Professional Documents
Culture Documents
79-Joba-مجلة_الجوبة-صدور العدد 79 من مجلة الجوبة الثقافية رئيس التحرير إبراهيم الحميد منى حسن عبدالرحمن الأنصاري و عبد الفتاح كيليطو و الشاعر إبراهيم الحسين د.عبدالواحد بن خالد الحميد د. خليل المعيقل د.سعد الراشد ا
79-Joba-مجلة_الجوبة-صدور العدد 79 من مجلة الجوبة الثقافية رئيس التحرير إبراهيم الحميد منى حسن عبدالرحمن الأنصاري و عبد الفتاح كيليطو و الشاعر إبراهيم الحسين د.عبدالواحد بن خالد الحميد د. خليل المعيقل د.سعد الراشد ا
ملف العدد
رائد علم اآلثار بالمملكة.
د .عبدالواحد الحميد ،د .خليل المعيقل ،د .سعد الراشد ،أ .د .زيدان كفافي،
أ .د .العباس سيد أحمد ،د .عبداهلل مصري ،أ .د .أحمد الزيلعي ،أ .د .علي الغبان،
د .عبدالناصر الزهراني ،د .علي المغنّم ،محمد القشعمي ،أ .د .لبنى األنصاري.
¦دراسات ونقد. ¦محور خاص :إبراهيم الحسين ..والنافذة التي يطل بها على العالم..
¦نصوص. ¦إبراهيم الخليف :ذاكرة الجوف.
¦قراءات. ¦عبدالفتاح كاليليطو الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية.
79
الئحة برنامـج نشر الدراسات واإلبداعـات األدبية والفكرية ودعم
البحوث والرسائل العلمية يف مركز عبدالرحمن السديري الثقايف
-1أن تكون املادة أصيلة . املشرف العام إبراهيم بن موسى احلميد
محررا
ً محمود الرمحي
-2لم يسبق نشرها ورق ًيا أو رقم ًيا. محررا محمد صوانة
ً
-3تراعي اجلدية واملوضوعية. اإلخراج الفني :خالد الدعاس
-4تخضع املواد للمراجعة والتحكيم قبل نشرها. املراســـــــــــالت :هاتف)+966()14(6263455 :
-5ترتيب املواد يف العدد يخضع العتبارات فنية. ص .ب 458سكاكا اجلـوف -اململكة العربية السعودية
www.alsudairy.org.sa
-6ترحب اجلوبة بإسهامات املبدعني والباحثني aljoubahmag@alsudairy.org.sa
والكتّاب ،على أن تكون املادة باللغة العربية. ردمد ISSN 1319 - 2566
سعر النسخة 8رياالت -تطلب من فروع
«اجلوبة» مناألسماءالتيكانتتُطلقعلىمنطقةاجلوفساب ًقا. مركز عبدالرحمن السديري الثقايف
املقاالت املنشورة ال تعبر بالضرورة عن رأي املجلة والناشر. ريال واملؤسسات ً 60
ريال االشتراك السنوي لألفراد ً 50
يُعنى املركز بالثقافة من خالل مكتباته العامة يف اجلوف والغاط ،ويقيم املناشط املنبرية الثقافية،
برنامجا للنشر ودعم األبحاث والدراسات ،يخدم الباحثني واملؤلفني ،وتصدر عنه مجلة ً ويتبنّى
ً
(أدوماتو) املتخصصة بآثار الوطن العربي ،ومجلة (اجلوبة) الثقافية ،ويضم املركز كل من( :دار
العلوم) مبدينة سكاكا ،و(دار الرحمانية) مبحافظة الغاط ،ويف كل منهما قسم للرجال وآخر
للنساء .ويتم متويل املركز من مؤسسة عبدالرحمن السديري اخليرية.
عبدالرحمن الطيب األنصاري ،قامة علمية ،يشار إليه بالبنان ،فهو من روادنا
الذين أفنوا زهرة شبابهم ،ليس بين حقول المعرفة وحسب؛ بل إنه قد كان ينحت
أبحاثة بين الصخر والحجر ،معفراً يديه بتراب الوطن ،مقترباً من تاريخ بالده
العريق حد المالمسة واالنصهار ،فأنجز عشرات الكتب واألبحاث العلمية؛ وقد
متخصصا في اللغة العربية ،ثم انتقل متبحراً في علوم اآلثار والتاريخ،
ً بدأ حياته
وشهد له القاصي والداني بعلو كعبه في علوم اآلثار ،وعُدَّ واحداً من علماء اآلثار
ال بالمجد والفخار يوم
في المملكة العربية السعودية والعالم العربي .رحل مكلّ ً
االثنين 14شعبان 6( 1444نيسان/إبريل )2023بعد أن أقعده المرض بضع
سنوات.
لقد كان من بُعد النظر أن يبادر القائمون على مركز عبدالرحمن السديري
الثقافي إلى استقطاب العالمة الدكتور عبدالرحمن األنصاري في العام ١٤١٩هـ
(١٩٩٩م) لتأسيس مجلة أدوماتو المتخصصة بعلوم اآلثار ،ورأس تحريرها لنحو
سبعة عشر عاماً ،تتويجاً لعالقة قديمة ربطت العالمة األنصاري بالمركز،
فقد دأب على زيارة منطقة الجوف وإلقاء محاضراته والمشاركة في ندوات
دار الجوف للعلوم .وال ينسى المجتمع الثقافي تلك الندوة الكبرى التي عقدت
في رحــاب المركز عام 1994وأعلن خاللها الدكتور األنصاري أن الحضارة
العربية بدأت من الشمال ،ومن منطقة الجوف تحديداً ..وليس من الجنوب كما
هو سائد ،وأن ملكة سبأ بلقيس كانت في دومة الجندل ال في اليمن .وحينها
خصصت الصحف ،ومنها جريدة عكاظ ،ندوات كبرى على صفحاتها لمناقشة
األمر ،باستضافة مستفيضة للعالمة األنصاري وغيره من المختصين..
إنه واحد من األعالم الذين فقدتهم المملكة والعالم العربي على حد سواء..
رحم اهلل الراحل الكبير ،وأجزل له المثوبة واألجر ،وعفا عنه.
5 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
افتتاحية
رحيل العالمة د .عبدالرحمن بن محمد الطيب األنصاري
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 6
ملف العدد
■ د.عبدالواحد احلميد*
7 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
أيضاً كإداري أكاديمي؛ فقد تولى رئاسة قسم الجزيرة العربية ،وطرق التجارة بين المراكز
التاريخ ورئاسة قسم اآلثار ووكالة عمادة كلية الحضرية الــتــي كــانــت قائمة فــي األزمــنــة
األداب ،وعمادة الكلية ،واإلشراف على مركز الغابرة.
وق ــد مـــارس الــدكــتــور األن ــص ــاري دوراً خدمة المجتمع والتعليم المستمر بالجامعة،
وكان حريصاً في كل تلك المواقع اإلداريــة توعوياً ،خــارج إطــار عمله األكاديمي ،من
األكاديمية على تطوير األداء ،متسلحاً بما خالل المحاضرات والندوات التي أقامها أو
اكتسبه من معارف في دراســتــه بالخارج ،شارك فيها للتعريف بآثار الجزيرة العربية.
ومستفيداً من تراكم تجاربه في المواقع فــكــان لــه حــضــو ٌر مشهود فــي الملتقيات
الثقافية واالجتماعية ،وكــان يوظف هذه المختلفة.
الملتقيات لنشر الوعي بأهمية اآلثار ،وبما ولم ينغلق الدكتور األنصاري على نفسه
تختزنه بالدنا منها ،وما ينبغي علينا جميعاً برج عاجيٍّ في دنيا األكاديميا ،بل خرج في ٍ
أن نقوم به تجاه هــذا اإلرث اآلثــاري حتى إلى الميدان .منقِّباً في المواقع األثرية في
لو لم نكن من علماء اآلثــار .وكان كثيراً ما مختلف مناطق المملكة ،وكاشفاً عن كنوزها
يكتب في الصحف عن ذلك ،وكذلك يدلي اآلثارية التي ظلت على مدى قــرون طويلة
بتصريحات لوسائل اإلعالم المختلفة. مــطــمــورة وبــعــيــدة عــن األعــيــن ،حــتــى ظن
وقــد تــعــرفــتُ على الــدكــتــور األنــصــاري كثيرون أن هذه الجزيرة العربية ليست إ ّالَ
م ــن خـ ــال بــعــض الــفــعــالــيــات الــثــقــافــيــة بحاراً من الرمال ،ولم تشهد حضارات ذات
فــي المهرجان الــوطــنــي لــلــتــراث والثقافة شأن ،وأن كل ما يرِ د من كتابات متناثرة في
(الجنادرية) بالرياض ،ومنتديات دار العلوم بعض الكتب القديمة عن ممالك غابرة في
بــالــجــوف (مــركــز عــبــدالــرحــمــن الــســديــري شبه الجزيرة العربية ما هو إ ّالَ أساطير ال
الثقافي الحــق ـاً) ،لكن معرفتي اللصيقة يوجد ما يثبت وجودها على أرض الواقع!
به كانت عندما زاملته في الــدورة الثانية قــادتــه أبــحــاثــه إل ــى مــوقــع قــريــة الــفــاو
مــن مجلس ال ــش ــورى ،حــيــث كــانــت تجري التاريخية عاصمة مملكة كِ ــنــدة ،الواقعة
النقاشات تحت قبة المجلس ،ثم اشتراكنا إلــى الجنوب الغربي مــن مدينة الــريــاض؛
في عضوية بعض لجان المجلس ،فعرفت فترأس فريقاً علمياً للتنقيب في آثار القرية
الكثير مــن اهتمامات الدكتور األنــصــاري التاريخية ،وتوالت أعمال التنقيب على مدى
التي لم تكن مقتصرة على التاريخ واآلثار، عــدة مــواســم ،فكانت االكتشافات مذهلة،
وإنما كانت تتجاوز ذلك إلى قضايا الشأن وتبين أن منطقة الفاو كانت عامرة باألسواق
الــعــام ،وقضايا الثقافة بمعناها الــواســع. والمعابد والمساكن ،ود ّلَ ــت األدوات التي
وقد جمعتنا ،خالل عضويتنا في المجلس عُثر عليها على مدى التحضر الذي شهدته
أثناء تلك الدورة ،لقاءات جانبية مع زميلنا تلك المنطقة ،بما يكفي إلعادة كتابة تاريخ
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 8
ملف العدد
رئيس مجلس إدارة مركز السديري الثقافي ،فيصل بن عبدالرحمن السديري يكرم د .عبدالرحمن الطيب االنصاري رحمه اهلل خالل منتدى
عبدالرحمن السديري للدراسات السعودية ،المنعقد بدار العلوم بالجوف ،عام 1434هـ (2012م) ،وإلى اليمين د .سلمان بن عبدالرحمن السديري.
مــن الــدكــتــور زي ــاد والــدكــتــور عبدالرحمن في المجلس الدكتور زياد بن عبدالرحمن
األنصاري واألستاذ علي الراشد والدكتور السديري ،وكنا نناقش بعض أنشطة دار
سليمان الجريد وكاتب هذه السطور .وفي العلوم بالجوف (مركز عبدالرحمن السديري
النهاية ،تمخضت هذه النقاشات عن فكرة الثقافي) ،فانبثقت فكرة إصدار مجلة فكرية
إصدار مجلة تعنى باآلثار ،وهو ما يتناسب محكّمة عن المركز بدالً من مشروع آخر لم
مع طبيعة منطقة الجوف الغنية بالمواقع يُكتب له أن يرى النور ،وهو إصــدار مجلة
األثرية .وكــان من الطبيعي أن يتم اختيار باسم مجلة "الجوف" بعد أن توقفت مجلة
الدكتور األنصاري لرئاسة تحرير المجلة "الجوبة" عند العدد رقــم 13الــذي صدر
التي سُ مِّيت "أدومــاتــو" ،وهــو من األسماء بــتــاريــخ أكــتــوبــر 1997م الــمــوافــق جمادى
التاريخية القديمة لدومة الجندل بالجوف. اآلخرة 1418هـ ،والذي شارك فيه الدكتور
واســتــمــر الــدكــتــور األن ــص ــاري فــي رئــاســة األنصاري بكتابة مقال بعنوان "تاريخ الجزيرة
تحريرها وإثرائها وتوثيق العالقات بينها العربية القديم :دعــوة إلى البناء" ،وبــإدارة
وبين كبار اآلثاريين السعوديين والعرب حتى ندوة بعنوان "الحضارات القديمة في شمال
العدد رقم 35الذي صدر في يناير 2017م وشمالي غرب الجزيرة العربية منذ العصور
عندما حالت ظروفه الصحية عن االستمرار الحجرية وحتى عــام 570م" .وقــد شــارك
في رئاسة تحريرها ،فانتقلت الرئاسة إلى في تلك النقاشات التي تطورت وأصبحت
الدكتور خليل بن إبراهيم المعيقل الذي كان تتم في مكتب الدكتور زيــاد السديري كل
9 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
وف ــي ذل ــك الــحــفــل ،اســتــرجــع الــدكــتــور عضواً في هيئة تحريرها مع الدكتور عبداهلل
األنــصــاري بعض ذكرياته عندما عــاد في بن محمد الشارخ والدكتور محمد بن سلطان
عــام 1966م إلــى أرض الوطن من جامعة العتيبي .ومن حسن الطالع أن مجلة الجوبة،
ال
ليدز بعد حصوله على درجة الدكتوراه قائ ً التي كانت قد توقفت عن الصدور في ذلك
إنه كانت تحدوه آما ٌل عظام ،وإنه يتمنى أن الوقت عادت بعد ذلك لتستأنف صدورها
يتاح للمرأة "دخول قسم اآلثــار ،ليس فقط بتاريخ يناير 2006م الموافق محرم 1427هـ
لتدرس نصوصاً تاريخية ،ولكن لكي تنقب في عددها الذي حمل الرقم .14
عن اآلثار .فالمرأة أصبر على التنقيب في
وتقديراً لمكانة الدكتور األنصاري ،اختاره
طبقات األرض من الرجل الــذي يم ّل وقد
منتدى األمير عبدالرحمن بن أحمد السديري
ال يتحمل ،ولكن الــمــرأة تتحمل وتستطيع
أن تقوم بهذا العمل" .وقــد َمل َك الدكتور للدراسات السعودية أن يكون الشخصية
عبدالرحمن األنصاري الشجاعة أن يعبر المكرمة للمنتدى فــي دورتـــه الــســادســة،
عن رأيه في دخول المرأة مجال اآلثار في المنعقدة عــام 1434هـــ 2012م ،التي كان
ذلك الوقت الــذي لم تكن الظروف مواتية عنوانها "آثــار المملكة العربية السعودية:
حين قــال" :أشعر أن كثيراً ممن يستمعون إنقاذ ما يمكن إنــقــاذه" ،وقــد قدمه رئيس
إليَّ ال يرغبون في ذلك ،ولكن أشعر أيضاً مجلس إدارة مؤسسة عبدالرحمن السديري
أن المرأة تستطيع وتستطيع وتستطيع" .وقد الــخــيــريــة (مــركــز عــبــدالــرحــمــن الــســديــري
تحققت آمال الدكتور األنصاري بعد سنوات الثقافي) األمــيــر فيصل بــن عبدالرحمن
من تلك الكلمة التي ألقاها في قاعة دار السديري بقوله إن "هيئة المنتدى اختارت
العلوم بمركز عبدالرحمن السديري الثقافي عالماً ســعــوديـاً ليكون شخصية المنتدى
بالجوف ،وأصبح بوسع الــمــرأة السعودية ال ــذي يُــكــرم فــي ه ــذا الــحــفــل ،وه ــو مثال
أن تــدرس اآلثــار في الجامعات السعودية للعالِم الذي بذل الكثير من الجهد والوقت
وتتخصص فيها ،وتــشــارك أخــاهــا الرجل في سبيل خدمة قطاع اآلثــار في المملكة،
في الكشف عن الكنوز اآلثارية التي تضمها أســتــاذاً جامعياً ،وبــاحــثـاً مــيــدانــيـاً ،منقباً
بالدنا في جميع مناطقها. ومكتشفاً وموثقاً ومؤلفاً للعديد من الكتب
رحـ ــم اهلل ال ــع ــا ِل ــم الــكــبــيــر ،الــدكــتــور والمطبوعات في مجال اآلثــار والحضارة
عبدالرحمن الطيب األنصاري ،وجزاه خير السعودية" .وفي حفل التكريم ،الذي أ ُلقِ يَتْ
الجزاء على ما بذله من جهود عظيمة في خالله العديد من الكلمات ،كان تأثر الدكتور
مجال اآلث ــار ،والتعليم الجامعي ،والفكر األنصاري بالغاً ،إذ علَّق قائالً ":لم أستطع أن
والثقافة ،وما قدّمه لوطنه من عطاءات في أمسك نفسي من أن تنزل دمعاتٌ من عيني
مختلف المجاالت. في هذه المناسبة!".
اقتصادي ،وكاتب سعودي. *
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 10
ملف العدد
11 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
توطدت عالقتي بالدكتور األنصاري خالل كهل) ،وقد أماطت أعمال التنقيب اللثام عن
دراستي لمرحلة البكالوريس ،وبعد تخرجي موقع أثري ومدينة قديمة يعود تاريخها إلى
عام 1983م تم تعييني معيداً بالقسم ،وبدأت فترة القرن أألول قبل الميالد إلــى القرن
مرحلة البحث عن قبول لدراسة الماجستير الرابع الميالدي ،والتي كانت عاصمة لدولة
والدكتوراة ،كان رحمه اهلل شديد الحرص كندة.
على إرسال المعيدين إلى أفضل الجامعات، في عام 1978م أسس الدكتور األنصاري
وابرز أساتذة اآلثار في العالم ،وكان يحرص قــســم اآلثـ ــار والــمــتــاحــف ،وأصــبــح رئيساً
على ابتعاث المعيدين إلــى دول مختلفة، للقسم حتى عام 1988م ،حيث تولى القسم
بــهــدف تنويع الــمــدارس العلمية ،وتكوين بقيادة األنــصــاري تأسيس مــدرســة أثارية
عــاقــات علمية مــع جــمــيــع األق ــس ــام في سعودية خرّجت عــدداً كبيراً من الطالب
الجامعات ،لذلك حرص أن يطبق هذا المبدأ المتخصصين بعلوم اآلثار المختلفة ،وتوسع
على مجموعتنا من المعيدين ،وكنا خمسة.. القسم في أعمال التنقيب في موقع الفاو،
ابتعثت انا إلى جامعة درم بإنجلترا ،والزميل وأضيف إليه موقع الربذة الذي يعود للعصر
الــدكــتــور عبدالعزيز الــغــزي إلــى أمريكا، اإلســامــي ،وأصبح تخصص اآلثــار يدرس
والــدكــتــور عــبــداهلل العمير إلــى إسبانيا، بالقسم من خالل مسارين أحدهما لألثار
والدكتور حميد المزروع إلى بريطانيا ،أما القديمة..
الزميل الخامس فلم يباشر العمل وانسحب
في صيف عام 1400هـــ ،بدأت معرفتي
من الترشيح.
بالفقيد األنــصــاري ،حيث تقدمتُ للقبول
هــذا التوجه الــذي كــان يتبناه الدكتور بــهــذا الــقــســم الــجــديــد ،وك ــان مــن شــروط
األنصاري مارسه مع المعيدين الذين سبقونا القبول إجراء مقابلة شخصية للمتقدم ،وكان
ومــع مــن جــاء بعدنا ،وقــد أثمر بعد عــودة رحمه اهلل يــرأس لجنة المقابلة ،ويحرص
المعيدين وحصولهم على درجة الدكتوراة، على اختيار الطالب الذين لديهم الرغبة في
فتميز قسم اآلثار بهذا التنوّع ،وبالمدارس دراسة هذا العلم الجديد .كانت لجنة المقابلة
العلمية المختلفة التي أسهمت في تميز برئاسة الدكتور األنصاري ،وعضوية الدكتور
القسم وبناء عالقات علمية قوية مع جميع وفيق غنيم ،والدكتور غانم وحيدة .كان أول
الجامعات العالمية. سؤال وجه لي من قبل الدكتور األنصاري،
بــعــد حــصــولــي عــلــى درجـ ــة الــدكــتــوراة لماذا ترغب دراسة اآلثار ،فأجبته إنني قادم
وعــودتــي إلــى قسم اآلثــار وتعييني أستاذاً من الجوف ذات اإلرث الحضاري ،وأود أن
مساعداً ،توثقت عالقتي بأستاذي الدكتور أدرس اآلثار لخدمة وطني واالهتمام بأثار
عبدالرحمن األنــصــاري من خــال الزمالة الجوف .فرد األنصاري ،ما دام لديك هذا
في القسم ،والمشاركة في أعمال التنقيب الوعي فأهال بك في قسم اآلثار.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 12
ملف العدد
األثري في موقع الربذة ،وزيارة موقع الفاو2017 .م ،عندما تخلى عن رئاسة التحرير
كان رحمه اهلل قريباً من الجميع ،وكنا نرى بسبب مرضه .وخالل تلك الفترة ،عملت مع
فيه األب الروحي الذي يرعى جميع منسوبي أستاذي الدكتور األنصاري في إدارة تحرير
المجلة ،وكنا نلتقي عدة مرات في الشهر، قسم اآلثار من األساتذة والموظفين.
كان يعاملنا بعد العودة من البعثة كزمالء ،وقــد أكسبتني تلك الــلــقــاءات معرفته عن
ولــم يشعرنا أننا كنا طالبه فــي القاعات قرب ،وكان يمنحني وزميلي الدكتور عبداهلل
الــدراســيــة وفــي ميادين التنقيب األث ــري ،الشارخ مساحة كبيرة للقيام بأعمال التحرير،
وعــمــل عــلــى تمكيننا مــن مــفــاصــل العمل وإبداء الرأي فيما يطرح على هيئة التحرير
األكاديمي ،وإتاحة الفرصة للجميع للوصول من أبحاث مقدمة للنشر ،وكان يطلب منا
للمواقع القيادية على مستوى القسم والكلية،
إبداء الرأي عن مواضيع تلك األبحاث ومدى
وهذه صفات الكبار من األساتذة الذين يرون
مالءمتها للنشر ،واقتراح أسماء المحكمين.
في هذا التوجه دفعاً لمشروعهم الوطني،
العمل مع الدكتور األنصاري في تحرير والمتمثل في خلق مدرسة أثارية سعودية
أسهمت في تحقيق أهــداف الدولة ،لصون مجلة أدوماتو -خالل السبعة عشر عاماً
التراث الوطني ،وحمايته ،ودراسته ،ونشرة .التي تــرأس فيها هيئة التحرير -أكسبني
المرحلة الثالثة من عالقتي بأستاذي خبرة عملية واسعة ،وقدرة على إدارة تحرير
الــدكــتــور عــبــدالــرحــمــن األن ــص ــاري تمثلت المجلة بعد أن ترجّ ل عن رئاسة تحريرها.
إن غياب األستاذ الدكتور عبدالرحمن بترشيحي لــعــضــويــة هيئة تــحــريــر مجلة
أدوماتو ،بالتوافق بينه وبين سعادة الدكتور األنــصــاري عن المشهد اآلث ــاري السعودي
زياد بن عبدالرحمن السديري ،مدير عام
والــعــربــي س ــوف يــتــرك فــراغ ـاً ال يــع ـوّض،
مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية،
وسوف يظل أستاذنا حاضراً بيننا من خالل
حيث عملت أنــا والزميل الدكتور عبداهلل
إرثه العلمي الذي يتمثل في كتبة التي تزيد
الشارخ مع الدكتور األنصاري في التحضير
عن الثالثين كتاباً ،وبحوثه العلمية التي تزيد
لصدور مجلة أدوماتو تحت مظلة مؤسسة
كذلك عن الخمسين بحثاً. عبدالرحمن السديري ،وبدعم كامل منها.
رحم اهلل الدكتور عبدالرحمن األنصاري رأس الــدكــتــور عبدالرحمن األنــصــاري
تحرير مجلة أدومــاتــو منذ ص ــدور العدد رحمة واسعة ،وأدخله فسيح جناته ،وجعل
علم صدقة جارية له إلى
األول في شهر يناير عام 2000م حتى العدد كل ما قدمة من ٍ
الخامس والثالثين الــذي صــدر في يناير يوم الدين.
رئيس جامعة حائل سابقا. *
13 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
لم
ع ٌمو َ
األنصاري عا ِل ٌ
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 14
ملف العدد
آخر ،حتى اكتظت بعدد األقسام في مختلف وتؤكد آمال األمة .وفقكم اهلل في ظل العاهل
العلوم ،وكــان الهدف أن يكون في كل قسم المفدى ،وأدام سموكم راعياً للنهضة الحديثة
نواة من السعوديين تكون مهمتها ليس فقط المباركة».
التدريس ،ولكن معرفة الكفاءات التي يستعان ولعل ما كتبه األنصاري يعبر عن لسان حال
بــهــا فــي كــل قــســم ،فنجحت ه ــذه الخطة، زمالئه الــذي يجسد الوعي والطموح لجيل
وتطورت مع تطور الجامعة التي أصبحت من
نشأ مع اكتمال كيان الوطن ،المملكة العربية
أرقى الجامعات.
السعودية ،وإرس ــاء وحــدتــه ،وبــدايــة النهضة
تــولــى الــدكــتــور األنــصــاري تــدريــس تاريخ التنموية.
الجزيرة العربية القديم ،والتاريخ اإلسالمي
وجاءت البشائر بصدور األمر الملكي رقم
المبكر .كانت أول محاضرة سمعتها منه-
( 17وتاريخ 21ربيع الثاني 1377هـــ) بإنشاء
بــدون اســتــئــذان -غـيَــرتْ مسار دراســتــي في
جامعة الملك سعود .لكن الدكتور األنصاري
مرحلة البكالوريوس .وبعد انتهاء المحاضرة
كان قد ابتعث لمصر لدراسة اللغة العربية
وقفت في الخارج ريثما يغادر القاعة ،قلت
فــي كلية اآلداب بجامعة القاهرة (-1376
له يا دكتور عبدالرحمن أرغــب في االنتقال
1380هـ) الموافق (1960-1856م) ويعود إلى
من الجغرافيا إلــى قسم التاريخ .رحــب بي
أرض الوطن معيداً في كلية اآلداب في جامعة
أجمل ترحيب ،وبعد أن تبين له مدى جديتي
الملك سعود.
واف ــق على انضمامي لقسم الــتــاريــخ .فقد
كانت كلية اآلداب قد استقرَتْ في مدرسة
أســرنــي حــديــثــه فــي مــحــاضــراتــه ،وأســلــوبــه
المميز في سرد األحداث التاريخية المطعمة بنيت على الطراز الحديث -في حي الملز-
وجَ ــمــعــتْ على صغرها الــفــصــول الــدراســيــة
بلمسات مــن الــحــضــارة واآلثـ ــار .كــان تطرق
واإلدارة ومسكن الــطــاب ،لــدرجــة أن أول
إلــى الــرحــالــة الغربيين مــن إنجليز وألــمــان
وفرنسيين ومؤلفاتهم ،وعــرج على الكتابات عميد لها (األســتــاذ مصطفى السقا ،رحمه
العربية القديمة وأشكال حروفها ،ومضامين اهلل) ،كان يذهب إلى غرفة الطالب المتأخر
نصوصها .بدأنا نستوعب بالتدريج الخط في النوم ليوقظه ويحثّه على الدراسة .وبدأت
الجامعة بعدد قليل من الطالب ال يزيد عن
المسند الــجــنــوبــي والــشــمــالــي ،والــكــتــابــات
واحد وعشرين طالباً ،وحسب ما رواه معالي
الــدادانــيــة واللحيانية ،واآلرامــيــة والنبطية،
والمخربشات (الجرافيتية) التي أطْ لق عليها الدكتور عبدالعزيز الخويطر (رحمه اهلل) أمين
كتابات البادية ،والتي شاع اسمها في كتابات عام الجامعة آنذاك« ،أنه لما قيل لسمو األمير
(الملك فهد) وزير المعارف حينئذ إنه ال يصبح
المستشرقين باسم (الثمودية).
كان األنصاري يظل واقفاً أمامنا طوال مدة اقتصادياً افتتاح جامعة لواحد وعشرين طالباً،
قال إننا نزرع نخلة لتظلل غداً آالفاً ،وإذا لم المحاضرة ،وال يجلس على مقعده المخصص
إالَ نادراً ،وال يملي علينا من كراس أو ملزمة، تكن اليوم اقتصادية فغداً تكون»!
تتالى إنشاء الكليات في الجامعة عاماً بعد كل ما كــان بيده ورقــة صغيرة ،فيها رؤوس
15 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
رئيس مجلس إدارة مركز السديري الثقافي ،فيصل بن عبدالرحمن السديري ،وإلى يساره د .عبدالرحمن الطيب االنصاري،
شخصية منتدى عبدالرحمن السديري للدراسات السعودية ،المنعقد عام 1434هـ (2012م).
يوم قدَمت ما أعددته على استحياء للدكتور أقــام ،يتتبعها بدقة ،ويطلب -من الجميع
األن ــص ــاري ،وبــعــد أي ــام اســتــدعــانــي لمكتبه المشاركة فــي المناقشة ،وال يُغفل أحــداً.
وناقشني فيما كتبت ،وشكرني على اجتهادي، كان عدد طالب القاعة ال يتجاوز العشرين
وشجعني على االســتــمــرار والــمــثــابــرة فقد طالباً ،وجميعهم يُصغي ،ويطرب لما يسمع،
يأتي اليوم الذي أراك فيه محاضراً في هذه ويدون ما هو مكتوب على السبورة ،وال يغادر
الجامعة! المحاضرة حتى يطلب من الجميع التحضير
لموضوع محدد يلقيه على مسامع زمالئه في
فــاجــأنــا الــدكــتــور األن ــص ــاري بالتحضير
المحاضرة القادمة.
الجتماع عام لطالب الكلية في المدرج رقم
( )26وكان العدد يزيد عن المئة طالب ،وبحضور وهــكــذا بــدأت رحلتي مــع التاريخ واآلثــار
عدد من أساتذة الكلية ،وأخبرنا أ َن الجامعة -ليست كمنهج دراســي محدد ،ولكنها كانت
وافقت على تأسيس جمعية للتاريخ واآلثــار، مــجــرد تلميحات تمهيدية لمعرفة مصادر
ويكون لها هيئة إدارية ،ولجنة فرعية للطالب، التاريخ القديم ،إضافة إلى القرآن والسنة،
وهي الواسطة بين الطالب والهيئة اإلدارية، والمصادر التاريخية العربية واألدبية ومنها
وتدعى عند الحاجة إليها ،وعليها المساعدة الشعر الجاهلي.
في تنفيذ مختلف أوجه نشاط الجمعية .تم أتذكر أنــي استعرت كتاب جرجي زيــدان
االقــتــراع على انتخاب الهيئة اإلداري ــة للعام (تاريخ العرب) فوجدت فيه نقش امرؤ القيس
الدراسي 1388/87هـــــ(1968/67م) برئاسة الــمــعــروف للمختصين ،فعكفت على رسم
أ .د .عبدالعزيز صالح (رئيس قسم التاريخ) وتحبير كامل النقش ،وتفكيك حروفه ،ومطابقة
ويتولى سكرتارية الجمعية الدكتور األنصاري، أسطره ،واجتهدت في معرفة مضامينه .وبعد
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 16
ملف العدد
أن نراه في المستقبل أستاذاً جامعياً في هذه وفــي الــعــام الــتــالــي تــولــى الــرئــاســة الدكتور
الــجــامــعــة» .تلك الــعــبــارات تــوضــح الجوانب األنصاري.
اإلنــســانــيــة ألســتــاذ ومعلم عظيم فــي علمه أمــا اللجنة الفرعية الطالبية فقد فاز
وأخالقه ،وتعامله مع طالبه والتي الزمته في
برئاستها الطالب سعد الناصر الراشد .كان
حياته العلمية والعملية واإلداري ــة وحواراته
ال مع قامة
شرفٌ عظيم أن أعمل عضواً فاع ً
الفكرية.
من العلماء أساتذتي في قاعة الدرس وزمالء
تعلمت أن ــا وزمــائــي فــي تــلــك المرحلة في العمل التطوعي لخدمة التاريخ والتراث
المبكرة ،أدب الحوار والمناقشة ،واالستماع، الحضاري لبالدنا العزيزة.
والتعامل مع المصادر العلمية ووسائل اإليضاح
وهكذا ،بدأت الجمعية نشاطها ،في تنظيم
الــمــتــوافــرة ومنها آلــة السينما ،والــفــانــوس
الرحالت إلى المناطق القريبة من الرياض
السحري.
(الــدرعــيــة ،والجبيلة ،والعيينة ،وس ــدوس)
ويــعــد مــوســم الجمعية الــثــانــي فــي العام التي لم يكن الوصول إليها في ذلــك الوقت
بــاألمــر الــســهــل ،وقــد أكــرمــنــي اهلل أن أكــون 1388هـــ (1969م) من المواسم التي تركت
مــن المتحدثين بــجــوار الدكتور األنــصــاري ،أثرها وآثارها العلمية والفكرية .قدم عميد
والــشــعــفــي ،وعــبــدالــرحــمــن الــحــجــي ،ونــافــع الكلية الــدكــتــور عــزت الــنــص بحثاً متفرداً
الــقــصــاب .لــقــد شــعــرنــا أن ه ــذه الــرحــات بعنوان «التقديس وآثاره الجغرافية» ،والدكتور
التي توالت طــوال مرحلة دراستنا الجامعية عبدالرحمن الحجي عن «اآلث ــار اإلسالمية
أثمرت في نشر الوعي األثــري والتاريخي ،في األنــدلــس» ،و«أض ــواء جديدة على تاريخ
الخليج العربي للحديث» للدكتور عبداألمير
وإلقاء الضوء على مناطق تاريخية لها دورها
محمد األمين ،و«المدرسة والتعليم في بالد
الحضاري قبل اإلسالم وبعده.
الرافدين» للدكتور محمود األمين ،و«تقويم
وتوالت رحالت الجمعية إلى مناطق أبعد جديد للدعوة العباسية» للدكتور فاروق عمر
من الرياض ،فامتدت إلى الخرج والدوادمي ف ــوزي ،وقــدم الــدكــتــور األنــصــاري محاضرة
وشمالي المملكة .واشتملت مناشط الجمعية بعنوان «لمحات عن القبائل البائدة في الجزيرة
إضــافــة إل ــى الــحــفــات وال ــرح ــات تنظيم العربية» ،وهي أربع قبائل (عاد وثمود وطسم
الــمــحــاضــرات وعـ ــرض األفــــام التاريخية وجــديــس) .وقــد مهدت محاضرة األنصاري
واألثـــريـــة ،والــنــشــاط اإلع ــام ــي ومــشــاريــع هذه األسس السليمة لتحقيق مواطن القبائل
الجمعية .وكم كنت ممتناً عندما ألقيت بحثاً -التي أطلق عليها (بائدة)« ،وأن دراسة تاريخ
وأن ــا فــي السنة الــرابــعــة -بــعــنــوان « :مدينة القبائل البائدة إنما تــدرس تاريخ فترة من
سامراء وآثارها اإلسالمية» كان ذلك في 8تاريخ قبائل وسكان شبه الجزيرة العربية،
رمضان 1388هـ .عل َق بعدها أستاذي الدكتور ولذا يجب أن ال نصد عن دراسة هذه القبائل
األنصاري بما أثلج صدري ورفع من معنوياتي البائدة» .وتسميتها بالبائدة -يقول األنصاري-
وخاصة عندما قال« :إنني أتنبأ لهذا الطالب «إنما هي من وضــع ٌكـتَــاب الــعــرب ،وال أظن
17 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
في منتدى عبدالرحمن السديري للدراسات السعودية ،المنعقد بدار العلوم بالجوف ،عام 1434هـ (2012م) بعنوان :آثار المملكة العربية السعودية
إنقاذ ما يمكن إنقاذه .من اليمين د .سعد البازعي ،د .عبدالراحد الحميد ،د .عبداهلل مصري ،د .عبدالرحمن األنصاري ،د زياد الدريس.
1383/11/8هـــ ،وصدر نظام اآلثار باألمر أن شيئاً يبيد طالما أنه ترك أثراً يدل عليه،
الملكي رق ــم م 26/فــي 1392/6/22هــــــــ، واآلثار هي وسيلتنا إلى التوصل إلى معلومات
وإنشاء المجلس األعلى لآلثار ،وتولى الدكتور ومعارف كثيرة عمن سبقونا وعما سبقتنا من
عبداهلل حسن مصري بعد عودته بالدكتوراه حضارات»! واختتم محاضرته تلك بقوله « :ال
في اآلثار القديمة عام 1973م ،إدارة اآلثار، نشك أن هناك دوراً حضارياً أدته هذه القبائل،
وكان الدكتور األنصاري عضواً في المجلس ولكن هذا الدور الحضاري ال يمكن أن نقومه
األعلى لآلثار من بداية تكوينه ،واستمرت حق التقويم إالَ إذا أجريت تنقيبات أثرية في
عضويته في المجلس حتى ضم وكالة اآلثار األماكن التي يظن أن فيها آثــاراً لهذه األمم.
والمتاحف بقرار من الدولة إلى الهيئة العليا ويجب علينا أن نعضد دائ ــرة اآلث ــار بــوزارة
للسياحة ،ليتم اختياره عــضــواً فــي مجلس المعارف ،وأن نقوم بحفريات أثرية تشاركها
اإلدارة برئاسة صاحب السمو الملكي األمير جامعة الرياض في ذلك ،في مناطق متعددة
سلطان بن عبدالعزيز (رحمه اهلل) ،ثم يختاره في الجزيرة العربية ،في وسطها وفي غربيها
صــاحــب السمو الملكي األمــيــر سلطان بن
وفي شرقيها وفي شماليها .ويختم محاضرته
سلمان بن عبدالعزيز رئيس الهيئة العامة
بقوله« :وأنــا أعتقد أن إجــراء تنقيبات في
للسياحة واآلثار في اللجنة االستشارية لآلثار،
الجزيرة العربية سيغير ويضيف كثيراً من
واستمرت عضويته حتى اشتد عليه المرض.
الحقائق ،ال بالنسبة للجزيرة العربية فحسب،
ولقد كــان الدكتور األنــصــاري خير معين مع
ولكن بالنسبة للشرق األدنى كله ،إذ إن الجزيرة
الدكتور المصري في النهوض بــإدارة اآلثار
العربية كانت هي مصدر الجنس السامي الذي
ودورهــا العلمي ،والميداني ،وتأسيس البنى
أضاف لإلنسانية وللحضارة الشيء الكثير».
التحتية لآلثار والمتاحف .وإزاء ذلك كانت
الحاجة ملحة أن تستجيب الجامعة بإدخال كانت إدارة اآلثار السعودية قد تأسست
شعبة لتدريس اآلثار في قسم التاريخ ،ثم رأى بــاألمــر الــســامــي رق ــم ( )26489وتــاريــخ
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 18
ملف العدد
أوربا أو أمريكا ،وليس فقط الوجهة والمكان المجلس األعلى لآلثار بعد ذلــك أن تتحول
فحسب ،بــل التأكد مــن تــوافــر األكاديميين شعبة اآلثـــار إلــى قسم لــآثــار والمتاحف،
المؤهلين لإلشراف العلمي ،علماً أن خريجي في عام 1978م ،وبهذا شهدت اآلثــار تحوالً
قسم اآلثار في الجامعة المبتعثين كان قبولهم كبيراً في المجال البحثي الجامعي واإلداري
ميسراً في دول االبتعاث نظراً لكفاءتهم العالية والتنظيمي المؤسسي من قبل المجلس األعلى
في التدريب الميداني وحصيلتهم المعرفية في لآلثار.
مرحلة البكالوريوس. أما تأسيس قسم اآلثار والمتاحف بجامعة
ولــد قسم اآلث ــار والمتاحف فــي المبنى الملك سعود ،فقد تم على أسس علمية ذات
الرئيس لكلية اآلداب الذي لم يتبق فيه متسع أبعاد للمستقبل ،فعمل الدكتور األنصاري مع
الستيعاب األقسام الجديدة؛ فاستؤجر مبنى زمــائــه المختصين فــي التاريخ والحضارة
مالصق للكلية بالمشاركة مع قسم الدراسات واآلثار على معرفة تجارب المعاهد واألقسام
االجتماعية ،لكنه لم يستوعب متطلبات قسم األكاديمية والبحثية المعنية بدراسات تاريخ
اآلثــار ،فاستجابت الجامعة الستئجار مبنى وآثــــار الــشــرق األدنــــى الــقــديــم والــحــضــارة
مستقل ،وتــم تجهيزه إداري ـ ـاً وفنياً ومكتبة اإلسالمية ،في مختلف بالد العالم بما فيها
متخصصة في اآلثار وعلوم المتاحف ،وبعدها عالمنا العربي ،وتم التواصل معهم بخصوص
انتقل القسم إلى حرم الجامعة الجديد في عـــزم الــجــامــعــة عــلــى افــتــتــاح قــســم لــآثــار
الدرعية. والمتاحف ،وهو األول في الجزيرة العربية،
فــجــاءت الـ ــردود اإليــجــابــيــة المشجعة لهذه
وخالل هذه التحوالت المكانية كان القسم الخطوة ،وتم االستفادة من التجارب السابقة
يتطور ميدانياً وعلميًا وعمليًا ،ومــا هي إال من الناحية العلمية والمنهجية ،التي تتماشى
سنوات معدودة ليشهد القسم عــودة الطيور مع الخطط األكاديمية التي تتناسب مع خطة
المهاجرة للعلم ،وقد نالوا الشهادات العليا في تأسيس القسم ،الــذي نهض وتطور واشتهر
اختصاصات متنوعة في اآلثار. عالمياً ،وتخرّج فيه أجيا ٌل سلكوا طريق البحث
كانت حفائر قرية الــفــاو مــدرســة فريدة العلمي باقتدار ،ومنهم من شغل العمل المهني
للكشف األثــري والتدريب العملي الميداني األثري واإلداري في إدارة اآلثار ،وكانوا على
لــأثــاريــيــن الــشــبــاب ،وكــذلــك مــوقــع الــربــذة حسن الظن بهم.
اإلسالمي .وقد شكلت المكتشفات األثرية في كان اختيار المرشحين لالبتعاث الخارجي
الفاو والرَبذة مجموعة مهمة لمتحف الجامعة، للدراسات العليا يبنى على شروط وضوابط،
والمتحف الوطني على حد سواء؛ كما شكلت منها مــدى تمكن الطالب من مهارة البحث
تلك المعثورات مع المكتشفات في عدد من العلمي ،واكتسابه الخبرة في العمل الميداني،
المواقع األثرية األخــرى مادة مهمة لمعرض والــمــردود العلمي والمهني المتوقع منه بعد
روائ ــع آثــار المملكة ،الــذي أقيم فــي عديد التخرج ،وكذلك التزامه بالتخصص والمؤسسة
من المتاحف العالمية؛ في أوربــا ،وأمريكا، األكاديمية المرشحة لقبوله فيها ،سواء في
19 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
المناطق التي امتدت إليها الحضارة العربية والصين ،واليابان ،وكوريا الجنوبية ،وغيرها
واإلســامــيــة ،وقــد أسهم في االش ــراف على من المحطات.
