You are on page 1of 148

‫رحيل العالمة‪ :‬د‪ .‬عبدالرحمن بن محمد الطيب األنصاري‪..

‬‬

‫ملف العدد‬
‫رائد علم اآلثار بالمملكة‪.‬‬
‫د‪ .‬عبدالواحد الحميد‪ ،‬د‪ .‬خليل المعيقل‪ ،‬د‪ .‬سعد الراشد‪ ،‬أ‪ .‬د‪ .‬زيدان كفافي‪،‬‬
‫أ‪ .‬د‪ .‬العباس سيد أحمد‪ ،‬د‪ .‬عبداهلل مصري‪ ،‬أ‪ .‬د‪ .‬أحمد الزيلعي‪ ،‬أ‪ .‬د‪ .‬علي الغبان‪،‬‬
‫د‪ .‬عبدالناصر الزهراني‪ ،‬د‪ .‬علي المغنّم‪ ،‬محمد القشعمي‪ ،‬أ‪ .‬د‪ .‬لبنى األنصاري‪.‬‬

‫ ¦دراسات ونقد‪.‬‬ ‫ ¦محور خاص‪ :‬إبراهيم الحسين‪ ..‬والنافذة التي يطل بها على العالم‪..‬‬
‫ ¦نصوص‪.‬‬ ‫ ¦إبراهيم الخليف‪ :‬ذاكرة الجوف‪.‬‬
‫ ¦قراءات‪.‬‬ ‫ ¦عبدالفتاح كاليليطو الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫الئحة برنامـج نشر الدراسات واإلبداعـات األدبية والفكرية ودعم‬
‫البحوث والرسائل العلمية يف مركز عبدالرحمن السديري الثقايف‬

‫‪ -1‬نشر الدراسات واإلبداعات األدبية والفكرية‬


‫يهتم بالدراسات‪ ،‬واإلبداعات األدبية‪ ،‬ويهدف إلى إخراج أعمال متميزة‪ ،‬وتشجيع حركة‬
‫اإلبداع األدبي واإلنتاج الفكري وإثرائها بكل ما هو أصيل ومميز‪.‬‬
‫ويشمل النشر أعمال التأليف والترجمة والتحقيق والتحرير‪.‬‬
‫مجاالت النشر‪:‬‬
‫أ ‪ -‬الدراسات التي تتناول منطقة الجوف ومحافظة الغاط في أي مجال من المجاالت‪.‬‬
‫ب‪ -‬اإلبداعات األدبية والفكرية بأجناسها المختلفة (وفقاً لما هو مب ّين في البند «‪ »٨‬من شروط النشر)‪.‬‬
‫ج ‪ -‬الدراسات األخرى غير المتعلقة بمنطقة الجوف ومحافظة الغاط (وفقاً لما هو مب ّين في البند «‪ »٨‬من‬
‫شروط النشر)‪.‬‬
‫شروطه‪:‬‬
‫‪ -١‬أن تتسم الدراسات والبحوث بالموضوعية واألصالة والعمق‪ ،‬وأن تكون موثقة طبقاً للمنهجية العلمية‪.‬‬
‫‪ -٢‬أن تُكتب المادة بلغة سليمة‪.‬‬
‫‪ -٣‬أن يُرفق أصل العمل إذا كان مترجماً‪ ،‬وأن يتم الحصول على موافقة صاحب الحق‪.‬‬
‫‪ -٤‬أن تُق ّدم المادة مطبوعة باستخدام الحاسوب على ورق (‪ )A4‬ويرفق بها قرص ممغنط‪.‬‬
‫‪ -٥‬أن تكون الصور الفوتوغرافية واللوحات واألشكال التوضيحية المرفقة بالمادة جيدة ومناسبة‬
‫للنشر‪.‬‬
‫‪ -٦‬إذا كان العمل إبداعاً أدبياً فيجب أن يتّسم بالتم ّيز الفني وأن يكون مكتوباً بلغة عربية‬
‫فصيحة‪.‬‬
‫‪ -٧‬أن يكون حجم المادة ‪ -‬وفقاً للشكل الذي ستصدر فيه ‪ -‬على النحو اآلتي‪:‬‬
‫‪ -‬الكتب‪ :‬ال تقل عن مئة صفحة بالمقاس المذكور‪.‬‬
‫‪ -‬البحوث التي تنشر ضمن مجالت محكمة يصدرها المركز‪ :‬تخضع لقواعد النشر في‬
‫تلك المجالت‪.‬‬
‫‪ -‬الكتيبات‪ :‬ال تزيد على مئة صفحة‪( .‬تحتوي الصفحة على «‪ »250‬كلمة تقريباً)‪.‬‬
‫‪ -٨‬فيما يتعلق بالبند (ب) من مجاالت النشر‪ ،‬فيشمل األعمال المقدمة من أبناء وبنات‬
‫منطقة الجوف‪ ،‬إضافة إلى المقيمين فيها لمدة ال تقل عن عام‪ ،‬أما ما يتعلق بالبند (ج)‬
‫فيشترط أن يكون الكاتب من أبناء أو بنات المنطقة فقط‪.‬‬
‫‪ -٩‬يمنح المركز صاحب العمل الفكري نسخاً مجانية من العمل بعد إصداره‪ ،‬إضافة إلى‬
‫مكافأة مالية مناسبة‪.‬‬
‫‪ -١٠‬تخضع المواد المقدمة للتحكيم‪.‬‬
‫‪ -2‬دعم البحوث والرسائل العلمية‬
‫يهتم بدعم مشاريع البحوث والرسائل العلمية والدراسات املتعلقة مبنطقة اجلوف‬
‫ومحافظة الغاط‪ ،‬ويهدف إلى تشجيع الباحثني على طرق أبواب علمية بحثية جديدة يف‬
‫معاجلاتها وأفكارها‪.‬‬
‫(أ) الشروط العامة‪:‬‬
‫‪ -١‬يشمل الدعم املالي البحوث األكادميية والرسائل العلمية املقدمة إلى اجلامعات‬
‫واملراكز البحثية والعلمية‪ ،‬كما يشمل البحوث الفردية‪ ،‬وتلك املرتبطة مبؤسسات غير‬
‫أكادميية‪.‬‬
‫‪ -٢‬يجب أن يكون موضوع البحث أو الرسالة متعل ًقا مبنطقة اجلوف ومحافظة الغاط‪.‬‬
‫‪ -٣‬يجب أن يكون موضوع البحث أو الرسالة جدي ًدا يف فكرته ومعاجلته‪.‬‬
‫‪ -٤‬أال يتقدم الباحث أو الدارس مبشروع بحث قد فرغ منه‪.‬‬
‫‪ -٥‬يقدم الباحث طل ًبا للدعم مرف ًقا به خطة البحث‪.‬‬
‫‪ -٦‬تخضع مقترحات املشاريع إلى حتكيم علمي‪.‬‬
‫‪ -٧‬للمركز حق حتديد السقف األدنى واألعلى للتمويل‪.‬‬
‫‪ -٨‬ال يحق للباحث بعد املوافقة على التمويل إجراء تعديالت جذرية تؤدي إلى تغيير‬
‫وجهة املوضوع إال بعد الرجوع للمركز‪.‬‬
‫‪ -٩‬يقدم الباحث نسخة من السيرة الذاتية‪.‬‬
‫(ب) الشروط اخلاصة بالبحوث‪:‬‬
‫‪ -١‬يلتزم الباحث بكل ما جاء يف الشروط العامة (البند «أ»)‪.‬‬
‫‪ -٢‬يشمل املقترح ما يلي‪:‬‬
‫‪ -‬توصيف مشروع البحث‪ ،‬ويشمل موضوع البحث وأهدافه‪ ،‬خطة العمل ومراحله‪،‬‬
‫واملدة املطلوبة إلجناز العمل‪.‬‬
‫‪ -‬ميزانية تفصيلية متوافقة مع متطلبات املشروع‪ ،‬تشمل األجهزة واملستلزمات‬
‫املطلوبة‪ ،‬مصاريف السفر والتنقل والسكن واإلعاشة‪ ،‬املشاركني يف البحث من‬
‫طالب ومساعدين وفنيني‪ ،‬مصاريف إدخال البيانات ومعاجلة املعلومات والطباعة‪.‬‬
‫‪ -‬حتديد ما إذا كان البحث مدعو ًما كذلك من جهة أخرى‪.‬‬
‫(ج) الشروط اخلاصة بالرسائل العلمية‪:‬‬
‫إضافة لكل ما ورد يف الشروط اخلاصة بالبحوث (البند «ب») يلتزم الباحث مبا يلي‪:‬‬
‫‪ -١‬أن يكون موضوع الرسالة وخطتها قد أق ّرا من اجلهة األكادميية‪ ،‬ويرفق ما يثبت ذلك‪.‬‬
‫‪ -٢‬أن يُق ّدم توصية من املشرف على الرسالة عن مدى مالءمة خطة العمل‪.‬‬

‫الجـوف ‪ 42421‬ص‪ .‬ب ‪ 458‬هاتف‪ 0 14 6245992 :‬فاكس‪014 6247780 :‬‬


‫‪info@alsudairy.org.sa‬‬
‫هاتف‪ 016 4422497 :‬فاكس‪016 4421307 :‬‬ ‫الغــاط ‪ 11914‬ص‪.‬ب ‪ 63‬‬
‫‪www.alsudairy.org.sa‬‬ ‫الرياض ‪ 11614‬ص‪ .‬ب ‪ 94781‬هاتف‪ 011 4999946 :‬جوال‪055 3308853 :‬‬

‫‪www.alsudairy.org.sa | info@alsudairy.org.sa‬‬ ‫‪Alsudairy1385‬‬ ‫‪016 4422 497‬‬ ‫‪0553308853‬‬


‫مجلس إدارة مؤسسة عبدالرحمن السديري‬
‫فيصل بن عبدالرحمن بن أحمد السديري رئيسً ا‬
‫العضو المنتدب‬ ‫زياد بن عبدالرحمن السديري ‬
‫عضوًا‬ ‫عبدالعزيز بن عبدالرحمن السديري ‬
‫ملف ثقايف ربع سنوي يصدر عن‬
‫عضوًا‬ ‫عبدالواحد بن خالد الحميد ‬
‫عضوًا‬ ‫خليل بن إبراهيم المعيقل ‬ ‫مركز عبدالرحمن السديري الثقافي‬
‫عضوًا‬ ‫مشاعل بنت عبدالمحسن السديري ‬ ‫هيئة النشر ودعم األبحاث‬
‫عضوًا‬ ‫سلمان بن عبدالمحسن السديري ‬ ‫رئيسً ا‬ ‫د‪ .‬عبدالواحد بن خالد الحميد ‬
‫أحمد بن سلطان بن عبدالرحمن السديري عضوًا‬ ‫عضوًا‬ ‫أ‪ .‬د‪ .‬خليل بن إبراهيم المعيقل ‬
‫عضوًا‬ ‫طارق بن زياد بن عبدالرحمن السديري ‬ ‫أ‪ .‬د‪ .‬مشاعل بنت عبدالمحسن السديري عضوًا‬
‫سلطان بن فيصل بن عبدالرحمن السديري عضوًا‬ ‫عضوًا‬ ‫د‪ .‬علي دبكل العنزي ‬
‫محمد بن سلمان بن عبدالرحمن السديري عضوًا‬ ‫عضوًا‬ ‫محمد بن أحمد الراشد ‬

‫قواعد النشر‬ ‫أسرة التحرير‬

‫‬‪ -1‭‬أن‬ ‪‭‬تكون‬ ‪‭‬املادة‬ ‪‭‬أصيلة‬ ‪.‭‬‬ ‫املشرف العام‬ ‫إبراهيم بن موسى احلميد ‬
‫محررا‬
‫ً‬ ‫ ‬ ‫محمود الرمحي‬
‫‪ ‭‬-2‬لم‬ ‪‭‬يسبق‬ ‪‭‬نشرها‬ ‪‭‬ورق ًيا‬ ‪‭‬أو‬ ‪‭‬رقم ًيا‬‪‭.‬‬ ‫محررا‬ ‫ ‬ ‫محمد صوانة‬
‫ً‬
‫‪ ‭‬-3‬تراعي‬ ‪‭‬اجلدية‬ ‪‭‬واملوضوعية‬‪‭.‬‬ ‫اإلخراج الفني‪ :‬خالد الدعاس‬
‫‬‪ -4‭‬تخضع‬ ‪‭‬املواد‬ ‪‭‬للمراجعة‬ ‪‭‬والتحكيم‬ ‪‭‬قبل‬ ‪‭‬نشرها‬‪‭.‬‬ ‫املراســـــــــــالت‪ :‬هاتف‪)+966()14(6263455 :‬‬
‫‬‪ -5‭‬ترتيب‬ ‪‭‬املواد‬ ‪‭‬يف‬ ‪‭‬العدد‬ ‪‭‬يخضع‬ ‪‭‬العتبارات‬ ‪‭‬فنية‬‪‭.‬‬ ‫ص‪ .‬ب ‪ 458‬سكاكا اجلـوف ‪ -‬اململكة العربية السعودية‬
‫‪www.alsudairy.org.sa‬‬
‫‬‪ -6‭‬ترحب‬ ‪‭‬اجلوبة‬ ‪‭‬بإسهامات‬ ‪‭‬املبدعني‬ ‪‭‬والباحثني‪‭‬‬ ‫‪aljoubahmag@alsudairy.org.sa‬‬
‫‬والكتّاب‪‭ ‬ ،‬على‬ ‪‭‬أن‬ ‪‭‬تكون‬ ‪‭‬املادة‬ ‪‭‬باللغة‬ ‪‭‬العربية‬‪‭.‬‬ ‫ردمد ‪ISSN 1319 - 2566‬‬
‫سعر النسخة ‪ 8‬رياالت ‪ -‬تطلب من فروع‬
‫‮«‬اجلوبة‬‪‭‬‮»‬ من‬‪‭‬األسماء‬‪‭‬التي‬‪‭‬كانت‬‪‭‬تُطلق‬‪‭‬على‬‪‭‬منطقة‬‪‭‬اجلوف‬‪‭‬ساب ًقا‬‪‭.‬‬ ‫مركز عبدالرحمن السديري الثقايف‬
‫املقاالت املنشورة ال تعبر بالضرورة عن رأي املجلة والناشر‪.‬‬ ‫ريال واملؤسسات ‪ً 60‬‬
‫ريال‬ ‫االشتراك السنوي لألفراد ‪ً 50‬‬

‫يُعنى املركز بالثقافة من خالل مكتباته العامة يف اجلوف والغاط‪ ،‬ويقيم املناشط املنبرية الثقافية‪،‬‬
‫برنامجا للنشر ودعم األبحاث والدراسات‪ ،‬يخدم الباحثني واملؤلفني‪ ،‬وتصدر عنه مجلة‬ ‫ً‬ ‫ويتبنّى‬
‫ً‬
‫(أدوماتو) املتخصصة بآثار الوطن العربي‪ ،‬ومجلة (اجلوبة) الثقافية‪ ،‬ويضم املركز كل من‪( :‬دار‬
‫العلوم) مبدينة سكاكا‪ ،‬و(دار الرحمانية) مبحافظة الغاط‪ ،‬ويف كل منهما قسم للرجال وآخر‬
‫للنساء‪ .‬ويتم متويل املركز من مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية‪.‬‬

‫‪Alsudairy‬‬ ‫‪1385‬‬ ‫‪0553308853‬‬


‫الـمحتويــــات‬ ‫العدد ‪ - ٧٩‬ربيع ‪١٤٤٤‬هـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫‪٤‬‬ ‫االفتتاحية ‪......................................................................................‬‬
‫‪٦‬‬ ‫ملف العدد‪ :‬رحيل العالمة د‪ .‬عبدالرحمن الطيب األنصاري رائد علم اآلثار بالمملكة‪........‬‬
‫‪7‬‬ ‫األنصاري‪ ..‬رجل الريادة والتأسيس في اآلثار ‪ -‬د‪ .‬عبدالواحد الحميد ‪....................‬‬
‫‪11‬‬ ‫عبدالرحمن األنصاري في ذمة اهلل ‪ -‬د‪ .‬خليل بن إبراهيم المعيقل ‪........................‬‬
‫‪14‬‬ ‫األنصاري عا ِل ٌم وعَل ٌم ‪ -‬د‪ .‬سعد بن عبدالعزيز الراشد‪......................................‬‬
‫‪22‬‬ ‫عبدالرحمن األنصاري‪ :‬الذي أعرف ‪ -‬أ‪ .‬د‪ .‬زيدان عبدالكافي كفافي‪......................‬‬
‫‪26‬‬ ‫أفول نجم‪ ..‬خواطر في رحيل األنصاري ‪ -‬أ‪ .‬د‪ .‬العباس سيد أحمد محمد علي ‪..........‬‬
‫‪29‬‬ ‫َعلَ ٌم وعالِم في اآلثار ‪ -‬د‪ .‬عبداهلل مصري‪...................................................‬‬
‫‪31‬‬ ‫البروفيسور عبدالرحمن األنصاري ‪ -‬أ‪ .‬د‪ .‬أحمد بن عمر آل عقيل الزيلعي ‪...............‬‬
‫‪33‬‬ ‫األنصاري‪ ..‬مؤسس المدرسة اآلثارية السعودية ‪ -‬أ‪ .‬د‪ .‬علي إبراهيم الغبان‪...............‬‬
‫‪34‬‬ ‫ذكريات مع أستاذنا األنصاري ‪ -‬د‪ .‬عبدالناصر الزهراني‪...................................‬‬
‫‪38‬‬ ‫في ذكرى أستاذي أ‪ .‬د‪ .‬عبدالرحمن األنصاري ‪ -‬د‪ .‬علي المغنّم ‪..........................‬‬
‫‪41‬‬ ‫عبدالرحمن األنصاري ‪1354‬هـ‪١٤٤٤-‬هـ (‪ - )٢٠٢٣-١٩٣٥‬محمد عبدالرزاق القشعمي‪...‬‬
‫‪45‬‬ ‫والدي الحبيب رحمه اهلل ‪ -‬أ‪ .‬د‪ .‬لبنى بنت عبدالرحمن الطيب األنصاري‪.................‬‬
‫‪48‬‬ ‫دراسات ونقد‪ :‬عبدالفتاح كيليطو الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية ‪........................‬‬
‫‪50‬‬ ‫عبدالفتاح كيليطو قارئا للجاحظ ‪ -‬علي بلجراف ‪...........................................‬‬ ‫‪6.........................‬‬
‫‪54‬‬ ‫كيليطو المبحر بين ثقافتين‪ ..‬الذي ينقح كتاباته باستمرار! ‪ -‬هشام بن الشاوي ‪...........‬‬
‫‪59‬‬ ‫االعترافات التي نريد ‪ -‬رائد العيد ‪..........................................................‬‬ ‫رحيل العالمة د‪ .‬عبدالرحمن األنصاري‬
‫‪٦١‬‬ ‫حول التجربة األولى للكاتب أحمد مسلم ‪ -‬فراس حج محمد‪...............................‬‬ ‫رائد علم اآلثار بالمملكة‬
‫‪65‬‬ ‫«ما بعد الموت» عندما يحاكم السرد الروائي تاريخ االستعمار ‪ -‬حنان الحربش ‪...........‬‬
‫‪68‬‬ ‫عبد اهلل أحمد الفيفي وطائر ال َّثبَغ ِْطر ‪ -‬فرج مجاهد‪.......................................‬‬
‫‪٧٥‬‬ ‫نصوص‪ :‬خريف ‪ -‬جميلة عمايرة‪...............................................................‬‬
‫‪٧٧‬‬ ‫مُعايدة ‪ -‬محمد الرياني‪......................................................................‬‬
‫‪٧٨‬‬ ‫كيف ترى النُّور؟ ‪ -‬سمر الزعبي ‪.............................................................‬‬
‫‪٨٠‬‬ ‫قصص قصيرة جداً ‪ -‬محمد صوانه ‪........................................................‬‬
‫‪48..............................‬‬
‫‪48‬‬
‫‪٨١‬‬ ‫حوار داخلي مع أبي العالء ‪ -‬خليف الغالب‪..................................................‬‬
‫‪٨٢‬‬ ‫قبس من لحظ زرقاء اليمامة ‪ -‬أحمد يحيى القيسي ‪.......................................‬‬ ‫عبد الفتاح كيليطو‬
‫‪٨٣‬‬ ‫شَ ْه َق ُة مَاء في انبهارِ ي وقد نسيتُ مُحَ الِي ‪ -‬أميرة صبياني ‪.................................‬‬ ‫الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية‬
‫‪٨٤‬‬ ‫سمكة نهر تحلم بالمحيط ‪ -‬زكي الصدير‪...................................................‬‬ ‫وسابر أغوار السرد العربي‬
‫‪٨٥‬‬ ‫في كل األشياء رأيتك ‪ -‬عزت الطيرى ‪.......................................................‬‬
‫‪٨٦‬‬ ‫مواجهات‪ :‬حوار مع المترجم خلف القرشي ‪ -‬حاوره‪ :‬عمر بوقاسم ‪...........................‬‬
‫‪٩٣‬‬ ‫مع الكاتب والمترجم د‪ .‬أحمد سمير سعد ‪ -‬حاوره‪ :‬محمود حسنين ‪.......................‬‬
‫‪99‬‬ ‫نوافذ‪ :‬أدبي الرياض واثنينية النعيم يكرّمان الدكتور أحمد السالم ‪ -‬محمود الرمحي ‪........‬‬
‫‪104‬‬ ‫العِ فّة في الشعر العربي ‪ -‬منى حسن‪........................................................‬‬
‫‪109‬‬ ‫إبراهيم الخليف ذاكرة الجوف وأرشيف التعليم والتنمية ‪ -‬عبداللطيف الضويحي‪.........‬‬
‫‪109............................‬‬
‫‪109‬‬
‫‪112‬‬ ‫اكتشاف منشآت حجرية يعود تاريخها إلى ‪ 9000‬عام بجبل الظلّيات في الجوف ‪...........‬‬
‫‪114‬‬ ‫محور خاص‪ :‬إبراهيم الحسين والنافذة التي يطل بها على العالم ‪ -‬محمود الرمحي‪.........‬‬ ‫إبراهيم الخليف‬
‫‪115‬‬ ‫مع إبراهيم الحسين ‪ -‬حاوره‪ :‬عمر بوقاسم ‪.................................................‬‬
‫ذاكرة الجوف وأرشيف التعليم والتنمية‬
‫االنفعــال الشــعري مــع الوجــود وإدراكات الوعــي فــي نصــوص إبراهيــم الحســين ‪ -‬كاظــم‬
‫‪128‬‬ ‫الخليفة‪.‬‬
‫‪131‬‬ ‫إبراهيم الحسين‪ ..‬ال ُم َو ِّق ُع بوميض البرق ‪ -‬آدم فتحي‪......................................‬‬
‫‪134‬‬ ‫هل يخطئ الموتى؟ ‪ -‬عبدالوهاب أبو زيد ‪...................................................‬‬
‫‪135‬‬ ‫كتاب ناقص ‪ -‬عبداهلل السفر ‪...........................‬‬ ‫وقص ُة ٍ‬‫إبراهيم الحسين‪ ..‬صداق ٌة ّ‬
‫‪137‬‬ ‫بَرْق ُة المصافحة األولى ‪ -‬أحمد الجميد‪.....................................................‬‬
‫‪139‬‬ ‫قراءات‪ :‬عزلة الرجل الحكاء «مجموعة قصصية» ‪ -‬أحمد العودة‪..............................‬‬
‫‪114............................‬‬
‫‪114‬‬
‫‪141‬‬ ‫لكم وللتاريخ‪ ،‬تأليف د‪ .‬حمد المانع ‪ -‬عرض‪ :‬غازي خيران الملحم ‪........................‬‬
‫إبراهيم الحسين‬
‫‪144‬‬ ‫الصفحة األخيرة‪ :‬أ‪ .‬صالح القرشي ‪...........................................................‬‬
‫والنافذة التي يطل بها على العالم‬
‫■ إبراهيم بن موسى احلميد‬

‫عبدالرحمن الطيب األنصاري‪ ،‬قامة علمية‪ ،‬يشار إليه بالبنان‪ ،‬فهو من روادنا‬
‫الذين أفنوا زهرة شبابهم‪ ،‬ليس بين حقول المعرفة وحسب؛ بل إنه قد كان ينحت‬
‫أبحاثة بين الصخر والحجر‪ ،‬معفراً يديه بتراب الوطن‪ ،‬مقترباً من تاريخ بالده‬
‫العريق حد المالمسة واالنصهار‪ ،‬فأنجز عشرات الكتب واألبحاث العلمية؛ وقد‬
‫متخصصا في اللغة العربية‪ ،‬ثم انتقل متبحراً في علوم اآلثار والتاريخ‪،‬‬
‫ً‬ ‫بدأ حياته‬
‫وشهد له القاصي والداني بعلو كعبه في علوم اآلثار‪ ،‬وعُدَّ واحداً من علماء اآلثار‬
‫ال بالمجد والفخار يوم‬
‫في المملكة العربية السعودية والعالم العربي‪ .‬رحل مكلّ ً‬
‫االثنين ‪ 14‬شعبان ‪ 6( 1444‬نيسان‪/‬إبريل ‪ )2023‬بعد أن أقعده المرض بضع‬
‫سنوات‪.‬‬

‫كان العالمة الدكتور عبدالرحمن األنصاري‪ ،‬يعمل على استكشاف المواقع‬


‫األثرية في حقولها؛ من الفاو إلى الربذة‪ ،‬ومن مدينة سكاكا ودومة الجندل إلى‬
‫المدينة المنورة والعال‪ ،‬في المملكة العربية السعودية؛ وقبل ذلك على المستوى‬
‫الدولي عندما شارك مكتشفاً و باحثاً في آثار مدينة القدس والمسجد األقصى‬
‫المبارك‪ ،‬رفقة باحثين وعلماء آثار من جامعته البريطانية‪ ،‬قبل احتالل القدس‬
‫الشريف إبان حقبة السيادة األردنية على الضفة الغربية في فلسطين‪.‬‬

‫إن صــورة العالمة األنصاري ال يمكن حصرها في سيرته الذاتية‪ ،‬وكتبه‬


‫وأبحاثه التي تمأل الصفحات والكتب والمكتبات‪ ،‬بل يضاف إليها تلك البشاشة‬
‫التي كان يتسم بها‪ ،‬واالبتسامة الدائمة التي تميزه عند حديثه مع أترابه وتالميذه‬
‫بل وحتى مع من يلتقيه ألول مرة‪ ،‬وكان يغبطه عليها الكثير ممن عاشره وعمل‬

‫افتتاحية‬ ‫العدد ‪79‬‬


‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪4‬‬
‫معه أو صادفه حتى في لقاء عابر‪ ،‬فاألنصاري رغم الهالة العلمية التي كانت‬
‫تحيط به‪ ،‬ورغم تحلق المريدين حوله أينما حل أو رحل‪ ،‬ورغم المناصب التي كان‬
‫يشغلها من الجامعة إلى مجلس الشورى‪ ..‬بقي ذلك الرجل القريب من الجميع‪،‬‬
‫ال تم ُّل من حديثه‪ ،‬بل يأسرك شجو صوته الحنون‪ ،‬الذي يأتي وكأنه يلقي شعراً‬
‫في محاوراته أو محاضراته على حد سواء‪.‬‬

‫حكاية العالمة األنصاري حكاية لن تنتهيَ مع وفاته‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬فالعالم‬


‫الذي ترك ذلك الرصيد الوافر من المؤلفات والبحوث العلمية اآلثارية وكتبه في‬
‫حضارة المملكة العربية السعودية‪ ،‬وكذلك هذه السيرة العطرة التي اتسم بها‪،‬‬
‫البد أن تكون قد بنت مداميكها في النفوس والعقول‪ ،‬وفي المؤسسات الثقافية‬
‫والعلمية التي عمل فيها‪ ،‬وكان طيفه حاضراً فيها‪ ،‬فالشجرة التي تغرس جذورها‬
‫عميقاً لهيَ التي تعطي أطيب الثمر وأغزره!‬

‫لقد كان من بُعد النظر أن يبادر القائمون على مركز عبدالرحمن السديري‬
‫الثقافي إلى استقطاب العالمة الدكتور عبدالرحمن األنصاري في العام ‪١٤١٩‬هـ‬
‫(‪١٩٩٩‬م) لتأسيس مجلة أدوماتو المتخصصة بعلوم اآلثار‪ ،‬ورأس تحريرها لنحو‬
‫سبعة عشر عاماً‪ ،‬تتويجاً لعالقة قديمة ربطت العالمة األنصاري بالمركز‪،‬‬
‫فقد دأب على زيارة منطقة الجوف وإلقاء محاضراته والمشاركة في ندوات‬
‫دار الجوف للعلوم‪ .‬وال ينسى المجتمع الثقافي تلك الندوة الكبرى التي عقدت‬
‫في رحــاب المركز عام ‪ 1994‬وأعلن خاللها الدكتور األنصاري أن الحضارة‬
‫العربية بدأت من الشمال‪ ،‬ومن منطقة الجوف تحديداً‪ ..‬وليس من الجنوب كما‬
‫هو سائد‪ ،‬وأن ملكة سبأ بلقيس كانت في دومة الجندل ال في اليمن‪ .‬وحينها‬
‫خصصت الصحف‪ ،‬ومنها جريدة عكاظ‪ ،‬ندوات كبرى على صفحاتها لمناقشة‬
‫األمر‪ ،‬باستضافة مستفيضة للعالمة األنصاري وغيره من المختصين‪..‬‬

‫إنه واحد من األعالم الذين فقدتهم المملكة والعالم العربي على حد سواء‪..‬‬
‫رحم اهلل الراحل الكبير‪ ،‬وأجزل له المثوبة واألجر‪ ،‬وعفا عنه‪.‬‬

‫‪5‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫افتتاحية‬
‫رحيل العالمة د‪ .‬عبدالرحمن بن محمد الطيب األنصاري‬

‫رائد علم اآلثار بالمملكة‬


‫من أبــرز الشخصيات التي كان لها دور بــارز في إنشاء علوم اآلثــار في المملكة العربية‬
‫السعودية‪ ،‬وصاحب البصمة األولى في إدخال هذا العلم في الجامعات في المملكة‪ ،‬وأبرزها‬
‫جامعة الملك سعود‪.‬‬
‫ولد األنصاري عام ‪1935‬م‪ ،‬وأتــم دراسته االبتدائية والمتوسطة والثانوية في المدينة‬
‫الـمـنــورة‪ ،‬وابتعث إلكـمــال دراسـتــه الجامعية فــي مصر‪ ،‬فنال شـهــادة الليسانس فــي اللغة‬
‫العربية في جامعة القاهرة عام ‪1380‬هــ‪1960/‬م‪ ،‬وبعد عودته إلى المملكة‪ ،‬عمل معيد ًا في‬
‫كلية اآلداب بجامعة الملك سعود؛ ثم ابتعثته الجامعة بعد ذلــك إلــى بريطانيا إلكمال‬
‫دراساته العليا في مجال تخصصه‪.‬‬
‫ولعل العمل األهــم الــذي عــرف به البروفيسور األنـصــاري هو قيادته ألعمال التنقيب‬
‫األثري في قرية الفاو‪ ،‬جنوبي الجزيرة العربية‪ ،‬منذ العام ‪ 1972‬وحتى ‪1995‬م حينما كان‬
‫يعمل في جامعة الملك سعود‪ .‬وقد وضع خالصة تنقيباته في الفاو في كتاب عنوانه "قرية‬
‫الفاو‪ :‬صورة للحضارة العربية قبل اإلسالم"‪.‬‬
‫ومنذ عام ‪1420‬هــ‪2000( /‬م) رأس األنصاري هيئة تحرير‪ ‬مجلة "أدوماتو"‪ ‬المتخصصة‬
‫في مجال الدراسات والبحوث اآلثارية في المملكة العربية السعودية والعالم العربي‪ ،‬التي‬
‫تصدر عن مركز عبدالرحمن السديري الثقافي‪.‬‬
‫نال العديد من الجوائز واألوسمة‪ ،‬وله العديد من الكتب والمطبوعات في مجال اآلثار‬
‫قرى ظاهرة على طريق‬ ‫والحضارة السعودية‪ ،‬لعل من آخرها تلك السلسلة التي َت َت ّ َب َع فيها ً‬
‫قوافل البخور‪ ،‬المعروف بين جنوبي الجزيرة العربية وشماليها‪ ،‬صدر منها أحد عشر كتاب ًا‬
‫ترجم بعضها إلى لغات أخرى‪ ..‬من بينها كتابه عن الجوف الصادر عام ‪2008‬م ‪.‬‬
‫في هذا الملف‪ ،‬استكتبت الجوبة نخبة من أصدقاء الدكتور األنصاري‪ ،‬وتالمذته‪ ،‬الذين‬
‫عملوا معه في محافل عديدة منها‪ :‬جامعة الملك سعود‪ ،‬وأعمال التنقيب اآلثاري‪ ،‬وزمالة‬
‫عضوية مجلس الشورى السعودي‪ ..‬ليدوّنوا بأقالمهم انطباعاتهم‪ ،‬وما عرفوه عنه خالل‬
‫عملهم معه‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪6‬‬
‫ملف العدد‬

‫عبدالرحمن الطيب األنصاري‪..‬‬


‫رجل الريادة والتأسيس في اآلثار‬

‫■ ‪  ‬د‪.‬عبدالواحد احلميد*‬

‫ارتـبــط ِعـلــمُ اآلث ــار فــي ذاك ــرة أجـيــال متعاقبة‬


‫م ــن ال ـس ـعــودي ـيــن ب ــاس ــم ال ــدك ـت ــور عـبــدالــرحـمــن‬
‫الطيب األن ـصــاري‪ ،‬فلم يكن أح ــدٌ قبله يتحدث‬
‫عــن اآلثـ ــار كـعـلــم ُي ـ ــدْ رَس و ُيـ ـ ـ ـ َد َرّس وف ــق منهجيات‬
‫علمية أكاديمية؛ بل إن مجرد الحديث عن اآلثار كانت‬
‫تشوبه سابق ًا الكثير من المحاذير بسبب سوء الفهم الذي كان‬
‫دالالت هي بعض ما توارثه‬ ‫ٍ‬ ‫معشش ًا في بعض األذهان عن اآلثار‪ ،‬وما تحمله من‬
‫تهب ريــاح التغير المعرفي والعلمي‪،‬‬ ‫الـنــاس فــي ظــل االنـغــاق والـعــزلــة‪ ،‬قبل أن ّ‬
‫وانتشار التعليم وانحسار األمية‪ ،‬واالنفتاح على العالم الخارجي‪.‬‬

‫‪  ‬فعندما عاد الدكتور عبدالرحمن التي تتيحها كلية األداب لطالبها‪.‬‬


‫وشيئأ فشيئاً‪ ،‬بدأ الدكتور األنصاري‬ ‫األن ــص ــاري مــن الــبــعــثــة الــتــي أمضى‬
‫خاللها زمناً في جامعة ليدز ببريطانيا‪،‬‬
‫يؤسس لفهم جديد لمعنى وأهمية اآلثار‬
‫والتحق بجامعة الملك سعود أستاذًا في‬
‫نحو يتجاوز ما كان متعارفاً عليه‬ ‫على ٍ‬
‫كلية األداب‪ ،‬لم يكن هناك تخصص أو‬
‫في البيئة المنغلقة السابقة‪ .‬وكان قسم‬
‫قسم لألثار‪ ،‬إذ لم يكن من الــوارد في‬
‫التاريخ هو القاعدة التي انطلق منها‬
‫ذلك الزمان تخريج طالب متخصصين‬
‫ليؤسس تخصص اآلثــار‪ ،‬ثم بعد ذلك‬
‫في اآلثار بكل ما يحيط بها من شبهات‬
‫يــؤســس قسماً لــآثــار والمتاحف في‬
‫ومخاوف‪ ،‬ولم يكن سوق العمل مهيئاً‬
‫كلية األداب؛ وقد كان ذلك فتحاً كبيراً‪،‬‬
‫لتوظيف خريجي مثل هذا التخصص‪.‬‬
‫وإيــذان ـاً بعهد جديد تشهده الساحة‬
‫ورغــم ذلــك ســارع الدكتور األنــصــاري‬
‫األكاديمية السعودية‪.‬‬
‫إلــى تأسيس جمعية التاريخ واآلث ــار‪،‬‬
‫ف ــي الــجــامــعــة‪ ،‬انــطــلــق الــدكــتــور‬ ‫يحدوه األمــل بأن تكون هذه الجمعية‬
‫ن ــواة ينبعث منها االهــتــمــام بــاآلثــار‪ ،‬األنــصــاري بحماسة في مجال العمل‬
‫ويتبلور ذلك االهتمام بأن تصبح اآلثار األكاديمي‪ ،‬ليس فقط بوصفه أستاذاً‬
‫تخصصاً أكاديمياً ضمن التخصصات يمارس التدريس وإجراء البحوث‪ ،‬وإنما‬

‫‪7‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫أيضاً كإداري أكاديمي؛ فقد تولى رئاسة قسم الجزيرة العربية‪ ،‬وطرق التجارة بين المراكز‬
‫التاريخ ورئاسة قسم اآلثار ووكالة عمادة كلية الحضرية الــتــي كــانــت قائمة فــي األزمــنــة‬
‫األداب‪ ،‬وعمادة الكلية‪ ،‬واإلشراف على مركز الغابرة‪.‬‬
‫وق ــد مـــارس الــدكــتــور األن ــص ــاري دوراً‬ ‫خدمة المجتمع والتعليم المستمر بالجامعة‪،‬‬
‫وكان حريصاً في كل تلك المواقع اإلداريــة توعوياً‪ ،‬خــارج إطــار عمله األكاديمي‪ ،‬من‬
‫األكاديمية على تطوير األداء‪ ،‬متسلحاً بما خالل المحاضرات والندوات التي أقامها أو‬
‫اكتسبه من معارف في دراســتــه بالخارج‪ ،‬شارك فيها للتعريف بآثار الجزيرة العربية‪.‬‬
‫ومستفيداً من تراكم تجاربه في المواقع فــكــان لــه حــضــو ٌر مشهود فــي الملتقيات‬
‫الثقافية واالجتماعية‪ ،‬وكــان يوظف هذه‬ ‫المختلفة‪.‬‬
‫الملتقيات لنشر الوعي بأهمية اآلثار‪ ،‬وبما‬ ‫ولم ينغلق الدكتور األنصاري على نفسه‬
‫تختزنه بالدنا منها‪ ،‬وما ينبغي علينا جميعاً‬ ‫برج عاجيٍّ في دنيا األكاديميا‪ ،‬بل خرج‬ ‫في ٍ‬
‫أن نقوم به تجاه هــذا اإلرث اآلثــاري حتى‬ ‫إلى الميدان‪ .‬منقِّباً في المواقع األثرية في‬
‫لو لم نكن من علماء اآلثــار‪ .‬وكان كثيراً ما‬ ‫مختلف مناطق المملكة‪ ،‬وكاشفاً عن كنوزها‬
‫يكتب في الصحف عن ذلك‪ ،‬وكذلك يدلي‬ ‫اآلثارية التي ظلت على مدى قــرون طويلة‬
‫بتصريحات لوسائل اإلعالم المختلفة‪.‬‬ ‫مــطــمــورة وبــعــيــدة عــن األعــيــن‪ ،‬حــتــى ظن‬
‫وقــد تــعــرفــتُ على الــدكــتــور األنــصــاري‬ ‫كثيرون أن هذه الجزيرة العربية ليست إ ّالَ‬
‫م ــن خـ ــال بــعــض الــفــعــالــيــات الــثــقــافــيــة‬ ‫بحاراً من الرمال‪ ،‬ولم تشهد حضارات ذات‬
‫فــي المهرجان الــوطــنــي لــلــتــراث والثقافة‬ ‫شأن‪ ،‬وأن كل ما يرِ د من كتابات متناثرة في‬
‫(الجنادرية) بالرياض‪ ،‬ومنتديات دار العلوم‬ ‫بعض الكتب القديمة عن ممالك غابرة في‬
‫بــالــجــوف (مــركــز عــبــدالــرحــمــن الــســديــري‬ ‫شبه الجزيرة العربية ما هو إ ّالَ أساطير ال‬
‫الثقافي الحــق ـاً)‪ ،‬لكن معرفتي اللصيقة‬ ‫يوجد ما يثبت وجودها على أرض الواقع!‬
‫به كانت عندما زاملته في الــدورة الثانية‬ ‫قــادتــه أبــحــاثــه إل ــى مــوقــع قــريــة الــفــاو‬
‫مــن مجلس ال ــش ــورى‪ ،‬حــيــث كــانــت تجري‬ ‫التاريخية عاصمة مملكة كِ ــنــدة‪ ،‬الواقعة‬
‫النقاشات تحت قبة المجلس‪ ،‬ثم اشتراكنا‬ ‫إلــى الجنوب الغربي مــن مدينة الــريــاض؛‬
‫في عضوية بعض لجان المجلس‪ ،‬فعرفت‬ ‫فترأس فريقاً علمياً للتنقيب في آثار القرية‬
‫الكثير مــن اهتمامات الدكتور األنــصــاري‬ ‫التاريخية‪ ،‬وتوالت أعمال التنقيب على مدى‬
‫التي لم تكن مقتصرة على التاريخ واآلثار‪،‬‬ ‫عــدة مــواســم‪ ،‬فكانت االكتشافات مذهلة‪،‬‬
‫وإنما كانت تتجاوز ذلك إلى قضايا الشأن‬ ‫وتبين أن منطقة الفاو كانت عامرة باألسواق‬
‫الــعــام‪ ،‬وقضايا الثقافة بمعناها الــواســع‪.‬‬ ‫والمعابد والمساكن‪ ،‬ود ّلَ ــت األدوات التي‬
‫وقد جمعتنا‪ ،‬خالل عضويتنا في المجلس‬ ‫عُثر عليها على مدى التحضر الذي شهدته‬
‫أثناء تلك الدورة‪ ،‬لقاءات جانبية مع زميلنا‬ ‫تلك المنطقة‪ ،‬بما يكفي إلعادة كتابة تاريخ‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪8‬‬
‫ملف العدد‬

‫رئيس مجلس إدارة مركز السديري الثقافي‪ ،‬فيصل بن عبدالرحمن السديري يكرم د‪ .‬عبدالرحمن الطيب االنصاري رحمه اهلل خالل منتدى‬
‫عبدالرحمن السديري للدراسات السعودية‪ ،‬المنعقد بدار العلوم بالجوف‪ ،‬عام ‪1434‬هـ (‪2012‬م)‪ ،‬وإلى اليمين د‪ .‬سلمان بن عبدالرحمن السديري‪.‬‬

‫مــن الــدكــتــور زي ــاد والــدكــتــور عبدالرحمن‬ ‫في المجلس الدكتور زياد بن عبدالرحمن‬
‫األنصاري واألستاذ علي الراشد والدكتور‬ ‫السديري‪ ،‬وكنا نناقش بعض أنشطة دار‬
‫سليمان الجريد وكاتب هذه السطور‪ .‬وفي‬ ‫العلوم بالجوف (مركز عبدالرحمن السديري‬
‫النهاية‪ ،‬تمخضت هذه النقاشات عن فكرة‬ ‫الثقافي)‪ ،‬فانبثقت فكرة إصدار مجلة فكرية‬
‫إصدار مجلة تعنى باآلثار‪ ،‬وهو ما يتناسب‬ ‫محكّمة عن المركز بدالً من مشروع آخر لم‬
‫مع طبيعة منطقة الجوف الغنية بالمواقع‬ ‫يُكتب له أن يرى النور‪ ،‬وهو إصــدار مجلة‬
‫األثرية‪ .‬وكــان من الطبيعي أن يتم اختيار‬ ‫باسم مجلة "الجوف" بعد أن توقفت مجلة‬
‫الدكتور األنصاري لرئاسة تحرير المجلة‬ ‫"الجوبة" عند العدد رقــم ‪ 13‬الــذي صدر‬
‫التي سُ مِّيت "أدومــاتــو"‪ ،‬وهــو من األسماء‬ ‫بــتــاريــخ أكــتــوبــر ‪1997‬م الــمــوافــق جمادى‬
‫التاريخية القديمة لدومة الجندل بالجوف‪.‬‬ ‫اآلخرة ‪1418‬هـ‪ ،‬والذي شارك فيه الدكتور‬
‫واســتــمــر الــدكــتــور األن ــص ــاري فــي رئــاســة‬ ‫األنصاري بكتابة مقال بعنوان "تاريخ الجزيرة‬
‫تحريرها وإثرائها وتوثيق العالقات بينها‬ ‫العربية القديم‪ :‬دعــوة إلى البناء"‪ ،‬وبــإدارة‬
‫وبين كبار اآلثاريين السعوديين والعرب حتى‬ ‫ندوة بعنوان "الحضارات القديمة في شمال‬
‫العدد رقم ‪ 35‬الذي صدر في يناير ‪2017‬م‬ ‫وشمالي غرب الجزيرة العربية منذ العصور‬
‫عندما حالت ظروفه الصحية عن االستمرار‬ ‫الحجرية وحتى عــام ‪570‬م"‪ .‬وقــد شــارك‬
‫في رئاسة تحريرها‪ ،‬فانتقلت الرئاسة إلى‬ ‫في تلك النقاشات التي تطورت وأصبحت‬
‫الدكتور خليل بن إبراهيم المعيقل الذي كان‬ ‫تتم في مكتب الدكتور زيــاد السديري كل‬

‫‪9‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫وف ــي ذل ــك الــحــفــل‪ ،‬اســتــرجــع الــدكــتــور‬ ‫عضواً في هيئة تحريرها مع الدكتور عبداهلل‬
‫األنــصــاري بعض ذكرياته عندما عــاد في‬ ‫بن محمد الشارخ والدكتور محمد بن سلطان‬
‫عــام ‪1966‬م إلــى أرض الوطن من جامعة‬ ‫العتيبي‪ .‬ومن حسن الطالع أن مجلة الجوبة‪،‬‬
‫ال‬
‫ليدز بعد حصوله على درجة الدكتوراه قائ ً‬ ‫التي كانت قد توقفت عن الصدور في ذلك‬
‫إنه كانت تحدوه آما ٌل عظام‪ ،‬وإنه يتمنى أن‬ ‫الوقت عادت بعد ذلك لتستأنف صدورها‬
‫يتاح للمرأة "دخول قسم اآلثــار‪ ،‬ليس فقط‬ ‫بتاريخ يناير ‪2006‬م الموافق محرم ‪1427‬هـ‬
‫لتدرس نصوصاً تاريخية‪ ،‬ولكن لكي تنقب‬ ‫في عددها الذي حمل الرقم ‪.14‬‬
‫عن اآلثار‪ .‬فالمرأة أصبر على التنقيب في‬
‫وتقديراً لمكانة الدكتور األنصاري‪ ،‬اختاره‬
‫طبقات األرض من الرجل الــذي يم ّل وقد‬
‫منتدى األمير عبدالرحمن بن أحمد السديري‬
‫ال يتحمل‪ ،‬ولكن الــمــرأة تتحمل وتستطيع‬
‫أن تقوم بهذا العمل"‪ .‬وقــد َمل َك الدكتور‬ ‫للدراسات السعودية أن يكون الشخصية‬
‫عبدالرحمن األنصاري الشجاعة أن يعبر‬ ‫المكرمة للمنتدى فــي دورتـــه الــســادســة‪،‬‬
‫عن رأيه في دخول المرأة مجال اآلثار في‬ ‫المنعقدة عــام ‪1434‬هـــ ‪2012‬م‪ ،‬التي كان‬
‫ذلك الوقت الــذي لم تكن الظروف مواتية‬ ‫عنوانها "آثــار المملكة العربية السعودية‪:‬‬
‫حين قــال‪" :‬أشعر أن كثيراً ممن يستمعون‬ ‫إنقاذ ما يمكن إنــقــاذه"‪ ،‬وقــد قدمه رئيس‬
‫إليَّ ال يرغبون في ذلك‪ ،‬ولكن أشعر أيضاً‬ ‫مجلس إدارة مؤسسة عبدالرحمن السديري‬
‫أن المرأة تستطيع وتستطيع وتستطيع"‪ .‬وقد‬ ‫الــخــيــريــة (مــركــز عــبــدالــرحــمــن الــســديــري‬
‫تحققت آمال الدكتور األنصاري بعد سنوات‬ ‫الثقافي) األمــيــر فيصل بــن عبدالرحمن‬
‫من تلك الكلمة التي ألقاها في قاعة دار‬ ‫السديري بقوله إن "هيئة المنتدى اختارت‬
‫العلوم بمركز عبدالرحمن السديري الثقافي‬ ‫عالماً ســعــوديـاً ليكون شخصية المنتدى‬
‫بالجوف‪ ،‬وأصبح بوسع الــمــرأة السعودية‬ ‫ال ــذي يُــكــرم فــي ه ــذا الــحــفــل‪ ،‬وه ــو مثال‬
‫أن تــدرس اآلثــار في الجامعات السعودية‬ ‫للعالِم الذي بذل الكثير من الجهد والوقت‬
‫وتتخصص فيها‪ ،‬وتــشــارك أخــاهــا الرجل‬ ‫في سبيل خدمة قطاع اآلثــار في المملكة‪،‬‬
‫في الكشف عن الكنوز اآلثارية التي تضمها‬ ‫أســتــاذاً جامعياً‪ ،‬وبــاحــثـاً مــيــدانــيـاً‪ ،‬منقباً‬
‫بالدنا في جميع مناطقها‪.‬‬ ‫ومكتشفاً وموثقاً ومؤلفاً للعديد من الكتب‬
‫رحـ ــم اهلل ال ــع ــا ِل ــم الــكــبــيــر‪ ،‬الــدكــتــور‬ ‫والمطبوعات في مجال اآلثــار والحضارة‬
‫عبدالرحمن الطيب األنصاري‪ ،‬وجزاه خير‬ ‫السعودية"‪ .‬وفي حفل التكريم‪ ،‬الذي أ ُلقِ يَتْ‬
‫الجزاء على ما بذله من جهود عظيمة في‬ ‫خالله العديد من الكلمات‪ ،‬كان تأثر الدكتور‬
‫مجال اآلث ــار‪ ،‬والتعليم الجامعي‪ ،‬والفكر‬ ‫األنصاري بالغاً‪ ،‬إذ علَّق قائالً‪ ":‬لم أستطع أن‬
‫والثقافة‪ ،‬وما قدّمه لوطنه من عطاءات في‬ ‫أمسك نفسي من أن تنزل دمعاتٌ من عيني‬
‫مختلف المجاالت‪.‬‬ ‫في هذه المناسبة!"‪.‬‬
‫اقتصادي‪ ،‬وكاتب سعودي‪.‬‬ ‫* ‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪10‬‬
‫ملف العدد‬

‫األستاذ الدكتور عبدالرحمن األنصاري في ذمة اهلل‬

‫■ د‪ .‬خليل بن إبراهيم املعيقل*‬

‫في يوم االثنين ‪ 14‬شعبان ‪1444‬هـ الموافق ‪6‬‬


‫مارس ‪2023‬م فقد الوسط األكاديمي في المملكة‬
‫العربية الـسـعــوديــة واح ــد ًا مــن أع ــام اآلث ــار في‬
‫المملكة والعالم العربي‪ ،‬ومــن أقــدم األكاديميين‪،‬‬
‫ومــن أوائــل مــن حصلوا على درجــة الــدكـتــوراة فــي علم‬
‫اآلثار في عام ‪1386‬هـ ‪1966 -‬م‪.‬‬
‫سعود؛ فبدأ بتأسيس جمعية التاريخ‬ ‫ت ــخ ــرج ال ــدك ــت ــور األنــــصــــاري في‬
‫واآلثار بقسم التاريخ عام ‪1966‬م‪ ،‬في‬ ‫جامعة القاهرة في مرحلة البكالوريس‬
‫السنة نفسها التي عاد بها من االبتعاث‪،‬‬ ‫متخصصا في اللغة العربية عام ‪1960‬م‪،‬‬
‫وكانت هذه الجمعية هي التي التحق بها‬ ‫وعــاد إلــى أرض الــوطــن‪ ،‬وعين معيداً‬
‫بعض زمالء الدكتور األنصاري وطالبه‪.‬‬ ‫بقسم اللغة العربية بكلية األداب‪ ،‬وفي‬
‫وبــدأت تلك الجمعية تعنى باآلثار في‬ ‫العام التالي ابتعث لدراسة الدكتوراة‬
‫المملكة من خالل الزيارات الميدانية‬ ‫في جامعة ليدز بإنجلترا‪ ،‬وأثناء دراسة‬
‫التي تقوم بها لمواقع اآلثار في مناطق‬ ‫السنة األولى التمهيدية قرر األنصاري‬
‫المملكة المختلفة‪ ،‬وب ــدأت الجمعية‬ ‫دراســـة الــكــتــابــات الــدادانــيــة‪ ،‬فــدرس‬
‫بجمع القطع األثرية التي تهدى لها‪،‬‬ ‫نقوش مملكة دادان في العُال‪ ،‬وحصل‬
‫وكانت تلك القطع تعرض في أروقة كلية‬ ‫عــلــى درجـــة الــدكــتــوراة فــي دراســـات‬
‫اآلداب‪ ،‬وشكلت بداية االهتمام بإقامة‬ ‫النقوش السامية‪.‬‬
‫أول متحف لألثار في المملكة العربية‬ ‫عاد عام ‪1966‬م إلى أرض الوطن‪،‬‬
‫السعودية‪.‬‬ ‫وعين أستاذاً مساعداً في قسم التاريخ‬
‫ف ــي عـ ــام ‪1962‬م شـ ــرع الــدكــتــور‬ ‫بجامعة الملك ســعــود‪ .‬إال إن شغف‬
‫األن ــص ــاري بــاآلثــار والــتــاريــخ القديم األنصاري وتحت مظلة جمعية التاريخ‬
‫وجهه إلى بداية تأسيس بنية أكاديمية واآلثار ببداية أول وأهم مشروع تنقيب‬
‫لــلــدراســات اآلث ــاري ــة بجامعة الملك في المملكة‪ ،‬في موقع الفاو(قرية ذات‬

‫‪11‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫توطدت عالقتي بالدكتور األنصاري خالل‬ ‫كهل)‪ ،‬وقد أماطت أعمال التنقيب اللثام عن‬
‫دراستي لمرحلة البكالوريس‪ ،‬وبعد تخرجي‬ ‫موقع أثري ومدينة قديمة يعود تاريخها إلى‬
‫عام ‪1983‬م تم تعييني معيداً بالقسم‪ ،‬وبدأت‬ ‫فترة القرن أألول قبل الميالد إلــى القرن‬
‫مرحلة البحث عن قبول لدراسة الماجستير‬ ‫الرابع الميالدي‪ ،‬والتي كانت عاصمة لدولة‬
‫والدكتوراة‪ ،‬كان رحمه اهلل شديد الحرص‬ ‫كندة‪.‬‬
‫على إرسال المعيدين إلى أفضل الجامعات‪،‬‬ ‫في عام ‪1978‬م أسس الدكتور األنصاري‬
‫وابرز أساتذة اآلثار في العالم‪ ،‬وكان يحرص‬ ‫قــســم اآلثـ ــار والــمــتــاحــف‪ ،‬وأصــبــح رئيساً‬
‫على ابتعاث المعيدين إلــى دول مختلفة‪،‬‬ ‫للقسم حتى عام ‪1988‬م‪ ،‬حيث تولى القسم‬
‫بــهــدف تنويع الــمــدارس العلمية‪ ،‬وتكوين‬ ‫بقيادة األنــصــاري تأسيس مــدرســة أثارية‬
‫عــاقــات علمية مــع جــمــيــع األق ــس ــام في‬ ‫سعودية خرّجت عــدداً كبيراً من الطالب‬
‫الجامعات‪ ،‬لذلك حرص أن يطبق هذا المبدأ‬ ‫المتخصصين بعلوم اآلثار المختلفة‪ ،‬وتوسع‬
‫على مجموعتنا من المعيدين‪ ،‬وكنا خمسة‪..‬‬ ‫القسم في أعمال التنقيب في موقع الفاو‪،‬‬
‫ابتعثت انا إلى جامعة درم بإنجلترا‪ ،‬والزميل‬ ‫وأضيف إليه موقع الربذة الذي يعود للعصر‬
‫الــدكــتــور عبدالعزيز الــغــزي إلــى أمريكا‪،‬‬ ‫اإلســامــي‪ ،‬وأصبح تخصص اآلثــار يدرس‬
‫والــدكــتــور عــبــداهلل العمير إلــى إسبانيا‪،‬‬ ‫بالقسم من خالل مسارين أحدهما لألثار‬
‫والدكتور حميد المزروع إلى بريطانيا‪ ،‬أما‬ ‫القديمة‪..‬‬
‫الزميل الخامس فلم يباشر العمل وانسحب‬
‫في صيف عام ‪1400‬هـــ‪ ،‬بدأت معرفتي‬
‫من الترشيح‪.‬‬
‫بالفقيد األنــصــاري‪ ،‬حيث تقدمتُ للقبول‬
‫هــذا التوجه الــذي كــان يتبناه الدكتور‬ ‫بــهــذا الــقــســم الــجــديــد‪ ،‬وك ــان مــن شــروط‬
‫األنصاري مارسه مع المعيدين الذين سبقونا‬ ‫القبول إجراء مقابلة شخصية للمتقدم‪ ،‬وكان‬
‫ومــع مــن جــاء بعدنا‪ ،‬وقــد أثمر بعد عــودة‬ ‫رحمه اهلل يــرأس لجنة المقابلة‪ ،‬ويحرص‬
‫المعيدين وحصولهم على درجة الدكتوراة‪،‬‬ ‫على اختيار الطالب الذين لديهم الرغبة في‬
‫فتميز قسم اآلثار بهذا التنوّع‪ ،‬وبالمدارس‬ ‫دراسة هذا العلم الجديد‪ .‬كانت لجنة المقابلة‬
‫العلمية المختلفة التي أسهمت في تميز‬ ‫برئاسة الدكتور األنصاري‪ ،‬وعضوية الدكتور‬
‫القسم وبناء عالقات علمية قوية مع جميع‬ ‫وفيق غنيم‪ ،‬والدكتور غانم وحيدة‪ .‬كان أول‬
‫الجامعات العالمية‪.‬‬ ‫سؤال وجه لي من قبل الدكتور األنصاري‪،‬‬
‫بــعــد حــصــولــي عــلــى درجـ ــة الــدكــتــوراة‬ ‫لماذا ترغب دراسة اآلثار‪ ،‬فأجبته إنني قادم‬
‫وعــودتــي إلــى قسم اآلثــار وتعييني أستاذاً‬ ‫من الجوف ذات اإلرث الحضاري‪ ،‬وأود أن‬
‫مساعداً‪ ،‬توثقت عالقتي بأستاذي الدكتور‬ ‫أدرس اآلثار لخدمة وطني واالهتمام بأثار‬
‫عبدالرحمن األنــصــاري من خــال الزمالة‬ ‫الجوف‪ .‬فرد األنصاري‪ ،‬ما دام لديك هذا‬
‫في القسم‪ ،‬والمشاركة في أعمال التنقيب‬ ‫الوعي فأهال بك في قسم اآلثار‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪12‬‬
‫ملف العدد‬
‫األثري في موقع الربذة‪ ،‬وزيارة موقع الفاو‪2017 .‬م‪ ،‬عندما تخلى عن رئاسة التحرير‬
‫كان رحمه اهلل قريباً من الجميع‪ ،‬وكنا نرى بسبب مرضه‪ .‬وخالل تلك الفترة‪ ،‬عملت مع‬
‫فيه األب الروحي الذي يرعى جميع منسوبي أستاذي الدكتور األنصاري في إدارة تحرير‬
‫المجلة‪ ،‬وكنا نلتقي عدة مرات في الشهر‪،‬‬ ‫قسم اآلثار من األساتذة والموظفين‪.‬‬
‫كان يعاملنا بعد العودة من البعثة كزمالء‪ ،‬وقــد أكسبتني تلك الــلــقــاءات معرفته عن‬
‫ولــم يشعرنا أننا كنا طالبه فــي القاعات قرب‪ ،‬وكان يمنحني وزميلي الدكتور عبداهلل‬
‫الــدراســيــة وفــي ميادين التنقيب األث ــري‪ ،‬الشارخ مساحة كبيرة للقيام بأعمال التحرير‪،‬‬
‫وعــمــل عــلــى تمكيننا مــن مــفــاصــل العمل وإبداء الرأي فيما يطرح على هيئة التحرير‬
‫األكاديمي‪ ،‬وإتاحة الفرصة للجميع للوصول من أبحاث مقدمة للنشر‪ ،‬وكان يطلب منا‬
‫للمواقع القيادية على مستوى القسم والكلية‪،‬‬
‫إبداء الرأي عن مواضيع تلك األبحاث ومدى‬
‫وهذه صفات الكبار من األساتذة الذين يرون‬
‫مالءمتها للنشر‪ ،‬واقتراح أسماء المحكمين‪.‬‬
‫في هذا التوجه دفعاً لمشروعهم الوطني‪،‬‬
‫العمل مع الدكتور األنصاري في تحرير‬ ‫والمتمثل في خلق مدرسة أثارية سعودية‬
‫أسهمت في تحقيق أهــداف الدولة‪ ،‬لصون مجلة أدوماتو ‪ -‬خالل السبعة عشر عاماً‬
‫التراث الوطني‪ ،‬وحمايته‪ ،‬ودراسته‪ ،‬ونشرة‪ .‬التي تــرأس فيها هيئة التحرير‪ -‬أكسبني‬
‫المرحلة الثالثة من عالقتي بأستاذي خبرة عملية واسعة‪ ،‬وقدرة على إدارة تحرير‬
‫الــدكــتــور عــبــدالــرحــمــن األن ــص ــاري تمثلت المجلة بعد أن ترجّ ل عن رئاسة تحريرها‪.‬‬
‫إن غياب األستاذ الدكتور عبدالرحمن‬ ‫بترشيحي لــعــضــويــة هيئة تــحــريــر مجلة‬
‫أدوماتو‪ ،‬بالتوافق بينه وبين سعادة الدكتور األنــصــاري عن المشهد اآلث ــاري السعودي‬
‫زياد بن عبدالرحمن السديري‪ ،‬مدير عام‬
‫والــعــربــي س ــوف يــتــرك فــراغ ـاً ال يــع ـوّض‪،‬‬
‫مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية‪،‬‬
‫وسوف يظل أستاذنا حاضراً بيننا من خالل‬
‫حيث عملت أنــا والزميل الدكتور عبداهلل‬
‫إرثه العلمي الذي يتمثل في كتبة التي تزيد‬
‫الشارخ مع الدكتور األنصاري في التحضير‬
‫عن الثالثين كتاباً‪ ،‬وبحوثه العلمية التي تزيد‬
‫لصدور مجلة أدوماتو تحت مظلة مؤسسة‬
‫كذلك عن الخمسين بحثاً‪.‬‬ ‫عبدالرحمن السديري‪ ،‬وبدعم كامل منها‪.‬‬
‫رحم اهلل الدكتور عبدالرحمن األنصاري‬ ‫رأس الــدكــتــور عبدالرحمن األنــصــاري‬
‫تحرير مجلة أدومــاتــو منذ ص ــدور العدد رحمة واسعة‪ ،‬وأدخله فسيح جناته‪ ،‬وجعل‬
‫علم صدقة جارية له إلى‬
‫األول في شهر يناير عام ‪2000‬م حتى العدد كل ما قدمة من ٍ‬
‫الخامس والثالثين الــذي صــدر في يناير يوم الدين‪.‬‬
‫رئيس جامعة حائل سابقا‪.‬‬ ‫* ‬

‫‪13‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫لم‬
‫ع ٌ‬‫مو َ‬
‫األنصاري عا ِل ٌ‬

‫■ د‪ .‬سعد بن عبدالعزيز الراشد*‬


‫إ َن حديثي عــن الفقيد الــراحــل الدكتور عبدالرحمن‬
‫الـطـيــب األن ـص ــاري مـبـنــيّ عـلــى صـلــة وثـيـقــة بــه (رحـمــه‬
‫اهلل) من العام الذي عاد فيه من بريطانيا‪ ،‬بعد حصوله‬
‫على درج ــة الــدكـتــوراه فــي الكتابات والـنـقــوش السامية‪،‬‬
‫وهــي عالقة أستاذ بتلميذه‪ ،‬والــوالــد بولده‪ ،‬واألخ بأخيه‪،‬‬
‫والصديق بصديقه‪ ،‬أصبح بعد ذلــك زمـيـ ًا لــه‪ ،‬ورفـيــق درب‬
‫على مدى سنوات‪.‬‬
‫المملكة منتهى الرقي لنكون في مصاف األمم‬ ‫األن ــص ــاري‪ ،‬واح ــد مــن أوائـــل المبتعثين‬
‫الراقية إن لم نكن قادة للعروبة»‪ ،‬ومما قاله‬ ‫السعوديين الــعــائــديــن للمملكة بشهاداتهم‬
‫أيضاً «كما ال تنس من أن تجعل من مملكتنا‬ ‫العليا‪ ،‬كان لديهم أمنيات وطموحات الزمتهم‪،‬‬
‫باباً مفتوحاً لــرواد العلم ينتهلون من ألــوان‬ ‫وهم في مراحل دراساتهم المبكرة في مكة‬
‫الثقافة على أوسع نطاق مما لذ وطاب‪ ،‬وذلك‬ ‫المكرمة‪ ،‬أو المدينة المنورة‪ ،‬أو الطائف أو‬
‫ال يتأتى إال مَتىَ ُفتِحتْ المعاهد والثانويات في‬ ‫جدة بوابة الحرمين‪ .‬كانوا يتطلعون أن يكون‬
‫ُتحتْ الجامعات متمشية‬ ‫كل مدينة وقرية‪ ،‬وف ِ‬ ‫فــي بــادهــم جامعة‪ ،‬وتحققت أحالمهم مع‬
‫في منهجها على هدف‪ ،‬هو نفع الوطن أوالً‪،‬‬ ‫إنشاء وزارة المعارف في عام ‪1373‬هـ‪ ،‬وتعيين‬
‫والعروبة ثانياً‪ ،‬وإنّا يا موالي ينقصنا كون بنات‬ ‫المغفور له خادم الحرمين الشريفين الملك‬
‫حواء لم يكن لهنّ من مناهل العلم رائد وال من‬ ‫فهد بن عبدالعزيز‪-‬أول وزير لها‪.‬‬
‫مستقى العلم مأرب‪ ...‬إذ أن معظمهم السواد‬ ‫وفي تلك المناسبة خصص المعهد العلمي‬
‫من هذا الجنس ال يفهمن من أمور دينهن‪ .‬ومن‬ ‫السعودي (تأسس عــام ‪1367‬ه ـــ (‪1948‬م)‪،‬‬
‫المتوقع في عهدكم‪ ...‬أن ينشر التعليم بينهن‬ ‫حصة التعبير ليكتب التالميذ رســالــة إلى‬
‫لكي ننشئ فتاة صالحة للوطن والعروبة‪...‬‬ ‫سمو الوزير مهنئين ومعبرين عما يجيش في‬
‫وأنــه بــإعــدادنــا لــأم‪ ،‬إع ــداد لشعب‪ ،‬وهكذا‬ ‫خواطرهم وتطلعاتهم من سموه‪ ،‬فكان أن كتب‬
‫نكون قد ارتقينا مرتقى صعباً بكل شهامة‬ ‫األنصاري رسالة مؤرخة في (‪1373/5/29‬هـ)‬
‫وخطى ثابتة بفضل توجيهاتكم‪ ،‬وما ذلك إال‬ ‫الموافق (‪ 3‬فبراير‪1954‬م)‪ ،‬جميلة في أسلوبها‬
‫إذا قبضتم على دفة األمــور بيد كلها إيمان‬ ‫ومضمونها‪ ،‬ومما قاله في رسالته «إنــك يا‬
‫وثبات وقــوة وشجاعة وجــأش؛ لتحقق بذلك‬ ‫صاحب السمو محط الرجاء‪ ،‬ومناط األمل في‬
‫ثقة المليك المفدى‪ ،‬وتــؤدي واجــب الشعب‪،‬‬ ‫تأدية رسالتك على أطيب (وجه) تبلغ فيه هذه‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪14‬‬
‫ملف العدد‬
‫آخر‪ ،‬حتى اكتظت بعدد األقسام في مختلف‬ ‫وتؤكد آمال األمة‪ .‬وفقكم اهلل في ظل العاهل‬
‫العلوم‪ ،‬وكــان الهدف أن يكون في كل قسم‬ ‫المفدى‪ ،‬وأدام سموكم راعياً للنهضة الحديثة‬
‫نواة من السعوديين تكون مهمتها ليس فقط‬ ‫المباركة»‪.‬‬
‫التدريس‪ ،‬ولكن معرفة الكفاءات التي يستعان‬ ‫ولعل ما كتبه األنصاري يعبر عن لسان حال‬
‫بــهــا فــي كــل قــســم‪ ،‬فنجحت ه ــذه الخطة‪،‬‬ ‫زمالئه الــذي يجسد الوعي والطموح لجيل‬
‫وتطورت مع تطور الجامعة التي أصبحت من‬
‫نشأ مع اكتمال كيان الوطن‪ ،‬المملكة العربية‬
‫أرقى الجامعات‪.‬‬
‫السعودية‪ ،‬وإرس ــاء وحــدتــه‪ ،‬وبــدايــة النهضة‬
‫تــولــى الــدكــتــور األنــصــاري تــدريــس تاريخ‬ ‫التنموية‪.‬‬
‫الجزيرة العربية القديم‪ ،‬والتاريخ اإلسالمي‬
‫وجاءت البشائر بصدور األمر الملكي رقم‬
‫المبكر‪ .‬كانت أول محاضرة سمعتها منه‪-‬‬
‫(‪ 17‬وتاريخ ‪ 21‬ربيع الثاني ‪1377‬هـــ) بإنشاء‬
‫بــدون اســتــئــذان‪ -‬غـيَــرتْ مسار دراســتــي في‬
‫جامعة الملك سعود‪ .‬لكن الدكتور األنصاري‬
‫مرحلة البكالوريوس‪ .‬وبعد انتهاء المحاضرة‬
‫كان قد ابتعث لمصر لدراسة اللغة العربية‬
‫وقفت في الخارج ريثما يغادر القاعة‪ ،‬قلت‬
‫فــي كلية اآلداب بجامعة القاهرة (‪-1376‬‬
‫له يا دكتور عبدالرحمن أرغــب في االنتقال‬
‫‪1380‬هـ) الموافق (‪1960-1856‬م) ويعود إلى‬
‫من الجغرافيا إلــى قسم التاريخ‪ .‬رحــب بي‬
‫أرض الوطن معيداً في كلية اآلداب في جامعة‬
‫أجمل ترحيب‪ ،‬وبعد أن تبين له مدى جديتي‬
‫الملك سعود‪.‬‬
‫واف ــق على انضمامي لقسم الــتــاريــخ‪ .‬فقد‬
‫كانت كلية اآلداب قد استقرَتْ في مدرسة‬
‫أســرنــي حــديــثــه فــي مــحــاضــراتــه‪ ،‬وأســلــوبــه‬
‫المميز في سرد األحداث التاريخية المطعمة‬ ‫بنيت على الطراز الحديث ‪-‬في حي الملز‪-‬‬
‫وجَ ــمــعــتْ على صغرها الــفــصــول الــدراســيــة‬
‫بلمسات مــن الــحــضــارة واآلثـ ــار‪ .‬كــان تطرق‬
‫واإلدارة ومسكن الــطــاب‪ ،‬لــدرجــة أن أول‬
‫إلــى الــرحــالــة الغربيين مــن إنجليز وألــمــان‬
‫وفرنسيين ومؤلفاتهم‪ ،‬وعــرج على الكتابات‬ ‫عميد لها (األســتــاذ مصطفى السقا‪ ،‬رحمه‬
‫العربية القديمة وأشكال حروفها‪ ،‬ومضامين‬ ‫اهلل)‪ ،‬كان يذهب إلى غرفة الطالب المتأخر‬
‫نصوصها‪ .‬بدأنا نستوعب بالتدريج الخط‬ ‫في النوم ليوقظه ويحثّه على الدراسة‪ .‬وبدأت‬
‫الجامعة بعدد قليل من الطالب ال يزيد عن‬
‫المسند الــجــنــوبــي والــشــمــالــي‪ ،‬والــكــتــابــات‬
‫واحد وعشرين طالباً‪ ،‬وحسب ما رواه معالي‬
‫الــدادانــيــة واللحيانية‪ ،‬واآلرامــيــة والنبطية‪،‬‬
‫والمخربشات (الجرافيتية) التي أطْ لق عليها‬ ‫الدكتور عبدالعزيز الخويطر (رحمه اهلل) أمين‬
‫كتابات البادية‪ ،‬والتي شاع اسمها في كتابات‬ ‫عام الجامعة آنذاك‪« ،‬أنه لما قيل لسمو األمير‬
‫(الملك فهد) وزير المعارف حينئذ إنه ال يصبح‬
‫المستشرقين باسم (الثمودية)‪.‬‬
‫كان األنصاري يظل واقفاً أمامنا طوال مدة‬ ‫اقتصادياً افتتاح جامعة لواحد وعشرين طالباً‪،‬‬
‫قال إننا نزرع نخلة لتظلل غداً آالفاً‪ ،‬وإذا لم المحاضرة‪ ،‬وال يجلس على مقعده المخصص‬
‫إالَ نادراً‪ ،‬وال يملي علينا من كراس أو ملزمة‪،‬‬ ‫تكن اليوم اقتصادية فغداً تكون»!‬
‫تتالى إنشاء الكليات في الجامعة عاماً بعد كل ما كــان بيده ورقــة صغيرة‪ ،‬فيها رؤوس‬

