Professional Documents
Culture Documents
ضوابط التيسير في الفتوى
ضوابط التيسير في الفتوى
َ
ِفي الْ َفتْ َوى
تأليف
1
╝
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم عىل رسول اهلل حممد ،وعىل آله وصحبه ومن
وااله.
وبعد:
فقد انترشت الفتاوى ،وعمت شبكة املعلومات والفضائيات ،وهذا يدل عىل حرص الناس
عىل معرفة أحكام دينهم ،وهو مظهر من مظاهر الصحوة اإلسالمية املباركة التي ال ينكرها
منهج ينادي بمالحظة الواقع الذي ستنزل الفتوى
ٌ إال مكابر ،وهنا برز منهجان للفتوى،
عليه ،والتيسري عىل الناس ،ضمن مقاصد الرشيعة اإلسالمية العامة.
ومنهج يعتمد الدليل الراجح –عندهم -دون مراعاة لواقع الناس – غالبا -وكثرت
الكتابات التي تتكلم عن الفتوى وآداهبا ،وكثر اجلدل حول منهج التيسري يف الفتوى ،ما بني
مشجع ومنكر ،وعند معاجلة موضوع التيسري تعرتضنا عدة اصطالحات ومفاهيم وأحكام،
ال بد من الوقوف عندها حتى نحيط باملوضوع من جوانبه.
حيث تتداخل املفاهيم ويقع اخللط يف هذا املوضوع كثريا ،فيختلط مفهوم الرخص
الرشعية( ،)1والرخص الفقهية( )2وزالت العلامء(.)3
2
امليِّسة يف ر
كل ﯞ}[سورة البقرة ،]185 :ويقول غريهم" :من تتبع ُّ
الرخص -أي األقوال ر
أمر -رق دينه" و "إن أخذت برخصة كل عامل اجتمع فيك الرش كله".
كام ر
ُيذر العلامء من زالت العلامء ،ومن التلفيق بني أقوال املجتهدين ،وهناك من جييز
التلفيق( ،)5كام أن هناك خالفا بني العلامء هل األ ْوَل األخذ بالرخصة أم بالعزيمة؟
هذه األسئلة وغريها سأحاول اإلجابة عليها يف هذا البحث إن شاء اهلل ،معتمدا عىل جهود
العلامء وأبحاثهم هبذا الصدد.
أكتم القارئ الكريم أنني تأثرت بم ْن ينادي بالتيسري وعىل رأسهم فضيلة الدكتور
ُّ وال
يوسف القرضاوي –حفظه اهلل -كام أنني يف الطرف املقابل سمعت نقدا هلذا املنهج،
فأحببت أن أبحث يف هذا املوضوع وأحيط به من جوانبه حتى تتضح الرؤية يل أوال ،ثم
أنقلها لغريي ثانيا ،فرأ يت من الرضورة امللحة الكتابة حول ضوابط الفتوى بالتيسري ،حتى
ال تكون قاعدة عامة دون ضوابط أو قيود!
( )5اإلتيان بكيفية ال يقول هبا جمتهد؛ وذلك بأن يل رفق يف قضية واحدة بني قولني أو أكثر.
3
كل صفة ،وهذا ال يعني أن اإلنسان ٍ
خال من الصفة املقابلة ،فالعقالين -مثال -ال خيلو من
ب متفاوتة ،وهكذا..عاطفة ،لكن عقله يغلب عاطفته بِنِس ٍ
والعلامء ال خيرجون عن هذه األنامط فكل عامل له شخصية خمتلفة ،ونمط الشخصية يؤثر
عىل ر
كل مناحي حياة اإلنسان ،ومنها :العلم واآلراء واألفكار ،فصاحب الشخصية املنفتحة
ِ
والفكرية كذلك ،واملتح رفظ تنعكس ِ
والعلمية جتد آراءه منفتحة ،واختياراته الفقهية
شخصيته عىل آرائه واجتهاداته وفتاويه..
ولعل من حكمة اهلل تعاَل أن ترك جانبا إنسانيا يف الترشيع يتوَل فيه البرش استنباط احلكم
ِ
أنامط وتنزيله عىل الواقع ،وجعل الفقهاء خمتلفني ،حتى تكون آراؤهم املختلفة تناسب كل
شخصيات البرش! فم ْن غلب عليه التح ُّفظ ر
والشدة وجد يف آراء العلامء ما يناسب نمط
تتسع دائرة الرشع لتشمل ِ ِ ِِ
شخصيته ،واملنفتح اليِّس جيد من االجتهادات ما يناسبه ،وهكذا ر
ِ
وأنواع ِهم ،واهلل تعاَل أعلم. ِ
أطياف الب ِ
رش كل
وكل ما يكون سببه تعصب الفقهاء لرأي أو مذهب فهو مندرج حتت هذا البند ،ألن نفسية
املتعصب ت ْأطره عىل التقليد ،وتطمس بصريته عن معاينة الدليل.
ر
أثر يف تغري األخالق واملزاج والنفسية ،ويف ذلك يقول ابن ٍ
مرض العضوي ٌ وقد يكون لل
اجع ْل بدل عجبك هبا شكرا لواهبك إِياها ِ
خصلة لك فيها ..ف ْ
حزم♫" :فضائلك ال ْ
رض وبالفقر وباخلوف وبالغضبوإشفاقا من زواهلا فقد تتغري ْاأل ْخالق احلميدة بِا ْمل ِ
وباهلرم..ولقد أصابتني عل ٌة شديدة ولدت عل ربوا يف الطحال شديدا ،فولد ذلك عل ِمن
الضجر ِ
وضيق اخللق وقلة الصرب والنز ِق أمرا حاسبت نفيس فيه ،إذ أنكرت تبدُّ ل خلقي،
واشتد عجبي من مفارقتي لط ْبعي"(.)8
وهذا موجو ٌد ومالحظ زمن النبي ☺ ،فبالنظر لطبيعة الصدر يق ◙ نلحظ غلبة اللني
والرمحة عىل شخصيته ،خالفا للفاروق ◙ فيغلب عليه احلزم والشدة يف احلق ،وقد
ظهر ذلك بجالء يف حادثة أرسى معركة بدر.
اس :فلام أرسوا ْاألسارى ،قال رسول اهللِ ☺ ِأل ِب بك ٍْر ،وعمر« :ما تر ْون ِيف قال ْابن عب ٍ
هؤال ِء ْاألسارى؟» فقال أبو بك ٍْر :يا نبِي اهللِ ،ه ْم بنو ا ْلع رم وا ْلع ِشري ِة ،أرى أ ْن ت ْأخذ ِمنْه ْم
ْل ْسال ِم ،فقال رسول اهللِ ☺« :ما ار ،فعسى اهلل أ ْن َيْ ِدَي ْم ل ِ ْ ِ
ِفدْ ية فتكون لنا قوة عىل ا ْلكف ِ
اب؟» ق ْلت :ال واللِ يا رسول اهللِ ،ما أرى ال ِذي رأى أبو بك ٍْر ،ول ِكنري أرى اخلط ِ
ترى يا ْابن ْ
رضب عنقه ،وُت ركنري ِم ْن فال ٍن -ن ِسيبا رضب أ ْعناقه ْم ،فتمكرن علِ ًّيا ِم ْن ع ِق ٍ
يل في ْ ِ أ ْن ُتكرنا فن ْ ِ
اديدها ،فه ِوي رسول اهللِ ☺ ما قال أبو ْضب عنقه ،ف ِإن هؤال ِء أ ِئمة ا ْلك ْف ِر وصن ِلِعمر -فأ ْ ِ
( )8األخالق والسري يف مداواة النفوس ،ابن حزم( ،دار اآلفاق اجلديدة ،بريوت ،ط1399 ،2ـه 1979 -م) ص71
5
بك ٍْر ،ومل َيو ما ق ْلت )9(»..ثم نزل الوحي مؤيدا رأي ِ
سيدنا عمر ◙ ،إن املتأمل لكال ر ْ ْ
املوقفني يلحظ أن نفسية كل واحد مل خترج عن اإلطار الرشعي ،بل كان الرشع ومصلحة
املسلمني مهيمنا عىل رأييهام(.)10
ُّ
وحل هذه املعضلة بالنسبة للمجتهد باتباع الدليل ،و حتري احلق ،والدوران مع األدلة حيثام
جيرد نفسه قدر املستطاع ،وجيتنب اهلوى ٍ
مسألة ما ْ
أن ر دارت ،فينبغي عىل الباحث يف
وحظوظ النفس.
أما بالنسبة لغري املجتهد :فينظر يف أدلة املجتهد ويف استدالالته ويتبع من كانت استدالالته
راجحة ،أما املقلد :فليس له إال أن يق رلد م ْن يثق بدينه وعلمه ،ممن وثقه العلامء ال رثقات.
ميِّسة، يقول الدكتور يوسف القرضاوي" :ال بد أن تتبِع الدليل ،ولكن املفتي ر
امليِّس روحه ر
روحه حممدية خمف رفة ،يضع عنهم اآلصار واألغالل التي كانت عليهم ،فهو يبحث عن
التيسري ،ويلمح دليل التيسري ،وال يلمحه املشدد أبدا"(.)11
أيِّس عىل
ويقول" :إننا أحوج ما نكون إَل التوسعة عىل الناس ،وهذا ما اخرتته لنفيس :أن ر
الناس يف الفروع عىل حني أشدد يف األصول.
وليس معنى هذا أن ألوي أعناق النصوص رغام عنها ألستخرج منها –كرها -معاين
وأحكاما تيِّس عىل الناس!
اد بِا ْملالئِك ِة ِيف غزْ و ِة بدْ ٍر ،وإِباح ِة ا ْلغنائِ ِم1385/3 ،
اإلمد ِ
( )9مسلم ،كتاب اجلهاد ،باب ْ ِ ْ
( )10ينظر :مقال :األثر النفيس عىل ترجيح الفقيه واجتهاد اإلمام وفتوى املفتي ،منيب العبايس ،مقال منشور عىل امللتقى
الفقهي للشبكة الفقهية عىل شبكة املعلومات.
( )11ينظر :فقه التيسري يف القرآن والرشيعة ،القرضاوي ،برنامج الرشيعة واحلياة ،تاريخ احللقة2010/6/13 :م ،نص
احللقة عىل موقع اجلزيرة اإللكرتوين.
6
كال ،فالتيسري الذي أعنيه :هو الذي ال يصادم نصا ثابتا حمكام ،وال قاعدة رشعية قاطعة ،بل
يسري مع النصوص والقواعد والروح العامة لْلسالم..
