You are on page 1of 10

‫اقتصاد جزائري‬ ‫الفصل األول‬

‫الفصل األول‬

‫الخلفية التاريخية والفكرية للسياسة التنموية املعتمدة في الجزائربعد االستقالل‪.‬‬

‫يتم تقديم هذا الفصل في محاضرتين‪.‬‬


‫يفترض أن يصل الطالب بعد هاتين املحاضرتين إلى ّ‬
‫تبين وفهم ما يلي‪:‬‬

‫‪ -‬اعتماد املجتمع الجزائري ونشاطه االقتصادي قبل االستعمار على نظام إنتاجي تقليدي ما‬
‫قبل رأسمالي؛‬
‫‪ -‬إقامة املحتل الفرنس ي بعد استقراره بالبالد الستعمار استيطاني رأسمالي كنتيجة طبيعية‬
‫للتطور الذي كان قد تحقق في بالده؛‬
‫‪ -‬اصطدام املجتمع الجزائري بالنظام اإلنتاجي الجديد وعدم استطاعته التكيف معه‪،‬‬
‫و انحطاطه إلى مستوى سحيق من الفقر والجهل والعزلة‪ ،‬خصوصا في ظل السياسات‬
‫اإلقصائية العنيفة التي كانت تمارسها السلطات االستعمارية ضده؛‬
‫‪ -‬تشكل وعي نخبوي وطني‪ ،‬في ظل الظروف التاريخية الصعبة التي مر بها الشعب الجزائري‬
‫والتيارات الفكرية التي سادت خالل النصف األول من القرن العشرين‪ ،‬والذي تجسد في‬
‫الخيارات االقتصادية والسياسة التنموية التي أخذت بها الدولة الوطنية بعد االستقالل‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫اقتصاد جزائري‬ ‫الفصل األول‬

‫تمهيد‬
‫تقتض ي دراستنا لالقتصاد الجزائري أن ّ‬
‫نعرف بداية بالظروف التاريخية والفكرية التي تشكلت في‬
‫ظلها السياسة التنموية التي تبنتها الدولة الوطنية بعد االستقالل وشرعت في تنفيذها بشكل فعلي بعد‬
‫‪ .1965‬ويتعلق األمر بأهم التطورات التاريخية التي مر بها املجتمع الجزائري فيما يتصل بنشاطاته‬
‫االقتصادية قبل ‪ 1962‬وباألفكار والفلسفات االجتماعية التي راجت لدى نخبته السياسية خالل حرب‬
‫التحرير والسنوات األولى لالستقالل‪.‬‬
‫وقد خصصنا لهذا الغرض مبحثا أوال تناولنا فيه خصائص ومميزات االقتصاد الجزائري قبل ‪1962‬‬
‫ومبحثا ثانيا تناولنا فيه األسس املذهبية والنظرية للسياسة التنموية الوطنية بعد االستقالل‪.‬‬

‫املبحث األول‪ :‬خصائص ومميزات االقتصاد الجزائري قبل ‪.1962‬‬


‫ّ‬
‫نميز في تناولنا لهذا املوضوع بين وضعية االقتصاد الجزائري في بداية القرن التاسع عشر وبين‬
‫التطورات التي طرأت عليه خالل الفترة االستعمارية‪.‬‬

