You are on page 1of 41

‫قراءة نقدية ف كتاب‬

‫اجلاذب الغيبي إىل اجلانب الغرب يف حل مشكالت‬

‫الشيخ حميي الدين ابن عرب‬

‫نموذجا‬
‫ً‬ ‫مسألة انقالب العذاب عذوبة‬

‫أعدّ ه‪:‬‬

‫عثامن النابليس‬

‫‪1‬‬
‫مقدمة‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم عىل سيدنا حممد خاتم األنبياء واملرسلني‪ ،‬وعىل آله وصحبه وحزبه‬
‫إىل يوم الدين‪ ،‬وبعد‪:‬‬

‫ٍ‬
‫بكتاب ككتاب اجلاذب‬ ‫إن املرء ليعجب من احتفاء بعض اإلخوة املنافحني عن الشيخ ابن عرب وإشادهتم‬
‫الغيبي‪ ،‬مع ما فيه من خمالفات للنصوص الرشعية‪ ،‬وملِا اتفق عليه أهل السنة واجلامعة‪ ،‬يف سبيل االنتصار‬
‫للعقائدة املنتقدة عىل الشيخ ابن عرب‪ ،‬ولو برضب القواعد املستقرة عند أهل السنة‪ ،‬وسلوك مسالك‬
‫التعسف‪ .‬وهي نفس املسالك التي نراها لألسف يف بعض املدافعني عن الشيخ ابن عرب اليوم‪.‬‬

‫فرحا بالكتاب مع اعتقادهم يف خاصة أنفسهم بام فيه‪ ،‬وترصحيهم أمام املأل بام خيالفه من‬
‫وال أدري هل طاروا ً‬
‫باب عدم مناسبة الوقت‪ ،‬كام هو منهج بعض املدافعني عن الشيخ ابن عرب‪ ،‬أم أهنم كمن حيطب ً‬
‫ليال دون‬
‫متييز؟ ولئن كان حاطب الليل قد هُيلك بغفلته األبدان‪ ،‬فإن صنيع هؤالء قد حيلق اإليامن الذي هو مدار نجاة‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫ويف هذا املقال سأبني منهج الكتاب وخمالفته للرشيعة وملذهب أهل السنة‪ ،‬يف مسألة ال زال البحث فيها‬
‫مفتوحا هذه األيام‪ ،‬وهي مسألة انقطاع العذاب احليس‪ ،‬أو انقالب العذاب عذوبة‪ ،‬وليس غريض املناقشة‬
‫ً‬
‫التفصيلية جلميع كالمه يف هذه املسألة‪ ،‬بل سأرضب بعض النامذج لبيان هتافت منهجه‪ ،‬وفساد طريقته يف‬
‫االستدالل‪ ،‬وحماولة تشبثه بكل ما خيدم دفاعه عن قول الشيخ ابن عرب‪ ،‬مهام كان شا ًذا أو ضعي ًفا أو خمال ًفا‬
‫ملذهب أهل السنة‪.‬‬

‫وكتاب «اجلاذب الغيبي» للشيخ حممد رسول الربزنجي هو ترمجة وإعادة ترتيب وزيادات عىل كتاب «اجلانب‬
‫الغرب» للشيخ أيب الفتح الكازروين‪ ،‬الذي كان قد ألفه بالفارسية‪.‬‬

‫وقسمت املقال إىل املطالب اآلتية‪:‬‬


‫‪2‬‬
‫[ املطلب األول‪ :‬تصحيح نسبة انقطاع العذاب احليس البن عريب]‬

‫جزم املؤلف واملرتجم بنسبة هذه العقيدة للشيخ ابن عرب‪ ،‬ومل يقوال بالدس وال التأويل وال التوقف‪ ،‬وقد‬
‫نقل املؤلف من نصوص ابن عرب التي أثبت فيها هذه العقيدة ما زاد عىل مخس وثالثني صفحة من‬
‫املخطوط!‪ ،‬تلك النصوص التي تتضمن استدالله عىل هذه العقيدة بشتى أنواع األدلة‪ ،‬من أقيسة املعقول‬
‫واآليات القرآنية واألحاديث النبوية والكشوفات‪.‬‬

‫نصا للشيخ ابن عرب يف هذه املسألة‪ ،‬يف الفتوحات والرسائل‬


‫وقفت عىل ما يقارب مخسني ً‬
‫ه‬ ‫وكنت قد‬
‫ه‬
‫نصا‪ ،‬إال ّ‬
‫أن مؤلف الكتاب بعد أن ساق مجلة من نصوص‬ ‫نرشت منها ساب ًقا مخسة وعرشين ً‬
‫ه‬ ‫والفصوص‪،‬‬
‫قررها وكررها يف أكثر من سبعني‬ ‫الشيخ ابن عرب‪ ،‬اعرتف بصعوبة استيفائها لكثرهتا‪ّ ،‬‬
‫وأن الشيخ قد ّ‬
‫موض ًعا‪ ،‬قال‪:‬‬

‫«فهذه مجلة من كالم الشيخ ‪-‬قدس رسه‪ -‬يف هذه املسألة‪ ،‬ويعرس استيفاؤها مجيعها‪ ،‬فقد قررها وكررها يف‬
‫نحو سبعني موض ًعا فأكثر»‪ .‬اهـ‬

‫بل نجد املؤلف ال يتوانى يف الر ّد عىل من أنكر نسبتها ونسبة أمثاهلا للشيخ ابن عرب‪ ،‬كام يظهر من ر ّده عىل‬
‫الشيخ الشعراين حينام حلف أن بعض العقائد ليست من كالم ابن عرب‪ ،‬كام يف اليواقيت واجلواهر‪ ،‬فقال‬
‫املؤ ّلف ر ًدا عليه‪:‬‬

‫«وهو عجيب منه!‪ ،‬وخالف الواقع‪ ،‬فإن كل َمن له ذوق يف كالم الشيخ‪ ،‬يعلم أن هذه كلها عباراته‪ ،‬وأهنا‬
‫يدس قدر كراس يف مواضع عديدة يف كالم رجل إمام معروف‪ ،‬له تالمذة حمققون‪،‬‬
‫عىل طبق رشبه‪ ،‬وكيف ّ‬
‫علامء أجالء‪ ،‬مك ّبون عىل تصانيفه مطالعة وقراءة وإقراء‪ ،‬كالصدر القونوي وأرضابه!»‪ .‬اهـ‬

‫‪3‬‬
‫ٍ‬
‫تأكيد عىل نسبة هذه األقوال للشيخ ابن عرب‪ ،‬وجز ٍم بصحتها عنه‪ ،‬وثبوهتا يف كتبه وكتب‬ ‫أقول‪ :‬نحن أمام‬
‫خاصا بنا‪ ،‬بل مؤلف الكتاب يصحح تلك النسبة إىل احلدّ الذي‬
‫أمرا ً‬
‫طالبه وأصحاب مرشبه‪ ،‬فليس هذا ً‬
‫أيضا‪.‬‬
‫هيلجئه للتعجب ممن أنكرها‪ ،‬ويوافقه املرتجم ً‬

‫ومع هذا الكم اهلائل من نصوص الشيخ ابن عرب يف تقرير هذه العقيدة‪ ،‬وما تتضمنه هذه النصوص من‬
‫ألوان االستدالالت والتعليالت‪ ،‬وما فيها من تعدد العبارات والصياغات‪ ،‬وسائر أنواع التأكيدات‪ ،‬والنفي‬
‫واإلثبات‪ ،‬واحلرص والقرص‪ ..‬إلخ طرق البيان والتعبريات‪ ،‬يعرس جدً ا القول بأنّه أراد معنى آخر‪ ،‬أو ّ‬
‫أن مجيع‬
‫خصوصا أهنا متوافقة مع‬
‫ً‬ ‫هذه النصوص املبثوثة يف طول الفتوحات وعرضها‪ ،‬وغريها من كتبه‪ ،‬ليست له‪،‬‬
‫قررها يف عا ّمة كتبه‪.‬‬
‫أصوله التي ّ‬

‫وبني الشيخ الربزنجي مذهب الشيخ ابن عرب فقال‪:‬‬


‫ّ‬

‫«هذا إذا أريد بالعذاب حقيقته التي هو األمل‪ ،‬أما إن أريد به أسبابه من النار واألغالل واحلميم والغساق‬
‫ونحوها‪ ،‬فالشيخ قائل بخلود العذاب هبذا املعنى»‪.‬اهـ‬

‫أي ّ‬
‫أن الشيخ ابن عرب يقول بانقطاع العذاب احلقيقي الذي هو اإلجياع واألمل‪ ،‬مع دوام أسبابه وصورته عىل‬
‫أهل النار‪.‬‬

‫وكون اإلجياع واألمل هو حقيقة العذاب أو الز ًما ذات ًيا له ثابت عند أهل اللغة‪ ،‬قال الراغب‪«:‬وال َع َذ ه‬
‫اب‪ :‬هو‬
‫اإلجياع ّ‬
‫الشديد»‪ .‬اهـ‬

‫وقال اإلمام القرطبي يف بحثه معنى العذاب عند أهل اللغة‪« :‬والعذاب‪ :‬مثل الرضب بالسوط واحلرق بالنار‬
‫والقطع باحلديد‪ ،‬إىل غري ذلك مما يؤمل اإلنسان‪..‬إلخ»‪ .‬اهـ‬

‫وقال الفريوزآبادي‪« :‬وال َع َذاب‪ِ :‬‬


‫اإلجياع الشديد»‪ .‬اهـ‬

‫‪4‬‬
‫ملخصا كالم اللغويني واملفرسين يف معنى العذاب وأصله‪« :‬العذاب‪ :‬األمل‪ ،‬وقد قيل إن‬
‫ً‬ ‫وقال ابن عاشور‬
‫أصله اإلعذاب مصدر «أعذب» إذا أزال العذوبة؛ ألن العذاب يزيل حالوة العيش‪ ،‬فصيغ منه اسم مصدر‬
‫بحذف اهلمزة‪ ،‬أو هو اسم موضع لألمل بدون مالحظة اشتقاق من العذوبة‪ ،‬إذ ليس يلزم مصري الكلمة إىل‬
‫نظريهتا يف احلروف»‪ .‬اهـ‬

‫وهذا يفيدنا الح ًقا يف فهم كالم الشيخ الكازروين والربزنجي‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫[ املطلب الثاين‪ :‬دعوى عدم خمالفة انقطاع العذاب للكتاب والسنة]‬

‫وبعد أن أثبت الكازروين نسبة هذه العقيدة للشيخ ابن عرب‪ ،‬من خالل النصوص املتكاثرة التي ساقها‪ ،‬مل يقم‬
‫ببيان خمالفتها للكتاب والسنة واإلمجاع‪ ،‬ومل يقم بتأويلها؛ ألهنا ال تقبل التأويل ً‬
‫أصال‪ ،‬بل أ ّيد هذه العقيدة‬
‫عقال وال ً‬
‫نقال‪ ،‬وال حتى بوجه من الوجوه!‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫وانترص هلا!‪ ،‬واعتربها مما ال خيالف ً‬

‫تبني لك برسدها أن ما ذهب إليه الشيخ ليس فيه خمالفة للرشع وال للعقل بوجه من الوجوه‪ ،‬فإنه‬
‫«وقد ّ‬
‫متمسك يف ذلك باآليات الفرقانية‪ ،‬واألحاديث النبوية»‪ .‬اهـ‬

‫وقال‪« :‬وعىل هذا‪ ،‬قول الشيخ ‪-‬قدس رسه‪ :-‬إن عذاب الكفار من العذوبة‪ ،‬حق وصدق‪ ،‬وال يلزم منه كفر‬
‫وال حمذور‪ ،‬ولو استوعبنا كالم الفتوحات لكان جملد ًا عظيم احلجم‪ ،‬وفيام أوردنا كفاية ألرباب الفطانة»‪ .‬اهـ‬

‫وزاد عىل هذه الدعوى ّ‬


‫أن تلك العقيدة من مجلة عقائد الشيخ املوافقة ملذهب أهل السنة‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫«بل عقيدته يف اإلعادة واحلرش والنرش واحلساب وامليزان والرصاط والشفاعة واجلنة والنار‪ ،‬وغري ذلك كله‪،‬‬
‫موافقة ملذهب أهل السنة‪ ،‬ريض اهلل عنه»‪ .‬اهـ‬

‫علمت مذهب الشيخ ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬وأنه موافق للرشع‪ ،‬بل ألهل‬
‫َ‬ ‫وقال الشيخ الربزنجي‪« :‬وإذ قد‬
‫السنة‪..‬إلخ»‪ .‬اهـ‬

‫أقول‪ :‬اتفقت كلمة أعالم أهل السنة عىل إبطال هذه العقيدة‪ ،‬واإلقرار بمخالفتها ألهل السنة‪ ،‬لذلك نرى‬
‫وتأوهلا آخرون لتصبح غري خمالفة للنصوص‬
‫بدسها‪ّ ،‬‬
‫بعضهم ر ّدها عىل الشيخ ابن عرب‪ ،‬وقال بعضهم ّ‬
‫املحكمة‪ ،‬والقول بالدس أو التأويل فرع عن اإلقرار ببطالهنا‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫كل مكلف أن يعتقد أن كل خم َّلد يف النار ال ّ‬
‫يفرت‬ ‫حتى قال اإلمام الدردير يف منهاج الصادقني‪« :‬وجيب عىل ّ‬
‫عنه العذاب‪ ،‬وال خي َّفف عنه‪ ،‬كام هو رصيح القرآن والسنة‪ ،‬وإمجاع املحققني من املسلمني‪ .‬وال تغرت بكالم‬
‫بعض امللحدين الضالني من أن اخللود ليس عىل حقيقته‪ ،‬أو أن املخ َّلد يصري بعد طول املدة يتلذذ بالنار‪ ،‬كام‬
‫يتلذذ أهل اجلنة باجلنة‪ ،‬ولربام نسب هذا امللحده هذه املقال َة لبعض العارفني كسيدي حمي الدين ابن عرب‪،‬‬
‫وهي نسبة باطلة»‪ .‬اهـ‬

‫قرر اإلمام الدردير أن هذه العقيدة خمالفة لرصيح الكتاب والسنة‪ ،‬ولإلمجاع‪ ،‬وجعلها من كالم‬
‫فانظر كيف ّ‬
‫بعض امللحدين الضالني‪.‬‬

