
‫األحد التاسع من لوقا‬

‫(لو‪)21 -16 :12‬‬

‫وذكر املوت‬ ‫ِ‬


‫الغىن ُ‬
‫"فهكذا يكون مصري من يكنز لنفسه وال يغتين عند هللا"‬

‫ذكر املوت يه ّذب حياتَنا‪ .‬صحيح أنّه مؤمل وال حنتمله‪ ،‬ألنّه يُظ ِهر َ‬
‫كنوزان الزائلة بال قيمة‪ ،‬ومل ّذاتنا بال‬ ‫إ ّن َ‬
‫ذكر املوت‪ ،‬ينتصب العامل‬
‫احلقيقي حلياتنا‪ .‬إذا طرحنا عن ذهننا َ‬
‫ّ‬ ‫معىن‪ ،‬إالّ أنّه يف احلقيقة مي ّكننا من رؤية املعىن‬
‫صنمني‬
‫ذكر املوت‪ .‬هكذا صار الغىن والرفاهية َ‬‫"فالغين اجلاهل" يف مثل اليوم حما من ذهنه َ‬
‫ّ‬ ‫الصنم‪.‬‬
‫ق ّدامنا مثل ّ‬
‫املادية األرضية‪ّ" :‬ي نفسي‪ِ ،‬‬
‫لك أرزاق وافرة تكفيك مؤونة سنني كثرية‪ ،‬فاسرتُيي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫شعورا أببديّة اخلريات ّ ّ‬
‫أعطياه ً‬
‫احلقيقي للحياة‪ .‬مل يستطع أن‬ ‫يدرك املعىن‬ ‫ِ‬
‫حلقيقة املوت َحَرَمه أن َ‬ ‫اجلهل احملزن‬ ‫وتنعمي"‪ .‬هذا‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وُكلي‪ ،‬واشريب‪ّ ،‬‬
‫يشكره‪،‬‬
‫حّت َ‬ ‫يدرك بركةَ هللا ّ‬
‫آخرين‪ .‬مل يستطع أن َ‬‫كشخص يف شركة مع أشخاص َ‬ ‫ٍ‬ ‫خير َج من صفته كفرد‪ ،‬ويعيش‬
‫حّت‬ ‫ٍ‬
‫يدرك هدفَه الّذي ال يتوقّف عند أبعاد األرض‪ ،‬بل يصل ّ‬
‫مشرتكة‪ .‬مل يستطع أن َ‬ ‫وُيول أرزاقَه إىل أرزاق َ‬‫ّ‬
‫التشبّه ابهلل الشفوق املمطر على األبرار والظاملني‪.‬‬

‫ابملادة‪،‬‬
‫حمصورا ّ‬
‫ً‬ ‫يتغري نوعه‪ ،‬ومضمونه‪ .‬ال يبقى‬
‫العطش إىل الراحة واملتعة‪ ،‬إذا ارتوى من ذكر املوت‪ّ ،‬‬
‫َ‬ ‫إ ّن‬
‫احلي‪ .‬ويرى يف الوقت نفسه القيمة‬
‫ماء الروح ّ‬
‫بل يصبح شامالً‪ ،‬ويكشف الل ّذة الروحيّة الّيت ال أملَ فيها ‪ ،‬أعين َ‬
‫الشرعي لل ّذة كأحد‬ ‫ٍ‬
‫بشكل عام‪ .‬ينظر إىل االستعمال‬ ‫املادية‬
‫املادية وحسب‪ ،‬بل للخليقة ّ‬
‫احلقيقيّة‪ ،‬ال للشهوات ّ‬
‫ّ‬
‫فيض حمبّة هللا وصالحه‪ .‬فريتقي الذهن إىل هباء اخلالق‪ ،‬وإىل‬
‫مقومات احلياة البيولوجيّة‪ ،‬ويرى يف اجلمال الفاين َ‬
‫ّ‬
‫طرح غداً يف‬
‫إدراك عنايته العظيمة ابإلنسان‪ .‬يف ّكر بكلمة املسيح‪" :‬فإذا كان عشب احلقل‪ ،‬وهو يوجد اليوم‪ ،‬ويُ َ‬
‫يقف ابحرت ٍام‬
‫(مّت‪ .)30 :6‬يتعلّم اإلنسان أن َ‬
‫التنّور‪ ،‬يلبسه هللا هكذا فما أحراه أبن يلبسكم ّي قليلي اإلميان" ّ‬

‫‪155‬‬
‫أمام اخلالئق الوضيعة‪ ،‬انظراً إىل عناية هللا ابلفانيات‪ ،‬وابحثاً يف الوقت نفسه ٍ‬
‫برغبة ٍ‬
‫وتوق‪ ،‬عن هباء اخلالق الّذي‬
‫ينمي عالقةً شخصيّة به‪.‬‬
‫ال يفىن‪ ،‬حماوالً أن ّ‬
‫يصبح غنيًّا يف‬ ‫ِ‬ ‫ولكن َّ ِ‬
‫يهتم يف أن َ‬
‫الغين اجلاهل األساسيّة‪ :‬فقد كنَ َز لنفسه‪ ،‬ومل ّ‬
‫هلم نُنعم النظر يف مشكلة ّ‬
‫عيين هللا‪.‬‬

‫‪" ‬فهكذا من كنَ َز لنفسه"‬

‫قال املسيح مثَ َل الغينّ اجلاهل‪ ،‬مريداً بذلك أن يش ّد َد على عواقب اجلشع الوخيمة‪ .‬وملا طلب منه أحد‬
‫ّ‬
‫"تبصروا‪ ،‬واحذروا‬
‫دافع الطمع‪ّ :‬‬
‫يتدخ َل لكي يقامسه أخوه املرياث‪ ،‬قال له املسيح‪ ،‬مميّزاً لديه َ‬
‫اجملتمعني حوله أن ّ‬
‫كل طمع" (لو‪ .)15 :12‬أي انتبهوا‪ ،‬واحرتسوا من أنواع الطمع كلّها‪ ،‬فكثرة املمتلكات ال تعطي حيا ًة‪ .‬مثّ‬ ‫ّ‬
‫ليكنز لنفسه‪ .‬أجل‪ ،‬يذكر مثَل اليوم أمالكاً‪ ،‬وإنتاجات‪،‬‬
‫الطماع َ‬
‫ساق هلم مثَل اليوم‪ .‬فاجلشع‪ ،‬على أنواعه‪ ،‬يدفع ّ‬
‫روحي كثري الظواهر‪ ،‬وميزته األساسيّة أنّه جيعل حيا َة اإلنسان‬
‫ّ‬ ‫مرض‬
‫غري أن مضمونه أوسع بكثري‪ .‬فالطّمع ٌ‬
‫مادية‪ ،‬وقوى خارجة عن نطاق هللا‪ .‬قد تستند حياته إىل املال‪ ،‬واملمتلكات‪ ،‬أو إىل املعارف‬
‫مستندة إىل أشياء ّ‬
‫كنز لنفسه" يرمتي بنَ َه ٍم على مجع الغىن‪ ،‬أو كسب‬
‫"من َ‬‫البشريّة والدراسات‪ ،‬أو املناصب والكرامات‪ .‬هكذا َ‬
‫مناصب أرفع‪ ،‬وأش ّد نفوذاً‪ ،‬قدر‬
‫َ‬ ‫يزوَده بنفوذ "وشرف" بني الناس‪ ،‬أو أن يُكسبَه‬
‫املعارف‪ .‬وهذا من شأنه أن ّ‬
‫كنز لنفسه"‪.‬‬
‫"من َ‬
‫ف َ‬
‫تصر َ‬
‫نشري إىل أربع عالمات فارقة متيّز ّ‬
‫اإلمكان‪ .‬من املفيد أن َ‬
‫‪ّ -‬أوالً‪ ،‬نشاطاته كلّها مرتكزة على ذاته‪ ،‬وعلى اقتناص املتعة الشخصيّة أو املكانة اإلجتماعيّة األاننيّة‪.‬‬

‫خيص أحداً‪ .‬ال يشعر أبنّه عطية هللا‬


‫حر ال ّ‬
‫‪ -‬اثنيًّا‪ ،‬جيهل عناية هللا‪ ،‬لذلك فالعامل ابلنسبة إليه صيد ٌّ‬
‫الشخصيّة‪ ،‬بل مكان لالستغالل تسوده شريعةُ الغاب‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫أبدي على األرض‪ ،‬وال‬
‫‪ -‬اثلثاً‪ ،‬يستند فقط إىل قواه الذاتيّة‪ّ ،‬قوة يديه أو ّقوة ذكائه‪ .‬ينظّم حياتَه كأنّه ٌّ‬
‫لتدخل هللا‪ .‬ال يسلّم نتيجة مساعيه حلكمة هللا وقدرته‪ .‬لذلك‪ ،‬عندما ينجح يف حتقيق أحد أهدافه‪،‬‬
‫يرتك جماالً ّ‬
‫ُيدره إىل قعر سقوط لوسيفوروس‪.‬‬
‫ميتلىء من الكربّيء‪ .‬يرى ذاتَه خالق نفسه‪ ،‬ممّا ُ‬
‫ظهر عن طريقها‬
‫اصا‪ ،‬ال وسيلة ليُ َ‬
‫مكسبًا خ ًّ‬
‫‪ -‬رابعاً‪ ،‬نتيجة ما سبق‪ ،‬يرى يف غناه أو معرفته أو منصبه َ‬
‫ِ‬
‫حيب‪،‬أو ابألحرى ال يستطيع أن ّ‬
‫ُيب‪ ،‬أعين أنّه أسري هواه‪.‬‬ ‫حمبّ تَه‪ .‬أل ّن اجلش َع ال ّ‬

