You are on page 1of 4

‫كتاب الصالة‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم ‪ ،‬وصلى هللا على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسلما ‪ .‬الصالة تنقسم أوال وبالجملة إلى فرض‬
‫وندب ‪ ،‬والقول المحيط بأصول هذه العبادة ينحصر بالجملة في أربعة أجناس ‪ :‬أعني أربع جمل ‪ :‬الجملة األولى ‪ :‬في‬
‫معرفة الوجوب وما يتعلق به ‪ .‬والجملة الثانية ‪ :‬في معرفة شروطها الثالثة ‪ :‬أعني شروط الوجوب وشروط الصحة‬
‫وشروط التمام والكمال ‪ .‬والجملة الثالثة ‪ :‬في معرفة ما تشتمل عليه من أفعال وأقوال ‪ ،‬وهي األركان ‪ .‬والجملة الرابعة ‪:‬‬
‫في قضائها ومعرفة إصالح ما يقع فيها من الخلل وجبره ; ألنه قضاء إذا كان استدراكا لما فات ‪.‬‬
‫الجملة األولى وهذه الجملة فيها أربع مسائل ‪ :‬هي في معنى أصول هذا الباب ‪ :‬المسألة األولى ‪ :‬في بيان وجوبها ‪ .‬الثانية‬
‫‪ :‬في بيان عدد الواجبات منها ‪ .‬الثالثة ‪ :‬في بيان على من تجب ‪ .‬الرابعة ‪ :‬ما الواجب على من تركها متعمدا@ ؟ ‪ ( .‬المسألة‬
‫األولى ) ‪ :‬أما وجوبها ‪ ،‬فبين من الكتاب والسنة واإلجماع ‪ ،‬وشهرة ذلك تغني عن تكلف القول فيه ‪ ( .‬المسألة الثانية ) ‪:‬‬
‫وأما عدد الواجب منها ففيه قوالن ‪ :‬أحدهما ‪ :‬قول مالك والشافعي واألكثر ‪ ،‬وهو أن الواجب هي الخمس صلوات فقط ال‬
‫غير ‪ .‬والثاني ‪ :‬قول أبي حنيفة وأصحابه ‪ ،‬وهو أن الوتر واجب مع الخمس ‪ ،‬واختالفهم هل يسمى ما ثبت بالسنة واجبا‬
‫أو فرضا ال معنى له ‪ .‬وسبب اختالفهم األحاديث المتعارضة ‪ .‬أما األحاديث التي مفهومها وجوب الخمس فقط بل هي‬
‫نص في ذلك فمشهورة وثابتة ‪ ،‬ومن أبينها في ذلك ما ورد في حديث اإلسراء المشهور أنه لما بلغ الفرض إلى خمس قال‬
‫له موسى ‪ :‬ارجع إلى ربك فإن أمتك ال تطيق ذلك ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫فراجعته ‪ ،‬فقال تعالى ‪ :‬هي خمس ‪ ،‬وهي خمسون ال يبدل القول لدي ‪ ،‬وحديث األعرابي المشهور الذي سأل النبي عليه‬
‫الصالة والسالم عن اإلسالم فقال له ‪ « :‬خمس صلوات في اليوم والليلة ‪ ،‬قال ‪ :‬هل علي غيرهام قال ‪ :‬ال ‪ ،‬إال أن تطوع‬
‫» ‪ .‬وأما األحاديث التي مفهومها وجوب الوتر ‪ ،‬فمنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول هللا ﷺ قال ‪:‬‬
‫« إن هللا قد زادكم صالة وهي الوثر فحافظوا عليها ‪ ،‬وحديث حارثة بن حذافة قال ‪ « :‬خرج علينا رسول هللا ﷺ فقال ‪:‬‬
‫" إن هللا أمركم بصالة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر ‪ ،‬وجعلها لكم فيما بين صالة العشاء إلى طلوع الفجر ‪،‬‬
‫وحديث بريدة األسلمي أن رسول ہللا ﷺ قال ‪ « :‬الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا » ‪ .‬فمن رأى أن الزيادة هي نسخ ولم‬
