Professional Documents
Culture Documents
ليس هدفنا مناقشة المسائل الفقهيّة المتعلّقة بالحدود ،فهذا األمر محتاج إلى
مراجعات كثيرة تأخذ بعين االعتبار تطوّ رات الحياة االجتماعيّة واالقتصاديّة والثقافيّة التي
تختلف تمام االختالف ع ّما كانت عليه في القرن السابع للميالد .ولن ن ّدعي أ ّننا سنقوم بتلك
المراجعات فمسألة الحدود مع ّقدة والقضايا الفقهيّة الم ّتصلة بها صعبة التناول ،يضيق
المجال ببسطها.
إنّ ما نسعى إليه هو اإلشارة إلى بعض اإلشكاليّات التي تعترضنا عند قراءة
النصوص التأسيسيّة المتعلّقة بالحدود والنظر في ما آلت إليه عند التطبيق .وهذا في الحقيقة
ناتج عن اقتناعنا أنّ تطبيق الحدود يختلف اختالفا جوهريّا عمّا نصّ عليه المصدر األساس ّي
والموثوق به للتشريع ،ونعني القرآن .كما يختلف التطبيق كذلك عمّا رُوي عن الرسول،
ّ
وسنمثل على ذلك بعقوبة شارب الخمر التي توضّح سمة التطوّ ر التي شهدتها الحدود إثر
وفاة الرسول.
92
ترتبط كبيرة الزنا بأقصى أنواع العقوبة ،خاصّة إذا كان الزاني أو الزانية محصنا.
العقوبة هي وضْ ع ح ّد لحياة اإلنسان بطريقة عنيفة ج ّدا ،ونقصد بذلك الرجم ،وهو من
المسائل الفقهيّة المشكلة .وليس اإلشكال ،بالنسبة إلينا ،متعلّقا بما اختلف فيه الفقهاء من
أمور نراها تافهة إذا ما قُورنت بحياة إنسان .فمن المسائل التي اختلفوا فيها هل يت ّم الحفر
للمرأة دون الرجل ألنّ ذلك أستر لها ،وحجـم الحـجارة المستعـملة فـي الـرجم ،ومن يبدأ
بالـرجم :اإلمام أو الشهود إلى غير ذلك من تفاصيل كيفيّة تطبيق " ح ّد الرجم ".
الرجم ليس له أيّ أساس في القرآن إذ هو ال ينصّ على أيّة عقوبة للزنا غير الجلد.
ولكن هناك أخبارا عن " آية الرجم " أبرزها خبران .الخبر األوّ ل رُوي عن عمر بن
ّ
الخطاب ،والثاني عن عائشة زوج الرسول.
ّ
الخطاب يؤ ّكد نزول آية ال نجدها في روى البخاري ومسلم خبرا عن عمر بن
المصحف الّذي بين أيدينا .ونذكر هنا رواية مسلم » :ح ّدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى
قاال :ح ّدثنا ابن وهب ،أخبرني يونس ،عن ابن شهاب قال :أخبرني عُبيْد هللا بن عُتبة أ ّنه
لخطاب ،وهو جالس على منبر رسول سمع عبد هللا بن عبّاس يقول :قال عمر بن ا ّ
)1مسلم ,كتاب الحدود ،باب رجم الثيّب في الزنا .وانظر الخبر مط ّوال في :البخاري،
كتاب المحاربين من أهل الكفر والر ّدة ،باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.
