Professional Documents
Culture Documents
أصول تدبير الاختلاف في القرآن الكريم - د. محمد الصادقي العماري
أصول تدبير الاختلاف في القرآن الكريم - د. محمد الصادقي العماري
ﻟﻠﻔﻜﺮ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ
ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب القيــم الحامعيــة :فلســفتها ومرجعيتهــا وتجلياتهــا
أﳼء ﻓﻬﻢ اﻻﺧﺘﻼف ﰲ ﻋﺎﳌﻨﺎ اﳌﻌﺎﴏ ،وأﺻﺒﺢ ﻟﻼﺧﺘﻼف ﻣﻌﻨﻰ اﻟﴫاع واﻟﺼﺪام ،ووﻗﻊ فتحي حسن ملكاوي
ﺑﺎﺣﺚ ﻣﻐﺮﰊ وﻟﺪ ﻋﺎم ١٩٧٨م ﰲ ﻗﺮﻳﺔ
اﻟﺰرﻳﻘﺎت ،ﺑﻤﺪﻳﻨﺔ اﻟﺮاﺷﻴﺪﻳﺔ ،ﺟﻨﻮب اﳌﻤﻠﻜﺔ اﳌﻐﺮﺑﻴﺔ.
وأن اﳌﺨﺎﻟﻒ ﰲ اﻟﺮأي واﳌﻌ ﹶﺘ ﹶﻘﺪ ﳚﺐ
ﴍ ،ﱠاﻻﺿﻄﺮاب ﰲ ﻓﻘﻪ اﻻﺧﺘﻼف وﺗﺪﺑﲑه ،واﻋﺘﹸﻘﺪ أن اﻻﺧﺘﻼف ﻛ ﹼﻠﻪ ﱞ نظريــة النمــو المعرفــي فــي المنظــور النفســي ٕا�ســ�مي
ﺣﺼﻞ ﻋﲆ ﺷﻬﺎدة اﻟﺪﻛﺘﻮراه ﰲ اﻟﻌﻘﻴﺪة واﻟﻔﻜﺮ
وإﻗﺼﺎؤه ،ﺑﻞ واﺳﺘﺌﺼﺎﻟﻪ ،وﻇﻬﺮ ﻋﲆ اﻟﺴﺎﺣﺔ ﺑﺎﺣﺜﻮن وﻣﻨ ﱢﻈﺮون ﳍﺬا اﻻﲡﺎه ﻣﻦ اﳌﺴﻠﻤﲔ وﻣﻦ
ﹸ رﻓﻀﻪ ريم عبد الرزاق الزعبي
ّ
ـﺪ�ﻻ��ﻌﺒ ــﺮ ﺍﻟﻜﺘـ ــﺐ�ﻭﺍﻟﺪﺭﺍﺳ ــﺎﺕ�ﺍﻟﺘ ـ ــﻲ�ﻳﺼ ـ ــﺪﺭهﺎ�ﺍﻟـﻤﻌهـ ـ
ّ
ـﺪ�ﻻ��ﻌﺒ ــﺮ ﺍﻟﻜﺘـ ــﺐ�ﻭﺍﻟﺪﺭﺍﺳ ــﺎﺕ�ﺍﻟﺘ ـ ــﻲ�ﻳﺼ ـ ــﺪﺭهﺎ�ﺍﻟـﻤﻌهـ ـ
ّ
ﻣﺆﻟﻔ��ﺎ�ﻭﺍﺟ��ﺎﺩﺍ��ﻢـﺮ
ﺼ ـ ـﺭﺍﺀـﺪﺭهﺎ�ﺍﻟـﻤﻌهـ ــﺪ�ﻻ��ﻌﺒ ـ
ﺃﻳﻪ�ﻭﺇﻧﻤﺎ�ﻋﻦ�ﺁ
ﺑﺎﻟﻀﺮﻭﺭﺓ�ﻋﻦ�ﺭﺳ ــﺎﺕ�ﺍﻟﺘ ـ ــﻲ�ﻳ
ﺍﻟﻜﺘـ ــﺐ�ﻭﺍﻟﺪﺭﺍ
ﺑﺎﻟﻀﺮﻭﺭﺓ�ﻋﻦ�ﺭﺃﻳﻪ�ﻭﺇﻧﻤﺎ�ﻋﻦ�ﺁﺭﺍﺀ ﻣﺆﻟﻔ��ﺎ�ﻭﺍﺟ��ﺎﺩﺍ��ﻢ
ﺑﺎﻟﻀﺮﻭﺭﺓ�ﻋﻦ�ﺭﺃﻳﻪ�ﻭﺇﻧﻤﺎ�ﻋﻦ�ﺁﺭﺍﺀ ﻣﺆﻟﻔ��ﺎ�ﻭﺍﺟ��ﺎﺩﺍ��ﻢ
اإلهداء
إىل مـن دعاهـم القـرآن الكريـم إىل كلمة سـواء؛ كلمـة جامعة
مؤ ِّلفة.
إىل أويل بقيـة مـن أهـل الـرأي ،والعقـل ،والفضـل ،واخلري يف
املجتمع اإلنسـاين.
شكر وعرفان
عيل
وتفضل َّ
َّ أسجد هلل سبحانه وتعاىل شكر ًا عىل أن أعان عىل إمتام هذه الدراسة،
وجوده وكرمه ،أمحده سبحانه ،والتوفيق للحمد من نعمه ،وأشكره، بإنعامه وإحسانهُ ،
والشكر كفيل باملزيد من فضله وكرمه ،وأستغفره وأتوب إليه من الذنوب التي توجب
زوال نِعمه وحلول نِقمه.
ثم يطيب يل تالي ًا أن أقف وقفة إجالل وحمبة لوالدي احلبيبني ،اللذين مهام أوتيت من
فصاحة لسان ،وبالغة بيان فلن أستطيع إيفاءمها حقهام ،ملا بذاله من أجيل ،وتكبداه لبلوغي
منزلة طلب العلم مع طول مسري وترحال.
ثم أتوجه بعظيم الشكر وأجزله إىل سندي بعد اهلل ،التي شدت من أزري ودعمتني
وشجعتني ،وسارت معي طوال مراحل إعداد هذه الدراسة بصر ورحابة صدر ،زوجتي
األستاذة العثامين سعاد ،بارك اهلل فيها وجزاها عني خري اجلزاء.
أما الذي طوقني بفضله وكرمه ،وغمرين بحنانه وعطفه ،وساهم يف تقديم هذه
الدراسة من خالل توجيهاته الرصينة وعطائه العلمي ،بطيب نفس مع دماثة خلق ،بل
كان له الفضل الكبري يف اكتشاف إشكال هذه الدراسة ،من خالل متابعة كتبه ،ودراساته
العلمية ،وجلسات النقاش املطولة معه حفظه اهلل ،حول موضوع االختالف وتدبريه،
أستاذي الفاضل املرشف عىل هذه الدراسة الدكتور حمامد بن حممد رفيع ،فجزاه اهلل خري ما
جيزي معل ًام عن طالبه ،وأسأله سبحانه أن يديم عطاءه وينفع بعلمه.
