Professional Documents
Culture Documents
رؤوف توفيق - الواقعية الجديدة وعقد الثمانينات
رؤوف توفيق - الواقعية الجديدة وعقد الثمانينات
رءوف توفيق
1
الهذيان المحموم ،بعد أن فقد حبيبته ..وفقد توازنه ..واختلطت األمور بالنسبة
له ..ولم يعد يتحمل هذه المعركة الشرسة ..فكان االنهيار!
وقد فاز هذا الفيلم في جوائز الدولة للسينما المصرية ..بجائزة أحسن
إخراج ،وأحسن سيناريو ،وأحسن ممثل (حسين فهمى في دور المدرس
الجامعى).
وحقق فيلم "انتبهوا أيها السادة" صدمة المفاجأة ..أن السينما المصرية
تستطيع أن تقوم اشياء جادة وخطيرة ..لو أرادت!
* أهل القمة
وتتعاقب االفالم 4..حتى يعرض فيلم "أهل القمة" للمخرج على بدرخان..
ليفجر من جديد نفس القضية في عمل سينمائى متميز فنياً.
2
و"أهل القمة" هى في االصل قصة قصيرة للكاتب نجيب محفوظ ..وقد
اشترك المخرج على بدرخان مع كاتب السيناريو "مصطفي محرم" في تحويلها
إلى فيلم يموج بالحركة والحيوية والفن 4..وأيضاً بالتساؤالت واألفكار4.
فأهل القمة هنا ..هم اللصوص الجدد الذين استفادوا من قوانين االنفتاح
االقتصادى ..وتحولوا 4إلى فئة شديدة الثراء ،باهرة الشكل ،ترتدى أحدث
الثياب ،وتستخدم أفخم السيارات ..وتتستر أحياناً وراء مظاهر التدين ..فهناك
هذا المهرب الكبير الذى يرتاد المساجد ويتصدق على الفقراء وأصابعه ال
تفارق حبات المسبحة ..بينما في حقيقيته أفعى ضخمة تنفث سمومها ،وتقاتل في
معركة البقاء في هذه الغابة المتوحشة ..حيث المبدأ السائد ..اقطع اليد التى
امتدت اليك حتى تنفرد وحدك بكل شىء!!
والفيلم ..وكما أراد نجيب محفوظ في قصتة ..يضع المواجهه بين ضابط
شرطة شاب (عزت العاليلى) ونشال (نور الشريف) طالما تعقبه الضابط،
وقبض عليه ،وطالما استخدمه لالرشاد عن المسروقات وبينهما عالقة مشوبة
بالحذر ..أشبه ما تكون بعالقة القط والفار.
ويفاجأ الضابط ذات يوم باختفاء النشال من الوكر الذى تعود أن يجلس
فيه مع زمالئه النشالين ..ويتساءل الضابط عما حدث؟ ..لقد انخفضت جرائم
النشل في منطقته ..ولكن هذا ال يبعث على الطمأنينة! .فما هو تفسير اختفاء
النشالين؟! ويأتيه الرد من صاحب المقهى العجوز ،الذى أصبح وحيداً بعد ان
هجره زبائنه من النشالين" :انهم يعملون في ضوء النهار ..وتحت حماية
الشرطة"!!
ويكتشف الضابط الحقيقة ..لقد تحول النشالون إلى التجارة ..تجارة
المهربات ..وأصبحوا جزءاً من عصابة الرجل الكبير (يلعب الدور عمر
الحريرى) الذى 4يتمسح بالدين ..والعصابة تقوم على تهريب البضائع من
بورسعيد ..ثم عرضها للبيع في أحد أسواق القاهرة المزدحمة ،حيث تتكدس في
3
حوانيتهم الصغيرة كل أنواع 4البضائع وأغربها ..من الثالجات إلى التليفزيونات
الملونة إلى الصابون وشامبوه الشعر!!.
ويصف نجيب محفوظ هذه المأساة في تلك العبارة من قصته" :أصبح
هؤالء من األغنياء ..أما هو وأعوانه فيغوصون في غمار الفقراء"!
ويجسد الفيلم هذا الصراع من داخل بيت الضابط الشاب حيث يعيش مع
زوجتة وأطفاله ،وأيضا مع شقيقته وابنتها (سعاد حسنى) ..وحيث يصبح عليه
أن يحقق لهم المستوى المعقول من الحياة ،وأن يلبى كل طلباتهم ..في ظروف
صعبه ..وبدخل محدود 4..ومشاكل ال تنتهى ..وتأتى الصدمة القاسية عندما
يعرف أن ابنة شقيقته على عالقة عاطفية بالنشال التاجر حالياً ..وهو الذى وقف
حائراً ومشفقاً عليها عندما تقدم لخطبتها شاب متعلم ال يملك إال مرتبة الضئيل
وأحالمة الصغيرة ..ونصحها وقتها بأن تتريث في الموافقة 4..الن الحياة بهذا
الدخل المحدود 4ال يمكن أن تستمر أو تنمو ..وارتضت الفتاة بقراره ..أما حبيبها
الشاب فقد قرر السفر للخارج بحثاً عن العمل المريح ..وهكذا يحدث الشرخ في
حياه الفتاة ..وتصب عليها كل هموم البيت الصغير ..حتى تجد هذا النشال –
وهى ال تعرف حقيقته حتى اآلن– يمد لها يده بالحب والحنان ..وتتشبث بهذه
اليد ..وتصر عليه حتى بعد ان عرفت حقيقتة ..فلما ال ؟ مادام سيحقق لها
الحياه المريحة وينقذها من هذه الهموم والمتاعب !!.
وهكذا يجد هذا الضابط نفسة داخل معركة مع جميع األطراف ..المعركة
في بيته ..وفي عمله حيث يحاول المهرب الكبير االفالت من قبضة القانون ،بل
ويسعى الستصدار قرار بنقل الضابط إلى صعيد مصر عقابا له.
وينتهى الفيلم بهزيمة المبادىء والمثاليات ..وانتصار أهل القمة الجدد
من اللصوص والمهربين والنشالين!!
ويمكننا ان نالحظ تشابة نهاية فيلم "انتبهوا أيها السادة" مع نهاية فيلم "اهل
القمة" حيث يصبح على الفرد المؤمن بالشرف واالخالق ان يدخل في امتحان
4
صعب ،وفي ظروف اهتزت فيها الكثير من القيم والمبادىء 4..وفي كال الفيلمين
نجد هذا الفرد الشريف يواجه بحصار داخل بيته وفي مستقبله ..فالمدرس
الجامعي في فيلم (انتبهوا أيها السادة) تتضاعف مأساته عندما تنهار خطيبته امام
إغراء جامع القمامة الذى يصبح ثريا ،وترضى بأن ترتبط به بدال منه..
والضابط الشاب في فيلم (أهل القمة) يواجه نفس المأساة عندما يجد أبنه شقيقته
ترتبط بالنشال الذى طالما طارده وقبض عليه ،والذى يمثل له في النهاية
النقيض االخالقى!!
وكال الفيلمين يصالن إلى نفس النتيجه ..حيث ال يمكن للفرد الواحد أن
يواجه هذا االعصار الهائل الذى يهز كل ما حوله!
ويعتمد كال الفيلمين على براعة الممثلين الذين يقومون بأدوار المواجهه
بينهم.
في فيلم "انتبهوا أيها السادة" يتألق كل من محمود ياسين وحسين فهمى
وفي فيلم "أهل القمة" يتبارى نور الشريف وعزت العاليلى في أداء متميز وعلى
قدر كبير من فهم طبيعة الدور 4وابعاده النفسية.
وإ ن كان فيلم أهل القمة يحقق مستوى فنياً عالياً ..في التصوير (محسن
نصر) والمونتاج (سعيد الشيخ) ..وفي براعة المخرج (على بدرخان) بااللمام
بكل تفاصيل الموضوع واالحتفاظ بسخونة القضية منذ بداية الفيلم وحتى نهايته!