‫املطلب األول‪ :‬وضعية االقتصاد الجزائري في بداية القرن التاسع عشر‪.‬‬


‫يتفق أغلب املؤرخين على أن بنية النشاطات االقتصادية للمجتمع الجزائري قبل االستعمار كانت‬
‫تتلخص أساسا في‪ :‬قطاع فالحي واسع يمثل النشاط الرئيس ي للغالبية العظمى من السكان وقطاع حرفي‬
‫متطور نسبيا باإلضافة إلى القطاع التجاري‪.‬‬
‫السهبية‪ ،‬حيث كان سكان التل‬ ‫فالنشاط الفالحي كان يمارس بشكل أساس ي في التل واملناطق ّ‬
‫يقومون بالجمع بين الزراعة وتربية املواش ي وسكان ّ‬
‫السهوب يقومون بتربية املواش ي من خالل ممارستهم‬
‫للترحال بين الشمال والجنوب‪.‬‬
‫وكانت ملكية األراض ي املستغلة في النشاط الفالحي تتلخص في ثالثة أنماط هي‪:‬‬
‫‪ -‬أراض ي البايليك التي كانت تابعة للحكم العثماني؛‬
‫‪ -‬أراض ممنوحة من من طرف البايليك لألعيان والقبائل املوالية له؛‬
‫‪ -‬أراض مملوكة مشاعا من طرف القبائل كما في الهضاب العليا أو العائالت كما في املناطق الجبلية‪.‬‬
‫وكان اإلنتاج في هذا القطاع يهدف أساسا إلى تلبية الحاجة إلى االستهالك الذاتي ويوجه جزء منه لتسديد‬
‫الضرائب املختلفة املفروضة من طرف الدولة‪ ،‬أما الفائض فيوجه إلى البيع في األسواق املنتشرة في‬

‫‪2‬‬
‫اقتصاد جزائري‬ ‫الفصل األول‬

‫مختلف املناطق‪ ،‬والتي كانت تشكل نقاطا للتبادل بين املتعاملين من مختلف املهن واملناطق واألرياف‬
‫واملدن‪.‬‬
‫أما النشاطات الحرفية فكانت متمركزة في عديد من الحواضر وبعض املناطق نذكر منها على‬
‫الخصوص الجزائر العاصمة‪ ،‬قسنطينة‪ ،‬املدية‪ ،‬تلمسان‪ ،‬بجاية وغيرها‪ .‬وهي تتمثل في الحرف املتعلقة‬
‫والحدادة واألثاث وأدوات العمل املستخدمة في مختلف امليادين‪.‬‬ ‫باملنتجات النسيجية والجلدية ّ‬
‫والنجارة ِّ‬
‫ِّ‬
‫وأما تنظيمها فكان شبيها بتنظيم األنشطة الحرفية الذي كان سائدا في البلدان األوربية قبل الثورة‬
‫الصناعية‪ ،‬حيث كان املنتمون لكل حرفة يتجمعون في طائفة واحدة يكون من صالحياتها تنظيم الشؤون‬
‫الخاصة بنشاط الطائفة من خالل تحديد شروط االنضمام إليها وقواعد ممارستها‪.‬‬
‫وأما النشاط التجاري فكان محدودا ويكاد ينحصر في ضمان نقل البضائع بين املناطق واألماكن‬
‫املختلفة وتخزينها املؤقت لتلبية الطلب الذي ال يغطيه االستهالك الذاتي‪ .‬كما كان منحصرا تقريبا في حدود‬
‫السوق الداخلية‪ ،‬ألن التجارة الخارجية كانت تحت سيطرة تجار أجانب بموجب اتفاقات تربطهم مع‬
‫السلطة العثمانية‪ ،‬الش يء الذي أدى إلى عزل التجار واملنتجين املحليين عن السوق الخارجية وبالتالي عن‬
‫مواكبة التطورات التجارية واالقتصادية الحاصلة على املستوى الدولي‪ ،‬خاصة في أوربا‪.‬‬
‫نشير أيضا إلى أن محدودية النشاط التجاري محليا أدت من جهة أخرى إلى استخدام محدود‬
‫للنقود في عمليات التبادل وانتشار التبادل العيني‪ ،‬وحتى الضرائب كانت تسدد عينا في جزء كبير منها‪.‬‬
‫ويعكس هذا الوضع جليا الغياب شبه الكلي ملنطق السعي لتحقيق الربح وتكوين رأس املال والتوسع في‬
‫مراكمة الثروة عند املنتجين‪ ،‬على عكس ما كان عليه الوضع في دول أوربا الغربية التي انتقلت آنذاك إلى‬
‫النظام الرأسمالي ودخلت في ثورة صناعية واسعة غيرت تماما قواعد وأساليب اإلنتاج بحيث صار هذا‬
‫األخير موجها للسوق ويهدف إلى تحقيق الربح ومراكمة الثروة‪.‬‬
‫كما كان دور الدولة منحصرا تقريبا في جمع الضرائب وتقوية اإلمكانيات العسكرية التقليدية‪ ،‬ولم‬
‫تكن تعمل على ترويج التجارة وتشجيع اإلنتاج املحلي مثلما كانت تفعل الدول األوربية من خالل‬
‫السياسات التي اعتمدتها خالل املرحلة امليركانتيلية‪.‬‬
‫فاملجتمع الجزائري قبل االستعمار لم يكن يعرف بعد النظام الرأسمالي بكل خصائصه املرتبطة‬
‫باإلنتاج والتوزيع وما يصاحب ذلك من تنظيم إنتاجي وعالقات اجتماعية‪ .‬والغزو الذي تعرض له في ‪1830‬‬
‫وما نجم عنه بعد ذلك من استيطان وبعث لنشاطات اقتصادية ذات طبيعة رأسمالية تستند إلى تراكمات‬
‫امتدت لفترة طويلة في البلد املستعمر جعله يصطدم بواقع تجاري واقتصادي وثقافي لم يكن مهيأ له‬