93
الجواب يق ّدمه ابن قتيبة من خالل خبر عن عائشة ،مناقشا المعارضين لخبر نزول
آية الرجم » :قالوا :رويتم عن محمّد بن إسحاق ،عن عبد هللا بن أبي بكر ،عن عمرة ،عن
عائشة ،رضي هللا عنها ،أ ّنها قالت " :لقد نزلت آية الرجم ورضاع الكبير عشرا ،فكانت في
صحيفة تحت سريري عند وفاة رسول هللا(ص) فلمّا تو ّفي و ُ
شغلنا به ،دخلت داجن للح ّي
فأكلت الصحيفة " .قالوا :وهنا خالف قول هللا ،تبارك وتعالىَ ﴿ :وإن ُه لَك َتاب َعزيز الَ َيأتيه
ال َباط ُل منْ َب ْين َيدَ ْيه َوالَ منْ َخ ْلفه ﴾ [فصّلت .]14/11فكيف يكون عزيزا وقد أكلته شاة
وأبطلت فرضه وأسقطت حجّ ته؟ وأيّ أحد يعجز عن إبطاله والشاة ُتبطله؟ وكيف قال﴿ :
ال َي ْو َم ْأك َم ْل ُ
ت لَ ُك ْم دي َن ُك ْم ﴾ وقد أرسل عليه ما يأكله؟ وكيف عرّ ض الوحي ألكل شاة ولم يأمر
بإحرازه وصونه؟ ولم أنزله وهو ال يريد العمل به؟«.4
ويجيب ابن قتيبة عن هذه التساؤالت ،بك ّل بساطة » :إن كان العجب من الشاة ،فإنّ
الشاة أفضل األنعام ]...[ .وروى وكيع عن األسود بن عبد الرحمان ،عن أبيه ،عن ج ّده
قال :قال رسول هللا(ص) " :ما خلق هللا من دابّة أكرم عليه من الشاة " .فما يُعجبُ من أكل
الشاة تلك الصحيفة؟«.3
كما نجد أخبارا فيها تلميح إلى مسألة نسخ القرآن للس ّنة .ومن ذلك ما يذكره
البخاري » :ح ّدثني إسحاق ،ح ّدثنا خالد ،عن الشيباني قال :سألت عبد هللا ابن أبي أوفى:
هل رجم رسول هللا(ص)؟ قال :نعم .قلت :قبل سورة النور أم بعد؟ قال :ال أدري«.1
94
والحقيقة أ ّننا ال نستطيع تحديد ما إذا كان ماعز بن مالك األسلميّ والغامديّة واليهوديّان
وغيرهم من الذين رجمهم الرسول في الزنا ،كما تؤ ّكد المرويّات عن الرسول ،ال نستطيع
تحديد ما إذا كان الرجم قبل سورة النور أم بعدها.
ولكن يبقى األمر المه ّم ح ّقا بالنسبة إلى قضيّة النسخ فيما يتعلّق بح ّد الزنا ما يُعبّر
عنه في كتب أصول الفقه بنسخ التالوة دون الحكم ،ونسخ القرآن بالس ّنة .بالنسبة إلى نسخ
التالوة دون الحكم فإنّ فخر الدين الرازي ( ت 606هـ) يذكر أ ّنه » يجوز نسخ التالوة
دون الحكم وبالعكس ألنّ التالوة والحكم عبادتان منفصلتان وك ّل ما كان كذلك فإ ّنه غير
مستبعد في العقل أن يصيرا معا مفسدتين أو أن يصير أحدهما مفسدة دون اآلخر« .5
ّ
ويمثل الرازي على نسخ التالوة دون الحكم بآية الرجم.6
أمّا بالنسبة إلى نسخ القرآن بالس ّنة فيقول الرازي » :نسخ الكتاب بالس ّنة المتواترة
جائز واقع .وقال الشافعي ،رضي هللا عنه :لم يقع .احت ّج المثبتون بصورتين :إحداها أ ّنه
كان الواجب على الزانية الحبس في البيوت لقوله تعالىَ ﴿ :فأمْ س ُكو ُهن في ال ُب ُيوت َحتى
ت﴾ .7ث ّم إنّ هللا تعالى نسخ ذلك بآية الجلد .ث ّم إ ّنه (ص) نسخ الجلد بالرجم .فإن
َي َت َوفا ُهن ال َم ْو ُ
قلت :بل نسخ ذلك بما كان قرآنا وهو قوله " :الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما الب ّتة "،
ُ
قلت :إنّ ذلك لم يكن قرآنا .ويد ّل عليه أنّ عمر ،رضي هللا عنه ،قال " :لوال أن يقول
الناس :إنّ عمر زاد في كتاب هللا شيئا أللحقت ذلك بالمصحف" .ولو كان ذلك قرآنا في
الحال أو كان ث ّم ُنسخ لما قال ذلك [ .]...وثانيها ،نسخ الوصيّة لألقربين [.8«]...
95
يبدو من خالل أقوال الرازي السابقة أنّ الفقهاء قد تعاملوا مع آية الرجم باضطراب
كبير .فعند حديثه عن نسخ التالوة دون الحكم ّ
يمثل بآية الرجم وهذا يعني اعترافه أ ّنها قد ت ّم
الوحي بها فهي بذلك من القرآن ،ولك ّنه ينفي أن تكون كذلك في معرض حديثه عن نسخ
الس ّنة للقرآن.