5
حيث يتعرض الفيلم لشاب وفتاة يتخرجان من الجامعه ،ويرتبطان
ببعضهما في قصة حب ..ويصبح عليهما االنتظار لحين وصول خطابات القوى
العاملة ،والتى تحدد لهما الوظيفة التى سيلتحق بها كل منهما ..ويطول
االنتظار ..سنة ..وسنتين ..وثالثه ..وتضطر الفتاة (ميرفت امين) ان تعمل
في محل كوافير لتقلم أظافر اقدام 4النساء ..وارتضى هو (نور الشريف) بناء
على نصيحة من جاره عامل البناء (سعيد صالح) ان يلتحق بنفس العمل كعامل
بناء!
وهكذا وضعا جانباً شهادتيهما الجامعية ،وكل سنوات العلم والتحصيل،
وكل احالم العمل في التخصص الذى درساه ..في مقابل أن يجدا مبلغاً من
المال ،ليسدا احتياجاتهما اليومية ..وليدخرا منه ما يصلح لبداية تأثيث بيت
الزوجية ..ولكن ام الفتاة (عقلية راتب) ال تتصور أن ابنتها من الممكن ان
تتزوج عامل بناء ..وتضغط عليها ":اما أن تتخلى عنه ..او أن يبحث هو عن
وظيفة محترمة".
وتحاول الفتاة ان تنقذ حبها ..وتستجيب القتراح زميلتها السابقة في
الجامعه (ناهد شريف) بان تسعى لها في االلتحاق كسكرتيرة باحدى شركات
تقسيم االراضى وبناء العمارات ..وبالفعل يتم تعيينها في هذه الشركة ..وبعد
فترة تقنع الفتاة خطيبها بان يلتحق بنفس الشركة وايضا بواسطة هذه الزميلة
الجامعيه السابقة..
ولكنهما يكتشفان في النهاية ..أنها شركة وهمية تقوم على النصب
واالحتيال ..وانها كسكرتيرة عليها أن تبيع جسدها مع الشقق التى تعرضها
للبيع ..ويكتشف هو انه تورط في عملية احتيال راح ضحيتها عشرات العمال
الذين أقنعهم بأجور خيالية ..فذهبوا إلى هناك ،ليفاجأوا بأن عقود العمل
مزيفة!!.
6
وتأتى النهاية بعد رحلة طويلة من المعاناة والضغوط 4..والفتاة تتسلم
خطاب القوى العاملة ..بينما الشاب يرفض العمل الحكومى 4..ويختار أن يبقى
كما هو بين السقاالت كعامل بناء!
والفيلم في مجموعه يقدم مأساة شاب باحالمه المشروعه في العمل
والحب واالستقرار 4..ولكن 4يواجه بكل التحديات الالاخالقيه ،والتى يفرضها
اصحاب الدخول الطفيلية ..فالعمل احياناً محسوبية ..وأحياناً ورطه يدفع ثمنها
الشاب صغير السن ،القليل الخبرة ..ويفلت منها الكبار الدهاة الذين ال يتورعون
عن فعل أى شىء في سبيل زيادة مكاسبهم!
وقد برع الفيلم في تقديم العالم من وجهة نظر فتاة تتعامل مع اقدام4
السيدات الفارغات عقال ،والمتكبرات ،والالتى يتباهين بصالتهن وأموالهن4..
كما برع في تقديم عالم النصيب واالحتيال في الشركات الوهمية حيث يصبح
كل شىء مباحاً من اجل إتمام الصفقات!! ..وبنفس البراعة قدم 4الفيلم عالم
الحارة المصرية وأخالقيات ابن البلد االصيل الشهم الذى ال يرضى بالحال
المايل ،حيث لعب "سعيد صالح" واحد من أفضل ادواره 4الفنية.
وإ ن كان يعيب الفيلم بعض االستطرادات 4إال أنه في النهاية يحسب
للمخرج على عبد الخالق انه استعاد مكانته الفنيه حينما قدم عام 72فيلم (اغنيه
على الممر) كأول فيلم من انتاج جماعة السينما الجديدة المصرية ..فها هو في
فيلم "الحب وحدة ال يكفي" يعلن من جديد انه مازال موجود على خريطة السينما
التى تستطيع ان تقول أشياء جادة!
* أمهات في المنفي
وهذا ما حدث أيضا للمخرج محمد راضى بفيلمة الجديد (أمهات في
المنفي) قصة وسيناريو الكاتب يوسف جوهر.
7
هنا محمد راضى يستعيد نفسه ..ويدخل تجربة االنتاج بقلب جرىء ليقدم
موضوعاً يحشد فيه العديد من النماذج التى استغلت االنفتاح االقتصادى في
مصر ،لتحقيق طموحاتها الشخصية.
واالم في هذا الفيلم هى أمينة رزق ،لها ابنتان متزوجتان (ماجدة الخطيب
وزوجها السيد راضى – وإ سعاد 4يونس وزوجها عادل أمام) ..واالم لها شقة في
وسط البلد ،تعيش فيها بمفردها ..ومن هنا يتفق الزوجان بمساعدة زوجاتهما في
اقناع االم بقبول عرض بيع الشقة بمبلغ ضخم على أن يأخذا انصبتهما ..وان
يتبادال بعد ذلك استضافة االم في منزليهما ..وامام االلحاح والكلمات 4المعسولة
والوعود البراقة بكرم الضيافة ..توافق االم 4..ويتم البيع ويأخذ كل منهما
نصيبه ..لتبدأ الكارثة!
فالنقود تغرى باالستثمار ..وكل المشاريع تبدو جذابة ومريحه !
ويقدم الفيلم بانوراما هائلة لكل الطموحات الملهوفة على الثراء ..وعالم4
اصحاب المشاريع واساليب الربح السريع ..من بيوت تدار للقمار ..إلى
التهريب إلى اصحاب البوتيكات ..إلى مشاريع استيراد السيارات ..إلى المكاتب
الوهمية والصفقات التى تتم على انفاس المخدرات.
عالم حافل برائحة النقود ..والعفن ايضاً!
بيتى ابنتيها ..ترى العجب
بينما االم تحولت إلى الجئه مشردة بين ّ
وتتألم ..وتعتصر حزناً على ما جرى ..فكل شىء ينهار ويتهدم حولها..
والجميع غارق في المستنقع ال يسمع إال صوته فقط!
إنها مرثيه بالغة المرارة ..لما تفعله النقود بالبشر..
ولعل أكثر الخيوط ايالماً وقوة في هذا الفيلم ..هذا الخيط الذى يمثله
(عادل امام) كموظف جمرك ميناء االسكندرية ،حيث أشتهر بين زمالئه
والعمالء ..بانه الموظف األمين المتشدد في حق الحكومة والذى ال يترك قشة
تمر من باب الجمرك دون 4حساب ..وتتم المحاوالت من جانب احد المهربين
8
الكبار (جالل الشرقاوى) 4لرشوته ..أحياناً في شكل وظيفة استشارية ..وأحياناً
في شكل مشروع استثمارى ..ولكن هذا الموظف بذكائه وحرصه يرفض كل
هذه المحاوالت ..والمهرب الكبير ال ييأس ..حتى يورطه في عالقة نسائية
ويهدده بالفضيحة ..وينهار موظف الجمرك ..ويدخل اللعبة ..ويلعب بقسوة
وشراسة ..حتى يسقط ضحيته زميله الشاب في الجمرك ..ويتهم بتهمه هو
يدرى تماماً أنه برىء منها ..ولكنه ال يستطيع أن يدافع عنه ..او يقدم دليل
براءته ..وينتحر زميله الشاب في السجن الحساسه بالظلم ..وهنا يشعر بفداحة
جريمته ..ويبدأ في االنتقام من الذين ورطوه في هذه اللعبة القذرة ..ولكن بعد
فوات االوان 4..وفي قفص االتهام داخل المحكمة يطلق صرخته الممزوجة
بالسخرية ..وكأنه ينعى نفسه!