‫"من يغتين عند هللا"‬


‫‪َ ‬‬
‫الغين‬
‫املسيح هو "الطريق واحلق‪ ،‬واحلياة"‪ ،‬إنّه بدء مسرية اإلنسان الروحيّة‪ ،‬وَنايتها‪ ،‬األلف والياء للحياة‪ّ .‬‬
‫نت عند‬‫"من يغ ِ‬
‫وبقوة هللا إىل التشبّه ابملسيح‪َ .‬‬
‫الشرعي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫عند هللا يصبح مسكناً لنعمة هللا‪ .‬هو َمن وصل ابجلهاد‬
‫كل ٍ‬
‫عمل له بدعاء هللا‪ ،‬بعد أن يتي ّقن ّأوالً أ ّن ما يهدف إليه ال يعاكس مشيئةَ هللا‪ .‬يب ُذل قصارى‬ ‫يتحرك يف ّ‬
‫هللا" ّ‬
‫عواقب السقوط يف حدود حياته الشخصيّة‪ ،‬فتدخل‬ ‫َ‬ ‫اجلوهري لإلنسان‪ ،‬وهو أن يعاكس‬
‫ّ‬ ‫جهده يف العمل‬
‫حّت أقلّها شأانً وأكثرها ماديّة‪ ،‬تندرج ضمن‬
‫كل أعماله‪ّ ،‬‬
‫أدق تفاصيل حياته اليوميّة‪ّ .‬‬
‫ضمن إطار هذا العمل ّ‬
‫الروحي قبل املوت‬
‫ّ‬ ‫ئيسي هذا‪ ،‬الّذي يعيد احليا َة إىل نفسه‪ .‬هذا العمل هو القضاء على املوت‬
‫عمله الر ّ‬
‫البيولوجي‪.‬‬
‫ّ‬
‫ينجح ابلتشبّه به‪ ،‬وهذا ألنه يتمثّل بكلمة‬
‫بقوة املسيح‪ ،‬لكي َ‬
‫ورأس الكالم‪ ،‬أنّه جياهد وسط املشاكل اليوميّة ّ‬
‫املسيح الصرُية‪" :‬بدوين ال تستطيعون شيئاً" (يو‪.)5 :15‬‬

‫صة‪ .‬إنّه َنِم يف الروحيّات‪ ،‬وبقدر ما‬


‫من صفات هذا اإلنسان التواضع وعدم البحث عن مصلحته اخلا ّ‬
‫الناس‪ ،‬فيعاين مع املتألّمني‬ ‫ٍ‬
‫ُيب َ‬ ‫الفضة‪ُ .‬يرتم اخلليقةَ كهبة من هللا‪ّ .‬‬
‫ّنوا‪ ،‬يغوص يف التواضع ومقت ّ‬
‫يزيد فيها ًّ‬
‫ويفرح مع الفرحني‪ ،‬ويعطي من طعامه للجائعني‪ .‬يضع غىن حمبّته يف أكياس الفقراء‪ ،‬ويكتسب كنوزاً يف السماء‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫الغين اجلاهل فوجىء ابملوت‪ ،‬أل ّن غناه لن يعرب عتبةَ‬
‫فتذوقه يف قلبه‪ .‬إ ّن َّ‬‫جيهز لنفسه مكان الراحة الّذي سبق ّ‬ ‫ّ‬
‫املوت‪ .‬أما من يغتين عند هللا‪ِ ،‬‬
‫فمن اآلن "له احلياة األبديّة"‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪158‬‬
‫األحد العاشر من لوقا‬

‫(لو‪)17 -10 :13‬‬

‫حتريف الناموس‬
‫هذِه‪ ،‬وَِهيَ ابْنَةُ ِإبْر ِاهيمَ‪...‬‬
‫"ّي مرائي‪ ...‬و ِ‬
‫َ‬
‫الرّابَ ِط ِيف يَ ْوِم السَّبْ ِت؟ "‬
‫أَمَا َكا َن يَنْبَِغي أَ ْن ُحتَلَّ ِمنْ ه َذا ِ‬

‫اجلمع واملرأ َة على جتاوز عطلة‬


‫َ‬ ‫إ ّن املرأة املنحنية كانت تشكر هللاَ على شفائها‪ ،‬ورئيس اجملمع يب ّكت‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫السبت‪ .‬قال‪" :‬هناك ستّة ّأّيم جيب العمل هبا‪ ،‬تعالوا واستشفوا خالهلا‪ ،‬ال يوم السبت" (لو‪ .)14 -13 :13‬مل‬
‫انفصل عن روحيّته‪ .‬مل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫توجه إىل املسيح شخصيًّا‪ ،‬بل أدا َن عملَه كمخالف للنّاموس‪ .‬يف العمق َجه َل للنّاموس و َ‬
‫ي ّ‬
‫حّت يصبح قادراً على‬
‫الشعب ّ‬‫َ‬ ‫التحرر من أركان العامل‪ .‬فالناموس رمى إىل تدريب‬
‫َير يف أوامر الناموس احملبّة و ّ‬
‫وساعده على معرفة اخلطيئة‪ ،‬مهيّ ئًا ألحداث اخلالص اآليت‪.‬‬
‫َ‬ ‫قبول املسيح‪،‬‬

‫ندرس‬
‫وُيََّرف‪ .‬لذلك من املفيد أن َ‬
‫ستخدم ض ّد املسيح ُ‬
‫ّأما يف قراءة إَنيل اليوم‪ ،‬فنرى هذا الناموس يُ َ‬
‫ظاهرَة حتريف الناموس الناجتة عن أهواء البشر‪ .‬إ ّن الفرتَة الزمنيّة لصوم امليالد تساعد على مواجهة هذا األمر‪،‬‬
‫ليقبل املسيح‪ ،‬هكذا حنن أيضاً نتهيّأ ابلتسابيح وبوساطة "انموس"‬
‫شعب إسرائيل َ‬
‫يؤدب َ‬
‫ألنّه كما كان الناموس ّ‬
‫تعييدا واعيًا‪.‬‬
‫الصوم لنعيّ َد جمليئه ً‬

‫‪ ‬شريعة السبت‬

‫يهمهُ‬
‫اآلخرين‪ُ ،‬معلنًا عطلة السبت‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬مل َّ‬
‫وجد طريقةً "قانونيّة" ليربز أمام َ‬
‫حسد رئيس اجملمع َ‬‫إ ّن َ‬
‫ُيل كلٌّ منكم يوم السبت راب َط ثوره أو محاره من املذود‬
‫الناموس‪ ،‬لذلك دعاه املسيح مرائي‪" .‬أيّها املراؤون أما ّ‬
‫ويذهب به فيسقيه؟"‪ .‬ولكن ما معىن عطلة السبت؟ ماذا كانت ختدم وماذا مثّلَت؟‬
‫‪159‬‬
‫عل من‬
‫املسيح يف ظرف آخر‪" :‬السبت ُج َ‬
‫َ‬ ‫لفريسيّني من أجل عطلة السبت‪ ،‬قال‬
‫املستمر مع ا ّ‬
‫ّ‬ ‫يف صدامه‬
‫كالم املسيح هذا إىل معىن السبت‪ ،‬كما إىل‬
‫أجل اإلنسان‪ ،‬ال اإلنسان من أجل السبت" (مر‪ .)27 :2‬يشري ُ‬
‫الروحي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وليساعده على إجياد الطريق حنو الكمال‬‫َ‬ ‫ليخدم اإلنسا َن‬
‫َ‬ ‫بعامة‪ .‬فقد أُعطي الناموس‬
‫الناموس كلّه ّ‬
‫األّيم‪.‬‬
‫مباشرا‪ ،‬هو إراحة الناس من أتعاب الستّة ّ‬ ‫ً‬ ‫وليصبح راشداً وكامالً يف املسيح‪ .‬كان للسبت هدفًا عمليًّا‬
‫َ‬
‫اجلسدي‬ ‫ماسة إليه‪ .‬وارتبطت هذه الراحة بتالوة كتب الشريعة والصالة‪ ،‬أل ّن التّعب‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫وهذا أمر كانوا حباجة ّ‬
‫ف اجلسد عن‬ ‫يتوجه حنو هللا‪ .‬إذاً‪ّ ،‬اختذت عطلةُ السبت مضموانً روحيًّا‪ .‬فتوقُّ ُ‬
‫الذهن ّ‬
‫واالهتمامات الكثرية ال ترتك َ‬
‫الشريعة‪ ،‬بل إبمكانيّة إمتام‬ ‫ٍ‬
‫جبمود توجبُهُ ّ‬ ‫العمل جيب أن يرتافق وعمل النفس‪ .‬هذا يعين أ ّن السبت مل ِ‬
‫أيت‬ ‫َ‬
‫تضمن العمل لستّة ّأّيٍم مصلحةً شخصيّة من حيث طبيعتُه ‪-‬مبا أ ّن األتعاب هدفَت‬ ‫األعمال املرضيّة هلل‪ .‬ففيما ّ‬
‫خال من املصلحة الشخصيّة‪.‬‬ ‫إىل أتمني احلاجات املعيشية‪ ،-‬وفّر السبت فرصة القيام بعمل ٍ‬
‫ّ‬
‫ويعطينا املسيح مقياس احرتام السبت هذا بطر ٍ‬
‫يقة غري مباشرة‪ ،‬ولكن بوضوح‪ ،‬يف حادثة أخرى قائالً‪:‬‬
‫الشر‪ ،‬أختليص ٍ‬
‫نفس أم إهالكها؟ (لو‪ .)9 :6‬إ ّن "عمل اخلري"‬ ‫ُيل عمل اخلري يف السبت أم عمل ّ‬ ‫"هل ّ‬
‫و"ختليص ٍ‬
‫نفس" تعبريان ُي ّددان معىن السبت‪ .‬فكلمة "نفس" تعين هنا احلياة‪ ،‬من مثّ "ختليص نفس" يعين أن‬
‫ُعطي خلالص نفس اإلنسان‪،‬‬ ‫السبت أ َ‬
‫َ‬ ‫ص حيا َة أحد الناس‪ .‬ولكنّنا ال نُنكر معىن كالم املسيح إذا قلنا إ ّن‬
‫ختلّ َ‬
‫يعود اإلنسان "إىل نفسه" يعين أن يرّكَز قوى ذهنه على نفسه بقراءة الشريعة ابنتباه‪ ،‬ومن‬‫لتجد النفس ذاهتا‪ .‬أن َ‬
‫َ‬
‫كل أعماله"‬
‫اح من ّ‬
‫يوج َهه حنو هللا ابلصالة‪ .‬معىن السبت هذا جيعلنا واضحني فيما ميثّله‪ ،‬كما أ ّن هللا "اسرت َ‬
‫مثّ أن ّ‬
‫كل األعمال اجلسديّة‬
‫يف اليوم السابع وعاد من السفليّات حنو "ما هو فوق العامليّات"‪ .‬هكذا متثّل "الراحة" من ّ‬
‫كل قوى نفوسنا‬ ‫العودة بذهننا إىل ملكوت هللا الّذي يف داخلنا ِ‬
‫بقوة النعمة‪ .‬ابلتايل إ ّن السبت هو صورة توجيه ّ‬
‫ّ‬
‫كرس لقيامة املسيح‪ .‬إنّه االنفصال عن الفكر اجلسداين‬
‫حنو هللا‪ .‬ابلنسبة إلينا‪ ،‬حنن املسيحيّني‪ ،‬هو يوم األحد‪ ،‬امل ّ‬
‫تتحرك مبقتضى مشيئة هللا‪.‬‬
‫حّت تتجلّى و ّ‬
‫وتغري األهواء كلّها ّ‬
‫ّ‬