ومن األخبار الواردة كذلك في شأن نسخ تالوة " آية الرجم " دون حكمها ما ينقله
جالل الدين السيوطي (ت 111هـ) عن الحاكم » :كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص
يكتبان المصحف فمرّ ا على هذه اآلية فقال زيد :سمعت رسول هللا(ص) يقول " :الشيخ
والشيخة إذا زنيا فارجموهما الب ّتة" .فقال عمر :لمّا نزلت أتيت النبيّ (ص) فقلت :أكتبها؟
فكأ ّنه كره ذلك ،فقال عمر :1أال ترى أنّ الشيخ إذا زنى ولم يحصن جُ لد ،وأنّ الشابّ إذا
زنى وقد أحصن رُجم؟« .10ويقترح السيوطي باإلضافة إلى إيراده هذا الخبر مبرّ را لعدم
إثبات " آية الرجم " في المصحف فيقول » :وخطر لي في ذلك نكتة حسنة ،وهو أنّ سببه
التخفيف على األمّة بعدم اشتهار تالوتها وكتابتها في المصحف وإنْ كان حكمها باقيا أل ّنه
أثقل األحكام وأش ّدها وأغلظ الحدود ،وفيه اإلشارة إلى ندب الستر«.11
في تبرير السيوطي ،كما نالحظ ،تجاهال للغاية التي من أجلها وضعت العقوبات
والحدود وهي االرتداع عن المحرّ مات وتج ّنبها حفظا للمجتمع وال يمكن تحقيق هذا الهدف
إالّ بإعالن هذه العقوبات وإشاعتها بين الناس .لكأنّ العقوبة أصبحت غاية في ح ّد ذاتها ال
)9ينبغي هنا المقارنة بين ما قاله عمر في خطبته التي نقلها مسلم في صحيحه والتي
أثبتناها ،وما جاء على لسانه في هذا الخبر.
)13السيوطي ,اإلتقان في علوم القرآن ،ج ،2ص 04.
)11المصدر السابق ،ج ،2ص 04.
96
تكتشفها " العا ّمة " إال ّ عند تطبيقها ،في حين كان من األجدر معرفتها ح ّتى ال يقع الناس في
المحظور.14
إنّ الثابت لدينا أنّ آية الرجم ال أساس لها .ويمكن أن نلتمس من الحديث النبويّ ما
قد يد ّل على ذلك .يقول البخاري » :ح ّدثنا آدم ،ح ّدثنا شعبة ،ح ّدثنا سلمة بن ُكهيْل قال:
سمعت الشعبيّ يح ّدث عن عليّ (ر) حين رجم المرأة يوم الجمعة وقال :قد رجمتها بس ّنة
رسول هللا(ص) «.13
أل ْم يكن عليّ بن أبي طالب على علم بآية الرجم التي علمها عمر والصحابة "
فقرؤوها ووعوها وعقلوها " ح ّتى يرجم بس ّنة الرسول ال بكتاب هللا؟
لقد كان عمر أكثر المتش ّددين في مسألة تطبيق ح ّد الرجم على الزاني والزانية
المحصنين ،كما كان حريصا على تبرير عدم كتابتها في المصحف .ولكنّ أخبارا تبيّن أنّ
عمر أثناء م ّدة خالفته قد التمس الحيلة مع هذا الح ّد حين تعلّق األمر بشخصيّة مهمّة في
الدولة ونقصد ما حصل مع المغيرة بن شعبة في السنة السابعة عشرة للهجرة حيث زنى
المغيرة بأ ّم جميل بنت عمرو وشهد عليه ثالثة من كبار الصحابة شهادة واضحة يؤ ّكدون
من خاللها أ ّنهم رأوا المغيرة يولجه إيالجا " كالمرود في المكحلة" وحين قدم شاهد رابع
وهو زياد بن سميلة يشهد أعلمه عمر أ ّنه ال يريد أن يخزي المغيرة ،وعند سؤال زياد عمّا
رآه قال إ ّنه لم ير اإليالج رؤية كاملة وأقام الح ّد على الصحابة الثالثة.11
)12لمزيد التع ّمق في مسألة ح ّد الزنا وعالقته بنسخ التالوة دون الحكم يمكن أن نحيل
J. Burton, The collection of the Qur’ān, 68-86. على:
97
لع ّل موقف عمر هذا قد حمل تعامال مع التشريع ترسّخ مع التاريخ وتوسّع كلّما
ّ
تأخرنا في الزمن وذلك تحت إكراهات التطوّ ر وتب ّدل األحوال ،نقصد بذلك ما يسمّى بالحيل
الفقهيّة التي كثيرا ما تكون بابا للهروب من تنفيذ األحكام على ظاهر نصّها.
