You are on page 1of 28

‫املجلة الجزائرية للسياسة واألمن‬

‫املجلد‪ – 01 :‬العدد‪ ،01 :‬جانفي ‪ / 2022‬ص‪.‬ص‪36-09‬‬


‫‪ISSN: 2800-1095‬‬

‫أبعاد بيان أول نوفمبر‪1954‬‬


‫بين مرجعيات إعادة تأسيس الدولة الجزائرية واستراتيجيات املستقبل‬
‫‪The dimensions of the statement of the first of‬‬
‫‪November 1954 between the references for the re-‬‬
‫‪establishment of the Algerian state and the strategies of‬‬
‫‪the future‬‬
‫د‪ .‬يخلف حاج عبد القادر‪HADJ ABDELKADER Ikhlef ،‬‬
‫ّ‬
‫قسم التاريخ وعلم اآلثار‪ -‬كلية العلوم اإلنسانية والعلوم اإلسالمية‪ -‬جامعة وهران‪ 1‬أحمد بن بلة‬

‫‪ikhleforan31@yahoo.fr‬‬

‫تاريخ االستالم‪ - 2021/10/22:‬تاريخ القبول‪ - 2021/12/05:‬تاريخ النشر‪2022/01/25 :‬‬

‫امللخص باللغة العربية‪:‬‬


‫ّ‬
‫يعد بيان أول نوفمبر ‪ 1954‬مفترق طرق بين املاض ي الكولونيالي الذي بدأت نهايته‬
‫مع والدة الثورة التحريرية (‪ )1954-1962‬لكسر قيود االستعمار الفرنس ي وتصفية‬
‫وجوده بالجزائر إلى األبد‪ ،‬وما ستؤول إليه أوضاع الجزائريين مستقبال‪ ،‬بعد استرجاع‬
‫سيادة الدولة الجزائرية‪ ،‬التي سلبها االستعمار الفرنس ي أثناء احتالله للجزائر في ‪5‬‬
‫جويلية ‪ ،1830‬وذلك باالستفادة من التجربة السياسية ملناضلي الحركة الوطنية‪ ،‬حيث‬
‫بكل ذكاء على أبجدياتها‪ ،‬بجمعه بين األفكار الثورية والتنظيمية لحزب‬ ‫ّركز البيان ّ‬
‫الشعب الجزائري‪ ،‬ومرجعيات الشخصية الجزائرية بمختلف انتماءاتها‪ ،‬التي نادت بها‬
‫دوما جمعية العلماء املسلمين الجزائريين‪ .‬لقد وضع البيان األرضية الصلبة التي يلتقي‬
‫حولها الجزائريون بمختلف أطيافهم حاضرا ومستقبال‪ ،‬من خالل مرونة قواعد وأسس‬
‫الرجال‪ ،‬حيث راعت في مختلف أبعادها الظرف‬ ‫الدولة الجزائرية التي ال تزول بزوال ّ‬

‫‪ ‬د‪ .‬يخلف حاج عبد القادر‪ ،‬أستاذ محاضر "أ" في التاريخ الوسيط‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫ بين مرجعيات إعادة تأسيس الدولة الجزائرية واستراتيجيات املستقبل‬1954‫أبعاد بيان أول نوفمبر‬

‫ وفق رؤية‬،‫ وما ستعرفه البالد مستقبال بعد استرجاع السيادة‬،‫الزمني لتدوينها‬
ّ ّ ‫استشرافية تحترم املاض ي‬
‫وتتخذ منه سلما تصل به حاضرها وتبني عليه ما ينسجم‬
‫ بتثبيت الثوابت والعمل على تجسيد مبادئ‬،‫ويتالءم مع ما تراه مناسبا ملستقبلها‬
.‫الديمقراطية واإلسالم وترقية املبدأ االجتماعي لجزائر الغد‬
‫ املستقبل‬-‫ املاض ي‬-‫ الدولة الجزائرية‬-1954 ‫نوفمبر‬1 -‫ بيان‬:‫الكلمات املفتاحية‬
.Abstract:
The statement of the first of November 1954 is a crossroads
between the colonial past, whose end began with the birth of the
liberation revolution (1954-1962) to liquidate its colonial presence in
Algeria, and what the situation of Algerians will lead to in the future,
after restoring the sovereignty of the Algerian state, which was robbed
by this colonialism during its occupation of Algeria on July 5 1830. The
statement focused intelligently on the ABCs of the national movement,
by combining the revolutionary and organizational ideas of the Algerian
People's Party, and the references of the Algerian personality with its
various affiliations, which were advocated by the Association of
Algerian Muslim Scholars. The statement laid the solid ground around
which all Algerians meet, present and future, through the flexibility of
the rules and foundations of the Algerian state that do not disappear
with the demise of men, as it took into account in its various dimensions
the temporal circumstance for its codification, and what the country will
know in the future after the restoration of sovereignty, according to a
forward-looking vision that respects the past and lives its present It
builds on it what is commensurate with its future, by establishing the
constants and working to embody the principles of democracy and Islam
and to promote the social principle of the Algeria of tomorrow.
Keywords)5( : Statement - November 1, 1954 - the Algerian state
- the past - the future.
:‫مقدمة‬
ّ
‫ التي أكدت ألحزاب الحركة‬،1945 ‫تعود جذور الثورة التحريرية إلى مجازر ماي‬
ّ ‫الوطنية الجزائرية التي آمنت بلعبة الديمقراطية للجزائريين‬
‫أن فرنسا الكولونيالية لن‬
ّ ‫تعترف‬
‫ فأصبحت املمارسة السياسية أسلوب‬،‫بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره‬

10
‫يخلف حاج عبد القادر‬

‫عقيم‪ ،‬وعندئذ حدثت القطيعة مع هذا األسلوب‪ ،‬وأضحى من الواجب مخاطبة‬


‫االستعمار الفرنس ي باللغة التي يفهمها‪ ،‬فخرجت مجموعة من الشباب (املنظمة‬
‫ّ‬
‫الخاصة)‪ ،‬حملت على عاتقها مسؤولية تاريخية عظمى بتفجير الثورة التحريرية‪ .‬وكانت‬
‫همزة الوصل بينها وبين الشعب الجزائري وفرنسا والعالم أجمع وثيقة بيان ‪ 1‬نوفمبر‬
‫‪ .1954‬فكيف ظهرت هذه الوثيقة؟ وما هو محتوى بيان الفاتح من نوفمبر ‪1954‬؟ وما‬
‫هي األبعاد التي سعى إلى تجسيدها مرحليا ومستقبليا؟‬
‫إن اإلجابة عن هذه التساؤالت قمينة بالكشف عن ّ‬
‫أهمية وثيقة بيان ‪ 1‬نوفمبر في الزمن‬ ‫ّ‬
‫الذي كتبت فيه قبل‪ ،‬الحتواء الجزائريين من أجل الوقوف في وجه االستدمار الفرنس ي‬
‫الرؤية االستشرافية ّ‬
‫ملدوني البيان في نظرتهم املستقبلية لجزائر‬ ‫النصر‪ ،‬كما تكشف ّ‬ ‫حتى ّ‬
‫ّ‬
‫ما بعد استرجاع السيادة الوطنية‪ .‬وسنحاول في موضوعنا املوسوم بـ" أبعاد بيان أول‬
‫نوفمبر ‪ 1954‬بين مرجعيات إعادة تأسيس الدولة الجزائرية واستراتيجيات املستقبل"‬
‫بشقيه املاض ي واملستقبلي كمحورين أساسيين في دراستنا‪ ،‬معتمدين‬ ‫التفصيل في البيان ّ‬
‫املنهج التاريخي الوصفي والتحليلي للوصول إلى الهدف األساس املتمثل في صالحية بيان ‪1‬‬
‫نوفمبر ‪ 1954‬في جمع الجزائريين وتوحيدهم باألمس واليوم وغدا ملرونة أبعاده ومبادئه‬
‫ّ‬
‫والتكيف معها على الدوام بما يخدم مصلحة جميع أبناء البلد‬ ‫وإمكانية االلتفاف حولها‬
‫في وطن واحد ال يقص ي أحدا من أبنائه‪.‬‬
‫‪ -1‬والدة بيان أول نوفمبر‪ 1954‬إلعادة تأسيس الدولة الجزائرية‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪ -1 .1‬حيثيات إصدار البيان‪ :‬يذكر عمار بن عودة أنه خالل اجتماع الـ "‪ "22‬التاريخي‬
‫ّ‬
‫املنعقد في ‪ 25‬جويلية بـ"سالومبي" نضجت فكرة النشاط املسلح‪ ،‬التي أفضت إلى البيان‬
‫ّ‬ ‫رغم ّ‬
‫أن هذا التاريخ لم ّ‬
‫يحدد حينها‪ ،‬بل اتفق على أن يتم ذلك في أجل أقصاه ستة‬
‫ّ‬ ‫أشهر‪ .1‬وقد تال ذلك ّ‬
‫عدة لقاءات ّ‬
‫سرية كان آخرها في ‪ 10‬أكتوبر ‪ ،1954‬حيث اتفق فيه‬

‫‪ -1‬عامر رخيلة‪ ،‬بيان أول نوفمبر حقق التفاف الشعب الجزائري حول قضية االستقالل‪ .‬وكالة األنباء الجزائرية‪ 1 ،‬أكتوبر‬
‫‪.2014‬‬

‫‪11‬‬
‫أبعاد بيان أول نوفمبر‪ 1954‬بين مرجعيات إعادة تأسيس الدولة الجزائرية واستراتيجيات املستقبل‬

‫على كتابة بيان الفاتح نوفمبر‪ ،‬وأسندت مجموعة ‪ّ 6‬‬


‫مهمة صياغته إلى محمد بوضياف‬
‫ّ‬
‫وديدوش مراد‪ ،‬فاتصال بالصحفي محمد العيشاوي الذي كان يتقن ا ّلرقن‪ ،‬فحظي‬
‫بمحل للخياطة يملكه املناضل عيس ى كشيدة بالعاصمة‪ 2.‬وقد‬ ‫ّ‬ ‫بشرف تحرير البيان‬
‫ّ‬
‫أكدت القيادة الثورية على ضرورة توزيع البيان بالدول الشقيقة‪ ،‬فقام العشماوي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بمهمة نقله إلى مصر‪ ،‬التي قامت ببثه ألول مرة عبر أثير إذاعتها "صوت العرب"‪ ،3‬بصوت‬
‫مرات بداية من ّ‬
‫الساعة ‪ 11‬ليال يوم ‪ 1‬نوفمبر‬ ‫وتمت أعادت ّبثه ‪ّ 7‬‬ ‫اإلعالمي أحمد سعيد‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫‪ 1954‬إلى اليوم املوالي‪ّ .4‬أما في ّ‬
‫الداخل فقد علق البيان على جدران املدن الجزائرية‬
‫ّ‬
‫محالت ّ‬
‫املعمرين‪5.‬‬ ‫ّ‬
‫وبالذات أمام‬
‫ّ‬
‫املستمدة من مبادئ الحركة‬ ‫وقد اعتمد في صياغة البيان على األفكار األساسية‬
‫ّ‬
‫الوطنية ولوائح مؤتمر حزب الشعب لسنة ‪1953‬م‪ ،6‬ال سيما ما يتعلق بتصور مفهوم‬
‫الدولة بعد إعادة تأسيسها‪ ،‬ووحدة املغرب العربي والقضية الجزائرية‪ ،‬وطبع البيان في‬
‫«إغيل ايمولي» التي تبعد عن والية تيزي وزو بـ ‪ 45‬كلم‪ ،‬بسحب ‪ 160‬نسخة في ّ‬
‫املرة األولى‪،‬‬
‫و‪ 1200‬نسخة في ّ‬
‫املرة الثانية‪7.‬‬

‫‪ -2 .1‬محتوى البيان‪ :‬يعتبر البيان وثيقة مهمة جدا في مسار الثورة التحريرية‪ ،‬وتكمن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أهميته في كونه الوثيقة األساس للثورة‪ ،‬ذلك أنه نتاج مسار تاريخي جمع بين املقاومة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املسلحة للشعب الجزائري والنضال السياس ي للحركة الوطنية الذي سبق اندالع‬

‫‪ -2‬محمد لحسن زغيدي‪" ،‬منتدى الذاكرة" بمنتدى املجاهد‪ ،‬نشر في جريدة املساء بتاريخ ‪.2009/10/31‬‬
‫‪ - 3‬محمد لحسن زغيدي‪ ،‬نشر في يومية الفجر الجزائرية بتاريخ ‪.2010/11/09‬‬
‫‪ - 4‬أحمد سعيد‪ ،‬يومية الفجر الجزائرية‪ ،‬األربعاء ‪ 13‬يناير ‪.2016‬‬
‫‪ - 5‬أحمد حمدي‪ ،‬الثورة الجزائرية واإلعالم‪ ،‬ص‪.37‬‬
‫ّ‬
‫‪ -6‬محمد لحسن زغيدي‪ ،‬بيان أول نوفمبر ‪ 1954‬وأبعاده‪ ،‬في مجلة الدراسات التاريخية‪ ،‬ص‪ /.279‬زغيدي‪ ،‬وكالة األنباء‬
‫الجزائرية‪ ،‬يوم ‪.2010/11/09‬‬
‫‪ - 7‬محمد لحسن زغيدي‪ ،‬بيان أول نوفمبر‪ ،‬ص‪.283‬‬