‫‪3‬‬
‫اقتصاد جزائري‬ ‫الفصل األول‬

‫باملرة‪ .‬فتدهور ت أوضاعه االقتصادية واالجتماعية مع الوقت‪ ،‬ولم يستطع العودة إلى الحياة إال بعد‬
‫الثورة التحريرية املباركة التي انفجرت في الفاتح من نوفمبر ‪.1954‬‬

‫املطلب الثاني‪ :‬أهم التحوالت التي شهدها االقتصاد الجزائري خالل الفترة االستعمارية ‪.1962-1930‬‬
‫عرفت البنية االقتصادية واالجتماعية للمجتمع الجزائري خالل الفترة االستعمارية ‪1962 -1830‬‬
‫تحوالت عنيفة وعميقة نتجت عن السياسة التي مارسها االستعمار الفرنس ي تجاه الشعب الجزائري‪ ،‬والتي‬
‫تميزت بمصادرة أراض ي السكان من أهل البالد وفتح مجال االستيطان أمام املهاجرين من األوربيين‪،‬‬
‫باإلضافة إلى إطالق يد أصحاب األعمال منهم في استغالل املوارد الطبيعية املتوفرة بالبالد واالستفادة من‬
‫فرص الربح التي توفرها النشاطات الجديدة في مختلف املجاالت‪ .‬ومن أهم ما أدت إليه هذه السياسة من‬
‫تحوالت اقتصادية واجتماعية نذكر هنا على الخصوص ما يلي‪:‬‬

‫أوال‪ -‬ظهور قطاع زراعي أوربي عصري على حساب القطاع التقليدي‪.‬‬
‫حيث استطاع املستوطنون األوربيون الذين استحوذوا على أغلب األراض ي الخصبة بالبالد‪ ،‬تحت‬
‫رعاية السلطة االستعمارية‪ ،‬أن يبعثوا قطاعا زراعيا عصريا متطورا معتمدين على ما ظهر في بلدانهم‬
‫األصلية من تقنيات وطرق إنتاج حديثة‪ .‬فقد كان املعمرون في هذا القطاع محكومين بعقلية رأسمالية‬
‫يوجهون بموجبها إنتاجهم إلى السوق األجنبية وخاصة الفرنسية مستهدفين تحقيق الربح‪ ،‬وكان نشاطهم‬
‫منصبا أساسا على توفير منتجات الحبوب والخمور والحمضيات‪ .‬كما كانوا يلجأون إلى استخدام الوسائل‬
‫والتقنيات الحديثة‪ ،‬من آالت وأسمدة وعمليات ري وغيرها؛ الش يء الذي جعل إنتاجية العمل بالقطاع‬
‫ترتفع إلى مستويات عالية جدا لم تعرفها البالد من قبل‪.‬‬
‫وبالتوازي مع هذا القطاع العصري ظل النشاط الفالحي الذي يقوم به السكان املحليون على نمطه‬
‫املعتاد من قبل‪ ،‬مع فقده لحصة كبيرة من األراض ي الجيدة لصالح القطاع األول‪ .‬حيث بقي ينتج وفقا‬
‫ملنطق أولوية االستهالك الذاتي في ظل امللكية املشاعية لألرض ي وباستخدام الطرق والوسائل التقليدية‪.‬‬
‫ويعبر عن هذا الوضع بازدواجية نمط اإلنتاج في القطاع الفالحي‪.‬‬