‫‪ ‬األهواء والناموس‬

‫‪160‬‬
‫عامةً‪ ،‬على طريقة رئيس اجملمع‪ .‬فعوض أن‬
‫إنّنا دائماً حماطون خبطر استخدام "السبت"‪ ،‬و"الناموس" ّ‬
‫حقيقي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كسالح ض ّد ميول أهوائنا‪ ،‬نُ ِربز من خالل أوامره َ‬
‫حسدان وبغضنا‪ .‬هذا غريب ولكنّه أمر‬ ‫ٍ‬ ‫نستخدمه‬
‫روحه ونقف على‬ ‫ِ‬
‫فالناموس اهلادف إىل احملبّة ميكن أن يستخدمه احلسد والبغض‪ ،‬وذلك طبعاً عندما َنهل َ‬
‫شفاء املنحنية ومل يفرح‪،‬‬
‫أدق‪ .‬لقد شاهد َ‬ ‫ٍ‬
‫بشكل ّ‬ ‫نتفحص شخصيّة رئيس اجملمع‬ ‫حرفيّته امليتَة‪ .‬من املفيد أن ّ‬
‫ب ألنّه شعر أب ّن الناموس ُُيَ ّل‪ .‬مل يُنكِر ّقوَة املسيح الشفائيّة‪ .‬كانت األحداث صارخة‪ ،‬فلم يقدر أن‬ ‫ِ‬
‫وغض َ‬
‫يقة مل تسمح له أن يفرح مع الفرحني‪ ،‬وال أعطته‬‫نكرها‪ .‬أما هو فانقسم على نفسه‪ ،‬وعاش الناموس بطر ٍ‬ ‫ِ‬
‫يُ َ ّ‬
‫ينتصر على أهوائه‪ .‬ورأس الكالم أنّه أخفى أهواءه حتت ستار‬
‫إحساساً روحيًّا مرهفاً مقرتانً ابحملبّة‪ .‬مل تساعده ل َ‬
‫احملافظة الصارمة على أحد األوامر اخلارجيّة‪ ،‬كما ختفي القبور الفاخرة نتانةَ األجساد امليتَة‪" ،‬يبدو ظاهرها مجيالً‪،‬‬
‫(مّت‪.)27 :23‬‬ ‫ٍ‬
‫كل َناسة" ّ‬
‫و ّأما داخلها فممتلىء من عظام املوتى و ّ‬
‫حنس ّأَنا‬
‫عندما نعجز عن النظر إىل وصاّي هللا كحياة وحّرية وَنج به نقدر أن نتّصل شخصيًّا ابهلل ‪ ،‬بل ّ‬
‫الناس إطالقًا‪ .‬سوف نرى هللا رًّاب قاسياً ومتش ّدداً‪،‬‬
‫حنب هللاَ و َ‬
‫قوانني وضعها لنا حاكم عظيم القدرة‪ ،‬ال ميكن أن َّ‬
‫كل َمن‬ ‫احملرك واملت ِّ‬
‫ولن َند فيه "العاشق واملعشوق"‪ِّ ،‬‬
‫ط ابإلنسان وجيتذب إليه ّ‬ ‫حرك‪ ،‬الّذي "يفرغ ذاته" لريتب َ‬
‫يفسح يف اجملال لتعرب إليه نداءات ُحبِّه‪.‬‬

‫نتذوق‬ ‫ٍ‬
‫عندما ال حنفظ انموس هللا بطهارة‪ ،‬عندئذ خيلق فينا غضباً وعدائيّة كما حصل لرئيس اجملمع‪ ،‬ولن ّ‬
‫حنسبُ ُهم خمالفني‪ ،‬كما يف مقطع إَنيل اليوم‪ ،‬أو ض ّد‬‫يتحول الغضب والعدائيّة كالمها ض ّد َمن َ‬
‫مثاره‪ .‬مثّ قد ّ‬ ‫َ‬
‫أنفسنا النور واحلياة احلقيقيّة‪ ،‬فنجعلها عاجزة‬
‫ئي أو كامل‪ .‬ويف احلالَتني حنرم َ‬ ‫الناموس نفسه‪ ،‬من خالل ٍ‬
‫رفض جز ٍّ‬
‫تذو ِق ٍ‬
‫شيئ من معىن ميالد املسيح اآليت‪.‬‬ ‫عن احملبّة‪ ،‬وعاجزة‪ ،‬ابلتايل‪ ،‬عن ّ‬

‫‪161‬‬
‫األحد الثالث عشر من لوقا‬

‫(لو‪)27 -18 :18‬‬

‫البحث والعل َْمنة‬


‫ألرث احلياةَ األبديّة؟"‬
‫"ماذا أعمل َ‬
‫اعا مؤملا‪.‬‬
‫ً‬ ‫"ليجرب" املسيح يف قراءة إَنيل اليوم‪ ،‬عاش يف داخله صر‬
‫َ‬ ‫ئيس اجملمع‪ ،‬الّذي جاء‬
‫َ‬ ‫الرجل‪ ،‬ر‬
‫َ‬ ‫إ ّن‬
‫ً‬
‫املسيح‪" :‬أيّها‬
‫َ‬ ‫سأل‬
‫جيد ما يرضي رغباته الداخليّة العميقة‪ .‬لذلك َ‬ ‫كان يبحث عن احلياة األبديّة من دون أن َ‬
‫مرة أخرى أالّ جيد ما يرضيه‪ .‬ويتَّضح من احلوار‬
‫انتظر ّ‬
‫ألرث احلياةَ األبديّة؟" رّمبا ألنّه َ‬
‫املعلّم الصاحل ماذا أعمل َ‬
‫املوسوي األساسيّة‪ .‬قال له املسيح‪" :‬أنت تعرف الوصاّي"‪ ،‬وابلتايل‬
‫ّ‬ ‫ظ بعض أوامر الناموس‬ ‫الّذي جرى أنّه َح ِف َ‬
‫انع وصاّي الناموس الّيت تتكلّم عن الزّن‪ ،‬والقتل‪ ،‬والسرقة‪ ،‬وشهادة الزور‪ ،‬وكذلك وصيّة إكرام‬ ‫ع ّد َد له مو َ‬
‫الدين‪ ،‬فأتى جوابه "هذه حفظتها منذ حداثيت"‪ .‬كان هذا يف الوقت نفسه تعبرياً عن أيسه الكبري‪ ،‬ألنّه بعدما‬ ‫الو َ‬
‫ح ِف َ‬
‫ظ وصاّي الناموس كلّها‪ ،‬مل جيد فيها احلياةَ األبديّة‪ .‬هكذا مل يلقى ما يُشبِ ُعهُ‪ ،‬ومل خيترب احلياةَ األبديّة‪ ،‬فأخ َذ‬
‫ٍ‬
‫ابجتهاد‪.‬‬ ‫يبحث عنها‬