‫‪12‬‬
‫يخلف حاج عبد القادر‬

‫ثم يمكن اعتباره بمثابة شهادة ميالد أو دستور لها‪ّ .‬‬


‫ومما يجب التأكيد‬ ‫الثورة‪ ،8‬ومن ّ‬
‫عليه ّ‬
‫أن املطالب التي أشار إليها البيان هي في الواقع عصارة فكر الحركة الوطنية التي‬
‫مكيفة نفسها مع الظروف‬ ‫ّ‬
‫وتطورت ّ‬ ‫ظهرت مباشرة بعد تغييب الدولة الجزائرية‪،‬‬
‫ّ‬
‫السياسية التي فرضت على النخبة ‪-‬التي وصلت إلى طريق مسدود‪ -‬املواجهة املسلحة‪ّ .‬إن‬
‫ّ‬
‫الذين صاغوا البيان أكدوا فيه على مرجعيتهم اإليديولوجية‪ ،‬بتلخيص الخطوط‬
‫ّ‬
‫العريضة‪ ،‬التي كانت تشكل املنظومة الفكرية والقيمية التي سعى حزب الشعب الجزائري‬
‫فإن البيان هو في الحقيقة حوصلة‬‫ثم ّ‬‫بكل الوسائل‪ ،‬ومن ّ‬
‫لتجسيدها على أرض الواقع ّ‬
‫ّ‬
‫ذكية ألدبيات أطراف الحركة الوطنية الجزائرية‪ ،9‬مع تأكيده في ذات الوقت على وحدة‬
‫ّ‬
‫الشعب الجزائري ووحدة طموحاته وتطلعاته‪ ،‬وتوضيح أهداف الثورة ومسألة القيادة‪،‬‬
‫ّ‬
‫محددا اإلستراتيجية والوسائل الواجب اعتمادها في سبيل استرجاع السيادة الوطنية‪،‬‬
‫ونوع الدولة التي يراد بناؤها بعد االستقالل على ربوع أرض الجزائر‪.‬‬
‫إن وثيقة بيان أول نوفمبر ‪ 1954‬احتوت على ‪ 685‬كلمة جاءت ّ‬
‫موزعة على ‪9‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫فقرات‪ ،‬كتبت بلغة بسيطة اعتمد فيها االختصار في األسلوب ودقة املعنى‪ ،‬ليفهمه العام‬
‫والخاص‪ ،‬من أجل توحيد كلمة وعمل الجزائريين أفرادا وجماعات ّ‬
‫ضد االستعمار‬
‫ّ‬
‫حولت مبادئه إلى شبه قوانين صارت أرضية‬ ‫الدقة التي كتب بها البيان ّ‬ ‫الفرنس ي‪ّ .‬إن‬
‫ّ‬
‫التحررية في العالم‪ ،‬وأكثر من‬ ‫مليثاق الصومام‪ ،‬وأنموذجا احتذت به العديد من الحركات‬
‫ذلك بقاء هذه الوثيقة إطارا يمكن أن يجمع شمل الجزائريين حاضرا ومستقبال‪10.‬‬

‫‪ -2‬أبعاد بيان ّأول نوفمبر‪ 1954‬زمن تدوينها والرؤية املستقبلية‪:‬‬


‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إن القراءة املتأنية لوثيقة البيان تحيلنا إلى عديد األبعاد التي كان يرمي إليها‬

‫‪ -8‬محمد القورصو‪ ،‬وكالة األنباء الجزائرية‪ 1 ،‬أكتوبر ‪.2014‬‬


‫‪ -9‬محمد العربي الزبيري‪ ،‬حزب جبهة التحرير الوطني من الشرف إلى العلف‪ -‬تشريح األزمة‪ ،-‬ص‪ 263-262‬وص‪.268‬‬
‫‪ -10‬زغيدي‪ ،‬بيان أول نوفمبر‪ ،‬ص‪ /.284‬بينما جعل عدد مفردات البيان ‪ 662‬مفردة‪ .‬ينظر‪ :‬زغيدي‪ ،‬الندوة الصحفية التي‬
‫نظمتها جمعية مشعل الشهيد بالتنسيق مع جريدة املجاهد‪ ،‬يومية ّ‬
‫األمة العربية الجزائرية‪ ،‬بتاريخ ‪.2009/11/01‬‬

‫‪13‬‬
‫أبعاد بيان أول نوفمبر‪ 1954‬بين مرجعيات إعادة تأسيس الدولة الجزائرية واستراتيجيات املستقبل‬

‫صائغوه سواء على املدى القريب أو املدى البعيد‪ ،‬ومن جملة هذه األبعاد ما يلي‪:‬‬

‫‪ -1 .2‬البعد النضالي‪ :‬عندما بلغت أزمة حركة انتصار ّ‬


‫الحريات الديمقراطية ذروتها بين‬
‫الفرقاء في صائفة ‪ :1954‬املصاليون بقيادة زعيم الحزب مصالي من جهة‪ ،‬واملركزيون‬
‫ّ ّ‬
‫الصف بتأسيس‬ ‫بقيادة حسين األحول من جهة أخرى‪ ،11‬سعى محمد بوضياف لتوحيد‬
‫ّ‬
‫تنظيم سياس ي جديد في ‪ 23‬مارس ‪ ،1954‬تحت اسم اللجنة الثورية للوحدة والعمل‪ ،‬إال‬
‫أن السبيل الوحيد للخروج من‬ ‫استمرت؛ وعندئذ أدرك قادة املنظمة الخاصة ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أن الفرقة‬
‫فعبروا عن ذلك صراحة في البيان الذي ّ‬
‫وجهوه إلى‬ ‫هذه األزمة يكمن في تفجير الثورة‪ّ ،‬‬
‫الشعب الجزائري بقولهم‪ّ ":‬‬
‫إن الوقت قد حان إلخراج الحركة الوطنية من املأزق‪ ،‬الذي‬
‫أوقعها فيه صراع األشخاص والنفوذ‪ ،‬لدفعها إلى املعركة الحقيقية الثورية‪ ،‬إلى جانب‬
‫ّ‬ ‫إخواننا املغاربة والتونسيين"‪ .12‬ففي هذا ّ‬
‫الجو بدأت أولى العمليات املسلحة عبر كامل‬
‫الساعة صفر ّ‬
‫والساعة الثالثة صباحا؛‬ ‫التراب الجزائري‪ ،‬في ليلة ‪ 1‬نوفمبر ‪ 1954‬بين ّ‬
‫ّ‬
‫وتبنى هذه العمليات جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني‪ ،13‬وخلص البيان إلى‬
‫ّ‬
‫ألنه ما ضاع ّ‬ ‫صعوبة ّ‬
‫حق وراءه طالب‪ .‬ولقد استفاد جيل‬ ‫املهمة‪ ،‬لكنها ليست مستحيلة‬
‫ّ‬
‫املسلحة ّ‬
‫ضد االستعمار في القرن ‪19‬م‪ ،‬وحرص على تفادي‬ ‫نوفمبر من أخطاء املقاومة‬
‫ّ‬
‫املحاذير التي وقعت فيها‪ ،‬مركزا على مبدأين أساسيين يعتبران نقطتي الضعف اللتين‬
‫كانتا السبب الرئيس في فشلها‪ ،‬وهما‪ :‬انعدام وحدة ّ‬
‫الصف في مجابهة االستعمار‪،‬‬
‫وانعدام الوعي الكامل بأخطار االستعمار وأضراره‪ّ ،‬‬
‫وبالتالي انخفاض مستوى الوعي لدى‬
‫الجماهير العريضة من شعبنا في ذلك الوقت‪14.‬‬

‫‪ - 11‬محمد حربي‪ ،‬الثورة الجزائرية سنوات املخاض‪ ،‬ص‪.14‬‬


‫‪ - 12‬ينظر الفقرة ‪ 5‬من بيان أول نوفمبر‪.‬‬
‫‪ - 13‬حربي‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.16-15‬‬
‫‪ -14‬جمال ّ‬
‫قنان‪ ،‬قضايا ودراسات في تاريخ الجزائر الحديث واملعاصر‪ ،‬ص‪.242‬‬

‫‪14‬‬
‫يخلف حاج عبد القادر‬

‫وما أحوجنا اليوم وغدا إلى االلتفاف حول هذين العنصرين أي الوحدة‬
‫ّ‬
‫تخطيه‪ ،‬وإفشاء الوعي الذي ّ‬ ‫ّ‬
‫ينمي الشعور بمسؤولية‬ ‫الوطنية كخط أحمر ال ينبغي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫للتصدي ّ‬
‫لكل املخططات التي تهدف إلى ضرب أمن الجزائر واستقرارها‪ ،‬فمهما‬ ‫الجميع‬
‫فإن الخروج من ّ‬
‫النفق املظلم‪ ،‬وتجاوز املأزق يبدأ‬ ‫كان حجم األزمة التي تعاني منه البالد‪ّ ،‬‬

‫ّأوال بتحويل الصراع من صراع هامش ي بين العصابات واألشخاص من أجل النفوذ‬
‫والزعامة‪ ،‬إلى صراع في قلب املعركة الحقيقية‪ .‬فباألمس كانت املعركة الحقيقية تتمثل في‬
‫الثورة على االستدمار لتحرير الجزائر من العبودية فيما يمكن تسميته بالجهاد األصغر‪،‬‬
‫تتجسد في الواقع التنموي والصراع مع‬‫ّ‬ ‫ّأما اليوم ّ‬
‫فإن املعركة الحقيقية يجب أن‬
‫ّ‬
‫التحديات في مختلف املجاالت‪ ،‬لكسب رهان املستقبل باإلنسان الجزائري الواعي‪ ،‬الذي‬
‫يسعى في جهاده األكبر لخدمة نفسه ووطنه ودينه على درب الجيل النوفمبري‪ ،‬ونقل‬
‫الرسالة واملشعل من جيل آلخر هكذا دواليك‪.‬‬
‫ّ‬
‫يتولى ّ‬
‫مهمة‬ ‫‪ -2 .2‬البعد السياس ي‪ :‬أشار البيان إلى ميالد جبهة التحرير كجناح سياس ي‪،‬‬
‫العمل الدبلوماس ي باملوازاة مع العمل العسكري‪ ،‬للتعريف بقضية الجزائر العادلة كسبا‬
‫ل ّلرأي العام العالمي والفرنس ي‪ ،‬والضغط على الدولة الفرنسية لقبول مبدأ التفاوض مع‬
‫ّ‬
‫الجبهة ‪ -‬كممثل شرعي ووحيد للشعب الجزائري‪ -‬التي ستؤسس الحكومة املؤقتة‬
‫ّ‬
‫والتحدث باسم الشعب‬ ‫للجمهورية الجزائرية كحكومة منفى لكسب الشرعية القانونية‪،‬‬
‫الجزائري في املحافل الدولية من أجل استرجاع السيادة وإعادة بناء الدولة‪ 15‬الجزائرية‬
‫حدد صائغو البيان األطر السياسية التي‬ ‫قوض االحتالل الفرنس ي أركانها‪ .‬وقد ّ‬
‫التي ّ‬
‫ّ‬
‫تجسد الدولة التي كانوا يحلمون بها ويؤمنون بإقامتها مستقبال باملبادئ التالية‪:‬‬
‫ّ‬
‫املتمعن في قراءة بيان أول نوفمبر ‪ 1954‬يالحظ عدم ورود نوع‬ ‫أ‪ -‬دولة ديمقراطية‪ّ :‬‬
‫إن‬

‫‪ -15‬يذكر بعض أساتذة السياسة ّأن ّثمة ما يقارب مائة وخمسين تعريفا للدولة‪ .‬ينظر‪ :‬ماجد بن علي بن إبراهيم ّ‬
‫الزميع‪،‬‬
‫الدولة املدنية بين االتجاه العقلي اإلسالمي املعاصر واالتجاه العلماني دراسة عقدية‪ ،‬ص‪.33‬‬

‫‪15‬‬
‫أبعاد بيان أول نوفمبر‪ 1954‬بين مرجعيات إعادة تأسيس الدولة الجزائرية واستراتيجيات املستقبل‬

‫نظام الحكم الذي اختاره واضعو البيان لدولة الجزائر ما بعد االستقالل‪ ،‬وقد يقول‬
‫قائل ما سبب غياب مصطلح "الجمهورية" أو ّ‬
‫حتى "امللكية"‪ ،‬الذي كان يفترض أن‬
‫يسبق مصطلح "الديمقراطية"‪ ،‬وبحكم ّأن أولئك الذين صاغوا البيان كانوا ينتمون في‬
‫تصور ّ‬ ‫جدا أن يكون لهم نفس ّ‬ ‫ّ‬
‫فإنه من الطبيعي ّ‬
‫السيد‬ ‫إيديولوجيتهم إلى حزب الشعب‪،‬‬
‫أحمد ّ‬
‫مزغنة وهو أحد رواد هذه الحركة‪ ،‬الذي ّ‬
‫صرح في مؤتمرها الثاني سنة ‪ 1953‬قائال‪:‬‬
‫ى"‪16.‬‬ ‫إن دولة االستقالل تكون دولة جمهورية ّ‬
‫ألن عهد امللكية مض ى وانقض‬ ‫" ّ‬
‫فقد يعزى سبب عدم إدراجهم للفظ "الجمهورية"‪ ،‬إلى ّ‬
‫تخوفهم من وقوع ّ‬
‫الرأي‬
‫العام الجزائري وكذا الفرنس ي في لبس عبارة "جمهورية جزائرية"‪ ،‬التي يمكن أن تفهم‬
‫أسس االتحاد الديمقراطي للبيان‬ ‫عباس عندما ّ‬ ‫أن فرحات ّ‬ ‫فهما خاطئا‪ ،‬باعتبار ّ‬

