You are on page 1of 36

‫الواقعية الجديدة وعقد الثمانينات‬

‫رءوف توفيق‬

‫مع بدايات عقد الثمانينات بدأت مالمح الواقعية الجديدة في السنيما‬


‫المصرية‪ .‬هذه الواقعية نجومها وابطالها من الشباب الذين عاصروا الظروف‬
‫الصعبه التى مر بها المجتمع المصرى في الصراع الدائر بين مفاهيم الشرف‬
‫واالخالق والعمل واالحالم‪ 4‬والطموح المشروع‪ 4.‬وبين مفاهيم التجار والسماسرة‬
‫والذين استفادوا من قوانين االنفتاح االقتصادى ففرضوا كابوسا ثقيالً من أهتزاز‬
‫القيم والثراء الفاحش السريع واخالق القنص واالنتهازية‪.‬‬
‫ومن المعروف أن قوانين االنفتاح االقتصادى‪ 4‬صدرت في منتصف السبعينيات‬
‫لتفتح الباب امام موجات متالحقه من الفساد االجتماعى وجدت الفرصة سانحه‬
‫لها لتقلب موازين المجتمع المصرى‪.‬‬
‫وأعتمد فنانو الواقعية الجديدة في السينما المصرية على شواهد حقيقية أصابت‬
‫االسرة المصرية وبالتإلى أصابت المجتمع ككل‪.‬‬

‫* انتبهوا أيها السادة‪:‬‬


‫ويمكن التوقف امام فيلم "أنتبهوا أيها السادة" للمخرج محمد عبد العزيز‪..‬‬
‫كأول محاولة جادة‪ ،‬قدم فيها كاتب السيناريو الشاب "أحمد عبد الوهاب" المفارقة‬
‫الساخرة المؤلمة بين جامع قمامة ومدرس جامعى‪ ...‬حيث يستطيع جامع‬
‫القمامة أن يستغل ظروف سوق العمل الحر‪ .‬فيتنقل مقتنصا أية فرصة للثراء‪..‬‬
‫ويتحول من جامع قمامة صغير إلى صاحب مزرعة لتربية المواشى‪ ..‬إلى‬
‫مقاول كبير يتاجر في بناء العمارات‪ ،‬وله أسطول من سيارات النقل الخاصة‪،‬‬
‫ويعيش في ثراء بال حدود‪ ..‬وينفق األلوف في المالهى الليلية وتحت أقدام‪4‬‬
‫الراقصات‪ ..‬بينما المدرس الجامعى ينحت طريقة في الصخر‪ ..‬رافعاً مبادىء‬
‫الشرف واألخالق والقيم الفاضلة‪ ..‬وتكون نهايته‪ ،‬ونهاية الفيلم أيضاً‪ ..‬هذا‬

‫‪1‬‬
‫الهذيان المحموم‪ ،‬بعد أن فقد حبيبته‪ ..‬وفقد توازنه‪ ..‬واختلطت األمور بالنسبة‬
‫له‪ ..‬ولم يعد يتحمل هذه المعركة الشرسة‪ ..‬فكان االنهيار!‬
‫وقد فاز هذا الفيلم في جوائز الدولة للسينما المصرية‪ ..‬بجائزة أحسن‬
‫إخراج‪ ،‬وأحسن سيناريو‪ ،‬وأحسن ممثل (حسين فهمى في دور المدرس‬
‫الجامعى)‪.‬‬
‫وحقق فيلم "انتبهوا أيها السادة" صدمة المفاجأة‪ ..‬أن السينما المصرية‬
‫تستطيع أن تقوم اشياء جادة وخطيرة‪ ..‬لو أرادت!‬

‫* وال يزال التحقيق مستمراً‪:‬‬


‫وفي نفس ذلك العام – عام ‪ – 80‬والذى‪ 4‬عرض فيه "انتبهوا أيها‬
‫السادة"‪ ..‬عرض أيضا فيلم "واليزال التحقيق مستمراً" للمخرج أشرف فهمى‪..‬‬
‫والذى أستطاع مع كاتب السيناريو الشاب "مصطفي محرم" أن يستفيدا من قصة‬
‫قصيرة منشورة للكاتب أحسان عبد القدوس‪ ..‬ويحوالها إلى قضية تقوم على‬
‫موقف الزوجة بين زوج يؤمن بالمثاليات والقيم‪ ..‬وبين عشيق يبهرها بالثراء‬
‫وكل ما تحلم به كامرأة جشعة!‪.‬‬
‫وينتهى الفيلم باكتشاف الزوج للخدعة‪ ..‬واكتشاف الزوجة للحلم الكاذب‬
‫والذى تورطت فيه‪ ..‬فتقتل الزوجة عشيقها‪ ..‬ثم يقتلها الزوج تخلصاً من هذا‬
‫الفساد الذى الحقته بحياته!‬
‫وقد فاز هذا الفيلم أيضاً بعدة جوائز هامة‪ ..‬منها جائزة االخراج‪.‬‬

‫* أهل القمة‬
‫وتتعاقب االفالم‪ 4..‬حتى يعرض فيلم "أهل القمة" للمخرج على بدرخان‪..‬‬
‫ليفجر من جديد نفس القضية في عمل سينمائى متميز فنياً‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫و"أهل القمة" هى في االصل قصة قصيرة للكاتب نجيب محفوظ‪ ..‬وقد‬
‫اشترك المخرج على بدرخان مع كاتب السيناريو "مصطفي محرم" في تحويلها‬
‫إلى فيلم يموج بالحركة والحيوية والفن‪ 4..‬وأيضاً بالتساؤالت واألفكار‪4.‬‬
‫فأهل القمة هنا‪ ..‬هم اللصوص الجدد الذين استفادوا من قوانين االنفتاح‬
‫االقتصادى‪ ..‬وتحولوا‪ 4‬إلى فئة شديدة الثراء‪ ،‬باهرة الشكل‪ ،‬ترتدى أحدث‬
‫الثياب‪ ،‬وتستخدم أفخم السيارات‪ ..‬وتتستر أحياناً وراء مظاهر التدين‪ ..‬فهناك‬
‫هذا المهرب الكبير الذى يرتاد المساجد ويتصدق على الفقراء وأصابعه ال‬
‫تفارق حبات المسبحة‪ ..‬بينما في حقيقيته أفعى ضخمة تنفث سمومها‪ ،‬وتقاتل في‬
‫معركة البقاء في هذه الغابة المتوحشة‪ ..‬حيث المبدأ السائد‪ ..‬اقطع اليد التى‬
‫امتدت اليك حتى تنفرد وحدك بكل شىء!!‬
‫والفيلم‪ ..‬وكما أراد نجيب محفوظ في قصتة‪ ..‬يضع المواجهه بين ضابط‬
‫شرطة شاب (عزت العاليلى) ونشال (نور الشريف) طالما تعقبه الضابط‪،‬‬
‫وقبض عليه‪ ،‬وطالما استخدمه لالرشاد عن المسروقات وبينهما عالقة مشوبة‬
‫بالحذر‪ ..‬أشبه ما تكون بعالقة القط والفار‪.‬‬
‫ويفاجأ الضابط ذات يوم باختفاء النشال من الوكر الذى تعود أن يجلس‬
‫فيه مع زمالئه النشالين‪ ..‬ويتساءل الضابط عما حدث؟‪ ..‬لقد انخفضت جرائم‬
‫النشل في منطقته‪ ..‬ولكن هذا ال يبعث على الطمأنينة!‪ .‬فما هو تفسير اختفاء‬
‫النشالين؟! ويأتيه الرد من صاحب المقهى العجوز‪ ،‬الذى أصبح وحيداً بعد ان‬
‫هجره زبائنه من النشالين‪" :‬انهم يعملون في ضوء النهار‪ ..‬وتحت حماية‬
‫الشرطة"!!‬
‫ويكتشف الضابط الحقيقة‪ ..‬لقد تحول النشالون إلى التجارة‪ ..‬تجارة‬
‫المهربات‪ ..‬وأصبحوا جزءاً من عصابة الرجل الكبير (يلعب الدور عمر‬
‫الحريرى) الذى‪ 4‬يتمسح بالدين‪ ..‬والعصابة تقوم على تهريب البضائع من‬
‫بورسعيد‪ ..‬ثم عرضها للبيع في أحد أسواق القاهرة المزدحمة‪ ،‬حيث تتكدس في‬

‫‪3‬‬
‫حوانيتهم الصغيرة كل أنواع‪ 4‬البضائع وأغربها‪ ..‬من الثالجات إلى التليفزيونات‬
‫الملونة إلى الصابون وشامبوه الشعر!!‪.‬‬
‫ويصف نجيب محفوظ هذه المأساة في تلك العبارة من قصته‪" :‬أصبح‬
‫هؤالء من األغنياء‪ ..‬أما هو وأعوانه فيغوصون في غمار الفقراء"!‬
‫ويجسد الفيلم هذا الصراع من داخل بيت الضابط الشاب حيث يعيش مع‬
‫زوجتة وأطفاله‪ ،‬وأيضا مع شقيقته وابنتها (سعاد حسنى)‪ ..‬وحيث يصبح عليه‬
‫أن يحقق لهم المستوى المعقول من الحياة‪ ،‬وأن يلبى كل طلباتهم‪ ..‬في ظروف‬
‫صعبه‪ ..‬وبدخل محدود‪ 4..‬ومشاكل ال تنتهى‪ ..‬وتأتى الصدمة القاسية عندما‬
‫يعرف أن ابنة شقيقته على عالقة عاطفية بالنشال التاجر حالياً‪ ..‬وهو الذى وقف‬
‫حائراً ومشفقاً عليها عندما تقدم لخطبتها شاب متعلم ال يملك إال مرتبة الضئيل‬
‫وأحالمة الصغيرة‪ ..‬ونصحها وقتها بأن تتريث في الموافقة‪ 4..‬الن الحياة بهذا‬
‫الدخل المحدود‪ 4‬ال يمكن أن تستمر أو تنمو‪ ..‬وارتضت الفتاة بقراره‪ ..‬أما حبيبها‬
‫الشاب فقد قرر السفر للخارج بحثاً عن العمل المريح‪ ..‬وهكذا يحدث الشرخ في‬
‫حياه الفتاة‪ ..‬وتصب عليها كل هموم البيت الصغير‪ ..‬حتى تجد هذا النشال –‬
‫وهى ال تعرف حقيقته حتى اآلن– يمد لها يده بالحب والحنان‪ ..‬وتتشبث بهذه‬
‫اليد‪ ..‬وتصر عليه حتى بعد ان عرفت حقيقتة‪ ..‬فلما ال ؟ مادام سيحقق لها‬
‫الحياه المريحة وينقذها من هذه الهموم والمتاعب !!‪.‬‬
‫وهكذا يجد هذا الضابط نفسة داخل معركة مع جميع األطراف‪ ..‬المعركة‬
‫في بيته‪ ..‬وفي عمله حيث يحاول المهرب الكبير االفالت من قبضة القانون‪ ،‬بل‬
‫ويسعى الستصدار قرار بنقل الضابط إلى صعيد مصر عقابا له‪.‬‬
‫وينتهى الفيلم بهزيمة المبادىء والمثاليات‪ ..‬وانتصار أهل القمة الجدد‬
‫من اللصوص والمهربين والنشالين!!‬
‫ويمكننا ان نالحظ تشابة نهاية فيلم "انتبهوا أيها السادة" مع نهاية فيلم "اهل‬
‫القمة" حيث يصبح على الفرد المؤمن بالشرف واالخالق ان يدخل في امتحان‬

