You are on page 1of 29

‫رواية جديدة ‪ -‬سينما جديدة‬

‫سلمى مبارك‬

‫كثيرا ما يبدو الجديد فى الفن قديما‪ ،‬فالجديد يقوم على قيم الرفض التى وجدت‬
‫'ارب‬
‫أينما وجد المبدع ‪ ،‬والجديد متعدد يصعب تتبع أصوله و روافده‪ .‬فما بين تج'‬
‫'ين‬
‫'ود أص''حابه أدراجهم مستأنس'‬
‫أولى تحمل مالمح تغيير سريعا ما تختفى أو يع'‬
‫بتقليدية أكثر أمانا‪ ،‬وأخرى تستمر ليقاوم أصحابها فرادى‪ ،‬و ما بين تجارب متناثرة‬
‫' تكونت حول قيم و مبادئ س''عت لتحقيقها‬
‫للتجديد لم تشكل تيارا‪ ،‬وأخرى لجماعات‬
‫بشكل منظم‪ ،‬أو غيرها لمبدعين لم يشكلوا جماعات إنما أدت ظروف تاريخية معينة‬
‫لخلق وحدة تجمعهم دون أن يجتمعوا عن قصد ‪ ،‬يبدو مفهوم الجدة مراوغا و تب''دو‬
‫كلمة "جديدة" فى عنواننا حاملة لقدر كبير من العمومية‪.‬‬

‫' التى س''نتطرق‬


‫لذا يجدر بنا فى البداية تحديد مصطلح "جديدة" فى كل من المجاالت‬
‫'اهى‬
‫'د؟ م'‬
‫'وا دروب الجدي'‬
‫اليها ‪ :‬السينما و الرواية‪ .‬من هم المبدعون الذين خط'‬
‫'كل العالقة بين‬
‫'ه؟ ثم ما هو ش'‬
‫مرجعيات هذا الجديد؟ و ما هو القديم الذى يثور علي'‬
‫السينما و الرواية فى إطار هذه الجدة؟ هل اس''تمرت الأش''كال القديمة للتالقى؟ هل‬
‫'ات مختلفة‬
‫أخذت نفس االتجاهات؟ هل جاء الجديد فى كل من السينما و األدب بعالق'‬
‫بين هذين الفنين؟‬

‫سينما "جديدة"‬
‫‪1‬‬
‫عنوان الكتاب الذى تندرج فيه دراستنا يحدد إط''ارا موض''وعيا و زمنيا و مكانيا ‪:‬‬
‫"السينما فى مصر من بداية السبعينات و حتى نهاية التسعينات"‪ .‬تجارب التجديد التى‬
‫'اوالت‬
‫'رزت أيضا مح'‬
‫'ترة أف'‬
‫نقصدها إذا تقع فى الفترة المشاراليها‪ .‬لكن هذه الف'‬
‫متنوعة‪ ،‬فما بين جديد حسين كمال فى "المستحيل" (‪ )1965‬و جديد "جماعة السينما"‬
‫(‪ )1968‬و جديد شادى عبد السالم فى "المومياء" (‪ )1969‬و جديد ممدوح ش''كرى‬
‫' ( ‪ ... '')1975‬ثم جديد جيل الثمانينيات‪ ،‬فالتسعينات‪ ،‬يب''دو رافد‬
‫فى "زائر الفجر"‬
‫التجديد فى هذه المرحلة كينبوع ال يهدأ‪ ،‬بالرغم من أن نفس المرحلة قد شهدت أيضا‬
‫أكثر فترات السينما المصرية قتامة بسبب طوفان من التجارية كانت الأكثر تدميرا فى‬
‫تاريخها‪.‬‬

‫أما الجديد الذى نسعى وراءه بشكل أكثر تحديدا فهو ذلك ال''ذى أتى به مجموعة من‬
‫السينمائيين بدأوا العمل مع بداية الثمانينيات ‪ :‬عاطف الطيب ‪ ،‬محمد خان‪ ،‬خ''يرى‬
‫' و شكلوا باتفاق أو بدون‬
‫بشارة ‪ ،‬رأفت الميهى ‪ ،‬داوود عبد السيد ‪ ،‬بشير الديك ‪...‬‬
‫اتفاق تيارا له سماته الجمالية و الفكرية‪ .‬و اختيارنا لهؤالء الس''ينمائيين بال''ذات و‬
‫لجديدهم جاء لكون تجربتهم تشكل التجربة األطول عمرا و األكثر اكتماال و نض''جا‬
‫بين التجارب المشار إليها و هى التى استفادت بشكل تراكمى من سابقاتها و استبقت‬
‫أكثر ما فيها أصالة‪ .‬شكل هؤالء المخرجون جيال أوال النتم''ائهم لش''ريحة عمرية‬
‫واحدة فتواريخ ميالدهم اجتمعت فى سنوات األربعينات من القرن العشرين‪ .‬ثاني''ا‪،‬‬
‫'دايات متقاربة‬
‫'وا بب'‬
‫جاءت أفالمهم الروائية األولى جميعها فى الثمانينات و ارتبط'‬
‫'جليتهم‬
‫سواء فى مجال الفيلم التسجيلى (بدايات داوود عبد السيد و خيرى بشارة وتس'‬

‫‪2‬‬
‫الجديدة‪ )1‬أو فى مجال الكتابة النقدية و االبداعية (محمد خان ناقدا و بش''ير ال''ديك‬
‫سيناريست) أو عن طريق العمل المشترك مع بعضهم البعض (محمد خان و بش''ير‬
‫الديك و عاطف الطيب فى "سواق االت''وبيس") أو عن طريق انخ''راط البعض فى‬
‫تجربة سينما المؤلف (داوود عبدالسيد‪ ،‬رأفت الميهى)‪ .‬اشترك هؤالء المخرجون فى‬
‫تأثرهم أيضا بالموجات الجديدة و االتجاهات التجريبية فى السينما الغربية (الفرنسية‬
‫و االيطالية و االنجليزية و البولندية‪ )...‬التى انفتحوا عليها إما نتيجة لثقافتهم الخاصة‬
‫و تجاربهم الشخصية التى أتاحت لهم االحتك''اك المباشر بالس''ينما الغربية (ف''ترة‬
‫'بب‬
‫' ) و بس'‬
‫التكوين التى قضاها محمد خان فى انجلترا أو خيرى بشارة فى بولندا‪...‬‬
‫'ينما‬
‫'ادى س'‬
‫'ترة ( جمعية ن'‬
‫نشاطات الجمعيات السينمائية التى ازدهرت فى تلك الف'‬
‫' الخ) و التى كونت جمهورا جديدا مت''ذوقا‬
‫القاهرة و جمعية النقاد و جمعية الفيلم‪...‬‬
‫للكالسيكيات و األعمال التجريبية على حد سواء فى السينما العالمية‪ .‬وجدير بالذكر‬
‫أن كافة هذه الجمعيات قد توالدت فى الأصل من رحم ندوة الفيلم المختار التى أسسها‬
‫أديب هو يحيى حقى فى ‪.1956‬‬

‫' فى الثمانينات إال أن وعيهم‬


‫'اءت‬
‫'رجين قد ج'‬
‫اذا كانت البداية الروائية لهؤالء المخ'‬
‫الفنى قد تشكل فى االطار التاريخى لمصر الستينات‪ .‬فقد أط''احت هزيمة ‪ 1967‬ثم‬
‫الظروف السياسية و االجتماعية و االقتصادية لمصر السبعينات بالعديد من الثوابت‬
‫'راع و قيمة‬
‫'خا بحتمية الص'‬
‫التى شكلت تجربة األجيال السابقة و منحتها إيمانا راس'‬
‫' السعيدة‪ .‬يقول خيرى بشارة عن جماعة السينما الجديدة‪:‬‬
‫الجماعة والثقة فى النهايات‬
‫‪ " - 1‬كنت أطلق على المعلق فى االفالم التسجيلية آنذاك (صوت ربنا)‪ ،‬و هو انعكاس طبيعى لسيادة الصوت الواحد داخل الدولة الشمولية‪ ...‬و قد كانت‬
‫تلك مالحظة عامة عند جيل الشباب بأكمله " داوود عبد السيد معلقا على صوت الراوى فى السينما التسجيلية التقليدية‪ ،‬داوود عبد السيد أبواب و رسائل‪،‬‬
‫محمد رجاء‪ ،‬صندوق التنمية الثقافية ‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬ص‪36.‬‬

‫‪3‬‬
‫'رة مختلفة‬
‫"كانت فلسفتها الخاصة في ظل صدمة ‪ 1967‬فكرا جديدا ينظر للواقع نظ'‬
‫عن تلك التي كانت سائدة قبل ‪ 1967‬سواء علي المستوي الع''ام أو علي مس''توي‬
‫السينما‪ ...‬قبل ‪ 1967‬كنت تنظر بانبهار إلنجازات كبيرة‪ ..‬السد الع''الي ‪ ..‬مجمع‬
‫األلومنيوم‪ ..‬وغيرها كثير ‪ ..‬ولكن بعد ‪ 67‬كان التفكير يتجه لإلنسان البسيط‪ ..‬علي‬
‫'كل‬
‫'رون إليهم بش'‬
‫الرغم من حديث الثورة الدائم عن الجماهير الكادحة إال أنهم ينظ'‬
‫‪2‬‬
‫الكتلة الواحدة ولكن بعد ‪ 67‬بدأت المالمح الفردية تتكشف‪"..‬‬

