You are on page 1of 218

‫جامعة القاهرة‬

‫كلية اآلداب‬
‫قسم الفلسفة‬

‫الهوية الزنجية ونقد العقل الزنجي‬

‫دراسة مقارنة بين الشيخ أنتا ديوب وأشيل مبيمبي‬

‫‪The Negro Identity and Critique of the Black Mindset‬‬

‫‪A comparative study of‬‬

‫‪Chiekh Anta Diop and Achille Mbembe‬‬

‫رسالة مقدمة الستكمال متطلبات الحصول على درجة الماجستير في الفلسفة‬

‫إعداد الباحثة ‪ /‬دعاء عبد النبي حامد حامد‬

‫إشراف‬

‫أ‪ .‬د ‪ /‬أحمد عبد الحليم عطية‬

‫‪2022‬‬

‫أ‬
‫إهداء‬

‫إلى أرواحا ً فارقت الحياة ولم تفارق روحي‬

‫إلى أبي وأمي الغاليين‬

‫الذين سيظلون دائما ً الغائبون الحاضرون إلى األبد‬

‫ب‬
‫شكر وتقدير‬

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫علَّ ْمتَنَا إِنَّكَ أَنتَ ا ْلعَ ِلي ُم ا ْل َح ِكي ُم"‬ ‫"قَالُواْ ُ‬


‫س ْب َحانَكَ الَ ِع ْل َم لَنَا إِالَّ َما َ‬

‫الحمد هلل الذي أنار لنا دروب العلم والمعرفة وأعاننا على أداء هذا الواجب ووفقنا في‬
‫إتمام الدراسة‪ .‬أتقدم بخالص الشكر والتقدير لألستاذ الدكتور أحمد عبد الحليم عطية‬
‫صاحب الفضل األول في إتمام هذا العمل متمنيه له وافر الصحة والسعادة‪ .‬اشكر‬
‫األستاذ الدكتور صبري عبد هللا شندي أستاذ الفلسفة كلية اآلداب جامعة الفيوم على‬
‫تفضله بقبول مناقشتي لهذا العمل‪ .‬كما أتقدم بالشكر لألستاذ الدكتور هاله أبو الفتوح‬
‫أستاذ الفلسفة كلية اآلداب جامعة القاهرة علي تفضلها بقبول مناقشتي أيضاً‪ .‬وأخيرا ً‬
‫وليس باخر أتقدم بخالص الشكر والتقدير إلى كل من قدم لي المساعدة حتى ولو بشيء‬
‫بسيط إال إنني بالتأكيد مدين لكم لذلك كان الشكر والعرفان واجباً‪.‬‬

‫ج‬
‫قائمة المحتويات‬

‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬
‫أ‪-‬ع‬ ‫مقدمة‪:‬‬
‫‪11 – 1‬‬ ‫مدخل إلى الفلسفة األفريقية‬
‫‪66- 12‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬العرق والعنصرية من منظور كلا من الشيخ أنتا ديوب وأشيل مبيمبي‬
‫‪13‬‬ ‫أولا‪ :‬حول نشأة وظروف عصر كلا من الشيخ أنتا ديوب وأشيل مبيمبي‬
‫‪31‬‬ ‫ثانيا ا‪ :‬الحضارة والثقافة والعرق والعنصرية وعلقتهما بالهوية األفريقية‬
‫‪50‬‬ ‫ثالثا ا‪ :‬العرق والعنصرية من منظور الدراسات ما بعد االستعمارية‬
‫‪125-67‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مفهوم الهوية بين الشيخ أنتا ديوب وأشيل مبيمبي‬
‫‪68‬‬ ‫أولا‪ :‬مصر والهوية الزنجية‬
‫‪89‬‬ ‫ثانيا ا‪ :‬مبيمبي ونقد الخطابات األفريقية حول تعريف الذات‬
‫‪107‬‬ ‫ثالثا ا‪ :‬نقد مبيمبي للسلطة السياسية األفريقية‬
‫‪157-126‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬أفريقيا والمستقبل بين كلا من الشيخ أنتا ديوب وأشيل مبيمبي‬
‫‪127‬‬ ‫أولا‪ :‬حول العنف ودوره في السياسات العدائية‬
‫‪144‬‬ ‫ثانيا ا‪ :‬أنتا ديوب والتخصصات المتعددة في خدمة مشروع الهوية‬
‫‪158‬‬ ‫ثالثا ا‪ :‬إنهاء استعمار المعرفة ومستقبل العالم‬
‫‪177‬‬ ‫خاتمة البحث‪:‬‬
‫‪182‬‬ ‫أهم نتائج البحث‪:‬‬
‫‪185‬‬ ‫قائمة المصادر والمراجع‪:‬‬
‫‪185‬‬ ‫أولا‪ :‬المصادر والمراجع األجنبية‬
‫‪190‬‬ ‫ثانيا ا‪ :‬المصادر والمراجع العربية‬

‫د‬
‫مقدمة‬

‫تعد مشكلة الهوية من المشكلت الرئيسية في الفكر األفريقي المعاصر والتي تناولها العديد من التيارات‬
‫واالتجاهات الفلسفية األفريقية بالبحث والدراسة للوقوف على ما تعنيه الهوية األفريقية أو باألخص الهوية‬
‫الزنجية‪ .‬وألهمية اإلشكالية تضع الدراسة مفهوم الهوية األفريقية (الزنجية) في النقاش بين وجهتين مختلفتين‬
‫من النظر؛ إحداهما أصولية نتجت في ظل االستعمار وقد استخدمت فكرة الهوية الزنجية لتأكيد إنسانية‬
‫السود وتفردهم ضد العنصرية األوروبية‪ ،‬والذي يعد الشيخ أنتا ديوب من أبرز المدافعين عنها‪ .‬واألخرى‬
‫معادية لها‪ ،‬وهي وجهة نظر ما بعد االستعمار متمثلة في شخص أشيل مبيمبي والذي انفتح على العالم مدافعا‬
‫عن فكره اإلنسانية بصفة عامة بصرف النظر عن اللون والعرق؛ لقد كانت للتجارب األفريقية ما بعد‬
‫االستعمار العديد من األفكار حول مفهوم الهوية األفريقية‪ .‬كانت آراء األصوليين معنية بإعادة تخصيص‬
‫فكرة ثابتة للهوية األفريقية والتي يتشاركها جميع األفارقة باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتحقيق الحرية للشعوب‬
‫األفريقية‪ .‬ومن ناحية أخرى جادلت اآلراء المعادية لألصولية من خلل افتراض أن الهوية األفريقية متعددة‬
‫ومتغيرة باستمرار‪ .‬كما تطرح الدراسة نقدا ا لمفهوم العقل الزنجي وهو نقد مزدوج للجانب الغربي واألفريقي‬
‫أيضاا؛ أوالا باعتباره نتاج الخيال األوروبي من أجل اإلعلء من شأن الرجل األبيض وتأكيد هويته وتفرده‬
‫في آن واحد بهدف فرض الهيمنة والسيطرة على أفريقيا وشعوبها‪ .‬وثانيا ا على الجانب األفريقي من أجل‬
‫استعادة الوعي بحقيقة الذات األفريقية باعتباره جزءا من اإلنسانية مع الوعي بحقيقة الذوات األخرى‪.‬‬
‫ولذلك تتناول الدراسة موضوعات متعددة تتعلق بالهوية الزنجية ونقد العقل الزنجي منها الحضارة والثقافة‬
‫وعلقتهما بالهوية الثقافية األفريقية أيضا ا العرق والعنصرية وعلقتهما بالهوية الزنجية من وجهات نظر‬
‫مختلفة مثل وجهة النظر األصولية واألخرى وجهة نظر ما بعد االستعمارية‪ ،‬أيضا ا تناقش الدراسة علقة‬
‫مصر بالهوية الزنجية والوحدة الثقافية المشتركة بينها وبين دول القارة من منظور الشيخ أنتا ديوب‪ ،‬كما‬
‫تتناول الدراسة نقد الخطابات األفريقية التي تناولت مشكلة الهوية الزنجية علي أساس عرقي ومن ثم طرح‬
‫رؤية جديدة حول ما تعنيه الهوية األفريقية مع اإلشارة إلى علقة الدين بالهوية الزنجية‪ ،‬ثم تتناول الدراسة‬
‫دور العنف في السياسات العدائية و خطورته علي الهويات البشرية‪ ،‬ثم تتناول الدراسة المنهجية المبتكرة‬
‫لدى الشيخ أنتا ديوب في دراسته حول الهوية الزنجية مع توضيح أثر أفكار الشيخ أنتا ديوب في الواقع‬
‫األفريقي ثم تختتم الدراسة بالحديث عن ضرورة إنهاء استعمار المعرفة ومستقبل أهم القضايا الفلسفية في‬
‫أفريقيا مع اإلشارة إلى خطورة العولمة على الهوية الثقافية األفريقية‪.‬‬

‫ه‬
‫أولا مصطلحات الدراسة‬

‫زنوجة ‪:Negro‬‬

‫هي إطار للنقد والتنظير األدبي ‪ ،‬طوره المفكرون والسياسيون المتحدثون بالفرنسية من الشتات األفريقي‬
‫في ثلثينيات القرن العشرين‪ ،‬لزيادة وعي السود في أفريقيا والشتات األفريقي عموما ا أسسها جميع من‬
‫الشاعر المارتيكيني إيمي سيزر‪ ،‬و ليوبولد سينغور وغيرهم‪ ،‬تنكر مفكرو الزنوجة للستعمار‪ ،‬وأكدوا علي‬
‫أهمية الشعور بانتماء ألفريقيا واالرتباط بجميع ذوي األصول األفريقية في جميع أنحاء العالم ‪ ،‬وقد ألهمت‬
‫الزنوجة إقامة حركات عديدة في الشتات األفريقي ‪ ،‬كان لكل داع إلى الزنوجة فكرة الخاص لكن الفلسفات‬
‫تميزت عموما ا بمعارضة االستعمار واستنكار ال إنسانية أوروبا‪ ،‬ورفض الهيمنة الغربية علي األفكار(بمبا‪،‬‬

‫آدم‪ ،2018 ،‬ص‪.)108‬‬

‫العقل الزنجي ‪:Black reason‬‬

‫هو اسم كتاب أشيل مبيمبي ترجم من الفرنسية إلى اإلنجليزية وتم استخدام كلمة السواد والتي ترادف الزنجية‬
‫باللغة الفرنسية ثم ترجم من اإلنجليزية إلى العربية ويقصد بالعقل الزنجي جملة من األصوات والمعطيات‬
‫والخطب والمعارف التي تتركز حولها األداة أو الشيء أو البشر من ذوي األصول األفريقية وتؤكد أن تلك‬
‫هي أسماؤهم ونعوتهم وصفاتهم ومصيرهم فهو عقل نتاج الخيال األوروبي من أجل تحديد الهوية األوروبية‬
‫والكتاب في مجمله سرد تاريخي لقضية العرق والعنصرية (ميلود‪ ،‬طواهري‪.)2018 ،‬‬

‫الهوية ‪:Identity‬‬

‫هي مزيج من الخصائص االجتماعية والثقافية التي يتقاسمها األفراد ويمكن على أساسها التمييز بين‬
‫مجموعة وأخرى‪ ،‬كما تعرف على أنها مجموعة االنتماءات التي ينتمي إليها الفرد‪ ،‬والهوية في األصل‬
‫قضية فلسفية‪ ،‬وهي تعنى حقيقة الشيء المطلقة والتي تشمل علي صفاته الجوهرية التي تميزه عن غيره‪،‬‬
‫والهوية الثقافية لمجتمع ما تعتبر القدر الثابت والجوهري والمشترك والسمات العامة التي تميز كل حضارة‬
‫أو مجتمع عن األخر‪ ،‬وقد سعى أنتا ديوب من خلل أُطروحته األصل الزنجي للحضارة المصرية علي تأكيد‬
‫الهوية األفريقية لمصر كما أقر بالهوية المصرية ألفريقيا‪.‬‬

‫و‬
‫الفلسفة األفريقية ‪:African Philosophy‬‬

‫هي الخطاب الفلسفي الذي ينتجه األفارقة األصليون وأحفادهم بما في ذلك األمريكيون األفارقة ويمكن‬
‫العثور على الفالسفة األفارقة في مختلف المجاالت األكاديمية للفلسفة مثل الميتافيزيقا ونظرية المعرفة‬
‫والفلسفة األخالقية والفلسفة السياسية وكان أحد أوائل الفالسفة األفارقة هو بتاح حتب وهو فيلسوف مصري‬
‫قديم‪ .‬وفي أوائل ومنتصف القرن العشرين‪ ،‬كان للحركات المناهضة لالستعمار تأثير هائل على تطوير‬
‫فلسفة سياسية أفريقية متميزة كان لها صدى في كل من القارة وفي الشتات األفريقي‪ .‬ويمكن تعريف الفلسفة‬
‫األفريقية رسميا ا علي أنها تفكير نقدي من قبل األفارقة في تجاربهم للواقع(*)‪.‬‬

‫الوحشية ‪:Brutalisme‬‬

‫هو اسم كتاب ألشيل مبيمبي وهو يعرف الوحشية على أنها طريقة إلدارة القوة وفي ظلها يتوقف القتل عن‬
‫أن يكون استثناء ويؤدى تغيير حالة الحرب في صلب الحالة المدنية إلى تطبيع وضعيات منتهية فتقوم الدولة‬
‫باقتراف جرائم الحق العام تجاه المدنيين فيصبح التجرد من اإلنسانية ممارسة عادية والتخلص من النزوات‬
‫العنيفة ممارسة شرعية وتتصرف الوحشية على قاعدة تبدد وقائع وكذلك تأثيرها‪ .‬وتتمثل عملية التبدد في‬
‫إخفاء بشاعة العنف وخاصة الموت الجماعي حتى الموت الجزئي (مبيمبي‪ ،‬أشيل‪ ،2021 ،‬ص‪.)60‬‬

‫السياسات العدائية ‪:Necropolities‬‬

‫هي استخدام القوى االجتماعية والسياسية إلملء كيف يمكن أن يعيش بعض الناس وكيف يجب أن يموت‬
‫البعض اآلخر‪ .‬وكان أشيل مبيمبي هو أول من استخدم المصطلح في مقالته ما بعد المستعمرة في عام‬
‫‪ ،2003‬وفيما بعد في كتابه الذي صدر بالعنوان نفسه في عام ‪( 2019‬أبو رحمة‪ ،‬أماني‪ ،2021 ،‬ص‪.)78- 77‬‬

‫العنف ‪:Violence‬‬

‫يعرف في اللغة بعدم الرفق‪ ،‬أي المعاملة بشدة وقسوة‪ ،‬ويعرف العنف اصطلحاا؛ بأنه سلوك معنوي أو‬
‫مادي يرافقه قوة وإلحاق األذى باآلخرين‪ ،‬وهو آفة اجتماعية تؤدي إلى نتائج سلبية‪ ،‬والعنف بالمعنى الفلسفي‬
‫ص‪.)113-112‬‬ ‫هو استخدام القوة استخداما ا غير مشروع أو غير مطابق للقانون (صليبا‪ ،‬جميل‪،1982 ،‬‬

‫(*) تعريف فلسفة أفريقية‪ ،‬موقع ‪kiwix.campusafrica.gos.orange.com‬‬

‫ز‬
‫ثانياا‪ :‬موضوع الدراسة‬

‫تدور الدراسة حول أحد جوانب ومشكلت الفلسفة األفريقية التي لم نتعرف عليها بعد فكثير من هذه‬
‫الفلسفات مكتوبة باللغات األفريقية المحلية التي ال يعرفها إال أصحابها والبعض منها مكتوبا ا باللغات‬
‫األوروبية وحتى اآل ن الكتابات في الفلسفة األفريقية قليلة بل نادرة ولم تعرف النصوص األساسية للفلسفة‬
‫األفارقة ولم تناقش المفاهيم الكبرى في هذه الفلسفة‪ .‬وتدور هذه الدراسة المقارنة حول وجهتي نظر‬
‫لشخصيتين من أهم مثقفي ومفكري وفلسفة القارة األفريقية‪ ،‬هما الشيخ أنتا ديوب المؤرخ والفيلسوف‬
‫السنغالي صاحب كتاب األصول الزنجية للحضارة المصرية وكتاب األصل األفريقي للحضارة المصرية‬
‫أسطورة أم حقيقية‪ ،‬والفيلسوف الكاميروني أشيل مبيمبي صاحب كتاب نقد العقل الزنجي وكتاب الوحشية‬
‫فقدان الهوية اإلنسانية‪ ،‬واهم المفاهيم التي تناولها هؤالء المفكرون وهو مفهوم الزنجية أو العقل الزنجي في‬
‫إطار البحث عن الهوية المفقودة‪ ،‬ذلك المفهوم الذي شغل به معظم فلسفة أفريقيا وتباينت حوله اآلراء‪.‬‬

‫ثالثاا‪ :‬إشكالية الدراسة‬

‫مناقشة أحد أهم مفاهيم الفلسفة األفريقية وهو مفهوم الهوية الزنجية أو العقل الزنجي في ظل البحث عن‬
‫الهوية المفقودة‪ ،‬والذي تبناه عدد كبير من الفلسفة األفارقة نذكر منها الشيخ أنتا ديوب والشاعر السنغالي‬
‫ليوبولد سينجور‪ ،‬والشاعر المرتكيني إيمي سيزير‪ ،‬ونقد هذا المفهوم باعتباره انعكاسا ا ورد فعل علي نظرة‬
‫الغرب لألفارقة‪ ،‬كما يظهر ذلك في أعمال الفيلسوف األفريقي المعاصر أشيل مبيمبي الذى يطرح نقدا ا‬
‫لمفهوم العقل الزنجي باعتباره نتاجا ا للفترة االستعمارية إلفريقيا‪ ،‬كما أنه نتاج الخيال األوروبي الذي سعى‬
‫لتحديد هويته من خل ل رسم صورة وهمية ألسطورة الزنجي ومن ثم معرفة هويتهم من خلل تحديد اآلخر‬
‫األفريقي‪ .‬ومن ثم تطرح هذه اإلشكالية عدة تساؤالت رئيسية أال وهي‪:‬‬

‫‪ ‬ما الفلسفة األفريقية وما أهم مفاهيمها وما المراحل التي مرت بها؟‬
‫‪ ‬ما العقل الزنجي؟ ما هي حدوده وإمكانياته؟‬
‫‪ ‬هل العقل األفريقي قادر بالفعل على ممارسة التفكير المنطقي واإلبداع الفلسفي؟‬
‫‪ ‬ما الهوية الزنجية بين الرؤية األفريقية والرؤية االستعمارية؟‬
‫‪ ‬ومن هذه اإلشكالية تنتج عدة تساؤالت فرعية منها‪:‬‬
‫‪ ‬متى وكيف ظهر التمييز العنصري؟ وكيف استغلت فكرة العرق والعنصرية ضد األفارقة؟‬
‫‪ ‬ما هو الحال الذي كانت عليه أفريقيا تحت وطأة االستعمار؟ وكيف أصبحت بعد االستقلل السياسي؟‬

‫ح‬
‫‪ ‬إلى أي مدى لعب العنف دورا ا في السياسات العدائية؟ ولماذا وصلنا إلى عصر التوحش؟‬
‫‪ ‬ما هو المستقبل المنتظر للقارة السمراء في ضوء أفكار كل من الشيخ أنتا ديوب وأشيل مبيمبي؟‬

‫رابعاا‪ :‬أهمية الدراسة وأهدافها‬

‫تعود أهمية الدراسة إلى أهمية القارة األفريقية بالنسبة لنا كمصريين وعرب وأفارقة حيث تم ظلم هذه‬
‫القارة السمراء ذات األصول التاريخية العريقة وتجريدها من المعاني والمفاهيم الثقافية والحضارية وإلصاق‬
‫التهم إليها باعتبارها قارة غير قادرة علي تقديم فكر وثقافة من قبل االستعمار والذي بدوره أخذ من تلك‬
‫االدعاءات مسلكا ا له وشرعية لفرض الهيمنة علي القارة األفريقية‪ ،‬فكان لزاما ا علي الفلسفة األفارقة أن‬
‫يقوموا بدورهم في الدفاع عن هويتهم وثقافتهم وحضارتهم‪ ،‬كما ترجع أهمية الدراسة الرتباطها الوثيق‬
‫بمصر وهوية مصر وأنها تثير الجدل مرة أخرى حول أصل المصريين القدماء‪ .‬أيضا ا أهمية الدراسة يأتي‬
‫من أهمية إشكالية الهوية ومحاولة اإلجابة على السؤال من نحن في ظل االنفتاح على هوية وثقافة الشعوب‬
‫األخرى ذلك االنفتاح الذي كان له بالغ األثر على هوية وثقافة ومجتمعات الشعوب األفريقية‪ .‬وكذلك تأتي‬
‫أهمية الدراسة من أهمية الشخصيات التي تناولتها الدراسة وأثر كل منهما في الفلسفة األفريقية الحديثة‬
‫والمعاصرة‪.‬‬

‫وعن أهداف الدراسة فقد بيناه في النقاط التالية‬

‫‪ -1‬الكشف عن الفلسفة األفريقية الحديثة والمعاصرة والتعرف على أهم مفاهيم هذه الفلسفة من وجهة نظر‬
‫الفلسفة األفارقة‪.‬‬
‫‪ -2‬مناقشة أهم نظريات الفلسفية األفريقية مثل النظرية االثنية وغيرها من نظريات‪.‬‬
‫‪ -3‬تحليل وجهات نظر الفلسفة األفارقة حول موضوع الزنجية والعقل الزنجي والرد على التصورات‬
‫الغربية للفلسفة األفريقية‪.‬‬
‫‪ -4‬مناقشة مسألة الهوية الزنجية وكيف تناولتها الفلسفة األفريقية من منظور استعماري أو منظور الفكر ما‬
‫بعد االستعماري‪.‬‬

‫ط‬
‫خامساا‪ :‬حدود ومجال الدراسة‬

‫حدود الدراسة هو الفلسفة األفريقية في العصر الحديث والمعاصر ابتدا اء من القرن التاسع عشر (عصر‬
‫االستعمار) وحتى وقتنا الحالي‪.‬‬

‫سادساا‪ :‬منهجية الدراسة‬

‫تم استخدام المنهج التحليلي التاريخي الوصفي المقارن نظرا ا لملءمة هذه المناهج مع طبيعة‬
‫الدراسة‪.‬‬

‫سابعا ا‪ :‬الدراسات السابقة‬

‫أولا‪ :‬الدراسات األجنبية‬

‫‪ .1‬دراسة بعنوان الشيخ أنتا ديوب‪ :‬العلوم االجتماعية والعلوم اإلنسانية والعلوم الطبيعية والفيزياء وتعدد‬
‫التخصصات ‪Cheikh Anta Diop: the social sciences, humanities, physical and natural sciences‬‬

‫‪ and transdisciplinarity‬إعداد داني ودادا نشرت في المجلة الدولية لدراسات النهضة األفريقية – تعدد‬
‫التخصصات‪ ،‬يوليو ‪ 2007‬خلصه الدراسة تقدم عرضا ا نقديا ا لمساهمات الشيخ أنتا ديوب في الفهم العلمي‬
‫للتاريخ األفريقي القديم‪ ،‬العرق‪ ،‬ودراسة الثقافة‪ .‬ويسرد تاريخ النضال الناجح لديوب ضد منحه الدراسية‬
‫المعيبة التي سعت إلى إنكار مساهمات المصريين السود القدماء في الحضارة العالمية‪ .‬يتم سرد ملحمية‬
‫ديوب الفكرية عبر الفيزياء واللغويات من خلل األنثروبولوجيا وعلم األعراق وعلم الوراثة والتاريخ هنا‬
‫إلثبات قيود األحادية والمتعددة التخصصات ويحدد بوضوح انه رائد لتعدد التخصصات في مجال إنتاج‬
‫المعرفة‪.‬‬
‫‪ .2‬دراسة باللغة الفرنسية لنيل درجة الماجستير من جامعة كوت ديفور الوطنية كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬
‫قسم التاريخ بعنوان الشيخ أنتا ديوب الرجل والعمل والتأثير علي علم التاريخ األفريقي ‪Cheikh Anta‬‬

‫‪ Diop: L Homme, L ceuvre ET L influence Sur L Historiographie Africaine‬وتلقى هذه الدراسة‬


‫الضوء على الجانب المحدد للثقافة األفريقية وتاريخ القارة من خلل كتاب األمم الزنجية والثقافة متسائلة‬
‫عن الشيخ أنتا ديوب وما هو تأثير أعماله على التاريخ األفريقي وطرقة منطلقة من كتاب األمم الزنجية‬
‫والثقافة‪ .‬وتنقسم الدراسة إلى مقدمة ثم الجزء األول بعنوان اإلنسان والعمل الفصل األول بعنوان اإلنسان‬
‫أما الفصل الثاني فهو بعنوان لمحه عن عمل أنتا ديوب ويتضمن عناوين جانبية مثل جوانب ضخمة‬
‫ومتعددة ألوجه العمل‪ ،‬محتوى المقاالت والكتب‪ ،‬مفهوم التاريخ األفريقي‪ ،‬األفكار العامة‪ .‬وجزء ثاني‬
‫ي‬
‫بعنوان مساهمة أنتا ديوب في التاريخ األفريقي وأهم ما فيه الفصل الثاني وهو بعنوان المساهمات والتي‬
‫يندرج تحتها عناوين فرعية مثل المساهمات في علم التاريخ المكتسبات (الوحدة الثقافية ألفريقيا السوداء‬
‫ومصر ‪ -‬القرابة اللغوية ‪ -‬عرق القدماء المصريين – الوحدة التاريخية) المدخلت في مجاالت أخرى‬
‫(علم اآلثار – األدب – اللغة – السياسة واالقتصاد) المبادئ التوجيهية التي اقترحها أنتا ديوب‪ .‬ثم فصل‬
‫ثالث بعنوان الشيخ أنتا ديوب والبقية (المكتشفون – المنتبهون – الموافقون – الرافضون)‪.‬‬
‫‪ .3‬دراسة أخرى في جامعة أديس أبابا كلية العلوم االجتماعية قسم الفلسفة لنيل درجة الماجستير بعنوان التوتر‬
‫‪The Tension‬‬ ‫بين الفلسفة األفريقية والغربية ‪ :‬التحديات واإلمكانيات االعتراف بالعقلنية (ألفريقيا)‬
‫‪Between African And Western Philosophy: Challenges And Possibilities Of Reclaiming‬‬
‫)‪ ، Rationality (For Africa‬إعداد الباحث شيليما ريغاسا توفا عام ‪ ، 2015‬وتدور الدراسة حول التوتر‬
‫الذي كان نتيجة الخطابات الغربية حول أفريقيا من جهة وردود الفعل األفريقية علي تلك الخطابات من جهة‬
‫أخرى ‪ ،‬وعلى وجه التحديد الجدل العقلني ‪ ،‬وعل الرغم من أن هذه الدراسة لم تكن منصبة على أنتا‬
‫ديوب إال أنها أشارت إليه من ضمن الشخصيات التي تناولتها الدراسة حيث أشارت إليه في فصل بعنوان‬
‫الخلفيات التاريخية والتوجهات الفلسفية األفريقية ‪.‬وفي هذا الفصل سيناقش الباحث الخلفيات الفلسفية‬
‫التاريخية لنظام الفكر األفريقي‪ ،‬من خلل توضيح خلفيات المسارات التاريخية للفلسفة المعاصرة‪ .‬وسوف‬
‫يناقش الباحث أفكار مارتن برنال وأنتا ديوب وغيرهم‪ .‬تلك األفكار التي تتبع التاريخ الفكري ألفريقيا إلى‬
‫العصور القديمة‪.‬‬
‫‪ .4‬دراسة باللغة اإلنجليزية لنيل درجة الدكتوراه من جامعة زيمبابوي قسم الدراسات الدينية‪ ،‬الكلسيكيات‬
‫والفلسفة‪ ،‬إعداد الباحث اندريا تشيماكا‪ ،‬عام ‪ 2012‬بعنوان استبعاد المساهمة األفريقية في المفهوم تطور‬
‫الواقع والمظهر والمعرفة في مجال حقوق اإلنسان في التاريخ من الفلسفة‪The Exclusion Of African ،‬‬
‫‪Contribution To The Conceptual Development Of Reality , Appearance And Knowledge In‬‬
‫‪ The History Of Philosophy‬وتركز على كيفية إنتاج سجلت الفلسفة األفريقية وعلى الرغم من أن هذه‬
‫الدراسة لم تكن عن الشيخ أنتا ديوب تحديدا ا إال أنها أشارت إليه في الفصل السابع تحت عنوان رحلة إلى‬
‫الحرية باعتباره أحد رواد فلسفة تتمحور حول أفريقيا حيث إنه كان يعتقد أن تصحيح التاريخ يمنح األفارقة‬
‫أساسا ا حقيقيا ا لمعرفة الذات‪ ،‬ومن ثم إذا حصلوا األفارقة علي تاريخ صحيح سيصبحون على استعداد لبناء‬
‫مستقبل أفضل ‪.‬‬
‫‪ .5‬دراسة باللغة اإلنجليزية لنيل درجة الدكتوراه في اآلداب والفلسفة من جامعة جنوب أفريقيا ‪ ،‬في موضوع‬
‫السياسة األفريقية‪ ،‬إعداد الباحث ‪ ، Tendayi Sithole‬عام ‪ 2014‬بعنوان أشيل مبيمبي‪ :‬الموضوع‬

‫ك‬
‫والخضوع والذاتية‪ Achille Mbembe: Subject, Subjection, and Subjectivity ،‬وتركز الدراسة علي‬
‫الفكر السياسي ألشيل مبيمبي من خلل التحليل النقدي لكشف آثار االستعمار فيما يتعلق بالظروف‬
‫الوجودية األفريقية في مفهوم الذات األفريقية وخضوعها والذاتية‪ ،‬واألساس النظري لهذه الدراسة هو‬
‫المنظور المعرفي لما بعد االستعمار وذلك لفضح أنواع االستعمار الثلث‪ ،‬استعمار السلطة واستعمار‬
‫المعرفة واستعمار الوجود‪.‬‬
‫‪ .6‬دراسة بعنوان نحو أنطولوجيا كلية لما بعد االستعمار ملحظات حول فكر أشيل مبيمبي ‪Toward a‬‬

‫‪ ،Postcolonial Universal Ontology: Notes on the thought of Achille Mbembe‬إعداد جوزياس‬


‫تيمبو وشالك جربر وملخص الدراسة يدور حول توضيح نقد الميتافيزيقا الغربية كيف تم تصوير اآلخر‬
‫األفريقي علي إنه ليس إنسان بالكامل فيما يتعلق بهوية الذات الغربية ‪ .‬ومن ثم على المستوى األنطولوجي تم‬
‫إنكار اآلخر أو االختلف أو استبعاده مما يفسر عنف المنطق االستعماري المتمثل في تصور التغيير أو‬
‫االختلف األفريقي‪ .‬كان التحدي المتمثل في التفكير في حالة ما بعد االستعمار في السياق األفريقي في‬
‫الغالب هو كيفية التفكير في تحرير االختلف والتغيير خارج النموذج االستعماري العنيف الذي شكله خلق‬
‫العرق مثل السود والرجل األسود وخيال أفريقيا‪ .‬ومن هنا تكمن صياغة المشكلة ال ينكر وجود اآلخر أو‬
‫االختلف باعتباره إنسانا ا بالكامل‪ .‬أشيل مبيمبي ومحاوالته معالجة السؤال وفي هذه الدراسة سوف يجادل‬
‫أ نه في نقد العقل األسود يتجه المرء خطوة نحو المفهوم اللعنفي لما بعد االستعمار عن التغيير القائم على‬
‫االعتراف بالوجود المشترك داخل عالم واحد نتشاركه أوال من خلل تحديد صياغة مبيمبي للهوية األفريقية‬
‫غير الجوهري والتي بدورها تفتح الطريق لما سنسميه هنا ما بعد االستعمار‪ .‬وثانيا ا لتوضيح كيفية إعادة‬
‫تصور هذه األنطولوجيا للعلقة بين العام والخاص مما يجعلها علم الوجود العالمي لما بعد االستعمار‪.‬‬
‫‪ .7‬دراسة بعنوان التفكير في البرق والرعد‪(Thinking In Lighting And Thunder) An Interview with :‬‬

‫‪ Achille Mbembe‬مقابلة مع أشيل مبيمبي إعداد ‪ Seioua Luste Boulbina‬نشرت بواسطة مطبعة‬
‫جامعة والية بنسلفانيا ملخص الدراسة أن أشيل مبيمبي اتبع طريقا ا واحدا ا أدى به إلى العيش والتفكير في عدة‬
‫قارات في وقت واحد‪ :‬أفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية‪ .‬وهو واحد من أكثر المفكرين المعاصرين ابتكارا‬
‫اليوم وحرر تحليل أفريقيا (سواء األسطورة أو الواقع) من النهج االقتصادي والمؤسسي وحرر هذا النهج من‬
‫محاورها المتميزة (القديمة مقابل الحديثة والمستعمرة مقابل الحضرية وما إلى ذلك) وأزاح وجهه نظر‬
‫العقلنية إلى التخيلي‪ .‬من كتاب إلى آخر من موقع إلى آخر طور فكرة المهاجر داخل القارات وعبر القارات‬
‫والتي ولدت مؤخرا ا نقدا ا لعقل الزنوج ويشرح أنه الوحيد الذي تحول جسده إلى سلعة في ظل إمبراطورية‬
‫العرق‪ .‬كيف فهم أشيل مبيمبي عمله؟ كيف ينجزه؟ هذا هو الخيط التوجيهي لهذه المقابلة‪.‬‬
‫ل‬
‫ثانيا ا‪ :‬الدراسات العربية‬

‫إيمان عبد العظيم سيد أحمد‪ ،‬الفرعونية في الفكر السياسي للشيخ أنت جوب‪ ،‬دراسة في الهوية األفريقية‬ ‫‪.8‬‬
‫لمصر‪ ،‬رسالة ماجستير في الدراسات األفريقية (سياسة) إشراف ا‪ .‬د ‪ /‬إبراهيم أحمد نصر الدين أستاذ‬
‫العلوم السياسية بمعهد البحوث والدراسات األفريقية جامعة القاهرة‪ .2016 ،‬وتدور الدراسة حول فكرة‬
‫الفرعونية في الفكر السياسي للشيخ أنت جوب وتنقسم الدراسة إلى أربعة فصول بعد المقدمة الفصل األول‬
‫يدور حول نشأة ومشكلت عصره والسياق الحضاري العام وأثره على فكر أنتا ديوب ثم الفصل الثاني‬
‫ويدور حول األصل الزنجي للمصريين القدماء والفصل الثالث يدور حول أسباب رفض أطروحة األصل‬
‫الزنجي للمصريين القدماء للشيخ أنتا ديوب سواء على المستوى الغربي والمستوى المصري األفريقي ثم‬
‫الفصل الرابع ويدور حول الهوية األفريقية لمصر ودور الفرعونية في إعادة تشكيلها ثم الخاتمة‪.‬‬
‫‪ .‬فائز عمر محمد جامع‪ ،‬بعنوان التطورات السياسية واالجتماعية في مصر القديمة من خلل األصل‬ ‫‪.9‬‬
‫األفريقي للحضارة وتدور الدراسة حول منهج المؤرخ السنغالي أنتا ديوب في كتابة التاريخ وهي دراسة‬
‫منطلقة من كتابة األصل األفريقي للحضارة بين الحقيقة والخيال وهو كتاب فيه أفكار المؤلف األساسية حول‬
‫أصل الحضارة اإلنسانية‪.‬‬
‫‪ .10‬دحمور زهير‪ ،‬بعنوان الزنوجه ودورها في بعث حركة األدب األفريقي وتدور الدراسة حول الدور الذي‬
‫لعبته حركة الزنوجه في بعث حركة األدب األفريقي ومحاولتها في إرساء دعائم الثقافة األفريقية فكما كان‬
‫لها دور فعال على المستوى السياسي فقد كان لها فضل كبير في التنظير لمدرسة أدبية تحمل هم اإلنسان‬
‫الزنجي الذي عانى كثيرا ا من اإلبعاد والتهميش خصوصا ا مع النهضة األوروبية حيث بدأت النهضة الغربية‬
‫تأخذ شكلا إقصائيا ا لكل ما هو أفريقي‪.‬‬
‫‪ .11‬رامي أبو شهاب‪ ،‬ما بعد الكولونيالية‪ :‬المنظور النقدي والمقاربة المنهجية‪ ،‬مجلة أبوليوس العدد‪،2019، 2‬‬
‫ملخص الدراسة يهدف البحث إلى تقديم مقاربات منهجية للخطاب ما بعد الكولونيالي ونظريته النقدية‪ ،‬وهذا‬
‫يأتي من منطلق محدودية المتون المعرفية أو الدراسات األكاديمية القادرة علي اإلحاطة بأهم األسس‬
‫والمبادئ التي ينهض عليها الخطاب‪ ،‬ويسعى البحث إلى اإلجابة عن األسئلة التي تتعلق بمفهوم الخطاب ما‬
‫بعد الكولونيالي‪ ،‬ومصطلحه‪ ،‬باإلضافة إلى مستويات المقاربة النقدية في الخطاب ما بعد الكولونيالي ‪،‬‬
‫وبوجه خاص االتكاء على بعض المرجعيات األكاديمية األساسية بغية االطمئنان إلى تمثيل الممارسة النقدية‬
‫تبعا ا ألصولها المعرفية‪ ،‬والمبادئ التي تحكمها‪.‬‬

‫م‬
‫‪ .12‬محمد أنور بن أحمد وأمير الحافظ بن علي قسم اللغة العربية كلية معارف الوحي والعلوم اإلنسانية‬
‫الجامعة اإلسلمية العالمية بماليزيا عنوان الدراسة خطاب ما بعد االستعمار في األدب ملخص الدراسة هو‬
‫تسليط الضوء علي خطاب ما بعد االستعمار في األدب في محاولة إلبراز معالمه وخصائصه وإسهاماته في‬
‫الكتابة اإلبداعية وخاصة فن الرواية‪ .‬وخطاب ما بعد االستعمار من ثمرات ما بعد االستعمار التي ابتكرها‬
‫إدوارد سعيد وهي من النظريات األدبية المعاصرة‪ .‬تسلح بهذا الخطاب ُكتاب بعد الحرب العالمية الثانية‬
‫وخاصة ُكتابا من آسيا وأفريقيا لمجابهة التمركز الغربي وذلك باليات منهجية مثل التفكيكية والثقافية والسياسية‬
‫والتاريخية والمقارنة‪.‬‬

‫ومن خلل السرد السابق للدراسات السابقة يتضح انقسام هذه الدراسات إلى قسمي إحداهما تاريخيا ا واآلخر‬
‫لغوي (أدبي) في حين تتمركز دراسة الباحثة في معالجة الهوية من منظور التحليل الفلسفي لرؤية‬
‫الفيلسوفين مع ضرورة عدم إغفال الجانب التاريخي والجانب األنثروبولوجي أيضاا‪.‬‬

‫ثامنا ا تقسيم الدراسة‪:‬‬

‫تنقسم الدراسة إلى ثلثة فصول؛ الفصل األول‪ :‬بعنوان العرق والعنصرية من منظور كل من الشيخ أنتا ديوب‬
‫وأشيل مبيمبي تناول مدخل مبسط للفلسفة األفريقية مع اإلشارة ألهم التيارات والمدارس الفكرية في الفلسفة‬
‫األفريقية ثم مبحث أول وفية سنناقش نشأة وظروف عصر كل من الشيخ أنتا ديوب وأشيل مبيمبي وإلى أي‬
‫اتجاه ينتمون مع اإلشارة إلى المؤثرات على فكر كل منها ثم أهم مؤلفاتهما‪ .‬وفي المبحث الثاني من هذا الفصل‬
‫نتناول مفهوم الحضارة والثقافة مع المقصود بالهوية الثقافية وأيضا ا مفهوم العرق والعنصرية وعلقتهما‬
‫بالهوية األفريقية عند الشيخ أنتا ديوب مع محاوالت ديوب للتصدي للمركزية األوروبية ودحض رؤية هيجل‬
‫ألفريقيا في فلسفة التاريخ مبينا ا إلى أي مدى تم االفتراء كذبا ا على أفريقيا والعقل األفريقي من خلل األفكار‬
‫التي تم ترويجها من قبل الفلسفة األوروبيين لخدمة األهداف االستعمارية في القارة السمراء‪ .‬وفي المبحث‬
‫الثالث نتناول مفهوم العرق والعنصرية من منظور ما بعد االستعماري متمثل في وجهة نظر أشيل مبيمبي‬
‫والذي أوضح أن العقل الزنجي هو نتاج للخيال األوروبي وأن الترويج للعرق كان أيضا ا لخدمة األهداف‬
‫االستعمارية مع توضيح المقصود بما بعد االستعمار وأهداف الفكر ما بعد االستعماري بصفة عامة وعند‬
‫مبيمبي بصفة خاصة‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬بعنوان مفهوم الهوية بين الشيخ أنتا ديوب وأشيل مبيمبي وينقسم لثلثة مباحث أيضاا‪ ،‬المبحث‬
‫األول‪ ،‬وفيه نناقش مصر وعلقتها بالهوية األفريقية من وجهة نظر السنغالي أنتا ديوب‪ ،‬وكيف استطاع من‬

‫ن‬
‫خلل األبحاث واستخدام األدلة المتعددة في إثبات الهوية الزنجية لمصر القديمة متتبع التطور التاريخي ألصل‬
‫الحضارة المصرية‪ ،‬ومن خلل نظريته الشهيرة المعروفة بنظرية المهدين استطاع ديوب أن يثبت أن المهد‬
‫الشمالي الذي ينتمي إليه الغرب لم يمتلك أصوال حضارية إال بعد اتصاله بالمهد الجنوبي والمتمثل بالقارة‬
‫السمراء ومصر‪ ،‬ومن خلل هذا التواصل استطاع أن ينتمي إلى حد ما لحضارة ربما تكون أقل تقدما ورقيا ا‬
‫عن المهد الجنوبي‪ ،‬مشيرا ا إلى أن مصر هي األساس األول في الحضارة في القارة السمراء موضحا ا علقتها‬
‫بإثيوبيا وحضارة المروي‪ ،‬ثم سنناقش أيضا ا في هذا المبحث األثر المصري واألسبقية المصرية وفضل‬
‫الحضارة المصرية القديمة علي العالم اليوناني كما ذكره أنتا ديوب وغيره من المفكرين األوروبيين أنفسهم‪.‬‬
‫وفي المبحث الثاني نتناول رفض الكاميروني أشيل مبيمبي لفكرة الهوية كما تناولها الخطاب األفريقي من‬
‫خلل نقده ألنماط الكتابة األفريقية حول الذاتية األفريقية منتقدا ا التياران التاريخيان األشهر في تاريخ الفلسفة‬
‫األفريقية والتي ينادى إحداهما بالعودة إلى الجذور واألصول الحضارية والتي بطبيعة الحال ينتمي إليها الشيخ‬
‫أنتا ديوب‪ .‬وفي المبحث الثالث‪ :‬نتناول آراء مبيمبي حول أفريقيا واستعمار بعد االستعمار من خلل نقده‬
‫للسلطة الحاكمة في أفريقيا متخذا ا من الكاميرون النموذج لسلطة ما بعد االستعمار وكيف يمارس الحاكم أشكال‬
‫االستبداد والتي في مجملها ما هي إال محاكاة للنموذج االستعماري ثم ناقش أيضا ا علقة الدين بالسياسة من‬
‫منظور ما بعد االستعمار من خلل تتبع مبيمبي التاريخي إلقحام الدين في السياسة بدأ ا من مصر الفرعونية‬
‫مرور باليهودية ثم المسيحية ثم علقة الدين بالهوية الزنجية‪.‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬بعنوان أفريقيا والمستقبل بين كل الشيخ أنتا ديوب وأشيل مبيمبي ينقسم أيضا ا إلى ثلثة‬
‫مباحث‪ ،‬المبحث األول سنناقش فيه مفهوم العنف ودورة في السياسات العدائية عند أشيل مبيمبي من خلل‬
‫التطور التاريخي أيضا ا للعنف بد اءا من الحياة والموت في ظل السلطة البيولوجية‪ ،‬مرورا ا بسلطة الحياة‬
‫والموت في ظل االحتلل االستعماري الحديث والمتأخر وكيفية استخدام األجهزة المتطورة وتحولنا إلى عصر‬
‫التوحش في الحروب المعاصرة والتي زادت واستخدمت ضد أشخاص غير مرغوب بهم في الحياة‪ ,‬مناقش‬
‫فكرة الحياة والموت في ظل االحتلل اإلسرائيلي لألراضي الفلسطينية مشبها ا فظائع االحتلل بنظام األبارتايد‬
‫العنصري في جنوب أفريقيا‪ ،‬بل أن سلطة االحتلل تجاوزت نظام الفصل العنصري في األراضي الفلسطينية‬
‫وقد أشار مبيمبي إلى أن اإلنسانية محبوسة في قفص وهذه اإلشارة إلى غزه علي وجه الخصوص‪ ،‬ثم نناقش‬
‫نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا مع مستقبل جنوب أفريقيا بعد الفصل العنصري‪ ،‬ثم في ختام المبحث‬
‫موقع الحرية في فكر أشيل مبيمبي‪ .‬وفي المبحث الثاني من هذا الفصل‪ ،‬سنناقش فيه كيف استطاع الشيخ أنتا‬
‫ديوب ابتكار منهجية متعددة التخصصات لتخدم مشروعة حول الهوية األفريقية‪ ،‬كما أنه ناقش الفلسفة والعلم‬

‫س‬
‫وعلقتهم بالهوية من خلل عرض ألبرز مشكلت العصر المتمثلة في العلم والفلسفة والعلم داعيا ا الفلسفة‬
‫األفارقة للمشاركة بفاعلية في حل تلك المشكلت‪ ،‬ثم مناقشة فكرة النهضة األفريقية والوحدة األفريقية واللذان‬
‫يعتبران وجهين لعملة واحدة عند الشيخ أنتا ديوب مع مناقشة ما ترتب على أفكار الشيخ أنتا ديوب في الواقع‬
‫األفريقي مع عرض أهم االنتقادات التي وجهت إليه‪ .‬وفي المبحث الثالث واألخير في هذا الفصل سنناقش فيه‬
‫فكرة إنهاء استعمار المعرفة عند أشيل مبيمبي وكيف نظرا إلى مستقبل ونهاية العالم مع الرؤية المشرقة‬
‫لمستقبل القارة السمراء ثم طرح أبرز االنتقادات التي وجهت إلى مبيمبي ثم ختام المبحث بمناقشة العولمة‬
‫وأثرها على الهوية الثقافية ألفريقيا من خلل رؤية كل من الشيخ أنتا ديوب وأشيل مبيمبي للعولمة ومخاطرها‪.‬‬
‫ثم خاتمة البحث والتي تتمثل في النتائج المستخلصة من خلل مقارنة سريعة ألهم النقاط التي تناولها‬
‫الفيلسوفان مع أوجه االتفاق واالختلف بينهما‪.‬‬

‫ع‬
‫مدخل إلى الفلسفة األفريقية‬

‫ينظر إلى األسئلة المتعلقة بوجود فلسفة أفريقية على أنها تعكس تحيزا ا استعماريا ا غربيا ا حيث ال‬
‫يوجد ما يسمى فلسفة أفريقية‪ ،‬ألن األفارقة ليسوا عقلنيين مثل الغربيين أو ليس لديهم الحس اللزم إلنتاج‬
‫الفلسفة‪ .‬لذلك لم يكن من المفاجئ أنه ال يتفاعل األفارقة مع السؤال االستعماري في محاولة إلعادة التأكيد‬
‫على التفرد والهوية‪ ،‬واألهم من ذلك الشعور بالذات‪ .‬ومن هنا يمكن التعرف على الفلسفة األفريقية‬
‫بأشكالها المختلفة على أنها رد فعل لوجهة النظر المنحطة نحو األفريقي وفلسفته؛ التي كانت وما زالت‬
‫سائدة في العالم الغربي (‪ .)Coetzee & Roux, 2003, P.115‬إن للفلسفة األفريقية تاريخا ا طويلا وإن كان‬
‫غير موثق وغير مكتوب وشفهي‪ ،‬إنه تاريخ يمتد من العصور القديمة إلى ما بعد الحداثة في الجوهر‬
‫والشكل‪ ،‬وقد كانت المناقشات في السبعينيات حتى أوائل التسعينيات؛ حول طبيعة ووجود الفلسفة‬
‫األفريقية قد وضعت منظورا ا مختلفا ا لطرق التفكير حول التاريخ الطويل للفلسفة األفريقية‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن أي‬
‫مناقشة جادة للفلسفة األفريقية يجب أن تكون على دراية بتاريخها (‪ )Etieyibo, 2018, P.13‬إن التاريخ‬
‫األفريقي للفلسفة بقدر ما هو فلسفي فهو تاريخ لألفريقي‪ ،‬فهو الطريقة التي يؤرخ بها األفريقي لذاته‪،‬‬
‫السيرة الذاتية لألفريقي‪ ،‬لكنها جزء أيضا ا من السيرة الذاتية لإلنسانية‪ ،‬إن إضفاء الطابع التاريخي على‬
‫أفريقيا هو جزء من إضفاء الطابع التاريخي على اإلنسانية‪ .‬إن حديث األفارقة عن الفلسفة األفريقية‬
‫وتاريخها لهو أمر ضروري لتعريف الفلسفة والطريقة التي تؤرخ بها الفلسفة نفسها ( ‪Murungi, 2017,‬‬

‫‪.)P.49-50‬‬

‫والمتياز أفريقيا بالتنوع دفع بأجناس كثيرة على التفكير وغزو أفريقيا خاصة منهم األوربيون‪،‬‬
‫تعرف العالم على أفريقيا‪ ،‬ولكن ولألسف لم يكن تعارف‬
‫وهذا ما حدث في القرنين الماضيين‪ ،‬والذي فيه ّ‬
‫قائم على مبدأ التقابل بقدر ما كان قائ اما على مبدأ السيادة واالختزال‪ ،‬والذي نتج عنه اندفع األفريقيون نحو‬
‫النضال بهدف بناء عالم الحرية (بخضرة‪ ،‬مؤنس‪ ،2018 ،‬ص‪.)9‬‬

‫لقد نظر الغرب إلى أفريقيا نظرة متدنية‪ ،‬وقد أظهرت العديد من الدراسات حول الفلسفة األفريقية‬
‫األسباب التي أدت إلى النظرة الغربية لها والتي تعود بأصولها إلى الفيلسوف األلماني هيجل‪ ،‬الذي أسس‬
‫سلما ا عرقيا ا لتدرج شعوب العالم‪ ،‬ووضع األلمان في قمة الهرم العرقي وشعوب آسيا في الوسط واألفارقة‬
‫والسكان األصليين لألمريكيتين في القاع‪ .‬لقد ظهرت أفريقيا في الخيال االستعماري غير مكتملة ومشوهة‬
‫دون المستوى اإلنساني‪ ،‬لذلك كانت مهمة الفيلسوف األفريقي هي الدفاع عن الثقافة األفريقية ضد األفكار‬

‫‪1‬‬
‫المغالطة التي قيلت حولها من قبل الباحثين الغربيين‪ ،‬فقد رفض الباحثون السود مغالطة أطروحة هيجل‬
‫ومخز (عطية‪ ،‬أحمد‪ ،2021 ،‬ص‪.)88 -86‬‬
‫ٍ‬ ‫حول أفريقيا والتي يسيء إلى األفارقة بشكل بشع‬

‫يرى فانون أن وصفا هيجل في كتابه (العقل في التاريخ) نموذج أصلي ومتميز للمشروع‬
‫الكولونيالي في رؤيته لإلفريقي‪ .‬فقد وصف أفريقيا في الفكر الغربي مكانا ا للطاقة واألحاسيس المتدفقة‪،‬‬
‫وبانعدام الحركة وبأنها عالقة في الزمن‪ .‬ولهذا يجب وصف أفريقيا بأنها رحلة من العقل إلى اإلحساس‪ ،‬ال‬
‫من اإلحساس إلى العقل‪ .‬حيث ذهب هيجل إلى القول بأن الزنجي مثال على اإلنسان بكل همجيته‬
‫وخروجه عن القانون‪ ،‬وإذا أردنا أن نفهمه أصلا‪ ،‬يجب علينا أن نجرده من كل توقير وأخلقيات‪ ،‬ومن‬
‫كل ما نسميه عواطف (بخضرة‪ ،‬مؤنس‪ ،2018 ،‬ص‪.)12‬‬

‫وفي الحقيقة لم يكن هيجل وحدة هو المروج لفكرة التدني األفريقي بل هناك الكثير من الفلسفة قد‬
‫أسأوا إلى أفريقيا واألفريقيين أمثال ديفيد هيوم وكانط وجون لوك ومونتسكيو وغيرهم لذلك يمكن اعتبار‬
‫الفلسفة األفريقية تيارا ا نقديا ا من قبل الفلسفة األفارقة على النظرة االستعلئية التي تميزت بها فلسفات‬
‫المركزية الغربية سواء كانت العقلنية الفرنسية أو التجريبية اإلنجليزية أو المثالية األلمانية أو البرجماتية‬
‫األمريكية‪ ،‬لتقدم نفسها بوصفها فلسفة متعددة الثقافات‪ .‬نتيجة لذلك تعد الفلسفة األفريقية ومشكلتها‬
‫األساسية هي فلسفة دفاع عن الهوية األفريقية‪ ،‬فالقضية الرئيسية التي تناولتها معظم الفلسفات األفريقية‬
‫هي قضية الهوية األفريقية تزامنا ا مع قضية إنهاء االستعمار والتي سعت إلى إنهاء االستعمار بكافة‬
‫مستوياته سواء كان استعمارا ا سياسيا ا أو معرفيا ا أو وجودياا‪ ،‬فالدفاع عن الهوية هو المقصد والمطلب‬
‫والملهم للفلسفات األفريقية الحديثة والمعاصرة‪.‬‬

‫لقد ارتبطت مقاومة األفريقي للستعمار بالفلسفات االستعمارية‪ ،‬حيث ساهمت فلسفة االستعمار‬
‫الفرنسي ألفريقيا في ظهور الحركات التحررية‪ ،‬كما أن المفكر األفريقي حرص على تحدي األنا‬
‫األوروبي واألمريكي بتقديم أشكال متوازية من الفكر السلطوي (شندي‪ ،‬صبري‪ ،2017 ،‬ص‪ .)25‬إن‬
‫مناهضة المركزية األوروبية شكلت جزءا ا كبيرا ا من الفلسفة األفريقية المعاصرة في سياق يمكن إرجاعه‬
‫إلى صراعات الهوية في األربعينيات والخمسينيات‪ ،‬هذه المركزية كانت عاملا ودافع للفلسفة األفريقية‬
‫الحديثة والمعاصرة‪ ،‬حيث تم تسليط الضوء على القهر واالستغلل والقمع ألفريقيا والذي كان نتيجة لتلك‬
‫المركزية‪ ،‬لذلك ستبقي مناهضة المركزية األوروبية جز اءا مهما ا من الخطاب المعاصر للفلسفة األفريقية‬
‫من أجل مواجهة الحداثة األوروبية مع العالم األفريقي والتجربة األفريقية في نفس المواجهة ( ‪Asiegbu,‬‬
‫‪.)M, 2016, P8-9‬‬

‫‪2‬‬
‫ومن منظور ما بعد كولونيالي حاول المثقفون األفريقيون أدباء وروائيين أن يتحدوا المستعمر‬
‫الغربي وثقافته‪ ،‬وقد امتلكوا الوسيلة اللغوية والمعرفية للرد بالكتابة والرواية على النصوص السردية‬
‫الغربية البيضاء التي ش ّكلت جز اءا ليس بالهيّن من النصوص التأسيسية للمركزية الغربية‪ ،‬والتي لها اليد‬
‫العليا في تمركز الذات الغربية حول ذاتها ونبذها لكل اآلخرين الملونين وغير الغربيين خارج دائرة‬
‫الحضارة اإلنسانية والتنوير الغربي‪ .‬لذا فقد وجد هؤالء األدباء األفارقة أنفسهم مجبورين على تعلم لغة‬
‫المستعمر واالطلع على ثقافته وعلى منجزاته المعرفية الحداثية‪ ،‬فضلا عن تمثلهم آلليات السرد الروائي‬
‫الغربي‪ ،‬وتقنياته وجمالياته وقد كان هدفهم تأكيد هويتهم وثقافتهم الوطنية وخلق شكل من الحوار‬
‫والتواصل مع تاريخهم الذي تعرض للتشويه والتهميش على يد الغرب المستعمر‪( .‬بخضرة‪ ،‬مؤنس‪،2018 ،‬‬

‫ص‪.)62‬‬

‫لقد كانت التحديات التي تواجه الفلسفة األفريقية تتمثل في شقين رئيسيين هما التفكيك واآلخر هو‬
‫إعادة البناء؛ وتعتبر مهمة التفكيك هي استكشاف وفضح األفكار والمواقف والمعتقدات واأليديولوجيات‬
‫للخطاب األفريقي‪ ،‬هذه األفكار قمعية وقهرية بشكل أساسي لألفارقة‪ ،‬وقد خدمت مؤسسات ما بعد‬
‫االستعمار( االجتماعية واالقتصادية والسياسية والثقافية في المجتمعات األفريقية والتي تهدف إلى نشر‬
‫األيديولوجيات التي تم تطورها على حساب التراث التاريخي األفريقي) ونتيجة لذلك هناك حاجة ملحة‬
‫إلى أ ن يعيد الفلسفة األفارقة التفكير في تلك المبادئ والمفاهيم واأليديولوجيات التي شكلت تلك‬
‫المؤسسات(‪.)Asiegbu, M, 2016, P.11‬‬

‫وقد استخدمت الفلسفة األفريقية عدة مناهج منها المنهج االجتماعي والتي يقوم على مبدأ التبادلية‬
‫باعتبار أن وجوي يعني وجود الغير وقد عبر جون مبيتي ‪ )*(John Mbiti‬عن ذلك بقوله "أنا أكون ألننا‬

‫(*) جون صموئيل مبيتي (‪ )2019 -1931‬فيلسوف وكاتبا ا مسيحيا ا ويتحدث اللغات االلماني واالنجليزية ولد في ‪ 30‬نوفمبر‬
‫‪ 1931‬في موالجو مقاطعة كيتي‪ ،‬شرق كينيا‪ ،‬ونشأ في بيئة مسيحية قوية‪ ،‬وقد شجعت نشأته المسيحية رحلته التعليمية‬
‫من خلل الكنيسة الداخلية األفريقية‪ .‬والتحق بالمدرسة الثانوية للتحالف في نيروبي وواصل تعليمة في جامعة‬
‫ماكيريري‪ ،‬ثم تابع تعليمه في جامعة لندن حيث تخرج عام ‪ .1953‬حصل على البكالوريوس في اآلداب عام ‪1956‬‬
‫وعلى البكالوريوس في اللهوت عام ‪ 1957‬من كلية بارينغتون‪ ،‬ثم حصل على الدكتوراه في الفلسفة في اللهوت من‬
‫جامعة كامبريدج‪ ،‬حيث تخرج منها عام ‪ .1963‬وقام بتدريس الدين واللهوت في جامعة ماكيريري باوغندا من عام‬
‫‪ 1964‬إلى ‪ ،1974‬وكان بعد ذلك مديرا ا للمعهد المسكوني التابع للمجلس العالمي للكنائس في بوغيس بوسي‪ ،‬سويسرا‪.‬‬
‫شغل أستاذ زائر في جامعات بأنحاء العالم ونشر على نطاق واسع في الفلسفة واللهوت والتقاليد الشفهية األفريقية‪ .‬وكان‬
‫كتاب مبيتي األساسي‪ ،‬األديان األفريقية والفلسفة (‪ )1969‬أول عمل لتحدي الفرضية المسيحية بأن األفكار الدينية‬
‫األفريقية التقليدية شيطانية ومعادية للمسيحية‪ .‬كان مبيتي واضحا ا أن تفسيره لهذه األديان كان من منظور مسيحي حازم‪،‬‬
‫وقد أكد أن األديان األفريقية التقليدية تستحق نفس االحترام مثل المسيحية واإلسلم واليهودية والبوذية‪ ،‬وهذا الجانب من‬
‫عمله تعرض في بعض األحيان النتقادات شديدة‪ .‬شملت اهتمامات مبيتي البحثية اللهوت في أفريقيا وآسيا والمسكونية‪.‬‬
‫تعاون أيضا ا في كتاب لألمثال األفريقية‪ ،‬تم جمعه من جميع أنحاء القارة‪ .‬في عام ‪ 2016‬تم تكريمه بجائزة رئيس اساقفة‬
‫السلم والعدالة من الكنيسة االنجليكانية في جنوب أفريقيا من عام ‪ 2005‬وحتى وفاته‪ .‬كان مبيتي استاذاا فخريا ا في‬

‫‪3‬‬
‫نكون‪ ،‬فبما إننا نكون‪ ،‬لذلك أنا أكون"‪ .‬أيضا ا المنهج التكاملي وهو يتمحور حول الرابط المفقود‪ ،‬وهو‬
‫يشبه نظام الشبكة التي يلعب فيها كل متغير دور مهم‪ .‬أيضا ا المنهج الحواري وهو إجراء شكلي لتقييم‬
‫علقات متعارضة يتم فيها خلط األفكار من خلل أنماط مفككة وملتصقة إلعادة إنشاء أطروحة جديدة‬
‫وأطروحة نقيضة باستمرار في كل مرة على مستوى أعلى من الخطاب دون توقع التركيب (موتازو‪،‬‬

‫ليوباترا‪ ،2022 ،‬ص‪ .)12‬يمكن تصنيف الفلسفة األفريقية منذ عام ‪ 1935‬إلى ثلث مدارس هما المدرسة‬
‫الثقافية واأليديولوجية والنقدية‪ ،‬لكلا منهما سماتها المميزة‪.‬‬

‫أولا المدرسة الثقافية (الثنية)‪ :‬وهي المدرسة األولى في الفلسفة األفريقية‪ ،‬والتي تضرب بجذورها في‬
‫المقام األول في التقاليد األصلية للقارة‪ ،‬وهي التي يطلق عليها أحيانا ا "الفلسفة العرقية"‪ ،‬إال أن التعبير‬
‫الدقيق لها هو الثقافة وليس العرق ذلك ألن اتصاف جانب كبير من الفلسفة األصلية بصفات العرق ال‬
‫يعدو عن كونه صفة من صفات هذا التراث‪ ،‬كما أن الفلسفة الثقافية تميل إلى اكتساب الطابع الجماعي‬
‫وهي تنتقل من جيل إلى جيل عن طريق التراث الشفوي‪ .‬النطاق الزمني لهذه المدرسة يضم ثلث‬
‫مراحل؛ األولى هي ما قبل االستعمار‪ ،‬والثانية هي الحقبة االستعمارية‪ ،‬والثالثة حقبة ما بعد االستعمار‪.‬‬
‫هذا التيار يعد أقدم جوانب التراث الفلسفي األفريقي وله القدرة على الثبات واالستمرار‪ .‬ينتمي أعضاؤها‬
‫إلى حركة الحفريات مثل بالسيدا تيمبلز‪ ،‬وألكسيس كاجامي‪ ،‬وجون مبيتي‪( .‬مزروعي‪ ،‬علي‪ ،‬ص‪-725‬‬

‫‪.)727‬‬

‫ثانيا ا المدرسة اليديولوجية‪ :‬تهتم هذه المدرسة بالفلسفة القومية لمكافحة االستعمار وخلق أيديولوجية‬
‫سياسية ألفريقيا كمشروع إلنهاء االستعمار‪ ،‬من أشهر أعضاء هذه المدرسة كوامي نكروما‪ ،‬وليوبولد‬
‫سنجور‪ ،‬وجوليوس نيريري وهم أعضاء ينتمون أيضا ً إلى الحركة الحفرية (التنقيبية)‪ .‬كان هؤالء‬
‫المفكرون القوميون أوالً وقبل كل شيء مناضلين ضد االستعمار من أجل الحرية‪ .‬وألنهم لم يكونوا‬
‫فالسفة محترفين فقد كانوا أقل اهتماما بضرورة الصرامة الفكرية واالتساق‪ .‬مع المفهوم الثقافي للزنجية‬
‫حقق سنجور شهرة باعتباره واحدا من المفكرين األكثر أصالة وأهمية للخروج من أفريقيا السوداء‪ .‬ومع‬
‫فكرة الضمير دعا نكروما إلى إعادة اكتشاف أفريقيا جديدة تكون قادرة على الوقوف على قدميها‪ .‬ومع‬
‫مفهوم أوجاما ‪( ujamaa‬األسرة) أعلن نيري فلسفة اجتماعية وسياسية واقتصادية ألفريقيا المنتعشة‪.‬‬

‫جامعة برن ووزيرا ا ابرشيا ا لمدينة بورغدورف سويسرا‪ .‬أهم أعماله‪ :‬قصص اكامبا‪ ،‬مكتبة اوكسفورد لألدب االفريقي‬
‫‪ ،1966‬ويتكون هذا العمل من حوالي ‪ 80‬قصة مختلفة من أنواع مختلفة متجذرة في حكايات كامبا‪ .‬وقصائد الطبيعة‬
‫واإليمان شعراء أفريقيا‪ ،‬دار نشر شرق أفريقيا ‪ 1969‬واألديان والفلسفة األفريقية‪ ،‬سلسلة الكتاب األفريقيين ‪-1969‬‬
‫‪ 1990‬ومفاهيم هللا في أفريقيا‪ ،‬لندن ‪ 1970‬والشعوب األفريقية ليست امية دينية وأيضا ا العهد الجديد في الخلفية‬
‫األفريقية‪ ،‬جامعة اوكسفورد ‪ ،1971‬وأيضا ا صلوات الدين االفريقي‪ ،‬لندن ‪ ،1975‬وكذلك الكتاب المقدس واللهوت في‬
‫المسيحية األفريقية‪ ،‬مطبعة اكسفورد ‪ ،1987‬وأيضا ا األمثال األفريقية‪ ،‬بريتوريا ‪.1997‬‬

‫‪4‬‬
‫ويعتقد هؤالء الفالسفة السياسيون أن االشتراكية كانت النموذج االجتماعي السياسي المثالي ألفريقيا‬
‫الخارجة من ركود الحكم االستعماري‪ .‬بينما يكشف نكروما عن التزام عقائدي بالماركسية يفضل‬
‫سينجور ونيريري ما يعتبرونه مساواة أفريقية تقليدية خالية من الصراع الطبقي أو الجدلية التاريخية‬
‫التي تتبناها الماركسية الكالسيكية‪ ،‬سينجور هو أكثر الفالسفة السياسيين األكثر أصالة يتفق مع نيريري‬
‫على أن االشتراكية األفريقية ال ينبغي أن تبنى على النموذج الماركسي المادي‪ .‬ويؤكد الفالسفة الثالثة‬
‫على الجوهر اإلنساني لمفاهيمهم الفلسفية األساسية أوجاما والضمير والزنوجة ومع ذلك فإن أفكارهم‬
‫متجذرة في الفلسفة العرقية‪)Agada, Ada, 2019, p.398:400( .‬‬

‫والبد هنا من التمييز بين التيار الثقافي وااليديولوجي؛ حيث إن التيار الثقافي يضم أهدافا ا سياسية بجانب‬
‫العمل السياسي‪ ،‬كما أن الثقافة تتضمن مسائل مثل العلقات بين اإلنسان والحيوان وكذلك بين الحكام‬
‫والرعايا في المجتمعات األفريقية وغيرها من علقات‪ ،‬في حين أن التيار االيديولوجي ذو طابع سياسي‬
‫أضيق من ذلك‪ ،‬كما أن معظم تراث الفلسفة الثقافية مكتوب باللغات األفريقية األصلية بينما نسبة كبيرة‬
‫من الفلسفة األيديولوجية مكتوبة باللغات األوروبية‪ .‬الفلسفة الثقافية في المقام األول جماعية وتراكمية‪،‬‬
‫بينما الفلسفة االيديولوجية تبدأ دراسة الفلسفة باعتبارها أفكار أفراد‪ .‬أيضا ا الفلسفة الثقافية تعتبر فلسفة‬
‫جماهيرية في المقام األول بينما األيديولوجية تختص بالنخبة‪ ،‬إن القيمة النهائية للفلسفة الثقافية تكمن في‬
‫قضية الهوية بينما القيمة النهائية للفلسفة األيديولوجية تتجه نحو التحرير (مزروعي‪ ،‬علي‪ ،‬ص‪.)727-725‬‬
‫وإن كانت الباحثة ترى أن العلقة وثيقة بين قضية الهوية وقضية التحرر وال ينبغي الفصل بينهما‪.‬‬

‫ثالثا ا المدرسة النقدية‪ :‬وهي مدرسة تشبه التيار األيديولوجي في أنها تمثل ردا ا يرجع إلى العهد‬
‫االستعماري والعهد التالي له كما أن المدرستين يستعملن اللغات األوروبية في المقام األول وأنهما تأثرا‬
‫تأثيرا ا عميقا ا بالتقاليد الفكرية الغربية‪ .‬وعلى الرغم من هذا التشابه إال أنهما يختلفان في عدة نقاط؛ فبينما‬
‫تتسم المدرسة األيديولوجية بالطابع السياسي والوعي بذلك‪ ،‬تسلك المدرسة النقدية مسلكا ا أكاديميا ا ضيقا ا‪،‬‬
‫بينما تنشغل المدرسة األيديولوجية بالتحرير فإن المدرسة النقدية تطمح في أخذ طابع التحرر من سلطان‬
‫القيم‪ ،‬وبينما كانت المدرسة األيديولوجية تتجه في كثير من األحيان إلى الطابع الوطني كانت النقدية ذات‬
‫طابع عقلني صارم‪ .‬وعلى الرغم من وجود مفهوم التحرير في المدرسة النقدية إال أن التحرير الذي‬
‫تسعى إليه هو تحرير الفلسفة نفسها وليست أفريقيا‪ ،‬تحرير الفلسفة في أفريقيا من علم األعراق وصراع‬
‫الهويات‪ .‬واألطروحة األساسية للمدرسة النقدية في جوهرها هي أن الفلسفة ال تقوم إال إذا التزم الفيلسوف‬
‫بالحديث العقلني ويجب أال تصبح الفلسفة خادمة للدين أو للسياسة‪ ،‬وتطمح هذه المدرسة إلى إعادة‬
‫الفلسفة إلى حظيرة الروح العلمية (مزروعي‪ ،‬علي‪ ،‬ص‪.)730‬‬

‫‪5‬‬
‫وهناك أربع حركات فلسفية في أفريقيا تعكس التاريخ األفريقي الذي تخطى المائة عاما تقريبا ا‪،‬‬
‫يرى كثير من المؤرخين أن الفلسفة األفريقية مرت بأربع مراحل متميزة األولى منها بدأت منذ عام‬
‫‪ 1920‬وحتى عام ‪ ،1960‬وتسمى هذه الحركة بالحفرية أو التنقيب وسعت هذه الحركة إلى استعادة‬
‫الهوية األفريقية وإعادة بنائها‪ ،‬حيث سعى أعضاؤها لبناء صرح للفلسفة األفريقية من خلل تنظيم وجهات‬
‫نظر العالم الثقافي األفريقي انطلقا ا من إبداع الذات‪ ،‬بهدف استعادة الهوية المفقودة وإعادة بنائها من‬
‫المقومات األفريقية الخالصة من أجل التوصل إلى هوية أفريقية فريدة‪ .‬وقد حصر ادعاء هذه الحركة فيما‬
‫(*)‬
‫وبلسيد تيمبلز ‪placide‬‬ ‫يسمى باسم الفلسفة االثنية‪ ،‬من أشهرهم جون مبيتي وكوامي نكروما‬
‫‪ )*(Tempels‬وايمي سيزير‪.)*(Aime Cesaire‬‬

‫أما الحركة الثانية بدأت منذ بداية الستينيات وحتى بداية الثمانينيات (‪ )1980 – 1960‬وهي تلك‬
‫الفترة التي شهدت حركة مزدوجة تسمي البناء والتفكيك‪ ،‬وتسمي هذه الحركة بحركة التفكيك األفريقية‬
‫كما يطلق على أعضائها أما الحداثيون أو الكونيون وهم يعارضون أفكار حركة الحفر والتنقيب التي‬
‫تبحث عن الهوية األفريقية الفريدة‪ ،‬وينكرون فكرة الفلسفة القائمة على األفكار المحلية فقط‪ ،‬ويفضلون‬
‫إقامة فلسفة تدمج فيها الهوية األفريقية مع هوية األجناس األخرى‪ ،‬من أعضاء هذه الحركة بولين‬
‫هاونتدجي وكواسي وريدو وريتشارد رايت‪ ،‬وهنري موريير‪.‬‬

‫والحركة الثالثة بدأت منذ الثمانينيات وحتى بداية التسعينيات (‪ ،)1990 – 1980‬وهي مرحلة‬
‫البحث عن فلسفة أفريقية تعبر عن الوجود األفريقي من خلل النقد‪ ،‬وتعرف هذه الحركة باسم األفرو‪-‬‬
‫انتقائية وهي حركت عملت على التأليف بين الحركتين السابقتين‪ ،‬حيث رأت أن الفلسفة التقليدية النابعة‬

‫(*) كوامي نكروما (‪ ,)1972 -1909‬من المناضلين األفارقة االوائل ضد االستعمار ومؤسس حزب مؤتمر الشعب الذي‬
‫كان يهدف إلى تحقيق استقلل غانا‪ ,‬وهو اول رئيس لغانا المستقلة‪ ,‬ومن ابرز دعاة الوحدة األفريقية وواحدا من‬
‫مؤسسي الوحدة األفريقية قبل اسدال الستار عنها في يوليو ‪,2002‬يتحدث اللغة األكانية واالنجليزية‪ ,‬من ابرز مؤلفاته‬
‫اتكلم عن الحرية و يجب ان تتحد أفريقيا واالستعمار الجديد وصراع الطبقات في أفريقيا كما نشر سيرته الذاتية‬
‫بعنوان غانا وترجم بعض أعماله إلى العربية مثل كتاب االستعمار الجديد‪ :‬آخر مراحل اإلمبريالية‪.‬‬
‫(*) بلسيد تيمبلز (‪ )1977 -1906‬هو مبشرا ا بلجيكيا ا فرنسيسكانيا ا في الكونغو واشتهر بكتابه فلسفة البانتو‪.‬‬
‫(*) ايمي سيزار (‪ )2008 -1913‬و شاعر وكاتب وسياسي فرنسي من المارتينيك ‪ ,‬هو احد ابرز وجوه تيار الزنجية في‬
‫الشعر الفرنكفوني ورمزا ا للحركة المناهضة للستعمار‪ ,‬درس في باريس وتقابل مع الشاعر والسياسي السنغالي‬
‫ليوبولد سينجور والذي انشأ معه صحيفة الطالب االسود والتي اظهرت ألول مره مصطلح الزنجية وكانت حركة‬
‫الزنجية تهدف إلى تغيير من صورة الرجل االسود ‪ ,‬من اهم أعماله االدبية مذكرات العودة إلى الوطن االم والذي‬
‫نشر في عام ‪ ,1935‬كما له العديد من المسرحيات مثل تراجيديا الملك كريستوف (حول اإلستعمار‪ )1963‬وموسم‬
‫في الكونغو (حول باتريس لومومبا ‪ )1966‬وفي الشعر الف االسلحة العجائبية والشموس المقطوعة العنق كما كتب‬
‫نثرا ونشرت له عدة كتب اهمها خطاب حول االستعمار والذي كان بمثابة صرخة تمرد في وجه الغرب ‪ ,‬كان سيزار‬
‫احد اعضاء الحزب الشيوعي ثم اسس حزبه الخاص باسم حزب التقدم المارتيكيني والتي تعتبر محاربه االستعمار‬
‫والعنصرية اهم مشاريعه‪ ،‬كما كان من ابرز المطالبين بالحكم الذاتي للمارتينيك وليس باستقللها كما ساند الحركات‬
‫االستقللية في دول المغرب العربي والهند من ابرز اقواله (ال يمكننا طرح مشكله الثقافة المحلية دون طرح مشكلة‬
‫االستعمار في الوقت نفسه)‪ ،‬وتوفي سيزار بعد صراع طويل مع مرض القلب في السابع عشر من شهر ابريل عام‬
‫‪.2008‬‬
‫‪6‬‬
‫من البيئة المحلية ليست كافية إلقامة الفكر الذي يثري الساحة الفلسفية األفريقية ومن ثم تستعين بما يناسب‬
‫البيئة األفريقية من أفكار األمم األخرى‪ ،‬فهي أشبه بتيار الجمع بين الوافد والموروث‪ ،‬حيث تنتقي األفضل‬
‫من الفلسفة األفريقية وفلسفة الحداثيين من أجل إنتاج فلسفة أفريقية أصيلة‪ ،‬من أعضاء هذه الحركة كوامي‬
‫ابياه وكوامي جيكي‪ ،‬دي ماسلو‪ ،‬هنيري أوديرا‪.‬‬

‫الحركة الرابعة واألخيرة بدأت في أواخر تسعينيات القرن الماضي وتمثلت مع بداية األلفية‬
‫الجديدة وعرفت باسم حركة الحواريين النقديين وسعى أعضاء هذه الحركة إلى إنشاء مجموعة أعمال‬
‫دائمة في الفلسفة األفريقية من خلل االشتراك في حلقات نقاش ومحادثات نقدية تؤكد األصالة واإلبداع‬
‫واالبتكار في مجال الفلسفة األفريقية الخالصة‪ ،‬يرون أنصار هذه الحركة أنه ال يمكن إنشاء نظرية جديدة‬
‫في الفلسفة األفريقية إال بواسطة فلسفة أفارقة فرديين يستفيدون من الماضي القابل للستعمال وعمق‬
‫األصالة الفردية في إيجاد حلول للمطالب المعاصرة‪ ،‬ومن مفكريها بانتيلون ايروجبو‪ ،‬وبروس جان‪،‬‬
‫جوناثان شيماكونام‪ ،‬آدا أجادا ‪(.‬موتازو‪ ،‬ليوباترا‪ ،2022 ،‬ص ‪.)27-25‬‬

‫اتجاهات الفلسفة األفريقية‪:‬‬

‫من أجل الحفاظ على التاريخ الفلسفي األفريقي شرع الفيلسوف الكيني هنيري اوديرا اوروكا‬
‫في كتابة تاريخ الفلسفة األفريقية بشكل صريح يسترشد بفهم معين للفلسفة‬ ‫(*)‬ ‫‪Henry Odera Oruka‬‬

‫يتطلب تاريخا ا معينا ا للفلسفة‪ .‬ففي كتابه االتجاهات في الفلسفة األفريقية المعاصرة ‪ ،1990‬حدد اوديرا‬
‫ست نظريات في الفلسفة‪ ،‬أربعة منها رئيسان واإلثنين اآلخرين تابعان للخطاب حول الفلسفة األفريقية‪،‬‬

‫هنيري اوديرا‪ ،‬ولد في نيروبي ‪ 1944/6/1‬وتوفي بتاريخ ‪ 1995/12/9‬فيلسوف كيني اشتهر بفلسفة الحكيم‪ ،‬بدأ في‬ ‫(*)‬

‫السبعينيات في محاولة للحفاظ على معرفة المفكرين األصليين في المجتمعات األفريقية التقليدية‪ .‬ولد في مقاطعة نيانزا‬
‫في كينيا‪ ،‬بعد دراساته المتقدمة بها‪ ،‬ذهب إلى جامعة اوبساال في السويد هناك سجل في برنامج البكالوريوس في كلية‬
‫الرياضيات – العلوم الطبيعية ودرس االرصاد الجوية والجغرافيا والجيوديسيا‪ .‬اضاف الحقا ا الفلسفة إلى دراساته بسبب‬
‫اهتمامه بها‪ .‬بعد تخرجه في العلوم والفلسفة (قبل فصله بسنه)‪ ،‬اختار التخلي عن العلم ومواصلة دراسته في الفلسفة‪.‬‬
‫انتقل إلى جامعة واين ستيت في الواليات المتحدة االمريكية للحصول على الماجستير حيث أكمل دراسته وحصل في‬
‫النهاية على الدكتوراه‪ .‬تم تنقيح اطروحته حول موضوع الحرية ونشرت تحت عنوان العقاب واالرهاب في أفريقيا في‬
‫عام ‪ .1976‬ومن اكتوبر ‪ 1970‬حتى وفاته ‪ 9‬ديسمبر ‪ ،1995‬قام بتدريس الفلسفة في جامعة نيروبي‪ .‬كان اوديرا اول‬
‫مؤسس ورئيس الجمعية الفلسفية لكينيا نيروبي (‪)PAK‬؛ االمين العام لجمعية (‪ )KNAS‬في اكاديمية كينيا الوطنية‬
‫للعلوم؛ واالمين العام للجمعية الفلسفية (‪ )AFPA‬دراسات المستقبل االفريقي؛ نائب رئيس المجلس االفريقي للفلسفة‬
‫(‪ )AAPA‬األفرو آسيوية؛ عضو اللجنة التنفيذية لكل من االتحاد الدولي للمجتمع (‪ )IACP‬واالتحاد العالمي للدراسات‬
‫المستقبلية‪ .‬في ‪ 3‬يونيو ‪ ،‬حصل على الدكتوراه الفخرية من كلية العلوم االنسانية من جامعة اوبساال‪ .‬أهم أعماله‪ :‬الفلسفة‬
‫األفريقية‪ ،‬مقدمة عام ‪ 1997‬واالخلق‪ ،‬جامعة نيروبي عام ‪ 1990‬والفلسفة واالنسانية والبيئة‪ ،‬المركز األفريقية‬
‫لدراسات التكنولوجيا ‪ 1994‬والعقاب واالرهاب في أفريقيا‪ ،‬مشاكل في الفلسفة وممارسة العقوبة‪ 1985 ،‬وفلسفة‬
‫الحكيم‪ :‬المفكرون األصليون والجدل الحديث حول الفلسفة األفريقية (فلسفة التاريخ والثقافة )‪ 1990‬وأيضا ا اتجاهات‬
‫الفلسفة في أفريقيا المعاصرة ‪ 1990‬والفلسفة والثقافة‪.1981 ،‬‬

‫‪7‬‬
‫وهما الفلسفة االثنية‪ ،‬الفلسفة المهنية‪ ،‬فلسفة الحكيم‪ ،‬الفلسفة القومية األيديولوجية‪ ،‬الفلسفة األدبية والفنية‪،‬‬
‫النظرية التأويلية في الفلسفة األفريقية (‪( )Francis E.A., 2012, P.155‬حامد‪ ،‬دعاء‪.)2021 ،‬‬

‫الفلسفة الثنية‪:‬‬

‫وهو المصطلح الذي استخدمه هاونتدوجي لإلشارة إلى الفلسفة العرقية والتي تشير إلى األعمال‬
‫األساسية لعلماء األنثروبولوجيا وعلماء االجتماع وعلماء اإلثنوغرافيا الذين يفسرون وجهات النظر‬
‫الجماعية للشعوب األفريقية وأساطيرهم وحكمتهم الشعبية ( ‪Mawere, U., & Tapuwa R., 2016, P.‬‬

‫‪ .)58‬ترجع هذه النظرية إلى بلسيد تيمبلز‪ ،‬وهي نظام فكري يتعامل مع وجهات النظر الجماعية للشعوب‬
‫األفريقية المتنوعة كشكل موحد من المعرفة يقوم على األساطير والفلكلور واألمثال‪ .‬تفترض هذه النظرية‬
‫أن الفلسفة األفريقية تختلف هيكلا ومنهجا ا عن الفلسفة الغربية‪ ،‬وهي تعتبر مجموعة من الطقوس‬
‫والمعتقدات والمثل العليا المتضمنة في لغة الشعوب األفريقية‪ ،‬فمثلا يعتقد بلسيد تيمبلز وأليكسيس‬
‫كاغامي أ ن الفئات اللغوية لشعب البانتو تعكس تصنيفات الميتافيزيقا والتي بدورها تشكل وجهة نظر عن‬
‫الواقع (‪ .)Francis E.A., 2012, P.155‬لقد تم توجيه النقد لهذه النظرية من العديد من الفلسفة األفارقة‬
‫من بينهم بولين هاونتدوجي ‪ ،)*(Paulin Hountondji‬وبخلف النقد الموجه للفلسفة االثنية يعتبر عمل‬
‫الشيخ أنتا ديوب من أفضل أعمال الفلسفة العرقية ولكنه يقدم القليل من األدلة على أن الفلسفة المصرية‬
‫هي مجرد فلسفة شعبية منهجية ولكنها غير نقدية إلى حد ما وال يقدم أي حجة على أن اإلشكالية المصرية‬
‫هي تلك الخاصة باألفارقة المعاصرين‪ ،‬ال ينكر أحد وجهة نظر ديوب الحماسية التي يهاجم بها ادعاءات‬
‫المركزية األوروبية‪ ،‬ومع ذلك فإن التحيزات التي عمل في ظلها كانت حول موقع مهد الحضارة‪،‬‬
‫واألحكام المسبقة حول أولوية الثقافة ال تسمح لمساهمته باالرتفاع إلى ما هو أبعد من السرد النظامي‬
‫المضاد ألوروبا‪ ،‬فهي مفيدة ألغراضها‪ ،‬لكنها ليست فلسفة‪ ،‬وإذا كان عمل ديوب يمثل أفضل ما في‬
‫الفلسفة العرقية فإن بقية الفلسفة العرقية يجب اعتبارها معيبة للغاية(‪ .)Imbo, S., 1998, P.68‬ومن الجدير‬
‫بالذكر هنا إنه على الرغم من النقض الذي طال الفلسفة االثنية إال أنه نجد كل من توجه بالنقد إليها قد‬
‫استثني واثني على الشيخ أنتا ديوب باعتباره مقدما َ لعملا مختلفا ا ذات قيمة فكرية وفلسفية عالية ويكاد‬
‫يكون هناك إجماع بين النقاد على ذلك ‪ ،‬وأن ذلك يدل على مدى أهمية الفكر واألثر الذي تركه الشيخ أنتا‬
‫ديوب في الفكر والواقع األفريقي‪.‬‬

‫(*) بولين هاونتودجي فيلسوف من بنين وكوت ديفوار‪ ،‬ولد في ‪ 11‬ابريل ‪ ،1942‬سياسي واستاذ جامعي وكاتب وفنان‪،‬‬
‫يتحدث الفرنسية‪ ،‬حصل على جائزة االمير كلوس‪ ،‬أشهر مؤلفاته الفلسفة األفريقية ‪ 1976‬والنضال من اجل المعني‬
‫‪ ،2002‬مازال على قيد الحياة ويبلغ من العمر ثمانون عاماا‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫الفلسفة الحترافية (األكاديمية)‪:‬‬

‫وتشمل أ عمال وكتابات األفارقة السود في الشتات الذين تم تدريبهم في جامعات أوروبا وأمريكا‪،‬‬
‫يرفض معظمهم الفلسفة العرقية كنهج لدراسة الفلسفة األفريقية‪ ،‬يعتقدون أن الفلسفة نظام عالمي وأنه لكي‬
‫يتم تصنيف أي عمل على أنه فلسفي يجب أن يفي بالمعايير المقبولة‪ ،‬منها أن تكون الفلسفة نقدية ومنطقية‬
‫وتعكس نفسها بنفسها (‪ .)Francis E.A., 2012, P.156‬متبني وجه النظر هذه هاونتوندجى وكواسي‬
‫وريدو ‪ )*( Kwasi Wiredu‬الذين جادال بأن الفلسفة التقليدية في أفريقيا ال ينبغي أن تؤخذ على أنها نموذج‬
‫للفلسفة األفريقية تماما ا كما ال يمكن اعتبار الفلسفة الغربية التقليدية كنموذج للفلسفة الغربية المعاصرة‪.‬‬
‫وتعتبر مساهمة هؤالء الفلسفة هائلة على جميع المستويات المنهجية واألسلوب واللغة والنقد في إنشاء‬
‫تاريخ مكتوب في الفلسفة األفريقية (‪.)Francis E.A., 2012, P.157‬‬

‫الحكمة الفلسفية‪:‬‬

‫ترجع هذه النظرية كما سبق وأشرنا إلى هنري اوديرا وهي نظام فكري قائم على حكمة األفراد‬
‫من الرجال والنساء األفارقة‪ ،‬جوهر هذه النظرية هو على الرغم من عدم وجود فلسفة محترفين بالمعنى‬
‫األكاديمي في أفريقيا التقليدية‪ ،‬إال أن ذلك لم يمنع من وجود رجال ونساء حكيمون يؤدون الوظائف‬
‫المرتبطة بالفلسفة‪ ،‬ومن ثم فمن الخطأ االدعاء بأن المجتمعات التقليدية األفريقية خالية من الفلسفة‬
‫(‪ .)Murungi, J., P.50‬تصر الحكمة الفلسفية على أنها تجاوزت الفلسفة العرقية بينما هي تحقق في‬
‫الواقع تعزيزا ا لمزاعم الفلسفة االثنية بأن الفلسفة االفريقية موجودة أي من خلل تحديد فلسفة أفارقة‬
‫مستقلين يطلق عليهم الحكماء‪ .‬الحكمة الفلسفية هي في األساس فلسفة ثقافية محتواها فلسفة عرقية‪.‬‬
‫(‪(Agada, 2019, p. 391‬‬

‫(*) ولد كواسي وريدو في كوماسي ‪ Kumasi‬في غانا في ‪ 3‬اكتوبر ‪ .2022 - 1931‬تلقي تعليمة الجامعي في كل من‬
‫جامعة غانا وليجون وجامعة اوكسفورد‪ .‬درس الفلسفة في جامعة غانا لمدة ‪ 23‬عاما ا‪ ،‬أصبح خللها اول رئيس لقسم‬
‫الفلسفة ثم أستاذاا‪ .‬وكان حتى وفاته مؤخرا ا أستاذا ا للفلسفة في جامعة جنوب فلوريدا‪ ،‬تامبا‪ ،‬فلوريدا‪ ،‬الواليات المتحدة‬
‫األمريكية‪ ،‬حيث قام بالتدريس منذ عام ‪ .1987‬وقد نشر مقاالت في الفلسفة والمنطق ونظرية المعرفة األفريقية‪ .‬وهو‬
‫أيضا ا مؤلف ومحرر للعديد من الكتب ومن أشهر مؤلفاته الفلسفة والثقافة األفريقية‪ .‬وقد شغل منصب أستاذ زائر في‬
‫جامعة كاليفورنيا لوس انجلوس (‪ ،)1980 – 1979‬جامعة إبادان‪ ،‬نيجيريا (‪ ،)1984‬جامعة ريشموند‪ ،‬فرجينيا‬
‫باعتباره أستاذ متميز (‪ ،)1985‬كلية كارلتون‪ ،‬مينيسوتا (‪ ،)1986‬جامعة ديوك نورث كارولينا (‪)1995 – 1994‬‬
‫و (‪ ).2001 -1999‬وقد حصل على زمالة في مركز وودرو ويلسون الدولي للباحثين (‪ )1985‬والمركز الوطني‬
‫للعلوم اإلنسانية في نورث كارولينا (‪ .)1986‬كان عضوا ا في لجنة مديري االتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية من‬
‫‪ 1983‬إلى ‪ ،1998‬ونائب رئيس المجلس االفريقي للفلسفة وأستاذ فخري بجامعة جنوب فلوريدا‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫الفلسفة القومية األيديولوجية‪:‬‬

‫هي ابتكار القوميين واأليديولوجيين األفارقة‪ ،‬ينظر إلى الفلسفة على أنها سلح في النضال ضد‬
‫االستعمار األوروبي واالستعمار الجديد واإلمبريالية‪ ،‬فهي تعود إلى النضال األفريقي ضد الغزو‬
‫األوروبي ألفريقيا‪ ،‬من أبرز أعلمها كوامي نكروما وفرانتز فانون‪ .‬تقوم هذه النظرية على افتراض‬
‫مسبق بأن الفلسفة األفريقية الحقيقية يجب أن تقوم على نظرية اجتماعية واضحة تحاول تفسير الظروف‬
‫األفريقية‪ .‬إن مهمة الفيلسوف األفريقي تكمن في اكتشاف وتدمير كل األفكار الخاطئة عن الشعوب‬
‫والثقافة األفريقية التي كرستها المنح الدراسية الغربية‪ ،‬فمهمته تكمن في تفكيك المجتمع العالمي وإعادة‬
‫بناء ما دمره اإلمبرياليون بطريقة تعزز هوية ووعي وثقافة األفريقي المهمش ( & ‪Mawere,M.,‬‬

‫‪.)Tapuwa R. P.70‬‬

‫المدرسة التأويلية‬

‫هي المدرسة الهيرمينوطيقية‪ ،‬وينصب تركيزها على أن أفضل مقاربة لدراسة الفلسفة األفريقية هو‬
‫من خلل تأويل التقاليد الشفهية‪ ،‬من أبرز أعضاء هذه المرسة ثيوفيلوي أوكيري‪ ،‬وأوكوند أوكولو‪،‬‬
‫اديموال فييمي كاظم‪ ،‬وينتمي أعضاء هذه المدرسة إلى الحركة األفرو بنائية في الحقبة الوسيطة‪( .‬موتازو‪،‬‬

‫ليوباترا‪ ،2022 ،‬ص ‪ .)23-22‬فإن المشروع التأويلي يفضل نهج الظواهر في الفلسفة‪ .‬يتجاوز علم التأويل‬
‫مجرد التحليلت اللغوية ويسعى لفهم اإلنسان بشكل أفضل من خلل الفحص الدقيق لتجربته ووضعه‬
‫التاريخي‪ .‬يشمل التأويل تفسير النصوص وتوسيع إجراءات التفسير لتشمل العوامل االجتماعية‬
‫والتاريخية واالقتصادية مثل االستعمار واالستعمار الجديد والنضال الطبقي وما إلى ذلك يعتقد المفكرون‬
‫التأويليون أن الثقافة األفريقية يمكن أن تنتج معرفة فلسفية عندما تخضع للتدقيق النقدي الكافي‪ .‬ولكن على‬
‫النقيض من الفلسفة العرقيين فإنهم يصرون على أن الفلسفة المستخلصة من البيانات األولية للظواهر‬
‫الثقافية ال يمكن أن تنسب بأي حال من األحوال إلى القبيلة بل هي تفسير المفكر الفردي لمجتمعه‪.‬‬
‫(‪)Agada, 2019, p. 395‬‬

‫مما سبق يتضح أن أعمال الفلسفة األفارقة لم تكتفي فقط إلثبات وجود أفريقيا ولكن إلظهار أن‬
‫الفلسفة األفريقية هي فلسفة مساوية للفلسفات األخرى في العالم‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫إذا كانت الدهشة هي نقطة انطلق النشاط الفلسفي اليوناني وأن الدهشة هي أساس الفعل الفلسفي‬
‫(*)‬
‫التي كانت نقطة انطلق للفلسفة األفريقية ال تقل قيمة عن فعل‬ ‫في المنظور الغربي‪ ،‬فإن الصدمة‬
‫الدهشة في الفلسفة الغربية‪ .‬وجدير أن يذكر أن الحكمة الفلسفية في أفريقيا قديمة قدم الوجود البشري ذلك‬
‫ألن الفلسفة هبة منحت لجميع البشر على األرض بحكم قدرتهم على التفكير التجريدي والعقل‪ ،‬ومن ثم‬
‫يوجد في القارة تاريخ فلسفي متنوع ومثير للهتمام‪ .‬إن التطور الحضاري في أفريقيا كان به تطور فكري‬
‫يمكن اعتباره أشبه بالفلسفة وتمهد لها وكانت الحضارة المصرية القديمة نقطة البداية ثم ظهر أيضا ا في‬
‫الحضارة اإلسلمية من فلسفة أيضا ا ظهرت في البلدان األفريقية غير اإلسلمية فلسفات وهذا يفيد أن‬
‫أفريقيا لم تكن خالي ة من البعد الفكري والفلسفة بصفة خاصة في الفترة التي خضعت فيها البلدان األفريقية‬
‫للهيمنة الخارجية‪ ،‬وهذا يدل على أن العقل األفريقي كان في وضع الصيرورة في التفكير الفلسفي حتى‬
‫وغن تخلل التاريخ فترات انقطاع إال أنه ما زال ينتج الفكر الفلسفي في إطار مسؤولية المساهمة في‬
‫التفكير في القضايا المطروحة على الفلسفة اليوم وفي تقديم مساهمة ذات فائدة بالنسبة لإلنسانية اليوم‬
‫بصفة عامة‪ ،‬ومن ثم ال يكون بداية الكوجيتو األفريقي انطلقا ا من تراثه الخاص بل من التراث اإلنساني‬
‫ككل حتى تكون المساهمة األفريقية في الفلسفة ذات قيمة كونية(وقيدي‪ ،‬محمد‪.)2006 ،‬‬

‫وفي الختام البد من اإلشارة إلى أن النقاش حول الفلسفة األفريقية تاريخيا ا يرتبط بحدثين الخطاب‬
‫الغربي حول أفريقيا واالستجابة األفريقية لها‪ ،‬وقد بات اآلن السؤال حول وجود فلسفة أفريقية من عدم‬
‫وجود سؤال فارغ من المعنى وفقا ا لما تقدم من القول‪.‬‬

‫(*) ان رد تبلور الفكر والعقل الفلسفي في أفريقيا إلى حاله الصدمة الناشئة عن االستعمار قد يضعنا امام التصور الذي‬
‫ارسي الغرب قواعده من ان تلك الشعوب لم يكن لديها لحظة ابداع او تأمل او تراث يمكن البناء عليه وهذا ما يجعل‬
‫ما يتم إنتاجه االن أيا ا كان تصنيفه مجرد رد فعل يخلو من األصالة ‪ ،‬لكن هذا اللبس يمكن ازالته اذا اعتبرنا الصدمة‬
‫احد اسباب التأمل الفلسفي الحديثة في أفريقيا وان الفلسفة األفريقية لم تكن وليده عصر االستعمار فقط بل ان هناك‬
‫تراث فلسفي افريقي قديم قدم الفلسفة المصرية القديمة وهي فلسفة تأملية ليس لها علقة بالصدمة ولكنها نابعه من‬
‫حب الحكمة‪ ،‬وان كانت الفلسفة األفريقية الحديثة ناشئة عن الصدمة فإن ذلك وان كان رد فعل ناتج عن االستعمار‬
‫فإنه رد فعل نابع عن اصاله العقل االفريقي وقدرته على التفلسف وان اختلفت المنطلقات واالهداف‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫الفصل األول‬

‫العرق والعنصرية من منظور كالً من الشيخ أنتا ديوب‬


‫وأشيل مبيمبي‬

‫أوال ً‪ :‬حول نشأة وظروف عصر كالً من الشيخ أنتا ديوب وأشيل مبيمبي‬

‫ثانيا ً‪ :‬الحضارة والثقافة والعرق والعنصرية وعالقتهما بالهوية األفريقية‬

‫ثالثا ً‪ :‬العرق والعنصرية من منظور الدراسات ما بعد االستعمارية‬

‫‪12‬‬
‫أولا‪ :‬حول نشأة وظروف عصر كلا من الشيخ أنتا ديوب وأشيل مبيمبي‬

‫يعتبر الشيخ أنتا ديوب )‪ )1986 - 1923 Cheikh Anta Diop‬من أعظم العلماء الذين‬
‫ظهروا في العالم األفريقي في القرن العشرين (‪ .)Diop,C., 1991, P.10‬فقد كان عالم جامع للعديد من‬
‫المعارف والعلوم المختلفة‪ ،‬صنف أنثروبولوجي وعالم فيزيائي وفيلسوف وسياسي حتى استحق بجداره‬
‫لقب فرعون المعرفة‪ ،‬كما صنف كأحد أبرز المفكرين المدافعين عن القارة السمراء وعن حضارتها‬
‫وثقافتها الزنجية‪ .‬فقد كرس طاقته طيلة حياته نحو دراسة تاريخ القارة األفريقية في رحلة البحث عن‬
‫الجذور التاريخية وعن وجود الذات األفريقية وتأثيرها في حركة التاريخ من خلل أعرق حضارة وهي‬
‫الحضارة المصرية القديمة‪ .‬لقد كان ديوب محبا ا ألفريقيا والنتمائه لها‪ ،‬كما كان يشعر بقيمة وعظمة ما‬
‫قدمته أفريقيا للحضارة اإلنسانية‪ .‬من هو إذن الشيخ أنتا ديوب؟ وما هي ظروف عصره؟ وما المنطلقات‬
‫الفكرية التي انطلق منها في دراسته؟ وما هي أهم األهداف التي سعيا إليها؟‬

‫أولا‪ :‬المولد والنشأة‪:‬‬

‫ولد أنتا ديوب في ‪ 23‬ديسمبر ‪ 1923‬في قرية ‪(Caytou‬كايتو) والتي تقع بمنطقة ‪Diourbel‬‬
‫(ديوربيل)‪ ،‬في غرب السنغال (‪ ،)Sertima, I., 1986, P.7‬والتي تبعد ‪ 150‬كيلومترا عن عاصمة‬
‫السنغال ‪( Dakar‬داكار) (الحاوي‪ ،‬ناصر‪ ،2012 ،‬ص‪ .)2‬مسقط رأسه لديه تقليد طويل في إنتاج العلماء‬
‫المسلمين والمؤرخين الشفويين (‪ .)Diop,C., 1991, P.10‬وكان ينتمي لعائلة أرستقراطية مسلمة كما كانت‬
‫عائلته جز اءا من جماعة مريد‪ ،‬وهي الجماعة المسلمة الوحيدة المستقلة في أفريقيا‪ ،‬بعد والدة ديوب بقليل‬
‫توفي والده ليتركه ألمه التي تولت رعايته‪ .‬تزوج ديوب من امرأة فرنسية تدعي (ماري لويزمايس)‬
‫ورزق منها بأربعة من األبناء‪ ،‬وتوفي في ‪ 7‬من فبراير ‪ 1986‬وقد تم دفنه في قريته كايتو بنا اء على‬
‫رغبته‪ .‬تلقي ديوب تعلي مه االبتدائي والثانوي في السنغال‪ ،‬وخلل دراساته في المدرسة الثانوية كان يدافع‬
‫عن اللغة األفريقية‪ ،‬كما طالب بصياغة التاريخ السنغالي باللغة األفريقية‪ ،‬وفي تلك الفترة ظهرت أفكاره‬
‫األولى حول مشروعه عن النهضة الثقافية واالستقلل السياسي ألفريقيا السوداء (الحاوي‪ ،‬ناصر‪،2012 ،‬‬

‫ص‪ .)2‬إن إجادته للغة العربية وتعلمة القرآن جعلته على دراية بالثقافات األفريقية والعربية واإلسلمية‪،‬‬
‫مما كان له بالغ األثر على عطائه الفكري وإسهاماته األدبية (محمد‪ ،‬سمر‪ .)2019 ،‬ثم انتقل إلى باريس‬
‫لمتابعة دراسته الجامعية في الرياضيات والفيزياء وعلم اآلثار وعلم االجتماع واللغويات والتاريخ القديم‬
‫وما قبل التاريخ (‪ .)Warrington, M., 2007, P.74‬في عام ‪ 1949‬قدم أنتا ديوب أطروحة للحصول‬

‫‪13‬‬
‫على درجة الدكتوراه في اآلداب من جامعة السربون‪ ،‬وكانت تحت عنوان (مستقبل الثقافة في الفكر‬
‫األفريقي)‪ ،‬تحت إشراف البروفسير جاستون باشلر ‪ Gaston Bachelard‬وقد قوبلت أطروحته‬
‫بالرفض لكونها مناقضة لتلك األفكار التي سعي الغرب دوما ا لترويجيها (الحاوي‪ ،‬ناصر‪ ،2012 ،‬ص‪.)3‬‬

‫تستند أطروحة ديوب المقدمة للدكتوراه على فرضية أن الحضارة المصرية حضارة أفريقية‬
‫زنجية سوداء‪ ،‬وهي تلك الفرضية التي ظل أنتا ديوب مدافعا ا عنها حتى حصوله على درجة الدكتوراه في‬
‫عام ‪(1961‬محمد‪ ،‬سمر‪ .)2016 ،‬كانت دراسة ديوب للتاريخ األفريقي لتعريفة بأفريقيا االجتماعية‬
‫والسياسية والتراث االقتصادي وكذلك لتحسين فهمه لجذور االستعمار ألفريقيا‪ .‬وهذه المعرفة كانت‬
‫حيوية بالنسبة له للمشاركة بقوة في تحرير األفارقة من االستعمار (‪ ،)Nkhoma, B., 2006, P.108‬فقد‬
‫كتب في مقدمة كتابه (األصل األفريقي للحضارة أسطورة أم حقيقية) قائلا " بدأت بحثي في‬
‫سبتمبر‪ ،1946‬بسبب وضعنا االستعماري في ذلك الوقت‪ ،‬سيطرت المشكلة السياسية على كل المشاكل‬
‫األخرى‪ .‬فقد كان قانون الفصل العنصري يمر بأزمة‪ .‬فقد شعرت بأنه يجب على أفريقيا أن تحشد كل‬
‫طاقتها لمساعدة الحركة على قلب تيار القمع"(‪ .)Diop, C., 1974, P.1‬وكان ذلك من خلل االنضمام إلى‬
‫الحركة الطلبية للتجمع الديمقراطي األفريقي )‪ )RDA‬والتي شغل فيها منصب األمين العام بين عامي‬
‫‪ .1953 , 1950‬وفي عام ‪ 1960‬عاد أنتا ديوب إلى السنغال‪ ،‬والتي أصبحت مستقلة ثم أسس الحزب‬
‫الوطني السنغالي عام ‪ ،1964‬والحزب الوطني الديمقراطي في عام ‪Nkhoma, B., 2006, (1974‬‬
‫‪.)P.108‬‬

‫عاش ديوب وقد كانت بلده تحت وطأة االستعمار الفرنسي‪ ،‬والذي قد وضع يده على مناطق‬
‫شاسعة في القارة األفريقية‪ ،‬شملت في شمال القارة الجزائر وتونس والمغرب‪ ،‬وفي غرب أفريقية السنغال‬
‫وموريتانيا‪ ،‬السودان الفرنسي‪ ،‬غينيا الفرنسية‪ ،‬ساحل العاج‪ ،‬فولتا العليا‪ ،‬داهومي‪ ،‬النيجر‪ ،‬وأفريقيا‬
‫االستوائية وشملت تشاد‪ ،‬أفريقيا الوسطى‪ ،‬الكاميرون‪ ،‬الكونغو الفرنسية والجابون‪ ،‬كما ضمت بعد هزيمة‬
‫ألمانيا في الحرب العالمية األولى القسم الشرقي من الكاميرون‪ ،‬القسم الغربي من توجو‪ ،‬وفي شرق القارة‬
‫الصومال الفرنسي وجزيرة مدغشقر(الجمل‪ ،‬شوقي‪ ،2009 ،‬ص‪ .)200‬وفي عام ‪1626‬م أسس الفرنسيون‬
‫مستعمرة لهم عند مصب نهر السنغال‪ ،‬وفي عام ‪ 1659‬م‪ ،‬أقام الفرنسيين حصن سان لويس‪ ،‬وبعد‬
‫عشرين عاما ا أصبحت كل شواطئ السنغال بأيدي فرنسا‪ .‬كان األوربيون ينشئون مراكز تجارية على‬
‫سواحل غرب أفريقيا‪ ،‬وقد اقتصر نشاط هذه المراكز على تجارة العبيد فقط‪ ،‬وعندما الغي الرق تضاءلت‬
‫أهمية هذه المراكز‪ ،‬بل انعدمت أهميتها (هريدي‪ ،‬فرغلي‪ ،2008 ،‬ص‪ .)166‬وعندما تولى نابليون حكم‬
‫فرنسا عام ‪ 1848‬م وضع مشروعا ا للتوسع داخل السنغال‪ ،‬فعين الجنرال (فادهرب) حاكما ا على‬
‫السنغال‪ ،‬وقد اشتبك مع األهالي بحروب دامية استمرت عدة سنوات وقد انتهت بتوطيد السيادة الفرنسية‬

‫‪14‬‬
‫على السنغال ووضع حجر األساس في اإلمبراطورية الفرنسية في أفريقيا الغربية‪ ،‬كما استخدمت السنغال‬
‫كقاعدة للعمليات الحربية للستعمار الفرنسي (شاكر‪ ،‬محمود‪ ،1971 ،‬ص‪ .)63 ،62‬لقد كانت أفريقية‬
‫الفرنسية وحدة واحدة يرأسها حاكم عام يقيم في داكار وقسمت المستعمرة إلى سبع مستعمرات‪ .‬وحاكم كل‬
‫مستعمرة مسؤول عن شئونها أمام الحاكم العام المقيم في داكار وهو مسؤول بدوره أمام وزير‬
‫المستعمرات (رياض‪ ،‬زاهر‪ ،1965 ،‬ص‪.)172‬‬

‫ومن الجانب االجتماعي فقد كان الفرنسيون يتبعون سياسة التفرقة العنصرية‪ ،‬وكان يفضلون‬
‫األبيض على األسود فقد كانوا يحتقرون السنغاليين ويشعرونهم أنهم أقل ذكاء من غيرهم (شاكر‪ ،‬محمود‪،‬‬

‫‪ ،1971‬ص‪ .)70‬أما في مجال العلم والمعرفة فقد عمد الفرنسيون على إبقاء الشعب في جهل تام‪ .‬لقد عمد‬
‫المستعمر إلى تعطيل التكنولوجيا األفريقية‪ ،‬فقد كانوا يشككون ويحاربون الممارسات العلمية‬
‫والتكنولوجية القائمة كما كانوا يستولون على بعض األفكار ويطورونها في إطار العلم الغربي‪ .‬وقد اتبعوا‬
‫عدة خطوات لتعطيل أي تقدم في أفريقيا وهذه العوامل هي على التوالي‪:‬‬

