Professional Documents
Culture Documents
نموذجا
ً مسألة انقالب العذاب عذوبة
أعدّ ه:
عثامن النابليس
1
مقدمة
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم عىل سيدنا حممد خاتم األنبياء واملرسلني ،وعىل آله وصحبه وحزبه
إىل يوم الدين ،وبعد:
ٍ
بكتاب ككتاب اجلاذب إن املرء ليعجب من احتفاء بعض اإلخوة املنافحني عن الشيخ ابن عرب وإشادهتم
الغيبي ،مع ما فيه من خمالفات للنصوص الرشعية ،وملِا اتفق عليه أهل السنة واجلامعة ،يف سبيل االنتصار
للعقائدة املنتقدة عىل الشيخ ابن عرب ،ولو برضب القواعد املستقرة عند أهل السنة ،وسلوك مسالك
التعسف .وهي نفس املسالك التي نراها لألسف يف بعض املدافعني عن الشيخ ابن عرب اليوم.
فرحا بالكتاب مع اعتقادهم يف خاصة أنفسهم بام فيه ،وترصحيهم أمام املأل بام خيالفه من
وال أدري هل طاروا ً
باب عدم مناسبة الوقت ،كام هو منهج بعض املدافعني عن الشيخ ابن عرب ،أم أهنم كمن حيطب ً
ليال دون
متييز؟ ولئن كان حاطب الليل قد هُيلك بغفلته األبدان ،فإن صنيع هؤالء قد حيلق اإليامن الذي هو مدار نجاة
اإلنسان.
ويف هذا املقال سأبني منهج الكتاب وخمالفته للرشيعة وملذهب أهل السنة ،يف مسألة ال زال البحث فيها
مفتوحا هذه األيام ،وهي مسألة انقطاع العذاب احليس ،أو انقالب العذاب عذوبة ،وليس غريض املناقشة
ً
التفصيلية جلميع كالمه يف هذه املسألة ،بل سأرضب بعض النامذج لبيان هتافت منهجه ،وفساد طريقته يف
االستدالل ،وحماولة تشبثه بكل ما خيدم دفاعه عن قول الشيخ ابن عرب ،مهام كان شا ًذا أو ضعي ًفا أو خمال ًفا
ملذهب أهل السنة.
وكتاب «اجلاذب الغيبي» للشيخ حممد رسول الربزنجي هو ترمجة وإعادة ترتيب وزيادات عىل كتاب «اجلانب
الغرب» للشيخ أيب الفتح الكازروين ،الذي كان قد ألفه بالفارسية.
جزم املؤلف واملرتجم بنسبة هذه العقيدة للشيخ ابن عرب ،ومل يقوال بالدس وال التأويل وال التوقف ،وقد
نقل املؤلف من نصوص ابن عرب التي أثبت فيها هذه العقيدة ما زاد عىل مخس وثالثني صفحة من
املخطوط! ،تلك النصوص التي تتضمن استدالله عىل هذه العقيدة بشتى أنواع األدلة ،من أقيسة املعقول
واآليات القرآنية واألحاديث النبوية والكشوفات.
«فهذه مجلة من كالم الشيخ -قدس رسه -يف هذه املسألة ،ويعرس استيفاؤها مجيعها ،فقد قررها وكررها يف
نحو سبعني موض ًعا فأكثر» .اهـ
بل نجد املؤلف ال يتوانى يف الر ّد عىل من أنكر نسبتها ونسبة أمثاهلا للشيخ ابن عرب ،كام يظهر من ر ّده عىل
الشيخ الشعراين حينام حلف أن بعض العقائد ليست من كالم ابن عرب ،كام يف اليواقيت واجلواهر ،فقال
املؤ ّلف ر ًدا عليه:
«وهو عجيب منه! ،وخالف الواقع ،فإن كل َمن له ذوق يف كالم الشيخ ،يعلم أن هذه كلها عباراته ،وأهنا
يدس قدر كراس يف مواضع عديدة يف كالم رجل إمام معروف ،له تالمذة حمققون،
عىل طبق رشبه ،وكيف ّ
علامء أجالء ،مك ّبون عىل تصانيفه مطالعة وقراءة وإقراء ،كالصدر القونوي وأرضابه!» .اهـ
3
ٍ
تأكيد عىل نسبة هذه األقوال للشيخ ابن عرب ،وجز ٍم بصحتها عنه ،وثبوهتا يف كتبه وكتب أقول :نحن أمام
خاصا بنا ،بل مؤلف الكتاب يصحح تلك النسبة إىل احلدّ الذي
أمرا ً
طالبه وأصحاب مرشبه ،فليس هذا ً
أيضا.
هيلجئه للتعجب ممن أنكرها ،ويوافقه املرتجم ً
ومع هذا الكم اهلائل من نصوص الشيخ ابن عرب يف تقرير هذه العقيدة ،وما تتضمنه هذه النصوص من
ألوان االستدالالت والتعليالت ،وما فيها من تعدد العبارات والصياغات ،وسائر أنواع التأكيدات ،والنفي
واإلثبات ،واحلرص والقرص ..إلخ طرق البيان والتعبريات ،يعرس جدً ا القول بأنّه أراد معنى آخر ،أو ّ
أن مجيع
خصوصا أهنا متوافقة مع
ً هذه النصوص املبثوثة يف طول الفتوحات وعرضها ،وغريها من كتبه ،ليست له،
قررها يف عا ّمة كتبه.
أصوله التي ّ
«هذا إذا أريد بالعذاب حقيقته التي هو األمل ،أما إن أريد به أسبابه من النار واألغالل واحلميم والغساق
ونحوها ،فالشيخ قائل بخلود العذاب هبذا املعنى».اهـ
أي ّ
أن الشيخ ابن عرب يقول بانقطاع العذاب احلقيقي الذي هو اإلجياع واألمل ،مع دوام أسبابه وصورته عىل
أهل النار.
وكون اإلجياع واألمل هو حقيقة العذاب أو الز ًما ذات ًيا له ثابت عند أهل اللغة ،قال الراغب«:وال َع َذ ه
اب :هو
اإلجياع ّ
الشديد» .اهـ
وقال اإلمام القرطبي يف بحثه معنى العذاب عند أهل اللغة« :والعذاب :مثل الرضب بالسوط واحلرق بالنار
والقطع باحلديد ،إىل غري ذلك مما يؤمل اإلنسان..إلخ» .اهـ
4
ملخصا كالم اللغويني واملفرسين يف معنى العذاب وأصله« :العذاب :األمل ،وقد قيل إن
ً وقال ابن عاشور
أصله اإلعذاب مصدر «أعذب» إذا أزال العذوبة؛ ألن العذاب يزيل حالوة العيش ،فصيغ منه اسم مصدر
بحذف اهلمزة ،أو هو اسم موضع لألمل بدون مالحظة اشتقاق من العذوبة ،إذ ليس يلزم مصري الكلمة إىل
نظريهتا يف احلروف» .اهـ
5
[ املطلب الثاين :دعوى عدم خمالفة انقطاع العذاب للكتاب والسنة]
وبعد أن أثبت الكازروين نسبة هذه العقيدة للشيخ ابن عرب ،من خالل النصوص املتكاثرة التي ساقها ،مل يقم
ببيان خمالفتها للكتاب والسنة واإلمجاع ،ومل يقم بتأويلها؛ ألهنا ال تقبل التأويل ً
أصال ،بل أ ّيد هذه العقيدة
عقال وال ً
نقال ،وال حتى بوجه من الوجوه! ،فقال: وانترص هلا! ،واعتربها مما ال خيالف ً
تبني لك برسدها أن ما ذهب إليه الشيخ ليس فيه خمالفة للرشع وال للعقل بوجه من الوجوه ،فإنه
«وقد ّ
متمسك يف ذلك باآليات الفرقانية ،واألحاديث النبوية» .اهـ
وقال« :وعىل هذا ،قول الشيخ -قدس رسه :-إن عذاب الكفار من العذوبة ،حق وصدق ،وال يلزم منه كفر
وال حمذور ،ولو استوعبنا كالم الفتوحات لكان جملد ًا عظيم احلجم ،وفيام أوردنا كفاية ألرباب الفطانة» .اهـ
«بل عقيدته يف اإلعادة واحلرش والنرش واحلساب وامليزان والرصاط والشفاعة واجلنة والنار ،وغري ذلك كله،
موافقة ملذهب أهل السنة ،ريض اهلل عنه» .اهـ
علمت مذهب الشيخ -رمحه اهلل -وأنه موافق للرشع ،بل ألهل
َ وقال الشيخ الربزنجي« :وإذ قد
السنة..إلخ» .اهـ
أقول :اتفقت كلمة أعالم أهل السنة عىل إبطال هذه العقيدة ،واإلقرار بمخالفتها ألهل السنة ،لذلك نرى
وتأوهلا آخرون لتصبح غري خمالفة للنصوص
بدسهاّ ،
بعضهم ر ّدها عىل الشيخ ابن عرب ،وقال بعضهم ّ
املحكمة ،والقول بالدس أو التأويل فرع عن اإلقرار ببطالهنا.