‫ظهر فيلم "ضربة شمس" أول أفالم محمد خان الروائية و الذى يؤرخ به لالتج''اه‬
‫الجديد فى السينما المصرية فى ‪ ،1981‬نفس عام ظهور أفالم "العاشقة" لعاطف‬
‫'اء‬
‫' لعلى عبد الخالق و "الباطنية" لحسام الدين مصطفى‪ . 3‬و ج‬
‫سالم و "عذاب الحب"‬
‫"العوامة ‪ " 70‬لخيرى بشارة فى ‪ ، 1982‬و معه "السلخانة" ألحمد السبعاوى‪ ،‬و‬
‫' و اعت''بر ظه''ور كل من‬
‫"فتوات الجبل" لنادر جالل و "العار" لعلى عبد الخالق‪...‬‬
‫الفيلمين مؤشرا لجديد ما يسعى للتواجد حيث أراد هذا الجيل أن يعبر عن أزم''ات‬
‫'ة‪،‬‬
‫الفرد التى أولتها تيارات السينما السائدة ظهرها ‪ :‬الشك فى الخطابات االيديلوجي'‬
‫' ضيق الفرد بحياته‪ ،‬تض''اؤله‪ ،‬اغترابه داخل‬
‫التحرر من القيم التقليلدية و التابوهات‪،‬‬
‫' الص''غيرة المحملة بأزماته‬
‫الوطن و داخل مكانه اليومى‪ ،‬التم''اهى مع التفاص''يل‬
‫الوجودية‪ ،‬انصهاره فى صراعات تتجاوز مفاهيم الخير و الشر و تتجاوز ادراك''ه‪.‬‬
‫كذلك حملت سينما هذا الجيل مالمح الذات فى رغبتها التعبير عن نفسها و عن فردية‬
‫'بعينات‪،‬‬
‫'ني الس'‬
‫‪ ' -‬وسبعين يع'‬ ‫االنسان العادى ‪" :‬يمكن أن تقول إن العوامة‪70‬‬

‫‪ - 2‬حوار مع خيرى بشارة‪http://alkaheranews.gov.eg/images/pdf/433/P12-web.pdf ،‬‬


‫‪ - 3‬أحمد يوسف‪" ،‬السينما المصرية الجديدة ‪ ..‬فى مفترق الطرق"‪ ،‬الفن السابع‪ ،‬العدد الرابع‪ ،‬مارس ‪ ،1988‬ص‪28 .‬‬

‫‪4‬‬
‫وشخصية المخرج في الفيلم هي تحمل سمات كثيرين من أبناء جيلي ‪ -‬تحمل سمات‬
‫' من كاتب السيناريو‪ ..‬هي جيل بأكمله يحلم بكل ج''رأة أن يحمل‬
‫مني أنا شخصيًا‪..‬‬
‫السالح وخوض عمار الحرب وتحرير الوطن‪ ..‬ولكن هذا علي المستوي النظري أو‬
‫في حيز الحلم‪ ..‬ولكن علي المستوي العملي اليملك الشجاعة لحمل السالح فيع'وض‬
‫‪4‬‬
‫'‬
‫ذلك بحمل كاميرا‪"..‬‬

‫تحررت الكاميرا من االستوديوهات و خرجت لشارع المدينة تتحسس المك''ان بعين‬


‫تسعى الكتشافه فى ظاهريته و بديهيته و حميميته‪ .‬استخدم هؤالء الس''ينمائيون لغة‬
‫سينمائية أكثر رهافة و أكثر تخففا من قيود الحدوتة و التقاليد الحكائية‪ ،‬لغة تسعى كى‬
‫ال تكون مجرد وسيط يحمل أفكارا و قصصا‪ ،‬بل وجودا جماليا له خصوص''يته و ال‬
‫أقول استقالله ألن السينما الجديدة فى هذه الفترة لم تنقلب على المحتوى كما حدث فى‬
‫الموجات الجديدة فى السينما االوروبية‪ ،‬بل ظلت سينما ملتزمة ب''الهم المجتمعى فى‬
‫' و من ثم فانها‬
‫'ول‪.‬‬
‫'ديم الحل'‬
‫'دة له و إن تخلت عن تق'‬
‫امتزاجه بأزمات الفرد‪ ،‬راص'‬
‫وظفت لغتها السينمائية الجديدة بأشكال متعددة للتعبير عن هذا الواقع‪ ،‬أحيانا بش''كل‬
‫'رى‬
‫"واقعى جديد"‪ ،‬و أحيانا بشكل يحمل قدرا من السخرية و الفنتازيا‪ ،‬و أحيان'ا أخ'‬
‫بشكل فلسفى أو ميتافيزيقى‪.‬‬

‫رواية جديدة‬

‫اذ كانت تجربة الثمانينات األكثر اكتماال قد جاءت كثمرة لمحاوالت التجديد السينمائية‬
‫التى بدأت منذ عقد الستينات‪ ،‬فلنا أن نعتبرها معادال موضوعيا لتجربة جيل الستينات‬

‫‪ -44‬انظر حوار مع خيرى بشارة‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫األدبية‪ .‬و بالرغم من وجود فارق العشرين عاما بين التجربتين اال أنهما تشتركان فى‬
‫عناصرعدة‪.‬‬

‫" منذ نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات‪ ،‬يستطيع المؤرخ أن يالحظ إرهاصات‬
‫لمالمح كتابة أدبية جديدة مغايرة للكتابة الواقعية التي سادت خالل الخمسينيات‪ .‬وقد‬
‫' في القصة القصيرة وفي الشعر والمسرح ثم أخيرا في الرواية‬
‫تبدت هذه اإلرهاصات‬
‫' وإن لم تتوقف‬
‫لدى كتاب شباب اصطلح على تسميتهم ـ فيما بعد ـ بجيل الستينيات‪،‬‬
‫عليهم‪ ،‬حيث اشترك معهم كتاب من أجيال أسبق مثل يوسف الشاروني وإدوارد‬
‫‪5‬‬
‫الخراط‪ ،‬ولحق بهم كتاب من أجيال أصغر‪".‬‬

‫من هم هؤالء الكتاب الجدد؟ أساميهم ‪ :‬صنع اهلل ابراهيم‪ ،‬بهاء طاهر‪ ،‬جمال‬
‫' " ولد معظمهم قبيل أو أثناء‬
‫الغيطانى‪ ،‬ابراهيم أصالن‪ ،‬يحى الطاهر عبد اهلل‪...‬‬
‫الحرب العالمية الثانية‪ ،‬ينتمون إلى الطبقات الفقيرة من المجتمع سواء في ريفه أو‬
‫مدنه‪ ،‬ومعظمهم لم يكن قد استطاع أن يستكمل تعليمه رغم مجانية التعليم‪ ،‬سواء‬
‫ألسباب اقتصادية أو كنوع من التمرد على المؤسسات متمثلة في المدارس‬
‫‪6‬‬
‫'‬
‫والجامعات‪".‬‬

‫كانت البداية مع رواية صنع اهلل ابراهيم االولى "تلك الرائحة " فى ‪ ، 1966‬التى‬
‫' السياسية‬
‫جاءت لتثير الشكوك من قبل هزيمة ‪ 1967‬فى العديد من الخطابات‬
‫السائدة و القيم التى ميزت الكتابة الواقعية لرواية الخمسينات‪ .‬و يشير النقد الذى‬
‫تناول كتابات جيل الشبان الصاعد فى تلك المرحلة الى نقطة الخالف الرئيسية بينهم‬
‫‪ - 5‬سيد البحراوى‪ ،‬األدب العربى المعاصر نصوص و دراسات‪ ،‬كتاب تحت الطبع‪.‬‬
‫‪ - 6‬المرجع السابق‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫و بين سابقيهم‪ .‬يقول الناقد فاروق عبد القادر فى عدد خصصته مجلة الطليعة عام‬
‫‪ 1969‬لمناقشة ظاهرة الأدباء الجدد‪" :‬إن الأدباء الشبان مطالبون بتحسس واقعهم‪،‬‬
‫بادراكه إدراكا تفصيليا شامال فى وحدته الجدلية مع ظروف العالم المتغير‪ ،‬مطالبون‬
‫بأن يكون لهم رؤية موحدة‪ ،‬محتم عليهم المشاركة فى التقدم بهذا المجتمع التزاما‬
‫‪7‬‬
‫'‬
‫منهم و اصرارا"‬

‫تبدو مفاهيم "االدراك الشامل"‪" ،‬الوحدة الجدلية"‪" ،‬الحتمية فى المشاركة"‪ ،‬و هذا‬
‫االيمان "بتقدم المجتمع" هى حجر الزاوية فى الخالف بين جيلين‪ ،‬حيث باتت تلك‬
‫المقوالت و ما ارتبط بها من أشكال تعبيرية (الواقعية االشتراكية‪ ،‬الواقعية النقدية‪)...‬‬
‫مفرغة من معناها و مزيفة للوعى‪ .‬ومن هنا تبنت الرواية أساليب جديدة في الكتابة‬
‫مثل مصاحبة البطل المضاد و تعدد وجهات النظر و استخدام المونولوج الداخلى و‬
‫تيار الوعى و استخدام التقنيات السينمائية و تفكيك البنية السردية الخطية و تحطيم‬
‫مفهوم الحدث و مراوغة القارئ‪ ...‬إلى آخر هذه األساليب التي تعتمد باألساس على‬
‫قلب الرؤية الموضوعية للوجود و استبدالها برؤية متشظية لعالم غير مفهوم و طارد‪.‬‬
‫و ما من شك أن هذه التحوالت فى حقل الكتابة الأدبية ال تنفصل عن تحوالت عالمية‬
‫شهدتها سنوات الستينات من خالل عدد من الثورات الثقافية و الفنية التى أتت بما‬
‫' الحداثة" و التى اجتاحت شتى مناحى االبداع ‪ :‬الأدب‪،‬‬
‫بات يطلق عليه "جماليات‬
‫السينما‪ ،‬الفن التشكيلى‪ ،‬الموسيقى‪ ...‬الخ‪ .‬و من هنا نستطيع القول أن رؤي و‬
‫أدوات جيل الستينات الأدبية قد تشكلت أيضا فى إطار طليعي منفتح على تجارب‬
‫الرواية الجديدة في الغرب‪.‬‬
‫‪ - 7‬فاروق عبد القادر‪" ،‬لقاء يذيب المرارة و التكلسات الشكلية"‪ ،‬مجلة الطليعة‪ ،‬أكتوبر ‪ ،1969‬ص‪43 .‬‬