‫متحدة فيدراليا مع فرنسا‪ ،‬وهو ما جعلهم‬‫الجزائري دعا إلى إقامة "جمهورية جزائرية" ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫يؤكدون بوضوح ودقة على إضافة عبارة "ذات السيادة"‪ ،17‬التي رفعت اللبس وأزالت‬
‫ّ‬
‫الشك في مسألة نظام حكم الدولة الجزائرية التي ستحكم الجزائريين بعد االستقالل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وأما ما يتعلق بالديمقراطية كأداة للحكم فقد اكتفى البيان باإلشارة إليها دون‬
‫تفصيل في نوعها‪ ،‬بحيث لم يشر أصحاب البيان ما إذا كانت هذه الديمقراطية مباشرة‬
‫أو شبه مباشرة‪ .‬وقد يبدو مبدئيا للقارئ ّأنهم كانوا يريدون من وراء عدم تحديدهم إلى‬
‫معين من هذه األنواع السالفة الذكر عدم االستئثار بموضوع بهذه ّ‬
‫األهمية وترك‬ ‫نوع ّ‬
‫الجدال السياس ي لوقته‪ ،‬إذ ال يمكن الفصل في ذلك من لدن ّثلة من ّ‬
‫الرجال مهما كان‬
‫إن الفعل الديمقراطي يقتض ي إشراك الطبقة السياسية ّ‬
‫بكل‬ ‫مستواهم الفكري‪ ،‬بل ّ‬
‫ّ‬
‫والحريات ويضمن‬ ‫النوع األنسب الذي ّيتفقون عليه‪ ،‬بما يكفل الحقوق‬
‫أطيافها الختيار ّ‬
‫يضم الجميع بدون إقصاء وال تهميش‪ .‬وباعتبار ّ‬
‫أن صائغي البيان‬ ‫آداء الواجبات في وطن ّ‬

‫‪ -16‬يحي بوعزيز‪ ،‬إيديولوجية الحركة الوطنية من خالل ثالث وثائق‪ ،‬صص‪.98-97‬‬


‫ّ‬
‫‪ - 17‬رابح لونيس ي‪ ،‬بيان أول نوفمبر وأسس الدولة الوطنية – الجذور الفكرية واملضمون ‪ ،-‬في مجلة املصادر‪ ،‬ص‪.25-24‬‬

‫‪16‬‬
‫يخلف حاج عبد القادر‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كانوا ينتمون إلى حزب الشعب فليس ّثمة ّ‬


‫شك ّأنهم ركزوا على ما ركزت عليه قيادة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مستقل ينتخب‬ ‫حزبهم‪ ،‬التي رأت ضرورة توفير الشروط الالزمة لتزويد البالد ببرملان‬
‫بواسطة االقتراع العام‪ .18‬و ّ‬
‫يصب في هذا املنحى تسمية حزب الشعب لجريدته النصف‬
‫شهرية باسم "البرملان الجزائري" وهو ما يعني ّ‬
‫أن طرحهم كان يميل إلى الديمقراطية‬
‫التمثيلية (البرملانية)‪ ،‬وال يمكن أن نذهب بعيدا بتفكيرنا إلى املقصود بالديمقراطية‬
‫النيابية‪ ،‬ما إذا كانت حسب الرؤية الغربية ( ّ‬
‫التعددية الحزبية)‪ ،‬أو ّأنها كانت وفق منظور‬
‫ديمقراطية الحزب الواحد ؟ (النظام السياس ي الشمولي)‬
‫ّ‬
‫وقد جعلت حركة االنتصار في سنة ‪ 1951‬من الشعب مصدرا للسلطة‪ ،‬متبنية‬
‫شعار " بالشعب وللشعب" في مختلف امليادين‪ ،‬فعلى الصعيد السياس ي مثال " يشارك‬
‫ّ‬
‫ومحليا ومراقبته ّ‬
‫الدائمة كي تحترم‬ ‫الشعب بأكمله في حكم البالد وتسيير شؤونه عموميا‬
‫الحريات األساسية"‪ .19‬وهو ما يعني ّ‬
‫أن الحركة كانت تريد ديمقراطية مباشرة على شاكلة‬ ‫ّ‬
‫الديمقراطيات الشعبية بأوروبا الشرقية واالتحاد السوفييتي سابقا والصين الشعبية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وكوبا‪ ،‬والشاهد على ذلك ّ‬
‫التطورات التي عرفتها الثورة التحريرية جعلتها تتأثر‬ ‫أن‬
‫بالديمقراطيات الشعبية في هذه البلدان بعد الدعم الذي لقيته منها؛ وفي هذا اإلطار‬
‫ّ‬
‫كتب رضا مالك ‪ -‬ذو امليول اليسارية الذي تأثر باليساري فرانز فانون ‪ -‬في جريدة املجاهد‬
‫إن هذه الثورة تستهدف تحرير‬ ‫بنسختها الفرنسية تحت عنوان‪ ":‬ثورة ديمقراطية " ّ‬

‫األرض‪ ،‬السلطة للشعب‪ ،‬األرض للفالح‪ ،‬تصفية االقتصاد االستعماري‪ ،‬وبناء اقتصاد‬
‫مستقل‪ ،‬وتحطيم البقايا اإلقطاعية للقرون الوسطى‪ .20‬وعندما الحت تباشير االستقالل‬
‫في األفق اجتمع قادة الثورة الجزائرية في طرابلس لصياغة امليثاق الذي ّ‬
‫سمي بـ"ميثاق‬

‫‪ - 18‬جريدة البرملان الجزائري‪ ،‬العدد الصادر بتاريخ ‪.1939/06/27‬‬


‫ّ‬
‫‪ -19‬وثيقة ‪ MTLD‬تحت عنوان‪" :‬املعالم الرئيسية لنضال الحركة الوطنية الجزائرية" الصادرة في ديسمبر ‪ 1951‬في‪:‬‬
‫‪C.Collot et J.R Henry, Le Mouvement National Algérien- Textes 1912-1954,‬‬
‫‪P.304.‬‬
‫‪ - 20‬جريدة املجاهد‪ ،‬العدد ‪ ،12‬الصادر بتاريخ ‪.1957/11/15‬‬

‫‪17‬‬
‫أبعاد بيان أول نوفمبر‪ 1954‬بين مرجعيات إعادة تأسيس الدولة الجزائرية واستراتيجيات املستقبل‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫التوجه الديمقراطي للدولة الجزائرية‪ ،‬باتفاق‬ ‫طرابلس" عام ‪ ،1962‬الذي تأكد فيه‬
‫املجتمعين في هذا املؤتمر الذي حمل عنوان‪ ":‬من أجل ثورة ديمقراطية شعبية"‪21.‬‬

‫ونحن نعتقد ّ‬
‫أن صائغي بيان أول نوفمبر تركوا في بداية األمر باب االجتهاد ‪-‬‬
‫ّ‬
‫للمختصين في مسألة‬ ‫بشأن "الدولة الديمقراطية" لجزائر ما بعد االستقالل‪ -‬مفتوحا‬
‫الجمهورية املراد تطبيقها‪ ،‬وهو ما يوحي ببعد نظرهم وتركهم الفصل في ذلك ألوانه‪ ،‬على‬
‫ّ‬
‫أن تقوم الطبقة السياسية ورجال القانون في املستقبل باالتفاق واختيار ما يناسبها من‬
‫ّ‬
‫األنظمة والديمقراطيات‪ ،‬وهذا ما يؤكد ويبقي على مرونة نوع الدولة الديمقراطية التي‬
‫يرتضيها الجزائريون ألنفسهم ‪ -‬بعد التحاور والتشاور‪ -‬حاضرا ومستقبال‪.‬‬
‫ّ‬
‫وفكر ّ‬ ‫ب‪ -‬املبدأ االجتماعي‪ :‬عانى الشعب الجزائري ّ‬
‫محررو‬ ‫برمته من ظلم االحتالل‪،‬‬
‫البيان بإشراكه في تحرير البالد‪ ،‬وكعربون لهذا العناء الطويل والجهد املبذول من قبله‪،‬‬
‫كان ال ّبد من إحداث عدالة اجتماعية تكفل العيش الكريم لإلنسان الجزائري قاطبة‪،‬‬
‫ّ‬
‫الهشة واملحرومة اجتماعيا من ّ‬
‫كل معاناة‪ ،‬لتمحو بذلك فترة زمن الشقاء‬ ‫وتحمي فئاته‬
‫والتعاسة إلى غير رجعة‪ .‬وبالعودة إلى املؤتمر الثاني لحركة انتصار الحريات الديمقراطية‬
‫سنة ‪ 1953‬نجده يستعمل عبارة "جمهورية ديمقراطية واجتماعية"‪ ،22‬يراعى فيها‬
‫بالرخاء على معيشة الجزائريين من خالل التوزيع‬‫إحداث ازدهار اقتصادي ينعكس ّ‬
‫العادل للدخل الوطني‪ ،‬الذي ّ‬
‫يحقق هدف العدالة االجتماعية‪23.‬‬

‫ّ‬
‫ويؤكد هذا الطرح ما قاله الشهيد العربي بن مهيدي في جريدة املجاهد ب ّ‬
‫أن‪" :‬‬
‫ّ‬
‫املحتل اإلمبريالي‪ ،‬والحصول على شكل‬ ‫الشعب الجزائري يحمل السالح ّ‬
‫مرة أخرى لطرد‬
‫ّ‬
‫يتضمن بشكل‬ ‫للحكم هو الجمهورية الديمقراطية االجتماعية‪ ،‬ومن أجل نظام اشتراكي‬

‫‪ - 21‬رابح لونيس ي‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.26‬‬


‫‪ - 22‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.30‬‬
‫‪23-‬‬ ‫‪Collot, op-cit, P.314.‬‬

‫‪18‬‬
‫يخلف حاج عبد القادر‬

‫خاص إصالحات زراعية عميقة وثورية في سبيل حياة معنوية ومادية الئقة"‪ ،24‬وأل ّن‬
‫تم تكييفها إلقناع معارض ي هذا الطرح‪،‬‬ ‫االشتراكية لم تكن تلقى قبوال لدى ّ‬
‫النخبة‪ ،‬فقد ّ‬
‫بعد صبغها بالصبغة اإلسالمية من قبل ّ‬
‫مؤيديها‪ ،‬الذين حملوا شعار "االشتراكية‬
‫اإلسالمية"‪ ،‬لالستدالل على ّأنها تختلف عن النماذج ّ‬
‫املطبقة في أوربا الشرقية‪ ،‬الصين‬
‫والفيتنام وكوبا‪ ،‬مستندين على الحديث الذي رواه الخالل والحكم عن ّ‬
‫النبي صلى هللا‬
‫يدل على ّ‬
‫أن‬ ‫ومما ّ‬‫عليه وسلم في قوله‪ ":‬الناس شركاء في ثالث في الكأل واملاء والنار"‪ّ 25.‬‬
‫صرح به لخضر بن طوبال أثناء برنامج‬ ‫الفصل في هذه املسألة كان سابقا ألوانه‪ ،‬ما ّ‬
‫طرابلس‪ ،‬عندما سئل عن مستقبل االشتراكية كنظام في الجزائر‪ ،‬فكان ّرده‪ ":‬ال نقول ّ‬
‫إن‬
‫الجزائر ستكون اشتراكية‪ ،‬لكن ستكون اجتماعية‪ّ ،‬‬
‫وأن مستقبل البالد ال يمكن أن‬
‫ّ ّ‬
‫يتحدد إال بواسطة مجلس منتخب‪.‬‬

‫لقد غلب على القيادة الثورية التي صاغت البيان السير على نهج الديمقراطيات‬
‫ّ‬
‫التحررية في‬ ‫الشعبية للدول االشتراكية التي تأثرت بها بسبب وقوفها إلى جانب الثورات‬
‫ّ‬
‫ستتبنى املبدأ‬ ‫ورد ّ‬
‫أن الجمهورية الجزائرية االشتراكية‬ ‫العالم‪ ،‬فكشفوا بعد أخذ ّ‬

‫االجتماعي الذي ال يختلف حوله اثنان وإن اختلف في شأن نظام الدولة االشتراكية‪ .‬وهو‬
‫ّ‬
‫املبدأ الذي لم تتخل عنه الجزائر إلى يومنا هذا وال أعتقد ّأنها ستفكر في إخراجه من‬
‫حساباتها مستقبال ّ‬
‫ألن ذلك يتنافى مع ما ورد في البيان‪ ،‬الذي أصبح مرجعا لسياسة‬
‫الدولة الجزائرية باختالف مشاربها‪.‬‬

‫ج‪ -‬املبادئ اإلسالمية‪ :‬أشار بن خدة إلى الجدل الذي أثير في املؤتمر الثاني لحركة‬
‫انتصار الحريات الديمقراطية عام ‪ ،1953‬حول فكرة جمهورية إسالمية التي طرحها‬
‫ّ‬
‫تستغل‬ ‫لكن البعض اعترض على ذلك ّ‬
‫بحجة أن ال‬ ‫بمعية عبد الرحمن بن العقون‪ّ ،‬‬
‫ّ‬