‫‪ .1‬المدرسة وهي من أهم العوامل التي استخدمها االستعمار‪ .‬فقد ارتبط التعليم المدرسي بتعزيز الدين‬
‫بدالا من نشر العلم فكانت العديد من المدارس في واقع األمر مدارس تبشيرية مسيحية‪.‬‬
‫‪ .2‬إلى جانب العامل التبشيري أيضا ا كان التوجه األدبي هو االتجاه العام في المدارس االستعمارية‪ ،‬فكان‬
‫األدباء الغربيون نماذج يحتذى بها لدي تلميذ المدارس االستعمارية بدالا من العلماء‪.‬‬
‫‪ .3‬أما العامل الثالث فتمثل في غياب وفقدان الذاكرة‪ ،‬فقد تم وضع مقررات دراسية ترفض االعتراف‬
‫بحضارة مصر القديمة باعتبارها حضارة أفريقية‪ ،‬ناهيك عن كونها حضارة زنجية‪ .‬فلم يكن هناك‬
‫أحد في المدارس االستعمارية يجرؤ على افتراض أن األفارقة قد حاولوا عبور المحيط األطلسي قبل‬
‫كولومبس بقرون‪ .‬مما أدى ذلك إلى أن أبناء القارة السمراء ينسون أنهم أصحاب منجزات علمية بل‬
‫أنساهم أنهم أصحاب حضارة أيضا ا‪.‬‬
‫‪ .4‬إلى جانب العوامل السابقة فقد اتبع المستعمر سياسة التهدئة خاصة في النصف األول من القرن‬
‫العشرين‪ ،‬فكانت السياسات القائمة تنزع من الرعايا المستعمرين الثقة‪ ،‬فكان ينظر إلى المبتكرين على‬
‫إنهم ذو نعمة حديثة‪ ،‬ومن يناقش الحكام متمردون‪ ،‬وإلى الثقة بالنفس خدعة ( ‪Mazrui, A., 1993,‬‬

‫‪.)P.640-643‬‬

‫لم يقف السنغاليون مكتوفي األيدي أمام تلك الممارسات االستعمارية بل كانت هناك تحركات‬
‫مطالبة بالمساواة والكرامة وإلى سيطرة السنغاليين على شئون اإلدارة والمؤسسات البلدية‪ ،‬كما كتبت في‬
‫الصحف الفرنسية والسنغالية عدة مقاالت تنتقد سوء إدارة االستعمار (بواهن‪ ،‬أزادو‪ ،1990 ،‬ص‪ .)649‬لقد‬

‫‪15‬‬
‫حاولت فرنسا أن تقضي تماما ا على كل علقة لألفريقي بثقافته أو ماضيه أو لغته وعمدت إلى فرنسة‬
‫المستعمرات فرنسة كاملة‪ .‬لقد تركت فرنسا آثارا ا عميقة في مستعمراتها‪ ،‬وقد ظهرت هذه اآلثار فيما بعد‬
‫(الجمل‪ ،‬شوقي‪ ،2009 ،‬ص‪ .)202‬ولم تكن فرنسا وحدها من قامت بمثل تلك الممارسات‪ ،‬بل كانت أوروبا‬
‫بأكملها‪ ،‬فمنذ إن سيطرة أوروبا على القارة األفريقية بدا اء بحركة الكشوفات الجغرافية في أواخر القرن‬
‫الخامس عشر‪ ،‬فقد تميزت الفترة الممتدة بين القرنين السادس عشر والثامن عشر بقمع وقهر وحشي‬
‫للشعوب األفريقية من قبل األوروبيين الطامعين ولم يقتصر األوربيون على االستعمار فقط ألفريقيا بل‬
‫عمدوا إلى تحويل اإلنسان األفريقي إلى سلعة تباع وتشتري في أسواق اقتصادية‪ ،‬وكان يمارس هذا األمر‬
‫تحت ستار إدخال الحضارة والمدنية ألفريقيا‪ .‬وقد نتج عن تلك الممارسات هدم مقومات حضارات القارة‬
‫األفريقية ومنعها من التطور الطبيعي على أسس أفريقية (دياب‪ ،‬أحمد‪ ،1989 ،‬ص‪.)48‬‬

‫وجد الوطنيون حضارتهم وتاريخهم وثقافتهم قد محيت تماما ا وأن عليهم عبئا ا ضخما ا إلحياء هذه‬
‫الحضارة وإلعادة بناء المجتمع والجيل الجديد ليستوعب حضارته ويستعيد ماضية ولتستقيم لغته الوطنية‬
‫التي أهمل استخدامها طوال العصر االستعماري (الجمل‪ ،‬شوقي‪ ،2009 ،‬ص‪ .)202‬حيث طغى التاريخ‬
‫االستعماري على األصالة األفريقية‪ ،‬وطبعها بطابع مختلف عنها‪ ،‬منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى‬
‫أوائل الستينيات من القرن العشرين‪ .‬إال أنه لم يستطع القضاء على ما فيها من أصالة وجذور‪ ،‬فقد أخذت‬
‫البلدان المستقلة تحن إلى جذورها القديمة لتكشف عن حقيقتها األفريقية‪ ،‬التي يجب أن تعود كما كانت‪،‬‬
‫لترسم لنفسها طريقا ا غير الذي أراده االستعمار لها (ركوز‪ ،‬يوسف‪ ،1986 ،‬ص‪.)12‬‬

‫ينتمي الشيخ أنتا ديوب إلى التيار الثقافي (العرقي) (‪ .)Imbo, S., 1998, P.57‬إن التزم أنتا ديوب‬
‫في بحوثه بإثبات أن الحضارة المصرية القديمة لم تكن أفريقية فقط‪ ،‬بل أيضا ا كانت حضارة سوداء‪ ،‬أدى‬
‫ذلك إلى تشكيل مدرسة فكرية ذات تأثير كبير ليس في أفريقيا فقط‪ ،‬بل أيضا ا في الشتات األفريقي في‬
‫األميركيتين‪ ،‬ويمكن تسمية هذه المدرسة في الفكر الفلسفي األفريقي باسم مدرسة التمجيد الرومانسية‪،‬‬
‫وذلك لسعيها دائما ا إلى تأكيد اللحظات العظيمة في تاريخ أفريقيا‪ ،‬كما تسعى إلى تأكيد دور أفريقيا في‬
‫تاريخ العلم والتقدم (‪.)Mazrui, A., 1993, P.670‬‬

‫السياق الحضاري للشيخ أنتا ديوب‪:‬‬

‫هو أحد رواد تيار الزنوجة الذي يتصدى لمشكلة ثقافة االستيعاب الفرنسية ورفض كل أشكال‬
‫التمييز ضد السود ال سيما التمييز الحضاري والثقافي‪ .‬ورغم انتماءه إلى أكثر من سياق حضاري وثقافي‪،‬‬
‫سواء كان سياق حضاري إسلمي وكذلك سياق حضاري أوروبي غربي‪ ،‬أو حتى سياق حضاري وطني‬

‫‪16‬‬
‫ثوري‪ ،‬فإن انتمائه إلى سياقات حضارية مختلفة بالغ األثر في اعتقاده بعدد من المنطلقات الفكرية أهمها‬
‫إنه ال يوجد استقلالا سياسيا ا دون استقلل حضاري وثقافي (محمد‪ ،‬سمر‪.)2016 ،‬‬

‫المنطلقات المنهجية والفكرية واألهداف‪:‬‬

‫وقد اعتمد ديوب في منهاجيته على المقارنة التاريخية الوصفية بين أفريقيا وأوروبا من حيث‬
‫الماضي والحاضر‪ ،‬لذلك كانت فكرته األساسية في أعماله هي التأكيد على أن الحضارة المصرية‪،‬‬
‫حضارة زنجية‪ .‬وفي الواقع أن المنهج المقارن الذي اعتمده أنتا ديوب لم يقتصر فقط على المقارنة بين‬
‫أفريقيا وأوروبا‪ ،‬بل امتد أيضا ا للمقارنة بين مصر وأثيوبيا والنوبة لتوضيح مدى التطابق الثقافي بينهما‬
‫وهي بلد تنتمي إلى القارة األفريقية‪ .‬وقد انطلق ديوب من عدة منطلقات فكرية أساسية أهمها‪:‬‬

‫‪ .1‬إعادة البناء العلمي لتاريخ أفريقيا والبحث في تطور المجتمعات؛ حيث قاما بوضع إطار تحليلي‬
‫لتاريخ أفريقيا مرتكزا ا على تطور الشعوب األفريقية المختلفة مثل شعوب مصر‪ ،‬غانا‪ ،‬مالي‪،‬‬
‫الكونغو‪ ،‬زيمبابوي‪ ،‬وهي شعوب ذات تاريخ ثقافي موحد‪ .‬كما قاما ديوب بدراسة تطور المجتمعات‬
‫من خلل تحليل النموذج القديم للنظام االجتماعي وربطه بجغرافيا كل من قارة أفريقيا وأوروبا‪،‬‬
‫وملمح التكوين السياسي واالجتماعي لقارة أفريقيا وأوروبا في فترة قبل االستعمار وتطورها‪.‬‬
‫‪ .2‬أيضا ا تحديد العلقة بين أفريقيا السوداء ومصر؛ من خلل التأكيد على إعادة تعريف مكانة مصر في‬
‫التاريخ األفريقي بشكل خاص وفي التاريخ العلمي‪ ،‬وقد قاما ديوب بدراسة الحضارة المصرية‬
‫وربطها بالحضارة األفريقية من خلل عدة محاور‪ ،‬مثل تكوين الحضارة المصرية وحضارة النوبة‪،‬‬
‫العلقات اللغوية بين كل من مصر القديمة والحضارة األفريقية‪ ،‬باإلضافة إلى المقارنة بين العلقات‬
‫الثقافية والتكوين السياسي واالجتماعي بين مصر القديمة والحضارة األفريقية‪ ،‬انطلقا ا من فكرة‬
‫مصر القديمة جزء من العالم الزنجي‪ .‬مستخدما ا في ذلك العلوم المختلفة من لغويات واجتماع وفلسفة‬
‫وتاريخ‪ ،‬مؤكدا ا على أن مصر القديمة كانت أمة أفريقية وليست جزءا ا من أي قارة أخرى من النواحي‬
‫التاريخية والثقافية (محمد‪ ،‬سمر‪.)2019 ،‬‬
‫‪ .3‬إسهام أفريقيا في الحضارة اإلنسانية؛ حيث أكد أنتا ديوب أن لكل أمه ولكل قارة خصوصية ثقافية‬
‫وسمات خاصة ومن ثم رفض الذوبان واالنصهار في إطار ثقافة عالمية وتبعا ا لذلك رفض العولمة‬
‫(الحاوي‪ ،‬ناصر‪ ،2012 ،‬ص‪ ،)11‬كما أن أفريقيا ساهمت في العديد من المجاالت في الحضارة اإلنسانية‬
‫مثل األدب والفنون والفلسفة والعلوم المختلفة من طب وفلك ورياضيات وفي ذلك إشارة ضمنية لما‬
‫قدمته مصر القديمة في تلك المجاالت والتي من وجهة نظره موروث أفريقي زنجي‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫‪ .4‬بناء التقدم االقتصادي والعلمي في القارة؛ حيث أكد على أنه البد من االهتمام بالنظم السياسية‬
‫والتعليمية والنظم التكنولوجيا الحديثة في تطوير األبحاث العلمية‪ ،‬والعمل على تكوين دولة فيدرالية‬
‫ديمقراطية‪ ،‬لكي يتم بناء قارة أفريقية حديثة (محمد‪ ،‬سمر‪ .)2016 ،‬لقد سعي الشيخ أنتا ديوب إلى إعادة‬
‫االعتبار للتاريخ األفريقي‪ ،‬والثقافة األفريقية والشخصية األفريقية عموماا‪ .‬وذلك من خلل إثبات أن‬
‫التاريخ األفريقي والثقافة األفريقية ال تقل قيمة عن نظيرتها األوروبية‪ ،‬ومن ثم يجب مساواة التاريخ‬
‫األفريقي بالتاريخ األوروبي‪ ،‬والثقافة األفريقية بالثقافة األوروبية‪ .‬كما كان هدفه أيضا ا إثبات تفوق‬
‫وسمو التاريخ والثقافة األفريقية على نظيرهما في أوروبا‪ ،‬حيث إثبات سبق الحضارة األفريقية‬
‫وفضلها على التاريخ والثقافة األوروبية‪ .‬ولتحقيق تلك األهداف البد من االستقلل الثقافي والحضاري‬
‫بجانب االستقلل السياسي‪ ،‬وهو ما سعي إليه ديوب‪ ،‬حيث االفتخار بمجد الماضي‪ ،‬واالفتخار بكل ما‬
‫هو أفريقي (الحاوي‪ ،‬ناصر‪ ،2012 ،‬ص‪.)11‬‬

‫أهم مؤلفات الشيخ أنتا ديوب‪:‬‬

‫‪The African Origin Of Civilization 1974‬‬ ‫‪ -1‬األصل األفريقي للحضارة‬

‫يدور هذا الكتاب حول فكرة زنجية الحضارة المصرية القديمة وذلك من خلل تقديم األدلة‬
‫والبراهين األنثروبولوجية والتاريخية‪ ،‬وهي فكرة رسالة الدكتورة التي تقدم بها الشيخ أنتا ديوب وتم‬
‫رفضها في بادئ األمر إلى أن تم قبول أطروحته ومنحه درجة الدكتوراه‪ ،‬وقد ناقش الكتاب أصل‬
‫المصريين موضحا ا التزوير الحديث للتاريخ كما ناقش التشابه الثقافي والحضاري بين مصر القديمة‬
‫وغيرها من األمم األفريقية وأيضا َ ناقش حجج المؤيدين والمعارضين حول األصل الزنجي للحضارة‬
‫المصرية القديمة ثم ينتهي بمناقشة إسهامات النوبة ومصر في الحضارة اإلنسانية‪.‬‬

‫‪ -2‬أفريقيا السوداء قبل الستعمار ‪Precoloned Black Africa 1960‬‬

‫وتدور فكرة هذا الكتاب عن مقارنة النظم االجتماعية والسياسية ألوروبا وأفريقيا منذ العصر‬
‫القديم وحتى الدولة الحديثة‪ ،‬موضحا ا أوجه االختلف بين أفريقيا وأوروبا من حيث التنظيم السياسي‬
‫والذي يقوم في أفريقيا على النظام األمومي في حين يكون النظام في أوروبا على النظام األبوي‪ ،‬وهو ما‬
‫أوضحه الشيخ أنتا ديوب بما يسمي نظرية المهدين‪ ،‬حيث يرى أن المهد الجنوبي والذي يمثل أفريقيا‬
‫السوداء هو األول واألصل في إنشاء الحضارة واإلعلء من شأن القيم األخلقية وذلك على عكس المهد‬
‫الشمالي والذي يتسم بالوحشية والهمجية‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫‪ -3‬الوحدة الثقافية ألفريقيا السوداء ‪The Cultural Unity of Negro Africa 1962/ 1989‬‬

‫وتدور فكرة الكتاب حول وجود وحدة ثقافية مشتركة ألفريقيا السوداء مثل فكرة الملكية‬
‫والطوطمية والختان والنظام األمومي ونشأة الكون‪ ،‬وهي سمات مشتركة بين مصر وغيرها من البلدان‬
‫األفريقية األخرى‪ ،‬وهي أيضا ا سمات تدل على فكرة ديوب الرئيسية وهي زنجية مصر الفرعونية‪ ،‬كما أن‬
‫هذه الوحدة الثقافية ألفريقيا السوداء لها مساهمة عميقة في المخزون العالمي للمعرفة‪.‬‬

‫‪ -4‬حضارة أم همجية ‪Civilization or Barbarism 1981‬‬

‫تدور فكرة هذا الكتاب عن أسبقية الثقافة األفريقية من خلل العديد من اإلنجازات الثقافية‪ ،‬فقد‬
‫ناقش الكتاب عصور ما قبل التاريخ من حيث أصل التمايز العرقي واإلنساني‪ ،‬مع مراجعة نقدية ألحدث‬
‫األطروحات حول أصل اإلنسان‪ ،‬وأحدث االكتشافات حول أصل الحضارة المصرية‪ ،‬كما ناقش القوانين‬
‫التي تحكم تطور المجتمعات والتنظيمات العشائرية والقبلية‪ ،‬كما ناقش خصائص الهياكل األفريقية‬
‫السياسية واالجتماعية وتأثيرها على الحركة التاريخية مع كيفية تحديد الهوية الثقافية باإلضافة إلى‬
‫مساهمة أفريقيا في العلوم اإلنسانية والفلسفة‪.‬‬

‫‪ -5‬أفريقيا السوداء األساس القتصادي والثقافي لدولة فيدرالية ‪1978‬‬

‫‪Black Africa: The Economic and Cultural Basis for A federated‬‬


‫‪state1978‬‬

‫وتدور فكرة الكتاب حول قدرة الموارد االقتصادية والثقافية على تكوين قارة أفريقية موحدة‪،‬‬
‫فأفريقيا مركزا ا حضاريا ا رغم فترة االستعمار‪ ،‬وأن الثورة األفريقية ال يمكن تحقيقها إال بإعادة بناء‬
‫التاريخ األفريقي والذي يبدأ من مصر‪ ،‬لنتمكن من القضاء على التخلف التقني‪ .‬كما ربط ديوب التخلف‬
‫باالستعمار الثقافي وسيطرة اللغات األجنبية على األفارقة‪ .‬وكان هذا الكتاب رد على أطروحة سينغور‬
‫المتمثلة في الزنوجة وأن مستقبل أفريقيا مرهون بالتوحد مع الفرنكفونية‪ ،‬والتي ربطها ديوب بالسيطرة‬
‫االستعمارية االقتصادية‪ .‬وملخص الكتاب أن األفارقة لن يتحقق وجودهم إال بالفيدرالية‪ .‬ومن الجدير‬
‫بالذكر أن جميع مؤلفات الشيخ أنتا ديوب هي في خدمة هدف واحد وهو الهوية الثقافية ألفريقيا السوداء‪،‬‬
‫من خلل مناقشة األصل األفريقي للحضارة وطرح مناقشة للعرق وصوالا إلى أن األصل هو العرق‬
‫األسود مشددا ا على السمات الثقافة المشتركة لمصر وربطها بأفريقيا السوداء‪ ،‬مؤكدا ا على االستمرارية‬
‫للتاريخ األفريقي‪ ،‬حريصا ا على العودة للجذور المصرية إذا أردنا قراءة التاريخ األفريقي قراءة صحيحة‬
‫وإال سيبقي التاريخ األفريقي معلقا ا في الهواء‪ ،‬منشدا ا وحدة أفريقية على المستوى الثقافي واالقتصادي‬
‫للنهوض بالقارة األفريقية ووضعها في مكانتها الحقيقية ‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫اإلنجازات العلمية للشيخ أنتا ديوب‪:‬‬

‫عندما عاد الشيخ أنتا ديوب إلى السنغال عام ‪ 1960‬أسس مركز للكربون المشع في داكار لتحليل‬
‫آثار مصرية وأفريقية واشتغل بعلوم األنثروبولوجيا الفيزيقية‪ ،‬كما ابتكر منهجية متعددة التخصصات‬
‫لخدمة مشروعة الفلسفي القومي‪ .‬وللمكانة العلمية التي تمتع بها الشيخ أنتا ديوب فقد تم تكريمه حيث قامت‬
‫منظمة األمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو ‪ )UNESCO‬بتكريم أنتا ديوب عام ‪1970‬‬
‫ليصبح عضوا ا باللجنة العلمية الدولية نظرا ا إلسهاماته الفكرية في التاريخ العام ألفريقيا‪ .‬وقد طالب ديوب‬
‫بعقد ندوة عالمية تنظمها اليونسكو تجمع فيها باحثين ذوي شهرة عالمية لكي تتم مناقشة أصول المصريين‬
‫القدماء‪ ،‬وبالفعل عقد في مدينة القاهرة خلل الفترة من ‪ 28‬يناير حتى فبراير ‪ 1974‬مؤتمر نظمته‬
‫اليونيسكو تحت عنوان إعمار مصر القديمة وفك رموز الكتابة وقد حضر هذه الندوة اكثر من ‪20‬‬
‫شخصية من العديد من الدول منها أمريكا وألمانيا وفرنسا وكندا والسنغال ومصر والسودان وغيرهم‪،‬‬
‫وفي ختام المؤتمر تمت اإلشادة باإلسهامات األفريقية في مجال اللغويات والتأكيد على أن مصر ال يمكن‬
‫عزلها عن مضمونها األفريقي ومن الطبيعي أن تكون لها أصول أفريقية‪ .‬لقد توفي الشيخ أنتا ديوب في‬
‫السابع من فبراير ‪ ،1986‬آثر أزمة قلبية‪ ،‬وقد فقدت القارة األفريقية واحدا ا من أهم أبنائها والذي كرس‬
‫حياته دفاعا ا عن تاريخها وحضارتها‪ .‬وقد أكمل تيوفيل اوبنجا(*) المسيرة بعد رحيل أنتا ديوب‪ ،‬حيث أسس‬
‫صحيفة متخصصة في علم المصريات والحضارات القديمة ‪ .‬وتكريما ا وعرفانا ا لما قام به الشيخ أنتا ديوب‬
‫من مساهمات فكرية متنوعة تم تحويل اسم جامعة داكار في يوم ‪ 30‬مارس ‪ 1987‬إلى جامعة الشيخ أنتا‬
‫ديوب ‪ University of Cheikh Anta Diop‬وهي من أعرق المؤسسات التعليمية في السنغال‬
‫(محمد‪ ،‬سمر‪ .)2019،‬لقد كانت لنشأة ديوب ومعاصرته للستعمار بالغ األثر في تكوينه الفكري والثقافي‬
‫وكذلك في تكوين موقفه السياسي المناهض للستعمار والمناهض للسياسة السنغالية بعد االستقلل‬
‫والمتمثلة في سياسة الرئيس السنغالي ليوبولد سينغور وهي السياسة الموالية لفرنسا والتي رفضها ديوب‬
‫رفضا ا قاطعا ا لذلك‪ ،‬كان ديوب من أبرز المعارضين السياسيين في السنغال‪.‬‬

‫ثانياا‪ :‬أشيل مبيمبي‪:‬‬

‫فيلسوف وعالم سياسي وأستاذ جامعي وواحد من أهم مفكري جيله‪ ،‬وله شهرة واسعة في كل‬
‫أنحاء العالم‪ .‬يفكر في أفريقيا دوما ا ويسعى لجعلها محور اهتمام العالم‪ .‬يردد دائما ا عبارات فقدان أوروبا‬
‫لمركزية القيادة في العالم‪ ،‬وأن عملية إ عادة الهيكلة االقتصادية والسياسية للقارة األفريقية ستجعلها مؤهلة‬

‫(*) تيوفل اوبنجا عالم مصريات ومؤرخ وسياسي من جمهورية الكونجو ولد في فبراير ‪ ،1936‬ودرس في باريس في‬
‫كلية الفنون‪ ،‬وجامعة جنيف وجامعة بيتسبرج وجامعة بوو‪ ،‬يتحدث اللغة الفرنسية ومن مؤلفاته كتاب الفلسفة األفريقية‬
‫عام ‪ 2004‬وكتاب مصر القديمة وأفريقيا السوداء ‪.1992‬‬

‫‪20‬‬
‫لقيادة مستقبل اإلنسانية (الصديق‪ ،‬حسن‪ ،2017 ،‬ص‪ .)39‬يركيز عمل مبيمبي على أفريقيا وعلقتها‬
‫بالغرب‪ ،‬كما يركز في معظم أعماله الفلسفية على تصور موضوع المنحدرين من أصل أفريقي في شكل‬
‫العبودية األفريقية في الواليات المتحدة‪ ،‬والموضوع االستعماري األفريقي والموضوع األفريقي ما بعد‬
‫االستعمار فيما يتعلق بسلطة الدولة‪ .‬وضمن اإلطار العام للفلسفة األفريقية يمكن تصنيف أعمال مبيمبي‬
‫بشكل عام مناهضة االستعمار وما بعد االستعمار (‪.)Gerber, S., 2019, P.2‬‬

‫النشأة وظروف عصره‪:‬‬

‫ولد أشيل مبيمبي عام ‪ 1957‬بالقرب من اوتيلي في الكاميرون الفرنسية‪ ،‬درس في جامعة‬
‫السوربون في باريس‪ ،‬حيث حصل على الدكتوراه في التاريخ في عام ‪ ،1989‬ثم عمل في العديد من‬
‫الجامعات‪ ،‬تتنوع اهتماماته بين التاريخ األفريقي والسياسة األفريقية والعلوم االجتماعية‪ ،‬ويحمل مبيمبي‬
‫الجنسيتين الفرنسية والكاميرونية كما أنه يتحدث اللغة اإلنجليزية والفرنسية ‪.‬قضي مبيمبي طفولته في‬
‫مزرعة والده ضمن عائلة مسيحية قومية‪ ،‬ظلت بعض المشاهد المروعة من عنف االستعمار مرسخة في‬
‫ذهنه‪ ،‬حيث قتل عمه بجانب الزعيم الثوري روبين أم نيوبي(*) على يد الجيش الفرنسي عام ‪ ،1958‬وتم‬
‫سحل جثته عبر القرى بهدف ترهيب السكان‪ ،‬ومن تلك الفترة نشبت رغبة مبيمبي بالتخصص في مادة‬
‫التاريخ‪ ،‬فانتقل إلى باريس لمواصلة دراسته الجامعية‪ .‬وعندما تم التغافل في الكاميرون ومحو شخصية‬
‫روبين أم نيوبي‪ ،‬ظل مبيمبي ساعيا ا إلى إحياء ذكرى الزعيم الثوري‪ ،‬لكن سلطات بلدة رفضت أفكاره‬
‫وطاردته إلى أن قررت نفيه مدة عشر سنوات ال لشيء سوى لنشر مشتقات من نصوص روبين‪ ،‬وانعكس‬
‫هذا القرار على حياته الشخصية إذ إن السلطات منعته من حضور جنازة والده‪ ،‬ما دفعه لعدم السفر نهائيا ا‬
‫إلى الكاميرون (غريغوار سوفاج‪.)2021 ،‬‬

‫(*) روبين ام نيوبي (‪ )1958 -1913‬ولد في الكاميرون عندما كانت تحت االحتلل االلماني وكان تعليمه األول في‬
‫مدارس الكنيسة وعندما كان في المدرسة نقلت الكاميرون من االحتلل االلماني إلى االحتلل الفرنسي والبريطاني‪،‬‬
‫سعي نيوبي وغيره من القوميين الكاميرونيين إلى إعادة توحيد االراضي المقسمة‪ ،‬في عام ‪ 1945‬ساعد نيوبي في‬
‫تأسيس اتحاد نقابات متحد التجارة واصبح اول امين عام لهذه المنظمة العمالية‪ ،‬حارب من اجل ظروف افضل للعمال‬
‫الكاميرونيين وربط اوضاعهم السيئة بالنظام االحتللي‪ ،‬وفي عام ‪ 1948‬تم تأسيس اهم حزب سياسي قومي في‬
‫أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وهو حزب (اتحاد الشعب الكاميروني) والذي اصبح نيوبي زعيما ا له‪ ،‬وفي االعوام‬
‫‪ 1954 ،1953 ،1952‬سافر نيوبي إلى نيويورك للمثول امام الجمعية العامة لألمم المتحدة حيث ندد مراراا بحكم‬
‫االحتلل الفرنسي في الكاميرون ودعا إلى اعادة التوحيد الفوري للكاميرون الفرنسية والبريطانية وكان رد اإلدارة‬
‫الفرنسية علي ذلك هو القيام باضطهاد اعضاء االتحاد والقبض على العديد منهم وقتل بعضهم ونفي البعض االخر إلى‬
‫دول اخرى‪ ،‬نظم روبي حركة مقاومة غير عنيفة واستمرت في المطالبة باالستقلل والدعوة الى انتخابات‬
‫ديمقراطية‪ ،‬ما ادي إلى حشد فرنسا قوات لمطاردته وقتله في سبتمبر ‪ 1958‬بالقرب من بلده بومنيبل‪ ،‬وقد عمدت‬
‫فرنسا علي محو كتاباته كما كان يمنع سكان الكاميرون التحدث باسمه في االماكن العامة‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫وعن ظروف عصره فكانت الكاميرون مثلها مثل باقي الدول األفريقية تم استعمارها‪ ،‬وكان‬
‫البرتغاليون هم أول من سبق من األوروبيين في بلوغ أرض الكاميرون‪ ،‬حيث وصلوا إلى شواطئها‬
‫الجنوبية في عام ‪ ،1472‬وقاموا بإنشاء مراكز تجارية في الجنوب من أجل تجارة العبيد والمطاط‬
‫والعاج‪ ،‬إال أنهم لم يتغلغلوا داخل البلد‪ ،‬وفي عام ‪ 1845‬نزل اإلنجليز على الكاميرون في إطار عمليات‬
‫التبشير‪ ،‬إال أن من وضع قدمه في البلد مستعمرين كان ذلك من نصيب األلمان‪ ،‬فقد استولوا على‬
‫مساحات واسعة من أرض الكاميرون ما بين عام ‪ ،1884 -1860‬واستثمروا أراضي واسعة في‬
‫الجنوب والوسط في زراعة البطاطا والبن وأشجار النخيل الزيت والمطاط‪ ،‬كما أنهم قاموا بمد خطوط‬
‫الحديد وأقاموا ميناء دواال على األطلسي ‪ .‬وفي إطار الهجمة الشرسة علي أغلب بلدان القارة وبعد تغلب‬
‫اإلنجليز والفرنسيين على األلمان ‪ 1916‬وفي مطلع عام ‪ 1919‬تم تقسيم الكاميرون إلى جزئيين؛‬
‫بريطاني (خمس البلد) وتسمي بالكاميرون الغربية‪ ،‬وآخر فرنسي (أربعة أخماس البلد) وتسمي‬
‫بالكاميرون الشرقية‪ .‬بعد الحرب العالمية الثانية بدأت حركات التمرد والتحرر ضد المستعمر وخاصة في‬
‫الكاميرون الفرنسية‪ ،‬وتشكل في الفترة ‪ 1960-1948‬أكثر من مائة حزب وطني ينادي باالستقلل‪ ،‬مما‬
‫أجبرت فرنسا على إعطاء الكاميرون الشرقية االستقلل الذاتي عام ‪ ،1958‬ثم نال الكاميرون االستقلل‬
‫السياسي الكامل عام ‪ .1960‬في عام ‪ 1966‬اتحد ستة أحزاب في حزب واحد مكون االتحاد الوطني‬
‫الكاميروني‪ ،‬والذي أجري استفتاء شعبي عام ‪ 1972‬لتحويل البلد من فدرالية إلى جمهورية متحدة‪،‬‬
‫وظل هذا الحزب هو الحزب الوحيد حتى عام ‪ 1992‬إلى أن دخلت البلد واقعا ا سياسيا جديدا ا أمن‬
‫بالتعددية الحزبية والديمقراطية (أغا‪ ،‬شاهر)‪.‬‬

‫المؤثرات الفكرية‬

‫لقد كان هناك العديد من الشخصيات التي لها بالغ األثر في تكوين فكر واتجاه ومنهجية أشيل‬
‫مبيمبي ومن أهما‪:‬‬

‫‪ -1‬فرانز فانون ‪:)*( Frantz Fanon‬‬

‫(*) فرانز فانون (‪ )1961 -1925‬هو طبيب نفساني وفيلسوف وسياسي من مواليد جزر المارتينيك ويتحدث اللغة‬
‫الفرنسية‪ ،‬عرف بنضاله من اجل الحرية وضد التمييز والعنصرية‪ ،‬خدم خلل الحرب العالمية الثانية في جيش فرنسا‬
‫وحارب ضد النازيين‪ ،‬التحق بالمدرسة الطبية في مدينه ليون وتخصص في الطب النفسي ثم عمل طبيبا ا عسكراا في‬
‫الجزائر في فترة االستعمار الفرنسي‪ ،‬عمل رئيسا ا لقسم الطب النفسي في مستشفى البليدة – جوانفيل في الجزائر حيث‬
‫انخرط منذ ذلك الوقت في صفوف جبهة التحرير الوطني الجزائري‪ ،‬وعالج ضحايا الصراع من كل الطرفين رغم‬
‫كونه مواطنا ا فرنسيا ا‪ ,‬في عام ‪ 1955‬انضم فانون كطبيب إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية‪ ،‬في عام ‪ 1960‬صار‬
‫سفير الحكومة الجزائرية المؤقتة في غانا وتوفي عن عمر يناهز ال ‪ 36‬عام بمرض سرطان الدم ودفن في مقبرة‬
‫مقاتلي الحرية الجزائريين‪ ،‬من أشهر أعمال فانون كتاب معذبو األرض ‪ 1961‬وكتاب بشره سمراء واقنعه بيضاء‬
‫‪ 1952‬وكتاب استعمار يحتضر ‪.1952‬‬

‫‪22‬‬
‫يعتبر فانون األب الروحي ل ُكتاب ما بعد االستعمار‪ ،‬كما أنه من الكتاب األوائل الذين ارتبطوا‬
‫بنظرية ما بعد االستعمار‪ ،‬كما يظهر ذلك بوضوح في كتابة (المعذبون في األرض ‪)1961‬؛ حيث يحلل‬
‫فانون طبيعة االستعمار ويبين طابعه الذاتي على أساس أن االستعمار يصر على العنف واإلرهاب؛ وذلك‬
‫يؤدى إلى توليد المقاومة المضادة من قبل الشعوب المستضعفة أو البلدان المستع َمرة‪ .‬ومن ثم ينتقد فانون‬
‫األنظمة االستعمارية الغربية والتي ينتمي إليها معتبرا ا إياها رمز للتسلط الثقافي‪ ،‬باعتبارها منظومة‬
‫مركزية مبنية على قوة العلم والثقافة والتكنولوجيا بهدف السيطرة والهيمنة‪ .‬ويقوم موقفه من الغرب على‬
‫أساس تلك النظرة االستعلئية‪ ،‬لذلك جاءت الحركات الزنجية األفريقية في الحقيقة لمواجهة العبودية‬
‫واالستعمار والتميز العنصري من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى البحث عن الحرية والهوية األفريقية (حمداوي‪،‬‬
‫جميل‪ ،2018 ،‬ص‪ .)71‬كانت أهم أطروحات فانون هي أن العنف السبيل الوحيد لمقاومة االستعمار‪ ،‬أيضا ا‬
‫يرى فانون أن على أوروبا أن تدفع الثمن في مرحلة ما بعد االستقلل مشيرا ا إلى حقيقة مفاداها أن أوروبا‬
‫تدين بتقدمها إلى مستعمرتها القديمة التي استنزفت كنوزها ومواردها الطبيعية والبشرية عقودا ا أو قرونا ا‬
‫طويلة‪ ،‬ومن ثم يجب عليها أن تدفع ثمن تقدمها بمساعد مستعمراتها القديمة في النهوض دون أي أذى‬
‫(عتيق‪ ،‬مديحة‪ ،‬ص‪ .)15-10‬كان فانون من أكثر الكتاب الذين أبدعوا في وصف مأساة الزنوج‪ ،‬كان يقول‬
‫"ليس اللون هو أساس الهوية لكن الضمير‪ ،‬والضمير المضطهد والمظلوم والمحبط ال يعرف اللون" كما‬
‫يقول " ليس البياض بياض اللون لكنه بياض الضمير‪ ،‬الحل هو أن يتحرر األسود من سواده ويتحرر‬
‫األبيض من بياضة"‪ ،‬وحين يوجد ضمير نقي وشريف ستكون األلوان مجرد ألوان‪ ،‬لكن هذا األمر عند‬
‫العنصريين شيء صعب جدا ا ليس على المستوى العملي فقط بل حتى نظري (أبو العل‪ ،‬محمد‪.)2018 ،‬‬

‫وترى الباحثة أنه من خلل النظر إلى كتابات مبيمبي نجد أن أفكار فانون حول تحليل االستعمار‬
‫ومفهوم العنف وحتى الدين الذي تدين به أوروبا ألفريقيا ذات أصداء في فكر أشيل مبيمبي بمعنى أنه قدم‬
‫قراءة لرؤية فانون تجاه عنف المستعمر‪ ،‬فكثيرا ا ما يشير إلى فانون أثناء تحليله وتتبعه لمفهوم العرق‬
‫والعنصرية منذ عصر تجارة الرقيق وحتى عصرنا الراهن‪ ،‬كما أنه يتبع أستاذه في تحليله للعنف‬
‫المستعمر حتى اليوم‪ ،‬وكيف يحول العنف المجتمع‬
‫ِ‬ ‫االستعماري وما ينتج عن هذا العنف الذي يعاني منه‬
‫إلى مجتمع عدائي ويصبح فيه كل طرف عدو الطرف اآلخر ومن ثم االتجاه إلى القضاء عليه‪ ،‬وتصبح‬
‫فيه سياسة الموت هي المسيطرة‪ ،‬لذلك نجد مبيمبي قد خصص فصلا كاملا في كتابه سياسات العداوة‬
‫للحديث عن تحليل فانون للعنف االستعماري وما نتج عنه تحت مسمى صيدلية فانون‪ ،‬فأثر فانون يبدو‬
‫واضحا ا في جميع كتابات أشيل مبيمبي‪ ،‬كما أنه بمثابة التلميذ النجيب لفرانز فانون‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫‪ -2‬هيجل‪:‬‬
‫ما من أحد الكتاب األفارقة الذين جاهدوا من أجل التحرير من قبضة االستعمار أو من كتاب ما‬
‫بعد االستعمار الذين يحللون اآلثار السلبية التي خلفها االستعمار على القارة األفريقية‪ ،‬إال ويكون قد مر‬
‫على هيجل وأفكار هيجل في فلسفة التاريخ التي خللها أخرج أفريقيا الزنجية خارج إطار الوعي‬
‫التاريخي ومن ثم الخروج من مرحلة البشرية‪ ،‬وقد ذكر مبيمبي أفكار هيجل عن أفريقيا في كتابة الخروج‬
‫من الليل المظلم ويذكر ما قاله هيجل عن أفريقيا مشيرا ا إلى قوله بأن كل أفكار التبجيل واألخلق يجب أن‬
‫تتنحي جانبا ا عند الحديث عن هذا النوع من المخلوقات‪ ،‬أيضا ا وعد هيجل بعدم ذكر أفريقيا مرة أخرى‬
‫ألنها ليست جزءا ا من تاريخ العالم‪ ،‬وأن ما يفهم من أفريقيا هو الروح غير التاريخي‪ ،‬غير الناضج‪ .‬ثم في‬
‫آخر الكتاب يذكر مبيمبي أن مع دخول القرن الحادي والعشرين أن األسطورة الهيجلية العنصرية لم تعد‬
‫قائمة حيث تفككت نهائيا ا (‪ .)Mbembe, A., 2021, P7, 222‬أيضا ا تم ذكر هيجل في كتب أخرى لمبيمبي‬
‫في إطار الحديث عن العرق والعنصرية في صورته البيولوجية والتي كانت أفكار هيجل المصدر‬
‫الرئيسي لتلك األفكار األوروبية ذات النزعة االستعلئية وتفوق العرق األبيض على غيرة من األعراق‬
‫وباألخص العرق األسود‪ ،‬أيضا ا هيجل قاسم مشترك بين فانون ومبيمبي‪ ،‬حيث قام فانون بتحليل علقة‬
‫السيد والعبد وفكرة االعتراف الهيجلية‪ ،‬وألن مبيمبي تلميذ فانون فبالتالي أفكار هيجل السياسية أيضا ا‬
‫كانت ضمن إطار التحليل النقدي الذي أنتجه مبيمبي لنقده للحداثة الغربية من جهة ورد االعتبار للفارقة‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬ومن ثم كان لهيجل أيضا ا دور بارز في التكوين الفكري ألشيل مبيمبي‪.‬‬

‫‪ -3‬ميشيل فوكو‪:‬‬
‫فلسفة ميشيل فوكو قبل أي شيء هي فلسفة الذات‪ ،‬المرتبطة بمجموعة اآلليات السلطوية المختلفة‬
‫داخل الحضارة الغربية‪ ،‬والفلسفة عنده ال تظل حبيسة المجال العلمي لألركيولوجي‪ ،‬بل تتجاوز ذلك‬
‫لتصبح فلسفة المقاومة‪ ،‬ألن المقاومة حسب فوكو هي التي تسمح بتوضيح العلقات السلطوية‪ ،‬ليس المهم‬
‫دراسة عقلنية السلطة وجوهرها وماهيتها‪ ،‬بل المهم هو تحليل علقات السلطة من خلل االستراتيجيات‬
‫وأشكال المقاومة لتفكيك تلك االستراتيجيات وفضحها‪ ،‬فهي نضال يؤكد الحق في االختلف لكل فرد في‬
‫كل مجتمع‪ ،‬كما أنها نضال لكل أشكال الهيمنة واالستغلل والخضوع (عطية‪ ،‬أحمد‪ ،2018 ،‬ص‪ .)174‬يبدو‬
‫أثر فوكو في أفكار أشيل مبيمبي من خلل تحليله للسلطة البيولوجية‪ ،‬كما يبدو واضحا ا استخدام‬
‫مصطلحات ميشيل فوكو مثل السلطة والعنف والمقاومة‪ ،‬كما أن أثرا فوكو يظهر بوضوح في تصوره‬
‫عن تصميم الذات والتي تتشكل على أساس ممارسة فوكو للحرية‪ ،‬وعلى غرار فوكو يجادل مبيمبي بأن‬
‫علقة القوة متجذرة بعمق في الروابط االجتماعية‪ ،‬فالتركيز على الظروف االجتماعية كوسيلة يبني منها‬
‫الهويات األفريقية‪ ،‬نقطة حاسمة أشار إليها مبيمبي والذي يوجه منهجه الوجودي لحجته بأن الذات‬
‫األفريقية مثل كل األفراد هي نتيجة ممارسات الذات‪ ،‬يتفق مبيمبي وفوكو على أن تصميم الذات وممارسة‬
‫‪24‬‬
‫الحرية يأخذان المعنى األخير للذات‪ .‬إال أن تصور مبيمبي للظروف التي بموجبها يصبح الفرد ذاتا ا من‬
‫خلل ممارسة الذات‪ ،‬يختلف عن تصور فوكو (‪ .)Tembo, J., 2018, PP.9-14‬وبرغم االختلف بين‬
‫كلتا الشخصيتين إال أن يبقي ميشيل فوكو أحد المؤثرين في فكر مبيمبي حيث تم ذكره في مؤلفات مبيمبي‪،‬‬
‫كما أن مبيمبي قد استخدم آليات منهجية في مشروعة ما بعد االستعمار من ميشيل فوكو وجاك دريدا‬
‫وجيل دلوز‪ ،‬فقد استقي منهم آليات التفكيك والتأويل وتحليل الخطاب (مبيمبي‪ ،‬أشيل‪ ،2022 ،‬ص‪.)18‬‬

‫التجاه الفكري والمنهجية‪:‬‬

‫ينتمي إلى الفكر ما بعد االستعماري‪ ،‬يثير العديد من اإلشكاليات الفلسفية التي يقاربها من خلل‬
‫منهجية التفكيك تارة والتأويل تارة أخرى‪ ،‬وقد ازدادت شهرة مبيمبي مؤخرا ا نتيجة إسهاماته الفكرية في‬
‫مجلة الثقافة العامة ‪ Public Cultur‬التي يصدرها قسم اإلعلم والثقافة واالتصال التابعة لجامعة‬
‫نيويورك األمريكية‪ .‬وقد استطاع مبيمبي أن يطور فلسفة أفريقية مميزة كان لها تأثيرها‪ ،‬ليس في القارة‬
‫األفريقية فقط بل في أوروبا وأمريكا الشمالية أيضاا‪ ،‬حيث قدم قراءة فينومينولوجية لوضعية األفريقي‪/‬‬
‫الزنجي الذي ينظر إليه على أنه سلعة أو شيء من األشياء‪ ،‬كما قدم قراءة جديدة للتجربة األفريقية الحية‬
‫وأشكالها المتعددة من خلل تحليله التاريخي والثقافي الناقد للمفاهيم التي تشكلت وفقا ا للخطاب‬
‫االستعماري‪ ،‬وهي المفاهيم التي تزعم عدم قدرة العقلية األفريقية على إنتاج أي شكل من أشكال المعرفة‪،‬‬
‫كما قدم تحليلا للخطاب االستعماري الذي أسس لتفوقه الفكري السياسي والحضاري والثقافي من خلل‬
‫رسم صورة ذاتية لألوروبي الغربي الذي تتشكل هويته وفقا ا لمفهوم الغيرية‪ .‬كان هدف مبيمبي من هذا‬
‫التنظير المعرفي هو بناء أفريقيا جديدة مؤهلة لقيادة العالم مستقبلا (مبيمبي‪ ،‬أشيل‪ ،2022 ،‬ص‪.)12‬‬

‫المناصب التي تقلدها‪:‬‬

‫تقلد مبيمبي عدة مناصب منها‪ ،‬كان أستاذ مساعد للتاريخ في جامعة كولومبيا‪ ،‬نيويورك (‪-1988‬‬
‫‪ ،)1991‬وزميل باحث أول في معهد بروكينغز في واشنطن العاصمة (‪ ،)1992-1991‬وأستاذ مشارك‬
‫للتاريخ في جامعة بنسلفانيا (‪ ،)1996-1992‬واألمين التنفيذي لمجلس تنمية بحوث العلوم االجتماعية في‬
‫أفريقيا(‪ )CODESRIA‬في داكار‪ ،‬السنغال (‪ ،)2000-1996‬كما كان أستاذ زائر في جامعة كاليفونيا‪،‬‬
‫بيركلي (‪ ،)2001‬وجامعة ييل (‪ ،)2003‬وجامعة كاليفونيا في ارفين (‪ ،)2005-2004‬وجامعة ديوك‬
‫(‪ ،)2011-2006‬وجامعة هارفارد (‪ .)2012‬حصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة باريس الثامنة‬
‫(فرنسا) وجامعة لوفان الكاثوليكية (بلجيكا)‪ .‬كما شغل كرسي ألبرت الكبير في جامعة كولن (‪،)2019‬‬
‫(ألمانيا)‬ ‫أوغسبورغ‬ ‫جامعة‬ ‫زينتروم‪،‬‬ ‫فغر‬ ‫جاكوب‬ ‫جامعة‬ ‫في‬ ‫فخري‬ ‫أستاذ‬ ‫وكان‬
‫(‪.)Wiser.wits.ac.za/users/a‬‬

‫‪25‬‬
‫المؤلفات‬

‫‪ -1‬كتاب ما بعد الستعمار ‪ On the Post-colony 2001‬مطبعة جامعة كاليفونيا‬

‫جاء هذا الكتاب بعد أربعين عاما ا من كتاب فانون البؤساء في األرض عندما تحول عالم فانون‬
‫المستعمر إلى عالم ما بعد االستعمار يناقش مبيمبي في هذا الكتاب الحالة األفريقية بعد االستعمار والنظام‬
‫السياسي السائد الذي اتبعته الحكومات األفريقية‪ ،‬واتخذ من دولة الكاميرون نموذج يشرح به الحالة‬
‫المتدنية في السياسة األفريقية بعد االستعمار والذي وصفها مبيمبي إنها استعمار ما بعد االستعمار حيث‬
‫قام الساسة األفارقة بتطبيق نفس السياسة االستعمارية من خلل تفعيل نظام األسطورة والتي يتم بها إلقاء‬
‫الخطابات على الجماهير واصفا ا صورة المستبد األفريقي وصورة الحاشية التابعة له ومن ثم فإنه يتعامل‬
‫بإرث االستعمار في تطبيق نظام الحكم‪ ،‬في الكتاب تشخيص لحالة السلط الحاكمة وتشخيص أيضا ا للشعب‬
‫الواقع تحت قبضة المستبد‪ .‬كما يرى مبيمبي أن الروايات االستعمارية تعمل على تجانس الماضي‬
‫األفريقي وإضفاء الطابع األسطوري عليها وبذلك ال يمكنها إنتاج مستقبل قابل للحياة‪ ،‬فاإلحساس‬
‫بالمستقبل غائب تماما ا ويسعى مبيمبي إلى استبعاد هذا الطابع األسطوري من تحليلت ما بعد االستعمار‬
‫(‪ .)Paddy, O. H., 2015, PP.1-6‬والكتاب في الشكل العام هو فضح ممارسات السلطة الحاكمة في‬
‫مرحلة ما بعد االستعمار في الكاميرون من خلل تحليل خطابتها السلطوية التي اعتدت لغة الرمز‬
‫والعلمة بهدف السيطرة على المواطنين وإخضاعهم للسلطة باستخدام أساليب تبدو منطقية خاصة عندما‬
‫اتخذت تلك األساليب صور احتفاالت للرقص وترديد أغاني وأداء صلوات تبارك سلطة الدولة الحاكمة‪،‬‬
‫المستعمر وحده ما آلت إليه األوضاع المتردية في أفريقيا ‪،‬بل يؤكد على وجود‬
‫ِ‬ ‫كما أن مبيمبي ال يحمل‬
‫عوامل داخلية ساعدت في ذلك منها الوضع االقتصادي الذي يتحمل أعباءه األفريقي نفسه‪ ،‬وحكم الوصايا‬
‫المفروض من البنك وصندوق النقد الدولي‪ ،‬وهي مظاهر تمنع تمتع األفريقي بتقرير مصيره‪ ،‬بل تجعل‬
‫المجتمعات األفريقية تحت استعمار من نوع جديد وهو االستعمار المحلي (الداخلي) الذي يمارس ضغوطا ا‬
‫على مواطنيه‪ ،‬ويؤكد مبيمبي أن أفريقية الزنجية ما زالت تعيش تحت ظل النظم االستعمارية نفسها‬
‫(مبيمبي‪ ،‬أشيل‪ ،2022 ،‬ص‪.)15‬‬

‫‪ -2‬نقد العقل الزنجي ‪ Critique of Black Reason 2013‬مطبعة جامعة ديوك‬

‫نقد العقل الزنجي ربما يلمح مبيمبي إلى انتقادات كانط الثلثة‪ ،‬ونصوص تأسيس الحداثة الغربية‬
‫التي كتبت في الوقت الذي أصبح فيه مبدأ العرق أساس النظام العالمي الحديث‪ .‬سعى كانط إلخضاع العقل‬
‫وعملية التنوير لنقد ذاتي يحقق ظروف المعرفة بشكل مستقل عن كل تجربة‪ ،‬كان مشروعه موجها ا ضد‬
‫كل من االدعاء العلمي وضد الميتافيزيقا والعقائد الناشئة عن األوهام المتجاوزة الناتجة عن سبب يتعدى‬

‫‪26‬‬
‫حدود العقل‪ ،‬إال أن مبيمبي ال يتبع مفهوم كانط للعقل‪ ،‬حيث ال يقتصر نقده للعقل األسود على نقد البناء‬
‫العنصري للعقل في الوعي الغربي (بما في ذلك داخل التقليد الكانطي)‪ ،‬وال على نقد االدعاءات الجوهرية‬
‫للختلف األسود في الوعي األسود‪ ،‬بل أخضع مبيمبي كل االتجاهين وبالتالي العقل نفسه كما حدث في‬
‫جميع أنحاء الحداثة األوروبية‪ ،‬للنقد الذاتي من أجل تحقيق في ظروف التفكير في العالم من منظور غير‬
‫عنصري (‪ .)Gadeke, D., 2018, P.502‬في هذا الكتاب يتولى مبيمبي مهمة شديدة األهمية ليس فقط تتبع‬
‫نسب فئة السواد وإنما تتبع ما يراه عمومية لشرط السواد‪ ،‬نقد العقل األسود هو مقاربة قوية للعرق‬
‫والعنصرية‪ ،‬وهو المفتاح الرئيسي للحداثة والرأسمالية‪ ،‬يوضح الكتاب الطرق التي تم من خللها دمج‬
‫اللون األسود في هياكل وتقنيات الحداثة‪ ،‬من تجارة الرقيق عبر األطلسي واستعمار أفريقيا ومقاومتها‪،‬‬
‫إلى ترسيخ العولمة والليبرالية الجديدة والتداخل المتزايد لرأس المال‪ ،‬والتقنيات اإللكترونية والرقمية‬
‫والنظام العسكري ما بعد اإلمبراطوري‪ ،‬نقد العقل األسود يتعامل مع السواد كفئة تبرر اإلقصاء والتدهور‬
‫والوحشية‪ ،‬ربما لم تعد أوروبا مركز العالم وربما تكون التصورات البيولوجية للعرق قد سقطت‪ ،‬ومع‬
‫ذلك لم يتم القضاء على العرق والعنصرية‪ .‬يبرز مبيمبي في هذا الكتاب كيف استغلت األيديولوجيات‬
‫االستعمارية شخصية أفريقيا‪ ،‬مما أدى إلى تشكيل تخيلت الرجل األبيض والخطوط التي تفصل أوروبا‬
‫عن العالم الخارجي‪ .‬كما ناقش الكتاب تطور الوعي األسود وأبعاد الذاتي والتاريخ والهوية السوداء‪ ،‬وإذا‬
‫كان السواد يدل على القطيعة والخسارة واالنفصال عن الذات‪ ،‬فإن مبيمبي يظهر في الوقت ذاته علمة‬
‫األمل والحيوية والفداء‪ .‬كما ناقش مبيمبي تأكيد تعددية العالم وضرورة أن تظهر بقوة‪ ،‬ويجب أن يتجه‬
‫السواد إلى النضال من أجل العدالة (‪ .)Busbridge, R., PP.126-128‬الكتاب يهدف إلى وضع الوعي‬
‫الغربي والوعي الزنجي للنقد‪ ،‬نقد موجه للعقل الغربي والعقل األسود كلهما على حد السواء والنتيجة‬
‫الطبيعية لهذا النقد هو االنتهاء بالقول بوجود عالم واحد يشترك فيه جميع البشر‪.‬‬

‫‪ -3‬سياسات العداوة (سياسات الموت) ‪ Necro-politics 2019‬مطبعة جامعة ديوك‬

‫يقدم مبيمبي في هذا الكتاب على نقد الديمقراطية‪ ،‬بالنسبة له أن أشكال الديمقراطيات المعاصرة‬
‫قد انتهى بها المطاف إلى أن تصبح محاصرة‪ ،‬بالنسبة له‪ ،‬تقف سياسة الموت على أنها سياسة اإلقصاء‬
‫االنتقائي‪ ،‬أو نفي بعض الجماهير التي تعتبرها الدولة زائدة عن حاجاتها‪ ،‬هذه السياسة تنتج مجتمع العداء‪،‬‬
‫سياسة تنتهج قتل الفقراء والضعفاء للقضاء على أي اتجاه تمرد نابع من تلك الفئات‪ .‬في فصول الكتاب‬
‫يصف مبيمبي األنماط التي تتكشف للفصل العنصري العالمي‪ ،‬منتقدا ا بشدة االستغلل الدقيق لآلليات‬
‫السياسية الحيوية للديمقراطية‪ ،‬مشيرا ا إلى أن الديمقراطيات تصبح مقبرة عندما تقود حرب ضد دول‬
‫أخرى من أجل الحفاظ على أشكال الفصل العنصري العالمي‪ ،‬مستشهدا ا بأمثلة مثل االحتلل اإلسرائيلي‬
‫لفلسطين وحرب الخليج ونماذج أخرى (‪ .)Das, S. S., 2022, PP.220-222‬يرى مبيمبي أن العنف‬

‫‪27‬‬
‫والحرب لم تستقر فقط كغاية وضرورة في الديمقراطية‪ ،‬ولكن أيضا ا في السياسة والثقافة‪ ،‬أن حالة الحرب‬
‫التي تميز عصرنا تطلق مسار قاتلة تدفع المجتمعات إلى الخروج من الديمقراطية والتحول إلى مجتمعات‬
‫العداوة كما كان الحال تحت نيران االستعمار‪ ،‬وقد بين مبيمبي أن العداوة إذن هي عصب الديمقراطيات‬
‫الليبرالية‪ ،‬كما أوضح أن الديمقراطية الليبرالية ال توجد إال مكملة بالعبودية والعرق االستعماري‬
‫واإلمبريالي (مبيمبي‪ ،‬أشيل‪ ،2019 ،‬ص ‪.)143 ،14‬‬

‫‪ -4‬الوحشية فقدان الهوية اإلنسانية ‪ Brutalisme 2020‬مطبعة جامعة كولومبيا‬

‫في هذا الكتاب يحلل مبيمبي الكارثة البيئية وأزمة المهاجرين واالبتكار التكنولوجي واستمرار‬
‫الفكر االستعماري الغربي‪ .‬يأخذ مبيمبي اسم الكتاب من التفكير الهندسي إال أنه يقصد بالموضوع نمطا‬
‫سياسيا بحتا نظرا ا ألن السياسة والهندسة مسألة استعداد مقنن لمواد وأجسام ومسألة كميات وأحجام‬
‫ومسافات وقياسات وتوزيع وتعديل الطاقة‪ ،‬واألمر عنده ال يتعلق بوضع علم اجتماع أو اقتصاد سياسي‬
‫للتوحش وليس أيضا ا برسم لوحة تاريخية‪ ،‬وال يخص األمر معالجة العنف بصفة عامة أو أشكال من‬
‫القساوة والسادية اللتين ولدهما االستبداد‪ ،‬ولكن يهدف إلى طرح أسئلة بخصوص تلك الفترة التي هيمنت‬
‫عليها ثلثة تساؤالت مركزية‪ ،‬وهي الحساب في شكله الرقمي‪ ،‬االقتصاد في شكله البيولوجي العصبي‪،‬‬
‫الكائن الحي فريسة مسار تضخم‪ .‬ففي هذا الكتاب يركز مبيمبي على ممارسة السلطة باعتبارها تمرينا‬
‫لتدمير الكائنات واألشياء واألحلم والحياة في سياق أفريقي معاصر‪ ،‬فهو يرى أن تحول اإلنسانية إلى‬
‫مادة وطاقة هو المشروع النهائي للوحشية (مبيمبي‪ ،‬أشيل‪ ،2021 ،‬ص ‪ .)26 ،23 ،17‬ويوضح مبيمبي في‬
‫هذا الكتاب كيف تعمل الوحشية من خلل إجراء ما يسميه (ترسيم الحدود) وهو تكتيك للسلطة يتضمن‬
‫أبعادا ا متنقلا للحدود على األرض والمياه وحتى األجسام‪ ،‬وهذا يعنى امتداد التحيز العنصري والنهب‬
‫االستعماري الجديد على نطاق كوكبي‪ ،‬بالنسبة له لم تعد أفريقيا المؤشر االستثنائي على االفتراس‬
‫االستعماري والصراع العرقي ونهب الموارد الطبيعية بل أصبحت أفريقيا النموذج على حالة عالمية‬
‫متزايدة من التجريد من اإلنسانية‪ ،‬ومع ذلك يشير مبيمبي إلى أن كل استخدام قمعي للسلطة يشير إلى‬
‫مقاومة متزايدة للحكومة‪ .‬أيضا ا يؤكد مبيمبي في هذا الكتاب على أن الغرب مطالب بواجب أخلقي إلعادة‬
‫الفن األفريقي وأن هذا االسترداد يجب أن يقترن باعتراف صادق بتاريخ االستعمار الهمجي‪ .‬ويرى‬
‫مبيمبي أنه على الرغم من الرؤى الجديدة حول العرق واألنطولوجيا واألزمات المعاصرة تميل الوحشية‬
‫إلى التمرين على العديد من الشعارات ما بعد اإلنسانية (‪.)Quigley, G., 2022‬‬

‫وفي الحقيقة أن التوحش الذي يناقشه مبيمبي في هذا الكتاب والمتمثل في التقدم الرقمي وظهور‬
‫عصر اآللة الرقمية يقودنا إلى القول بأن هذا التقدم المستمر والتطور السريع لآللة وبزوغ عصر الذكاء‬

‫‪28‬‬
‫االصطناعي ما هو إال آذانا ا بانتهاء عصر العقل البشري وسيحل محله الروبوتات الصناعية ذات الذكاء‬
‫الفائق‪ ،‬وهنا يطرح مبيمبي مشكلة من المشكلت الضخمة التي سيوجهها العقل البشري نتاج التقدم‬
‫التكنولوجي والتي بدالا من أن يعمل هذا التقدم على مساعدة البشرية‪ ،‬فإنه أدى إلى إرجاء العقل البشري‬
‫جانبا ا واالعتماد بشكل أساسي على اآلالت الصناعية في الحياة اليومية بصفة عامة‪ ،‬ومن ثم كان هذا‬
‫التقدم ضد البشرية أكثر من أفادتها‪.‬‬

‫‪ -5‬الخروج من الليل المظلم ‪ Out of the Dark Night 2021‬مطبعة جامعة كولومبيا‬

‫يقترح مبيمبي في هذا الكتاب من خلل سرد وصفي‪ ،‬إجراء فحص عام للحالة الصحية للقارة‪،‬‬
‫وتحليل القضايا الرئيسية وفي نفس الوقت الحساسة مثل االستعمار وإنهاء االستعمار وتمازج األجيال‪،‬‬
‫والهدف العام من الكتاب هو االستجواب حول المجتمعات التي انتهى استعمارها‪ ،‬في الكتاب وصفا‬
‫لسيرته الذاتية متتبعا ا مساره وطفولته في الكاميرون ثم رحيله إلى فرنسا والواليات المتحدة األمريكية‪،‬‬
‫وأن تجربته كانت نتيجة للعصر المبكر لما بعد االستعمار‪ ،‬والعودة اللحقة للقارة حيث استقر في جامعة‬
‫ويتس جنوب أفريقيا‪ ،‬ثم يغوص مبيمبي بعد ذلك في حركتين سياسيتين وثقافيتين هما الزنوجة والبان‬
‫أفريكانيزم (عموم أفريقيا) والذي رأى أنهما قادران على تدريب أطفال القارة أيديولوجيا ا من أجل تسجيل‬
‫االنفتاح على العالم والصعود في اإلنسانية‪ ،‬لكنهم لم يحققوا أغراضهم‪ ،‬وقد أوضح مبيمبي أن إنهاء‬
‫االستعمار كان على المستوى العسكري فقط ولكنه مثير للجدل على المستوى الثقافي حيث إنه ليس تحرر‬
‫حقيقي للسود من جميع األبعاد‪ ،‬ثم بعد ذلك ينتقل مبيمبي إلى مناقشة الدور االستعماري لفرنسا في القارة‬
‫وموقفها بعد استقلل مستعمرتها‪ ،‬مؤكدا ا أن فرنسا لم تتجاوب مع الدراسات ما بعد االستعمارية مما يعني‬
‫أنها تأخذ شكل استعماريا جديدا‪ ،‬كما أنها تصر على النرجسية الثقافية مقتنعة بأنها ال تزال مركز العالم‬
‫واصف تلك الحالة بالشتاء اإلمبراطوري الطويل (‪.)Liberato, E., 2020, PP.223-233‬‬

‫وهنا البد من اإلشارة إلى أن كتب الشيخ أنتا ديوب وإن كانت تتحدث عن قضية وهدف واحد‬
‫فكذلك الكاميروني أشيل مبيمبي نجد أن جميع كتبه تدور حول حالة االستعمار التي تتسم بها القارة‬
‫األفريقية حتى بعد إنهاء االستعمار العسكري فقط إال أن االستعمار المعرفي والوجودي ما زال موجودا ا‬
‫لذلك كانت هناك مطالبة بإنهاء االستعمار على جميع المستويات‪ ،‬كما أن كتبه أيضا ا تتسم بتتبع فكرة‬
‫العنصرية بدأ من تجارة العبيد حتى حالة الحرب في العصر الحديث وكيف أن العرق والعنصرية كان‬
‫سببا ا في وجود الجانب العدائي نحو اآلخر المختلف في اللون والثقافة‪ ،‬وكيف أننا وصلنا في القرن الجديد‬
‫لحالة من التوحش والتي هي أيضا افي األساس نتيجة تطور األدوات المستخدمة في سياسة العنف أو‬
‫سياسة الموت‪ ،‬نجد أيضا َ مبيمبي في ظل نقده للعنف االستعماري وما بعد االستعمار يدعو إلى االعتراف‬

‫‪29‬‬
‫باإلنسانية من أجل اإلنسانية والعمل من أجل مستقبل واحد مشترك لجميع البشر دون تميز عنصري‪،‬‬
‫موجها دعوته للقارة األفريقية أن يحذوا حذوا جنوب أفريقيا والذي وجد فيها أنها الدولة األفريقية الوحيدة‬
‫التي تضاهي المجتمعات الغربية‪ ،‬كما دعا األفارقة إلى عدم البحث عن هويتهم األفريقية داخل بوتقة‬
‫العرق‪ ،‬البد من الخروج من تحت سيطرة العرق حيث إن الهوية في نظره هي نتيجة ممارسات يومية‬
‫وليس لها معيار ثابت والثبات الوحيد يكون في المصير‪ ،‬ومن هنا نجد أن هدفا مبيمبي هدف إصلحي في‬
‫المقام األول للشأن والحالة األفريقية وربما لإلنسانية من خلل إعادة هويتها بعيدا ا عن الفواصل‬
‫الجغرافية والسياسية والجندار‪.‬‬

‫تمت ترجمة كتب ومقاالت مبيمبي إلى العديدة من اللغات (اإلنجليزية – األلمانية – االسبانية –‬
‫البرتغالية – اإليطالية – الهولندية – البولنداية – الدانماركية – السويدية – الرومانية – العربية – التركية‬
‫– الصينية)‪ .‬كما حصل على العديد من الجوائز من بينها جائزة اإلخوة شول ‪Geschwister-Scholl-‬‬
‫)‪ )Preis‬عام ‪ ،2015‬عن كتاب نقد العقل الزنجي وأيضا ا جائزة إرنست بلوخ‪ ،‬عام ‪ ،2018‬وهي من‬
‫أهم الجوائز الثقافية في ألمانيا‪ ،‬وهي جائزة من أجل دعم الفكري النقدي المرتبط بواقعه‪ ،‬في مجاالت‬
‫األدب والعلوم اإلنسانية‪ .‬ونظرا ا ألهمية الفيلسوف الكاميروني أشيل مبيمبي تمت دعوته من قبل الرئيس‬
‫الفرنسي إيمانويل ماكرون لتنظيم القمة الفرنسية – األفريقية ‪ ،28‬رغم أن ماكرون قد قام بمهاجمة‬
‫مبيمبي في السابق‪ ،‬ولقبول مبيمبي التنظيم كان ذلك سببا في غضب الكثير من المفكرين األفارقة والتي‬
‫اعتبر أحدهم أن ذلك كان مجرد مزحة سخيفة‪ ،‬كما يرى جزء كبير من المفكرين األفارقة أن ما حدث كان‬
‫بمثابة مناورة من قصر اإلليزيه لتلميع صورة فرنسا في القارة (سوفاج‪ ،‬غريغوار‪.)2021 ،‬‬

‫وبنا اء على ما تقدم؛ نستخلص أن لنشأة ومعاصرة ديوب للستعمار بالغ األثر على إنتاجه‬
‫الفكري‪ ،‬فهو نشأ في بيئة متعددة الثقافات أدت إلى تنوع المصادر الفكرية التي اعتمد عليها واستمد منها‬
‫األدلة حول قضيته األساسية؛ وهي قضية األصل الزنجي للحضارة المصرية القديمة‪ .‬أهتم ديوب بالعمل‬
‫السياسي وانضم إلى الحركات الطلبية المناهضة للستعمار‪ ،‬كما كان مشروعه الفلسفي في إطار النضال‬
‫األفريقي من أجل التحرير ومن أجل الدفاع عن الزنجية والعرق األسود‪ ،‬وقد عاصر ديوب االستعمار‬
‫وما بعد االستعمار‪ ،‬كذلك نجد أن الظروف التي عاصرها مبيمبي واألحداث التي شاهدها منذ صباه من‬
‫قبل االستعمار وأن كانت في أواخر عهده‪ ،‬إال أنها بالتأكيد كانت ذات أصداء في توجهه الفكري‬
‫والسياسي‪ ،‬ويعتبر مبيمبي شاهدا ا على عصرين مختلفين وهما‪ ،‬أواخر عصر االستعمار وعصر ما بعد‬
‫االستعمار‪ ،‬كذلك كان مبيمبي معارض أيضا ا للسلطة الحاكمة في الكاميرون والتي يراها مبيمبي أنها‬
‫موالية للستعمار مثلها مثل السينغال في ذلك‪ ،‬فكل المفكرين ينتميان إلى المعارضة السياسية‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫ثانيا ا‪ :‬الحضارة والثقافة والعرق والعنصرية وعلقتهما بالهوية األفريقية‬

‫في النقاشات الفلسفية والعامة حول الهوية‪ ،‬كان التركيز على مدى العقود القليلة الماضية موجهاا؛‬
‫إلى حد كبير نحو الثقافات كمقياس للنتماء إلى وحده اجتماعية معينة‪ .‬واآلن فقد حان الوقت لتسليط‬
‫الضوء على مفهوم الهوية الثقافية‪ .‬في هذا اإلطار سيكون الحديث عن الشيخ أنتا ديوب وكذلك أشيل‬
‫مبيمبي باعتبارهما أحد أهم مفكري الهوية الثقافية وأبعادها السياسية‪ .‬لقد تناول كل من ديوب ومبيمبي‬
‫مشكلة الهوية األفريقية من منظور مختلف وان اجتمعا على النضال السياسي من أجل تحرير أفريقيا من‬
‫االستعمار السياسي والثقافي أيضا ا‪ .‬وعلى الرغم من االختلف بينهما إال أنهما اجتمعا معا ا على االنتماء‬
‫األفريقي‪ .‬وكان لكلا منهما مشروعة الخاص حول أفريقيا‪ .‬في الحقيقة لم يظهر أي عرق الرغبة في‬
‫أحداث جذور في األرض في التاريخ المعاصر بقدر ما أظهر العرق الزنجي؛ ألنه لم يتم التشكيك في‬
‫إنسانية أي عرق بنفس القدر من اإلصرار مثل الشك في إنسانية العرق الزنجي‪ ،‬مما قدم دفعة قوية‬
‫للفلسفة الزنوج من أجل البحث عن الجذور التاريخية والتنقيب عن القيمة المفقودة للهوية األفريقية‬
‫والعقل الزنجي‪ .‬لقد اعتمد بعض العلماء األفارقة بشدة على الدراسات اإلثنولوجية‪ ،‬وكانوا حريصين على‬
‫االستفادة من عظمة مصر القديمة وتتبع أصول العرق الزنجي وثقافتهم منها (‪.)Okpewho, I., P.588‬‬

‫أولا‪ :‬الحضارة والثقافة والهوية األفريقية‪:‬‬

‫‪ Civilization‬هي الحالة المقابلة للبداوة‬ ‫تذهب معاجم اللغة العربية إلى أن الحضارة‬
‫والفطرة‪ ،‬بصورة عامة هي نتاج اإلقامة في المناطق الحضارية‪ ،‬وما يتبع ذلك من مظاهر رقي علمي‬
‫وأدبي واجتماعي وسياسي (وهبه‪ ،‬مراد‪ ،2006 ،‬ص‪ .)125‬هي إذن نظام اجتماعي يعين اإلنسان على‬
‫الزيادة في إنتاجه الثقافي‪ ،‬وتتألف الحضارة من عدة عناصر وهي الموارد االقتصادية‪ ،‬والنظم السياسية‪،‬‬
‫والتقاليد الخلقية‪ ،‬ومتابعة العلوم والفنون؛ وهي تبدأ حيث ينتهي االضطراب والقلق‪ ،‬ألنه إذا ما شعر‬
‫اإلنسان باألمان من الخوف‪ ،‬تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل اإلبداع واإلنشاء (ديورانت‪ ،‬ول‪،‬‬

‫ص‪ .)3‬إن مفهوم الحضارة مرتبط أشد االرتباط بالتاريخ‪ ،‬ألن التاريخ هو الزمن‪ ،‬والثمرات الحضارية‬
‫تحتاج إلى زمن لكي تظهر‪ ،‬أي أنها جزء من التاريخ (مؤنس‪ ،‬حسين‪ ،1978 ،‬ص‪ .)13‬وتعتبر الحضارة‬
‫ظاهرة إنسانية عامة‪ ،‬اإلنسان هو المخلوق الوحيد الذي يرتقي ويعمل على تحسين أحوال نفسه بفضل ما‬
‫أهداه هللا من عقل‪ ،‬يمكنه من التفكير وتخزين المعلومات والربط بينها واالستفادة منها‪ ،‬وتبعا ا لذلك فكل‬
‫أجناس البشر متحضرة‪ ،‬وما من شعب إال وله مستواه الحضاري (مؤنس‪ ،‬حسين‪ ،1978 ،‬ص‪ .)4‬وذلك‬
‫فالحضارة ليست قصرا ا على عصر دون اآلخر‪ ،‬فلكل عصر ملمح معينة تميزه عن غيره وكذلك لكل‬

‫‪31‬‬
‫منطقة حضارة تختلف عن الحضارات األخرى القريبة أو البعيدة جغرافيا ا حتى لو تزامنت تاريخيا (خليفة‪،‬‬

‫عبد الرحمن‪ ،2006 ،‬ص‪ .)127‬إذن الحضارة ليست حكرا ا على أحد دون أحد وليست مرتبطة بعصر معين‬
‫دون غيره فهي في النهاية نتاج بشري وإن كان هذا النتاج في أزمنة مختلفة وأماكن متعددة‪.‬‬

‫في اللغة تشير الثقافة ‪ Culture‬إلى الفهم والذكاء وهي بالمعنى الخاص تعني تنمية الملكات‬
‫العقلية‪ ،‬وبالمعنى العام هي ما يتصف به المرء من حس نقدي وحكم صحيح‪ ،‬ويمكن أن تستخدم الثقافة‬
‫بمعنى حضارة كما في اللغة األلمانية وتكون ذو وجهين وجها ذاتيا وهو ثقافة العقل ووجه موضوعي‬
‫وهو مجموعة العادات واألوضاع االجتماعية والقيم المنتشرة في مجتمع معين (صليبا‪ ،‬جميل‪،1982 ،‬‬

‫ص‪ .)378‬وفي االصطلح تشير إلى خاصية من خاصيات الفرد والمجتمع‪ ،‬بمعنى أنها تشكل مرحلة‬
‫حاسمة في صيرورة التقدم الفني واألدبي والعلمي لمجتمع ما‪ ،‬بل إن شئت فقل إنها مرحلة يرتقي فيها‬
‫العقل والفطرة السليمة إلى مرحلة اإللمام بكل الجوانب المعرفية أدبية كانت أو علمية‪ ،‬لذلك‪ ،‬يأخذ مفهوم‬
‫الثقافة طابعا ا شموليا ا على نحو واسع‪ ،‬فالثقافة هي كل مكتسب مشترك بين أفراد الجماعة‪ ،‬وتشمل أيضا ا‬
‫على أشكال التعبيرات المختلفة والفعاليات المتنوعة التي تنبثق عن النظام المعرفي المكتسب (الشعللي‪،‬‬

‫ناصر‪ ،2018 ،‬ص‪ .)156‬وإذا كان هناك اختلف بين الثقافة والحضارة فإنه ال يلغي علقة التداخل‬
‫والترابط بينهما‪ ،‬حيث إن الحضارة مثل الثقافة تمثل حالة من حاالت تطور الفكر والتاريخ البشري‪ ،‬كما‬
‫أن االثنين يعبران عن روح المجتمع من حيث تقاليده وعاداته وقيمه وموروثاته الحضارية (الشعللي‪،‬‬

‫ناصر‪ ،2018 ،‬ص‪.)160-158‬‬

‫تعرف الثقافة األفريقية؛ بأنها مجموعة المنجزات المادية والفكرية للشعوب األفريقية‪ .‬وهناك‬
‫عدة تعريفات مختلفة للثقافة األفريقية؛ منها "أنها مظاهر الحياة المميزة ألفريقيا وهي نتاج األيدي والعقول‬
‫األفريقية"‪ ،‬أيضا ا تعرف بأنها "مجموع القيم المادية والروحية للشعوب األفريقية في مسار تاريخها‪،‬‬
‫المحددة لما توصلت إليه أفريقيا في تطورها عبر التاريخ "‪ ،‬ويمكن تعريفها أيضا ا "بأنها الوليدة في البيئة‬
‫األفريقية‪ ،‬وهي التي تعبر عن آراء أبناء هذه القارة‪ ،‬وعن مشاعرهم وانفعاالتهم "‪ ،‬كما يمكن تعريفها "‬
‫بأنها مجموعة القيم األساسية‪ ،‬والمعتقدات‪ ،‬والتصرفات والعادات التي وجدت بأفريقيا قبل الحضور‬
‫األوروبي‪ ،‬والتي ما زالت موجودة بها اآلن"(بمبا‪ ،‬آدم‪ ،2018 ،‬ص‪ .)102‬وعلينا أن نلحظ أن الحملة‬
‫االستعبادية والتي خضعت لها القارة منذ القرن السادس عشر الميلدي‪ ،‬وامتدت ألربعة قرون‪ ،‬قد‬
‫ساهمت في أحداث قطيعة حادة بين الشباب وبين كبار السن‪ ،‬في مجتمع كان االعتماد الكلي فيه على‬
‫التلقي الشفاهي‪ ،‬والممارسات اليومية للمفردات الثقافية‪ ،‬فكانت الهجمة اإلمبريالية األوروبية على القارة‬
‫ذات سلح فتاك وهو المدرسة الغربية‪ .‬باختصار فقد تعرضت الثقافة األفريقية لظرف تاريخي غير‬
‫طبيعي من التلقي بين الثقافات (بمبا‪ ،‬آدم‪ ،2018 ،‬ص‪.)104‬‬
‫‪32‬‬
‫وعن مفهوم الثقافة يقول فانون؛ "إن الثقافة في جوهرها نقيض العادات الجامدة التي ليست إال‬
‫حطام الثقافة" وهذا يعني من منظور فانون أن الثقافة ليست عبارة عن عادات وتقاليد موروثة ليس لها‬
‫قيمة أو تأثير على واقع اإلنسان بل الثقافة أعمق من ذلك ألنها تحمل بين ثناياها كل ما من شأنه أن يغير‬
‫واقع اإلنسان‪ ،‬فالثقافة هي ثورة على ما هو مألوف وغير مألوف (فانون‪ ،‬فرانز‪ ،2015 ،‬ص‪ .)181‬إن‬
‫الثقافة عند فرانز فانون تتجلى في التاريخ واللغة وكذلك في العرق حيث اعتبر العرق ظاهرة ثقافة وإنتاج‬
‫ثقافي بامتياز‪ ،‬ويربط فانون مفهوم الثقافة الزنجية بالثقافة القومية‪ ،‬ألنه يرى أن كل حديث عن ثقافة ما‬
‫هو إ ال حديث عن ثقافة قومية ألنه جعل مقومات الثقافة ثلثة وهي التاريخ واللغة والعرق وهو ما يصدق‬
‫على الثقافة القومية وفي هذا يقول فانون‪ ":‬إن كل ثقافة إنما هي ثقافة قومية قبل كل شيء وما دامت‬
‫الثقافة قومية فإنها مصدر للهوية وعلى أساسها تتحدد هويات الشعوب وتتمايز فيما بينها (فانون‪ ،‬فرانز‪،‬‬

‫‪ ،2015‬ص‪ .)175‬وفي أفريقيا الحديثة يمكن الحديث عن مظاهر مختلفة من الوعي الثقافي وهي‪:‬‬

‫أولا ثقافة السيد والعبد‪ ،‬وهى انعكاس للموقف العرقي القائل بأن هناك نوعين من البشر‪ ،‬األول السيد‬
‫والثاني العبد‪ ،‬وينظر إلى األخير على أنه مقدر له أن يظل أدنى من األول‪ ،‬ومن ثم فإن الدور الوجودي‬
‫الحتمي للسيد هو استخدام العبد في وسائل الراحة الخاصة للسيد ودور العبد هو السعي وراء سعادة‬
‫وخدمة السيد‪ ،‬وبالتالي ينظر إلى الصفات العرقية الفكرية واألخلقية على أنها فطرية وليست مكتسبة‪،‬‬
‫ومن خلل مفهوم اسطورة الزنوج؛ يعامل األسود على أنه شرير وقبيح ووحشي وغير عقلني‪ ،‬ومن‬
‫ناحية أخرى ينظر إلى األبيض على أنه يتمتع بجميع الخصائص المعاكسة لهذه الصفات والنتيجة هي‬
‫نوعان من الثقافة تعامل على أنها دائمة وغير قابلة للختزال( ‪P. H. Coetzee and A. P. J. Roux,‬‬

‫‪.)P.71‬‬

‫ثانيا ا الثقافة الستعماري وهي التي تولد الوعي االستعماري‪ .‬حيث ال يزال السيد أبيض ولديه صفات‬
‫الفضيلة والجمال والعقلنية وغيرها من الصفحات الحميدة‪ ،‬ولكن اآلن يمكن جعل بعض السود (القليل‬
‫منهم) من خلل التدريب الشاق‪ ،‬التخلي عن صفاتهم الطبيعية‪ ،‬أي الشر والقبح واللعقلنية وغيرها من‬
‫الصفات الدنيئة التي يصفهم السيد بها‪ ،‬ويكتسبون صفاته‪ .‬وأولى الخطوات في هذه العملية هي أن يقوم‬
‫مثل هؤالء األشخاص بنبذ كامل لثقافة وتقاليد السود ومن ثم يرتبط ارتبا ا‬
‫طا شديداا متعصباا بالثقافة‬
‫البيضاء‪ ،‬حيث يجب أن يفعل كل شيء بأسلوب أبيض (‪.)P. H. Coetzee and A. P. J. Roux, P.72‬‬

‫ثالثا ا أيديولوجية الثقافة الزنجية وفي تلك الظاهرة يعتبر الوعي الزنجي خطوة فوق النوعين السابقين‪،‬‬
‫ينشأ من التجربة أن التطور واالستيعاب لم يتم التعرف عليه حقا ا على أنه مساو في العالم األبيض‪ ،‬لقد فقد‬
‫المتطور جذوره إلنقاذ رأسه‪ ،‬لكنه في النهاية يكتشف إنه لم يكن لديه أي رأس‪ ،‬فهو يأكل ويرقص‬

‫‪33‬‬
‫ويتزوج من البيض لكن عندما يتم اإلنصات إليه عندما يشرح إتقان العلم والتاريخ والثقافة غالبا ا ما يتم‬
‫تذكيره بحقيقة واحدة مدمرة‪ :‬إن التاريخ هو تاريخ الرجل األبيض والثقافة من صنع الغرب وبعض‬
‫الشرق وال توجد مساهمة سوداء‪ .‬إن إدراك الوعي الزنجي يمنح مطالبة الرجل األبيض بالمنطق والعلم‬
‫والعقلنية بشكل عام‪ ،‬وهذا العقل ال يختلف عن الثقافة االستعمارية‪ ،‬لكن بينما الزنجي ال يرى سوى‬
‫االستسلم الكامل للعالم األبيض‪ ،‬يحاول أوالا اثبات وجود الثقافة السوداء وإنجازاتها األخلقية العظيمة‬
‫(‪ .)P. H. Coetzee and A. P. J. Roux, P.73‬إال أن هناك مرحلة أخرى من الوعي تلك التي خاصة‬
‫بالقومية السوداء المناهضة للبيض تماما ا‪ ،‬في هذا الوعي تحرم الثقافة البيضاء من جميع الصفات اإليجابية‬
‫مثل الجمال والذكاء والخير وما إلى ذلك‪ ،‬فهذه خصائص أصلية للثقافة السوداء التي سرقها الغرب وأساء‬
‫استخدمها‪ ،‬لذلك ال يمكن بأي شكل من األشكال المساومة مع الثقافة البيضاء‪ ،‬بل يجب على العالم األسود‬
‫أن يوحد صفوفه ويكافح من خلل أدوات التمهيد الخاصة به الستعادة ماضيه المجيد واستقلله الثقافي‬
‫والسياسي (‪ .)P. H. Coetzee and A. P. J. Roux, P.74‬إذن الوعي الثقافي في أفريقيا مختلف طبقا ا‬
‫الختلف مستويات الوعي‪.‬‬

‫الهوية الثقافية‪ /‬يقصد بها تلك المبادئ األصلية والذاتية النابعة من األفراد أو الشعوب‪ ،‬وتلك الركائز التي‬
‫تمثل كيان اإلنسان الشخصي والروحي والمادي بتفاعل صورتي هذا الكيان‪ ،‬إلثبات هوية أو شخصية‬
‫الفرد أو المجتمع أو الشعوب‪ ،‬بحيث يشعر كل فرد بانتمائه األصلي لمجتمع ما‪ ،‬ويميزه عن باقي‬
‫المجتمعات‪ .‬وتمثل الهوية الثقافية كل الجوانب الحياتية االجتماعية والحضارية ألعضاء الجماعة الواحدة‬
‫التي ينتمي إليها األفراد‪ .‬وتتمثل عناصر الهوية الثقافية في المظاهر المهمة للشعوب واألفراد مثل العقيدة‬
‫أو الدين‪ ،‬اللغة‪ ،‬التاريخ والماضي‪ ،‬العادات والتقاليد واألعراف‪ ،‬األدب والفنون‪ ،‬طريقة التفكير (محمد‪،‬‬

‫للصراع الدولي أو الثقافي وتصاعد‬ ‫زغو‪ ،2010 ،‬ص‪ .)95-49‬وقد انتشر مفهوم الهوية عالميا ا نتيجة‬
‫االستقطاب الحضاري بين الغرب والشرق وبتعبير آخر بين أوروبا وأفريقيا‪ ،‬فأصبحت الهوية الثقافية‬
‫محل اهتمام ألنها تعتبر وسيلة تحمي الميراث الثقافي المهدد‪ .‬وعندما ظهرت مسألة الهوية الثقافية بلدان‬
‫العالم الثالث‪ ،‬وبفضل األبحاث العلمية تراجعت مواقف االندماج في المجتمع األوروبي وبدأ االعتراف‬
‫بالخصوصية والهوية على المستوى األفريقي (حداد‪ ،‬شفيعة‪ ،2019 ،‬ص‪ .)238-235‬وتتسم الهوية الثقافية‬
‫بنوع من التعقيد في أبعادها وتأثيراتها‪ ،‬وذلك ألنها ترتبط بعدة محددات يصعب التحكم فيها منها‪ :‬منها‬
‫التعددية‪ ،‬فالهويات ذات بنية تعددية تشكلها عدة عناصر منها الدين والعرق واللغة والنسب والتراكم‬
‫التاريخي للخبرة الجماعية والذاتية‪ .‬واالختلف‪ ،‬فالهوية ال تتشكل لدي الذات إال بافتراض وجود آخر‬
‫مختلف في عدة أمور‪ ،‬وقد يكون هذا اآلخر المختلف داخل الكيان السياسي الواحد‪ .‬والسياق االجتماعي‬
‫والتاريخي‪ ،‬فالهوية على الدوام تتأسس في سياق اجتماعي تاريخي محدد‪ ،‬ومع اختلف الزمان والمكان‬

‫‪34‬‬
‫يعاد تشكيل العلقات وتغيرها‪ ،‬كما أن استجابة الناس وتطور الوعي لديهم يؤدى إلى تشعب المسارات‪،‬‬
‫األمر الذي يؤدى بالضرورة إلى صراعات (عبد الوهاب‪ ،‬رانية‪ ،2015 ،‬ص‪.)4‬‬

‫وفي الحقيقة إن قضية الهوية الثقافية تشغل أذهان معظم الباحثين والمفكرين في العالم أجمع‪،‬‬
‫والتي تتضافر جهودهم من أجل الحفاظ على هوية المجتمع الثقافي من االنقسامات وتشتت الهويات بينهم‪،‬‬
‫وكذلك االنتماءات بين أفراد المجتمع‪ ،‬وتقديم المجتمع المتماسك الواحد المحدد الهدف والهوية‪ ،‬حيث إن‬
‫الهوية الثقافية تتعرض اليوم إلى حملت مختلفة ومكثفة من الغزو الفكري‪ .‬وقد قدمت منظمة اليونسكو‬
‫تعريفا ا للهوية الثقافية نصه " الهوية الثقافية تعني – أوالا وقبل كل شيء – أننا أفراد ننتمي إلى جماعة‬
‫لغوية محلية أو إقليمية أو وطنية بما لها من قيم تميزها (أخلقياا‪ ،‬جمالياا‪ ..‬إلخ)‪ .‬ويتضمن ذلك أيضا َ‬
‫األسلوب الذي نستوعب به تاريخ هذه الجماعة وتقاليدها‪ ،‬وعادتها وأساليب حياتها‪ ،‬وإحساس بالخضوع‬
‫أو المشاركة فيه‪ ،‬أو تشكيل قدر مشترك‪ .‬وتعني الطريقة التي تظهر فيها أنفسنا في ذات كلية‪ ،‬وتعد‬
‫بالنسبة لكل فرد منا نوعا ا من المعادلة األساسية التي تقرر – بطريقة إيجابية أو سلبية – الطريقة التي‬
‫تنتسب بها إلى جماعتنا والعالم بصفة عامة"(جمال الدين‪ ،‬نجوى‪ ،2016 ،‬ص‪ .)40-33‬وفي الواقع تعتبر‬
‫قضية الهوية من أهم القضايا التي تطرح على الساحة الفكرية نظرا ا لكونها قضية وجود‪ ،‬أكون أو ال‬
‫أكون‪.‬‬

‫عنصرا أساسياا للهوية الثقافية األفريقية‪ ،‬والثقافة األفريقية نفسها هي مهد‬


‫ا‬ ‫وتعتبر الفلسفة األفريقية‬
‫الفلسفة األفريقية‪ .‬إن أي فلسفة مستمدة من توجه ثقافي معين بحيث ال توجد فلسفة دون عناصر الثقافة‪،‬‬
‫وبالمثل تنبثق الهوية الثقافية من الفلسفة العامة للمجتمع الذي نشأت منه وهذا يعني أن األساس للهوية‬
‫الثقافية لشعب معين هو فلسفتهم في الحياة‪ ،‬لذلك هناك علقة بين الفلسفة والثقافة في مقابل الهوية الثقافية‪،‬‬
‫وهذه العلقة بين الثقافة والفلسفة ممكنة من خلل حقيقة إن جميع البشر يتمتعون بالقوي اللزمة للتخيل‬
‫والتفكير والعقل‪ ،‬وبالتالي ال يمكن ألي كائن عقلني أن يوجد دون ثقافة‪ ،‬وهذا يعني إنه ال يمكن إنكار‬
‫ثقافة أي مجتمع بشري‪ .‬وال يمكن إنكار فلسفة كما يعتقد المفكرون العنصريون أمثال كانط وهيوم‬
‫وهيجل‪ ،‬فإن إنكار الفلسفة لشعوب المجتمعات األخرى هو جريمة ضد اإلنسانية‪ ،‬وال يقتصر األمر على‬
‫إنكار الفلسفة لشعب ما بل إنكار هويته الثقافية أيضاا‪ .‬إن األفارقة لهم فلسفة كما أن لديهم هوية ثقافية أيضا ا‬
‫بنا اء على توجههم الثقافي‪ .‬تلك الخاصية لم تكن فريدة بالنسبة للشعب األفريقي فقط ولكن ألشخاص من‬
‫ثقافات أخرى موجودة في أوروبا وآسيا وأمريكا‪ .‬إال أن الهوية الثقافية األفريقية هي التي تتميز‬
‫بالخصوصية وفريدة من نوعها لشعوب أفريقيا بحيث يمكن استخدامها لتميزهم عن أفراد المجتمعات‬
‫األخرى (‪.)Mawere, M., & Tapuwa R., 2016, P188-189‬‬

‫‪35‬‬
‫وقد أنتجت قضية الثقافة األفريقية الكثير من التيارات المؤثرة فيها‪ ،‬وتعدد الحركات والرواد؛ مثل‬
‫حركة الزنوجة (‪ (Negritude‬وهي حركة ثقافية أدبية للتعبير عن الذات األفريقية ‪ ،‬ترفض االحتواء‬
‫الثقافي األوروبي وخاصة الفرنسي ومن أشهر روادها ليوبولد سينغور وإيمي سيزار‪ ،‬وقد نالت هذه‬
‫الحركة الكثير من الشكوك واالتهامات خاصة أن مواقف بعض أعضائها تدعو إلى الكثير من الشك مثل‬
‫سينجور الذي اشترك في تأسيس منظمة الفرنكوفونية ورئاستها مما سبب إلى تصريح موديمبي بأن هذه‬
‫الحركة صناعة فرنسية‪ ،‬ومن مساوئ هذه الحركة اعترافها ألوروبا بالعلم والتنوير مقابل وصفهم ألفريقيا‬
‫بصورة بدائية (بمبا‪ ،‬آدم‪ ،2018 ،‬ص‪ .)108‬وحركة البان أفريكانزم أو عموم أفريقيا ‪( Pan- Africanism‬‬

‫) وهي حركة مناهضة للعبودية واستعمار السود في أفريقيا والشتات في أواخر القرن التاسع عشر‪ ،‬غطت‬
‫الحركة دعوات الوحدة األفريقية سواء على مستوى القارة أو كشعب والقومية واالستقلل والتعاون‬
‫السياسي واالقتصادي والوعي التاريخي والثقافي خاصة بالنسبة لتفسيرات المركزية األفريقية مقابل‬
‫تفسيرات المركزية األوروبية (إيفانز‪ ،‬إليستير‪ ،)2018 ،‬وحركة كيمت )‪ )Kamitism‬والذي يؤكد‬
‫أنصارها بأن كاميت هو االسم األصل للحضارة المصرية القديمة‪ ،‬ويعتبر الشيخ أنتا ديوب أحد أهم‬
‫الرواد الباحثين عن الهوية الثقافية ألفريقيا السوداء‪ ،‬هو المبشر األول لحركة كيميت‪ .‬حيث نتجت هذه‬
‫الحركة للتحول الجذري الذي أحدثه الشيخ أنتا ديوب في الدراسات التاريخية األفريقية‪ ،‬وذلك بسلسلة من‬
‫الكتب والتي أصبحت من أشهر الكتب في ساحة الدراسات األفريقية‪ ،‬والتي سعى من خلل تلك السلسلة‬
‫إلثبات أن حضارة مصر القديمة هي حضارة زنجية أصلية‪ ،‬وأن أفريقيا هي مهد الحضارات‪ ،‬بل أن‬
‫أصل الجنس األبيض أسود‪ ،‬وكشف عن الكثير من أوجه التزوير المتعمد في التاريخ من قبل الباحثين‬
‫الغربيين‪ .‬يؤكد أصحاب هذه الحركة أن كيمت هو االسم األصلي للحضارة الفرعونية في مصر القديمة‪،‬‬
‫ومعناه أرض السواد‪ ،‬وتتميز هذه الحركة بالعمق الفلسفي والفكري‪ ،‬إذ إن جميع روادها من األكاديميين‬
‫والباحثين البارزين بأفريقيا‪ ،‬ويمكن إيجاز أهم ركائز تلك الحركة في عدة محاور منها تمجيد الحضارة‬
‫الفرعونية بوصفها أصل الحضارات البشرية المعروفة حتى اآلن‪ ،‬أيضا ا رد أصول األديان الكبرى إلى‬
‫األصل الفرعوني‪ ،‬والدعوة إلى العودة إلى القيم األخلقية والثقافية األفريقية‪ ،‬ونبذ كل ما هو أجنبي‬
‫دخيل‪ ،‬ولكنهم ينفون كون هذه الدعوة دعوة عنصرية‪ .‬وأيضا ا حركة افروبوليتان (‪ )Afropolitan‬وهي‬
‫تشير باختصار إلى أفارقة العالم بوصفهم أفارقة وليس بوصفهم كمواطنين في الدولة التي استقروا بها‪،‬‬
‫وهي حركة تعبر عن تأثير ثقافي جديد خاصة بأمريكا ومن أشهر المنظرين لهذا المفهوم الفيلسوف‬
‫الكاميروني أشيل مبيمبي (بمبا‪ ،‬آدم‪ ،2018 ،‬ص‪.)110-109‬‬

‫الهوية األفريقية هي أولى اهتمامات الفلسفة األفريقية الحديثة والمعاصرة ولم تكن الهوية المقصودة‬
‫لدى األفارقة شيئا ا آخر غير الهوية الثقافية تلك التي تميزهم عن غيرهم من شعوب األرض‪ ،‬تلك الهوية‬

‫‪36‬‬
‫التي سعى االستعمار لطمس ملمحها وإضفاء طابع المستعمر على الثقافة األفريقية مما سبب نوع من‬
‫االغتراب الثقافي لدى الفرد األفريقي‪ .‬وكانت الهوية الثقافية هي أولى اهتمامات الشيخ أنتا ديوب والتي‬
‫سعى جاهدا ا إلزالة غبار المستعمر من فوقها (الهوية األفريقية) وإعادة إظهارها بالصورة التي تليق بها‬
‫باعتبارها أولى ثقافات العالم وأول الحضارات التي أثرت على البشرية والتي ال يزال تأثيرها حاضرا ا‬
‫حتى اليوم‪.‬‬

‫ويمكننا القول إن هناك تياران تاريخيين رئيسيين لمنطق الهوية؛ إحداهما أفرزته اإلمبريالية‬
‫والستعمار األوروبي واآلخر نتج عن الخطابات التحريرية األفريقية‪ .‬تظهر الهوية األفريقية في ظل‬
‫التيار الذي ولدته الخطابات اإلمبريالية واالستعمارية األوروبية‪ ،‬على أنها وصفية تنسب إلى الهوية‬
‫العرقية والثقافية‪ .‬في حين أن التيار اآلخر والمهيمن تاريخيا ا في التشكيل الخطابي للهوية األفريقية‪ ،‬يأتي‬
‫من الخطابات التحررية السوداء ‪ /‬األفريقية والتي تسعى إلى استعادة الهوية األفريقية وتأكيدها‪ ،‬هو رد‬
‫فعل على العبودية واإلمبريالية األوروبية واالستعمار والفصل العنصري‪ ،‬وقد أهتم بشكل أساسي‬
‫بمواجهة نفي السواد من خلل صياغة أنطولوجيا السود (‪ .)Ngwena, C., P.6-7‬ويعتبر أنتا ديوب أحد‬
‫رواد التيار الثاني والذي سعى إلى تصحيح وجهة النظر حول الهوية األفريقية مدافع عن الوجود‬
‫التاريخي للزنوج‪ .‬وفقا ا للشيخ أنتا ديوب فإن هناك ثلثة عوامل شكلت مفهومه للهوية الثقافة‪:‬‬

‫العامل التاريخي‪ ،‬حيث اعتبر ديوب أن الضمير التاريخي؛ الذي يسمح للشعب بتمييز نفسه عن السكان‬
‫الذين تكون عناصرهم بحكم التعريف أجنبية‪ ،‬والضمير التاريخي من خلل الشعور بالتماسك الذي‬
‫يرعاه‪ ،‬يشكل الدرع األكثر أمانا ا واألكثر صلبة لألمن الثقافي للشعب‪ .‬وقد رأي أنتا ديوب إنه يجب أن‬
‫يحظى تدريس التاريخ باهتمام الدولة بشكل خاص‪ .‬فإنه يرى بقدر ما يسمح البحث العلمي باستعادته اليوم‬
‫من نهج علمي كتب‪ ،‬يتم تحديد كل تاريخ بدقة ووضعه بشكل صحيح فيما يتعلق باألحداث التاريخية‬
‫العامة‪ .‬كما يرى أن الحضارة المصرية النوبية لعبت نفس الدور تجاه الثقافة األفريقية كما فعلت العصور‬
‫القديمة اليونانية اللتينية في الفترة ما بين العصور القديمة والمدنية الغربية‪ .‬وبهذا العامل يمكن للمرء أن‬
‫يقول إن الناس قد تركوا عصورا ما قبل التاريخ وراءهم من اللحظة التي يصبح فيها مدرك ألهمية الحدث‬
‫التاريخي إلى الحد الذي يخترع فيه أسلوبا ا شفهيا ا أو مفيدا ا – لحفظة وتجميعه (‪Diop, C., 1981, P.212-‬‬

‫‪.)214‬‬

‫عنصرا مكوناا للشخصية الثقافية‪ ،‬وبالتالي للهوية الثقافية‪ ،‬وأشار‬


‫ا‬ ‫العامل اللغوي ويعتبر العنصر اللغوي‬
‫ديوب إلى أنه من الصعب أن نقول بين التحليل التاريخي والعوامل اللغوية‪ ،‬أيهما أكثر أهمية بالنسبة‬

‫‪37‬‬
‫الهتمامه وماذا تعني الوحدة اللغوية األفريقية‪ .‬إن العوامل التاريخية واللغوية تم عرضها على أنها‬
‫مجموعة من العناصر اللغوية للثقافة (‪.)Diop, C., 1981, P.214-216‬‬

‫العامل النفسي وقد يتم إدراكه تقليديا ا بطريقة نوعية من خلل األدب‪ ،‬ال سيما من خلل الشعر‪ ،‬فقد غنت‬
‫جميع الشعوب فضائلها الخاصة في حين أن العاملين السابقين (اللغوي والتاريخي) ال يخضعان إال لمفهوم‬
‫علمي صارم‪ .‬من أجل فهم الهوية الثقافية اليوم‪ ،‬يمكن تجربة المنهج العلمي للعامل النفسي على حد‬
‫السواء‪ ،‬في سياق النهج االجتماعي التاريخي (‪ .)Diop, C., 1981, P.218‬ومن هذا المنظور –‬
‫االستكشاف العلمي للتاريخ واللغويات تحدي ديوب العلماء األفارقة للنخراط في دراسة جادة لمجتمعاتهم‬
‫من أجل تحريرهم من الهيمنة‪ .‬وقد صرح إيفان فان سيرتيما أن أطروحة ديوب التي توصلت إلى هذه‬
‫االستنتاجات نفسها‪ ،‬قد تم رفضها ألنها تتعارض مع كل ما تم تدريسه في أوروبا لمدة قرنين من الزمان‬
‫حول أصل الحضارة (‪.)Nabudere, D., 2007, P.10‬‬

‫ثانيا ا العرق والعنصرية والهوية األفريقية‪:‬‬

‫هنا علينا أن نتوقف لنناقش قضية ارتكز عليها الفكر األوروبي والفلسفات العنصرية والتي تؤكد‬
‫ترتيب البشر وفق أجناسهم ووفق ألوانهم ومقابل تلك االتجاهات العرقية العنصرية‪ ،‬نؤكد أن القول بامتياز‬
‫أجناس عن أجناس أخرى شائع عند معظم األمم في العصور القديمة والوسطى‪ ،‬وال يزال قائما ا عند‬
‫الغرب وخاصة أوروبا إلى اليوم‪ .‬فاليونان كانوا يرون أنفسهم أفضل األمم وأذكاها وبقية الخلق همج‪،‬‬

‫والرومان جعلوا الروماني فوق غيره بحكم القانون‪ ،‬حتى صاروا إذا أرادوا أن يرفعوا من قدر إنسان أو‬
‫جنس أصدرت لهم الدولة قرارا بمنحة الجنسية الرومانية‪ ،‬وكذلك الصين كان أهلها يؤمنون بأنهم أفضل‬
‫الخلق‪ ،‬وأنه ال وجود ألي حضارة أو فضيلة خارج جنسهم‪ .‬ولعل أبرز ما يركز عليه القائلون بنظرية‬
‫تفضيل األجناس من أهل الغرب هو اللون‪ ،‬فهم يذهبون إلى القول بأن فهم التفوق الخلقي والمعنوي‬
‫مرتبط بصورة ما بلون البشرة‪ ،‬أي بنسبة خلو البشرة من السواد‪ ،‬ومن ثم فهم يذهبون إلى تفوق الجنس‬
‫ذي اللون األبيض (مؤنيس‪ ،‬حسين‪ ،‬ص‪ .)40-39‬فقد كانت فكرة الدونية البيولوجية واألنطولوجية هي‬
‫الدعامة األساسية للعنصرية العلمية والفلسفية (‪ ،)Edwin E., 2018, P.16‬لذلك كانت قضية العرق هي‬
‫المنصة التي يمكن من خللها فهم الموقف التاريخي لتشكيل الهوية األفريقية‪ ،‬وهي نقطة البداية‪ ،‬في‬
‫وجود أرضية مشتركة بين دعاة الزنوج لمعارضة االستعمار والعنصرية المجردة من اإلنسانية‪ ،‬هي‬
‫تطوير خطاب مشترك من شأنه أن يؤكد على المساواة والكرامة الكاملة للسود ( ‪Ngwena, C., 2018,‬‬

‫‪.)P.132‬‬

‫‪38‬‬
‫ومن المنظور الغربي الحضارة ممكنة بشرط أن يكون الفاعل حيوانا عقلنيا‪ ،‬لذلك األفارقة لم‬
‫يتمكنوا من بلوغ أي حضارة‪ ،‬وهذا هو الخط الفاصل بين الحضارة والهمجية‪ .‬فقد أدعي المستعمر أن‬
‫يكون صاحب حضارة متفوقة‪ ،‬وفقا ا لذلك‪ ،‬عندما واجه المستعمر األفريقي كانت صلحياته وحقوقه‬
‫والتزاماته محددة سلفاا‪ .‬المستعمر متحضر واألفريقي بربري‪ ،‬المستعمر له حقوق وصلحيات ضد‬
‫األفريقي‪ ،‬ولكن دون أي التزامات تجاه األفريقي وهذه العلقة أحادية االتجاه حالت دون المعاملة بالمثل‬
‫فكان لألفريقي التزامات تجاه المستعمر فقط ولكن ليس لديه حقوق ( ‪The African Philosophy‬‬

‫‪ .)Reader, P.545‬ولكن إذا كانت العقلنية هي جوهر اإلنسانية‪ ،‬وإنه من غير المعقول أن يكون البشر‬
‫غير عقلنيين لفترات طويلة من حياتهم أو طيلة حياتهم‪ .‬فكيف يمكن ألي شخص أن ينكر العقلنية‬
‫لألفارقة أو يشكك في وجودها بين األفارقة‪ ،‬والمثير للدهشة هو أن إنكار العقلنية ليس لفرد أو اثنين‬
‫ولكن لكل األفارقة‪ ،‬فإذا كانت العقلنية جوهر اإلنسانية‪ ،‬وإذا كان األفارقة يفتقرون إلى العقلنية‪ ،‬فإن‬
‫األفارقة يفتقرون إلى الجوهر األساسي لإلنسانية‪ ،‬وبالتالي فإن األفارقة ليسوا بشرا ا ألنهم يفتقرون إلى‬
‫الشيء الذي يجعلهم بشرا ا مميزين(‪ )Edwin E., 2018, P.15‬؟!‪.‬‬

‫عارض ديوب المفهوم العنصري للعرق الزنجي فمنذ بداية عملة انتبه إلى حقيقة أن الدراسات‬
‫األوروبية يهيمن عليها التحيز العنصري وفرضية تفوق األوروبي على األجناس األخرى‪ .‬رأي ديوب أن‬
‫العنصرية والبحث العلمي الجيد غير متوافقين تماما ا ويؤديان إلى أفكار واستنتاجات خاطئة‪ .‬كما أنه الحظ‬
‫في نفس الوقت أهمية العرق في النفس األوروبية‪ ،‬حيث ظهرت العنصرية أثناء االحتلل الروماني‬
‫لمصر وقدم دليل على استمرارها‪ ،‬فقد أشار إلى أنه مع نهاية العصر السكندري تم وضع ممارسات‬
‫تمييزية عنصرية ضد السود المصريين في وطنهم‪ ،‬كما فعل العنصريون األوربيون الحقا ا في‬
‫مستعمراتهم السابقة‪ .‬إن هذه العنصرية المبكرة قد حطت من قدر المصريين األفارقة إلى مرحلة نصف‬
‫حيوان‪ .‬ألجل ذلك قام ديوب بالتحقيق في قضية العرق (‪.)Nabudere, D., 2007, P.13‬‬

‫فقد أظهرت دراسات ديوب أن مفهوم العرق كان حاسما ا لفهم العلقات االجتماعية واألحداث‬
‫التاريخية‪ ،‬فقد أظهر كيف أعترف علماء المركزية األوروبية ودافعوا عن وجود العرق عندما كان األمر‬
‫يتعلق بالعلقات االجتماعية‪ ،‬إال إنهم ينكرون وجوده كدفاع ضد أي إدانة للتمييز العنصري‪ ،‬وقد الحظ‬
‫ديوب إنه في حين أنكر العلماء البيض مفهوم العرق‪ ،‬إال أنهم اعترفوا به بشكل غير مباشر في تحديد‬
‫أمراض معينة (‪ ،)Nabudere, D., 2007, P.14‬ومن هنا أسهم العلم في بناء تعددية عرقية في أفريقيا‪ ،‬فقد‬
‫سعى منظرو تفوق البيض على التلعب بالعلم‪ .‬علم فراسة الدماغ‪ ،‬علم قياس الجماجم‪ ،‬اختبار الذكاء‪،‬‬
‫تلك هي األساليب العلمية التي جندها علم األعراق تاريخيا ا في محاولة لتحديد االختلفات البيولوجية‬
‫الجوهرية وإثبات أن االختلفات العرقية ثابتة وعميقة‪ ،‬مما يزيد من ترسيخ فكرة أن األشخاص السود هم‬
‫‪39‬‬
‫في جوهرهم أدنى منزلة من البيض‪ .‬ومن خلل علم فراسة الدماغ‪ ،‬حدد العلماء للبيض امتلكهم ألكبر‬
‫األجزاء األمامية من الدماغ المرتبطة بوظائف عقلية أعلى وبالتالي تفوقهم على السود‪ .‬كما قدم اختبار‬
‫معدل الذكاء نصيبه من العلوم الزائفة‪ ،‬حيث تم تفسير االختلفات بين األطفال البيض يعود إلى اختلف‬
‫البيئة‪ ،‬في حين أن الوراثة كانت التفسير المقدم للختلفات بين األطفال السود والبيض‪ .‬لقد كان علم‬
‫األنساب الذي نشأ في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يرجع إلى نظام الطبقات العرقية‪،‬‬
‫حيث بعض األجساد نقية ومحايدة وعقلنية وأخرى غير نقية وغير طبيعية وغير عقلنية ( ‪Ngwend,‬‬

‫‪.)C., P.79-83‬‬

‫وبالنسبة للنظريات العرقية يمكن ملحظة عدة نقاط تتعلق بها منها؛ أن فكرة تشكيل األعراق‬
‫بيولوجيا ا زادت من حدة التناقض بين االختلف العرقي وفكرة اإلنجيل القائلة إن األعراق البشرية وحدة‬
‫من خلق هللا‪ ،‬إال أن العلماء حاولوا إزالة هذا التناقض من خلل العوامل البيئية والتي من بينها أن الطقس‬
‫قد غير النوع األصلي الوحيد‪ .‬أيضا ا بدالا من اعتراض النقاشات العلمية للعرق على األنماط السلبية‪ ،‬فإنها‬
‫عملت على توسيعها وتطويرها وعن طريق منح خصائص عرقية للختلفات البيولوجية مثل أحجام‬
‫الجمجمة والعقل أو الجينات ومن خلل اإلصرار على الصلة بين هذه العوامل والسمات االجتماعية‬
‫والثقافية حول العلم "الهمجية" "الحضارة" إلى أوضاع ثابتة ودائمة‪ .‬وأخيرا ا فقد وسع العلم مع اقتران‬
‫"العرق" "باألمة" منذ القرن السادس عشر حتى الثامن عشر غالبا ا ما اعتبرت كلمة عرق مرادفة ألشكال‬
‫مختلفة من التجمعات مثل األقارب والسللة والوطن واألسرة (لومبا‪ ،‬انيا‪ ،2007 ،‬ص‪.)125-123‬‬