‫‪7‬‬
‫' السينمائية‪ ،‬ابتعدت طليعية الأدب عن الرؤى‬
‫لكن كما كان الحال فى طليعية التجارب‬
‫العدمية التى ميزت الكتابة الجديدة في الغرب و التي أرادت بتر أى عالقة لها بالواقع‬
‫و استبداله بمفهوم الفن للفن‪ .‬لقد تزاوج التجديد فى الأشكال الفنية في تجربة جيل‬
‫الستينات مع بعد اجتماعي ال يجد شرعيته سوى بتبنيه الهم الجماعي لألمة‪ .‬و فى‬
‫هذا االطار لم يكن الرفض الثائر ألشكال الكتابة التقليدية مفهوما إال بوصفه نتاجا‬
‫ألزمة تاريخية اجتماعية و سياسية‪ ،‬و من هنا أيضا كان االنحراف عن نموذج النفي‬
‫التام ‪ le modèle négativiste‬للكتابة الحداثية الغربية ‪ .‬هذا التزاوج بين قيم‬
‫الرفض التى تعلى من شأن الحرية و الذاتية و بين الرغبة الملحة في االلتزام بالواقع‬
‫و اإلنطالق منه باعتبار مأساته مأساة شخصية‪ ،‬قد شكل معادلة ميزت اإلنتاج األدبى‬
‫لجيل الستينات‪.‬‬

‫عالقات جديدة‬

‫'دة و‬
‫'فنا بعضا من جوانبه بين الرواية الجدي'‬
‫'ذى استكش'‬
‫' ال'‬
‫بالرغم من هذا التقارب‬
‫السينما الجديدة سواء فى المرحلة العمرية للمبدعين من الروائيين و الس''ينمائيين أو‬
‫الفترة التاريخية التى عايشوها أو األفق المعرفى الذى شكل وعيهم أو الحساسية الفنية‬
‫'أنها‬
‫'ان من ش'‬
‫'تى ك'‬
‫التى بلورت لغاتهم الجمالية‪ ،‬و كافة تلك العناصرالمشتركة ال'‬
‫إحداث تقارب بين هذين الفنين في اتجاه خلق تجارب مشتركة سواء في مج''ال نقل‬
‫العمل األدبي إلى السينما أوفى مجال الكتابة المشتركة (كما حدث مثال في فرنسا في‬
‫نفس تلك الفترة مع ‪ ،Marguerite Duras, Alain Robbe Grillet‬رواد‬
‫‪8‬‬
‫'تى كما ح''دث‬
‫' السينمائى بأفالم طليعية‪ ،‬أو ح'‬
‫الرواية الجديدة الذين اقتحموا المجال‬
‫بشكل مختلف مع نجيب محف''وظ بممارس''ته لكتابة الس''يناريو) اال أننا نالحظ قلة‬
‫الأعمال المقتبسة فى سينما الثمانينات الجديدة و غياب تجارب المش''اركة فى الكتابة‬
‫'اب‬
‫'رت مجموعة من كت'‬
‫'ار إليها‪ .‬بل على العكس ظه'‬
‫'اذج المش'‬
‫على غرار النم'‬
‫السيناريو الجدد الذين ميزت كتاباتهم هذه السينما مثل فايز غالى و بش''ير ال''ديك و‬
‫باتت السينما تسعى لالستقالل عن األدب‪.‬‬

‫إذا أردنا تفسير هذه الظاهرة فسنجد أن رغبة السينمائين الجدد فى االبتعاد عن األدب‬
‫تبدو أوال كرد فعل العتماد السينما فى الفترة السابقة علي االقتباس بش''كل يتع''دى‬
‫مفهوم االبداع‪ ،‬حيث قام العمل االدبى بالنسبة للفيلم بأدوار ارتبطت بالمؤسسة‪ .‬فمن‬
‫‪ 1963‬الى ‪ 1972‬كما يقول على أبو شادى قدم القطاع العام ثمانية و س''تين فيلما‬
‫مؤخوذا عن أعمال أدبية ‪ ،‬أى ما يقرب من نصف انتاجه‪ ،‬و قدم القط''اع الخ''اص‬
‫'ات هو‬
‫'مى للسياس'‬
‫'ان التوجه الرس'‬
‫تسعة و عشرين فيلما مؤخوذا عن األدب‪ .‬و ك'‬
‫'ذلك‬
‫'ار الكتابـ ‪ ،‬ل'‬
‫االرتقاء بمستوى الفيلم المصرى بتطعيمه بالأعمال االدبية لكب'‬
‫اشترت الدولة حق تحويل العديد من هذه الأعمال الى أفالم سينمائية"‪ . 8‬و ب''دا الأمر‬
‫فى كثير من االحيان و كأن االعتماد على العمل األدبى أصبح جواز مرور أو وسيلة‬
‫لضمان الحصول على الموافقات االنتاجية والرقابية الالزمة لعمل أى فيلم‪ .‬و من هنا‬
‫ارتبط االقتباس فى الذهنية السينمائية الجديدة بوضعية فكرية و سياس''ية أراد ه''ذا‬
‫الجيل أن يثور عليها‪.‬‬

‫‪ - 8‬على أبو شادى‪" ،‬القطاع العام السينمائى‪ E‬فى مصر (‪ )1972 -1963‬محاولة للقراءة الموضوعية"‪ ،‬السينما المصرية الثورة و القطاع العام (‬
‫‪ ،) 1971 -1952‬إشراف و تحرير هاشم النحاس‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،2010 ،‬ص‪328 ،327 .‬‬

‫‪9‬‬
‫'تينى‪ .‬و‬
‫'األدب الس'‬
‫'ذى ارتبط ب'‬
‫السبب الثانى يبدو على عالقة بمفهوم الطليعية ال'‬
‫الطليعية هى ترجمة لمصطلح ‪ ، Avant-garde‬و هو مصطلح و إن كان اليوم‬
‫يعتبر مرادفا للتجريب فى الفن و الأدب اال ان معناه الأصلى نشأ فى حقل العملي''ات‬
‫الحربية‪ ،‬حيث ‪ Avant-garde‬هى الفرقة العسكرية التى تقع فى مقدمة الجيش و‬
‫'ون هم إذا‬
‫مهمتها إستكشاف الأرض الجديدة و ارتيادها قبل مرور اآلخرين‪ .‬الطليعي'‬
‫'بيل‬
‫'اتهم على أكفهم فى س'‬
‫من يحملون الشعلة و يطرقون الدروب أوال واضعين حي'‬
‫حياة اآلخرين‪ .‬وإذا كان مصطلح الطليعية الفنى لم يعد يحتمل كل هذه المضامين إال‬
‫أن جزءا منها تبقى فى تجربة أدب الس''تينات ال''ذى ارتكز على طليعي''ة ارتبطت‬
‫بالمفهوم األخالقي الواسع لاللتزام‪ ،‬و هوالمفهوم الذى نشأ األدب العربي الحديث في‬
‫كنفه منذ رفاعه الطهطاوى‪ .‬فاألديب رسول بشكل من األشكال‪ ،‬قد يدخل في صراع‬
‫مع السلطة أو مع المجتمع ألنه يدرك ما ال يدركه اآلخرون و يسير فى الدرب وحيدا‬
‫قبل اآلخرين‪ .‬و قد عبرت كتابات الستينات عن تلك الصورة ‪ ،‬فكان األديب معارضًا‬
‫كتبت عليه العزلة فى كثير من األحيان‪ ،‬فبدا مشروعه الأدبى الثائر مرفوضا جملة و‬
‫تفصيال من قبل السلطة خاصة مع التسييس العميق لخطابه الذى انصب ح''ول أزمة‬
‫'نى انطلق فكر‬
‫'توى الف'‬
‫فرد مثقف في مواجهته مع المجتمع و الدولة‪ .‬و على المس'‬
‫الحداثة الستينى من موقف ضياع معنى الواقع و فقدان بديهية األشياء‪ .‬و عبر التيار‬
‫'ردات‬
‫'التالعب بمف'‬
‫الشكالني عن ذلك مستعيضا عن فكرة التمثيل المرجعى للعالم ب'‬
‫اللغة الفنية‪ ،‬بينما تلونت المخيلة الأدبية برؤى قاتمة ‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫'تيعاب‬
‫'ادرا على اس'‬
‫'ة‪ ،‬ق'‬
‫'تينات اذا متلقيا من نوعية خاص'‬
‫تطلبت رواية جيل الس'‬
‫التحوالت األدبية التى دمرت ثوابت و أركان أساسية فى تجربة القراءة و خ''اطبت‬
‫حساسية فنية جديدة لم تكن قد تكونت بعد لدى الكثيرين‪ ،‬فب''دت عملية التلقى فى حد‬
‫ذاتها إشكالية مما أدى الى صرف جزء من الجمه''ور التقلي''دى لألدب عن ه''ذه‬
‫الرواية‪ .‬و بديهى أن تتأثر عملية االقتباس السينمائى به''ذه الوض''عية‪ ،‬و نجد فيما‬
‫يقوله خيرى بشارة عن فيلم "الطوق و االسورة" خير مث''ال‪" :‬إن أول رواية عربية‬
‫أفتتن بها كانت هي "الطوق واإلسورة" لألديب يح''يي الط''اهر عبد اهلل وأنا قرأتها‬
‫'ون هي فيلمي األول‪..‬‬
‫'ررت أن تك'‬
‫حوالي عام ‪ 1975‬تقريبا وقت صدورها‪ ...‬وق'‬
‫وذهبت بالفعل وقابلت يحيي الطاهر عبد اهلل‪ .‬وكنت أذهب لرؤيته هو أمل دنقل وعبد‬
‫الرحمن األبنودي في النادي النوبي بوسط البلد وما أزال أتذكرهم بالقمصان البيضاء‬
‫وسمار وجوههم ‪ ..‬ولكن كانت المش''كلة أن جميع المنتجين ال''ذين عرضت عليهم‬
‫'نوات‬
‫'دة عشر س'‬
‫الرواية رفضوها ألنها رواية كئيبة‪ ..‬لم أستسلم وظلت الرواية لم'‬
‫‪9‬‬
‫أعمل عليها‪".‬‬