‫‪ ‬طلب احلياة األبديّة‬

‫يظنوَنا‬
‫ُيسب كثريون أنّه إنسان يبحث عن اآليت‪ ،‬فاقداً احلاضر من يديه‪ ،‬طالبًا احلياة األبديّة الّيت ّ‬
‫َ‬
‫يهتم‬
‫وجب عليه أن َّ‬ ‫ينشغل ابملشاكل اليوميّة‪ .‬وكأحد علماء الناموس‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ختص حالتنا بعد املوت‪ ،‬واألجدر به أن‬
‫ُّ‬
‫بصورةٍ ّ‬
‫خاصة ابلوصاّي الّيت حتمل مضموانً ع ًّاما اجتماعيًّا وإنسانيًّا‪ ،‬على سبيل املثال‪ ،‬تلك الّيت جتعل العالقات‬
‫لكن جوابه عن هذه الوصاّي كلّها جاء‬ ‫ٍ‬
‫العماليّة والتجاريّة عادلة‪ ،‬أو تساعد العائلة على العيش بسالم وحمبّة‪ .‬و ّ‬
‫ّ‬
‫املختصة ابلعالقات اإلجتماعيّة‪ ،‬فلم يسرق‪ ،‬ومل ْيزِن‬
‫ّ‬ ‫يعص الوصاّي‬
‫قاطعا‪" :‬هذه كلّها حفظتها منذ حداثيت"‪ .‬مل َ‬‫ً‬

‫‪162‬‬
‫أدرك يف‬
‫يكتف بذلك‪ .‬ميكننا القول إنّه َ‬ ‫ِ‬ ‫اخلارجي‪ ،‬ولكنّه مل‬ ‫تصرفَه‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫اآلخرين‪ .‬كان الناموس يُلهم ّ‬ ‫احرتم حيا َة َ‬
‫و َ‬
‫اخلارجي‪ .‬يف هذه احلالة‪ ،‬عندما وصل‬
‫ّ‬ ‫ألَنا تنحصر حبُسن السلوك‬ ‫عجز النظرة اخلُلُقيّة إىل شريعة هللا‪ّ ،‬‬
‫أعماقه َ‬
‫دل املسيح على كمال الطريق‪ ،‬جميباً إىل كالمه "هذه كلّها حفظتها منذ حداثيت"‬ ‫مأزق‪ّ ،‬‬‫ضمريه الفريسي إىل ٍ‬
‫ّ ّ‬
‫تصبح كامالً وتكون على يقني أبنّك سرتث احليا َة األبديّة‪.‬‬
‫حّت َ‬ ‫بقوله "يعوزك أيضاً شيء" ّ‬

‫‪ ‬األخالق والعلمنة‬

‫انقش املسيح‪ ،‬فيما عاّن‬ ‫ِ‬


‫بعض املالحظات‪" .‬الرئيس" الّذي َ‬ ‫قبل أن نتكلّ َم على النواقص‪ ،‬فلنضف َ‬
‫مأساة عجز الضوابط اخللُقيّة عن إشباعه‪ ،‬تعلّق جدًّا أبمور للعامل‪ .‬نستطيع أن نرى يف شخصه جبالء كيف ترتبط‬
‫املتنوعة‪ .‬هي احلفاظ على ظاهر‬ ‫األخالقيّات ابلعْلمنة‪ .‬فاألخالقيّات تنتُج عن العْلمنة‪ ،‬وهي إحدى مظاهرها ّ‬
‫شخصا‬
‫ً‬ ‫يكرس حياتَه كلَّها هلل‪ ،‬بل‬
‫شخصا ّ‬
‫ً‬ ‫التقوى‪ ،‬فيما يتعلّق القلب بذهنيّة العامل‪ .‬إنسان األخالقيّات ليس‬
‫ولكن هذا‬ ‫ِ‬ ‫متعلِّ‬
‫املادي‪ ،‬وهو ال يعطي هللا إالّ ما يقدر أن يُظهَره صاحلاً يف عيون الناس‪ّ .‬‬ ‫"الروحي" أو ّ‬
‫ّ‬ ‫بغناه‬ ‫ا‬‫ق‬‫ً‬
‫يتمردون على قوانني الكنيسة‬ ‫متردات‪ .‬طبعاً هناك َمن ّ‬
‫النهج احليايتّ ال يربط اإلنسا َن ابهلل‪ ،‬لذلك خيلق مآزق و ّ‬
‫لمنة"‪.‬‬
‫ابلع َ‬
‫الشر ليس فيها بل يف "القلب املصاب َ‬
‫سبب ّ‬‫وشرائعها من عمق مآزقهم‪ ،‬جاهلني أ ّن َ‬
‫عام‪ ،‬عندما نقول "عْلمنة" نعين خضوع املؤمنني لذهنيّة العامل وضياع حياهتم الداخليّة‪،‬‬ ‫بشكل ّ‬
‫واالستعاضة عن عمل الكنيسة الذي جي ّدد اإلنسان بنشاطات هذا العامل وأساليبه‪ .‬ويف نظر "املتعْل ِمنني"‪ ،‬على‬
‫ُ‬
‫"العبوسة" إىل كرازة‬
‫تحرَر من "ّناذج" املاضي‪ .‬عليها أن تقلب كرازَة التوبة َ‬
‫تربر وجودها يف العامل ابل ّ‬
‫الكنيسة أن ّ‬
‫تليب متطلّبات احلياةَ وال تتن ّكر "ألفراحها الصغرية"‪ .‬جيب أن تنصرف إىل أعمال احملبّة الّيت تظهر يف‬
‫متفائلة‪ ،‬ف ّ‬
‫خمتلف النشاطات االجتماعيّة‪ ،‬ويف مبادرات مستنرية ملعاجلة مشاكل العامل املعاصرة‪ ،‬كاملشاكل البيئيّة وإحالل‬
‫جييب هذا الرأي بكالم املسيح التايل‪" :‬كان ينبغي أن‬ ‫ِ‬
‫السالم‪ ،‬ومرض السيدا واملخ ّدرات‪ .‬ويستطيع اإلنسان أن َ‬
‫(مّت‪ .)23 :23‬فخلف هذه ال ّذهنيّة خيتبءُ ضعفنا يف التخلّي عن غىن الل ّذات‬ ‫تعملوا هذه وال ترتكوا تلك" ّ‬
‫األهم يف النشاط‬
‫اإلجتماعي‪ .‬لذلك ال نرى عمل الكنيسة ّ‬ ‫ّ‬ ‫التنعم‪ ،‬كما خيتبئ عطشنا إىل الظهور التألّق‬
‫و ّ‬
‫‪163‬‬
‫ٍ‬
‫َنجر العامل‬ ‫يفهمه الناس مج ًيعا بسهولة ويقبلونه‪ّ .‬أما إذا ُع ِر َ‬
‫ض علينا أن َ‬ ‫اخلريي وحده‪ ،‬أي يف أم ٍر َ‬
‫اإلجتماعي و ّ‬
‫ّ‬
‫بكامله من أجل املسيح‪ ،‬فينتابنا احلزن‪ ،‬مثل الرئيس يف قراءة إَنيل اليوم‪.‬‬

‫تعرب عن‬
‫طبعاً هذا ال يعين أن اخلدمة اإلجتماعيّة واخلرييّة ليست من عمل الكنيسة‪ ،‬على العكس‪ ،‬فهي ّ‬
‫الداخلي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وذكسي‪ ،‬ترتبط املبادرات االجتماعيّة واألعمال اخلرييّة الضخمة ابلعمل‬
‫ّ‬ ‫حياهتا‪ .‬ولكن‪ ،‬يف الرتاث األرث‬
‫وسر‬
‫ثوذكسي ّ‬
‫ّ‬ ‫الّذي يتح ّق ُق ابلروح القدس‪ّ .‬إَنا شعاع احملبّة حنو اإلنسان واخلليقة‪ ،‬حمبّة تنبع من النسك األر‬
‫اإلهلي‪.‬‬
‫الشكر ّ‬
‫‪ ‬مأساة التعلّق‬

‫عبدا للممتلكات‬ ‫يعلم كيف يرث احلياةَ األبديّة‪ ،‬كان يف الداخل ً‬ ‫طلب أ ْن َ‬‫ئيس اجملمع" الّذي َ‬
‫إ ّن "ر َ‬
‫أسس حياتَه العاجزة عليه‪ .‬عندما عرف املسيح تَعلُّ َقه‬‫"يصلب" العامل يف ذاته‪ ،‬ألنّه ّ‬
‫َ‬ ‫املكتسبة شرعيًّا‪ .‬مل يقدر أن‬
‫وض َح له أن األمر الوحيد الّذي ينقصه هو انعتاقه منها‪ ،‬وتوزيعها على الفقراء وااللتصاق به‪ .‬بدا‬
‫العميق بثروته‪ّ ،‬‬
‫جو‬
‫كالم املسيح هذا ثقيالً ملسامع رئيس اجملمع‪ ،‬ولذلك "حز َن"‪ .‬ويشبه حزنه أسى اكثريين مل يقدروا أن ُيتملوا ّ‬
‫قيود النفس من األهواء‪ ،‬وال أن ُيتملوا حزن الصليب املب ِهج‪ .‬لقد شلّ ْ‬
‫ت العْلمنة‬ ‫ُيل َ‬‫الكنيسة‪ ،‬والنسك الّذي ّ‬
‫يبق فيهم ّقوة على املسريات الروحيّة الصلبة‪ .‬هلذا يتعايشون و"رئيس هذا العامل"‪.‬‬
‫عصب نفوسهم‪ ،‬ومل َ‬
‫َ‬
‫خيلص؟" وجواب‬
‫َ‬ ‫"م ْن يستطيع أن‬‫إىل ذلك‪ ،‬تولّد فينا معرفة تعلّقاتنا الذاتيّة السؤ َال التايل تلقائيًّا‪َ :‬‬
‫َنعل‬
‫املسيح عن هذه احلالة ُيمل تعزية‪" :‬غري املستطاع عند الناس مستطاع عند هللا" (لو‪ .)27 :18‬فبدل أن َ‬
‫ٍ‬
‫استعداد طيّب‪.‬‬
‫عجزان لدى هللا بتواض ٍع و‬
‫من أهوائنا نظرّّيت مذهبيّة والهوتيّة هبدف تربير نفوسنا‪ ،‬لنودع َ‬