‫ثانيا‪ -‬ظهور هياكل قاعدية (بنى تحتية) حديثة و أنشطة خدمية وصناعية محدودة‪.‬‬
‫بالتوازي مع تطور القطاع الزراعي وظهور أنشطة أخرى حديثة‪ ،‬وزيادة حاجة السلطة االستعمارية‬
‫لتسخير مزيد من الوسائل املادية لتوفير الخدمات العمومية للمتعاملين االقتصاديين وللمستوطنين‬
‫األوربيين والسيطرة على البالد أكثر فأكثر‪ ،‬ظهرت مع الوقت عديد من الهياكل القاعدية في مجاالت‬

‫‪4‬‬
‫اقتصاد جزائري‬ ‫الفصل األول‬

‫اإلدارة‪ ،‬الخدمات العمومية‪ ،‬النقل‪ ،‬الطاقة‪ ،‬االتصال وغيرها‪ .‬كما توسعت النشطات التجارية والخدمات‬
‫املتعلقة بالنقل والتخزين‪ ،‬وكذلك بالتمويل والتأمين وما إلى ذلك‪.‬‬
‫أما النشاطات الصناعية فتأخرت كثيرا في ظهورها ولم تكن بالحجم الذي يسمح للبالد باالنتقال إلى‬
‫مرحلة التصنيع الواسع‪ .‬وذلك بسبب العالقات االقتصادية والتجارية املفتوحة بين االقتصاد الجزائري‬
‫واالقتصاد الفرنس ي التي كان لها‪ ،‬وملدة طويلة‪ ،‬أثر سلبي على املبادرات الخاصة والحكومية باتجاه إقامة‬
‫أنشطة صناعية ذات أهمية بالبالد‪ ،‬حيث كانت أغلب االحتياجات املحلية من املنتجات الصناعية تلبى‬
‫عن طريق االستيراد من البلد املستعمر‪.‬‬
‫وفي السنوات األخيرة للحرب العاملية الثانية قامت السلطات االستعمارية بوضع إجراءات محفزة‬
‫تمنح بموجبها امتيازات هامة للمستثمرين بهدف تشجيع تنمية القطاع الصناعي باتجاه إحالل الواردات‪.‬‬
‫فظهرت بعض االستثمارات الخاصة في شكل مشاريع صغيرة ومتوسطة شملت الصناعات الغذائية‪،‬‬
‫النسيجية‪ ،‬الكيميائية‪ ،‬التعدينية وامليكانيكية‪ .‬كما جذب قطاع املحروقات خالل سنوات الخمسينات من‬
‫جهته عددا من الشركات الفرنسية والغربية املهتمة بهذا املجال بعد اكتشاف حقلي حاس ي مسعود‬
‫وحاس ي الرمل‪.‬‬
‫غير أن هذه الهياكل والنشاطات ظلت محتكرة من طرف املستوطنين األوربيين‪ .‬وبسبب ارتباط‬
‫أعمال هؤالء الكبير بالبلد املستعمر فإن االقتصاد الذي ورثته الجزائر عند االستقالل كان شديد التبعية‬
‫ّ‬
‫لالقتصاد الفرنس ي وال يشكل في ذاته بنية متكاملة ذات قطاعات متجانسة‪.‬‬