‫لم يستطع المشروع الأدبى الستينى اذا التواصل مع جمهوره اال بكثير من الصعوبة‪،‬‬
‫و لم تكن السينما مهما اشتدت نزعاتها الثورية لتستطيع التجاوب مع طليعية األدب فى‬
‫تلك الفترة هى المكبلة بالقيود الرقابية و االعتبارات التجارية و تراث طويل من فهمها‬
‫كفن من الدرجة الثانية هدفه األساسى االمتاع و الترفيه‪ ،‬غايت''ان لم تعرفهما الرواية‬
‫'رى أهمها‬
‫'ات أخ'‬
‫الجديدة بل انصبت قيم التجديد فيها على وأدهما و استبدالهما بغاي'‬
‫صدم المتلقى الذى بدا و كأنه قد ضاع في متاهة الدور التاريخي و فى انتظ''ار تحقق‬
‫‪ - 9‬انظر حوار مع خيرى بشارة ‪...‬‬

‫‪11‬‬
‫النبوءة‪ .‬هنا يظهر اختالف كب''ير بين الس''ينما و األدب على مس''توى العالقة مع‬
‫الجمهور ‪ ،‬ففى السينما ما أن يحتل المشاهد مكانه على الكرسي داخل القاعة المظلمة‬
‫'طور في‬
‫'ارئ من الس'‬
‫'ره الق'‬
‫ينتظر من الصورة شيئا يختلف في جوهره عما ينتظ'‬
‫صفحة مكتوبة لذا يصعب على السينما التوجه طويال لمشاهد لم يأت بعد‪ ،‬حيث يبدو‬
‫االعتراف بالمتلقي الفورى وبمشروعية وعيه الفنى شرط لمش''روعية العمل ذات''ه‪،‬‬
‫ويبدو التعامل مع هذا الوعي ضرورة على أية حال‪ ،‬سواء كان اله''دف تغي''يره أو‬
‫تكريسه أو تزييفه‪.‬‬

‫بالرغم من كافة هذه العوامل التى باعدت بين السينما و األدب فى الفترة المشار إليها‪،‬‬
‫إال أننا سنعود مرة أخرى و نتحسس تلك العالقة و نتساءل ‪ :‬هل ك''انت قطيعة ؟ أم‬
‫حدث تالق و ان اتخذ سبلا مختلفة و طرائق جدي''دة؟ فى الج''زء المتبقى من ه''ذه‬
‫الدراسة سنقدم عدة نماذج لعالقات جديدة ربطت السينما المصرية باألدب‪.‬‬

‫التناص‬

‫'انت‬
‫'وص الفنية كما لو ك'‬
‫التناص فى واحد من تعريفاته هو طريقة للنظر الى النص'‬
‫'تدعيها‬
‫'دوره بها ‪ ،10‬يس'‬
‫'كل ب'‬
‫'رى و يتش'‬
‫شبكة يشكل كل نص فيها نصوصا أخ'‬
‫باالستشهاد أو النقل أو االشارة أو المفارقة ‪ ،‬يسكنها طياته‪ ،‬يلبسها و تلبسه‪ .‬و‬
‫'اهيم التقليدية‬
‫'بين األعمالالمختلفة يتعدى المف'‬
‫التناص أداة منأدواتقراءة العالقات‬
‫للتأثير و التأثر وقلما استخدم فى دراسة العالقة بين السينما و األدببالرغم من‬

‫‪10‬‬
‫‪- Sophie Rabau, L’intertextualité, GF Flammarion, Paris, 2002‬‬

‫‪12‬‬
‫'ير‬
‫'اتغ'‬
‫'دة منالعالق'‬
‫'كال مختلفة و جدي'‬
‫كونه مدخالهاما قد يمكننا مناسكتشافأش'‬
‫الظاهرة بين هذينالفنين‪.‬‬

‫و النموذج الذى سنتناوله مستمد من سينما داوود عبد السيد أكثر المخرجين الج''دد‬
‫استدعاءا لألدب ليس فقط بسبب اعتماده على نصوص أدبية فى اثنين من أهم أعماله‬
‫‪" :‬الكيت كات" عن رواية "مالك الحزين" البراهيم أصالن و "س''ارق الف''رح"‪ ،‬عن‬
‫قصة خيرى شلبى‪ ،‬لكن ألن كتابته ألفالمه يتحقق فيها مفهوم سينما المؤلف بش''كل‬
‫'ينات من‬
‫'ينما فى الخمس'‬
‫فريد بين أبناء جيله و هوالمفهوم الذى انتقل من األدب للس'‬
‫'ة‪.‬‬
‫'ينما للغتها و امكاناتها الفكري'‬
‫'وير الس'‬
‫القرن العشرين و كان أداة من أدوات تط'‬
‫باالضافة الى ذلك فان الخاصية الأدبية فى سينما عبد السيد تتكشف من خالل األبعاد‬
‫الفكرية و الفلسفية فيها و هى األبعاد التى ظلت لصيقة بصورة األدب مقارنة بصورة‬
‫السينما‪.‬‬

‫' تستدعى السينما األدب من خالل عالقات‬


‫فى "مواطن و مخبر و حرامى" (‪)2001‬‬
‫' ال''روائى‪ .‬يعتمد الفيلم أوال على‬
‫تناص متعددة بين الفيلم و السرد األدبى و الخي''ال‬
‫صوت الراوى ذى المرجعية األدبية و الذى اعتبر فى كث''ير من الأعم''ال المقتبسة‬
‫استعارة لصوت الك'اتب يطل على المش'اهد من وراء الص'ورة لت'ذكيره بالأصل‬
‫الروائى المأخوذ عنه الفيلم‪ ،‬و لكى يكون صوتا للحقيقة بشكل ما كما جسدته السينما‬
‫الكالسيكية (صوت طه حسين فى فيلم "دعاء الكروان"‪ ،‬صوت حسين رياض فى فيلم‬
‫"الحرام"‪ )...‬و الذى يشبهه داوود عبد السيد بصوت "ربنا" الذى يعرف كل شيئ و‬

‫‪13‬‬
‫يكشف عن كل شيئ ‪ .11‬يأتينا صوت الراوى فى "مواطن و مخبر و حرامى" محمال‬
‫بأصوله السينمائية المحملة بدورها بأصول أدبية محققا أول شكل من أشكال التناص‪.‬‬
‫لكن هذا االستدعاء لنموذج ذى مرجعية أدبية ليس الهدف منه تكريس معناه الق''ديم‪،‬‬
‫بل يقيم الفيلم محاكاة ساخرة لهذا الصوت الذى يسعى من خالل خطابه المعرفى و‬
‫من خالل نبرات الصوت التقريرية الذى يشبه صوت مقدمى نشرة االخبار الى إيهام‬
‫'ول ما‬
‫المشاهد بأنه يقول الحقيقة‪ .‬لكن هذا المشاهد ما يلبث أن يكتشف أن الراوى يق'‬
‫ال تقوله الصورة بالضرورة حيث تنشأ مسافة اشكالية بين التعليق الصوتى و ما يراه‬
‫المتفرج من أحداث تمنعه من االستسالم لمقوالت الراوى و تحثه لكشف المكس''وت‬
‫' من الشد و الجذب بين التصريح و‬
‫عنه فى الخطاب‪ ،‬فتنشأ داللة الفيلم فى ذلك الفضاء‬
‫التلميح‪.‬‬

‫الشكل الثانى من أشكال التناص يظهر فى شخصية الكاتب ال''روائى فى الفيلم و فى‬
‫عالقتها بعدد من روايات جيل الستينات ‪ .‬يتتبع الفيلم مسيرة سليم الم''واطن األديب‬
‫'وع ‪،‬‬
‫'ذا الموض'‬
‫المثقف و يشهدنا عليه ‪ .‬نتوقف أوال عند الخصوص 'ية الأدبية له'‬
‫'تى دأبت المخيلة الأدبية على‬
‫'يرة ال'‬
‫فتصوير الأديب هو واحد من الموضوعات األث'‬
‫االغتراف منها بينما ابتعدت السينما الى حد ما عن تناول هذه الشخصية‪ .‬هذا هو ما‬
‫نالحظه بالنظر لتاريخنا السينمائى‪ ،‬لكنه أمر واقع أيضا فى السينما العالمية‪ :‬يق''ول‬
‫‪ Steven Bernas‬فى كتابه ‪" :‬الكاتب فى السينما" ‪ " :‬إن الشخصية السينمائية فى‬
‫بعض األعراف االسائدة يجب أن تشبه المشاهد و ال يصح أن تشكل نموذجا مثالي''ا‪.‬‬
‫'ون‬
‫'ينما و ال ينبغى أن يك'‬
‫'تحب فى الس'‬
‫'ير مس'‬
‫فالتأثير القوى لصورة المؤلف غ'‬
‫‪ - 11‬انظر هامش رقم ‪.1‬‬

‫‪14‬‬
‫' فالمكتبة عالمة لالنتماء‬
‫للشخصية مستوى ثقافى مرتفع أو أن تمتلك مكتبة ضخمة‪...‬‬
‫‪12‬‬
‫للبورجوازية و هى دليل على امتالك سلطة مثلها مثل اللوحات و القطع الفنية‪".‬‬