‫‪164‬‬
‫أح ُد األجداد‬

‫(لو‪)24 -16 :14‬‬

‫عشاءُ ملكوت هللا‬


‫"إنسان صنعَ عشاءً عظيماً ودعا كثريين"‬

‫كشف عن نفسه للعامل اببنه الوحيد "يسوع اإلنسان"‪ .‬العشاء‬


‫َ‬ ‫يف َمثل اليوم‪" ،‬اإلنسان" هو هللا‪ ،‬الّذي‬
‫األول‪ ،‬وفيما بعد دعا الناس‬
‫العظيم الّذي "دعا كثريين" إليه هو عشاء ملكوته‪ .‬من املميّز أنّه "دعا كثريين" يف ّ‬
‫مجيعهم‪ .‬دعا ّأوالً شعبَه إسرائيل الّذي حاز الناموس‪ ،‬وبعد جحوده‪ ،‬دعا األمم اخلاطئة كلَّها (املساكني‪ ،‬واجلدع‪،‬‬
‫والعرج والعمي)‪ ،‬مثّ دعا عابدي األواثن خارج املدينة (يف الشوارع واألزقّة)‪ .‬إذاً دعاان كلَّنا إىل ملكوته‪ .‬وملا‬
‫ّ‬
‫سر اإلفخارستيّا العظيم‪ .‬فلقد دعاان كلَّنا إىل كنيسته‪.‬‬
‫أصبحنا جمالسي مائدته‪ ،‬أضحينا نشارك عشاء ملكوته يف ِّ‬
‫َ‬
‫كأَنا‬
‫األمور املاضية واملستقبلة ّ‬
‫يؤسس الكنيسة‪ ،‬حيث نعيش َ‬
‫السر الّذي ّ‬
‫سر اإلفخارستيّا اإلهليّة هو ّ‬
‫إ ّن ّ‬
‫اإلهلي للق ّديس يوحنّا‬
‫اجلوهري) أثناء الق ّداس ّ‬
‫ّ‬ ‫حاضرة‪ .‬وتظهر خربُة الكنيسة هذه جليًّا يف ذبيحة القرابني (الكالم‬
‫كل‬
‫الذهيب الفم‪ .‬فاإلله الثالوث هو َمن أحضران من العدم إىل الوجود‪ ،‬و"أقامنا اثنيةً حنن الساقطني"‪ ،‬وصنع َّ‬ ‫ّ‬
‫"حّت أصعدان إىل السماء"‪ ،‬ومنحنا ُمل َكه اآليت‪ .‬لذلك نشكره على هذه األمور كلّها‪ :‬نشكره من أجل‬ ‫ٍ‬
‫شيء‪ّ ،‬‬
‫اإلهلي‪ ،‬بعد التهيئة الالزمة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫سر اإلفخارستيّا ّ‬
‫نتذوقه مسبقاً ابشرتاكنا يف ّ‬
‫ملكوته اآليت‪ ،‬الّذي ُمن ْحناه اآلن‪ ،‬إذ إنّنا ّ‬
‫حنس مبلكوت هللا؟ يكتب الق ّديس اسحق السرّيينّ‪" :‬احملبّة الّيت كرز هبا الرب هي‬
‫ولكن كيف لنا أن ّ‬
‫امللكوت‪ ...‬فماذا تراه الّذي "أتكلونه وتشربونه على مائدة ملكويت" إالّ احملبّة؟" طبعاً‪ ،‬ليست احملبّة شعوراً‬
‫التامة‪.‬‬
‫ملكوت هللا مبعرفة الثالوث الق ّدوس ّ‬
‫َ‬ ‫سطحيًّا‪ ،‬بل الشركة مع هللا ومعرفته‪ .‬لذلك ُمياهي اآلابء الق ّديسون‬
‫وإذ أنخذ هذه األمور بعني اإلعتبار‪ ،‬ندرك أ ّن هللا‪ ،‬عندما يدعوان إىل عشاء ملكوته‪ ،‬يدعوان يف اجلوهر إىل‬

‫‪165‬‬
‫الناس كلّهم إىل معرفته‪ .‬غري أ ّن معرفته ليست من نطاق العقل والفهم‪ ،‬بل‬
‫معرفته‪ .‬إذاً‪ ،‬وفقاً للمثَل‪ ،‬يدعو هللا َ‬
‫ٍ‬
‫عندئذ‪ ،‬إحساسنا مبلكوت هللا‪ ،‬وهو‬ ‫فإَنم يعاينون هللا"‪.‬‬
‫نتيجة الرؤية القلبيّة الطاهرة‪" .‬طوىب ألنقياء القلوب ّ‬
‫نفسه معرفة هللا الثالوث‪ ،‬يتمثّل يف نقاوة القلب‪ .‬إذاً اجلهاد من أجل انعتاق قلوبِنا من غمام األهواء هو جهاد‬
‫اإلهلي (اإلفخاريستيّا)‪.‬‬
‫الشكر ّ‬ ‫سر ّ‬ ‫الفعلي عن املشاركة يف ّ‬
‫ّ‬ ‫عدان‬
‫يبني لنا واضحاً بُ َ‬
‫من أجل معرفة هللا‪ .‬هذا كلّه ّ‬
‫نتمم أحد الواجبات الدينيّة‪ ،‬وال جملّرد مشاركة الناس ابإلميان‬
‫فنحن أنيت إىل الكنيسة ونشارك يف األسرار‪ ،‬ال لكي ّ‬
‫توحدان‪ ،‬هي الّيت حت ّقق طلبة صالة‬
‫الواحد‪ ،‬بل لندخل يف معرفة هلل أكثر عمقاً‪ .‬فمعرفة هللا العميقة هي الّيت ّ‬
‫سرية عندما يكون‬
‫املسيح الكهنوتيّة "ليكون اجلميع واحداً" (يو‪ .)21 :17‬هذا يعين أنّه ال ميكن وجود وحدة ّ‬
‫خمتلفا‪.‬‬
‫اإلميان ً‬