‫ثالثا‪ -‬تدهور الوضع االقتصادي واالجتماعي للسكان الجزائريين‪.‬‬


‫لم يستطع الشعب الجزائري استيعاب النمط االقتصادي الجديد الذي ظهر بعد استقرار‬
‫االستعمار بالبالد ولم يتمكن من مواكبة تطوره السريع‪ .‬ومن جهتها لم تكن السلطة االستعمارية تسعى‬
‫ملساعدته على االنخراط في مسيرة هذا التحول االقتصادي ليستفيد منه كطرف فاعل مثله مثل‬
‫املستوطنين األوربيين‪ .‬فأدى ذلك إلى تهميشه وتركه يدبر احتياجات معاشه بطرقه التقليدية املعتادة‬
‫تحت املنافسة األجنبية اإلجبارية التي فرضت عليه خاصة في مجال الصناعات الحرفية‪.‬‬
‫وتبين أرقام الجدول (‪ ،)1-1‬التالي التي تعود إلى الفترة األخيرة من الحقبة االستعمارية‪ ،‬مظهرا من‬
‫مظاهر التهميش الذي كان يعاني منه السكان الجزائريون األصليون وقلة اندماجهم في النشاطات‬
‫االقتصادية العصرية‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫اقتصاد جزائري‬ ‫الفصل األول‬

‫الجدول (‪ )1-1‬توزيع السكان حسب النشاط‪ ،‬بالنسبة املئوية‪.‬‬

‫املجموع‬ ‫األوروبيون‬ ‫الجزائريون‬ ‫القطاع‬


‫‪80,‬‬ ‫‪14,2‬‬ ‫‪87,9‬‬ ‫الزراعة‬
‫‪6,9‬‬ ‫‪31,3‬‬ ‫‪4,4‬‬ ‫الصناعة‬
‫‪12,2‬‬ ‫‪54,5‬‬ ‫‪7,7‬‬ ‫الخدمات‬
‫‪Source : A. BRAHIMI, L’économie algérienne, O.P.U., Alger, 1991, P‬‬

‫فالسكان الجزائريون كانوا حسب أرقام الجدول متمركزين بنسبة تقدر بحوالي ‪ % 88‬في القطاع‬
‫الزراعي‪ ،‬أغلبيتهم الساحقة تنتمي إلى القطاع التقليدي‪ .‬أما الذين أدرجوا منهم في القطاعين الصناعي‬
‫والخدمي فكانوا في كثير من األحيان يقومون بنشاطات ثانوية كما لم يكن املستخدمون منهم في القطاعات‬
‫العصرية من ذوي الكفاءات العالية وال حتى املتوسطة إال نادرا‪.‬‬
‫وقد نتج عن هذا الوضع اختالل شديد في توزيع الدخل بين السكان‪ ،‬بحيث أن متوسط نسبة‬
‫ّ‬
‫الدخل الفردي بين الجزائريين واألوربيين كانت تقدر بحوالي ‪ 8‬إلى ‪ 1.100‬وأدى ذلك باألغلبية الساحقة من‬
‫الجزائريين إلى الوقوع تحت وطأة الفقر الشديد وأن يصيروا فريسة لألمية والبطالة والتشرد‪ ،‬ودفع‬
‫بالكثير منهم إلى النزوح من األرياف إلى املدن بحثا عن العمل‪ ،‬ثم إلى الهجرة إلى الخارج‪.‬‬

‫املبحث الثاني‪ :‬الخلفية املذهبية (اإليديوجية) والنظرية للسياسة التنموية الوطنية املعتمدة بعد‬
‫االستقالل‪.‬‬
‫تشكلت الخلفية املذهبية التي أثرت تأثيرا واضحا في صياغة السياسة التنموية للبالد بعد‬
‫االستقالل في ظل النضال السياس ي الذي خاضته النخبة الوطنية في صراعها مع املستعمر الفرنس ي وما‬
‫تبع ذلك من نضال مسلح امتد من ‪ 1954‬حتى ‪ .1962‬فقد كانت تلك النخبة تتناول بالنقاش والتحليل‬
‫مختلف املشاكل التي كان يتخبط فيها الشعب الجزائري وتضع تصورات بشأن الحلول املناسبة التي ترجو‬
‫وضعها موضع التنفيذ بعد تحقيق االستقالل‪ .‬وكانت األفكار املتداولة بين أفرادها متأثرة باألوضاع‬
‫استعمار فرضته الدول الرأسمالية املتقدمة على‬
‫ٍ‬ ‫السائدة في البالد وكذلك بما كان سائدا في العالم من‬
‫وبروز لكتلة دولية‬
‫ٍ‬ ‫وظهور لحركات تحرر عديدة بالبلدان املستعمرة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫الغالبية الساحقة من الدول األخرى‪،‬‬
‫شيوعية معارضة للمنهج الرأسمالي يتزعمها االتحاد السوفياتي السابق‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪A. BRAHIMI, Op. cit., P 27.‬‬