‫‪24 - voir‬‬ ‫‪El-Moudjahid, n° 43 du 08/06/1959 et n° 68 du 05/08/1960.‬‬


‫‪ - 25‬ابن حجر العسقالني‪ ،‬بلوغ املرام من أدلة األحكام‪ ،‬ص‪.276‬‬

‫‪19‬‬
‫أبعاد بيان أول نوفمبر‪ 1954‬بين مرجعيات إعادة تأسيس الدولة الجزائرية واستراتيجيات املستقبل‬

‫فرنسا ذلك سالحا فتستعمله ضد الجزائر‪ ،‬بإثارة الغرب املسيحي وتحويل حربها على‬
‫ّ‬
‫الجزائريين إلى حرب صليبية؛ وانتهى األمر باالتفاق على "إقامة الدولة الجزائرية‬
‫الديمقراطية واالجتماعية ذات السيادة في إطار املبادئ اإلسالمية"‪ .26‬وسيطرح النقاش‬
‫مجددا حول ذلك أثناء تدوين البيان‪ ،‬فالشهيد مصطفى بن بولعيد أقنع بوضياف‬ ‫ّ‬

‫بإقامة دولة جزائرية ضمن أطر إسالمية‪ ،‬بعد رفضه الطرح القاض ي بإقامة دولة‬
‫إسالمية‪ّ ،‬‬
‫تجنبا لغضب دول غربية صديقة‪ ،‬كانت الجزائر في حاجة ماسة ملساعدتها‬
‫ودعمها"‪ 27.‬ومهما يكن ّ‬
‫فإن صائغي البيان ّ‬
‫عبروا على احترام الحريات األساسية دون‬
‫تمييز عرقي أو ديني؛ ويبدو ّأنهم تعاملوا مع هذه املسألة بحكمة تجذب شعوب وحكومات‬
‫الغرب املسيحي ملساعدة ودعم الثورة الجزائرية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إن القول بإقامة دولة جزائرية ‪...‬في إطار املبادئ اإلسالمية‪ ،‬يؤكد مدى مستوى‬
‫الوعي الذي تعامل به أصحاب البيان مع هذا املبدأ‪ ،‬من منطلق ّ‬
‫تقبل الفكرة خارجيا‬
‫وداخليا‪ ،‬فاملجتمع الجزائري حينئذ كان مجتمعا ريفيا بامتياز‪ ،‬حيث كانت الجزائر سنة‬
‫‪ 1954‬تعد ‪ 8460000‬نسمة من بينهم ‪ 5450000‬نسمة أي ‪ %73‬يعيشون في الريف‪،28‬‬
‫ّ‬
‫محررو البيان ّأن الثورة يجب أن تكون عن طريق الفالحين‪29‬؛ فما لم‬
‫ثم أدرك ّ‬ ‫ومن ّ‬
‫ثم ّإنه باإلضافة إلى كون‬
‫يحتضن هؤالء الثورة ال يمكن لها أن تصل إلى طور النضج‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫الريفي األكثر ّ‬ ‫املجتمع ّ‬
‫تضررا بتسلط الكولون على أجود األراض ي‪ ،‬وهو ما جعل دخل‬
‫املعمر سنة ‪ 1954‬يصل إلى ‪ 800000‬فرنكا‪ ،‬مقابل دخل الفالح الجزائري الذي بلغ‬‫ّ‬
‫‪ 17691‬فرنكا‪ 30.‬وفضال عن ما سبق ذكره كان املجتمع ّ‬
‫الريفي أكثر محافظة على دينه‪،‬‬

‫‪26‬‬‫بن يوسف بن ‪- Benyoucef Benkhedda, Les Origines du 1 er Novembre 1954, P.222./‬‬


‫ّ‬
‫خذة‪ ،‬جذور أول نوفمبر ‪ ،1954‬ص‪.350‬‬
‫‪ - 27‬محمد زغيدي‪ ،‬يومية الفجر‪ ،‬الجمعة ‪ 22‬يناير ‪.2016‬‬
‫‪ - 28‬محمد حربي‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.85‬‬
‫‪ - 29‬حمد حربي‪ ،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.165‬‬
‫‪ - 30‬محمد العربي الزبيري‪ ،‬تاريخ الجزائر املعاصر (‪ ،)1954-1962‬ج‪ ،2‬ص‪.10‬‬

‫‪20‬‬
‫يخلف حاج عبد القادر‬

‫وبناء على ذلك وباعتبار ّ‬


‫أن صائغي بيان أول نوفمبر كانوا ينتمون إلى شعب يعرفون ّ‬
‫جيدا‬
‫مدى تقديسه لإلسالم‪ ،‬الذي أصبح بمثابة ّ‬
‫الروح للجسد لدى أبنائه‪ ،‬فكان الحافز‬
‫كل الثورات التي خاضها الشعب الجزائري باسم الجهاد ّ‬
‫ضد االحتالل‬ ‫املعنوي في ّ‬
‫الفرنس ي؛ فالقول بهذه املبادئ ال يسقط التعامل باإلسالم في جميع املمارسات بل يترك‬
‫الباب مفتوحا على مصراعيه في عالم السياسة‪ ،‬وفي املجال االجتماعي واملعامالت‬
‫التجارية واالقتصادية‪ ،‬باالستفادة تجارب اآلخرين ما دامت هذه التجارب ال تعارض فيها‬
‫مع مقاصد الشريعة التي تدور حول مصالح ثالث وهي‪ :‬درء املفاسد‪ ،‬وجلب املصالح‪،‬‬
‫حل مشاكل ّ‬
‫الناس التي‬ ‫والجري على مكارم األخالق ومحاسن العادات‪ ،31‬وتساعد على ّ‬
‫استعصت بما يخدم العدل‪ ،‬في دولة العدل والقانون التي ينشدها ّ‬
‫كل الجزائريين‪.‬‬
‫ّ‬
‫إن عبارة "في إطار املبادئ اإلسالمية" ال تقص ي غير املسلمين في إطار دولة‬
‫العدل والقانون التي يتساوى فيها الجميع بدون استثناء‪ .‬ويدخل ضمن هؤالء األطراف‬
‫األخرى التى كانت تعيش في املجتمع الجزائري من يهود ونصارى‪ ،‬حيث يجب أن تكفل‬
‫حقوقهم وتراعى مصالحهم بدون نقصان في دولة جزائر املستقبل ما بعد االستقالل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والحقيقة التي يجب التنويه بها في هذا املقام ّأن البيان في شكله هذا إنما استشف بنوده‬
‫بالذات من سماحة اإلسالم التي ّ‬ ‫ّ‬
‫نص عليها دستور املدينة‪ ،‬الذي عقده‬ ‫في هذه النقطة‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم مع ساكنتها من اليهود‪ ،‬فلم يستثنهم من الحقوق وعلى‬
‫رأسها ممارسة شعائرهم الدينية شريطة القيام بواجباتهم‪ ،‬وعدم املساس بحرمة الدين‬
‫قمة النضج الفكري والسياس ي لصائغي البيان‬ ‫ّ‬
‫والتعدي على أهله‪ .‬وتلك لعمري ّ‬ ‫اإلسالمي‬
‫في التعاطي مع غير املسلمين في أرض الجزائر ودولتها حاضرا ومستقبال‪.‬‬

‫‪ -3 .2‬البعد التاريخي والحضاري‪ :‬أشار البيان في النقطة الثانية من األهداف الخارجية‬


‫إلى األبعاد الطبيعية للوحدة كما يراها صائغوه من أجل " تحقيق وحدة شمال إفريقيا في‬
‫ّ ّ‬
‫الصالبي‪ ،‬الدولة الحديثة املسلمة دعائمها ووظائفها‪ ،‬صص‪.204-201‬‬ ‫‪ - 31‬علي محمد محمد‬

‫‪21‬‬
‫أبعاد بيان أول نوفمبر‪ 1954‬بين مرجعيات إعادة تأسيس الدولة الجزائرية واستراتيجيات املستقبل‬

‫إطارها الطبيعي العربي واإلسالمي"‪ ،‬وإذا عدنا إلى الفقرة الثالثة من البيان وجدنا‬
‫السباقين إلى وحدة األقطار الثالثة‪ ،‬والتعبير باألقطار‬ ‫ّ‬
‫يتحدثون ب ّأنهم كانوا ّ‬ ‫أصحابه‬
‫ّ‬ ‫مستقلة يومئذ‪ ،‬بل القصد من ذلك ّ‬ ‫ّ‬ ‫الثالثة ال يقص ي ليبيا ّ‬
‫العدو كان‬ ‫أن‬ ‫ألنها كانت‬
‫ّ‬
‫واحدا (االحتالل الفرنس ي) وهو ما يشكل قاسما مشتركا بين تونس‪-‬املغرب والجزائر‪،‬‬
‫فالشمال اإلفريقي في بعده الجغرافي والتاريخي والحضاري جزء ال ّ‬
‫يتجزأ من العالم العربي‬
‫واإلسالمي‪ ،‬فهو امتداد له في التضاريس وفي اللغة والعقيدة‪ ،‬التي ربطت بين البربر‬
‫الرابطة‪ّ ،‬‬
‫فرد عليه الشيخ‬ ‫والعرب في هذه األقطار‪ .‬وقد حاول االستدمار ّ‬
‫النيل من هذه ّ‬
‫عبد الحميد بن باديس الصنهاجي في مقال له تحت عنوان‪" :‬ما جمعته يد هللا ال ّ‬
‫تفرقه يد‬
‫ّ‬
‫الشيطان"‪ ،‬فقال‪ّ :‬‬
‫"إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم اإلسالم منذ بضعة عشر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشدة ّ‬ ‫قرنا‪ّ ،‬‬
‫والرخاء‪ ،‬وتؤلف بينهم في العسر‬ ‫ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في‬
‫كونت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرا‬ ‫والضراء‪ّ ،‬‬
‫حتى ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫السراء‬ ‫ّ‬
‫وتوحدهم في‬ ‫واليسر‪،‬‬
‫مسلما جزائريا ّأمه الجزائر وأبوه اإلسالم‪ ،‬وقد كتب أبناء يعرب وأبناء مازيغ آيات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اتحادهم على صفحات هذه القرون‪ ،‬بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشرف إلعالء كلمة‬
‫قوة بعد هذا يقول‬ ‫أي ّ‬ ‫هللا‪ ،‬وما أسالوا من محابرهم في مجالس ّ‬
‫الدرس لخدمة العلم‪ ،‬ف ّ‬
‫عاقل تستطيع أن ّ‬
‫تفرقهم؟ لو ال الظنون الكواذب واألماني الخوادع‪ ،‬يا عجبا! لم يفترقوا‬
‫ّي ّ‬
‫كال وهللا بل ال تزيدهم ّ‬
‫كل محاولة للتفريق‬ ‫وهم األقوياء‪ ،‬فكيف يفترقون وغيرهم القو ؟‬
‫شدة في ّاتحادهم ّ‬
‫وقوة لرابطتهم‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫إال ّ‬
‫ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم‪ ،‬واإلسالم له‬ ‫بينهم‬
‫حارس وهللا عليه وكيل‪32."...‬‬

‫أن البعد التاريخي والحضاري لشمال إفريقيا –وإن كان‬ ‫تقدم ّيتضح لنا ّ‬
‫ومما ّ‬
‫ّ‬
‫يتحدث عن القطر الجزائري‪ -‬هو ّ‬
‫الهوية األمازيغية التي تجمع بين هذه األقطار‬ ‫النص ّ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫التي زادت لحمة باعتناقهم لإلسالم‪ ،‬الذي أصبح يمثل رأس مثلث أبعاد الهوية املغاربية‪،‬‬

‫‪ - 32‬البصائر‪ ،‬السنة األولى‪ ،‬العدد ‪ ،3‬الجمعة ‪ّ 22‬‬


‫شوال ‪1354‬ه‪ 17/‬جانفي ‪1936‬م‪ ،‬ص‪.2‬‬

‫‪22‬‬
‫يخلف حاج عبد القادر‬

‫وقاعدته العروبة واألمازيغية‪ ،‬فالعبرة من النص بعموم اللفظ ال بخصوص السبب‪.‬‬


‫ّ‬
‫التشبت بهذه األبعاد في إطار‬ ‫وأبناء الجزائر مدعوون اليوم أكثر من ّ‬
‫أي وقت مض ى إلى‬
‫الدولة الوطنية التي يعيشون داخل حدودها السياسية‪ ،‬والحرص على إرساء قواعد‬
‫مغرب الشعوب الذي يعتبر ضرورة حتمية ال ّ‬
‫مفر منها في انتظار تجسيد وحدة املغرب‬
‫مما ّ‬
‫يفرقنا‪.‬‬ ‫الكبير سياسيا واقتصاديا وثقافيا‪ّ ،‬‬
‫ألن ما يجمعنا أكثر بكثير ّ‬