وتفضل بقبول مناقشة هذه الدراسة،
ّ وأتوجه بخالص االمتنان والعرفان ملن تكرم
وتقويمها وتصحيحها ،ودعمها باملالحظات اهلادفة ،والنقد البناء ،السادة الدكاترة العلامء
أعضاء جلنة املناقشة األفاضل.
كام أتقدم بفائق احرامي وشكري ملن أثروا هذه الدراسة بفكرهم وعلمهم
وتوجيهاهتم ،ممن استرشهتم يف املوضوع من أساتذة وعلامء ،وأخص بالذكر الدكتور العالمة
شيخي أمحد البوشيخي حفظه اهلل ،وأطال عمره.
9
وختام ًا شكري للقائمني عىل مكتبتي كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ،وكلية الرشيعة
بفاس ،كام ال يفوتني أن أقدم شكر ًا خاص ًا ملحافظ مكتبة كلية الرشيعة األستاذ الداعية
يس يل عملية البحث وإعارة الكتب داخل مكتبة الكلية،
املجاهد حممد اخلملييش ،الذي َّ
فشكر ًا له وجزاه عن طلبة العلم خري اجلزاء.
10
املحتويات
اإلهداء 7 .....................................................................................
الشكر والعرفان 9 ...................................................................................
املقدمة 13 ...........................................................................................
املدخل
تدبري االختالف :دراسة يف املفهوم والسياق القرآين
أوالً :االختالف وتدبريه :دراسة يف املفهوم 31 .....................................................
ثاني ًا :االختالف يف السياق القرآين42 ...............................................................
الفصل األول
أصول تدبري االختالف االعتقادية
أوالً :أصل اإليامن باهلل وتوحيده 84 ................................................................
ثاني ًا :أصل اإليامن باألنبياء والرسل 94 ............................................................
ثالث ًا :أصل اإليامن باملصري واملآل األخروي 118 ....................................................
الفصل الثاين
أصول تدبري االختالف الترشيعية
أوالً :أصل إقامة السلم وترك احلرب 129 .........................................................
ثاني ًا :أصل إقامة العدل والقسط ونفي الظلم 145 ...................................................
ثالث ًا :أصل إقامة التعاون اإلنساين 163 ............................................................
رابع ًا :أصل إقامة الصلح وترك اخلصام 184 .......................................................
خامس ًا :أصل إقامة الشورى وترك االستبداد 198 .................................................
سادس ًا :أصل االلتزام بالعهود واملواثيق 207 .....................................................
سابع ًا :أصل األمر باملعروف والنهي عن املنكر 219 ...............................................
11
الفصل الثالث
أصول تدبري االختالف املنهجية
أوالً :أصول تدبري االختالف املنهجية الكلية 235 .................................................
ثاني ًا :أصول تدبري االختالف املنهجية التفصيلية 284 ..............................................
اخلامتة 365 ..........................................................................................
املراجع 369 .......................................................................................
الكشاف 399 ......................................................................................
12
املقدمة
تفرد بالوحدانية ،وجعل اخللق خمتلفني يف اآلراء واألفكار ،واأللسنة
احلمد هلل الذي َّ
ّ
وصىل اهلل عىل سيدنا حممد النبي الكريم ،الذي بعثه اهلل تعاىل برسالة الوحدة واأللوان،
واأللفة واالجتامع ،وعىل آله وصحبه والتابعني ،ومن تبعهم بإحسان إىل يوم الدين.
القرآن الكريم هو احلاكم األول ،والضابط للعالقة بني أهل القرآن واملخالفني هلم يف
الدين والفكر والثقافة واحلضارة ،فهو أساس هذه العالقة ،وهو القادر -بوصفه خطاب ًا عام ًا
لإلنسانية -عىل إعادة صياغة هذه العالقة وبنائها عىل أصوهلا وضوابطها الصحيحة ،وإزالة
ما علق هبا من فهوم خاطئة ،انعكست سلب ًا عىل العالقة باملوافق قبل املخالف.
والقرآن الكريم ُيشري يف آيات كثرية إىل أنه هو املرجع يف احلكم بني الناس ،يقول تعاىل:
﴿ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ
ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﴾ [املائدة ،]٤8 :وأنه كتاب بيان لالختالف﴿ :ﰀ
فيوجه اخلطاب للمخالف بقوله:
ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﴾ [النحلّ ،]٦٤ :
﴿ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﴾ [النمل.]٧٦ :
والقرآن الكريم ُيشري إىل أن خطابه بريء من االختالف والتضاد ،ليحصل فيه كامل
التدبر واالعتبار ،قال سبحانه ﴿ :ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ
((1 ﮈ﴾ [النساءَّ ]8٢ :
فدل معنى اآلية عىل أنه بريء من االختالف ،بمعنى "التناقض"،
((٢
بعضه بعض ًا ،ويعضد بعضه بعض ًا ،من جهة اللفظ ،ومن جهة املعنى.
ُيصدِّ ق ُ
صح أن يكون َح َك ًام بني املختلفني ،يقول الشاطبي يف
تنزه القرآن عن االختالفَّ ،وملا َّ
االعتصام" :وإذا ثبت هذا صح منه أن القرآن يف نفسه ال اختالف فيه ،ثم َن ْبنِي عىل هذا معنى
( )1الغزايل ،أبو حامد حممد بن حممد الطويس .املستصفى من علم األصول ،دراسة وحتقيق :حممد سليامن األشقر،
بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط1٤1٧( ،1هـ199٧/م) ،ج ،٢ص.٢٧٤
( )٢الشاطبي ،أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن حممد اللخمي الغرناطي .االعتصام ،ضبطه وصححه :أمحد عبد
الشايف ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤08( ،1ه1988/م) ،ج ،٢ص.٤٧9
1٣
آخر ،وهو أنه ملا تبني َتن َُّز ُه ُه عن االختالف ،صح أن يكون َح َك ًام بني املختلفني (1(،"...ويقول يف
((٢
املوافقات ..." :قد ث َبت أن الرشيعة ال اختالف فيها ،وإنام جاءت حاكم ًة بني املختلفني."...
والقرآن رشيعة فهم االختالف وتدبريه (٣(،والبرشية اليوم مطالبة بسامع خطاب
القرآن ،خطاب فهم االختالف وتدبريه؛ هذا اخلطاب الذي يؤمن باالختالف ،ويؤسس
ملرشوعيته ،وجيعله آلية من آليات اإلنتاج والعطاء الفكري والثقايف ،ويدعو إىل تقنينه
وتدبريه ،وفقه فلسفته.