‫"املدعوين" إىل العشاء العظيم يف املثل‪.‬‬ ‫حجج الرفض لدى‬ ‫ِ‬


‫ّ‬ ‫بعض املالحظات‪ ،‬من خالل ّ‬
‫ولكن لنُ ْبد َ‬

‫املدعوين ّأوال‬
‫ّ‬ ‫‪ ‬رفض‬

‫يقة واضحة على التصاقهم‬ ‫تدل على عدم اإلميان‪ ،‬بل تعرب بطر ٍ‬ ‫دعوون" ال ّ‬
‫ّ‬ ‫احلجج الّيت أعطاها "امل ّ‬
‫ابألموال‪ ،‬واألمالك والعائلة‪ .‬إذا نظران إليهم بشرًّّي‪ ،‬نراهم أانساً شرفاء وعاملني‪ ،‬ينتبهون إىل عائالهتم وأعماهلم‪.‬‬
‫ألَنم ال يعرفون َمن يرفضون وماذا يرفضون‪ .‬يُشبِهون‬
‫الروحي‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫يدل على موهتم‬
‫كن رفضهم اجمليء إىل العشاء ّ‬
‫ول ّ‬
‫خلف‬
‫هرعون َ‬ ‫اإلهلي‪ ،‬يُ َ‬
‫َنار األحد صباحاً إشارَة الصليب‪ ،‬وبدل الكنيسة والق ّداس ّ‬ ‫"مسيحيّني" كثريين يرمسون َ‬
‫يغضون النظر عن حياة األسرار يف الكنيسة بسبب الواجبات العائليّة (كاالهتمام ابألوالد‬
‫أعماهلم وأمالكهم‪ ،‬أو ّ‬
‫الشر يف‬
‫القلب مأسور ابألشياء األرضيّة والفاسدة‪ .‬طبعاً ال يكمن ُّ‬
‫يدل هذا املوقف على أ ّن َ‬
‫أو أبعمال املنزل)‪ّ .‬‬
‫تقييما خاطئًا‪ .‬فهذه كلّها يباركها هللا عندما‬
‫األمالك و ال يف العمل‪ ،‬وال يف العائلة‪ ،‬بل يف تقييم األشياء ً‬
‫كز حياتنا ونشاطاتنا كلّها‪.‬‬
‫نستخدمها وفقاً ملشيئته‪ .‬إالّ أ ّن َناحنا ال يتح ّقق إالّ عندما يكون هللا وكلمته مر َ‬
‫نتعمق‬ ‫ِ‬
‫ابلتايل‪ ،‬من الواضح أنّنا بقدر ما نُعت ُق قلوبَنا من االلتزامات األرضيّة املباركة مثل األمالك‪ ،‬والعمل والعائلة‪ّ ،‬‬
‫اإلهلي‪.‬‬
‫يف معرفة هللا من خالل اشرتاكنا يف الق ّداس ّ‬
‫‪166‬‬
‫األمور من منظار آخر‪.‬‬
‫هلم نرى َ‬
‫ولكن ّ‬
‫السر‬
‫‪ ‬شروط ّ‬
‫اإلهلي هو صورة عن ملكوت هللا‪ ،‬صورة عن‬‫ّ‬ ‫سر اإلفخارستيّا‬
‫يقول يوحنّا مرتوبوليت برغاموس إ ّن " ّ‬
‫اجملد اآليت مسبقاً وحنصل على احلياة األبديّة‪ .‬هذه هي حقيقة الكنيسة‬
‫نتذوق من خالله َ‬‫األمور األخرويّة"‪ّ .‬‬
‫اإلهلي‪ ،‬تولّد لدينا صعوابت يف إدراك هذه‬
‫لكن خربة معظمنا‪ ،‬حنن املؤمنني‪ ،‬يف مشاركتنا للق ّداس ّ‬‫املُبهجة‪ .‬و ّ‬
‫ملكوت هللا مسبقاً عندما نشارك يف اإلفخارستيّا اإلهليّة؟ ابلتايل‪ ،‬كيف لنا الوصول إىل‬
‫َ‬ ‫نتذوق‬
‫احلقيقة‪ .‬كيف ّ‬
‫نود‬
‫معرفة هللا وحمبّته؟ إ ْن مل نشأ البقاء يف دائرة األحاسيس‪ ،‬علينا أن نواجهَ املصاعب الّيت تفرضها اخلربة‪ .‬لذلك ّ‬
‫أن نورد امللحوظات التالية‪ :‬حنن نشارك يف األسرار طاعةً لوصيّة املسيح والرسل‪ .‬ولكن جيب أن نكون منخرطني‬
‫اإلهلي ابستقالليّة‪ ،‬كأنّه عادة‬ ‫ٍ‬
‫كلّيًّا يف تقليد الرسل لكي يكون عملُنا هذا "حلياة أبديّة"‪ّ .‬أما عندما نعيش الق ّداس ّ‬
‫الروحي وغري‬ ‫ها‬‫ّنو‬ ‫عن‬ ‫عاجزة‬ ‫ٍ‬
‫عندئذ‬ ‫أنفسنا‬ ‫أو كو ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للسر‪َ ،‬نعل َ‬‫شكلي للمؤمن‪ ،‬من دون هتيئة حقيقيّة ّ‬ ‫ّ‬ ‫اجب‬
‫السر جدار قامت ال ميكن إخرتاقه‪ .‬لذلك‬
‫احلس روحيًّا‪ .‬يقوم بني أذهاننا و ّ‬
‫عادمي ّ‬
‫ّ‬ ‫قادرة على إدراك احلقيقة‪ ،‬فنصري‬
‫اإلهلي إنتباهاً كثرياً‪ .‬طبعاً ينبغي أن تكون املشاركة متواترة قدر اإلمكان‪،‬‬
‫سر اإلفخارستيّا ّ‬
‫يتطلّب اشرتاكنا يف ّ‬
‫األهم هو انتظام حياتنا كلّها على أساس روحيّة‬
‫يهم ليس هو التواتر بقدر ما هو االستعداد املناسب‪ .‬و ّ‬
‫ولكن ما ّ‬
‫اإلهلي‪.‬‬
‫الق ّداس ّ‬
‫شك أ ّن الطريقة الّيت نعيش فيها خالل األسبوع كلّه هلا وقع على الذهاب إىل الكنيسة َنار األحد‪،‬‬
‫ال ّ‬
‫للتصرف وفقاً‬
‫َنتم ّ‬
‫كل النهار هلا أتثري على صالتنا املسائيّة‪ .‬إذا مل نف ّكر ابهلل ومل ّ‬
‫كما أ ّن الطريقة الّيت نعيش هبا ّ‬
‫ملشيئته خالل فرتة النهار أو األسبوع‪ ،‬يصبح ذهننا ثقيالً عندما نقف للصالة‪ ،‬وال يستطيع أن ينفصل ٍ‬
‫حينئذ عن‬ ‫َ‬
‫عندئذ يقول بسهول ٍة يف ٍ‬
‫حلظة من اللحظات‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫موضوع اهتمامه‪ ،‬فال يقدر أن يصلّي وال أن يشارك يف الق ّداس‪.‬‬
‫"أسألك أن تُعفيَين"‪.‬‬

‫‪167‬‬
168
‫األحد قبل عيد امليالد‬

‫(مت‪)25 -1 :1‬‬
‫ّ‬

‫ُّبر يوسف‬
‫سرا"‬
‫ابرا‪ ...‬أراد ختليتها ًّ‬
‫"يوسف رجلها إذ كان ًّ‬

‫إذا كان الصمت لغّةَ الدهر اآليت‪ ،‬فيوسف "رجل مرمي" هو ّنوذج االنسان الصامت يف الدهر احلاضر‪ .‬مل‬
‫سجل إالّ بعض نواّيه‪ ،‬وبعض أفكاره الّيت ترسم‬ ‫صامتا‪ .‬مل يُ َّ‬ ‫ُيفظ الكتاب املق ّدس َّ ٍ‬
‫أي كلمة له‪ .‬كان رجالً ً‬
‫عظمةَ فضيلته عجائبيًّا‪ .‬لقد عاش يف الناموس ولكنّه حبياته فاق الناموس‪ .‬مل يُكبَّل حبرفيّة الناموس‪ ،‬بل نفذ إىل‬
‫حّت قبل ميالد املسيح‪ ،‬وقبل حلول‬
‫احلقيقي ّ‬
‫ّ‬ ‫الرب‬
‫دل على معىن ّ‬
‫نيب‪ .‬سبق و ّ‬
‫روحه‪ .‬لذلك أظهر بطريقة حياته أنّه ٌّ‬
‫يصبح أابً‬
‫َ‬ ‫استحق أن‬
‫ّ‬ ‫عاشها على ّأَنا احملبّة‪ .‬لذلك‬
‫الروح القدس‪ .‬لقد عاش الربارة حسب روح تعليم املسيح‪َ :‬‬
‫ابلتبين‪ ،‬حامياً للطفل يسوع ابن هللا ولوالدته حبسب اجلسد‪.‬‬
‫للمسيح ّ‬
‫فلنحاول إذاً أن نرى وجه يوسف اخلِطّيب خارج إطار الزخرفة العاطفية يف أّيمنا‪ ،‬حيث نرى كل ٍ‬
‫شيء‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫نم ًقا‪.‬‬
‫ُم َّ‬

‫‪ ‬مبا يفوق الناموس‬

‫استلم يوسف خطيبتَه الكلّية القداسة من اهليكل عذراء‪ ،‬ولكن "قبل أن جيتمعا ُوجدت حبلى"‪ .‬حنن‬ ‫َ‬
‫تطوَر األحداث‪ ،‬نعرف عجيبةَ جتس ّد هللا العظيمة‪ّ .‬أما يوسف‪ ،‬فلم يكن ابستطاعته آنذاك إالّ أن يرى‬
‫نعرف ّ‬
‫بقوة الروح القدس هي شيء ال ميكن أن يدرَكه‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫خيانةَ خطيبته‪ ،‬أي مثرَة عالقة ال شرعيّة‪ .‬الوالدة من فتاة بتول ّ‬
‫اتب منذهالً من أفكا ٍر مضطربة"‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫يوسف العفيف ار َ‬
‫َ‬ ‫عندئذ‪ ،‬كما يقول املديح الّذي ال ُجيلس فيه‪" :‬إ ّن‬ ‫ذهنُه‪.‬‬
‫ابرا ومل يشأ أن يشهرها أراد ختليتها‬
‫غري أ ّن ميزة اإلنسان تظهر يف الصعوابت واالضراابت‪ .‬فيوسف "إ ْذ كان ًّ‬

‫‪169‬‬
‫ابرا مل يُِرد أن‬
‫سرا"‪ .‬كان أمسى من أن يغار‪ .‬مل تنه ْشهُ أاننيّته اجملروحة‪ ،‬بل ف ّكَر ابلّيت ظنّها خائنة‪ .‬وإ ْذ كان ًّ‬ ‫ًّ‬
‫نفسه‬
‫جير َ‬ ‫يسلّمها إىل العدالة‪ .‬مل يرد أن تعاقَب‪ ،‬وعقاهبا املوت‪ -‬وال أن ُهتا َن عالنيّةً‪ .‬هكذا إذاً‪ ،‬وألنّه مل يرد أن َّ‬
‫سرا أبن يُطلِق سبيلها ويرحل‪.‬‬
‫إىل خطاّي غريبة‪ ،‬ف ّكَر ًّ‬

‫أش ْران‪ ،‬إ ّن َّبر يوسف فاق عدالةَ‬


‫شهَرها‪ "...‬مميّزة جدًّا‪ .‬وكما سبق و َ‬‫ابرا ومل يشأ أن يَ ُ‬
‫إ ّن عبارة "كان ًّ‬
‫الناموس‪ .‬لذلك مل يطبّق الشريعة يف حالة والدة اإلله‪ .‬هذا يدفعنا لنتكلّ َم عن معىن العدل وفقاً لتعليم الكنيسة‪.‬‬