الفيلم يزيد طوله الزمن عن الساعتين والنصف ..وكأنما أراد المخرج ان
يقدم كل شىء عن الجنون المادى ..ولهذا وقع في مصيده التشعب والتفاصيل
الكثيرة ..ولكن 4ما يبقى من هذا الفيلم جرأته البالغة ..وقيمته الفنيه التى أثراها
مدير التصوير الفنان عبد العزيز فهمى.
9
إلى أن شاهدت فيلم "العوامة "70الذى أبدعه أثنان من فرسان السينما
التسجيلية في مصر :المخرج خيرى بشارة والمصور محمود عبد السميع فالفيلم
مفاجأة حقيقية على كافة المستويات.
يحكى الفيلم قصة هذا الشاب (أحمد زكى) الذى 4يعمل مخرجاً تسجيلياً
والذى اختار أن يكون فيلمه الجديد عن القطن المصرى اآلن ...وينتقل مع
مجموعة الفنيين إلى أحد المحالج الصغيرة المنتشرة على خريطة مصر...
لتصوير جزء من رحلة القطن ..وهناك داخل المحلج ،يتعرف على الماكينات
القديمة التى يعود تاريخ صنعها إلى أوائل القرن الماضى ،والتى ما زالت تعمل
حتى اآلن ..ويتعرف على عمال المحلج 4..ومنهم نسبة كبيرة من األطفال
الصغار الذين يقفون بجوار الماكينات يلقمونها باالت القطن ..وكثيرا ما تلتهم
الماكينات أذرعهم الصغيرة في غفلة منهم ..ولهذا اطلق العمال على هذه
الماكينات "العفريتة".
ويكتشف المخرج التسجيلى أثناء تصويره لهذا الفيلم ..أن أحد العمال
يسعى متلهفاً ألن ينفرد به ليحكى له عن الجرائم التى تدور هنا في المحلج4..
ويحدد له موعداً في العوامة التى يسكنها على النيل ويأتى العامل (يلعب الدور4
أحمد بدير) خائفاً متردداً 4..حتى يشعر باألمان ..ويحكى للمخرج وخطيبته
الصحفية (تلعب الدور تيسير فهمى) كيف تتم طرق تبديد القطن ،وتهريبه..
تحت ستار افتعال حرائق بأكثر من طريقة !
وتتحمس الخطيبة الصحفية للموضوع ..أما المخرج الشاب فهو يتلقى
معلومات العامل بنوع من الشك ..وأحياناً بنوع من الالمباالة ..وأن كان يؤمن
تماماً بأن احتمال التخريب موجود 4سواء في المحلج ..أو في غيره من مواقع
اإلنتاج ..وأن النشر في الصحف ،لن يتم إال إذا كان هناك دليل مادى يؤمن
كالمها ..وهى هنا ال تملك دليالً مادياً !.
10
ولكن الخطيبة تحسم الموقف بضرورة االلتجاء إلى الشرطة إلبالغها
بأقوال 4العامل ..ويوافق العامل ..ويخرج من العوامة على موعد في اليوم
التإلى بمركز الشرطة ..وأثناء خروجه من العوامة ..يتلقفه أثنان من عمال
المحلج ،واللذان كانا يراقبانه ..وينقضان عليه في صمت حتى يفتكا به..
ويلقيان جثته في النيل ..وتنحشر الجثة تحت العوامة بضعة أيام !.
ويتسبب اختفاء العامل في قلق الصحفية ..لماذا لم يحضر في الميعاد؟..
ولماذا اختفي أيضاً عن المحلج؟ ..بينما المخرج الشاب اعتبر أن الموضوع قد
أنتهى بالنسبة له ..فقد توقع منذ البداية ،بأن كالم هذا العامل ..ما هو إال مجرد
"هلوسة" !
حتى تحدث المفاجأة المرعبة ..تطفو جثة العامل القتيل مرة أخرى أمام
العوامة ..لتفتح طريقاً من التحقيقات ،التى تنتهى إلى ال شئ ..ويدرك المخرج
أنه تسبب بال مباالته فيما جرى ..ويعذبه دائماً منظر جثة العامل القتيل ..يقول
لخطيبته في لحظة ندم ":مهما حاولت أشغل نفسى بأى حاجة ..بأشوف الجثة في
كل وقت 4..مرة شفتها في كابوس ..ودلوقت بأشوفها 4وأنا صاحى "!.
ويسرع المخرج إلى غرفة المونتاج ،لينهى العمل في الفيلم التسجيلى
الذى صوره في المحلج 4..أنه هنا يحاول أن يقول رأيه فيما يحدث ..فيقترح أن
تكون أول لقطة من الفيلم هى لقطة العامل الذى قتل ،والذى 4صوروه في
المحلج ..لينزل عليها صوت المعلق قائالً " هذا العامل قد قتل أثناء تصوير
الفيلم ..ألنه يحاول أن يكشف جريمة من أخطر الجرائم التى تهدد االقتصاد
القومى المصرى"!.
ويتوقف المونتير في دهشة ..لينظر للمخرج متسائالً ..بأن هذا يعتبر
خروجاً عن الموضوع 4األصلى للفيلم ...فينتفض المخرج مشدوداً ..متحمساً..
وكأنما أراد أن يسترد بعضاً من جرأته ..ليقول بصوت محدد" ..أنه يتحمل
مسئولية الفيلم كامالً".
11
ولكن ..هل هذا يكفي ..أنه يشعر بأن عليه أن يفعل شيئاً ملموساً أكثر..
فيسعى إلى عمه (يلعب الدور كمال الشناوى) 4الذى 4كثيراً ما يجلس إليه يستمع
إلى تجاربه الطويلة في الحياة ..في تلك الليلة كان العم يحكى عن جريمة قتل
قام بها ضد الجنود اإلنجليز في معسكرات اإلنجليز أيام احتاللهم لمصر ..يقول
العم ملخصاً تجربته "تعلمت أن أبادر ..قبل أن يبادر اآلخرون".
ويلتقط المخرج الشاب ..هذه الجملة ..ليسرع في اتجاه المحلج 4..ليبحث
عن الحارس ،الذى شهد ويشهد عمليات تهريب القطن ..ويعرف من هم قتلة
العامل الذى حاول أن يكشف الحقيقة ..وعندما يرى الحارس ينقض عليه ضرباً
ولكماً ..يحاول انتزاع األسماء منه ..ولكن زمالء الحارس يخلصونه من
قبضته ..وال يحصل المخرج على شئ ..فيعود إلى عوامته ..وقد قرر أن
يصفي حسابه مع نفسه ..وأن يقطع كل االرتباطات التى يتصور أنها تعوق
حركته ..حتى عالقته مع خطيبته ..التى تفاجأ بأنه يخلع دبلة الخطوبة ،ويلقيها
جانباً ..فتنظر له بدهشة وقد هزتها الصدمة ..لتقول له وكأنها تصحح موقفه "
بقى بعد الحواجز اللى بينا كلها ما انكسرت ..بعد ما بقينا واقفين على األرض
ألول مرة في حياتنا ..تيجى أنت بمنتهى السهولة ترمى أجمل حاجة في حياتنا..
أجمل في حياة اثنين في أى حتة في العالم"!.
ينظر بعيداً ..وفي عينيه كل األصرار والتحدى ..ليقول "فيلمى الجاى
عن البلهارسيا ..اللى ماخفش منها أخويا وابن عمى لغاية دلوقت ..مين
المسئول ؟" !! وينتهى الفيلم بهذه الكلمات.
وفيلم "العوامة رقم "70جرعة مكثفة من المشاعر ..تقتحم المتفرج،
هادرة ،متدفقة ..لتضعه على نفس األرض التى يتحرك عليها أبطال الفيلم..
فكى شئ صور في أماكنه الطبيعية ..وبكاميرا حساسة واعية ال تفسد الواقع
باإلضاءة الصناعية ..وأنما يشع كل مكان بالضوء الحقيقى له ..وبعد دقائق من
عرض الفيلم تكاد تنسى أنك في قاعة عرض تشاهد فيلماً ..وأنما ينتابك هذا
12
األحساس بأنك جزء مما تراه ..فهذه الهموم 4والتساؤالت ..وهذا القلق ،والرغبة
في الفرار ،ثم الرغبة في االقتحام ..وهذا اليأس واإلصرار 4..هى مشاعر
حقيقية ربما انتابتك يوماً ..أو أحسستها في صديق أو قريب !.