ولذلك كانت رشيعة القرآن رشيع ًة لكل الناس ،عىل اختالف معتقداهتم وألواهنم
وأعراقهم ،لذلك ينبغي تطبيق هذه الرشيعة واإليامن هبا ،ليعم الوفاق ،وتسود األلفة
املجتمع اإلنساين ،وينعم اجلميع يف ظلها باألمن والسلم والكرامة والعدل واحلرية.
وما دامت رشيعة القرآن حماربة وممنوعة من حقها يف إعطاء جواهبا اإلنساين واحلضاري،
فإن العامل لن جيد العالج( (٤هلذه النزاعات واالختالفات واحلروب املدمرة لإلنسان والعمران؛
ألن القرآن الكريم هيدف إىل عامل تسوده األخوة اإلنسانية ،بناء عىل نظام دويل يقوم عىل
1٤
أساس األلفة واملوافقة .وإلثبات صحة هذا االدعاء ،عىل أهل القرآن أن يقيموا رشيعته يف
نفوسهم ،ويف حدود أقاليمهم ،لننتقل من التنظري القرآين ،إىل املامرسة العملية املؤثرة.
فقد ُأيسء فهم االختالف يف عاملنا املعارص ،وأصبح لالختالف معنى الرصاع والصدام،
وظهر عىل الساحة باحثون ومن ّظرون هلذا االجتاه ،سواء من املسلمني ،أو من غريهم ،وانترش
هذا الفكر وزكّاه اإلعالم ،فتعددت اجلهات الداعية إىل الفرقة والنزاع ،والرصاع بني
املذاهب والطوائف ،والفرق اإلسالمية ،وبينها وبني املخالف الديني واحلضاري.
لذلك جاء هذا الكتاب ،يف ظل هذا الوضع املشحون بالنزاعات والرصاعات ،معتمدة
عىل القرآن الكريم بالقصد األصيل ،وعىل غريه من مصادر الترشيع بالقصد التبعي ،لتصحيح
ٍ
منهجية تأصيلية تقعيدية ،نرز من الرؤية إىل اخلالف واملخالف ،وذلك من خالل طرح ٍ
رؤية
خالهلا نظرية القرآن لالختالف وتدبريه.
و تزداد أمهية أي دراسة بازدياد أمهية املوضوع الذي تبحث فيه ،ويمكن ُّ
تلمس
أمهية هذه الدراسة من زاويتني:
-تبني هذه الدراسة أن تدبري االختالف اإلنساين ،مقصد قرآين عام ،وهذه احلقيقة
العلمية واملعرفية قائمة عىل استقراء نصوص القرآن الكريم ،الداعية إىل الوحدة
واالئتالف ،واالجتامع عىل املشركات ،واالعتصام بحبل اهلل.
-جتتهد هذه الدراسة يف تقديم تصحيح معريف لقضية االختالف؛ إذ ُينظر لالختالف
عىل أنه رش ،وللمخالف يف الرأي عىل أنه عدو ،من غري إدراك ّ
بأن االختالف سنّة
1٥
من سنن اهلل تعاىل يف خلقه ،وآية من آياته ،جتب االستفادة منه ،وتقنينه وتضييق
دائرته ما أمكن.
تروم هذه الدراسة بيان إشكال معريف ،مفاده أن اإلشكال ليس يف االختالف -
نفسه ،بل يف تدبريه ،وإدارته ،وكيفية احتوائه ،ومدى إتقان طرائق التعامل معه،
وتوجيهه بام خيدم مقاصده ،ليكون االختالف إجيابي ًا ال سلبي ًا.
-تُسهم هذه الدراسة يف إثراء املكتبة اإلسالمية ،وإفادة مجيع اجلهات املختصة (األرسة
-املدرسة -اجلامعة -املراكز العلمية املختصة -اجلمعيات -اإلعالم )..ألمهية
املوضوع وحيويته يف عاملنا املعارص.
تقدم الدراسة أصوالً وقواعد عملية كلية لتدبري االختالف ،وتوجيهه الوجهة -
الصحيحة التي ختدم املجتمع اإلنساين ،وتتجاوز اخلالفات اجلزئية ،والنظر إىل
املشركات الكرى إسالمي ًا وإنساني ًا.
-تطرح الدراسة أصوالً وقواعد منهجية للحوار واجلدل بالتي هي أحسن ،لتحقيق
التواصل والتعارف والتبادل احلضاري.
-تعالج الدراسة آفات ومزالق العقل والنفس ،املؤثرة يف اختالف الرأي ،املوسعة
لدائرة االختالف ،احلاجبة للحقائق الصحيحة التي يدعمها الدليل والرهان.
-الدراسة مقرح لتدبري االختالف وبناء االئتالف وفق الرؤية القرآنية ،سواء من
ُ
القرآن الكريم حيث بناء الوفاق التام ،القائم عىل أصول الدين الكلية التي أمر
بإقامتها ،وعدم االختالف فيها ،أو الوفاق القائم عىل املشرك ،وإخضاعه
للعمل والتطبيق ،أو الوفاق القائم عىل قواعد احلوار واجلدل بالتي هي أحسن،
وهي القواعد املنهجية املوصلة للحقائق اليقينية ،التي يقرحها القرآن منهج ًا
1٦
للتواصل ،وأسلوب ًا للدعوة ،سلكه األنبيا ُء مجي ُعهم ،والعلامء ،واملفكرون،
والدعاة يف كل عرص.
ولعل من أهم األسباب التي دفعتني إىل خوض غامر هذا املوضوع:
املؤصلة بمنهج
َّ -ندرة وضعف الدراسات العلمية يف موضوع تدبري االختالف،
القرآن الكريم ،وتأثر كثري من الباحثني يف دراساهتم ،بالطرح الغريب القائم عىل فلسفة
الرصاع.
-حاجة املجتمع اإلنساين إىل منهج قويم يف ضبط العالقات اإلنسانية ،وإدارة
اختالفاهتا ،ولن جتد أفضل وال أكمل من منهج القرآن الكريم ،قال تعاىل﴿ :ﱏ
ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ﴾ [اإلرساء.]9 :
-الوحدة واالجتامع وتدبري االختالف مقصد ترشيعي عام ،جاء التأكيدُ عليه يف
نصوص الوحي قرآن ًا وسنة ،وهذا املقصد حيتاج إىل إعادة بيان وتوضيح
وتصحيح ،إلزالة ما علق به من أخطاء عىل مستوى التصور والعمل.
-ما تعانيه أمتنا اليوم من آالم يف عالقتها مع املخالف ،سواء املخالف داخل دائرة
اإلسالم ،أو املخالف خارجها ،ونحن نشاهد آثار ذلك يف واقع عاملنا اليوم.