ّ
يتنزل في سياق تاريخ ّي ما نذهب إليه أنّ الرسول ،إنْ رجم في الزنا ،فإنّ ذلك
مخصوص تع ّددت فيه الزوجات وما ملكت األيمان من اإلماء ،فال حاجة بعد ذلك إلى
ممارسة الجنس خارج " الروابط الشرعيّة " .15ولع ّل التمييز بين الثيّب والبكر في ح ّد الزنا
دليل على ذلك .إال ّ أن الفقهاء حرصوا ك ّل الحرص على التشبّث بـ "آية الرجم" ولع ّل وضع
قسم من علم الناسخ والمنسوخ خاصّ بما ُنسخت تالوته وبقي حكمه كان بسبب ح ّد الرجم
وهو ما لمّح له سيّد قمني بقوله » :وتبقى محاولة قراءة ما فرضه واقع الحال بشأن نسخ
تالوة " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما الب ّتة...إلخ " لكن مع بقاء حكم الرجم قائما ،دون
سند في آيات القرآن المجموع بين أيدينا ،واألسباب التي دعت إلى وضع باب للنسخ عُرف
بـ ( ما نسخ تالوته وبقي حكمه) إلدراجها ضمنه والمعلوم أ ّنه إذا نسخت آية من اآليات
الكريمة ،كان ال ب ّد من آية أخرى بديلة تح ّل محلّها تحمل الحكم الجديد«.16
وال يفوتنا هنا أن نشير إلى أنّ عقاب األمة في الزنا إذا أحصنت هو نصف عقاب
الحرّ ة ،وهذا واضح في اآليةَ ﴿ :و َمنْ لَ ْم َيسْ َتطعْ م ْن ُك ْم َط ْوالً أنْ َي ْنك َح المُحْ َ
ص َنات الم ُْؤم َنات
ضَ .فا ْنكحُ وهُنض ُك ْم منْ َبعْ ٍ
ت أ ْي َما ُن ُك ْم منْ َف َت َيات ُك ْم الم ُْؤم َنات َوهللاُ أعْ لَ ُم بإي َمان ُك ْم َبعْ ُ
َفمنْ َما َملَ َك ْ
ان َ .ف َإذا ت َوالَ مُتخ َذات ْ
أخدَ ٍ ت َغي َْر م َُساف َحا ٍ ص َنا ٍ
ورهُن بال َمعْ رُوف مُحْ َ ب ْإذن أهْ لهن َوآ ُتوهُن أجُ َ
الع َذا ِ
ب﴾ [ النساء .]45 /1 ف َما َعلَى ال ُم ْح َ
ص َنا ِ
ت مِنَ َ ش ٍة َف َعلَ ْي ِهنَّ ن ْ
ِص َ صن َفإنْ أ َت ْينَ ِب َفا ِح َ
أحْ َ
تنصّ هذه اآلية على » أنّ األمة إذا زنت بعد إحصان ُتعاقب بنصف عقاب المحصنة من
)15أنظر :عبد المجيد الشرفي ،اإلسالم بين الرسالة والتاريخ ،ص .84
)16سيّد قمني ،األسطورة والتراث ،ص 260.
98
الحرائر ،أي أن ُتجلد خمسين جلدة .فلو كان عقاب الزناة الرجم لكان ح ّد اإلماء نصف
الرجم ،والرجم ال نصف له«.17
الح ّد الثاني الّذي نشير إليه هو ح ّد القذف بالزنا .وهذا الح ّد جاء مفصّال في سورة
النور .41ويمكن أن نميّز في هذه العقوبة بين أمرين ،األوّ ل أن يقذف رجل امرأة محصنة
ص َنات ُثم لَ ْم َيأ ُتوا بأرْ َب َعة ُ
ش َهدَ ا َء ُون المُحْ َدون أن يكون له أربعة شهودَ ﴿ :والذي َن َيرْ م َ
ون﴾ .18واألمر الثاني أن ين َج ْلدَ ًة َوالَ َت ْق َبلُوا لَ ُه ْم َش َهادَ ًة أ َب ًدا َوأولَئ َ
ك ُه ُم ال َفاسقُ َ َفاجْ ل ُدو ُه ْم َث َمان َ
يقذف الزوج زوجته وهذا ال يتطلّب أربـعة شـهود وال يترتـّب عليه حـ ّد بل ما يـسـمّى "
لعا ًنا " ،وهـو » شهادات مؤ ّكدة باأليْمان مقرونة باللعن قائمة مقـام حـ ّد القذف في ح ّقـه،
اج ُه ْم َولَ ْم َي ُكنْ لَ ُه ْم ُون ْ
أز َو َ ومـقام ح ّد الزنـا في ح ّقها« .11وهذا ما تؤ ّكده اآليةَ ﴿ :والذ َ
ين َيرْ م َ
الخام َس ُة أنْ لَعْ َن َة هللا ت باهلل إن ُه لَم َن الصادق َ
ين َو َ ش َهدَ ا ُء إال أ ْنفُ ُس ُه ْمَ ,ف َش َهادَ ةُ َ
أحده ْم أرْ َبعُ َش َهادَ ا ٍ ُ
َعلَيْه إنْ َك َ
ان م َن ال َكاذ َ
بين ﴾.40
يتعلّق الح ّد إذن بالقاذف إذا لم يكن زوج المقذوفة .والحقيقة أنّ عقوبة القاذف
عقوبتان .األولى جسديّة ّ
تتمثل في ثمانين جلدة ،والثانية مرتبطة بالناحية االجتماعيّة وهي
درء الشهادة.