وجسد الممثلون أدوارهم ببراعة وصدق وفهم..
أحمد زكى ..الفنان الذى ينطلق في السينما المصرية بسرعة رهيبة،
متجدداً ،متنوعاً ،كأنه نصل سيف حاد ،يمزق كل األنماط التقليدية في التعبير..
ليعرض مبدأ الصدق والتقمص الكامل للشخصية التى يؤديها ..وفي هذا الفيلم
يعطى أحمد زكى ..جزءاً من طبيعته الخاصة ..كفنان قلق ..عصبى ..وعندما
جلست معه ألناقشه في دوره بالفيلم ..أحسست بمدى حماسه له ..وكأنه يتكلم
عن تجربته الشخصية في الحياة ..يقول لى أنه عندما عرض عليه ..سيناريو
الفيلم ..وافق دون أى شروط ..ألنه على حد تعبيره ..وجد فيه بعضاً من
نفسه ..وأثناء التصوير ..شعر أنه ال يمثل ..وأنما يعيش حياته!
وقدم 4الفيلم ..الوجه الجديد" ..تيسير فهمى" ليضعها في مصاف الممثلين
الكبار ..نجحت "تيسير" في أن تكون النغمة الصحيحة داخل هذه المعزوفة4.
ولعب "كمال الشناوى" و"ماجدة الخطيب" أحسن أدوارهما في السنوات
األخيرة ..وأذكر بالتحديد ماجدة الخطيب التى أعادت إلى أذهاننا تألقها الفنى في
فيلمها "زائر الفجر" ..أنها هنا تلعب دور أبنة القرية التى هجرتها مع عائلتها،
بعد خالفات كثيرة مع عائلة المخرج الشاب ..كانت تكبره بست سنوات ..وكان
هو طفالً صغيراً يخرج من بيته ..ليلعب معها ..ثم نام على ساقيها ..وكبر كل
منهما ..وتغيرت أحوالهما ..أنها اآلن تعيش في القاهرة ..ترعى والدها
المشلول الذى أصابه المرض بعد رحيل ابنه الوحيد إلى أمريكا ..أنهار األب4..
وعاشت هى تحاول أن تتماسك ..حتى التقت بالمخرج من جديد وشعرت من
قلقه أنها من الممكن أن تعطيه بعض االستقرار ..ولكنها كمن قبضت على
الهواء.
13
وقد استطاع سيناريو الفيلم الذى كتبه "فايز غالى" ،كما كتب الحوار
أيضاً ،أن يضمن العديد من المواقف 4والتفاصيل اإلنسانية الصغيرة ..التى تشكل
في النهاية هذا الواقع القلق للشباب في مرحلة الصراع والتحوالت األخيرة التى
مرت بها مصر.
فهذا المخرج التسجيلى الشاب ..بطل الفيلم يستطيع أن يصنع أفالماً
تسجيلية جرئية تثير االهتمام ..ولكنه ال يستطيع أن يعيش حياته بنفس الجرأة..
وهو لهذا يشعر بالتوتر ..والحيرة ..والقلق ..وبقدر حيرته يصبح لغزاً بالنسبة
للذين يتعاملون معه..
أنه في أحدى لقاءاته مع عمه ..يشعر برغبته في المكاشفة ..فيقول
له":تعرف يا عمى ..أجمل حاجة في حياتك أنها غنية ..الواحد 4لما يبص لها..
ويبص لحياتى يالقيها فاضية ..أو على األرجح 4متلخبطة ..الغريبة أن أنا وسط
كل اللى يبحصلى ..مش القى حكاية ..حكاية واحدة ممكن أحكيها زى
حكايتك"!.
ويقول هو عن نفسه بين أصدقائه ..يشكو لهم عدم فهم خطيبته له ":أنا
كده ..وحأفضل كده ..جايز في يوم أتغير ..وجايز ما أتغيرش ..لكن اللى
أعرفه أن أفالمى حتعيش ..وحتحرك الناس يوم ورا يوم ".
وربما هذه الكلمات األخيرة ..هى أحسن تعبير عن حلم مخرجى السينما
التسجيلية ،في صراعهم المرير من أجل تأكيد رسالتهم السينمائية.
حوار مع المخرج :
والمخرج خيرى بشارة – قدم 4للسينما التسجيلية عدداً من األفالم 4الهامة
منها :صائد الدبابات – طبيب في األرياف – حديث القرية ..وفاز عن هذه
األفالم بعدة جوائز ..وله أيضاً تجربة سابقة في األفالم الروائية الطويلة حيث
أخرج فيلم "األقدار 4الدامية" عن مأساة هزيمة حرب ..48وفيلم "العوامة "70
14
هو فيلمه الروائى الثانى ..وقد 4كتب هو قصته.وفي لقاء معه ..سألته عن
المعنى الذى يقصده من عنوان فيلمه "العوامة رقم "70
أجاب -أننى أقصد فترة السبعينات التى مرت بها مصر ..وقلق جيلى خالل
عشر سنوات.
سألته :ما الذى تريد أن تقوله في الفيلم ؟
أجاب :الفيلم مجرد تشخيص حالة.
-وما الذى وصلت إليه في هذا التشخيص ؟
-أن الحل الفردى ليس هو األسلوب األجدى لمواجهة المشاكل ..بل هو الحل
الجماعى.
-أين أنت من بطل هذا الفيلم ؟
-الفيلم عنى ..وليس عنى ..فجذورى ليست ريفية ..ولم احتك بجريمة كبيرة
في حياتى ..ولكن كل القلق الذى مر به بطل الفيلم ..مررت به أنا..
والمتغيرات التى حدثت في المجتمع المصرى انعكست على حياتى في شكل
صراعات مستمرة ..هل أبيع نفسى وأخرج أفالم الحواديت ..أم استمر في
األفالم التسجيلية.
-لقد عشت فترة في بولندا ..ما الذى استفدته هناك ؟
-بعد تخرجى من المعهد العإلى للسينما ..اكتشفت أننى تزودت بثقافة
سينمائية ..ولكنى افتقر إلى خبرة الحياة ..وفي لحظة يأس ..قطعت تذكرة ذهاباً
بال عودة على ظهر مركب مسافرة إلى بيروت ..ومنها تنقلت إلى أكثر من
بلد ..حتى وصلت إلى بولندا ..كان عمرى وقتها 21عاماً ..عشت هناك
عامين ..لم أتلق في بولندا دراسة عن السينما أو االيدلوجيات 4..ولكنى درست
الحياة وتأثرت جداً بأسلوب البولنديين في حبهم الشديد للحياة ..والروح 4الساخرة
عند الفنانيين في نظرتهم للواقع ..وتعرفت على أفالم كبار المخرجين
البولنديين ..وعندما عدت للقاهرة ..اكتشفت أننى جاهل بمصر ..وقلت وداعاً
15
للغة السينمائية ..وداعاً النبهاري بها ..وبدأت أغوص في قرى ومدن 4مصر..
أبحث عن الحقيقة واإلنسان4.
-ماذا استفدت من تجربة العمل في السينما التسجيلية ؟
-استفدت الكثير ..ربما أهم شئ ..انى اقتربت أكثر من الناس.