وعىل العموم :إذا كان هناك رأيان متكافئان ،أحدمها أحوط ،والثاين أيِّس ،فإين أوثر اإلفتاء
باأليِّس اقتداء بالنبي ☺ الذي «ما خ رري بني أمرين إال اختار أيِّسمها ما مل يكن إثام»( )12أما
األحوط :فيمكن أن يأخذ به املفتي يف خاصة نفسه ،أو يفتي به أهل العزائم واحلريصني عىل
االحتياط ،ما مل خيش عليهم اجلنوح للغلو"(.)13
وما أمجل هذه الكلمة املنهجية التي طاملا سمعناها وقرأناها لفضيلة شيخنا الدكتور يوسف
القرضاوي حفظه اهلل( :منهجي يف الفتوى التيسري ،ويف الدعوة التبشري) انطالقا من
احلديث الرشيف« :ي رِّسوا وال تع رِّسوا ،وب ررشوا وال تن رفروا»(.)14
( )12البخاري ،6126 ،كتاب األدب ،باب قوله ☺((يِّسوا وال تعِّسوا)) ،30/8 ،ومسلِم ،2327،كتاب الفضائل،
باب مباعدته ☺ لآلثام.1813/4 ،
( )13ينظر :الفتوى بني االنضباط والتسيب ،القرضاوي ،ص113
( )14البخاري ،69،كتاب العلم ،باب ما كان النبي ☺ يتخوهلم باملوعظة والعلم كي ال ينفروا ،25/1،ومسلِم،
،1734كتاب اجلهاد ،باب يف األمر بالتيسري وترك التنفري1359/3،
7
سمعت أكثر من مرة شيخنا الدكتور نور الدين عرت حفظه اهلل ،أنه كان ُيرص عىل زيارة
العالمة املقرئ الشيخ عبد العزيز عيون السود( ♫ )15يف مدينة محص ،استجابة لوصية
ِ
شيخه الشيخ عبد اهلل رسا ج الدين ♫ بزيارته ،وكان الدكتور نور الدين ي ْعجب من
فتاوى الشيخ امليِّسة -رغم ورع الشيخ عبد العزيز الشديد -ثم يقول لنا الدكتور نور
ِ
طالب العلم أن يأخذ نفسه بالورع ،ويفتي الناس بالي ِّْس". الدين" :فعىل
ويقول الشيخ سلامن عودة " :بعض الفقهاء يتحدث عن يِّس الرشيعة كمبدأ عام ،وقاعدة
كلية ،لكن هذا املعنى يغيب أو يكاد يف التطبيقات العملية ،ألنه يغلبهم حينئذ ما يف نفوسهم
من الورع ،واالحتياط وما اعتادوه يف حياهتم من الشدة ،وال يتصورون حجم املشقة
املرتتبة عىل املنع ،أو مقدار املفسدة احلاصلة به ،فيرتتب عىل ذلك أن كل أمر جديد غري
مألوف ،يدخل يف دائرة املنع واحلظر ،وأصبح اإلنسان يعلم أن هذا األمر سوف ي ْؤلف فيام
لكن ُيتاج الناس إَل سنوات حتى ي ْألفوه ،وهنا فرق بني األشياء التي
بعد ،ويصبح مقبوالْ ،
حرمها اهلل وعندنا فيها بينة :ﭧ ﭨ {ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ
( )15الشيخ عبد العزيز عيون السود ♫1335-1399( :ـه1979-1917/م) املقرئ ،املفِّس ،الفقيه ،املحدث،
اللغوي ،أمني اإلفتاء وشيخ القراء يف مدينة محص ،ومن تواضعه أنه كان يو رقع عىل رسائله بـ (املبتىل بأمانة اإلفتاء ومشيخة
القراء عبد العزيز عيون السود) ،قرأ عىل شيخ قراء دمشق الشيخ حممد سليم احللواين ،وشيخ القراء يف مرص الشيخ عل بن
حممد الضباع ،وشيخ قراء احلجاز الشيخ أمحد بن حامد التيجي ،حفظ كتب احلديث الستة وغريها ،وحمفوظاته من الشعر
كثرية تبلغ نحوا من ثالثة عرش ألف بيت يف العلوم املختلفة ،كان قليل املزاح ،كثري الذكر والتالوة والصالة ،مل تفتْه
اجلامعة مذ بلغ ،من مؤلفاته :رسالة يف املكاييل واألوزان الرشعية ومقارنتها باملوازين العرصية ،الكوائن يف الفتن
واملالحم ومل يكمله[ .من ترمجة تلميذه الدكتور أيمن سويد]
8
ونفسيته وثقافته الشخصية وما تربى عليه ،فيرتتب عىل ذلك مشكالت عويصة وكبرية،
تتطلب من العامل أن يكون ي ِقظا ،وليس ُّ
احلل هنا هو االنطالق من غري زمام وال معرفة،
وإنام املقصود التوازن واالعتدال واهلدوء يف النظر ،وأال يكون حكم اإلنسان يف األشياء
ف أو العادة ،أو عدم استحسان الذوق لبعض األشياء ،وإنام يفرق بنياإل ْل ِ
مبن ًّيا عىل عدم ِ
األشياء املحرمة الرصُية ،واألشياء التي ليس فيها حتريم رصيح ،وبني األشياء التي فيها
التحرز منها ،مما يسميه األصوليون:
ُّ يشق
مصالح للناس أو مفاسد ،وبني األشياء التي ُّ
(عموم البلوى) ،وبني أشياء يسهل جتنُّبها واخلالص منها ،إَل قواعد يعرفها الفقيه ،الذي
اشتهرت ِ
عن الفقهاء هذه ْ عنده فقه يف نفسه ومعرفته ،بحيث يكون يف دائرة االعتدال ،وقد
العبارة( :هذا القول أرفق بالناس)"(.)16
منهج البحث:
منهج البحث الذي سأتبعه يف بحثي فهو املنهج االستقرائي التحليل املقارن :القائم عىل
عرض أقوال العلامء القدماء واملعارصين ،حم رلال إياها ،مبتدئا بمواضع االتفاق ثم أدلتها ،ثم
مواضع االختالف ،حيث أقسم األقوال إَل ِفر ٍق بحسب اتفاقهم واختالفهم ،ثم أعرض
أدلة كل فريق ،ثم مناقشة األدلة ثم الرتجيح(.)17
( )16ينظر :مقال الدكتور سلامن العودة بعنوان( :ونيِّسك لليِّسى) منشور عىل موقع (اإلسالم اليوم) وغريه يف شبكة
املعلومات.
( )17بعض الفضالء يتحرج من كتابة كلمة( :تأليف فالن) عىل غالف الكتاب ،ويستبدهلا بكلمة( :بقلم فالن ،أو مجع
وترتيب فالن ،أو مجع وتنسيق فالن أو غريها من الكلامت) وذلك تواضعا منهم واعرتافا بفضل غريهم ممن نقلوا عنهم،
حيث مل يكن منهم إال اجلمع والتنسيق بني كالم غريهم من الباحثني السابقني والالحقني ،وهذا شعور مجيل وتواضع
حممود ،ولكن يل وجهة نظر يف هذا األمر :وهي أن معنى كلمة (تأليف) :ال يتعدى كونه مجعا وترتيبا ،يقول ابن منظور:
ض؛ و ِمنْه ْتألِيف ا ْلكت ِ
ب ،وأل ْفت الَّشء ْتألِيفا إِذا وص ْلت ب ْعضه بِب ْع ٍ ٍ ِ ِ
"أل ْفت ب ْينه ْم ْتأليفا إذا مج ْعت ب ْينه ْم ب ْعد تف ُّرق ،وأل ْفت ْ
بعض ،فالعلوم تنمو وتتكامل بالتدريج، ٍ الَّشء أي وص ْلته"[ .لسان العرب ،]10/9 ،ثم إن املؤلفني يعتمد بعضهم عىل
ٍ
باحث له سهم واجتهاد وإضافة، يأخذ الالحق كالم السابقني ويضيف عليه ،وهبذا يتكامل البناء املعريف وينموُّ ،
فكل
9
* لن أثقل البحث بنقل نصوص أقوال العلامء ،بل أذكر خالصة القول ثم األدلة ،ثم أذكر
املراجع يف اهلامش ملن أراد الرجوع إليها.
-أما ما تدعو احلاجة لذكره بالنص ،ألمهية املوضوع وجدليته ،أو لكونه ُيتاج إَل مناقشة
أو حتليل ،فأذكره بنصه.
* سأعتمد يف الرتجيح عىل النظر يف األدلة أوال ،مراعيا األنسب من اآلراء ،ملتزما باأليِّس
يف التطبيق ،من دون خروج عىل قواعد الرشيعة ومقاصدها.
* سأرجع يف معرفة املواضيع غري الرشعية إَل أهل االختصاص ألن "احلكم عىل الَّشء
تصو ِره".
فرع عن ُّ
ٌ
* سأعتمد عىل األحاديث واآلثار املقبولة عند أهل االختصاص ،مقترصا عىل الصحيح
واحلسن ،مكتفيا ِ
بذك ِْر الشيخ ْ ِ
ني (البخاري ومسلم) أو أحدمها للحديث يف صحيحيهام ،أما
سواه فسأجتهد يف البحث عن حكْمه (تصحيحا أو حتسينا أو تضعيفا) معتمدا عىل أهل
الفن يف ذلك(.)18
ر
نصيب" كام يقول علامؤنا ،وإن تفاوتوا بكمية اإلضافة ونوعيتها ،وهبذا يتفاوت العلامء ،وخيتلف ذلك أيضا ٍ
جمتهد ف ر
ـ"لكل
ٌ
ونظري ،فال ض ْري وال حرج من نقل املؤلف عن غريه ،بل ال مناص منه ،بل جيب ذلك! ويالم
ٍّ جتريبي
ٍّ حسب العلوم من
الباحث ْ
إن مل يعتمد عىل ما وصل إليه سابقوه ،ويبني عليه ويضيف بعدها ما أداه إليه اجتهاده ،فاملهم هو األمانة العلمية،
وتوثيق املعلومات ،ونسبتها ألصحاهبا ،هلذا كان من خطوات البحث العلمي التي ي ْلزم هبا الباحثون يف الرسائل العلمية
ِ
الكتاب ما فقرة ْضورية هي( :الدراسات السابقة) يذكرون فيها ما كتبه السابقون ،وما الذي سيضيفونه؟ وبالنهاية :فقيمة
بني دفتيه ،ال ما كتب عىل الغالف.
( )18اعتمدت عىل حتقيقات الشيخ األلباين ♫ وشيخنا الشيخ عبد القادر األرنؤوط ♫ والشيخ شعيب
األرنؤوط ،وهذا ال يروق لكثري من الناس ،وبخاصة ممن ال ينتمي للمدرسة السلفية ،ورغم أنني تربيت عىل كتب العالمة
الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ♫ ،وتعلمت مصطلح احلديث من فضيلة شيخنا الدكتور نور الدين عرت حفظه اهلل،
ومعلوم اختالف املدرستني! أقصد مدرسة األلباين واألرنؤوط مع مدرسة أبو غدة و العرت ،لكنني آثرت منهج االعتدال،
ِ
املدرستني. واالستفادة من كال
10
خطة البحث:
سأبدأ بالكالم عن املشقة ورفع احلرج ثم أذكر أسباب الرخص الرشعية ثم أبني معنى
الرخصة والعزيمة وأَيام أوَل؟ ثم أبني ضوابط العمل بقاعدة التيسري مبتدئا بالتلفيق ،ثم
حكم اتباع الرخص ومناهج الفتوى بني امليِّسين واملشددين ،ثم أختم ببيان ضوابط
الفتوى بالتيسري.
ٍ
فبتوفيق من اهلل تعاَل ،وما فيه من خطأ فمن وما كان يف هذا البحث من صواب
ٍ
حسن ،إنه أكرم مسؤول. نفيس( ،)19أسال اهلل أن جينبني الزلل ،وأن يتقبله منري بقبول
وقد قسمت الكالم يف ذلك ثالثة مطالب:
املطلب األول :املشقة وأسباب الرخص.
املطلب الثاين :الرخصة والعزيمة.
املطلب الثالث :ضوابط العمل بقاعدة التيسري.
يقول العالمة املغرب الدكتور فريد األنصاري رمحه اهلل" :ال ينبغي للطالب أن تعميه العصبيات املذهبية والطائفية عن
االستفادة من شيوخ العلم بشتى مشارهبم ومذاهبهم ،بل عليه أن جيمع بني االستفادة منهم مجيعا مهام اختلفوا هم فيام
بينهم ،فإنام هو طالب علم وجامع حكمة! يطلبها -إن كان عاقال– أنى وجدها.
فال ض ْري أن جيمع مثال بني االستفادة من مؤلفات العالمة أب الفيض أمحد بن الصديق الغامري ،أو أخيه العالمة عبد اهلل
بن الصديق؛ ومؤلفات العالمة حممد نارص األلباين ،وقد علم أن آل ابن الصديق والشيخ األلباين كانا عىل منهجني
متناقضني! وقد كانت بينه وبينهم –رمحة اهلل عليهم مجيعا– معارك ومساجالت.
ولك أنت –بعد التمكُّن من رشوط العلم واالجتهاد -أن تنظر لنفسك وآلخرتك ما تنتحله من املذاهب فقهيا وعقديا،
إنام املوفق م ْن وفقه اهلل".
ِ
انتهى من كتابه املفيد :مفهوم العاملِية من الكتاب إَل الربانية( ،منشورات رسالة القرآن ،مكناس ،املغرب ،ط،1
1427ـه2006/م) ص104
( )19للتواصل وإبداء املالحظات الربيد اإللكرتوين)Huzaifah78@hotmail.com) :
11
املطلب األول :املشقّة وأسباب الرُّخص الشّرعيَّة
من مبادئ الرشيعة العامة رفع احلر ِج ،واحلرج لغة :الضيق ،وما ال خمْرج له ،قال ابن
وضيقه( ،)20ويف االصطالح :احلرج:أصل واحد ..جتمع الَّشء ِفارس :احلاء والراء واجليم ٌ
ُّ
ما فيه مشقة فوق املعتاد.
ورفع احلرج :إزالة ما يف التكليف الشاق من املشقة برفع التكليف من أصله ،أو
خمرج(.)21
جيعل له ٌ بتخفيفه ،أو بالتخيري فيه ،أو ْ
بأن ْ
فرفع احلر ِج يتمثل يف إزالة ر
كل ما يؤ ردي إَل مشقة زائدة ،يف البدن أو النفس أو املال ،يف
واملآل ،وهو أصل من أصول الرشيعة ،ثبت بأدلة قطعية ال تقبل ِ ِ
واحلال البدْ ِء و ِ
اخلتا ِم،
احلن ِ
ْث فيها مع التكفري عنها. الشك( ،)22كرفع احلرج يف اليمني بإباحة ِ
الرخص فهي فرع كل من أصول الرشيعة ،ومقصد من مقاصدها ،أما ُّ فرفع احلرج أصل ٌّ
يندرج ضمن هذا األصل العام ،وجزء أ ِخذ من هذا الكل ،فرفع احلرج مؤداه يِّس التكاليف
يف مجيع أطوارها( ،)23وقبل بيان أسباب الرخص ال بد من الكالم عن املشقة التي تناط هبا
الرخص.
ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ } [سورة األحزاب:
لكن اهلل ﷻ بلطفه ومن ِره وحكمته وعلمه بضعف عباده ،جعل هذا التكليف يف
ِ
حدود ما يستطيعه اإلنسان من غري حر ٍج وال ع ْ ٍ
ِّس.