‫ومثلما ساهم العلماء في وجود تلك النزعة العنصرية لم يدخر فلسفة أوروبا المشهورين بمن فيهم‬
‫هيجل وكانط وهيوم ولوك وفولتير سوى القليل من الجهد للترويج لآلراء العنصرية الخبيثة فمنذ زمن‬
‫هيجل‪ ،‬تم تخصيص قدر كبير من الجهد الفكري لدراسة الشعوب األفريقية لحل المشكلة التي أثارتها‬
‫عقيدة هيجل االستفزازية فيما يتعلق بتعريف ودور العقل في التاريخ باعتباره حاكم العالم والتاريخ‪ ،‬وفيما‬
‫يتعلق باستبعاده لألفارقة‪ ،‬بالنسبة لهيجل(*)‪ ،‬يجب على أي نظام تاريخي أن يعامل أفريقيا على أنها أرض‬
‫لم يصل إليها الوعي بعد‪ ،‬فقد استبعد هيجل أفريقيا من التاريخ والحضارة‪ ،‬فلم يكن ألفريقيا وجود بين‬
‫ثقافات أو حضارات هيجل‪ ،‬فمن وجهة نظره أن أفريقيا غير تاريخية‪ ،‬روح غير متطورة – ال تزال‬
‫تشارك في ظروف الطبيعة المجردة ؛ خالية من األخلق والديانات والدستور السياسي‪ ،‬ومن ثم فهو يرى‬
‫أن هناك مبررا الستعباد أوروبا واستعمارها ألفريقيا(‪.)Adegbindin, O., 2015, P.20‬‬

‫ان التاريخ عند هيجل هو عرض لماهية الروح والتي تتمثل في الحرية‪ ،‬ومن ثم فإن مسار التاريخ هو تقدم الوعي‬ ‫(*)‬

‫بالحرية‪ ،‬ويقدم هيجل هذه الحرية تقسيما ا ثلثيا ا يبدأ من عالمنا الشرقي وينتهي بعالمه الجيرماني‪ .‬هيجل‪ ،‬محاضرات في‬
‫فلسفة التاريخ (العالم الشرقي)‪ ،‬ترجمة امام عبد الفتاح امام‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،2007 ،‬ط ‪.3‬‬
‫‪40‬‬
‫لقد قسم هيجل أفريقيا إلى ثلثة أجزاء ‪ -1‬أفريقيا نفسها‪ ،‬وهي التي تقع جنوب الصحراء؛ ‪-2‬‬
‫أفريقيا األوروبية الواقعة شمال الصحراء؛ ‪ -3‬مصر‪ ،‬وهي تلك المنطقة المرتبطة بآسيا‪ .‬فيما يتعلق‬
‫بأفريقيا نفسها‪ ،‬يشير هيجل على أنها أرض طفولية‪ ،‬يلفها عباءة الليل المظلم‪ .‬كذلك في الحياة الزنجية‪ ،‬لم‬
‫يصل الوعي إلى النقطة المميزة إلى إدراك الوجود الموضوعي الجوهري‪ ،‬ومن ثم لم يصل إلى مستوى‬
‫إدراك كيانه؛ إدراك شخصه‪ .‬األفريقي على حد تعبير هيجل‪ ،‬هو اإلنسان في حالته الوحشية تماما ا‬
‫(‪.)Kuykendall, R., 1993, P.572‬‬

‫إن الرؤية التي ربطها األوربيون باألفارقة هي رؤية تتناقض مع الرؤية التي ارتبط بها‬
‫األوربيون أنفسهم‪ ،‬وفقا ا لهيجل ال ينبغي النظر إلى مصر على أنها جزء من أفريقيا نفسها وال ينبغي‬
‫اعتبار المصريين أفارقة حقيقيين‪ ،‬الجزء الشمالي من أفريقيا ليس جز اءا من أفريقيا الحقيقة كما يراه‪،‬‬
‫فأفريقيا الحقيقة الوطن الحقيقي للزنوج هي أفريقيا التي تقع جنوب الصحراء‪ ،‬وينظر إلى الزنوج على‬
‫أنهم خارج البشر‪ ،‬لذلك فهم ليس لديهم وعي ألنفسهم كبشر وال يمكنهم التعرف على إنسانية غيرهم من‬
‫البشر ومن ثم فهم يفتقرون إلى الوعي األخلقي وال يمكنهم توقع معاملتهم بطريقة أخلقية‪ ،‬وال يتوقع‬
‫منهم أن يعاملوا البشر بطريقة أخلقية‪ ،‬لذلك يجب معاملتهم بالطريقة التي يجب أن تعامل بها الحيوانات‪.‬‬
‫من وجهة نظر هيجل‪ ،‬ال يمكن للكائنات أن تصبح بشر حتى تمزق نفسها بعيدا ا عن المجال الحيواني‪ ،‬مثل‬
‫هذا التمزيق يمنح البشر هويتهم الحقيقية – هوية تتكون أساسا ا من الحرية‪ ،‬فمعني ذلك أن تكون إنسانا ا وأن‬
‫تكون حرا ا هما نفس الشيء‪ .‬ويدعي هيجل أن األمم الجرمانية هي أول من أدركت أن اإلنسان حر من‬
‫خلل المسيحية‪ ،‬فهي األولى في تاريخ البشرية التي أصبحت تدرك حق الهوية اإلنسانية وتجسيدها وأول‬
‫من افتتح التاريخ البشري الحقيقي‪ ،‬بينما كانت األمم األخرى في عصور غير تاريخية‪ ،‬فالمسيحية سهلت‬
‫االنتقال من مجال الحيوان إلى المجال البشري بينما لم يستطع الزنوج االنتقال إلى المجال البشري ألنهم‬
‫كانوا وثنيين أو كفار (‪.)Murungi, J., 2017, P.88-89‬‬

‫إن السمة البارزة للحياة الزنجية عند هيجل هي أن الوعي لم يبلغ بعد مرحلة التحقيق الفعلي ألي‬
‫وجود موضوعي جوهري مثل‪ :‬هللا أو القانون؛ اللذين ترتبط بهما مصلحة اإلنسان وفيها يحقق وجوده‬
‫الخاص‪ .‬فالرجل الزنجي يمثل اإلنسان الطبيعي في حالته الهمجية غير المروضة تماما كما تتميز‬
‫الشخصية الزنجية في نظر هيجل باالفتقار إلى ضبط النفس وتلك حالة تعجز عن أي تطور‪ ،‬ولهذا كان‬
‫الزنوج باستمرار على نحو ما نراهم اليوم‪ .‬وتعتبر الرابطة الجوهرية الوحيدة التي وجدت ودامت بين‬
‫الزنوج واألوربيين هي رابطة الرق والعبودية‪ ،‬وال يرى الزنوج في هذه الرابطة شيئا مشينا ال يليق بهم‪،‬‬
‫بل إن الزنوج عاملوا اإلنجليز أنفسهم على أنهم أعداء ألنهم بذلوا جهدا كبيرا ا في إلغاء الرق‪ .‬وتعد نظرة‬
‫هيجل هذه في موضع غير إنساني على اإلطلق‪ ،‬بل هي روح استعمارية‪ ،‬إذ كيف يتم تفسير تزامن دعوة‬
‫‪41‬‬
‫هيجل الفلسفية ومثيلتها بظهور النزعة الكولونيالية المتمثلة في االنطلق لغزو العالم من أجل توسيع‬
‫المجال األوروبي اقتصاديًّا (عطية‪ ،‬أحمد‪ ،‬ص‪.)135-134‬‬

‫ويمكننا القول بنا اء على ما تقدم إن هيجل فيلسوف مبدع أكثر من أي فيلسوفاا غربياا آخر‪ ،‬فهو‬
‫الحالة األكثر نسقية لتفوق الحداثة البرجوازية الغربية البروتستانتية البيضاء‪ .‬أسس سلما ا عرقيا لتدرج‬
‫شعوب العالم‪ ،‬ووضع األلمان في قمة الهرم العرقي‪ ،‬وشعوب آسيا في الوسط‪ ،‬واألفارقة والسكان‬
‫األصليين لألمريكي تين وجزر المحيط الهادئ في القاع‪ .‬وكما يشير تبيبو ‪ Tibebu‬في كتابه "هيجل والعالم‬
‫الثالث" ‪ Hegel and the Third World‬أن مثل هذا التصنيف ينبع من فلسفة هيجل في تطور الوعي‬
‫اإلنساني‪ .‬لقد صنف هيجل األفارقة على أنهم أشخاص مقيدون في أقل مرحلة من الوعي وأكثرها سذاجة؛‬
‫أي المرحلة الحسية‪ ،‬واآلسيويين كأشخاص ذوي وعي منقسم‪ ،‬أي مرحلة الفهم؛ األوروبيين كشعب العقل‪.‬‬
‫وكما يوضح تبيبو فإن آراء هيجل لم تكن قاصرة عليه وحده ولكنها تعكس المعتقدات األساسية لشخصيات‬
‫رئيسية أخرى في الفكر الغربي في ذلك الوقت (عطية‪ ،‬أحمد‪ ،‬ص‪.)131‬‬

‫لقد كان هيجل معجباا جدا ا بالحضارة المصرية القديمة وكانت لها منزلة خاصة لديه في إطار‬
‫فلسفة التاريخ‪ ،‬حيث نظر إلى مصر على أنها أرض العجائب وظلت كذلك حتى العصر الحاضر‪ ،‬وقد‬
‫حصل على معلوماته عن مصر من اليونان وبصفة خاصة من المؤرخ العظيم هيرودوت‪ .‬فبالنسبة للروح‬
‫المصرية فإن األيلين أطلقوا على المصريين‪ ،‬طبقا ا لرواية هيرودوت‪ ،‬لقب أحكم حكماء البشر‪ .‬ويندهش‬
‫هيجل من وجود ذلك الذكاء النظري وذلك التنظيم العقلي الكامل الذي تتسم به المنظمات والمؤسسات‬
‫المصرية‪ ،‬وهم على مقربة من الغباء االفريقي (إمام‪ ،‬عبد الفتاح‪ ،2007 ،‬ص‪.)194‬‬

‫وفقا ا لهيجل فإن مصر قد حصرت نفسها من الناحية العقلية في نظرة ضيقة وثيقة الصلة‬
‫بالطبيعة‪ ،‬لكنها تجاهد لكسرها أيضا ا فتدفعها بذلك إلى تناقض ذاتي‪ ،‬وتطرح على نفسها المشكلة التي‬
‫يتضمنها هذا التناقض‪ .‬إن الروح المصرية عملت على تحرير نفسها من الصور الطبيعية‪ ،‬إال أن الروح‬
‫الملحة لم تكن قادرة على البقاء في إطار التصور الذاتي للمضمون الذي تأخذ به هذه النظرة لألشياء‪ ،‬بل‬
‫كانت مضطرة إلى أن تمثلها للوعي الخارجي عن طريق الفن‪ .‬لذلك فنجد أن المصريين قد أقاموا‬
‫إمبراطورية عظيمة ومدهشة تبرهن أطللها على عدم قابليتها للفناء‪ .‬ومن الجدير بالذكر أن المصريين‬
‫هم أول من عبر عن الفكرة القائلة بأن النفس البشرية خالدة‪ ،‬والقول بخلود الروح يعني أن الفرد البشري‬
‫يمتلك في ذاته قيمة ال متناهية‪ .‬إن الروح المصرية من جميع جوانبها منغلقة على نفسها داخل حدود‬
‫التصور الجزئي‪ ،‬ومنحدرة حتى درجة حيوانية‪ ،‬لكنها في الوقت ذاته تكافح للخروج من هذه الحدود‪ ،‬لكن‬
‫لم يحدث أن ارتفعت هذه لروح إلى منزلة الكلى أو األعلى‪ ،‬وأن اليونان هي التي أنجزت تلك المهمة‬

‫‪42‬‬
‫وجعلت منها نقطة بدايتها وانطلقها (إمام‪ ،‬عبد الفتاح‪ ،2007 ،‬ص‪ .)214-207‬يؤكد هيجل أن مصر هي‬
‫أكمل مثاال لنمط التعبير الرمزي‪ ،‬سواء من وجهة نظر المضمون أم الشكل؛ فمصر هي بلد الرموز‪ ،‬التي‬
‫تطرح‪ ،‬غالبا دون أن تحلها‪ ،‬وهو يهتم بالمعضلت ذات الصلة بانكشاف الروح لذاته وفك الروح أللغازه‬
‫بذاته‪ .‬من هنا يقول ان المصريين هم‪ ،‬من بين سائر الشعوب‪ ،‬الشعب الفنان األسمى موهبة‪ .‬غير أن‬
‫أعمالهم الفنية‪ ،‬تبقى غامضة وخرساء‪ ،‬جامدة وبل صدى‪ ،‬ألن الروح لما يجد فيها بعد تجسيده الحقيقي‬
‫وال يعرف بعد لغة الروح الواضحة الدقيقة (عطية‪ ،‬أحمد‪ ،‬ص‪.)154‬‬

‫رغم أن هيجل حط من شأن الزنوج واألفارقة‪ ،‬نجده يعلى من شأن الحضارة المصرية القديمة‪،‬‬
‫فيجعلها أول حضارة في التاريخ‪ ،‬وأول ظهور للروح ومحاولتها الخروج من إطار المادة‪ ،‬كما أنها أول‬
‫حضارة أمنت بخلود النفس البشرية ومن هنا اهتمت بتحنيط الجسد لكي تعود الروح إليه مرة أخرى‬
‫(عطية‪ ،‬أحمد‪ ،2019 ،‬ص‪.)199‬‬

‫أخطأ هيجل في نظرته ألفريقيا في إطار عرضة لماهية الروح لعدة أسباب منها؛ إن هيجل قد‬
‫اعتمد في معلوماته المتعلقة بأفريقيا على المبشرين الذين أكدوا بعدم وجود ثقافة لدي األفارقة‪ ،‬كما أخطأ‬
‫في تأكيداته حول الحكم على األفارقة على أساس تطور ثقافته األوروبية‪ ،‬وأن التطور التكنولوجي كما‬
‫يلحظ كواسي ويردو هو مجرد جانب وأحد وليس جوهر التقدم الثقافي‪ .‬والقول بأن األفارقة ال يمتلكون‬
‫تكنولوجيا‪ ،‬وبالتالي فإنهم غير متطورين ثقافيا‪ ،‬هو رد لجوهر الثقافة إلى خصائصها‪ .‬األمر األهم هو أن‬
‫األفارقة لديهم ثقافة تحدد ماهيتهم كأفارقة‪ ،‬فيما يتعلق بكيفية إدراكهم للواقع والسعي لتحقيق التقدم في‬
‫جعل الحياة ذات معنى‪ .‬لذلك‪ ،‬ينبغي رفض مركزية هيجل األوروبية واعتبارها كمحاولة لتنميط األفارقة‬
‫وحرمانهم من إنسانيتهم الكاملة الواعية (عطية‪ ،‬أحمد‪ ،2019 ،‬ص‪.)89‬‬

‫وفي المجمل أخطأ هيجل في تحليله للعالم الشرقي على الرغم من عمق التحليل الهيجلي للعالم‬
‫الشرقي‪ ،‬إال أنه قد وقع في خطأ ظاهر عندما جعل مراحل التاريخ المختلفة تسير وفق فكرة عقلنية قبلية‪.‬‬
‫فهوال يهتم كثيرا ا كما يؤكد بالمسار التاريخي لألحداث أو الدولة؛ فالصين ألنها تمثل الوحدة الجوهرية أو‬
‫أول مقولة في المنطق الوجود الخالص كانت هي البداية التي يبدأ منها التاريخ‪ ،‬ولما كانت الهند تمثل‬
‫المقولة الثانية (العدم) فإنها تعبر عن الخطوة التالية في حين أنه جعل من مصر آخر ما ظهر ليكون‬
‫الجسر الذي تعبر عليه ‪ -‬الروح من الشرق إلى الغرب‪ .‬وهذه التواريخ كلها فيما يوضح مشكوك في‬
‫صحتها‪ ،‬فقد كشف المؤرخين عن حضارات في الشرق األدنى ربما كانت أقدم كثيرا ا من حضارة الصين‬
‫أو الشرق األقصى عموما ا (عطية‪ ،‬أحمد‪ ،‬ص‪ .)123‬وترى الباحثة أن هيجل أخطأ خطأ ا فادحا ا حينما عزل‬
‫مصر عن أفريقيا كيف ذلك ومصر تقع جغرافيا ا داخل القارة السمراء‪ ،‬فذلك امرا ا منافيا ا للعقل والمنطق‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫ولماذا هذه الثقة في تلك اآلراء حول العالم الشرقي وأفريقيا ومصر‪ ،‬إذا كان هيجل لم يقم بنفسه لزيارة‬
‫تلك األماكن والوقوف على حقيقة األمر‪ ،‬لربما كان المبشرون الذين نقلوا اخبار هذه المناطق مخطئين‪.‬‬

‫وفي حقيقة األمر لم يكن هيجل بعقيدته العنصرية هذه‪ ،‬وحده من روج لمثل تلك اآلراء ولم يكن‬
‫وحده من اعتمد على آراء الكتاب والمبشرين؛ فها هو فيلسوف التنوير كانط في إطار آرائه حول‬
‫األنثروبولوجيا والجغرافيا الطبيعية باعتبارهما جنبا ا إلى جنب يعطيان المعرفة الكلية حول اإلنسان‪ ،‬يرى‬
‫أنه من خللهما يتم تصور أجناس بشرية مختلفة تظهر فئات أصلية ومتميزة بيولوجيا ا‪ ،‬موزعة جغرافياا‪.‬‬
‫بأخذ دليل األلوان للتصنيف العنصري‪ ،‬حيث صنف كانط البشر إلى‪ :‬أبيض (أوربيون)‪ ،‬أصفر‬
‫(آسيويون)‪ ،‬أسود (أفارقة) وأحمر (هنود أميركيون)‪ .‬ومن خلل الجغرافيا األخلقية والتي يمكن تسميتها‬
‫أيضا ا الجغرافيا الثقافية؛ تدرس العادات والتقاليد التي تجمعها كل من هذه األجناس أو الطبقات أو‬
‫المجموعات‪ .‬العادات والتقاليد البشرية التي تمارسها الشعوب غير األوروبية المدرجة في قائمة كانط؛‬
‫خالية من المبادئ األخلقية ألن هؤالء الناس يفتقرون إلى القدرة على تنمية الشخصية‪ ،‬ويفتقرون إلى‬
‫الشخصية التي يفترض أنها تفتقر إلى الوعي الذاتي واإلرادة العقلنية‪ ،‬والتي تعكس الذات (مفهوم األنا)‬
‫وأن اإلرادة العقلنية التي تجعل بناء الشخصية (األخلقية) ممكنة هي العملية (التعليمية) لتنمية الخير‬
‫الكامنة في الطبيعة البشرية (‪.)Eze, E., 1997, P.115‬‬

‫وفقا ا لكانط أن األنثروبولوجيا النظرية‪ ،‬تفترض أن خصوصية الوجود األوروبي هي نموذج‬


‫إنساني تجريبي ونموذجي مثالي لإلنسانية العالمية‪ ،‬بحيث يكون اآلخرون أكثر أو أقل إنسانية أو‬
‫متحضرة (قابل للتعليم أو متعلم) يقاربون هذا النموذج األوروبي‪ ،‬ومن المتوقع إلى حد ما أن "العرق"‬
‫الوحيد الذي يدركه كانط ليس فقط قابلا للتعليم‪ ،‬بل قادرا ا على التقدم في العملية التعليمية للفنون والعلوم‬
‫هم األوروبيون "البيض"(‪ .)Eze, E., 1997, P.117‬يعطي كانط اختلفا على تصنيف األجناس من خلل‬
‫توضيح المناخ الجغرافي األساسي‪ ،‬ولكن المتغير السائد هنا هو لون الجلد‪ .‬يتبع مخطط كانط الهرمي‬
‫للمتفوق من الشكل األعلى إلى األسفل للجلد كما يلي‪:‬‬

‫العرق األول‪ ،‬أشقر جدا (شمال أوروبا)‪ ،‬من البرد الرطب‪ .‬العرق الثاني‪ ،‬النحاس األحمر‬
‫(أمريكا)‪ ،‬من البرد الجاف‪ .‬العرق الثالث‪ ،‬أسود (الزنجي)‪ ،‬ذو حرارة جافة‪ .‬السللة الرابعة‪ ،‬أصفر‬
‫(الهنود)‪ ،‬حرارة جافة واالفتراض الك امن وراء هذا الترتيب هو على وجه التحديد االعتقاد بأن لون‬
‫البشرة المثالي هو األبيض‪ ،‬واآلخرون يتفوقون أو أقل شأنا ا ألنهم يقتربون من البياض‪ .‬في الواقع؛ جميع‬
‫أنواع البشرة األخرى هي مجرد تطورات متجددة من األصل األبيض " األبيض"‪ ،‬في النظام العقلني‬
‫واألخلقي العرقي لكانط‪ ،‬أعلى منصب أعله كل المخلوقات‪ ،‬متبوعة بـ "األصفر" ثم "األسود" ثم‬

‫‪44‬‬
‫"األحمر"‪ .‬لون الجلد لدي كانط هو دليل على "موهبة" متفوقة أو أدنى أو ال "موهبة" أو القدرة على‬
‫إدراك العقل والكمال األخلقي العقلني من خلل التعليم‪ ،‬وموقف كانط من أهمية لون البشرة ليس فقط‬
‫ضا دليل على هذا التدوين للتفوق العقلني أو الدونية (‪ .)Eze, E., 1997, P.119‬خالف‬
‫كتشفير ولكن أي ا‬
‫ديوب فكرة كانط السابقة من حيث إن جميع األنواع ما هي إال تطور ناتج عن األصل األبيض‪ ،‬حيث‬
‫ذهب أن األصل األول لإلنسان هم الزنوج وليس البيض‪ ،‬وهذا ما سيتم مناقشته الحقاا‪.‬‬

‫ومما سبق ذكره يمكننا استنتاج أن ما فعله ديوب هو ذاته ما فعله الغرب وأن االختلف يكمن في‬
‫الهدف؛ فكان الغرب من أجل الهيمنة والسيادة اعتمادا ا على الحالة الحضارية والثقافية التي ينعم بها‪ ،‬أما‬
‫ديوب يمارس نفس العنصرية وتوظيف العرق إلثبات وترسيخ وجوده في عمق التاريخ دون أن تكون‬
‫لديه نهضة ملموسة يدشن خللها تصوراته لألنا األفريقية المهمشة‪.‬‬

‫لكن ما هي مصادر معلومات كانط عن شعوب وثقافات غير األوروبيين؟ كيف فعل ذلك؟ كيف‬
‫تمكن كانط من جمع الكثير من "المعرفة" عن أفريقيا وآسيا واألمريكيتين؟ أحد المصادر الواضحة هو‬
‫الكتب ‪ -‬وكانت موجودة في زمن كانط حيث نشرت العديد من الروايات عن "بلد أخرى" في أدبيات‬
‫السفر‪ ،‬وكلهما جاد ومضيء‪ ،‬وكذلك القصص والروايات التي استغلت المصالح الناشئة في قصص‬
‫غريبة للمستكشفين والمبشرين والباحثين عن الثروة‪ .‬فكانت تلك الكتب هي الطريق لمعرفته‪ ،‬وبالطبع‬
‫كتأكيد "لألدلة" و "البراهين" في محاضراته األنثروبولوجيا والجغرافيا‪ .‬ومما سبق نميل إلى القول بأن‬
‫"نظرية كانط العرقية كما ورد في كتاباته األنثروبولوجية والثقافية والجغرافية كانت مجرد إعادة تدوير‬
‫للقوالب النمطية العرقية واألحكام المسبقة‪ ،‬تغذيها خلل زمن كانط بروايات السفر في القرن الثامن عشر‬
‫أراض أخرى‪ .‬وفي ظل هذه‬
‫ٍ‬ ‫األوروبيون الذين لديهم طموحات سياسية وثقافية اقتصادية وإمبريالية في‬
‫القراءة‪ ،‬سيكون كانط يتبع المضي قدما في تقليد العنصرية والتمركز العرقي المألوف في األدب وكتابات‬
‫سياسية لمونتسكيو أو لوك أو هيوم (‪.)Eze, E., 1997, P.129‬‬

‫ومن منطلق تلك النزعة العنصرية وفي ظل اإلحباط وااللتباس‪ ،‬سعى الفلسفة األفارقة الستعادة‬
‫وإعادة خلق الهوية األفريقية األصلية المفقودة في حقبة االستعمار‪ .‬لذلك كانت اإلجابة عن سؤال النقاش‬
‫حول الهوية األفريقية المقصودة من أجل شعور األفارقة بأنهم فقدوا هويتهم أو أنهم حرموا منها‪ ،‬وكانت‬
‫العبودية واالستعمار والعنصرية عوامل رئيسية أدت إلى هذا الشعور (موتازو‪ ،‬ليوباترا‪ ،‬ص‪ .)29‬لقد رفض‬
‫كثيرا ا من الباحثين السود هيجل وغيره‪ ،‬ألن كتابه "محاضرات في فلسفة التاريخ" يسيء إلى األفارقة‬
‫بشكل بشع ومخزي‪ .‬يناقش باباكار كامارا ‪ Babacar Camara‬في دراسته "مغالطة أطروحات هيجل‬
‫ّ‬
‫الحط من "الزنجية" في أطروحات هيجل‪ ،‬ويدحض من وجهة نظر أفريقية‬ ‫حول أفريقيا"‪ ،‬أوالا‬

‫‪45‬‬
‫أطروحتين هيجليتين هما‪ :‬العبودية والدولة في أفريقيا‪ .‬موضحا ا إن هيجل يتناقض مع نفسه‪ ،‬ومع منهجه‬
‫التحليلي الديالكتيكي ذاته‪ ،‬ألنه استثنى أفريقيا من التاريخ العالمي (عطية‪ ،‬أحمد‪ ،2019 ،‬ص‪.)88‬‬

‫ووفقا ا لديوب أن الكتابات األوروبية المركزية عن أفريقيا‪ ،‬في األنثروبولوجيا والتاريخ‪ ،‬ملوثة‬
‫أيديولوجيا ا‪ ،‬لذلك كان تركيزه الرئيسي ومساهمته الكبيرة هو استجواب المركزية األوروبية في ادعاءاتها‬
‫أنها مصدر موثوق للمعرفة (‪ .)D. A. Masolo, 1994, P.18‬لقد كشف ديوب عن مبادئ معرفية عميقة‬
‫يقوم عليها الفهم األوروبي المركزي للعرق‪ ،‬وأشار إلى أن التصنيفات العرقية القائمة على السمات‬
‫األنثروبولوجية لمجموعات معينة قد وضعت لعدم الخلط بين المجموعة المصنفة وأعضاء مجموعة‬
‫أخرى‪ ،‬وقد أورد ديوب أربعة قوانين تحدد العلقات العرقية في التاريخ وهما قانون النسب المئوية‬
‫وقانون االستيعاب وقانون المسافة وقانون النمط الظاهري(‪ ،)Diop C., 1981, P.123-124‬وقد أشار‬
‫ديوب إلى أن التكوين الجيني للفرد والنمط الظاهري؛ هاتين الخاصيتين؛ لهما آثارا ا اجتماعية واقتصادية‬
‫مختلفة في الحياة الواقعية‪ ،‬وبالنسب لديوب كان النمط الظاهري على مدار تاريخ العلقات اإلنسانية هو‬
‫الذي يحدد كيفية تصنيف ومعاملتهم اجتماعيا ا وثقافيا ا ومن هذا المنظور الحظ ديوب أن هذه هي القضية‬
‫الحقيقية وراء التصنيف العرقي وجادل بأن قوانين الصراع الطبقي المبنية على المادية التاريخية تنطبق‬
‫سا اثنيا ا‪ ،‬وبالنسبة لديوب فإن النمط الظاهري هو الذي سبب الكثير من‬
‫فقط على مجتمع كان سابقا ا متجان ا‬
‫الصعوبات عبر التاريخ(‪ .)Nabudere, D., 2007, P.15‬أيضا ا وفقا ا لديوب كان النمط الظاهري هو أساس‬
‫التصنيف العرقي‪ ،‬وأساس الصراع الطبقي على حد السواء‪.‬‬

‫لقد اتخذ العرق شكلا ثقافيا ا بحيث أصبح هذا المفهوم الثقافي للعرق يشمل تحديد العرق من حيث‬
‫المجموعة اللغوية والدين وعادات المجموعة واألعراف والعادات وأنماط السلوك واألدب والفن وغيرهم‬
‫من السمات الثقافية‪ ،‬ربما تكون مساهمة ديوب الوحيدة؛ هي التي تمكننا من تخليص البشرية من الطابع‬
‫البشع للعنصرية المتأصلة بعمق في النفس الغربية ضد السود بشكل عام وضد األفارقة بشكل خاص‪ .‬هذا‬
‫التجديد المستمر لمفهوم العرق هو الذي يثبت وجهة نظر الشيخ أنتا ديوب في عدم إخفاء المفهوم بتجاهل‬
‫أهميته (‪.)Nabudere, D., 2007, P.32‬‬

‫العرق هو المنصة التي يمكن من خللها فهم الموقف التاريخي لتشكيل الهوية األفريقية‪ .‬لذلك فإن‬
‫رفض العرق باعتباره غير منطقي؛ ألنه يفتقر إلى األهمية العلمية سيكون بمثابة إغفال أهميته السياسية‪،‬‬
‫فبدون العرق واستعمار أفريقيا واضطهاد الشعوب المستعمرة ومقاومة االستعمار وتداخلها مع تكوين‬
‫الهويات األفريقية لن يكون من الممكن تفسيره‪ .‬وبالمثل‪ ،‬وبدون العرق فإن هويات األشخاص الذين‬
‫ينتمون إلى أفريقيا كموقع مكاني لكنهم ال يصنفون أنفسهم بالضرورة بأنهم أفارقة بالمعنى العرقي‪،‬‬

‫‪46‬‬
‫ستكون أيضا ا غير قابلة للتفسير‪ .‬لذلك يظل العرق معيارا ا ترابطيا ا يزعمه الناس كجزء من هويتهم أو قد‬
‫ينسبه إليهم اآلخرون (‪.)Ngwena, C., P.137‬‬

‫إن األفكار التي طرحها هيجل وغيره من الفلسفة األوروبيين كان من شأنها أن تكون دافعا ا ألنتا‬
‫ديوب من أجل طرح مشروعه وهو إعادة بناء التاريخ األفريقي‪ ،‬وإعادة تشكيل صورة أفريقيا متصالحة‬
‫مع ماضيها وتلتمس مراكز قوتها وتكشف دورها الحقيقي ضمن التاريخ العالمي مستخدما ا في ذلك كل‬
‫أدوات العلوم االجتماعية واإلنسانية والتاريخية واألنثروبولوجية في إثبات رؤيته ومحاولة تطويرها إلى‬
‫مسلمات وحقائق‪ .‬معتمدا ا على مصادر عربية مثل كتب الرحالة ابن بطوط (جامع‪ ،‬فائز‪ ،2014 ،‬ص‪-158‬‬
‫‪ .)159‬وعلى الرغم من اختلف أفكار وآراء كل من هيجل وأنتا ديوب إال أنهما قد اتفقا على شيء مهما ا‬
‫في تاريخ مصر أال وهي مسار التاريخ من مصر العليا إلى مصر السفلى‪ ،‬من الجنوب إلى الشمال‪ ،‬مما‬
‫يعنى احتمالية أن تكون مصر قد تلقت ثقافتها من أثيوبيا وبصفة خاصة من جزيرة ميرو ‪Meroe‬‬
‫(هيجل‪ ،2007 ،‬ص‪ .)190‬وقد ذكر ديوب في عدة مؤلفات العلقة بين مصر وأثيوبيا(*) قديما ا (وهو تعامل‬
‫مع أثيوبيا كما وصفها هيرودوت وديودور الصقلي) (‪ .)Diop C., 1989, P.47‬وهنا نلحظ اعتماد ديوب‬
‫على الرحالة ونفس الشخصيات التي اعتمد عليها هيجل‪ .‬وأيضا ا اختلف ديوب مع هيجل حول اآلراء‬
‫المطروحة عن مصر وأصل المصريين؛ فقد سعى هيجل إلى إخراج مصر من أفريقيا بينما سعى ديوب‬
‫إلى أعاده مصر للقارة السمراء وقد يرجع هذا االختلف إلى اختلف المنهجية واأليديولوجية التي ينطلق‬
‫منها كلا منهما‪.‬‬

‫إن كتابة التاريخ األفريقي من قبل غير األفارقة من شأنه أن يحط من قيمة األفارقة‪ .‬إن الجمود‬
‫األسود هو المشكلة الرئيسية‪ .‬حيث ال يزال هناك اعتماد كبير على العلماء البيض للقيام بعملنا نيابة عنا‪،‬‬
‫فعندما يتم االعتماد على المؤرخين البيض لكتابة التاريخ األسود‪ ،‬فلبد من التزام الصمت بشأن ما‬
‫ينتجون‪ ،‬فهم يكتبون من وجهة نظر قوقازية‪ ،‬كما أن الممثلين األكاديميين لتفوق البيض قاما بإصلح‬
‫تقنياتهم للسيطرة على العقل‪ ،‬وقد أقاموا في أوروبا وأمريكا جمعيات ومعاهد ودراسات تاريخية ودوريات‬
‫أفريقية وكلها تحت توجيه أبيض كامل‪ .‬هؤالء العلماء قاموا بترتيب التاريخ األفريقي بحيث يصبح بها‬
‫التاريخ تاريخ العرب واألوروبيين في أفريقيا وليس تاريخ األفارقة في أفريقيا‪ ،‬ومن ثم طغى الكتاب‬
‫اللحقون على إنجازات السود أو تم طمسها تماما ا (‪.)Williams C., 1987, P.31-34‬‬

‫(*) البد من اإلشارة هنا إلى أن إثيوبيا لم يكن المقصود بها دولة إثيوبيا الحالية‪ ،‬ولكن كان يطلق على حضارة المروي سنار‬
‫قديما ا اسم إثيوبيا‪ ،‬أيضا ا جزيرة مروي مدينة أثرية في شمال السودان تقع على الضفة الشرقية لنهر النيل‪ ،‬وكانت هذه‬
‫المدينة عاصمة المملكة الكوشية لعدة قرون‪ ،‬وتم ذكر ذلك في عدة مصادر للشيخ أنتا ديوب منها األصل الزنجي‬
‫للحضارة ترجمة حليم طوسون ص ‪ ،168‬وكذلك في كتاب الوحدة الثقافية ألفريقيا السوداء النسخة االنجليزية ص ‪.47‬‬
‫‪47‬‬
‫لقد كانت الدراسات دائما ا ما توكل إلى غير األفارقة مما أثار حفيظة الشيخ أنتا ديوب والذي شن‬
‫هجوما ا على تلك الدراسات واصفا ا إياها بأنها غير موضوعية وأنها تخدم األغراض االستعمارية بالنتائج‬
‫التي تتوصل إليها‪ ،‬وهي بالتأكيد نتائج عنصرية لصالح الجنس األبيض على حساب صاحب الفضل‬
‫واألصل في الحضارة وهو الجنس األسود‪ ،‬والتي كان من شأنها أن تمحي أثر أي إنجاز يعود إلى تلك‬
‫الحضارة السوداء‪ .‬إن أفريقيا الزنجية والزنوج األفارقة هي رؤية صناعة الخيال األوروبي‪ ،‬فهي ليست‬
‫من صناعة الخيال األفريقي‪ ،‬وهذا يدل على وجود تناقض بين صناعتين وبين رؤيتين ال يختلف كل‬
‫منهما عن اآلخر فحسب‪ ،‬بل ينفي إحداهما اآلخر‪ .‬ففي الرؤية األفريقية كون المرء إنسانا ا ال يستدعي‬
‫االنفصال عن مجال الحيوان أو الطبيعة بل إنهما متلزمان‪ ،‬في حين أن هيجل يرى أن المجال البشري‬
‫منفصل عن المجال الحيواني وعن المجال الطبيعي‪ ،‬فإن الرؤية األفريقية ترى المجال البشري كجزء من‬
‫مجال الحيوان وكجزء من مجال الطبيعة‪ ،‬كما أن القول بأن اإلنسان ال ينفصل عن مجال الحيوان‬
‫والطبيعة ال يعني ذلك أن األفريقي متوحش أو بربري‪ ،‬فل ينبغي للمرء أن ينظر إلى الطبيعة على أنها‬
‫نطاق بري تسكنه البربرية‪ .‬فهناك ما هو بيئي حول كونك إنسانا ا وعن كونك حيوانا ا‪ ،‬وعن الطبيعة حيث‬
‫الترابط بينهما في علم البيئة‪ ،‬وهذه هي الرؤية األفريقية‪ ،‬فاألفارقة جز اءا من هذه البيئة واآلسيويين وكذلك‬
‫األوروبيين أيضا ا (‪.)Murungi J., 2017, P.93‬‬

‫لذلك نجد في أفكار ديوب نقطتين أساسيتين حطما المفهوم األوروبي للدراسات األفريقية وأطلق‬
‫مجاالا ثوريا ا جديدا ا للبحث والذي أدى بدوره إلى والدة أبحاث مثيرة ومعاهد جديدة ونظام جديد وتحول‬
‫نموذجي في األكاديمية األفريقية‪ .‬فإن النقطتين اللتين تعرضتا للتحدي‪ ،‬ما زالتا مثيرين لإلعجاب في‬
‫مساهمتهما في معرفتنا وفهمنا ألفريقيا‪ .‬النقطة األولى هي أن مصر ألفريقيا كما أن اليونان بالنسبة‬
‫ألوروبا والصين بالنسبة آلسيا‪ ،‬وبتعبير آخر مصر والنوبة للثقافات األفريقية مثل اليونان والرومان‬
‫للثقافات األوروبية والهند والصين للثقافات اآلسيوية‪ .‬والنقطة الثانية هي أن مصر القديمة كانت حضارة‬
‫سوداء (‪ .)Molefi. K., 2018, P.7‬لقد كان إصرار ديوب على سواد مصر القديمة أو أفريقيتها كان‬
‫مستمدا ا من المحاوالات المستمرة والمتسقة من قبل المؤرخين األوروبيين إلبراز المصريين القدماء على‬
‫أنهم بيض (‪ .)Sesanti S., 2018, P.2‬لقد تحدى ديوب السرد السائد للتاريخ األفريقي‪ ،‬بنشر عمله الرائد‬
‫(األمم الزنجية والثقافة)‪ ،‬والذي شدد فيه على أن مصر القديمة كانت أمة أفريقية وأنها مرتبطة ببقية‬
‫أفريقيا السوداء‪ ،‬وأنها ال يمكن أن تنبثق من الثقافات البدائية للحضارة السامية أو الحضارة الهند أوروبية‬
‫(‪ .)Troy D., 2008, P.813‬لذلك كان كتابه في هذا الصدد‪ ،‬هي محاولة حماسية وموثقة بشدة إلظهار أن‬
‫الحضارة المصرية القديمة كانت في الواقع إنجازا ا أفريقيا زنجيا ا‪ ،‬وبالتالي إلثبات أن الغرب يدين بتنويره‬
‫ألفريقيا‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫وفي الختام يمكننا القول إن هناك علقة وثيقة بين الثقافة والحضارة‪ ،‬وأن لكل أمة حضارتها‬
‫وثقافتها المحددة والتي تميزها عن غيرها من األمم‪ ،‬وأن الثقافة األفريقية لها طابعها الخاص والفريد من‬
‫نوعه والتي تميز القارة السمراء عن غيرها‪ .‬أيضا ا يعد العرق والعنصرية مفهومين شديدي الصلة بالهوية‬
‫األفريقية والتي كانا سبب في انتفاضة الفلسفة األفارقة من أجل البحث عن هويتهم المفقودة‪ ،‬التي‬
‫ساعدت الفلسفة والعلوم الغربية على محوها من خلل األفكار التي روجت من قبل العلماء والفلسفة عن‬
‫التفاوت في القدرات العقلية بين األنواع المختلفة للجنس البشري والتي أعطت األفضلية للجنس األبيض‬
‫وفق ترتيب هرمي للجنس البشري‪ ،‬وكان من شأن تلك األفكار أن حطت من الزنوج وجعلتهم في منزلة‬
‫شبه حيوانية‪ ،‬تلك اآلراء استخدمت كغطاء شرعي للستعمار الغربي ألفريقيا وأعطت التبريرات لذلك‪.‬‬
‫ومن ثم كان لزام على األفارقة رفض هذه العنصرية والنظرة الدونية لهم والشروع في الدفاع عن أنفسهم‬
‫وعن حقيقتهم األنطولوجية والمعرفية أيضا ا‪ ،‬وكان أنتا ديوب من أبرز المدافعين عن الزنوج وعن الهوية‬
‫الزنجية رافضا ا النظرة الدونية للزنوج‪ ،‬موضحا ا فضلهم على الحضارة اإلنسانية‪ .‬ومثلما كان للعرق‬
‫والعنصرية أهمية كبيرة في الفكر االستعماري وفي مناقشة مفهوم الهوية الزنجية‪ ،‬كذلك نجد أن تلك‬
‫المفاهيم ذات أهمية قصوى في الفكر ما بعد االستعماري الناقد للحداثة الغربية وتأثيرها على أفريقيا‬
‫والزنوج‪ ،‬باعتبار أن تاريخ الحداثة الغربية ما هو إال تاريخ للعقل الزنجي‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫ثالثاا‪ :‬العرق والعنصرية من منظور الدراسات ما بعد الستعمارية‬

‫نظرية ما بعد الستعمار‪:‬‬

‫يظهر العرق والعنصرية بوضوح في الفكر ما بعد االستعماري من خلل عملية نقدية لألفكار‬
‫العنصرية والتي خدمت المشروع االستعماري‪ .‬لذلك حرص أشيل مبيمبي إلى توضيح ما تعنية نظرية ما‬
‫بعد االستعمار‪ ،‬وتقديم عرض تاريخي تحليلي لفكرة العرق والعنصرية وعلقتها بالعقل الزنجي‪ ،‬موضحا ا‬
‫علقة الترابط بين أفريقيا والزنجي‪.‬‬

‫إن رحيل االستعمار ال يعني بالضرورة غيابه‪ ،‬وتلشيه بالكلية‪ ،‬فثمة علمات وآثار ستظل كامنة‬
‫في البنى الثقافية واللغوية والحضارية للدول المستعمرة‪ ،‬وهذا ما عبر عنه األب الروحي لنظرية ما بعد‬
‫االستعمار "فرانز فانون" حيث أدرك األبعاد النفسية للستعمار‪ ،‬أصبحت أطروحته مرجعا ا لكل من يريد‬
‫تتبع النماذج العقلية والنفسية أثناء أو بعد جلء المرحلة االستعمارية (أبو شهاب‪ ،‬رامي‪ ،2019 ،‬ص‪.)70‬‬
‫اعتبر فانون أن الذات األفريقية بصفة عامة في صراع دائم‪ ،‬فهي ذات مغتربة عن جسدها‪ ،‬وحياتها‬
‫انقسمت إلى شطرين‪ :‬شطر يسعى وراء حلم مستحيل ومضمونه األخوة العالمية في عالم يقابله بالرفض‬
‫واالختزال‪ ،‬وشطر يمثل عقدة النقص التي يحللها فانون في كتابه "البشرة السوداء واألقنعة البيضاء"؛‬
‫ويؤكد فانون أن توصيف هيجل في كتابه (العقل في التاريخ)؛ هو نموذج أصلي متميز للمشروع‬
‫الكولونيالي في رؤيته لإلفريقي (عطية‪ ،‬أحمد‪ ،2019 ،‬ص‪.)133‬‬

‫تقدم نظرية ما بعد االستعمار مجموعة من القضايا المهمة المتعلقة بدراسة علقة األنا باآلخر‪،‬‬
‫وثنائية الشرق والغرب‪ ،‬ودور االستشراق في تأييد المركزية الغربية قوة وتفوقا ا ومعالجتها وتفكيكها‪.‬‬
‫وتعد هذه النظرية من أهم النظريات النقدية واألدبية التي تتسم بالطابع الثقافي والسياسي في العصر‬
‫الحديث بعد هيمنت الميثولوجيا البيضاء على الفكر العالمي‪ ،‬وأصبح الغرب مصدر المعرفة واإلبداع‬
‫(حمداوي‪ ،‬جميل‪ ،2018 ،‬ص‪ .)58‬إن مصطلح ما بعد االستعمار ظهر ألول مرة في بداية السبعينيات‪،‬‬
‫عندما أطلق على الساحة السياسية لألمم التي تخلصت من سطوة اإلمبراطوريات األوروبية في الحرب‬
‫العالمية الثانية‪ ،‬ولم يكتسب المصطلح معناه في المجال الثقافي والنقدي في فترة الثمانينيات (أحمد‪ ،‬محمد‪،‬‬

‫& علي‪ ،‬أمير‪ ،2016 ،‬ص‪.)95‬‬

‫‪50‬‬
‫وقد اتسم مصطلح ما بعد الكولونيالية (ما بعد االستعمار) ‪ Post- colonialism‬بالغموض؛ وهذا‬
‫ما أدى إلى وجود عدة تعريفات منها " دراسة مستعمرات أوروبا السابقة منذ استعمارها؛ أي الكيفية التي‬
‫استجابت بها إلرث الكولونيالية الثقافي‪ ،‬أو تكيفت معه‪ ،‬أو قاومته‪ ،‬أو تغلبت عليه منذ بداية االستعمار"‪،‬‬
‫أيضا ا هناك تعريف آخر " يعني دراسة جميع الثقافات ‪ /‬المجتمعات ‪ /‬البلدان‪ /‬األمم من حيث علقات القوة‬
‫التي تربطها بسواها من الثقافات والمجتمعات والبلدان واألمم؛ أي الكيفية التي أخضعت بها الثقافات‬
‫الفاتحة الثقافات المفتوحة لمشيئتها والكيفية التي استجابت بها الثقافات المفتوحة لذلك القهر أو تكيفت معه‬
‫أو قاومته أو تغلبت علية " وفي هذا التعريف تشير ما بعد الكولونيالية إلى التاريخ بأكمله (عتيق‪ ،‬مديحة‪،‬‬

‫ص‪ .)4‬ويعد هذا التعريف من وجهة نظر البعض هو األكثر شموالا إذ يشمل على العلقات الكولونيالية في‬
‫كل أنحاء المعمورة وعلى امتداد التاريخ بأكمله‪ ،‬وتبدو النظرية ما بعد الكولونيالية في هذا المستوى على‬
‫أنها طريقة نظر إلى القوة بين الثقافة والتحوالت النفسية االجتماعية التي تحدثها ديناميكيات الهيمنة‬
‫واإلخضاع واالنزياح الجغرافي واللغوي‪ ،‬وهي ال تحاول تفسير كل األشياء في هذه الدنيا‪ ،‬بل تقتصر‬
‫على الظاهرة المهملة والتي تعني سيطرة ثقافة معينة على ثقافة أخرى (عطية‪ ،‬أحمد‪ ،2018 ،‬ص‪.)171‬‬

‫ووفقا ا لتعريف جامعة دالس فإن مصطلح ما بعد الكولونيالية يقصد به "دراسة آثار االستعمار‬
‫على الثقافات والمجتمعات‪ ،‬وهو مجال يعني بكيفية غزو الدول األوروبية لثقافات العالم الثالث وكيفية‬
‫السيطرة عليها‪ ،‬ومن ثم يبحث أيضا ا في كيفية استجابة ثقافات العالم الثالث من خلل المقاومة أو الرفض‬
‫(أبو شهاب‪ ،‬رامي‪ ،2019 ،‬ص‪ .)68‬إن نظرية ما بعد االستعمار تهدف إلى تحليل كل ما أنتجته الثقافة‬
‫الغربية باعتبارها خطاباا ذات مقصد‪ ،‬يحمل في ثناياه توجهات استعمارية إزاء الشعوب التي تقع خارج‬
‫المنظومة الغربية‪ ،‬كما أن المصطلح يشير إلى وجود استعمار جديد يخالف االستعمار القديم (حمداوي‪،‬‬

‫جميل‪ ،2018 ،‬ص‪ .)59‬لقد تسلح الكتاب من آسيا وأفريقيا بالخطاب ما بعد االستعماري لمجابهة التمركز‬
‫الغربي‪ ،‬وتقويض المقوالت الفكرية األوروبية‪ ،‬مستخدمين آليات ومنهجيات متداخلة مثل التفكيكية‪،‬‬
‫الثقافية‪ ،‬السياسية‪ ،‬التاريخية‪ ،‬المقارنة‪ ،‬ومن ثم فإن حركة ما بعد االستعمار حركة ثقافية مضادة ومقاومة‬
‫ظهرت في وجه التغريب والهيمنة الغربية‪ ،‬ولم يقتصر كتاب هذه النظرية على كتاب العالم الثالث فقط‪،‬‬
‫بل انضم إليه كتاب من البلد الغربية أيضاا‪ ،‬ويقوم هذا الخطاب بنقد الخطاب االستعماري‪ ،‬والتمييز‬
‫العرقي‪ ،‬والجنسي‪ ،‬والديني‪ ،‬والطبقي(أحمد‪ ،‬محمد‪ & ،‬علي‪ ،‬أمير‪ ،2016 ،‬ص‪.)98‬‬

‫يعد مبيمبي أحد أبرز األفارقة المنظرين لما بعد الكولونياليين في العصر الراهن‪ .‬وتنبني نظرية‬
‫ما بعد االستعمار على مجموعة من المرتكزات الفكرية والمنهجية يمكن حصرها في النقاط التالية‪:‬‬

‫‪51‬‬
‫‪ -1‬فهم ثنائية الشرق والغرب من خلل رصد العلقات التفاعلية التي توجد بينهما‪ ،‬سواء كانت علقات‬
‫إيجابية مبنية على التسامح والتفاهم والتعايش أم كانت علقات مبنية على العدوان والصراع والصدام‬
‫الحضاري‪.‬‬
‫‪ -2‬تفكيك الخطاب االستعماري من خلل فضح الخطاب االستعماري الغربي وتفكيك مقوالته المركزية‬
‫التي تعبر عن الهيمنة واالصطفاء العرقي باستعمال منهجية التشتيت والفضح والتعرية متأثرين في‬
‫ذلك بجاك دريدا وميشيل فوكو وكارل ماركس‪.‬‬
‫‪ -3‬الدفاع عن الهوية الوطنية والقومية من خلل رفض االندماج في الحضارة الغربية‪ ،‬وانتقاد سياسة‬
‫اإلقصاء والتهميش والهيمنة المركزية‪ .‬والدعوة إلى ثقافة وطنية أصلية ونادوا بالهوية القومية‬
‫الجامعة‪ ،‬مثل كتاب الحركة الزنجية األفريقية الذين تمسكوا بهويتهم السوداء ودافعوا عن كينونتهم‬
‫الزنجية األفريقية (حمداوي‪ ،‬جميل‪ ،2018 ،‬ص‪.)61-60‬‬
‫‪ -4‬توضيح علقة األنا باآلخر؛ بحيث ترتكز على مناقشة علقة األنا والغير في ضوء مقاربات ما بعد‬
‫الحداثة كالمقاربة الثقافية‪ ،‬المقاربة التاريخية‪ ،‬المقاربة السياسية‪ ،‬وذلك من أجل فهم العلقة التفاعلية‬
‫بين االّنا واألخر‪.‬‬
‫التعددية الثقافية حيث دافع كثير من منظري ما بعد االستعمار عن التعددية الثقافية‪ ،‬ورفض‬ ‫‪-5‬‬
‫التمركز الثقافي الغربي والثقافة الواحدة المهيمنة (حمداوي‪ ،‬جميل‪ ،2018 ،‬ص‪.)64-62‬‬

‫ومن النقاط السابقة؛ يمكننا الجزم بأن حركة ما بعد االستعمار بجانب تحليل ونقد الخطاب‬
‫االستعماري ورفض الهيمنة والمركزية الغربية؛ هي في حقيقة األمر حركة مدافعة وبشدة عن الهوية‬
‫الثقافية وتنادي بالحفاظ عليها والتمسك بها في وجه المركزية األوروبية المتمثلة في الفكر االستعماري‪.‬‬
‫فقد سعى الفلسفة األفارقة لمحاربة االستعمار على المستويين العسكري والثقافي في فترة االستعمار وما‬
‫بعد االستعمار من أجل عملية إنهاء االستعمار بجميع أشكاله‪ ،‬وهذا يشمل تفكيك الجوانب الخفية لتلك‬
‫القوى المؤسسية والثقافية التي حافظت على القوة االستعمارية والتي بقيت حتى بعد تحقيق االستقلل‬
‫السياسي (‪ .)Ashcroft, B., P.56‬ومن ثم فقد أصبحت مدرسة الخطاب ما بعد االستعماري لم تنظر فقط‬
‫إلى حال دول كانت مستعمرة بحد ذاتها‪ ،‬بل أصبحت مدرسة فلسفية تدفع الفكر اإلنساني إلى البحث عن‬
‫سبل جديدة للخروج من مأزق الفكر الغربي الحاضر (حصحاص‪ ،‬محمد‪.)2011 ،‬‬

‫وهناك عدة نماذج للخطاب ما بعد االستعمار نذكر منها‪:‬‬

‫‪ -1‬نموذج يعتمد على هوية القوم أو العرق؛ ويركز هذا النموذج على الجانب الثقافي من عادات وتقاليد‬
‫يمارسها القوم‪ ،‬ومعظم دراسات هذا النموذج تهتم بالشتات في أفريقيا وتجارب وقوعها تحت‬

‫‪52‬‬
‫االستعمار‪ ،‬كما تقوم بدراسة الوعي لدي السود األفارقة في مقاومة االستعمار باستخدام لغة‬
‫المستعمر ذاته‪ ،‬وهي اللغة الفرنسية‪.‬‬
‫‪ -2‬نموذج يعتمد على الصراع المباشر وغير مباشر بين المستعمر والمستعمر ويتحدث هذا النموذج في‬
‫القضايا السياسية واالقتصادية واالجتماعية‪ ،‬الصراع المقصود صراع فكري أو صراع عقائدي أو‬
‫صراع ثقافي في المجتمع المستعمر‪ .‬ويتم تحليله عبر تقنيات متعددة مثل الحوار والسخرية وغيرها‬
‫(أحمد‪ ،‬محمد‪ & ،‬علي‪ ،‬أمير‪ ،2016 ،‬ص‪.)105-104‬‬

‫إن الوعي المتولد لدى نخبة من المثقفين الروائيين األفارقة جعلهم يتوقون إلى حالة من الندّية‬
‫الثقافية واللغوية مع المثقفين الغربيين‪ ،‬والتي أتاحت لهم فرصة مراجعة السرديات الغربية ومحاكمة‬
‫الغرب المستعمر‪ ،‬على طريقتهم‪ ،‬ومقاضاته على جرائمه التي اقترفها ضد اإلنسانية‪ .‬فقد كان هدف‬
‫هؤالء المثقفين وعلى رأسهم الكاتب والناقد المارتكيني فرانز فانون ‪ 1061-1925‬إلى مقاضاة أوروبا‪،‬‬
‫القترافها جريمة تمزيق البشرية إلى ‪ -‬سلسلة هرمية من األعراق‪ ،‬وقد اختزلت الحلقات الدنيا ونزعت‬
‫عنها الصفة اإلنسانية‪ .‬وإلى جانب المثقفين األفارقة‪ ،‬استقطب المشروع الغربي في شقيه االستعماري‬
‫واإلمبريالي العديد من النقاد من داخله وخارجه يقصدون دحض بعض نصوصه الكبرى التي تسببت في‬
‫جروح وجودية ومعرفية ونفسية عميقة لإلنسانية‪ ،‬ما جعلهم يركزون في نقدهم على "مزاعمه الكونية‪،‬‬
‫وعلى تحديده لمعنى الحضارة‪ ،‬وعلى مدرسته االستشراقية‪ ،‬وعلى اعتقاده بنموذج واحد للتقدّم‪ .‬وقد‬
‫انطوى كل هذا النقد تحت حقل ما بعد كولونيالي جديد يعرف بالدراسات الثقافية‪ ،‬ساهمت من خلله‬
‫التخصصات المعرفية المختلفة‪ ،‬وعلى رأسها السرد األدبي في مراجعة التركة الثقيلة للستعمار الغربي‬
‫وتطهيرها من شوائبها العنصرية والشوفينية اللإنسانية وإرجاعها إلى جادة األنوار واإلنسانية (بخضرة‪،‬‬

‫مونيس‪ ،2022 ،‬ص‪.)63‬‬

‫ارتبط مصطلح ما بعد االستعمار في العصر المعاصر إلى حد كبير بعمل الناقد األفريقي أشيل‬
‫مبيمبي‪ ،‬والذي كتب العديد من المؤلفات حول كيفية عمل السلطة والقمع فعليا ا في دول ما بعد االستعمار‬
‫في أفريقيا " كتاب ما بعد االستعمار والبحث عن الهوية المفقودة"‪ ،‬وكان يهدف مشروع مبيمبي إلى‬
‫تحقيق هدف إصلحي وهو استعادة األفارقة اإلحساس بكمالهم وصلحيتهم بوصفهم موضوعا ا أفريقيا‬
‫مستقلا‪ ،‬كما أقترح على المستوى االجتماعي االهتمام بالممارسات اليومية المعاصرة التي تمكن األفارقة‬
‫من خللها التعرف العالم‪ ،‬وهي ممارسات يصنعون من خللها شيئا ا خاصا ا بهم يغري العالم في‬
‫عموميتها‪ ،‬حيث تم تقطيع أوصال الموضوع األفريقي وتجزئته وجعله غير موجود فعلي من خلل العنف‬
‫الجسدي والنفسي للرق واالستعمار‪ ،‬ومن ثم يتفق مبيمبي بشكل كبير في أن ما بعد االستعمار نظرية حول‬

‫‪53‬‬
‫اآلثار المستمرة للستعمار ولكنها تناقش شكلا مختلفا ا من االستجابة وهو التركيز على تحليل الممارسات‬
‫اليومية التي انخرط فيها األفارقة (‪.)Ashcroft, B., P.175-176‬‬

‫يصف مبيمبي مفهوم ما بعد االستعمار باعتباره‪ ،‬مسارا ا تاريخيا ا‪ ،‬مسار مجتمعات خرجت مؤخرا ا‬
‫من تجربة االستعمار والعنف التي انطوت عليها العلقة االستعمارية‪ ،‬تتميز هذه الحقبة بكثرة الهويات‬
‫وتحولها ووضعها في التداول‪ ،‬فهي حقبة كثيرة الدالالت‪ ،‬ومسرح درامي تتكشف فيه أبرز مشكلت‬
‫الخضوع واالنضباط لذلك ينصب اهتمامه على الطرق التي من خللها تؤسس سلطة الدولة عالم معانيها‬
‫الخاصة وكيفية إضفاء طابع مؤسسي على عالم المعاني بصفته عالما اجتماعيا تاريخيا ثم يصبح عالم‬
‫حقيقي بدمجه في حاله الوعي‪ ،‬ففي تلك الحقبة تسعى السلطة إلى إضفاء طابع مؤسسي على نفسها لتحقيق‬
‫الشرعية والهيمنة في صورة معبود (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪ .)148-145‬يرى مبيمبي إننا يمكن أن‬
‫نميز بين ثلث لحظات مركزية في تطور الفكر ما بعد االستعماري‪ .‬واللحظة األولى هي لحظة التأسيس‬
‫لحظة النضاالت المناهضة للستعمار‪ ،‬أما اللحظة الثانية والتي حدثت بشكل عام في الثمانينيات وهي‬
‫لحظة التأويل والتي كانت ذروتها في نشر تحفة إدوارد سعيد "االستشراق"‪ ،‬والذي أرسي األسس لما‬
‫سيشكل فيما بعد تحول تدريجي إلى "نظرية ما بعد االستعمار"‪ ،‬واللحظة الثالثة هي ما تمت صياغته في‬
‫األدب األفريقي الذي حاول من ناحية معالجة اآلم المهمشون والشعوب المقهورة التي سعى االستعمار إلى‬
‫إنكار وجودها البشري‪ ،‬ومن ناحية أخرى كيفية معالجة الواقع الذي جعل من أفريقيا خارج العالم‬
‫ومحاولة دحض صورة اإلنسان الزنجي التي كانت محفورة في الخطاب الغربي‪ ،‬إال أنه مع العولمة‬
‫والتوسع المعمم في شكل سلع واالستيلء على مجمل الموارد الطبيعية واإلنتاج البشري وباختصار‬
‫االستيلء على مجمل الكائن الحي‪ ،‬ال يستطيع النص األدبي وحده على التصدي لقضية االستيلء والتمدد‬
‫والعولمة‪ .‬فنظرية ما بعد االستعمار كوكبة فكرية تنبع قوتها وهشاشتها من التجزئة ذاتها‪ ،‬فقد نتجت عن‬
‫تداول المعرفة بين القارات ومن خلل مختلف التقاليد المناهضة لإلمبريالية تشبه نهرا ا روافده متعددة‪،‬‬
‫فهي كنظرية تضع يدها على شيئين هما كشف العنف المتأصل في فكرة معينة عن العقل والفجوة في ظل‬
‫الظروف االستعمارية‪ ،‬أما الشيء الثاني فهي تصر على اإلنسانية (‪.)Mbembe, A., 2001, P.67-71‬‬

‫يهدف مبيمبي بتركيزه على مناقشة ما بعد االستعمار إلى إصلح مفهومي العصر والمدة‪ ،‬وليس‬
‫المقصود بالعصر حقبة زمانية بل المراد بها عدد من العلقات واألحداث المرئية والمحسوسة والمنتشرة‬
‫والمتعددة الوجوه‪ ،‬وباعتبار ما بعد االستعمار عصرا ا‪ ،‬فهو يشمل مددا ا متعددة تضم انقطاعات وتوقف‬
‫وحاالت من الجمود وتقلبات متراكبة يتخلل بعضها البعض اآلخر (‪ .)Mbembe, A., 2001, P.15‬أيضا ا‬
‫أراد أن يطرح مسألة اإلحلل‪ ،‬والتي ال يراد بها اإلشارة إلى تغيير المكان أو االنتقال أو استحالة وجود‬
‫أي مركزية عدا مركزية مؤقتة ومخصوصة يعاد تعريفها بشكل دائم‪ ،‬وقد انطلق من فكرة وجود علقة‬
‫‪54‬‬
‫وثيقة بين الذات والزمن بحيث يمكن للمرء أن يتصور بطريقة ما الذاتية نفسها بأنها زمنية‪ ،‬والباعث لهذه‬
‫الفكرة هو أمر مميز في كل زمان وعصر وهو "الروح"‪ ،‬وتسأل مبيمبي عن مجموعة العلمات المميزة‬
‫التي وضعت على العصر األفريقي الحالي شكله المميز وغرابة أطواره ومفرداته وسحره وتجعله‬
‫مصدرا للرعب والدهشة والبهجة في وقت واحد‪ .‬وقد كانت هناك صعوبات من البداية وهي أن كل عصر‬
‫ا‬
‫وهذا يشمل عصر ما بعد االستعمار‪ ،‬هو في حقيقة األمر يشمل توليفة من أزمنة عديدة‪ ،‬في حالة ما بعد‬
‫االستعمار‪ ،‬افتراض أنه يوجد وقت ما قبل وما بعد االستعمار ال ينفي مشكلة العلقة بين الزمن والذات‪،‬‬
‫كما أنه ال يكفي للسؤال عن العبور من مرحلة قبل إلى مرحلة بعد ومسألة االنتقال التي يثيرها هذا العبور‬
‫أو االعتراف مجددا ا بأن لكل عصر دالالت متناقضة على العبي األدوار المختلفين‪ .‬لكن بقي لزاما ا أن‬
‫نعرف كيف يتعين إعادة إدراج تعددية األزمان هذه‪ ،‬ليس في المدد األصلية فحسب بل في المدة الطويلة‬
‫أيضاا‪ ،‬ومن ثم لزم التفكير في وضعية ذلك الزمن المعين التي هي بزوغ الزمن‪ ،‬ومن ثم يبرز المستقبل‬
‫بالضرورة من الماضي ويليه وهي عملية ال رجوع عنها في حد ذاتها‪ .‬لكن االهتمام األول هو الزمن‬
‫المعين الذي يمكن تسميته زمن الوجود والمعايشة‪ ،‬زمن متداخل (اليوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)41‬‬

‫تهدف نظرية ما بعد االستعمار إلى تفكيك الخطاب االستعماري‪ ،‬أي التكوين العقلي والتمثيلت‬
‫واألشكال الرمزية التي كانت بمثابة البنية التحتية للمشروع اإلمبراطوري‪ ،‬فهي تسعى لكشف مخزون‬
‫األكاذيب التي بدونها كان االستعمار كتكوين تاريخي للقوة سيفشل‪ .‬فيمكن للمرء أن يقول أن فكرا ما بعد‬
‫االستعمار هو من عدة جوانب فكرة عالمية حتى ولو لم تستخدم هذا المفهوم في بدايتها‪ ،‬كما يمكن اعتبارا‬
‫ما بعد الكولونيالية هي أيضا ا حلم لشكل جديد من أشكال اإلنسانية‪ ،‬ومن أجل وجود سياسة عالمية من‬
‫الضروري االعتراف بالحق العالمي لكل فرد في وراثة العالم بأكمله‪ ،‬وأخيرا ا الفكر ما بعد االستعماري‬
‫ليس مناهضا ا ألوروبا‪ ،‬بل أنه يدعو إلى قراءة بديلة لحداثتنا كما يدعو أوروبا إلى فتح آفاق المستقبل‬
‫باستمرار بمسؤولية عن نفسها ‪،‬عن اآلخر‪ ،‬وقبل اآلخر‪ ،‬لذلك لم تعد أوروبا مركز العالم( ‪Mbembe,‬‬

‫‪ ،)2021, p 72:76‬وتلك النظرة تختلف تماما ا عن نظرة أوروبا لنفسها باعتبارها المركز ‪.‬‬

‫ومن وجه نظر مبيمبي فإن الفكر ما بعد االستعماري لم يلقي اهتماما ا في العالم الفرانكفوني على‬
‫نقيض العالم األنجلو سكسوني‪ ،‬فقد رأي أن في بقية العالم حدث تحول ما بعد االستعمار في العلوم‬
‫االجتماعية واإلنسانية قبل ربع قرن تقريبا ا‪ ،‬فمنذ ذلك الحين‪ ،‬كان لنظرية ما بعد االستعمار تأثير في‬
‫العديد من المناقشات السياسية والمعرفية في الواليات المتحدة وبريطانيا العظمى والعديد من مناطق‬
‫نصف الكرة الجنوبي مثل أمريكا الجنوبية وأستراليا وشبه القارة الهندية وجنوب أفريقيا‪ ،‬ومنذ نشأتها‬
‫كانت نظرية ما بعد االستعمار موضوع تفسيرات متنوعة تماما ا‪ ،‬وأثارت على فترات منتظمة إلى حد ما‬
‫موجات من الجدل والخلفات والتي تستمر حتى اليوم باإلضافة إلى االعتراضات التي تتناقض تماما ا مع‬
‫‪55‬‬
‫بعضها‪ .‬ويرى مبيمبي أنه في حين أن الفكر ما بعد االستعماري في ازدياد في األوساط األكاديمية والفنية‬
‫األنجلو ساكسونية‪ ،‬فإن السياسة والثقافة الفرنسية‪ ،‬تتقدم في االتجاه المعاكس حيث تدخل ضمن ما يمكن‬
‫أن نطلق عليه نوعا ا من "الشتاء اإلمبراطوري" والذي يتميز بسلسلة من قطع االتصال تنتهي بالتراجع‬
‫النسبي للفكر الفرنسي العالمي‪ ،‬حيث يميل التاريخ الفرنسي لما بعد االستعمار اآلن إلى معاملة االستعمار‬
‫على أنه ليس أكثر من لحظة مهمة ولكنها متأخرة وفي النهاية من تاريخ أصلي طويل جدا ا‪ ،‬كما لو كان‬
‫من الضروري التخلص من االستعمار في أسرع وقت ممكن‪ ،‬فل مكان مركزي له في الفكر الفرنسي‬
‫حيث يلعب اآلن دورا ا خارجيا ا فقط‪ .‬على الصعيدين الفكري والثقافي أن فرنسا تبحث اآلن عن أماكن‬
‫أخرى غير اإلمبراطورية وبقايا مواردها لتغذية الوطنية وتغذية وظيفتها‪ ،‬ففرنسا لن تنسحب بالكامل‬
‫ولكنها تعكف اآلن على قراءة نفسها والعالم‪ ،‬األكاديميين المتدربين في المؤسسات الفرنسية‪ ،‬كانوا يهدفون‬
‫إلى وضع سياق ليس فقط للتأخر في تلقي دراسات ما بعد االستعمار في فرنسا‪ ،‬ولكن تأخر فرنسا فيما‬
‫يتعلق بالعالم الذي؛ بعد أن اكتمل إنهاء االستعمار‪ ،‬يعيد تشكيل نفسه على نموذج التدفقات المتناثرة‬
‫والشتات‪ ،‬تعيد فرنسا على إشكاليتها التقليدية المتمثلة في االستيعاب واالندماج ( ‪Mbembe, 2021, p‬‬

‫‪ .)112:121‬ويشدد مبيمبي على أن توضيح فكرة الشتاء اإلمبراطوري بعد تشويه سمعة الشخصيات‬
‫الفكرية المناهضة للستعمار مثل فرانز فانون لصالح المثقفين الفرنسيين الذين تجاهلوا المسألة‬
‫االستعمارية‪ ،‬وقد رأى مبيمبي أن دراسات ما بعد االستعمار تمثل مخرجا ا من هذا الشتاء اإلمبراطوري‪،‬‬
‫وهو نوع من النهضة الثقافية التي من شأنها أن تضع حدا ا لموقف فرنسا الذي عفا علية الزمن ( ‪Bertaux,‬‬

‫‪ .)S., 2011, P.204‬إن الخلف الذي بدأ في فرنسا من قبل اتباع مناهضة ما بعد االستعمار وأن عفا عليه‬
‫الزمن من وجهة نظر معرفية‪ ،‬فهو عرضي للغاية من وجهة نظر ثقافية وسياسية ألن تبعياته تؤثر اآلن‬
‫على هوية فرنسا ذاتها (‪.)Bertaux, S., 2011, P.131‬‬

‫ومما سبق يتضح أن نظرية ما بعد االستعمار عند مبيمبي قد اتخذ مفهوما ا معينا ا وهو يعني عصرا‬
‫معينا يتخلله عدة فترات وفي ظل هذه الفترات أحداث زمنية معينة ومن ثم سعي مبيمبي إلى دراسة تلك‬
‫األحداث في سياق التسلسل الزمني‪ ،‬وقد نوه مبيمبي إلى حقيقة أن العالم الفرنكفوني متأخر كثيرا ا عن‬
‫نظيرة األنجلو سكسوني في دراسات ما بعد االستعمار وربما يكون سبب ذلك هو تعنت الفكر الفرنسي‬
‫والنظر إلى االستعمار بوصفة لحظة ذات أهمية وهي في النهاية من تاريخ أصلي طويل جداا‪.‬‬

‫العرق والعنصرية‪:‬‬

‫يعمل االستعمار على نزع الحضارة عن المستعمر‪ ،‬لقمعه بوحشية لتحطيمه وإيقاظه على الغرائز‬
‫الدفينة والطمع والعنف وكراهية العرق والنسبية األخلقية‪ ،‬هذا النشاط االستعماري الذي يقوم على‬

‫‪56‬‬
‫ازدراء المواطن‪ ،‬يميل حتما ا إلى تغيير من يقوم به‪ ،‬يعتاد على رؤية اآلخر كحيوان‪ ،‬ويتعود على معاملته‬
‫كحيوان (‪ .)Eze, M., 2013, P.680‬لقد كان العرق قوة هائلة‪ ،‬وإن كانت مدمرة‪ ،‬في صنع العالم الحديث‪،‬‬
‫لقد فصلت األسياد عن العبيد‪ ،‬والمستعمرين عن المستعمرين‪ ،‬والمستوطنين عن السكان األصليين‪ ،‬ردا ا‬
‫على ذلك‪ ،‬ساهمت النضاالت التاريخية ضد العنصرية وتفوق البيض في تعميق الركائز المعيارية‬
‫األساس ية للنظام الدولي الحديث‪ .‬فقد تم تعميم حقوق مختلفة بما في ذلك حق تقرير المصير‪ .‬فكانت‬
‫المفاهيم األساسية للحياة الحديثة مثل الحرية والعدالة‪ ،‬والمساواة بين جميع البشر‪ ،‬أو االعتقاد بأن السلطة‬
‫السياسية تهدف إلى حماية اإلنسان‪ .‬فقد كانت القناعة مستمرة بأن الديمقراطية هي أفضل شكلا من أشكال‬
‫تحقيق الحرية اإلنسانية ترجع إلى النقد الدائم للحكم العنصري من قبل مختلف الحركات المناهضة‬
‫للعبودية والمناهضة للستعمار والحقوق المدنية (‪ .)Mbembe, A., 2015, P. 1‬تحدث مبيمبي عن أول‬
‫تصنيف لألعراق تم إنجازه على يد جورج لويس عالم الطبيعة واألحياء‪ ،‬وكان ينظر للزنجي في الفكر‬
‫الغربي على أنه نموذج أولي لصورة قبل بشرية غير قادر على التخلص من حيوانيته وإعادة إنتاج ذاته‬
‫واالرتقاء بها‪ ،‬فهو ال يستطيع كسر أغلل الضرورة البيولوجية لذلك لم يتوصل إلى بناء صورة بشرية‬
‫حقيقية لنفسه وصنع عالمه (أبو العل‪ ،‬محمد‪.)2018 ،‬‬

‫إن أفريقيا والزنجي من منظور مبيمبي مفهومان تربطهما علقة تداخلية‪ ،‬حيث إن الحديث عن‬
‫إحداهما هو في الواقع استحضار لألخر‪ ،‬ويعتبر االثنين نتيجة مسار تاريخي طويل في صناعة الذوات‬
‫العرقية‪ .‬إن مصطلح الزنجي لم يظهر في نص مكتوب باللغة الفرنسية إال في بداية القرن السادس عشر‪،‬‬
‫رغم ذلك لم يستخدم بشكل شائع إال في القرن الثامن عشر‪ ،‬حين بلغت تجارة الرق أوجها عديدة (األيوبي‪،‬‬
‫أمين‪ ،2022 ،‬ص‪ .)63‬أما لفظ أفريقيا فهو يشير إلى واقع فيزيقي وجغرافي – قارة‪ ،‬كما يشير هذا الواقع‬
‫إلى حالة أشياء‪ ،‬مجموعة من الصفات والخصوصيات‪ ،‬من جهة أخرى تمثل أفريقيا في الوعي الحديث‬
‫اسما ا نعطيه غالبا ا لمجتمعات تعتبر عاجزة؛ غير قادرة على إنتاج ما هو عالمي‪ ،‬كما يمثل هذا اللفظ إلى‬
‫عالم مرهق بالقسوة والعنف والدمار (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪ .)77‬إن حديث مبيمبي عن العقل‬
‫الزنجي ليس مفصوال عن العرق؛ فاإلنسان "الذي عين في عرق ليس بإنسان راكن إنما سجين صورة‬
‫ظليه ومفصولة عن جوهره من أسباب بؤس وجوده حسب فرانز فانون"‪ .‬كما أنه يرى أن كتابة تاريخ‬
‫الزنوج ليست ممكنة إال باالعتماد على شظايا تجند في وصف تجربة متشظية في حد ذاتها‪ ،‬تجربة شعب‬
‫رسم في شكل خط متقطع‪ ،‬شعب يصارع من أجل تحديد ذاته ليس كمركب من عناصر متباينة ولكن‬
‫كطائفة ما زالت بقع دمها تري على سطح الحداثة كلها (أبو العل‪ ،‬محمد‪ .)2018 ،‬لذلك نجد نقد العقل‬
‫الزنجي من منظور مبيمبي ما هو إال الوجه اآلخر لنقد الحداثة الغربية برمتها‪ .‬ويوضح لنا مبيمبي أن‬
‫منطق العرق هو نتاج ميتافيزيقا الحداثة الغربية وهو الطريقة التي نظر بها الغرب إلى العالم ويقسمه مع‬

‫‪57‬‬
‫وجود أوروبا في مركزه‪ ،‬يعمل هذا المنطق من خلل وضع شخصية جوهرية في حالة العرق األبيض‪،‬‬
‫كأعلى مبادئها وأسسها والتي وفقا ا لها يتم هيكلة العالم‪ ،‬وينتهي هذا المنطق بأن العرق يكون أسطورة‬
‫خيالية تم إنشاؤها حول الذات واآلخر من وجهة نظر الرجل األبيض‪ ،‬وقد تزامن إنشاء العرق مع‬
‫مشروع أوروبا والتوسع الغربي‪ ،‬حيث واجه الغرب اآلخر باستخدام االختلف المطلق للتمييز بين البشر‬
‫مع تصنيف غير األوروبيين على أنهم أقل من البشر(‪.)Gerber, S., 2019, P.11‬‬

‫هناك ثلث لحظات مر بها العرق؛ تتمثل األولى في لحظة السلب المنظم الذي حول بفضل تجارة‬
‫الرقيق األطلسية (ما بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر) رجال ونساء من أصول أفريقية إلى بشر‪-‬‬
‫أشياء‪ ،‬بشر‪ -‬سلع‪ ،‬فأصبحوا منذ هذه اللحظة ملكية ألخريين ذوي استعدادات عدوانية تجاههم‪ ،‬ولم يعد‬
‫لهم اسم وال لغة خاصة بهم‪ .‬وصارت حياتهم هي حياة اآلخرين الذين أجبروهم على العيش معهم‪ ،‬مع‬
‫منعهم من إقامة علقات بشرية مع غيرهم‪ .‬أما اللحظة الثانية فهي تبدأ حوالي نهاية القرن الثامن عشر‪،‬‬
‫والتي أصبح الزنوج بإمكانهم المطالبة بمكانة تجعل منهم ذوات كاملة في العالم؛ فقد كانت فترة مليئة‬
‫بالثورات والكفاح من أجل القضاء على الرق وتصفية االستعمار في أفريقيا والنضاالت المطالبة بالحقوق‬
‫المدنية في الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬وهي فترة انتهت بتفكيك النظام العنصري خلل السنوات األخيرة‬
‫من القرن العشرين‪ .‬وعن اللحظة الثالثة فهي مع بداية القرن الواحد والعشرين‪ ،‬وهي لحظة عولمة‬
‫األسواق وخصخصة العالم الواقع تحت سيطرة الليبرالية الجديدة‪ ،‬والتعقيدات المتزايدة للقتصاد المالي‬
‫والمركب العسكري ما بعد اإلمبريالي والتكنولوجيات اإللكترونية والرقمية (ميلودي‪ ،‬طاهر‪،2018 ،‬‬

‫ص‪.)11‬‬

‫كانت األسطورة العظيمة للقرن التاسع عشر هي أسطورة العرق‪ ،‬حيث كان يعتقد أن الفكرة‬
‫المطلقة ستتحقق من خلل العرق‪ .‬اعتبر هيجل‪ ،‬أنه في كل عصر من التاريخ هناك أمة واحدة فقط‬
‫وشعب واحد فقط يعتبر التمثيل الحقيقي لروح العالم‪ ،‬وأنه له الحق في حكم كل األخريين‪ ،‬وفي مقابل هذه‬
‫األمة أو العرق هناك دول أخرى بل حقوق مطلقا ا‪ ،‬فهم لم يكن أي أهمية في التاريخ العالمي‪ ،‬ومن هذه‬
‫النظرة يتحول العرق إلى أسطورة بحيث أصبح العرق قوة هيكلية وخياالا يمتلك واقعه الخاص‪ ،‬كان هذا‬
‫التمييز العرقي تحديدا ا بيولوجيا ا‪ ،‬لترتيب الدم واالنتقال الوراثي وكذلك نظام الجسد‪ .‬وتم اعتبار العرق‬
‫األسود على وجه الخصوص نوعا ا أدنى من الجنس البشري (‪.)Mbembe, A., 2021, P.154‬‬

‫اعتقدت المركزية األوروبية أن الغرب منبع المعرفة بأشكالها المتعددة‪ ،‬ولهذا االعتقاد أسس‬
‫معرفة ومن ثم صورة تحقيرية للحضارات والمعارف والشعوب غير الغربية‪ ،‬هذه الشعوب لم تبلغ‬
‫مرحلة الوعي بالذات ومن ثم لم يكن لديها هوية واضحة مقارنة باألوروبي الغربي‪ ،‬فقد عمدت المركزية‬

‫‪58‬‬
‫األوروبية الغربية على تحديد هويتها من خلل هوية اآلخر (األفريقي‪ ،‬الهندي‪ ،‬الصيني‪ ،‬العربي)‪ ،‬ومن‬
‫ثم سعت إلى طمس هوية األفريقي‪ /‬الزنجي لتأسيس الحتمية االستعمارية الذي تولد عنها أشكاالا عديدة من‬
‫أشكال االستبداد والعنف التي مورست على الزنجي من خلل نظام معرفي أيديولوجي أداتي غربي على‬
‫المستويين المعرفي واالستعماري االستبدادي‪ .‬لقد صورت األيديولوجيات االستعمارية األفريقي على أنه‬
‫يعيش وفق رموز سحرية وتعاويذ‪ ،‬وقد أسس معرفيا ا وفلسفيا ا لهذا الزعم عدد من الفلسفة واضعي أسس‬
‫المركزية األوروبية واأليديولوجيا االستعمارية‪ ،‬مثل هيجل والذي استبعد األفارقة السود من التاريخ‬
‫والعقل (اليوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)10‬‬

‫يقول فانون؛ في أعماق العقل الباطن األوروبي‪ ،‬تم صنع صورة لرجل أسود أجوف بصورة‬
‫جامحة‪ ،‬تكمن فيها أكثر الدوافع انحطاطا أخلقيا وأكثر الرغبات مدعاة للعار‪ .‬وكما أن كل إنسان يصعد‬
‫نحو البياض والضوء‪ ،‬فإن األوروبي حاول إنكار ذاته غير المتحضرة التي سعت ألن تدافع وتحديد‬
‫نفسها‪ .‬وعندما وقع اتصال الحضارة األوروبية بالعالم األسود‪ ،‬بتلك األقوام الهمجية‪ ،‬اتفق الجميع على أن‬
‫أولئك السود هم مبدأ الشر في العالم‪ .‬فاألسود هو رمز الشر‪ ،‬رمز السادية‪ ،‬رمز الشيطان‪ ،‬رمز القذارة‬
‫األخلقية‪ ،‬ورمز الخطيئة‪ .‬وهذه الرموز بعد إسقاطها على األسود مرة تلو المرة‪ ،‬تخلق األساس لعقدة‬
‫النقص‪ ،‬إذ يصبح اآلخر األبيض أساس انشغاالته‪ .‬الشخصية الزنجية في نظر هيجل تتميز باالفتقار إلى‬
‫ضبط النفس وتلك حالة تعجز عن أي تطور‪ ،‬ولهذا كان الزنوج باستمرار على نحو ما نراهم اليوم وأن‬
‫الرابطة الوحيدة التي وجدت واستمرت بين الزنوج واألوربيين هي رابطة الرق والعبودية (بخضرة‪،‬‬
‫مونيس‪ ،2022 ،‬ص‪.)13‬‬

‫إن ما قدمه هيجل من أعمال‪ ،‬توضح كيف أدت فلسفة الحداثة إلى نشوء ثقافة التبرير لإلمبريالية‬
‫األوروبية خاصة والغربية بصفه عامة في سياق التعامل مع الحضارات والمجتمعات في أفريقيا وآسيا‬
‫(عطية‪ ،‬أحمد‪ ،2019 ،‬ص‪ .)206‬لقد كانت الحداثة هي االسم اآلخر لمشروع التوسع األوروبي من القرن‬
‫الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر؛ حيث أصبح القرن التاسع عشر هو قرن اإلمبريالية العظمى التي‬
‫فرضت فيها أوروبا على الشعوب األخرى‪ .‬لذلك فإن نقد الحداثة الغربية لم يكتمل إال بفهم ظهورها‬
‫مقترنة بظهور مبدأ العرق‪ .‬وأهميته للتقسيم واالختلف البشري والمجند ألغراض اإلقصاء والتي من‬
‫خللها يتم القضاء على مجموعة بشرية فيزيقياا‪ .‬وكان االستعمار أو اإلمبريالية إحدى الوسائل التي يتجلى‬
‫من خللها التطلع األوروبي للهيمنة على العالم‪ ،‬ويشكل االستعمار نمطا ا من السلطان المؤسس للمنطقيات‬
‫الثلث‪ :‬منطق العرق‪ ،‬منطق البيروقراطية‪ ،‬منطق التجارة‪ .‬يعمل العرق في النظام الكولونيالي باعتباره‬
‫مبدأ الجسد السياسي‪ ،‬أما البيروقراطية هي ترتيب هيمنة‪ ،‬ومن ثم تحل القوة محل القانون (نقد العقل‬

‫الزنجي‪ ،‬ص‪ .)87-83‬وهنا يشير مبيمبي إلى دور نظرية األعراق المتصارعة وتطبيقها بوضوح في أنحاء‬
‫‪59‬‬
‫العالم وباألخص في أفريقيا حيث يشير إلى أحداث بدأت من القرن الخامس عشر مثل إبادة الشعوب‬
‫وترحيل في ظروف غير إنسانية لتأسيس نظام اقتصادي قائم على العبودية وغزو وضم أراضي‬
‫وإخضاع سكانها وتكوين دول عنصرية وتوطين أناس على النحو الذي حدث في جنوب أفريقيا (وجود‬
‫سكان ذوي أصول أوروبية)‪.‬‬

‫يرى مبيمبي أن نماذج الفكر العنصري في حالة اإلمبراطورية االستعمارية الفرنسية اختلفت‬
‫بمرور الوقت‪ ،‬على الرغم من وجود بعض االختلفات منذ عصر التنوير؛ إال أن هذه النماذج جميعا ا‬
‫تشاركت في ثلثة افتراضات وهي؛ أن جميع األجناس تنتمي إلى البشرية‪ ،‬ليست كل األجناس متساوية‬
‫حتى لو كان من الممكن التغلب على االختلفات البشرية بعيدا ا عن كونها ثابتة‪ ،‬العلقة الوثيقة بين العرق‬
‫األبيض واألمة الفرنسية والثقافة الفرنسية‪ .‬وخلل القرن التاسع عشر‪ ،‬ارتبطت نماذج العنصرية الشعبية‬
‫في فرنسا جزئيا ا بالتحوالت االجتماعية الكبرى‪ .‬وفي المستعمرات‪ ،‬ارتبطت الهوية القومية والمواطنة‬
‫ارتباطا ا وثيقا ا بالفكرة العرقية للبيض‪ ،‬وبحلول نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬يمكن ملحظة فشل االستيعاب‬
‫حتى منتصف القرن العشرين‪ ،‬حيث كانت اإلمبراطورية مكونة من الرعايا أكثر من المواطنين‪ ،‬لذلك‬
‫كان إنهاء االستعمار بمثابة إثبات لفشل االستيعاب‪ ،‬حيث كان الرعايا غير البيض لإلمبراطورية ال يمكن‬
‫أن يصبحوا مواطنين فرنسيين‪ ،‬وهكذا؛ فإن حاجز العرق يقف دائما ا بين الجنسية والهوية الفرنسية‬
‫(‪.)Mbembe, A., 2001, P.59-60‬‬

‫لقد تميز المنطق الفرنسي في التخصيص العرقي بثلثة ملمح مميزة؛ األول هو رفض الرؤية‬
‫وممارسة اإلنكار‪ ،‬والثاني فيتمثل في ممارسة التخفي‪ ،‬بينما الثالث استهتار وغرائبية‪ .‬ففي فرنسا تقليد‬
‫طمس طويل وإبعاد العنف العرقي إلى حقل ال يستحق أن يظهر ويعرف ويقدم للرؤية‪ ،‬ويعود هذا التقليد‬
‫في الكتمان واإلنكار في الظروف المعاصرة إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر‪ .‬وكانت تجارة‬
‫الرقيق قد بلغت أوجها في فترة األنوار؛ وكان ظهور أفكار جديدة حول العلقات بين الرعايا والسلطة في‬
‫وقت كانت فرنسا منغمسة في إنتاج العبودية واالستعباد فيما وراء البحار‪ .‬فقد اعترف روسو وفولتير‬
‫فلسفيا ا بالطابع الخسيس لتجارة العبيد ولكنهما يتظاهران بجهلهم لهذه التجارة الجارية‪ ،‬وبذلك افتتح‬
‫الفيلسوفان تقليدا ا سيكون فيما بعد إحدى الخصوصية المركزية للوعي اإلمبراطوري ‪ -‬جعل من العبودية‬
‫تعبير مجازي عن الظرف البشري في المجتمع األوروبي الحديث‪ .‬أما الملمح الثاني للمنطق الفرنسي في‬
‫التخصيص العرقي يتمثل في التشويه والتخفي‪ ،‬فالمنطق الفرنس دائما ا ما يضم اآلخر العرقي في الشبكة‬
‫الثلثية المنسوجة بخيوط من الغرائبية واالستهتار والتسلية‪ ،‬وهكذا ينبغي دائما ا لألسود الذي نقبل رؤيته‬
‫يكون مسبقا ا موضوع تنكر أما باللباس أو األلوان أو الديكور (نقد العقل الزنجي‪ ،‬ص‪.)100-95‬‬

‫‪60‬‬
‫إن العنصرية الفرنسية شكلت دائما ا الجانب المخزي والمحجوب بعناية‪ ،‬جانب من الديمقراطية‬
‫الفرنسية‪ ،‬ذلك الوحش المستخدم ضد األجانب‪ ،‬ينقلب اآلن على الجسم السياسي نفسه ويهدد بتقسيم‬
‫الفرنسيين ذوي األصول الصافية‪ ،‬والفرنسيين الذين ليسوا مثل اآلخرين تماما ا ( ‪Mbembe, A., 2009,‬‬

‫‪.)P.49‬‬

‫المستعمر والمستع َمر من خلل مذهبين فلسفيين إحداهما هيجلي‬


‫ِ‬ ‫قام مبيمبي برصد العلقة بين‬
‫واآلخر بيرغسوني؛ ووفقا ا للمذهب الهيجلي‪ ،‬ال يمكن بأي حال من األحوال للمحلى الخاضع للسلطة‬
‫والدولة االستعمارية أن يكون نفسا ا أخرى‪ ،‬بل ألنه حيوان صار غريبا ا عني تماما ا‪ ،‬فطريقة رؤيته للعالم‬
‫وطريقة وجوده‪ ،‬مختلفة عن طريقتي‪ ،‬وألنه متقوقع على نفسه صار مجموعة دوافع وليس مجموعة‬
‫قدرات‪ ،‬في هذه الظروف تصبح العلقة الوحيدة الممكنة به هي علقة العنف بالهيمنة‪ ،‬وفي ظل هذه‬
‫العلقة ال ينظر للخاضع للستعمار إال بصفته ملكية‪ ،‬حيث سار أداة أخضعتها الجهة التي شكلتها ويمكنها‬
‫اآلن استخدامه وتعديله حسب رغبتها‪ ،‬ومن ثم فهو ينتمي إلى مجال األشياء والتي يمكن تدميرها على‬
‫غرار قتل الحيوان وتقطيعه‪.‬‬

‫أما المذهب البيرغسوني فهو يستند إلى فكرة أن في استطاعة المرء‪ ،‬كما الحيوان‪ ،‬أن يتعاطف‬
‫مع الخاضع للستعمار‪ ،‬بل وأن يحبه أيضاا‪ ،‬ومن ثم يحزن لوفاته كونه ينتمي بدرجة ما إلى العالم‬
‫المألوف؛ وسيلزم الخاضع للستعمار في المقابل أن يبادل سيده األلفة ذاتها‪ .‬بموجب هذا المذهب يصبح‬
‫األنسنة والتدجين مكافآت للعبودية‪ ،‬ومن خلل التدجين يخضع السيد الحيوان لتجربة تدخله عالم سيده مع‬
‫بقائه على حاله – أي حال غير حال البشر‪ .‬فعملية دخول العبد إلى عالم سيده ال تأتي إال بعد عمليات‬
‫المستعمر في نفس الخاضع للستعمار عادات‪ ،‬ويعامله بعنف إذا لزم األمر‪،‬‬
‫ِ‬ ‫تهيئة‪ ،‬من خلل غرس‬
‫المستعمر مع‬
‫ِ‬ ‫فالخاضع للستعمار أوالا وقبل كل شيء هو موضوع تجربة كالحيوان‪ ،‬في لعبه مارسها‬
‫نفسه‪ ،‬مدركا ا استحالة وجود قاسم مشترك بينه وبين الخاضع للستعمار (اليوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪-50‬‬
‫‪.)51‬‬

‫المستعمر ضمن فئة وحيدة هي فئة المحلى‪ ،‬ذلك الشخص‬


‫ِ‬ ‫وفي ظل االستعمار كان ينظر إلى‬
‫الذي ولد في الدولة المستع َمرة‪ ،‬أي هو المواطن األصلي‪ ،‬ابن األرض وليس شخص استقر فيها بسبب‬
‫هجرة أو غزو‪ ،‬ووفقا ا للمفردات االستعمارية انطبق هذا الوصف على الخاضعين للستعمار عموما ا‪ .‬وفي‬
‫المستعمرون دون‬
‫ِ‬ ‫والمستعمرين‪ ،‬حيث تمتع‬
‫ِ‬ ‫ظل النظام االستعماري كان هناك تمييز بين المواطنين‬
‫سواهم ولمدة طويلة في النظام االستعماري القديم الذي أعاده بونابرت بما أجيز من حريات مدنية‬
‫وسياسية‪ ،‬لذلك هدمت في المستوطنات الفرنسية (المارتينيك – غينيا الفرنسية) مبادئ المساواة أمام‬

‫‪61‬‬
‫القانون‪ ،‬والحريات وحقوق الملكية التي انبثقت من الثورة الفرنسية عام ‪ 1789‬عن طريق الوجود‬
‫المتواصل لنمط استغلل العبيد‪ ،‬وبالعودة إلى التمييز العرقي والتعذيب والوحشية‪ ،‬مارس السادة حكمهم‬
‫على العبيد‪ ،‬وحتى عام ‪ 1828‬لم تعترف القوانين إال بفئتين من البشر هم األحرار والعبيد‪ ،‬وقد اعتمد هذا‬
‫التمييز على العرق (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)53-52‬‬

‫جادل مبيمبي بأن أوروبا قد لعبت دورا ا إيجابيا ا في التفكير في العالم فقط إذا طورت قدرتها على‬
‫إعادة قراءة تاريخها ليس كواحد من العقل والعالمية‪ ،‬بل كواحد من الذئب الذي يلتهم عدوه‪ ،‬وبالتركيز‬
‫على فرنسا‪ ،‬يظهر إعادة قراءة الماضي بعيدة كل البعد عن الوضوح في القوى االستعمارية السابقة‪ ،‬فقد‬
‫حررت فرنسا مستعمرتها دون إنهاء استعمار نفسها‪ ،‬حيث تظهر عجزا ا صارخا ا عن التصالح مع ماضيها‬
‫االستعماري‪ ،‬عجز ينعكس في الفشل في االنخراط في المشروع الفكري لفكر ما بعد االستعمار‪ ،‬يقوم‬
‫على توتر عميق في الجمهورية الفرنسية‪ ،‬بين فكرة المساواة العالمية والتي تشير إلى فكرة عالمية‬
‫اإلنسانية‪ ،‬وعالمية مجردة تنكر حقيقة أ ن اإلنسان يكشف عن نفسه في نماذج فريدة من نوعها وبالتالي‬
‫تنكر أيضا ا مسألة العرق‪ ،‬نتيجة لذلك‪ ،‬ال يمكن لفرنسا أن تتصور اآلخر إال على أنه ضعف تصورها‬
‫الذاتي وبالتالي تفشل في المساهمة في التفكير في العالم والديمقراطية القادمة( ‪Gadeke, D., 2018,‬‬

‫‪.)P.499‬‬

‫يرى مبيمبي أن تاريخ الحداثة الغربية هو تاريخ العقل األسود‪ ،‬كما أنه اهتم كثيرا ا بأرشيف‬
‫األمريكيين من أصل أفريقي‪ ،‬وفي قلب ذلك األرشيف‪ ،‬وسجلت الحداثة عموما ا توجد العبودية أو مسألة‬
‫عدم الحرية والتطلع إلى الخلص‪ .‬وقد اعتبر مبيمبي أن الحديث عن الحداثة هو مواجهة حقيقة‬
‫الرأسمالية‪ ،‬وال يوجد طريق يمكن من خلله التفكير في الرأسمالية دون االضطرار إلى الرجوع للعبودية‬
‫العرقية وعواقبها‪ ،‬تلك الرأسمالية العرقية التي تم من خللها إنتاج فكرة األسود والسواد‪ ،‬فمسألة السواد‬
‫من منظور مبيمبي ليست مسألة أنطولوجية بقدر ما هي مسألة تاريخية‪ ،‬كما أنه تحدى السلالت السوداء‬
‫التي استخدمت ذكرياتها لتطوير خطابات السواد كأنطولوجيا‪ ،‬وقد اعتقد مبيمبي أن الرأسمالية هذه هي‬
‫في جوهرها معادية لإلنسان بشكل أساسي‪ ،‬كما اعتبر أن هناك تثليثا ا بين القارة األفريقية وأمريكا‬
‫وفرنسا(‪.)Mbembe, & David, 2018, P.205-210‬‬

‫ومثلما ناقش مبيمبي العرق والعنصرية في ضوء األرشيف الفرنكفوني الفرنسي‪ ،‬أيضا ا ناقش تلك‬
‫المسألة في األرشيف األمريكي؛ أن الواليات المتحدة كما يذكر وليام ديبوا ‪ *W.E. Dubois‬في كتابه‬
‫‪ Black Reconstruction‬بأنه يوجد مفارقة في قلب هذه األمة التي أعلنت عند والدته المساواة بين‬
‫الناس؛ والتي يفترض أن حكومتها تستمد شرعيتها من رضاء المحكومين؛ ولكنها‪ ،‬عن طريق ممارسة‬

‫‪62‬‬
‫العبودية‪ ،‬تضمنت انفصاال أخلقيا مطلقا‪ .‬في بداية القرن التاسع عشر كانت أمريكا تضم قرابة المليونين‬
‫من الزنوج‪ ،‬وقد ارتبط مصيرهم بشكل وثيق بمصير البيض دون خلط ظروف هؤالء بهؤالء‪ ،‬أو حتى‬
‫االرتباط بمستقبلهم‪ ،‬كما أن من الصعب وفقا ا لكثير من المؤرخين االنفصال التام أو االتحاد التام‪ .‬فكان‬
‫العبد بمنزلة األجنبي وسط مجموعة من المتشابهين‪ ،‬ومن ثم لم تغير الوالدة في أمريكا من وضعهم في‬
‫شيء‪ ،‬لذلك كانت ديمقراطية الرق قد تميزت بفراغها‪ ،‬حيث يحكمها قانون التفاوت الذي يقوم على حكم‬
‫مسبق متمثل في العرق (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)35‬‬

‫قام مبيمبي بمناقشة العرق والعنصرية في السجلت والمستندات التاريخية األمريكي مستندا ا في‬
‫ذلك على قرأته لقصص ألكسيس دي توكفيل(*) حول الديمقراطية في أمريكا‪ ،‬والوضع الحالي والمستقبل‬
‫لألعراق الثلثة إلى تسكن أراضي الواليات المتحدة‪ ،‬األمر األول يتعلق بامتياز عرق الرجل األبيض‬
‫صاحب األنوار في السلطة وفي السعادة هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى أعراق منحطة يمثلها الزنجي‬
‫والهنود‪ .‬ال تنتمي التركيبات العرقية الثلثة إلى نفس العائلة‪ ،‬إنما يفرقهم كل شيء‪ ،‬وأن ما يوحدهم فقط‬
‫هي العداوة الكامنة‪ ،‬حيث يمثل األجناس األخرى بالنسبة للرجل األبيض منزلة الحيوانات التي يسخرها‬
‫في استعماالته وأن عجزا على إخضاعهم دمرهم‪ ،‬فقد تم سلب كل االمتيازات اإلنسانية من الزنوج‪ ،‬كما‬
‫أن زنجي الواليات المتحدة قد فقدوا حتى ذكرى بلدهم‪ ،‬ولم يعد يسمع اللغة التي كان أسلفه يتحدثون بها؛‬
‫ارتد عن دينهم وأعرافهم‪ ،‬كما أن انقطاعه عن أفريقيا لم يحصل على أدنى حق في أوروبا‪ ،‬إنما وقف بين‬
‫مجتمعين وأصبح معزوالا بين شعبين؛ يبيعه األول وينبذه الثاني‪ .‬وبالنسبة لتوكفيل‪ ،‬يجسد الزنجي كل‬
‫ملمح اإلذالل واالنحطاط‪ ،‬فهو لم يأت بمحض إرادته إلى شاطئ العالم الجديد‪ ،‬ويعتبر ذلك أحدي‬
‫المعضلت التي ال حل لها في الديمقراطية في الديمقراطية األمريكية من منظور توكفيل‪ ،‬فهو يرى أنه ال‬
‫حل لمشكلة العلقات بين العرق والديمقراطية حتى وأن كان العرق يشكل إحدى المخاطر المستقبلية على‬
‫الديمقراطية‪ .‬ومن ذلك المنظور يرى مبيمبي أنه لكي توجد أمريكا البيضاء يجب أن تنتج زنوجاا‪،‬‬
‫والزنوج ليسوا شرطا ا إلمكانية أمريكا فحسب‪ ،‬بل هم أيضا ا طبقة من الناس ال تستطيع أمريكا العيش‬
‫معهم‪ ،‬أناس ال تريد أمريكا مشاركة أي شيء معهم‪ ،‬رغم أن أمريكا ال تعنى شيء دونهم‪ .‬ال توجد أمريكا‬
‫دون يهود أو دون زنوج‪ ،‬وأمريكا بهذا المعنى تعني استحالة المشاركة في الحرية‪ ،‬التي تشكل مكون لما‬
‫يعنيه أن تكون أبيض‪ .‬فأطروحة توكفيل تكشف الكثير‪ ،‬كما أن هدفها هو الديمقراطية‪ ،‬المدى الذي من‬

‫ألكسيس دي توكفيل‪ ،‬مؤرخ ومنظر سياسي فرنسي‪ ،‬ولد في عام ‪ 1805‬في باريس‪ ،‬وتوفي في عام ‪ 1859‬اهتم‬ ‫(*)‬

‫بالسياسة في بعدها التاريخي‪ ،‬من اهم مؤلفاته كتاب الديمقراطية في أمريكا والنظام القديم والثورة وكان توكفيل ناشط‬
‫سياسي فرنسي بداية من فترة حكم نظام ملكية يوليو‪ ،‬ثم خلل فترة الجمهورية الفرنسية الثانية‪ ،‬وقد تقاعد من الحياة‬
‫السياسية بعد انقلب لويس نابليون بونابرت‪ ،‬كان توكفيل ليبراليا ا كلسيكيا ا دافع عن نظام الحكم البرلماني وكان متخوفا ا‬
‫من الديمقراطية المفتوحة‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫خلله تمكنت أمريكا من االبتعاد عن المسار الغربي القديم‪ .‬إال أن مبيمبي يرى أن الديمقراطيات الليبرالية‬
‫المعاصرة في الغرب لم تبتعد عن التشاؤم بشأن التعايش العرقي (‪Mbembe, & David, 2018, P.205-‬‬

‫‪.)220‬‬

‫هذا التشاؤم العنصري أللكسيس دي توكفيل يمكن مقارنته بالتشاؤم األفريقي‪ ،‬الذي ينبني أيضا ا‬
‫على فكرة العداء القاطع الذي ال يمكن تجاوزه إال من خلل حرب من شأنها أن تشن هجوم ضد مفهوم‬
‫اإلنسانية ذاتها‪ ،‬ذلك المفهوم الذي حاصرنا في حالة موت دائم والذي يعتبر نفسه من المستحيل أن تكون‬
‫جزءا ا من‪ .‬ولذلك يمكن القول إن هناك علقة محاكاة بين شكلين من أشكال العنصرية غير المتكافئة‪،‬‬
‫عنصرية مهيمنة وعنصرية فرعية‪ ،‬وكلهما يتحدث نفس اللغة ولكن بلهجات مختلفة‪ ،‬وأن كانوا ال‬
‫يعملون على نفس المستوى ولكنهم يشاركون نفس الخيال عن الحرية التي هي فقط حرية الذات‬
‫(‪.)Mbembe, & David, 2018, P.205-221‬‬

‫إن مشكلة االستبداد والطغيان كامن بالطبع في مشكلة التحرر من العبودية‪ ،‬وإمكانية وجود ذات‬
‫أفريقية مستقلة (مبيمبي‪ ،‬أشيل‪ ،2022 ،‬ص‪ .)40‬لقد كانت منظومة االستعمار ومنظومة العبودية يمثلن‬
‫المخزون المرير في الديمقراطية والذي يفسد جسد الحرية ويجره بالضرورة نحو االنحلل‪ ،‬ال تفترق هذه‬
‫االنظمة الثلثة نظام المزرعة والتي تمثل الشكل األول من أشكال االستعباد‪ ،‬ونظام المستعمرة ونظام‬
‫الديمقراطية أبدا ا (مبيمبي‪ ،‬أشيل‪ ،2022 ،‬ص‪.)39‬‬

‫بعد هيمنة الغرب على العالم وال سيما من خلل االستعمار؛ قد يتوقع المرء بأن الممارسات‬
‫القمعية قد تتوقف عن الوجود بسبب إنهاء االستعمار‪ ،‬إال أن مبيمبي يشكك بشكل قاطع في هذا التفكير من‬
‫خلل القول بأنه بدل من يتم التعرف على المزيد من البشر اآلخرين بعد استعادة كرامتهم‪ ،‬فإننا نواجه‬
‫حاالت يتم فيها تصنيف الناس من جميع األنواع على أنهم فصيل أدنى من البشر وبالتالي يتم استغللهم‬
‫ماض فقط‪ ،‬أو أنها تقتصر على‬
‫ٍ‬ ‫اقتصاديا ا أو استبعادهم من المجتمعات‪ ،‬ولذلك فإن العنصرية ليس لها‬
‫األشخاص المنحدرين من أصل أفريقي‪ ،‬بل أن لها أيضا ا مستقبل ‪ .‬يشير مبيمبي إلى العقل األسود إلى بناء‬
‫"العرق األسود"‪" ،‬الرجل األسود" ليس كخطاب منفرد بل من منظور سرد مزدوج‪ ،‬أيضا ا يشير إلى‬
‫الخطاب حول العرق كسواد هو من بناء وتأسيس من قبل الغرب‪ ،‬والذي يسمى ب"الوعي الغربي‬
‫بالسواد"‪ ،‬هذا الخطاب الغربي يقابله خطاب آخر وهو ما يسميه مبيمبي "الوعي األسود للسواد"‪ ،‬وهو ما‬
‫يتعلق بردود فعل الفكر األسود على الخطاب الغربي في محاوالته لتحرير الذات وإعلن الهوية‪ ،‬وكانت‬
‫مهمة مبيمبي عالمية التخاذ الخطوة األولى نحو تخيل عالم يتجاوز فكرة العرق‪ ،‬وعليه يجب نقد هذا‬

‫‪64‬‬
‫المنطق المزدوج بصرامة فيما يتعلق بالعرق؛ أي نقد مزدوج للخطابين الغربي واألفريقي( ‪Gerber, S.,‬‬

‫‪.)2018, P.166‬‬

‫وبنا اء على ما تقدم يمكننا القول إن مبيمبي يدرك أن نظرية ما بعد االستعمار تمثل خطوة نحو‬
‫شكل من أشكال التفكير في العالم‪ ،‬ويكشف عن العنف المتأصل في فكرة معينة عن العقل‪ ،‬ويدعوا إلى‬
‫قراءة بديلة للحداثة‪ ،‬فقد ميز مبيمبي نفسه عن المبادئ األساسية لفكر ما بعد االستعمار‪ ،‬حيث حدد ميلا‬
‫إلى تقليص تاريخ المجتمعات المستعمرة سابقا ا إلى لحظة استعمار بدالا من التفكير في التاريخ من منظور‬
‫عمليات إدماج طويلة‪ ،‬كما أنه يرفض معادلة المقاومة والتبعية واالحتفاء باالختلف والبديل‪ ،‬لذلك يقاوم‬
‫بحذر أي اتجاه نحو االستقطاب أو المعارضة أو االنفصال (‪ .)Gadeke, D., P.504‬إن النضال من أجل‬
‫التحرر من االستعمار والعنصرية الغربية بشر ببدء عصر ما بعد االستعمار‪ ،‬من المؤكد أن بعض‬
‫التخيلت المناهضة للستعمار وما بعد االستعمار ما زالت تعمل داخل األنطولوجيا الغربية للتغيير مع‬
‫محاولة لتجنب أنواع معينة من العنف مثل التسلسل الهرمي العرقي‪ ،‬لكن مع ذلك اإلصرار على‬
‫االختلفات العرقية أو ما يسميه مبيمبي بميتافيزيقا االختلف‪ .‬في فترة ما بعد االستعمار‪ ،‬على الرغم من‬
‫أن الحقائق االجتماعية التزال تعكس بعض المنطق االستعماري‪ ،‬إال أن التجربة األفريقية ما بعد‬
‫االستعمارية تشكل علما ا اجتماعيا ا مختلفا ا يتغير باستمرار ويسمح بأشكال مختلفة من اآلخر ( ‪Gerber, S.,‬‬

‫‪.)2019, P.9‬‬

‫وفي ختام الفصل؛ يتضح لنا أن معايشة ظروف االستعمار ومشاهدة آثاره وتبعياته لها بالغ األثر‬
‫في تشكيل فكر كل من الشيخ أنتا ديوب وأشيل مبيمبي‪ ،‬فكلهما عاصر فترتين؛ االستعمار وما بعد‬
‫االستعمار‪ ،‬وكلهما ناقشا مفهوم العرق والعنصرية‪ ،‬وكيف كان العرق الحجة األوروبية والتي تبناها‬
‫الفلسفة الغربيون من أجل القضاء وتشويه وتزيف التاريخ األفريقي وإضفاء صفة الدونية والوحشية‬
‫والبربرية على الزنوج األفارقة وتجريدهم من كل صفة عقلنية استنادا ا إلى قانون النمط الظاهري أو‬
‫المظهر الخارجي للبشرة من أجل اعلء قيمة العقل األوروبي وتفوق الجنس األبيض على األسود‪ ،‬ومن‬
‫أجل إضفاء الشرعية الستعمار أفريقيا بحجة التقدم والحضارة‪.‬‬