‫قدمت السينما المصرية على مدار تاريخها شخصية الكاتب فى بعض من أفالمها‬
‫'دود ‪ - 1958‬الرجل‬
‫'وال‪ ،‬الطريق المس'‬
‫المقتبسة عن أعمال أدبية فى أغلب األح'‬
‫الذى فقد ظله ‪ - 1968‬عصفور الشرق ‪ ...1986‬و كرست ه''ذه االفالم و غيرها‬
‫غالبا لصورة أحادية لألديب مستمدة من ت''راث الس''ينما فى النظر لألدب كغ''ريم‬
‫مستدعية تلك المنافسة بين ثقافة الصورة وثقافة المكتوب‪ .‬أما داوود عبد الس''يد فقد‬
‫جاء بشخصية الروائى فى فيلمه "مواطن و مخبر و ح''رامى" كى يحيكها بش''كل‬
‫مختلف منخالل تفكيك عدة نماذج و أنماط‪ .‬أوال يقطع الفيلم مع التن''اول األح''ادى‬
‫لشخصية األديب فى السينما المصرية التى دائما ما صورته حبيسا ل''برج ع''اجى‪،‬‬
‫فالروائى فى الفيلم "مواطن" فى حالة اشتباك حاد مع الشارع والمجتمع و الدولة‪ .‬ثانيا‬
‫' فى الكثير‬
‫يبنى داوود عبد السيد الشخصية باالعتماد ال على االقتباس كما كان الحال‬
‫من التجارب السابقة انما على التناص مع نموذج قدمته رواية الستينات‪ ،‬و هونموذج‬
‫' السياسى و النشاط الطالبى فى الستينات و السبعينات‬
‫الكاتب الذى عاش حالة الحراك‬
‫'اهر و "مالك‬
‫'اء ط'‬
‫ثم عاد لينكفئ على ذاته‪ .‬نجد هذا النموذج فى "شرق النخيل" لبه'‬
‫الحزين" فى شخصية يوسف النجار‪ ،‬و فى شخصية عبد الخالق فى "زهر الليم''ون"‬
‫' و غيرهم‪.‬‬
‫لعالء الديب و فى رواية "نوبة رجوع" لمحمود الوردانى ‪...‬‬

‫‪12‬‬
‫‪- Steven Bernas, L’écrivain au cinéma, L’Harmattan, Paris 2005.‬‬

‫‪15‬‬
‫" نحن نعرفك أنت أيضا‪ .‬شغلت بالنا فترة منذ سنتين أو ثالث سنوات عندما‬
‫' الثقافية و هذه األشياء‪.‬‬
‫كنت فى الجمعية األدبية فى الكلية و كنت تنظم المحاضرات‬
‫نحن نعرف أن هذا هو المدخل للمصائب‪ .‬لكنك أرحت بالنا بسرعة عندما انقطعت‬
‫‪13‬‬
‫عن الجمعية ثم عن الكلية ثم اتجهت للبار‪".‬‬

‫"منذ سنوات االعتقال و هما يتبادالن تفاهما انسانيا عميقا ال يتغير‪ .. .‬كفا عن‬
‫الحكم و اللوم و قبل كل منهما اآلخر خارجا عن األحداث و األيام‪ ...‬أما السياسة فقد‬
‫صارت موضوعا يقتربان منه فى حذر‪ ،‬يرددان أخبارا و طرائف وال يغوصان أكثر‬
‫‪14‬‬
‫من هذا حتى ال تبرز األشواك و يحتد الكىم؟ ثم ينتهى الى صمت خانق مرير‪"...‬‬

‫'اوز الثالثين من‬


‫فى فيلم داوود عبد السيد نتوقف عند شخصية كاتب روائى قد تج'‬
‫عمره فى بداية الثمانينات كما يشيرلذلك صوت الراوى‪ .‬أثناء دراسته الجامعية ‪ -‬أى‬
‫فى نهاية الستينات ‪ -‬كانت له نشاطات سياسية‪ ،‬وفى ‪ 1972‬خضع لمراقبة بوليسية‬
‫'ترة من‬
‫'ام‪ .‬بعد ف'‬
‫' مناوئة للنظ'‬
‫دقيقة استمرت ستة أشهر بسبب شكوك فى انتماءات‬
‫الزمن لم يحددها الفيلم قرر المواطن سليم أن يكون انتماؤه لنفسه فقط و تبدأ األحداث‬
‫فى تلك اللحظة من الفيلم‪ .‬تعتبر هذه البنية التحتية للشخصية الفيلمية استثتائية الى حد‬
‫بعيد و ذلك باعتمادها على مرجعيات ليس لها سوابق فى السينما المصرية‪ .‬اخت''ار‬
‫المخرج تلك الفترة الزمنية كمرجعية لتاريخ الشخصية ‪ -‬التى ت''آخت فى ماضي لم‬
‫نره بل حكاه لنا الراوى ‪ -‬مع أبطال العديد من روايات الستينات توافرت فيهم نفس‬
‫السمات المميزة ‪ :‬البعد الثقافى و السياسى على خلفية مصر الستينيات و السبعينات‪،‬‬
‫‪13‬‬
‫‪ -‬بهاء طاهر ‪ "،‬شرق النخيل" ‪ ،‬دار الهالل‪ ،‬القاهرة ‪ ، 1992 ،‬ص‪281 .‬‬

‫‪ - 14‬عالء الديب "زهر الليمون" ‪ ، http://nj180degree.com ،‬ص ‪176‬‬

‫‪16‬‬
‫االلتزام السياسى وااليمان بقضايا مجتمعية ثم التراجع و االنخ''راط فى ذاتية م''ا‪.‬‬
‫باالضافة لذلك جعل الفيلم من المناخ الثقافى الذى تعيشه الشخصية سمة مميزة لها من‬
‫خالل ممارسة سليم للكتابة االبداعية و تركيز السرد على هذا الجانب فى شخصيته و‬
‫على مغامرة الكتابة فى حد ذاتها‪.‬‬

‫هذا هو النموذج األدبى الذى تناص معه فيلم داوود عبد السيد‪ .‬لكن كيف كان التعامل‬
‫معه؟ هل أعاد انتاجه أم سخره ألهداف مختلفة؟ تبدأ أحداث الفيلم فى لحظة قطع فيها‬
‫المواطن سليم مع ماضيه المحكى أى مع النموذج الروائى الذى استدعاه الفيلم ليدخلنا‬
‫'تزم‬
‫'ورة ‪ :‬فمن المثقف المل'‬
‫'ول فيه الص'‬
‫فى عصر آخر هو مصر الثمانينات‪ ،‬تتح'‬
‫'ه‪،‬‬
‫'ذى يعيش لذات'‬
‫بقضايا وطنه و هو النموذج الستينى بامتياز نتحول الى المثقف ال'‬
‫'وير‬
‫'ورها األدب ننتقل الى تص'‬
‫ومن عذابات الكتابة و مناوءات القلم التى طالما ص'‬
‫لحظات سينمائية من النشوة االبداعية‪ ،‬ومن ألم ذكريات سنوات النضال الفاشلة التى‬
‫'ية تعيش الحاضر فقط‬
‫صبغت أجواء رواية الستينات بأجواء الحداد ننتقل الى شخص'‬
‫فيبدو ماضيها الذى يحكيه المخبر و ال''رواى فى بداية الفيلم و كأنه بقايا من ماضى‬
‫سلفها األدبى الذى بنى علي أطالله داوود عبد السيد شخص''ية كاتبه‪ .‬و ك''أن الفيلم‬
‫' األدبية الى تفكيك النموذج الأول واع''ادة‬
‫يعمد من خالل التناص مع هذه المرجعيات‬
‫تشكيله فى الفيلم الذى يصور المجتمع المصرى فى بداية الالفية الثانية‪.‬‬

‫باالضافة الى ذلك يتناص الفيلم مع صورة أخرى لألديب أكثر كالس''يكية‪ .‬فى مقاله‬
‫'افة تقليدية‬
‫'ود مس'‬
‫يقول فيصل دراج بوج'‬ ‫‪15‬‬
‫الهام" استبداد الثقافة و ثقافة االستبداد"‬

‫‪ - 15‬مجلة فصول‪ ،‬األدب و الحرية (الجزء الثانى)‪ ،‬المجلد الحادى عشر‪ ،‬العدد الثانى‪ ،‬صيف ‪1992‬‬

‫‪17‬‬
‫'ود فى‬
‫' بين الوج'‬
‫فاصلة بين الكاتب و القارئ هى تلك التى تباعد بين العلم و الجهل‪،‬‬
‫'ة‪.‬‬
‫'اة اليومي'‬
‫عالم الأفكار و المجردات و البالغة التعبيرية و التواجد المادى فى الحي'‬
‫' ثم تضيف اليه صفة أخ''رى هى العج''ز‪ .‬ال يس''تطيع‬
‫"تخلق فلسفة المسافة الجاهل‬
‫'اج الى آخر له‬
‫الجاهل أن يعى معنى األشياء وحده بسبب نقص يحايث طبيعته‪ ،‬و يحت'‬
‫' يشكل القمع لحظة جوهرية فى فلسفة‬
‫طبيعة ال نقص فيها يشرح له غامض األشياء‪...‬‬
‫'افة تنتج فن‬
‫المسافة‪ .‬و بما أن اتقان القمع يستلزم اتقان وسائل القمع‪ ،‬فان فلسفة المس'‬
‫‪16‬‬
‫المسافة‪ ،‬أى الفن الذى يسوغ سيطرة العارف و تأكيد المسافة‪".‬‬

‫فى فيلم داوود عبد السيد ن''رى تلك المس''افة و قد أعيد انتاجها ثقافيا و اجتماعي''ا‪.‬‬
‫فالجزء األول من الفيلم يعرفنا على المواطن سليم الذى يعيش فى فيلته القديمة يحيط‬
‫نفسه بالكتب و اسطوانات الموسيقى الكالسيكية وأصدقاءه المختارين من نفس طبقته‬
‫‪ .‬يشمئز من االختالط بالمجتمع ‪ ،‬و يرفض محاوالت الفهم لما يكتبه و مح''اوالت‬
‫التقارب التى يبديها "الجهالء" من المحيطين ‪ ،‬مكررا جملة "مش هتفهم" ‪ .‬ن''راه فى‬
‫'ثرة و‬
‫'الأقالم و الأوراق المبع'‬
‫' مكتبه‪ ،‬منهمكا فى الكتابة محاطا ب'‬
‫'ل‪:‬‬
‫مكانه المفض'‬
‫'اخرة فى‬
‫المكتبة الضخمة تغطى الجدران‪ ،‬يستمتع بتذوق األكالت و المشروبات الف'‬
‫مطبخه الفسيح و بسماع موسيقى الأوبرا فى صالونه القديم تصدح فى المكان‪ .‬تكرس‬
‫هذه اآلليات فى تصوير الشخصية لمفهوم المسافة وتؤكد على فكرة عزلة الك''اتب و‬
‫المثقف‪ ،‬لكنها فى نفس الوقت تحيلنا حينا للس''خرية من الشخص''ية المتعالية بعلمها‬
‫العاجزة بفعلها‪ ،‬و حينا آخر للتعاطف معها نتيجة القتناصها داخل واقع عبثى تتورط‬