‫‪4‬‬
‫صعب‪ ،‬وفي ظروف اهتزت فيها الكثير من القيم والمبادىء‪ 4..‬وفي كال الفيلمين‬
‫نجد هذا الفرد الشريف يواجه بحصار داخل بيته وفي مستقبله‪ ..‬فالمدرس‬
‫الجامعي في فيلم (انتبهوا أيها السادة) تتضاعف مأساته عندما تنهار خطيبته امام‬
‫إغراء جامع القمامة الذى يصبح ثريا‪ ،‬وترضى بأن ترتبط به بدال منه‪..‬‬
‫والضابط الشاب في فيلم (أهل القمة) يواجه نفس المأساة عندما يجد أبنه شقيقته‬
‫ترتبط بالنشال الذى طالما طارده وقبض عليه‪ ،‬والذى يمثل له في النهاية‬
‫النقيض االخالقى!!‬
‫وكال الفيلمين يصالن إلى نفس النتيجه‪ ..‬حيث ال يمكن للفرد الواحد أن‬
‫يواجه هذا االعصار الهائل الذى يهز كل ما حوله!‬
‫ويعتمد كال الفيلمين على براعة الممثلين الذين يقومون بأدوار المواجهه‬
‫بينهم‪.‬‬
‫في فيلم "انتبهوا أيها السادة" يتألق كل من محمود ياسين وحسين فهمى‬
‫وفي فيلم "أهل القمة" يتبارى نور الشريف وعزت العاليلى في أداء متميز وعلى‬
‫قدر كبير من فهم طبيعة الدور‪ 4‬وابعاده النفسية‪.‬‬
‫وإ ن كان فيلم أهل القمة يحقق مستوى فنياً عالياً‪ ..‬في التصوير (محسن‬
‫نصر) والمونتاج (سعيد الشيخ)‪ ..‬وفي براعة المخرج (على بدرخان) بااللمام‬
‫بكل تفاصيل الموضوع واالحتفاظ بسخونة القضية منذ بداية الفيلم وحتى نهايته!‬

‫* الحب وحده ال يكفي‪:‬‬


‫ويظهر فيلم "الحب وحده ال يكفي للمخرج الشاب على عبد الخالق‪ ..‬وعن‬
‫قصة ألحمد فريد‪ ..‬ومعالجه سينمائية الحمد عبد الوهاب‪ ،‬وسيناريو وحوار‪4‬‬
‫مصطفي محرم‪ ..‬ليقولوا كلمتهم في نفس القضية‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫حيث يتعرض الفيلم لشاب وفتاة يتخرجان من الجامعه‪ ،‬ويرتبطان‬
‫ببعضهما في قصة حب‪ ..‬ويصبح عليهما االنتظار لحين وصول خطابات القوى‬
‫العاملة‪ ،‬والتى تحدد لهما الوظيفة التى سيلتحق بها كل منهما‪ ..‬ويطول‬
‫االنتظار‪ ..‬سنة‪ ..‬وسنتين‪ ..‬وثالثه‪ ..‬وتضطر الفتاة (ميرفت امين) ان تعمل‬
‫في محل كوافير لتقلم أظافر اقدام‪ 4‬النساء‪ ..‬وارتضى هو (نور الشريف) بناء‬
‫على نصيحة من جاره عامل البناء (سعيد صالح) ان يلتحق بنفس العمل كعامل‬
‫بناء!‬
‫وهكذا وضعا جانباً شهادتيهما الجامعية‪ ،‬وكل سنوات العلم والتحصيل‪،‬‬
‫وكل احالم العمل في التخصص الذى درساه‪ ..‬في مقابل أن يجدا مبلغاً من‬
‫المال‪ ،‬ليسدا احتياجاتهما اليومية‪ ..‬وليدخرا منه ما يصلح لبداية تأثيث بيت‬
‫الزوجية‪ ..‬ولكن ام الفتاة (عقلية راتب) ال تتصور أن ابنتها من الممكن ان‬
‫تتزوج عامل بناء‪ ..‬وتضغط عليها‪ ":‬اما أن تتخلى عنه‪ ..‬او أن يبحث هو عن‬
‫وظيفة محترمة"‪.‬‬
‫وتحاول الفتاة ان تنقذ حبها‪ ..‬وتستجيب القتراح زميلتها السابقة في‬
‫الجامعه (ناهد شريف) بان تسعى لها في االلتحاق كسكرتيرة باحدى شركات‬
‫تقسيم االراضى وبناء العمارات‪ ..‬وبالفعل يتم تعيينها في هذه الشركة‪ ..‬وبعد‬
‫فترة تقنع الفتاة خطيبها بان يلتحق بنفس الشركة وايضا بواسطة هذه الزميلة‬
‫الجامعيه السابقة‪..‬‬
‫ولكنهما يكتشفان في النهاية‪ ..‬أنها شركة وهمية تقوم على النصب‬
‫واالحتيال‪ ..‬وانها كسكرتيرة عليها أن تبيع جسدها مع الشقق التى تعرضها‬
‫للبيع‪ ..‬ويكتشف هو انه تورط في عملية احتيال راح ضحيتها عشرات العمال‬
‫الذين أقنعهم بأجور خيالية‪ ..‬فذهبوا إلى هناك‪ ،‬ليفاجأوا بأن عقود العمل‬
‫مزيفة!!‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫وتأتى النهاية بعد رحلة طويلة من المعاناة والضغوط‪ 4..‬والفتاة تتسلم‬
‫خطاب القوى العاملة‪ ..‬بينما الشاب يرفض العمل الحكومى‪ 4..‬ويختار أن يبقى‬
‫كما هو بين السقاالت كعامل بناء!‬
‫والفيلم في مجموعه يقدم مأساة شاب باحالمه المشروعه في العمل‬
‫والحب واالستقرار‪ 4..‬ولكن‪ 4‬يواجه بكل التحديات الالاخالقيه‪ ،‬والتى يفرضها‬
‫اصحاب الدخول الطفيلية‪ ..‬فالعمل احياناً محسوبية‪ ..‬وأحياناً ورطه يدفع ثمنها‬
‫الشاب صغير السن‪ ،‬القليل الخبرة‪ ..‬ويفلت منها الكبار الدهاة الذين ال يتورعون‬
‫عن فعل أى شىء في سبيل زيادة مكاسبهم!‬
‫وقد برع الفيلم في تقديم العالم من وجهة نظر فتاة تتعامل مع اقدام‪4‬‬
‫السيدات الفارغات عقال‪ ،‬والمتكبرات‪ ،‬والالتى يتباهين بصالتهن وأموالهن‪4..‬‬
‫كما برع في تقديم عالم النصيب واالحتيال في الشركات الوهمية حيث يصبح‬
‫كل شىء مباحاً من اجل إتمام الصفقات!!‪ ..‬وبنفس البراعة قدم‪ 4‬الفيلم عالم‬
‫الحارة المصرية وأخالقيات ابن البلد االصيل الشهم الذى ال يرضى بالحال‬
‫المايل‪ ،‬حيث لعب "سعيد صالح" واحد من أفضل ادواره‪ 4‬الفنية‪.‬‬
‫وإ ن كان يعيب الفيلم بعض االستطرادات‪ 4‬إال أنه في النهاية يحسب‬
‫للمخرج على عبد الخالق انه استعاد مكانته الفنيه حينما قدم عام ‪ 72‬فيلم (اغنيه‬
‫على الممر) كأول فيلم من انتاج جماعة السينما الجديدة المصرية‪ ..‬فها هو في‬
‫فيلم "الحب وحدة ال يكفي" يعلن من جديد انه مازال موجود على خريطة السينما‬
‫التى تستطيع ان تقول أشياء جادة!‬

‫* أمهات في المنفي‬
‫وهذا ما حدث أيضا للمخرج محمد راضى بفيلمة الجديد (أمهات في‬
‫المنفي) قصة وسيناريو الكاتب يوسف جوهر‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫هنا محمد راضى يستعيد نفسه‪ ..‬ويدخل تجربة االنتاج بقلب جرىء ليقدم‬
‫موضوعاً يحشد فيه العديد من النماذج التى استغلت االنفتاح االقتصادى في‬
‫مصر‪ ،‬لتحقيق طموحاتها الشخصية‪.‬‬
‫واالم في هذا الفيلم هى أمينة رزق‪ ،‬لها ابنتان متزوجتان (ماجدة الخطيب‬
‫وزوجها السيد راضى – وإ سعاد‪ 4‬يونس وزوجها عادل أمام)‪ ..‬واالم لها شقة في‬
‫وسط البلد‪ ،‬تعيش فيها بمفردها‪ ..‬ومن هنا يتفق الزوجان بمساعدة زوجاتهما في‬
‫اقناع االم بقبول عرض بيع الشقة بمبلغ ضخم على أن يأخذا انصبتهما‪ ..‬وان‬
‫يتبادال بعد ذلك استضافة االم في منزليهما‪ ..‬وامام االلحاح والكلمات‪ 4‬المعسولة‬
‫والوعود البراقة بكرم الضيافة‪ ..‬توافق االم‪ 4..‬ويتم البيع ويأخذ كل منهما‬
‫نصيبه‪ ..‬لتبدأ الكارثة!‬
‫فالنقود تغرى باالستثمار‪ ..‬وكل المشاريع تبدو جذابة ومريحه !‬
‫ويقدم الفيلم بانوراما هائلة لكل الطموحات الملهوفة على الثراء‪ ..‬وعالم‪4‬‬
‫اصحاب المشاريع واساليب الربح السريع‪ ..‬من بيوت تدار للقمار‪ ..‬إلى‬
‫التهريب إلى اصحاب البوتيكات‪ ..‬إلى مشاريع استيراد السيارات‪ ..‬إلى المكاتب‬
‫الوهمية والصفقات التى تتم على انفاس المخدرات‪.‬‬
‫عالم حافل برائحة النقود‪ ..‬والعفن ايضاً!‬
‫بيتى ابنتيها‪ ..‬ترى العجب‬
‫بينما االم تحولت إلى الجئه مشردة بين ّ‬
‫وتتألم‪ ..‬وتعتصر حزناً على ما جرى‪ ..‬فكل شىء ينهار ويتهدم حولها‪..‬‬
‫والجميع غارق في المستنقع ال يسمع إال صوته فقط!‬
‫إنها مرثيه بالغة المرارة‪ ..‬لما تفعله النقود بالبشر‪..‬‬
‫ولعل أكثر الخيوط ايالماً وقوة في هذا الفيلم‪ ..‬هذا الخيط الذى يمثله‬
‫(عادل امام) كموظف جمرك ميناء االسكندرية‪ ،‬حيث أشتهر بين زمالئه‬
‫والعمالء‪ ..‬بانه الموظف األمين المتشدد في حق الحكومة والذى ال يترك قشة‬
‫تمر من باب الجمرك دون‪ 4‬حساب‪ ..‬وتتم المحاوالت من جانب احد المهربين‬

‫‪8‬‬
‫الكبار (جالل الشرقاوى)‪ 4‬لرشوته‪ ..‬أحياناً في شكل وظيفة استشارية‪ ..‬وأحياناً‬
‫في شكل مشروع استثمارى‪ ..‬ولكن هذا الموظف بذكائه وحرصه يرفض كل‬
‫هذه المحاوالت‪ ..‬والمهرب الكبير ال ييأس‪ ..‬حتى يورطه في عالقة نسائية‬
‫ويهدده بالفضيحة‪ ..‬وينهار موظف الجمرك‪ ..‬ويدخل اللعبة‪ ..‬ويلعب بقسوة‬
‫وشراسة‪ ..‬حتى يسقط ضحيته زميله الشاب في الجمرك‪ ..‬ويتهم بتهمه هو‬
‫يدرى تماماً أنه برىء منها‪ ..‬ولكنه ال يستطيع أن يدافع عنه‪ ..‬او يقدم دليل‬
‫براءته‪ ..‬وينتحر زميله الشاب في السجن الحساسه بالظلم‪ ..‬وهنا يشعر بفداحة‬
‫جريمته‪ ..‬ويبدأ في االنتقام من الذين ورطوه في هذه اللعبة القذرة‪ ..‬ولكن بعد‬
‫فوات االوان‪ 4..‬وفي قفص االتهام داخل المحكمة يطلق صرخته الممزوجة‬
‫بالسخرية‪ ..‬وكأنه ينعى نفسه!‬
‫الفيلم يزيد طوله الزمن عن الساعتين والنصف‪ ..‬وكأنما أراد المخرج ان‬
‫يقدم كل شىء عن الجنون المادى‪ ..‬ولهذا وقع في مصيده التشعب والتفاصيل‬
‫الكثيرة‪ ..‬ولكن‪ 4‬ما يبقى من هذا الفيلم جرأته البالغة‪ ..‬وقيمته الفنيه التى أثراها‬
‫مدير التصوير الفنان عبد العزيز فهمى‪.‬‬