‫أيضا ا كان للعرق بالغ األهمية في الدراسات ما بعد االستعمارية من خلل تحليل نقدي موجه‬
‫للفكر االستعماري واآلراء العنصرية للفلسفة الغربية وعلى وجه الخصوص هيجل وآرائه حول أفريقيا‪،‬‬
‫وكانت أفريقيا ذات حضور قوي في الدراسات ما بعد االستعمارية‪ ،‬فكل من أنتا ديوب وأشيل مبيمبي‬
‫عارض أفكار هيجل العنصرية موضحين كيف كانت الزنجية والعقل الزنجي نتاجا ا للخيال األوروبي‬
‫الفاقد للهوية ومن ثم أنتج أسطورة الزنوج من أجل تحديد هويته‪ ،‬إال أن كل الفيلسوفين في الختام أعلنا‬

‫‪65‬‬
‫انهيار األسطورة الهيجيلية حول أفريقيا وأن أفريقيا كانت وما زالت شعلة التنوير للعالم ‪ .‬فكانت أفريقيا‬
‫هي مهد الحضارة كما أنها هي المستقبل‪.‬‬

‫أيضا ا البد من أن نشير إلى أن العرق والعنصرية مفهومان أساسيان في صميم إشكالية الهوية‬
‫الزنجية‪ .‬لذلك؛ كانت محاوالات أنتا ديوب حول توضيح حقيقة وأهمية العقل الزنجي‪ ،‬وحول عبقرية‬
‫الزنوج من وجهة نظره في إنشاء أقدم حضارة زنجية وهي الحضارة المصرية القديمة‪ ،‬ويسوق ديوب‬
‫عدة أدلة لتوثيق وتأكيد أطروحته‪ ،‬كما أنه يرى أن مصر هي قلب أفريقيا النابض‪ ،‬وأن الجذور األفريقية‬
‫توجد في مصر‪ ،‬لذلك البد من الفلسفة األفارقة من أجل قراءة صحيحة للتاريخ األفريقي؛ العودة إلى‬
‫جذورهم األصلية في مصر‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫الفصل الثاني‬

‫مفهوم الهوية بين الشيخ أنتا ديوب وأشيل مبيمبي‬

‫أوال ً‪ :‬مصر والهوية الزنجية‬

‫ثانياً‪ :‬مبيمبي ونقد الخطابات األفريقية حول تعريف الذات‬

‫ثالثاً‪ :‬نقد مبيمبي للسلطة السياسية األفريقية‬

‫‪67‬‬
‫أولا‪ :‬مصر والهوية الزنجية‬

‫إن مشكلة الهوية يتم طرحها في بعض القضايا التي تتناول الحداثة وما بعد الحداثة وما بعد‬
‫االستعمار‪ ،‬وهي مشكلة لم تنشأ فقط مع تدخل الغرب في أفريقيا‪ ،‬بل إنها نقطة انطلق للفلسفة األفريقية‬
‫المعاصرة وكواحدة من االهتمامات األساسية للفيلسوف األفريقي المعاصر (‪.)Asiegbu, M., 2016,P.3‬‬

‫الهوية من المشاكل شديدة األهمية في وقتنا الراهن‪ ،‬فالشعوب األفريقية شبه مجردة من هويتها‪ ،‬تعيش‬
‫بهوية وثقافة مجتمعات فرضت عليها بشكل مباشر من خلل االستعمار‪ ،‬أو غير مباشر من خلل االنفتاح‬
‫الكوكبي والتطور التكنولوجي‪ .‬لذلك نحن بحاجة اليوم إلى طرح ومناقشة تلك القضية‪ ،‬والتي تعد قضية‬
‫أنطولوجية في المقام األول‪ .‬وقد يتبادر إلى األذهان عند الحديث عن مصر السؤال حول هوية مصر‪ ،‬هل‬
‫هي هوية عربية؟ أم أنها هوية أفريقية؟ إما أن لمصر خصوصية فريدة لجمعها ألكثر من هويات عربية‬
‫وإسلمية وأفريقية وفرعونية أيضاا‪ .‬والسؤال الذي يطرح نفسه اآلن ما العلقة التي تربط مصر بالهوية‬
‫األفريقية؟ وماذا تعني مصر بالنسبة لألفريقي الزنجي؟‪ ،‬وقد قدم ديوب تصورا ا مختلفا ا عما هو مألوف‬
‫حول الحضارة المصرية القديمة وحول أصل المصريين القدماء مما دفع البعض إلى رفض هذا التصور‬
‫شكلا ومضمونا ا وفي الحقيقة لم يكن ديوب وحده هو من قدم هذا التصور بل سبقه األنثروبولوجي‬
‫األفريقي صاحب كتاب المساواة بين األعراق البشرية أنتينور فيرمين(*) والذي أشار إلى زنجية الحضارة‬
‫المصرية القديمة إال أن الفكرة اتخذت شكلا أكثر تطورا ا مع ديوب ‪ .‬ومن أهم ملمح هذا التصور هو‬
‫إثباتات ديوب للوحدة الثقافية بين مصر وأفريقيا‪.‬‬

‫(*) أنتينور فيرمين ‪ )1911 – 1850( Antenor Firmin‬هو عالم وسياسي وموظف مدني عالما ً رائدا ً في االنثروبولوجيا في‬
‫القرن التاسع عشر نشر عمله الرئيسي المساواة بين االعراق البشرية (االنثروبولوجيا االيجابية) في باريس في عام ‪ 1885‬وتم‬
‫تجاهله الى حد كبير او رفضه كنص تأسيسي في االنثروبولوجيا (‪ .)Fluehr Lobban, 2000‬تم استعادة النص في عام ‪2000‬‬
‫وترجمه الباحث الهايتي أسلين تشارلز ‪ Asselin Charles‬وقدم الى اللغة االنجليزية باسم المساواة بين االعراق البشرية‬
‫(االنثروبولوجيا الوضعية) في ‪ 2000‬مع نسخة ذات غالف ورقى في عام ‪ 2002‬بعد ‪ 115‬عام من نشر النسخة االصلية‪.‬‬
‫وبالتالي تم تقييمها كعمل من أعمال االنثروبولوجيا ألول مرة في القرن الحادي والعشرين‪ .‬وفى الكتاب واستعرض فيرمين‬
‫واجري تقييم نقدي للتقليد الفلسفي والعلمي الذي شكل االنثروبولوجيا الناشئة عن الفيلسوف ايمانويل كانط الى الدرويني‬
‫االجتماعي هربرت سبنسر‪ .‬وعرف االنثروبولوجيا بأنها دراسة االنسان بأبعاده الجسدية والفكرية واالدبية كما يوجد في اي من‬
‫العروق المختلفة التي تشكل الجنس البشرى‪ .‬اعترف فيرمين بأفريقية مصر بالكامل وليست اسيوية نقالً عن محلل رموز‬
‫الهيروغليفية جان فرانسوا شامبليون؛ فمصر كانت بلد الزنوج األفارقة السود‪ .‬لقد سبق العرق األسود جميع األعراق االخرى في‬
‫بناء الحضارة ظهر الفكر ألول مره واستيقظ الذكاء البشرى ألول مره في العرق األسود من االن فصاعدا ً كلما وصف السود‬
‫بالدونية فإنهم ال يحتاجون إال الى اجابة واحده بسيطة ومقتصرة ذلك ان المعالم االثرية القديمة في مصر الفاتنة والدافئة من‬
‫ممفيس الى ميرو سوف تقوم بالرد واشاد االغريق بقدماء المصريين وابدى الرومان احترامهم لليونانيين وكل اوروبا تحيهم‬
‫جميعا ً ويشير هذا الرأي الى وجود ارتباط وثيق مع األفكار الالحقة للشيخ انتا ديوب في االمم الزنجية والثقافة‪ .‬توفى فيرمين عام‬
‫‪ 1911‬عن عمر يناهز ‪ 61‬عاما ً في المنفى في سانت توماس بعد مسيرة سياسية نبيلة لكنها فاشلة في هايتي‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫لقد كانت محاوالات الرواد والمفكرين األفارقة؛ تسعى دائما ا لحسم أزمة الهوية من أجل وضع‬
‫األفريقي في السياق الحضاري التاريخي‪ .‬إن اإلشكالية األولى في الفكر السياسي واالجتماعي األفريقي‬
‫تمثلت في كيفية مواجهة المنظور الغربي والسرديات الكبرى المسيطرة‪ ،‬لذلك فقد تضمن خطاب الزنوجة‬
‫تأكيدا ا على الهوية األفريقية والتي يتم التعبير عنها في صورة معارضة مباشرة لألنماط والقوالب الفكرية‬
‫األوروبية ذات النزعة المركزية المسيطرة (عبد الرحمن‪ ،‬حمدي‪ ،2019 ،‬ص‪ .)14-13‬تعتبر الهوية‬
‫األفريقية نتاجا ا معقدا ا لعملية ذات اتجاه مزدوج‪ ،‬تعبر عن المتطلبات االستعمارية من جهة والمقتضيات‬
‫األفريقية من جهة أخرى‪ .‬فشملت تلك المتطلبات؛ تقسيم أفريقيا وتأسيس نظم مهيمنة كما شملت الترويج‬
‫لفكرة دونية الشعب األفريقي الذي تم اعتباره متخلفا ا وبدائيا ا‪ ،‬ذلك األمر الذي أثار دون قصد الوعي‬
‫األفريقي نتيجة اإلذالل العرقي االستعماري لألجناس السوداء‪ ،‬فقد ساهم االستعمار في اكتشاف مفهوم‬
‫الهوية األفريقية وخلق وعي لدي األفارقة بهويتهم المشتركة (عبد الرحمن‪ ،‬حمدي‪ ،2019 ،‬ص‪ .)17‬ومن هنا‬
‫يمكننا القول إن للستعمار وتداعياته ونتائجه دورا ا بارزا ا في محاوالات األفارقة للبحث والكشف عن‬
‫هويتهم ومدى إدراكهم ووعيهم بها‪ ،‬فكان سبب للتساؤل من قبل األفارقة من نحن؟ وقد سعت محاوالات‬
‫الفلسفة األفارقة لإلجابة على ذلك السؤال تأكيدا ا على حقيقية هويتهم األفريقية الزنجية‪.‬‬

‫مصر السوداء‪ :‬ومن خلل العودة للجذور؛ هناك بعض اآلراء الباحثة عن الهوية الزنجية تدعو‬
‫إلى العودة والرجوع إلى مصر ذلك؛ ألن معظم اآلثار الغير قابلة للتدمير توجد لديها؛ باإلضافة إلى أن‬
‫القطع األثرية التي تم اكتشافها خلل الخمسة وسبعين سنة الماضية على أنها مصرية هي في الواقع‬
‫أفريقية‪ .‬ويرى أصحاب هذا االتجاه أن قلب العرق ومهد الحضارة كانا في الجنوب وتمركزت في‬
‫عاصمتي نبته ومروي‪ ،‬ومنها انتشرت الحضارة السوداء شماالا‪ ،‬وبلغت أروع إنجازاتها فيما أصبح‬
‫يعرف باسم (الحضارة المصرية) (‪ .(Williams, C., P.40‬حيث يوجد العديد من العوامل الزدهار‬
‫الحضارة المصرية القديمة‪ ،‬أبرزها العنصر البشري الذي يعد أهم وأخطر العوامل‪ ،‬ويتميز هذا العنصر‬
‫ي بعدة سمات منها وحدة اللغة‪ ،‬ندرة الفوارق العرقية بينهم مما ساعد على تجانس ووحدة الحس‬
‫الجماعي‪ ،‬سهولة االتصال بين تجمعاتهم‪ ،‬وأخيرا ا استقرار النظم اإلدارية الداخلية ومركزية الحكم‬
‫(السعدني‪ ،‬محمود‪ ،2005 ،‬ص‪ .)32‬يعتبر ديوب هو أحد البارزين الممثلين لهذا االتجاه‪ .‬وتعتبر إسهاماته‬
‫رد االعتبار لتاريخ القارة األفريقية‪ ،‬حيث استطاع أن يثبت بنظريته التي جاء بها عام ‪ 1956‬حيث تأكد‬
‫لديه أن حضارة وادي النيل حضارة زنجية‪ ،‬وأن الحضارة المصرية القديمة هي اسمي مراحل الحضارة‬
‫األفريقية (دياب‪ ،‬أحمد‪ ،1989 ،‬ص‪ .)50‬لقد بدء ديوب رحلته البحثية عن هوية مصر األفريقية من خلل‬
‫طرح عدة تساؤالت بدايتها هي من هم المصريون؟ ما أصلهم؟ قدم ديوب في كتابة األصول الزنجية‬
‫للحضارة المصرية وكتاب حضارة أم بربرية األدلة والبراهين التي تؤكد صدق ادعائه بزنجية الحضارة‬

‫‪69‬‬
‫وبكتابات المؤرخين والفلسفة القدامى والكتاب‬ ‫(*)‬
‫المصرية القديمة مستشهدا ا بتحليل جرعة الميلنين‬
‫المقدس على سواد مصر القديمة‪ .‬وتجدر بنا اإلشارة إلى أن األدلة التي استخدمها أنتا ديوب من أجل‬
‫إثبات صحة افتراضاته وان كانت أدلة ثقافية تاريخية إال أنها ذات أبعاد ودالالت فلسفية ويظهر ذلك‬
‫بوضوح من خلل المقارنة بين آراء ديوب وآراء هيجل حول دور العقل في التاريخ‪.‬‬

‫ويذكر ديوب بعضا ا من أقوال الكتاب القدامى أمثال هيرودوت الذي أكد مرارا ا على الطابع‬
‫الزنجي للمصريين (طوسون‪ ،‬حليم‪ ،1995 ،‬ص‪ .)17‬فقد ذكر هيرودوت أن الملك سيزوستريس هو الملك‬
‫الوحيد الذي حكم أثيوبيا (بلد النوبة)‪ ،‬وأن الكولخيين مصريون وفقا ا لما صرحت به طائفة من المصريين‬
‫على أن الكولخيين بعضا ا من جيش سيزوستريس‪ ،‬والكولخيين سمر البشرة وجعد الشعر‪ ،‬كما أنهم‬
‫والمصريين واألثيوبيين يمارسون دون غيرهم عادة الختان‪ ،‬أيضا ا يذكر هيرودوت تشابهات أخرى بين‬
‫الكولخيين والمصريين حيث يصنعون التيل بنفس الكيفية‪ ،‬كما أن طريقة الحياة واللغة متشابهة عند‬
‫الشعبين (هيردوت‪ ،‬ص‪.)226-219‬‬

‫ديودور الصقلي كتب يقول (يقول اإلثيوبيون إن المصريين هم إحدى مستعمراتهم التي أقامها‬
‫أوزوريس في مصر‪ ،‬كما أنهم يقولون إن المصريين أخذوا عنهم وعن مؤلفيهم وأسلفهم جانبا ا كبيرا ا من‬
‫قوانينهم‪ ،‬وأنهم تعلموا منهم تبجيل الملوك كآلهة‪ ،‬ودفن موتاهم في احتفال بمثل هذه العظمة؛ وإن النحت‬
‫والكتابة نشأ عند األثيوبيين؛ ويسوق األثيوبيون أدلة أخرى حول أقدميتهم على المصريين‪ .‬وإذا لم يكن‬
‫المصريون واإلثيوبيون من نفس العرق األسود‪ ،‬كان ديودور قد أكد على استحالة اعتبار مصر مستعمرة‬
‫من مستعمرات إثيوبيا‪ ،‬وأن أثيوبيين استقروا في مصر‪ ،‬واستحالة النظر إليهم كأجداد للمصريين ( ‪Diop,‬‬

‫‪.)C., 1974, P.23-24‬‬

‫سترابون )‪ 58( )Strabo‬ق‪ .‬م – ‪ 25‬م) زار مصر وكل بلدان اإلمبراطورية الرومانية تقريبا ا‪.‬‬
‫وهو يأخذ بالنظرية القائلة بأن المصريين والكولخيين من نفس العرق‪ ،‬لكنه يذهب إلى القول بأن الهجرات‬
‫إلى أثيوبيا وكولخيس جاءت من مصر وحدها‪ .‬وفي مواضع أخرى وضح أن المصريين أغمق لونا ا من‬
‫الهنود وهذا بشأنه يدحض أي محاولة للخلط بين الجنسين الهندي والمصري (أنتا ديوب‪ ،1985 ،‬ص‪-50‬‬

‫‪ .)53‬تلك اآلراء السابقة هي مجرد نماذج لبعض الكتابات التي استشهد بها ديوب على سواد العرق‬
‫المصري وعلقته بأثيوبيا (المروي)‪.‬‬

‫(*) الميلنين هي صبغة جلدية تتواجد في كل انواع الجلد الخاص بالبشر والحيوانات وهي المسؤولة عن تغميق لون الشعر‬
‫والجلد والعينين‪https://www.almrsal.com ,‬‬

‫‪70‬‬
‫ويلخص غاستون ماسبيرو )‪ )1916 – 1846 , Gaston Maspero‬رأي جميع الكتاب‬
‫القدامى حول العرق المصري‪ :‬باإلجماع تقريبا ا من المؤرخين القدماء‪ ،‬كانوا ينتمون إلى عرق أفريقي‪،‬‬
‫الزنجي الذي استقر أوالا في إثيوبيا‪ ،‬على النيل األوسط؛ بعد مجرى النهر وصلوا تدريجيا ا إلى البحر‪ .‬فقد‬
‫ذكر الكتاب المقدس أن مصرايم‪ ،‬بن حام‪ ،‬شقيق كل من كوش األثيوبي‪ ،‬وكنعان‪ ،‬وبنو كوش هم سبا‪،‬‬
‫حويله‪ ،‬سبتا‪ ،‬ريقما‪ ،‬ساباتا؛ كان كوش هو أبا ا للنمرود أول منتصر في األرض ‪ ...‬أما مصرايم فأصبح أبا ا‬
‫لكل من لوديم‪ ،‬أناميم‪ ،‬البيم‪ ،‬نيفثيم‪ ،‬فيثروسيم‪ ،‬شاسلويم؛ ووفقا ا للكتاب المقدس‪ ،‬كانت مصر مأهولة من‬
‫نسل حام‪ ،‬سلف السود ‪ ...‬أما كنعان فقد كان أبا ا لكل من سيد‪ ،‬هيث ( ‪ /Diop, C., 1974, P.24‬ديوب‪ ،‬م‪،2‬‬

‫ص ‪ .)61‬بالنسبة لشعوب الشرق األقصى فإن مصرايم اختار مصر‪ ،‬وكنعان اختار كامل ساحل فلسطين‬
‫وفينيقيا‪ ،‬أما سينار ربما كان المكان الذي غادر منه نمرود إلى غربي آسيا‪ ،‬ال يزال يشير إلى النوبة (علي‪،‬‬

‫محمود‪ ،2017 ،‬ص‪.)12‬‬

‫ويسوق أنتا ديوب دليل آخر إلثبات زنجية مصر‪ ،‬متمثل في اللغة واآلداب الذي خلفها المصريون‬
‫لم يكن لديهم سوى كلمة واحدة يدللون بها على أنفسهم سوى كلمة كمت(*) ‪ = Kmt‬الزنوج حرفيا ا‪ ،‬هذا هو‬
‫أقوى لفظا ا باقيا ا من اللغة الفرعونية يعبر عن السواد ‪.‬هذا اللفظ هو األصل الذي اشتق منه الجذر‬
‫المعروف حامي والذي كثر استعماله في المؤلفات األنثروبولوجية الحديثة‪ ،‬وربما كان األصل المستمد‬
‫من التوراة (حام) مشتقا ا منه(الشيخ أنتا ديوب‪ ،‬م‪ ،2‬ص‪.)57‬‬

‫ومن بين األدلة التي يوردها ديوب أيضا ا دليلا خاصتا باأللقاب اإللهية؛ حيث إن أسود أو زنجي‬
‫هو اللقب اإللهي الذي يستعمل بصورة ثابتة في وصف أكبر اآللهة المصرية الخيرة‪ ،‬في حين أن األرواح‬
‫الشريرة كانت توصف بأنها دشرت = حمراء؛ وهذا التعبير في عرف األفارقة يشير إلى الشعوب‬
‫البيضاء‪ .‬ومن المؤكد أن ذلك كان يصدق على مصر أيضا ا‪ .‬فكلمة دشرت هي المضاد اللغوي لكلمة كيمت‬
‫والتي استخدمت كلقب ألوزيريس في حين استخدام دشرت لإلشارة إلى ست (إله الشر) (الشيخ أنتا ديوب‪،‬‬

‫م‪ ،2‬ص‪ .)60-58‬مما سبق يتبين لنا أن أدلة الشيخ أنتا ديوب على زنجية مصر لم تقتصر على كتابات‬
‫القدامى فقط بل أورد أدلة أخرى من الكتاب المقدس ومن كتابات المصريين أنفسهم‪ ،‬وكيف نظر‬

‫كيمت تعني أرض السواد‪ .‬ففي اللغة المصرية القديمة كانت كيمت كصفة تساوي السواد ومن ثم فإنها تعني حرفيا ا‬ ‫(*)‬

‫الزنوج او على االقل رجال سود‪ .‬فمن الناحية النحوية البحتة ال يمكننا ان نشير إلى الزنوج اال باستعمال تلك الكلمة التي‬
‫استعملها المصريون لإلشارة إلى أنفسهم كما انها كلمة مشتاقة من الجذر (كم) والذي كان المصريون يستعملونه لوصف‬
‫أنفسهم باعتبارهم شعب مميز عن كل الشعوب األجنبية‪ .‬ومن الملفت للنظر ان قدماء المصريين لم يفكروا على اإلطلق‬
‫في تطبيق هذه الصفة النوعية على النوبيين وغيرهم من شعوب أفريقيا للتمييز بينهم هم وبين هذه الشعوب‪ .‬تاريخ‬
‫أفريقيا العام‪ ،‬المجلد الثاني‪ ،‬ص ‪.58 :57‬‬

‫‪71‬‬
‫المصريين إلى أنفسهم وإلى معتقداتهم الدينية أيضا ا‪ .‬قدم أيضا ا أنتا ديوب أدلة على زنجية مصر الفرعونية‬
‫مستمدة من المعطيات الثقافية والملمح العديدة المشتركة بين مصر وأفريقيا السوداء‪.‬‬

‫سعى ديوب إلى إظهار الوحدة الثقافية ألفريقيا وقد ذكر ذلك في مقدمة كتابة الوحدة الثقافية‬
‫ألفريقيا السوداء حيث يقول "لقد حاولت إظهار الوحدة الثقافية العميقة‪ ،‬وشرح جميع السمات الثقافية‬
‫المشتركة لألفارقة‪ .‬وقد دفعني ذلك إلى تحليل بنية األسرة األفريقية واآلرية‪ .‬وقد تطرقت بإيجاز إلى‬
‫مفاهيم الدولة والملكية واألخلق والفلسفة والدين والفن وبالتالي إلى األدب وعلم الجمال‪ ،‬وفي كل من هذه‬
‫المجاالت المختلفة حاولت أن أعرض القاسم المشترك في الثقافة األفريقية بدالا من الثقافة اآلرية‬
‫الشمالية"(‪.)Diop, C., 1989, P.1-3‬‬

‫لقد أقدم ديوب على تقديم األدلة الكافية إلثبات فكرته حول زنجية الحضارة المصرية القديمة‬
‫ولدحض خرافة الزنجي‪ ،‬كما أنه عمل على كشف أبشع عملية تزويرا في التاريخ الحديث حول أصل‬
‫المصريين القدماء‪ .‬هدف ديوب إلى تبديد أي فكرة عن الدونية األفريقية‪ ،‬ال سيما في سياقها الثقافي‪ ،‬في‬
‫الوقت الذي كان علماء االجتماع يروجون لنظرية تفوق الثقافة الغربية‪ ،‬وان أفريقيا السوداء ذات ثقافة‬
‫أدنى من نظيرتها الغربية‪ .‬شن ديوب هجوما ا للتخلص من تلك العقيدة األيديولوجية‪ ،‬وكان هجوما ا ذا شقين‪:‬‬
‫األول نظرية الجينات األحادية‪ ،‬والثاني نظرية المهد‪ .‬تتلخص نظرية الجينات األحادية في أن البشرية‬
‫ولدت في أفريقيا داخل منطقة كينيا وحول المنطقة التي تضم إثيوبيا وتنزانيا‪ ،‬منتشرة على طول المحور‬
‫الشمالي الجنوبي على طول الطريق إلى جنوب أفريقيا‪ ،‬وبالنظر إلى أن البشرية قد تطورت في أفريقيا‪،‬‬
‫وأن البشرية األولى كانت ذات بشرة سوداء‪ ،‬كان على السود أن يكونوا أصل حضارة العالم األولى‬
‫(‪.)Allen, T., P.815‬‬

‫وبالنسبة لنظرية المهدين ‪ ،Two Cradle Theory‬فإن ديوب يعرف المهد بأنه مكان بداية‬
‫األشياء‪ ،‬ووفقا ا لنظرية المهدين إحداهما شمالي واآلخر جنوبي‪ ،‬فإن المهد الجنوبي يتميز بالنظام‬
‫األمومي‪ ،‬في حين أن المهد الشمالي يتميز بالنظام األبوي (‪ .)Allen, T., P.817‬وتعتبر نظرية المهدين‬
‫وهي واحدة من أكثر النظريات التي طورها ديوب في تحليله للختلفات بين نظم وثقافات العالم الشمالي‬
‫والمهد الجنوبي والتي تمت مناقشتها على نطاق واسع‪ .‬وتطرح نظرية المهدين أساسا ا نموذجين للثقافة‬
‫البشرية‪ ،‬شمالي وجنوبي‪ ،‬يتأثر كل منهما بالبيئة التي تطور فيها البشر‪ .‬يشير ديوب أيضا ا إلى منطقة‬
‫وسط تسمى بمنطقة االلتقاء‪ ،‬والتي بدت كمهد ثالث يقع بين المهدين (‪.)Nabudere, D., 2007, P.16‬‬

‫‪72‬‬
‫النظام األمومي ‪ :Matriarchy‬أحد مميزات المهد الجنوبي‪ ،‬يعتبر النظام األمومي واحدا ا من‬
‫أهم مظاهر الوحدة الثقافية المشتركة داخل القارة األفريقية‪ ،‬وهو إحدى السمات التي اعتمدها ديوب في‬
‫مناقشته حول األصول الزنجية للحضارة المصرية القديمة‪ .‬فقد كان أساس التنظيم االجتماعي في مصر‬
‫وفي جميع أنحاء أفريقيا السوداء يقوم على النظام األمومي‪ ،‬وفي المقابل لم يتمكن أحد أبدا ا من إثبات‬
‫وجود مثل هذا النظام في العصر الحجري القديم في حوض البحر األبيض‪ .‬وإذا كان النظام األمومي‬
‫الموروث من العصر الحجري القديم في حوض البحر األبيض المتوسط صحيحا ا لكان ظل قائما ا في‬
‫مختلف العهود الفارسية واإلغريقية والرومانية والمسيحية‪ ،‬كما استمر حتى يومنا هذا في أفريقيا السوداء‬
‫(‪ .)Diop, 1974, P.174‬هذا النظام الملكي لم يتواجد في اليونان حيث كانت الخلفة عن طريق االنتساب‬
‫األبوي‪ ،‬وكذلك في روما‪ .‬إن النظام األمومي نشأ في الجنوب الزراعي‪ ،‬في حين أن النظام األبوي نشأ في‬
‫الشمال كونه بدويا ا‪ .‬والحزام األوسط هو حوض البحر المتوسط‪ ،‬حيث سبق النظام األمومي النظام‬
‫األبوي‪ .‬بينما في غرب آسيا‪ ،‬كل النظامين متراكبين على بعضهما البعض‪ .‬إن النظام األمومي األفريقي‬
‫يوجد على نطاق القارة‪ ،‬وهو حجز الزاوية في كل العلقات االجتماعية‪ ،‬ويعتبرونه علقة أخلقية للغاية‬
‫(‪.)Diop, 1989, P.63‬‬

‫إن القارة األفريقية ذات الطابع التاريخي تم فيها دمج األم في المجال الروحي واألخلقي كمركز‬
‫لتكاثر األسرة والمجتمع بشكل عام والحفاظ عليها‪ .‬ففي وقت مبكر من بداية الكون‪ ،‬فقد تم تحديد الثالوث‬
‫الزراعي السماء واألرض والغطاء النباتي مع ثالوث نصف اإلله ألوزوريس وإيزيس وحورس‪ .‬وكان‬
‫هذا التمثيل مرتبطا ا بملحظة العملية الطبيعية التي ارتبطت فيها دورة الحياة النباتية بظهور األم وظهرت‬
‫الزراعة في الوعي البشري كإلهة خصبة بشكل دوري بفعل السماء‪ .‬وقد أعتقد ديوب أن الطابع الزراعي‬
‫واألمومي تم شرحه بإسهاب في أسطورة أوزوريس وإيزيس‪ .‬لقد تمكن ديوب من رسم سمتين ثقافيتين‬
‫وحضارتين أساسيتين لمهد الجنوب وهما أنه كان محصورا ا في القارة األفريقية وتميزه بالعائلة األمومية‬
‫(‪ .)Nabudere, D., P.18‬إن هذه السمة الثقافية ألفريقيا لم تنتج عن جهل بدور األب في الحمل بالطفل‬
‫ففي الوقت الذي اختارت فيه البشرية القديمة نظام النسب إلى األم‪ ،‬عرفت دور األب في الختان ( ‪Diop,‬‬

‫‪.)1989, P.63‬‬

‫وعن فكرة الدولة في هذا المجتمع األمومي فإن شكل وادي النيل تطلب من السكان‪ ،‬منذ الوقت‬
‫الذي أقاموا فيه مشاريع ونشاطا جماعيا عاما من جانب البدو وجميع المدن لمواجهة الظواهر الطبيعية؛‬
‫ضرورة وجود سلطة مركزية قوية تتجاوز الفرد وتنسق العمل والتوحيد اإلداري والثقافي‪ ،‬كل ذلك كان‬
‫ضمنيا ا في الظروف المادية للوجود‪ .‬وهكذا سرعان ما اندمجت العشائر البدائية‪ ،‬لتصبح مجرد تقسيمات‬
‫إدارية‪ .‬ظهرت فكرة الدولة بوجهيها الحكومية الكاملة إلى أصغر التفاصيل دون أن نتمكن من تتبع إال من‬
‫‪73‬‬
‫خلل األسطورة‪ ،‬وهذا ينطبق على مصر وإثيوبيا وبقية أفريقيا السوداء (‪.)Diop, 1989, P.130-131‬‬
‫وهنا يظهر ديوب كيفية تكوين فكرة الدولة في ظل النظام األمومي وكيف تم إنشاء نظام إداري أو حكومي‬
‫في ظل هذا النظام‪.‬‬

‫وعن المهد الشمالي والذي كان محصورا ا في اليونان وروما‪ .‬فقد تميز بالعائلة األبوية‪ .‬وقد أعتبر‬
‫مواطني المهد الشمالي أن الحرب مثالية كما انخرطوا في العنف والجريمة والغزو‪ .‬وقد تسبب تطوير‬
‫األفراد للفنون القتالي ة والتنافسية وكذلك مشاعر العداء ضد الطبيعة وهللا‪ .‬هذه المظاهر الثقافية هي التي‬
‫ولدت الحضارات المتشددة في اليونان وروما (‪ .)Nabudere, D., P.19‬ومن سمات المهد الشمالي‬
‫الفردية والعزلة المعنوية والمادية‪ ،‬واالشمئزاز من الوجود‪ ،‬وكل مواضيع األدب الحديث‪ ،‬التي حتى في‬
‫جوانبها الفلسفية ليست سوى تعبير عن مأساة نمط حياة يعود إلى أسلفهم اآلريين‪ .‬كما أن األنظمة الدينية‬
‫أو الميتافيزيقية التي سيتم بناؤها‪ ،‬هي السمة الخاصة لهذا المهد‪ .‬التقدم التقني والحياة الحديثة والتحرر‬
‫التدريجي للمرأة الحديثة تحت تأثير هذه الفردية‪ .‬إن األسلوب األدبي بامتياز هو المأساة أو الدراما‪ .‬وهو‬
‫ما يختلف عنه األفريقي فمنذ األساطير الزراعية في مصر لم يتجاوز الدراما الكونية‪ .‬كما أن أخلق المهد‬
‫الجنوبي‪ ،‬تظهر المثل العليا للسلم والعدالة والخير والتفاؤل الذي يزيل مفهوم الذنب والخطيئة األصلية‬
‫في المؤسسات الدينية والميتافيزيقية‪ .‬كما أن أنواع األدب األكثر تفضيلا هي الرواية والحكاية والكوميديا‬
‫(‪ .)Diop, 1989, P.177-178‬وبمقارنة ديوب هذا النظام في الشمال بالنظام في أفريقيا وفحص عددا ا من‬
‫المناطق التي مارست أنواعا ا مختلفة من المنظمات السياسية‪ .‬أظهر أن األفارقة العاديين لديهم حقوق‬
‫بموجب دستور في امتلك األرض‪ ،‬وما إلى ذلك كما قدم أمثلة على الخلفة األمومية في إمبراطوريتي‬
‫غانا ومالي حيث تمارس النساء السلطة السياسية (‪.)Nabudere, D., P.22‬‬

‫البد هنا من اإلشارة إلى أن ديوب خالف هيجل في فكرته عن األخلق في أفريقيا‪ .‬وفقا ا لهيجل‬
‫فإن األخلق‪ ،‬مثل الروح‪ ،‬تمر بثلث مراحل وهي‪ :‬الهدف والنية – الرفاهية وسوء الحالة – الصلح‬
‫والشر‪ ،‬وان المرحلتين األوليتين ال يشكلن أخلقاا؛ تأتي األخلق إلى حيز الوجود عندما تتزامن هاتان‬
‫المرحلتان مع اإلرادة العالمية‪ .‬ومن هنا الوجه الثالث الخير والشر‪ .‬الخير هو العمل العقلني‪ ،‬العقل‬
‫العالمي؛ الشر هو عمل غير معقول في مقابلة العقل الكوني‪ .‬نظرا ا ألن الفرد كائن عقلني‪ ،‬فإنه يجد في‬
‫عقله سبب عالمي هو الخير وهذا هو موقف الضمير‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن األخلق هي عمل واعٍ من اإلرادة‪.‬‬
‫ونظرا ا ألن أفريقيا لم تصل إلى الحد األدنى من الوعي – الروح الفعلي – واألخلق هي فعل واعٍ من‬
‫اإلرادة‪ ،‬يرى هيجل أنه يجب علينا أن نتخلى عن كل أفكار التبجيل واألخلق إذا فهمناها بحق‬
‫(األفريقي)‪ .‬فالمشاعر األخلقية ضعيفة جدا ا بين الزنوج أو تكاد تكون معدومة ( ‪Adegbindin, O.,‬‬

‫‪ .)2015, P.26‬لذلك حاول ديوب إعادة بناء التاريخ والثقافة‪ ،‬اللذين تعرضا لما يقرب من ‪ 900‬عام من‬
‫‪74‬‬
‫النهب من قبل كل من العرب واألوروبيين ولذلك قال "إن ما يوحدنا هو أكثر جوهرية بكثير من اختلفاتنا‬
‫السطحية‪ ،‬وان هذه االختلفات مفروضة من الخارج‪ .‬وهي مستمدة من التراث االستعماري"‪ .‬حيث دافع‬
‫ديوب وبشدة عن أصل وسبق وأخلقيات الحضارة السوداء في مواجهة االدعاءات الغربية والتي كانت‬
‫في خدمة هدف المستعمر في إضفاء الشرعية للستعمار‪.‬‬

‫وعلى الرغم من إن أنتا ديوب جادل بأن المهدين كان مختلفين‪ ،‬إال أنه يؤكد أيضا ا أنه من خلل‬
‫االتصال بالمهد الجنوبي تمكن الناس في المهد الشمالي من توسيع مفهومهم عن الدولة ليشمل فكرة الدولة‬
‫اإلقليمية واإلمبراطورية‪ .‬وقد دلل على ذلك من خلل ملحظة إصلحات سولون لليونان القديمة حدثت‬
‫بعد زيارة صولون لمصر وبعد أن الحظ طريقة عمل األنظمة السياسية واالجتماعية المصرية‪ .‬لذلك أن‬
‫تطور الحضارة العالمية نشأ من خلل هذا التفاعل بين المهدين (‪ .)Nabudere, D., P.19‬وعن منطقة‬
‫االلتقاء‪ ،‬وقد ذكر ديوب بأن هذا المهد يرقد في الحضارات النهرية في مكان ما في المنطقة المعروفة اآلن‬
‫باسم باكستان‪ ،‬وقد حدد موقع هذه المنطقة في حضارة هارابان‪ ،‬والتي ازدهرت من ‪ 2200‬قبل الميلد‬
‫‪ 1700‬قبل الميلد‪ .‬وقد شاركت هارابان في علقات تجارية منتظمة مع العراق‪ .‬ووفقا ا لديوب كانوا من‬
‫السود‪ .‬وقد أعتبر ديوب أن منطقة االلتقاء هذه هي األرض الوسطى أو التداخل بين المهد الجنوبي‬
‫والشمالي (‪.)Nabudere, D., P.20‬‬

‫إن استخدام ديوب للتاريخ لدراسة المؤسسات األوروبية ومقارنتها بالمؤسسات األفريقية‪ .‬كان‬
‫هدفه إثباتا أن المهد الشمالي قد استفاد من األنظمة األكثر إنسانية للمهد الجنوبي‪ ،‬وكانت أفكار ديوب هذه‬
‫موثقة في كتابة أفريقيا السوداء قبل االستعمار‪ ،‬وهو دراسة مقارنة لألنظمة السياسية واالجتماعية‬
‫ألوروبا وأفريقيا السوداء‪ .‬يؤكد ديوب دائما ا على اإلنجاز األفريقي باعتباره التجربة البشرية األصلية‬
‫والتي بلغت جميع الحضارات األخرى‪ .‬أي كان للحضارة المصرية القديمة فضل على جميع الحضارات‬
‫التالية لها وهذا ما أكده بعض العلماء بعد ديوب‪ .‬وفي نهاية الحديث عن النظام األمومي الزنجي بقي لنا‬
‫أن نقول إنه ال يزال حيا ا في أيامنا هذه كما كان في العهود القديمة‪ ،‬في المناطق التي لم يتعرض فيها هذا‬
‫النظام لتأثير خارجي‪ ،‬ال تزال الحقوق السياسية تنتقل بالكامل عن طريق المرأة (طوسون‪ ،‬حليم‪ ،‬ص‪.)164‬‬

‫وعن المجتمعات التي تحولت إلى النظام األبوي فكان ذلك نتيجة ألسلمة غرب أفريقيا في القرن‬
‫العاشر‪ ،‬حيث تم ذبول الدين التقليدي شيئا ا فشيئا ا تحت تأثير اإلسلم‪ ،‬وكذلك األعراف والعادات‪ .‬وهكذا‬
‫أصبح النظام األبوي تدريجيا ا يحل محل النظام األمومي‪ ،‬من القرن العاشر فصاعدا ا‪ .‬وفي غرب أفريقيا‬
‫يبدو أن اعتماد اسم األب ناجم عن نفس التأثير العربي (‪ .)Diop, 1989, P.61‬لقد كان النظام األمومي من‬

‫‪75‬‬
‫أهم السمات الثقافية المشتركة بين مصر وغيرها من مناطق في أفريقيا‪ ،‬أيضا ا من السمات الثقافية‬
‫األخرى المشتركة والتي ساقها أنتا ديوب ليدلل على أطروحته على هوية مصر الزنجية‪:‬‬

‫الملكية ‪ :Kingship‬يعتبر مفهوم الملكية من السمات البارزة بصفة عامة بين مصر وبقية‬
‫أفريقيا السوداء‪ .‬الملك هو اإلله على األرض‪ ،‬الذي يعكس الخليقة ويديمها‪ ،‬أنه الوسيط بين هللا (والده)‬
‫واإلنسانية (‪ .)Diop, C., 1974, P.334‬وبغض النظر عن المبادئ العامة مثل الطبيعة المقدسة للملك‪ ،‬إال‬
‫أن هناك سمة أخرى مشتركة ذات طابع فريد‪ ،‬وهي القتل الطقوسي للملك‪ .‬حيث كان يجب على الملك‬
‫الذي يحكم مصر أن يكون في أوج قوته‪ .‬ويبدو أنه كان يقتل فعلا في بداية األمر عندما كانت تضمحل‬
‫قوته‪ .‬إال أنهم قد توصلوا إلى وسيلة أخرى تحول قتل الملك الفعلي وبذلك بقتلة رمزاا‪ :‬فلم يعد يقتلونه إال‬
‫طقوسيا ا‪ ،‬وذلك عندما يتقدم في السن‪ ،‬وذلك في حفل يستعيد فيه الملك شبابه في نظر الشعب ويصبح‬
‫صالحا ا للقيام بمهامه‪ .‬وهكذا أصبح (حفل السد) احتفاالا بتجديد شباب الملك‪ ،‬وأصبح موت الملك الطقوسي‬
‫وتجديد شبابه مترادفين‪ ،‬وكان يتمان في مناسبة واحدة (طوسون‪ ،‬حليم‪ ،‬ص‪ .)159‬وكان ذلك يظهر بشكل‬
‫مختلف في السنغال عما كان عليه في مصر‪ .‬حيث كان الملك يستطيع أن يتولى الحكم إذا أصيب بجروح‬
‫أثناء معركة‪ ،‬وكان يقوم بتعيين من يحل محله حتى شفاؤه‪ .‬إال أن في مناطق أخرى من أفريقيا كانت‬
‫تجري األمور تماما ا على غرار مصر‪ ،‬وذلك فيما يتعلق بقتل الملك فعلا‪ .‬ومن الشعوب التي تمارس موت‬
‫الملك الطقوسي في أفريقيا السوداء‪ :‬اليوربا‪ ،‬والداجومباس‪ ،‬التشامباس‪ ،‬االينجارا‪ ،‬اليوادى‪ ،‬وكان ذلك‬
‫التقليد متبعا ا أيضا ا في مروي القديمة‪ ،‬أي في النوبة واوغاندا – رواندا (طوسون‪ ،‬حليم‪ ،‬ص‪.)160‬‬

‫الطوطمية ‪ :Totemism‬لقد احتفظت الطوطمية المصرية بحيويتها حتى العصر الروماني‪،‬‬


‫وهو ما يشير إليه بلوتارك‪ .‬وقد أكدت أبحاث العلماء أمثال مورية‪ ،‬لوريه‪ ،‬أملينو؛ بوضوح وجود نظام‬
‫طوطمي مصري‪ ،‬وهو ما يدحض ما ذهب إليه أنصار نظرية عبادة الحيوان (تاريخ أفريقيا والعالم‪ ،‬ص‪.)62‬‬
‫وقد يستحيل إنكار أن تحريم بعض الحيوانات والنباتات في مصر يتفق تماما ا كما هو الحال في كافة‬
‫المناطق – وباألخص في أفريقيا السوداء – حيث توجد الطوطمية بشكل ال يتطرق إ ليه الشك‪ .‬وعلى‬
‫النقيض كانت هذه المحرمات غريبة على اإلغريق وغيرهم من الشعوب الهندو – أوروبية‪ .‬لذلك كان‬
‫يسخر اإلغريق من تبجيل المصريين المفرط للحيوانات بل ولنباتات معينة أيضا ا‪ .‬وكان الزواج من داخل‬
‫القبيلة والطوطمية ال يتعارضان‪ ،‬بل يتعايشان معاا‪ .‬وهكذا نجد في أفريقيا السوداء اآلن زوجين يحملن‬
‫نفس االسم الطوطمي‪ ،‬وكان الزوجين يدركون جيدا ا أن كل منهما مشترك بحياته في جوهر طوطمه‪.‬‬
‫وعليه كان يدركان تماما ا أنهما مشتركان في نفس الجوهر الحيواني‪ ،‬ونفس الجوهر الحياتي‪ .‬وعن الزواج‬
‫من األقارب ومن األشقاء فإن ذلك نابع من سمة ثقافية حية في العالم الزنجي‪ ،‬وهي النظام األمومي والذي‬
‫سبق الحديث عنه‪ .‬لقد ذهب فريزر أنه ال توجد لدى الشعوب من الجنس األبيض ما يسمى بالطوطمية‪،‬‬
‫‪76‬‬
‫حيث إنه ال يوجد لدى البرابرة ما يعكس فكرة القرابة بين اإلنسان والحيوان ال بالمعنى الفردي وال‬
‫بالمعنى الجماعي‪ .‬وعلى العكس ال يمكن إنكار أن فرعون كان يشترك في جوهر حيواني (الصقر) بنفس‬
‫الطريقة الموجودة لدينا اليوم في أفريقيا‪( .‬طوسون‪ ،‬حليم‪ ،‬ص‪)157 :155‬‬

‫الختان ‪ :Circumcision‬وفقا ا لما ذكره هيرودوت‪ ،‬فإن الختان يرجع إلى أصل أفريقي‪ .‬وقد‬
‫أكدت اآلثار ما ذهب إليه أو التاريخ‪ ،‬إذا إستطاع اليوت سميث أن يجزم بعد فحص المومياءات التي‬
‫حفظت بعناية أ ن الختان كان العادة السائدة لدى المصريين منذ قبيل العصر التاريخي – أي قبل ‪4000‬‬
‫ق‪ .‬م (تاريخ أفريقيا والعالم‪ ،‬م‪ ،2‬ص‪ .)62‬ذكر هيرودوت أن الكولخيين والمصريين هم الوحيدون الذين لجأ‬
‫إلى الختان منذ األزمنة البعيدة‪ .‬ويعترف بأن الفينيقيون وسوريو فلسطين تعلموا الختان من المصريين‪،‬‬
‫ولكن السوريي ن الذين يعيشون على شواطئ الترمودون وجيرانهم الماكرونيين‪ ،‬يقرون بأنهم أخذوا ذلك‬
‫منذ زمن بعيد من الكولخيين‪ ،‬وهذه الشعوب الوحيدة التي تمارس الختان‪ ،‬ويقال إنهم يحاكون في ذلك‬
‫المصريين‪ .‬ووفقا ا لما قاله هيرودوت‪ ،‬الذي رأي بعينه المصريين‪ ،‬بأن الختان من أصل مصري وأثيوبي‪،‬‬
‫وأن هؤالء ما كانوا إال زنوجا ا يقيمون في مناطق مختلفة (‪ .)Diop, C., 1974, P.167‬ويمكن أن يستدل‬
‫من كافة التفاصيل الواردة في التوراة حول ختان إبراهيم أثر زواجه من هاجر المصرية‪ ،‬وكذلك موسى‬
‫ومن بعده اليهود‪ ،‬أن الساميين لم يمارسوا الختان إال بعد اتصالهم بالعالم األسود‪ ،‬وهو ما يتطابق مع‬
‫شهادات هيرودوت‪ .‬ال يجد الختان تفسيرا ا متكاملا له في إطار مفهوم عام للكون‪ ،‬إال عند الزنوج‪ .‬وإذا‬
‫كان بعض الزنوج قد أقلعوا عن الختان ألنهم نسوا تقاليدهم أو ألسباب أخرى‪ ،‬وإذا كان هناك اتجاه متزايد‬
‫في أفريقيا السوداء نحو التخلي عن الختان (اإلناث)‪ ،‬وإذا كان الختان المصري يختلف من الناحية التقنية‬
‫عن الختان السامي‪ ،‬فإن ذلك ال يغير في القضية شيء‪ .‬ولكي يكون تحقيق الهوية كاملا‪ ،‬ولكي تكون حجة‬
‫الختان مقنعة‪ ،‬فإنه يتعين أن يكون ختان األنثى وجد أيضا ا في مصر‪ ،‬وهذا ما ذكره سترابون فعلا حيث‬
‫قال إن المصريين يتمسكون بالعناية بتربية أوالادهم وختان الصبيان والبنات أيضاا‪ ،‬وهو تقليد يشاركون‬
‫فيه اليهود‪ ،‬وهم شعب ينتمون إلى مصر (‪.)Diop, C., 1981, P.169‬‬

‫نشأة الكون ‪ :Cosmogony‬تتقارب مفاهيم نشأة الكون الزنجية واألفريقية والمصرية حتى أنها‬
‫تكمل بعضها في كثير من الحاالت‪ .‬ومن اللفت للنظر أنه يتعين الرجوع إلى العالم األسود لفهم بعض‬
‫المفاهيم المصرية (طوسون‪ ،‬حليم‪ ،‬ص‪ .)160‬لقد كان هناك ثلثة أنظمة فكرية عظيمة في مصر حاولت‬
‫شرح أصل الكون‪ ،‬ووفقا ا لهذه األنظمة‪ ،‬لم يتم إنشاء الكون في يوم معين ولكن كان هناك دائما ا كل غير‬
‫مخلوق‪ ،‬دون بداية أو نهاية‪ ،‬دون حدود‪ ،‬وكانت مادته الفوضوية في األصل مساوية للعدم ( ‪Diop, C.,‬‬

‫‪.)1981, P.310‬‬

‫‪77‬‬
‫لقد أكد بيول ماسون – أورسل على الطابع الزنجي للفلسفة المصرية إذ يقول (إن الحركة الفكرية‬
‫النابعة من سقراط وأرسطو وايقليدس وأرشميدس قد تكيفت مع العقلية الزنجية‪ ،‬وأن المتخصص في علم‬
‫المصريات يلحظ تلك الخلفية الحضارية المبهرة)‪ .‬إن هذا التماثل بين الثقافة المصرية والثقافة الزنجية‬
‫يشكل سمة أساسية وخاصة أن هذه الملحظة يجب أن تكون مسألة يسلم بها الجميع‪ .‬وهي مسألة تتجلي‬
‫بوضوح لكل من كانت له نية سليمة‪ .‬وبسبب هذه الهوية األساسية للفكر والثقافة والعرق‪ ،‬يمكن لكل‬
‫الزنوج ربط ثقافتهم بمصر القديمة وأن يقيموا ثقافة حديثة على هذا األساس‪ .‬هو اتصال ديناميكي وحديث‬
‫مع التاريخ المصري القديم‪ ،‬يتيح اإلمكانية للزنوج الكتشاف القرابة الوثيقة بين كافة السود في القارة وبين‬
‫وادي النيل األم‪ .‬وسيتوصل الزنجي عن طريق هذا االتصال إلى االقتناع التام بأن المعابد واألهرامات‬
‫والنقوش على الجدران‪ ،‬وذلك الطب‪ ،‬وكل تلك العلوم‪ ،‬من صنع أسلفه وان من حقه ومن واجبه أن‬
‫يتعرف على نفسه تماما ا من خلل تلك اإلبداعات (طوسون‪ ،‬حليم‪ ،‬ص‪ .)161‬وفيما يتعلق بتشابه الثامون‬
‫والتاسوع عند الدوجون (ثمانية أو تسع آلهة) مع الثامون والتاسوع المصري‪ .‬ففي كلتا الحالتين هناك‬
‫أربع أزواج تولدت عن اإلله األصلي‪ ،‬وهي التي أوجدت الخليقة والحضارة‪ .‬ومن هنا ندرك أن عبادة‬
‫األسلف كانت في كل من أفريقيا السوداء ومصر أساس مفهوم نشأة الكون‪ .‬وبوسعنا أن نؤكد على تشابه‬
‫اإلله الثعبان عند الدجون واإلله الثعبان في مجمع األرباب عند المصريين‪ .‬فكلهما يرقص في الظلمات‪.‬‬
‫وأخيرا ا فإن الموقع الذي تحتله صور البروج الفلكية في مفهوم نشأة الكون عند الدوجون يستحق االهتمام‬
‫عندما نعرف أن الدوجون كانوا يعرفون نجم الشعري اليمانية‪ .‬يتبادر إلى األذهان التقويم المصري القائم‬
‫على الشروق االحتراقي لهذا النجم قبيل شروق الشمس‪ .‬وفي التنظيم االجتماعي للحياة األفريقية يتطابق‬
‫مع ذلك التنظيم في مصر‪ ،‬حيث كان يبدأ بالملك ثم الكهنة والمحاربين ثم العمال المتخصصين ثم‬
‫الفلحين‪ .‬وهو نفس التنظيم في بقية أنحاء أفريقيا (‪.)Diop, C., 1974, P.171-173‬‬

‫التشابه اللغوي‪ :‬يقول أنتا ديوب "بقدر ما توجد صعوبة في إثبات علقة القرابة بين اللغة‬
‫المصرية القديمة واللغات الهندو – اوربية والسامية – بقدر ما يسهل إثبات رابطة الوحدة الوثيقة بين اللغة‬
‫المصرية القديمة واللغات الزنجية"‪" ،‬ال تؤدي المقارنة بين اللغات األفريقية واللغة المصرية القديمة إلى‬
‫علقات غامضة يمكن اعتبارها مجرد احتماالت‪ ،‬بل إلى تطابق في قواعد الصرف والنحو على نطاق‬
‫واسع‪ ،‬حيث ال يمكن اعتبار ذلك مجرد صدفة"(‪.)Diop, C., 1974, P. 185,187‬‬

‫إن لغة الولوف وهي لغة سنغالية يجري الكلم بها في أقصى غربي أفريقيا على المحيط‬
‫األطلنطي‪ ،‬تشبه كثيرا ا اللغة المصرية‪ ،‬مثلها في ذلك مثل اللغة القبطية‪ .‬وإن الصلة بين اللغة المصرية‬
‫القديمة ولغات أفريقيا ليست صلة افتراضية‪ ،‬بل هي حقيقة ملموسة يستحيل على العلم الحديث أن‬
‫يتجاهلها‪ ،‬حيث إن الصلة بينهما هي صلة نسب وقرابة (تاريخ أفريقيا والعالم‪ ،‬ص‪ .)62‬إن اللغة المصرية‬
‫‪78‬‬
‫القديمة تعبر عن الماضي ببدء الفعل بحرف النون مثل الولوف‪ ،‬وهناك تصريف لألفعال توجد حرفيا ا في‬
‫الولوف ؛ كما أن أغلب هذا التصريف مماثل لما يوجد في الولوف؛ والضميران المضافان بالمصرية‬
‫القديمة (إف) و (إس) حرفيا ا في الولوف‪ ،‬كما ان حروف اإلشارة واحدة في اللغتين‪ ،‬والمبني للمجهول‬
‫تعبر عنه نفس البداية (او) في اللغتين؛ كما يكفي إحلل (اللم ) في الولوف محل (النون) في اللغة‬
‫المصرية القديمة للنتقال من الكلمة المصرية إلى كلمة الولوف بنفس المعنى(*) (طوسون‪ ،‬حليم‪ ،‬ص‪.)178‬‬

‫وعن األصول المصرية لبعض الثقافات األفريقية يمكن أن نورد نموذجين وهما‪:‬‬

‫اليوربا ‪ /Yoruba‬حيث توجد شكوك حول صحة أن أصل اليوربا آسيوي‪ ،‬ال يوجد مجال للشك‬
‫في أنهم كانوا في أفريقيا منذ حقبة قديمة للغاية‪ .‬وهناك وقائع تدفع إلى االستنتاج بأنهم ال بد من أن يكونوا‬
‫قد استقروا لمدة طويلة في هذه البقعة من القارة والمعروفة بمصر القديمة‪ ،‬هذه الوقائع تتمثل في التشابه‬
‫بين اللغة وتماثلها‪ ،‬تشابه المعتقدات الدينية وتماثلها‪ ،‬تشابه األفكار والممارسات الدينية أو تماثلها‪ ،‬بقاء‬
‫عادات واسماء ومواقع وأدوات‪ ...‬فنجد في مجال التماثل في المعتقدات الدينية (فكرة الحياة األخرى‬
‫والحساب بعد الموت – تالية الملك – رسوخ اإليمان بالحياة اآلخرة – اإليمان بوجود روح حارسة ليست‬
‫إال مظهر للكا) فكافة المفاهيم المتعلقة بالكائن في مصر القديمة‪ ،‬مثل الكا‪ ،‬والبا نجدها عند اليوربا كما أن‬
‫هذه المصطلحات توجد حرفيا ا في لغتي البول والولوف‪ .‬كما أن محفل األرباب المصري مع قرينه‬
‫اليوربي‪ ،‬يكفي إلثبات وجود اتصال قديم‪ ،‬ومن الشعب اليوربي وأساطيره يمكن معرفة أنهم قد استقروا‬
‫في موطنهم الحالي منذ زمن قريب نسبيا ا‪ ،‬بعد هجرة من الشرق إلى الغرب‪ ،‬ولذا يمكننا القول إن المهد‬
‫المشترك األول لليوربا والمصريين‪ ،‬حقيقة تاريخية (طوسون‪ ،‬حليم‪ ،‬ص‪.)257-254‬‬

‫البول ‪ /Peul‬كما أورد ديوب أن البول قد نشأ ُ في منطقة أفريقيا الغربية‪ ،‬هم على األرجح قد قدما‬
‫من مصر‪ ،‬شأنهم شأن شعوب أفريقيا الغربية‪ ،‬ويمكن دعم ذلك االفتراض بحقيقة رئيسية‪ ،‬وقد تكون أهم‬
‫حقيقة حتى اآلن‪ ،‬وهي تتعلق بتماثل أسمى علم طوطميين يتميز بهما البول‪ ،‬مع تصورين متميزين أيضا ا‬
‫للمعتقدات الميتافيزيقية المصرية‪ ،‬أال وهما الكا والبا‪( .‬الكا) الذي يتحد مع الزيت هو كائن إلهي يعيش في‬
‫السماء وال يظهر إال بعد الموت‪ ،‬وباتحاد الكا والزيت يكونان الكائن المتكامل الذي يبلغ حد الكمال‪،‬‬
‫ويكتسب هذا الكائن صفات جديدة تجعله أحد سكان السماء‪ ،‬وهو يسمى (البا) الروح‪ .‬والروح با الممثلة‬

‫(*) ففي اللغة المصرية (ناد) = يطلب وفي الولوف (الد) = يطلب مثال اخر في المصرية (بن – بن) = منبع‪ ،‬وفي الولوف‬
‫(بل – بل) = منبع‪ ،‬في المصرية (تاه) = يخفي او يحمي‪ ،‬وفي الولوف (اله) = يخفي أو يحمي‪ .‬وقد اورد الشيخ أنتا‬
‫ديوب شرح وافي للمقارنة بين اللغة المصرية القديمة ولغة الولوف في كتابة األصل االفريقية للحضارة اسطورة ام‬
‫حقيقة ويمكن االطلع عليه ا في النسخة المترجمة بعنوان االصول الزنجية للحضارة المصرية ترجمة حليم طوسون من‬
‫ص ‪ 179‬إلى ص ‪.226‬‬

‫‪79‬‬
‫بالطائر با ذو الرأس البشري‪ ،‬تعيش في السماء‪ ،‬وبمجرد أن ينضم الملك إلى الكا الخاص به فإنه يصبح‬
‫با‪ .‬وبصرف النظر عن مدى صحة هذا التفسير للكا والبا المصريين‪ ،‬إال أن أهم ما في األمر هو أن هذين‬
‫المفهومين يقومان بدور ال يمكن إنكاره في التصور المصري للكائن‪ ،‬غير أن الكا والبا‪ ،‬هما االسمان‬
‫الطوطميان النموذجيان الوحيدان عند البول‪ .‬إن المفاهيم المتعلقة بالميتافيزيقا المصرية قد تنوعت معانيها‬
‫وفقا ا للشعوب التي نقلتها عنها‪ .‬بينما ظل المعنى المصري لهذه التصورات قائما ا في لغة الولوف‪ ،‬إال أن‬
‫بعض هذه المفاهيم تحول عند البول إلى أسماء طوطمية ومنها الكا والبا‪ ،‬اللتين تحوال إلى اسمي‬
‫طوطميين‪ ،‬أي عرقيين تقريباا‪ .‬إن علقة لغة البول بلغة الولوف ال تترك مجاالا للشك حول وحدة تلك‬
‫‪.‬‬
‫اللغات الوثيقة (طوسون‪ ،‬حليم‪ ،‬ص‪.)263-261‬‬

‫ومن السمات الثقافية المشتركة أيضا ا بين مصر وأفريقيا‪ ،‬اآلالت الموسيقية التي تستعمل في‬
‫أفريقيا الغربية اآلن هي نفسها اآلالت المصرية القديمة‪ ،‬كما أن العادات والشعائر المصرية التي شاعت‬
‫بين الزنوج في أفريقيا هي باقية بين الزنوج حتى اآلن على أصلها المصري‪ ،‬كما أننا نلمس األصل في‬
‫العقائد الزنجية وأنظمتهم االجتماعية في عقائد مصر القديمة (موسى‪ ،‬سلمة‪ ،‬ص‪ .)64‬كما جادل ديوب‬
‫بالدليل األنثروبولوجيا الفيزيائية‪ ،‬اختبارات جرعة الميلنين‪ ،‬قياسات العظام واختبارات فصائل الدم‪،‬‬
‫تكشف عن أفريقية محددة لمصر‪ ،‬كما قدم أدلة فنية من خلل النحت والرسم المصريين فضح السمات‬
‫النموذجية للشكل األفريقي للمصريين القدماء وأوجه تشابههم مع بعض النوبيين‪ .‬منذ أن تم االعتراف‬
‫بأفريقيا على أنها الموطن األول للبشرية‪ ،‬فإن وجود اختلفات طفيفة وحادة في لون البشرة وهياكل‬
‫العظام كلها أمور ال تحتاج إلى شرح‪ .‬وأخيرا ا‪ ،‬تقع مصر جغرافيا ا داخل أفريقيا ( ‪Muyumba, F., 2004,‬‬

‫‪.)P.20‬‬

‫إن الثقافة المصرية تجد طريقها إلى قلب أفريقيا‪ ،‬وما زالت آثار تلك الحضارة باقية بين بعض‬
‫القبائل‪ ،‬وما زال أهلها يمارسون كثيرا ا من العادات والشعائر المصرية القديمة حتى اليوم (فخري‪ ،‬أحمد‪،‬‬

‫‪ ،2006‬ص‪ & 353‬موسى‪ ،‬سلمة‪ ،‬ص‪ .)64‬هذه الحضارة لها مدلول واحد‪ ،‬ذو أبعاد متعددة‪ ،‬وهو العيش‬
‫في جماعة متحضرة‪ ،‬تحقق إنجازا ا ماديا ا وفكريا ا‪ ،‬وهذا اإلنجاز البشرى المتنوع ال يمكن أن يأتي ال في‬
‫جماعة إنسانية‪ ،‬مستقرة استقرارا ا تاماا‪ ،‬ولها موارد معيشية ثابتة ولها قيادة إدارية عليا تعلى قيمة الصالح‬
‫العام (السعدني‪ ،‬محمود‪ ،2005 ،‬ص‪ .)11‬كانت هذه هي السمات الثقافية المشتركة والتي ساقها الشيخ أنتا‬
‫ديوب ليدلل بها عن حجته حول فرضية الهوية الزنجية لمصر والتي تشترك فيها مصر مع غيرها من‬
‫بلدان القارة األفريقية‪ ،‬ولذلك فإن الحديث عن القرابة بين السودان ومصر بات أمرا ا ضروريا ا‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫العلقة بين السودان المروي ومصر‪:‬‬

‫حيث يقول ديوب "إذا اعتبرنا أن أثيوبيا الراهنة ليست أثيوبيا القدماء‪ ،‬وإنها كانت تعني أساسا ا‬
‫حضارات مروي وناباتا وسنار السودانية‪ ،‬لوجب علينا أن نعترض على كم التعبيرات الحديثة المتعسفة‬
‫التي تتمثل في إزاحة أثيوبيا القديمة تدريجيا ا نحو الشرق‪ ،‬إلى أديس أبابا‪ .‬فالملوك الذين طردوا مغتصبي‬
‫عرش مصر‪ ،‬في عهد األسرة الخامسة والعشرين في حوالي عام ‪ 750‬ق‪ .‬م‪ ،‬كانوا بالفعل ملوكا ا‬
‫سودانيين (‪ .)Diop, C., 1974, P.178‬لقد أعتلي شباكا عرش مصر في عام ‪ 712‬ق‪ .‬م‪ ،‬وقد لقب بلقب‬
‫(ملك مصر والنوبة)‪ ،‬وكان متخذا ا من (نباتا) عاصمة له‪ ،‬إال أنه اضطر للقدوم لمصر للقضاء على‬
‫االضطرابات التي نشبت آنذاك (الجمل‪ ،‬شوقي‪ ،2009 ،‬ص‪ ،)39‬وقد تم استقباله بحفاوة من قبل الشعب‬
‫المصري الذي اعتبره المجدد للتقاليد القديمة‪ ،‬وذلك يشهد بالقرابة األصلية بين مصر وأثيوبيا الزنجية‪،‬‬
‫كما اعتبر المصريون دائما ا أن أثيوبيا والداخل األفريقي أرض مقدسة جاء منها األسلف‪ ،‬كما أن سلطة‬
‫ملك أثيوبيا كان معترفا بها في مصر كسلطة وصاية ال كسلطة عدو‪ .‬إن هذه القرابة بين مصر والنوبة‪،‬‬
‫لمصر وكوش‪ ،‬وكلهما أبناء حام‪ ،‬كشفت عنها العديد من األحداث في التاريخ المصري النوبي‪ .‬كما أن‬
‫المصريين مقتنعون تماما ا ليس فقط بالروابط الوثيقة بين الشعبين بل أيضا ا بالقرابة البيولوجية األصلية‪،‬‬
‫لكون أن سلفهم واحد وهم الزنوج الذين كانوا يسكنون آنذاك بلد بونت‪ ،‬أي اثيوبيا الحالية ( ‪Diop, C.,‬‬

‫‪.")1974, P.179‬‬

‫هكذا يتبين على ما يبدو أن النوبة كانت نقطة انطلق لكل الحضارتين‪ ،‬ولذلك لن نندهش اليوم‬
‫حين نجد العديد من السمات المشتركة بين النوبة والتي استمرت حتى االحتلل اإلنجليزي‪ ،‬وبقية أفريقيا‬
‫السوداء‪ .‬والتي على أثر انتهاء التاريخ المصري – النوبي القديم‪ ،‬أرتفع شأن إمبراطورية غانا كالشعلة‬
‫بين منحنى نهر النيجر ونهر السنغال‪ ،‬في فترة تقع بشكل غير مؤكد في القرن الثالث الميلدي‪ .‬وهذا‬
‫يفسر أن التاريخ األفريقي ظل متواصلا‪ ،‬فقد أعقبت األسر الحاكمة النوبية أسرا مصرية‪ ،‬وظلت النوبة‬
‫مركز الثقافة والحضارة حتى القرن السادس تقريبا ا‪ ،‬ثم استلمت غانا المشعل من القرن السادس حتى عام‬
‫‪ ،1240‬وهو تاريخ تدمير عاصمتها‪ ،‬ثم انطلقت أخيرا ا اإلمبراطورية المادينجية (عاصمة مالي) والتي‬
‫ظلت طوال مئات السنوات العاصمة الرئيسية ألكبر إمبراطورية عرفتها أفريقيا السوداء‪ ،‬بل واحدة من‬
‫أكبر اإلمبراطوريات التي تواجدت في العالم (‪ .)Diop, C., 1974 P.180‬لقد سمحت فرضية األصل‬
‫الزنجي للمصريين لديوب إلى تأسيس االستمرارية التاريخية والوحدة الثقافية ألفريقيا‪ ،‬إن الباحث‬
‫األفريقي يجب أن يكون لديه من البداية حتمية وقناعة مسبقة بحقيقة أن ثقافته ليست مخلوقا ا عفويا ا ولكنها‬
‫استمرارية لثقافة سابقة يكون تحديدها هو الهدف من البحث (محمد‪ ،‬مهدي‪ ،‬ص‪.)95‬‬

‫‪81‬‬
‫أثبت ديوب استمرارية التاريخ األفريقي والتماسك والترابط بينه وأنه متوا ٍل عبر العصور‪ ،‬من‬
‫خلل تفنيد االدعاءات األوروبية بأن التاريخ األفريقي ما هو إال أحداث متقطعة‪ ،‬ال صلة وال رابطة بين‬
‫أحداثه كما جاء في كتابات هيجل‪ .‬وعن تفسير تأخر الشعوب وتقدمها فهناك تفسير تاريخي والذي يعني‬
‫بفكرة الدورة التاريخية‪ ،‬فالشعوب تمر بالنشأة ثم تنمو ثم تصل إلى أوج التقدم ثم تنحسر وتتهاوى‬
‫وتنهار(*) ‪ .‬وهناك تفسير جغرافي وهو يربط التقدم والتخلف بالمناطق الجوية فالمناخ البارد يساعد على‬
‫التفكير بينما الجو الحار يساعد على التخلف وعدم التفكير‪ .‬وقد رفض ديوب التفسير الجغرافي لما يتسم‬
‫بالعنصرية وعدم الموضوعية (الحاوي‪ ،‬ناصر‪ ،‬ص‪.)12‬‬

‫مما سبق يمكن استخلص أن الهندو – أوروبيين لم يؤسسوا قط حضارة في مهدهم األول‪ ،‬أي في‬
‫السهول األوروبية اآلسيوية‪ .‬وإن الحضارات التي نسبت إليهم نشأت بل مجال للشك في قلب البلد‬
‫الزنجية‪ ،‬في الشطر الجنوبي من نصف الكرة األرضية الشمالي‪ :‬في مصر‪ ،‬الجزيرة العربية‪ ،‬فينيقيا‪ ،‬بلد‬
‫ما بين النهرين‪ ،‬الهند‪ .‬ففي تلك البلدان كانت هنا أصلا حضارات زنجية عندما جاء إليها الهندو‪ -‬أوروبيين‬
‫في األلف الثانية قبل الميلد‪ .‬ويمكننا القول إذا كان الهندو أوروبيين هم أصحاب الحضارة‪ ،‬فلماذا لم تكن‬
‫لتلك الشعوب حضارة في مواطنهم األصلية قبل هجرتهم واتصالهم بالزنوج‪ .‬إن الوثائق التي تعود إلى‬
‫العهود الغابرة في القدم تجبرنا على االنطلق من البلد الزنجية لتفسير كافة مظاهر الحضارة‪ .‬ومن‬
‫الخطأ الزعم بأن الحضارة نشأت عن ذلك التهجين بين السود والهندو أوروبيين‪ ،‬حيث يوجد من األدلة ما‬
‫يكفي إلثبات قيام الحضارة في البلد السوداء قبل اتصالها بالهند أوربيون بزمن بعيد‪ ،‬حيث إن الشعوب‬
‫الزنجية‪ ،‬المتجانسة عرقيا ا هي التي أوجدت كافة عناصر الحضارة بتوافقها مع الظروف الجغرافية‬
‫المواتية لها في مهدها األصلي (طوسون‪ ،‬حليم‪ ،‬ص‪.)176 ،175‬‬

‫إسهامات مصر في الحضارة اإلنسانية‪:‬‬

‫إن مكانة مصر القديمة وفلسفتها باعتبارها المصدر األصلي للفلسفة اليونانية هو رأي يدافع عنه‬
‫بعض األفارقة مثل الشيخ أنتا ديوب‪ .‬لقد قام المصريون منذ نشأة حضارتهم بدور هام في تاريخ البشرية‪،‬‬
‫فقد اخترعوا الكثير من المخترعات التي ساعدت على تقدم المدنية‪ ،‬وقاموا بدورهم في نشر حضارتهم‬
‫بين جيرانهم من الشعوب (فخري‪ ،‬أحمد‪ ،2006 ،‬ص‪ .)355‬ووفقا ا لشهادة القدماء باإلجماع‪ ،‬أنشأ اإلثيوبيون‬
‫أوالا ثم المصريون جميع عناصر الحضارة‪ ،‬وارتقوا بها إلى مرحلة غير عادية من التطور‪ ،‬في حين أن‬
‫الشعوب األخرى‪ ،‬وخاصة الشعوب اآلسيوية‪ ،‬كانت ال تزال غارقة في البربرية‪ .‬ولسنا في حاجة إلى‬

‫(*) هذا التفسير مماثل لتفسير ابن خلدون حول نشأة ونمو الحضارات وانهيارها حيث تمر الحضارة بعدة مراحل كما ساقها‬
‫أنتا ديوب‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫التأكيد على فضل الحضارة المصرية على بقية العالم‪ ،‬وخاصة العالم اإلغريقي‪ .‬فقد أقتبس اإلغريق‬
‫اختراعات المصريين وطوروها إلى حد ما في بعض األحوال‪ ،‬مع تجريدها من الطابع الديني المثالي‪،‬‬
‫نظرا ا لميولهم المادية (‪ .)Diop, C., 1974, P.270‬ففي الرواية اليونانية الكاملة لمصر القديمة‪ ،‬والتي تمجد‬
‫حضارة كيميت السوداء‪ .‬ففي كيميت حصل اليونانيون على تعليمهم في كل مجال من مجاالت المعرفة‬
‫التي يمكن تصورها تقريبا ا‪ .‬فقد جاء العديد من الفلسفة اليونانيين إلى كيميت للدراسة ( ‪Ankomah, B.,‬‬

‫‪ .)P.8‬لقد كانت المعارف والقيم في مصر القديمة وقفا ا على الكهنة فقط الذين حرصوا على كتمانها وعدم‬
‫نشرها بين عامة الناس‪ ،‬ووفقا ا لشهادة العلماء والفلسفة اإلغريق الذين تتلمذوا على أيدي المصريين‪ ،‬كان‬
‫المصريون ال يحبون أن يمس علمهم‪ ،‬لذلك وجد سولون وطاليس وأفلطون وفيثاغورس مصاعب شتى‬
‫قبل أن يلقنهم المصريون معارفهم (‪ .)Ankomah, B., P.272‬فقد سمح المصريون وبعد قرابة خمسة‬
‫االف سنة من الحظر الذي فرضة المصريون لإلغريق؛ بدخول مصر بغرض تلقي العلم وذلك عن‬
‫طريق الغزو الفارسي لمصر ثم عن طريق غزو اإلسكندر األكبر‪ .‬ومن ثم فقد استثمر اليونانيون القدماء‬
‫منذ القرن السادس ق‪ .‬م‪ .‬وحتى موت أرسطو‪ ،‬أقصى حدا من الفرص التي أتيحت لهم لتعلم كل ما‬
‫يستطيعون تعلمه من الثقافة المصرية‪ ،‬وتلقى غالبية التلميذ تعاليمهم من الكهنة المصريين مباشرة‬
‫(جيمس‪ ،‬جورج‪ ،‬ص‪.)17‬‬

‫تطيح فرضية الشيخ أنتا ديوب حول مصر الزنجية وحضارتها الغارقة في القدم بنظرية المعجزة‬
‫اليونانية رأسا ا على عقب‪ .‬تلك النظرية التي تعد نظرية في تفسير نشأة الفكر اليوناني‪ ،‬فالجدل حول الكيفية‬
‫التي نشأت بها الفلسفة اليونانية إنما يعود إلى العصور القديمة‪ ،‬وبالتحديد في القرن الخامس ق‪.‬م‪ .‬فبينما‬
‫ذهب هيرودوت إلى الميل واالعتراف بالدين الذي يدين به اليونانيون للمصريين في كثير من مظاهر‬
‫نشاطهم الروحي والفكري‪ ،‬كذلك ذهب الكثير غير هيرودوت من معاصريه والحقيه‪ ،‬الذين أحسوا بأنهم‬
‫تعلموا كل شيء من المصريين‪ ،‬وأنهم لم يكن يعرفون شيئا ا قبل أن يتصلوا بهم وينهلون من حكمتهم‬
‫وتجاربهم (طلب‪ ،‬حسن‪ ،2003 ،‬ص‪ .)13-12‬وعلى الرغم من وجود هذا االتجاه المؤيد لألصالة والمعجزة‬
‫المصرية بين األوساط اليونانية‪ ،‬إال إنه كان هناك اتجاه آخر مضاد‪ ،‬يحط من شأن األثر المصري‪،‬‬
‫ويحاول تقليصه إلى أبعد الحدود‪ .‬ومن مؤيدي هذا االتجاه نجد أرسطو الذي يعزو بداية الفلسفة إلى‬
‫طاليس وقد تبعه في ذلك تلميذه‪ .‬ظلت مسألة أصالة الفلسفة اليونانية موضع تساؤل من قبل المفكرين‬
‫الغربيين في العصور الحديثة‪ ،‬في القرن التاسع عشر خاصة‪ ،‬وكان ذلك استمرارا ا لتقاليد القرن الثامن‬
‫عشر الفكرية‪ ،‬والتي أولت اهتماما ا كبيرا ا للبحث في نشأة الحضارة ونموها (طلب‪ ،‬حسن‪ ،2003 ،‬ص‪.)13‬‬
‫على الرغم من وجود آراء عنصرية ومتطرفة تنكر فضل الحضارة الزنجية وتدعم فكرة األفضلية‬
‫اليونانية‪ ،‬وذلك لخدمة األهداف واألغراض االستعمارية‪ ،‬إال أن هناك الكثير من العلماء قد بحثوا القضية‬

‫‪83‬‬
‫بموضوعية بعيدا ا عن أي أغراض عنصرية‪ ،‬وكان نتيجة أبحاثهم هو تهافت نظرية المعجزة اليونانية‬
‫وخلوها من الروح العلمية الحقيقية‪.‬‬

‫إذن ما هو الدين الذي تدين به اإلنسانية لمصر؟ وما هو الدور الذي قامت به مصر في تقدم‬
‫الجنس البشري؟ (فخري‪ ،‬أحمد‪ ،2006 ،‬ص‪.)351‬‬

‫ذكر ويل ديورانت في كتابة قصة الحضارة أن المصريين هم أول من وضع دستورا ا واضحا ا‬
‫للضمير الفردي والضمير العام‪ ،‬وهم أول من ناد بالعدالة االجتماعية‪ ،‬وأول من دعا إلى التوحيد في‬
‫الدين‪ ،‬وأول من كتب في الفلسفة‪ ،‬وهذا الفضل لم يذهب هبا اء‪ ،‬فقد انتقلت الحضارة المصرية على أيدي‬
‫الفينيقيين والسوريين واليهود وأهل كريت واليونان والرومان حتى أضحت من التراث الثقافي للجنس‬
‫ا لبشري‪ .‬وإن ما قامت به مصر من األعمال في فجر التاريخ ال تزال آثاره مخلدة عند كل أمة وفي كل‬
‫جيل‪ ،‬وبفضل ما بذلته مصر من جهود دامت أطول العهود‪ ،‬لعل مصر بهذا كله تعرض على العالم أعظم‬
‫ما ظهر على األرض من حضارات إلى يومنا هذا (ديورانت‪ ،‬ول‪ ،‬ص‪.)186‬‬

‫أيضا ا جيمس هنري برستيد كان منصفا ا للحضارة المصرية القديمة حيث قال في كتابه فجر‬
‫الضمير إن أول بحث فلسفي وصل إلينا من العالم القديم‪ ،‬تمثل في وثيقة منف‪ ،‬والتي يمكن تلخيصها بأنها‬
‫محاولة لتفسير أصل جميع األشياء بما في ذلك نظام العالم الخلقي‪ ،‬وإن هذه األصول ترجع إلى بتاح إله‬
‫منف‪ .‬كما اعتقد المصريون القدماء بخلود الروح وإنهم عبروا عنها بأنها ال تفني‪ ،‬فل يوجد شعب بين‬
‫الشعوب احت لت في نفسه فكرة الحياة بعد الموت هذه المكانة العظيمة التي احتلتها في نفس الشعب‬
‫المصري القديم (حسن‪ ،‬سليم‪ ،2001 ،‬ص‪ .)63-49‬وكان أعظم انتصارا حققه المصريون في اكتشاف‬
‫عنصر األخلق‪ ،‬لذلك كانت حضارتهم مبنية على أساس األخلق (حسن‪ ،‬سليم‪ ،2001 ،‬ص‪ .)425‬فكان‬
‫المصريين أول أناس بل أول شعب يناقش تلك المشاكل األخلقية‪ ،‬مشاكل الخير والشر مطبقة على الحياة‬
‫ذاتها‪ ،‬ومشاكل الصواب والخطأ مطبقة على السلوك البشري (سليم‪ ،‬عبد الحميد‪ ،1994 ،‬ص‪.)30‬‬

‫وبعد ثلثة عشر عاما ا من ظهور أعمال ديوب‪ ،‬نشر العالم البريطاني األبيض مارتن برنال كتابه‪:‬‬
‫أثينا السوداء‪ :‬الجذور األفروآسيوية للحضارة الكلسيكية‪ ،‬والذي أشار فيه إلى أن الحضارة المصرية‬
‫القديمة كانت في األساس أفريقية (‪ .)Sesanti, S., 2018, P.2‬حيث يقول برنال (وبكل موضوعية وبعيدا ا‬
‫عن أي نزعة قومية نؤمن بأن العصر الهيللنستى هو عصر امتزاج الحضارة اإلغريقية بحضارات‬
‫الشرق القديم وال سيما حضارة مصر‪ .‬ونؤمن كذلك بأن مصر لعبت الدور األساسي في بناء هذه‬

‫‪84‬‬
‫الحضارة الجديدة التي جمعت بين الشرق والغرب وصهرت كل المنجزات الحضارية القديمة في بوتقة‬
‫واحده) (برنال‪ ،‬مارتن‪ ،‬ص‪.)40‬‬

‫وما ذهب إليه مارتن برنال من أن أثينا وما آل إليها من تقدم فكري في مختلف العلوم والفنون‬
‫تمت سرقته من مصر القديمة والتي كانت القلب النابض للقارة األفريقية‪ ،‬ذهب أيضا ا إليه العالم جورج‬
‫جيمس في كتابة التراث المسروق‪ .‬حيث نوه في مقدمة كتابه أن مصطلح الفلسفة اليونانية هو تسمية‬
‫خاطئة حيث ال وجود لفلسفة لها هذه الخصوصية‪ .‬كما أن للمصريين القدماء مذهبا ا دينيا ا شديد التعقيد سمى‬
‫نظام األسرار‪ ،‬والذي كان أول مذهب عن الخلص‪ ،‬أي تحرير النفس والتي هي سجينة الجسد من قيودها‬
‫البدنية‪ ،‬وذلك عن طريق التمرس على فروع المعرفة من فنون وعلوم وبذلك ترتقي النفس وتسمو من‬
‫مستوى الوجود الفاني إلى مستوى إلهي خالد‪ .‬وهذا هو الخير االسمي الذي يتعين على جميع الناس أن‬
‫ينشدوه؛ كما أصبح أساس لجميع المفاهيم األخلقية‪ ،‬كما كان هذا النظام ذا سرية شديدة‪ .‬واعتبر جيمس‬
‫ان الفلسفة اليونانية هي سليل نظم األسرار المصرية‪ .‬فقد عرف أفلوطين هذه التجربة بأنها تحرر العقل‬
‫من وعيه المتناهي عندما يغدو واحدا ا ومتوحدا ا مع اللمتناهي‪ .‬هذا النظام الذي يقدم لإلنسان خلص‬
‫النفس‪ ،‬يؤكد بقوة على خلودها أيضا ا (برنال‪ ،‬مارتن‪ ،‬ص‪ .)41‬لم يكن أفلوطين فقط هو من تأثر بنظام‬
‫االسرار المصري بل إن فلسفة الفكر اليوناني منذ طاليس إلى ارسطو وتلميذه قد نهلوا من تعاليم هذا‬
‫النظام الفريد والذي كان ابتكارا مصريا خالصا‪ ،‬وفي الكتاب عرض وافٍ لفكر الفلسفة اليونانيين والذي‬
‫يظهر فيه بوضوح االثر المصري النابع من ذلك النظام‪ .‬لقد كان المرء محقا ا في االعجاب بعبقرية‬
‫الفلسفة بشكل عام‪ ،‬وافلطون بشكل خاص‪ ،‬ولكن هذا االعجاب الذي يستحقه اليونانيون دون أدنى شك‪،‬‬
‫فإن الكهنة المصريين يستحقون أكثر منه‪ ،‬لقد افتتحت مصر‪ ،‬من السلالت المصرية األولى فصاعدا ا‬
‫وربما قبل ذلك‪ ،‬نظاما ا لنشأة الكون‪ ،‬اعاده إنتاجه في سطوره األساسية الفلسفة اليونانيين االوائل وغيرهم‬
‫ممن جاء بعدهم (‪.)Diop, C., 1981, P.330‬‬

‫جورج سارتون؛ فهو وإن كان قد انطلق من مجال العلم‪ ،‬دون الخوض في غيره من المجاالت‬
‫النظرية‪ ،‬يصل إلى نفس النتيجة وهي زيف نظرية المعجزة اليونانية (طلب‪ ،‬حسن‪ ،2003 ،‬ص‪ .)18‬ويقول‬
‫سارتون (إن تاريخ العلم هو تاريخ للحضارة اإلنسانية‪ ،‬يتتبع تطوراتها ويعرض مراحل نموها‬
‫وازدهارها‪ ،‬كما أن تاريخه أيضا ا هو تاريخ العقل البشري‪ ،‬فالصلة وثيقة بين تاريخ العلم من جانب‬
‫وتاريخ الفن والصناعة والدين والفلسفة من جانب آخر) (سارتون‪ ،‬جورج‪ ،1961 ،‬ص‪ .)9‬ويرى سارتون‬
‫أن العلم بدأ في الشرق وانتقل إلى اليونان‪ ،‬ومن ثم فإن عبقرية اليونان تدين إلى حد كبير لألصول‬
‫الشرقية‪ ،‬خاصة األصل المصري والبابلي‪ .‬فالعلم اليوناني هو ذروة لجهود علمية بدأها المصريون ولكنه‬
‫ال يكون هو البداية أبدا ا (طلب‪ ،‬حسن‪ ،2003 ،‬ص‪ .)19‬وعلى الرغم من أن سارتون في كتابه تاريخ العلم‬
‫‪85‬‬
‫يناقش باستفاضة العلوم المصرية وتأثيرها على العلم اليوناني‪ ،‬وعلى الرغم من أن كتابه هو تأريخ لتاريخ‬
‫العلم‪ ،‬إال أن ذلك لم يمنعه من اإلشارة لمصر القديمة وأنها قد عرفت مسألة الحق والباطل وكان ذلك آذنا‬
‫بميلد فجر الضمير والذي يبلغ من األهمية مبلغ طلوع فجر العلم‪ .‬ويعترف سارتون بمكانة المصريين‬
‫القدماء‪ ،‬وهي بالضرورة مكانة عالية‪ ،‬ونحن مدينون بجزء من ذلك ألنهم أول المرشدين وأول المعلمين‬
‫(سارتون‪ ،‬جورج‪ ،1961 ،‬ص‪.)131-130‬‬

‫وأيضا ا روجيه جارودي‪ ،‬ذلك المفكر الجريء‪ ،‬فقد حمل أيضا ا على نظرية المعجزة التي روج لها‬
‫المتعصبون للفكر الغربي‪ ،‬ففي كتابة عن حوار الحضارات‪ ،‬عقد فصلا شيقا ا بعنوان الغرب عرض‪،‬‬
‫وسخر فيه؛ ليس فقط من مصطلح المعجزة اليونانية فقط‪ ،‬وإنما من فكرة المعجزة الغربية عموما ا‪ ،‬تلك‬
‫المعجزة التي تقوم في بعض جوانبها على تضخيم التفوق الغربي‪ ،‬ليس فقط في المجاالت الفكرية وإنما‬
‫أيضا ا في مجال الحرب وجبروت القوة (طلب‪ ،‬حسن‪ ،2003 ،‬ص‪ .)19‬لقد كان المرء محقا ا في اإلعجاب‬
‫بعبقرية الفلسفة بشكل عام‪ ،‬وأفلطون بشكل خاص‪ ،‬ولكن هذا اإلعجاب الذي يستحقه اليونانيين دون‬
‫أدنى شك‪ ،‬فإن الكهنة المصريين يستحقون أكثر منه‪ ،‬لقد افتتحت مصر‪ ،‬من السلالت المصرية األولى‬
‫فصاعدا ا وربما قبل ذلك‪ ،‬نظاما ا لنشأة الكون‪ ،‬اعاد إنتاجه في سطوره األساسية الفلسفة اليونانيين األوائل‬
‫وغيرهم ممن جاء بعدهم‪ .‬لم يكن األثر المصري مقتصرا فقط على الجوانب الفلسفية ولم يقتصر على‬
‫الفكر اليوناني‪ ،‬بل أيضاا‪ ،‬من الناحية التاريخية يمكننا القول إن أصل الديانات السماوية وعلى وجه‬
‫الخصوص اليهودية والمسيحية‪ ،‬كان للديانة المصرية القديمة لها بالغ األثر‪ ،‬ف رع ‪ ،‬في تاريخ الفكر‬
‫الديني‪ ،‬هو اإلله األول‪ ،‬ذاتي التوليد‪ ،‬والذي كان غير مخلوق ليس له أب وال أم‪ ،‬ومن ناحية أخرى كان‬
‫ست‪ ،‬أخا أوزوريس‪ ،‬يقوم من بين األموات إلنقاذ البشرية من المجاعة‪ ،‬كما أن كان أوزوريس هو إله‬
‫الفداء‪ ،‬وهو اإلله قبل المسيح بثلثة آالف سنة‪ ،‬يموت ويقوم ليخلص الناس ‪ .‬ومن ثم فإن المسيحية ليست‬
‫وليدة أوروبية‪ ،‬بل جاءت من تعبير مصري فرعوني (‪.)Diop, C., 1981, P.312‬‬

‫مما تقدم يتضح أن أقدم فكرا عرفه التاريخ على المستوى الديني والميتافيزيقي واألخلقي كان هو‬
‫الفكر المصري القديم‪ ،‬والذي كان له بالغ األثر في الفكر اليوناني بشهادة اليونانيين أنفسهم وشهادة من‬
‫جاء من بعدهم من أصحاب النظرة الموضوعية‪ ،‬ووفقا ا لما ذهب إليه الشيخ أنتا ديوب من أن الحضارة‬
‫المصرية حضارة زنجية‪ ،‬فإن هذا يعني بالضرورة أن الزنوج هم أول من قدم نظريات عن أصل الكون‪،‬‬
‫كما أنهم أصحاب أقدم فكرا ا أخلقيا ا وميتافيزيقيا ا أيضاا‪ ،‬وبالتالي فإن للزنوج دورا ا فعاالا في تاريخ‬
‫الحضارة البشرية‪ ،‬بل إنهم هم من حملوا شعلة التنوير في العصور القديمة ‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫إن الحضارة األفريقية‪ ،‬وفقا ا لنظريات الشيخ أنتا ديوب هي األقدم‪ ،‬وهي التي أثرت بشكل إيجابي‬
‫في مختلف الحضارات‪ ،‬دون أن تأخذ نصيبها من االعتراف‪ ،‬وكان لمصر الفرعونية إسهام عظيم في‬
‫منطقة وادي النيل بأكملها‪ ،‬فل يمكن إجراء المصالحة بين أفريقيا والتاريخ‪ ،‬إال بالعودة لتاريخ مصر‬
‫القديم‪ ،‬الذي أسسه األجداد‪ ،‬حيث أصل الحضارة والثقافة والعلوم‪ ،‬وحيث العالم يدين في ازدهاره‬
‫لحضارة مصر األفريقية (الحمير‪ ،‬عبد هللا)‪.‬‬

‫وعلى ما تقدم يمكن القول إن الشيخ أنتا ديوب لم يسع فقط إلى إثبات الهوية الزنجية لمصر‬
‫الفرعونية‪ ،‬بل كان يسعى إلى إثبات الهوية المصرية ألفريقيا‪ ،‬طالب أفريقيا بالعودة إلى جذورها‬
‫المصرية‪ ،‬كما طالب الباحثون األفارقة بالبدء والرجوع إلى مصر عند الشروع في البحث عن هويتهم‬
‫واصفا ا من يفعل غير ذلك بالجبن والجهل والتعصب‪ .‬وبالرجوع إلى مصر‪ ،‬يجب أن يكون الزنجي قادرا ا‬
‫على استعادة قدرته على مواصلة ماضيه التاريخ القومي‪ ،‬واالستفادة منه‪ ،‬لكي يسترد مكانته في العالم‬
‫الحديث دون سقوط في تطرفات نازية عكسية‪ ،‬ذلك ألن الحضارة التي ينتسب إليها كان من الممكن أن‬
‫يخلقها أي جنس آخر‪ ،‬لو أنه تواجد في مهد ملئم وفريد إلى هذا الحد (طوسون‪ ،‬حليم‪ ،‬ص‪ .)280‬باختصار‪،‬‬
‫ما أطلق عليه البعض العلم الزائف من قبل العلماء األمريكيين من أصل أفريقي حول تاريخ السود ليس‬
‫علما ا زائفا ا أو ادعاءات باطلة على اإلطلق‪ ،‬وبحسب الشيخ أنتا ديوب في كتابة حضارة أم بربرية (بما أن‬
‫مصر هي األم البعيدة للعلوم الغربية‪ ،‬فإن معظم األفكار التي نسميها أجنبية في كثير من األحيان ليست‬
‫سوى صور معكوسة ومعدلة إلبداعات أسلفنا األفارقة) (‪ .)Ankomah, B., P.26‬وبالعودة إلى مصر في‬
‫جميع المجاالت شرطا ضروريا ا لتحقيق ثلثة أهداف رئيسية‪:‬‬

‫أولا التوفيق بين الحضارة األفريقية والتاريخ‪ ،‬وإنهاء التزوير الكبير لتاريخ البشرية األفريقية‪.‬‬
‫ثانيا ا تمكين األفارقة من بناء جسم من العلوم اإلنسانية الحديثة‪ .‬ثالثا ا تجديد الثقافة األفريقية‪ .‬وقد رأي‬
‫ديوب أن أي فحص علمي تجاه مصر القديمة يمثل فرصة لتصور وبناء مستقبل ثقافي أفريقي‪ .‬إن‬
‫خلصة الحضارات والثقافة والتاريخ واللغات األفريقية هو جوهر ولع ديوب الدائم بمصر‪ ،‬كما أن أعماله‬
‫الكلسيكي ة توضح نقطة مؤثرة مفاداها أن األثيوبيين والمصريين كانوا بالفعل أفارقة‪ ،‬والتي كانت أوروبا‬
‫تعتبرهما غير أفارقة باعتبار أن أفريقيا غير قادرة على إنتاج حضارة األهرامات‪ .‬يقول الشيخ ديوب‬
‫"بالنسبة لنا‪ ،‬فإن العودة إلى مصر في كل مجال هي الشرط الضروري للتوفيق بين الحضارة األفريقية‬
‫والتاريخ ‪ ...‬ستلعب مصر نفس الدور في إعادة التفكير في الثقافة األفريقية وتجديدها الذي تلعبه اليونان‬
‫القديمة وروما في ثقافة الغرب"(‪.) Muyumba, F., 2004, P.24-27‬‬

‫‪87‬‬
‫ومن ثم انتهى الشيخ أنتا ديوب إلى أنه إذا كانت اليونان معجزة الحضارة األوروبية‪ ،‬فإن مصر‬
‫القديمة هي أصل الحضارة الزنجية‪ .‬وفي الحقيقة أن عمل الشيخ أنتا ديوب على الرغم من تميزه بالجدية‬
‫واألصالة والجراءة أيضا ا لكن؛ ربما عمل ديوب ذات النزعة االثنية قد عرضته للنقد الشديد من قبل‬
‫الفلسفة األفارقة أنفسهم والذين عارضوا فكرة البحث عن الهوية في إطار اثني والذي يمثل في نهاية‬
‫المطاف نزعة عنصرية أفريقية ضد العنصرية األوروبية‪ .‬أيضا ا نجد ديوب استخدم منهجية هيجل ضد‬
‫هيجل كما اعتمد على المصادر التي اعتمد عليها هيجل في آرائه حول أفريقيا وأهمها أقوال هيرودوت‪،‬‬
‫أيضا ا أفكاره حول زنجية الحضارة المصرية القديمة كانت سببا ا في التجاهل من قبل المفكرين المصريين‬
‫للشيخ أنتا ديوب‪ ،‬وبرغم االنتقادات الموجهة لعمل ديوب‪ ،‬إال أن ذلك لم يقلل من قيمة وأهمية جهوده‬
‫المبذولة في إطار الكفاح ضد العنصرية الغربية والعمل على االستقلل المعرفي والثقافي ألفريقيا‬
‫الزنجية‪ ،‬والكشف عن أهمية العنصر الزنجي في تاريخ الحضارة اإلنسانية‪ .‬وأخيرا ا نرى أن محاولة‬
‫ديوب لربط الحضارة المصرية القديمة بالزنجية وتأكيده على ذلك ربما يكون نابعا من سبب نفسي لدى‬
‫ديوب وغيره من الزنوج وهو الشعور بالنقص والدونية مقابل علو شأن الغرب األبيض ومن ثم محاولة‬
‫دفع هذا الشعور بإثبات األفضلية للسود الذي ينتمي إليهم‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫ثانياا‪ :‬مبيمبي ونقد الخطابات األفريقية حول تعريف الذات‬

‫وفي الوقت الذي يدعوا فيه الشيخ أنتا ديوب األفارقة بالعودة إلى األصول أو الجذور؛ وان‬
‫الجذور تبدأ من مصر الفرعونية‪ ،‬نجد أشيل مبيمبي ينتقد تلك الدعوة األصولية في إطار نقده الموجهة‬
‫إلى أنماط الكتابة األفريقية في مشكلة البحث عن الهوية‪ ،‬باعتبار أن التيار الذي ينتمي إليه أنتا ديوب هو‬
‫أحد التيارين التاريخيين الرئيسيين في البحث عن الهوية األفريقية‪ .‬وبدأ مبيمبي في توجيه النقد لهذين‬
‫التياران‪ ،‬مع اقتراح حلول للمسائل التي أخفق فيها أصحاب هذين االتجاهين‪ .‬وأعتبر مبيمبي أن األفارقة‬
‫كحال اليهود في الحقبة األخيرة‪ .‬كرس كثيرا من المفكرين األفارقة المدفوعين بإرادة على إعادة بناء‬
‫تاريخ األمة السوداء‪ ،‬وذلك من الناحية الفعلية لعرض رأي على األفريقيين بشأن مصيرهم التاريخي‬
‫المليء بالمعاني‪ ،‬وبقيامهم بذلك سعوا إلى إظهار قدرتهم على التخالط االجتماعي ضمن األمم وعلى‬
‫تكوين صورة مصيرهم‪ ،‬وشكل هذا الجهد جزءا ا من مشروع تحريري عام ارتكز على يوتوبيا مقدسة‬
‫لعالم سيخلو من الجهل في المستقبل‪ ،‬وهذا ما يؤمن به هؤالء المفكرون‪ ،‬حيث اعتبروا أن تحقيق التحرر‬
‫واالعتراف اقتضى إنتاج خطاب تبريري مبني على إعادة اكتشاف ما افترض أنه جوهر "العرق"‬
‫األسود وعبقريته المميزة(مبيمبي‪ ،‬أشيل‪2018 ،‬ص‪.)37-36‬‬

‫لقد تم تصوير الهوية األفريقية‪ /‬الوحدة األفريقية في الغالب بطريقة جوهرية في معارضة الهوية‬
‫الغربية‪ ،‬وقد أدى ذلك في كثير من األحيان إلى الحفاظ على الذات البشرية الفردية داخل الحدود العرقية‬
‫بفكرة أن هناك بشكل أساسي هوية أفريقية يشترك فيها جميع السكان المنحدرين من أصل أفريقي وهي‬
‫نقطة انطلق لمصيرهم االجتماعي والسياسي والثقافي‪ ،‬هذا أمر ينطبق أيضا ا على األشخاص من أصل‬
‫أوروبي‪ .‬وعليه كان موقف مبيمبي مناهضا ا للتجاهات األصولية حيث أكد على ضرورة القدرات‬
‫الفردية لتصميم أنفسهم في ظل ظروف محددة تاريخيا ا (‪.)Gerber, S., 2019, P.3‬‬

‫تنقسم مدارس الفكر األفريقي حول قضية الهوية األفريقية إلى أربع مدارس تمثل أربعة نماذج تم‬
‫من خللها التفكير في الهوية األفريقية‪ ،‬وجميعهم قد وقعوا في فخ ذات البعد الواحد أو اإلقصاء‪ .‬إن مسألة‬
‫الهوية اليوم تكشف عن بعد جديد‪ ،‬وهو ليس بعد وجودي‪ ،‬بل اجتماعي وسياسي وديني واقتصادي‪ ،‬ومن‬
‫ثم لم يعد سؤال الهوية األفريقية اليوم‪ ،‬ما إذا كان األفارقة بشر أم ال؟ بل كيف يمكن لألفريقي أن يعيش‬
‫حياة هادفة؟ فالمسألة ليست أن تكون أفريقيا من أجل أن تكون أفريقيا‪ ،‬بل مسألة أن تكون أفريقيا بطريقة‬
‫ناجحة وهادفة (‪.)Mclean, G., 2011, P.102‬‬

‫‪89‬‬
‫النماذج الربعة الزائفة للهوية األفريقية تتمثل في‪:‬‬

‫أولا الستثناء‪ /‬يعتقد أنصار هذا النموذج أن الهوية األفريقية يجب أن تبني على القيم التقليدية‬
‫األفريقية‪ ،‬بالعودة إلى تلك القيم سيتم تعزيز الهوية األفريقية‪ .‬في هذه المدرسة يتم النظر إلى أفريقيا‬
‫باعتبارها عالما ا استثنائيا ا‪ ،‬هذا المنظور يثني على التفرد للثقافة والشخصية األفريقية‪ .‬وهذا النموذج‬
‫بجانب اضفاء الطابع الرومانسي على الماضي إال أنه عرضة لإلقصاء‪ ،‬حيث إنه يميل إلى اقصاء‬
‫اآلخرين من العالم األفريقي باعتبارهم يمثلون تهديدا ا على العالم األفريقي‪ ،‬منطق االستبعاد هذا لم يقتصر‬
‫على استبعاد الثقافات األخرى للشعوب العالم بل يمتد إلى داخل البلدان األفريقية نفسها‪ ،‬حيث تعتبر كل‬
‫مجموعة عرقية نفسها أفضل لذلك تميل إلى استبعاد المجموعات العرقية األخرى‪ ،‬يسمي هذا النموذج‬
‫اليوم بالفلسفة العرقية (االثنية) (‪.)Mclean, G., 2011, P.103‬‬

‫ثانيا ا الستيعاب‪ /‬ومشروع هذه المدرسة هو بناء الهوية األفريقية من خلل التكامل التام للقيم‬
‫األوروبية في الحياة األفريقية‪ ،‬ويمتد هذا التكامل من األكل إلى الملبس والحديث وبشكل أساسي إلى‬
‫تبني التكنولوجيا والعلوم األوروبية‪ .‬في االستيعاب يكمن التقدم واالزدهار لألفارقة‪ ،‬هذا النموذج ينبهر‬
‫بالثقافة والتكنولوجيا األوروبية وفي نفس الوقت ينظر إلى أفريقيا باعتبارها عالم الخرافات والجهل‬
‫واعتبار القيم األفريقية أدنى منزلة من القيم األوروبية‪ .‬ليس النموذج هو أيضا ا شكل من أشكال اإلقصاء‬
‫من حيث النظر إلى ثقافة واحدة (األوروبية) على حساب األخرى (الثقافة األفريقية)‪ ،‬وهذا يعني نفي‬
‫ورفض اآلخر‪.‬‬

‫ثالثا ا التهميش‪ /‬وهو نموذج يتسم باستبعاد كل من الثقافة األفريقية الحالية والثقافة األوروبية‪.‬‬
‫وبرغم من أنه يميل إلى الثقافة األفريقية التقليدية‪ ،‬إال أنه يعتبر القيم األفريقية الحديثة قيم فاسدة تماما ا‬
‫وليس لها صلة بأفريقيا‪.‬‬

‫رابعا ا اإلنسانية‪ /‬هذا النموذج يدعو إلى حضارة متجانسة لجميع البشر‪ ،‬ألن جميع البشر‬
‫مشتركون في اإلنسانية‪ ،‬فالنضال من أجل الهوية هنا هو نضال من أجل هوية مشتركة بين جميع البشر‪.‬‬
‫اال ان هذا النموذج غير واقعي ألنه ال يأخذ االختلفات البشرية على محمل الجد‪ ،‬كما أنه يقع في فخ‬
‫النموذج االستيعابي لكنه يقوم على وهم خلق ثقافة وحضارة واحدة لجميع البشر‪ .‬بعد أكثر من مرور‬
‫أربعين عاما ا على استقلل الدول األفريقية‪ ،‬إال أنهم يجدون صعوبة في ايجاد نموذج سليم للهوية‬
‫األفريقية‪ ،‬وهذا يفسر سبب تفشي الصراعات العرقية والقبلية والقومية والعنصرية ( ‪Mclean, G., 2011,‬‬

‫‪90‬‬
‫‪ .)P.105‬هذه المدارس األربعة تندرج تحت التيارين التاريخيين الذي يقدم أشيل مبيمبي على نقدهما‪،‬‬
‫ويقدم وجهة نظر جديدة حول الهوية األفريقية‪.‬‬

‫إن الهوية تتكون من مجموعة من المحددات والعناصر التأسيسية؛ التي تمكن الفرد من تمييز‬
‫الواحد عن اآلخر‪ .‬تصبح الثقافة علمة الهوية الشاملة وعامل التمايز‪ ،‬وبالتالي ال يمكن الرمز للثقافة‬
‫باأللوان‪ ،‬وذلك ألن األجناس المختلفة لها ثقافات مختلفة داخليا ا‪ ،‬ومن ثم فإن الحديث عن هوية سوداء يعد‬
‫أمرا ا مضللا إلى حد ما‪ .‬تعتبر الهوية الثقافية لها دوافع أيديولوجية‪ ،‬كما أن الهوية الثقافية ليست ثابتة‬
‫ولكنها ديناميكية وفي حالة تغير مستمر‪ ،‬وهذا يعني أن الثقافات يمكن أن يكون لها هويات مختلفة بمرور‬
‫الوقت (‪.)Beyers, J., 2019, P. 2‬‬

‫يبدأ مبيمبي بافتراض أن أنماط التفكير المؤثرة بشأن الهوية األفريقية‪ ،‬على الرغم من عدم‬
‫جوهرها من الناحية الفلسفية‪ ،‬حالت دون تطور طرق أفضل لفهم المواقف األفريقية‪ ،‬وقد أدى ذلك إلى‬
‫فشل االنعكاسات األفريقية في إنتاج نظام فلسفي الهوتي متكامل يمكن مقارنته بالتقاليد الفلسفية األلمانية‬
‫واليهودية‪ ،‬ووفقا ا لمبيمبي؛ فإن العديد من العوامل قد أعاقت التطور الكامل للطرق األفريقية لتصور‬
‫الماضي والحاضر األفريقي‪ ،‬وتعد النزعة التاريخية من العوامل األساسية (‪.)Tembo, J., 2018, P. 2‬‬
‫يعلم مبيمبي أن الطرق األفريقية لوضع تصور للهوية األفريقية أو فهم الذات البشرية معيبة فلسفيا ا ألنها‬
‫تنكر القدرة على المشاركة في الموضوعات األفريقية‪ ،‬ولن تساعد األفارقة على إدراك االحتماالت‬
‫المتعددة التي يمكنهم من خللها التخلص من الدمار السلبي الذي يصيبهم (‪.)Tembo, J., 2018, P. 4‬‬

‫الهوية الستعمارية السوداء‪ /‬يرى مبيمبي أنه يمكن العثور على واحدة من هذه الهويات في‬
‫الفترة االستعمارية‪ ،‬حيث تم بناء الهوية السوداء وفقا ا لمنظومة استعمارية‪ ،‬أي يجب االعتراف بالحقيقة‬
‫التاريخية للستعمار من أجل التوصل لكونك أسودا ا في العالم‪ ،‬هذه الهوية السوداء المخصصة من قبل‬
‫المستعمرين‪ ،‬مما أدى إلى إبعاد السود من أفريقيا ليصبحوا تابعين (‪ .)Beyers, J., 2019, P. 4‬وسواء‬
‫تعلق األمر باألدب‪ ،‬أو الفلسفة‪ ،‬أو الموسيقي‪ ،‬أو الفنون بشكل عام‪ ،‬فقد هيمنت على الخطابات األفريقية‬
‫على مدى قرن من الزمان ثلثة نماذج سياسية – فكرية‪ ،‬ال تستبعد بعضها بعض‪ .‬حيث كانت هناك‬
‫أشكال مختلفة من القومية المعادية للستعمار‪ ،‬والتي كان لها تأثير دائم على مجاالت الثقافة والسياسة‬
‫واالقتصاد والدين‪ ،‬كما كان هناك إعادة قراءة مختلفة للماركسية نتج عنها هنا وهناك شخصيات‬
‫االشتراكية األفريقية‪ ،‬كما كانت هناك حركة أفريقية أعطت مكانة خاصة لنوعين من التضامن وهما‬
‫التضامن العرقي والمتجاوز للحدود والتضامن األُممي المناهض لإلمبريالية ( ‪Mbembe, A., 2021,‬‬

‫‪.)P.209‬‬

‫‪91‬‬
‫شكلت هذه الخطابات شكليين تاريخيين؛ قادتهما إلى طريق مسدود؛ الراديكالية األفريقية بما‬
‫ديمقراطي وتقدميا ا مستخدما ا المقوالت الماركسية‬
‫ا‬ ‫تحمله من انتهازية سياسية وهو يقدم نفسه باعتباره‬
‫والقومية لتطوير الثقافة والسياسة حيث التلعب بالبلغة الخطابية والتحرر بمثابة المعيار الوحيد لتحديد‬
‫شرعية الخطاب األفريقي الحقيقي‪ ،‬والثاني هو عبء ميتافيزيقا االختلف والذي نشأ على الحالة األصلية‬
‫وروج لفكرة هوية أفريقية فريدة تقوم على االنتماء إلى العرق األسود‪ ،‬وفقا لمبيمبي فإن هذين الشكلين‬
‫من النزعة التاريخية أدت إلى ارتباك ال يمكن إصلحه‪ .‬كان الهدف المركزي لهذه الخطابات هو الهوية‬
‫في بعدها السياسي والثقافي‪ ،‬ويعتبر مبيمبي أن التفكير األفريقي الحديث في الهوية هو في األساس بناء‬
‫طقوسي وليس نقدا تاريخي‪ ،‬هذا البناء يفسره ثلثة طقوس تتكرر باستمرار حتى أصبحت غير مسموعة‬
‫وهي؛ أوالا دحض التعريفات الغربية ألفريقيا واألفارقة من خلل اإلشارة إلى األكاذيب وسوء النية التي‬
‫يفترضها مسبقا ا‪ ،‬والثاني يدين ما فعله الغرب ألفريقيا باسم هذه التعريفات‪ ،‬والثالث يقدم ما يسمى‬
‫البراهين التي تؤدى إلى استبعاد التمثيلت الغربية الخيالية ألفريقيا ودحض ادعائه باحتكار التعبير عن‬
‫اإلنسان بشكل عام إلى فتح مساحة يمكن لألفارقة أخيرا ا سرد خرافاتهم بتعريف الذات( ‪Mbembe, A.,‬‬