ٍ
تكليف بحسبه ،و هي متفاوتة، فال تكليف بدون مشقة ،و إن كانت املشقة احلاصلة ر
بكل
الرتخص دفعا لكل مشق ٍة ،ترتب عىل ذلك إسقاط ٍ
كثري من التكاليف الرشعية؛ ُّ فإذا جاز لنا
كل مشقوق عليه الرتخيص ،ضاع ٍ
مشغول ،و ر قال اإلمام ابن القيم ؒ" :لو جاز ر
لكل
ِ
الواجب واضمحل بالكلية"(،)28
( )24البخاري ،برقم ،6487:كتاب الرقاق ،باب حجبت النار بالشهوات ،102/8 ،ومسلِم ،بلفظ(( :حف ْت)) رقم:
،2823كتاب اجلنة وصفة نعيمها وأهلها ،بداية الكتاب.2174/4 ،
( )25ينظر :باب( :كلف) ،القاموس املحيط ،الفريوزآبادي ،198/3 ،تاج العروس من جواهر القاموس ،الزبيدي،
13
القسم األول :مشقة ال تنفك عنها العبادة غالبا :كمشقة الربد يف الوضوء ،ومشقة الصوم
احلر وطول النهار ،ومشقة السفر التي ال انفكاك للحج واجلهاد عنها ،ومشقة ألم
يف شدة ر
احلدود ،والرجم يف الزنا ،وقتل اجلناة ،فال أثر هلذا يف إسقاط العبادات يف كل األوقات.
القسم الثاين :املشقة التي تنفك( )29عنها العبادات غالبا :وهي عىل مراتب:
املرتبة األوَل :مشقة عظيمة وفادحة :كمشقة اخلوف عىل النفوس واألطراف ومنافع
األعضاء ،فهي موجبة للتخفيف والرتخيص قطعا.
املرتبة الثانية :مشقة خفيفة ال وقع هلا ،كأدنى وجع يف إصبع اليد والرجل ،وأدنى صداع
يف الرأس ،أو سوء مزاج خفيف ،فهذا ال أثر له يف التيسري يف األحكام.
املرتبة الثالثة :مشقة متوسطة بني هاتني املرتبتني :فام دنا وقرب من املرتبة األوَل أوجب
التخفيف ،أو من الثانية مل يوجب التخفيف ،وال ضابط هلذه املراتب إال بالتقريب
واالجتهاد(.)30
( )29يف املطبوع( :ال تنفك) لكن الصواب :بدون (ال) واهلل أعلم.
( )30ينظر :األشباه والنظائر يف قواعد فروع فقه الشافعية ،جالل الدين عبد الرمحن بن أبو بكر السيوطي( ،ت911:ـه)،
( )32صحيح ابن حبان ،برقم ،7219:باب ذكر اإلخبار عام وضع اهلل بفضله عن هذه األمة ،قال حمققه شعيب
األرنؤوط :إسناده صحيح عىل رشط البخاري ( ،)202/16وسنن ابن ماجه برقم ،2045:كتاب الطالق ،باب طالق
املكره والنايس ( ،)659/1واحلاكم يف املستدرك ،برقم ،2801 :وقال حديث صحيح عىل رشط الشيخني ومل خيرجاه
ووافقه الذهبي )199/2( ،وصححه األلباين يف إرواء الغليل ()124/1
( )33موطأ اإلمام مالك ،برقم ،13:كتاب الطهارة ،باب الطهور للوضوء ،)23/1( ،وأبو داود ،برقم ،75:كتاب
الرت ِمذي :حديث
الطهارة ،باب سؤر اهلرة ،)19/1( ،والرتمذي ،برقم ،92كتاب الطهارة ،باب ما جاء يف سؤر اهلرة ،قال ر ْ
حسن صحيح ،ووافقه أمحد شاكر ( )151/1والنسائي ،برقم ،68 :كتاب الطهارة ،باب سؤر اهلرة ،55/1 ،صحيح ابن
خز ْيمة برقم ،104 :باب الرخصة يف الوضوء بسؤر اهلرة ،قال حمققه د .حممد مصطفى األعظمي :إسناده صحيح()54/1
قال الشيخ عبد القادر األرنؤوط يف تعليقه عىل جامع األصول :وللحديث طرق وشواهد يرتقي هبا إَل درجة الصحيح،
( ،)102/7وصححه األلباين يف إرواء الغليل .192/1
( )34موطأ مالك ،16 ،كتاب الطهارة ،باب ما ال جيِب ِمنْه ا ْلوضوء ،)24/1( ،ومسند اإلمام أمحد ،برقم ،26488 :قال
اب ِيف ْاألذى ي ِصيب
حمققه شعيب األرنؤوط :حديث صحيح لغريه ( ،)90/44أبو داود ،برقم ،383 :كتاب الطهارة ،ب ٌ
15
وقال ﷺ« :إذا أتى أحدكم املسجد فلينظر يف نعليه ،فإن وجد فيهام أذى أو قذرا،
ر
وليصل فيهام»(.)35 فليمسحه
الرت ِمذي ،برقم ،143 :كتاب الطهارة ،باب ما جاء ِيف الوض ِ
وء ِمن ا ْمل ْوط ِإ ( )209/1قال الشيخ عبد الذ ْيل ،)104/1( ،و ر ْ
األلباين يف صحيح أب داود ،برقم.)234/2( 409:
ُّ القادر األرنؤوط :حديث صحيح بشواهده ،وصححه
( )35أبو داود ،برقم ،650 :كتاب الصالة ،باب الصالة يف النعل )175/1( ،وقال الشيخ شعيب أرنؤوط يف حتقيقه
جلامع األصول :إسناده صحيح ،)445/5( ،وصححه األلباين يف إرواء الغليل ()314/1
( )36لسان العرب ،ابن منظور.)40/7( ،
( )37ابن فارس 395 - 329( :ـه = 1004 - 941م) أمحد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي ،أبو احلسني ،من أئمة
اللغة واألدب ،قرأ عليه البديع اهلمذاين والصاحب ابن عباد وغريمها من أعيان البيان ،من تصانيفه( :مقاييس اللغة)،
(جامع التأويل) يف التفسري[ .ينظر :وفيات األعيان ،118/1 ،سري أعالم النبالء ،103/17األعالم ،الزركل]193/1 ،
( )38معجم مقاييس اللغة ،أبو احلسني أمحد بن فارس بن زكريا ،ت395:ـه( ،دار اجليل ،بريوت ،لبنان ،ط،1
1420ـه1999/م ،ت/عبد السالم حممد هارون) مادة( :رخص)500/2
( )39املستصفى ،الغزايل.63/1 ،
16
السبكي الشافعي(( )40ت)771 :؛ بقوله:و أوضح منه ما عرفها تاج الدر ين ُّ
ٍ
سهولة ويِّس ،لعذر اقتىض ذلك ،مع قيام سبب عي الذي غري من صعوبة إَل احلكم الرش ُّ
ف بسيط()42 احلكم األصل( .)41بترص ٍ
ُّ ر
( )40تاج الدين السبكي 771 - 727( :ـهـ = 1370 - 1327م) عبد الوهاب بن عل بن عبد الكايف السبكي ،أبو نرص،
قاِض القضاة ،الفقيه األصويل املؤرخ ،ولد يف القاهرة ،وانتقل إَل دمشق وتويف هبا ،نسبته إَل سبك (من أعامل املنوفية
بمرص) امتحن كثريا ،له( :طبقات الشافعية الكربى)( ،معيد النعم ومبيد النقم)( ،مجع اجلوامع)[ .ينظر :الدرر الكامنة
( )41ينظر :رفع احلاجب عن خمترص ابن احلاجب ،تاج الدين عبد الوهاب بن عل السبكي( ،دار الكتب ،بريوت ،ط،1
1419ـه1999/م ،ت/عل حممد معوض ،عادل أمحد عبد املوجود) (.)26/2
( )42اختاره الشيخ حممد األمني الشنقيطي (ت1393 :ـه) [ينظر :مذكرة الشيخ حممد األمني الشنقيطي يف أصول الفقه،
ص(.])60
17
النوع الثالث :تصحيح بعض العقود االستثنائية :التي مل تتوفر فيها الرشوط العامة
النعقاد العقد وصحته ،ولكن جرت هبا معامالت الناس وصارت من حاجاهتم ،كعقد
السلم ،فإنه بيع معدوم وقت العقد ،ولكن جرى به عرف الناس وصار من حاجاهتم،
وكذلك االستصناع واإلجارة وعقد الوصية ،فهذه كلها عقود إذا طبقت عليها الرشوط
العامة النعقاد العقود وصحتها يف العاقد واملعقود عليه ال تصح؛ ولكن الشارع رخص فيها
وأجازها سدا حلاجة الناس ودفعا للحرج.
لكن اإلمام الشاطبي يرى أن هذا النوع ال يسمى رخصة ،وإن كان يشرتك معها يف معنى
السهولة ورفع احلرج ،إال أنه خيالفها يف أن احلاجيات مل ترشع للرضورة ،بل هي أحكا ٌم
جزئي رشع للرضورة ،وتنتهي بزوال سببها ،فالفطر والقرص
ٌّ حكم
ٌ الرخصة
كلية ،بينام ُّ
بسبب السفر ،ينتهي العمل هبام بمجرد اإلقامة(.)43
النوع الرابع :نسخ األحكام التي كانت من التكاليف الشاقة عىل األمم قبلنا:
ﯵ ﯶ ﯷ } [سورة البقرة ،]286 :مثل التكليف بقرض موضع النجاسة من الثوب ،وأداء
ربع املال يف الزكاة ،وقتل النفس توبة من املعصية ،وعدم جواز الصالة يف غري املساجد ،إال
أن الشيخ (عبد الوهاب خالف)( )44يرى يف تسمية هذا النو ِع الرابع رخصة ُّ
توسعا(.)45
( )43لذلك سامها احلنفية( :رخص اإلسقاط) وسامها مؤلفو املوسوعة الفقهية الكويتية( :158/22 ،رخص جمازية)
وهناك من خالف هذا الرأي وأطلق عليها رخصة ،ينظر :املوافقات ،302/1 ،كشف األرسا ر ،البخاري ،641/1 ،هناية
السول ،اإلسنوي ،54/1 ،نرش البنود ،56/1 ،روضة الناظر ،174/1 ،رشح الكوكب املنري.480/1 ،
( )44عبد الوهاب خالف 1375 - 1305( :ـه = 1956 - 1888م) الفقيه ،األصويل ،املرصي ،كان أستاذ الرشيعة
اإلسالمية بكلية احلقوق جامعة القاهرة ،ومفتشا يف املحاكم الرشعية ،وأحد أعضاء جممع اللغة العربية يف القاهرة .له:
(أحكام الوقف يف الرشيعة االسالمية)( ،السياسة الرشعية أو نظام الدولة االسالمية يف الشؤون الدستورية واخلارجية
واملالية)( ،تاريخ الترشيع اإلسالمي)( ،االجتهاد والتقليد)[ .ينظر :األعالم للزركل]184/4 ،
18
النوع اخلامس :الرخص الفقهية( :رخص املذاهب الفقهية)(" :)46وهي ما جاء من
االجتهادات املذهبية مبيحا ألمر يف مقابلة اجتهادات أخرى حتظره"( ،)47حتى قيل:
اس وشدائِد ْاب ِ
ن عمر" فالرخص الفقهية ال عالقة هلا بالرخص الرشعية()48 "رخص ِ
ابن عب ٍ
التي تقابل العزيمة ،ألن الرخص الرشعية ال جدال يف األخذ هبا ،ألهنا مرشوعة بالكتاب
الرخصة
والسنة ،كام يف احلديث« :إن اهلل ُيب أن تؤتى رخصه»( ،)49وإنام املقصود هنا ُّ
ُّ
بمدلوهلا ال ُّلغوي( ،)50وهي السهولة ،وسيأيت معنا حكم تتبع ُّ
الرخص الفقهية.
مما سبق يتبني أن ترخيص الشارع للتخفيف عن املكلفني تارة بإباحة املحرم للرضورة،
أو بإباحة ترك الواجب للعذر ،وهي ترجع عند التحقيق إَل إباحة املحظور للرضورة أو
احلاجة ومها النوع األول والثاين.