رغم ما يبدو في النصّ القرآني من وضوح فإنّ الفقهاء ،على عادتهم ،اختلفوا في
تطبيق هذا الح ّد ،بل في مفهوم القذف ذاته .ومن ذلك االختالف في اعتبار التعريض بالقذف
موجبا للح ّد أو غير موجب .كما ت ّم التعميم على قذف الرجل والمرأة ،في حين أنّ اآلية
99
تنصّ بوضوح على قذف المرأة فقط .كما ت ّم االختالف حول قبول شهادة القاذف رغم أنّ
ين َتابُوا منْ َبعْ د َذل َك َوأصْ لَحُ وا َفإن هللاَ
القرآن يبيّن أنّ شهادته ُتقبل بعد التوبة ﴿ :إال الذ َ
َغفُور َرحيم ﴾ .41كما ت ّم االختالف في وُ جوب ح ّد من قذف شخصا غير معيّن ،إلى غير
ذلك من االختالفات الفقهيّة العديدة.44
في ك ّل تلك االختالفات ابتعاد عن المقصد القرآني من النصّ على ح ّد القذف ،وهو
حفظ المجتمع اإلسالمي الذي تكون فيه نتائج اال ّتهام بالزنا والطعن في األنساب خطيرة
للغاية ،في فترة تاريخيّة دقيقة ،هي الفترة المدنيّة التكوينيّة .لقد كان المسلمون في حاجة
كبيرة إلى التماسك قصد تأسيس قوّ ة تسمح بنشر الرسالة المحمّديّة.
إنّ نفس الظرفيّة التاريخيّة والوضعيّة االجتماعيّة ح ّتمت ح ّد السرقة كما استقرّ في
فقه العقوبات باالستناد إلى اآلية الثامنة والثالثين من سورة المائدة .5
لئن كان ح ّد الزنا والقذف مفصّلين في النصّ القرآني ,فإنّ آية قطع يد السارق
جاءت مُجْ ملة فكانت ،على الرغم من اعتبارها صريحة ،آية مشكلة بالنسبة إلى الفقهاء .وقد
جمع أبو عبد هللا محمّد بن أحمد القرطبي (ت 671هـ) االختالفات الفقهيّة المتعلّقة بح ّد
السرقة في سبع وعشرين مسألة وذلك بعد اإلقرار بأنّ القطع في السرقة ليس ح ّدا إسالميّا
خالصا » :وقد قُطع في السارق في الجاهليّة ،وأوّ ل من قُطع الوليد بن المغيرة ،فأمر هللا
بقطعه في اإلسالم« .43ومن بين االختالفات التي ذكرها القرطبي االشتراك في السرقة،
وهل إنّ القبر والمسجد حرز ،وهل يقع تغريم السارق أو ال ،وماذا يتر ّتب عند تكرار
100
السرقة ،وهل يُقطع األبوان بسرقة مال ابنهما إلى غير ذلك من المسائل .41إالّ أنّ
االختالفات األساسيّة تتعلّق بنصاب السرقة وبمعنى اليد.