‫إال أننا يف هذا الكتاب نجد أنفسنا أمام دعوى خطرية‪ ،‬جتعل هذه العقيدة موافقة للنصوص الرشعية ومذهب‬
‫أهل السنة! ثم تتكلف يف ّيل أعناق املحكامت لتوافق هذه العقيدة‪ ،‬كام سيظهر يف هذا املقال‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫[ املطلب الثالث‪ :‬وجوب اإليمن بانقطاع العذاب احليس عند صاحب الكتاب!]‬

‫مل يكتف الشيخ الربزنجي بتأكيد دعوى املؤلف يف عدم خمالفة هذه العقيدة للكتاب والسنة واإلمجاع‪ ،‬بل‬
‫أوجب قبوهلا واإليامن هبا! فقال‪:‬‬

‫عقال‪ ،‬وأثبت وقوعه ً‬


‫نقال‪ ،‬وكل ما أمكن‬ ‫«وقد مر قري ًبا أن الشيخ ‪-‬قدس رسه‪ -‬أثبت إمكان انقطاع العذاب ً‬
‫ً‬
‫عقال وأخرب به الصادق وجب قبوله واإليامن به‪ ،‬وال سيام وقد ادعى إمجاع أهل الكشف عليه‪ ،‬فيجب قبوله‪،‬‬
‫وكيف وقبول ذلك ال ُيد ركنًا من أركان الرشيعة‪ ،‬بل هو من حماسنها املوافق للرمحة العامة والكرم‪..‬إلخ»‪.‬‬
‫اهـ‬

‫أقول‪ :‬فها هو الشيخ الربزنجي يوجب علينا اإليامن هبذه العقيدة املخالفة للقواطع الرشعية‪ ،‬من الكتاب‬
‫والسنة واإلمجاع‪ ،‬ويزعم ّ‬
‫أن وقوعها ثابت بالنقل!‪ ،‬وسيأيت بيان يشء من هتافت استدالالهتم بالنقل عىل هذه‬
‫العقيدة‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫[ املطلب الرابع‪ :‬استدالل املؤلف بالقرآن عىل انقطاع العذاب احليس]‬

‫بدأ املؤلف بذكر بعض أدلة الشيخ ابن عرب يف انقالب العذاب عذوبة‪ ،‬ليثبت ّ‬
‫أن انقالب العذاب غري خمالف‬
‫للقرآن‪ ،‬فنقل كال ًما للشيخ ابن عرب بمعناه‪ ،‬يتضمن االستدالل عىل عقيدة انقطاع العذاب احليس مع بقاء‬
‫ونص الشيخ ابن عرب هو اآليت‪:‬‬
‫أهل النار يف النار‪ُّ ،‬‬

‫قال يف الفتوحات (‪« :)77/3‬وإن السكنى ألهل النار يف النار ال خيرجون منها‪ ،‬كام قال تعاىل‪« :‬خالِ ِدي َن فِيها»‬
‫يعني يف النار‪ ،‬و«خالِ ِدي َن فِيها» يعني يف اجلنة‪ ،‬ومل يقل «فيه» فرييد العذاب‪ ،‬فلو قال عند ذكر العذاب‪:‬‬
‫«خالدين فيه» أشكل األمر‪ ،‬وملّا أعاد الضمري عىل الدار مل يلزم العذاب‪.‬‬

‫فإن قال قائل‪ :‬فكذلك ال يلزم النعيم كام مل يلزم العذاب‪.‬‬

‫وذ» أي عطاء غري مقطوع‪،‬‬‫قلنا‪ :‬وكذلك كنّا نقول‪ ،‬ولكن ملا قال اهلل تعاىل يف نعيم اجلنة أنه «عطاء غَري جمَ هرذ ٍ‬
‫رَ‬
‫وقال‪« :‬ال َم رق هطوع ٍَة وال َممرنهوع ٍَة» هلذا قلنا باخللود يف النعيم والدار‪ ،‬ومل َي ِرد مثل هذا قط يف عذاب النار‪ ،‬فلهذا‬
‫مل نقل به»‪ .‬اهـ‬

‫حي ِم هل َي رو َم ا رل ِقيا َم ِة ِوزر ر ًا خالِ ِدي َن‬


‫ثم رشع يف الر ّد عىل َمن يستدل عىل خلودهم يف العذاب بقوله تعاىل‪َ « :‬فإِ َّن هه َ ر‬
‫فِ ِ‬
‫يه»‪ ،‬ثم قال‪:‬‬

‫«وما ورد يف العذاب يشء يدل عىل اخللود فيه كام ورد يف اخللود يف النار‪ ،‬ولكن العذاب ال بد منه يف النار‪،‬‬
‫وقد غيب عنا األجل يف ذلك‪ ،‬وما نحن منه من جهة النصوص عىل يقني»‪ .‬اهـ‬

‫أقول‪ :‬إن الشيخ ابن عرب مل يعتمد يف هذه العقيدة عىل الكشف فقط‪ ،‬بل استدل عليها بالنصوص الرشعية‪،‬‬
‫كام يظهر يف هذا النص وغريه‪ ،‬فا ّدعى ّ‬
‫أن خلودهم يف الدارين ‪-‬اجلنة والنار‪ -‬ال يستلزم اخللود يف النعيم وال‬
‫يف العذاب‪ ،‬وملّا د ّلت النصوص األخرى عىل دوام نعيم أهل اجلنة‪ ،‬كقوله تعاىل‪« :‬عطاء غري جمذوذ»‪ ،‬ومل َي ِرد‬

‫‪9‬‬
‫مثل هذا قط يف عذاب النار‪ ،‬لزم اإليامن بدوام نعيم أهل اجلنة دون دوام عذاب أهل النار‪ ،‬هذا ملخص‬
‫استدالله‪.‬‬

‫وهذا االستدالل ضعيف جدً ا‪ ،‬ال يقوم عىل قدم وساق‪ ،‬وقد أبطله اإلمام السبكي يف ر ّده عىل ابن تيمية‪ ،‬لكن‬
‫ال بأس بذكره بعض الوجوه املخترصة يف ر ّده‪ ،‬كام ييل‪:‬‬

‫قال الشيخ ابن عرب‪« :‬فلو قال عند ذكر العذاب‪( :‬خالدين فيه) أشكل األمر»‪.‬‬

‫وقال‪« :‬وما ورد يف العذاب يشء يدل عىل اخللود فيه»‪ .‬اهـ‬

‫أيضا‪ ،‬كام يف قوله تعاىل‪( :‬إِ َّن‬


‫أوال‪ :‬هذا خمالف لرصيح القرآن‪ ،‬بل ورد يف القرآن خلودهم يف العذاب ً‬ ‫أقول ً‬
‫ون ۝) [الزخرف‪-74 :‬‬ ‫رت عَنۡ ههمۡ َو ههمۡ فِي ِه همبۡلِ ه‬
‫س َ‬ ‫ون ۝ َال هي َف َّ ه‬‫اب َج َهَّن َم َخـٰلِده َ‬‫ٱلۡهمجۡ ِر ِمنيَ فِی ع ََذ ِ‬

‫ون) [املائدة‪.]80 :‬‬ ‫اب هه رم َخالِده َ‬


‫(و ِيف ا رل َع َذ ِ‬
‫‪ ،]75‬وقوله تعاىل‪َ :‬‬

‫وثان ًيا‪ :‬لو سلمنا عدم وجود آيات فيها لفظ «اخللود» يف العذاب‪ ،‬إال أ ّن آيات كثرية د ّلت عىل خلودهم يف‬
‫﴿و َما هه رم بِ َخ ِار ِجنيَ ِمن َرها َو َهل ه رم‬
‫العذاب بغري ألفاظ اخللود‪ ،‬كاآليات الدالة عىل أن عذاهبم مقيم‪ ،‬قال تعاىل‪َ :‬‬
‫اب َو َال ههمۡ‬ ‫ف عَنۡ هه هم ٱلۡع ََذ ه‬ ‫﴿خـٰلِ ِدي َن فِي َها َال ه َ‬
‫خي َّف ه‬ ‫ع ََذاب هم ِقيم﴾‪ ،‬وأن عذاهبم ال خيفف‪ ،‬قال تعاىل‪َ :‬‬
‫ون﴾‪ ،‬وأن عذاهبم يف ازدياد‪ ،‬قال تعاىل‪َ ﴿ :‬ف هذو هقوا َف َلن ن َِّزيدَ ك رهم ِإ َّال ع ََذا ًبا﴾‪ ..‬إلخ تلك اآليات‪.‬‬ ‫هين َظ هر َ‬

‫وثال ًثا‪ :‬لو مل ِ‬


‫يأت دليل عىل دوام العذاب احليس عىل أهل النار‪ ،‬لكانت النصوص الدالة عىل خلودهم يف النار‬
‫وتصور خلودهم فيها مع تلذذهم‬
‫ّ‬ ‫كافية للداللة عىل خلودهم يف العذاب؛ ألن النار هي دار العذاب ً‬
‫أصال‪،‬‬
‫وتن ّعمهم خمالف ملا سيقت له اآليات من التهديد والوعيد‪ ،‬ولذا نجد العالمة اآللويس‪ ،‬وهو وإن كان من‬
‫املحبني البن عرب عمو ًما‪ ،‬إال أنه مل يملك نفسه من الرد عىل ما خيالف الدالالت الرشعية املعتربة‪ ،‬نجده‬
‫يقول‪« :‬واألخذ بظواهر هذه العبارات النافية للخلود يف العذاب‪ ،‬وتأويل النصوص الدالة عىل اخللود يف‬
‫جي ُّر‬
‫النار بأن يقال‪ :‬اخللود فيها ال يستلزم اخللود يف العذاب جلواز التنعم فيها‪ ،‬وانقالب العذاب عذوبة‪ ،‬مما َ ه‬
‫إىل نفي األحكام الرشعية‪ ،‬وتعطيل النبوات‪ ،‬وفتح باب ال يسد»‪ .‬اهـ‬

‫‪10‬‬
‫وأما التعليق عىل االستدالل بقوله تعاىل‪« :‬عطاء غَري جمَ هرذ ٍ‬
‫وذ» يف أهل اجلنة دون أهل النار‪ ،‬فقد تك ّلم عليه‬ ‫رَ‬ ‫ّ‬
‫فصل فيه شيخنا السعيد ‪-‬حفظه اهلل‪ -‬يف كتابيه‪ :‬أصحاب النار‬
‫اإلمام السبكي يف رسالته املشهورة‪ ،‬وقد ّ‬
‫ومصريهم‪ ،‬والرد عىل د‪.‬عدنان إبراهيم‪ ،‬فلن أذكره خشية إطالة املقال‪.‬‬

‫فنحن أمام استدالالت عقلية ونقلية للشيخ ابن عرب يف إثبات عقيدته يف انقطاع العذاب احليس‪ ،‬وليست‬
‫عقيدة مبنية عىل الكشف فقط‪ ،‬ولذا قال الشيخ الربزنجي‪:‬‬

‫«قد استدل الشيخ ‪-‬قدس رسه‪ -‬عىل مذهبه‪ ،‬بعد أن أثبت اإلمكان العقيل والوقوع الكشفي املتفق عليه من‬
‫أهل الكشف‪ ،‬كام مر نقله‪ ،‬بأدلة من العقل والنقل‪ ،‬بل يف احلقيقة ما استدل إال بالنقل‪ ،‬ملا ذكر أن العمدة يف‬
‫األمور األخروية النصوص‪ ،‬أحدها‪ :‬قوله تعاىل يف حق أهل النار‪{ :‬خالدين فيها إال ما شاء ربك} يف سورة‬
‫هود‪ ،‬ثانيها قوله تعاىل‪{ :‬قال النار مثواكم خالدين فيها إال ما شاء اهلل} يف األنعام‪ ،‬ثالثها قوله تعاىل‪{ :‬البثني‬
‫فيها أحقابا}‪ ،‬رابعها قوله تعاىل‪{ :‬جزاء وفاقا}‪ ،‬خامسها قوله تعاىل‪{ :‬ورمحتي وسعت كل يشء}‪ ،‬سادسها‬
‫قوله تعاىل‪« :‬سبقت رمحتي غضبي»‪ ،‬رواه مسلم هبذا اللفظ‪..‬إلخ»‪.‬اهـ‬

‫نقلت بعضها يف مقااليت‬


‫يالحظ من نصوص ابن عرب التي نقلها صاحب الكتاب‪ ،‬ونصوصه التي ه‬
‫أقول‪َ :‬‬
‫السابقة‪ ،‬أنه جعل النصوص العامة يف االستثناء‪ ،‬والنصوص العامة يف كرم اهلل تعاىل وسبق الرمحة وسعتها‪،‬‬
‫جعلها قاضية وحاكمة عىل اآليات املحكمة اخلاصة يف خلود العذاب احليس‪ ،‬وسلك ابن تيمية وتلميذه نفس‬
‫هذا املسلك‪ ،‬وتبعهم بعد ذلك خلق كثري‪ ،‬وال خيفى فساد هذه الطريقة من االستدالل عند أهل السنة‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫[ املطلب اخلامس‪ :‬تطويع اآليات لتوافق كالم ابن عريب]‬

‫َ‬
‫الشيخ ابن عرب يف القول بعدم ورود يشء من النصوص الرشعية يدل عىل اخللود يف العذاب‪،‬‬ ‫املؤلف‬
‫ه‬ ‫تبع‬
‫بينت بطالن هذه الدعوى يف النقطة السابقة‪ ،‬لك ّن الشيخ الربزنجي‬
‫وكذلك بعض أصحاب مدرسته‪ ،‬وقد ه‬
‫وجد آية تنقض هذه الدعوى‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫«لكن بقي عليه قوله تعاىل يف املائدة‪﴿ :‬ت ََر ٰى كَثِريۡا منۡ ههمۡ َيت ََو َّلوۡ َن ٱ َّل ِذي َن َك َف هرواۡ َلبِئۡ َس َما َقدَّ َمتۡ‬
‫ون﴾‪.‬‬ ‫اب ههمۡ َخـٰلِده َ‬ ‫خ َط ٱل َّل هه َع َلیۡ ِهمۡ َوفِی ٱلۡع ََذ ِ‬
‫َهلمۡ َأن هفسهمۡ َأن س ِ‬
‫َ‬ ‫ه ه‬ ‫ه‬

‫فإن هذا كام ترى نص يف خلودهم يف العذاب‪ ،‬وقد أسند اخللود عليهم‪ ،‬وأثبت الظرفية للعذاب‪ ،‬وأضافها إىل‬
‫لفظ العذاب دون ضمري حتى حيتمل إعادته إىل غريه‪ ،‬ومل يتعرض الشيخ ‪-‬قدس رسه‪ -‬وال أحد من نارصي‬
‫مذهبه ورشاح كالمه للجواب عنه‪ ،‬ومل يتفطن له األصل ً‬
‫أصال‪ ،‬وال بد من ذكر ما يبديه اهلل تعاىل بحسب‬
‫الوقت‪ ،‬فنقول وباهلل العون‪ .»...‬اهـ‬