عمل موسوعي تبنته المنظمة العربية للتربية وللدكتور األنصاري دور كبير في بث الوعي
والثقافة والعلوم (األليكسو) ،فصدر كتاب األث ــري فــي المجتمع الــســعــودي ،مــن خالل
المرجع في تاريخ األمة العربية. البرامج اإلذاعية ،والتلفزيونية ،والصحافة،
كــان الــدكــتــور األنــصــاري قــوي الحجة في ومحاضراته في األندية األدبية والرياضية،
مناقشاته مع العلماء الغربيين وغيرهم عندما واألكاديميات العسكرية ،والصوالين األدبية،
يجد أخطا ًء تروج عن تاريخ الجزيرة العربية والــمــدارس ،وخــاصــة خــال رحــات جمعية
وحضارتها .ويُحَ ب للدكتور األنصاري مبادرته التاريخ واآلثــار .لقد ترك األنصاري ذكريات
الفريدة في تبني جامعة الملك سعود تنظيم عطرة في المجتمع السعودي ،وقــد لمست
ندوة تاريخ الجزيرة العربية ،تقام على دورات هذا عند زياراتي للكثير من القرى والمدن في
متتابعة ،وتــتــنــاول تــاريــخ الــجــزيــرة العربية مناطق المملكة ،إذ وجدت كبار السن يذكرون
وحضارتها من أقدم العصور مــرورا ُ بالعصور زيارات األنصاري للمواقع األثرية والتاريخية
التاريخية قبل اإلسالم ،وعصر الرسول صلى في ديارهم .ففي تلك الرحالت التي تنظمها
اهلل عليه وسلم والخالفة الراشدة ،واألموية جمعية التاريخ واآلث ــار ،كانت المحاضرات
والعباسية ،وما بعدها من فترات تاريخية؛ وقد العامة التي يقدمها تركز على اآلثار والكتابات
استقطبت دورات ندوة تاريخ الجزيرة العربية والنقوش ،يحضرها أبناء المناطق بمختلف
المتوالية مئات الباحثين من جامعات ومراكز مشاربهم ومراحلهم العمرية ،وقد تركت تلك
بحثية من أوربا وأمريكا والصين وجنوب غربي المحاضرات أثــرهــا ،ومــا تــزال راســخــة في
آسيا وإفريقيا والعالم العربي واإلسالمي .كما ذاكرة أجيال تلك الفترة.
تحققت أمنية الدكتور األنصاري بتأسيس مجلة وللدكتور األنــصــاري مواقف مشرّفة في
علمية آثارية في المملكة العربية السعودية الندوات والمؤتمرات العلمية الدولية والقارية
تكون وعا ًء للبحوث والدراسات المتخصصة في واإلقليمية ،وقد رافقته في العديد منها ،فقد
التاريخ والحضارة ،يشارك فيها المختصون من كــان يؤمن برسالته التي يحملها وهــي إبــراز
أنحاء العالم ،فكانت والدة مجلة أدوماتو -مجلة الهوية التاريخية والحضارية التي تعتز بها
نصف سنوية محكمة تعنى بآثار العالم العربي- المملكة العربية السعودية ،وما شرّفها اهلل به
تتولى رعايتها وإصدارها مؤسسة عبدالرحمن بأن تكون أرضها مهبط الوحي ،والبيت الحرام،
السديري .وبفضل اهلل استوت المجلة على والحرمين الشريفين ،ومهوى أفئدة المسلمين
سوقها وذاع صيتها وانتشرت عالمياً. من كل فج ،وقبلتهم ،وإيمانه الصادق المبني
ولــأنــصــاري إســهــام كــبــيــر فــي اإلشـ ــراف على أســس علمية أن الجزيرة العربية هي
مركز الحضارات اإلنسانية المبكرة .ولهذا والتحرير والمراجعة لكتاب المرجع في تاريخ
كان دوماً يركز على الوحدة الحضارية للجزيرة األمــة العربية ،الــذي تبنته المنظمة العربية
العربية ،والنسيج الحضاري المشترك في للتربية والثقافة والــعــلــوم -وصــدر فــي سبعة
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 20
ملف العدد
العصور ،وقد لقيت الفكرة استحسان الحضور مجلدات عام 2007م ،وشارك في إعداده أكثر
من العلماء والمهتمين بتراث الجزيرة العربية من ( )300من خيرة المؤرخين والباحثين العرب.
وحضارتها .وتحقق المقترح بالتعاون بين وكــــان األنـ ــصـ ــاري ف ــي مــقــدمــة أعــضــاء
مؤسسة ليان الثقافية ومكتبة الملك عبدالعزيز اللجنة العلمية للكتاب الموسوعي (فروسية)
العامة باصدار عمل موسوعي «مجلدان باللغة الـ ــذي ص ــدر فــي مــجــلــديــن كــبــيــريــن باللغة
اإلنجليزية ( ،»)2020ومثلهما باللغة العربية. اإلنجليزية (عــام 1996م) ،ومثلهما باللغة
وقــد تم إهــداء هــذا العمل الموسوعي باسم العربية ( ،)2001ويحكي قصة الخيل عبر
مؤسسة ليان الثقافية ومكتبة الملك عبدالعزيز العصور وفنون الفروسية في تاريخ المشرق
العامة لألستاذ الدكتور عبدالرحمن الطيب والــمــغــرب ،وكــتــب بــحــثـاً عــن «الــحــصــان في
األنــصــاري ،رائــد العمل األثــري في المملكة آثار قرية الفاو» وكذلك عضويته في اللجنة
العربية الــســعــوديــة تــقــديــراً ووفـ ــا ًء لخدمته التحضيرية لمعرض فروسية برئاسة صاحب
لحضارة المملكة وتراثها .وقد تصدر العمل السمو األمير فيصل بن عبداهلل بن محمد
بحث للدكتور األنصاري -مشاركة مع تلميذه آل ســعــود ،وصــاحــب السمو الملكي األمير
الوفي الدكتور سالم بن أحمد طيران بعنوان أحمد بن سلمان بن عبدالعزيز (رحمه اهلل)
(الجمل في حضارة قرية الفاو) ،ومن محاسن الذي افتتح برعاية كريمة من خادم الحرمين
الــصــدف أن يصدر هــذا العمل متزامناً مع الشريفين الملك عبداهلل بن عبدالعزيز(ولي
العهد آنذاك) ودعم وتشجيع خادم الحرمين
مبادرة صاحب السمو الملكي األمير سلطان بن
الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز (أمير
سلمان بن عبدالعزيز (رئيس الهيئة العامة
منطقة الرياض آنذاك).
للسياحة والتراث الوطني-سابقاً) استحداث
جائزة الدكتور عبدالرحمن األنصاري لخدمة وفــي الــنــدوة المصاحبة للمعرض تحدث
الدكتور األنصاري مشيراً إلى أن الخيل مع
آثـ ــار الــمــمــلــكــة .وأمــلــنــا اســتــمــراريــة تنظيم
هــذه الجائزة لتبقى منصة عالمية للبحوث أهميتها في التاريخ ،إالَ أن الجمال (اإلبــل)
والــدراســات المعنية بآثار المملكة والجزيرة كــانــت أه ــم مــن الــخــيــل عــنــد الــشــعــوب ،ألن
الخيل ال يقتنيها إال األثــريــاء ،واالهتمام بها
العربية ،وبخاصة ونحن نشهد نقلة نوعية
مكلف في تربيتها ،وتدريبها ،واإلنفاق عليها،
للبحوث واالكتشافات األثرية في عموم مناطق
كما أن الخيل يقتصر استخدامها في معارك
المملكة في عهدنا الزاهر.
الكر والفر ،وفي األمور المستعجلة ،ولكنها ال
رحم اهلل الدكتور عبدالرحمن األنصاري تتحمل اجتياز الصحارى ،أو صعود الجبال ،أما
الجمل فهو سفينة الصحراء ،وفيه من المنافع وج ــزاه اهلل خير الــجــزاء على مــا قدمه من
مــا ال حصر لها ،وطــرح الدكتور األنــصــاري جهود ،ومــا تركه من إرث وم ــوروث تاريخي
فكرة إصــدار عمل موسوعي عن الجمل عبر وحضاري لألجيال القادمة.
مؤرخ وعالم آثار سعودي ،وكيل لوزارة المعارف لآلثار والمتاحف سابقًا. *
21 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
عبدالرحمن األنصاري الذي أعرف
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 22
ملف العدد
البحث العلمي فــي كليته ،وعــقـ َد مؤتمراً الدكتور عاصم البرغوثي إلى الطابق السفلي
حول هذا الموضوع ،وشرفني بأن أشاركه حيث قسم اآلثار ،ودفع بي إلى مكتب رئيس
بحثاً عنوانه «تأصيل منهج البحث األثري: القسم الدكتور الزيلعي ،وزاد هــذا الرائع
المشرق العربي أنموذجاً» ،ونشر هذا البحث الترحيب ترحيباً .وبعد هذا اللقاء اصطحبني
في مجلة «العصور» .ولم يكتف األنصاري الــدكــتــور عــاصــم فــي جــولــة عــلــى أعــضــاء
بهذا ،بل وخالل ترؤسه لمجلة أدوماتو التي هيئة التدريس بالقسم ،ومن ثم المتحف،
تصدر عن «مركز عبدالرحمن السديري والمختبرات .وكنت حيث أذهب أجد عضو
الثقافي» عقد مؤتمرات تخص اآلثار العربية هيئة تدريس أو فنيا أو إداريا عربيا من غير
في مدينة سكاكا /الجوف .وكأن األنصاري الجنسية السعودية ،فقد جمع األنصاري في
كان يريد أن يقول بهذا «أيها العرب ،الجزيرة القسم توافقاً عروبياً غير مسبوق .وبالطبع
العربية هي األصل والمكان» ،دون االفصاح انعكس هذا التجمع على المنهج التدريسي
عما بداخله .وكــان األنــصــاري من العلماء وطبيعة التدريس في القسم؛ وبخاصة إذا
العرب الذين دفعوا تجاه تأسيس «مجلس ما علمنا أن أعضاء هيئة التدريس خريجو
اتــحــاد اآلثــاريــيــن الــعــرب» ،فانتخب نائباً
جامعات عالمية وعربية معروفة ومرموقة.
لرئيس المجلس. وإذا كان النبض عروبياً ،فإن الدم سعوديّ ،
وأم ــا فــي العمل الــمــيــدانــي ،ففي أحد جيل من أبناء وطنه، إذ قرر األنصاري بناء ٍ
يحملون رايته؛ فكان يدفع بعديد من الشباب األيام طلب مني مرافقة الدكتور عبدالعزيز
السعودي إلى الخارج لدراسة التاريخ القديم الــغ ـزّي /عضو هيئة التدريس فــي القسم
آنذاك ،لزيارة موقع اسمه «الثمامة» ،وكانت واآلثار واللغات.
لم يخلع األنصاري عباءته السعودية ،بل سعادتي غامرة بهذه الزيارة .إذ إن الدكتور
بقي يحملها على كتفيه مباهياً ومعتزاً بها .حامد أبو درك كان قد أجرى تنقيبات فيه،
األهم من المعلومة هو نشرها والتعميم فاطلعنا على بعض المظاهر العمائرية،
بمعرفتها ،وحتى يتم هذا ..فقد عقد الدكتور وجمعنا كسرأً فخارية ،وكتبنا تقريراً مشتركاً
األنصاري العديد من المؤتمرات التي تتحدث حول نتائج هذه الزيارة.
أما الزيارة الميدانية األهم ،فهي الرحلة حول آثار العالم العربي بشكل عام ،والجزيرة
التي قــام بها قسم اآلث ــار والمتاحف عام العربية بشكل خ ــاص .إضــافــة لــهــذا فقد
1990م لزيارة الحفرية األثرية إلــى موقع دار للنشر (دار القوافل)حرص على تأسيس ٍ
الفاو .إذ ركب المشاركون باصاً نقلنا من في الرياض ،نشرت العديد من الكتب التي
الرياض ليقطع مسافة حوالي 700كم إلى تعنى بتاريخ الجزيرة العربية وآثارها بشكل
المنطقة الواقعة للجنوب الغربي من العاصمة خاص .كما أنني ما أزال أذكر اهتمامه بمنهج
23 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
أ .د .عبدالرحمن
االنصاري ،رحمه
اهلل.
ما أسعدنا أن كثيراً من الزمالء السعوديين الرياض .وكم كانت هذه الرحلة مفيدة لي،
قد عملوا بالحفرية حين كانوا طالباً بقسم إذ تعرفت على مناطق جغرافية قرأت عنها،
اآلثـــار والــمــتــاحــف ،وب ــدأ كــل منهم يسرد لكنني لم أحظ برؤيتها .وعندما وصلنا موقع
ذكــريــاتــه خــال مــشــاركــاتــه فــي الحفرية. الحفرية كان باستقبالنا وأعضاء الفريق،
وعندما أقبل الليل ،دعانا إلى جلسة نقاشية أذكــر من بينهم الدكتور عاصم البرغوثي،
حول ما رأيناه في الحفرية ،وطلب إلينا أن والمرحوم الدكتور محمود الروسان اللذان
ندلي بدلونا ،أي كان يطلب المشورة العلمية شاركا في معظم إن لم يكن جميع مواسم
من كل منا. التنقيب التي جــرت في الفاو في سنوات
أما عالقتي الشخصية مع أبي محمد، السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت.
فكانت عالقة األخ الكبير والصديق الوفي، بدأ األنصاري بشرح ما اكتشف؛ المعابد
طيلة المدة التي عرفني بها .فقد حدث أن والمقابر ،والسوق التجارية ،والكتابات .كان
نشرت كتاباً عام 1990م ،أي حين كنت أعمل يقدم المعلومة حــول كــل أثــر فــي الموقع،
في قسم اآلثار بجامعة الملك سعود عنوانه وكــأنــه يــقــول هنا «ق ـرّيــة» عاصمة مملكة
«العصور الحجرية في األردن» ،فأهديته كنده العربية .لكم أن تــروا كيف أن هذه
نسخة منه .بعد مدة طلب مني نسخة أخرى، المملكة التي أنشئت على أط ــراف الربع
وبعد أن أحضرتها ،طلب إلــي أن أرافقة الخالي قد كان لها دو ٌر عظي ٌم باالتصاالت
لزيارة معالي وزير التعليم العالي (أذكر أنه الحضارية العالمية ،بشهادة المكتشفات
العنقري) وطلب إلي أن أقدم نسخة الكتاب األثرية والكتابات المكتوبة بخطوط مختلفة،
لمعاليه بنفسي ،وهذا يدل على مدى اعتزازه وبخاصة العربية الجنوبية المسندية .وأكثر
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 24
ملف العدد
بي .بل أكثر من ذلك ،أذكر فيما أذكر ،أنه السعودية مثلها .ظل حبل الــود األنصاري
قال لي «يسعدني جــداً أن تكتب كتاباً عن مــمــدوداً مع جميع من عملوا بقسم اآلثــار
تاريخ الجزيرة العربية وآثارها قبل اإلسالم ،والــمــتــاحــف بجامعة الملك ســعــود .وبقي
وأحمد اهلل أنني حققت له هــذه األمنية ،األمر هكذا حتى علمنا أن الهرم السعودي
ونشر لي كتاب بهذا العنوان عن طريق مركز يعاني من المرض ،وبقينا على تواصل مع
عبدالرحمن السديري الثقافي في الرياض األخــوة السعوديين والعاملين معه سائلين
عام 2017م .وأكثر من هذا ،فقد اختارني عن أحواله ،داعين له بالشفاء والعافية ،لكن
عضواً للهيئة االستشارية لمجلة «أدوماتو» ،كانت يد القدر أقوى من دعائنا.
كما أنــه أشركني بجميع المؤتمرات التي
وهكذا ،غاب جسد عبدالرحمن األنصاري عقدها مركز عبدالرحمن السديري الثقافي
في سكاكا ،وأتشرف بأنني عضو شرف فيه .عن أنظارنا ،لكنه بقي ساكناً في قلوبنا.
رحم اهلل فقيدنا أستاذنا العالّمة الدكتور هذه المشاركات هي التي ساعدتني كثيراً
باالقتراب كثيراً من تاريخ الجزيرة العربية عبدالرحمن الطيب األنــصــاري ،وأسكنه
فسيح جناته. وآثارها قبل اإلسالم.
أثناء إقامتي وعائلتي بالرياض ،تشرفت
بزيارة المرحوم أبا محمد لبيتي أكثر من
ال ومطمئناً ،عن أحوالي وعائلتي. مرة سائ ً
وما أزال أذكر تلك السهرة في البر ،والتي
كانت التجربة األولى لي بمثل هذه السهرات
الممتعة .وعندما هممت بالعودة إلى جامعة
اليرموك ،زرته أنا وبصحبة المرحوم الدكتور
محمود الروسان طالبين اإلذن بالمغادرة ،فما
كان منه إ ّال أن عرض علينا البقاء وحفّزنا
بزيادة الراتب .هكذا تمسك بنا المرحوم،
كان يحب الجميع ،والجميع يحبه.
وعلى الرغم من مغادرتي لجامعة الملك
سعود ،فقد تواصل حبل العمل والــود مع
األســتــاذ الدكتور عبدالرحمن األنــصــاري.
صدر العدد األول من مجلة أدوماتو عام ٢٠٠٠م ،ورأس
تحريرها الدكتور عبدالرحمن األنصاري لمدة ١٦عاما. فقد زارنــا في األردن غي َر مرة ،وزرنــاه في
* عالم أثاري ،ورئيس جامعة اليرموك سابقا.
25 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
ُ
أفول نجم
خواطر في رحيل األنصاري
أســتــحــضــر هـ ــذا االبــــــداع اإللــهــي على ولوج وحله .لكن حضوره في مدينة
وأنــا أعيش وقت أفــول نجم من سماء رســول األم ــة ،وفــي كنف أســرة تعرف
الدراسات الحضارية ،ظل يرسم ويضئ مواقع الفضيلة وتفيض بقيمها ،نشأ
مسار المعرفة ،بعزيمة نافذة وصبر الفتى بــرؤيــة مبكرة لحقائق األشياء
متصل ،أسطع ضوءًا وأبهى بريقاً عند وحتمية الصراع ،رغم حداثة تجربته،
وطــراوة جسده .تلك الشُّ حنة التربوية كل عثرة.
كان مولد النجم الطفل نحو منتصف شـ ّكــلــت ســنــداً ليضع الــطــفــل قدميه
الــعــقــد ال ــراب ــع م ــن ال ــق ــرن الــمــاضــي على بساط المعرفة األولية ،متحسساً
(1935م) ،والعالم يعيش آثــار حرب طريقه في مراحله التعليمية المبكرة
كونية أولى .وقبل سنوات من حرب كونية إلى تكملة مشوار النشأة ،وهيأته إلى
أخــرى ،تسببت في ضائقة اقتصادية ول ــوج مــرحــلــة الــتــكــويــن الــمــعــرفــي في
هي األضخم في التاريخ البشري .في منتصف العقد الــســادس (1956م)،
ذلك المناخ الموحش ،والعالم المثالي حين التحق بجامعة القاهرة لدراسة
يتفتت من حوله ،تفتحت عينا النجم اللغة العربية وآدابها ،وبحورها؛ تاريخاً،
الوليد على عالم لم تكن قدماه قادرة وخطاً ،وشعراً ،ونثراً ،وبالغةً .هناك
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 26
ملف العدد
كانت النقلة المعرفية الثانية التي دخل بها
ال تعاليم ترسيخ العقيدة ،ومعرفة دروب
حام ً
الفضيلة من مرحلته السابقة إلــى أخرى
جديدة ،مازجاً معها مرحلة حافلة بتفاصيل
الماضي البشري وحقبه ،لتضعه في ختامها
عند أبــواب جامعة ليدز البريطانية على
مشارف العالم الغربي (1960م) ،لتوسم
حياة الفتى الشاب بمقدرة على رسم خريطة
دربه؛ متسلحاً بتباين ثقافي استبقى ما يالئم
ما جاء به ،مزيجاً من اتساع الرؤية بعداً
وعمقاً .وحين المست قدماه أرض بالده كان
يحمل حلماً واضح المعالم ،نيّر الرؤية! ليس
حصراً في فنون اللغة العربية ،فتلك شهادة
وثقتها جامعة "ليدز" ،وإنما فكراً ورؤية في
لقد حفلت مسيرته بإنجازات ليس هنا متطلبات المعرفة ،ودروب النهضة؛ إنشا ًء
مكان لحصرها .وفي مجال التأهيل أشرف وابتكاراً.
على عدد من طالب الدراسات العليا الذين
التحق األكاديمي الشاب بقسم التاريخ
حملت أكتافهم وما تزال عبء ذلك التخصص
بكلية اآلداب بجامعة الملك سعود (الرياض
في هيئة اآلثار والجامعات األخرى ،رفقة من
سابقاً) (1966م) ،ليشغل عدة مناصب عليا
التحقوا بالقسم من البلدان العربية .كذلك
إلــى جانب ترقيات أكاديمية تالحقه وفق
أشرف على الخطط الدراسية في مراحل
منجزاته البحثية ،وفيه أنشأ فرعاً لعلم
البكالوريوس والــدراســات العليا .وامتدت
اآلثار (1976م) .وعلى مستوى الكلية ،شغل
خبرته ليخدم عــضــواً فــي مجلس ولجان
ال
عدداً من وظائفها العليا حتى أصبح وكي ً
مجلس الــــشــــورى(2001-1993م) ومكتب
ثم عميداً لها لدورتين .وفي رحاب الجامعة
عمل في عدد من مجالسها .وأنشأ قسماً المنظمة العربية للثقافة والعلوم (1979م).
ال لآلثار وترأسه عــام ( )1978كما والمجلس األعلى لألثار. منفص ً
كذلك سطع بريقه ليصبح أحد مؤسسي ترأس قسم التاريخ قبله .ونقل العمل اآلثاري
إلى مواقع الفاو والربدة كأبرز موقعين أثريين اتحاد اآلثاريين العرب ،وعضواً في اتحاد
لحقبتي اإلسالم وما قبل اإلسالم (1972م) .المؤرخين الــعــرب .وأسهم في الكثير من
27 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
أمير المدينة المنورة يكرم عالم اآلثار الراحل الدكتور عبدالرحمن األنصاري بحضور ابنته وابنائه
ذرات الرمال التي احتوت جسدكم الطاهر، اللجان على النطاق المحلي واإلقليمي.
وف ــي مــجــال الــنــشــر والــتــألــيــف ،لــه ما والعبرة في الحلق ،تتقطع الكلمات "أيا قبر..
يزيد عن أربعين كتاباً أكاديمياً وثقافياً ،هذا الضيف ..آمال جيل ..فهلل وكبر ..والق
ومثلها أو يزيد أبحاث في دوريــات محلية
ضيفك جاثياً" .وأنحو تجاه إنجازاتكم ألبلغ
وإقليمية وعالمية ،كما أسهم في العديد من
شــأوهــا ،وهــي بــدورهــا عبثاً تالحق شموخ
المؤتمرات واللجان والندوات العلمية ،ونال
جوائز تكريم ودروع ـاً وأوسمة يقصر عنها شخصكم؛ فهنيئاً لــكــم بــهــا لــمــا أنجزتم
آلخرتكم ،وهنيئاً لنا بها لما حفلت به دنيانا. الحصر.
ما كان دربك كله أزاهر ورياحين! وإنما
رحيلك أيها األخ ،رحيل إنــســان طاهر
حفته أحياناً نجود ووه ــاد .لكنها عزيمة
القلب والــيــد والــلــســان ،رحــيــل عــالــم فذ،
النفس وسالمة المقصد وإرادة الحق.
ابـــن بـ ٍـار
وأكــاديــمــي بـــارع قــديــر ،ورحــيــل ٍ
أقف اليوم أمام الفاجعة أيها األخ الفقيد،
أنـ ّقــب عــن وسيلة عــزاء فــي حقكم ،فأجد بمعارفه ،حف ّياً بأصدقائه ،مخلصاً لطالبه،
نفسي معدماً حتى من الكلمة .وأتوسل إلى محباً لوطنه ..رحيل نجم أفــل ،ومــا يزال
ابــن نويرة والخنساء وكــل القابضين على يضيء درب القافلة ومسار العتمة.
نواصي الكلم من ملوك الرثاء والقريض،
رحمك اهلل "أبــا محمد" رحمة واسعه، لعلهم يعينوننا على مــا تــجــاوز مقدراتنا.
"وأعرف أني أنادي بواد" .وحين ألتفت إلى وأسكنك الفردوس األعلى.
* أكاديمي في الدراسات اآلثارية -السودان.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 28
ملف العدد
عل َ ٌ
م وعا ِلم في اآلثار َ
البروفسور عبدالرحمن محمد الطيب األنصاري
■ د .عبداهلل حسن مصري*
والشخصية بشكل كبير ،انعكس على أداء وفي هذه الكلمة الموجزة عن الدكتور
المجلس وفعالية النشاط األث ــري بفضل األن ــص ــاري يقتصر حــديــثــي عــن تجربتي
التعاون والتفاهم بيننا حول سبل إقناع بقية الشخصية معه -رحمه اهلل -وينحصر ذلك
األعضاء عند البت في مواضيع االهتمامات في ثالثة محاور:
الملحّ ة المعروضة على المجلس . أوالً :المجلس األعلى لألثار ،وهو السلطة
ثــانــي ـاً :مــن أبـــرز نــتــائــج ه ــذا الــتــعــاون العليا لرسم وتخطيط سياسة المملكة في
والــتــفــاهــم الــوثــيــق مــع الــدكــتــور األنــصــاري مجال اآلثــار والمتاحف واإلشــراف عليها،
في إطــار مجلس اآلثــار أنه أثمر عن نجاح ويــرأســه وزي ــر الــمــعــارف (آنــــذاك) ،ويضم
خطة إقناع رئاسة جامعة الرياض (الملك أعــضــاء مــن وزارات عــلــى مــســتــوى وكيل
ســعــود) فــي كلية األداب لتأسيس قسم وزارة ،إضافة إلى عضوية من ذوي الخبرة
مستقل لألثار في كلية األداب بعد أن كان واالختصاص ،وكان الدكتور األنصاري من
فرعاً في قسم التاريخ .وباختصار ..فقد أوائل األعضاء في هذه الفئة ،واستمر ذلك
تم ذلــك بعد التفاهم بيننا على أن تصدر لفترة طويلة تطورت خاللها عالقتنا المهنية
29 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
البكالوريوس ،وإلزامهم بعد موافقتهم إدارة اآلثار بوزارة المعارف خطة التزامها
بالتخصص في مجال اآلثار بشتى فروعه، بتوظيف عشرين متخرجاً سنوياً- ،على
وعلى أن يتم ابتعاث نصف الــعــدد إلى األقــل -إذا وافقت الجامعة على افتتاح
بريطانيا والنصف األخر إلى أمريكا. قسم اآلثار ،وقد صادق المجلس األعلى
وقد تكونت لجنة ثنائية من الدكتور لألثار على تلك الخطة ،وخوطبت رئاسة
األنصاري ومني شخصياً ،وقمنا بتنظيم الجامعة بمضمون التوصية ،وجرى افتتاح
خطة لتنفيذ مقتضيات قرار مجلس اآلثار القسم الذي تطور فيما بعد وأضحى كلية
استغرقت نحو نصف الــعــام ،واشتملت السياحة واآلثار حالياً.
الــخــطــة عــلــى اإلعـ ــان لــكــافــة منسوبي وقــد سبق ذلــك أن أقنعني المرحوم
التعليم الجامعيين من مدرسي التاريخ الدكتور األنصاري بأن أوافق على اإلسهام
في جميع إدارات التعليم بالمملكة ،وكان في تدريس مــواد تتعلق بالتاريخ القديم
هناك تجاوب كبير يُع ّد بمئات الحاالت.. وعلم األنثروبولوجيا لطالب قسم التاريخ
أفرز عدداً أولياً من بينهم يقارب المائة، لفرع اآلث ــار .وبالفعل مارست التدريس
اســتــدعــيــنــاهــم إل ــى ال ــري ــاض ،وأجــريــنــا على مستوى محاضر غير متفرع لمدة
مقابالت شخصية مكثفة ،واخترنا من تزيد عن التسعة أعــوام زادت في تعميق
بينهم العدد المطلوب للبعثة. العالقة بيننا ،وعقب تأسيس قسم اآلثار
وق ــد تــم بالفعل ابــتــعــاث المجموعة أسهمت في استقطاب مختصين في اآلثار
بكاملها في أواخــر التسعينيات الهجرية للتدريس في القسم بالتعاون مع الدكتور
(السبعينيات الــمــيــاديــة) ،وق ــد تخرج األنصاري ،ومنهم الدكتور جمال مختار
معظمهم بدرجتي الماجستير والدكتوراه، عالم المصريات ،والدكتور غانم وحيدة
وكانوا هم اللبنة األساس للكوادر الوطنية أخــصــائــي الــعــصــور الــحــجــريــة القديمة
المتخصصة في مجال اآلثار والمتاحف. (رحمهما اهلل).
إن ما سبق تدوينه من ثمرات التعاون ثالثاً :ومــن أوجــه التكاتف والتعاون
والمؤازرة مع الراحل الدكتور األنصاري المباشر مع الدكتور األنصاري أن مجلس
له َو غيض من فيض واســع ،اشتمل على اآلثـ ــار أص ــدر تــوصــيــة مهمة فــي بــدايــة
الكثير من التفاصيل التي ال يسع المجال أعماله ،تخص تطوير الكفاءات البشرية
لذكرها .رحم اهلل الفقيد واسكنه فسيح الوطنية في مجال اآلثار والمتاحف ،وذلك
الجنان ،وتبقى ذكــرى اسهاماته الرائدة باعتماد ابتعاث ( )٤٠موظفاً للدراسات
نــبــراسـاً ألجــيــال المستقبل على العمل العليا (ماجستير ودكــتــوراه) ،وهــم على
الجاد. سلك وظائف التعليم ،ومن خريجي درجة
* وكيل سابق بوزارة المعارف لشئون اآلثار ،عضو في العديد من المنظمات المحلية والدولية.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 30
ملف العدد
31 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
كل ذلك والدكتور األنصاري ،رحمه اهلل ،اآلثار والمتاحف الذي وضع لبنته األولى في
معروف بعمق انتمائه ،واعتزازه بوطنه ،وحبّه الجامعة نفسها قبل نحو خمسة وأربعين عامًا،
له ،وغيرته على تاريخه ،وتراثه الحضاري ،ورعــاه حق الرعاية حتى استوى على سوقه،
تخصصوا وأصبح واح ـدًا من أهم األقسام األثرية في ّ فــكــان مــن أوائـ ــل الــــرواد الــذيــن
في تــراث هــذه البالد اللغوي واألث ــري ،ذلك العالم العربي.
التخصص فيه حكرًا على ّ التراث الذي كان
وم ــا مــن شــك أن األوســـــاط الــتــاريــخــيــة
المستعربين الغربيين إلى عهد ليس بالبعيد
والحضارية والثقافيّة والتراثيّة فقدت بفقد
حينما أصبح الدكتور األنــصــاري عالمًا من
األنصاري عالمًا موسوع ّيًا ورائــدًا من رواد
علماء النقوش والكتابات السامية القديمة
في الجزيرة العريية .وغدا العالم المتمكن ،اآلث ــار لــه بصماته التي ال تمحى على آثــار
والــبــاحــث األصــيــل ،واألكــاديــمــي المتفاني الــجــزيــرة العربية عــامــة والمملكة العربية
فــي الــتــاريــخ واآلثـ ــار .ووضــع حجر األســاس السعودية خاصة ،نسأل اهلل سبحانه وتعالى
لــلــدراســات األث ــري ــة فــي المملكة العربية أن يتقبله بقبول حسن وأن يتغمده بالرحمة
الــســعــوديــة حينما أس ــس شُ ــعــبــة لــآثــار في والمغفرة وأن يحشره مع النبيين والصديقين
قسم التاريخ بكلية اآلداب -جامعة الملك والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وأن
ال لــآثــار ،هــو قسم يعظم األجر ألسرته ولنا جميعًا بفقده. ســعــود ،ثــم قسمًا مستق ً
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 32
ملف العدد
33 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
ذكريات مع أستاذنا األنصاري
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 34
ملف العدد
35 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
سُ ر به النبي صلى اهلل عليه وسلم؛ الحضارة أول عميد سعودي لكلية اآلداب في جامعة
العربية اإلسالمية عبر العصور في المملكة الملك سعود ،أسس ورأس قسم اآلثار.
العربية السعودية؛ تيماء ملتقى الحضارات؛ يع ّد الدكتور األنــصــاري من رواد العمل
الــجــوف :قلعة الشمال الحصينة؛ عسير: األكــاديــمــي واألثـ ــري فــي المملكة العربية
حصن الجنوب الــشــامــخ؛ الــبــاحــة :الجمال السعودية ،فقد أســس لــدراســة علم اآلثــار
الباسم؛ القصيم :تاريخ وحضارة وتجارة؛ من خالل إنشاء تخصص اآلثار ضمن قسم
القطيف واألحساء :آثار وحضارة؛ الرياض: التاريخ بجامعة الملك سعود ،عندما كان
عروس المدائن. رئيساً لقسم التاريخ ،ثم أنشأ قسم اآلثــار
والمتاحف ،وهو القسم األكاديمي األول في
وصـــدر لــه مــؤخــراً نــتــائــج أعــمــالــه التي
قــام بها في قرية الفاو األثــريــة في خمسة نوعه على مستوى المملكة العربية السعودية
مجلدات:المجلد األول عن التنقيبات األثرية ودول مجلس الــتــعــاون الخليجي واليمن.
ويمكن القول إن أهم األعمال التي قام بها
فــي ثــاثــة أجــــزاء؛ والــثــانــي عــن التسلسل
الطبقي؛ والثالث عن الفخار؛ والــرابــع عن الدكتور األنصاري هو قيادته ألعمال التنقيب
المسكوكات؛ والخامس عن الفنون المعدنية. األثري في قرية الفاو في الفترة من 1972
وما كان لهذه المجلدات أن ترى النور لوال أن إلى 1995م.
أمــا عن إنتاجه العلمي ،فقد كتب أكثر قيض اهلل لها صاحب السمو الملكي األمير
من أربعين بحثاً علميا نشرت في مجالت سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز حفظه اهلل،
علمية محلية وعالمية ،وألف أول كتاب عن الذي أحاطها برعايته حتى نشرت.
أمــا عن الجوائز التي نالها خــال فترة أعمال التنقيب األثري في قرية الفاو عنوانه
«قرية الفاو :صــورة للحضارة العربية قبل حياته ،فقد حصل على جوائز عديدة من
اإلســــام» ،اســتــعــرض فيه نتائج المواسم أهمها الــجــائــزة الــتــي أعــلــن عنها صاحب
الستة األولــى من التنقيب األثــري في ذلك السمو الملكي األمير سلطان بن سلمان بن
الموقع األثــري المهم .وبعد أن تقاعد من عــبــدالــعــزيــز ،والــتــي تحمل اس ــم الــدكــتــور
العمل الرسمي في الدولة أسس «دار القوافل عبدالرحمن األنصاري ،وكنت أحد أعضاء
للنشر» ،أصدر فيها سلسلة «قرى ظاهرة على لجنة هذه الجائزة عندما كنت عميداً لكية
طريق البخور» ،صدر منها ثالثة عشر كتاباً :السياحة واآلثار ،والتي كانت باقتراح من سمو
نجران :منطلق القوافل؛ العال ومدائن صالح؛ األمير سلطان بن سلمان في منزل الدكتور
(الحجر) :حضارة مدينتين؛ حائل ديرة حاتم؛ عبدالرحمن أثناء زيارة سموه وبعض محبي
الطائف :إحدى القريتين؛ خيبر :الفتح الذي األنــصــاري ،وقــد اقترح سموه هــذه الجائزة
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 36
ملف العدد
جامعة الملك سعود ،وجمعية اآلثار السعودية،
بــمــســمــى «ج ــائ ــزة الــدكــتــور عــبــدالــرحــمــن
األنــصــاري لخدمة آث ــار المملكة العربية
السعودية» .وتهدف هذه الجائزة إلى العناية
باآلثار حفاظاً على هويتها الوطنية وإبــرازاً
لعمقها الحضاري ولتوظيف إرثها في الحياة
المعاصرة ،واإلفــادة منه ثقافياً واقتصادياً
وتلمساً لسبل المحافظة عليها وتنميتها ورفع
الوعي بأهميتها .وتُمنح الجائزة لشخصيات
لهم أثر على الساحة األثرية والعمل األثري
الذي يخدم آثار المملكة.
37 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
في ذكرى أستاذي
األستاذ الدكتور /عبدالرحمن األنصاري
■ د .علي صالح املغنّ م*
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 38
ملف العدد
وأصدقائه وطالبه وزمالئه ومحبيه يشعرونك بمجريات الحياة ،وتقلبات وتجارب اإلنسان،
بوجوده-رحمه اهلل بينهم داخل فكر وقلب بين القطيعة ،والــتــقــارب ،والخلوص منها
كــل فــرد يستمع أو يتحدث إلــيــهــم! وعند لقلوب متحابة ،تربطها األخوّة واأللفة!
حضور المؤتمرات والنشاطات والفعاليات كان-رحمه اهلل -صالح السريرة ،يحسن
التي تقيمها الجامعات والندوات والمحافل
طلبه؛الظ َّن بتوفيق اهلل لــه ،ثم بقدرات َّ
الدولية المهتمة باآلثار والتراث والثقافة،
لذلك صلحت عالنيته ،وسعدت ،وأسعدت
يجدون شخصه وأعماله وشغفه واهتماماته
رحلة حياته العلمية؛ متفائل ..لهذا أوجد
ماثل ًة فــي تلك المناسبات ،وكأنها تدين
ـان جميلة تغمرها الــخــيــرات لحياته مــعـ ٍ
لهذا العالم والقامة العلمية الفذَّ ة بالتقدير
وتحفها البسمة والسعادة؛ وجدت ذلك من
واالحــتــرام .فشكرًا لقسم اآلثــار وللجمعية
خالل رحلة جمعتني به في إحدى فعاليات
السعودية للدراسات اآلثارية ،ولمركز الملك
مملكة البحرين ،كان فرحً ا سعيدًا وفخورًا
سلمان لــدراســات تــاريــخ الجزيرة العربية
بإنجازات طالبه البحرينيين وتحمُّلهم أعباء
وحضارتها بجامعة الملك سعود.
العمل اآلثــاري هناك! ورافقته للتجول في
كــان له دور مشهود في تأسيس الندوة سوق البحرين الشعبي؛ فالحظت البسمات
العالمية لدراسات تاريخ الجزيرة العربية ترتسم على محيَّاه ،والسعادة تغمره ،عندما
التي نجني ثمارها لمدة تزيد عن خمسة يرى معارض الصناعات الحرفية التراثية
وأربعين عامًا .واضطلع أستاذ علم اآلثار وتسويقها ،فرِ حً ا ومؤشراً لديمومتها لكونها
ومــؤســســه فــي الــســعــوديــة وعــضــو مجلس تشكِّل وجهات سياحيَّة جــاذبــة! عند ذلك
الشورى عبدالرحمن األنصاري-رحمه اهلل- يهتف دائمًا باإلعجاب «يا اهلل» تعبيرًا عن
بأعمال بحوث ميدانية كثيرة بجزيرة العرب إعجابه بقدرة علم اآلثــار كمورد اقتصادي
داخــل المملكة وخارجها بحثًا عــن اآلثــار لسياحة جاذبة في جميع حاالتها!
وتوثيقها وحفظها ،والتعريف بها والتوعية
ولألستاذ الدكتور عبدالرحمن األنصاري
بإبراز أهميتها ،كونها تؤصل الجذور ،وترسخ
رحمه اهلل جهود وإنــجــازات مشهودة في
الهوية الوطنية ،لكل شعب مــن الشعوب،
مسيرة علم اآلثار ،بداية التأسيس والتنقيب
وارتباط جذورها باألرض؛ فاألعمال اآلثارية
عن اآلثار ودراستها ،وقيادة أعمال التنقيب
تبحث عــن هوية اإلنــســان فــي أرضــه «من
اآلثاري في قرية الفاو ،وله كتب وأبحاث في
أنت»!؟ سؤال يكرره دائمًا -رحمه اهلل -في
مجالت التاريخ واآلث ــار؛ جعل اهلل جهوده
محاضراته .إنه المؤرّخ عالم اآلثار الدكتور
عبدالرحمن الطيب األنــصــاري ،فقد كان وآثاره في ميزان حسناته.
علمًا من أعالم المملكة منذ بدايات مسيرتها ومن خالل مشاعر أساتذة علم التاريخ
العلمية الثقافية الناهضة المؤثرة؛ وستبقى واآلث ــار والمختصين بــدراســات علم اآلثــار
39 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
األمير فيصل بن عبداهلل يدشن كتاب "الجمل عبر العصور"
عبدالرحمن الطيب األنصاري -رحمه اهلل- ذكراه حاضرة في الذاكرة الثقافية الوطنية.
لحضور حفل التدشين الذي نظمته مؤسسة وقــد علَّقت كريمة الفقيد األنــصــاري
ليان الثقافية ،ومكتبة الملك عبدالعزيز -رحــمــه اهلل -الــدكــتــورة لبنى األنــصــاري
العامة ،مساء يوم الثالثاء ١٢شوال ١٤٤٤هـ أنَّ ممَّا زاده ــا فــخـرًا واعــتــزازًا بإنجازات
(٢٠٢٣/ 05/ 02م) ،والتعرف على المعرض والــدهــا وأ َّثـ ــر فــي مــشــاعــرهــا مــقــال سمو
المصاحب له في مكتبة الملك عبدالعزيز األمير فيصل بن عبداهلل آل سعود الذي
العامة بحي المربع في مدينة الرياض. تضمَّن تقدير سموِّه الكريم لهاجس الدكتور
وأعربت عن امتنانها بالقول إن كِّل كلمات األنصاري بطباعة كتاب الجمل التوثيقي؛ إذ
الشكر والعرفان ال تفي المنظمين حقهم. كان إنجاز ذلك الهاجس تجسيد وفــاء من
أســأل اهلل أن يجعل هــذه الجهود الراقية سموِّه الكريم لوالدها؛ وقد ع ّد سموَّه إنجاز
واالستثنائية والمميزة في ميزان حسناتهم الكتاب وإخراجه إنجازًا مهمة كانت هاجس
وأن يحفظ مملكتنا ملكًا وحكوم ًة وشعبًا وأن الفقيد ،رحمه اهلل.
واشادت الدكتورة لبنى بهذا العمل الرائع يديم اهلل على بالدنا نعمة اإلسالم واألمن،
وبأنَّه لمسة «وفــاء األوفــيــاء» ومنظومة في لالرتقاء باآلثار والثقافة والتراث في المملكة
رث ــاء والــدهــا يتغنى المهتمون بموسوعة العربية السعودية.
اللهم اغــفــر لصاحب الــذكــرى الطيبة علمية ثقافية عن سفينة الصحراء وثقافتها،
تراثاً وتاريخاً .جاء إصدار موسوعة «الجمل عبدالرحمن الطيب األنصاري ،وارض عنه
عبر العصور» فرصة لدعوة محبي الدكتور واجعله من أهل الفردوس األعلى.
وكيل وزارة التربية والتعليم المساعد للمتاحف سابقا. *
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 40
ملف العدد
كنت وقتها أعمل بمكتبة الملك فهد التاريخية ،وتأليفه للكتب المعنية باآلثار،
الــوطــنــيــة ،فــدعــوتــه لــزيــارتــهــا ،لتسجيل ومشاركته باإلشراف على مجلة المنهل بعد
ذكرياته ضمن برنامج (التاريخ الشفوي وفاة صاحبها عمه ،عبدالقدوس األنصاري.
اتــصــل بــي بصفته عــضــوا بالمنظمة للمملكة) ،فرحب مشكورًا ،وتمت الزيارة في
1420/7/28هـ ،وعلى مدى ثالث ساعات ،العربية للتربية والثقافة والــعــلــوم ،وكــان
استعرض المحطات المهمة فــي حياته؛ مــقــرهــا تــونــس ،وكــانــت المنظمة تصدر
بدءًا من والدته ،وطفولته بالمدينة المنورة( ،موسوعة أعــام العلماء واألدب ــاء العرب
ممثل لجامعة الملك ً ودراسته بها ،ثم ابتعاثه للدراسة الجامعية والمسلمين) ،وكــان
بمصر ،ثم الدراسات العليا بإنجلترا ،وعودته ســعــود مــع ممثلين مــن تــونــس ،وســوريــا،
لجامعة الملك سعود وتأسيسه لقسم اآلثار ،ومــصــر ،وقــازاخــســتــان ،والهند ،وطــهــران،
والتثقيف في األماكن األثرية ومنها منطقة واألمين العام لمنظمة المؤتمر اإلسالمي،
(الفاو) وآثار الجوف ،وقدوم الحضارة من ويشرف على الموسوعة الدكتور المنجي
الشمال للجنوب .وعن محاضرته أو الندوة بوسنينة ،المدير العام للمنظمة .وطلب
التي شارك فيها بلندن وشكك بوجود قبيلة مني المشاركة بالكتابة عن المغتربين من
قحطان؛ ما أثــار حولها كثيرًا من الــردود أبناء الجزيرة العربية منذ تأسيس المملكة
واالســتــنــكــار ،وأخ ــيــرًا عضويته بمجلس العربية السعودية وهم :عبداهلل القصيمي،
الــشــورى .ثــم افتتاحه مكتبًا لــلــدراســات وعبدالرحمن منيف ،وسليمان الدخيل؛
41 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
قد تهدى لمكتبة الملك فهد الوطنية أو
جامعة الملك سعود ،فقال :إنه ال يفضل
ذلك ،إذ إن المكتبة والجامعة بهما كثير من
المكتبات الخاصة ،وأنــه يفضل لو تهدى
لجامعة شقراء لكونها حديثة النشأة ،ولكون
شقراء مسقط رأســه ،وأض ــاف :إنــه كتب
وصيته ،وأوصــى بمكتبته لجامعة المدينة
المنورة ،حيث ولد.