والذي يؤخذ من النصوص أن الرخص كلها رشعت للرتفيه والتخفيف عن املكلف
ِ
قائامن ،ومعنى الرخصة :أنه ال إثم يف فعلها، بإباحة فعل املحرم ،وأن حكم احلظر ودليله
( )45وسامها احلنفية( :رخص اإلسقاط) وسامها مؤلفو املوسوعة الفقهية الكويتية( :رخص جمازية) [ينظر :علم أصول
الفقه ،عبد الوهاب خالف( ،ت1375:ـه) (الدار املتحدة ،دمشق ،ط1992 ،16م) ص ،122املوسوعة الفقهية الكويتية
ﮒ ﮓ } [سورة املائدة ،]3 :فللمكلف أن يتبع الرخصة ختفيفا عن نفسه ،وله أن يتبع
العزيمة حمتمال ما فيها من مشقة ،إال إذا كانت املشقة يناله من احتامهلا ْضر ،فإنه جيب عليه
اتقاء الرضر واتباع الرخصة لقوله تعاَل{ :ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ } [سورة البقرة.]195 :
ثانياً :العزمية:
تعريف العزيمة:
( )51ابن قدامة 620 - 541( :ـه = 1223 - 1146م) عبد اهلل بن حممد بن قدامة اجلامعيل(مجاعيل من قرى نابلس
بفلسطني) املقديس ثم الدمشقي احلنبل ،أبو حممد ،موفق الدين ،فقيه حنبل ،من مصنفاته( :املغني) رشح به خمترص
اخلرقي( ،روضة الناظر) ،يف أصول الفقه [البداية والنهاية ،99/13 ،املنهج األمحد ،148/4 ،املدخل إَل مذهب أمحد،
،413األعالم الزركل]67/4 ،
( )52روضة الناظر وجنة املناظر ،أبو حممد عبد اهلل بن أمحد بن قدامة املقديس ت( ،620:جامعة اإلمام حممد بن سعود،
الرياض ،ط1399 ،2ـه ،ت/د.عبد العزيز عبد الرمحن السعيد) 60/1
( )53ينظر :علم أصول الفقه ،عبد الوهاب خالف ،ص121
20
-1لغة :العرب تقول :عز ْمت األ ْمر ،وعز ْمت عليه وعزم عىل الرج ِل لي ْفعلن كذاْ ،
أي
أ ْقسم عليهِ ،
وقيل :أمره أ ْمرا ِجدًّ ا( ،)54وعزم ع ِزيمة وع ْزمة :اجتهد وجد يف أمره ،وع ِزيمة
اهلل فريضته التي افرتضها واجلمع (عز ِائم)(.)55
ٍ
راجح( .)56وال يسمى ٍ
معارض بدليل رشعي خ ٍ
ال عن ٍ ثابت
ٌ حكم -2اصطالحا:
ٍّ ٌ
احلكم عزيمة إال إذا قابلته رخصة( ،)57فهي ما رشعه اهلل أصالة من األحكام العامة ،التي
ال ختتص بحال دون حال ،وال بمكلف دون مكلف (.)58
( )55ينظر :املصباح املنري يف غريب الرشح الكبري ،أمحد بن حممد بن عل املقري الفيومي( ،املكتبة العلمية ،بريوت،
مصورة عن املطبعة األمريية ،القاهرة ،ط1922 ،5م ،ت/محزة فتح اهلل وحممد حسنني الغمراوي) (.)408/2
( )56رشح الكوكب املنري ،476/1 ،خمترص ابن اللحام ،67 ،روضة الناظر ،171/1 ،أصول البزدوي،299/2 ،
21
أن األخذ بالعزمية أَوْىل:
أ -أدلّة من يعتقد َّ
الرخصة فمحل اجتهاد ،واملقطوع
-1إن العزيمة هي األصل الثابت بالتكليف ،وأما ُّ
أوَل من املظنون.
خاص
ٌّ جزئي
ٌّ الرخصة فترشيع تكليف ر ٌّ
كل يشمل مجيع املكلفني يقينا ،وأما ُّ ٌ -2العزيمة
بأصحاب األعذار ،وال شك أن ر
الكل مقد ٌم عىل اجلزئي ،والعمل به أ ْحوط.
-3ورد يف الرشيعة نصوص كثري ٌة ُتدح املتمسكني بالدر ين ،رغم ما القوه من ٍ
عنت ْ ٌ
احلق سبحانه الصادقني والصابرين من ُّ ٍ
وجترب من أعداء الدر ين ،كأصحاب األخدود ،ومدح ُّ
ت◙ ام ِ
وثبات الصحابة ومعاهدهتم النبي ﷺ عىل ذلك ،فعن عبادة ب ِن الص ِ
ْ ْ
قال« :بايعنا رسول اهللِ ﷺ عىل السم ِع والطاع ِة ِيف املنْش ِ
ط وا ْمل ْكر ِه ،وأال نن ِ
ازع األ ْمر أ ْهله، ْ ْ
الئ ٍم»( ،)60وغريها كثري مما امتدح احل رق حيثام كنا ،ال نخاف ِيف اهللِ لومة ِ
وأ ْن نقوم أ ْو نقول بِ ْ
ْ ْ
به أهل العزائم.
-4األخذ بالعزيمة أكثر ثوابا وأعىل منزلة من األخذ بالرخصة(.)61
( )60البخاري ،رقم ،6774كتاب األحكام ،باب كيف يبايع اإلمام الناس.2633/6 ،
( )61ينظر :نظرية التكليف يف الرشيعة اإلسالمية ،د.زياد حممد محيدان ،البحث منشور يف موقعه اإللكرتوين الرسمي.
22
.4املشقة واحلرج غري مرادين للشارع احلكيم ،وما جيده املكلف من مشقة فهي غري
ترض باملكلف. ٍ
مقصودة ،وال ُّ
واحلرج واملشقة منافيان لروح الترشيع ،واعترب الرسول ﷺ املتشدر د مشادا هذا الدر ين،
وذم املتنطعني.
ِّس ،ول ْن يشاد الدر ين أحدٌ إِال
فع ْن أ ِب هر ْيرة ◙ ع ِن النبِ ري ﷺ قال« :إِن الدر ين ي ْ ٌ
اربوا وأبْ ِرشوا»(.)62
غلبه ،فسدر دوا وق ِ
بالرخصة ،عن ابن عباس .5كام طلب الرشع االلتزام بالعزيمة ،رغب يف األخذ ُّ
ب أ ْن ت ْؤتى ِ ِ
ب أ ْن ت ْؤتى رخصه كام ُي ُّ
¶ :أن رسول اهلل ﷺ قال« :إن اهلل ُ ي ُّ
عز ِائمه»(.)63
ِ ِ
ويف رواية عن ابن عمر ¶ قال :قال رسول اهلل ﷺ« :إِن الل ُي ُّ
ب أ ْن ت ْؤتى
رخصه كام يكْره أ ْن ت ْؤتى مع ِ
صيته»()64
ْ
ج -التّرجيح:
ال يمكن إطالق الرأي بالرتجيح املطلق بأفضلية األخذ بالرخصة دائام أو بالعزيمة!
رش تعرتيه عوامل القوة والضعف ،فإن وجد يف نفسه مهة عالية بحسب املراد منه، فاملكلف ب ٌ
أخذ بالعزيمة ،واحتسب ما جيده من مشق ٍة ،فاحلياة بطبيعتها الدينية والدنيوية ال ختلو من
الرخص.
ضعف برش ٌّي ،فسيجد يف الدر ين مالذا آمنا عرب ُّ
ٌ مشقة ،وأما إذا اعرتاه
( )63رواه ابن ِحبان يف صحيحه برقم ،354:وقال حمققه الشيخ شعيب األرنؤوط :إسناده صحيح ،69/2سنن البيهقي
( )64أمحد ،5873 ،قال حمققوه :حديث صحيح ،112/10 ،وابن خز ْيمة ،2027 ،باب استحباب الفطر يف السفر،
،259/3قال حمققه حممد مصطفى األعظمي :إسناده حسن ،وابن ِحبان ،2742 ،باب املسافر ،451/6 ،قال شعيب
األرنؤوط :إسناده قوي ،وحسنه اهليثمي يف جممع الزوائد ،382/3وصححه األلباين يف اإلرواء.9/3 ،564 ،
23
الرخص ُيدث بسببه اخلروج عن مقتىض األمر
الشاطبي" :كام أن اترباع ُّ
ُّ ويف ذلك يقول
بالرخص ُيدث بسببه اخلروج عن مقتىض
والنهي ،كذلك اتباع التشديدات ،وترك األخذ ُّ
الرخص
بأوَل من اآلخر ،واملتبع لألسباب املرشوعة يف ُّ
األمر والنهي ،وليس أحدمها ْ
الرخص ،وليس أحدمها
والعزائم سواء ،فإن كانت غلبة الظن يف العزائم معتربة كذلك يف ُّ
أحرى من اآلخر ،ومن فرق بينهام فقد خالف اإلمجاع" (.)65
ْ
ثم قال" :وينبني عليه أن األولوية يف ترك الرتخص ،إذا تعني سببه بغلبة ظ ٍّن أو قطعٍ،
ظن،
وقد يكون الرتخص ْأوَل يف بعض املواضع ،وقد يستويان ،وأما إذا مل يكن ثمة غلبة ٍّ
فال إشكال يف منع الرت ُّخص" (.)66
24
اإلتيان بكيفية ال يقول هبا جمتهد؛ وذلك بأن يل رفق يف قضية واحدة بني قولني أو أكثر،
يتولد منهام حقيق ٌة مركب ٌة ال يقول هبا أحد األئمة(.)67
وذلك بأن جيمع بني تقليد إمامني أو أكثر يف فعل له أركان ،أو جزئيات هلا ارتباط
ببعضها ،لكل منهم حكم خاص كان موضع اجتهادهم وتباين آرائهم ،فيقلد أحدهم يف
حكم جزئية ،ويقلد آخر يف حكم جزئية أخرى ،فيتم الفعل من حيث التقليد ملفقا بني
مذهبني أو أكثر(.)68
( )67ينظر :عمدة التحقيق يف التقليد والتلفيق ،حممد سعيد الباين ،ص91
( )68ينظر :تبصري النجباء بحقيقة االجتهاد والتقليد والتلفيق واإلفتاء ،د.حممد إبراهيم احلفناوي( ،دار احلديث ،القاهرة،
ط1415 ،1ـه1985/م) ،ص.262
( )69كمن تزوج امرأة بال ويل وال شهود مق رلدا أبا حنيفة يف عدم اشرتاط الوالية ،ومق رلدا اإلمام مالكا يف عدم اشرتاط
الشهادة بذاهتا واالكتفاء بإعالن الزواج.
وكالذي قلد أبا حنيفة حيث أباح النبيذ الذي ال يسكر ،والشافعي حيث قال :النبيذ واخلمر يش ٌء واحدٌ ،فلفق من القولني
قوال نتيجته إباحة اخلمر!!
25
قوهلم بمنع التلفيق يعارض ما قرره أكثر العلامء؛ وهو أنه ال جيب تقليد إمام معني ،أو
االلتزام بمذهب معني يف مجيع املسائل ،بل جيوز له أن يقلد أي جمتهد شاء ،ألنه ال واجب
إال ما أوجبه اهلل ورسوله ،فقد أوجب الشارع اتباع أهل العلم ،ﭧ ﭨ { ﭚ ﭛ
فمن مل يكن ملتزما بمذهب معني جاز له التلفيق ،وإال أدى إَل بطالن عبادات
العوام(.)70
وذلك ألن الدر ين اإلسالمي مبني عىل اليِّس والسهولة ورفع احلرج ،ﭧ ﭨ { ﯗ ﯘ
( )72البخاري ،7288 ،كتاب االعتصام ،باب اإلقتداء بسنن رسول اهلل ﷺ )94/9( ،
ومسلِم ،برقم ،1337:كتاب احلج ،باب فرض احلج مرة يف العمر (.)975/2
( )73تبصري النجباء ،احلفناوي ص ،274نقال عن عمدة التحقيق ،الباين ،ص ،127ونقل عنه د.وهبة الزحيل ،أصول
الفقه .1151/2
27
-3أن ال يؤدي إَل نقض ما عمل به تقليدا يف واقعة واحدة.
-4أن ال خيل بأحد ضوابط األخذ بالرخص(.)74
-5أن ال يؤدي إَل خمالفة اإلمجاع أو ما يستلزمه(.)75
واخلالصة :ضابط جواز التلفيق وعدم جوازه؛ أن كل ما أدى إَل خمالفة دعائم الرشيعة
وحكمتها فهو حمظور ،وبخاصة احليل التي يتوصل هبا إَل والقضاء عىل سياستها ِ
املحظورات ،وأن كل ما يؤيد دعائمها ،ويصون ما تتطلبه سياستها ِ
وحكمتها إلسعاد الناس
مطلوب رشعا(.)76
ٌ يف الدارين،
بعد أن عرفنا معنى التلفيق وأنواعه وحكمه وضوابطه ،نبدأ ببيان حكم تتبع الرخص:
( )74وهي :ال جيوز األخذ برخص املذاهب الفقهية ملجرد اهلوى ،ألن ذلك يؤدي إَل التحلل من التكليف ،وإنام جيوز
األخذ بالرخص بمراعاة الضوابط التالية:
أ -أن تكون أقوال الفقهاء التي يرتخص هبا معتربة رشعا ومل توصف بأهنا من شواذ األقوال.
ب -أن تقوم احلاجة إَل األخذ بالرخصة ،دفعا للمشقة سواء كانت حاجة عامة للمجتمع أم خاصة أم فردية.
ج -أن يكون اآلخذ بالرخص ذا قدرة عىل االختيار ،أو أن يعتمد عىل من هو ٌ
أهل لذلك.
د -أال يرتتب عىل األخذ بالرخص الوقوع يف التلفيق املمنوع.
ـه -أال يكون األخذ بذلك القول ذريعة للوصول إَل غرض غري مرشوع.
و -أن تطمئن نفس املرتخص لألخذ بالرخصة.