‫أقول‪ :‬ملّا كانت هذه اآلية عقبة صعبة أمامه‪ ،‬هتدم دعوى الشيخ ابن عرب و َمن وافقه‪ ،‬مل جيد هبدً ا من ّيل عنقها‬
‫وإرغامها لتوافق كالم الشيخ ابن عرب‪ ،‬فأخذ يورد عليها االحتامالت الواهية‪ ،‬مع اعرتافه ساب ًقا بكوهنا ً‬
‫نصا‬
‫وسأبني هتافت كالمه بإجياز شديد كام ييل‪:‬‬
‫ّ‬ ‫عىل خلودهم يف العذاب‪،‬‬

‫قال الربزنجي‪« :‬أن اآلية نازلة يف اليهود‪ ،‬بدليل قوله تعاىل قبلها‪ ( :‬هلعن الذين كفروا من بني إرسائيل عىل‬
‫لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بام عصوا وكانوا يعتدون) اآلية»‪.‬‬

‫نصت عىل أمرين هلام‬


‫تنص عىل خلودهم يف العذاب بآية سابقة‪ ،‬واآلية السابقة ّ‬
‫أقول‪ :‬إذن‪ ،‬ربط اآلية التي ّ‬
‫مدخلية مهمة يف تفسري العذاب امله َخ َّلد عليهم‪ ،‬األمر األول‪ :‬وقوع اللعنة عليهم‪ ،‬واللعنة هي الطرد واإلبعاد‬
‫من الرمحة‪ ،‬واألمر الثاين‪ :‬أن هؤالء القوم كفار وليسوا بمؤمنني‪ ،‬والذي يدل عىل هذين األمرين قوله تعاىل يف‬
‫اآلية السابقة‪ ( :‬هلعن الذين كفروا من بني إرسائيل)‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫ثم قال الشيخ الربزنجي‪:‬‬

‫كثريا من اليهود يتولون املنافقني‪،‬‬


‫«واملراد بالذين كفروا يف قوله‪( :‬يتولون الذين كفروا) املنافقون‪ ،‬يعني ترى ً‬
‫(رض َب رت َع َل ري ِه هم الذ َّل هة َأ ري َن‬
‫وحينئذ فال خيلو إما أن يكون املراد بالعذاب‪ :‬عذاب الدنيا‪ ،‬املذكور يف قوله تعاىل‪ :‬ه ِ‬

‫ب ِم َن اهللَِّ)‪ ،‬أو‪ :‬عذاب اآلخرة‪.‬‬


‫َما هث ِق هفوا‪َ ...‬و َبا هءوا بِ َغ َض ٍ‬

‫فإن كان األول [أي عذاب الدنيا]‪ ،‬فاملراد باخللود هو خلود يف احلياة الدنيا‪ ،‬بمعنى أهنم ما دامت الدنيا‪،‬‬
‫فالذل واملسكنة والغضب ال يفارقهم‪ ،‬واخللود هبذا املعنى يزول بزوال الدنيا‪ ،‬كام قاله الشيخ ‪-‬قدس رسه‪-‬‬
‫يف محل األوزار يوم القيامة‪ ،‬وقد مر»‪ .‬اهـ‬

‫ون﴾ عىل العذاب الدنيوي ت ّكلف‬ ‫﴿وفِی ٱلۡع ََذ ِ‬


‫اب ههمۡ َخـٰلِده َ‬ ‫إن َمح َرل العذاب الوارد يف قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫أقول‪ّ :‬‬
‫تفسريا تقري ًبا فلم أجد يف يشء منها تفسري العذاب هنا بالعذاب الدنيوي‪ ،‬ومما‬
‫ً‬ ‫راجعت أربعني‬
‫ه‬ ‫ظاهر‪ ،‬وقد‬
‫ّ‬
‫يدل عىل فساد محل العذاب يف هذه اآلية الوجوه اآلتية‪:‬‬

‫الوجه األول‪ :‬أن األصل يف اخللود هو الثبات والدوام من غري عروض فساد‪ ،‬وهذا هو الالئق‬ ‫•‬
‫باآلخرة ال بالدنيا‪ ،‬قال ابن فارس‪(« :‬خلد) اخلاء والالم والدال أصل واحد‪ ،‬يدل عىل الثبات واملالزمة»‪ .‬اهـ‬

‫خل رلده ‪ :‬دوا هم البقاء»‪ .‬اهـ‬


‫وقال اجلوهري‪« :‬ا ه‬

‫وقال الراغب‪« :‬اخللود‪ :‬هو تربي اليشء من اعرتاض الفساد‪ ،‬وبقاؤه عىل احلالة التي هو عليها»‪ .‬اهـ‬

‫وقال اإلمام السبكي‪« :‬وحقيقة اخللود التأبيد»‪ .‬اهـ‬

‫ربيه من اعرتاض الفساد‪.‬‬


‫فاألصل أن حيمل اخللود يف العذاب عىل اخللود األخروي‪ ،‬لدوامه وثباته وت ّ‬

‫الوجه الثاين‪ :‬أنه َمح ََل العذاب الدنيوي عىل العذاب الوارد يف سورة آل عمران‪ ،‬ومتام اآلية ّ‬
‫يبني أن‬ ‫•‬
‫«رض َب رت َع َل ري ِه هم الذ َّل هة َأ ري َن َما‬
‫ائام عليهم يف الدنيا من غري اعرتاض فساد‪ ،‬قال تعاىل‪ :‬ه ِ‬
‫هذا العذاب ليس ثابتًا د ً‬

‫‪13‬‬
‫رض َب رت َع َل ري ِه هم املرَ رس َكنَ هة َذلِ َك بِ َأ َّهنه رم كَانهوا‬
‫ب ِم َن اهللَِّ َو ه ِ‬ ‫هث ِق هفوا إِ َّال بِ َح رب ٍل ِم َن اهللَِّ َو َح رب ٍل ِم َن الن ِ‬
‫َّاس َو َبا هءوا بِغ ََض ٍ‬
‫ِ‬ ‫ون راألَنربِ َيا َء بِغ ر ِ‬ ‫ون بِآي ِ‬
‫ون»‪.‬‬ ‫َص روا َوكَانهوا َي رعتَده َ‬ ‫َري َح ٍّق َذل َك بِ َام ع َ‬ ‫ات اهللَِّ َو َي رق هت هل َ‬ ‫َي رك هف هر َ َ‬

‫نصت اآلية ّ‬
‫أن الذلة مرضوبة عليهم‪ ،‬واستثنت حالة تلبسهم بعهد من اهلل تعاىل أو بعهد من الناس‪ ،‬وهذا‬ ‫فقد ّ‬
‫يدل عىل ّ‬
‫أن وقوع الذلة عليهم ليس خالدً ا ال يعرتيه انقطاع ما دامت الدنيا‪ ،‬بل يتخلله فرتات تنقطع عنهم‬
‫الذلة فيها‪ ،‬فلزم أن يكون العذاب اخلالد عليهم هو العذاب األخروي‪ ،‬قال البيضاوي‪:‬‬

‫وذ َّم ِة‬


‫وال ّإال معت َِص ِمنيَ أو م رلتَبِ ِسنيَ بِ ِذم ِة اهللَِّ‪ ،‬أو كِتابِ ِه ا َّل ِذي آتاهم‪ِ ،‬‬
‫ر‬ ‫َّ‬ ‫ر ه‬ ‫هر‬ ‫األح ِ‬ ‫ِ‬
‫رض َب رت َع َل ري ِه هم الذ َّل هة يف عا َّمة ر‬
‫«أي ه ِ‬
‫ر‬
‫امله رسلِ ِمنيَ »‪ .‬اهـ‬

‫الوجه الثالث‪ّ :‬‬


‫أن اآلية رتّبت اخللود يف العذاب عىل لعنهم وكفرهم املذكور يف اآلية السابقة‪،‬‬ ‫•‬
‫واملناسب لطردهم من رمحة اهلل تعاىل وكفرهم هو العذاب األخروي ال جمرد وقوع الذلة يف الدنيا‪ ،‬قال اإلمام‬
‫صاروا إ َل ري ِه‬ ‫اآلخ َر ِة زا ًدا‪ ،‬و َذ َّم هه بِأ رب َل ِغ َّ‬
‫الذم‪َ ،‬ذك ََر ما ه‬
‫ون) ملَّا َذكَر ما َقدَّ موا إىل ِ‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫ذاب هم َخـالِده ِ‬ ‫أبو حيان‪ِ :‬‬
‫«(ويف ال َع ِ‬
‫ون فِ ِ‬
‫يه»‪ .‬اهـ‬ ‫وأهنم خالِده َ‬
‫ذاب َّ‬
‫وهو ال َع ه‬

‫أيضا خلودهم يف العذاب‬


‫الوجه الرابع‪ :‬وقوع العذاب الدنيوي عليهم من الذلة واملسكنة ال ينايف ً‬ ‫•‬
‫األخروي‪ ،‬قال البقاعي‪{« :‬أن سخط اهلل} أي وقع سخطه بجميع ما له من العظمة {عليهم}‪ ،‬وملا كان من‬
‫وقع السخط عليه يمكن أن يزول عنه‪ ،‬قال مبينًا أن جمرد وقوعه جدير بكل هالك‪{ :‬ويف العذاب} أي الكامل‬
‫من األدنى يف الدنيا واألكرب يف اآلخرة {هم خالدون}»‪.‬‬

‫ثم قال الشيخ الربزنجي‪:‬‬

‫أيضا‪ ،‬كام يدل عليه ما‬


‫«وإن كان الثاين [أي عذاب اآلخرة] فإما أن تكون اآلية عامة بحيث تشمل الفساق ً‬
‫رواه ابن أب حاتم واخلرائطي وابن مردويه والبيهقي ‪-‬وضعفه‪ -‬عن حذيفة ‪-‬ريض اهلل عنه‪ -‬أنه ﷺ قال‪( :‬يا‬
‫معرش املسلمني‪ ،‬إياكم والزنا‪ ،‬فإن فيه ست خصال‪ ،‬ثالثة يف الدنيا وثالثة يف اآلخرة)‪ ،‬وقال يف األخروية‪:‬‬
‫(سخط اهلل‪ ،‬وسوء احلساب‪ ،‬واخللود يف النار)‪ ،‬ثم تال رسول اهلل ﷺ‪{ :‬لبئس ما قدمت هلم أنفسهم} اآلية‪،‬‬

‫‪14‬‬
‫فاخللود حينئذ ليس املراد به األبد باتفاق أهل السنة‪ ،‬إذ مل يقولوا بخلود الزناة يف النار‪ ،‬فاملراد باخللود املكث‬
‫الطويل‪ ،‬نظري ما قالوا به يف قاتل النفس‪.‬‬

‫أو تكون خاصة أريد هبا اليهود خاصة أو مطلق الكفار‪ ،‬وحينئذ فاجلواب من وجهني‪ »..‬اهـ‬

‫أقول‪ :‬إن األصل يف اخللود الوارد يف آية قتل النفس هو حقيقته‪ ،‬وهو الدوام بال انقطاع‪ ،‬وعليه فإن األصل‬
‫محلها عىل قاتل النفس الكافر‪ ،‬لكن ملّا د ّلت بعض األدلة عىل شموهلا لقاتل النفس املؤمن‪ ،‬واملؤمن ال خيلد يف‬
‫العذاب عند أهل السنة لألدلة املتواترة‪ ،‬محل بعض املفرسين اخللود فيها عىل معنى املكث الطويل‪ ،‬بخالف‬
‫اآلية حمل البحث‪ ،‬فاحلديث املذكور مع ضعفه ال يكفي إلخراج معنى اخللود عن حقيقته‪ ،‬وال كون العذاب‬
‫ً‬
‫شامال للكافر والفاسق‪ ،‬ال سيام والعذاب الوارد فيها مرتتب عىل اللعنة والكفر‪ ،‬فظهر الفرق بني اآليتني‪.‬‬ ‫فيها‬

‫عىل أنّا لو قلنا بشمول العذاب فيها للكافر والفاسق‪ ،‬مل يكن هذا ً‬
‫دليال عىل محل اخللود فيها عىل املكث‬
‫الطويل‪ ،‬بل حيمل يف حق الكافر عىل حقيقته وهو التأبيد‪ ،‬وحيمل يف حق املؤمن عىل جمازه وهو املكث‬
‫الطويل‪ ،‬ويكون هذا من استعامل اليشء يف حقيقته وجمازه م ًعا‪.‬‬

‫ثم قال الربزنجي‪:‬‬

‫«أو تكون خاصة أريد هبا اليهود خاصة أو مطلق الكفار‪ ،‬وحينئذ فاجلواب من وجهني‪:‬‬

‫يها‪ ...‬إِ َّال َما َشا َء َر ُّب َك}‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يها زَ فري َو َش ِهيق * َخالدي َن ف َ‬
‫أحدمها‪ :‬أن هذا مطلق‪ ،‬وقوله تعاىل يف هود‪َ { :‬هل ه رم ف َ‬
‫مقيد‪ ،‬فيحمل املطلق عىل املقيد‪.‬‬

‫بيانه‪ّ :‬‬
‫أن كوهنم يف النار يف حال كوهنم هلم فيها زفري وشهيق هو عذاهبم‪ ،‬فكأنه تعاىل قال‪ :‬خالدين يف العذاب‬
‫إال ما شاء اهلل‪ ،‬فكأن اخللود يف العذاب مقيد باملشيئة‪ ،‬فلم تكن اآلية ً‬
‫دليال عىل ترسمد العذاب‪.‬‬

‫الثاين‪ :‬أن غاية هذا أنه وعيد‪ ،‬وقد مر جواز إخالف الوعيد‪ ،‬بل وجوبه عليه تعاىل»‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫أقول‪ :‬استدل يف هذا النص بدليلني أوهى من بيت العنكبوت‪ ،‬وهذا االستدالل بعينه هو استدالل ابن تيمية‬
‫وابن القيم عىل فناء النار‪ ،‬وقد انترص الشيخ الربزنجي لقوهلام أيام انتصار‪ ،‬وسيأيت اعتامده قوهلام والتوفيق بينه‬
‫وبني قول ابن عرب‪.‬‬