‫‪15‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫رئيس مجلس إدارة مركز السديري الثقافي‪ ،‬فيصل بن عبدالرحمن السديري‪ ،‬وإلى يساره د‪ .‬عبدالرحمن الطيب االنصاري‪،‬‬
‫شخصية منتدى عبدالرحمن السديري للدراسات السعودية‪ ،‬المنعقد عام ‪1434‬هـ (‪2012‬م)‪.‬‬

‫يوم قدَمت ما أعددته على استحياء للدكتور‬ ‫أقــام‪ ،‬يتتبعها بدقة‪ ،‬ويطلب‪ -‬من الجميع‬
‫األن ــص ــاري‪ ،‬وبــعــد أي ــام اســتــدعــانــي لمكتبه‬ ‫المشاركة فــي المناقشة‪ ،‬وال يُغفل أحــداً‪.‬‬
‫وناقشني فيما كتبت‪ ،‬وشكرني على اجتهادي‪،‬‬ ‫كان عدد طالب القاعة ال يتجاوز العشرين‬
‫وشجعني على االســتــمــرار والــمــثــابــرة فقد‬ ‫طالباً‪ ،‬وجميعهم يُصغي‪ ،‬ويطرب لما يسمع‪،‬‬
‫يأتي اليوم الذي أراك فيه محاضراً في هذه‬ ‫ويدون ما هو مكتوب على السبورة‪ ،‬وال يغادر‬
‫الجامعة!‬ ‫المحاضرة حتى يطلب من الجميع التحضير‬
‫لموضوع محدد يلقيه على مسامع زمالئه في‬
‫فــاجــأنــا الــدكــتــور األن ــص ــاري بالتحضير‬
‫المحاضرة القادمة‪.‬‬
‫الجتماع عام لطالب الكلية في المدرج رقم‬
‫(‪ )26‬وكان العدد يزيد عن المئة طالب‪ ،‬وبحضور‬ ‫وهــكــذا بــدأت رحلتي مــع التاريخ واآلثــار‬
‫عدد من أساتذة الكلية‪ ،‬وأخبرنا أ َن الجامعة‬ ‫‪-‬ليست كمنهج دراســي محدد‪ ،‬ولكنها كانت‬
‫وافقت على تأسيس جمعية للتاريخ واآلثــار‪،‬‬ ‫مــجــرد تلميحات تمهيدية لمعرفة مصادر‬
‫ويكون لها هيئة إدارية‪ ،‬ولجنة فرعية للطالب‪،‬‬ ‫التاريخ القديم‪ ،‬إضافة إلى القرآن والسنة‪،‬‬
‫وهي الواسطة بين الطالب والهيئة اإلدارية‪،‬‬ ‫والمصادر التاريخية العربية واألدبية ومنها‬
‫وتدعى عند الحاجة إليها‪ ،‬وعليها المساعدة‬ ‫الشعر الجاهلي‪.‬‬
‫في تنفيذ مختلف أوجه نشاط الجمعية‪ .‬تم‬ ‫أتذكر أنــي استعرت كتاب جرجي زيــدان‬
‫االقــتــراع على انتخاب الهيئة اإلداري ــة للعام‬ ‫(تاريخ العرب) فوجدت فيه نقش امرؤ القيس‬
‫الدراسي ‪1388/87‬هـــــ(‪1968/67‬م) برئاسة‬ ‫الــمــعــروف للمختصين‪ ،‬فعكفت على رسم‬
‫أ‪ .‬د‪ .‬عبدالعزيز صالح (رئيس قسم التاريخ)‬ ‫وتحبير كامل النقش‪ ،‬وتفكيك حروفه‪ ،‬ومطابقة‬
‫ويتولى سكرتارية الجمعية الدكتور األنصاري‪،‬‬ ‫أسطره‪ ،‬واجتهدت في معرفة مضامينه‪ .‬وبعد‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪16‬‬
‫ملف العدد‬
‫أن نراه في المستقبل أستاذاً جامعياً في هذه‬ ‫وفــي الــعــام الــتــالــي تــولــى الــرئــاســة الدكتور‬
‫الــجــامــعــة»‪ .‬تلك الــعــبــارات تــوضــح الجوانب‬ ‫األنصاري‪.‬‬
‫اإلنــســانــيــة ألســتــاذ ومعلم عظيم فــي علمه‬ ‫أمــا اللجنة الفرعية الطالبية فقد فاز‬
‫وأخالقه‪ ،‬وتعامله مع طالبه والتي الزمته في‬
‫برئاستها الطالب سعد الناصر الراشد‪ .‬كان‬
‫حياته العلمية والعملية واإلداري ــة وحواراته‬
‫ال مع قامة‬
‫شرفٌ عظيم أن أعمل عضواً فاع ً‬
‫الفكرية‪.‬‬
‫من العلماء أساتذتي في قاعة الدرس وزمالء‬
‫تعلمت أن ــا وزمــائــي فــي تــلــك المرحلة‬ ‫في العمل التطوعي لخدمة التاريخ والتراث‬
‫المبكرة‪ ،‬أدب الحوار والمناقشة‪ ،‬واالستماع‪،‬‬ ‫الحضاري لبالدنا العزيزة‪.‬‬
‫والتعامل مع المصادر العلمية ووسائل اإليضاح‬
‫وهكذا‪ ،‬بدأت الجمعية نشاطها‪ ،‬في تنظيم‬
‫الــمــتــوافــرة ومنها آلــة السينما‪ ،‬والــفــانــوس‬
‫الرحالت إلى المناطق القريبة من الرياض‬
‫السحري‪.‬‬
‫(الــدرعــيــة‪ ،‬والجبيلة‪ ،‬والعيينة‪ ،‬وس ــدوس)‬
‫ويــعــد مــوســم الجمعية الــثــانــي فــي العام‬ ‫التي لم يكن الوصول إليها في ذلــك الوقت‬
‫بــاألمــر الــســهــل‪ ،‬وقــد أكــرمــنــي اهلل أن أكــون ‪1388‬هـــ (‪1969‬م) من المواسم التي تركت‬
‫مــن المتحدثين بــجــوار الدكتور األنــصــاري‪ ،‬أثرها وآثارها العلمية والفكرية‪ .‬قدم عميد‬
‫والــشــعــفــي‪ ،‬وعــبــدالــرحــمــن الــحــجــي‪ ،‬ونــافــع الكلية الــدكــتــور عــزت الــنــص بحثاً متفرداً‬
‫الــقــصــاب‪ .‬لــقــد شــعــرنــا أن ه ــذه الــرحــات بعنوان «التقديس وآثاره الجغرافية»‪ ،‬والدكتور‬
‫التي توالت طــوال مرحلة دراستنا الجامعية عبدالرحمن الحجي عن «اآلث ــار اإلسالمية‬
‫أثمرت في نشر الوعي األثــري والتاريخي‪ ،‬في األنــدلــس»‪ ،‬و«أض ــواء جديدة على تاريخ‬
‫الخليج العربي للحديث» للدكتور عبداألمير‬
‫وإلقاء الضوء على مناطق تاريخية لها دورها‬
‫محمد األمين‪ ،‬و«المدرسة والتعليم في بالد‬
‫الحضاري قبل اإلسالم وبعده‪.‬‬
‫الرافدين» للدكتور محمود األمين‪ ،‬و«تقويم‬
‫وتوالت رحالت الجمعية إلى مناطق أبعد جديد للدعوة العباسية» للدكتور فاروق عمر‬
‫من الرياض‪ ،‬فامتدت إلى الخرج والدوادمي ف ــوزي‪ ،‬وقــدم الــدكــتــور األنــصــاري محاضرة‬
‫وشمالي المملكة‪ .‬واشتملت مناشط الجمعية بعنوان «لمحات عن القبائل البائدة في الجزيرة‬
‫إضــافــة إل ــى الــحــفــات وال ــرح ــات تنظيم العربية»‪ ،‬وهي أربع قبائل (عاد وثمود وطسم‬
‫الــمــحــاضــرات وعـ ــرض األفــــام التاريخية وجــديــس)‪ .‬وقــد مهدت محاضرة األنصاري‬
‫واألثـــريـــة‪ ،‬والــنــشــاط اإلع ــام ــي ومــشــاريــع هذه األسس السليمة لتحقيق مواطن القبائل‬
‫الجمعية‪ .‬وكم كنت ممتناً عندما ألقيت بحثاً‪ -‬التي أطلق عليها (بائدة)‪« ،‬وأن دراسة تاريخ‬
‫وأن ــا فــي السنة الــرابــعــة‪ -‬بــعــنــوان‪ « :‬مدينة القبائل البائدة إنما تــدرس تاريخ فترة من‬
‫سامراء وآثارها اإلسالمية» كان ذلك في ‪ 8‬تاريخ قبائل وسكان شبه الجزيرة العربية‪،‬‬
‫رمضان ‪1388‬هـ‪ .‬عل َق بعدها أستاذي الدكتور ولذا يجب أن ال نصد عن دراسة هذه القبائل‬
‫األنصاري بما أثلج صدري ورفع من معنوياتي البائدة»‪ .‬وتسميتها بالبائدة ‪-‬يقول األنصاري‪-‬‬
‫وخاصة عندما قال‪« :‬إنني أتنبأ لهذا الطالب «إنما هي من وضــع ٌكـتَــاب الــعــرب‪ ،‬وال أظن‬

‫‪17‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫في منتدى عبدالرحمن السديري للدراسات السعودية‪ ،‬المنعقد بدار العلوم بالجوف‪ ،‬عام ‪1434‬هـ (‪2012‬م) بعنوان‪ :‬آثار المملكة العربية السعودية‬
‫إنقاذ ما يمكن إنقاذه‪ .‬من اليمين د‪ .‬سعد البازعي‪ ،‬د‪ .‬عبدالراحد الحميد‪ ،‬د‪ .‬عبداهلل مصري‪ ،‬د‪ .‬عبدالرحمن األنصاري‪ ،‬د زياد الدريس‪.‬‬

‫‪1383/11/8‬هـــ‪ ،‬وصدر نظام اآلثار باألمر‬ ‫أن شيئاً يبيد طالما أنه ترك أثراً يدل عليه‪،‬‬
‫الملكي رق ــم م‪ 26/‬فــي ‪1392/6/22‬هــــــــ‪،‬‬ ‫واآلثار هي وسيلتنا إلى التوصل إلى معلومات‬
‫وإنشاء المجلس األعلى لآلثار‪ ،‬وتولى الدكتور‬ ‫ومعارف كثيرة عمن سبقونا وعما سبقتنا من‬
‫عبداهلل حسن مصري بعد عودته بالدكتوراه‬ ‫حضارات»! واختتم محاضرته تلك بقوله‪ « :‬ال‬
‫في اآلثار القديمة عام ‪1973‬م‪ ،‬إدارة اآلثار‪،‬‬ ‫نشك أن هناك دوراً حضارياً أدته هذه القبائل‪،‬‬
‫وكان الدكتور األنصاري عضواً في المجلس‬ ‫ولكن هذا الدور الحضاري ال يمكن أن نقومه‬
‫األعلى لآلثار من بداية تكوينه‪ ،‬واستمرت‬ ‫حق التقويم إالَ إذا أجريت تنقيبات أثرية في‬
‫عضويته في المجلس حتى ضم وكالة اآلثار‬ ‫األماكن التي يظن أن فيها آثــاراً لهذه األمم‪.‬‬
‫والمتاحف بقرار من الدولة إلى الهيئة العليا‬ ‫ويجب علينا أن نعضد دائ ــرة اآلث ــار بــوزارة‬
‫للسياحة‪ ،‬ليتم اختياره عــضــواً فــي مجلس‬ ‫المعارف‪ ،‬وأن نقوم بحفريات أثرية تشاركها‬
‫اإلدارة برئاسة صاحب السمو الملكي األمير‬ ‫جامعة الرياض في ذلك‪ ،‬في مناطق متعددة‬
‫سلطان بن عبدالعزيز (رحمه اهلل)‪ ،‬ثم يختاره‬ ‫في الجزيرة العربية‪ ،‬في وسطها وفي غربيها‬
‫صــاحــب السمو الملكي األمــيــر سلطان بن‬
‫وفي شرقيها وفي شماليها‪ .‬ويختم محاضرته‬
‫سلمان بن عبدالعزيز رئيس الهيئة العامة‬
‫بقوله‪« :‬وأنــا أعتقد أن إجــراء تنقيبات في‬
‫للسياحة واآلثار في اللجنة االستشارية لآلثار‪،‬‬
‫الجزيرة العربية سيغير ويضيف كثيراً من‬
‫واستمرت عضويته حتى اشتد عليه المرض‪.‬‬
‫الحقائق‪ ،‬ال بالنسبة للجزيرة العربية فحسب‪،‬‬
‫ولقد كــان الدكتور األنــصــاري خير معين مع‬
‫ولكن بالنسبة للشرق األدنى كله‪ ،‬إذ إن الجزيرة‬
‫الدكتور المصري في النهوض بــإدارة اآلثار‬
‫العربية كانت هي مصدر الجنس السامي الذي‬
‫ودورهــا العلمي‪ ،‬والميداني‪ ،‬وتأسيس البنى‬
‫أضاف لإلنسانية وللحضارة الشيء الكثير»‪.‬‬
‫التحتية لآلثار والمتاحف‪ .‬وإزاء ذلك كانت‬
‫الحاجة ملحة أن تستجيب الجامعة بإدخال‬ ‫كانت إدارة اآلثار السعودية قد تأسست‬
‫شعبة لتدريس اآلثار في قسم التاريخ‪ ،‬ثم رأى‬ ‫بــاألمــر الــســامــي رق ــم (‪ )26489‬وتــاريــخ‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪18‬‬
‫ملف العدد‬
‫أوربا أو أمريكا‪ ،‬وليس فقط الوجهة والمكان‬ ‫المجلس األعلى لآلثار بعد ذلــك أن تتحول‬
‫فحسب‪ ،‬بــل التأكد مــن تــوافــر األكاديميين‬ ‫شعبة اآلثـــار إلــى قسم لــآثــار والمتاحف‪،‬‬
‫المؤهلين لإلشراف العلمي‪ ،‬علماً أن خريجي‬ ‫في عام ‪1978‬م‪ ،‬وبهذا شهدت اآلثــار تحوالً‬
‫قسم اآلثار في الجامعة المبتعثين كان قبولهم‬ ‫كبيراً في المجال البحثي الجامعي واإلداري‬
‫ميسراً في دول االبتعاث نظراً لكفاءتهم العالية‬ ‫والتنظيمي المؤسسي من قبل المجلس األعلى‬
‫في التدريب الميداني وحصيلتهم المعرفية في‬ ‫لآلثار‪.‬‬
‫مرحلة البكالوريوس‪.‬‬ ‫أما تأسيس قسم اآلثار والمتاحف بجامعة‬
‫ولــد قسم اآلث ــار والمتاحف فــي المبنى‬ ‫الملك سعود‪ ،‬فقد تم على أسس علمية ذات‬
‫الرئيس لكلية اآلداب الذي لم يتبق فيه متسع‬ ‫أبعاد للمستقبل‪ ،‬فعمل الدكتور األنصاري مع‬
‫الستيعاب األقسام الجديدة؛ فاستؤجر مبنى‬ ‫زمــائــه المختصين فــي التاريخ والحضارة‬
‫مالصق للكلية بالمشاركة مع قسم الدراسات‬ ‫واآلثار على معرفة تجارب المعاهد واألقسام‬
‫االجتماعية‪ ،‬لكنه لم يستوعب متطلبات قسم‬ ‫األكاديمية والبحثية المعنية بدراسات تاريخ‬
‫اآلثــار‪ ،‬فاستجابت الجامعة الستئجار مبنى‬ ‫وآثــــار الــشــرق األدنــــى الــقــديــم والــحــضــارة‬
‫مستقل‪ ،‬وتــم تجهيزه إداري ـ ـاً وفنياً ومكتبة‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬في مختلف بالد العالم بما فيها‬
‫متخصصة في اآلثار وعلوم المتاحف‪ ،‬وبعدها‬ ‫عالمنا العربي‪ ،‬وتم التواصل معهم بخصوص‬
‫انتقل القسم إلى حرم الجامعة الجديد في‬ ‫عـــزم الــجــامــعــة عــلــى افــتــتــاح قــســم لــآثــار‬
‫الدرعية‪.‬‬ ‫والمتاحف‪ ،‬وهو األول في الجزيرة العربية‪،‬‬
‫فــجــاءت الـ ــردود اإليــجــابــيــة المشجعة لهذه‬
‫وخالل هذه التحوالت المكانية كان القسم‬ ‫الخطوة‪ ،‬وتم االستفادة من التجارب السابقة‬
‫يتطور ميدانياً وعلميًا وعمليًا‪ ،‬ومــا هي إال‬ ‫من الناحية العلمية والمنهجية‪ ،‬التي تتماشى‬
‫سنوات معدودة ليشهد القسم عــودة الطيور‬ ‫مع الخطط األكاديمية التي تتناسب مع خطة‬
‫المهاجرة للعلم‪ ،‬وقد نالوا الشهادات العليا في‬ ‫تأسيس القسم‪ ،‬الــذي نهض وتطور واشتهر‬
‫اختصاصات متنوعة في اآلثار‪.‬‬ ‫عالمياً‪ ،‬وتخرّج فيه أجيا ٌل سلكوا طريق البحث‬
‫كانت حفائر قرية الــفــاو مــدرســة فريدة‬ ‫العلمي باقتدار‪ ،‬ومنهم من شغل العمل المهني‬
‫للكشف األثــري والتدريب العملي الميداني‬ ‫األثري واإلداري في إدارة اآلثار‪ ،‬وكانوا على‬
‫لــأثــاريــيــن الــشــبــاب‪ ،‬وكــذلــك مــوقــع الــربــذة‬ ‫حسن الظن بهم‪.‬‬
‫اإلسالمي‪ .‬وقد شكلت المكتشفات األثرية في‬ ‫كان اختيار المرشحين لالبتعاث الخارجي‬
‫الفاو والرَبذة مجموعة مهمة لمتحف الجامعة‪،‬‬ ‫للدراسات العليا يبنى على شروط وضوابط‪،‬‬
‫والمتحف الوطني على حد سواء؛ كما شكلت‬ ‫منها مــدى تمكن الطالب من مهارة البحث‬
‫تلك المعثورات مع المكتشفات في عدد من‬ ‫العلمي‪ ،‬واكتسابه الخبرة في العمل الميداني‪،‬‬
‫المواقع األثرية األخــرى مادة مهمة لمعرض‬ ‫والــمــردود العلمي والمهني المتوقع منه بعد‬
‫روائ ــع آثــار المملكة‪ ،‬الــذي أقيم فــي عديد‬ ‫التخرج‪ ،‬وكذلك التزامه بالتخصص والمؤسسة‬
‫من المتاحف العالمية؛ في أوربــا‪ ،‬وأمريكا‪،‬‬ ‫األكاديمية المرشحة لقبوله فيها‪ ،‬سواء في‬

‫‪19‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫المناطق التي امتدت إليها الحضارة العربية‬ ‫والصين‪ ،‬واليابان‪ ،‬وكوريا الجنوبية‪ ،‬وغيرها‬
‫واإلســامــيــة‪ ،‬وقــد أسهم في االش ــراف على‬ ‫من المحطات‪.‬‬
‫عمل موسوعي تبنته المنظمة العربية للتربية‬ ‫وللدكتور األنصاري دور كبير في بث الوعي‬
‫والثقافة والعلوم (األليكسو)‪ ،‬فصدر كتاب‬ ‫األث ــري فــي المجتمع الــســعــودي‪ ،‬مــن خالل‬
‫المرجع في تاريخ األمة العربية‪.‬‬ ‫البرامج اإلذاعية‪ ،‬والتلفزيونية‪ ،‬والصحافة‪،‬‬
‫كــان الــدكــتــور األنــصــاري قــوي الحجة في‬ ‫ومحاضراته في األندية األدبية والرياضية‪،‬‬
‫مناقشاته مع العلماء الغربيين وغيرهم عندما‬ ‫واألكاديميات العسكرية‪ ،‬والصوالين األدبية‪،‬‬
‫يجد أخطا ًء تروج عن تاريخ الجزيرة العربية‬ ‫والــمــدارس‪ ،‬وخــاصــة خــال رحــات جمعية‬
‫وحضارتها‪ .‬ويُحَ ب للدكتور األنصاري مبادرته‬ ‫التاريخ واآلثــار‪ .‬لقد ترك األنصاري ذكريات‬
‫الفريدة في تبني جامعة الملك سعود تنظيم‬ ‫عطرة في المجتمع السعودي‪ ،‬وقــد لمست‬
‫ندوة تاريخ الجزيرة العربية‪ ،‬تقام على دورات‬ ‫هذا عند زياراتي للكثير من القرى والمدن في‬
‫متتابعة‪ ،‬وتــتــنــاول تــاريــخ الــجــزيــرة العربية‬ ‫مناطق المملكة‪ ،‬إذ وجدت كبار السن يذكرون‬
‫وحضارتها من أقدم العصور مــرورا ُ بالعصور‬ ‫زيارات األنصاري للمواقع األثرية والتاريخية‬
‫التاريخية قبل اإلسالم‪ ،‬وعصر الرسول صلى‬ ‫في ديارهم‪ .‬ففي تلك الرحالت التي تنظمها‬
‫اهلل عليه وسلم والخالفة الراشدة‪ ،‬واألموية‬ ‫جمعية التاريخ واآلث ــار‪ ،‬كانت المحاضرات‬
‫والعباسية‪ ،‬وما بعدها من فترات تاريخية؛ وقد‬ ‫العامة التي يقدمها تركز على اآلثار والكتابات‬
‫استقطبت دورات ندوة تاريخ الجزيرة العربية‬ ‫والنقوش‪ ،‬يحضرها أبناء المناطق بمختلف‬
‫المتوالية مئات الباحثين من جامعات ومراكز‬ ‫مشاربهم ومراحلهم العمرية‪ ،‬وقد تركت تلك‬
‫بحثية من أوربا وأمريكا والصين وجنوب غربي‬ ‫المحاضرات أثــرهــا‪ ،‬ومــا تــزال راســخــة في‬
‫آسيا وإفريقيا والعالم العربي واإلسالمي‪ .‬كما‬ ‫ذاكرة أجيال تلك الفترة‪.‬‬
‫تحققت أمنية الدكتور األنصاري بتأسيس مجلة‬ ‫وللدكتور األنــصــاري مواقف مشرّفة في‬
‫علمية آثارية في المملكة العربية السعودية‬ ‫الندوات والمؤتمرات العلمية الدولية والقارية‬
‫تكون وعا ًء للبحوث والدراسات المتخصصة في‬ ‫واإلقليمية‪ ،‬وقد رافقته في العديد منها‪ ،‬فقد‬
‫التاريخ والحضارة‪ ،‬يشارك فيها المختصون من‬ ‫كــان يؤمن برسالته التي يحملها وهــي إبــراز‬
‫أنحاء العالم‪ ،‬فكانت والدة مجلة أدوماتو ‪-‬مجلة‬ ‫الهوية التاريخية والحضارية التي تعتز بها‬
‫نصف سنوية محكمة تعنى بآثار العالم العربي‪-‬‬ ‫المملكة العربية السعودية‪ ،‬وما شرّفها اهلل به‬
‫تتولى رعايتها وإصدارها مؤسسة عبدالرحمن‬ ‫بأن تكون أرضها مهبط الوحي‪ ،‬والبيت الحرام‪،‬‬
‫السديري‪ .‬وبفضل اهلل استوت المجلة على‬ ‫والحرمين الشريفين‪ ،‬ومهوى أفئدة المسلمين‬
‫سوقها وذاع صيتها وانتشرت عالمياً‪.‬‬ ‫من كل فج‪ ،‬وقبلتهم‪ ،‬وإيمانه الصادق المبني‬
‫ولــأنــصــاري إســهــام كــبــيــر فــي اإلشـ ــراف‬ ‫على أســس علمية أن الجزيرة العربية هي‬
‫مركز الحضارات اإلنسانية المبكرة‪ .‬ولهذا والتحرير والمراجعة لكتاب المرجع في تاريخ‬
‫كان دوماً يركز على الوحدة الحضارية للجزيرة األمــة العربية‪ ،‬الــذي تبنته المنظمة العربية‬
‫العربية‪ ،‬والنسيج الحضاري المشترك في للتربية والثقافة والــعــلــوم‪ -‬وصــدر فــي سبعة‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪20‬‬
‫ملف العدد‬
‫العصور‪ ،‬وقد لقيت الفكرة استحسان الحضور‬ ‫مجلدات عام ‪2007‬م‪ ،‬وشارك في إعداده أكثر‬
‫من العلماء والمهتمين بتراث الجزيرة العربية‬ ‫من (‪ )300‬من خيرة المؤرخين والباحثين العرب‪.‬‬
‫وحضارتها‪ .‬وتحقق المقترح بالتعاون بين‬ ‫وكــــان األنـ ــصـ ــاري ف ــي مــقــدمــة أعــضــاء‬
‫مؤسسة ليان الثقافية ومكتبة الملك عبدالعزيز‬ ‫اللجنة العلمية للكتاب الموسوعي (فروسية)‬
‫العامة باصدار عمل موسوعي «مجلدان باللغة‬ ‫الـ ــذي ص ــدر فــي مــجــلــديــن كــبــيــريــن باللغة‬
‫اإلنجليزية (‪ ،»)2020‬ومثلهما باللغة العربية‪.‬‬ ‫اإلنجليزية (عــام ‪1996‬م)‪ ،‬ومثلهما باللغة‬
‫وقــد تم إهــداء هــذا العمل الموسوعي باسم‬ ‫العربية (‪ ،)2001‬ويحكي قصة الخيل عبر‬
‫مؤسسة ليان الثقافية ومكتبة الملك عبدالعزيز‬ ‫العصور وفنون الفروسية في تاريخ المشرق‬
‫العامة لألستاذ الدكتور عبدالرحمن الطيب‬ ‫والــمــغــرب‪ ،‬وكــتــب بــحــثـاً عــن «الــحــصــان في‬
‫األنــصــاري‪ ،‬رائــد العمل األثــري في المملكة‬ ‫آثار قرية الفاو» وكذلك عضويته في اللجنة‬
‫العربية الــســعــوديــة تــقــديــراً ووفـ ــا ًء لخدمته‬ ‫التحضيرية لمعرض فروسية برئاسة صاحب‬
‫لحضارة المملكة وتراثها‪ .‬وقد تصدر العمل‬ ‫السمو األمير فيصل بن عبداهلل بن محمد‬
‫بحث للدكتور األنصاري ‪-‬مشاركة مع تلميذه‬ ‫آل ســعــود‪ ،‬وصــاحــب السمو الملكي األمير‬
‫الوفي الدكتور سالم بن أحمد طيران بعنوان‬ ‫أحمد بن سلمان بن عبدالعزيز (رحمه اهلل)‬
‫(الجمل في حضارة قرية الفاو)‪ ،‬ومن محاسن‬ ‫الذي افتتح برعاية كريمة من خادم الحرمين‬
‫الــصــدف أن يصدر هــذا العمل متزامناً مع‬ ‫الشريفين الملك عبداهلل بن عبدالعزيز(ولي‬
‫العهد آنذاك) ودعم وتشجيع خادم الحرمين‬
‫مبادرة صاحب السمو الملكي األمير سلطان بن‬
‫الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز (أمير‬
‫سلمان بن عبدالعزيز (رئيس الهيئة العامة‬
‫منطقة الرياض آنذاك)‪.‬‬
‫للسياحة والتراث الوطني‪-‬سابقاً) استحداث‬
‫جائزة الدكتور عبدالرحمن األنصاري لخدمة‬ ‫وفــي الــنــدوة المصاحبة للمعرض تحدث‬
‫الدكتور األنصاري مشيراً إلى أن الخيل مع‬
‫آثـ ــار الــمــمــلــكــة‪ .‬وأمــلــنــا اســتــمــراريــة تنظيم‬
‫هــذه الجائزة لتبقى منصة عالمية للبحوث‬ ‫أهميتها في التاريخ‪ ،‬إالَ أن الجمال (اإلبــل)‬
‫والــدراســات المعنية بآثار المملكة والجزيرة‬ ‫كــانــت أه ــم مــن الــخــيــل عــنــد الــشــعــوب‪ ،‬ألن‬
‫الخيل ال يقتنيها إال األثــريــاء‪ ،‬واالهتمام بها‬
‫العربية‪ ،‬وبخاصة ونحن نشهد نقلة نوعية‬
‫مكلف في تربيتها‪ ،‬وتدريبها‪ ،‬واإلنفاق عليها‪،‬‬
‫للبحوث واالكتشافات األثرية في عموم مناطق‬
‫كما أن الخيل يقتصر استخدامها في معارك‬
‫المملكة في عهدنا الزاهر‪.‬‬
‫الكر والفر‪ ،‬وفي األمور المستعجلة‪ ،‬ولكنها ال‬
‫رحم اهلل الدكتور عبدالرحمن األنصاري‬ ‫تتحمل اجتياز الصحارى‪ ،‬أو صعود الجبال‪ ،‬أما‬
‫الجمل فهو سفينة الصحراء‪ ،‬وفيه من المنافع وج ــزاه اهلل خير الــجــزاء على مــا قدمه من‬
‫مــا ال حصر لها‪ ،‬وطــرح الدكتور األنــصــاري جهود‪ ،‬ومــا تركه من إرث وم ــوروث تاريخي‬
‫فكرة إصــدار عمل موسوعي عن الجمل عبر وحضاري لألجيال القادمة‪.‬‬
‫مؤرخ وعالم آثار سعودي‪ ،‬وكيل لوزارة المعارف لآلثار والمتاحف سابقًا‪.‬‬ ‫ *‬

‫‪21‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫عبدالرحمن األنصاري الذي أعرف‬

‫■ أ‪ .‬د‪ .‬زيدان عبدالكايف كفايف*‬

‫كان ذلك صيف عام ‪1989‬م‪ ،‬عندما رنّ جرس‬


‫هاتفي‪ ،‬وكنت حينها أقضي إجــازة تفرغ علمي‬
‫بجامعة برلين الحرة بألمانيا‪ ،‬وكان المتحدث‬
‫األس ـت ــاذ وال ـصــديــق الــدك ـتــور عــاصــم الـبــرغــوثــي‬
‫أطال اهلل عمره‪ ،‬فاجأني بقوله «يسلم عليك الدكتور‬
‫عـبــدالــرحـمــن األنـ ـص ــاري» وي ـعــرض عـلـيــك الـعـمــل بقسم‬
‫صمت لبرهة‪ ،‬وكأنني قلت لنفسي فكّ ر قبل‬ ‫ّ‬ ‫اآلثار في جامعة الملك سعود‪ .‬وهنا‬
‫اإلجابة؛ لم يستغرق األمر طويالً‪ ،‬فأبلغته بالموافقة‪.‬‬
‫غــــادرت بــرلــيــن إل ــى عــ ّم ــان‪ ،‬حيث بــدأت عالقتي مع الدكتور األنصاري‬
‫قضيت بعض الوقت مشرفاً على حفرية تأخذ بعدين؛ أكاديمي‪ ،‬وشخصي‪.‬‬
‫أبو الثواب‪ ،‬لكن وجب عليّ مغادرة عمان‬
‫ال إ ّيــاه‬
‫عندما ولجت لمكتبه مقاب ً‬
‫فــي شهر أيــلــول بعد أن حصلت على‬
‫للمرحلة األول ـ ــى‪ ،‬هــالــنــي ابتسامته‬
‫إجازة دون راتب من جامعة اليرموك‪،‬‬
‫الدائمة ووجهة المنفرد؛ فرحب بي أيما‬
‫وحطت بنا الطائرة في مطار الرياض‪.‬‬
‫ترحيب‪ ،‬وتحاورنا بأمور اآلثار‪ ،‬وأعلمني‬
‫في اليوم التالي رافقت الدكتور عاصم‬
‫أنــه شــارك في حفريات القدس التي‬
‫البرغوثي لمقابلة عميد كلية اآلداب في‬
‫أشرفت عليها كاثلين كنيون في بدايات‬
‫جامعة الملك سعود «األستاذ الدكتور‬
‫ستينيات الــقــرن الــفــائــت‪ .‬كما درس‬
‫عبدالرحمن األنصاري»‪ ،‬ومقابلة رئيس‬
‫اللغة العربية في الجامعات المصرية‪،‬‬
‫القسم «األستاذ الدكتور أحمد الزيلعي»‪،‬‬
‫وأكــمــل دراســاتــه فــي اللغات السامية‬
‫وبقية أعضاء القسم‪ .‬كــان األنصاري‬
‫القديمة بجامعة ليدز (حسب ما أذكر)‬
‫علماً معروفاً بعلمه بين اآلثاريين‪ ،‬فهو‬
‫ببريطانيا‪.‬‬
‫من أدخل تدريس اآلثار للسعودية‪ ،‬وأنه‬
‫كان مكتب عميد كلية اآلداب بالطابق‬ ‫يرأس فريق التنقيب في الفاو‪ ،‬فعرفته‬
‫قبل أن أقابله شخصياً‪ .‬ومنذ ذلك اليوم الثاني‪ ،‬انتهى االجتماع معه‪ ،‬وأخذني‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪22‬‬
‫ملف العدد‬
‫البحث العلمي فــي كليته‪ ،‬وعــقـ َد مؤتمراً‬ ‫الدكتور عاصم البرغوثي إلى الطابق السفلي‬
‫حول هذا الموضوع‪ ،‬وشرفني بأن أشاركه‬ ‫حيث قسم اآلثار‪ ،‬ودفع بي إلى مكتب رئيس‬
‫بحثاً عنوانه «تأصيل منهج البحث األثري‪:‬‬ ‫القسم الدكتور الزيلعي‪ ،‬وزاد هــذا الرائع‬
‫المشرق العربي أنموذجاً»‪ ،‬ونشر هذا البحث‬ ‫الترحيب ترحيباً‪ .‬وبعد هذا اللقاء اصطحبني‬
‫في مجلة «العصور»‪ .‬ولم يكتف األنصاري‬ ‫الــدكــتــور عــاصــم فــي جــولــة عــلــى أعــضــاء‬
‫بهذا‪ ،‬بل وخالل ترؤسه لمجلة أدوماتو التي‬ ‫هيئة التدريس بالقسم‪ ،‬ومن ثم المتحف‪،‬‬
‫تصدر عن «مركز عبدالرحمن السديري‬ ‫والمختبرات‪ .‬وكنت حيث أذهب أجد عضو‬
‫الثقافي» عقد مؤتمرات تخص اآلثار العربية‬ ‫هيئة تدريس أو فنيا أو إداريا عربيا من غير‬
‫في مدينة سكاكا‪ /‬الجوف‪ .‬وكأن األنصاري‬ ‫الجنسية السعودية‪ ،‬فقد جمع األنصاري في‬
‫كان يريد أن يقول بهذا «أيها العرب‪ ،‬الجزيرة‬ ‫القسم توافقاً عروبياً غير مسبوق‪ .‬وبالطبع‬
‫العربية هي األصل والمكان»‪ ،‬دون االفصاح‬ ‫انعكس هذا التجمع على المنهج التدريسي‬
‫عما بداخله‪ .‬وكــان األنــصــاري من العلماء‬ ‫وطبيعة التدريس في القسم؛ وبخاصة إذا‬
‫العرب الذين دفعوا تجاه تأسيس «مجلس‬ ‫ما علمنا أن أعضاء هيئة التدريس خريجو‬
‫اتــحــاد اآلثــاريــيــن الــعــرب»‪ ،‬فانتخب نائباً‬
‫جامعات عالمية وعربية معروفة ومرموقة‪.‬‬
‫لرئيس المجلس‪.‬‬ ‫وإذا كان النبض عروبياً‪ ،‬فإن الدم سعوديّ ‪،‬‬
‫وأم ــا فــي العمل الــمــيــدانــي‪ ،‬ففي أحد‬ ‫جيل من أبناء وطنه‪،‬‬ ‫إذ قرر األنصاري بناء ٍ‬
‫يحملون رايته؛ فكان يدفع بعديد من الشباب األيام طلب مني مرافقة الدكتور عبدالعزيز‬
‫السعودي إلى الخارج لدراسة التاريخ القديم الــغ ـزّي‪ /‬عضو هيئة التدريس فــي القسم‬
‫آنذاك‪ ،‬لزيارة موقع اسمه «الثمامة»‪ ،‬وكانت‬ ‫واآلثار واللغات‪.‬‬
‫لم يخلع األنصاري عباءته السعودية‪ ،‬بل سعادتي غامرة بهذه الزيارة‪ .‬إذ إن الدكتور‬
‫بقي يحملها على كتفيه مباهياً ومعتزاً بها‪ .‬حامد أبو درك كان قد أجرى تنقيبات فيه‪،‬‬
‫األهم من المعلومة هو نشرها والتعميم فاطلعنا على بعض المظاهر العمائرية‪،‬‬
‫بمعرفتها‪ ،‬وحتى يتم هذا‪ ..‬فقد عقد الدكتور وجمعنا كسرأً فخارية‪ ،‬وكتبنا تقريراً مشتركاً‬
‫األنصاري العديد من المؤتمرات التي تتحدث حول نتائج هذه الزيارة‪.‬‬
‫أما الزيارة الميدانية األهم‪ ،‬فهي الرحلة‬ ‫حول آثار العالم العربي بشكل عام‪ ،‬والجزيرة‬
‫التي قــام بها قسم اآلث ــار والمتاحف عام‬ ‫العربية بشكل خ ــاص‪ .‬إضــافــة لــهــذا فقد‬
‫‪1990‬م لزيارة الحفرية األثرية إلــى موقع‬ ‫دار للنشر (دار القوافل)‬‫حرص على تأسيس ٍ‬
‫الفاو‪ .‬إذ ركب المشاركون باصاً نقلنا من‬ ‫في الرياض‪ ،‬نشرت العديد من الكتب التي‬
‫الرياض ليقطع مسافة حوالي ‪ 700‬كم إلى‬ ‫تعنى بتاريخ الجزيرة العربية وآثارها بشكل‬
‫المنطقة الواقعة للجنوب الغربي من العاصمة‬ ‫خاص‪ .‬كما أنني ما أزال أذكر اهتمامه بمنهج‬

‫‪23‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫أ‪ .‬د‪ .‬عبدالرحمن‬
‫االنصاري‪ ،‬رحمه‬
‫اهلل‪.‬‬

‫ما أسعدنا أن كثيراً من الزمالء السعوديين‬ ‫الرياض‪ .‬وكم كانت هذه الرحلة مفيدة لي‪،‬‬
‫قد عملوا بالحفرية حين كانوا طالباً بقسم‬ ‫إذ تعرفت على مناطق جغرافية قرأت عنها‪،‬‬
‫اآلثـــار والــمــتــاحــف‪ ،‬وب ــدأ كــل منهم يسرد‬ ‫لكنني لم أحظ برؤيتها‪ .‬وعندما وصلنا موقع‬
‫ذكــريــاتــه خــال مــشــاركــاتــه فــي الحفرية‪.‬‬ ‫الحفرية كان باستقبالنا وأعضاء الفريق‪،‬‬
‫وعندما أقبل الليل‪ ،‬دعانا إلى جلسة نقاشية‬ ‫أذكــر من بينهم الدكتور عاصم البرغوثي‪،‬‬
‫حول ما رأيناه في الحفرية‪ ،‬وطلب إلينا أن‬ ‫والمرحوم الدكتور محمود الروسان اللذان‬
‫ندلي بدلونا‪ ،‬أي كان يطلب المشورة العلمية‬ ‫شاركا في معظم إن لم يكن جميع مواسم‬
‫من كل منا‪.‬‬ ‫التنقيب التي جــرت في الفاو في سنوات‬
‫أما عالقتي الشخصية مع أبي محمد‪،‬‬ ‫السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت‪.‬‬
‫فكانت عالقة األخ الكبير والصديق الوفي‪،‬‬ ‫بدأ األنصاري بشرح ما اكتشف؛ المعابد‬
‫طيلة المدة التي عرفني بها‪ .‬فقد حدث أن‬ ‫والمقابر‪ ،‬والسوق التجارية‪ ،‬والكتابات‪ .‬كان‬
‫نشرت كتاباً عام ‪1990‬م‪ ،‬أي حين كنت أعمل‬ ‫يقدم المعلومة حــول كــل أثــر فــي الموقع‪،‬‬
‫في قسم اآلثار بجامعة الملك سعود عنوانه‬ ‫وكــأنــه يــقــول هنا «ق ـرّيــة» عاصمة مملكة‬
‫«العصور الحجرية في األردن»‪ ،‬فأهديته‬ ‫كنده العربية‪ .‬لكم أن تــروا كيف أن هذه‬
‫نسخة منه‪ .‬بعد مدة طلب مني نسخة أخرى‪،‬‬ ‫المملكة التي أنشئت على أط ــراف الربع‬
‫وبعد أن أحضرتها‪ ،‬طلب إلــي أن أرافقة‬ ‫الخالي قد كان لها دو ٌر عظي ٌم باالتصاالت‬
‫لزيارة معالي وزير التعليم العالي (أذكر أنه‬ ‫الحضارية العالمية‪ ،‬بشهادة المكتشفات‬
‫العنقري) وطلب إلي أن أقدم نسخة الكتاب‬ ‫األثرية والكتابات المكتوبة بخطوط مختلفة‪،‬‬
‫لمعاليه بنفسي‪ ،‬وهذا يدل على مدى اعتزازه‬ ‫وبخاصة العربية الجنوبية المسندية‪ .‬وأكثر‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪24‬‬
‫ملف العدد‬
‫بي‪ .‬بل أكثر من ذلك‪ ،‬أذكر فيما أذكر‪ ،‬أنه السعودية مثلها‪ .‬ظل حبل الــود األنصاري‬
‫قال لي «يسعدني جــداً أن تكتب كتاباً عن مــمــدوداً مع جميع من عملوا بقسم اآلثــار‬
‫تاريخ الجزيرة العربية وآثارها قبل اإلسالم‪ ،‬والــمــتــاحــف بجامعة الملك ســعــود‪ .‬وبقي‬
‫وأحمد اهلل أنني حققت له هــذه األمنية‪ ،‬األمر هكذا حتى علمنا أن الهرم السعودي‬
‫ونشر لي كتاب بهذا العنوان عن طريق مركز يعاني من المرض‪ ،‬وبقينا على تواصل مع‬
‫عبدالرحمن السديري الثقافي في الرياض األخــوة السعوديين والعاملين معه سائلين‬
‫عام ‪2017‬م‪ .‬وأكثر من هذا‪ ،‬فقد اختارني عن أحواله‪ ،‬داعين له بالشفاء والعافية‪ ،‬لكن‬
‫عضواً للهيئة االستشارية لمجلة «أدوماتو»‪ ،‬كانت يد القدر أقوى من دعائنا‪.‬‬
‫كما أنــه أشركني بجميع المؤتمرات التي‬
‫وهكذا‪ ،‬غاب جسد عبدالرحمن األنصاري‬ ‫عقدها مركز عبدالرحمن السديري الثقافي‬
‫في سكاكا‪ ،‬وأتشرف بأنني عضو شرف فيه‪ .‬عن أنظارنا‪ ،‬لكنه بقي ساكناً في قلوبنا‪.‬‬
‫رحم اهلل فقيدنا أستاذنا العالّمة الدكتور‬ ‫هذه المشاركات هي التي ساعدتني كثيراً‬
‫باالقتراب كثيراً من تاريخ الجزيرة العربية عبدالرحمن الطيب األنــصــاري‪ ،‬وأسكنه‬
‫فسيح جناته‪.‬‬ ‫وآثارها قبل اإلسالم‪.‬‬
‫أثناء إقامتي وعائلتي بالرياض‪ ،‬تشرفت‬
‫بزيارة المرحوم أبا محمد لبيتي أكثر من‬
‫ال ومطمئناً‪ ،‬عن أحوالي وعائلتي‪.‬‬ ‫مرة سائ ً‬
‫وما أزال أذكر تلك السهرة في البر‪ ،‬والتي‬
‫كانت التجربة األولى لي بمثل هذه السهرات‬
‫الممتعة‪ .‬وعندما هممت بالعودة إلى جامعة‬
‫اليرموك‪ ،‬زرته أنا وبصحبة المرحوم الدكتور‬
‫محمود الروسان طالبين اإلذن بالمغادرة‪ ،‬فما‬
‫كان منه إ ّال أن عرض علينا البقاء وحفّزنا‬
‫بزيادة الراتب‪ .‬هكذا تمسك بنا المرحوم‪،‬‬
‫كان يحب الجميع‪ ،‬والجميع يحبه‪.‬‬
‫وعلى الرغم من مغادرتي لجامعة الملك‬
‫سعود‪ ،‬فقد تواصل حبل العمل والــود مع‬
‫األســتــاذ الدكتور عبدالرحمن األنــصــاري‪.‬‬
‫صدر العدد األول من مجلة أدوماتو عام ‪٢٠٠٠‬م‪ ،‬ورأس‬
‫تحريرها الدكتور عبدالرحمن األنصاري لمدة ‪ ١٦‬عاما‪.‬‬ ‫فقد زارنــا في األردن غي َر مرة‪ ،‬وزرنــاه في‬
‫* عالم أثاري‪ ،‬ورئيس جامعة اليرموك سابقا‪.‬‬

‫‪25‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫ُ‬
‫أفول نجم‬
‫خواطر في رحيل األنصاري‬

‫■ أ‪ .‬د‪ .‬العباس سيد أحمد محمد علي*‬

‫يـقــول عـلــم الـفـلــك إن نـجــومـ ًا كــانــت تسبح‬


‫بعيد ًا في فضاء هذا الكون‪ ،‬نرى اآلن ضوءها‬
‫بعد أن غابت عن أفالكها‪ .‬غير أن الضوء ما يزال‬
‫يواصل مساره ليكمل طريقه في البعد الشاسع‬
‫بين مصدره ودنيانا‪ .‬وهناك نجوم أخرى قابعة في‬
‫أماكنها في الوجود البعيد‪ ،‬لكن وجودها وعطاءها الكوني‪،‬‬
‫ال يغيبان عنا‪ ،‬ال أثر ًا وال تأثيراً‪ .‬ولعل الحال كذلك في عالم البشر الذين مضوا‬
‫وما تزال هالة أضوائهم تنير دروب العتمة‪!..‬‬

‫أســتــحــضــر هـ ــذا االبــــــداع اإللــهــي على ولوج وحله‪ .‬لكن حضوره في مدينة‬
‫وأنــا أعيش وقت أفــول نجم من سماء رســول األم ــة‪ ،‬وفــي كنف أســرة تعرف‬
‫الدراسات الحضارية‪ ،‬ظل يرسم ويضئ مواقع الفضيلة وتفيض بقيمها‪ ،‬نشأ‬
‫مسار المعرفة‪ ،‬بعزيمة نافذة وصبر الفتى بــرؤيــة مبكرة لحقائق األشياء‬
‫متصل‪ ،‬أسطع ضوءًا وأبهى بريقاً عند وحتمية الصراع‪ ،‬رغم حداثة تجربته‪،‬‬
‫وطــراوة جسده‪ .‬تلك الشُّ حنة التربوية‬ ‫كل عثرة‪.‬‬
‫كان مولد النجم الطفل نحو منتصف شـ ّكــلــت ســنــداً ليضع الــطــفــل قدميه‬
‫الــعــقــد ال ــراب ــع م ــن ال ــق ــرن الــمــاضــي على بساط المعرفة األولية‪ ،‬متحسساً‬
‫(‪1935‬م)‪ ،‬والعالم يعيش آثــار حرب طريقه في مراحله التعليمية المبكرة‬
‫كونية أولى‪ .‬وقبل سنوات من حرب كونية إلى تكملة مشوار النشأة‪ ،‬وهيأته إلى‬
‫أخــرى‪ ،‬تسببت في ضائقة اقتصادية ول ــوج مــرحــلــة الــتــكــويــن الــمــعــرفــي في‬
‫هي األضخم في التاريخ البشري‪ .‬في منتصف العقد الــســادس (‪1956‬م)‪،‬‬
‫ذلك المناخ الموحش‪ ،‬والعالم المثالي حين التحق بجامعة القاهرة لدراسة‬
‫يتفتت من حوله‪ ،‬تفتحت عينا النجم اللغة العربية وآدابها‪ ،‬وبحورها؛ تاريخاً‪،‬‬
‫الوليد على عالم لم تكن قدماه قادرة وخطاً‪ ،‬وشعراً‪ ،‬ونثراً‪ ،‬وبالغةً‪ .‬هناك‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪26‬‬
‫ملف العدد‬
‫كانت النقلة المعرفية الثانية التي دخل بها‬
‫ال تعاليم ترسيخ العقيدة‪ ،‬ومعرفة دروب‬
‫حام ً‬
‫الفضيلة من مرحلته السابقة إلــى أخرى‬
‫جديدة‪ ،‬مازجاً معها مرحلة حافلة بتفاصيل‬
‫الماضي البشري وحقبه‪ ،‬لتضعه في ختامها‬
‫عند أبــواب جامعة ليدز البريطانية على‬
‫مشارف العالم الغربي (‪1960‬م)‪ ،‬لتوسم‬
‫حياة الفتى الشاب بمقدرة على رسم خريطة‬
‫دربه؛ متسلحاً بتباين ثقافي استبقى ما يالئم‬
‫ما جاء به‪ ،‬مزيجاً من اتساع الرؤية بعداً‬
‫وعمقاً‪ .‬وحين المست قدماه أرض بالده كان‬
‫يحمل حلماً واضح المعالم‪ ،‬نيّر الرؤية! ليس‬
‫حصراً في فنون اللغة العربية‪ ،‬فتلك شهادة‬
‫وثقتها جامعة "ليدز"‪ ،‬وإنما فكراً ورؤية في‬
‫لقد حفلت مسيرته بإنجازات ليس هنا‬ ‫متطلبات المعرفة‪ ،‬ودروب النهضة؛ إنشا ًء‬
‫مكان لحصرها‪ .‬وفي مجال التأهيل أشرف‬ ‫وابتكاراً‪.‬‬
‫على عدد من طالب الدراسات العليا الذين‬
‫التحق األكاديمي الشاب بقسم التاريخ‬
‫حملت أكتافهم وما تزال عبء ذلك التخصص‬
‫بكلية اآلداب بجامعة الملك سعود (الرياض‬
‫في هيئة اآلثار والجامعات األخرى‪ ،‬رفقة من‬
‫سابقاً) (‪1966‬م)‪ ،‬ليشغل عدة مناصب عليا‬
‫التحقوا بالقسم من البلدان العربية‪ .‬كذلك‬
‫إلــى جانب ترقيات أكاديمية تالحقه وفق‬
‫أشرف على الخطط الدراسية في مراحل‬
‫منجزاته البحثية‪ ،‬وفيه أنشأ فرعاً لعلم‬
‫البكالوريوس والــدراســات العليا‪ .‬وامتدت‬
‫اآلثار (‪1976‬م)‪ .‬وعلى مستوى الكلية‪ ،‬شغل‬
‫خبرته ليخدم عــضــواً فــي مجلس ولجان‬
‫ال‬
‫عدداً من وظائفها العليا حتى أصبح وكي ً‬
‫مجلس الــــشــــورى(‪2001-1993‬م) ومكتب‬
‫ثم عميداً لها لدورتين‪ .‬وفي رحاب الجامعة‬
‫عمل في عدد من مجالسها‪ .‬وأنشأ قسماً المنظمة العربية للثقافة والعلوم (‪1979‬م)‪.‬‬
‫ال لآلثار وترأسه عــام (‪ )1978‬كما والمجلس األعلى لألثار‪.‬‬ ‫منفص ً‬
‫كذلك سطع بريقه ليصبح أحد مؤسسي‬ ‫ترأس قسم التاريخ قبله‪ .‬ونقل العمل اآلثاري‬
‫إلى مواقع الفاو والربدة كأبرز موقعين أثريين اتحاد اآلثاريين العرب‪ ،‬وعضواً في اتحاد‬
‫لحقبتي اإلسالم وما قبل اإلسالم (‪1972‬م)‪ .‬المؤرخين الــعــرب‪ .‬وأسهم في الكثير من‬

‫‪27‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫أمير المدينة المنورة يكرم عالم اآلثار الراحل الدكتور عبدالرحمن األنصاري بحضور ابنته وابنائه‬

‫ذرات الرمال التي احتوت جسدكم الطاهر‪،‬‬ ‫اللجان على النطاق المحلي واإلقليمي‪.‬‬
‫وف ــي مــجــال الــنــشــر والــتــألــيــف‪ ،‬لــه ما والعبرة في الحلق‪ ،‬تتقطع الكلمات "أيا قبر‪..‬‬
‫يزيد عن أربعين كتاباً أكاديمياً وثقافياً‪ ،‬هذا الضيف‪ ..‬آمال جيل‪ ..‬فهلل وكبر‪ ..‬والق‬
‫ومثلها أو يزيد أبحاث في دوريــات محلية‬
‫ضيفك جاثياً"‪ .‬وأنحو تجاه إنجازاتكم ألبلغ‬
‫وإقليمية وعالمية‪ ،‬كما أسهم في العديد من‬
‫شــأوهــا‪ ،‬وهــي بــدورهــا عبثاً تالحق شموخ‬
‫المؤتمرات واللجان والندوات العلمية‪ ،‬ونال‬
‫جوائز تكريم ودروع ـاً وأوسمة يقصر عنها شخصكم؛ فهنيئاً لــكــم بــهــا لــمــا أنجزتم‬
‫آلخرتكم‪ ،‬وهنيئاً لنا بها لما حفلت به دنيانا‪.‬‬ ‫الحصر‪.‬‬
‫ما كان دربك كله أزاهر ورياحين! وإنما‬
‫رحيلك أيها األخ‪ ،‬رحيل إنــســان طاهر‬
‫حفته أحياناً نجود ووه ــاد‪ .‬لكنها عزيمة‬
‫القلب والــيــد والــلــســان‪ ،‬رحــيــل عــالــم فذ‪،‬‬
‫النفس وسالمة المقصد وإرادة الحق‪.‬‬
‫ابـــن بـ ٍـار‬
‫وأكــاديــمــي بـــارع قــديــر‪ ،‬ورحــيــل ٍ‬
‫أقف اليوم أمام الفاجعة أيها األخ الفقيد‪،‬‬
‫أنـ ّقــب عــن وسيلة عــزاء فــي حقكم‪ ،‬فأجد بمعارفه‪ ،‬حف ّياً بأصدقائه‪ ،‬مخلصاً لطالبه‪،‬‬
‫نفسي معدماً حتى من الكلمة‪ .‬وأتوسل إلى محباً لوطنه‪ ..‬رحيل نجم أفــل‪ ،‬ومــا يزال‬
‫ابــن نويرة والخنساء وكــل القابضين على يضيء درب القافلة ومسار العتمة‪.‬‬
‫نواصي الكلم من ملوك الرثاء والقريض‪،‬‬
‫رحمك اهلل "أبــا محمد" رحمة واسعه‪،‬‬ ‫لعلهم يعينوننا على مــا تــجــاوز مقدراتنا‪.‬‬
‫"وأعرف أني أنادي بواد"‪ .‬وحين ألتفت إلى وأسكنك الفردوس األعلى‪.‬‬
‫* أكاديمي في الدراسات اآلثارية ‪ -‬السودان‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪28‬‬
‫ملف العدد‬

‫عل َ ٌ‬
‫م وعا ِلم في اآلثار‬ ‫َ‬
‫البروفسور عبدالرحمن محمد الطيب األنصاري‬
‫■ د‪ .‬عبداهلل حسن مصري*‬

‫ع ـنــد ال ـح ــدي ــث ع ــن شـخـصـيــة وم ـن ــاق ــب ال ــراح ــل‬


‫الكبير الدكتور عبدالرحمن األنصاري (رحمه اهلل)‪،‬‬
‫ال يحسن الفصل بين سماته اإلنسانية واألخالقية‪،‬‬
‫وبـيــن تفوقه العلمي ال ـبــارز ‪ ،‬عبر عـقــود عــديــدة من‬
‫حياته المديدة والمثمرة‪ .‬عرفته منذ نيّف وخمسين‬
‫عام ًا في مستهل مشواري العملي في مجال اآلثار والمتاحف‬
‫كمسؤول إداري أول لهذا الجهاز في وزارة المعارف‪ ،‬وذلك فـي العــام الهجري ‪۱۳۹۳‬هـ (‪۱۹۷۳‬م)‬
‫في عهد وزيرها المغفور له الشيخ حسن بن عبداهلل آل الشيخ‪ .‬ومما يشد انتباه المرء‬
‫في شخصية أبي محمد عند المقابلة هو تواضعه الجمّ ‪ ،‬وحسن المعاملة‪ ،‬والبشاشة في‬
‫المظهر‪ ،‬وصدق المشاعر في المخبر‪ ،‬كما أنه يتميز بالهدوء التام عند الحديث الجاد في‬
‫العلم والتخصص‪ .‬ومنذ لقائنا األول‪ ،‬تأسس عندي احترام وتقدير كبيران لشخصيته‪،‬‬
‫تطورا إلى صداقة وزمالة عملية حقيقية‪ ،‬في كافة مستويات النشاط في اآلثار‪.‬‬

‫والشخصية بشكل كبير‪ ،‬انعكس على أداء‬ ‫وفي هذه الكلمة الموجزة عن الدكتور‬
‫المجلس وفعالية النشاط األث ــري بفضل‬ ‫األن ــص ــاري يقتصر حــديــثــي عــن تجربتي‬
‫التعاون والتفاهم بيننا حول سبل إقناع بقية‬ ‫الشخصية معه ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬وينحصر ذلك‬
‫األعضاء عند البت في مواضيع االهتمامات‬ ‫في ثالثة محاور‪:‬‬
‫الملحّ ة المعروضة على المجلس ‪.‬‬ ‫أوالً‪ :‬المجلس األعلى لألثار‪ ،‬وهو السلطة‬
‫ثــانــي ـاً‪ :‬مــن أبـــرز نــتــائــج ه ــذا الــتــعــاون‬ ‫العليا لرسم وتخطيط سياسة المملكة في‬
‫والــتــفــاهــم الــوثــيــق مــع الــدكــتــور األنــصــاري‬ ‫مجال اآلثــار والمتاحف واإلشــراف عليها‪،‬‬
‫في إطــار مجلس اآلثــار أنه أثمر عن نجاح‬ ‫ويــرأســه وزي ــر الــمــعــارف (آنــــذاك)‪ ،‬ويضم‬
‫خطة إقناع رئاسة جامعة الرياض (الملك‬ ‫أعــضــاء مــن وزارات عــلــى مــســتــوى وكيل‬
‫ســعــود) فــي كلية األداب لتأسيس قسم‬ ‫وزارة‪ ،‬إضافة إلى عضوية من ذوي الخبرة‬
‫مستقل لألثار في كلية األداب بعد أن كان‬ ‫واالختصاص‪ ،‬وكان الدكتور األنصاري من‬
‫فرعاً في قسم التاريخ‪ .‬وباختصار‪ ..‬فقد‬ ‫أوائل األعضاء في هذه الفئة‪ ،‬واستمر ذلك‬
‫تم ذلــك بعد التفاهم بيننا على أن تصدر‬ ‫لفترة طويلة تطورت خاللها عالقتنا المهنية‬

‫‪29‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫البكالوريوس‪ ،‬وإلزامهم بعد موافقتهم‬ ‫إدارة اآلثار بوزارة المعارف خطة التزامها‬
‫بالتخصص في مجال اآلثار بشتى فروعه‪،‬‬ ‫بتوظيف عشرين متخرجاً سنوياً‪- ،‬على‬
‫وعلى أن يتم ابتعاث نصف الــعــدد إلى‬ ‫األقــل‪ -‬إذا وافقت الجامعة على افتتاح‬
‫بريطانيا والنصف األخر إلى أمريكا‪.‬‬ ‫قسم اآلثار‪ ،‬وقد صادق المجلس األعلى‬
‫وقد تكونت لجنة ثنائية من الدكتور‬ ‫لألثار على تلك الخطة‪ ،‬وخوطبت رئاسة‬
‫األنصاري ومني شخصياً‪ ،‬وقمنا بتنظيم‬ ‫الجامعة بمضمون التوصية‪ ،‬وجرى افتتاح‬
‫خطة لتنفيذ مقتضيات قرار مجلس اآلثار‬ ‫القسم الذي تطور فيما بعد وأضحى كلية‬
‫استغرقت نحو نصف الــعــام‪ ،‬واشتملت‬ ‫السياحة واآلثار حالياً‪.‬‬
‫الــخــطــة عــلــى اإلعـ ــان لــكــافــة منسوبي‬ ‫وقــد سبق ذلــك أن أقنعني المرحوم‬
‫التعليم الجامعيين من مدرسي التاريخ‬ ‫الدكتور األنصاري بأن أوافق على اإلسهام‬
‫في جميع إدارات التعليم بالمملكة‪ ،‬وكان‬ ‫في تدريس مــواد تتعلق بالتاريخ القديم‬
‫هناك تجاوب كبير يُع ّد بمئات الحاالت‪..‬‬ ‫وعلم األنثروبولوجيا لطالب قسم التاريخ‬
‫أفرز عدداً أولياً من بينهم يقارب المائة‪،‬‬ ‫لفرع اآلث ــار‪ .‬وبالفعل مارست التدريس‬
‫اســتــدعــيــنــاهــم إل ــى ال ــري ــاض‪ ،‬وأجــريــنــا‬ ‫على مستوى محاضر غير متفرع لمدة‬
‫مقابالت شخصية مكثفة‪ ،‬واخترنا من‬ ‫تزيد عن التسعة أعــوام زادت في تعميق‬
‫بينهم العدد المطلوب للبعثة‪.‬‬ ‫العالقة بيننا‪ ،‬وعقب تأسيس قسم اآلثار‬
‫وق ــد تــم بالفعل ابــتــعــاث المجموعة‬ ‫أسهمت في استقطاب مختصين في اآلثار‬
‫بكاملها في أواخــر التسعينيات الهجرية‬ ‫للتدريس في القسم بالتعاون مع الدكتور‬
‫(السبعينيات الــمــيــاديــة)‪ ،‬وق ــد تخرج‬ ‫األنصاري‪ ،‬ومنهم الدكتور جمال مختار‬
‫معظمهم بدرجتي الماجستير والدكتوراه‪،‬‬ ‫عالم المصريات‪ ،‬والدكتور غانم وحيدة‬
‫وكانوا هم اللبنة األساس للكوادر الوطنية‬ ‫أخــصــائــي الــعــصــور الــحــجــريــة القديمة‬
‫المتخصصة في مجال اآلثار والمتاحف‪.‬‬ ‫(رحمهما اهلل)‪.‬‬
‫إن ما سبق تدوينه من ثمرات التعاون‬ ‫ثالثاً‪ :‬ومــن أوجــه التكاتف والتعاون‬
‫والمؤازرة مع الراحل الدكتور األنصاري‬ ‫المباشر مع الدكتور األنصاري أن مجلس‬
‫له َو غيض من فيض واســع‪ ،‬اشتمل على‬ ‫اآلثـ ــار أص ــدر تــوصــيــة مهمة فــي بــدايــة‬
‫الكثير من التفاصيل التي ال يسع المجال‬ ‫أعماله‪ ،‬تخص تطوير الكفاءات البشرية‬
‫لذكرها‪ .‬رحم اهلل الفقيد واسكنه فسيح‬ ‫الوطنية في مجال اآلثار والمتاحف‪ ،‬وذلك‬
‫الجنان‪ ،‬وتبقى ذكــرى اسهاماته الرائدة‬ ‫باعتماد ابتعاث (‪ )٤٠‬موظفاً للدراسات‬
‫نــبــراسـاً ألجــيــال المستقبل على العمل‬ ‫العليا (ماجستير ودكــتــوراه)‪ ،‬وهــم على‬
‫الجاد‪.‬‬ ‫سلك وظائف التعليم‪ ،‬ومن خريجي درجة‬
‫ * وكيل سابق بوزارة المعارف لشئون اآلثار‪ ،‬عضو في العديد من المنظمات المحلية والدولية‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪30‬‬
‫ملف العدد‬

‫البروفيسور عبدالرحمن األنصاري‬


‫وقليل مما عرفته عنه رحمه اهلل‬
‫■ أ‪ .‬د‪ .‬أحمد بن عمر آل عقيل الزيلعي*‬

‫لم يحظ أحد من اآلثاريين الــرواد في بالدنا بمثل ما‬


‫حظي به األستاذ الدكتور عبدالرحمن بن محمد الطيب‬
‫األنصاري من الشهرة‪ ،‬والمكانة العلمية‪ ،‬وكثرة العطاءات‪،‬‬
‫وتعدد اإلنـجــازات‪ ،‬وتنوّع الميادين التي شملتها إنجازاته‬
‫ـؤرخ ــا‪ ،‬وعــالــمً ــا آث ــار ًي ــا‪ ،‬وأس ـت ــاذًا مــربـ ًيــا‪ ،‬وإدار ًيـ ــا‬
‫وع ـطــاءاتــه؛ م ـ ً‬
‫ناجحا‪ ،‬ورئيس فريق عمل‪ ،‬وباحثًا منقبًا‪ ،‬وكاتبًا مبدعً ا‪.‬‬ ‫ً‬
‫ذلــك أن الدكتور عبدالرحمن األنصاري أحد المرافق الحكومية أو األهلية‪ ،‬أو ناجحً ا‬
‫ال في الحياة العامة بمختلف قطاعاتها‪.‬‬ ‫حينما عــاد مــن بعثته فــي بريطانيا حام ً‬
‫شهادة الدكتوراه في الكتابات العربية القديمة‪،‬‬
‫ولم يكتف الدكتور عبدالرحمن األنصاري‬
‫عُين أستاذًا مساعدًا في قسم اللغة العربية‬
‫بما حققه من نجاح في عمله أستاذًا جامعيًا‪،‬‬
‫بكلية اآلداب‪ ،‬ثم انتقل بعد ذلــك إلــى قسم‬
‫وإنما سلك مسلكًا آخر جديدًا‪ ،‬وهو ال يزال‬
‫التاريخ بالكلية نفسها‪ ،‬للعمل مدرسً ا للتاريخ‬
‫في مقتبل حياته الوظيفية‪ ،‬ذلك هو اهتمامه‬
‫القديم والنقوش السامية القديمة‪ ،‬ومنذئذ‬
‫باآلثار‪ ،‬وبالرحالت األثرية‪ ،‬والكشف األثري‪،‬‬
‫عُرف األنصاري أستاذًا في َفنِّه‪ ،‬متضلعًا في‬
‫فاصطحب طالبه في رحالت أثرية استكشافية‬
‫مادته‪ ،‬متحمسً ا في تدريسها‪ ،‬مح ّبًا لطالبه‪،‬‬
‫إلى مختلف مناطق المملكة‪ ،‬وأسّ ــس جمعية‬
‫مشجعًا للمبّرزين منهم‪ ،‬يمحضهم النصيحة‪،‬‬
‫ويمطرهم بالثناء والتشجيع‪ ،‬ويحثهم على الــتــاريــخ واآلثـــار السعودية الــتــي استقطبت‬
‫الــبــحــث‪ ،‬واالســتــقــصــاء‪ ،‬والــمــثــابــرة‪ ،‬وحــبّ أع ــدادًا كبيرة من المتخصصين والمهتمين‬
‫الرحالت‪ ،‬واالستكشاف‪ .‬فأثّر فيهم‪ ،‬وتأثروا والــهــواة من داخــل الجامعة وخارجها‪ ،‬وبرز‬
‫به‪ ،‬وغدا اإلعجاب به‪ ،‬وبسيرته‪ ،‬وبرحالتهم بوصفه عالم اآلثــار الوحيد المتخصص من‬
‫معه في أرجاء المملكة حديث الذكريات بينهم‪ ،‬أبناء المملكة العربية السعودية في زمانه‪،‬‬
‫حتى وفاته‪ ،‬رحمه اهلل‪ .‬وستظل تلك الذكريات ونشط نشاطً ا ملحوظً ا في الكشف والتنقيب‬
‫حاضرة في أذهانهم ما داموا يمشون على هذه حتى أصبح معدودًا في علماء اآلثار البارزين‪،‬‬
‫البسيطة‪ ،‬فما منهم إال وقد أصبح أستاذًا في وتخطّ ت شهرته األوساط المحلية إلى عوالم‬
‫جامعة‪ ،‬أو معلمًا في مدرسة‪ ،‬أو مسؤوالً في أخرى خارجيّة‪.‬‬

‫‪31‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫كل ذلك والدكتور األنصاري‪ ،‬رحمه اهلل‪ ،‬اآلثار والمتاحف الذي وضع لبنته األولى في‬
‫معروف بعمق انتمائه‪ ،‬واعتزازه بوطنه‪ ،‬وحبّه الجامعة نفسها قبل نحو خمسة وأربعين عامًا‪،‬‬
‫له‪ ،‬وغيرته على تاريخه‪ ،‬وتراثه الحضاري‪ ،‬ورعــاه حق الرعاية حتى استوى على سوقه‪،‬‬
‫تخصصوا وأصبح واح ـدًا من أهم األقسام األثرية في‬ ‫ّ‬ ‫فــكــان مــن أوائـ ــل الــــرواد الــذيــن‬
‫في تــراث هــذه البالد اللغوي واألث ــري‪ ،‬ذلك العالم العربي‪.‬‬
‫التخصص فيه حكرًا على‬ ‫ّ‬ ‫التراث الذي كان‬
‫وم ــا مــن شــك أن األوســـــاط الــتــاريــخــيــة‬
‫المستعربين الغربيين إلى عهد ليس بالبعيد‬
‫والحضارية والثقافيّة والتراثيّة فقدت بفقد‬
‫حينما أصبح الدكتور األنــصــاري عالمًا من‬
‫األنصاري عالمًا موسوع ّيًا ورائــدًا من رواد‬
‫علماء النقوش والكتابات السامية القديمة‬
‫في الجزيرة العريية‪ .‬وغدا العالم المتمكن‪ ،‬اآلث ــار لــه بصماته التي ال تمحى على آثــار‬
‫والــبــاحــث األصــيــل‪ ،‬واألكــاديــمــي المتفاني الــجــزيــرة العربية عــامــة والمملكة العربية‬
‫فــي الــتــاريــخ واآلثـ ــار‪ .‬ووضــع حجر األســاس السعودية خاصة‪ ،‬نسأل اهلل سبحانه وتعالى‬
‫لــلــدراســات األث ــري ــة فــي المملكة العربية أن يتقبله بقبول حسن وأن يتغمده بالرحمة‬
‫الــســعــوديــة حينما أس ــس شُ ــعــبــة لــآثــار في والمغفرة وأن يحشره مع النبيين والصديقين‬
‫قسم التاريخ بكلية اآلداب ‪ -‬جامعة الملك والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وأن‬
‫ال لــآثــار‪ ،‬هــو قسم يعظم األجر ألسرته ولنا جميعًا بفقده‪.‬‬ ‫ســعــود‪ ،‬ثــم قسمًا مستق ً‬

‫سمو األمير سلطان بن سلمان يعود الدكتور األنصاري في منزله‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪32‬‬
‫ملف العدد‬