( )75من مقررات جممع الفقه اإلسالمي ،يف دورته الثامنة يف 7 -1حمرم 1414ـه املوافق 27-21حزيران (يونيو)
1993م ،جملة املجمع (العدد الثامن .)41/1
( )76ينظر :أصول الفقه ،الزحيل ،1152/2 ،و تبصري النجباء ،احلفناوي ،ص.274
28
كل مذهب ما هو األهون عليه( ،)77أي :أن يأخذ املكلف من ر
كل اختيار املرء من ر
مذهب ما هو األيِّس عليه فيام يقع له من املسائل(.)78
افعي)325/6( ،
ركَّش الش ُّ
ُّ ( )77ينظر :البحر املحيط ،بدر الدر ين الز
( )78ينظر :رشح املحل عىل مجع اجلوامع بحاشية البناين)400/2( ،
( )79املستصفى ،204/2حاشية البناين عىل املحل ،217/2 ،املوافقات ،81/5 ،أصول الفقه ،الزحيل،1153/2 ،
فتاوى عليش ،58/1املدخل إَل مذهب أمحد ،ص ،195اإلحكام يف ُتييز الفتاوى عن األحكام القرايف ،ص ،79تبصري
النجباء ،ص.285
( )80املستصفى ،الغزايل .204/2
( )81مجع اجلوامع مع حاشية البناين .217/2
( )82الشوكاين 1250-1173( :ـه = 1834 - 1760م) حممد بن عل الشوكاين الصنعاين ،املجتهد الفقيه األصويل
املفِّس القاِض من كبار علامء اليمن ،من كتبه :نيل األوطار( ،فتح القدير) يف التفسري ،إرشاد الفحول ،البدر الطالع
29
وأهل مكة يف املتعة كان فاسقا( ،)83وقال ابن النجار( :)84أنه ُيرم عىل العامي تتبع الرخص
الرخص أحد من علامء املسلمني(.)85
ويفسق به ،ألنه ال يقول بإباحة مجيع ُّ
عن إسامعيل القاِض( )86قال" :دخلت عىل املعتضد( )87فرفع إيل كتابا ألنظر فيه ،وقد
مجع فيه الرخص من زلل العلامء ،وما احتج به ٌّ
كل منهم ،فقلت :مصنف هذا زنديق .فقال:
ألم تصح هذه األحاديث؟ .قلت :بىل ،ولكن من أباح املسكر مل ِ
يبح املتعة ،وما من عامل إال
وله زلة ،ومن مجع زلل العلامء ثم أخذ به ذهب دينه .فأمر املعتضد بإحراق ذلك
ُيمل عىل تت ُّبع شواذ العلامء وزالهتم وهو مذموم اترفاقا.
الكتاب"( ،)88لكن هذا ْ
الشهري بابن النجار :فقيه حنبل مرصي ،له( :منتهى اإلرادات يف مجع املقنع مع التنقيح وزيادات) فقه حنبل ،رشح
الكوكب املنري املسمى بمخترص التحرير[ .ينظر :خمترص طبقات احلنابلة للشطي ،87كشف الظنون ،1853/2األعالم،
الزركل]6/6 ،
األزدي ،موالهم البرصي ،أبو إسحاق ،الفقيه املالكي ،احلافظ ،قاِض بغداد ،وصاحب التصانيف ،نرش مذهب مالك
بالعراق ،له( :املسند)( ،املوطأ)( ،أحكام القرآن) وألف كتابا يف الرد عىل حممد بن احلسن صاحب أب حنيفة ،وألف يف
علوم القرآن والقراءات[ .ينظر :تاريخ بغداد ،284/6 :سري أعالم النبالء]339/13 ،
( )87املعتضد باهلل 289 - 242( :ـه = 902 - 857م) أمحد بن طلحة بن جعفر ،أبو العباس املعتضد باهلل بن املوفق
باهلل بن املتوكل ،خليفة عبايس ،كان شجاعا ،ذا عزم ،مهيبا عند أصحابه يتقون سطوته ويك ُّفون عن الظلم خوفا منه،
حتى قيل" :قامت الدولة بـ (أب العباس) وجددت بـ (أب العباس) أي :السفاح واملعتضد ،كان ُيج ويغزو وجيالس
املحدر ثني وأهل الفضل والدر ين[ .ينظر :شذرات الذهب ،ابن العامد ،197/6 ،األعالم للزركل]64/2 ،
( )88ينظر :سري أعالم النبالء ،465/13 ،البداية والنهاية ،87/11 ،إرشاد الفحول ،الشوكاين ،ص.453
30
وعن ابن عبد الرب( :)89أنه الجيوز للعامي تتبع الرخص إمجاعا ()90؛ وحكى ابن حزم
كل عامل، ِ
برخصة ر اإلمجاع عىل حرمة تتبع الرخص( ،)91وقال سليامن التيمي(" :)92لو أخذت
الرش ك ُّله"(.)93
اجتمع فيك ُّ
أدلّة املانعني لتتبّع الرّخص:
( )89ابن عبد الرب 463 - 368( :ـه = 1071 - 978م) يوسف بن عبد اهلل بن حممد بن عبد الرب النمري القرطبي
املالكي ،أبو عمر ،من كبار حفاظ احلديث ،مؤرخ ،أديب ،حافظ املغرب ،من كتبه( :االستيعاب)( ،جامع بيان العلم
وفضله)( ،التمهيد ملا يف املوطأ من املعاين واألسانيد)[ .ينظر :بغية امللتمس يف تاريخ رجال أهل األندلس ،الضبي،
( )90قال د.وهبة الزحيل :ال نسلم بصحة هذا النقل عنه ،ولو سلم فال نسلم بصح ِة اإلمجاع[ .الفقه اإلسالمي وأدلته،
]103/1
( )91قال ابن حزم رمحه اهلل" :واتفقوا أن طلب رخص كل ت ْأ ِويل بِال كتاب وال سنة فسق ال ُيل" [مراتب اإلمجاع ،ابن
لقاض أن ُيكم بِام ي ْشت ِهي ِمما ذكرنا ِيف قص ٍة ،وبِام ْ
اشتهى ِمما ٍ حزم ،ص ،]175وقال "واتفقوا عىل أنه ال ُيل ٍ
ملفت وال
خيالف ذلِك احلكم ِيف أخرى مثلها ،وإن كان كال ا ْلق ْول ْ ِ
ني ِمما قال بِ ِه مجاعة من ا ْلعلامء ،ما مل يكن ذلِك لرجوع عن خطأ الح
له ،إَل صواب بان له" [مراتب اإلمجاع ،ص ،]51قال الباحث :مقصوده بالقول ْ ِ
ني :أي اللذين أفتى هبام املفتي أو قىض هبام
القاِض.
( )92سليامن التيمي( :ت143 :ـه) سليامن بن طرخان التيمي (نزل يف بني تيم ،فقيل :التيمي) البرصي ،أبو املعتمر،
عابد أهل البرصة ،املحدث ،الورع ،الصائم القائم ،قال شعبة" :ما رأيت أحدا أصدق من سليامن التيمي كان إذا حدث
عن النبي ☺ تغري لونه" ،وقال محاد بن سلمة" :ما أتينا سليامن التيمي يف ساعة يطاع اهلل فيها إال وجدناه مطيعا ،وكنا
نرى أنه ال ُيسن يعيص اهلل"[ .ينظر :الوايف بالوفيات ،241/15 ،سري أعالم النبالء]195/6 ،
( )93حلية األولياء وطبقات األصفياء ،أبو نعيم األصفهاين ،)32/3( ،وجامع بيان العلم وفضله ،ابن عبد
ربه( ،)122/2هتذيب الكامل ،يوسف بن عبد الرمحن املزي( ،املتوىف742 :ـه) ،)11/12( ،سري أعالم النبالء ،الذهبي،
()198/6
31
الرخص م ْي ٌل مع أهواء الناس ،والشارع هنى عن اتباع اهلوى ،ﭧ ﭨ { ﭪ
-1تتبع ُّ
[سورة ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ } [سورة النساء ،]135 :وﭧ ﭨ { ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ}
القصص]50:
-2أمر اهلل تعاَل برد املتنازع فيه إَل الرشيعة ال إَل أهواء النفوس ،وﭧ ﭨ { ﰀ
ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ}
[سورة النساء ،]59 :وتتبع الرخص ذريعة إَل ترك اتباع الدليل.
قال الشاطبي" :إن يف مسائل اخلالف ضابطا قرآنيا ينفي اتباع اهلوى مجلة ،وهو قوله
تعاَل { :ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ} [سورة النساء ،]59 :وهذا املق رلد قد تنازع يف
مسألته جمتهدان؛ فوجب ردها إَل اهلل والرسول ،وهو الرجوع إَل األدلة الرشعية ،وهو أبعد
من متابعة اهلوى والشهوة؛ فاختياره أحد املذهبني باهلوى والشهوة مضاد للرجوع إَل اهلل
والرسول ..وأيضا فإن ذلك يفيض إَل تتبع رخص املذاهب من غري استناد إَل دليل رشعي،
فسق ال ُيل"(.)94
وقد حكى ابن حزم اإلمجاع عىل أن ذلك ٌ
الرخص يؤدي إَل إسقاط ٍ
كثري من التكاليف الرشعية يف كل مسألة خمتلف فيها، -3تتبع ُّ
ٍ
طريقة( ،)95حتى قيل: ٍ
عزيمة شاقة ،ويسعى للتحلل منها بأي فم ْن اعتاد الرتخص يرى كل
الرخص سقط ثلثا دينه".
"من تتبع ُّ
-4عن عائشة ▲ قالت« :قال رسول اهلل ﷺ :ما خ رري عام ٌر بني أمرين إال اختار
ويف لفظ« :أرشدمها» فثبت هبذين اللفظني للحديث أن الرشد يف األخذ أشدمها»()96
( )101رشح املنتهى ،457/33 ،واملجموع ،النووي ،46/1وصفة املفتي ،ابن محدان ص.31
33
-7القواعد الرشعية التي تؤيد األخذ باألحوط وهي :فعند اخلالف األ ْوَل االحتياط،
من عز عليه دينه تورع ،ومن القواعد التي
باخلروج من اخلالف ،بالتزام األشد األقوى ،فإن ْ
ترجح االحتياط:
ر
-إذا تعارض احلاظر واملبيح قدر م احلاظر.
ِ
األصلني يؤخذ باأل ْحوط. -عند تعارض
-اخلروج من اخلالف مستحب.
-8أما ما ورد يف التحذير و التنفري من (التشديد والتعسري واملشاقة والتنطع ،والتعمق)
-و ما إَل ذلك -عىل النفس واآلخرين ،فهو حممول عىل ما كان فيه جماوز ٌة للمرشوع،
كالوصال يف الصيام ،فهو مما هني عنه ،وإن كان مقدورا عليه بدون مشقة ،بخالف الصوم
املرشوع ،فال يسقط عمن وجب عليه ،حتى وإن ثبتت مشقته ،ما دام مقدورا عليه (.)102
قال ابن تيمية ؒ" :التشديد تارة يكون باختاذ ما ليس بواجب ،وال مستحب،
بمنزلة الواجب واملستحب يف العبادات ،و تارة باختاذ ما ليس بمحرم وال مكروه ،بمنزلة
املحرم واملكروه يف الطيبات" (.)103
و قال ابن القيم ؒ" :هنى النبي ﷺ عن التشديد يف الدر ين ،و ذلك بالزيادة عىل
املرشوع ،و أخرب أن تشديد العبد عىل نفسه هو السبب لتشديد اهلل عليه؛ إما بالقدر ،و إما
بالرشع؛ فالتشديد بالرشع كام يشدد عىل نفسه بالنذر الثقيل ،فيلزمه الوفاء به ،و بالقدر
ْ
كفعل أهل الوسواس ،فإهنم شددوا عىل أنفسهم ،فشدر د عليهم القدر ،حتى استحكم ذلك،
و صار صفة الزمة هلم"(.)104
( )102نقض دعاوى من استدل بيِّس الرشيعة عىل التيسري يف الفتاوى ،د.أمحد بن عبد الكريم الرشيف( ،ط،1
1423ـه )2002/ص.14
( )103اقتضاء الرصاط املستقيم يف خمالفة الكفار أهل اجلحيم ،ابن تيمية.103/1 ،
( )104إغاثة اللهفان ،ابن القيم .132/1
34
الرخص فيه مفاسد كثرية:
-9تتبع ُّ
أبان الشاطبي يف كالم مسهب مايرتتب عىل مبدأ األخذ باأليِّس من مفاسد منها:
الضالل يف الفتوى ،بمحاباة القريب أو الصديق ،يف تتبع رخص املذاهب اتباعا للغرض
والشهوة ،واالدعاء بأن االختالف حجة عىل اجلواز أو اإلباحة ،حتى شاع بني الناس
االعتامد يف جواز الفعل عىل كونه خمتلفا فيه بني أهل العلم ،والتخ ُّلص من األحكام الرشعية
بأخف القولني ،ال بأثقلهام ،مع أن التكاليف كلها شاقة
ر وإسقاطها مجلة ،عمال بمبدأ األخذ
ثقيلة!!
وكاالنسالخ من الدين برتك اتباع الدليل إَل اتباع اخلالف ،وكاالستهانة بالدر ين إذ يصري
سياال ال ينضبط ،وكرتك ماهو معلوم إَل ماليس بمعلوم ،للجهل بأحكام املذاهب
األخرى ،وكانخرام قانون السياسة الرشعية ،برتك انضباط معيار العدالة بني الناس،
وشيوع الفوىض واملظامل ،وضياع احلقوق ،وتعطيل احلدود ،واجرتاء أهل الفساد ،وكإفضاء
ذلك إَل القول بتلفيق املذاهب عىل وجه خيرق إمجاعهم ،وغري ذلك من املفاسد.
