You are on page 1of 7

‫تاريخ الوقائع االقتصادية‬ ‫الرأسمالية التجارية‬

‫تمهيـــــد‬
‫إذا كان قيام الدولة اإلقليمية والتوسع اإلمبراطوري يمثالن أهم التطورات السياسية التي حدثت‬
‫خالل القرنين السادس عشر والسابع عشر‪ ،‬فإن األهمية املتزايدة للتجارة الدولية تعتبر من أهم‬
‫التطورات في النظام االقتصادي‪ .‬ولم يكن هذا هو العهد بالنظام اإلقطاعي‪ .‬فقد كانت الزراعة والحرف‬
‫محور النشاط االقتصادي في كل إمارة او مقاطعة‪ .‬والطابع الغالب هو االقتصاد الكفائي‪ .‬وفي مثل هذه‬
‫الظروف كانت السوق محدودة للغاية‪ ،‬وساعد على ذلك ضيق دائرة االقتصاد النقدي‪ .‬ولذلك كانت‬
‫التجارة تحتل مكانة ثانوية‪ ،‬بل كان ينظر إليها وإلى القائم بها نظرة ارتياب وازدراء‪.‬‬

‫وقد تغيرت هذه الظروف تغيرا جوهريا على إثر قيام الدولة اإلقليمية‪ .‬ومن ثم اتسعت رقعة‬
‫السوق املحلية‪ .‬وقد اقترن ذلك بتطورات بعيدة املدى ضاعفت من فرص التجارة الدولية‪ .‬فقد أصبحت‬
‫التجارة مصدر الثروات الطائلة‪ .‬واقتض ى ذلك انتهاج سياسات اقتصادية جديدة تستهدف استغالل‬
‫الفرص الجديدة في مجال التجارة الدولية الداخلية‪ .‬وقد كان ذلك فجرا لعهد اقتصادي يختلف كليا عما‬
‫عرف في ظل النظام االقتصادي ويجمع بين طياته عناصر الرأسمالية الصاعدة‪ .‬وكانت التجارة هي محور‬
‫النظام الجديد‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫تاريخ الوقائع االقتصادية‬ ‫الرأسمالية التجارية‬

‫أوال‪ :‬أسباب ظهور الرأسمالية التجارية‬


‫نشأت الرأسمالية التجارية في أوروبا من خالل تفسخ وزوال النظام اإلقطاعي‪ ،‬وامتدت ثالثة‬
‫قرون من منتصف القرن الخامس عشر إلى منتصف القرن الثامن عشر‪ .‬وتعتبر الرأسمالية التجارية‬
‫أقدم صور الرأسمالية‪ .‬وعندما نتكلم عن هذا النوع من الرأسمالية‪ ،‬معناه أن التجار هي الفئة املسيطرة‬
‫على االقتصادات األوروبية‪ ،‬وهم املحرك األساس ي لإلنتاج والتوزيع ‪.‬‬

‫ويمكن تلخيص أهم العوامل التي أسهمت في بزوغ وتطور الرأسمالية التجارية في النقاط التالية‪:‬‬

‫‪ -1‬نشوء الدولة اإلقليمية‬

‫كان من أهم التطورات السياسية التي حدثت خالل القرنين السادس عشر والسابع عشر نشوء‬
‫الدولة بمعناها الحديث‪ ،‬حيث قامت حكومات مركزية تفرض سلطانها على كل املقيمين في إقليمها‪ .‬وكان‬
‫من جراء هذا التطور نشوء سلطة إدارية تابعة للحكومة املركزية للقيام باألعباء التي تقع على كاهل الدولة‪.‬‬
‫فبعد أن كانت مهمة الحرب والدفاع موكولة لألفراد في العصور الوسطى‪ ،‬أصبحت من مسؤوليات‬
‫السلطة املركزية ممثلة في امللك‪ ،‬وكذلك الشأن بالنسبة للوظائف األخرى التي ترتبط بفكرة سيادة الدولة‪.‬‬