‫األنصاري‪ ..‬مؤسس المدرسة اآلثارية السعودية‬

‫■ أ‪ .‬د‪ .‬علي إبراهيم الغبان*‬


‫وضع األستاذ الدكتور عبدالرحمن الطيب األنصاري‪،‬‬
‫رح ـمــه اهلل‪ ،‬الـلـبـنــة األولـ ــى لـتــأسـيــس ال ـمــدرســة اآلث ــاري ــة‬
‫السعودية عندما أدخل علم اآلثار كاختصاص يدرس في‬
‫جامعة الملك سـعــود فــي ستينيات الـقــرن الـمــاضــي‪ ،‬فور‬
‫عودته من بريطانيا حام ًال شهادة الدكتوراة في هذا العلم‪،‬‬
‫وفــي الــوقــت نفسه عمل على توعية المجتمع السعودي‬
‫وتعريفه بعلم اآلثار وأهميته في فهم التراث الوطني وإبرازه محليا ودوليا‪ ،‬والفوائد التي‬
‫سوف تتحقق للوطن من خالل العناية باآلثار والمحافظة عليها‪.‬‬
‫اآلثار العريقة في العالم‪ ،‬فبعث بعضهم إلى‬ ‫وكان يحرص على النشر عن ذلك التوجه‬
‫المدرسة البريطانية التي تخرج منها‪ ،‬وبعث‬ ‫في الصحف والمجالت المحلية‪ ،‬ويتحدث في‬
‫آخرين إلــى الــمــدارس الفرنسية واأللمانية‬ ‫اإلذاعة والتلفزيون‪ ،‬ويقدم معلومات مبسطه‬
‫واألمريكية بل وحتى األسترالية؛ كما عمل‬ ‫عن علم اآلثار والتراث الوطني‪ ،‬أسهمت في‬
‫على تأسيس برنامج للدراسات العليا في علم‬ ‫تغيير كثير من المفاهيم السائدة‪ ،‬آنــذاك‪،‬‬
‫اآلثار في جامعة الملك سعود‪ ،‬خرّج العديد‬ ‫حــول العناية بــاآلثــار واالهــتــمــام بها‪ .‬وعلى‬
‫من المختصين من الشباب والفتيات وأشرف‬ ‫مستوى الجامعة‪ ،‬أسس شعبة لدراسة اآلثار‬
‫بنفسه على العديد منهم‪.‬‬ ‫في قسم التاريخ بكلية اآلداب‪ ،‬واستقطب لها‬
‫نخبة من تالميذه‪ ،‬ثم وسع هذه الشعبة لتصبح‬
‫وهكذا نجده قد عمل في تأسيس المدرسة‬ ‫قسماً لآلثار والمتاحف في الكلية تولى رئاسته‬
‫اآلثارية السعودية‪ ،‬وفق خطة محكمه وضعها‬ ‫ورعــايــتــه‪ ،‬وم ــارس العمل األث ــري الميداني‪،‬‬
‫لنفسه وظل ملتزماً بتحقيقها طوال حياته‪ ،‬ولم‬ ‫فنظم زي ــارات مسحية لــآثــار فــي عــدد من‬
‫تصرفه عن هدفه أيــة مغريات أخــرى‪ ،‬وقد‬ ‫الــمــنــاطــق‪ ،‬وق ــام بالتنقيب فــي مــوقــع الفاو‬
‫أطال اهلل في عمره وشاهد ثمرة جهده‪ ،‬فالتف‬ ‫األث ــري‪ ،‬وأخــذ يبعث المميزين من خريجي‬
‫حوله أكثر من خمسين عالما وعالمة آثار من‬ ‫قسم اآلث ــار ليواصلوا تعليمهم العالي في‬
‫السعوديين والسعوديات من تالميذه‪ ،‬كلهم‬ ‫مختلف تخصصات اآلثار في أقوى الجامعات‬
‫يعترفون له بالريادة‪ ،‬فاستحق بجداره لقب‬ ‫العالمية‪ ،‬وحــرص في اختياره للمبتعثين أن‬
‫مؤسس مدرسة علم اآلثار السعودية‪ ،‬وهي أول‬ ‫يمثلوا مختلف مناطق المملكة؛ وفي الوقت‬
‫مدرسة لعلم اآلثار في الجزيرة العربية أيضا‪.‬‬ ‫نــفــســه ك ــان يبعثهم إل ــى مــخــتــلــف م ــدارس‬
‫* أحد تالميذ األستاذ الدكتور‪ /‬عبدالرحمن الطيب األنصاري‪.‬‬

‫‪33‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫ذكريات مع أستاذنا األنصاري‬

‫■ د‪ .‬عبدالناصر بن عبدالرحمن الزهراني*‬

‫رحم اهلل شوقي حين قال‪:‬‬


‫ب ـ ـ ــال ـحــقِّ ت ـح ـ ـ ـ ِـفــلُ ع ـنـ ـ ـ َد ك ـ ــلِّ نِ ـ ــداء‬ ‫فاسـتجَ بْتَ ولـم َتـزل‬ ‫الحـقُّ نـ ــادَى ْ‬
‫وت ـ ـ ـ ـ ــر ْك ــت أَجـ ـيـ ـ ـ ـ ــا ًال مـ ـ ـ ــن األب ـن ـ ـ ـ ـ ــاءِ‬ ‫خـ ـ ـ ّ َلــفْ ــت فــي الــدنـيـ ــا بـيــا ًنـ ــا خـ ــالــدً ا‬
‫ـاف وح ـس ـ ــنُ ج ـ ــزاء‬ ‫ل ـلـ ِ ّـدهـ ـ ـ ــرِ ِإن ـصـ ـ ـ ـ ٌ‬ ‫وغ ـ ــدً ا سـيذكرك الــزمـ ــانُ ولـ ــم َيــزلْ‬
‫فارقنا أستاذنا ومعلمنا األستاذ الدكتور عبدالرحمن‬
‫الطيب األن ـصــاري‪ ،‬بعد صــراع مــع الـمــرض امتد نحو‬
‫ســت س ـنــوات‪ ،‬وك ــان قبلها كثير الـعـطــاء حــاضــر ًا كل‬
‫الـمـنــاسـبــات الـعـلـمـيــة واالج ـت ـمــاع ـيــة‪ .‬ت ــارك ـ ًا سـيــرة‬
‫عطرة‪ ،‬وذكرى طيبة في نفوس محبيه ومجتمعه‪،‬‬
‫وروحـ ـ ًا نقية‪ ،‬ومـيــراثـ ًا مــن العلم والـخـلــق الرفيع‪،‬‬
‫والعطاء‪ ،‬وال يُذكر قسم اآلثــار إ ّال وروح األنصاري‬
‫ظاهرة فيه‪.‬‬

‫عـــرفـــت أس ـ ــت ـ ــاذي عــبــدالــرحــمــن تخصصي لترميم اآلثــار‪ ،‬عند تخرجي‬


‫األنصاري في عام ‪1399‬هجري ‪1979‬م من الجامعة قال لي‪ :‬عبدالناصر نريدك‬
‫حــيــن قــدمــت مــن الــدمــام ألســجــل في معنا في قسم اآلثار تخصص ترميم ولم‬
‫جامعة الملك سعود (الرياض في ذلك تكن مقررات ترميم اآلثــار تدرس بعد‪،‬‬
‫الــوقــت)‪ ،‬في قسم اآلثــار وكــان هو مَن كــان فقط مــقــرراً واحـــداً فــقــط‪ ،‬وكــان‬
‫يستقبل الطالب الجدد‪ ،‬وكان لي شرف متابعاً لي إلى أن ابتعثت‪ ،‬ثم وأنــا في‬
‫مقابلته في تلك السنة‪ ،‬ومنها عرفته‪ .‬البعثة حدثت لي بعض المشكالت وكان‬
‫درســت على يديه مقرر تاريخ الجزيرة معي‪ ،‬وطلب مني تغيير الجامعة‪ ،‬فغيرت‬
‫العربية الــذي حبب إلينا هــذه األرض إلى جامعة كاردف‪ ،‬وكان من متطلباتها‬
‫وه ــذا الــتــاريــخ‪ ،‬وكــنــت معه طيلة هذه إع ــادة دراس ــة البكالوريوس‪ ،‬حيث إن‬
‫الفترة‪ ،‬وحتى في البعثة األثــريــة فقد الشهادة التي أحملها من جامعة الملك‬
‫كنت على اتصال دائم به‪ .‬كان هو سبب سعود آثار إسالمية (دراسات إنسانية)‪،‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪34‬‬
‫ملف العدد‬

‫كاتب المقال مع الدكتور عبدالرحمن األنصاري‪.‬‬


‫ودراس ــة الترميم فــي هــذه الجامعة علمي بحصولي على الدكتوراه ودعاني إلى منزله‬
‫(‪ ،)Science‬وأخبرت الدكتور عبدالرحمن لتناول طعام العشاء مع ثلة من الزمالء‪.‬‬
‫كانت فكرته في العملية التعليمية في‬ ‫رحــمــه اهلل بــذلــك‪ ،‬فــقــال لــي وبــحــزم‪ :‬نحن‬
‫قسم اآلثار أشبه بالهرم المقلوب‪ ،‬بمعنى‬ ‫نــريــدك فــي الــقــســم مــرمــمـاً فــأعــد دراس ــة‬
‫أن يدرس الطالب كل شيء عن اآلثار في‬ ‫البكالوريوس ثم أكمل الدراسات العليا‪ ،‬ولعل‬
‫الوطن العربي ثم يركز على آثار المملكة‬ ‫إصــراره لي لدراسة الترميم يعود إلى قصة‬
‫العربية السعودية خالل السنوات األربع‬ ‫حدثت له وهو في الثانية عشرة من عمره‪،‬‬
‫التي يدرسها الطالب في قسم اآلثار‪ .‬وأما‬ ‫حين كان طالباً بمعهد المدينة العلمي‪ ،‬ففي‬
‫عن استقطاب أعضاء هيئة التدريس‪ ،‬فكان‬ ‫رحلة مدرسية إلى جبل أحد لشرح الغزوة‪ ،‬إذ‬
‫يفضل أن يكون مزيجاً من الوطن العربي‬ ‫بأحد الطالب يعبث في األرض فجاءت يده‬
‫واألجنبي‪ ،‬ولم يكن يركز على جنسية دون‬ ‫على شيء فنزعه فإذا به سيف وبمجرد أن‬
‫أخــرى‪ ،‬فكان يدرسنا أساتذة من العراق‬ ‫رفعه من األرض تحوَّل بين يديه إلى ذرات‬
‫ومصر وسوريا واألردن ولبنان‪ ،‬وفلسطين‬ ‫مفتتة لطول المدة الفاصلة بين الزمنين‪..‬‬
‫والسودان‪ ،‬وأيضاً من المملكة المتحدة‪.‬‬ ‫فقد يكون من ذلك الحين وهو يفكر فيمن‬
‫أما عن حياته المهنية بعد الدكتوراه فقد‬ ‫يحافظ على هذه القطع األثرية التي بمجرد‬
‫أسس جمعية التاريخ واآلثــار‪ ،‬التي هي نواة‬ ‫لمسها تتحول إلى فتات‪.‬‬
‫حينما عــدت مــن البعثة قابلته وهنأني شعبة اآلثار ثم قسم اآلثار والمتاحف‪ ،‬وكان‬

‫‪35‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫سُ ر به النبي صلى اهلل عليه وسلم؛ الحضارة‬ ‫أول عميد سعودي لكلية اآلداب في جامعة‬
‫العربية اإلسالمية عبر العصور في المملكة‬ ‫الملك سعود‪ ،‬أسس ورأس قسم اآلثار‪.‬‬
‫العربية السعودية؛ تيماء ملتقى الحضارات؛‬ ‫يع ّد الدكتور األنــصــاري من رواد العمل‬
‫الــجــوف‪ :‬قلعة الشمال الحصينة؛ عسير‪:‬‬ ‫األكــاديــمــي واألثـ ــري فــي المملكة العربية‬
‫حصن الجنوب الــشــامــخ؛ الــبــاحــة‪ :‬الجمال‬ ‫السعودية‪ ،‬فقد أســس لــدراســة علم اآلثــار‬
‫الباسم؛ القصيم‪ :‬تاريخ وحضارة وتجارة؛‬ ‫من خالل إنشاء تخصص اآلثار ضمن قسم‬
‫القطيف واألحساء‪ :‬آثار وحضارة؛ الرياض‪:‬‬ ‫التاريخ بجامعة الملك سعود‪ ،‬عندما كان‬
‫عروس المدائن‪.‬‬ ‫رئيساً لقسم التاريخ‪ ،‬ثم أنشأ قسم اآلثــار‬
‫والمتاحف‪ ،‬وهو القسم األكاديمي األول في‬
‫وصـــدر لــه مــؤخــراً نــتــائــج أعــمــالــه التي‬
‫قــام بها في قرية الفاو األثــريــة في خمسة‬ ‫نوعه على مستوى المملكة العربية السعودية‬
‫مجلدات‪:‬المجلد األول عن التنقيبات األثرية‬ ‫ودول مجلس الــتــعــاون الخليجي واليمن‪.‬‬
‫ويمكن القول إن أهم األعمال التي قام بها‬
‫فــي ثــاثــة أجــــزاء؛ والــثــانــي عــن التسلسل‬
‫الطبقي؛ والثالث عن الفخار؛ والــرابــع عن‬ ‫الدكتور األنصاري هو قيادته ألعمال التنقيب‬
‫المسكوكات؛ والخامس عن الفنون المعدنية‪.‬‬ ‫األثري في قرية الفاو في الفترة من ‪1972‬‬
‫وما كان لهذه المجلدات أن ترى النور لوال أن‬ ‫إلى ‪1995‬م‪.‬‬
‫أمــا عن إنتاجه العلمي‪ ،‬فقد كتب أكثر قيض اهلل لها صاحب السمو الملكي األمير‬
‫من أربعين بحثاً علميا نشرت في مجالت سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز حفظه اهلل‪،‬‬
‫علمية محلية وعالمية‪ ،‬وألف أول كتاب عن الذي أحاطها برعايته حتى نشرت‪.‬‬
‫أمــا عن الجوائز التي نالها خــال فترة‬ ‫أعمال التنقيب األثري في قرية الفاو عنوانه‬
‫«قرية الفاو‪ :‬صــورة للحضارة العربية قبل حياته‪ ،‬فقد حصل على جوائز عديدة من‬
‫اإلســــام»‪ ،‬اســتــعــرض فيه نتائج المواسم أهمها الــجــائــزة الــتــي أعــلــن عنها صاحب‬
‫الستة األولــى من التنقيب األثــري في ذلك السمو الملكي األمير سلطان بن سلمان بن‬
‫الموقع األثــري المهم‪ .‬وبعد أن تقاعد من عــبــدالــعــزيــز‪ ،‬والــتــي تحمل اس ــم الــدكــتــور‬
‫العمل الرسمي في الدولة أسس «دار القوافل عبدالرحمن األنصاري‪ ،‬وكنت أحد أعضاء‬
‫للنشر»‪ ،‬أصدر فيها سلسلة «قرى ظاهرة على لجنة هذه الجائزة عندما كنت عميداً لكية‬
‫طريق البخور»‪ ،‬صدر منها ثالثة عشر كتاباً‪ :‬السياحة واآلثار‪ ،‬والتي كانت باقتراح من سمو‬
‫نجران‪ :‬منطلق القوافل؛ العال ومدائن صالح؛ األمير سلطان بن سلمان في منزل الدكتور‬
‫(الحجر)‪ :‬حضارة مدينتين؛ حائل ديرة حاتم؛ عبدالرحمن أثناء زيارة سموه وبعض محبي‬
‫الطائف‪ :‬إحدى القريتين؛ خيبر‪ :‬الفتح الذي األنــصــاري‪ ،‬وقــد اقترح سموه هــذه الجائزة‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪36‬‬
‫ملف العدد‬
‫جامعة الملك سعود‪ ،‬وجمعية اآلثار السعودية‪،‬‬
‫بــمــســمــى «ج ــائ ــزة الــدكــتــور عــبــدالــرحــمــن‬
‫األنــصــاري لخدمة آث ــار المملكة العربية‬
‫السعودية»‪ .‬وتهدف هذه الجائزة إلى العناية‬
‫باآلثار حفاظاً على هويتها الوطنية وإبــرازاً‬
‫لعمقها الحضاري ولتوظيف إرثها في الحياة‬
‫المعاصرة‪ ،‬واإلفــادة منه ثقافياً واقتصادياً‬
‫وتلمساً لسبل المحافظة عليها وتنميتها ورفع‬
‫الوعي بأهميتها‪ .‬وتُمنح الجائزة لشخصيات‬
‫لهم أثر على الساحة األثرية والعمل األثري‬
‫الذي يخدم آثار المملكة‪.‬‬

‫حينما نتحدث عن الدكتور عبدالرحمن‬


‫األنــصــاري رحمه اهلل‪ ،‬فإننا مهما تحدثنا‬
‫عنه فإننا لن نحيط بكل أعماله وقصصه‬
‫مــع اآلثـ ــار‪ ،‬فله قصص كثيرة فــي رحالته‬
‫العلمية ونشاطات إدارية‪ ،‬وحكايات في حياته‬
‫االجتماعية‪.‬‬

‫وأخــيــراً‪ ،‬فإنه يعز علينا فــراق من نحب‬


‫ويعز علينا فراق أستاذنا الدكتور عبدالرحمن‬
‫الطيب األنــصــاري‪ ،‬ومهما كتبنا من كلمات‬
‫تقديراً وعرفاناً بالدور الكبير والرائد الذي‬
‫رثاء‪ ،‬وسطرنا من حروف‪ ،‬لن نوفيه حقه لما‬
‫بذله األستاذ الدكتور عبدالرحمن الطيب‬
‫وتفان في سبيل‬
‫ٍ‬ ‫قدمه من عطاء ووقت وجهد‬
‫األنصاري طوال تاريخه العلمي والمهني في‬
‫تطور علم اآلثار‪.‬‬
‫استكشاف الكثير من المواقع األثــريــة في‬
‫رحم اهلل أستاذنا الدكتور األنصاري‪ ،‬وغفر‬ ‫المملكة‪ .‬وقد تبنتها الهيئة العامة للسياحة‬
‫والتراث الوطني‪ ،‬في ذلك الوقت‪ ،‬بمشاركة له‪ ،‬واسكنه فسيح جناته‪.‬‬

‫ * عميد كلية اآلثار بجامعة الملك سعود سابقا‪.‬‬

‫‪37‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫في ذكرى أستاذي‬
‫األستاذ الدكتور ‪ /‬عبدالرحمن األنصاري‬
‫■ د‪ .‬علي صالح املغنّ م*‬

‫عرفت أستاذي الدكتور عبدالرحمن األنصاري جميل‬


‫الخلق‪ ،‬تـهــواه القلوب‪ ،‬يسعدها لـقــاؤه‪ ،‬ويفرحها تعامله‬
‫الـحـســن‪ ،‬وروح ــه ال ـ َمــرِ حــة‪ ،‬وحــديـثــه الطيب ال ـعــذب! وفـ ٌّـي‬
‫لــوطـنــه ومــواط ـن ـيــه ولـلـحـيــاة واإلن ـســان ـيــة ج ـم ـعــاء‪ ،‬يــألــف‬
‫ويؤلف! صاحب فكر وطني‪ ،‬مخلص‪ ،‬يحب األوفياء ودعاة‬
‫الخير والـســام! يقول ابــن القيم رحمه اهلل‪« :‬إذا تقاربت‬
‫القلوب‪ ،‬فال يضرها تباعد األبدان» فسالمنا بقدر احترامنا‪ ،‬وتقديرنا ممزوج بودنا ووفائنا‬
‫ألستاذنا الكريم ‪-‬رحمه اهلل‪-‬؛ أن يسعد اهلل قلبه الطيب ويشكر اهلل تعامله معنا؛ لقاء وفائه‬
‫وإخالصه المحمود وعمله المشكور!‬
‫يعرف الحقد والحسد في حياته المعاشة‬ ‫اللهم رحماتك لروح علَّمتنا كيف نتأمَّل‬
‫أب ـدًا! هو سـالم كالغيث في علمه وعمله‪،‬‬ ‫في اآلفاق وفي ماضينا ونعتبر‪ ،‬وكيف نحب‬
‫تحيا النفوس الطموحة للعلم وأهله بعلمه‬ ‫إرثنا وهويَّتنا الحضاريَّة وقيمنا اإلسالمية‬
‫الغزير وعمله المخلص‪ ،‬كما تحيا بالغيث‬ ‫السامية الــتــي أبــهــرت الــعــالــم‪ ،‬ونحفظها‬
‫قيعان عطشى! يذكّرني لقائي األول به بكلية‬ ‫ونصونها؟ تحية لمن امتلك ب ــراءة القلب‬
‫اآلداب‪-‬جامعة الرياض‪-‬عام ‪١٣٩١‬هـ‪ ،‬بذاك‬ ‫منذ تقلَّد زم ــام العمل اآلثـ ــاري فــي زمن‬
‫األستاذ الشاب الطموح‪ ،‬الوطني‪ ،‬المنتمي‬ ‫عـ َّز فيه حــبَّ اآلثــار والبحث في مجاالته؛‬
‫لوطنه ومواطنيه‪ ،‬والمتفائل بمستقبل زاهر‬ ‫وتحية أخــرى لروحه الطموحة التي أثمر‬
‫لهما؛ لقاء غرس في نفسي شغفًا باألدب‬ ‫صفاؤها صياغة أرواح محبَّة آلثارنا وتراثنا‬
‫والــتــاريــخ والــتــراث الــحــضــاري‪ ،‬ورس ــم في‬ ‫وحضارتنا‪ ،‬وفخورة بإنجازاتها المبهرة‪.‬‬
‫ذاكــرتــي معالم طريق ما كنت سالكه لوال‬ ‫أتقن أ‪ .‬د‪ .‬األنصاري فنَّ العيش مع نفسه‬
‫شغفي برسوم حــروف تاريخية لخط نص‬ ‫والتعايش مع اآلخرين‪ ،‬إذ وثق باهلل وقدره‪،‬‬
‫مسند‪ ،‬عرفت مــن خــال عرضه وحديثه‬ ‫فكان ممن شملتهم رحمته في السر والعلن‬
‫الشيِّق عنها أهمية التاريخ في تهذيب حياة‬ ‫مــصــدا ًقــا لقوله تعالى‪﴿ :‬فاستجاب ل ُه ْم‬
‫اإلنسان! يحيي الحب في النفوس ويرتقي‬ ‫رجل‬‫ً‬ ‫ر ّبُهُم﴾؛ لهذا نحسبه ‪-‬واهلل حسيبه‪-‬‬
‫بــفــكــر اإلن ــس ــان وقــلــبــه‪ ،‬مــن خ ــال علمه‬ ‫أصلح اهلل قلبه وفكره‪ ،‬محبًا تق ّيًا نقيًا لم‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪38‬‬
‫ملف العدد‬
‫وأصدقائه وطالبه وزمالئه ومحبيه يشعرونك‬ ‫بمجريات الحياة‪ ،‬وتقلبات وتجارب اإلنسان‪،‬‬
‫بوجوده‪-‬رحمه اهلل بينهم داخل فكر وقلب‬ ‫بين القطيعة‪ ،‬والــتــقــارب‪ ،‬والخلوص منها‬
‫كــل فــرد يستمع أو يتحدث إلــيــهــم! وعند‬ ‫لقلوب متحابة‪ ،‬تربطها األخوّة واأللفة!‬
‫حضور المؤتمرات والنشاطات والفعاليات‬ ‫كان‪-‬رحمه اهلل‪ -‬صالح السريرة‪ ،‬يحسن‬
‫التي تقيمها الجامعات والندوات والمحافل‬
‫طلبه؛‬‫الظ َّن بتوفيق اهلل لــه‪ ،‬ثم بقدرات َّ‬
‫الدولية المهتمة باآلثار والتراث والثقافة‪،‬‬
‫لذلك صلحت عالنيته‪ ،‬وسعدت‪ ،‬وأسعدت‬
‫يجدون شخصه وأعماله وشغفه واهتماماته‬
‫رحلة حياته العلمية؛ متفائل‪ ..‬لهذا أوجد‬
‫ماثل ًة فــي تلك المناسبات‪ ،‬وكأنها تدين‬
‫ـان جميلة تغمرها الــخــيــرات‬ ‫لحياته مــعـ ٍ‬
‫لهذا العالم والقامة العلمية الفذَّ ة بالتقدير‬
‫وتحفها البسمة والسعادة؛ وجدت ذلك من‬
‫واالحــتــرام‪ .‬فشكرًا لقسم اآلثــار وللجمعية‬
‫خالل رحلة جمعتني به في إحدى فعاليات‬
‫السعودية للدراسات اآلثارية‪ ،‬ولمركز الملك‬
‫مملكة البحرين‪ ،‬كان فرحً ا سعيدًا وفخورًا‬
‫سلمان لــدراســات تــاريــخ الجزيرة العربية‬
‫بإنجازات طالبه البحرينيين وتحمُّلهم أعباء‬
‫وحضارتها بجامعة الملك سعود‪.‬‬
‫العمل اآلثــاري هناك! ورافقته للتجول في‬
‫كــان له دور مشهود في تأسيس الندوة‬ ‫سوق البحرين الشعبي؛ فالحظت البسمات‬
‫العالمية لدراسات تاريخ الجزيرة العربية‬ ‫ترتسم على محيَّاه‪ ،‬والسعادة تغمره‪ ،‬عندما‬
‫التي نجني ثمارها لمدة تزيد عن خمسة‬ ‫يرى معارض الصناعات الحرفية التراثية‬
‫وأربعين عامًا‪ .‬واضطلع أستاذ علم اآلثار‬ ‫وتسويقها‪ ،‬فرِ حً ا ومؤشراً لديمومتها لكونها‬
‫ومــؤســســه فــي الــســعــوديــة وعــضــو مجلس‬ ‫تشكِّل وجهات سياحيَّة جــاذبــة! عند ذلك‬
‫الشورى عبدالرحمن األنصاري‪-‬رحمه اهلل‪-‬‬ ‫يهتف دائمًا باإلعجاب «يا اهلل» تعبيرًا عن‬
‫بأعمال بحوث ميدانية كثيرة بجزيرة العرب‬ ‫إعجابه بقدرة علم اآلثــار كمورد اقتصادي‬
‫داخــل المملكة وخارجها بحثًا عــن اآلثــار‬ ‫لسياحة جاذبة في جميع حاالتها!‬
‫وتوثيقها وحفظها‪ ،‬والتعريف بها والتوعية‬
‫ولألستاذ الدكتور عبدالرحمن األنصاري‬
‫بإبراز أهميتها‪ ،‬كونها تؤصل الجذور‪ ،‬وترسخ‬
‫رحمه اهلل جهود وإنــجــازات مشهودة في‬
‫الهوية الوطنية‪ ،‬لكل شعب مــن الشعوب‪،‬‬
‫مسيرة علم اآلثار‪ ،‬بداية التأسيس والتنقيب‬
‫وارتباط جذورها باألرض؛ فاألعمال اآلثارية‬
‫عن اآلثار ودراستها‪ ،‬وقيادة أعمال التنقيب‬
‫تبحث عــن هوية اإلنــســان فــي أرضــه «من‬
‫اآلثاري في قرية الفاو‪ ،‬وله كتب وأبحاث في‬
‫أنت»!؟ سؤال يكرره دائمًا ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬في‬
‫مجالت التاريخ واآلث ــار؛ جعل اهلل جهوده‬
‫محاضراته‪ .‬إنه المؤرّخ عالم اآلثار الدكتور‬
‫عبدالرحمن الطيب األنــصــاري‪ ،‬فقد كان‬ ‫وآثاره في ميزان حسناته‪.‬‬
‫علمًا من أعالم المملكة منذ بدايات مسيرتها‬ ‫ومن خالل مشاعر أساتذة علم التاريخ‬
‫العلمية الثقافية الناهضة المؤثرة؛ وستبقى‬ ‫واآلث ــار والمختصين بــدراســات علم اآلثــار‬

‫‪39‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫األمير فيصل بن عبداهلل يدشن كتاب "الجمل عبر العصور"‬

‫عبدالرحمن الطيب األنصاري ‪-‬رحمه اهلل‪-‬‬ ‫ذكراه حاضرة في الذاكرة الثقافية الوطنية‪.‬‬
‫لحضور حفل التدشين الذي نظمته مؤسسة‬ ‫وقــد علَّقت كريمة الفقيد األنــصــاري‬
‫ليان الثقافية‪ ،‬ومكتبة الملك عبدالعزيز‬ ‫‪-‬رحــمــه اهلل‪ -‬الــدكــتــورة لبنى األنــصــاري‬
‫العامة‪ ،‬مساء يوم الثالثاء ‪ ١٢‬شوال ‪١٤٤٤‬هـ‬ ‫أنَّ ممَّا زاده ــا فــخـرًا واعــتــزازًا بإنجازات‬
‫(‪٢٠٢٣/ 05/ 02‬م)‪ ،‬والتعرف على المعرض‬ ‫والــدهــا وأ َّثـ ــر فــي مــشــاعــرهــا مــقــال سمو‬
‫المصاحب له في مكتبة الملك عبدالعزيز‬ ‫األمير فيصل بن عبداهلل آل سعود‬ الذي‬
‫العامة بحي المربع في مدينة الرياض‪.‬‬ ‫تضمَّن تقدير سموِّه الكريم لهاجس الدكتور‬
‫وأعربت عن امتنانها بالقول إن كِّل كلمات‬ ‫األنصاري بطباعة كتاب الجمل التوثيقي؛ إذ‬
‫الشكر والعرفان ال تفي المنظمين حقهم‪.‬‬ ‫كان إنجاز ذلك الهاجس تجسيد وفــاء من‬
‫أســأل اهلل أن يجعل هــذه الجهود الراقية‬ ‫سموِّه الكريم لوالدها؛ وقد ع ّد سموَّه إنجاز‬
‫واالستثنائية والمميزة في ميزان حسناتهم‬ ‫الكتاب وإخراجه إنجازًا مهمة كانت هاجس‬
‫وأن يحفظ مملكتنا ملكًا وحكوم ًة وشعبًا وأن‬ ‫الفقيد‪ ،‬رحمه اهلل‪.‬‬
‫واشادت الدكتورة لبنى بهذا العمل الرائع يديم اهلل على بالدنا نعمة اإلسالم واألمن‪،‬‬
‫وبأنَّه لمسة «وفــاء األوفــيــاء» ومنظومة في لالرتقاء باآلثار والثقافة والتراث في المملكة‬
‫رث ــاء والــدهــا يتغنى المهتمون بموسوعة العربية السعودية‪.‬‬
‫اللهم اغــفــر لصاحب الــذكــرى الطيبة‬ ‫علمية ثقافية عن سفينة الصحراء وثقافتها‪،‬‬
‫تراثاً وتاريخاً‪ .‬جاء إصدار موسوعة «الجمل عبدالرحمن الطيب األنصاري‪ ،‬وارض عنه‬
‫عبر العصور» فرصة لدعوة محبي الدكتور واجعله من أهل الفردوس األعلى‪.‬‬
‫وكيل وزارة التربية والتعليم المساعد للمتاحف سابقا‪.‬‬ ‫ *‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪40‬‬
‫ملف العدد‬

‫عبدالرحمن الطيب األنصاري‬


‫‪ ١٤٤٤-1354‬هـ (‪٢٠٢٣-١٩٣٥‬م)‬
‫■ محمد عبدالرزاق القشعمي*‬

‫ع ــرف ــت ال ــدك ـت ــور ع ـبــدالــرح ـمــن م ـح ـمــد الـطـيــب‬


‫األنصاري خالل تردده على النادي األدبي بالرياض‪،‬‬
‫وحـضــور مناسباته الثقافية‪ .‬وازدادت معرفتي به‬
‫وق ــرب ــي مـنــه م ــن خ ــال مـشــاركـتــه وعـضــويـتــه للجنة‬
‫العلمية التي كانت تعمل على إنجاز (موسوعة األدب‬
‫الـعــربــي ال ـس ـعــودي ال ـحــديــث‪ ..‬ن ـصــوص مـخـتــارة ودراسـ ــات)‬
‫ِّفت بالمشاركة بإعداد تراجم الكتاب المذكورين‬ ‫التي نشرتها دار المفردات للنشر‪ ،‬إذ كُ ل ُ‬
‫بالموسوعة‪.‬‬

‫كنت وقتها أعمل بمكتبة الملك فهد التاريخية‪ ،‬وتأليفه للكتب المعنية باآلثار‪،‬‬
‫الــوطــنــيــة‪ ،‬فــدعــوتــه لــزيــارتــهــا‪ ،‬لتسجيل ومشاركته باإلشراف على مجلة المنهل بعد‬
‫ذكرياته ضمن برنامج (التاريخ الشفوي وفاة صاحبها عمه‪ ،‬عبدالقدوس األنصاري‪.‬‬
‫اتــصــل بــي بصفته عــضــوا بالمنظمة‬ ‫للمملكة)‪ ،‬فرحب مشكورًا‪ ،‬وتمت الزيارة في‬
‫‪1420/7/28‬هـ‪ ،‬وعلى مدى ثالث ساعات‪ ،‬العربية للتربية والثقافة والــعــلــوم‪ ،‬وكــان‬
‫استعرض المحطات المهمة فــي حياته؛ مــقــرهــا تــونــس‪ ،‬وكــانــت المنظمة تصدر‬
‫بدءًا من والدته‪ ،‬وطفولته بالمدينة المنورة‪( ،‬موسوعة أعــام العلماء واألدب ــاء العرب‬
‫ممثل لجامعة الملك‬ ‫ً‬ ‫ودراسته بها‪ ،‬ثم ابتعاثه للدراسة الجامعية والمسلمين)‪ ،‬وكــان‬
‫بمصر‪ ،‬ثم الدراسات العليا بإنجلترا‪ ،‬وعودته ســعــود مــع ممثلين مــن تــونــس‪ ،‬وســوريــا‪،‬‬
‫لجامعة الملك سعود وتأسيسه لقسم اآلثار‪ ،‬ومــصــر‪ ،‬وقــازاخــســتــان‪ ،‬والهند‪ ،‬وطــهــران‪،‬‬
‫والتثقيف في األماكن األثرية ومنها منطقة واألمين العام لمنظمة المؤتمر اإلسالمي‪،‬‬
‫(الفاو) وآثار الجوف‪ ،‬وقدوم الحضارة من ويشرف على الموسوعة الدكتور المنجي‬
‫الشمال للجنوب‪ .‬وعن محاضرته أو الندوة بوسنينة‪ ،‬المدير العام للمنظمة‪ .‬وطلب‬
‫التي شارك فيها بلندن وشكك بوجود قبيلة مني المشاركة بالكتابة عن المغتربين من‬
‫قحطان؛ ما أثــار حولها كثيرًا من الــردود أبناء الجزيرة العربية منذ تأسيس المملكة‬
‫واالســتــنــكــار‪ ،‬وأخ ــيــرًا عضويته بمجلس العربية السعودية وهم‪ :‬عبداهلل القصيمي‪،‬‬
‫الــشــورى‪ .‬ثــم افتتاحه مكتبًا لــلــدراســات وعبدالرحمن منيف‪ ،‬وسليمان الدخيل؛‬

‫‪41‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫قد تهدى لمكتبة الملك فهد الوطنية أو‬
‫جامعة الملك سعود‪ ،‬فقال‪ :‬إنه ال يفضل‬
‫ذلك‪ ،‬إذ إن المكتبة والجامعة بهما كثير من‬
‫المكتبات الخاصة‪ ،‬وأنــه يفضل لو تهدى‬
‫لجامعة شقراء لكونها حديثة النشأة‪ ،‬ولكون‬
‫شقراء مسقط رأســه‪ ،‬وأض ــاف‪ :‬إنــه كتب‬
‫وصيته‪ ،‬وأوصــى بمكتبته لجامعة المدينة‬
‫المنورة‪ ،‬حيث ولد‪.‬‬
‫وقــد أحسن زمــاء الدكتور األنــصــاري‬
‫وتالمذته عندما تنادوا إلصدار كتاب بعد‬
‫تقاعده أسموه (دراسات في تاريخ الجزيرة‬
‫العربية وحضارتها)‪ ،‬أشرفت عليه لجنة‬
‫برئاسة الدكتور أحمد الزيلعي بمناسبة‬
‫بلوغ الدكتور األنصاري السبعين من عمره‪.‬‬
‫كما شــارك األنصاري بموسوعة األدب‬ ‫فكتبت مــا تيسر‪ ،‬وبــعــد فــتــرة طلب مني‬
‫العربي السعودي مع الفريق العلمي بالمجلد‬ ‫الترجمة لعدد آخر من أبناء المملكة‪ ،‬وهم‪:‬‬
‫األول‪ -‬مقدمات عامة‪ ،‬وبالمجلد السادس‪-‬‬ ‫عبداهلل عريف‪ ،‬وأحمد السباعي‪ ،‬ومحمد‬
‫السيرة الذاتية‪.‬‬ ‫الطيب الساسي‪ ،‬ويوسف ياسين‪ ،‬وكانت‬
‫جاء في ترجمته بالموسوعة‪ ..« :‬حصل‬ ‫الموسوعة تصدر عن دار الجيل ببيروت‪،‬‬
‫وقــد صــدر مجلدها األول عــام ‪1425‬ه ـــ على البكالوريوس من قسم اللغة العربية‬
‫(‪2004‬م)‪ ،‬صدر منها حتى حرف العين في بكلية األداب جامعة القاهرة ‪1960‬م‪ ،‬كما‬
‫حصل على الــدكــتــوراه مــن جامعة ليدز‬ ‫نحو ‪ 30‬مجلدًا‪.‬‬
‫استمر تواصلي مع الدكتور األنصاري بإنجلترا ‪1966‬م‪ ،‬وعــمــل بالتدريس في‬
‫بزيارته في مكتبه‪ ،‬أو عن طريق مندوب قسم التاريخ‪ ،‬ثم قسم اآلثــار والمتاحف‬
‫يزودني بما صدر من مكتبه‪ ،‬ويطلب بعض بكلية اآلداب‪ -‬جامعة الملك سعود‪ ،‬وشغل‬
‫ما صدر من سلسلة (هــذه بالدنا) عندما مناصب رئيس قسم التاريخ‪ ،‬ثم قسم اآلثار‪،‬‬
‫كــنــت أعــمــل بــرعــايــة الــشــبــاب‪ ،‬أو بعض فوكيال ثــم عميدا كلية اآلداب‪ ،‬وبعدها‬
‫إصدارات المكتبة‪ ،‬وبالذات المعنية باآلثار اإلشـــــراف عــلــى مــركــز خــدمــة المجتمع‬
‫والتعليم المستمر بجامعة الملك سعود‪.‬‬ ‫والتاريخ‪.‬‬
‫وخ ــال عمله بالجامعة أش ــرف على‬ ‫وقد سألني بُعيْد وفاة األستاذ عبدالكريم‬
‫الجهيمان عــن مصير مكتبته‪ ،‬فقلت له‪ :‬تأسيس فرع اآلثار في قسم التاريخ بكلية‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪42‬‬
‫ملف العدد‬
‫بالجمهورية اليمنية ‪1998‬م‪.‬‬ ‫األداب‪ ،‬وإنشاء جمعية التاريخ واآلثار عام‬
‫‪1386‬هـــ (‪1966‬م)‪ ،‬ورأس الندوة العلمية ‪ -‬درع اتحاد اآلثاريين العرب ‪ -‬الجامعة‬
‫العربية‪ ..‬القاهرة ‪2001‬م‪.‬‬ ‫الثالثة لدراسة تاريخ الجزيرة العربية التي‬
‫عقدت بالجامعة‪ ،‬ومديرًا للتقنيات األثرية‬
‫تــرجــم ل ــه أحــمــد ســعــيــد بــن ســلــم في‬
‫لمنطقة الفاو‪.‬‬
‫(موسوعة األدباء والكتاب السعوديين خالل‬
‫كــمــا اخــتــيــر ال ــدك ــت ــور عــبــدالــرحــمــن مائة عام) وذكر أنه درس بالمدينة المنورة‬
‫األنصاري عضوًا بمجلس الشورى لدورتيه حتى نهاية المرحلة الثانوية‪ ،‬وإن أطروحته‬
‫األولــى والثانية‪ ،‬وهــو عضو في كثير من للدكتوراه من جامعة ليدز بإنكلترا بعنوان‬
‫اللجان العلمية‪ ،‬المحلية والعربية والعالمية؛ (تاريخ قبل اإلسالم)‪.‬‬
‫مثل‪ :‬المجلس األعــلــى لــأثــار بالمملكة‪،‬‬
‫وذكر من مؤلفاته‪:‬‬
‫والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم‪،‬‬
‫والهيئة الدولية لكتابة تاريخ اإلنسانية التابع ‪ -1‬ظــاهــرة الــهــروب فــي أغــاريــد طاهر‬
‫زمخشري صدر على ‪1380‬هـ‪1960 /‬م‪.‬‬ ‫لمنظمة اليونسكو‪.‬‬
‫‪ -2‬ظاهرتان في حياة أبي الطيب المتنبي‪..‬‬ ‫أوسمة وجوائز‪:‬‬
‫نسبه وتــنــبــؤه‪ ،‬ص ــدر ع ــام ‪1381‬هـــــ‪/‬‬
‫حاز األنصاري على أوسمة وجوائز منها‪:‬‬
‫‪1961‬م‪.‬‬
‫‪ -‬وسام االستحقاق من الدرجة األولى في‬
‫‪ -3‬مــصــادر تــاريــخ الــجــزيــرة الــعــربــيــة ‪-‬‬
‫المملكة العربية السعودية عام ‪1982‬م‪.‬‬
‫باالشتراك ‪ -‬صدر عام ‪1399‬هـ‪.‬‬
‫‪ -‬جائزة مؤسسة التقدم العلمي الكويتية ‪ -4‬قرية الفاو صورة للحضارة العربية قبل‬
‫اإلسالم في المملكة العربية السعودية‪.‬‬ ‫عام ‪1984‬م‪.‬‬
‫طبع باللغتين العربية واإلنجليزية‪ ،‬صدر‬ ‫‪ -‬وشاح الثقافة والفنون من وزار ة الثقافة‬

‫‪43‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫اإلســــام ‪ -‬مــجــلــة الــجــوبــه‪ ،‬مؤسسة‬ ‫عام ‪1402‬هـ‪.‬‬
‫عبدالرحمن السديري»‪.‬‬ ‫‪ -5‬الــعــا والـ ِـحــجــر ص ــورة مــن الحضارة‬
‫العربية‪ ،‬صدر عام ‪1406‬هـ‪1986 /‬م‪.‬‬
‫وقد أصدرت وزارة المعارف‪ -‬وكالة اآلثار‬
‫وترجم له في (موسوعة الشخصيات‬
‫والمتاحف ‪ -‬سلسلة أثار المملكة ‪ -‬لعدد‬
‫السعودية) من مؤسسة عكاظ للصحافة‬
‫والنشر‪ ،‬واضافة لترجمته‪ ..‬رئاسته لمجلس من مناطقها ‪ ،-‬وقد تولى األنصاري رئاسة‬
‫إدارة الجمعية الوطنية الخيرية للمتقاعدين لجنة اإلشراف العلمي‪ .‬وفي عام ‪1420‬هـ‪/‬‬
‫‪2000‬م‪ ،‬أصـــدرت مؤسسة عبدالرحمن‬ ‫‪1426‬هـ‪2005 /‬م‪.‬‬

‫وكتب عنه محمد بن صالح عسيالن في السديري مجلة آثار باسم (أدوماتو)‪ ،‬االسم‬
‫(إشراقات طيبة) وعلى مدى ‪ 25‬صفحة‪،‬‬
‫القديم لدومة الجندل‪ ،‬وهي مجلة نصف‬
‫استعرض سيرته ومسيرته العلمية‪ ،‬وضمّنها‬
‫مقابلة معه‪ ،‬قال فيها إن والده توفي وهو سنوية محكّمة تعنى بأثار الوطن العربي‪،‬‬
‫في التاسعة من عمره‪ ،‬وأن قدوته ابن عمه ف ــرأس تحريرها عــالــم اآلثـــار السعودي‬
‫عبدالقدوس األنصاري‪ .‬وأشار فيها إلى أنه الدكتور عبدالرحمن الطيب األنــصــاري‪.‬‬
‫عض ٌو بمجلس إدارة مكتبة الملك عبدالعزيز‬
‫كما أصدر الدكتور األنصاري سلسلة (قرى‬
‫العامة‪ ،‬وعضو بمجلس أمناء جائزة الملك‬
‫عبداهلل للترجمة‪ ،‬وعضو الهيئة االستشارية ظاهرة على طريق البخور) صدر منها‪:‬‬
‫ل ــوزارة الثقافة واإلعـــام‪ ..‬إلــخ؛ وأنــه نال‬
‫‪ -‬حائل ديرة حاتم‪.‬‬
‫جائزة األمير (الملك) سلمان للريادة في‬
‫‪ -‬نجران منطقة القوافل‪.‬‬
‫تاريخ الجزيرة العربية‪،‬‬
‫‪ -‬تيماء ملتقى الحضارات‪.‬‬
‫من مؤلفاته وبحوثه‪:‬‬
‫‪ -‬الطائف إحدى القريتين‪.‬‬
‫‪ -‬المواصالت واالتــصــاالت في المملكة‬
‫‪ -‬عسير حصن الجنوب الشامخ‪.‬‬
‫العربية السعودية عام ‪1419 - 1319‬هـ‪.‬‬
‫‪-‬القطيف واألحساء (أثار وحضارة)‪،‬‬
‫‪ -‬قرية الفاو وصــورة للحضارة العربية‬
‫‪ -‬الباحة (الجمال الباسم)‪،‬‬ ‫القديمة قبل اإلسالم‪.‬‬
‫‪ -‬كــتــابــات مــن قــريــة الــفــاو‪ ،‬مجلة كلية ‪ -‬خيبر‪ :‬الفتح الذي س ّر به النبي صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪.‬‬ ‫اآلداب‪ .‬جامعة الملك سعود‪.‬‬
‫‪ -‬منطقة الــجــوف فــي عــصــور مــا قبل ‪-‬الجوف (قلعة الشمال الحصينة)‪.‬‬
‫* باحث سعودي‪ ،‬كتب المقال لمجلة الجوبة قبل وفاة العالمة الدكتور عبدالرحمن األنصاري رحمه اهلل‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪44‬‬
‫ملف العدد‬

‫والدي الحبيب‪ ..‬رحمه اهلل‬

‫■ أ‪ .‬د‪ .‬لبنى بنت عبدالرحمن الطيب األنصاري*‬

‫أصيب والدي بداء أقعده عن المشي والحركة في‬


‫سنوات حياته األولى‪ ،‬ولكن أصحاب الهمم العالية‬
‫أقوى من أي داء‪ .‬شفاه اهلل من ذلك الداء ومنَّ عليه‬
‫بحفظ القرآن كام ًال في الكتّاب في سن السابعة‪ ،‬وكم‬
‫كــان وال ــده الشيخ محمد الطيب األن ـصــاري ‪ -‬شيخ الحرم‬
‫النبوي‪ -‬فـخــور ًا بابنه وقــد أتــم حفظ الـقــرآن‪ ،‬ولكن شــاء الـقــدر أن يكون هــذا هــو النجاح‬
‫الوحيد البنه الذي يشهده‪ ،‬فقد توفي جدي حينما كان والدي في سن التاسعة‪ ،‬ولم يبق له‬
‫من إرث والده سوى السيرة العطرة التي كانت نبراس ًا له‪ ،‬ومكتبته التي تزخر بأمهات الكتب‬
‫وبالكتب التي ألفها جدّ ي‪ ..‬وبعضها كان بخط يده‪.‬‬

‫شعر والدي حينها بمرارة اليتم والفقر‪ ،‬بين العلم والعمل‪ ،‬وكيف يعتمد على نفسه‪،‬‬
‫والــتــي لــم يخففها عنه إال والــدتــه الشابة فكان عصامياً من الدرجة األولى‪ ،‬واكتسب‬
‫السيدة عائشة شويل‪ ،‬التي رفضت الزواج‪ ،‬مهارات التعامل والتفاوض‪ .‬وال تخلو ذكرياته‬
‫وعــكــفــت عــلــى رعــايــة أبــنــائــهــا وتنشئتهم مع جدتي في هذه المرحلة من حياته من‬
‫مــواقــف كثيرة علمته فيها وبــقــوة مكارم‬ ‫وتعليمهم‪.‬‬
‫رفض والــدي أن يبيع مكتبة جـدّي رغم األخ ــاق‪ .‬ونجحت جــدتــي‪ ،‬ونجح والــدي‪،‬‬
‫الفقر الذي عانوا منه‪ ،‬وتعاونت جدتي مع وتفوق في دراسته‪ ،‬وكان من النخبة‪ ،‬فابتُعِ ث‬
‫والدي على أن يجلبا لألسرة ما يس ّد رمقها لجامعة القاهرة للحصول على البكالوريوس‪،‬‬
‫ويحفظ ماء وجهها في المجتمع‪ .‬فعلى سبيل ثم لجامعة ليدز في بريطانيا للحصول على‬
‫ال ليكون من أوائــل‬
‫المثال‪ ،‬كانت جدّتي تخيط بيديها قطعاً من الدكتوراه‪ ،‬ثم عــاد مكل ً‬
‫المالبس يرغب المعتمرون وزوار المدينة أعضاء هيئة التدريس السعوديين‪.‬‬

‫منذ أو وعيت على الحياة‪ ،‬بدأت ذكرياتي‬ ‫المنورة بها‪ ،‬وتطلب من والــدي أن يبيعها‬
‫فــي الــحــرم‪ ،‬ولعله بذلك تعلم كيف يجمع مع والــدي‪ ،‬ولكنه على مر السنين كان لي‬

‫‪45‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫من قبل ذلك في حياته مستقيماً وصادقاً‬
‫وواضحاً وكريماً ورحيماً باآلخرين‪.‬‬
‫كان أنموذجاً حياً لما يجب أن يكون عليه‬
‫أبناء أمة "إقرأ"‪ ،‬فكان واسع االطالع وواسع‬
‫األفــق‪ ،‬ومحباً للبحث‪ ،‬والتساؤل‪ ،‬والفهم‪،‬‬
‫والنقد‪ ،‬وكان حريصاً على أن نكون كذلك‪.‬‬
‫كان العلم قيمة مهمة بالنسبة له‪ ،‬وكان يرى‬
‫هو ووالدتي أن االستثمار في تعليم أبنائهما‬
‫هو االستثمار األهم في حياتهما‪ .‬لم يحرص‬
‫على اقتناء الــمــال‪ ،‬بل كــان يــرى أن المال‬
‫وسيلة لالستثمار في تعليمنا‪ ،‬فحرص على‬
‫أن نتعلم في مــدارس متميزة في الرياض‪،‬‬
‫وأن نتعلم اللغة اإلنجليزية فــي مــدارس‬
‫صيفية في بريطانيا؛ ويحثنا على التعرف‬
‫على اآلخرين على اختالفهم والتحاور معهم‪.‬‬
‫كان يريد أن نتّسم باتساع األفق‪ ،‬والشمولية‬
‫في الفكر‪ ،‬والرغبة في تعلم المزيد‪ ،‬ويحثنا‬
‫دائماً على القراءة باستمرار‪ ،‬وكان الذهاب‬
‫إلى المكتبة لشراء قصص وروايات وكتب هو‬
‫المشوار الوحيد الذي يوافق عليه بسهولة‪.‬‬
‫وحينما كنا نسافر إلى أي دولــة لم نزرها‬ ‫أكثر من والد؛ فقد كان صديقي‪ ،‬ومعلمي‪،‬‬
‫من قبل كانت زيارة المتحف والمعالم األثرية‬ ‫ومــصــدر الــدعــم العلمي‪ ،‬والــمــعــنــوي‪ ،‬كما‬
‫هي الرحالت السياحية األولى لنا فيها‪ .‬كما‬ ‫تنوعت مشورته لي حسب احتياجاتي عبر‬
‫حــرص على أن نتعلم شيئاً من الفرنسية‬ ‫السنين‪.‬‬
‫واأللمانية واللتين كان يفهمهما‪.‬‬ ‫اجتهد والدي في أن يكون خلقه القرآن‪،‬‬
‫كان يتمنى أن يكون طبيباً وحالت األقدار‬ ‫فحرص على "تقوى اهلل"‪ ،‬وأوصانا دائماً بها‪،‬‬
‫دون ذلــك‪ ،‬ولكنه كــان كالطبيب والمعالج‬ ‫حتى عندما اشتد عليه المرض وكان بالكاد‬
‫النفسي من حيث كونه قادراً على االستماع‬ ‫يستطيع أن يتحدث‪ ،‬كان يوصينا بتقوى اهلل‪.‬‬
‫جيداً دون مقاطعة حينما تكون لدي مشكلة‪،‬‬ ‫كان في مرضه صابراً حامداً شكوراً‪ ،‬وكان‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪46‬‬
‫ملف العدد‬
‫أو أنه يسألني أسئلة بسيطة تساعدني على بعض القطع األثرية في الفاو‪ ،‬فهي دليل ال‬
‫سرد مشكلتي على نحو أشمل وأعمق‪ ،‬ثم يقبل الشك على امتزاج الحضارات المختلفة‬
‫يسألني عــن الــحــلــول المتاحة‪ ،‬وإمكانية في قرية الفاو محط القوافل والتجارة قروناً‬
‫تطبيق حلول لم تخطر على بالي‪ ،‬وغالباً ما‬
‫قبل الميالد‪ .‬وبالتالي لم يكن الوالد طبيباً‪،‬‬
‫أصل بذلك للخيار األفضل‪ .‬كان يشجعني‬
‫ولكن تعلمنا منه الكثير من المهارات التي‬
‫على اتخاذ قراراتي بنفسي‪ ،‬ونادراً ما يفرض‬
‫رأيه‪ ،‬أو حتى يطرحه إال إذا سألته عن رأيه! تعيننا على أداء دورنــا على أكمل وجه في‬
‫اتخاذ القرارات المتعلقة بالمرضى سريرياً‪،‬‬
‫كــان فخوراً بنا جميعاً‪ ،‬ولكنه بالتأكيد‬
‫ســعِ ـ َد كثيراً بــأن كــان أخــي عــاصــم طبيب وكــذلــك فــي وض ــع الــتــوصــيــات والــقــواعــد‬
‫أسنان‪ ،‬وكنتُ طبيبة بشرية (طبيبة أسرة)‪ ،‬اإلرشــاديــة للممارسة السريرية والصحة‬
‫فحققنا بذلك حلماً كــان ال يــزال يــراوده‪ .‬العامة‪ ،‬والتي يتم تطبيقها على نطاق واسع‪.‬‬
‫وق ــد يستغرب الــقــارئ أن كلينا مــعــروف‬
‫إنني أفتقده كثيراً بال شك‪ ،‬ال أفتقد فقط‬
‫بأنه من السباقين في تخصصه لالهتمام‬
‫حواراتي معه؛ ففي العقد األخير من حياته‬
‫بتوجّ ه االستناد لألدلة والبراهين المستقاة‬
‫من أفضل البحوث العلمية‪ ،‬وهو ما يسمى لم يكن والــدي قــادراً على الكالم‪ ،‬وتكيّفت‬
‫بالطب المبني على البراهين‪ ،‬أو الطب مع ذلــك‪ ،‬ولكني أفتقد وجــوده أيضاً‪ ،‬فقد‬
‫المسند بالبينات‪ ،‬ولكني حينما أتأمل في كان منبع قوة بالنسبة لي وأنموذجاً للصبر‬
‫ذلك ال أستغربه أبــداً‪ .‬لقد نشأنا في بيئة والتحمل‪ ،‬ولعل اهتمامه بالجمل كان ينبع‬
‫نمَت فيها مهاراتنا النقدية‪ ،‬واستوعبنا فيها من شعوره بــأن هناك أوجــه شبه بينهما؛‬
‫تماماً الفرق بين التاريخ واآلثار‪.‬‬
‫ولكن عزائي أنه وجد التكريم من والة األمر‬
‫الــتــاريــخ قــد يختلف حسب وجــهــة نظر في حياته وبعد مماته‪ ،‬وأرجو اهلل أن يجد‬
‫الــراوي واهتماماته‪ ،‬وهــو بذلك يشبه إلى‬
‫ذلك عند بارئه‪ ..‬وعزائي أيضاً أننا لسنا‬
‫حد ما الطبيب الذي يتخذ القرار بنا ًء على‬
‫االستثمار الوحيد في حياته‪ ،‬بل استثمر في‬
‫الحدس أو الخبرة السريرية‪ ،‬أما القطعة‬
‫األثرية (أو اآلثــار بشكل عــام) فهي برهان بناء أجيال من اآلثاريين يشار لهم بالبنان‪،‬‬
‫علمي ودليل ملموس ال يقبل الجدل‪ ،‬وكم وسيحافظون على تخصص اآلث ــار وإرث‬
‫سمعنا من الوالد عن سعادته عند اكتشاف األجداد على خير وجه‪ ،‬إن شاء اهلل‪.‬‬
‫ * أستاذ بقسم طب األسرة والمجتمع ‪ -‬كلية الطب ‪ -‬جامعة الملك سعود‪ ،‬عضو مجلس الشورى السعودي‬
‫سابقاً‪ ،‬مساعد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية لشؤون القياس والتقييم سابقاً‪.‬‬

‫‪47‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫عبدالفتاح كيليطو‬
‫الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية‬
‫وسابر أغوار السرد العربي‬
‫■ احملرر الثقايف‬
‫فــاز األدي ــب عبدالفتاح كيليطو بجائزة الملك فيصل للغة العربية واألدب‬
‫لهذا العام ‪ 1444 - 2023‬وموضوعها «السرد العربي القديم والنظريات الحديثة»‪.‬‬
‫وبررت لجنة تحكيم الجائزة تتويجها لكيليطو من المملكة المغربية بـ «براعته‬
‫في تأويل األعمال السردية العربية القديمة بدراسات مكثفة‪ ،‬وتمثّله المناهج‬
‫النقدية الحديثة تم ّث ًال إيجابياً‪ ،‬وعمله على تكييفها بما يناسب رؤيته التي‬
‫اتّصفت بالجدّ ة والطرافة‪ ،‬واإلبــداع‪ ،‬وتميزّه بالقدرة على تقديم السرد العربي‬
‫للقارئ العام بأسلوب واضح»‪.‬‬
‫وقــد ك ـرّمــت جــائــزة الملك فيصل واضح ودقيق‪.‬‬

‫وذك ــرت جــائــزة الملك فيصل‪ ،‬في‬ ‫عــبــدالــفــتــاح كيليطو ف ــي احتفالية‬

‫الجائزة بمدينة الرياض‪ ،‬ووصفته بأنه تقرير حفل جوائزها‪ ،‬أن كيليطو قد‬
‫«أبرز النقاد في السرد العربي القديم أشاد بالبعد الدولي للجائزة قائال‪« :‬ال‬
‫يخفى أن البعد الدولي لهذه الجائزة‬ ‫والنظريات الحديثة»‪.‬‬

‫وجاء هذا التتويج لتميزه في جوانب يضفي عليها قيمة مضافة‪ ،‬ويرفع من‬
‫في السرد العربي القديم لم يلتفت المعيار الــذي خضعت له اإلنتاجات‬
‫إليها أحد قبله‪ ،‬وكذا قدرته على تقديم الــتــي حظيت بــالــجــوائــز فــي مختلف‬
‫السرد العربي للقارئ العام بأسلوب الحقول‪ ،‬وكذا من قيمتها العلمية»‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪48‬‬
‫دراسات ونقد‬
‫وفي احتفالية باألديب المغربي أقيمت من النظريات الغربية الحديثة في تناول‬
‫في الرباط قال الدكتور عبدالعزيز السبيّل‪ ،‬النصوص السردية القديمة‪ ،‬وفي طليعتها‬
‫األمين العام لجائزة الملك فيصل العالمية‪ ،‬المقامات‪ ،‬وألف ليلة وليلة»‪.‬‬

‫وأعرب كيليطو عن سعادته بهذا التكريم‪،‬‬ ‫«إن فوز كيليطو بجائزة الملك فيصل للغة‬
‫العربية واألدب‪ ،‬هو فوز مستحقّ بجدارة»‪ ،‬وعــن امتنانه لجائزة الملك فيصل على‬
‫مؤكداً أنه من «حق البحث العلمي والتأصيل هذه االلتفاتة‪ ،‬مجدداً التأكيد على «الوثبة‬
‫المعرفي‪ ،‬أن نحتفي به هنا في الرباط بين الثقافية التي تشهدها المملكة في أكثر من‬
‫صعيد»‪.‬‬ ‫أهله ومريديه»‪.‬‬

‫وبمناسبة الفوز تخصص مجلة الجوبة‬ ‫ورأى السبيّل أن كيليطو «يشكّل مشروعاً‬
‫إلعادة قراءة تراثنا السردي العربي‪ ،‬يتّكئ إض ــاءة خاصة على تجربة كاليليطو في‬
‫على الــرؤى النقدية العربية‪ ،‬واالستفادة ثالثة مقاالت‪:‬‬

‫كيليطو يتوسط أمير الرياض األمير فيصل بن بندر واألمير تركي الفيصل‬

‫‪49‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫عبدالفتاح كيليطو قارئا للجاحظ‬

‫■ علي بلجراف*‬

‫كيليطو يلتقي الجاحظ صدفة‬


‫لم يكن «الكاتب المغربي «عبدالفتاح كيليطو» يتصور أنه سيقرأ كتب ًا للجاحظ‪،‬‬
‫بالرغم من أنه كان يحفظ عناوين بعضها وهو تلميذ‪ ،‬مثل‪« :‬البيان والتبيين»‪،‬‬
‫«الـبـخــاء»‪ ،‬و«ال ـح ـيــوان»‪ .‬فلقد كــان نظام التعليم فــي الـعــام ‪1966‬م فــي المغرب‬
‫يقضي بأن يحضر الطالب الراغب في متابعة الدراسة بعد شهادة اإلجازة ما كان‬
‫يسمى آنذاك «الشهادة الرابعة»‪ ،‬على أن تكون في شعبة أخرى غير شعبة الطالب‬
‫األصلية‪.‬‬

‫الصدفة‪ ،‬كما يقال‪ ،‬خير من ألف ميعاد‪،‬‬ ‫اختار الطالب «كيليطو» المجاز في‬
‫فإن «كيليطو» عثر لدى الجاحظ على ما‬ ‫األدب الفرنسي‪ ،‬إنجاز الشهادة المطلوبة‬
‫يغري بمواصلة القراءة والحفر في مؤلفيه‬ ‫فــي األدب الــعــربــي‪ .‬هــكــذا تــعــرف على‬
‫«البخالء» و«الحيوان» الستخراج «ما قيل»‬ ‫مؤلفين مرموقين‪ ،‬يذكر منهم‪ :‬ابن هشام‪،‬‬
‫فيه وما «لم يُقَل» أيضا في هذين المؤلفين‬ ‫واب ــن قتيبة‪ ،‬واآلمـ ــدي‪ ،‬واب ــن طباطبة‪،‬‬
‫وهو موضوع هذا المقال‪.‬‬ ‫والجرجانيين (صاحب كتاب «الوساطة»‬
‫وصاحب كتاب «أســرار البالغة»)‪ ،‬وابن‬
‫إن أول فرق تفطن له «كيليطو» كان بين‬ ‫شرف القيرواني‪ .‬لكن‪ ،‬إذا كانت إكراهات‬
‫تمثله األولي حول كتاب «البخالء» وحكمه‬ ‫البرنامج المقرر قد أجبرته على قراءة‬
‫عليه بعد قراءته قــراءة متمعنة‪ .‬غير أن‬ ‫بعض «أمهات» الكتب في األدب العربي‪،‬‬
‫االكتشاف األهم هو أن البخيل في كتاب‬ ‫فإن الصدفة هي ما سيحمله على أن يقرأ‬
‫الجاحظ يأخذ الكلمة ليدافع عن أفكاره‪،‬‬ ‫بصفة عرضية كتاب «البخالء» للجاحظ‪.‬‬
‫وهــو الصامت األب ــدي كما عهدناه في‬ ‫هــذا مــا يقره «كيليطو» نــفــســه(((‪ .‬وألن‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪50‬‬
‫دراسات ونقد‬
‫إل ــى الــتــقــاط ه ــذا الــمــفــهــوم فــي مــحــاضــرة‬ ‫كتب اآلخرين‪ .‬يقول «كيليطو»‪« :‬شخصيا ال‬
‫للفيلسوف الفرنسي «جاك دريدا» تحولت إلى‬ ‫أعرف مؤلفاً آخر منح للبخالء فرصة الكالم‬
‫كتاب تحت عنوان «إعطاء الوقت»(((‪ .‬كان ال بد‬ ‫ال في األدب العربي وال في األدب العالمي‬
‫إذاً من استثمار هذا المفهوم لقراءة الكتاب‬ ‫قبل الــجــاحــظ»(((! فماذا يقول البخالء وقد‬
‫الثاني‪ ،‬الكتاب النقيض لكتاب «البخالء»‪ ،‬ألن‬ ‫أخذوا الكلمة في كتاب الجاحظ؟ أو باألحرى‬
‫الكتاب الذي ال يتضمن نقيضه ليس كتابا‪ .‬وراء‬ ‫ماذا يسترعي انتباه «كليطو» في كالمهم وفي‬
‫«ثيمة» البخل والكرم‪ ،‬أو البخالء واألسخياء‬ ‫مواجهتهم ألضدادهم األسخياء؟‬
‫توجد «ثيمة» الشعر والنثر‪ ،‬أو الشعر والكتابة‪.‬‬ ‫يعترف «كيليطو» أنه عندما قرأ الجاحظ‬
‫هذه هي اإلشكالية المركزية المتوارية خلف‬ ‫أول مــرة وهــو طالب لم يمسك ســوى بأفكار‬
‫البخل والــكــرم كإشكالية ظــاهــرة فــي كتاب‬ ‫عامة ظاهرة لعيان أي قارئ‪ ،‬من قبيل استنكار‬
‫«الــبــخــاء»‪ .‬لكن‪ ،‬مــا هــو «الــبــوتــاتــش»؟ وما‬
‫صاحب الكتاب‪ ،‬ظاهريا‪ ،‬لمذهب البخالء‬
‫عالقته بالشعر والشعراء؟‬
‫وسخريته من تصرفاتهم في بعض األحيان‪..‬‬
‫ثقافة البوتالتش والشعر‬ ‫لكن‪ ،‬مــع اقــتــران ذلــك كله فــي الــوقــت نفسه‬
‫بــاإلشــادة الجاحظية ببالغتهم وفصاحتهم‬
‫تكشف ال ــدراس ــات فــي علمي االجــتــمــاع‬
‫وامتالكهم «ق ــوة الــكــام»‪ .‬ومــمــا يبعث على‬
‫واألنــثــروبــولــوجــيــا حــول مــوضــوع «الــهــبــة» أو‬
‫الريبة هنا‪ ،‬يالحظ «كيليطو»‪ ،‬غياب أي تنويه‬
‫(((‬
‫«الــعــطــاء»‪ ،‬منذ كتاب «البحث فــي الهبة»‬
‫باألسخياء‪ .‬غير أن هــذا اإلدراك لمضمون‬
‫لمارسيل مــوس‪ ،‬أن ثقافة «البوتالتش» لدى‬
‫الكتاب من طرف القارئ «كيليطو» سيتطور في‬
‫الــشــعــوب الــهــنــدو أمــريــكــيــة تتضمن طقساً‬
‫مرحلة الحقة‪ .‬سيتضح له أن «كتاب البخالء‬
‫التزام عرفي ثالثي يتضمن‬ ‫ٍ‬ ‫احتفالياً يقوم على‬
‫كتابان»! فكما يقول «لويس برخيس»‪« :‬الكتاب‬
‫االلــتــزام بالعطاء (الــهــبــة)‪ ،‬االلــتــزام بقبول‬
‫الذي ال يتضمن نقيضه يعد كتابا ناقصا»(((‪.‬‬
‫العطاء‪/‬التحدي ثم االلتزام بالرد‪ .‬غير أن هذا‬
‫وعلى هامش معرض حول أعمال «هنري ميشو»‬
‫الطقس يقتضي أن يكون الرد أعظم قيمة من‬
‫‪ H. Michaud‬أقيم سنة ‪1967‬م‪ ،‬استوقف «جيل‬
‫العطاء األول في جميع الحاالت‪ ،‬حتى وإن أدى‬
‫دول ــوز» نصاً تحت عنوان «تلف منظم» «‪un‬‬
‫ذلك إلى اإلفالس أو إلى ما ال تحمد عقباه‪،‬‬
‫كما ورد في بحث «مارسيل موس»‪ ،‬كأن يقوم‬ ‫‪ abîme ordonné‬للناقد الفني «جان غرونييه»‬
‫الطرف األول بإحراق جزء من ثروته‪ ،‬أو ذبح‬ ‫‪ Jean Grenier‬يفيد مضمونه القائل‪« :‬إن الرسم‬
‫بعض خدمه‪ ،‬فيضطر الطرف اآلخر إلى الرد‬ ‫الذي ال يتضمن «تلفه» أو «الكاووس» الخاص‬
‫بأعظم من ذلك‪ .‬ولقد ركز جاك دريــدا على‬ ‫به والــذي ال يمر عبر مرحلة «التلف» ليس‬
‫تحليل معنى العطاء على هامش بحث «مارسيل‬ ‫رسما»(((‪ ،‬وهو معنى مقولة برخيس تقريبا!‬
‫موس» في هذا الموضوع ليخلص إلى نتيجة‬ ‫لكن‪ ،‬مع ذلــك‪ ،‬كــان ال بد من كلمة أخرى‬
‫رئيسة هي‪ :‬حيث يكون التبادل‪ ،‬سلباً أو إيجاباً‪،‬‬ ‫كمفتاح «للتقدم فــي فهم الــجــاحــظ»‪ .‬يتعلق‬
‫ينعدم العطاء‪ .‬إن الحاضر الجليّ في ثقافة‬ ‫األمر بكلمة‪/‬مفهوم «البوتالتش» ‪ .Potlatch‬إن‬
‫البوتالتش ليس العطاء وليس طاعة األطراف‪،‬‬ ‫الصدفة‪ ،‬مرة ثانية‪ ،‬هي التي قادت «كيليطو»‬