6
كل مكلف أن يعتقد أن كل خم َّلد يف النار ال ّ
يفرت حتى قال اإلمام الدردير يف منهاج الصادقني« :وجيب عىل ّ
عنه العذاب ،وال خي َّفف عنه ،كام هو رصيح القرآن والسنة ،وإمجاع املحققني من املسلمني .وال تغرت بكالم
بعض امللحدين الضالني من أن اخللود ليس عىل حقيقته ،أو أن املخ َّلد يصري بعد طول املدة يتلذذ بالنار ،كام
يتلذذ أهل اجلنة باجلنة ،ولربام نسب هذا امللحده هذه املقال َة لبعض العارفني كسيدي حمي الدين ابن عرب،
وهي نسبة باطلة» .اهـ
قرر اإلمام الدردير أن هذه العقيدة خمالفة لرصيح الكتاب والسنة ،ولإلمجاع ،وجعلها من كالم
فانظر كيف ّ
بعض امللحدين الضالني.
إال أننا يف هذا الكتاب نجد أنفسنا أمام دعوى خطرية ،جتعل هذه العقيدة موافقة للنصوص الرشعية ومذهب
أهل السنة! ثم تتكلف يف ّيل أعناق املحكامت لتوافق هذه العقيدة ،كام سيظهر يف هذا املقال.
7
[ املطلب الثالث :وجوب اإليمن بانقطاع العذاب احليس عند صاحب الكتاب!]
مل يكتف الشيخ الربزنجي بتأكيد دعوى املؤلف يف عدم خمالفة هذه العقيدة للكتاب والسنة واإلمجاع ،بل
أوجب قبوهلا واإليامن هبا! فقال:
أقول :فها هو الشيخ الربزنجي يوجب علينا اإليامن هبذه العقيدة املخالفة للقواطع الرشعية ،من الكتاب
والسنة واإلمجاع ،ويزعم ّ
أن وقوعها ثابت بالنقل! ،وسيأيت بيان يشء من هتافت استدالالهتم بالنقل عىل هذه
العقيدة.
8
[ املطلب الرابع :استدالل املؤلف بالقرآن عىل انقطاع العذاب احليس]
بدأ املؤلف بذكر بعض أدلة الشيخ ابن عرب يف انقالب العذاب عذوبة ،ليثبت ّ
أن انقالب العذاب غري خمالف
للقرآن ،فنقل كال ًما للشيخ ابن عرب بمعناه ،يتضمن االستدالل عىل عقيدة انقطاع العذاب احليس مع بقاء
ونص الشيخ ابن عرب هو اآليت:
أهل النار يف النارُّ ،
قال يف الفتوحات (« :)77/3وإن السكنى ألهل النار يف النار ال خيرجون منها ،كام قال تعاىل« :خالِ ِدي َن فِيها»
يعني يف النار ،و«خالِ ِدي َن فِيها» يعني يف اجلنة ،ومل يقل «فيه» فرييد العذاب ،فلو قال عند ذكر العذاب:
«خالدين فيه» أشكل األمر ،وملّا أعاد الضمري عىل الدار مل يلزم العذاب.
وذ» أي عطاء غري مقطوع،قلنا :وكذلك كنّا نقول ،ولكن ملا قال اهلل تعاىل يف نعيم اجلنة أنه «عطاء غَري جمَ هرذ ٍ
رَ
وقال« :ال َم رق هطوع ٍَة وال َممرنهوع ٍَة» هلذا قلنا باخللود يف النعيم والدار ،ومل َي ِرد مثل هذا قط يف عذاب النار ،فلهذا
مل نقل به» .اهـ
«وما ورد يف العذاب يشء يدل عىل اخللود فيه كام ورد يف اخللود يف النار ،ولكن العذاب ال بد منه يف النار،
وقد غيب عنا األجل يف ذلك ،وما نحن منه من جهة النصوص عىل يقني» .اهـ
أقول :إن الشيخ ابن عرب مل يعتمد يف هذه العقيدة عىل الكشف فقط ،بل استدل عليها بالنصوص الرشعية،
كام يظهر يف هذا النص وغريه ،فا ّدعى ّ
أن خلودهم يف الدارين -اجلنة والنار -ال يستلزم اخللود يف النعيم وال
يف العذاب ،وملّا د ّلت النصوص األخرى عىل دوام نعيم أهل اجلنة ،كقوله تعاىل« :عطاء غري جمذوذ» ،ومل َي ِرد
9
مثل هذا قط يف عذاب النار ،لزم اإليامن بدوام نعيم أهل اجلنة دون دوام عذاب أهل النار ،هذا ملخص
استدالله.
وهذا االستدالل ضعيف جدً ا ،ال يقوم عىل قدم وساق ،وقد أبطله اإلمام السبكي يف ر ّده عىل ابن تيمية ،لكن
ال بأس بذكره بعض الوجوه املخترصة يف ر ّده ،كام ييل:
قال الشيخ ابن عرب« :فلو قال عند ذكر العذاب( :خالدين فيه) أشكل األمر».
وقال« :وما ورد يف العذاب يشء يدل عىل اخللود فيه» .اهـ
وثان ًيا :لو سلمنا عدم وجود آيات فيها لفظ «اخللود» يف العذاب ،إال أ ّن آيات كثرية د ّلت عىل خلودهم يف
﴿و َما هه رم بِ َخ ِار ِجنيَ ِمن َرها َو َهل ه رم
العذاب بغري ألفاظ اخللود ،كاآليات الدالة عىل أن عذاهبم مقيم ،قال تعاىلَ :
اب َو َال ههمۡ ف عَنۡ هه هم ٱلۡع ََذ ه ﴿خـٰلِ ِدي َن فِي َها َال ه َ
خي َّف ه ع ََذاب هم ِقيم﴾ ،وأن عذاهبم ال خيفف ،قال تعاىلَ :
ون﴾ ،وأن عذاهبم يف ازدياد ،قال تعاىلَ ﴿ :ف هذو هقوا َف َلن ن َِّزيدَ ك رهم ِإ َّال ع ََذا ًبا﴾ ..إلخ تلك اآليات. هين َظ هر َ
10
وأما التعليق عىل االستدالل بقوله تعاىل« :عطاء غَري جمَ هرذ ٍ
وذ» يف أهل اجلنة دون أهل النار ،فقد تك ّلم عليه رَ ّ
فصل فيه شيخنا السعيد -حفظه اهلل -يف كتابيه :أصحاب النار
اإلمام السبكي يف رسالته املشهورة ،وقد ّ
ومصريهم ،والرد عىل د.عدنان إبراهيم ،فلن أذكره خشية إطالة املقال.
فنحن أمام استدالالت عقلية ونقلية للشيخ ابن عرب يف إثبات عقيدته يف انقطاع العذاب احليس ،وليست
عقيدة مبنية عىل الكشف فقط ،ولذا قال الشيخ الربزنجي:
«قد استدل الشيخ -قدس رسه -عىل مذهبه ،بعد أن أثبت اإلمكان العقيل والوقوع الكشفي املتفق عليه من
أهل الكشف ،كام مر نقله ،بأدلة من العقل والنقل ،بل يف احلقيقة ما استدل إال بالنقل ،ملا ذكر أن العمدة يف
األمور األخروية النصوص ،أحدها :قوله تعاىل يف حق أهل النار{ :خالدين فيها إال ما شاء ربك} يف سورة
هود ،ثانيها قوله تعاىل{ :قال النار مثواكم خالدين فيها إال ما شاء اهلل} يف األنعام ،ثالثها قوله تعاىل{ :البثني
فيها أحقابا} ،رابعها قوله تعاىل{ :جزاء وفاقا} ،خامسها قوله تعاىل{ :ورمحتي وسعت كل يشء} ،سادسها
قوله تعاىل« :سبقت رمحتي غضبي» ،رواه مسلم هبذا اللفظ..إلخ».اهـ
11
[ املطلب اخلامس :تطويع اآليات لتوافق كالم ابن عريب]
َ
الشيخ ابن عرب يف القول بعدم ورود يشء من النصوص الرشعية يدل عىل اخللود يف العذاب، املؤلف
ه تبع
بينت بطالن هذه الدعوى يف النقطة السابقة ،لك ّن الشيخ الربزنجي
وكذلك بعض أصحاب مدرسته ،وقد ه
وجد آية تنقض هذه الدعوى ،فقال:
«لكن بقي عليه قوله تعاىل يف املائدة﴿ :ت ََر ٰى كَثِريۡا منۡ ههمۡ َيت ََو َّلوۡ َن ٱ َّل ِذي َن َك َف هرواۡ َلبِئۡ َس َما َقدَّ َمتۡ
ون﴾. اب ههمۡ َخـٰلِده َ خ َط ٱل َّل هه َع َلیۡ ِهمۡ َوفِی ٱلۡع ََذ ِ
َهلمۡ َأن هفسهمۡ َأن س ِ
َ ه ه ه
فإن هذا كام ترى نص يف خلودهم يف العذاب ،وقد أسند اخللود عليهم ،وأثبت الظرفية للعذاب ،وأضافها إىل
لفظ العذاب دون ضمري حتى حيتمل إعادته إىل غريه ،ومل يتعرض الشيخ -قدس رسه -وال أحد من نارصي
مذهبه ورشاح كالمه للجواب عنه ،ومل يتفطن له األصل ً
أصال ،وال بد من ذكر ما يبديه اهلل تعاىل بحسب
الوقت ،فنقول وباهلل العون .»...اهـ
أقول :ملّا كانت هذه اآلية عقبة صعبة أمامه ،هتدم دعوى الشيخ ابن عرب و َمن وافقه ،مل جيد هبدً ا من ّيل عنقها
وإرغامها لتوافق كالم الشيخ ابن عرب ،فأخذ يورد عليها االحتامالت الواهية ،مع اعرتافه ساب ًقا بكوهنا ً
نصا
وسأبني هتافت كالمه بإجياز شديد كام ييل:
ّ عىل خلودهم يف العذاب،
قال الربزنجي« :أن اآلية نازلة يف اليهود ،بدليل قوله تعاىل قبلها ( :هلعن الذين كفروا من بني إرسائيل عىل
لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بام عصوا وكانوا يعتدون) اآلية».