وقــد أحسن زمــاء الدكتور األنــصــاري
وتالمذته عندما تنادوا إلصدار كتاب بعد
تقاعده أسموه (دراسات في تاريخ الجزيرة
العربية وحضارتها) ،أشرفت عليه لجنة
برئاسة الدكتور أحمد الزيلعي بمناسبة
بلوغ الدكتور األنصاري السبعين من عمره.
كما شــارك األنصاري بموسوعة األدب فكتبت مــا تيسر ،وبــعــد فــتــرة طلب مني
العربي السعودي مع الفريق العلمي بالمجلد الترجمة لعدد آخر من أبناء المملكة ،وهم:
األول -مقدمات عامة ،وبالمجلد السادس- عبداهلل عريف ،وأحمد السباعي ،ومحمد
السيرة الذاتية. الطيب الساسي ،ويوسف ياسين ،وكانت
جاء في ترجمته بالموسوعة ..« :حصل الموسوعة تصدر عن دار الجيل ببيروت،
وقــد صــدر مجلدها األول عــام 1425ه ـــ على البكالوريوس من قسم اللغة العربية
(2004م) ،صدر منها حتى حرف العين في بكلية األداب جامعة القاهرة 1960م ،كما
حصل على الــدكــتــوراه مــن جامعة ليدز نحو 30مجلدًا.
استمر تواصلي مع الدكتور األنصاري بإنجلترا 1966م ،وعــمــل بالتدريس في
بزيارته في مكتبه ،أو عن طريق مندوب قسم التاريخ ،ثم قسم اآلثــار والمتاحف
يزودني بما صدر من مكتبه ،ويطلب بعض بكلية اآلداب -جامعة الملك سعود ،وشغل
ما صدر من سلسلة (هــذه بالدنا) عندما مناصب رئيس قسم التاريخ ،ثم قسم اآلثار،
كــنــت أعــمــل بــرعــايــة الــشــبــاب ،أو بعض فوكيال ثــم عميدا كلية اآلداب ،وبعدها
إصدارات المكتبة ،وبالذات المعنية باآلثار اإلشـــــراف عــلــى مــركــز خــدمــة المجتمع
والتعليم المستمر بجامعة الملك سعود. والتاريخ.
وخ ــال عمله بالجامعة أش ــرف على وقد سألني بُعيْد وفاة األستاذ عبدالكريم
الجهيمان عــن مصير مكتبته ،فقلت له :تأسيس فرع اآلثار في قسم التاريخ بكلية
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 42
ملف العدد
بالجمهورية اليمنية 1998م. األداب ،وإنشاء جمعية التاريخ واآلثار عام
1386هـــ (1966م) ،ورأس الندوة العلمية -درع اتحاد اآلثاريين العرب -الجامعة
العربية ..القاهرة 2001م. الثالثة لدراسة تاريخ الجزيرة العربية التي
عقدت بالجامعة ،ومديرًا للتقنيات األثرية
تــرجــم ل ــه أحــمــد ســعــيــد بــن ســلــم في
لمنطقة الفاو.
(موسوعة األدباء والكتاب السعوديين خالل
كــمــا اخــتــيــر ال ــدك ــت ــور عــبــدالــرحــمــن مائة عام) وذكر أنه درس بالمدينة المنورة
األنصاري عضوًا بمجلس الشورى لدورتيه حتى نهاية المرحلة الثانوية ،وإن أطروحته
األولــى والثانية ،وهــو عضو في كثير من للدكتوراه من جامعة ليدز بإنكلترا بعنوان
اللجان العلمية ،المحلية والعربية والعالمية؛ (تاريخ قبل اإلسالم).
مثل :المجلس األعــلــى لــأثــار بالمملكة،
وذكر من مؤلفاته:
والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم،
والهيئة الدولية لكتابة تاريخ اإلنسانية التابع -1ظــاهــرة الــهــروب فــي أغــاريــد طاهر
زمخشري صدر على 1380هـ1960 /م. لمنظمة اليونسكو.
-2ظاهرتان في حياة أبي الطيب المتنبي.. أوسمة وجوائز:
نسبه وتــنــبــؤه ،ص ــدر ع ــام 1381هـــــ/
حاز األنصاري على أوسمة وجوائز منها:
1961م.
-وسام االستحقاق من الدرجة األولى في
-3مــصــادر تــاريــخ الــجــزيــرة الــعــربــيــة -
المملكة العربية السعودية عام 1982م.
باالشتراك -صدر عام 1399هـ.
-جائزة مؤسسة التقدم العلمي الكويتية -4قرية الفاو صورة للحضارة العربية قبل
اإلسالم في المملكة العربية السعودية. عام 1984م.
طبع باللغتين العربية واإلنجليزية ،صدر -وشاح الثقافة والفنون من وزار ة الثقافة
43 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
اإلســــام -مــجــلــة الــجــوبــه ،مؤسسة عام 1402هـ.
عبدالرحمن السديري». -5الــعــا والـ ِـحــجــر ص ــورة مــن الحضارة
العربية ،صدر عام 1406هـ1986 /م.
وقد أصدرت وزارة المعارف -وكالة اآلثار
وترجم له في (موسوعة الشخصيات
والمتاحف -سلسلة أثار المملكة -لعدد
السعودية) من مؤسسة عكاظ للصحافة
والنشر ،واضافة لترجمته ..رئاسته لمجلس من مناطقها ،-وقد تولى األنصاري رئاسة
إدارة الجمعية الوطنية الخيرية للمتقاعدين لجنة اإلشراف العلمي .وفي عام 1420هـ/
2000م ،أصـــدرت مؤسسة عبدالرحمن 1426هـ2005 /م.
وكتب عنه محمد بن صالح عسيالن في السديري مجلة آثار باسم (أدوماتو) ،االسم
(إشراقات طيبة) وعلى مدى 25صفحة،
القديم لدومة الجندل ،وهي مجلة نصف
استعرض سيرته ومسيرته العلمية ،وضمّنها
مقابلة معه ،قال فيها إن والده توفي وهو سنوية محكّمة تعنى بأثار الوطن العربي،
في التاسعة من عمره ،وأن قدوته ابن عمه ف ــرأس تحريرها عــالــم اآلثـــار السعودي
عبدالقدوس األنصاري .وأشار فيها إلى أنه الدكتور عبدالرحمن الطيب األنــصــاري.
عض ٌو بمجلس إدارة مكتبة الملك عبدالعزيز
كما أصدر الدكتور األنصاري سلسلة (قرى
العامة ،وعضو بمجلس أمناء جائزة الملك
عبداهلل للترجمة ،وعضو الهيئة االستشارية ظاهرة على طريق البخور) صدر منها:
ل ــوزارة الثقافة واإلعـــام ..إلــخ؛ وأنــه نال
-حائل ديرة حاتم.
جائزة األمير (الملك) سلمان للريادة في
-نجران منطقة القوافل.
تاريخ الجزيرة العربية،
-تيماء ملتقى الحضارات.
من مؤلفاته وبحوثه:
-الطائف إحدى القريتين.
-المواصالت واالتــصــاالت في المملكة
-عسير حصن الجنوب الشامخ.
العربية السعودية عام 1419 - 1319هـ.
-القطيف واألحساء (أثار وحضارة)،
-قرية الفاو وصــورة للحضارة العربية
-الباحة (الجمال الباسم)، القديمة قبل اإلسالم.
-كــتــابــات مــن قــريــة الــفــاو ،مجلة كلية -خيبر :الفتح الذي س ّر به النبي صلى اهلل
عليه وسلم. اآلداب .جامعة الملك سعود.
-منطقة الــجــوف فــي عــصــور مــا قبل -الجوف (قلعة الشمال الحصينة).
* باحث سعودي ،كتب المقال لمجلة الجوبة قبل وفاة العالمة الدكتور عبدالرحمن األنصاري رحمه اهلل.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 44
ملف العدد
شعر والدي حينها بمرارة اليتم والفقر ،بين العلم والعمل ،وكيف يعتمد على نفسه،
والــتــي لــم يخففها عنه إال والــدتــه الشابة فكان عصامياً من الدرجة األولى ،واكتسب
السيدة عائشة شويل ،التي رفضت الزواج ،مهارات التعامل والتفاوض .وال تخلو ذكرياته
وعــكــفــت عــلــى رعــايــة أبــنــائــهــا وتنشئتهم مع جدتي في هذه المرحلة من حياته من
مــواقــف كثيرة علمته فيها وبــقــوة مكارم وتعليمهم.
رفض والــدي أن يبيع مكتبة جـدّي رغم األخ ــاق .ونجحت جــدتــي ،ونجح والــدي،
الفقر الذي عانوا منه ،وتعاونت جدتي مع وتفوق في دراسته ،وكان من النخبة ،فابتُعِ ث
والدي على أن يجلبا لألسرة ما يس ّد رمقها لجامعة القاهرة للحصول على البكالوريوس،
ويحفظ ماء وجهها في المجتمع .فعلى سبيل ثم لجامعة ليدز في بريطانيا للحصول على
ال ليكون من أوائــل
المثال ،كانت جدّتي تخيط بيديها قطعاً من الدكتوراه ،ثم عــاد مكل ً
المالبس يرغب المعتمرون وزوار المدينة أعضاء هيئة التدريس السعوديين.
منذ أو وعيت على الحياة ،بدأت ذكرياتي المنورة بها ،وتطلب من والــدي أن يبيعها
فــي الــحــرم ،ولعله بذلك تعلم كيف يجمع مع والــدي ،ولكنه على مر السنين كان لي
45 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
من قبل ذلك في حياته مستقيماً وصادقاً
وواضحاً وكريماً ورحيماً باآلخرين.
كان أنموذجاً حياً لما يجب أن يكون عليه
أبناء أمة "إقرأ" ،فكان واسع االطالع وواسع
األفــق ،ومحباً للبحث ،والتساؤل ،والفهم،
والنقد ،وكان حريصاً على أن نكون كذلك.
كان العلم قيمة مهمة بالنسبة له ،وكان يرى
هو ووالدتي أن االستثمار في تعليم أبنائهما
هو االستثمار األهم في حياتهما .لم يحرص
على اقتناء الــمــال ،بل كــان يــرى أن المال
وسيلة لالستثمار في تعليمنا ،فحرص على
أن نتعلم في مــدارس متميزة في الرياض،
وأن نتعلم اللغة اإلنجليزية فــي مــدارس
صيفية في بريطانيا؛ ويحثنا على التعرف
على اآلخرين على اختالفهم والتحاور معهم.
كان يريد أن نتّسم باتساع األفق ،والشمولية
في الفكر ،والرغبة في تعلم المزيد ،ويحثنا
دائماً على القراءة باستمرار ،وكان الذهاب
إلى المكتبة لشراء قصص وروايات وكتب هو
المشوار الوحيد الذي يوافق عليه بسهولة.
وحينما كنا نسافر إلى أي دولــة لم نزرها أكثر من والد؛ فقد كان صديقي ،ومعلمي،
من قبل كانت زيارة المتحف والمعالم األثرية ومــصــدر الــدعــم العلمي ،والــمــعــنــوي ،كما
هي الرحالت السياحية األولى لنا فيها .كما تنوعت مشورته لي حسب احتياجاتي عبر
حــرص على أن نتعلم شيئاً من الفرنسية السنين.
واأللمانية واللتين كان يفهمهما. اجتهد والدي في أن يكون خلقه القرآن،
كان يتمنى أن يكون طبيباً وحالت األقدار فحرص على "تقوى اهلل" ،وأوصانا دائماً بها،
دون ذلــك ،ولكنه كــان كالطبيب والمعالج حتى عندما اشتد عليه المرض وكان بالكاد
النفسي من حيث كونه قادراً على االستماع يستطيع أن يتحدث ،كان يوصينا بتقوى اهلل.
جيداً دون مقاطعة حينما تكون لدي مشكلة، كان في مرضه صابراً حامداً شكوراً ،وكان
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 46
ملف العدد
أو أنه يسألني أسئلة بسيطة تساعدني على بعض القطع األثرية في الفاو ،فهي دليل ال
سرد مشكلتي على نحو أشمل وأعمق ،ثم يقبل الشك على امتزاج الحضارات المختلفة
يسألني عــن الــحــلــول المتاحة ،وإمكانية في قرية الفاو محط القوافل والتجارة قروناً
تطبيق حلول لم تخطر على بالي ،وغالباً ما
قبل الميالد .وبالتالي لم يكن الوالد طبيباً،
أصل بذلك للخيار األفضل .كان يشجعني
ولكن تعلمنا منه الكثير من المهارات التي
على اتخاذ قراراتي بنفسي ،ونادراً ما يفرض
رأيه ،أو حتى يطرحه إال إذا سألته عن رأيه! تعيننا على أداء دورنــا على أكمل وجه في
اتخاذ القرارات المتعلقة بالمرضى سريرياً،
كــان فخوراً بنا جميعاً ،ولكنه بالتأكيد
ســعِ ـ َد كثيراً بــأن كــان أخــي عــاصــم طبيب وكــذلــك فــي وض ــع الــتــوصــيــات والــقــواعــد
أسنان ،وكنتُ طبيبة بشرية (طبيبة أسرة) ،اإلرشــاديــة للممارسة السريرية والصحة
فحققنا بذلك حلماً كــان ال يــزال يــراوده .العامة ،والتي يتم تطبيقها على نطاق واسع.
وق ــد يستغرب الــقــارئ أن كلينا مــعــروف
إنني أفتقده كثيراً بال شك ،ال أفتقد فقط
بأنه من السباقين في تخصصه لالهتمام
حواراتي معه؛ ففي العقد األخير من حياته
بتوجّ ه االستناد لألدلة والبراهين المستقاة
من أفضل البحوث العلمية ،وهو ما يسمى لم يكن والــدي قــادراً على الكالم ،وتكيّفت
بالطب المبني على البراهين ،أو الطب مع ذلــك ،ولكني أفتقد وجــوده أيضاً ،فقد
المسند بالبينات ،ولكني حينما أتأمل في كان منبع قوة بالنسبة لي وأنموذجاً للصبر
ذلك ال أستغربه أبــداً .لقد نشأنا في بيئة والتحمل ،ولعل اهتمامه بالجمل كان ينبع
نمَت فيها مهاراتنا النقدية ،واستوعبنا فيها من شعوره بــأن هناك أوجــه شبه بينهما؛
تماماً الفرق بين التاريخ واآلثار.
ولكن عزائي أنه وجد التكريم من والة األمر
الــتــاريــخ قــد يختلف حسب وجــهــة نظر في حياته وبعد مماته ،وأرجو اهلل أن يجد
الــراوي واهتماماته ،وهــو بذلك يشبه إلى
ذلك عند بارئه ..وعزائي أيضاً أننا لسنا
حد ما الطبيب الذي يتخذ القرار بنا ًء على
االستثمار الوحيد في حياته ،بل استثمر في
الحدس أو الخبرة السريرية ،أما القطعة
األثرية (أو اآلثــار بشكل عــام) فهي برهان بناء أجيال من اآلثاريين يشار لهم بالبنان،
علمي ودليل ملموس ال يقبل الجدل ،وكم وسيحافظون على تخصص اآلث ــار وإرث
سمعنا من الوالد عن سعادته عند اكتشاف األجداد على خير وجه ،إن شاء اهلل.
* أستاذ بقسم طب األسرة والمجتمع -كلية الطب -جامعة الملك سعود ،عضو مجلس الشورى السعودي
سابقاً ،مساعد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية لشؤون القياس والتقييم سابقاً.
47 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
عبدالفتاح كيليطو
الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية
وسابر أغوار السرد العربي
■ احملرر الثقايف
فــاز األدي ــب عبدالفتاح كيليطو بجائزة الملك فيصل للغة العربية واألدب
لهذا العام 1444 - 2023وموضوعها «السرد العربي القديم والنظريات الحديثة».
وبررت لجنة تحكيم الجائزة تتويجها لكيليطو من المملكة المغربية بـ «براعته
في تأويل األعمال السردية العربية القديمة بدراسات مكثفة ،وتمثّله المناهج
النقدية الحديثة تم ّث ًال إيجابياً ،وعمله على تكييفها بما يناسب رؤيته التي
اتّصفت بالجدّ ة والطرافة ،واإلبــداع ،وتميزّه بالقدرة على تقديم السرد العربي
للقارئ العام بأسلوب واضح».
وقــد ك ـرّمــت جــائــزة الملك فيصل واضح ودقيق.
وذك ــرت جــائــزة الملك فيصل ،في عــبــدالــفــتــاح كيليطو ف ــي احتفالية
الجائزة بمدينة الرياض ،ووصفته بأنه تقرير حفل جوائزها ،أن كيليطو قد
«أبرز النقاد في السرد العربي القديم أشاد بالبعد الدولي للجائزة قائال« :ال
يخفى أن البعد الدولي لهذه الجائزة والنظريات الحديثة».
وجاء هذا التتويج لتميزه في جوانب يضفي عليها قيمة مضافة ،ويرفع من
في السرد العربي القديم لم يلتفت المعيار الــذي خضعت له اإلنتاجات
إليها أحد قبله ،وكذا قدرته على تقديم الــتــي حظيت بــالــجــوائــز فــي مختلف
السرد العربي للقارئ العام بأسلوب الحقول ،وكذا من قيمتها العلمية».
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 48
دراسات ونقد
وفي احتفالية باألديب المغربي أقيمت من النظريات الغربية الحديثة في تناول
في الرباط قال الدكتور عبدالعزيز السبيّل ،النصوص السردية القديمة ،وفي طليعتها
األمين العام لجائزة الملك فيصل العالمية ،المقامات ،وألف ليلة وليلة».
وأعرب كيليطو عن سعادته بهذا التكريم، «إن فوز كيليطو بجائزة الملك فيصل للغة
العربية واألدب ،هو فوز مستحقّ بجدارة» ،وعــن امتنانه لجائزة الملك فيصل على
مؤكداً أنه من «حق البحث العلمي والتأصيل هذه االلتفاتة ،مجدداً التأكيد على «الوثبة
المعرفي ،أن نحتفي به هنا في الرباط بين الثقافية التي تشهدها المملكة في أكثر من
صعيد». أهله ومريديه».
وبمناسبة الفوز تخصص مجلة الجوبة ورأى السبيّل أن كيليطو «يشكّل مشروعاً
إلعادة قراءة تراثنا السردي العربي ،يتّكئ إض ــاءة خاصة على تجربة كاليليطو في
على الــرؤى النقدية العربية ،واالستفادة ثالثة مقاالت:
كيليطو يتوسط أمير الرياض األمير فيصل بن بندر واألمير تركي الفيصل
49 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
عبدالفتاح كيليطو قارئا للجاحظ
■ علي بلجراف*
الصدفة ،كما يقال ،خير من ألف ميعاد، اختار الطالب «كيليطو» المجاز في
فإن «كيليطو» عثر لدى الجاحظ على ما األدب الفرنسي ،إنجاز الشهادة المطلوبة
يغري بمواصلة القراءة والحفر في مؤلفيه فــي األدب الــعــربــي .هــكــذا تــعــرف على
«البخالء» و«الحيوان» الستخراج «ما قيل» مؤلفين مرموقين ،يذكر منهم :ابن هشام،
فيه وما «لم يُقَل» أيضا في هذين المؤلفين واب ــن قتيبة ،واآلمـ ــدي ،واب ــن طباطبة،
وهو موضوع هذا المقال. والجرجانيين (صاحب كتاب «الوساطة»
وصاحب كتاب «أســرار البالغة») ،وابن
إن أول فرق تفطن له «كيليطو» كان بين شرف القيرواني .لكن ،إذا كانت إكراهات
تمثله األولي حول كتاب «البخالء» وحكمه البرنامج المقرر قد أجبرته على قراءة
عليه بعد قراءته قــراءة متمعنة .غير أن بعض «أمهات» الكتب في األدب العربي،
االكتشاف األهم هو أن البخيل في كتاب فإن الصدفة هي ما سيحمله على أن يقرأ
الجاحظ يأخذ الكلمة ليدافع عن أفكاره، بصفة عرضية كتاب «البخالء» للجاحظ.
وهــو الصامت األب ــدي كما عهدناه في هــذا مــا يقره «كيليطو» نــفــســه((( .وألن
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 50
دراسات ونقد
إل ــى الــتــقــاط ه ــذا الــمــفــهــوم فــي مــحــاضــرة كتب اآلخرين .يقول «كيليطو»« :شخصيا ال
للفيلسوف الفرنسي «جاك دريدا» تحولت إلى أعرف مؤلفاً آخر منح للبخالء فرصة الكالم
كتاب تحت عنوان «إعطاء الوقت»((( .كان ال بد ال في األدب العربي وال في األدب العالمي
إذاً من استثمار هذا المفهوم لقراءة الكتاب قبل الــجــاحــظ»(((! فماذا يقول البخالء وقد
الثاني ،الكتاب النقيض لكتاب «البخالء» ،ألن أخذوا الكلمة في كتاب الجاحظ؟ أو باألحرى
الكتاب الذي ال يتضمن نقيضه ليس كتابا .وراء ماذا يسترعي انتباه «كليطو» في كالمهم وفي
«ثيمة» البخل والكرم ،أو البخالء واألسخياء مواجهتهم ألضدادهم األسخياء؟
توجد «ثيمة» الشعر والنثر ،أو الشعر والكتابة. يعترف «كيليطو» أنه عندما قرأ الجاحظ
هذه هي اإلشكالية المركزية المتوارية خلف أول مــرة وهــو طالب لم يمسك ســوى بأفكار
البخل والــكــرم كإشكالية ظــاهــرة فــي كتاب عامة ظاهرة لعيان أي قارئ ،من قبيل استنكار
«الــبــخــاء» .لكن ،مــا هــو «الــبــوتــاتــش»؟ وما
صاحب الكتاب ،ظاهريا ،لمذهب البخالء
عالقته بالشعر والشعراء؟
وسخريته من تصرفاتهم في بعض األحيان..
ثقافة البوتالتش والشعر لكن ،مــع اقــتــران ذلــك كله فــي الــوقــت نفسه
بــاإلشــادة الجاحظية ببالغتهم وفصاحتهم
تكشف ال ــدراس ــات فــي علمي االجــتــمــاع
وامتالكهم «ق ــوة الــكــام» .ومــمــا يبعث على
واألنــثــروبــولــوجــيــا حــول مــوضــوع «الــهــبــة» أو
الريبة هنا ،يالحظ «كيليطو» ،غياب أي تنويه
(((
«الــعــطــاء» ،منذ كتاب «البحث فــي الهبة»
باألسخياء .غير أن هــذا اإلدراك لمضمون
لمارسيل مــوس ،أن ثقافة «البوتالتش» لدى
الكتاب من طرف القارئ «كيليطو» سيتطور في
الــشــعــوب الــهــنــدو أمــريــكــيــة تتضمن طقساً
مرحلة الحقة .سيتضح له أن «كتاب البخالء
التزام عرفي ثالثي يتضمن ٍ احتفالياً يقوم على
كتابان»! فكما يقول «لويس برخيس»« :الكتاب
االلــتــزام بالعطاء (الــهــبــة) ،االلــتــزام بقبول
الذي ال يتضمن نقيضه يعد كتابا ناقصا»(((.
العطاء/التحدي ثم االلتزام بالرد .غير أن هذا
وعلى هامش معرض حول أعمال «هنري ميشو»
الطقس يقتضي أن يكون الرد أعظم قيمة من
H. Michaudأقيم سنة 1967م ،استوقف «جيل
العطاء األول في جميع الحاالت ،حتى وإن أدى
دول ــوز» نصاً تحت عنوان «تلف منظم» «un
ذلك إلى اإلفالس أو إلى ما ال تحمد عقباه،
كما ورد في بحث «مارسيل موس» ،كأن يقوم abîme ordonnéللناقد الفني «جان غرونييه»
الطرف األول بإحراق جزء من ثروته ،أو ذبح Jean Grenierيفيد مضمونه القائل« :إن الرسم
بعض خدمه ،فيضطر الطرف اآلخر إلى الرد الذي ال يتضمن «تلفه» أو «الكاووس» الخاص
بأعظم من ذلك .ولقد ركز جاك دريــدا على به والــذي ال يمر عبر مرحلة «التلف» ليس
تحليل معنى العطاء على هامش بحث «مارسيل رسما»((( ،وهو معنى مقولة برخيس تقريبا!
موس» في هذا الموضوع ليخلص إلى نتيجة لكن ،مع ذلــك ،كــان ال بد من كلمة أخرى
رئيسة هي :حيث يكون التبادل ،سلباً أو إيجاباً، كمفتاح «للتقدم فــي فهم الــجــاحــظ» .يتعلق
ينعدم العطاء .إن الحاضر الجليّ في ثقافة األمر بكلمة/مفهوم «البوتالتش» .Potlatchإن
البوتالتش ليس العطاء وليس طاعة األطراف، الصدفة ،مرة ثانية ،هي التي قادت «كيليطو»
51 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
والثاني يحضر في شخص الطرف اآلخر بــل تباهيهم وتنافسهم إلــى حــد يتحول معه
عندما يمدحه الشاعر فيجزل لــه العطاء. «العطاء» إلى اإلتالف والتدمير.
فألن الشعر يحضر فيه التبذير بهذا المعنى، إلدراك العالقة بين الشعر والبوتالتش
فهو «بــاب مــن أب ــواب الــبــاطــل» (((! كما قال وموقف الجاحظ من الشعر ،ال بد من استحضار
«األصــمــعــي» .لذلك لم يكن بخالء الجاحظ فكرة عامة مفادها ،حسب «كيليطو» أن ال ُكتّاب
شعراء ،وهو ما يعني أن النثر هو المجال الذي الكبار يكتبون دائما «ضد» أو «مــع» ،وأحياناً
يتوافق معهم .وإذا كان هذا هكذا بخصوص يكتبون «مع» و«ضد» في اآلن نفسه .فمع من
موضوع كتاب «البخالء» ،فماذا عن موضوع وضد من ألف الجاحظ كتاب «البخالء»؟
كتاب «الحيوان»؟
يــقــول األصــمــعــي ،وهــو مــن ضمن بخالء
استمرار اإلشكالية نفسها الجاحظ ،في مقدمة كتاب «لــزوم ما يلزم»
تستمر طريقة الــحــوار والمناظرة نفسها ألبي العالء المعري« ،إن الشعر باب من أبواب
بين طرفي البخالء واألسخياء المتبعة في الباطل (((».لعل هذا القول هو ما يربط الصلة
كتاب البخالء ،في كتاب «الحيوان» .يتم الحوار بين الشعر العربي القديم و«الــبــوتــاتــش».
في إحدى المناظرات بين طرفين هما أنصار لكن ما هو العنصر الرئيس الحاضر فيهما
الكلب وأنــصــار الــديــك .ومنذ البداية ،يلفت معاً إلــى هــذا الحد أو ذاك والــذي يجعلهما
«كيليطو» انتباهنا إلى ما يمكن أن يتولد عندنا «بابا من أبــواب الباطل»؟ يمكن القول ،بدون
من انطباع أولي حول موضوع هذه المناظرة تردد ،إنه التباهي بالعطاء ،بالسخاء إلى حد
الذي ال يخلو من تفاهة وابتذال .ولكي نطرد التبذير المهلك .ال غرابة إذاً ،في أال يحب
نحن هذا االنطباع األولي المشوّش على الفهم، بخالء الجاحظ الشعر ،بدليل أنهم نــادراً ما
علينا أال ننسى فكرة إمكان وجود كتابين في يحيلون عليه في سجالهم ،خالفاً لخصومهم
واح ــد ،تماماً كما هــو الــحــال فــي الحلم ،إذ األسخياء .فمثلما أن البوتالتش يقوم على
يعلمنا «سيغموند فرويد» ،والتحليل النفسي التفاخر والتباهي المؤديين بشكل جنوني
عموماً أن للحلم مضموناً ظاهراً وآخر باطناً، إلــى حــد اإلفـ ــاس ،فــإن التفاخر والتباهي
وأن المضمون الرئيس للحلم هو في الغالب يحضران أيضاً في الشعر بمظهرين :األول
ليس المضمون الظاهر .بهذا المعنى ،فإن فــي شخص الشاعر الــذي تــأخــذه الحماسة
الكتاب النقيض في كتاب «الحيوان» ،ما دام والفخر والمباهاة ،فال يتردد في تبذير ماله
أن كــل كــتــاب يستدعي نقيضه ،يستمر في في الجود والكرم وفي متع الحياة (الخمرة
إثــارة موضوع الشعر نفسه ،المثار في كتاب مثال) ،رغم معارضة واستهجان من أهله وذويه
«البخالء» ..لكن في صورة أخرى. وفي مقدمتهم قرينته ،وهو ما تدل عليه «أبيات
لــن تعوزنا الــقــرائــن والــمــؤشــرات على أن شعرية تبدأ بكلمة «ذريــنــي» كما فــي البيت
الشعر والفلسفة ،أو الــكــام والــكــتــابــة هي التالي:
قضايا رئيسة مثارة في كتاب «الحيوان» .لعل ذريـنــي فــإن البخل ال يخلد الفتى
وال يهلك ال ـم ـعــروف مــن هــو فاعل أول قرينة في هذا االتجاه هي داللــة الكلب
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 52
دراسات ونقد
ترجمة حكمة اليونان وآداب الفرس دون أن على الفلسفة .يكفي أن نستحضر ما سُ مي
تنتقص الترجمة منه شيئا ،بل ربما ازدادت في تاريخ الفلسفة «الفالسفة الكلبيون» في
بعض األعمال المترجمة حُ سناً وجماالً في الفلسفة اإلغريقية لتتأكد هذه الداللة .إن كان
لغة الهدف (اللغة المنقول إليها) ولم يترجم البخالء هم الطرف المتحفظ من الشعر في
الشعر في المجال العربي إال فيما ندر؛ ألنه كتاب البخالء ،فإن أنصار الكلب ،أي مناصرو
الفلسفة ،هــم المتحفظون مــنــه فــي كتاب
مع الترجمة يفقد الشعر ما هو معجز فيه ،أي
الحيوان ،ويتجلى ذلك في تصديهم لمناصري
الوزن ،أضف إلى ذلك أنه ال يتضمن معنىً لم
الشعر (الديك).
تذكره العجم في كتبها .إال أن ما يهم الجاحظ،
حسب كيليطو ،ليس أن يتخذ موقف الحكم بين وألن الشعر مرتبط بــقــراءتــه وإسماعه،
فــإن األم ــر الــبــالــغ الــداللــة هــو أن االنتصار
أنصار الشعر وأنصار الكتاب ،بقدر ما يهمه
للفلسفة في كتاب الحيوان ،هو انتصار للكتابة
إبــراز الموقفين في تعارضهما .ألم يقل عنه
ضد الكالم الشفوي .فالكتابة (النثر) قابلة
ابن قتيبة إنه كاتب متناقض؟ فهو في نظره
للترجمة ،أما الشعر ..فمستعص عليها .ذلك،
«يعمل الشيء وضده ( ،)...لكن الجاحظ جعل ألن الشعر هو في المقام األول ظاهرة صوتية
من التناقض (التضاد) فنا كتابيا فريدا»(((! (كالمية) ،أمــا الفلسفة ..فهي بنت الكتابة
يبقى أن نــتــســاءل :مــا داللــة رد الجاحظ كما يقول «ميشيل سير» .هكذا يرتد الحوار
والترافع بين الطرفين إلى الترافع حول التقليد
على مخاطب مفترض من مناصري التقليد
الشفوي والكتابة؛ وهو من طبيعة الترافع نفسه
الشفوي عندما آخذ عليه هذا األخير تأليفه
الذي أداره الفيلسوف أفالطون في محاوراته
كتباً ورسائل ربما بدل نظم الشعر؟ هل يعني
على لسان سقراط حول الكالم والكتابة .وعلى
هذا أن الجاحظ يفكر مع الكتابة ضد الشعر؟ خالف البخالء الذين ال يكنون أي حب للشعر،
جــوابـاً عن هــذا الــســؤال ،يكتفي «عبدالفتاح فإن المدافعين عن الفلسفة ال يعادون الشعر
كيليطو» بدعوتنا إلى تذكر مسألة أن كتاب لكنهم يبرزون حــدوده .فهو متعذر الترجمة،
الحيوان للجاحظ يبدأ بمدح الكتاب وتمجيد وحتى إن ترجم فإنه يفقد قيمته التي له في
الكتابة. لغته األصــلــيــة .هــذا مــا يفسر اإلقــبــال على
* كاتب -المغرب.
https://youtu.be/1FVsnOWGFjM ((( عبدالفتاح كيليطو «تجربة الجاحظ» على الرابط التالي:
((( نفسه.
((( كيليطو ،نفسه
((( «La peinture et la question des concepts» Deleuze: 28/4/1981 (16/1), transcription: Guillaume
.Damry, correction association: siècle Deleuzien
((( .Jaques Derrida, «Donner le temps», Paris, Galilée, 1991
((( .Marcel Mauss, «Essai sur le don», L’année Sociologique, 1924
((( كيليطو ،المرجع السابق
((( نفسه.
((( نفسه.
53 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
كيليطو المبحر بين ثقافتين..
ّ
ينقح كتاباته باستمرار!
■ هشام بن الشاوي*
تُوج األديب المغربي دكتور عبدالفتاح كيليطو (1945م) بجائزة الملك فيصل
العالمية في دورتها لعام (2023م) ،في فرع اللغة العربية واألدب ،ويعد كيليطو من
أبرز النقاد المغاربة؛ إذ تنشغل كتاباته باألدب العربي القديم بنصوص ال يقرؤها
ِّفت من أجله! ويحرص على أحد ،ويخيل إليه أنه اليوم قارئها الوحيد ،وأنها ُأل ْ
أن يقاربها في كل مرة ،من زاوية مختلفة؛ ما يمنح كتاباته ثراء وتجدداً ،بأسلوبه
السهل الممتنع ،الذي يجمع بين الحكي والنقد ،بعيد ًا عن أي فذلكات أكاديمية؛
كتابة بالوثب والقفز ،تحفر بمعولها النقدي برشاقة ،هنا وهناك ،تجعل القارئ
الظافر الوحيد في هذه الرحلة الماتعة بين المتون!
لقد أدرك كيليطو حقيقة عجزه ويسرة .وهكذا ،أسس صاحب «األدب
الواضح عن كتابة دراســة رصينة وفق والغرابة» أسلوبه الخاص القائم على
المعايير الجامعية المعهودة ،أو تأليف االســتــطــراد ،واالنــتــقــال المفاجئ من
موضوع إلى آخر ،بشكل متواصل. ٍ ـوع مــا فــي فصول
بــحـ ٍـث ح ــول م ــوض ـ ٍ
متراصة البناء؛ ما سبب له قلقاً معرفياً
كتابه «في جو من الندم الفكري»، لــم يتجاوزه إال بعد ق ــراءة الجاحظ،
فتخلّص من شعوره بالنقص ،واستدل يبدو أشبه بعملية مراجعة فكرية ،ما
عليها بعد إدراكه أن الجاحظ الذي لم دام «فــي الفكر ذاتــه ما يعرقل عملية
كتاب التفكير» ،كما يقول غاستون باشالر، يكن يستطيع أو يرغب في إنجاز ٍ
موضوع محدد ،دون االلتفات يمنة «الخطأ ليس شيئًا يحدث أو ال يحدث، ٍ حول
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 54
دراسات ونقد
عشر -جاء فيها أن الشخوص الثالثة ينامون إنه على العكس ،المكوّن األســاس للكتابة،
جزءًا من الليل .ارتبكت وطلبت منها أن تبعث معدنها وطبعها ،أن تكتب معناه ،أن تخطئ..
لي الفقرات التي تثبت ذلك ،وعند توصلي الكتابة هي دو ًمــا إعــادة النظر» ،كما يُق ّر
بها لم يبق وجه للشك أو اإلنكار ،فتملكني د .كيليطو.
غيظ شديد من نفسي ،ولمتها على التسرع
فــي فصل «فــن الــخــطــأ» يكتب كيليطو
وإلقاء الكالم على عواهنه والولع بالغرابة
عــن مالحظة تعوزها الــدقــة ،أوردهـــا في
إلى درجة أنني نسبت إلى النص ما لم يقُله.
كتابه «الــغــائــب» ،وبكل تواضع جم يعترف
وتساءل كيليطو عن النص السردي الذي
بالخطأ المتسرع؛ إذ عقد مقارنة بين ألف
اختزن في الوعيه ،وجعله يعتقد أن شخوص
ليلة وليلة والمقامات مستنتجً ا أن ال أحد
الليالي ال ينامون ،أو الرواية التي تحكي عن
ينام في كليهما ،وأعاد المقارنة في روايته
إصابة سكان قرية بكاملها بحمى األرق ،فلم
«أنبئوني بالرؤيا» إلى أن وصلته رسالة من
يناموا لمدة عشرين سنة ،فانتبه إلى أنها
أستاذة تدرّس الرواية« :كنت خارج الرباط
رواية غارثيا ماركيث «مائة عام من العزلة»،
حين توصلت برسالة مــن أســتــاذة تُــدرس
بينما في «الليالي» لم يدم الوباء إال زهاء
«أنبئوني بالرؤيا» ،كتبت تعلمني أنها قلقة؛
ثــاث سنوات ،ونسب في روايته «أنبئوني
ألن الترجمة الفرنسية ل ِـ «ألف ليلة» -وكانت
بالرؤيا» ألحــد الشخوص مقاالً موضوعه
تشير على وجه التحديد إلى ترجمة أنطوان
النوم في ألف ليلة ،اعتقد بعض القراء أنه
غاالن التي نشرت في بداية القرن الثامن
صاحب المقال ،بينما األمر مجرد خيال.
ويــعــود م ــرة أخ ــرى إل ــى مــوضــوع أثــيــر:
ثنائيته اللغوية ،التي كتب عنها في أكثر من
كتاب ،يتحدث عن تجربته في تدريس األدب
الفرنسي لمدة تفوق األربعين عاما ،لم ينطق
خاللها بكلمة عربية أو باسم مؤلف عربي
أمام طالبه ،كاختيار تربوي« ،لم أحتفظ بما
ألقيت من دروس ،فما إن تنتهي الحصة حتى
أمزق أوراق التحضير ،لم يبق أي أثر لسنوات
من الكالم األكاديمي .كما أنه لم يعن لي إال
نادراً أن أنشر دراسة عن األدب الفرنسي،
ألنني أعلم أنني لن أضيف شيئاً يذكر لما
يكتبه الفرنسيون .وفضال عن ذلك ،فإنهم،
وهذا هو المهم ،ال ينتظرون مني أن أكتب
55 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
عن أدبهم .أدبهم ال يحتاجني»!
فــي كــتــابــه «أتــكــلــم جميع الــلــغــات ،لكن
بالعربية» يكتب عن عالقته باللغة المحكية،
مؤكداً أنه يتكلم الدارجة في حياته اليومية،
ويــقــرأ الفصحى« :عــودنــي التكوين الــذي
تلقيته على أال أقرأ إال النصوص التي كُتبت
بالفرنسية أو بالفصحى .صحيح أن هناك
أشعاراً وحكايات وأمثاالً بالدارجة ،إال إنها
إلي مرتبطة أساساً بالشفوي. تظل بالنسبة َّ
عندما يحصل لي أن أقرأها ،أحس بانطباع
غريب :فبسبب النقص في التعود ،آخذ في
تهجئتها كما لو كانت مكتوبة بلغة أجنبية.
«ينتهي كل أدب بأن يم ّل نفسه ،ما لم ينعشه بقدر ما يكون التكلم بالدارجة يسيراً ،بقدر
إسهام أجنبي». ما تكون قراءتها شاقة مملوءة بالفخاخ؛ ما
بينما فــي كتابه «مــن شرفة ابــن رشــد» يــدل على أن للغتين الفرنسية والفصحى
يؤكد دكتور عبدالفتاح كيليطو أن الترجمة نقطة مشتركة وهي كونهما لغتيّ التدوين،
تقدم كثيراً بما هي فعل حب ،عالمة انفتاح، وبالتالي لغتيّ األدب .عن طريقهما تمكنت
وتسامح ،وتستحضر برقة وحنين العهود من االستمتاع بلذة قراءة النصوص األدبية».
التي ازدهرت فيها« .بغداد في القرن الثالث ويشير د .عبدالفتاح كيليطو إلــى أن
والرابع للهجرة/التاسع والعاشر للميالد، اللغة األجنبية ،التي نتقنها ترفد لغتنا األم
طليطلة في القرن الثاني عشر الميالدي... بــعــبــارات أو مــفــردات أو صياغات نحوية
غير أن الواقع أقل مثالية .فالترجمة غالباً حين ال تمنح كتّابنا نماذجها األدبية ،وهو
سياق من التباري والمنافسة.
ٍ ما تعمل في ما حصل في القرن التاسع عشر مع األدب
كثير مــن الــشــعــوب ال تقبل أن تترجم العربي الذي أنقذته الترجمة ،التي انطلقت
نصوصها المقدسة ،فهي تُعِ ُد العبو َر إلى آنــذاك وأسهمت في تجديده عبر إجباره
لغة أخرى اعتداءً .يجازف النص المقدس على استيعاب أجناس أدبية جديدة ،وتبنّي
بالخروج من ذلك مهزوال ،متحوالً إلى جثة، أشكاالً كتابية لم تكن معروفة عندنا ،في
وهيكل عظمي؛ لذا يجب أن ال يغادر لغته،ٍ الوقت الــذي كان فيه أدبنا العربي متعباً،
وبيته» ،ويتحدث عن تجربة ترجمة «كليلة خائر الــقــوى ،يحتضر فــي عزلة مضنية،
ودمنة» مؤكداً أن «بيدبا» ال يخشى أن تكون ويستشهد بالشاعر األلماني غوته القائل:
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 56
دراسات ونقد
(أو عن لغة) ،فنحن نلحق الضيم باألخرى، الترجمة رديئة أو غير أمينة؛ ال يفكر في
والمؤكد المعلوم أن هذه األخيرة ال تنتظر الشكوك والــمــصــادفــات المصاحبة عــادة
سوى لحظة الثأر .أشار إلى ذلك الجاحظ النــتــقــال نــص؛ «مــا يخشاه هــو أن يتملكه
في القرن التاسع للميالد ،بواسطة استعارة: الفرس ،ويتمثلون مضمونه ،ويستمدون منه
«اللغتان ،مثل الضرتين ،ال يمكن أن تتفاهما. القوة والمجد» .يوجد في مبدأ الترجمة
بينهما حرب إبادة ،بدون رحمة»! الجاحظ ميل سجالي (من المساجلة في الحرب) بل
تروقه المواقف ،حين يواجه اإلنسان قرينه، مطمع إمبريالي« .الترجمة غزو» ،كما قال
وقرناءه .يذكر في كتاب «البخالء» (أخوين نيتشه .الترجمة هــي غــزو أرض أجنبية،
ال يملكان هما اإلثنان سوى ثوب واحد؛ لما وط ــرد ساكنيها أو إخــضــاعــهــم ،وامــتــاك
يخرج أحدهما ،يبقى اآلخر في البيت) .وإذا خيراتهم وكنوزهم .وحين ال يمكن القضاء
ما صدقناه ( لكنه ال يصرح بذلك) ،ال يمكن على مقاومتهم ،يكتفى باجتياحات سريعة،
الحديث عن اللغات دون الحديث عن الزواج أو ببعث جاسوس متنكر في هيئة عالم يعود
األحادي ،والزواج بإثنتين ،بل حتى عن تعدد بنسخ من إنتاجهم الفكري ،كما حصل لكليلة
الزوجات». ودمنة!