‫‪51‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫والثاني يحضر في شخص الطرف اآلخر‬ ‫بــل تباهيهم وتنافسهم إلــى حــد يتحول معه‬
‫عندما يمدحه الشاعر فيجزل لــه العطاء‪.‬‬ ‫«العطاء» إلى اإلتالف والتدمير‪.‬‬
‫فألن الشعر يحضر فيه التبذير بهذا المعنى‪،‬‬ ‫إلدراك العالقة بين الشعر والبوتالتش‬
‫فهو «بــاب مــن أب ــواب الــبــاطــل» (((! كما قال‬ ‫وموقف الجاحظ من الشعر‪ ،‬ال بد من استحضار‬
‫«األصــمــعــي»‪ .‬لذلك لم يكن بخالء الجاحظ‬ ‫فكرة عامة مفادها‪ ،‬حسب «كيليطو» أن ال ُكتّاب‬
‫شعراء‪ ،‬وهو ما يعني أن النثر هو المجال الذي‬ ‫الكبار يكتبون دائما «ضد» أو «مــع»‪ ،‬وأحياناً‬
‫يتوافق معهم‪ .‬وإذا كان هذا هكذا بخصوص‬ ‫يكتبون «مع» و«ضد» في اآلن نفسه‪ .‬فمع من‬
‫موضوع كتاب «البخالء»‪ ،‬فماذا عن موضوع‬ ‫وضد من ألف الجاحظ كتاب «البخالء»؟‬
‫كتاب «الحيوان»؟‬
‫يــقــول األصــمــعــي‪ ،‬وهــو مــن ضمن بخالء‬
‫استمرار اإلشكالية نفسها‬ ‫الجاحظ‪ ،‬في مقدمة كتاب «لــزوم ما يلزم»‬
‫تستمر طريقة الــحــوار والمناظرة نفسها‬ ‫ألبي العالء المعري‪« ،‬إن الشعر باب من أبواب‬
‫بين طرفي البخالء واألسخياء المتبعة في‬ ‫الباطل‪ (((».‬لعل هذا القول هو ما يربط الصلة‬
‫كتاب البخالء‪ ،‬في كتاب «الحيوان»‪ .‬يتم الحوار‬ ‫بين الشعر العربي القديم و«الــبــوتــاتــش»‪.‬‬
‫في إحدى المناظرات بين طرفين هما أنصار‬ ‫لكن ما هو العنصر الرئيس الحاضر فيهما‬
‫الكلب وأنــصــار الــديــك‪ .‬ومنذ البداية‪ ،‬يلفت‬ ‫معاً إلــى هــذا الحد أو ذاك والــذي يجعلهما‬
‫«كيليطو» انتباهنا إلى ما يمكن أن يتولد عندنا‬ ‫«بابا من أبــواب الباطل»؟ يمكن القول‪ ،‬بدون‬
‫من انطباع أولي حول موضوع هذه المناظرة‬ ‫تردد‪ ،‬إنه التباهي بالعطاء‪ ،‬بالسخاء إلى حد‬
‫الذي ال يخلو من تفاهة وابتذال‪ .‬ولكي نطرد‬ ‫التبذير المهلك‪ .‬ال غرابة إذاً‪ ،‬في أال يحب‬
‫نحن هذا االنطباع األولي المشوّش على الفهم‪،‬‬ ‫بخالء الجاحظ الشعر‪ ،‬بدليل أنهم نــادراً ما‬
‫علينا أال ننسى فكرة إمكان وجود كتابين في‬ ‫يحيلون عليه في سجالهم‪ ،‬خالفاً لخصومهم‬
‫واح ــد‪ ،‬تماماً كما هــو الــحــال فــي الحلم‪ ،‬إذ‬ ‫األسخياء‪ .‬فمثلما أن البوتالتش يقوم على‬
‫يعلمنا «سيغموند فرويد»‪ ،‬والتحليل النفسي‬ ‫التفاخر والتباهي المؤديين بشكل جنوني‬
‫عموماً أن للحلم مضموناً ظاهراً وآخر باطناً‪،‬‬ ‫إلــى حــد اإلفـ ــاس‪ ،‬فــإن التفاخر والتباهي‬
‫وأن المضمون الرئيس للحلم هو في الغالب‬ ‫يحضران أيضاً في الشعر بمظهرين‪ :‬األول‬
‫ليس المضمون الظاهر‪ .‬بهذا المعنى‪ ،‬فإن‬ ‫فــي شخص الشاعر الــذي تــأخــذه الحماسة‬
‫الكتاب النقيض في كتاب «الحيوان»‪ ،‬ما دام‬ ‫والفخر والمباهاة‪ ،‬فال يتردد في تبذير ماله‬
‫أن كــل كــتــاب يستدعي نقيضه‪ ،‬يستمر في‬ ‫في الجود والكرم وفي متع الحياة (الخمرة‬
‫إثــارة موضوع الشعر نفسه‪ ،‬المثار في كتاب‬ ‫مثال)‪ ،‬رغم معارضة واستهجان من أهله وذويه‬
‫«البخالء»‪ ..‬لكن في صورة أخرى‪.‬‬ ‫وفي مقدمتهم قرينته‪ ،‬وهو ما تدل عليه «أبيات‬
‫لــن تعوزنا الــقــرائــن والــمــؤشــرات على أن‬ ‫شعرية تبدأ بكلمة «ذريــنــي» كما فــي البيت‬
‫الشعر والفلسفة‪ ،‬أو الــكــام والــكــتــابــة هي‬ ‫التالي‪:‬‬
‫قضايا رئيسة مثارة في كتاب «الحيوان»‪ .‬لعل‬ ‫ذريـنــي فــإن البخل ال يخلد الفتى‬
‫وال يهلك ال ـم ـعــروف مــن هــو فاعل أول قرينة في هذا االتجاه هي داللــة الكلب‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪52‬‬
‫دراسات ونقد‬
‫ترجمة حكمة اليونان وآداب الفرس دون أن‬ ‫على الفلسفة‪ .‬يكفي أن نستحضر ما سُ مي‬
‫تنتقص الترجمة منه شيئا‪ ،‬بل ربما ازدادت‬ ‫في تاريخ الفلسفة «الفالسفة الكلبيون» في‬
‫بعض األعمال المترجمة حُ سناً وجماالً في‬ ‫الفلسفة اإلغريقية لتتأكد هذه الداللة‪ .‬إن كان‬
‫لغة الهدف (اللغة المنقول إليها) ولم يترجم‬ ‫البخالء هم الطرف المتحفظ من الشعر في‬
‫الشعر في المجال العربي إال فيما ندر؛ ألنه‬ ‫كتاب البخالء‪ ،‬فإن أنصار الكلب‪ ،‬أي مناصرو‬
‫الفلسفة‪ ،‬هــم المتحفظون مــنــه فــي كتاب‬
‫مع الترجمة يفقد الشعر ما هو معجز فيه‪ ،‬أي‬
‫الحيوان‪ ،‬ويتجلى ذلك في تصديهم لمناصري‬
‫الوزن‪ ،‬أضف إلى ذلك أنه ال يتضمن معنىً لم‬
‫الشعر (الديك)‪.‬‬
‫تذكره العجم في كتبها‪ .‬إال أن ما يهم الجاحظ‪،‬‬
‫حسب كيليطو‪ ،‬ليس أن يتخذ موقف الحكم بين‬ ‫وألن الشعر مرتبط بــقــراءتــه وإسماعه‪،‬‬
‫فــإن األم ــر الــبــالــغ الــداللــة هــو أن االنتصار‬
‫أنصار الشعر وأنصار الكتاب‪ ،‬بقدر ما يهمه‬
‫للفلسفة في كتاب الحيوان‪ ،‬هو انتصار للكتابة‬
‫إبــراز الموقفين في تعارضهما‪ .‬ألم يقل عنه‬
‫ضد الكالم الشفوي‪ .‬فالكتابة (النثر) قابلة‬
‫ابن قتيبة إنه كاتب متناقض؟ فهو في نظره‬
‫للترجمة‪ ،‬أما الشعر‪ ..‬فمستعص عليها‪ .‬ذلك‪،‬‬
‫«يعمل الشيء وضده (‪ ،)...‬لكن الجاحظ جعل‬ ‫ألن الشعر هو في المقام األول ظاهرة صوتية‬
‫من التناقض (التضاد) فنا كتابيا فريدا»(((!‬ ‫(كالمية)‪ ،‬أمــا الفلسفة‪ ..‬فهي بنت الكتابة‬
‫يبقى أن نــتــســاءل‪ :‬مــا داللــة رد الجاحظ‬ ‫كما يقول «ميشيل سير»‪ .‬هكذا يرتد الحوار‬
‫والترافع بين الطرفين إلى الترافع حول التقليد‬
‫على مخاطب مفترض من مناصري التقليد‬
‫الشفوي والكتابة؛ وهو من طبيعة الترافع نفسه‬
‫الشفوي عندما آخذ عليه هذا األخير تأليفه‬
‫الذي أداره الفيلسوف أفالطون في محاوراته‬
‫كتباً ورسائل ربما بدل نظم الشعر؟ هل يعني‬
‫على لسان سقراط حول الكالم والكتابة‪ .‬وعلى‬
‫هذا أن الجاحظ يفكر مع الكتابة ضد الشعر؟‬ ‫خالف البخالء الذين ال يكنون أي حب للشعر‪،‬‬
‫جــوابـاً عن هــذا الــســؤال‪ ،‬يكتفي «عبدالفتاح‬ ‫فإن المدافعين عن الفلسفة ال يعادون الشعر‬
‫كيليطو» بدعوتنا إلى تذكر مسألة أن كتاب‬ ‫لكنهم يبرزون حــدوده‪ .‬فهو متعذر الترجمة‪،‬‬
‫الحيوان للجاحظ يبدأ بمدح الكتاب وتمجيد‬ ‫وحتى إن ترجم فإنه يفقد قيمته التي له في‬
‫الكتابة‪.‬‬ ‫لغته األصــلــيــة‪ .‬هــذا مــا يفسر اإلقــبــال على‬
‫ * كاتب ‪ -‬المغرب‪.‬‬
‫‪https://youtu.be/1FVsnOWGFjM‬‬ ‫((( عبدالفتاح كيليطو «تجربة الجاحظ» على الرابط التالي‪:‬‬
‫((( نفسه‪.‬‬
‫((( كيليطو‪ ،‬نفسه‬
‫((( «‪La peinture et la question des concepts» Deleuze: 28/4/1981 (16/1), transcription: Guillaume‬‬
‫‪.Damry, correction association: siècle Deleuzien‬‬
‫((( ‪.Jaques Derrida, «Donner le temps», Paris, Galilée, 1991‬‬
‫((( ‪.Marcel Mauss, «Essai sur le don», L’année Sociologique, 1924‬‬
‫((( كيليطو‪ ،‬المرجع السابق‬
‫((( نفسه‪.‬‬
‫((( نفسه‪.‬‬

‫‪53‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫كيليطو المبحر بين ثقافتين‪..‬‬
‫ّ‬
‫ينقح كتاباته باستمرار!‬
‫■ هشام بن الشاوي*‬

‫تُوج األديب المغربي دكتور عبدالفتاح كيليطو (‪1945‬م) بجائزة الملك فيصل‬
‫العالمية في دورتها لعام (‪2023‬م)‪ ،‬في فرع اللغة العربية واألدب‪ ،‬ويعد كيليطو من‬
‫أبرز النقاد المغاربة؛ إذ تنشغل كتاباته باألدب العربي القديم بنصوص ال يقرؤها‬
‫ِّفت من أجله! ويحرص على‬ ‫أحد‪ ،‬ويخيل إليه أنه اليوم قارئها الوحيد‪ ،‬وأنها ُأل ْ‬
‫أن يقاربها في كل مرة‪ ،‬من زاوية مختلفة؛ ما يمنح كتاباته ثراء وتجدداً‪ ،‬بأسلوبه‬
‫السهل الممتنع‪ ،‬الذي يجمع بين الحكي والنقد‪ ،‬بعيد ًا عن أي فذلكات أكاديمية؛‬
‫كتابة بالوثب والقفز‪ ،‬تحفر بمعولها النقدي برشاقة‪ ،‬هنا وهناك‪ ،‬تجعل القارئ‬
‫الظافر الوحيد في هذه الرحلة‪  ‬الماتعة بين المتون!‬
‫لقد أدرك كيليطو حقيقة عجزه ويسرة‪ .‬وهكذا‪ ،‬أسس صاحب «األدب‬
‫الواضح عن كتابة دراســة رصينة وفق والغرابة» أسلوبه الخاص القائم على‬
‫المعايير الجامعية المعهودة‪ ،‬أو تأليف االســتــطــراد‪ ،‬واالنــتــقــال المفاجئ من‬
‫موضوع إلى آخر‪ ،‬بشكل متواصل‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ـوع مــا فــي فصول‬
‫بــحـ ٍـث ح ــول م ــوض ـ ٍ‬
‫متراصة البناء؛ ما سبب له قلقاً معرفياً‬
‫كتابه «في جو من الندم الفكري»‪،‬‬ ‫لــم يتجاوزه إال بعد ق ــراءة الجاحظ‪،‬‬
‫فتخلّص من شعوره بالنقص‪ ،‬واستدل يبدو أشبه بعملية مراجعة فكرية‪ ،‬ما‬
‫عليها بعد إدراكه أن الجاحظ الذي لم دام «فــي الفكر ذاتــه ما يعرقل عملية‬
‫كتاب التفكير»‪ ،‬كما يقول غاستون باشالر‪،‬‬ ‫يكن يستطيع أو يرغب في إنجاز ٍ‬
‫موضوع محدد‪ ،‬دون االلتفات يمنة «الخطأ ليس شيئًا يحدث أو ال يحدث‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫حول‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪54‬‬
‫دراسات ونقد‬
‫عشر‪ -‬جاء فيها أن الشخوص الثالثة ينامون‬ ‫إنه على العكس‪ ،‬المكوّن األســاس للكتابة‪،‬‬
‫جزءًا من الليل‪ .‬ارتبكت وطلبت منها أن تبعث‬ ‫معدنها وطبعها‪ ،‬أن تكتب معناه‪ ،‬أن تخطئ‪..‬‬
‫لي الفقرات التي تثبت ذلك‪ ،‬وعند توصلي‬ ‫الكتابة هي دو ًمــا إعــادة النظر»‪ ،‬كما يُق ّر‬
‫بها لم يبق وجه للشك أو اإلنكار‪ ،‬فتملكني‬ ‫د‪ .‬كيليطو‪.‬‬
‫غيظ شديد من نفسي‪ ،‬ولمتها على التسرع‬
‫فــي فصل «فــن الــخــطــأ» يكتب كيليطو‬
‫وإلقاء الكالم على عواهنه والولع بالغرابة‬
‫عــن مالحظة تعوزها الــدقــة‪ ،‬أوردهـــا في‬
‫إلى درجة أنني نسبت إلى النص ما لم يقُله‪.‬‬
‫كتابه «الــغــائــب»‪ ،‬وبكل تواضع جم يعترف‬
‫وتساءل كيليطو عن النص السردي الذي‬
‫بالخطأ المتسرع؛ إذ عقد مقارنة بين ألف‬
‫اختزن في الوعيه‪ ،‬وجعله يعتقد أن شخوص‬
‫ليلة وليلة والمقامات مستنتجً ا أن ال أحد‬
‫الليالي ال ينامون‪ ،‬أو الرواية التي تحكي عن‬
‫ينام في كليهما‪ ،‬وأعاد المقارنة في روايته‬
‫إصابة سكان قرية بكاملها بحمى األرق‪ ،‬فلم‬
‫«أنبئوني بالرؤيا» إلى أن وصلته رسالة من‬
‫يناموا لمدة عشرين سنة‪ ،‬فانتبه إلى أنها‬
‫أستاذة تدرّس الرواية‪« :‬كنت خارج الرباط‬
‫رواية غارثيا ماركيث «مائة عام من العزلة»‪،‬‬
‫حين توصلت برسالة مــن أســتــاذة تُــدرس‬
‫بينما في «الليالي» لم يدم الوباء إال زهاء‬
‫«أنبئوني بالرؤيا»‪ ،‬كتبت تعلمني أنها قلقة؛‬
‫ثــاث سنوات‪ ،‬ونسب في روايته «أنبئوني‬
‫ألن الترجمة الفرنسية ل ِـ «ألف ليلة» ‪ -‬وكانت‬
‫بالرؤيا» ألحــد الشخوص مقاالً موضوعه‬
‫تشير على وجه التحديد إلى ترجمة أنطوان‬
‫النوم في ألف ليلة‪ ،‬اعتقد بعض القراء أنه‬
‫غاالن التي نشرت في بداية القرن الثامن‬
‫صاحب المقال‪ ،‬بينما األمر مجرد خيال‪.‬‬
‫ويــعــود م ــرة أخ ــرى إل ــى مــوضــوع أثــيــر‪:‬‬
‫ثنائيته اللغوية‪ ،‬التي كتب عنها في أكثر من‬
‫كتاب‪ ،‬يتحدث عن تجربته في تدريس األدب‬
‫الفرنسي لمدة تفوق األربعين عاما‪ ،‬لم ينطق‬
‫خاللها بكلمة عربية أو باسم مؤلف عربي‬
‫أمام طالبه‪ ،‬كاختيار تربوي‪« ،‬لم أحتفظ بما‬
‫ألقيت من دروس‪ ،‬فما إن تنتهي الحصة حتى‬
‫أمزق أوراق التحضير‪ ،‬لم يبق أي أثر لسنوات‬
‫من الكالم األكاديمي‪ .‬كما أنه لم يعن لي إال‬
‫نادراً أن أنشر دراسة عن األدب الفرنسي‪،‬‬
‫ألنني أعلم أنني لن أضيف شيئاً يذكر لما‬
‫يكتبه الفرنسيون‪ .‬وفضال عن ذلك‪ ،‬فإنهم‪،‬‬
‫وهذا هو المهم‪ ،‬ال ينتظرون مني أن أكتب‬

‫‪55‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫عن أدبهم‪ .‬أدبهم ال يحتاجني»!‬
‫فــي كــتــابــه «أتــكــلــم جميع الــلــغــات‪ ،‬لكن‬
‫بالعربية» يكتب عن عالقته باللغة المحكية‪،‬‬
‫مؤكداً أنه يتكلم الدارجة في حياته اليومية‪،‬‬
‫ويــقــرأ الفصحى‪« :‬عــودنــي التكوين الــذي‬
‫تلقيته على أال أقرأ إال النصوص التي كُتبت‬
‫بالفرنسية أو بالفصحى‪ .‬صحيح أن هناك‬
‫أشعاراً وحكايات وأمثاالً بالدارجة‪ ،‬إال إنها‬
‫إلي مرتبطة أساساً بالشفوي‪.‬‬ ‫تظل بالنسبة َّ‬
‫عندما يحصل لي أن أقرأها‪ ،‬أحس بانطباع‬
‫غريب‪ :‬فبسبب النقص في التعود‪ ،‬آخذ في‬
‫تهجئتها كما لو كانت مكتوبة بلغة أجنبية‪.‬‬
‫«ينتهي كل أدب بأن يم ّل نفسه‪ ،‬ما لم ينعشه‬ ‫بقدر ما يكون التكلم بالدارجة يسيراً‪ ،‬بقدر‬
‫إسهام أجنبي»‪.‬‬ ‫ما تكون قراءتها شاقة مملوءة بالفخاخ؛ ما‬
‫بينما فــي كتابه «مــن شرفة ابــن رشــد»‬ ‫يــدل على أن للغتين الفرنسية والفصحى‬
‫يؤكد دكتور عبدالفتاح كيليطو أن الترجمة‬ ‫نقطة مشتركة وهي كونهما لغتيّ التدوين‪،‬‬
‫تقدم كثيراً بما هي فعل حب‪ ،‬عالمة انفتاح‪،‬‬ ‫وبالتالي لغتيّ األدب‪ .‬عن طريقهما تمكنت‬
‫وتسامح‪ ،‬وتستحضر برقة وحنين العهود‬ ‫من االستمتاع بلذة قراءة النصوص األدبية»‪.‬‬
‫التي ازدهرت فيها‪« .‬بغداد في القرن الثالث‬ ‫ويشير د‪ .‬عبدالفتاح كيليطو إلــى أن‬
‫والرابع للهجرة‪/‬التاسع والعاشر للميالد‪،‬‬ ‫اللغة األجنبية‪ ،‬التي نتقنها ترفد لغتنا األم‬
‫طليطلة في القرن الثاني عشر الميالدي‪...‬‬ ‫بــعــبــارات أو مــفــردات أو صياغات نحوية‬
‫غير أن الواقع أقل مثالية‪ .‬فالترجمة غالباً‬ ‫حين ال تمنح كتّابنا نماذجها األدبية‪ ،‬وهو‬
‫سياق من التباري والمنافسة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ما تعمل في‬ ‫ما حصل في القرن التاسع عشر مع األدب‬
‫كثير مــن الــشــعــوب ال تقبل أن تترجم‬ ‫العربي الذي أنقذته الترجمة‪ ،‬التي انطلقت‬
‫نصوصها المقدسة‪ ،‬فهي تُعِ ُد العبو َر إلى‬ ‫آنــذاك وأسهمت في تجديده عبر إجباره‬
‫لغة أخرى اعتداءً‪ .‬يجازف النص المقدس‬ ‫على استيعاب أجناس أدبية جديدة‪ ،‬وتبنّي‬
‫بالخروج من ذلك مهزوال‪ ،‬متحوالً إلى جثة‪،‬‬ ‫أشكاالً كتابية لم تكن معروفة عندنا‪ ،‬في‬
‫وهيكل عظمي؛ لذا يجب أن ال يغادر لغته‪،‬‬‫ٍ‬ ‫الوقت الــذي كان فيه أدبنا العربي متعباً‪،‬‬
‫وبيته»‪ ،‬ويتحدث عن تجربة ترجمة «كليلة‬ ‫خائر الــقــوى‪ ،‬يحتضر فــي عزلة مضنية‪،‬‬
‫ودمنة» مؤكداً أن «بيدبا» ال يخشى أن تكون‬ ‫ويستشهد بالشاعر األلماني غوته القائل‪:‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪56‬‬
‫دراسات ونقد‬
‫(أو عن لغة)‪ ،‬فنحن نلحق الضيم باألخرى‪،‬‬ ‫الترجمة رديئة أو غير أمينة؛ ال يفكر في‬
‫والمؤكد المعلوم أن هذه األخيرة ال تنتظر‬ ‫الشكوك والــمــصــادفــات المصاحبة عــادة‬
‫سوى لحظة الثأر‪ .‬أشار إلى ذلك الجاحظ‬ ‫النــتــقــال نــص؛ «مــا يخشاه هــو أن يتملكه‬
‫في القرن التاسع للميالد‪ ،‬بواسطة استعارة‪:‬‬ ‫الفرس‪ ،‬ويتمثلون مضمونه‪ ،‬ويستمدون منه‬
‫«اللغتان‪ ،‬مثل الضرتين‪ ،‬ال يمكن أن تتفاهما‪.‬‬ ‫القوة والمجد»‪ .‬يوجد في مبدأ الترجمة‬
‫بينهما حرب إبادة‪ ،‬بدون رحمة»! الجاحظ‬ ‫ميل سجالي (من المساجلة في الحرب) بل‬
‫تروقه المواقف‪ ،‬حين يواجه اإلنسان قرينه‪،‬‬ ‫مطمع إمبريالي‪« .‬الترجمة غزو»‪ ،‬كما قال‬
‫وقرناءه‪ .‬يذكر في كتاب «البخالء» (أخوين‬ ‫نيتشه‪ .‬الترجمة هــي غــزو أرض أجنبية‪،‬‬
‫ال يملكان هما اإلثنان سوى ثوب واحد؛ لما‬ ‫وط ــرد ساكنيها أو إخــضــاعــهــم‪ ،‬وامــتــاك‬
‫يخرج أحدهما‪ ،‬يبقى اآلخر في البيت)‪ .‬وإذا‬ ‫خيراتهم وكنوزهم‪ .‬وحين ال يمكن القضاء‬
‫ما صدقناه ( لكنه ال يصرح بذلك)‪ ،‬ال يمكن‬ ‫على مقاومتهم‪ ،‬يكتفى باجتياحات سريعة‪،‬‬
‫الحديث عن اللغات دون الحديث عن الزواج‬ ‫أو ببعث جاسوس متنكر في هيئة عالم يعود‬
‫األحادي‪ ،‬والزواج بإثنتين‪ ،‬بل حتى عن تعدد‬ ‫بنسخ من إنتاجهم الفكري‪ ،‬كما حصل لكليلة‬
‫الزوجات»‪.‬‬ ‫ودمنة!‬

‫يحلو للناقد المغربي الذي اعتاد أن يبحر‬ ‫وفــي مــوضــع آخــر مــن «الــشــرفــة»‪ ،‬يُق ُّر‬
‫صاحب «خصومة الصور» أننا حين نتكلم لغة‬
‫بين ضفتي ثقافتين مختلفتين أن يكتب عن‬
‫مواضيع سابقة‪ ،‬دون أن يسأم القارئ‪ ،‬ألنه‬
‫ينتظر جديد كتبه بشغف‪ .‬مثالً‪ ،‬في كتابه‬
‫«في جو من الندم الفكري» يكتب عن إعادة‬
‫إحدى دور النشر طبع ترجمة فرنسية لكتاب‬
‫البخالء للمستعرب شــارل بيال‪ ،‬فقد طلب‬
‫منه كتابة مقدمة للطبعة الجديدة‪ ،‬لكن ‪-‬‬
‫لسبب ما‪ -‬سقط اسم المستعرب‪ ،‬لم يرد‬
‫على الغالف وال في صفحة العنوان الداخلي‪،‬‬
‫«حدث سهو فظيع ومضحك في آن‪ ،‬محى‬
‫اســم باحث قضى عمره في العناية بأدب‬
‫الجاحظ»‪ ،‬ومن حسن الحظ أنه أثنى عليه‬
‫في المقدمة‪« ،‬ولكن مَن يقرأ المقدمات؟»‪.‬‬
‫بــعــد م ــدة قــصــيــرة‪ ،‬ص ــار بــعــض الــقــراء‬
‫العابرين يسألون صاحب «الكتابة والتناسخ»‪:‬‬

‫‪57‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫«من هو الجاحظ؟ من هو هذا الكاتب الذي‬
‫ألــف «البخالء» ‪ -‬حسب وهمهم ‪ -‬باللغة‬
‫الفرنسية؟»‪ .‬ها قد انخرط الجاحظ في‬
‫زمرة الكتاب الفرانكوفونيين‪ ،‬صار معاصراً‬
‫لنا‪ ،‬صار مغربياً أو مغاربياً‪ ،‬مع كل ما يعني‬
‫ذل ــك‪ .‬ال شــك أنــه يحمل نــظــارة طبية أو‬
‫شمسية يخفي بها جحوظ عينيه‪ ،‬وال شك‬
‫أنــه يرتدي لباساً أوروبــي ـاً أنيقاً من بذلة‬
‫ورباط عنق وحذاء المع ‪.‬‬
‫د‪ .‬كيليطو الشغوف بالقراءة‪ ،‬يحتفي بفعل‬
‫القراءة في روايته «واهلل إن هذه الحكاية‬
‫لحكايتي»‪ .‬يكتب صاحب «لن تتكلم لغتي»‬
‫روايــة الحكاية الغائبة‪ ،‬التي لم يروها أي‬
‫أحــد‪ ،‬والكتابة التي لم تكتب بعد‪ ،‬متمثلة‬
‫قصتي»‪.‬‬
‫القصة َّ‬
‫َّ‬ ‫في البحث عن كتب أبــو حيان التوحيدي حكايتي‪ ،‬وهذه‬
‫وفي هذه الرواية‪ ،‬يسعى دكتور كيليطو‬ ‫المتخيلة‪ ،‬بأسلوبه الرشيق‪ ،‬الفريد‪ ،‬الذي‬
‫كرّسه كاتبًا وناقدًا شق طريقه الخاص في إلى خلخلة مفهوم الحدث فكرياً بمطرقة‬
‫الحَ كي‪ ،‬أو بتعبير خالد بلقاسم إن الرواية‬ ‫الكتابة إبداعاً وتنظيرًا‪.‬‬
‫عــلــى ال ــغ ــاف األخ ــي ــر ل ــل ــرواي ــة‪ ،‬نــقــرأ بكاملها تنهض‪ ،‬خالفًا لظاهر عنوانها‪ ،‬على‬
‫مقطعاً ال صلة لــه بمحكيات هــذا المتن لبس منسوج بارتياب مكين‪ .‬ارتياب يتوزع‬
‫ويوجه نموها‪ .‬أبعد من ذلك‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫الروائي‪ ،‬الذي يحتفي بالتفتيت‪ /‬التشذير كل مشاهدها‬
‫الــســردي‪« :‬فــي الليلة الــواحــدة بعد األلــف‪ ،‬فالحكاية‪ ،‬بما هي موضوعة رَئيسة في هذه‬
‫وبدافع لم يُدرك كنهه‪ ،‬أن الرواية‪ ،‬ترتاب في حدثها‪ ،‬وفي ذاتها‪ ،‬وفي‬ ‫ٍ‬ ‫قرَّرت شهرزاد‪،‬‬
‫تحكي قصة شهريار‪ ،‬تمامًا كما وردت في نسبة الــحــدث إلــى الــشــخــوص‪ .‬كما لــو أن‬
‫بــدايــة الــكــتــاب‪ .‬مــا يثير االســتــغــراب على الرواية ال تسرد حكايتها‪ ،‬وهي تبحث عمن‬
‫أصل وقائع في‬‫ً‬ ‫الخصوص أنه أصغى إلى الحكاية‪ ،‬وكأنها تنسب وقائعها إليه‪( ،‬أثمّة‬
‫بشخص آخــر‪ ،‬إلــى أن أشرفت على هذه الرواية أم يتعلّق األمر بحكي مضاعف‬ ‫ٍ‬ ‫تتعلَّق‬
‫النهاية‪ ،‬وإذا به ينتبه فجأة إلى أنها قصته أو بتأويل يتحوّل إلى حكاية؟)‪ّ ،‬إل كي تنسج‬
‫هو بالذات‪ ،‬فصرخ‪« :‬واهلل‪ ،‬إن هذه الحكاية ارتيابًا فكريا من داخل ممكنات الحكي‪.‬‬
‫ * كاتب ‪ -‬المغرب‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪58‬‬
‫دراسات ونقد‬

‫االعترافات التي نريد‬

‫■ رائد العيد*‬

‫ُولــدت السير الذاتية في رحــم البيئات الدينية‪ ،‬ســواء في الثقافة العربية أو‬
‫الغربية؛ بــدءً ا باعترافات القسيس أوغسطين‪ ،‬وسيَر طلب العلم في الحضارة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬حتى جاءت اللحظة الحاسمة في تطور كتب السير الذاتية بشَ عبنتها‬
‫من خالل «اعترافات» روســو التي مهّ د فيها السبيل لتحوّل السيرة إلى نوع من‬
‫العالج التطهيري المخلّص من الخطايا أمام المأل‪.‬‬
‫أهاليهم‪ ،‬ومن لم يفعل ذلك فيجد في‬ ‫بعد ذلــك‪ ،‬صار إظهار المخفي هو‬
‫قرارة نفسه ميل إلى فعل ذلك‪ ،‬منعه منه‬ ‫الهدف األصيل من كتابة السير الذاتية‪،‬‬
‫األعــراف والتقاليد‪ ،‬وربما أق ّر بدونية‬ ‫وال قيمة لسيرةٍ ال تكشف مستورًا‪.‬‬
‫سيرته مقابل غيرها‪.‬‬ ‫فانساق الكتّاب‪ ،‬وخاصة في الغرب‪،‬‬
‫على صعيد آخر‪ ،‬تحظى االعترافات‬ ‫على هذا الــدرب يسطرون مغامراتهم‬
‫بإقبال كبير مــن الــقــراء‪ ،‬فهم يحبون‬ ‫ويــحــكــون أس ــوأ خــصــالــهــم‪ ،‬خــو ًفــا من‬
‫التلصص على الكتّاب عندما يفصحون‬ ‫التقليل من قيمة سيرهم‪ ،‬فالسيرة على‬
‫عن أسرارهم وخفايا عالقاتهم وخبايا‬ ‫حد تعبير جورج أورويل‪« ،‬ال تعتبر إذا لم‬
‫حيواتهم‪ ،‬ويــرى فيها كثير من القراء‬ ‫يذكر فيها ما يشين!»‪.‬‬
‫الصراحة المطلوبة والمادة المأمولة‪،‬‬ ‫وألن «المغلوب مولع بتقليد الغالب»‪،‬‬
‫وبــاتــوا يقللون مــن قيمة السيرة التي‬ ‫كما قعّد ابن خلدون‪ ،‬تبع هذا النهج عد ٌد‬
‫تخلو منها‪ ،‬وكــأن ال فائدة من السير‬ ‫من الكتّاب العرب‪ ،‬وراحــوا يفصحون‬
‫الذاتية إال فضح كاتبها‪ ،‬وهم في هذا‬ ‫إمــا عن تجاربهم أو يظهرون حكايات‬

‫‪59‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫فيه مجدد النقد العربي ومبدع قراءة التراث‬
‫ودمجه بالنظريات الغربية‪.‬‬
‫يــقــوى بعض الــك ـ ّتــاب على االعــتــرافــات‬
‫الجنسية والتجارب العاطفية وال يجرؤ على‬
‫اإلفــصــاح عــن أخطائه المعرفية وعثراته‬
‫العلمية‪ .‬االعترافات الجنسية إغراء للقارئ‬
‫العادي‪ ،‬وال تفيد المشهد العلمي بشيء كما‬
‫تفعل االعترافات العلمية‪ ،‬اإلقــرار بالخطأ‬
‫يعني اإلقــرار بتطور العلم الــذي يقول عنه‬
‫رائد العيد مع األديب عبدالفتاح كيليطو‬
‫باسكال‪« :‬تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه»!‬ ‫الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية‬
‫يظن بعض الــقــراء أن فــي االعــتــرافــات‬ ‫تب ٌع للتصوّر الغربي لمفهوم السيرة الذاتية‬
‫الجنسية إقــرار بالخطأ‪ ،‬فيدفعه للتساؤل‬ ‫وإن لم يدركوا ذلك‪.‬‬
‫والتفكير لماذا يفصح الكاتب عمّا قد يُنقص‬
‫لم يكتب عبدالفتاح كيليطو سير ًة ذاتية‬
‫من قدره في أذهان الناس؟ ونجد جوابًا لهذا‬ ‫بمفهومها النقدي‪ ،‬وإنما نجد شــذرات من‬
‫عند عباس العقاد الذي يفسّ ر هذا السلوك‬ ‫حياته في مختلف أعماله‪ ،‬والكثير منها في‬
‫بأنه رغبة بالصعود في أذهان الناس بالجرأة‬ ‫حواراته‪ ،‬ولكنه أخرج اعترافاته في كتابه «في‬
‫واالعتراف والتحرر وليس إقــرارا بالضعف‬ ‫جو من الندم الفكري» الصادر عن منشورات‬
‫والدونية والتخلف‪.‬‬ ‫المتوسط ‪2020‬م‪.‬‬
‫ذك ــرت فــي دراســتــي المستفيضة حول‬ ‫جــاءت اعترافات كيليطو كما ينبغي أن‬
‫أدب السير الذاتية «أشقاء الزورق الواحد»‬ ‫تأتي‪ ،‬مثرية للمشهد الثقافي ال الفضول‬
‫أن كل سيرة ذاتية هي بحث عن االعتراف‬ ‫الطفولي‪ ،‬جــاءت لتُق ّر بالخطأ وتصححه‪،‬‬
‫بالمصطلح الهيجلي‪ ،‬وإن لم تكن اعترافًا‬ ‫وتتراجع عن الرأي وال تهرب من مجابهته‪.‬‬
‫بالمعنى الروسوي‪ .‬وعليه‪ ،‬فالجميع يبحث عن‬ ‫نجد في هذا الكتاب اعتراف كيليطو بتأويل‬
‫المكانة‪ ،‬سواء باعترافه الجنسي أو اعترافه‬ ‫أخطأ فيه‪ ،‬وبنى عليه بعض كتبه الالحقة‪،‬‬
‫العلمي‪ ،‬إال إن االعترافات العلمية تحدث‬ ‫ليأتي بعد سنوات ويقر بكل صراحة عن‬
‫أثرًا مستمرًا‪ ،‬متعديًا على المشهد الثقافي‬ ‫اكتشاف خطأ ذلك التأويل‪ ،‬كما يفصح عن‬
‫بتقليل التشنج من المراجعات العلمية التي‬ ‫أخطاء وقع بها آخرون على صلة به‪ ،‬كما وقع‬
‫يبدأها المؤلف على نتاجه العلمي بنفسه‪،‬‬ ‫في إسقاط اسم مترجم البخالء الذي وضع‬
‫بينما ال تفشي االعترافات الجنسية سوى‬ ‫ـدل عنه اســم كيليطو‪ .‬اعترافات ال تأبه‬
‫بـ ً‬
‫التجارب شديدة الذاتية‪ ،‬عديمة الفائدة‪.‬‬ ‫بالصورة المرسومة عن كيليطو والتي ترى‬
‫ * كاتب سعودي‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪60‬‬
‫دراسات ونقد‬

‫حول التجربة األولى للكاتب أحمد مسلم‪:‬‬


‫شعرية الهامش وسرد الريف المهمش‬
‫■ فراس حج محمد*‬

‫ف ــي ال ــرواي ــة ال ـجــديــدة لـلـكــاتــب أح ـمــد مـسـلــم "سـجـنــاء‬


‫خلف قضبان الذاكرة" (كاريزما للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫‪ )2022‬يبني الكاتب معمارها من قصص وأحــداث الريف‬
‫تقصه الجدات والقريبات‪-‬‬ ‫الفلسطيني‪ ،‬معتمدا على ما ّ‬
‫فــي ال ـعــادة‪ -‬مــن قصص وحـكــايــات‪ .‬يذهب أحمد ابــن قرية‬
‫تلفيت (جنوب نابلس) إلى ذلك التاريخ الشفوي الشعبي الذي‬
‫يعمر ذكريات الناس فيها‪ ،‬ويعيد تأثيثه في سرد له مذاق خاص‪،‬‬
‫وشهية خاصة‪ .‬إنه يعيد‪ -‬نوع ًا ما‪ -‬بناء الذاكرة الشعبية الريفية لتكون مقروءة‪،‬‬
‫السيما لجيل لم يعد يسمع هذه الحكايات‪ ،‬نظرا لعدة أسباب‪ ،‬أهمها انقطاع‬
‫الجيل الحالي عن الجيل السابق بفعل دواعي الزمن والصيرورة التاريخية‪.‬‬
‫يــســتــذكــر أحــمــد مــســلــم ف ــي هــذا بمستبعد أيضا أنه أخذ مالمح القرية‬
‫المتن الروائي قصة كنز‪ ،‬وجــده أحد االجتماعية والجغرافية من قريته‪ ،‬لكن‬
‫الفالحين مدفونا في أرض له‪ ،‬ورحلة المهم فــي هــذا الــســرد على مستوى‬
‫هذا الكنز منذ أيام اإلنجليز قبل النكبة الــحــدث تتبع تلك الــرحــلــة للدفين‪/‬‬
‫‪ 1948‬وحتى عام ‪ ،2014‬رحلة سردية الكنز والمخاطر التي تعرض لها جدّ‬
‫استغرقت أكثر من ‪ 66‬سنة من عمر مراد (أبو محمود) بعد الحصول على‬
‫قرية من قرى الريف الفلسطيني‪ ،‬ليس الكنز‪.‬‬

‫هذه الفترة الطويلة نسبيا يقطّ رها‬ ‫شرطا أن تكون قريته تلفيت وليس‬

‫‪61‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫الــروائــي فــي ســرد وزّع ــه على أحــد عشر والمقوالت السياسية والوطنية التقليدية‪.‬‬
‫لقد تجاوز أحمد هذه المطبّات بكثير‬ ‫فصال‪ ،‬لم يخل أي فصل من فصولها من‬
‫حكاية الدفين أو تداعياته االجتماعية على مــن الــحــذر ونــجــح فــي هــذا السيما وهو‬
‫العائلة‪ ،‬ومن خالل هذا العصب الرئيس‪ ،‬يستند إلى عنوان‪ ،‬فيه الكثير من المخاتلة؛‬
‫ناقش أحداثا في معظمها هامشية‪ ،‬مما إذ ينصرف الــعــنــوان فــي داللــتــه‪ -‬للوهلة‬
‫يــدور فــي بيئات الــريــف المهمش أصــا‪ ،‬األولــى‪ -‬إلــى الــدائــرة السياسية الوطنية‪،‬‬
‫فلم يسع الكاتب إلى االستناد إلى مقوالت ليكتشف القارئ أن "سجناء خلف قضبان‬
‫كــبــرى‪ ،‬وال إلــى أح ــداث مركزية‪ ،‬وكــل ما ال ــذاك ــرة" لــم يــكــونــوا مــن أس ــرى القضية‬
‫ظهر من أحداث مفصليّة‪ ،‬ما كان له تأثير الفلسطينية من المقاومين لالحتالل‪ ،‬وإنما‬
‫مباشر على سكان الريف أكثر من غيرهم؛ تلك الشخصيات التي ظل يعذبها الماضي‬
‫فهم خاضعون لتأثيرها خضوعهم للضرورة وتالحقها تفاصيله طوال حياتها‪ ،‬من الجدة‬
‫الحتمية‪ ،‬وبخاصة فيما يتصل بالحواجز إلــى فريد وحتى مــراد وأحمد‪ ،‬ولــم يسلم‬
‫واإلغـــاقـــات ومــعــانــاة ال ــن ــاس‪ ،‬وخــاصــة منها المتشائل الــذي يوجعه الماضي وما‬
‫الشباب في الوصول إلى العمل أو الجامعة فعله إخوته به‪ ،‬وأول ما يقوم به أحمد مسلم‬
‫أو المدينة‪ ،‬ومــا يحياه الناس من شظف لزحزحة العنوان عن تاريخيته المفخخة‬
‫العيش وقسوته‪ ،‬هذه القسوة التي لم يفلح بــالــذاكــرة الوطنية اقتباسه قبل الدخول‬
‫الكنز بقلبها رأسا على عقب إال بعد فترة إلى الرواية قوال للشاعر العربي أدونيس‪،‬‬
‫طويلة‪ ،‬بعد أن أخذ الريف نفسه بالتطور يقول فيه‪« :‬أقسى السجون وأمرّها‪ ،‬تلك‬
‫التي ال جدران لها»‪ ،‬يحمل هذا االقتباس‬ ‫الحتمي والتدريجي‪.‬‬
‫معنى عاما للسجن‪ ،‬أعمق وأكبر من مكوث‬ ‫يظهر أن الروائي وهو يعمل على هذا‬
‫الشخص داخل القضبان‪ ،‬ويحرسه سجان‬ ‫السرد كــان صبورا جــدا‪ ،‬وهــو يحاول أن‬
‫قاس‪ ،‬وعدو كما هو في الحالة الفلسطينية‪،‬‬ ‫يجمع تــلــك الــســرود الهامشية ليجعلها‬
‫كما أن هذا االقتباس من زاوية أخرى يقول‬ ‫مــتــجــانــســة كــلــوحــة الــفــســيــفــســاء‪ ،‬لــتــؤدي‬
‫إن األســـرى الفلسطينيين قـ ــادرون على‬ ‫فــي نهاية الــمــطــاف إلــى بــنــاء س ــردي ذي‬
‫التحرر من السجن‪ ،‬فالسجن فكرة تعيش‬ ‫شخصية متماسكة‪ ،‬ليس الجامع الوحيد‬
‫في للرأس والــذاكــرة‪ ،‬ولهذا المعنى أيضا‬ ‫هو الشخصيات الريفية‪ ،‬وال قصة الكنز‪،‬‬
‫بعض ظــال‪ ،‬وخاصة من خالل شخصية‬ ‫ومــا جــرتــه مــن أحـ ــداث‪ ،‬بــل ذلــك اإليــقــاع‬
‫األسير المحرر الواردة في الرواية وصفا ال‬ ‫يصف الحكاية بجانب أخرى‬ ‫ّ‬ ‫الهادئ لروائي‬
‫اسماً‪ .‬مع العلم أن الرواية لم تؤكد أيا من‬ ‫بحذر‪ ،‬لعله يحظى برؤيا روائية خارجة عن‬
‫المعنيين أو الحالتين لهذا األسير المحرر‬ ‫سياق السرد التقليدي الغارق في المثاليات‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪62‬‬
‫دراسات ونقد‬
‫على وجــه قاطع كتج ّل آخــر مــن تجليات‬
‫الحذر السردي في الرواية‪.‬‬
‫هل يمكن أخــذ البنية السردية لتكون‬
‫استعارة سياسية؟ أظن أن األمر ممكن مع‬
‫بعض التحفظ أيــضـاً‪ ،‬لكن هــذا التحفظ‬
‫النقدي في التأويل تق ّل مسافته بين الممكن‬
‫وغير الممكن‪ ،‬إذا ما أعــاد المرء قــراءة‬
‫اإلهداء‪ ،‬بوصفه نصا موازيا من النصوص‬
‫المحيطة بالسرد‪ ،‬ذا داللــة نصية سردية‬
‫تدعم مــقــوالت الــروايــة‪ ،‬بعيدا عــن فكرة‬
‫"اإلسقاط" أو الشطط في التفسير‪.‬‬
‫جاء اإلهداء عاما قابال للتأويل كذلك‪:‬‬
‫«إلى الذين حرموا حقوقهم بكنوز ظهرت‬
‫األحــداث وتبنيها داخــل هذه اللغة‪ ،‬وعلى‬ ‫بوجودهم»‪ .‬عند إعــادة قــراءة العبارة بعد‬
‫الرغم من أن البنية السردية شعبية الفكرة‬ ‫االنــتــهــاء مــن ق ــراءة كــامــل الــنــص الــروائــي‬
‫والــشــخــوص إال أن اللغة كانت فصيحة‪،‬‬ ‫سيكون باإلمكان القول باستعارية البنية‬
‫سلسة‪ ،‬فيها الوضوح السردي المطلوب؛‬ ‫الروائية للداللة السياسية؛ فالكاتب أحمد‬
‫ألن السارد العليم المثقف الواعي صاحب‬ ‫مسلم ابن جيله‪ ،‬الجيل الذي ترعرع في ظل‬
‫السلطة الفلسطينية‪ ،‬جيل حرم من حقوقه‬
‫الــرؤيــا هــو ال ــذي كــان يــتــحــدث‪ ،‬وممسكا‬
‫بالخيوط جميعها‪ ،‬ولــم يسمح لشيء أن‬ ‫بكنوز ظهرت بوجوده‪ ،‬فكل االمتيازات التي‬
‫يفلت من بين يديه؛ وهــذا جانب آخر من‬ ‫يتمتع بها المسؤولون‪ ،‬وهم قلة‪ ،‬حرم منها‬
‫الحذر الذي كان مسيطرا على الكاتب؛ فلم‬ ‫كثير مــن أبــنــاء الشعب‪ ،‬فاستأثر القادة‬
‫تحضر اللغة العامية إال في مواقع محددة‬ ‫بالمناصب والمكاسب‪ ،‬ولم يكن للشعب من‬
‫جدا‪ ،‬مع أن المنطق السردي كان يستدعيها‬ ‫نصيب إال دفع الغرامة‪ /‬الضريبة الوطنية‬
‫من معاناة وأسر‪ ،‬وشظف عيش‪ ،‬والبقاء في‬
‫كــأحــد الــمــمــيــزات الــخــاصــة لشخصيات‬
‫العمل‪ ،‬لتظهر صورتها المقنعة‪ ،‬وتكتمل‬ ‫الهامش حيث الريف المهمش‪.‬‬
‫على امــتــداد مائة وثالثين صفحة من عناصر هُوِ يّتها‪.‬‬
‫كما اختار السارد لغة فيها الكثير من‬ ‫القطع المتوسط استطاع أحمد أن يحافظ‬
‫على لغة سردية عملية‪ ،‬واقعية‪ ،‬تضيء على اإلحاالت الثقافية والمقتبسات النصية من‬

‫‪63‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫لألمر للجنة الجائزة‪ ،‬ومــن ثم استبعاده‬ ‫الثقافة العربية‪ ،‬والشعر العربي‪ ،‬واآليات‬
‫لمخالفته شــرط الــجــائــزة األســاســي؛ أال‬ ‫القرآنية‪ ،‬كما ظهرت الــرمــوز اإلغريقية‬
‫يكون العمل مطبوعاً‪ ،‬يشبه إلــى حــد ما‬ ‫واألسطورية‪ ،‬وثقافة الروائي الفنية؛ كونه‬
‫تلك المخاطرة في كشف سر الكنز‪ ،‬فلو‬ ‫متخصصا فــي الفن التشكيلي؛ فظهرت‬
‫تم كشف الكنز لكان للسرد وجهة أخرى‪،‬‬ ‫ثقافته الفنية في السرد كذلك‪ ،‬وجاءت هذه‬
‫كما لــو لــم يتم كشف السر للجنة جائزة‬ ‫التضمينات مجسّ دة للفكرة األساسية للعمل‬
‫القطان لكان لهذه الرواية شأن آخر‪ ،‬في أن‬ ‫الروائي‪ ،‬أو داعمة لشخصية السارد الواعية‬
‫يحصل‪ -‬غالباً‪ -‬الكاتب الشاب أحمد مسلم‬ ‫التي تؤهلها ثقافته الممتدة أن يكون ساردا‬
‫على جائزة اللجنة‪ ،‬وما تعنيه من كنز معنوي‬ ‫عليماً‪ ،‬قادرا على البناء السردي المتدفّق‪.‬‬
‫لكاتبها أوالً قبل القيمة المادية للجائزة‪ ،‬أو‬ ‫ثمة ما هو طريف في الحكايات التي‬
‫على األقل ربما حصل على "تنويه" من لجنة‬ ‫يسردها السارد في هذه الرواية وتماثلها‬
‫التحكيم التي تض ّم في عضويتها روائيين‬ ‫أو تناظرها على اختالف في الشخصيات‪.‬‬
‫مكرّسين ونقادا أكاديميين‪ ،‬لتكون شهادة‬ ‫فــالــجــد وعــاقــتــه بــفــريــد‪ ،‬ه ــي كــعــاقــة‬
‫استحقاق يسعى إليها كل كاتب شابّ ‪ ،‬داخل‬ ‫مــراد بسالم؛ وهي على ما يبدو كالعالقة‬
‫إلى نادي الكتابة الواسع الممتدّ ‪.‬‬ ‫المتوقعة بين مراد وأحمد؛ كأن ثمة لعنة‬
‫وأخــيــراً‪ ،‬أظــنّ أن الكاتب أحمد مسلم‬ ‫تالحق األحفاد لذنب فعله األجــداد‪ ،‬كما‬
‫تقول الحكمة الشعبية الرائجة في الريف‪ :‬بما قــدّ مــه مــن عمل روائـــي فــي «سجناء‬
‫«اآلباء يأكلون الحصرم واألبناء يضرسون»‪ .‬خلف قضبان الذاكرة» يطرح نفسه وبقوة‬
‫وهذا على ما يبدو ما حدث مع الكاتب في عالم السرد‪ ،‬ليكون أحد روائيي الجيل‬
‫نفسه‪ -‬بصورة أو بأخرى‪ -‬عندما استبعدت القادم الممتلئ بأفكار جديدة‪ ،‬وبحساسيات‬
‫هذه الرواية بعد حماسته لذلك ووصولها فــنــيــة‪ ،‬تعتمد فــي شعريتها عــلــى أدوات‬
‫إلــى مرحلة متقدمة مــن المنافسة على مكتسبة‪ ،‬وأخرى فطريّة‪ ،‬ليكون قادرا على‬
‫جائزة القطان للكتّاب الشباب للعام ‪ ،2023‬بناء مــشــروع روائ ــي‪ ،‬يضيف إلــى الــروايــة‬
‫ليأتي خبر طباعتها في مصر مطوحا لها الفلسطينية أبعاداً جديدة أو يعمّق البحث‬
‫ولكاتبها عن أن يستمر في السباق والفوز في األبعاد التقليدية؛ فيعيد إجابة أسئلتها‬
‫بالجائزة؛ كما حدث مع مراد نفسه الذي من زوايا أخرى‪ ،‬تنتمي إلى هذا الجيل‪ ،‬وما‬
‫أقصي بفعل فاعل عن المنافسة على بطولة يؤمن به من قضايا فنية أو ما يعتقده من‬
‫الجامعة للشطرنج (كنزه المعنوي)‪ ،‬فكشفه أفكار‪.‬‬
‫ * كاتب ‪ -‬فلسطين‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪64‬‬
‫دراسات ونقد‬

‫«ما بعد الموت»‬


‫عندما يحاكم السرد الروائي تاريخ االستعمار‬

‫■ حنان احلربش*‬

‫لم يذهب الروائي هنري جميس بعيدً ا حين قال‪« :‬نثق في أن الروايات تدربنا‬
‫على ممارسة السخط العظيم والكرم الكبير»‪ ،‬ففي رواية «ما بعد الموت» للروائي‬
‫النوبلي عبدالرزاق قرنح‪ ،‬سيجد القارئ نفسه أمام فتنة السرد وغواية الكتابة‪ ،‬كما‬
‫أيضا متعة االطالع على جزء من تاريخ االستعمار األوربي في القارة‬ ‫أنه سيجد ً‬
‫اإلفريقية‪ ،‬تحديد ًا في ذلك الوقت الذي استعمرت فيه ألمانيا الشرق اإلفريقي‪،‬‬
‫هذه المرة برؤية قرنح الكاتب التنزاني الحائز على جائزة نوبل أخيرً ا‪ .‬وألن قرنح‬
‫مهتم بالكتابة في أدب ما بعد االستعمار؛ جسدت هــذه الــروايــة رؤيته بجدارة‪،‬‬
‫ليثبت قبل نوبل وبعدها أنه صوت إفريقي يتمتع بالقوة واألصالة والتميز‪.‬‬

‫ُعنِيَ والده وهو هندي مهاجر‪ ،‬بتعليمه منذ‬ ‫تــبــدأ الــروايــة فــي نقل ص ــورة المجتمع‬
‫الصغر وإرساله للعمل في الساحل‪ ،‬ليساعد‬ ‫آن ـ ــذاك‪ ،‬وه ــو مجتمع مــركــب مــن أخــاط‬
‫أحد المصرفيين الهنود‪ ،‬وما هي اال فترة حتى‬ ‫وأجناس مختلفة؛ العرب‪ ،‬والهنود‪ ،‬والسكان‬
‫انتقل في العمل مع أحد التجار‪ ،‬والزواج بابنة‬ ‫المحليون؛ يعملون فــي الــزراعــة والــتــجــارة‬
‫أخيه «عائشة»‪ ،‬والتي تمثّل الصورة التقليدية‬ ‫واألع ــم ــال الــحــرفــيــة‪ ،‬ك ــان «خــلــيــفــة» وهــو‬
‫شخصية أســاس في الــروايــة تجسيداً لهذا‬
‫للنساء في ذلك المجتمع‪.‬‬
‫المزيج المجتمعي‪ ،‬فهو مولود ألم إفريقية‬
‫«محو االستعمار إمنا هو حدث‬ ‫وأب هندي «لم تكن مالمح الهنود التي اعتاد‬
‫عنيف دائم ًا؛ ألن ذلك يبدل الكون‬ ‫الناس رؤيتها‪ ..‬بشرته وشعره وأنفه كلها ترجع‬
‫تبدي ًال تام ًا»‪ .‬فرانز فانون‬ ‫إلى أمه اإلفريقية»‪.‬‬

‫‪65‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫قول فرانز فانون «كنيسة بيض‪ ،‬كنيسة أجانب؛ إنها‬
‫ال تدعو اإلنسان المستَعمَر إلى طريق اهلل‪ ،‬وإنما‬
‫تدعوه إلى طريق اإلنسان األبيض»‪ ،‬وهذا بالضبط‬
‫ما حدث مع إلياس الذي قرر بعد العودة إلى قريته‬
‫وخوض جداالت مع السكان األصليين الرافضين‬
‫لالستعمار األلماني أن ينضم الى القوة الحامية‬
‫للمستعمر فيما يُعرف «بالشوتزروبة»‪ ،‬ويقاتل في‬
‫صفوفهم دفاعاً عن رسالة الرجل األبيض الذي‬
‫يمثل النموذج الحضاري المتقدم‪.‬‬
‫«وأن ــا أيـضـ ًا أجبرني الـقــدر القاسي‬
‫على أن أبحث عن وطن جديد» فيرجيل‬
‫كذلك يهرب «حمزة» من مصير ال يقل بشاعة‪،‬‬
‫فقد وهبه والده ألحد التجار الهنود عندما عجز عن‬
‫اإليفاء بدينه‪ ،‬محرراً نفسه من نير الر ّق والعبودية‪،‬‬
‫الروائي الصومالي التنزاني عبدالرزاق قرنح‬
‫فــمــا هــي إال فــتــرة حــتــى ينضم لــلــقــوة الحامية‬
‫«الشوتزتروبة»‪ ،‬حمله حسن الحظ للعمل كخادم‬ ‫تعد الحرب والفظاعات التي سببها االستعمار‬
‫شخصي ألحد الضباط األلمان الذي علمه القراءة‬ ‫«ثيمة» الرواية الرئيسة‪ ،‬في تلك الفترة الممتدة من‬
‫والكتابة باللغة األلمانية‪ ،‬فلم يكن حمزة مضطراً‬ ‫تاريخ ثورة «البو شيري»‪ ،‬بشير الحارثي الذي رفض‬
‫للقتال سوى في الفترة األخيرة من حكم األلمان‪،‬‬ ‫االستعمار األلماني بالتحالف مع القبائل المحلية‬
‫أثناء نشوب حرب بينهم وبين القوات البريطانية‪،‬‬ ‫على الساحل اإلفريقي‪ ،‬وثــورة قبائل الواههيهي‬
‫وقد تم الهجوم عليه بوحشية من قبل ضابط ألماني‬ ‫وزعيمها البطل الذي يحتفظ بجمجمته في أحد‬
‫كاد يصيبه في مقتل‪ ..‬ليتم بعد ذلك نقله إلى إحدى‬ ‫المتاحف فــي تــنــزانــيــا‪ ..‬حتى انتفاضة الماجي‬
‫اإلرساليات التبشرية ليتلقى العالج على يد مُبشر‬ ‫ماجي التي راح ضحيتها اآلالف من األبرياء بسبب‬
‫وزوجته‪..‬‬ ‫المجاعة‪..‬‬
‫«لن تتكلم لغتي» عبدالفتاح كليطو‬ ‫تتحرك تلك الشخصيات وتتطور في ذلك الخط‬
‫كانت العالقة بين الضابط األلماني و«حمزة»‬ ‫الزمني الحافل باألحداث والصراعات‪ ،‬كل شخصية‬
‫تحمل قضيتها‪ ،‬وكل قضية تثير الكثير من األسئلة عالقة مُستفزة للضباط األلمان‪ ،‬وينظر إليها كعالقة‬
‫تدنس المقام الرفيع لأللمانية‪ ،‬اذ دأب الضابط‬ ‫أهمها سؤال الهوية‪.‬‬
‫لعل ما واجهه «إلــيــاس» الــذي هــرب من منزل على تعليم حمزة وهو «الهمجي»‪« ،‬المتوحش» اللغة‬
‫ا بسبب الــفــقــر والــمــرض والــجــوع‪ ،‬األلمانية‪ ،‬ويطمح لتعليمه اللغة إلى درجــة تمكنه‬‫والــديــه طــفـ ً‬
‫ليجد نفسه يعمل في إحــدى مــزارع القهوة لدى من تذوّق آدابها‪ ،‬تاركاً له أثناء تلقيه العالج كتاباً‬
‫مزارع ألماني حدب عليه وأرسله للتعلم في إحدى «لشيلر»‪ ،‬وهو أحد أهم الشعراء األلمانيين‪ ،‬غير‬
‫المدارس التبشيرية هو أحد أساليب المستوطن أن للمبشر موقفاً ال يختلف عن موقف الضباط‬
‫في طمس هوية المستعمر‪ ،‬فالكنيسة على حد األلــمــان؛ ما دفعه ألخــذ الكتاب؛ ألنــه كما يقول‪:‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪66‬‬
‫دراسات ونقد‬
‫الفترة التي ظهرت فيها الثورات ضد االستعمار‪،‬‬ ‫«أثمن من أن يترك بيد رجل من سكان البلد»‪.‬‬
‫ثم مرحلة العمل والدراسة في ألمانيا‪ ،‬كمعونة من‬ ‫«يــا ام ــرأة سـ ــوداء‪ ..‬تتغطني بثوبك‬
‫الدول القوية إلى الدول الفقيرة دعماً منها للتحرير؛‬ ‫وهو حياة‪ ،‬وبتكوينك وهو جمال» سنغور‬
‫موظِّ فاً الكاتب هذا التطور المذهل في شخصية‬
‫وألن الرواية تحكي قصة مجتمع بكامل أطيافه‪« ،‬إلياس» الطفل‪ ،‬للكشف عن سر اختفاء «إلياس»‬
‫كان لعائشة زوجة «خليفة» و«عافية» شقيقة إلياس المجند في «الشوتزروبة»‪.‬‬
‫الصوت النسائي األبــرز في تلك الرواية‪ ،‬صوتان‬
‫«يف ال ـبــدايــة ي ـكــونــون ل ـط ـفــاء مـعــه‪،‬‬
‫نسائيان يعبّران عن اتجاهين مختلفين‪ ،‬فعائشة هي‬
‫لكنهم أخيرا يهينونه»!! النغستون هيوز‬
‫أنموذج المرأة التقليدية المحافظة‪ ،‬ويصح أن ينظر‬
‫يتبين الحقاً‪ ،‬وفي نهاية الرواية مصير جندي‬ ‫إليها بوصفها صوتاً للمجتمع المحافظ على عاداته‬
‫وتقاليده وممارساته الغيبية وطقوسه السحرية؛ من آالف الجنود الذين قضوا حتفهم فقراء ومرضى‬
‫فهي على الرغم من انتقادات زوجها الالذعة تؤمن ومحكومين باإلعدام بعد انتهاء الخدمة العسكرية‬
‫والمس والتعاويذ‪ ،‬وكانت لــدى األلــمــان‪ ،‬كــان من بينهم شقيق عافية الذي‬ ‫ّ‬ ‫بطقوس إخــراج الجان‬
‫ترفض كل مظاهر التجديد والتعليم‪ ،‬إضافة الى سجن وقتل بسبب تحريات زوجة المبشر األلمانية‬
‫أساليب الطب الحديثة التي جاء بها األلمان؛ على بتهمة «انتهاك قوانين العرق النازي»‪ ،‬وتدنيس امرأة‬
‫عكس «عافية» التي تمثل قوة الحياة المندفعة نحو آرية‪ ،‬وهذا ما يوضح موقف المستعمر أو الرجل‬
‫المستقبل‪ ،‬فقد دأبت على تعلم القراءة والكتابة‪« ،‬األبــيــض» من الرجل اإلفريقي من إدانــة شاملة‬
‫وجمعتها بحمزة قصة حب تخللها كتابة الرسائل واحتقار عام‪ ،‬وما يحمله تجاهه من إزدراء وإهانة!‬
‫وترجمة الشعر وانتهت بالزواج‪.‬‬
‫«لم نولد للظالل‪ ..‬الظالل الثقيلة‬
‫والـ ـه ــواء ال ـض ـيــق الـ ــذي صـنـعـتــه تلك‬
‫األشياء البيضاء» ال نغستون هيوز‬
‫يترك االستعمار آثاره على الدول المستعمرة؛‬
‫وكدمات على الجسد‪ ،‬وذاكرة موشومة بالقهر‬
‫ٍ‬ ‫ندوباً‬
‫واالستعباد‪ ،‬هذا من جملة ما عالجته الرواية على‬
‫الرغم من قصر حجمها نسبياً‪ ،‬وهي تتناول الحياة‬
‫في ظل االستعمار من خالل ثالثة أجيال‪ ،‬تتلخص‬
‫في شخصية الطفل «إلياس» وهو ثمرة زواج «عافية»‬
‫بـ « حمزة»‪ ،‬وقد سمي بهذا االسم تيمناً بشقيق أمه‬
‫الذي اختفى بعد انضمامه الى القوات الحامية‪.‬‬
‫يعاني «إلياس» في سنين طفولته األولى من حالة‬
‫عصبية تكاد تصف طفولة الشعب اإلفريقي‪ ،‬ثم‬
‫ما لبث أن بزغت موهبته في السرد والتأليف في‬
‫ * كاتبة سعودية‪.‬‬

‫‪67‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫عبد اهلل أحمد الفيفي وطائر الثَّب َ ْغ ِ‬
‫طر‬
‫منارات للت ْوق الجمالي فى مسار حكايات الماضي والحاضر‬
‫ٌ‬

‫■ فرج مجاهد عبدالوهاب*‬

‫ـص يشير إلــى عــديــد مــن األسـئـلــة‪ ،‬فتتنوّع اإليـمــاءات‬


‫مما ال شــك فيه أنَّ الـنـ ّ‬
‫واإليجابيات‪ ،‬وفق تنوّع أساليب تناول حكاية النص بنفسه‪ ،‬ومدى صلته بالمعرفة‬
‫والمتعة‪ ،‬وبحثه الدائم في فضاءات السرد؛ للوصول إلى التْوق الجمالي الذي‬
‫يرفع من قيمة النص وحكايته في مدارات ذلك األفق‪ ،‬ومنارات التوق للجمالي‪.‬‬

‫يفتقد التوازن كيف من الممكن أن نعبر‬ ‫يفاجئنا األديب والروائي السعودي د‪.‬‬
‫عنه بطريقة متماسكة تعتمد التتابع‬ ‫عبداهلل بن أحمد الفيفي بعالمه الروائي‬
‫والتسلسل «الزمني لألحداث جميعها»‪،‬‬ ‫الــذي يُحرّك غريزة السؤال والتساؤل‬
‫وفي مجتمع مفكك مبعثر «فكرًا وثقافة‬ ‫التي تنحصر في‪ :‬كيف يمكن التناول‪-‬‬
‫وعلماً»‪ ،‬فهل من الممكن التعبير عن كل‬ ‫روائيًا‪ -‬في حدود التعبير عن عالم فني‬
‫هذا بطريقة واضحة وأسلوب مترابط‬ ‫جديد ومبدع؟ وربما تــزداد أهمية مثل‬
‫وفنية تجمع األسلوب والصياغة واللغة‬ ‫هــذا السؤال إذا توصلنا‪ -‬تطبيقًا‪ -‬ال‬
‫في فضاء إبداعي يجسّ د قيمة الحدث‬ ‫نظريًا‪-‬إلى أن تحقيق فــضــاءات ذلك‬
‫ودور أبطاله وشخصياته دون انتزاعهم‬ ‫العالم الفني‪ ،‬ال يمكن أن يتم من خالل‬
‫من تاريخهم وموروثهم‪ ،‬ودون فصلهم عن‬ ‫رؤيــة سكونية للتاريخ‪ ،‬بل من الغوص‬
‫أحداثه المعاصرة وإفرازاتها؟!‬‫في أوراق التاريخ والنظر إلى عوالمه‬
‫هذا ما حــاول مبدعنا السعودي أن‬ ‫ومتابعة آلية حركته‪ ،‬ومن ثم شرح األوراق‬
‫وتعليل أحداثها ومصاحبة شخصياتها يشتغل عليه في روايته «طائر الثبغطر»‬
‫الــذي يفسح عن عالم اإلنسان الفاعل الصادرة عن الــدار العربية للعلوم‪ ،‬في‬
‫الــمــتــحــرك وال ــم ــحــرِّك؛ فــفــي مجتمع بيروت عام ‪2014‬م‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪68‬‬
‫دراسات ونقد‬
‫قامت الرواية على مساحة ‪ 322‬صفحة من‬ ‫أمــا طــائــر الثبغطر ال ــذي جعله عنوانًا‬
‫القطع المتوسط‪ ،‬توزعت على خمسة عشر‬ ‫للرواية‪ ،‬فهو كما يقول «طائر غريب‪ ،‬يذكره‬
‫ال روت حكايات وليد موسى‪ ،‬تناولته من‬ ‫فص ً‬ ‫الناس وال يكاد يعرفه أحد‪ ،‬غريب غامض‪،‬‬
‫والدته حتى انتهى أمره راعيًا للغنم في إحدى‬ ‫يُقال إنه طائر مهاجر‪ ،‬وإنــه ال يهجع ليالً‪،‬‬
‫مناطق السعودية الصحراوية‪.‬‬ ‫حتى اسمه ال يُعرف أصله»!‬
‫ولكن الــســؤال الــذي فتح ال ــراوي نوافذ‬ ‫اســتــعــار الــمــبــدع اس ــم الــطــائــر وصفاته‬
‫مسروده عليه؛ إذ أشار إلى أنه من المعروف‬ ‫ووصــف بــه بطل روايــتــه وليد مــوســى‪ ،‬فما‬
‫أن يعرف راعي الضأن والشاء‪ ،‬أحوال البيئة‬ ‫سمع المؤلف حكايات وليد موسى إال وتوارد‬
‫وتقلبات الطقس وأحداث الماضي في نطاق‬
‫إلــى خياله ذلــك الطائر المجهول أو شبه‬
‫تجربته المحدودة؛ لكنه من غير المألوف أن‬
‫األسطوري‪ ،‬فوليد موسى والطائر يشتركان‬
‫تجد مثل هذا الراعي‪ ،‬يُح ِّدثُك في الفلسفة‬
‫في أمور كثيرة أهمها غموضه وغرابة أفكاره‪،‬‬
‫والتاريخ والسياسة الدولية‪ ،‬ويُتقن غير لغة‬
‫وعدم سكونه وسمات حكاياته العظيمة التي‬
‫ال عن تمتعه بملكة أدبية‪ ،‬أحاطته‬‫واحدة‪ ،‬فض ً‬
‫أوصلته إلى النبْذ وتشويه شخصيته ونعته‬
‫بشؤون في الثقافة والفكر (الرواية‪ :‬ص‪.)7‬‬
‫بالجنون‪.‬‬
‫هذه الشخصية شــدَّ ت الــراوي إليه وإلى‬
‫هذه الشخصية الغريبة والغرائبية كانت أخــبــاره مــنــذ أن ك ــان طــالـ ًبــا فــي المرحلة‬
‫اإلعدادية‪ ،‬وكثيرًا ما كان يراه مسجونًا يجر‬ ‫المحور األساس في بنية الرواية‪.‬‬
‫سالسله من مركز اإلمارة إلى سجنه‪.‬‬
‫لــم يكن يــعــرف شيئًا عنه وعــن أسباب‬
‫سجنه غــيــر مــا ك ــان يسمعه مــن قصص‪،‬‬
‫وأن اسمه وليد موسى من قبيلة آل شرف‪،‬‬
‫وأن شخصيته تحوّلت إلى أسطورة شعبية‬
‫حقيقية‪.‬‬
‫وبعد تخرج الراوي من الجامعة وزياراته‬
‫للمنطقة‪ ،‬تــفــاجــأ بــه يظهر م ــج ــددًا‪ ،‬لكن‬
‫دار متواضعة؛ ما دفعه فضوله مع‬ ‫منعزالً في ٍ‬
‫تخصصه في الدراسات االجتماعية إلى نبش‬
‫أمــره‪ ،‬و«إذ أستطيع القول اآلن وبعد مضي‬
‫خمس وعشرين سنة‪ ،‬أعتقد أنني قد عرفت‬
‫أســطــورة الرجل كاملة تقريبًا‪ ،‬ومــن المهم‬