لم تح ّدد اآلية نصابا في السرقة بل ح ّددته مرويّات كثيرة عن الرسول ،منها ما
رواه مسلم » :ح ّدثني بشر بن الحكم العبديّ ,ح ّدثنا عبد العزيز بن محمّد ،عن َعمْرة ،عن
عائشة أ ّنها سمعت النبيّ (ص) يقول " :ال ُتقطع يد السارق إالّ في رُبع دينار فصاعدا"«.45
ويروي البخاري » :ح ّدثنا إسماعيل ،ح ّدثنا مالك بن أنس ،عن نافع مولى عبد هللا بن عمر،
عن عبد هللا بن عمر ،رضي هللا عنهما ،أنّ رسول هللا (ص) قطع في مجنّ ثمنه ثالثة
دراهم« .46
ال يمكن أن نعرف بد ّقة قيمة العملة في عهد الرسول ح ّتى نستطيع المعادلة بين
الدراهم الثالثة وربع الدينار .وتحقيقا للجمع بين المرويّات يذهب مالك والشافعي من فقهاء
الحجاز إلى أنّ الدراهم من الفضّة وربع الدينار من الذهب .أمّا فقهاء الحنفيّة العراقيّين
فيرون أنّ المجنّ ،أي ما يستتر به في الحرب ،يساوي عشرة دراهم رغم أنّ الخبر يح ّدد
قيمته بثالثة فقط .47ويذكر النووي بعض اآلراء األخرى المتعلّقة بنصاب السرقة فيقول» :
[ ]...وحكى القاضي عن بعض الصحابة أنّ النصاب أربعة دراهم .وعن عثمان الب ّتي أ ّنه
درهم .وعن الحسن أ ّنه درهمان .وعن النخعيّ أ ّنه أربعون درهما أو أربعة دنانير« .48كما
101
نشير إلى أنّ فقهاء الظاهريّة وكذلك الخوارج يذهبون إلى أ ّنه ال نصاب في السرقة
فيقطعون في القليل والكثير نظرا إلى عموم اآلية الناصّة على الح ّد.
وعلى ك ّل حال فإنّ مسألة النصاب تبقى من المسائل الفقهيّة الخالفيّة .ولكن أليس لنا
اليوم أن نتساءل :ماذا تعني الدراهم الثالثة؟ وكم يعادل ربع الدينار؟ بل ماذا يعني المجنّ ؟
أمّا األمر الثاني الذي دارت حوله مناقشات الفقهاء فهو معنى القطع .ونظرا إلى أنّ
اآلية كانت مجملة اختلفوا في قطع اليد اليمنى أو اليسرى .41وهل أنّ القطع يكون من الكوع
أو من المنكب .وهل أنّ قطع الرجل عند معـاودة السـرقة يكون من مفـصل الكعب أو يت ّم
بتر نصف القدم .يقول القرطبي عند عرضه للمسألة التاسعة عشرة » :فإذا قطعت اليد أو
الرجل فإلى أين ُتقطعُ؟ فقال الكا ّفةُ :تقطع من الرسغ والرجل من المفصل ويحسم الساق إذا
قطع .وقال بعضهم :يقطع إلى المرفق .وقيل :إلى المنكب ألنّ اسم اليد يتناول ذلك .وقال
عليّ ،رضي هللا عنهُ ،تقطع الرجل من شطر القدم ويترك له العقب .وبه قال أحمد أبو ثور.
قال المنذر :روينـا عـن الـنبيّ (ص) أ ّنه أمـر بقـطع يـد رجـل فـقال " :احسموها " .وفي
إسناده مقال .واستحبّ ذلك جماعة منهم الشافعي وأبو ثور وغيرهما ،وهذا أحسن وهو
أقرب إلى البرء وأبعد من التلف« .30ونشير إلى أنّ مسألة الحسم بعد القطع ،والتي يُقصد
منها الحفاظ على حياة المقطوعّ ،
تمثل في نظرنا عقوبة إضافيّة ،فالفقهاء يرون أنّ الحسم
يت ّم بغمس اليد أو الرجل المبتورة في زيت يغلي أو في الدهن الساخن.