‫‪6‬‬
‫اقتصاد جزائري‬ ‫الفصل األول‬

‫ومع نهاية الحرب التحريرية تبلورت على مستوى الهيئات السياسية للثورة جملة من األفكار حول‬
‫السياسة التنموية املستقبلية تم التعبير عنها من خالل بيانات رسمية كانت عبارة عن تعهد علني بالتزامات‬
‫مستقبلية محددة‪.‬‬
‫أما عن الخلفية النظرية فإن األمر يتعلق بالنظريات االقتصادية العلمية التي تتوافق إلى ّ‬
‫حد ما في‬
‫ِّ‬
‫مقترحاتها عن التنمية مع السياسة التنموية الوطنية‪.‬‬

‫املطلب األول‪ :‬النصوص األساسية الصادرة عن الهيئات السياسية الوطنية‪.‬‬

‫أوال‪ :‬برنامج طرابلس‪.‬‬


‫هو عبارة عن وثيقة اعتمدها املجلس الوطني للثورة الجزائرية ‪ C.N.R.A.‬في اجتماعه املنعقد‬
‫بطرابلس في شهر جوان ‪ ،1962‬كنص يحدد التوجه املستقبلي للبالد في سعيها لتحقيق التنمية‬
‫االقتصادية الشاملة‪ .‬وجاءت هذه الوثيقة مؤكدة على جملة من القضايا أهمها‪:‬‬
‫‪ -‬ضرورة تدخل الدولة املباشر في الحياة االقتصادية؛‬
‫‪ -‬القيام بثورة زراعية تقتضيها الوضعية الخاصة التي كان يعيشها القطاع؛‬
‫‪ -‬أولوية إقامة الصناعات الثقيلة من أجل دعم القطاع الزراعي ومن أجل إنشاء وتطوير‬
‫الصناعات الخفيفة بعيدا عن التأثيرات السلبية التي يمكن أن تنتج عن التبعية االقتصادية‬
‫للبلدان الرأسمالية املتقدمة‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬ميثاق الجزائر‪.‬‬


‫صدرت هذه الوثيقة الثانية عن مؤتمر جبهة التحرير الوطني الذي انعقد بالجزائر العاصمة في‬
‫أفريل ‪ .1964‬وكان أهم ما جاء فيها ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬تجنب األخذ بالنظام الرأسمالي كمنهج اقتصادي‪ ،‬لكونه‪ ،‬حسب الوثيقة‪ ،‬ال يتناسب مع حاجات‬
‫وطموحات الشعب الجزائري؛‬
‫‪ -‬األخذ باملنهج االشتراكي وبالتخطيط املركزي املباشر من أجل حشد املوارد الالزمة وتسخيرها‬
‫لخدمة التنمية الشاملة؛‬
‫‪ -‬تأكيد ما جاء في برنامج طرابلس فيما يتعلق بالقطاع الزراعي من ضرورة إدخال تغييرات عميقة‬
‫على هياكله ووسائل وطرق اإلنتاج به؛‬

‫‪7‬‬
‫اقتصاد جزائري‬ ‫الفصل األول‬

‫‪ -‬التشديد على املردودية املالية لالستثمارات الصناعية املزمع القيام بها وبالتالي إعطاء األولوية‬
‫للصناعات الخفيفة على الصناعات الثقيلة؛‬
‫‪ -‬ضرورة االهتمام بالتكوين والرفع من مستوى كفاءة املواطن الجزائري واالعتماد على اإلمكانيات‬
‫الوطنية لتحقيق التنمية‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬امليثاق الوطني‪.‬‬