‫‪69‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫أن أوري للناس أسرار هذا الرجل الغريب»‬
‫(الرواية‪ :‬ص‪.)13‬‬
‫يبدأ بزيارته في منزله‪ ،‬كــان أَمـيَــل إلى‬
‫النحافة‪ ،‬بدا في الخمسينيات من العمر‪ ،‬كان‬
‫يعلّم ابنته الحل ْب «ما طمأنني أننى لم أسمع‬
‫عنه قط أنه يؤذي الناس‪ ،‬كما أن مظهره ال‬
‫يوحي بالجنون كما أشاعوا عنه‪.‬‬
‫يسأله صاحب البيت‪.‬‬
‫لم جئت؟‬ ‫ ‪-‬‬
‫صاح؟‬
‫جئت أسألك‪ :‬أمجنون أنت أم ٍ‬ ‫‪ -‬‬
‫الكاتب فرج مجاهد‬
‫تفضل‪ ،‬ويدعوه لشرب اللبن‪.‬‬ ‫‪ -‬‬
‫مع أمه على تسميته فاختارت األم اسم وليد‬
‫باحث اجتماعي حضرتك؟‬ ‫‪ -‬‬
‫واختار األب اسم موسى‪ ،‬ومع األيــام التحم‬
‫باحث عن الحقيقة‪.‬‬ ‫‪ -‬‬
‫االسمان وأصبح وليد موسى‪ ،‬ويطيل الراوي‬
‫‪ -‬ستتعب‪ ،‬على كــل بعد اإلفــطــار واصــل في موضوع (الختان) كإجراء وطقوس تختلف‬
‫حديثك‪ .‬أحضرت زوجته الخبز‪ ،‬والسمن‪ ،‬بين الغني والفقير‪ ،‬ويصل إلى ختان سيدنا‬
‫إبراهيم وعمره ‪ 99‬سنة‪ .‬ويشير أن اسماعيل‬ ‫والعسل‪ ،‬والبيض‪ ،‬والحليب‪ ،‬والشاي‪..‬‬
‫‪ -‬ما شاء اهلل‪ ،‬ما ك ُّل هذا يا "أبلة جميلة"؟ ختن وهو في الثالثة عشر من عمره‪ ،‬كما يشير‬
‫‪ -‬الحمد هلل‪ ،‬كله من اإلنتاج المحلي‪ ،‬ويسهب إلى تاريخ عادة الختان وفوائده الصحيّة‪.‬‬
‫ويــتــولــد وع ــد ولــيــد الــعــاقــة الــســمــاويــة‬ ‫فــي الحديث عــن األوضـــاع االقتصادية‬
‫وكسل أهل الــديــرة‪ ..‬يتساءل في نفسه‪ .‬األرضية والمطر الذي سبب كثيرًا من حاالت‬
‫مجنون يتحدث عن األوضاع االقتصادية االنهيارات الصخرية‪ ،‬وكيف جــرف المطر‬
‫بعض بيوت الجبال بساكنيها‪ ،‬ثم يروي أن أبا‬ ‫واالستثمار في البلد (ص‪.)27‬‬
‫تــتــوطــد الــصــداقــة بينهما‪ ،‬وف ــي إحــدى وليد أول من استخدم اإلسمنت الذي لم يكن‬
‫الصيفيّات أعطاه كتابًا سجل فيه ذكرياته‪ :‬يعرفه أحد من أهل الديرة‪.‬‬
‫لقد عــاشــوا بفعل خــيــرات األرض حياة‬ ‫خذه لعل فيه بعض إجابة عما تبحث عنه‪،‬‬
‫هــانــئــة‪ ،‬رغــم الــفــاقــة يــأكــلــون مما يــزرعــون‬ ‫ويعود إلى اسمه الذي كان اسمين في صغره‪،‬‬
‫ويلبسون مما يصنعون‪ ،‬ويشير إلى مالبس كل‬ ‫اسمًا شعبيًا وآخــر يــؤذن بتحوّل جديد هو‬
‫من الرجل والمرأة وقتئذ‪ ،‬وكيف كانت النساء‬ ‫اســم ابــن الشيخ‪ ،‬وتجليّ داللــة هــذا االسم‬
‫يعُنين بعطورهن وشعورهن وحليهن‪.‬‬ ‫على مستوى القبيلة‪ ،‬وعندما ولد اختلف أبوه‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪70‬‬
‫دراسات ونقد‬
‫وعندما بلغ وليد مبلغ الفتوّة‪ ،‬وانتفاض الرجل الذي أعطاها الخاتم‪.‬‬
‫وخــال االحتفال بالعرس يُكتشف أمره‬ ‫الذكورة لألنوثة حكى له أبوه حكاية أيقظت‬
‫فيه ذلــك كله‪ ،‬والحكاية مصدرها الروائح فيلتغي العُرس! ثم يعمل على تنفيذ وصية‬
‫النسوية التي وجد ابنه قد فتن بها‪ ،‬وتروي أخيه وذبح القرابين ثوره‪ ،‬وواجه قتلة أخيه‬
‫الحكاية عن أمحم ُع َقيَستاء الصوفي‪ ،‬وكان واتفقوا على دفع الفدية‪ ،‬وتعثر أحدهم بدفع‬
‫له أخ أصغر منه ذهب عند جماعة يشتغلون آخــر قسط وكــان لديه خــروفــان‪ ،‬فطلب أن‬
‫في إحدى المزارع‪ ،‬في الطريق صادف امرأة يأخذ أحدهما مقابل القسط‪ ،‬إال أن الخروف‬
‫تحمل الغذاء‪ ،‬ناولته المرأة من مكان مرتفع توقف بينما الــخــروف األخــر يهذي ويناتع‬
‫فسقطت قطرة عرق من جبينها على جبينه‪ ،‬محاوالً الفكاك من رباطه واللحاق بأخيه‪،‬‬
‫وعندما أحضر الغذاء وجد أصحاب المزرعة فيطلب منه أن يترك الخروف ألنهما أخوان‬
‫رائــحــة خ ــروش الــمــرأة المعروفة بعطرها ال يعيش أحدهما دون اآلخر‪(...‬ص‪.)84‬‬
‫المميز‪ ،‬فاتهموه بها وقتلوه وردموا جثته في‬
‫كما تحكي له أمه حكاية (مية ومَجَ ادَة)‬
‫التراب‪ ،‬ولما طال غياب األخ عن أخيه قرر‬
‫وهي تشبه قصة سندريال مع بعض التصرف‪.‬‬
‫البحث عنه‪ ،‬وقــال لزوجته بعد أن أ ّمــن لها‬
‫لقد كان جميعهم يؤمنون بعدم انفصال‬ ‫والبنته كل ما يلزمهما‪ :‬إن مرّت سبع سنوات‬
‫ولم أعد من حقك الزواج‪ ،‬ومضى يبحث عن الدين عن الحياة‪ ،‬لكنهم كانوا يؤمنون بأن‬
‫الــرجــل كــان يُغالي ويستغل الــديــن لمآربه‬
‫أخيه‪ ،‬ويقال إنه فكر في صنع جناحين يطير‬
‫وغاياته وتسويغ طبائعه النفسية واالجتماعية‬
‫بهما مستطلعًا مكان أخيه‪ ،‬وحقق أمنيته وطار‬
‫التي تغلب عليها االنطوائية والــنــزوع إلى‬
‫حتى وصل مغرب الشمس فذاب الجناحان‬
‫االنغالق‪ ،‬يشفع ذلك بسرد الحكايات الشعبية‬
‫وســقــط‪ ،‬إال أن الــمــولــى سخر لــه مالئكته‬
‫عن بعض القرى المدمرة بسبب ما أظهر‬
‫فتلقفته ورفعته إلــى الــســمــاء‪ ،‬وفــي الجنة‬
‫أهلوها من بطر وفساد‪.‬‬
‫قابل أخاه وأنبأه بقصته وأوصاه إن عاد إلى‬
‫ويــعــود إلــى ذاك ــرة وليد خــال المدرسة‬ ‫األرض أن يكتفي بأخذ ديته من قاتليه وأنهما‬
‫ال ونهارًا‪ ،‬ويعود الرجل االبتدائية ورؤيته لمالبس لم يرها من قبل‬ ‫ما يــزاالن يتعبان لي ً‬
‫إلــى األرض‪ ،‬ولما وصــل البئر القريبة من كان يرتديها المعلمون القادمون من األردن‬
‫منزله وجد صبية تسقي فعرف من أجوبتها وفلسطين الذين يرتدون البدالت الرسمية‪،‬‬
‫أنها ابنته‪ ،‬وأن الليلة عــرس أمها فيعطيها ويصل األب إلى مراحل الشيخوخة ويموت‪.‬‬
‫تتفرق األســرة من بعده وتلتحق األم مع‬ ‫خاتمه ووضعه في قربة الماء وأوصاها أن‬
‫توصله ألمها‪ ،‬وما أن فتحت األم القربة حتى ابنها بديار أهلها‪ ،‬ويلتحق وليد بكلية الطيران‪،‬‬
‫اندلق الخاتم من فمها مع الماء‪ ،‬وعرفت أنه ورغم تفوقه النظري والتطبيقي تفاجأ بأنه‬
‫خاتم زوجها وقصت اإلبنة على أمها حكاية ال يصلح للطيران‪ ،‬وما عليه سوى أن يتحوّل‬

‫‪71‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫إلى مجال هندسة الطيران فرفض وعاد إلى صــدمــة ولــيــد بــأمــريــكــا حــضــاريــة بــقــدر ما‬
‫القرية بخفي حنيْن‪ ،‬وقد تغيرّت القرية تغيرًا كانت إنسانية وطبيعية إلى حد ما‪ ،‬أعجبه‬
‫كبيرًا‪ ،‬وتمرض أمه ويأخذها إلى جّ ده للعالج‪ ،‬االنضباط واحترام حقوق اإلنسان‪.‬‬
‫يعود إلــى الــريــاض ويعاصر غــزو العراق‬ ‫لكنها تودّع الحياة‪.‬‬
‫للكويت‪ .‬وتحالفت ‪ 30‬دولــة بقيادة أمريكا‬ ‫يسافر بعدها إلــى الخارج ليتعرف على‬
‫وقامت الــحــرب‪ ،‬ومــن خــال مواقف صدام‬ ‫العالم‪ ،‬كان يود أن يرى خلقًا آخر من خلق‬
‫حــســيــن وتــهــديــداتــه ورســائــلــه يــشــيــر إلــى‬ ‫اهلل‪ ،‬وأطعمة أخــرى‪ ،‬نكهات مغايرة‪ ،‬عقوالً‬
‫الرسالتيْن اللتيْن تبادالهما امبراطور الرومان‬ ‫جديدة‪ ،‬ليعيش رحلته بين الشك واليقيْن في‬
‫أوليان والملكة العربية المشهورة زنوبيا ملكة‬ ‫كل شيء‪ ،‬ولوال بقية إيمان وعقل النحرفت‬
‫تدمر‪ ،‬كما يتحدث عن مصير زنوبيا‪ ،‬وتذيع‬ ‫به السبل أيما انحراف‪ ،‬أخذ يتذوق النبيذ‬
‫إذاعة بغداد «شنت إسرائيل اليوم هجومًا على‬ ‫ولم يعرف أنه خمرٌ! أما النساء فعرف فيهن‬
‫جمهورية اليمن مستهدفة محطة كهرباء‪ .‬كما‬ ‫النبل والذكاء تارة‪ ،‬والمكر والغباء أخرى‪ ،‬وكُنّ‬
‫تمكن جنود اليمن من إسقاط طائرة وأسر‬ ‫في الغالب أنبل من الرجال وأرقى بطبعهن‬
‫الطيار‪ ،‬وتتوالى البيانات العسكرية‪ ،‬وبدأ وليد‬ ‫العاطفي المائل إلى الخير واإلنسانية!‬
‫يكتب مذكراته‪ 22 :‬فبراير ‪ ،1991‬قبول العراق‬ ‫لقد كــانــت تــجــاربــه فــي تلك المحطات‬
‫االنسحاب من الكويت حسب خطة موسكو‪.‬‬ ‫الفاصلة من حياته تجارب إنسانية ثرية رغم‬
‫وحـ ــددت أمــريــكــا ي ــوم الــغــد آخ ــر موعد‬ ‫كل شيء‪.‬‬
‫لالنسحاب م ـ ّهــددة بشن هــجــوم بــري على‬ ‫في أميركا كانت بلد الحلم الــذي طالما‬
‫العراق متجاهلة المبادرة المطروحة للسالم‬ ‫راوده‪ ،‬يعيش أهلها في فضاء مادي مغلق على‬
‫واتهمت العراق بتفجير آبار النفط وسياسة‬ ‫المصالح الفردية الخاصة‪ ،‬ومــن الطريف‬
‫األرض المحروقة (ص‪.)227‬‬ ‫أنه اصطدم بجاره اليهودي‪ ،‬كان يتوضأ في‬
‫وب ــدأ الهجوم الــبــري األح ــد ‪ 24‬فبراير‬ ‫إحدى دورات المياه العامة وجــاره اليهودي‬
‫‪ 1991‬ويشن الــعــراق غــارة صاروخية على‬ ‫يتمخط بعنف على نحو غريب في حوض‬
‫ال أطلق‬
‫الرياض‪ ،‬وفي التاسعة والنصف لي ً‬ ‫مغسلة أخرى‪ ،‬ويستاء اليهودي من أن وليد‬
‫صاروخ على الرياض فُجّ َر في الجو‪ ،‬ويذكر‬ ‫كــان يغسل قدمه في الحوض فوجده أمـرًا‬
‫حسنى مــبــارك أن قــواتــه لــن تدخل العراق‬ ‫مستقيمًا فسأل الجار‪ ،‬لكن ترى أيهما أكثر‬
‫وتستمر الحرب البرية‪ ،‬وظل العالم مشغوالً‬ ‫قذارة موضوعً يا‪ :‬غسول قدّمي أم ما يخرج‬
‫بقرار العراق لالنسحاب من الكويت وكان ‪26‬‬ ‫من فتحتي أنفك؟!‬
‫ويجد أن أمريكا بخالف بريطانيا؛ إذ فبراير يوم تحرير الكويت‪ ،‬وتتوالى األنباء‬
‫بعثت في رأســه كثيرًا من األسئلة‪ .‬لم تكن عن انتقال المعركة التي نعتها صدام بـ «أم‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪72‬‬
‫دراسات ونقد‬
‫السائد والمسلّم به‪ ،‬أراد أن يكون الصادق‬ ‫المعارك» ونعتها الخليجيون بـ «أم المهالك»‬
‫األمين‪ ،‬فحوّلته المؤسسة إلى متهم بالتزوير‬ ‫إلى داخل العراق‪ ،‬وفي يوم ‪ 6‬مارس ‪1994‬‬
‫واالختالس وركلته إلى الصحراء ال لشيء إال‬ ‫يُعين صــدام حسين ابــن عمه «علي حسن‬
‫ألنه ما كان يقبل بالفساد اإلداري والمالي‪،‬‬ ‫المجيد» وزيـــرًا للداخلية مطفئ الحركة‬
‫وال هم كانوا سيتقبلون من ال يتقبله‪.‬‬ ‫الكردية‪ ،‬ويعيد العراق ما نهبه من الكويت‬
‫يلتحق بعد ذلك بمؤسسة أهلية تجارية‬ ‫وآبــار النفط ما زالــت مشتعلة‪ ،‬ومــا انفكت‬
‫ويتزوج من قبيلة أخواله‪ ،‬الذين سرعان ما‬ ‫المعارك بين الجيش العراقي والمعارضة‪،‬‬
‫ب ــدأوا الــخــاف معه بسبب أفــكــاره وطعنه‬ ‫ويتمكن صدام من إخماد المعارضة‪ ،‬واتفق‬
‫لعباداتهم‪ ،‬ونقده للشيخ ابن ساعدة نفسه؛‬ ‫مع األكــراد على حكم ذاتــي‪ ،‬ويشير إلى يوم‬
‫حتى صار يهدد كيان القبيلة بسبب أفكاره‪،‬‬ ‫‪ 28‬أغسطس ‪ 1991‬وافتتاح القذافي المرحلة‬
‫ولــم يكتف بذلك بل راح يدعو إلــى تحرير‬ ‫األولى من النهر العظيم‪ ،‬وتمر األيام بالحظر‬
‫الــمــرأة وحقها فــي العمل والـ ــزواج وقــيــادة‬ ‫الجوي على جنوبي العراق‪ ،‬ومآسي البوسنة‬
‫السيارة فاتهمه أهل القبيلة بالجنون السيما‬ ‫والهرسك‪ ،‬والمجاعة الصومالية‪ ،‬والحرب‬
‫حين تدخل في قضايا إسالمية وسياسية‬ ‫والسالم وزلزال القاهرة (ص‪.)266‬‬
‫وتنتهي الــحــرب ويلتحق ولــيــد بــإحــدى واجتماعية بدعوى دعوته إلى التقدم حضاريًا‬
‫جامعات جده‪ ،‬ويحصل على بكالوريوس في وإنسانيًا‪.‬‬
‫يعرضون عليه الــزواج والعيش الميسور‬ ‫اإلدارة واالقتصاد ويلتحق بوظيفة حكومية‪،‬‬
‫ولكن هل سيكف عن مزاولة نقده‪ ،‬ومصادماته على أن يمسك لسانه عن الناس‪ ،‬فيرفض‪..‬‬
‫وحتى المحقق انحاز لمنطقه السليم فيما‬ ‫لما حوله ومن حوله هذه المرة؟‬
‫يخص أنه ليس في اإلسالم عقوبة بالسجن‪،‬‬ ‫تقع تحت يــده وثــائــق تثبت أن مــســؤوالً‬
‫ويــتــشــاور كــبــار القبيلة مــع أخــوالــه إذ قال‬ ‫قياديًا يستغل منصبه لتوظيف أقاربه وتقديم‬
‫قائلهم‪ :‬ال سبيل معه إال الطرد من القبيلة‪،‬‬ ‫مساعدات وأعــمــال فساد وتــزويــر‪ ،‬جمعها‬
‫قال آخر‪ :‬إال إن امرأته ترفض وتصر على‬ ‫وحــاول تقديمها للمسؤول األعلى الــذي ال‬
‫البقاء إلى جانبه‪ ،‬ويهاجر من بني ساعدة مع‬ ‫يجد وقتًا الستقباله‪ ،‬وبعد عــدة محاوالت‬
‫زوجته وابنته‪ .‬عاد كسيرًا يائسً ا في الناس‬ ‫يحظى بمقابلته ويقدم تقريره مع الوثائق‬
‫ومن نفسه‪ ،‬وكان صيته قد سبقه في المجتمع‬ ‫والمستندات‪ ،‬ووعده بمتابعة الموضوع‪ ،‬وبدالً‬
‫الجديد القديم مع تهويالت ما يضعه الخيال‬ ‫من أن يعاقب المفسد يقدّم للتحقيق متهماً‬
‫الشعبي ال ــذي صـــوّره أنــه مــجــنــون‪ ،‬بــل إن‬ ‫بعدة تهم مفبركة تؤدي إلى طرده من وظيفته‬
‫بعضهم بالغ في شأنه فادّعى أن الرجل كان‬ ‫ليكتشف أن الموظف الفاسد هو ابن خال‬
‫يدّعي النبوة‪ ،‬ويزعم أنه المهدي المنتظر‪ ،‬أو‬ ‫معاليه‪ ،‬وهكذا سرعان ما فصل وليد موسى‬
‫أنه يعلم الغيب ويتنبأ بالمستقبل!‬ ‫من عمله بتهمة خطيرة تتمثل في مشاغبة‬

‫‪73‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫القبيلة وعقلية أفرادها التي لم تصلها غبار‬ ‫عاد وليد كيوم ولدته أمه غريبًا في أرضه‬
‫طلع الحضارة الحديثة‪ ،‬فكانت مثاقفة وليد‬ ‫كطائر «الثبغطر» لم يفلح بالتغيير كما كان‬
‫موسى للحضارة األوربية وانبهاره بها‪ ،‬ولما‬ ‫يتوقع‪ ،‬فالمحيط كان أقوى منه‪ ،‬والغريب أن‬
‫عاد إلى قريته وقبيلته حاول أن يطور المفاهيم‬ ‫الحكايات الملفقة التي نسجت حوله ذهبت‬
‫والــعــادات‪ ،‬فاتهم بالجنون ألنــه خلق عــادات‬ ‫إلى التشكيك حتى في نسبه‪ ،‬وأنه ربما عثر‬
‫وعالقات جماعية تحتاج إلى نمو الوعي وإلى‬ ‫عليه أبوه المفترض في الحج فتبناه‪ ،‬واألغرب‬
‫ثقافة قادرة على التالؤم مع مستجدات الحياة‪،‬‬ ‫ما زعم بعضهم أن الرجل العائد ليس بوليد‬
‫وكذلك فشل الوعي والثقافة في مواجهة الجهل‬ ‫مــوســى‪ ،‬لكنه انتحل شخصيته‪ ،‬وأن وليدًا‬
‫الحقيقي مات في حادث سيْر‪ ،‬لكأن الناس‬
‫والتخلف والغوص في عباءة األعراف البالية‪،‬‬
‫لم يكتفوا بتجريده من عقله‪ ،‬بل أرادوا تجريده‬
‫مع أن الرواية حاولت التأثير في القارئ عن‬
‫من نسبه وأن يستأصلوا شأفته لو استطاعوا‪.‬‬
‫طريق تقديم الحقائق النوعية الفنية بصورة‬
‫مقنعة مجسدة‪ ،‬وعــن طريق السارد العليم‪،‬‬ ‫أتساءل اآلن‪ :‬أيظل وليد موسى هكذا نبيًا‬
‫وهي تغوص بأدق الجزئيات والتفاصيل التي‬ ‫مجنونًا‪ ،‬مستسلماً لتلك الشيال التي ألقاها‬
‫ربطت بين الظواهر والــمــواقــف واإلح ــاالت‬ ‫عليه قومه‪ ،‬كطائر يحوم في أقفاص صمته أم‬
‫وإخضاعها للفهم والربط والتغيير‪.‬‬ ‫هي استراحة الجناح قبل أن يعاود التحليق؟!‬
‫غــوص فــي أعــمــاق الشخصية حتى بدا‬
‫وإذا كــان مــن أهــم عــوامــل نجاح الــروايــة‬
‫الــنــص وكــأنــه ســيــرة ذاتــيــة لــمــنــاضــل ثــوري‬
‫الحديثة إثارة األسئلة‪ ،‬فقد كانت الرواية في‬
‫يرويها السارد بضميره‪ ،‬وتداخل مع العادات‬
‫قمة تألقها وهي تثير كثيرًا من األسئلة‪ ،‬سواء‬
‫والتقاليد وكل ما يربط التراث بمصطلحات ما‬
‫في البيئة الجبلية القديمة وأنماط ثقافتها‪،‬‬
‫يحيط بذلك المجتمع من دور وثياب وعادات‬
‫أو في المدينة الحضارية التي عاشها وألفها‬
‫من زوايــا التاريخ الشعبي والمنطوق لكل ما‬
‫وليد موسى في أوربا عامة وأمريكا خاصة‪،‬‬
‫أورده المؤلف في الجزء األول من الرواية‪،‬‬
‫أو من خالل مواقفه وأسئلته واإلجابة عنها‪،‬‬ ‫ثم هو نبش للتاريخ المعاصر واحتالل العراق‬
‫حتى من خالل تفكيره الخاص الذي رفضته‬ ‫للكويت‪ ،‬وما عكسه هذا الغزو المرفوض من‬
‫القبيلة‪ ،‬وإن كانت األسئلة واألجوبة فشلت في‬ ‫كوارث إنسانية وبشريه كان الخاسر األول فيها‬
‫الوصول إلى اإلحساس بضرورة التغيير‪ ،‬إال‬ ‫العراق‪ ،‬الذي ما يزال يعيش نتائجه المأساوية‬
‫أن الرواية نجحت في نمو اإلحساس الجمالي‪،‬‬ ‫حتى اآلن‪ ،‬وكــل ذلــك مــن خــال نــص روائــي‬
‫الــدال بكل قــوة وفنية على الــرؤيــة الوثوقية‬ ‫حــاذق ونابه‪ ،‬سعى إلى تقديم صــورة واقعية‬
‫الفنية للعالميْن الواقعي والفني واإلبداعي‪،‬‬ ‫للعالقات االجتماعية واإلنسانية في إحدى‬
‫وعلى مستوى تصاعدي واحد‪.‬‬ ‫مناطق السعودية الجلية المحكومة بقانون‬
‫ * كاتب ‪ -‬مصر‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪74‬‬
‫نصوص‬

‫خريف‬

‫■ جميلة عمايرة*‬

‫أريد أن أنظف رأسي من كل ما يؤرقني‪..‬‬


‫من كل شيء‪..‬‬
‫من تلك األفكار المجنونة التي ال تتوقف عن الثرثرة في رأسي‪ ،‬وال أعرف من‬
‫أين تجيء‪ ،‬ومَن يقف وراءها‪ .‬ثمة قوى غامضة أجهلها‪ ،‬تقف ضدي وترسلها‪.‬‬
‫في الليلة السابقة‪ ،‬عادت أحالمي القديمة للظهور من جديد‪ .‬وكنت أظن أنني‬
‫نسيتها‪ ،‬أو أضعتها في جملة أحالم أخرى جديدة‪ ،‬إال إنها عادت ثانية‪ .‬ما الذي‬
‫تحملينه لي أيتها األحالم؟‬

‫سيارات قليلة تمر بين الحين واآلخر‪.‬‬ ‫أجلس على الشرفة‪.‬‬


‫صــوت أمــي تــنــادي‪ ،‬يصل واضــحـاً‬ ‫أتأمل الخارج‪.‬‬
‫الشارع النائم توقظه آليات الجند للشرفة‪ ،‬وال يخطئني‪ .‬أف ُّز من مكاني‬
‫فينهض متثائبا ُ‪ .‬يود لو يعود إلى نومه مذعورة‪ ،‬وأهرع لغرفتها‪..‬‬
‫ُ‬
‫من أين يجيء كل هذا الغبار‪ ،‬وكل‬ ‫ثانية‪ ،‬إ ّال إن خطوات الدركي العريضة‬
‫شيء مغلق؟ قالت‪ ،‬وهي تشير للتلفزيون‪.‬‬ ‫توقظه من جديد‪ .‬فينهض عابساً‪.‬‬
‫مسحت الغبار عن شاشته‪ ،‬لتكون‬ ‫بعض المارّة يسيرون بالشارع‪ ،‬وهم‬
‫ملتزمون بإجراءات الوقاية والسالمة‪ .‬الصورة بكل أبعادها واضحة أمامها‪،‬‬

‫‪75‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫لقد تأخرت‪.‬‬ ‫كي يصلها البث صافياً‪ ،‬وتسمع األخبار‪،‬‬
‫قهوتي ال ُمرّة في انتظاري‪،‬‬ ‫لــتــخــبــرنــي بــعــد قــلــيــل بــمــا لــديــهــا‪ ،‬وتــبــدأ‬
‫بتحليالتها‪.‬‬
‫أرتشفها على مهل‪..‬‬
‫عدتُ للشرفة‪.‬‬
‫وأغني لتلك البالد البعيدة»‪.‬‬
‫أغبط الشجرة المقابلة للشرفة‪ ،‬الواقفة‬
‫جاءت أمي‪.‬‬
‫بوجه الجند والريح‪ .‬لو كنت مكانها‪.‬‬
‫ال بد أن لديها أخباراً‪ ،‬وتريد إعادتها فوق‬
‫أنا شجرة‪.‬‬
‫رأسي‪.‬‬
‫رن هاتفي‪ .‬كانت مريم‪ .‬صديقتي التي‬
‫سجلت إصابات هذا اليوم ‪ 400‬حالة‪ .‬للتو‬
‫تقيم خارج البالد منذ سنوات‪ ،‬وهي شاعرة‬
‫أعلن «جورج كالوني»‪ .‬غداً حظر لمدة أربعة‬
‫ومترجمة‪.‬‬
‫أيــام‪ .‬تم عزل أحياء في عمان‪« :‬الهاشمي‬
‫األصدقاء األصدقاء‪ .‬ها هي واحدة منهم الشمالي وجــبــل الــجــوفــة»‪ ،‬بعد اكتشاف‬
‫حاالت هناك‪ .‬وتم حظر «عين الباشا ومخيم‬ ‫تطل‪.‬‬
‫تحدثنا كثيراً عبر الهاتف‪ .‬هذه واحدة البقعة»‪.‬‬
‫غداً حظر؟‬ ‫مــن الميزات التي منحتها لنا تكنولوجيا‬
‫االتصاالت‪.‬‬
‫ألربعة أيام متتالية‪ .‬بدأ الوضع يتفاقم‪،‬‬
‫وخارج السيطرة‪.‬‬ ‫بعثت لي مريم ريان هذه القصيدة‪.‬‬

‫ال تقلقي يا أمي‪ .‬هذا ليس دقيقا‪ ،‬و‪..‬‬ ‫«هل تسمعني؟‬

‫قلت لك ألف مرة ال تعيدي هذه الجملة‬ ‫أشرب قهوتي على عجل‪،‬‬
‫أمامي‪ .‬أنا قلقة‪ ،‬وقلقة جدا ُ‪ .‬لو يلتزم الناس‪،‬‬ ‫وأهرول مسرعة خارج النص‪.‬‬
‫بشروط التباعد بينهم‪ ،‬لما كانت كل هذه‬
‫داليدا تغني «حلوة يا بلدي»‬
‫اإلصابات المحلية‪ .‬قالت غاضبة وخرجت‪.‬‬
‫وأنا أكتب عن وطن ضائع أكثر مني‪.‬‬
‫صدقتُ ظني بك‪.‬‬
‫وأتساءل أحيانا‬
‫الخريف أضــاع أوراقــه ومضى‪ ،‬الشارع‬
‫ُ‬
‫خاو تنوح به الريح‪ ،‬ومقاعد الرصيف جالسة‬
‫ٍ‬ ‫ِل َم ينتحر الصوت؟‬
‫تحدق بالفراغ‪.‬‬ ‫وكيف أستعيد الوقت في ساعتي؟‬
‫* كاتبة ‪ -‬األردن‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪76‬‬
‫نصوص‬

‫ُمعايدة‬

‫■ محمد الرياني*‬

‫اكتفت بابتسامةٍ واحــدةٍ احمرَّ معها‬ ‫ْ‬ ‫وأشاحت بوجهها‪،‬‬


‫ْ‬ ‫العيد‬
‫ِ‬ ‫قبَّلتْني قبلةً واحــد ًة يــو َم‬
‫الشراشف الورديةِ‬
‫ِ‬ ‫واختفت بين‬
‫ْ‬ ‫خدُّ ها‪ ،‬طاردتُها ألقبِّلها أو لتمنحني قبلةً أخرى‪ ،‬فابتعدتْ‬
‫جعلت وجهي يسوَدُّ‬ ‫ُ‬ ‫أيضا‪،‬‬
‫الفرح مث َل وجنتيْها‪ ،‬قالت لي غــدً ا عيدٌ ً‬ ‫ِ‬ ‫التي تكاد تنطقُ من‬
‫قلت لها غدً ا لن يأتيَ العيدُ ثانية‪ ،‬سيكونُ قد مرَّ يومان عليه‪.‬‬ ‫ويظلمُ من الجزَع‪ُ ،‬‬

‫قالت لي‪ :‬بقيَ يو ٌم ثالثٌ ‪ ..‬سنأك ُل المزي َد‬ ‫قالت‪ :‬سأطب ُع لك القبل َة الثانيةَ‪ ،‬وسترى‬
‫من الحلوى ونتباد ُل القبالت‪ ،‬تنهدتُ وأنا‬ ‫العي َد وكأنه وُل َد من جديد‪.‬‬
‫الوقت وأحسبُ ما بقيَ من النهار‪.‬‬
‫ِ‬ ‫طاردتُها ألسب َق اليو َم الثاني‪ ،‬ألضمَّها‪ ،‬ولم أشي ُر إلى‬

‫جميل‪،‬‬
‫ً‬ ‫ب ــدا الــهــا ُل الــجــدي ـ ُد صــغــيـرًا‬ ‫الشمس‪ ،‬وبتُّ أقلبُ بصري‬
‫ُ‬ ‫غابت‬
‫ِ‬ ‫أستطع‪،‬‬
‫في السماء‪ ،‬أتأم ُل الطب َق العلويَّ الذي تزيَّا‬
‫والنجو ُم تتألألُ في السماءِ ‪ ،‬والعي ُد اليزا ُل‬
‫بالنجومِ كمن فر َح بيومِ العيد‪.‬‬
‫يغطي كلَّ الكون‪.‬‬
‫ـرت‬
‫ان ــط ــوتْ الــصــفــحـ ُة ال ــس ــوداء‪ ،‬حــضـ ِ‬
‫جديد‬
‫ٍ‬ ‫بلباس‬
‫ٍ‬ ‫أصب َح الصباحُ‪ ،‬فجاءتْني‬
‫ـس للعيدِ لونًا‬
‫الشمس برتقالي ًة كمن لــبـ َ‬
‫ُ‬
‫أبيض يزخ ُر‬
‫ُ‬ ‫وبسمات كثيرةٍ ‪ ،‬ومعها طب ٌق‬
‫ٍ‬
‫مُشرقًا‪.‬‬
‫بالحلوى‪ ،‬دعَ ِت البقي َة ليشاركونا الفرحة‪.‬‬
‫أقبلتْ نحوي‪ ..‬فأمسكتُ بها‪ ،‬وضعتْ كفَّها‬
‫احم َّر خـدِّي من حُ مر ِة وجنتيْها‪ ،‬وزَّعــتْ‬ ‫على خدِّها‪ ،‬طبعتْ على خدِّي قُبلتَها الثانيةَ‪،‬‬
‫واكــتــفــتْ بــهــا‪ ،‬ولــم تدعني أخ ــر ْج أشــواقــي قبالتِها عليَّ وعلى اآلخــريــن‪ ،‬شــعــرتُ أنَّ‬
‫وآهاتي وفرحتي بيوم العيدِ في ثاني األيام‪ .‬النها َر يمضي أســر َع من سابقيْه‪ ،‬بتْنا في‬
‫الثالث سَ هارى كما تفع ُل النجو ُم في‬
‫ِ‬ ‫بعضا من اليومِ‬
‫ً‬ ‫جلستْ إلــى جـــواري تقض ُم‬
‫الطبقِ األسود‪ ،‬قالت لي‪:‬‬ ‫الحلوى حتى النصف‪.‬‬
‫(يا أبي كم هو العي ُد رائ ٌع بوجودك! سيأتي‬ ‫النصف الباقي في فمي‪ ،‬فالتهمتُه‪،‬‬
‫َ‬ ‫َضعت‬
‫و ِ‬
‫العي ُد الجدي ُد وقد كبرنا‪ ،‬وأنتَ أنتَ العيد‪).‬‬ ‫طلبتُ المزيدَ‪ ،‬فحركتْ رأسَ ها بالرفض‪.‬‬

‫ * قاص سعودي‪.‬‬

‫‪77‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫كيف ترى النُّور‬

‫■ سمر الزعبي*‬
‫«وين رايحة يا هدى؟»‪.‬‬
‫«أشوف مح ّ َمد»‪.‬‬
‫تضبط انفعاالتها؛‬
‫ُ‬ ‫الخضار‪ ،‬بعدما كادت تجرح يدَها‪.‬‬
‫تتوقَّ ف عديلة عن تقطيع ُ‬
‫«يا حبيبتي‪ ،‬اتركيه‪ ،‬انتبهي لدراستك‪ ..‬عندك توجيهي»‪.‬‬
‫تصفقُ البابَ ‪ ،‬ثمَّ تسمع كلمات وداعها وهي تغادر من مم ّر البيت الخارجي المرصوف‬
‫األطــر الخشبيّة بتنهيدةٍ مُ رّة‪،‬‬
‫بالحجارة؛ فترقبها عديلة من نوافذ المطبخ الكبيرة ذات ُ‬
‫حتى تختفي‪.‬‬

‫تقص على أمّها ك ّل ما ‪« -‬طــبــعـاً صــالَــحــك‪ ..‬مــا قــدر يــقــاوم هذا‬ ‫‪ -‬تعود قبيل المغرب‪ّ ،‬‬
‫الجمال»‪.‬‬ ‫دار بينها وبين محمد‪ ،‬وإن أخبرتها عن‬
‫فظ قام به‪ ،‬فجرحها‪ ،‬تنتهز‬ ‫أيّ تصـرّف ّ‬
‫تجمع هداياها الغالية‪ ،‬أما عديلة فتخرج‬
‫عديلة الفرصة‪ ،‬وتقنعها بابن الجيران‪،‬‬
‫تنشـر الغسـي َل كي تتنفَّس الصعداءَ‪ ،‬نهنهتُها‬
‫الذي ما يزال عرضه للزواج قائمًا‪ ،‬فتثور‬
‫مكتومةٌ‪ ،‬عيناها تترقرقان‪ ،‬فيمحو مندي ُل‬
‫هــدى‪ ،‬وتذكر مواقف محمد الرجولية‪،‬‬
‫خلف رقبتها خطاهما أ َّوالً‬ ‫َ‬ ‫الرّأس المعقوف‬
‫فال تستطيع عديلة أن تنكر‪ .‬تج ّر فزعها‪،‬‬
‫بأوَّل‪.‬‬
‫تجترّه في المطبخ‪ ،‬ث ّم تعود محمّلة بأطباق‬
‫تتق ُن عديلة مراقب َة ابنتها‪ ،‬وال تيأس‪ ،‬تتبع‬ ‫العشاء‪.‬‬
‫تكشف نفسَ ها‪ ،‬وال مكا َن‬ ‫َ‬ ‫صغيرتَها دون أن‬
‫تأكل البنتُ بشهي ٍَّة وتــنــام‪ .‬فيما تنطوي‬
‫يروق للبنت سوى حديقة أبو نصـير العامَّة‪،‬‬
‫عديلة‪ ،‬تشكو خوفَها لألواني‪ ،‬فتعزف معها‬
‫المصادفات‬
‫ِ‬ ‫صـيفاً‪ ،‬شــتــاءً‪ .‬تختل ُق عديل ُة‬
‫تجفّفها‪ ،‬ث َّم‬
‫ِ‬ ‫بقرف‬
‫ٍ‬ ‫مقطوع َة القلق‪ ،‬ببطءٍ ‪،‬‬
‫أحياناً‪ ،‬تُجاورها‪ ،‬وتتظاهر بتصديق كالمها‪.‬‬
‫الصباح!‬
‫راش فِ كَراً حتى َّ‬
‫يلتهمها الفِ ُ‬
‫ذات مــصــادفــة‪ ،‬تــمـ ُّر عليها فــي الحديقة‪،‬‬
‫تأتي البنتُ في اليوم التَّالي محمَّل ًة بأكياس فتبادرها هدى‪ ،‬معتذر ًة أنَّه غادر للتوّ‪.‬‬
‫تصف بعضها‬ ‫ُّ‬ ‫الهدايا‪ ،‬تفرِ غها على الطاولة‪،‬‬
‫وألوان ‪« -‬كيف يروح دون أن يوصلك للبيت؟»‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بعلب مزركشة‬ ‫إلى جانبَ بعضها اآلخر‪ٍ ،‬‬
‫ـوصــلــنــي‪ ،‬بــس آخــر مـ ـرَّة شفته‬
‫‪« -‬دايــمــاً يـ ِّ‬ ‫جذَّ ابة‪ ،‬تُسَ ـ ُّر من أجلها‪ ،‬وتقرص خدَّ ها‪:‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪78‬‬
‫نصوص‬
‫واحدة‪ ،‬والبنت ترتجف‪ ،‬تترجَّ ُل عديلة قاصد ًة‬ ‫فيها‪.»..‬‬
‫الصغيرةَ من يدها‪ ،‬فتصـرخ البنت‪:‬‬‫بابَها‪ ،‬تش ُّد ّ‬ ‫وال تُكمل‪ ،‬تضغط على رأسها بكفَّيها‪.‬‬
‫«واهلل ألحكي لـ محمَّد عنك»‪.‬‬
‫‪« -‬آه يا روحــي‪ ..‬آخر مرَّة شفتيه فيها شو‬
‫تقابلها عديلة بــالــصـــــراخ هــي األخ ــرى‪:‬‬ ‫صار»‪.‬‬
‫«خلص‪ ..‬خلص عــاد‪ ..‬بكفِّي‪ ،‬ومن هــذا؟»‪..‬‬
‫تضغطُ بــق ـوَّة‪ ،‬ووجهها البيضاويُّ يبدو‬
‫فتنظر هدى حيث أشارت‪ ،‬وهي ما تزال تردِّد‪:‬‬
‫كعجينة‪ ،‬شفتاها الورديَّتان تبهتا‪ ،‬ترفع شعرها‬
‫«قبر مين هذا يا هدى؟ أخبريني‪ ،‬من شان‬ ‫الطَّ ويل األشقر‪ ،‬تلفُّه بخرقة ذاكرةٍ ممزّقة‪ ،‬ث َّم‬
‫اهلل‪ ..‬اقري االسم»‪.‬‬ ‫تصـرخ بوجه أمها كلَّما كرَّرت عليها السؤال‪،‬‬
‫فتنهار‪ ،‬تحتضن القبر‪ ..‬إنه مسجى هنا‬ ‫وعيناها تقدحان شـرراً‪.‬‬
‫في طريق العود ِة تر ُّد هدى على مكالمة‪ ،‬منذ سنة!‬
‫هي وحدها من سمعت رنين الهاتف‪ ..‬وتطول ‪« -‬محمّد ميّت‪ ..‬ميّت‪ ،‬اصحِ يا بنت!»‪.‬‬
‫المحادثة‪ ،‬تعاتب «محمّد» على غيابِه‪.‬‬
‫تذكَّرت هدى القبرَ‪ ،‬وبكاءَها الطويل عنده‪،‬‬
‫تغلي الدماءُ في رأس عديلة‪ ،‬تسع ُل عمراً تذكَّرت جنازتَه‪ ،‬وأيَّا َم العزاء‪ ،‬تذكَّرت الحديق َة‬
‫من الشّ قاء‪ ،‬لكن تقبض على المقود بهدوء‪ ،‬ث َّم العا َمّة‪ ،‬ودرجَ ها المفضـي إلى الشارع‪ ،‬تذكَّرت‬
‫توقف السـيارةَ‪ ،‬وتطلب من ابنتها شـرا َء عبوة‬
‫الشاحنة المسـرعة التي كانت ستدعسُ ها‪،‬‬
‫الهاتف بعدما‬
‫َ‬ ‫متجر مجاور‪ ،‬تقلِّب‬
‫ٍ‬ ‫ماء من‬
‫وج ّثَتَه الهامدة بعدما اندفع إليها يشدُّها من‬
‫تتأكّد مــن زوال طيف هــدى‪ ،‬تتفقَّد سج ّل‬
‫أمام الشاحنة‪ ،‬وسقط مكانَها‪.‬‬
‫المكالمات‪ ،‬وهي تعرف أنه لن يعدو ّإل فارغً ا‬
‫بلة‬‫بكت حــدَّ انسجام ظــالِ الكون في قِ ٍ‬ ‫مكالمات حديثة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫من أيّ‬
‫واح ــدة‪ ،‬وانكسار ضوئه فــي قطرة واحــدة‪،‬‬
‫صعدت هــدى‪ ،‬فانطلقت عديلة مسـرع ًة‬
‫بال وعي‪ ..‬البنت تصـرخ من الخوف‪ ،‬لكنّ هذا اغتسلت بها دمعاً‪ ،‬لكن بقيت مُحتَجزَة بين‬
‫ال يثني عديلة عن القيادة بسـرعة جنونيّة‪ ،‬ال جزيئاته‪.‬‬
‫بعد وقـ ٍـت ف َق َد بوصلَتَه‪ ،‬ساعدت عديلة‬ ‫تفهم المواقف السّ ابقة لثوراتها‪ ،‬فمهما بدت‬
‫ابنتها على النهوض‪ ،‬وأخذتها حيث السـيارة‪،‬‬ ‫متماسك ًة ّإل إنها قد تنفعل تحت أيّ تصـرف‬
‫م َكّنت حــزا َم األمــان نحو خصـرها النّحيل‪،‬‬ ‫يصدر عن هدى‪ ،‬ولو كان مُعتادًا‪ ،‬ربّما تحتاج‬
‫وفــور أن انطلقتا‪ :‬وحدَها هدى من سمعت‬ ‫لمساحة يصبر فيها اآلخرون على‬ ‫ٍ‬ ‫أيضا‬
‫هي ً‬
‫الهاتف‪ ،‬ور َدّت على‬
‫َ‬ ‫صوت الرَّنين‪ ،‬فسحبت‬ ‫زلتها‪.‬‬
‫ّ‬
‫مكالمة‪..‬‬ ‫تبدو قيادتها هيستيريّة‪ ،‬لكنها تقف دفع ًة‬
‫* كاتبة ‪ -‬األردن‪.‬‬

‫‪79‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫قصص قصيرة جد ًا‬
‫‪ρ‬محمد صوانه*‬
‫وهج‪..‬‬ ‫صانعة الغد‬
‫يجلس على ُشرفة الذكريات‪..‬‬ ‫تحويه‪..‬‬
‫بعض العبرات‪..‬‬ ‫تسيل ُ‬ ‫ثم تتلقفه يداها الواهنتان بلهفة‪..‬‬
‫ُت ـن ــادي ــه م ــن ال ــداخ ــل‪ ،‬ل ـت ـنــاول طـعــام‬ ‫تصنعه على عينها‪..‬‬
‫الغداء‪.‬‬
‫كأنه عجينة‪! ..‬‬
‫فيذهب ليغسل وجهه؛‬
‫ثم تطلقه‪..‬‬
‫ليعيده إلى وهج الحاضر!‬
‫فيبلغ عنانَ السماء!‬
‫معهم‬
‫يُ رخي جسده على سرير وثير‪..‬‬ ‫تلميع‪!..‬‬
‫لحظ َة يغشاه النُعاس‪َ ،‬تنْسَ ُّل الــروح‪..‬‬ ‫قبل أن يذهب إلى الحفل‪،‬‬
‫لمّ ع كل أدوات ــه‪ :‬مالبسه‪ ،‬وتسريحته‪ ،‬إلى هناك‪..‬‬
‫لتنا َم (معهم) على الحصير‪!..‬‬ ‫ونظارته‪ ،‬وحذاءه‪ ،‬وسيارته‪..‬‬
‫اغتراب‬ ‫وتعهد االبتسام؛‬
‫لكن وجهه ‪ -‬في عيونهم ‪ -‬ظل باهتاً! يشدّ ه الشوق‪،‬‬
‫ت ـغ ـمــره أج ـ ــواء ال ـح ـض ــور‪ ،‬تـسـبـقــه كل‬
‫حسنة‪!..‬‬
‫أحاسيسه‪..‬‬
‫دمعة الصغير ما تزال ساخنة‪..‬‬
‫يهيئ مركباً‪ ..‬يُ زيّنه‪..‬‬
‫ثم ينام!‬ ‫تطلب عجوز منه أن يقترب منها‪..‬‬
‫تمسح بيدها الخَ ِشنة على رأسه‪!..‬‬
‫نداء‬
‫ت ـب ـت ـســم ل ـم ــراف ـق ـه ــا‪ :‬فـ ــي كـ ــل ش ـعــرة‬
‫تتجاهل نداءات أمها باالستعجال‪..‬‬
‫الحب على سطح البيت‪،‬‬
‫َّ‬ ‫تتشاغل بنثر‬ ‫حسنة!‬
‫ال يهمها تدافع الحمام‪..‬‬ ‫يرفع الطفل وجهه مندهشاً‪،‬‬
‫تصيخ السمع‪..‬‬ ‫وبحركة ال إرادية؛‬
‫لنداء من األعماق‪!..‬‬ ‫يدفع يدها عن رأسه!‬
‫* قاص وكاتب ‪ -‬أردني‪ -‬مقيم بالسعودية‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪80‬‬
‫نصوص‬

‫حوار داخلي مع أبي العالء‬


‫‪ρ‬خليف الغالب*‬
‫في‪ ‬النص‪ : ‬حين‪ ‬يصير‪ ‬النفي‪ ‬إثباتا‬ ‫ّ‬
‫خلقتَ ‪ ‬من‪ ‬عطش‪ ‬األموات‪ : ‬أمواتا‬
‫وكنت‪ ‬مثلك‪ ‬يا‪ ‬أعمايَ ‪ ‬متّحدً ا‪ ‬باألرض‬ ‫ُ‬
‫أحمل‪ ‬ذاتًا‪ .. ‬تقتـل‪ ‬الذاتَ‬
‫ً‪ ‬نبتت‬
‫ْ‬ ‫أعمايَ ‪ .. ‬هل‪ ‬كنتَ ‪ ‬إال‪ ‬صورة‬
‫خلف‪ ‬الزمان‪.. ‬‬
‫ووعيً ا‪ ‬هائمً ا‪ .. ‬باتَ‬
‫ورحلةً ‪ ‬من‪ ‬شفيف‪ ‬البعد‪ ‬عانيةً‬
‫وسجدةً‪ ‬زادها‪ ‬النسيان‪ ‬إخباتا‬
‫ودمعة‪ ‬الحيّ ‪.. ‬‬
‫‪ ‬الحي‪ ‬معركةٌ ‪ ‬في‪ ‬الال‪ ‬وجود‬ ‫ُّ‬ ‫حينَ‬
‫وحلمٌ ‪ ‬سار‪ ‬أشتاتا‬
‫أبا‪ ‬العالء‪ ‬استثرْ‪ ‬عيني‪ ‬التي‪ ‬عمي َْت‬
‫حتى‪ ‬غدت‪ ‬تبصر‪ ‬األشياء‪ : ‬أصواتا‬
‫‪ ‬تسبقني‪ ‬ريح‪ ‬ومهلكةٌ‬
‫ٌ‬ ‫أتيت‬ ‫ُ‬
‫ال‪ ‬أبتغي‪ ‬في‪ ‬الصدى‪ ‬المسعور‪ ‬منجا َة‬
‫فات‪ ‬الصواب‪.. ‬‬
‫ُ‬
‫‪ ‬الحق‪ ،‬وانسحبت‪ ‬نفسي‪ ‬من‪ ‬الناس‬ ‫ْ‬ ‫وضلَّ‬
‫ا‪ ‬حظها‪ ‬فاتَ‬ ‫ّ‬ ‫لمّ‬
‫‪ ‬عن‪ ‬جهتي‪ ‬في‪ ‬كل‪ ‬ذي‪ ‬وتد‬
‫ٍ‬ ‫بحثت‬
‫ُ‬
‫‪ ‬ما‪ ‬جزت‪ ‬ميقاتًا‪ ‬فميقاتا‬ ‫ُ‬ ‫وجزت‬
‫ُ‬
‫عجزك‪ ‬الماضي‪ ‬إلى‪ ‬لغةٍ‬ ‫َ‬ ‫لزمت‪ ‬مُ‬‫ُ‬
‫‪ ‬إنجيل‪ ‬وتورا َة‬
‫ً‬ ‫ك‪ ‬النص‬
‫ّ‬ ‫تفكّ‬
‫ها‪ ‬حزننا‪ ‬واحدٌ‬
‫والروح‪ ‬واحدةٌ‬
‫مَ ن‪ ‬الذي‪ ‬منع‪ ‬التفكير؟‪ ‬من‪ ‬آتـى‪ ‬؟‬
‫‪ ‬قبل‪ ‬مماتي‪ ‬فيك‪ ‬منسربًا‬
‫َ‬ ‫أموت‬ ‫ُ‬
‫من‪ ‬مات‪ ‬في‪ ‬قلبك‪ ‬الحافي‪ ‬فما‪ ‬ماتَ‬
‫ * شاعر سعودي‪.‬‬

‫‪81‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫قبس من لحظ زرقاء اليمامة‬
‫‪ρ‬أحمد يحيى القيسي*‬

‫العيون‪ ‬‬
‫ُ‬ ‫"أرى اآلن ما ال تراهُ‬
‫االرتواء‪ ‬‬
‫ِ‬ ‫أرى ظمأ يرتدي هيئة‬
‫ويمضي معي في الورى‪"..‬‬
‫راسخات العُ رَى‪ ..‬‬ ‫ِ‬ ‫ِمن‬ ‫اإلفك‪ ‬‬
‫ِ‬ ‫وجيش ّا من‬
‫أرى سدة من عجين الوشايةِ ‪ ‬‬ ‫يمشي ورائي‪ ‬‬
‫تعدو أمامي‪ ‬‬ ‫ويهمس لألصدقاءِ ‪ :‬‬ ‫ُ‬
‫تسابقني نحو عنْق الزجاجةِ ؛‪ ‬‬ ‫"لقد حاد هذا الفتى عن هواكمْ ‪ ‬‬
‫كي أستكينَ مدى القهر رهن الكرى‪ ..‬‬ ‫ولم يمتثل لظنون رُؤاكمْ ؛‪ ‬‬
‫أرى قمرا تائه ًا في الظالمِ ‪ ‬‬ ‫الطوق‪ ‬‬
‫ِ‬ ‫فشب عن‬ ‫َّ‬
‫يراقب ‪ -‬مثلي ‪ -‬النجومَ‪ ‬‬ ‫ُ‬ ‫ال ابتا َع منكمْ ‪ ‬‬
‫ويسألُ أنوا َء ليلتهِ ‪ :‬‬ ‫وال من حريرِ المعاني اشترى"‪ ..‬‬
‫السرى؟‪ ‬‬ ‫أين غابت مدارات تلك ُّ‬ ‫أرى اآلن خي ًال تجوب فيافي شقائي‪ ‬‬
‫الذكريات‪ ‬‬
‫ِ‬ ‫أرى أبشع‬ ‫تفتش ما بين كثبانها‪ ‬‬
‫الطريق‪ ‬‬
‫ِ‬ ‫على جنبات‬ ‫عن رحيق ابتهالي الذي ضل مسراهُ‪ ‬‬
‫تثرثرُ للعابرينَ ‪ ‬‬ ‫حتى تعرى النهارُ‪ ،‬‬
‫وتبدي لهم من تفاصيل سَ ْوءَاتها‪ ‬‬ ‫وما زال في تيهه سادرا‪ ..‬‬
‫الطريق‪  ‬ما توارى‪ ..‬‬
‫ِ‬ ‫أرى العثرات التي تتربص بي في‬
‫أرى اآلن نافذ ًة من غدي‪ ‬‬ ‫لتثأر للضوء مني‪ ،‬‬
‫سرمدي‪ ‬‬
‫ٍّ‬ ‫وجع‬
‫تطلُّ على ٍ‬ ‫وتسقطني‪ ‬‬
‫يالحقني في المدى‪ ‬‬ ‫نجمة‪ ‬‬
‫خنجر ًا خنجرا‪ ..‬‬ ‫نجمة‪ ‬‬
‫أرى اآلن ما ال تراه العيونُ ‪ ‬‬ ‫من عروش الذُّ رى‪ ..‬‬
‫كنت أعمى‪ ‬‬ ‫تمنيت لو أنني ُ‬ ‫ُ‬ ‫الحكايات‪ ‬‬
‫ِ‬ ‫هشيم‬
‫ِ‬ ‫أرى موئ ًال من‬
‫الرهيب‪ ،‬‬
‫ِ‬ ‫وحش السوادِ‬ ‫َ‬ ‫أطارحُ‬ ‫يتبعني‪ ‬‬
‫وأجتاحُ آفاقَ ظلمائِ هِ تائهاً‪ ‬‬ ‫ليلطخ بالعار أرديتي‪ ‬‬
‫ال أرى‪! ..‬‬ ‫ويذيب الذي بين زهوي وبينيَ ‪ ‬‬
‫ * شاعر سعودي‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪82‬‬
‫نصوص‬

‫ق ُة‬ ‫َ‬
‫ش ْه َ‬
‫‪ρ‬أميرة محمد صبياني*‬

‫َماء‬
‫ؤال‬
‫الس ِ‬
‫وحبوري يُ طيلُ سط َر ُّ‬
‫ُ‬
‫في‬
‫أقط ُف البرقَ دهشةً وأُجَ لِّي‬ ‫ُ‬
‫الهالل‬
‫ِ‬ ‫وج َه بدرٍ يَزيدُ ُحسنَ‬ ‫انبهارِي !‬

‫كُ لَّما ساف َر الضياءُ بِ لَيلِ ي‬ ‫وقد‬


‫الشمس بهجتي واحتفالي‬ ‫َ‬ ‫أله َم‬ ‫نسيت‬
‫ُ‬
‫الح ُّب في سرائرِ ُخضرِ ي‬
‫وسرى ُ‬ ‫حا ِلي‬
‫ُم َ‬
‫ِّالل‬
‫زف الت ِ‬
‫وَهَ مى الغيمُ فوقَ عَ ِ‬

‫ن ََّض َد البِ شرُ لهفتي َو َت َثنَّى‬


‫الل‬
‫الظ ِ‬
‫ص ِّ‬ ‫فوقَ خدِّ النجومِ رَقْ ُ‬

‫ماءات ضوؤها بَعْ ُث روحي‬


‫ُ‬ ‫والس‬
‫َّ‬
‫والمدارات كُ لُّها في اكتمالي‬
‫ُ‬

‫ن َِد َم البحرُ حينَ فارقَ بحرِ ي‬


‫شاطئَيهِ خَ يالِ ي‬
‫ثمَّ أجرى بِ ِ‬

‫َصبرُ هذا الوجودِ أ َْسمَ َع صمتي‬


‫ِّمال‬
‫شهق َة الماءِ في ُضلوعِ الر ِ‬

‫ذاك الوجومِ عَ بْر ُة ِغرٍ‬


‫كُ لُّ َ‬
‫وال‬
‫اعتالل الزَّ ِ‬
‫ِ‬ ‫الخوف في‬
‫َ‬ ‫تنقش‬
‫ُ‬

‫* شاعرة سعودية‪.‬‬

‫‪83‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫سمكة نهر تحلم بالمحيط‬
‫‪ρ‬زكي الصدير*‬
‫مثلَ سمكةِ نهرٍ تحلمُ بالمحيط‪ ..‬‬
‫كنت هناك‪ ،‬‬
‫ِ‬
‫أيقونة في سماء متحف هيوستن‪ .‬‬
‫استطعت الخرو َج إلى الشارع دونَ أنْ توقظي الحرّاس!‪ ‬‬
‫ِ‬ ‫أنك‬
‫الغريب ِ‬
‫جبين الجدران‪ ‬‬
‫ِ‬ ‫أخذت الثور َة من‬
‫ِ‬
‫حاجب فريدا كاهلو‪ ‬‬‫ِ‬ ‫عقدت حاجب ًا على‬
‫ِ‬
‫هيأت لها وقت ًا للحياةِ في شقتِ ك‪ ،‬‬‫ِ‬
‫لمزاج القهوةِ مع الجنود‪ ،‬‬
‫ِ‬ ‫وقت ًا‬
‫وقت ًا لوجبةِ هوت دوق مع الفقراء‪ ،‬‬
‫لدفن موتاها في رصيف طويل‪ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫وقت ًا‬
‫وقت ًا لسمكتِ ك التي تحلمُ بالمحيط‪ ،‬‬
‫لم يفطنْ أحدٌ إلى النهرِ في حقيبتِ ك‪ .‬‬
‫تبدين مثل امرأة ال تعود مطلق ًا إلى البيت!‪ ‬‬
‫مثل وجه مدعو على الدوام إلى حفالت الرقص‪ ،‬‬
‫تحسبين أنك وحيدة‪ ،‬‬
‫أنك تلك المرأة المجنّدة التي كانت تلتقط من أرضها الصور‪، ‬‬
‫ومن فم جدتها الحكايات‪ ..‬‬
‫ال تدري أن خلف ظهرك مخزون هائل من األيام‪ ،‬‬
‫وأن طيشك الكبير ما هو إال انهيار الوردة‪ ،‬‬
‫وأنك تسقطين اآلن بعد أن خذلتك رجالك‪ ،‬‬
‫ثم بعد قيامتك ترددين‪ :‬‬
‫أعمى أيها الكون‪ ..‬‬
‫تنهار كلما اصطدمت بفنوننا!‪ ‬‬
‫الحرب القادمة‪ ،‬‬
‫ِ‬ ‫في‬
‫يتوسدها جندي‪ ..‬‬ ‫ّ‬ ‫كنت قلم ًا مصنوع ًا من شجرةٍ‬ ‫ِ‬
‫قلم ًا ينتظرُ األخبار ليكتبَ التاريخ‪ .‬‬
‫ارتطمت بهِ بالصدفة‪ .‬‬
‫ْ‬ ‫رسمت على جدارٍ في المدينةِ وجه ًا دمرتْهُ قذيفةٌ‬ ‫ُ‬ ‫أتذكرُ أنك‬
‫هو اآلنَ يشعرُ بالوحدة‪ ،‬‬
‫ال يرى المدينةَ‪ ،‬‬
‫متيقن بالحرب‪ .‬‬
‫ٌ‬ ‫لكنه‬
‫جديد إلى شجرة‪ ..‬‬ ‫ٍ‬ ‫ستحتاجين زمن ًا طوي ًال حتى تعودي من‬
‫ستحتاجين زمن ًا أطولَ لتصيري قلماً‪ ..‬‬
‫ستحتاجين الجندي ليدلّك على وجهك الذي دمرتْهُ الحرب!‬
‫ * شاعر سعودي‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪84‬‬
‫نصوص‬

‫في كل األشياء رأيتك‬


‫‪ρ‬عزت الطيرى*‬

‫أنسامٌ عفويات ال قصد لها‬ ‫ورأيتك فى فنجان القهوةِ‬


‫‪...‬‬ ‫فى كوب الشاى األثقل من همِّ امرأة‬
‫ف ــى ضـ ــوء ال ـص ـبــح ال ـطــالــع م ــن ثــوب‬ ‫فقدت زوج ًا‬
‫الفجر نقيا ونديا‬ ‫بسا َم الوجهِ ‪..‬‬
‫يغمر ُه كالنهر حنين بنفسجةٍ‬ ‫وفـ ــى ص ـف ـحــات الـ ـم ــاء ال ــراك ــض بين‬
‫ذاب ــت فــى عطر قرنفلها الــذائــب فى‬ ‫جنادلهِ ‪..‬‬
‫طيف قرنفلةٍ أخرى‬ ‫ِ‬ ‫فى المرآة‪..‬‬
‫ال تشعر بجواه‬ ‫وفى الكومودينو‬
‫ونهنهةِ هواهٌ‬ ‫فى منديل يكتظ بدمع ‪..‬‬
‫وأنداء عذاب يسكنهُ ‪..‬‬ ‫فى ثوب فتاةٍ‬
‫نويت كتابة‬‫ٌ‬ ‫توضأت‬
‫ُ‬ ‫فى الكراسة حين‬ ‫زركـشــهُ الـشــوقُ إلــى طيف فتى تتمنى‬
‫صوفى الدهشةِ مكتظ ٍ‬ ‫ٌّ‬ ‫نص‬
‫ٍ‬ ‫لو مر‪،‬‬
‫وكنايات‬
‫ٍ‬ ‫بمجاز‬ ‫رآها ترفلٌ ‪،‬‬
‫وبموسيقا وتفاعيلَ انتثرت‬ ‫أثنى همسا وتغزَّ ل بالفستان المزدان‬
‫م ــرت كــالـحـلــم ع ـلــى ب ــال خـلـيــل ابــن‬ ‫ألعاب‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫وما فيه وما فى داخله من‬
‫األحمد فى الليل وما ‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫وحكايات تحكيها فى الفصل‪،‬‬
‫كقصيدى هذا‪..‬‬ ‫معلمةٌ الصف األول من عمر الورد‪..‬‬
‫أراك‬
‫وأراك‪ِ ..‬‬ ‫ِ‬ ‫‪....‬‬
‫ولكنى‬ ‫وف ــى زه ــر الـجــاكــرنــدا حـيــن اصطفت‬
‫سلمت سالحى‬ ‫ٌ‬ ‫أش ـج ــا ٌر عـنــد طــريــق الـجــامـعــة وتــزهــو‬
‫زت عن التكملة‪ ،‬الدندنةِ الترنيم‬ ‫وعَ ِج ُ‬ ‫بــاأللــوان الـتــي مــا خـطــرت فــى الحلم‬
‫كمطربةٍ‬ ‫على قلب‬
‫سعال متصلٌ‬ ‫ٌ‬ ‫فاجأها فى الحفل‬ ‫الرسام العاشق‬
‫من أثر الجائحة العظمى‬ ‫حـيــن يـتــابــع شــرفــة مــن ي ـهــوى ومتى‬
‫وهطول الكورونا‬ ‫تدنو ومتى تسحب أستا َر ستائرها‬
‫وصليل غيابك‬ ‫ورتاجا هزتهُ بدون مكابدةٍ‬
‫ * شاعر ‪ -‬مصر‪.‬‬

‫‪85‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫المترجم خلف القرشي‪:‬‬
‫اإلبداع األدبي شأن كثي ٍر من العطاءات اإلنسانيّة موهب ٌة‪..‬‬
‫لكنَّه يُصقل بالتعليم والتدريب والتجريب‬

‫القصة القصيرة‪ ،‬أجدها األقرب لذائقتي؛‬ ‫ّ‬ ‫«أعشق‬


‫القصة‬
‫ّ‬ ‫تــألـيــفً ــا وتــرج ـمــةً ‪ ،‬قـ ــراء ًة ون ـق ــدً ا وتــدري ـ ًبــا‪.‬‬
‫مدهش‬
‫ٌ‬ ‫القصيرة أصيلةً كانت أو مترجمةً لــونٌ‬
‫وجنس فريدٌ من أجناس اإلبداع؛‬ ‫ٌ‬ ‫من ألوان األدب‪،‬‬
‫يقدم جرعةً عاطفيةً وذهنيةً قويّةً لقارئه‪»..‬‬
‫هــذا مــا قــالــه الـقــاص والمترجم خلف سرحان‬
‫الـقــرشــي رد ًا عـلــى ســؤالــي ل ــه‪ ،‬ل ـمــاذا اقـتـصــرت أغلب‬
‫أعماله الترجمية على جنس القصة القصيرة؟‬
‫وإضافة إلى إصداراته تأليف ًا وترجمة‪ ،‬فهو يمد الساحة الثقافية بنشر ترجماته‬
‫في الصحف والمجالت المحلية والعربية‪ .‬ومن ترجماته قصص ومقاالت لكتَاب‬
‫عالميين‪ ،‬أذكر منها ترجمته للكاتبة األمريكية «كيت تشوبان»‪ ،‬وللكاتب اإلنجليزي‬
‫«بيتس»‪ ،‬وأيضا من األدب اإليطالي واألدب الروسي‪ ،‬وهو يَعد الساحة اإلبداعية‬
‫بعدد من اإلصدارات المؤجلة‪ ،‬قريباً‪..‬‬
‫هــذه الديباجة تقودنا إلــى فـضــاء ضيف هــذا ال ـحــوار‪ ،‬األدي ــب خلف سرحان‬
‫القرشي‪..‬‬
‫■ حاوره‪ :‬عمر بوقاسم‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪86‬‬
‫مواجهات‬
‫في المقالة والخاطرة‪ ،‬أو في االشتغال‬ ‫حصري‪!..‬‬
‫ُّ‬ ‫ليس هناك قالب‬
‫الصحفي الــمــخــدوم‪ .‬والــعــبــرة بالنهاية‬ ‫ ¦ت ـت ـن ــوع م ـس ـي ــرت ــك ال ـك ـت ــاب ـي ــة ب ـي ــن ع ــدة‬
‫بذلك االنطباع وتلك األسئلة التي أثارها‬ ‫فـ ـض ــاءات‪ ..‬الـتــرجـمــة والـقـصــة وال ــرواي ــة‬
‫قبول‬
‫إبداعي المتواضع في نفوس قرائي ً‬ ‫والـصـحــافــة‪ .‬وم ــن إص ــدارات ــك أستحضر‬
‫رفضا‪ ،‬إعجابًا أم مقتًا‪.‬‬
‫كان أم ً‬ ‫منها «ال ـطــريــق الـتـعــب» ‪ ،‬و«وقـ ــال نـســوة»‬
‫أؤم ــن تــمــا ًمــا ب ــأنَّ الــقــارئ متم ٌم للعمل‬ ‫كــاهـمــا تــرج ـمــة‪ ،‬وم ـق ــاالت وق ـصــص في‬
‫ال ـص ـح ــف والـ ـمـ ـج ــات‪ .‬ومـ ــن مــؤل ـفــاتــك‬
‫المطبوع‪ ،‬مكم ٌل له‪ ،‬وكثيرًا ما تكون نقطة‬
‫«خـ ــراج سـحــب ع ــاب ــرة» مـجـمــوعــة قصص‬
‫كلمة‬
‫النهاية التي يضعها الكاتب بعد آخر ٍ‬
‫قصيرة جدا‪ ،‬ومؤخر ًا رواية «شهريار»‪ .‬هل‬
‫في مقاله‪ /‬قصته‪ /‬روايــتــه‪ /‬قصيدته‪/‬‬
‫لنا ببوح خاص يقربنا من عالمك‪ ،‬عالم‬
‫لنص له‬
‫تقريره‪../‬إلخ‪ .‬ليست إال بداية ٍّ‬
‫الكلمة الــذي يتوحد في مسيرتك برغم‬
‫القدر نفسه من األهمية‪ ،‬إن لم يكن أكثر‪،‬‬ ‫تعدد فضاءاته؟‬
‫ينتجه القارئ‪.‬‬
‫ ‪ρ‬الكلمة هي الكلمة‪ ،‬واإلبداع هو اإلبداع‪،‬‬
‫إبداعي‪!..‬‬
‫ُّ‬ ‫نص‬‫أ ّيًا كان الشكل والهيكل الذي يقدمان به‪ .‬الترجمة األدبيّ ة هي ٌ‬
‫وفي نتاجي المتواضع؛ ترجم ًة وتأليفًا‪¦ ،‬ترجمة الكتب األدبية تختلف عن الكتب‬
‫نقدًا وكتاب ًة صحفيّة حرصت وما أزال‬
‫األخرى؛ فهي تحتاج إلى مترجم إبداعي‪،‬‬
‫على تقديم ما أحسبه هاجسً ا يلح عليِّ ‪،‬‬
‫ل ــدي ــه األدوات ال ــروح ـي ــة ال ـت ــي تـســاعــده‬
‫يستغرقني فكرًا‪ ،‬يستحوذ عليَّ مشاعر‪.‬‬
‫على نقل الـصــور الخيالية‪ ،‬والكثير من‬
‫وأرى فــي مــشــاركــتــي قــرائــي ارتــيــاحً ــا‬
‫التفاصيل للقارئ‪ ،‬ما رأيك؟‬
‫وطمأنينةً‪ ،‬فــاإلنــســان كــائ ـ ُن اجتماعيٌ‬
‫تــواصــلــيٌ يجد ذات ــه فــي تــواصــلــه فكرًا‬
‫ومشاعر ورؤى وهمومًا مع عالمه‪ .‬اإلنسان‬
‫خصوصا بمجرد أن يبوح‬ ‫ً‬ ‫عمومًا‪ ،‬والمبدع‬
‫لآلخرين ببعض ما يختلج بمشاعره‪ ،‬وما‬
‫يؤرق ذهنه من أسئلة وخواطر‪ ،‬ينال راح ًة‬
‫بمتعة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ويحظى‬
‫وليس هناك قالب حصريُّ ‪ ،‬ولهذا‪ ،‬أجد‬
‫نفسي حينًا فــي الترجمة‪ ،‬وحــيـ ًنــا في‬
‫ـصـ ًة قصيرةً‪ ،‬وقصير ًة‬‫السرد روايــ ًة وقـ ّ‬
‫تكريمه بالنادي األدبي الثقافي بالطائف‬ ‫ج ـ ّدًا‪ ،‬وهناك حــاالت‪ ،‬فيها أجد ضالتي‬

‫‪87‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫ ‪ρ‬أتفق معك تمامًا في هذا‪ .‬الترجمة األدبيّة‬
‫نصا‬
‫باقتدار‪ .‬قد تكون ًّ‬
‫ٍ‬ ‫نص إبداعيُّ‬
‫هي ٌ‬
‫مماثل أو متقاطعًا مع النص‬
‫ً‬ ‫موازيًا أو‬
‫ـؤول له‪ ،‬ليس مهمًا‪ ،‬لكنّها‬
‫األصلي أو مـ ً‬
‫نص آخر‪ ،‬ينبغي أن يحمل روحً ا‪ ،‬ويتضمن‬
‫ٌّ‬
‫إبــداعً ــا على مستوى اختيار المفردات‬
‫والصور‪ ،‬وصياغة أفكار المؤلف األساس‬
‫بأسلوب يحترم اللغتين؛ المصدر والهدف‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ويلتزم باألمانة‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فهي تحدٍّ شاق‬
‫يتجاوزه فقط أولي العزم من المترجمين‬
‫المتسلحين بالمعرفة‪ ،‬المفعمين بالدراية‬
‫والخبرة بالثقافتين واللغتين؛ المترجم‬
‫منها النص والمترجم إليها‪ ،‬وقبل هذا‬
‫فريد من أجناس اإلبداع‪!..‬‬
‫ٌ‬ ‫جنس‬
‫ٌ‬ ‫وذاك‪ ..‬المؤمنين بفعل الكلمة وخطورتها‪،‬‬
‫والذين يعون مسؤولياتهم تجاه اإلبــداع ¦لماذا اقتصرت أغلب أعمالك الترجمية‬
‫على القصة القصيرة؟‬ ‫اإلنساني‪ ،‬ومسألة خلوده‪.‬‬

‫ ‪ρ‬أن ــا أعــشــق الــقـ ّ‬


‫ـصــة الــقــصــيــرة‪ ،‬أجــدهــا‬
‫األقــرب لذائقتي تأليفًا وترجمةً‪ ،‬قــراء ًة‬
‫القصة القصيرة أصيل ًة‬
‫ّ‬ ‫ونقدًا وتدريبًا‪.‬‬
‫مدهش من ألوان‬
‫ٌ‬ ‫كانت أم مترجم ًة لو ٌن‬
‫وجنس فري ٌد من أجناس اإلبداع؛‬
‫ٌ‬ ‫األدب‪،‬‬
‫يقدم جرع ًة عاطفي ًة وذهني ًة قو ّي ًة لقارئه‬
‫صفحات يسهل عليه قراءتها‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫في بضع‬
‫كثير من وقته‪،‬‬
‫دون أن يضطر لصرف ٍ‬
‫ال سيما فــي زمـ ٍـن كثرت فيه المشاغل‬
‫وتعددت االلتزامات‪ ،‬وتنوعت المشتتات‬
‫والملهيات‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فقد سبق لي ترجمة‬
‫وعدد من المقاالت األدبيّة‬
‫ٍ‬ ‫بضع قصائد‪،‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪88‬‬
‫مواجهات‬
‫نصا مترجمً ا‪!..‬‬
‫لتنتج لنا ً‬ ‫والصحفيّة؛ وإن أمدَّ اهلل في العمر‪ ،‬ويسر‬
‫ ¦ن ـح ــن ن ـع ـي ــش ع ـص ــر الـ ـ ـث ـ ــورة ال ــرق ـم ـي ــة‪،‬‬ ‫األمر‪ ،‬فلعليّ أقارب ترجمة الرواية‪.‬‬
‫وال ـتــي أث ــرت عـلــى جــوانــب حـيــاتـنــا سلب ًا‬ ‫الضابط أن يكون في العمل قيمةً‬
‫وإيجابا‪ ،‬برأيك ما األثر الذي تركته على‬ ‫فنيّ ةً ‪!..‬‬
‫الترجمة؟‬
‫ ¦كيف يتم اختيارك لترجمة عمل «ما» دون‬
‫تأثير التكنولوجيا فــي حياتنا يتزايد‬ ‫سواه‪ ،‬هل تعتمد على االختيار الشخصي‬
‫يــو ًمــا تلو آخــر‪ ،‬والترجمة لــم تكن ولن‬ ‫أم أن هناك شــروطـ ًا يجب أن تتوافر في‬
‫بمعزل عن تأثيرات التكنولوجيا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫تكون‬ ‫العمل الذي تختاره؟‬
‫جوانب‪،‬‬‫ٍ‬ ‫التكنولوجيا خدمت الترجمة في‬ ‫ ‪ρ‬إجاب ًة عن هذا السؤال‪ ،‬اسمح لي باقتباس‬
‫وأســـــاءت لــهــا فــي جــوانــب أخــــرى‪ .‬إنَّ‬ ‫مقطع من مقدمة كتابي المترجم (الطريق‬
‫تقنيات الــذكــاء االصطناعي المتقدمة‬ ‫التَّعب)‪:‬‬
‫اآلن‪ ،‬ستفتح آفــا ًقــا جــديــدة فــي ميدان‬
‫«هذا الكتاب يضم تراجم عن اإلنجليزية‬
‫الترجمة‪ .‬ثمَّة اجتهاداتٌ خطيرةُ ومنها‬
‫ـدان‬
‫ـاب مــن بــلـ ٍ‬ ‫لمجموعة قــصــص لــك ـ َّتـ ٍ‬
‫االشتغال على دراسة أسلوب‪ ،‬بل أساليب‬
‫قصة منها أكثر‬ ‫ٍ‬ ‫مختلفة‪ ،‬وجدت في ك ِّل‬ ‫ٍ‬
‫عدة مترجمين‪ ،‬وتوظيف هذه األساليب‬
‫قيمة فــنـ َّيـ ٍـة‪ ،‬وأكــثــر مــن بــعـ ٍـد ورؤي ـ ٍـة‬
‫مــن ٍ‬
‫نصا مترجمًا‪.‬‬ ‫بمساعدة التقنية لتنتج لنا ً‬
‫عميقة؛ مــا ولَّــد عندي رغب ًة‬ ‫ٍ‬ ‫إنساني ٍَّة‬
‫ملحَّ ًة فــي ترجمتها؛ ليجد فيها قــارئ‬
‫العربية مثل ما وجدت عند قراءاتي لها‬
‫نصها اإلنجليزي‪ ،‬وكل ما أرجــوه أن‬ ‫في ِّ‬
‫تكون الترجمة أمين ًة في نقل ك ِّل أو بعض‬
‫جميلة‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫إبداع ورؤى‬ ‫ٍ‬ ‫قص ٍة من‬‫ما حوته ك ُّل َّ‬
‫تستحق القراءة والتأمل»‪.‬‬
‫ـدار‪ ،‬والضابط‬ ‫االخــتــيــار شخصيُّ بــاقــتـ ٍ‬
‫أن يكون في العمل قيم ًة فن ّيةً‪ ،‬ورؤي ـ ًة‬
‫إنسانيةً‪ ،‬وعمقًا معتبرًا‪ ،‬وداللـ ًة ممتدةً‪.‬‬
‫عمل قد ترجم من‬ ‫ً‬ ‫وأحــرص أال أترجم‬
‫حاالت نادرةٍ ‪ ،‬ومنها أن يكون‬ ‫ٍ‬ ‫قبل إال في‬
‫العمل ترجم ترجم ًة رديئةً‪ ،‬أو أن الترجمة‬
‫لم تعد متوافرة في األسواق‪.‬‬