حوار مع المصور:
وفيلم "العوامة رقم "70هو أول فيلم روائى طويل يصوره الفنان محمود
عبد السميع بعد رحلة طويلة مع األفالم 4التسجيلية صور منها ما يزيد عن المائة
فيلم ..وفاز بعدة جوائز ..وهو عندما يحكى عن تجربته السينمائية ،يقول أنه
بالرغم من تخرجه من كلية الفنون التطبيقية إال أن تخرجه الحقيقى جاء من
جمعية الفيلم "فأنا عضو فيها منذ إنشائها عام ..1960حتى أصبحت رئيسها في
الفترة األخيرة ..ومن احتكاكي بالمثقفين والنقاد ومشاهداتى لألفالم 4..قررت أن
أكون على نفس المستوى
سألته كيف تفهم التصوير السينمائى؟
أجاب – التصوير بالنسبة لى ليس بحثاً عن جماليات الصورة ..وأنما بحثاً عن
قوة التعبير في الموضوع بالصورة ..فأنا ضد التكوينات المفتعلة ..أو الكادرات
الغريبة وما يأسرنى تماماً هو قوة الموضوع 4ومدى 4واقعيته.
-من الواضح 4في فيلم العوامة ..تحكمك في توزيع األضاءة..؟
-لقد علمتنى تجارب التصوير في األفالم التسجيلية ..أن أتصرف في أضيق
االمكانيات ..فقد تعرضت لمواقف صعبة وكان على أن أصور بال اضاءة
تقريباً ..وبالفعل صورت أفالماً تسجيلية على كشافات السيارات ولهيب أعواد
الكبريت ..إن قلة االمكانيات تولد حلوالً 4عظيمة ..ولكن من أهم األشياء التى
تعلمتها من األفالم التسجيلية ..أن المكان ال يقل أهمية عن اإلنسان ..فمثالً
الحائط ال يقل عندى أهمية عن أى ممثل ..فاالثنان يمثالن أمامى"..
16
وهكذا أهدت السينما التسجيلية في مصر ..اثنين من أفضل رجالها ..إلى
السينما الروائية.
وكأن السينما التسجيلية هى األم ..التى تربى أوالدها ..حتى يكبروا..
ويستقلوا بأنفسهم ..ويخرجوا من بيت العائلة إلى بيوتهم الجديدة.
ربما كان هو خروجاً من الظل ..إلى دائرة الضوء ..والشهرة4.
ولكن ..نادراً ما ينكر أحد منهم ،فضل السينما التسجيلية عليه ..أنها
المدرسة الحقيقية للسينما الواقعية ..ولهذا يعود إليها الكثيرون إذا ما شعروا
يوماً بصعوبة الحياة ..واشتاقوا 4إلى دفء األم 4..وحنانها ..وصدقها!4
17
* سواق األتوبيس ...جوهرة أفالم الثمانينات:
هناك نوع من األفالم 4،تشعر أنك تحمله بداخلك ،وال تدرى بالضبط هل
هذا الفيلم جزء منك ...أم أنك أنت جزء منه ؟
ذلك ألنه في لحظات كثيرة ...تتراءى لك بعض مواقف الفيلم ...ويرن
في أذنك صدى بعض من حواره ...وتشعر أنك أشتركت في هذه المواقف من
قبل ...أو قلت هذا الحوار 4...أو تمنيت أن تقوله.
وهذا النوع من األفالم ...قليل ونادر كندرة الصدق في حياتنا ...ولهذا
يبدو كجوهرة أصيلة وسط ركام الزيف واالفتعال 4وهوجة ركوب الموجة وفيلم
"سواق األتوبيس" جوهرة حقيقية في السينما المصرية عام .83
يفتتح فيلم "سواق األتوبيس" بحادثة نشل داخل أحد أتوبيسات القاهرة.
وينتهى الفيلم أيضاً بحادثة نشل داخل نفس األتوبيس ...السائق هو نفسه لم
يتغير.
ولكنه كما رأيناه في أول الفيلم يهم بمطاردة النشال ومعاقبته وعندما
يكتشف أن النشال أسرع منه في الحركة واالختفاء ...يتراجع عن مطاردته
ويعود إلى مقعده مستسلماً ليقود األتوبيس وكأن شيئاً عادياً قد حدث...
بينما في نهاية الفيلم ...يتغير موقفه ...يصبح أكثر جرأة وضراوة...
يقفز من مقعده ليطارد النشال ،ويحاول النشال أن يرعبه بمطواة حادة يشهرها
في وجهه ...ولكن السائق يلعن كل حواجز الخوف 4...ويقتحم الخطر ...وبكل
األلم والمرارة والغيظ الذى يعتمل في داخله ينهال على النشال ...لكماً
وصفعاً ...وهو يلعنه في صيحة غضب " يا أوالد 4الكلب 4...يا أوالد 4الكلب"...
وينتهى الفيلم بهذه اللعنات وهى تدوي...
ما الذى تغير في شخصية هذا الشاب سائق األتوبيس ؟
إن فعل النشل واحد 4،في بداية الفيلم ونهايته ...وأيضاً ألم الضحية واحد،
في بداية الفيلم ونهايته ...ولكن 4سائق األتوبيس لم يعد كما كان...
18
كان مراقباً لألمور ،بوعى ،وفهم 4...ولكن كانت تنقصه القدرة على
الفعل ،ليس خوفاً من المواجهة 4...وإ نما إلحساسه أنه لن يغير شيئاً من الواقع
وفي نهاية الفيلم ...نرى هذا الشاب سائق األتوبيس ...يتخلى عن حذره
وتردده ...ويدخل المواجهة ...ليس النشال في حد ذاته هو المقصود ...ولكن
كل هذه القوى الفاسدة التى خلخلت القيم األصيلة !.
فهذا النشال هو رمز للذين سرقوا الحياة ...وأجهضوا األحالم4...
وحولوا 4األيام إلى عملية حسابية ،أرباح وخسائر ،أرصدة ومصالح خاصة،
سمسرة ومضاربات ...وعالقات تقوم على النقود ...وتوارى الحب والحنان...
وتحولت الروابط األسرية إلى هياكل من الورق !.
هل أنتهت المعارك؟
سائق األتوبيس (نور الشريف) شاب أنضجته أربعة حروب خاضها...
فقد أشترك في حرب اليمن ...وحرب ...67ثم حرب االستنزاف ثم حرب
...73شاب مصرى عاش أجمل سنوات عمره بين البارود والنار ...يواجه
الخطر في كل لحظة ...ومع اشراقة الشمس كل صباح كان ال يدرى هل سيأتى
عليه الليل حياً أو أن يكون شهيداً؟ ...أيام ال يعرف طعمها إال من عاشها:
(قعدت ثالث سنين راقد في خندق أيام حرب االستنزاف ...وعديت مع اللى
عدوا في ...73قابلت كثير ...وعاشرت كثير ...ولكن عمرى ما حا أنسى
زميلنا صادق اللى مات في ...73عدى معانا ...رقصنا ...فرحنا كلنا ...وما
كنش يعرف أنه حيموت بعد لحظات ...مات قدامنا بين أيدينا).
هذا الشاب بكل تجربته العظيمة ،وبكل مشاعره النبيلة ...يعود إلى أهله
وبيته ...ليخوض معركة جديدة ليتزوج من الفتاة التى أحبها وأحبته (ميرفت
أمين) ويتحمل بكل الصبر أهانات أم زوجته (زهرة العال) وتنديدها المستمر
بأن ابنتها ارتضت أن تتزوج سائق أتوبيس...
19
ولكن الحب بينهما لم يسمح بهذه االعتراضات أن تهدد حياتهما...
وأنجب منها طفالً جميالً ...وباعت مصوغاتها لتشترى لحسن سيارة تاكسى
ليعمل عليها في وقت فراغه ،ويسدد اقساطها من عائدها ...ولكن 4هل انتهت
المعارك؟ ال ...فهناك أشرس معركة قدر عليه أن يخوضها ...معركة داخل
أسرته بين أخوته البنات وأزواجهن 4وقد 4تفرق كل منهم في عالمه الخاص بينما
والده يعانى من أزمة مالية خطيرة وقد 4سقط مريضاً من هول الصدمة ...فقد
فوجئ األب بأن هناك ضرائب متأخرة عليه وصلت إلى عشرين ألف جنيه...
إما أن يسددها فوراً أو تباع -في المزاد العلنى – ورشة األخشاب 4التى يملكها
ويعيش فيها ولها ...فقد بنى هذه الورشة طوبة طوبة ...وصنع آالتها بنفسه...