‫اعت ِّمد امليثاق الوطني بعد استفتاء شعبي تم إجراؤه في ‪ ،1976‬وجاء فيما يتعلق بالتنمية الوطنية‬
‫ليؤكد على االختيارات التي اتخذت ووضعت موضع التنفيذ بالفعل منذ ‪ ،1965‬وليحشد لها املزيد من‬
‫التأييد السياس ي والشعبي‪ .‬حيث شدد على استمرارية االختيار االشتراكي وضرورة تدخل الدولة املباشر في‬
‫النشاط االقتصادي باالعتماد على التخطيط املركزي اإللزامي‪ ،‬وعلى أولوية الصناعات الثقيلة على‬
‫الخفيفة التي يعتبرها أداة لتحقيق االستقالل االقتصادي والتخلص من التبعية للبلدان الرأسمالية‪.‬‬
‫ثم جاء بعد ذلك ميثاق ‪ 1986‬وتم تبنيه هو اآلخر عبر استفتاء شعبي‪ ،‬وكان يهدف إلى تمرير جملة‬
‫من التعديالت التي أدخلت على إستراتيجية التنمية الوطنية في بداية الثمانينات وما صاحب ذلك من‬
‫إصالحات وفقا للقناعات الفكرية الجديدة التي تشكلت لدى القيادة السياسية في هذه الفترة‪.‬‬
‫وبعد التغييرات السياسية التي حصلت في نهاية الثمانينات‪ ،‬بموجب دستور ‪ ،1989‬صارت‬
‫التوجهات اإلستراتيجية لالقتصاد الوطني تتحدد في إطار البرامج التي تضعها األحزاب أو الشخصيات‬
‫السياسية التي تتقدم لالنتخابات الرئاسية أو البرملانية‪ .‬حيث صار املجال مفتوحا أمام مختلف األفكار‬
‫والقناعات ولم يعد األمر مرتبطا بوجوب التقيد باملنهج االشتراكي كما كان من قبل‪.‬‬

‫املطلب الثاني‪ :‬الخلفية النظرية إلستراتيجية التنمية املعتمدة بعد ‪.1965‬‬


‫يعتبر االقتصاديون أن اإلستراتيجية التي أخذت بها الجزائر بعد ‪ 1965‬كانت تتوافق في صياغتها مع ما‬
‫تفيد به نظرية أقطاب النمو لألستاذ "فرانسوا بيرو" ونظرية الصناعات املصنعة لتلميذه "جيرار‬
‫دوبارنيس"‪ .‬ففرانسوا بيرو‪ ،‬ومن خالل تحليله للظروف التاريخية للتطور االقتصادي الذي شهدته بلدان‬
‫توصل إلى أن القطاع الصناعي كان له ّ‬
‫الدور املحوري في تحقيق‬ ‫أوربا الغربية في القرن التاسع عشر‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫التحول الكبير الذي حصل بتلك البلدان‪ ،‬من خالل نشره للتقدم التقني في النسيج االجتماعي ِّ‬
‫وجر ِّه‬
‫ْ‬
‫لقطاعات النشاط األخرى باتجاه التطور والنمو‪ .‬وبناء على ذلك َيخلص هذا االقتصادي إلى أن التصنيع‬
‫آثار استقطاب على محيطها من خالل ما تستخدمه من‬ ‫حدث فيها الصناعات الجديدة َ‬‫هو عملية تحو ٍل ت ِّ‬