فإن كان األول [أي عذاب الدنيا] ،فاملراد باخللود هو خلود يف احلياة الدنيا ،بمعنى أهنم ما دامت الدنيا،
فالذل واملسكنة والغضب ال يفارقهم ،واخللود هبذا املعنى يزول بزوال الدنيا ،كام قاله الشيخ -قدس رسه-
يف محل األوزار يوم القيامة ،وقد مر» .اهـ
الوجه األول :أن األصل يف اخللود هو الثبات والدوام من غري عروض فساد ،وهذا هو الالئق •
باآلخرة ال بالدنيا ،قال ابن فارس(« :خلد) اخلاء والالم والدال أصل واحد ،يدل عىل الثبات واملالزمة» .اهـ
وقال الراغب« :اخللود :هو تربي اليشء من اعرتاض الفساد ،وبقاؤه عىل احلالة التي هو عليها» .اهـ
الوجه الثاين :أنه َمح ََل العذاب الدنيوي عىل العذاب الوارد يف سورة آل عمران ،ومتام اآلية ّ
يبني أن •
«رض َب رت َع َل ري ِه هم الذ َّل هة َأ ري َن َما
ائام عليهم يف الدنيا من غري اعرتاض فساد ،قال تعاىل :ه ِ
هذا العذاب ليس ثابتًا د ً
13
رض َب رت َع َل ري ِه هم املرَ رس َكنَ هة َذلِ َك بِ َأ َّهنه رم كَانهوا
ب ِم َن اهللَِّ َو ه ِ هث ِق هفوا إِ َّال بِ َح رب ٍل ِم َن اهللَِّ َو َح رب ٍل ِم َن الن ِ
َّاس َو َبا هءوا بِغ ََض ٍ
ِ ون راألَنربِ َيا َء بِغ ر ِ ون بِآي ِ
ون». َص روا َوكَانهوا َي رعتَده َ َري َح ٍّق َذل َك بِ َام ع َ ات اهللَِّ َو َي رق هت هل َ َي رك هف هر َ َ
نصت اآلية ّ
أن الذلة مرضوبة عليهم ،واستثنت حالة تلبسهم بعهد من اهلل تعاىل أو بعهد من الناس ،وهذا فقد ّ
يدل عىل ّ
أن وقوع الذلة عليهم ليس خالدً ا ال يعرتيه انقطاع ما دامت الدنيا ،بل يتخلله فرتات تنقطع عنهم
الذلة فيها ،فلزم أن يكون العذاب اخلالد عليهم هو العذاب األخروي ،قال البيضاوي:
14
فاخللود حينئذ ليس املراد به األبد باتفاق أهل السنة ،إذ مل يقولوا بخلود الزناة يف النار ،فاملراد باخللود املكث
الطويل ،نظري ما قالوا به يف قاتل النفس.
أو تكون خاصة أريد هبا اليهود خاصة أو مطلق الكفار ،وحينئذ فاجلواب من وجهني »..اهـ
أقول :إن األصل يف اخللود الوارد يف آية قتل النفس هو حقيقته ،وهو الدوام بال انقطاع ،وعليه فإن األصل
محلها عىل قاتل النفس الكافر ،لكن ملّا د ّلت بعض األدلة عىل شموهلا لقاتل النفس املؤمن ،واملؤمن ال خيلد يف
العذاب عند أهل السنة لألدلة املتواترة ،محل بعض املفرسين اخللود فيها عىل معنى املكث الطويل ،بخالف
اآلية حمل البحث ،فاحلديث املذكور مع ضعفه ال يكفي إلخراج معنى اخللود عن حقيقته ،وال كون العذاب
ً
شامال للكافر والفاسق ،ال سيام والعذاب الوارد فيها مرتتب عىل اللعنة والكفر ،فظهر الفرق بني اآليتني. فيها
عىل أنّا لو قلنا بشمول العذاب فيها للكافر والفاسق ،مل يكن هذا ً
دليال عىل محل اخللود فيها عىل املكث
الطويل ،بل حيمل يف حق الكافر عىل حقيقته وهو التأبيد ،وحيمل يف حق املؤمن عىل جمازه وهو املكث
الطويل ،ويكون هذا من استعامل اليشء يف حقيقته وجمازه م ًعا.
«أو تكون خاصة أريد هبا اليهود خاصة أو مطلق الكفار ،وحينئذ فاجلواب من وجهني:
يها ...إِ َّال َما َشا َء َر ُّب َك} ِِ ِ ِ ِ
يها زَ فري َو َش ِهيق * َخالدي َن ف َ
أحدمها :أن هذا مطلق ،وقوله تعاىل يف هودَ { :هل ه رم ف َ
مقيد ،فيحمل املطلق عىل املقيد.
بيانهّ :
أن كوهنم يف النار يف حال كوهنم هلم فيها زفري وشهيق هو عذاهبم ،فكأنه تعاىل قال :خالدين يف العذاب
إال ما شاء اهلل ،فكأن اخللود يف العذاب مقيد باملشيئة ،فلم تكن اآلية ً
دليال عىل ترسمد العذاب.
الثاين :أن غاية هذا أنه وعيد ،وقد مر جواز إخالف الوعيد ،بل وجوبه عليه تعاىل».
15
أقول :استدل يف هذا النص بدليلني أوهى من بيت العنكبوت ،وهذا االستدالل بعينه هو استدالل ابن تيمية
وابن القيم عىل فناء النار ،وقد انترص الشيخ الربزنجي لقوهلام أيام انتصار ،وسيأيت اعتامده قوهلام والتوفيق بينه
وبني قول ابن عرب.
َّار َهلم فِيها زَ فِري و َش ِهيق * َخالِ ِدين فِيها ما دام ِ ِ ِ
ت َ َ َ َ َ َ أوال :إن قوله تعاىل يف سورة هودَ « :ف َأ َّما ا َّلذي َن َش هقوا َففي الن ِ ه ر َ ً
ات َو راألَ رر هض إِ َّال َما َشا َء َر ُّب َك إِ َّن َر َّب َك َف َّعال َملِا هي ِريده » ،دال عىل خلودهم يف النار ،أل ّن تعليق اخللود عىل
الس َام َو ه
َّ
املشيئة ال حيدّ د تلك املشيئة بكوهنا متعلقة بخروجهم من العذاب ،فقد يشاء اهلل تعاىل خلودهم فيه وقد يشاء
خروجهم منه ،لكن ملّا د ّلت اآليات املحكامت عىل مشيئة اهلل تعاىل ختلدُيم يف العذاب ،قطعنا بنفي تعلق
املشيئة بخروجهم من العذاب ،قال السبكي« :أو أنه استثناء معلق باملشيئة ،وهو ال يشاء خروجهم ،فهو أبلغ
يف التأبيد [ ]...وقوله يف النار( :إن ربك فعال ملا يريد) يناسب الوعيد والزيادة يف العذاب ،وال يناسب
االنقطاع».
فاحلكم املث َبت يف هاتني اجلملتني من اآلية هو التأبيد يف عذاب النار ،ومعلوم ّ
أن االستثناء ال ينفي احلكم
الثابت قبله وال يرفعه ،بل خيرج بعض األفراد من هذا احلكم ،فلو كان االستثناء يف اآلية ً
داال عىل عدم ترسمد
العذاب ،لعاد عىل احلكم السابق باإلبطال ،وهذا ال يصح.
«الثاين :أن غاية هذا أنه وعيد ،وقد مر جواز إخالف الوعيد ،بل وجوبه عليه تعاىل» اهـ.
16
وهذا خمالف التفاق أهل السنّة ،بل إلمجاع املسلمني -كام سيأيت -عىل امتناع خلف الوعيد يف حق الكفار،
وسيأيت الكالم فيه.
