You are on page 1of 16

‫الـــفــصــل الــرابـــع‬

‫اإلشـكالــ ّيـات الــفــقـهــ ّيـة‪ :‬الـحـدود‬

‫ليس هدفنا مناقشة المسائل الفقهيّة المتعلّقة بالحدود‪ ،‬فهذا األمر محتاج إلى‬
‫مراجعات كثيرة تأخذ بعين االعتبار تطوّ رات الحياة االجتماعيّة واالقتصاديّة والثقافيّة التي‬
‫تختلف تمام االختالف ع ّما كانت عليه في القرن السابع للميالد‪ .‬ولن ن ّدعي أ ّننا سنقوم بتلك‬
‫المراجعات فمسألة الحدود مع ّقدة والقضايا الفقهيّة الم ّتصلة بها صعبة التناول‪ ،‬يضيق‬
‫المجال ببسطها‪.‬‬

‫إنّ ما يهمّنا في مسألة الحدود ما تعلّق منها بالكبائر ّ‬


‫فمثلت بذلك جزاء دنيويّا‪ .‬لذلك‬
‫لن نتعرّض هنا إلى ك ّل الحدود التي ترسّخت في الفقه اإلسالمي بل سنقتصر على حدود‬
‫الزنا والقذف به والسرقة أل ّنها الوحيدة المنصوص عليها في القرآن وفي المرويّات عن‬
‫الرسول‪.‬‬

‫إنّ ما نسعى إليه هو اإلشارة إلى بعض اإلشكاليّات التي تعترضنا عند قراءة‬
‫النصوص التأسيسيّة المتعلّقة بالحدود والنظر في ما آلت إليه عند التطبيق‪ .‬وهذا في الحقيقة‬
‫ناتج عن اقتناعنا أنّ تطبيق الحدود يختلف اختالفا جوهريّا عمّا نصّ عليه المصدر األساس ّي‬
‫والموثوق به للتشريع‪ ،‬ونعني القرآن‪ .‬كما يختلف التطبيق كذلك عمّا رُوي عن الرسول‪،‬‬
‫ّ‬
‫وسنمثل على ذلك بعقوبة شارب الخمر التي توضّح سمة التطوّ ر التي شهدتها الحدود إثر‬
‫وفاة الرسول‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫ترتبط كبيرة الزنا بأقصى أنواع العقوبة‪ ،‬خاصّة إذا كان الزاني أو الزانية محصنا‪.‬‬
‫العقوبة هي وضْ ع ح ّد لحياة اإلنسان بطريقة عنيفة ج ّدا‪ ،‬ونقصد بذلك الرجم‪ ،‬وهو من‬
‫المسائل الفقهيّة المشكلة‪ .‬وليس اإلشكال‪ ،‬بالنسبة إلينا‪ ،‬متعلّقا بما اختلف فيه الفقهاء من‬
‫أمور نراها تافهة إذا ما قُورنت بحياة إنسان‪ .‬فمن المسائل التي اختلفوا فيها هل يت ّم الحفر‬
‫للمرأة دون الرجل ألنّ ذلك أستر لها‪ ،‬وحجـم الحـجارة المستعـملة فـي الـرجم‪ ،‬ومن يبدأ‬
‫بالـرجم‪ :‬اإلمام أو الشهود إلى غير ذلك من تفاصيل كيفيّة تطبيق " ح ّد الرجم "‪.‬‬

‫الرجم ليس له أيّ أساس في القرآن إذ هو ال ينصّ على أيّة عقوبة للزنا غير الجلد‪.‬‬
‫ولكن هناك أخبارا عن " آية الرجم " أبرزها خبران‪ .‬الخبر األوّ ل رُوي عن عمر بن‬
‫ّ‬
‫الخطاب‪ ،‬والثاني عن عائشة زوج الرسول‪.‬‬

‫ّ‬
‫الخطاب يؤ ّكد نزول آية ال نجدها في‬ ‫روى البخاري ومسلم خبرا عن عمر بن‬
‫المصحف الّذي بين أيدينا‪ .‬ونذكر هنا رواية مسلم‪ » :‬ح ّدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى‬
‫قاال‪ :‬ح ّدثنا ابن وهب‪ ،‬أخبرني يونس‪ ،‬عن ابن شهاب قال‪ :‬أخبرني عُبيْد هللا بن عُتبة أ ّنه‬
‫لخطاب‪ ،‬وهو جالس على منبر رسول‬ ‫سمع عبد هللا بن عبّاس يقول‪ :‬قال عمر بن ا ّ‬

‫بالحق وأنزل عليه الكتاب‪ .‬فكان ممّا أ ُ ْنزل عليه آية‬


‫ّ‬ ‫هللا(ص)‪ " :‬إنّ هللا قد بعث محمّدا(ص)‬
‫الرجم‪ ،‬قرأناها ووعيناها وعقلناها‪ ،‬فرجم رسول هللا(ص) ورجمنا بعده‪ ،‬فأخشى إنْ طال‬
‫بالناس زمان أن يقول قائل‪ :‬ما نجد الرجم في كتاب هللا‪ ،‬فيضلّوا بترك فريضة أنزلها هللا‪.‬‬
‫وإنّ الرجم في كتاب هللا ّ‬
‫حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء‪ ،‬إذا قامت البيّنة‪،‬‬
‫أو كان الح َب ُل أو االعتراف«‪.1‬‬