‫* (العوامة ‪ )70‬ومفاجأة فرسان من السينما التسجيلية‪.‬‬


‫فنانو السينما التسجيلية في وطننا العربى يعيشون غالباً في الظل‪ ..‬اسماؤهم‬
‫غير متداولة وغير مشهورة‪ ..‬وافالمهم ال تعرض إال نادرا وفي المناسبات‪..‬‬
‫ربما من خالل مهرجان سينمائى ال يتابعه غير النقاد والمهتمين اصال بالسينما‪.‬‬
‫والسينما التسجيلية لها تاريخ طويل ومدارس متعددة ومعروفة‪ 4‬في العالم‬
‫أجمع كأخطر الفنون المرئية لقدرتها على التعبير المركز والتأثير السريع‪ ..‬وقد‪4‬‬
‫شغلتنى طويالً‪ ..‬االحالم الصغيرة لفنانى االفالم التسجيلية عندنا والقضايا‬
‫الكبيرة التى يسعون بطرحها في افالمهم القصيرة‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫إلى أن شاهدت فيلم "العوامة ‪ "70‬الذى أبدعه أثنان من فرسان السينما‬
‫التسجيلية في مصر‪ :‬المخرج خيرى بشارة والمصور محمود عبد السميع فالفيلم‬
‫مفاجأة حقيقية على كافة المستويات‪.‬‬
‫يحكى الفيلم قصة هذا الشاب (أحمد زكى) الذى‪ 4‬يعمل مخرجاً تسجيلياً‬
‫والذى اختار أن يكون فيلمه الجديد عن القطن المصرى اآلن‪ ...‬وينتقل مع‬
‫مجموعة الفنيين إلى أحد المحالج الصغيرة المنتشرة على خريطة مصر‪...‬‬
‫لتصوير جزء من رحلة القطن‪ ..‬وهناك داخل المحلج‪ ،‬يتعرف على الماكينات‬
‫القديمة التى يعود تاريخ صنعها إلى أوائل القرن الماضى‪ ،‬والتى ما زالت تعمل‬
‫حتى اآلن‪ ..‬ويتعرف على عمال المحلج‪ 4..‬ومنهم نسبة كبيرة من األطفال‬
‫الصغار الذين يقفون بجوار الماكينات يلقمونها باالت القطن‪ ..‬وكثيرا ما تلتهم‬
‫الماكينات أذرعهم الصغيرة في غفلة منهم‪ ..‬ولهذا اطلق العمال على هذه‬
‫الماكينات "العفريتة"‪.‬‬
‫ويكتشف المخرج التسجيلى أثناء تصويره لهذا الفيلم‪ ..‬أن أحد العمال‬
‫يسعى متلهفاً ألن ينفرد به ليحكى له عن الجرائم التى تدور هنا في المحلج‪4..‬‬
‫ويحدد له موعداً في العوامة التى يسكنها على النيل ويأتى العامل (يلعب الدور‪4‬‬
‫أحمد بدير) خائفاً متردداً‪ 4..‬حتى يشعر باألمان‪ ..‬ويحكى للمخرج وخطيبته‬
‫الصحفية (تلعب الدور تيسير فهمى) كيف تتم طرق تبديد القطن‪ ،‬وتهريبه‪..‬‬
‫تحت ستار افتعال حرائق بأكثر من طريقة !‬
‫وتتحمس الخطيبة الصحفية للموضوع‪ ..‬أما المخرج الشاب فهو يتلقى‬
‫معلومات العامل بنوع من الشك‪ ..‬وأحياناً بنوع من الالمباالة‪ ..‬وأن كان يؤمن‬
‫تماماً بأن احتمال التخريب موجود‪ 4‬سواء في المحلج‪ ..‬أو في غيره من مواقع‬
‫اإلنتاج‪ ..‬وأن النشر في الصحف‪ ،‬لن يتم إال إذا كان هناك دليل مادى يؤمن‬
‫كالمها‪ ..‬وهى هنا ال تملك دليالً مادياً !‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫ولكن الخطيبة تحسم الموقف بضرورة االلتجاء إلى الشرطة إلبالغها‬
‫بأقوال‪ 4‬العامل‪ ..‬ويوافق العامل‪ ..‬ويخرج من العوامة على موعد في اليوم‬
‫التإلى بمركز الشرطة‪ ..‬وأثناء خروجه من العوامة‪ ..‬يتلقفه أثنان من عمال‬
‫المحلج‪ ،‬واللذان كانا يراقبانه‪ ..‬وينقضان عليه في صمت حتى يفتكا به‪..‬‬
‫ويلقيان جثته في النيل‪ ..‬وتنحشر الجثة تحت العوامة بضعة أيام !‪.‬‬
‫ويتسبب اختفاء العامل في قلق الصحفية‪ ..‬لماذا لم يحضر في الميعاد؟‪..‬‬
‫ولماذا اختفي أيضاً عن المحلج؟‪ ..‬بينما المخرج الشاب اعتبر أن الموضوع قد‬
‫أنتهى بالنسبة له‪ ..‬فقد توقع منذ البداية‪ ،‬بأن كالم هذا العامل‪ ..‬ما هو إال مجرد‬
‫"هلوسة" !‬
‫حتى تحدث المفاجأة المرعبة‪ ..‬تطفو جثة العامل القتيل مرة أخرى أمام‬
‫العوامة‪ ..‬لتفتح طريقاً من التحقيقات‪ ،‬التى تنتهى إلى ال شئ‪ ..‬ويدرك المخرج‬
‫أنه تسبب بال مباالته فيما جرى‪ ..‬ويعذبه دائماً منظر جثة العامل القتيل‪ ..‬يقول‬
‫لخطيبته في لحظة ندم‪ ":‬مهما حاولت أشغل نفسى بأى حاجة‪ ..‬بأشوف الجثة في‬
‫كل وقت‪ 4..‬مرة شفتها في كابوس‪ ..‬ودلوقت بأشوفها‪ 4‬وأنا صاحى "!‪.‬‬
‫ويسرع المخرج إلى غرفة المونتاج‪ ،‬لينهى العمل في الفيلم التسجيلى‬
‫الذى صوره في المحلج‪ 4..‬أنه هنا يحاول أن يقول رأيه فيما يحدث‪ ..‬فيقترح أن‬
‫تكون أول لقطة من الفيلم هى لقطة العامل الذى قتل‪ ،‬والذى‪ 4‬صوروه في‬
‫المحلج‪ ..‬لينزل عليها صوت المعلق قائالً " هذا العامل قد قتل أثناء تصوير‬
‫الفيلم‪ ..‬ألنه يحاول أن يكشف جريمة من أخطر الجرائم التى تهدد االقتصاد‬
‫القومى المصرى"!‪.‬‬
‫ويتوقف المونتير في دهشة‪ ..‬لينظر للمخرج متسائالً‪ ..‬بأن هذا يعتبر‬
‫خروجاً عن الموضوع‪ 4‬األصلى للفيلم‪ ...‬فينتفض المخرج مشدوداً‪ ..‬متحمساً‪..‬‬
‫وكأنما أراد أن يسترد بعضاً من جرأته‪ ..‬ليقول بصوت محدد‪" ..‬أنه يتحمل‬
‫مسئولية الفيلم كامالً"‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫ولكن‪ ..‬هل هذا يكفي‪ ..‬أنه يشعر بأن عليه أن يفعل شيئاً ملموساً أكثر‪..‬‬
‫فيسعى إلى عمه (يلعب الدور كمال الشناوى)‪ 4‬الذى‪ 4‬كثيراً ما يجلس إليه يستمع‬
‫إلى تجاربه الطويلة في الحياة‪ ..‬في تلك الليلة كان العم يحكى عن جريمة قتل‬
‫قام بها ضد الجنود اإلنجليز في معسكرات اإلنجليز أيام احتاللهم لمصر‪ ..‬يقول‬
‫العم ملخصاً تجربته "تعلمت أن أبادر‪ ..‬قبل أن يبادر اآلخرون"‪.‬‬
‫ويلتقط المخرج الشاب‪ ..‬هذه الجملة‪ ..‬ليسرع في اتجاه المحلج‪ 4..‬ليبحث‬
‫عن الحارس‪ ،‬الذى شهد ويشهد عمليات تهريب القطن‪ ..‬ويعرف من هم قتلة‬
‫العامل الذى حاول أن يكشف الحقيقة‪ ..‬وعندما يرى الحارس ينقض عليه ضرباً‬
‫ولكماً‪ ..‬يحاول انتزاع األسماء منه‪ ..‬ولكن زمالء الحارس يخلصونه من‬
‫قبضته‪ ..‬وال يحصل المخرج على شئ‪ ..‬فيعود إلى عوامته‪ ..‬وقد قرر أن‬
‫يصفي حسابه مع نفسه‪ ..‬وأن يقطع كل االرتباطات التى يتصور أنها تعوق‬
‫حركته‪ ..‬حتى عالقته مع خطيبته‪ ..‬التى تفاجأ بأنه يخلع دبلة الخطوبة‪ ،‬ويلقيها‬
‫جانباً‪ ..‬فتنظر له بدهشة وقد هزتها الصدمة‪ ..‬لتقول له وكأنها تصحح موقفه "‬
‫بقى بعد الحواجز اللى بينا كلها ما انكسرت‪ ..‬بعد ما بقينا واقفين على األرض‬
‫ألول مرة في حياتنا‪ ..‬تيجى أنت بمنتهى السهولة ترمى أجمل حاجة في حياتنا‪..‬‬
‫أجمل في حياة اثنين في أى حتة في العالم"!‪.‬‬
‫ينظر بعيداً‪ ..‬وفي عينيه كل األصرار والتحدى‪ ..‬ليقول "فيلمى الجاى‬
‫عن البلهارسيا‪ ..‬اللى ماخفش منها أخويا وابن عمى لغاية دلوقت‪ ..‬مين‬
‫المسئول ؟" !! وينتهى الفيلم بهذه الكلمات‪.‬‬
‫وفيلم "العوامة رقم ‪ "70‬جرعة مكثفة من المشاعر‪ ..‬تقتحم المتفرج‪،‬‬
‫هادرة‪ ،‬متدفقة‪ ..‬لتضعه على نفس األرض التى يتحرك عليها أبطال الفيلم‪..‬‬
‫فكى شئ صور في أماكنه الطبيعية‪ ..‬وبكاميرا حساسة واعية ال تفسد الواقع‬
‫باإلضاءة الصناعية‪ ..‬وأنما يشع كل مكان بالضوء الحقيقى له‪ ..‬وبعد دقائق من‬
‫عرض الفيلم تكاد تنسى أنك في قاعة عرض تشاهد فيلماً‪ ..‬وأنما ينتابك هذا‬