ليست هذه اآلية الوحيدة التي تدل عىل خلودهم يف العذاب بلفظ (اخللود) ،بل هناك آيات أخرى تنص عىل
اخللود يف العذاب ،ولئن حاول الربزنجي تطويع اآلية السابقة لكالم الشيخ ابن عرب ،لتصبح دا ّلة عىل
اخللود يف العذاب الدنيوي ما بقيت الدنيا ،ومراده بالعذاب الدنيوي الذلة واملسكنة ،أو ّ
أن هذا العذاب لو
كان أخرو ًيا فيجب انقطاعه ،فأنّى له أن يلوي عنق اآليات اآلتية املحكمة يف كون العذاب املخ ّلد هو العذاب
قيال( : -إِ َّن
فضال عن أن ينقطع! قال تعاىل -ومن أصدق من اهلل ً األخروي ،الذي ال خيفف عنهم ً
ون ) [الزخرف-74 : س َرت عَنۡ ههمۡ َو ههمۡ فِي ِه همبۡلِ ه ِ ٱلۡهمجۡ ِر ِمنيَ فِی ع ََذ ِ
اب َج َهَّن َم َخـٰلده و َن َال هي َف َّ ه
.]75
يفرت عنهم ً
فضال فهذه آية تنص عىل خلودهم يف العذاب ،وأن هذا العذاب هو العذاب األخروي ،وأنه ال ّ
عن أن ينقطع ،وهم مبلسون آيسون من النجاة منه.
خي هلدر فِ ِ
اب َي رو َم ا رل ِق َيا َم ِة َو َ ر وقال تعاىلَ ( :و َم رن َي رف َع رل َذلِ َك َي رل َق َأ َثا ًما* هي َضاع ر
يه هم َهانًا) [الفرقان]69: َف َل هه ا رل َع َذ ه
17
[ املطلب السادس :االعتداد بتفرد ابن تيمية بتصحيح األحاديث التي ختدم مذهبه]
«ومن أهل السنة قد ذهب إىل أن الكفار بعد األحقاب والقرون العديدة خيرجون من جهنم ،وروى حدي ًثا
عن رسول اهلل ﷺ أنه قال« :والذي نفيس بيده ،ليأتني عىل جهنم زمان تصفق الريح أبواهبا ،وينبت يف قعرها
اجلرجري» ،وهذا حديث مشهور ،إال أن العلامء ضعفوه ،ولكن ابن تيمية قد قواه وصحح إسناده .وروى
حدي ًثا آخر عن عمر -ريض اهلل عنه -أنه قال« :أهل جهنم خيرجون منها ولو مكثوا فيها عدد رمل عالج»،
وعالج اسم موضع كثري الرمل» .اهـ
أقول :إن مقصوده ببعض أهل السنة هنا هو ابن تيمية الذي قال يف ابن عرب ما قال! فهل أصبحت يد املؤلف
صفرا من األدلة حتى يستنجد بكالم ابن تيمية ،وقد ّبني األئمة خمالفته لقواطع الكتاب والسنة وإمجاع
ً
املسلمني؟!
قال اإلمام السبكي يف رده عىل ابن تيمية يف هذه املسألة« :ولذلك أمجع املسلمون عىل اعتقاد ذلك ،وتلقوه
خل ًفا عن سلف عن نبيهم ﷺ ،وهو مركوز يف فطرة املسلمني ،معلوم من الدين بالرضورة ،بل وسائر امللل
غري املسلمني يعتقدون ذلك».
18
ٍ
حديث ال يعني وما احتج به ابن تيمية عىل صحة احلديث ظاهر الفساد ،فإن سكوت كبار الرواة عن
وجزر هم رواي احلديث املرسل ال
تصحيحه كام ادعى ابن تيمية ،بل قد يقال :إن سكوهتم عنه لظهور بطالنهَ ،
يضا ،بل اجلزم تدليس ،وهو علة أخرى يف احلديث!
يدل عىل صحة احلديث أ ً
وقد ض ّعف اإلمام السبكي هذه األحاديث ،وقال عن أحدها« :ولو صح همحِل عىل طبقة العصاة» .اهـ
فهذه هي املنهجية العلمية التي سلكها صاحب «اجلاذب الغيبي» ،يف تل ّقف أي قول يسعفه يف الدفاع عن
عقيدة الشيخ ابن عرب ،دون التحقق والتفتيش عن صحته وسالمة داللته عىل املطلوب.
19
[املطلب السابع :التشكيك ف حجية اإلمجاع كم يقول به أهل السنة]
لكنّه بعد أن استدل بعدد من نصوص القرآن والسنة يف تأييد هذه العقيدة ،وقد أطلعناك عىل يشء من فساد
حجية اإلمجاع املعترب عند أهل السنة ،حتى هيسقط اإلمجاع املتواتر يف خلود
استدالالته ،أخذ يشكك يف ّ
العذاب عىل الكفار ،ويبقى قول الشيخ ابن عرب ساملًا من خرق اإلمجاع.
والشقي * ّ
معذب من ّعم مهام بقي» .اهـ للسعيد ّ
دارا خلود ّ
20
قلنا :إن أردتم إمجاع عوام األمة فذلك ليس بدليل».اهـ
ومرورا
ً أقول :إن الذين قالوا بانعقاد اإلمجاع هم أئمة أهل السنة عىل مر القرون ،من عهد اإلمام األشعري،
حيتج أحد بإمجاع عوام األمة يف مثل هذه املسائل ،فال
كثريا ،ومل ّ
بالباقالين والعضد والدردير ،وقرونًا بني ذلك ً
معنى لذكر هذه املعارضة سوى جمرد التشكيك.
ثم قال:
«أو إمجاع أهل احلل والعقد من جمتهدي األمة؟ فهو حجة ،لكن عنه اجلواب بوجهني:
أحدمها :أنه كام قال اإلمام الرازي وغريه :الدليل عىل حجية اإلمجاع سمعي ،واألدلة السمعية ال تفيد إال
الظن ،وإذا كان أصل اإلمجاع ظن ًيا فال يفيد إال الظن ،واألمور الظنية ال تكون حجة يف االعتقاديات.
والوجه الثاين :سلمنا أن اإلمجاع مفيد لليقني ،لكن وقوعه غري ممكن؛ ألن اإلمجاع املمكن الوقوع الذي يكون
كفرا إنام هو إمجاع الصدر األول من الصحابة؛ ألهنم كانوا حمصورين معدودين معروفني ،وكان حملهم
خرقه ً
مكة واملدينة والشام ،وأما غري الصدر األول من الصحابة والتابعني فلم يكونوا كذلك ،بل كانوا متفرقني يف
أقطار األرض ،فيتعذر وقوع إمجاعهم.
متواترا حتى يكون خرقه موج ًبا للكفر ،بخالف ما إذا مل يتواتر
ً وأيضا ،فإمجاع الصحابة ال بد أن يكون معناه
ً
كفرا ،ومل يقع يف ترسمد العذاب إمجاع متواتر املعنى.
لفظه أو تواتر لفظه دون معناه ،فال يكون خرقه ً
نعم ،عند عوام األمة ترسمد العذاب متفق عليه ،وهذا ليس بدليل ،واملراد بعوام األمة غري املجتهدين من
العلامء دون السوقة والدهاقني وأرباب احلرف واألجناد ،فإهنم يف مثل هذه املعاقد واملقاعد خارجون من
دائرة النفي واإلثبات» .اهـ
21
قلت :فها هو حياول جاهدً ا التشكيك يف اإلمجاع عىل ترسمد العذاب عىل أهل النار ،لك ّن تشكيكاته ليست
ه
معتربة عند أهل السنة كام سبق ،وقد استخدم ابن تيمية هذه التشكيكات قبله ،فلعله تلقفها منه ،ور ّد اإلمام
السبكي عىل تشكيكات ابن تيمية بإجياز فقال:
«قلت :اإلمجاع ال يعرتض عليه بأنه غري معلوم ،بل يعرتض بنقل خالف رصيح ومل ينقله ،وإنام هو من
ترصفه وفهمه.
22
[ املطلب الثامن :اللجوء إىل شذوذ ابن تيمية إلبطال دعوى اإلمجاع! ]
سمها ما شئت -أن جييب املؤلف عن خمالفة الشيخ ابن عرب لإلمجاع ،بام شذ به
من العجائب أو الطرائف ّ -
ناقضا لذلك اإلمجاع!. ّ
وكأن ابن تيمية سابق عىل ابن عرب حتى يكون قوله ً ابن تيمية من القول بفناء النار،
املسألة َق ربل الشيخ ابن عرب ،استنجد بشذوذ ابن تيمية يف هذه املسألة ،بل ّ
رصح باعتامده عىل ابن تيمية يف
تشكيكه يف اإلمجاع ،فقال:
«والدليل عىل عدم وقوع اإلمجاع عىل ترسمد العذاب أن شيخ اإلسالم ابن تيمية احلنبيل من كبار حفاظ
احلديث وأئمة الفقه ومن أهل السنة قد ذهب إىل أن الكفار بعد األحقاب والقرون العديدة خيرجون من
جهنم [ ]...وبالغ ابن تيمية يف ذلك مبالغة كلية ،وأورد أحاديث غري هذين ،ومنع إمجاع األمة عىل ذلك ،بل
رواه عن مجع من فقهاء الصحابة ،وعىل هذا منعنا تواتر اإلمجاع بل وقوعه عىل خلود العذاب ...إلخ» .اهـ
نقلت ترصيح اإلمام السبكي بمخالفة ابن تيمية لرصيح الكتاب والسنة ،وما علم من الدين
أقول :سبق أن ه
بالرضورة ،وأمجع عليه أهل اإلسالم قاطبة ،فليس يف خمالفته نقض لإلمجاع الثابت قبله بقرون.