‫واالستدالل هبذين الوجهني فاسد ملا ييل‪:‬‬

‫َّار َهلم فِيها زَ فِري و َش ِهيق * َخالِ ِدين فِيها ما دام ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫َ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫أوال‪ :‬إن قوله تعاىل يف سورة هود‪َ « :‬ف َأ َّما ا َّلذي َن َش هقوا َففي الن ِ ه ر َ‬ ‫ً‬
‫ات َو راألَ رر هض إِ َّال َما َشا َء َر ُّب َك إِ َّن َر َّب َك َف َّعال َملِا هي ِريده »‪ ،‬دال عىل خلودهم يف النار‪ ،‬أل ّن تعليق اخللود عىل‬
‫الس َام َو ه‬
‫َّ‬
‫املشيئة ال حيدّ د تلك املشيئة بكوهنا متعلقة بخروجهم من العذاب‪ ،‬فقد يشاء اهلل تعاىل خلودهم فيه وقد يشاء‬
‫خروجهم منه‪ ،‬لكن ملّا د ّلت اآليات املحكامت عىل مشيئة اهلل تعاىل ختلدُيم يف العذاب‪ ،‬قطعنا بنفي تعلق‬
‫املشيئة بخروجهم من العذاب‪ ،‬قال السبكي‪« :‬أو أنه استثناء معلق باملشيئة‪ ،‬وهو ال يشاء خروجهم‪ ،‬فهو أبلغ‬
‫يف التأبيد [‪ ]...‬وقوله يف النار‪( :‬إن ربك فعال ملا يريد) يناسب الوعيد والزيادة يف العذاب‪ ،‬وال يناسب‬
‫االنقطاع»‪.‬‬

‫يها» ٌّ‬ ‫ِِ ِ‬


‫دال عىل ترسمد العذاب بال انقطاع كام سبق‪ ،‬وقوله‪( :‬ما دامت الساموات‬ ‫ثان ًيا‪ :‬قوله تعاىل‪َ « :‬خالدي َن ف َ‬
‫أيضا‪ ،‬قال اإلمام ابن جزي‪« :‬فيه وجهان‪ :‬أحدمها‪ :‬أن يراد به‬ ‫األورض) ٌّ‬
‫دال عىل ترسمد العذاب بال انقطاع ً‬
‫سموات اآلخرة وأرضها‪ ،‬وهي دائمة أبد ًا‪ ،‬واآلخر‪ :‬أن يكون عبارة عن التأبيد‪ ،‬كقول العرب‪ :‬ما الح‬
‫ٰ‬
‫كوكب‪ ،‬وما ناح احلامم‪ ،‬وشبه ذلك مما يقصد به الدوام»‪.‬‬

‫فاحلكم املث َبت يف هاتني اجلملتني من اآلية هو التأبيد يف عذاب النار‪ ،‬ومعلوم ّ‬
‫أن االستثناء ال ينفي احلكم‬
‫الثابت قبله وال يرفعه‪ ،‬بل خيرج بعض األفراد من هذا احلكم‪ ،‬فلو كان االستثناء يف اآلية ً‬
‫داال عىل عدم ترسمد‬
‫العذاب‪ ،‬لعاد عىل احلكم السابق باإلبطال‪ ،‬وهذا ال يصح‪.‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬إن من أعجب ما يف كالمه ‪-‬وما أكثر عجائبه‪ -‬زعمه ّ‬


‫أن خلف الوعيد يف حق الكفار واجب! قال‪:‬‬

‫«الثاين‪ :‬أن غاية هذا أنه وعيد‪ ،‬وقد مر جواز إخالف الوعيد‪ ،‬بل وجوبه عليه تعاىل» اهـ‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫وهذا خمالف التفاق أهل السنّة‪ ،‬بل إلمجاع املسلمني ‪-‬كام سيأيت‪ -‬عىل امتناع خلف الوعيد يف حق الكفار‪،‬‬
‫وسيأيت الكالم فيه‪.‬‬

‫وأ ٌقول بعد البيان املخترص لفساد جوابه عن اآلية السابقة‪:‬‬

‫ليست هذه اآلية الوحيدة التي تدل عىل خلودهم يف العذاب بلفظ (اخللود)‪ ،‬بل هناك آيات أخرى تنص عىل‬
‫اخللود يف العذاب‪ ،‬ولئن حاول الربزنجي تطويع اآلية السابقة لكالم الشيخ ابن عرب‪ ،‬لتصبح دا ّلة عىل‬
‫اخللود يف العذاب الدنيوي ما بقيت الدنيا‪ ،‬ومراده بالعذاب الدنيوي الذلة واملسكنة‪ ،‬أو ّ‬
‫أن هذا العذاب لو‬
‫كان أخرو ًيا فيجب انقطاعه‪ ،‬فأنّى له أن يلوي عنق اآليات اآلتية املحكمة يف كون العذاب املخ ّلد هو العذاب‬
‫قيال‪( : -‬إِ َّن‬
‫فضال عن أن ينقطع! قال تعاىل ‪-‬ومن أصدق من اهلل ً‬ ‫األخروي‪ ،‬الذي ال خيفف عنهم ً‬
‫ون ۝) [الزخرف‪-74 :‬‬ ‫س َ‬‫رت عَنۡ ههمۡ َو ههمۡ فِي ِه همبۡلِ ه‬ ‫ِ‬ ‫ٱلۡهمجۡ ِر ِمنيَ فِی ع ََذ ِ‬
‫اب َج َهَّن َم َخـٰلده و َن ۝ َال هي َف َّ ه‬
‫‪.]75‬‬

‫يفرت عنهم ً‬
‫فضال‬ ‫فهذه آية تنص عىل خلودهم يف العذاب‪ ،‬وأن هذا العذاب هو العذاب األخروي‪ ،‬وأنه ال ّ‬
‫عن أن ينقطع‪ ،‬وهم مبلسون آيسون من النجاة منه‪.‬‬

‫خي هلدر فِ ِ‬
‫اب َي رو َم ا رل ِق َيا َم ِة َو َ ر‬ ‫وقال تعاىل‪َ ( :‬و َم رن َي رف َع رل َذلِ َك َي رل َق َأ َثا ًما* هي َضاع ر‬
‫يه هم َهانًا) [الفرقان‪]69:‬‬ ‫َف َل هه ا رل َع َذ ه‬

‫وهذه اآلية نص رصيح يف خلودهم يف العذاب‪.‬‬

‫يها ِه َي َح رس هب هه رم َو َل َعن هَه هم اهللَّه َو َهل ه رم‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬


‫وقال تعاىل‪َ ( :‬وعَدَ اهللَّه املرهنَافقنيَ َواملرهنَاف َقات َوا رل هك َّف َار ن ََار َج َهن ََّم َخالدي َن ف َ‬
‫ع ََذاب هم ِقيم) [التوبة‪]68 :‬‬

‫فهذي اآلية رصحية يف خلودهم يف نار جهنم وإقامتهم يف العذاب‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫[ املطلب السادس‪ :‬االعتداد بتفرد ابن تيمية بتصحيح األحاديث التي ختدم مذهبه]‬

‫ا ّدعى املؤلف واملرتجم ‪-‬كام سبق‪ّ -‬‬


‫أن قول الشيخ ابن عرب موافق للكتاب والسنة‪ ،‬وملذهب أهل السنة‬
‫واجلامعة‪ ،‬وقد رأينا يف النقطة السابقة بعض ما اعتمد عليه من اآليات يف هذه الدعوى‪ ،‬ويف هذه النقطة‬
‫سأذكر شيئًا مما اعتمد عليه من السنة‪ ،‬وأبني فساد منهجه يف االستدالل هبذه األحاديث‪ ،‬قال‪:‬‬

‫«ومن أهل السنة قد ذهب إىل أن الكفار بعد األحقاب والقرون العديدة خيرجون من جهنم‪ ،‬وروى حدي ًثا‬
‫عن رسول اهلل ﷺ أنه قال‪« :‬والذي نفيس بيده‪ ،‬ليأتني عىل جهنم زمان تصفق الريح أبواهبا‪ ،‬وينبت يف قعرها‬
‫اجلرجري»‪ ،‬وهذا حديث مشهور‪ ،‬إال أن العلامء ضعفوه‪ ،‬ولكن ابن تيمية قد قواه وصحح إسناده‪ .‬وروى‬
‫حدي ًثا آخر عن عمر ‪-‬ريض اهلل عنه‪ -‬أنه قال‪« :‬أهل جهنم خيرجون منها ولو مكثوا فيها عدد رمل عالج»‪،‬‬
‫وعالج اسم موضع كثري الرمل»‪ .‬اهـ‬

‫أقول‪ :‬إن مقصوده ببعض أهل السنة هنا هو ابن تيمية الذي قال يف ابن عرب ما قال! فهل أصبحت يد املؤلف‬
‫صفرا من األدلة حتى يستنجد بكالم ابن تيمية‪ ،‬وقد ّبني األئمة خمالفته لقواطع الكتاب والسنة وإمجاع‬
‫ً‬
‫املسلمني؟!‬

‫قال اإلمام السبكي يف رده عىل ابن تيمية يف هذه املسألة‪« :‬ولذلك أمجع املسلمون عىل اعتقاد ذلك‪ ،‬وتلقوه‬
‫خل ًفا عن سلف عن نبيهم ﷺ‪ ،‬وهو مركوز يف فطرة املسلمني‪ ،‬معلوم من الدين بالرضورة‪ ،‬بل وسائر امللل‬
‫غري املسلمني يعتقدون ذلك»‪.‬‬

‫تفرد ابن تيمية بذلك يف‬


‫تفرد ابن تيمية بتصحيحه‪ ،‬مع أن ّ‬
‫واملؤلف اعرتف أن العلامء ض ّعفوا احلديث‪ ،‬ونقل ّ‬
‫مسألة خطرية‪ ،‬ال يعني صحة هذه األحاديث يف نفس األمر‪ ،‬وعليه فال جيوز اعتامد تصحيح ابن تيمية‬
‫لالحتجاج باحلديث‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫ٍ‬
‫حديث ال يعني‬ ‫وما احتج به ابن تيمية عىل صحة احلديث ظاهر الفساد‪ ،‬فإن سكوت كبار الرواة عن‬
‫وجزر هم رواي احلديث املرسل ال‬
‫تصحيحه كام ادعى ابن تيمية‪ ،‬بل قد يقال‪ :‬إن سكوهتم عنه لظهور بطالنه‪َ ،‬‬
‫يضا‪ ،‬بل اجلزم تدليس‪ ،‬وهو علة أخرى يف احلديث!‬
‫يدل عىل صحة احلديث أ ً‬

‫وقد ض ّعف اإلمام السبكي هذه األحاديث‪ ،‬وقال عن أحدها‪« :‬ولو صح همحِل عىل طبقة العصاة»‪ .‬اهـ‬

‫فهذه هي املنهجية العلمية التي سلكها صاحب «اجلاذب الغيبي»‪ ،‬يف تل ّقف أي قول يسعفه يف الدفاع عن‬
‫عقيدة الشيخ ابن عرب‪ ،‬دون التحقق والتفتيش عن صحته وسالمة داللته عىل املطلوب‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫[املطلب السابع‪ :‬التشكيك ف حجية اإلمجاع كم يقول به أهل السنة]‬

‫علمت مذهب الشيخ‬


‫َ‬ ‫ا ّدعى املؤلف أن قول الشيخ ابن عرب يف هذه املسألة موافق ألهل السنة‪ ،‬فقال‪« :‬وإذ قد‬
‫‪-‬رمحه اهلل‪ -‬وأنه موافق للرشع بل ألهل السنة»‪.‬اهـ‬

‫لكنّه بعد أن استدل بعدد من نصوص القرآن والسنة يف تأييد هذه العقيدة‪ ،‬وقد أطلعناك عىل يشء من فساد‬
‫حجية اإلمجاع املعترب عند أهل السنة‪ ،‬حتى هيسقط اإلمجاع املتواتر يف خلود‬
‫استدالالته‪ ،‬أخذ يشكك يف ّ‬
‫العذاب عىل الكفار‪ ،‬ويبقى قول الشيخ ابن عرب ساملًا من خرق اإلمجاع‪.‬‬

‫وقبل أن أسوق كالمه ال بد من التنبيه إىل ّ‬


‫أن اإلمجاع حجة قطعية‪ ،‬ال سيام يف مسألة مستندها قطعي كهذه‬
‫حجيته‪ ،‬فال ختتص‬ ‫املسألة‪ّ ،‬‬
‫وأن اإلمجاع حجة يف مجيع األحكام العملية واالعتقادية التي ال تتوقف عليها ّ‬
‫حجية اإلمجاع باألحكام العملية‪ ،‬إذ يصح االحتجاج باإلمجاع عىل هذه املسألة اتفا ًقا‪ّ ،‬‬
‫وأن إمجاع كل عرص‬ ‫ّ‬
‫حجة‪ ،‬وحجية اإلمجاع ليست مقصورة عىل الصدر األول‪ ،‬وأن اإلمجاع عىل خلود الكافرين يف العذاب مل يزل‬
‫ً‬
‫منقوال خل ًفا عن سلف‪ ،‬حتى قال الباقالين ّ‬
‫أن نفوذ الوعيد يف الكفار واستغراقه جلميعهم معلوم من الدين‬
‫بالرضورة‪ ،‬منقول بالتواتر‪ ،‬وأصبحت هذه العقيدة جز ًءا من املنظومات االعتقادية عند املسلمني ينشدها‬
‫الصغار والكبار‪ ،‬قال يف جوهرة التوحيد‪:‬‬

‫حق أوجدت كاجلنة * فال متل جلاحد ذي جنة‬


‫«والنار ّ‬

‫والشقي * ّ‬
‫معذب من ّعم مهام بقي»‪ .‬اهـ‬ ‫للسعيد ّ‬
‫دارا خلود ّ‬

‫لك ّن املؤلف شكّك يف املسائل السابقة املتعلقة باإلمجاع‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫«فإن قيل‪ :‬اإلمجاع منعقد عىل أن عذاب الكفار أبدي‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫قلنا‪ :‬إن أردتم إمجاع عوام األمة فذلك ليس بدليل»‪.‬اهـ‬

‫ومرورا‬
‫ً‬ ‫أقول‪ :‬إن الذين قالوا بانعقاد اإلمجاع هم أئمة أهل السنة عىل مر القرون‪ ،‬من عهد اإلمام األشعري‪،‬‬
‫حيتج أحد بإمجاع عوام األمة يف مثل هذه املسائل‪ ،‬فال‬
‫كثريا‪ ،‬ومل ّ‬
‫بالباقالين والعضد والدردير‪ ،‬وقرونًا بني ذلك ً‬
‫معنى لذكر هذه املعارضة سوى جمرد التشكيك‪.‬‬