‫‪ -4 .2‬البعد اإلعالمي‪ :‬لقد كان اإلعالم بالحدث يقتض ي إخراج الثورة من الكتمان‬
‫شك ّأن الكثير من األسئلة طرحتها القيادة الثورية‬
‫والسرية إلى الجهر والعلنية‪ ،‬وما من ّ‬
‫ّ‬
‫على طاولة النقاش متسائلة فيها عن طريقة تفجير الثورة وكيفية إبالغ الشعب الجزائري‬
‫بذلك‪ ،‬وما هي وسائل طبع البيان وكيفية تبليغه وتوزيعه في الداخل والخارج؟ وما هي‬
‫اإلجراءات التي ينبغي اتخاذها بعد التفجير والتوزيع؟ وكانت وثيقة بيان أول نوفمبر أول‬
‫عمل إعالمي‪ ،‬سيفتح الباب الحقا لخدمة وتطوير اإلعالم الثوري " كأسلوب من أساليب‬
‫ّ‬
‫املسلح"‪ ،33‬وقد ّ‬
‫وجه البيان في بعده اإلعالمي إلى الشعب‬ ‫الكفاح مثله مثل الكفاح‬
‫عامة‬ ‫ّ‬
‫خاصة والدولة الفرنسية والرأي العام بفرنسا والرأي العام العالمي ّ‬ ‫الجزائري‬
‫لإلعالم بميالد جبهة التحرير وجيش التحرير الوطنيين‪ ،‬وتحديد األهداف الداخلية‬
‫والخارجية للثورة الجزائرية ووسائل كفاحها‪.‬‬

‫وإيمانا منهم بتوعية الشعب الجزائري‪ ،‬وتحذيره من سموم الدعاية الفرنسية‬


‫كل وسائلها وتوظيف ّ‬
‫كل طاقاتها املادية والبشرية‬ ‫املغرضة‪ ،‬التي لن تتوانى في تسخير ّ‬
‫إلفشال املشروع الثوري‪ ،‬وحتى تكون هذه الوالدة سليمة ويكتب لها أن تكبر ويتعاظم‬
‫شأنها مع مرور ّ‬
‫األيام‪ ،‬فقد ّ‬
‫قررت القيادة الثورية عبر البيان مخاطبة الشعب الجزائري‬
‫بكل شرائحه مباشرة‪ّ ،‬‬
‫ومما ورد في ذلك‪ " :‬إليكم‪ ،‬أنتم الذين ستصدرون‬ ‫في الداخل ّ‬
‫خاصة‪ -‬نعلمكم ّأن غرضنا من نشر هذا‬
‫ّ‬ ‫حكمكم بشأننا‪ -‬الشعب عامة واملناضلين‬

‫‪ - 33‬عبد املجيد شيخي‪ ،‬مفهوم الثورة لإلعالم من خالل املواثيق والبيانات‪ ،‬ص‪.179‬‬

‫‪23‬‬
‫أبعاد بيان أول نوفمبر‪ 1954‬بين مرجعيات إعادة تأسيس الدولة الجزائرية واستراتيجيات املستقبل‬

‫اإلعالن أن ّ‬
‫نوضح لكم األسباب العميقة التي دفعتنا إلى العمل‪ ،‬وذلك بأن نعرض عليكم‬
‫مشروعنا والهدف من عملنا‪ ،‬وصواب وجهة نظرنا التي يبقى هدفها دائما هو االستقالل‬
‫الوطني في إطار الشمال اإلفريقي‪ .‬ورغبتنا أيضا أن ّ‬
‫نجنبكم االلتباس الذي قد تلجأ إليه‬
‫اإلمبريالية وعمالؤها اإلداريون‪ ،‬وبعض محترفي السياسة االنتهازية"‪.34‬‬
‫ّ‬
‫وقد دلت الفقرة على املبادئ اإلعالمية التي سارت عليها الجبهة في املرحلة األولى‬
‫ضد محاولة‬ ‫محددة‪ :‬الجمهور املخاطب (ملن)‪ ،‬التحصين ّ‬ ‫من الثورة (‪ّ ،)1954-1956‬‬

‫التزييف‪ ،‬وااللتزام بمبادئ الثورة والعمل على توضيحها (املحتوى)‪ ،‬إلى جانب كشف‬
‫والصدق في األخبار (إعالم وإعالم مضاد)‪ .35‬كما ّ‬
‫يتميز بيان أول‬ ‫الحقيقة أمام الجماهير ّ‬
‫ّ‬
‫التوجه‬ ‫نوفمبر بمبدأ النقد الذاتي املوضوعي‪ ،‬في ّ‬
‫تعرضه للحركة الوطنية ومساهمتها في‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫متحدثا عن العوامل التي جعلت هذه الحركة تنكمش شيئا فشيئا‬ ‫نحو الثورة املسلحة‪،‬‬
‫ظن ّأنه انتصر على القوى التي ّ‬
‫تتقدم الكفاح الجزائري‪ 36.‬وقد‬ ‫أمام االستعمار الذي ّ‬
‫خاطب صائغو البيان الخارج لكسب تأييد ّ‬
‫الرأي العام العالمي بعد أن تعمل الثورة على‬
‫ّ‬
‫القضية‬ ‫تغيير الصورة التي رسمتها لها فرنسا‪ ،‬وفي هذا اإلطار ّ‬
‫نص البيان على تدويل‬
‫الجزائرية وإخراجها من إطار السياسة الفرنسية الداخلية‪ ،‬التي كانت تزعم ّ‬
‫بأن الجزائر‬
‫يدوي في آذان ّ‬‫وكأني بصوت الشيخ ابن باديس ّ‬ ‫ّ‬ ‫جزء ال ّ‬
‫محرري‬ ‫يتجزأ من التراب الفرنس ي‪،‬‬
‫البيان‪ّ ":‬إن الجزائر ليست فرنسا ولن تكون فرنسا ولو أرادت" وهذا بالفعل ما كان على‬
‫يتجسد عبر مساندة حلفائها ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التارخيين‬ ‫القضية الجزائرية إنما‬ ‫الثورة أن تفعله‪ .37‬وتدويل‬
‫وكل القوى ّ‬
‫املحبة للعدل والسالم‪ .‬وهكذا يبقى بيان أول نوفمبر أول عمل‬ ‫وهم العرب ّ‬
‫إعالمي ّ‬
‫يوزع على نطاق واسع‪ ،‬يعرب عن ميالد الثورة الجزائرية‪ ،‬ويستطيع اختراق إعالم‬

‫‪ - 34‬الفقرة ‪ 1‬من البيان‪ ،‬محمد العربي الزبيري‪ ،‬حزب جبهة التحرير ‪ ،...‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.289‬‬
‫‪ - 35‬أحمد حمدي‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.41‬‬
‫‪ - 36‬املجاهد‪ ،‬العدد‪ ،4‬الصادر في شهر أكتوبر ‪( 1956‬عدد خاص)‪ ،‬ص‪.5‬‬
‫‪ - 37‬عبد الحميد شيخي‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.182-181‬‬

‫‪24‬‬
‫يخلف حاج عبد القادر‬

‫ّ‬
‫والتحرر‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ويتوجه إلى الجماهير الجزائرية ليخاطبها بلغة الثورة‬ ‫االستعمار بنجاح تام‪،‬‬
‫وهي لغة وجدت صداها الكبير في ّ‬
‫تقبل الجماهير وتعبئتها‪38.‬‬

‫أن البيان ّأكد على استمرار الكفاح ّ‬


‫بكل الوسائل لتحقيق األهداف‬ ‫مع العلم ّ‬

‫اآلنية للثورة بنجاح في مشروع إعادة بناء الدولة الجزائرية العصرية‪ ،‬واألهداف‬
‫املستقبلية وعلى رأسها الحفاظ على رسالة نوفمبر الخالدة‪ .‬ومن ّ‬
‫تم وجب على الجزائريين‬
‫نخبة وشعبا مواصلة الرسالة اإلعالمية للبيان في الجزائر ّ‬
‫الراهنة لكسب رهان املعركة‬
‫ّ‬
‫اإلعالمية على الدوام‪ ،‬لحفظ البالد من االنزالقات املخطط لها من وراء البحر إلحداث‬
‫ّ‬
‫ما يعرف بالفوض ى الخالقة‪ ،‬عبر تسويق األخبار الكاذبة ودعوات التفرقة التي ال ولن‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والتصدي لها وتفويت الفرصة على مخططات اإلعالم‬ ‫تتوقف‪ ،‬ما لم نعمل على إيقافها‬
‫ومسميات أخرى‪.‬‬‫ّ‬ ‫املسموم‪ ،‬الذي يستهدف استقرار الجزائر ووحدتها باسم املوضوعية‬
‫‪ - .2‬البعد القانوني‪ّ :‬‬
‫يعد بيان أول نوفمبر وثيقة قانونية مكتوبة استندت على أحقية‬ ‫‪5‬‬
‫ّ‬
‫الشعب الجزائري في استرجاع حقه املسلوب‪ ،‬باستعادة الدولة التي ّ‬
‫غيبها االحتالل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بالحق املشروع‬ ‫الفرنس ي منذ احتالله للبالد‪ ،‬وقد ركز صائغو البيان على املطالبة‬
‫للجزائريين بالعيش أحرارا كما كانوا قبل االعتداء على وطنهم؛ الذي مض ى على احتالله‬
‫ّ‬
‫الحق ال يسقط بالتقادم‪ ،‬كما أ ّن الشعب الجزائري لم يتوقف‬
‫إن هذا ّ‬ ‫‪ 125‬سنة‪ ،‬ذلك ّ‬
‫ّ‬ ‫عن محاربة االستدمار الفرنس ي ّ‬
‫بكل أنواع املقاومات املسلحة والسياسية من أجل‬
‫ثم ّ‬
‫فإن البيان دعوة لفرنسا باالحتكام إلى العقل‬ ‫الحق ّ‬
‫الضائع‪ ،‬ومن ّ‬ ‫الحصول على هذا ّ‬
‫منا ّ‬
‫بالقوة‪.‬‬ ‫القوة السترجاع ما أخذ ّ‬
‫والقانون‪ ،‬قبل اللجوء إلى ّ‬
‫يتقدمهم القاض ي محمد بجاوي‪ّ -‬‬
‫قضية‬ ‫وقد صنع الحقوقيون الجزائريون ‪ّ -‬‬
‫إعالمية ناجحة‪ ،‬بجمعه ّمللف مليئ بالوثائق ّ‬
‫يدل بوضوح على ّأن الدولة الجزائرية كانت‬
‫موجودة قبل الغزو الفرنس ي الوحش ي على الجزائر سنة ‪ ،1830‬واندهش الحضور في‬

‫‪ - 38‬أحمد حمدي‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.45‬‬

‫‪25‬‬
‫أبعاد بيان أول نوفمبر‪ 1954‬بين مرجعيات إعادة تأسيس الدولة الجزائرية واستراتيجيات املستقبل‬

‫مرة إلى هذه الحجج القاطعة‪ ،‬التي ّ‬


‫تدل على‬ ‫ألول ّ‬ ‫هيئة األمم ّ‬
‫املتحدة وهم يستمعون ّ‬
‫الجزائر كانت قبل االحتالل الفرنس ي دولة ذات سيادة لها علمها ولها حكومتها‪ ،‬فضال عن‬
‫املعاهدات التي كانت تربطها بمختلف دول العالم ومن بينها أمريكا‪ ،‬وعندها زال ّ‬
‫الزيف‬
‫الحجة والبيان‪ 39.‬وال يختلف عاقالن على ّأن العمل بهذه‬
‫مرة أخرى أمام ّ‬
‫وسقط القناع ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الوثيقة يرقى إلى مستوى الدستور‪ ،‬ذلك أنه ال يتوقف عند الجانب القانوني للبيان بل‬
‫ّ‬
‫يتعداه إلى كيفية تنظيم وتسيير جزائر ما بعد االستقالل سياسيا وقانونيا‪ ،‬فهو مرجع‬
‫ّ‬
‫املشرع الجزائري القواعد القانونية للدستور الجزائري وسائر قوانين‬ ‫يستلهم منه‬
‫الجمهورية الجزائرية ّ‬
‫املطبقة على التراب الوطني‪.‬‬
‫ّ‬
‫إال بعد أن استنفذوا ّ‬
‫كل‬ ‫‪ -6 .2‬البعد اإلنساني للبيان‪ :‬لم يلجأ صائغو البيان إلى الثورة‬
‫كل املطالب السياسية‪ ،‬التي تحاشتها فرنسا فلم تصغ يوما إلى ما كانت‬ ‫وجربوا ّ‬
‫األسباب ّ‬
‫أن ّ‬
‫السلم في الجزائر يجب أن يفض ي‬ ‫ترفعه الحركة الوطنية من نداءات‪ ،‬تراهن فيها على ّ‬
‫إلى تطبيق مبدأ تقرير املصير‪ ،‬الذي يعيد الكرامة لإلنسان الجزائري‪ ،‬ويمنحه ّ‬
‫حقه‬
‫الطبيعي في املواطنة الذي سلبه ّإياه هذا االستعمار الغاشم‪ ،‬ورغم ّأن فرنسا استفاقت‬
‫شرا ال ّبد‬
‫في ‪ 1‬نوفمبر ‪ 1954‬على وقع الثورة التي أصبحت بالنسبة للجزائريين املسلمين ّ‬
‫حق الشعب‬ ‫الحريات األساسية في ّ‬
‫أصرت في استعالئها‪ ،‬وتجاهلها ملبدأ احترام ّ‬ ‫منه‪ّ ،‬‬
‫فإنها ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الجزائري دون سواه من األقليات األخرى التي كانت ترعاها وتحميها على أرض الجزائر‪ ،‬إال‬
‫قدمت القيادة الثورية فيه‬‫نص البيان رغم الظرف االستثنائي الذي كتب فيه‪ ،‬فقد ّ‬ ‫أن ّ‬‫ّ‬