‫‪12‬‬
‫األحساس بأنك جزء مما تراه‪ ..‬فهذه الهموم‪ 4‬والتساؤالت‪ ..‬وهذا القلق‪ ،‬والرغبة‬
‫في الفرار‪ ،‬ثم الرغبة في االقتحام‪ ..‬وهذا اليأس واإلصرار‪ 4..‬هى مشاعر‬
‫حقيقية ربما انتابتك يوماً‪ ..‬أو أحسستها في صديق أو قريب !‪.‬‬
‫وجسد الممثلون أدوارهم ببراعة وصدق وفهم‪..‬‬
‫أحمد زكى‪ ..‬الفنان الذى ينطلق في السينما المصرية بسرعة رهيبة‪،‬‬
‫متجدداً‪ ،‬متنوعاً‪ ،‬كأنه نصل سيف حاد‪ ،‬يمزق كل األنماط التقليدية في التعبير‪..‬‬
‫ليعرض مبدأ الصدق والتقمص الكامل للشخصية التى يؤديها‪ ..‬وفي هذا الفيلم‬
‫يعطى أحمد زكى‪ ..‬جزءاً من طبيعته الخاصة‪ ..‬كفنان قلق‪ ..‬عصبى‪ ..‬وعندما‬
‫جلست معه ألناقشه في دوره بالفيلم‪ ..‬أحسست بمدى حماسه له‪ ..‬وكأنه يتكلم‬
‫عن تجربته الشخصية في الحياة‪ ..‬يقول لى أنه عندما عرض عليه‪ ..‬سيناريو‬
‫الفيلم‪ ..‬وافق دون أى شروط‪ ..‬ألنه على حد تعبيره‪ ..‬وجد فيه بعضاً من‬
‫نفسه‪ ..‬وأثناء التصوير‪ ..‬شعر أنه ال يمثل‪ ..‬وأنما يعيش حياته!‬
‫وقدم‪ 4‬الفيلم‪ ..‬الوجه الجديد‪" ..‬تيسير فهمى" ليضعها في مصاف الممثلين‬
‫الكبار‪ ..‬نجحت "تيسير" في أن تكون النغمة الصحيحة داخل هذه المعزوفة‪4.‬‬
‫ولعب "كمال الشناوى" و"ماجدة الخطيب" أحسن أدوارهما في السنوات‬
‫األخيرة‪ ..‬وأذكر بالتحديد ماجدة الخطيب التى أعادت إلى أذهاننا تألقها الفنى في‬
‫فيلمها "زائر الفجر"‪ ..‬أنها هنا تلعب دور أبنة القرية التى هجرتها مع عائلتها‪،‬‬
‫بعد خالفات كثيرة مع عائلة المخرج الشاب‪ ..‬كانت تكبره بست سنوات‪ ..‬وكان‬
‫هو طفالً صغيراً يخرج من بيته‪ ..‬ليلعب معها‪ ..‬ثم نام على ساقيها‪ ..‬وكبر كل‬
‫منهما‪ ..‬وتغيرت أحوالهما‪ ..‬أنها اآلن تعيش في القاهرة‪ ..‬ترعى والدها‬
‫المشلول الذى أصابه المرض بعد رحيل ابنه الوحيد إلى أمريكا‪ ..‬أنهار األب‪4..‬‬
‫وعاشت هى تحاول أن تتماسك‪ ..‬حتى التقت بالمخرج من جديد وشعرت من‬
‫قلقه أنها من الممكن أن تعطيه بعض االستقرار‪ ..‬ولكنها كمن قبضت على‬
‫الهواء‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫وقد استطاع سيناريو الفيلم الذى كتبه "فايز غالى"‪ ،‬كما كتب الحوار‬
‫أيضاً‪ ،‬أن يضمن العديد من المواقف‪ 4‬والتفاصيل اإلنسانية الصغيرة‪ ..‬التى تشكل‬
‫في النهاية هذا الواقع القلق للشباب في مرحلة الصراع والتحوالت األخيرة التى‬
‫مرت بها مصر‪.‬‬
‫فهذا المخرج التسجيلى الشاب‪ ..‬بطل الفيلم يستطيع أن يصنع أفالماً‬
‫تسجيلية جرئية تثير االهتمام‪ ..‬ولكنه ال يستطيع أن يعيش حياته بنفس الجرأة‪..‬‬
‫وهو لهذا يشعر بالتوتر‪ ..‬والحيرة‪ ..‬والقلق‪ ..‬وبقدر حيرته يصبح لغزاً بالنسبة‬
‫للذين يتعاملون معه‪..‬‬
‫أنه في أحدى لقاءاته مع عمه‪ ..‬يشعر برغبته في المكاشفة‪ ..‬فيقول‬
‫له‪":‬تعرف يا عمى‪ ..‬أجمل حاجة في حياتك أنها غنية‪ ..‬الواحد‪ 4‬لما يبص لها‪..‬‬
‫ويبص لحياتى يالقيها فاضية‪ ..‬أو على األرجح‪ 4‬متلخبطة‪ ..‬الغريبة أن أنا وسط‬
‫كل اللى يبحصلى‪ ..‬مش القى حكاية‪ ..‬حكاية واحدة ممكن أحكيها زى‬
‫حكايتك"!‪.‬‬
‫ويقول هو عن نفسه بين أصدقائه‪ ..‬يشكو لهم عدم فهم خطيبته له‪ ":‬أنا‬
‫كده‪ ..‬وحأفضل كده‪ ..‬جايز في يوم أتغير‪ ..‬وجايز ما أتغيرش‪ ..‬لكن اللى‬
‫أعرفه أن أفالمى حتعيش‪ ..‬وحتحرك الناس يوم ورا يوم "‪.‬‬
‫وربما هذه الكلمات األخيرة‪ ..‬هى أحسن تعبير عن حلم مخرجى السينما‬
‫التسجيلية‪ ،‬في صراعهم المرير من أجل تأكيد رسالتهم السينمائية‪.‬‬
‫‪ ‬حوار مع المخرج ‪:‬‬
‫والمخرج خيرى بشارة – قدم‪ 4‬للسينما التسجيلية عدداً من األفالم‪ 4‬الهامة‬
‫منها‪ :‬صائد الدبابات – طبيب في األرياف – حديث القرية‪ ..‬وفاز عن هذه‬
‫األفالم بعدة جوائز‪ ..‬وله أيضاً تجربة سابقة في األفالم الروائية الطويلة حيث‬
‫أخرج فيلم "األقدار‪ 4‬الدامية" عن مأساة هزيمة حرب ‪ ..48‬وفيلم "العوامة ‪"70‬‬

‫‪14‬‬
‫هو فيلمه الروائى الثانى‪ ..‬وقد‪ 4‬كتب هو قصته‪.‬وفي لقاء معه‪ ..‬سألته عن‬
‫المعنى الذى يقصده من عنوان فيلمه "العوامة رقم ‪"70‬‬
‫أجاب ‪ -‬أننى أقصد فترة السبعينات التى مرت بها مصر‪ ..‬وقلق جيلى خالل‬
‫عشر سنوات‪.‬‬
‫سألته ‪ :‬ما الذى تريد أن تقوله في الفيلم ؟‬
‫أجاب ‪ :‬الفيلم مجرد تشخيص حالة‪.‬‬
‫‪ -‬وما الذى وصلت إليه في هذا التشخيص ؟‬
‫‪ -‬أن الحل الفردى ليس هو األسلوب األجدى لمواجهة المشاكل‪ ..‬بل هو الحل‬
‫الجماعى‪.‬‬
‫‪ -‬أين أنت من بطل هذا الفيلم ؟‬
‫‪ -‬الفيلم عنى‪ ..‬وليس عنى‪ ..‬فجذورى ليست ريفية‪ ..‬ولم احتك بجريمة كبيرة‬
‫في حياتى‪ ..‬ولكن كل القلق الذى مر به بطل الفيلم‪ ..‬مررت به أنا‪..‬‬
‫والمتغيرات التى حدثت في المجتمع المصرى انعكست على حياتى في شكل‬
‫صراعات مستمرة‪ ..‬هل أبيع نفسى وأخرج أفالم الحواديت‪ ..‬أم استمر في‬
‫األفالم التسجيلية‪.‬‬
‫‪ -‬لقد عشت فترة في بولندا‪ ..‬ما الذى استفدته هناك ؟‬
‫‪ -‬بعد تخرجى من المعهد العإلى للسينما‪ ..‬اكتشفت أننى تزودت بثقافة‬
‫سينمائية‪ ..‬ولكنى افتقر إلى خبرة الحياة‪ ..‬وفي لحظة يأس‪ ..‬قطعت تذكرة ذهاباً‬
‫بال عودة على ظهر مركب مسافرة إلى بيروت‪ ..‬ومنها تنقلت إلى أكثر من‬
‫بلد‪ ..‬حتى وصلت إلى بولندا‪ ..‬كان عمرى وقتها ‪ 21‬عاماً‪ ..‬عشت هناك‬
‫عامين‪ ..‬لم أتلق في بولندا دراسة عن السينما أو االيدلوجيات‪ 4..‬ولكنى درست‬
‫الحياة وتأثرت جداً بأسلوب البولنديين في حبهم الشديد للحياة‪ ..‬والروح‪ 4‬الساخرة‬
‫عند الفنانيين في نظرتهم للواقع‪ ..‬وتعرفت على أفالم كبار المخرجين‬
‫البولنديين‪ ..‬وعندما عدت للقاهرة‪ ..‬اكتشفت أننى جاهل بمصر‪ ..‬وقلت وداعاً‬

‫‪15‬‬
‫للغة السينمائية‪ ..‬وداعاً النبهاري بها‪ ..‬وبدأت أغوص في قرى ومدن‪ 4‬مصر‪..‬‬
‫أبحث عن الحقيقة واإلنسان‪4.‬‬
‫‪ -‬ماذا استفدت من تجربة العمل في السينما التسجيلية ؟‬
‫‪ -‬استفدت الكثير‪ ..‬ربما أهم شئ‪ ..‬انى اقتربت أكثر من الناس‪.‬‬

‫‪ ‬حوار مع المصور‪:‬‬
‫وفيلم "العوامة رقم ‪ "70‬هو أول فيلم روائى طويل يصوره الفنان محمود‬
‫عبد السميع بعد رحلة طويلة مع األفالم‪ 4‬التسجيلية صور منها ما يزيد عن المائة‬
‫فيلم‪ ..‬وفاز بعدة جوائز‪ ..‬وهو عندما يحكى عن تجربته السينمائية‪ ،‬يقول أنه‬
‫بالرغم من تخرجه من كلية الفنون التطبيقية إال أن تخرجه الحقيقى جاء من‬
‫جمعية الفيلم "فأنا عضو فيها منذ إنشائها عام ‪ ..1960‬حتى أصبحت رئيسها في‬
‫الفترة األخيرة‪ ..‬ومن احتكاكي بالمثقفين والنقاد ومشاهداتى لألفالم‪ 4..‬قررت أن‬
‫أكون على نفس المستوى‬
‫سألته كيف تفهم التصوير السينمائى؟‬
‫أجاب – التصوير بالنسبة لى ليس بحثاً عن جماليات الصورة‪ ..‬وأنما بحثاً عن‬
‫قوة التعبير في الموضوع بالصورة‪ ..‬فأنا ضد التكوينات المفتعلة‪ ..‬أو الكادرات‬
‫الغريبة وما يأسرنى تماماً هو قوة الموضوع‪ 4‬ومدى‪ 4‬واقعيته‪.‬‬
‫‪ -‬من الواضح‪ 4‬في فيلم العوامة‪ ..‬تحكمك في توزيع األضاءة‪..‬؟‬
‫‪ -‬لقد علمتنى تجارب التصوير في األفالم التسجيلية‪ ..‬أن أتصرف في أضيق‬
‫االمكانيات‪ ..‬فقد تعرضت لمواقف صعبة وكان على أن أصور بال اضاءة‬
‫تقريباً‪ ..‬وبالفعل صورت أفالماً تسجيلية على كشافات السيارات ولهيب أعواد‬
‫الكبريت‪ ..‬إن قلة االمكانيات تولد حلوالً‪ 4‬عظيمة‪ ..‬ولكن من أهم األشياء التى‬
‫تعلمتها من األفالم التسجيلية‪ ..‬أن المكان ال يقل أهمية عن اإلنسان‪ ..‬فمثالً‬
‫الحائط ال يقل عندى أهمية عن أى ممثل‪ ..‬فاالثنان يمثالن أمامى‪"..‬‬

‫‪16‬‬
‫وهكذا أهدت السينما التسجيلية في مصر‪ ..‬اثنين من أفضل رجالها‪ ..‬إلى‬
‫السينما الروائية‪.‬‬
‫وكأن السينما التسجيلية هى األم‪ ..‬التى تربى أوالدها‪ ..‬حتى يكبروا‪..‬‬
‫ويستقلوا بأنفسهم‪ ..‬ويخرجوا من بيت العائلة إلى بيوتهم الجديدة‪.‬‬
‫ربما كان هو خروجاً من الظل‪ ..‬إلى دائرة الضوء‪ ..‬والشهرة‪4.‬‬
‫ولكن‪ ..‬نادراً ما ينكر أحد منهم‪ ،‬فضل السينما التسجيلية عليه‪ ..‬أنها‬
‫المدرسة الحقيقية للسينما الواقعية‪ ..‬ولهذا يعود إليها الكثيرون إذا ما شعروا‬
‫يوماً بصعوبة الحياة‪ ..‬واشتاقوا‪ 4‬إلى دفء األم‪ 4..‬وحنانها‪ ..‬وصدقها!‪4‬‬