‫‪89‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫عنوانها لعمل أدب ــي تــراثــي عظيم «ألــف‬
‫ليلة وليلة»‪ ،‬هناك الكثير من الروائيين‬
‫وال ـش ـع ــراء ق ــام ــوا بــاسـتـلـهــام ال ـت ــراث في‬
‫أعمالهم‪ ،‬برأيك‪ ..‬ما المبرر الذي يدفع‬
‫المؤلف لتوظيف عمل تــراثــي فــي عمله‬
‫ليتداخل مع قضايا عصره؟‬
‫عمل آخر تراث ّيًا‬‫ ‪ρ‬تناص عمل المبدع مع ٍ‬
‫مثر للعمل كثيرًا‪،‬‬ ‫كــان أم حــداثـ ًّيــا أم ـ ٌر ٍ‬
‫شريطة أن يوظف بحرفي ٍّة‪ .‬التناص يمنح‬
‫ـص طــاقـ ًة قــو ّيــة مــن العمل السابق‪.‬‬ ‫الــنـ َّ‬
‫نصا يحمل دالل ًة أو إشار ًة‬ ‫وعندما توظف ًّ‬
‫نوع كان‪ ،‬فإنَّك قد منحت‬ ‫أو عمقًا من أيِّ ٍ‬
‫عملك خلودًا يستحق أن يشار له بالبنان‪.‬‬
‫ومن أجمل ما يمكننا توظيفه واالقتباس‬
‫منه‪ ،‬هو تراثنا الجميل المميز بالقصص‬ ‫الــتــرجــمــة ع ــمـ ـ ٌل إن ــس ــان ــيٌّ ب ــاق ــت ــدار‪،‬‬
‫واألساطير والحكايات المختلفة‪ ،‬وتراث‬ ‫والحواسيب والنت عوامل مساعدة في‬
‫هذا المجال ليس أكثر‪ ،‬ولكن إلى حين‪..‬‬
‫اإلنسانية عــمــو ًمــا‪ ،‬وأســطــورة شــهــرزاد‬
‫سيبقى هذا هو الحال‪ .‬إن من يتابع ما‬
‫باقتدار‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫وشهريار أنموذ ٌج مثاليٌّ‬
‫يحدث في تقنيات الذكاء االصطناعي‬
‫والــتــي ستظهر للعلن ولــاســتــخــدام مع ¦أين الشعر من اهتمامات خلف القرشي؟‬
‫ظهور النت القادم الويب ‪ ،Web 3‬وظهور ‪ρ‬عالقتي مــع الشعر عــاقــة (والــشــعــراء‬
‫يــتــبــعــهــم الـــــغـــــاوون)! وع ــاق ــة (أحــــبُّ‬ ‫(الــمــيــتــافــيــرس)‪ ،‬والــــ (بــلــوك تشين)‪،‬‬
‫الصالحين ولست منهم)!‬ ‫وأخيرًا وليس آخرًا برنامج ‪ /‬موقع الـــــ‬
‫(جــي‪ .‬بــي‪ .‬شــات) ‪ ،GP Chat‬سيجزم أن‬
‫أعشق الشعر حتى الثمالة‪ .‬أحفظ كثيرًا‬
‫وظيفة المترجم البشري مهددةٌ بالفناء‬
‫منه‪ .‬أقرأه وأستمع إليه‪ ،‬أحضر منتدياته‬
‫وفي أحسن الحاالت بالكساد‪ ،‬وإن غدًا‬
‫وأقتني ما تيسر لي من دواوينه‪ .‬حاولت‬ ‫لناظره قريبٌ ‪ .‬وستذكرون ما أقول لكم‪،‬‬
‫مــقــاربــتــه بقصيدة أو اثــنــتــيــن‪ .‬بعدها‪:‬‬ ‫وأفوض أمري إلى اهلل‪.‬‬
‫«لملمت جــروحــي وانــســحــبــت»‪ ،‬بعد أن‬
‫أيقنت أن «مالي نصيب في اللي أحب»‪.‬‬ ‫النص طاقةً قويّ ة‪!..‬‬ ‫َّ‬ ‫التناص يمنح‬
‫ورحم اهلل امرءًا عرف قدر نفسه‪.‬‬ ‫ ¦«شـ ـه ــري ــار» رواي ـ ـتـ ــك الـ ـج ــدي ــدة يـحـيـلـنــا‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪90‬‬
‫مواجهات‬
‫اشتغاله في سبيلها فكرًا وقــراءة‪ ،‬سفرًا‬ ‫يستهويني (نقد الشعر) كثيرًا‪ ،‬وتعجبني‬
‫ـال‪ ،‬سهرًا وسهدًا‪ ،‬معانا ًة ووجعًا‪،‬‬
‫وتــرحـ ً‬ ‫كثي ٌر مــن ال ــق ــراءات الــخــاقــة لقصائد‬
‫تحمل وانتظارًا للحظة والدة القصيدة‬ ‫ً‬ ‫استثنائية‪.‬‬
‫زمن مضنٍّ من المخاض العسير‪.‬‬ ‫بعد ٍ‬ ‫تــجــرأت كتبت ونــشــرت ق ــراءات تأويلية‬
‫الشعر فخر اإلنسانية ومجدها منذ أن‬ ‫متواضعة لبعض القصائد التي أسرتني‬
‫فطر اهلل الخلق‪ ،‬وإلى أن تقوم الساعة‪،‬‬ ‫وما تزال‪ .‬ومنها قصائد للشعراء‪ :‬بدر بن‬
‫ووي ٌل ألمَّة ال تكرم شعراءها‪ ،‬وتعسً ا لقبيلة‬ ‫عبدالمحسن‪ ،‬خالد الفيصل‪ ،‬خالد بن‬
‫ال تقيم األفراح والليالي المالح ابتهاجً ا‬ ‫يزيد‪ ،‬الحميدي الثقفي‪ ،‬ردَّة السفياني‪،‬‬
‫بميالد شــاعــر‪ ،‬وال ت ــزوج أجــمــل بناتها‬ ‫محمد خالد النفيعي‪ ،‬إبراهيم السمحان‪،‬‬
‫لشاعر نبغ من بين شبَّانها‪ .‬والعار ك ُّل‬ ‫وغيرهم‪ ،‬وفي جعبتي قراءات لم تكتمل‪،‬‬
‫العار لمن يطرد الشعراء من جمهوريته!‬ ‫وقـ ـدِّر لــي مقارفة إثــم الترجمة لبعض‬
‫ـام‪،‬‬
‫الــشــعــر رســالــة وعــــيٍّ ‪ ،‬وحَ ـــمَـــا ُم س ـ ٍ‬ ‫القصائد الشعريّة‪ ،‬كما قدمت ورش عمل‬
‫جــمــال‪ .‬ولــهــذا الــســبــب وغــيــره‬
‫ٍ‬ ‫ورُسُ ـــــ ُل‬ ‫النص الشعري‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫تدريبيه في كتابة‬
‫منعني احترامي للشعر من ولوج عالمه‬ ‫تلكم هي عالقتي بالشعر الذي أرى إنّه‬
‫المدهش‪ ،‬وحفزني لخدمته ما استطعت‬ ‫من أرقِّ األلوان األدبية‪ ،‬وأرقاها وأهمها‪،‬‬
‫إلى ذلك سبيالً‪.‬‬ ‫وبالفعل يحق للشاعر ما ال يحق لسواه‪،‬‬
‫والفيصل الضابط هو القبض على تلك‬
‫والعض عليها‬
‫ِّ‬ ‫اللحظة الشعريّة الهاربة‪،‬‬
‫بالنواجذ‪ ،‬والتعبير عنها شعرًا بلغّة خالدة‬
‫فريد‪ ..‬يجعل كلَّ‬
‫ٍ‬ ‫وأسلوب‬
‫ٍ‬ ‫وصور مبتكرة‬
‫ٍ‬
‫َمــن يــقــرأه‪ ،‬يجزم بــأنَّ جــن وادي عبقر‬
‫المزعومين هم من ألهم الشاعر ذلك‪.‬‬
‫ـال من اإلبــداع‬
‫الشعر يا صديقي أفـ ُق عـ ٍ‬
‫اإلنساني‪ ،‬ال ينبغي استسهال خوض غمار‬
‫بحوره التي قلَّما تجود على من يغوصون‬
‫فيها بدررها النفيسة وأللئيها الثمينة‪.‬‬
‫إنَّها ال تقول (هيت لــك) َّإل لمن أوتي‬
‫حظا عظيما‪ ،‬وما يلقاها إال أرقته موهبته‬ ‫ًّ‬
‫الشعريّة‪ ،‬وك ــواه هـ ُّمــه‪ ،‬واستحوذ عليه‬

‫‪91‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫وبعضهم قدّم وما يزال يقدم تلك الورش‪.‬‬ ‫ ¦م ـنــذ س ـن ــوات أن ــت ت ـق ــدم ورش ع ـمــل في‬
‫وهناك معاهد ومؤسسات ودور نشر تولي‬ ‫(ال ـك ـت ــاب ــة اإلبـ ــداع ـ ـيـ ــة)‪ ،‬ك ـيــف تـ ــرى هــذه‬
‫هــذا الجانب عناي ًة واهتمامًا ودعـ ًمــا‪.‬‬ ‫التجربة‪ ،‬وهل الكاتب يولد أم يُ صنع؟‬
‫وأتمنى من وزارة الثقافة لدينا إيالء هذا‬
‫ ‪ρ‬تجربتي المتواضعة منذ أ َّيـ ٍـام (كورونا)‪،‬‬
‫الجانب حقّة دعمًا لإلبداع والمبدعين‪.‬‬
‫ف ــي تــقــديــم ورش الــكــتــابــة اإلبــداع ـ َّيــة‬
‫الكاتب يولد ابتدا ًء (الموهبة)‪ ،‬ويصنع‬ ‫المختلفة‪ ،‬أعدٌّ ها ناجحة وهلل الحمد‪،‬‬
‫بعد ذلك (المهارة) مثله مثل العب كرة‬ ‫بعضا من‬ ‫وليس أدّل على ذلــك من أن ً‬
‫الــقــدم الــمــوهــوب بالفطرة‪ ،‬الــذي قلَّما‬ ‫تلك الــورش يطلب مني تقديمها ثاني ًة‬
‫تنفعه موهبته تلك‪ ،‬ما لم تصقل من خالل‬ ‫وثالث ًة ورابع ًة ممن سمعوا عنها‪ ،‬وبعض‬
‫واشتغال احترافيٍّ يتضمن‬
‫ٍ‬ ‫ـدرب‬
‫نـ ٍـاد ومـ ٍ‬ ‫من حضروا يؤثر أن يعيد التجربة رغب ًة‬
‫برنامجً ا يلتزم به طيلة حياة ذلك الالعب‬ ‫منه في ترسيخ المحتوى‪ ،‬وفي ظني أنَّ‬
‫في األكل والشرب والنوم‪ ،‬وفي التدرب‬ ‫ذلك ما كان ليتم لوال توفيق اهلل‪ ،‬ثم قناعة‬
‫اليومي‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬ ‫الملتحقين بالورش من جدواها ونفعها‪.‬‬
‫اإلب ـ ــداع األدبـ ــي شــأنــه ش ــأن كــثــيـ ٍـر من ¦وماذا عن جديدك في التأليف والترجمة؟‬
‫باقتدار وفي ‪ρ‬لديَّ مثل ما لدى كثي ٌر غيري من المبدعين‬
‫ٍ‬ ‫العطاءات اإلنسانيّة موهب ٌة‬
‫مكتملة حالت دون‬
‫ٍ‬ ‫الهواة مشاريع غير‬ ‫المقام األول‪ ،‬ولكنَّه يصقل ويعزز ويدَّ عم‬
‫ظروف شتى من بينها ما يعرف‬‫ٌ‬ ‫اكتمالها‬ ‫بالتعليم والتدريب والتجريب‪.‬‬
‫بــــ(قفلة‪ /‬سدّة الكاتب)‪ ،‬ومزاجية المبدع‪،‬‬ ‫ولــيــس أدَّل عــلــى ذل ــك مــن النصيحة‬
‫وتــعــدد المشاغل والمسؤوليات‪ ،‬وعــدم‬ ‫التقليدية الخالدة لك ِّل مَن يريد أن يؤلف‬
‫ترتيب األولويات‪.‬‬ ‫ويكتب وهي أن يقرأ ويقرأ ويقرأ‪ .‬أعتقد‬
‫أعمال يتوسل‬
‫ٍ‬ ‫وعليه فلديّ حالياً بضعة‬ ‫عمل واح ـ ٍـد قــراء ًة‬
‫وال أجــزم أنَّ ق ــراءة ٍ‬
‫إليَّ كلٌّ منها أن أتمّه‪ ،‬ومنها‪:‬‬ ‫تحليلية تفصيلي ٍّة‪ ،‬ومناقشة تفاصيله‪،‬‬
‫ونقاط الــقـوّة والضعف فيه‪ ،‬والحديث‬
‫كتاب (أمِّي ترضع عقربًا‪ ..‬ذكريات طفل‬
‫حــولــه ضمن ورش ــة عمل تــدريــبــيـ ٍـة بين‬
‫من زمن الطيبين) (سيرة ذاتيّة)‪ .‬كتاب‬
‫قصص قصيرةٍ وقصيرةٍ‬
‫ٍ‬ ‫(شتان)‪ ،‬مجموعة‬ ‫المدرب والمتدربين‪ ،‬أجدى وأنفع وأكثر‬
‫جـ ـدًا‪ ،‬وكــتــاب بالمشاركة فــي (الكتابة‬ ‫فائد ًة للكاتب المبتدئ من قــراءة عشرة‬
‫اإلبداعيّة‪ ،‬وكتاب (القماط)‪ .‬مجموع ٌة‬ ‫خير‪.‬‬‫أعمال قراء ًة عابرةً‪ ،‬وفي كلٍّ ٍ‬
‫قصصيَّة مترجمة عن اإلنجليزية‪ ،‬وكتاب‬ ‫كثي ٌر من مشاهير األدب في العالم‪ ،‬تلقى‬
‫(قراءات تأويليّة في قصائد ولوحات)‪.‬‬ ‫دروسً ــا ودورات في الكتابة اإلبداعيَّة‪،‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪92‬‬
‫مواجهات‬

‫«الترجمة تفتح ً‬
‫آفاقا جديدة طوال الوقت أمام الكاتب»‬
‫حوار مع الكاتب والمترجم‬
‫الدكتور أحمد سمير سعد‬

‫الترجمة هواية تحولت إلى غواية‪ ،‬لم أكن أتخيل‬


‫أن تـتـمـكــن مـنــي ال ـغــوايــة إل ــى ه ــذه ال ــدرج ــة! في‬
‫الـبــدايــة أعجبتني اللعبة‪ ،‬أن أعـيــش فــي النص‬
‫وأعيد خلقه وتشكيله في لغة جديدة‪ ،‬ثم تطور‬
‫األمر إلى ما يشبه الجنون‪ ،‬أبحث طوال الوقت‬
‫عن عناوين مميزة‪ ،‬أحبها وأريدها أن تمر عبري‬
‫من لغة وثقافة إلى لغة وثقافة أخرى‪ ،‬هكذا صرت‬
‫مـجـنــو ًنــا بـهــذه الـعـمـلـيــة‪ ،‬الـتــي تتيح لــي إع ــادة خلق‬
‫وتشكيل ونقل ما شغُ فت به‪ ،‬إعجابًا‪.‬‬
‫من هذا المنظور يتناول المترجم والكاتب أحمد سمير‪ ،‬ألعابه األدبية التي‬
‫تستحوذ على ملكة ال ـق ــراء‪ .‬الـكــاتــب أحـمــد سمير سـعــد‪ ،‬طبيب بـشــري وكاتب‬
‫مصري‪ ،‬حصل على دكتوراه والدبلومة األوروبية في التخدير والرعاية المركزة‪،‬‬
‫وهو اآلن يعمل مدرس ًا بقسم التخدير بمستشفى قصر العيني‪.‬‬
‫ص ــدر لــه عــن الهيئة الـمـصــريــة الـعــامــة مـمــالــك مـلــونــة‪ ..‬مجموعة قصصية‬
‫لألطفال‪ ،‬عن دائرة الثقافة واإلعالم بالشارقة‪ ،‬رواية عينٌ على السماء للناشئة‪،‬‬
‫رواية رسول الفضاء للناشئة‪ ،‬رواية خادم المصباح السحري للناشئة‪ ،‬ورواية ِسفر‬
‫األراج ــوز‪ ،‬تسبيحة دستورية نص أدبــي‪ ،‬الضئيل صاحب غيّة الحمام مجموعة‬
‫قصصية‪ ،‬رواية شواش‪ ،‬طرح الخيال‪ ..‬مجموعة قصصية‪ ،‬لعب مع الكون‪ ..‬كتاب‬

‫‪93‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫فــي العلوم وفلسفتها‪ ،‬رواي ــة المزين‪ ،‬عــن الهيئة العامة لقصور الثقافة‪ .‬اهلل‪..‬‬
‫الوطن‪ ..‬الهُوَ‪ ..‬مجموعة قصصية‪ ،‬كما ترجم بعض األعمال مثل‪:‬‬
‫كتاب مترجم إلرفين شرودنجر‪ ،‬جائزة نوبل‪ ..‬تاريخ المجد والجدل‪ ،‬طبيعة‬
‫العالم الفيزيائي‪ ..‬كتاب مترجم لسير آرثــر ستانلي إدنـجـتــون‪ ،‬أليس فــي بالد‬
‫الـكــم‪ ..‬كتاب مترجم لــروبــرت جيلمور‪ ،‬فلسفة العلم الفيزيائي‪ ..‬كتاب مترجم‬
‫لسير آرثر ستانلي إدنجتون‪ ،‬العقل والمادة كتاب مترجم إلرفين شرودنجر‪ ،‬مقدمة‬
‫إلى فلسفة الرياضيات‪ ..‬كتاب مترجم لبرتراند راسل‪ ،‬الفلسفة الخالدة‪ ..‬كتاب‬
‫مترجم أللدوس هكسلي‪ ..‬العلم والعالَم غير المرئي‪ ..‬كتاب مترجم إلدنجتون‪،‬‬
‫التاريخ الكيميائي لشمعة‪ ..‬كتاب مترجم لمايكل فاراداي‪ .‬فكان لنا محطات مع‬
‫هذا اإلنجاز‪..‬‬

‫■ حاوره‪ :‬محمود أحمد حسانني‬

‫السحرية‪ ،‬أول مــا تعرفت عليها منه‪،‬‬ ‫ ¦الترجمة هواية أم غواية‪ ،‬ومــاذا ترى في‬
‫وعرفت «ساراماجو» أول ما عرفته عن‬ ‫مسار الترجمة قبل رحيل صالح علماني‬
‫طريقه‪ ،‬هو نبراس على الطريق بالتأكيد‪،‬‬ ‫وبعد رحيله؟‬
‫ترك الكثير من األعمال الرائعة وألهم‬ ‫ ‪ρ‬بالنسبة لي الترجمة هواية تحولت إلى‬
‫جــهــوداً لــن تنقطع‪ ،‬أض ــاف حــجــراً في‬ ‫غواية‪ ،‬وحقيقة لم أكن أتخيل أن تتمكن‬
‫صرح الترجمة‪ ..‬لكن أساسات الصرح‬ ‫مني الغواية إلى هذه الدرجة‪ ،‬في البداية‬
‫تمتد حتى الخالفة العباسية‪ ،‬وحركة‬ ‫أعجبتني اللعبة‪ ،‬أن أعيش في النص‬
‫كبرى للترجمة حينها‪ ،‬ومــا يــزال البناء‬ ‫وأعيد خلقه وتشكيله في لغة جديدة‪ ،‬ثم‬
‫يعلو من بعده ويعلو‪.‬‬ ‫تطور األمر إلى ما يشبه الجنون؛ أبحث‬
‫طــوال الوقت عن عناوين مميزة أحبها ¦ه ــل ت ــرى ف ــي ق ـ ــراءات ال ـتــرج ـمــات معين‬
‫يضيف إلى الكاتب أم ال؟‬ ‫وأريدها أن تمر عبري من لغة وثقافة إلى‬
‫لغة وثقافة أخرى‪ ،‬هكذا صرت مجنونًا ‪ρ‬أظــن أن الترجمة تفتح آفــا ًقــا جديدة‬
‫طوال الوقت أمام الكاتب‪ ،‬وبالتالي فهي‬ ‫بهذه العملية التي تتيح لي إعــادة خلق‬
‫بالتأكيد معين يضيف إلى الكاتب‪ ،‬تلهمه‬ ‫وتشكيل ونقل ما تهت به إعجابًا‪.‬‬
‫أفــكــارًا جــديــدة ومــقــاربــات مختلفة‪ ،‬بل‬ ‫أمــا صالح علماني فهو بــا شــك أحد‬
‫ربما تلهمه كذلك صورًا وتعابير جديدة‪،‬‬ ‫أهم المترجمين‪ ،‬وله بصمة ال يمكن أن‬
‫إن التالقح الفكري الــذي تتسبب فيه‬ ‫تجحد‪ ،‬وربما كان وراء نقل ثقافة كاملة‬
‫الترجمة ال يقتصر على الموضوع‪ ،‬بل قد‬ ‫بلغة عربية جزلة‪ ،‬تعرفت على الواقعية‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪94‬‬
‫مواجهات‬
‫أن القصة تفضل الــروايــة‪ ،‬بالنسبة لي‬ ‫يشمل األسلوب والمعنى كذلك حتى لو‬
‫تستدعي الفكرة قالبها‪ ،‬والمهم أن يُكتَب‬ ‫حدث ذلك من دون شعور‪.‬‬
‫العمل على نحو مميز‪ ،‬وأن أرضــى عنه‬ ‫إال إنه يجب أن ألفت النظر إلى أنه ثمة‬
‫ويروق للقراء‪.‬‬ ‫فارق بين التأثر بتعبير جديد أو أسلوب‬
‫أما الكتابة بالنسبة لي فهي فعل حياة‪،‬‬ ‫مختلف أو ص ــورة غير مــألــوفــة‪ ،‬وبين‬
‫طوال الوقت أمارس القراءة والكتابة‪ ،‬هما‬ ‫نقل الشكل النحوي للجملة األجنبية؛‬
‫بالنسبة لي مثل عملياتي الحيوية‪ ،‬مثل‬ ‫ولألسف كثيرون يقعون في هذا الخطأ‪،‬‬
‫تناول الطعام والتنفس‪ ،‬هما متداخالن‬ ‫وأضبط نفسي متلبساً به أحيانا‪ ،‬لكنني‬
‫حاليًا مع كل لحظات عمري‪ ..‬ومع كل‬ ‫أحــاول طــوال الوقت التخلص من ذلك‬
‫تفاصيل حياتي‪.‬‬ ‫قدر المستطاع‪.‬‬
‫أما ما أضافته الكتابة فكثير للغاية على‬ ‫ ¦هـ ــل هـ ـن ــاك ج ـه ــد م ـت ـص ـنــع وأخـ ـ ــر حـ ــيّ ‪،‬‬
‫المستويات كافة‪ ،‬إال إن أبرز ما أضافته‬ ‫يترتب على الكاتب مزاولته‪ ،‬قبل الكتابة‬
‫لــي الــقــدرة على بــلــورة األفــكــار‪ ،‬إذ إن‬ ‫وأثناءها؟‬
‫الكتابة ال تستلزم التفكير فقط‪ ،‬بل يجب‬
‫ ‪ρ‬بالنسبة لــي‪ ..‬الفكرة هي الــقــادرة على‬
‫أن تأتي الفكرة كذلك صافية وواضحة‪.‬‬
‫تحريكي‪ ،‬وبث الرغبة والطاقة فيّ ‪ ،‬تعتمل‬
‫وأظن أن أبرز ما أضافته لي الكتابة‪ ،‬هو‬
‫الفكرة في رأسي وتختمر لبعض الوقت‬
‫السعي من أجل أفكار متبلورة وواضحة‬
‫في جهد قد يبدو سلبيًا‪ ،‬لكنه مهم جدًا‪،‬‬
‫ومحاولة الخلوص لها‪ ،‬من بين شواش‬
‫حتى تصير كتابتها هماً شاغالً‪ ،‬حينها ال‬
‫التفكير أو تداخل الرؤى‪ ،‬أو وهم الفهم‬
‫أطلب ظروفاً معينة أو أجواء معينة‪ ،‬بل‬
‫أو فوضى الرؤية‪..‬‬
‫أخلق الظروف واألجواء وأختلقها‪.‬‬
‫ ¦م ـمــالــك م ـل ــون ــة‪ ،‬أل ـي ــس ف ــي بـ ــاد ال ـكــم‪،‬‬
‫مؤخرًا‪ ..‬ومع اهتمامي بالترجمة وتبسيط‬
‫عين على السماء‪ ،‬رســول الفضاء‪ ،‬خادم‬ ‫ٌ‬
‫الــعــلــوم‪ ،‬ال يقتصر األم ــر فــي كثير من‬
‫المصباح السحري‪ ،‬كتابات للناشئة‪ ،‬هل‬
‫األحيان على الفكرة واختمارها وكتابتها‪،‬‬
‫تلك الكتابات تمثل حالة ما لديك؟‬
‫بل قد يحتاج األمر إلى بذل الجهد في‬
‫البحث والتدقيق‪ ،‬وهــو مجهود نظامي ‪ρ‬بــدأ االهــتــمــام ل ــديّ بالكتابة لألطفال‬
‫ثــم للناشئة مــع ظــهــور مــيــار ابنتي في‬ ‫وشاق‪ ،‬لكنه ممتع؛ ألنه مجهود ُم َعلِّم‪.‬‬
‫حياتي ثم ابني يحيى‪ ،‬ممالك ملونة في‬
‫األس ــاس هــي مجموعة قصصية كتبت‬ ‫ ¦ص ــدر ل ــك م ــؤخ ــر ًا مـجـمــوعــة قـصـصـيــة‪،‬‬
‫أغلب قصصها من أجل ميار ثم من أجل‬ ‫هل ترى في القصة أفضلية عن الرواية‪،‬‬
‫يحيى‪ ،‬بل إن كثيراً من أبطال القصص‬ ‫لك الكتابة‪ ،‬وماذا أضافت؟‬ ‫وماذا مثلت َ‬
‫يحملون اسم ميار أو يحيى‪ ،‬وال زلت أذكر‬ ‫ ‪ρ‬ال أظــن أن الــروايــة تفضل القصة أو‬

‫‪95‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫للناشئة تهتم بــاألمــر نفسه‪ ،‬فالكتاب‬
‫األول قصة فتى يصطحبه وال ــده إلى‬
‫مرصد القطامية الفلكي‪ ،‬ويتعرف على‬
‫أهم مفاهيم علم الفلك‪ ،‬والكتاب الثاني‬
‫رواية خيال علمي عن السفر في الفضاء‪،‬‬
‫تتبنى ما يعرف بالخيال العلمي الصعب‪،‬‬
‫وبالتالي فحبكتها تقوم في أغلبها على‬
‫الكثير من الحقائق العلمية‪ ،‬والكتاب‬
‫الثالث فانتازيا علمية‪ ،‬إذ نخوض مغامرة‬
‫مع خادم مصباح عالء الدين‪ ،‬القادر على‬
‫كسر قانون فيزيائي واحــد في كل مرة‬
‫يستخدم قواه‪.‬‬
‫ ¦الكتابة للفتيان‪ ..‬وهي مرحلة تحتاج تركيز ًا‬
‫من الكاتب‪ ،‬كما الكتابة للطفل تحتاج جهد ًا‬
‫أيضا‪ ،‬هل ذلك شكّ ل عقبة لك؟‬
‫ً‬
‫ ‪ρ‬الكتابة للطفل وللنشء صعبة بالطبع؛‬
‫ألنها تتطلب االقــتــراب منهم والكتابة‬
‫من منظورهم من دون استخفاف بهم‪،‬‬
‫استقبال ميار ألولى قصص المجموعة‬
‫ربما لذلك لم أكتب لهم إال بعد دخول‬
‫حين قــررت أن ترسم أحــداث القصة‪،‬‬
‫ابنتي وابــنــي فــي حياتي‪ ،‬فبتفاصيلهم‬
‫تطور معي األمر بعد ذلك خاصة عندما‬
‫اليومية ييسر ذلــك االقــتــراب مــن تلك‬
‫اتجهت إلــى مــحــاوالت تبسيط العلوم‪،‬‬
‫العوالم‪ ،‬إضافة إلى أن األطفال والناشئة‬
‫فهذا السن يحتاج إلى الكثير من التركيز‬
‫يحتاجون إلى لغة خاصة‪ ،‬سلسة وبسيطة‪،‬‬
‫واالهــتــمــام خــاصــة مــن حيث تعريفهم‬
‫وفي الوقت نفسه صحيحة ومناسبة وهي‬
‫على العلم وعلى قدراته وإطالعهم على‬
‫مهمة شاقة كذلك‪.‬‬
‫الجديد بشكل مبسط؛ فجاءت ترجمتي‬
‫لكتاب مثل (أليس في بالد الكم) والذي ¦ك ـت ــاب ل ـعــب م ــع الـ ـك ــون‪ ،‬وهـ ــو ك ـت ــاب في‬
‫العلوم وفلسفتها‪ ،‬اإلكسير‪ ،‬سحر البنج‬ ‫يجعل أليس بالد العجائب الشهيرة تزور‬
‫الــذي نمزج‪ ،‬وغيرها‪ ،‬الطب والفلسفة‪..‬‬ ‫بالد ميكانيكا الكم‪ ،‬ومن خالل مغامراتها‬
‫قراءات أعتقد أنها أضافت لك؟‬ ‫نتعرض ألســس نظرية الكم‪ ،‬أمــا (عين‬
‫على السماء) و(رسول الفضاء) و(خادم ‪ρ‬كــل الــمــعــارف اإلنــســانــيــة تــخــدم بعضها‬
‫البعض‪ ،‬قديمًا كانت كل العلوم واآلداب‬ ‫المصباح السحري) فُكتبْ من تأليفي‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪96‬‬
‫مواجهات‬
‫هم الذين يفعلون ذلك‪ ،‬ألنهم قادرون على‬ ‫واألنــشــطــة الــذهــنــيــة تــنــدرج تــحــت اســم‬
‫نقل األفكار بين التخصصات المختلفة‪،‬‬ ‫الفلسفة‪ ،‬ثم حدثت عملية فصل جائر‪ ،‬وهو‬
‫واستيعاب المفاهيم بصورة مغايرة وفتح‬ ‫فصل قد يكون مفيدًا‪ ..‬لكنه جاء جائرًا‪.‬‬
‫كل اآلفاق‪.‬‬ ‫من العظيم أن نتخصص وأن نتقن فنون‬
‫وبالتأكيد علمني الطب الكثير‪ ،‬ال على‬ ‫اختصاصاتنا‪ ،‬خاصة مع تعقد كل علم‬
‫مــســتــوى التفكير المنظم ومــحــاوالت‬ ‫وفن‪ ،‬حتى صار التخصص الدقيق سمة‬
‫االستدالل على األسباب وتوقع النتائج‪،‬‬ ‫الــعــصــر‪ ،‬إال أن مــن يعيش فــي داخــل‬
‫بل على مستوى التجربة كذلك‪ ،‬واالنفتاح‬ ‫تخصصه فقط وال يرى ســواه‪ ،‬هو كمن‬
‫عــلــى الــبــشــر والــعــالــم وحــــدوده وآالم ــه‬ ‫يعيش في نقطة‪ ،‬ال يعرف بوجود األبعاد‬
‫وأفراحه وأتراحه‪.‬‬ ‫واآلفاق‪ ،‬فهو غارق في ذاتيته‪.‬‬
‫أما الفلسفة فال غنى عنها ألي إنسان‬ ‫شخصياً أشجع التخصص‪ ،‬مع االحتفاظ‬
‫يتساءل عــن معنى وج ــوده‪ ،‬وعــن معنى‬ ‫بإدراك للصورة األوسع‪ ،‬ومع تكوين رؤية‬
‫العالم‪ ،‬وعن معنى ما يعرف أو أن يعرف‪،‬‬ ‫كلية شاملة للعالم‪ ،‬ال مقصورة‪ ،‬خاصة أن‬
‫ولكل منا إجابته الفلسفية التي تؤثر‬ ‫التجربة أثبتت أن القادرين على التطوير‪،‬‬

‫‪97‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫ ‪ρ‬أظن أن التحول الرقمي للنشر والقراءة‬ ‫بالطبع في كل أنماط حياته وتفكيره‪.‬‬
‫هــو المستقبل‪ ،‬صحيح أن بعضهم ما‬ ‫ ¦مـفـهــوم الـكــاتــب الـحــالــي‪ ،‬وارت ـبــاطــه بمعايير‬
‫يزال يتحدث عن محبته لملمس الورق‪،‬‬ ‫البيست سيللر والجوائز‪ ،‬هل ستجرف اإلبداع‬
‫وال يظن بأي حال أنه قادر على تبديل ما‬ ‫إلى شكل جديد يقبله البعض أو يرفضه؟‬
‫اعتاده‪ ،‬إال إن ذلك لن يكون حال األجيال‬
‫الجديدة على اإلطالق‪ ،‬فهم ينشأون على‬ ‫ ‪ρ‬الكتابة هي نقل للخبرة‪ ،‬وهي رسالة بين‬
‫اعتياد األجهزة اإللكترونية منذ الصغر‪،‬‬ ‫مرسل ومستقبل‪ ،‬لذلك فالمتلقي هو‬
‫وفي عالم تتنامى فيه معدالت القراءة من‬ ‫أحد أركان العملية اإلبداعية األساس‪ ،‬ال‬
‫خالل أجهزة القراءة الحديثة‪.‬‬ ‫شك في ذلك‪.‬‬

‫إن الــنــص اإللــكــتــرونــي يعطي لقارئه‬ ‫كما أن الكاتب مهما ادعــى أنه مخلص‬
‫إمــكــانــات ال يتيحها ب ــأي ح ــال النص‬ ‫فــقــط لــتــجــربــتــه وال تــهــمــه الــمــؤثــرات‬
‫الــورقــي‪ ،‬إذ يمكنك تعديل شكل الخط‬ ‫الــمــحــيــطــة‪ ،‬يشغله الــتــحــقــق والــشــعــور‬
‫وحــجــمــه كــمــا تــشــاء‪ ،‬كــمــا يمكنك عبر‬ ‫بالتقدير‪ ،‬وبالتأكيد قد يرغب من حين‬
‫«الــهــايــبــرتــيــكــســت» إض ــاف ــة الــهــوامــش‬ ‫آلخــر في بعض اإلط ــراء‪ ،‬وفــي ظني أن‬
‫والــمــاحــظــات كيفما شــئــت‪ ،‬وربــطــهــا‬ ‫الكاتب الناجح هو القادر على الموازنة‬
‫بالنص في المواضع التي تريد‪ ،‬دون أن‬ ‫بين هــذه األم ــور كلها‪ ،‬إال أن البيست‬
‫تشعر أنك شوهت شكل النص‪ ،‬أو شكل‬ ‫سيللر والــجــوائــز ال تــؤثــر فــي الكُتاب‬
‫الكتاب؛ إضافة إلــى ذلــك هــذا التحول‬ ‫فقط‪ ،‬بل قد توجه ذائقة القُراء كذلك‪،‬‬
‫يعد اقتصادياً‪ ،‬إذ يقلل تكاليف النشر‪،‬‬ ‫فعملية التأثير والتأثر متبادلة‪ ،‬وتغذي‬
‫ويزيل الكثير من الصعوبات اللوجستية‪،‬‬ ‫بعضا سلباً وإيجابا‪ .‬وهنا يأتي‬ ‫ً‬ ‫بعضها‬
‫التي تتعلق بعملية الطبع والتوزيع‪ ،‬ويسهل‬ ‫دور الموازنة الذي أتحدث عنه؛ فاإلبداع‬
‫من كل تلك الخطوات‪ ،‬وال أنسى أيضا‬ ‫عملية تــجــريــب وتــغــيــيــر‪ ،‬والــمــبــدعــون‬
‫البعد البيئي‪ ،‬إذ يًق ّل استخدام األوراق‪،‬‬ ‫الحقيقيون قـــادرون على فتح اآلفــاق‪،‬‬
‫الحاجة إلــى قطع األشــجــار؛ مــا يكفل‬ ‫واالنتقال من فــروض الــواقــع إلــى آفاق‬
‫استخدامًا أفضل للموارد وضغطً ا أقل‬ ‫أرقى‪ ،‬وتوجيه الذائقة كذلك؛ فالظرف‬
‫على البيئة‪ .‬أما المساوئ فهي مساوئ‬ ‫المحيط مهما بدا معيقًا‪ ،‬يحمل كذلك‬
‫اإلتاحة المفرطة‪ ،‬ما يجعل الغث يختلط‬ ‫بذور تطوير وانطالق لمن أخلص العمل‬
‫بالسمين‪ ،‬لكنني شخصيًا أفضل اإلتاحة‬ ‫وثابر‪ .‬ال وجود لخير مطلق أو شر مطلق‪،‬‬
‫المفرطة‪ ،‬عــن تعذر الــوصــول والمنع‪،‬‬ ‫لكنه اإلنسان المبدع القادر على استثمار‬
‫خــاصــة أن ــه مــن الممكن التغلب على‬ ‫اللحظة بكل أبعادها‪.‬‬
‫مشكالت اإلتــاحــة المفرطة‪ ،‬من خالل‬ ‫ ¦كـ ـي ــف تـ ـ ــرى ال ـ ـت ـ ـح ـ ـوّل ال ــرقـ ـم ــي لـلـنـشــر‬
‫تدريب القراء على االنتقاء والتوعية به‪.‬‬ ‫والقراءة‪ ،‬وما هي سلبياته وإيجابيته؟‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪98‬‬
‫نوافذ‬

‫أدبي الرياض واثنينية النعيم‬


‫يكرّمان الدكتور أحمد السالم‬

‫■ محمود الرمحي‬

‫ك ـرّم ال ـنــادي األدب ــي بــالــريــاض واثنينية النعيم الثقافية بــاألحـســاء الدكتور‬
‫أحمد بن عبداهلل السالم (الشاعر المعروف‪-‬وكيل جامعة اإلمام محمد بن سعود‬
‫اإلسالمية‪ -‬رئيس الجمعية العلمية السعودية للغة العربية سابقً ا)‪ ،‬في فندق‬
‫مــداريــم كــراون بالرياض‪ ،‬مساء األربـعــاء ‪1444/5/27‬هـ ـ ـ (‪2022/12/21‬م)‪ ،‬وسط‬
‫نخبوي كبيرٍ من المثقفين وأساتذة الجامعات واإلعالميين‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫حضوري‬
‫ٍّ‬
‫بُدئ الحفل بآيات من القرآن الكريم‪ ،‬أحمد بن عــبــداهلل الــســالــم‪ ،‬فــإنــه في‬
‫ثــم ألقى رئيس مجلس إدارة النادي حقيقة األمــر يــكـرّم الــرمــوز الثقافية‬
‫األدبـــي بــالــريــاض الــدكــتــور صالح بن السعودية‪ ،‬ويحتفي بمشهدنا الثقافي‬
‫عبدالعزيز المحمود كلمة النادي‪ ،‬ومما واإلبداعي‪ ،‬ويحفز المبدعين الوطنيين‬
‫قال‪« :‬إن المجتمع الذي يحترم رموزه الذين يستحقون التكريم واإلشادة»‪.‬‬
‫ومبدعيه‪ ،‬ويحتفي بهم‪ ،‬هو مجتمع ينشد‬
‫ثــم ألــقــى عميد االثنينية األســتــاذ‬
‫ال حضارياً عالياً‪،‬‬
‫الكمال وي ــؤدي فع ً‬
‫محمد بن صالح النعيم كلمة مشابهة‪،‬‬
‫معتزاً بماضيه‪ ،‬ومستثمراً لمستقبله‪،‬‬
‫أشــاد فيها بمكانة المحتفى به علمًا‬
‫ومــؤســس ـاً لثقافة عميقة تــســري في‬
‫في مجال تخصصه (النحو والصرف)‪،‬‬
‫أجياله‪ ،‬ويحملها السابق إلى الالحق‪،‬‬
‫وشعرًا‪ ،‬وإنسانًا نبيالً‪.‬‬
‫وحين يــكـرّم الــنــادي األدب ــي بالرياض‬
‫انطلقت بــعــدهــا نـــدوة علمية عن‬ ‫واثنينية النعيم الثقافية الشاعر الدكتور‬

‫‪99‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫شعر أحمد بن عبداهلل السالم»‪ ،‬والدكتور‬
‫طامي بن دغيليب الشمراني مــن جامعة‬
‫َّناص‬
‫الجوف‪ ،‬بورقة عنوانها «جماليات الت ّ‬
‫األدبي في شعر أحمد بن عبداهلل السَّ الم»‪،‬‬
‫وأدار الندوة الدكتور بدر الراشد (من تالميذ‬
‫د‪ .‬السالم)‪.‬‬
‫وألقى الدكتور فهيد بن رباح الرباح كلمة‬
‫المشاركين‪ ،‬نوّه فيها بمكانة المحتفى به في‬
‫الوسطين‪ :‬العلمي والثقافي‪ ،‬ثم أدلى أربعة‬
‫من عارفيه بشهاداتهم حول أعماله وصفاته‬
‫اإلنسانية النبيلة من تواضع وأخالق عالية‪،‬‬
‫وهم‪ :‬الدكتور محمد الربيّع‪ ،‬والدكتور حسن‬
‫الحفظي‪ ،‬واألستاذ حمد القاضي‪ ،‬والدكتور‬
‫محمد القسومي‪ .‬وبعدها ألقى المحتفى به‬
‫(د‪ .‬أحمد السالم) كلمة وقصيدة تضمنتا‬
‫الشكر للجهتين المنظمتين وللحضور‪ ،‬ومما‬
‫قال‪:‬‬
‫أن ــتَ مــن كـنــتَ كــي يطيبَ المساءُ‬
‫وب ـ ـهـ ــذي ال ـ ــوج ـ ــوه أم ـ ـس ــى يُ ـ ـض ــاء‬
‫ح ـي ــن أب ـص ــرت ـه ــم ك ـ ّـح ـل ـ ُـت عـيــونــي‬
‫وتـ ـنـ ـفـ ـسـ ـتـ ـه ــم‪ ،‬ف ـ ـ ـطـ ـ ــابَ ال ـ ـ ـهـ ـ ــواءُ‬
‫ـوت هـ ـ ـ ّـب الـ ـجـ ـمـ ـي ــعُ إل ـي ــه‬ ‫نتاج المحتفى به الشعري‪ ،‬شارك فيها كل ُ‬
‫أي صـ ـ ـ ـ ٍ‬
‫ي ـ ـ ـت ـ ـ ـبـ ـ ــارى ف ـ ـ ــي ن ـ ـ ـشـ ـ ــره األدبـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاءُ‬ ‫مــن الــدكــتــور سلطان بن محمد الخرعان‬
‫بورقة تناولت السرديّة في نماذج من شعر‬
‫ـواب‬
‫ـؤال ج ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬‫فـ ـ ـ ـ ـ ـ ــإذا عـ ـ ـ ـ ـ ـ ّز ل ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ِ‬
‫أحمد السالم‪ ،‬والدكتور جبران بن سلمان‬
‫أن ـ ـ ـ ــا خ ـ ـ ـلـ ـ ـ ٌـق وف ـ ـ ـ ــى ل ـ ـ ــه الـ ـ ـك ـ ــرم ـ ــاءُ‬
‫سحّ اري بورقة عنوانها «إرســال المثل في‬
‫شعر أحمد السالم‪ :‬قراءة تحليلية بالغية»‪ ،‬رس ـ ـ ـمـ ـ ــوا لـ ـ ــوح ـ ـ ـ َة الـ ـ ـشـ ـ ـك ـ ــرِ ب ـ ـكـ ــرً ا‬
‫ـاض واألحـ ـ ـس ـ ــاءُ‬ ‫أن ـت ـج ـت ـه ــا الـ ـ ــريـ ـ ـ ُ‬ ‫والدكتوره شادية شقروش بورقة عنوانها‬
‫واختتم الحفل بتسليم الــدروع والهدايا‪،‬‬ ‫«الــقــيــم األخــاقــيــة واألبــعــاد الــتــربــويــة في‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪100‬‬
‫نوافذ‬
‫وجاء في مقدمتها درعا الجهتين المنظمتين‬
‫للحفل‪ :‬النادي األدبــي بالرياض‪ ،‬واثنينية‬
‫النعيم الثقافية باألحساء‪ ،‬ودرع مقدّم من‬
‫نادي الجوف األدبي الثقافي‪ ،‬ثم دُشّ ن الكتاب‬
‫الوثائقي الذي أصدره النادي واالثنينية بهذه‬
‫المناسبة‪ ،‬وأعده الدكتور عبداهلل الحيدري‪،‬‬
‫وعنوانه «فــي رحــاب اللغة والشعر‪ :‬أحمد‬
‫السالم لغويًا وشاعرًا وإنسانًا»‪.‬‬
‫وقــد لقيت هــذه الــمــبــادرة ترحيبًا من‬
‫الوسط الثقافي‪ ،‬تمثل في عدد من التغريدات‬
‫التي كتبها بعض الحضور‪ ،‬ومنهم الدكتور‬
‫عبدالرحمن الصغيّر الذي كتب في حسابه‬
‫كلمة فقال‪« :‬هذه الليلة ليلة وفاء من أهل‬
‫الوفاء في وطن الوفاء وبحضور األوفياء»‪،‬‬
‫والــدكــتــور ســالــم الــقــرزعــي ال ــذي كتب في‬
‫حسابه شــهــادة فــقــال‪« :‬تــشــرفــت بحضور‬
‫تكريم الدكتور أحمد السالم‪ ،‬الصديق الوفي‬
‫الذي عرفته منذ سنوات طوال عاشقًا للغة‬
‫العربية‪ ،‬كوكبًا فــي سماء شعرها وأدبها‬
‫وفروعها اللغوية بعامة‪ ،‬ناهيك ما يتمتع‬
‫به من خلق نبيل وشخصية قيادية»‪ ،‬وكتب‬
‫الدكتور ناصر الخنين في حسابه في تويتر‪:‬‬
‫«كانت ليلة أضاءتها كلمات الشكر واإلطراء‬
‫والذكر الحسن لمسيرة أبي خالد العلمية‬
‫واإلداري ــة واإلبداعية‪ ،‬التي شهد بها ولها‬
‫شهود التكريم استحقاقًا»‪ ،‬واألستاذ ناصر‬
‫الحميدي الذي كتب يقول‪« :‬أشكر مجلس‬
‫إدارة نادي الرياض األدبي على هذا االحتفاء‬
‫الــذي يجسّ د الــوفــاء والتقدير لمن تركوا‬

‫‪101‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫سجال حافال باإلبداع والعطاء»‪.‬‬
‫ومما قاله د‪ .‬عبداهلل الحيدري مشيداً‬
‫ومعدداً لمناقبه إن د‪ .‬السالم عَ رَفته المنابر‬
‫الرسمية في الجنادرية‪ ،‬وفــي غيرها من‬
‫المحافل شاعرًا وطنيًا محلّقًا‪ ،‬وشاعرًا مبرزًا‬
‫في العديد من الصحف والمجالت السعودية‬
‫والعربية‪ ،‬وأهدى المكتبة السعودية عددًا من‬
‫الدواوين التي ضمت معظم إنتاجه الشعري‪.‬‬
‫وقد وصفه الدكتور حسن الحفظي بأنه‬
‫الزميل والصديق والمدير‪ ،‬ومما قاله عنه‪:‬‬
‫إن شعره ال يحجبه عن القلب شيء‪ ،‬بل ينفذ‬
‫إليه كالسهم‪ ،‬ولكن بــدون جــراح‪ ،‬وما أشد‬
‫انطباق قول زهير‪:‬‬
‫وإنّ أحـ ـ ـس ـ ــن ب ـ ـيـ ــت أنـ ـ ـ ــت ق ــائ ـل ــه‬
‫ب ـي ــت يـ ـق ــال إذا أنـ ـش ــدت ــه‪ :‬صــدقــا‬
‫أمــا األســتــاذ حمد الــقــاضــي أمــيــن عام‬
‫مؤسسة الشيخ حمد الجاسر الثقافية وعضو‬
‫مجلس الشورى السابق‪ ،‬فوصفه أنه عالم من‬
‫النبل‪ ،‬شيمته الصبر والوفاء‪ ..‬إنسان جمع‬
‫الخالل أسماها‪.‬‬
‫النبل من أطرافه وحاز من ِ‬
‫لم يكن أديباً بدرسه وكراسه‪ ،‬لكن كان أيضاً‬
‫أديباً في نفسه‪ ،‬ثرياً بنفيس مــزايــاه‪ .‬لقد‬
‫ال‬
‫أدرك ذلك كل من عمل معه أو تعامل‪ :‬زمي ً‬
‫أو صديقاً أو أستاذاً أو رفيق سفر‪.‬‬
‫وقــال الــدكــتــور عبدالعزيز الحربي إنه‬
‫العالم واإلداري‪ ،‬وأنــه عرفه قبل عشرين‬
‫حــوالً حين كان معيداً‪ ،‬عرف فيه األخالق‬
‫الحسنة‪ ،‬والمحبة‪ ،‬والتواضع‪ ،‬ولين الجانب‪،‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪102‬‬
‫نوافذ‬
‫ويتحلى بالعشق األصيل لمنطقة الجوف‪،‬‬
‫ودومــة الجندل على وجــه خــاص‪ ،‬فهو وإن‬
‫سكن الــريــاض لــظــروف الــدراســة والعمل‬
‫واستمر في ذلك‪ ،‬إال إن حنينه دائم ونشط‬
‫إلــى حيث ح ـ ّل تمائمه‪ ،‬فهو عــاشــق دائــم‬
‫لمنطقته ومتابع لمستجداتها‪ ،‬ونشط في‬
‫التعريف بها والدعاية إليها؛ بل إنه المقدم‬
‫عندهم في حفالت المنطقة الرسمية إللقاء‬
‫الشعر وما إلى ذلــك‪ ،‬ومنزلته مقدرة عند‬
‫أهاليها‪.‬‬
‫وقــال األســتــاذ محمد بن هليّل الرويلي‬
‫عــنــه‪ ..‬إنــه مكنز الشعر واألدب‪ ،‬طريقه‬
‫الــذي سلك‪ ،‬طويل رحيب‪ ،‬موصول بالعلم‬
‫والحرص على نفع كل من حوله من زمالء‪.‬‬
‫والسؤدد‪ .‬تخرج من معهد الجوف العلمي‬
‫ويــقــول الــدكــتــور عــبــداهلل الــوشــمــي ‪-‬‬
‫طلب العِ لم في‬
‫ِ‬ ‫بسكاكا‪ ،‬وشَ ـ ّد الرّحال في‬
‫األمين العام لمجمع الملك سلمان العالمي‬
‫العام ‪1973‬م‪ ،‬وتبوأ مقاعد العلم الرفيع‬
‫للغة العربية إنــه إيقاع األخ ــاق‪ ،‬وأضــاف‬
‫منزل عليّا‪..‬‬
‫ً‬ ‫ورفعة الشعر العربي األصيل‪،‬‬
‫يتمتع أخ ــي وصــديــقــي د‪ .‬أحــمــد السالم‬
‫بسمات عالية من الخلق الرفيع‪ ،‬وسالمة‬
‫الصدر‪ ،‬ونبل المعدن‪ ،‬وصناعة الفكاهة‪،‬‬
‫وتقبُّل الــمــزاح‪ ،‬وذلــك في أجــواء المؤانسة‬
‫والمجالسة الــعــامــة‪ ،‬وخــاصــة فــي السفر‬
‫والتنقالت‪ ،‬وجمال األلفة‪ ،‬ومساندة الطالب‬
‫واألصدقاء ومن يتطلع إلى خدمته والشفاعة‬
‫له‪ ،‬وهو نمط أراه قد شغله في عدة مراحل‬
‫من حياته‪ ،‬ولديه تقدير كبير لثوابته‪ ،‬ولئن‬
‫رزق الصبر واألناة‪ ،‬إال إنه سريع االلتزام بما‬
‫يؤمن به‪ ،‬وال يمكن أن يجد في أي مواضعة‬
‫اجتماعية مانعاً من أن يقول ما يؤمن به‪.‬‬

‫‪103‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫الع ّ‬
‫فة في الشعر العربي‬ ‫ِ‬
‫مفهوم شامل لضبط النفوس وتهذيبها‬
‫■ منى حسن*‬

‫ق ــال الـنـبــي صـلــى اهلل عليه وس ـلــم‪ ،‬إنـمــا ُبـعـثــت ألتـمــم م ـكــارم األخـ ــاق‪ ،‬وذلــك‬
‫إشــادة بما اشتُ هر به العرب من طبائع وأخــاق سامية‪ ،‬أبرزها الكرم والشجاعة‬
‫والفروسية‪ ،‬وأجملها العفة والحلم والوفاء‪ ،‬وغيرها من الصفات الحميدة‪ ،‬التي‬
‫يمدحون حاملها ويذمون تاركها‪ ،‬وكان لهم للفخر بها صوالت وجوالت؛ فتباهوا‬
‫بذكرها في شعرهم الــذي شكّ ل حافظة تاريخية للحياة في مجتمعاتهم‪ .‬ومن‬
‫هنا نبع اهتمامهم بالشعر‪ ،‬وبالشاعر الذي يُعدُّ صوت قبيلته‪ ،‬ومُ خلد أمجادها‬
‫ومحامدها‪ ،‬ولسان فخرها بين القبائل‪.‬‬
‫وق ــد احــتــفــى الــشــعــر الــعــربــي قبل ثَ ْعل َبٌ بضبط النفس‪ ،‬وذلك في تفسيره‬
‫اإلســام وبعده بالعفة‪ ،‬بوصفها قيمة لقوله تعالى في سورة النور‪َ " ‬ولْيَسْ تَعْفِ ِف‬
‫أصيلة مــن قيم األخ ــاق المجتمعية الَّذِ ي َن َل ي َِجدُو َن نِكاحاً"‪ ،‬وفي اللسان‬
‫التي يتميز بها اإلنسان العربي األصيل‪ ،‬أيضا‪" :‬االسْ ِتعْفاف‪ :‬طل َبُ ال َعف ِ‬
‫َاف َو ُه َو‬
‫َّاس‪،‬‬
‫َف عَ نِ الْحَ رَامِ وَالسُّ ؤَالِ مِ َن الن ِ‬
‫الك ُّ‬ ‫وعُدت من أخالق الفرسان‪.‬‬

‫وَقِ ــي ـلَ‪ :‬االسْ ـ ِتـ ْعـ َفــاف الصبْر والنَّزاهة‬ ‫المفهوم الشامل للعفة وتجلياته‬
‫عَ نِ الشَّ يْ ءِ ؛ وَمِ نْ ُه الْحَ دِ يثُ ‪" :‬اللَّ ُه َّم ِإنِّي‬ ‫في القصيدة العربية‪:‬‬
‫أَسأَلك العِ فَّة والغِ نى"‪.‬‬
‫فــي "لــســان الــعــرب"‪ ،‬العفة هــي‪" :‬‬
‫وجـــاء اإلسـ ــام مــؤكــداً لــهــا وحــاث ـاً‬ ‫َف عَ مَّا َل ي َِح ّل ويَجْ ُملُ‪ ،‬وفسَّ رها‬
‫الك ُّ‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪104‬‬
‫نوافذ‬
‫عليها‪ ،‬قال تعالى في سورة البقرة‪ِ (( :‬لل ْ ُف َقرَاءِ‬
‫الل َل يَسْ ت َِطيعُو َن‬
‫الَّذِ ي َن أ ُحْ ِصرُوا فِ ي سَ بِيلِ َّ ِ‬
‫اه ُل أَغْ ِنيَا َء‬
‫ْض يَحْ سَ بُ ُه ُم الْجَ ِ‬
‫ض ْربًا فِ ي ْالَر ِ‬
‫َ‬
‫مِ َن ال َّت َعف ُِّف تَعْرِ ُفهُم ب ِِسيمَا ُه ْم َل يَسْ َألُو َن‬
‫َّاس ِإلْحَ افًا))‪.‬‬
‫الن َ‬
‫ويتسع مفهوم العِ فّة ليشمل في مسماه‬
‫عدة معان للمروءة والحياء واألنفة‪ ،‬والترفع‬
‫عن الدنايا؛ فهي معنى شامل يُعنى بضبط‬
‫النفس والصبر‪ ،‬ولها عدة أوجه‪ ،‬ال تقتصر‬
‫على التعفف عن الرغبات اإلنسانية‪ ،‬بل‬
‫تتسع لتشمل التعفف عن أكل أموال الناس‬
‫بــالــبــاطــل‪ ،‬وع ــن ســـؤال الــنــاس حــتــى عند‬
‫الحاجة‪ ،‬والتعفف عن كل ما هو غير جميل‪.‬‬
‫يتعفف عن المال ويزهد فيه‪:‬‬ ‫قال السموأل بن عاديا‪:‬‬

‫هَ ـ َّا سـأَ ْلـ ِـت الخَ يـلَ يا ابن َة مالِ ٍـك‬ ‫ْضهُ‬
‫إذا المرءُ لم يَدْ نَس من اللؤمٍ ِعر ُ‬
‫ـاه ـ َلــةً بِ ـ ــمَ ــا َل ــم تَعْ ل َِمـي‬
‫إنْ كُ ـ ْنـ ِـت جـ ِ‬ ‫ف ـ ـ ـكـ ـ ــلُّ رداءٍ يـ ـ ــرتـ ـ ــديـ ـ ــه جـ ـمـ ـي ــلُ‬

‫وقال عنترة بن شداد العبسي مباهيا بعفة يُ ْخبِ ِ‬


‫ـرك مَ ــنْ شَ ـ َهـ َد الوَقي َع َة أنَّنِ ـي‬
‫أَغْ شى الوَغَ ى وأ َِعـ ُّـف ِعنْد المَ غْ َن ِـم‬ ‫نفسه وقدرته على ضبطها وتهذيبها ونهيها‬
‫عن اتِّباع هواها‪:‬‬
‫وذك ــر ُقــدامــة بــن جعفر فــي كتابه نقد‬
‫صفات تدخل في مفهوم العفة مثل‬
‫ٍ‬ ‫الشعر‬ ‫ـض طَ رفي ما َبـدَت لي جارَتي‬ ‫َوأَغَ ـ ُّ‬
‫حَ ـ ـ ـ ّت ـ ــى يُ ـ ـ ـ ـ ــواري جـ ـ ــا َرتـ ـ ــي مَ ـ ــأواه ـ ــا القناعة‪ ،‬وقلَّة الشَّ ره‪ ،‬وطهارة اإلزار‪ ،‬والتنزه‬
‫عن الدنايا‪ ،‬والرغبة عن المسألة‪ ،‬واالقتصار‬ ‫ـاجــدٌ‬
‫إِ ّن ــي اِ مـ ــرُ ؤٌ سَ ـمــحُ الــخَ ـلـيـ َقــةِ مـ ِ‬
‫ـس ال ـ َل ـج ــو َج هَ ــواهــا على أدنى معيشة‪ .‬قَا َل الشاعر المخضرم‬ ‫ال ُأت ــبِ ــعُ ال ـ َن ـفـ َ‬
‫أيضا يفخر عنترة‪ ،‬الــذي اشتهر بعزة عَ ـ ْم ـرُو بْ ـ ُن األَهــتــم مشيداً بعفة قومه عن‬
‫النفس وترفعها عــن الــدنــايــا‪ ،‬بع َّفتِه عن الخبائث وإن أقتروا‪:‬‬
‫الغنائم كناية عن زهــده في المال مقابل إ َّن ـ ــا َبـ ـ ُن ــو ِمـ ـ ْنـ ـ َق ــرٍ ق ـ ــومٌ ذَوُ و حَ ــسَ ـ ٍـب‬
‫فِ ـي ـنــا سَ ـ ـ ــرا ُة َب ـن ــي سَ ــعْ ـ ٍـد َو َن ــادِ يـ ـ َه ــا‬ ‫الشرف الذي يخوض المعارك ألجله‪ ،‬بينما‬

‫‪105‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫طبع الحرص والسعي خلف التكسب على‬
‫حساب األخ ــاق‪ ،‬جامعاً عــدة صفات تقع‬
‫تحت مظلة العفة في قوله‪:‬‬

‫إنّ ال ـ ـغ ـ ـنـ ـ ّ َـي ه ـ ــو الـ ـغـ ـن ــيّ بـنـفـســه‬


‫ـاف‬
‫ول ـ ـ ـ َو ا ّ َنـ ـ ـ ــهُ عـ ـ ــاري ال ـم ـن ــاك ــب ح ـ ِ‬
‫م ــا كـ ـ ُّـل م ــا ف ــوق الـبـسـيـطــة كــافــيً ــا‬
‫ـاف‬
‫ف ـ ـ ـ ــإذا قـ ـنـ ـع ــتَ فـ ـ ـك ـ ـ ُّـل ش ـ ـ ــيء ك ـ ـ ِ‬
‫وتـعــاف لــي طمع الحريص أبوّتي‬
‫ومـ ـ ـ ــروءتـ ـ ـ ــي وفـ ـ ـت ـ ــوت ـ ــي وعـ ـف ــاف ــي‬
‫أيضا يخاطب أبــو فــراس نفسه‪ /‬عفته‬
‫التي تزجره عن الوقوع في الزلل‪ ،‬ويرى أن‬
‫تمام العفة في أن تعف عما أنت قادر عليه‪،‬‬ ‫ُج ـرْثُ ــوم ــةٌ ُأ ُنـ ـ ـ ٌـف‪َ ،‬ي ــعْ ـ َت ـ ُّـف مُ ــقْ ــتِ ــرُ هــا‬
‫يث‪ ،‬ويُ عْ ِطي الخَ ْي َر مُ ثْريها قائال‪:‬‬
‫عَ ِن الخَ بِ ِ‬
‫وت ــح ــدث الــشــاعــر عَ ــبــيــد بــن األبـــرص وي ــا ِعــفَّ ـتــي م ــا ل ــي وم ــا ل ــك كلما‬
‫هـمـمــت بــأمــر ه ــمّ ل ــي مـنــك زاج ــرُ‬ ‫مضمخ‬
‫ٍ‬ ‫األســـــدي‪ ،‬عــن الــعــفــة‪ ،‬فــي شــعــر‬
‫كأن الحجا والصوت والعقل والتقى‬ ‫بالحكمة قائال‪:‬‬
‫ـات الـ ـ ـخ ـ ــدورِ ض ــرائ ــرُ‬ ‫ـدي‪ ،‬ل ـ ــرب ـ ـ ِ‬
‫لـ ـ ـ ـ ّ‬
‫ك ـف ــى زاج ـ ـ ـ ــرً ا ل ـل ـم ــرء أيـ ـ ـ ــامُ ده ـ ــرهِ‬
‫ت ـ ـ ــروح لـ ــه ب ــال ــواعـ ـظ ــات وت ـغ ـت ــدي ع ـف ــافُ ــك غـ ـ ـ ٌ ّـي إنـ ـم ــا عـ ـف ــةُ الـف ـتــى‬
‫إذا عـ ـ ـ ّـف عـ ــن ل ـ ــذَّ ات ـ ــه وهـ ـ ــو قـ ـ ــاد ُر‬
‫إذا أن ــت طــال ـبــتَ ال ــرج ــال نــوالـهــم‬
‫كما ذكــر ابــن المقفع على لسان بيدبا‬ ‫ـف وال ت ـط ـلــب ب ـج ـهــد فـتـنـكـ ِـد‬
‫ف ـ ِـع ـ ّ َ‬
‫الفيلسوف قوله ضمن حــواره مع دبشليم‬
‫عـســى ســائــل ذو حــاجــة إن منعته‬
‫الملك‪" :‬وجدت األمور التي اختص بها اإلنسان‬
‫غد‬
‫من اليوم ســؤ ًال أن يسرك في ِ‬
‫من بين سائر الحيوانات أربعة أشياء‪ ،‬وهي‬
‫أما الشاعر الفارس أبو فراس الحمداني جماع ما في العالم‪ ،‬وهي‪ :‬الحكمة والعفة‬
‫فيرى الغنى في القناعة وغنى النفس‪ ،‬ال والعقل والعدل"‪ .‬وجعل أفالطون الفضائل‬
‫الثراء‪ ،‬ويشيد بعفته ومروءته اللتين تعافان الكبرى أربعاً‪ :‬العقل‪ ،‬والشجاعة‪ ،‬والعفة‪،‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪106‬‬
‫نوافذ‬
‫والعدل‪ .‬وبعده قال أرسطو إن الفضائل هي‪ :‬به جميل! فقالت‪ :‬إنه كان يرنو إليّ بعينين‬
‫ليستا في رأســك يا أمير المؤمنين‪ ،‬قال‪:‬‬ ‫الحكمة‪ ،‬والشجاعة‪ ،‬والعفة‪ ،‬والعدل‪.‬‬
‫وانتُخبت العفة هنا دوناً عن غيرها من فكيف صادفته في عفته؟ قالت‪ :‬كما وصف‬
‫الصفات واألخالق الحميدة لما لها من دور نفسه إذ قال‪:‬‬

‫كبير في تزكية النفوس وتطهيرها‪ ،‬وحماية ال وال ـ ــذي‪ ‬تـ ـ ـسـ ـ ـج ـ ــد‪ ‬الـ ـ ـجـ ـ ـب ـ ــاه لــه‬
‫مـ ـ ــا لـ ـ ــي ب ـ ـمـ ــا ضـ ـ ــم ثـ ــوب ـ ـهـ ــا خ ـبــر‬ ‫المجتمعات من الرذائل‪.‬‬

‫أورد األبشيهي في كتابه "المستطرف وال ب ـ ـف ـ ـي ـ ـهـ ــا وال ه ـ ـم ـ ـمـ ــت ب ـه ــا‬
‫في ك ِّل فنٍّ مُستظرف" على لسان بعض بني‬
‫م ـ ــا ك ـ ـ ــان إال ال ـ ـحـ ــديـ ــث وال ـن ـظ ــر‬
‫كلب‪" :‬وتــروي بعض كتب السيرة أن امرأة‬
‫وللشاعر أحمد شوقي أبيات جميلة في‬
‫ذات جمال دعــت عبداهلل بن عبدالمطلب‬
‫إلى نفسها‪ ،‬لما كانت ترى على وجهه من الــدعــوة إلــى استصحاب العفة فــي طريق‬
‫الحياة‪ ،‬وصــوالً إلى سيرة طيبة في الدنيا‬ ‫النور‪ ،‬فأبى وتعفف وأنشد قائال‪:‬‬
‫وعمل صالح يُدَّ خر لآلخرة‪:‬‬
‫إن أكـ ـ ــن ط ــام ــح الـ ـلـ ـح ــاظ ف ــإ ّن ــي‬
‫ـك زا َدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـن ِم ـ ـ ــن س ـ ـي ـ ـرَةٍ‬‫وال ـ ـ ـ ــذي ي ـم ـل ــك ال ـ ـ ـفـ ـ ــؤا َد ع ـف ـيــف و َُخـ ـ ـ ـ ــذ َلـ ـ ـ ـ َ‬
‫و َِمـ ـ ـ ـ ـ ــن عَ ـ ـ ــمَ ـ ـ ـ ٍـل ص ـ ـ ــالِ ـ ـ ـ ٍـح يُ ـ ـ ــدَّ خَ ـ ـ ــر‬
‫أم ـ ـ ــا ال ـ ـ ـحـ ـ ــرام فـ ــالـ ـ ِـح ـ ـمـ ــامُ دُ و َن ـ ـ ـ ــه‬
‫وال ـ ـ ـ ِـح ـ ـ ــلُّ ال نـ ـ ــأبـ ـ ــى‪ ،‬ون ـس ـت ــدي ـن ــه‬
‫فـ ـكـ ـي ــف بـ ـ ــاألمـ ـ ــرِ الـ ـ ـ ــذي ت ـب ـغ ـي ـنــهُ‬
‫ـرضـ ــه ودِ ي ـ ـ َنـ ــهُ‬
‫ي ـح ـمــي الـ ـك ــري ــمُ ِعـ ـ َ‬
‫وللمبرد في المفهوم الشامل للعفة‪:‬‬
‫مَ ـ ــا إن دَعَ ـ ــانِ ـ ــي ال ـ ـ َه ـ ـوَى لِ ـمـعـصـيــةٍ‬
‫ـص ـ ـ ــا ُه الـ ـ ــحَ ـ ـ ـ َيـ ـ ــاءُ وَال ـ ـ ـ ـ َك ـ ـ ـ ـرَمُ‬
‫إال عَ ـ ـ ـ َ‬
‫فـ ـ ــا إلـ ـ ـ ــى مـ ـ ـح ـ ــرم مـ ـ ـ ـ ــددت يـ ــدي‬
‫وال مـ ـ ـش ـ ــت بـ ـ ـ ــي ل ـ ــريـ ـ ـب ـ ــة َق ـ ـ ـ ـ ـ ـدَمُ‬
‫وج ــاء فــي المستطرف أيــضــا أن بثينة‬
‫دخلت على عبدالملك بن م ــروان‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ما أرى فيك يا بثينة شيئا مما كــان يلهج‬