‫تقو عنده هذه األحاديث قوة تبلغ بها أن تكون ناسخة لتلك األحاديث الثابتة المشهورة ‪ -‬رجح تلك األحاديث ‪ ،‬وأيضا فإنه‬
‫ثبت من قوله تعالى في حديث اإلسراء { ما يبدل القول لدي } [ ق ‪ " ] ٩٢ :‬وظاهره أنه ال تزاد فيها ‪ ،‬وال ينقص منها ‪،‬‬
‫وإن كان هو في النقصان أظهر ‪ ،‬والخير ليس يدخله النسخ ‪ .‬ومن بلغت عنده قوة هذه األخبار التي اقتضت الزيادة على‬
‫الخمس إلى رتبة توجب العمل أوجب المصير إلى هذه الزيادة ‪ ،‬ال سيما إن كان ممن يرى أن الزيادة ال توجب نسخا ‪،‬‬
‫لكن ليس هذا من رأي أبي حنيفة ‪.‬‬
‫( المسألة الثالثة ) ‪ :‬وأما على من تجب فعلى المسلم البالغ وال خالف في ذلك ‪.‬‬
‫( المسألة الرابعة ) ‪ :‬وأما ما الواجب على من تركها عمدا ‪ ،‬وأمر بها فأبى أن يصليها ال جحودا لفرضها ‪ ،‬فإن قوما قالوا‬
‫‪ :‬يقتل ‪ ،‬وقوما قالوا ‪ :‬يعزر ويحبس ‪ ،‬والذين قالوا يقتل منهم من أوجب قتله كفرا ‪ ،‬وهو مذهب أحمد وإسحاق وابن‬
‫المبارك ‪ ،‬ومنهم من أوجبه حدا وهو مالك والشافعي وأبو حنيفة ‪ ،‬وأصحابه ‪ ،‬وأهل الظاهر ممن رأى حبسه وتعزيره‬
‫حتى يصلي ‪ .‬والسبب في هذا االختالف اختالف اآلثار ‪ ،‬وذلك أنه ثبت عنه عليه الصالة والسالم أنه قال ‪ « :‬ال يحل دم‬
‫امرئ مسلم إال بإحدى ثالث ‪ :‬كفر بعد إيمان ‪ ،‬أو زنا بعد إحصان ‪ ،‬أو قتل نفس بغير نفين)‪ .‬وروي عنه عليه الصالة‬
‫والسالم من حديث بريدة قال ‪ « :‬العهد الذي بيننا وبينهم الصالة فمن تركها فقد كفر ‪ ،‬وحديث جابر عن النبي ﷺ أنه قال‬
‫‪ « :‬ليس بين العبد وبين الكفر أو قال الشرك إال ترك الصالة ‪ .‬فمن فهم من الكفر هاهنا الكفر الحقيقي جعل هذا الحديث‬
‫كأنه تفسير لقوله عليه الصالة والسالم ‪ « :‬كفر بعد إيمان ) ومن فهم هاهنا التغليظ والتوبيخ أي أن أفعاله أفعال كافر ‪،‬‬
‫وأنه في صورة كافر كما قال ‪ « :‬وال يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ‪ ،‬وال يسرق الشارف حين يسرق وهو مؤمن »‬
‫لم ير قتله كفرا ‪ .‬وأما من قال يقتل حدا فضعيف ‪ ،‬وال مستند@ له إال قياس شبه ضعيف إن أمكن ‪ ،‬وهو تشبيه الصالة‬
‫بالقتل في كون الصالة رأس المأمورات ‪ ،‬والقتل رأس المنهيات ‪ .‬وعلى الجملة فاسم الكفر إنما يطلق بالحقيقة على‬
‫التكذيب ‪ ،‬وتارك الصالة معلوم أنه ليس بمكذب إال أن يتركها معتقدا لتركها هكذا ‪ ،‬فنحن إذن بين أحد أمرين ‪ :‬إما أن‬
‫نفهم من الحديث الكفر الحقيقي فيجب علينا أن نتأول أنه أراد ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬من ترك الصالة معتقدا لتركها فقد‬
‫كفر ‪ .‬وإما أن يحمل على أن اسم الكفر على غير موضوعه األول ‪ ،‬وذلك على أحد معنيين ‪ :‬إما على أن حكمه حكم‬