‫إذا كانت هذه اآلية قد نزلت فلم ال نجدها في المصحف؟‬

‫‪ )1‬مسلم‪ ,‬كتاب الحدود‪ ،‬باب رجم الثيّب في الزنا‪ .‬وانظر الخبر مط ّوال في‪ :‬البخاري‪،‬‬
‫كتاب المحاربين من أهل الكفر والر ّدة‪ ،‬باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫الجواب يق ّدمه ابن قتيبة من خالل خبر عن عائشة‪ ،‬مناقشا المعارضين لخبر نزول‬
‫آية الرجم‪ » :‬قالوا‪ :‬رويتم عن محمّد بن إسحاق‪ ،‬عن عبد هللا بن أبي بكر‪ ،‬عن عمرة‪ ،‬عن‬
‫عائشة‪ ،‬رضي هللا عنها‪ ،‬أ ّنها قالت‪ " :‬لقد نزلت آية الرجم ورضاع الكبير عشرا‪ ،‬فكانت في‬
‫صحيفة تحت سريري عند وفاة رسول هللا(ص) فلمّا تو ّفي و ُ‬
‫شغلنا به‪ ،‬دخلت داجن للح ّي‬
‫فأكلت الصحيفة "‪ .‬قالوا‪ :‬وهنا خالف قول هللا‪ ،‬تبارك وتعالى‪َ ﴿ :‬وإن ُه لَك َتاب َعزيز الَ َيأتيه‬
‫ال َباط ُل منْ َب ْين َيدَ ْيه َوالَ منْ َخ ْلفه ﴾ [فصّلت ‪ .]14/11‬فكيف يكون عزيزا وقد أكلته شاة‬
‫وأبطلت فرضه وأسقطت حجّ ته؟ وأيّ أحد يعجز عن إبطاله والشاة ُتبطله؟ وكيف قال‪﴿ :‬‬
‫ال َي ْو َم ْأك َم ْل ُ‬
‫ت لَ ُك ْم دي َن ُك ْم ﴾ وقد أرسل عليه ما يأكله؟ وكيف عرّ ض الوحي ألكل شاة ولم يأمر‬
‫بإحرازه وصونه؟ ولم أنزله وهو ال يريد العمل به؟«‪.4‬‬

‫ويجيب ابن قتيبة عن هذه التساؤالت‪ ،‬بك ّل بساطة‪ » :‬إن كان العجب من الشاة‪ ،‬فإنّ‬
‫الشاة أفضل األنعام‪ ]...[ .‬وروى وكيع عن األسود بن عبد الرحمان‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن ج ّده‬
‫قال‪ :‬قال رسول هللا(ص)‪ " :‬ما خلق هللا من دابّة أكرم عليه من الشاة "‪ .‬فما يُعجبُ من أكل‬
‫الشاة تلك الصحيفة؟«‪.3‬‬

‫لقد حُ فظ كتاب هللا في صدور الرجال فل َم ل ْم ُت ْكتب اآلية؟‬

‫كما نجد أخبارا فيها تلميح إلى مسألة نسخ القرآن للس ّنة‪ .‬ومن ذلك ما يذكره‬
‫البخاري‪ » :‬ح ّدثني إسحاق‪ ،‬ح ّدثنا خالد‪ ،‬عن الشيباني قال‪ :‬سألت عبد هللا ابن أبي أوفى‪:‬‬
‫هل رجم رسول هللا(ص)؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬قلت‪ :‬قبل سورة النور أم بعد؟ قال‪ :‬ال أدري«‪.1‬‬

‫‪ )2‬ابن قتيبة‪ ،‬تأويل مختلف الحديث‪ ،‬ص ‪013.‬‬


‫‪ )0‬المصدر السابق‪ ،‬ص ‪012.‬‬
‫‪ )4‬البخاري‪ ،‬كتاب المحاربين من أهل الكفر والر ّدة‪ ،‬باب رجم المحصن‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫والحقيقة أ ّننا ال نستطيع تحديد ما إذا كان ماعز بن مالك األسلميّ والغامديّة واليهوديّان‬
‫وغيرهم من الذين رجمهم الرسول في الزنا‪ ،‬كما تؤ ّكد المرويّات عن الرسول‪ ،‬ال نستطيع‬
‫تحديد ما إذا كان الرجم قبل سورة النور أم بعدها‪.‬‬

‫ولكن يبقى األمر المه ّم ح ّقا بالنسبة إلى قضيّة النسخ فيما يتعلّق بح ّد الزنا ما يُعبّر‬
‫عنه في كتب أصول الفقه بنسخ التالوة دون الحكم‪ ،‬ونسخ القرآن بالس ّنة‪ .‬بالنسبة إلى نسخ‬
‫التالوة دون الحكم فإنّ فخر الدين الرازي ( ت‪ 606‬هـ) يذكر أ ّنه » يجوز نسخ التالوة‬
‫دون الحكم وبالعكس ألنّ التالوة والحكم عبادتان منفصلتان وك ّل ما كان كذلك فإ ّنه غير‬
‫مستبعد في العقل أن يصيرا معا مفسدتين أو أن يصير أحدهما مفسدة دون اآلخر« ‪.5‬‬
‫ّ‬
‫ويمثل الرازي على نسخ التالوة دون الحكم بآية الرجم‪.6‬‬

‫أمّا بالنسبة إلى نسخ القرآن بالس ّنة فيقول الرازي‪ » :‬نسخ الكتاب بالس ّنة المتواترة‬
‫جائز واقع‪ .‬وقال الشافعي‪ ،‬رضي هللا عنه‪ :‬لم يقع‪ .‬احت ّج المثبتون بصورتين‪ :‬إحداها أ ّنه‬
‫كان الواجب على الزانية الحبس في البيوت لقوله تعالى‪َ ﴿ :‬فأمْ س ُكو ُهن في ال ُب ُيوت َحتى‬
‫ت﴾‪ .7‬ث ّم إنّ هللا تعالى نسخ ذلك بآية الجلد‪ .‬ث ّم إ ّنه (ص) نسخ الجلد بالرجم‪ .‬فإن‬
‫َي َت َوفا ُهن ال َم ْو ُ‬
‫قلت‪ :‬بل نسخ ذلك بما كان قرآنا وهو قوله‪ " :‬الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما الب ّتة "‪،‬‬
‫ُ‬
‫قلت‪ :‬إنّ ذلك لم يكن قرآنا‪ .‬ويد ّل عليه أنّ عمر‪ ،‬رضي هللا عنه‪ ،‬قال‪ " :‬لوال أن يقول‬
‫الناس‪ :‬إنّ عمر زاد في كتاب هللا شيئا أللحقت ذلك بالمصحف"‪ .‬ولو كان ذلك قرآنا في‬
‫الحال أو كان ث ّم ُنسخ لما قال ذلك [‪ .]...‬وثانيها‪ ،‬نسخ الوصيّة لألقربين [‪.8«]...‬‬

‫‪ )5‬الرازي‪ ،‬المحصول في علم أصول الفقه‪ ،‬ج ‪ ,0‬ص ‪022.‬‬


‫‪ )6‬المصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،0‬ص ‪.022‬‬
‫‪ )7‬النساء ‪15. /4‬‬
‫‪ )8‬المصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،0‬ص ص ‪048.-047‬‬

