Professional Documents
Culture Documents
مقدمة ابن خلدون لابن خلدون
مقدمة ابن خلدون لابن خلدون
ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم اإلنسان مدني بالطبع أي ال بد له من االجتماع الذي هو المدينة في
اصطالحهم وهو معنى العمران وبيانه أن هللا سبحانه خلق اإلنسان وركبه على صورة ال يصح حياتها
وبقاؤها إال بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله إال أن قدرة الواحد
من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادة حياته منه ولقد كرم هللا بني آدم
عن جميع المخلوقات باليد والفكر فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر والصنائع تحصل له اآلالت التي تنوب
له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع مثل الرماح فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة وال
تفي قدرته أيضا باستعمال اآلالت المعدة لها فال بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه وما لم يكن
هذا التعاون فال يحصل له قوت وال غذاءا وال تتم حياته لما ركبه هللا تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في
حياته وال يحصل له أيضا دفاع عن نفسه لفقدان السالح فيكون فريسة للحيوانات ويعاجله الهالك عن مدى
حياته ويبطل نوع البشر وإذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء والسالح للمدافعة وتمت حكمة هللا في
بقائه وحفظ نوعه وهذا هو معنى العمران إذا حصل للبشر كما قررناه وتم عمران العالم بهم فال بد من
وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم وليست السالح التي جعلت
دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدوان عنهم ألنها موجودة لجميعهم فال بد من شيىء
آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض وال يكون من غيرهم لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم وإلهاماتهم
فيكون ذلك الوازع واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى ال يصل أحد إلى غيره
بعدوان وهذا هو معنى الملك وقد تبين لك بهذا أن لإلنسان خاصة طبيعية وال بد لهم منها وقد يوجد في
بعض الحيوانات العجم على ما ذكره الحكماء كما في النحل والجراد لما استقرىء فيها من الحكم واالنقياد
واالتباع لرئيس من أشخاصها متميز عنهم في خلقه وجثمانه إال أن ذلك موجود لغير اإلنسان بمقتضى
الفطرة والهداية ال بمقتضى الفكرة والسياسة {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} وتزيد الفالسفة على هذا
البرهان حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل! العقلي وأنها خاصة طبيعية لإلنسان فيقررون هذا البرهان إلى
غاية وأنه ال بد للبشر من الحكم الوازع ثم يقولون بعد ذلك وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند هللا
يأتي به واحد من البشر وأنه ال بد أن يكون متميزا عنهم بما يودع هللا فيه في خواص هدايته ليقع التسليم له
والقبول منه حتى يتم الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار وال تزيف.
المقدمة الثانية :في قسط العمران من االرض :
اعلم أنه قد تبين في كتب الحكماء الناظرين في أحوال العالم أن شكل األرض كروي وأنها محفوفة بعنصر
الماء كأنها عنبة طافية عليه ،فانحسر الماء عن بعض جوانبها ،لما أراد هللا من تكوين الحيوانات فيها
وعمرانه بالنوع البشري الذي له الخالفة على سائرها والماء المحيط بها فهو فوق األرض ،وإن قيل في
شيء منها إنه تحت األرض فباإلضافة إلى جهة أخرى منه .وأما الذي انحسر عنه الماء من األرض فهو
النصف من سطح كرتها في شكل دائرة أحاط العنصر المائي بها من جميع جهاتها بحرا يسمى البحر
المحيط ،ويسمى أيضا لبالية بتفخيم الالم الثانية ،ويسمى أوقيانوس أسماء أعجمية ،ويقال له البحر
األخضر واألسود ،ثم إن هذا المنكشف من األرض للعمران فيه القفار والخالء أكثر من عمرانه والخالي
من جهة الجنوب منه أكثر من جهة الشمال ،وإنما المعمور منه قطعة أميل إلى الجانب الشمالي على شكل