يحلو للناقد المغربي الذي اعتاد أن يبحر وفــي مــوضــع آخــر مــن «الــشــرفــة» ،يُق ُّر
صاحب «خصومة الصور» أننا حين نتكلم لغة
بين ضفتي ثقافتين مختلفتين أن يكتب عن
مواضيع سابقة ،دون أن يسأم القارئ ،ألنه
ينتظر جديد كتبه بشغف .مثالً ،في كتابه
«في جو من الندم الفكري» يكتب عن إعادة
إحدى دور النشر طبع ترجمة فرنسية لكتاب
البخالء للمستعرب شــارل بيال ،فقد طلب
منه كتابة مقدمة للطبعة الجديدة ،لكن -
لسبب ما -سقط اسم المستعرب ،لم يرد
على الغالف وال في صفحة العنوان الداخلي،
«حدث سهو فظيع ومضحك في آن ،محى
اســم باحث قضى عمره في العناية بأدب
الجاحظ» ،ومن حسن الحظ أنه أثنى عليه
في المقدمة« ،ولكن مَن يقرأ المقدمات؟».
بــعــد م ــدة قــصــيــرة ،ص ــار بــعــض الــقــراء
العابرين يسألون صاحب «الكتابة والتناسخ»:
57 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
«من هو الجاحظ؟ من هو هذا الكاتب الذي
ألــف «البخالء» -حسب وهمهم -باللغة
الفرنسية؟» .ها قد انخرط الجاحظ في
زمرة الكتاب الفرانكوفونيين ،صار معاصراً
لنا ،صار مغربياً أو مغاربياً ،مع كل ما يعني
ذل ــك .ال شــك أنــه يحمل نــظــارة طبية أو
شمسية يخفي بها جحوظ عينيه ،وال شك
أنــه يرتدي لباساً أوروبــي ـاً أنيقاً من بذلة
ورباط عنق وحذاء المع .
د .كيليطو الشغوف بالقراءة ،يحتفي بفعل
القراءة في روايته «واهلل إن هذه الحكاية
لحكايتي» .يكتب صاحب «لن تتكلم لغتي»
روايــة الحكاية الغائبة ،التي لم يروها أي
أحــد ،والكتابة التي لم تكتب بعد ،متمثلة
قصتي».
القصة َّ
َّ في البحث عن كتب أبــو حيان التوحيدي حكايتي ،وهذه
وفي هذه الرواية ،يسعى دكتور كيليطو المتخيلة ،بأسلوبه الرشيق ،الفريد ،الذي
كرّسه كاتبًا وناقدًا شق طريقه الخاص في إلى خلخلة مفهوم الحدث فكرياً بمطرقة
الحَ كي ،أو بتعبير خالد بلقاسم إن الرواية الكتابة إبداعاً وتنظيرًا.
عــلــى ال ــغ ــاف األخ ــي ــر ل ــل ــرواي ــة ،نــقــرأ بكاملها تنهض ،خالفًا لظاهر عنوانها ،على
مقطعاً ال صلة لــه بمحكيات هــذا المتن لبس منسوج بارتياب مكين .ارتياب يتوزع
ويوجه نموها .أبعد من ذلك، ِ الروائي ،الذي يحتفي بالتفتيت /التشذير كل مشاهدها
الــســردي« :فــي الليلة الــواحــدة بعد األلــف ،فالحكاية ،بما هي موضوعة رَئيسة في هذه
وبدافع لم يُدرك كنهه ،أن الرواية ،ترتاب في حدثها ،وفي ذاتها ،وفي ٍ قرَّرت شهرزاد،
تحكي قصة شهريار ،تمامًا كما وردت في نسبة الــحــدث إلــى الــشــخــوص .كما لــو أن
بــدايــة الــكــتــاب .مــا يثير االســتــغــراب على الرواية ال تسرد حكايتها ،وهي تبحث عمن
أصل وقائع فيً الخصوص أنه أصغى إلى الحكاية ،وكأنها تنسب وقائعها إليه( ،أثمّة
بشخص آخــر ،إلــى أن أشرفت على هذه الرواية أم يتعلّق األمر بحكي مضاعف ٍ تتعلَّق
النهاية ،وإذا به ينتبه فجأة إلى أنها قصته أو بتأويل يتحوّل إلى حكاية؟)ّ ،إل كي تنسج
هو بالذات ،فصرخ« :واهلل ،إن هذه الحكاية ارتيابًا فكريا من داخل ممكنات الحكي.
* كاتب -المغرب.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 58
دراسات ونقد
■ رائد العيد*
ُولــدت السير الذاتية في رحــم البيئات الدينية ،ســواء في الثقافة العربية أو
الغربية؛ بــدءً ا باعترافات القسيس أوغسطين ،وسيَر طلب العلم في الحضارة
اإلسالمية ،حتى جاءت اللحظة الحاسمة في تطور كتب السير الذاتية بشَ عبنتها
من خالل «اعترافات» روســو التي مهّ د فيها السبيل لتحوّل السيرة إلى نوع من
العالج التطهيري المخلّص من الخطايا أمام المأل.
أهاليهم ،ومن لم يفعل ذلك فيجد في بعد ذلــك ،صار إظهار المخفي هو
قرارة نفسه ميل إلى فعل ذلك ،منعه منه الهدف األصيل من كتابة السير الذاتية،
األعــراف والتقاليد ،وربما أق ّر بدونية وال قيمة لسيرةٍ ال تكشف مستورًا.
سيرته مقابل غيرها. فانساق الكتّاب ،وخاصة في الغرب،
على صعيد آخر ،تحظى االعترافات على هذا الــدرب يسطرون مغامراتهم
بإقبال كبير مــن الــقــراء ،فهم يحبون ويــحــكــون أس ــوأ خــصــالــهــم ،خــو ًفــا من
التلصص على الكتّاب عندما يفصحون التقليل من قيمة سيرهم ،فالسيرة على
عن أسرارهم وخفايا عالقاتهم وخبايا حد تعبير جورج أورويل« ،ال تعتبر إذا لم
حيواتهم ،ويــرى فيها كثير من القراء يذكر فيها ما يشين!».
الصراحة المطلوبة والمادة المأمولة، وألن «المغلوب مولع بتقليد الغالب»،
وبــاتــوا يقللون مــن قيمة السيرة التي كما قعّد ابن خلدون ،تبع هذا النهج عد ٌد
تخلو منها ،وكــأن ال فائدة من السير من الكتّاب العرب ،وراحــوا يفصحون
الذاتية إال فضح كاتبها ،وهم في هذا إمــا عن تجاربهم أو يظهرون حكايات
59 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
فيه مجدد النقد العربي ومبدع قراءة التراث
ودمجه بالنظريات الغربية.
يــقــوى بعض الــك ـ ّتــاب على االعــتــرافــات
الجنسية والتجارب العاطفية وال يجرؤ على
اإلفــصــاح عــن أخطائه المعرفية وعثراته
العلمية .االعترافات الجنسية إغراء للقارئ
العادي ،وال تفيد المشهد العلمي بشيء كما
تفعل االعترافات العلمية ،اإلقــرار بالخطأ
يعني اإلقــرار بتطور العلم الــذي يقول عنه
رائد العيد مع األديب عبدالفتاح كيليطو
باسكال« :تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه»! الفائز بجائزة الملك فيصل العالمية
يظن بعض الــقــراء أن فــي االعــتــرافــات تب ٌع للتصوّر الغربي لمفهوم السيرة الذاتية
الجنسية إقــرار بالخطأ ،فيدفعه للتساؤل وإن لم يدركوا ذلك.
والتفكير لماذا يفصح الكاتب عمّا قد يُنقص
لم يكتب عبدالفتاح كيليطو سير ًة ذاتية
من قدره في أذهان الناس؟ ونجد جوابًا لهذا بمفهومها النقدي ،وإنما نجد شــذرات من
عند عباس العقاد الذي يفسّ ر هذا السلوك حياته في مختلف أعماله ،والكثير منها في
بأنه رغبة بالصعود في أذهان الناس بالجرأة حواراته ،ولكنه أخرج اعترافاته في كتابه «في
واالعتراف والتحرر وليس إقــرارا بالضعف جو من الندم الفكري» الصادر عن منشورات
والدونية والتخلف. المتوسط 2020م.
ذك ــرت فــي دراســتــي المستفيضة حول جــاءت اعترافات كيليطو كما ينبغي أن
أدب السير الذاتية «أشقاء الزورق الواحد» تأتي ،مثرية للمشهد الثقافي ال الفضول
أن كل سيرة ذاتية هي بحث عن االعتراف الطفولي ،جــاءت لتُق ّر بالخطأ وتصححه،
بالمصطلح الهيجلي ،وإن لم تكن اعترافًا وتتراجع عن الرأي وال تهرب من مجابهته.
بالمعنى الروسوي .وعليه ،فالجميع يبحث عن نجد في هذا الكتاب اعتراف كيليطو بتأويل
المكانة ،سواء باعترافه الجنسي أو اعترافه أخطأ فيه ،وبنى عليه بعض كتبه الالحقة،
العلمي ،إال إن االعترافات العلمية تحدث ليأتي بعد سنوات ويقر بكل صراحة عن
أثرًا مستمرًا ،متعديًا على المشهد الثقافي اكتشاف خطأ ذلك التأويل ،كما يفصح عن
بتقليل التشنج من المراجعات العلمية التي أخطاء وقع بها آخرون على صلة به ،كما وقع
يبدأها المؤلف على نتاجه العلمي بنفسه، في إسقاط اسم مترجم البخالء الذي وضع
بينما ال تفشي االعترافات الجنسية سوى ـدل عنه اســم كيليطو .اعترافات ال تأبه
بـ ً
التجارب شديدة الذاتية ،عديمة الفائدة. بالصورة المرسومة عن كيليطو والتي ترى
* كاتب سعودي.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 60
دراسات ونقد
هذه الفترة الطويلة نسبيا يقطّ رها شرطا أن تكون قريته تلفيت وليس
61 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
الــروائــي فــي ســرد وزّع ــه على أحــد عشر والمقوالت السياسية والوطنية التقليدية.
لقد تجاوز أحمد هذه المطبّات بكثير فصال ،لم يخل أي فصل من فصولها من
حكاية الدفين أو تداعياته االجتماعية على مــن الــحــذر ونــجــح فــي هــذا السيما وهو
العائلة ،ومن خالل هذا العصب الرئيس ،يستند إلى عنوان ،فيه الكثير من المخاتلة؛
ناقش أحداثا في معظمها هامشية ،مما إذ ينصرف الــعــنــوان فــي داللــتــه -للوهلة
يــدور فــي بيئات الــريــف المهمش أصــا ،األولــى -إلــى الــدائــرة السياسية الوطنية،
فلم يسع الكاتب إلى االستناد إلى مقوالت ليكتشف القارئ أن "سجناء خلف قضبان
كــبــرى ،وال إلــى أح ــداث مركزية ،وكــل ما ال ــذاك ــرة" لــم يــكــونــوا مــن أس ــرى القضية
ظهر من أحداث مفصليّة ،ما كان له تأثير الفلسطينية من المقاومين لالحتالل ،وإنما
مباشر على سكان الريف أكثر من غيرهم؛ تلك الشخصيات التي ظل يعذبها الماضي
فهم خاضعون لتأثيرها خضوعهم للضرورة وتالحقها تفاصيله طوال حياتها ،من الجدة
الحتمية ،وبخاصة فيما يتصل بالحواجز إلــى فريد وحتى مــراد وأحمد ،ولــم يسلم
واإلغـــاقـــات ومــعــانــاة ال ــن ــاس ،وخــاصــة منها المتشائل الــذي يوجعه الماضي وما
الشباب في الوصول إلى العمل أو الجامعة فعله إخوته به ،وأول ما يقوم به أحمد مسلم
أو المدينة ،ومــا يحياه الناس من شظف لزحزحة العنوان عن تاريخيته المفخخة
العيش وقسوته ،هذه القسوة التي لم يفلح بــالــذاكــرة الوطنية اقتباسه قبل الدخول
الكنز بقلبها رأسا على عقب إال بعد فترة إلى الرواية قوال للشاعر العربي أدونيس،
طويلة ،بعد أن أخذ الريف نفسه بالتطور يقول فيه« :أقسى السجون وأمرّها ،تلك
التي ال جدران لها» ،يحمل هذا االقتباس الحتمي والتدريجي.
معنى عاما للسجن ،أعمق وأكبر من مكوث يظهر أن الروائي وهو يعمل على هذا
الشخص داخل القضبان ،ويحرسه سجان السرد كــان صبورا جــدا ،وهــو يحاول أن
قاس ،وعدو كما هو في الحالة الفلسطينية، يجمع تــلــك الــســرود الهامشية ليجعلها
كما أن هذا االقتباس من زاوية أخرى يقول مــتــجــانــســة كــلــوحــة الــفــســيــفــســاء ،لــتــؤدي
إن األســـرى الفلسطينيين قـ ــادرون على فــي نهاية الــمــطــاف إلــى بــنــاء س ــردي ذي
التحرر من السجن ،فالسجن فكرة تعيش شخصية متماسكة ،ليس الجامع الوحيد
في للرأس والــذاكــرة ،ولهذا المعنى أيضا هو الشخصيات الريفية ،وال قصة الكنز،
بعض ظــال ،وخاصة من خالل شخصية ومــا جــرتــه مــن أحـ ــداث ،بــل ذلــك اإليــقــاع
األسير المحرر الواردة في الرواية وصفا ال يصف الحكاية بجانب أخرى ّ الهادئ لروائي
اسماً .مع العلم أن الرواية لم تؤكد أيا من بحذر ،لعله يحظى برؤيا روائية خارجة عن
المعنيين أو الحالتين لهذا األسير المحرر سياق السرد التقليدي الغارق في المثاليات
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 62
دراسات ونقد
على وجــه قاطع كتج ّل آخــر مــن تجليات
الحذر السردي في الرواية.
هل يمكن أخــذ البنية السردية لتكون
استعارة سياسية؟ أظن أن األمر ممكن مع
بعض التحفظ أيــضـاً ،لكن هــذا التحفظ
النقدي في التأويل تق ّل مسافته بين الممكن
وغير الممكن ،إذا ما أعــاد المرء قــراءة
اإلهداء ،بوصفه نصا موازيا من النصوص
المحيطة بالسرد ،ذا داللــة نصية سردية
تدعم مــقــوالت الــروايــة ،بعيدا عــن فكرة
"اإلسقاط" أو الشطط في التفسير.
جاء اإلهداء عاما قابال للتأويل كذلك:
«إلى الذين حرموا حقوقهم بكنوز ظهرت
األحــداث وتبنيها داخــل هذه اللغة ،وعلى بوجودهم» .عند إعــادة قــراءة العبارة بعد
الرغم من أن البنية السردية شعبية الفكرة االنــتــهــاء مــن ق ــراءة كــامــل الــنــص الــروائــي
والــشــخــوص إال أن اللغة كانت فصيحة، سيكون باإلمكان القول باستعارية البنية
سلسة ،فيها الوضوح السردي المطلوب؛ الروائية للداللة السياسية؛ فالكاتب أحمد
ألن السارد العليم المثقف الواعي صاحب مسلم ابن جيله ،الجيل الذي ترعرع في ظل
السلطة الفلسطينية ،جيل حرم من حقوقه
الــرؤيــا هــو ال ــذي كــان يــتــحــدث ،وممسكا
بالخيوط جميعها ،ولــم يسمح لشيء أن بكنوز ظهرت بوجوده ،فكل االمتيازات التي
يفلت من بين يديه؛ وهــذا جانب آخر من يتمتع بها المسؤولون ،وهم قلة ،حرم منها
الحذر الذي كان مسيطرا على الكاتب؛ فلم كثير مــن أبــنــاء الشعب ،فاستأثر القادة
تحضر اللغة العامية إال في مواقع محددة بالمناصب والمكاسب ،ولم يكن للشعب من
جدا ،مع أن المنطق السردي كان يستدعيها نصيب إال دفع الغرامة /الضريبة الوطنية
من معاناة وأسر ،وشظف عيش ،والبقاء في
كــأحــد الــمــمــيــزات الــخــاصــة لشخصيات
العمل ،لتظهر صورتها المقنعة ،وتكتمل الهامش حيث الريف المهمش.
على امــتــداد مائة وثالثين صفحة من عناصر هُوِ يّتها.
كما اختار السارد لغة فيها الكثير من القطع المتوسط استطاع أحمد أن يحافظ
على لغة سردية عملية ،واقعية ،تضيء على اإلحاالت الثقافية والمقتبسات النصية من
63 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
لألمر للجنة الجائزة ،ومــن ثم استبعاده الثقافة العربية ،والشعر العربي ،واآليات
لمخالفته شــرط الــجــائــزة األســاســي؛ أال القرآنية ،كما ظهرت الــرمــوز اإلغريقية
يكون العمل مطبوعاً ،يشبه إلــى حــد ما واألسطورية ،وثقافة الروائي الفنية؛ كونه
تلك المخاطرة في كشف سر الكنز ،فلو متخصصا فــي الفن التشكيلي؛ فظهرت
تم كشف الكنز لكان للسرد وجهة أخرى، ثقافته الفنية في السرد كذلك ،وجاءت هذه
كما لــو لــم يتم كشف السر للجنة جائزة التضمينات مجسّ دة للفكرة األساسية للعمل
القطان لكان لهذه الرواية شأن آخر ،في أن الروائي ،أو داعمة لشخصية السارد الواعية
يحصل -غالباً -الكاتب الشاب أحمد مسلم التي تؤهلها ثقافته الممتدة أن يكون ساردا
على جائزة اللجنة ،وما تعنيه من كنز معنوي عليماً ،قادرا على البناء السردي المتدفّق.
لكاتبها أوالً قبل القيمة المادية للجائزة ،أو ثمة ما هو طريف في الحكايات التي
على األقل ربما حصل على "تنويه" من لجنة يسردها السارد في هذه الرواية وتماثلها
التحكيم التي تض ّم في عضويتها روائيين أو تناظرها على اختالف في الشخصيات.
مكرّسين ونقادا أكاديميين ،لتكون شهادة فــالــجــد وعــاقــتــه بــفــريــد ،ه ــي كــعــاقــة
استحقاق يسعى إليها كل كاتب شابّ ،داخل مــراد بسالم؛ وهي على ما يبدو كالعالقة
إلى نادي الكتابة الواسع الممتدّ . المتوقعة بين مراد وأحمد؛ كأن ثمة لعنة
وأخــيــراً ،أظــنّ أن الكاتب أحمد مسلم تالحق األحفاد لذنب فعله األجــداد ،كما
تقول الحكمة الشعبية الرائجة في الريف :بما قــدّ مــه مــن عمل روائـــي فــي «سجناء
«اآلباء يأكلون الحصرم واألبناء يضرسون» .خلف قضبان الذاكرة» يطرح نفسه وبقوة
وهذا على ما يبدو ما حدث مع الكاتب في عالم السرد ،ليكون أحد روائيي الجيل
نفسه -بصورة أو بأخرى -عندما استبعدت القادم الممتلئ بأفكار جديدة ،وبحساسيات
هذه الرواية بعد حماسته لذلك ووصولها فــنــيــة ،تعتمد فــي شعريتها عــلــى أدوات
إلــى مرحلة متقدمة مــن المنافسة على مكتسبة ،وأخرى فطريّة ،ليكون قادرا على
جائزة القطان للكتّاب الشباب للعام ،2023بناء مــشــروع روائ ــي ،يضيف إلــى الــروايــة
ليأتي خبر طباعتها في مصر مطوحا لها الفلسطينية أبعاداً جديدة أو يعمّق البحث
ولكاتبها عن أن يستمر في السباق والفوز في األبعاد التقليدية؛ فيعيد إجابة أسئلتها
بالجائزة؛ كما حدث مع مراد نفسه الذي من زوايا أخرى ،تنتمي إلى هذا الجيل ،وما
أقصي بفعل فاعل عن المنافسة على بطولة يؤمن به من قضايا فنية أو ما يعتقده من
الجامعة للشطرنج (كنزه المعنوي) ،فكشفه أفكار.
* كاتب -فلسطين.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 64
دراسات ونقد
■ حنان احلربش*
لم يذهب الروائي هنري جميس بعيدً ا حين قال« :نثق في أن الروايات تدربنا
على ممارسة السخط العظيم والكرم الكبير» ،ففي رواية «ما بعد الموت» للروائي
النوبلي عبدالرزاق قرنح ،سيجد القارئ نفسه أمام فتنة السرد وغواية الكتابة ،كما
أيضا متعة االطالع على جزء من تاريخ االستعمار األوربي في القارة أنه سيجد ً
اإلفريقية ،تحديد ًا في ذلك الوقت الذي استعمرت فيه ألمانيا الشرق اإلفريقي،
هذه المرة برؤية قرنح الكاتب التنزاني الحائز على جائزة نوبل أخيرً ا .وألن قرنح
مهتم بالكتابة في أدب ما بعد االستعمار؛ جسدت هــذه الــروايــة رؤيته بجدارة،
ليثبت قبل نوبل وبعدها أنه صوت إفريقي يتمتع بالقوة واألصالة والتميز.
ُعنِيَ والده وهو هندي مهاجر ،بتعليمه منذ تــبــدأ الــروايــة فــي نقل ص ــورة المجتمع
الصغر وإرساله للعمل في الساحل ،ليساعد آن ـ ــذاك ،وه ــو مجتمع مــركــب مــن أخــاط
أحد المصرفيين الهنود ،وما هي اال فترة حتى وأجناس مختلفة؛ العرب ،والهنود ،والسكان
انتقل في العمل مع أحد التجار ،والزواج بابنة المحليون؛ يعملون فــي الــزراعــة والــتــجــارة
أخيه «عائشة» ،والتي تمثّل الصورة التقليدية واألع ــم ــال الــحــرفــيــة ،ك ــان «خــلــيــفــة» وهــو
شخصية أســاس في الــروايــة تجسيداً لهذا
للنساء في ذلك المجتمع.
المزيج المجتمعي ،فهو مولود ألم إفريقية
«محو االستعمار إمنا هو حدث وأب هندي «لم تكن مالمح الهنود التي اعتاد
عنيف دائم ًا؛ ألن ذلك يبدل الكون الناس رؤيتها ..بشرته وشعره وأنفه كلها ترجع
تبدي ًال تام ًا» .فرانز فانون إلى أمه اإلفريقية».
65 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
قول فرانز فانون «كنيسة بيض ،كنيسة أجانب؛ إنها
ال تدعو اإلنسان المستَعمَر إلى طريق اهلل ،وإنما
تدعوه إلى طريق اإلنسان األبيض» ،وهذا بالضبط
ما حدث مع إلياس الذي قرر بعد العودة إلى قريته
وخوض جداالت مع السكان األصليين الرافضين
لالستعمار األلماني أن ينضم الى القوة الحامية
للمستعمر فيما يُعرف «بالشوتزروبة» ،ويقاتل في
صفوفهم دفاعاً عن رسالة الرجل األبيض الذي
يمثل النموذج الحضاري المتقدم.
«وأن ــا أيـضـ ًا أجبرني الـقــدر القاسي
على أن أبحث عن وطن جديد» فيرجيل
كذلك يهرب «حمزة» من مصير ال يقل بشاعة،
فقد وهبه والده ألحد التجار الهنود عندما عجز عن
اإليفاء بدينه ،محرراً نفسه من نير الر ّق والعبودية،
الروائي الصومالي التنزاني عبدالرزاق قرنح
فــمــا هــي إال فــتــرة حــتــى ينضم لــلــقــوة الحامية
«الشوتزتروبة» ،حمله حسن الحظ للعمل كخادم تعد الحرب والفظاعات التي سببها االستعمار
شخصي ألحد الضباط األلمان الذي علمه القراءة «ثيمة» الرواية الرئيسة ،في تلك الفترة الممتدة من
والكتابة باللغة األلمانية ،فلم يكن حمزة مضطراً تاريخ ثورة «البو شيري» ،بشير الحارثي الذي رفض
للقتال سوى في الفترة األخيرة من حكم األلمان، االستعمار األلماني بالتحالف مع القبائل المحلية
أثناء نشوب حرب بينهم وبين القوات البريطانية، على الساحل اإلفريقي ،وثــورة قبائل الواههيهي
وقد تم الهجوم عليه بوحشية من قبل ضابط ألماني وزعيمها البطل الذي يحتفظ بجمجمته في أحد
كاد يصيبه في مقتل ..ليتم بعد ذلك نقله إلى إحدى المتاحف فــي تــنــزانــيــا ..حتى انتفاضة الماجي
اإلرساليات التبشرية ليتلقى العالج على يد مُبشر ماجي التي راح ضحيتها اآلالف من األبرياء بسبب
وزوجته.. المجاعة..
«لن تتكلم لغتي» عبدالفتاح كليطو تتحرك تلك الشخصيات وتتطور في ذلك الخط
كانت العالقة بين الضابط األلماني و«حمزة» الزمني الحافل باألحداث والصراعات ،كل شخصية
تحمل قضيتها ،وكل قضية تثير الكثير من األسئلة عالقة مُستفزة للضباط األلمان ،وينظر إليها كعالقة
تدنس المقام الرفيع لأللمانية ،اذ دأب الضابط أهمها سؤال الهوية.
لعل ما واجهه «إلــيــاس» الــذي هــرب من منزل على تعليم حمزة وهو «الهمجي»« ،المتوحش» اللغة
ا بسبب الــفــقــر والــمــرض والــجــوع ،األلمانية ،ويطمح لتعليمه اللغة إلى درجــة تمكنهوالــديــه طــفـ ً
ليجد نفسه يعمل في إحــدى مــزارع القهوة لدى من تذوّق آدابها ،تاركاً له أثناء تلقيه العالج كتاباً
مزارع ألماني حدب عليه وأرسله للتعلم في إحدى «لشيلر» ،وهو أحد أهم الشعراء األلمانيين ،غير
المدارس التبشيرية هو أحد أساليب المستوطن أن للمبشر موقفاً ال يختلف عن موقف الضباط
في طمس هوية المستعمر ،فالكنيسة على حد األلــمــان؛ ما دفعه ألخــذ الكتاب؛ ألنــه كما يقول:
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 66
دراسات ونقد
الفترة التي ظهرت فيها الثورات ضد االستعمار، «أثمن من أن يترك بيد رجل من سكان البلد».
ثم مرحلة العمل والدراسة في ألمانيا ،كمعونة من «يــا ام ــرأة سـ ــوداء ..تتغطني بثوبك
الدول القوية إلى الدول الفقيرة دعماً منها للتحرير؛ وهو حياة ،وبتكوينك وهو جمال» سنغور
موظِّ فاً الكاتب هذا التطور المذهل في شخصية
وألن الرواية تحكي قصة مجتمع بكامل أطيافه« ،إلياس» الطفل ،للكشف عن سر اختفاء «إلياس»
كان لعائشة زوجة «خليفة» و«عافية» شقيقة إلياس المجند في «الشوتزروبة».
الصوت النسائي األبــرز في تلك الرواية ،صوتان
«يف ال ـبــدايــة ي ـكــونــون ل ـط ـفــاء مـعــه،
نسائيان يعبّران عن اتجاهين مختلفين ،فعائشة هي
لكنهم أخيرا يهينونه»!! النغستون هيوز
أنموذج المرأة التقليدية المحافظة ،ويصح أن ينظر
يتبين الحقاً ،وفي نهاية الرواية مصير جندي إليها بوصفها صوتاً للمجتمع المحافظ على عاداته
وتقاليده وممارساته الغيبية وطقوسه السحرية؛ من آالف الجنود الذين قضوا حتفهم فقراء ومرضى
فهي على الرغم من انتقادات زوجها الالذعة تؤمن ومحكومين باإلعدام بعد انتهاء الخدمة العسكرية
والمس والتعاويذ ،وكانت لــدى األلــمــان ،كــان من بينهم شقيق عافية الذي ّ بطقوس إخــراج الجان
ترفض كل مظاهر التجديد والتعليم ،إضافة الى سجن وقتل بسبب تحريات زوجة المبشر األلمانية
أساليب الطب الحديثة التي جاء بها األلمان؛ على بتهمة «انتهاك قوانين العرق النازي» ،وتدنيس امرأة
عكس «عافية» التي تمثل قوة الحياة المندفعة نحو آرية ،وهذا ما يوضح موقف المستعمر أو الرجل
المستقبل ،فقد دأبت على تعلم القراءة والكتابة« ،األبــيــض» من الرجل اإلفريقي من إدانــة شاملة
وجمعتها بحمزة قصة حب تخللها كتابة الرسائل واحتقار عام ،وما يحمله تجاهه من إزدراء وإهانة!
وترجمة الشعر وانتهت بالزواج.
«لم نولد للظالل ..الظالل الثقيلة
والـ ـه ــواء ال ـض ـيــق الـ ــذي صـنـعـتــه تلك
األشياء البيضاء» ال نغستون هيوز
يترك االستعمار آثاره على الدول المستعمرة؛
وكدمات على الجسد ،وذاكرة موشومة بالقهر
ٍ ندوباً
واالستعباد ،هذا من جملة ما عالجته الرواية على
الرغم من قصر حجمها نسبياً ،وهي تتناول الحياة
في ظل االستعمار من خالل ثالثة أجيال ،تتلخص
في شخصية الطفل «إلياس» وهو ثمرة زواج «عافية»
بـ « حمزة» ،وقد سمي بهذا االسم تيمناً بشقيق أمه
الذي اختفى بعد انضمامه الى القوات الحامية.
يعاني «إلياس» في سنين طفولته األولى من حالة
عصبية تكاد تصف طفولة الشعب اإلفريقي ،ثم
ما لبث أن بزغت موهبته في السرد والتأليف في
* كاتبة سعودية.
67 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
عبد اهلل أحمد الفيفي وطائر الثَّب َ ْغ ِ
طر
منارات للت ْوق الجمالي فى مسار حكايات الماضي والحاضر
ٌ
يفتقد التوازن كيف من الممكن أن نعبر يفاجئنا األديب والروائي السعودي د.
عنه بطريقة متماسكة تعتمد التتابع عبداهلل بن أحمد الفيفي بعالمه الروائي
والتسلسل «الزمني لألحداث جميعها»، الــذي يُحرّك غريزة السؤال والتساؤل
وفي مجتمع مفكك مبعثر «فكرًا وثقافة التي تنحصر في :كيف يمكن التناول-
وعلماً» ،فهل من الممكن التعبير عن كل روائيًا -في حدود التعبير عن عالم فني
هذا بطريقة واضحة وأسلوب مترابط جديد ومبدع؟ وربما تــزداد أهمية مثل
وفنية تجمع األسلوب والصياغة واللغة هــذا السؤال إذا توصلنا -تطبيقًا -ال
في فضاء إبداعي يجسّ د قيمة الحدث نظريًا-إلى أن تحقيق فــضــاءات ذلك
ودور أبطاله وشخصياته دون انتزاعهم العالم الفني ،ال يمكن أن يتم من خالل
من تاريخهم وموروثهم ،ودون فصلهم عن رؤيــة سكونية للتاريخ ،بل من الغوص
أحداثه المعاصرة وإفرازاتها؟!في أوراق التاريخ والنظر إلى عوالمه
هذا ما حــاول مبدعنا السعودي أن ومتابعة آلية حركته ،ومن ثم شرح األوراق
وتعليل أحداثها ومصاحبة شخصياتها يشتغل عليه في روايته «طائر الثبغطر»
الــذي يفسح عن عالم اإلنسان الفاعل الصادرة عن الــدار العربية للعلوم ،في
الــمــتــحــرك وال ــم ــحــرِّك؛ فــفــي مجتمع بيروت عام 2014م.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 68
دراسات ونقد
قامت الرواية على مساحة 322صفحة من أمــا طــائــر الثبغطر ال ــذي جعله عنوانًا
القطع المتوسط ،توزعت على خمسة عشر للرواية ،فهو كما يقول «طائر غريب ،يذكره
ال روت حكايات وليد موسى ،تناولته من فص ً الناس وال يكاد يعرفه أحد ،غريب غامض،
والدته حتى انتهى أمره راعيًا للغنم في إحدى يُقال إنه طائر مهاجر ،وإنــه ال يهجع ليالً،
مناطق السعودية الصحراوية. حتى اسمه ال يُعرف أصله»!
ولكن الــســؤال الــذي فتح ال ــراوي نوافذ اســتــعــار الــمــبــدع اس ــم الــطــائــر وصفاته
مسروده عليه؛ إذ أشار إلى أنه من المعروف ووصــف بــه بطل روايــتــه وليد مــوســى ،فما
أن يعرف راعي الضأن والشاء ،أحوال البيئة سمع المؤلف حكايات وليد موسى إال وتوارد
وتقلبات الطقس وأحداث الماضي في نطاق
إلــى خياله ذلــك الطائر المجهول أو شبه
تجربته المحدودة؛ لكنه من غير المألوف أن
األسطوري ،فوليد موسى والطائر يشتركان
تجد مثل هذا الراعي ،يُح ِّدثُك في الفلسفة
في أمور كثيرة أهمها غموضه وغرابة أفكاره،
والتاريخ والسياسة الدولية ،ويُتقن غير لغة
وعدم سكونه وسمات حكاياته العظيمة التي
ال عن تمتعه بملكة أدبية ،أحاطتهواحدة ،فض ً
أوصلته إلى النبْذ وتشويه شخصيته ونعته
بشؤون في الثقافة والفكر (الرواية :ص.)7
بالجنون.
هذه الشخصية شــدَّ ت الــراوي إليه وإلى
هذه الشخصية الغريبة والغرائبية كانت أخــبــاره مــنــذ أن ك ــان طــالـ ًبــا فــي المرحلة
اإلعدادية ،وكثيرًا ما كان يراه مسجونًا يجر المحور األساس في بنية الرواية.
سالسله من مركز اإلمارة إلى سجنه.
لــم يكن يــعــرف شيئًا عنه وعــن أسباب
سجنه غــيــر مــا ك ــان يسمعه مــن قصص،
وأن اسمه وليد موسى من قبيلة آل شرف،
وأن شخصيته تحوّلت إلى أسطورة شعبية
حقيقية.
وبعد تخرج الراوي من الجامعة وزياراته
للمنطقة ،تــفــاجــأ بــه يظهر م ــج ــددًا ،لكن
دار متواضعة؛ ما دفعه فضوله مع منعزالً في ٍ
تخصصه في الدراسات االجتماعية إلى نبش
أمــره ،و«إذ أستطيع القول اآلن وبعد مضي
خمس وعشرين سنة ،أعتقد أنني قد عرفت
أســطــورة الرجل كاملة تقريبًا ،ومــن المهم
69 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
أن أوري للناس أسرار هذا الرجل الغريب»
(الرواية :ص.)13
يبدأ بزيارته في منزله ،كــان أَمـيَــل إلى
النحافة ،بدا في الخمسينيات من العمر ،كان
يعلّم ابنته الحل ْب «ما طمأنني أننى لم أسمع
عنه قط أنه يؤذي الناس ،كما أن مظهره ال
يوحي بالجنون كما أشاعوا عنه.
يسأله صاحب البيت.
لم جئت؟ -
صاح؟
جئت أسألك :أمجنون أنت أم ٍ -
الكاتب فرج مجاهد
تفضل ،ويدعوه لشرب اللبن. -
مع أمه على تسميته فاختارت األم اسم وليد
باحث اجتماعي حضرتك؟ -
واختار األب اسم موسى ،ومع األيــام التحم
باحث عن الحقيقة. -
االسمان وأصبح وليد موسى ،ويطيل الراوي
-ستتعب ،على كــل بعد اإلفــطــار واصــل في موضوع (الختان) كإجراء وطقوس تختلف
حديثك .أحضرت زوجته الخبز ،والسمن ،بين الغني والفقير ،ويصل إلى ختان سيدنا
إبراهيم وعمره 99سنة .ويشير أن اسماعيل والعسل ،والبيض ،والحليب ،والشاي..
-ما شاء اهلل ،ما ك ُّل هذا يا "أبلة جميلة"؟ ختن وهو في الثالثة عشر من عمره ،كما يشير
-الحمد هلل ،كله من اإلنتاج المحلي ،ويسهب إلى تاريخ عادة الختان وفوائده الصحيّة.
ويــتــولــد وع ــد ولــيــد الــعــاقــة الــســمــاويــة فــي الحديث عــن األوضـــاع االقتصادية
وكسل أهل الــديــرة ..يتساءل في نفسه .األرضية والمطر الذي سبب كثيرًا من حاالت
مجنون يتحدث عن األوضاع االقتصادية االنهيارات الصخرية ،وكيف جــرف المطر
بعض بيوت الجبال بساكنيها ،ثم يروي أن أبا واالستثمار في البلد (ص.)27
تــتــوطــد الــصــداقــة بينهما ،وف ــي إحــدى وليد أول من استخدم اإلسمنت الذي لم يكن
الصيفيّات أعطاه كتابًا سجل فيه ذكرياته :يعرفه أحد من أهل الديرة.
لقد عــاشــوا بفعل خــيــرات األرض حياة خذه لعل فيه بعض إجابة عما تبحث عنه،
هــانــئــة ،رغــم الــفــاقــة يــأكــلــون مما يــزرعــون ويعود إلى اسمه الذي كان اسمين في صغره،
ويلبسون مما يصنعون ،ويشير إلى مالبس كل اسمًا شعبيًا وآخــر يــؤذن بتحوّل جديد هو
من الرجل والمرأة وقتئذ ،وكيف كانت النساء اســم ابــن الشيخ ،وتجليّ داللــة هــذا االسم
يعُنين بعطورهن وشعورهن وحليهن. على مستوى القبيلة ،وعندما ولد اختلف أبوه
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 70
دراسات ونقد
وعندما بلغ وليد مبلغ الفتوّة ،وانتفاض الرجل الذي أعطاها الخاتم.
وخــال االحتفال بالعرس يُكتشف أمره الذكورة لألنوثة حكى له أبوه حكاية أيقظت
فيه ذلــك كله ،والحكاية مصدرها الروائح فيلتغي العُرس! ثم يعمل على تنفيذ وصية
النسوية التي وجد ابنه قد فتن بها ،وتروي أخيه وذبح القرابين ثوره ،وواجه قتلة أخيه
الحكاية عن أمحم ُع َقيَستاء الصوفي ،وكان واتفقوا على دفع الفدية ،وتعثر أحدهم بدفع
له أخ أصغر منه ذهب عند جماعة يشتغلون آخــر قسط وكــان لديه خــروفــان ،فطلب أن
في إحدى المزارع ،في الطريق صادف امرأة يأخذ أحدهما مقابل القسط ،إال أن الخروف
تحمل الغذاء ،ناولته المرأة من مكان مرتفع توقف بينما الــخــروف األخــر يهذي ويناتع
فسقطت قطرة عرق من جبينها على جبينه ،محاوالً الفكاك من رباطه واللحاق بأخيه،
وعندما أحضر الغذاء وجد أصحاب المزرعة فيطلب منه أن يترك الخروف ألنهما أخوان
رائــحــة خ ــروش الــمــرأة المعروفة بعطرها ال يعيش أحدهما دون اآلخر(...ص.)84
المميز ،فاتهموه بها وقتلوه وردموا جثته في
كما تحكي له أمه حكاية (مية ومَجَ ادَة)
التراب ،ولما طال غياب األخ عن أخيه قرر
وهي تشبه قصة سندريال مع بعض التصرف.
البحث عنه ،وقــال لزوجته بعد أن أ ّمــن لها
لقد كان جميعهم يؤمنون بعدم انفصال والبنته كل ما يلزمهما :إن مرّت سبع سنوات
ولم أعد من حقك الزواج ،ومضى يبحث عن الدين عن الحياة ،لكنهم كانوا يؤمنون بأن
الــرجــل كــان يُغالي ويستغل الــديــن لمآربه
أخيه ،ويقال إنه فكر في صنع جناحين يطير
وغاياته وتسويغ طبائعه النفسية واالجتماعية
بهما مستطلعًا مكان أخيه ،وحقق أمنيته وطار
التي تغلب عليها االنطوائية والــنــزوع إلى
حتى وصل مغرب الشمس فذاب الجناحان
االنغالق ،يشفع ذلك بسرد الحكايات الشعبية
وســقــط ،إال أن الــمــولــى سخر لــه مالئكته
عن بعض القرى المدمرة بسبب ما أظهر
فتلقفته ورفعته إلــى الــســمــاء ،وفــي الجنة
أهلوها من بطر وفساد.
قابل أخاه وأنبأه بقصته وأوصاه إن عاد إلى
ويــعــود إلــى ذاك ــرة وليد خــال المدرسة األرض أن يكتفي بأخذ ديته من قاتليه وأنهما
ال ونهارًا ،ويعود الرجل االبتدائية ورؤيته لمالبس لم يرها من قبل ما يــزاالن يتعبان لي ً
إلــى األرض ،ولما وصــل البئر القريبة من كان يرتديها المعلمون القادمون من األردن
منزله وجد صبية تسقي فعرف من أجوبتها وفلسطين الذين يرتدون البدالت الرسمية،
أنها ابنته ،وأن الليلة عــرس أمها فيعطيها ويصل األب إلى مراحل الشيخوخة ويموت.
تتفرق األســرة من بعده وتلتحق األم مع خاتمه ووضعه في قربة الماء وأوصاها أن
توصله ألمها ،وما أن فتحت األم القربة حتى ابنها بديار أهلها ،ويلتحق وليد بكلية الطيران،
اندلق الخاتم من فمها مع الماء ،وعرفت أنه ورغم تفوقه النظري والتطبيقي تفاجأ بأنه
خاتم زوجها وقصت اإلبنة على أمها حكاية ال يصلح للطيران ،وما عليه سوى أن يتحوّل
71 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
إلى مجال هندسة الطيران فرفض وعاد إلى صــدمــة ولــيــد بــأمــريــكــا حــضــاريــة بــقــدر ما
القرية بخفي حنيْن ،وقد تغيرّت القرية تغيرًا كانت إنسانية وطبيعية إلى حد ما ،أعجبه
كبيرًا ،وتمرض أمه ويأخذها إلى جّ ده للعالج ،االنضباط واحترام حقوق اإلنسان.
يعود إلــى الــريــاض ويعاصر غــزو العراق لكنها تودّع الحياة.
للكويت .وتحالفت 30دولــة بقيادة أمريكا يسافر بعدها إلــى الخارج ليتعرف على
وقامت الــحــرب ،ومــن خــال مواقف صدام العالم ،كان يود أن يرى خلقًا آخر من خلق
حــســيــن وتــهــديــداتــه ورســائــلــه يــشــيــر إلــى اهلل ،وأطعمة أخــرى ،نكهات مغايرة ،عقوالً
الرسالتيْن اللتيْن تبادالهما امبراطور الرومان جديدة ،ليعيش رحلته بين الشك واليقيْن في
أوليان والملكة العربية المشهورة زنوبيا ملكة كل شيء ،ولوال بقية إيمان وعقل النحرفت
تدمر ،كما يتحدث عن مصير زنوبيا ،وتذيع به السبل أيما انحراف ،أخذ يتذوق النبيذ
إذاعة بغداد «شنت إسرائيل اليوم هجومًا على ولم يعرف أنه خمرٌ! أما النساء فعرف فيهن
جمهورية اليمن مستهدفة محطة كهرباء .كما النبل والذكاء تارة ،والمكر والغباء أخرى ،وكُنّ
تمكن جنود اليمن من إسقاط طائرة وأسر في الغالب أنبل من الرجال وأرقى بطبعهن
الطيار ،وتتوالى البيانات العسكرية ،وبدأ وليد العاطفي المائل إلى الخير واإلنسانية!
يكتب مذكراته 22 :فبراير ،1991قبول العراق لقد كــانــت تــجــاربــه فــي تلك المحطات
االنسحاب من الكويت حسب خطة موسكو. الفاصلة من حياته تجارب إنسانية ثرية رغم
وحـ ــددت أمــريــكــا ي ــوم الــغــد آخ ــر موعد كل شيء.
لالنسحاب م ـ ّهــددة بشن هــجــوم بــري على في أميركا كانت بلد الحلم الــذي طالما
العراق متجاهلة المبادرة المطروحة للسالم راوده ،يعيش أهلها في فضاء مادي مغلق على
واتهمت العراق بتفجير آبار النفط وسياسة المصالح الفردية الخاصة ،ومــن الطريف
األرض المحروقة (ص.)227 أنه اصطدم بجاره اليهودي ،كان يتوضأ في
وب ــدأ الهجوم الــبــري األح ــد 24فبراير إحدى دورات المياه العامة وجــاره اليهودي
1991ويشن الــعــراق غــارة صاروخية على يتمخط بعنف على نحو غريب في حوض
ال أطلق
الرياض ،وفي التاسعة والنصف لي ً مغسلة أخرى ،ويستاء اليهودي من أن وليد
صاروخ على الرياض فُجّ َر في الجو ،ويذكر كــان يغسل قدمه في الحوض فوجده أمـرًا
حسنى مــبــارك أن قــواتــه لــن تدخل العراق مستقيمًا فسأل الجار ،لكن ترى أيهما أكثر
وتستمر الحرب البرية ،وظل العالم مشغوالً قذارة موضوعً يا :غسول قدّمي أم ما يخرج
بقرار العراق لالنسحاب من الكويت وكان 26 من فتحتي أنفك؟!