-ازدياد احلاجة يف عرص العامل الواحد ،إعالمي ًا وثقافي ًا ومعلوماتي ًا ،إىل فقه
االختالف وتدبريه ،حيث تتداخل احلضارات والثقافات املختلفة واملتنوعة فيام
بينها ،ويصعب ،بل يستحيل احلد من غزو حضارة وثقافة ألخرى ،األمر الذي
يتطلب إجرا ًء وقائي ًا وعالجي ًا وهو نرش ثقافة االختالف وتدبريه ،ليقع التعارف
والتبادل احلضاري.
1٧
وتقوم هذه الدراسة عىل إشكال االضطراب القائم يف فقه االختالف ،وتدبريه،
واالعتقاد أن االختالف كله رش ،ورصاع وصدام ،وأن املخالف يف الرأي واملعتقد جيب
رفضه وإقصاؤه ،بل واستئصاله ،فكيف يمكن تدبري االختالف وبناء االئتالف الداخيل بني
املسلمني ،واخلارجي بني املسلمني وغريهم ،وسط هذا االضطراب احلاصل يف فهم حقيقة
االختالف وتدبريه؟
ولذلك جاءت هذه الدراسة ملعاجلة قضية مهمة من قضايا األمة ،يف عالقتها مع ذاهتا،
وعالقتها مع اآلخر ،والسيام يف وقتنا احلارض ،الذي ظهرت فيه جمموعة من ردود الفعل ،التي
املؤسس
جتاوزت النقاش العلمي إىل الراشق بالتهم ،والسبب يف ذلك عدم فقه االختالفَّ ،
عىل أصول وضوابط علمية ،عاصمة من الفرقة والنزاع ،مساعدة عىل الوحدة واالئتالف،
ألن اإلشكال ليس يف االختالف الذي هو سنة من سنن اهلل تعاىل يف خلقه ،وآية من آياته،
بل اإلشكال يف تدبريه وإدارته ،وحسن تسيريه ،وتوجيهه ،وكيفية احتوائه بام خيدم الوفاق
واالئتالف اإلنساين ،ومدى إتقان طرائق التعامل معه ،ليكون االختالف إجيابي ًا ال سلبي ًا.
ويمكن تفكيك هذا اإلشكال إىل تساؤالت مركزية يمكن إمجاهلا يف اآليت:
التساؤل األول :النظر إىل االختالف -من منظور علامئنا القدامى يف كتب التفسري،
والفقه وأصوله ،واجلدل واملناظرة ،وامللل والنحل ،واملقاالت والسياسة الرشعية،
عندما كانت احلضارة اإلسالمية ((1
والعالقات الدولية -نظرة من موقع إسالم منترص،
حينها متفوقة وقوية ،فاجتهد علامؤنا يف ظل هذا الواقع ،لكن هل ما أ ّثله مفكرو اإلسالم يف
تراثنا خيدم هذه املرحلة الزمنية يف عاملنا اإلسالمي؟ أم ينبغي الرجوع إىل مصادر اإلسالم
األصلية (الوحي) ،وإعادة القراءة واالجتهاد عىل ضوئها؟ وإال فام احلل يف عاملنا املعارص،
والدول العربية واإلسالمية حتت هيمنة املخالف؟
( )1وهذا ال يعني اإلطالق ،واملقصود هو التنبيه عىل رضورة إعادة صياغة فقه االختالف ومراجعته ،مع األخذ
باحلسبان الظرفية التارخيية التي ُأنتج فيها هذا الفقه ،واملجتمع الذي عرف نشأته فيه ،والتي تظل -يف الغالب-
مغيبة أو غائبة ،عند أكثر الباحثني الذين يتصدرون للحديث والكتابة يف هذا املوضوع.
18
التساؤل الثاين :هل يمكننا يف عرصنا احلارض أن ندعو إىل ثقافة تدبري االختالف،
وبناء االئتالف؟
التساؤل الثالث :هل يمكننا أن نجد يف القرآن الكريم سند ًا إلرساء ثقافة تدبري
االختالف مع اآلخر؛ املوافق أو املخالف؟
التساؤل الرابع :هل يمكن أن نجد يف القرآن الكريم ما يصحح األخطاء التي وقع فيها
املسلمون -عىل مستوى التنظري واملامرسة -يف معاجلة اختالفاهتم الداخلية أو اخلارجية؟
وتظهر معامل هذا التساؤل يف كثرة األقوال واالدعاءات املتناقضة حول "حقيقة االختالف
اإلنساين" ،ديني ًا وفكري ًا وثقافي ًا وحضاري ًا:
فمن الناس من قال :إذا كان االختالف رمحة ،فإن االتفاق واالئتالف سخط وعذاب،
ومنهم من قال :إن االختالف كله سخط وعذاب ،وفرقة وضياع للوحدة واالئتالف ،ومنهم
من اهتم املخالف املسلم يف دينه ،وجعل كل خمالف يف الرأي الفقهي أو الفكري خارج ًا عن
الدين ،فلم يميز بني دائرة القطعيات ،ودائرة الظنيات ،وبني دائرة الكفر واإليامن ،ودائرة
الصواب واخلطأ.
فهذه االدعاءات ،وغريها ،التي يصعب حرصها ،مت ّثل إشكاالً حقيقي ًا يف فهم "حقيقة
ُّ
وتدل عىل سوء الفهم ،واالستيعاب غري الصحيح للنظر الرشعي يف االختالف وتدبريه"،
التعامل مع االختالف.
19
التساؤل اخلامس :هل يف القرآن الكريم ما ُيفند الدعاوى واملزاعم القائلة بأن اإلسالم
ينفي اآلخر ويرفضه ،وأنه ال يشتمل إال عىل الدعوة للقتال؟
التساؤل السابع :هل تستطيع كليات القرآن ومقاصده العليا استيعاب ما جدَّ يف عامل
الناس عىل مستوى تدبري العالقات اإلنسانية حملي ًا وعاملي ًا؟
والسؤال املركزي الذي تتمحور حوله هذه الدراسة هو :إىل أي حدٍّ نستطيع أن نجد يف
نصوصنا التأسيسية -الوحي ،-ومقاصدها الكلية ،سند ًا لدعوى أننا ندعو اليوم إىل إرساء
احلق يف االختالف ومرشوعيته ،بوصفه ح ّق ًا من حقوق اإلنسان ،والدعوة إىل املشرك بني
بني اإلسالم وبني اإلنسان ،والدعوة إىل تدبري االختالف وإدارته بحكمة ،حتقيق ًا ملصاحله،
ودفع ًا ملفاسده ،وجتاوز ًا لعوائقه وآفاته ،إليقاعه يف واقع الناس وفق قصد اهلل الترشيعي؟.
وبناء عىل هذه اإلشكاالت العلمية ،فإن قصد هذه الدراسة هو وضع نظرية متكاملة
لقضية تدبري االختالف يف اخلطاب القرآين .وتتوخى هذه الرؤية وضع أصول كلية عامة،
تشكِّل األرضية الوفاقية اجلامعة واملؤلفة ،ومن خالل هاته الرؤية يكون قصد هذه الدراسة
اإلمجايل هو:
"فقه االختالف ،وفهم حقيقته ،وتدبريه ،من أجل بناء االئتالف والوفاق يف املجتمع
اإلنساين ،من خالل اخلطاب القرآين".