‫وقد ارتبط بهذا التطور انبثاق فكرة القومية أو الوالء لدولة معينة بإقليم معين‪ .‬فلم يعد الوالء في‬
‫املقام األول لكنيسة يمتد نفوذها الى بالد متعددة‪ ،‬ولم يعد محليا يقتصر على أمير أو منطقة‪ .‬وإنما أصبح‬
‫الوالء لبلد ذي إقليم وحدود‪.‬‬

‫‪ -2‬التوسع االمبراطوري‬

‫ترتب على التطورات السابقة ‪ ،‬قيام وحدات سياسة كبرى في بالد أوروبا الغربية ال تؤمن إال‬
‫بمصلحتها الغربية الخاصة‪ ،‬ومن ثم بدأ الفصل األول في قصة طويلة تتمثل في االستعمارية والتوسع‬
‫اإلمبراطوري‪ .‬وهكذا دخلت بلدان أوروبا الغربية‪ ،‬في سلسلة طويلة في الحروب الدامية والدفاع باسم‬
‫املولود الجديد وهو عظمة بريطانيا أو فرنسا أو هولندا أو إسبانيا‪ .‬وكانت إسبانيا هي البادئة بالكشف‪،‬‬
‫وتمكنت من ابتالع لقمة كبيرة من أمريكا الوسطى والجنوبية وجزء من أمريكا الشمالية‪ ،‬وأعقب ذلك‬
‫استيالء انجلترا على جزء كبير من أمريكا الشمالية واستيالء فرنسا على الشطر الشمالي منها‪ .‬واتجه‬
‫التوسع اإلمبراطوري في نفس الوقت نحو القارة األسيوية‪ ،‬حيث ثبتت هولندا أقدامها في جزر الهند‬
‫الشرقية‪ ،‬وأخذت انجلترا تزاحم فرنسا في تدعيم نفوذها السياس ي في الهند إلى أن انفردت انجلترا بها عن‬
‫طريق شركة الهند الشرقية‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫تاريخ الوقائع االقتصادية‬ ‫الرأسمالية التجارية‬

‫وقد كان التوسع االمبراطوري سريعا في نتائجه‪ .‬أما إسبانيا فقد كان حظها الوقوع على تلك‬
‫املناطق التي تحوي مناجم الذهب والفضة‪ .‬وأخذ سيل من املعدن النفيس يتدفق عليها من مستعمراتها‪،‬‬
‫ثم يجد طريقة بعد ذلك إلى البلدان األوروبية االخرى‪ ،‬وخصوصا إنجلترا‪ ،‬حيث عجزت عن التقدم في‬
‫املضمار االقتصادي بما يتالءم مع ثروتها الجديدة‪ .‬أما إنجلترا فقد أخذت تتلمس طريقها لرسم البنية‬
‫االقتصادية املالئمة التي تمكنها من الحصول على أقص ى غنم من مستعمراتها‪ .‬وأدركت سياستها‬
‫االقتصادية السليمة أن هذه املستعمرات يمكن أن تضيف إلى ثرائها وقوتها إذا استخدمت مصدر للمواد‬
‫األولية أو سوقا لناتج صناعتها‪.‬‬

‫‪ -3‬تطور أهمية التجارة الدولية نتيجة االكتشافات الجغرافية الجديدة‬

‫ثمة تطورات بعيدة املدى ضاعفت من فرص التجارة الدولية‪ .‬فاكتشاف الدنيا الجديدة أسفر‬
‫عن ثروة زراعية ومعدنية طائلة‪ .‬وكان تدفق املعدن النفيس منها إلى دول أوروبا الغربية عامال هاما في‬
‫اتساع دائرة التبادل النقدي‪ .‬كذلك فان اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح فتح الطريق بحرا الى الهند‬
‫وجزر الهند الشرقية‪ .‬وأخيرا فان الحروب الصليبية أتاحت الفرصة اما البلدان األوروبية ملعرفة ثروات‬
‫العالم االسالمي وإمكانياته االقتصادية‪ .‬ومن ثم فقد كان انتهاء هذه الحروب إيذانا لقيام صالت تجارية‬
‫وثيقة بين بلدان أوروبا – وخصوصا املدن اإليطالية مثل البندقية وجنوة – ودول العالم االسالمي‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬مبادئ الفكر التجاري‬