ويجد أن أمريكا بخالف بريطانيا؛ إذ فبراير يوم تحرير الكويت ،وتتوالى األنباء
بعثت في رأســه كثيرًا من األسئلة .لم تكن عن انتقال المعركة التي نعتها صدام بـ «أم
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 72
دراسات ونقد
السائد والمسلّم به ،أراد أن يكون الصادق المعارك» ونعتها الخليجيون بـ «أم المهالك»
األمين ،فحوّلته المؤسسة إلى متهم بالتزوير إلى داخل العراق ،وفي يوم 6مارس 1994
واالختالس وركلته إلى الصحراء ال لشيء إال يُعين صــدام حسين ابــن عمه «علي حسن
ألنه ما كان يقبل بالفساد اإلداري والمالي، المجيد» وزيـــرًا للداخلية مطفئ الحركة
وال هم كانوا سيتقبلون من ال يتقبله. الكردية ،ويعيد العراق ما نهبه من الكويت
يلتحق بعد ذلك بمؤسسة أهلية تجارية وآبــار النفط ما زالــت مشتعلة ،ومــا انفكت
ويتزوج من قبيلة أخواله ،الذين سرعان ما المعارك بين الجيش العراقي والمعارضة،
ب ــدأوا الــخــاف معه بسبب أفــكــاره وطعنه ويتمكن صدام من إخماد المعارضة ،واتفق
لعباداتهم ،ونقده للشيخ ابن ساعدة نفسه؛ مع األكــراد على حكم ذاتــي ،ويشير إلى يوم
حتى صار يهدد كيان القبيلة بسبب أفكاره، 28أغسطس 1991وافتتاح القذافي المرحلة
ولــم يكتف بذلك بل راح يدعو إلــى تحرير األولى من النهر العظيم ،وتمر األيام بالحظر
الــمــرأة وحقها فــي العمل والـ ــزواج وقــيــادة الجوي على جنوبي العراق ،ومآسي البوسنة
السيارة فاتهمه أهل القبيلة بالجنون السيما والهرسك ،والمجاعة الصومالية ،والحرب
حين تدخل في قضايا إسالمية وسياسية والسالم وزلزال القاهرة (ص.)266
وتنتهي الــحــرب ويلتحق ولــيــد بــإحــدى واجتماعية بدعوى دعوته إلى التقدم حضاريًا
جامعات جده ،ويحصل على بكالوريوس في وإنسانيًا.
يعرضون عليه الــزواج والعيش الميسور اإلدارة واالقتصاد ويلتحق بوظيفة حكومية،
ولكن هل سيكف عن مزاولة نقده ،ومصادماته على أن يمسك لسانه عن الناس ،فيرفض..
وحتى المحقق انحاز لمنطقه السليم فيما لما حوله ومن حوله هذه المرة؟
يخص أنه ليس في اإلسالم عقوبة بالسجن، تقع تحت يــده وثــائــق تثبت أن مــســؤوالً
ويــتــشــاور كــبــار القبيلة مــع أخــوالــه إذ قال قياديًا يستغل منصبه لتوظيف أقاربه وتقديم
قائلهم :ال سبيل معه إال الطرد من القبيلة، مساعدات وأعــمــال فساد وتــزويــر ،جمعها
قال آخر :إال إن امرأته ترفض وتصر على وحــاول تقديمها للمسؤول األعلى الــذي ال
البقاء إلى جانبه ،ويهاجر من بني ساعدة مع يجد وقتًا الستقباله ،وبعد عــدة محاوالت
زوجته وابنته .عاد كسيرًا يائسً ا في الناس يحظى بمقابلته ويقدم تقريره مع الوثائق
ومن نفسه ،وكان صيته قد سبقه في المجتمع والمستندات ،ووعده بمتابعة الموضوع ،وبدالً
الجديد القديم مع تهويالت ما يضعه الخيال من أن يعاقب المفسد يقدّم للتحقيق متهماً
الشعبي ال ــذي صـــوّره أنــه مــجــنــون ،بــل إن بعدة تهم مفبركة تؤدي إلى طرده من وظيفته
بعضهم بالغ في شأنه فادّعى أن الرجل كان ليكتشف أن الموظف الفاسد هو ابن خال
يدّعي النبوة ،ويزعم أنه المهدي المنتظر ،أو معاليه ،وهكذا سرعان ما فصل وليد موسى
أنه يعلم الغيب ويتنبأ بالمستقبل! من عمله بتهمة خطيرة تتمثل في مشاغبة
73 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
القبيلة وعقلية أفرادها التي لم تصلها غبار عاد وليد كيوم ولدته أمه غريبًا في أرضه
طلع الحضارة الحديثة ،فكانت مثاقفة وليد كطائر «الثبغطر» لم يفلح بالتغيير كما كان
موسى للحضارة األوربية وانبهاره بها ،ولما يتوقع ،فالمحيط كان أقوى منه ،والغريب أن
عاد إلى قريته وقبيلته حاول أن يطور المفاهيم الحكايات الملفقة التي نسجت حوله ذهبت
والــعــادات ،فاتهم بالجنون ألنــه خلق عــادات إلى التشكيك حتى في نسبه ،وأنه ربما عثر
وعالقات جماعية تحتاج إلى نمو الوعي وإلى عليه أبوه المفترض في الحج فتبناه ،واألغرب
ثقافة قادرة على التالؤم مع مستجدات الحياة، ما زعم بعضهم أن الرجل العائد ليس بوليد
وكذلك فشل الوعي والثقافة في مواجهة الجهل مــوســى ،لكنه انتحل شخصيته ،وأن وليدًا
الحقيقي مات في حادث سيْر ،لكأن الناس
والتخلف والغوص في عباءة األعراف البالية،
لم يكتفوا بتجريده من عقله ،بل أرادوا تجريده
مع أن الرواية حاولت التأثير في القارئ عن
من نسبه وأن يستأصلوا شأفته لو استطاعوا.
طريق تقديم الحقائق النوعية الفنية بصورة
مقنعة مجسدة ،وعــن طريق السارد العليم، أتساءل اآلن :أيظل وليد موسى هكذا نبيًا
وهي تغوص بأدق الجزئيات والتفاصيل التي مجنونًا ،مستسلماً لتلك الشيال التي ألقاها
ربطت بين الظواهر والــمــواقــف واإلح ــاالت عليه قومه ،كطائر يحوم في أقفاص صمته أم
وإخضاعها للفهم والربط والتغيير. هي استراحة الجناح قبل أن يعاود التحليق؟!
غــوص فــي أعــمــاق الشخصية حتى بدا
وإذا كــان مــن أهــم عــوامــل نجاح الــروايــة
الــنــص وكــأنــه ســيــرة ذاتــيــة لــمــنــاضــل ثــوري
الحديثة إثارة األسئلة ،فقد كانت الرواية في
يرويها السارد بضميره ،وتداخل مع العادات
قمة تألقها وهي تثير كثيرًا من األسئلة ،سواء
والتقاليد وكل ما يربط التراث بمصطلحات ما
في البيئة الجبلية القديمة وأنماط ثقافتها،
يحيط بذلك المجتمع من دور وثياب وعادات
أو في المدينة الحضارية التي عاشها وألفها
من زوايــا التاريخ الشعبي والمنطوق لكل ما
وليد موسى في أوربا عامة وأمريكا خاصة،
أورده المؤلف في الجزء األول من الرواية،
أو من خالل مواقفه وأسئلته واإلجابة عنها، ثم هو نبش للتاريخ المعاصر واحتالل العراق
حتى من خالل تفكيره الخاص الذي رفضته للكويت ،وما عكسه هذا الغزو المرفوض من
القبيلة ،وإن كانت األسئلة واألجوبة فشلت في كوارث إنسانية وبشريه كان الخاسر األول فيها
الوصول إلى اإلحساس بضرورة التغيير ،إال العراق ،الذي ما يزال يعيش نتائجه المأساوية
أن الرواية نجحت في نمو اإلحساس الجمالي، حتى اآلن ،وكــل ذلــك مــن خــال نــص روائــي
الــدال بكل قــوة وفنية على الــرؤيــة الوثوقية حــاذق ونابه ،سعى إلى تقديم صــورة واقعية
الفنية للعالميْن الواقعي والفني واإلبداعي، للعالقات االجتماعية واإلنسانية في إحدى
وعلى مستوى تصاعدي واحد. مناطق السعودية الجلية المحكومة بقانون
* كاتب -مصر.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 74
نصوص
خريف
■ جميلة عمايرة*
75 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
لقد تأخرت. كي يصلها البث صافياً ،وتسمع األخبار،
قهوتي ال ُمرّة في انتظاري، لــتــخــبــرنــي بــعــد قــلــيــل بــمــا لــديــهــا ،وتــبــدأ
بتحليالتها.
أرتشفها على مهل..
عدتُ للشرفة.
وأغني لتلك البالد البعيدة».
أغبط الشجرة المقابلة للشرفة ،الواقفة
جاءت أمي.
بوجه الجند والريح .لو كنت مكانها.
ال بد أن لديها أخباراً ،وتريد إعادتها فوق
أنا شجرة.
رأسي.
رن هاتفي .كانت مريم .صديقتي التي
سجلت إصابات هذا اليوم 400حالة .للتو
تقيم خارج البالد منذ سنوات ،وهي شاعرة
أعلن «جورج كالوني» .غداً حظر لمدة أربعة
ومترجمة.
أيــام .تم عزل أحياء في عمان« :الهاشمي
األصدقاء األصدقاء .ها هي واحدة منهم الشمالي وجــبــل الــجــوفــة» ،بعد اكتشاف
حاالت هناك .وتم حظر «عين الباشا ومخيم تطل.
تحدثنا كثيراً عبر الهاتف .هذه واحدة البقعة».
غداً حظر؟ مــن الميزات التي منحتها لنا تكنولوجيا
االتصاالت.
ألربعة أيام متتالية .بدأ الوضع يتفاقم،
وخارج السيطرة. بعثت لي مريم ريان هذه القصيدة.
قلت لك ألف مرة ال تعيدي هذه الجملة أشرب قهوتي على عجل،
أمامي .أنا قلقة ،وقلقة جدا ُ .لو يلتزم الناس، وأهرول مسرعة خارج النص.
بشروط التباعد بينهم ،لما كانت كل هذه
داليدا تغني «حلوة يا بلدي»
اإلصابات المحلية .قالت غاضبة وخرجت.
وأنا أكتب عن وطن ضائع أكثر مني.
صدقتُ ظني بك.
وأتساءل أحيانا
الخريف أضــاع أوراقــه ومضى ،الشارع
ُ
خاو تنوح به الريح ،ومقاعد الرصيف جالسة
ٍ ِل َم ينتحر الصوت؟
تحدق بالفراغ. وكيف أستعيد الوقت في ساعتي؟
* كاتبة -األردن.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 76
نصوص
ُمعايدة
■ محمد الرياني*
قالت لي :بقيَ يو ٌم ثالثٌ ..سنأك ُل المزي َد قالت :سأطب ُع لك القبل َة الثانيةَ ،وسترى
من الحلوى ونتباد ُل القبالت ،تنهدتُ وأنا العي َد وكأنه وُل َد من جديد.
الوقت وأحسبُ ما بقيَ من النهار.
ِ طاردتُها ألسب َق اليو َم الثاني ،ألضمَّها ،ولم أشي ُر إلى
جميل،
ً ب ــدا الــهــا ُل الــجــدي ـ ُد صــغــيـرًا الشمس ،وبتُّ أقلبُ بصري
ُ غابت
ِ أستطع،
في السماء ،أتأم ُل الطب َق العلويَّ الذي تزيَّا
والنجو ُم تتألألُ في السماءِ ،والعي ُد اليزا ُل
بالنجومِ كمن فر َح بيومِ العيد.
يغطي كلَّ الكون.
ـرت
ان ــط ــوتْ الــصــفــحـ ُة ال ــس ــوداء ،حــضـ ِ
جديد
ٍ بلباس
ٍ أصب َح الصباحُ ،فجاءتْني
ـس للعيدِ لونًا
الشمس برتقالي ًة كمن لــبـ َ
ُ
أبيض يزخ ُر
ُ وبسمات كثيرةٍ ،ومعها طب ٌق
ٍ
مُشرقًا.
بالحلوى ،دعَ ِت البقي َة ليشاركونا الفرحة.
أقبلتْ نحوي ..فأمسكتُ بها ،وضعتْ كفَّها
احم َّر خـدِّي من حُ مر ِة وجنتيْها ،وزَّعــتْ على خدِّها ،طبعتْ على خدِّي قُبلتَها الثانيةَ،
واكــتــفــتْ بــهــا ،ولــم تدعني أخ ــر ْج أشــواقــي قبالتِها عليَّ وعلى اآلخــريــن ،شــعــرتُ أنَّ
وآهاتي وفرحتي بيوم العيدِ في ثاني األيام .النها َر يمضي أســر َع من سابقيْه ،بتْنا في
الثالث سَ هارى كما تفع ُل النجو ُم في
ِ بعضا من اليومِ
ً جلستْ إلــى جـــواري تقض ُم
الطبقِ األسود ،قالت لي: الحلوى حتى النصف.
(يا أبي كم هو العي ُد رائ ٌع بوجودك! سيأتي النصف الباقي في فمي ،فالتهمتُه،
َ َضعت
و ِ
العي ُد الجدي ُد وقد كبرنا ،وأنتَ أنتَ العيد). طلبتُ المزيدَ ،فحركتْ رأسَ ها بالرفض.
* قاص سعودي.
77 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
كيف ترى النُّور
■ سمر الزعبي*
«وين رايحة يا هدى؟».
«أشوف مح ّ َمد».
تضبط انفعاالتها؛
ُ الخضار ،بعدما كادت تجرح يدَها.
تتوقَّ ف عديلة عن تقطيع ُ
«يا حبيبتي ،اتركيه ،انتبهي لدراستك ..عندك توجيهي».
تصفقُ البابَ ،ثمَّ تسمع كلمات وداعها وهي تغادر من مم ّر البيت الخارجي المرصوف
األطــر الخشبيّة بتنهيدةٍ مُ رّة،
بالحجارة؛ فترقبها عديلة من نوافذ المطبخ الكبيرة ذات ُ
حتى تختفي.
تقص على أمّها ك ّل ما « -طــبــعـاً صــالَــحــك ..مــا قــدر يــقــاوم هذا -تعود قبيل المغربّ ،
الجمال». دار بينها وبين محمد ،وإن أخبرتها عن
فظ قام به ،فجرحها ،تنتهز أيّ تصـرّف ّ
تجمع هداياها الغالية ،أما عديلة فتخرج
عديلة الفرصة ،وتقنعها بابن الجيران،
تنشـر الغسـي َل كي تتنفَّس الصعداءَ ،نهنهتُها
الذي ما يزال عرضه للزواج قائمًا ،فتثور
مكتومةٌ ،عيناها تترقرقان ،فيمحو مندي ُل
هــدى ،وتذكر مواقف محمد الرجولية،
خلف رقبتها خطاهما أ َّوالً َ الرّأس المعقوف
فال تستطيع عديلة أن تنكر .تج ّر فزعها،
بأوَّل.
تجترّه في المطبخ ،ث ّم تعود محمّلة بأطباق
تتق ُن عديلة مراقب َة ابنتها ،وال تيأس ،تتبع العشاء.
تكشف نفسَ ها ،وال مكا َن َ صغيرتَها دون أن
تأكل البنتُ بشهي ٍَّة وتــنــام .فيما تنطوي
يروق للبنت سوى حديقة أبو نصـير العامَّة،
عديلة ،تشكو خوفَها لألواني ،فتعزف معها
المصادفات
ِ صـيفاً ،شــتــاءً .تختل ُق عديل ُة
تجفّفها ،ث َّم
ِ بقرف
ٍ مقطوع َة القلق ،ببطءٍ ،
أحياناً ،تُجاورها ،وتتظاهر بتصديق كالمها.
الصباح!
راش فِ كَراً حتى َّ
يلتهمها الفِ ُ
ذات مــصــادفــة ،تــمـ ُّر عليها فــي الحديقة،
تأتي البنتُ في اليوم التَّالي محمَّل ًة بأكياس فتبادرها هدى ،معتذر ًة أنَّه غادر للتوّ.
تصف بعضها ُّ الهدايا ،تفرِ غها على الطاولة،
وألوان « -كيف يروح دون أن يوصلك للبيت؟». ٍ بعلب مزركشة إلى جانبَ بعضها اآلخرٍ ،
ـوصــلــنــي ،بــس آخــر مـ ـرَّة شفته
« -دايــمــاً يـ ِّ جذَّ ابة ،تُسَ ـ ُّر من أجلها ،وتقرص خدَّ ها:
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 78
نصوص
واحدة ،والبنت ترتجف ،تترجَّ ُل عديلة قاصد ًة فيها.»..
الصغيرةَ من يدها ،فتصـرخ البنت:بابَها ،تش ُّد ّ وال تُكمل ،تضغط على رأسها بكفَّيها.
«واهلل ألحكي لـ محمَّد عنك».
« -آه يا روحــي ..آخر مرَّة شفتيه فيها شو
تقابلها عديلة بــالــصـــــراخ هــي األخ ــرى: صار».
«خلص ..خلص عــاد ..بكفِّي ،ومن هــذا؟»..
تضغطُ بــق ـوَّة ،ووجهها البيضاويُّ يبدو
فتنظر هدى حيث أشارت ،وهي ما تزال تردِّد:
كعجينة ،شفتاها الورديَّتان تبهتا ،ترفع شعرها
«قبر مين هذا يا هدى؟ أخبريني ،من شان الطَّ ويل األشقر ،تلفُّه بخرقة ذاكرةٍ ممزّقة ،ث َّم
اهلل ..اقري االسم». تصـرخ بوجه أمها كلَّما كرَّرت عليها السؤال،
فتنهار ،تحتضن القبر ..إنه مسجى هنا وعيناها تقدحان شـرراً.
في طريق العود ِة تر ُّد هدى على مكالمة ،منذ سنة!
هي وحدها من سمعت رنين الهاتف ..وتطول « -محمّد ميّت ..ميّت ،اصحِ يا بنت!».
المحادثة ،تعاتب «محمّد» على غيابِه.
تذكَّرت هدى القبرَ ،وبكاءَها الطويل عنده،
تغلي الدماءُ في رأس عديلة ،تسع ُل عمراً تذكَّرت جنازتَه ،وأيَّا َم العزاء ،تذكَّرت الحديق َة
من الشّ قاء ،لكن تقبض على المقود بهدوء ،ث َّم العا َمّة ،ودرجَ ها المفضـي إلى الشارع ،تذكَّرت
توقف السـيارةَ ،وتطلب من ابنتها شـرا َء عبوة
الشاحنة المسـرعة التي كانت ستدعسُ ها،
الهاتف بعدما
َ متجر مجاور ،تقلِّب
ٍ ماء من
وج ّثَتَه الهامدة بعدما اندفع إليها يشدُّها من
تتأكّد مــن زوال طيف هــدى ،تتفقَّد سج ّل
أمام الشاحنة ،وسقط مكانَها.
المكالمات ،وهي تعرف أنه لن يعدو ّإل فارغً ا
بلةبكت حــدَّ انسجام ظــالِ الكون في قِ ٍ مكالمات حديثة.
ٍ من أيّ
واح ــدة ،وانكسار ضوئه فــي قطرة واحــدة،
صعدت هــدى ،فانطلقت عديلة مسـرع ًة
بال وعي ..البنت تصـرخ من الخوف ،لكنّ هذا اغتسلت بها دمعاً ،لكن بقيت مُحتَجزَة بين
ال يثني عديلة عن القيادة بسـرعة جنونيّة ،ال جزيئاته.
بعد وقـ ٍـت ف َق َد بوصلَتَه ،ساعدت عديلة تفهم المواقف السّ ابقة لثوراتها ،فمهما بدت
ابنتها على النهوض ،وأخذتها حيث السـيارة، متماسك ًة ّإل إنها قد تنفعل تحت أيّ تصـرف
م َكّنت حــزا َم األمــان نحو خصـرها النّحيل، يصدر عن هدى ،ولو كان مُعتادًا ،ربّما تحتاج
وفــور أن انطلقتا :وحدَها هدى من سمعت لمساحة يصبر فيها اآلخرون على ٍ أيضا
هي ً
الهاتف ،ور َدّت على
َ صوت الرَّنين ،فسحبت زلتها.
ّ
مكالمة.. تبدو قيادتها هيستيريّة ،لكنها تقف دفع ًة
* كاتبة -األردن.
79 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
قصص قصيرة جد ًا
ρمحمد صوانه*
وهج.. صانعة الغد
يجلس على ُشرفة الذكريات.. تحويه..
بعض العبرات.. تسيل ُ ثم تتلقفه يداها الواهنتان بلهفة..
ُت ـن ــادي ــه م ــن ال ــداخ ــل ،ل ـت ـنــاول طـعــام تصنعه على عينها..
الغداء.
كأنه عجينة! ..
فيذهب ليغسل وجهه؛
ثم تطلقه..
ليعيده إلى وهج الحاضر!
فيبلغ عنانَ السماء!
معهم
يُ رخي جسده على سرير وثير.. تلميع!..
لحظ َة يغشاه النُعاسَ ،تنْسَ ُّل الــروح.. قبل أن يذهب إلى الحفل،
لمّ ع كل أدوات ــه :مالبسه ،وتسريحته ،إلى هناك..
لتنا َم (معهم) على الحصير!.. ونظارته ،وحذاءه ،وسيارته..
اغتراب وتعهد االبتسام؛
لكن وجهه -في عيونهم -ظل باهتاً! يشدّ ه الشوق،
ت ـغ ـمــره أج ـ ــواء ال ـح ـض ــور ،تـسـبـقــه كل
حسنة!..
أحاسيسه..
دمعة الصغير ما تزال ساخنة..
يهيئ مركباً ..يُ زيّنه..
ثم ينام! تطلب عجوز منه أن يقترب منها..
تمسح بيدها الخَ ِشنة على رأسه!..
نداء
ت ـب ـت ـســم ل ـم ــراف ـق ـه ــا :فـ ــي كـ ــل ش ـعــرة
تتجاهل نداءات أمها باالستعجال..
الحب على سطح البيت،
َّ تتشاغل بنثر حسنة!
ال يهمها تدافع الحمام.. يرفع الطفل وجهه مندهشاً،
تصيخ السمع.. وبحركة ال إرادية؛
لنداء من األعماق!.. يدفع يدها عن رأسه!
* قاص وكاتب -أردني -مقيم بالسعودية.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 80
نصوص
81 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
قبس من لحظ زرقاء اليمامة
ρأحمد يحيى القيسي*
العيون
ُ "أرى اآلن ما ال تراهُ
االرتواء
ِ أرى ظمأ يرتدي هيئة
ويمضي معي في الورى"..
راسخات العُ رَى .. ِ ِمن اإلفك
ِ وجيش ّا من
أرى سدة من عجين الوشايةِ يمشي ورائي
تعدو أمامي ويهمس لألصدقاءِ : ُ
تسابقني نحو عنْق الزجاجةِ ؛ "لقد حاد هذا الفتى عن هواكمْ
كي أستكينَ مدى القهر رهن الكرى .. ولم يمتثل لظنون رُؤاكمْ ؛
أرى قمرا تائه ًا في الظالمِ الطوق
ِ فشب عن َّ
يراقب -مثلي -النجومَ ُ ال ابتا َع منكمْ
ويسألُ أنوا َء ليلتهِ : وال من حريرِ المعاني اشترى" ..
السرى؟ أين غابت مدارات تلك ُّ أرى اآلن خي ًال تجوب فيافي شقائي
الذكريات
ِ أرى أبشع تفتش ما بين كثبانها
الطريق
ِ على جنبات عن رحيق ابتهالي الذي ضل مسراهُ
تثرثرُ للعابرينَ حتى تعرى النهارُ ،
وتبدي لهم من تفاصيل سَ ْوءَاتها وما زال في تيهه سادرا ..
الطريق ما توارى ..
ِ أرى العثرات التي تتربص بي في
أرى اآلن نافذ ًة من غدي لتثأر للضوء مني ،
سرمدي
ٍّ وجع
تطلُّ على ٍ وتسقطني
يالحقني في المدى نجمة
خنجر ًا خنجرا .. نجمة
أرى اآلن ما ال تراه العيونُ من عروش الذُّ رى ..
كنت أعمى تمنيت لو أنني ُ ُ الحكايات
ِ هشيم
ِ أرى موئ ًال من
الرهيب ،
ِ وحش السوادِ َ أطارحُ يتبعني
وأجتاحُ آفاقَ ظلمائِ هِ تائهاً ليلطخ بالعار أرديتي
ال أرى! .. ويذيب الذي بين زهوي وبينيَ
* شاعر سعودي.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 82
نصوص
ق ُة َ
ش ْه َ
ρأميرة محمد صبياني*
َماء
ؤال
الس ِ
وحبوري يُ طيلُ سط َر ُّ
ُ
في
أقط ُف البرقَ دهشةً وأُجَ لِّي ُ
الهالل
ِ وج َه بدرٍ يَزيدُ ُحسنَ انبهارِي !
* شاعرة سعودية.
83 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
سمكة نهر تحلم بالمحيط
ρزكي الصدير*
مثلَ سمكةِ نهرٍ تحلمُ بالمحيط ..
كنت هناك ،
ِ
أيقونة في سماء متحف هيوستن .
استطعت الخرو َج إلى الشارع دونَ أنْ توقظي الحرّاس!
ِ أنك
الغريب ِ
جبين الجدران
ِ أخذت الثور َة من
ِ
حاجب فريدا كاهلو ِ عقدت حاجب ًا على
ِ
هيأت لها وقت ًا للحياةِ في شقتِ ك ،ِ
لمزاج القهوةِ مع الجنود ،
ِ وقت ًا
وقت ًا لوجبةِ هوت دوق مع الفقراء ،
لدفن موتاها في رصيف طويل ، ِ وقت ًا
وقت ًا لسمكتِ ك التي تحلمُ بالمحيط ،
لم يفطنْ أحدٌ إلى النهرِ في حقيبتِ ك .
تبدين مثل امرأة ال تعود مطلق ًا إلى البيت!
مثل وجه مدعو على الدوام إلى حفالت الرقص ،
تحسبين أنك وحيدة ،
أنك تلك المرأة المجنّدة التي كانت تلتقط من أرضها الصور،
ومن فم جدتها الحكايات ..
ال تدري أن خلف ظهرك مخزون هائل من األيام ،
وأن طيشك الكبير ما هو إال انهيار الوردة ،
وأنك تسقطين اآلن بعد أن خذلتك رجالك ،
ثم بعد قيامتك ترددين :
أعمى أيها الكون ..
تنهار كلما اصطدمت بفنوننا!
الحرب القادمة ،
ِ في
يتوسدها جندي .. ّ كنت قلم ًا مصنوع ًا من شجرةٍ ِ
قلم ًا ينتظرُ األخبار ليكتبَ التاريخ .
ارتطمت بهِ بالصدفة .
ْ رسمت على جدارٍ في المدينةِ وجه ًا دمرتْهُ قذيفةٌ ُ أتذكرُ أنك
هو اآلنَ يشعرُ بالوحدة ،
ال يرى المدينةَ ،
متيقن بالحرب .
ٌ لكنه
جديد إلى شجرة .. ٍ ستحتاجين زمن ًا طوي ًال حتى تعودي من
ستحتاجين زمن ًا أطولَ لتصيري قلماً ..
ستحتاجين الجندي ليدلّك على وجهك الذي دمرتْهُ الحرب!
* شاعر سعودي.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 84
نصوص
85 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
المترجم خلف القرشي:
اإلبداع األدبي شأن كثي ٍر من العطاءات اإلنسانيّة موهب ٌة..
لكنَّه يُصقل بالتعليم والتدريب والتجريب
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 86
مواجهات
في المقالة والخاطرة ،أو في االشتغال حصري!..
ُّ ليس هناك قالب
الصحفي الــمــخــدوم .والــعــبــرة بالنهاية ¦ت ـت ـن ــوع م ـس ـي ــرت ــك ال ـك ـت ــاب ـي ــة ب ـي ــن ع ــدة
بذلك االنطباع وتلك األسئلة التي أثارها فـ ـض ــاءات ..الـتــرجـمــة والـقـصــة وال ــرواي ــة
قبول
إبداعي المتواضع في نفوس قرائي ً والـصـحــافــة .وم ــن إص ــدارات ــك أستحضر
رفضا ،إعجابًا أم مقتًا.
كان أم ً منها «ال ـطــريــق الـتـعــب» ،و«وقـ ــال نـســوة»
أؤم ــن تــمــا ًمــا ب ــأنَّ الــقــارئ متم ٌم للعمل كــاهـمــا تــرج ـمــة ،وم ـق ــاالت وق ـصــص في
ال ـص ـح ــف والـ ـمـ ـج ــات .ومـ ــن مــؤل ـفــاتــك
المطبوع ،مكم ٌل له ،وكثيرًا ما تكون نقطة
«خـ ــراج سـحــب ع ــاب ــرة» مـجـمــوعــة قصص
كلمة
النهاية التي يضعها الكاتب بعد آخر ٍ
قصيرة جدا ،ومؤخر ًا رواية «شهريار» .هل
في مقاله /قصته /روايــتــه /قصيدته/
لنا ببوح خاص يقربنا من عالمك ،عالم
لنص له
تقريره../إلخ .ليست إال بداية ٍّ
الكلمة الــذي يتوحد في مسيرتك برغم
القدر نفسه من األهمية ،إن لم يكن أكثر، تعدد فضاءاته؟
ينتجه القارئ.
ρالكلمة هي الكلمة ،واإلبداع هو اإلبداع،
إبداعي!..
ُّ نصأ ّيًا كان الشكل والهيكل الذي يقدمان به .الترجمة األدبيّ ة هي ٌ
وفي نتاجي المتواضع؛ ترجم ًة وتأليفًا¦ ،ترجمة الكتب األدبية تختلف عن الكتب
نقدًا وكتاب ًة صحفيّة حرصت وما أزال
األخرى؛ فهي تحتاج إلى مترجم إبداعي،
على تقديم ما أحسبه هاجسً ا يلح عليِّ ،
ل ــدي ــه األدوات ال ــروح ـي ــة ال ـت ــي تـســاعــده
يستغرقني فكرًا ،يستحوذ عليَّ مشاعر.
على نقل الـصــور الخيالية ،والكثير من
وأرى فــي مــشــاركــتــي قــرائــي ارتــيــاحً ــا
التفاصيل للقارئ ،ما رأيك؟
وطمأنينةً ،فــاإلنــســان كــائ ـ ُن اجتماعيٌ
تــواصــلــيٌ يجد ذات ــه فــي تــواصــلــه فكرًا
ومشاعر ورؤى وهمومًا مع عالمه .اإلنسان
خصوصا بمجرد أن يبوح ً عمومًا ،والمبدع
لآلخرين ببعض ما يختلج بمشاعره ،وما
يؤرق ذهنه من أسئلة وخواطر ،ينال راح ًة
بمتعة.
ٍ ويحظى
وليس هناك قالب حصريُّ ،ولهذا ،أجد
نفسي حينًا فــي الترجمة ،وحــيـ ًنــا في
ـصـ ًة قصيرةً ،وقصير ًةالسرد روايــ ًة وقـ ّ
تكريمه بالنادي األدبي الثقافي بالطائف ج ـ ّدًا ،وهناك حــاالت ،فيها أجد ضالتي
87 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
ρأتفق معك تمامًا في هذا .الترجمة األدبيّة
نصا
باقتدار .قد تكون ًّ
ٍ نص إبداعيُّ
هي ٌ
مماثل أو متقاطعًا مع النص
ً موازيًا أو
ـؤول له ،ليس مهمًا ،لكنّها
األصلي أو مـ ً
نص آخر ،ينبغي أن يحمل روحً ا ،ويتضمن
ٌّ
إبــداعً ــا على مستوى اختيار المفردات
والصور ،وصياغة أفكار المؤلف األساس
بأسلوب يحترم اللغتين؛ المصدر والهدف،
ٍ
ويلتزم باألمانة .ومن هنا ،فهي تحدٍّ شاق
يتجاوزه فقط أولي العزم من المترجمين
المتسلحين بالمعرفة ،المفعمين بالدراية
والخبرة بالثقافتين واللغتين؛ المترجم
منها النص والمترجم إليها ،وقبل هذا
فريد من أجناس اإلبداع!..
ٌ جنس
ٌ وذاك ..المؤمنين بفعل الكلمة وخطورتها،
والذين يعون مسؤولياتهم تجاه اإلبــداع ¦لماذا اقتصرت أغلب أعمالك الترجمية
على القصة القصيرة؟ اإلنساني ،ومسألة خلوده.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 88
مواجهات
نصا مترجمً ا!..
لتنتج لنا ً والصحفيّة؛ وإن أمدَّ اهلل في العمر ،ويسر
¦ن ـح ــن ن ـع ـي ــش ع ـص ــر الـ ـ ـث ـ ــورة ال ــرق ـم ـي ــة، األمر ،فلعليّ أقارب ترجمة الرواية.
وال ـتــي أث ــرت عـلــى جــوانــب حـيــاتـنــا سلب ًا الضابط أن يكون في العمل قيمةً
وإيجابا ،برأيك ما األثر الذي تركته على فنيّ ةً !..
الترجمة؟
¦كيف يتم اختيارك لترجمة عمل «ما» دون
تأثير التكنولوجيا فــي حياتنا يتزايد سواه ،هل تعتمد على االختيار الشخصي
يــو ًمــا تلو آخــر ،والترجمة لــم تكن ولن أم أن هناك شــروطـ ًا يجب أن تتوافر في
بمعزل عن تأثيرات التكنولوجيا. ٍ تكون العمل الذي تختاره؟
جوانب،ٍ التكنولوجيا خدمت الترجمة في ρإجاب ًة عن هذا السؤال ،اسمح لي باقتباس
وأســـــاءت لــهــا فــي جــوانــب أخــــرى .إنَّ مقطع من مقدمة كتابي المترجم (الطريق
تقنيات الــذكــاء االصطناعي المتقدمة التَّعب):
اآلن ،ستفتح آفــا ًقــا جــديــدة فــي ميدان
«هذا الكتاب يضم تراجم عن اإلنجليزية
الترجمة .ثمَّة اجتهاداتٌ خطيرةُ ومنها
ـدان
ـاب مــن بــلـ ٍ لمجموعة قــصــص لــك ـ َّتـ ٍ
االشتغال على دراسة أسلوب ،بل أساليب
قصة منها أكثر ٍ مختلفة ،وجدت في ك ِّل ٍ
عدة مترجمين ،وتوظيف هذه األساليب
قيمة فــنـ َّيـ ٍـة ،وأكــثــر مــن بــعـ ٍـد ورؤي ـ ٍـة
مــن ٍ
نصا مترجمًا. بمساعدة التقنية لتنتج لنا ً
عميقة؛ مــا ولَّــد عندي رغب ًة ٍ إنساني ٍَّة
ملحَّ ًة فــي ترجمتها؛ ليجد فيها قــارئ
العربية مثل ما وجدت عند قراءاتي لها
نصها اإلنجليزي ،وكل ما أرجــوه أن في ِّ
تكون الترجمة أمين ًة في نقل ك ِّل أو بعض
جميلة،
ٍ إبداع ورؤى ٍ قص ٍة منما حوته ك ُّل َّ
تستحق القراءة والتأمل».
ـدار ،والضابط االخــتــيــار شخصيُّ بــاقــتـ ٍ
أن يكون في العمل قيم ًة فن ّيةً ،ورؤي ـ ًة
إنسانيةً ،وعمقًا معتبرًا ،وداللـ ًة ممتدةً.
عمل قد ترجم من ً وأحــرص أال أترجم
حاالت نادرةٍ ،ومنها أن يكون ٍ قبل إال في
العمل ترجم ترجم ًة رديئةً ،أو أن الترجمة
لم تعد متوافرة في األسواق.
89 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
عنوانها لعمل أدب ــي تــراثــي عظيم «ألــف
ليلة وليلة» ،هناك الكثير من الروائيين
وال ـش ـع ــراء ق ــام ــوا بــاسـتـلـهــام ال ـت ــراث في
أعمالهم ،برأيك ..ما المبرر الذي يدفع
المؤلف لتوظيف عمل تــراثــي فــي عمله
ليتداخل مع قضايا عصره؟
عمل آخر تراث ّيًا ρتناص عمل المبدع مع ٍ
مثر للعمل كثيرًا، كــان أم حــداثـ ًّيــا أم ـ ٌر ٍ
شريطة أن يوظف بحرفي ٍّة .التناص يمنح
ـص طــاقـ ًة قــو ّيــة مــن العمل السابق. الــنـ َّ
نصا يحمل دالل ًة أو إشار ًة وعندما توظف ًّ
نوع كان ،فإنَّك قد منحت أو عمقًا من أيِّ ٍ
عملك خلودًا يستحق أن يشار له بالبنان.
ومن أجمل ما يمكننا توظيفه واالقتباس
منه ،هو تراثنا الجميل المميز بالقصص الــتــرجــمــة ع ــمـ ـ ٌل إن ــس ــان ــيٌّ ب ــاق ــت ــدار،
واألساطير والحكايات المختلفة ،وتراث والحواسيب والنت عوامل مساعدة في
هذا المجال ليس أكثر ،ولكن إلى حين..
اإلنسانية عــمــو ًمــا ،وأســطــورة شــهــرزاد
سيبقى هذا هو الحال .إن من يتابع ما
باقتدار.
ٍ وشهريار أنموذ ٌج مثاليٌّ
يحدث في تقنيات الذكاء االصطناعي
والــتــي ستظهر للعلن ولــاســتــخــدام مع ¦أين الشعر من اهتمامات خلف القرشي؟
ظهور النت القادم الويب ،Web 3وظهور ρعالقتي مــع الشعر عــاقــة (والــشــعــراء
يــتــبــعــهــم الـــــغـــــاوون)! وع ــاق ــة (أحــــبُّ (الــمــيــتــافــيــرس) ،والــــ (بــلــوك تشين)،
الصالحين ولست منهم)! وأخيرًا وليس آخرًا برنامج /موقع الـــــ
(جــي .بــي .شــات) ،GP Chatسيجزم أن
أعشق الشعر حتى الثمالة .أحفظ كثيرًا
وظيفة المترجم البشري مهددةٌ بالفناء
منه .أقرأه وأستمع إليه ،أحضر منتدياته
وفي أحسن الحاالت بالكساد ،وإن غدًا
وأقتني ما تيسر لي من دواوينه .حاولت لناظره قريبٌ .وستذكرون ما أقول لكم،
مــقــاربــتــه بقصيدة أو اثــنــتــيــن .بعدها: وأفوض أمري إلى اهلل.
«لملمت جــروحــي وانــســحــبــت» ،بعد أن
أيقنت أن «مالي نصيب في اللي أحب». النص طاقةً قويّ ة!.. َّ التناص يمنح
ورحم اهلل امرءًا عرف قدر نفسه. ¦«شـ ـه ــري ــار» رواي ـ ـتـ ــك الـ ـج ــدي ــدة يـحـيـلـنــا
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 90
مواجهات
اشتغاله في سبيلها فكرًا وقــراءة ،سفرًا يستهويني (نقد الشعر) كثيرًا ،وتعجبني
ـال ،سهرًا وسهدًا ،معانا ًة ووجعًا،
وتــرحـ ً كثي ٌر مــن ال ــق ــراءات الــخــاقــة لقصائد
تحمل وانتظارًا للحظة والدة القصيدة ً استثنائية.
زمن مضنٍّ من المخاض العسير. بعد ٍ تــجــرأت كتبت ونــشــرت ق ــراءات تأويلية
الشعر فخر اإلنسانية ومجدها منذ أن متواضعة لبعض القصائد التي أسرتني
فطر اهلل الخلق ،وإلى أن تقوم الساعة، وما تزال .ومنها قصائد للشعراء :بدر بن
ووي ٌل ألمَّة ال تكرم شعراءها ،وتعسً ا لقبيلة عبدالمحسن ،خالد الفيصل ،خالد بن
ال تقيم األفراح والليالي المالح ابتهاجً ا يزيد ،الحميدي الثقفي ،ردَّة السفياني،
بميالد شــاعــر ،وال ت ــزوج أجــمــل بناتها محمد خالد النفيعي ،إبراهيم السمحان،
لشاعر نبغ من بين شبَّانها .والعار ك ُّل وغيرهم ،وفي جعبتي قراءات لم تكتمل،
العار لمن يطرد الشعراء من جمهوريته! وقـ ـدِّر لــي مقارفة إثــم الترجمة لبعض
ـام،
الــشــعــر رســالــة وعــــيٍّ ،وحَ ـــمَـــا ُم س ـ ٍ القصائد الشعريّة ،كما قدمت ورش عمل
جــمــال .ولــهــذا الــســبــب وغــيــره
ٍ ورُسُ ـــــ ُل النص الشعري.
ِّ تدريبيه في كتابة
منعني احترامي للشعر من ولوج عالمه تلكم هي عالقتي بالشعر الذي أرى إنّه
المدهش ،وحفزني لخدمته ما استطعت من أرقِّ األلوان األدبية ،وأرقاها وأهمها،
إلى ذلك سبيالً. وبالفعل يحق للشاعر ما ال يحق لسواه،
والفيصل الضابط هو القبض على تلك
والعض عليها
ِّ اللحظة الشعريّة الهاربة،
بالنواجذ ،والتعبير عنها شعرًا بلغّة خالدة
فريد ..يجعل كلَّ
ٍ وأسلوب
ٍ وصور مبتكرة
ٍ
َمــن يــقــرأه ،يجزم بــأنَّ جــن وادي عبقر
المزعومين هم من ألهم الشاعر ذلك.
ـال من اإلبــداع
الشعر يا صديقي أفـ ُق عـ ٍ
اإلنساني ،ال ينبغي استسهال خوض غمار
بحوره التي قلَّما تجود على من يغوصون
فيها بدررها النفيسة وأللئيها الثمينة.
إنَّها ال تقول (هيت لــك) َّإل لمن أوتي
حظا عظيما ،وما يلقاها إال أرقته موهبته ًّ
الشعريّة ،وك ــواه هـ ُّمــه ،واستحوذ عليه
91 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
وبعضهم قدّم وما يزال يقدم تلك الورش. ¦م ـنــذ س ـن ــوات أن ــت ت ـق ــدم ورش ع ـمــل في
وهناك معاهد ومؤسسات ودور نشر تولي (ال ـك ـت ــاب ــة اإلبـ ــداع ـ ـيـ ــة) ،ك ـيــف تـ ــرى هــذه
هــذا الجانب عناي ًة واهتمامًا ودعـ ًمــا. التجربة ،وهل الكاتب يولد أم يُ صنع؟
وأتمنى من وزارة الثقافة لدينا إيالء هذا
ρتجربتي المتواضعة منذ أ َّيـ ٍـام (كورونا)،
الجانب حقّة دعمًا لإلبداع والمبدعين.
ف ــي تــقــديــم ورش الــكــتــابــة اإلبــداع ـ َّيــة
الكاتب يولد ابتدا ًء (الموهبة) ،ويصنع المختلفة ،أعدٌّ ها ناجحة وهلل الحمد،
بعد ذلك (المهارة) مثله مثل العب كرة بعضا من وليس أدّل على ذلــك من أن ً
الــقــدم الــمــوهــوب بالفطرة ،الــذي قلَّما تلك الــورش يطلب مني تقديمها ثاني ًة
تنفعه موهبته تلك ،ما لم تصقل من خالل وثالث ًة ورابع ًة ممن سمعوا عنها ،وبعض
واشتغال احترافيٍّ يتضمن
ٍ ـدرب
نـ ٍـاد ومـ ٍ من حضروا يؤثر أن يعيد التجربة رغب ًة
برنامجً ا يلتزم به طيلة حياة ذلك الالعب منه في ترسيخ المحتوى ،وفي ظني أنَّ
في األكل والشرب والنوم ،وفي التدرب ذلك ما كان ليتم لوال توفيق اهلل ،ثم قناعة
اليومي ،ونحو ذلك. الملتحقين بالورش من جدواها ونفعها.