( )105فواتح الرمحوت برشح مسلم الثبوت ،عبد العل حممد بن نظام الدين األنصاري (هبامش املستصفى للغزايل ،طبعة
دار األرقم بن أب األرقم ،)655/2 ،املستصفى ( 204/2طبعة دار إحياء الرتاث) ،رشح املحىل عىل مجع اجلوامع
،217/2إرشاد الفحول ،ص ،354 -353رسم املفتي يف حاشية ابن عابدين ،1/69 :الفوائد املكية للسقاف :ص52
35
وقد وقع يف أذهان بعض الناس أن الرشيعة تعني الزجر واملنع والنهي ،حتى صاروا
يظنُّون أن فقه العامل هو يف تشديده عىل الناس ،وكثرة التحريم عنده ،وأن هذا دليل عىل
الورع والتقوى!
وصار آخرون إذا سمعوا مبيحا ملا اعتادوا حتريمه ،طالبوه بالدليل واحلجة ،وقالوا إنه
حمرما وافقوه وأقروه ،ومل يطالبوه بحجة ،وال وصموه
ليس من أهل االجتهاد ،وإذا سمعوا ر
الرتبة ،حتى لو كان عاميا أو حدثا بالسن ،وكأن االجتهاد يلزم لْلباحة
بالتقارص عن ُّ
حق ر
لكل أحد. فحسب ،أما التحريم فهو ٌّ
الرخصة من ثقة ،وأما التشديد
يقول سفيان الثوري(" :ؒ )106إنام العلم عندنا ُّ
فيحسنه ُّ
كل أحد"(.)107
وبعض املتفقهني كلام أشكل عليه يشء ،أخذ باأل ْحوط وشق عىل الناس ،وأن تأخذ
باألحوط لنفسك فهذا ال بأس به ،لكن أن تأخذ الناس باألحوط ؛ فهذا يوقعهم يف ألوان
من احلرج واملشقة عظيمة ،وتكون قد احتطت لنفسك بالتضييق عىل الناس! وال شك أن
حتليل احلرام كتحريم احلالل.
واستدلّوا بعدة أدلّة منها:
أ -القرآن الكريم :املقصود اآليات القرآنية التي تتحدث عن اليِّس ورف ِع احلرج قال :
( )106س ْفيان الثوري 161 - 97( :ـه = 778 - 716م) سفيان بن سعيد بن مِّسوق الثوري ،أبو عبد اهلل ،كويف ،من
تابعي التابعني ،أحد األئمة املجتهدين ،أمري املؤمنني يف احلديث ،له من الكتب (اجلامع الكبري) و (اجلامع الصغري) كالمها
يف احلديث ،من كالمه" :ما حفظت شيئا فنسيته"[ .ينظر :طبقات الفقهاء ،الشريازي ،84 ،األعالم ،الزركل]185/3 ،
( )107جامع بيان العلم وفضله ،يوسف بن عبد الرب النمري( ،ت463:ـه)( ،دار الكتب العلمية ،بريوت1398 ،ـه)،
،36/2آداب الفتوى واملفتي واملستفتي ،النووي (ت( ،)676:دار الفكر ،دمشق ،ط1408 ،1ـه ،ت/بسام عبد الوهاب
اجلاب)38/1 ،
36
ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ } [سورة املائدة ]6:و ﭧ ﭨ { ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ
وُيض
ُّ الرفق
السنّة الفعليّة والقوليّة :فالنبي ﷺ كان ُيب األخف واأليِّس ويمدح ر
بُّ -
عىل التخفيف يف الصالة ويعلم املسلمني اجلدد مقترصا عىل أهم الفرائض ،ويكره التشديد
والتنطع:
-1قالت عائشة ▲« :ما خري رسول اهلل ﷺ بني أمرين قط إال اختار أيِّسمها ،ما مل
ب ما خي رفف عنْه ْم »(.)111 ِ
يكن إثام»( ،)110وقالت ▲ « :وكان ُي ُّ
( )108الشعبي 103 - 19( :ـه = 721 - 640م) عامر بن رشاحيل بن عبد ذي كبار ،الشعبي احلمريي ،أبو عمرو،
تابعي من الكوفة ،فقيه ،شاعر ،يرضب املثل بحفظه[ .ينظر :هتذيب التهذيب ،65/5سري أعالم النبالء،294/4 ،
( )109رشح السنة ،البغوي ،391/14 ،الفقيه واملتفقه ،اخلطيب البغدادي ،برقم ،1219باب التوثق باستفتاء اجلامعة،
قال حمققه عادل بن يوسف العزازي :إسناده صحيح431/2 ،
( )110البخاري ،6126 ،كتاب األدب ،باب قوله ☺((يِّسوا وال تعِّسوا)) ،30/8 ،ومسلِم ،2327،كتاب
الفضائل ،باب مباعدته ☺ لآلثام ،1813/4 ،املوطأ ،1603،كتاب حسن اخللق ،باب ماجاء يف حسن اخللق902/2،
ت ون ْح ِوها ،121/1 ،ولفظه :عن رص ِمن ا ْلفوائِ ِ
( )111البخاري ،590 ،كتاب مواقيت الصالة ،باب ما يصىل ب ْعد ا ْلع ْ ِ ْ
عائِشة▲ قال ْت :وال ِذي ذهب بِ ِه ما تركهام حتى ل ِقي الل وما ل ِقي الل تعاَل حتى ثقل ع ْن الصال ِة ،وكان يص رل كثِريا
يهام ِيف ا ْمل ْس ِج ِد خمافة أ ْن يث رقل عىل أمتِ ِه وكان
يهام وال يص رل ِ
رص وكان النبِ ُّي ﷺ يص رل ِ اعدا ت ْعنِي الركْعت ْ ِ
ني ب ْعد ا ْلع ْ ِ ِمن صالتِ ِه ق ِ
ْ
ب ما خي رفف عنْه ْم. ِ
ُي ُّ
37
ب إَِل اهللِ؟ قال: ِ اس ¶ قالِ :قيل لِرس ِ ِ
ول الل ﷺ :أ ُّي ْاأل ْديان أح ُّ ع ِن ْاب ِن عب ٍ
ِّس ول ْن يشاد الدر ين أحدٌ إِال غلبه وع ْن أ ِب هر ْيرة ع ْن النبِ ري ☺ قال «إِن الدر ين ي ْ ٌ
يش ٍء ِم ْن الدُّ ْجل ِة» (.)113 ِ ِ اربوا وأب ِرشوا و ِ
استعينوا بِا ْلغدْ وة والر ْوحة و ْ
ْ ْ فسدر دوا وق ِ
( )112مسند اإلمام أمحد ،2107 ،قال حمققوه :صحيح لغريه ،)16/4( ،وصحح األلباين يف الصحيحة لفظ(( :بعثت
باحلنيفية السمحة)) برقم ،1022/6 ،2924قال السندي :احلنيفية :أي امللة املنسوبة إَل إبراهيم ♠ يريد دين
اإلسالم ،فإنه يشارك دين إبراهيم يف كثري من الفروع مع االحتاد يف األصول ،والسمحة :التي تسهل عىل النفوس.
يفية الس ْمحة.16/1 ، ين إَِل اللِ ْ
احلنِ ِ
ِّس وق ْول النبِ ري ☺ أح ُّ
ب الدر ِ ( )113البخاري، 39 ،كتاب اإليامن ،باب الدر ين ي ْ ٌ
( )114مسند اإلمام أمحد ،284/25 ،15936 ،قال حمققوه :إسناده حسن ،الطرباين ،املعجم الكبري،230/18 ،573 ،
قال صاحب جممع الزوائد :رواه الطرباين يف الكبري ورجاله رجال الصحيح.664/3 ،
ب وعقوب ِة م ْن عَص إِمامه وقال الل ف ِيف ْ
احل ْر ِ ( )115البخاري ،3038 ،كتاب اجلهاد ،باب ما يكْره ِمن التناز ِع و ِاال ْختِال ِ
ْ
تعاَل {وال تنازعوا فت ْفشلوا وت ْذهب ِرُيك ْم} ،65/4ومسلِم ،1733 ،كتاب اجلهاد ،باب يف األمر بالتيسري وترك التنفري،
1359/3
( )116البخاري ،69،كتاب العلم ،باب ماكان النبي ☺ يتخوهلم باملوعظة والعلم كي ال ينفروا ،25/1،ومسلِم،
،1734كتاب اجلهاد ،باب يف األمر بالتيسري وترك التنفري1359/3،
تعِّسوا)) وكان ُيب التخفيف واليِّس عىل
( )117البخاري ،6128 ،كتاب األدب ،باب قول النبي ☺(( :يِّسوا وال ر
الناس.30/8 ،
38
الرفق ال يكون يف يشءإِال
-2وقد ندب النبي ☺ إَل الرفق يف أحاديث كثرية منها« :إِن ر
زانه ،وال ينْزع ِمن يشء إِال شانه » (.)118
ب أ ْن ت ْؤتى رخصه كام يكْره أ ْن ت ْؤتى م ْع ِصيته»(.)119 ِ
-3ويقول ﷺ« :إِن الل ُي ُّ
ِ
-4وهذا واضح ُتام الوضوح ،يف هدْ ي النبي ☺ يف تعليمه اإلسالم ملن يدخل فيه،
فهو ال يك رثر عليه الواجبات ،وال يثقله بكثرة األوامر والنواهي ،وإذا سأله عام يطلبه
اإلسالم منه ،اكتفى بتعريفه بالفرائض األساسية ،ومل يغرقه بالنوافل ،فإذا قال له الرجل :ال
أ ِزيد عىل هذا وال أنْقص منه ،قال« :أ ْفلح إِ ْن صدق أ ْو دخل ْ
اجلنة إِ ْن صدق»(.)120
-5كام أمر ﷺ األئمة بالتخفيف يف الصالة وعدم تطويل قراءهتا ،وهو أمر استحباب،
وذلك الختالف أحوال املأمومني؛ ألن فيهم الضعيف ،واملريض ،والعاجز.
بل رأيناه ﷺ يشدر د النكري عىل من يطيل عىل الناس ،وال ي ِ
راعي ظروفهم املختلفة ،كام
فعل مع بعض الصحابة الذين كانوا يؤ ُّمون الناس ،ويطيلون يف الصالة ،طوال اشتكى منه
بعض مأموميهم ،حتى قال ملعاذ« :يا معاذ أفت ٌ
ان أنْت ثالثا»(.)121
وعن أب مسعود األنصاري :أن رجال قال :واهلل يا رسول اهلل ،إين ألتأخر عن صالة
الغداة من أجل فالن ،مما يطيل بنا! فام رأيت رسول اهلل ﷺ يف موعظة أشد غضبا منه
الصيام كام كتِب عىل ال ِذين ِم ْن ق ْبلِك ْم لعلك ْم تتقون} ،24/3 ،ومسلِم ،11 ،كتاب اإليامن ،باب بيان الصلوات التي هي
ر
أحد أركان اإلسالم.40/1 ،
( )121البخاري،6106 ،كتاب األدب ،باب من مل ير إكفار من قال ذلك متأوال أو جاهال،26/8 ،
39
وج ْز ف ِإن ِف ِيه ْم يومئذ ،ثم قال« :يا أ َُّيا الناس إِن ِمنْك ْم من رف ِرين فأيُّك ْم ما صىل بِالن ِ
اس ف ْلي ِ
احلاج ِة»(.)122
ا ْلكبِري والض ِعيف وذا ْ
ف ف ِإن ِمنْه ْم الض ِعيف والس ِقيم وا ْلكبِري وإِذا وقالﷺ «إِذا صىل أحدك ْم لِلن ِ
اس ف ْليخ رف ْ
صىل أحدك ْم لِن ْف ِس ِه ف ْليط رو ْل ما شاء»(.)123
-6وكان النبي ﷺ أشد ما يكون إنكارا للتشديد إذا كون اجتاها ،وتبناه مجاعة ،ومل يكن
جمرد نزعة فردية عارضة ،وهذا ما نالحظه يف إنكاره عىل الثالثة الذين اختذوا خ ًّطا يف التع ُّبد
40
ج -عمل الصحابة :كان الناس يف عهد الصحابة ،يسألوهنم ويستفتوهنم وال يلتزمون
بصحاب دون سواه ،كام أن املجتهدين الراسخني ،كانوا يكرهون محل الناس عىل مذهبهم،
العبايس أبو جعفر املنصور ،عىل اإلمام مالك أن ُيمل الناس عىل كتابه
ُّ فقد عرض اخلليفة
وهذا من قبيل عدم وجوب تقليد إمام معني ،أو االلتزام ذلك()129 املوطأ ،فأبى مالك
بمذهب ما.
-ويناقش :هذا االستدالل بأنه ال ُّ
يدل عىل تتبع الرخص ،وإنام غاية ما فيه جواز عدم
التزام ٍ
مفت واحد يف ر
كل املسائل.