‫ثم قال‪:‬‬

‫«أو إمجاع أهل احلل والعقد من جمتهدي األمة؟ فهو حجة‪ ،‬لكن عنه اجلواب بوجهني‪:‬‬

‫أحدمها‪ :‬أنه كام قال اإلمام الرازي وغريه‪ :‬الدليل عىل حجية اإلمجاع سمعي‪ ،‬واألدلة السمعية ال تفيد إال‬
‫الظن‪ ،‬وإذا كان أصل اإلمجاع ظن ًيا فال يفيد إال الظن‪ ،‬واألمور الظنية ال تكون حجة يف االعتقاديات‪.‬‬

‫والوجه الثاين‪ :‬سلمنا أن اإلمجاع مفيد لليقني‪ ،‬لكن وقوعه غري ممكن؛ ألن اإلمجاع املمكن الوقوع الذي يكون‬
‫كفرا إنام هو إمجاع الصدر األول من الصحابة؛ ألهنم كانوا حمصورين معدودين معروفني‪ ،‬وكان حملهم‬
‫خرقه ً‬
‫مكة واملدينة والشام‪ ،‬وأما غري الصدر األول من الصحابة والتابعني فلم يكونوا كذلك‪ ،‬بل كانوا متفرقني يف‬
‫أقطار األرض‪ ،‬فيتعذر وقوع إمجاعهم‪.‬‬

‫متواترا حتى يكون خرقه موج ًبا للكفر‪ ،‬بخالف ما إذا مل يتواتر‬
‫ً‬ ‫وأيضا‪ ،‬فإمجاع الصحابة ال بد أن يكون معناه‬
‫ً‬
‫كفرا‪ ،‬ومل يقع يف ترسمد العذاب إمجاع متواتر املعنى‪.‬‬
‫لفظه أو تواتر لفظه دون معناه‪ ،‬فال يكون خرقه ً‬

‫نعم‪ ،‬عند عوام األمة ترسمد العذاب متفق عليه‪ ،‬وهذا ليس بدليل‪ ،‬واملراد بعوام األمة غري املجتهدين من‬
‫العلامء دون السوقة والدهاقني وأرباب احلرف واألجناد‪ ،‬فإهنم يف مثل هذه املعاقد واملقاعد خارجون من‬
‫دائرة النفي واإلثبات»‪ .‬اهـ‬

‫‪21‬‬
‫قلت‪ :‬فها هو حياول جاهدً ا التشكيك يف اإلمجاع عىل ترسمد العذاب عىل أهل النار‪ ،‬لك ّن تشكيكاته ليست‬
‫ه‬
‫معتربة عند أهل السنة كام سبق‪ ،‬وقد استخدم ابن تيمية هذه التشكيكات قبله‪ ،‬فلعله تلقفها منه‪ ،‬ور ّد اإلمام‬
‫السبكي عىل تشكيكات ابن تيمية بإجياز فقال‪:‬‬

‫«قلت‪ :‬اإلمجاع ال يعرتض عليه بأنه غري معلوم‪ ،‬بل يعرتض بنقل خالف رصيح ومل ينقله‪ ،‬وإنام هو من‬
‫ترصفه وفهمه‪.‬‬

‫وقوله‪ :‬إن هذه املسائل ال يقطع فيها بإمجاع‪ ،‬دعوى جمردة»‪.‬اهـ‬

‫عىل أنّا لو سلمنا ً‬


‫جدال ظن ّية اإلمجاع يف هذه املسألة‪ ،‬مل يكن ذلك مسوغًا ملخالفته‪ ،‬ألن اإلمجاع وإن كان ظن ًيا‬
‫فمخالفته غري مرشوعة‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫[ املطلب الثامن‪ :‬اللجوء إىل شذوذ ابن تيمية إلبطال دعوى اإلمجاع! ]‬

‫سمها ما شئت‪ -‬أن جييب املؤلف عن خمالفة الشيخ ابن عرب لإلمجاع‪ ،‬بام شذ به‬
‫من العجائب أو الطرائف ‪ّ -‬‬
‫ناقضا لذلك اإلمجاع!‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وكأن ابن تيمية سابق عىل ابن عرب حتى يكون قوله ً‬ ‫ابن تيمية من القول بفناء النار‪،‬‬

‫لكن املؤلف بعد ر‬


‫أن شكّك يف اإلمجاع عىل طريقة ابن تيمية‪ ،‬وعجز عن ذكر خالف رصيح أو صحيح يف‬

‫املسألة َق ربل الشيخ ابن عرب‪ ،‬استنجد بشذوذ ابن تيمية يف هذه املسألة‪ ،‬بل ّ‬
‫رصح باعتامده عىل ابن تيمية يف‬
‫تشكيكه يف اإلمجاع‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫«والدليل عىل عدم وقوع اإلمجاع عىل ترسمد العذاب أن شيخ اإلسالم ابن تيمية احلنبيل من كبار حفاظ‬
‫احلديث وأئمة الفقه ومن أهل السنة قد ذهب إىل أن الكفار بعد األحقاب والقرون العديدة خيرجون من‬
‫جهنم [‪ ]...‬وبالغ ابن تيمية يف ذلك مبالغة كلية‪ ،‬وأورد أحاديث غري هذين‪ ،‬ومنع إمجاع األمة عىل ذلك‪ ،‬بل‬
‫رواه عن مجع من فقهاء الصحابة‪ ،‬وعىل هذا منعنا تواتر اإلمجاع بل وقوعه عىل خلود العذاب‪ ...‬إلخ»‪ .‬اهـ‬

‫نقلت ترصيح اإلمام السبكي بمخالفة ابن تيمية لرصيح الكتاب والسنة‪ ،‬وما علم من الدين‬
‫أقول‪ :‬سبق أن ه‬
‫بالرضورة‪ ،‬وأمجع عليه أهل اإلسالم قاطبة‪ ،‬فليس يف خمالفته نقض لإلمجاع الثابت قبله بقرون‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫[املطلب التاسع‪ :‬انتصار الشيخ الربزنجي لقول ابن تيمية بفناء النار]‬

‫قال الشيخ الربزنجي‪:‬‬

‫«وال بأس بنقل مذهب ابن تيمية هنا‪ ،‬وذكر أدلته إمتا ًما للفائدة‪ ،‬فأما كالمه هو فلم أقف عليه‪ ،‬ولكن نقل عنه‬
‫تلميذه احلافظ اجلليل ابن القيم ذلك يف كتابه شفاء العليل عىل سبيل االختصار‪ ،‬وأطال يف االستدالل له يف‬
‫كتابه حادي األرواح إىل دار الفالح»‪ .‬اهـ‬

‫ً‬
‫طويال البن القيم‪ ،‬ثم قال‪:‬‬ ‫ثم ساق كال ًما‬

‫«قد تبني لك أنه ال إمجاع ً‬


‫أصال ال من الصحابة وال ممن بعدهم‪ ،‬إذ كل من قال بفناء النار واجلنة م ًعا فقد قال‬
‫بفناء النار وحدها‪ ،‬وكل من قال بفنائها فقد قال بانقطاع العذاب‪ ،‬وكذلك من قال بموت أهل الدارين‪ ،‬أو‬
‫بموت أهل النار وحدها‪ ،‬فقد قال بانقطاع العذاب‪ ،‬فالشيخ ‪-‬قدس رسه‪ -‬مل خيرق إمجاعًا‪ ،‬ومل يأت ابتداعًا‪،‬‬
‫فضال عن التبديع‪ً ،‬‬
‫فضال عن التكفري‪،‬‬ ‫بل قوله أقرب إىل موافقة اجلمهور من هؤالء‪ ،‬فال تشنيع يتوجه إليه‪ً ،‬‬
‫وباهلل التوفيق الكبري»‪ .‬اهـ‬

‫أقول‪ :‬اسرتاح الشيخ الربزنجي الستدالالت ابن القيم واعتمد عليها‪ ،‬مع ّ‬
‫أن العلامء مل يزالوا ير ّدون عليها‬
‫ويشنّعون عىل قائلها‪ ،‬ويقررون خمالفتها لرصيح الكتاب والسنة وإمجاع األمة‪ ،‬مما دفعه إىل إنكار حصول‬
‫اإلمجاع يف أي عرص من العصور!‬

‫وأنّى له أن ينكراإلمجاع الثابت قبل ابن عرب بكالم ابن تيمية املتأخر عنه؟!‬

‫رصح الربزنجي ّ‬
‫بأن قول ابن تيمية وتلميذه هناية يف التحقيق‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ثم ّ‬

‫‪24‬‬
‫َّ‬
‫«إن ما مشى عليه هذان احلافظان اجلليالن‪ :‬ابن القيم وشيخه ابن تيمية‪ ،‬هناية يف التحقيق‪ ،‬عند َمن صادفته‬
‫العناية وساعده التوفيق»‪.‬اهـ‬

‫أقول‪ :‬فهذه هي األقوال التي ينسبها صاحب «اجلاذب الغيبي» إىل الكتاب والسنة‪ ،‬ومذهب أهل السنة‬
‫واجلامعة‪ ،‬ويزعم أهنا هناية يف التحقيق‪ ،‬انتص ًارا للشيخ ابن عرب‪.‬‬

‫أن الشيخ الربزنجي استعار مجلة من أدلة ابن القيم يف فناء النار ليثبت انقطاع العذاب‪ ،‬مع ّ‬
‫أن هذه‬ ‫ونالحظ ّ‬
‫األدلة مبنية عىل أصول ختالف وتعارض أصول أهل السنة واجلامعة‪.‬‬

‫أن الشيخ الربزنجي حذف كالم ابن القيم يف التعقيب عىل ابن عرب‪ ،‬دون أن يشري إىل ذلك‪ّ ،‬‬
‫فإن ابن‬ ‫ويظهر ّ‬
‫القيم قال عن كالم ابن عرب يف انقالب العذاب وكالم املعتزلة يف ختليد أهل الكبائر‪« :‬والفريقان خمالفان ملا‬
‫علم باالضطرار أن الرسول جاء به‪ ،‬وأخرب به عن اهلل عز وجل»‪ .‬اهـ‬

‫‪25‬‬
‫[ املطلب العارش‪ :‬خمالفة إمجاع أهل السنة ف امتناع خلف الوعيد للكفار]‬

‫أمجع املسلمون عىل ّ‬


‫أن الوعيد يف حق الكفار ال جيوز أن خيلف‪ ،‬قال اإلمام أبو احلسن األشعري‪« :‬وأمجع‬
‫املسلمون أنه ال يغفر وهو الرشك والكفر»‪ .‬اهـ‬

‫وقال السنويس‪« :‬فمذهب مجيع أهل احلق وأهل السنة أن الناس عىل قسمني‪ :‬مؤمن وكافر‪ ،‬فالكافر خملد يف‬
‫النار بإمجاع» اهـ‬

‫كام انعقد اإلمجاع عىل نفوذ الوعيد يف طائفة من العصاة‪ ،‬قال األب‪..« :‬اإلمجاع انعقد عىل أنه ال بد من نفوذ‬
‫الوعيد يف طائفة من العصاة»‪ .‬اهـ‬

‫وقال املناوي‪« :‬واإلمجاع منعقد عىل أنه ال بد إنفاذ الوعيد يف طائفة من العصاة»‪ .‬اهـ‬

‫واختلف أهل السنة يف جواز خلف الوعيد فيام هو دون الكفر‪ ،‬فقال السادة املاتريدية بامتناع ختلف الوعيد‬
‫كام يمتنع ختلف الوعد‪ ،‬وجعلوا نصوص العفو خمصوصة باملؤمن املغفور له‪ ،‬وأجاز السادة األشاعرة اخللف‬
‫يف الوعيد يف حق املؤمن غري املغفور له‪ ،‬مع قوهلم بنفوذ الوعيد يف بعض العصاة غري املغفور هلم‪.‬‬

‫لك ّن الشيخ الربزنجي مل يأبه بإمجاع أهل السنة‪ ،‬حتى استنرص بابن القيم ليثبت جواز خلف الوعيد يف حق‬
‫الكفار‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫«وما نقله ابن القيم عن الشيخ ‪-‬قدس رسه‪ -‬يف الفصوص‪ ،‬و َذكر هه يف مواضع من الفتوحات وغريه‪ ،‬من‬
‫جواز خلف الوعيد‪ ،‬فقد ورد يف األحاديث ما يدل له‪ ،‬فقد روى أبو يعىل يف مسنده‪َ :‬حدَّ َثنَا ههدر َب هة‪َ ،‬حدَّ َثنَا‬
‫َس رب ِن َمالِ ٍك‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َر هس ه‬
‫ول اهللَِّ ﷺ‪َ :‬م رن َوعَدَ هه اهللَّه َع َىل ع ََم ٍل َث َوا ًبا َف هه َو‬ ‫ت‪َ ،‬ع رن َأن ِ‬ ‫سهي هل بن َأ ِب حزر ٍم‪َ ،‬عن َثابِ ٍ‬
‫ر‬ ‫َ‬ ‫ه َر ر ه‬
‫يه بِ ر ِ‬
‫اخل َي ِار»‪.‬اهـ‬ ‫من ِرجزه ه َله‪ ،‬ومن وعَدَ ه ع ََىل عَم ٍل ِع َقابا َفهو فِ ِ‬
‫ً هَ‬ ‫َ‬ ‫ه ه ه َ َ ر َ ه‬

‫‪26‬‬
‫أيضا عند اجلواب عن االستدالل بقوله تعاىل‪( :‬ويف العذاب هم خالدون)‪:‬‬
‫وقال ً‬

‫«وحينئذ فاجلواب من وجهني [‪ ]...‬الثاين‪ :‬أن غاية هذا أنه وعيد‪ ،‬وقد مر جواز إخالف الوعيد‪ ،‬بل وجوبه‬
‫عليه تعاىل‪ ،‬وقد دلت الظواهر املتقدمة والكشف الصحيح عىل أن هذا الوعيد وأمثاله يف حق أهل النار‬
‫خملف»‪ .‬اهـ‬