اإلب ـ ــداع األدبـ ــي شــأنــه ش ــأن كــثــيـ ٍـر من ¦وماذا عن جديدك في التأليف والترجمة؟
باقتدار وفي ρلديَّ مثل ما لدى كثي ٌر غيري من المبدعين
ٍ العطاءات اإلنسانيّة موهب ٌة
مكتملة حالت دون
ٍ الهواة مشاريع غير المقام األول ،ولكنَّه يصقل ويعزز ويدَّ عم
ظروف شتى من بينها ما يعرفٌ اكتمالها بالتعليم والتدريب والتجريب.
بــــ(قفلة /سدّة الكاتب) ،ومزاجية المبدع، ولــيــس أدَّل عــلــى ذل ــك مــن النصيحة
وتــعــدد المشاغل والمسؤوليات ،وعــدم التقليدية الخالدة لك ِّل مَن يريد أن يؤلف
ترتيب األولويات. ويكتب وهي أن يقرأ ويقرأ ويقرأ .أعتقد
أعمال يتوسل
ٍ وعليه فلديّ حالياً بضعة عمل واح ـ ٍـد قــراء ًة
وال أجــزم أنَّ ق ــراءة ٍ
إليَّ كلٌّ منها أن أتمّه ،ومنها: تحليلية تفصيلي ٍّة ،ومناقشة تفاصيله،
ونقاط الــقـوّة والضعف فيه ،والحديث
كتاب (أمِّي ترضع عقربًا ..ذكريات طفل
حــولــه ضمن ورش ــة عمل تــدريــبــيـ ٍـة بين
من زمن الطيبين) (سيرة ذاتيّة) .كتاب
قصص قصيرةٍ وقصيرةٍ
ٍ (شتان) ،مجموعة المدرب والمتدربين ،أجدى وأنفع وأكثر
جـ ـدًا ،وكــتــاب بالمشاركة فــي (الكتابة فائد ًة للكاتب المبتدئ من قــراءة عشرة
اإلبداعيّة ،وكتاب (القماط) .مجموع ٌة خير.أعمال قراء ًة عابرةً ،وفي كلٍّ ٍ
قصصيَّة مترجمة عن اإلنجليزية ،وكتاب كثي ٌر من مشاهير األدب في العالم ،تلقى
(قراءات تأويليّة في قصائد ولوحات). دروسً ــا ودورات في الكتابة اإلبداعيَّة،
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 92
مواجهات
«الترجمة تفتح ً
آفاقا جديدة طوال الوقت أمام الكاتب»
حوار مع الكاتب والمترجم
الدكتور أحمد سمير سعد
93 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
فــي العلوم وفلسفتها ،رواي ــة المزين ،عــن الهيئة العامة لقصور الثقافة .اهلل..
الوطن ..الهُوَ ..مجموعة قصصية ،كما ترجم بعض األعمال مثل:
كتاب مترجم إلرفين شرودنجر ،جائزة نوبل ..تاريخ المجد والجدل ،طبيعة
العالم الفيزيائي ..كتاب مترجم لسير آرثــر ستانلي إدنـجـتــون ،أليس فــي بالد
الـكــم ..كتاب مترجم لــروبــرت جيلمور ،فلسفة العلم الفيزيائي ..كتاب مترجم
لسير آرثر ستانلي إدنجتون ،العقل والمادة كتاب مترجم إلرفين شرودنجر ،مقدمة
إلى فلسفة الرياضيات ..كتاب مترجم لبرتراند راسل ،الفلسفة الخالدة ..كتاب
مترجم أللدوس هكسلي ..العلم والعالَم غير المرئي ..كتاب مترجم إلدنجتون،
التاريخ الكيميائي لشمعة ..كتاب مترجم لمايكل فاراداي .فكان لنا محطات مع
هذا اإلنجاز..
السحرية ،أول مــا تعرفت عليها منه، ¦الترجمة هواية أم غواية ،ومــاذا ترى في
وعرفت «ساراماجو» أول ما عرفته عن مسار الترجمة قبل رحيل صالح علماني
طريقه ،هو نبراس على الطريق بالتأكيد، وبعد رحيله؟
ترك الكثير من األعمال الرائعة وألهم ρبالنسبة لي الترجمة هواية تحولت إلى
جــهــوداً لــن تنقطع ،أض ــاف حــجــراً في غواية ،وحقيقة لم أكن أتخيل أن تتمكن
صرح الترجمة ..لكن أساسات الصرح مني الغواية إلى هذه الدرجة ،في البداية
تمتد حتى الخالفة العباسية ،وحركة أعجبتني اللعبة ،أن أعيش في النص
كبرى للترجمة حينها ،ومــا يــزال البناء وأعيد خلقه وتشكيله في لغة جديدة ،ثم
يعلو من بعده ويعلو. تطور األمر إلى ما يشبه الجنون؛ أبحث
طــوال الوقت عن عناوين مميزة أحبها ¦ه ــل ت ــرى ف ــي ق ـ ــراءات ال ـتــرج ـمــات معين
يضيف إلى الكاتب أم ال؟ وأريدها أن تمر عبري من لغة وثقافة إلى
لغة وثقافة أخرى ،هكذا صرت مجنونًا ρأظــن أن الترجمة تفتح آفــا ًقــا جديدة
طوال الوقت أمام الكاتب ،وبالتالي فهي بهذه العملية التي تتيح لي إعــادة خلق
بالتأكيد معين يضيف إلى الكاتب ،تلهمه وتشكيل ونقل ما تهت به إعجابًا.
أفــكــارًا جــديــدة ومــقــاربــات مختلفة ،بل أمــا صالح علماني فهو بــا شــك أحد
ربما تلهمه كذلك صورًا وتعابير جديدة، أهم المترجمين ،وله بصمة ال يمكن أن
إن التالقح الفكري الــذي تتسبب فيه تجحد ،وربما كان وراء نقل ثقافة كاملة
الترجمة ال يقتصر على الموضوع ،بل قد بلغة عربية جزلة ،تعرفت على الواقعية
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 94
مواجهات
أن القصة تفضل الــروايــة ،بالنسبة لي يشمل األسلوب والمعنى كذلك حتى لو
تستدعي الفكرة قالبها ،والمهم أن يُكتَب حدث ذلك من دون شعور.
العمل على نحو مميز ،وأن أرضــى عنه إال إنه يجب أن ألفت النظر إلى أنه ثمة
ويروق للقراء. فارق بين التأثر بتعبير جديد أو أسلوب
أما الكتابة بالنسبة لي فهي فعل حياة، مختلف أو ص ــورة غير مــألــوفــة ،وبين
طوال الوقت أمارس القراءة والكتابة ،هما نقل الشكل النحوي للجملة األجنبية؛
بالنسبة لي مثل عملياتي الحيوية ،مثل ولألسف كثيرون يقعون في هذا الخطأ،
تناول الطعام والتنفس ،هما متداخالن وأضبط نفسي متلبساً به أحيانا ،لكنني
حاليًا مع كل لحظات عمري ..ومع كل أحــاول طــوال الوقت التخلص من ذلك
تفاصيل حياتي. قدر المستطاع.
أما ما أضافته الكتابة فكثير للغاية على ¦هـ ــل هـ ـن ــاك ج ـه ــد م ـت ـص ـنــع وأخـ ـ ــر حـ ــيّ ،
المستويات كافة ،إال إن أبرز ما أضافته يترتب على الكاتب مزاولته ،قبل الكتابة
لــي الــقــدرة على بــلــورة األفــكــار ،إذ إن وأثناءها؟
الكتابة ال تستلزم التفكير فقط ،بل يجب
ρبالنسبة لــي ..الفكرة هي الــقــادرة على
أن تأتي الفكرة كذلك صافية وواضحة.
تحريكي ،وبث الرغبة والطاقة فيّ ،تعتمل
وأظن أن أبرز ما أضافته لي الكتابة ،هو
الفكرة في رأسي وتختمر لبعض الوقت
السعي من أجل أفكار متبلورة وواضحة
في جهد قد يبدو سلبيًا ،لكنه مهم جدًا،
ومحاولة الخلوص لها ،من بين شواش
حتى تصير كتابتها هماً شاغالً ،حينها ال
التفكير أو تداخل الرؤى ،أو وهم الفهم
أطلب ظروفاً معينة أو أجواء معينة ،بل
أو فوضى الرؤية..
أخلق الظروف واألجواء وأختلقها.
¦م ـمــالــك م ـل ــون ــة ،أل ـي ــس ف ــي بـ ــاد ال ـكــم،
مؤخرًا ..ومع اهتمامي بالترجمة وتبسيط
عين على السماء ،رســول الفضاء ،خادم ٌ
الــعــلــوم ،ال يقتصر األم ــر فــي كثير من
المصباح السحري ،كتابات للناشئة ،هل
األحيان على الفكرة واختمارها وكتابتها،
تلك الكتابات تمثل حالة ما لديك؟
بل قد يحتاج األمر إلى بذل الجهد في
البحث والتدقيق ،وهــو مجهود نظامي ρبــدأ االهــتــمــام ل ــديّ بالكتابة لألطفال
ثــم للناشئة مــع ظــهــور مــيــار ابنتي في وشاق ،لكنه ممتع؛ ألنه مجهود ُم َعلِّم.
حياتي ثم ابني يحيى ،ممالك ملونة في
األس ــاس هــي مجموعة قصصية كتبت ¦ص ــدر ل ــك م ــؤخ ــر ًا مـجـمــوعــة قـصـصـيــة،
أغلب قصصها من أجل ميار ثم من أجل هل ترى في القصة أفضلية عن الرواية،
يحيى ،بل إن كثيراً من أبطال القصص لك الكتابة ،وماذا أضافت؟ وماذا مثلت َ
يحملون اسم ميار أو يحيى ،وال زلت أذكر ρال أظــن أن الــروايــة تفضل القصة أو
95 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
للناشئة تهتم بــاألمــر نفسه ،فالكتاب
األول قصة فتى يصطحبه وال ــده إلى
مرصد القطامية الفلكي ،ويتعرف على
أهم مفاهيم علم الفلك ،والكتاب الثاني
رواية خيال علمي عن السفر في الفضاء،
تتبنى ما يعرف بالخيال العلمي الصعب،
وبالتالي فحبكتها تقوم في أغلبها على
الكثير من الحقائق العلمية ،والكتاب
الثالث فانتازيا علمية ،إذ نخوض مغامرة
مع خادم مصباح عالء الدين ،القادر على
كسر قانون فيزيائي واحــد في كل مرة
يستخدم قواه.
¦الكتابة للفتيان ..وهي مرحلة تحتاج تركيز ًا
من الكاتب ،كما الكتابة للطفل تحتاج جهد ًا
أيضا ،هل ذلك شكّ ل عقبة لك؟
ً
ρالكتابة للطفل وللنشء صعبة بالطبع؛
ألنها تتطلب االقــتــراب منهم والكتابة
من منظورهم من دون استخفاف بهم،
استقبال ميار ألولى قصص المجموعة
ربما لذلك لم أكتب لهم إال بعد دخول
حين قــررت أن ترسم أحــداث القصة،
ابنتي وابــنــي فــي حياتي ،فبتفاصيلهم
تطور معي األمر بعد ذلك خاصة عندما
اليومية ييسر ذلــك االقــتــراب مــن تلك
اتجهت إلــى مــحــاوالت تبسيط العلوم،
العوالم ،إضافة إلى أن األطفال والناشئة
فهذا السن يحتاج إلى الكثير من التركيز
يحتاجون إلى لغة خاصة ،سلسة وبسيطة،
واالهــتــمــام خــاصــة مــن حيث تعريفهم
وفي الوقت نفسه صحيحة ومناسبة وهي
على العلم وعلى قدراته وإطالعهم على
مهمة شاقة كذلك.
الجديد بشكل مبسط؛ فجاءت ترجمتي
لكتاب مثل (أليس في بالد الكم) والذي ¦ك ـت ــاب ل ـعــب م ــع الـ ـك ــون ،وهـ ــو ك ـت ــاب في
العلوم وفلسفتها ،اإلكسير ،سحر البنج يجعل أليس بالد العجائب الشهيرة تزور
الــذي نمزج ،وغيرها ،الطب والفلسفة.. بالد ميكانيكا الكم ،ومن خالل مغامراتها
قراءات أعتقد أنها أضافت لك؟ نتعرض ألســس نظرية الكم ،أمــا (عين
على السماء) و(رسول الفضاء) و(خادم ρكــل الــمــعــارف اإلنــســانــيــة تــخــدم بعضها
البعض ،قديمًا كانت كل العلوم واآلداب المصباح السحري) فُكتبْ من تأليفي
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 96
مواجهات
هم الذين يفعلون ذلك ،ألنهم قادرون على واألنــشــطــة الــذهــنــيــة تــنــدرج تــحــت اســم
نقل األفكار بين التخصصات المختلفة، الفلسفة ،ثم حدثت عملية فصل جائر ،وهو
واستيعاب المفاهيم بصورة مغايرة وفتح فصل قد يكون مفيدًا ..لكنه جاء جائرًا.
كل اآلفاق. من العظيم أن نتخصص وأن نتقن فنون
وبالتأكيد علمني الطب الكثير ،ال على اختصاصاتنا ،خاصة مع تعقد كل علم
مــســتــوى التفكير المنظم ومــحــاوالت وفن ،حتى صار التخصص الدقيق سمة
االستدالل على األسباب وتوقع النتائج، الــعــصــر ،إال أن مــن يعيش فــي داخــل
بل على مستوى التجربة كذلك ،واالنفتاح تخصصه فقط وال يرى ســواه ،هو كمن
عــلــى الــبــشــر والــعــالــم وحــــدوده وآالم ــه يعيش في نقطة ،ال يعرف بوجود األبعاد
وأفراحه وأتراحه. واآلفاق ،فهو غارق في ذاتيته.
أما الفلسفة فال غنى عنها ألي إنسان شخصياً أشجع التخصص ،مع االحتفاظ
يتساءل عــن معنى وج ــوده ،وعــن معنى بإدراك للصورة األوسع ،ومع تكوين رؤية
العالم ،وعن معنى ما يعرف أو أن يعرف، كلية شاملة للعالم ،ال مقصورة ،خاصة أن
ولكل منا إجابته الفلسفية التي تؤثر التجربة أثبتت أن القادرين على التطوير،
97 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
ρأظن أن التحول الرقمي للنشر والقراءة بالطبع في كل أنماط حياته وتفكيره.
هــو المستقبل ،صحيح أن بعضهم ما ¦مـفـهــوم الـكــاتــب الـحــالــي ،وارت ـبــاطــه بمعايير
يزال يتحدث عن محبته لملمس الورق، البيست سيللر والجوائز ،هل ستجرف اإلبداع
وال يظن بأي حال أنه قادر على تبديل ما إلى شكل جديد يقبله البعض أو يرفضه؟
اعتاده ،إال إن ذلك لن يكون حال األجيال
الجديدة على اإلطالق ،فهم ينشأون على ρالكتابة هي نقل للخبرة ،وهي رسالة بين
اعتياد األجهزة اإللكترونية منذ الصغر، مرسل ومستقبل ،لذلك فالمتلقي هو
وفي عالم تتنامى فيه معدالت القراءة من أحد أركان العملية اإلبداعية األساس ،ال
خالل أجهزة القراءة الحديثة. شك في ذلك.
إن الــنــص اإللــكــتــرونــي يعطي لقارئه كما أن الكاتب مهما ادعــى أنه مخلص
إمــكــانــات ال يتيحها ب ــأي ح ــال النص فــقــط لــتــجــربــتــه وال تــهــمــه الــمــؤثــرات
الــورقــي ،إذ يمكنك تعديل شكل الخط الــمــحــيــطــة ،يشغله الــتــحــقــق والــشــعــور
وحــجــمــه كــمــا تــشــاء ،كــمــا يمكنك عبر بالتقدير ،وبالتأكيد قد يرغب من حين
«الــهــايــبــرتــيــكــســت» إض ــاف ــة الــهــوامــش آلخــر في بعض اإلط ــراء ،وفــي ظني أن
والــمــاحــظــات كيفما شــئــت ،وربــطــهــا الكاتب الناجح هو القادر على الموازنة
بالنص في المواضع التي تريد ،دون أن بين هــذه األم ــور كلها ،إال أن البيست
تشعر أنك شوهت شكل النص ،أو شكل سيللر والــجــوائــز ال تــؤثــر فــي الكُتاب
الكتاب؛ إضافة إلــى ذلــك هــذا التحول فقط ،بل قد توجه ذائقة القُراء كذلك،
يعد اقتصادياً ،إذ يقلل تكاليف النشر، فعملية التأثير والتأثر متبادلة ،وتغذي
ويزيل الكثير من الصعوبات اللوجستية، بعضا سلباً وإيجابا .وهنا يأتي ً بعضها
التي تتعلق بعملية الطبع والتوزيع ،ويسهل دور الموازنة الذي أتحدث عنه؛ فاإلبداع
من كل تلك الخطوات ،وال أنسى أيضا عملية تــجــريــب وتــغــيــيــر ،والــمــبــدعــون
البعد البيئي ،إذ يًق ّل استخدام األوراق، الحقيقيون قـــادرون على فتح اآلفــاق،
الحاجة إلــى قطع األشــجــار؛ مــا يكفل واالنتقال من فــروض الــواقــع إلــى آفاق
استخدامًا أفضل للموارد وضغطً ا أقل أرقى ،وتوجيه الذائقة كذلك؛ فالظرف
على البيئة .أما المساوئ فهي مساوئ المحيط مهما بدا معيقًا ،يحمل كذلك
اإلتاحة المفرطة ،ما يجعل الغث يختلط بذور تطوير وانطالق لمن أخلص العمل
بالسمين ،لكنني شخصيًا أفضل اإلتاحة وثابر .ال وجود لخير مطلق أو شر مطلق،
المفرطة ،عــن تعذر الــوصــول والمنع، لكنه اإلنسان المبدع القادر على استثمار
خــاصــة أن ــه مــن الممكن التغلب على اللحظة بكل أبعادها.
مشكالت اإلتــاحــة المفرطة ،من خالل ¦كـ ـي ــف تـ ـ ــرى ال ـ ـت ـ ـح ـ ـوّل ال ــرقـ ـم ــي لـلـنـشــر
تدريب القراء على االنتقاء والتوعية به. والقراءة ،وما هي سلبياته وإيجابيته؟
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 98
نوافذ
■ محمود الرمحي
ك ـرّم ال ـنــادي األدب ــي بــالــريــاض واثنينية النعيم الثقافية بــاألحـســاء الدكتور
أحمد بن عبداهلل السالم (الشاعر المعروف-وكيل جامعة اإلمام محمد بن سعود
اإلسالمية -رئيس الجمعية العلمية السعودية للغة العربية سابقً ا) ،في فندق
مــداريــم كــراون بالرياض ،مساء األربـعــاء 1444/5/27هـ ـ ـ (2022/12/21م) ،وسط
نخبوي كبيرٍ من المثقفين وأساتذة الجامعات واإلعالميين. ٍّ حضوري
ٍّ
بُدئ الحفل بآيات من القرآن الكريم ،أحمد بن عــبــداهلل الــســالــم ،فــإنــه في
ثــم ألقى رئيس مجلس إدارة النادي حقيقة األمــر يــكـرّم الــرمــوز الثقافية
األدبـــي بــالــريــاض الــدكــتــور صالح بن السعودية ،ويحتفي بمشهدنا الثقافي
عبدالعزيز المحمود كلمة النادي ،ومما واإلبداعي ،ويحفز المبدعين الوطنيين
قال« :إن المجتمع الذي يحترم رموزه الذين يستحقون التكريم واإلشادة».
ومبدعيه ،ويحتفي بهم ،هو مجتمع ينشد
ثــم ألــقــى عميد االثنينية األســتــاذ
ال حضارياً عالياً،
الكمال وي ــؤدي فع ً
محمد بن صالح النعيم كلمة مشابهة،
معتزاً بماضيه ،ومستثمراً لمستقبله،
أشــاد فيها بمكانة المحتفى به علمًا
ومــؤســس ـاً لثقافة عميقة تــســري في
في مجال تخصصه (النحو والصرف)،
أجياله ،ويحملها السابق إلى الالحق،
وشعرًا ،وإنسانًا نبيالً.
وحين يــكـرّم الــنــادي األدب ــي بالرياض
انطلقت بــعــدهــا نـــدوة علمية عن واثنينية النعيم الثقافية الشاعر الدكتور
99 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
شعر أحمد بن عبداهلل السالم» ،والدكتور
طامي بن دغيليب الشمراني مــن جامعة
َّناص
الجوف ،بورقة عنوانها «جماليات الت ّ
األدبي في شعر أحمد بن عبداهلل السَّ الم»،
وأدار الندوة الدكتور بدر الراشد (من تالميذ
د .السالم).
وألقى الدكتور فهيد بن رباح الرباح كلمة
المشاركين ،نوّه فيها بمكانة المحتفى به في
الوسطين :العلمي والثقافي ،ثم أدلى أربعة
من عارفيه بشهاداتهم حول أعماله وصفاته
اإلنسانية النبيلة من تواضع وأخالق عالية،
وهم :الدكتور محمد الربيّع ،والدكتور حسن
الحفظي ،واألستاذ حمد القاضي ،والدكتور
محمد القسومي .وبعدها ألقى المحتفى به
(د .أحمد السالم) كلمة وقصيدة تضمنتا
الشكر للجهتين المنظمتين وللحضور ،ومما
قال:
أن ــتَ مــن كـنــتَ كــي يطيبَ المساءُ
وب ـ ـهـ ــذي ال ـ ــوج ـ ــوه أم ـ ـس ــى يُ ـ ـض ــاء
ح ـي ــن أب ـص ــرت ـه ــم ك ـ ّـح ـل ـ ُـت عـيــونــي
وتـ ـنـ ـفـ ـسـ ـتـ ـه ــم ،ف ـ ـ ـطـ ـ ــابَ ال ـ ـ ـهـ ـ ــواءُ
ـوت هـ ـ ـ ّـب الـ ـجـ ـمـ ـي ــعُ إل ـي ــه نتاج المحتفى به الشعري ،شارك فيها كل ُ
أي صـ ـ ـ ـ ٍ
ي ـ ـ ـت ـ ـ ـبـ ـ ــارى ف ـ ـ ــي ن ـ ـ ـشـ ـ ــره األدبـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاءُ مــن الــدكــتــور سلطان بن محمد الخرعان
بورقة تناولت السرديّة في نماذج من شعر
ـواب
ـؤال ج ـ ـ ـ ـ ـ ٌفـ ـ ـ ـ ـ ـ ــإذا عـ ـ ـ ـ ـ ـ ّز ل ـ ـ ـ ـل ـ ـ ـ ـسـ ـ ـ ـ ِ
أحمد السالم ،والدكتور جبران بن سلمان
أن ـ ـ ـ ــا خ ـ ـ ـلـ ـ ـ ٌـق وف ـ ـ ـ ــى ل ـ ـ ــه الـ ـ ـك ـ ــرم ـ ــاءُ
سحّ اري بورقة عنوانها «إرســال المثل في
شعر أحمد السالم :قراءة تحليلية بالغية» ،رس ـ ـ ـمـ ـ ــوا لـ ـ ــوح ـ ـ ـ َة الـ ـ ـشـ ـ ـك ـ ــرِ ب ـ ـكـ ــرً ا
ـاض واألحـ ـ ـس ـ ــاءُ أن ـت ـج ـت ـه ــا الـ ـ ــريـ ـ ـ ُ والدكتوره شادية شقروش بورقة عنوانها
واختتم الحفل بتسليم الــدروع والهدايا، «الــقــيــم األخــاقــيــة واألبــعــاد الــتــربــويــة في
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 100
نوافذ
وجاء في مقدمتها درعا الجهتين المنظمتين
للحفل :النادي األدبــي بالرياض ،واثنينية
النعيم الثقافية باألحساء ،ودرع مقدّم من
نادي الجوف األدبي الثقافي ،ثم دُشّ ن الكتاب
الوثائقي الذي أصدره النادي واالثنينية بهذه
المناسبة ،وأعده الدكتور عبداهلل الحيدري،
وعنوانه «فــي رحــاب اللغة والشعر :أحمد
السالم لغويًا وشاعرًا وإنسانًا».
وقــد لقيت هــذه الــمــبــادرة ترحيبًا من
الوسط الثقافي ،تمثل في عدد من التغريدات
التي كتبها بعض الحضور ،ومنهم الدكتور
عبدالرحمن الصغيّر الذي كتب في حسابه
كلمة فقال« :هذه الليلة ليلة وفاء من أهل
الوفاء في وطن الوفاء وبحضور األوفياء»،
والــدكــتــور ســالــم الــقــرزعــي ال ــذي كتب في
حسابه شــهــادة فــقــال« :تــشــرفــت بحضور
تكريم الدكتور أحمد السالم ،الصديق الوفي
الذي عرفته منذ سنوات طوال عاشقًا للغة
العربية ،كوكبًا فــي سماء شعرها وأدبها
وفروعها اللغوية بعامة ،ناهيك ما يتمتع
به من خلق نبيل وشخصية قيادية» ،وكتب
الدكتور ناصر الخنين في حسابه في تويتر:
«كانت ليلة أضاءتها كلمات الشكر واإلطراء
والذكر الحسن لمسيرة أبي خالد العلمية
واإلداري ــة واإلبداعية ،التي شهد بها ولها
شهود التكريم استحقاقًا» ،واألستاذ ناصر
الحميدي الذي كتب يقول« :أشكر مجلس
إدارة نادي الرياض األدبي على هذا االحتفاء
الــذي يجسّ د الــوفــاء والتقدير لمن تركوا
101 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
سجال حافال باإلبداع والعطاء».
ومما قاله د .عبداهلل الحيدري مشيداً
ومعدداً لمناقبه إن د .السالم عَ رَفته المنابر
الرسمية في الجنادرية ،وفــي غيرها من
المحافل شاعرًا وطنيًا محلّقًا ،وشاعرًا مبرزًا
في العديد من الصحف والمجالت السعودية
والعربية ،وأهدى المكتبة السعودية عددًا من
الدواوين التي ضمت معظم إنتاجه الشعري.
وقد وصفه الدكتور حسن الحفظي بأنه
الزميل والصديق والمدير ،ومما قاله عنه:
إن شعره ال يحجبه عن القلب شيء ،بل ينفذ
إليه كالسهم ،ولكن بــدون جــراح ،وما أشد
انطباق قول زهير:
وإنّ أحـ ـ ـس ـ ــن ب ـ ـيـ ــت أنـ ـ ـ ــت ق ــائ ـل ــه
ب ـي ــت يـ ـق ــال إذا أنـ ـش ــدت ــه :صــدقــا
أمــا األســتــاذ حمد الــقــاضــي أمــيــن عام
مؤسسة الشيخ حمد الجاسر الثقافية وعضو
مجلس الشورى السابق ،فوصفه أنه عالم من
النبل ،شيمته الصبر والوفاء ..إنسان جمع
الخالل أسماها.
النبل من أطرافه وحاز من ِ
لم يكن أديباً بدرسه وكراسه ،لكن كان أيضاً
أديباً في نفسه ،ثرياً بنفيس مــزايــاه .لقد
ال
أدرك ذلك كل من عمل معه أو تعامل :زمي ً
أو صديقاً أو أستاذاً أو رفيق سفر.
وقــال الــدكــتــور عبدالعزيز الحربي إنه
العالم واإلداري ،وأنــه عرفه قبل عشرين
حــوالً حين كان معيداً ،عرف فيه األخالق
الحسنة ،والمحبة ،والتواضع ،ولين الجانب،
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 102
نوافذ
ويتحلى بالعشق األصيل لمنطقة الجوف،
ودومــة الجندل على وجــه خــاص ،فهو وإن
سكن الــريــاض لــظــروف الــدراســة والعمل
واستمر في ذلك ،إال إن حنينه دائم ونشط
إلــى حيث ح ـ ّل تمائمه ،فهو عــاشــق دائــم
لمنطقته ومتابع لمستجداتها ،ونشط في
التعريف بها والدعاية إليها؛ بل إنه المقدم
عندهم في حفالت المنطقة الرسمية إللقاء
الشعر وما إلى ذلــك ،ومنزلته مقدرة عند
أهاليها.
وقــال األســتــاذ محمد بن هليّل الرويلي
عــنــه ..إنــه مكنز الشعر واألدب ،طريقه
الــذي سلك ،طويل رحيب ،موصول بالعلم
والحرص على نفع كل من حوله من زمالء.
والسؤدد .تخرج من معهد الجوف العلمي
ويــقــول الــدكــتــور عــبــداهلل الــوشــمــي -
طلب العِ لم في
ِ بسكاكا ،وشَ ـ ّد الرّحال في
األمين العام لمجمع الملك سلمان العالمي
العام 1973م ،وتبوأ مقاعد العلم الرفيع
للغة العربية إنــه إيقاع األخ ــاق ،وأضــاف
منزل عليّا..
ً ورفعة الشعر العربي األصيل،
يتمتع أخ ــي وصــديــقــي د .أحــمــد السالم
بسمات عالية من الخلق الرفيع ،وسالمة
الصدر ،ونبل المعدن ،وصناعة الفكاهة،
وتقبُّل الــمــزاح ،وذلــك في أجــواء المؤانسة
والمجالسة الــعــامــة ،وخــاصــة فــي السفر
والتنقالت ،وجمال األلفة ،ومساندة الطالب
واألصدقاء ومن يتطلع إلى خدمته والشفاعة
له ،وهو نمط أراه قد شغله في عدة مراحل
من حياته ،ولديه تقدير كبير لثوابته ،ولئن
رزق الصبر واألناة ،إال إنه سريع االلتزام بما
يؤمن به ،وال يمكن أن يجد في أي مواضعة
اجتماعية مانعاً من أن يقول ما يؤمن به.
103 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
الع ّ
فة في الشعر العربي ِ
مفهوم شامل لضبط النفوس وتهذيبها
■ منى حسن*
ق ــال الـنـبــي صـلــى اهلل عليه وس ـلــم ،إنـمــا ُبـعـثــت ألتـمــم م ـكــارم األخـ ــاق ،وذلــك
إشــادة بما اشتُ هر به العرب من طبائع وأخــاق سامية ،أبرزها الكرم والشجاعة
والفروسية ،وأجملها العفة والحلم والوفاء ،وغيرها من الصفات الحميدة ،التي
يمدحون حاملها ويذمون تاركها ،وكان لهم للفخر بها صوالت وجوالت؛ فتباهوا
بذكرها في شعرهم الــذي شكّ ل حافظة تاريخية للحياة في مجتمعاتهم .ومن
هنا نبع اهتمامهم بالشعر ،وبالشاعر الذي يُعدُّ صوت قبيلته ،ومُ خلد أمجادها
ومحامدها ،ولسان فخرها بين القبائل.
وق ــد احــتــفــى الــشــعــر الــعــربــي قبل ثَ ْعل َبٌ بضبط النفس ،وذلك في تفسيره
اإلســام وبعده بالعفة ،بوصفها قيمة لقوله تعالى في سورة النورَ " ولْيَسْ تَعْفِ ِف
أصيلة مــن قيم األخ ــاق المجتمعية الَّذِ ي َن َل ي َِجدُو َن نِكاحاً" ،وفي اللسان
التي يتميز بها اإلنسان العربي األصيل ،أيضا" :االسْ ِتعْفاف :طل َبُ ال َعف ِ
َاف َو ُه َو
َّاس،
َف عَ نِ الْحَ رَامِ وَالسُّ ؤَالِ مِ َن الن ِ
الك ُّ وعُدت من أخالق الفرسان.
وَقِ ــي ـلَ :االسْ ـ ِتـ ْعـ َفــاف الصبْر والنَّزاهة المفهوم الشامل للعفة وتجلياته
عَ نِ الشَّ يْ ءِ ؛ وَمِ نْ ُه الْحَ دِ يثُ " :اللَّ ُه َّم ِإنِّي في القصيدة العربية:
أَسأَلك العِ فَّة والغِ نى".
فــي "لــســان الــعــرب" ،العفة هــي" :
وجـــاء اإلسـ ــام مــؤكــداً لــهــا وحــاث ـاً َف عَ مَّا َل ي َِح ّل ويَجْ ُملُ ،وفسَّ رها
الك ُّ
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 104
نوافذ
عليها ،قال تعالى في سورة البقرةِ (( :لل ْ ُف َقرَاءِ
الل َل يَسْ ت َِطيعُو َن
الَّذِ ي َن أ ُحْ ِصرُوا فِ ي سَ بِيلِ َّ ِ
اه ُل أَغْ ِنيَا َء
ْض يَحْ سَ بُ ُه ُم الْجَ ِ
ض ْربًا فِ ي ْالَر ِ
َ
مِ َن ال َّت َعف ُِّف تَعْرِ ُفهُم ب ِِسيمَا ُه ْم َل يَسْ َألُو َن
َّاس ِإلْحَ افًا)).
الن َ
ويتسع مفهوم العِ فّة ليشمل في مسماه
عدة معان للمروءة والحياء واألنفة ،والترفع
عن الدنايا؛ فهي معنى شامل يُعنى بضبط
النفس والصبر ،ولها عدة أوجه ،ال تقتصر
على التعفف عن الرغبات اإلنسانية ،بل
تتسع لتشمل التعفف عن أكل أموال الناس
بــالــبــاطــل ،وع ــن ســـؤال الــنــاس حــتــى عند
الحاجة ،والتعفف عن كل ما هو غير جميل.
يتعفف عن المال ويزهد فيه: قال السموأل بن عاديا:
هَ ـ َّا سـأَ ْلـ ِـت الخَ يـلَ يا ابن َة مالِ ٍـك ْضهُ
إذا المرءُ لم يَدْ نَس من اللؤمٍ ِعر ُ
ـاه ـ َلــةً بِ ـ ــمَ ــا َل ــم تَعْ ل َِمـي
إنْ كُ ـ ْنـ ِـت جـ ِ ف ـ ـ ـكـ ـ ــلُّ رداءٍ يـ ـ ــرتـ ـ ــديـ ـ ــه جـ ـمـ ـي ــلُ
105 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
طبع الحرص والسعي خلف التكسب على
حساب األخ ــاق ،جامعاً عــدة صفات تقع
تحت مظلة العفة في قوله:
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 106
نوافذ
والعدل .وبعده قال أرسطو إن الفضائل هي :به جميل! فقالت :إنه كان يرنو إليّ بعينين
ليستا في رأســك يا أمير المؤمنين ،قال: الحكمة ،والشجاعة ،والعفة ،والعدل.
وانتُخبت العفة هنا دوناً عن غيرها من فكيف صادفته في عفته؟ قالت :كما وصف
الصفات واألخالق الحميدة لما لها من دور نفسه إذ قال:
كبير في تزكية النفوس وتطهيرها ،وحماية ال وال ـ ــذي تـ ـ ـسـ ـ ـج ـ ــد الـ ـ ـجـ ـ ـب ـ ــاه لــه
مـ ـ ــا لـ ـ ــي ب ـ ـمـ ــا ضـ ـ ــم ثـ ــوب ـ ـهـ ــا خ ـبــر المجتمعات من الرذائل.
أورد األبشيهي في كتابه "المستطرف وال ب ـ ـف ـ ـي ـ ـهـ ــا وال ه ـ ـم ـ ـمـ ــت ب ـه ــا
في ك ِّل فنٍّ مُستظرف" على لسان بعض بني
م ـ ــا ك ـ ـ ــان إال ال ـ ـحـ ــديـ ــث وال ـن ـظ ــر
كلب" :وتــروي بعض كتب السيرة أن امرأة
وللشاعر أحمد شوقي أبيات جميلة في
ذات جمال دعــت عبداهلل بن عبدالمطلب
إلى نفسها ،لما كانت ترى على وجهه من الــدعــوة إلــى استصحاب العفة فــي طريق
الحياة ،وصــوالً إلى سيرة طيبة في الدنيا النور ،فأبى وتعفف وأنشد قائال:
وعمل صالح يُدَّ خر لآلخرة:
إن أكـ ـ ــن ط ــام ــح الـ ـلـ ـح ــاظ ف ــإ ّن ــي
ـك زا َدي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ِـن ِم ـ ـ ــن س ـ ـي ـ ـرَةٍوال ـ ـ ـ ــذي ي ـم ـل ــك ال ـ ـ ـفـ ـ ــؤا َد ع ـف ـيــف و َُخـ ـ ـ ـ ــذ َلـ ـ ـ ـ َ
و َِمـ ـ ـ ـ ـ ــن عَ ـ ـ ــمَ ـ ـ ـ ٍـل ص ـ ـ ــالِ ـ ـ ـ ٍـح يُ ـ ـ ــدَّ خَ ـ ـ ــر
أم ـ ـ ــا ال ـ ـ ـحـ ـ ــرام فـ ــالـ ـ ِـح ـ ـمـ ــامُ دُ و َن ـ ـ ـ ــه
وال ـ ـ ـ ِـح ـ ـ ــلُّ ال نـ ـ ــأبـ ـ ــى ،ون ـس ـت ــدي ـن ــه
فـ ـكـ ـي ــف بـ ـ ــاألمـ ـ ــرِ الـ ـ ـ ــذي ت ـب ـغ ـي ـنــهُ
ـرضـ ــه ودِ ي ـ ـ َنـ ــهُ
ي ـح ـمــي الـ ـك ــري ــمُ ِعـ ـ َ
وللمبرد في المفهوم الشامل للعفة:
مَ ـ ــا إن دَعَ ـ ــانِ ـ ــي ال ـ ـ َه ـ ـوَى لِ ـمـعـصـيــةٍ
ـص ـ ـ ــا ُه الـ ـ ــحَ ـ ـ ـ َيـ ـ ــاءُ وَال ـ ـ ـ ـ َك ـ ـ ـ ـرَمُ
إال عَ ـ ـ ـ َ
فـ ـ ــا إلـ ـ ـ ــى مـ ـ ـح ـ ــرم مـ ـ ـ ـ ــددت يـ ــدي
وال مـ ـ ـش ـ ــت بـ ـ ـ ــي ل ـ ــريـ ـ ـب ـ ــة َق ـ ـ ـ ـ ـ ـدَمُ
وج ــاء فــي المستطرف أيــضــا أن بثينة
دخلت على عبدالملك بن م ــروان ،فقال:
ما أرى فيك يا بثينة شيئا مما كــان يلهج
107 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
كما يرى الشاعر عبدالرحمن العشماوي
ان طَ رْق العفاف يجنب المرء التيه ،ويسمو
به نحو تقوى اهلل واتباع نهج األنبياء ،يقول:
ـاف ه ــو ال ـط ــري ــقُ ط ــري ـق ــك ل ـل ـع ـف ـ ِ
ط ـ ـ ــري ـ ـ ـ ٌـق ال يـ ـ ـتـ ـ ـي ـ ــهُ وال ي ـض ـي ــق
ـك ل ـل ـش ـم ــوخ ول ـلــتَّ ـســامــي ط ــري ــقُ ـ َ
لـ ـ ــه جـ ـ ـس ـ ــرٌ مـ ـ ــن ال ـ ـت ـ ـقـ ــوى وث ـ ـيـ ــقُ
طـ ــريـ ــقُ األنـ ـ ـبـ ـ ـي ـ ــاءِ ،ع ـل ـي ــه سـ ـ ــاروا
ُتـ ـ ـص ـ ــان ب ـ ــه ال ـ ـم ـ ـكـ ــارم والـ ـحـ ـق ــوقُ
ْض ـاف ،ط ــري ــقُ َرو ٍ ط ــري ـ ٌـق ل ـل ـع ـف ـ ِ
يـ ـ ـغ ـ ــذِّ ي َقـ ـ ـ ْل ـ ــبَ س ــالـ ـك ــه ال ــرَّ حـ ـي ــقُ
هكذا ،وعبر ما أوردن ــا من مقتطفات، الخطا
ـف ُوَكُ ــن فــي الــطَ ــريـ ِـق عَ ـفـيـ َ
ـف الـ ــسَ ـ ـمـ ــاعِ َكـ ــري ـ ـ َم ال ـ َن ــظَ ــر تجلت العفة كخلق نبيل وقيمة سامية أصيلة
شَ ـ ــريـ ـ َ
ورث ــى الشاعر حــافــظ إبــراهــيــم صديق في الشعر العربي قديمه وحديثه ،دعا لها
وشــدا بها مــن أرادوا السمو والترفع عن عمره مشيداً بعفته وكرمه قائال:
الدنايا ،مستصحبين في ردائها كل القيم
َث ـ ـ ـ ــا َث ـ ـ ـ ــةٌ َل ـ ـ ـ ــم َتـ ـ ـ ـع ـ ـ ــرُ عَ ـ ـ ـ ــن ِعـ ـ ــفَّ ـ ـ ــةٍ
النبيلة والمعاني السامية المشمولة في
لِ ـ ـ ـسـ ـ ــا ُنـ ـ ــهُ وَال ـ ـ ـ ـ ـ َذيـ ـ ـ ـ ــلُ وَال ـ ـ ـ ِـمـ ـ ـ ـئـ ـ ـ ـ َز ُر
دائرة التعفف ،والتي تهذِّب النفس ،وتسمو
بالمجتمعات اإلنسانية. لمـ ـ ـ ـ ــوالِ ـ ـ ـ ـ ــهِ
َق ـ ـ ـ ــد ك ـ ـ ـ ـ ــانَ ِم ـ ـ ـتـ ـ ــاف ـ ـ ـ ًا ِ َ
َوكـ ـ ـ ـ ـ ـ ــانَ َنـ ـ ــهّ ـ ـ ــاض ـ ـ ـ ًا بِ ـ ـ ــمَ ـ ـ ــن َي ـ ـعـ ــثُ ـ ــرُ
المراجع:
نقد الشعر ،قدامة بن جعفر ،مكتبة الخانجي، -
القاهرة. ويرى الشاعر فواز اللعبون أن العفة تسمو
ديوان أبي فراس الحمداني دار الفكر العربي، - بالحب ،وال يكون من دونها إال وبــاال على
بيروت.
ديوان عنترة بن شداد-دار صادر ،بيروت - صاحبه ،يقول:
المستطرف في كل فن مستظرف لألبشيهي- -
دار صادر ،بيروت. ال ـ ـ ـ ُـح ـ ـ ـ ُّـب ل ـ ـ ــوال ِعـ ـ ــفّ ـ ـ ــةٌ تـ ـسـ ـم ــو ب ــهِ
كليلة ودمنة البن المقفع ،تحقيق عبد الوهاب -
عزام وطه حسين ،مؤسسة هنداوي. مـ ـ ـ ــا كـ ـ ـ ـ ــان إال لـ ـ ـعـ ـ ـن ـ ــةً وعَ ـ ـ ـ ــذابـ ـ ـ ــا
* كاتبة و شاعرة -السودان.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 108
نوافذ
إبراهيم الخليف
ذاكرة الجوف وأرشيف التعليم والتنمية
■ عبداللطيف الضويحي*
109 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
والمهنية في سلم التعليم الوظيفي؛ فمن
مــــدرّس ســنــة 1363هــجــريــة ،إل ــى مدير
مدرسة ،حتى أصبح مفتّشا إداريـاً ،إلى أن
أصبح مديراً للتعليم في منطقة الجوف،
وهذه قفزة كبيرة في سلم التدرج الوظيفي؛
فقد شــق األســتــاذ الــســطــام هــذا الطريق
ومضى فيه ،رغم التحديات وكل الصعوبات، من اليمين :عبدالعزيز الهنيدي "قائد سالح الجو السعودي
وليس أقلها الصعوبات االقتصادية التي في الثمانينيات"في زيارة للجوف ليدعو خريجي الثانوية
العامة لاللتحاق بالكليات العسكرية ،يليه إبراهيم الخليف.
فرضتها تلك المرحلة.
لقد جــاء انتقال أ .السطام مــن قطاع
التعليم إلى القطاع البلدي استجاب ًة للنضج
اإلداري والتنموي اللذين كانت المملكة
بحاجتهما بالتزامن مع إعداد الكادر البشري
الضروري ،للتناغم واالنسجام مع ما تحقق
في تلك المرحلة ،وهــذا انعكاس لواحدة
مع الصحفي محمد عبدالواحد رفيق -أثناء انعقاد
من النظريات التنموية التي ترى أن تحقيق اللقاء الخليجي المغربي بالدار البيضاء 2٠٠0/5/4م
التنمية يتطلب الوصول إلى مستوى معين
من التعليم قبل الشروع بالبرامج التنموية.