‫‪.)2001, P.2‬‬

‫هذا الخطاب الزنجي سيهيمن عليه ثلثة وقائع وهي العبودية واالحتلل والتمييز العنصري‬
‫والتي شكلت سجنا ا يتخبط فيه الخطاب حتى يومنا هذا‪ ،‬هذه األحداث متعلقة باالنفصال عن الذات؛ ذلك‬
‫االنفصال أدى إلى فقدان األلفة مع الذات إلى حد تم تغريب الذات على نفسها ووضعت في هوية مسلوبة‬
‫تكاد تكون ال حياة لها‪ ،‬كان يفترض أن تكون تلك الحاالت الثلث بمثابة مركز توحيد رغبة الزنجي في‬
‫معرفة نفسه بنفسه (لحظة السيادة) والوقوف بمحض إرادته في العالم (حركة االستقلل) (مبيمبي‪ ،‬أشيل‪،‬‬

‫‪ ،2018‬ص‪ .)116‬إ ن تحديد الذات على قراءة العالم ستضخم فيما بعد على يد التيارات األيديولوجية التي‬
‫تنتسب إلى النزعة التقدمية والراديكالية‪ ،‬والمذهب الفطري على حد السواء (مبيمبي‪ ،‬أشيل‪،2018 ،‬‬

‫ص‪.)128‬‬

‫ومن ملمح الخطاب الزنجي أيضا َ في استعادته لنفسه ونشر أيديولوجيا االختلف الثقافي‪،‬‬
‫وتعتمد هذه األيديولوجيا فيما يبين مبيمبي على ثلث دعامات وهي العرق والجغرافيا والتقليد‪ ،‬ومن ثم‬
‫ربطت أغلب النظريات السياسية في القرن التاسع عشر عبر علقة وثيقة للذات البشرية بالذات العرقية‪،‬‬
‫حيث رأت في العرق مجموعة من الخصوصيات الفسيولوجية المرئية‪ ،‬وأمزجة أخلقية قابلة لإلدراك؛‬
‫تلك الخصوصيات هي التي تميز كما كان يعتقد األجناس البشرية فيما بينها‪ ،‬وكان الترتيب المسلم به في‬
‫القرن التاسع عشر يقصي الزنوج من دائرة اإلنسانية أو يضعهم في مكانة منحطة في سلم األعراق‪،‬‬
‫رفض اإلنسانية للزنوج دفعت خطابهم ألن يكون من البداية تحصيل حاصل حيث نجد اقواالا مثل "نحن‬
‫‪92‬‬
‫أيضا ا كائنات بشرية" فضلا عن ذلك " لدينا ماض مجيد يشهد على هذه اإلنسانية"‪ ،‬ويعتبر ذلك سببا ا في‬
‫دخول الخطاب حول الهوية الزنجية منذ بدايته في توتر ال زال إلى اآلن يعاني منه (طواهري‪ ،‬ميلود‪،‬‬

‫‪ ،2018‬ص‪.)129‬‬

‫التيار الفكري األول‪ /‬وهو التيار الماركسي والقومي؛ يتخلل هذا التيار التوتر بين الطواعية‬
‫والظلم (اإليذاء)‪ ،‬وله أربع سمات رئيسية؛ أولها المفهوم األداتي للمعرفة والعلم بالمعنى التي ال يتم‬
‫االعتراف بها على أنها مستقلة‪ .‬أنها مفيدة فقط بقدر ما يتم وضعها في خدمة النضال الحزبي‪ ،‬والسمة‬
‫الثانية هي الرؤية الميتافيزيقية للتاريخ‪ ،‬والتي باسمها يتم تحدي فكرة أن المستقبل مفتوح وال يمكن توقعه‬
‫منذ البداية‪ ،‬أما السمة الثالثة فتتمثل في الرغبة في تدمير التقاليد واالعتقاد بأن الهوية الحقيقية تمنح من‬
‫خلل تقسيم العمل الذي يؤدى إلى ظهور الطبقات االجتماعية‪ ،‬وأخيرا ا هناك نوع من الل مسؤولية يتمثل‬
‫في علقة جدلية أساس بالعالم‪ .‬ووفقا ا لهذا التيار من المفترض أن يتم تحديد التجربة األفريقية للعالم مسبقا ا‬
‫من خلل مجموعة من القوي‪ ،‬دائما ا نفس القوى على الرغم من الظهور بأشكال مختلفة‪ ،‬ذلك الجزء من‬
‫الذات األفريقية التاريخية التي ال يمكن اختزالها ألي جزء آخر‪ ،‬والنتيجة يقال إن أفريقيا ليست مسؤولة‬
‫عن الكوارث التي تحل بها ومن المفترض أن يستمر المصير الحالي للقارة‪ ،‬وليس لها حرية االختيار‪،‬‬
‫ولكن ذلك من إرث التاريخ المفروض على األفارقة (‪.)Mbembe, A., 2001, P.5‬‬

‫يرى مبيمبي أنه بعد انتهاء تجارة الرقيق في المحيط األطلسي‪ ،‬تناول النقد األفريقي قضية الحكم‬
‫الذاتي ‪ ،‬لكنه لم يعرضها لنقد متماسك‪ ،‬بل في الغالب المقوالت األساسية التي استخدمها الخطاب الغربي‬
‫بعد ذلك لتفسير التاريخ العالمي‪ ،‬وكانت فكرة "الحضارة"‪ ،‬وعندما ظهر خلل الفترة االستعمارية خطاب‬
‫أصلي حول تحرير السكان األصليين وحقهم في تقرير المصير‪ ،‬لم تتعرض العلقة بين نهاية الهمجية‬
‫والتحول إلى الحضارة لنقد أساسي‪ ،‬حيث إن القوميات األفريقية في فترة ما بعد االستعمار اتبعت‬
‫اتجاهات العصر حيث تم استبدال مفهوم "الحضارة" بمفهوم "التقدم"‪ .‬وعلى المستوى السياسي في‬
‫النضال من أجل الوصول إلى السلطة وتبرير الحق في السيادة وتقرير المصير؛ تم التركيز على مقولتين‬
‫رئيسيتين شخصية األفريقي كموضوع ضحية من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى تأكيد التفرد الثقافي لألفارقة‪.‬‬
‫طريقة تعريف الذات هذه تعتمد على قراءة العالم التي تضخمت الحقا ا من خلل األيديولوجيات التي‬
‫تدعي أنها تقدمية وراديكالية (‪.)Mbembe, A., 2001, P.10‬‬

‫التيار الفكري الثاني‪ /‬بالتوازي مع التيار السابق؛ الذي يسعى إلى تأسيس سياسة أفريقية باستخدام‬
‫فئات االقتصاد السياسي الماركسي ومن خلل عرض يتماشى مع التسلسل الثلثي للعبودية واالستعمار‬
‫والفصل العنصري ‪ ،‬فقد تطور تكوين خطاب موضوعاته المركزية هي الهوية الثقافية‪ ،‬هذا الخطاب‬

‫‪93‬‬
‫يدعم نفسه بثلث عكازات يستند إليها هي‪ :‬العرق والجغرافيا والتقاليد‪ ،‬ويستعرض مبيمبي بإيجاز تاريخ‬
‫إشكالية الفكر األفريقي على مدى القرنين الماضيين بدايتا ا من مفهوم "العرق" ومكانته في أسلوب‬
‫التعرف على الصفات البشرية‪ ،‬ويفهم العرق نفسه على أنه مجموعة من الخصائص الفسيولوجية المرئية‬
‫والخصائص األخلقية التي يمكن تمييزها ومن المفترض أن تميز هذه الخصائص األنواع البشرية عن‬
‫بعضها البعض وكان لهذا التصنيف آثاره العنيفة على المستوى السياسي والثقافي في ذات الوقت‪ ،‬ونظرا‬
‫الستثناء األفارقة من دائرة اإلنسانية مما أدى إلى دفعهم للتعبير في خطاباتهم عن كونهم بشر مثل سائر‬
‫البشر وأن لديهم ماضيا ا مجيدا ا يشهد على إنسانيتهم وهذا هو السبب في أن الخطابات األفريقية كانت في‬
‫معضلة ال تزال تكافح من أجل تحرير نفسها منها‪ ،‬هل تشارك الهوية األفريقية في الهوية اإلنسانية العامة‬
‫أم ينبغي على المرء أن يصر باسم االختلف والتفرد على إمكانية أشكال ثقافة متنوعة داخل إنسانية‬
‫واحدة أشكال ثقافة ال تهدف إلى االكتفاء الذاتي بل هدفها النهائي عالمي‪)Mbembe, A., 2001, P.12( .‬‬

‫إ ن إعادة تأكيد هوية مشتركة يستنكرها الغير تدخل في خطاب تفنيد وإعادة تأهيل‪ ،‬ويمكن القول‬
‫أنه في ثغرة العرق يختفي التوتر الكامن الذي طبع دائما ا التفكير حول الهوية الزنجية بشكل عام‪ ،‬فكان‬
‫العرق هو نقطة المصالحة في تاريخ الفكر الزنجي في القرنين األخيرين‪ ،‬وبين السياسة والثقافة كان‬
‫الدفاع عن إنسانية الزنجي يساير مطلبا ا يؤكد دائما ا على الطابع الخصوصي للعرق وتقاليده وأعرافه‬
‫وتاريخه‪ ،‬وقامت الثورة ليس ضد انتماء الزنجي إلى عرق متميز ولكن ضد الحكم المسبق القائل بالنقص‬
‫المتصل بذلك العرق‪ ،‬لم يكن الشك يحمل على خصوصية الثقافة األفريقية‪ ،‬بل ما كان يصرح به هي‬
‫نسبية الثقافات بشكل عام ‪ ،‬كما يتمثل هذا العمل في إثراء العقل الغربي باإلسهام الذي تمثله "قيم‬
‫الحضارة" الزنجية وتلك العبقرية الخاصة بالعرق األسود ‪ .‬هذه الخطابات التي تناولت االختلف الثقافي‪،‬‬
‫سيسعي دعاة االختلف الزنجي وفكرة المواطنة األفريقية بدءا ا من القرن التاسع عشر إلى إيجاد تسمية‬
‫عامة ومكان حيث يتم غرس هذا الخطاب‪ ،‬وسيكون هذا المكان الجغرافي في أفريقيا‪ ،‬وسيبذل الجهد في‬
‫البحث عن أفريقية في مجموعة من الملمح الثقافية الخصوصية والتي سيعمل البحث االثنولوجي على‬
‫توفيرها‪ ،‬وفي آخر األمر ستذهب الهيستيريا الوطنية للبحث في اإلمبراطوريات األفريقية البائدة أو حتى‬
‫في مصر الفرعونية على ذلك الشيء الذي كان ينقصها (طواهري‪ ،‬ميلود‪ ،2018 ،‬ص‪ ،)131‬وفي ذلك‬
‫الحديث إشارة ضمنية من أشيل مبيمبي للشيخ أنتا ديوب والذي كان مهتما ا بالبحث عن الجذور مطالبا ا‬
‫بالرجوع إلى مصر الفرعونية‪.‬‬

‫وبفحص هذه األيديولوجية فيما يرى مبيمبي نجد أنها رجعية للغاية‪ ،‬فهي تنشأ شبه تكافؤ بين‬
‫العرق والجغرافيا‪ ،‬ثم تشتق الهوية الثقافية من العلقة بين المصطلحين‪ ،‬لتصبح الجغرافيا الموقع المفضل‬
‫الذي من المفترض أن تتجسد فيه مؤسسات العرق والسلطة (‪ .)Mbembe, A., 2001, P.14‬ستعرف هذه‬
‫‪94‬‬
‫النزعة التي تنادى بوحدة الشعوب األفريقية اإلنسان المحلي والمواطن باألسود‪ ،‬حيث يصبح األسود‬
‫مواطنا ا ألنه كائن بشري يتمتع‪ ،‬مثل غيره‪ ،‬بملكة العقل ولكن يضاف إلى تلك الظاهرة المزدوجة المتمثلة‬
‫في لونه وامتياز محلية المنشأ‪ ،‬ولما كانت األصالة العرقية تمتزج باإلقليمية تصبح أفريقيا هي بلد السود‪،‬‬
‫والنتيجة هي كل ما ليس بأسود ليس من أهل المكان وال يمكنه بالتالي أن يدعي أفريقيا أيا ا كان‪ ،‬ومن ثم‬
‫فإن الزنجي ليس شخصا ا يشارك في الظروف اإلنسانية فقط‪ ،‬بل أيضا ا هو شخص ولد في أفريقيا‪ ،‬يعيش‬
‫فيها‪ ،‬ومن عرق أسود (طواهري‪ ،‬ميلود‪ ،2018 ، ، ،‬ص‪.)132‬‬

‫إحدى نتائج تجارة الرقيق هي أن السود يعيشون في أماكن بعيدة‪ ،‬كيف يمكن إذن تسجيلهم داخل‬
‫أمة محددة عنصريا ا‪ ،‬في حين أن الجغرافيا عزلتهم عن المكان الذي ولدوا فيه؟ فمن أجل تأسيس أفريقيتهم‬
‫هم مدعوون للعودة إلى أفريقيا‪ ،‬بما أن المساحة الجغرافيا األفريقية تشكل البؤرة الطبيعية للسود‪ ،‬فإن‬
‫أولئك الذين انتزعتهم العبودية منهم يعيشون في حالة منفي‪ ،‬ومن ثم تعتبر أسطورة العودة أساسية للحركة‬
‫األفريقية‪ ،‬وقد أدى استمرار هذه األسطورة والفكرة القائلة بأنه ال يمكن أن يكون المرء أفريقيا إال في‬
‫أفريقيا إلى استحالة التعامل مع مواقع الشتات (‪ .)Mbembe, A., 2001, P.15‬إن فكرة أفريقية ليست‬
‫سوداء هي ببساطة فكرة غير واردة‪ .‬من هنا جاءت استحالة تصور وجود أفارقة من أصل أوروبي أو‬
‫عربي أو آسيوي‪ ،‬على سبيل المثال – أو أن األفارقة قد يكون لهم أصول متعددة‪ .‬هل يمكن أن نأخذ في‬
‫الحسبان األفارقة التي تم استبعاده من قارة أفريقيا خلل تجارة الرقيق تسجيلهم داخل أمة محددة عنصريا ا‬
‫وجغرافيا ا‪ ،‬عندما فصلتهم الجغرافيا والتاريخ عن المكان الذي جاء منه أسلفهم؛ ألن الفضاء الجغرافي‬
‫األفريقي يشكل الوطن الطبيعي للسود‪ ،‬أولئك الذين سلبهم العبودية يجب أن يعودوا إلى أرض آبائهم‬
‫ويكونون في سلم (‪.)Mbembe, A., 2002, P.256‬‬

‫هذه المركزية األفريقية‪ ،‬في الحقيقة شكلا من أشكال العنصرية المعرفية المضادة‪ ،‬إال أن مبيمبي‬
‫يعتبر الشيخ أنتا ديوب هو الشخص المثير للهتمام للغاية؛ وذلك ألنه اعتقد أن العلم في األساس عقلني‪،‬‬
‫ولكن كان هناك بعد أيديولوجي للعلم‪ ،‬وكذلك بعد أسطوري‪ ،‬فالعلم هو األسطورة التي مكنت الجماعات‬
‫المهيمنة من فرضها على أي شخص آخر‪ ،‬إذا كان هناك قوة إمبريالية تمكنت من فرضت سيطرتها على‬
‫من يخضعون لها‪ ،‬إذا كان هذا هو الحال‪ ،‬فإن فكرة ديوب كانت أنه إذا كانت أسطورة‪ ،‬فيمكننا صياغة‬
‫أسطورة قوية مثل األخرى‪ -‬أساطير مضادة في هذه الصراعات الكبيرة بين أسطورة ضد أخرى‪ ،‬ذلك‬
‫يعني أنهم إذا أرادوا ضربنا باألساطير اليونانية‪ ،‬فلنضربهم باألساطير المصرية‪ ،‬لذلك لديك أسطورة ضد‬
‫أسطورة‪ ،‬ويعتقد مبيمبي أن المركزية األفريقية هي جزء من تلك البنية األسطورية( ‪Mbembe, A.,‬‬

‫‪.)2016, P.34‬‬

‫‪95‬‬
‫يرى مبيمبي أن وراء الحلم الفارغ المتمثل في التحرر السياسي وخطاب االستقللية الثقافية‬
‫حدثت عملية شاذة حول الخيال المزدوج للسيادة وتقرير المصير‪ ،‬هذه العملية عززت فقط استياء األفارقة‬
‫وتعرضهم لإليذاء‪ ،‬ويتساءل مبيمبي عن الكيفية التي نستطيع من خللها التخلي عن هذا الحلم الزائف‪،‬‬
‫وهذا الفكر الذي عفا عليه الزمن؟ وكيف يمكن استئناف التساؤالت األفريقية بشأن العالم؟ يرى مبيمبي‬
‫أن هناك طريقا ا آخر حول إشكالية الهوية األفريقية باعتبارها هوية في طور التكوين‪ .‬ومن وجهة النظر‬
‫هذه‪ ،‬لم يعد العالم نفسه يشكل تهديدا ا‪ ،‬بل على العكس يصبح شبكة واسعة من الصلت‪ .‬فل يوجد هوية‬
‫أفريقية نهائية‪ ،‬بل هناك هوية قيد التشغيل تستمد قوتها من االختلفات العرقية واللغوية لألفارقة‪ ،‬وكذلك‬
‫من التقاليد الموروثة من التاريخ االستعماري‪ ،‬ويرى مبيمبي أن نقده لهذين التياران مدفوعين باعتبارات‬
‫منهجية‪ ،‬حيث إنهم ال يتطرقون إلى قلب الموضوع (‪.)Mbembe, A., 2001, P.17‬‬

‫ويقترح مبيمبي أن هوس التفرد‪ ،‬يجب معارضته بموضوعات التشابه‪ ،‬أي العملية التي من‬
‫خللها وفي ظل الظروف الحالية‪ ،‬يشعر األفارقة بأنفسهم مثل اآلخرين أو ال؛ الممارسات اليومية التي‬
‫يتمكنون من خللها التعرف على العالم أو عدم التعرف عليه‪ ،‬والحفاظ على ألفة غير مسبوقة مع العالم‪،‬‬
‫وفي نفس الوقت ابتكار شيء خاص بهم ويشير للعالم في عموميته‪ .‬ومن الضروري تكرار التساؤالت‬
‫الفلسفية الحقيقة التي تطالب بها العبودية واالستعمار والفصل العنصري‪ ،‬والتي تم تجاهلها من قبل النقد‬
‫األفريقي‪ .‬من ضمن التساؤالت التي تم تجاهلها هي تلك التي تتعلق بمسألة المعاناة في التاريخ‪ ،‬ومن‬
‫هناك تكون المقارنة مع التجارب التاريخية األخرى مناسبة‪ ،‬فالمحرقة اليهودية والعبودية والفصل‬
‫العنصري كلها تمثل أشكال معاناة أصلية‪ ،‬تتميز جميعها بمصادرة الذات من قبل قوي ال يمكن تسميتها‬
‫حيث تتخذ أشكاالا مختلفة‪ .‬أما المسألة الثانية والتي تم تجاهلها أيضا ا تتعلق بعمل الذاكرة ووظيفة النسيان‪،‬‬
‫بمعني هل يمكن الجمع بين العبودية واالستعمار والفصل العنصري كذكري‪ ،‬ليس في شكل التمييز بين ما‬
‫قبل وما بعد‪ ،‬أو بين الماضي والمستقبل‪ ،‬بل في قوتها الوراثية‪ :‬أي استحالة عالم دون آخر كما تكشف‬
‫عنها الذكريات؛ إمكانية تعدد السلف وثقل المسؤولية الخاصة التي تقع على عاتق األفارقة أنفسهم في‬
‫عنصر المأساة وهو ليس العنصر الوحيد في تاريخهم‪ ،‬وهنا تكشف المقارنة بين التجارب األفريقية‬
‫واليهودية إلى اختلفات عميقة‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬وخلفا ا للذاكرة اليهودية للمحرقة‪ ،‬ال توجد ذاكرة‬
‫أفريقية للعبودية بالمعنى الصحيح‪ ،‬حيث ينظر إلى العبودية على أنها جرح ينتمي معناه إلى مجال‬
‫اللوعي النفسي‪ ،‬وهذا لسببين؛ األول بين ذكري العبودية لألمريكيين من أصل أفريقي وذاكرة األفارقة‬
‫القاريين‪ ،‬توجد منطقة غامضة تخفي صمتا ا عميقاا‪ :‬صمت الذنب ورفض األفارقة مواجهة الجانب المقلق‬
‫من الجريمة‪ ،‬أما السبب اآلخر فهو في أجزاء من العالم الجديد يتم قمع ذكري العبودية بوعي من قبل‬
‫أحفاد العبيد األفارقة (‪.)Mbembe, A., 2001, P.20‬‬

‫‪96‬‬
‫وعن حالة المنفي‪ ،‬والتي تستخدم لمقارنة حالة العبودية بالحالة اليهودية وكذلك العلقات بين‬
‫العرق والثقافة في الوعي الحديث‪ ،‬هناك شيء سطحي في هذه المقارنة‪ ،‬ألن الخيال اليهودي يتأرجح‬
‫باستمرار بين مجموعة من األساطير المتناقضة والتوترات التي لم يتم حلها ولكنها منتجة ألسطورة‬
‫االستقلل الذاتي من ناحية‪ ،‬وحقيقة التهجير القسري من ناحية أخرى؛ والحقيقية التجريبية للخروج من‬
‫ناحية والتوقع بأن الوعد سيحقق األمل بالعودة مرة أخرى‪ ،‬باختصار أن غياب األرض ال يعني االنقطاع‬
‫عن اليهودية(‪. )Mbembe, A., 2001, P.21‬‬

‫إن موضوعات العرق خضعت لتحوالت كبيرة‪ ،‬لقد دفعت للعتقاد بأن المعارضة القطبية بين‬
‫السود والبيض تلخص في حد ذاتها المسألة العرقية برمتها في أفريقيا‪ ،‬بجانب المعارضة السوداء‬
‫البيضاء‪ ،‬كانت االنقسامات العرقية األخرى دائما ا تضع األفارقة ضد بعضهم البعض‪ ،‬ليس فقط األكثر‬
‫وضوحا ا (األفارقة السود مقابل األفارقة من أصول عربية أو آسيوية أو يهودية أو صينية) ولكن أيضا ا‬
‫كل اآلخرين – مجموعات األلوان وضمها إلى مشاريع الهيمنة (األفارقة السود مقابل اللبنانيين‬
‫والسوريين والبربر والبول والمور واألفرو‪ -‬برازيليين‪...‬الخ)‪ .‬يرى مبيمبي أن الوحدة العرقية في‬
‫أفريقيا ما هي إال مجرد أسطورة‪ ،‬تنفجر هذه األسطورة حاليا ا تحت تأثير العوامل الداخلية وغيرها من‬
‫العوامل المرتبطة بالطرق التي ترتبط بها المجتمعات األفريقية بتدفقات التجارة العالمية ( ‪Mbembe,‬‬

‫‪.)A., 2001, P.23‬‬

‫يتساءل مبيمبي كيف أن المستعمرة نفسها تدونت في الخيال األفريقي المعاصر؟ تختلف األشكال‬
‫األفريقي ة لتعبئة ذاكرة المستعمرة باختلف الفترة والمخاطر التي ينطوي عليها الموضوع والموقف‬
‫المحدد التي أثرت‪ .‬أما بالنسبة ألساليب تمثيل التجربة االستعمارية نفسها‪ ،‬فهي تتراوح من إحياء الذكرى‬
‫النشط إلى النسيان‪ ،‬مرورا بالحنين إلى الماضي والخيال وإعادة التملك‪ ،‬كل األشكال المتنوعة التي يصبح‬
‫من خللها الماضي أداة في الصراعات االجتماعية الحالية أو تستخدم كوسيلة لتدمير االرتباط السياسي‬
‫تماماا‪ .‬وعلى عكس القراءات األداتية للماضي االستعماري يوضح مبيمبي أن الذكريات والحنين إلى‬
‫الماضي أو النسيان تتكون من صور نفسية‪ ،‬فالذاكرة تبرز باعتبارها نتاجا ا للعمل النفسي ونقد الزمان‬
‫وهما عمليتان أساسيتان لعلج الماضي‪ .‬لذلك اهتم مبيمبي بتلك الجوانب من الذكرى األفريقية للمستعمرة‬
‫التي تجعل أفريقيا مكانا ا للخسارة‪ .‬إن تمثيل ذاكرة المستعمرة ال يتطلب االنخراط فقط في العمل النفسي‬
‫وخسائره؛ بل يتطلب أيضا ا نقدا ا للزمان واالحتفاالت‪ .‬والتحف التي تدعي أنها آخر البدائل لجوهر الزمن‬
‫(التماثيل واآلثار)‪ ،‬وقد اعتبر مبيمبي أن األدب بمثابة مثال على هذا النقد األفريقي للزمان جنبا ا إلى جنب‬
‫مع الرقص والموسيقي واالحتفاالت (‪.)Boehmer, E., & Morton, S., 2010, P.27-28‬‬

‫‪97‬‬
‫لقد طور األفارقة من خلل األدب والموسيقى واألديان والتحف الثقافية؛ فينومينولوجيا‬
‫المستعمرة التي تستدعيها‪ ،‬ففي النصوص األفريقية الكنسية تظهر المستعمرة على أنها مشهد تم فيه‬
‫تجريد األنا من (‪ .)Boehmer, E., & Morton, S., 2010, P.29‬إن السر المذنب للمستعمر هو بل شك‬
‫إخضاع المواطن األصلي لرغبته في المرحلة االستعمارية‪ ،‬وهذا مضمونها واستبدالها بصيغة لها‬
‫خصوصيتها التي تتجسد من خلل إشارة آلخر‪ ،‬التي تلغي وتزيل أي دافع لألصالة أو المصداقية‪ ،‬هذا‬
‫هو السبب في أن تذكر المستعمرة في الخطاب األفريقي دائما ا ينطوي على الل مركزية األصلية بين األنا‬
‫والموضوع‪ ،‬وهذا يؤدي إلى استنتاج أن األنا الحقيقية يبدو أنها قد تغيرت‪ ،‬وقد اتخذت األنا المجهولة‬
‫مكان األنا الحقيقية‪ ،‬مما يجعل األفريقي حاملا للدالالت الغامضة وكأن شيئا ا خارقا ا يوجه وجوده مما‬
‫يضفي جانبا ا شيطانيا ا على بعض ملمح حياته النفسية والسياسية‪ ،‬مع الزعم بأن الغرب هو المذنب بكل ما‬
‫تعنيه الكلمة من معنى بهذا االنقسام والشظي الداخلي(حامد‪ ،‬دعاء‪ ،2022 ،‬ص‪ )164‬إن معضلة المستعمر‬
‫هو بل شك إخضاع المواطن األصلي لرغبته في المرحلة االستعمارية‪ ،‬وهذا القهر هو الذي يجعل الذات‬
‫المستعمرة خارجة عن نفسها‪ .‬إن العالم األفريقي الذي يخرج من المستعمرة هو عالم الخسارة؛ خسارة‬
‫سببها القتل‪ ،‬وبالتي‪ ،‬ال ينبغي أن يكون المذنب في جريمة القتل هذه مدان بالذنب فقط‪ ،‬بل أن يكون مدين‬
‫أيضا ا ألولئك الذين انتهك حقوقهم الطبيعية‪ .‬وبعيدا ا عن العنف والقسوة‪ ،‬فإن السر المذنب للمستعمرة‪ ،‬هو‬
‫أنها في خيال السكان األصليين تعمل كموقع للسحر‪ .‬إن الممارسة الحقيقية لعلج األفارقة تتمثل في‬
‫تحريرهم من هذا السر المذنب‪ ،‬من خلل االعتراف باآلخر في داخلهم مرة واحدة وإلى األبد‪ ،‬واعتبار‬
‫منعطف التغيير هذا حجر األساس لوجود جديد‪ ،‬نوع من معرفة الذات‪ ،‬فحقيقة أن العبء النفسي الكبير ال‬
‫يزال ينسب إلى المستعمرة في عمليات البناء الذاتي هو نتيجة لإلحجام عن االعتراف‪ :‬سواء إخضاع‬
‫الشعوب األفريقية لرغبة الشعوب األفريقية أو حقيقة أنها سمحت لنفسها ليتم خدعها من قبل المتلعب‬
‫لآللية التخيلية (‪.)Boehmer, E., & Morton, S., 2010, P.34-35‬‬

‫لذلك يرى مبيمبي حتى اآلن فشلت محاوالات تحديد الهوية األفريقية على نحو دقيق ومن المرجح‬
‫أن يلقي المزيد من المحاوالات نفس المصير انتقادات الخيال األفريقي للذات والعالم محاصر داخل مفهوم‬
‫الهوية الجغرافية‪ ،‬كما يرى أنه ال توجد هوية أفريقية يمكن تسميتها بمصطلح واحد أو يمكن تصنفها‬
‫ضمن فئة معينة‪ ،‬الهوية األفريقية ال وجود لها كمادة‪ .‬يتم تشكيلها في أشكال مختلفة من خلل سلسلة من‬
‫الممارسات الذات‪ ،‬وأشكال هذه الهوية وال مصطلحاتها متطابقة ذاتيا ا‪ ،‬بل متنقلة وغير مستقرة لذلك؛ ال‬
‫يمكن اختزالها في نظام بيولوجي بحت قائم على العرق أو الجغرافيا (حامد‪ ،‬دعاء‪ ،2022 ،‬ص‪ .)164‬ومن‬
‫الواضح مما سبق أن مبيمبي في مشروع الدفاع عن نمط جديد للنظرية األفريقية يحمل في طياته رفضا ا‬
‫لكل المساعي األفريقية الموجودة‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫ويقترح مبيمبي إذن نهج ظاهري وجودي لتصور الحقائق األفريقية‪ ،‬لفهم ما تعنية أن تكون‬
‫أفريقيا‪ ،‬بالنسبة له يجب على المرء أن ينغمس في حقائق زمانية الذات وأفعال الذات المستقلة استجابة‬
‫لموقعها‪ ،‬وبالتالي يمكن القول إن التفكير الفلسفي في الهوية األفريقية يعنى التفكير في توقيتات‬
‫الموضوعات األفريقية‪ ،‬التفكير مع الوقت هو ما يعتقد مبيمبي أنه كان يجب على خصومه فعله‪ .‬ويؤكد‬
‫مبيمبي أن خطاب معادة اإلمبريالية قد استنفد (‪.)Tembo, J., P.5‬‬

‫كما أقترح مبيمبي األفروبوليتانية ‪ Afropolitanism‬باعتبارها شيئا ا يتجاوز الوحدة األفريقية؛‬


‫وهو يعتقد أيضا َ أن الفكرة تتعلق بالسماح للهجرة الحرة لألفارقة داخل أفريقيا‪ ،‬ويرى أن هذه الطريقة هي‬
‫التي يفهم بها األفارقة أو المنحدرون من أصل أفريقي‪ ،‬أنفسهم على أنهم جزء من العالم بدالا من كونهم‬
‫منفصلين تاريخيا ا‪ ،‬حيث تم تعريف أفريقيا في النموذج الهيجلي على أنها خارج التاريخ وأنها ال تنتمي‬
‫إلى العالم‪ ،‬علي أنها منطقة ما من الكوكب ليس لها أي أهمية على اإلطلق من حيث التاريخ الحقيقي‬
‫لإلنسان في العالم؛ بالطبع هذا ليس صحيحا ا‪ ،‬فاألفروبوليتانية هي اسم إلجراء تفكير نقدي في العديد من‬
‫الطرق التي ال يوجد بها عالم دون أفريقيا وال توجد أفريقيا ليست جزء من العالم‪ ،‬وهذا هو االنعكاس‬
‫الفلسفي للمصطلح‪ .‬وفيما يتعلق بالوحدة األفريقية؛ والتي هي أيديولوجيا عنصرية‪ ،‬يرى مبيمبي أن‬
‫االفروبوليتانية تأخذ في الحسبان حقيقة أن أفريقيا ال تعني بالضرورة قوال أسود‪ ،‬فهناك أفارقة ليسوا من‬
‫السود‪ ،‬وليس كل السود أفارقة‪ ،‬لذلك فإن هذه الحركة تنبثق من االعتراف باألصول المتعددة ألولئك الذين‬
‫يصفون أنفسهم على أنهم أفريقيون أو من أصل أفريقي‪ ،‬وذلك ألن النسب هنا لألحفاد‪ ،‬هو أكثر قليلا من‬
‫مجرد بيولوجي أو عرقي؛ على سبيل المثال في أفريقيا الكثير من األشخاص من أصول آسيوية أو هندية‪،‬‬
‫أيضا ا يوجد أفارقة من أصل أوروبي في جنوب أفريقيا‪ ،‬وفي أنجوال وموزمبيق‪ ،‬أيضا ا يوجد أفارقة من‬
‫أصل شرق أوسطي في غرب أفريقيا والسنغال وكوت ديفوار‪ ،‬أيضا ا لدينا أفارقة من أصل صيني‪ ،‬ولذلك‬
‫فإن حركة االفروبوليتانية تختلف عن البان افريكانيزم ‪ Pan-Africanism‬وذلك ألن عند البان افريكانيزم‬
‫توجد فكرة متجذرة بشكل أساسي؛ وهي فكرة االنتماء إلى مجموعة عرقية معينة ( ‪Mbembe, A., 2016,‬‬

‫‪.)P.29-30‬‬

‫هناك لحظتان رئيسيتان من االفرروبوليتانية؛ تتمثل اللحظة األولى في ما بعد االستعمار‪ .‬وقد‬
‫افتتح احمدو كوروما (*)‪ Ahmadou Kouroma‬في بداية السبعينيات بعمله شمس االستقلل‪ ،‬لكن على‬

‫(*) احمادو كروما كاتب من ساحل العاج ولد في ‪ 24‬نوفمبر ‪ 1927‬في بوندايل وتوفي في ‪ 11‬ديسمبر ‪ 2003‬في ليون‬
‫الفرنسية يعتبر من رواد الرواية والمسرح االفريقي حاصل على الجائزة االدبية الكبرى ألفريقيا السوداء ومن أشهر‬
‫مؤلفاته شموس االستقلل وهللا ال يجبر أحد‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫(*)‬
‫وعمله المرتبط بالعنف‪ ،‬إن كتابة‬ ‫وجه الخصوص من قبل يامبو اولوغوم ‪Yambo Ouologuem‬‬

‫الذات التي تتمثل بالنسبة لسينغور وشعراء الزنجية في البحث عن االسم المفقود‪ ،‬والتي بالنسبة للشيخ أنتا‬
‫ديوب تتزامن مع التعبير عن الدين للمستقبل بحكم الماضي المجيد‪ .‬أما اللحظة الثانية تتمثل مع دخول‬
‫أفريقيا إلى عصر جديد من التداول‪ ،‬ويتميز هذا العصر بتكثيف الهجرة وتأسيس جاليات أفريقية جديدة‬
‫في العالم‪ ،‬مع ظهور هؤالء الشتات‪ ،‬لم تعد أفريقيا تشكل مركزا ا في حد ذاتها‪ ،‬هم يشكلون العديد من‬
‫المناطق والطبقات والمخزون الثقافي الذي يستمد منه اإلبداع األفريقي باستمرار‪ .‬هناك عمليات إعادة‬
‫تشكيل تتعلق بالردود الجديدة على سؤال من هو األفريقي ومن ليس كذلك‪ ،‬فهناك السود الذين ولدوا‬
‫ويعيشون داخل دول أفريقيا‪ ،‬وهم من مواطني تلك الدول‪ ،‬وعلى الرغم من أن األفارقة السود يشكلون‬
‫غالبية سكان القارة‪ ،‬إال أنهم ليسوا سكانها الوحيدين‪ ،‬وليس هم فقط الذين ينتجون فيها الفن والثقافة‪ .‬لقد‬
‫كانت أفريقيا لفترة طويلة وجهة لجميع أنواع التحركات السكانية والتدفق الثقافي‪ ،‬كما كانت أيضا ا لعدة‬
‫قرون منطقة انطلق نحو مناطق أخرى من العالم‪ ،‬هذا التشتت حدث على مدار قرون ‪ ،‬وامتدت على‬
‫طول ثلثة ممرات‪ :‬الصحراء والمحيط األطلسي والمحيط الهندي‪ ،‬وشكل الشتات األفريقي الزنوج في‬
‫العالم الجديد‪ ،‬فقد لعبت العبودية دورا ا حاسما ا سواء بالعالمين األوروبي واألمريكي وكذلك بالعالمين‬
‫العربي واآلسيوي‪ ،‬في هذه العملية‪ ،‬وبسبب ذلك الدوران يمكن العثور على آثار ألفريقيا أينما انتشرت‬
‫الرأسمالية واإلسلم‪ ،‬كما حدثت هجرات أخرى كان محركها الرئيسي االستعمار‪ ،‬باإلضافة إلى الهجرات‬
‫القسرية في القرون السابقة‪ ،‬اليوم المليين من الناس من أصل أفريقي هم مواطنون من مختلف دول‬
‫العالم (‪.)Mbembe, A., 2021, P. 209: 214‬‬

‫إن األمر ال يقتصر على وجود جزء من التاريخ األفريقي في مكان آخر خارج أفريقيا‪ ،‬وهناك‬
‫أيضا ا تاريخ لبقية العالم‪ ،‬حيث األفارقة من خلل قوة الظروف‪ ،‬هم فاعلون وهم أوصياء عليهم‪ ،‬وفي‬
‫الوقت نفسه‪ ،‬فإن طريقة وجودهم في العالم وطريقة كونهم عالما ا وسكانهم في العالم‪ ،‬كانت تحدث دائما ا‬
‫تحت شعار االنتقاء الثقافي في حركه بطيئة وأحيانا ا غير مترابطة‪ ،‬مع علمات تدل على أنهم لم يكن‬
‫لديهم رفاهة االختيار بحرية‪ ،‬وألنهم نجوا بشكل عشوائي‪ .‬إن هذه الحساسية الثقافية والتاريخية‬
‫والجمالية الوعي بالتجمع هنا وفي أماكن أخرى‪ ،‬وبالوجود في أماكن أخرى والعكس‪ ،‬هذه النسبية‬
‫للجذور والمتعلقات األساسية مع المعرفة الكاملة للحقائق‪ ،‬القدرة على تمييز وجه الشخص في مواجهة‬
‫األجنبي‪ ،‬والعمل على ما يبدو أنها تناقضات – كما يشير إليها األفروبوليتانية ‪(Mbembe, A., 2021,‬‬
‫)‪.P.215‬‬

‫(*) يامبو اولوغوم كاتب مالي ولد في ‪ 22‬من اغسطس ‪ 1940‬وتوفي في ‪ 14‬اكتوبر ‪ 2017‬في مالي فازت روايته األولى‬
‫العنف على جائزة رينودو األدبية‬

‫‪100‬‬
‫إن الهوية المخصصة للسود تحت الحكم االستعماري؛ هي هوية مبنية اجتماعيا ا‪ ،‬كان التعرف‬
‫على اللون األسود شيئا ا اخترعه األشخاص البيض‪ ،‬وأن تكون أسود هو هوية مبنية توارثها الفكر‬
‫األوروبي‪ ،‬السواد ليس لونا ا فحسب‪ ،‬بل هو تركيبة خلقها المستعمرون‪ ،‬في العلقة بين األجناس يبدو أن‬
‫األشخاص البيض والسود بحاجة إلى اكتشاف الهوية األصلية كلهما يحتاج إلى اكتشاف هويته الحقيقة‪،‬‬
‫إال أنه في فترة ما بعد االستعمار لم يعد هناك تسامح مع التفوق العنصري والمزاعم العنصرية بالهيمنة‪،‬‬
‫يتم تقديم البياض على أنه خيال ابتكره األوربيون‪ ،‬لم تعد أوروبا مركز ثقل العالم ‪ .‬ويرى مبيمبي تابع في‬
‫ذلك فانون‪ ،‬إنه ال يجب البحث عن الهوية األصلية على أسس عرقية‪ ،‬بل أن هويتي هي بشريتي‪ ،‬ونتيجة‬
‫لذلك يجب على األشخاص البيض والسود أن يتغيروا‪ ،‬كلهما يجب أن يديروا ظهرهم لألصوات الل‬
‫إنسانية من الماضي (‪ ،)Beyers, J., P.5‬الهوية الحقيقة تكمن في اكتشاف اإلنسانية المشتركة‪.‬‬

‫إن المدى الذي ساعد به هذا التقليد المتمثل في التيارين الرئيسيين بشكل مباشر في تمهيد‬
‫الطريق للمناقشات النقدية حول أشكال وأساليب البحث االجتماعي والتاريخي التي سادت من منتصف‬
‫الثمانينيات إلى منتصف التسعينات لم يتم االعتراف به بشكل كاف من منظور مبيمبي‪ ،‬إال أن بحلول‬
‫التسعينيات‪ ،‬كانت دراسة أشكال الحياة وعوالم الحياة في أفريقيا قد أسفرت عن مكاسب ثمينة في أربعة‬
‫مجاالت رئيسية للحياة االجتماعية‪ ،‬وهما السمة غير الرسمية والنضال من أجل كسب الرزق‪ ،‬مسألة‬
‫التفرد بدالا من الفردية‪ ،‬منطق التنقل والتعددية‪ ،‬منطق التجريب والعمليات التركيبية؛ وقد تضمنت هذه‬
‫المكاسب على سبيل المثال على مفاهيم موسعة للعقلنية والذاتية التي لم تقتصر على الفاعل االجتماعي‬
‫والفرد والمصلحة الذاتية؛ اإلدراك بأن الذات ليست مجرد خيال أو شيء نؤمن به من خلل العادة؛‬
‫اكتشاف أن حياتنا دائما ا في طور التكوين‪ ،‬وفي أواخر القرن العشرين‪ ،‬ساعدتنا أفضل الدراسات‬
‫التاريخية والنظرية ألشكال الحياة األفريقية على فهم الهياكل التاريخية والثقافية ليست بالضرورة‬
‫انعكاسات ميكانيكية للهياكل االجتماعية واالقتصادية األساسية‪ ،‬بلهم في الواقع متساوون في المكانة‬
‫الوجودية(‪.)Mbembe, A., 2021, P.27‬‬

‫لقد فشلت حتى اآلن محاوالات تحديد الهوية األفريقية بطريقة منظمة ومرتبة‪ .‬ومن المرجح أن‬
‫يلقى المزيد من المحاوالات نفس المصير طالما ظلت انتقادات الخيال األفريقي للذات والعالم محاصرة‬
‫داخل مفهوم الهوية كجغرافيا – وبعبارة أخرى‪ ،‬الزمن كمكان‪ .‬ومن المؤكد أنه ال توجد هوية أفريقية‬
‫يمكن تسميتها بمصطلح واحد أو يمكن تسميتها بكلمة واحدة أو تصنيفها ضمن فئة واحدة‪ .‬الهوية األفريقية‬
‫ال وجود لها كمادة‪ .‬يتم تشكيلها‪ ،‬في أشكال مختلفة‪ ،‬من خلل سلسلة من الممارسات‪ ،‬وال سيما ممارسات‬
‫الذات‪ .‬ال أشكال هذه الهوية وال المصطلحات الخاصة بها هي دائما ا متطابقة ذاتيا ا‪ .‬بدالا من ذلك‪ ،‬فإن هذه‬
‫األشكال والمصطلحات هي متنقلة‪ ،‬قابلة للعكس‪ ،‬وغير مستقرة‪ .‬ونظرا ا لتلعب لهذا العنصر‪ ،‬فمن غير‬
‫‪101‬‬
‫الممكن اختزاله في نظام بيولوجي بحت قائم على الدم‪ ،‬أو العرق‪ ،‬أو الجغرافيا‪ .‬كما ال يمكن اختزالها إلى‬
‫العرف‪ ،‬إلى حد أن معنى هذا األخير يتغير باستمرار (‪.)Mbembe, A., 2002, P.271‬‬

‫لقد أثبت مبيمبي أن خصومه مخطئون في تصورهم للهوية األفريقية على أنها ليست سوى مادة‬
‫دون فاعلية بشرية‪ ،‬كما يأخذ في االعتبار كيف تخلق الشعوب األفريقية المعاصرة هوياتها‪ ،‬فالهوية‬
‫األفريقية ليست جوهرا ا‪ ،‬وأيضا ا الماضي األصيل الذي يتوق إليه كل من التيارين السابقين‪ ،‬بعيد المنال‪.‬‬
‫وبتطبيق منهجه الجديد في شكل الظواهر الوجودية‪ ،‬ينظر مبيمبي في كيفية تشكل الناس المصنفين على‬
‫أنهم سود‪ ،‬هوياتهم وسط ظروف ما بعد االستعمار الحالية‪ ،‬ويجادل بأن الممارسات العالمية قد أثرت‬
‫على حياة األفارقة في مجاالت مختلفة‪ ،‬بما في ذلك الهوية األفريقية الفردية‪ ،‬والنتيجة هي أحداث معقدة‬
‫يصوغ منها األفارقة هويتهم؛ وتقاطع التدفقات العالمية والممارسات المحلية هو موقع تشكيل الهوية‬
‫األفريقية‪ .‬ومن بين الظروف السائدة التي يصيغ منها األفارقة هوياتهم‪ ،‬هي حالة الحرب‪ ،‬وحالة الدين‪.‬‬
‫ويجادل مبيمبي بأن حالة الحرب في أفريقيا المعاصرة يجب أن تفهم على أنها تجربة ثقافية عامة تشكل‬
‫الهويات‪ ،‬كما تفعل األسرة والمدرسة والمؤسسات االجتماعية األخرى‪ ،‬ويشرح بإيجاز قسوة وانعدام‬
‫القانون في حالة الحرب‪ ،‬ويصف هذه الحالة بأنها "منطقة عدم تمييز" حيث تصبح القرارات المتعلقة‬
‫بالحياة والموت تعسفية تماما ا‪ ،‬وفي هذه الحالة يصر مبيمبي على ان األفارقة األصليين ال يزالون‬
‫يمارسون القوة والحرية على حد تعبيره‪ .‬وعن حالة الدين؛ فإن موقع تشكيل الهويات األفريقية هو اقتران‬
‫الممارسات العالمية والمحلية‪ ،‬ويجادل بأنه كان هناك نمو كبير للمسيحية بين النخبة الحضرية األفريقية‪،‬‬
‫وقد أدي توسع المسيحية إلى انشاء هياكل للمعني وتصميم الذات والمشاركة مع العالم بأسره‪ ،‬في هذا‬
‫السياق الديني‪ ،‬يتشكل المصدر الرئيسي للمعنى من خلل العلقة مع السيادة اإللهية (‪.)Tembo, J., P.5‬‬

‫يرى مبيمبي أن هذين العاملين المتمثلين في حالة الحرب وحالة الدين‪ ،‬ينتجان هويات بعيدة كل‬
‫البعد عن أن تكون متجانسة ومستقرة‪ .‬ففي حالة الحرب يتم تكوين أصدقاء جدد وأعداء جدد أيضاا‪ ،‬بينما‬
‫تفقد التحالفات القديمة وتنسي مع تغير الظروف‪ .‬وهناك نشاط مماثل لألشخاص الموجودين في دولة‬
‫الدين‪ ،‬حيث تتغير دائما ا العلقات بين الذين حددتهم المسيحية‪ ،‬تتشكل علقات جديدة غير بيولوجية بين‬
‫أفراد األسرة في نفس الوقت تتغير فيه مفاهيم السيادة اإللهية‪ ،‬وتظهر عقائد جديدة‪ .‬مبيمبي يدرك جيدا ا‬
‫الطبيعة المتشابكة للمعرفة مع ممارسات الذات‪ ،‬فهو يدرك أن أنماط التفكير السائدة تحكم الممارسات‬
‫الفردية واالجتماعية والسياسية‪ ،‬وفي نفس الوقت‪ ،‬تعلم الممارسات االجتماعية والسياسية السائدة إنتاج‬
‫المعرفة أو تكوينها‪ .‬ويختتم مبيمبي حديثة باإلشادة بضرورة االبتعاد عن التفكير في الهوية األفريقية‬
‫ضمن نموذج عنصري والذي شكل تفكيرا ا تاريخيا ا قائما ا على الخصوصية مقابل العالمية‪ ،‬وبدالا من ذلك‬
‫أن نبدأ في تنظير الهويات األفريقية من الظرف الوجودي والذي يجد منه األفارقة معني لحياتهم اليومية‪،‬‬
‫‪102‬‬
‫وذلك يستلزم إدراك األفارقة‪ ،‬أنهم مثل سائر البشر مسؤولين عن أفعالهم‪ ،‬وأن ما يحدث لألفارقة اليوم ال‬
‫يمكن أن ينسب إلى قوى اآلخر القهرية المسؤولة عن إحباط ازدهار التفرد األفريقي (‪.)Tembo, J., P.7‬‬

‫الهوية نتاج الحياة اليومية‬

‫إن حياتنا تتحد بالواقع اليومي وليس من خلل أنماط التفكير أو النظريات المجردة‪ ،‬وفقا ا لمبيمبي‬
‫فإن ما يلهم الناس في حياتهم اليومية هو مفتاح فهمهم للتطورات االجتماعية والتاريخية‪ .‬يصف مبيمبي‬
‫الحياة األفريقية اليومية المشتركة والطريقة التي يؤدى بها إلى ذلك‪ ،‬إلى شكل أفريقي محدد لبناء الهوية‪.‬‬
‫فإن الواقع المفكك‪ ،‬يقود الناس إلى تقسيم هويتهم‪ ،‬كما يتم تعديل الهوية وفقا ا للمواقف الحالية‪ ،‬وألن‬
‫المواقف اليومية مختلفة في الحياة األفريقية يمكن بذلك أن تواجه األشخاص بمطالب مختلفة‪ ،‬ومن ثم‬
‫األجزاء المختلفة للهوية متباعدة‪ .‬يرى مبيمبي أن إنشاء الهوية من منظور واحد فقط وهو منظور‬
‫النضال‪ ،‬النضال من أجل البقاء (المصير)‪ ،‬لم يرفض فكرة الهوية في حد ذاتها‪ ،‬لكنه يرفض فكرة الهوية‬
‫األفريقية الواحدة (‪ .)Ceton, C., 2005, P.121‬فمن وجهة نظر فانون فقد عجزت الدول األفريقية عن‬
‫إثبات قوميتها واحتوائها بفعل انحيازهم إلى العرق الزنجي‪ ،‬أي أنهم بدال من أن يدافعوا عن ثقافتهم‬
‫القومية ويحتوونها‪ ،‬مال اهتمامهم إلى العرق على عكس الزنوج الذين كانوا يعيشون خارج الحدود‬
‫الجغرافية األفريقية كالذين يقطنون في الواليات األمريكية الذين كان اهتمامهم منصبا ا حول ثقافتهم وليس‬
‫عرقهم على الرغم من أنه لم يكن هناك اختلف بينهم من حيث علقتهم بالبيض أو االستعمار الذين‬
‫ينظرون إليهم نظرة دونية يملؤها االحتقار(فانون‪ ،‬فرانز‪ ،‬ص‪ )174‬ولكن ذلك عكس ما ذهب إليه الشيخ أنتا‬
‫ديوب من المطالبة بالوحدة الثقافية ألفريقيا والتي على أساسها تم تحديد الهوية األفريقية من خلل العرق‬
‫الزنجي‪.‬‬

‫يرى مبيمبي أن الهوية التي يبحث عنها األشخاص‪ ،‬والمكان الذي ينتمون إليه‪ ،‬ليست ثابتة؛ حيث‬
‫تتغير بيئتنا االجتماعية باستمرار وبسرعة أكبر مما نتخيل‪ ،‬وكذلك اإلنسان يمر بمراحل مختلفة من‬
‫حياته‪ ،‬مراحل تمثل مطالبه واحتياجاته الخاصة لذلك؛ الهوية نفسها يجب أن تتكيف مع الوضع المتغير‪،‬‬
‫وتنمو جنبا ا إلى جنب مع اإلنسان المتطور‪ ،‬وبهذه الطريقة يجب النظر إلى الهوية على أنها ظاهرة تشبه‬
‫في خصائصها الكائن الحي وأن هذه الهوية سوف تتوقف فقط عندما نموت (‪.)Ceton, C., 2005, P.125‬‬

‫إن الهوية عند مبيمبي منقسمة‪ ،‬وهي أداة ولدت من الضرورة‪ ،‬وهي ضرورية لمواجهة األزمة‪.‬‬
‫إن تفسيرا مبيمبي هذا قد يعرضه للنقد وذلك بسبب صعوبة تخيل األشخاص الذين أجبرتهم الظروف على‬
‫اكتساب العديد من الهويات المختلفة‪ ،‬ولم يعد لديهم أي تفضيلت شخصية‪ ،‬كما أنه يجعل افتراض هوية‬

‫‪103‬‬
‫معينة اختيارا ا براجماتيا ا بحتا ا‪ ،‬الستبعاده أي تأثير تمارسه الخصائص الشخصية‪ ،‬علوة على ذلك‪ ،‬فإن‬
‫اختيار الهوية كرد فعل على المطالب الخارجية ينفي أي تأثير قد تمارسه الهويات المختلفة على بعضها‬
‫البعض‪ .‬بالنظر إلى تمثيل مبيمبي‪ ،‬يبدو أن جميع أجزاء الهوية المختلفة تعمل بشكل مستقل تماما ا‪ ،‬لذلك‬
‫فمن المربك أن يستمر في الحديث عنه موضوع ما‪ .‬تلك الهوية المفككة يعتقد مبيمبي أن الناس ال يقبلون‬
‫بها‪ ،‬بل سيحاولون تحقيق التماسك داخل أنفسهم‪ ،‬بالعثور على مكان يمكنهم فيه االنتماء بعد كل شيء‪،‬‬
‫لذلك يجب التعبير عن التطلع االجتماعي إلى التماسك في مفهوم الهوية ذاته‪ .‬يعتبر مبيمبي الهوية إنجازا ا‬
‫قيما ا يجب الحفاظ عليه‪ ،‬كما يحدد مبيمبي الضرورة المادية واليومية كأساس لتشكيل الهوية ( ‪Ceton, C.,‬‬

‫‪.)2005, P.124‬‬

‫وهنا يختلف مبيمبي عن موديمبي ‪ )*( V.Y Mudimbe‬والذي يرفض فكرة الهوية وينظر إليها‬
‫على أنها مأزق وعلينا تحرير أنفسنا منه‪ ،‬وفقا ا لموديمبي أن أفريقيا هي اختراع الغرب حيث احتاج‬
‫الغرب إلى مضاد له يمكنه من خلله التعبير عن هويته كموضوع عقلني‪ ،‬وهكذا أصبح األفريقي عكس‬
‫الذات الغربية‪ ،‬بل هو مفتاح الهوية الغربية نفسها‪ .‬الهوية األفريقية في تحليلت موديمبي نتيجة هياكل‬
‫القوة الغربية المختلفة‪ ،‬الهوية والقوة مترابطان بشكل وثيق‪ .‬وهو يرى أن الخطاب الغربي حول أفريقيا‬
‫واالستجابة األفريقية له‪ ،‬أرتقي إلى مستوى الصراع من أجل السيطرة على الهوية األفريقية‪ ،‬إال أن‬
‫اإلجابات التي تمت صياغتها لم تتمكن من إخراج نفسها من العقلنية الغربية ألنها تهيمن على الصورة‬
‫التي تم إنشاؤها‪ ،‬فالهوية إذن هي بناء غربي‪ ،‬لذلك؛ يرى موديمبي أن الحل الوحيد يكمن في االنفصال‬
‫الجذري عن فكرة الهوية تماما (‪ .)Ceton, C., 2005, P.114‬ولفرانز فانون رأي آخر‪ ،‬فكان كغيره من‬
‫أصحاب الدراسات ما بعد كولونيالية؛ سعى إلى دحض مسألة الهوية النقية التي ال أساس لها عبر التاريخ‪،‬‬
‫ألنها نتاج لرغبة الغرب في السيطرة على العالم‪ ،‬والهوية النقية هي األداة الوحيدة التي يمكن من خللها‬
‫للغرب الضغط على شعوب العالم‪ ،‬عن طريق أشعارها بالدونية‪ ،‬وزرع الشعور بالنقص في نفوس هذه‬
‫الشعوب‪ ،‬وبالنظر إلى أعمال فرانز فانون خاصة كتابه معذبو األرض وكتاب بشرة سودا أقنعة بيضاء‬
‫نجد أن االستعمار الغربي قد نجحا فعل في زرع الشعور بالنقص في نفوس الزنوج مما جعلهم يشعرون‬

‫(*) موديمبي هو فيلسوف فرنسي كونغولي ولد في الكونغو الديمقراطية ‪ 8‬ديسمبر ‪ ,1941‬وهو مؤرخ فلسفة ومؤلف قصائد‬
‫وروايات وكتب ومقاالت عن الثقافة االفريقية والتاريخ الفكري حصل على البكالوريوس من جامعة لوفانيوم في‬
‫الكونغو عام ‪1966‬والدراسات العليا من جامعة باريس ‪1968‬كما حصل على الدكتوراه مع مرتبة الشرف من جامعة‬
‫لوفان الكاثوليكية في بلجيكا عام ‪ .1970‬ويعتبر موديمبي ذا تأثير كبير في الدراسات األفريقية ال سيما كتابه الرئيسي‬
‫اختراع أفريقيا ‪ ,1988‬وقد حولت كتاباته التاريخ الفكري ألفريقيا من خلل اعادة بناء التاريخ المهيمن للفلسفة اليونانية‬
‫والمتميز بالعنصرية وقد تمت مقارنة تأثير كتابات موديمبي في الدراسات االفريقية بتأثير كتاب ادوارد سعيد‬
‫االستشراق في دراسات ما بعد االستعمار ويركز عمل موديمبي على الظواهر والبنيوية والروايات األسطورية‬
‫وممارسة واستخدام اللغة‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫بالدونية أمام المستعمر ألن" الزنجي بصرف النظر عن مستواه العلمي والثقافي هو في نظر الفرنسي‬
‫زنجي قبل أي شيء آخر ومن ثم فهو ذو مرتبة متدنية" ومن ثم منح المشروعية بحكم األفضلية في‬
‫التحكم فيه والسيطرة عليه(كوت‪ ،‬ديفيد‪ ،1971 ،‬ص‪ .)9‬يرى فانون أن الهوية سمة ملزمة لإلنسان‪ ،‬ال‬
‫يمكنه التجرد منها أو التنازل عنها كما يقول موديمبي‪ ،‬ألنه يعيش في نطاق الجماعة التي تتعامل معه من‬
‫منطلق الهوية‪ ،‬وهنا يميز فانون بين نوعين من الهوية‪ :‬الهوية الداخلية التي تتمثل في الثقافة بما تحمله‬
‫من دين واللغة والثانية تتمثل في الشكل الخارجي كالعرق ولون البشرة ويعتبر هذا النوع األخير أكثر‬
‫تأثيرا‪ ،‬ألن هوية صاحبه تكون ظاهرة للجميع (الميلي‪ ،‬محمد‪ ،2015 ،‬ص‪.)61‬‬

‫وبنا اء على ما تقدم يمكن استخلص إنه على الرغم من االختلف بين موديمبي ومبيمبي وديوب‬
‫وفانون إال أنهم اتفقا من حيث إن الغرب اخترع فكرة الزنجية والسواد لتحديد هويته نفسه‪ .‬كما أن الشيخ‬
‫أنتا ديوب بحث عن الهوية األفريقية داخل بوتقة العرق بينما سعى مبيمبي للبحث عن الهوية المسلوبة من‬
‫خلل الخروج عن منطق العرق‪ ،‬ذلك المنطق الذي هو في األساس إنتاج الخيال األوروبي‪ ،‬ويرى أن‬
‫أفريقيا لها مركزها الخاص وأفريقيا في نظره أكبر من مجرد كيانا ا جغرافيا ا‪ ،‬ويرى أيضا ا أن هناك تحوالا‬
‫عالميا ا في المأزق األفريقي‪ ،‬وينبغي أن يكون هذا التحول العالمي للمأزق األفريقي نقطة البداية ألي‬
‫مشروع معرفي ‪ ،‬لذلك كانت األفروبوليتانية قراءة غير عرقية لكل هذا فهي قراءة عالمية للمأزق‬
‫األفريقي (‪ ،)Mbembe, A., & Balakrishnan, S., P.31‬ولذلك تعرض تيار الشيخ أنتا ديوب للنقد من‬
‫قبل الكاميروني أشيل مبيمبي‪ .‬لقد كان من المهم من منظور مبيمي هي الطريقة التي كنا نبني بها ونعيد‬
‫بناء الذات‪ ،‬دوما ا في علقة مع كيانات أخرى‪ ،‬بعبارة أخرى ال يوجد هوية إال في المصير‪ ،‬أن ما نطلق‬
‫عليه الهوية ال يتماشى أبدأ مع االنغلق على النفس‪ ،‬واالكتفاء بالذات‪ ،‬ورفض ملقاة العالم‪ .‬لم تكن‬
‫الهوية إذن هي المهمة‪ ،‬بل الطاقة المفترض أنها تدير الظواهر الحيوية وتحرك التصرفات‪ ،‬وتعرف‬
‫الشخصية البشرية بامتياز بثرائها في الطاقة الحيوية وقدرتها على أن تكون الصدى لعديد الكائنات الحية‬
‫التي تعمر الكون (السنوسي‪ ،‬نادرة‪ ،2021 ،‬ص‪ .)141‬لقد أدرك مبيمبي أن الخطاب حول الهوية األفريقية‬
‫قد تم بناؤه من خلل نظرية المعرفة الجوهرية الغربية‪ ،‬ومن ثم فإن الموضوع األفريقي يظهر في تشابك‬
‫السياق العالمي األفريقي الغربي حيث تتشكل القوى االجتماعية والسياسية والثقافية على المستويين‬
‫المحلى والعالمي باستمرار‪ .‬تحليل مبيمبي فيما يتعلق بالموضوع األفريقي وعلقته بالغرب جعل عمله‬
‫الفلسفي ال يتعلق فقط بالشعوب األفريقية والشعوب المنحدرة من أصل أفريقي في أجزاء أخرى من العالم‬
‫بل أيضا ا بالعالم الغربي‪.‬‬

‫إن سعى مبيمبي إلى تحليل الخطاب األفريقي حول أفريقيا محاولة لتصحيح ما وقع فيه الفلسفة‬
‫األفارقة من أخطاء أثناء مناقشة الموضوع األفريقي وما تعنية أفريقيا وما تعنيه الهوية األفريقية‪ ،‬إال أن‬
‫‪105‬‬
‫محاولته أدت في النهاية إلى رفض كل الخطابات األفريقية السابقة ووضع شكل جديد للكتابة األفريقية‪،‬‬
‫ووضع منظور جديد لما تعنيه أفريقيا خارج اإلطار العرقي والجغرافي‪ .‬وبرغم من أن عمل مبيمبي يشير‬
‫إلى التقدم لألمام بالنسبة للفكر األفريقي وفكر ما بعد االستعمار إال أنه ارتكب خطأ فادح في مطالبته‬
‫بتجاوز الماضي تماما ا‪ ،‬ومهما يكن من وقوع السابقين في أخطأ مثلما يرى مبيمبي‪ ،‬فإن ذلك ال يقلل من‬
‫قيمة الجهود المبذولة من قبل الفلسفة السابقين‪ ،‬بل أن جهودهم تعد نقطة انطلق أساسية لفكرته حول‬
‫الهوية األفريقية‪ .‬أيضا ا فكرة مبيمبي عن أن الهوية نتاج الحياة اليومية تعنى ذلك أن الهوية متغيرة‬
‫ومختلفة من شخص آلخر وفقا ا الختلف الظروف التي يمر بها كل فرد ووفقا ا لمعتقداته الدينية والسياسية‬
‫واالجتماعية لذلك ال يوجد تعريف موحد أو حتى شيء ثابت ومطلق حول تعريف الهوية وربما كان‬
‫هدف مبيمبي البحث عن الهوية من منظور فردي وهو بذلك اختلف عن ديوب الذي كان يبحث عن هوية‬
‫جماعية ذات محددات ومعالم ثابتة للزنجي األفريقي‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫ثالثا ا‪ :‬نقد مبيمبي للسلطة السياسية األفريقية‬

‫وفي إطار البحث عن الهوية المفقودة؛ بعدما انتقد مبيمبي الخطابات األفريقية المناقشة للموضوع‬
‫األفريقي يتجه مبيمبي إلى عملية تنظير للسلطة السياسية‪ .‬وفي هذا المبحث نتناول موقف مبيمبي‬
‫ونظريته المتميزة التي أسهم بها في الدراسات ما بعد االستعمارية والتي توضح موقفه من قضايا متعددة‬
‫منها؛ كيف قامت سلطة ما بعد االستعمار األفريقية بتكرار واستيعاب هياكل السلطة التي تم إدخالها من‬
‫خلل االستعمار‪ ،‬من خلل طرح عدة تساؤالت منها؛ كيف بدا حال الشعوب األفريقية بعد االستعمار؟‬
‫هل تم إنهاء االستعمار الفعلي أم كان إنهاء ظاهري فقط؟ وما الدور الذي لعبته السياسة االستعمارية في‬
‫مرحلة ما بعد االستعمار؟ وما هي الصورة التي عليها السلطة السياسية بعد االستعمار‪.‬‬

‫يرى مبيمبي أن المستعمرة في التجربة األفريقية هي أرض احتلت للسيطرة على سكانها وجمع‬
‫ثرواتها؛ بحيث إن ممارسة السيادة واالبتزاز كان جزء ال يتجزأ من هذا الترتيب‪ .‬واالستيلء على أرض‬
‫يعنى وضع األرض تحت هيمنة المحتل‪ .‬لذلك يجمع االحتلل االستعماري الخصائص الثلث التالية؛‬
‫أوالا‪ ،‬مسألة االستحواذ على السيادة‪ .‬ثانيا ا‪ ،‬الشروع في االحتلل العسكري لضمان وجود المكون‬
‫العسكري‪ ،‬والغالب أنه نتج عن سلسلة من األعمال الحربية‪ ،‬لذلك فهو قائم على القوة برغم من‬
‫المعاهدات وااللتزامات التي انتزعت بالحيلة في الغالب‪ ،‬وعليه فإن السيادة في المستعمرة مستمدة من‬
‫األمر الواقع وليس من القانون‪ ،‬وتتميز برذيلة العنف من البداية‪ .‬ثالثا ا‪ ،‬االحتلل االستعماري؛ يقوم على‬
‫ما هو أكثر من مجرد تجميد قانون الدولة المحتلة‪ ،‬إذ إنه يجرده من صفة مالك األرض التي أصبحت‬
‫سلطة االستعمار منتفعة بها‪ .‬ومن ثم يوجد علقة وثيقة في التجربة األفريقية بين االحتلل واالستملك‪.‬‬
‫االحتلل االستعماري بوجه عام ال يتميز برذيلة العنف‪ ،‬ولكن برذيلة السلب‪ ،‬ففي التجربة األفريقية‪،‬‬
‫تكون المستعمرة أرضا ا في األساس يهيمن الغازي على حقوق المحليين ويسعى للسيطرة عليها بل قيود‬
‫(األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)249-247‬‬

‫وفقا ا لرؤية مبيمبي السياسية؛ إن ما جاء بعد االستعمار له أوجه تشابه واختلف هام مع ما حدث‬
‫أثناء االستعمار؛ له أوجه تشابه من حيث النظام السياسي الحالي‪ ،‬حيث ورثت السمات المميزة للسيادة‬
‫االستعمارية والتي ترتكز على ثلثة أنواع من العنف‪ ،‬األول هو العنف التأسيسي‪ ،‬الذي أرسي حق‬
‫الغزو‪ ،‬ثانيا ا الشرعية التي حولت العنف المؤسسي إلى سلطة تفويض‪ ،‬وثالثا ا نشر واستمرارية هذه‬
‫السلطة‪ .‬ويصف مبيمبي السمة الفريدة للنظام السياسي ما بعد االستعمار مقارنة بالنظام االستعماري‪-‬‬

‫‪107‬‬
‫باعتباره أسطورة بشعة للسلطة تتشكل من خلل علقة وثيقة بين الحاكم والمحكومين‪ ،‬مما أدى إلى نظام‬
‫غير واقعي‪ ،‬ففي هذه المرحلة تتميز باقتران السعي العنيف الخاص للسلطة الحاكمة إلى العظمة‪ ،‬مما‬
‫يجعل االبتذال والخطأ أسلوبها الرئيسي في الحياة (‪.)Mbembe, A., 2019, P.194-195‬‬

‫في البلدان المستعمرة نجد الخاضع للستعمار غريب في مسقط رأسه‪ ،‬كما أن فكرة المساواة‬
‫السياسية أو المدنية بين جميع سكان المستعمرة ليست رابطا ا بين أولئك المقيمين فيها‪ ،‬تستند صورة‬
‫الهيمنة في المستعمرة إلى التأكيد على أنه ال يقع على الدولة واجب اجتماعي تجاه الخاضع للستعمار‪،‬‬
‫ومثلما كان الحال في النظم االستعمارية‪ ،‬كذلك النظم األفريقية حيث لم يكن احترام األفراد كمواطنين لهم‬
‫حقوق وحرية المبادرة هي الخاصية الرئيسية للنظم األفريقية والتي تظهر اآلن أزماتها وتحللها (اليوبي‪،‬‬
‫أمين‪ ،2022 ،‬ص‪ .)64‬أيضا ا في الحقبة االستعمارية ظهرت ما يسمى بنظرية المجتمع المدني‪ ،‬وكانت‬
‫القضية المحورية لهذه النظرية هي اختراع وسيلة الحتواء صور النزاعات الناجمة عن تضارب‬
‫المصالح وتسويتها‪ ،‬وانصب االهتمام الرئيسي لهذه النظرية في البداية على أعمال العنف وجرائم القتل‪،‬‬
‫أيضا ا يشير مفهوم المجتمع المدني إلى نظرية تقسيم طبقي اجتماعي واإلجراءات التي يتم من خللها‬
‫ترسيخ ذلك التقسيم‪ ،‬ومن منظور مبيمبي؛ فإن هذه النظرية ال يمكن تطبيقها بشكل واقعي على األوضاع‬
‫األفريقية بعد االستعمارية من دون إعادة تأويل المدلوالت التاريخية والفلسفية التي تشير إليها ‪ ،‬مهما‬
‫يكون من األمر في منظور مبيمبي فإن األفريقيين أعادوا بسرعة صور الدولة واألساس المنطقي‬
‫االستعماري‪ ،‬هذه اإلعادة لم تقتصر على المؤسسات فقط بل أيضا ا تمثلت في المجاالت المادية وفي مجال‬
‫التصوير الخيالي‪ ،‬باختصار النموذج السياسي لدولة ما بعد االستعمار ما هو إال محاكاة للنموذج‬
‫االستعماري(اليوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)70-66‬‬

‫على الرغم من إنهاء االستعمار عن أفريقيا إال أن القوى االستعمارية ما زالت مسيطرة على‬
‫االقتصاد األفريقي كما أنها قامت بفرض ضرائب على الدول األفريقية تدفع حتى اآلن‪ ،‬مما سبب ذلك‬
‫عبئا ا على المواطن األفريقي‪ .‬وبعودة أفريقيا إلى النظام االقتصادي العالمي بعد القضاء على تجارة العبيد‬
‫وبطريقة شملت استخراج مواردها في شكل خام‪ ،‬استمر نظام العنف والوحشية حتى نهاية القرن عبر‬
‫نظم االمتيازات‪ ،‬بحصول الشركات الكبيرة على امتيازات تجارية وتعدينية وحقوق سيادية‪ .‬وقد أدت‬
‫التطورات إلى تنامي مديونية الحكام المحليين والنخب التجارية في جميع المناطق إلى خسارة الكيانات‬
‫السياسية األفريقية نفوذها الخارجي‪ ،‬كما أنها أصبحت أمام تهديدات االنحلل الداخلي‪ ،‬وأمام تلك‬
‫التطورات؛ عدلت األفكار التي راودت األفراد تجاه عضويتهم في مجتمع سياسي‪ ،‬وشكل ذلك المجتمع‪،‬‬
‫فقد أعيد رسم كل شيء صور الهويات الدينية وإضفاء الشرعية على السلطة وبناء الحقوق االجتماعية‬
‫والسياسية والواجبات وما إلى ذلك‪ .‬ورغم ذلك يرى مبيمبي أن بهذه الصورة ال ينبغي أن ننظر إلى‬
‫‪108‬‬
‫أفريقيا بأنها تعود إلى الوراء وأنها تعيد سيناريو الماضي‪ ،‬فبرغم وجود بعض خصائص النموذج‬
‫االستعماري اإلمبريالي المبكر‪ ،‬إال أن صورة نزع أحشاء القارة لم يكن متطابقا ا مع النموذج القديم‬
‫(اليوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)113-111‬‬

‫في إطار تحليل مبيمبي لوضع الدولة في الفترة ما بعد االستعمارية نجده يصف الوضع المتردي‬
‫بأن الدولة فقدت قدرتها على التنظيم والفصل بين النزاعات‪ ،‬ولم يعد لديها وسائل مالية وسلطة إدارية‬
‫وأنواع سلع تمكنها بوجه عام لتوصل إلى حلول سياسية لنزاعات اندلعت في المجال العام وأدت في العالم‬
‫كله إلى عنف كان احتواءه في السابق ممكنا ضمن حدود مقبولة بشكل أو بآخر‪ ،‬وبعد إن لم يعد لدى‬
‫الدولة مزيد من الحقوق لمنحها أو احترامها‪ ،‬وبعد إن لم يوجد ما يمكن توزيعه‪ ،‬لم يعد لها قيمة لدى‬
‫الناس‪ ،‬وكل ما تبقي هو التحكم بقوة القمع في سياق تميز بالدمار المادي وانعدام تنظيم دوائر االقتراض‬
‫واإلنتاج وانهيار لمفاهيم الصالح العام والمنفعة العامة والقانون والنظام‪ ،‬والنتيجة زيادة في الموارد‬
‫والعمالة المكرسة للحرب وازدادت عدد النزاعات التي تتم تسويتها بالعنف‪ ،‬وكثرة صور خصخصة‬
‫العنف القانوني‪ .‬وبنا اء على ما تقدم تهاوت هيمنة إدارة الدولة جزئيا ا بفعل تأثير تلك السياسات‪ ،‬تلك‬
‫الوضعية للمجتمعات األفريقية بعد االستعمار تجعل تصنيفها بأنها مجتمعات بل دول‪ ،‬لذلك تظل أرضا ا‬
‫خصبة لظهور أشكال الحكم الخاص غير المباشر‪ ،‬وذلك يدور في سياق تميز برفع الضوابط عن‬
‫األسواق والتحركات المالية في العالم‪ ،‬وبعجز الدول بعد االستعمار عن سداد ديونه أو حتى زيادة فرض‬
‫الضرائب‪ .‬إن ما نشهده في أفريقيا هو تأسيس القتصاد سياسي مختلف واختراع نظم قمع واستغلل‬
‫جديدة‪ ،‬وذلك يتيح لنا القول بأن االزدهار والديمقراطية ال يمكن أن يولدا على المدى الطويل من رحم‬
‫الجريمة (اليوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)143 ،124 ،118‬‬

‫إ ن اهتمام مبيمبي في تلك الحقبة ينصب على الطرق التي من خللها تبني سلطة الدولة عالم‬
‫معانيها الخاص وذلك عبر ممارسات إدارية وبيروقراطية‪ ،‬ومن ثم تسعى الدولة إلى إضفاء طابع‬
‫مؤسسي على عالم المعاني هذا بصفته عالما اجتماعيا تاريخيا‪ ،‬فالقيادة في حقبة ما بعد االستعمار تسعى‬
‫إلى إضافة طابع مؤسسي على نفسها لتحقق الشرعية والهيمنة في صورة معبود مقدس(*)‪ ،‬ويمكننا القول‬
‫إن التفكير في السلطة هنا قد تأسس على أساس ذي طابع إلهي ويكون الحاكم هنا هو المعبود ومن ثم فإن‬
‫إرادته تسموا على إرادة المحكومين (إمام‪ ،‬عبدالفتاح‪ ،1994 ،‬ص‪ .)22‬ويتخذ مبيمبي الكاميرون نموذجا ا‬

‫(*) طابع العبودية هذا اشبه بما وصفة الدكتور امام عبد الفتاح امام في كتابة الطاغية دراسة لصور االستبداد السياسي والذي‬
‫كان يناقش اضفاء الطابع المقدس على شخص الحاكم ومن ثم يمارس كل انواع االستبداد ويسن القوانين كيفما يشاء وال‬
‫يستطيع أحد االعتراض عليه والتشابة هنا في حالة الكاميرون هو اضفاء الطابع المقدس على شخص الحاكم مع‬
‫الممارسات التي يتم بها تغييب الشعب من خلل االدارات المعاونة للحاكم‪ ،‬وبحكم االلفة بين المحكومين والحاكم ال يتم‬
‫أي نوع من انواع المقاومة ضد السلطة الحاكمة‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫لتحليله‪ ،‬فهي تظهر كحالة دراسة كيف أن الفسق والفجور (الزخرفة والسفاهة) ‪،grotesque‬‬
‫‪ obscene‬خاصيتان جوهريتان تحددان نظم الهيمنة بعد االستعمار‪ ،‬باعتبار أن البشاعة والفاحشة مجال‬
‫الناس العاديين وهما وسيلة لمقاومة الثقافة المهيمنة وكملذ منها ‪،‬هما محاكاة ساخرة تقوض الطبقة‬
‫المسؤولة بإظهار مدى اعتباطها وضعفها وتحويلها إلى هدف للسخرية‪ ،‬ويعتقد مبيمبي أن هذا الرأي ليس‬
‫باطلا في المطلق لكن يجب إذا أردنا حل المشكلة أن نزيل الغطاء عن استخدام هذه السلوكيات في حياة‬
‫الناس العاديين‪ ،‬ونحدد زمان ومكان المناسبات التي تنظمها سلطة الدولة الستعراض عظمتها في شكل‬
‫درامي‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ومن خلل هذا المنظور يمكننا فهم أن علقة ما بعد االستعمار ليست علقة مقاومة بل‬
‫علقة اجتماعية تكتنفها حقيقة أن القيادة واتباعها يتقاسمان مكان العيش نفسه‪ ،‬وهذا يسمي منطق األلفة‪،‬‬
‫وهو ما يفسر لما ال توجد مقاومة من قبل المحكومين إزاء السلطة الحاكمة‪ .‬لذلك فإن الذات التابعة بعد‬
‫االستعمار عليها امتلك قدرة مميزة على إدارة هوية واحدة بل أنها تتحلي بمرونة كافية للتفاوض متى‬
‫لزم األمر‪ ،‬هذه الذات ال تظهر إال في حالتين‪ ،‬األولى‪ ،‬في الشعائر اليومية التي تصادق على إضفاء‬
‫القيادة على نفسها طابع مؤسسي كمعبود يرتبط به الذات التابعة‪ ،‬والثاني في إبداء الذات التابعة موهبة‬
‫اللهو والحس الفكاهي مما يجعلها إنسان مميز‪ ،‬هذه الممارسة تمكن الذات من تقسيم هوياتها وتقديمها‬
‫كهويات تغير شخصيتها وتنقسم باستمرار في الحيز الرسمي أو غيرة‪ ،‬وهذا يؤدى إلى أن العلقة بعد‬
‫االستعمار ال يمكن تفسيرها وفقا ا لمبدأ المقاومة(اليوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)150-146‬‬

‫ثم ينتقل مبيمبي بعد ذلك في دراسته حول وضع النظام السياسي األفريقي بعد االستعمار؛ إلى‬
‫مسألة استخدام البذاءة والفاحشة في ممارسة العنف والهيمنة في دراسة ُكرست لما يمكن تسميته‬
‫"بالسخرية السياسية في توغو"‪ ،‬حيث وصف توالبور ‪ Toulabor‬كيف أن المواطنين تحت حكم‬
‫الحزب الواحد طوروا طرقا لفصل الكلمات عن معانيها التقليدية واستخدامها لمعان أخرى‪ ،‬ويوضح كيف‬
‫بنوا مفردات كاملة غامضة وموازية للخطاب الرسمي‪ .‬إن توغو هي المثال النموذجي على بناء ما بعد‬
‫االستعمار‪ ،‬استخدم الخطاب الرسمي كل الوسائل اللزمة للحديث عن مجتمع خال من النزاعات‪ ،‬غير أن‬
‫الدولة تم تجسيدها في شخص واحد هو الرئيس‪ ،‬يحكم بالقانون بمفرده‪ ،‬وفي مقدوره وحسب مشيئته منح‬
‫الحريات أو حظرها‪ ،‬وعلى هذا النهج صرح رئيس الكاميرون قائلا "جلبت لكم الديمقراطية والحرية‪...‬‬
‫لديكم اآلن حرية‪ ،‬فأحسنوا استخدامها"‪ .‬وقد زعم الحزب الواحد في البلد السيطرة على مجمل الحياة‪،‬‬
‫معلنا ا وحدة الشعب الذي لن يسمح بوجود انقسامات فيه‪ ،‬وحظرت كل الخلفات سواء إداري أو قسراا‪.‬‬
‫لكن في ظل مجتمع محروم من الموارد يصبح هناك تباين بين الصورة التي تقدمها الدولة عن نفسها‬
‫وطريقة تعامل الناس معها‪ ،‬والشعب بعيد عن طبقة المسؤولين لكنه ضمن الدوائر التي جمعوا فيها على‬
‫المأل لتأكيد شرعية الدولة (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)151‬‬

‫‪110‬‬
‫لذلك؛ كان هناك طرق الفرار من القيادة‪ ،‬ومن خلل الهوس والفكاهة والتي سيطرت عليها‬
‫مصطلحات األعضاء الجنسية‪ ،‬والتي يمكن فهم سيطرة مثل هذه الكلمات في حقبة ما بعد االستعمار ألن‬
‫القيادة ذاتها تميزت بالخلعة والفجور والمهرجانات واالحتفاالت هما األداتان الرئيسيتان للنغماس في‬
‫هذا الميل‪ .‬كان إسقاط هذه الكلمات في الخطابات الشعبية على العالم الحقيقي‪ ،‬إفادات حية عن الواقع‬
‫المعاش‪ ،‬كما أنها ساهمت في صنع الثقافة السياسية بعد االستعمار‪ ،‬حيث أصبح البدن هو المحل الرئيسي‬
‫للمصطلحات والخياالت المستخدمة في تصوير السلطة (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪ .)154-153‬يوضح‬
‫مبيمبي إذن كيف أن الشعب لجأ إلى السخرية والفكاهة واستخدام األلفاظ المبهمة للتعبير عن التناقض بين‬
‫ما تعلنه السلطة الحاكمة وبين الواقع المعاش كما أنها وسيلة للهروب من سطوة السلطة فبدالا من‬
‫المواجهة المباشرة تم توظيف النقد اللذع عبر عبارات وإشارات جنسية وهي محاولة للتخفي من بطش‬
‫السلطة وأيضا ا للتنفس عبر الفكاهة والسخرية‪.‬‬

‫ثم ينتقل مبيمبي بعد ذلك لوصف الممارسات السلطوية من خلل تفخيم األحداث الرئاسية ولو‬
‫كانت بسيطة يتم تصديرها للشعب على أنها عمل وإنجاز ينسب للحاكم من خلل االحتفاالت واإلجازات‬
‫وإنتاج قصص خيالية‪ .‬هذه السمة لم تقتصر على الكاميرون فقط بل تتقاسمها معه دول أفريقيا األخرى‬
‫جنوب الصحراء الكبرى بعد االستعمار (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪ .)169‬إن الكاميرون قد طورت عن‬
‫وعي بعد االستقلل نظام احتفاالت شديد الشبه باالحتفاالت الشيوعية من حيث انتحالها سمات شبه دينية‬
‫ودوجماتية يمكن لمسها بسهولة في االقتصاد العام للحياة العامة‪ ،‬فقد أنتجت االحتفاالت التي نظمت في‬
‫على الدوام تعبيرا ا عاطفيا ا ورمزيا ا قويا ا ‪ ،‬كان لها طابع تكراري‬ ‫(*)‬
‫السنوات األخيرة من عهد أهيدجو‬
‫ألسطورة وزمن متعاقب في النهاية‪ ،‬اكتسبت بانتظامها قوة العادة‪ .‬وأصبح هوس الوالة هو كتابة الماضي‬
‫على صورتها الخاصة أبرز سمات النظم التي وصلت إليها السلطة في الكاميرون منذ حقبة االستعمار‪.‬‬
‫إذن في عالم الذات يمثل في حقبة ما بعد االستعمار تدعي الفرق للرقص شهادة على المكان المركزي‬
‫المخصص للجسد في عمليات القيادة والخضوع‪ ،‬تستخدم األجساد في االحتفاء بالقوي من خلل‬
‫االحتفاالت واالستعراضات الرسمية‪ ،‬بينما كانت أجساد المدنيين والعمال في ظل الحكم االستعماري هي‬
‫أشياء تمت االستعانة بها على أداء األشغال العامة والعتالة (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)179-174‬‬

‫السفاهة إذن لم تكن مجرد فئة أخلقية تشكل إحدى طرق ممارسة السلطة بعد االستعمار‪ ،‬لكنها‬
‫إحدى الدوائر التي تجدد فيها الذوات أيضا ا على تلك السلطة أو تقويضها‪ ،‬ويرى مبيمبي أن الذين عزوا‬

‫أحمدو أهيدجو‪ ،‬سياسي ينتمي إلى الحركة الديمقراطية للشعب الكاميروني‪ ،‬وهو اول رئيس لجمهورية الكاميرون في‬ ‫(*)‬

‫الفترة من ‪ 1960‬حتى ‪ ،1982‬من انجازاته توحيد الكاميرون البريطانية مع الكاميرون الفرنسية‪ ،‬توفي في داركار‬
‫بالسنغال في ‪ 30‬نوفمبر ‪.1989‬‬

‫‪111‬‬
‫هذه الممارسات إلى الخاضعين للسيطرة مخطئين‪ ،‬إن إنتاج المساخر ليس حكرا ا على تلك المجموعة‪ ،‬بل‬
‫تنضم إليها مجموعة أخرى رغبة منها في أبهة معينة وتغطي نفسها بصور محاكاة رخيصة للسلطة‬
‫إلعادة إنتا ج النمط الرئيسي لوجودها‪ .‬وهذا هو في نظر مبيمبي الهدف الذي تجب دراسة أفريقيا فيه‪،‬‬
‫ضمن حدود هذه العلقة الوثيقة (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)196‬‬

‫أيضا ا في إطار تحليله للسلطة بعد االستعمار؛ ينتقل مبيمبي إلى دراسة دور الصور في ظل‬
‫السلطة الما بعد االستعمارية‪ ،‬وما الهدف الذي تؤديه‪ .‬ويرى أنه على الرغم من أن الصور والرسومات‬
‫يمكن فهمها على أساس أنها ضد اللغة إال أنها تتميز بقدرتها على ضم ما تمثله وتحاكيه في عملية إعادة‬
‫تمثيل‪ ،‬بحيث تحجب قدرة اعتباطية وقدرتها الخاصة على اإلبهام والمحاكاة والتحريف‪ ،‬وعندما يدرس‬
‫مبيمبي الشيء وأشباهه في الرسوم الكرتونية الكاميرونية‪ ،‬ال يعتمد التمييز الذي يعد الصور جزءا من‬
‫مجال معين‪ -‬المجال التصور المرئي‪ -‬على الضد من مجال حقائق اللغة كما تسمي بحق‪ .‬ال تنتمي علمة‬
‫الكتابة بالصور إلى مجال الرؤية على سبيل الحصر؛ وهي ال تقع في مجال الحديث أيضاا‪ .‬إنها صورة‬
‫بلغية في حد ذاتها‪ ،‬وهذه البلغة تعبر عن نفسها ال من أجلها أو كطريقة وصف وسرد وتمثيل للحقيقة‬
‫وحسب بل وكاستراتيجية معينة في اإلقناع أو حتى العنف‪ .‬يرى مبيمبي أن دراسة التعبيرات التصويرية‬
‫في الكاميرون المعاصرة تستلزم وضعها في سياق تاريخي‪ ،‬كما تستلزم توضيح مكانتها األنثروبولوجية‬
‫ضمن الثقافات التي تشجع عليها‪ .‬لذلك فهو يسعى إلى توضيح بعض السمات لثقافة ما بعد االستعمار‬
‫بالتركيز على أحد الجوانب المتمثلة في كيفية التعبير التصويري للحاكم المستبد‪ ،‬وكيف أن الحاكم المستبد‬
‫واقع يتم التعبير عنه في رسم كرتوني ساخر ومعبر عن السلطة بعد االستعمار (اليوبي‪ ،‬أمين‪،2022 ،‬‬
‫ص‪.)199‬‬

‫يبين مبيمبي أن السمات المشتركة للثقافة الشعبية الحضرية ‪urban popular culture‬‬

‫(‪ ،)Mbembe, A., 2001, P.146‬التي على أساسها توسع الصور وتأخذ معانيها‪ .‬أوالا‪ ،‬يجري تكوين هذه‬
‫الثقافة بطريقة ملموسة وتدريجية‪ .‬ثانيا ا‪ ،‬إنها تخترع ذاتها وتحولها في سياق دراماتيكي‪ .‬ونظرا ا لألوضاع‬
‫المعيشية المادية لعامة الناس‪ ،‬أدت إلى أشكال من االحتجاج المفرط والذي أدت إلى زيادة القمع واشتداد‬
‫االستبداد‪ ،‬والنتيجة هي االختفاء عن األنظار فجأة‪ .‬ويبرز التعبير التصويري في الكاميرون المعاصر في‬
‫التعليق على الحاكم الذي يمارس هيمنة تجمع بين الفنتازيا الوحشية والضحك الصاخب‪ ،‬وتبادل ال يتوقف‬
‫لأللم واللذة بين الفاعلين والضحايا‪ ،‬باختصار االستمتاع الشديد بالسلطة‪ .‬ثم ينتقل مبيمبي لوصف حالة‬
‫الطاغية المستبد‪ ،‬واصف إياه بسبب الطغيان أنه يعيش دائما ا حالة من الرعب وخصوصا ا بالليل‪ ،‬حيث‬
‫ينتابه إحساس مخيف باالختناق والعذاب‪ ،‬حيث يعيش في كابوس‪ .‬هذا الحاكم المستبد متواجد بالصور‬
‫المعلقة في كل مكان‪ ،‬وليس هذا فقط بل هو أيضا ا حقيقة صوتية ألن خطاباته تذاع عبر أثير الراديو بل‬
‫‪112‬‬
‫ومع األغاني الشعبية‪ ،‬أيضا ا المستبد يوجد بصورة افتراضية في متناول اليد – وجهه على العملة الوطنية‪،‬‬
‫وعلى ملبس يرتديه مواطن‪ ،‬واسمه في اإلستاد أو المطار‪ ،‬باختصار هو موجود في كل مكان (األيوبي‪،‬‬
‫أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)215‬‬

‫ومع وجود المستبد في كل مكان‪ ،‬نجد أنه متنوع الوظائف‪ ،‬فهو ال يتحكم فقط بمصير الدولة‪ ،‬بل‬
‫ويشارك في حياة الفلحين‪ ،‬أيضا ا في قطاع صيد السمك والفن والرياضة والطهو‪ .‬إن المستبد موجود في‬
‫الوقت ذاته في موقع‪ ،‬وفي لحظة‪ ،‬وفي حيز زمني‪ ،‬وفي عدد من األنشطة الحالية واللحقة‪ ،‬هو يتحدى‬
‫الفناء ألنه رئيس مدى الحياة‪ .‬وبسبب هذه التعددية‪ ،‬فإن المستبد شيء‪ ،‬وشيئيته في أنه صورة ذاتية تحيط‬
‫بالمرء يتعامل معها ويمكن أن يتخذها المرء ممثلا لذاته أو مرشدته‪ .‬هكذا يصبح المستبد حاضرا ا في‬
‫المخيلة كذات شرعية موثوقة بالمعايشة‪ ،‬وهذا المهني يجيز القول بأن المستبد يسعى إلى الذاتية المطلقة‪.‬‬
‫إن الجميع في دولة المستبد ينطلقون من مبدأ ليس هناك عمل بل قيمة‪ ،‬الناس يعملون بجد وبهدف البقاء‪،‬‬
‫فالحياة ليست سوى صراع دائم‪ ،‬ولذلك يعرف الشخص العادي نفسه بأنه مكافح (األيوبي‪ ،‬أمين‪،2022 ،‬‬
‫ص‪ .)218-216‬إن المستبد ليس لديه حدودا ا لما قد يفعله من الناحية الفعلية‪ ،‬ال يوجد شيء يوقفه سوى‬
‫القوة الغاشمة التي جعلته خادما ا لدولة أجنبية‪ ،‬هذه هي القوة التي يحسب لها ألف حساب‪ ،‬وهي أيضا ا القوة‬
‫التي ممتن لها لحصوله منها على ما يلزم لبقائه‪ .‬من خلل هذا التصور يمكن القول بأن السلطة بعد‬
‫االستعمار بناء لنوع معين‪ ،‬نوع محدث هلوسة‪ ،‬وهي سمة تنتقل من ترتيبات يستحضرها راسم الصور‬
‫الكرتونية بامتياز؛ أوالا‪ ،‬يتم إنتاج السلطة وممارستها في صورة مجسدة‪ .‬ثانيا ا‪ ،‬السلطة ملموسة في المقام‬
‫األول (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)230‬‬

‫من خلل التحليل السابق لمبيمبي عن السلطة ما بعد االستعمارية؛ نجد أن مبيمبي يفضح‬
‫ممارسات سلطة الدولة الحاكمة وخاصة في الكاميرون‪ ،‬من خلل تحليل خطاباتها السلطوية والتي‬
‫اعتمدت لغة الرمز والعلمة بهدف السيطرة على المواطنين وإخضاعهم لها‪ .‬أيضا ا تفكيك الدول األفريقية‬
‫بعد االستعمار من خلل بيع أصولها واحتكار سلطة الدولة للخدمات وخصخصة القطاع العام‪ ،‬حيث‬
‫أصبحت الثروة في يد فئة من رجال األعمال الذين دخلوا مع الدولة في علقة شراكة رأسمالية‪ ،‬فقد‬
‫شهدت الكاميرون تراجعا كبيرا ا على المستوى االقتصادي‪ ،‬مثلها مثل كثير من الدول األفريقية (قطب‪،‬‬
‫خالد‪ ،‬ص‪ .)16-15‬إن السلطة ليست مجرد قهر مادي فقط وإنما تعتمد أيضا ا على جوانب نفسية‬
‫واقتصادية واجتماعية وتاريخية (إمام‪ ،‬عبد الفتاح‪ ،‬ص‪ .)18‬لقد عبر مبيمبي عن علم الوجود ما قبل‬
‫االستعمار من التبادلية في محاولة إلظهار كيف يتم التعبير عن السلطة والتنازع عليها في الكاميرون ما‬
‫بعد االستعمار‪ ،‬وقد استخدم خطاب التمثيل من خلل فئة الصور إلظهار كيف أستمر خطاب الصورة‬
‫على الرغم من تحوله من حقبة ما قبل االستعمار إلى ما بعد االستعمار كوسيلة للفكر والتواصل‪ ،‬أيضا ا‬
‫‪113‬‬
‫يوضح كيف يتم استخدام فئة الصورة في أفريقيا ما بعد االستعمار للتحدث إلى السلطة ومع السلطة‪ .‬يريد‬
‫مبيمبي في شرح دور الصورة في فترة ما بعد االستعمار وكيف تم الحصول عليها من فترة ما قبل‬
‫االستعمار لفت االنتباه إلى مفهوم التغيير في بعض المجتمعات األفريقية (‪.)Gerber, S., 2019, P.5‬‬

‫علقة الدين والسياسة من منظور ما بعد استعماري‬

‫وبعد نقد مبيمبي لسلطة ما بعد االستعمار ينتقل إلى مناقشة أحد المواضيع المهمة في إطار‬
‫مشروعه أفريقيا ما بعد االستعمار أال وهي العلقة بين الدين والسياسة متتبع التطور التاريخي لها؛ كيف‬
‫ومتى تم إقحا م الدين مع السياسة‪ .‬وفي الواقع أن خلط الدين بالسياسة يؤدى إلى أضرار جسيمه في‬
‫المجتمع كما أنه يعمل على القضاء على بعض الهويات تحت المسمى الديني‪ .‬لقد انطوت علقة الدين‬
‫بالسياسة على العديد من اإلشكاليات والتي برزت على السطح منذ أكثر من ثلثة عقود‪ ،‬وقد أصبح طرح‬
‫العديد من القضايا السياسية من منطلق ديني من قبل النخب السياسية أمرا ا عاديا ا‪ ،‬وهي ظاهرة لم تقتصر‬
‫على المجتمعات األفريقية النامية‪ ،‬بل انتشرت في جميع أنحاء العالم‪ ،‬حيث أنتشر العديد من األحزاب‬
‫الدينية معلنه برامج واضحة تنفي فيها وجود اآلخر وترفض وجودة‪ ،‬بينما طرح النظام العالمي الجديد‬
‫مفهوم تقسيم العالم إلى أخيار وأشرار‪ ،‬وهو مفهوم يتنافى مع المفاهيم السياسية السائدة‪ ،‬حيث إن تلك‬
‫المفاهيم دينية وأخلقية في المقام األول وليست مفاهيم سياسية‪ ،‬وذلك يعطي دالالت واضحة عن توظيف‬
‫النخب السياسية للدين ليخدم مصالحها‪ ،‬كذلك اقترنت ظاهرة تسيس الدين بالعنف‪ .‬وقد ساهم سوء‬
‫األوضاع السياسية واالقتصادية في معظم الدول‪ ،‬في تصاعد المد الديني في المجتمعات األفريقية‪ ،‬حيث‬
‫برزت أزمات االندماج الوطني واكتفت النظم الحاكمة األفريقية بالقيام بدور استخراج ثروات البلد دون‬
‫القيام بالدور التوزيعي لهذه الثروات‪ ،‬في إقصاء للعدالة االجتماعية والسياسية (ذكي‪ ،‬عبير‪،2015 ،‬‬
‫ص‪.)7‬‬

‫أولا اليهودية والتمييز الثني‬

‫يفترض مبيمبي مسبقا ا أن ما من عمل ديني إال وهو على غرار العمل الجنسي‪ ،‬العمل الديني ال‬
‫ينفي العنصر الحسي أبداا‪ .‬اللون والصوت والظواهر المرئية ليست غريبة عن العمل الديني‪ ،‬هذه‬
‫العمليات الحسية تشارك في رغبة الذات التابعة في إزالة الفارق بين النفس والروح من أجل امتلك‬
‫الروح مع السماح بأن النفس تخضع للروح وتتحد في نفس الوقت‪ .‬واالتحاد في الذات اإللهية‪ ،‬يطلق‬
‫عليه مبيمبي اسم التوحيد‪ ،‬وهو مفهوم شديد الغموض ويرجعه بعض الباحثين إلى مصر القديمة‪ ،‬إلى‬
‫عصر نجحت فيه غزوات األسرة الفرعونية السابعة عشرة إلى رفع مصر إلى مصاف اإلمبراطوريات‪،‬‬

‫‪114‬‬
‫توسعت مصر شماالا وجنوبا ا إلى أن شمل سلطان الفرعون األقطار اآلسيوية واألفريقية المجاورة‪ ،‬وهذه‬
‫اإلمبريالية قد انعكست على الجانب الديني في بلورة أفكار جديدة‪ ،‬وفي عصر أخناتون ازدادت هذه‬
‫األفكار الدينية الجديدة تعقيدا ا‪ ،‬وعلى الرغم من أن أخناتون جعل عقيدة آتون إلى مصاف دين رسمي‪،‬‬
‫وجعل آتون اإلله الواحد األحد‪ ،‬وكان يريد أخناتون بذلك دين عالمي‪ ،‬إال أن هذه المحاولة لم تدم طويلا‪،‬‬
‫حيث انهارت تلك العقيدة وعادت في مصر العقائد السابقة وسادة عقدة الشرك مرة أخرى(برستيد‪،‬‬
‫جيمس‪ ،‬ص‪ .)284‬لقد استعارت إسرائيل في وقت الحق مفاهيم وطرقا في الحديث عن اإلله الواحد والتي‬
‫ظهرت في مصر القديمة وغيرها في منطقة الشرق األدنى‪ ،‬ووضعها في إطار منهجي‪.‬‬

‫للتوحيد خمسة مطالب مهمة يجب توافرها؛ األولى‪ ،‬الهيمنة وتعني أن اإلله الواحد بالضرورة‬
‫يسيطر ويهيمن على كل شيء‪ ،‬ال ينوب عنه شيء‪ ،‬وقائم بذاته‪ .‬ثانيا ا‪ ،‬الكلية وتعني أن كل نظام توحيدي‬
‫قائم على مفهوم اجتماع السيادة‪ ،‬وذلك ضد تعددية اآللهة‪ .‬ثالثا ا‪ ،‬التفرد بمعنى أن ال يكون اإليمان بإله‬
‫واحد مختلفا عن العالم ممكنا إال إذا ترافق مع رفض صور العبادة األخرى‪ ،‬فوحدانية اإلله منافية لعبادة‬
‫إله آخر‪ ،‬كما أن وجود هذا اإلله الواحد حاضر في تاريخ شعب معين مختار ومكلف برسالة فريدة أيضاا‪،‬‬
‫ومن خلل هذا الشعب تتجلى اآلثار الربانية في تاريخ البشر ككل‪ ،‬وبموجب العهد القديم فقد وقع االختيار‬
‫الرباني على إسرائيل‪ ،‬والتي أوكل إليهم محاربة عبادة األصنام‪ ،‬وفي وقت الحق وبموجب التفسير‬
‫المسيحي للختيار اإللهي وبمجيء يسوع وحادثة صلبه المزعومة إلى تجاوز العهد القديم إن لم يكن‬
‫نسخة‪ ،‬وإلى استئثار الكيسة بصفة شعب يهوه المختار‪ ،‬ومن تلك اللحظة ومع إقامة العهد الجديد متلزمة‬
‫مع تحويل األمم الوثنية إلى عبادة هللا الحقيقي (التبشير في أفريقيا)‪.‬رابعا ا‪ ،‬القدرة المطلقة والتي تعني كما‬
‫أشار فيورباخ (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪ )286-285‬إن بوجود القدرة المطلقة توجد التبعية التي تحرر‬
‫الذات من كل القيود الموضوعية‪ ،‬معرفة هللا عند فيورباخ هي معرفة اإلنسان بذاته‪ ،‬والدين هو الوسيلة‬
‫التي يتخذها اإلنسان في البحث عن نفسه‪ ،‬ففي جوهر المسيحية تصور فيورباخ هللا على أنه نتيجة لتجريد‬
‫اإلنسان من السمات البشرية ومن مميزات الجنس البشري ككل بمعني االختلف التام بين صفات الذات‬
‫اإللهية والذات البشرية‪ ،‬إال أن فيورباخ يرى أن باعتبار هللا هو الوجود اللنهائي بمعني حرية اإلرادة‬
‫والوعي بالذات بمعني إنه هو انعكاس لذاتية اإلنسان وأن الخطوط األساسية في مفهوم شخص هللا مطابقة‬
‫تماما في مفهوم اإلنسان(عطية‪ ،‬أحمد‪ ،2019 ،‬ص‪ ،)279-258‬إال أن في مرحلة الحقة في تفسير الدين‬
‫عند فيورباخ يرى أن الكائن الذي يختلف عن اإلنسان وليس لديه أي صفات بشرية ليس شيئا ا آخر سوى‬
‫الطبيعة‪ ،‬وأن الدين الصحيح هو الدي ن الذي يشعر فيه اإلنسان بالتبعية والذي يدرك فيه اإلنسان أنه ال‬
‫يستطيع الوجود دون كائن آخر مختلف عنه‪ ،‬لذلك فإن الدين عند فيورباخ يبدأ من شعور اإلنسان‬
‫بالتبعية(عطية‪ ،‬أحمد‪ ،2019 ،‬ص‪ ،)279‬وبتلك القدرة المطلقة إمكانية االفتراض الذاتي وترجمة هذا‬

‫‪115‬‬
‫االفتراض إلى حقيقة‪ ،‬ومع ذلك فإن القدرة المطلقة والعناية اإللهية متلزمان من خلل فكرة الخلص‪،‬‬
‫هللا بالقدرة المطلقة خلق العالم من ال شيء‪ ،‬وبعنايته ينقذ العالم في مقابل ال شيء‪ ،‬وتشير في النهاية إلى‬
‫أصول كل األشياء ونهايتها‪ .‬خامسا ا وأخيرا ا مفهوم التوحيد ملزم لمفهوم آخر وهو مبدأ أول األشياء‬
‫وآخرها‪ ،‬ليس هناك توحيدا إال فيما يتصل بوجود حقيقة تحدد أسس العالم وأهدافه وتوجد أصل كل‬
‫المعاني أيضاا‪ ،‬ويجوز القول إن التوحيد طريقة لصياغة المعرفة المتصلة بالغايات األخيرة‪ ،‬ومسألة‬
‫تحديد الحقيقة والغايات النهائية هي النموذج األول بالتأكيد لمسألة سياسية (اليوبي‪ ،‬أمين‪،2022 ،‬‬
‫ص‪.)286‬‬

‫نشأ خطاب اإلنسان حول وحدانية هللا في إسرائيل القديمة عند نقطة تقاطع عوامل داخلية‬
‫وخارجية‪ ،‬وكانت الركيزة الرئيسية هي المصير المشئوم ألمة واجهت سلسلة كوارث وانقطاع تاريخي‪.‬‬
‫وقد أدت االضطرابات إلى إثارة مسألة الهوية والوجود السياسي لدولة ومجتمع سحق بالقدرة اإللهية‬
‫لذلك؛ أتخذ الخطاب اإلنساني حول وحدانية هللا مكانة سياسية من البداية‪ ،‬إال أن عبادة اإلله الواحد لم‬
‫تتوطد على الفور‪ .‬إن ضعف إسرائيل وطبيعة وضعها على الخريطة االقليمية جعل هذه النزاعات أشد‬
‫خطرا ا‪ ،‬لذلك نجد أن الخطاب التوراتي حول وحدانية هللا الوجه الثاني للجدل السياسي حول ضعف‬
‫إسرائيل‪ ،‬كان وسيلة لتفسير الضعف‪ .‬لكن ما هي الطريقة إلى انتهجتها إسرائيل القديمة في حل مفارقة‬
‫هذا الضعف التاريخي لشعب افترض أن هللا اختاره من ناحية‪ ،‬ومبدأ السيادة المطلقة لهذا اإلله‪ ،‬وهي‬
‫القضية التي برزت بشدة مع الهزائم المتتالية وأزمات الهوية على انعدام المركزية السياسية‪ ،‬على الرغم‬
‫من هذه األزمات فقد وجدت في الخطاب الديني ما يميزها (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)290-289‬‬

‫لقد بني الميثاق بين الشعب المختار وإلهه على مبدأين؛ لم يكن يهوه مقصد العبادة الوحيد بل كان‬
‫ملك إسرائيل الوحيد أيضاا‪ .‬ومن ذلك الحين أخذ كل خطوة نحو المركزية السياسية‪ .‬ويشكل اإليمان ب‬
‫يهوه النظام الفكري الوحيد الذي يمكن تصوره‪ ،‬وكان هناك رفض منح الملك البشري وسيادة يهوه منزلة‬
‫متساوية‪ .‬مما سبق نجد أن المفهوم التوراتي للوحدانية يتطابق بدرجة كبيرة مع خطاب سياسي متصل‬
‫بمفاهيم الملك والسيادة أي بموضوع الحكم‪ .‬إن القوانين التي كانت تميز اليهود عن غيرهم كان شاهد على‬
‫نزعة اإلقصاء ومنطق االنغلق (اليوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪ .)292‬بالنظر إلى التاريخ اليهودي نجده‬
‫يعرض ملمح كبيرة لكن هذا التاريخ تفسده سمة االنغلق كما تفسده نقص الثقافة وظهور الخرافة التي‬
‫أدت إلى تصور القيمة العليا لجنسهم الخاص (عطية‪ ،‬أحمد‪ ،‬ص‪ .)183‬أن االنغلق اليهودي بتحديد المولد‬
‫واألرض الجغرافية أشبه بما قام به األفارقة في خطابتهم عن الهوية والتي حددتها بعض الخطابات باللون‬
‫األسود وبالميلد داخل أفريقيا‪ ،‬والذي قام مبيمبي بتوجيه النقد لتلك الخطاب لما فيه من عدم مناقشة‬

‫‪116‬‬
‫القضية بشكل أوسع وأعم لتشمل األفارقة غير السود واألفارقة الذين ولدوا خارج القارة ولكنهم ينتمون‬
‫ألصول أفريقية ومن ثم فلم تكن النتائج التي توصلوا إليها لم تكن دقيقة بالوجه الصحيح‪.‬‬