‫‪95‬‬
‫يبدو من خالل أقوال الرازي السابقة أنّ الفقهاء قد تعاملوا مع آية الرجم باضطراب‬
‫كبير‪ .‬فعند حديثه عن نسخ التالوة دون الحكم ّ‬
‫يمثل بآية الرجم وهذا يعني اعترافه أ ّنها قد ت ّم‬
‫الوحي بها فهي بذلك من القرآن‪ ،‬ولك ّنه ينفي أن تكون كذلك في معرض حديثه عن نسخ‬
‫الس ّنة للقرآن‪.‬‬

‫ومن األخبار الواردة كذلك في شأن نسخ تالوة " آية الرجم " دون حكمها ما ينقله‬
‫جالل الدين السيوطي (ت ‪ 111‬هـ) عن الحاكم‪ » :‬كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص‬
‫يكتبان المصحف فمرّ ا على هذه اآلية فقال زيد‪ :‬سمعت رسول هللا(ص) يقول‪ " :‬الشيخ‬
‫والشيخة إذا زنيا فارجموهما الب ّتة"‪ .‬فقال عمر‪ :‬لمّا نزلت أتيت النبيّ (ص) فقلت‪ :‬أكتبها؟‬
‫فكأ ّنه كره ذلك‪ ،‬فقال عمر‪ :1‬أال ترى أنّ الشيخ إذا زنى ولم يحصن جُ لد‪ ،‬وأنّ الشابّ إذا‬
‫زنى وقد أحصن رُجم؟«‪ .10‬ويقترح السيوطي باإلضافة إلى إيراده هذا الخبر مبرّ را لعدم‬
‫إثبات " آية الرجم " في المصحف فيقول‪ » :‬وخطر لي في ذلك نكتة حسنة‪ ،‬وهو أنّ سببه‬
‫التخفيف على األمّة بعدم اشتهار تالوتها وكتابتها في المصحف وإنْ كان حكمها باقيا أل ّنه‬
‫أثقل األحكام وأش ّدها وأغلظ الحدود‪ ،‬وفيه اإلشارة إلى ندب الستر«‪.11‬‬

‫في تبرير السيوطي‪ ،‬كما نالحظ‪ ،‬تجاهال للغاية التي من أجلها وضعت العقوبات‬
‫والحدود وهي االرتداع عن المحرّ مات وتج ّنبها حفظا للمجتمع وال يمكن تحقيق هذا الهدف‬
‫إالّ بإعالن هذه العقوبات وإشاعتها بين الناس‪ .‬لكأنّ العقوبة أصبحت غاية في ح ّد ذاتها ال‬

‫‪ )9‬ينبغي هنا المقارنة بين ما قاله عمر في خطبته التي نقلها مسلم في صحيحه والتي‬
‫أثبتناها‪ ،‬وما جاء على لسانه في هذا الخبر‪.‬‬
‫‪ )13‬السيوطي‪ ,‬اإلتقان في علوم القرآن‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪04.‬‬
‫‪ )11‬المصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،2‬ص ‪04.‬‬

‫‪96‬‬
‫تكتشفها " العا ّمة " إال ّ عند تطبيقها‪ ،‬في حين كان من األجدر معرفتها ح ّتى ال يقع الناس في‬
‫المحظور‪.14‬‬

‫إنّ الثابت لدينا أنّ آية الرجم ال أساس لها‪ .‬ويمكن أن نلتمس من الحديث النبويّ ما‬
‫قد يد ّل على ذلك‪ .‬يقول البخاري‪ » :‬ح ّدثنا آدم‪ ،‬ح ّدثنا شعبة‪ ،‬ح ّدثنا سلمة بن ُكهيْل قال‪:‬‬
‫سمعت الشعبيّ يح ّدث عن عليّ (ر) حين رجم المرأة يوم الجمعة وقال‪ :‬قد رجمتها بس ّنة‬
‫رسول هللا(ص) «‪.13‬‬

‫أل ْم يكن عليّ بن أبي طالب على علم بآية الرجم التي علمها عمر والصحابة "‬
‫فقرؤوها ووعوها وعقلوها " ح ّتى يرجم بس ّنة الرسول ال بكتاب هللا؟‬
‫لقد كان عمر أكثر المتش ّددين في مسألة تطبيق ح ّد الرجم على الزاني والزانية‬
‫المحصنين‪ ،‬كما كان حريصا على تبرير عدم كتابتها في المصحف‪ .‬ولكنّ أخبارا تبيّن أنّ‬
‫عمر أثناء م ّدة خالفته قد التمس الحيلة مع هذا الح ّد حين تعلّق األمر بشخصيّة مهمّة في‬
‫الدولة ونقصد ما حصل مع المغيرة بن شعبة في السنة السابعة عشرة للهجرة حيث زنى‬
‫المغيرة بأ ّم جميل بنت عمرو وشهد عليه ثالثة من كبار الصحابة شهادة واضحة يؤ ّكدون‬
‫من خاللها أ ّنهم رأوا المغيرة يولجه إيالجا " كالمرود في المكحلة" وحين قدم شاهد رابع‬
‫وهو زياد بن سميلة يشهد أعلمه عمر أ ّنه ال يريد أن يخزي المغيرة‪ ،‬وعند سؤال زياد عمّا‬
‫رآه قال إ ّنه لم ير اإليالج رؤية كاملة وأقام الح ّد على الصحابة الثالثة‪.11‬‬

‫‪ )12‬لمزيد التع ّمق في مسألة ح ّد الزنا وعالقته بنسخ التالوة دون الحكم يمكن أن نحيل‬
‫‪J. Burton, The collection of the Qur’ān, 68-86.‬‬ ‫على‪:‬‬

‫‪ )10‬البخاري‪ ،‬كتاب المحاربين من أهل الر ّدة‪ ،‬باب رجم المحصن‪.‬‬


‫‪ )14‬انظر الخبر في عبد الحسين شرف الدين الموسوي‪ ،‬النصّ واالجتهاد‪ ،‬ص ‪259.‬‬

‫‪97‬‬
‫لع ّل موقف عمر هذا قد حمل تعامال مع التشريع ترسّخ مع التاريخ وتوسّع كلّما‬
‫ّ‬
‫تأخرنا في الزمن وذلك تحت إكراهات التطوّ ر وتب ّدل األحوال‪ ،‬نقصد بذلك ما يسمّى بالحيل‬
‫الفقهيّة التي كثيرا ما تكون بابا للهروب من تنفيذ األحكام على ظاهر نصّها‪.‬‬