‫كان البد لهذه التطورات الجديدة أن نجد تعبيرا عنها في مجال الفكر االقتصادي‪ .‬فانهيار النظام‬
‫اإلقطاعي‪ ،‬وقيام الدولة الوطنية ذات السلطة املركزية‪ ،‬واكتشاف الدنيا الجديدة بما تنطوي عليه من‬
‫ثروات تسيل اللعاب واألهمية املتزايدة للتجارة الدولية‪ .‬كل هذه التطورات اقتضت فلسفة اقتصادية‬
‫جديدة تختلف عن تراث العصور الوسطى‪ .‬ومن هنا نشأت مجموعة من االفكار يطلق عليها فيما بعد‬
‫ويربطها جميعها خيط واحد وهو محاولة الكشف عن السياسة‬ ‫‪Mercantilism‬‬ ‫اسم التجارية‬
‫االقتصادية التي تالئم حاجات الدولة‪.‬‬

‫وتدور أفكار التجاريين حول عدد من املبادئ يمكن اجمالها فيما يلي‪:‬‬

‫‪3‬‬
‫تاريخ الوقائع االقتصادية‬ ‫الرأسمالية التجارية‬

‫‪ -1‬العالقة بين ثروة االمة وما لديها من المعدن النفيس‬

‫من املتفق عليه أن التجاريين كانوا يعلقون أهمية كبرى على الذهب والفضة باعتبارهما عماد‬
‫ثروة االمة‪ .‬ويميل بعض الشراح على إطالق اسم املعدنيين ‪ Bullionists‬على رجال الرعيل األول من الفكر‬
‫التجاري‪ ،‬إشارة إلى األهمية الخاصة للمعدن النفيس في نظرتهم للثروة‪.‬‬

‫وليس من العسير في ضوء الظروف الخاصة التي اكتنفت ظهور الدولة اإلقليمية أن نجد تفسيرا‬
‫لهذه الريادة التي أوالها التجاريون للذهب والفضة‪ .‬فقد استنفذت الحروب املتواصلة خزينة امللوك‪ ،‬ولم‬
‫تكن الضرائب حينذاك أداة ثابتة يعتد بها لتوفير اإليراد الالزم‪ .‬ومن ثم فقد كان امللوك في ضائقة مستمرة‬
‫خصوصا بعد أن امتدت سلطات الدولة في الداخل وأصبح عليها القيام بأعباء الدفاع أو الحروب واألمن‬
‫واإلدارة العامة‪ .‬وعليه فهو حاجة مستمرة الى نقد يعد‪ ،‬إلى ذهب وفضة‪ .‬فاملعدن النفيس وقوة الدولة‬
‫تومأن ال ينفصالن إن وجد وجدت وإن ضاع ضاعت‪.‬‬

‫‪ -2‬تحقيق ميزان تجاري موافق‬

‫كانت نظرية التجاريين في التجارة الدولية نتيجة منطقية محتومة لوجهة نظرهم عن العالقة بين‬
‫ثروة األمة وما لديها من معدن نفيس‪ ،‬فالثروة عندهم تعتمد بصفة أساسية على ما لدى البلد من ذهب‬
‫وفضة‪ ،‬والزيادة من املعدن النفيس معناه اإلضافة الى ثروة األمة‪.‬‬

‫ومن ثم إذا كان لدى البلد مناجم لهذه املعادن‪ ،‬وجب أن تعمل الدولة على استغاللها بكل‬
‫الوسائل ‪ .‬فإذا لم تكن لديها هذه الهيئة‪ ،‬فالطريق الوحيد لزيادة رصيد البلد منها يكون عن طريق التجارة‬
‫الخارجية‪ .‬وهذا ال يتحقق إال إذا باع البلد سلعا للعالم الخارجي بقيمة تزيد عن كمية ما يشتريه‪ ،‬أي حقق‬
‫فائضا في ميزانه التجاري‪ .‬حيث أن فائض الصادرات على الواردات ال بد أن يدفع باملعدن النفيس‪ ،‬وهذا‬
‫معناه زيادة ما في حوزة البلد منه وبالتالي زيادة ثرائه‪ .‬أما إذا استورد البلد من العالم الخارجي بقيمة تزيد‬
‫عن قيمة ما صدره فإن عجز امليزان التجاري يعني خروج املعدن النفيس في البلد بمقدار هذا العجز‪ ،‬وفي‬
‫ذلك نقصان لثرائه ‪ .‬ويلزم عن هذا التحليل وجوب العمل في الدولة على تحقيق فائض في امليزان التجاري ‪.‬‬