هـ -مشروعية احلِيَل الشرعية ائاائزة( :)130وما هي سوى االنتقال من حكم صعب إَل
أيِّس منه ،وقد عقد اخلطيب البغدادي( ؒ )131بابا يف كتابه (الفقيه واملتفقه) سامه (باب
التمحل يف الفتوى) ،فقال" :متى وجد املفتي للسائل خمرجا يف مسألته ،وطريقا يتخلص به،
ُّ
أرشده إليه ونبهه عليه ،كرجل حلف أال ينفق عىل زوجته وال يطعمها شهرا ،أو شبه هذا،
فإنه يفتيه بإعطائها من صداقها ،أو د ْين هلا عليه ،أو يقرضها ثمن بيوهتا ،أو يبيعها سلعة
( )128رشح السنة ،البغوي ،)391/14( ،شعب اإليامن ،أبو بكر أمحد بن احلسني البيهقي (ت ،)458:برقم( 1049دار
الكتب العلمية ،بريوت ،ط1،1410ـه ،ت/حممد السعيد بسيوين زغلول) ،20/2 ،الطبقات الكربى ،حممد بن سعد،
(ت( ،)230:دار صادر ،بريوت) ،220/7 ،ورواه ابن عدي يف الكامل بلفظ " :كان من أدركت من أصحاب النبي ☺
أكثر ممن فاتني فلم أر قوما أهون سرية وال أقل تشديدا منهم" الكامل يف ضعفاء الرجال ،ابن عدي69/5 ،
( )129ينظر :ترتيب املدارك وتقريب املسالك ملعرفة أعالم مذهب مالك ،القاِض عياض بن موسى اليحصبي السبتي
األندليس( ،ت( ،)544:دار الكتب العلمية ،بريوت،ط1418 ،1ـه1998/م ،ت/حممد سامل هاشم) 101/1
أفضل تسميتها بـ (احللول الرشعية) وبعضهم يسميها( :املخارج الرشعية) بدال من ِ
(احليل) ملا يوحيه ( )130وإن كنت ر
(احليل) بمعنى ٍ
يسء. لفظِ :
( )131اخلطيب البغدادي 463 - 392( :ـه = 1072 -1002م) أمحد بن عل بن ثابت البغدادي ،أبو بكر ،املعروف
باخلطيب ،أحد احلفاظ املؤرخني ،ولوعا باملطالعة والتأليف ،من كتبه( :تاريخ بغداد)( ،الكفاية يف علم الرواية)( ،اجلامع
ألخالق الراوي وآداب السامع)( ،الفقيه واملتفقه)[ .ينظر :طبقات الشافعية ،12/3سري أعالم النبالء،270/18 ،
41
وينوَيا من الثمن ،وقد قال اهلل تعاَل أليوب ♠ ملا حلف أن يرضب زوجته مئة ،ﭧ
شافعي من أصحاب الوجوه ،تفقه بأب حامد املروروذي ،وتفقه عليه القاِض املاوردي صاحب احلاوي ،له( :اإليضاح
يف املذهب) ،وكتاب يف القياس والعلل ،وكتاب صغري يف أدب املفتي واملستفتي[ .ينظر :سري أعالم النبالء،14/17 ،
( )138لعل السبب يف هذه الرتجيحات( :عدم وجوب التزام مذهب فقهي ،وجواز التلفيق برشوطه ،وجواز تتبع
اجلو الفقهي املتشدد الذي كان يسود الشام ،وهو التعصب املذهبي،
الرخص للحاجة )..التي رجحها الدكتور وهبةُّ :
واألخذ بالورع واألحوط ،واالقتصار عىل املعتمد والراجح يف املذهب ،فجاء كتابه ردة فعل عىل هذه الروح التي كانت
اإلسالمي وأدلته ،واهلل تعاَل أعلم.
ُّ سائدة ،كام يظهر من مقدمة كتابه :الفقه
( )139الفقه اإلسالمي وأدلته ،الزحيل)103/1( ،
44
آخر()140 النبي ﷺ بالال إَل بيع التمر بدراهم ثم يشرتي بالدراهم ُترا وأرشد
ُّ
فيتخلص من الربا ،فأحسن املخارج ما خلص من املآثم ،وأقبح ِ
احلي ِل ما أوقع يف املحارم أو
أسقط ما أوجبه اهلل ورسوله من احلق الالزم(.)141
السياس ِة الرشعية ،ال ِذي يقوم عىل ا ْلعدال ِة ٍ
وإِ ْن أ ْفتى كل أحد بِام ي ْشت ِهي انْخرم قانون ر
اس. احلق ِ
وق ب ْني الن ِ والتس ِوية ،وهذا يؤدي إَِل ا ْلفوىض وا ْملظ ِ
املِ وت ْض ِيي ِع ْ ْ ر ْ
فالقول بجواز تتبع الرخص ،مثل القول بجواز التلفيق ،فال يقال بجواز تتبعها مطلقا،
ألن ذلك يؤدي إَل حل رباط التكاليف ،والعبث بالدر ين( ،)142وال يقال أيضا بمنعه مطلقا،
ألن الرشيعة اإلسالمية مبنية عىل اليِّس والتخفيف ،بل نقول بجواز تتبع الرخص عند
الرضورة واحلاجة ،ولتحقيق املصالح ودفع املفاسد إن وجدت ،مع مراعاة رشوط وضوابط
األخذ بالرخصة.
( )140احلديث :رواه مسلِم يف صحيحه برقم ،1594كتاب املساقاة ،باب بيع الطعام مثال بمثل )1215/3( ،ولفظه:
((م ْن أيْن هذا؟)) فقال بِال ٌلُ " :ت ْ ٌر كان ِعنْدنا ر ِدي ٌء ،فبِ ْعت ِمنْه صاع ْ ِ
ني جاء بِال ٌل بِتم ٍر بر ِين ،فقال له رسول اهللِ ﷺِ :
ْ ْ ٍّ
الربا ،ال ت ْفع ْل ،ول ِك ْن إِذا أر ْدت أ ْن ت ْش ِرتي الت ْمر فبِ ْعه ِ ِ ِ
بِصا ٍع لـِم ْطع ِم النبِ ري ﷺ ،فقال رسول اهلل عنْد ذلك(( :أو ْه ع ْني ر
اش ِرت بِ ِه)).
بِب ْي ٍع آخر ،ثم ْ
( )141إعالم املوقعني ،ابن القيم142/6 ،
( )142أهم مواضع اخللل عند تطبيق قاعدة التيسري:
-1عدم جعل واسطة بني الرتخيص والتشديد.
-2قرص النظر يف التيسري عىل املصالح الدنيوية.
-3جعل التيسري مقصد املقاصد.
-4اخللل يف تقدير املشقة.
-5إمهال قاعدة املآالت وسد الذرائع.
-6اخللط بني الثابت واملتغري.
-7تقديم العقل عىل النقل ،واملصلحة عىل النص.
-8قياس املفتي عىل العامي.
-9أخذ قواعد التيسري عىل إطالقها من غري نظر إَل القيود والضوابط.
45
وحتى ال يكون اتباع الرخص بالتشهي واهلوى ال بد من ضوابط تضبط األخذ
بالرخص:
( )143ينظر :مقررات جممع الفقه اإلسالمي الدويل املنعقد يف دورة مؤُتره الثامن ببندر سريي بيجوان ،بروناي دار
السالم من 7 – 1حمرم 1414ـه املوافق 27 – 21حزيران (يونيو) 1993م.
وترصفات القاِض واإلمام ،أمحد بن إدريس القرايف (ت684:ـه)( ،دار
ُّ ( )144اإلحكام يف ُتييز الفتاوى عن األحكام
البشائر ،بريوت ،ط ،1995/1416 ،2بعناية عبد الفتاح أبو غدة ؒ) ص.92
( )145إعالم املوقعني ،ابن القيم4/222 ،
( )146أي :أن يتقيد األخذ باأليِّس يف مسائل الفروع الرشعية االجتهادية الظنية ،أي القضايا العملية التي ثبتت أحكامها
بطريق ظني أغلبي ،التي ليس فيها نص قطعي ،أو إمجاع أو قياس جل.
( )147لتتمكن فيه عواقب األنظار ،ويتحصل له العلم اليقيني بثبوت املسألة ،وقد ذكر رشط التدوين ابن حجر وغريه
من الشافعية ،ضمن رشوط التقليد عموما ،وبالتايل تصلح هذه الرشوط لبحثنا ،وهو األخذ بأيِّس املذاهب[ .وهبة
46
الرخصة من غري تتبع ،بل عند احلاجة إليها يف
قال الشيخ عليش( :)150أما التقليد يف ُّ
بعض األحوال خوف فتنة ونحوها ،فله ذلك(.)151
ِ
املعارض ،فال جيوز اإلفتاء به -3أال خيالف اإلمجاع أو النص أو القياس اجلل السامل عن
وال نقله للناس ،بل لو قىض القاِض عىل خالف هذه املسائل الثالث جلاز نقضه ،فكام ال
الزحيل نقال عن الفوائد املكية ،فيام ُيتاجه طلبة الشافعية ،من املسائل والضوابط والقواعد الكلية ،للسيد علوي بن أمحد
السقاف ،طبعة الباب احللبي :ص]51
ُّ
وشذوا هبا عن مجهور ( )148شواذ العلامء :هي الرخص التي قال هبا آحاد العلامء ،مع ضعف دليلهم أو استدالهلم جدا،
العلامء ،فهي (زالت العلامء) يف اجتهاداهتم ،وتسمى( :األقوال الشاذة) ،وقد نفر من اتباعها العلامء ،قال اإلمام الذهبي:
"ومن تتبع رخص املذاهب ،وزالت املجتهدين ،فقد رق دينه ،كام قال األوزاعي أو غريه :من أخذ بقول املكيني يف املتعة،
والكوفيني يف النبيذ ،واملدنيني يف الغناء ،والشاميني يف عصمة اخللفاء ،فقد مجع الرش"[ .ينظر :سري أعالم النبالء ،الذهبي،
.] ،90/8
وعرف د.وهبة الزحيل (القول الشاذ) بقوله :هو الذي ضعف مدْ ركه جدا[ .الفقه اإلسالمي وأدلته ،الزحيل،
(])130/1
قال سليامن التيمي :إن أخذت برخصة كل عامل اجتمع فيك الرش كله.
وقال إبراهيم بن أب علية :من تتبع شواذ العلم ضل.
وقال األوزاعي :من أخذ بنوادر العلامء خرج عن اإلسالم.
وقال إبراهيم بن أدهم :إذا محلت شاذ العلامء محلت رشا كثريا .
وقال عمر ◙ :ثالث َيدمن الدر ين؛ زلة العامل ،وجدال املنافق بالقرآن ،وأئمة مضلون.
( )149ينظر :مقررات جممع الفقه اإلسالمي فقرة (أ -ج) ،الدورة الثامنة ،الفقه اإلسالمي وأدلته ،وهبة الزحيل،
5214/7
( )150الشيخ علِ ْيش 1299 - 1217( :ـه = 1882 - 1802م) حممد بن أمحد بن حممد عليش ،أبو عبد اهلل :فقيه
مالكي ،من أعيان املالكية ،ويل مشيخة املالكية يف األزهر ،من تصانيفه( :فتح العل املالك يف الفتوى عىل مذهب اإلمام
مالك ) وهي فتاويه( ،منح اجلليل عىل خمترص خليل)[ .ينظر :إيضاح املكنون ذيل كشف الظنون 271/1 ،شجرة النور
( )151فتاوى الشيخ حممد عليش(ت1299:ـه) ،املسامة :فتح العل املالك يف الفتوى عىل مذهب اإلمام مالك( ،دار
املعرفة)60/1 ،
47
يتقرر إذا صدر عن احلكام ،كذلك ال يصح التقليد فيه إذا صدر عن املفتي ،وُيرم اتباعه
فيه(.)152
-4أال يرتتب عىل األخذ باأليِّس معارضة مقاصد الترشيع أو مصادر الرشيعة القطعية،
أو أصوهلا ومبادئها العامة ،وأال يؤدي إَل مفسدة تفوق املصلحة املتوخاة ،وأال يكون
األخذ بذلك القول ذريعة للوصول إَل غرض غري مرشوع( ،)153كتحليل حرام أو حتريم
حالل ،قال ابن القيم" :الجيوز للمفتي تتبع احليل املحرمة واملكروهة"(.)154
-5أال يؤدي األخذ باأليِّس إَل التلفيق املمنوع()155؛ ومر معنا الكالم عن التلفيق(.)156
ِ
حقوق -6أال يكون فيام ينبغي التشديد فيه كأن يكون يف اإلفتاء باأليِّس تعطيل
اآلخرين ،ألن حقوق العباد مبنية عىل املشاحة ،وأال يكون املستفتي م ْق ِدما عىل الفعل
املنهي عنه فعندها ي ْزجر عنه ،وال يلتمس له القول األخف! ،كام مر عن ابن عباس
¶ ،أنه سئل عن توبة القاتل ،فقال( :ال توبة له) ،وسأله آخر ،فقال( :له توب ٌة) ،ثم
قال( :أما األول فرأيت يف عين ِ ِه إرادة القتل ،فمن ْعته ،وأما الثاين فجاء مستكينا قد قتل فلم
أقنر ْطه)"( ،)157ومثال األخذ باألشد :إقامة احلد عىل السارق من بيت املال ،وخزينة الدولة
( )152انظر :الفروق ،القرايف( ،ت684:ـه) ،109/2 ،نفائس األصول يف رشح املحصول ،القرايف.8418/9 ،
اإلحكام يف ُتييز الفتاوى عن األحكام ،القرايف ،ص ،128تبرصة احلكام يف أصول األقضية ومناهج األحكام ،حممد بن
فرحون اليعمري املالكي70/1 ،
( )153ينظر :مقررات جممع الفقه اإلسالمي ،جملة املجمع ،العدد الثامن 48/1
( )154إعالم املوقعني ،ابن القيم4/222 ،
( )155ذكر هذا الرشط ابن حجر وغريه من الشافعية ،ضمن رشوط التقليد عموما ،وبالتايل تصلح هذه الرشوط لبحثنا،
وهو األخذ بأيِّس املذاهب[ .وهبة الزحيل نقال عن الفوائد املكية فيام ُيتاجه طلبة الشافعية من املسائل والضوابط
والقواعد الكلية ،للسيد علوي بن أمحد السقاف ،طبعة الباب احللبي :ص ،51وينظر :مقررات جممع الفقه اإلسالمي ،جملة
املجمع ،العدد الثامن ]41/1
( )156ينظر :الفصل األول ،املبحث الثالث ،املطلب الثالث.