‫‪ - 16‬المرجع السابق‬

‫‪18‬‬
‫فيه و تفشل تماما فى التعامل معه من خالل منظومة القيم التى تؤمن بها (و التى من‬
‫' بين سلطة‬
‫المفترض أن يشاركها فيها متلقى الفيلم)‪ .‬يعاد انتاج مفهوم التباعد الفاصل‬
‫العالم (بكسر الالم) الذى تمثله ص''ورة األديب من جهة وص''ورة العامة من جهة‬
‫أخرى و تسقط شخصية سليم من عليائها بعد اشتباكها مع واقع قررت فى نهاية االمر‬
‫اعادة النظر فيه و االنصات له و التعامل معه‪ .‬تعيد شخصية الروائى تش''كيل ذاتها‬
‫من خالل العالقة المركبة مع المخبر و الحرامى فتذوب المسافة التى باع''دت بينه و‬
‫بينهما منذ البداية و يبدو و كأن داوود عبد السيد قد استخدم التناص لتفكيك النم''اذج‬
‫األدبية التى استحضرها سينمائيا فى اشتباك مع األدب ذى شكل جديد به من المداعبة‬
‫أكثر ما به من السخرية‪.‬‬

‫االقتباس‬

‫' على تأثرهم بتيارات سينما الحداثة‬


‫أكد السينمائيون الجدد فى العديد من الحوارات‬
‫'ها محاولة‬
‫'ذى دخلت مع الأدب فى عالقة مركبة أساس'‬
‫' ال'‬
‫فى أوربا و هى التيارات‬
‫خلق لغة سينمائية تحاكى لغة األدب من حيث قدرتها على التعبير عن ذاتية المبدع و‬
‫قدرتها على التجريد‪ .‬انتقل مركز الثقل من المحتوى الدرامى و الفكرى للصورة الى‬
‫اللغة السينمائية كنص تحمل مفرداته البصرية و السمعية معنى وج''وده‪ ،‬و س''عت‬
‫السينما الجديدة لخلق خصوصيتها معتم''دة على أدواتها التعبيرية رافضة لمفه''وم‬
‫التراتبية الذى أصاب الفن السابع بعقدة نقص تجاه األدب "فن القول النبيل"‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫كان من الطبيعى فى ظل هذه المحاوالت أن تبتعد السينما عن االقتباس الذى ظل‬
‫لعقود طويلة أسير معادلة الأمانة‪/‬الخيانة و التى روجت أوال لفهم قاصر للنص الأدبى‬
‫باعتباره "حدوته"‪ ،‬و قلصت ثانيا من حرية المبدع الس''ينمائى فى التعامل مع العمل‬
‫الأدبى و حبسته داخل فكرة القصة التى يقوم ب"نقلها" الى الشاشة‪ .‬و قد عانت عالقة‬
‫السينما باألدب نتيجة لتلك المفاهيم و كانت النتيجة الوصول الى مأزق أحد أوجهه هو‬
‫الابتعاد عن الأدب‪ .‬نقول ابتعاد و ال نقول قطيعة ألن الأعمال الأولى لمخرجى الفترة‬
‫'ال أدبية‬
‫'ان على أعم'‬
‫المعنيين تنفى فكرة القطيعة حيث اعتمدت فى كثير من الأحي'‬
‫'ام"‬
‫'ون ال تن'‬
‫أجنبية ‪" :‬الرغبة" لمحمد خان ‪ 1980‬مقتبس عن جاتسبى العظيم‪" ،‬عي'‬
‫'دردار‪،‬‬
‫'جرة ال'‬
‫لرافت الميهى ‪ ،1981‬عن مسرحية يوجين أونيل "رغبة تحت ش'‬
‫األقدار الدامية" لخيرى بشارة عن مسرحية "الحداد يليق ب''الكترا" لنفس المس''رحى‬
‫'ذه‬
‫'بير‪ .17‬لكن ه'‬
‫االمريكى‪،‬الغيرة القاتلة" لعاطف الطيب ‪ 1982‬عن "عطيل" شكس'‬
‫النزعة الأولى لالقتباس سعت لالبتعاد عن الأطر المرسومة سلفا و ذلك اما باالتج''اه‬
‫لألدب األجنبى كرغبة فى تجديد المرجعية األدبية بعيدا عن الموض''وعات التقليدية‬
‫'ادر‬
‫المكررة و األدباء الذين تناولتهم السينما المصرية السابقة ‪ ،‬أو بالبحث عن مص'‬
‫أدبية تلتقى مع حساسية فنية جديدة أصبحت تميز ه''ذا الجيل‪ ،‬كما تمثل ذلك فى فيلم‬
‫"الطوق و االسورة" المقتبس عن الرواية التى تحمل نفس العنوان ليحيى الطاهر عبد‬
‫اهلل أو فى فيلم "الكيت كات" المقتبس عن رواية "مالك الحزين" البراهيم أصالن ‪ ،‬أو‬
‫بالتعامل مع االقتباس برؤى جديدة تحرر صانع الفيلم من قيود االلتزام بأصله االدبى‬
‫و ترى فيه ما قاله أندريه بازين ‪:‬‬
‫‪ - 17‬أحمد يوسف‪" ،‬السينما المصرية الجديدة ‪ ..‬فى مفترق الطرق"‪ ،‬الفن السابع‪ ،‬العدد الرابع و الخامس مارس‪/‬أبريل ‪1988‬‬

‫‪20‬‬
‫" إن األمر ليس ترجمة للنص االدبى – مهما بلغت درجة إخالص''ها أو ذكائها – و‬
‫كذلك ليس هو استلهام حر – حتى مع حب النص واحترامه – بهدف عمل فيلم يقدم‬
‫نسخة ثانية من العمل الأدبى‪ .‬إن االمر يتعلق ببناء عمل على شاكلة أخرى ‪ ،‬معتمدا‬
‫على الرواية ‪ ،‬مستخدما السينما‪ .‬ليس فيلما "للمقارنة" مع الرواية و ليس فيلما "جدير"‬
‫‪18‬‬
‫'‬
‫بالرواية ‪ ،‬بل كائن جمالى جديد ‪"...‬‬

‫'اس رواية‬
‫'وف عند تجربته و ذلك فى اقتب'‬
‫سنعود مرة أخرى لداوود عبد السيد للوق'‬
‫'‬
‫ابراهيم أصالن فى فيلمه "الكيت كات"‪.‬‬

‫'اره على رواية "مالك‬


‫'ديدة‪ ،‬فوقع اختي'‬
‫دخل داود عبد السيد عالم األدب بجرأة ش'‬
‫الحزين" وهي من الروايات الصعبة التي تتحدي ببنيتها المحاوالت التقليدية للنقل إلي‬
‫'الم األدبي لكنه ال يكتفي‬
‫'دة من الع'‬
‫السينما‪ .‬يرتاد داود عبد السيد تلك المنطقة الجدي'‬
‫'د‪ ،‬إذ يعيد جدولة‬
‫'الن الجميلة على يديه إلي عمل جدي'‬
‫'ول رواية أص'‬
‫بذلك بل تتح'‬
‫الشخصيات وتركيب المكان المتشظي وتمديد الزم''ان المنكمش وإحالل الكومي''ديا‬
‫' السياسي المأزوم‪ .‬ويقلب الفيلم داللة‬
‫محل السخرية‪ ،‬والصوت الشعبي محل الخطاب‬
‫الرواية التي تبكي المكان في استدعاء محبط لوحدته الغائبة‪ ،‬حين يصبح بيع ال''بيت‬
‫بيعًا لألرض والتاريخ والعرض‪ .‬يتحلل الفيلم من هذه الرؤية‪ ،‬ويختلط حب المك''ان‬
‫'ف‪ ،‬فاطمة‬
‫'ني‪ ،‬يوس'‬
‫فيه برغبة في الفرار منه‪ .‬تختنق الشخصيات فيه ‪ :‬الشيخ حس'‬
‫ويكتسب البيع شرعية ألن "الناس الزم تعيش" كما يقول الشيخ حسني‪ ،‬ذلك الضرير‬
‫الذي يركب الدراجة البخارية يتوق "للطيران" بعيدًا عن األرض ال'تي تكبل خط'اه‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫‪- André BAZIN, Qu'est-ce que le cinéma ? Paris, Éditions du Cerf, 1983.‬‬

‫‪21‬‬
‫لكن هذا التحليق األعمى في شوارع الكيت كات وحواريه هو أيضًا تدمير للمك''ان‪،‬‬
‫ورغبة في كسحه تطهيرًا له‪.‬‬