23
[املطلب التاسع :انتصار الشيخ الربزنجي لقول ابن تيمية بفناء النار]
«وال بأس بنقل مذهب ابن تيمية هنا ،وذكر أدلته إمتا ًما للفائدة ،فأما كالمه هو فلم أقف عليه ،ولكن نقل عنه
تلميذه احلافظ اجلليل ابن القيم ذلك يف كتابه شفاء العليل عىل سبيل االختصار ،وأطال يف االستدالل له يف
كتابه حادي األرواح إىل دار الفالح» .اهـ
ً
طويال البن القيم ،ثم قال: ثم ساق كال ًما
أقول :اسرتاح الشيخ الربزنجي الستدالالت ابن القيم واعتمد عليها ،مع ّ
أن العلامء مل يزالوا ير ّدون عليها
ويشنّعون عىل قائلها ،ويقررون خمالفتها لرصيح الكتاب والسنة وإمجاع األمة ،مما دفعه إىل إنكار حصول
اإلمجاع يف أي عرص من العصور!
وأنّى له أن ينكراإلمجاع الثابت قبل ابن عرب بكالم ابن تيمية املتأخر عنه؟!
رصح الربزنجي ّ
بأن قول ابن تيمية وتلميذه هناية يف التحقيق ،فقال: ثم ّ
24
َّ
«إن ما مشى عليه هذان احلافظان اجلليالن :ابن القيم وشيخه ابن تيمية ،هناية يف التحقيق ،عند َمن صادفته
العناية وساعده التوفيق».اهـ
أقول :فهذه هي األقوال التي ينسبها صاحب «اجلاذب الغيبي» إىل الكتاب والسنة ،ومذهب أهل السنة
واجلامعة ،ويزعم أهنا هناية يف التحقيق ،انتص ًارا للشيخ ابن عرب.
أن الشيخ الربزنجي استعار مجلة من أدلة ابن القيم يف فناء النار ليثبت انقطاع العذاب ،مع ّ
أن هذه ونالحظ ّ
األدلة مبنية عىل أصول ختالف وتعارض أصول أهل السنة واجلامعة.
أن الشيخ الربزنجي حذف كالم ابن القيم يف التعقيب عىل ابن عرب ،دون أن يشري إىل ذلكّ ،
فإن ابن ويظهر ّ
القيم قال عن كالم ابن عرب يف انقالب العذاب وكالم املعتزلة يف ختليد أهل الكبائر« :والفريقان خمالفان ملا
علم باالضطرار أن الرسول جاء به ،وأخرب به عن اهلل عز وجل» .اهـ
25
[ املطلب العارش :خمالفة إمجاع أهل السنة ف امتناع خلف الوعيد للكفار]
وقال السنويس« :فمذهب مجيع أهل احلق وأهل السنة أن الناس عىل قسمني :مؤمن وكافر ،فالكافر خملد يف
النار بإمجاع» اهـ
كام انعقد اإلمجاع عىل نفوذ الوعيد يف طائفة من العصاة ،قال األب..« :اإلمجاع انعقد عىل أنه ال بد من نفوذ
الوعيد يف طائفة من العصاة» .اهـ
وقال املناوي« :واإلمجاع منعقد عىل أنه ال بد إنفاذ الوعيد يف طائفة من العصاة» .اهـ
واختلف أهل السنة يف جواز خلف الوعيد فيام هو دون الكفر ،فقال السادة املاتريدية بامتناع ختلف الوعيد
كام يمتنع ختلف الوعد ،وجعلوا نصوص العفو خمصوصة باملؤمن املغفور له ،وأجاز السادة األشاعرة اخللف
يف الوعيد يف حق املؤمن غري املغفور له ،مع قوهلم بنفوذ الوعيد يف بعض العصاة غري املغفور هلم.
لك ّن الشيخ الربزنجي مل يأبه بإمجاع أهل السنة ،حتى استنرص بابن القيم ليثبت جواز خلف الوعيد يف حق
الكفار ،فقال:
«وما نقله ابن القيم عن الشيخ -قدس رسه -يف الفصوص ،و َذكر هه يف مواضع من الفتوحات وغريه ،من
جواز خلف الوعيد ،فقد ورد يف األحاديث ما يدل له ،فقد روى أبو يعىل يف مسندهَ :حدَّ َثنَا ههدر َب هةَ ،حدَّ َثنَا
َس رب ِن َمالِ ٍكَ ،ق َالَ :ق َال َر هس ه
ول اهللَِّ ﷺَ :م رن َوعَدَ هه اهللَّه َع َىل ع ََم ٍل َث َوا ًبا َف هه َو تَ ،ع رن َأن ِ سهي هل بن َأ ِب حزر ٍمَ ،عن َثابِ ٍ
ر َ ه َر ر ه
يه بِ ر ِ
اخل َي ِار».اهـ من ِرجزه ه َله ،ومن وعَدَ ه ع ََىل عَم ٍل ِع َقابا َفهو فِ ِ
ً هَ َ ه ه ه َ َ ر َ ه
26
أيضا عند اجلواب عن االستدالل بقوله تعاىل( :ويف العذاب هم خالدون):
وقال ً
«وحينئذ فاجلواب من وجهني [ ]...الثاين :أن غاية هذا أنه وعيد ،وقد مر جواز إخالف الوعيد ،بل وجوبه
عليه تعاىل ،وقد دلت الظواهر املتقدمة والكشف الصحيح عىل أن هذا الوعيد وأمثاله يف حق أهل النار
خملف» .اهـ
أقول :ما استدل به ابن القيم وابن عرب و َمن تبعهم يف جواز خلف الوعيد يف حق الكفار ،خمالف ملذهب أهل
واآليات واألحاديث الواردة يف جواز املغفرة والعفو حممولة عىل غري الرشك؛ ألن النصوص ه السنة كام سبق،
ِ ِ
رش َك املحكمة من الكتاب والسنة دا ّلة عىل عدم غفران الكفر والرشك ،كام يف قوله تعاىل( :إ َّن اهللََّ َال َيغرف هر َأ رن هي ر َ
ون َذلِ َك َملِ رن َي َشا هء) ،وقوله تعاىل( :إِ َّن ا َّل ِذي َن َك َف هروا َو َصدُّ وا َع رن َسبِ ِ
يل اهللَِّ هث َّم َماتهوا َو هه رم هك َّفار َف َل رن بِ ِه َو َيغ ِرف هر َما هد َ
اجلنَّ َة َو َم رأ َوا هه الن هَّار َو َما لِل َّظاملِنيَ ِم رن َأن َرص ٍار). ِ َيغ ِرف َر اهللَّه َهل ه رم) ،وقوله تعاىل( :إِ َّن هه َم رن هي ر ِ
رش رك بِاهللَِّ َف َقدر َح َّر َم اهللَّه َع َل ريه ر َ
هون الزَّ كَا َة َوا َّل ِذي َن هه رم بِآ َياتِنَا هيؤر ِمن َ
هون). يش ٍء َف َس َأ رك هت هب َها لِ َّل ِذي َن َي َّت هق َ
ون َو هيؤر ت َ ك َّهل َ ر
وقال يف الوجيز« :واألحسن يف تفسري هذه اآلية ما ذهب إليه احلسن وقتادة ،»..وذكر كالمهام السابق.
كام د ّلت اآليات عىل خلودهم يف العذاب ،وعدم خروجهم منه ،وأن عذاهبم دائم ال ينقطع وال خيفف ،وأنه
يف ازدياد ..إلخ النصوص الرصحية القطعية يف عدم خلف الوعيد يف حقهم.