واتسعت بمجهوده واصراره حتى أصبحت من الورش ذات السمعة الطيبة في
السوق ...فهل بعد هذا العمر كله يضيع كل شئ في لحظة ؟!
أنها معركة جديدة عليه أن يخوضها لصالح والده 4...بحثاً عن الحق
الضائع...
ومن هذه المعركة ...يبدأ الفيلم أحداثه الحقيقية...
فالفيلم ال يخوض في تفاصيل الحروب 4التى خاضها سائق األتوبيس من
أيام حرب اليمن إلى حرب ...73وإ نما يوجزها المخرج عاطف الطيب في
مشهد بالغ الرقة والشفافية ...عندما يتجمع رفاق السالح في نزهة خلوية عند
سفح األهرام في ليلة قمرية ...وصدى أغنية قديمة لعبد الحليم حافظ تتردد من
مذياع السيارة التاكسى ...وتدريجياً تتالشى األغنية ...ليبدأ توزيع موسيقى
جديد لنشيد "بالدى بالدى" في أيقاع حزين ...ومجموعة األصدقاء يتذكرون
أيام الحروب ...وقد صورتهم كاميرا الفنان "سعيد الشيمى" ورمال سفح الهرم
تحيط بهم ...والهرم ببنائه الفخم المعجز يطل عليهم ...وهم متناثرون في حلقة
دائرية ...وكأنهم جزء من تاريخ مصر الطويل...
20
جيل من الشباب أعطى وضحى ...وعاش لحظات البطولة واالنكسار4...
وتفرق منهم من تفرق ...بالموت أو الغربة عن الوطن 4...أو الغربة داخل
مجتمع ال يعرفون ما الذى جرى له ؟!
أنه مشهد من أهم مشاهد الفيلم ...وأكثرها تعبيراً عن فن المخرج
"عاطف الطيب".
والمشهد يقطر بالحزن والشجن.
وهذا الحزن النبيل يطرز الفيلم من بدايته إلى نهايته ...فنحن منذ البداية
ورغم التوزيع الموسيقى الجديد للحن سيد درويش "طلعت يا محال نورها" على
رحلة اتوبيس داخل شوارع القاهرة المزدحمة ...إال أننا نشعر بأن شيئاً ما
سينكسر !.
ومع اإليقاع المتدفق بالحيوية ،والذى يتشكل من عشرات من التفاصيل
اإلنسانية الصغيرة والتى تعبر عن الحياة اليومية المصرية ...يأخذنا الفيلم إلى
رحلة هذا الشاب سائق األتوبيس ليحصل لوالده 4على حقه الضائع ...وليعيد إليه
حياته وعافيته مع دوران آالت الورشة التى صنعها.
والرحلة مريرة ...ساخرة ...تعرى الوجوه القبيحة التى أعمتها النقود
حتى لم تعد تدرى موضع قدميها ...وإ لى أى جذور تنتمى...
فاألخوة البنات ...كل منهن أغلقت باب بيتها على نفسها ...وعاشت4
عالمها الخاص مع زوجها وأوالدها ...وال يستطعن تقديم المساعدة لوالدهن في
أزمته الحادة ،سوى 4ترديد الكلمات الطيبة والدعوات 4...وكأن كلمات المجاملة
ستحل المشكلة ...ولكن هذا ال يهمهن في الحقيقة ...بقدر ما يسعين إلى ازاحة
المشكلة خارج أبواب بيوتهن...
أما األزواج 4...فكل منهم شق طريقه في التجارة ...أحدهما استولى على
إيراد ورشة األخشاب ووظفها لحسابه الخاص ...والثانى وجد طريقه في
أسواق بورسعيد حيث يتاجر في كل شئ ...وال يهتم بأى شئ سوى أرباحه...
21
والثالث استقر في دمياط تاجراً لألثاث ...وال يكاد يتعرف على شقيق زوجته...
فالصالت مقطوعة منذ زمن طويل ...وهو مشغول بتنمية ثروته ...ويماطل
ويتلون عندما يدرك المهمة التى جاء من أجلها شقيق زوجته ...فإذا كان الوالد4
مريضاً فألف سالمة وتمنيات بالشفاء ...وإ ذا كانت الورشة محجوز عليها
للضرائب ...فهو مستعد لشرائها وهدمها لتحويلها إلى عمارة ...أما ما عدا هذا
فليس عنده وقت 4للمناقشة...
وكما يبرع سيناريو "بشير الديك" في رسم الشخصيات ...فهو أيضاً
يضع على لسانها عبارات الحوار المعبرة والمركزة والتى تنم عن فهم كامل
ألسلوب هذا النوع من التجار ...فالعمل اليومى يبدأ وينتهى بالنقود ...ولكن ال
مانع من بعض الطقوس كستار الستكمال الشكل الخارجى !
ويتوقف المخرج "عاطف الطيب" ليلخص هذه المواقف والنماذج داخل
صورة سينمائية خالصة ...فكل لقطة تضيف معلومة جديدة ...وترسم أبعاد
الشخصيات من خالل أسلوب األداء وطريقة النطق بالكلمات...
ورحلة الشاب إلنقاذ والده ...تزداد مرارة وحزناً ...حتى زوجته التى
عاش معها قصة حب رائعة ...تنتهى القصة بمأساة ...فالزوجة 4ترضخ لكلمات
أمها وأحد أقاربها ،للخالص بنفسها من هذه الحياة التى تعيشها مع سائق
األتوبيس ...ويأتى مشهد االنفصال رائعاً حزيناً ينعى كل هذا الحب الذى
كان ...واألحالم التى ستكون...
وقد اختار المخرج "عاطف الطيب" مجموعة من الممثلين بعناية
واضحة ...ووضعها في اطار الفيلم لتخدم الموضوع بكل تفاصيله الصغيرة.
ولهذا رأينا فنانين ال يمثلون أدواراً 4...بل يعيشون حياة كاملة.
على القمة يأتى نور الشريف الذى أعطى خالصة تجربته الفنية في
شخصية تعبر عن جيل من الشباب يحارب أكثر من معركة من أجل الحق
والعدل
22
وانعكس على وجه نور الشريف كل عذابات تفاصيل معركته إلنقاذ
والده ...فالعينان تخبئان كالماً كثيراً ال تقوى الشفتان على البوح به ...ولكن4
كل الكلمات تصلنا ...ونرددها معه...
ميرفت أمين ...عادت إلى الشاشة أكثر نضجاً ...عماد حمدى في دور
األب أعظم تتويج لهذا الفنان العظيم وهو ينهى اآلن حياته الفنية ...في هذا الفيلم
لم يكن أباً عادياً ...ترتعش الكلمات على شفتيه من الحزن والصدمة 4...ولكن4
كان أباً يعبر عن معنى جحود األبناء ،وضياع العمر ...حتى الممثل الهزلى
"وحيد سيف" تخلى عن لزماته المتكررة وخضع للدور 4الذى يمثله ...تاجر من
بورسعيد ...بكل ما توحى هذه الكلمة من فهلوة وثراء سريع بال أساس...
ولعب "على الغندور" و "حسن حسنى" و"محمد شوقى" أهم أدوارهم
السينمائية حتى اآلن...
وقدم 4الفيلم على نفس المستوى من االهتمام أدوار 4الممثلين الشبان":صفاء
السبع" – "شعبان حسين" – "سمير وحيد" – "محمد كامل".
وكذلك قدمت "نبيلة السيد" مزيجاً من خفة الدم 4،وسلبية الزوجة التى
تخاف على مشاعر زوجها ...وهى نفس السلبية التى يؤكدها الفيلم من خالل
شخصية زوجة تاجر دمياط "علية عبد المنعم" ...وأيضاً شخصية األم "عزيزة
حلمى".
إن المرأة هنا ...هى المرأة المغلوبة على أمرها !
وإ ذا كان فيلم "سواق األتوبيس" يعتبر شهادة ميالد فنية للمخرج الشاب
"عاطف الطيب" ...فإن الفيلم يؤكد من جديد براعة المصور "سعيد الشيمى" أحد
الشبان الموهوبين الذين يصنعون السينما المصرية اآلن بحب وفهم 4وجمال...