‫الكافر أعني في القتل وسائر أحكام الكفار وإن ‪ .‬لم يكن مكذبا ‪ ،‬وإما على أن أفعاله أفعال كافر على جهة التغليظ والردع‬
‫له أي أن فاعل هذا يشبه الكافر في األفعال ‪ ،‬إذ كان الكافر ال يصلي كما قال عليه الصالة والسالم ‪ « :‬ال يزني الزاني‬
‫حين يزني وهو مؤمن » وحمله على أن حكمه حكم الكافر في أحكامه ال يجب المصير إليه إال بدليل ; ألنه حكم لم يثبت‬
‫بعد في الشرع من طريق يجب المصير إليه ‪ ،‬فقد يجب إذا لم يدل عندنا على الكفر الحقيقي الذي هو التكذيب أن يدل على‬
‫المعنى المجازي ال على معنى يوجب حكما لم يثبت بعد في الشرع بل يثبت ضده ‪ ،‬وهو أنه ال يحل دمه إذ هو خارج عن‬
‫الثالث الذين نص عليهم الشرع فتأمل هذا ‪ ،‬فإنه بين وهللا أعلم ‪ ( .‬أعني أنه يجب علينا أحد أمرين ‪ :‬إما أن نقدر في‬
‫الكالم محذوفا إن أردنا حمله على المعنى الشرعي المفهوم من اسم الكفر ‪ ،‬وإما أن نحمله على المعنى المستعار ‪ ،‬وأما‬
‫حمله على أن حكمه حكم الكافر في جميع أحكامه مع أنه مؤمن فشيء مفارق لألصول ‪ ،‬مع أن الحديث نص في حق من‬
‫يجب قتله كفرا أو حدا ‪ ،‬ولذلك صار هذا القول مضاهيا لقول من يكفر بالذنوب ‪.‬‬
‫( الجملة الثانية في الشروط ) وهذه الجملة فيها ثمانية أبواب ‪ :‬الباب األول ‪ :‬في معرفة األوقات ‪ .‬الثاني ‪ :‬في معرفة‬
‫األذان واإلقامة ‪ .‬الثالث ‪ :‬في معرفة القبلة ‪ .‬الرابع ‪ :‬في ستر العورة واللباس في الصالة ‪ .‬الخامس ‪ :‬في اشتراط الطهارة‬
‫من النجس في الصالة ‪ .‬السادس ‪ :‬في تعيين المواضع التي يصلى فيها من المواضع التي ال يصلى فيها ‪ .‬السابع ‪ :‬في‬
‫معرفة الشروط التي هي شروط في صحة الصالة ‪ .‬الثامن ‪ :‬في معرفة النية ‪ ،‬وكيفية اشتراطها في الصالة ‪.‬‬
‫الباب األول ‪ -‬في معرفة أوقات الصالة‬
‫وهذا الباب ينقسم أوال إلى فصلين ‪ :‬األول ‪ :‬في معرفة األوقات المأموربها‪.‬الثاني ‪ :‬في معرفة األوقات المنهي عنها‬
‫الفصل األول ‪ -‬في معرفة األوقات المأمور بها‬
‫وهذا الفصل ينقسم إلى قسمين أيضا ‪ :‬القسم األول ‪ :‬في األوقات الموسعة والمختارة ‪ .‬والثاني ‪ :‬في أوقات أهل‬
‫الضرورة ‪.‬‬
‫القسم األول من الفصل األول من الباب األول من الجملة الثانية‬
‫واألصل في هذا الباب قوله تعالى ‪ { :‬إن الصالة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } [ النساء ‪ ] ۳۰۱ :‬اتفق المسلمون‬
‫على أن للصلوات الخمس أوقاتا خمسا هي شرط في صحة الصالة ‪ ،‬وأن منها أوقات فضيلة وأوقات توسعة ‪ ،‬واختلفوا‬
‫في حدود أوقات التوسعة والفضيلة ‪ ،‬وفيه خمس مسائل‪:‬‬
‫( المسألة األولى ) ‪ :‬اتفقوا على أن أول وقت الظهر الذي ال تجوز قبله هو الزوال ‪ ،‬إال خالفا شاذا روي عن ابن عباس ‪،‬‬