‫ضماناتها التي تكفل احترام جميع الحريات األساسية‪ ،‬دون تمييز عرقي أو ديني في دولة‬
‫ّ‬ ‫الجزائر التي سيعاد بناؤها بجميع ّ‬
‫مكوناتها البشرية بما في ذلك األقليات األوروبية‪ ،‬وهو‬
‫ّ‬
‫يؤكد النزعة السلمية لجبهة التحرير الوطني كحركة ّ‬
‫تحررية تهدف إلى تصفية النظام‬ ‫ما‬
‫االستعماري‪ ،‬من أجل حمل فرنسا على االعتراف بهذا املبدأ اإلنساني الدولي‪.‬‬

‫‪ -39‬األمين بشيش ي‪،‬نماذج من اإلعالم واإلعالم املضاد‪ ،‬ضمن‪ :‬اإلعالم ومهامه أثناء الثورة‪ ... ،‬ص‪.279-278‬‬

‫‪26‬‬
‫يخلف حاج عبد القادر‬

‫وفي أول تصريح لها أشادت الحكومة املؤقتة للجمهورية الجزائرية باعتراف‬
‫ومما ورد بهذا‬ ‫ّ‬
‫بالقضية الجزائرية‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫املحبة للسالم وأحرار العالم‬ ‫وتعاطف الشعوب‬
‫كل روح سيطرة‪ ،‬يدينون‬ ‫الشأن‪ّ " :‬‬
‫إن غارس ي األفكار الجديدة وبناة إنسانية خالية من ّ‬
‫تحفظ كامل النظام االستعماري‪ ،‬وهؤالء الرجال الذين ينتمون إلى ّ‬
‫كل العقائد‬ ‫بدون ّ‬
‫جلهم أصدقاؤنا وحلفاؤنا‪ ...‬للشعب الجزائري مساندات ّ‬ ‫ّ‬
‫قوية ومتينة وهو ال‬ ‫واألصول‬
‫عدوا للشعب الفرنس ي ّ‬
‫ولكنه عدو لالستعمار‬ ‫يقوم بالحرب من أجل الحرب‪ ،‬وهو ليس ّ‬
‫ّ‬
‫إال في إطار احترام وسيادة ّ‬
‫كل‬ ‫تم ّإن الصداقة بين الشعوب ال يمكن أن تفهم‬ ‫فحسب‪ّ ،‬‬
‫حق الشعب الجزائري‪ ،‬الذي عانى من‬ ‫ضد اإلجحاف في ّ‬ ‫واحد منها"‪ 40.‬فالثورة ّإنما قامت ّ‬
‫ّ‬ ‫مختلف أنواع التمييز‪ ،‬التي ألغت ّ‬
‫كل مساواة بما فيها الطبيعية بين أفراد البشر‪ ،‬وشكلت‬
‫ضد وضع أرادت السلطات االستدمارية تثبيته وصبغه بصبغة الديمومة‪ ،‬خدمة‬ ‫انقالبا ّ‬
‫ّ‬
‫ملصالح األقلية األوروبية لتزداد ثراء وهيمنة‪ ،‬مقابل إذالل جماعي لـ‪ 10‬ماليين من البشر‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إال لكونهم جزائريين‪41.‬‬ ‫جردوا من أبسط الحقوق ال لسبب‬
‫ّ‬ ‫ومن املالحظ ّ‬
‫أن فرنسا منذ غزوها للجزائر وهي ّ‬
‫تميز بين األقلية األوروبية من‬
‫مجرد ّ‬
‫رعية ال‬ ‫املستوطنين وباقي الشعب الجزائري الذي كانت تصفه باألهلي وتعتبره ّ‬
‫يملك صفة املواطنة‪ ،‬أو تنعته بـ "املسلم" ّ‬
‫لتمسكه بعقيدته ووقوفه في وجه إغراءات‬
‫التبشير ومحاوالت التنصير التي استهدفت القضاء على معتقده اإلسالمي وإضعاف‬
‫ّ‬
‫الحمية الدينية عند الجزائري‪ .42‬كما يالحظ من يقرأ البيان إشارته إلى الدولة الجزائرية‬
‫التي يراد إقامتها‪ّ ،‬‬
‫بأنها دولة ذات سيادة ضمن إطار املبادئ اإلسالمية‪ ،‬ويشير هذا‬
‫التحديد إلعادة االعتبار إلى الدين اإلسالمي الذي كانت تحاصره السلطات اإلدارية‬
‫ّ‬
‫وتتحكم في ّ‬ ‫ّ‬
‫كل نشاطاتهم الدينية‪ ،‬بل تتالعب بمشاعر‬ ‫وتضيق على أهله‬ ‫الفرنسية‪،‬‬

‫‪ - 40‬النصوص األساسية لجبهة التحرير الوطني ‪ ،1962-1954‬ص‪.140‬‬


‫ّ‬
‫‪ - 41‬عامر رخيلة‪ ،‬البعد اإلنساني في الثورة الجزائرية‪ ،‬مجلة املصادر‪ ،‬ص‪.48‬‬
‫‪ - 42‬ناصر الدين سعيدوني‪ ،‬نظرة في البعد التاريخي للثورة الجزائرية أي املشروع الحضاري للثورة الجزائرية‪ ،‬ص‪.159‬‬

‫‪27‬‬
‫أبعاد بيان أول نوفمبر‪ 1954‬بين مرجعيات إعادة تأسيس الدولة الجزائرية واستراتيجيات املستقبل‬

‫املسلمين بضرب املدافعين عن حمى اإلسالم الصحيح ببعض االنتهازيين املنتسبين إلى‬
‫(املر ْابطين)‪ -‬الذين باعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل‪-‬‬ ‫هذا ّ‬
‫السلك من بعض الطرقيين َ‬
‫فسروا ظاهرة االستعمار ب ّأنها قضاء وقدر محتوم!‬
‫لدرجة ّأنهم ّ‬

‫فسرت الدعاية االستعمارية "اإلطار اإلسالمي" للدولة الجزائرية التي‬‫وقد ّ‬


‫ضد الصليب‪ ،‬محاولة ا ّتهام الجبهة ّ‬
‫بالرجعية‬ ‫بأنها حرب الهالل ّ‬ ‫ّ‬
‫تحدث عنه البيان‪ّ ،‬‬
‫بأنها استمرار للحروب ّ‬
‫الصليبية‪ ،‬حتى‬ ‫تبرر حربها على الجزائريين ّ‬ ‫ّ‬
‫والتعصب الديني‪ ،‬لكي ّ‬
‫تحصل على تأييد الغرب املسيحي‪ ،‬وتبيح لنفسها ارتكاب الجرائم باسم حماية املسيحية‬
‫في الجزائر‪ ،‬وهو ما كانت تؤكده " تصريحات الجنراالت الواعية وغير الواعية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫التصريحات املبنية على ثنائية عرقية‪ 43.‬ونشير إلى ّ‬
‫أن صائغي البيان تفطنوا إلى مثل هذه‬
‫فعبروا بصريح العبارة ّأن مبدأ الحفاظ على العقيدة اإلسالمية في‬ ‫التأويالت الخاطئة‪ّ ،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫دولة الجزائر املستقلة‪ ،‬ال يعني إقصاء أو تهميش غير املسلمين في الجزائر‪ ،‬بل إنه يعني‬
‫األقلية األوروبية‪ ،‬بحيث سيحظى " الجميع باحترام ّ‬ ‫ّ‬
‫الحريات األساسية‬ ‫حفظ حقوق‬
‫دون تمييز عرقي أو ديني"‪ ،‬فانكشفت تأويالت الدعاية االستعمارية على حقيقتها‪ .‬ال سيما‬
‫العامة في ‪12‬‬ ‫ّ‬
‫بالتصدي لهذه املغالطة في الدورة ‪ 11‬للجمعية ّ‬ ‫عندما قامت جبهة التحرير‬
‫ّ‬ ‫نوفمبر ‪ ،1956‬أين " ّ‬
‫قدم الوفد الجزائري مذكرة لرئيس الدورة طلب فيها تسجيل‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تعذر إيجاد ّ‬
‫حل تفاوض ي للنزاع‬ ‫القضية الجزائرية في جدول األعمال‪ ،‬ودحض فيها ّادعاء‬
‫ّ‬
‫أن االقتراح ّ‬‫مبينا ّ‬ ‫ّ‬
‫األقلية األوروبية في الجزائر‪ّ ،‬‬
‫املقدم من جبهة التحرير‬ ‫بسبب مشكلة‬
‫ّ‬
‫لحل هذه املشكلة عادل وإنساني"‪44.‬‬

‫وهو ما أكده أيضا رئيس الحكومة املؤقتة فرحات ّ‬


‫عباس في الندوة الصحفية‬
‫التي عقدها في تونس في ‪ 12‬ديسمبر ‪ّ ،1960‬ردا على سؤال أحد الصحفيين حول ماهية‬

‫‪ - 43‬محمد بغاية‪ ،‬بيان أول نوفمبر ‪" ،1954‬دعوى إلى الحرب‪ ،‬رسالة للسالم"‪ ،‬قراءة في البيان‪ ،‬ص‪.33‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -44‬جمال ّ‬
‫قنان‪ ،‬تشكيل الحكومة املؤقتة نقلة نوعية في دبلوماسية جبهة التحرير الوطني‪ ،‬مجلة الذاكرة‪ ،‬ص‪.21‬‬

‫‪28‬‬
‫يخلف حاج عبد القادر‬

‫الضمانات التي تمنحونها للفرنسيين بعد االستقالل؟ فأجابه قائال‪ " :‬لقد ّ‬
‫حددنا موقفنا‬
‫إن لألوروبيين االختيار بين اكتساب الجنسية‬‫من هذا املوضوع مرا ا وتكرا ا‪ ،‬وقلنا ّ‬
‫ر‬ ‫ر‬
‫الجزائرية‪ ،‬وبين البقاء على جنسياتهم‪ ،‬وفي الحالة األولى تكون لهم نفس الحقوق‪ ،‬وعليهم‬
‫نفس الواجبات التي للجزائريين‪ ،‬وفي الحالة الثانية ّ‬
‫فإن ذلك ال يمنعهم من العيش في‬
‫أن البيان ونصوص الثورة برهنت على ّ‬
‫تفتح‬ ‫الجزائر ومن احترام حقوقهم"‪ 45.‬ونشير إلى ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كبير للذهن واحترام عميق لآلخر وللطائفة اليهودية‪( ،‬ولقد ناضل قلة قليلة من اليهود مع‬
‫عالق (‪ )Henri Alleg‬املدير ّ‬ ‫ي ّ‬
‫السابق لجريدة " ‪Alger‬‬ ‫الجبهة ومن بينهم هنر‬
‫‪ ،"Républicain‬وكان السفير األول للجزائر بكوبا من أصل يهودي)‪ ،‬وعلى تسامحها‬
‫تجاه األقدام السوداء‪ ،‬ولم يكن هدف الثورة طرد أوروبيي الجزائر منها‪ ،‬ولكن تحطيم‬
‫ّ‬
‫النير االستعماري الال إنساني‪ ،‬وعليه ال يمكن اعتبار الثورة الجزائرية حربا أهلية وال‬
‫حربا دينية‪46.‬‬

‫الحل العسكري بالدعوة للسلم من أجل‬ ‫ّ‬ ‫وقد واجهت جبهة التحرير خيار‬
‫ّ‬
‫املتكررة إلى املفاوضات‬ ‫إسكات صوت السالح وتغليب منطق الحوار‪ ،‬عن طريق دعواتها‬
‫عبر بيان أول نوفمبر ثم وثيقة الصومام‪ ،‬األمر الذي ّ‬
‫يدل على جنوح الجبهة للسلم‬
‫وامتثالها للقوانين واألعراف الدولية؛ وما اعتمادها للعمل الدبلوماس ي كأسلوب أساس ي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لحل النزاع بين الطرفين بالطرق الحضارية التي تنادي بها األمم املتحدة‪ ،‬إال برهان آخر‬
‫أن األمور كانت‬‫ومما يؤسف له ّ‬
‫على النوايا الحسنة لتجاوز األزمة بعيدا عن إراقة الدماء‪ّ ،‬‬
‫تسير عند الطرف اآلخر عكس ذلك‪ ،‬حيث استطاع غالة ّ‬
‫املعمرين التأثير على القرار‬
‫صرح بعجرفة وزير‬ ‫ّ‬
‫الحل العسكري منذ بداية الثورة‪ ،‬أين ّ‬ ‫السياس ي باملراهنة على‬
‫الداخلية الفرنس ي فرانسوا متيران (‪ )François Mitterrand‬في ‪ 7‬نوفمبر ‪ّ ،1954‬ردا‬

‫ّ‬
‫‪ - 45‬مجلة الذاكرة‪ ،‬العدد ‪ ،4‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.282‬‬
‫‪ - 46‬فاروق بن عطية‪ ،‬األعمال اإلنسانية أثناء حرب التحرير "‪ ،"1962-1954‬ص‪.155‬‬

‫‪29‬‬
‫أبعاد بيان أول نوفمبر‪ 1954‬بين مرجعيات إعادة تأسيس الدولة الجزائرية واستراتيجيات املستقبل‬