‫‪17‬‬
‫* سواق األتوبيس‪ ...‬جوهرة أفالم الثمانينات‪:‬‬
‫هناك نوع من األفالم‪ 4،‬تشعر أنك تحمله بداخلك‪ ،‬وال تدرى بالضبط هل‬
‫هذا الفيلم جزء منك‪ ...‬أم أنك أنت جزء منه ؟‬
‫ذلك ألنه في لحظات كثيرة‪ ...‬تتراءى لك بعض مواقف الفيلم‪ ...‬ويرن‬
‫في أذنك صدى بعض من حواره‪ ...‬وتشعر أنك أشتركت في هذه المواقف من‬
‫قبل‪ ...‬أو قلت هذا الحوار‪ 4...‬أو تمنيت أن تقوله‪.‬‬
‫وهذا النوع من األفالم‪ ...‬قليل ونادر كندرة الصدق في حياتنا‪ ...‬ولهذا‬
‫يبدو كجوهرة أصيلة وسط ركام الزيف واالفتعال‪ 4‬وهوجة ركوب الموجة وفيلم‬
‫"سواق األتوبيس" جوهرة حقيقية في السينما المصرية عام ‪.83‬‬
‫يفتتح فيلم "سواق األتوبيس" بحادثة نشل داخل أحد أتوبيسات القاهرة‪.‬‬
‫وينتهى الفيلم أيضاً بحادثة نشل داخل نفس األتوبيس‪ ...‬السائق هو نفسه لم‬
‫يتغير‪.‬‬
‫ولكنه كما رأيناه في أول الفيلم يهم بمطاردة النشال ومعاقبته وعندما‬
‫يكتشف أن النشال أسرع منه في الحركة واالختفاء‪ ...‬يتراجع عن مطاردته‬
‫ويعود إلى مقعده مستسلماً ليقود األتوبيس وكأن شيئاً عادياً قد حدث‪...‬‬
‫بينما في نهاية الفيلم‪ ...‬يتغير موقفه‪ ...‬يصبح أكثر جرأة وضراوة‪...‬‬
‫يقفز من مقعده ليطارد النشال‪ ،‬ويحاول النشال أن يرعبه بمطواة حادة يشهرها‬
‫في وجهه‪ ...‬ولكن السائق يلعن كل حواجز الخوف‪ 4...‬ويقتحم الخطر‪ ...‬وبكل‬
‫األلم والمرارة والغيظ الذى يعتمل في داخله ينهال على النشال‪ ...‬لكماً‬
‫وصفعاً‪ ...‬وهو يلعنه في صيحة غضب " يا أوالد‪ 4‬الكلب‪ 4...‬يا أوالد‪ 4‬الكلب"‪...‬‬
‫وينتهى الفيلم بهذه اللعنات وهى تدوي‪...‬‬
‫ما الذى تغير في شخصية هذا الشاب سائق األتوبيس ؟‬
‫إن فعل النشل واحد‪ 4،‬في بداية الفيلم ونهايته‪ ...‬وأيضاً ألم الضحية واحد‪،‬‬
‫في بداية الفيلم ونهايته‪ ...‬ولكن‪ 4‬سائق األتوبيس لم يعد كما كان‪...‬‬

‫‪18‬‬
‫كان مراقباً لألمور‪ ،‬بوعى‪ ،‬وفهم‪ 4...‬ولكن كانت تنقصه القدرة على‬
‫الفعل‪ ،‬ليس خوفاً من المواجهة‪ 4...‬وإ نما إلحساسه أنه لن يغير شيئاً من الواقع‬
‫وفي نهاية الفيلم‪ ...‬نرى هذا الشاب سائق األتوبيس‪ ...‬يتخلى عن حذره‬
‫وتردده‪ ...‬ويدخل المواجهة‪ ...‬ليس النشال في حد ذاته هو المقصود‪ ...‬ولكن‬
‫كل هذه القوى الفاسدة التى خلخلت القيم األصيلة !‪.‬‬
‫فهذا النشال هو رمز للذين سرقوا الحياة‪ ...‬وأجهضوا األحالم‪4...‬‬
‫وحولوا‪ 4‬األيام إلى عملية حسابية‪ ،‬أرباح وخسائر‪ ،‬أرصدة ومصالح خاصة‪،‬‬
‫سمسرة ومضاربات‪ ...‬وعالقات تقوم على النقود‪ ...‬وتوارى الحب والحنان‪...‬‬
‫وتحولت الروابط األسرية إلى هياكل من الورق !‪.‬‬
‫هل أنتهت المعارك؟‬
‫سائق األتوبيس (نور الشريف) شاب أنضجته أربعة حروب خاضها‪...‬‬
‫فقد أشترك في حرب اليمن‪ ...‬وحرب ‪ ...67‬ثم حرب االستنزاف ثم حرب‬
‫‪ ...73‬شاب مصرى عاش أجمل سنوات عمره بين البارود والنار‪ ...‬يواجه‬
‫الخطر في كل لحظة‪ ...‬ومع اشراقة الشمس كل صباح كان ال يدرى هل سيأتى‬
‫عليه الليل حياً أو أن يكون شهيداً؟‪ ...‬أيام ال يعرف طعمها إال من عاشها‪:‬‬
‫(قعدت ثالث سنين راقد في خندق أيام حرب االستنزاف‪ ...‬وعديت مع اللى‬
‫عدوا في ‪ ...73‬قابلت كثير‪ ...‬وعاشرت كثير‪ ...‬ولكن عمرى ما حا أنسى‬
‫زميلنا صادق اللى مات في ‪ ...73‬عدى معانا‪ ...‬رقصنا‪ ...‬فرحنا كلنا‪ ...‬وما‬
‫كنش يعرف أنه حيموت بعد لحظات‪ ...‬مات قدامنا بين أيدينا)‪.‬‬
‫هذا الشاب بكل تجربته العظيمة‪ ،‬وبكل مشاعره النبيلة‪ ...‬يعود إلى أهله‬
‫وبيته‪ ...‬ليخوض معركة جديدة ليتزوج من الفتاة التى أحبها وأحبته (ميرفت‬
‫أمين) ويتحمل بكل الصبر أهانات أم زوجته (زهرة العال) وتنديدها المستمر‬
‫بأن ابنتها ارتضت أن تتزوج سائق أتوبيس‪...‬‬

‫‪19‬‬
‫ولكن الحب بينهما لم يسمح بهذه االعتراضات أن تهدد حياتهما‪...‬‬
‫وأنجب منها طفالً جميالً‪ ...‬وباعت مصوغاتها لتشترى لحسن سيارة تاكسى‬
‫ليعمل عليها في وقت فراغه‪ ،‬ويسدد اقساطها من عائدها‪ ...‬ولكن‪ 4‬هل انتهت‬
‫المعارك؟ ال‪ ...‬فهناك أشرس معركة قدر عليه أن يخوضها‪ ...‬معركة داخل‬
‫أسرته بين أخوته البنات وأزواجهن‪ 4‬وقد‪ 4‬تفرق كل منهم في عالمه الخاص بينما‬
‫والده يعانى من أزمة مالية خطيرة وقد‪ 4‬سقط مريضاً من هول الصدمة‪ ...‬فقد‬
‫فوجئ األب بأن هناك ضرائب متأخرة عليه وصلت إلى عشرين ألف جنيه‪...‬‬
‫إما أن يسددها فوراً أو تباع ‪ -‬في المزاد العلنى – ورشة األخشاب‪ 4‬التى يملكها‬
‫ويعيش فيها ولها‪ ...‬فقد بنى هذه الورشة طوبة طوبة‪ ...‬وصنع آالتها بنفسه‪...‬‬
‫واتسعت بمجهوده واصراره حتى أصبحت من الورش ذات السمعة الطيبة في‬
‫السوق‪ ...‬فهل بعد هذا العمر كله يضيع كل شئ في لحظة ؟!‬
‫أنها معركة جديدة عليه أن يخوضها لصالح والده‪ 4...‬بحثاً عن الحق‬
‫الضائع‪...‬‬
‫ومن هذه المعركة‪ ...‬يبدأ الفيلم أحداثه الحقيقية‪...‬‬
‫فالفيلم ال يخوض في تفاصيل الحروب‪ 4‬التى خاضها سائق األتوبيس من‬
‫أيام حرب اليمن إلى حرب ‪ ...73‬وإ نما يوجزها المخرج عاطف الطيب في‬
‫مشهد بالغ الرقة والشفافية‪ ...‬عندما يتجمع رفاق السالح في نزهة خلوية عند‬
‫سفح األهرام في ليلة قمرية‪ ...‬وصدى أغنية قديمة لعبد الحليم حافظ تتردد من‬
‫مذياع السيارة التاكسى‪ ...‬وتدريجياً تتالشى األغنية‪ ...‬ليبدأ توزيع موسيقى‬
‫جديد لنشيد "بالدى بالدى" في أيقاع حزين‪ ...‬ومجموعة األصدقاء يتذكرون‬
‫أيام الحروب‪ ...‬وقد صورتهم كاميرا الفنان "سعيد الشيمى" ورمال سفح الهرم‬
‫تحيط بهم‪ ...‬والهرم ببنائه الفخم المعجز يطل عليهم‪ ...‬وهم متناثرون في حلقة‬
‫دائرية‪ ...‬وكأنهم جزء من تاريخ مصر الطويل‪...‬‬

‫‪20‬‬
‫جيل من الشباب أعطى وضحى‪ ...‬وعاش لحظات البطولة واالنكسار‪4...‬‬
‫وتفرق منهم من تفرق‪ ...‬بالموت أو الغربة عن الوطن‪ 4...‬أو الغربة داخل‬
‫مجتمع ال يعرفون ما الذى جرى له ؟!‬
‫أنه مشهد من أهم مشاهد الفيلم‪ ...‬وأكثرها تعبيراً عن فن المخرج‬
‫"عاطف الطيب"‪.‬‬
‫والمشهد يقطر بالحزن والشجن‪.‬‬
‫وهذا الحزن النبيل يطرز الفيلم من بدايته إلى نهايته‪ ...‬فنحن منذ البداية‬
‫ورغم التوزيع الموسيقى الجديد للحن سيد درويش "طلعت يا محال نورها" على‬
‫رحلة اتوبيس داخل شوارع القاهرة المزدحمة‪ ...‬إال أننا نشعر بأن شيئاً ما‬
‫سينكسر !‪.‬‬
‫ومع اإليقاع المتدفق بالحيوية‪ ،‬والذى يتشكل من عشرات من التفاصيل‬
‫اإلنسانية الصغيرة والتى تعبر عن الحياة اليومية المصرية‪ ...‬يأخذنا الفيلم إلى‬
‫رحلة هذا الشاب سائق األتوبيس ليحصل لوالده‪ 4‬على حقه الضائع‪ ...‬وليعيد إليه‬
‫حياته وعافيته مع دوران آالت الورشة التى صنعها‪.‬‬
‫والرحلة مريرة‪ ...‬ساخرة‪ ...‬تعرى الوجوه القبيحة التى أعمتها النقود‬
‫حتى لم تعد تدرى موضع قدميها‪ ...‬وإ لى أى جذور تنتمى‪...‬‬
‫فاألخوة البنات‪ ...‬كل منهن أغلقت باب بيتها على نفسها‪ ...‬وعاشت‪4‬‬
‫عالمها الخاص مع زوجها وأوالدها‪ ...‬وال يستطعن تقديم المساعدة لوالدهن في‬
‫أزمته الحادة‪ ،‬سوى‪ 4‬ترديد الكلمات الطيبة والدعوات‪ 4...‬وكأن كلمات المجاملة‬
‫ستحل المشكلة‪ ...‬ولكن هذا ال يهمهن في الحقيقة‪ ...‬بقدر ما يسعين إلى ازاحة‬
‫المشكلة خارج أبواب بيوتهن‪...‬‬
‫أما األزواج‪ 4...‬فكل منهم شق طريقه في التجارة‪ ...‬أحدهما استولى على‬
‫إيراد ورشة األخشاب ووظفها لحسابه الخاص‪ ...‬والثانى وجد طريقه في‬
‫أسواق بورسعيد حيث يتاجر في كل شئ‪ ...‬وال يهتم بأى شئ سوى أرباحه‪...‬‬