‫وإال ما روي من الخالف في صالة الجمعة على ما سيأتي واختلفوا منها في موضعين في آخر وقتها الموسع وفي وقتها‬
‫المرغب فيه ‪ .‬فأما آخر وقتها الموسع ‪ ،‬فقال مالك والشافعي وأبو ثور وداود هو أن يكون ظل كل شيء مثله وقال أبو‬
‫حنيفة ‪ :‬آخر الوقت أن يكون ظل كل شيء مثليه في إحدى الروايتين عنه ‪ ،‬وهو عنده ‪ .‬أول وقت العصر ‪ .‬وقد روي عنه‬
‫أن آخر وقت الظهر هو المثل ‪ ،‬وأول وقت العصر المثالن ‪ ،‬وأن ما بين المثل والمثلين ليس يصلح لصالة الظهر ‪ ،‬وبه‬
‫قال صاحباه أبو يوسف ومحمد ‪ .‬وسبب الخالف في ذلك اختالف األحاديث ‪ ،‬وذلك أنه ورد في إمامة جبريل « أنه صلى‬
‫بالنبي ﷺ الظهر في اليوم األول حين زالت الشمس ‪ ،‬وفي اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله ‪ ،‬ثم قال ‪ " :‬الوقت‬
‫ما بين هذين ‪ ،‬وروي عنه قال ‪ « :‬إ ّنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من األمم كما بين صالة العصر إلى غروب الشمس ‪،‬‬
‫أوتي أهل التوراة ال ّت وراة فعملوا حتى انتصف النهار ‪ ،‬ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ‪ ،‬ثم أوتي أهل اإلنجيل اإلنجيل‬
‫فعملوا إلى صالة العصر ‪ ،‬ثم عجزوا ‪ ،‬فأعطوا قيراطا قيراطا ‪ ،‬ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأغطينا‬
‫قيراطين قيراطين ‪ ،‬فقال أهل الكتاب أي ربنا أعطيت هؤالء قيراطين قيراطين وأعطيتنا فيراطا فيراطا ‪ ،‬ونحن كنا أكثر‬
‫عمالم قال هللا تعالى ‪ :‬هل ظلمتكم من أجركم من شيء ؟ قالوا ‪ :‬ال ‪ ،‬قال ‪ :‬فهو فضلي أوتيه من أشاء » ؟ » فذهب مالك‬
‫والشافعي إلى حديث إمامة جبريل ‪ ،‬وذهب أبو حنيفة إلى مفهوم ظاهر هذا وهو أنه إذا كان من العصر إلى الغروب‬
‫أقصر من أول الظهر إلى العصر على مفهوم هذا الحديث ‪ ،‬فواجب أن يكون أول العصر أكثر من قامة ‪ ،‬وأن يكون هذا‬
‫هو آخر وقت الظهر ‪ .‬قال أبو محمد بن حزم ‪ :‬وليس كما ظنوا وقد امتحنت األمر فوجدت القامة تنتهي من النهار إلى‬
‫تسع ساعات وكسر ‪ .‬قال القاضي ‪ :‬أنا الشاك في الكسر ‪ ،‬وأظنه قال ‪ :‬وثلث ‪ ،‬حجة من قال باتصال يدخل وقت أخرى »‬
‫‪ ،‬الوقتين ‪ ( ،‬أعني اتصاال ال بفصل ‪ -‬غير منقسم ) قوله عليه الصالة والسالم ‪ « :‬ال يخرج وقت صالة حتى ا ‪ ،‬وهو‬
‫حديث ثابت ‪ .‬وأما وقتها المرغب فيه والمختار ‪ ،‬فذهب مالك إلى أنه للمنفرد أول الوقت ويستحب تأخيرها عن أول‬
‫الوقت قليال في مساجد الجماعات ‪ ،‬وقال الشافعي ‪ :‬أول الوقت أفضل إال في شدة الحر ‪ .‬وروي مثل ذلك عن مالك ‪،‬‬
‫وقالت طائفة ‪ :‬أول الوقت أفضل بإطالق للمنفرد والجماعة وفي الحر والبرد وإنما اختلفوا في ذلك الختالف األحاديث ‪،‬‬