‫أقول‪ :‬ما استدل به ابن القيم وابن عرب و َمن تبعهم يف جواز خلف الوعيد يف حق الكفار‪ ،‬خمالف ملذهب أهل‬
‫واآليات واألحاديث الواردة يف جواز املغفرة والعفو حممولة عىل غري الرشك؛ ألن النصوص‬ ‫ه‬ ‫السنة كام سبق‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رش َك‬ ‫املحكمة من الكتاب والسنة دا ّلة عىل عدم غفران الكفر والرشك‪ ،‬كام يف قوله تعاىل‪( :‬إ َّن اهللََّ َال َيغرف هر َأ رن هي ر َ‬
‫ون َذلِ َك َملِ رن َي َشا هء)‪ ،‬وقوله تعاىل‪( :‬إِ َّن ا َّل ِذي َن َك َف هروا َو َصدُّ وا َع رن َسبِ ِ‬
‫يل اهللَِّ هث َّم َماتهوا َو هه رم هك َّفار َف َل رن‬ ‫بِ ِه َو َيغ ِرف هر َما هد َ‬
‫اجلنَّ َة َو َم رأ َوا هه الن هَّار َو َما لِل َّظاملِنيَ ِم رن َأن َرص ٍار)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َيغ ِرف َر اهللَّه َهل ه رم)‪ ،‬وقوله تعاىل‪( :‬إِ َّن هه َم رن هي ر ِ‬
‫رش رك بِاهللَِّ َف َقدر َح َّر َم اهللَّه َع َل ريه ر َ‬

‫ات اهللَِّ َولِ َقائِ ِه‬


‫كام د ّلت النصوص عىل أن الكفار حمجوبون عن رمحة اهلل تعاىل‪ ،‬قال تعاىل‪( :‬وا َّل ِذين َك َفروا بِآي ِ‬
‫َ‬ ‫َ ه‬ ‫َ‬
‫(و َر رمحَتِي َو ِس َع رت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هأو َلئ َك َيئ هسوا م رن َر رمحَتي َو هأو َلئ َك َهل ه رم ع ََذاب َأليم)‪ ،‬وأن الرمحة خمتصة باملؤمنني‪ ،‬قال تعاىل‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬

‫هون الزَّ كَا َة َوا َّل ِذي َن هه رم بِآ َياتِنَا هيؤر ِمن َ‬
‫هون)‪.‬‬ ‫يش ٍء َف َس َأ رك هت هب َها لِ َّل ِذي َن َي َّت هق َ‬
‫ون َو هيؤر ت َ‬ ‫ك َّهل َ ر‬

‫يش ٍء} [األعراف‪ ]156 :‬قال احلسن وقتادة‪ :‬إن رمحته‬ ‫ِ ِ‬


‫قال الواحدي يف الوسيط‪َ {« :‬و َر رمحَتي َوس َع رت ك َّهل َ ر‬
‫وسعت يف الدنيا الرب والفاجر‪ ،‬وهو يوم القامة للمتقني خاصة»‪.‬‬

‫وقال يف الوجيز‪« :‬واألحسن يف تفسري هذه اآلية ما ذهب إليه احلسن وقتادة‪ ،»..‬وذكر كالمهام السابق‪.‬‬

‫كام د ّلت اآليات عىل خلودهم يف العذاب‪ ،‬وعدم خروجهم منه‪ ،‬وأن عذاهبم دائم ال ينقطع وال خيفف‪ ،‬وأنه‬
‫يف ازدياد‪ ..‬إلخ النصوص الرصحية القطعية يف عدم خلف الوعيد يف حقهم‪.‬‬

‫ثم استشهد الشيخ الربزنجي بكالم اإلمام الواحدي يف تفسريه الوسيط بجواز خلف الوعيد‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫‪27‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫(و َم رن َي رقت رهل همؤر منًا هم َت َعمدً ا َف َجزَ اؤه هه َج َهن هَّم َخالدً ا ف َ‬
‫يها)‪ :‬األصل يف‬ ‫«وقال الواحدي يف الوسيط يف قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫هذا أن اهلل جيوز أن خيلف الوعيد‪ ،‬وإن كان ال جيوز أن خيلف الوعد [‪ ]...‬والوعيد حقه تعاىل عىل العباد أن‬
‫قال‪ :‬ال تفعلوا كذا فإين أعذبكم ففعلوا‪ ،‬فإن شاء عفا وإن شاء أخذ؛ ألنه حقه‪ ،‬وأوالمها العفو والكرم؛ ألنه‬
‫غفور رحيم‪ ،‬انتهى كالم الواحدي»‪ .‬اهـ‬

‫أقول‪ :‬إن الشيخ الربزنجي ال يألو جهدً ا يف التشبث بأي قول ما دام خيدم معتقده‪ ،‬دون البحث يف صحة‬
‫مها‬
‫القول أو التقيص عن مراد صاحبه‪ ،‬عىل طريقة‪« :‬الغريق يتعلق بقشة»‪ ،‬حتى نقل كالم اإلمام الواحدي متو ً‬
‫جتويزه خلف الوعيد يف حق الكافر‪ ،‬مع ّ‬
‫أن نصوص الواحدي مستفيضة يف امتناع خلف الوعيد يف حق‬
‫الكافر‪ ،‬يف هذا التفسري ويف غريه‪ ،‬كام سبق نقله‪ ،‬ولو رجعنا إىل نص اإلمام الواحدي ً‬
‫كامال لظهر مقصوده‪،‬‬
‫وأ ّنه يعني بالقاتل هنا املؤمن الذي يمكن أن تقبل توبته‪ ،‬فقد قال قبل هذا النص بقليل‪:‬‬

‫«ومذهب أهل السنة‪ :‬أن قاتل املؤمن عمدً ا له توبة؛ أخربنا حممد بن إبراهيم بن حممد بن حييى‪ ،‬أخربنا أبو‬
‫عمرو بن نجيد‪ ،‬أخربنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد اهلل‪ ،‬حدثنا حممد بن عبد اهلل األنصاري‪ ،‬حدثنا هشام بن‬
‫حسان‪ ،‬قال‪ :‬كنا عند حممد بن سريين‪ ،‬فقال له رجل من القوم‪{ :‬ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم}‬
‫[النساء‪ ]93 :‬حتى ختم اآلية‪ ،‬فقال حممد‪ :‬أين أنت من هذه اآلية‪{ :‬إن اهلل ال يغفر أن يرشك به ويغفر ما دون‬
‫ذلك ملن يشاء} [النساء‪ .»]116 :‬اهـ‬

‫وهذا رصيح يف أن املقصود بالقاتل الذي جيوز يف حقه خلف الوعيد هو املؤمن ال الكافر‪.‬‬

‫ولعل الربزنجي اغرت بنقد اإلمام الرازي للواحدي يف هذا املوضع‪ ،‬حيث قال الرازي ر ًدا عىل الواحدي‪:‬‬

‫وهذا َخ َطأ َعظِيم‪َ ،‬ب رل َي رق هر هب ِمن‬ ‫يه َف َقدر َج َّوزَ الك َِذ َب عَىل اهللَِّ‪َ ،‬‬‫ف فِ ِ‬‫« َفإذا َج َّوزَ ‪-‬يعني الواحدي‪ -‬عَىل اهللَِّ اخله رل َ‬
‫وأل َّنه إذا جوزَ ال َك ِذب عَىل اهللَِّ يف الو ِع ِ‬
‫يد‬ ‫ب‪ِ ،‬‬ ‫َن الك َِذ ِ‬ ‫أمج هعوا َعىل أ َّن هه تَعاىل همنَزَّ ه ع ِ‬
‫إن ال هع َقال َء ر َ‬
‫هون هك رف ًرا‪َ ،‬ف َّ‬
‫أن َيك َ‬
‫ر‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ‬ ‫ه‬
‫ض املَ رص َل َح ِة‪ ،‬و َم رع هلوم‬
‫بار لِغ ََر ِ‬
‫واألخ ِ‬‫ر‬ ‫ف يف ال َق َص ِ‬
‫ص‬ ‫جيوزه اخله رل ه‬ ‫ِ‬ ‫ف يف ِ ِ‬
‫الوعيد ك ََرم‪َ ،‬فل َم ال َ ه‬ ‫َ‬ ‫إن اخله رل َ‬ ‫قال‪َّ :‬‬ ‫ِأل رج ِل ما َ‬
‫الرشي َع ِة»‪ .‬اهـ‬‫آن وكهل َّ ِ‬ ‫اب ي رف ِِض إىل ال َّطع ِن يف ال هقر ِ‬
‫ر‬ ‫ر‬ ‫أن َفت َرح َهذا الب ِ ه‬ ‫َّ‬

‫‪28‬‬
‫كامال ل َعلِم يقينًا أنه مل يرد خلف الوعيد يف حق الكفار‪،‬‬
‫أقول‪ :‬ولو رجع الشيخ الربزنجي إىل كالم الواحدي ً‬
‫لكنه يلجأ إىل هذه املنهجية إذا أعوزته احلجة!‬

‫‪29‬‬
‫[ املطلب احلادي عرش‪ :‬خمالفة الربزنجي أهل السنة بقوله بـ«وجوب» خلف الوعيد]‬

‫حاول الشيخ الربزنجي أن يثبت التالزم بني قاعدة العفو وبني جواز خلف الوعيد بطريقة عجيبة‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫«ال يتم مذهب أهل السنة يف جواز العفو عن الذنب ولو مل يتب إال بالقول بجواز خلف الوعيد‪ ،‬وال يغني يف‬
‫ذلك ما قالوا‪ :‬من أنه ال بد من نفوذ الوعيد يف طائفة من كل صنف من العصاة ولو واحد»اهـ‪.‬‬

‫أقول‪ :‬شبهته هنا قريبة من شبهة املعتزلة املشهورة يف إلزام أهل السنة بخلف الوعيد يف حق الكفار‪ ،‬فكأن كأن‬
‫الشيخ الربزنجي استعار هذه الشبهة من كالم املعتزلة‪ ،‬مع ّ‬
‫أن الرد عليها مشهور جدً ا يف الكتب الكالمية‬
‫األساسية ألهل السنة‪.‬‬

‫مر ساب ًقا اختالف أهل السنة يف جواز خلف الوعيد‪ ،‬وأن املاتريدية يمنعونه‪ ،‬مع قوهلم بجواز العفو عن‬
‫وقد ّ‬
‫الذنب‪ ،‬فال تالزم بينهام كام ا ّدعى الربزنجي‪ ،‬وكأن أهل السنة مجيعهم غاب عنهم التالزم بني جواز العفو‬
‫وجواز خلف الوعيد‪ ،‬حتى جاء الشيخ الربزنجي ليكشفه هلم ويلزمهم به!‬

‫ثم إن جواز اخللف ال يعني وجوب وقوعه‪ ،‬وجوازه يف حق املؤمن ال يستلزم جوازه يف حق الكافر حتى‬
‫يستدل بذلك عىل انقطاع عذابه‪.‬‬

‫وبدأ الشيخ الربزنجي باالستدالل عىل التالزم بني جواز العفو وجواز خلف الوعيد‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫«أما األول‪ :‬فألنه تعاىل قد وعد العفو والغفران املطلق فقال‪{ :‬ويعفو عن السيئات}‪ ،‬وقال‪{ :‬إن اهلل يغفر‬
‫الذنوب مجي ًعا إنه هو الغفور الرحيم}‪ ،‬وأمثاهلام‪ ،‬ويدخل يف ذلك مجيع آيات قيد الغفران باملشيئة؛ ألن اخلصم‬
‫يمنع اجلواز مطل ًقا‪ ،‬فإذا جاز مع املشيئة فقد بطل قوله‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫وأيضا‪ ،‬فإنه تعاىل ال يغفر إال باملشيئة‪ ،‬كام أنه ال يفعل شيئًا إال باملشيئة‪ ،‬فالتقييد باملشيئة قيد الزم‪ ،‬وكلام غفر‬
‫ً‬
‫فقد أخلف الوعيد‪ ،‬بل نقول جيب خلف الوعيد وإال لزم خلف الوعد‪ ،‬وهو نقص ال جيوز عىل اهلل‪ ،‬بخالف‬
‫خلف الوعيد فإنه كامل وكرم وفضل‪ ،‬فوجب أن خيلف الوعيد؛ لئال يلزم خلف الوعد الذي وعده يف اآليات‬
‫املتقدمة» اهـ‪.‬‬

‫ف َع رن كَثِ ٍري} [الفاحتة‪.]34 :‬‬ ‫َات} [الشورى‪ .]25 :‬وقوله تعاىل‪َ { :‬و َي رع ه‬ ‫َن السيئ ِ‬
‫أقول‪ :‬إن قوله تعاىل‪َ { :‬و َي رع هفو ع ِ َّ‬
‫هوب َمجِي ًعا} [الزمر‪ .]53 :‬وقوله تعاىل‪َ { :‬وإِ َّن َر َّب َك َل هذو َمغ ِرف َر ٍة لِلن ِ‬
‫َّاس ع ََىل‬ ‫وقوله تعاىل‪{ :‬إِ َّن اهللََّ َيغ ِرف هر ُّ‬
‫الذن َ‬
‫هظ رل ِم ِه رم} [الرعد‪ ]6 :‬وغريها من نصوص العفو واملغفرة‪ ،‬لو سلمنا ّأهنا من باب الوعد وليست من باب‬
‫الوصف‪ ،‬مل يلزم منها خلف الوعيد؛ ألهنا تدل عىل جواز العفو فيام هو حمل للعفو والغفران‪ ،‬وقد اتفق‬
‫حمال للمغفرة‪ ،‬فال تدل هذه اآليات عىل خلف الوعيد‪ً ،‬‬
‫فضال عن وجوب‬ ‫أن الكافر ليس ً‬
‫املسلمون عىل ّ‬
‫وقوعه كام قال الربزنجي‪.‬‬

‫وقوله‪« :‬كلام غفر فقد أخلف الوعيد‪ ،‬بل نقول جيب خلف الوعيد وإال لزم خلف الوعد» غري الزم؛ ألنّا لو‬
‫سلمنا داللة نصوص الوعيد عىل أن كل عاص يعاقب‪ ،‬دون داللتها عىل أن العايص يعاقب يف اجلملة‪،‬‬
‫فنقول‪ :‬إن هذا الوعيد قد خرج منه نحو التائب الذي استوىف رشوط التوبة‪ ،‬وخرج منه َمن تع ّلقت مشيئة اهلل‬
‫تعاىل بعدم نفوذ الوعيد فيه‪ ،‬فتكون نصوص الوعيد خمصصة بإخراج أمثاهلم‪ ،‬فال يتناوهلم الوعيد ً‬
‫أصال‪ ،‬أي‬
‫ّ‬
‫أن هذه النصوص من العام الذي خص منه البعض‪ ،‬فال يلزم خلف الوعيد وال وجوبه‪ ،‬ويظهر أن ال تالزم‬
‫بني عدم خلف الوعيد وخلف الوعد‪.‬‬