‫ثانيا ا المسيحية والخروج من دائرة النغلق اليهودي‬

‫سعت المسيحية إلى تجاوز االنغلق اليهودي حين حظرت تمييز اليهود عن غيرهم مصرحة‬
‫بأن أي إقصاء قائم على أصل اثني ال معنى له‪ ،‬ومؤكدة أنه يفترض بمجتمع اإلنسانية من ذلك الحين أن‬
‫يصل السيد بالعبد‪ ،‬هذه األفكار جعلت من المسيحية ديانة فاتنة بسبب قدرتها الساحرة‪ .‬بانفصال المسيحية‬
‫عن اليهودية‪ ،‬أعادت المسيحية األلوهية إلى إطار العلقات األسرية ووضعتها في عالم أُسري يضم ولدا ا‬
‫ووالدة‪ ،‬في هذه الظروف أصبح اإلله إلها ا له ذرية ونسبت والدة االبن إلى األب كما أن االبن ولد من‬
‫امرأة‪ ،‬لكن دون علقة حقيقية بين األب واألم‪ ،‬ولكن عن طريق روح القدس‪ .‬وبالمحددات المجردة‪،‬‬
‫يتجرد اإلله من منطق أ ُسري صرف‪ ،‬إنه أب وولد في آن واحد‪ ،‬وبما أن الولد نشأ في رحم امرأة‪ ،‬فكانت‬
‫األم ملزمة‪ ،‬ولذلك أصبحت األنوثة مبدأ مكملا لمفهوم الواحد‪ .‬وبذلك تبدو األسرة اإللهية منصهرة‬
‫بالضرورة‪ ،‬ليس هناك فارق بين األب واالبن وال بين االبن وروح القدس وال بين األب واألم‪ .‬للبن‪.‬‬
‫وبعد حسم مسألة النسب‪ ،‬أصبح كتابة سيرته الذاتية ممكنة‪ ،‬وهي سيرة استثنائية بالطبع؛ ألنها تتمحور‬
‫حول شهادة ميلد وشهادة وفاة على عكس السير الذاتية األخرى‪ .‬تميزت تلك السيرة بمأساة تتضاعف‬
‫بمصير المعاناة غير العادي‪ .‬كان موته حقيقة وليست مجازيا ا‪ .‬وفي موته حقائق كثيرة‪ ،‬من ناحية تضمن‬
‫موته نوعا ا خاصا ا من االتصال‪ ،‬اتصال خلصي‪ ،‬فقد أظهر هذا اإلله قدرة استثنائية على بعث الخلص‬
‫من خلل عملية الموت‪ ،‬وفي هذا الصدد يوجد شيء طقوسي في موته‪ .‬ومن ذلك الحين أصبحت سلطة‬
‫المسيحية الحالمة تستند إلى مقولة الخلود‪ ،‬وفي انبعاث المسيح كما يقول فيورباخ يلبي رغبة اإلنسان في‬
‫اليقين الفوري على الصعيد الوجود الشخصي بعد الموت‪ ،‬وفي الخلود الشخصي كحقيقة ال جدال فيها‪.‬‬
‫كان ذلك مصير المسيحية قبل بيروقراطيتها وتحولها إلى ماكينة سلطة‪ .‬ولذلك نشأ الخطاب المعنى‬
‫بوحدانية اإلله على مر التاريخ كقضية سردية‪ ،‬والخطاب المعنى باإلله من حيث مبادئه واسسه هو‬
‫خطاب معنى بوجود البشر (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)299-196‬‬

‫إن المسائل الكبرى مسألة حكم العالم وحضارة مجاالت الموت‪ .‬إن مفهوم انبعاث الموتى في‬
‫المسيحية ليس جديدا ا‪ ،‬إنه تطور قبل ذلك في أسطورة إيزيس وأوزيريس بمصر القديمة‪ ،‬ففي تلك‬
‫األسطورة سردت قصه إله عاد إلى الحياة بالكامل في صورة شخص (يوسف‪ ،‬إكرام‪ ،2005 ،‬ص‪-145‬‬
‫‪ ،)148‬ووجه اختلف هذه القصة عن انبعاث المسيح أن اإلله أوزيريس لم يكن موجودا ا في شخصه‪ ،‬بل‬

‫‪117‬‬
‫الطقوس التي تحمل اسمه نشأت كتقليد في الجنائز الملكية وشاعت بالتدريج‪ ،‬وعندما تبنتها المسيحية‬
‫ووطدتها‪ ،‬كان تشبيه االنبعاث حول إلى إمكانية متاحة لكل الموتى (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)301‬‬

‫مما تقدم ومن خلل تحليل أشيل مبيمبي لعلقة الدين بالسلطة السياسية‪ ،‬واإلشارة إلى مصر‬
‫القديمة‪ ،‬واألثر الذي أخذته منها اليهودية‪ ،‬وكذلك المسيحية والتي تأثرت بأسطورة إيزيس وأوزيريس‪،‬‬
‫وفكرة اإلله الذي قام بعد موته‪ ،‬إشارة ضمنية لما سبق أن أشار إليه الشيخ أنتا ديوب من أثر العقيدة‬
‫المصرية القديمة على اليهودية والمسيحية‪ ،‬مما يُفيد األسبقية لمصر القديمة في مفهوم التوحيد أو حتى في‬
‫مفهوم البعث والخلود المسيحي‪ ،‬تلك األفكار التي كانت ضمن‪ ،‬ثورة تنويرية قديمة أطلت بنورها على‬
‫العالم القديم‪ ،‬وقد انطلقت من مصر القديمة‪ ،‬مع مراعاة الفروق بين هدف كل من مبيمبي وأنتا ديوب‬
‫حول مناقشة وظهور مصر القديمة‪ ،‬فبينما ناقشها ديوب من منظور أسبقية حضارة وفكر وأنها أصل وما‬
‫جاء من بعدها صور مشتقة منها‪ ،‬نجد مبيمبي ناقشها من منظور التطور التاريخي إلقحام الدين في مجال‬
‫السياسة‪ ،‬وكيفية إضفاء الطابع الديني على السلطة السياسية‪.‬‬

‫بالمقارنة بين المذهب التوحيدي في التوراة واإلنجيل؛ نجد أن مذهب التوراة مبني على مخيلة‬
‫قبلية اتصفت بتحول إلى الداخل وإغلق للذات‪ .‬بينما نجد أن التوحيد في المسيحية قام على فكرة السلطان‬
‫العالمي في الزمان والمكان‪ .‬إن تاريخ المسيحية تاريخ بروز هيمنة طائفة حولت منزلتها العامة‪ ،‬بدأ‬
‫انتشار وجود الكنيسة في مجتمعات العصور الوسطى منذ أن تخلى المسيحيون عن توقع نهاية وشيكة‬
‫للعالم‪ .‬وانخرطت الكنيسة بعد ذلك في كل جوانب الحياة‪ ،‬وأفضت عملية إقامة المؤسسات‬
‫والبيروقراطيات بين القرنين الرابع والسادس إلى منح الكنيسة مظهر ماكينة مهيبة‪ .‬وقبيل القرن الحادي‬
‫عشر‪ ،‬أدت تطورات أخرى إلى نزاعات بين البابوية واإلمبراطورية حول مجاالت السلطة‪ .‬فقد استند‬
‫تأكيد المكانة السياسية للمسيحية إلى مفهوم يوجب التحقق التاريخي من الوحي‪ ،‬يكمن في صلب هذه‬
‫العقيدة مشروع شمولي رأي في السياسة أداة ألزمة‪ ،‬مثل العالم ككل‪ ،‬وبكل أنشطته ومداه المجال الذي‬
‫مارس فيه المسيح سلطانه‪ ،‬ونشأ عن منزلة المسيح كرئيس البشرية‪ ،‬زعم المسيحية وجود إمبراطورية‬
‫عالمية‪ ،‬وبافتراض أن سلطان المسيح يشمل العالم بأسره‪ ،‬تولت الكنيسة واألمراء مسؤولية إشهاره في‬
‫العالم‪ ،‬وضمنها االقتصاد العالمي افتُرض أن الكنيسة تؤدى دور الوسيط‪ ،‬وكان األمير الحاكم أداة في يد‬
‫اإلله‪ ،‬فخدم الرب السماوي في حكم العالم‪ ،‬وهنا يظهر مفهوم كهنوتي للسلطة الملكية المتجذرة في فكرة‬
‫سيادة إلهية معينة ومهمتها كونية‪ ،‬وكان واجب السلطة الزمانية بناء مجتمع مسيحي‪ ،‬لذلك عارضت‬
‫المسيحية المفهوم التوراتي والعالم المنغلق‪ ،‬رغبة في التوسع المسيحي‪ ،‬وأكثر نموذجا ا على ذلك‪ ،‬سياسة‬
‫تحول المعتقد(اليوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪ .)303-301‬وبفضل هذا التحول يفترض حصول تغير في‬
‫هوية الذات التابعة التي تتبدل بشكل ملفت وبذلك تصل إلى ذاتها الحقيقية التي تجعل نور اإليمان يشع من‬
‫‪118‬‬
‫داخلها‪ .‬هذا التحول يكتمل من خلل الحياة اليومية‪ ،‬ومع ذلك ال يأخذ معناه الكامل إال في نهاية الحياة في‬
‫االنتقال من الوجود إلى القبر ثم إلى الحياة األبدية (اليوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)308‬‬

‫وذلك يعني أن في المسيحية اتخذت الكنيسة سلطه سياسية بجانب سلطتها الدينية‪ ،‬وأن كل فعل‬
‫سياسي له غلف ديني‪ ،‬ومن ثم ال يمكن فصل الدين عن السياسة في المسيحية وكذلك أيضا ا في اليهودية‪،‬‬
‫على الرغم من أن المسيحية رفضت االنغلق اليهودي وسعت إلى االنفتاح على العالم‪ ،‬إال أن اليهودية‬
‫رغم انغلقها لم تفصل السياسة عن الدين ويبدو ذلك واضحا ا في احتلل اليهود لفلسطين فهو احتلل‬
‫عسكري سياسي ولكنه في حقيقة األمر احتلل بهدف ديني في المقام األول‪ ،‬وأن السبب الرئيسي إلقامة‬
‫دولة إسرائيل هو في األساس ديني من أجل الحفاظ على الهوية الدينية لليهود حتى لو كلفهم األمر القضاء‬
‫على الهويات األخرى‪ .‬لذلك؛ ال يمكن بأي حال من األحوال إغفال دور الدين وعلقته باألوضاع السياسة‬
‫وفي تأثيره على الهويات المختلفة؛ وأثره أيضا ا على الهوية الزنجية‪.‬‬

‫الدين وعلقته بالهوية الزنجية‬

‫بعد مناقشة علقة الدين بالسياسة ينتقل مبيمبي إلى مناقشة العلقة بين الدين والهوية الزنجية‬
‫ويأخذ نظاما اإلسلم والمسيحية نماذج باعتبارهما أحد أقدم غلفي الهويات الزنجية في بعض مناطق‬
‫القارة على األقل‪ .‬ويرى مبيمبي أن اإلسلم يجمعه تقاليد مختلفة‪ ،‬واالمتياز الذي تعطيه لإليمان في تحديد‬
‫العلقات بين الهوية والسياسة والتاريخ‪ .‬وكانت السلطة التي تحملها هذه التقاليد سلطه فاتحه‪ ،‬وان طرق‬
‫الحكم واالعتقاد وممارسة التجارة مرتبطة فيما بينها‪ ،‬وقد اختلف اإلسلم عن غيره من الديانات األخرى‬
‫في أفريقيا بالطريقة التي يجعل من اإليمان صدى للفعل الحربي‪ .‬اإلسلم من وجهة نظر مبيمبي ال يمتنع‬
‫عن استعمال القوة وأسلوب معين للعنف‪ ،‬حيث إن الحروب المقدسة العتناق الدين قصري مقبولة‬
‫ومشروعه لضرورة االستقامة والخلص‪ .‬وألن القوانين الدينية تحدد صفه االنتماء واإلقصاء فإن خارج‬
‫تشكيلة األمة المؤمنة يعد كفرا ا‪ ،‬وكل ما يقع خلف حدود العالم اإلسلمي يمكن غزوه ووقوعه تحت نير‬
‫العبودية‪ ،‬وتعد أفريقيا في المقدمة‪ ،‬وبرغم ذلك العنف فإن اإلسلم يقدم نفسه لمعتنقيه على شكل حياة‬
‫كاملة الحقوق (اليوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)138‬‬

‫وعن النظام الثاني المتمثل في المسيحية‪ ،‬نجد انه هيمن على العلقة اليهودية المسيحية بأفريقيا‬
‫موضوع الظلمات؛ ففي الرواية اليهودية – المسيحية تشكل أفريقيا الكناية عن السقوط‪ ،‬مأهولة بأشكال‬
‫انسانية مقيدة بالظلم بعيده عن الرب وذلك؛ هو جوهر الوثنية‪ .‬وقد اتخذ العنف في اليهودية والمسيحية‬
‫صورة مغايرة لإلسلم؛ صورة الرحمة والورع‪ ،‬فهما مشروع يتمثل في فك القيود من خلل مشروع‬

‫‪119‬‬
‫ووعد بحياة جديدة وعلقة جديدة بين هذا العالم وعالم الحدث الذي به وعد بالخلص‪ ،‬وللحصول على‬
‫ذ لك الوعد يجب التخلي عن وجود فإن‪ ،‬هذا التحول يمحو كل هويه منفصلة ويلغي االختلف ومن ثم‬
‫إدراك بشرية كونية‪ .‬ويرى مبيمبي أن مشروع التعميم هذا هو نفسه في االحتلل الذي؛ يقدم نفسه بصفته‬
‫وليد األنوار‪ ،‬مثله مثل اإلسلم والمسيحية‪ ،‬الغاية منه إدراج المستعمرين في مجال الحداثة‪ ،‬لكن فظاعته‬
‫ووحشيته ونيته السيئة حاالت دون ذلك (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)139‬‬

‫يرى مبيمبي أن الهويات األفريقية المعاصرة لم تتكون بمرجعية إلى ماض معيش لألبد‪ ،‬وإنما‬
‫بوضع الماضي قاب قوسي شرط االنفتاح على الحاضر والحياة الجارية‪ ،‬ففي وجه المشروع اإلسلمي‬
‫قدم األفارقة نوعا ا من االندماج الخلق‪ ،‬بينما كانت هيمنة الكتاب المقدس نسبية‪ .‬فقد أنتجت أفريقيا‬
‫المسلمة مثقفين ومصلحين أعادوا كتابه اإلسلم ذاته والهوية األفريقية بانتباه إلى تفاصيل الوضع‬
‫والمكان‪ .‬ومن هذا المسار برزت أنواع عديدة من الخطابات اإلسلمية وتعددية الثقافات السياسية حول‬
‫الديني (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪ .)140‬ويرى أنه في أفريقيا المسلمة توجد عده روابط تربط العوالم‬
‫العربية بالعوالم الزنجية األفريقية؛ وعلى الرغم من أن الطرق الدينية تفرقت حول األقطاب الجغرافية‬
‫التي انتشرت بها؛ وبرغم ذلك البعد بينهما‪ ،‬كان هناك رابط يصل المهاجر بالمكان الذي انطلق منه‪ ،‬وقد‬
‫تكونت الهوية من خلل االشتراك بين الطقوس الدينية األصيلة وإيقاعية االبتعاد‪ .‬لقد أعطت الحدود‬
‫حصة كبيرة للهويات المتنقلة والحركة‪ ،‬فكان االرتباط باإلقليم وباألرض في أفريقيا سياقا ا كلياا‪ .‬وكانت‬
‫العبقرية تكمن في التكيف‪ ،‬ذلك أن الهويات الدينية بنيت بتجميع كلمات تدل على أشياء مختلفة في لغات‬
‫متنوعة‪ ،‬نتيجة لذلك يعد اإلسلم األرشيف األكمل حول تشابه في تكوين الهويات في أفريقيا (األيوبي‪،‬‬
‫أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)143-141‬‬

‫إن اإلجابة األفريقية حول مشروع التعميم اليهودي المسيحي لم تقل تعقيدا ا عن اإلسلم‪ ،‬ففي‬
‫اقتفاء أثر خطاب المذهب الفطري؛ تبلور علم اللهوت المسيحي األفريقي منذ بداياته حول مفهوم‬
‫الضياع ومحو الهوية الذي حصل بين العقيدة المسيحية وعوالم الدالالت المحلية‪ ،‬ومع ذلك فإن التاريخ‬
‫واألنثروبولوجيا الحديثة يبينان أن الممارسة الفعلية كانت غير ذلك‪ ،‬بعيدة عن أن تكون حركة إلغاء‬
‫الذات‪ ،‬سيعاد تناول المسيحية دون تجريدها من مصطلحاتها مكسوة ببقايا ما تركه األسلف‪ ،‬وسيظهر‬
‫الزنوج أشبه بحقل كبير من اإلشارات وبعدما ت ُحل شفرتها تفتح بابا ا لكثير من الممارسات البعيدة عن‬
‫األرثوذكسية‪ ،‬وسيستوحي األفارقة منها مجتمعهم وتاريخهم‪ ،‬ومن ثم ستمثل المسيحية لألفارقة شيئا ا من‬
‫الجمال لما لها من قوة ساحره ال يمكن التقليل منها مثلها مثل االستعمار بها توليفة الرعب واإلغراء‬
‫مترجمة في مقولة الخلص والفداء‪ ،‬ومن وجهه النظر هذه تعد المسيحية بالنسبة للزنوج رغبه في السيادة‬
‫متمثلة في فكره بعث األموات(األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪ .)144‬مما سبق يؤكد مبيمبي أنه ال يمكن أن‬
‫‪120‬‬
‫يوجد خطاب حول األشكال المعاصرة للهوية األفريقية ال يأخذ في الحسبان العبقرية الهرطيقية التي كانت‬
‫أساس التلقي بين أفريقيا والعالم‪ ،‬ومن هذه العبقرية تنبع قدرة األفارقة على توطين عوالم عديدة وتقع‬
‫على جهتي الصورة في آن واحد (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪ .)145‬وفقا ا لما سبق يرى مبيمبي ضرورة‬
‫األخذ في االعتبار دور الدين في تكوين الهوية الزنجية وهذا ما تجاهلته األنماط التقليدية للكتابة األفريقية‪،‬‬
‫وهو يرى أن للدين دورا ا مهما ا في تكون الهويات الزنجية في الوقت المعاصر‪.‬‬

‫في الربع األخير من القرن العشرين‪ ،‬كان هناك عودة إن لم يكن لألخلق في حد ذاتها‪ ،‬بل على‬
‫األقل في أسلوب التفكير األخلقي القانوني الذي يشرك سياسيا ا المسائل الصعبة المتعلقة بالعنف‬
‫والمقدس‪ ،‬اإلرهاب والقانون‪ ،‬الحياة والموت والسيادة‪ .‬إن األشكال الجديدة من النقد السياسي ال تولي‬
‫اهتماما ا عرضيا ا للهوت‪ ،‬بل انخرطت في مواجهة صريحة مع اللهوت ذاته‪ ،‬وعلى الرغم من النقد‬
‫الجديد هذا‪ ،‬فإن الدين كلغة وكقوة جيوسياسية ال يزال يتم تحليله بطريقة مختزلة‪ ،‬مثال على ذلك‪ ،‬أحداث‬
‫صعود حركات النهضة اإلسلمية المعاصرة‪ ،‬ال يزال ينظر إليها على أنها تعبيرات عن التقاليد التي‬
‫تعرقل تقدم الحداثة والديمقراطية‪ ،‬كما أنه ال يزال ينظر إلى التقليد على أنه غير عقلني‪ ،‬فكثيرا ا ما قيل‬
‫إن الوجود البشري في عالم اإلسلم أساسه الراسخ في اإلرادة اإللهية‪ ،‬وهذا يقود إلى االعتقاد بأن في‬
‫المجتمعات اإلسلمية‪ ،‬من المستحيل جوهريا ا ممارسة العقل‪ .‬دين العقل يعني ضمنيا ا بأنه ال يوجد مكان‬
‫للعنف الشديد‪ ،‬وهذا بالطبع يوجد في اليهودية والمسيحية من وجهة نظر منتقدي اإلسلم‪ .‬وردا ا على تلك‬
‫النزعة والتي تعتبر في حد ذاتها شكلا من أشكال العنف – أنفق الكثير من العلماء قدرا ا ال يصدق من‬
‫المال والوقت والطاقة إلظهار عدم التوافق بين الدين والعقل في اإلسلم‪ ،‬وهذا ليس له علقة بالنص‬
‫القرآني في حد ذاته ولكن بالطريقة التي أصبحت بها السلطة السياسية تحتل في اإلسلم مكانة هللا‬
‫المتعالية‪ ،‬لذلك انشغل العديد من العلماء المسلمين بمحاولة إظهار أن الموارد الفكرية واإلبداعية لإلسلم‬
‫نفسه تسمح بفعل الديمقراطية (‪.)Spivak, G., 2007, P.150-151‬‬

‫ومن خلل رؤية مبيمبي حول موضوع الدين يتبين لنا أنه من الموضوعات المهمة والتي لم تحظ‬
‫بالتحليل المفصل؛ ويعطي مثلا باإلسلم الذي يتم تحليله من قبل المعارضين له بأنه يعرقل التقدم‬
‫والديمقراطية وباعتباره دين عنف وهو بذلك عكس اليهودية والمسيحية‪ ،‬موضحا ا أن النص القرآني لم‬
‫يكن هو المقصود بالنقد ولكن السلطة السياسية ألنها أخذت مكانة هللا المتعالية؛ وفي حقيقة األمر نجد أن‬
‫بعض الجماعات اإلسلمية أساءت لإلسلم وأعطت صوره خاطئة للمخالفين للعقيدة عنه‪ ،‬فاإلسلم دين‬
‫العقل ودين الحرية ودين السلم ودين الشوري والديمقراطية‪ ،‬وأن ما يصدر من تلك الجماعات المتطرفة‬
‫ال يمس للعقيدة بصلة‪ ،‬اإلسلم لم يدعوا إلى العنف بل إلى المجادلة بالتي هي أحسن‪ ،‬اإلسلم لم يدعوا‬
‫إلى الدكتاتورية بل أمرهم شوري بينهم‪ ،‬اإلسلم دين الحرية كل نفسا ا بما كسبت رهينة‪ ،‬اإلسلم دين‬
‫‪121‬‬
‫العقل والتدبر أفل يتدبرون‪ ،‬أفل يعقلون‪ ،‬أن كل التهم التي تلصق باإلسلم؛ هو بريء منها لذلك كان‬
‫هناك عبئا ا على كاهل العلماء المسلمين المدافعين عنه لتوضيح حقيقته ‪.‬‬

‫إن العلقة بين الدين والسياسة تاريخيا ا‪ ،‬كانت دائما ا علقة ضرورية ولكنها مستحيلة‪ ،‬فكل لقاء‬
‫بين السياسة والدين انتهى دائما ا بإعادة تشكيل كل مجال من جديد‪ .‬يرى مبيمبي أن من الموضوعات‬
‫المهيمنة في عصرنا؛ هو موضوع الفداء أو الخلص (وهو مرتبط بالقضية الفلسطينية والتي سيتم‬
‫الحديث عنها في المبحث التالي)‪ ،‬ويتساءل مبيمبي هل يمكن فصل الحديث عن الدين عن الخطاب حول‬
‫الخلص ‪ -‬أي خطاب عن المقدس؟‪ ،‬إال أن ليس كل أشكال المقدس بالضرورة بالمعنى الدقيق للكلمة‬
‫"ديني"‪ ،‬يمكن القول إن بعض أشكال القداسة لها علقة باإلرهاب أكثر من ارتباطها بالخلص‪ ،‬إذا كان‬
‫هناك علقة بين اإلرهاب والخلص‪ ،‬فإن ذلك يعني تناقضا أصليا للدين‪ -‬حقيقة أن قانون الخلص يتطلب‬
‫التضحية‪ ،‬وهي التي تظهر بوضوح في المسيحية التي تدعوا إلى التضحية بالتضحية‪ .‬كما يتساءل مبيمبي‬
‫إلى أي مدى يتطلب الوعد بالخلص دائما ا تحديد "الشر أو الشيطاني" والتعامل معه؟‪ ،‬في المسيحية أن‬
‫الروح القدس من المفترض أن يفصل بين الصواب والخطأ ويقود الحملت ضد كل ما هو شيطاني‪ ،‬وفي‬
‫اليهودية على وجه الخصوص‪ ،‬فإن فكرة الفداء ال يمكن أن تتحقق دون الخراب والدمار‪ ،‬الفداء يشمل‬
‫الدمار واإلرهاب‪ .‬في الديانات اإلبراهيمية اقتراح على األقل بأن دائما ا عنصر الرعب يكمن في قلب‬
‫اإلله‪ ،‬الكارثة ال يجب الخوف منها بل يجب توقعها كجزء من خطة هللا‪ ،‬وهذا هو حجر الزاوية لبعض‬
‫العنف الذي نشهده في عالمنا اليوم (‪.)Spivak, G., 2007, P.154‬‬

‫يعتقد مبيمبي أن هناك تحوال ثقافيا وسياسيا ا في الحياة المعاصرة‪ .‬في القرنين الثامن عشر‬
‫والتاسع عشر‪ ،‬كان يعتقد أنه من أجل حياة سعيدة‪ ،‬ليس لكوننا متدينون بل نحتاج إلى العقل؛ الشكل‬
‫االسمي للسيادة‪ ،‬اعتمد خلصنا على قدرتنا على نقل قوتنا على اإليمان من عالم المعجزات والنبوءات‬
‫والخرافات إلى عالم العقل‪ .‬وكانت الذات العلمانية الحديثة ذاتا ا قادرة على عيش حياة الحقيقة األخلقية‪،‬‬
‫وكان العقل أساس الحياة األخلقية‪ ،‬حيث قيل إن التعاسة األساسية في حالة اإلنسان تنبع من عدم إدراك‬
‫اإلنسان أللوهيته‪ .‬وهذا ما جادل به هيجل بأننا ليس سعداء ليس ألننا نؤمن باهلل بل ألنه في نقصنا‬
‫وعيوبنا‪ ،‬فشلنا في إدراك ذلك‪ ،‬نحن هللا وهللا عقل‪ ،‬وأصبح التاريخ بالنسبة له هذا الخلط بين هللا والعقل‬
‫(‪ ،)Spivak, G., 2007, P.156‬وما ذهب إليه هيجل وجد له أصداء عند فيورباخ والذي ردد أقوال مارتن‬
‫لوثر؛ حيث إن الدين يتجه نحو اإلنسان وهدفه ومقصده سعادة اإلنسان (عطية‪ ،‬أحمد‪ ،‬ص‪ .)273‬إن هذا‬
‫الخلط بين هذين النظامين (اإليمان والعقل) لم يضع حدا ا لعنف النضال القديم الذي يهدف إلى إبقاءهما‬
‫منفصلين‪ ،‬ال يزال هذا الصراع معنا اليوم‪ ،‬إال أنه قد اتخذ منعطفا ا جديدا ا في األعمال اإلثنوغرافية الحديثة‬
‫من أفريقيا أو أمريكا اللتينية أو حتى الواليات المتحدة‪ ،‬والتي تشير إلى ممارسات اإليمان المعاصر‬
‫‪122‬‬
‫تعتمد بدرجة أقل على العقل‪ ،‬وأكثر على العاطفة والرغبة تجاه هللا‪ .‬إن مسألة العقل واإليمان ال يمكن‬
‫التفكير فيها اليوم كما لو كانت أنماطا ا أخرى من اإلدراك أو لغات أخرى من الحياة لم تكن موجودة‬
‫(‪.)Spivak, G., 2007, P.156‬‬

‫يرى مبيمبي أن العقل كان له أولوية وأهمية في المناقشات الفلسفية خلل القرون السابقة‪،‬‬
‫حيث تم اإلعلء من شأن العقل والذي كان بمثابة انتقال من مرحلة الخرافات إلى مرحلة الحقيقة العقلية‪،‬‬
‫ثم أصبح العقل أساسا ا للحياة األخلقية وأن سعادة اإلنسان تكمن في إدراكه لذاته وألوهيته‪ ،‬إال أن مناقشة‬
‫موضوع والعقل واإليمان لم تحظ في وقتنا الراهن باالهتمام إال أن مبيمبي قد استخدم حركة مزدوجة لنقد‬
‫العقل‪ ،‬والتي يصبح في ظل ظروف معينة شكل من أشكال اإليمان عندما يتوقف العقل عن انتقاد نفسه‪.‬‬
‫إن مشروع مبيمبي هو البحث في الطرق التي يمكن من خللها تقديم مثمر سياسيا ا لنقد الدين مع أخذ الدين‬
‫بجدية شديدة باعتباره نقدا ا – ال سيما نقد السياسة‪ .‬ال يمكن التفكير في الدين "السبب" من الناحية العملية‬
‫واألداة بشكل أساسي‪ ،‬علينا أ ن نتعامل مع محتوى الحقيقة للدين وكذلك مع وظائفه االجتماعية‪ ،‬شيء‬
‫واحد هو تقديس المصطلحات السياسية التي يتم تأطير نضاالتنا فيها‪ ،‬وشيء آخر هو محتوي الحقيقة‬
‫للفتراضات الدينية‪ ،‬لن نفهم قوة الدين الحشدية إذا لم نهتم بمنطقة الداخلي‪ .‬والذي يعد في الحقيقة جوهر‬
‫اإلرهاب‪ ،‬واإلرهاب في هذا المظهر ليس حكرا ا على بعض األصوليين المسلمين‪ ،‬بل هي حكرا ا على أي‬
‫كيان بما في ذلك ديمقراطيتنا (‪.)Spivak, G., 2007, P.179‬‬

‫وفي ختام الفصل يمكننا استنتاج أن الشيخ أنتا ديوب أهتم اهتماما ا شديدا ا بدراسة مصر‬
‫الفرعونية وكان ذلك االهتمام نابعا ا من قضية أساسية في الفكر الفلسفي األفريقي وهي الهوية‪ ،‬تلك القضية‬
‫كانت نتاجا مباشرا للستعمار الغربي ألفريقيا والذي عمل على محو كل قيمه الذات الزنجية والتعامل‬
‫بوحشية مع اإلنسان األفريقي الذي لم يكن لديه أي امتيازات في نظر المستعمر األوروبي‪ ،‬وكان األفريقي‬
‫في منزله أشبه بالحيوانية وقد دعم هذا الوضع االستعمار؛ أفكار الفلسفة والعلماء الغربيين‪ .‬مما كان لزام‬
‫على الفلسفة األفارقة الدفاع عن أنفسهم وعن هويتهم الزنجية‪ ،‬لذلك سعى ديوب إلى البحث عن تلك‬
‫الهوية والتي انتهى في بحثه إلى القول بحقيقة وجود الذات والهوية الزنجية والمتمثلة في الهوية الثقافية‬
‫ألفريقيا والتي كانت بدايتها الحضارة المصرية القديمة‪ ،‬وقد قدم ديوب أدلة مختلفة إلثبات فكرته المتمثلة‬
‫في زنجية الحضارة المصرية القديمة وتأثيرها على العالم الغربي‪ ،‬بل إنها صاحبة الفضل األول على‬
‫العالم القديم‪ ،‬ومن ثم كان للزنوج أسبقية الحضارة والرقي والتقدم‪ ،‬آراء ديوب كانت بمثابة نزعة نقدية‬
‫للعنصرية الغربية وتأكيدا ا على حقيقة وجود العقل والذات الزنجية‪ ،‬موضحا ا الترابط الشديد بين مصر‬
‫وأفريقيا‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫مفهوم الهوية كما قدمه ديوب والتيار الثقافي االثني؛ قد تعرض للنقد نظرا ا لربطهم الهوية‬
‫األفريقية باللون والموقع الجغرافي وأعطوا مفهوما ا للهوية الزنجية بنا اء على التشابه الثقافي واللون‬
‫األسود‪ ،‬كما أن الهوية لديهم تتميز بالثبات‪ ،‬وقد أقدم مبيمبي على نقد جميع الخطابات األفريقية التي‬
‫تناولت الموضوع األفريقي وقضية الهوية ألنهم في رحلتهم في لبحث والدفاع عن الهوية األفريقية قد‬
‫وقعوا في نفس خطأ النزعة العنصرية األوروبية ولكنها نزعة عنصرية أفريقية تعلى من شأن العرق‬
‫الزنجي على حساب األعراق األخرى‪ ،‬كما أنها تجاهلت األفارقة غير السود وأفارقة الشتات‪ ،‬وقدم‬
‫مبيمبي مفهوما ا مغايرا ا للهوية باعتبارها نتيجة للحياة اليومية حيث إنها تتأثر بالتغيرات الثقافية‬
‫واالجتماعية والسياسية واألخلقية ومن ثم فهي ليست ثابتة تتغير بتغير الظروف اليومية‪ ،‬كما أن الهوية‬
‫تختلف من شخص لشخص نظرا ا الختلف الظرف التي يمر بها األشخاص‪ ،‬أن مبيمبي لم يعل من شأن‬
‫عرق على حساب عرق بل ذهب إلى ضرورة اعتراف كل عرق باآلخر وأن األعراق جميعها تندرج‬
‫تحت إ نسانية واحدة رغم تعدد العوالم لذلك؛ خرج مبيمبي عن إطار العرق والعنصرية في تحديده لمفهوم‬
‫الهوية‪ ،‬معتبرا ا أن العرق الزنجي هو اختراع غربي من أجل تحديد هويتهم لذلك أوجب مبيمبي على‬
‫الزنوج وعيا ا مزدوجا ا؛ وعي زنجي أوروبي‪ ،‬ووعي زنجي زنجي ‪ ،‬بمعنى وعي بالذات ووعي باآلخر‪.‬‬

‫بعد تحديد مبيمبي للهوية باعتبارها نتاجا ا للحياة اليومية؛ أقدم مبيمبي بجرأة على وصف نقدي‬
‫للسلطة السياسية في الكاميرون كنموذج حي للممارسات السياسية في أفريقيا بعد االستعمار على غرار‬
‫النموذج االستعماري وباستخدام األسلوب الرمزي يوضح مبيمبي صورة الحياة اليومية التي تمر على‬
‫المواطن الكاميروني والصورة التي يظهر بها الحاكم الديكتاتوري ومن ثم ما زال األفريقي الخاضع‬
‫للسلطة السياسية بعد االستعمار يعاني نفس المعاناة التي وقعت عليه في ظل االستعمار‪ ،‬ويوضح مبيمبي‬
‫أن هذا الوضع الكاميروني يتشابه مع دول أخرى داخل القارة األفريقية‪ .‬ثم يوضح مبيمبي علقة الدين‬
‫بالسياسة وكيف تم إدخال الدين في حيز السياسة ومن خلل ذلك الربط أصبح للحاكم سلطه سياسية بغطاء‬
‫ديني‪ ،‬وبالربط بين الدين والسياسة أصبح هناك تأثيرا ا واضحا ا على الهويات والتي قد تتخذ من الدين سببا ا‬
‫للعنف ضد اآلخر‪ ،‬ويرى مبيمبي أن هناك علقة وثيقة بين اإلسلم والمسيحية والهوية الزنجية‪ ،‬تلك‬
‫العلقة ؛ أغفل عنها الفلسفة األفارقة في الخطابات األفريقية حول الهوية الزنجية‪ ،‬ويؤكد مبيمبي على‬
‫ضرورة عدم أغفال دور الدين وتأثيره على السياسة وعلى الهوية أيضاا‪ ،‬كما يجب عدم أغفال دور الدين‬
‫في تبرير واستخدام العنف ضد اآلخرين‪ .‬وأخيرا ا تجدر بنا اإلشارة إلى أن السلطة السياسية لما بعد‬
‫االستعمار ما هي إال نموذج الستعمار جديد تخلق على يد االستعمار السابق لتكون حليفته على أرض‬
‫الواقع ويبقى االستقلل العسكري مجرد ستار لتهدئة الرأي العام بينما االستعمار يمارس سلطته وسيادته‬

‫‪124‬‬
‫من خلل تلك النخب السياسية التي حافظت على حالة االغتراب والشعور بالتدني الذي ما زال ينال من‬
‫الشخصية األفريقية‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫أفريقيا والمستقبل بين كالً من الشيخ أنتا ديوب وأشيل مبيمبي‬

‫أوال ً‪ :‬حول العنف ودوره في السياسات العدائية‬

‫ثانيا ً‪ :‬أنتا ديوب والتخصصات المتعددة في خدمة مشروع الهوية‬

‫ثالثاً‪ :‬إنهاء استعمار المعرفة ومستقبل العالم‬

‫‪126‬‬
‫أولا‪ :‬حول العنف ودوره في السياسات العدائية‬

‫تعد ظاهرة العنف من الظواهر الذي حظيت باالهتمام والمناقشة في العصر الحديث والمعاصر‪،‬‬
‫لما لها من أثار سلبية على الفرد والمجتمع‪ .‬ويعد العنف ظاهرة تمتد بجذورها في القدم‪ ،‬وقد يتخذ أشكاالا‬
‫متعددة كالقوة‪ ،‬والعدوانية‪ ،‬والسلطة‪ ،‬والقانون‪ ،‬وللعنف مجاالت عديدة؛ منها العنف االجتماعي‪ ،‬العنف‬
‫الديني‪ ،‬العنف السياسي‪ .‬وقد كان للعنف اهتمام خاص في الدراسات ما بعد االستعمارية؛ ويعد أشيل‬
‫مبيمبي من أبرز المناقشين لتلك الظاهرة متتبع التطور التاريخي لها من المنظور السياسي وعلقتها‬
‫بالسياسات العدائية‪ .‬وفي حقيقة األمر أن العنف من الظواهر الخطيرة التي انتشرت بصورة مخيفة في‬
‫وقتنا الراهن مما يستدعي طرح هذه الظاهرة على جميع المستويات والعمل على وضع حلول لتجنبها‬
‫والتخفيف من آثارها‪.‬‬

‫يقوم مبيمبي بتحليل نقدي لسياسات العنف وذلك من خلل تتبع أشكال االستعمار‪ ،‬وعندما يناقش‬
‫مبيمبي فينومينولوجيا العنف‪ ،‬فإنه يتحدث عن الموت؛ إن أفريقيا الحالية هي التي تخطر بباله‪ ،‬ليس‬
‫لكونها أرض الموت والجنون الخارج عن السيطرة أكثر من أي مكانا أخر‪ ،‬بل ألن أفريقيا الحالية تظهر‬
‫في الخطاب الحديث والمعاصر مثل الليل مجردة من الوعي (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪ .)233‬ويهدف‬
‫مبيمبي إلى تسليط الضوء على فهم مختلف لسياسات العنف في أفريقيا المعاصرة وعلى وجه الخصوص‬
‫في دولة "فلسطين" المحتلة وما يقوم به المحتل من فرض سلطته وهيمنته على األراضي الفلسطينية؛‬
‫باستخدام أساليب العنف المختلفة‪ ،‬ونتيجة لذلك؛ ازدياد العنف واإلرهاب تحت مسميات مختلفة‪ .‬أيضا ا‬
‫يستعرض مبيمبي في تحليله للسياسات العدائية تطور تاريخي لمفهوم الحرب‪ ،‬وما يطرأ عليها من‬
‫تغييرات في الطرق واألدوات المستخدمة والتي من شأنها رسم خريطة جديدة لمفهوم الموت والحياة‪.‬‬
‫يقترح مبيمبي التفكير في الموت كاستراتيجية وتأثيره على السلطة(‪)*()Pele, A., 2020, P.2‬؛ ويتساءل‬
‫مبيمبي عما إذا كانت فكرة السلطة الحيوية ستكون كافية للتعامل مع األشكال المعاصرة من العنف‪ ،‬إال‬
‫أنه اعتبرها غير كافية‪ ،‬ويقترح مفاهيم الموتى والمقابر للتفكير في أشكال جديدة من خضوع الحياة لسلطة‬

‫مبيمبي قارئ جيد لميشيل فوكو الذي سلط الضوء على كيفية القضاء على الجماهير البشرية باسم حماية الشعب وبقاء‬ ‫(*)‬

‫امه أو طبقة أو شعب باإلضافة إلى اإلشارة ان العنصرية أصبحت األداة السياسية التي تمكن من التقسيم البيولوجي‬
‫للجنس البشري وتبرير إبادة أولئك الذين يعتبرون أقل شأنا ا كما أصر فوكو على أن العنصرية الحديثة قد تطورت مع‬
‫اإلبادة الجماعية االستعمارية‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫الموت‪ ،‬ويقوم بتحليل فترات االستعمار والحروب المتأخرة‪ ،‬خاصة في البلدان األفريقية وفي منطقة‬
‫قطاع غزة‪.‬‬

‫إن السياسات العدائية لدي أشيل مبيمبي تفترض أن التعبير النهائي للسيادة يكمن في السلطة‬
‫والقدرة على اختيار الذين يعيشون والذين يجب أن يموتوا‪ ،‬لكن تحت أي ظروف يمارس الحق في القتل‬
‫والسماح بالحياة‪ ،‬ومن هي الذات التي تمارس هذا الحق‪ .‬ولإلجابة على ذلك يتعلق األمر بمفهوم السلطة‬
‫البيولوجية وعلقتها بمفاهيم السيادة أي السلطة المطلقة وحالة االستثناء التي تمت مناقشتها فيما يتعلق‬
‫بالنازية والشمولية ومعتقلت االعتقال واإلبادة‪ ،‬وتم تفسير معسكرات الموت على نحو مختلف بوصفه‬
‫استعارة مركزية للعنف السيادي والمدمر كعلمة قصوى للسلطة السلبية المطلقة ( ‪Mbembe, A., 2003,‬‬

‫‪ .)P.11‬يبدأ مبيمبي من فكرة الحداثة التي كانت األساس للمفاهيم المتعددة عن السيادة وكذلك للسلطة‬
‫البيولوجية‪ .‬ويتركز اهتمام مبيمبي في اشكال الهيمنة التي ال يكون موضوعها األساسي الصرع من أجل‬
‫السلطة‪ ،‬وإنما موضوعها تحويل الوجود االنساني إلى اداة معممة‪ ،‬وإلى التدمير المادي لألجساد البشرية‬
‫والشعوب‪ ،‬وهذه السيادة مثل معسكرات الموت التي تشكل القانون للمكان السياسي أي الحدود الذي نحن‬
‫بصدد العيش فيه‪ .‬ان التجارب المعاصرة للتدمير البشري تشير إلى امكانية تطوير قراءة للسياسة والذات؛‬
‫مختلفة عن تلك التي ورثت من الخطاب الفلسفي للحداثة‪ ،‬فبدالا من اعتبار العقل حقيقة الذات‪ ،‬يمكن النظر‬
‫إلى فئات أخرى مثل الحياة والموت‪ .‬وللداللة على تلك الفكرة البد من مناقشة للعلقة بين الموت والتحول‬
‫إلى الذات (اليوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪ .)105‬ويمكننا توضيح هذا المفهوم على النحو التالي‪.‬‬

‫إن تناول هيجل لمفهوم الموت يرتكز على السلب المزدوج‪ ،‬حيث يقوم اإلنسان بنفي الطبيعة أوالا‬
‫وهو نفي موجه للخارج‪ ،‬لتطويع الطبيعة الحتياجاته الخاصة‪ ،‬وثانيا ا يقوم بتحويل العنصر المنفي من‬
‫خلل العمل والنضال‪ ،‬وفي إطار تحويل الطبيعة؛ فإن اإلنسان يبدع عالما‪ ،‬لكنه في تلك العملية يتعرض‬
‫لسلبه الخاص‪ ،‬ومن ثم في النسق الهيجلي يكون موت اإلنسان إراديا نتيجة األخطار التي تعيها الذات‪،‬‬
‫فاإلنسان وفقا ا لهيجل ينفصل عن مرحلة الحيوانية ويصبح ذاتا ا في النضال والعمل الذي يواجه من خلله‬
‫الموت وبالتالي فهناك صيرورة بين أن تصبح ذاتا ا وتدعم عمل الموت هذا الدعم هو الذي يحدد حياة‬
‫الروح ‪ ،‬فكما يقول هيجل أن حياة الروح ليست هي الحياة التي تخاف من الموت وتخلص نفسها من‬
‫الدمار ولكن هي تلك الحياة التي تفترض الموت وتعيش معه‪ ،‬فالروح ال تصل إلى حقيقتها إال بالعثور‬
‫على ذاتها في التفكك المطلق(‪.)Mbembe, A., 2003, P. 14‬‬

‫وبعد أن قدم مبيمبي السلطة بوصفها عمل الموت ينتقل إلى السلطة بوصفها الحق في القتل‪،‬‬
‫ويدرس المسارات التي توضح أن حالة االستثناء وعلقة العداوة هي المعيار الذي يعطي الحق في القتل‪،‬‬

‫‪128‬‬
‫وفي مثل هذه الحالة تشير السلطة بشكل مستمر إلى االستثناء والطوارئ‪ ،‬والسؤال هنا ما هي العلقة بين‬
‫السلطة والموت في ظل هذه النظم التي ال تعمل فقط إال في حالة الطوارئ‪ .‬في صياغة فوكو للسلطة‬
‫البيولوجية يتم تقسيم الناس إلى أولئك الذين يجب أن يعيشوا والذين يجب أن يموتوا‪ ،‬هذه السلطة تعرف‬
‫نفسها من خلل الحقل البيولوجي الذي تسيطر عليه‪ ،‬وهذه السيطرة تفترض مسبقا ا توزيع النوع البشرية‬
‫في مجموعات وتقسيم المجموعات إلى مجموعات فرعية ووضع حد فأصل بين المجموعات بعضها‬
‫البعض‪ ،‬وهذا ما أطلق عليه فوكو مصطلح "العنصري" هذه العنصرية في السلطة البيولوجية مبررة‬
‫تماما ا‪ ،‬وبحسب فوكو فإن العنصرية تقنية تهدف إلى السماح بممارسة السلطة البيولوجية الحق السيادي‬
‫القديم بالقتل (إشارة إلى مرحلة المزرعة والمستعمرة من بعدها) وفي االقتصاد السياسي للسلطة‬
‫البيولوجية‪ ،‬فإن عمل العنصرية يكمن في تنظيم الموت وجعل أفعال الدولة اإلجرامية ممكنة (سياسات‬

‫العداوة‪ ،‬ص‪.)109‬‬

‫وفقا ا لفوكو تعتبر الدولة النازية المثال األكثر اكتماالا للدولة التي تمارس حق القتل حيث جعلت‬
‫اإلدارة والحماية تتعايش مع الحق السيادي في القتل‪ ،‬وبواسطة االستنتاجات البيولوجية حول موضوع‬
‫العدو السياسي وتنظيم الحرب ضد الخصوم وفي نفس الوقت تعرض المواطنين للحرب‪ ،‬وطدت الدولة‬
‫النازية الطريق الهائل للحق في القتل والذي توج بمشروع الحل النهائي‪ ،‬وهي بفعلها هذا أصبحت‬
‫النموذج األصل ي لتشكيل السلطة التي تجمع بين خصائص الدولة العنصرية والدولة القاتلة والدولة‬
‫االنتحارية‪ ،‬هذا الخلط بين الكامل بين الحرب والسياسة والعنصرية والقتل واالنتحار هو أمر فريد من‬
‫نوعه خاص بالدولة النازية‪ .‬يري مبيمبي أن تصور اآلخر كتهديد مميت يعزز قدرتي على الحياة واألمن‬
‫واحدا ا من العديد من خياالت السيادة المميزة للحداثة المبكرة والمتأخرة أيضاا‪ ،‬ويدعم االعتراف بهذا‬
‫التصور معظم االنتقادات التقليدية للحداثة (أبو رحمة‪ ،‬أماني‪ ،2021 ،‬ص‪.)131‬‬

‫إن الروابط بين الحداثة واإلرهاب تنبع من مصادر متعددة‪ ،‬وتظهر بوضوح في سرديات‬
‫مختلفة‪ ،‬يرتكز معظمها على فهم التنوير للصواب والخطأ‪ ،‬للحقيقي والرمزي‪ .‬يرى مبيمبي أن‬
‫االنقسامات الطبقية وازدهار الدولة يفترض التعددية البشرية وهي العقبة الرئيسية أمام تحقيق الغايات‬
‫التاريخية المحددة سلفا ا‪ ،‬لذلك فإن الذات في الحداثة الماركسية على سبيل المثال هي في األساس ذات تريد‬
‫إثبات سيادتها من خلل شن قتال حتى الموت‪ ،‬كما هو الحال مع هيجل فإن سردية السيطرة والتحرر‬

‫‪129‬‬
‫ترتبط بوضوح بسردية الحقيقة والموت‪ ،‬ومن ثم يصبح اإلرهاب والقتل وسيلة لتحقيق األهداف الحتمية‬
‫تاريخيا ا (أبو رحمة‪ ،‬أماني‪ ،2021 ،‬ص‪.)*()133‬‬

‫وللتتبع التاريخي لظهور اإلرهاب الحداثي؛ يتناول مبيمبي مسألة الرق والعبودية والتي يعتبرها‬
‫من أولى حاالت التجريب السياسي للسلطة البيولوجية‪ ،‬فالرقيق تنتج عن خسارة الوطن وفقدان اإلنسان‬
‫العبد الحقوق على جسده وفقدان الحالة السياسية‪ ،‬وهي تتطابق مع الهيمنة المطلقة واالغتراب منذ الوالدة‬
‫والموت االجتماعي؛ أي الطرد من اإلنسانية تماماا‪ .‬وألن العبد يخضع لسيده الذي يتصرف فيه كيفما يشاء‬
‫وألن للعبد سعرا وقيمة بوصفه أداه للعمل وبوصفة ملكية‪ ،‬يحافظ السيد على حياته ولكن في ظل عالم‬
‫مشبع بالقسوة الشديدة والكلم البذيء‪ ،‬في هذا المشهد األليم الواقع في جسد العبد‪ ،‬يصبح العنف عنصرا ا‬
‫من السلوكيات‪ ،‬مثل جلد العبد أو قتله‪ :‬فعل تدمير محض‪ ،‬يهدف إلى نشر الرعب‪ ،‬فحياة العبد هنا شكل‬
‫من أشكال الموت حياا‪ .‬وفي حالة االستعمار وفي نظام الفصل العنصري‪ ،‬تأتي سياسات القسوة لتكون‬
‫تشكيلا إرهابيا ا غريبا ا‪ ،‬الميزة األكثر أصالة في هذا التكوين لإلرهاب كما يبين مبيمبي هو تسلسل السلطة‬
‫البيولوجية وحالة االستثناء وحالة الحصار‪ .‬أي أن الشيء الحاسم في هذا التسلسل هو العرق‪ ،‬فإن‬
‫االصطفاء العرقي وحظر الزواج المختلط والتعقيم اإلجباري وحتى إبادة الشعوب المهزومة‪ ،‬تجد منبعها‬
‫األول بالطبع في العالم االستعماري‪ ،‬ووفقا ا ل حنا ارندت‪ ،‬فإن الغزو االستعماري كشف احتماالا للعنف لم‬
‫يكن معروفا ا من قبل‪ .‬وبحسب فوكو فإن النازية والستالينية لم تقدم سوى توسع اآلليات الموجودة من قبل‬
‫في المنظومات الغربية األوروبية االجتماعية والسياسية‪ ،‬وبرغم ذلك؛ يمثل االستعمار في الفكر الحداثي‬
‫والممارسة والخيال السياسي األوروبي المكان الذي تتشكل فيه السيادة بشكل أساسي من ممارسة السلطة‬
‫خارج القانون (سياسات العداوة‪ ،‬ص‪ .)118-114‬إن الحق السيادي في القتل ال يخضع ألي قانون في‬
‫المستعمرات‪ ،‬أن الحروب االستعمارية؛ ينظر إليها بوصفها تعبيرا ا عن العداوة المطلقة والتي تضع‬
‫المست ِعمر أمام عدو مطلق‪ ،‬فكل تجليات الحرب والعداوة التي همشت من قبل الخيال القانوني األوروبي‬
‫تجد لها مكانا في المستعمرات‪.‬‬

‫حنا ارندت منظرة سياسية وباحثة يهودية من أصل ألماني ولدت في اكتوبر ‪ 1906‬في هانوفر بألمانيا‪ ،‬وتوفيت في‬ ‫(*)‬

‫ديسمبر ‪ .1975‬تتحدث االلمانية واالنجليزية‪ ،‬ودرست في جامعة هايدلبرغ‪ ,‬جامعة فرايبورغ‪ ،‬جامعة ماربورغ‪،‬‬
‫تعلمت لدي مارتن هايدجر وكارل ياسبرس‪ ،‬تنتمي ارنت إلى تيار الفلسفة السياسسية والظاهراتية‪ ،‬ومن اهم اعمالها‬
‫أصول الشمولية‪ ،‬كانت عضوة في االكاديمية االمريكية للفنون واألدب‪ ،‬واالكاديمية األلمانية للغات والشعر‪ ،‬وأيضا ا‬
‫عضوة في االكاديمية االمريكية للفنون والعلوم‪ ،‬حصلت على عدة جوائز منها جائزة سيجموند فرويد عام ‪،1967‬‬
‫ميدإلىة امرسون‪ -‬ثورياو ‪ ،1969‬زمالة غوغنهايم ‪ ،1852‬الدكتوراه الفخرية من جامعة برينستون‪ ،‬وصفت ارنت‬
‫كثيرا ا بالفيلسوفة لكنها كانت دائما ا ترفض هذا الوصف وبدالا من ذلك وصفت نفسها بالمنظرة السياسية نظراا الن عملها‬
‫يركز على البشر ككل ال على الفرد‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫مما سبق نجد أن مبيمبي اتفق مع فوكو في أن فهم آليات السلطة البيولوجية مقيدة في الدول‬
‫الحديثة‪ ،‬لكنه يذهب إلى أبعد من ذلك؛ حيث ينظر إلى إمكانية قتل اآلخر على أنها عنصر أساسي لسلطة‬
‫الدولة في الحداثة تحت ما يسمى بحالة االستثناء‪ ،‬ومن منظور تاريخي يدعى مبيمبي أن الربط بين‬
‫الحداثة واإلرهاب؛ الذي تجسده النازية يأتي من عدة مصادر منها العبودية التي تعتبر المظهر األول‬
‫لحالة السلطة البيولوجية والتي تعني أن العبد لم يقتل بالمعنى البيولوجي والكنه يبقي على قيد الحياة ولكن‬
‫في صورة مهينة تتخللها عمليات القسوة البذيئة والتي تخضع لهدف اقتصادي‪ ،‬كما أن المستعمرة ونظام‬
‫الفصل العنصري أيضا ا يتخللها السلطة البيولوجية وحالة االستثناء والحصار وتشكل مناطق حرب‬
‫وفوضى‪.‬‬

‫سلطة الحياة والموت في ظل الحتلل الستعماري الحديث والمتأخر‬

‫يتحدث مبيمبي عن سلطة االستعمار موضحا ا أن االحتلل االستعماري نفسه يعني االستيلء على‬
‫المناطق الجغرافية ورسم الحدود وممارسة السيطرة على هذه األرض وفرض وضع جديد من العلقات‬
‫االجتماعية والمكانية والتي أصبحت في نهاية المطاف بمثابة إنتاج الحدود والتسلسل الهرمي؛ وتصنيف‬
‫الناس وفقا ا لفئات مختلفة واستخراج الموارد وصناعة مخزون كبير من التخيلت الثقافية‪ ،‬أدت إلى‬
‫ممارسة السيادة‪ ،‬حيث أصبح المكان هو المادة األولية للسيادة والعنف الذي تحمله معها‪ ،‬فالسيادة تعني‬
‫االحتلل‪ ،‬واالحتلل يعني وضع المستعمرين في منطقة ثالثة بين الذات والموضوع‪ ،‬وهذا هو الوضع‬
‫في حالة نظام الفصل العنصري "األبارتايد"(*) في جنوب أفريقيا(‪.)Mbembe, A., 2003, P.25‬‬

‫ويصف فانون االحتلل االستعماري؛ الذي ينطوي على تقسيم المكان إلى أجزاء منعزلة‪ ،‬ويرسم‬
‫حدودا داخلية تتمثل في مراكز الشرطة‪ ،‬كما أنه ينظم من خلل لغة قوة خالصة وحضور فوري؛ أيضا َ‬
‫يرتكز على مبدأ الحصرية المتبادلة‪ ،‬واألهم من ذلك هو أنه يحدد الطريقة التي تعمل بها سلطة الموت‪.‬‬
‫ويختلف االحتلل االستعماري في الحداثة المتأخرة كثيرا ا عن االحتلل في الحداثة المبكرة‪ ،‬ويعتبر‬
‫الشكل األكمل لسلطة الحياة والموت في االحتلل االستعماري المعاصر في "فلسطين"؛ حيث تستمد‬
‫الدولة االستعمارية مطالبها األساسية بالسيادة والشرعية من سلطة سردها الخاص للتاريخ والهوية‪،‬‬

‫هو نظام الفصل العنصري الذي حكمت من خلله االقلية البيضاء في جنوب أفريقيا من عام ‪ 1948‬وحتى تم الغاء‬ ‫(*)‬

‫النظام بين االعوام ‪ 1993-1990‬وعقب ذلك انتخابات ديمقراطية عام ‪ .1994‬وقد هدف هذا النظام إلى خلق إطار‬
‫قانوني يحافظ على الهيمنة االقتصادية والسياسية ذات االصول األوروبية‪ .‬قامت قوانين هذا النظام بتقسيم االفراد إلى‬
‫مجموعات عرقية اهمها السود‪ ،‬البيض "الملونين"‪ ،‬واآلسيويين (الهنود والباكستاينين) وتم الفصل بينهما‪ .‬منع هذا‬
‫النظام حق االقتراع كما تم فصل اجهزة التعليم والصحة والخدمات المختلفة وكانت االجهزة المخصصة للسود اسوأ‬
‫وضعا ا بشكل عام‪ .‬ومنذ الستينات اخذت االعتراضات الدولية على هذا النظام مما ادي إلى نبذ جنوب أفريقيا ومقاطعتها‬
‫من قبل غالبية الدول هذا باإلضافة إلى المعارضة الداخلية والتي ادت إلى انهيار هذا النظام بعد اربعة عقود‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫انطلقا ا من رواية مدعومة بفكرة الدولة عن الحق اإللهي المقدس في الوجود‪ ،‬وهي رواية تتناقض مع‬
‫رواية أخرى تستند إلى المكان المقدس ذاته‪ ،‬وألن السردين متناقضان والشعبان يتبادالن النفي‪ ،‬فإن تحديد‬
‫األرض على أساس الهوية الخالصة هو شبه مستحيل‪ .‬العنف والسيادة في هذه الحالة يدعيان السيادة‬
‫االلهية‪ ،‬ويتصور الشعبين (الفلسطيني واليهودي) الهوية الوطنية على أنها هوية ضد اآلخر‪ ،‬ضد اإلله‬
‫اآلخر‪ ،‬ومن المفترض أن يدعم التاريخ والجغرافيا والخرائط هذه المزاعم‪ ،‬لذلك فإن العنف واالحتلل‬
‫االستعماري يكتسبان الحقيقة المقدسة بشكل أعمق من خلل اإلرهاب (‪ .)Mbembe, A., 2003, P.26‬مما‬
‫سبق يمكننا استنتاج أن االحتلل االستعماري المعاصر لفلسطين؛ هو أنجح أشكال الموت‪ ،‬حيث ينتهج‬
‫العنف والسيادة من منطلق مقدس أي منطلق ديني ويتم تصور الهوية الوطنية على أنها هوية ضد اآلخر‪،‬‬
‫لذلك؛ فإن اآلليات تختلف عن نموذج االستعمار القديم‪ ،‬ويعتبر العنف الديني من أخطر أنواع العنف لما‬
‫يترتب عليه من إبادات جماعية لقبائل وشعوب والقضاء على هويات تلك الشعوب‪.‬‬

‫ثم ينتقل مبيمبي بعد ذلك في مناقشته لحالة فلسطين إلى منطقين ال يمكن التوفيق بينهما؛ منطق‬
‫االستشهاد ومنطق البقاء‪ ،‬وهما عنده مدخلين إلى قضيتين الموت واإلرهاب من جهة‪ ،‬واإلرهاب والحرية‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬وفي المواجهة بين هذين المنطقين‪ ،‬اإلرهاب ليس في جانب والموت في الجانب اآلخر‬
‫بل أن اإلرهاب والموت في صميم كل منهما‪ ،‬أن أدني شكل من أشكال البقاء على قيد الحياة بالنسبة إلى‬
‫الفرد هو قتل اآلخر‪ ،‬ومع قتل كل عدو يشعر الناجي بأمان أكثر‪ .‬أما منطق االستشهاد فإنه يسير بطريقة‬
‫مختلفة‪ ،‬حيث يتجسد في صورة انتحاري‪ .‬وفي منطق الشهادة تندمج إرادة الموت مع إرادة أخذ عدو‬
‫معي‪ ،‬بمعنى عدم إمكانية الحياة للجميع‪ .‬هذا المنطق يتعارض مع منطق الرغبة في فرض الموت على‬
‫اآلخرين بينما تحافظ على حياتك أنت‪ ،‬وهذا يسمي بمنطق البطولة‪ ،‬بمعنى أن تقتل اآلخرين في حين أن‬
‫تبقي بعيدا ا عن الموت‪ .‬في منطق الشهادة؛ الجسد ليس موضوعا ا للحماية من خطر الموت‪ ،‬بل الجسد ذاته‬
‫ليس له قيمة أو سلطة بل سلطته وقيمته نتيجة لصيرورة التجريد المستندة على الرغبة في الخلود‪ .‬في هذه‬
‫الحالة من الموت يتهاوى المستقبل في سبيل الحاضر والرغبة في الخلود‪ .‬وبالموت بهذه الصورة يهرب‬
‫الشهيد من حالة الحصار واالحتلل من خلل التضحية لتحقيق الحياة األبدية‪ .‬الموت هو وسيلة للخلص‬
‫في الوقت الحاضر‪ ،‬فهو تحرير من اإلرهاب والعبودية‪ ،‬هذا التفضيل للموت على استمرارية العبودية‬
‫يمثل قوة هو ما استمد منه وعليه السلطة‪ ،‬وهو أيضا ا المكان الذي تعمل فيه الحرية ونقيضها ( ‪Mbembe,‬‬

‫‪ .)A., 2003, P.35-39‬أيضا ا يتحدث مبيمبي عن منطقتين مختلفتين في الحالة الفلسطينية‪ ،‬ويرى أن في‬
‫حاالت العنف المعاصر الناجي ليس من نجي من الموات‪ ،‬بل هو ذلك الشخص المحاصر للعدو ولم‬
‫يحافظ على حياته وأيضا ا قتل معه المعتدون عليه‪ ،‬وذلك وفقا ا لمنطق الشهادة والذي يتمثل في صورة‬
‫االنتحاري‪ ،‬ووفقا ا لمبيمبي فإن االنتحار والقتل يسيران جنبا ا إلى جنب ويتحققان في نفس الفعل‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫لقد أعطي مبيمبي في مناقشته للسياسات العدائية؛ فلسطين أهمية خاصة‪ ،‬حيث قام بتحليل ما يتم‬
‫بالفعل داخل األراضي الفلسطينية ووصف الوحشية التي يستعملها المحتل اإلسرائيلي في تفتيت وتقطيع‬
‫جسد الدولة الفلسطينية ومحو أو طمس معالم هويتها‪ ،‬ووصف الحياة المأساوية التي يعيشها السكان‬
‫المحتلون والمجازر التي تتم بحقهم من قبل السلطة الوحشية والمتمثلة في االحتلل اإلسرائيلي‪.‬‬

‫يقول مبيمبي متحدثا ا عن فلسطين " ليس هناك حاجة لقول المزيد‪ ،‬حيث نعلم جميعا ا ما يجري –‬
‫ال يمكن أن تكون "أرضا ا محتلة" إذا كانت أرضك ملكا ا لك‪ .‬ونتيجة لذلك‪ ،‬فإن أي شخص آخر هو عدو أو‬
‫كاره لذاته أو كليهما‪ .‬على أي حال ليس هناك حاجة لتحمل المسؤولية عن المعاناة التي لحقت بالطرف‬
‫اآلخر ألننا أقنعنا أنفسنا أن الطرف اآلخر غير موجود‪ .‬يحق إلسرائيل أن تعيش بسلم‪ .‬لكن لن يتم‬
‫حمايتها إال بالسلم في ترتيب كونفدرالي يعترف باإلقامة المتبادلة إن لم يكن المواطنة‪ .‬أن احتلل‬
‫فلسطين هو أكبر فضيحة أخلقية في عصرنا‪ ،‬وواحدة من أكثر المحن اللإنسانية في القرن الذي دخلناه‬
‫للتو‪ ،‬وأكبر ميل جبان في نصف القرن الماضي‪ .‬ونظرا ا ألن كل ما يرغبون في تقديمه هو قتال حتى‬
‫النهاية‪ ،‬ألن ما هم على استعداد للقيام به هو المضي قدما ا‪ -‬في المذبحة والدمار واإلبادة المتزايدة – فقد‬
‫حان الوقت للعزلة العالمية" ( ‪.)Jacobs, S.,z2015, P.8 Soske, J.,‬‬

‫إن إسرائيل تشيد الجدران الخرسانية والحواجز األمنية على قدم وساق‪ ،‬ومع الجدران تظهر‬
‫ترتيبات أمنية أخرى من نقط تفتيش وسياجات وأبراج مراقبة وهكذا ت ُحاصر مجمعات سكنية فلسطين‬
‫تحت رقابة إسرائيلية‪ ،‬بالنتيجة يفيد االحتلل اإلسرائيلي لألراضي الفلسطينية في اختبار العديد من تقنيات‬
‫المراقبة والتفرقة التي تعرف في هذه األيام انتشارا ا في جهات أخرى من المعمورة‪ .‬إن ما يميز هذا النوع‬
‫من الفصل العنصري أنه يتحول إلى خنق‪ ،‬فاالحتلل في كل االعتبارات صراع جسد لجسد (أبو رحمة‪،‬‬

‫أماني‪ ،2021 ،‬ص‪ .)73-71‬في عدة مناطق من العالم‪ ،‬أصبحت عمليات المحاصرة حتى األن القاعدة‬
‫األساسية‪ ،‬واإلنسانية الموجودة في قفص هي فلسطين عموما ا وغزة خصوصا ا‪ ،‬اللتان صارتا الشعار‬
‫بامتياز‪ ،‬فهما من أكبر نماذج لنظام الوحشية في طور االستكمال التكنولوجي والذي يهدف إلى أن يصير‬
‫عالمياا‪ .‬وقد أصبح األمر يتعلق بتعميم ونشر على مستوى الكوكب‪ ،‬المناهج المستخدمة في إطار إدارة‬
‫األراضي المحتلة والحروب المتوحشة األخرى (أبو رحمة‪ ،‬أماني‪ ،2021 ،‬ص‪.)215-212‬‬

‫وبمقارنة الفصل العنصري بين جنوب أفريقيا وإسرائيل سنجد أن االثنين نشأ من خلل عملية‬
‫غزو واستيطان مبرر إلى حد كبير على أساس الدين والقومية العرقية‪ ،‬فكلهما اتبع برنامجا ا قانونيا ا‬
‫وواسع النطاق لتهجير السكان السابقين من أراضيهم‪ ،‬وضع كلهما مجموعة متنوعة من القوانين‬
‫التمييزية على أسس عرقية أو اثنية‪ ،‬إال أن نظام االحتلل اإلسرائيلي أسوأ من جنوب أفريقيا‪ ،‬على الرغم‬

‫‪133‬‬
‫من التشابه بين النظامين إال أن هناك اختلفا حيث ظهرت جنوب أفريقيا من خلل عملية استيطان‬
‫أوروبية وحرب استعمارية استمرت لقرون‪ ،‬وان تأسيس إسرائيل في عام ‪ 1948‬سبقه واحدة من أكثر‬
‫األعمال الوحشية تفردا ا في التاريخ البشري‪ ،‬وهي الهولوكوست‪ ،‬أيضا ا في حين أن االقتصاد في جنوب‬
‫أفريقيا يعتمد بشكل كبير على استغلل العمال األفارقة‪ ،‬سعي الصهاينة األوائل بوعي إلى تشريد العمالة‬
‫العربية وتمكنوا من بناء اقتصاد أكثر انغلقا وموحد من الناحية العرقية (‪.)Jacobs, S., 2015, P.12‬‬
‫تمثل العنصرية العامل الرئيسي في كل السياسات االستعمارية على مدار التاريخ سواء في صورته‬
‫األولية أو في صورته في العصر الحديث والمعاصر‪ ،‬ذلك الوباء الذي نشره الفكر الغربي ومازالت‬
‫تعاني منه أفريقيا حتى اليوم‪.‬‬

‫إن أشيل مبيمبي ضد االحتلل اإلسرائيلي لألراضي الفلسطينية وضد الممارسات العنصرية ضد‬
‫الشعب الفلسطيني وأيضا ا ضد المساندين الغربيين للحتلل وسياساته‪ ،‬ولذلك ال نجد عجبا في اتهام‬
‫مبيمبي من قبل مسؤولين ألمان أنه ضد السامية‪ .‬فقد كتب موقع "ميدل ايست اي" مقاالا يتناول فيه‬
‫اتهامات من قبل مسؤولين ألمان (مفوض الحكومة األلمانية) المختص بمكافحة معاداة السامية موجها ا‬
‫لمبيمبي اتهامه بمعاداة السامية‪ ،‬حيث ساوي بين االستيطان اإلسرائيلي والفصل العنصري في جنوب‬
‫أفريقيا أو "األبارتايد"‪ .‬ووفقا ا لما ذكرته الصحيفة فإن مبيمبي قد أظهر معاداة للسامية في كتابة سياسات‬
‫العداوة والتي أوضح فيه هذا التشابه بين االستيطان اإلسرائيلي والفصل العنصري في جنوب أفريقيا‪،‬‬
‫وبرغم من أن مبيمبي معروفا ا لدى األوساط الثقافية في ألمانيا وتم تكريمه في العديد من المناسبات كمفكر‬
‫بارز في الدراسات ما بعد االستعمارية كما تم تكريمه باعتباره أحد أهم المفكرين في القارة السمراء‪ .‬لكن‬
‫مبيمبي جاء بالرد السريع في مجلة "جوون أفريك" معلقا ا بالجهل التام من قبل األلمان بأساسيات النقاش‬
‫األكاديمي‪ ،‬موضحا ا أن هدفه في مناقشته هو األمل في بناء وتطوير مجتمع عالمي حقيقي ال يستثني منه‬
‫أي شخص‪ ،‬كما يقول إن معاداة السامية ليست إال جريمة مؤكد عدم االستخفاف بواقعة المحرقة‪ ،‬أو‬
‫مساواته بين القتل الجماعي لليهود والفصل العنصري في جنوب أفريقيا (المقدمي‪ ،‬المهدي‪.)2020 ،‬‬

‫وفي إطار مناقشة مبيمبي للعنف تطرق إلى الحروب المعاصرة‪ ،‬واآلالت الحربية المستخدمة‬
‫والتي أصبحت أحد الموارد االقتصادية المهمة لبعض الدول المصنعة لألسلحة وبيعها للمتمردين ضد‬
‫الدولة وبالتالي أصبحت األسلحة بجانب أنها اآلالت تستخدم للعنف فهي أيضا ا مورد اقتصادي هائل للدول‬
‫المست ِعمرة‪ .‬ويرى مبيمبي أن هذه الحروب تنتمي إلى لحظة جديدة من الصعب فهمها في إطار النظريات‬
‫المبكرة عن العنف‪ ،‬حروب عصر العولمة ال تضع الغزو واالستحواذ على األراضي ضمن أهدافها‪ ،‬أن‬
‫الفجوة الزائدة بين وسائل التكنولوجيا الفائقة والتكنولوجيا البسيطة لم تكن واضحة كما كانت في حرب‬
‫الخليج وحرب كوسوفو‪ ،‬ففي الحالتين تم تطبيق مذهب القوة الساحقة بفضل الثورة العسكرية التكنولوجيا‬
‫‪134‬‬
‫التي ضاعفت من قدرة التدمير بصورة غير مسبوقة‪ .‬ففي حرب الخليج أدى استخدام األسلحة المقاومة‬
‫للتكنولوجيا الفائقة والذكاء السيبراني وغيرها من األجهزة المتطورة إلى شلل قدرات العدو بسرعة‪ .‬وفي‬
‫حالة كوسوفو كان تفتيت القدرات الصربية شكل حرب البنية التحتية األساسية والتي استهدفت تدمير‬
‫الجسور والسكك الحديدية وشبكات االتصاالت وغيرها‪ ،‬تنفيذ هذه االستراتيجية العسكرية يؤدي إلى‬
‫إغلق سبل الحياة أمام العدو‪ .‬إن حروب عصر العولمة من سماتها أن العمليات العسكرية وممارسة الحق‬
‫في القتل لم تعد احتكارا وحيدا للدول ولم يعد الجيش النظامي هو األسلوب المميز لتنفيذ تلك المهام‪ ،‬بدالا‬
‫من ذلك يظهر خليط من الحقوق المتداخلة والمتشابكة بشكل ال ينفصم‪ ،‬ويظهر الوالءات المتعددة‪ ،‬وتعتبر‬
‫أفريقيا مثاال على ذلك (أبو رحمة‪ ،‬أماني‪ ،2021 ،‬ص‪.)127‬‬

‫لقد ظهرت روابط جديدة بين صناع الحرب واآلالت الحربية واستخراج الموارد االقتصادية‪،‬‬
‫وتعتبر اآلالت الحرب مندرجة في تكوين اقتصادات محلية أو إقليمية عابرة للدول‪ ،‬وفي معظم األماكن‬
‫أن انهيار المؤسسات السياسية الرسمية تحت ضغط العنف‪ ،‬يتجه إلى تشكيل اقتصاد الميليشيات‪ ،‬وتصبح‬
‫اآلالت الحرب في ظل هذه الحالة (الميليشيات وحركات التمرد)‪ ،‬آليات منظمة تنظيما ا عاليا ا من أجل‬
‫االستيلء وفرض ضرائب على األراضي التي تحتلها وعلى السكان‪ .‬ومن هذا المنطلق لم تعد الحرب‬
‫تشن بين جيوش دولتي ذاتي سيادة‪ ،‬بل يتم شنها من قبل جماعات مسلحة تعمل خلف قناع الدولة ضد‬
‫جماعات مسلحة ليس لها دولة بل تسيطر على مناطق متميزة جدا ا‪ ،‬وفي حالة فشل المنشقين المسلحين في‬
‫االستيلء الكامل على سلطة الدولة‪ ،‬فإنهم يحرضون على تقسيمات إقليمية وينجحون في السيطرة على‬
‫مناطق بأكملها يديرونها على غرار اإلقطاعات (أبور حمة‪ ،‬أماني‪ ،2021 ،‬ص‪.)135‬‬

‫واستنادا ا على ما سبق يتضح أن تحليل مبيمبي؛ يلقي الضوء على إحدى السياسات الخطيرة التي يتبعها‬
‫الغرب مع أفريقيا؛ حيث يكشف دور االستعمار في صورته المعاصرة والذي يعتمد على المتمردين في‬
‫الدول المراد تفتيتها ودعمهم باألسلحة والتقنيات المتفوقة تكنولوجيا ا في تحقيق األهداف المرجوة داخل تلك‬
‫البلد‪ ،‬وإذا نظرنا إلى الدول الممزقة في الوقت الراهن سنجد أن الميليشيات متواجدة بشكل أساسي في تلك‬
‫البلد وأن اختلفت المسميات مثل طالبان في أفغانستان‪ ،‬الحوثيين في اليمن‪ ،‬الدواعش في ليبيا‪ ،‬بوكو حرام‬
‫في نيجيريا‪ ،‬وحركة الشباب المتمردين في الصومال‪ ،‬وغيرهم من الميليشيات المنتشرة بمساعدة القوى‬
‫االستعمارية والتي تمدهم بالسلح والمال‪ ،‬ومن الجدير بالذكر أن تلك الجماعات المسلحة بجانب عمليات‬
‫القتل واإلرهاب تقوم بطمس معالم التراث اإلنساني من خلل تدميره ومن ثم طمس معالم الهوية الحضارية‬
‫والثقافية للشعوب‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫إن نشر األسلحة من أجل أقصى قدر من تدمير األشخاص وإنشاء عوالم الموت واستخدام أشكال‬
‫جديدة وفريدة من نوعها للوجود االجتماعي والتي يتم فيها إخضاع أعداد كبيرة من السكان لظروف‬
‫الحياة التي تمنحهم وضع الحي الميت‪ ،‬أن تلك األساليب والتقنيات المتطورة والمدمرة أصبحت آذانا‬
‫بعصر التوحش‪ .‬وحشية تجاوزت الحدود‪ ،‬ألن اإلنسان الغربي يمتلك ترسانة من األسلحة الفتاكة ووسائل‬
‫الدمار النووي والذي ال يدمر ذاته فقط بل يدمر الكائنات الحية معه‪ .‬إن أفضل مثاال على هذه الوحشية‬
‫هي مظاهر العبودية التي وقعت ممارستها منذ القدم إزاء المهزومين حتى ينعم من اعتبروا أنفسهم‬
‫أحرار‪ ،‬وتحولت هذه العبودية فيما بعد خلل القرن التاسع عشر إلى عنصرية ما زالت مظاهرها‬
‫متواصلة خاصة في العالم الغربي على الرغم من وجود مجتمع مدني وأحزاب تندد بهذه العنصرية‬
‫(السنوسي‪ ،‬نادره‪ ،‬ص‪.)9-7‬‬

‫يرى مبيمبي أن ممارسات الهدم والتدمير هي من صلب الوحشية في معناها السياسي‪ ،‬فضلا‬
‫عن استخدام اآلالت القديمة والتكنولوجيا المتطورة جدا ا‪ ،‬ويرى أيضا ا أن تحويل اإلنسانية إلى مادة وطاقة‬
‫هو المشروع النهائي للوحشية‪ ،‬كما أنه اعتبر أن الهدف النهائي من تطوير تلك األدوات والتقنيات هو‬
‫احتلل العالم وانتشار القوة واندفاعها ألهداف السيطرة الكونية (السنوسي‪ ،‬نادره‪ ،‬ص‪ .)48 ،26 ،22‬لقد‬
‫اعتبر مبيمبي أ ن بروز عصر الحوسبة كبنية تحتية عالمية يتزامن مع لحظة حاسمة من تاريخ حروب تم‬
‫تنفيذها ضد سكان ال رغبة فيهم منفصلون عن القاعدة التي تمثلها الدولة‪ ،‬في اللحظة التي تتحول فيها‬
‫الدولة نتيجة لليبرالية الجديدة إلى مقاطعات مجزأة أكثر فأكثر (السنوسي‪ ،‬نادره‪ ،‬ص‪.)277‬‬

‫وفي دراسة مبيمبي لما يسميه بعصر التوحش (عصر تطور اآلالت الحربية واستخدام التقنيات‬
‫الحسابية) كان تركيزه منصبا على ممارسة وتجربة السلطة (سلطة الموت) باعتبارها تمرينا ا لتدمير‬
‫الكائنات واألشياء واألحلم والحياة في سياق أفريقي معاصر‪ .‬كما أنه وجه نقده للرأسمالية الجديدة والتي‬
‫تقوم على اقتصاد مغاير تماما ا لما كان معموالا به في العصور اإلمبريالية السابقة‪ .‬أيضا ا اعتبر مبيمبي أن‬
‫قيود الحركة التي فرضت على األفارقة هي أكبر التحديات التي واجهتها أفريقيا في بداية هذا القرن‪ ،‬وان‬
‫مستقبل القارة المباشر سيرتبط في خطوطها العريضة بقدرتها على تحرير قوي التنقل وتهيئة الطرق‬
‫على النحو الذي يستطيع الناس فيه التنقل كلما كان ذلك ممكنا ا‪ ،‬وإلى أبعد الحدود دون أي إعاقة (أبو‬

‫رحمة‪ ،‬أماني‪ ،2021 ،‬ص‪.)225‬‬

‫يسوق مبيمبي مثال آخر عن العنف وهو الفصل العنصري في أفريقيا؛ حيث وضعت جنوب‬
‫أفريقيا تحت سيطرة نظام األبارتايد ذلك النظام صاحب المحاكم المتعددة وعنفه القاسي وبل صوت بين‬
‫سنوات ‪ 1948‬وبداية سنوات ‪ .1980‬في هذا النظام تعتبر أوروبا هي األولى في التاريخ الحديث‪ ،‬والتي‬

‫‪136‬‬
‫فتحت عهدا جديدا من االستيطان على مستوى الكوكب‪ .‬فقد اتخذ اعادة تعمير العالم شكل فظائع ال حصر‬
‫لها ومجازر غير معهودة من التصفية العرقية‪ .‬كان نظام الفصل العنصري موجودا ا في بداية المؤسسة‬
‫الكولونيالية‪ ،‬وكان فعل االحتلل يتمثل في العمل على فصل الجسد الحي من جهة‪ ،‬وكل األشياء التي‬
‫تحيط به من جهة أخرى‪ .‬لقد أصبح التمييز العنصري واإلبادة الخط الحاسم في بداية هذا القرن (أبو رحمة‪،‬‬

‫أماني‪ ،2021 ،‬ص‪.)73-72‬‬

‫إن نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا سعى إلى إعادة تنظيم وترشيد آليات الفصل على‬
‫نطاق وطني للدفاع عن العرقية المثالية القومية لجنوب أفريقيا البيضاء‪ ،‬ومن أجل ذلك صنفت الدولة‬
‫السكان إلى ثلث مجموعات رئيسية (امتدت الحقا ا إلى أربع مجموعات‪ :‬السكان األصليون والبيض‬
‫والملونون والهنود)‪ ،‬وقسمت جنوب أفريقيا إلى مناطق إقامة حصرية عنصريا ا وقدمت برنامجا منهجيا‬
‫لمصادرة األراضي وعمليات الترحيل القسري‪ ،‬كما جردت الحكومة األفارقة السود من الجنسية ومنحتهم‬
‫أوطانا ا محددة عرقياا‪ .‬وفي إطار الغضب الدولي المتزايد‪ ،‬أعلنت االتفاقية الدولية للقضاء على جميع‬
‫أشكال التمييز العنصري لعام ‪ 1965‬الفصل العنصري جريمة‪ .‬وبشكل حاسم لم تقصر هذه المعاهدة‬
‫والمعاهدات اللحقة مصطلح الفصل العنصري على جنوب أفريقيا‪ ،‬لكنها قدمت تعريفا ا عاما ا بمكونات‬
‫محددة‪ ،‬لغرض ترسيخ سيطرة مجموعة عرقية واحدة من األشخاص على أي مجموعة عرقية أخرى من‬
‫األشخاص والحفاظ عليها وقمعهم بشكل منهجي (‪.)Jacobs, S., 2015, P.11‬‬

‫وبعد مرور عشرين عاما ا من اإللغاء الرسمي لنظام الفصل العنصر‪ ،‬لم تعد جنوب أفريقيا كما‬
‫كانت من قبل‪ ،‬حيث خرجت من العصر المظلم لتفوق البيض‪ ،‬وتمر البلد بتحوالت متعددة ومنهجية في‬
‫القطاعات المختلفة‪ ،‬في عصر شهد الكثير من التسلسلت الهرمية العرقية الراسخة تاريخيا ا‪ ،‬تشارك في‬
‫واحدة من التجارب العالمية المعاصرة بهدف إنشاء أول مجتمع غير عرقي‪ ،‬لكن هزيمة السيادة الشرعية‬
‫للبيض لم تعنى أن النضال من أجل المساواة العرقية قد انتهى‪ .‬حيث ظهرت أشكال جديدة من العنصرية‬
‫في جميع أنحاء العالم‪ ،‬لذلك يجب في الوقت الراهن أن يتم تجاوز العنصرية‪ ،‬وأن يتخذ النضال من أجل‬
‫العدالة العرقية أشكاالا جديدة‪ ،‬من أجل التفكير والتطبيق العملي المناهضين للعنصرية وإعادة أحياء‬
‫مشروع عدم العنصرية‪ ،‬نحتاج إلى اكتشاف العلقة بين علم األحياء والجينات والتقنيات مع أشكال جديدة‬
‫من االحتياج البشري (‪.)Mbembe, A., 2015, P.1-3‬‬

‫إ ن انتهاء الفصل العنصري لم يؤثر على المواقف التي تمتعت بها الطبقات البيضاء خلل فترة‬
‫تفوق البيض‪ ،‬أن أدائهم االقتصادي اليوم أفضل من أي وقتا مضى‪ ،‬برغم فقدهم للسلطة السياسية‪ ،‬إال أنهم‬
‫لم يموتوا كطبقة في معظم الحاالت‪ ،‬ال يزال بإمكانهم استخدام قوتهم االقتصادية ورأس مالهم الختيار‬

‫‪137‬‬
‫النخبة السوداء وبالتالي الحصول على اليد العليا‪ .‬لذلك يري مبيمبي أنه يجب للقضاء على التفاوت الناتج‬
‫عن سياسات غير عادلة وتحقيق قدر ضئيل من العدالة االجتماعية بعد إلغاء الفصل العنصري‪ ،‬على‬
‫جنوب أفريقيا تفكيك الحواجز التي أقيمت ضد العدالة الكاملة للجميع‪ ،‬البد من عملية تحول بحيث يحل‬
‫السود محل البيض في المؤسسات والسلطة محل البيض ولكن بشرط تحقيق الكفاءة حتى ال يأتي السود‬
‫إلحداث فوضى في المؤسسات التي تخلى عنها الرجل األبيض (‪.)Mbembe, A., 2015, P.11-13‬‬

‫يرى مبيمبي أن الحرية تعني التحرر من كل أشكال االسترقاق والعبودية‪ ،‬وأن نوع الحرية التي‬
‫من المحتمل أن تتمتع بها جنوب أفريقيا اآلن ألن هذه األمة قد بنت ألول مرة في التاريخ مجتمعا ا وثقافة‬
‫وحضارة‪ ،‬حيث سيكون لون البشرة غير ضروري في الحساب العام للوضع والكرامة والفرص والحقوق‬
‫والواجبات‪ ،‬حرية تنشأ فقط من كوننا بشر‪ ،‬في هذه العلقة بين العرق والحرية والديمقراطية هو المكان‬
‫الذي يكمن فيه هدية جنوب أفريقيا الفريدة للبشرية‪ .‬ولكي تساهم جنوب أفريقيا في مشروع هزيمة‬
‫العنصرية في عالم اليوم سيتطلب تحول جذري من سياسة الكآبة والحنين إلى الماضي التي يتمثل هدفها‬
‫الرئيسي في أرجاء آفاق العدالة العرقية إلى سياسة المسؤولية (‪.)Mbembe, A., 2015, P.15‬‬

‫موقع الحرية في فكر أشيل مبيمبي‬

‫يؤمن هيجل بأن أحداث الماضي كلها كانت تتجه نحو تحقيق هدف الحرية‪ ،‬ففي مقدمة كتابة‬
‫فلسفة التاريخ يقول إن تاريخ العالم ليس إال تقدم الوعي نحو الحرية‪ .‬ذلك عكس المفهوم الليبرالي‬
‫حر إذا لم يتدخل‬
‫غياب القيود؛ فأنا ٌّ‬
‫َ‬ ‫الكلسيكي للحرية‪ .‬حيث يرى الليبراليون أن الحريةَ عامةا تعني‬
‫حر عندما أقوم بما يحلو لي‪.‬‬
‫اآلخرون في شئوني ولم يجبروني على فعل شيء ال أرغب في القيام به؛ أنا ٌّ‬
‫عني اآلخرون وشأني‪ .‬هذا هو مفهوم الحرية الذي أطلق عليه أشعيا برلين «الحرية‬
‫أنا حر عندما يَدَ ُ‬
‫السلبية» في مقاله الشهير «مفهومان للحرية»‪ .‬إال أن هيجل في مفهومه للحرية كان مخالفا ا آلراء‬
‫الليبراليين؛ فهو يرى أن فكرتهم ال تعبر عن النضوج التام ألنها ال تتضمن أي تلميح إلى اإلرادة الحرة‬
‫كليٍّا والحق والحياة األخلقية وغيرها (السيد‪ ،‬محمد‪ ،2014 ،‬ص‪.)42-41‬‬

‫ويناقش مبيمبي فكرة الحرية من خلل مقارنة بين المفهوم في الفكر الغربي والفكر األسود‪.‬‬
‫ويرى أن الرغبة المستمرة في حرية اإلنسان كانت هي السؤال الرئيسي الذي انكشف حوله أفضل ما في‬
‫الفلسفة الغربية‪ .‬بغض النظر عن كيفية تصورها‪ ،‬كانت الحرية هي المفهوم السياسي األكثر أهمية في‬
‫النظرية السياسية الحديثة والتنويرية‪ ،‬وهي تقع في قلب العلقات االجتماعية وتغذي المفاهيم ذات الصلة‬
‫بالحقوق وااللتزامات والعدالة والمسؤولية‪ .‬وبالنسبة للعديد من المفكرين‪ ،‬تم تصور البحث عن الحرية‬

‫‪138‬‬
‫على أنه مسعى لإلتقان أو بشكل أكثر دقة‪ ،‬تعظيم القدرة على التنبؤ والعقلنية‪ .‬علوة على ذلك‪ ،‬كما‬
‫ذهب فوكو‪ ،‬بقدر ما تعتبر الحرية نمطا ا من النشاط والفكر‪ ،‬فإن ممارسة الحرية تتطلب أخلقيات رعاية‬
‫الذات‪ .‬إن الذات التي يدور في ذهن فوكو ليست الفرد المجرد لنظرية الدولة الليبرالية للطبيعة بل هو‬
‫كائن اجتماعي بحاجة إلى مجتمع (‪ ،)Mbembe, A., 2011, P.13‬الحرية هي إنتاج يستلزم البناء‪،‬‬
‫ويقتضي إنتاجها األمن والحماية‪ ،‬إال أن فوكو في نظر مبيمبي قد نسي أن يوضح أن عبودية الزنوج‬
‫مثلت على مدار التاريخ تدميرا ا للحرية (أبو رحمة‪ ،‬أماني‪ ،2021 ،‬ص‪.)118‬‬

‫لذلك كانت العلقة بين االهتمام بالذات ومعرفة الذات محورا ا حاسم لفهم ليس فقط العلقة الفلسفية بين‬
‫الذات والحقيقة ولكن أيضا ا طريقة ومسألة الحرية نفسها‪ .‬فقد كان مشروع الحرية هو األفق الذي؛ تطور ضده نقد‬
‫الحداثة كنقد للحاضر‪ .‬كان جزء جوهري من نقد الحداثة نفسها أما يتعلق بفشلها في تحقيق الحرية للجميع‪ ،‬أو‬
‫حول ميلها إلى استخدام الحرية كقناع لغايات سياسية ساخرة ولتقدم مفهوم لإلنسان يمنح امتيازا ا لعرق واحد‬
‫(‪.)Mbembe, A., 2011, P.14‬‬

‫يفترض مبيمبي أن مشروع الحرية في المنظور الغربي ما هو اإلقناع لتغطية السياسات‬


‫االستعمارية الغربية‪ ،‬كما أنها أيضا ا غلف للعنصرية األوروبية وتفوق الجنس األبيض‪ ،‬إن فلسفة‬
‫التنوير في مناقشتهم للحرية لم يقدموا أي نقد أو تنديد للعنصرية ضد السود‪ ،‬ومن ثم كان عصر التنوير‬
‫األوروبي ما هو إال عصر ظلم على أفريقيا‪ .‬إن قيم الحرية والعدالة والمساواة في الفلسفة الغربية لم‬
‫تطبق على أفريقيا والزنوج‪ ،‬وإن فلسفة عصر التنوير هم أنفسهم من قدموا األفكار العنصرية والنظرة‬
‫الدونية لألفارقة والزنوج‪ ،‬لذلك يمكننا القول إن فلسفة التنوير قد ناقضوا أنفسهم‪ ،‬وأن قيم التنوير مجرد‬
‫قيم صورية لم تطبق على أرض الواقع‪.‬‬

‫إن ما يميز الفكر الفلسفي الغربي حول الحرية؛ هو التعبير عن الحرية مع ديالكتيك السيد والعبد‬
‫من ناحية‪ ،‬ومع االختلف من ناحية أخرى‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬في المداخل األعمق للتفكير الفلسفي الغربي‬
‫حول الحرية‪ ،‬يفترض أن االختلف هو األرضية النهائية التي يستند إليها معنى الحرية‪ ،‬ويزعم مبيمبي‬
‫أن الفصل بين طريقة الحرية ومادتها – هذا التشعب بين التفكير السياسي للحرية والتفكير الفلسفي لنفس‬
‫الموضوع – هو السمة الغالبة لنظريات الحرية الغربية‪ .‬على العكس من ذلك‪ ،‬تكمن أصالة الفكر الزنجي‬
‫الحديث في التوفيق بين نقد أسلوب الحرية ونقد موضوعها‪ .‬العرق هو ما يسمح لهذه المصالحة – العرق‬
‫بمعناه المزدوج لشكل من أشكال الحرب والقانون والخروج على القانون من ناحية‪ ،‬والفضاء الفارغ الذي‬
‫يشكل علقات الخضوع االجتماعية والنظام السياسي نفسه من ناحية أخرى‪ .‬االدعاء الرئيسي للنقد‬
‫الزنجي هو أنه في سياقات اإلرهاب العنصري‪ ،‬يتم ربط عقدة الحرية في الموت‪ ،‬أو على األقل في‬

‫‪139‬‬
‫التهديد بالقتل – األساس النهائي الذي بدونه ال يمكن للوعي أن يفكر ويفهم نفسه ( ‪Mbembe, A., 2011,‬‬

‫‪.)P.16‬‬

‫يقول مبيمبي "إن ما أسميه (الفكر الزنجي) هو ظاهرة حديثة تماماا‪ .‬إنها أيضا ا ظاهرة الشتات‪.‬‬
‫الفكر األسود هو شتات ليس بالضرورة ألنه متجذر في مفاهيم اإلطاحة من مكان المنشأ – في هذه الحالة‬
‫أفريقيا كنقطة مرجعية خيالية في بناء الهوية السوداء – ولكن األهم من ذلك؛ ألنه يتشكل في واجهة‬
‫عوامل متعددة وتنتقل عبر دوائر الثقافة والمعنى التي تستمر في التقارب والتباعد في نفس الوقت‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫هناك متغيرات من الفكر الزنجي أكثر تعبيرا ا عن الظروف التاريخية ألولئك الذين يمكن أن نطلق عليهم‬
‫(السود الغربيون) (األمريكيون من أصل أفريقي ومسألة الرق على سبيل المثال) ومتغيرات أخرى معبرة‬
‫عن األعمال الدرامية الوجودية ل (السود الغربيين) (االستعمار والفصل العنصري على سبيل المثال)"‬

‫(‪.)Mbembe, A., 2011, P.19‬‬

‫بالتدقيق في الفجوة التي تفصل بين العبودية والحرية‪ .‬من المهم أن الخطوة األولى للحرية‪ ،‬في‬
‫مثل هذا السياق‪ ،‬هي استعادة الكلم‪ .‬فرانز فانون‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬خصص الفصل األول من كتابه‬
‫بشرة سوداء قناع أبيض ‪ White Masks،Black Skin‬لمسألة اللغة‪ .‬في الواقع‪ ،‬في ظل االستعمار‪ ،‬كان‬
‫أول شكل من أشكال االحتياج البشري يتمثل في حقيقة أن المستعمر‪ ،‬لم يكلف المستعمر نفسه عناء الرد؛‬
‫ألن الرد سيعني إضفاء مكانة إنسانية معينة على الشخص الذي يتحدث إليه‪ .‬في ظل هذه الظروف‪ ،‬فإن‬
‫أول موقع للنضال من أجل الحرية هو بالتالي ميدان الكلم واللغة‪ .‬يوضح فانون أن اللغة هي أول حالة‬
‫يستبعد منها المستعمر‪ .‬إن استبعادك من عالم اللغة يعني استبعادك من عالم اإلنسان‪ ،‬وهو المجال الذي‬
‫يتم فيه التعامل مع البشر كبشر وتشكيلهم على هذا النحو‪ .‬في ظل ظروف العبودية أيضاا‪ ،‬أصبح الكلم‬
‫واللغة الوسيلتين الرئيسيتين إلعادة ترتيب العلقة بين حرية اإلنسان وجوهر اإلنسان ( ‪Mbembe, A.,‬‬

‫‪.)2011, P.20‬‬

‫وألن اللغة من السمات األساسية في تحديد الهوية الثقافية؛ عمد االستعمار على حرمان األفارقة‬
‫من التعامل بلغتهم األصلية واجبارهم على تعلم والتعامل بلغة المستعمر‪ ،‬بل عمد إلى حرمان الزنجي منذ‬
‫تجارة الرقيق من امكانية التعبير والكلم باعتبار أنهم إذا تكلموا سيصبح لوجودهم قيمة‪ ،‬ومن ثم سعى‬
‫االستعمار إلى نفي أي قيمة للسود حتى لو بالكلم‪ .‬وألهمية اللغة سعى الفلسفة األفارقة إلى محاربة‬
‫االستعمار المعرفي وتأكيد دور اللغة في عملية إنهاء هذا النوع من االستعمار‪ ،‬وألهمية اللغة نادي أنتا‬
‫ديوب بالعودة إلى اللغات األفريقية وضرورة وجود لغة أفريقية موحدة‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫يقدم لنا مبيمبي صيغة أخرى من الحرية؛ يفهم فيها الحرية على أنها رد الرجولة‪ .‬اليوم‪ ،‬نحن نعلم‬
‫أن الهياكل اليومية للهيمنة الجنسية التي ظهرت في عملية الهيمنة العرقية تميل إلى تكرار روتين الوحشية‬
‫العرقية تجاه البشر السود‪ .‬سواء في جنوب أفريقيا أو في الواليات المتحدة‪ ،‬تم بناء الحرب بين األعراق‬
‫على أنها حرب بين البشر‪ ،‬ولكنها حرب كانت األصول الرئيسية فيها هي أجساد النساء‪ .‬تم تخيل أجساد‬
‫النساء أنفسهن على أنها مناطق يجب غزوها‪ ،‬أو حمايتها من العدو‪ ،‬أو عند فقدانها أمام هذا األخير‪ ،‬يتم‬
‫استعادتها مرة أخرى‪ ،‬لذلك كان الجسد على المحك في هذه الدولة العنصرية كأرض لسلطة الذكور‪ .‬كان‬
‫الجسد هو الذي أعطي الجوهر للعرق وحدود اإلقليمية (‪.)Mbembe, A., 2011, P.25‬‬

‫أخيرا ا‪ ،‬هناك تقليد طويل األمد للفكر األسود يحدد الحرية في عالم الجماليات‪ .‬هذا نوع من الحرية‬
‫يمكن أن نطلق عليه الحرية األصلية‪ .‬تظهر الجماليات‪ ،‬بهذا المعنى‪ ،‬على أنها المجال الذي نصنع فيه‬
‫تجربة القوى المتعددة للعقل البشري والطرق التي تستدعي بها هذه القوى أنماطا ا مختلفة من اإلدراك في‬
‫آن واحد‪ :‬العقل‪ ،‬الفهم‪ ،‬العاطفة‪ ،‬المتعة‪ ،‬التعاطف‪ .‬وهنا تتمثل الحرية في المقام األول في اإلرادة‬
‫للعتراف بنفسه على أنه حر‪ .‬وهذا يعني التنشئة الواعية لبنية عميقة للعلقة الذاتية‪ .‬في الواقع‪ ،‬في‬
‫تجربة السود‪ ،‬كانت الحرية بالضرورة نتيجة لنوع معين من النضال – النضال من أجل أن تصبح‪ .‬وكما‬
‫يوضح فانون‪ ،‬فإن الهدف من الحرية هو إدامة وتحسين الظروف التي تجعل هذا الصراع ممكنا ا – وهو‬
‫شيء يتضمن الوسائل التي من خللها تخلق الذات نفسها (خلق الذات – اكتشاف الذات)‪ .‬هذا هو السبب‬
‫في أنه أشار إلى الحرية على أنها تجربة سابقة‪ ،‬وهي محاكمة ال نهاية لها تفترض مسبقا ا أخلقيات معينة‬
‫للذات‪ ،‬وطريقة معينة في االهتمام بالذات‪ ،‬وطريقة معينة لتفسير الذات‪ ،‬لتصبح من هو (تحويل الذات)‬
‫(‪.)Mbembe, A., 2011, P.29‬‬

‫وينتقل مبيمبي في عرضة لفكرة الحرية؛ إلى مقارنة المفهوم بين اليهود والسود‪ ،‬ويرى أنه من‬
‫المستحيل تقديم تفسير جديد للحرية دون تفسير جديد للموت‪ ،‬والعدو والغريب‪ .‬وهو يشير إلى أن الحرية‬
‫في نهاية المطاف هي التحرير من الموت نفسه؛ الموت بدوره هو نقطة الصفر للحرية‪ .‬وتشير تجربة‬
‫جنوب أفريقيا إلى أ نه من الممكن فصل تاريخ التحرر عن تاريخ سفك الدماء‪ .‬كما يقوم مبيمبي بتوضيح‬
‫العلقة بين الحرية واألخلق‪ -‬الحرية التي تدرك نفسها كممارسة أخلقية‪ .‬وهو في ذلك يضع في اعتباره‬
‫بقوة بعض أشد المعضلت السياسية واألخلقية حدة في عصرنا‪ ،‬والظروف الصعبة في عالمنا‬
‫(‪.)Mbembe, A., 2004, P.93‬‬

‫يقدم مبيمبي المنظور اليهودي؛ من خلل رؤية الفيلسوفة اليهودية حنا ارنت‪ ،‬التي كتبت بعد‬
‫الحرب العالمية الثانية‪ ،‬احدى المعضلت األخلقية في عصرها‪ .‬ولخصتها في تعبيرين‪ :‬التشرد على‬

‫‪141‬‬
‫نطاق غير مسبوق وعدم الجذور إلى عمق غير مسبوق‪ .‬فقد سلطت الضوء على المستقبل الذي أصبح ال‬
‫يمكن التنبؤ به‪ ،‬والقوي السياسية التي ال يمكن الوثوق بها‪ ،‬قوى بدت مثل الجنون المطلق‪ .‬وأضافت أن‬
‫األمر يبدو كما لو أن البشرية قسمت نفسها بين أولئك الذين يؤمنون بالقدرة المطلقة لإلنسان وأولئك الذين‬
‫أصبح العجز بالنسبة لهم أكبر تجربه في حياتهم‪ .‬وكمثال حي على عصر يبدو فيه أن كل شيء فقد قيمه‬
‫معينة‪ ،‬وأصبح يتعذر التعرف عليه من أجل الفهم البشري‪ ،‬استشهدت بالسؤال اليهودي‪ .‬رأت ارنت في‬
‫كراهية اليهود‪ ،‬في اإلمبريالية والشمولية؛ كل واحد أكثر وحشية من اآلخر اثباتا واضحا على أن الكرامة‬
‫اإلنسانية بحاجة إلى ضمان جديد يمكن العثور عليه فقط في مبدأ سياسي جديد‪ ،‬في قانون جديد على‬
‫األرض‪ ،‬يجب أن تدرك صلحيته هذه المرة البشرية جمعاء‪ .‬في الواقع‪ ،‬تماما مثل القضية الفلسطينية‬
‫اليوم‪ ،‬لخصت المسألة اليهودية مشكلة معينة وظاهرة جماهيرية‪ :‬مشكلة األشخاص عديمي الجنسية‪.‬‬
‫يمكن التخلص منهم بأعداد كبيرة وجعلهم بل حق أو نازحين أو معتقلين في المخيمات‪ .‬نظرا ا ألنه تم‬
‫تجريد السكان من الوضع السياسي وتحويلهم إلى حياة خالية‪ ،‬فقد نظر إلى معسكرات الموت‪ ،‬على وجه‬
‫الخصوص‪ ،‬على أنها العلمة النهائية السلبية للسلطة المطلقة‪ .‬لقد فسر جيل كامل من اليهود األلمان‬
‫المنفيين معاني الحداثة من منظور معسكر الموت والمحرقة‪ .‬وفقا ا لهذا التقليد‪ ،‬كان القتل الجماعي النازي‬
‫نتاجا ا ثانويا ا للسعي الحديث إلى التمكن والسيطرة التقنية‪ .‬لقد كان نتيجة الدافع الحديث الغريب الستبدال‬
‫التكنولوجيا واإلدارة والتنظيم بالمسؤولية األخلقية (‪.)Mbembe, A., 2004, P.294‬‬

‫لذلك يرى مبيمبي أنه من المستحيل تقديم تفسير جديد للحرية دون تفسير جديد لما يعنيه أن تكون‬
‫ضعيفاا‪ .‬ويزداد األمر سوءا ألن أثر الضعف البشري ووجهه النهائي هو الموت نفسه‪ .‬هذا هو الحال‪،‬‬
‫والموت هو الحد االقصى للحرية‪ ،‬فالتحرر من الموت نفسه يعني أن تكون إنسانا ا مع اآلخرين‪ .‬وينتقل‬
‫مبيمي إلى توضيح الرؤية األفريقية والتجربة السوداء‪ .‬وهو يرى أن النقد الفلسفي األسود تأثر بالحداثة‬
‫وبالتجربة التاريخية لألسر والعبودية والقهر االستعماري والعنصرية‪ .‬كان التقليد الفرنكفوني األسود‬
‫(سنغور‪ ،‬وسيزير‪ ،‬وفانون‪ ،‬وغيرهم) في طليعة هذا النقد‪ .‬يكشف التقليد الفرانكفوني األسود أيضا ا عن‬
‫محاوالات الغرب لممارسة احتكار العقل ويكشف القناع عن المعتقدات غير العقلنية المركزية ألي‬
‫مشروع للهيمنة العرقية‪ .‬هذا بالضبط ما فعله فرانز فانون‪ .‬أظهر مدي استعداد القوة الغربية للدفاع عن‬
‫المعتقدات غير العقلنية التي تشكل أساسا ا ألي شكل من أشكال العنصرية‪ ،‬إذا لزم االمر‪ ،‬من خلل‬
‫سياسة الوحشية واالبادة الجماعية كل ذلك باسم "الحضارة" واإلنسانية‪ .‬عدم قدرة القوة الغربية على‬
‫التفكير بشكل نقدي في نفسها فيما يتعلق بالقسوة التي تلحقها باألخر‪ ،‬وهذا الميل إلى إراقة دماء اآلخرين‬
‫باسم الحضارة والحرية واإلنسانية‪ ،‬لقد كان هذا في قلب النقد األسود للحداثة‪ .‬يجادل النقد األسود ضد‬
‫حقيقة أن القوى الغربية‪ ،‬في سعيها للسيطرة على السيادة على العالم‪ ،‬تخفي خصوصية تمت صياغتها‬

‫‪142‬‬
‫بشكل مميز من حيث القيم العالمية‪ .‬ومع ذلك فهي عالمية تقوم على مفهوم عنصري لما يشكل اإلنسان‪،‬‬
‫وتظهر التخيلت السوداء للحرية كرد فعل على دافع الموت هذا الذي يخفي نفسه تحت ستار الحضارة‬
‫واإلنسانية (‪.)Mbembe, A., 2004, P.296‬‬

‫هناك نسخة أخرى من التحرر نواجهها في الخيال األسود‪ .‬التحرير كحركة تضحية هو عملية‬
‫مستهلكة للغاية‪ .‬من خلل اإلرادة البشرية المطلقة‪ ،‬تتم التضحية بالذات من أجل الصالح العام في‬
‫المستقبل‪ .‬هذا ليس بعيدا عن االستشهاد‪ .‬يتم قتل شكل من أشكال الحياة من أجل الحفاظ على شكل آخر‪.‬‬
‫في الواقع‪ ،‬السعي من أجل الحرية هو محاكمة الموت‪ ،‬وإذا لزم األمر‪ ،‬قبول مسؤولية موت المرء كما‬
‫أوضح نيلسون‪ .‬الموت في هذه الحالة هو باب الحياة الذي يفتح حقيقة الحياة‪ ،‬الحياة التي تعيش بالتضحية‬
‫بنفسها‪ .‬إنها تضحية تتم عن الجميع‪ ،‬ومن هنا جاء طابعها التعويضي‪ ،‬الموت من مارتن لوثر إلى‬
‫مانديل‪ ،‬هذه السلطة المطلقة الممنوحة للموت أو إمكانية الموت‪ ،‬هذه الحرية األخروية‪ ،‬هي جانب أساسي‬
‫من السرد األ سود الحديث للخلص‪ .‬هناك العلقة بين الحرية والعنف‪ .‬سواء كان ذلك من الناحية النظرية‬
‫أو ال‪ ،‬فإن ممارسة العنف باسم النضال من أجل التحرير أو في هذا الصدد‪ ،‬كان البقاء سمة مشتركة‬
‫للعديد من الحركات السياسية‪ .‬إن قتل العدو هو نقطة الصفر للحرية (‪.)Mbembe, A., 2004, P.298‬‬

‫الحرية إذن؛ بالنسبة لألفارقة تعنى النضال من أجل االستقلل والكفاح ضد العنصرية‪ ،‬كما أنها‬
‫في المقام األول تكمن في اإلرادة واالعتراف بالنفس على أنها حرة‪ ،‬كما أنها بالنسبة للسود تبدأ من قتل‬
‫العدو‪ ،‬حين التخلص من عدوى والذي يمثل خطر واضح لوجودي وهويتي فإنني بذلك أكون قد خطوت‬
‫الخطوة األولى نحو الحرية‪ .‬إن الحرية ال تعنى فقط التخلص من العدو بصورة جسدية‪ ،‬بل التخلص منه‬
‫أيضا ا في الصورة الثقافية والمعرفية‪ ،‬التخلص من كل الرواسب الذي خلفها المستعمر‪.‬‬

‫بنا اء على ما تقدم؛ أن ظاهرة العنف لم تكن وليدة العصر الحديث؛ بل لها جذور تاريخية ضاربة‬
‫في القدم‪ .‬ومن خلل العنف يمكن تحديد األشخاص الذين يموتون والذين يظلون على قيد الحياة‪ ،‬وقد‬
‫تطورت أدوات وأساليب العنف مما أصبحت آذانا لعصر التوحش والقسوة المفرطة‪ .‬قد يتخذ العنف من‬
‫الدين نقطة انطلق للعمل على إبادة وطمس هوية الشعوب وفي فلسطين نموذج لذلك‪ ،‬وعلى الرغم من‬
‫األشكال المختلفة من العنف واألسباب المتعددة إال أن يظل العرق والعنصرية هما العامل األساسي‬
‫والدافع الرئيسي لها‪ .‬لذلك نجد مبيمبي يدعو صراحتا ا إلى نبذ العنف والعمل على تحقيق المساواة بين‬
‫البيض والسود من أجل العيش معا ا في عالم يسوده األمن واالستقرار‪ .‬ومن نبذ العنف إلى الرؤية‬
‫الصحيحة للتاريخ األفريقي ومن ثم مشاركة األفارقة الفعالة في حل المشكلت الفلسفية المطروحة على‬
‫الفكر الفلسفي الحديث‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫ثانيا ا‪ :‬أنتا ديوب والتخصصات المتعددة في خدمة مشروع الهوية‬

‫أنتا ديوب وفكرته عن التاريخ األفريقي‪:‬‬

‫إن فلسفة التاريخ األفريقي تستلزم نظاما ا من النظريات واألفكار التي من خللها يستطيع األفارقة‬
‫النظر إلى ماضيهم‪ .‬فيشمل الوعي التقليدي لألفارقة كيفية تطور مجتمعاتهم في الزمان والمكان‪ ،‬وكيف‬
‫ينبغي تفسير ذلك‪ .‬لقد دعا الشيخ أنتا ديوب إلى وجهة نظر قومية للتاريخ األفريقي‪ ،‬حيث إنه يهدف إلى‬
‫تمجيد المبادرات األفريقية في التاريخ‪ ،‬حيث ظهرت في أوائل فترة ما بعد االستعمار مبادرات كانت‬
‫تهدف إلى إنهاء استعمار تاريخ أفريقيا من النموذج األوروبي المركزي‪ ،‬والذي سيطر على التاريخ‬
‫األفريقي منذ وصول المستعمر (‪.)Nkhoma, B., 2006, P.109‬‬