ويؤكد الفيلم أيضاً على هذا األحساس المتوهج في المونتاج للفنانة نادية
شكرى ...والتى حافظت على إيقاع الفيلم ساخناً ،ومريحاً...
23
وكشف الفيلم عن موهبة الموسيقار "كمال بكير" الذى طوع األلحان
القديمة المتداولة ،ليصنع منها موسيقى لها مذاق خاص كانت من أهم دعائم
نجاح الفيلم ...إنه فيلم صنعه حب الذين تعاونوا فيه ...وإ يمانهم بالرسالة التى
يريدون إبالغها للجمهور4...
وقصة الفيلم كتبها المخرج "محمد خان" والذى يعتبر من أهم عالمات
السينما الجديدة في مصر ...شاب موهوب يبحث ويقرأ ويفكر ويتعلم دائماً...
وهو صديق شخصى لكاتب السيناريو "بشير الديك" وللمخرج الشاب "عاطف
الطيب" ...وفي كل لقاءاتهم تشغلهم مسألة تقديم شخصيات ومواقف 4غير
تقليدية .والتى استهلكتها السينما المصرية على طول تاريخها ...أنهم يؤمنون
أن المجتمع بكل أحداثه اليومية يصلح لصنع سينما مختلفة ،لها طابع مصرى
متميز ،وتستطيع أن تغزو العالم 4..وقصة فيلم "سواق االتوبيس" ولدت في احدى
لقاءاتهم هذه ..وأعيد كتابة السيناريو أكثر من مرة حتى وصل إلى الصورة التى
ظهر بها الفيلم..
24
كان أول فيلم قدمه "عاطف الطيب" ..فيلم تسجيلى قصير عام 76بعنوان
"مقايضة" يحكى فيه رحلة فالح بسيط يعمل طوال العام في حقله ..ثم عندما
يبيع المحصول ..يذهب إلى المدينة ليشترى راديو ترانزستور ..لينقل له
الراديو اعالنات البرفانات والشامبو !!
أول فيلم طويل اخرجه عاطف الطيب كان عام ..81والفيلم بعنوان
"الغيرة القاتلة" – أول عرض له في القاهرة كان في مارس -)!!( 83قام
عاطف الطيب بانتاج هذا الفيلم لحسابه حتى يجد مكاناً له على الشاشة" ..وال
انكر فضل نور الشريف في مساعدتى النتاج هذا الفيلم ..ولكن عندما عرض
للنقاد في عروض خاصة ..كتب بعض النقاد يهاجمون الفيلم ..يومها بكيت
بدموع غزيرة ..وشعرت اننى لن اقدم شيئاً ناجحاً على الشاشة ..واننى ابتعد
عن حلمى بمسافات طويلة ..السينما هى هوايتى وحياتى ..فكيف اخرج من هذا
المأزق ..ظللت فترة طويلة متردداً ..خائفاً ..وحتى بعد أن انتهيت من فيلم
"سواق االتوبيس" لم أكن متأكداً من نجاحه ..وتصورت أن هذا الفيلم لو فشل..
فلن أعمل مرة أخرى في السينما ".
25
"أهم قضية بالنسبة لى أن احافظ على نفس المستوى الذي وصلت إليه..
وأن أكون صادقاً دائماً وال أنحنى الغراءات 4السوق 4..أننى اتمنى ان أكون فرداً
وسط مجموعة من السينمائيين تهدف إلى خلق سينما خاصة متطورة ..لها روح
وطعم مصرى ..وتلعب دوراً هاماً في إثارة الفكر والحيوية عند المتفرج".
كان فنان رائع حفر اسمه في تاريخ السينما المصرية بأحرف من نور..
أنه عاطف الطيب.
26
بدايات المسافرين للخارج
وكان لسينما الثمانينات سبق تناول هذه القضية عام 86من خالل فيلم "عودة
مواطن" الذى كتبه عاصم توفيق واخرجه محمد خان وتحمس النتاج الفيلم
وتمويله الفنان يحيى الفخراني في أول تجربة انتاج له.
ومن حسن حظ السينما المصرية انها لم تتطرق لهذا الموضع على يد أحد
الجهالء فاقدي 4الحس االجتماعى والفنى ،فما أسوأ أبتذال القضايا الجادة
وتشويهها حتى تصبح مكروهة من الجميع !
ويبدأ الفيلم من لحظة العودة إلى االسرة ..بعد غياب طال لثمانى سنوات،
وحساب في البنك هو حصيلة جهدة وعملة طوال هذه السنوات ..وسيارة فاخرة
حديثة ..وأحالم باالستقرار والدفء 4العائلى فما الذى يتحقق من هذه االحالم ؟
في تلخيص زكى وبارع يقدم لنا الفيلم في مشاهده االولى 4..مالمح
الشخصية والمكان 4..فمع هبوط الطائرة القادمة من الدوحة 4..لتالمس أرض
مطار القاهرة نتعرف على شاكر (يحى الفخرانى) العائد إلى الوطن ..وعلى
وجهه ابتسامه لهفة وتفاؤل ..حقائبه العديدة تفصح عن كمية الهدايا ..لمعة
العينين تحاول أن ترصد كل التغيرات التى حدثت في الطريق والمبانى..
والبشر أيضا..
27
األخت الكبرى (ميرفت أمين) التى يبدو أنها ترعى شئون البيت ..وقد
تفرغت لهذه المهمه عن حب واقتناع ..وكثيراً ما تفاجىء اخواتها بصنع
"تورتة" تتفنن في تزينها ..فأعمال الحلوى 4تستهويها..
وهذا الخال (عبد المنعم ابراهيم) يعيش بمفرده حياة بسيطة ..يعمل في
مصنع الحديد والصلب 4..ومن الواضح 4أن عالقتة بالشقيق االصغر هى أوضح
العالقات وأكثرها فهماً وتواصالً..
ولكن تدريجياً يكتشف – كما نكتشف نحن – أن األخوة الذين يضمهم بيت
واحد ..أصبح المكان وحده هو الذى يجمعهم ..أما كل واحد منهم فقد تحول إلى
28
جزيرة معزولة لها عالمها الخاص وأهتماماتها وهمومها ..الحوار ما إن يبدأ
حتى يتقطع وينسحب كل إلى داخله.
نفس االمر الواقع الذى صدمه عندما ذهب إلى مقر العمل الذى كان يعمل
به كمحامي قبل أن يسافر ..ففوجىء أن مقر العمل تحول إلى صالة رقص
"ديسكوتيك " ..وان مديره السابق هو نفسه صاحب ومدير صالة الرقص ..وأن
زميلته التى أحبها وكان يتمنى الزواج منها ..قد تزوجت المدير!
كل هذه المتغيرات التى فؤجىء بها ..أصبحت جزءاً من االمر الواقع
الذى يجب أن يتعامل معه.
لقد غاب ثمانى سنوات ..وفي هذه السنوات حدثت أشياء كثيرة في
المجتمع المصرى ..بالقطع سمع عنها وهو في غربته ..ولكن أكثر ما أفزعه
أن يمتد تأثير هذه التغيرات إلى داخل بيت األسرة ..وبين أخوته !
فهو يقف مذهوالً حائراً أمام حالة الغيبوبة التى يعيشها شقيقه ..سواء في
قتل الوقت 4بلعب الشطرنج ..أو بابتالع الحبوب المهدئه لالنفصال التام عن
الواقع.
29
وال يملك حتى الثورة او الغضب إزاء هذه الحالة الموجوده داخل البيت..
وتصفعه في كل لحظة يشاهد فيها شقيقه وقد ألقى بجسده على المقعد او السرير
في تخاذل ووهن شديد ..وكأنه أصبح جثة فاقدة 4النبض والحيوية تردد كابوساً
مزعجاً عن خبر قرأة في أحدى الصحف يقول إن تعداد مصر عام 2000
سيصل إلى تسعين مليوناً ..وإ نه يتصور أن الناس في ذلك الوقت" 4ستأكل
بعضها" !!