‫‪21‬‬
‫والثالث استقر في دمياط تاجراً لألثاث‪ ...‬وال يكاد يتعرف على شقيق زوجته‪...‬‬
‫فالصالت مقطوعة منذ زمن طويل‪ ...‬وهو مشغول بتنمية ثروته‪ ...‬ويماطل‬
‫ويتلون عندما يدرك المهمة التى جاء من أجلها شقيق زوجته‪ ...‬فإذا كان الوالد‪4‬‬
‫مريضاً فألف سالمة وتمنيات بالشفاء‪ ...‬وإ ذا كانت الورشة محجوز عليها‬
‫للضرائب‪ ...‬فهو مستعد لشرائها وهدمها لتحويلها إلى عمارة‪ ...‬أما ما عدا هذا‬
‫فليس عنده وقت‪ 4‬للمناقشة‪...‬‬
‫وكما يبرع سيناريو "بشير الديك" في رسم الشخصيات‪ ...‬فهو أيضاً‬
‫يضع على لسانها عبارات الحوار المعبرة والمركزة والتى تنم عن فهم كامل‬
‫ألسلوب هذا النوع من التجار‪ ...‬فالعمل اليومى يبدأ وينتهى بالنقود‪ ...‬ولكن ال‬
‫مانع من بعض الطقوس كستار الستكمال الشكل الخارجى !‬
‫ويتوقف المخرج "عاطف الطيب" ليلخص هذه المواقف والنماذج داخل‬
‫صورة سينمائية خالصة‪ ...‬فكل لقطة تضيف معلومة جديدة‪ ...‬وترسم أبعاد‬
‫الشخصيات من خالل أسلوب األداء وطريقة النطق بالكلمات‪...‬‬
‫ورحلة الشاب إلنقاذ والده‪ ...‬تزداد مرارة وحزناً‪ ...‬حتى زوجته التى‬
‫عاش معها قصة حب رائعة‪ ...‬تنتهى القصة بمأساة‪ ...‬فالزوجة‪ 4‬ترضخ لكلمات‬
‫أمها وأحد أقاربها‪ ،‬للخالص بنفسها من هذه الحياة التى تعيشها مع سائق‬
‫األتوبيس‪ ...‬ويأتى مشهد االنفصال رائعاً حزيناً ينعى كل هذا الحب الذى‬
‫كان‪ ...‬واألحالم التى ستكون‪...‬‬
‫وقد اختار المخرج "عاطف الطيب" مجموعة من الممثلين بعناية‬
‫واضحة‪ ...‬ووضعها في اطار الفيلم لتخدم الموضوع بكل تفاصيله الصغيرة‪.‬‬
‫ولهذا رأينا فنانين ال يمثلون أدواراً‪ 4...‬بل يعيشون حياة كاملة‪.‬‬
‫على القمة يأتى نور الشريف الذى أعطى خالصة تجربته الفنية في‬
‫شخصية تعبر عن جيل من الشباب يحارب أكثر من معركة من أجل الحق‬
‫والعدل‬

‫‪22‬‬
‫وانعكس على وجه نور الشريف كل عذابات تفاصيل معركته إلنقاذ‬
‫والده‪ ...‬فالعينان تخبئان كالماً كثيراً ال تقوى الشفتان على البوح به‪ ...‬ولكن‪4‬‬
‫كل الكلمات تصلنا‪ ...‬ونرددها معه‪...‬‬
‫ميرفت أمين‪ ...‬عادت إلى الشاشة أكثر نضجاً‪ ...‬عماد حمدى في دور‬
‫األب أعظم تتويج لهذا الفنان العظيم وهو ينهى اآلن حياته الفنية‪ ...‬في هذا الفيلم‬
‫لم يكن أباً عادياً‪ ...‬ترتعش الكلمات على شفتيه من الحزن والصدمة‪ 4...‬ولكن‪4‬‬
‫كان أباً يعبر عن معنى جحود األبناء‪ ،‬وضياع العمر‪ ...‬حتى الممثل الهزلى‬
‫"وحيد سيف" تخلى عن لزماته المتكررة وخضع للدور‪ 4‬الذى يمثله‪ ...‬تاجر من‬
‫بورسعيد‪ ...‬بكل ما توحى هذه الكلمة من فهلوة وثراء سريع بال أساس‪...‬‬
‫ولعب "على الغندور" و "حسن حسنى" و"محمد شوقى" أهم أدوارهم‬
‫السينمائية حتى اآلن‪...‬‬
‫وقدم‪ 4‬الفيلم على نفس المستوى من االهتمام أدوار‪ 4‬الممثلين الشبان‪":‬صفاء‬
‫السبع" – "شعبان حسين" – "سمير وحيد" – "محمد كامل"‪.‬‬
‫وكذلك قدمت "نبيلة السيد" مزيجاً من خفة الدم‪ 4،‬وسلبية الزوجة التى‬
‫تخاف على مشاعر زوجها‪ ...‬وهى نفس السلبية التى يؤكدها الفيلم من خالل‬
‫شخصية زوجة تاجر دمياط "علية عبد المنعم"‪ ...‬وأيضاً شخصية األم "عزيزة‬
‫حلمى"‪.‬‬
‫إن المرأة هنا‪ ...‬هى المرأة المغلوبة على أمرها !‬
‫وإ ذا كان فيلم "سواق األتوبيس" يعتبر شهادة ميالد فنية للمخرج الشاب‬
‫"عاطف الطيب"‪ ...‬فإن الفيلم يؤكد من جديد براعة المصور "سعيد الشيمى" أحد‬
‫الشبان الموهوبين الذين يصنعون السينما المصرية اآلن بحب وفهم‪ 4‬وجمال‪...‬‬

‫ويؤكد الفيلم أيضاً على هذا األحساس المتوهج في المونتاج للفنانة نادية‬
‫شكرى‪ ...‬والتى حافظت على إيقاع الفيلم ساخناً‪ ،‬ومريحاً‪...‬‬

‫‪23‬‬
‫وكشف الفيلم عن موهبة الموسيقار "كمال بكير" الذى طوع األلحان‬
‫القديمة المتداولة‪ ،‬ليصنع منها موسيقى لها مذاق خاص كانت من أهم دعائم‬
‫نجاح الفيلم‪ ...‬إنه فيلم صنعه حب الذين تعاونوا فيه‪ ...‬وإ يمانهم بالرسالة التى‬
‫يريدون إبالغها للجمهور‪4...‬‬

‫وقصة الفيلم كتبها المخرج "محمد خان" والذى يعتبر من أهم عالمات‬
‫السينما الجديدة في مصر‪ ...‬شاب موهوب يبحث ويقرأ ويفكر ويتعلم دائماً‪...‬‬
‫وهو صديق شخصى لكاتب السيناريو "بشير الديك" وللمخرج الشاب "عاطف‬
‫الطيب"‪ ...‬وفي كل لقاءاتهم تشغلهم مسألة تقديم شخصيات ومواقف‪ 4‬غير‬
‫تقليدية‪ .‬والتى استهلكتها السينما المصرية على طول تاريخها‪ ...‬أنهم يؤمنون‬
‫أن المجتمع بكل أحداثه اليومية يصلح لصنع سينما مختلفة‪ ،‬لها طابع مصرى‬
‫متميز‪ ،‬وتستطيع أن تغزو العالم‪ 4..‬وقصة فيلم "سواق االتوبيس" ولدت في احدى‬
‫لقاءاتهم هذه‪ ..‬وأعيد كتابة السيناريو أكثر من مرة حتى وصل إلى الصورة التى‬
‫ظهر بها الفيلم‪..‬‬

‫والمخرج عاطف الطيب كان عمره وقتها ‪ 35‬عاماًَ‪ ..‬تخرج من معهد‬


‫السينما بالقاهرة عام ‪ ..1970‬وقضى خمس سنوات في الجيش‪ ..‬وهذه الفترة‬
‫شكلت جزءاً من شخصيته والتى انعكست في رؤيته لبطل فيلم "سواق‬
‫االتوبيس"‪ ..‬يقول لى عاطف الطيب‪:‬‬

‫‪ -‬نحن من جيل لم نستمتع بحياتنا‪ ..‬تخرجنا‪ ..‬دخلنا الجيش‪ ..‬خرجنا‬


‫إلى المجتمع لنفاجأ بقضايا الفساد‪ ..‬وجشع التعامل بالنقود‪.‬‬

‫وعاطف الطيب‪ ..‬تمتد جذور عائلته في صعيد مصر‪ ..‬والده انسان‬


‫بسيط عاش ازمات كثيرة ولم يعرف راحة البال إال قليالً‪ ..‬يقول "من حكايات‬
‫ابى‪ ..‬عرفت الكثير عن صعيد مصر‪ ..‬كنت اشعر من كلماته‪ ..‬أنهم أناس من‬
‫معدن جيد ولكن لم يأخذوا حقهم في الحياة "‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫كان أول فيلم قدمه "عاطف الطيب"‪ ..‬فيلم تسجيلى قصير عام ‪ 76‬بعنوان‬
‫"مقايضة" يحكى فيه رحلة فالح بسيط يعمل طوال العام في حقله‪ ..‬ثم عندما‬
‫يبيع المحصول‪ ..‬يذهب إلى المدينة ليشترى راديو ترانزستور‪ ..‬لينقل له‬
‫الراديو اعالنات البرفانات والشامبو !!‬

‫أول فيلم طويل اخرجه عاطف الطيب كان عام ‪ ..81‬والفيلم بعنوان‬
‫"الغيرة القاتلة" – أول عرض له في القاهرة كان في مارس ‪ -)!!( 83‬قام‬
‫عاطف الطيب بانتاج هذا الفيلم لحسابه حتى يجد مكاناً له على الشاشة‪" ..‬وال‬
‫انكر فضل نور الشريف في مساعدتى النتاج هذا الفيلم‪ ..‬ولكن عندما عرض‬
‫للنقاد في عروض خاصة‪ ..‬كتب بعض النقاد يهاجمون الفيلم‪ ..‬يومها بكيت‬
‫بدموع غزيرة‪ ..‬وشعرت اننى لن اقدم شيئاً ناجحاً على الشاشة‪ ..‬واننى ابتعد‬
‫عن حلمى بمسافات طويلة‪ ..‬السينما هى هوايتى وحياتى‪ ..‬فكيف اخرج من هذا‬
‫المأزق‪ ..‬ظللت فترة طويلة متردداً‪ ..‬خائفاً‪ ..‬وحتى بعد أن انتهيت من فيلم‬
‫"سواق االتوبيس" لم أكن متأكداً من نجاحه‪ ..‬وتصورت أن هذا الفيلم لو فشل‪..‬‬
‫فلن أعمل مرة أخرى في السينما "‪.‬‬

‫ونجح الفيلم‪ ..‬ولكن ظل "عاطف الطيب" يمر بلحظات التردد والخوف‬


‫يقول لى‪ ..‬أنه بعد نجاح الفيلم‪ ..‬انهالت عليه عروض العمل في افالم أخرى‪..‬‬
‫وصل عدد السيناريوهات التى قدمت له حوالى ‪ 25‬سيناريو‪ ..‬ولكنه رفضها‬
‫كلها‪ ..‬ألنه – على حد تعبيره – ال يريد أن يفقد نفسه بعد المستوى الذى وصل‬
‫إليه‪..‬‬

‫ما الذى يحلم به مخرج شاب القى كل هذا النجاح ؟‬

‫يجيب عاطف الطيب على سؤالى ‪:‬‬

‫‪25‬‬
‫"أهم قضية بالنسبة لى أن احافظ على نفس المستوى الذي وصلت إليه‪..‬‬
‫وأن أكون صادقاً دائماً وال أنحنى الغراءات‪ 4‬السوق‪ 4..‬أننى اتمنى ان أكون فرداً‬
‫وسط مجموعة من السينمائيين تهدف إلى خلق سينما خاصة متطورة‪ ..‬لها روح‬
‫وطعم مصرى‪ ..‬وتلعب دوراً هاماً في إثارة الفكر والحيوية عند المتفرج"‪.‬‬

‫كان فنان رائع حفر اسمه في تاريخ السينما المصرية بأحرف من نور‪..‬‬
‫أنه عاطف الطيب‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫بدايات المسافرين للخارج‬

‫المسافرون‪ 4‬للعمل في الخارج قضية شغلت المجتمع المصرى من بداية‬


‫السبعينيات‪ ..‬وحتى هذه اللحظة‪.‬‬

‫وكان لسينما الثمانينات سبق تناول هذه القضية عام ‪ 86‬من خالل فيلم "عودة‬
‫مواطن" الذى كتبه عاصم توفيق واخرجه محمد خان وتحمس النتاج الفيلم‬
‫وتمويله الفنان يحيى الفخراني في أول تجربة انتاج له‪.‬‬

‫ومن حسن حظ السينما المصرية انها لم تتطرق لهذا الموضع على يد أحد‬
‫الجهالء فاقدي‪ 4‬الحس االجتماعى والفنى‪ ،‬فما أسوأ أبتذال القضايا الجادة‬
‫وتشويهها حتى تصبح مكروهة من الجميع !‬