‫‪ -3‬تدخل الدولة في الحياه االقتصادية‬

‫واضح أن منطق التجاريين يقتض ي تدخل الدولة في التجارة الخارجية ألن امليزان التجاري املوافق‬
‫ال ينشأ من تلقاء نفسه‪ .‬إذ البد أن يكون محال لسياسة هادفة من الدولة‪ .‬ومن ثم فقد نادى التجاريون‬
‫بوجوب إخضاع التجارة الدولية لقيود بقصد تحقيق فائض دائم في امليزان التجاري‪ .‬وتشمل هذه القيود‬
‫في فرض ضرائب جمركية على الواردات وحظر بعضها حظرا مطلقا ‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫تاريخ الوقائع االقتصادية‬ ‫الرأسمالية التجارية‬

‫غير أن تدخل الدولة لم يقف عند فرض القيود فحسب‪ ،‬بل امتد إلى إعانة الصادرات وتهيئة‬
‫الظروف األخرى املواتية لزيادة الصادرات‪ .‬لذلك فقد شهدت تلك الفترة في إنجلترا وفرنسا وإسبانيا صورا‬
‫عديدة لتدخل الدولة في الحياه االقتصادية ‪ .‬وكان أكثرها شيوعا منح امتياز إنتاج سلعة معينة أو‬
‫تصديرها لشركه خاصة ‪ ،‬ومثال ذلك شركة الهند الشرقية وشركة الشرق األوسط فيي إنجلترا ‪.‬‬
‫كذلك امتد تدخل الدولة إلى أسعار السلع ومستوى األجور وجلب العمالة املاهرة من الخارج‬
‫وإنشاء صناعات وطنية‪ ،‬واستغالل املزارع واملناجم في املستعمرات للحصول على املواد األولية‪.‬‬

‫‪ -4‬ترتيب أوجه النشاط االقتصادي‬

‫كانت املفاضلة بين أوجه النشاط االقتصادي من املسائل التي شغلت رجال الفكر من زمن قديم‪.‬‬
‫فقد تولد شعور منذ مطلع الفكر االقتصادي بأن الحرف املختلفة ال يمكن أن تكون على قدم املساواة من‬
‫حيث أهميتها أو مدى إسهامها في الثروة‪ .‬ومن ثم فقد اتجه تفكيرهم إلى املفاضلة بين الزراعة والصناعة‬
‫والتجارة‪.‬‬