‫ّ‬ ‫على دعوة الجبهة إلى املفاوضات بقوله‪ّ ":‬‬


‫إن املفاوضات الوحيدة هي الحرب"‪ ،‬واتضح‬
‫ّ‬
‫املجندين‪:‬‬ ‫ذلك برفع تعداد القوات العاملة بالجزائر ففي سبتمبر ‪ 1956‬وصل عدد‬
‫‪ 400000‬جندي و‪ 100000‬ما بين رجال الدرك وكتائب األمن الجهوية (‪ )CRS‬وأعوان‬
‫ّ‬
‫الشرطة‪ ،‬و‪ 100000‬من املدنيين األوروبيين في شكل مليشيات مسلحة‪ ،‬وبلغت النفقات‬
‫اليومية لحرب الجزائر مليار من الفرنكات‪47.‬‬

‫ورغم استعمال ّ‬
‫كل األساليب الوحشية إلفشال حرب العصابات التي اعتمدها‬
‫جيش التحرير‪ ،‬فقد غلب إصرار الشعب الجزائري على التضحية ومواصلة الكفاح ّ‬
‫ضد‬
‫خيار الحسم العسكري‪ ،‬الذي ّاتضح للعالم زيفه‪ ،‬حيث ّ‬
‫عبر ّ‬
‫الرئيس الغاني "كوام‬
‫نكرومة" (‪ )Kwame Nkrumah‬في خطابه أمام الدورة ‪ 15‬للجمعية العامة في أكتوبر‬
‫‪ 1960‬قائال‪ّ ":‬‬
‫إن فرنسا ال تستطيع أن تنتصر عسكريا‪ ،‬والطريق الوحيد للخروج بفرنسا‬
‫الرغم من امتالك جبهة التحرير قدرة‬ ‫من هذا املأزق هو طريق التفاوض"‪ 48.‬وعلى ّ‬
‫وإمكانية ّ‬
‫الرد على التقتيل والتعذيب واإلعدامات واملمارسات الال إنسانية التي كانت‬
‫ّ‬ ‫ترتكبها السلطات االستعمارية الفرنسية في الجزائر‪ّ ،‬‬
‫فإن الجبهة غالبا ما كانت تترفع عن‬
‫صرحت الجبهة في ‪ 8‬فبراير ‪ّ 1958‬أنها‬ ‫ّ‬
‫الرد واملعاملة باملثل احتراما لحقوق اإلنسان؛ وقد ّ‬
‫كل مبادرة لتحسين ظروف ومصير أسرى الحرب‪ ،‬وإلى دراسة ّ‬
‫جدية‬ ‫ّ‬
‫مستعدة لتشجيع ّ‬
‫الحتمال إقامة معسكر لألسرى الفرنسيين في بلد محايد‪ ،‬وكانت الجبهة تهدف إلى حمل‬
‫ّ‬
‫يخص معاملة األسرى التي‬ ‫فرنسا على احترام اتفاقية جونيف (‪ 12‬أوت ‪ )1949‬فيما‬
‫كانت تعتبرهم ّ‬
‫متمردين‪49.‬‬

‫ّ‬
‫‪ - 47‬مذكرة جبهة التحرير لوطني إلى هيئة األمم املتحدة‪ ،‬نيويورك ‪ 16‬نوفمبر ‪ ،1956‬مجلة الذاكرة‪ ،‬العدد ‪ ،4‬مرجع سابق‪.‬‬
‫‪ -48‬دبش إسماعيل‪ ،‬السياسة العربية واملواقف الدولية تجاه الثورة الجزائرية ‪ ،1962-1954‬ص‪.32‬‬
‫‪ - 49‬فاروق بن عطية‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.98‬‬

‫‪30‬‬
‫يخلف حاج عبد القادر‬

‫وللبرهنة على نواياها الحسنة أطلقت الحكومة املؤقتة بدون شرط يوم ‪20‬‬
‫أكتوبر ‪ 1958‬سراح ‪ 4‬أسرى في تونس‪ ،‬و‪ 7‬آخرين في وجدة يوم ‪ 3‬ديسمبر ‪ ،1958‬كما‬
‫حررت بعدها في وجدة دائما ‪ 6‬جنود فرنسيين يوم ‪ 20‬فبراير ‪ ،1960‬وجرى تسليمهم‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫بحضور الهالل األحمر املغربي برئاسة سمو األميرة اللة عائشة‪ ،‬وبحضور مندوب الهالل‬
‫األحمر الجزائري في املغرب األستاذ بن يخلف‪ّ ،‬‬
‫وتم تسليمهم إلى مندوب اللجنة الدولية‬
‫للصليب األحمر السيد قايارد (‪ ،)M.Gaillard‬كما قام جيش التحرير الوطني داخل‬
‫التراب الوطني بتحرير جنود ومدنيين في ‪ 15‬و‪ 18‬ماي ‪ ،1959‬معظمهم في الوالية الثالثة‬
‫حررت جنديا‬ ‫حررت ‪ 9‬جنود و‪ 4‬آخرين في شهر ماي ‪ّ ،1960‬أما الوالية ّ‬
‫الرابعة فقد ّ‬ ‫التي ّ‬
‫واحدا‪ ،‬في حين أطلقت الوالية الثانية في جوان ‪ 1959‬سراح امرأتين أوروبيتين‪ .‬وسيجري‬
‫تحرير ‪ 20‬جنديا و‪ 26‬مدنيا في املجموع من قبل جبش التحرير الوطني‪50.‬‬

‫وتعاملت جبهة التحرير مع جنود اللفيف األجنبي الذين كانت ّ‬


‫تجندهم فرنسا‬
‫بكل ذكاء‪ ،‬حيث ّ‬
‫وجهت إليهم نداء للهروب من الجيش الفرنس ي‪ ،‬وبناء على ذلك رفض‬ ‫ّ‬
‫كثير من جنود اللفيف األجنبي من ّ‬
‫كل الجنسيات محاربة الجزائريين‪ ،‬الذين كانوا‬
‫يكافحون من أجل تحرير بلدهم‪ ،‬فاستسلم ‪ 59‬جنديا من اللفيف األجنبي مع ّ‬
‫السالح في‬
‫وقدر عدد جنود‬‫والية وهران‪ ،‬إلى وحدات جيش التحرير في منتصف يناير ‪1958‬م‪ّ .51‬‬

‫اللفيف األجنبي الذين التحقوا بصفوف جيش التحرير إلرجاعهم إلى أوطانهم أثناء كفاح‬
‫التحرير بـ‪ 3500‬جندي‪ ،‬وكانوا يساقون إلى جنوب الجزائر عند الحدود في أماكن ّ‬
‫محددة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ثم ّ‬‫ّ‬
‫يوجهون نحو مالجئ السترجاع طمأنينتهم‪ ،‬وكان الهالل األحمر الجزائري يسلمهم في‬
‫الرباط أو في طنجة بواسطة السلطات املغربية إلى اللجنة‬ ‫الغالب إلى قنصلياتهم في ّ‬
‫الدولية للصليب األحمر‪52.‬‬

‫‪ - 50‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.100‬‬


‫‪ - 51‬جريدة املجاهد‪ ،‬العدد ‪ ،121‬أبريل ‪.1958‬‬
‫‪ - 52‬فاروق بن عطية‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.104‬‬

‫‪31‬‬
‫أبعاد بيان أول نوفمبر‪ 1954‬بين مرجعيات إعادة تأسيس الدولة الجزائرية واستراتيجيات املستقبل‬

‫الخاتمة‪:‬‬
‫ّ‬
‫وتطلعاته‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫موضحا‬ ‫‪ -‬أكد بيان ‪ 1‬نوفمبر على وحدة الشعب الجزائري ووحدة طموحاته‬
‫أهداف الثورة ومسألة القيادة‪ ،‬و ّ‬
‫محددا اإلستراتيجية والوسائل الواجب اعتمادها‬
‫السترجاع السيادة الوطنية‪ ،‬ونوع الدولة التي يراد بناؤها بعد االستقالل في الجزائر‪.‬‬
‫أهم بعد من أبعاد بيان أول نوفمبر‪ ،‬باعتبار ّ‬ ‫يمثل ّ‬ ‫ي ّ‬
‫أن‬ ‫‪ -‬كان العمل النضالي العسكر‬
‫يعد القاسم املشترك الذي اجتمع ويجتمع حوله الشعب الجزائري في املاض ي‬ ‫الجهاد ّ‬

‫والحاضر واملستقبل‪.‬‬
‫‪ -‬ح ّدد البيان شكل الدولة التي يراد تأسيسها ّ‬
‫بأنها ذات طابع جمهوري‪ ،‬يسودها النظام‬
‫كل ذلك ضمن إطار‬‫الديمقراطي‪ ،‬وترتكز على مبدأ العدالة االجتماعية‪ ،‬على أن يكون ّ‬
‫املبادئ اإلسالمية التي ّ‬
‫تربى وعاش عليها الشعب الجزائري‪.‬‬
‫‪ -‬استند صائغو البيان على البعد التاريخي والحضاري للجزائر لتحقيق وحدة شمال‬
‫إفريقيا في إطارها الطبيعي العربي واإلسالمي‪.‬‬
‫يعد أول عمل إعالمي ّ‬
‫يوزع على نطاق واسع في الداخل والخارج من‬ ‫‪ّ -‬إن بيان أول نوفمبر ّ‬
‫ّ‬
‫القضية الجزائرية‪.‬‬ ‫أجل تدويل‬
‫ّ‬
‫‪ -‬أكد البيان على احترام جميع الحريات األساسية دون تمييز عرقي أو ديني‪ ،‬في الدولة‬
‫ّ‬ ‫الجزائرية التي سيعاد بناؤها بجميع ّ‬
‫مكوناتها بما في ذلك األقليات األوروبية‪ ،‬وواجهت‬
‫الحل العسكري الفرنس ي بالدعوة للسلم عن طريق التفاوض عبر‬‫ّ‬ ‫جبهة التحرير خيار‬
‫بيان أول نوفمبر ثم وثيقة الصومام‪ ،‬وتعاملت مع ملف أسرى الحرب ّ‬
‫بكل إنسانية‪.‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫إن بيان أول نوفمبر وثيقة قانونية استندت على شرعية وجود الدولة الجزائرية وسيادة‬
‫سلطتها على إقليمها وشعبها‪ ،‬قبل أن تغتصب منها هذه السيادة على يد االحتالل‬
‫ّ‬
‫متشبتة برأيها السترجاع‬ ‫الفرنس ي‪ ،‬وقد رافعت الدبلوماسية الجزائرية في األمم املتحدة‬
‫الحق ّ‬
‫الضائع إلى أصحابه‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪32‬‬
‫يخلف حاج عبد القادر‬

‫* ويمكن تلخيص نتائج الرؤى االستشرافية املستقبلية لبيان ‪ 1‬نوفمبر ‪ 1954‬فيما يلي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫للتصدي‬ ‫‪ -‬الوحدة الوطنية خط أحمر‪ ،‬والجزائريون مطالبون جميعا بروح املسؤولية‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لكل املخططات التي تستهدف أمن واستقرار ووحدة الجزائر‪.‬‬
‫ّ‬
‫التحديات والعقبات‬ ‫‪ -‬تحويل صراع األمس لتحرير الجزائر من العبودية‪ ،‬إلى مواجهة ّ‬
‫كل‬
‫لكسب رهانات املستقبل باإلنسان الجزائري لتجسيد االستقالل االقتصادي‪ ،‬على خطى‬
‫الجيل النوفمبري‪ ،‬ونقل الرسالة واملشعل من جيل آلخر هكذا دواليك‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬عدم الفصل في نوعية "الدولة الديمقراطية" لجزائر ما بعد االستقالل يؤكد بعد نظر‬
‫محرري البيان‪ ،‬إيمانا منهم ّأن املستقبل كفيل باختيار الجزائريين ما يناسبهم من‬
‫ّ‬
‫األنظمة والديمقراطيات‪.‬‬
‫تبنى البيان النهج االشتراكي للدولة الجزائرية‪ ،‬كما ّ‬
‫تتبنى املبدأ االجتماعي الذي تعود‬ ‫‪ّ -‬‬
‫ّ‬
‫جذوره إلى نظام الوقف الديني لجزائر ما قبل االحتالل الفرنس ي‪ ،‬الذي كان يشكل حجر‬
‫الزاوية للتكافل االجتماعي الذي تستفيد منه الشرائح املحرومة في املجتمع‪.‬‬
‫إن عبارة "في إطار املبادئ اإلسالمية" التي أضافها صائغو بيان أول نوفمبر للدولة‬ ‫‪ّ -‬‬