يمكن القول إن النقالت والتنقالت الثالث
المهمة التي مر بها وعاشها الراحل إبراهيم
الخليف من )1مدير عام التعليم في منطقة
الجوف إلى )2رئيس بلدية الجوف ومنها إلى
)3مدير عام عام الشئون البلدية والقروية
أثناء تكريمه من قبل برلمان والية فيرشيلي في إيطاليا
فــي المنطقة الشمالية تعكس ع ــدداً من
االعتبارات التي يدركها المخطط المركزي حيث وفرة المعلمين وتعدد التخصصات.
لقد عاصر وعــاش أ .إبراهيم السطام للتنمية في المملكة العربية السعودية ،ومنها
كــل هــذه المحطات الــتــي مــر بها التعليم منطقة الجوف والمناطق الشمالية:
في المملكة وعايشها طالباً ومعلماً ،وفيما )1أولوية التعليم وأقدميته على أي برامج
تنموية ،والتعليم يستمر بالوتيرة نفسها ال بين المراتب الوظيفية اإلدارية
بعد متنق ً
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 110
نوافذ
قبل وخ ــال وبــعــد أي بــرامــج تنموية؛
فالتعليم غاية ووسيلة.
)2أهمية إعــداد الــكــادر البشري المحلي
وتهيئته بقدر اإلمكان ،من خالل التجربة
وصقل الخبرة؛ تمهيداً لتوفير الفرصة
من النجاح من خــال قيادة وإدارة أي
عمل تنموي محلي وبرامج تنموية محلية.
)3أهمية التوأمة والتفاعل بين قطاعات
التنمية المختلفة ،مــع الــحــفــاظ قــدر
المستطاع على وحدة االرتباط اإلداري
األستاذ إبراهيم خليف لكل قطاع.
)4ال تختلف منطقة الــجــوف عــن بقية مدينة سكاكا ،منطقة الجوف -تغمده اهلل
مــنــاطــق المملكة اإلداريــــــة؛ مــن حيث بواسع رحمته.
بدايات التعليم ،وخطط التنمية ،واإلدارة،
لستُ مؤرخا لكني أظن أن الجيل الذي
باستثناء الكثافة السكانية فــي بعض
المناطق ،وحجم المدن ،وما يتطلبه ذلك أنجب أ .إبراهيم الخليف ،والدكتور عارف
المسعر ،رحمهما اهلل ،والدكتور عبدالواحد من مراعاة لهذه اإلعتبارات.
الحميد ،والــدكــتــور فهاد المعتاد الحمد،
)5ال يمكن تحقيق التنمية النوعية قبل
وغيرهم -ممن ال تحضرني أسماؤهم -حريٌ تحقيق النمو الكمي الطبيعي.
أن نعيد قراءة سيرهم في ضوء إرهاصات
)6من الخطأ تقييم أي تجربة تنموية في
الــمــاضــي بعيون الــحــاضــر ،ومــن خالل خطط التنمية في المملكة ،وما قبل خطط
التنمية بقليل؛ فــقــراءة سير تلك األسماء إمكانات ومعطيات الحاضر.
هو بمثابة قراءة أكثر جيل عاصر االنتقال
كان ال بد من استحضار واستيعاب هذه
الخلفية ونحن نستعيد ونستنطق التجربة الدراماتيكي .والتحوّل الجذري بين عالمين
التعليمية واإلداريـــــة والــتــنــمــويــة لألستاذ مختلفين كل االختالف ،جيل عاش الصدمة
إبراهيم الخليف السطام ،والذي وافته المنيّة الحضارية فاكتوى بنارها وذاق مراراتها
في اليوم الثاني من عيد الفطر الفائت في بقدر ما نال من حسناتها وإيجابياتها.
* كاتب سعودي -الجوف.
111 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
اكتشاف منشآت حجرية بجبل الظلّيات
في الجوف
يعود تاريخها إلى 9000عام مضت
■ احملرر الثقايف
عثر فريقٌ من علماء اآلثار السعوديين والدوليين على إحدى أقدم المنشآت
الحجرية الـتــي شـ ّيــدهــا اإلن ـســان فــي جبل الـظـ ّلـيــات بمنطقة الـجــوف -شمالي
المملكة -يعود تاريخها إلى الفترة ما بين 8000و 9000عام قبل الوقت الحاضر،
أجــرتـهــا هيئة ال ـتــراث مــؤخــر ًا
وذل ــك ضمن نتائج مـشــاريــع المسح األث ــري الـتــي ْ
بالتعاون مع المراكز العلمية الدولية.
وتــمّــت مــشــاهــدة ه ــذه المصائد ونــشــرت مجلة (بــلــوس ون) مقال ًة
عن هذه المنشآت الحجرية التي تُمثّل الحجرية ألول مرة من الطائرات في
-بحسب الورقة العلمية -مصائد من عشرينيات الــقــرن الــمــاضــي -وفقاً
ـان ضخمة الحجم للورقة العلمية ،-وكانت تُعد للوهلة
الــحــجــر ،وهــي مــبـ ٍ
تُــســتــخــدم كــمــصــائــد لــلــحــيــوانــات تم األولى مبانيَ أثري ًة متطورة تتكون من
تأريخها لفترة ما قبل التاريخ ،التي تُعبّر جدران ،ومُذيَّالت يصل طولها إلى أكثر
عن قدرة اإلنسان قديماً على التكيّف من خمسة كيلومترات تتالقى في منطقة
مع طبيعة المكان ،وذلك بنقل مساحة كبيرة ،وتتّصل بها غــرف ذات حجم
كبيرة إلى سطح صغير ثنائي األبعاد ،أصغر ،وبخاصة في األركــان والزوايا
كما تُــع ـ ّد عــام ـ ًة فــارقــة فــي السلوك الخارجية؛ وعلى الرغم من ذلك ،فإنه
الذكي لإلنسان ،وتعزّز فهم كيفية تصوّر لم يتم إثبات وظيفتها واستخداماتها
وتأريخها
ِ المصائد الحجرية الصحراوية وبنائها .كمصائد للحيوانات البرية،
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 112
نوافذ
إال في السنوات القليلة الماضية .ويشار إلى أنه
جرى حتى اآلن اكتشاف أكثر من 6000منشأة.
113 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
إبراهيم الحسين
والنافذة التي يطل بها على العالم
■ محمود الرمحي
شاعر ..وال يمكن إال أن يكون شاعراً-هكذا يقول ،-لم تستهوه أنماط السرد
األخرى كالرواية والقصة ..يأبى إال أن يكون شاعرً ا وفي أحضان قصيدة النثر!..
يقول عن ارتباطه بها (إنها النافذة التي تمنحنه ضوء ًا جديد ًا وعيون ًا جديدة،
يطلّ منها على عوالم أخرى ،يتبعها أينما ذهبت ..تلك النافذة ال يعلم من أين
جاءت بإطارها ،بحديدها ،بخشبها أو زجاجها ،أو حتى سمائها)!
له فيها بــاع وذراع ،يتسلح بتجربة ثرية ومغايرة عن اآلخــريــن ،شهد له فيه
معلموه ومجايلوه ..
يقول كاظم الخليفة:
نصوصه تتجسد في معان قريبة محسوسة؛ حتى كأنها يمكن الربت عليها،
وحتى مداعبتها أحياناً ،لكنك ال تعتب عليها أو تجادلها .يُدخلك في مواضيعه
عــن اليومي المعاش ويستدرجك ليصعد بــك إلــى مستويات عالية مــن الـتــأزم؛
كأشبه ما يكون "بمرجيحة" تنخفض عن مستوى تناولك ،ثم تأخذك إلى ذروة
العلو من نطاق دورتها ،وسرعان ما تحط بك في أمان ثانية.
ويقول آدم فتحي:
القصيدة بالنسبة إليه بناء بالهدم يُفكّ ر بحساب ويتداعى بحساب .إنّها شبيهة
بكرة النار المندفعة من فوهة البركان .ال تَزعمُ بطولة ً ،لكنّها ال تروغُ من معركة .ال
بإيقاعها الصائت وبالصمت.ٍ تدّ عي رسالةً ،لكنّها ال تهرب من معنى .تصنع لغتها
تعيد إنتاج نفسها مع كــلّ تــأويــل .تنفذ إلــى عمق الواقعيّ بقوّة الخيال .تصنع
األبدي من اليوميّ العابر .تتيح لقارئها أن يشارك في ابتكار معناها.ّ
رفد المكتبة الشعرية بعديد من المجموعات الشعرية التي دائم ًا ما تحظى
باهتمام النقاد والشعراء محلي ًا وعربيا ،وله حضور متميز في المنصات الشعرية،
إذ شارك في أمسيات عبر جمعيات الثقافة والفنون واألندية األدبية والملتقيات
الثقافية بالسعودية ،ومهرجانات عربية وعالمية..
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 114
محور خاص
إبراهيم الحسين:
أُحيي عزلتي منقطع ًا ومخلص ًا للقراءة والكتابة وال أفكر أبدا
في كتابة الرواية فأنا في جنّ ِة الشعر ،وال أريد الخروج! منها
115 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
أو زجاجها ،أو حتى سمائها ،هل هي نافذة سرية!..
حكايات األب التي يصادف أحياناً وينفتح ¦إبـ ــراه ـ ـيـ ــم الـ ـحـ ـسـ ـي ــن ،صـ ــاحـ ــب ت ـجــربــة
فجأة فيُخرِ ج حكاياته ويسرّحها أمام
وارت ـ ـ ـبـ ـ ــاط ب ــال ـق ـص ـي ــدة مـ ـن ــذ مـنـتـصــف
دهشتنا ،األب الــذي كان فقده صاعقاً
ثمانينيات القرن الماضي ،هال حدثتنا
بموته الذي أحدث فجوة فيّ هبَّت منها
عن طبيعة ارتباطك بالقصيدة؟
طيو ٌر ســوداء كثيرة دفعة واحــدة حطَّ ت
كلُّها فــي كــتــاب «يسقط اآلبـــاء حجرًا ρهي نافذة وجدتها تلك الفترة ،وجدتها
حجرا ،وتكرّر ذلــك في نازلة فقد األم تمنحني ضــوءاً جديداً وعيوناً جديدة،
أيضاً في كتاب «يخطئ الموتى» .وغني ووجدتني أط ّل منها على عوالم جديدة،
عن القول أنهما فجوتان لم أق َو حتى اآلن عوالم جعلتني الشغوف المتعلق الذي
على ترميمهما ،وال أظن ذلك (يرحمهما يتمتم لنفسه دائما :هذه نافذتي ،هذه
اهلل) ،وربما كانت تلك النافذة من معلم نافذتي السرية! ومنذ ذلك الحين وأنا
كان يحكي لنا» ألف ليلة وليلة» ،أو من أتبعها أينما ذهبت ..نافذتي التي منذ
مسلسالت العربية الفصحى بالتلفزيون، ذلك الحين لم تأفل ..ويرعبني جدا أن
وأخــص هنا ممثال لبنان ّياً هــو «رشيد يحدث ذلــك ،تلك النافذة ال أعلم من
عالمة» ..إن تلك النافذة خرجَ ت عليّ أين جاءت بإطارها ،بحديدها ،بخشبها
من حكايات كنت أختلقها ألتــرابــي في
الحارة وليدةَ لحظتها إ ْذ يتحلّقون حولي
مشدوهين ،و ِلـ َم ال تكون من معلم اللغة
العربية في الصف األول متوسط الذي
أهداني في طابور المدرسة الصباحي
ُكتُبا للمنفلوطي وغيره لكوني من أوائل
الصف ،أو إنها تسلّلت إليّ من األغاني
التي كنت أحبها ح ّد أني خصصت لها
دفتراً أكتبها فيه؛ ال أدري حقيقة كيف
انفتحت تلك الــنــافــذة الــتــي قــد تكون
أخشابها احتُطبت من حدائق المراهقة
وورودهـ ـ ــا الــقــصــيــة ..ثــم ج ــاء تعرفي
على عبداهلل السفر بالمرحلة الثانوية
وانسجامي معه ليصقل تلك النافذة
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 116
محور خاص
ويزيدها لمعانا ،ثم انفتاحنا معاً بعد
ذلك على أحمد المال ليزيدها اتساعاً
ووهجاً ،ولنشكّل ثالثيّا نقياً في أوائل
الثمانينيات؛ ثالثياً ما تزال شجرته تنمو
وتعلو ،تــوزّع ظلَّها ،وترسل جذورها في
الشفيف والحميم ،أبع َد وأبع َد وأعمق،
حتى هذه اللحظة.
117 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
دعه وشأنه .أنت في كل نص ينبغي أن
تتحوّل ..أن تنبت في أرض أخرى ،وأن
يكون الحــتــراق جذعك عب ٌق آخــر ..كل
مرة تقدُم فيها على اجتراح الكتابة التي
تولد فيها من جديد يكون لك اس ٌم آخر
وقشرة.
وأتحدث إليهم!..
ّ كأنني أخاطبهم
أحمد المال و إبراهيم الحسين و عبداهلل السفر
¦رغــم تــدفّ ـقــك الكتابي وغــزارتــه ،إال إنك
ρكـ ّل نص إن لم يكن وجهاً آخــر لك فال
ف ــي ال ــوق ــت نـفـســه شـحـيــح ال ـح ـضــور في
تر ّد عليه؛ وكل كتاب إن عرفت صوته فال
ال ـف ـض ــاء ال ـث ـق ــاف ــي واالجـ ـتـ ـم ــاع ــي ،وإن
حضرتَ فبكثيرٍ من الصمت واإلصـغــاء. تفتح له ،مهما طر َق بابك؛ وكل كلمة سبق
كأنما تحضر ومعك رفيقتك العزلة .هل وأمسكتَ بقرونها وتحسّ ستَ ظهرها فال
هذا صحيح؟ تكلّف نفسك مالحقتها والجري وراءها
محاوالً اصطيادها! ث ْق أنك بذلك تعوي
ρصحيح ..صحيح ..أنا أعيش في عزلة
عوا ًء ج ّر َح حنجرتك من قبل ،وال طائل
شبه كاملة .أحيا عزلتي منقطعاً ومخلصاً
للقراءة والكتابة ،وهذا وضعني في جهة مــن ورائـ ــه ..ع ــوا ًء لــن يخيف أح ــداً أو
تزداد ابتعاداً عن الجميع ،وجعلني أق ّل يلقي في قلبه الرعب أو يدهشه ..عوا ًء
حضوراً ثقافياً وحتى اجتماعيا ..حتى لن تلتفت األشجار إلى جهته أو تخشى
وإن ح ــدث وألــقــتــك الــصــدف لحضور على أوراقــهــا مــنــه ،وكــ ّل حــرف عرفتَ
اجــتــمــاع ألصــدقــاء ،تــكــون األق ــل كالماً آثــار أقــدامــه فــا تتبعه وال تناد عليه؛
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 118
محور خاص
حتى وإن تكلمت فإنك فقط تلقي نصاً ρخلف هذا السياج الجميل المورق ليس
لي إال النص أتنزه فيه ،وأجد هناك كل محفوظاً لديك ألحد الجميلين ..نصاً
الذين أحبّهم ،األحياء واألموات ،يدخّ نون لم تجد مفراً لك من حفظه وامتالكه،
ويضحكون .بسام ودروي ــش ..وسركون لــمــحــمــود درويــــش أو بــســام حــجــار أو
هذا الذي اسمه وحده يستفزّني للكتابة.. وديع سعادة ،أو نصاً مترجماً مثل نص
اســم ســركــون وحــده يجعل القلم يترك «إذا انجرح القلب» للشاعر االسترالي
مكانه يجيء ويحكّ َفـ ـ ْروَه بــي .سيلفيا مايكل لونغ من ترجمة المختلف شعراً،
بالث التي تتحدّث بفرح عن خالصها، وترجمة :سلمان الجربوع .أحفظ هؤالء
وغيرهم ،أردّد نصوصهم أثناء المشي
وفرجينيا وول ــف الــتــي تبني صــروح ـاً
اليومي ،كأنني أخاطبهم وأتحدّث إليهم،
بحجارتها وتعلّمها السباحة في البحر،
والجميل أنهم يصغون إلــيّ ويفرحون،
وســاره كين التي تحضر كل مرة بحذاء
بنصوص
ٍ ويردّون عليّ في أوقات أخرى
جديد بأربطة تضفرها على هيئة ربطة
ظل مِ ن نبرةَ
أكتبها أعرف أحياناً أن فيها ّ ً
عنق .كذلك الشاعر الصيني خاي زي أول
ورو َح فالن أو فالن ،وقد أذهب أحياناً
مَن يحضر ،وتجده يلعب بالقطار الذي
إلى أحد المقالع وأجلب ضحكة كبيرة
أنهى حياته تحته! أما إيف بونفوا فدائماً
أس ـ ّد بها الــفــراغ بيني وبينهم ،أو أقف
ما يتأخّ ر ،وأعــذره؛ ألن دوف مسيطرةٌ عليها فقط ألصبح مرئيا ،أنا صامتٌ ف ّذ
ال أجيد التنظير وال الحذلقة ،وفي هذا
الصمت أستطيع أن أصغي إلــى خُ طَ ى
النص الجديد الخافتة وهو يتسلل ،وأن
أتبين جهته وأش ـ َّم رائحة عرقه .عيو ُن
النص تضيء حتى في الظالم أو العتمة،
لــذاك أحفر صمتي أكثر وأجعله أعمق
وأكمن له ألمسك برأسه.
119 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
ينتبهون إلى ارتجافك ،فيدثرونك بعباءتهم على قلبه ودائما ما تستبقه ليطلعها على
مربّتين عليك وال تكتب «اإلشــارات» ،قل مكانها وأين كانت تتفتح في حلمه ،وبوول
لــي كيف يلقي عليك المطر قــولــه وال شاوول الذي كثيراً ما أصادفه خارجاً من
تكتب توقيعاته ،المطر متصوف أيضاً، كتابه «كشهر طويل من العشق» .سعدي
إن مسّ تْكَ لغته فابحث لك عن جبل يقرأ يوسف انقطع فترة ،وعندما صادف وجاء
عليك ،إن كنت ال تعلم ،أو كيف يفلقك بوردته الثلجية قلت له افتقدناك ،فأجاب
البرق بجماله وال تصدَع .قل لي ..قل لي، كنت أتسكع في قاف القيروان ،وأنتظر
هؤالء المتصوفة عليك أن تضع الموت إجابة عُقبة على سؤالي له« :عقبة أين
في حسبانك عندما تذهب إليهم تقعد الخيول؟ وأين نريد الوصول؟» ،كنت في
تمس ركبهم أيها المريد.
قبالتهم رُكبك ُّ سبابة الفتاة الفلسطينية التي مرّة قالت
لي ونحن بين الصيادين في بيروت ،من
الحي الذي يزورك!.. ُّ كنزك
هنا تأتي طائرات العدو ،وكانت سبابتها
تمسح الــعــالــم كــلــه ،ســعــدي ال ــذي كــان ¦وأن ــت ابــن األح ـســاء ..فمن الـمـعــروف أن
ال ـم ـكــان ل ــه دور ف ــي تـكــويــن ال ـشــاعــر ،ما حاضراً باسمه في مجموعتي األولــى.
أث ــر األح ـســاء بطبيعتها وخصوصيتها وأذكر أن أول من لفتني إلى سعدي هو
التاريخية والثقافية في تكوين الشاعر الجميل فايز أبــا ،الــذي قــال عني ذات
إبراهيم الحسين؟ حديث في جريدة عكاظ «سيكون له شأن ٍ
إن نأى عن الضجيج اإلعالمي ،هؤالء هم ρيخرج عليّ نص أحياناً أرى فيه ظالالً
حميمة ،وأرى فيه سقوفاً واطئة ،وجدراناً األحبة ..هؤالء هم األخيار واآلباء ،حتى
ليست غريبة علي ،أقترب أكثر وأقف بين أراغ ــون كــان يحضر وليس على لسانه
جُ مَله محدقاً أزيح فاصلة أو أي عالمة غير «مستقبل اإلنسان الطير» ،ومحمد
أخرى؛ ليتجلّى لي زقا ٌق بكامله بصراخ الثبيتي يجيء بكفيه المملوءتين برمله
نــوافــذه وزعــيــق أبــوابــه وط ــاء جــدرانــه المتورم «أدمتَ مِ طال الرمل حتى تورّما».
الحائل ،يحضر بألعابه وشجاراته فتتضح ولن أنسى في هذا الحشد أولئك العظام
لي منابع ذاك النص وأدرك من أين قدِ م، الروحانيين :النفري والتوحيدي وابن
كما حدث في نص «فتاة دائرة التراب» عربي والحالج وغيرهم من المحروقين
المنشور فــي ملحق الثقافي بجريدة باللغة ح ّد التفحم ..يعبرون ويومضون
عكاظ ( 23فبراير 2024م) ..الطفولة متعجلين ،فهم مشغولون بمحبتهم ،كيف
وتفتحك األول هي ثــروتــك ،هي كنزك تجاورهم وتحفظ لهم وال تتصوّف .قل
ال ــذي لــن يستطيع أيــاً كــان أن يسرقه باهلل كيف تكون في حضرة هؤالء الذين
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 120
محور خاص
عن تجليات المكان وحــضــوره الصارخ منك ..كنزك الحي الــذي يــزورك دون
فيه. موعد ،ويتفقّدك ،ويضع وردته في دمك
قبل أن يغادر ،ليعيد إليك توازنك ،وليقل
مدن تصافح هواءها!..
لك أنــا موجود وحــيّ ،فال تــدع الظنون
تتالعب بك ،أيام تحوّلك ،كأن هناك من ¦شاركت في أمسيات ومهرجانات شعرية
محلي ًا وعربي ًا ودولي ًا ومنها ..في صيف دفعك من الخلف ليوقعك ،فتدرك على
عام 2005م ،كانت لك مشاركة في مهرجان نحو غامض أن هناك ما يحدث ،أيام
«لوديف» وفي عام 2006م ،شاركت في أيام شــرودك ،الذي جعل منك فــرداً مختلفاً
سعودية بجمهورية مصر العربية ،وفي األمــر الــذي حــدا بوالدتك أن تسميك
راب ـطــة األدبـ ــاء بــالـكــويــت فــي صـيــف عــام «بــو َفــكــرة» ،األم ــر ال ــذي جعلك تخرج
٢٠٠٩م ،وفي مهرجان المتنبي بسويسرا عن تحفظك وتتهور وتخط على جدار
فــي رب ـيــع ٢٠٠٧م ،وأي ـض ـ ًا بـفــرنـســا كانت بيتكم في الحارة شيئاً من شغفك النيء،
لك مشاركتان في عامي 2011م2015-م، شيئاً من جنونك األول ،شيئاً جعل إمام
في المهرجان السنوي الشعري «أصوات المسجد يقف ويتأمل ويقرأ ما ارتكبته
ح ـي ــة :م ــن ال ـم ـتــوســط إلـ ــى ال ـم ـتــوســط» بصوت ما أزال أسم ُع ُه وأميّز نبرته.. ٍ
ب ـمــدي ـنــة س ـي ــت ال ـف ــرن ـس ـي ــة ،ف ـض ــا عــن المكان سلطة تبسط نفسها عليك وعلى
مشاركاتك الشعرية المحلية في األندية أحالمك ،فتجد نفسك تتدفّق وتجري
به ،حتى وإن حدث وأزيل ،فإن حجارته
تبقى فيك ،كما حدث لسوق القيصرية
ذي العبق التاريخي ،والذي احترق ورأيت
الدخان يتصاعد منه .ومن ذكرياتك به
مع إخوتك ووالــدك ،هكذا بهذا السواد
الموجع اقترفت نص «القيصرية» الوارد
فــي كــتــابــي الــثــالــث «انــــزالق كعوبهم»،
ال ليصل إلى نصك، فالمكان ال يسأل دلي ً
واألدهى أن نخالته ال تمد جذورها في
األرض وحــســب ،بــل فيك ،وأنــك تنظر
أحياناً في المرآة ..فيختلط عليك األمر،
كأنك رأيت جذعاً وسعفات ،كأنك سمعت
اندفاع ماء ،كذلك نصك ..فهو غير بعيد
121 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
هناك ..أو ماذا تقول عن سركون بولص
الــذي التقيته بـــ «لــوديــف» وكنا نسكن
فندقاً واحــدا ،سركون الذي مجرد ذكر
اسمه لي يحرّضني على الكتابة ،وكيف
انعقدت بيني وبينه آصــرة الشعر ،منذ
خرجنا تلك الليلة من الفندق متوجهين
إلى إحــدى الــقــراءات ،وكــان و ْقـ ُع خطانا
يهزج لنا ويشعرنا أن حدثاً غير عادي
باالنتظار منذ تلك اللحظة التي قرأت
نصه «أيّها الجالد /عُد إلى قريتِكَ له ّ
الصغيرة /لقد طردناكَ اليوم ،وألغينا
هذه الوظيفة» .ليتك سمعت ضحكته أو
رأيته كيف يصرخ« :لقد ع ــااااد»! وإني
ألتساءل حتى اللحظة :كيف استطاعت األدبـ ـي ــة وج ـم ـع ـيــات ال ـث ـقــافــة وال ـف ـن ــون،
خيمة الــطــوارق بــلــوديــف أن تثبت في ه ــذا يــدفـعـنــي ألســألــك عــن أهـمـيــة هــذه
مكانها ،كيف لم تطر في السماء ،عندما المشاركات للشعر والشاعر؟
قــرأ ســركــون قصائده بــهــا ،ال أظــن أن ρالمهرجانات تعني المدن؛ مدن تصافح
األوتــاد هي السبب ،وال تحديق سركون هواءها أوّل مرة أو تعيد عبّ الهواء أكثر
في البعيد موارباً عينيه كما لو أنه شُ بِّه وأكــثــر ..تعني إغــنــاء العين والــذاكــرة..
له قــدو ُم أحـ ٍـد كــان يتحينه ،أنــا رجّ حتُ ـصــك فــي وســيـ ٍـط مختلف تعني حــيــاة نـ ّ
فيما بعد غير متأكد أن السبب هو بياض ومــع شــعــراء مــن كــل الــلــغــات ..ثــم هذه
أسنان ابتسامة الطوارقية؛ المنفرجة المهرجانات تعني اللقاء بشعراء تحبّهم
ترحيباً بنا أنا وسركون وميسون صقر، ويعنيك أن تلتقي بــهــم ..وليس تباهياً
تلك االبتسامة الساحرة هي من ربط أن أقــول أني التقيت بخزعل الماجدي
على قلب الخيمة ..ثم ال أظنك تبقى صاحب «خزائيل» بسويسرا بمهرجان
كما أنــت عندما تجاور عباس بيضون، المتنبي الشعري العالمي ،خزعل الذي
وعبده وازن ،أو نوري الجراح ،عدة أيام أهديته نصاً في «حضرة خزعل» والذي
في مدينة «سيت» وتقرأ معهم على طاولة نشرتُه في مجلة «كلمات» البحرينية دون
واحـــدة ..أو تغنيان معا أنــت والشاعر أن تكون لي به أي صلة غير جَ مال الشعر،
اإليراني گرّوص عبدالملكيان ،صاحب وليتك تتصور فرحته بي عندما التقاني
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 122
محور خاص
مطلق ،تجلياتها بشكل يومي صقلتني، «الــســطــور تغيّر أماكنها فــي الــظــام»،
ال عــن طالقة ألــوانــهــا وشساعتهافض ً فتتطاير مــن فميكما نــجــوم ،أو تذهب
التي تستطيع أن تركض فيها ما شئت بعيداً في شوط الشاعر المغربي عزيز
حتى تستهلك لهاثك ،حتى تشعر بالخفة، أزغ ــاي ،صاحب «رصــاص الموناليزا»،
حتى تكتشف أن لك ريشاً ينسيك أنك إلى أن يعلِّيك عالياً جداً حديثُ الشعر.
معلّم ووكيل مدرسة فتختبئ منزوياً في هكذا تفعل المهرجانات ،وهكذا تجعلك
أحــد أركانها ،بعيداً عن الطالب وعن صالحاً غير عارف أنها تبذر فيك دون
المعلمين ،تقرأ وتكتب لــلــوردة .الــوردة أن تدري طيلة وقتها ،لتعود وتكتشف أن
منحتني سماوات عديدة ،لم تضجر ولم هناك حصاداً وفيراً وعليك أن تعتني
تسأم .ال يستطيع أن يدرك جمال الوردة ب ــه ،مثلما ح ــدث فــي صــيــف ٢٠٢٢م،
من لم يكتوِ بنارها .ال يستطيع أن يتعرف بعد العودة من مهرجان الشعر العالمي
على روح الــوردة إال من كسرَت الــوردةُ بمدينة سيدي بوسعيد بتونس ،فقد كتبت
عزلته ،رافقته والزمته حين عرفت أنه نصوص «مشقة اإلياب» ،والتي نُشر جزء
أحد الذين أصابهم الشعر وصنعهم على منها فــي مجلة «الفيصل» ،ثــم نُشرت
عينه ،فأنا اآلن وأمامك أنحني للوردة كامل ًة في موقع «الكتابة» اإللكتروني ،أنا
التي جعلتني في مقام الجَ ذْبة أدور في لم أكن مصدقاً أن لدي هذه القدرة على
حياضها وأرق ــص على إيقاعها ،أَدُو ُر الكتابة بهذه الغزارة؛ لم أكن مصدقا أنّ
وأدور وتتّس ُع روحي في اسمها ،وتصير فيّ هذا الوترَ ،والذي كان بحاجة فقط
عيني بأبيضها وأسودها كلّها وردة. إلى أصاب َع المهرجان ،وإلى وجوهه وإلى
هوائه وبحره وأغانيه؛ ليرنَّ !
كتبتها ألني كنت غارق ًا في لوعتي!..
¦أنت من أوائــل الذين كتبوا الشذرات في دَ وّ ار الوردة!..
الساحة المحلية بـ «اإلشارات» التي ن ُِشر ـصـتــك م ــع ال ـ ــورد الـ ــذي كـتـبــت عنه
¦م ــا قـ ّ
قـســم مـنـهــا ف ــي مـجـلــة «ك ـل ـمــات» (ال ـعــدد ديوان ًا كام ًال ( َدوّار الوردة) ،وما تزال تكتب
١٩٨٩ /١١/١٠م) ث ــم ُن ـش ــرت كــام ـلــة في وتكتب..؟
مجلة «مواقف» (العدد المزدوج .)٦٢/٦١ ρأود أن أعــتــذر لــلــوردة عــن هذياني بها
حدّ ثنا عن هذه التجربة؟ على مدى كتاب كامل « َدوّار الوردة» ،فقد
وضحتَ ،بـ كانت متنفساً لما يعتمل فــيَّ ويشتعلρ ،كتبت الشذرات ابتداءً ،كما ّ
«اإلشارات» ،ثم «ساللم كثيرة ،وهذا الوله استطاعت الوردة أن تصبر وتصطبر عليّ
عال وأزرق» ثم توقيعات للمطر -نُشرت ٍ بكل جمالها ،فالوردة رحبة وواسعة بشكل
123 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
وأزرق» كنت -حقيقة ولــيــس مــجــازا- في الملحق الثقافي لجريدة «االتحاد»
تائهاً وهائماً على وجهي ،كنت متوحّ دا اإلمــاراتــيــة فــي نهاية التسعينيات -ثم
بها ،فالشذرات تُخرِ ج األكث َر نقا ًء فيك تــوقــيــعــات لــلــبــرق ،وآخــرهــا مــا سم ّيتُه
وتــط ـ ّهــرك ،وعــنــدمــا تــبــدأ فــي كتابتها، «نصوص المرآة» .كتبتُ الشذرة ليس عن
فليس أنت من يختار شكلها أو هيئتها، وعي بأني أكتبها ،كتبتها ألني كنت غارقاً
هي تفرض نفسها عليك وتختار شكلها. في لوعتي ،كتبتها كما لو كنت أكتشف
الشذرات عنيفة وقاسية وقاتلة ،وأظن اللغة ،كما لو كنت أهــذي ،كما لو كانت
أني لذلك أتحاشاها وأتجنّبها. حُ مّى الشعر قد أحالتني جمراً .الشذرات
ه ــي الــلــغــة ف ــي أقــصــى حــاالتــهــا .هي
األهم هو شرارة الكتابة!..
عاصفة اللغة وزوابعها .هي اللغة عندما
تُجنّ وتقتلعك وتبدّد عظامك وتجعلك ¦ك ـيــف ت ـك ـتــب ق ـص ـيــدتــك ،بـمـعـنــى هـنــاك
شعراء ومبدعون يلتزمون بطقس معين شذرات .ال تتصور كم كانت مشقّة كتابة
أث ـنــاء الـكـتــابــة ،إبــراه ـيــم الـحـسـيــن كيف «اإلش ــارات» كم هي منهكة ،أنــت تصب
يكتب قصيدته؟ جام خبرتك باللغة ،تشعر أن في داخلك
جمراً عليك التخلص منه ،لكنه يتوالد ρأنا ليس لي طقس ال أكتبُ ّإل فيه ،أنا
أكتب في أي وقت وفي أي مكان بعزلة فيك ويَـ ـ ـ ُؤجّ .ال أظنها صــدفــة اجتماع
وب ــدون عزلة وإ ْن كــان أغلب نصوصي مــواقــف ومخاطبات النفري وإش ــارات
أكتبها في البيت ،أنــا أكتب ســواء كنت أبي حيان ،وجواهر ابن عربي ،وطواسين
وحــدي أو في جمْع ،فاألهم هو شــرارة الحالج وسيرته؛ إنها تغسلك أثناء كتابتك
الكتابة متى طفرت ،فهي التي تأخذك ثم تصهرك لتحرّرك من جميع الزوائد.
أخذاً وتخطفك بلمعتها ،هي التي تعزلك ليست مصادفة أن تصل بك الشذرات
وتبني حولك سياجاً أو مشيمة وتوقد إلى جوهرك ،وتجعلك تلمس أحجارك
عليك ،فقد تكون الــشــرارة مقطعاً من الكريمة التي تضيء حتى في العتمة.
روايــة أو مقطعاً من أغنية ،أو محض أذكر اآلن رواية «الخلعاء» لـ خليل النعمي
موسيقى ،أو مشهداً مــن فيلم أو في والمرصعة في جزءٍ منها بأقوالّ المطرّزة
شارع ،أو خَ بَرا أو لوحة ،فهي قادرة أن وتوقيعات وشذرات مألى بنبر ِة الخروج
تفعل ما تشاء بك ،وتجعلك تفور ،وربما والتمرّد ،أذكرها اآلن؛ ألنها كانت أيضاً
كانت الــشــرارة فــي وجــوم محاسب في مع من ذكرتُ على الطاولة ..ال تتصور،
مجمّع تجاري ،أو في لغة عربية مكسّ رة وه ــذه ليست مبالغة ،أنــي أثــنــاء كتابة
اعترضت طريقك ووقفت َ ّاك آسيوي لسب ٍ عال
شذرات «ساللم كثيرة ،وهذا الوله ٍ
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 124
محور خاص
التواصل االجتماعي .ما عالقتك بهذا أمامك بكامل حبرها ،وربما كانت نادالً
الفضاء ومدى حضورك فيه؟ فــي مقهى ..أذكــر أنــي كنت آخــذ كتبي
وأوراقــي إلى المقهى أقــرأ وأكتب ،كان
ρك ــن ــتُ ش ــدي ــد ال ــح ــرص عــلــى مــتــابــعــة
أمراً ملفتاً ومستغرباً ،منظرك وأنت تم ّر
الفيسبوك ،والكتابة هناك في صفحتي..
بين مقاعد وط ــاوالت المقهى بكتبك،
وأظنّ أن األمر ليس أمر «اليكات» أو ما
ولقد تناولت ذلــك في أحــد النصوص،
شابه .الموضوع أنك تتواصل مع أناس
فقد كنت «كمن يجرجر خرافا معاندة»
تحبّهم مثل صــاح فائق الــذي التقيت
تخيّل ذلك ،المهم أن تكون أنت -عندما
به في مهرجان الشعر بفرنسا ،كذلك
تأتي الشرارة تفتنك وتجذبك -خصباً
تواصلت من خالل الفيسبوك مع عيسى
لحظتها ومحروثاً جيدا؛ لتندل َع بك تلك
مخلوف ،ومحمد عمر بشارة -هذا الفنان
الشجرة ..لتهبَّ فيك تلك الغابة.
التشكيلي الجميل -ولؤي حمزة عباس،
وطــالــب عــبــدالــعــزيــز ،ومــبــارك وســاط، دعني في جنّ ِة الشعر ال أريد أن أخرج منها!..
هذا المجنون الذي ال تعرف كيف ترجم ـوجــه الكثير مــن الشعراء ¦مــن الــواضــح تـ ُّ
فينوس خوري غاتا ،تلك الترجمة الرائعة، لـكـتــابــة ال ــرواي ــة وال ـك ـتــابــة ال ـســرديــة في
وأجــبــرك على حفظها لكي تشعر أنك الـسـنــوات األخ ـيــرة ،هــل فــكّ ــرت فــي كتابة
امتلكت تلك النصوص وأنها ألقت عليك رواية؟
محبتها ..هؤالء وآخرون ،يعني التواصل
ρال أفكر أبدا في كتابة الرواية ،ألني ال أجد
معهم وقراءتهم ومطالعة أعمالهم؛ الثراء
في نفسي القدرة على كتابتها .دعني في
نصك ..كذلك ما تصادفه هناك
وإشعال ّ
جنّةِ الشعر ال أريد أن أخرج منها .أنت
في هذا الفضاء الذي اخترتُ منه نافذة
ال تتخيل فرحتي عندما أكتب نصاً ويكون
اإلب ــداع بألوانه العديدة؛ من موسيقى
جميال ،أخرج إلى الشارع أسلِّم حتى على
لـ «ياني» الــذي أهديته نصاً ،والثالثي
الحجر وأضحك له ..تريد أن تقول حتى
جبران الذين فُتنت بمعزوفاتهم ..كنت
للرصيف وتبشّ ره ،لقد كتبتُ نصاً ،تريد
أســتــمــع إلــيــهــم فــيــهـ ّيــجــون الــلــغــة ل ــديّ ،
وجيبَ النصأن تصرخ وتشقّ ثوبك ألن ِ
نصاً كضرب
وأعزف معهم بها وأهديهم ّ
ما زال عالياً فيك.
من االمتنان لهم والتحية تلوّح بها لهم.
والفن التشكيلي له نصيب من هذا األفق تتواصل مع أناس تحبهم!..
الرائع؛ كيف تتخلّص من انفعالك بلوحات ¦التعامل مــع الشبكة العنكبوتية أصبح
فريدا كالو إلى ح ّد البكاء إال بالكتابة. ش ــرط ـ ًا أس ــاسـ ـ ًا ل ـل ـم ـبــدع ،وم ـن ـهــا وســائــل
125 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
أوال؛ ألن هناك مَن التفتَ إلى وجودك، إن نــظــرةً ،مــث ـاً ،على مجموعة «على
وأش ــار إلــيــك ووضــعــك فــي دائ ــرة ضوء حافة لوحة في المنعطف الموسيقي»،
كشّ افه ،فكيف إذا كنت تخطو خطواتك أو «المصابة بالناي المارة بين أخشابه»
األولــى؟ كيف أذا كنت للتو بــدأت تلثغ، تبيّن كيف أني كنت غنيا بهذه الحدائق،
وتأتي قامة شاهقة مثل األستاذ محمد وسيتضح معنى كثرة اإلهداءات ،كل ذلك
العلي ويكتب عن نص «القهوة البتول» مــن أجــل أن تصرخ على الــمــأ ،هــؤالء
ال ــذي نشر بمجلة الــيــمــامــة ،أو يكتب مرّوا فيّ ،وأقاموا ،وبنوا صروحا ..فترة
نص
عنك عدة مرات بجريدة اليوم منذ ّ االنهماك الفيسبوكي كانت أشبه بالجنون
الـ «دندنة» ،فأي قواعد سيرفعها لك؟! إن لم تكنه ،لكنّ تهكير الصفحة -لم أس َع
ـف برنينها فيك.
ومــاذا ستفعل تلك األكـ ّ الستعادتها -قط َع عليّ وأخرجني من
بماذا سيجهّزك فايز أبا وكيف سيشد ذاك النعيم ،وربما ذلك الخروج كان في
ساعدك محمد الحرز أو نشمي مهنا.. وجه من وجوهه رأف ًة بي؛ ألن اللغة أحيانا
ٍ
عيد ستحدثه في ضلوعك ودمك
ٍ وأيّ تستيقظ فيها غريزةُ الضواري وتفترس.
حروف هناء حجازي عندما كتبت
ُ وجلدك
باهتمام وفرح بالغين!..
عن مجموعتك «يخطئ الموتى» بجريدة
الرياض ،أو تأتي ليلى األحيدب وتضع ¦كيف تقيّم ق ــراءة الـنــقّ ــاد ،أو المبدعين
المصابة بالناي الــمــارة بين أخشابه» ρقراءة أعمالي الشعرية ونصوصي المفردة
على صفحتها بتويتر؛ أال يفرحك ذلك من قبل النقاد أو من قبل المبدعين أراها
ويجعلك تتحسّ س عضدك ،أال يقول لك وفرح بالغين.
ٍ مهمة لي ،وأقرأها باهتمام
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 126
محور خاص
وتسرّح ألوانها فيّ كتاب ،كل أغنية تولع ذلك صراحة ،إن جنونك لم يذهب عبثا؟!
فيّ وكل وجه يشعل مالمحه لي ويقذفني ثم لماذا نذهب بعيدا ،قل لي أيّ صخر
في أتــون اللغة كتاب ،كل حكاية تضيء يجعلك عبداهلل السفر تقف عليه عندما
أصابعي وتصيّر بياض عظامي مرئياً يتحدّث عنك في برنامج إذاعي أو يكتب
كتاب ،وأنا مكتبتي التي تربيني وأربيها، بزمن بعيد ينشر لك
ٍ عنك ،أو قبل ذلك
تلبسني ثياباً جديدة وتمشط شعري كي عبدالقادر الجنابي في مجلة «فراديس»
أشرق ،فما تقوله الصفحات التي آوتني أو أدونيس في مجلة «مواقف» وغيرهما..
ال أنكره؛ فلي ساعة أخترع فيها مياهي أال يجعلونك جميعاً تــرى أن لك سقفاً
وأقــول إنــي قــرأت واغتسلت ،ما تقوله عاليا ،أليس هذا مديحا؟ والحديث يطول
عني الكلمات التي جرّحت جلدي أدغالها عن المديح الذي أنت بحاجة إليه أحياناً
ال أفنّده ،ما تشيعه الحروف التي سوت لتغسل وجــهــك وروح ــك مــن اإلحــســاس
لي األرض ،وقالت :امش أيها النائح من بالالجدوى الذي ينتهكك أحيانا ،لتعيد
رأسك حتى أخمص قدميك ،ال أمحوه ،ال تنظيم صفوفك تُغِ ير وتغزو ..تعيد بناء
أعالجه ،بموارة أو إشاحة ،وال أموهه ،بل جرأتك وتحاول مجددا ..تجترح وتقترف
أخطه على الجدران واألبــواب ،ال ِألقول الكتابة .كل ذلك كان أوالً ،وثانيا وهذا
إني مررت ،وال ألقول إني كتبت ،بل أللهج مهم أعني النافذة المتوارية في كتابتي
مــع الــهــواء الــذي ألــوذ بــه ،كلما وجــدت وفــي نصوصي ..هناك َمــن يكشف لك
نفسي في اللغة تعينني وتقلني إلى الجهة أشياء في نصك كانت غائبة عنك!
التي أريد ،وترفعني في أغنية أو نشيد!
لي ساعة أخترع فيها مياهي!..