ماذا يفعل الشقيق العائد امام هذا المنطق المتشائم ..والمبرر المرفوع
الختيار الغيبوبة؟
هل يسخر؟ ..هل يناقش؟ هل يمد يد العون الجتياز االزمة؟ وما الذى
يجب ان يفعلة ؟
الوحيدة التى استجابت لنداء النقود ..هى األخت الكبرى ،فهناك حلم قديم
كان يراودها بان تستغل هوايتها في صنع الحلوى بأن يكون لها مكان مستقل
تصنع فيه الحلوى 4وتبيعها للجمهور.
30
واألن بقى اسم المحل ..االخ المتشائم الغائب باختياره عن الوعى..
يقترح أن يكون االسم "ماري انطوانيت".
لماذا هذا االسم 4بالذات؟ يرد بسخرية مريرة ..ألن مارى انطوانيت
واجهت ثورة شعبها الجائع بان اقترحت عليه أن يأكل البسكويت والجاتوه بدالً
من الخبز!
مهما كانت حكايات التاريخ ..إال أن االسم "مارى انطوانيت" ..اسم جديد
لمحالت الحلوى 4..وهكذا ارتفعت الالفته باالسم على جزء من بيت العائلة !
ويعلق االخ المتشائم بنفس نبرة السخرية المريرة "اهلل يرحمك با أبويا..
تعال شوف بيت العيلة واللى جراله" !
وتزايد االحساس بالغربة واالنفصال داخل البيت الواحدة 4..ولم 4يعد هناك
وقت او رغبة ليلتقى الواحدة باالخر ..وقد 4عبرت األخت الصغرى (ماجدة
زكى) عن هذه الحالة بقولها" :هوة فيه حد فاضى للتانى علشان نقوله؟" وكانت
بعباراتها هذه تبرر قرارها بالزواج من زميلها ،واستئجارهما لشقة وتجهيزها
معاً ..دون انتظار موافقة أفراد 4األسرة – وبالذات الشقيق االكبر – الذى فوجىء
بهذه القرارات ..ولم يستطع حيالها إال أن يرضى باالمر الواقع!.
31
إن كل األمور 4تمضى من أمامه ،لتلقى بظاللها عليه ..وتزيده احساساً
بالدهشة والحزن 4..وتصيبه اكثر بالعجز.
فهو يتلقى خطاباً من قطر تطلب منه المؤسسة التى كان يعمل بها ان
يعود للعمل معهم..
في نفس الوقت ..الذى تتمادى فيه حالة شقيقه مدمن الحبوب المهدئة
والشطرنج ..إنه يصل إلى مرحلة الحقن المخدرة واإلدمان ..وينقل إلى
المستشفي في حالة من الغيبوبة الكاملة!
وفي مشهد من أبرع مشاهد الفيلم ..ينقل لنا المخرج محمد خان هذه
النتيجه من خالل حركه الكاميرا وتوزيع اإلضاءة ..وبطلنا العادئد (يحيى
الفخرانى) يدخل البيت الصامت الخاوى 4من الحياة ..ويحاول ان يتلمس االجابة
لسؤاله الحائر ..ما الذى حدث؟ يفتح أبواب الحجرات 4..ويضىء االنوار4..
ويتوقف حزيناً امام الصور التذكارية لألب واالم واالسرة عندما كانت تجتمع
32
معاً ..لم يعد باقياً غير الصمت الثقيل ..والحزن ..السراير خالية ..التليفزيون
مغلق ..المائدة منتصبة في الفراغ ..يفتح النافذة المغلقة كأنما يتأكد من وجود4
الهواء بالخارج ..ثم يلقى بجسده على السرير في إعياء وإ حساس بالفشل
والمرارة.
يذهب إلى شقيقته التى أصبحت سيدة أعمال تعيش في مسكن بمفردها..
وتمارس حياتها كما تشاء ..تقول له بال اهتمام ":كنت عايزنا نتلم في بيت واحد
زى زمان ..لكن دى سنة الحياة".
يقول لها كانه يذكرها بوجوده" :كنت مستعداً ان أمد يدى لكم ولكن يبدو
ان حياتى مالهاش قيمة عندكم".
وتشعر هى كسيدة أعمال لم تعد تعرف غير لغة البيع والشراء ..إن
العواطف لم يعد لها مكان اآلن 4..وإ ن الكالم والتبريرات والمشاعر 4تأخرت
كثيراً ولم تعد تصلح لحال للموقف.
يحمل سؤاله وحزنه ..ويذهب إلى شقيقه االصغر داخل زنزانة سجنه..
فيجده مازال متماسكاً ..صلباً ..متفائالً يقول له ال تسافر ..فأنا احتاجك..
33
إنه يحمل حقيبته ويذهب إلى مطار ..وينهى اجراءات الرحيل ..ولكنه ال
يستطيع أن يتقدم إلى بوابة الخروج إلى الطائرة..
ليس هذا هو السؤال المهم ..ولكن االهم هو لماذا سافر أصالً؟ وما الذى
حدث في غيابه؟ هل هو مسئول عما حدث ألخوته ..ام أن ما حدث كان نتيجة
طبيعية لما حدث في المجتمع.
والفيلم ال يقدم إجابات محددة ..وإ نما يترك لنا حرية التفسير واالستنتاج
ولعل هذا المنهج الفنى ..هو الذى أكسب الفليم تلك االهمية ..فنحن لسنا
متفرجين عاديين ..ولكننا أصالً مشاركون فيما حدث ..والمسئولية نتحملها
جميعاً ..والموقف 4مازال في أيدينا وعلينا ان نضع النهاية السعيدة..
هل نختار الحل الشخصى ..وأن يسعى كل منا ليأخذ نصيبه ويجرى؟ أم
أننا نتوقف عن اللهث ونعود إلى بعضنا إلى البعض لنبحث عن الحل
الجماعى؟.
وصياغة فليم "عودة مواطن" تشهد للكاتب الفنان عاصم توفيق ..بتلك
البراعة في طرح العديد من عالمات االستفهام حول دور الطبقة المتوسطة في
المجتمع المصرى ..وأحالم تلك الطبقة باالمان االقتصادى ..وخوفها 4الفظيع
من الوقوع إلى الطبقة الدنيا ..وشهوتها الجامحه للوثوب إلى الطبقة العليا..
34
ومن هذا الخوف والشهوة ،جاءت عمليات السفر للخارج للحصول على
فرص أكبر للعمل واكتناز النقود وتحقيق المظاهر (السيارة ..الشقة التمليك..
الثياب الغالية).
ورغم ذلك فقد كان هذا النموذج – الذى تقمصه ببراعه الفنان يحيى
الفخرانى – وهو المفتاح الذى فتح لنا االبواب المغلقة لكى نرى ما حدث لنماذج
الشباب التى عبر عنها أفراد 4االسرة والتنوع في الشخصيات واالهتمامات
وبحث كل منهم عن طريق (سواء 4بالهروب من الواقع واللجوء 4إلى الغيبيات –
أو االنضمام لتنظيم سرى – أو النموذج العملى جداً المستقل بقراراته – أو
النموذج الذى وجد العمر يفلت منه فتشبت بفرصة لتحقيق الذات ونسى كل ما
حولة وانفرد بتنمية مصالحة).
35
وبالتالى كانت تصرفاتهم التحكمها بوصلة عامه ..وإ نما كل منهم اختار
بوصلته ..وسار في اتجاهه.
وقد تعامل المخرج محمد خان مع هذا الفيلم ..بنظرة فنية واعية،
مستخدماً كل براعته في اختيار الممثلين وقيادتهم ..واختيار اماكن التصوير من
الواقع الحى ..ودون 4اللجوء 4إلى عنصر االبهار الشكلى ..ولهذا يتسلل الفيلم
هادئاً وعميقاً ..حتى تكتشف في النهاية انه تحول إلى زلزال عنيف يهزك من
االعماق!
36