‫وذلك أن في ذلك حديثين ثابتين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬قوله عليه الصالة والسالم ‪ « :‬إذا اشتد الحر ‪ ،‬فأبردوا عن الصالة ‪ ،‬فإن شدة‬
‫الحر من فيح جهنم » والثاني ‪ « :‬أن النبي عليه الصالة والسالم كان يصلي الظهر بالهاجرة » وفي حديث خباب « أنهم‬
‫شكوا إليه حر الرمضاء ‪ ،‬فلم يشكهم » خرجه مسلم ‪ .‬قال زهير راوي الحديث ‪ :‬قلت ألبي إسحاق شيخه أفي الظهر ؟‬
‫قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قلت ‪ :‬أفي تعجيلها ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬فرجح قوم حديث اإلبراد إذ هو نص ‪ ،‬وتأولوا هذه األحاديث إذ ليست‬
‫بنص ‪ .‬وقوم رجحوا هذه األحاديث لعموم ما روي من قوله ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ « -‬وقد سئل ‪ :‬أي األعمال أفضل ؟‬
‫قال ‪ :‬الصالة ألول ميقاتها » ‪ ،‬والحديث متفق عليه ‪ ،‬وهذه الزيادة فيه ‪ ( ،‬أعني ‪ « :‬ألول ميقاتها » مختلف فيها ‪.‬‬
‫( المسألة الثانية ) ‪ :‬اختلفوا من صالة العصر في موضعين ‪ :‬أحدهما ‪ :‬في اشتراك أول وقتها مع آخر وقت صالة‬
‫الظهر ‪ .‬والثاني ‪ :‬في آخر وقتها ‪ ،‬فأما اختالفهم في االشتراك فإنه اتفق مالك والشافعي وداود ‪ ،‬وجماعة على أن أول‬
‫وقت العصر هو بعينه@ آخر وقت الظهر ‪ ،‬وذلك إذا صار ظل كل شيء مثله ‪ ،‬إال أن مالكا يرى أن آخر وقت الظهر وأول‬
‫وقت العصر هو وقت مشترك للصالتين معا ‪ ( :‬أعني ‪ :‬بقدر ما يصلي فيه أربع ركعات ) وأما الشافعي ‪ ،‬وأبو ثور ‪،‬‬
‫وداود فآخر وقت الظهر عندهم هو اآلن الذي هو أول وقت العصر هو زمان غير منقسم ‪ .‬وقال أبو حنيفة كما قلنا أول‬
‫وقت العصر إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه ‪ ،‬وقد تقدم سبب اختالف أبي حنيفة معهم في ذلك ‪ .‬وأما سبب اختالف‬
‫مالك ‪ ،‬مع الشافعي ‪ ،‬ومن قال بقوله في هذه ‪ ،‬فمعارضة حديث جبريل في هذا المعنى لحديث عبد هللا بن عمر ‪ ،‬وذلك‬
‫أنه جاء في إمامة جبريل أنه صلى بالنبي عليه الصالة والسالم الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر‬
‫في اليوم األول ‪ .‬وفي حديث ابن عمر أنه قال ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ « : -‬وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر ‪،‬‬
‫خرجه مسلم ‪ .‬فمن رجح حديث جبريل جعل الوقت مشتركا ‪ ،‬ومن رجح حديث عبد هللا لم يجعل بينهما اشتراكا ‪ ،‬وحديث‬
‫جبريل أمكن أن يصرف إلى حديث عبد هللا ‪ ،‬من حديث عبد هللا إلى حديث جبريل ; ألنه يحتمل أن يكون الراوي تجوز‬
‫في ذلك لقرب ما بين الوقتين ‪ ،‬وحديث إمامة جبريل صححه الترمذي ‪ ،‬وحديث ابن عمر خرجه مسلم ‪ .‬وأما اختالفهم في‬
‫آخر وقت العصر ‪ :‬فعن مالك في ذلك روايتان ‪ :‬إحداهما ‪ :‬أن آخر وقتها أن يصير ظل كل شيء مثليه ‪ ،‬وبه قال الشافعي‬