‫ّ‬
‫يتنزل في سياق تاريخ ّي‬ ‫ما نذهب إليه أنّ الرسول‪ ،‬إنْ رجم في الزنا‪ ،‬فإنّ ذلك‬
‫مخصوص تع ّددت فيه الزوجات وما ملكت األيمان من اإلماء‪ ،‬فال حاجة بعد ذلك إلى‬
‫ممارسة الجنس خارج " الروابط الشرعيّة "‪ .15‬ولع ّل التمييز بين الثيّب والبكر في ح ّد الزنا‬
‫دليل على ذلك‪ .‬إال ّ أن الفقهاء حرصوا ك ّل الحرص على التشبّث بـ "آية الرجم" ولع ّل وضع‬
‫قسم من علم الناسخ والمنسوخ خاصّ بما ُنسخت تالوته وبقي حكمه كان بسبب ح ّد الرجم‬
‫وهو ما لمّح له سيّد قمني بقوله‪ » :‬وتبقى محاولة قراءة ما فرضه واقع الحال بشأن نسخ‬
‫تالوة " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما الب ّتة‪...‬إلخ " لكن مع بقاء حكم الرجم قائما‪ ،‬دون‬
‫سند في آيات القرآن المجموع بين أيدينا‪ ،‬واألسباب التي دعت إلى وضع باب للنسخ عُرف‬
‫بـ ( ما نسخ تالوته وبقي حكمه) إلدراجها ضمنه والمعلوم أ ّنه إذا نسخت آية من اآليات‬
‫الكريمة‪ ،‬كان ال ب ّد من آية أخرى بديلة تح ّل محلّها تحمل الحكم الجديد«‪.16‬‬

‫وال يفوتنا هنا أن نشير إلى أنّ عقاب األمة في الزنا إذا أحصنت هو نصف عقاب‬
‫الحرّ ة‪ ،‬وهذا واضح في اآلية‪َ ﴿ :‬و َمنْ لَ ْم َيسْ َتطعْ م ْن ُك ْم َط ْوالً أنْ َي ْنك َح المُحْ َ‬
‫ص َنات الم ُْؤم َنات‬
‫ض‪َ .‬فا ْنكحُ وهُن‬‫ض ُك ْم منْ َبعْ ٍ‬
‫ت أ ْي َما ُن ُك ْم منْ َف َت َيات ُك ْم الم ُْؤم َنات َوهللاُ أعْ لَ ُم بإي َمان ُك ْم َبعْ ُ‬
‫َفمنْ َما َملَ َك ْ‬
‫ان ‪َ .‬ف َإذا‬ ‫ت َوالَ مُتخ َذات ْ‬
‫أخدَ ٍ‬ ‫ت َغي َْر م َُساف َحا ٍ‬ ‫ص َنا ٍ‬
‫ورهُن بال َمعْ رُوف مُحْ َ‬ ‫ب ْإذن أهْ لهن َوآ ُتوهُن أجُ َ‬
‫الع َذا ِ‬
‫ب﴾ [ النساء ‪.]45 /1‬‬ ‫ف َما َعلَى ال ُم ْح َ‬
‫ص َنا ِ‬
‫ت مِنَ َ‬ ‫ش ٍة َف َعلَ ْي ِهنَّ ن ْ‬
‫ِص َ‬ ‫صن َفإنْ أ َت ْينَ ِب َفا ِح َ‬
‫أحْ َ‬
‫تنصّ هذه اآلية على » أنّ األمة إذا زنت بعد إحصان ُتعاقب بنصف عقاب المحصنة من‬

‫‪ )15‬أنظر‪ :‬عبد المجيد الشرفي‪ ،‬اإلسالم بين الرسالة والتاريخ‪ ،‬ص ‪.84‬‬
‫‪ )16‬سيّد قمني‪ ،‬األسطورة والتراث‪ ،‬ص ‪260.‬‬

‫‪98‬‬
‫الحرائر‪ ،‬أي أن ُتجلد خمسين جلدة‪ .‬فلو كان عقاب الزناة الرجم لكان ح ّد اإلماء نصف‬
‫الرجم‪ ،‬والرجم ال نصف له«‪.17‬‬

‫الح ّد الثاني الّذي نشير إليه هو ح ّد القذف بالزنا‪ .‬وهذا الح ّد جاء مفصّال في سورة‬
‫النور ‪ .41‬ويمكن أن نميّز في هذه العقوبة بين أمرين‪ ،‬األوّ ل أن يقذف رجل امرأة محصنة‬
‫ص َنات ُثم لَ ْم َيأ ُتوا بأرْ َب َعة ُ‬
‫ش َهدَ ا َء‬ ‫ُون المُحْ َ‬‫دون أن يكون له أربعة شهود‪َ ﴿ :‬والذي َن َيرْ م َ‬
‫ون﴾‪ .18‬واألمر الثاني أن‬ ‫ين َج ْلدَ ًة َوالَ َت ْق َبلُوا لَ ُه ْم َش َهادَ ًة أ َب ًدا َوأولَئ َ‬
‫ك ُه ُم ال َفاسقُ َ‬ ‫َفاجْ ل ُدو ُه ْم َث َمان َ‬
‫يقذف الزوج زوجته وهذا ال يتطلّب أربـعة شـهود وال يترتـّب عليه حـ ّد بل ما يـسـمّى "‬
‫لعا ًنا "‪ ،‬وهـو » شهادات مؤ ّكدة باأليْمان مقرونة باللعن قائمة مقـام حـ ّد القذف في ح ّقـه‪،‬‬
‫اج ُه ْم َولَ ْم َي ُكنْ لَ ُه ْم‬ ‫ُون ْ‬
‫أز َو َ‬ ‫ومـقام ح ّد الزنـا في ح ّقها«‪ .11‬وهذا ما تؤ ّكده اآلية‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫ين َيرْ م َ‬
‫الخام َس ُة أنْ لَعْ َن َة هللا‬ ‫ت باهلل إن ُه لَم َن الصادق َ‬
‫ين َو َ‬ ‫ش َهدَ ا ُء إال أ ْنفُ ُس ُه ْم‪َ ,‬ف َش َهادَ ةُ َ‬
‫أحده ْم أرْ َبعُ َش َهادَ ا ٍ‬ ‫ُ‬
‫َعلَيْه إنْ َك َ‬
‫ان م َن ال َكاذ َ‬
‫بين ﴾‪.40‬‬

‫يتعلّق الح ّد إذن بالقاذف إذا لم يكن زوج المقذوفة‪ .‬والحقيقة أنّ عقوبة القاذف‬
‫عقوبتان‪ .‬األولى جسديّة ّ‬
‫تتمثل في ثمانين جلدة‪ ،‬والثانية مرتبطة بالناحية االجتماعيّة وهي‬
‫درء الشهادة‪.‬‬