‫لقد بدأ ديوب تحديد النهج األفريقي للتاريخ مؤكدا ا دراسة القضايا األفريقية استنادا ا على تاريخ‬
‫األفارقة‪ ،‬ويعتبر كتابه (تاريخ أفريقيا ما قبل االستعمار) عملا رئيسيا ا وبداية نهضة أفريقية لتاريخ أفريقي‬
‫‪ ،‬وفي كتابه (الوحدة الثقافية ألفريقيا السوداء) قد أكد على أنه ال ينبغي أن يكون إعادة اكتشاف الماضي‬
‫الحقيقي ألفريقيا عاملا مثيرا ا للنقسام؛ بل يجب أن يساهم في الوحدة األفريقية (أحمد‪ ،‬إيمان‪،2021 ،‬‬

‫ص‪.)68‬على هذه الخلفية ينطلق التاريخ القومي لتحدي الصورة االستعمارية لماضي أفريقيا من خلل‬
‫إعادة بناء إنجازات األفارقة‪ ،‬والمساهمات التي قدموها لحضارة العالم‪ .‬وهكذا‪ ،‬كان الفكر التاريخي‬
‫القومي يميل إلى أن يكون دفاعيا ا وأقل شمولية‪ ،‬ويركز على الموضوعات التي سلطت الضوء على‬
‫األهمية التاريخية لألفارقة مثل ممالك ما قبل االستعمار‪ ،‬والعبودية األفريقية‪ ،‬والمقاومة األفريقية‬
‫للستعمار‪.‬‬

‫دعا ديوب إلى استخدام منهجية مستقلة يستخدمها أولئك الذين يسعون إلى منظور أفريقي‬
‫للماضي‪ .‬نظرا ا ألن المصادر الموجودة؛ كانت محملة بتحيزات عنصرية استعمارية وتشوهات للصورة‬
‫األفريقية‪ .‬كما دعا إلى استخدام مفاهيم وتقنيات علم المصريات‪ ،‬وهو العلم المستخدم في دراسة حياة‬
‫وتاريخ مصر القديمة‪ .‬حيث كان يرى أن الحضارات األفريقية‪ ،‬إن لم تكن الحضارة العالمية‪ ،‬استمدت‬
‫أفكارها من قدماء المصريين‪ .‬ووفقا ا لنظرية االنتشار التي يستخدمها علماء األنثروبولوجيا في محاولة‬
‫تحديد تطور الثقافات وكيف تؤثر هذه الثقافات على بعضها البعض‪ ،‬ووفقا ا لديوب‪ ،‬فإن مصر نقطة‬
‫انطلق للثقافات األفريقية‪ ،‬كما اعتبر نظرية االنتشار مفيدة لفهم تطور الثقافة المصرية القديمة‪ ،‬وكيف‬
‫انتشرت إلى األجزاء األخرى من أفريقيا والعالم‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫دعا أيضا ا إلى الروح الوطنية كمحرك رئيسي للبحث التاريخي‪ ،‬كما دعا المؤرخون إلى إظهار‬
‫تصميم وشجاعة في مواجهة المعارضة العلمية‪ .‬تلك هي المنهجية التي يبني من خللها تاريخ أفريقيا‪،‬‬
‫وأصل الشيخ أنتا ديوب توضيح نظرية المعرفة التي يجب أن يتخذها التاريخ األفريقي ( ‪Nkhoma, B.,‬‬

‫‪ .)2006, P.109-112‬وتعرف منهجيته بأنها منهجية متعددة التخصصات‪ ،‬بمعنى االستخدام المنهجي‬
‫الثنين أو أكثر من التخصصات أو فروع العلم للتحقق والبحث في الظواهر وارتبطت هذه المنهجية‬
‫بأعمال ديوب حيث وضع أسس العديد من نظم المعرفة األفريقية من خلل ملحمة فكرية من الفيزياء‬
‫واللغويات واألنثروبولوجيا وعلم الوراثة والتاريخ والرياضيات‪ ،‬ولهذا يعد أنتا ديوب رائدا ا في مجال‬
‫إنتاج المعرفة عبر تعددية المناهج‪ .‬كما نادى الباحثون في الدراسات األفريقية ليصبحوا متعددي‬
‫التخصصات (أحمد‪ ،‬إيمان‪ ،2021 ،‬ص‪.)68‬‬

‫عندما حاول الشيخ أنتا ديوب ألول مرة الدخول في مجال دراسة مصر القديمة‪ ،‬وجد أنه مغلق‬
‫ومقتصر على األوروبيين فقط‪ .‬وقد حدث له نوع من اإلحباط عانى منه أثناء محاولته دراسة علم‬
‫المصريات باعتباره تخصصا ا أحتفظ به العلماء األوروبيون واألمريكيون ألنفسهم‪ ،‬حيث أقاموا بنية‬
‫منهجية أحادية التخصص للتفسير الذاتي ومعرفة الذات تسمى نقد المصدر‪ .‬مما جعل مارتن برنال يشن‬
‫هجوما ا على مقارهم واتهمهم بالدراسات األحادية الجانب والعقلية التي تستخدم علم المصريات إلحكام‬
‫قبضتهم على أفريقيا من أجل االستمرار في استغللها لمصالحهم الخاصة ومصالح العالم الغربي‪ ،‬كما أن‬
‫ديوب اتهم هؤالء العلماء بتزوير األدلة من أجل خدمة بنية تحتية ألطروحة تفوق البيض المصاحبة‬
‫للدونية السوداء (‪ .)Nabudere, D., P.23‬لقد حررت جهود الشيخ أنتا ديوب بتطبيق المعرفة التاريخية‬
‫بطريقة يمكن أن توفر أساسا ا سليما ا لفرق متعددة التخصصات ومتعددة التخصص من الباحثين األفارقة‪،‬‬
‫وقد أصبح تعدد التخصصات يعني إجراء بحث في العديد من التخصصات في نفس الوقت‪ ،‬بحيث يمكن‬
‫إثراء الموضوع المختار من خلل وجهات نظر العديد من المناهج‪ .‬ومن ثم كان النهج متعدد‬
‫التخصصات أمرا ا حاسما ا للباحثين األفارقة في القارة وفي الشتات (‪.)Nabudere, D., P.24‬‬

‫الفلسفة والعلم وعلقتهما بالهوية‪:‬‬

‫اعتبر الشيخ أنتا ديوب أن الفلسفة والعلم والدين هم أبرز أزمات الفلسفة المعاصرة‪ ،‬حيث تحدث‬
‫عن أزمة العقل وآفاق نظرية معرفية جديدة‪ ،‬وتحدث عن وجود مدرستين فكريتين في العلوم توازي‬
‫التيارين الفلسفيين الكبيرين‪ ،‬المادي والمثالي‪ .‬وقد اعتبر ديوب أن العقلنية في شكلها التقليدي باتت‬
‫موضع تساؤل‪ ،‬وأصبح الحديث غالبا ا عن أزمة المنطق بما أن مبادئ السببية والحتمية وقابلية فصل‬
‫الظواهر وطابعها الموضوعي – وهي أمور تسود في فيزياء األجسام الكبيرة وتواجه تحديات جوهرية‬

‫‪145‬‬
‫على مستوى الفيزياء الصغيرة‪ .‬ففي الوقت التي تحكم فيه الفيزياء التقليدية مبادئ ثلث متمثلة في الحتمية‬
‫والموضوعية واالكتمال‪ ،‬وان الحتمية تستلزم السببية‪ ،‬فإن ميكانيكا الكم تؤكد أن التفاعل بين الجسم‬
‫واألداة ليس سببا ا‪ ،‬وبالتالي فهي تنفي على مستواها المبادئ األساسية الثلثة لفيزياء األجسام الكبيرة‪ .‬ومن‬
‫تلك المشكلة البد من وجود عقلنية جديدة تتمكن من التقدم في معرفة الواقع‪ ،‬ويجب أن يتم بناؤها خطوة‬
‫بخطوة مع التسلح بالوعي الحاد واإلدراك والتفرد‪ .‬هذه النظرية الجديدة للمعرفة ينبغي على األفارقة‬
‫المشاركة في بنائها‪ ،‬فهي مهمة إيجابية‪ ،‬وكل الظروف مجتمعة لثورة معرفية غير مسبوقة من أجل تغيير‬
‫كامل في نموذج فهمنا للكون (عبد القادر‪ ،‬عبدو‪ ،2020 ،‬ص‪.)250-237‬‬

‫لقد كان ديوب يتصارع مع إنشاء معرفة ذات قيمة تعكس وجهة النظر األفريقية للعالم‪ ،‬فقد‬
‫تجاوز ديوب علم المصريات واألنثروبولوجيا‪ ،‬حيث طور أول مختبر للكربون المشع في العالم‪ ،‬وكان‬
‫هذا المختبر قادرا على تطوير أربع عشر طريقة للتأريخ وتقديم بيانات علمية لم يكن من الممكن الوصول‬
‫إليها سابقا ا ضمن التخصصات األحادية لألنثروبولوجيا وعلم المصريات‪ .‬أن ما فعله ديوب وهو التنقل‬
‫بين التاريخ واألنثروبولوجيا ومختبر الفيزياء‪ ،‬وشغل المساحات الفارغة بينهما من أجل إحياء الحقائق‬
‫لدعم كتابة تاريخ أصيل ألفريقيا‪ ،‬فقد جادل بوجود علقة وثيقة بين التخصصين‪ ،‬فهناك تشابه بين عمل‬
‫ديوب وميكانيكا الكم‪ ،‬حيث يكون لديك جسيم يمكن أن يكون إما موجه أو جسيما ا‪ ،‬لم يكن هذا مجرد‬
‫انعكاس نظري على الطريقة التي يرتبط بها مفهوم الترابط هذا في بحث ديوب العلمي والنتائج التي‬
‫توصل إليها لقد تجاوزت هذه المظاهر وتم توفير مساحة لبيانات القيمة حول الثقافة األفريقية‪.‬‬

‫إن جميع المفاهيم الفيزيائية البشرية هي في نفس الوقت تصورات للعقل والتي تدعم أنظمة‬
‫المعرفة‪ ،‬وهكذا وللمرة األولى تمت إزالة االنقسام الديكارتي العميق بين الجسد والعقل عن طريق‬
‫التفكير والتأم‪ ،‬وقد استخدم ديوب هذا النهج في كتابة أفريقيا السوداء قبل االستعمار‪ ،‬فقد حقق ديوب قفزة‬
‫نوعية من مفهوم الزمن للتاريخ إلى مفهوم فلسفي للتاريخ‪ ،‬فقد أظهر ديوب كيف يمكن للمرء أن يكتب‬
‫تاريخا ا ألفريقيا دون أن ينغلق في مجرد تسلسل زمني لألحداث‪ ،‬وقد تجاوزت تلك القفزة النوعية نظرية‬
‫المعرفة الموجودة في جميع مظاهرها‪ ،‬وكان ذلك سببا في أن يضطر ديوب إلى متابعة جميع خطوط‬
‫البحث للعثور هذا المسار الجديد (متعدد التخصصات) إلنتاج المعرفة‪ ،‬فحسب ديوب يجب إتقان العديد‬
‫من التخصصات بحيث ال يمكن للمرء أن يأمل في النجاح بمفرده‪ ،‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬بدأت بمصر‬
‫القديمة وعلقتها ببقية أفريقيا من خلل علم اللغة والتاريخ‪ ،‬ثم سرعان ما اضطر إلى إتقان مجاالت‬
‫أخرى مختلفة مثل علم األعراق البشرية واألنثروبولوجيا ونتيجة لذلك تم التوجه للتعامل مع الكيمياء‬
‫الحيوية والفيزياء والرياضيات والفلسفة وما إلى ذلك (‪ .)Nabudere, D., P.27-28‬لقد استخدم أنتا ديوب‬

‫‪146‬‬
‫التخصصات المتعددة في إنتاج معرفة جديدة للتاريخ األفريقي‪ ،‬فقد سعى إلى استعادة الوعي التاريخي‬
‫للشعوب األفريقية من خلل تأسيس نظرية المعرفة األفريقية كعملية تحرير‪.‬‬

‫فقد كان أنتا ديوب يعتقد أن تصحيح التاريخ يمنح األفارقة أساسا ا حقيقيا ا لمعرفة الذات‪ ،‬وإن لم‬
‫يعط التاريخ األفريقي أساسا ا قويا ا لمعرفة الذات‪ ،‬فسيظل األفارقة أشياء يتم التلعب بها وتهميشها من قبل‬
‫الغرب‪ ،‬لكن إذا حصل األفارقة على تاريخ صحيح فسوف يصبحون على استعداد لبناء مستقبل أفضل‪.‬‬
‫وقد اختلف أنتا ديوب عن فرانز فانون بالنسبة لمعرفة الماضي‪ ،‬حيث ذهب فانون إلى أن اكتشاف وجود‬
‫حضارة للزنوج ال يمنحني براءة اختراع لإلنسانية‪ ،‬حيث ال يمكن للماضي أن يرشدني في الوقت‬
‫الحاضر وبدالا من ذلك فإن الهدف األساسي لألفارقة هو أن يكونوا مبدعين‪ ،‬فبالنسبة إلى فانون فإن‬
‫الحضارة التي يحددها ماضيها تذهب هبا اء‪ ،‬وبالنسبة لديوب فإن معرفة الذات دون تاريخ هي فارغة‪ .‬إن‬
‫التحدي األفريقي المعاصر هو أخلقي في المقام األول (البحث عن الحرية) من أجل ذلك يجب على‬
‫األفارقة أن يضعوا إمكانيات تحريرية حقيقية (‪.)Chimuka, A., 2012, P.232.233‬‬

‫لقد أثار ديوب مسألة نظرية الكم وكيفية ارتباطها بالمسألة المطروحة في كتابة حضارة أم‬
‫بربرية‪ ،‬وأشار إلى أن العصور القديمة العلمية لم تعرف إال المنطق الصوري‪ ،‬فهذا هو كل ما سمح به‬
‫المستوى العلمي في ذلك الوقت‪ ،‬ولكن مع تطور فيزياء الكم وصلنا إلى مرحلة يمكن فيها تعديل عادات‬
‫التفكير لدينا بشكل أعمق‪ .‬فقد دعا ديوب إلى وجود شكليات منطقية رياضية جديدة ستثير ألول مرة في‬
‫تاريخ العلوم الشك وعدم اليقين على مستوى القيمة المنطقية‪ ،‬إن العصور القديمة العلمية ال يمكن أن تثير‬
‫الشك وعدم اليقين إلى مستوى القيمة المنطقية‪ ،‬من أجل إنشاء منطق ثلثي التكافؤ كان ضروريا ا لتقدم‬
‫الفيزياء‪ ،‬لذلك كان على المرء انتظار مجيء فيزياء الكم‪ ،‬حتى تتغير العادات العقلية بشكل جذري ولكن‬
‫مؤكد‪ .‬فيقول أنجلز إن الطبيعة دائما ا هي التي تصحح الروح وليس العكس‪ .‬المعرفة‪ ،‬وهذا هو المنطق‪،‬‬
‫وهذا هو السبب وراء ذلك حيث أصبح من الواضح أن االنفتاحات الجديدة جعلت من الممكن تعديل‬
‫عادات تفكيرنا والتحرك نحو تطور ال نهائي لهياكلنا العقلية‪ ،‬ومنطقنا‪ ،‬وعقلنا ( ‪Diop, C., 1981,‬‬

‫‪.)P.363.364‬‬

‫وجعلت فيزياء الكم من الممكن التخلص من فكرة الفراغ المطلق‪ ،‬فالمادة موجودة على مستويات‬
‫مختلفة في كل مكان في الكون‪ ،‬وعلى هذا األساس تنبأ ديوب بأنه ربما ستحل اإلنسانية يوما ا ما المشكلة‬
‫األساسية للفلسفة وهي مشكلة الوجود‪ .‬إن الفلسفة تمر اليوم بفترة صعبة للغاية‪ ،‬فقد يكون باعث القلق هو‬
‫أن المصدر الرئيسي للفلسفة يبدو كما لو أنه قد نضب‪ ،‬فاإلنتاج الفلسفي يتناقض من حيث الكم ولكن‬
‫بشكل خاص من حيث الكيف‪ ،‬فقد أصبح الفيلسوف األن لم يعد هو الناطق بالمعرفة‪ ،‬فقد تلقت ميتافيزيقا‬

‫‪147‬‬
‫اإلنسان طعنة شديدة حينما جاء كوبرنيكوس وجاليليو وكبلر وقاال بعدم مركزية األرض‪ ،‬حيث كان‬
‫االعتقاد السائد منذ القرن السادس قبل الميلد مع الفلسفة الطبيعيين ‪ ،‬حيث تطور الفلسفة وهي على صلة‬
‫وثيقة مع العلم‪ ،‬وكان كل مرحلة من مراحل تطور العلم كانت لها استنباطات ميتافيزيقية‪ ،‬وكانت لفكرة‬
‫مركزية األرض اليد العليا على امتداد العصور القديمة والعصور الوسطى إلى أن جاء الثلثي الفلكي‬
‫السبق ذكرهم بتطور جديد وهو أن الشمس هي مركز الكون وليس األرض‪ ،‬ومع هذا االكتشاف انهارت‬
‫ميتافيزيقا اإلنسان‪ .‬فأصبحت الميتافيزيقا امتدادا مباشرا لنتائج األبحاث العلمية مع الفلسفة أمثال ديكارت‬
‫واليبنتز‪ .‬وعلى الرغم من أن بعض المفكرين يقولون إن الفلسفة النابعة عن العلوم خطاب فارغ إال أن‬
‫ديوب يؤكد أن العلم كان وما زال مصدر اإللهام الرئيسي للفلسفة ولهذا السبب ستبقي الفلسفة موجودة‬
‫على الدوام (ديوب‪ ،‬ص‪ .)351‬يعتقد أنتا ديوب أن التجديد الكبير في الفلسفة قد يأتي من العلوم الطبيعية‬
‫كعلمي األحياء الجزيئية والوراثية‪ ،‬حيث إن االكتشافات التي قدمتها خلل العقدين الماضيين ساهموا بقوة‬
‫في تجديد ميتافيزيقا اإلنسان‪ ،‬وأدت إلى تجاوز جزء كبير من األعمال الفلسفية السابقة التي كانت مبنية‬
‫على مجرد تكهنات (عبد القادر‪ ،‬عبدو‪ ،2020 ،‬ص‪.)352‬‬

‫وعن مواجهة الفلسفة مع الدين‪ ،‬فإن مشكلة الوجود األبدي للكون يطرح ذات المشكلة المتعلقة‬
‫بطبيعة الوجود‪ ،‬وقد كانت المواجهة مع الذات في كون هجرته الروح‪ ،‬أمر مقلق للغرب الذي يدرك أنه‬
‫يتعايش مع شعوب ما زالت تعرف غاية وجودها على األرض‪ ،‬وان اإلنجازات الدنيوية لألمم ترتبط‬
‫ارتباطا وثيقا بهذه القناعة‪ .‬لذلك فإن البحث عن فلسفة تصالح بين اإلنسان وبين نفسه تتطلب‪:‬‬

‫أولا‪ :‬ضرورة العودة إلى درب التاريخ والسير بقناعة أقوى من أي وقتا مضى والتخلص نهائيا ا من أي‬
‫شكوك‪.‬‬

‫ثانيا ا‪ :‬الحاجة إلى مستوى أكثر عموما ا إلعطاء معنى للحياة والوجود‪.‬‬

‫ثالثا ا‪ :‬إعادة كتابة تاريخ الفلسفة‪ ،‬وال سيما تاريخ بدايتها في العصور القديمة‪.‬‬

‫وإن بوسع الفلسفة األفارقة المسلحين بماضيهم الثقافي والتاريخي‪ ،‬أن يشاركوا في بناء هذه‬
‫الفلسفة الجديدة التي ستساعد اإلنسان على التصالح مع نفسه والتي سيكون انطلقها بدرجة كبيرة من‬
‫التلحم بين التفكير الفلسفي وبين العلوم (عبد القادر‪ ،‬عبدو‪ ،2020 ،‬ص‪ .)355‬إن الروح العلمية تشمل كامل‬
‫مجال إنتاج المعرفة في العلوم الدقيقة والعلوم االجتماعية واإلنسانيات وكذلك في العالم الروحي‪ ،‬فقد‬
‫عكست فكرة التوافر المنطقي فهم العلم والثقافة والروحانية على أنها تنتمي إلى عوالم مختلفة من المعرفة‬
‫– إحداها معني بدراسة الكون (من أين أتينا)‪ ،‬واآلخر معني بالثقافة (من هم ونحن)‪ ،‬وأخر معني‬
‫باللهوت أو الدين (الروحانية)‪ ،‬وهذا يعني من منظور أنتا ديوب ان الفلسفة الكلسيكية كما روج لها‬

‫‪148‬‬
‫أصحاب األدب‪ ،‬قد ماتت‪ .‬ومن ثم فإن الفلسفة الجدد المسلحين بمفهوم االحتمال المنطقي يجب ان‬
‫يشكلون فلسفة متكاملة جديدة من شأنها ان تتغلب على انفصال العالم عن الفيلسوف ومن ثم على المجتمع‬
‫(‪ .)Nabudere, D., P.30‬إن ظهور مجموعة جديدة من العلوم اإلنسانية واالجتماعية والفيزيائية‬
‫والطبيعية األفريقية بات أمرا ا ممكنا ا‪ ،‬بنا اء على أسس أخلقية لسلوك اإلنسان في الطبيعة‪ ،‬أخلق جديدة‬
‫تأخذ في االعتبار المعرفة الموضوعية‪ ،‬وسيساهم هذا التطور في تقدم الضمير األخلقي لإلنسانية‪،‬‬
‫تصور جديد لإلنسانية دون تصورات عرقية (‪.)Diop, C., 1981, P.375‬‬

‫النهضة األفريقية والوحدة األفريقية وجهان لعملة واحدة من منظور الشيخ أنتا ديوب‪:‬‬

‫النهضة األفريقية هي مفهوم أن الشعوب واألمم األفريقية يجب أن تتغلب على التحديات الحالية‬
‫التي تواجه القارة وتحقق التجديد الثقافي والعلمي واالقتصادي‪ .‬وقد تم التعبير عن النهضة األفريقية ألول‬
‫مرة من قبل الشيخ أنتا ديوب في سلسلة من المقاالت التي بدأت عام ‪ 1946‬والتي تم جمعها في كتابه‬
‫(نحو النهضة األفريقية‪ :‬مقاالت في الثقافة والتنمية)‪ .‬كان ديوب يرى أنه حتى لو تعرضت أفريقيا للنهب‬
‫واالنتهاكات من قبل االستعمار‪ ،‬ال يمكن ألفريقيا أن تموت‪ ،‬حيث كان يعتقد أن هناك قوة من الصحوة‬
‫بين األفارقة ولونهم األسود يجعلها فريدة من نوعها للنهضة‪ .‬لقد دافع ديوب عن أفريقيا أفضل والتي‬
‫ستكون متاحة لجميع أولئك الذين يعيشون فيها (‪ .)Maruma, P., 2018, P.180‬أن استعباد أفريقيا‬
‫وشعوبها بدأ مع السيطرة على عقولهم‪ ،‬لذلك‪ ،‬فإن أساس التحرر األفريقي والنهضة األفريقية‪ ،‬يجب‬
‫بالضرورة أن يبدأ بإنهاء استعمار العقل األفريقي من خلل استعادة التاريخ األفريقي ( ‪Ankomah, B.,‬‬

‫‪ .)2020, P.6‬لذلك كان إحدى أهم القضايا الرئيسية التي دافع عنها ديوب وأكد على أنها جوهر النهضة‬
‫األفريقية هي اللغة‪ ،‬وجادل بأن األفارقة فقدوا هويتهم وكرامتهم وتقرير مصيرهم من خلل السماح‬
‫ألنفسهم بتغيير لغتهم التي كانت الوسيلة الوحيدة التي كانت واضحة في التواصل‪ ،‬لذلك فإن تطوير لغاتنا‬
‫األصلية هو شرط أساسي لنهضة أفريقية حقيقية‪ ،‬وكان تبرير ادعائه هو أن اللغات األجنبية كانت تتطلب‬
‫من األفريقي بذل مجهود مضاعف الستيعابها‪ ،‬وكان من مخاطر التنوع اللغوي والثقافي الذي كان من‬
‫أعمال المستعمر‪ ،‬يضرب ديوب مثلا بلغته (الولوف) التي فقدت أصالتها بسبب االستعمار‪ .‬لقد دعا ديوب‬
‫إلى النهضة األفريقية كطريقة لمعالجة اختلل التوازن االستعماري (‪.)Maruma, P., 2018, P.180-180‬‬

‫لقد دعا ديوب إلى وحدة ثقافية ألفريقيا وطالب بتوحيد أفريقيا حول لغة واحدة تكون وسيلة‬
‫للتواصل بين جميع أنحاء القارة‪ ،‬وعن خطوات النهضة المطلوبة للنهوض بأفريقيا بخلف التحكم في‬
‫لغتنا التاريخية‪ ،‬يجب أن يكون لدينا اكتشاف واستجواب لتراثنا بحيث ال يسمح األفارقة لآلخرين بأن‬
‫يكونوا المترجمين الرئيسيين لتاريخنا‪ ،‬أيضا ا البد من ربط الثقافات بمعني مقارن وتعاون حتى نفهم‬

‫‪149‬‬
‫ممارسة واحدة بلغات مختلفة على أنها مرتبطة بالفكرة األصلية نفسها‪ ،‬فجميع مناهج النهضة تستند إلى‬
‫فكرة إعادة الميلد إلى المفهوم األصلي‪ ،‬ومن ثم يجب على األفارقة أن يقدروا مركزية الثقافة األفريقية‬
‫وحتمية الهجرة‪ ،‬ومن ثم تطور الثقافة والممارسات والقيم ‪ .‬أيضا ا البد من التخلي عن كل أشكال الهيمنة‬
‫الثقافية فاألفارقة ليسوا من الدرجة الثانية رغم محاولة االستعمار لألفارقة واستعبادهم ( ‪Diop, C., 2018,‬‬

‫‪.)P.9-10‬‬

‫مثلما دعا ديوب إلى وحدة ثقافية ألفريقيا من أجل النهوض بالقارة‪ ،‬دعا أيضا ا إلى وجود وحدة‬
‫اقتصادية‪ ،‬حيث يجب أن تكون أفريقيا قادرة على إعالة سكنها‪ ،‬لذلك كان هناك وجوبا حتميا لتطبيق‬
‫سياسة منهجية إلعادة التوطين المكثف في الوقت االمثل‪ ،‬يجب أن تواصل أفريقيا السوداء احتواء‬
‫مصادر كافية للطاقة الطبيعية والمواد الخام والمواد الغذائية إلطعام وإدامة السكان‪ .‬وحذر بشدة أفريقيا‬
‫من أن تراقب عن كثب تحديد المواقع من قبل بعض القوى الغربية فيما يتعلق بالنمو السكاني‪ ،‬حيث رأي‬
‫أن الخطر المحتمل ألفريقيا المستقلة الفارغة ديموغرافي (‪ .)Diop, C., 2004, P.30‬إن السعي لتحقيق‬
‫الوحدة األفريقية أصبح ضرورة حتمية في مواجهة التطلعات والمطالب من قبل منظمة الوحدة‬
‫األوروبية‪ ،‬والتي تبنت تقسيم أفريقيا واتباع سياسة العنصرية‪ .‬لقد دعا ديوب إلى وجود األساس‬
‫االقتصادي والثقافي لبناء دولة فيدرالية قادرة على مواجهة المخاطر والتحديات الراهنة‪.‬‬

‫لقد ظهرت فكرة الوحدة األفريقية على أنها ثورة للتاريخ االستعماري وفي نفس الوقت قدمت‬
‫وعيا ا تاريخيا ا متجانسا ا غذى النضال ضد االستعمار‪ .‬فقد بشرت الوحدة األفريقية بفكرة الوحدة األفريقية‬
‫حيث لم تكن موجودة من قبل‪ .‬كانت الدول المستقلة الجديدة مجرد أرض استعمارية دون أي شعور‬
‫بالخيال المشترك‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن االستقلل السياسي يتطلب أيديولوجية‪ .‬فقد بشرت الوحدة األفريقية‬
‫بخيال مشترك للتضامن السياسي واالستقرار فقد قدمت إحساسا ا جديدا ا بالهوية الوطنية مستمدا ا من الوعي‬
‫االجتماعي والتاريخي والسياسي للشعوب األفريقية على عكس النظام االستعماري وهويته المفروضة‪،‬‬
‫هذا هو اإلطار األيديولوجي إلحداث شعور باالنتماء القومي في مجتمع متمايز ثقافيا ا ( ‪Eze, M., 2013,‬‬

‫‪.)P.680‬‬

‫ما ترتب على أفكار الشيخ أنتا ديوب‪:‬‬

‫آثار عمل الشيخ أنتا ديوب نقاشا ا حادا ا بين علماء التاريخ األفريقي؛ أدى إلى ظهور مدرستين‪:‬‬

‫تدين األولى أفكار الشيخ أنتا ديوب باعتبارها تزويرا حقيقيا للتاريخ التي حاولت فقط تحريف‬
‫تاريخ أفريقيا لملءمة وتعزيز مصالح األفارقة‪ .‬ويرى هذا الفريق أن المصريين لم يكونوا من السود‪،‬‬

‫‪150‬‬
‫وأن حضارتهم مستعارة من الساميين في آسيا عن طريق البربر أو الليبيين‪ ،‬ووفقا ا لهذا الفريق فإن‬
‫المصرين لم ينحدروا من أعالي النيل كما قال ديوب‪ ،‬بل جاءوا من الدلتا‪ .‬أي أن المصريين هم من أثروا‬
‫في األثيوبيين أو النوبيين وليس العكس‪ .‬وقد رفض المصريون أنفسهم آراء ديوب حول أسلفهم بأنهم‬
‫كانوا من السود (‪ .)Diop, C., 2006, P.115‬منهم الدكتور زاهي حواس والذي له اهتمام كبير بالهوية‬
‫المصرية‪ ،‬والذي أكد من خلل النظر في دراسات علم األنثروبولوجيا بأنه ال يوجد دليل كاف في محاولة‬
‫معرفة أصل المصريين‪ ،‬وقد اعتمد في هذا الرأي على اكتشاف جبانه بصعيد مصر على يد سير فلندرز‬
‫بترى‪ ،‬والذي أعتقد أن هؤالء هم من صنعوا الحضارة المصرية مدللا على ذلك بأن النيل يوجد في العديد‬
‫من الدول األفريقية كما أن حالة الجو في تلك البلد أفضل من مصر وأغلب هذه الدول تمتلك ثروة‬
‫طبيعية ومع ذلك لم تقم حضارة مثل الحضارة المصرية في أي مكان‪ ،‬لذلك اعتبر أن أصل المصريين‬
‫مصريون‪ .‬وقد أكد أنه يميل إلى أن من أنشأ الحضارة المصرية هم المصريون الذين نشأ حول نهر النيل‬
‫(أحمد‪ ،‬إيمان‪ ،2016 ،‬ص‪ .)144‬أيضا ا نجد جمال حمدان صاحب موسوعة شخصية مصر‪ ،‬والذي أظهر‬
‫انحيازا سلبيا ا تجاه البعد األفريقي؛ حيث اعتبره جغرافيا افقط‪ ،‬باعتبار أن مصر جزء من قارة أفريقيا‪ .‬كما‬
‫اعتبر العلقات مع شمال أفريقيا جزء من الوجود العربي وهو يشترك مع الرؤية الغربية التي تفصل‬
‫شمال أفريقيا عن جنوب الصحراء‪ ،‬كما اعتبر البعد األفريقي جزءا ا من المجال العربي ووضع موقع‬
‫مصر بين العروبة واألفريقية جزءا ا من االتجاهات االستعمارية التي تحارب الدور السياسي لمصر في‬
‫القارة‪ ،‬كما اعتبر الوحدة األفريقية وحدة عمل وتضامن لمواجهة االستعمار‪ ،‬على عكس الوحدة العربية‬
‫والتي تعتبر وحدة مصير وان الوحدتين في مستويين مختلفين في النوع وليس في الدرجة‪ ،‬كما رفض‬
‫نص الدستور على أن مصر جزء من أفريقيا(أحمد‪ ،‬إيمان‪ ،2021 ،‬ص‪ .)152‬في الواقع فإن رأى جمال‬
‫حمدان مماثل لآلراء الغربية التي فصلت مصر وأثيوبيا عن القارة األفريقية‪ ،‬والتي حرص الشيخ أنتا‬
‫ديوب إلى استرجاع مصر وأثيوبيا لقلب أفريقيا من جديد‪.‬‬

‫المدرسة الثانية‪ /‬هي تلك التي أعجبت بديوب من أفريقيا والشتات األفريقي‪ ،‬وتنتمي المدارس‬
‫القومية واألفريقية إلى تلك المدرسة‪ ،‬حيث ترى أن عملية نزع الحضارة عن الدول األفريقية من خلل‬
‫عمليات التهجير واالستيعاب التي مر بها األفارقة بعد غزوهم‪ ،‬باإلضافة إلى آثار تجارة الرقيق والغزو‬
‫االستعماري والرأسمالي‪ .‬ويتفق هؤالء العلماء على أن األوروبيين وجدوا األفارقة بدائيين خلل القرن‬
‫التاسع عشر‪ ،‬لكنهم أكدوا أن هذا كان خلل لقائهم الثاني مع األفارقة‪ ،‬حيث كان في تلك المرحلة قد تم‬
‫تدمير التراث األفريقي من خلل تجارة الرقيق واالستعمار (‪ .)Nkhoma, B., 2006, P.116‬ولعل حركة‬
‫األفروسنتريك من أشهر الحركات التي تبنت آراء ديوب واعتنقتها ودافعت عنها بشدة‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫أثر الشيخ أنتا ديوب في الواقع األفريقي والنقد الموجه له‬

‫ومما سبق يمكن القول إن أنتا ديوب ترك تأثيرات متعددة في الدراسات األفريقية المعاصرة منها‪:‬‬

‫أولا المركزية األفريقية‪ :‬لم يكن فكر ديوب حكرا ا على أفريقيا وحدها بل امتد إلى خارجها‪ .‬إن‬
‫المركزية األفريقية تعطي فهما ا أكبر للظواهر األفريقية وهي ال تقوم على نقد الثقافة األوروبية‪ ،‬بل تهدف‬
‫إلى إعطاء الشعوب األفريقية مصطلحاتهم الخاصة وتطبيق المعايير األفريقية على مختلف جوانب‬
‫الحياة‪ .‬وعلى الرغم من أن أنتا ديوب لم يستخدم مصطلح المركزية األفريقية إال أنه أسس ألبحاثه من‬
‫خلل ربط مصر بأفريقيا عن طريق إثبات أصلها األفريقي (أحمد‪ ،‬إيمان‪ ،2021 ،‬ص‪.)68‬‬

‫ثانيا ا الفلسفة األفريقية‪ :‬لقد حسم ديوب اإلشكالية الكبرى في تاريخ الفلسفة األفريقية المتمثلة في‬
‫التساؤل من أين تبدأ الفلسفة األفريقية؟ حيث أسس ديوب مدرسة للفلسفة المعاصرة تسمي المصريات‪،‬‬
‫والتي تعد مصر هي المرجعية لدراسة الفلسفة األفريقية‪ .‬وبفضل ديوب تم تدريس الفلسفة األفريقية في‬
‫المدارس والجامعات (أحمد‪ ،‬إيمان‪ ،2021 ،‬ص‪ .)68‬لقد كان الشيخ أنتا ديوب متحمسا ا لماضي أفريقيا ولكن‬
‫أيضا ا في تركيبته العقلية نجد السياسي لذا يدرج المؤرخون رسالته العلمية في إطار النضال السياسي‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن أطروحته تقابل بتحفظ في أول األمر إال أنها تمد اآلن الكثير من الساسة األفارقة‬
‫بأطروحات وأفكار قوية ويكن كثير من هؤالء السياسيين لديوب احتراما ا‪ ،‬حيث كتب إيمي سيزار في‬
‫مقال له عن ظاهرة االستعمار والتي تعتبر إحدى الكتابات الرئيسية المناهضة للستعمار أن كتاب األمم‬
‫الزنجية والثقافة يعتبر أجرأ كتاب كتبه زنجيا على اإلطلق وأنه سيكون بل شك علمة في نهضة أفريقيا‬
‫(مهدي‪ ،‬محمد‪ ،‬ص‪.)93‬‬

‫وعلى الرغم من عبقرية ديوب والتي تتمثل في اعتباره الرائد لكل خطاب الحق عن إنهاء‬
‫االستعمار‪ ،‬والتخلص من األوروبية وإعادة أفريقيا‪ .‬حيث إنه قبل ديوب ال يوجد مفكرا قد وجه مثل هذه‬
‫الدعاوي إلعادة ترتيب سرد البشر‪ .‬لقد كان ديوب يعلم أن على أوروبا أن تسرق مصر من أفريقيا ألن‬
‫مضطهدي األفارقة لم يقبلوا أن السود قد خلقوا أعظم حضارة في العصور القديمة‪ ،‬كانت موجودة فقط‬
‫في قارة أفريقيا بالقرب من الحضارات السوداء األخرى في النوبة وأثيوبيا وتشاد‪ ،‬لذلك‪ ،‬استعاد ديوب‬
‫مصر ألفريقيا حيث كتب في أصل الحضارة (نتجت حضارة وادي النيل عن تكييف اإلنسان مع تلك‬
‫البيئة الخاصة‪ .‬كما أعلن أن القدماء المصريين قد نشأ في النوبة‪ ،‬وهذا ما تؤكده معرفتنا أن العناصر‬
‫األساسية للحضارة المصرية ليست في الوجه البحري وال في آسيا وال في أوروبا‪ ،‬بل في النوبة في قلب‬

‫‪152‬‬
‫أفريقيا‪ ،‬علوة على ذلك‪ ،‬هذا هو المكان الذي نجد فيه الحيوانات والنباتات الممثلة في الكتابة‬
‫الهيروغليفية)‪.‬‬

‫كما أن االدعاء بأن إنهاء استعمار المعرفة كمفهوم لم يكن موجودا ا قبل ديوب ( ‪Diop, C., 2018,‬‬

‫‪ .)P.11-12‬وهذه أيضا ا نقطة ال تقل أهمية في رحلته عن البحث عن الهوية األفريقية‪ ،‬إال أن أفكار ديوب‬
‫ومنهجيته لم تسلم من النقد‪ .‬فقد يرى بعض الكتاب أن البحث عن الهوية األفريقية الجامعة أمر غير‬
‫ممكن؛ ألن األفارقة ليسوا سواء يعبرون عن مجموعة واحدة متجانسة‪ ،‬بل إنهم ينتمون إلى العديد من‬
‫الشعوب واألعراق‪ ،‬مع تنوع في المعتقدات الثقافية واللغات والتقاليد‪ .‬ويعد االتصال األفريقي غير‬
‫المتكافئ بالغرب السبب الرئيسي ألزمة الهوية األفريقية ومشكلتها فقضايا العنصرية والعبودية‬
‫واالستعمار أدت ال شك إلى حالة من الغربة النفسية والثقافية لألفارقة‪ ،‬ودفعت أيضا ا إلى فقدان الهوية‬
‫الجماعية األفريقية (عبد الرحمن‪ ،‬حمدي‪ ،2019 ،‬ص‪.)19‬‬

‫على الرغم من وجود قدر كبير من التعاطف الذي أعرب عنه العلماء الغربيون لفكرة التاريخ‬
‫األفريقي التي كتبها األفارقة؛ فقد أشار البعض إلى أن المؤرخين مثل ديوب في بحثهم عن وجود هياكل‬
‫الدولة في الماضي األفريقي لدعم األمة المعاصرة‪ ،‬استندت جهود البناء إلى أفكار هي في النهاية غريبة‬
‫عن التجربة التاريخية األفريقية‪ ،‬مثل تلك التي قدمها ماركس حيث تم انتقاد ديوب الستخدامه مصطلحات‬
‫مثل اإلقطاع واالشتراكية والنظام األمومي كما لو كان يصف حقائق عالمية‪ ،‬والتي يرى برنال أن هذه‬
‫المشكلة دليل على السيطرة التي تواصل بها أوروبا ممارستها على مستعمراتها السابقة ‪.‬‬

‫أيضا ا بالنسبة لعدد من العلماء الغربيين‪ ،‬يعتقد أن ديوب قد ابتكر أساطير قومية أو أفريقية على‬
‫حساب الدراسات الصحيحة‪ ،‬كما حظيت محاولة ديوب لخلق قومية أفريقية من خلل كتابة التاريخ‬
‫األفريقي باستقبال نقدي في أوروبا (‪ .)Warring, M., 2007, P.79-81‬ال يمكن أن تستمر أطروحة ديوب‬
‫دون تحدى‪ ،‬فيما يتعلق بالمنهجية‪ ،‬فقد أعتمد ديوب فقط على المصادر األثرية والصور والكتابات‬
‫الكلسيكية‪ ،‬وعلى الرغم من أن هذه المصادر تقدم معلومات عن الفترة التي سبقت اكتشاف السجلت‬
‫المكتوبة وأن البيانات التي تم الحصول عليها من خللها خالية من التشوهات االستعمارية والمبالغات‪ ،‬فقد‬
‫تم انتقادها على أنها مصادر غير موثوقة بسبب اعتمادها على التكهنات للوصول إلى استنتاجات حول‬
‫الماضي‪ .‬وإن الشيخ أنتا ديوب بدالا من أن يعرض هذه المصادر للنتقاد للتأكد من صحتها وأصالتها‬
‫وفصل األساطير عن الحقائق‪ ،‬اعتمدها بالجملة في دراساته‪ .‬هذا باإلضافة إلى أنه لم يتم بذل أي جهد‬
‫لمقارنتها باألدبيات الموجودة خاصة األعمال الحديثة عن التاريخ األفريقي‪ .‬واألسوأ من ذلك‪ ،‬أن اختياره‬
‫للمصادر كان انتقائيا ا حيث تم تجاهل المصادر التي تتعارض مع أطروحته‪ ،‬ويرتبط بهذا موقف الرافض‬

‫‪153‬‬
‫للنقد‪ ،‬حيث يعتبر نقد عمله ما هو إال محاولة أوروبية لتدمير األهمية التاريخية والتراث الثقافي األفريقي‬
‫(‪.)Nkhoma, B., 2006, P.118‬‬

‫لقد كانت مشكلة الشيخ أنتا ديوب تكمن في أنه بدل من استخدام المصادر في حد ذاتها‪ ،‬أراد أن‬
‫يصممها وفقا ا لحجته وأيديولوجيته‪ .‬فقد أثر فشل ديوب في إخضاع المصادر للنقد العلمي سلبا ا على جودة‬
‫استنتاجاته‪ .‬أيضا ا فكرة الشيخ أنتا ديوب عن إنشاء دولة فيدرالية‪ ،‬ليس عمليا ا فيما يتعلق بالسياسة‬
‫األفريقية‪ ،‬باإلضافة إلى مشاكل االثنية والقبلية‪ .‬واألهم من ذلك‪ ،‬فإن النموذج الكامل للتأريخ القومي‬
‫تعرض للنتقاد بسبب ميلها إلى تحويل المواد التي انعكست بشكل سيئ على المجتمع األفريقي‪ ،‬كما أن‬
‫التاريخ القومي إلى حد كبير مصالح األنظمة الجديدة‪ ،‬ويركز بشكل ضيق على الموضوعات السياسية‬
‫على حساب الموضوعات االجتماعية والقضايا االقتصادية (‪.)Nkhoma, B., 2006, P.118‬‬

‫قامت عالمة األنثروبولوجيا النيجيرية المعاصرة ايفي اماديوم ‪ Ifi Amadiume‬بإعادة تقييم نقدي‬
‫للنظريات المختلفة التي طرحها العالم الشيخ أنتا ديوب‪ .‬فبينما شن أنتا ديوب حربا ا على مدى عقود ضد‬
‫مؤسسة أكاديمية دولية كانت في رأيه قد حرمت أفريقيا من مكان في صفوف الثقافات المتحضرة‬
‫والثقافات التي كان لها الحق في التعبير عن تراثها الفكري وتاريخها‪ ،‬فقد رأت اماديوم أنه بدل من‬
‫التركيز على الهجمات على المنح الدراسية في أفريقيا‪ ،‬يتم التركيز على الدراسات أو التصريحات‬
‫المستقلة (أفريقيا تتحدث) حول الثقافات األفريقية والتي تعتبر صحتها من منظور متعدد الثقافات أمرا ا‬
‫مفروغا ا منه (دراسات حول ثقافات أفريقيا) (‪.)Hallen, B., P.100‬‬

‫وقد ركزت اماديوم على طرحين رئيسيين للشيخ أنتا ديوب‪ ،‬أال وهما أول ادعاء ديوب المثير‬
‫للجدل خلل حياته من أن الثقافة المصرية القديمة كانت ثقافة أفريقية سوداء‪ .‬وجادل بالمصطلحات‬
‫الفسيولوجية واللغوية والثقافية‪ ،‬أن المصريين القدماء كانوا أفارقة‪ ،‬لكن اإلمبريالية واالستعمار برعاية‬
‫الغرب‪ ،‬انخرطا في مؤامرة متعمدة لحرمان الشعوب المنحدرة من أصل أفريقي من هذا الجانب من‬
‫تراثهم من خلل تصوير الحضارة المصرية على اأها مستقلة إلى حد ما عن بقية أفريقيا أو ال صلة لها‬
‫بها‪ .‬أما الطرح الثاني الذي جذب اهتمام اماديوم هو زعمه أن المجتمع األفريقي التاريخ وما قبل التاريخ‬
‫بما في ذلك مصر‪ ،‬كان مجتمعا أموميا وليس أبويا ا في طبيعته‪ ،‬كما جادل ديوب بأن ثقافة هذا النظام تميل‬
‫إلى تفضيل فضائل أخلقية معينة‪ ،‬والتي يتضح من ذلك أن الحضارات العظيمة يمكن بناءها على فلسفة‬
‫أخلقية من الدرجة األولى (‪.)Hallen, B., P.101‬‬

‫‪154‬‬
‫انتقدت اماديوم منهجية ديوب في رؤيته لألنظمة السياسية المركزية باعتبارها النوع المثالي‬
‫للنظام كالحضارة الكلسيكية‪ ،‬وفي نظام األم األفريقي‪ ،‬حيث تقول إن األدلة التي يستخدمها ديوب في‬
‫تفكيره ومناقشاته تستند إلى تاريخ اإلمبراطوريات العظمى مثل مصر القديمة وغانا ومالي ومدنهم‬
‫الشهيرة‪ .‬وعلى الرغم من أن ديوب كان مهتما ا بكتابة التاريخ الكلي‪ ،‬فإن احتفاله بأمجاد اإلمبراطوريات‬
‫على أساس ثروة وسلطة المدن والملوك والملكات‪ ،‬فذلك يعني أن ديوب أيد التحليل النقدي لتطوير هذه‬
‫اإلمبراطوريات القائم على األساس االقتصادي لقوة هذه اإلمبراطوريات‪ ،‬والعلقة الهيكلية بين مراكز‬
‫القوة أو التراكمات القائمة على المدن والقرى والمناطق المحيطة‪ .‬لذلك أشارت اماديوم إلى بعض‬
‫التناقضات في موقف ديوب كنتيجة لمنهجية شكلية تركز على ما يسمى بالبنية الشكلية للملوك والملكات‬
‫والحكام‪.‬‬

‫وقد أشارت امادوم إلى المصدريين الرئيسيين للدخل – مصادر الثروة من أجل إظهار أنماط‬
‫العلقات االقتصادية وعلقات القوة بين الحكام والرعية؛ بين اإلمبراطوريات وبين المناطق األخرى‪.‬‬
‫وفقا ا لديوب فإن مصدر الدخل لملوك أفريقيا السوداء من العصور القديمة إلى الحديثة‪ ،‬كان الذهب‪ ،‬حيث‬
‫حصلت مصر على كل ما لديها من ذهب من النوبة‪ ،‬فهل كان ذلك استغلال مصريا في العالم القديم وهل‬
‫ساهمت مصر في تدهور اإلمبراطورية النوبية‪ .‬أيضا ا جادل ديوب بأن ملكية األرض كانت الفرق‬
‫الرئيسي بين نبلء األفارقة ونبل أوروبا‪ ،‬حيث كان النظام األوروبي إقطاعيا ا ألن النبلء في أوروبا‬
‫يمتلكون األرض؛ لم يكن األفريقي يمتلك أرضا ا‪ ،‬لذلك فتزعم اماديوم بأنه ال يمكن استخدام العوامل‬
‫اإلجمالية التي تؤدي إلى عدم المساواة االجتماعية في أوروبا لقياس عدم المساواة االقتصادية والسياسية‬
‫في السياق األفريقي‪ ،‬حيث يجب النظر إلى المواقف المختلفة في سياقها‪ ،‬ونبين ما يعتبر مقاييس للثروة‬
‫وما هي إمكانية وصول الفئات االجتماعية المختلفة إليها(‪.) Amadiume, I., 1997, P.11-12, 26‬‬

‫لقد ارتكب ديوب خطا ا من خلل محاولته إظهار أن األفارقة قد حققوا أيضا ا حضارات‬
‫اإلمبراطوريات الفائقة في الواقع حتى قبل األوربيين حيث أدى ذلك إلى خلق انقسام بين الممالك األفريقية‬
‫التي تمت مساوا تها بالمملكة المتحضرة ‪ /‬غير القبلية ويمثل محيطهم بالمجتمع البدائي ‪ /‬المتخلف وفي‬
‫ذلك سذاجة مطلقة في وصف ديوب بالعنصرية على أساس هذا االستخدام غير النقدي للمصطلحات‬
‫األوروبية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬سيكون من المفيد إعادة صدى الدعوة إلى إنهاء استعمار العقل األفريقي‪ .‬أيضا ا‬
‫ارتكب ديوب خطا ا آخر ناتج عن هذا االنقسام‪ ،‬هو افتقاره إلى تحليل هياكل العلقات بين اإلمبراطوريات‬
‫وما يسمى بالقبائل في محيطها أو حدودها (‪.(Amadiume, I., 1997, P.13, 26‬‬

‫‪155‬‬
‫أما المنهجية الثانية والتي انتقدتها اماديوم هي تجاهل ديوب األساس‪ ،‬أي أسس النظم االجتماعية‬
‫والسياسية التي وصفها‪ ،‬حيث ركز على الملوك والملكات وليس الشعب‪ ،‬نظر إلى المدن وليس القرى‪،‬‬
‫ركز على األنظمة المركزية وليس على ما أسماه أنظمة العشائر أو األنظمة اللمركزية ( ‪Amadiume,‬‬

‫‪ .)I., 1997, P.15, 26‬تجادل اماديوم بوجود مجموعة مماثلة من القيم األمومية في مسقط رأسها في‬
‫االيغبو في نوبي‪ ،‬ولكن تدريجيا ا على مدار التاريخ حيث عانت أفريقيا من عواقب الغزوات المتكررة‬
‫والعنيفة والتي يرجع تاريخها إلى العصر المصري حتى االستعمار األوروبي ‪ ،‬تحولت المجتمعات‬
‫األفريقية إلى النظام األبوي في الدفاع عن النفس ألن هذا الشكل من النظام االجتماعي هو األنسب‬
‫للتعامل مع العنف ‪ ،‬فعلى مدى األلفي سنة الماضية تمت إعادة إنتاج الهيكل األيديولوجي للنظام األبوي‬
‫تدريجيا ا في جميع أشكال التنظيم االجتماعي الحالي لدينا‪ ،‬إلى جانب أنماط اإلنتاج االستغللية المرتبطة‬
‫بها مثل األسرة والنسب واإلقطاع والعبودية والرأسمالية والتخطيط المركزي الشمولي ‪ .‬خلصة ما‬
‫تجادل فيه اماديوم حول صورة ديوب التاريخية ألفريقيا على أنها تحول من المجتمعات األمومية إلى‬
‫المجتمعات األبوية هو أنه يركز بشكل غير متناسب على األدوار األبوية الواضحة والقيم لرؤساء الدول‬
‫العليا (األباطرة والملوك) ويتجاهل أشكال الحياة التي يمثلها عامة الناس الذين يعيشون في المجتمع ككل‬
‫(‪ .)Hallen, B., P.102‬لقد ركزت اماديوم على عمل ونظريات ديوب كنتيجة للعنصرية األوروبية‬
‫واإلمبريالية المرتبطة بها في علقتها التاريخية مع أفريقيا‪ ،‬ناقدة تحيز ديوب لإلمبراطوريات‪.‬‬

‫أيضا ا بعض أقوال الشيخ أنتا ديوب والذي من أجل أن يعيد االعتبار‬ ‫(*)‬
‫كما انتقد اوكولو اوكوندا‬
‫ألفريقيا‪ ،‬يذهب إلى تعظيم أصولها‪ ،‬حيث كان هيجل يحط من شأنها ‪ .‬فقد أفرط ديوب في تعظيمها جاعلا‬
‫من أفريقيا مهد الحضارة‪ ،‬وربطها بمصر تحديدا ا‪ ،‬وقد رأي اوكوندا أن ديوب ارتكب نفس خطأ خصومه‬
‫حيث إن مقوالته تعزز من بعض الجوانب نسق هيجل‪ ،‬فوسواس األصول األفريقية تؤكد أن فتنه البدايات‬
‫لديه قد حلت محل فتنة النهايات لدي هيجل (روسو‪ ،‬نيوكولس‪ ،2019 ،‬ص‪.)126‬‬

‫لقد تم رفض فكرة ديوب في وقتها من قبل المفكرين األفارقة ليس رفضا بسبب الصياغة وإنما‬
‫الفكرة ذات نفسها لم تلق قبوال‪ ،‬ألنها كانت فكرة ثورية في وقتها ولم تكن من المسائل المألوفة ‪ ،‬ويمكن‬
‫اعتبار معارضة المثقفين األفارقة لفكرة ديوب يعود إلى عدم قدرتهم على التخلص تماما ا من األفكار التي‬
‫روج لها الغرب من تقسيم أفريقيا إلى قسمين مختلفين أفريقيا شمال الصحراء وأفريقيا جنوب الصحراء‬

‫اوكولو اوكوندا فيلسوف واستاذ جامعي كونغولي ولد في ‪ 2‬يونيو ‪ 1947‬في جمهورية الكونغو الديمقراطية‪ ،‬درس‬ ‫(*)‬

‫الفلسفة واللهوت واآلداب االفريقية‪ ،‬وحصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة لوبومباشي‪ ،‬وبعد حصوله على‬
‫الدكتوراه ذهب إلى المانيا لتعميق بحثه في الفلسفة‪ ،‬ويعتبر اوكوندا من أهم المنظرين في علم التأويل والتقاليد‬
‫االفريقية‪ ،‬ويعمل حاليا ا أستاذا للفلسفة في الكلية الكاثوليكية في كينشاسا وجامعة كينشاسا وجامعة سانت اوغسطين في‬
‫كينشاسا‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫والتي كان لها هدف استعماري واضح‪ ،‬كما أن أغلب الرافضين ألطروحة ديوب من رجال السياسة‬
‫والذين كانوا على صلة وثيقة باالستعمار‪ ،‬كما أن هناك من المثقفين من امتدح االستعمار‪ ،‬كما أن هناك‬
‫من اعتبر أن امتداح الحضارة األفريقية ما هو إال مجرد خرافات(أحمد‪ ،‬إيمان‪ ،2021 ،‬ص‪.)158-156‬‬

‫مهما كان من تحفظات الباحثين على المصادر التي استخدمها الشيخ أنتا ديوب وبعض االستنتاجات‬
‫التي توصل إليها‪ ،‬يظل عمل الشيخ أنتا ديوب رائدا ا وهاما ا في فهم الفكر التاريخي األفريقي‪ .‬فقد زودنا‬
‫بمنهجيه وإطار تاريخي وهو أمر مناسب لدراسة الماضي األفريقي في مواجهة التشوهات االستعمارية‬
‫الواضحة‪ ،‬كان موقفة الجريء ضد النقد ضروريا ا ألن العلماء المستعمرين لم يكونوا مستعدين لقبول أي‬
‫شيء يتعارض مع نوع الماضي الذي خلقوه حول أفريقيا لفترة طويلة‪ .‬فعلى الرغم من نقاط ضعف في‬
‫منهجية ديوب إال أنه ال يزال عمله مهما ا لدراسة أفريقيا‪ ،‬فهو ال يوفر توثيقا ا أوسع للتاريخ والثقافة‬
‫األفريقية فحسب‪ ،‬بل أنه يقطع شوطا ا طويلا إلنهاء استعمار هذا التاريخ من النموذج االستعماري السائد‬
‫(‪.)Nkhoma, B., 2006, P.119-120‬‬

‫أخيرا ا يمكننا القول إن الشيخ أنتا ديوب في رحلته البحثية عن الهوية األفريقية وفي نقده لفكرة‬
‫المركزية األوروبية‪ ،‬فقد وقع هو أيضا ا في فخ المركزية‪ .‬فهو وأن عارض المركزية األوروبية فقد دعا‬
‫إلى المركزية األفريقية وأسس لها حتى وإن لم يكن قد استخدم مصطلح المركزية األفريقية‪ .‬لقد أسس‬
‫أبحاثه من خلل ربط مصر بأفريقيا عن طريق إثبات أصلها األفريقي‪ .‬وقد أكد أسانتي أن ديوب من رواد‬
‫(*)‬
‫النظر في التاريخ اإلنساني ‪ ،‬كما أشار موليفي كيتا اسانتي‬
‫ا‬ ‫المركزية األفريقي ألنه استطاع إعادة بناء‬
‫بأنه تأ ثر بمنهج ديوب في تفسير كل ما يتعلق بالثقافة والحياة االجتماعية لألفارقة‪ ،‬وأوضح أن الثقافة‬
‫األفريقي ة قبل ديوب كانت عادة ما تمارس من قبل علماء الغرب ذوي االتجاهات األوروبية‪ ،‬ولذلك لم‬
‫يستطيع هؤالء فهم وحدة الثقافة األفريقية‪ ،‬ولذلك استطاعت أعمال ديوب إحداث نقلة نوعية في علم‬
‫التاريخ ووضعت أساسا ا للتحول المركزي األفريقي وال يزال من أكثر النماذج المؤثرة في الفكر األفريقي‬
‫(أحمد‪ ،‬إيمان‪ ،2021 ،‬ص‪.)67‬‬

‫موليفي كيتا اسانتي أستاذ جامعي أمريكي من أصول افريقية ويعد من أبرز المتخصصين في الدراسات األفريقية‬ ‫(*)‬

‫االمريكية والدراسات االفريقية ودراسات التواصل ويعرف اسانتي بكتاباته عن األفروسنتريك وهو مؤلف ألكثر من‬
‫‪ 66‬كتاب ومن أبرز مؤلفاته كتاب أعظم ‪ 100‬أمريكي أفريقي كما ألف كتاب عن الشيخ أنتا ديوب بعنوان الشيخ أنتا‬
‫ديوب صورة فكريه‪ .‬وهو من المؤيدين ألفكار وآراء الشيخ أنتا ديوب‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫ثالثا ا‪ :‬إنهاء استعمار المعرفة ومستقبل العالم‬
‫استعمار المعرفة‬

‫إن الدعوات إلى إنهاء االستعمار ليست جديدة في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن‬
‫الماضي‪ ،‬تحت أسماء مختلفة مثل األفريقية والتوطين‪ .‬لقد كانت الفكرة الحاسمة لنظرية فانون حول إنهاء‬
‫االستعمار‪ ،‬هي أننا يجب أن نبدأ صفحة بيضاء‪ .‬وراء كل األساطير االستعمارية هو االعتقاد بوجود‬
‫خيال مفاداه أن السكان األصليين لم يكونوا مجرد أشخاص دون تاريخ‪ ،‬أشخاص تم تحديد موقعهم بشكل‬
‫جذري خارج التاريخ‪ .‬بالنسبة لفانون كان يجب القضاء على كل هذه األساطير حتى يصبح إنهاء‬
‫االستعمار حدثا ا حقيقيا ا‪ ،‬وسيؤدي إنهاء االستعمار إلى إعادة تعريف الكائن البشري بشكل جذري‬
‫(‪.)Mbembe, A., 2001, P.56‬‬

‫وبحكم إقامة أشيل مبيمبي في جنوب أفريقيا‪ ،‬فكان لزاما ا أن يناقش القضايا المتعلقة بها‪ ،‬وعندما‬
‫يتعلق األمر بإنهاء استعمار الجامعة والمعرفة‪ ،‬فهناك عدد من القضايا السياسية واألخلقية الواضحة‪.‬‬
‫ويعتبر أن إنهاء استعمار الجامعة؛ يبدأ بإلغاء الخصخصة وإعادة تعريف ما هو عام كما تحدث عنه‬
‫فانون‪ ،‬فاألمر متعلقا بملكية الفضاء؛ الذي يمثل منفعة عامة ومشتركة فاألمر يتعلق بإحساس واسع‬
‫بالمواطنة بحد ذاتها ال غنى عنها لمشروع الديمقراطية‪ ،‬ويرى أنه يتعين على الطلب السود والموظفين‬
‫ابتكار مجموعة من الممارسات اإلبداعية؛ التي تجعل من المستحيل في نهاية المطاف على الهياكل‬
‫الرسمية تجاهلها وعدم التعرف عليها‪ ،‬والتظاهر بأنها غير موجودة؛ التظاهر بأنهم ال يرونهم أو التظاهر‬
‫بأن صوتهم ال يحسب‪ .‬أيضا ا يتضمن إنهاء االستعمار للمباني واألماكن العامة تغيير تلك األسماء‬
‫االستعمارية والرموز؛ حيث ال علقة لهذه األسماء والصور والرموز بأي شيء على جدران حرم‬
‫جامعي بعد أكثر من ‪ 20‬عاما ا من الفصل العنصري‪ ،‬فمنذ نهاية زمن البيض في عام ‪ 1994‬لم تتغير‬
‫االسماء الرسمية لألنهار والجبال والوديان والقرى والمدن‪ ،‬والشيء نفسه ينطبق على الساحات العامة‬
‫والشوارع والطرق أي ما زالت بأسمائها التي أطلقها عليها المستعمر‪.‬‬

‫موقع آخر إلنهاء االستعمار هو حجرة الدراسة بالجامعة‪ ،‬بحيث ال يمكن االستمرار في التدريس‬
‫بالطريقة التي علمنا بها دائما ا‪ ،‬فإن عددا من مؤسساتنا بتدريس أشكال قديمة من المعرفة بأساليب تربوية‬
‫عفا عليها الزمن‪ ،‬ومن اجل وضع مؤسساتنا بثبات على طريق المعارف المستقبلية‪ ،‬يقترح مبيمبي نظاما ا‬
‫تعليميا ا مغايرا ا‪ ،‬يتطلب إعادة ابتكار فصل دراسي بل جدران‪ ،‬وجامعة قادرة على حشد جماهير مختلفة‬
‫في أشكال جديدة من التجمعات التي تصبح نقطة التقاء ومنصات إلعادة توزيع أنواع مختلفة من المعارف‬
‫(‪ .)Mbembe, A., 2015, P.6‬أيضا ا نحن بحاجة إلى إنهاء استعمار األنظمة اإلدارية بقدر ما حولت‬

‫‪158‬‬
‫التعليم العالي إلى منتج قابل للتسويق تشتريه وتبيعه الوحدات القياسية‪ ،‬فيتعين علينا إنشاء أنظمة إدارية‬
‫بديلة ألن األنظمة الحالية التي يهيمن عليها الطابع اإلحصائي وهوس التقييم‪ ،‬تمنع الطلب والمعلمين من‬
‫السعي الحر للمعرفة أنهم يستبدلون هدف السعي الحر للمعرفة بهدف آخر‪ .‬ويرى مبيمبي أنه هناك شيء‬
‫خطأ عندما تظل المناهج الدراسية المصممة لتلبية احتياجات االستعمار والفصل العنصري‪ ،‬في حقبة ما‬
‫بعد الفصل العنصري (‪ .)Mbembe, A., 2015, P.7‬والسؤال الذي يطرحه مبيمبي هو هل إنهاء‬
‫االستعمار يعني األفريقية؟‬

‫بالنسبة لفانون‪ ،‬فإن النضال من أجل إنهاء االستعمار يتعلق قبل كل شيء بملكية الذات‪ ،‬فقد دعا‬
‫فانون إلى أن ندير ظهورنا ألوروبا‪ ،‬وعدم أخذ أوروبا كنموذج لعدة أسباب منها أن اللعبة األوروبية قد‬
‫انتهت؛ يجب أن نجد شيئا ا مختلفاا؛ أن بإمكاننا اليوم أن نفعل كل شيء طالما أننا ال نقلد أوروبا‪ .‬وأيضا ا أن‬
‫مسألة أن يبدأ العالم الثالث تاريخا ا جديدا ا لإلنسان؛ يجب أن نحاول أن نطلق إنسانا ا جديداا‪ .‬ويرى مبيمبي‬
‫أنه ليس من الصعب فهم سبب ارتباط إنهاء االستعمار بالنسبة لفانون بالوجود والزمان وخلق الذات‬
‫واالختلف مقابل التكرار‪ ،‬وذلك بسبب أن االستعمار نفسه كان أساس إنكار للوقت‪ .‬إن إنكار الوقت من‬
‫وجهة نظر االستعمار‪ ،‬تعني أن السكان األصليين لم يكونوا مجرد أناس دون تاريخ؛ بل كانوا أيضا ا‬
‫أشخاصا ا تم تحديد موقعهم بشكل جذري خارج الوقت‪ .‬أيضا ا إنكار الوقت يعني أن الصفة البشرية‬
‫األساسية التي نسميها الميل نحو المستقبل كانت حكرا ا ألوروبا‪ ،‬كما أن إنكار الزمان في الفكر‬
‫االستعماري يعني أن المواطن األصلي غير قادر على التغير وجوديا ا وبالتالي على الخلق ( ‪Mbembe,‬‬

‫‪.)A., 2015, P.13‬‬

‫صاحب‬ ‫(*)‬
‫وبعد مرور عقدين من الزمن على فانون ووفقا ا ل نجوجي ‪Ngugi Wa Thiongo‬‬

‫كتاب "إنهاء استعمار العقل" كان الهدف إلنهاء االستعمار هو رؤية أنفسنا بوضوح في علقتنا مع أنفسنا‬
‫وعلقة أنفسنا مع الكون‪ ،‬وكان األمر يتعلق برفض االفتراض القائل بأن الغرب الحديث هو الجذر‬
‫المركزي لوعي أفريقيا وتراثها الثقافي‪ ،‬وأن أفريقيا هي مجرد امتداد للغرب‪ ،‬وقد رسم نجوجي مضامين‬
‫عملية من اعتباراته حول الثقافة واألدب‪ ،‬وكانت معظم هذه اآلثار مرتبطة بإصلح المناهج الدراسية‬
‫وكان من بين األمور الحاسمة في هذا الصدد الحاجة إلى تعليم اللغات األفريقية‪ ،‬ورأي أن أي جامعة‬
‫انتهى استعمارها في أفريقيا أن تضع اللغات األفريقية في قلب مشروعها التعليمي( ‪Mbembe, A., 2015,‬‬

‫‪ .)P.57‬وفي نهاية القرن العشرين مع تكثيف نقد االفتراضات التأسيسية والممارسات ذات الصلة لما‬

‫(*) هو كاتب كينى ولد عام ‪ 1938‬وكان يكتب باإلنجليزية واتجه إلى الكتابة بلغت القومية‪ ،‬كتب روايات ومسرحيات وقصه‬
‫قصيرة كما كتب مقاالت ادبية واجتماعية وكتب في آداب الطفل ومن أشهر اعماله كتاب إنهاء استعمار العقل عام‬
‫‪.1986‬‬

‫‪159‬‬
‫يسمي بالفكر الغربي‪ ،‬من بين هذه االفتراضات هو اإليمان بأن اللغة يمكن أن تكون شفافة وتعكس العالم‬
‫للعقل‪ .‬ومن الجدير بالذكر أن الشيخ أنتا ديوب كان من أحد الداعين للعودة إلى اللغات األفريقية‪ ،‬بل أكثر‬
‫من ذلك حين افترض وجوب توحيد لغة واحدة مشتركة يتحدث بها كل األفارقة‪.‬‬

‫أعتبر بولين هونتودجي ‪ Paulin Hountondji‬إنهاء االستعمار بمثابة التأكيد من أن نشاطنا‬


‫العلمي ليس موجها ا خارجياا؛ ال يقصد به تلبية االحتياجات النظرية لنظرائنا الغربيين واإلجابة على‬
‫األسئلة التي يطرحونها‪ ،‬أن إنهاء االستعمار يعني استبدال العلقات العمودية بما يسميه األفقية‪ ،‬والتي‬
‫يفهمها على أنها عملية مستقلة ومعتمدة على الذات إلنتاج المعرفة التي تمكننا من اإلجابة على أسئلتنا‬
‫الخاصة وتلبية احتياجاتنا المادية للمجتمعات األفريقية‪ .‬يعتبر إنهاء االستعمار في السياق األفريقي يعني؛‬
‫أوالا تغيير المناهج أو المحتوي وذلك ينطبق في الغالب على العلوم اإلنسانية‪ ،‬ثانيا ا تغيير معايير تحديد‬
‫النصوص التي تضمينها أو استبعادها من القانون‪ ،‬وثالثا ا تغيير التركيبة السكانية للطلب مع تعيين المزيد‬
‫من الموظفين السود وتحويل الهيئات األكاديمية واإلدارية‪ ،‬وأخيرا ا إعادة ضبط التدريس والتعلم بطريقة‬
‫تؤسس علقة قوة مختلفة بين المعلم والطالب (‪.)Mbembe, A., 2016, P. 3‬‬

‫يعتقد مبيمبي أن إنهاء االستعمار؛ يتم اختزاله إلى مسألة األصول والهوية والعرق والمكان‪ ،‬ويتم‬
‫نشر مفهوم أفريقيا والذي تم االستشهاد به في معظم الخطابات حول إنهاء االستعمار كما لو كان هناك‬
‫إجماع داخل أفريقيا نفسها حول ما هو أفريقي وما هو غير ذلك‪ .‬ففي معظم األحيان يتم ربط األفريقي ب‬
‫األصلي ‪ /‬االثني كما لو لم تكن هناك أسباب أخرى للهوية األفريقية غير السكان األصليين واالثني‪.‬‬
‫ويرى مبيمبي أنه من الضرورة في مشروع إنهاء االستعمار إجراء نقد ال تهاون فيه للنموذج األكاديمي‬
‫األوروبي المركزي السائد أي النضال ضد ما يسميه نقاد أمريكا اللتينية "االستعمار المعرفي" أي‬
‫اإلنتاج اللمتناهي للنظريات القائمة على التقاليد األوروبية (‪ .)Mbembe, A., 2015, P.78‬هناك اعتراف‬
‫لدي األفارقة باستنفاد النموذج األكاديمي الحالي بأصوله في عالمية التنوير‪ ،‬لقد أوضحوا أنه في نهاية‬
‫عملية إنهاء االستعمار‪ ،‬لن تكون لدينا جامعة بعد اآلن‪ ،‬سيكون لدينا فقط ما يسمونه بالتعددية‪ ،‬والتعددية‬
‫ليست مجرد امتداد في جميع أنحاء العالم لنموذج مركزية أوروبية يفترض إنه عالمي وتتم إعادة إنتاجه‬
‫اآلن في كل مكان‪ ،‬بل التعددية تفهم كعملية إنتاج المعرفة المنفتحة على التنوع المعرفي‪ .‬فالهدف النهائي‬
‫ليس التخلي عن فكرة المعرفة العالمية للبشرية‪ ،‬ولكن تبني استراتيجية االنفتاح على الحوار بين التقاليد‬
‫المعرفية المختلفة‪ ،‬ضمن هذا المنظور‪ ،‬فإن إنهاء استعمار الجامعة يعني إصلحها بهدف خلق تعددية‬
‫عالمية انتقادية‪ ،‬مع إعادة تأسيس لطرق تفكيرنا (‪ .)Mbembe, A., 2016, P.16‬لن يكون هناك إنهاء‬
‫للستعمار في جامعاتنا دون فهم للديناميكيات المعقدة للحركة العالمية التي يجب أن نستجيب لها من خلل‬
‫المشاريع االستباقية التي تركز على أفريقيا‪ .‬كما أن قدرتنا على القيام بغزوات منتظمة تتجاوز آفاق‬
‫‪160‬‬
‫معرفتنا الحالية ستعيق بشدة إذا اعتمادنا بشكل حصري على تلك الجوانب من األرشيف الغربي التي‬
‫تتجاهل التقاليد المعرفية األخرى‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فإن األرشيف الغربي معقد بشكل فريد‪ ،‬أنها ليست ملكية‬
‫متجانسة وال ملكية حصرية للغرب‪ ،‬لقد ساهمت أفريقيا وشتاتها بشكل حاسم في صنعها‪ ،‬وبالتالي فإن‬
‫المعرفة بإنهاء االستعمار ال تتعلق ببساطة بنزع التغريب (‪.)Mbembe, A., 2015, P.24‬‬

‫وفقا ا مبيمبي‪ ،‬ال توجد حدود ألي معرفة اليوم‪ ،‬المعرفة خارج المؤسسات غير محدودة وال يمكن‬
‫احتواؤها‪ ،‬ويمكن البحث فيها بسهولة‪ ،‬ولم يعد من السهل تقيدها بواسطة األجهزة التنظيمية‪ ،‬وتتطلب‬
‫المعر فة في الوقت الحاضر تطوير مجموعة من مهارات القراءة والكتابة الجديدة المطلوبة‪ ،‬عن طريق‬
‫التغييرات في الكتابة‪ ،‬في القراءة‪ ،‬في اشكال العرض العام‪ ،‬وفي القدرة على تفسير الصور‪ .‬لقد أصبح‬
‫التيسير التقني للمعرفة وأعمال المشاريع المبتكرة والكتابة التعاونية هو القاعدة بشكل متزايد‪ ،‬كما أن هذه‬
‫الحقبة تتميز بالسرعة الهائلة والذي تتناقض مع االستعداد اإلنساني لإلبطاء‪ .‬فنتيجة االبتكارات‬
‫التكنولوجيا والضغوط‪ ،‬فإن عمليات إعادة تشكيل المعرفة أو التحوالت‪ ،‬جارية في مختلف التخصصات‬
‫والتخصصات الفرعية‪ ،‬بعض هذه التحوالت تمهد الطريق لظهور تجمعات معرفية جديدة تماما ا‪ ،‬ويشير‬
‫مبيمبي بإيجاز على تلك التحوالت التي لها علقة بالمشهد المعرفي الجديد منها‪:‬‬

‫أولا تجزئة التخصصات‪ /‬فقد كان منذ وقت قريب كان ال يزال من الممكن تصنيف العلوم النظرية‬
‫والتطبيقية بشكل منهجي‪ ،‬مثل‪ ،‬علوم الحياة والفيزياء العضوية وغير العضوية‪ ،‬أصبح اآلن في كل‬
‫تخصص وفي كل مجال ينتهي بالتحول إلى مزيد من االنقسامات التي تتفرع عن جذورها الكلسيكية‪ ،‬في‬
‫عملية إنتاج مستمر للتخصصات الفرعية ضمن التخصصات الفرعية‪ .‬ومن ثم يمكن ملحظة التجزئة‬
‫كانت دائما ا جزءا ا من حياة األنظمة‪ ،‬ومن الواضح أننا سنشهد تسريع هذه العملية اليوم‪ ،‬حيث وصلنا إلى‬
‫مستوى يتساءل فيه الكثير اآلن عما إذا كانت التخصصات في حد ذاتها قد عفا عليها الزمن‪ .‬النتيجة‬
‫الطبيعية للتجزئة هي سرعة ما يسمى "المنعطفات" تميزت الثمانينيات بالتحول اللغوي‪ ،‬في الوقت‬
‫الحاضر‪ ،‬يحدث العديد من المنعطفات في وقت واحد‪ ،‬تحول المادية الجديدة‪ ،‬المنعطف األنطولوجي‪،‬‬
‫المنعطف العصبي‪ .‬بعض المنعطفات ال تدوم‪ ،‬وبعضها ال يؤثر على األسئلة األعمق لنظرية المعرفة‪ .‬إن‬
‫العامل الحاسم وراء انتشار مجاالت البحث األصلية والمجاالت الفرعية كان بسبب التناقضات الراسخة‬
‫والتاريخية بين العلوم الطبيعية والعلوم اإلنسانية أخذ في االنهيار‪ ،‬ويرى مبيمبي أن سبب هذا االنهيار‬
‫يتمثل في النقاط التالية‪:‬‬

‫‪ -1‬االعتراف التدريجي بأننا نحن البشر‪ ،‬لسنا مميزين ولسنا منفصلين عن األنواع األخرى كما كنا نعتقد في‬
‫السابق‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫‪ -2‬حقيقة أن العلوم اإلنسانية اعتمدت في السابق على التمييز بين المجتمع والطبيعة‪ ،‬وينعكس هذا في تقسيم‬
‫العمل بين العلوم الطبيعية والعلوم اإلنسانية‪.‬‬
‫‪ -3‬هناك حوار متجدد بين العلوم االجتماعية ودراسات العلوم والتكنولوجيا وعلوم الحياة وعلم األحياء‬
‫والفلسفة‪ ،‬ويتم اآلن تشكيل االستفسارات المتعلقة بالعلوم اإلنسانية بطرق تجعلها أكثر انفتاحا ا على العلوم‬
‫البيولوجية (‪.)Mbembe, A., 2016, P.6-8‬‬

‫ثانيا ا أشكال المعرفة وموضوعات اإلدراك‪ /‬منذ وقت قريب كان ينظر إلى الفكر الواعي على أنه‬
‫السمة المميزة لإلنسان‪ ،‬ويتضمن اإلدراك الوعي بالذات واآلخرين وكان فعل اإلدراك هذا يشمل المعرفة‬
‫والحكم‪ ،‬واليوم وبفضل التقدم في تخصصات مثل علم األحياء المعرفي لدينا فهم أفضل وأكثر تعقيدا ا لعلم‬
‫البيئة واإلدراك البشري‪ ،‬حيث لم يعد اإلدراك مقصورا ا على البشر أو الكائنات الحية ذات الوعي؛ بل‬
‫يمتد ويشمل جميع أشكال الحياة‪ ،‬بما في ذلك تلك التي تفتقر إلى الجهاز العصبي المركزي مثل النباتات‬
‫والكائنات الحية الدقيقة‪ .‬إن القدرات المعرفية التي كانت موجودة في السابق فقط في الكائنات البيولوجية‬
‫أصبحت اآلن خارج العالم‪ .‬كل هذه التغيرات السابق ذكرها تحدث وسط العودة إلى األسئلة الكبيرة والتي‬
‫أهمها ما الذي يشكل الحياة البشرية‪ ،‬وكيف نتواصل بين األنظمة‪ ،‬وبين الثقافات‪ ،‬وبين الكيانات البشرية‬
‫وغير البشرية‪.‬‬

‫إن علم البيئة المعرفي ليس هو فقط الذي يتغير بسرعة‪ ،‬لقد غير الحساب الطرق التي يتم بها‬
‫تأطير بعض المفاهيم األساسية للغاية جميع العلوم‪ .‬يعتبر الخلط بين العقل‪ /‬الدماغ والكمبيوتر أكبر حدثا ا‬
‫فكريا ا في عصرنا‪ ،‬أنه إعادة التشكيل الحالية لما يعتبر معرفة‪ ،‬ففي سبعينيات القرن الماضي‪ ،‬تم توحيد‬
‫التطورات المبكرة لكل من أجهزة الكمبيوتر اإللكترونية والبرمجة وأصبح عصرا فكري جديد تماما ا‬
‫ممكنا ا بواسطة الكمبيوتر‪ ،‬الذي أطلق عليه اسم "التجربة االقتصادية القياسية" والتي تتراوح من علم‬
‫التحكم اآللي باعتباره نظرية أنواع معينة من االستعارات البشرية ‪ /‬اآللية‪ ،‬إلى دمج النماذج العشوائية في‬
‫نظرية القرار‪ ،‬واالقتصاد القياسي والمحاكاة‪ .‬وفي القرن الحادي والعشرين؛ فإن أشكال المعرفة سيتم‬
‫تعريفها بواسطة الكمبيوتر الرقمي تماما ا‪ ،‬سيتم تعريف المعرفة على أنها معرفة السوق‪ .‬حيث أعيد تصور‬
‫السوق على أنه "معالج بيانات" باعتباره اآللية األساسية للتحقق من الحقيقية‪ ،‬ونتيجة لذلك‪ ،‬ستصبح‬
‫العلوم الطبيعية أو البشرية‪ ،‬علوم بيانات أو معلومات (‪.)Mbembe, A., 2016, P.10‬‬

‫يجب مواجهة تحدي "إنهاء االستعمار" فيما يتعلق بالتطورات العالمية الجديدة‪ ،‬فلن نوسع‬
‫التخيلت النظرية والمنهجية والمفاهيمية بمجرد مقاومة التفسيرات الموحدة لإلنسان‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬من‬
‫الضروري وضع الناس والفئات االجتماعية ضمن األنماط الغنية للتنوع الثقافي والتاريخي التي جعلت‬

‫‪162‬‬
‫منهم ما هم علية‪ ،‬فمهمة التفكير النقدي والبحث االجتماعي والنقد الثقافي ليست فقط لتوثيق وإظهار‬
‫الفروق الملحوظة بين البشر‪ ،‬وال يقتصر األمر على تحديد واستجواب االختلفات االجتماعية والثقافية‬
‫والتاريخية وعلقات القوة المتكافئة بينهم (‪.)Mbembe, A., 2015, P.88‬‬

‫أعتبر مبيمبي إنهاء االستعمار ممارسة للدفاع عن النفس وانتفاضة‪ ،‬حيث غن تحقيق مجتمع‬
‫منزوع االستعمار؛ كان بمثابة انتفاضة تتكون إلى حد كبير من إعادة توزيع اللغات‪ ،‬حيث كان‬
‫المستعمرون على مختلف مستوياتهم الحديث بلغات مختلفة بدالا من لغة واحدة‪ ،‬لذلك يمثل إنهاء‬
‫االستعمار لحظة مجيدة لفك ارتباط اللغات وتشعبها في تاريخ حداثتنا‪ ،‬مع إنهاء االستعمار يمكن ألي‬
‫شخص التعبير عن نفسه بلغته (‪ .)Mbembe, A., 2015, P.224‬لقد كان الهدف من مناهضة االستعمار‬
‫هو خلق شكل جديد للواقع‪ :‬التحرر مما كان ال يطاق في االستعمار‪ .‬كما أنه يعتبر أن التجربة‬
‫االستعمارية تعني إنكار اإلنسانية‪ ،‬وبالتالي فإن إنهاء االستعمار من حيث انفتاح العالم واستعادة اإلنسانية‬
‫وبالتالي مكانة المرء في العالم؛ وهي فكرة في صميم العديد من المفكرين السود حول مناهضة االستعمار‬
‫والمطالبة بإنهائه(‪ ، )Gadeke, D., P.498‬سواء كانت في مرحلة االستعمار أو مرحلة ما بعد االستقلل‬
‫السياسي‪ ،‬وقد طالب أنتا ديوب إنهاء االستعمار الثقافي وهو أحد جوانب إنهاء استعمار المعرفة‪ ،‬والذي‬
‫يعني تحرير أفريقيا من المعرفة االستعمارية الذي زرعها المستعمر في عقول األفارقة ومن ثم جعل‬
‫األفريقي في حالة من العزلة واالغتراب عن ثقافته األصلية وحضارته وتاريخه‪ .‬كما دعا أشيل مبيمبي‬
‫أيضا ا إلى إنهاء استعمار المعرفة بشكل جذري وذلك من خلل تطوير أساليب تعليمية وابتكار وسائل‬
‫مختلفة تدفع بأفريقيا إلى النهوض والحضور في النطاق العالمي الجديد من خلل نبذ المعرفة التقليدية‬
‫والتي ورثتها أفريقيا من الحقبة االستعمارية‪ ،‬والذي لم يكن لها مبرر من وجودها اآلن بعد حصول‬
‫البلدان األفريقية على استقللها متبعا ا في ذلك آراء كل من فرانز فانون ونجواجي وعلى وجه الخصوص‬
‫نظرية فانون للعنصرية وإصراره على ظهور عالم جديد‪ .‬قصارى القول إن القارة األفريقية وان كانت قد‬
‫تحررت من قيود االستعمار سياسيا ا إال أنها ال زالت مستعمرة ثقافيا ا‪ ،‬تغيير الثقافة واللغوية ألبناء القارة‬
‫األفريقية وذلك من أجل إحكام السيطرة على الدول والمجتمعات األفريقية حتى بعد رحيله عنها (طاهر‪،‬‬

‫رانيه‪ ،‬ص‪.)24‬‬

‫المستقبل ونهاية العالم من منظور مبيمبي‪:‬‬

‫في فلسفة منتصف القرن العشرين‪ ،‬كانت هناك نقاشات كثيرة حول النهاية‪ ،‬ال سيما حول نهاية‬
‫التاريخ‪ ،‬ونهاية اإلنسان ونهاية الفن ونهاية الفلسفة‪ .‬تفتح نهاية العالم سؤاالا فلسفيا ا يتعلق بمفهوم العالمية‪،‬‬
‫وهو عنصر أساسي في كل الفلسفة الوجودية‪ ،‬والظاهرياتية‪ ،‬والتأويلية‪ .‬هل نهاية العالم يعني موت‬

‫‪163‬‬
‫شخص ما (نهاية الوجود في العالم)‪ ،‬أم انقراض الكثير أو الكل (نهاية العالم نفسه) ( ‪Mbembe, A.,‬‬

‫‪ .)2017, P.7‬ويرى مبيمبي أن مسألة نهاية العالم يجب أن تترك مفتوحة وأال تغلق أو تحدد بمعنى معين‪،‬‬
‫فهو يرى أنه ال يوجد عالم واحد فقط كما أننا ال نستطيع التفكير كما لو كان هناك عالم واحد فقط أو شكل‬
‫واحد فقط من أشكال الوعي بالعالم‪ .‬ونتيجة ذلك يجب أن تظل مسألة العالم مفتوحة بل أن تظل هي‬
‫األساس‪ .‬كما أن سجلت العالم نفسها تعددية‪ ،‬فهي متعددة العوالم‪ ،‬وتعدد المحفوظات‪ ،‬وإذا تم قبول ذلك‪،‬‬
‫فمن الممكن أن نعترف بأن هناك عوالم تنتهي وعوالم أخرى تنشأ‪ ،‬وعوالم أخرى في مواقف مختلفة‪.‬‬

‫إن السمة الرئيسية لما نسميه األزمنة الحديثة هي أنها بدأت تحت علمة التشتت‪ ،‬والدفع إلى‬
‫الحركة‪ ،‬واالندفاع إلى التشنج‪ ،‬تحت نيران الرأسمالية‪ ،‬ودورات واسعة من الهجرة الكوكبية‪ ،‬والهجرات‬
‫القسرية وكذلك الهجرات الطوعية‪ ،‬والمزيد من الهجرات الناجمة عن عنف الحروب‪ ،‬والتحول إلى‬
‫الديانات التوحيدية‪ ،‬والرغبة في رأس المال مع تكديس القوى العاملة‪ .‬هذا النزوح الضخم الستخدام هذا‬
‫المصطلح (نهاية العالم)‪ ،‬أبعد ما يكون عن االنتهاء‪ .‬ففي كل مكان نراه من أجزاء مختلفة من العالم‬
‫صورا يمكن تسميتها "أفريقية"‪ ،‬ألنه اليوم يمكن رؤية صورة البؤس األفريقي في كل مكان‪ ،‬أن العالم‬
‫الذي نتحدث عنه هو نتاج حركة دائرية واسعة النطاق التي وصلت إلى اضطراب هائل لم تترك أي‬
‫منطقة على وجه األرض‪ ،‬أي شخص‪ .‬حتى لو لم تؤثر هذه الحركة على األرض كلها بنفس الشدة‪ .‬ومن‬
‫ثم يوجد ما يسمى بالتداول الذي من خلله يأتي عالمنا الحديث إلى الوجود‪ .‬فدستور العالم الحديث في‬
‫الحركة والتداول وهو دستور عالمي‪ ،‬وفي نهاية العالم عدم القدرة على امتلك الحق العالمي في التداول‬
‫(‪.)Mbembe, A., 2017, P.23-24‬‬

‫أيضا ا يعتبر مبيمبي أن فكرة سجلت العالم‪ ،‬وأنواع العالم المتداولة‪ ،‬وأن فكرة نهاية العالم هي‬
‫تعتمد بشكل حصري على منطقة واحدة من العالم‪ ،‬أي مفهوم إقليمي بالكامل‪ .‬وإذا انتبهنا إلى مجمل‬
‫سجلت العالم‪ ،‬فليس صحيحا ا أن البشرية في مجملها قد نسبت مثل هذا المكان إلى موضوع نهاية العالم‪،‬‬
‫ومن ثم‪ ،‬هناك ثقافات ليس لها مكان لهذه الفكرة‪ ،‬هذه الثقافات تعتقد بأن العالم ال ينضب‪ ،‬ال نهاية للعالم‪،‬‬
‫ال نهاية للوقت‪ ،‬وهذا ال يعني أن العالم أبدى‪ ،‬بل يعني انفتاح العالم على ما هو غير متوقع‪ .‬أيضا ا إذا‬
‫نظرنا إلى الحقيقية التاريخية للعبودية‪ ،‬والتي يمكن فهمها أيضا ا على أنها تجربة نهاية العالم‪ ،‬فالسؤال هو‬
‫كيف نعيش في نهاية العالم‪ ،‬العالم الذي حدث بالفعل‪ ،‬كيف نعيش في اليوم التالي لنهاية العالم‪ ،‬كيف‬
‫نعيش خسارة العالم الذي كان لنا‪ ،‬فالمليين من الناس كيف يكسبون بعد خسارة عالمهم‪ ،‬خسارة ال يمكن‬
‫تعويضها أبدأ‪ ،‬خسارة دون وسيلة للعودة‪ ،‬الخسارة المطلقة‪ ،‬والحديث هنا عن جنوب أفريقيا‪ ،‬حيث عانى‬
‫الناس من خسارة جذرية‪ ،‬لقد جربوا الفصل العنصري وليس لديهم أي ضمان على اإلطلق السترداد كل‬
‫ما فقدوه‪ .‬إن العالم الذي يشير إليه مبيمبي هنا ليس عالما موضوعيا‪ ،‬لم يفكر في العالم بالمعنى المسند كما‬
‫‪164‬‬
‫كان في الميتافيزيقا الغربية‪ ،‬الراسخ في فكر الوجود‪ ،‬في مسألة الكينونة‪ ،‬والتي هي أحد األسئلة المركزية‬
‫للتوحيد‪ ،‬فإن الوجود هو بالضرورة سؤال واحد‪ .‬لكن العالم الذي يتحدث عنه الواحد والجوهر فكر من‬
‫خارج العلقة‪ ،‬وفي طريقة التفكير هذه تكون تركيبات العالم هي السؤال الرئيسي‪ ،‬أنه سؤال حول تكوين‬
‫العالم وليس نهاية العالم (‪.)Mbembe, A., 2017, P.26-29‬‬

‫يفكر مبيمبي من خلل تجربته في أفريقيا‪ ،‬في التهديد المتمثل في نهاية الطرق األخرى لتشخيص‬
‫العالم الذي أحدثته الرأسمالية الغربية واالستعمار أو تعرض مجموعة من العوالم للخطر باسم العالم‬
‫الواحد‪ .‬إن عصرنا يتميز بشكل عميق بالهيمنة الغربية األوروبية والغربية على العالم بأسره من خلل‬
‫الرأسمالي ة والتي هي القوة الدافعة للعولمة المعاصرة‪ .‬ويتبع مبيمبي الطريقة التي تدمر بها الهيمنة‬
‫الرأسمالية ذات األصل األوروبي مناطق مختلفة غير أوروبية ولكنها تسبب الدمار في أوروبا والغرب‬
‫أنفسهم‪ ،‬لكن مبيمبي يرفض مسألة نهاية العالم باعتبارها رؤيا غربية – وحتى مسألة العالم – باعتبارها‬
‫متجذرة بعمق في الميتافيزيقا األوروبية‪ ،‬ويبحث بدالا من ذلك عن طرق أخرى للتفكير‪ ،‬على سبيل‬
‫المثال‪ ،‬في سياسة التداول وأرشيف المشاركة من أجل التعبير عن الواقع بمصطلحات أفريقية على وجه‬
‫التحديد (‪.)Mbembe, A., 2017, P.9‬‬

‫أفريقيا والمستقبل‪:‬‬

‫يرى مبيمبي أن ما يحدث في أفريقيا سيكون له تأثير ليس فقط على أفريقيا في حد ذاتها‪ ،‬وإنما‬
‫سيؤثر على كوكبنا‪ ،‬فهناك إجماع ضمني من أن مصير الكوكب سينتهي إلى حد كبير في أفريقيا‪ ،‬سيشكل‬
‫التحول العالمي للمأزق األفريقي الحدث الثقافي والفلسفي الرئيسي للقرن الحادي والعشرين‪ ،‬وسوف‬
‫يأخذنا بعيدا ا عن األساطير الهيجيلية‪ .‬أن هذا االنعطاف العالمي هو نتيجة تحول مفاهيمي مستمر لم يكتمل‬
‫بعد‪ ،‬ويعلق على هذا التحول بأنه؛ أولا‪ ،‬ينظر إلى أفريقيا تدريجيا ا على أنها المكان الذي يتعرض فيه‬
‫مستقبل الكوكب للخطر‪ .‬ثانيا ا‪ ،‬ينظر إلى مستقبل أفريقيا داخل القارة نفسها بشكل متزايد على أنه مليء‬
‫باإلمكانيات غير الواقعية‪ ،‬والعوالم المحتملة‪ ،‬واإلمكانيات‪ .‬فقد يعتقد الكثير أنه من خلل التنظيم الذاتي‬
‫يمكننا في الواقع إنشاء عدد ال يحصي من نقاط التحول التي قد تؤدي إلى تغييرات عميقة في االتجاه الذي‬
‫تتخذه القارة‪ .‬ثالثا ا‪ ،‬هناك مؤخرا ا إجماع ضمني‪ ،‬ال سيما بين المؤسسات المالية الدولية والخبراء‪ ،‬على أن‬
‫تمثل أفريقيا آخر حدود الرأسمالية‪ ،‬وبرغم من وجود اختلف في وجهات النظر في العنصر الثالث‪ ،‬إال‬
‫أنه يوجد أدلة تدعمه‪ ،‬منها تسارع النبض االقتصادي ألفريقيا في العقد األول من القرن الحادي‬
‫والعشرين‪ ،‬وارتفاع الناتج المحلي‪ ،‬والتي من المحتمل أن تصبح أفريقيا مصدرا ا مهما ا لزيادة االستهلك‬
‫العالمي (‪.)Mbembe, A., 2016, P.96‬‬

‫‪165‬‬
‫يعتقد مبيمبي أن هناك سؤالين يطاردان معظم هذا القرن‪ ،‬األول هو مسألة مستقبل الحياة‪،‬‬
‫والثاني مستقبل العقل والحرية‪ ،‬لقد أدت التغيرات في البيئة العالمية المستمرة على المدى الطويل إلى‬
‫زيادة تأثيرها ومن الواضح أنها ستكون محور أي نقاش حول مستقبل الحياة ومستقبل العقل‪ ،‬واالهتمام‬
‫بها قد يجبرنا على التركيز واالنتباه لبعض العمليات الضخمة؛ التي لها تأثير ساحق على ما قد تصبح‬
‫البشرية والكوكب الذي نعيش فيه‪ ،‬والذي تم وصفها من قبل مبيمبي بالوحشية ( ‪Mbembe, A., 2021,‬‬

‫‪ .)P.11‬لفترة طويلة كان الجنس البشري مهتما بكيفية ظهور الحياة وتوزيعها المكاني وظروف تطورها‬
‫ومرونتها‪ ،‬اليوم أصبح هناك تغييرا ا واضحا ا حيث تمت إعادة تشكيل السكان من خلل علم تحسين النسل‬
‫الليبرالي الجديد‪ .‬وبسبب النظام الجديد لتوزيع المواد الكيميائية والمغذيات والمواد الملوثة‪ ،‬ال يتم تقليص‬
‫الحياة فقط‪ ،‬بل تتم إزاحة الحدود القديمة‪ ،‬وتؤدي االستمرارية وعدم االنفصال بين الكائنات الحية وبيئتها‬
‫بسرعة إلى ظهور بيولوجيا جديدة تماما ا لهذا العالم باإلضافة إلى طرق جديدة لتقسيم األرض نفسها‪.‬‬
‫وبسبب االكتشافات الحديثة في العلوم المختلفة والنتائج المترتبة على تلك االكتشافات أدت إلى إعادة تقييم‬
‫الفكرة السائدة عن البيئة الصالحة للسكن وما هي متطلبات الحياة باختصار البحث عن طرق جديدة‬
‫لتصور الحياة والتي من المحتمل أن تصبح حالة الكوكب الجديدة (‪.)Mbembe, A., 2021, P.14‬‬

‫على مدى العقد الماضي‪ ،‬تم تطوير العديد من األشكال الحسابية للذكاء‪ ،‬أن السمة الرئيسية‬
‫لعصرنا هي مدى تنظيم جميع المجتمعات وفقا ا للمبدأ الحسابي‪ ،‬فنحن محاطون بالحوسبة في كل مكان‬
‫والتقنيات التي تنسج نفسها في نسيج حياتنا اليومية‪ ،‬فأصبحت هذه األجهزة جزءا من وجودنا في العالم‬
‫طوال الوقت‪ .‬والنظام الحاسوبي عموما ا هو نظام تقني وظيفته في التقاط البيانات واستخراجها ومعالجتها‬
‫تلقائي‪ ،‬كما أن الحوسبة قوة وطاقة من نوع خاص‪ ،‬حيث تتصف بسرعة نظامها‪ ،‬كما أن الحوسبة هي‬
‫مؤسسة يتم من خللها خلق عالم مشترك وحس عام جديد وتشكيلت جديدة للقوة واإلدراك والواقع‪ .‬لقد‬
‫أدى الجمع بين رأس المال وتشبع الحياة اليومية بالتقنيات الرقمية والحاسوبية إلى تسريع وتكثيف‬
‫االتصاالت‪ ،‬مما أدى إلى إعادة توزيع جديد لألراضي وحركة السكان‪ ،‬ومعنى ذلك أن تظل على قيد‬
‫الحياة يعني بشكل متزايد القدرة على الحركة بسرعة‪ .‬في هذه الحالة نكون نحن البشر على مقربة من‬
‫بعضنا البعض إال أن هذا القرب لم يكن هو الهدف في ظل االتجاه نحو التحديد واالنكماش وأشكال مختلفة‬
‫من المخيمات واالحتجاز (‪.)Mbembe, A., 2021, P.17-21‬‬

‫ويضيف مبيمبي أيضا ا أن أحد أهم التناقضات الرئيسية للنظام الليبرالي هو التوتر بين الحرية واألمن‪،‬‬
‫ولذلك أصبح االهتمام اليوم باألمن أكثر من الحرية‪ ،‬فمجتمع األمن ليس بالضرورة مجتمع حرية‪ .‬مجتمع‬
‫األمن دائما ا مجتمع خائف من المجهول‪ ،‬لذلك تكون األولوية في مجتمع األمن في تحديد ما يكمن وراء‬
‫كل وافد جديد‪ .‬وقد تمثلت إحدى االستجابات التاريخية في وضع ترتيبات مكانية‪ ،‬على سبيل المثال‪،‬‬
‫‪166‬‬
‫خلل المراحل المبكرة من االستعمار الحديث أو استعمار اإلبادة الجماعية‪ ،‬كما أنه في النماذج المتأخرة‬
‫للحتلل االستعماري‪ ،‬حيث تتم ممارسة السيطرة على األشخاص الغير مرغوب فيهم والمصنفين على‬
‫أساس العرق من خلل مجموعة من التكتيكات على رأسها الحبس والحصار‪ ،‬وفي القرن الحادي‬
‫والعشرين‪ ،‬أصبح هناك أشكال جديدة من الحروب‪ ،‬تهدف إلى تحويل الغبار إلى وسيلة للبقاء‪ ،‬والهدف‬
‫من هذا النوع من الحروب ليس أشخاصا ا فرديين ولكن تستهدف قطاعات كبيرة من البشرية يحكم عليها‬
‫بأنها عديمة القيمة‪ ،‬وهذه المعركة التي يشن ضد األشخاص الغير مرغوب فيهم تتم على نطاق‬
‫عالمي(‪.)Mbembe, A., 2021, P.25-26‬‬

‫وعن مستقبل العنصرية يرى مبيمبي أيضا ا أن العبودية كانت تستعمل دائما ا كمكمل لرأس المال‪،‬‬
‫وكانت الطبقة والعرق يشكلن تبادليا ا وكان صراع الطبقات ال ينفصل عن صراع األعراق‪ .‬واليوم هناك‬
‫أنواع جديدة من العنصرية والتي لم تعد بحاجة إلى االرتكاز البيولوجي لشرعنة نفسها‪ ،‬إنما يمكنها أن‬
‫تنادي لمطاردة األجانب‪ .‬في ظل األزمة الحالية في الغرب‪ ،‬يشكل هذا النمط من العنصرية إضافة للنزعة‬
‫الوطنية‪ ،‬في الوقت الذي أفرغت العولمة الليبرالية الجديدة النزعة الوطنية بل والديمقراطية ببساطه من‬
‫كل محتوي حقيقي هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى تؤكد التطورات الحديثة في مجاالت علم الوراثة الفكرة‬
‫القائلة بأن مصطلح العرق مصطلح ال معنى له (ميلود‪ ،‬طاهر‪ ،2019 ،‬ص‪.)222‬‬

‫كما أنه يرى أن مفاهيم السواد والبياض واألفريقية مفتوحة ومتعددة‪ ،‬ولن يكفي مجرد النظر إلى‬
‫التناقضات المحلية والعالمية في الماضي والحاضر‪ .‬ففي المستقبل نحتاج إلى ربط مشروع العنصرية‬
‫بمشروع التبادلية البشرية بطرق جديدة‪ ،‬إن االنفتاح على المستقبل والعالم سيعرض للخطر في حالة تم‬
‫فصل اللون األسود عن القيم األساسية لدولة ديمقراطية ودستورية (جنوب أفريقيا)‪ ،‬ويرى أنه على‬
‫النقيض؛ سيتم تعزيزه إذا تمكن السود والبيض من تنشيط حلم المصالحة العرقية وإعادة تنشيط التضامن‬
‫بين األعراق كأساس للممارسة السياسية‪ ،‬كما أن مهمة خلق الذات باألبيض واألسود والتحول الذاتي في‬
‫هذه القارة ال تنفصل عن مشروع تجديد أفريقيا‪ ،‬يجب أن تظل جنوب أفريقيا منفتحة على أفريقيا‬
‫وشتاتها‪ ،‬بمعنى أن تحتضن أفريقيا جميع األفارقة في الشتات وأن تظل متصلة بعضها‬
‫ببعض(‪.)Mbembe, A., 2021, P.16‬‬

‫وعن مستقبل العقل؛ فهناك الكثيرون يدركون أن إدراك العقل قد وصل إلى أقصى حدوده‪ .‬كان‬
‫ينظر إلى العقل دائما ا على أنه أعلى ملكات اإلنسان‪ ،‬وهو الذي فتح األبواب للمعرفة والحكمة والفضيلة‪،‬‬
‫واألهم من ذلك الحرية‪ .‬اليوم العقل هو قيد التجريب‪ ،‬حيث إنه يتم استبدال العقل وتصنيفه بشكل متزايد‬
‫بواسطة العقلنية اآلداتية‪ ،‬لم يعد الدماغ البشري هو الموقع المميز للعقل‪ ،‬حيث تم تنزيل الدماغ البشرية‬

‫‪167‬‬
‫في ماكينات‪ ،‬كما تم التنازل تدريجيا ا عن قدر هائل من القوة إلى التجريدات من جميع األنواع‪ ،‬يتم تحدي‬
‫األساليب القديمة من خلل أساليب تنشأ من خلل التكنولوجيا وداخلها بشكل عام والتقنيات الرقمية بشكل‬
‫خاص‪ .‬لقد جعل التكاثر الحسابي للعقل من أن العقل لم يعد مجرد مجال للنوع البشري‪ ،‬أصبح اآلن‬
‫نشاركه مع العديد من الفاعلين األخريين‪ ،‬وأصبح تفسير الواقع يتم بشكل متزايد من خلل اإلحصاء‬
‫والبيانات الوصفية والرياضيات‪ .‬أيضا ا أصبح اآلن كثير من الناس يديرون ظهورهم للعقل لصالح أنماط‬
‫أخرى من التعبير واإلدراك‪ ،‬فهم يطالبون بإعادة تأهيل العاطفة‪ ،‬في العديد من الصراعات السياسية‬
‫المستمرة في عصرنا‪ .‬إن العقل كان سببا ا لمحاربة األسطورة والخرافات والظلم ( ‪Mbembe, A., 2021,‬‬

‫‪.)P.27‬‬

‫إن مستقبل العقل من منظور مبيمبي ارتبط بظهور اآللة الحسابية وعصر الذكاء االصطناع‬
‫والتي كان له بالغ األثر على الدور الذي كان يقوم به العقل في العمليات اإلدراكية والمعرفية‪ ،‬وقد حل‬
‫مكانه اآلالت الحسابية والنظام الرقمي‪ ،‬مما أثر بالسلب على مكانه العقل البشري في العصر الحديث‬
‫والمعاصر‪.‬‬

‫وعن مستقبل الديمقراطية‪ ،‬يرى مبيمبي أن عصرنا الحالي سيشهد نهاية الديمقراطية‪ ،‬حيث‬
‫تحولت الديمقراطيات إلى حصون مؤمنة؛ في حاالت الطوارئ الدائمة تخوض حربا ا مستمرة على‬
‫اإلرهاب‪ ،‬وتخلق الديمقراطية عالما ا خاليا ا من العلقات يقودها البحث المهووس عن العدو‪ ،‬وتتحول‬
‫المجتمعات الديمقراطية إلى مجتمعات عداء‪ ،‬وفي ذلك تأكيد على الميل الديمقراطي للعنف والعداء‪،‬‬
‫والذي يعتبر ظاهرة ليست بجديدة‪ ،‬ومن تلك الصورة نجد مبيمبي مدافعا ا عن زوال الديمقراطية‪ ،‬لكن‬
‫الزوال هذا مقرون بصوت ديمقراطي ألنه يرى في الديمقراطية األمل الوحيد في المستقبل‪،‬‬
‫لذلك(‪ ،)Gadeke, 2018, P.502‬يعتقد مبيمبي أن الديمقراطية في جوهرها تحدد الحادث األخلقي على‬
‫أساس االعتراف باآلخر في تفرده‪ .‬يتوقف مستقبل الديمقراطية على مسألة كيفية التعامل مع اآلخر‪،‬‬
‫وتتطلب إعادة قراءة التاريخ الذي يفترض أننا نتشارك التاريخ والمستقبل (‪.)Gadeke, 2018, P.498‬‬
‫لماض استعماري‬
‫ٍ‬ ‫رفض مبيمبي للديمقراطية هو رفضا ا بصورتها الحالية والتي هي بمثابة استمرارية‬
‫طويل‪ ،‬لذلك يدعو إلى تحول في الديمقراطية‪ ،‬تحول يعترف باإلنسانية ككل‪.‬‬

‫وعن المستقبل البيئي؛ يرى مبيمبي‪ ،‬أن األفارقة كانوا يتعايشون مع درجة عالية من التقلبات‬
‫المناخية والمخاطر المرتبطة بها ويتأقلمون معها منذ قرون‪ ،‬إال أن التغيرات المناخية وحدوث الكوارث‬
‫المناخية خلل القرن العشرين أدت إلى زيادة التركيز على المخاطر‪ ،‬فهي تهدد بتقويض األصول‬
‫الطبيعية ألفريقيا (إنتاجية األراضي‪ ،‬الثروة الحيوانية‪ ،‬والمياه‪ ،‬وموارد الطاقة) (القدرات الصحية‬

‫‪168‬‬
‫والتغذية والتعليم) مع وضع المنطقة في فخ التنمية البشرية المنخفضة‪ .‬باختصار تعد القارة مركزية‬
‫بالنسبة لألزمة البيئية العالمية‪ ،‬رغم ذلك فإن القارة ليها حلول أكثر فاعلية للفخ اإليكولوجي العالمي الذي‬
‫يطغي على القرن الحادي والعشرين‪ ،‬وذلك ألن أفريقيا هي موطن ثاني ألكبر كتلة من الغابات االستوائية‬
‫في العالم‪ ،‬كما أن سعة تخزين الكربون في البيئات الحيوية األفريقية كبيرة‪ ،‬ففي الوقت الذي تتزايد فيه‬
‫االنبعاثات العالمية بسرعة‪ ،‬تعد اآللة العملقة الحتجاز الكربون مثل األراضي الزراعية والتي تعتبر أحد‬
‫العناصر األساسية في التحكم في المناخ (‪ .)Mbembe, A., 2016, P.101‬يري مبيمبي أن مستقبل أفريقيا‬
‫يكمن في التحديات التي تواجهها واألساليب التي ستتبعها القارة من أجل مواجهة تلك التحديات ويمكن‬
‫إيجاز ما دعا إليه مبيمبي أفريقيا في النقاط التالية‪:‬‬