‫والثانية أن آخر وقتها ما لم تصفر الشمس ‪ ،‬وهذا قول أحمد بن حنبل ‪ ،‬وقال أهل الظاهر ‪ :‬آخر وقتها قبل غروب الشمس‬
‫بركعة ‪ .‬والسبب في اختالفهم أن في ذلك ثالثة أحاديث متعارضة الظاهر أحدها ‪ :‬حديث عبد هللا بن عمر خرجه مسلم‬
‫وفيه ‪ « :‬فإذا صليتم العصر فإنه وقت إلى ان تصفر الش وفي بعض رواياته ‪ « :‬وقت العصر ما لم تصفر الشمس » ‪.‬‬
‫والثاني ‪ :‬حديث ابن عباس في إمامة جبريل ‪ ،‬وفيه « أنه صلى به العصر في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثليه )‬
‫‪ ،‬والثالث ‪ :‬حديث أبي هريرة المشهور من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس ‪ ،‬فقد أدرك العصر ‪ ،‬ومن‬
‫أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح » فمن صار إلى ترجيح حديث إمامة جبريل جعل آخر‬
‫وقتها المختار المثلين ‪ ،‬ومن صار إلى ترجيح حديث ابن عمر جعل آخر وقتها المختار اصفرار الشمس ) ‪ .‬ومن صار‬
‫إلى ترجيح حديث أبي هريرة قال ‪ :‬وقت العصر إلى أن يبقى منها ركعة قبل غروب الشمس ‪ ،‬وهم أهل الظاهر كما قلنا ‪،‬‬
‫وأما الجمهور فسلكوا في حديث أبي هريرة وحديث ابن عمر مع حديث ابن عباس إذ كان معارضا لهما كل التعارض ‪،‬‬
‫مسلك الجمع ألن حديثي ابن عباس وابن عمر تتقارب الحدود المذكورة فيهما ‪ ،‬ولذلك قال مالك مرة بهذا ومرة بذلك ‪،‬‬
‫وأما الذي في حديث أبي هريرة ‪ ،‬فبعيد@ منهما ومتفاوت فقالوا ‪ :‬حديث أبي هريرة إنما خرج مخرج أهل األعذار ‪.‬‬
‫( المسألة الثالثة ) ‪ :‬اختلفوا في المغرب هل لها وقت موسع كسائر الصلوات أم ال ؟ فذهب قوم إلى أن وقتها واحد غير‬
‫موسع ‪ ،‬وهذا هو أشهر الروايات عن مالك وعن الشافعي ‪ .‬وذهب قوم إلى أن وقتها موسع ‪ ،‬وهو ما بين غروب الشمس‬
‫إلى غروب الشفق ‪ ،‬وبه قال أبو حنيفة ‪ ،‬وأحمد ‪ ،‬وأبو ثور ‪ ،‬وداود ‪ ،‬وقد روي هذا القول عن مالك والشافعي ‪ .‬وسبب‬
‫اختالفهم في ذلك معارضة حديث إمامة جبريل في ذلك لحديث عبد هللا بن عمر وذلك أن في حديث إمامة جبريل أنه‬
‫صلى المغرب في اليومين في وقت واحد ‪ ،‬وفي حديث عبد هللا « ووقت صالة المغرب ما لم يغب الشفق » فمن رجح‬
‫حديث إمامة جبريل جعل لها وقتا واحدا ‪ .‬ومن رجح حديث عبد هللا جعل لها وقتا موسعا ‪ ،‬وحديث عبد هللا خرجه مسلم‬
‫ولم يخرج الشيخان حديث إمامة جبريل ‪( :‬أعني حديث ابن عباس ) الذي فيه أنه صلى بالنبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪-‬‬
‫عشر صلوات مفسرة األوقات ‪ ،‬ثم قال له ‪ :‬الوقت ما بين هذين ‪ ،‬والذي في حديث عبد ا هللا من موجود أيضا في حديث‬
‫بريدة األسلمي ‪ ،‬خرجه مسلم ‪ ،‬وهو أصل في هذا الباب ‪ .‬قالوا ‪ :‬وحديث بريدة أولى ألنه كان بالمدينة@ عند سؤال السائل‬