‫أيضا‪ :‬ال يلزم من عدم نفوذ الوعيد اخللف بوعد العفو؛ ألن العفو كام يصدق بعدم التعذيب‬
‫ويمكن أن يقال ً‬
‫أيضا بام بعد العذاب ونفوذ الوعيد‪.‬‬
‫ابتداء‪ ،‬يصدق ً‬

‫وبعد أن حاول الشيخ الربزنجي أن يع ّلق العفو عن الذنب بخلف الوعيد‪ ،‬أراد أن ّ‬
‫يبني ّ‬
‫أن إمجاع أهل السنة‬
‫عىل لزوم نفوذ الوعيد يف طائفة‪ ،‬ال يغني يف ذلك‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫‪31‬‬
‫«وأما الثاين ‪ :‬فإنه أوعد كل العصاة؛ ألن قوله‪{ :‬ومن يقتل مؤمنًا}‪{ ،‬ومن يفعل ذلك يلق أثا ًما} وأمثاهلا من‬
‫فعم الوعيده كل فاعل لذلك الذنب‪ ،‬فإذا عفا عن بعضهم‪ ،‬ولو أنفذ الوعيد يف طائفة منهم‪ ،‬فقد‬
‫صيغ العموم‪ّ ،‬‬
‫لزم خلف الوعيد املتعلق بالكل»‪ .‬اهـ‬

‫أقول‪ :‬ال يلزم من عفوه عن بعضهم لزوم خلف الوعيد جلميعهم؛ ّ‬


‫ألن نصوص الوعيد خمصصة بمن مل يتعلق‬
‫به العفو‪ ،‬فهي من العام الذي خص منه البعض كام سبق‪.‬‬

‫ثم إن القول بوجوب خلف الوعيد للكل خمالف ألحاديث الشفاعة املتواترة‪ ،‬الدالة عىل نفوذ الوعيد يف‬
‫طائفة من العصاة‪ ،‬والعفو عن بعضهم إما بشفاعة الشافعني أو برمحة اهلل تعاىل‪.‬‬

‫والقول بوجوب خلف الوعيد ليس مذه ًبا ألحد من أهل السنة‪ ،‬بل هو منقول عن املرجئة‪ ،‬لكن املرجئة‬
‫خصوه باملسلمني‪ ،‬وقالوا بوجوب نفوذ الوعيد يف الكافرين‪ ،‬أما الشيخ الربزنجي فعمم خلف الوعيد ليشمل‬
‫ّ‬
‫الكفار‪ ،‬وانترص لعقيدة فناء النار‪ ،‬وهذا خمالف ملا اتفق عليه أهل اإلسالم قاطبة‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫[ املطلب الثاين عرش‪ :‬التوفيق العجيب بني كالم ابن عريب وابن تيمية!]‬

‫إن القول بكون النار دار عذاب مهني وأليم‪ ،‬وخلود أهلها فيها هو اخلزي العظيم واخلرسان املبني‪ ،‬واخللود‬
‫فيها جاء عىل سبيل التهديد والوعيد‪ ،‬ومع ذلك فأهلها فرحون فيها‪ ،‬مستعذبون لعذاهبا‪ ،‬وأمزجتهم موافقة‬
‫هلا‪ ،‬بحيث لو عرضت عليهم اجلنة لتأ ّذوا منها‪ ،‬إن هذا القول أقرب إىل السفسطة منه إىل التحقيق‪ ،‬فإما أن‬
‫يقال ببقاء النار وخلودها عليهم بام فيها من عذاب وإهانة وخزي‪ ،‬وإما أن يقال بفنائها وانقطاعها‪.‬‬

‫وكأن صاحب اجلاذب الغيبي ملّا مل يقتنع بام تقدّ م من كالم الشيخ ابن عرب‪ ،‬مع موافقته له والبن تيمية يف‬
‫ّ‬
‫يؤول كالم ابن عرب ليتوافق مع كالم ابن تيمية‪،‬‬
‫قوهلام بخلف الوعيد وسبق الرمحة ونحو ذلك‪ ،‬أراد أن ّ‬
‫فقال‪:‬‬

‫علمت أن ما ذهب إليه احلافظان ابن تيمية وابن القيم ال َي ِرد عليه يشء من تلك اإليرادات؛ ألهنام ال‬
‫َ‬ ‫«قد‬
‫يقوالن باخلروج من النار‪ ،‬وال بعدم اخللود فيها ما دامت موجودة‪ ،‬وال بتخفيف العذاب وتفتريه‪ ،‬ومل يرد‬
‫نص بخلود النار ً‬
‫أصال‪ ،‬إنام ورد النصوص باخللود يف النار ما دامت موجودة‪ ،‬وأما بخلود النار نفسها فال‪،‬‬
‫بل وردت األحاديث بانطفائها كام مرت مفصلة‪ ،‬وهذا املذهب حقيق باالعتامد‪ ،‬ويمكن رد قول الشيخ إليه‬
‫برضب من التأويل‪ُ ،‬يتدى إليه من متفرقات كالمه وإشارات إعالمه»‪ .‬اهـ‬

‫أقول‪ :‬فنحن إذن أمام تأويل لكالم الشيخ ابن عرب‪ ،‬وتوفيق بينه وبني كالم الشيخ ابن تيمية‪ ،‬فكيف سيكون‬
‫مآل هذا التوفيق؟‬

‫بعد أن ساق بعض نصوص ابن عرب التي تستلزم ‪-‬عنده‪ -‬فناء النار‪ ،‬قال‪:‬‬

‫«فإذا نظرت يف هذه املقدمات أنتجت انتفاء النار‪ ،‬فإن النار ملا كانت صورة الغضب‪ ،‬والغضب ينتهي‪ ،‬حيث‬
‫مل يكن له اسم إهلي يستند إليه‪ ،‬فإذا انتهى حقيقة الغضب لزم أن تنعدم صورته‪ ،‬ويبدل العذاب بالنعيم وهم‬
‫يف مكاهنم‪ ،‬وهو من جهنم‪ ،‬ملا علمت أن جهنم اسم ملا بني مقعر فلك الثوابت إىل أسفل سافلني‪ ،‬فصدق أهنم‬
‫‪33‬‬
‫خالدون يف جهنم‪ ،‬وصدق أن النار منطفئة‪ ،‬وصدق أهنم منعمون يف دارهم‪ ،‬وصدق أهنم مل خيرجوا من النار‪،‬‬
‫بل النار فنيت‪ ،‬غايته أهنم يف جهنم باعتبار املكان ال باعتبار العذاب‪ ،‬وإذا مل يعذبوا فيها‪ ،‬بل نعموا وأبدل ما‬
‫فيها من النار بالريح‪ ،‬فصفق أبواهبا‪ ،‬ونبت فيها اجلرجري‪ ،‬فصار مكان الزقوم واحلميم خرضة‪ ،‬ومتعوا بالنظر‬
‫إىل وجه اهلل‪ ،‬وكسيت وجوههم نرضة‪ ،‬مل يرضهم كوهنم يف جهنم باعتبار االسم‪ ،‬فإن جهنم حينئذ بمنزلة‬
‫اجلنة هلم‪ ،‬بل هي حينئذ طبقة منها‪ ،‬وحيث إن مآل الكل إىل الرمحة والنعيم‪ ،‬والروح والراحة‪ ،‬بفضل اهلل‬
‫العميم‪ ،‬استوى يف املعنى سكنى اجلنان واجلحيم»‪ .‬اهـ‬

‫أقول‪ :‬فها نحن نرى هذه العقيدة اهلجينة‪ ،‬التي جتمع بني قول الشيخ ابن عرب بانقالب العذاب عذوبة‪ ،‬مع‬
‫بقاء أهل النار خالدين يف النار‪ ،‬وبني قول ابن تيمية بفناء النار! فيكون أهل جهنم خالدين فيها باعتبار املكان‬
‫ال باعتبار العذاب‪ ،‬فتنطفئ النار ويبقى النعيم‪ ،‬وحتل اخلرضة حمل الزقوم واحلميم‪.‬‬

‫ثم قال‪:‬‬

‫«وقد أشار قدس رسه إىل هذا إشارة قريبة من الترصيح يف جواب السؤال اخلمسني ومائة يف بركة أهل البيت‬
‫[‪]...‬‬

‫مر أنه قال إن بعض أهل الكشف قال إن النار تنطفئ‪ ،‬وإنه تنبت فيها‬
‫وهو كالرصيح فيام ذكرت لك‪ ،‬وقد ّ‬
‫اجلرجري‪ ،‬ومل ير ّد عليه‪ ،‬بل أقره‪ ،‬فإن كان هذا البعض هو نفسه‪ ،‬فهذا الذي فهمنا‪ ،‬وإن كان غريه فقد ارتضاه‪،‬‬
‫فتمسك هبذا‪ ،‬فإنه من سوانح الغيب وجواذبه‪ ،‬وباهلل التوفيق‪.‬‬

‫فالقوالن متقاربان‪ ،‬بل مها واحد يف املعنى‪ ،‬فلله احلمد بجميع أسامئه احلسنى‪ .‬واهلل أعلم»‪.‬اهـ‬

‫أقول‪ :‬هلل در صاحب هذا التلفيق والتوفيق‪ ،‬كم حاول أن يلوي أعناق النصوص‪ ،‬ويتالعب باإلمجاع‪،‬‬
‫ويستنبط اللوازم الفاسدة يف مسألة خلف الوعيد‪ ،‬لينترص البن عرب‪ ،‬حتى خرج هبذه العقيدة الفريدة‬
‫جيد الدهر بمثلها‪ ،‬وإنا هلل وإنا إليه راجعون!‬
‫واخلريدة العجيبة‪ ،‬مل ه‬

‫‪34‬‬
‫وما رآه من استلزام قول ابن عرب النطفاء النار وبقاء أهلها فيها من حيث املكان‪ ،‬خمالف لرصيح كالم ابن‬
‫عرب ونصوصه املحكمة املستفيضة‪ ،‬يف ّ‬
‫أن النار تبقى وأن أسباب العذاب من الرضب واللدغ تبقى‪ ،‬مع‬
‫انقطاع األمل احلاصل هبذا العذاب‪ ،‬فكيف هيلجأ إىل األخذ بالالزم مع وجود النصوص الرصحية املحكمة؟!‬

‫فإن رصيح كالم ابن تيمية وابن القيم ّ‬


‫دال عىل فناء النار التي هي الدار‪ ،‬بام فيها من العذاب‪ ،‬ومل يقوال‬ ‫أيضا‪ّ ،‬‬
‫و ً‬
‫بانطفاء النار وبقاء الدار‪ ،‬وهذا يعني ّ‬
‫أن الربزنجي خرج بقول ثالث يف املسألة‪ ،‬خمالف لرصيح كالم ابن‬
‫عرب‪ ،‬كام هو خمالف لرصيح نصوص ابن تيمية وتلميذه!‬

‫ما أشد ظلم هؤالء املدافعني عن ابن عرب له‪ ،‬فتجد أحدهم يتهمه بالتناقض‪ ،‬وجتد اآلخر يؤول بعض كالمه‬
‫خمال ًفا نصوصه املحكمة‪ ،‬وجتد ثال ًثا يلوي أعناق اآليات ليثبت صحة قوله‪..‬إلخ‪ ،‬ولعل الشيخ ابن عرب لو‬
‫وقررت مذهبي يف هذه املسألة يف أكثر من‬
‫ه‬ ‫كررت‬
‫ه‬ ‫رآهم لزجرهم وقال هلم‪ :‬بئس الصنيع صنيعكم‪ ،‬فقد‬
‫سبعني موض ًعا‪ ،‬فام لكم كيف حتكمون؟!‬

‫‪35‬‬
‫[ املطلب الثالث عرش‪ :‬تطويعه نصوص ابن عريب لتوافق مراده]‬

‫انتصارا لعقيدة انقالب العذاب‬


‫ً‬ ‫بينت فيام مىض طريقة التعسف التي سلكها صاحب «اجلاذب الغيبي»‬
‫ه‬
‫عذوبة‪ ،‬من ّيل أعناق النصوص‪ ،‬والتشكيك يف اإلمجاع‪ ،‬واالنتصار باألقوال الشاذة‪ ،‬وخمالفة إمجاع أهل‬
‫السنة‪ ،‬واالستنصار بشبهات ابن القيم واملعتزلة‪ ،‬لكنني مل أتوقع أن يتعسف يف حتميل كالم الشيخ ابن عرب ما‬
‫ال حيتمل‪ ،‬يف سبيل التوفيق بني كالمه وكالم ابن تيمية! وإليك بيان ذلك‪:‬‬

‫وجدت بعضها مطاب ًقا ملا يف النسخ‬


‫ه‬ ‫قابلت نصوص الكتاب ببعض النسخ املطبوعة من الفتوحات‪،‬‬
‫ه‬ ‫ملّا‬
‫ووجدت بعضها اختصا ًرا ملا يف الفتوحات‪ ،‬وقد ن ّبه املؤلف أحيانًا عىل االختصار‪ ،‬ومل ين ّبه‬
‫ه‬ ‫املطبوعة باحلرف‪،‬‬
‫أحيانًا أخرى‪ ،‬وما أغفل الكازروين التنبيه عىل اختصاره‪ ،‬قام املرتجم بالتنبيه عىل بعضه‪ ،‬إال أنه أغفل التنبيه‬
‫أيضا‪.‬‬
‫عىل بعض النصوص ً‬

‫ومن النصوص املهمة التي مل ين ّبه املؤلف وال املرتجم عىل اختصارها‪ ،‬وأدى اختصاره إىل اإلخالل بمعناه‪،‬‬
‫قول ابن عرب اآليت‪:‬‬

‫قال يف الفتوحات (‪« :)648/2‬ويف هذا خالف بني أهل الكشف‪ ،‬وهي مسألة عظيمة بني علامء الرسوم من‬
‫أيضا بني أهل الكشف فيها اخلالف‪[ ،‬وهو أنه]* هل يترسمد العذاب‬
‫املؤمنني وبني أهل الكشف‪ ،‬وكذلك ً‬
‫عليهم إىل ما ال هناية له‪ ،‬أو يكون هلم نعيم بدار الشقاء‪ ،‬فينتهي العذاب فيهم إىل أجل مسمى؟‬