‫ويبدأ الفيلم من لحظة العودة إلى االسرة‪ ..‬بعد غياب طال لثمانى سنوات‪،‬‬
‫وحساب في البنك هو حصيلة جهدة وعملة طوال هذه السنوات‪ ..‬وسيارة فاخرة‬
‫حديثة‪ ..‬وأحالم باالستقرار والدفء‪ 4‬العائلى فما الذى يتحقق من هذه االحالم ؟‬

‫في تلخيص زكى وبارع يقدم لنا الفيلم في مشاهده االولى‪ 4..‬مالمح‬
‫الشخصية والمكان‪ 4..‬فمع هبوط الطائرة القادمة من الدوحة‪ 4..‬لتالمس أرض‬
‫مطار القاهرة نتعرف على شاكر (يحى الفخرانى) العائد إلى الوطن‪ ..‬وعلى‬
‫وجهه ابتسامه لهفة وتفاؤل‪ ..‬حقائبه العديدة تفصح عن كمية الهدايا‪ ..‬لمعة‬
‫العينين تحاول أن ترصد كل التغيرات التى حدثت في الطريق والمبانى‪..‬‬
‫والبشر أيضا‪..‬‬

‫بيت األسرة في ضاحية حلوان‪ ..‬البيت طابق واحد من الطراز القديم‪..‬‬


‫واالثاث أيضاً قديم ومتواضع‪ ..‬يقيم في البيت األخوة االربعة لشاكر‪..‬‬

‫‪27‬‬
‫األخت الكبرى (ميرفت أمين) التى يبدو أنها ترعى شئون البيت‪ ..‬وقد‬
‫تفرغت لهذه المهمه عن حب واقتناع‪ ..‬وكثيراً ما تفاجىء اخواتها بصنع‬
‫"تورتة" تتفنن في تزينها‪ ..‬فأعمال الحلوى‪ 4‬تستهويها‪..‬‬

‫األخت الصغيرة (ماجدة زكى) تخرجت من الجامعه وتعمل مضيفة في‬


‫كافيتريا أحد الفنادق بالعاصمة‪ ..‬ومن الواضح‪ 4‬استقاللها بشخصيتها وشئونها‪..‬‬
‫وأنها اختارت زميالً لها يعمل في نفس المكان لترتبط معه بالزواج‪..‬‬

‫وهناك الشقيق (أحمد عبد العزيز) الذى‪ 4‬تخرج من الجامعه‪ ..‬ومازال‬


‫ينتظر فرصة العمل وقرار‪ 4‬الحكومة بتوزيع "القوى العاملة" على المصالح‬
‫والمؤسسات‪ " 4‬وهو في فترة االنتظار الطويلة الممتدة يحاول استهالك الوقت في‬
‫لعب "الشطرنج"‪ ..‬ويتناول الحبوب المهدئة ليغيب في نوم طويل !‬

‫اما الشقيق األصغر (شريف منير) فهو مازال طالباً في الجامعه‪..‬‬


‫وهوايته تربية الحمام الزاجل‪ ..‬وقد‪ 4‬بنى له أبراجا صغيرة فوق سطح البيت‪..‬‬
‫يطعمه ويرعاه ويطيره محمالً بالرسائل إلى بيت خاله في نفس المنطقة‪.‬‬

‫وهذا الخال (عبد المنعم ابراهيم) يعيش بمفرده حياة بسيطة‪ ..‬يعمل في‬
‫مصنع الحديد والصلب‪ 4..‬ومن الواضح‪ 4‬أن عالقتة بالشقيق االصغر هى أوضح‬
‫العالقات وأكثرها فهماً وتواصالً‪..‬‬

‫وهكذا تتجمع هذه الخيوط االولى‪ 4‬للشخصيات والمكان‪ 4..‬ويحدث التئام‬


‫شمل االسرة بعودة الشقيق االكبر‪ ..‬الذى يحمل بداخله مشاعر حميمة صادقة‬
‫بتعويض أخوتة عن غيابة الطويل‪..‬‬

‫ولكن تدريجياً يكتشف – كما نكتشف نحن – أن األخوة الذين يضمهم بيت‬
‫واحد‪ ..‬أصبح المكان وحده هو الذى يجمعهم‪ ..‬أما كل واحد منهم فقد تحول إلى‬

‫‪28‬‬
‫جزيرة معزولة لها عالمها الخاص وأهتماماتها وهمومها‪ ..‬الحوار ما إن يبدأ‬
‫حتى يتقطع وينسحب كل إلى داخله‪.‬‬

‫األخت الكبرى (ميرفت امين) تدرك هذه الحقيقة‪ ..‬وتحاول أن تمد‬


‫الجسور وتخلق فرص المشاركه حتى ولو على مائدة الطعام‪ ..‬ولكن سرعان ما‬
‫تتبدد محاوالتها‪ ..‬ولكن دون ان تغضب أو تشكو‪ ..‬فقد تعودت على المسئولية‬
‫والتضحية بعد رحيل األب واالم‪.‬‬

‫ويحاول الشقيق العائد أن يخفف عنها بعض العبء‪ ..‬ويمارس دوره‬


‫كمسئول عن األسرة‪ 4..‬ولكنه يفاجأ باالمر الواقع الذى يصعب تغييره بين يوم‬
‫وليلة‪..‬‬

‫نفس االمر الواقع الذى صدمه عندما ذهب إلى مقر العمل الذى كان يعمل‬
‫به كمحامي قبل أن يسافر‪ ..‬ففوجىء أن مقر العمل تحول إلى صالة رقص‬
‫"ديسكوتيك "‪ ..‬وان مديره السابق هو نفسه صاحب ومدير صالة الرقص‪ ..‬وأن‬
‫زميلته التى أحبها وكان يتمنى الزواج منها‪ ..‬قد تزوجت المدير!‬

‫كل هذه المتغيرات التى فؤجىء بها‪ ..‬أصبحت جزءاً من االمر الواقع‬
‫الذى يجب أن يتعامل معه‪.‬‬

‫لقد غاب ثمانى سنوات‪ ..‬وفي هذه السنوات حدثت أشياء كثيرة في‬
‫المجتمع المصرى‪ ..‬بالقطع سمع عنها وهو في غربته‪ ..‬ولكن أكثر ما أفزعه‬
‫أن يمتد تأثير هذه التغيرات إلى داخل بيت األسرة‪ ..‬وبين أخوته !‬

‫فهو يقف مذهوالً حائراً أمام حالة الغيبوبة التى يعيشها شقيقه‪ ..‬سواء في‬
‫قتل الوقت‪ 4‬بلعب الشطرنج‪ ..‬أو بابتالع الحبوب المهدئه لالنفصال التام عن‬
‫الواقع‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫وال يملك حتى الثورة او الغضب إزاء هذه الحالة الموجوده داخل البيت‪..‬‬
‫وتصفعه في كل لحظة يشاهد فيها شقيقه وقد ألقى بجسده على المقعد او السرير‬
‫في تخاذل ووهن شديد‪ ..‬وكأنه أصبح جثة فاقدة‪ 4‬النبض والحيوية تردد كابوساً‬
‫مزعجاً عن خبر قرأة في أحدى الصحف يقول إن تعداد مصر عام ‪2000‬‬
‫سيصل إلى تسعين مليوناً‪ ..‬وإ نه يتصور أن الناس في ذلك الوقت‪" 4‬ستأكل‬
‫بعضها" !!‬

‫ماذا يفعل الشقيق العائد امام هذا المنطق المتشائم‪ ..‬والمبرر المرفوع‬
‫الختيار الغيبوبة؟‬

‫هل يسخر؟‪ ..‬هل يناقش؟ هل يمد يد العون الجتياز االزمة؟ وما الذى‬
‫يجب ان يفعلة ؟‬

‫إنه يبدأ في فتح حقائب نقوده‪ ..‬متصوراً ان النقود ستصحح األخطاء‬


‫السابقة والالحقة‪ ..‬ستعوض ما فات‪ ..‬وتقيم ما هو قادم‪4.‬‬

‫ولكن هل هذا هو الحل السعيد المنقذ؟‬

‫الوحيدة التى استجابت لنداء النقود‪ ..‬هى األخت الكبرى‪ ،‬فهناك حلم قديم‬
‫كان يراودها بان تستغل هوايتها في صنع الحلوى بأن يكون لها مكان مستقل‬
‫تصنع فيه الحلوى‪ 4‬وتبيعها للجمهور‪.‬‬

‫النقود موجودة‪ 4..‬واألخ العائد يعرض بقلب مفتوح وباحساس من رد الجميل‬


‫لالخت التى ضحت طوال هذه السنوات‪" 4..‬هل تريدين المبلغ‪ ..‬عملة مصرية‪..‬‬
‫أم دوالرات؟‪".‬‬

‫والمكان موجود‪ 4..‬فلنقتطع جزءاً من البيت األسرة‪ ..‬مجرد جزء يصلح‬


‫كمحل للعرض والبيع‪..‬‬

‫‪30‬‬
‫واألن بقى اسم المحل‪ ..‬االخ المتشائم الغائب باختياره عن الوعى‪..‬‬
‫يقترح أن يكون االسم "ماري انطوانيت"‪.‬‬

‫لماذا هذا االسم‪ 4‬بالذات؟ يرد بسخرية مريرة‪ ..‬ألن مارى انطوانيت‬
‫واجهت ثورة شعبها الجائع بان اقترحت عليه أن يأكل البسكويت والجاتوه بدالً‬
‫من الخبز!‬

‫مهما كانت حكايات التاريخ‪ ..‬إال أن االسم "مارى انطوانيت"‪ ..‬اسم جديد‬
‫لمحالت الحلوى‪ 4..‬وهكذا ارتفعت الالفته باالسم على جزء من بيت العائلة !‬

‫ويعلق االخ المتشائم بنفس نبرة السخرية المريرة "اهلل يرحمك با أبويا‪..‬‬
‫تعال شوف بيت العيلة واللى جراله" !‬

‫وتندفع االخت الكبرى في نشاطها الجديد‪ ..‬وكأنها انتظرت طوال هذه‬


‫السنين لتحقق حلمها الشخصي‪ ..‬وما إن واتتها الفرصة حتى أمسكت بها تماماً‪..‬‬
‫وتصرفت بثقه شديدة‪ ..‬ونجحت‪ ..‬وأغراها النجاح بالتوسع واالنتشار‪ ..‬وبدالً‬
‫من المحل الواحد أصبح هناك ثالثة محالت‪..‬‬

‫وتغيرت شخصيتها‪ ..‬وبدأت تبحث عن مسكن مستقل لتعيش بمفردها‪..‬‬


‫وعندما غضب منها شقيقها العائد‪ ..‬بررت سلوكها المفاجىء بأنها أصبحت‬
‫"سيدة اعمال"‪.‬‬

‫وتزايد االحساس بالغربة واالنفصال داخل البيت الواحدة‪ 4..‬ولم‪ 4‬يعد هناك‬
‫وقت او رغبة ليلتقى الواحدة باالخر‪ ..‬وقد‪ 4‬عبرت األخت الصغرى (ماجدة‬
‫زكى) عن هذه الحالة بقولها‪" :‬هوة فيه حد فاضى للتانى علشان نقوله؟" وكانت‬
‫بعباراتها هذه تبرر قرارها بالزواج من زميلها‪ ،‬واستئجارهما لشقة وتجهيزها‬
‫معاً‪ ..‬دون انتظار موافقة أفراد‪ 4‬األسرة – وبالذات الشقيق االكبر – الذى فوجىء‬
‫بهذه القرارات‪ ..‬ولم يستطع حيالها إال أن يرضى باالمر الواقع!‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫إن كل األمور‪ 4‬تمضى من أمامه‪ ،‬لتلقى بظاللها عليه‪ ..‬وتزيده احساساً‬
‫بالدهشة والحزن‪ 4..‬وتصيبه اكثر بالعجز‪.‬‬

‫ويكثف المؤلف عاصم توفيق كل الخيوط الدرامية ويتصاعد باالحداث‪..‬‬


‫ليجعل بطلنا العائد يواجه االختيار الصعب‪.‬‬

‫فهو يتلقى خطاباً من قطر تطلب منه المؤسسة التى كان يعمل بها ان‬
‫يعود للعمل معهم‪..‬‬