‫وليس من الصعب أن نعرف وجهة نظر التجاريين في ترتيب أوجه النشاط االقتصادي‪ .‬بديهي أن‬
‫التجارة الدولية تأتي في قمة الحرف التي تسهم في ثروة البلد‪ .‬فهي الطريق الوحيد لزيادة رصيد البلد من‬
‫املعدن النفيس ‪ .‬وقد أشار العديد من التجاريين إلى أن التجارة الداخلية ال تضيف شيئا إلى الثروة‪ ،‬ذلك‬
‫أن ربح أحد الطرفين إنما هو خسارة اآلخر‪ .‬أما في التجارة الدولية‪ ،‬فإن ما يكسبه البلد تمثل إضافة‬
‫صافية لثروته‪ ،‬حيث أن الطرف الخاسر بلد أجنبي‪ ،‬وباملثل فإن ما يخسره البلد في التجارة الدولية تمثل‬
‫اقتطاعا من الثروة الوطنية‪ .‬وتأتي الصناعة في ثاني الترتيب بعد التجارة الدولية من حيث إسهامها في‬
‫الثروة‪ .‬فالصناعة في تقديرهم هي أساس الصادرات التي تأتي للبلد باملعدن النفيس‪ .‬ومن ثم فقد حمل‬
‫التجاريون لواء التصنيع في بالد أوروبا الغربية‪ .‬وترتب على ذلك أنهم كانوا ينادون باتباع السياسات التي من‬
‫شأنها دعم الصناعة الوطنية‪ .‬وكان منطق نظرتهم إلى املعدن النفيس يوجب عليهم معاملة السلع‬
‫املستوردة على قدم املساواة من حيث إخضاعها لقيد أو آخر دون تفرقة بين أنواع السلع‪ .‬غير أن سياسة‬
‫التضييع اقتضت الخروج على هذا املنطق‪ ،‬ومن هنا جرى بعضهم على التفرقة بين أنواع مختلفة من‬
‫الواردات‪ .‬فهم ال يرون بأسا من إعفاء املواد األولية من الضرائب الجمركية أو إخضاعها لضرائب غير‬
‫مرتفعة‪ ،‬ويحتفظون بالضرائب املرتفعة أو الحظر املطلق للسلع املصنوعة حتى ال تنافس نظيرتها من‬
‫السلع الوطنية‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫تاريخ الوقائع االقتصادية‬ ‫الرأسمالية التجارية‬

‫وغني عن البيان أن الزراعة لم تحظ من التجاريين بتقدير يذكر‪ ،‬ألنهم لم يجدوا في الزراعة مجاال‬
‫لزيادة رصيد البلد من املعدن النفيس أو مجاال لتصدير كمية كبيرة من اإلنتاج الوطني إلى الخارج‪ .‬لذلك‬
‫فقد جاءت الزراعة في ذيل قائمة أوجه النشاط االقتصادي التي تضيف إلى الثروة‪..‬‬

‫‪ -5‬زيادة حجم السكان‬

‫الغاية النهائية من السياسة االقتصادية في نظر التجاريين تنحصر في قوة الدولة وعظمتها‪ .‬أما‬
‫رفاهية الفرد فقد كانت فكرة غريبة عليهم‪ .‬ومن هنا كانت نظرتهم إلى السكان‪ .‬فكلما زاد حجم السكان‬
‫كانت الدولة أكثر قدرة على إنشاء الجيوش القوية وتحمل ما يصيبها من خسائر في حروب مع الدول‬
‫األخرى ‪ .‬ومن ناحية أخرى فإن ازدياد حجم السكان يؤدي إلى زيادة اليد العاملة ورخصها مما يساعد على‬
‫نمو الصناعة ‪ .‬بعبارة أخرى فقد نظر التجاريون إلى السكان باعتبارهم مصدر اليد املحاربة واليد العاملة‬
‫‪ ،‬وكالهما ضروري لقوة الدولة ونمو صناعتها ‪.‬‬

‫على أساس هذه النظرة‪ ،‬ليس من العسير معرفة موقف التجاريين من مستوى األجور‪ .‬لم يكن‬
‫التجاريون من أنصار زيادة مستوى األجور ذلك أن ارتفاعه يضعف من قدرة الصناعة الوطنية على‬
‫منافسة الصناعات األجنبية‪ ،‬ومن ثم يتعارض مع سياسة التصنيع‪ .‬كما أن األجور تذهب بأكملها إلشباع‬
‫الحاجات االستهالكية للطبقة العاملة‪ ،‬ومن ثم ارتفاع مستوى األجور بغي زيادة حجم االستهالك‪ ،‬وعلى‬
‫ذلك فهو يتعارض مع تراكم رأس املال‪ .‬في ضوء هذه االعتبارات لم يجد التجاريون حرجا في تأييد سياسة‬
‫العمل الرخيص‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬تقدير الفكر التجاري‬