ثم استشهد الشيخ الربزنجي بكالم اإلمام الواحدي يف تفسريه الوسيط بجواز خلف الوعيد ،فقال:
27
ِ ِ ِ
(و َم رن َي رقت رهل همؤر منًا هم َت َعمدً ا َف َجزَ اؤه هه َج َهن هَّم َخالدً ا ف َ
يها) :األصل يف «وقال الواحدي يف الوسيط يف قوله تعاىلَ :
هذا أن اهلل جيوز أن خيلف الوعيد ،وإن كان ال جيوز أن خيلف الوعد [ ]...والوعيد حقه تعاىل عىل العباد أن
قال :ال تفعلوا كذا فإين أعذبكم ففعلوا ،فإن شاء عفا وإن شاء أخذ؛ ألنه حقه ،وأوالمها العفو والكرم؛ ألنه
غفور رحيم ،انتهى كالم الواحدي» .اهـ
أقول :إن الشيخ الربزنجي ال يألو جهدً ا يف التشبث بأي قول ما دام خيدم معتقده ،دون البحث يف صحة
مها
القول أو التقيص عن مراد صاحبه ،عىل طريقة« :الغريق يتعلق بقشة» ،حتى نقل كالم اإلمام الواحدي متو ً
جتويزه خلف الوعيد يف حق الكافر ،مع ّ
أن نصوص الواحدي مستفيضة يف امتناع خلف الوعيد يف حق
الكافر ،يف هذا التفسري ويف غريه ،كام سبق نقله ،ولو رجعنا إىل نص اإلمام الواحدي ً
كامال لظهر مقصوده،
وأ ّنه يعني بالقاتل هنا املؤمن الذي يمكن أن تقبل توبته ،فقد قال قبل هذا النص بقليل:
«ومذهب أهل السنة :أن قاتل املؤمن عمدً ا له توبة؛ أخربنا حممد بن إبراهيم بن حممد بن حييى ،أخربنا أبو
عمرو بن نجيد ،أخربنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد اهلل ،حدثنا حممد بن عبد اهلل األنصاري ،حدثنا هشام بن
حسان ،قال :كنا عند حممد بن سريين ،فقال له رجل من القوم{ :ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم}
[النساء ]93 :حتى ختم اآلية ،فقال حممد :أين أنت من هذه اآلية{ :إن اهلل ال يغفر أن يرشك به ويغفر ما دون
ذلك ملن يشاء} [النساء .»]116 :اهـ
وهذا رصيح يف أن املقصود بالقاتل الذي جيوز يف حقه خلف الوعيد هو املؤمن ال الكافر.
ولعل الربزنجي اغرت بنقد اإلمام الرازي للواحدي يف هذا املوضع ،حيث قال الرازي ر ًدا عىل الواحدي:
وهذا َخ َطأ َعظِيمَ ،ب رل َي رق هر هب ِمن يه َف َقدر َج َّوزَ الك َِذ َب عَىل اهللََِّ ،ف فِ ِ« َفإذا َج َّوزَ -يعني الواحدي -عَىل اهللَِّ اخله رل َ
وأل َّنه إذا جوزَ ال َك ِذب عَىل اهللَِّ يف الو ِع ِ
يد بِ ، َن الك َِذ ِ أمج هعوا َعىل أ َّن هه تَعاىل همنَزَّ ه ع ِ
إن ال هع َقال َء ر َ
هون هك رف ًراَ ،ف َّ
أن َيك َ
ر
َ َ َ َّ ه
ض املَ رص َل َح ِة ،و َم رع هلوم
بار لِغ ََر ِ
واألخ ِر ف يف ال َق َص ِ
ص جيوزه اخله رل ه ِ ف يف ِ ِ
الوعيد ك ََرمَ ،فل َم ال َ ه َ إن اخله رل َ قالَّ : ِأل رج ِل ما َ
الرشي َع ِة» .اهـآن وكهل َّ ِ اب ي رف ِِض إىل ال َّطع ِن يف ال هقر ِ
ر ر أن َفت َرح َهذا الب ِ ه َّ
28
كامال ل َعلِم يقينًا أنه مل يرد خلف الوعيد يف حق الكفار،
أقول :ولو رجع الشيخ الربزنجي إىل كالم الواحدي ً
لكنه يلجأ إىل هذه املنهجية إذا أعوزته احلجة!
29
[ املطلب احلادي عرش :خمالفة الربزنجي أهل السنة بقوله بـ«وجوب» خلف الوعيد]
حاول الشيخ الربزنجي أن يثبت التالزم بني قاعدة العفو وبني جواز خلف الوعيد بطريقة عجيبة ،فقال:
«ال يتم مذهب أهل السنة يف جواز العفو عن الذنب ولو مل يتب إال بالقول بجواز خلف الوعيد ،وال يغني يف
ذلك ما قالوا :من أنه ال بد من نفوذ الوعيد يف طائفة من كل صنف من العصاة ولو واحد»اهـ.
أقول :شبهته هنا قريبة من شبهة املعتزلة املشهورة يف إلزام أهل السنة بخلف الوعيد يف حق الكفار ،فكأن كأن
الشيخ الربزنجي استعار هذه الشبهة من كالم املعتزلة ،مع ّ
أن الرد عليها مشهور جدً ا يف الكتب الكالمية
األساسية ألهل السنة.
مر ساب ًقا اختالف أهل السنة يف جواز خلف الوعيد ،وأن املاتريدية يمنعونه ،مع قوهلم بجواز العفو عن
وقد ّ
الذنب ،فال تالزم بينهام كام ا ّدعى الربزنجي ،وكأن أهل السنة مجيعهم غاب عنهم التالزم بني جواز العفو
وجواز خلف الوعيد ،حتى جاء الشيخ الربزنجي ليكشفه هلم ويلزمهم به!
ثم إن جواز اخللف ال يعني وجوب وقوعه ،وجوازه يف حق املؤمن ال يستلزم جوازه يف حق الكافر حتى
يستدل بذلك عىل انقطاع عذابه.
وبدأ الشيخ الربزنجي باالستدالل عىل التالزم بني جواز العفو وجواز خلف الوعيد ،فقال:
«أما األول :فألنه تعاىل قد وعد العفو والغفران املطلق فقال{ :ويعفو عن السيئات} ،وقال{ :إن اهلل يغفر
الذنوب مجي ًعا إنه هو الغفور الرحيم} ،وأمثاهلام ،ويدخل يف ذلك مجيع آيات قيد الغفران باملشيئة؛ ألن اخلصم
يمنع اجلواز مطل ًقا ،فإذا جاز مع املشيئة فقد بطل قوله.
30
وأيضا ،فإنه تعاىل ال يغفر إال باملشيئة ،كام أنه ال يفعل شيئًا إال باملشيئة ،فالتقييد باملشيئة قيد الزم ،وكلام غفر
ً
فقد أخلف الوعيد ،بل نقول جيب خلف الوعيد وإال لزم خلف الوعد ،وهو نقص ال جيوز عىل اهلل ،بخالف
خلف الوعيد فإنه كامل وكرم وفضل ،فوجب أن خيلف الوعيد؛ لئال يلزم خلف الوعد الذي وعده يف اآليات
املتقدمة» اهـ.
ف َع رن كَثِ ٍري} [الفاحتة.]34 : َات} [الشورى .]25 :وقوله تعاىلَ { :و َي رع ه َن السيئ ِ
أقول :إن قوله تعاىلَ { :و َي رع هفو ع ِ َّ
هوب َمجِي ًعا} [الزمر .]53 :وقوله تعاىلَ { :وإِ َّن َر َّب َك َل هذو َمغ ِرف َر ٍة لِلن ِ
َّاس ع ََىل وقوله تعاىل{ :إِ َّن اهللََّ َيغ ِرف هر ُّ
الذن َ
هظ رل ِم ِه رم} [الرعد ]6 :وغريها من نصوص العفو واملغفرة ،لو سلمنا ّأهنا من باب الوعد وليست من باب
الوصف ،مل يلزم منها خلف الوعيد؛ ألهنا تدل عىل جواز العفو فيام هو حمل للعفو والغفران ،وقد اتفق
حمال للمغفرة ،فال تدل هذه اآليات عىل خلف الوعيدً ،
فضال عن وجوب أن الكافر ليس ً
املسلمون عىل ّ
وقوعه كام قال الربزنجي.
وقوله« :كلام غفر فقد أخلف الوعيد ،بل نقول جيب خلف الوعيد وإال لزم خلف الوعد» غري الزم؛ ألنّا لو
سلمنا داللة نصوص الوعيد عىل أن كل عاص يعاقب ،دون داللتها عىل أن العايص يعاقب يف اجلملة،
فنقول :إن هذا الوعيد قد خرج منه نحو التائب الذي استوىف رشوط التوبة ،وخرج منه َمن تع ّلقت مشيئة اهلل
تعاىل بعدم نفوذ الوعيد فيه ،فتكون نصوص الوعيد خمصصة بإخراج أمثاهلم ،فال يتناوهلم الوعيد ً
أصال ،أي
ّ
أن هذه النصوص من العام الذي خص منه البعض ،فال يلزم خلف الوعيد وال وجوبه ،ويظهر أن ال تالزم
بني عدم خلف الوعيد وخلف الوعد.
أيضا :ال يلزم من عدم نفوذ الوعيد اخللف بوعد العفو؛ ألن العفو كام يصدق بعدم التعذيب
ويمكن أن يقال ً
أيضا بام بعد العذاب ونفوذ الوعيد.