‫رغم ما يبدو في النصّ القرآني من وضوح فإنّ الفقهاء‪ ،‬على عادتهم‪ ،‬اختلفوا في‬
‫تطبيق هذا الح ّد‪ ،‬بل في مفهوم القذف ذاته‪ .‬ومن ذلك االختالف في اعتبار التعريض بالقذف‬
‫موجبا للح ّد أو غير موجب‪ .‬كما ت ّم التعميم على قذف الرجل والمرأة‪ ،‬في حين أنّ اآلية‬

‫‪ )17‬عبد المجيد الشرفي‪ ،‬اإلسالم والحداثة‪ ،‬ص ص ‪107.-106‬‬


‫‪ )18‬النور ‪4. /24‬‬
‫‪ )19‬الجرجاني‪ ،‬التعريفات‪ ،‬ص ‪192.‬‬
‫‪ )23‬النور ‪7.-6 /24‬‬

‫‪99‬‬
‫تنصّ بوضوح على قذف المرأة فقط‪ .‬كما ت ّم االختالف حول قبول شهادة القاذف رغم أنّ‬
‫ين َتابُوا منْ َبعْ د َذل َك َوأصْ لَحُ وا َفإن هللاَ‬
‫القرآن يبيّن أنّ شهادته ُتقبل بعد التوبة‪ ﴿ :‬إال الذ َ‬
‫َغفُور َرحيم ﴾‪ .41‬كما ت ّم االختالف في وُ جوب ح ّد من قذف شخصا غير معيّن‪ ،‬إلى غير‬
‫ذلك من االختالفات الفقهيّة العديدة‪.44‬‬

‫في ك ّل تلك االختالفات ابتعاد عن المقصد القرآني من النصّ على ح ّد القذف‪ ،‬وهو‬
‫حفظ المجتمع اإلسالمي الذي تكون فيه نتائج اال ّتهام بالزنا والطعن في األنساب خطيرة‬
‫للغاية‪ ،‬في فترة تاريخيّة دقيقة‪ ،‬هي الفترة المدنيّة التكوينيّة‪ .‬لقد كان المسلمون في حاجة‬
‫كبيرة إلى التماسك قصد تأسيس قوّ ة تسمح بنشر الرسالة المحمّديّة‪.‬‬

‫إنّ نفس الظرفيّة التاريخيّة والوضعيّة االجتماعيّة ح ّتمت ح ّد السرقة كما استقرّ في‬
‫فقه العقوبات باالستناد إلى اآلية الثامنة والثالثين من سورة المائدة ‪.5‬‬

‫لئن كان ح ّد الزنا والقذف مفصّلين في النصّ القرآني‪ ,‬فإنّ آية قطع يد السارق‬
‫جاءت مُجْ ملة فكانت‪ ،‬على الرغم من اعتبارها صريحة‪ ،‬آية مشكلة بالنسبة إلى الفقهاء‪ .‬وقد‬
‫جمع أبو عبد هللا محمّد بن أحمد القرطبي (ت ‪ 671‬هـ) االختالفات الفقهيّة المتعلّقة بح ّد‬
‫السرقة في سبع وعشرين مسألة وذلك بعد اإلقرار بأنّ القطع في السرقة ليس ح ّدا إسالميّا‬
‫خالصا‪ » :‬وقد قُطع في السارق في الجاهليّة‪ ،‬وأوّ ل من قُطع الوليد بن المغيرة‪ ،‬فأمر هللا‬
‫بقطعه في اإلسالم«‪ .43‬ومن بين االختالفات التي ذكرها القرطبي االشتراك في السرقة‪،‬‬
‫وهل إنّ القبر والمسجد حرز‪ ،‬وهل يقع تغريم السارق أو ال‪ ،‬وماذا يتر ّتب عند تكرار‬

‫‪ )21‬التوبة ‪5. /24‬‬


‫‪ )22‬أنظر هذه االختالفات في‪ :‬أحمد فتحي بهنسي‪ ،‬الفقه الجنائي اإلسالمي‪ ،‬ص ص ‪-76‬‬
‫‪78.‬‬
‫‪ )20‬القرطبي‪ ،‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬ج ‪ ,6‬ص ‪.163‬‬

‫‪100‬‬
‫السرقة‪ ،‬وهل يُقطع األبوان بسرقة مال ابنهما إلى غير ذلك من المسائل‪ .41‬إالّ أنّ‬
‫االختالفات األساسيّة تتعلّق بنصاب السرقة وبمعنى اليد‪.‬‬

‫لم تح ّدد اآلية نصابا في السرقة بل ح ّددته مرويّات كثيرة عن الرسول‪ ،‬منها ما‬
‫رواه مسلم‪ » :‬ح ّدثني بشر بن الحكم العبديّ ‪ ,‬ح ّدثنا عبد العزيز بن محمّد‪ ،‬عن َعمْرة‪ ،‬عن‬
‫عائشة أ ّنها سمعت النبيّ (ص) يقول‪ " :‬ال ُتقطع يد السارق إالّ في رُبع دينار فصاعدا"«‪.45‬‬
‫ويروي البخاري‪ » :‬ح ّدثنا إسماعيل‪ ،‬ح ّدثنا مالك بن أنس‪ ،‬عن نافع مولى عبد هللا بن عمر‪،‬‬
‫عن عبد هللا بن عمر‪ ،‬رضي هللا عنهما‪ ،‬أنّ رسول هللا (ص) قطع في مجنّ ثمنه ثالثة‬
‫دراهم« ‪.46‬‬

‫ال يمكن أن نعرف بد ّقة قيمة العملة في عهد الرسول ح ّتى نستطيع المعادلة بين‬
‫الدراهم الثالثة وربع الدينار‪ .‬وتحقيقا للجمع بين المرويّات يذهب مالك والشافعي من فقهاء‬
‫الحجاز إلى أنّ الدراهم من الفضّة وربع الدينار من الذهب‪ .‬أمّا فقهاء الحنفيّة العراقيّين‬
‫فيرون أنّ المجنّ ‪ ،‬أي ما يستتر به في الحرب‪ ،‬يساوي عشرة دراهم رغم أنّ الخبر يح ّدد‬
‫قيمته بثالثة فقط‪ .47‬ويذكر النووي بعض اآلراء األخرى المتعلّقة بنصاب السرقة فيقول‪» :‬‬
‫[‪ ]...‬وحكى القاضي عن بعض الصحابة أنّ النصاب أربعة دراهم‪ .‬وعن عثمان الب ّتي أ ّنه‬
‫درهم‪ .‬وعن الحسن أ ّنه درهمان‪ .‬وعن النخعيّ أ ّنه أربعون درهما أو أربعة دنانير«‪ .48‬كما‬