‫واتفقوا يف عدم اخلروج منها‪ ،‬وأهنم هبا ماكثون إىل ما ال هناية له‪ ،‬فإن لكل واحدة من الدارين ملؤها‪ ،‬وتتنوع‬
‫ظاهرا‪ ،‬ال بد من ذلك‪ ،‬وهم جيدون يف ذلك لذة يف أنفسهم باخلالف املتقدم باطنًا بعد ما‬
‫ً‬ ‫عليهم أسباب اآلالم‬
‫يأخذ األمل منهم جزاء العقوبة [‪]...‬‬

‫فإذا فرغ األمد جعل هلم نعيم يف النار [والسالسل]*‪ ،‬بحيث إهنم لو دخلوا اجلنة تأملّوا لعدم موافقة املزاج‬
‫الذي ركبهم اهلل فيه‪ ،‬فهم يتلذذون بام هم فيه من نار وزمهرير‪ ،‬وما فيها من لدغ احليات والعقارب‪ ،‬كام‬
‫‪36‬‬
‫جلعل يف الدنيا‬
‫يلتذ*** أهل اجلنة بالظالل والنور‪ ،‬ولثم احلور احلسان‪ ،‬ألن مزاجهم يقِض بذلك‪ ،‬أال ترى ا ه‬
‫هو عىل مزاج يترضر بريح الورد‪ ،‬ويلتذ*** بالنتن‪ ،‬كذلك من خلق عىل مزاجه‪ ،‬وقد وقع يف الدنيا أمزجة‬
‫عىل هذا شاهدناها‪ ،‬فام ثم مزاج يف العامل إال وله لذة باملناسب وعدم لذة باملنافر‪ ،‬أال ترى املحرور يتأمل بريح‬
‫املسك‪ ،‬فاللذات تابعة للمالئم‪ ،‬واآلالم لعدم املالئم‪[ ،‬فكام أهل اجلنة يتعذبون برؤية النار‪ ،‬فكذلك أهل النار‬
‫الذين هم أهلها‪ ،‬يتأملون برؤية اجلنة‪ ،‬فلو دخلوها هلكوا]‪ ،‬فهذا األمر حمقق يف نفسه‪ ،‬ال ينكره عاقل‪.‬‬

‫وإنام الشأن‪ :‬هل أهل النار عىل هذا املزاج هبذه املثابة بعد فراغ املدة (أم ال)**‪ ،‬أو هم عىل مزاج يقتِض هلم‬
‫اإلحساس باآلالم (لألشياء املؤملة)** [والعذاب]*؟‬

‫والنقل الصحيح الرصيح النص الذي ال إشكال فيه إذا وجد مفيدً ا للعلم حيكم به بال شك‪ ،‬فـ(اهلل عَىل كهل‬
‫يش ٍء َق ِدير)‪ ،‬وإن كنت ال أجهل األمر يف ذلك‪ ،‬ولكن ال يلزم اإلفصاح عنه‪ ،‬فإن اإلفصاح عنه ال يرفع‬
‫َ ر‬
‫اخلالف من العامل‪.‬‬

‫وبعض أهل الكشف قال‪ :‬إهنم خيرجون إىل اجلنة حتى ال يبقى فيها أحد من الناس (ألبتة)**‪ ،‬وتبقي أبواهبا‬
‫تصفق‪ ،‬وينبت فيها اجلرجري‪ ،‬وخيلق اهلل هلا ً‬
‫أهال يملؤها هبم من مزاجها‪ ،‬كام خيلق السمك يف املاء‪..‬إلخ»‪ .‬اهـ‬

‫* زيادة من طبعة بوالق‪.‬‬

‫** زيادة يف طبعة األمريعبد القادر اجلزائري‪ ،‬وطبعة عبد العزيز املنصوب‪.‬‬

‫*** يف نسخة بوالق‪« :‬يتلذذ» ‪.‬‬

‫أقول‪ :‬مما يدل عليه هذا النص ما ييل‪:‬‬

‫وأيضا اخلالف قائم بني أهل الكشف أنفسهم‪.‬‬ ‫ً‬


‫أوال‪ :‬اخلالف قائم بني علامء الرسوم وبني أهل الكشف‪ً ،‬‬

‫‪37‬‬
‫قرر اتفاق اجلميع ‪-‬علامء الرسوم وأهل الكشف مجي ًعا‪ -‬عىل عدم خروج أهل النار من النار‪ ،‬فقال بعد‬
‫ثان ًيا‪ّ :‬‬
‫أن نقل اخلالف السابق‪« :‬واتفقوا يف عدم اخلروج منها‪ ،‬وأهنم هبا ماكثون إىل ما ال هناية له»‪.‬اهـ‬

‫ثال ًثا‪ :‬بعد أن ّ‬


‫قرر االتفاق السابق‪ ،‬نقل عن بعض أهل الكشف ما خيالف هذا االتفاق‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫«وبعض أهل الكشف قال‪ :‬إهنم خيرجون إىل اجلنة حتى ال يبقى فيها أحد من الناس ألبتة‪ ،‬وتبقي أبواهبا‬
‫تصفق‪..‬إلخ»‪ .‬اهـ‬

‫ونقله كالم هؤالء املخالفني لالتفاق من أهل الكشف ال يعني إقراره هلم ورضاه بقوهلم‪ ،‬بل ال يبعد أن يكون‬
‫نقله بيانًا ملخالفتهم ملا هو متفق عليه بني علامء الرسوم وأهل الكشف‪.‬‬

‫خمال باملعنى‪ ،‬فقال ً‬


‫ناقال عن ابن عرب‪:‬‬ ‫أن مؤلف الكتاب ملّا اخترص النص السابق‪ ،‬جاء اختصاره ً‬
‫إال ّ‬

‫«وهي مسألة عظيمة فيها خالف بني علامء الرسوم من املؤمنني وبني أهل الكشف‪ ،‬وهي‪ :‬هل يرسمد العذاب‬
‫عىل أهل النار إىل ما ال هناية له؟‬

‫ظاهرا‪ ،‬ال بد من ذلك‪ ،‬وهم جيدون يف ذلك‬


‫ً‬ ‫فإن لكل واحد من الدارين ملؤها‪ ،‬وتتنوع عليهم أسباب اآلالم‬
‫لذة يف أنفسهم باخلالف املتقدم باطنًا بعد ما يأخذ األمل منهم جزاء العقوبة‪ ،‬فيأخذ جزاء العقوبة األمل مواز ًيا‬
‫املعمر يف الرشك يف الدنيا‪ ،‬فإذا فرغ األمد جعل هلم نعيم يف النار‪ ،‬بحيث إهنم لو دخلوا اجلنة تأملوا لعدم‬
‫ملدة َّ‬
‫موافقة املزاج الذي ركبهم اهلل فيه‪ ،‬فهم يتلذذون بام هم فيه من نار وزمهرير‪ ،‬وما فيها من لدغ احليات‬
‫والعقارب‪ ،‬كام يلتذ أهل اجلنة بالظالل والنور ولثم احلور احلسان [‪]...‬‬

‫وبعض أهل الكشف قال‪ :‬إهنم خيرجون إىل اجلنة حتى ال يبقى فيها أحد من الناس ألبتة‪ ،‬وتبقي أبواهبا‬
‫تصفق‪ ،‬وينبت فيها اجلرجري‪ ،‬وخيلق اهلل هلا ً‬
‫أهال يملؤها هبم من مزاجها‪ ،‬كام خيلق السمك يف املاء‪..‬إلخ»‪ .‬اهـ‬

‫الحظت ما ييل‪:‬‬
‫ه‬ ‫أقول‪ :‬بعد مقارنة هذا املخترص بالنص املوجود يف العديد من النسخ املطبوعة‪،‬‬

‫‪38‬‬
‫منحرصا بني علامء الرسوم من جهة‪ ،‬وعلامء الكشف من جهة أخرى‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫أوال‪ :‬أن هذا االختصار جعل اخلالف‬
‫ّ‬
‫وكأن علامء الكشف جممعون عىل خمالفة علامء الرسوم يف هذه املسألة‪ ،‬وليس هناك خالف بني أهل الكشف‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫أنفسهم‪ ،‬مع ّ‬
‫أن النص األصيل رصيح يف اخلالف بني أهل الكشف ً‬

‫ولعل هذا ما دفع الربزنجي أن يقول‪:‬‬

‫عقال‪ ،‬وأثبت وقوعه ً‬


‫نقال‪ ،‬وكل ما أمكن‬ ‫«وقد مر قري ًبا أن الشيخ ‪-‬قدس رسه‪ -‬أثبت إمكان انقطاع العذاب ً‬
‫ً‬
‫عقال وأخرب به الصادق وجب قبوله واإليامن به‪ ،‬وال سيام وقد ادعى إمجاع أهل الكشف عليه»‪.‬اهـ‬

‫فقد فهم الربزنجي أن الشيخ ابن عرب ا ّدعى اتفاق أهل الكشف عىل انقطاع العذاب‪.‬‬

‫نص الشيخ ابن عرب عىل اتفاق اجلميع ‪-‬علامء الرسوم وأهل الكشف‪ -‬عىل ّ‬
‫أن أهل النار ال خيرجون‬ ‫ثان ًيا‪َّ :‬‬
‫منها‪ ،‬وأهنم هبا ماكثون إىل ما ال هناية له‪ ،‬وهذا ما استفاضت نصوصه يف الداللة عليه‪.‬‬

‫لك ّن الربزنجي ملّا كان غرضه التلفيق بني مذهب ابن عرب ومذهب ابن تيمية‪ ،‬مل يبال بمخالفة عرشات‬
‫النصوص البن عرب‪ ،‬وال خمالفة االتفاق السابق الذي نقله ابن عرب‪ ،‬فتشبث بقول بعض أهل الكشف‬

‫القائلني بخروج أهل النار إىل اجلنة‪ ،‬واعترب نق َل ابن عرب هلذا القول ً‬
‫إقرارا له ورض به! فقال‪:‬‬

‫مر أنه قال إن بعض أهل الكشف قال إن النار تنطفئ‪ ،‬وإنه تنبت فيها اجلرجري ومل ير ّد عليه‪ ،‬بل أقره‪،‬‬
‫«وقد ّ‬
‫فإن كان هذا البعض هو نفسه‪ ،‬فهذا الذي فهمنا‪ ،‬وإن كان غريه فقد ارتضاه‪ ،‬فتمسك هبذا‪ ،‬فإنه من سوانح‬
‫الغيب وجواذبه‪ ،‬وباهلل التوفيق»‪ .‬اهـ‬

‫أقول‪ :‬هكذا يتعسف الشيخ الربزنجي يف فهم كالم ابن عرب‪ ،‬فيجعل َ‬
‫نقل ابن عرب عن بعض أهل الكشف‬
‫حاكام عىل عرشات النصوص املحكمة له يف خلود أهل النار فيها‪ ،‬لك ّن املهم عنده التلفيق بني كالم الرجلني‪،‬‬
‫ً‬
‫ً‬
‫متجاهال ما نقله هو نفسه عن الشيخ ابن عرب‪ ،‬وضار ًبا ببقية‬ ‫بغض النظر عن سالمة طريقته يف التلفيق‪،‬‬
‫نصوص ابن عرب عرض احلائط!‬

‫‪39‬‬
‫خامتة‬

‫وأختم هذا املقال بكالم للشيخ أمحد الغامري‪ ،‬يظهر فيه سلوكه مسلك صاحب «اجلاذب الغيبي»‪ ،‬يف‬
‫تصحيح كالم ابن تيمية وابن عرب‪ ،‬لتعلم أثر السكوت عن هذه العقائد الفاسدة واآلراء الكاسدة‪ ،‬حيث قال‬
‫الغامري يف «در الغامم الرقيق» ما نصه‪:‬‬

‫«فاألمر دائر بني انقالب العذاب عذوبة وذهاب األمل به مع بقاء الصورة‪ ،‬حتقي ًقا للوعيد‪ ،‬كام يقول الشيخ‬
‫األكرب‪ ،‬وبني ما يقوله غريه من الفناء‪ ،‬عىل أن هذا القول قد يرجع إىل قول الشيخ األكرب بأن املراد بالفناء‬
‫ذهاب األمل وانقطاع العذاب‪ ،‬ال صورته التي هي يف احلقيقة عني النعيم‪ ،‬فالقوالن عندي سواء يف املعنى‪ ،‬وإىل‬
‫ذلك نميل‪ ،‬وبه ندين اهلل تعاىل»‪ .‬اهـ‬

‫دائرا بني هذين القولني وال يعترب أي قول آخر! أين قول أهل السنة يا أهل‬
‫فسبحان اهلل! كيف يكون األمر ً‬
‫السنّ َة!‬

‫رصح باطالعه عىل كتاب اجلاذب‬


‫خصوصا أنه ّ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ولعل الشيخ الغامري أخذ هذه الطريقة من الربزنجي‪،‬‬
‫الغيبي‪ ،‬ويظهر عىل صورة املخطوط املرفقة متلك الغامري هلذا الكتاب‪.‬‬

‫ولئن ّأول الربزنجي كالم ابن عرب ليتوافق مع قول ابن تيمية‪ ،‬خمال ًفا نصوصهام الرصحية‪ّ ،‬‬
‫فإن الغامري أ ّول‬
‫كالم ابن تيمية وتلميذه ليتوافق مع كالم ابن عرب‪ ،‬خمال ًفا نصوصهام املحكمة بفناء النار‪ ،‬فقد سلك الربزنجي‬
‫والغامري نفس املسلك يف تطويع النصوص ملا هتواه األنفس‪ ،‬مع إمهال القواعد العلمية املعروفة يف التأويل‬
‫وفهم الكالم‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫يؤول كالمه‪ ،‬واعتقده عىل‬
‫والحظ نسبة الغامري انقالب العذاب عذوبة البن عرب‪ ،‬فلم يقل بالدس‪ ،‬ومل ّ‬
‫حقيقته‪ ،‬وهو من أشد الناس دفاعًا عن ابن عرب‪.‬‬

‫وقارن قوله‪« :‬فالقوالن عندي سواء يف املعنى‪ ،‬وإىل ذلك نميل»‪ ،‬بقول الربزنجي‪« :‬فالقوالن متقاربان‪ ،‬بل‬
‫مها واحد يف املعنى»‪.‬‬

‫خصصت هلا بح ًثا مفر ًدا‪ ،‬ويكفي من القالدة ما‬


‫ه‬ ‫ويف الكتاب أخطاء جسيمة‪ ،‬وخمالفات ألهل السنة عظيمة‪،‬‬
‫أحاط بالعنق‪ ،‬واهلل املستعان‪.‬‬

‫‪41‬‬

You might also like