‫البار هو الفاضل‬
‫‪ّ ‬‬
‫الذهيب الفم قراءة إَنيل اليوم "يوسف رجلها‪ ،‬إذ‬
‫ّ‬ ‫يفسر الق ّديس‬
‫البار هو الفاضل‪ّ .‬‬
‫وفقاً للكتاب املق ّدس‪ّ ،‬‬
‫كل شيء"‪ .‬فطريقة مواجهة يوسف هلذا احلدث غري املتوقَّع‪،‬‬
‫"ابر" تعين هنا فاضالً يف ّ‬
‫ابرا" بقوله‪" :‬كلمة ّ‬ ‫كان ًّ‬
‫ُ‬
‫كل شيء"‪ .‬لقد ملَك كامل قواه النفسيّة‪ ،‬فلم‬
‫البتويل للمسيح‪ ،‬دلّت على أنّه كان حقًّا "فاضالً يف ّ‬
‫ّ‬ ‫أعين احلبل‬
‫تُض ِرم الغرية غضبَه‪ ،‬ألنّه ضب َ‬
‫ط الغضب بفضيلة احملبّة‪ ،‬وال أزعجته الشهوة‪ ،‬أل ّن ذهنَه قد أحكمها بضبط النفس‪.‬‬
‫يفعل‪ .‬عاش‬
‫يقبل نبوء َة املالك وإرشاده إىل ما جيب أن َ‬
‫استطاع أن َ‬
‫َ‬ ‫انفتح ذهنه على هللا‪ ،‬بسيط ومصلّياً‪ .‬لذلك‬
‫حضوره جبانب والدة اإلله‪ ،‬انهيك عن محايته‬ ‫قول هللا‪.‬‬
‫أطاع من غري اعرتاض قول املالك‪ ،‬الّذي كان َ‬ ‫ٍ‬
‫ُ‬ ‫بصمت و َ‬
‫العجائيب ولوالدة املسيح‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أهم شهادة للحبل‬
‫هلا‪ ،‬هو ّ‬
‫كرز مسب ًقا بطريقة احلياة اجلديدة‪.‬‬
‫ش الربَّ حبسب روح تعليم املسيح‪ .‬هكذا َ‬ ‫لقد ذكران أ ّن يوسف عا َ‬
‫فاملسيح هو "مشس العدل"‪ ،‬كما سنرتّل بعد أ ّّيٍم قليلة يف طروابرية امليالد‪ ،‬ويوسف ميثّل انبالج الفجر قُبَي َل‬
‫(مّت‪ )33 :6‬فلنَنظر يف‬ ‫شروق تلك الشمس‪ .‬ومبا أنّنا أ ِ‬
‫وبره" ّ‬‫ملكوت هللا َّ‬
‫َ‬ ‫"أوالً‬
‫نطلب ّ‬
‫َ‬ ‫ُوصينا حنن أيضاً أبن‬
‫بعض األمور من الناحية العمليّة أبش ّد تدقيق‪.‬‬
‫َ‬

‫‪ ‬مصدر الظلم‬

‫‪170‬‬
‫حصرا يف‬ ‫العدل هو املطلب العميق لسائر الشعوب َّ‬
‫لكن الظلم الّذي تُعانيه ال تكمن جذوره ً‬ ‫املعذبة‪ .‬و ّ‬
‫داخلي‪ ،‬من ظلم األقوّيء جتاه أنفسهم‪ .‬ممّا ال ريب فيه أنّنا ال نقوى على ظُلم‬
‫ّ‬ ‫العوامل اخلارجيّة‪ ،‬بل تنبع من ظل ٍم‬
‫أنفسنا ّأوالً‪ .‬فلنحلّل قليالً هذه الظاهرة الغريبة‪.‬‬
‫اآلخرين إالّ عندما نظلم َ‬
‫َ‬
‫اعا خمتلفة الختالف الطرائق الّيت يدرسه املرء هبا‪ .‬فمن العدل ما يعين املساواة‪ ،‬وهو ما‬
‫يُصنّف العدل أنو ً‬
‫البشري‪ ،‬إالّ أنّه ال ينجح دائماً‪ .‬ابلتايل املفهوم القانوينّ ال يتماشى دائماً والعدل‪ .‬مراراً كثرية‬
‫ّ‬ ‫يفرضه القانون‬
‫فتعرب‬
‫ّ‬ ‫تدخل على القانون املصلحة الشخصيّة أو ارتباطات ِّ‬
‫املشرع ‪-‬ال سيّما يف األنظمة الديكتاتوريّة‪،-‬‬
‫القوي وليس عن العدل‪.‬‬
‫األحكام عن إرادة ّ‬
‫آخر‪ .‬هو الفضائل جمموعة‪ ،‬ويتّحد أبمسى فضيلة بينها‪ ،‬أعين احملبّة‪.‬‬
‫ّأما يف تراث الكنيسة‪ ،‬فللعدل معىن َ‬
‫لب ألجلهم بدافع حمبّته الفائقة‪ .‬هكذا‬ ‫ص َ‬‫البشري‪ ،‬ألنّه‪ ،‬عوض أن يَدين اخلطأة‪ُ ،‬‬
‫ّ‬ ‫سمى هللا عادالً ابملفهوم‬
‫ال يُ َّ‬
‫ات روحيًّا وجتعلهم "أوالداً‬
‫أعطاهم القدرة أن يتغلّبوا على عواقب عصياَنم‪ .‬أعطاهم نعمتَه الّيت ُحتيي األمو َ‬
‫مستنريين" لكنيسته‪ .‬العادل ابلنسبة إىل الكنيسة هو َم ْن ُي َفظ "صورة هللا" يف اإلنسان‪ ،‬ويرتّب حياته حبسب‬
‫النفس‪،‬‬
‫وصاّي هللا‪ .‬هذا يعطي للنفس واجلسد ما يالئمهما (الق ّديس مكسيموس)‪ ،‬فال يُستعبَد للجسد وال يظلم َ‬
‫نفسه‪ ،‬فيُستعبَد للعامل ويبتعد عن هللا‪ِ .‬من هناك ينبع الظلم‪.‬‬ ‫م‬‫بل يزينها ابلفضائل‪ .‬من يف ّكر ابجلسد وحده يظلِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫وفقاً للق ّديس غريغوريوس ابالماس جذر الشرور هو يف حمبّة اجلسد‪ .‬هذه احملبّة من طرف واحد جتعلنا‬
‫اآلخرين أيضا‪ .‬وهذا أكرب املظامل‬
‫أنفسنا كجسد فحسب‪ ،‬هكذا نرى َ‬
‫استغالليّني‪ ،‬ومستب ّدين وظاملني‪ .‬إذا رأينا َ‬
‫كلّها‪ .‬وينتج عن ذلك عواقب يف عالقاتنا اإلجتماعيّة وأيضاً يف تربية أوالدان‪ .‬فإنّنا ال نرى أيقوانت هللا أمامنا بل‬
‫كائنات بيولوجيّة‪.‬‬

‫املوسوي املوافِق لقساوة قلب الشعب‪ ،‬و ّاحت َد ابحملبّة‪ .‬وهذا العدل هو‬
‫ّ‬ ‫ناموس‬
‫لقد فاق عدل يوسف ال َ‬
‫اصل‪.‬‬‫جمتمع أفراداً ليس بينهم تَو ُ‬
‫الرجاء الوحيد لالنعتاق من ختدير "املصاحل"‪ ،‬الّيت جتعلنا َ‬

‫‪171‬‬
172
‫عيد امليالد اجمليد‬

‫(مت‪)12 -1 :2‬‬
‫ّ‬

‫رمز احلياة‬
‫مسريةُ اجملوس‪ُ ،‬‬
‫ملك اليهود؟"‬
‫"إذا جموس من املشرق قد جاءوا إىل أورشليم قائلني أين هو املولود ُ‬
‫حصل يف حيّز التاريخ‪ ،‬فاملسيح "يولد دائماً" يف قلوب الناس‪ .‬والعثور‬
‫َ‬ ‫جمرد حدث‬
‫ميالد املسيح ليس ّ‬
‫إ ّن َ‬
‫يهتم‬
‫معىن حلياتنا‪ ،‬أو ابألحرى ّ‬
‫ئيسي‪ .‬هذا العمل يعطي ً‬ ‫"ولد املسيح"‪ ،‬هو عملنا الر ّ‬ ‫على "مغارة" القلب‪ ،‬حيث َ‬
‫تصور‬
‫احلقيقي‪ .‬فهدف حياتنا هو لقاء املسيح وارتباطنا به‪ .‬لذلك ميكننا القول إ ّن مسريَة اجملوس ّ‬
‫ّ‬ ‫هبدف حياتنا‬
‫احلقيقي‪ .‬قراءة إَنيل اليوم يف‬
‫ّ‬ ‫مسريةَ حياة اإلنسان الصحيحة بدقٍّة كبرية‪ .‬هي املسرية من الوثنيّة إىل اإلميان‬
‫هذه النقطة مميزة جدًّا‪ .‬فهي تتكلّم يف ٍ‬
‫مجلة واحدة عن ميالد املسيح "وملا ُو َلد يسوع يف بيت حلم اليهوديّة‪"...‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وتصف فيما بعد مسريَة اجملوس الّذين أتوا من املشرق ليسجدوا مللك اليهود املولود حديثاً‪.‬‬

‫هم يف يوم ميالد املسيح ليس تذ ّكر‬


‫يريد اآلابء الق ّديسون على األرجح هبذه الطريقة أن يظهروا لنا أ ّن األ ّ‬
‫حدث جتس ّد هللا‪ ،‬بل البحث عن املسيح ولقائع شخصيًّا‪.‬‬