أنا مكتبتي ذات النار أدخلها كلما أردت
التخلص مما ليس مني ،وكلما أردت أن ¦فـ ـ ــي نـ ـ ـظ ـ ــري مـ ـ ــن ال ـ ـم ـ ـهـ ــم أن ي ـت ـع ــرف
أنصهر وأستعيد وجهي! يحط الكتاب بين ال ـقــارئ بمحتوى مكتبتك ،لـيـضــيء له
كفّيّ وعلى كتفي ،يطير في روحي فيهدل ال ـخ ـصــوص ـيــة ال ـث ـقــاف ـيــة لـ ــدى ال ـشــاعــر
يعلماني الطيران مذ تكاثرت فيَّ الكتب ρأنــا مكتبتي ،كل شــارع يُهديني إسفلته
وصار لها بي مدن وأز ّقــة ،رفوف وضوء كتاب ،كل شجرة تفتح لي جذعها وتسميني
رائحة ولــوعــة ،مذ صــار صوتي حفيف غصناً بها كتاب ،وكل ظل يرتجف بأوراقه
صفحات ،مذ صار اسمها اسمي!.. ونسائمه ويرجّ فني كتاب ،كل لوحة تعبرني
127 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
االنفعال الشعري مع الوجود وإدراكات الوعي
في نصوص إبراهيم الحسين
■ كاظم اخلليفة*
في لحظة تجلي وانبهار ،عبّر الشاعر األمريكي مارك ستراند عن طقوس تلقّ يه
لبعض قصائد الشعراء على أنها «أكلٌ للشعر» والتهامه؛ فهكذا ستكون مع إبراهيم
الحسين أثـنــاء قــراءتــك لنصوصه وتلقيها .فقصائده تستدعي جميع حواسك
وتحشدها جميعها؛ ألن حاسة واحدة ال تقوى على التعاطي معها ،وألنك تستهلك
تلق جمالي يالمس مشاعرك للحظة ثم يغادرها. شعره ،وال تشعر أنه مجرد ٍ
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 128
محور خاص
129 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
عليك اإلســراع أكثر هنا عند قراءتك المحرقة ،وأن دافعيته ذاتية محضة وقد
لــنــصــه ،فــجــمــيــع م ــا ســبــق م ــا ه ــي إال انبثقت من وعي الذات بوجودها:
«لم أكن هارباً، اف ــت ــراض ــات ومــقــدمــات إلـــى م ــا يمهد
ولم يكن هناك للوصول إليه .فبعدها ،يدخلك الشاعر
مَ ن يالحقني، إلى اللحظة الحرجة من الوجود ،ومنتهى
عندما ركضت شقاء الكينونة بتعاملها بكل جدية مع
في الممر المتوهج.».. مشاكل الحياة لمواجهتها .هــي ليست
مجرد مصالحة مع الوجود؛ بل من خالل
فما يمكن أن يظفر به اإلنسان سيكون
تفهمه لطبيعته التي تفرض على الوعي
أكبر من مشقته في مسعاه نحو النور،
أن يبقى فــي منسوب ح ــرارة عالية من
وهو المعنى الذي يمكن أن يحققه ويبينه
االحتراق حتى يرى الواقع على طبيعته
الشعر؛ باعتبار أن الحقيقة الشعرية
ولــيــس بــحــســب مــشــتــهــاه أو رغــبــة منه
تتوازى مع مفهوم االشتغال الفلسفي في
لالستكانة.
الكشف عن حقيقة الوجود كما يرى هذا
إبراهيم يرى ذلك ،ويعد الشقاء ضريبة المعنى والتر ستيس .الشاعر هنا يقرر
لعدم تغييب الوعي ،فاإلحساس بالوجود ذلك:
هو الحضور الكامل في هذا العالم من
«ثمة نبعٌ
دون أي غفلة:
في اليد
يمكن
ُ ال النعاس
ُ «لكي يأخذك
إنكاره.».. ينبغي أن تكون بال وردٍ
وال حدائق!»..
أخيراً ،لنا القول إن نصوص إبراهيم
الحسين الشعرية تتعالق مع الحياة بوعي،
في نص ممر!..
الشاعر يُكمل المعنى في نصه التالي وإنــنــا ال نتطرف بــالــرأي عندما نقول:
«ممر» ،ويدلل على أن اختياره الصعب إن الشاعر إبراهيم قد أرضــى جمهور
للعيش بكامل وعيه هــو الصحيح رغم القصيدة النثرية ،وأيضاً صالحها مع غير
مــا يمكن أن يواجهه مــن عقبات .ذلك مريديها ،واستدرجهم إلى قــراءة شكلها
هــو ق ــراره بارتحاله تجاه نــور الحقيقة الشعري!
* ناقد وكاتب سعودي.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 130
محور خاص
م َو ِّق ُ
ع بوميض البرق! إبراهيم الحسين ..ال ُ
■ آدم فتحي*
ينتمي إبراهيم الحسين إلى عنقود الشعراء النادرين ،الذين يعنيهم أن يكتبوا
الـشـعــر ،وال يعنيهم أن يثبتوا أ ّن ـهــم ش ـعــراء! فالكتابة بالنسبة إل ـيــه ،كــالـحـيــاة..
استحقاقٌ ال يحتاج إلــى إثـبــات؛ لــذا ،فهو يكتب ليتحاور مــع العالم ال ليعلّمه؛
بنفسهِ ال ليسيطر على أحد .الكتابةُ ليسأل ال ليبرهن؛ ليقاسم ال ليمتلك؛ لِ ي َُجو َد ِ
بالنسبة إليه كالحياةِ ،صـ َلــةُ ُح ــب ٍّ ،يتحرّر عــن طريقها طرفاها :الشاعر الكاتب
والشاعر القارئ!
ثيابهم الــتــي خلت منهم ،تــعــرف ذلك مديحا للغياب!ً الشعر..
كتاب ٌة تتوهّ ج بصوت خافت وإن كان من تشظيهم في صوتك ومن شجرتهم
شديد الــوضــوح .مؤانسة ضوئيّة في السوداء نبتت فجأة في دمك ال تعرف
العتمة تتحدّث عن الحياة وعن األحياء من غافلك وغرسها»...
(من قصيدة الموتى يُخطئون). وبسخرية عاشقة .أليس
ٍ بأسً ى َم ــرِ ٍح
الشعر أف ٌق وراء األفق!.. الغائبون أكثر قربًا من بعض الحضور؟
أليس أحياءُ اليومِ موتى الغدِ المُمكنين
يكتبُ الكثيرون دفاعً ا عن مواقعهم أو الكامنين؟ أليس الشعر مديحً ا للغياب
وعن شرعيّة شعريّتهم .أمّا هو فيترك حتى حين يخطّ ُئ الموتى؟
للكتابة أن تــدافــع عــن نفسها .ذاك
« ...يخطئ الموتى حين يقامرون دأبه منذ سنوات .ما إن يرتفع صخب
بــهــذا الــمــوت ،ال يــعــتــذرون مــن أريكة الــبــيــع وال ــش ــراء حــتــى يــعــتــزل الــســوق.
تهضبت أكثرَ ،وتوتر نسيجها منذ النهار منذ سنوات وهو يكتب بلحمه وحلمه.
يسقط يضمّد الكلمات ويقرأ الكُلوم .يصال ُح ْ األولِ لخطئهم الــصــارم ،ولــم
لهم ظــل ،وحين تضاءلت روائحهم لم بين شــروط االلــتــزام وشــروط الشعر.
يــحــاو ُر قيم اإلنــســانـ ّيــة حيثما أمكنه يدعموها بجسد أو حتى قطعة منه.
يخطئون وال يفكرو َن بالتراجعِ عن صوغها جماليّا ،تاركًا الزحمة الشعرية
فــداحــتــهــم ،يــخــطــئــون وي ــص ــرون على تختصم في أيّها أجمل أو أحدث :بيت
131 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
البرق بال صفحات. ِ كتاب
«ُ ... الشعر أم تفعيلته أم قصيدة نثره؟ مرفرفًا
ـك أن ي ـك ــون بـنـفـسـجـ ّيــا؛
ع ـلــى ل ـه ـ ِـب ق ـل ـبـ َ خارج المعارك الزائدة التي تنتجها نهايات
لتقرأه عليك ،أن تضيء بشدّ ة ،وتلمعَ.. الحروب ،بعد أن أدرك أنّ الشعر أف ٌق وراء
وع ـلــى ال ـ ّـش ــرر أن يـتـطــايــر م ـنــك؛ لـتــدرك األف ــق ،أعمق مــن النثر وأوس ــع مــن البيت
معناه!»... وأرحب من القصيدة.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 132
محور خاص
أوركسترالية متمنّعة بعض الشيء .تخالها إذا
تسرّعتَ «سمفونيّات متعالية»؛ لكنّك ،ما إن
تمعن النظر حتى تكتشف أنّها قريبة منك،
مثل حكاية شعبيّة يقيم فيها الجميع تلك
اإلقامة الشعريّة العزيزة على هولدرلين؛ مثل
أغنية شعبيّة ،تفتح صدرها لما ال يحصى
من الشخوص والشخصيّات التي تتألّف منها
طبقات الكون ،وشيئًا فشيئًا إذَا هي أقدام
يرقص بها الجميع ،وشفاه يتكل ُم بها الجميع:
« ...النازفون من أمــل ،الخائفون ألنهم
الشاعر آدم فتحي رأوا أعمارَهم تب ّق ُع قمصانَهم؛ فهربوا من
تلك النهاية برأس مرفوع .تلك هي السمة ســطــو ِة ال ــح ــروف ،واخــتــبــأوا تــحــت نسيجِ
الغالبة على سحنته وعلى نصوصه؛ إنّها ذهولِهم؛ الالئبون في األسى يقرأون سطو َر
هشاشة الشعراء البتّارة. وحشتهم في ضبابِهِ ،يُ َهد ِْه ُدهُم النّد ُم كي
يوقظ بعويلِهِ أوهامَهم المريرة؛ الغائبون َ ال
يقول من «توقيعات للبرق» ،كأنّه يخاطب الشاعر: في الغيم؛ النائحون في السر؛ الخارجون
« ...أنت البرق الصمت؛
ِ على ثيابِهم يَ ْع َروْن في اللغةِ وفي
جلودُهم واضح ٌة يو ُّد أحدهم لو أن لبساتين
الضوءُ كلَّ كلماتِكَ وتَ َركَكَ بِال ف ٍَم».
ص َد ّ
حَ َ ذراعــيــه شساعة أحــامــه ..السائلون في
خلفإنّه يُشهِ ر هشاشتَ ُه على العالم من ِ الصاعدون الضالون في قاعِ األغاني؛ ّ الندى؛ ّ
قاطعة
ٍ شفافة كقطر ِة الطلّ،
ٍ ابتسامة
ٍ ِظـ ِّل في النشيد؛ الغارقون في حنطةِ أيديِهِ م،
كح ِّد الشفرة ،هشّ ٍة كجناح الفراشة .يكتب ال ننساهم َفي َِجفُّون ،وال نتذكّرهم فتتبرعم
بنفسه كلّها ،بك ّل ما يل ّم به من فُيوضات تنبع وجوهُهم وتتدلّى على امتداد الروح»...
منه وتفيض عليه. (من «طويلة هي ابتسامتك»).
نص مختلفًا
لذلك ،تجده يخرج من ك ّل ّ السمة الغالبة على سحنته وعلى نصوصه!..
عمّا كان لحظة دخوله ،مرتعدًا مرتجفًا كما يــكــتــب إب ــراه ــي ــم الــحــســيــن بــعــي ـدًا عن
كــان ،إ ّال إ ّنــه يقطر بك ّل ما انغمس فيه من «األغــــراض» ،لكنّ «غــرضــه» الحقيقيّ هو
ألم وأمل ومسرّات وأوجاع .هكذا ،يطلع من الحياة؛ حياة تقود الجميع إلى حتميّتها ،تورث
«مخاضاته» ،شــذرات تنسى نفسها لتؤلّف الشعراء نوعً ا من الشجن البهيج ،ومسحة من
بين شظايا العالم؛ تخنقه العبرة حين يقرأ الحزن يغالبها الشاعر بشيء من السخرية
«دفقاته» فال نعرف هل هو يبكي من فرح أم الحييّة؛ ظ ّل ابتسامة تفت ّر عنها عي ُن ذاك
من وجع .وكيف ال تومض دمعة الشاعر الذي الذي ذهَ بَ إلى آخر الشوط ،وعرف أ ّال شيء
يُ َو ّق ُع بوميض البرق. هناك غير النهاية؛ لكنّه ،معنيٌّ بالتقدّم من
* ناقد وشاعر تونسي.
133 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
هل يخطئ الموتى؟
«إلى الصديق الشاعر إبراهيم الحسين صدى لكتابه»
■ عبدالوهاب أبو زيد*
يخطئ الموتى!
هل يخطئُ الموتى؟ أجل ولربما
بحثوا فلم يجدوا لسانًا أو فما
حرقوا مراكبهم ،ولم يجدوا لهم
منجىً يعيدهمُ لما كانوا وما/
دليل واحدً ا ً تركوا وراءهمُ
الموت ساعة خيّما ِ عمّ ا وراء
لما سألنا :ما وراءك؟ ما الذي
تخفيه يا بابًا خف ًّيا مبهما
هل يخطئ الموتى؟ الخطيئةُ أنهم
وارتمت
ْ كلماتنا ارتبكت أمامك
صعدوا وما تركوا إليهم ُسلّما
طفل تمتما ً فوق الشفاهِ كأنَّ
يا أيها الموتى استقيلوا مر ًة
تحطمت
ْ موت يا صن َو الحياةِ يا ُ
من موتكم! ال تتركونا مثلما/
قليل ريثما/ كالموج فوقك :غب ً ِ
ّحت
تُركت بباقتها الزهو ُر فصو ْ نحيا مع من ال نطيقُ فراقهم
وذوت غدا َة الفقدُ صار محتّما أبدً ا ،وال تذهب بهم نحو السما
عودوا إلينا في المنامِ وصححوا التراب ،وال تكن ِ دعهم على هذا
أخطاءكم ،فالحلمُ يعطيكم فم ًا متململ متجهما ً متعجل
ً
حديث عابرٍ
ٍ ال تحرمونا من دعنا معً ا نحيا! الحيا ُة جميلةٌ
نقضي به وطرً ا ونحيي أعظما ما ضرَّ لو كنتَ ادعيتَ بها العمى؟
التراب رهينةً
ِ ظلت هنالك في ْ وانسحب
ْ ذق مر ًة طع َم الهزيمةِ
بحثت وما وجدتْ لسانًا أو فم ًاْ منها ،فإن النص َر في أن تهزما
* شاعر ومترجم سعودي.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 134
محور خاص
كتاب ناقص
ٍ وقص ُة
ّ إبراهيم الحسين ..صداق ٌة
■ عبداهلل السفر*
في شتاء ،1976كنت أدرس بالصف األول بثانوية الملك خالد في الهفوف،
المستحدثة ت ّو ًا في منزل مستأجر .جمع َْت إدارة المدرسة الطالب القادمين من
القرى في فصل واحــد «أول سابع» ،وأضــا َفـ ْـت إليهم آخرين من المدينة نفسها؛
وخالل العام انضمّ إلينا طالب كان يدرس في «أول خامس» .لم أكن أعرف اسمه.
لتعنيف
ٍ لكنه كان مميّز ًا بمعطفه الذي ال يتخلّى عنه (كأنه مولود به)؛ وبتعرّضه
يتأخر عن دخول فصله بعد الفسحة. شبه دائم من مدرّس الرياضة ألنه ّ
التي هربتُ منها إلى القسم األدبي في شاعر وملحن ومغني!..
الثانوية ،إبّان دراستنا في كلية المعلمين
هذا الطالب هو إبراهيم الحسين،
بخاصة في مقرّر التفاضل والتكامل
الذي منذ تعرّفتُ عليه في ذلك العام،
الــذي لم أكن ألتخطّ اه بالتقدير الذي
واكتشاف محبّتنا وتعلّقنا باألدب ،حتى
أريـ ــد إال بــفــضــل «فــزعــة الــحــســيــن».
أصبحنا صديقين على مقعد الدراسة
و«فزعاته التعليمية» ال ِعداد لها.
وفي نهر الحياة.
ذات عام دراسي أ ُسنِد إليّ تدريس
الصف الخامس والثالث االبتدائيين. جــمــعــتــنــا الـ ــدراس ـ ـ ُة الــثــانــويــة في
واحترتُ في مــادة النشيد التي ينبغي األحــــســــاء ،وال ـ ــدراس ـ ــة فـــي الــكــلــيــة
أن تُقدّم للطالب بصيغة غنائية خفيفة. المتوسطة بالدمام ..وكلية المعلمين
أخــذتُ كتابَي «القراءة والمحفوظات» في األحساء ( ،)1992 - 1989ومهن ُة
وذهــبــتُ إلــى إبــراهــيــم فــي منزله في التدريس التي برع فيها إبراهيم مبكّراً،
الهفوف ومعي «شريط كاسيت» ،وطلبتُ فقد كنتُ أفزع إليه في المواد العلمية،
135 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
مجلة مواقف ،العدد المزدوج ( 62/61في منه أن يتدبَّر تلك األناشيد بطريقته الماهرة
العدد ذاته كان للصديق هاشم جحدلي« :د ُم في التلحين ،واألداء (ال يتقن إبراهيم حفظ
البيّنات») وبعضها أيضاً منشور 16إشارة الــشــعــر وحــســب ،بــل األغــانــي لــهــا نصيبٌ
في جريدة اللواء اللبنانية في عدد الجمعة هائل عنده حفظاً وأداءً) ..بعد أيام زارني
13نيسان ( 1990الصفحة وصلتني من منقذي فــي الــقــريــة ،ووفــيــتُ لــه بـــ «شــرط
آرشيف الصديق قاسم حدّاد). الــعــشــاء» ،فيما المسجّ ل يصدح بالصوت
اإلبراهيمي الرخيم« :في كل ما رآه ..في
الحذر من ساطور يبتر النصوص!..
هذه الحياة»« ..ال تخافي ال تخافي ..نح ُن
وقصة رفْعِ الـ «إشارات» من الكتاب تعود أبطال المطافي»« ..طائ ٌر يهوى القفاراااا..
إلــى أنّ المخطوطة ُوزّع ــت على مجموعة باحثٌ إن هو طاراااا»!..
س صدي ٌق مِ ن نشرها من األصــدقــاء .توجّ َ
هم مشترك!.. ٌّ
ضمن الكتاب ،ورأى فيها ما يمثّل استنفاراً
كتاب لي «يفتح لتيّار الصحوة ضد الشاعر؛ التيّار اآلخذ وعندما أردتُ نشر أوّل ٍ
الــنــافــذة وي ــرح ــل» .دفــعــتُ إلــيــه بنصوص في االشتداد بعد حرب الخليج الثانية ،وله
بخط يده .سطوةٌ قاهرة تسلّل َت إلى المؤسسة ،فيقيم ّ المخطوطة ليعيد كتابتها كلّها
خطُّ ُه أجمل من خطي بدرجات وأوضح بما مــحــاكــم التفتيش للنصوص واألشــخــاص
ال يُقاس .أقــول أجمل مجازاً ألن خطي ال ويبحث خلف السطور بساطور يبتر أدبيّتها
ويلحقها بمنظوره األيديولجي الذي يقس ّم عالقة له بالجمال؛ فهو مقروء ،وحسب!
الناس إلى أبيض وأسود .وال يملك مقداراً وقد سبقنا إبراهيم إلى النشر (أقصد
نصوص كــاإلشــارات التي
ٍ من التسامح مع أحــمــد الــمــا وأن ــا) بـــ«خــرجــتُ مــن األرض
تنضح بنَف ٍَس من التمرّد ومن الخروج ومن الضيقة» الــذي ظهر ضمن سلسلة كتاب
تضمين
ٍ االتّكاء على النصوص الروحانية في «كلمات» (أســرة األدبــاء والكتاب ،البحرين
اختطاف وقلبٌ للداللة ينبغي أن تُفهَم
ٌ هو )1992بغالف للفنانة منيرة موصلي رحمها
سياق أدبي ال في السياق األصلي الذي ٍ في اهلل .ولم يكن الكتاب مطابقاً للمخطوطة
جــرت فيه .وقــد كــان ذلــك الصديق مح ّقاً األولية ال في العنوان وال النصوص .فقد
في رأيه آنذاك ،وتوجّ سه في محلّه تماماً.. كان العنوان طويالً ..تسع كلمات ،فاقتُرِ َح
فحتى بعد رفْعِ تلك اإلشــارات من الكتاب، جملة أقصر؛ أما النصوص ٍ اختصاره إلى
جــرى االطّ ــاع عليها عبر خطوط التسلّل فقد اخـتُــزِ ل نحو نصفها بما يــوازي ثالثاً
التي تحدّثت عنها .وهذه قصة أخرى ليس وخمسين صفحة ..وهي نصوص «إشارات»
وقت الحديث عنها اآلن. المكتوبة في العام 1988م والمنشورة في
* ناقد وشاعر سعودي.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 136
محور خاص
■ أحمد اجلميد*
كان ديوانه "رغوة تباغت ريش األوراق" الصادر عن أدبي الجوف عام 2011م هو
تعرفت من خاللها بالشاعر إبراهيم الحسين، ُ بمثابة المُ صافَحة األولــى التي
ولم تكن األخيرة طبعً ا ،فقد كان لي نصيب من قراءة عددٍ من أعماله المنشورة
أيضا إلى قراءتي مؤخرً ا لبعض دواوينه في المجالت المحليَّة والعربيَّة ،إضافة ً
الشعريَّة األخــرى ،تحديدً ا ديــوان "يسقط اآلبــاء حجرً ا حجرً ا" ،وديــوان "يخطئ
الموتى" ،اللذين كانا مالذًا خدرًا يُمثِّل باستمرارٍ كلَّ مُ فْ تِ ٍن أدركته عينٌ في مَرَّ تهِ
األولى.
ال يــمــكــن لــي وأنـ ــا أقـ ــرأ إبــراهــيــم بمكان اإلطاللة
ٍ حقاً ،من الصعوبة
الــبــانــورام ـ َّيــة عــلــى الــشــاعــر إبــراهــيــم الحسين إال أن أشعر أنني في حضرة
الحسين ،خاص ًة حين تجد نفسكَ أمام إض ــاءة مــوجّ ــهــة ،وبينما أجلس قارئًا
َّص ،أتساءل :من أين
وإيجاز دافعه خشية خلف كواليس الن ِّ
ٍ مساحة محدودةٍ ،
ٍ
اإلخالل أو اإلمالل .لك ْن على الرغم من يأتي بالحياة لقصائده؟! مع ذلك فإنني
ذلــك ،ووفــق شــروط عالقتي بالشاعر ال أتوقف عن الــقــراءة ،رغــم التساؤل
التي انحصرتْ في نصوصه ال غير؛ ال ُملِحّ ،ماضيًا في متابعة الشاعر وقد
النطباعات دبَّر عناصر قصيدته ،وصرَّف معانيها،
ٍ إال إنني أحــاول هنا ،تبعًا
ما تزال معلقة ،استنطاق الجمال الذي وأنعم عليها بالدهشة والــفــرادة ،وما
منحني إيَّاه الشاعر طوال فتر ِة المواعد ِة إن تظهر أمامي فجأة نهاية القصيدة
أو النَّص حتى أكتشف للتوّ ،وأخيرًا التي كانت تحدث بيني وبين أبجديته.
137 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
-إجاب ًة عن تساؤلي -أن الشاعر وبأبعاده األولــى الفوضويَّة .آنــذاك فقط ،ما أبــر ُح
هشيم من اليقينيَّات
ٍ بعث الروح في هذا أن أ ُلفِ ي نفسي أمــام
كلها يمتلك القدرة على ِ
السبات الشتويِّ ،
ِ الكائنِ اللغويِّ المدعو قصيدة؛ فقط لمجرد المحميَّة سابقًا بما يشبه
مسِّ ه ال أكثر ،ولمجرد أن ينفخ بها منه ،وبهذا موليًا كثافة الجملة نظرة ساكنة ،مشدوهً ا
الجواب القاطع الذي أوحتْ به نصوصه لي؛ بالمعنى المتوهج ،وســابــحً ــا ٍ
بلغة وحــالـ ٍـة
وأنموذج ال يمكن لغير نثر إبراهيم الحسين ٍ فإن السؤال ال يُحجم عن مواصلة التحامه
أن يكونه. بامتداد قراءتي للشاعر.
تتقاسم عــاد ًة نصوص الشاعر خاص َّي َة القصائد كائناتٌ اقترف خلقها الشعراء،
كونها حيويَّة بالقدر الكافي الــذي يبقيها وه ــذا مــا يفعله تــمــا ًمــا الــشــاعــر إبراهيم
مرارًا الزج ًة في مسامات الذات! ناقع ًة تحت الحسين ،الذي ال يَنِي يسقي األبجدية سحرًا
الجلد تفرز ما يُديمها متداولة في الوجدان، مباركًا ،فتقرأ له كما لو أنك في عوال َم لغوي ٍَّة
ملتصق ًة بأعشاب الروح مثل قطرة نورانيَّة، ومتناهية من الدالالت القابلة مع ك ِّل
ٍ موازية
ٍ
وحــيــن ال مــحــالـ ٍـة تــتــمــوضــع هــنــاك ،حيث قراءة أن تخصب من جديد؛ األمر الذي معه
تكون نهاية مطاف قراءتكَ مسألة مؤجلة،
محصلة ما أنت عليه ،فإنها ال تمكثُ دون
ّ
ولن تُتاح لك قبل أن يقتادكَ الشاعر بك ِّل
ثلمة تتركها التساؤالت.
ٍ
شرفات تض ُّم ما ال تراهُ
ٍ وخالص نحو
ٍ وعيٍّ
إبراهيم الحسين شاع ٌر فذٌّ وفري ٌد إلى حين كنت تنظر إليه؛ حيث الحب والموت،
حدٍّ ال يتوقف عنده .لغته مخضوب ٌة بأصباغ والقلق وال ــروح ،واألب والقهوة ،والرحيل،
ـواط ـ َن غير
الحياة .قلقه الشعريّ يطال َمـ ِ وجميع ما أتى به إبراهيم الحسين ،إنما على
مأهولة بــســواه .رؤيته الثقافيَّة المتعددة
ٍ النحو الذي فيه ينتهي بنا على الــدوامِ إلى
والطبقات جليَّة في نثاره،
ِ لآلفاق والزوايا رؤية األصوات واإلصغاء إلى الصور.
وبالتالي فإن لديه تجرب ًة شعر َّي ًة غني ًة لدرجةِ
مــا أزا ُل أق ــرأ الشاعر بطريقتي التي
أنــه بــاإلمــكــان قــراءتــه مــن كــافــةِ الجهات،
بسعة محصورةٍ ٍ حاظ
نصه .أقرأ ٍ يختارها لي ُّ
التوجهات.
ِ ومختلف
ِ
طاقة
ٍ بجميع النواحي .أقرأ مسكونًا بانبعاث
في نهاية القول ،وبعد استثناء ك ِّل شيءٍ ، برفق ٍ تصويري ٍَّة للشاعر تنس ُّل على إثرها
مــا أزا ُل أشعر بــأن التقاء عينيَّ بكلمات منابتُ الرتابةِ من أرضيَّة الرجحان ،ناهيك
الشاعر يُطْ ل َى في ك ِّل مرّة بذات لون البَرْقةِ ومضة ٍ عمَّا تبلغه تلك الــطــاقـ ُة مــن مــقــامِ
التي صاحبت تلك المصافحة األولى. خالصة يُعاد عبرها شكل الترتيب إلى مادته ٍ
* كاتب سعودي.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 138
قراءات
عــن ن ــادي الــجــوف األدبـــي ،بعنوان «عزلة فــي يــوم جمعة مــعــتــاد ،استيقظت من
الرجل الحكاء» تضمنت خمسة عشر نصاً غفوتي بعد الصالة على نغمة رسائل غير
قصصيا ،راوحت أحجامها ما بين المتوسط معهودة ،فــإذا بي أجــد رقــم هاتفي النقال
الطول والقصير نوعاً ما ،تتعلق مجرياتها مــودع ـاً مــع أرقـ ــام أخـ ــرى ،وبــجــانــبــه كلمة
األحــداثــيــة والــحــواريــة ،بــالــحــيــاة اليومية (أضافك) ال غير ،هذه الكلمة ،على أنني
وخلفياتها االجتماعية والمعاشية ،وتقلباتها ضممت إلى المجموعة الجديدة باألصدقاء
ُ
األحداثية المنوعة ،وتطرق معظمها إلى الذين انشقوا عن مجموعة سابقة خاصة
مسألة التطورات والنقالت النوعية األخيرة
باألصدقاء أيضاً ،في عملية تصفية مستمرة،
التي عصفت بدنيا التواصل االجتماعي
تدار من خالل نقرات األصابع على شاشة
الــحــديــث ،وخلفياته الــتــي ال تنتهي؛ كما
الهاتف.
نجدها بجالء عبر قصة «حجة الغياب» التي
استهلها بالقول« :على عكس األخرين الذين بهذه اإليقاعات السردية المفعلة بنغمات
يحتاجون منبه الهاتف إليقاظهم من نومهم، حــواريــة هــادفــة ،استهل الكاتب والــقــاص
كــان عــبــداهلل مستيقظا بــا منبه ،وعيناه «أحــمــد الــجــمــيــد» ،مــجــريــات مجموعته
تحدقان إلى السقف الذي ألول مرة يشعر القصصية القصيرة ،التي صــدرت حديثاً
139 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
المكتظة بالمبتهجين ،وبما أن جابر يعرف أنه منخفض عن العادة.
ال بينما كانت كلمة التغيير أن أخــاه يحب مشاهدة األفــام ،فقد مال
أغلق عينيه قلي ً
تتردد في ذهنه ،قبل أن ينقلب في السرير عليه قليال ،وقال له:
هل ترغب في المشاهدة حقيقة؟ وينظر إلى ساعة الحائط التي بدت له أنها
ارتبك األخ قليالً ،وجالت في رأسة ذكرى تراقبه».
ضبابية عن تحول فيديو سينمائي محفوظ ويــســتــمــر الــكــاتــب عــلــى هـــذه الــوتــيــرة
في هاتفه النقال إلى تهمة له من قبل رجال اإلبداعية نفسها ،التي وردت في نصوص
متشددين ،على إثــر ذلــك شــاح بوجهه عن مجموعته القصصية ،إل ــى أن يختمها،
السينما ،وقال وهو مستغرب مما يراه: بأقصوصته الحوارية األخيرة التي أوردها،
-ال ،ال ،أرجوك لنبتعد فقط.».. بعنوان «العائدة من جديد» التي استهلها
بالقول:
ثم يختم الكاتب مجموعته بهذه المقطوعة
«الــســاعــة 2:30م ،دف ــع جــابــر كرسي التي أوردها على الصفحة األخيرة من غالف
أخيه المتحرك نحو مدخل الشارع الواسع الكتاب ،جاء فيها:
(الــبــولــيــفــار) ،مــن أجــل مــشــاركــة اآلخــريــن
«لم يغير مالبسه من أجل اللقاء ،ألنه على
االحتفال باليوم الوطني السعودي الثاني
موعد مع أشخاص كان يظهر أمامهم بكل
والتسعين ،كان كل شيء من حولهما مثيراً
أريحية ،ويتبادل اللبس معهم بكل أريحية،
لالستغراب فــي نفس جــابــر ،إضــافــة إلى
ويتبادل اللبس معهم قبل ســنــوات طويلة
القلق الذي يراوده كلما رأى ما لم يعتد على
مضت ،فقد قرر الذهاب بمالبس البيت،
رؤيته سابقاً ،وهذا ما دفعه للقول ألخيه بكل
أقلها مــن أجــل المحافظة على شــيء من
تلقائية عندما مر بالقرب من حفلة غنائية
مضمون الماضي ما دام الشكل قد تغير
يحضرها جمهور عريض:
خــارج اإلرادة ،وقبل أن يخرج من مسكنه،
-انظر جــابــر ..حفلة! لنبتعد قبل أن تفقد موقع اللقاء على الخريطة في هاتفه
يهاجمنا أحــد المتشددين .ضحك جابر المحمول مستعينا بذاكرته فقط».
برفق من قول أخيه وقال بحنو:
أخــيــراً ،يجدر بنا أن نذكر أن للكاتب
«أحــمــد خلف عايد الجميد» ،العديد من -ال عليك نحن في أمان اآلن.
ثم راح جابر يدفع كرسي أخيه المتحرك القصص والمقاالت األدبية المنوعة نشرها
متجوالً بين المرافق األخ ــرى ،فــإذا بهما عبر العديد من المجالت العربية ..الورقية
يــصــان إلــى المكان المخصص للسينما منها ،واإللكترونية.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 140
قراءات
لكم وللتاريخ
يتألف الكتاب من عدة عناوين وفقرات، يــعــد كــتــاب« :لــكــم ولــلــتــاريــخ» ،لمؤلفه
الدكتور :حمد بن عبداهلل المانع -الصادر استهله المؤلف بتوجيه الشكر للوطن وقائده،
عن مركز عبدالرحمن السديري الثقافي ،وبمقدمة جاء فيها:
ضمن برنامج النشر بالمركز -إضمامة
«فما كنت أتوقع أن أجلس يومًا لكتابة
مــنــوعــة مــن لــمــحــات ســيــرة ذاتــيــة ومهنية
ســيــرتــي أو تسطير ج ــزء مــنــهــا ،ذل ــك إن
بامتياز ،يجد فيها القارئ معلومات ووقائع
الحديث عن النفس فيه مشقة بالغة ،خاصة
وأفــكــارًا ومواقف ،تتعلق بالقطاع الصحي
وأن اإلنــســان مهما كــان منصفًا فهو في
في المملكة العربية السعودية ،من خالل
النهاية يرى بعينيه فقط.
فترة ست سنوات قضاها المؤلف في خدمة
وقد استخرت اهلل بعد أن ألحّ عليَّ بعض بالده وزيرًا للصحة ،وبيان طريقة مساعيه
الموفقة في المجال الطبي ،وبــذل الجهد الــزمــاء للكتابة عن الفترة التي قضيتها
بكل ما أوتي من إمكانات علمية وبحثية وبُعد وزيرًا للصحة ،ومضيت أخط هذه الكلمات
نظر ،في تطوير المرافق الصحية الحيوية ،تحقيقًا لقوله تعالى﴿ :يا أيها الذين آمنوا
كونوا قوامين بالقسط شهداء هلل ولو على والنهوض بها.
141 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
ويــعــود الــتــاريــخ أبلجً ا وضـــاءً ،يجمع أبناء أنفسكم﴾ (النساء.)135 :
يقع الكتاب في 217صفحة من القطع الوطن حوله ليروي لهم الحقيقة..
ثم يأخذنا المؤلف إلى فقرة أخرى من المتوسط ،توزعت على جملة من العناوين،
إضافة لملحق لمجموعة من الصور التقطت الكتاب أوردها تحت عنوان:
للكاتب أثناء نشاطاته المتعددة ،التي كان
هكذا أصبحت وزيرا
يؤديها خالل مسيرته اإلنسانية تلك.
يشير الدكتور المانع هنا ،لبعض الجوانب
ومن أولى فقرات الكتاب هذه اللمحات
من حياته العلمية حتى تخرجه من جامعة التي منها:
القاهرة في العام1400هجرية .مختصاً في
طب األنــف واألذن والحنجرة ،وعمله في عدالة السماء
إن شر الرواة أولئك الذين يكذبون على مستشفى الرياض المركزي ،ثم ابتعاثه إلى
شخصيات عامة ،فهم يطعنون في صحة ألمانيا الغربية وحصوله على الدكتوراه ،من
جامعة «هــايــدل» في عــام 1415هجرية.. أول ،ويغيرون الحقيقة ثانيًا.
االختيار ً
وقــد خــرجــت مــن هــذه التجربة بــدرس وفي العام 1424هجريةُ ،عيّن وزيرًا للصحة
فحواه« :إن خفافيش الظالم ليسوا مجرمين لفترة امتدت ستة أعوام.
وقتلة فقط ،بل فيهم مَن يظهر للناس بوجه
األمير(الملك) سلمان
جميل أو بصوت حانٍ عبر صحيفة أو قناة أو
وأغلى الذكريات
إذاعة ،فقد تعددت الخفافيش ولكن الظالم
وهــنــا يــن ـوّه المؤلف بقوله« :إن األمير واحد».
(الملك) سلمان ،هو األب الروحي لكل من
لــكــن ،فــي بــادنــا الكثير مــن الــشــرفــاء
والمخلصين والمنصفين ،الذين لديهم من اقترب من فكره ومن عظيم شمائله ،وكيف
الوعي والمعرفة ما يجعلهم قــادريــن على ال يكون كذلك وهو ابن مؤسس مجد هذه
قــراءة التاريخ ،وسبر الــواقــع ،واستكشاف األمــة ،وباني صــروح عزتها ،وقد التقى به
ما بين السطور ،وتمييز الغثِّ من السمين ،المؤلف حين حضر الحفل الــذي أقامته
ومعرفة الفرق بين الــد ِّر والثمين ،وبمثل وزارة الصحة لتوديع وزير منصرف ،وتشييع
هؤالء يمتلك مجتمعنا أسباب المناعة ،دون وزير جديد ،تخرج من مدرسته وعلى يديه
استيالء األمــراض والمرض عليه ،وإصابة في مجلس منطقة الرياض التي كان أميرًا
خالياه الحيوية أو تعطيلها ،وسيدور الزمن عليها ،ومن يعرف أبا فهد فقد عرف الوفاء
دورت ــه ،ثم ينقشع ظلمة الزيف والبهتان ،والشهامة وتقدير الرجال».
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 142
قراءات
أغضب إيــرادي غيري ،والمجال مفتوح إن الحقائق ..الشاهد الصادق
ثم ينقلنا الكاتب بسالسة لغوية استثنائية ،يريد التعقيب ،وفضاء الــرأي أوسع من أن
إلى حقائق كأنها الشمس التي ال يمكن أن يضيق بأحد.
وهـ ــذا الــكــتــاب يــعــنــي الــطــبــيــب وجميع تستمر محجوبة ،نستقيها من خالل قوله:
الممارسين في المجال الصحي ،ويفتح آفاقًا االعتبار األول
للنقاش مع األكاديميين والمختصين بالتعليم
إنني لم أكن اطمح يومًا إلى مقعد علمي
الــطــبــي ،وفــيــه لــمــحــات مهمة أن يخطط
أو أدبـــي ،أعــلــى مــن مقعد اســتــشــاري في
للقطاع الصحي ،وفوق ذلك يخاطب القارئ
جراحة األنف واألذن والحنجرة.
غير المتخصص ،فهو بــوح لكل مــواطــن،
وشهادة لهذا الجيل ولغيره من األجيال ،وفي االعتبار الثاني
إن ذلك الشاب الذي أهين على يد أحد هذه السيرة جهود ونقاشات وآراء وموقف
الوجهاء ،دون وجه حق ،لم يكن يدري أنه بعد ورجال وأفكار وحكايات ،وأطلب من القارئ
سنوات معدودة سيجلس على مقعد الوزير .الحصيف أن يطالعها بذهن متوقد ،وفكر
مستقل ،وأن يضع لها ما شــاء من أسئلة
االعتبار الثالث
واحتماالت ،آمال منه أن يثق أني قد سطرت
الصيد الذي أفخر به من الحب والثقة
ما سيراه ،صادقًا في اعتقاده ،ناصحً ا في
من قبل الزمالء واألصدقاء ،الذين التقيت
إيراده غير متشبع بما لم أعط في تعدادها.
معهم على حب هذا الوطن.
وأحمد اهلل على أنني استطعت أن أدوّن
الخاتمة
هــذه الجمل والــمــفــردات ،وأن ــا فــي كامل
وفيها يقول المؤلف ،هــذا كتابي األول ملكاتي العقلية ،ثم بالشكر لكل من قرأها
أروي فيه سيرة وزاريــة عشتها فترة معينة قبل نشرها ووجّ ه باقتراحات أفدت منها.
مــن الــزمــن ،وق ــد حــرصــت أن تــكــون هــذه
ثم يختم كتابه هذا بالقول:
السيرة صريحة بعض الشيء ،ألن الصراحة
عندما يكون الــمــرء فــي خريف العمر، الكاملة ضــرب مــن المستحيل ،فللقَسَ م
الــوزاري مستلزمات ،وللمروءة لــوازم ،وقد وينظر إلى الوراء ،يرى إنجازات ،يحمد اهلل
عــاهــدت نفسي والــقــارئ الكريم أن أورد عليها ،ويفخر بها ،وهــفــوات وأخــطــاء كان
تجن ،وال ذنــب لي إن يأمل لو أنها لم تقع. الوقائع بصدق دون ٍ ّ
* باحث سوري مقيم في السعودية.
143 79العدد
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م)
الصفحة األخيرة
لماذا تغيب الرواية المحلية عن السينما السعودية؟
السينما
كثيرا ما طرح هذا السؤال سواء على السينمائيين أو على السعودية
الروائيين .وربما عقدت الندوات والمؤتمرات للبحث عن إجابة
تتعلق بغياب المنتج الــروائــي المحلي عن األفــام السعودية
والرواية
ال ـتــي صـ ــارت تـنـتــج بـنـسـبــة ال ب ــأس بـهــا ف ــي األع ـ ــوام القليلة المحلية
الماضية؛ فقد شهد عام 2022عرض ( )11فيلم ًا سعودي ًا في
قاعات السينما. أ .صالح القرشي
والجواب من وجهة نظري المتواضعة هو أنه لكي تستلهم
السينما السعودية الرواية المحلية ،فاألمر يتطلب بداية أن
يقرأ السينمائي هذه الرواية!
وم ــن ه ـنــا ف ــال ـس ــؤال ي ـجــب أن ي ـصــاغ بـطــريـقــة أخ ــرى!ه ــل
السينمائي السعودي لديه اهتمام بمطالعة المنتج الروائي
المحلي؟
والحق أنــه ومــن متابعتي التي أزعــم أنها جيدة والغناء ،والمسرح ،ولعل ارتباطها القوي بالرواية يكمن
للمحتوى السينمائي المحلي في السنوات األخيرة ،في عالقة الفنيين بالحكاية.
فاألمر الجلي والواضح هو أن المخرج السينمائي
وال تكاد توجد رواية عالمية ذات قيمة أدبية عالية
السعودي ليس لديه ذلــك االهتمام أو االطــاع أو
لم يتم نقلها إلى الشاشة الكبيرة ،وربما نقلت الرواية
الرغبة في خوض غمار نقل الرواية إلى الشاشة،
الــواحــدة عــدة مــرات من خــال مخرجين مختلفين
أو ربما يكمن السبب في كون عملية نقل األدب إلى
وبتصورات مختلفة ومتنوعة.
السينما عملية صعبة ومحفوفة بالمخاطر كما يصفها
وال مناص من القول إن السينما السعودية تحديداً (ارنستو ساباتو) في حواراته مع (بورخيوس).
األمــر األخــر الــذي يحضر هنا هــو ســؤال ربما بحاجة إلــى استلهام الــروايــة المحلية حاجتها إلى
يخطر في ذهن القارئ :هل هناك حاجة حقيقية كي الموضوع والفكرة ،وإلى أن تتلمس الواقع الموغل في
البيئة المحلية؛ ألنها من هذه الزاوية يمكن أن تتميز تلتفت السينما السعودية نحو الرواية المحلية؟
ويــزداد حضورها لدى المشاهد المحلي ،خصوصاً
اعتقد أن حاجة السينما إلى الرواية تكمن في وأنها في خضم منافسة شديدة الصعوبة مع السينما
قيمة التنوّع الــذي يمكن أن تمنحه الــروايــة للعمل
القادمة من شتى بلدان العالم.
السينمائي ،ومــع اليقين بأهمية ما يعرف بسينما
السينما السعودية بحاجة إلى الرواية المحلية، المؤلف التي أولت ظهرها لألدب ،ومع اليقين بأهمية
التجريب وأهمية التمرد على تقاليد الكتابة عند بعض وتعالي السينمائي ،أو جهله وعدم اطالعه على األعمال
السينمائيين ،إال إن تكريس هذا النوع من السينما الروائية سيشكل في النهاية نقصاً ال ريب فيه في قيمة
فقط سيجعل األعمال السينمائية تبدو مكررة وتقلد اإلنتاج السينمائي المحلي ،ومع اليقين بصعوبة إنتاج
نفسها ،وبخاصة وأن السينما قد ارتبطت باألدب منذ فيلم مبني على رواية أدبية ،إال إ ّن الموهبة والبراعة
نشأتها ،كما ارتبطت بالكثير من الفنون كالموسيقى ،والشغف كفيلة بأن تذلل كل الصعوبات.
* كاتب سعودي.
العدد 79
رب ـي ــع ١٤٤٤ه ـ ـ ـ ـ (٢٠٢٣م) 144
من إصدارات اجلوبة
71
من إصدارات برنامج النشر في