‫إن أول ما يستوقفنا في فيلم "الكيت كات" هو أنه أجري عملية إحالل فج''اءت‬
‫'ية يوسف المثقف في‬ ‫'دي ً‬
‫ال عن شخص'‬ ‫'ية محورية ب'‬
‫شخصية الشيخ حسني كشخص'‬
‫'حب أيضًا على األزمة‬
‫'يتين ألنه ينس'‬
‫الرواية‪ .‬وهذا التغيير ال يقتصر على الشخص'‬
‫المص''احبة لكل منهما ‪ :‬من أزمة يوسف المثقف ذي الهم''وم السياس''ية واألحالم‬
‫المجهضة الذي يدخلنا معه في تجربة الكتابة الروائية ومشاكل القلم عن''دما يريد أن‬
‫'ني‬
‫يختار بين مفردات الواقع ("كتبت أشياء ولم تكتب أشياء"‪ ، )19‬إلي أزمة الشيخ حس‬
‫تلك الشخصية الفرعية في رواية أصالن‪ .‬اس'تغل داود عبد الس'يد كل ما ج'اء في‬
‫الرواية عن الشيخ حسني لكنه أيضًا أضاف الكثير‪ .‬الشيخ حسني في الفيلم مزيج بين‬
‫حسني والعم عمران في الرواية‪ ،‬والعم عمران هو تلك الشخصية المحملة برص''يد‬
‫تاريخي وأسطوري يجعلها على معرفة واسعة بالمكان‪ ،‬فهو الوحيد في الرواية الذي‬
‫'ام ً‬
‫ال في لقط'ات‬ ‫'ات ك'‬
‫'بية العالية حي الكيت ك'‬
‫يستطيع أن يري من حجرته الخش'‬
‫'دي ً‬
‫ال يتسع للتحليق‬ ‫' يخلق الشيخ حس''ني في الفيلم واقعًا ب'‬
‫بانورامية واسعة المجال‪.‬‬
‫بتالعبه المجنون بمعطيات الزمان والمكان واللغة ‪" :‬ساعات أقوم من الن''وم حاسس‬
‫إني باتخنق‪ ..‬أبقي عاوز أركب موتوسيكل وأطير" يذهب إلي السينما ويتخيل الفيلم‪،‬‬
‫'يطنة"‪،‬‬
‫يجلس في المقهى ويتخيل النساء‪ ،‬يتحدث مع اآلخرين "فيسوق الهبل على الش'‬
‫هكذا يخلق عالمًا له وحدة يتوه من يدخله سواه‪.‬‬

‫‪ - 19‬إبراهيم أصالن‪ ،‬مالك الحزين‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‪74.‬‬

‫‪22‬‬
‫الشيخ حسني هو المسئول عن بيع البيت مس''ئولية أخالقية ي''دركها ويتحمل‬
‫تبعاتها‪ ،‬إذ ما معني التمسك باألرض إذا كانت األرض قد فقدت وظيفتها ومعناه''ا؟‬
‫' الذي يمثله يوسف الراغب فى السفر إلي أوروبا‪:‬‬
‫معناها بالنسبة له هو موت الحاضر‬
‫"عاوز أعيش يا أخي !" هذه الفكرة نجدها في فيلم آخر لداود عبد السيد هو "س''ارق‬
‫الفرح" ‪ :‬قد نتخلى عن بعض المبادئ كي نعيش ألن وجوب الحياة هو المبدأ ال''ذي‬
‫يلزم التمسك به‪ .‬و التعارض بل التناقض بين هذا المعنى وبين المعني الذي يأخذه بيع‬
‫البيت والمقهى في الرواية واضح‪ ،‬ذلك البيع الذي سوف تتبعه سلس''لة أخ''رى من‬
‫'ادرين‬
‫'وطن "للق'‬
‫'ودي‪ ،‬وبيع ال'‬
‫'ات للخواجة ديفيد اليه'‬
‫البيعات ‪ :‬بيع حي الكيت ك'‬
‫'ادر‬
‫كما يقول عبد الق‬ ‫‪20‬‬
‫والطامعين‪..‬إن الوطن يتحول وأننا سوف نكون آخر الورثة"‬
‫على لسان يوسف‪.‬‬

‫يتضمن هذا اإلحالل موقفًا آخر من يوسف الرواية ‪ .‬يتساءل داوود عبد السيد ‪" :‬إلي‬
‫'عرها يوسف‬
‫أي مدي يتجاوب الجمهور مع أزمات المثقفين؟ "‪ 21‬تلك العزلة يستش‬
‫في الرواية و تجعله ‪" :‬غريبًا في إمبابه مع أنه ولد فيها" كما يقول األمير تلك‬
‫'بيع المقهى ‪ .‬و يوسف المثقفالمحبط المثقل‬
‫الشخصية المهمومة أكثر منغيرها ب'‬
‫بهموم وطنه يختفى فى الفيلم و معه تختفى القضية السياسية التي تهيمن على‬
‫العالم الروائى‪ ،‬تتواري وراء هم إجتماعيعالي الن''برة يتمثل وعيشخوصه في‬
‫'اب‬
‫'زءًا منخط'‬
‫'السياسي فيه ج'‬
‫صراعهم اليومى مع واقع ملتبس‪ .‬ويصبحالخطاب‬

‫‪ - 20‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪87.‬‬


‫‪ - 21‬فى حوار مع الباحثة‪ ،‬نشر فى األهرام ايبدو ‪:‬‬
‫‪« La littérature comme scénario », entretien avec Daoud Abddel-Sayed, par Salma Mobarak, Al Ahram Hebdo, 13-‬‬
‫‪19 décembre 1995.‬‬

‫‪23‬‬
‫'ان‬
‫'ين منهم و هو ما تقوله الرواية أيضا على لس'‬
‫غريبعنبسطاء القوم والمهمش'‬
‫واحدة من شخصياتها ‪" :‬ان المشكلة هى الشارع الذى يتفرج و يلوم‪ .‬و قال انه سمع‬
‫بأذنيه فقراء القوم يقولون ان الطلبة يفعلون ذلك ألنهم صغار و آبائهم يصرفون عليهم‬
‫'نى و‬
‫و أنهم ال يحملون هما…"‪ 22‬و كأن الفيلم فى تنحيته للسياسى يؤكد على هذا المع‬
‫هو يخاطب جمهوره الواسع‪ .‬و من هنا يبدو االقتباس ‪ ،‬كما قام به داوود عبد السيد‬
‫من خالل قراءته السينمائية لرواية أصالن كتجربة كاملة فى خلق عمل ابداعى جديد‬
‫يعتمد على ذاتية المبدع و احساسه بمتلقيه و تفاعله الخ'اص مع النص األدبى ‪ ،‬ذلك‬
‫النص الذى يقوم مقام حجر يلقى فى ماء هادئ ‪ ،‬كما شبهه داوود عبد السيد ‪ ،‬ينتظر‬
‫'ماك‪،‬‬
‫'اه ‪ :‬أس'‬
‫قارئه ‪ -‬الذى هو صانع الفيلم ‪ -‬ما الذى سيخرج من أعماق تلك المي'‬
‫‪23‬‬
‫طين‪ ،‬أو ال شيء على االطالق‪.‬‬

‫الموازاة‬
‫مفهوم الموازاة هو واحد من المفاهيم التى نمت فى حقل الدراسات المقارنة و يعنى‬

‫بتتبع عالقات التشابه بين عناصر بعيدة عن بعضها البعض‪ ،‬يؤدى تجاورها الى خلق‬

‫داللة مشتركة بينها‪ .‬سنستخدمه هنا العطاء نموذج ثالث لعالقات مختلفة بين السينما‬
‫و األدب تظهرمن خالل المقارنة‪ .‬سنتتبع موضوعا مشتركا نجده ي''تردد فى فيلم و‬
‫'ان بينما‬
‫'ف" لمحمد خ'‬
‫'هما البعض ‪ :‬أما الفيلم فهو "الحري'‬
‫رواية بعيدين عن بعض'‬
‫الرواية هى أيضا نفس رواية أص''الن " مالك الح''زين"‪ ،‬أما الموض''وع فهو عن‬
‫‪ - 22‬إبراهيم أصالن‪ ،‬ص‪78.‬‬

‫‪ - 23‬حوار مع داوود عبد السيد‪1995 ...‬‬

‫‪24‬‬
‫موتيف السير و السائر فى المدينة بالمعنى التش''كيلى لكلمة موتي''ف‪ ،‬أى الوح''دة‬
‫البصرية المتكررة ‪.‬‬

‫إذا أردنا تعريف السير فسنجده انتقالا من نقطة مكانية ألخرى عبر المرور بطرق و‬
‫أماكن يشكلها السائر كما تش''كله‪ ،‬يعطيها ماهيتها الوجودية من خالل العالقة ال''تى‬
‫' يطلق فيه العنان لتس''اؤالته و حيرته ‪ .‬و‬
‫يقيمها معها و تمنحه فى مروره بها فضاءا‬
‫يتخذ موتيف السير و السائرالذى نجده ماثال بكثافة فى فيلم "الحريف" و رواية "مالك‬
‫الحزين" معناه فى اطار تلك الحساسية الجديدة المم'يزة لألدب و الس'ينما و ال'تى‬
‫اهتمت بالتعبير عن المعاش اليومى و الوقائع الصغيرة حيث ظهرت شخصية السائر‬
‫الغارق فى همومه و فى حشود المدينة‪ ،‬تبعده مساحات من اليأس و الال مب''االة عن‬
‫المكان من حوله‪ ،‬يسدد لجنباته نظرات مغترب''ة‪ .‬يق''ول دول''وز أن المدينة كما‬
‫صورتها سينما الحداثة بدأت تفقد خاصيتها الجماعية و قدرتها على خلق االجماع ‪...‬‬
‫لم تعد المدينة التى نراها من أعلى‪ ،‬المدينة المنتصبة بناطح''ات س''حابها‪ ،‬انما هى‬
‫' حيث ينكفئ كل امرئ على ش''أنه غارقا‬
‫المدينة المستلقية‪ ،‬الأفقية قصيرة القامة‪...‬‬
‫‪24‬‬
‫فى متاهة المكان‪.‬‬

‫و السائر الذى يطالعنا عند أصالن و خان ال يخطط لمساره بالذات بل تقوده الصدفة‬
‫أو وحدات حدثية غير مترابطة ‪ ،‬تفصله عن المكان مسافات يملؤها التأم''ل‪ ،‬تعكس‬
‫'عيا‬
‫'ال س'‬
‫خطواته مسارات مأزومة بها من الشرود المكانى أكثر ما بها من االنتق'‬
‫‪24‬‬
‫‪- Gilles Deleuze, L’image mouvement, Les Editions de Minuit, Paris, p. 279‬‬