‫‪ )24‬انظر المصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ص ‪175.-159‬‬


‫‪ )25‬مسلم‪ ،‬كتاب الحدود‪ ،‬باب ح ّد السرقة ونصابها‪.‬‬
‫‪ )26‬البـخاري‪ ،‬كتاب الحدود‪ ،‬باب قـوله تعالى‪ " :‬والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهـما " [‬
‫المائدة ‪ ] 08 /5‬وفي كم يُقطع‪.‬‬
‫‪ )27‬أنظر هذه االختالفات بين الفقهاء في‪ :‬أحمد فتحي بهنسي‪ ،‬الفقه الجنائي اإلسالمي‪،‬‬
‫ص ‪08.‬‬
‫‪ )28‬النووي‪ ،‬المنهاج‪ ،‬على هامش صحيح مسلم‪ ،‬م ‪ ،6‬ج ‪ ،11‬ص ص ‪180.-182‬‬

‫‪101‬‬
‫نشير إلى أنّ فقهاء الظاهريّة وكذلك الخوارج يذهبون إلى أ ّنه ال نصاب في السرقة‬
‫فيقطعون في القليل والكثير نظرا إلى عموم اآلية الناصّة على الح ّد‪.‬‬

‫وعلى ك ّل حال فإنّ مسألة النصاب تبقى من المسائل الفقهيّة الخالفيّة‪ .‬ولكن أليس لنا‬
‫اليوم أن نتساءل‪ :‬ماذا تعني الدراهم الثالثة؟ وكم يعادل ربع الدينار؟ بل ماذا يعني المجنّ ؟‬

‫أمّا األمر الثاني الذي دارت حوله مناقشات الفقهاء فهو معنى القطع‪ .‬ونظرا إلى أنّ‬
‫اآلية كانت مجملة اختلفوا في قطع اليد اليمنى أو اليسرى‪ .41‬وهل أنّ القطع يكون من الكوع‬
‫أو من المنكب‪ .‬وهل أنّ قطع الرجل عند معـاودة السـرقة يكون من مفـصل الكعب أو يت ّم‬
‫بتر نصف القدم‪ .‬يقول القرطبي عند عرضه للمسألة التاسعة عشرة‪ » :‬فإذا قطعت اليد أو‬
‫الرجل فإلى أين ُتقطعُ؟ فقال الكا ّفة‪ُ :‬تقطع من الرسغ والرجل من المفصل ويحسم الساق إذا‬
‫قطع‪ .‬وقال بعضهم‪ :‬يقطع إلى المرفق‪ .‬وقيل‪ :‬إلى المنكب ألنّ اسم اليد يتناول ذلك‪ .‬وقال‬
‫عليّ ‪ ،‬رضي هللا عنه‪ُ ،‬تقطع الرجل من شطر القدم ويترك له العقب‪ .‬وبه قال أحمد أبو ثور‪.‬‬
‫قال المنذر‪ :‬روينـا عـن الـنبيّ (ص) أ ّنه أمـر بقـطع يـد رجـل فـقال‪ " :‬احسموها "‪ .‬وفي‬
‫إسناده مقال‪ .‬واستحبّ ذلك جماعة منهم الشافعي وأبو ثور وغيرهما‪ ،‬وهذا أحسن وهو‬
‫أقرب إلى البرء وأبعد من التلف«‪ .30‬ونشير إلى أنّ مسألة الحسم بعد القطع‪ ،‬والتي يُقصد‬
‫منها الحفاظ على حياة المقطوع‪ّ ،‬‬
‫تمثل في نظرنا عقوبة إضافيّة‪ ،‬فالفقهاء يرون أنّ الحسم‬
‫يت ّم بغمس اليد أو الرجل المبتورة في زيت يغلي أو في الدهن الساخن‪.‬‬

‫أن السيوطي يذكر ّ‬


‫أن قراءة ابن مسعود لآلية ‪ 08‬من المائدة ‪5‬‬ ‫‪ )29‬تجدر اإلشارة هنا إلى ّ‬
‫ّ‬
‫" فاقطعوا أيمانهما" ويدرج هذه القراءة ضمن القراءات الشاذة التي يُراد منها‬ ‫هي‪:‬‬
‫تفسير القراءة المشهورة‪ .‬انظر اإلتقان‪ ,‬ج ‪ ,1‬ص ‪.138‬‬
‫‪ )03‬القرطبي‪ ،‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ص ‪.172-171‬‬

‫‪102‬‬
‫وقبل تجاوز مسألة ح ّد السرقة نؤ ّكد على أنّ الفقهاء يفصلون بين آية القطع في‬
‫السرقة واآلية التي تليها وهي المؤ ّكدة على غفران هللا بعد التوبة‪ .31‬وهذا في حقيقة األمر‬
‫يؤ ّدي إلى تعليق إقامة الح ّد‪ .‬لكن أغلب الفقهاء يذهبون إلى أنّ التوبة ال ُتسقط الح ّد‪ .‬يقول‬
‫القرطبي عند تفسيره اآلية التاسعة والثالثين من المائدة‪ ،‬مدرجا األمر في إطار اختالفات‬
‫الفقهاء في ح ّد السرقة‪ ]...[ » :‬والقطع ال يسقط بالتوبة‪ .‬وقال عطاء وجماعة‪ :‬يسقط بالتوبة‬
‫قبل القدرة على السارق‪ .‬وقاله بعض الشافعيّة وعزاه إلى الشافعي قوال‪ ،‬وتعلّقوا بقول هللا‬
‫ين َتا ُبوا منْ َقبْل أنْ َت ْقدرُ وا َعلَيْه ْم ﴾‪ .34‬وعطف عليه ح ّد السارق وقال فيه‪" :‬‬
‫تعالى‪ ﴿ :‬إال الذ َ‬
‫فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإنّ هللا يتوب عليه "«‪.33‬‬