ابتداء ،يصدق ً
وبعد أن حاول الشيخ الربزنجي أن يع ّلق العفو عن الذنب بخلف الوعيد ،أراد أن ّ
يبني ّ
أن إمجاع أهل السنة
عىل لزوم نفوذ الوعيد يف طائفة ،ال يغني يف ذلك ،فقال:
31
«وأما الثاين :فإنه أوعد كل العصاة؛ ألن قوله{ :ومن يقتل مؤمنًا}{ ،ومن يفعل ذلك يلق أثا ًما} وأمثاهلا من
فعم الوعيده كل فاعل لذلك الذنب ،فإذا عفا عن بعضهم ،ولو أنفذ الوعيد يف طائفة منهم ،فقد
صيغ العمومّ ،
لزم خلف الوعيد املتعلق بالكل» .اهـ
ثم إن القول بوجوب خلف الوعيد للكل خمالف ألحاديث الشفاعة املتواترة ،الدالة عىل نفوذ الوعيد يف
طائفة من العصاة ،والعفو عن بعضهم إما بشفاعة الشافعني أو برمحة اهلل تعاىل.
والقول بوجوب خلف الوعيد ليس مذه ًبا ألحد من أهل السنة ،بل هو منقول عن املرجئة ،لكن املرجئة
خصوه باملسلمني ،وقالوا بوجوب نفوذ الوعيد يف الكافرين ،أما الشيخ الربزنجي فعمم خلف الوعيد ليشمل
ّ
الكفار ،وانترص لعقيدة فناء النار ،وهذا خمالف ملا اتفق عليه أهل اإلسالم قاطبة.
32
[ املطلب الثاين عرش :التوفيق العجيب بني كالم ابن عريب وابن تيمية!]
إن القول بكون النار دار عذاب مهني وأليم ،وخلود أهلها فيها هو اخلزي العظيم واخلرسان املبني ،واخللود
فيها جاء عىل سبيل التهديد والوعيد ،ومع ذلك فأهلها فرحون فيها ،مستعذبون لعذاهبا ،وأمزجتهم موافقة
هلا ،بحيث لو عرضت عليهم اجلنة لتأ ّذوا منها ،إن هذا القول أقرب إىل السفسطة منه إىل التحقيق ،فإما أن
يقال ببقاء النار وخلودها عليهم بام فيها من عذاب وإهانة وخزي ،وإما أن يقال بفنائها وانقطاعها.
وكأن صاحب اجلاذب الغيبي ملّا مل يقتنع بام تقدّ م من كالم الشيخ ابن عرب ،مع موافقته له والبن تيمية يف
ّ
يؤول كالم ابن عرب ليتوافق مع كالم ابن تيمية،
قوهلام بخلف الوعيد وسبق الرمحة ونحو ذلك ،أراد أن ّ
فقال:
علمت أن ما ذهب إليه احلافظان ابن تيمية وابن القيم ال َي ِرد عليه يشء من تلك اإليرادات؛ ألهنام ال
َ «قد
يقوالن باخلروج من النار ،وال بعدم اخللود فيها ما دامت موجودة ،وال بتخفيف العذاب وتفتريه ،ومل يرد
نص بخلود النار ً
أصال ،إنام ورد النصوص باخللود يف النار ما دامت موجودة ،وأما بخلود النار نفسها فال،
بل وردت األحاديث بانطفائها كام مرت مفصلة ،وهذا املذهب حقيق باالعتامد ،ويمكن رد قول الشيخ إليه
برضب من التأويلُ ،يتدى إليه من متفرقات كالمه وإشارات إعالمه» .اهـ
أقول :فنحن إذن أمام تأويل لكالم الشيخ ابن عرب ،وتوفيق بينه وبني كالم الشيخ ابن تيمية ،فكيف سيكون
مآل هذا التوفيق؟
بعد أن ساق بعض نصوص ابن عرب التي تستلزم -عنده -فناء النار ،قال:
«فإذا نظرت يف هذه املقدمات أنتجت انتفاء النار ،فإن النار ملا كانت صورة الغضب ،والغضب ينتهي ،حيث
مل يكن له اسم إهلي يستند إليه ،فإذا انتهى حقيقة الغضب لزم أن تنعدم صورته ،ويبدل العذاب بالنعيم وهم
يف مكاهنم ،وهو من جهنم ،ملا علمت أن جهنم اسم ملا بني مقعر فلك الثوابت إىل أسفل سافلني ،فصدق أهنم
33
خالدون يف جهنم ،وصدق أن النار منطفئة ،وصدق أهنم منعمون يف دارهم ،وصدق أهنم مل خيرجوا من النار،
بل النار فنيت ،غايته أهنم يف جهنم باعتبار املكان ال باعتبار العذاب ،وإذا مل يعذبوا فيها ،بل نعموا وأبدل ما
فيها من النار بالريح ،فصفق أبواهبا ،ونبت فيها اجلرجري ،فصار مكان الزقوم واحلميم خرضة ،ومتعوا بالنظر
إىل وجه اهلل ،وكسيت وجوههم نرضة ،مل يرضهم كوهنم يف جهنم باعتبار االسم ،فإن جهنم حينئذ بمنزلة
اجلنة هلم ،بل هي حينئذ طبقة منها ،وحيث إن مآل الكل إىل الرمحة والنعيم ،والروح والراحة ،بفضل اهلل
العميم ،استوى يف املعنى سكنى اجلنان واجلحيم» .اهـ
أقول :فها نحن نرى هذه العقيدة اهلجينة ،التي جتمع بني قول الشيخ ابن عرب بانقالب العذاب عذوبة ،مع
بقاء أهل النار خالدين يف النار ،وبني قول ابن تيمية بفناء النار! فيكون أهل جهنم خالدين فيها باعتبار املكان
ال باعتبار العذاب ،فتنطفئ النار ويبقى النعيم ،وحتل اخلرضة حمل الزقوم واحلميم.
ثم قال:
«وقد أشار قدس رسه إىل هذا إشارة قريبة من الترصيح يف جواب السؤال اخلمسني ومائة يف بركة أهل البيت
[]...
مر أنه قال إن بعض أهل الكشف قال إن النار تنطفئ ،وإنه تنبت فيها
وهو كالرصيح فيام ذكرت لك ،وقد ّ
اجلرجري ،ومل ير ّد عليه ،بل أقره ،فإن كان هذا البعض هو نفسه ،فهذا الذي فهمنا ،وإن كان غريه فقد ارتضاه،
فتمسك هبذا ،فإنه من سوانح الغيب وجواذبه ،وباهلل التوفيق.
فالقوالن متقاربان ،بل مها واحد يف املعنى ،فلله احلمد بجميع أسامئه احلسنى .واهلل أعلم».اهـ
أقول :هلل در صاحب هذا التلفيق والتوفيق ،كم حاول أن يلوي أعناق النصوص ،ويتالعب باإلمجاع،
ويستنبط اللوازم الفاسدة يف مسألة خلف الوعيد ،لينترص البن عرب ،حتى خرج هبذه العقيدة الفريدة
جيد الدهر بمثلها ،وإنا هلل وإنا إليه راجعون!
واخلريدة العجيبة ،مل ه
34
وما رآه من استلزام قول ابن عرب النطفاء النار وبقاء أهلها فيها من حيث املكان ،خمالف لرصيح كالم ابن
عرب ونصوصه املحكمة املستفيضة ،يف ّ
أن النار تبقى وأن أسباب العذاب من الرضب واللدغ تبقى ،مع
انقطاع األمل احلاصل هبذا العذاب ،فكيف هيلجأ إىل األخذ بالالزم مع وجود النصوص الرصحية املحكمة؟!
ما أشد ظلم هؤالء املدافعني عن ابن عرب له ،فتجد أحدهم يتهمه بالتناقض ،وجتد اآلخر يؤول بعض كالمه
خمال ًفا نصوصه املحكمة ،وجتد ثال ًثا يلوي أعناق اآليات ليثبت صحة قوله..إلخ ،ولعل الشيخ ابن عرب لو
وقررت مذهبي يف هذه املسألة يف أكثر من
ه كررت
ه رآهم لزجرهم وقال هلم :بئس الصنيع صنيعكم ،فقد
سبعني موض ًعا ،فام لكم كيف حتكمون؟!
35
[ املطلب الثالث عرش :تطويعه نصوص ابن عريب لتوافق مراده]
ومن النصوص املهمة التي مل ين ّبه املؤلف وال املرتجم عىل اختصارها ،وأدى اختصاره إىل اإلخالل بمعناه،
قول ابن عرب اآليت:
قال يف الفتوحات (« :)648/2ويف هذا خالف بني أهل الكشف ،وهي مسألة عظيمة بني علامء الرسوم من
أيضا بني أهل الكشف فيها اخلالف[ ،وهو أنه]* هل يترسمد العذاب
املؤمنني وبني أهل الكشف ،وكذلك ً
عليهم إىل ما ال هناية له ،أو يكون هلم نعيم بدار الشقاء ،فينتهي العذاب فيهم إىل أجل مسمى؟
واتفقوا يف عدم اخلروج منها ،وأهنم هبا ماكثون إىل ما ال هناية له ،فإن لكل واحدة من الدارين ملؤها ،وتتنوع
ظاهرا ،ال بد من ذلك ،وهم جيدون يف ذلك لذة يف أنفسهم باخلالف املتقدم باطنًا بعد ما
ً عليهم أسباب اآلالم
يأخذ األمل منهم جزاء العقوبة []...