‫‪25‬‬
‫وراء أهداف بعينها‪ .‬هذا ما نجده فى البنية السردية غير التقليدية لكل من العملين ‪:‬‬
‫'يات موقعه داخل مجموعة من األح'داث‬
‫'وال الشخص'‬
‫فى "مالك الحزين" يتخذ تج'‬
‫الصغيرة التى تتراكم فى المسار اليومى للشخصية‪ .‬ال يتبع تطور السرد خطا واضحا‬
‫' السببية أو أى من أشكال العالقات المنطقي''ة‪ ،‬بل على تج''اور‬
‫يعتمد على العالقات‬
‫وحدات تختص كل منها بشخصية نتتبعها لفترة من ال''وقت ثم نتركها معلقة و نتوجه‬
‫ألخرى ‪ ،‬ثم نعود لألولى فى تراكم تصاعدى لألزمات التى تبدو منفصلة حيث تعيش‬
‫كل شخصية أزمتها منفردة‪ .‬يتفتت الحدث و يغرق فى ذرات من الوقائع المتناثرة ال‬
‫'يات فى طرقها‬
‫'دو الشخص'‬
‫'ان التراجيدية‪ ،‬و تب'‬
‫تجمعها سوى وحدة المكان و الزم'‬
‫لدروب المكان كمن يحاول جمع تلك الذرات و لم شتاتها بحثا عن مع''نى ألح''داث‬
‫تتجاوزها‪ .‬وهى فى سيرها شاردة تشير الى أه''داف مكانية فى تجولها الي''ومى ثم‬
‫'ارئ‬
‫تذهب فى أغلب األحوال فى اتجاهات أخرى‪ ،‬ترسم خط سير متعرجا يغرق الق'‬
‫في سلسلة من أسماء الشوارع والميادين والكبارى و المس''اكن فيش''عر بمزيد من‬
‫الضياع في المكان‪:‬‬
‫"كان يخرج من فضل اهلل عثمان الى شارع السالم من الخلف حتى جنينة الم''دير و‬
‫يمر من عند الراهبات ثم يعبر شارع السودان و يمر من بين اسكان ناصر الش''عبى‬
‫'وبرى الزمالك و هو‬
‫الى نادى طلعت حرب و يظل يمشى داخل الجنينة المواجهة لك'‬
‫يتفرج على المدخل الجانبى لمسرح البالون حتى يصل الى طريق النيل و يتجه يسارا‬
‫'اك"‬
‫و يتقدم عائدا الى ميدان الكيت كات و يقف من بعيد هكذا‪ ،‬و يتجه بعينيه الى هن'‬
‫‪25‬‬

‫‪ - 25‬إبراهيم أصالن‪ ...‬ص‪32 .‬‬

‫‪26‬‬
‫باالضافة الى ذلك نجد أن خط سير الشخصية يمر عبرمجال بصري متشظ تنزلق من‬
‫على سطحه النظرات‪ ،‬فاما هى ترصد الال حدث بقدر ع''ال من الدقة ‪ ،‬أو هى تنظر‬
‫' تام عنه ‪" ،‬و كأنها أحداث بيضاء ال تستطيع أن تمس من يتسبب فيها‬
‫للحدث بانفصال‬
‫'داث يحملها رجل ميت من‬
‫'ده ‪ :‬أح'‬
‫'ربته فى جس'‬
‫أو من يخضع لها‪ ،‬حتى و لو ض'‬
‫باالضافة لذلك فان الشخصية غالبا ما تك''ون‬ ‫‪26‬‬
‫الداخل يريد التخلص منها سريعا‪".‬‬
‫'اء‬
‫'تغرقا فى أفكاره أثن'‬
‫وحيدة على الطريق ‪ ،‬فيوسف النجار مثال دائما ما يكون مس'‬
‫السير ‪ " :‬كان يفكر و هو يحاول أن يكون حذرا‪ ،‬ألن سالم فرج حنفى أخبره باألمس‬
‫و هو يضحك أن شقيقته رأته و هو يمشى و يتحدث مع نفسه دون أن يكون معه أحد‬
‫‪27‬‬
‫من الناس‪".‬‬

‫نفس هذه السمات نجدها فى فيلم "الحريف" ال''ذى تعتمد فيه الهندسة الس''ردية أيضا‬
‫على بنية غير تقليدية‪ ،‬حيث تتشكل القصة حول شخصية فارس العب الكرة الشراب‬
‫' الشعبية ال''ذى يتتبعه الس''رد و تتجمع حوله الخط''وط الدرامية‪.‬‬
‫‪ ،‬بطل الساحات‬
‫تصاحبه الكاميرا عن قرب فى رحالته اليومية بين عدة أماكن تشكل مح''اور لحياته‬
‫المح'''دودة و يتخفف الس'''رد من التقاليد الحكائية‪ ،‬فتختفى الحدوته ذات البعد‬
‫' يومية تتراكم فى مسار‬
‫التصاعدى و تصبح الدراما رصدا باردا لمشاوير و لقاءات‬
‫الشخصية كما تتراكم أزماتها المزمنة‪ .‬تطول اللقطات التى نرى فيها ف''ارس و هو‬
‫يسير فى لحظات فارغة من الحدث تعطى للمكان فى امتداده و ل''زمن التأمل أهمية‬
‫قصوى ‪ .‬و يظهر المكان كوجود مناؤئ للشخصية‪ ،‬ال يمنحها قوة و تماسكا كما كان‬
‫‪26‬‬
‫‪- Deleuze… 1983‬‬

‫‪ - 27‬ابراهيم أصالن ‪ ...‬ص‪27 .‬‬

‫‪27‬‬
‫' عالقة عضوية بين المكان والشخصية‪ ،‬بل‬
‫الحال فى الواقعية الكالسيكية التى خلقت‬
‫على العكس يبدو المكان مقاوما للشخصية‪ ،‬يس''جنها داخل خطوطه الطولية ال''تى‬
‫تمثل موتيفا بصريا مميزا للفيلم‪ ،‬يتبدى فى صورة الح''وارى الض''يقة الممت''دة و‬
‫البنايات العالية على جانبى الطريق تسد نور السماء و تلتقى كتلها الضخمة فى نقطة‬
‫'ائعين و‬
‫'ارة و الب'‬
‫'يارات و الم'‬
‫'وارع فإما مزدحمة بالس'‬
‫الهروب البعيدة‪ .‬أما الش'‬
‫الأصوات و البضائع فى المحالت و تلك التى تفترش الأرصفة ‪ ،‬فيبدو السائر كنقطة‬
‫غارقة فى بحر و تبدو المدينة ككائن ضخم يضج بحياة تتجاهل بؤس الع''ابرين و‬
‫' و تغرقها برك‬
‫أو هى الحوارى الضيقة القذرة التى تتراكم فيها المخلفات‬ ‫تسحقهم‪.‬‬
‫المياه ‪ ،‬يصلها نور الشمس بالكاد ‪ ،‬بيوتها قديمة كالحة ‪ ،‬أرصفتها متهدم''ة‪ ،‬والقبح‬
‫مسيطر على المكان‪ .‬العزلة هى أيضا ما يميز حال الس''ائر فى فيلم محمد خ''ان‪.‬‬
‫فبالرغم من المكان الشعبى الذى تدور فيه معظم أحداث الفيلم‪ ،‬اال أن فارس غالبا ما‬
‫يكون وحيدا فى الطريق‪ .‬لقطات الظهر التى تخفى قسمات وجه السائر فتمنع المشاهد‬
‫من التفاعل معه ‪ ،‬اطراقة الرأس‪ ،‬الصمت المخيم‪ ،‬الفراغ الممتد‪ .‬هذه الوحدة تب''دو‬
‫'ية فى‬
‫'اميرا و موضع الشخص'‬
‫وجودية أكثر منها نفسية فالفراغ الممتد بين عين الك'‬
‫الكادر ‪ -‬حيث جاءت أغلب اللقطات الخارجية لقطات بعيدة – يخلق مسافة تح''ول‬
‫'ان و‬
‫دون اندماج المشاهد فى الموقف النفسى و يفرض حالة من التأمل فى كلية المك'‬
‫دالالته‪.‬‬

‫فى العملين يبدو موتيف الس''ير كبنية دالة لها جماليتها الخاصة و عالمها الرم''زى‬
‫الموازى تعبر خصائصه عن عالقات مكانية مأزومة‪ .‬فى الحالتين تحل الوح''دات‬

‫‪28‬‬
‫'دث‬
‫'وير الح'‬
‫السردية الصغرى محل الوحدات الكبرى فينتقل مركز الثقل من تص'‬
‫'ابر و‬
‫'ير عن الع'‬
‫الكبير االستثنائى الى تصوير الوقائع اليومية العادية و الى التعب'‬
‫' الصغيرة ثقل األزمات الوجودية‪ .‬هذه الس''مات هى ما‬
‫البديهى مع تحميل التفاصيل‬
‫'ار‬
‫'هما البعض أدى تجاورهما الى اظه'‬
‫يجمع بين عملين غريبين ظاهريا عن بعض'‬
‫العديد من نقاط التماس التى تقرب بينهما على مستوى الموض''وع و الرؤية و اللغة‬
‫' بين األدب و السينما‪ .‬‬
‫الفنية تقاربا يرسم أشكال جديدة من العالقات‬

‫أردنا من خالل هذا التتبع لمفهوم الجدة فى األدب و السينما المصريين الوقوف على‬
‫مجموعة من المالمح المشتركة التى تمد جسورا جديدة بين فنين كادت العالقة بينهما‬
‫' التى ال تتجدد‪ .‬و رأينا وج''ود العديد من‬
‫أن تتكلس و تقف عند عدد من االشكاليات‬
‫المؤشرات التى تحتاج الى دراسات أكثر شموال و تعمقا فى التاريخ الفنى المش''ترك‬
‫'تيح‬
‫بين السينما و األدب تكسر الحواجز بين المجالين و تخط حدودا عابرة لألنواع ت'‬
‫قراءات قادرة على توليد معانى و مفاهيم جديدة تنتظر جهد الباحثين فى االلتفات اليها‬
‫و دراستها‪.‬‬

‫‪29‬‬

You might also like