‫هذه هي الذنوب المرتبطة في النصّ القرآني وفي الحديث النبويّ بحدود‪ ،‬وهي التي‬
‫نجدها في قوائم الكبيرة التي ّ‬
‫سطرها المسلمون‪ .‬ول ّما كان اشتغالنا هنا ببيان جزاء الكبيرة‬
‫الدنيويّ ‪ ،‬فإ ّننا نروم التأكيد على سمة التطوّ ر التي شهدتها الحدود إثر وفاة الرسول‪ ،‬الّذي‬
‫كان مرجعا في التشريع‪ .‬ولع ّل المثال الواضح على ذلك التحوّ ل عقوبة شارب الخمر‪.‬‬
‫ونشير إلى أنّ شرب الخمر ليس من الكبائر المصرّ ح بها في األحاديث المرويّة عن‬
‫الرسول‪ ،‬ولك ّنه ترسّخ عند المسلمين من الكبائر‪.‬‬

‫لقد تواترت في الحديث األخبار المبيّنة لعقوبة شارب الخمر على عهد الرسول‪.‬‬
‫ّ‬
‫وتمثلت العقوبة في الضرب بالجريد والنعال والثياب واأليدي‪ .‬ث ّم تطوّ ر األمر إلى الجلد بعد‬
‫انقضاء فترة النبـوّ ة‪ .‬وقـد جـمع كل ذلـك خـبر رواه مسـلم‪ » :‬ح ّدثنا محمّد بن المث ّنى‪ ،‬ح ّدثنا‬
‫معاذ بن هشام‪ ،‬ح ّدثني أبي‪ ،‬عن قتادة‪ ،‬عن أنس ابن مالك أنّ نبيّ هللا(ص) جلد في الخمر‬

‫فإن هللا يتوب عليه ّ‬


‫إن هللا غفور رحيم‪،‬‬ ‫‪ )01‬اآلية هي‪ ﴿ :‬فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح ّ‬
‫المائدة ‪.09 /5‬‬
‫‪ )02‬المائدة ‪04. /5‬‬
‫‪ )00‬المصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ‪174.‬‬

‫‪103‬‬
‫بالجريد والنعال‪ ،‬ث ّم جلد أبو بكر أربعين‪ .‬فلمّا كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى‪،‬‬
‫قال‪ :‬ما ترون في جلد الخمر؟ فقال عبـد الرحـمان بن عـوف‪ :‬أرى أن تجعلها كأخفّ‬
‫الحدود‪ .‬قال‪ :‬فجـلد عـمر ثمانين«‪.31‬‬

‫الواضح من خالل هذا الخبر أنّ عقوبة شارب الخمر التي طبّقها الرسول لم تكن‬
‫مضبوطة ومق ّننة‪ ،‬ممّا يُخرجها من إطار الحدود إلى مجال التعزير وهو » تأديب دون‬
‫الح ّد«‪ .35‬ث ّم تطوّ ر األمر بعد وفاة الرسول ليصبح ح ّدا فكان أربعين جلدة مع أبي بكر‬
‫وثمانين مع عمر‪ .‬ويذكر القرطبي في ذلك خبرا عن ابن عبّاس أنّ عمر كان يجلد في‬
‫الخمر أربعين » ح ّتى أ ُ َ‬
‫تي برجل من المهاجرين األوّ لين وقد شرب‪ .‬فأمر به أن يُجلد‪ .‬فقال‪:‬‬
‫لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب هللا‪ .‬فقال عمر‪ :‬وأيّ كتاب هللا تجد أال ّ أجلدك؟ فقال له‪ :‬إنّ هللا‬
‫‪36‬‬
‫ين آ َم ُنوا َو َعملُوا الصال َحات ُج َناح في َما َطعمُوا﴾‬
‫ْس َعلَى الذ َ‬
‫تعالى يقول في كتابه‪ ﴿ :‬لَي َ‬
‫اآلية‪ .‬فأنا من الّذين آمنوا وعملوا الصالحات ث ّم ا ّت ْقوا[‪ ]...‬شهدت مع رسول هللا (ص) بدرا‬
‫وأحدا والخندق والمشاهد‪ .‬فقال عمر‪ :‬أال تر ّدون عليه ما يقول؟ فقال ابن عبّاس‪ :‬إنّ هؤالء‬
‫ين آ َم ُنوا‬
‫اآليات أنزلن عذرا لمن غبر وحجّ ة على الناس ألنّ هللا تعالى يقول‪َ ﴿ :‬يا أي َها الذ َ‬
‫ين آ َم ُنوا‬
‫اآلية‪ .‬ث ّم قرأ ح ّتى أنفذ اآلية األخرى فإنْ كان من ﴿الذ َ‬ ‫‪37‬‬ ‫إن َما َ‬
‫الخمْ رُ َوال َمي َ‬
‫ْسرُ ﴾‬
‫َو َعـملُوا الصال َحات﴾ اآلية‪ ،‬فإنّ هللا قد نهاه أن يشرب الخمر‪ .‬فقال عمر‪ :‬صدقت‪ ,‬ماذا‬
‫ترون؟ فقال عليّ ‪ ،‬رضي هللا عنه‪ :‬إ ّنه إذا شرب سكر‪ ،‬وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى‪،‬‬
‫ْ‬
‫وعلى المفتري ثمانون جلدة‪ .‬فأمر به عمر فجُلد ثمانين جلدة«‪.38‬‬

‫‪ )04‬مسلم‪ ،‬كتاب الحدود‪ ،‬باب ح ّد الخمر‪.‬‬


‫‪ )05‬الجرجاني‪ ،‬التعريفات‪ ،‬ص ‪66.‬‬
‫‪ )06‬المائدة ‪90. /5‬‬
‫‪ )07‬المائدة ‪93. /5‬‬
‫‪ )08‬القرطبي‪ ،‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬ج ‪ ،6‬ص ص ‪298.-297‬‬

‫‪104‬‬
‫ً‬
‫استنادا إلى عمليّة قياسيّة وهذا ما جعل االخـتـالف‬ ‫لقد بنى الصحابة "ح ّد الخمر"‬
‫كبـيرا بيـن الفـقهاء مـع اال ّتـفاق في ضرورة الحـ ّد‪ .‬يقـول النـووي‪ » :‬واختلف العلماء في‬
‫قدر ح ّد الخمر‪ .‬فقال الشافعي وأبو ثور وداود وأهل الظاهر وآخرون‪ :‬ح ّده أربعون‪ .‬قال‬
‫الشافعي(ر)‪ :‬ولإلمام أن يبلغ به الثمانين‪ ،‬وتكون الزيادة على األربعين تعزيرات [‪ ]...‬ونقل‬
‫القاضي عن الجمهور من السلف والفقهاء [‪ ]...‬ح ّده ثمانون‪ .‬واحتجّ وا بأ ّنه الّذي استقرّ عليه‬
‫إجماع الصحابة وأنّ فعل النبيّ لم يكن للتحديد«‪.31‬‬