‫له عن أوقات الصلوات ‪ ،‬وحديث جبريل كان في أول الفرض بمكة ‪.‬‬
‫( المسألة الرابعة ) ‪ :‬اختلفوا من وقت العشاء اآلخرة في موضعين ‪ :‬أحدهما في أوله ‪ ،‬والثاني ‪ :‬في آخره ‪ .‬أما أوله‬
‫فذهب مالك ‪ ،‬والشافعي ‪ ،‬وجماعة إلى أنه مغيب الحمرة ‪ ،‬وذهب أبو حنيفة إلى أنه مغيب البياض الذي يكون بعد الحمرة‬
‫‪ .‬وسبب اختالفهم في هذه المسألة اشتراك اسم لسان العرب فإنه كما أن الفجر في لسانهم فجران كذلك الشفق شفقان ‪:‬‬
‫أحمر األول حين غاب الشفق ‪ ،‬وقد وأبيض ‪ ،‬ومغيب الشفق األبيض يلزم أن يكون بعده من أول الليل إما بعد الفجر‬
‫المستدق من آخر الليل ‪ ( :‬أعني الفجر الكاذب ) وإما بعد الفجر األبيض المستطير ‪ ،‬وتكون الحمرة نظير الحمرة ‪،‬‬
‫فالطوالع إذن أربعة ‪ :‬الفجر الكاذب ‪ ،‬والفجر الصادق ‪ ،‬واألحمر والشمس ‪ ،‬وكذلك يجب أن تكون الغوارب ‪ ،‬ولذلك ما‬
‫ذكر عن الخليل من أنه رصد الشفق األبيض ‪ ،‬فوجده يبقى إلى الليل ‪ -‬كذب بالقياس والتجربة ) ‪ ،‬وذلك أنه ال خالف ب‬
‫أنه قد ثبت في حديث بريدة ‪ ،‬وحديث إمامة جبريل أنه صلى العشاء في اليوم الجمهور مذهبهم بما ثبت " أن رسول ہللا‬
‫ﷺ « كان يصلي العشاء عند مغيب القمر في الليلة الثالثة ‪ ،‬ورجح أبو حنيفة مذهبه@ بما ورد في تأخير العشاء واستحباب‬
‫تأخيره وقوله ‪ « :‬لوال أن أشق على أمتي ألخرت هذه الصالة إلى نصف الليل ‪ ،‬وأما آخر وقتها فاختلفوا فيه على ثالثة‬
‫أقوال ‪ :‬قول ‪ :‬إنه ثلث الليل ‪ .‬وقول ‪ :‬إنه نصف الليل ‪ .‬وقول ‪ :‬إنه إلى طلوع الفجر ‪ ،‬وباألول ( أعني ثلث الليل ) قال‬
‫الشافعي وأبو حنيفة ‪ ،‬وهو المشهور من مذهب مالك ‪ ،‬وروي عن مالك القول الثاني ‪ :‬أعني نصف الليل ‪ ،‬وأما الثالث‬
‫فقول داود ‪ .‬وسبب الخالف في ذلك تعارض اآلثار ‪ ،‬ففي حديث إمامة جبريل أنه صالها بالنبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪-‬‬
‫في اليوم الثاني ثلث الليل ‪ .‬وفي حديث أنس أنه قال ‪ « :‬أخر النبي ﷺ صالة العشاء إلى نصف الليل » خرجه‬
‫البخاري ‪ .‬وروي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري ‪ ،‬وأبي هريرة عن النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬أنه قال ‪ « :‬لوال‬
‫أن أشق على أمتي ألخرت العشاء إلى نصف الليل » وفي حديث أبي قتادة « ليس التفريط في النوم إنما التفريط أن تؤخر‬
‫الصالة حتى يدخل وقت األخرى ‪ .‬فمن ذهب مذهب الترجيح لحديث إمامة جبريل قال ثلث الليل ‪ ،‬ومن ذهب مذهب‬
‫الترجيح لحديث أنس قال ‪ :‬شطر الليل ‪ .‬وأما أهل الظاهر فاعتمدوا حديث أبي قتادة ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬هو عام وهو متأخر عن‬