102
وقبل تجاوز مسألة ح ّد السرقة نؤ ّكد على أنّ الفقهاء يفصلون بين آية القطع في
السرقة واآلية التي تليها وهي المؤ ّكدة على غفران هللا بعد التوبة .31وهذا في حقيقة األمر
يؤ ّدي إلى تعليق إقامة الح ّد .لكن أغلب الفقهاء يذهبون إلى أنّ التوبة ال ُتسقط الح ّد .يقول
القرطبي عند تفسيره اآلية التاسعة والثالثين من المائدة ،مدرجا األمر في إطار اختالفات
الفقهاء في ح ّد السرقة ]...[ » :والقطع ال يسقط بالتوبة .وقال عطاء وجماعة :يسقط بالتوبة
قبل القدرة على السارق .وقاله بعض الشافعيّة وعزاه إلى الشافعي قوال ،وتعلّقوا بقول هللا
ين َتا ُبوا منْ َقبْل أنْ َت ْقدرُ وا َعلَيْه ْم ﴾ .34وعطف عليه ح ّد السارق وقال فيه" :
تعالى ﴿ :إال الذ َ
فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإنّ هللا يتوب عليه "«.33
هذه هي الذنوب المرتبطة في النصّ القرآني وفي الحديث النبويّ بحدود ،وهي التي
نجدها في قوائم الكبيرة التي ّ
سطرها المسلمون .ول ّما كان اشتغالنا هنا ببيان جزاء الكبيرة
الدنيويّ ،فإ ّننا نروم التأكيد على سمة التطوّ ر التي شهدتها الحدود إثر وفاة الرسول ،الّذي
كان مرجعا في التشريع .ولع ّل المثال الواضح على ذلك التحوّ ل عقوبة شارب الخمر.
ونشير إلى أنّ شرب الخمر ليس من الكبائر المصرّ ح بها في األحاديث المرويّة عن
الرسول ،ولك ّنه ترسّخ عند المسلمين من الكبائر.
لقد تواترت في الحديث األخبار المبيّنة لعقوبة شارب الخمر على عهد الرسول.
ّ
وتمثلت العقوبة في الضرب بالجريد والنعال والثياب واأليدي .ث ّم تطوّ ر األمر إلى الجلد بعد
انقضاء فترة النبـوّ ة .وقـد جـمع كل ذلـك خـبر رواه مسـلم » :ح ّدثنا محمّد بن المث ّنى ،ح ّدثنا
معاذ بن هشام ،ح ّدثني أبي ،عن قتادة ،عن أنس ابن مالك أنّ نبيّ هللا(ص) جلد في الخمر
103
بالجريد والنعال ،ث ّم جلد أبو بكر أربعين .فلمّا كان عمر ودنا الناس من الريف والقرى،
قال :ما ترون في جلد الخمر؟ فقال عبـد الرحـمان بن عـوف :أرى أن تجعلها كأخفّ
الحدود .قال :فجـلد عـمر ثمانين«.31
الواضح من خالل هذا الخبر أنّ عقوبة شارب الخمر التي طبّقها الرسول لم تكن
مضبوطة ومق ّننة ،ممّا يُخرجها من إطار الحدود إلى مجال التعزير وهو » تأديب دون
الح ّد« .35ث ّم تطوّ ر األمر بعد وفاة الرسول ليصبح ح ّدا فكان أربعين جلدة مع أبي بكر
وثمانين مع عمر .ويذكر القرطبي في ذلك خبرا عن ابن عبّاس أنّ عمر كان يجلد في
الخمر أربعين » ح ّتى أ ُ َ
تي برجل من المهاجرين األوّ لين وقد شرب .فأمر به أن يُجلد .فقال:
لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب هللا .فقال عمر :وأيّ كتاب هللا تجد أال ّ أجلدك؟ فقال له :إنّ هللا
36
ين آ َم ُنوا َو َعملُوا الصال َحات ُج َناح في َما َطعمُوا﴾
ْس َعلَى الذ َ
تعالى يقول في كتابه ﴿ :لَي َ
اآلية .فأنا من الّذين آمنوا وعملوا الصالحات ث ّم ا ّت ْقوا[ ]...شهدت مع رسول هللا (ص) بدرا
وأحدا والخندق والمشاهد .فقال عمر :أال تر ّدون عليه ما يقول؟ فقال ابن عبّاس :إنّ هؤالء
ين آ َم ُنوا
اآليات أنزلن عذرا لمن غبر وحجّ ة على الناس ألنّ هللا تعالى يقولَ ﴿ :يا أي َها الذ َ
ين آ َم ُنوا
اآلية .ث ّم قرأ ح ّتى أنفذ اآلية األخرى فإنْ كان من ﴿الذ َ 37 إن َما َ
الخمْ رُ َوال َمي َ
ْسرُ ﴾