‫إنّ ما نالحظه في هذه المواقف خروج صريح ع ّما يرويه البخاري عن الرسول‪» :‬‬
‫ح ّدثنا عبد هللا بن يوسف‪ ،‬ح ّدثنا الليث‪ ،‬ح ّدثني يزيد بن أبي حبيب‪ ،‬عن بُكيْر بن عبد هللا‪،‬‬
‫عن سليمان ابن يسار‪ ،‬عن عبد الرحمان بن جابر بن عبد هللا‪ ،‬عن أبي بُرْ دة(ر) قال‪ :‬كان‬
‫النبيّ (ص) يقول‪ " :‬ال يُجْ ل ُد فوق عشر جلدات إال ّ في ح ّد من حدود هللا"«‪ .10‬بل إنّ في‬
‫األحاديث النبويّة ما يد ّل على أنّ الرسول قد تجاوز عن بعض الناس ولم يُقم عليهم الح ّد‪.‬‬
‫روى مسلم‪ » :‬ح ّدثنا الحسن بن عليّ الحُ لواني‪ ،‬ح ّدثنا عمرو بن عاصم‪ ،‬ح ّدثنا همّام‪ ،‬عن‬
‫إسحاق بن عبد هللا بن أبي طلحة‪ ،‬عن أنس قال‪ :‬جاء رجل إلى النبيّ (ص) فقال‪ :‬يا رسول‬
‫هللا أصبت ح ّدا فأقمه عليّ ‪ .‬قال‪ :‬وحضرت الصالة فصلّى مع رسول هللا (ص)‪ .‬فلمّا قضى‬
‫" هل حضرت‬ ‫الصالة قال‪ :‬يا رسول هللا إ ّني أصبت ح ّدا فأقم فيّ كتاب هللا‪ .‬قال‪:‬‬
‫الصالة معنا؟ "‪ .‬قال‪ :‬نعم‪ .‬قال‪ " :‬قد ُغفر لك "«‪.11‬‬

‫‪ )09‬النووي‪ ،‬المنهاج‪ ،‬على هامش صحيح مسلم‪ ،‬م ‪ ،6‬ج ‪ ،11‬ص ‪214.‬‬
‫‪ )43‬البخاري‪ ،‬كتاب المحاربين من أهل الكفر والر ّدة‪ ،‬باب كم التعزير واألدب‪.‬‬
‫‪ )41‬مسلم‪ ،‬كتاب التوبة‪ ،‬باب قوله تعالى‪ّ ﴿:‬‬
‫إن الحسنات يُذهبن السيّئات﴾ [ هود ‪/11‬‬
‫‪.]114‬‬

‫‪105‬‬
‫ولنا أن نتساءل بعد ذلك لماذا يؤخذ باألحاديث التي فيها تشديد بالعقوبة‪ ،‬كالرجم في‬
‫الزنا‪ ،‬دون أمثال الحديث السابق‪ ،‬فيت ّم اعتبار األولى قطعيّة ال مجال لمناقشتها‪ ،‬أمّا الثانية‬
‫فهي قابلة للتأويل والزيادة؟‬

‫لعلّنا ال نبالغ إذا قلنا إنّ الفقهاء بحثوا دائما عن تشديد العقوبات وتعظيم الذنوب‬
‫رغم رحمة اإلله وقبوله التوبة‪ ،‬وهما األمران اللذان يؤ ّكد عليهما القرآن كلّما ورد نصّ بح ّد‬
‫من الحدود‪.14‬‬

‫إنّ الجزاء الدنيويّ ‪ ،‬الّذي مثلته الحدود‪ ،‬حمّال إشكاليّات كثيرة أشرنا إلى بعضها‬
‫دون اإلحاطة بها أل ّننا اقتصرنا على ما يه ّم بحثنا من ناحية‪ ،‬وألنّ مسألة الحدود من‬
‫المواضيع التي يجب أن ُتراجع بد ّقة‪ ،‬ولعلّها من أكثر المسائل الموضّحة لمدى ابتعاد الفقهاء‬
‫وعلماء الدين عن جوهر اإلسالم‪.13‬‬

‫وكما ارتبطت الكبائر بالجزاء الدنيويّ فإ ّنها مقترنة بالجزاء األخرويّ الّذي يتعلّق‬
‫تعلّقا كبيرا بمسألة اإليمان‪ .‬لذلك وقفنا عند هذا المفهوم لمحاولة تبيّن مدى تأثير نظرة‬
‫المسلمين إلى اإليمان في مصير مرتكب الكبيرة‪ ،‬وذلك من خالل أوائل العقيدة اإلسالميّة‬
‫وأيضا من خالل ما استقرّ لدى المسلمين بعد انتهاء الدعوة‪.‬‬

‫‪Mohamed Charfi , Islam et liberté , le malentendu historique, pp )42‬‬


‫‪94-95.‬‬
‫‪ )40‬قرأنا في مجلّة " روز اليوسف " المصريّة حول عقوبة اللواط في إيران‪ » :‬أ ّما في‬
‫إيران فتُع ّد فيها ممارسة اللواط عمال غير قانون ّي‪ .‬ومن يُتّهم بممارسة الشذوذ الجنس ّ‬
‫ي‬
‫يختار بين أربع طرق لعقابه‪ :‬إ ّما الموت شنقا‪ ،‬أو الرجم بالحجارة حتّى الموت‪ ،‬أو قطع‬
‫الرقبة بالسيف‪ ،‬أو إلقائه من أعلى ق ّمة‪ .‬وإذا ما ضُبط اثنان أثناء ممارسة اللواط يعاقبان‬
‫أمام القاضي الخاص بقضايا التمييز‪ .‬أ ّما إذا ضُبط اثنان من المراهقين يمارسان هذا‬
‫الشذوذ يعاقب ك ّل منهما بالجلد مائة جلدة‪ .‬وإذا لم يكن هذا العقاب رادعا لهما يتكرّر الجلد‬
‫ثالث أو أربع مرّات‪ .‬ويكون العقاب هو الموت لالثنين إذا كانوا من غير المسلمين«‪ .‬العدد‬
‫‪ 15/9 ،0844‬فيفري ‪ ،2332‬ص ‪.86-85‬‬

‫‪106‬‬
107

You might also like