‫يمكن القول أن التجارة – باعتبارها مصدر اإللهام للسياسة االقتصادية – أدت خدمة جليلة‬
‫لبلدان أوروبا الغربية في املرحلة التاريخية التي كانت تمر بها ‪ .‬ويصدق ذلك بصفة خاصة على إنجلترا‪،‬‬
‫حيث بلغت التجارية على تبرير تدخل الدولة شتى مجاالت الحياة االقتصادية‪ .‬وكانت الدولة هي أداة‬
‫التغيير الذي تتطلبه ظروف التطور حينذاك‪.‬‬

‫ال شك أيضا أن السياسة التجارية التي سارت عليه انجلترا نحو مائتي سنة كانت عامال من عوامل‬
‫تفوقها االقتصادي الذي صاحبها طوال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين‪ .‬ففي الفترة التجارية‬
‫تمكنت انجلترا من تدعيم صناعتها األساسية‪ ،‬وتهيئة البيئة املواتية للتقدم الصناعي ‪.‬‬

‫كل ذلك يذكر للتجاريين‪ .‬غير أن الفكر التجاري كان يحمل بذور فنائه‪ .‬وما أن أتت التجارية‬
‫ثمارها حتى تالشت الظروف التي نشأت فيها التجارة ‪ .‬ومن ثم فقد أخذ الفكر التجاري في االضمحالل إبان‬

‫‪6‬‬
‫تاريخ الوقائع االقتصادية‬ ‫الرأسمالية التجارية‬

‫القرن الثامن عشر‪ .‬وقد تضافرت العوامل الفكرية والظروف االقتصادية على انحسار النظرة التجارية‪،‬‬
‫وقد ظهرت فلسفات جديدة تنظر نظرة ارتياب إلى تدخل الدولة‪.‬‬

‫وفي مجال الفكر االقتصادي ‪ ،‬كان دافيد هيوم من أهم املفكرين الذين سددوا الضربة االولى‬
‫للتجارية ‪ .‬وفكرته األساسية هو ان املعدن النفيس يتوزع تلقائيا بين الدول املختلفة‪ ،‬دون حاجة إلى‬
‫سياسة خاصة هادفة من جانب الدولة ‪ .‬فإذا زاد ما لدى البلد من املعدن النفيس عن القدر الذي‬
‫يتناسب مع حجم نشاطه االقتصادي‪ ،‬فإن ذلك يرفع أسعار سلعها بالنسبة ألسعار الدول األخرى‪ .‬وهذا‬
‫من شأنه ان يقلل من صادراتها إلى العالم الخارجي ‪ ،‬ويزيد من وارداتها بحيث يحدث عجز في ميزانها‬
‫التجاري ‪ ،‬مما يفض ي إلى خروج القدر الزائد من املعدن النفيس ‪ ،‬وإذا قل الرصيد املعدني عما يقتضيه‬
‫حجم نشاطها االقتصادي ‪ ،‬فإن ذلك يخفض أسعار سلعها بالنسبة ألسعار البالد األخرى‪ ،‬وهذا من شأنه‬
‫أن يزيد من صادراتها ويقلل من وارداتها بحيث فائض في ميزانها التجاري ‪ ،‬مما يجذب القدر الناقص في‬
‫املعدن النفيس‪ .‬وقد عرفت تلك النظرية في الفكر االقتصادي بنظرية التوازن التلقائي ‪ .‬وواضح أنها‬
‫تقض ي على األسس الجوهرية التي يقوم عليها مذهب التجاريين‪.‬‬

‫كذلك شهد القرن الثامن عشر تطورات بعيدة املدى في الظروف االقتصادية‪ ،‬ساهمت في‬
‫التعجيل بنهاية الفكر التجاري‪ ،‬فقد خطت الصناعة في انجلترا خطوات واسعة‪.‬‬

‫تضافرت هذه العوامل جميعا للقضاء على التجارية‪ ،‬ويعتبر ظهور كتاب آدم سميث " ثروة األمم"‬
‫إيذانا بإشراق عهد جديد للفكر االقتصادي ‪ .‬وكان آدم سميث فعاال في بيان بطالن الفكر التجاري ‪ ،‬بل‬
‫أصبحت الفكرة التجارية رمزا للفكرة االقتصادية الساذجة‪.‬‬

‫‪7‬‬

You might also like