اطلعت
ُ أما عن األدبيات والدراسات السابقة املتعلقة هبا املوضوع فلم أجد -فيام
عليه -دراس ًة مبارشة يف املوضوع ،تعالج إشكال تدبري االختالف يف القرآن الكريم .وكل
ما وقفت عليه من دراسات جامعية أكاديمية ،أو كتب ومؤلفات ،أو دراسات ومقاالت يف
املوضوع ،إما أهنا كتابات فكرية ،مثل كتابات طه عبد الرمحن ،التي اعتنت بنقد نظريات
اآلخر-الفلسفة الغربية -بطريقة جدلية ،وإثبات نجاعة املقرح اإلسالمي اإليامين
واألخالقي عىل مقرح الواقع الكوين ،الذي نعته بـ"الوقاحة اإلنكارية" ،كام اهتم بالتأسيس
٢0
للحوار القيمي واألخالقي مع اآلخر ،واعتنى بإثبات احلق العريب واإلسالمي يف االختالف
((1
الفكري والفلسفي.
وإما أهنا عاجلت االختالف يف جانبه الفقهي واألصويل يف الراث اإلسالمي ،مثل
الكتابات التي عنيت بتعريف االختالف وأنواعه :املحمود واملذموم والسائغ ،وناقشت
"حديث االفراق" ،و"حديث االختالف رمحة" ،وتعرضت لتاريخ اخلالف :يف العهد النبوي
( )1وكل كتابات الدكتور طه عبد الرمحن مرشوع واحد ،وقد اعتمدنا يف هذه الدراسة عىل عدد من كتاباته ،لكن نحيل
هنا عىل كتابني يذكر يف عنوانيهام لفظ االختالف:
-عبد الرمحن ،طه .احلق اإلسالمي يف االختالف الفكري ،الدار البيضاء :املركز الثقايف العريب ،ط٢00٥ ،1م.
-عبد الرمحن ،طه .احلق العريب يف االختالف الفلسفي ،الدار البيضاء :املركز الثقايف العريب ،ط٢00٦ ،٢م.
( )٢عامرة ،حممد .اإلسالم واآلخر من يعرتف بمن؟ ومن ينكر من؟ القاهرة :مكتبة الرشوق الدولية ،ط1٤٢٣( ،٣ه/
٢00٢م) .ونظر أيض ًا:
-عامرة ،حممد .هذا هو اإلسالم ( ،)3احرتام املقدسات ،خريية األمة :رشوط مكتسبة ال عنرصية موروثة،
عوامل تفوق اإلسالم :شهادة غربية ،القاهرة :مكتبة الرشوق الدولية ،ط1٤٢٦( ،1ه٢00٥/م).
( )٣عامرة ،حممد .اإلسالم والتعددية :االختالف والتنوع يف إطار الوحدة ،القاهرة :دار الرشاد ،ط،1
(1٤18ه1998/م).
( )٤عامرة ،حممد .احلضارات العاملية تدافع؟ أم رصاع؟ القاهرة :دار هنضة مرص ،ط ،1يف التنوير اإلسالمي (1998 ،)٢٤م.
( )٥اليوسف ،أمحد عبد اهلل .رشعية االختالف :دراسة تأصيلية منهجية للرأي اآلخر يف الفكر اإلسالمي ،بريوت :دار
اهلادي ،ط1٤٢٥( ،٢ه٢00٤/م) .وانظر أيض ًا:
-أومليل ،عيل .يف رشعية االختالف ،بريوت :دار الطليعة ،ط199٣ ،٢م.
-الصغري ،عبد املجيد .فقه ورشعية االختالف يف اإلسالم ،مراجعات نقدية يف املفاهيم واملصطلحات الكالمية،
القاهرة :دار رؤية ،ط٢011 ،1م.
٢1
((٢
وعهد الصحابة ،وخالف املذاهب الفقهية ،وآدابه وحلول إشكاالته العلمية (1(،وأسبابه،
((٣
أو ضوابط اجلدل واملناظرة.
( )1زيدان ،عبد الكريم .اخلالف يف الرشيعة اإلسالمية ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط1٤08( ،٢ه1988/م).
-عوامة ،حممد .أدب االختالف يف مسائل العلم والدين ،بريوت :دار البشائر اإلسالمية ،ط،٢
(1٤18ه199٧/م) ،وانظر أيض ًا:
-العلواين ،طه جابر .أدب االختالف يف اإلسالم ،سلسلة قضايا الفكر اإلسالمي ( ،)٢هريندن :املعهد العاملي
للفكر اإلسالمي1٤1٣( ،ه199٢/م).
-البوشيخي ،أمحد .اخلالف الفقهي :دراسة يف املفهوم واألسباب واآلداب ،كتاب املحجة ( ،)٢فاس :آنفو-
برانت1٤٢٤( ،ه٢00٣/م).
-ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .خالف األمة يف العبادات ومذهب أهل السنة واجلامعة ،تقديم
وتعليق :عثامن مجعة ضمريية ،الطائف :دار الفاروق ،ط1٤10( ،1ه1990/م).
( )٢انظر بتفصيل ما ذكره العلامء الذين اهتموا بأسباب االختالف ،ومنهم عىل سبيل التمثيل ال احلرص:
-البطليويس ،عبد اهلل بن حممد بن السيد .اإلنصاف يف التنبيه عىل املعاين واألسباب التي أوجبت االختالف بني
املسلمني يف آرائهم ،حتقيق :حممد رضوان الداية ،دمشق :دار الفكر ،ط1٤0٧( ،٣هـ198٧/م) ،وجعلها ثامنية.
-ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .رفع املالم عن األئمة األعالم ،الرياض :الرئاسة العامة إلدارة
البحوث العلمية واإلفتاء والدعوة واإلرشاد ،اململكة العربية السعودية1٤1٣( ،هـ) ،حرصها يف عرشة ،بعد
أن أرجع األعذار التي يعذر هبا األئمة إىل ثالثة.
-الدهلوي ،أبو عبد العزيز أمحد بن عبد الرحيم الفاروقي ،امللقب شاه ويل اهلل .اإلنصاف يف بيان أسباب
االختالف ،راجعه وعلق عليه :عبد الفتاح أبو غدة ،بريوت :دار النفائس ،ط1٤0٦( ،٣ه198٦/م).
-اخلفيف ،عيل .أسباب اختالف الفقهاء ،القاهرة :دار الفكر العريب ،ط1٤1٦( ،٢ه199٦/م).
-اخلن ،مصطفى سعيد .أثر االختالف يف القواعد األصولية يف اختالف الفقهاء ،بريوت :مؤسسة الرسالة،
ط1٤0٢( ،٣ه198٢/م).