مسطح كروي ينتهي من جهة الجنوب إلى خط االستواء ،ومن جهة الشمال الى خط كروي ووراء الجبال
الفاصلة بينه وبين الماء العنصري الذي بينهما سد يأجوج ومأجوج .وهذه الجبال مائلة إلى جهة المشرق ،
وينتهي من المشرق إلى المغرب إلى عنصر الماء أيضا بقطعتين من الدائرة المحيطة .وهو المنقسم
باألقاليم السبعة ،وخط االستواء يقسم األرض بنصفين من المغرب إلى المشرق ،وهو طول األرض وأكبر
خط في كرتها؛ كما أن منطقة فلك البروج ودائرة معدل النهار أكبر خط في الفلك .ومنطقة البروج منقسمة
بثلثمائة وستين درجة ،والدرجة من مسافة األرض خمسة وعشرون فرسخاً ،والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع
في ثالثة أميال ،ألن الميل أربعة آالف ذراع ،والذراع أربعة وعشرون إصبعاً ،واإلصبع ست حبات شعير
مصفوفة ملصق بعضها إلى بعض ظهراً لبطن ،وبين دائرة معدل النهار التي تقسم الفلك بنصفين و ُت َس ُ
امت
خط االستواء من األرض وبين كل واحد من القطبين تسعون درجة ،لكن العمارة في الجهة الشمالية منّ
خط االستواء أربع وستون درجة والباقي منها خالء ال عمارة فيه لشدة البرد والجمود ،كما كانت الجهة
الجنوبية خالء كلها لشدة الحر كما نبين ذلك كله إن شاء هللا تعالى .ثم إن المخبرين عن هذا المعمور
وحدوده وما فيه من األمصار والمدن والجبال والبحار واألنهار والقفار والرمال مثل بطليموس) في كتاب
الجغرافيا وصاحب كتاب «رجار من بعده ،قسموا هذا المعمور بسبعة أقسام يسمونها األقاليم السبعة بحدود
وهمية بين المشرق والمغرب متساوية في العرض مختلفة في الطول ،فاإلقليم األول أطول مما بعده وكذا
الثاني إلى آخرها ،فيكون السابع أقصر لما اقتضاه وضع الدائرة الناشئة من انحسار الماء عن كرة
األرض ،وكل واحد من هذه األقاليم عندهم منقسم بعشرة أجزاء من المغرب إلى المشرق على التوالي،
وفي كل جزء الخبر عن أحواله وأحوال عمرانه.
ونحن نرى بالمشاهدة واألخبار المتواترة Yأن األول والثاني من األقاليم المعمورة أقل عمرانا ً مما بعدهما ،
وما وجد من عمرانه فيتخلله الخالء و ،والقفار والرمال والبحر الهندي الذي في الشرق منهما ،وأمم
هذين اإلقليمين وأناسيهما ليست لهم الكثرة البالغة ،وأمصاره ومدنه كذلك .والثالث والرابع وما بعدهما
بخالف ذلك :فالقفار فيها قليلة ،والرمال كذلك أو معدومة ،وأممها وأناسيها تجوز الحد من الكثرة،
وأمصارها ومدنها تجاوز الحد عدداً ،والعمران فيها مندرج ما بين الثالث والسادس والجنوب خالء كله.
وقد ذكر كثير من الحكماء أن ذلك إلفراط الحر وقلة ميل الشمس فيها عن سمت الرءوس .فلنوضح ذلك
ببرهانه ،ليتبين منه سبب كثرة العمارة فيها بين الثالث والرابع من جانب الشمال إلى الخامس والسابع .
ومن هنا أخذ الحكماء خالء خط االستواء وما وراءه .وأورد عليهم أنه معمور بالمشاهدة واألخبار
المتواترة Yوالظاهر أنهم لم يريدوا امتناع العمران فيه بالكلية ،إنما اداهم البرهان إلى أن فساد التكوين فيه
قوى بإفراط الحر ،والعمران فيه إما ممتنع أو ممكن أقلى ،وهو كذلك ،فإن خط االستواء والذي وراءه وإن
كان فيه عمران كما نقل فهو قليل جدا ،وقد زعم ابن رشد أن خط االستواء معتدل وأن ما وراءه في
الجنوب بمثابة ما وراءه في الشمال فيعمر منه ما عمر من هذا ،والذي قاله غير ممتنع من جهة فساد
التكوين ،وإنما امتنع فيما وراء خط االستواء في الجنوب من جهة أن العنصر المائي غمر األرض هنالك
إلى الحد الذي كان مقابله من الجهة الشمالية قابال للتكوين ،ولما امتنع المعتدل لغلبة الماء تبعه ما سواه،
ألن العمران متدرج ويأخذ في التدريج من جهة الوجود ال من جهة االمتناع ،وأما القول بامتناعه في خط
االستواء فيرده النقل المتواتر وهللا أعلم .ويقال أن المعمور -من سطح األرض -النصف والباقي خراب،
وقيل المعمور سدسه فقط .والخالء من هذا المنكشف في جهتي الجنوب والشمال والعمران منهما متصل
من الغرب إلى المشرق ،وليس بينه وبين البحر من الجهتين خالء .قالوا وفيه خط وهمي يمر من المغرب
إلى المشرق مسامتا لدائرة معدل النهار حيث يكون قطبا الفلك على األفق وهو أول العمران إلى ما بعده
من الشمال.