فإذا فرغ األمد جعل هلم نعيم يف النار [والسالسل]* ،بحيث إهنم لو دخلوا اجلنة تأملّوا لعدم موافقة املزاج
الذي ركبهم اهلل فيه ،فهم يتلذذون بام هم فيه من نار وزمهرير ،وما فيها من لدغ احليات والعقارب ،كام
36
جلعل يف الدنيا
يلتذ*** أهل اجلنة بالظالل والنور ،ولثم احلور احلسان ،ألن مزاجهم يقِض بذلك ،أال ترى ا ه
هو عىل مزاج يترضر بريح الورد ،ويلتذ*** بالنتن ،كذلك من خلق عىل مزاجه ،وقد وقع يف الدنيا أمزجة
عىل هذا شاهدناها ،فام ثم مزاج يف العامل إال وله لذة باملناسب وعدم لذة باملنافر ،أال ترى املحرور يتأمل بريح
املسك ،فاللذات تابعة للمالئم ،واآلالم لعدم املالئم[ ،فكام أهل اجلنة يتعذبون برؤية النار ،فكذلك أهل النار
الذين هم أهلها ،يتأملون برؤية اجلنة ،فلو دخلوها هلكوا] ،فهذا األمر حمقق يف نفسه ،ال ينكره عاقل.
وإنام الشأن :هل أهل النار عىل هذا املزاج هبذه املثابة بعد فراغ املدة (أم ال)** ،أو هم عىل مزاج يقتِض هلم
اإلحساس باآلالم (لألشياء املؤملة)** [والعذاب]*؟
والنقل الصحيح الرصيح النص الذي ال إشكال فيه إذا وجد مفيدً ا للعلم حيكم به بال شك ،فـ(اهلل عَىل كهل
يش ٍء َق ِدير) ،وإن كنت ال أجهل األمر يف ذلك ،ولكن ال يلزم اإلفصاح عنه ،فإن اإلفصاح عنه ال يرفع
َ ر
اخلالف من العامل.
وبعض أهل الكشف قال :إهنم خيرجون إىل اجلنة حتى ال يبقى فيها أحد من الناس (ألبتة)** ،وتبقي أبواهبا
تصفق ،وينبت فيها اجلرجري ،وخيلق اهلل هلا ً
أهال يملؤها هبم من مزاجها ،كام خيلق السمك يف املاء..إلخ» .اهـ
** زيادة يف طبعة األمريعبد القادر اجلزائري ،وطبعة عبد العزيز املنصوب.
37
قرر اتفاق اجلميع -علامء الرسوم وأهل الكشف مجي ًعا -عىل عدم خروج أهل النار من النار ،فقال بعد
ثان ًياّ :
أن نقل اخلالف السابق« :واتفقوا يف عدم اخلروج منها ،وأهنم هبا ماكثون إىل ما ال هناية له».اهـ
«وبعض أهل الكشف قال :إهنم خيرجون إىل اجلنة حتى ال يبقى فيها أحد من الناس ألبتة ،وتبقي أبواهبا
تصفق..إلخ» .اهـ
ونقله كالم هؤالء املخالفني لالتفاق من أهل الكشف ال يعني إقراره هلم ورضاه بقوهلم ،بل ال يبعد أن يكون
نقله بيانًا ملخالفتهم ملا هو متفق عليه بني علامء الرسوم وأهل الكشف.
«وهي مسألة عظيمة فيها خالف بني علامء الرسوم من املؤمنني وبني أهل الكشف ،وهي :هل يرسمد العذاب
عىل أهل النار إىل ما ال هناية له؟
وبعض أهل الكشف قال :إهنم خيرجون إىل اجلنة حتى ال يبقى فيها أحد من الناس ألبتة ،وتبقي أبواهبا
تصفق ،وينبت فيها اجلرجري ،وخيلق اهلل هلا ً
أهال يملؤها هبم من مزاجها ،كام خيلق السمك يف املاء..إلخ» .اهـ
الحظت ما ييل:
ه أقول :بعد مقارنة هذا املخترص بالنص املوجود يف العديد من النسخ املطبوعة،
38
منحرصا بني علامء الرسوم من جهة ،وعلامء الكشف من جهة أخرى،
ً ً
أوال :أن هذا االختصار جعل اخلالف
ّ
وكأن علامء الكشف جممعون عىل خمالفة علامء الرسوم يف هذه املسألة ،وليس هناك خالف بني أهل الكشف
أيضا. أنفسهم ،مع ّ
أن النص األصيل رصيح يف اخلالف بني أهل الكشف ً
فقد فهم الربزنجي أن الشيخ ابن عرب ا ّدعى اتفاق أهل الكشف عىل انقطاع العذاب.
نص الشيخ ابن عرب عىل اتفاق اجلميع -علامء الرسوم وأهل الكشف -عىل ّ
أن أهل النار ال خيرجون ثان ًياَّ :
منها ،وأهنم هبا ماكثون إىل ما ال هناية له ،وهذا ما استفاضت نصوصه يف الداللة عليه.
لك ّن الربزنجي ملّا كان غرضه التلفيق بني مذهب ابن عرب ومذهب ابن تيمية ،مل يبال بمخالفة عرشات
النصوص البن عرب ،وال خمالفة االتفاق السابق الذي نقله ابن عرب ،فتشبث بقول بعض أهل الكشف
القائلني بخروج أهل النار إىل اجلنة ،واعترب نق َل ابن عرب هلذا القول ً
إقرارا له ورض به! فقال:
مر أنه قال إن بعض أهل الكشف قال إن النار تنطفئ ،وإنه تنبت فيها اجلرجري ومل ير ّد عليه ،بل أقره،
«وقد ّ
فإن كان هذا البعض هو نفسه ،فهذا الذي فهمنا ،وإن كان غريه فقد ارتضاه ،فتمسك هبذا ،فإنه من سوانح
الغيب وجواذبه ،وباهلل التوفيق» .اهـ
أقول :هكذا يتعسف الشيخ الربزنجي يف فهم كالم ابن عرب ،فيجعل َ
نقل ابن عرب عن بعض أهل الكشف
حاكام عىل عرشات النصوص املحكمة له يف خلود أهل النار فيها ،لك ّن املهم عنده التلفيق بني كالم الرجلني،
ً
ً
متجاهال ما نقله هو نفسه عن الشيخ ابن عرب ،وضار ًبا ببقية بغض النظر عن سالمة طريقته يف التلفيق،
نصوص ابن عرب عرض احلائط!
39
خامتة
وأختم هذا املقال بكالم للشيخ أمحد الغامري ،يظهر فيه سلوكه مسلك صاحب «اجلاذب الغيبي» ،يف
تصحيح كالم ابن تيمية وابن عرب ،لتعلم أثر السكوت عن هذه العقائد الفاسدة واآلراء الكاسدة ،حيث قال
الغامري يف «در الغامم الرقيق» ما نصه:
«فاألمر دائر بني انقالب العذاب عذوبة وذهاب األمل به مع بقاء الصورة ،حتقي ًقا للوعيد ،كام يقول الشيخ
األكرب ،وبني ما يقوله غريه من الفناء ،عىل أن هذا القول قد يرجع إىل قول الشيخ األكرب بأن املراد بالفناء
ذهاب األمل وانقطاع العذاب ،ال صورته التي هي يف احلقيقة عني النعيم ،فالقوالن عندي سواء يف املعنى ،وإىل
ذلك نميل ،وبه ندين اهلل تعاىل» .اهـ
دائرا بني هذين القولني وال يعترب أي قول آخر! أين قول أهل السنة يا أهل
فسبحان اهلل! كيف يكون األمر ً
السنّ َة!
ولئن ّأول الربزنجي كالم ابن عرب ليتوافق مع قول ابن تيمية ،خمال ًفا نصوصهام الرصحيةّ ،
فإن الغامري أ ّول
كالم ابن تيمية وتلميذه ليتوافق مع كالم ابن عرب ،خمال ًفا نصوصهام املحكمة بفناء النار ،فقد سلك الربزنجي
والغامري نفس املسلك يف تطويع النصوص ملا هتواه األنفس ،مع إمهال القواعد العلمية املعروفة يف التأويل
وفهم الكالم.
40
يؤول كالمه ،واعتقده عىل
والحظ نسبة الغامري انقالب العذاب عذوبة البن عرب ،فلم يقل بالدس ،ومل ّ
حقيقته ،وهو من أشد الناس دفاعًا عن ابن عرب.
وقارن قوله« :فالقوالن عندي سواء يف املعنى ،وإىل ذلك نميل» ،بقول الربزنجي« :فالقوالن متقاربان ،بل
مها واحد يف املعنى».
41