‫‪107‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫كما يرى الشاعر عبدالرحمن العشماوي‬
‫ان طَ رْق العفاف يجنب المرء التيه‪ ،‬ويسمو‬
‫به نحو تقوى اهلل واتباع نهج األنبياء‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫ـاف ه ــو ال ـط ــري ــقُ‬ ‫ط ــري ـق ــك ل ـل ـع ـف ـ ِ‬
‫ط ـ ـ ــري ـ ـ ـ ٌـق ال يـ ـ ـتـ ـ ـي ـ ــهُ وال ي ـض ـي ــق‬
‫ـك ل ـل ـش ـم ــوخ ول ـلــتَّ ـســامــي‬ ‫ط ــري ــقُ ـ َ‬
‫لـ ـ ــه جـ ـ ـس ـ ــرٌ مـ ـ ــن ال ـ ـت ـ ـقـ ــوى وث ـ ـيـ ــقُ‬
‫طـ ــريـ ــقُ األنـ ـ ـبـ ـ ـي ـ ــاءِ ‪ ،‬ع ـل ـي ــه سـ ـ ــاروا‬
‫ُتـ ـ ـص ـ ــان ب ـ ــه ال ـ ـم ـ ـكـ ــارم والـ ـحـ ـق ــوقُ‬
‫ْض‬ ‫ـاف‪ ،‬ط ــري ــقُ َرو ٍ‬ ‫ط ــري ـ ٌـق ل ـل ـع ـف ـ ِ‬
‫يـ ـ ـغ ـ ــذِّ ي َقـ ـ ـ ْل ـ ــبَ س ــالـ ـك ــه ال ــرَّ حـ ـي ــقُ‬
‫هكذا‪ ،‬وعبر ما أوردن ــا من مقتطفات‪،‬‬ ‫الخطا‬
‫ـف ُ‬‫وَكُ ــن فــي الــطَ ــريـ ِـق عَ ـفـيـ َ‬
‫ـف الـ ــسَ ـ ـمـ ــاعِ َكـ ــري ـ ـ َم ال ـ َن ــظَ ــر تجلت العفة كخلق نبيل وقيمة سامية أصيلة‬
‫شَ ـ ــريـ ـ َ‬
‫ورث ــى الشاعر حــافــظ إبــراهــيــم صديق في الشعر العربي قديمه وحديثه‪ ،‬دعا لها‬
‫وشــدا بها مــن أرادوا السمو والترفع عن‬ ‫عمره مشيداً بعفته وكرمه قائال‪:‬‬
‫الدنايا‪ ،‬مستصحبين في ردائها كل القيم‬
‫َث ـ ـ ـ ــا َث ـ ـ ـ ــةٌ َل ـ ـ ـ ــم َتـ ـ ـ ـع ـ ـ ــرُ عَ ـ ـ ـ ــن ِعـ ـ ــفَّ ـ ـ ــةٍ‬
‫النبيلة والمعاني السامية المشمولة في‬
‫لِ ـ ـ ـسـ ـ ــا ُنـ ـ ــهُ وَال ـ ـ ـ ـ ـ َذيـ ـ ـ ـ ــلُ وَال ـ ـ ـ ِـمـ ـ ـ ـئـ ـ ـ ـ َز ُر‬
‫دائرة التعفف‪ ،‬والتي تهذِّب النفس‪ ،‬وتسمو‬
‫بالمجتمعات اإلنسانية‪.‬‬ ‫لمـ ـ ـ ـ ــوالِ ـ ـ ـ ـ ــهِ‬
‫َق ـ ـ ـ ــد ك ـ ـ ـ ـ ــانَ ِم ـ ـ ـتـ ـ ــاف ـ ـ ـ ًا ِ َ‬
‫َوكـ ـ ـ ـ ـ ـ ــانَ َنـ ـ ــهّ ـ ـ ــاض ـ ـ ـ ًا بِ ـ ـ ــمَ ـ ـ ــن َي ـ ـعـ ــثُ ـ ــرُ‬
‫المراجع‪:‬‬
‫نقد الشعر‪ ،‬قدامة بن جعفر‪ ،‬مكتبة الخانجي‪،‬‬ ‫‪ -‬‬
‫القاهرة‪.‬‬ ‫ويرى الشاعر فواز اللعبون أن العفة تسمو‬
‫ديوان أبي فراس الحمداني دار الفكر العربي‪،‬‬ ‫‪ -‬‬ ‫بالحب‪ ،‬وال يكون من دونها إال وبــاال على‬
‫بيروت‪.‬‬
‫ديوان عنترة بن شداد‪-‬دار صادر‪ ،‬بيروت‬ ‫ ‪-‬‬ ‫صاحبه‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫المستطرف في كل فن مستظرف لألبشيهي‪-‬‬ ‫‪ -‬‬
‫دار صادر‪ ،‬بيروت‪.‬‬ ‫ال ـ ـ ـ ُـح ـ ـ ـ ُّـب ل ـ ـ ــوال ِعـ ـ ــفّ ـ ـ ــةٌ تـ ـسـ ـم ــو ب ــهِ‬
‫كليلة ودمنة البن المقفع‪ ،‬تحقيق‪ ‬عبد الوهاب‬ ‫‪ -‬‬
‫عزام‪ ‬وطه حسين‪ ،‬مؤسسة هنداوي‪.‬‬ ‫مـ ـ ـ ــا كـ ـ ـ ـ ــان إال لـ ـ ـعـ ـ ـن ـ ــةً وعَ ـ ـ ـ ــذابـ ـ ـ ــا‬
‫* كاتبة و شاعرة ‪ -‬السودان‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪108‬‬
‫نوافذ‬

‫إبراهيم الخليف‬
‫ذاكرة الجوف وأرشيف التعليم والتنمية‬
‫■ عبداللطيف الضويحي*‬

‫ليست الكتابة من نقطة البداية كالكتابة من خط النهاية‪ .‬كما أن الكتابة‬


‫بتتبُّ ع األحداث من الماضي انتهاء بالحاضر‪ ،‬ليس كالكتابة بتتبُّ ع األحداث من‬
‫الحاضر وانتهاء بالماضي‪.‬‬
‫لكن الكتابة عــن أ‪ .‬إبــراهـيــم الخليف السطام (رحـمــه اهلل) ال تتطلب البدء‬
‫بالكتابة من نقطة البداية في حياته أو من خط النهاية في حياته‪ .‬فحياة هذا‬
‫الرجل ذات امتدادات عمودية في التعليم؛ منذ الكتابة على الرمل‪ ،‬ومنذ تعليم‬
‫الكتاتيب‪ ،‬وحتى التعليم عن بعد‪ ،‬والتعليم المدمج‪ .‬وعالقته بالتعليم بدأت‬
‫طالب ًا مع والده‪ ،‬ثم على يد المعلم والقاضي الشيخ فيصل المبارك سنة ‪1362‬‬
‫للهجرة‪ ،‬حين كان التعليم غالبا في المساجد‪ ،‬رغم أن أول مدرسة نظامية في‬
‫سكاكا افتتحت عام ‪1362‬هـ‪.‬‬
‫يمكن القول مع بعض التحفظ إن‬ ‫الهوة التعليمية في منتصف القرن‬
‫الــفــائــت ك ــان حجمها كــبــي ـرًا‪ ،‬فليس تعليم العلوم غير الدينية وغير اللغوية‬
‫هناك متسع من الوقت يسمح بانتظار كانت مرتبطة إلــى حد كبير بالتعليم‬
‫الطلبة حتى يكملوا تعليمهم؛ فما يلبث النظامي الرسمي في المملكة‪ ،‬وبخاصة‬
‫أن يصبح الطالب معلماً فــور إكماله أن هــذه الخطوة جــاءت بمعلمين من‬
‫أساسات التعليم الديني واللغة العربية الدول العربية الشقيقة‪ ،‬التي كان التعليم‬
‫فيها سابقاً عما كان حينها في المملكة‪،‬‬ ‫وبعض الرياضيات‪.‬‬

‫‪109‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫والمهنية في سلم التعليم الوظيفي؛ فمن‬
‫مــــدرّس ســنــة ‪ 1363‬هــجــريــة‪ ،‬إل ــى مدير‬
‫مدرسة‪ ،‬حتى أصبح مفتّشا إداريـاً‪ ،‬إلى أن‬
‫أصبح مديراً للتعليم في منطقة الجوف‪،‬‬
‫وهذه قفزة كبيرة في سلم التدرج الوظيفي؛‬
‫فقد شــق األســتــاذ الــســطــام هــذا الطريق‬
‫ومضى فيه‪ ،‬رغم التحديات وكل الصعوبات‪،‬‬ ‫من اليمين ‪ :‬عبدالعزيز الهنيدي "قائد سالح الجو السعودي‬
‫وليس أقلها الصعوبات االقتصادية التي‬ ‫في الثمانينيات"في زيارة للجوف ليدعو خريجي الثانوية‬
‫العامة لاللتحاق بالكليات العسكرية ‪ ،‬يليه إبراهيم الخليف‪.‬‬
‫فرضتها تلك المرحلة‪.‬‬
‫لقد جــاء انتقال أ‪ .‬السطام مــن قطاع‬
‫التعليم إلى القطاع البلدي استجاب ًة للنضج‬
‫اإلداري والتنموي اللذين كانت المملكة‬
‫بحاجتهما بالتزامن مع إعداد الكادر البشري‬
‫الضروري‪ ،‬للتناغم واالنسجام مع ما تحقق‬
‫في تلك المرحلة‪ ،‬وهــذا انعكاس لواحدة‬
‫مع‪ ‬الصحفي محمد عبدالواحد رفيق ‪ -‬أثناء‪  ‬انعقاد‬
‫من النظريات التنموية التي ترى أن تحقيق‬ ‫اللقاء الخليجي‪  ‬المغربي‪  ‬بالدار البيضاء ‪2٠٠0/5/4‬م‬
‫التنمية يتطلب الوصول إلى مستوى معين‬
‫من التعليم قبل الشروع بالبرامج التنموية‪.‬‬
‫يمكن القول إن النقالت والتنقالت الثالث‬
‫المهمة التي مر بها وعاشها الراحل إبراهيم‬
‫الخليف من ‪ )1‬مدير عام التعليم في منطقة‬
‫الجوف إلى ‪ )2‬رئيس بلدية الجوف ومنها إلى‬
‫‪ )3‬مدير عام عام الشئون البلدية والقروية‬
‫أثناء تكريمه من قبل‪  ‬برلمان‪  ‬والية‪  ‬فيرشيلي في إيطاليا‬
‫فــي المنطقة الشمالية تعكس ع ــدداً من‬
‫االعتبارات التي يدركها المخطط المركزي‬ ‫حيث وفرة المعلمين وتعدد التخصصات‪.‬‬
‫لقد عاصر وعــاش أ‪ .‬إبراهيم السطام للتنمية في المملكة العربية السعودية‪ ،‬ومنها‬
‫كــل هــذه المحطات الــتــي مــر بها التعليم منطقة الجوف والمناطق الشمالية‪:‬‬
‫في المملكة وعايشها طالباً ومعلماً‪ ،‬وفيما ‪ )1‬أولوية التعليم وأقدميته على أي برامج‬
‫تنموية‪ ،‬والتعليم يستمر بالوتيرة نفسها‬ ‫ال بين المراتب الوظيفية اإلدارية‬
‫بعد متنق ً‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪110‬‬
‫نوافذ‬
‫قبل وخ ــال وبــعــد أي بــرامــج تنموية؛‬
‫فالتعليم غاية ووسيلة‪.‬‬
‫‪ )2‬أهمية إعــداد الــكــادر البشري المحلي‬
‫وتهيئته بقدر اإلمكان‪ ،‬من خالل التجربة‬
‫وصقل الخبرة؛ تمهيداً لتوفير الفرصة‬
‫من النجاح من خــال قيادة وإدارة أي‬
‫عمل تنموي محلي وبرامج تنموية محلية‪.‬‬
‫‪ )3‬أهمية التوأمة والتفاعل بين قطاعات‬
‫التنمية المختلفة‪ ،‬مــع الــحــفــاظ قــدر‬
‫المستطاع على وحدة االرتباط اإلداري‬
‫األستاذ إبراهيم خليف‬ ‫لكل قطاع‪.‬‬

‫‪ )4‬ال تختلف منطقة الــجــوف عــن بقية مدينة سكاكا‪ ،‬منطقة الجوف ‪-‬تغمده اهلل‬
‫مــنــاطــق المملكة اإلداريــــــة؛ مــن حيث بواسع رحمته‪.‬‬
‫بدايات التعليم‪ ،‬وخطط التنمية‪ ،‬واإلدارة‪،‬‬
‫لستُ مؤرخا لكني أظن أن الجيل الذي‬
‫باستثناء الكثافة السكانية فــي بعض‬
‫المناطق‪ ،‬وحجم المدن‪ ،‬وما يتطلبه ذلك أنجب أ‪ .‬إبراهيم الخليف‪ ،‬والدكتور عارف‬
‫المسعر‪ ،‬رحمهما اهلل‪ ،‬والدكتور عبدالواحد‬ ‫من مراعاة لهذه اإلعتبارات‪.‬‬
‫الحميد‪ ،‬والــدكــتــور فهاد المعتاد الحمد‪،‬‬
‫‪ )5‬ال يمكن تحقيق التنمية النوعية قبل‬
‫وغيرهم ‪-‬ممن ال تحضرني أسماؤهم‪ -‬حريٌ‬ ‫تحقيق النمو الكمي الطبيعي‪.‬‬
‫أن نعيد قراءة سيرهم في ضوء إرهاصات‬
‫‪ )6‬من الخطأ تقييم أي تجربة تنموية في‬
‫الــمــاضــي بعيون الــحــاضــر‪ ،‬ومــن خالل خطط التنمية في المملكة‪ ،‬وما قبل خطط‬
‫التنمية بقليل؛ فــقــراءة سير تلك األسماء‬ ‫إمكانات ومعطيات الحاضر‪.‬‬
‫هو بمثابة قراءة أكثر جيل عاصر االنتقال‬
‫كان ال بد من استحضار واستيعاب هذه‬
‫الخلفية ونحن نستعيد ونستنطق التجربة الدراماتيكي‪ .‬والتحوّل الجذري بين عالمين‬
‫التعليمية واإلداريـــــة والــتــنــمــويــة لألستاذ مختلفين كل االختالف‪ ،‬جيل عاش الصدمة‬
‫إبراهيم الخليف السطام‪ ،‬والذي وافته المنيّة الحضارية فاكتوى بنارها وذاق مراراتها‬
‫في اليوم الثاني من عيد الفطر الفائت في بقدر ما نال من حسناتها وإيجابياتها‪.‬‬
‫* كاتب سعودي ‪ -‬الجوف‪.‬‬

‫‪111‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫اكتشاف منشآت حجرية بجبل الظلّيات‬
‫في الجوف‬
‫يعود تاريخها إلى ‪ 9000‬عام مضت‬

‫■ احملرر الثقايف‬

‫عثر فريقٌ من علماء اآلثار السعوديين والدوليين على إحدى أقدم المنشآت‬
‫الحجرية الـتــي شـ ّيــدهــا اإلن ـســان فــي جبل الـظـ ّلـيــات بمنطقة الـجــوف ‪-‬شمالي‬
‫المملكة‪ -‬يعود تاريخها إلى الفترة ما بين ‪ 8000‬و‪ 9000‬عام قبل الوقت الحاضر‪،‬‬
‫أجــرتـهــا هيئة ال ـتــراث مــؤخــر ًا‬
‫وذل ــك ضمن نتائج مـشــاريــع المسح األث ــري الـتــي ْ‬
‫بالتعاون مع المراكز العلمية الدولية‪.‬‬

‫وتــمّــت مــشــاهــدة ه ــذه المصائد‬ ‫ونــشــرت مجلة (بــلــوس ون) مقال ًة‬
‫عن هذه المنشآت الحجرية التي تُمثّل الحجرية ألول مرة من الطائرات في‬
‫‪-‬بحسب الورقة العلمية‪ -‬مصائد من عشرينيات الــقــرن الــمــاضــي ‪ -‬وفقاً‬
‫ـان ضخمة الحجم للورقة العلمية‪ ،-‬وكانت تُعد للوهلة‬
‫الــحــجــر‪ ،‬وهــي مــبـ ٍ‬
‫تُــســتــخــدم كــمــصــائــد لــلــحــيــوانــات تم األولى مبانيَ أثري ًة متطورة تتكون من‬
‫تأريخها لفترة ما قبل التاريخ‪ ،‬التي تُعبّر جدران‪ ،‬ومُذيَّالت يصل طولها إلى أكثر‬
‫عن قدرة اإلنسان قديماً على التكيّف من خمسة كيلومترات تتالقى في منطقة‬
‫مع طبيعة المكان‪ ،‬وذلك بنقل مساحة كبيرة‪ ،‬وتتّصل بها غــرف ذات حجم‬
‫كبيرة إلى سطح صغير ثنائي األبعاد‪ ،‬أصغر‪ ،‬وبخاصة في األركــان والزوايا‬
‫كما تُــع ـ ّد عــام ـ ًة فــارقــة فــي السلوك الخارجية؛ وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬فإنه‬
‫الذكي لإلنسان‪ ،‬وتعزّز فهم كيفية تصوّر لم يتم إثبات وظيفتها واستخداماتها‬
‫وتأريخها‬
‫ِ‬ ‫المصائد الحجرية الصحراوية وبنائها‪ .‬كمصائد للحيوانات البرية‪،‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪112‬‬
‫نوافذ‬
‫إال في السنوات القليلة الماضية‪ .‬ويشار إلى أنه‬
‫جرى حتى اآلن اكتشاف أكثر من ‪ 6000‬منشأة‪.‬‬

‫ونشر باحثون من المركز الوطني للبحث‬


‫العلمي وباحثون مــن معاهد مختلفة لوحتَين‬
‫مرسومتَين‪ ،‬تُمثّالن مخططات مُصغّرة لمصائد‬
‫حجرية في المملكة والمناطق المجاورة لها‪،‬‬
‫وقد عُثر في جبل الظلّيات((( في منطقة الجوف‬
‫على زوجَ ين من المصائد الحجرية الصحراوية‬
‫تتباعد عــن بعضها بمسافة ‪ 3.50‬كــم‪ ،‬كما‬
‫اكتُشفت في هذه المنطقة لوحة مُصغّرة لمصيدة‬
‫مرسومة على حجر يبلغ طوله‬
‫ٍ‬ ‫حجرية صحراوية‬
‫‪ 382‬سم‪ ،‬وعرضه ‪ 235‬سم‪ ،‬ويعود تاريخها إلى‬
‫نحو ‪ 8000‬عــام قبل الوقت الحالي‪ ،‬كما عُثر‬
‫سابقاً على منشآت مُصغّرةٍ أخرى لهذه المباني‬
‫الضخمة‪ ،‬لكنها لم تكن بالدقة الكبيرة نفسها‬
‫التي نُفّذت بها منشآت الظلّيات‪.‬‬
‫* كاتب من السعودية ‪ -‬الجوف‪.‬‬
‫((( ال ـظ ـل ـيــات‪ :‬سلسلة جبلية تمتد نحو ‪ 30‬كيلومتراً‬
‫غربي‪ ‬دومة الجندل‪ ،‬وهي امتداد للحوض الصخري‬
‫الذي يحيط بدومة الجندل‪ ،‬وهي آخر امتداد للتكوين‬
‫الجيولوجي لجبال الطويل شمالي جبال األضــارع‪،‬‬
‫وهي حافة هضبة الحماد فوق وادي السرحان‪ .‬تمتد‬
‫لمسافة ‪ ٢٥‬كيلومتراً‪ ،‬ويغلب عليها الحجر األسود‬
‫البازلت‪ .‬ويخترقها شعيب المندسة وشعبا الظليات‪،‬‬
‫التي تنحدر تجاه دومة الجندل من الغرب والجنوب‪،‬‬
‫وتضم أكثر من ‪ ٩٠‬موقعاً بسجل اآلثــار‪ .‬وقد كانت‬
‫سلسلة جبال الظليات إحدى أهم محطات القوافل‬
‫القادمة من بالد الرافدين والشام‪ ،‬ويتخللها عدد‬
‫من الشعاب والتي ينبت فيها العديد من األشجار‬
‫واألعشاب البرية‪ ،‬ويحيط بها عدد من مصامد المياه‬
‫التي تنحدر من هضبة الحماد‪ ،‬وتحديداً من الريتين‬
‫شماالً‪ ،‬ومن الرغيله شمالي غرب الظليات‪.‬‬

‫‪113‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫إبراهيم الحسين‬
‫والنافذة التي يطل بها على العالم‬
‫■ محمود الرمحي‬
‫شاعر‪ ..‬وال يمكن إال أن يكون شاعراً‪-‬هكذا يقول‪ ،-‬لم تستهوه أنماط السرد‬
‫األخرى كالرواية والقصة‪ ..‬يأبى إال أن يكون شاعرً ا وفي أحضان قصيدة النثر‪!..‬‬
‫يقول عن ارتباطه بها (إنها النافذة التي تمنحنه ضوء ًا جديد ًا وعيون ًا جديدة‪،‬‬
‫يطلّ منها على عوالم أخرى‪ ،‬يتبعها أينما ذهبت ‪ ..‬تلك النافذة ال يعلم من أين‬
‫جاءت بإطارها‪ ،‬بحديدها‪ ،‬بخشبها أو زجاجها‪ ،‬أو حتى سمائها)!‬
‫له فيها بــاع وذراع‪ ،‬يتسلح بتجربة ثرية ومغايرة عن اآلخــريــن‪ ،‬شهد له فيه‬
‫معلموه ومجايلوه ‪..‬‬
‫يقول كاظم الخليفة‪:‬‬
‫نصوصه تتجسد في معان قريبة محسوسة؛ حتى كأنها يمكن الربت عليها‪،‬‬
‫وحتى مداعبتها أحياناً‪ ،‬لكنك ال تعتب عليها أو تجادلها‪ .‬يُدخلك في مواضيعه‬
‫عــن اليومي المعاش ويستدرجك ليصعد بــك إلــى مستويات عالية مــن الـتــأزم؛‬
‫كأشبه ما يكون "بمرجيحة" تنخفض عن مستوى تناولك‪ ،‬ثم تأخذك إلى ذروة‬
‫العلو من نطاق دورتها‪ ،‬وسرعان ما تحط بك في أمان ثانية‪.‬‬
‫ويقول آدم فتحي‪:‬‬
‫القصيدة بالنسبة إليه بناء بالهدم يُفكّ ر بحساب ويتداعى بحساب‪ .‬إنّها شبيهة‬
‫بكرة النار المندفعة من فوهة البركان‪ .‬ال تَزعمُ بطولة ً‪ ،‬لكنّها ال تروغُ من معركة‪ .‬ال‬
‫بإيقاعها الصائت وبالصمت‪.‬‬‫ٍ‬ ‫تدّ عي رسالةً ‪ ،‬لكنّها ال تهرب من معنى‪ .‬تصنع لغتها‬
‫تعيد إنتاج نفسها مع كــلّ تــأويــل‪ .‬تنفذ إلــى عمق الواقعيّ بقوّة الخيال‪ .‬تصنع‬
‫األبدي من اليوميّ العابر‪ .‬تتيح لقارئها أن يشارك في ابتكار معناها‪.‬‬‫ّ‬
‫رفد المكتبة الشعرية بعديد من المجموعات الشعرية التي دائم ًا ما تحظى‬
‫باهتمام النقاد والشعراء محلي ًا وعربيا‪ ،‬وله حضور متميز في المنصات الشعرية‪،‬‬
‫إذ شارك في أمسيات عبر جمعيات الثقافة والفنون واألندية األدبية والملتقيات‬
‫الثقافية بالسعودية‪ ،‬ومهرجانات عربية وعالمية‪..‬‬
‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪114‬‬
‫محور خاص‬

‫إبراهيم الحسين‪:‬‬
‫أُحيي عزلتي منقطع ًا ومخلص ًا للقراءة والكتابة وال أفكر أبدا‬
‫في كتابة الرواية فأنا في جنّ ِة الشعر‪ ،‬وال أريد الخروج! منها‬

‫إبراهيم عبدالعزيز الحسين‪ ،‬شاعر سعودي من مواليد األحساء ‪1960‬م‪ ،‬نعم‪،‬‬


‫شــاعــر‪ ،‬وال يمكن إال أن يكون شــاعــر ًا وفــي أحـضــان قصيدة الـنـثــر‪ !..‬وهــو يتسلح‬
‫بـتـجــربــة ثــريــة وم ـغــايــرة عــن اآلخ ــري ــن‪ ..،‬تنبه لنفسه لحساسية روح ــه مـبـكــراً‪،‬‬
‫ارتبط روحي ًا برشيد عالمة «الفنان اللبناني» الذي اشتهر بتقمص الشخصيات‬
‫التاريخية في ستينيات القرن الماضي في العديد من المسلسالت التاريخية‪،‬‬
‫ثم المنفلوطي بكتبه التي أهداها له معلمه‪ ،‬طبعاً‪ ،‬كُ تب المنفلوطي وترجماته‬
‫الرائعة‪ ،‬وبأسلوبه األدبي النقي‪ ،‬حتم ًا سيكون لها األثر القوي في خلق وتشكيل‬
‫عالقة طفل مع الكلمة في الصف األول المتوسط‪ ،‬ثم مرافقته لرفقاء الدرب‬
‫الشاعر عبداهلل السفر والشاعر أحمد المال منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي‪،‬‬
‫هناك عمق خفي نسج خيوط ارتباطه بالشعر‪..‬‬
‫إبراهيم الحسين‪ ،‬رفد المكتبة الشعرية بعدد من المجموعات الشعرية التي‬
‫دائم ًا ما تحظى باهتمام النقاد والشعراء محلي ًا وعربيا‪ ،‬وله حضور متميز في‬
‫المنصات الشعرية؛ إذ شارك في أمسيات عبر جمعيات الثقافة والفنون واألندية‬
‫األدبية والملتقيات الثقافية بالسعودية‪ ،‬ومهرجانات عربية وعالمية ومنها‪ ..‬في‬
‫عام ‪2006‬م شارك في أيام ثقافية سعودية بجمهورية مصر العربية‪ ،‬وفي صيف‬
‫‪2022‬م‪ ،‬شارك في مهرجان الشعر العالمي بمدينة بوسعيدي بتونس‪ ،‬كما شارك‬
‫في مهرجانين شعريين في عامي ‪2011‬م و‪2015‬م‪ ،‬بمدينة سيت الفرنسية‪ ،‬وقد‬
‫ترجمت له عدة نصوص إلى اللغتين اإلنجليزية والفرنسية‪.‬‬
‫في هذا الحوار‪ ..‬الشاعر إبراهيم الحسين ينقلنا إلى كوكبه‪ ،‬كوكب الشعر‪...‬‬
‫■ حاوره‪ :‬عمر بوقاسم‬

‫‪115‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫أو زجاجها‪ ،‬أو حتى سمائها‪ ،‬هل هي‬ ‫نافذة سرية‪!..‬‬
‫حكايات األب التي يصادف أحياناً وينفتح‬ ‫ ¦إبـ ــراه ـ ـيـ ــم الـ ـحـ ـسـ ـي ــن‪ ،‬صـ ــاحـ ــب ت ـجــربــة‬
‫فجأة فيُخرِ ج حكاياته ويسرّحها أمام‬
‫وارت ـ ـ ـبـ ـ ــاط ب ــال ـق ـص ـي ــدة مـ ـن ــذ مـنـتـصــف‬
‫دهشتنا‪ ،‬األب الــذي كان فقده صاعقاً‬
‫ثمانينيات القرن الماضي‪ ،‬هال حدثتنا‬
‫بموته الذي أحدث فجوة فيّ هبَّت منها‬
‫عن طبيعة ارتباطك بالقصيدة؟‬
‫طيو ٌر ســوداء كثيرة دفعة واحــدة حطَّ ت‬
‫كلُّها فــي كــتــاب «يسقط اآلبـــاء حجرًا‬ ‫ ‪ρ‬هي نافذة وجدتها تلك الفترة‪ ،‬وجدتها‬
‫حجرا‪ ،‬وتكرّر ذلــك في نازلة فقد األم‬ ‫تمنحني ضــوءاً جديداً وعيوناً جديدة‪،‬‬
‫أيضاً في كتاب «يخطئ الموتى»‪ .‬وغني‬ ‫ووجدتني أط ّل منها على عوالم جديدة‪،‬‬
‫عن القول أنهما فجوتان لم أق َو حتى اآلن‬ ‫عوالم جعلتني الشغوف المتعلق الذي‬
‫على ترميمهما‪ ،‬وال أظن ذلك (يرحمهما‬ ‫يتمتم لنفسه دائما‪ :‬هذه نافذتي‪ ،‬هذه‬
‫اهلل)‪ ،‬وربما كانت تلك النافذة من معلم‬ ‫نافذتي السرية! ومنذ ذلك الحين وأنا‬
‫كان يحكي لنا» ألف ليلة وليلة»‪ ،‬أو من‬ ‫أتبعها أينما ذهبت‪ ..‬نافذتي التي منذ‬
‫مسلسالت العربية الفصحى بالتلفزيون‪،‬‬ ‫ذلك الحين لم تأفل‪ ..‬ويرعبني جدا أن‬
‫وأخــص هنا ممثال لبنان ّياً هــو «رشيد‬ ‫يحدث ذلــك‪ ،‬تلك النافذة ال أعلم من‬
‫عالمة»‪ ..‬إن تلك النافذة خرجَ ت عليّ‬ ‫أين جاءت بإطارها‪ ،‬بحديدها‪ ،‬بخشبها‬
‫من حكايات كنت أختلقها ألتــرابــي في‬
‫الحارة وليدةَ لحظتها إ ْذ يتحلّقون حولي‬
‫مشدوهين‪ ،‬و ِلـ َم ال تكون من معلم اللغة‬
‫العربية في الصف األول متوسط الذي‬
‫أهداني في طابور المدرسة الصباحي‬
‫ُكتُبا للمنفلوطي وغيره لكوني من أوائل‬
‫الصف‪ ،‬أو إنها تسلّلت إليّ من األغاني‬
‫التي كنت أحبها ح ّد أني خصصت لها‬
‫دفتراً أكتبها فيه؛ ال أدري حقيقة كيف‬
‫انفتحت تلك الــنــافــذة الــتــي قــد تكون‬
‫أخشابها احتُطبت من حدائق المراهقة‬
‫وورودهـ ـ ــا الــقــصــيــة‪ ..‬ثــم ج ــاء تعرفي‬
‫على عبداهلل السفر بالمرحلة الثانوية‬
‫وانسجامي معه ليصقل تلك النافذة‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪116‬‬
‫محور خاص‬
‫ويزيدها لمعانا‪ ،‬ثم انفتاحنا معاً بعد‬
‫ذلك على أحمد المال ليزيدها اتساعاً‬
‫ووهجاً‪ ،‬ولنشكّل ثالثيّا نقياً في أوائل‬
‫الثمانينيات؛ ثالثياً ما تزال شجرته تنمو‬
‫وتعلو‪ ،‬تــوزّع ظلَّها‪ ،‬وترسل جذورها في‬
‫الشفيف والحميم‪ ،‬أبع َد وأبع َد وأعمق‪،‬‬
‫حتى هذه اللحظة‪.‬‬

‫حريص أن ال تكرر نفسك‪!..‬‬


‫ ¦ب ـ ـيـ ــن مـ ـجـ ـم ــوعـ ـت ــك األولـ ـ ـ ـ ـ ــى «خـ ــرجـ ــت‬
‫م ـ ــن األرض الـ ـضـ ـيـ ـق ــة» ال ـ ـ ـصـ ـ ــادرة عــن‬
‫سلسلة كـتــاب كـلـمــات‪ ،‬الـمـنــامــة‪1992 ،‬م‪،‬‬
‫ومجموعتك األخـيــرة «يخطئ الموتى»‬
‫ورجفاتها‪ ،‬أنت مع كل مجموعة حريص أن‬ ‫ال ـ ـصـ ــادرة عـ ــام ‪2022‬م‪ ،‬ع ــن «م ـن ـش ــورات‬
‫ال تكرر نفسك‪ .‬كل مجموعة تمثّل مرحلة‬ ‫ت ـكــويــن» ف ــي ال ـك ــوي ــت‪ ،‬ه ـنــاك عــديــد من‬
‫من حياتك ومــن قــراءاتــك ومشاهداتك‬ ‫المجموعات الشعرية‪ ،‬أذكر منها «خشب‬
‫والمواقف التي مررت بها‪ ،‬وهذه جميعها‬ ‫يتمسح بالمارة‪1996 ،‬م»‪« ،‬انزالق كعوبهم‬
‫في تجدّد؛ حتى التناول يكون مختلفاً؛‬ ‫‪2007‬م»‪« ،‬رغ ـ ـ ــوة ت ـب ــاغ ــت ري ـ ــش األوراق‬
‫ومن هنا‪ ،‬يأتي االختالف بين مجموعة‬ ‫‪2011‬م»‪« ،‬على حافة لوحة في المنعطف‬
‫وأخرى‪ ،‬حتى وإن كان االختالف طفيفاً‪..‬‬ ‫الموسيقي ‪2014‬م»‪« ،‬فم يتشرد في جهات‬
‫أنت تشتغل على تطوير تجربتك‪ ،‬وهذا‬ ‫الـجـمــر ‪2015‬م»‪ .‬عـ ــاد ًة كــل شــاعــر يشعر‬
‫ينعكس على نــصــوصــك‪ ..‬وهــنــاك أم ـ ٌر‬ ‫مع كل إصــدار جديد أنه يخوض تجربة‬
‫آخر‪ ،‬فلست أنا مَن يحكم على أحقيّة أي‬ ‫جديدة‪ ،‬فما رأيك؟‬
‫نص أو مجموعة في النشر‪ ،‬كان الصديق‬ ‫ ‪ρ‬ال تتصور مدى فرحي باإلصدار األول‬
‫عبداهلل السفر له الدور الكبير في ذلك‪.‬‬ ‫«خــرجــتُ من األرض الضيقة»‪ ،‬أحضر‬
‫لي الصديق أحمد المال ‪ -‬من البحرين‪-‬‬
‫عواء لن تلتفت األشجار إلى جهته‪!..‬‬
‫مجموع ًة من النسخ‪ .‬كنت مرتبكاً ح ّد‬
‫أني تعثّرت بهذه النّسخ على درج المنزل‪¦ .‬هــذا ال َّنفَس مــن التجدّ د والسعي نحوه‬
‫الـ ــذي ت ـح ــدّ ث ــتَ ع ـنــه‪ ،‬ي ـطــرح س ـ ــؤا ًال عن‬ ‫وعن طبيعة اإلصدارات؛ فإن كل مجموعة‬
‫نظرتك إلى النص وكتابته‪ .‬كيف تعلّق؟‬ ‫تحمل عــوالــمــهــا ومــواقــفــهــا‪ ..‬صــورهــا‬

‫‪117‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫دعه وشأنه‪ .‬أنت في كل نص ينبغي أن‬
‫تتحوّل‪ ..‬أن تنبت في أرض أخرى‪ ،‬وأن‬
‫يكون الحــتــراق جذعك عب ٌق آخــر‪ ..‬كل‬
‫مرة تقدُم فيها على اجتراح الكتابة التي‬
‫تولد فيها من جديد يكون لك اس ٌم آخر‬
‫وقشرة‪.‬‬

‫وأتحدث إليهم‪!..‬‬
‫ّ‬ ‫كأنني أخاطبهم‬
‫أحمد المال و إبراهيم الحسين و عبداهلل السفر‬
‫ ¦رغــم تــدفّ ـقــك الكتابي وغــزارتــه‪ ،‬إال إنك‬
‫ ‪ρ‬كـ ّل نص إن لم يكن وجهاً آخــر لك فال‬
‫ف ــي ال ــوق ــت نـفـســه شـحـيــح ال ـح ـضــور في‬
‫تر ّد عليه؛ وكل كتاب إن عرفت صوته فال‬
‫ال ـف ـض ــاء ال ـث ـق ــاف ــي واالجـ ـتـ ـم ــاع ــي‪ ،‬وإن‬
‫حضرتَ فبكثيرٍ من الصمت واإلصـغــاء‪.‬‬ ‫تفتح له‪ ،‬مهما طر َق بابك؛ وكل كلمة سبق‬
‫كأنما تحضر ومعك رفيقتك العزلة‪ .‬هل‬ ‫وأمسكتَ بقرونها وتحسّ ستَ ظهرها فال‬
‫هذا صحيح؟‬ ‫تكلّف نفسك مالحقتها والجري وراءها‬
‫محاوالً اصطيادها! ث ْق أنك بذلك تعوي‬
‫ ‪ρ‬صحيح‪ ..‬صحيح‪ ..‬أنا أعيش في عزلة‬
‫عوا ًء ج ّر َح حنجرتك من قبل‪ ،‬وال طائل‬
‫شبه كاملة‪ .‬أحيا عزلتي منقطعاً ومخلصاً‬
‫للقراءة والكتابة‪ ،‬وهذا وضعني في جهة‬ ‫مــن ورائـ ــه‪ ..‬ع ــوا ًء لــن يخيف أح ــداً أو‬
‫تزداد ابتعاداً عن الجميع‪ ،‬وجعلني أق ّل‬ ‫يلقي في قلبه الرعب أو يدهشه‪ ..‬عوا ًء‬
‫حضوراً ثقافياً وحتى اجتماعيا‪ ..‬حتى‬ ‫لن تلتفت األشجار إلى جهته أو تخشى‬
‫وإن ح ــدث وألــقــتــك الــصــدف لحضور‬ ‫على أوراقــهــا مــنــه‪ ،‬وكــ ّل حــرف عرفتَ‬
‫اجــتــمــاع ألصــدقــاء‪ ،‬تــكــون األق ــل كالماً‬ ‫آثــار أقــدامــه فــا تتبعه وال تناد عليه؛‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪118‬‬
‫محور خاص‬
‫حتى وإن تكلمت فإنك فقط تلقي نصاً ‪ρ‬خلف هذا السياج الجميل المورق ليس‬
‫لي إال النص أتنزه فيه‪ ،‬وأجد هناك كل‬ ‫محفوظاً لديك ألحد الجميلين‪ ..‬نصاً‬
‫الذين أحبّهم‪ ،‬األحياء واألموات‪ ،‬يدخّ نون‬ ‫لم تجد مفراً لك من حفظه وامتالكه‪،‬‬
‫ويضحكون‪ .‬بسام ودروي ــش‪ ..‬وسركون‬ ‫لــمــحــمــود درويــــش أو بــســام حــجــار أو‬
‫هذا الذي اسمه وحده يستفزّني للكتابة‪..‬‬ ‫وديع سعادة‪ ،‬أو نصاً مترجماً مثل نص‬
‫اســم ســركــون وحــده يجعل القلم يترك‬ ‫«إذا انجرح القلب» للشاعر االسترالي‬
‫مكانه يجيء ويحكّ َفـ ـ ْروَه بــي‪ .‬سيلفيا‬ ‫مايكل لونغ من ترجمة المختلف شعراً‪،‬‬
‫بالث التي تتحدّث بفرح عن خالصها‪،‬‬ ‫وترجمة‪ :‬سلمان الجربوع‪ .‬أحفظ هؤالء‬
‫وغيرهم‪ ،‬أردّد نصوصهم أثناء المشي‬
‫وفرجينيا وول ــف الــتــي تبني صــروح ـاً‬
‫اليومي‪ ،‬كأنني أخاطبهم وأتحدّث إليهم‪،‬‬
‫بحجارتها وتعلّمها السباحة في البحر‪،‬‬
‫والجميل أنهم يصغون إلــيّ ويفرحون‪،‬‬
‫وســاره كين التي تحضر كل مرة بحذاء‬
‫بنصوص‬
‫ٍ‬ ‫ويردّون عليّ في أوقات أخرى‬
‫جديد بأربطة تضفرها على هيئة ربطة‬
‫ظل مِ ن نبرةَ‬
‫أكتبها أعرف أحياناً أن فيها ّ ً‬
‫عنق‪ .‬كذلك الشاعر الصيني خاي زي أول‬
‫ورو َح فالن أو فالن‪ ،‬وقد أذهب أحياناً‬
‫مَن يحضر‪ ،‬وتجده يلعب بالقطار الذي‬
‫إلى أحد المقالع وأجلب ضحكة كبيرة‬
‫أنهى حياته تحته! أما إيف بونفوا فدائماً‬
‫أس ـ ّد بها الــفــراغ بيني وبينهم‪ ،‬أو أقف‬
‫ما يتأخّ ر‪ ،‬وأعــذره؛ ألن دوف مسيطرةٌ‬ ‫عليها فقط ألصبح مرئيا‪ ،‬أنا صامتٌ ف ّذ‬
‫ال أجيد التنظير وال الحذلقة‪ ،‬وفي هذا‬
‫الصمت أستطيع أن أصغي إلــى خُ طَ ى‬
‫النص الجديد الخافتة وهو يتسلل‪ ،‬وأن‬
‫أتبين جهته وأش ـ َّم رائحة عرقه‪ .‬عيو ُن‬
‫النص تضيء حتى في الظالم أو العتمة‪،‬‬
‫لــذاك أحفر صمتي أكثر وأجعله أعمق‬
‫وأكمن له ألمسك برأسه‪.‬‬

‫ليس لي إال النص أتنزّ ه فيه‪!..‬‬


‫ ¦ف ــي ع ــزل ــة ال ـش ــاع ــر إب ــراهـ ـي ــم الـحـسـيــن‬
‫وفــي صمته‪ .‬ال بــدّ مــن اسـتــدعــاء اآلبــاء‬
‫ال ـش ـعــري ـيــن وذل ـ ــك ال ـت ـعــالــق الـ ـح ــيّ مع‬
‫المبدعين والمبدعات…؟‬

‫‪119‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫ينتبهون إلى ارتجافك‪ ،‬فيدثرونك بعباءتهم‬ ‫على قلبه ودائما ما تستبقه ليطلعها على‬
‫مربّتين عليك وال تكتب «اإلشــارات»‪ ،‬قل‬ ‫مكانها وأين كانت تتفتح في حلمه‪ ،‬وبوول‬
‫لــي كيف يلقي عليك المطر قــولــه وال‬ ‫شاوول الذي كثيراً ما أصادفه خارجاً من‬
‫تكتب توقيعاته‪ ،‬المطر متصوف أيضاً‪،‬‬ ‫كتابه «كشهر طويل من العشق»‪ .‬سعدي‬
‫إن مسّ تْكَ لغته فابحث لك عن جبل يقرأ‬ ‫يوسف انقطع فترة‪ ،‬وعندما صادف وجاء‬
‫عليك‪ ،‬إن كنت ال تعلم‪ ،‬أو كيف يفلقك‬ ‫بوردته الثلجية قلت له افتقدناك‪ ،‬فأجاب‬
‫البرق بجماله وال تصدَع‪ .‬قل لي‪ ..‬قل لي‪،‬‬ ‫كنت أتسكع في قاف القيروان‪ ،‬وأنتظر‬
‫هؤالء المتصوفة عليك أن تضع الموت‬ ‫إجابة عُقبة على سؤالي له‪« :‬عقبة أين‬
‫في حسبانك عندما تذهب إليهم تقعد‬ ‫الخيول؟ وأين نريد الوصول؟»‪ ،‬كنت في‬
‫تمس ركبهم أيها المريد‪.‬‬
‫قبالتهم رُكبك ُّ‬ ‫سبابة الفتاة الفلسطينية التي مرّة قالت‬
‫لي ونحن بين الصيادين في بيروت‪ ،‬من‬
‫الحي الذي يزورك‪!..‬‬ ‫ُّ‬ ‫كنزك‬
‫هنا تأتي طائرات العدو‪ ،‬وكانت سبابتها‬
‫تمسح الــعــالــم كــلــه‪ ،‬ســعــدي ال ــذي كــان ¦وأن ــت ابــن األح ـســاء‪ ..‬فمن الـمـعــروف أن‬
‫ال ـم ـكــان ل ــه دور ف ــي تـكــويــن ال ـشــاعــر‪ ،‬ما‬ ‫حاضراً باسمه في مجموعتي األولــى‪.‬‬
‫أث ــر األح ـســاء بطبيعتها وخصوصيتها‬ ‫وأذكر أن أول من لفتني إلى سعدي هو‬
‫التاريخية والثقافية في تكوين الشاعر‬ ‫الجميل فايز أبــا‪ ،‬الــذي قــال عني ذات‬
‫إبراهيم الحسين؟‬ ‫حديث في جريدة عكاظ «سيكون له شأن‬ ‫ٍ‬
‫إن نأى عن الضجيج اإلعالمي‪ ،‬هؤالء هم ‪ρ‬يخرج عليّ نص أحياناً أرى فيه ظالالً‬
‫حميمة‪ ،‬وأرى فيه سقوفاً واطئة‪ ،‬وجدراناً‬ ‫األحبة‪ ..‬هؤالء هم األخيار واآلباء‪ ،‬حتى‬
‫ليست غريبة علي‪ ،‬أقترب أكثر وأقف بين‬ ‫أراغ ــون كــان يحضر وليس على لسانه‬
‫جُ مَله محدقاً أزيح فاصلة أو أي عالمة‬ ‫غير «مستقبل اإلنسان الطير»‪ ،‬ومحمد‬
‫أخرى؛ ليتجلّى لي زقا ٌق بكامله بصراخ‬ ‫الثبيتي يجيء بكفيه المملوءتين برمله‬
‫نــوافــذه وزعــيــق أبــوابــه وط ــاء جــدرانــه‬ ‫المتورم «أدمتَ مِ طال الرمل حتى تورّما»‪.‬‬
‫الحائل‪ ،‬يحضر بألعابه وشجاراته فتتضح‬ ‫ولن أنسى في هذا الحشد أولئك العظام‬
‫لي منابع ذاك النص وأدرك من أين قدِ م‪،‬‬ ‫الروحانيين‪ :‬النفري والتوحيدي وابن‬
‫كما حدث في نص «فتاة دائرة التراب»‬ ‫عربي والحالج وغيرهم من المحروقين‬
‫المنشور فــي ملحق الثقافي بجريدة‬ ‫باللغة ح ّد التفحم‪ ..‬يعبرون ويومضون‬
‫عكاظ (‪ 23‬فبراير ‪2024‬م)‪ ..‬الطفولة‬ ‫متعجلين‪ ،‬فهم مشغولون بمحبتهم‪ ،‬كيف‬
‫وتفتحك األول هي ثــروتــك‪ ،‬هي كنزك‬ ‫تجاورهم وتحفظ لهم وال تتصوّف‪ .‬قل‬
‫ال ــذي لــن يستطيع أيــاً كــان أن يسرقه‬ ‫باهلل كيف تكون في حضرة هؤالء الذين‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪120‬‬
‫محور خاص‬
‫عن تجليات المكان وحــضــوره الصارخ‬ ‫منك‪ ..‬كنزك الحي الــذي يــزورك دون‬
‫فيه‪.‬‬ ‫موعد‪ ،‬ويتفقّدك‪ ،‬ويضع وردته في دمك‬
‫قبل أن يغادر‪ ،‬ليعيد إليك توازنك‪ ،‬وليقل‬
‫مدن تصافح هواءها‪!..‬‬
‫لك أنــا موجود وحــيّ ‪ ،‬فال تــدع الظنون‬
‫تتالعب بك‪ ،‬أيام تحوّلك‪ ،‬كأن هناك من ¦شاركت في أمسيات ومهرجانات شعرية‬
‫محلي ًا وعربي ًا ودولي ًا ومنها‪ ..‬في صيف‬ ‫دفعك من الخلف ليوقعك‪ ،‬فتدرك على‬
‫عام ‪2005‬م‪ ،‬كانت لك مشاركة في مهرجان‬ ‫نحو غامض أن هناك ما يحدث‪ ،‬أيام‬
‫«لوديف» وفي عام ‪2006‬م‪ ،‬شاركت في أيام‬ ‫شــرودك‪ ،‬الذي جعل منك فــرداً مختلفاً‬
‫سعودية بجمهورية مصر العربية‪ ،‬وفي‬ ‫األمــر الــذي حــدا بوالدتك أن تسميك‬
‫راب ـطــة األدبـ ــاء بــالـكــويــت فــي صـيــف عــام‬ ‫«بــو َفــكــرة»‪ ،‬األم ــر ال ــذي جعلك تخرج‬
‫‪٢٠٠٩‬م‪ ،‬وفي مهرجان المتنبي بسويسرا‬ ‫عن تحفظك وتتهور وتخط على جدار‬
‫فــي رب ـيــع ‪٢٠٠٧‬م‪ ،‬وأي ـض ـ ًا بـفــرنـســا كانت‬ ‫بيتكم في الحارة شيئاً من شغفك النيء‪،‬‬
‫لك مشاركتان في عامي ‪2011‬م‪2015-‬م‪،‬‬ ‫شيئاً من جنونك األول‪ ،‬شيئاً جعل إمام‬
‫في المهرجان السنوي الشعري «أصوات‬ ‫المسجد يقف ويتأمل ويقرأ ما ارتكبته‬
‫ح ـي ــة‪ :‬م ــن ال ـم ـتــوســط إلـ ــى ال ـم ـتــوســط»‬ ‫بصوت ما أزال أسم ُع ُه وأميّز نبرته‪..‬‬ ‫ٍ‬
‫ب ـمــدي ـنــة س ـي ــت ال ـف ــرن ـس ـي ــة‪ ،‬ف ـض ــا عــن‬ ‫المكان سلطة تبسط نفسها عليك وعلى‬
‫مشاركاتك الشعرية المحلية في األندية‬ ‫أحالمك‪ ،‬فتجد نفسك تتدفّق وتجري‬
‫به‪ ،‬حتى وإن حدث وأزيل‪ ،‬فإن حجارته‬
‫تبقى فيك‪ ،‬كما حدث لسوق القيصرية‬
‫ذي العبق التاريخي‪ ،‬والذي احترق ورأيت‬
‫الدخان يتصاعد منه‪ .‬ومن ذكرياتك به‬
‫مع إخوتك ووالــدك‪ ،‬هكذا بهذا السواد‬
‫الموجع اقترفت نص «القيصرية» الوارد‬
‫فــي كــتــابــي الــثــالــث «انــــزالق كعوبهم»‪،‬‬
‫ال ليصل إلى نصك‪،‬‬ ‫فالمكان ال يسأل دلي ً‬
‫واألدهى أن نخالته ال تمد جذورها في‬
‫األرض وحــســب‪ ،‬بــل فيك‪ ،‬وأنــك تنظر‬
‫أحياناً في المرآة‪ ..‬فيختلط عليك األمر‪،‬‬
‫كأنك رأيت جذعاً وسعفات‪ ،‬كأنك سمعت‬
‫اندفاع ماء‪ ،‬كذلك نصك‪ ..‬فهو غير بعيد‬

‫‪121‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫هناك‪ ..‬أو ماذا تقول عن سركون بولص‬
‫الــذي التقيته بـــ «لــوديــف» وكنا نسكن‬
‫فندقاً واحــدا‪ ،‬سركون الذي مجرد ذكر‬
‫اسمه لي يحرّضني على الكتابة‪ ،‬وكيف‬
‫انعقدت بيني وبينه آصــرة الشعر‪ ،‬منذ‬
‫خرجنا تلك الليلة من الفندق متوجهين‬
‫إلى إحــدى الــقــراءات‪ ،‬وكــان و ْقـ ُع خطانا‬
‫يهزج لنا ويشعرنا أن حدثاً غير عادي‬
‫باالنتظار منذ تلك اللحظة التي قرأت‬
‫نصه «أيّها الجالد‪ /‬عُد إلى قريتِكَ‬ ‫له ّ‬
‫الصغيرة‪ /‬لقد طردناكَ اليوم‪ ،‬وألغينا‬
‫هذه الوظيفة»‪ .‬ليتك سمعت ضحكته أو‬
‫رأيته كيف يصرخ‪« :‬لقد ع ــااااد»! وإني‬
‫ألتساءل حتى اللحظة‪ :‬كيف استطاعت‬ ‫األدبـ ـي ــة وج ـم ـع ـيــات ال ـث ـقــافــة وال ـف ـن ــون‪،‬‬
‫خيمة الــطــوارق بــلــوديــف أن تثبت في‬ ‫ه ــذا يــدفـعـنــي ألســألــك عــن أهـمـيــة هــذه‬
‫مكانها‪ ،‬كيف لم تطر في السماء‪ ،‬عندما‬ ‫المشاركات للشعر والشاعر؟‬
‫قــرأ ســركــون قصائده بــهــا‪ ،‬ال أظــن أن‬ ‫ ‪ρ‬المهرجانات تعني المدن؛ مدن تصافح‬
‫األوتــاد هي السبب‪ ،‬وال تحديق سركون‬ ‫هواءها أوّل مرة أو تعيد عبّ الهواء أكثر‬
‫في البعيد موارباً عينيه كما لو أنه شُ بِّه‬ ‫وأكــثــر‪ ..‬تعني إغــنــاء العين والــذاكــرة‪..‬‬
‫له قــدو ُم أحـ ٍـد كــان يتحينه‪ ،‬أنــا رجّ حتُ‬ ‫ـصــك فــي وســيـ ٍـط مختلف‬ ‫تعني حــيــاة نـ ّ‬
‫فيما بعد غير متأكد أن السبب هو بياض‬ ‫ومــع شــعــراء مــن كــل الــلــغــات‪ ..‬ثــم هذه‬
‫أسنان ابتسامة الطوارقية؛ المنفرجة‬ ‫المهرجانات تعني اللقاء بشعراء تحبّهم‬
‫ترحيباً بنا أنا وسركون وميسون صقر‪،‬‬ ‫ويعنيك أن تلتقي بــهــم‪ ..‬وليس تباهياً‬
‫تلك االبتسامة الساحرة هي من ربط‬ ‫أن أقــول أني التقيت بخزعل الماجدي‬
‫على قلب الخيمة‪ ..‬ثم ال أظنك تبقى‬ ‫صاحب «خزائيل» بسويسرا بمهرجان‬
‫كما أنــت عندما تجاور عباس بيضون‪،‬‬ ‫المتنبي الشعري العالمي‪ ،‬خزعل الذي‬
‫وعبده وازن‪ ،‬أو نوري الجراح‪ ،‬عدة أيام‬ ‫أهديته نصاً في «حضرة خزعل» والذي‬
‫في مدينة «سيت» وتقرأ معهم على طاولة‬ ‫نشرتُه في مجلة «كلمات» البحرينية دون‬
‫واحـــدة‪ ..‬أو تغنيان معا أنــت والشاعر‬ ‫أن تكون لي به أي صلة غير جَ مال الشعر‪،‬‬
‫اإليراني گرّوص عبدالملكيان‪ ،‬صاحب‬ ‫وليتك تتصور فرحته بي عندما التقاني‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪122‬‬
‫محور خاص‬
‫مطلق‪ ،‬تجلياتها بشكل يومي صقلتني‪،‬‬ ‫«الــســطــور تغيّر أماكنها فــي الــظــام»‪،‬‬
‫ال عــن طالقة ألــوانــهــا وشساعتها‬‫فض ً‬ ‫فتتطاير مــن فميكما نــجــوم‪ ،‬أو تذهب‬
‫التي تستطيع أن تركض فيها ما شئت‬ ‫بعيداً في شوط الشاعر المغربي عزيز‬
‫حتى تستهلك لهاثك‪ ،‬حتى تشعر بالخفة‪،‬‬ ‫أزغ ــاي‪ ،‬صاحب «رصــاص الموناليزا»‪،‬‬
‫حتى تكتشف أن لك ريشاً ينسيك أنك‬ ‫إلى أن يعلِّيك عالياً جداً حديثُ الشعر‪.‬‬
‫معلّم ووكيل مدرسة فتختبئ منزوياً في‬ ‫هكذا تفعل المهرجانات‪ ،‬وهكذا تجعلك‬
‫أحــد أركانها‪ ،‬بعيداً عن الطالب وعن‬ ‫صالحاً غير عارف أنها تبذر فيك دون‬
‫المعلمين‪ ،‬تقرأ وتكتب لــلــوردة‪ .‬الــوردة‬ ‫أن تدري طيلة وقتها‪ ،‬لتعود وتكتشف أن‬
‫منحتني سماوات عديدة‪ ،‬لم تضجر ولم‬ ‫هناك حصاداً وفيراً وعليك أن تعتني‬
‫تسأم‪ .‬ال يستطيع أن يدرك جمال الوردة‬ ‫ب ــه‪ ،‬مثلما ح ــدث فــي صــيــف ‪٢٠٢٢‬م‪،‬‬
‫من لم يكتوِ بنارها‪ .‬ال يستطيع أن يتعرف‬ ‫بعد العودة من مهرجان الشعر العالمي‬
‫على روح الــوردة إال من كسرَت الــوردةُ‬ ‫بمدينة سيدي بوسعيد بتونس‪ ،‬فقد كتبت‬
‫عزلته‪ ،‬رافقته والزمته حين عرفت أنه‬ ‫نصوص «مشقة اإلياب»‪ ،‬والتي نُشر جزء‬
‫أحد الذين أصابهم الشعر وصنعهم على‬ ‫منها فــي مجلة «الفيصل»‪ ،‬ثــم نُشرت‬
‫عينه‪ ،‬فأنا اآلن وأمامك أنحني للوردة‬ ‫كامل ًة في موقع «الكتابة» اإللكتروني‪ ،‬أنا‬
‫التي جعلتني في مقام الجَ ذْبة أدور في‬ ‫لم أكن مصدقاً أن لدي هذه القدرة على‬
‫حياضها وأرق ــص على إيقاعها‪ ،‬أَدُو ُر‬ ‫الكتابة بهذه الغزارة؛ لم أكن مصدقا أنّ‬
‫وأدور وتتّس ُع روحي في اسمها‪ ،‬وتصير‬ ‫فيّ هذا الوترَ‪ ،‬والذي كان بحاجة فقط‬
‫عيني بأبيضها وأسودها كلّها وردة‪.‬‬ ‫إلى أصاب َع المهرجان‪ ،‬وإلى وجوهه وإلى‬
‫هوائه وبحره وأغانيه؛ ليرنَّ !‬
‫كتبتها ألني كنت غارق ًا في لوعتي‪!..‬‬
‫ ¦أنت من أوائــل الذين كتبوا الشذرات في‬ ‫دَ وّ ار الوردة‪!..‬‬
‫الساحة المحلية بـ «اإلشارات» التي ن ُِشر‬ ‫ـصـتــك م ــع ال ـ ــورد الـ ــذي كـتـبــت عنه‬
‫ ¦م ــا قـ ّ‬
‫قـســم مـنـهــا ف ــي مـجـلــة «ك ـل ـمــات» (ال ـعــدد‬ ‫ديوان ًا كام ًال ( َدوّار الوردة)‪ ،‬وما تزال تكتب‬
‫‪١٩٨٩ /١١/١٠‬م) ث ــم ُن ـش ــرت كــام ـلــة في‬ ‫وتكتب‪..‬؟‬
‫مجلة «مواقف» (العدد المزدوج ‪.)٦٢/٦١‬‬ ‫ ‪ρ‬أود أن أعــتــذر لــلــوردة عــن هذياني بها‬
‫حدّ ثنا عن هذه التجربة؟‬ ‫على مدى كتاب كامل « َدوّار الوردة»‪ ،‬فقد‬
‫وضحتَ ‪ ،‬بـ‬ ‫كانت متنفساً لما يعتمل فــيَّ ويشتعل‪ρ ،‬كتبت الشذرات ابتداءً‪ ،‬كما ّ‬
‫«اإلشارات»‪ ،‬ثم «ساللم كثيرة‪ ،‬وهذا الوله‬ ‫استطاعت الوردة أن تصبر وتصطبر عليّ‬
‫عال وأزرق» ثم توقيعات للمطر ‪-‬نُشرت‬ ‫ٍ‬ ‫بكل جمالها‪ ،‬فالوردة رحبة وواسعة بشكل‬

‫‪123‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫وأزرق» كنت ‪-‬حقيقة ولــيــس مــجــازا‪-‬‬ ‫في الملحق الثقافي لجريدة «االتحاد»‬
‫تائهاً وهائماً على وجهي‪ ،‬كنت متوحّ دا‬ ‫اإلمــاراتــيــة فــي نهاية التسعينيات‪ -‬ثم‬
‫بها‪ ،‬فالشذرات تُخرِ ج األكث َر نقا ًء فيك‬ ‫تــوقــيــعــات لــلــبــرق‪ ،‬وآخــرهــا مــا سم ّيتُه‬
‫وتــط ـ ّهــرك‪ ،‬وعــنــدمــا تــبــدأ فــي كتابتها‪،‬‬ ‫«نصوص المرآة»‪ .‬كتبتُ الشذرة ليس عن‬
‫فليس أنت من يختار شكلها أو هيئتها‪،‬‬ ‫وعي بأني أكتبها‪ ،‬كتبتها ألني كنت غارقاً‬
‫هي تفرض نفسها عليك وتختار شكلها‪.‬‬ ‫في لوعتي‪ ،‬كتبتها كما لو كنت أكتشف‬
‫الشذرات عنيفة وقاسية وقاتلة‪ ،‬وأظن‬ ‫اللغة‪ ،‬كما لو كنت أهــذي‪ ،‬كما لو كانت‬
‫أني لذلك أتحاشاها وأتجنّبها‪.‬‬ ‫حُ مّى الشعر قد أحالتني جمراً‪ .‬الشذرات‬
‫ه ــي الــلــغــة ف ــي أقــصــى حــاالتــهــا‪ .‬هي‬
‫األهم هو شرارة الكتابة‪!..‬‬
‫عاصفة اللغة وزوابعها‪ .‬هي اللغة عندما‬
‫تُجنّ وتقتلعك وتبدّد عظامك وتجعلك ¦ك ـيــف ت ـك ـتــب ق ـص ـيــدتــك‪ ،‬بـمـعـنــى هـنــاك‬
‫شعراء ومبدعون يلتزمون بطقس معين‬ ‫شذرات‪ .‬ال تتصور كم كانت مشقّة كتابة‬
‫أث ـنــاء الـكـتــابــة‪ ،‬إبــراه ـيــم الـحـسـيــن كيف‬ ‫«اإلش ــارات» كم هي منهكة‪ ،‬أنــت تصب‬
‫يكتب قصيدته؟‬ ‫جام خبرتك باللغة‪ ،‬تشعر أن في داخلك‬
‫جمراً عليك التخلص منه‪ ،‬لكنه يتوالد ‪ρ‬أنا ليس لي طقس ال أكتبُ ّإل فيه‪ ،‬أنا‬
‫أكتب في أي وقت وفي أي مكان بعزلة‬ ‫فيك ويَـ ـ ـ ُؤجّ‪ .‬ال أظنها صــدفــة اجتماع‬
‫وب ــدون عزلة وإ ْن كــان أغلب نصوصي‬ ‫مــواقــف ومخاطبات النفري وإش ــارات‬
‫أكتبها في البيت‪ ،‬أنــا أكتب ســواء كنت‬ ‫أبي حيان‪ ،‬وجواهر ابن عربي‪ ،‬وطواسين‬
‫وحــدي أو في جمْع‪ ،‬فاألهم هو شــرارة‬ ‫الحالج وسيرته؛ إنها تغسلك أثناء كتابتك‬
‫الكتابة متى طفرت‪ ،‬فهي التي تأخذك‬ ‫ثم تصهرك لتحرّرك من جميع الزوائد‪.‬‬
‫أخذاً وتخطفك بلمعتها‪ ،‬هي التي تعزلك‬ ‫ليست مصادفة أن تصل بك الشذرات‬
‫وتبني حولك سياجاً أو مشيمة وتوقد‬ ‫إلى جوهرك‪ ،‬وتجعلك تلمس أحجارك‬
‫عليك‪ ،‬فقد تكون الــشــرارة مقطعاً من‬ ‫الكريمة التي تضيء حتى في العتمة‪.‬‬
‫روايــة أو مقطعاً من أغنية‪ ،‬أو محض‬ ‫أذكر اآلن رواية «الخلعاء» لـ خليل النعمي‬
‫موسيقى‪ ،‬أو مشهداً مــن فيلم أو في‬ ‫والمرصعة في جزءٍ منها بأقوال‬‫ّ‬ ‫المطرّزة‬
‫شارع‪ ،‬أو خَ بَرا أو لوحة‪ ،‬فهي قادرة أن‬ ‫وتوقيعات وشذرات مألى بنبر ِة الخروج‬
‫تفعل ما تشاء بك‪ ،‬وتجعلك تفور‪ ،‬وربما‬ ‫والتمرّد‪ ،‬أذكرها اآلن؛ ألنها كانت أيضاً‬
‫كانت الــشــرارة فــي وجــوم محاسب في‬ ‫مع من ذكرتُ على الطاولة‪ ..‬ال تتصور‪،‬‬
‫مجمّع تجاري‪ ،‬أو في لغة عربية مكسّ رة‬ ‫وه ــذه ليست مبالغة‪ ،‬أنــي أثــنــاء كتابة‬
‫اعترضت طريقك ووقفت‬ ‫َ‬ ‫ّاك آسيوي‬ ‫لسب ٍ‬ ‫عال‬
‫شذرات «ساللم كثيرة‪ ،‬وهذا الوله ٍ‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪124‬‬
‫محور خاص‬
‫التواصل االجتماعي‪ .‬ما عالقتك بهذا‬ ‫أمامك بكامل حبرها‪ ،‬وربما كانت نادالً‬
‫الفضاء ومدى حضورك فيه؟‬ ‫فــي مقهى‪ ..‬أذكــر أنــي كنت آخــذ كتبي‬
‫وأوراقــي إلى المقهى أقــرأ وأكتب‪ ،‬كان‬
‫ ‪ρ‬ك ــن ــتُ ش ــدي ــد ال ــح ــرص عــلــى مــتــابــعــة‬
‫أمراً ملفتاً ومستغرباً‪ ،‬منظرك وأنت تم ّر‬
‫الفيسبوك‪ ،‬والكتابة هناك في صفحتي‪..‬‬
‫بين مقاعد وط ــاوالت المقهى بكتبك‪،‬‬
‫وأظنّ أن األمر ليس أمر «اليكات» أو ما‬
‫ولقد تناولت ذلــك في أحــد النصوص‪،‬‬
‫شابه‪ .‬الموضوع أنك تتواصل مع أناس‬
‫فقد كنت «كمن يجرجر خرافا معاندة»‬
‫تحبّهم مثل صــاح فائق الــذي التقيت‬
‫تخيّل ذلك‪ ،‬المهم أن تكون أنت ‪-‬عندما‬
‫به في مهرجان الشعر بفرنسا‪ ،‬كذلك‬
‫تأتي الشرارة تفتنك وتجذبك‪ -‬خصباً‬
‫تواصلت من خالل الفيسبوك مع عيسى‬
‫لحظتها ومحروثاً جيدا؛ لتندل َع بك تلك‬
‫مخلوف‪ ،‬ومحمد عمر بشارة ‪-‬هذا الفنان‬
‫الشجرة‪ ..‬لتهبَّ فيك تلك الغابة‪.‬‬
‫التشكيلي الجميل‪ -‬ولؤي حمزة عباس‪،‬‬
‫وطــالــب عــبــدالــعــزيــز‪ ،‬ومــبــارك وســاط‪،‬‬ ‫دعني في جنّ ِة الشعر ال أريد أن أخرج منها‪!..‬‬
‫هذا المجنون الذي ال تعرف كيف ترجم‬ ‫ـوجــه الكثير مــن الشعراء‬ ‫ ¦مــن الــواضــح تـ ُّ‬
‫فينوس خوري غاتا‪ ،‬تلك الترجمة الرائعة‪،‬‬ ‫لـكـتــابــة ال ــرواي ــة وال ـك ـتــابــة ال ـســرديــة في‬
‫وأجــبــرك على حفظها لكي تشعر أنك‬ ‫الـسـنــوات األخ ـيــرة‪ ،‬هــل فــكّ ــرت فــي كتابة‬
‫امتلكت تلك النصوص وأنها ألقت عليك‬ ‫رواية؟‬
‫محبتها‪ ..‬هؤالء وآخرون‪ ،‬يعني التواصل‬
‫ ‪ρ‬ال أفكر أبدا في كتابة الرواية‪ ،‬ألني ال أجد‬
‫معهم وقراءتهم ومطالعة أعمالهم؛ الثراء‬
‫في نفسي القدرة على كتابتها‪ .‬دعني في‬
‫نصك‪ ..‬كذلك ما تصادفه هناك‬
‫وإشعال ّ‬
‫جنّةِ الشعر ال أريد أن أخرج منها‪ .‬أنت‬
‫في هذا الفضاء الذي اخترتُ منه نافذة‬
‫ال تتخيل فرحتي عندما أكتب نصاً ويكون‬
‫اإلب ــداع بألوانه العديدة؛ من موسيقى‬
‫جميال‪ ،‬أخرج إلى الشارع أسلِّم حتى على‬
‫لـ «ياني» الــذي أهديته نصاً‪ ،‬والثالثي‬
‫الحجر وأضحك له‪ ..‬تريد أن تقول حتى‬
‫جبران الذين فُتنت بمعزوفاتهم‪ ..‬كنت‬
‫للرصيف وتبشّ ره‪ ،‬لقد كتبتُ نصاً‪ ،‬تريد‬
‫أســتــمــع إلــيــهــم فــيــهـ ّيــجــون الــلــغــة ل ــديّ ‪،‬‬
‫وجيبَ النص‬‫أن تصرخ وتشقّ ثوبك ألن ِ‬
‫نصاً كضرب‬
‫وأعزف معهم بها وأهديهم ّ‬
‫ما زال عالياً فيك‪.‬‬
‫من االمتنان لهم والتحية تلوّح بها لهم‪.‬‬
‫والفن التشكيلي له نصيب من هذا األفق‬ ‫تتواصل مع أناس تحبهم‪!..‬‬
‫الرائع؛ كيف تتخلّص من انفعالك بلوحات‬ ‫ ¦التعامل مــع الشبكة العنكبوتية أصبح‬
‫فريدا كالو إلى ح ّد البكاء إال بالكتابة‪.‬‬ ‫ش ــرط ـ ًا أس ــاسـ ـ ًا ل ـل ـم ـبــدع‪ ،‬وم ـن ـهــا وســائــل‬

‫‪125‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫أوال؛ ألن هناك مَن التفتَ إلى وجودك‪،‬‬ ‫إن نــظــرةً‪ ،‬مــث ـاً‪ ،‬على مجموعة «على‬
‫وأش ــار إلــيــك ووضــعــك فــي دائ ــرة ضوء‬ ‫حافة لوحة في المنعطف الموسيقي»‪،‬‬
‫كشّ افه‪ ،‬فكيف إذا كنت تخطو خطواتك‬ ‫أو «المصابة بالناي المارة بين أخشابه»‬
‫األولــى؟ كيف أذا كنت للتو بــدأت تلثغ‪،‬‬ ‫تبيّن كيف أني كنت غنيا بهذه الحدائق‪،‬‬
‫وتأتي قامة شاهقة مثل األستاذ محمد‬ ‫وسيتضح معنى كثرة اإلهداءات‪ ،‬كل ذلك‬
‫العلي ويكتب عن نص «القهوة البتول»‬ ‫مــن أجــل أن تصرخ على الــمــأ‪ ،‬هــؤالء‬
‫ال ــذي نشر بمجلة الــيــمــامــة‪ ،‬أو يكتب‬ ‫مرّوا فيّ ‪ ،‬وأقاموا‪ ،‬وبنوا صروحا‪ ..‬فترة‬
‫نص‬
‫عنك عدة مرات بجريدة اليوم منذ ّ‬ ‫االنهماك الفيسبوكي كانت أشبه بالجنون‬
‫الـ «دندنة»‪ ،‬فأي قواعد سيرفعها لك؟!‬ ‫إن لم تكنه‪ ،‬لكنّ تهكير الصفحة ‪-‬لم أس َع‬
‫ـف برنينها فيك‪.‬‬
‫ومــاذا ستفعل تلك األكـ ّ‬ ‫الستعادتها‪ -‬قط َع عليّ وأخرجني من‬
‫بماذا سيجهّزك فايز أبا وكيف سيشد‬ ‫ذاك النعيم‪ ،‬وربما ذلك الخروج كان في‬
‫ساعدك محمد الحرز أو نشمي مهنا‪..‬‬ ‫وجه من وجوهه رأف ًة بي؛ ألن اللغة أحيانا‬
‫ٍ‬
‫عيد ستحدثه في ضلوعك ودمك‬
‫ٍ‬ ‫وأيّ‬ ‫تستيقظ فيها غريزةُ الضواري وتفترس‪.‬‬
‫حروف هناء حجازي عندما كتبت‬
‫ُ‬ ‫وجلدك‬
‫باهتمام وفرح بالغين‪!..‬‬
‫عن مجموعتك «يخطئ الموتى» بجريدة‬
‫الرياض‪ ،‬أو تأتي ليلى األحيدب وتضع‬ ‫ ¦كيف تقيّم ق ــراءة الـنــقّ ــاد‪ ،‬أو المبدعين‬