-الركي ،عبد اهلل بن عبد املحسن .أسباب اختالف الفقهاء ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط1٤٣1( ،٣ه٢010/م)،
...وغريها من املؤلفات التي أفردت يف هذا الفن ،أو التي تعرضت له يف مقدمات الكتب ،ومنها:
-ابن رشد ،أبو الوليد حممد بن أمحد بن رشد .بداية املجتهد وهناية املقتصد ،رشح وحتقيق وختريج :عبد اهلل
العبادي ،القاهرة :دار السالم ،ط1٤1٦( ،1ه199٥/م) ،جاء يف مقدمة الكتاب» :أما أسباب االختالف
باجلنس فستة» .أو يف باب من أبواب كتبها ومنها :بحث الشاطبي يف املوافقات يف كتاب االجتهاد »املسألة
احلادية عرشة :يف بيان أسباب اخلالف الواقع بني محلة الرشيعة».
-الشاطبي ،املوافقات يف أصول الرشيعة ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.1٥٣
( )٣امليداين ،عبد الرمحن حسن حبنكة .ضوابط املعرفة وأصول االستدالل واملناظرة ،دمشق :دار القلم ،ط،٤
(1٤1٤ه199٣/م) .انظر أيض ًا:
-رفيع ،حمامد .اجلدل واملناظرة :أصول وضوابط ،بريوت :دار ابن حزم ،ط1٤٣0( ،1ه٢009/م).
-الشنقيطي ،حممد األمني .آداب البحث واملناظرة ،حتقيق :سعود العريفي ،الرياض وجدة :دار عامل الفوائد
وجممع الفقه اإلسالمي ،ط1٤٢٦ ،1ه.
٢٢
وإما أهنا تناولت جزء ًا من املوضوع ،ومل تتناول موضوع تدبري االختالف بالشكل
الذي تناوله به الباحث يف هذه الدراسة ،مثل الكتابات التي عاجلت موضوعات احلوار
واجلدل ،والسلم ،واحلرب ،والتسامح مع اآلخر يف القرآن الكريم ،وغريها من الدراسات
التي عنيت بالدراسة املوضوعية.
وتُعدُّ كتابات حمامد رفيع (1(،أقرب ما كتب يف املوضوع هلذه الدراسة ،بل تعدّ كتابات
الدكتور حفظه اهلل يف املوضوع هي املرجعية الفكرية التي استقى منها الباحث إشكال هذه
الدراسة ،وهي التي فتحت للباحث آفاق البحث يف املوضوع ،وعىل رأسها كتابه" :النظر
الرشعي يف بناء االئتالف وتدبري االختالف :دراسة تأصيلية حتليلية" ،وإن كانت هذه الدراسة
تتفق مع الكتاب آنف الذكر أو غريه من كتابات الدكتور ،يف كوهنا دراسة تأصيلية حتليلية،
ويف توجهها العام نحو تدبري االختالف ،والبحث عن املشرك ،إال أهنام خيتلفان يف اآليت:
-هذه الدراسة تنطلق من القرآن الكريم ،بالقصد األصيل ،ومن كلياته املقاصدية،
أما الدراسة السابقة فتنطلق من النظر الرشعي عموم ًا.
-الدراسة السابقة يؤطرها املؤلف برؤية النظر التكويني والنظر الترشيعي ،عكس
هذه الدراسة التي تنطلق من الرؤية الترشيعية ابتداء.
٢٣
-الدراسة السابقة اعتمدت املنهج اجلديل يف تدبري االختالف ،يف سياق الدرس
األصويل ،عكس هذه الدراسة التي عمدت إىل االجتهاد يف استنباط أصول
احلوار واجلدل بالتي هي أحسن ،وتصنيفها ،كام يعرضها القرآن الكريم ،يف سياق
جمادلة املخالف عموم ًا.
وملا كان من الرضوري الوقوف عىل أنواع من املصادر التي ال بد منها يف سبيل
اعتمدت يف هذه الدراسة عىل املصدر األول من مصادر الترشيع
ُ اعتامد املادة العلمية هلا فقد
اإلسالمي :القرآن الكريم؛ ألنه هو منطلق الدراسة ،فكان منهج التعامل مع النص القرآين
عىل الشكل التايل:
-حتليل هذه اآليات ودراستها والربط بينها ،واستنباط النتائج املتعلقة بمباحث
الدراسة.
احلرص عىل أن يكون منطلق الدراسة ،وصياغة مباحثها وعنارصها ،هو -
اآليات القرآنية.
-اعتامد مسلك "االفتقار" يف األخذ من األدلة الرشعية ،واالستشهاد هبا ،ال مسلك
"االستظهار" وتقصيد الشارع ،كام ذكر الشاطبي رمحه اهلل (1(،وهذا مسلك علامء
األصول يف تعظيم حرمة النصوص ،فال يثبت عندهم ليشء قرار حتى تنتصب
أدلته ،وتصح براهينه.
٢٤
أما مصادر السنة واألحاديث النبوية ،فكان االعتامد أكثر عىل كتب الصحاح ،مع
الرجوع فيام سوى ذلك إىل املصادر األصلية من كتب السنة ،كام عزوت كل حديث إىل
مصدره مع التخريج ،وحذفت األسانيد طلب ًا لالختصار ،واقترصت عىل متن احلديث ،أو
مقطع منه فيام خيدم املعنى مبارشة ،حفاظ ًا عىل متابعة التحليل ،وسهولة عرض األفكار.
كام حرصت يف الدراسة عىل االستفادة من املصادر األصلية ،التي اهتمت بالقرآن
الكريم يف خمتلف جوانبه ،وعىل رأسها كتب التفسري ،وكتب األصول واملقاصد ،وكتب
اجلدل واملناظرة .وقد اهتمت الدراسة بمختلف اجتاهات علامء التفسري ،وال سيام منهم
علامء القرون العرشة األوىل :تفسري عبد الرزاق (تويف٢11 :ه) ،والطري (تويف٣10 :ه)،
والبغوي (تويف٥10 :ه) ،والزخمرشي (تويف٥٣8 :ه) ،وابن العريب (تويف٥٤٣ :ه) ،وابن
اجلوزي (تويف٥9٧ :ه) ،والقرطبي (تويف٦٧1 :ه) ،وأيب حيان (تويف٧٤٥ :ه) ،وابن كثري
(تويف٧٧٤ :ه) ،والبقاعي (تويف88٥ :ه) ،والسيوطي (تويف911 :ه(.
واستعنت كذلك ببعض كتب الشيعة ،ومن علامئهم :الطباطبائي (تويف1٤1٣ :ه)،
وحممد حسني فضل اهلل (تويف٢010 :م) ،وبعض التفاسري املتأخرة واملعارصة :تفسري
رشيد رضا (تويف1٣٥٤ :ه) ،وسيد قطب (تويف1٣8٧ :ه) ،والطاهر ابن عاشور (تويف:
1٣9٣ه) ،وغريها من التفاسري املعارصة.