( )157ينظر :املجموع ،النووي86/1 ،
48
ومال الوقف ،أخذا برأي اإلمام مالك ،وهو املوافق لالجتاه العام يف التشديد عىل عقوبة من
يعتدي عىل األموال العامة ،ومثل ذلك األخذ بالقول األشد يف وصول عقوبة التعزير إَل
القتل يف اجلرائم الكربى ،كالتجسس واخليانة واملتاجرة باملخدرات ،وهو قول أب حنيفة
ومالك وأيده ابن تيمية رمحهم اهلل(.)158
فالواجب أن ينظر املفتي إَل مآالت ونتائج فتواه ،وأن تكون الغاية من األخذ باأليِّس
احلفاظ عىل مقاصد الرشيعة ،والتزام سياستها وحكمتها الترشيعية ،ورعاية مصلحة الناس
كافة(.)159
أخريا :
جيب عىل املستفتي االحتياط لدينه ،ولذلك يرى اإلمام الشاطبي أنه جيب عىل املقلد
الرتجيح بني أقوال املذاهب باألعلمية وغريها ،واتباع الدليل األقوى ،ألن أقوال
املجتهدين بالنسبة إَل املقلدين كاألدلة املتعارضة بالنرسبة إَل املجتهد ،فكام جيب عىل
املجتهد الرتجيح أو التوقف عند تعادل األدلة ،كذلك املقلد (.)160
أما املفتي فيجب عليه مراعاة الوسطية واالعتدال يف الفتوى ،بعيدا عن اإلفراط
والتفريط ،والتشديد والتساهل ،مع أن األخذ بالتخفيف والتيسري أوَل من األخذ بالتشديد
والتعسري يف اإلفتاء ،وبخاصة إذا كان هذا التيسري يف حمله ،حيث يرى املفتي حاجة الناس
إليه ،نظرا لظروفهم ،أما باب الورع واالحتياط ،فهو باب واسع يمكن أن يأخذ اإلنسان به
والسنة عىل أن التيسري ِ
نفسه دون فرضه عىل اآلخرين ،فقد دلت النصوص من الكتاب ُّ
ب إَل اهلل وإَل رسوله ﷺ ،لكن مع مراعاة الضوابط الرشعية لذلك.
والتخفيف أح ُّ
******
التدرج يف الترشيع والتطبيق يف الرشيعة اإلسالمية ،د.حممد مصطفى الزُّ حيل ،ص114
( )158ينظرُّ :
( )159الفقه اإلسالمي وأدلته ،الزحيل)125/1( ،
( )160املوافقات ،الشاطبي155-132/4 ،
49
اخلامتة وأهم النتائج والتوصيات
ويف ختام هذا البحث ُيسن هنا أن أشري إَل مجلة من النتائج والتوصيات:
-1جيب التمييز بني الرخص الرشعية والرخص الفقهية ،فالرخص الرشعية املرتبطة
بأسباهبا ،ال خالف حول األخذ هبا عند وجود أسباهبا ،أما الرخص الفقهية فهي حمل بحثنا.
-2الرخصة الرشعية :هي ما رشع من األحكام لعذر ،مع قيام السبب املحرم ،ولوال العذر
لثبتت احلرمة.
ٍ
راجح ،واملعارض الراجح هو ٍ
معارض بدليل رشعي ٍ
خال عن ٍ ثابت
حكم ٌ -3العزيمة:
ٍّ ٌ
الرخصة ،ولذلك ال يسمى احلكم عزيمة إال إذا قابلته رخصة.
ُّ
-4األصل يف التكليف من حيث هو تكليف؛ أال خيلو عن قدر من املشقة ،لكن اهلل
ِّس. ِ
حدود ما يستطيعه اإلنسان من غري حر ٍج وال ع ْ ٍ بلطفه بعباده ،جعل هذا التكليف يف
-5أقسام املشاق :القسم األول :مشقة ال تنفك عنها العبادة غالبا ،وهذه ال تناط هبا
الرخص.
ُّ
القسم الثاين :املشقة التي تنفك عنها العبادات غالبا :وهي عىل مراتب:
املرتبة األوَل :مشقة عظيمة وفادحة
املرتبة الثانية :مشقة خفيفة ال وقع هلا
املرتبة الثالثة :مشقة متوسطة بني هاتني املرتبتني :فام دنا وقرب من املرتبة األوَل أوجب
التخفيف ،أو من الثانية مل يوجب التخفيف ،وال ضابط هلذه املراتب إال بالتقريب
واالجتهاد
-6أسباب الرخص الرشعية :كل سبب أدى إَل احلرج جعله اهلل عذرا يف التخفيف
والتحول من التشدد إَل التيسري ،ومن العزيمة إَل الرخصة ،وأهم هذه األعذار التي جعلت
ُّ
50
سببا للتخفيف عن العباد :املرض ،والسفر ،واإلكراه ،والنسيان ،واجلهل ،والعِّس وعموم
البلوى.
-7أَيام أوَل األخذ بالرخصة أم العزيمة :ال يمكن إطالق الرأي بالرتجيح بأفضلية األخذ
رش تعرتيه عوامل القوة والضعف ،فإن وجد يف نفسه بالرخصة دائام أو بالعزيمة! فاملكلف ب ٌ
برشي ،فسيجد
ٌّ ضعف
ٌ مهة عالية أخذ بالعزيمة ،واحتسب ما جيده من مشق ٍة ،وأما إذا اعرتاه
الرخص.
يف الدر ين مالذا آمنا عرب ُّ
-8التلفيق :اإلتيان بكيفية ال يقول هبا جمتهد؛ وذلك بأن يل رفق يف قضية واحدة بني قولني أو
أكثر ،يتولد منهام حقيق ٌة مركب ٌة ال يقول هبا أحد األئمة.
-9حكم التلفيق :اختلف العلامء يف حكم التلفيق عىل ثالثة أقوال ،بناء عىل تصورهم
لتطبيقات التلفيق ،فمن نظر إَل تطبيقاته املنكرة منعه ،ومن نظر إَل اجلائز منها أجازه ،ومن
نظر للنوعني فصل وهو الراجح ،فكل ما أدى إَل خمالفة دعائم الرشيعة والقضاء عىل
سياستها وحكمتها فهو حمظور ،كاحليل التي يتوصل هبا إَل املحظورات ،وأن كل ما يصون
مطلوب رشعا. ِ
الناس يف الدارين، ِ
إلسعاد ما تتطلبه سياستها وحكمتها
ٌ
الرخصة بمدلوهلا اللغوي ،وهي السهولة ،واملراد هبا
-10الرخص الفقهية :املقصود هبا هنا ُّ
عىل التحديد (رخص املذاهب الفقهية) أي :القول األسهل يف التطبيق من بني أقوال العلامء
اس وشد ِائد ْاب ِن عمر". املختلفة ،حتى قيل" :رخص ِ
ابن عب ٍ
-11اختلف العلامء يف حكم تتبع رخص املذاهب (القول األيِّس منها) عىل ثالثة أقوال:
املنع واجلواز والتوسط (وهو الراجح) حيث نظروا إَل مقصد القائلني باملنع ومقصد
القائلني باجلواز ،ألن القول باملنع سد لذريعة االنحالل من التكاليف ،والعبث بالرشيعة،
والقول باجلواز مراعاة ملقصد الرشيعة يف التيسري ،لذلك جاء تفصيلهم تفريقا بني املقبول
واملرفوض من تتبع الرخص ،ووضعوا رشوطا وضوابط لألخذ بالرخصة ،لدرء
الرخص.
املحظورات التي قد تنجم عن تت ُّبع ُّ
51
-12ال جيوز تت ُّبع الرخص يف كل الوقائع بالتشهي واهلوى ،وإنام يف بعض املسائل التي فيها
مشقة غري معتادة.
-13ال جيوز اتباع زالت العلامء وهي الرخص التي قال هبا آحاد العلامء ،وكان دليلهم
ضعيفاُّ ،
وشذوا هبا عن مجهور العلامء.
-14جيب مراعاة الوسطية واالعتدال يف الفتوى ،بعيدا عن اإلفراط والتفريط ،والتشديد
والتساهل ،مع أن األخذ بالتخفيف والتيسري أوَل من األخذ بالتشديد والتعسري يف اإلفتاء،
وبخاصة إذا كان هذا التيسري يف حمله ،حيث يرى املفتي حاجة الناس إليه ،نظرا لظروفهم.
-15باب الورع واالحتياط ،باب واسع يمكن أن يأخذ اإلنسان به نفسه دون فرضه عىل
اآلخرين ،أو يفتي به أهل العزائم واحلريصني عىل االحتياط ،ما مل خيش عليهم اجلنوح
للغلو.
ب إَل اهلل وإَل ِ
والسنة عىل أن التيسري والتخفيف أح ُّ
-16دلت النصوص من الكتاب ُّ
رسوله ﷺ ،لكن مع مراعاة الضوابط الرشعية لذلك.
-17ضوابط التيسري (األخذ بالرخص الفقهية):
ُّ
للرتخص أ -عدم تتبع الرخص بالتشهي واهلوى ،بأن توجد الرضورة أو احلاجة الداعية
دفعا للمشقة غري املعتادة.
ب -أن تكون املسألة مما يسوغ فيها االجتهاد واالختالف ،وأن يكون االجتهاد من أهله -
ممن يوثق بدينه وعلمه -بناء عىل ترجيح ،واستنادا عىل دليل ،وأن يكون الرأي– إذا كان ملن
سبق -مدونا ،وأن يعرف املفتي رشوط من يقلده وقيوده ،وأال يكون مما يسمى شواذ
العلامء ،وأن تطمئن ن ْفس املستفتي هلذا القول.
ج -أال خيالف اإلمجاع أو النص أو القياس اجلل السامل عن املعارض.
52
د -أال يرتتب عىل األخذ باأليِّس معارضة مصادر الرشيعة القطعية ،أو أصوهلا ومبادئها
العامة ومقاصد الترشيع ،وأال يؤدي إَل مفسدة تفوق املصلحة املتوخاة ،وأال يكون األخذ
بذلك القول ذريعة للوصول إَل غرض غري مرشوع ،كتحليل حرام أو حتريم حالل.
ـه -أال يؤدي األخذ باأليِّس إَل التلفيق املمنوع.
هذا واحلمد هلل الذي بنعمته تتم الصاحلات وله الشكر واملنة أوال وآخرا ويف كل وقت
وحني.
53
الفهرس
املقدمة2.................................................................................
نفسية املفيت وشخصيتِه على اختياراتِه الفقهية3...........................................
أثر ِ
ُ
بني الورع والتيسري7.......................................................................
منهج البحث9...........................................................................
خطة البحث11..........................................................................
الشرعيَّة12...........................................
الرخص ّ املطلب األول :املش ّقة وأسباب ُّ
أولا :أنواع املش ّقة13.................................................................... :
الشرعيَّة14......................................................... :الرخص ّ ثاني ا :أسباب ّ
الرخصة والعزمية16.......................................................... املطلب الثاينّ :
الرخصة16.........................................................................: ّأولاّ :
الرخصة16................................................................... : أ -تعريف ّ
الرخص17................................................................... : ب -أنواع ّ
ثانيا :العزمية20......................................................................... :
بالرخصة أم بالعزمية؟21..............................................ثالثا :أيّهما أ ْوىل األخ ُذ ُّ
أن األخذ بالعزمية أ ْوىل22............................................... :أ -أدلّة من يعتقد َّ
بالرخصة أ ْوىل22........................................... :
أن األخذ ُّ ب -أدلّة من يعتقد َّ
الّتجيح22........................................................................ : جّ -
املطلب الثالث :ضوابط العمل بقاعدة التيسري24............................................
أولا :التلفيق24.........................................................................:
أ -تعريف التَّلفيق24................................................................... :
ب -حكم التَّلفيق25...................................................................:
األول :منع التَّلفيق25.............................................................: القول َّ
القول الثاين :جيوز التَّلفيق مطلق ا25.......................................................:
54
القول الثالث :التّفصيل يف حكم التّلفيق26............................................... :
ج -ضوابط األخذ بالتلفيق27........................................................... :
الرخص الفقهية28............................................................ : ثانيا :تتبّع ّ
الرخص الفقهية28........................................................ : أ -تعريف تتبّع ّ
الرخص29.............................................................. : ب -حكم تتبّع ّ
األول :ل جيوز تتبّع رخص املذاهب29.............................................. : القول َّ
القول الثّاين :جيوز تتبُّع رخص املذاهب35................................................. :
الرخص بشروط42............................................... : القول الثّالث :جيوز تتبُّع ُّ
بالرخص الفقهية)46......................................... :
ثالث ا :ضوابط التيسري (األخذ ّ
55