‫‪8‬‬
‫اقتصاد جزائري‬ ‫الفصل األول‬

‫مدخالت وما تطرحه من مخرجات‪ 2.‬أما "دوبارنيس" فيرى (باإلضافة إلى ذلك) أن الصناعات التي يصفها ب ـ‬
‫ّ‬
‫"املصنعة" هي تلك التي تنتمي إلى قطاع الصناعات الثقيلة وتعتبر األكثر تأثيرا في محيطها‪ .‬وذلك ملا تتميز به‬
‫ِّ‬
‫جر محيطها نحو التصنيع‪ ،‬من خالل ما توفره من آالت ترفع من إنتاجية العمل به وما‬ ‫ّ‬
‫من قدرة أكبر على ِّ‬
‫تحدثه من إعادة هيكلة اقتصادية واجتماعية شاملة فيه‪ 3.‬وعلى ضوء ذلك يكون باإلمكان إقامة مثل هذه‬
‫املصنعة في محيط متخلف لتطوير قطاعه الفالحي وتكثيف إنتاجه الصناعي‪ ،‬والوصول إلى‬ ‫ّ‬ ‫الصناعات‬
‫ِّ‬
‫إنجاز بناء اقتصادي متكامل يعتمد على ذاته حتى في إقامة الصناعات الخفيفة الالزمة لتلبية حاجات‬
‫املجتمع من املنتجات الصناعية االستهالكية واستيعاب األعداد املتزايدة من األيدي العاملة‪ ،‬بعد ما يكون‬
‫االقتصاد قد تحرر من العوامل الخارجية التي كانت تحد من معدل االستثمار به‪.‬‬
‫ووفقا للخلفية النظرية التي تقدمها نظرية الصناعات املصنعة‪ ،‬فإن مراحل تنفيذ إستراتيجية‬
‫التنمية التي أخذت بها الجزائر كانت تتلخص‪ ،‬حسب محمد الحسين بن يسعد‪ ،‬كما يلي‪:‬‬

‫‪ -‬املرحلة األولى‪.‬‬

‫القطاع الزراعي ( أسمدة‪ ،‬آالت‪)...،‬‬ ‫الصناعات المنتجة لوسائل التجهيز‬

‫مبادالت داخل القطاع‬


‫الصناعات المنتجة لوسائل التجهيز‬

‫‪ -‬املرحلة الثانية‪.‬‬

‫القطاع الزراعي ( أسمدة‪ ،‬آالت‪)...،‬‬


‫الصناعات المنتجة لوسائل التجهيز‬
‫الصناعات المنتجة للمنتجات االستهالكية‬
‫مبادالت داخل القطاع‬

‫الصناعات المنتجة لوسائل التجهيز‬

‫‪2‬‬
‫‪- A. BRAHIMI, Op. cit., P 67.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪- Ibid. P 70.‬‬

‫‪9‬‬
‫اقتصاد جزائري‬ ‫الفصل األول‬

‫ويرى محمد الحسين بن يسعد أن تجسيد هذا التصور النظري للمشروع التصنيعي كان يتطلب‬
‫توفير أربعة شروط على األقل تتمثل في‪:‬‬
‫‪ -‬وجود موارد مالية ضخمة خاصة من العملة الصعبة؛‬
‫‪ -‬وجود موارد بشرية ذات كفاءة تقنية عالية بأعداد كافية؛‬
‫‪ -‬وجود سوق محلية واسعة؛‬
‫‪ -‬وجود كفاءات إدارية عالية‪.‬‬
‫وبالنظر إلى التحليل الذي يقدمه فرانسوا بيرو فإن األخذ بهذه النظرية كان يقتض ي أيضا وجود‬
‫محيط اقتصادي يتوفر على قطاع خاص نشيط يتمتع بقدرات استثمارية عالية نسبيا‪.‬‬
‫لكن هذه الشروط لم تكن متوفرة في حالة االقتصاد الجزائري عندما تم األخذ بإستراتيجية‬
‫الصناعات املصنعة‪ ،‬باستثناء الشرط املتعلق بالجانب املالي الذي اعتمدت الحكومة في تلبيته على وجود‬
‫موارد طبيعية قابلة للتصدير تتمثل في املحروقات من الغاز والبترول‪.‬‬
‫ويعود أخذ السلطات السياسية بتلك اإلستراتيجية على الرغم من عدم توفر شروط نجاحها إلى‬
‫حرصها الشديد على تحقيق االستقالل االقتصادي بعد تحقيق االستقالل السياس ي معتبرة أنه بإمكانها‬
‫مع الوقت تجاوز الصعوبات التي قد تعترض املشروع أثناء تنفيذه‪.‬‬

‫‪10‬‬

You might also like