‫‪ -1‬إعادة تأسيس التفكير النقدي‪ ،‬أي التفكير الذي يعتقد بإمكانية وجوده خارج نفسه‪ ،‬وإدراكه لحدود تفرده‪،‬‬
‫تشير إعادة التأسيس هذه‪ ،‬أوالا إلى نزعة معينة تؤكد الحرية الكلية للمجتمعات تجاه ماضيها ومستقبلها‪.‬‬
‫المهمة اليوم هي تحويل األفكار إلى أعمال ثقافية قادرة على تهيئة األرض لممارسات سياسية مباشرة‬
‫والتي بدونها سنغلق المستقبل‪.‬‬
‫‪ -2‬يتطلب اختراع تصور جديد بديل للحياة والقوة على الكوكب تجديد التضامن الذي يتجاوز االنتماءات‬
‫العشائرية والعرقية‪ ،‬وتعبئة الموارد الدينية لروحانيات الخلص‪ ،‬توطيد مؤسسات المجتمع المدني عبر‬
‫الوطنية‪ ،‬تطوير القدرة على االحتشاد ال سيما في اتجاه الشتات‪.‬‬
‫‪ -3‬التفكير في مسألة العنف الثوري‪ ،‬ويجب التعامل معه بمسؤولية‪ ،‬ألن كل الدماء التي أرقت وربما ال تزال‬
‫لن تنتج بالضرورة الحياة والحرية والمجتمع‪.‬‬
‫‪ -4‬إذا أراد األفارقة الوقوف والمشي‪ ،‬يجب عليهم البحث في مكان أخر غير أوروبا‪ ،‬ألنها تمثل اآلن عالم‬
‫تدهور الحياة وغروب الشمس‪ ،‬وتلشت الروح‪ ،‬وأكلتها أشكاال متطرفة من التشاؤم والعدمية والعبث‪.‬‬
‫‪ -5‬يتعين على أفريقيا أن توجه نظرها نحو الجديد‪ .‬سيتعين عليها أن تعد نفسها لتحقيق ما لم يكن ممكنا ا من‬
‫قبل‪ ،‬سيتعين عليها أن تفعل ذلك بوعي أنها تفتح عصورا ا جديدة لنفسها وللعالم ( ‪Mbembe, A., 2016,‬‬

‫‪.)P.230‬‬

‫إن مسألة الزنجية‪ ،‬كانت دوما ا تطرحها أوروبا على نفسها‪ ،‬من موقع االستثناء‪ ،‬وكأنها ليست‬
‫جزءا ا منها‪ ،‬لكن التاريخ الخفي للميتافيزيقا الغربية‪ ،‬في حالة توتر من صورة الزنجي‪ ،‬فالزنجي الذي لم‬
‫تفكر فيه الميتافيزيقا الغربية هو أساسها واحد أهم مقوماتها‪ ،‬الزنجي كما هو اسم األرض بأكملها‪ .‬وإذا‬
‫كانت أفريقيا‪ ،‬عند بداية العالم تتمثل في الزنجي‪ ،‬فإن أوروبا‪ ،‬في المقابل ال تمثل سوى تهديد خطير‬
‫إلنسانية اإلنسان (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)325‬‬

‫‪169‬‬
‫إن قراءة الحداثة األوروبية من منظور أشيل مبيمبي تعني‪ ،‬تحول الماضي المشترك إلى تاريخ‬
‫مشترك‪ ،‬مفاتيح هذه القراءة هي مفاتيح مزدوجة من العرق والسواد‪ ،‬فهما ليسا مجرد عناصر مركزية‬
‫في التصورات األوروبية‪ ،‬بل إنهما يشكلن جوهرا غير معترف به‪ ،‬التي انطلقا منها المشروع الحديث‬
‫للمعرفة‪ ،‬لذلك فإن أي محاولة إلعادة التفكير في العالم كعالم مشترك يحتاج إلى كشف انساب العرق‬
‫والسواد‪ .‬فقراءة مبيمبي معقدة‪ ،‬حيث تجمع بين طبقات متعددة من التحليل‪ ،‬بما في ذلك الجوانب المادية‬
‫والبنيوية والخطابية والمعرفية والنفسية‪ ،‬ال يقدم تاريخيا ا خطيا ا مرتبا ا زمانيا ا‪ ،‬حيث إن فكرة العرق لم تكن‬
‫ذاتها مستقرة‪ .‬يتتبع مفهوم العرق حتى منشأ موضوع العنصرية‪ ،‬بالنسبة لمبيمبي كان العبد األسود أول‬
‫موضوع عرقي‪ ،‬وبتتبع التطورات التي طرقت على التاريخ العنصري إال أن النظرة العرقية ما زالت‬
‫قائمة تحت مظلة أشكال من السياسات ظاهرها ديمقراطي وباطنها عنصري بحت‪ ،‬سياسات استخدمت‬
‫العنف منذ القدم ومارست سلطة الموت مع تطوير تلك السياسات حتى عصرنا الراهن‪ .‬وأصبحا ا اليوم في‬
‫عالم أكثر وحشية وعنصرية‪ ،‬عالما ا لم يتفق بعد على معنى ومفهوم عام وصريح حول اإلنسانية‪ ،‬لذلك‬
‫كان هدف مبيمبي هو هدف إصلحي شامل لإلنسانية ككل وليس للسود على حساب البيض‪ ،‬أو للبيض‬
‫على حساب السود‪ ،‬مبيمبي بعيد كل البعد عن االنحياز لعرق على حساب عرق مدينا ا في ذلك الخطاب‬
‫األسود والذي يراه مرتبطا ا بشدة بالعرق‪ ،‬والذي أدى إلى عرقلة األمة‪ ،‬كما انتقد خطاب الضحية‪ ،‬والذي‬
‫والمستعمر‬
‫ِ‬ ‫يقلل من المواجه االستعمارية إلى فقدان الذات األصلية والسيادة‪ ،‬مؤكدا ا أن كلا من المستع َمر‬
‫يشتركان في نفس النظام (‪.)Gadeke, D., P.501‬‬

‫أخيرا ا يرى مبيمبي أن الغرب مدين ألفريقيا رغم رفضه االعتراف بذلك الدين‪ ،‬الغرب يدين لنا‬
‫ببعض الديون مهما كانت‪ ،‬وهي مجموعة الديون التي تراكمت في ثنايا احتلل العالم والتي يجرها منذ‬
‫ذلك الحين‪ ،‬واليوم يدعي معظم المدافعين عنه بأننا نحن المدينون له "بالحضارة" وأن بعض األفارقة قد‬
‫حصلوا على مصلحة من األضرار المقترفة ضدهم‪ ،‬وهو اليوم يريد التخلص منا نحن الغرباء‪ ،‬بل ويريد‬
‫أيضا ا أن نسترجع تحفنا "آثارنا" وكأنه في النهاية يريد القول "بما إنني لم أتسبب لكم في أي ضر‪ ،‬فإنني‬
‫ال أدين لكم بأي شيء مطلقاا"(األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪ .)314‬ويؤكد مبيمبي أن أوروبا أخذت منا كثيرا ا‬
‫من أشياء والتي ال يمكن أبدا ا أن تعيدها إلينا‪ ،‬وإننا كأفارقة سنتعلم العيش مع هذه الخسارة‪ ،‬وعلى أوروبا‬
‫أن تتحمل مسؤولية أ فعالها لهذا القسم المظلم من التاريخ المشترك بيننا وبينها والتي تبحث عن التملص‬
‫منه‪ .‬ويعتقد أن باسترجاع موادنا التي أخذتها أوروبا دون تفاهم‪ ،‬سينتج عن ذلك أنها ستسلب من حق‬
‫تذكيرها بالحقيقة‪ ،‬وما من أحد يطالبها باالعتذار‪ ،‬ولكن لكي يتم نسج علقات جديدة‪ ،‬عليها أن تعترف‬
‫بالحقيقة‪ ،‬إذ إنها هي معلمة المسؤولية وستلحقنا حتى نهاية األزمان‪ ،‬وأن االعتراف بها سيؤدي إلى‬
‫االلتزام بإصلح نسيج ووجه العالم (األيوبي‪ ،‬أمين‪ ،2022 ،‬ص‪.)322‬‬

‫‪170‬‬
‫بنا اء على ما تقدم يتضح لنا أن مبيمبي تحدث عن ضرورة االعتراف من جانب الغرب بحقيقة أنه‬
‫مدين ألفريقيا في إطار حديثة عن الفن األفريقي والمنحوتات األفريقية والتي يرى أن المواد األفريقية‬
‫كانت سببا ا في ثراء أوروبا‪ ،‬كما أنه في إطار الدعوة إلى استرداد المنحوتات واآلثار المسلوبة من أفريقيا‬
‫يرى مبيمبي أن عملية االسترداد ال تتم بمرور الكرام إذ البد من التفاهم بين الطرفين حتى ال تخرج‬
‫أوروبا من حيز تذكيرها دائما ا بالحقيقة‪ ،‬حقيقة أنها مدينة ألفريقيا‪ .‬ويتفق مبيمبي في دعوة أوروبا‬
‫للعتراف بالحقيقة مع دعوة الشيخ أنتا ديوب في فضل أفريقيا على أوروبا وان أوروبا والعالم مدين‬
‫للتنوير األفريقي والحضارة األفريقية‪ ،‬كما اتفقا معا ا على موقف الميتافيزيقا الغربية من الزنجي وكيف‬
‫أنها أخفت وتملصت من حقيقة فضله عليها‪ ،‬وبرغم ذلك االتفاق في وجهة النظر اال أن لكل منهما رأيا ا‬
‫مختلفا ا عن اآلخر‪ ،‬فبينما أعلى أنتا ديوب من شأن العرق الزنجي وان له األفضلية عن البيض‪ ،‬نجد‬
‫مبيمبي لم يميز بين العرقين ولم يعل من شأن عرق على اآلخر‪ .‬أيضا ا أن مفهوم الهوية قد اختلف بين‬
‫ديوب ومبيمبي؛ فبينما حدد ديوب الهوية على أساس ثقافي وحضاري‪ ،‬نجد مبيمبي حدد الهوية األفريقية‬
‫على أساس الحياة اليومية للزنجي ومن ثم فهي هوية متغيرة‪ .‬وفي الواقع أن مسألة الهوية لم يتم حسمها‬
‫نهائياا؛ إذ إن كل فيلسوف ينظر إليها من منظور مختلف وربما يكون من اتجاه واحد لذلك لم يكن هناك‬
‫اتفاق حول معنى الهوية األفريقية‪ .‬لذلك نرى أنه في طرح قضية الهوية البد من األخذ في االعتبار جميع‬
‫الجوانب الثقافية والحضارية واألخلقية واالجتماعية والسياسية والدينية أيضا ا من أجل التوصل إلى‬
‫مفهوم واضح ودقيق حول الهوية األفريقية بصفة عامة والزنجية بصفة خاصة‪.‬‬

‫النقد الموجه ألشيل مبيمبي‪:‬‬

‫على الرغم من أن مبيمبي من أشهر المنظرين للفكر ما بعد االستعماري‪ ،‬وأنه طور مفهوما ما بعد‬
‫االستعمار‪ ،‬بحيث اعتبر مبيمبي أن الفترات متشابكة ما قبل االستعمار واالستعمار وما بعد االستعمار‪،‬‬
‫وعلى الرغم من أنه قدم جهودا ا من أجل إعادة الوعي الزنجي‪ ،‬وبخلف نقده للحداثة الغربية وما آلت إليه‬
‫من اختراع لألسطورة الزنجية والذي سعى مبيمبي إلى تحليل تلك االدعاءات وإثبات عدم صحتها وأن‬
‫الزنوج مثلهم مثل البيض يتساوون في الوجود وفي اإلنسانية‪ ،‬وبالرغم من جهوده في رسم خريطة لكيفية‬
‫ممارسة السلطة في فترة ما بعد االستعمار ومن نقده الصريح للسلطة السياسية الموالية للسياسة‬
‫االستعمارية فضلا عن رفضه للعنف بكل أشكاله أيا ا كانت دوافعه ومنطلقاته إال أنه لم يسلم من النقد‪.‬‬

‫حيث تم نقد عمل مبيمبي على أنه ال يؤدي إلى سياسة نشطه‪ ،‬والتي تعالج قضايا العنف والقمع‬
‫في فترة ما بعد االستعمار‪ ،‬مما يؤدي إلى إزاحة العمل السياسي إلى عالم الشخصية والشهوة الجنسية‪.‬‬
‫وقد رد مبيمبي على ذلك القول بأن تحليله لما بعد االستعمار مناسب ألن الفئات المعتادة للقتصاد‬

‫‪171‬‬
‫السياسي غير قادر على إبراز تعقيداته‪ ،‬في هذا النوع من تشكيل القوة ‪ ،‬يتم محو الواقع وإعادة إنشائه‬
‫وتكراره في كل مرة‪ ،‬أن قوة االنتشار هذه وقدرتها على طمس الفوارق بين الحقيقة والباطل وبين ما هو‬
‫مرئي وما هو غامض هي التي تحول الهيمنة والخضوع إلى معزوفة سحرية‪ ،‬وعلى الرغم من هذا‬
‫الدفاع أشار معلقون آخرون إلى أن عمل مبيمبي متشائم في األساس‪ ،‬حيث إن عمله يضع مأزق أفريقيا‬
‫الرهيب في منظوره الصحيح‪ ،‬لكنه ال يقدم حلا‪ ،‬وقد انتقده آخرون وال سيما علماء األنثروبولوجيا‬
‫وعلماء االجتماع‪ ،‬انتقادا ا مباشرا ا مشيرون إلى أن ادعاء مبيمبي بأن أفريقيا تبرز كأعلى بؤرة لهوس‬
‫الغرب وخطابه دائريا ا بحقائق الغياب واالفتقار وعدم الوجود للهوية واالختلف والسلبية كتحريف‬
‫صارخ للتحليل األكثر تعقيد الذي وضعته تخصصاتهم عن أفريقيا(‪.)Ashcroft, B., P.178‬‬

‫وهناك من يرى أن نظرية ما بعد االستعمار على حافة الهوية‪ ،‬نظرا ا إلغفالها األفق الوجودي‬
‫لحالة ما بعد االستعمار المعاصر‪ .‬وبتوجيه النقد لمبيمبي باعتبار مشروعة ما بعد االستعمار يحتل مساحة‬
‫غامضة ومتناقضة في مكان ما بين ما بعد البنيوية والظواهر الوجودية‪ ،‬وبسبب هذا الغموض فشل‬
‫مبيمبي في نواياه المعلنة في التفكير من خلل التجربة الحية ألفريقيا ما بعد االستعمار في تحديد شرط‬
‫(شكل جديد من الكتابة األفريقية)‪ ،‬كما أنه يقلل عمدا ا من تقدير حجم األعمال المهمة التي تمت كتابتها عن‬
‫أفريقيا‪ .‬أيضا ا نجد مبيمبي قد استخدم مجموعة من األدوات النظرية مستمدة إلى حد كبير من مصادر‬
‫أوروبية (‪ .)Weate, J., 2003, P.3‬وذلك يبدو واضحا ا من تأثير ميشيل فوكو وجيل دولوز ودريدا وأيضا ا‬
‫هيجل‪ .‬إن مشروع مبيمبي لفتح حقبة جديدة من الكتابة األفريقية تتجاوز االستعمار من وجهة نظر‬
‫البعض؛ محكوم عليه بالفشل‪ ،‬حيث ارتكب خطأ مزدوجا ا يتمثل في محاولة محو الماضي تماما ا فضلا عن‬
‫عدم توفير أي أساس موضوعي لمزيد من التطور‪ .‬وبرغم النقد الموجه لعمل أشيل مبيمبي‪ ،‬فإن عمله‬
‫يشير مع ذلك إلى التقدم لألمام‪ ،‬بالنسبة للتفكير األفريقي‪ ،‬وفكر ما بعد االستعمار ككل( ‪Weate, J., 2003,‬‬

‫‪.)P.16‬‬

‫العولمة وأثرها على الهوية الثقافية األفريقية‬

‫لكل مجتمع ثقافته الخاصة‪ ،‬ولكل ثقافة هويتها الخاصة التي تنطلق منها‪ ،‬وتتمثل هذه الهوية في‬
‫نسق القيم األساسية المنبثقة من النظام السائد‪ .‬إال أن العولمة هدفت إلى انتقال األفكار والمعلومات والقيم‬
‫واألذواق على الصعيد العالمي‪ ،‬والذي أدى بدوره إلى فقد القدرة على التحكم في تدفق األفكار والقيم فيما‬
‫بين المجتمعات‪ ،‬حيث حملت العولمة في طياتها أيديولوجية االختراق الثقافي‪ ،‬لصياغة ثقافة عالمية‬
‫مندمجة‪ .‬وقد يتعارض هذا النمط الثقافي مع خصوصية وهوية الشعوب (سليماني‪ ،‬محمد‪ ،2020 ،‬ص‪-321‬‬

‫‪.)322‬‬

‫‪172‬‬
‫تتعدد تعريفات العولمة ومستوياتها‪ ،‬منها انها الحالة التي تتم فيها عملية تغيير األنماط والنظم‬
‫االقتصادية والثقافية واالجتماعية ومجموعة القيم والعادات السائدة‪ ،‬وإزالة الفوارق الدينية والقومية‬
‫والوطنية في إطار تداول النظام الرأسمالي الحديث (عبد الوهاب‪ ،‬رانية‪ ،2018 ،‬ص‪ .)13‬كما أنها هدف‬
‫سياسي وثقافي يهدف إلى إعادة بناء هيكليات أقطار العالم السياسية في صياغة تفكك األوطان والقوميات‬
‫إلى كيانات هزيلة قائمة على نزاعات قبلية عرقية أو دينية طائفية أو لغوية ثقافية‪ ،‬بهدف سلب أمم العالم‬
‫وشعوبها القدرة على مواجهة الزحف المدمر للرأسمالية العالمية والتي ال تستقر إال بالتشتت اإلنساني‬
‫(جابر‪ ،‬محمد‪ ،2018 ،‬ص‪ .)176‬ويثير مصطلح العولمة جدالا واسعا ا على الساحة العالمية في مختلف‬
‫مجاالت الحياة‪ ،‬فهي تعني تعميم نموذج الحضارة الغربية وأنماطها السياسية االقتصادية االجتماعية‬
‫والثقافية على العالم كله‪ ،‬كما تعني انفتاح العالم على بعضه في التجارة واالقتصاد والسياسة والثقافية دون‬
‫حواجز أو قيود‪ ،‬العولمة ليست غزوا ا اقتصاديا ا‪ ،‬بل هي غزو قومي‪ ،‬هذا الغزو يهدف إلى إخضاع‬
‫الشعوب وهدم الثقافات وتشويهها وطمس معالمها‪ ،‬ومن ثم تحقيق التبعية الكاملة لإلمبريالية الثقافية‬
‫الجديدة (حداد‪ ،‬شفيعة‪ ،2019 ،‬ص‪.)243-239‬‬

‫ينظر إلى الهويات الثقافية في المجتمعات المعاصرة على أنها مهددة بطريقة أو بأخرى نتيجة‬
‫العولمة‪ ،‬والتي نشرها الشمال العالمي – أوروبا وأمريكا‪ .‬وقد أصبحت مخاطر العولمة على ثقافات‬
‫الشعوب والمس بهويتها تشكل تحديا ا يقلق المهتمين بأصالة الهويات والميراث الثقافي للشعوب‬
‫والمجتمعات‪ ،‬وما تقدمه العولمة من نموذج لثقافة غربية خالصة تمثل ذاتها وفرض نفسها على الثقافات‬
‫األخرى (سليماني‪ ،‬محمد‪ ،2020 ،‬ص‪ .)328‬ولم تكن دراسة العولمة ذات أهمية للمفكرين والفلسفة‬
‫المشغولين بقضية التراث والميراث الثقافي قبل االستعمار؛ بل كانت ذات أهمية أيضا ا في دراسات ما بعد‬
‫االستعمار‪ ،‬وتأتي أهمية العولمة في تلك الدراسات من إظهارها لهيكل علقات القوة العالمية التي ظلت‬
‫راسخة في القرن العشرين كإرث لإلمبريالية الغربية‪ ،‬أيضا ا الطرق التي تشارك بها المجتمعات المحلية‬
‫مع قوى العولمة تحمل بعض التشابه مع الطرق التي شاركت بها المجتمعات المستعمرة تاريخيا ا قوى‬
‫الهيمنة اإلمبريالية وامتلكتها‪ ،‬وتوضح تلك الدراسات أن العولمة متعددة الثقافات بنفس الطريقة التي كانت‬
‫عليها اإلمبريالية نفسها(‪ .)Ashcroft, B., 2007, P.102‬فبجانب محاربة االستعمار األوروبي لألراضي‬
‫األفريقية من قبل المفكرين والفلسفة األفارقة فكان هناك أيضا ا محاربة االستعمار على صعيد آخر وهو‬
‫الصعيد الثقافي الغربي المفروض على القارة األفريقية ويبدو ذلك واضحا ا في أفكار كل من الشيخ أنتا‬
‫ديوب وأشيل مبيمبي‪.‬‬

‫العولمة وأفريقيا‪:‬‬

‫‪173‬‬
‫في الوقت الذي يجادل فيه مؤيدو العولمة بأنها تسمح للبلدان النامية ومواطنيها بالتطور اجتماعيا ا‬
‫واقتصاديا ا وسياسيا ا لرفع مستويات معيشتهم‪ ،‬زعم معارضي العولمة ان هذه العملية أفادت الدول المتقدمة‬
‫عن نظائرها من الدول النامية‪ ،‬ففي العديد من البلدان األفريقية‪ ،‬أثرت العولمة على الفلسفة األفريقية‬
‫والهويات الثقافية لها حيث يشعر البعض أن ثقافتهم يتم استبدالها بقيم وفلسفات أجنبية ( & ‪Mawere, M.,‬‬

‫‪ .)Tapuwa R., P.187‬وعلى الرغم من أن الذين ينظرون إلى العولمة بعدسة إيجابية ينظرون إليها على‬
‫أنها عملية تربط جميع الناس في جميع انحاء العالم‪ ،‬حيث يتم من خللها دمج شعوب العالم في مجتمع‬
‫عالمي واحد‪ ،‬فإن العلماء اآلخرين الذين شهدوا‪ ،‬على مر السنين اآلثار السلبية للعولمة؛ يصفون العولمة‬
‫على أنها ضمور ثقافي؛ حيث يتم ابتلع بعض الثقافات من قبل اآلخرين‪ .‬العولمة إمبريالية غربية تسعى‬
‫إلى فرض هيمنتها على الدول التي خضعها االستعمار يوما ا ما‪ ،‬وبالتالي فالعولمة هي امتداد للستعمار‬
‫الغربي المستمر تحت ستار الشغف باالرتباط الدولي (‪.)Mawere, M., & Tapuwa R., P.194‬‬

‫والعولمة ليست جديدة على أفريقيا فبجانب حجمها المتزايد من حيث الكثافة والسرعة والتأثير في‬
‫العصر الحديث‪ ،‬العولمة حدثت قبل مجيء األوروبيين إلى أفريقيا نظرا ا لوجود بشر دائما ا والتفاعل‬
‫والزواج المختلط والتجارة بين مختلف الجماعات العرقية األفريقية عبر القارة‪ ،‬وبجانب ذلك بدأت‬
‫التجارة بين أفريقيا وآسيا والهند قبل االكتشافات المهمة التي حققها األوروبيون في استكشافهم للمحيطات‪.‬‬
‫إال أ ن العولمة واسعة االنتشار قد بدأت بالفعل في القرن التاسع عشر والقرن العشرين من خلل تطوير‬
‫أشكال جديدة من وسائل النقل واالتصاالت اإللكترونية (‪.)Mawere, M., & Tapuwa R., P.197‬‬
‫والعولمة بالنسبة ألفريقيا ودول العالم الثالث فرضيات عليها في العلقات السياسية واالقتصادية والثقافية‬
‫العالمية دون موافقتها‪ .‬وبدالا من تعزيز الشعور باالنتماء المشترك في القرية العالمية‪ ،‬تعيدنا الممارسات‬
‫الليبرالية الجديدة إلى الغابة الداروانية حيث يوجد كل شيء في حاله دائمة من المنافسة سعيا ا وراء‬
‫المصلحة الذاتية (‪.)P.H. Coetzee, P.671‬‬

‫بجانب وجود آثار إيجابية للعولمة إال أن اآلثار السلبية األكثر خطرا ا على الهوية الثقافية للقارة‬
‫األفريقية‪ ،‬فعلى المستوى السياسي أدت العولمة إلى تهميش القارة األفريقية؛ بسبب ترجع مكانه القارة‬
‫وتصنيف دولها في مرتبه أدنى مما كانت عليه‪ ،‬حيث أصبحت معظم دولها تنتمي إلى العالم الرابع‬
‫والخامس وليس العالم الثالث كما كانت (جابر‪ ،‬محمد‪ ،2018 ،‬ص‪ .)180‬وبرغم من خطورة تلك اآلثار‬
‫السلبية على السياسة األفريقية إال أن اآلثار الثقافية لم تكن أقل خطورة على الهوية الثقافية للقارة‬
‫األفريقية؛ فعلى المستوى التاريخي تعد العولمة استعمارا ا ثقافيا ا جديدا ا‪ ،‬يهدف إلى إحداث خلل في الهويات‬
‫الثقافية للشعوب بنشر العولمة الثقافية أحادية القطب بهدف االستيلء على حضارة الشعوب الفقيرة‬
‫وبالتالي فهي امتداد للستعمار التقليدي الثقافي القديم‪ .‬وعلى المستوى الروحي تهدف العولمة إلى نزع‬
‫‪174‬‬
‫الجانب الروحي من الجسد مع إبقاء الجانب المادي والجسدي فقط‪ ،‬حيث تنتج العولمة اإلنسان المادي‬
‫الحيواني بالقضاء على الجانب الروحي والنفسي والفكري‪ .‬وعلى المستوى االقتصادي تهدف العولمة إلى‬
‫تأكيد تبعية الشعوب الفقيرة إلى الدول المتطورة والتي تغني الشعوب الضعيفة بالماديات مقابل التنازل‬
‫عن هويتهم الثقافية وإظهار التبعية الثقافية لتلك الدول المتقدمة‪( .‬محمد‪ ،‬زغو‪ ،2010 ،‬ص‪.)98-97‬‬

‫إن أفريقيا هي األشد ضررا ا من العولمة الثقافية حيث يتم طمس معالم الثقافة األفريقية الراسخة‬
‫إن لم تكن محاولة لمحوها تماما ا‪ ،‬للعولمة تأثير كبير في تفجير الصراعات االثنية والقبلية داخل القارة‬
‫األمر الذي كشف تعقيد أزمة الهوية داخل المجتمعات األفريقية متعددة العرقيات‪ ،‬وأصبحت أفريقيا هي‬
‫الخاسر األكبر من تلك العولمة الثقافية (جابر‪ ،‬محمد‪ ،2018 ،‬ص‪ .)181‬ولعل مساعي الشيخ أنتا ديوب في‬
‫الدفاع عن الهوية الثقافية للقارة األفريقية مؤكدا ا على وحدتها الثقافية كان ذلك من أجل التصدي للعولمة‬
‫الثقافية األوروبية ولألفكار الملوثة التي روجت لها أفكار الفلسفة العنصريين الذين سعت جهودهم من‬
‫أجل فرض فكرة تبعية القارة األفريقية للقارة األوروبية‪ ،‬لذلك تصدي ديوب لتلك المحاوالات ورفض تلك‬
‫األفكار التي روج لها الغرب المستعمر‪ .‬ويمكن حصر اآلثار السلبية للعولمة في الجانب الثقافي فيما يلي‪:‬‬

‫أولا اختراق البنية الثقافية المحلية‪ ،‬وتفاقم مخاطر االستلب والغزو واالستعمار الثقافي‪ ،‬مما‬
‫يؤدي إلى محو الهوية الحضارية الثقافية لألم‪ ،‬ونزع الخصوصية الشخصية للشعوب األفريقية والمتمثلة‬
‫في اللغة والدين واألخلق والتاريخ والعادات والتقاليد‪ .‬وثانيا ا الهيمنة واالستتباع الحضاري‪ ،‬واالستسلم‬
‫لتلك العملية (االستتباع الحضاري) يأتي فقدان الشعور باالنتماء للوطن‪ ،‬وبالتالي إفراغ الهوية الثقافية من‬
‫كل محتوى‪ .‬وثالثا ا التقليل من قيمة الثقافات المختلفة وفرض هيمنة الثقافة الواحدة‪ .‬ورابعا ا حرمان‬
‫الشعوب المتخلفة من اللحاق بركب التقدم‪ ،‬نظرا ا النتشار األمية بها‪ ،‬والعولمة تقوم على تقنيات عالية ال‬
‫تمتلكها تلك الشعوب (عبد الوهاب‪ ،‬رانية‪ ،2018 ،‬ص‪ .)14-13‬ونظرا ا ألن للعولمة آثارا ا سلبية والتي تؤثر‬
‫بشدة على ثقافة وهوية الشعوب‪ ،‬فلبد للتصدي لهذا الغزو الثقافي باالرتكاز على المرجعية الحضارية‬
‫للشعوب واألفراد من خلل التفاعل بين الثقافات المحلية والثقافات األخرى الخارجية في إطار االعتراف‬
‫بالتعدد الثقافي وعدم انصهار ثقافة في ثقافة أخرى (حداد‪ ،‬شفيعة‪ ،2019 ،‬ص‪.)245-239‬‬

‫دعا ديوب في مشروعة إلى إنشاء وحدة ثقافية ألفريقيا موحدة ومن أجل مستقبل أفضل للقارة‬
‫السمراء‪ .‬ومن منظور مبيمبي يرى أن أفريقيا مع اطللة القرن الحادي والعشرين واجهت خيار الدخول‬
‫هذا القرن الجديد وقبلت بعزم تحدي اإلنتاجية؛ أي تحويل أوضاع علقتها باالقتصاد العالمي إلى‬
‫صالحها‪ ،‬ومما ال شك فيه أن النزاع مع السوق العالمي لن يحسم لمصلحة أفريقيا إذا جرى التفاوض عليه‬
‫ضمن إطار برامج التعديل البنيوي؛ ألن هذه البرامج يتيح في األغلب عودة إلى ستينيات القرن العشرين‬

‫‪175‬‬
‫حين جعلتها بنيات االقتصادات األفريقية مصدرة صافية للمحاصيل االستوائية قبل كل شيء‪ ،‬وهنا‬
‫يتحدث مبيمبي عن العولمة االقتصادية "الرأسمالية"‪ .‬ويرى أنه يتعين على أفريقيا‪ ،‬باالعتماد على‬
‫المقرضين الدوليين أو من دونهم‪ ،‬أن تواجه تحدي القدرة التنافسية القتصادها على المستوى العالمي‪ ،‬فل‬
‫يمكن النهوض لهذا التحدي بنجاح في االقتصاد العالمي الحالي دون زيادة في اإلنتاجية (األيوبي‪ ،‬أمين‪،‬‬
‫‪ ،2022‬ص‪.)99‬‬

‫وفي الختام يمكننا القول إن للعنف بالتأكيد كثيرا ا من اآلثار السلبية على هوية وثقافة الشعوب‪،‬‬
‫وعلى حياة البشر أيضاا‪ ،‬ومن ثم يجب العمل ضرورة التخلص من تلك الظاهرة‪ ،‬والتخلص من التمييز‬
‫العرقي والتفرقة العنصرية بين البيض والسود والعيش سويا ا في مجتمع يتمتع باألمان واالستقرار‬
‫والسلم‪ .‬البد من نشر قيم العدل والحرية والمساواة على المستوى االجتماعي والسياسي واألخلقي‬
‫أيضاا‪ ،‬البد من نبذ كل التطورات التكنولوجية التي تؤدي إلى تدمير اإلنسان‪ .‬ومع نبذ العنف يجب أن‬
‫يعرف األفارقة حقيقتهم التاريخية وقراءة تاريخهم بأنفسهم‪ ،‬يجب الرجوع إلى جذورهم‪ ،‬كما يجب‬
‫االعتماد على لغاتهم األصلية من أجل الحفاظ على هويتهم وحقيقتهم األنطولوجية‪ ،‬أيضا ا يجب المشاركة‬
‫الفعالة من قبل األفارقة في البحث العلمي يجب تواجد الفلسفة األفارقة بقوة في تقديم حلول للمشكلت‬
‫الفلسفية المطروحة على الساحة في الوقت الراهن‪ ،‬وإلثبات قدرتهم العقلية في حل مثل تلك المشكلت‪.‬‬
‫ماض عريق‪ ،‬فكذلك لهما أيضا ا مستقبل مشرق‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫يجب الهتمام بالمستقبل فمثلما كانت أفريقيا والزنوج لهم‬
‫بل إن مستقبل العالم كله سوف يبدأ من أفريقيا‪.‬‬

‫أيضا ا البد من محاربة اآلثار السلبية التي خلفتها العولمة واالنفتاح الكوكبي على هويتنا الثقافية‪،‬‬
‫وفي الحقيقية ما نراه اليوم ألمر مؤسف على ضياع هويتنا على المستوى األفريقي بل والعربي أيضاا‪.‬‬
‫فأصبح واضحا ا اليوم ذلك التقليد األعمى من قبل الدول العربية واألفريقية للثقافات الغربية والتي ال تتفق‬
‫مع عادتنا وتقاليدنا بل ال تتفق مع ديننا أيضاا‪ .‬لذلك البد من صحوة فلسفية افريقية وعربية تقف ضد كل‬
‫المحاوالات الغربية التي تهدف إلى تدمير هويات وثقافات شعوبنا العريقة‪ .‬البد من الدفاع عن العقل‬
‫األفريقي والحضور القوي للعقل الزنجي‪ ،‬ذلك العقل صاحب الفضل األول على البشرية جمعاء كما عبر‬
‫أنتا ديوب‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫خاتمة البحث‬

‫لقد كان الصراع من أجل العقل‪ ،‬هو أساس العنصرية‪ ،‬وبرغم من التطورات التي طرقت على‬
‫الديمقراطية وحقوق اإلنسان في الوقت الراهن إال أن النضال من أجل العقل ال يزال ثابتاا‪ .‬لقد نظر‬
‫المستعمر إلى الشعوب المستعمرة على أنهم عبيد من نوع خاص يفتقرون إلى العقل‪ ،‬لذلك ليس لديهم‬
‫إرادة خاصة بهم وبالتالي ال يتمتعون بالحرية أيضاا‪ ،‬لكن كان انتصار للعقل حينما أعلن وتم التأكيد على‬
‫أن جميع البشر حيوانات عاقلة‪ ،‬وعلى هذا األساس ال يوجد بالفعل سوي جنس واحد وهو الجنس‬
‫البشري‪ .‬وفي إطار الصراع من أجل العقل‪ ،‬تواجد األفارقة في ذلك النضال مدافعين عن العقل األفريقي‬
‫ومثبتين لوجوده وفاعليته باعتباره جزءا من العقل البشري ال يختلف عن اإلنسانية في شيء وال ينقصه‬
‫شيء‪ .‬فقد كان النضال من أجل إثبات الوجود ثم إثبات الفاعلية (المعرفة) ثم المساهمة في الحضارة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬بل أن هناك من ذهب إلى أبعد من كون األفارقة مجرد مساهمين‪ ،‬بل هم أصحاب أول وأقدم‬
‫حضارة عرفتها البشرية‪ .‬ويعد الشيخ أنتا ديوب من أبرز األفارقة الذين تقدموا بمثل هذه األفكار وكان‬
‫صاحب مشروع وفكر أفريقي يعد األجرأ تاريخيا ا في تاريخ الفكر األفريقي الحديث والمعاصر‪ .‬كما أن‬
‫العقل احتل مكانة خاصة في فكر أشيل مبيمبي‪ ،‬لما له من أهمية في مناقشة ومعرفة الذات األفريقية والتي‬
‫غابت عن الشخص األفريقي لظروف استعمارية‪ ،‬لذلك قدم مبيمبي النقد للعقل الزنجي ومناقش لمستقبل‬
‫الحياة والعقل األفريقي‪ .‬وفيما يلي أبرز النتائج المستخلصة من المقارنة بين الشيخ أنتا ديوب وأشيل‬
‫مبيمبي‪:‬‬

‫اتفق كل من ديوب ومبيمبي حول فكرة المركزية األوروبية‪ ،‬تلك المركزية التي مهدت الطريق‬ ‫‪‬‬
‫الستعمار القارة األفريقية وخدمت أهداف االستعمار‪ ،‬مركزية روج لها الفلسفة الغربيون والتي تقتضي‬
‫تفوق العرق األبيض على األسود‪ ،‬بل أن العرق األسود ال يمتلك أي مقومات عقلية مثل التي يمتلكها‬
‫الرجل األبيض‪ ،‬ومن خلل نشر تفوق األسطورة اليونانية والتي تشير بأن النشاط العقلي والفلسفي خارج‬
‫من قلب أوروبا صاحبة العرق األبيض‪ ،‬هذه األسطورة روج لها على مدار التاريخ من أجل السيطرة‬
‫على األفريقي وسلب هويته التي ينتمي إليها وجعلته يعيش في حاله ووضعية معينة وفق ما يطلبه سيده‬
‫المستعمر ومن ثم تجريده من ذاته وجعله يعيش بذات أخرى غريبة عنه‪ ،‬لقد كانت فكرة السواد هي نتاج‬
‫األسطورة األوروبية كما أن العقل الزنجي نتيجة للخيال األوروبي أيضا ا عند أشيل مبيمبي والذي رأى أن‬
‫أسطورة الزنوج ما هي إال وسيلة لتحديد ومعرفة األوروبي لهويته ذاته‪ ،‬لذلك أعجب مبيمبي بفكرة ديوب‬
‫حول وضعه لألسطورة المصرية أمام االسطورة والمعجزة اليونانية‪ ،‬فكان ديوب يعلم أن على أوروبا أن‬
‫تسرق مصر من أفريقيا ألن مضطهدي األفارقة لم يقبلوا أن السود قد خلقوا اعظم حضارة في العصور‬

‫‪177‬‬
‫القديمة‪ ،‬كانت موجودة فقط في قارة أفريقيا بالقرب من الحضارات السوداء األخرى في النوبة وأثيوبيا‬
‫وتشاد‪ ،‬لذلك ‪ ،‬استعاد ديوب مصر ألفريقيا‪.‬‬
‫ذهب ديوب إلى أن دراسة السود يجب أن تبدأ من مصر‪ .‬إن قلب العرق ومهد الحضارة كانا في‬ ‫‪‬‬
‫الجنوب وتمركزت في عاصمتي نبته ومروي‪ .‬ومنها انتشرت الحضارة السوداء شماالا‪ ،‬وبلغت أروع‬
‫إنجازاتها فيما أصبحت تعرف باسم (الحضارة المصرية)‪ ،‬وقد استطاع أن يثبت بنظريته التي جاء بها‬
‫عام ‪ 1956‬حيث تأكد لديه أن حضارة وادي النيل حضارة زنجية‪ ،‬وأن الحضارة المصرية القديمة هي‬
‫أسمى مراحل الحضارة األفريقية‪ ،‬وقد قدم ديوب الكثير من األدلة لتأكيد أطروحته حول زنجية مصر‬
‫القديمة‪ .‬إن األطروحة حول مصر الزنجية وحضارتها الغارقة في القدم تطيح بنظرية المعجزة اليونانية‬
‫رأسا ا على عقب‪ ،‬كما أن ديوب من خلل بحثه لم يسعى فقط إلى إثبات الهوية الزنجية لمصر الفرعونية‪،‬‬
‫بل كان يسعى أيضا ا إلى إثبات الهوية المصرية ألفريقيا بأكملها‪ ،‬ومن ثم مطالبة أفريقيا بالعودة إلى‬
‫جذورها المصرية‪.‬‬
‫أن دعوة ديوب األصولية تم انتقادها من قبل أشيل مبيمبي في إطار نقده الموجهة إلى أنماط‬ ‫‪‬‬
‫الكتابة األفريقية في مشكلة البحث عن الهوية‪ ،‬فقد تم تصوير الهوية األفريقية والوحدة األفريقية في‬
‫الغالب بطريقة جوهرية في معارضة الهوية الغربية‪ ،‬وقد أدى ذلك في كثير من األحيان إلى الحفاظ على‬
‫الذات البشرية الفردية داخل الحدود العرقية بفكرة أن هناك بشكل أساسي هوية أفريقية يشترك فيها جميع‬
‫السكان المنحدرين من أصل أفريقي وهي نقطة انطلق لمصيرهم االجتماعي والسياسي والثقافي‪ ،‬هذا‬
‫أمر ينطبق أيضا ا على األشخاص من أصل أوروبي‪ .‬فكان موقف مبيمبي المناهض لألصولية حول‬
‫الهوية األفريقية مع التركيز على القدرات الفردية لتصميم أنفسهم في ظل ظروف محددة تاريخياا‪ .‬وذهب‬
‫إلى أنه ال يوجد هوية أفريقية نهائية‪ ،‬بل هناك هوية قيد التشغيل تستمد قوتها من االختلفات العرقية‬
‫واللغوية لألفارقة‪ ،‬وكذلك من التقاليد الموروثة من التاريخ االستعماري‪ ،‬أن الهوية ليست شيئا ا ثابتا ا بل‬
‫هي نتاج الحياة اليومية وأن الهوية الوحيدة التي يشترك فيها األفارقة تكمن في تحديد المصير‪ ،‬لذلك‬
‫اختلف مبيمبي عن ديوب؛ حيث بحث ديوب عن الهوية في داخل اإلطار العرقي مؤسسا ا للمركزية‬
‫األفريقية ضد المركزية األوروبية حتى ولم يذكر ديوب ذلك‪ ،‬بينما بحث مبيمبي في مشروعة حول‬
‫الهوية المفقودة خارج بوتقة العرق والعنصرية‪ .‬ويرى مبيمبي أن نقده للخطابات األفريقية مدفوع‬
‫باعتبارات منهجية‪ ،‬حيث إنهم ال يتطرقون إلى قلب الموضوع‪ .‬وقد اقترح مبيمبي نهجا ا ظاهريا ا وجوديا ا‬
‫لتصور الحقائق األفريقية‪ ،‬لفهم ما تعنية أن تكون أفريقيا‪ ،‬بالنسبة له يجب على المرء أن ينغمس في‬
‫حقائق زمانية الذات وأفعال الذات المستقلة استجابة لموقعها‪ ،‬وبالتالي فإن التفكير الفلسفي في الهوية‬
‫األفريقية يعني التفكير في توقيتات الموضوعات األفريقية‪ ،‬التفكير مع الوقت هو ما يعتقد مبيمبي أنه كان‬

‫‪178‬‬
‫يجب على خصومه فعله‪ .‬إذن مبيمبي لم يرفض فكرة الهوية في حد ذاتها ‪ ،‬لكنه يرفض فكرة الهوية‬
‫األفريقية الواحدة ‪.‬‬
‫أن القارة األفريقية وان كانت قد تحررت من قيود االستعمار سياسيا ا إال أنها الزالت مستعمرة‬ ‫‪‬‬
‫ثقافيا ا‪ ،‬إذ عمل االستعمار على طمس الهوية الثقافية واللغوية ألبناء القارة األفريقية وذلك من أجل إحكام‬
‫السيطرة على الدول والمجتمعات األفريقية حتى بعد رحيله عنها‪ ،‬لذلك نجد كلا من ديوب ومبيمبي سعيا‬
‫إلى مناقشة إنهاء االستعمار وان اختلف المفهوم بينهما‪ ،‬فبينما يرى ديوب أنه حتى لو تعرضت أفريقيا‬
‫للنهب واالنتهاكات من قبل االستعمار‪ ،‬ال يمكن ألفريقيا أن تموت‪ ،‬حيث كان يعتقد أن هناك قوة من‬
‫الصحوة بين األفارقة ولونهم األسود يجعلها فريدة من نوعها للنهضة‪ ،‬أن استعباد أفريقيا وشعوبها بدأ مع‬
‫السيطرة على عقولهم‪ ،‬لذلك‪ ،‬فإن أساس التحرر األفريقي والنهضة األفريقية‪ ،‬يجب بالضرورة أن يبدأ‬
‫بإنهاء استعمار العقل األفريقي من خلل استعادة التاريخ األفريقي‪ ،‬وكان أحدى أهم القضايا الرئيسية التي‬
‫دافع عنها ديوب وأكد على أنها جوهر النهضة األفريقية هي اللغة‪ ،‬وجادل بأن األفارقة فقدوا هويتهم‬
‫وكرامتهم وتقرير مصير هم من خلل السماح ألنفسهم بتغيير لغتهم التي كانت الوسيلة الوحيدة التي كانت‬
‫واضحة في التواصل‪ ،‬لذلك فإن تطوير لغاتنا األصلية هو شرط أساسي لنهضة أفريقية حقيقية‪ ،‬وبخلف‬
‫التحكم في لغتنا التاريخية‪ ،‬يجب أن يكون لدينا اكتشاف واستجواب لتراثنا بحيث ال يسمح األفارقة‬
‫لآلخرين بأن يكونوا المترجمين الرئيسيين لتاريخنا‪ ،‬أن االدعاء بأن إنهاء استعمار المعرفة كمفهوم لم‬
‫يكن موجودا ا قبل ديوب‪ ،‬وهذه أيضا ا نقطة ال تقل أهمية في رحلته عن البحث عن الهوية األفريقية‪.‬‬
‫أما مبيمبي فقد تحدث عن إنهاء االستعمار فيما يتعلق األمر بإنهاء استعمار الجامعة والمعرفة‪،‬‬ ‫‪‬‬
‫فهناك عدد من القضايا السياسية واألخلقية الواضحة‪ .‬ويعتبر أن إنهاء استعمار المعرفة يبدأ من الجامعة‪،‬‬
‫ووضع مؤسساتنا بثبات على طريق المعارف المستقبلية‪ ،‬فنحن نحتاج إلى إعادة ابتكار فصل دراسي بل‬
‫جدران‪ ،‬وجامعة قادرة على حشد جماهير مختلفة في أشكال جديدة من التجمعات التي تصبح نقطة التقاء‬
‫ومنصات إلعادة توزيع أنواع مختلفة من المعارف‪ .‬ويرى مبيمبي أن هناك شيء خطأ عندما تظل‬
‫المناهج الدراسية المصممة لتلبية احتياجات االستعمار والفصل العنصري‪ ،‬في حقبة ما بعد الفصل‬
‫العنصري كما يرى مبيمبي أنه من الضرورة في مشروع إنهاء االستعمار إجراء نقد ال تهاون فيه‬
‫للنموذج األكاديمي األوروبي المركزي السائد‪ .‬ويرى مبيمبي أن إنهاء استعمار الجامعة يعني إصلحها‬
‫بهدف خلق تعددية عالمية انتقادية‪ ،‬مع إعادة تأسيس لطرق تفكيرنا‪ .‬اعتبر مبيمبي إنهاء االستعمار‬
‫ممارسة للدفاع عن النفس وانتفاضة‪ ،‬حيث إن تحقيق مجتمع منزوع االستعمار كان بمثابة انتفاضة تتكون‬
‫إلى حد كبير من إعادة توزيع اللغات‪ ،‬حيث كان المستعمرون على مختلف مستوياتهم الحديث بلغات‬
‫مختلفة بدالا من لغة واحدة‪ ،‬لذلك يمثل إنهاء االستعمار لحظة مجيدة لفك ارتباط اللغات وتشعبها في تاريخ‬
‫حداثتنا‪ ،‬مع إنهاء االستعمار يمكن ألي شخص التعبير عن نفسه بلغته‪.‬‬
‫‪179‬‬
‫وعن الوضع االقتصادي ألفريقيا دعا ديوب إلى ضرورة وجود وحدة اقتصادية‪ ،‬حيث يجب أن‬ ‫‪‬‬
‫تكون أفريقيا قادرة على إعالة سكنها‪ ،‬لذلك كان هناك وجوبا ا حتميا ا لتطبيق سياسة منهجية إلعادة التوطين‬
‫المكثف في الوقت األمثل‪ ،‬يجب أن تواصل أفريقيا السوداء احتواء مصادر كافية للطاقة الطبيعية والمواد‬
‫الخام والمواد الغذائية إلطعام وإدامة السكان‪ .‬وحذر بشدة أفريقيا من أن تراقب عن كثب تحديد المواقع‬
‫من قبل بعض القوى الغربية فيما يتعلق بالنمو السكاني‪ ،‬حيث رأى أن الخطر المحتمل ألفريقيا المستقلة‬
‫الفارغة ديموغرافيا ا‪ ،‬ومثلما تحدث ديوب عن االقتصاد في القارة األفريقية تحدث مبيمبي أيضا ا عن‬
‫أسباب سوء األحوال االقتصادية في القارة السمراء والتي هي نتيجة لسياسة المستعمر االقتصادية في‬
‫القارة حتى بعد رحيله سياسيا ا‪ ،‬فهو المستفيد األول من ثروات القارة بينما يقع على كاهل أبنائها الشقاء‬
‫والمعاناة بسبب سوء األحوال االقتصادية‪.‬‬
‫كان أنتا ديوب يعتقد أن تصحيح التاريخ يمنح األفارقة أساسا ا حقيقيا ا لمعرفة الذات‪ ،‬وإن لم يعط‬ ‫‪‬‬
‫التاريخ األفريقي أساسا ا قويا ا لمعرفة الذات‪ ،‬فسيظل األفارقة أشياء يتم التلعب بها وتهميشها من قبل‬
‫الغرب‪ ،‬لكن إذا حصل األفارقة على تاريخ صحيح فسوف يصبحون على استعداد لبناء مستقبل أفضل‪،‬‬
‫وأن بوسع الفلسفة األفارقة المسلحين بماضيهم الثقافي والتاريخي‪ ،‬أن يشاركوا في بناء هذه الفلسفة‬
‫الجديدة التي ستساعد اإلنسان على التصالح مع نفسه والتي سيكون انطلقها بدرجة كبيرة من التلحم بين‬
‫التفكير الفلسفي وبين العلوم‪ ،‬كما أعتقد ديوب أن ظهور مجموعة جديدة من العلوم اإلنسانية واالجتماعية‬
‫والفيزيائية والطبيعية األفريقية بات أمرا ا ممكنا ا‪ ،‬بنا اء على أسس أخلقية لسلوك اإلنسان في الطبيعة‪،‬‬
‫أخلق جديدة تأخذ في االعتبار المعرفة الموضوعية‪ ،‬وسيساهم هذا التطور في تقدم الضمير األخلقي‬
‫لإلنسانية‪ ،‬تصور جديد لإلنسانية دون تصورات عرقية‪ .‬كما اعتقد مبيمبي أن ما يحدث في أفريقيا سيكون‬
‫له تأثير ليس فقط على أفريقيا في حد ذاتها‪ ،‬وإنما سيؤثر على كوكبنا‪ ،‬فهناك إجماع ضمني من أن مصير‬
‫الكوكب سينتهي إلى حد كبير في أفريقيا‪ ،‬سيشكل التحول العالمي للمأزق األفريقي الحدث الثقافي‬
‫والفلسفي الرئيسي للقرن الحادي والعشرين‪ ،‬ويرى مبيمبي أن مستقبل أفريقيا يكمن في التحديات التي‬
‫تواجهها واألساليب التي ستتبعها القارة من أجل مواجهة تلك التحديات ويتمثل التحدي الرئيسي الذي‬
‫يواجه عصرنا في إعادة تأسيس التفكير النقدي‪ ،‬أي التفكير الذي يعتقد بإمكانية وجوده خارج نفسه‪،‬‬
‫وإدراكه لحدود تفرده‪ ،‬تشير إعادة التأسيس هذه‪ ،‬أوالا إلى نزعة معينة تؤكد الحرية الكلية للمجتمعات تجاه‬
‫ماضيها ومستقبلها‪ ،‬كما يتطلب اختراع تصور جديد بديل للحياة والقوة على الكوكب تجديد التضامن الذي‬
‫يتجاوز االنتماءات العشائرية والعرقية‪ ،‬كما يرى أنه يتعين على أفريقيا أن توجه نظرها نحو الجديد‪.‬‬
‫سيتعين عليها أن تعد نفسها لتحقيق ما لم يكن ممكنا ا من قبل‪ ،‬سيتعين عليها أن تفعل ذلك بوعي أنها تفتح‬
‫عصورا ا جديدة لنفسها وللعالم‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫لم يكن فكر ديوب حكرا ا على أفريقيا وحدها بل امتد إلى خارجها‪ .‬غن المركزية األفريقية تعطي‬ ‫‪‬‬
‫فهما ا أكبر للظواهر األفريقية وهي ال تقوم على نقد الثقافة األوروبية‪ ،‬بل تهدف إلى إعطاء الشعوب‬
‫األفريقية مصطلحاتهم الخاصة وتطبيق المعايير األفريقية على مختلف جوانب الحياة‪ ،‬كما أن ديوب قد‬
‫حسم اإلشكالية الكبرى في تاريخ الفلسفة األفريقية المتمثلة في التساؤل من أين تبدأ الفلسفة األفريقية؟‬
‫حيث أسس ديوب مدرسة للفلسفة المعاصرة تسمي المصريات‪ ،‬والتي تعد مصر هي المرجعية لدراسة‬
‫الفلسفة األفريقية‪ .‬وبفضل ديوب تم تدريس الفلسفة األفريقية في المدارس والجامعات‪ .‬لقد كان الشيخ أنتا‬
‫ديوب متحمسا ا لماضي أفريقيا ولكن أيضا ا في تركيبته العقلية نجد السياسي‪ ،‬لذلك اندرجت أبحاثه تحت‬
‫مسمى النضال السياسي‪.‬‬
‫وفي إطار النضال السياسي أيضا َ يندرج فكر أشيل مبيمبي والذي لم يقتصر فكره على القارة‬ ‫‪‬‬
‫السمراء بل انطلق خارج الحدود األفريقية ليشمل األفارقة في الشتات ثم مناقشة المشاكل التي يوجهها‬
‫العالم أجمع باحثا ا في األسباب وطارحا ا للحلول من أجل انتشار السلم على مستوى العالم وهي دعوة‬
‫إصلحية يسعى إليها مبيمبي أشبه بما دعا إليه الفيلسوف األلماني كانط وإن كان مبيمبي ذهب إلى أبعد‬
‫من كانط الذي ينسب إليه أفكار عنصرية متهما ا األديان التاريخية باعتبارها سبب الصراعات في العالم‪،‬‬
‫إال أن مبيمبي ارتقى عن كانط بالدعوة إلى التصالح العالمي والعيش معا ا تحت سقف اإلنسانية‪ ،‬رافضا ا‬
‫لجميع أشكال العنف والتمييز بين البشر على األساس العرقي والعنصري‪ ،‬كما انتقد مبيمبي سياسات‬
‫السلطة الحاكمة الحالية في القارة السمراء واصفا ا إياها باالستبداد‪ ،‬وفي نفس اإلطار تتبع مبيمبي التطور‬
‫التاريخي إلقحام الدين في السياسة مع كيفية إضفاء الطابع المقدس على شخص الحاكم‪ ،‬فكانت رؤية‬
‫مبيمبي السياسية أشمل وأوسع من ديوب‪ ،‬كما اهتم مبيمبي بمناقشة التطور التاريخي للعنف أيضا ا وأسبابه‬
‫السياسية والميتافيزيقية أيضا ا لما للعنف دافع مقدس وهو يظهر في أبشع صورة في األراضي الفلسطينية‪،‬‬
‫والذي يرى مبيمبي أن االحتلل اليهودي لم يكن احتلالا من أجل األرض فقط بل هو احتلل مقدس‬
‫يتطلب القضاء على الطرف المحتل‪ ،‬ومن ثم فهو احتلل وحرب من أجل الوجود‪ ،‬وكان لمبيمبي رأيه‬
‫الواضح والصريح في رفض جميع أشكال العنف بما في ذلك عنف االحتلل ‪ ،‬وكان رأى مبيمبي حول‬
‫االحتلل اإلسرائيلي سبب في اتهامه بأنه ضد السامية‪ .‬كانت آراء ديوب ومبيمبي السياسية سبب في نفي‬
‫كل منهما؛ حيث تم إغلق حزب ديوب السياسي من قبل الرئيس السنغالي سينغور نظرا ا لكونه معارض‬
‫للسياسة السنغالية ولحكومة سينغور الموالية لفرنسا كما تم نفيه من جامعة دكار والتي سميت باسمه فيما‬
‫بعد‪ ،‬كذلك تم نفي مبيمبي خارج الكاميرون ومنع من دخولها وهو يعيش اآلن في دولة جنوب أفريقيا‪.‬‬
‫ومثلما انتهى أنتا ديوب في بحثه حول الهوية األفريقية إلى فضل أفريقيا على أوروبا وأن الغرب‬ ‫‪‬‬
‫مدين لمصر وأفريقيا في تقدمه وتمدنه كذلك انتهى مبيمبي إلى القول بأن أوروبا مدينة ألفريقيا وإنها‬

‫‪181‬‬
‫أخذت من أفريقيا أشياء ال يمكن أبدأ أن تعيدها إلينا‪ ،‬وسنتعلم العيش مع هذه الخسارة‪ ،‬ومن جانبها يجب‬
‫أن تتحمل أوروبا مسؤولية أفعالها‪ ،‬لهذا القسم المظلم من تاريخنا المشترك والذي تبحث عن التملص منه‪.‬‬
‫في إطار النقد الموجه ألنتا ديوب أشار البعض إلى أن المؤرخين مثل ديوب في بحثهم عن وجود‬ ‫‪‬‬
‫هياكل الدولة في الماضي األفريقي لدعم األمة المعاصرة‪ ،‬استندت جهود البناء إلى أفكار هي في النهاية‬
‫غريبة عن التجربة التاريخية األفريقية‪ ،‬مثل تلك التي قدمها ماركس حيث تم انتقاد ديوب الستخدامه‬
‫مصطلحات مثل اإلقطاع واالشتراكية والنظام األمومي كما لو كان يصف حقائق عالمية‪ ،‬وهذا ما وقع‬
‫فيه أيضا ا أشيل مبيمبي أن المدقق في األدوات التي استخدمها في منهجيته الفلسفية لنحت مشروعة‬
‫الفلسفي‪ ،‬كان مصدره غربي في األساس‪ ،‬فهو لجأ إلى جاك دريدا وموريس ميرلوبونتي وميشيل فوكو‬
‫وجيل ديلوز وغيرهم ليستقي منهم آليات التفكيك والتأويل وتحليل الخطاب‪.‬‬
‫في النهاية البد من القول إن الشيخ أنتا ديوب وأشيل مبيمبي اهتما وانشغل بالقضايا التي تهم‬ ‫‪‬‬
‫القارة السمراء‪ ،‬وكان لكلا منهما مشروعه الخاص‪ ،‬وأن اختلفت المنطلقات والدوافع‪ ،‬إال أن الهدف‬
‫مشترك من حيث الدفاع عن السود وحياتهم واالهتمام بالمشاكل التي تواجههم جراء االنقضاض عليهم‬
‫من قبل مستعمر جردهم من إنسانيتهم وجعلهم يعيشون في غربه وعزله في أوطانهم أو خارجها‪ ،‬لقد‬
‫اجتمع كلهما على الدفاع عن القارة السمراء حالمين بمستقبل أفضل ينتظرها وينتظر أبنائها‪.‬‬

‫أهم نتائج البحث‬

‫‪ -1‬ساهم الشيخ أنتا ديوب في وضع منهجية جديدة متعددة التخصصات في دراسة التاريخ األفريقي‪.‬‬
‫‪ -2‬حسم ديوب اإلشكالية الكبرى في تاريخ الفلسفة األفريقية المتمثلة في التساؤل من أين تبدأ الفلسفة‬
‫األفريقية؟ حيث أسس ديوب مدرسة للفلسفة الحديثة والمعاصرة وتسمي المصريات‪ ،‬والتي تعد مصر هي‬
‫المرجعية لدراسة الفلسفة األفريقية‪.‬‬
‫‪ -3‬دعا ديوب األفارقة بالعودة للجذور المصرية القديمة ومن خلل تصحيح التاريخ سيمنح األفارقة أساسا ا‬
‫حقيقيا ا لمعرفة الذات وبالنسبة لديوب فإن معرفة الذات دون تاريخ هي فارغة‪ .‬وإن التحدي األفريقي‬
‫المعاصر هو أخلقي في المقام األول (البحث عن الحرية) من أجل ذلك يجب على األفارقة أن يضعوا‬
‫إمكانيات تحريرية حقيقية‪.‬‬
‫‪ -4‬قدم ديوب أهم نظريات حول نشأة الحضارة من خلل طرحه لنظرية المهدين والتي تشير إلى وجود‬
‫مهدين إحداهما جنوبي وهو المهد األول للحضارة‪ ،‬والمهد الشمالي والذي يختلف اختلفا ا جذريا ا عن المهد‬
‫الجنوبي‪ ،‬وان المهد الشمالي قد تأثر بالمهد الجنوبي من خلل مهد ثالث ويسمي بمنطقة االلتقاء‪.‬‬
‫‪ -5‬قدم الشيخ أنتا ديوب رؤية جديدة حول مفهوم التاريخ األفريقي من خلل التأكيد على استمرارية التاريخ‬
‫األفريقي وان الحضارات األفريقية في وضع صيرورة دائمة‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫‪ -6‬من خلل آراء الشيخ أنتا ديوب تم إلقاء الضوء على شعاع التنوير األول والذي ظهر في أفريقيا من‬
‫خلل أقدم حضارة عرفها التاريخ وهي الحضارة المصرية القديمة ومن ثم تدمير أسطورة المعجزة‬
‫اليونانية‪.‬‬
‫‪ -7‬قدم ديوب مفهوما ا خاصا ا للهوية األفريقية من خلل المحددات الثقافية والحضارية للقارة السمراء مشيرا ا‬
‫إلى أن الهوية الزنجية تظهر بوضح في لون العرق الزنجي وفي الحدود الجغرافية للقارة السمراء لذلك‬
‫نستطيع القول إن الشيخ أنتا ديوب قد أسس للمركزية األفريقية وأيضا ا اإلعلء من شأن العرق الزنجي‬
‫ضد األعراق األخرى‪.‬‬
‫‪ -8‬أرسي ديوب قواعد النهضة األفريقية والتي تتمثل في الوحدة األفريقية من خلل وحدة ثقافية ألفريقيا‬
‫مطالبا ا بتوحيد أفريقيا حول لغة واحدة تكون وسيلة للتواصل بين جميع أنحاء القارة‪ ،‬أيضا ا من الخطوات‬
‫المطلوبة للنهوض بأفريقيا بخلف التحكم في لغتنا التاريخية‪ ،‬يجب أن يكون لدينا اكتشاف واستجواب‬
‫لتراثنا بحيث ال يسمح األفارقة لألخريين بأن يكونوا المترجمين الرئيسيين لتاريخنا‪.‬‬
‫‪ -9‬قدم أشيل مبيمبي وجهة نظر جديدة ومختلفة حول نظرية ما بعد االستعمار من خلل توضيح ما المقصود‬
‫لما بعد االستعمار كما كان يهدف بتركيزه على مناقشة ما بعد االستعمار إلى إصلح مفهومي العصر‬
‫والمدة والتي في نظره ليست حقبه زمنية ولكن المراد بها عدد من العلقات واألحداث المرئية‬
‫والمحسوسة والمنتشرة والمتعددة الوجوه‪ ،‬وباعتبار ما بعد االستعمار عصرا ا‪ ،‬فهو يشمل فترات متعددة‪.‬‬
‫‪ -10‬رفضضضض مبيمبضضضي آراء الفلسضضضفة األفارقضضضة حضضضول تعضضضريفهم للضضضذات األفريقيضضضة منتقضضضدا ا كضضضل الخطابضضضات السضضضابقة‬
‫كمضضضا رفضضضض فكضضضرة الهويضضضة القائمضضضة علضضضى العضضضرق والمحضضضددات الثقافيضضضة ورفضضضض الضضضدعوة األصضضضولية التضضضي‬
‫طرحتهضضضا الخطابضضضات األفريقيضضضة السضضضابقة وأعطضضضي مفهومضضضا ا جديضضضدا ا للهويضضضة األفريقيضضضة والتضضضي يتمثضضضل فضضضي‬
‫التجدد الدائم من خلل الحياة اليومية‪.‬‬
‫‪ -11‬رفضضضضضض مبيمبضضضضضي السياسضضضضضات مضضضضضا بعضضضضضد االسضضضضضتعمارية والتضضضضضي يضضضضضرى فيهضضضضضا نموذجضضضضضا ا يحضضضضضاكي النمضضضضضوذج‬
‫االستعماري‪.‬‬
‫‪ -12‬أعطضضي مبيمبضضضي عنايضضضة خاصضضضة لدراسضضضة العنضضضف ودوره فضضضي تشضضضكيل السياسضضضات العدائيضضضة‪ ،‬رافضضضضا ا العنضضضف‬
‫السياسضضضي بجميضضضع أشضضضكاله ال سضضضيما الشضضضكل الضضضديني والضضضذي يظهضضضر بوضضضضوح فضضضي الصضضضراع الفلسضضضضطيني‬
‫اإلسرائيلي‪.‬‬
‫‪ -13‬انتقضضد مبيمبضضي فكضضضرة العضضرق والعنصضضرية والمركزيضضضة األوروبيضضة مشضضضيرا ا إلضضى وجضضود إنسضضضانية واحضضدة فضضضي‬
‫عضضوالم متعضضددة لضضذلك لضضم يرفضضع مبيمبضضي مضضن شضضأن عضضرق علضضى آخضضر ولضضم يقبضضل فكضضرة أفضضضلية عضضرق عضضن‬
‫اآلخر‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫‪ -14‬تعتبضضضضر رؤيضضضضة مبيمبضضضضي حضضضضول الهويضضضضة األفريقيضضضضة المفقضضضضودة أوسضضضضع وأشضضضضمل مضضضضن رؤيضضضضة أنتضضضضا ديضضضضوب ألن‬
‫مبيمبضضضي ذهبضضضا فضضضي رؤيتضضضه إلضضضى أبعضضضد مضضضن الحضضضدود الجغرافيضضضة واللضضضون األسضضضود فكضضضان االهتمضضضام ال يقتصضضضر‬
‫على أفريقيا بل أيضا ا بأوروبا وأمريكا الشمالية‪.‬‬
‫‪ -15‬سضضضعى كضضضل مضضضن الشضضضيخ أنتضضضا ديضضضوب وأشضضضيل مبيمبضضضي إلضضضى إنهضضضاء االسضضضتعمار المعرفضضضي ومضضضن ثضضضم تحريضضضر‬
‫العقضضضل األفريقضضضي مضضضن بضضضراثن االسضضضتعمار‪ ،‬وأن حريضضضة األفارقضضضة ال تضضضأتي إال مضضضن خضضضلل معرفضضضة األفارقضضضة‬
‫لتاريخهم الصحيح وأن يكونوا على دراية تامة بما تعنية الذات األفريقية مقابل الذوات األخرى‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع‬
:‫أوال ً المصادر والمراجع األجنبية‬

‫أوال ً المصادر األجنبية‬

- Diop, Cheikh Anta. (1981). Civilization or Barbarism. Translated by Yaa –


Lengi Meema Ngemi, Lawrenc Hail books.

- Diop, Cheikh Anta. (1974). the African Origin of Civilization Myth or


Reality. Translated from French by Mercer Cook, Lawrence Hill Books,
Chicago, first edition.

- Diop, Cheikh Anta. (1989). the Cultural Unity of Black Africa. Karnak
House, London.

- Mbembe, Achille. (January 2001). African Modes of Self- Writing. Identity,


Culture and Politics, vol. 2, no 1. PP1-39.

- Mbembe, Achille. (2002). Translated by Steven Rendall, African Modes of


Self- Writing. Public culture, vol.14, No 1. pp. 239-273.

- Mbembe, Achille. (2003). Necropolitics. Translated by Libby Meintjes, Public


Culture, Duke University press, Vol 15, n 1. PP.11-40.

- Mbembe, Achille. (2009). the republic ad its beast: on theriots in the French
Banlieues. Translated by Jane Marie Todd, Indiana University press.

- Mbembe, Achille. (2011). Fragile Freedom (Experiences of Freedom in


postcolonial literatures and cultures). Routledge Taylor& Francis Group,
London and New York, first published.

- Mbembe, Achille. (2015a). Apartheid futures and the limits of racial


reconciliation. Johannesburg: witsinstitue forsocial and economic research.

- Mbembe, Achille. (June2015b). Decolonizing Knowledge and question of the


Archive. Afric is a Country. PP1-29.

- Mbembe, Achille. (Spring2016a). Africa in the new century. The Massa


Chusetts Review, vol. 57, no. 1. PP. 91-104.

- Mbembe, Achille. (2016b). Future knowledges. African Studies Association


Annual Meeting Abiola Lecture.

185
- Mbembe, Achille; and Balakrishnan, Sarah. (2016c). Pan-African legacies,
Afropolitan futures. Issue 120.

- Mbembe, Achille. (2017a). Critique of Black Reason. Translated by Laurent


Dubois, Duke University Press.

- Mbembe, Achille. (2017b). The End of The world contemporary philosophy


and art. Rowman& Little field, London, New York.

- Mbembe, Achille; and Theo Goldberg, David. (2018). in conversation about


Critique of Black Reason. Theory, Culture, Society, vol. 35(7).

- Mbembe, Achille. (Summer 2019). Tsenay Serequeberhan, and Lewis R.


Gordon, The Postcolonial condition and its possible futures. Journal of
world philosophies.

- Mbembe, Achille. (2021a). Out of the Dark Night. Columbia University Press,
New York.

- Mbembe, Achille. (January 2021b). Futures of life and futures of reason.


Public culture, Duke University press, vol. 33, no. 1(93).

‫ثانيا ً المراجع األجنبية‬

- Adegbindin, Omotade. (2015).Critical Notes on Hegel S Treatment of


Africa. Ogirisi: a new journal of African studies, Vol. 11. PP. 19-43.

- Allen, Troy D. (July 2008). Cheikh Anta Diop s Twocradle theory revisited.
Journal of black studies, 38. No .6. pp. 813-829.

Agada, Ada. (2019).The Future Question in African Philosophy.


https://www.researchgate.net/ publication/336278655

- Amadiume, Ifi. (1997). Reinventing Africa Matriarchy, religion, and


culture. Zed books ltd, London& New York.

- Ankomah, Baffour. (2020). The African fact book. Published by the book of
African records, first published.

- Asantae, Molefi K. (2018). Meeting Cheikh Anta Diop on the road to


African Resurgence. International Journal of African Renaissance Studies, Vol
13, No. 1. PP 4-15.

186
- Ashcroft, Bill; Griffiths, Gareth; and IFFIN, Helen T. (2007). Post- Colonial
Studies the key concepts. Routiedge, London and New York, second edition.

- Asiegbu, Martin. (2016). Contemporary African Philosophy: emergent


issues and challenges. Ogirisi: a new journal of studies vol. 12. PP1-25.

- Bertaux, Sandrine. (2011). The Return of the Native: Postcolonial smoke


screen and the French postcolonial politics of Identity. Public culture, Duke
University, vol. 23(1). PP. 201-215.

- Beyers, Jaco. (2019). reconstructing black identity: The Black Panther,


Frantz Fanon and Achille Mbembe in conversation. HTS Teologiese studies.

- Boehmer, Elleke; and Morton Stephen. (2010). Terror and the Postcolonial.
Wiley- Black Well.

- Busbridge, Rache. (2019). Book review (Critique of Black Reason by Achille


Mbembe). Australian Catholic University, Melbourne, Thesis Eleve.
vol.152.No. (1). PP.126-128.

- Ceton, Carolien. (2005). Identity as Evolutive – aninter cultural approach


base donan examination of Mudimbe, De Beau-Voir, Taylor, and Mbembe.
An African journal of philosophy.

- Chimuka, Andre T. Chimuka. (2012).The Exclusion of the African


contribution to the conceptual development of Reality, Appearance and
Knowledge in the History of Philosophy. Degree of doctor of philosophy,
University of Zimbabwe.

- Chukwudi Eze, Emmanuel. (1997). Postcolonial African Philosophy Acritical


Reader. Blackwell publishers, U. S. A.

- Coetzee, P. H. and Rouxm, A. P. J. (2003).The African philosophy reader.


Routledge Published, New York, second edition.

- Das, Saswat Samay Das. (2022). Book review (Necroplitics by Achille


Mbembe). Africa Spectrum, vol. 57. Issue (2).

- Etieyibo, Edwin E. (2018). Method –Substance- and the future of African


philosophy. Library of Congress.

- Eze, Michael Onyebuchi. (Septembe2013). Pan – Africanism and the politics


of History, History compass. vol.11, No 9. PP.675-686.

187
- Gadeke, Dorthea. (2018). How to think the world? Achille Mbembe on race,
democracy and the African rolein global thought. Wiley constellation.

- Gerber, Schalk. (2019). toward a postcolonial universal ontology: nots on the


thought of Achille Mbembe.

- Gerber, Schalk. (Summer2018). Review: Critique of black reason: rethinking


of the particular and the universal. Journal of world philosophies.

- Gwiyani- Nkhoma, Bryson. (2006).Towards an African historical thought:


Cheikh Anta Diop S contribution, journal.Humanit. (Zomba), 20.

- Halloran Paddy O. (2015). Book review (Dreaming the post-colony by


Achille Mbembe). Journal of Asian and African Studies.

-Hallen, Barry. (2002). A Short History of African Philosophy. Indiana


Universitt press.

- Imbo, Samuel Oluoch. (1998).An Introduction to African philosophy.


Rowman& Littlefield publishers, New York.

-Jon Soske, Jon; and Jacobs, Sean. (2015). Apartheid Israel. Haymarket
Boos, Chicago.

- Kuykendall, Ronald. (June 1993). Hegel and Africa an Evaluation of the


Treatment of Africa in the philosophy of History. Journal of Black Studies,
vol 23 No.4. PP.571-581.

- Liberato, Ermelinda. (2020). Book review "Out of the dark night" by Achille
Mbembe. Brazilian Jouenal of African studies, vol. 5, no. 9.

- Marumo, Phemelo Olifile. (December 2018). Mbeki on African Renaissance:


A Vehicle for Africa Development. African Renaissance, vol. 15, no.4. PP.
179-191.

- Masolo, D. A. (1994). African philosophy in search of Identity. Indiana


University press, first pub.

- Mawere, Munyardzi & Mubaya, Tapuwa R. (2016). African philosophy and


thought systems: Asearcs for a culture and philosophyof belonging. Langaa
RPCG, Cmeroon.

- Mazrui, Ali A. and Ajaya, J.F. Ade. (1993). (TREND IN PHILOSOPHY


AND SCIENCE IN AFRICA) General History of Africa. Africa since 1935,
Heinemann. California, first published, VIII.
188
- Mclean, George. F. (2011). African philosophy and the future of Africa.
Library of Congress Cataloging in publication, United States of America, series
II, Africa, Vol 14.

- Murungi, John. (2017). African philosophical illumination. Springer.

- Muyumba, Francois N. (December 2004). Cheikh Anta Diop: Acritical view


of African in the Twenty – First century. The great lakes research journal,
vol. 1.

- Nabudere, Dani Wadada. (2007). Cheikh Anta Diop: The social sciences
humanities, physical and natural sciences and transdisciplinarity.
International Journal of African Renaissance studies, 2(1). PP. 6-34.

- Ngwena, Charles. (2018). what is Africanness? Contesting nativism in


race, culture and sexualities. Pretoria University Law press, South Africa.

- Owakah, Francis E.A. (2012). Race Ideology and the Conceptualization of


philosophy: the story of philosophy in Africa from Placide Tempels to
Odera Oruka. A Journal of the philosophical association of Kenya, vol.4, no.2.
PP.147-168.

- Pele, Antonio. (March 2020)." Necropolitics" of Achille Mbembe. Key word


in Critical Legal Thinking. Research Gate.

- Quigley, Gabriel. (January 2022). Book review (Brutalism by Achille


Mbembe). Chicago Journals.

- Sertima, Ivan van. (1986). Great African Thinkers Cheikh Anta Diop.
Journal of African Civilization, vol 1.

- Sesanti, Simphiwe. (June 2018). Teaching Ancient Egyptian Philosophy


(Ethics) and History: Fulfilling a Quest for a Decolonised and Afrocettric
Education. Educational Research for Social Change (ERSC), Vol 7.

- Spivak, Gayatri Chakravorty. (Summer, 2007). Religion, Politics, Theology:


A Conversation with Achille Mbembe. Boundary 2.

- Tembo, Josias. (2018). Mbembe at the Lekgotla of Foucault s self- styling


and African Identy. Unisa, vol 19. PP. 1-17.

- Warrington, Marnie Hughes. (2007). Fifty key thinkers on History. Routedge


Taylor & Francis group, London and New York.

189
‫‪- Weate, Jeremy. (2003). Postcolonia theory on the brink: Acritique of Achille‬‬
‫‪Mbembe s on the postcolony. African Identities, vol. 1, No. 1. PP.1-18.‬‬

‫‪- Williams, Chancellor. (1974, 1987).The Destruction of Black Civilization‬‬


‫‪(great issues of a race from 4500 b.c.to 2000 a. d.). Published by Third‬‬
‫‪World.‬‬

‫ثانيا ً المصادر والمراجع باللغة العربية‪:‬‬

‫أوال ً المصادر العربية‬

‫‪ -‬ديوب‪ ،‬الشيخ أنتا‪ .)1995( .‬األصول الزنجية للحضارة المصرية‪( .‬ط‪ .)1‬ترجمة‪ :‬طوسون‪ ،‬حليم‪ .‬كتاب‬
‫العالم الثالث‪.‬‬

‫‪ -‬ديوب‪ ،‬الشيخ أنتا‪ .)2020( .‬الفلسفة والعلم والدين أبرز ازمات الفلسفة المعاصرة‪ .‬ترجمة‪ :‬عبد القادر‪،‬‬
‫عبدو‪ .‬دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‪ ،‬العدد ‪.10‬‬

‫‪ -‬مبيمبي‪ ،‬أشيل‪ .)2022( .‬ما بعد االستعمار (أفريقيا والبحث عن الهوية المسلوبة)‪( .‬ط‪ .)1‬ترجمة‪:‬‬
‫األيوبي‪ ،‬آمين‪ ،‬مراجعة خالد قطب‪ .‬بيروت‪ :‬ابن النديم للنشر والتوزيع‪.‬‬

‫‪ -‬مبيمبي‪ ،‬أشيل‪ .)2019( .‬سياسات العداوة‪( .‬ط‪ .)1‬ترجمة‪ :‬ميلود‪ ،‬طواهري‪ .‬بيروت‪ :‬ابن النديم للنشر‬
‫والتوزيع‪.‬‬

‫‪ -‬مبيمبي‪ ،‬أشيل‪ .)2021( .‬الوحشية فقدان الهوية اإلنسانية‪( .‬ط‪ .)1‬ترجمة‪ :‬السنوسي‪ ،‬نادرة‪ .‬بيروت‪ :‬ابن‬
‫النديم للنشر والتوزيع‪.‬‬

‫‪ -‬مبيمبي‪ ،‬أشيل‪ .)2018( .‬نقد العقل الزنجي‪( .‬ط‪ .)1‬ترجمة‪ :‬ميلود‪ ،‬طواهري‪ .‬بيروت‪ :‬ابن النديم للنشر‬
‫والتوزيع‪.‬‬

‫‪ -‬مبيمبي‪ ،‬أشيل‪ .)2021( .‬السياسات النكراوية أو سياسات الموت‪ .‬ترجمة‪ :‬أبو رحمة‪ ،‬أماني‪ .‬اوراق‬
‫فلسفية‪ ،‬العدد ‪.78-77‬‬

‫ثانيا ً المراجع العربية‬

‫‪ -‬إيفانز‪ ،‬اليستير بدي‪ .)2018( .‬ما البان آفريكانيم؟ كيف تطورت البان آفريكانيزم كحركة اجتماعية‬
‫سياسية حديثة‪ .‬ترجمة أبكر آدم إسماعيل‪ .‬موقع صوت الهامش‪alhamish.com .‬‬

‫‪ -‬أبو العال‪ ،‬محمد‪" .)2018( .‬الزنوج البطون الرخوة"‪ .‬اغسطس ‪.arb.majalla.com‬‬

‫‪ -‬أبو شهاب‪ ،‬رامي‪" .)2019( .‬ما بعد الكولونيالية‪ :‬المنظور النقدي والمقاربة المنهجية"‪ .‬مجلة‬
‫أبوليوس‪ :‬المجلد ‪ ،6‬العدد ‪.2‬‬

‫‪190‬‬
‫‪ -‬أحمد‪ ،‬إيمان عبد العظيم سيد‪ " .)2021( .‬تأثير الشيخ أنتا ديوب في الواقع االفريقي "‪ .‬متابعات‬
‫افريقية‪ :‬العدد ‪.14‬‬

‫‪ -‬أدو بواهن‪ ،‬أ‪ .‬ز‪ .)1990( .‬تاريخ أفريقيا العام‪ .‬المجلد السابع‪ ،‬اليونسكو‪.‬‬

‫‪-‬أغان‪ ،‬شاهر جمال‪ .‬الموسوعة العربية‪ .‬الكاميرون‪ .‬المجلد السادس عشر‪.‬‬


‫‪ -‬أفريك‪ ،‬جين‪ .)1985( .‬تاريخ أفريقيا العام (شيخ أنتا ديوب‪ ،‬أصل المصريين القدماء)‪ .‬ترجمة‪:‬‬
‫مجموعة من األساتذة‪ .‬اليونيسكو‪.‬‬

‫‪ -‬إمام‪ ،‬عبد الفتاح امام‪ .)1994( .‬الطاغية دراسة فلسفية لصور من االستبداد السياسي‪ .‬الكويت‪ :‬عالم‬
‫المعرفة‪.‬‬

‫‪ -‬ايمان (احمد‪ ،‬عبد العظيم سيد)‪ .)2016( .‬الفرعونية في الفكر السياسي للشيخ أنتا ديوب ‪ :‬دراسة في‬
‫الهوية االفريقية لمصر‪( .‬رسالة ماجستير منشوره)‪ ،‬جامعة القاهرة‪.‬‬

‫‪ -‬بخضيرة‪ ،‬مونيس‪ .)2018( .‬تأويل العقل الثقافي االفريقي‪ .‬دار االيام للنشر والتوزيع‪.‬‬

‫‪ -‬برستيد‪ ،‬جيمس هنري‪ .)2001( .‬فجر الضمير‪ .‬ترجمة‪ :‬حسن‪ ،‬سليم‪ .‬الهيئة المصرية العامة للكتاب‪.‬‬

‫‪ -‬برنال‪ ،‬مارتن‪ .)2002( .‬اثينا السوداء‪ :‬الجذور األفروآسيوية للحضارة الكالسيكية‪ .‬ترجمة‪ :‬العديد من‬
‫األساتذة‪ ،‬مراجعة أحمد عتمان‪ .‬القاهرة‪ :‬المجلس األعلى للثقافة‪.‬‬

‫‪ -‬بمبا‪ ،‬أدم‪ " .)2018( .‬الثقافة االفريقية مؤثرات واتجاهات"‪ .‬قراءات افريقية‪ :‬العدد ‪.36‬‬

‫‪ -‬تسن‪ ،‬فرغلي علي‪ .)2008( .‬تاريخ أفريقيا الحديث والمعاصر الكشوف – االستعمار – االستقالل‪.‬‬
‫(ط‪ .)1‬العلم وااليمان للنشر والتوزيع‪.‬‬

‫‪ -‬توملين‪ ،‬أ‪.‬ف‪ .)1994( .‬فالسفة الشرق‪( .‬ط‪ .)2‬ترجمة‪ :‬سليم‪ ،‬عبد الحميد‪ .‬دار المعارف‪.‬‬

‫‪ -‬جابر‪ ،‬محمد‪ " .)2018( .‬آثر العولمة على أنماط الهوية االفريقية بين الواقع والمأمول"‪ .‬مجلة‬
‫الدراسات االفريقية وحوض النيل‪ -‬المركز الديمقراطي العربي‪ :‬المجلد ‪ ,1‬العدد ‪.4‬‬

‫‪ -‬جمال الدين‪ .‬نجوى يوسف‪ .‬واخرون‪ " .)2016( .‬الهوية الثقافية المفهوم والخصائص والمقومات"‪.‬‬
‫مجلة العلوم التربوية‪ :‬العدد الثالث – ج ‪.3‬‬

‫‪ -‬الجمل‪ ،‬شوقي عطا هللا‪ .)2009( .‬الحضارة االفريقية‪ .‬كتاب الجمهورية‪.‬‬

‫‪ -‬جيمس‪ ،‬جورج جي‪ .‬ام‪ .‬التراث المسروق (الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة)‪ .‬ترجمة‪ :‬جالل‪،‬‬
‫شوقي‪ .‬المجلس األعلى للثقافة‪.‬‬

‫‪ -‬الحاوي‪ ،‬ناصر‪ " .)2012( .‬فكر الشيخ أنتا ديوب وكتابة األصول الزنجية للحضارة المصرية"‪.‬‬
‫‪.Scribd‬‬

‫‪191‬‬
‫‪ -‬حداد‪ ،‬شفيعة‪ " .)2019( .‬تأثير العولمة في بعدها الثقافي الهوياتي على الهوية الوطنية"‪ .‬المجلة‬
‫الجزائرية لألمن اإلنساني‪ :‬المجلد ‪ ,4‬عدد ‪.2‬‬

‫‪ -‬حمداوي‪ ،‬جميل‪ " .)2018( .‬نظرية ما بعد االستعمار االطروحة في خدمة علم االستغراب" مجلة‬
‫االستغراب‪.‬‬

‫‪ -‬خليفه‪ ،‬عبد الرحمن‪ .)2006( .‬المدخل في األيديولوجيا والحضارة‪ .‬مكتبة بستان المعرفة‪.‬‬

‫‪ -‬دياب‪ ،‬احمد ابراهيم‪" .)1989( .‬أفريقيا بين المفاهيم الحضارية والممارسات العنصرية"‪ .‬مجلة‬
‫دراسات أفريقية‪ :‬العدد ‪.4‬‬

‫‪ -‬ديورانت‪ ،‬ول وايريل‪ ،‬قصة الحضارة – الشرق االدنى الجزء الثاني من المجلد األول‪ ،‬ترجمة‪ :‬بدران‪،‬‬
‫محمد‪ .‬بيروت‪ :‬دار الجيل للطباعة والنشر والتوزيع‪.‬‬

‫‪ -‬ديورانت‪ ،‬ول وايريل‪ ،‬قصة الحضارة – نشأة الحضارة‪ ،‬الجزء األول من المجلد األول‪ ،‬ترجمة‪:‬‬
‫محمود‪ ،‬زكي نجيب‪ .‬بيروت‪ :‬دار الجيل للطباعة والنشر والتوزيع‪.‬‬

‫‪ -‬ذكي‪ ،‬عبير شوقي‪ .)2015( .‬العالقة بين الدين والسياسة في أفريقيا‪( .‬ط ‪ .)1‬المكتب العربي‬
‫للمعارف‪.‬‬

‫‪ -‬ركوز‪ ،‬يوسف‪ .)1986( .‬أفريقيا السوداء سياسة وحضارة‪( .‬ط‪ .)1‬بيروت‪ :‬المؤسسة الجامعية‬
‫للدراسات والنشر والتوزيع‪.‬‬

‫‪ -‬روسو‪ ،‬نيكوالس‪ " .)2019( .‬شبح الهيجلية فوق أفريقيا شرعنة المركزية األوروبية فلسفيا ً"‪.‬‬
‫االستغراب‪ :‬العدد ‪.14‬‬

‫‪ -‬رويز‪ ،‬انا‪ .)2005( .‬روح مصر القديمة‪( .‬ط‪ .)1‬ترجمة‪ :‬يوسف‪ ،‬اكرام‪ .‬المجلس األعلى للثقافة‪.‬‬

‫‪ -‬سارتون‪ ،‬جورج‪ .)1961( .‬تاريخ العلم‪ .‬ترجمة‪ :‬مظهر‪ ،‬اسماعيل‪ .‬دار النهضة العربية‪.‬‬

‫‪ -‬السعدني‪ ،‬محمود ابراهيم‪ .)2005( .‬تاريخ الحضارة المصرية القديمة‪ .‬مكتبة االنجلو المصرية‪.‬‬

‫‪ -‬سوفاج‪ ،‬غريغوار‪" .)2021( .‬من هو أشيل مبيمبي مهندس القمة الفرنسية – االفريقية التي تستضفها‬
‫مدينة مونبلييه؟"‪ .‬اكتوبر ‪.https://www.france24.com‬‬

‫‪ -‬سيمون‪ ،‬إيريكا‪" .)2000( .‬الزنوجة والمشكالت الثقافية ألفريقيا المعاصرة"‪ .‬ترجمة‪ :‬مهدي‪ ،‬محمد‬
‫عاشور‪ .‬افاق افريقية‪ :‬العدد ‪.3‬‬

‫‪ -‬سينجر‪ ،‬بيتر‪ .)2014( .‬هيجل‪ .‬ترجمة‪ :‬السيد‪ ،‬محمد ابراهيم‪ .‬مؤسسة هنداوي‪.‬‬

‫‪ -‬شاكر‪ ،‬محمود‪ .)1971( .‬تاريخ السنغال‪ .‬دمشق‪ :‬مكتبة دار الفتح‪.‬‬

‫‪ -‬الشعإللى‪ ،‬ناصر محمد‪ " .)2018( .‬قراءة في مفهوم الثقافتين عند سي‪ .‬بي‪ .‬سنو"‪ .‬المجلة الجامعة‪:‬‬
‫العدد ‪ ،20‬المجلد الثاني‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫‪ -‬شندي‪ ،‬صبري عبد هللا‪ .)2017( .‬الفكر المعاصر في اسيا وأفريقيا من االستعمار إلى العولمة‪.‬‬

‫‪ -‬الصديق‪ ،‬حسن‪ " .)2017( .‬فالسفة أفارقة سعوا إلى استكمال تحرير القارة السوداء‪ .‬مجلة أفكار‪:‬‬
‫العدد ‪.14‬‬

‫‪ -‬صليبا‪ ،‬جميل‪ .)1982( .‬المعجم الفلسفي الجزء األول‪ .‬بيروت‪ :‬دار الكتاب اللبناني‪.‬‬

‫‪ -‬صليبا‪ ،‬جميل‪ .)1982( .‬المعجم الفلسفي الجزء الثاني‪ .‬بيروت‪ :‬دار الكتاب اللبناني‪.‬‬

‫‪ -‬طلب‪ ،‬حسن‪ .)2003( .‬أصل الفلسفة (حول نشأة الفلسفة في مصر القديمة وتهافت نظرية المعجزة‬
‫اليونانية)‪( .‬ط‪ .)1‬عين للدراسات والبحوث االنسانية واالجتماعية‪.‬‬

‫‪ -‬عبد الرحمن‪ ،‬حمدي‪ " .)2019( .‬الهوية اإلفريقية وتحديات الميراث الثالثي"‪ .‬احوال مصرية‪ :‬العدد‬
‫‪.72‬‬

‫‪ -‬عبد الوهاب‪ ،‬رانية محمد طاهر‪ " .)2015( .‬مشكالت الهوية الثقافية في أفريقيا"‪ .‬موقع ‪Research‬‬
‫‪.gate‬‬

‫‪ -‬عتيق‪ ،‬مديحة‪ " .‬ما بعد الكولونيالي‪ :‬مفهومها‪ ،‬اعالمها‪ ،‬اطروحته"‪ .‬مجلة دراسات وابحاث الجزائرية‬
‫الصادرة بجامعة جلفا‪.‬‬

‫‪ -‬عطية‪ ،‬أحمد عبد الحليم‪ .‬نحن وهيجل‪ .‬الكتاب قيد النشر‪.‬‬

‫‪ -‬عطية‪ ،‬أحمد عبد الحليم‪ " .)2018( .‬ما بعد الكولونيالية في ما بعد الحداثة قراءة في المختبر‬
‫الجزائري"‪ .‬مجلة االستغراب‪.‬‬

‫‪ -‬عطية‪ ،‬أحمد عبد الحليم‪( .‬أ‪ " .)2019‬إقصائية هيجل نقد النظرة العنصرية حيال االخر"‪ ،‬مجلة‬
‫االستغراب‪.‬‬

‫‪ -‬عطية‪ ،‬أحمد عبد الحليم‪( .‬ب ‪ .)2019‬االنسان في فلسفة فيورباخ‪ ،‬مجاز للترجمة والنشر والتوزيع‪.‬‬

‫‪ -‬عطية‪ ،‬أحمد عبد الحليم‪" .)2021( .‬هيجل والفلسفة االفريقية"‪ .‬مجلة الفكر المعاصر‪ ،‬الهيئة المصرية‬
‫العامة للكتاب‪ ،‬العدد ‪.23‬‬

‫‪-‬علي‪ ،‬محمود السيد‪ " .)2017( .‬فصول من كتاب (األصل االفريقي للحضارة‪ :‬خرافة أم حقيقة)"‪ ,‬موقع‬
‫الركوبة‪.‬‬

‫‪ -‬فانون‪ ،‬فرانز‪ .)2015( .‬معذبوا االرض‪ .‬ترجمة سامي الدروبي‪ .‬القاهرة‪ :‬مدرات لألبحاث والنشر‪.‬‬

‫‪ -‬فخري‪ ،‬أحمد‪ .)2006( .‬مصر الفرعونية‪ .‬مكتبة االنجلو المصرية‪.‬‬

‫‪ -‬كوت‪ ،‬ديفيد‪ .)1971( .‬فرانز فانون‪( .‬ط ‪ .)1‬ترجمة‪ :‬الكيالي‪ ،‬عدنان ‪ .‬بيروت‪ :‬المؤسسة العربية‬
‫للدراسات والنشر‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫‪ -‬لومبا‪ ،‬انيا‪ .)2007( .‬في نظرية االستعمار وما بعد االستعمار األدبية‪( .‬ط‪ .)1‬ترجمة‪ :‬غنوم‪ ،‬محمد‬
‫عبد الغني‪ .‬سوريا‪ :‬دار الحوار للنشر والتوزيع‪.‬‬

‫‪ -‬محمد سليماني‪" .)2020( .‬مخاطر العولمة على تراث وهوية الشعوب"‪ .‬المجلة الجزائرية للدراسات‬
‫اإلنسانية‪ :‬المجلد ‪ ,2‬العدد ‪.2‬‬

‫‪ -‬محمد‪ ،‬زغو‪ " .)2010( .‬أثر العولمة على الهوية الثقافية لألفراد والشعوب"‪ .‬األكاديمية للدراسات‬
‫االجتماعية واإلنسانية‪.‬‬

‫‪ -‬محمد‪ ،‬سمر ابراهيم‪ " .)2016( .‬الشيخ أنتا ديوب مسيرة وتاريخ "‪ .‬مركز الدراسات االفريقية‪.‬‬

‫‪ -‬محمد‪ ،‬سمر إبراهيم‪ " .)2019( .‬مصر وأفريقيا – الشيخ أنتا ديوب‪Africa.sis.gov.eg .‬‬

‫‪ -‬محمد‪ ،‬فائز عمر‪ ".)2014( .‬التطورات السياسية واالجتماعية في مصر القديمة من خالل كتاب األصل‬
‫االفريقي للحضارة ‪ -‬مع اشارة لمصر الفرعونية في القران الكريم" مركز البحوث والدراسات‬
‫األفريقية‪ :‬عدد ‪.52‬‬

‫‪ -‬مزروعي‪ ،‬علي‪ .‬تاريخ أفريقيا العام‪ .‬المجلد الثامن‪ .‬اليونيسكو‪.‬‬

‫‪ -‬مقال منشور على الرابط التالي ‪https:/m.marefa.org‬‬

‫‪ -‬المقدمي‪ ،‬المهدي‪ " .)2020( .‬اتهامات للمفكر الكاميروني أشيل مبيمبي بمعاداة السامية من‬
‫مسؤولين المان"‪ .‬جريدة االتحاد االشتراكي‪.‬‬

‫‪ -‬موتاو‪ ،‬ليوباترا‪ " .)2022( .‬تاريخ الفلسفة االفريقية"‪ .‬مجلة اوراق فلسفية‪ :‬العدد ‪.78-77‬‬

‫‪ -‬موسي‪ ،‬سالمة‪ .)2011( .‬مصر أصل الحضارة‪ .‬القاهرة‪ :‬سلسلة عالم المعرفة‪.‬‬

‫‪ -‬مؤنس‪ ،‬حسين‪ .)1978( .‬الحضارة دراسة في اصول وعوامل قيامها وتطورها‪ .‬الكويت‪ :‬عالم‬
‫المعرفة‪.‬‬

‫‪ -‬هردوت‪ .)1966( .‬يتحدث عن مصر‪ .‬ترجمة‪ :‬خفاجة‪ ،‬محمد صقر‪ .‬دار القلم‪.‬‬

‫‪ -‬الميلي‪ ،‬محمد‪ .)2015( .‬فرانز فانون والثورة الجزائرية‪ .‬الجزائر‪ :‬وزارة الثقافة‪.‬‬

‫‪ -‬هيجل‪ .)2007( .‬محاضرات في فلسفة التاريخ (العالم الشرقي)‪ .‬المجلد الثاني‪( ،‬ط ‪ .)3‬ترجمة‪ :‬إمام‪،‬‬
‫عبد الفتاح إمام‪ .‬بيروت‪ :‬دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع‪.‬‬

‫‪ -‬وقيدي‪ ،‬محمد‪ " .)2006( .‬الكوجيتو اإلفريقي"‪ .‬موقع الصحراء‪ ,‬ابريل ‪.https://assahraa.ma‬‬

‫‪ -‬وهبه‪ ،‬مراد‪ .)2007( .‬المعجم الفلسفي‪ .‬القاهرة‪ :‬دار قباء الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع‪.‬‬

‫‪Wiser.wits.ac.za/users/a -‬‬

‫‪194‬‬
‫ملخص الدراسة‬

‫تناقش الدراسة إشكالية الهوية الزنجية ونقد العقل الزنجي دراسة مقارنة بين الشيخ أنتا ديوب‬
‫وأشيل مبيمبي‪ .‬وهي دراسة ذات أهمية قصوى من الناحية النظرية‪ .‬وهي تركز على بعض المفاهيم‬
‫المهمة مثل الهوية الزنجية‪ ،‬العرق والعنصرية‪ ،‬المركزية األوروبية‪ ،‬المركزية األفريقية‪ ،‬العقل‬
‫الزنجي‪ ،‬العنف والتوحش‪ .‬كما أنها تفتح آفاقا ً جديدة أمام البحث الفلسفي حول أهم قضايا الفلسفة‬
‫األفريقية الحديثة والمعاصرة مما يعمق العالقات الفكرية والعلمية بين الدول األفريقية ويؤكد العالقة بين‬
‫مصر وأفريقيا ويؤسس لألشكال االقتصادية والسياسية بين دول القارة‪.‬‬

‫يحاول السؤال الرئيسي في الدراسة اإلجابة عن المقصود بالهوية الزنجية بين الرؤية األفريقية‬
‫والرؤية االستعمارية باإلضافة إلى ذلك تحاول الدراسة تقديم إجابات على األسئلة التالية‪ :‬ما المقصود‬
‫بالعقل الزنجي ذلك االختراع األوروبي وكيف كان لهذا االختراع بالغ األثر في تشكيل الوعي األفريقي‬
‫نحو السعي لتحديد مالمح الهوية األفريقية واإلجابة عن التساؤل من نحن‪ ،‬وهل نحن بحق بهذه الدونية‬
‫التي وصفها الغرب لنا؟ مستخدمون في ذلك المنهج التاريخي التحليلي المقارن ألفكار كل من الشيخ أنتا‬
‫ديوب وأشيل مبيمبي‪ .‬وتنقسم الدراسة إلى مقدمة وثالثة فصول وخاتمة‪.‬‬

‫وتناقش الخاتمة أوجه االتفاق واالختالف بين ديوب ومبيمبي حول تعريف الهوية‪ ،‬فقد حدد‬
‫ديوب الهوية الزنجية على أساس المالمح الثقافية المشتركة بين مصر وأفريقيا زاع ًما أن أصل الحضارة‬
‫المصرية حضارة زنجية ومن ثم مطالبة األفارقة بالعودة إلى مصر إذا أرادوا معرفة أنفسهم وتاريخهم‬
‫الصحيح وكانت آلراء ديوب بالغ األثر في تأسيس المركزية األفريقية وإعالء من شأن الزنوج في مقابل‬
‫المركزية األوروبية والرجل األبيض‪ .‬بينما رفض مبيمبي وجهة نظر ديوب وغيره من الفالسفة‬
‫األفارقة حول تأكيد الهوية بنا ًء على محددات ثقافية عرقية متمثلة في لون الجلد األسود والموقع‬
‫الجغرافي داخل القارة األفريقية‪ ،‬رفض مبيمبي فكرة المركزية األفريقية كما رفض المركزية األوروبية‬
‫وأسس لما يسمى باألفربوليتانية والتي تشير باختصار إلى أفارقة العالم بوصفهم أفارقة وليس بوصفهم‬
‫مواطنين في الدولة التي استقروا بها‪ ،‬هي شيء يتجاوز الوحدة األفريقية؛ وهو يعتقد أن الفكرة تتعلق‬
‫بالسماح للهجرة الحرة لألفارقة داخل أفريقيا‪ ،‬وهو يرى أن هذه الطريقة هي التي يفهم بها األفارقة أو‬
‫المنحدرون من أصل أفريقي أنفسهم على أنهم جزء من العالم بدالً من كونهم منفصلين تاريخيا ً ‪.‬‬

‫وفي ضوء رفض مبيمبي لجميع الخطابات األفريقية حول تعريف الذات األفريقية يرى مبيمبي‬
‫أن الهوية ليست شيئا ً ثابتا ً مثلما دعا إليها األفارقة السابقون ولكن هي في حالة تغير مستمر نظرا ً‬

‫‪195‬‬
‫الرتباطها بالحياة اليومية‪ ،‬فهوية الفرد تتحدد وفقا ً للحياة اليومية المعاشة ومن ثم فالهوية تختلف من فرد‬
‫لفرد وفقا ً لطبيعة الظروف التي يعيش فيها والمؤثرات الثقافية واالجتماعية والسياسية عليه‪ .‬فمبيمبي‬
‫بحث عن الهوية الفردية بينما بحث ديوب عن الهوية في مجمل الثقافة الجماعية‪.‬‬

‫ومن مجمل األفكار الفلسفية حول الهوية الزنجية والعقل الزنجي يتضح أن ديوب انغلق على‬
‫نفسه داخل أفريقيا السوداء في حين أن مبيمبي انفتح على العالم‪ ،‬آراء ديوب تجعله فيلسوفا عنصريا‬
‫نظرا ً إلعالئه من شأن عرق على اآلخر وهنا وقع ديوب في فخ العنصرية التي كان يحاربها ويرفضها‬
‫في المركزية األوروبية‪ ،‬بينما مبيمبي تجنب اآلراء العنصرية ورفضها بجميع أشكالها ولم يع ِل من شأن‬
‫ير أفضلية عرق على اآلخر بل نظر إلى جميع األعراق باعتبارهم متساويين في‬
‫عرق على اآلخر ولم َ‬
‫اإلنسانية وعلى كل عرق تقبل اآلخر ومن ثم تعد نظرة مبيمبي نظرة عالمية تدعو إلى تقبل اآلخر في‬
‫حين أن ديوب كانت نظرته أفريقية خالصة منغلقة ترفض اآلخر‪ .‬وفي الختام يتبين لنا أن مفهوم الهوية‬
‫مختلف بين الشخصيتين إال أنهما متفقان حول اختراع أسطورة الزنجي وهو اختراع غربي يهدف إلى‬
‫تحديد الهوية الغربية كما أنه يهدف إلى تحقير األفارقة ومن ثم إضفاء الشرعية على استعمار أفريقيا‬
‫واستعباد سكانها‪ .‬وفي الحقيقة حتى اآلن ال يوجد تعريف جامع مانع حول ما تعنية الهوية األفريقية‬
‫بالنسبة للزنوج نظرا ً الختالف اآلراء وتعددها وتباينها‪.‬‬

‫‪196‬‬
Summary
The study discusses the problem of the Negro identity and the critique of
the Black mindset, a comparative study between Sheikh Anta Diop and Achille
Mbemby. It is a study of paramount importance from a theoretical point of
view. It focuses on some important concepts such as Negro identity, race and
racism, Eurocentrism, African centrism, the Black mindset, violence and
savagery. It also opens new horizons for philosophical research on the most
important issues of modern and contemporary African philosophy, which
deepens intellectual and scientific relations between African countries, affirms
the relationship between Egypt and Africa, and establishes economic and
political forms between the countries of the continent.

The main question which the study attempts to answer is: “What is meant
by the Negro identity between the African vision and the colonial vision?” in
addition, the study attempts to give answers to the following questions: “What
is meant by the Black mindset in that European invention?”, and “How did this
invention have a great impact in shaping the African consciousness towards
striving to define the features of African identity?” and “Who are we? ,and “Are
we really so inferior that the West described to us? Through using the historical,
analytical and comparative approach of the ideas of both Cheikh Anta Diop and
Achille Mbembe. The study is divided into an introduction, three chapters and a
conclusion.

The conclusion discusses aspects of agreement and disagreement


between Diop and Pembe on the definition of identity. Diop identified the
Negro identity on the basis of common cultural features between Egypt and
Africa, claiming that the origin of Egyptian civilization is a Negro civilization,
and then asking Africans to return to Egypt if they wanted to know themselves
and their true history. Diop's opinions had a great impact on the establishment

197
of African centralism and the uplifting of the Negroes in exchange for European
centralism and the white man. While Mbembe rejected the viewpoint of Diop
and other African philosophers on the assertion of identity based on ethnic
cultural determinants represented in the color of black skin and geographical
location within the African continent, Mbembe rejected the idea of African
centralism as he rejected European centralism and founded what is called Afro-
politanism, which refers briefly to the Africans of the world as Africans not as
citizens of the country in which they have settled, showing something that goes
beyond pan-Africanism; He believes in the idea related to allowing the free
migration of the difference in Africa. He also saw that it is the way Africans
understand it and people of African descent themselves as they are a part of the
world rather than being historically separate.

In the light of Mbembe's rejection of all African discourses on the


definition of the African self, Mbembe believes that identity is not something
fixed as called for by former Africans, but is in a state of constant change due to
its connection to daily life and the conditions in which he lives and the cultural,
social and political influences on him. Vembembe searched for individual
identity, while Diop searched for identity in the overall collective culture. From
the totality of philosophical ideas about the Negro identity and the Black
mindset, it is clear that Diop closed himself inside black Africa, while Pembe
opened up to the world. Diop's views make him a racist philosopher due to his
exaltation of one race over the other, and here Diop fell into the trap of racism
that he was fighting and rejecting the European centralism while Mpembe
avoided racist views, rejected them in all their forms, did not elevate one race
over the other, and did not see the advantage of one race over the other. He
viewed all races as equal in humanity and that each race completely accepts the
other. Diop's view was purely African, closed, and rejected the other. In
conclusion, it becomes clear to us that the concept of identity is different

198
between the two characters, but they agree on the invention of the Negro myth,
which is a Western invention that aims to define the Western identity. It also
aims to humiliate Africans and then legitimize the colonization of Africa and
the enslavement of its inhabitants.

199
‫المستخلص‬
‫تتناول الدراسة مقارنة بين المؤرخ والفيلسوف السنغالي الشيخ أنتا ديوب (‪ )1986 – 1923‬والفيلسوف‬
‫الكاميروني أشيل مبيمبي (‪ )1957‬وذلك من خالل البحث عن الهوية األفريقية وعرض أهم أفكارهما الفلسفية‬
‫حول مفهوم الزنجية (الشيخ أنتا ديوب) ودورها الفعال في الحضارة اإلنسانية‪ ،‬ونقد العقل الزنجي (أشيل‬
‫مبيمبي) وكيفية الدفاع عن الذات األفريقية ومحاولة السترداد الهوية األفريقية من خالل التخلي عن المخلفات‬
‫الفكرية والثقافية والسياسية التي تركها االستعمار في الذات األفريقية لذلك؛ سنتناول في هذه الدراسة مقدمة عامة‬
‫حول الفلسفة األفريقية نشأتها وسماتها وتياراتها وأهدفها‪ ،‬ثم االنتقال إلى الحديث عن مفهوم الهوية الزنجية عند‬
‫أنتا ديوب ومحاوالًته رد اعتبار الزنوج من خالل إثباته أن أقدم حضارات التاريخ كانت حضارة زنجية‪ ،‬وتأكيده‬
‫أن الزنوج لديهم القدرة على التفكير المنطقي واالبتكار والتأثير في تاريخ البشرية‪ ،‬منتقدا ً االستعمار ومخلفاته‬
‫التي تركها في الشخصية األفريقية‪ ،‬لقد دعا الشيخ أنتا ديوب أفريقيا إلى العودة للجذور المصرية واالرتباط‬
‫بالهوية الثقافية المصرية‪ ،‬وأكدت أفكار وآراء الفيلسوف أشيل مبيمبي ووجهه نظرة في أفريقيا ما بعد االستعمار‬
‫من خالل طرح مفهوم وحدود السياسات العدائية تلك السياسات التي خلفها االستعمار في النظم السياسية‬
‫األفريقية‪ ،‬ومن ثم نقده للعقل الزنجي‪ ،‬ثم نتوالى مناقشة أهم ما جاء في آخر أعماله وهو خارج الليل المظلم وهو‬
‫كتاب يعرض فيه أهم آرائه عن إنهاء االستعمار‪ ،‬وعلي هذا ننتقل إلى مناقشة أوجه االتفاق واالختالف بين كل‬
‫من الشيخ أنتا ديوب وأشيل مبيمبي وبيان أثر كالً منها علي الفلسفة األفريقية ثم نعقب بخاتمة والتي سيتم فيها‬
‫عرض النتائج المستخلصة من الدراسة ‪.‬‬

‫الكلمات المفتاحية‪ :‬الفلسفة األفريقية ‪ -‬الهوية ‪ -‬الزنوجة ‪ -‬العقل الزنجي ‪ -‬الوحشية ‪ -‬السياسات العدائية‪.‬‬

‫‪200‬‬
Abstract:
This study compares the Senegalese historian and philosopher,
Cheikh Anta Diop (1923-1986) with the Cameroonian philosopher Achille
Mbembe (1957) by exploring the African identity and presenting their most
important philosophical thoughts concerning the concept of negro concept
(Cheikh Anta Diop) and their effective role in the human culture, as well as the
criticism of the negro mindset (Achille Mbembe) and how to defend and restore
the African identity by abandoning the intellectual, cultural and political debris,
left by the colonizers. Therefore, this study will deal with a general introduction
to the African philosophy: its emergence, features, tendencies, and objectives.
Then, the study will discuss the concept of the Negro for Anta Diop and his
attempts to rehabilitate the Negro mindset by proving that the oldest civilization
in history was the negro. Accordingly, the Negro mindset is capable of logically
thinking, innovating, and influencing human history, according to Anta Diop,
who criticizes colonization and the debris it left in the African character.
Noteworthy, Cheikh Anta Diop called Africa to return to the Egyptian roots and
be attached to the Egyptian cultural identity. After this comes a discussion of
the most crucial views of the philosopher Achille Mbembe and his point of
view on post-colonization Africa by studying the concept and boundaries of the
antagonistic policies left by the colonization in the African political regimes, his
criticism of the negro mindset then discussing his most important recent work,
Out of the Dark Night, the book that includes his views on decolonization. After
this, the study will underline the agreement and disagreement aspects between
Cheikh Anta Diop and Achille Mbembe and their influence on African
philosophy. A conclusion and a commentary on the findings of the study will
follow.

Key words: African philosophy - Identity - Negro - Black reason –


Brutalisme - Necropolities.

201
202

You might also like