‫سأل رؤساء الكهنة والكتبة‬


‫ظ أ ّن "هريودس" كان "يبحث" عن املسيح‪ .‬لقد َ‬
‫طبعاً‪ ،‬هنا جيب أ ْن نالح َ‬
‫ألي علّة ممّا تَعلّ َل به أمامهم‪ ،‬بل لكي يقتلَه‪.‬‬
‫فعل اجملوس‪ ،‬وال ّ‬
‫ليسجد له‪ ،‬كما َ‬
‫َ‬ ‫"أين يولد املسيح؟"‪ ،‬ولكن ليس‬
‫إنّه يشبه كثرياً اهلراطقة الّذين "يفتّشون" الكتب‪ ،‬ليس ليعلموا كيف يدنون من املسيح ومن عبادته احل ّقة‪ ،‬وال‬
‫ٍ‬
‫كهدية‪ ،‬ولكن لي ْدعموا أراءَهم‪ ،‬أي ّقوة ضالهلم‪" ،‬وليغتالوا" اإلميا َن القومي يف‬ ‫كيف نستطيع أن نق ّد َم له كيانَنا‬
‫اخلاصة‪ .‬سوف‬‫بعض احملطّات من مسرية اجملوس يف ما يتعلّق مبسريتنا الروحيّة ّ‬ ‫ضمائر الناس‪ .‬ولكن دعوان نرى َ‬
‫آلثوسي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫خباصة إىل الق ّديس نيقودميوس ا‬
‫نستند يف الّذي سنكتبه ّ‬

‫‪173‬‬
‫‪ ‬إستجابةُ الدعوة ابستعداد طيّب‬

‫حّت يف عصياننا وضاللنا‪ ،‬فيأيت ويكلّمنا ابللغّة الّيت نفهمها‪.‬‬


‫بشكل خاص ّ‬ ‫ٍ‬ ‫هللا ال يرتك أحداً‪ .‬يفتقدان‬
‫السجود لإلله احلقيقي‬
‫َ‬ ‫ألَنم كانوا يعبدون النجوم‪ .‬ارتضى أن يتعلّموا‬
‫هذا ما فعلَه مع اجملوس حكماء املشرق‪ّ ،‬‬
‫ليحرَرهم منه‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫"هبيئة َنم"‪ .‬كلّمهم مبا يرمز إىل ضالهلم ّ‬
‫هتمنا فضائل اجملوس الّيت استبانت من‬
‫يهمنا ما كانت عليه طبيعةُ النجم الفائق الضياء‪ ،‬بقدر ما ّ‬
‫هنا ال ّ‬
‫وينطلق إىل‬
‫َ‬ ‫مسريهتم العجائبيّة‪ .‬يشبه اجملوس ابراهيم أاب اآلابء‪ ،‬الّذي أوصاه هللا أبن خير َج من وطنه وعشريته‪،‬‬
‫وثق ابهلل‪ .‬واجملوس أيضاً مل يعرفوا إىل أين‬
‫البلد الّذي سرييه ّإّيه‪ .‬ومل يكن إبراهيم يعرف أين سينتهي‪ ،‬فقط َ‬
‫سيصلون‪ ،‬واعتمدوا على سري النجم وحده‪ .‬إ ّن شجاعة ابراهيم من تش ّددت صوت هللا الّذي دعاه‪ ،‬ألنّه كان‬
‫صوت هللا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫على ص ٍلة شخصيّة به وقبِ َل مو َ‬
‫اعيد كثرية منه‪ّ .‬أما اجملوس فأرادوا‪ ،‬برغبة واحدة‪ ،‬ومن غري أن يسمعوا َ‬
‫يتعرفوا ابمللك املولود حديثاً ويسجدوا له‪ ،‬مكتفني إبرشاد النجم‪ .‬فهو اإلنسان اجلديد يف التاريخ‪ .‬لقد خرجوا‬
‫أن ّ‬
‫نقول ّإَنم ميتازون يف اإلستعداد‬
‫السرية‪ .‬لذلك ميكن أن َ‬ ‫من أرضهم وعشريهتم‪ ،‬فهجروا كل ٍ‬
‫مسريهتم ّ‬
‫َ‬ ‫شيء‪ ،‬وبدأوا‬ ‫َّ‬
‫والشجاعة عن ج ّدان ابراهيم‪.‬‬

‫مقياس ْي املسرية الروحيّة‪ .‬كلّنا نتل ّقى دعوات مساويّة‪ ،‬وُياول هللا‬
‫َ‬ ‫استعداد اجملوس وشجاعتهم مها‬
‫َ‬ ‫إ ّن‬
‫الوثين‪ ،‬من كسل حياةٍ مسيحيّة مرتاخية تستعبدان هلذا العامل‪ .‬فيشعل أمامنا‬ ‫ِ‬
‫متنوعة أن خيرجنا من َعيشنا ّ‬
‫ٍ‬
‫بطرائق ّ‬
‫يقة داخليّة‪ ،‬من خالل أفكار حسنة يضعها يف‬ ‫انراً هتدينا‪ ،‬منتظرا منّا استعداد اجملوس وشجاعتهم‪ ،‬اترًة بطر ٍ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫ات مق ّدسة‪.‬‬‫يقة خارجية‪ ،‬بقراءة الكتاب املق ّدس وكتاابت اآلابء وسواها‪ ،‬أو بلقاء شخصي ٍ‬ ‫قلوبنا‪ ،‬واترةً بطر ٍ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فلنهتم إذاً أالّ نكون من‬ ‫ات من هللا‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫عندئذ‪ ،‬ولكن ثالثة فقط تبعوه‪ .‬هكذا‪ ،‬كلّنا نتل ّقى دعو ٍ‬ ‫النجم‬
‫ّ‬ ‫كثريون رأوا َ‬
‫يدعوَنا بدون استثمار‪.‬‬ ‫الّذين َ‬

‫‪ ‬جتربة أورشليم‬

‫‪174‬‬
‫النجم‪ .‬هناك امتُ ِح َن ثباهتم وإمياَنم‪ .‬طلبوا أن يعلموا "أين ملك‬
‫وصل اجملوس إىل أورشليم أضاعوا َ‬
‫عندما َ‬
‫ٍ‬
‫بشكل خميف‪ّ .‬أما اجملوس فلم خيافوا‪ .‬أذاعوا دافع‬ ‫أقلق هريودس‬
‫فجعل السؤال املدينةَ تضطرب و َ‬
‫َ‬ ‫اليهود املولود؟"‪،‬‬
‫لنسجد له"‪ .‬وعلموا من رؤساء الكهنة والكتبة‪ ،‬بواسطة‬‫َ‬ ‫َنمه يف املشرق وأتينا‬
‫مسريهتم قائلني‪" :‬فإنّنا رأينا َ‬
‫يولد "ملك" إسرائيل يف بيت حلم‪ .‬مع هذا اخلرب‪ ،‬خرجوا من املدينة ورأوا أمامهم‬
‫هريودس‪ّ ،‬أَنم كانوا ينتظرون أن َ‬
‫النجم الّذي منحهم فرحاً عظيماً‪ ،‬وأحضرهم إىل البيت‪ ،‬حيث والدة اإلله مع طفلها يسوع‪.‬‬
‫اثنيةً َ‬
‫البشري‪ .‬سلطة هذا العامل هي‬
‫ّ‬ ‫رمز التفكري‬
‫رمز العامل‪ ،‬وهريودس ُ‬ ‫يف موضوع حبثنا‪ ،‬أورشليم هي ُ‬
‫نوران اهلادي ويهجران‬
‫البشري‪ .‬عندما نشتبك خالل مسريتنا الروحيّة بذهنيّة العامل الكثرية الضوضاء‪ ،‬نفقد َ‬
‫ّ‬ ‫التفكري‬
‫حريتنا‪ .‬إذ ذاك علينا أن نسأل "رؤساء الكهنة" و"الكتبة" أي الرعاة ومعلّمي الكنيسة "أين‬
‫جرب ّ‬
‫إهلام النعمة‪ ،‬فتُ َّ‬
‫ُ‬
‫يولد املسيح؟"‪.‬‬

‫البشري سيحاربنا‪ .‬قد يبدي أحياانً أنّه يوافق نواّيان‪،‬‬


‫ّ‬ ‫طبعاً سيحتار العامل ويضطرب من تفتيشنا والتفكري‬
‫وإمياَنم‪.‬‬
‫ثبات اجملوس َ‬
‫فعل هريودس مع اجملوس‪ّ .‬أما حنن فيجب أن نقتين َ‬
‫ولكنّه يرمي إىل خدمة مصلحته‪ ،‬كما َ‬
‫سنستعلم ممّا تقوله الكتب‪ ،‬ومن الرعاة واملعلّمني‪ .‬هؤالء سوف يساعدوننا لنخر َج من "مدينة أورشليم"‪ ،‬أي من‬
‫ذهنيّة العامل‪ ،‬ونعود إىل حرارة نفوسنا املفقودة‪ ،‬إىل اإلهلام من أجل حياةٍ صحيحة حمورها املسيح‪.‬‬

‫ننس أنّه ينبغي أن‬


‫نسجد من جديد مليالد املسيح‪ ،‬اللّهم إن سجدان بصدق‪ ،‬ال َ‬
‫َ‬ ‫فاآلن وقد استحققنا أن‬
‫نرجع إىل حياان اليوميّة "من طر ٍيق أخرى"‪" ،‬ساخرين من هريودس"‪ ،‬أي السرية اجلسدانيّة الّيت تريد أن "ت َ‬
‫غتال"‬ ‫َ‬
‫املسيح يف دواخلنا‪.‬‬
‫َ‬

‫‪175‬‬
176

You might also like