‫مقاطع من « َدوّار الوردة» أو من مجموعة»‬ ‫والمبدعات شركاء الحرف‪ ،‬لتجربتك؟‬

‫المصابة بالناي الــمــارة بين أخشابه»‬ ‫ ‪ρ‬قراءة أعمالي الشعرية ونصوصي المفردة‬
‫على صفحتها بتويتر؛ أال يفرحك ذلك‬ ‫من قبل النقاد أو من قبل المبدعين أراها‬
‫ويجعلك تتحسّ س عضدك‪ ،‬أال يقول لك‬ ‫وفرح بالغين‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫مهمة لي‪ ،‬وأقرأها باهتمام‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪126‬‬
‫محور خاص‬
‫وتسرّح ألوانها فيّ كتاب‪ ،‬كل أغنية تولع‬ ‫ذلك صراحة‪ ،‬إن جنونك لم يذهب عبثا؟!‬
‫فيّ وكل وجه يشعل مالمحه لي ويقذفني‬ ‫ثم لماذا نذهب بعيدا‪ ،‬قل لي أيّ صخر‬
‫في أتــون اللغة كتاب‪ ،‬كل حكاية تضيء‬ ‫يجعلك عبداهلل السفر تقف عليه عندما‬
‫أصابعي وتصيّر بياض عظامي مرئياً‬ ‫يتحدّث عنك في برنامج إذاعي أو يكتب‬
‫كتاب‪ ،‬وأنا مكتبتي التي تربيني وأربيها‪،‬‬ ‫بزمن بعيد ينشر لك‬
‫ٍ‬ ‫عنك‪ ،‬أو قبل ذلك‬
‫تلبسني ثياباً جديدة وتمشط شعري كي‬ ‫عبدالقادر الجنابي في مجلة «فراديس»‬
‫أشرق‪ ،‬فما تقوله الصفحات التي آوتني‬ ‫أو أدونيس في مجلة «مواقف» وغيرهما‪..‬‬
‫ال أنكره؛ فلي ساعة أخترع فيها مياهي‬ ‫أال يجعلونك جميعاً تــرى أن لك سقفاً‬
‫وأقــول إنــي قــرأت واغتسلت‪ ،‬ما تقوله‬ ‫عاليا‪ ،‬أليس هذا مديحا؟ والحديث يطول‬
‫عني الكلمات التي جرّحت جلدي أدغالها‬ ‫عن المديح الذي أنت بحاجة إليه أحياناً‬
‫ال أفنّده‪ ،‬ما تشيعه الحروف التي سوت‬ ‫لتغسل وجــهــك وروح ــك مــن اإلحــســاس‬
‫لي األرض‪ ،‬وقالت‪ :‬امش أيها النائح من‬ ‫بالالجدوى الذي ينتهكك أحيانا‪ ،‬لتعيد‬
‫رأسك حتى أخمص قدميك‪ ،‬ال أمحوه‪ ،‬ال‬ ‫تنظيم صفوفك تُغِ ير وتغزو‪ ..‬تعيد بناء‬
‫أعالجه‪ ،‬بموارة أو إشاحة‪ ،‬وال أموهه‪ ،‬بل‬ ‫جرأتك وتحاول مجددا‪ ..‬تجترح وتقترف‬
‫أخطه على الجدران واألبــواب‪ ،‬ال ِألقول‬ ‫الكتابة‪ .‬كل ذلك كان أوالً‪ ،‬وثانيا وهذا‬
‫إني مررت‪ ،‬وال ألقول إني كتبت‪ ،‬بل أللهج‬ ‫مهم أعني النافذة المتوارية في كتابتي‬
‫مــع الــهــواء الــذي ألــوذ بــه‪ ،‬كلما وجــدت‬ ‫وفــي نصوصي‪ ..‬هناك َمــن يكشف لك‬
‫نفسي في اللغة تعينني وتقلني إلى الجهة‬ ‫أشياء في نصك كانت غائبة عنك!‬
‫التي أريد‪ ،‬وترفعني في أغنية أو نشيد!‬
‫لي ساعة أخترع فيها مياهي‪!..‬‬
‫أنا مكتبتي ذات النار أدخلها كلما أردت‬
‫التخلص مما ليس مني‪ ،‬وكلما أردت أن‬ ‫ ¦فـ ـ ــي نـ ـ ـظ ـ ــري مـ ـ ــن ال ـ ـم ـ ـهـ ــم أن ي ـت ـع ــرف‬

‫أنصهر وأستعيد وجهي! يحط الكتاب بين‬ ‫ال ـقــارئ بمحتوى مكتبتك‪ ،‬لـيـضــيء له‬

‫كفّيّ وعلى كتفي‪ ،‬يطير في روحي فيهدل‬ ‫ال ـخ ـصــوص ـيــة ال ـث ـقــاف ـيــة لـ ــدى ال ـشــاعــر‬

‫وأه ــدل مــعــه‪ ،‬ينحت ســاعــدي جناحان‬ ‫إبراهيم الحسين‪..‬؟‬

‫يعلماني الطيران مذ تكاثرت فيَّ الكتب‬ ‫ ‪ρ‬أنــا مكتبتي‪ ،‬كل شــارع يُهديني إسفلته‬
‫وصار لها بي مدن وأز ّقــة‪ ،‬رفوف وضوء‬ ‫كتاب‪ ،‬كل شجرة تفتح لي جذعها وتسميني‬
‫رائحة ولــوعــة‪ ،‬مذ صــار صوتي حفيف‬ ‫غصناً بها كتاب‪ ،‬وكل ظل يرتجف بأوراقه‬
‫صفحات‪ ،‬مذ صار اسمها اسمي‪!..‬‬ ‫ونسائمه ويرجّ فني كتاب‪ ،‬كل لوحة تعبرني‬

‫‪127‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫االنفعال الشعري مع الوجود وإدراكات الوعي‬
‫في نصوص إبراهيم الحسين‬

‫■ كاظم اخلليفة*‬

‫في لحظة تجلي وانبهار‪ ،‬عبّر الشاعر األمريكي مارك ستراند عن طقوس تلقّ يه‬
‫لبعض قصائد الشعراء على أنها «أكلٌ للشعر» والتهامه؛ فهكذا ستكون مع إبراهيم‬
‫الحسين أثـنــاء قــراءتــك لنصوصه وتلقيها‪ .‬فقصائده تستدعي جميع حواسك‬
‫وتحشدها جميعها؛ ألن حاسة واحدة ال تقوى على التعاطي معها‪ ،‬وألنك تستهلك‬
‫تلق جمالي يالمس مشاعرك للحظة ثم يغادرها‪.‬‬ ‫شعره‪ ،‬وال تشعر أنه مجرد ٍ‬

‫عندما تنفعل مشاعرك مع حزنه‪،‬‬ ‫يرسم المعنى‪!..‬‬


‫نصوصه تتجسد في معان قريبة فهو يعفيك من البكاء معه أو التعاطف‬
‫محسوسة؛ حتى كأنها يمكن الربت مع لحظته تلك؛ وكأنه يرسم المعنى‬
‫عليها‪ ،‬وحتى مداعبتها أحياناً‪ ،‬لكنك في دوائــر ال تتقاطع؛ ذلك بتجريده‬
‫ال تعتب عليها أو تجادلها‪ .‬يُدخلك مشاعر الفقد واإلخــفــاق والخيبة؛‬
‫فــي مواضيعه عــن اليومي المعاش حتى تــرى الــســامــي والمثالي فيها‬
‫ويستدرجك ليصعد بك إلى مستويات وليس الشخصي‪ .‬ينوع على فكرة‬
‫عالية مــن الــتــأزم؛ كأشبه مــا يكون الموضوع الشعري وينهكه على شكل‬
‫«بمرجيحة» تنخفض عــن مستوى نــصــوص مــتــعــاقــبــة؛ كــشــال تتالى‬
‫تناولك‪ ،‬ثم تأخذك إلى ذروة العلو من قطراته مــن شــدة إصـــراره على أن‬
‫نطاق دورتها‪ ،‬وسرعان ما تحط بك هناك أوجهًا عديدة للمعنى البد من‬
‫إظهارها‪.‬‬ ‫في أمان ثانية‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪128‬‬
‫محور خاص‬

‫إبراهيم الحسين و كاظم الخليفة‬

‫سحاب َة نهارِ ك‪.»..‬‬ ‫ضربات فرشاة رسام حاذق‪!..‬‬

‫هذه هي الخطوة األولــى في معالجته‬ ‫تحبه من خالل نصوصه‪ ،‬وتعجب من‬


‫عالقته الحميمة مع اللغة‪ ،‬وكأنها جزءٌ أللــفــاظ وكلمات خــرقــت األذن بجلجلة‬
‫من تكوينه؛ لتماهيه مع المفردات التي وأجــراس‪ ،‬أفزعت الــروح‪ ،‬وكأنها قبضة‬
‫تحسبها وكأنها خل ٌق متفر ٌد من صنيعه‪ ،‬أو مارد يعتصر الفؤاد‪:‬‬
‫أن اللغة خصته به لوحده‪.‬‬
‫تتشقق؛‬
‫ُ‬ ‫جعلتك‬
‫َ‬ ‫«الكلمات التي‬
‫يكشف طريقته في تعامله مع شقاء‬
‫ك صافي ًا ونقياً»‪.‬‬
‫فيخرجُ أنينُ َ‬
‫الحياة وأزماتها‪ ،‬كما في نصه «مصفاة»؛‬
‫هي طريقة مقترحة لهدهدة الحاسة‬ ‫فعليك لحظتها أن تمرر عينيك مسرعاً‬
‫فــي جنبات الــنــص؛ ألن المعنى يتشكل السمعية وتخديرها‪ .‬بعدها تتم معالجة‬
‫على شكل ضربات فرشاة رسام حاذق‪ ،‬أو قلق العين من مناظر أشقتها في اليوم‬
‫كقطعة رخــام بين يدي «نحات» يحجبها الطويل‪:‬‬

‫«لكي تغفوَ‪ ،‬تلزمك مصفاةٌ لدمك‬ ‫غبار طرقه على إزميله‪:‬‬


‫لتلقي بكسرات وجوهٍ‬ ‫ين‬
‫ك سكّ ٌ‬‫«لكي تنامَ‪ ،‬تلزمُ َ‬
‫انطحنت تحت رحى قلقك»‪.‬‬ ‫أفزعتك‬
‫َ‬ ‫الكلمات التي‬
‫ِ‬ ‫لكشط‬
‫ِ‬

‫‪129‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫عليك اإلســراع أكثر هنا عند قراءتك المحرقة‪ ،‬وأن دافعيته ذاتية محضة وقد‬
‫لــنــصــه‪ ،‬فــجــمــيــع م ــا ســبــق م ــا ه ــي إال انبثقت من وعي الذات بوجودها‪:‬‬
‫«لم أكن هارباً‪،‬‬ ‫اف ــت ــراض ــات ومــقــدمــات إلـــى م ــا يمهد‬
‫ولم يكن هناك‬ ‫للوصول إليه‪ .‬فبعدها‪ ،‬يدخلك الشاعر‬
‫مَ ن يالحقني‪،‬‬ ‫إلى اللحظة الحرجة من الوجود‪ ،‬ومنتهى‬
‫عندما ركضت‬ ‫شقاء الكينونة بتعاملها بكل جدية مع‬
‫في الممر المتوهج‪.»..‬‬ ‫مشاكل الحياة لمواجهتها‪ .‬هــي ليست‬
‫مجرد مصالحة مع الوجود؛ بل من خالل‬
‫فما يمكن أن يظفر به اإلنسان سيكون‬
‫تفهمه لطبيعته التي تفرض على الوعي‬
‫أكبر من مشقته في مسعاه نحو النور‪،‬‬
‫أن يبقى فــي منسوب ح ــرارة عالية من‬
‫وهو المعنى الذي يمكن أن يحققه ويبينه‬
‫االحتراق حتى يرى الواقع على طبيعته‬
‫الشعر؛ باعتبار أن الحقيقة الشعرية‬
‫ولــيــس بــحــســب مــشــتــهــاه أو رغــبــة منه‬
‫تتوازى مع مفهوم االشتغال الفلسفي في‬
‫لالستكانة‪.‬‬
‫الكشف عن حقيقة الوجود كما يرى هذا‬
‫إبراهيم يرى ذلك‪ ،‬ويعد الشقاء ضريبة المعنى والتر ستيس‪ .‬الشاعر هنا يقرر‬
‫لعدم تغييب الوعي‪ ،‬فاإلحساس بالوجود ذلك‪:‬‬
‫هو الحضور الكامل في هذا العالم من‬
‫«ثمة نبعٌ‬
‫دون أي غفلة‪:‬‬
‫في اليد‬
‫يمكن‬
‫ُ‬ ‫ال‬ ‫النعاس‬
‫ُ‬ ‫«لكي يأخذك‬
‫إنكاره‪.»..‬‬ ‫ينبغي أن تكون بال وردٍ‬
‫وال حدائق‪!»..‬‬
‫أخيراً‪ ،‬لنا القول إن نصوص إبراهيم‬
‫الحسين الشعرية تتعالق مع الحياة بوعي‪،‬‬
‫في نص ممر‪!..‬‬
‫الشاعر يُكمل المعنى في نصه التالي وإنــنــا ال نتطرف بــالــرأي عندما نقول‪:‬‬
‫«ممر»‪ ،‬ويدلل على أن اختياره الصعب إن الشاعر إبراهيم قد أرضــى جمهور‬
‫للعيش بكامل وعيه هــو الصحيح رغم القصيدة النثرية‪ ،‬وأيضاً صالحها مع غير‬
‫مــا يمكن أن يواجهه مــن عقبات‪ .‬ذلك مريديها‪ ،‬واستدرجهم إلى قــراءة شكلها‬
‫هــو ق ــراره بارتحاله تجاه نــور الحقيقة الشعري!‬
‫ * ناقد وكاتب سعودي‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪130‬‬
‫محور خاص‬

‫م َو ِّق ُ‬
‫ع بوميض البرق!‬ ‫إبراهيم الحسين‪ ..‬ال ُ‬
‫■ آدم فتحي*‬
‫ينتمي إبراهيم الحسين إلى عنقود الشعراء النادرين‪ ،‬الذين يعنيهم أن يكتبوا‬
‫الـشـعــر‪ ،‬وال يعنيهم أن يثبتوا أ ّن ـهــم ش ـعــراء! فالكتابة بالنسبة إل ـيــه‪ ،‬كــالـحـيــاة‪..‬‬
‫استحقاقٌ ال يحتاج إلــى إثـبــات؛ لــذا‪ ،‬فهو يكتب ليتحاور مــع العالم ال ليعلّمه؛‬
‫بنفسهِ ال ليسيطر على أحد‪ .‬الكتابةُ‬ ‫ليسأل ال ليبرهن؛ ليقاسم ال ليمتلك؛ لِ ي َُجو َد ِ‬
‫بالنسبة إليه كالحياة‪ِ ،‬صـ َلــةُ ُح ــب ٍّ‪ ،‬يتحرّر عــن طريقها طرفاها‪ :‬الشاعر الكاتب‬
‫والشاعر القارئ!‬
‫ثيابهم الــتــي خلت منهم‪ ،‬تــعــرف ذلك‬ ‫مديحا للغياب!‬‫ً‬ ‫الشعر‪..‬‬
‫كتاب ٌة تتوهّ ج بصوت خافت وإن كان من تشظيهم في صوتك ومن شجرتهم‬
‫شديد الــوضــوح‪ .‬مؤانسة ضوئيّة في السوداء نبتت فجأة في دمك ال تعرف‬
‫العتمة تتحدّث عن الحياة وعن األحياء من غافلك وغرسها‪»...‬‬
‫(من قصيدة الموتى يُخطئون)‪.‬‬ ‫وبسخرية عاشقة‪ .‬أليس‬
‫ٍ‬ ‫بأسً ى َم ــرِ ٍح‬
‫الشعر أف ٌق وراء األفق‪!..‬‬ ‫الغائبون أكثر قربًا من بعض الحضور؟‬
‫أليس أحياءُ اليومِ موتى الغدِ المُمكنين‬
‫يكتبُ الكثيرون دفاعً ا عن مواقعهم‬ ‫أو الكامنين؟ أليس الشعر مديحً ا للغياب‬
‫وعن شرعيّة شعريّتهم‪ .‬أمّا هو فيترك‬ ‫حتى حين يخطّ ُئ الموتى؟‬
‫للكتابة أن تــدافــع عــن نفسها‪ .‬ذاك‬
‫«‪ ...‬يخطئ الموتى حين يقامرون دأبه منذ سنوات‪ .‬ما إن يرتفع صخب‬
‫بــهــذا الــمــوت‪ ،‬ال يــعــتــذرون مــن أريكة الــبــيــع وال ــش ــراء حــتــى يــعــتــزل الــســوق‪.‬‬
‫تهضبت أكثرَ‪ ،‬وتوتر نسيجها منذ النهار منذ سنوات وهو يكتب بلحمه وحلمه‪.‬‬
‫يسقط يضمّد الكلمات ويقرأ الكُلوم‪ .‬يصال ُح‬ ‫ْ‬ ‫األولِ لخطئهم الــصــارم‪ ،‬ولــم‬
‫لهم ظــل‪ ،‬وحين تضاءلت روائحهم لم بين شــروط االلــتــزام وشــروط الشعر‪.‬‬
‫يــحــاو ُر قيم اإلنــســانـ ّيــة حيثما أمكنه‬ ‫يدعموها بجسد أو حتى قطعة منه‪.‬‬
‫يخطئون وال يفكرو َن بالتراجعِ عن صوغها جماليّا‪ ،‬تاركًا الزحمة الشعرية‬
‫فــداحــتــهــم‪ ،‬يــخــطــئــون وي ــص ــرون على تختصم في أيّها أجمل أو أحدث‪ :‬بيت‬

‫‪131‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫البرق بال صفحات‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫كتاب‬
‫«‪ُ ...‬‬ ‫الشعر أم تفعيلته أم قصيدة نثره؟ مرفرفًا‬
‫ـك أن ي ـك ــون بـنـفـسـجـ ّيــا؛‬
‫ع ـلــى ل ـه ـ ِـب ق ـل ـبـ َ‬ ‫خارج المعارك الزائدة التي تنتجها نهايات‬
‫لتقرأه عليك‪ ،‬أن تضيء بشدّ ة‪ ،‬وتلمعَ‪..‬‬ ‫الحروب‪ ،‬بعد أن أدرك أنّ الشعر أف ٌق وراء‬
‫وع ـلــى ال ـ ّـش ــرر أن يـتـطــايــر م ـنــك؛ لـتــدرك‬ ‫األف ــق‪ ،‬أعمق مــن النثر وأوس ــع مــن البيت‬
‫معناه‪!»...‬‬ ‫وأرحب من القصيدة‪.‬‬

‫إلقاء نفسه في المجهول كي يطير‪!..‬‬ ‫يُ فكّ ر بحساب ويتداعى بآخر‪!..‬‬


‫يظنّ شعراء كثيرون أنّ عليهم أن «يأخذوا‬ ‫أدرك إبــراهــيــم الــحــســيــن ُم ــبــ ّكــرًا أنّ‬
‫اللغة بقوّة»‪ ،‬إذا أرادوا بلوغ الشعر‪ .‬أمّا هو‬ ‫«عموديّة» القصيدة ليست حكرًا على البيت‬
‫فإنّه يترك «الــقـوّة» لهُواة السيطرة ويأخُ ُذ‬ ‫َض يصيبُ كُلَّ من‬ ‫أو الشطرين‪ ،‬بل هي مـر ٌ‬
‫اللغ َة بِحُ بّ ‪ .‬وح َدهُ الحبُّ يتي ُح للغة أن تكون‬ ‫يَ ــز ُّج بالكتاب َة فــي مــر ّبــع النظم الخالص‪.‬‬
‫نص‪ .‬ك ّل‬ ‫والّدة‪ ،‬وللشعر أن يلد نفسه في ك ّل ّ‬ ‫َض يطال كُلَّ ما يُكتب نثرًا أو تفعيل ًة أو‬ ‫مر ٌ‬
‫نص يولد على مثل هذه األرضيّة هو تجرُّؤِ‬ ‫ّ‬ ‫على طريقة الشطرين‪ ،‬حين يصبح نسجً ا‬
‫الشعرِ على إلقاء نفسه في المجهول كي‬ ‫على منوال مسبق‪ ،‬يتساوى في ذلك منوال‬
‫يطير‪ ،‬أي كي يكون‪.‬‬ ‫الخليل بن أحمد ومنوال سوزان برنار!‬
‫تحرّرت القصيدةُ عندهُ هو وأمثالُ ُه من‬
‫يعرف الطائ ُر شعرًا كان عصفورًا أين‬‫ُ‬ ‫هل‬
‫المناويل جميعها‪ .‬شُ فِ يَت نهائيًا من عمودها‬
‫يكمن س ُّر القدرة على الطيران؟ في عظام‬
‫والتحقت بكتابة «وِ حْ دَةٍ » شعريّة تبتكر نفسها‬
‫األجنحة أم في زغب الريش أم في فضاء‬
‫فــي ك ـ ّل مــرّة وتُــسـ ّمــى قــصــيــد ًة على سبيل‬
‫المجهول نفسه؟ اللغة ليست مسأل ًة مُعجَ مِ يّة‬
‫طول أو‬
‫الكناية‪ .‬ليس لها موقف مسبق من ٍ‬
‫بالنسبة إلى الشاعر‪ .‬اللغة مسأل ُة كينونة‪.‬‬
‫ص ٍر أو كثافة أو إيجاز‪ .‬كتابة متجذّرة في‬ ‫قِ َ‬
‫نصوصه شبيهة بأعمال أوركسترالية‪!..‬‬ ‫حاضرها منفتحة على المستقبل‪ ،‬تعرف‬
‫كيف تستفيد من ماضيها‪ ،‬دون إحساس بأي‬
‫وهو إلى ذلك كلّه متعدّد األبعاد‪ :‬يروّض‬
‫نوع من اليُتْمِ النوستالجيّ تجاهَ عمود جديد‪.‬‬
‫الشيء بنقيضه‪ ،‬يستغرق في أناه كي ينتبه‬
‫إلــى آخَ ــرِ ه‪ ،‬يوغل في ذاتــه كي ينخرط في‬ ‫القصيدة بالنسبة إليه بناء بالهدم يُفكّر‬
‫الــشــأن الــعــامّ‪ ،‬يلتقط الــروائــح واألص ــوات‪،‬‬ ‫بحساب ويتداعى بآخر‪ .‬إنّها شبيهة بكرة‬
‫يلمس جوهر العناصر واألشياء‪ ،‬يتجاوب مع‬ ‫النار المندفعة من فوهة البركان‪ .‬ال تَزع ُم‬
‫األحاسيس أوجاعً ا ومسرّات‪.‬‬ ‫بطول ًة لكنّها ال تــرو ُغ من معركة‪ .‬ال تدّعي‬
‫رسال ًة لكنّها ال تهرب من معنى‪ .‬تصنع لغتها‬
‫إنّه فنّا ٌن تشكيليّ يكتب بالشطب‪ ،‬نحّ اتٌ‬
‫بإيقاعها الصائت وبالصمت‪ .‬تعيد إنتاج‬ ‫ٍ‬
‫يعمل بالكوالج‪ ،‬مسرحيٌّ يسهر على تأطير‬
‫نفسها مع ك ّل تأويل‪ .‬تنفذ إلى عمق الواقعيّ‬
‫ـص‪ ،‬فيما‬ ‫المشهد‪ ،‬سينمائيٌّ يُـ َم ـنْـ ِت ـ ُج الــنـ َّ‬ ‫بــق ـوّة الــخــيــال‪ .‬تصنع األبـ ــديّ مــن اليوميّ‬
‫يطل َ ُع موسيقيٌّ من بين أصابعه كي يُحكِ َم‬ ‫العابر‪ .‬تتيح لقارئها أن يشارك في ابتكار‬
‫الميكساج‪.‬‬ ‫معناها‪ .‬يقول الشاعر في «توقيعات للبرق»‬
‫لــذلــك‪ ،‬تــبــدو نصوصه شبيهة بأعمال‬ ‫كأنّه يتحدّث عن القصيدة‪:‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪132‬‬
‫محور خاص‬
‫أوركسترالية متمنّعة بعض الشيء‪ .‬تخالها إذا‬
‫تسرّعتَ «سمفونيّات متعالية»؛ لكنّك‪ ،‬ما إن‬
‫تمعن النظر حتى تكتشف أنّها قريبة منك‪،‬‬
‫مثل حكاية شعبيّة يقيم فيها الجميع تلك‬
‫اإلقامة الشعريّة العزيزة على هولدرلين؛ مثل‬
‫أغنية شعبيّة‪ ،‬تفتح صدرها لما ال يحصى‬
‫من الشخوص والشخصيّات التي تتألّف منها‬
‫طبقات الكون‪ ،‬وشيئًا فشيئًا إذَا هي أقدام‬
‫يرقص بها الجميع‪ ،‬وشفاه يتكل ُم بها الجميع‪:‬‬
‫«‪ ...‬النازفون من أمــل‪ ،‬الخائفون ألنهم‬
‫الشاعر آدم فتحي‬ ‫رأوا أعمارَهم تب ّق ُع قمصانَهم؛ فهربوا من‬
‫تلك النهاية برأس مرفوع‪ .‬تلك هي السمة‬ ‫ســطــو ِة ال ــح ــروف‪ ،‬واخــتــبــأوا تــحــت نسيجِ‬
‫الغالبة على سحنته وعلى نصوصه؛ إنّها‬ ‫ذهولِهم؛ الالئبون في األسى يقرأون سطو َر‬
‫هشاشة الشعراء البتّارة‪.‬‬ ‫وحشتهم في ضبابِهِ ‪ ،‬يُ َهد ِْه ُدهُم النّد ُم كي‬
‫يوقظ بعويلِهِ أوهامَهم المريرة؛ الغائبون‬ ‫َ‬ ‫ال‬
‫يقول من «توقيعات للبرق»‪ ،‬كأنّه يخاطب الشاعر‪:‬‬ ‫في الغيم؛ النائحون في السر؛ الخارجون‬
‫«‪ ...‬أنت البرق‬ ‫الصمت؛‬
‫ِ‬ ‫على ثيابِهم يَ ْع َروْن في اللغةِ وفي‬
‫جلودُهم واضح ٌة يو ُّد أحدهم لو أن لبساتين‬
‫الضوءُ كلَّ كلماتِكَ وتَ َركَكَ بِال ف ٍَم»‪.‬‬
‫ص َد ّ‬
‫حَ َ‬ ‫ذراعــيــه شساعة أحــامــه‪ ..‬السائلون في‬
‫خلف‬‫إنّه يُشهِ ر هشاشتَ ُه على العالم من ِ‬ ‫الصاعدون‬ ‫الضالون في قاعِ األغاني؛ ّ‬ ‫الندى؛ ّ‬
‫قاطعة‬
‫ٍ‬ ‫شفافة كقطر ِة الطلّ‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫ابتسامة‬
‫ٍ‬ ‫ِظـ ِّل‬ ‫في النشيد؛ الغارقون في حنطةِ أيديِهِ م‪،‬‬
‫كح ِّد الشفرة‪ ،‬هشّ ٍة كجناح الفراشة‪ .‬يكتب‬ ‫ال ننساهم َفي َِجفُّون‪ ،‬وال نتذكّرهم فتتبرعم‬
‫بنفسه كلّها‪ ،‬بك ّل ما يل ّم به من فُيوضات تنبع‬ ‫وجوهُهم وتتدلّى على امتداد الروح‪»...‬‬
‫منه وتفيض عليه‪.‬‬ ‫(من «طويلة هي ابتسامتك»)‪.‬‬
‫نص مختلفًا‬
‫لذلك‪ ،‬تجده يخرج من ك ّل ّ‬ ‫السمة الغالبة على سحنته وعلى نصوصه‪!..‬‬
‫عمّا كان لحظة دخوله‪ ،‬مرتعدًا مرتجفًا كما‬ ‫يــكــتــب إب ــراه ــي ــم الــحــســيــن بــعــي ـدًا عن‬
‫كــان‪ ،‬إ ّال إ ّنــه يقطر بك ّل ما انغمس فيه من‬ ‫«األغــــراض»‪ ،‬لكنّ «غــرضــه» الحقيقيّ هو‬
‫ألم وأمل ومسرّات وأوجاع‪ .‬هكذا‪ ،‬يطلع من‬ ‫الحياة؛ حياة تقود الجميع إلى حتميّتها‪ ،‬تورث‬
‫«مخاضاته»‪ ،‬شــذرات تنسى نفسها لتؤلّف‬ ‫الشعراء نوعً ا من الشجن البهيج‪ ،‬ومسحة من‬
‫بين شظايا العالم؛ تخنقه العبرة حين يقرأ‬ ‫الحزن يغالبها الشاعر بشيء من السخرية‬
‫«دفقاته» فال نعرف هل هو يبكي من فرح أم‬ ‫الحييّة؛ ظ ّل ابتسامة تفت ّر عنها عي ُن ذاك‬
‫من وجع‪ .‬وكيف ال تومض دمعة الشاعر الذي‬ ‫الذي ذهَ بَ إلى آخر الشوط‪ ،‬وعرف أ ّال شيء‬
‫يُ َو ّق ُع بوميض البرق‪.‬‬ ‫هناك غير النهاية؛ لكنّه‪ ،‬معنيٌّ بالتقدّم من‬
‫* ناقد وشاعر تونسي‪.‬‬

‫‪133‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫هل يخطئ الموتى؟‬
‫«إلى الصديق الشاعر إبراهيم الحسين صدى لكتابه»‬
‫■ عبدالوهاب أبو زيد*‬

‫يخطئ الموتى!‬
‫هل يخطئُ الموتى؟ أجل ولربما‬
‫بحثوا فلم يجدوا لسانًا أو فما‬
‫حرقوا مراكبهم‪ ،‬ولم يجدوا لهم‬
‫منجىً يعيدهمُ لما كانوا وما‪/‬‬
‫دليل واحدً ا‬ ‫ً‬ ‫تركوا وراءهمُ‬
‫الموت ساعة خيّما‬ ‫ِ‬ ‫عمّ ا وراء‬
‫لما سألنا‪ :‬ما وراءك؟ ما الذي‬
‫تخفيه يا بابًا خف ًّيا مبهما‬
‫هل يخطئ الموتى؟ الخطيئةُ أنهم‬
‫وارتمت‬
‫ْ‬ ‫كلماتنا ارتبكت أمامك‬
‫صعدوا وما تركوا إليهم ُسلّما‬
‫طفل تمتما‬ ‫ً‬ ‫فوق الشفاهِ كأنَّ‬
‫يا أيها الموتى استقيلوا مر ًة‬
‫تحطمت‬
‫ْ‬ ‫موت يا صن َو الحياةِ‬ ‫يا ُ‬
‫من موتكم! ال تتركونا مثلما‪/‬‬
‫قليل ريثما‪/‬‬ ‫كالموج فوقك‪ :‬غب ً‬ ‫ِ‬
‫ّحت‬
‫تُركت بباقتها الزهو ُر فصو ْ‬ ‫نحيا مع من ال نطيقُ فراقهم‬
‫وذوت غدا َة الفقدُ صار محتّما‬ ‫أبدً ا‪ ،‬وال تذهب بهم نحو السما‬
‫عودوا إلينا في المنامِ وصححوا‬ ‫التراب‪ ،‬وال تكن‬ ‫ِ‬ ‫دعهم على هذا‬
‫أخطاءكم‪ ،‬فالحلمُ يعطيكم فم ًا‬ ‫متململ متجهما‬ ‫ً‬ ‫متعجل‬
‫ً‬
‫حديث عابرٍ‬
‫ٍ‬ ‫ال تحرمونا من‬ ‫دعنا معً ا نحيا! الحيا ُة جميلةٌ‬
‫نقضي به وطرً ا ونحيي أعظما‬ ‫ما ضرَّ لو كنتَ ادعيتَ بها العمى؟‬
‫التراب رهينةً‬
‫ِ‬ ‫ظلت هنالك في‬ ‫ْ‬ ‫وانسحب‬
‫ْ‬ ‫ذق مر ًة طع َم الهزيمةِ‬
‫بحثت وما وجدتْ لسانًا أو فم ًا‬‫ْ‬ ‫منها‪ ،‬فإن النص َر في أن تهزما‬
‫ * شاعر ومترجم سعودي‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪134‬‬
‫محور خاص‬

‫كتاب ناقص‬
‫ٍ‬ ‫وقص ُة‬
‫ّ‬ ‫إبراهيم الحسين‪ ..‬صداق ٌة‬

‫■ عبداهلل السفر*‬

‫في شتاء ‪ ،1976‬كنت أدرس بالصف األول بثانوية الملك خالد في الهفوف‪،‬‬
‫المستحدثة ت ّو ًا في منزل مستأجر‪ .‬جمع َْت إدارة المدرسة الطالب القادمين من‬
‫القرى في فصل واحــد «أول سابع»‪ ،‬وأضــا َفـ ْـت إليهم آخرين من المدينة نفسها؛‬
‫وخالل العام انضمّ إلينا طالب كان يدرس في «أول خامس»‪ .‬لم أكن أعرف اسمه‪.‬‬
‫لتعنيف‬
‫ٍ‬ ‫لكنه كان مميّز ًا بمعطفه الذي ال يتخلّى عنه (كأنه مولود به)؛ وبتعرّضه‬
‫يتأخر عن دخول فصله بعد الفسحة‪.‬‬ ‫شبه دائم من مدرّس الرياضة ألنه ّ‬
‫التي هربتُ منها إلى القسم األدبي في‬ ‫شاعر وملحن ومغني‪!..‬‬
‫الثانوية‪ ،‬إبّان دراستنا في كلية المعلمين‬
‫هذا الطالب هو إبراهيم الحسين‪،‬‬
‫بخاصة في مقرّر التفاضل والتكامل‬
‫الذي منذ تعرّفتُ عليه في ذلك العام‪،‬‬
‫الــذي لم أكن ألتخطّ اه بالتقدير الذي‬
‫واكتشاف محبّتنا وتعلّقنا باألدب‪ ،‬حتى‬
‫أريـ ــد إال بــفــضــل «فــزعــة الــحــســيــن»‪.‬‬
‫أصبحنا صديقين على مقعد الدراسة‬
‫و«فزعاته التعليمية» ال ِعداد لها‪.‬‬
‫وفي نهر الحياة‪.‬‬
‫ذات عام دراسي أ ُسنِد إليّ تدريس‬
‫الصف الخامس والثالث االبتدائيين‪.‬‬ ‫جــمــعــتــنــا الـ ــدراس ـ ـ ُة الــثــانــويــة في‬
‫واحترتُ في مــادة النشيد التي ينبغي‬ ‫األحــــســــاء‪ ،‬وال ـ ــدراس ـ ــة فـــي الــكــلــيــة‬
‫أن تُقدّم للطالب بصيغة غنائية خفيفة‪.‬‬ ‫المتوسطة بالدمام‪ ..‬وكلية المعلمين‬
‫أخــذتُ كتابَي «القراءة والمحفوظات»‬ ‫في األحساء (‪ ،)1992 - 1989‬ومهن ُة‬
‫وذهــبــتُ إلــى إبــراهــيــم فــي منزله في‬ ‫التدريس التي برع فيها إبراهيم مبكّراً‪،‬‬
‫الهفوف ومعي «شريط كاسيت»‪ ،‬وطلبتُ‬ ‫فقد كنتُ أفزع إليه في المواد العلمية‪،‬‬

‫‪135‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫مجلة مواقف‪ ،‬العدد المزدوج ‪( 62/61‬في‬ ‫منه أن يتدبَّر تلك األناشيد بطريقته الماهرة‬
‫العدد ذاته كان للصديق هاشم جحدلي‪« :‬د ُم‬ ‫في التلحين‪ ،‬واألداء (ال يتقن إبراهيم حفظ‬
‫البيّنات») وبعضها أيضاً منشور ‪ 16‬إشارة‬ ‫الــشــعــر وحــســب‪ ،‬بــل األغــانــي لــهــا نصيبٌ‬
‫في جريدة اللواء اللبنانية في عدد الجمعة‬ ‫هائل عنده حفظاً وأداءً)‪ ..‬بعد أيام زارني‬
‫‪ 13‬نيسان ‪( 1990‬الصفحة وصلتني من‬ ‫منقذي فــي الــقــريــة‪ ،‬ووفــيــتُ لــه بـــ «شــرط‬
‫آرشيف الصديق قاسم حدّاد)‪.‬‬ ‫الــعــشــاء»‪ ،‬فيما المسجّ ل يصدح بالصوت‬
‫اإلبراهيمي الرخيم‪« :‬في كل ما رآه‪ ..‬في‬
‫الحذر من ساطور يبتر النصوص‪!..‬‬
‫هذه الحياة»‪« ..‬ال تخافي ال تخافي‪ ..‬نح ُن‬
‫وقصة رفْعِ الـ «إشارات» من الكتاب تعود‬ ‫أبطال المطافي»‪« ..‬طائ ٌر يهوى القفاراااا‪..‬‬
‫إلــى أنّ المخطوطة ُوزّع ــت على مجموعة‬ ‫باحثٌ إن هو طاراااا»‪!..‬‬
‫س صدي ٌق مِ ن نشرها‬ ‫من األصــدقــاء‪ .‬توجّ َ‬
‫هم مشترك‪!..‬‬ ‫ٌّ‬
‫ضمن الكتاب‪ ،‬ورأى فيها ما يمثّل استنفاراً‬
‫كتاب لي «يفتح لتيّار الصحوة ضد الشاعر؛ التيّار اآلخذ‬ ‫وعندما أردتُ نشر أوّل ٍ‬
‫الــنــافــذة وي ــرح ــل»‪ .‬دفــعــتُ إلــيــه بنصوص في االشتداد بعد حرب الخليج الثانية‪ ،‬وله‬
‫بخط يده‪ .‬سطوةٌ قاهرة تسلّل َت إلى المؤسسة‪ ،‬فيقيم‬ ‫ّ‬ ‫المخطوطة ليعيد كتابتها كلّها‬
‫خطُّ ُه أجمل من خطي بدرجات وأوضح بما مــحــاكــم التفتيش للنصوص واألشــخــاص‬
‫ال يُقاس‪ .‬أقــول أجمل مجازاً ألن خطي ال ويبحث خلف السطور بساطور يبتر أدبيّتها‬
‫ويلحقها بمنظوره األيديولجي الذي يقس ّم‬ ‫عالقة له بالجمال؛ فهو مقروء‪ ،‬وحسب!‬
‫الناس إلى أبيض وأسود‪ .‬وال يملك مقداراً‬ ‫وقد سبقنا إبراهيم إلى النشر (أقصد‬
‫نصوص كــاإلشــارات التي‬
‫ٍ‬ ‫من التسامح مع‬ ‫أحــمــد الــمــا وأن ــا) بـــ«خــرجــتُ مــن األرض‬
‫تنضح بنَف ٍَس من التمرّد ومن الخروج ومن‬ ‫الضيقة» الــذي ظهر ضمن سلسلة كتاب‬
‫تضمين‬
‫ٍ‬ ‫االتّكاء على النصوص الروحانية في‬ ‫«كلمات» (أســرة األدبــاء والكتاب‪ ،‬البحرين‬
‫اختطاف وقلبٌ للداللة ينبغي أن تُفهَم‬
‫ٌ‬ ‫هو‬ ‫‪ )1992‬بغالف للفنانة منيرة موصلي رحمها‬
‫سياق أدبي ال في السياق األصلي الذي‬ ‫ٍ‬ ‫في‬ ‫اهلل‪ .‬ولم يكن الكتاب مطابقاً للمخطوطة‬
‫جــرت فيه‪ .‬وقــد كــان ذلــك الصديق مح ّقاً‬ ‫األولية ال في العنوان وال النصوص‪ .‬فقد‬
‫في رأيه آنذاك‪ ،‬وتوجّ سه في محلّه تماماً‪..‬‬ ‫كان العنوان طويالً‪ ..‬تسع كلمات‪ ،‬فاقتُرِ َح‬
‫فحتى بعد رفْعِ تلك اإلشــارات من الكتاب‪،‬‬ ‫جملة أقصر؛ أما النصوص‬ ‫ٍ‬ ‫اختصاره إلى‬
‫جــرى االطّ ــاع عليها عبر خطوط التسلّل‬ ‫فقد اخـتُــزِ ل نحو نصفها بما يــوازي ثالثاً‬
‫التي تحدّثت عنها‪ .‬وهذه قصة أخرى ليس‬ ‫وخمسين صفحة‪ ..‬وهي نصوص «إشارات»‬
‫وقت الحديث عنها اآلن‪.‬‬ ‫المكتوبة في العام ‪1988‬م والمنشورة في‬
‫* ناقد وشاعر سعودي‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪136‬‬
‫محور خاص‬

‫ب َ ْرق ُة المصافحة األولى‬

‫■ أحمد اجلميد*‬

‫كان ديوانه "رغوة تباغت ريش األوراق" الصادر عن أدبي الجوف عام ‪2011‬م هو‬
‫تعرفت من خاللها بالشاعر إبراهيم الحسين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بمثابة المُ صافَحة األولــى التي‬
‫ولم تكن األخيرة طبعً ا‪ ،‬فقد كان لي نصيب من قراءة عددٍ من أعماله المنشورة‬
‫أيضا إلى قراءتي مؤخرً ا لبعض دواوينه‬ ‫في المجالت المحليَّة والعربيَّة‪ ،‬إضافة ً‬
‫الشعريَّة األخــرى‪ ،‬تحديدً ا ديــوان "يسقط اآلبــاء حجرً ا حجرً ا"‪ ،‬وديــوان "يخطئ‬
‫الموتى"‪ ،‬اللذين كانا مالذًا خدرًا يُمثِّل باستمرارٍ كلَّ مُ فْ تِ ٍن أدركته عينٌ في مَرَّ تهِ‬
‫األولى‪.‬‬
‫ال يــمــكــن لــي وأنـ ــا أقـ ــرأ إبــراهــيــم‬ ‫بمكان اإلطاللة‬
‫ٍ‬ ‫حقاً‪ ،‬من الصعوبة‬
‫الــبــانــورام ـ َّيــة عــلــى الــشــاعــر إبــراهــيــم الحسين إال أن أشعر أنني في حضرة‬
‫الحسين‪ ،‬خاص ًة حين تجد نفسكَ أمام إض ــاءة مــوجّ ــهــة‪ ،‬وبينما أجلس قارئًا‬
‫َّص‪ ،‬أتساءل‪ :‬من أين‬
‫وإيجاز دافعه خشية خلف كواليس الن ِّ‬
‫ٍ‬ ‫مساحة محدودةٍ ‪،‬‬
‫ٍ‬
‫اإلخالل أو اإلمالل‪ .‬لك ْن على الرغم من يأتي بالحياة لقصائده؟! مع ذلك فإنني‬
‫ذلــك‪ ،‬ووفــق شــروط عالقتي بالشاعر ال أتوقف عن الــقــراءة‪ ،‬رغــم التساؤل‬
‫التي انحصرتْ في نصوصه ال غير؛ ال ُملِحّ ‪ ،‬ماضيًا في متابعة الشاعر وقد‬
‫النطباعات دبَّر عناصر قصيدته‪ ،‬وصرَّف معانيها‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫إال إنني أحــاول هنا‪ ،‬تبعًا‬
‫ما تزال معلقة‪ ،‬استنطاق الجمال الذي وأنعم عليها بالدهشة والــفــرادة‪ ،‬وما‬
‫منحني إيَّاه الشاعر طوال فتر ِة المواعد ِة إن تظهر أمامي فجأة نهاية القصيدة‬
‫أو النَّص حتى أكتشف للتوّ‪ ،‬وأخيرًا‬ ‫التي كانت تحدث بيني وبين أبجديته‪.‬‬

‫‪137‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫‪-‬إجاب ًة عن تساؤلي‪ -‬أن الشاعر وبأبعاده األولــى الفوضويَّة‪ .‬آنــذاك فقط‪ ،‬ما أبــر ُح‬
‫هشيم من اليقينيَّات‬
‫ٍ‬ ‫بعث الروح في هذا أن أ ُلفِ ي نفسي أمــام‬
‫كلها يمتلك القدرة على ِ‬
‫السبات الشتويِّ ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫الكائنِ اللغويِّ المدعو قصيدة؛ فقط لمجرد المحميَّة سابقًا بما يشبه‬
‫مسِّ ه ال أكثر‪ ،‬ولمجرد أن ينفخ بها منه‪ ،‬وبهذا موليًا كثافة الجملة نظرة ساكنة‪ ،‬مشدوهً ا‬
‫الجواب القاطع الذي أوحتْ به نصوصه لي؛ بالمعنى المتوهج‪ ،‬وســابــحً ــا ٍ‬
‫بلغة وحــالـ ٍـة‬
‫وأنموذج ال يمكن لغير نثر إبراهيم الحسين‬ ‫ٍ‬ ‫فإن السؤال ال يُحجم عن مواصلة التحامه‬
‫أن يكونه‪.‬‬ ‫بامتداد قراءتي للشاعر‪.‬‬

‫تتقاسم عــاد ًة نصوص الشاعر خاص َّي َة‬ ‫القصائد كائناتٌ اقترف خلقها الشعراء‪،‬‬
‫كونها حيويَّة بالقدر الكافي الــذي يبقيها‬ ‫وه ــذا مــا يفعله تــمــا ًمــا الــشــاعــر إبراهيم‬
‫مرارًا الزج ًة في مسامات الذات! ناقع ًة تحت‬ ‫الحسين‪ ،‬الذي ال يَنِي يسقي األبجدية سحرًا‬
‫الجلد تفرز ما يُديمها متداولة في الوجدان‪،‬‬ ‫مباركًا‪ ،‬فتقرأ له كما لو أنك في عوال َم لغوي ٍَّة‬
‫ملتصق ًة بأعشاب الروح مثل قطرة نورانيَّة‪،‬‬ ‫ومتناهية من الدالالت القابلة مع ك ِّل‬
‫ٍ‬ ‫موازية‬
‫ٍ‬
‫وحــيــن ال مــحــالـ ٍـة تــتــمــوضــع هــنــاك‪ ،‬حيث‬ ‫قراءة أن تخصب من جديد؛ األمر الذي معه‬
‫تكون نهاية مطاف قراءتكَ مسألة مؤجلة‪،‬‬
‫محصلة ما أنت عليه‪ ،‬فإنها ال تمكثُ دون‬
‫ّ‬
‫ولن تُتاح لك قبل أن يقتادكَ الشاعر بك ِّل‬
‫ثلمة تتركها التساؤالت‪.‬‬
‫ٍ‬
‫شرفات تض ُّم ما ال تراهُ‬
‫ٍ‬ ‫وخالص نحو‬
‫ٍ‬ ‫وعيٍّ‬
‫إبراهيم الحسين شاع ٌر فذٌّ وفري ٌد إلى‬ ‫حين كنت تنظر إليه؛ حيث الحب والموت‪،‬‬
‫حدٍّ ال يتوقف عنده‪ .‬لغته مخضوب ٌة بأصباغ‬ ‫والقلق وال ــروح‪ ،‬واألب والقهوة‪ ،‬والرحيل‪،‬‬
‫ـواط ـ َن غير‬
‫الحياة‪ .‬قلقه الشعريّ يطال َمـ ِ‬ ‫وجميع ما أتى به إبراهيم الحسين‪ ،‬إنما على‬
‫مأهولة بــســواه‪ .‬رؤيته الثقافيَّة المتعددة‬
‫ٍ‬ ‫النحو الذي فيه ينتهي بنا على الــدوامِ إلى‬
‫والطبقات جليَّة في نثاره‪،‬‬
‫ِ‬ ‫لآلفاق والزوايا‬ ‫رؤية األصوات واإلصغاء إلى الصور‪.‬‬
‫وبالتالي فإن لديه تجرب ًة شعر َّي ًة غني ًة لدرجةِ‬
‫مــا أزا ُل أق ــرأ الشاعر بطريقتي التي‬
‫أنــه بــاإلمــكــان قــراءتــه مــن كــافــةِ الجهات‪،‬‬
‫بسعة محصورةٍ‬ ‫ٍ‬ ‫حاظ‬
‫نصه‪ .‬أقرأ ٍ‬ ‫يختارها لي ُّ‬
‫التوجهات‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ومختلف‬
‫ِ‬
‫طاقة‬
‫ٍ‬ ‫بجميع النواحي‪ .‬أقرأ مسكونًا بانبعاث‬
‫في نهاية القول‪ ،‬وبعد استثناء ك ِّل شيءٍ ‪،‬‬ ‫برفق‬ ‫ٍ‬ ‫تصويري ٍَّة للشاعر تنس ُّل على إثرها‬
‫مــا أزا ُل أشعر بــأن التقاء عينيَّ بكلمات‬ ‫منابتُ الرتابةِ من أرضيَّة الرجحان‪ ،‬ناهيك‬
‫الشاعر يُطْ ل َى في ك ِّل مرّة بذات لون البَرْقةِ‬ ‫ومضة‬ ‫ٍ‬ ‫عمَّا تبلغه تلك الــطــاقـ ُة مــن مــقــامِ‬
‫التي صاحبت تلك المصافحة األولى‪.‬‬ ‫خالصة يُعاد عبرها شكل الترتيب إلى مادته‬ ‫ٍ‬

‫ * كاتب سعودي‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪138‬‬
‫قراءات‬

‫ُعز َل ُة الرجل احلكَّ اء‬


‫«مجموعة قصصية»‬

‫املؤلف ‪ :‬أحمد خلف اجلميد‪.‬‬


‫الناشر ‪ :‬النادي األدبي باجلوف‪.‬‬

‫‪ρ‬أحمد العودة ‪ -‬أمني املكتبة‬

‫عــن ن ــادي الــجــوف األدبـــي‪ ،‬بعنوان «عزلة‬ ‫فــي يــوم جمعة مــعــتــاد‪ ،‬استيقظت من‬
‫الرجل الحكاء» تضمنت خمسة عشر نصاً‬ ‫غفوتي بعد الصالة على نغمة رسائل غير‬
‫قصصيا‪ ،‬راوحت أحجامها ما بين المتوسط‬ ‫معهودة‪ ،‬فــإذا بي أجــد رقــم هاتفي النقال‬
‫الطول والقصير نوعاً ما‪ ،‬تتعلق مجرياتها‬ ‫مــودع ـاً مــع أرقـ ــام أخـ ــرى‪ ،‬وبــجــانــبــه كلمة‬
‫األحــداثــيــة والــحــواريــة‪ ،‬بــالــحــيــاة اليومية‬ ‫(أضافك) ال غير‪ ،‬هذه الكلمة‪ ،‬على أنني‬
‫وخلفياتها االجتماعية والمعاشية‪ ،‬وتقلباتها‬ ‫ضممت إلى المجموعة الجديدة باألصدقاء‬
‫ُ‬
‫األحداثية المنوعة‪ ،‬وتطرق معظمها إلى‬ ‫الذين انشقوا عن مجموعة سابقة خاصة‬
‫مسألة التطورات والنقالت النوعية األخيرة‬
‫باألصدقاء أيضاً‪ ،‬في عملية تصفية مستمرة‪،‬‬
‫التي عصفت بدنيا التواصل االجتماعي‬
‫تدار من خالل نقرات األصابع على شاشة‬
‫الــحــديــث‪ ،‬وخلفياته الــتــي ال تنتهي؛ كما‬
‫الهاتف‪.‬‬
‫نجدها بجالء عبر قصة «حجة الغياب» التي‬
‫استهلها بالقول‪« :‬على عكس األخرين الذين‬ ‫بهذه اإليقاعات السردية المفعلة بنغمات‬
‫يحتاجون منبه الهاتف إليقاظهم من نومهم‪،‬‬ ‫حــواريــة هــادفــة‪ ،‬استهل الكاتب والــقــاص‬
‫كــان عــبــداهلل مستيقظا بــا منبه‪ ،‬وعيناه‬ ‫«أحــمــد الــجــمــيــد»‪ ،‬مــجــريــات مجموعته‬
‫تحدقان إلى السقف الذي ألول مرة يشعر‬ ‫القصصية القصيرة‪ ،‬التي صــدرت حديثاً‬

‫‪139‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫المكتظة بالمبتهجين‪ ،‬وبما أن جابر يعرف‬ ‫أنه منخفض عن العادة‪.‬‬
‫ال بينما كانت كلمة التغيير أن أخــاه يحب مشاهدة األفــام‪ ،‬فقد مال‬
‫أغلق عينيه قلي ً‬
‫تتردد في ذهنه‪ ،‬قبل أن ينقلب في السرير عليه قليال‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫هل ترغب في المشاهدة حقيقة؟‬ ‫وينظر إلى ساعة الحائط التي بدت له أنها‬
‫ارتبك األخ قليالً‪ ،‬وجالت في رأسة ذكرى‬ ‫تراقبه»‪.‬‬
‫ضبابية عن تحول فيديو سينمائي محفوظ‬ ‫ويــســتــمــر الــكــاتــب عــلــى هـــذه الــوتــيــرة‬
‫في هاتفه النقال إلى تهمة له من قبل رجال‬ ‫اإلبداعية نفسها‪ ،‬التي وردت في نصوص‬
‫متشددين‪ ،‬على إثــر ذلــك شــاح بوجهه عن‬ ‫مجموعته القصصية‪ ،‬إل ــى أن يختمها‪،‬‬
‫السينما‪ ،‬وقال وهو مستغرب مما يراه‪:‬‬ ‫بأقصوصته الحوارية األخيرة التي أوردها‪،‬‬
‫‪ -‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬أرجوك لنبتعد فقط‪.»..‬‬ ‫بعنوان «العائدة من جديد» التي استهلها‬
‫بالقول‪:‬‬
‫ثم يختم الكاتب مجموعته بهذه المقطوعة‬
‫«الــســاعــة ‪2:30‬م‪ ،‬دف ــع جــابــر كرسي التي أوردها على الصفحة األخيرة من غالف‬
‫أخيه المتحرك نحو مدخل الشارع الواسع الكتاب‪ ،‬جاء فيها‪:‬‬
‫(الــبــولــيــفــار)‪ ،‬مــن أجــل مــشــاركــة اآلخــريــن‬
‫«لم يغير مالبسه من أجل اللقاء‪ ،‬ألنه على‬
‫االحتفال باليوم الوطني السعودي الثاني‬
‫موعد مع أشخاص كان يظهر أمامهم بكل‬
‫والتسعين‪ ،‬كان كل شيء من حولهما مثيراً‬
‫أريحية‪ ،‬ويتبادل اللبس معهم بكل أريحية‪،‬‬
‫لالستغراب فــي نفس جــابــر‪ ،‬إضــافــة إلى‬
‫ويتبادل اللبس معهم قبل ســنــوات طويلة‬
‫القلق الذي يراوده كلما رأى ما لم يعتد على‬
‫مضت‪ ،‬فقد قرر الذهاب بمالبس البيت‪،‬‬
‫رؤيته سابقاً‪ ،‬وهذا ما دفعه للقول ألخيه بكل‬
‫أقلها مــن أجــل المحافظة على شــيء من‬
‫تلقائية عندما مر بالقرب من حفلة غنائية‬
‫مضمون الماضي ما دام الشكل قد تغير‬
‫يحضرها جمهور عريض‪:‬‬
‫خــارج اإلرادة‪ ،‬وقبل أن يخرج من مسكنه‪،‬‬
‫‪ -‬انظر جــابــر‪ ..‬حفلة! لنبتعد قبل أن تفقد موقع اللقاء على الخريطة في هاتفه‬
‫يهاجمنا أحــد المتشددين‪ .‬ضحك جابر المحمول مستعينا بذاكرته فقط»‪.‬‬
‫برفق من قول أخيه وقال بحنو‪:‬‬
‫أخــيــراً‪ ،‬يجدر بنا أن نذكر أن للكاتب‬
‫«أحــمــد خلف عايد الجميد»‪ ،‬العديد من‬ ‫‪ -‬ال عليك نحن في أمان اآلن‪.‬‬
‫ثم راح جابر يدفع كرسي أخيه المتحرك القصص والمقاالت األدبية المنوعة نشرها‬
‫متجوالً بين المرافق األخ ــرى‪ ،‬فــإذا بهما عبر العديد من المجالت العربية‪ ..‬الورقية‬
‫يــصــان إلــى المكان المخصص للسينما منها‪ ،‬واإللكترونية‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪140‬‬
‫قراءات‬

‫لكم وللتاريخ‬

‫املؤلف ‪ :‬د‪ .‬حمد بن عبداهلل املانع‪.‬‬


‫الناشر ‪ :‬مركز عبدالرحمن السديري الثقايف‪.‬‬
‫السنة ‪٢٠٢٣ :‬م‪.‬‬

‫‪ρ‬غازي خيران امللحم‬

‫يتألف الكتاب من عدة عناوين وفقرات‪،‬‬ ‫يــعــد كــتــاب‪« :‬لــكــم ولــلــتــاريــخ»‪ ،‬لمؤلفه‬
‫الدكتور‪ :‬حمد بن عبداهلل المانع ‪-‬الصادر استهله المؤلف بتوجيه الشكر للوطن وقائده‪،‬‬
‫عن مركز عبدالرحمن السديري الثقافي‪ ،‬وبمقدمة جاء فيها‪:‬‬
‫ضمن برنامج النشر بالمركز‪ -‬إضمامة‬
‫«فما كنت أتوقع أن أجلس يومًا لكتابة‬
‫مــنــوعــة مــن لــمــحــات ســيــرة ذاتــيــة ومهنية‬
‫ســيــرتــي أو تسطير ج ــزء مــنــهــا‪ ،‬ذل ــك إن‬
‫بامتياز‪ ،‬يجد فيها القارئ معلومات ووقائع‬
‫الحديث عن النفس فيه مشقة بالغة‪ ،‬خاصة‬
‫وأفــكــارًا ومواقف‪ ،‬تتعلق بالقطاع الصحي‬
‫وأن اإلنــســان مهما كــان منصفًا فهو في‬
‫في المملكة العربية السعودية‪ ،‬من خالل‬
‫النهاية يرى بعينيه فقط‪.‬‬
‫فترة ست سنوات قضاها المؤلف في خدمة‬
‫وقد استخرت اهلل بعد أن ألحّ عليَّ بعض‬ ‫بالده وزيرًا للصحة‪ ،‬وبيان طريقة مساعيه‬
‫الموفقة في المجال الطبي‪ ،‬وبــذل الجهد الــزمــاء للكتابة عن الفترة التي قضيتها‬
‫بكل ما أوتي من إمكانات علمية وبحثية وبُعد وزيرًا للصحة‪ ،‬ومضيت أخط هذه الكلمات‬
‫نظر‪ ،‬في تطوير المرافق الصحية الحيوية‪ ،‬تحقيقًا لقوله تعالى‪﴿ :‬يا أيها الذين آمنوا‬
‫كونوا قوامين بالقسط شهداء هلل ولو على‬ ‫والنهوض بها‪.‬‬

‫‪141‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫ويــعــود الــتــاريــخ أبلجً ا وضـــاءً‪ ،‬يجمع أبناء‬ ‫أنفسكم﴾ (النساء‪.)135 :‬‬
‫يقع الكتاب في ‪ 217‬صفحة من القطع الوطن حوله ليروي لهم الحقيقة‪..‬‬
‫ثم يأخذنا المؤلف إلى فقرة أخرى من‬ ‫المتوسط‪ ،‬توزعت على جملة من العناوين‪،‬‬
‫إضافة لملحق لمجموعة من الصور التقطت الكتاب أوردها تحت عنوان‪:‬‬
‫للكاتب أثناء نشاطاته المتعددة‪ ،‬التي كان‬
‫هكذا أصبحت وزيرا‬
‫يؤديها خالل مسيرته اإلنسانية تلك‪.‬‬
‫يشير الدكتور المانع هنا‪ ،‬لبعض الجوانب‬
‫ومن أولى فقرات الكتاب هذه اللمحات‬
‫من حياته العلمية حتى تخرجه من جامعة‬ ‫التي منها‪:‬‬
‫القاهرة في العام‪1400‬هجرية‪ .‬مختصاً في‬
‫طب األنــف واألذن والحنجرة‪ ،‬وعمله في‬ ‫عدالة السماء‬

‫إن شر الرواة أولئك الذين يكذبون على مستشفى الرياض المركزي‪ ،‬ثم ابتعاثه إلى‬
‫شخصيات عامة‪ ،‬فهم يطعنون في صحة ألمانيا الغربية وحصوله على الدكتوراه‪ ،‬من‬
‫جامعة «هــايــدل» في عــام ‪ 1415‬هجرية‪..‬‬ ‫أول‪ ،‬ويغيرون الحقيقة ثانيًا‪.‬‬
‫االختيار ً‬
‫وقــد خــرجــت مــن هــذه التجربة بــدرس وفي العام ‪ 1424‬هجرية‪ُ ،‬عيّن وزيرًا للصحة‬
‫فحواه‪« :‬إن خفافيش الظالم ليسوا مجرمين لفترة امتدت ستة أعوام‪.‬‬
‫وقتلة فقط‪ ،‬بل فيهم مَن يظهر للناس بوجه‬
‫األمير(الملك) سلمان‬
‫جميل أو بصوت حانٍ عبر صحيفة أو قناة أو‬
‫وأغلى الذكريات‬
‫إذاعة‪ ،‬فقد تعددت الخفافيش ولكن الظالم‬
‫وهــنــا يــن ـوّه المؤلف بقوله‪« :‬إن األمير‬ ‫واحد»‪.‬‬
‫(الملك) سلمان‪ ،‬هو األب الروحي لكل من‬
‫لــكــن‪ ،‬فــي بــادنــا الكثير مــن الــشــرفــاء‬
‫والمخلصين والمنصفين‪ ،‬الذين لديهم من اقترب من فكره ومن عظيم شمائله‪ ،‬وكيف‬
‫الوعي والمعرفة ما يجعلهم قــادريــن على ال يكون كذلك وهو ابن مؤسس مجد هذه‬
‫قــراءة التاريخ‪ ،‬وسبر الــواقــع‪ ،‬واستكشاف األمــة‪ ،‬وباني صــروح عزتها‪ ،‬وقد التقى به‬
‫ما بين السطور‪ ،‬وتمييز الغثِّ من السمين‪ ،‬المؤلف حين حضر الحفل الــذي أقامته‬
‫ومعرفة الفرق بين الــد ِّر والثمين‪ ،‬وبمثل وزارة الصحة لتوديع وزير منصرف‪ ،‬وتشييع‬
‫هؤالء يمتلك مجتمعنا أسباب المناعة‪ ،‬دون وزير جديد‪ ،‬تخرج من مدرسته وعلى يديه‬
‫استيالء األمــراض والمرض عليه‪ ،‬وإصابة في مجلس منطقة الرياض التي كان أميرًا‬
‫خالياه الحيوية أو تعطيلها‪ ،‬وسيدور الزمن عليها‪ ،‬ومن يعرف أبا فهد فقد عرف الوفاء‬
‫دورت ــه‪ ،‬ثم ينقشع ظلمة الزيف والبهتان‪ ،‬والشهامة وتقدير الرجال»‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪142‬‬
‫قراءات‬
‫أغضب إيــرادي غيري‪ ،‬والمجال مفتوح إن‬ ‫الحقائق‪ ..‬الشاهد الصادق‬
‫ثم ينقلنا الكاتب بسالسة لغوية استثنائية‪ ،‬يريد التعقيب‪ ،‬وفضاء الــرأي أوسع من أن‬
‫إلى حقائق كأنها الشمس التي ال يمكن أن يضيق بأحد‪.‬‬
‫وهـ ــذا الــكــتــاب يــعــنــي الــطــبــيــب وجميع‬ ‫تستمر محجوبة‪ ،‬نستقيها من خالل قوله‪:‬‬
‫الممارسين في المجال الصحي‪ ،‬ويفتح آفاقًا‬ ‫االعتبار األول‬
‫للنقاش مع األكاديميين والمختصين بالتعليم‬
‫إنني لم أكن اطمح يومًا إلى مقعد علمي‬
‫الــطــبــي‪ ،‬وفــيــه لــمــحــات مهمة أن يخطط‬
‫أو أدبـــي‪ ،‬أعــلــى مــن مقعد اســتــشــاري في‬
‫للقطاع الصحي‪ ،‬وفوق ذلك يخاطب القارئ‬
‫جراحة األنف واألذن والحنجرة‪.‬‬
‫غير المتخصص‪ ،‬فهو بــوح لكل مــواطــن‪،‬‬
‫وشهادة لهذا الجيل ولغيره من األجيال‪ ،‬وفي‬ ‫االعتبار الثاني‬
‫إن ذلك الشاب الذي أهين على يد أحد هذه السيرة جهود ونقاشات وآراء وموقف‬
‫الوجهاء‪ ،‬دون وجه حق‪ ،‬لم يكن يدري أنه بعد ورجال وأفكار وحكايات‪ ،‬وأطلب من القارئ‬
‫سنوات معدودة سيجلس على مقعد الوزير‪ .‬الحصيف أن يطالعها بذهن متوقد‪ ،‬وفكر‬
‫مستقل‪ ،‬وأن يضع لها ما شــاء من أسئلة‬
‫االعتبار الثالث‬
‫واحتماالت‪ ،‬آمال منه أن يثق أني قد سطرت‬
‫الصيد الذي أفخر به من الحب والثقة‬
‫ما سيراه‪ ،‬صادقًا في اعتقاده‪ ،‬ناصحً ا في‬
‫من قبل الزمالء واألصدقاء‪ ،‬الذين التقيت‬
‫إيراده غير متشبع بما لم أعط في تعدادها‪.‬‬
‫معهم على حب هذا الوطن‪.‬‬
‫وأحمد اهلل على أنني استطعت أن أدوّن‬
‫الخاتمة‬
‫هــذه الجمل والــمــفــردات‪ ،‬وأن ــا فــي كامل‬
‫وفيها يقول المؤلف‪ ،‬هــذا كتابي األول ملكاتي العقلية‪ ،‬ثم بالشكر لكل من قرأها‬
‫أروي فيه سيرة وزاريــة عشتها فترة معينة قبل نشرها ووجّ ه باقتراحات أفدت منها‪.‬‬
‫مــن الــزمــن‪ ،‬وق ــد حــرصــت أن تــكــون هــذه‬
‫ثم يختم كتابه هذا بالقول‪:‬‬
‫السيرة صريحة بعض الشيء‪ ،‬ألن الصراحة‬
‫عندما يكون الــمــرء فــي خريف العمر‪،‬‬ ‫الكاملة ضــرب مــن المستحيل‪ ،‬فللقَسَ م‬
‫الــوزاري مستلزمات‪ ،‬وللمروءة لــوازم‪ ،‬وقد وينظر إلى الوراء‪ ،‬يرى إنجازات‪ ،‬يحمد اهلل‬
‫عــاهــدت نفسي والــقــارئ الكريم أن أورد عليها‪ ،‬ويفخر بها‪ ،‬وهــفــوات وأخــطــاء كان‬
‫تجن‪ ،‬وال ذنــب لي إن يأمل لو أنها لم تقع‪.‬‬ ‫الوقائع بصدق دون ٍ ّ‬
‫* باحث سوري مقيم في السعودية‪.‬‬

‫‪143‬‬ ‫‪ 79‬العدد‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬
‫الصفحة األخيرة‬
‫لماذا تغيب الرواية المحلية عن السينما السعودية؟‬
‫السينما‬
‫كثيرا ما طرح هذا السؤال سواء على السينمائيين أو على‬ ‫السعودية‬
‫الروائيين‪ .‬وربما عقدت الندوات والمؤتمرات للبحث عن إجابة‬
‫تتعلق بغياب المنتج الــروائــي المحلي عن األفــام السعودية‬
‫والرواية‬
‫ال ـتــي صـ ــارت تـنـتــج بـنـسـبــة ال ب ــأس بـهــا ف ــي األع ـ ــوام القليلة‬ ‫المحلية‬
‫الماضية؛ فقد شهد عام ‪ 2022‬عرض (‪ )11‬فيلم ًا سعودي ًا في‬
‫قاعات السينما‪.‬‬ ‫أ‪ .‬صالح القرشي‬
‫والجواب من وجهة نظري المتواضعة هو أنه لكي تستلهم‬
‫السينما السعودية الرواية المحلية‪ ،‬فاألمر يتطلب بداية أن‬
‫يقرأ السينمائي هذه الرواية!‬
‫وم ــن ه ـنــا ف ــال ـس ــؤال ي ـجــب أن ي ـصــاغ بـطــريـقــة أخ ــرى!ه ــل‬
‫السينمائي السعودي لديه اهتمام بمطالعة المنتج الروائي‬
‫المحلي؟‬

‫والحق أنــه ومــن متابعتي التي أزعــم أنها جيدة والغناء‪ ،‬والمسرح‪ ،‬ولعل ارتباطها القوي بالرواية يكمن‬
‫للمحتوى السينمائي المحلي في السنوات األخيرة‪ ،‬في عالقة الفنيين بالحكاية‪.‬‬
‫فاألمر الجلي والواضح هو أن المخرج السينمائي‬
‫وال تكاد توجد رواية عالمية ذات قيمة أدبية عالية‬
‫السعودي ليس لديه ذلــك االهتمام أو االطــاع أو‬
‫لم يتم نقلها إلى الشاشة الكبيرة‪ ،‬وربما نقلت الرواية‬
‫الرغبة في خوض غمار نقل الرواية إلى الشاشة‪،‬‬
‫الــواحــدة عــدة مــرات من خــال مخرجين مختلفين‬
‫أو ربما يكمن السبب في كون عملية نقل األدب إلى‬
‫وبتصورات مختلفة ومتنوعة‪.‬‬
‫السينما عملية صعبة ومحفوفة بالمخاطر كما يصفها‬
‫وال مناص من القول إن السينما السعودية تحديداً‬ ‫(ارنستو ساباتو) في حواراته مع (بورخيوس)‪.‬‬
‫األمــر األخــر الــذي يحضر هنا هــو ســؤال ربما بحاجة إلــى استلهام الــروايــة المحلية حاجتها إلى‬
‫يخطر في ذهن القارئ‪ :‬هل هناك حاجة حقيقية كي الموضوع والفكرة‪ ،‬وإلى أن تتلمس الواقع الموغل في‬
‫البيئة المحلية؛ ألنها من هذه الزاوية يمكن أن تتميز‬ ‫تلتفت السينما السعودية نحو الرواية المحلية؟‬
‫ويــزداد حضورها لدى المشاهد المحلي‪ ،‬خصوصاً‬
‫اعتقد أن حاجة السينما إلى الرواية تكمن في وأنها في خضم منافسة شديدة الصعوبة مع السينما‬
‫قيمة التنوّع الــذي يمكن أن تمنحه الــروايــة للعمل‬
‫القادمة من شتى بلدان العالم‪.‬‬
‫السينمائي‪ ،‬ومــع اليقين بأهمية ما يعرف بسينما‬
‫السينما السعودية بحاجة إلى الرواية المحلية‪،‬‬ ‫المؤلف التي أولت ظهرها لألدب‪ ،‬ومع اليقين بأهمية‬
‫التجريب وأهمية التمرد على تقاليد الكتابة عند بعض وتعالي السينمائي‪ ،‬أو جهله وعدم اطالعه على األعمال‬
‫السينمائيين‪ ،‬إال إن تكريس هذا النوع من السينما الروائية سيشكل في النهاية نقصاً ال ريب فيه في قيمة‬
‫فقط سيجعل األعمال السينمائية تبدو مكررة وتقلد اإلنتاج السينمائي المحلي‪ ،‬ومع اليقين بصعوبة إنتاج‬
‫نفسها‪ ،‬وبخاصة وأن السينما قد ارتبطت باألدب منذ فيلم مبني على رواية أدبية‪ ،‬إال إ ّن الموهبة والبراعة‬
‫نشأتها‪ ،‬كما ارتبطت بالكثير من الفنون كالموسيقى‪ ،‬والشغف كفيلة بأن تذلل كل الصعوبات‪.‬‬
‫* كاتب سعودي‪.‬‬

‫العدد ‪79‬‬
‫رب ـي ــع ‪١٤٤٤‬ه ـ ـ ـ ـ (‪٢٠٢٣‬م)‬ ‫‪144‬‬
‫من إصدارات اجلوبة‬

‫¦ محور خاص ‪ :‬جدلية الوقت والكتابة‬


‫¦ نصوص جديدة ونوافذ‬
‫¦ رحلة الشتاء بني الدخول وحومل‬
‫¦ مواجهات‪ :‬أحمد فضل شبلول‪،‬‬
‫محمود خيراهلل‪ ،‬خالد عبدالكرمي احلَمْ د‪.‬‬

‫ﺑﺮﻋﺎﻳﺔ ﺳﻤﻮ وﻟﻲ اﻟﻌﻬﺪ‬


‫ﺳﻤﻮ وزﻳﺮ اﻟﻄﺎﻗﺔ ﻳﻔﺘﺘﺢ ﻣﺸﺮوع‬
‫ﻣﺤﻄﺔ ﺳﻜﺎﻛﺎ ﻟﻠﻄﺎﻗﺔ اﻟﺸﻤﺴﻴﺔ‬

‫‪71‬‬
‫من إصدارات برنامج النشر في‬

‫مركز عبدالرحمن السديري الثقافي‬


‫فاكس ‪014 6247780‬‬ ‫هاتف ‪ 014 6245992‬‬ ‫الجوف‪ :‬ص‪ .‬ب‪ 854 :‬‬
‫جــوال ‪055 3308853‬‬ ‫هاتف ‪ 011 4999946‬‬ ‫الرياض‪ :‬ص‪.‬ب ‪ 94781‬الرياض ‪ 11614‬‬
‫فاكس ‪016 4421307‬‬ ‫هاتف ‪ 016 4422497‬‬ ‫الغاط‪ :‬ص‪ .‬ب ‪ - 63‬دار الرحمانية ‬
‫‪www.alsudairy.org.sa‬‬ ‫|‬ ‫‪info@alsudairy.org.sa‬‬
‫‪Alsudairy1385‬‬ ‫‪0553308853‬‬

You might also like