وركّزت هذه الدراسة كذلك عىل كتب األصول واملقاصد ،وكتب اجلدل ،ومن علامء
هذا الفن :الباجي (تويف٤٧٤ :ه) ،واجلويني (تويف٤٧8 :ه) ،والغزايل (تويف٥0٥ :ه) ،والعز
بن عبد السالم (تويف٦٦0 :ه) ،وابن تيمية (تويف٧٢8 :ه) ،وابن القيم (تويف٧٥1 :ه)،
والشاطبي (تويف٧90 :ه) ،وابن عاشور (تويف1٣9٣ :ه) ،وعالل الفايس (تويف1٣9٤ :ه(.
وإن كانت الدراسة ركزت أكثر عىل مؤلفات التفسري ،ومؤلفات أصول الفقه
واملقاصد ،ومؤلفات اجلدل واملناظرة ،إال أن الباحث استفاد كذلك من مؤلفات الفكر،
والفلسفة ،واملنطق وعلم الكالم ،ومؤلفات امللل والنحل ،...قديمها وحديثها؛ ألن طبيعة
املوضوع تفرض االنفتاح عىل كل العلوم واملعارف ،حسب ما يسمح به سياق التحليل
والدراسة ،زيادة عىل أن النص القرآين هو منطلق كل هذه العلوم واملعارف.
٢٥
ال شك َّ
أن طبيعة هذا املوضوع تقتيض سلوك أكثر من منهج ،لذلك اعتمد الباحث يف
هذا الكتاب املناهج التالية:
أ -املنهج االستقرائي :وهو"تتبع اجلزئيات كلها أو بعضها للوصول إىل حكم عام
يشملها مجيع ًا .أو هو انتقال الفكر من احلكم عىل اجلزئي إىل احلكم عىل الكيل الذي يدخل
اجلزئي حتته (1(".وهذا املنهج مكَّن الباحث من تتبع اآليات التفصيلية اجلزئية الواردة يف
املعر عنها يف الدراسة ب"أصول ٍ
أصل كيل عام ،وهي الكليات َّ املوضوع ،واالستدالل هبا عىل
تدبري االختالف".
ب -املنهج الوصفي :ويقوم هذا املنهج عىل تقديم املادة العلمية كام هي ،فهو يصف
املادة العلمية ك ًام أو كيف ًا أو مها مع ًا بطريقة منهجية ،من غري تعليل وال تفسري (٢(،وقد استفاد
الباحث من هذا املنهج يف تقديم املادة العلمية ،كام هي يف واقع األمر.
ت -املنهج التحلييل االستنباطي :وهو املنهج الذي يعتمد عىل قراءة النصوص،
وتفكيك عنارصها ومكوناهتا وتفسريها ،ثم استنباط أصل أو قاعدة كلية منها (٣(.وساعد
هذا املنهج الباحث عىل االجتهاد يف استنباط أصول تدبري االختالف يف القرآن الكريم ،بعد
حتليل النصوص القرآنية ،وتفكيكها ،وتركيب عنارصها ،واالستنباط منها.
وسيكون املنهج يف هذا الكتاب قائ ًام عىل الركيز عىل املبادئ العامة التي حتكم قضايا
الدراسة ،دون اخلوض يف التفاصيل واجلزئيات ،إال بالقدر الذي يبني هذه املبادئ ويوضحها
ويؤصلها ،معتمدين عىل الكتاب الكريم ،والسنة النبوية الثابتة ،وعىل اإلمجاع وغريها من
ّ
( )1امليداين ،ضوابط املعرفة وأصول االستدالل واملناظرة ،مرجع سابق ،ص.188
ومن طرائق الشاطبي يف االستدالل» :االستقراء املعنوي» وهو االستقراء األكثري أو األغلبي .انظر أيض ًا:
-الشاطبي ،املوافقات يف أصول الرشيعة ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٣9
( )٢األنصاري ،فريد .أبجديات البحث يف العلوم الرشعية ،سلسلة احلوار ( ،)٢٧اململكة املغربية ،الدار البيضاء:
منشورات الفرقان ،ط1٤1٧( ،1ه199٧/م) ،ص.٦٦
( )٣امليداين ،ضوابط املعرفة وأصول االستدالل واملناظرة ،مرجع سابق ،ص .1٣9انظر أيض ًا:
-األنصاري ،أبجديات البحث يف العلوم الرشعية ،مرجع سابق ،ص.9٦
٢٦
مصادر االستنباط ،وما يناسب عرصنا من اجتهادات ذات سابقة نرية ،مستخدمني يف هذا
البحث" :فقه امليزان القرآين".
وحاولت أن ال أنساق وراء مزلق الفكر الدفاعي عند عرض عنارص الدراسة،
وأبحاثها ،وحتليل مضامينها .ومل أتبوأ موقف من يرد التهمة بعاطفة ،أو يترصف لرد الفعل،
حتى ال يأرس الباحث حركة الدراسة ،ويفسح هلا املجال لتصل إىل نتائج حقيقية ملفهوم تدبري
االختالف وأصوله يف القرآن الكريم ،جاع ً
ال القرآن قاعدة لالجتهاد.
املقدمة :وتضمنت :أمهية الدراسة ودواعيها ،وبيان إشكاهلا ،والدراسات السابقة يف
املوضوع ،ومنهج الدراسة ،وخطة الدراسة وتقسيامهتا املنهجية ،وأخري ًا أهم الصعوبات
التي اعرضت الباحث.
املدخل العام للدراسة :تدبري االختالف :دراسة يف املفهوم والسياق القرآين :وقسمته
إىل قضيتني :القضية األوىل :االختالف وتدبريه :دراسة يف املفهوم ،وتناولت فيها :مفهوم
االختالف ،ومفهوم التدبري ،واملقصود بأصول تدبري االختالف يف الدراسة .والقضية
الثانية :تناولت فيها :االختالف يف السياق القرآين :سياق االختالف الطبيعي واإلنساين،
وسياق االختالف التكويني والترشيعي ،وسياق االختالف املذموم واملحمود ،وسياق
االختالف يف إطار اجلوامع.
الفصل األول :أصول تدبري االختالف االعتقادية :عاجلت فيه األصول اإليامنية ،أو
املشركات العقدية ،التي أمر القرآن الكريم بإقامتها واالجتامع عليها ،وهنى عن التفرق
فيها ،وجاء هبا كل األنبياء والرسل (1(،وهي :أصل اإليامن باهلل وتوحيده ،أصل اإليامن
( )1ألف الشوكاين كتاب ًا يدل عىل أن هذه األصول متثل مشرك ًا ديني ًا متفق ًا عليه .انظر:
-الشوكاين ،حممد بن عيل .إرشاد الثقات إىل اتفاق الرشائع عىل التوحيد واملعاد والنبوات ،صححه وضبطه:
جمموعة من العلامء ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤0٤( ،1ه198٤/م).