‫في نفس الوقت‪ ..‬الذى تتمادى فيه حالة شقيقه مدمن الحبوب المهدئة‬
‫والشطرنج‪ ..‬إنه يصل إلى مرحلة الحقن المخدرة واإلدمان‪ ..‬وينقل إلى‬
‫المستشفي في حالة من الغيبوبة الكاملة!‬

‫وتأتى الصدمة االخرى‪ ..‬من جانب شقيقة األصغر‪ ،‬هاوى الحمام‬


‫الزاجل‪ ..‬فالشرطة تقبض عليه وتفتش البيت‪ ..‬ليكشف أن وراء هذا الشقيق‬
‫المرح المتفائل دائماً‪ ،‬قصه مثيرة‪ ..‬فهو عضو في تنظيم سرى‪ ..‬ويتخذ من‬
‫هواية الحمام الزاجل ستاراً لنشاطه‪ ،‬وأحياناً وسيلة لالتصال باعضاء التنظيم!‬

‫واحد في مستشفي للعالج من اإلدمان واالخر في السجن انتظاراً‬


‫للمحاكمة‬

‫وهكذا تفككت كل االسرة‪ 4..‬وأصبح البيت خالياً ومهجوراً‪4.‬‬

‫وفي مشهد من أبرع مشاهد الفيلم‪ ..‬ينقل لنا المخرج محمد خان هذه‬
‫النتيجه من خالل حركه الكاميرا وتوزيع اإلضاءة‪ ..‬وبطلنا العادئد (يحيى‬
‫الفخرانى) يدخل البيت الصامت الخاوى‪ 4‬من الحياة‪ ..‬ويحاول ان يتلمس االجابة‬
‫لسؤاله الحائر‪ ..‬ما الذى حدث؟ يفتح أبواب الحجرات‪ 4..‬ويضىء االنوار‪4..‬‬
‫ويتوقف حزيناً امام الصور التذكارية لألب واالم واالسرة عندما كانت تجتمع‬

‫‪32‬‬
‫معاً‪ ..‬لم يعد باقياً غير الصمت الثقيل‪ ..‬والحزن‪ ..‬السراير خالية‪ ..‬التليفزيون‬
‫مغلق‪ ..‬المائدة منتصبة في الفراغ‪ ..‬يفتح النافذة المغلقة كأنما يتأكد من وجود‪4‬‬
‫الهواء بالخارج‪ ..‬ثم يلقى بجسده على السرير في إعياء وإ حساس بالفشل‬
‫والمرارة‪.‬‬

‫ويبقى السؤال‪ 4‬قائماً‪ :‬هل يستجيب للرحيل مرة أخرى؟‬

‫يحمل سؤاله وحزن ويذهب إلى شقيقه في مصحة العالج من اإلدمان‪..‬‬


‫يجده يتماثل للشفاء ولكن الشقيق يطلب منه ان يظل فترة اطول في المصحة فقد‬
‫وجد هذا العالم أفضل من العالم الخارجى‪ ..‬وبنبرة يأس ينصحه الشقيق بأن‬
‫يسافر مرة أخرى‪ ..‬وعلى حد تعبيره‪" :‬الزمن ما بقاش زماننا‪ ..‬فيه ناس فوق‬
‫وناس تحت‪ ...‬اما اللى في وسط راحت عليهم"‪.‬‬

‫يذهب إلى شقيقته التى أصبحت سيدة أعمال تعيش في مسكن بمفردها‪..‬‬
‫وتمارس حياتها كما تشاء‪ ..‬تقول له بال اهتمام‪ ":‬كنت عايزنا نتلم في بيت واحد‬
‫زى زمان‪ ..‬لكن دى سنة الحياة"‪.‬‬

‫يقول لها كانه يذكرها بوجوده‪" :‬كنت مستعداً ان أمد يدى لكم ولكن يبدو‬
‫ان حياتى مالهاش قيمة عندكم"‪.‬‬

‫وتشعر هى كسيدة أعمال لم تعد تعرف غير لغة البيع والشراء‪ ..‬إن‬
‫العواطف لم يعد لها مكان اآلن‪ 4..‬وإ ن الكالم والتبريرات والمشاعر‪ 4‬تأخرت‬
‫كثيراً ولم تعد تصلح لحال للموقف‪.‬‬

‫يحمل سؤاله وحزنه‪ ..‬ويذهب إلى شقيقه االصغر داخل زنزانة سجنه‪..‬‬
‫فيجده مازال متماسكاً‪ ..‬صلباً‪ ..‬متفائالً يقول له ال تسافر‪ ..‬فأنا احتاجك‪..‬‬

‫هل يسافر‪ ..‬ام ال ؟‬

‫‪33‬‬
‫إنه يحمل حقيبته ويذهب إلى مطار‪ ..‬وينهى اجراءات الرحيل‪ ..‬ولكنه ال‬
‫يستطيع أن يتقدم إلى بوابة الخروج إلى الطائرة‪..‬‬

‫يجلس في مكانه شارداً‪ ..‬محاصراً بكل التساؤالت‪ 4..‬وتقلع الطائرة‪..‬‬


‫وهو مازال في مكانه‪ ..‬وتقترب منه الكاميرا‪ ..‬وبزاوية تصوير مختارة بعناية‬
‫شديدة‪ ..‬نرى وجهه وقد‪ 4‬تجمدت تعبيراته على الحيرة والحزن‪ 4..‬والظالل تحيط‬
‫به لتحبس وجهه داخل هذا الكادر‪ ..‬وينتهى الفيلم‪..‬‬

‫هل يسافر‪ ..‬أم ال ؟‬

‫ليس هذا هو السؤال المهم‪ ..‬ولكن االهم هو لماذا سافر أصالً؟ وما الذى‬
‫حدث في غيابه؟ هل هو مسئول عما حدث ألخوته‪ ..‬ام أن ما حدث كان نتيجة‬
‫طبيعية لما حدث في المجتمع‪.‬‬

‫والفيلم ال يقدم إجابات محددة‪ ..‬وإ نما يترك لنا حرية التفسير واالستنتاج‬

‫ولعل هذا المنهج الفنى‪ ..‬هو الذى أكسب الفليم تلك االهمية‪ ..‬فنحن لسنا‬
‫متفرجين عاديين‪ ..‬ولكننا أصالً مشاركون فيما حدث‪ ..‬والمسئولية نتحملها‬
‫جميعاً‪ ..‬والموقف‪ 4‬مازال في أيدينا وعلينا ان نضع النهاية السعيدة‪..‬‬

‫هل نختار الحل الشخصى‪ ..‬وأن يسعى كل منا ليأخذ نصيبه ويجرى؟ أم‬
‫أننا نتوقف عن اللهث ونعود إلى بعضنا إلى البعض لنبحث عن الحل‬
‫الجماعى؟‪.‬‬

‫وصياغة فليم "عودة مواطن" تشهد للكاتب الفنان عاصم توفيق‪ ..‬بتلك‬
‫البراعة في طرح العديد من عالمات االستفهام حول دور الطبقة المتوسطة في‬
‫المجتمع المصرى‪ ..‬وأحالم تلك الطبقة باالمان االقتصادى‪ ..‬وخوفها‪ 4‬الفظيع‬
‫من الوقوع إلى الطبقة الدنيا‪ ..‬وشهوتها الجامحه للوثوب إلى الطبقة العليا‪..‬‬

‫‪34‬‬
‫ومن هذا الخوف والشهوة‪ ،‬جاءت عمليات السفر للخارج للحصول على‬
‫فرص أكبر للعمل واكتناز النقود وتحقيق المظاهر (السيارة‪ ..‬الشقة التمليك‪..‬‬
‫الثياب الغالية)‪.‬‬

‫وعمليات السفر المتعددة‪ ..‬واالغتراب‪ 4‬الطويل‪ ..‬أحدثت بالقطع خلخلة‬


‫في كيان البيت المصرى‪ ..‬وخلقت أيضاً المزيد من التطلعات لتحقيق المزيد من‬
‫االمان االقتصادى‪ 4..‬وعندما عاد الغائبون بالنقود‪ ..‬كانت النقود التصلح إلعادة‬
‫ما أهتز!‬

‫والنموذج الذى قدمه الكاتب عاصم توفيق‪ ..‬متمثالً في شخصية الشقيق‬


‫األكبر (يحيي الفخرانى)‪ ..‬نموذج ال يمكن إدانته في سلوكه الشخصى الطيب‪،‬‬
‫البرىء‪ ،‬النقى‪ ..‬الذى فعل ما يفعله األخرون‪ 4‬في البحث عن الرزق خارج حدود‬
‫الوطن‪ ..‬وكان نموذجاً مشرفاً في عمله بالخارج‪ ..‬بدليل أنهم طلبوا عودته‬
‫للعمل معهم مرة أخرى‪ ..‬ولكن هذا النموذج لم يكن واعياً بالدرجة الكافيه لكى‬
‫يستشعر الخطر على اخوته بغيابه الطويل‪ ..‬ولم يكن حكيماً او إيجابياً بالدرجة‬
‫الكافية ليحسم بعض المواقف التى تعرض لها بعد عودته‪..‬‬

‫ورغم ذلك فقد كان هذا النموذج – الذى تقمصه ببراعه الفنان يحيى‬
‫الفخرانى – وهو المفتاح الذى فتح لنا االبواب المغلقة لكى نرى ما حدث لنماذج‬
‫الشباب التى عبر عنها أفراد‪ 4‬االسرة والتنوع في الشخصيات واالهتمامات‬
‫وبحث كل منهم عن طريق (سواء‪ 4‬بالهروب من الواقع واللجوء‪ 4‬إلى الغيبيات –‬
‫أو االنضمام لتنظيم سرى – أو النموذج العملى جداً المستقل بقراراته – أو‬
‫النموذج الذى وجد العمر يفلت منه فتشبت بفرصة لتحقيق الذات ونسى كل ما‬
‫حولة وانفرد بتنمية مصالحة)‪.‬‬

‫وكل هذه النماذج‪ ..‬تتحرك في غياب من الرعاية الحكيمة‪..‬وأيضاً من‬


‫غياب المثل االعلى والقدوة‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫وبالتالى كانت تصرفاتهم التحكمها بوصلة عامه‪ ..‬وإ نما كل منهم اختار‬
‫بوصلته‪ ..‬وسار في اتجاهه‪.‬‬

‫ولم تعد هناك قضية مشتركة‪ ..‬وال لغة حوار متصلة‪.‬‬

‫وحدثت االنهيارات‪ ..‬وكان البد أن تحدث‪ ..‬لتضعنا أمام حقيقة أزمة‬


‫الشباب في زمن الصراع المادى‪ 4..‬وفي غياب الهدف القومي‪.‬‬

‫وقد تعامل المخرج محمد خان مع هذا الفيلم‪ ..‬بنظرة فنية واعية‪،‬‬
‫مستخدماً كل براعته في اختيار الممثلين وقيادتهم‪ ..‬واختيار اماكن التصوير من‬
‫الواقع الحى‪ ..‬ودون‪ 4‬اللجوء‪ 4‬إلى عنصر االبهار الشكلى‪ ..‬ولهذا يتسلل الفيلم‬
‫هادئاً وعميقاً‪ ..‬حتى تكتشف في النهاية انه تحول إلى زلزال عنيف يهزك من‬
‫االعماق!‬

‫بجوار يحيى الفخرانى وقدراته الطبيعية على احتواء مشاعر‬


‫المتفرجين‪ ..‬لعبت ميرفت امين دوراً مركباً وتنقلت من شخصية مستسلمة إلى‬
‫شخصية ديناميكية‪ ،‬وأعطت مالمح الشخصية بمهارة ودون‪ 4‬لحظة افتعال‪..‬‬

‫أحمد عبد العزيز في دور الشقيق الغائب عن الوعى باختياره‪ ..‬هو‬


‫مفاجأة الفيلم‪ ..‬وشهادة ميالد لممثل متميز‪.‬‬

‫علي الغزولي مدير التصوير‪ ..‬إعادة اكتشاف لفنان حقيقى‪.‬‬

‫إنه – في النهاية – فيلم يدعو لالحترام والثقة فيما يمكن أن يفعله‬


‫السينمائيون الشبان‪..‬‬

‫‪36‬‬

You might also like