‫حديث إمامة جبريل ‪ ،‬فهو ناسخ ولو لم يكن ناسخا لكان تعارض اآلثار يسقط حكمها ‪ ،‬فيجب أن يصار إلى استصحاب‬
‫حال اإلجماع ‪ ،‬وقد اتفقوا على أن الوقت يخرج لما بعد@ طلوع الفجر ‪ ،‬واختلفوا فيما قبل ‪ ،‬فإنا روينا عن ابن عباس أن‬
‫الوقت عنده إلى طلوع الفجر ‪ ،‬فوجب أن يستصحب حكم الوقت ‪ ،‬إال حيث وقع االتفاق على خروجه ‪ ،‬وأحسب أن به قال‬
‫أبو حنيفة ‪.‬‬
‫( المسألة الخامسة ) ‪ :‬واتفقوا على أن أول وقت الصبح طلوع الفجر الصادق وآخره طلوع الشمس ‪ ،‬إال ما روي عن ابن‬
‫القاسم ‪ ،‬وعن بعض أصحاب الشافعي من أن آخر وقتها اإلسفار ‪ .‬واختلفوا في وقتها المختار ‪ ،‬فذهب الكوفيون ‪ ،‬وأبو‬
‫حنيفة ‪ ،‬وأصحابه ‪ ،‬والثوري ‪ ،‬وأكثر العراقيين إلى أن اإلسفار بها أفضل ‪ ،‬وذهب مالك ‪ ،‬والشافعي ‪ ،‬وأصحابه ‪ ،‬وأحمد‬
‫بن حنبل ‪ ،‬وأبو ثور ‪ ،‬وداود إلى أن التغليس بها أفضل ‪ .‬وسبب اختالفهم ‪ :‬اختالفهم في طريقة جمع األحاديث المختلفة‬
‫الظواهر في ‪ -‬ع ذلك ‪ ،‬وذلك أنه ورد عنه ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬من طريق رافع بن خديج أنه قال ‪ « :‬أسفروا‬
‫بالصبح ‪ ،‬فكلما أسفرتم ‪ ،‬فهو أعظم لألجر » ‪ ،‬وروي عنه ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬أنه قال وقد سئل ‪ :‬أي األعمال‬
‫أفضل ؟ قال ‪ « :‬الصالة ألول ميقاتها » وثبت عنه ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ « -‬أنه كان يصلي الصبح فتنصرف النساء‬
‫متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس » ‪ .‬وظاهر الحديث أنه عمله في األغلب ‪ ،‬فمن قال ‪ :‬إن حديث رافع خاص‬
‫وقوله « الصالة ألول ميقاتها » عام ‪ ،‬والمشهور أن الخاص يقضي على العام إذا هو استثنى من هذا العموم صالة‬
‫الصبح ‪ ،‬وجعل حديث عائشة محموال على الجواز ‪ ،‬وأنه إنما تضمن اإلخبار بوقوع ذلك منه ال بأنه كان ذلك غالب‬
‫أحواله ﷺ قال ‪ « :‬اإلسفار أفضل من التغليس » ‪ .‬ومن رجح حديث العموم لموافقة حديث عائشة له ‪ ،‬وألنه نص في‬
‫ذلك أو ظاهر ‪ ،‬وحديث رافع بن خديج محتمل ; ألنه يمكن أن يريد بذلك تبين الفجر ‪ ،‬وتحققه ‪ ،‬فال يكون بينه وبين‬
‫حديث عائشة ‪ ،‬وال العموم الوارد في ذلك تعارض ‪ -‬قال ‪ :‬أفضل الوقت أوله ‪ .‬وأما من ذهب إلى أن آخر وقتها اإلسفار‬
‫فإنه تأول الحديث في ذلك أنه ألهل الضرورات ( أعني قوله ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ « : -‬من أذرك ركعة من الصبح‬
‫قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح » وهذا شبيه بما فعله الجمهور في العصر ‪ ،‬والعجب أنهم عدلوا عن ذلك في هذا‬
‫ووافقوا أهل الظاهر ‪ ،‬ولذلك ألهل الظاهر أن يطالبوهم بالفرق بين ذلك ‪.‬‬

You might also like