َو َعـملُوا الصال َحات﴾ اآلية ،فإنّ هللا قد نهاه أن يشرب الخمر .فقال عمر :صدقت ,ماذا
ترون؟ فقال عليّ ،رضي هللا عنه :إ ّنه إذا شرب سكر ،وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى،
ْ
وعلى المفتري ثمانون جلدة .فأمر به عمر فجُلد ثمانين جلدة«.38
104
ً
استنادا إلى عمليّة قياسيّة وهذا ما جعل االخـتـالف لقد بنى الصحابة "ح ّد الخمر"
كبـيرا بيـن الفـقهاء مـع اال ّتـفاق في ضرورة الحـ ّد .يقـول النـووي » :واختلف العلماء في
قدر ح ّد الخمر .فقال الشافعي وأبو ثور وداود وأهل الظاهر وآخرون :ح ّده أربعون .قال
الشافعي(ر) :ولإلمام أن يبلغ به الثمانين ،وتكون الزيادة على األربعين تعزيرات [ ]...ونقل
القاضي عن الجمهور من السلف والفقهاء [ ]...ح ّده ثمانون .واحتجّ وا بأ ّنه الّذي استقرّ عليه
إجماع الصحابة وأنّ فعل النبيّ لم يكن للتحديد«.31
إنّ ما نالحظه في هذه المواقف خروج صريح ع ّما يرويه البخاري عن الرسول» :
ح ّدثنا عبد هللا بن يوسف ،ح ّدثنا الليث ،ح ّدثني يزيد بن أبي حبيب ،عن بُكيْر بن عبد هللا،
عن سليمان ابن يسار ،عن عبد الرحمان بن جابر بن عبد هللا ،عن أبي بُرْ دة(ر) قال :كان
النبيّ (ص) يقول " :ال يُجْ ل ُد فوق عشر جلدات إال ّ في ح ّد من حدود هللا"« .10بل إنّ في
األحاديث النبويّة ما يد ّل على أنّ الرسول قد تجاوز عن بعض الناس ولم يُقم عليهم الح ّد.
روى مسلم » :ح ّدثنا الحسن بن عليّ الحُ لواني ،ح ّدثنا عمرو بن عاصم ،ح ّدثنا همّام ،عن
إسحاق بن عبد هللا بن أبي طلحة ،عن أنس قال :جاء رجل إلى النبيّ (ص) فقال :يا رسول
هللا أصبت ح ّدا فأقمه عليّ .قال :وحضرت الصالة فصلّى مع رسول هللا (ص) .فلمّا قضى
" هل حضرت الصالة قال :يا رسول هللا إ ّني أصبت ح ّدا فأقم فيّ كتاب هللا .قال:
الصالة معنا؟ " .قال :نعم .قال " :قد ُغفر لك "«.11
)09النووي ،المنهاج ،على هامش صحيح مسلم ،م ،6ج ،11ص 214.
)43البخاري ،كتاب المحاربين من أهل الكفر والر ّدة ،باب كم التعزير واألدب.
)41مسلم ،كتاب التوبة ،باب قوله تعالىّ ﴿:
إن الحسنات يُذهبن السيّئات﴾ [ هود /11
.]114
105
ولنا أن نتساءل بعد ذلك لماذا يؤخذ باألحاديث التي فيها تشديد بالعقوبة ،كالرجم في
الزنا ،دون أمثال الحديث السابق ،فيت ّم اعتبار األولى قطعيّة ال مجال لمناقشتها ،أمّا الثانية
فهي قابلة للتأويل والزيادة؟
لعلّنا ال نبالغ إذا قلنا إنّ الفقهاء بحثوا دائما عن تشديد العقوبات وتعظيم الذنوب
رغم رحمة اإلله وقبوله التوبة ،وهما األمران اللذان يؤ ّكد عليهما القرآن كلّما ورد نصّ بح ّد
من الحدود.14
إنّ الجزاء الدنيويّ ،الّذي مثلته الحدود ،حمّال إشكاليّات كثيرة أشرنا إلى بعضها
دون اإلحاطة بها أل ّننا اقتصرنا على ما يه ّم بحثنا من ناحية ،وألنّ مسألة الحدود من
المواضيع التي يجب أن ُتراجع بد ّقة ،ولعلّها من أكثر المسائل الموضّحة لمدى ابتعاد الفقهاء
وعلماء الدين عن جوهر اإلسالم.13
وكما ارتبطت الكبائر بالجزاء الدنيويّ فإ ّنها مقترنة بالجزاء األخرويّ الّذي يتعلّق
تعلّقا كبيرا بمسألة اإليمان .لذلك وقفنا عند هذا المفهوم لمحاولة تبيّن مدى تأثير نظرة
المسلمين إلى اإليمان في مصير مرتكب الكبيرة ،وذلك من خالل أوائل العقيدة اإلسالميّة
وأيضا من خالل ما استقرّ لدى المسلمين بعد انتهاء الدعوة.
106
107