‫الجزائرية الديمقراطية االجتماعية ذات السيادة‪ ،‬ال يتنافى مع التجارب املستوردة في‬
‫ّ‬
‫املستجدات من املعامالت التي ال تعارض فيها مع مقاصد الشريعة‪.‬‬
‫‪ -‬أشار البيان إلى ّ‬
‫أن الثورة التحريرية هي حرب على التمييز‪ ،‬السترجاع كرامة اإلنسان‬
‫ّ‬
‫الجزائري‪ ،‬وإعادة االعتبار للدين اإلسالمي في الجزائر املستقلة‪ ،‬وليس في ذلك تهميش‬
‫لغير املسلمين‪.‬‬
‫‪ّ -‬إن البعد التاريخي والحضاري لشمال إفريقيا يكمن في أبعاد ّ‬
‫الهوية الثالث‪ :‬اإلسالم‪،‬‬
‫ّ‬
‫التشبت‬ ‫أي وقت مض ى إلى‬‫العروبة‪ ،‬األمازيغية‪ ،‬والجزائريون مدعوون اليوم أكثر من ّ‬
‫بهذه األبعاد في إطار الدولة الوطنية التي يعيشون داخل حدودها السياسية‪.‬‬
‫مستمر‪ ،‬وسيبقى كذلك ّ‬
‫ألن أعداء‬ ‫ّ‬ ‫‪ّ -‬إن البعد اإلعالمي لبيان أول نوفمبر كميالد إعالمي‬
‫ّ‬
‫الجزائر لن يتوقفوا عن محاوالتهم من أجل تفعيل القنابل املوقوتة التي تركها ساسة‬

‫‪33‬‬
‫أبعاد بيان أول نوفمبر‪ 1954‬بين مرجعيات إعادة تأسيس الدولة الجزائرية واستراتيجيات املستقبل‬

‫االستدمار الفرنس ي خلفهم‪ ،‬لضرب وحدة الشعب الجزائري ووحدة ترابه‪ .‬ومن ّ‬
‫تم وجب‬
‫مواصلة الرسالة اإلعالمية بتنمية الوعي الجماهيري‪ ،‬الكتساب املناعة واالعتزاز بقناعة‬
‫باالنتماء لهذا الوطن‪.‬‬
‫إن البيان يرقى إلى مستوى الوثيقة الدستورية‪ ،‬فهو عبارة عن خطوط عريضة‬ ‫‪ّ -‬‬
‫ّ‬
‫املشرع الجزائري سائر‬ ‫عامة يمكن أن يستلهم منها‬ ‫للسياسة الجزائرية‪ ،‬وقواعد قانونية ّ‬
‫قوانين الدولة الجزائرية ّ‬
‫الراهنة واملستقبلية‪.‬‬
‫وستظل تحترم حقوق اإلنسان من منطلق مرجعيتها الدينية‬ ‫ّ‬ ‫‪ّ -‬‬
‫إن الجزائر كانت وال زالت‬
‫ّ‬
‫وتطبيقا للمواثيق الدولية‪ ،‬وهي إذ تحترم هذه الحقوق تؤكد على البعد اإلنساني لبيان‬
‫السامية التي ال تبلى وإن بلي ّ‬
‫الدهر‪.‬‬ ‫نوفمبر الذي ولد ليبقى خالدا نظرا ملبادئه ّ‬

‫قائمة املراجع‪:‬‬
‫‪ -1‬أحمد حمدي‪ ،‬الثورة الجزائرية واإلعالم‪ ،‬دراسة في اإلعالم الثوري‪ ،‬ط‪ ،2‬منشورات املتحف‬
‫الوطني للمجاهد‪ ،‬املؤسسة الوطنية لالتصال والنشر واإلشهار‪ ،‬الرويبة‪.1995 ،‬‬
‫‪ -2‬محمد العربي الزبيري‪ ،‬حزب جبهة التحرير الوطني من الشرف إلى العلف‪ -‬تشريح األزمة‪ ،-‬دار‬
‫ّ‬
‫األمة للطباعة والنشر والتوزيع‪ -‬الجزائر‪ ،‬ط‪.2014 ،1‬‬
‫عياد وصالح املثلوني‪،‬‬‫‪ -3‬محمد حربي‪ ،‬الثورة الجزائرية سنوات املخاض‪ ،‬ترجمة نجيب ّ‬
‫املؤسسة الوطنية للفنون املطبعية‪ ،‬وحدة الرغاية‪ -‬الجزائر‪.1994 ،‬‬
‫قنان‪ ،‬قضايا ودراسات في تاريخ الجزائر الحديث واملعاصر‪ ،‬منشورات املتحف الوطني‬ ‫‪ -4‬جمال ّ‬
‫لالتصال والنشر واإلشهار‪ ،‬وحدة الطباعة بالرويبة‪ ،‬الجزائر‪،‬‬ ‫للمجاهد‪ ،‬املؤسسة الوطنية ّ‬
‫‪.1994‬‬
‫ّ‬
‫‪ -5‬ماجد بن علي بن إبراهيم الزميع‪ ،‬الدولة املدنية بين االتجاه العقلي اإلسالمي املعاصر‬
‫قدم له د‪ .‬عبد الرحمن بن صالح املحمود‪ ،‬دار الهدي‬ ‫واالتجاه العلماني دراسة عقدية‪ ،‬ط‪ّ ،1‬‬
‫النبوي‪ -‬مصر‪ ،‬دار الفضيلة‪1434 ،‬ه‪2013/‬م‪.‬‬
‫‪ -6‬يحي بوعزيز‪ ،‬إيديولوجية الحركة الوطنية من خالل ثالث وثائق‪ ،‬ديوان املطبوعات‬
‫الجامعية‪ -‬الجزائر‪.1985 ،‬‬

‫‪34‬‬
‫يخلف حاج عبد القادر‬

‫‪ -7‬ابن حجر العسقالني‪ ،‬بلوغ املرام من أدلة األحكام‪ ،‬تحقيق وتخريج وتعليق‪ :‬سمير بن أمين‬
‫الزهري‪ ،‬ط ‪ ،7‬دار الفلق ‪ -‬الرياض ‪1424‬هـ‪.‬‬
‫‪ -48‬محمد بغاية‪ ،‬بيان أول نوفمبر ‪" ،1954‬دعوى إلى الحرب‪ ،‬رسالة للسالم"‪ ،‬قراءة في البيان‪،‬‬
‫دار هومة‪ ،‬الجزائر‪.1999 ،‬‬
‫ّ‬
‫‪ -8‬بن يوسف بن خذة‪ ،‬جذور أول نوفمبر ‪ ،1954‬تر‪ :‬مسعود حاج مسعود‪ ،‬ط‪ ،2‬مؤسسة بن‬
‫يوسف بن خذة‪ ،‬الجزائر‪ ،‬دار الشاطبية للنشر والتوزيع‪ ،‬املحمدية الجزائر‪1433 ،‬ه‪2012 /‬م‪.‬‬
‫ّ ّ‬
‫الصالبي‪ ،‬الدولة الحديثة املسلمة دعائمها ووظائفها‪ ،‬ط‪ ،1‬دار ابن كثير‪،‬‬ ‫‪ -9‬علي محمد محمد‬
‫بيروت‪1434 ،‬ه‪2013/‬م‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -10‬فاروق بن عطية‪ ،‬األعمال اإلنسانية أثناء حرب التحرير "‪ ،"1962-1954‬تقديم السيد‬
‫سعد دحلب والدكتور مصطفى مكاس ي‪ ،‬ترجمة األستاذ كابوية عبد الرحمان واألستاذ سالم‬
‫محمد‪ ،‬منشورات دحلب‪.2010 ،‬‬
‫‪ -11‬دبش إسماعيل‪ ،‬السياسة العربية واملواقف الدولية تجاه الثورة الجزائرية ‪،1962-1954‬‬
‫دار هومة‪ ،‬الجزائر‪.1999 ،‬‬
‫‪ -12‬النصوص األساسية لجبهة التحرير الوطني ‪ ،1962-1954‬وزارة اإلعالم والثقافة‪ ،‬الجزائر‪،‬‬
‫‪.1977‬‬
‫‪13 -C.Collot et J.R Henry, Le Mouvement National Algérien- Textes‬‬
‫‪1912-1954, Ed,OPU, Alger, 1978.‬‬
‫‪14 - El-Moudjahid, n° 43 du 08/06/1959 et n° 68 du 05/08/1960.‬‬
‫‪15 -Mohammed Harbi, Archives de la Révolution Algérienne, Ed,‬‬
‫‪Jeune Afrique, Paris, 1985.‬‬
‫‪16 -Benyoucef Benkhedda, Les Origines du 1er Novembre 1954, Ed‬‬
‫‪Dahleb, Alger, 1989.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -17‬محمد لحسن زغيدي‪ ،‬بيان أول نوفمبر ‪ 1954‬وأبعاده‪ ،‬في مجلة الدراسات التاريخية‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مجلة دورية محكمة‪ ،‬كلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬قسم التاريخ‪ ،‬جامعة الجزائر‪،2‬‬
‫العدد‪ ،14‬سنة ‪1433‬هـ‪2012/‬م‪.‬‬
‫‪ -18‬رابح لونيس ي‪ ،‬بيان أول نوفمبر وأسس الدولة الوطنية – الجذور الفكرية واملضمون ‪ ،-‬في‬
‫ّ‬
‫مجلة املصادر‪ ،‬املركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر ‪،1954‬‬
‫العدد ‪ ،7‬رمضان ‪1423‬ه‪/‬نوفمبر ‪2002‬م‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -19‬عامر رخيلة‪ ،‬البعد اإلنساني في الثورة الجزائرية‪ ،‬مجلة املصادر‪ ،‬العدد ‪ ،7‬رمضان‬
‫‪1423‬ه‪/‬نوفمبر ‪2002‬م‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫أبعاد بيان أول نوفمبر‪ 1954‬بين مرجعيات إعادة تأسيس الدولة الجزائرية واستراتيجيات املستقبل‬

‫قنان‪ ،‬تشكيل الحكومة املؤقتة نقلة نوعية في دبلوماسية جبهة التحرير الوطني‪،‬‬ ‫‪ -20‬جمال ّ‬
‫ّ‬
‫مجلة الذاكرة‪ ،‬إصدار املتحف الوطني للمجاهد‪ ،‬عدد ‪.1996 ،4‬‬
‫‪ -21‬عامر رخيلة‪ ،‬بيان أول نوفمبر حقق التفاف الشعب الجزائري حول قضية االستقالل‪،‬‬
‫وكالة األنباء الجزائرية‪ 1 ،‬أكتوبر ‪.2014‬‬
‫‪ -22‬محمد لحسن زغيدي‪ ،‬وكالة األنباء الجزائرية‪ ،‬يوم ‪.2010/11/09‬‬
‫‪ -23‬محمد القورصو‪ ،‬وكالة األنباء الجزائرية‪ 1 ،‬أكتوبر ‪.2014‬‬
‫‪ -24‬عبد املجيد شيخي‪ ،‬مفهوم الثورة لإلعالم من خالل املواثيق والبيانات‪ ،‬في سلسلة‬
‫امللتقيات‪ :‬دراسات وبحوث امللتقى الوطني األول حول اإلعالم واإلعالم املضاد‪ ،‬املركز الوطني‬
‫للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر ‪ ،1954‬األبيار‪ -‬الجزائر‪.1996 ،‬‬
‫‪ -25‬ناصر الدين سعيدوني‪ ،‬نظرة في البعد التاريخي للثورة الجزائرية أي املشروع الحضاري‬
‫للثورة الجزائرية‪ ،‬في معالم بارزة في ثورة نوفمبر ‪1954‬م في امللتقى األول بباتنة سنة ‪1989‬م‪،‬‬
‫إنتاج جمعية أول نوفمبر لتخليد وحماية مآثر الثورة في األوراس"باتنة"‪ ،‬مطبعة ّ‬
‫عمار قرفي‪-‬‬
‫باتنة‪.1992 ،‬‬
‫‪ -26‬األمين بشيش ي‪،‬نماذج من اإلعالم واإلعالم املضاد‪ ،‬ضمن‪ :‬اإلعالم ومهامه أثناء الثورة‪،‬‬
‫دراسات وبحوث امللتقى الوطني األول حول اإلعالم واإلعالم املضاد يومي ‪ 24‬و‪،1996/09/25‬‬
‫منشورات املركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية وثورة ّأول نوفمبر ‪،1954‬‬
‫منشورات القصبة‪ -‬الجزائر‪.1996 ،‬‬
‫‪ -27‬زغيدي‪" ،‬منتدى الذاكرة" بمنتدى املجاهد‪ ،‬نشر في املساء بتاريخ ‪.2009/10/31‬‬
‫‪ -28‬زغيدي‪ ،‬يومية الفجر‪.2010/11/09 ،‬‬
‫‪ -29‬أحمد سعيد‪ ،‬يومية الفجر‪ ،‬األربعاء ‪ 13‬يناير ‪.2016‬‬
‫‪ -30‬زغيدي‪ ،‬يومية ّ‬
‫األمة العربية‪ ،‬بتاريخ ‪.2009/11/01‬‬
‫‪ -31‬البرملان الجزائري‪ ،‬العدد الصادر بتاريخ ‪.1939/06/27‬‬
‫‪ -32‬جريدة املجاهد‪ ،‬العدد ‪ ،12‬الصادرة بتاريخ ‪.1957/11/15‬‬
‫‪ -33‬محمد زغيدي‪ ،‬يومية الفجر‪ ،‬الجمعة ‪ 22‬يناير ‪.2016‬‬
‫شوال ‪1354‬ه‪ 17/‬جانفي ‪1936‬م‪.‬‬ ‫‪ -34‬البصائر‪ ،‬السنة األولى‪ ،‬العدد ‪ ،3‬الجمعة ‪ّ 22‬‬
‫‪ -35‬جريدة املجاهد‪ ،‬العدد ‪ ،121‬أبريل ‪.1958‬‬
‫‪36- El Moudjahid, n°4(numéro spécial), octobre 1956.‬‬

‫‪36‬‬

You might also like