٢٧
باألنبياء والرسل ،وأصل اإليامن باملصري واملآل األخروي ،معتمد ًا عىل استقراء اآليات
القرآنية الدالة عىل معامل هذه األصول الكلية ،وحتليلها ومناقشتها بام جييل دورها يف تدبري
االختالف الديني واإلنساين عموم ًا.
الفصل الثاين :أصول تدبري االختالف الترشيعية :اشتمل هذا الفصل عىل األصول
الترشيعية العملية ،التي متثل القواعد القرآنية الكرى ،واملقاصد الكلية لرشيعة القرآن،
التي أمر بتنزيلها وتطبيقها إلدارة االختالف ومعاجلته ،والوقاية من سلبياته ،وهي
أصول كام ختدم االختالف الداخيل بني املسلمني ،ختدم االختالف اخلارجي بني املسلمني
وغريهم ،وهذه األصول هي :أصل إقامة السلم وترك احلرب ،وأصل إقامة العدل ونفي
الظلم ،وأصل إقامة التعاون اإلنساين ،وأصل إقامة الصلح وترك اخلصام ،وأصل إقامة
الشورى وترك االستبداد ،وأصل االلتزام بالعهود واملواثيق ،وأصل األمر باملعروف
والنهي عن املنكر.
الفصل الثالث :أصول تدبري االختالف املنهجية :وإذا كان الفصل األول يعالج
األصول التصورية ،والفصل الثاين قد تناول األصول العملية ،فإن هذا الفصل جاء لدراسة
األصول املنهجية لتدبري االختالف ،التي تعنى باحلوار واجلدل بالتي هي أحسن ،وقسمها
الباحث إىل :أصول تدبري االختالف املنهجية الكلية ،وأصول تدبري االختالف املنهجية
التفصيلية ،حاول الباحث من خالهلا استقراء األصول القرآنية ملنهج اجلدل بالتي هي
أحسن ،ودراستها وحتليلها ،مستفيد ًا يف ذلك من تراث علم األصول واجلدل واملناظرة
الذي أثله علامؤنا رمحهم اهلل.
وقد اعرضتني يف بحثي هذا بعض الصعوبات التي يمكن إمجاهلا يف اآليت:
عدم وجود دراسة مبارشة يف املوضوع –يف حدود اطالعي ،-تعالج تدبري -
االختالف يف ضوء كليات القرآن ومقاصده.
-كتب الراث اإلسالمي ،وال سيام كتب التفسري واألصول ،مل تسعف الباحث
٢8
يف التأصيل لقضايا البحث ،باستثناء الكتب التي اعتنت بمقاصد القرآن،
وبمقاصد الترشيع عموم ًا.
-صعوبة صياغة خطة حمكمة للدراسة؛ إذ تم تعديلها بعد إهناء الدراسة أكثر من
مرة ،فقد كان عنوان الدراسة األول هو" :معامل تدبري االختالف يف اخلطاب
القرآين" ،والثاين" :االختالف يف اخلطاب القرآين :أصول التأسيس وضوابط
التدبري" ،والثالث واألخري" :أصول تدبري االختالف يف القرآن الكريم :دراسة
تأصيلية حتليلية" ،وهذا األمر أرهقني ،وأخذ مني جهد ًا كبري ًا .وهذا اإلرصار
عىل التعديل يف اخلطة والصياغة ،نابع من اإليامن بأن من مل حيسن التقسيم مل
حيسن التأليف.
وحرص الباحث –ما أمكن -عىل التفرد واالستقالل يف صياغة موضوعات -
البحث ودراستها ،بعيد ًا عن التبعية والتقليد.
٢9
املدخل:
جذر كلمة "االختالف" -التي هي مصدر من فعل اختلف( -خ ل ف) ،قال ابن
ٍ
يشء يقوم ف) اخلاء والالم والفاء أصول ثالثة :أحدها أن جيي َء يش ٌء بعد "(خ َل َ
فارسَ :
مقام ُه ،والثاين خالف قدا ٍم ،والثالث الت ُّ ُ
َّغري".
((1
( )1ابن فارس ،أبو احلسني أمحد بن فارس بن زكريا .معجم مقاييس اللغة ،حتقيق :عبد السالم هارون ،بريوت :دار
الفكر1٣99( ،ه19٧9/م) ،مادة( :خلف) ،ج ،٢ص.٢10
( )٢الفراهيدي ،اخلليل بن أمحد بن عمرو بن تيم الفراهيدي األزدي .كتاب العني ،حتقيق :مهدي املخزومي وإبراهيم
السامرائي ،بريوت :دار ومكتبة اهلالل ( ،د.ت ،).ج ،٤ص ،٢٦9وانظر أيض ًا:
-ابن فارس ،معجم مقاييس اللغة ،مرجع سابق ،مادة( :خلف) ،ج ،٢ص.٢10
-ابن منظور ،أبو الفضل مجال الدين حممد بن مكرم بن عيل الرويفعي .لسان العرب ،بريوت :دار صادر ،ط،٣
(1٤1٤ه) ،مادة( :خلف) ،ج ،9ص.8٦-8٣
-الفريوز آبادي ،جمد الدين أبو طاهر حممد بن يعقوب بن حممد .بصائر ذوي التمييز يف لطائف الكتاب العزيز،
حتقيق :حممد عيل النجار ،القاهرة :وزارة األوقاف ،املجلس األعىل للشؤون اإلسالمية ،جلنة إحياء الراث
اإلسالمي ،ط1٤1٦( ،٣ه199٦/م) ،ج ،٢ص.٥٦٢
-اجلوهري ،أبو نرص إسامعيل بن محاد ،الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية ،حتقيق :أمحد عبد الغفور عطار،
بريوت :دار العلم للماليني ،ط1٤0٧( ،٤ه198٧/م) ،مادة( :خلف) ،ج ،٤ص.1٣٥٧
٣1
غري قدَّ ا ٍم .يقال :هذا خلفي ،وهذا ُقدَّ امي، ومن الثاين :خالف قدا ٍمَ :خ ْل ٌ
ف ،وهو ُ
اختلفت الرجل أخذته من خلفه ،واختلفه جعله خلفه ،ويقال أيض ًا :أخلف الرجل،
ُ فيقال:
جعله خلفه؛ أي رده إىل خلفه ،أي وراءه أو وراء ظهره .قال تعاىل﴿ :ﭭ ﭮ
ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ﴾ [التوبة]81 :؛ أي خمالفني؛ ومثله قوله تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ
ﭔ﴾ [التوبة ،]118 :واخللف ضد قدام ،قال ابن ِسيدَ ْهَ :خ ْل ٌ
ف نقيض ُقدَّ ام قال تعاىل ﴿ :ﯢ
((1
ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﴾ [البقرة ]٢٥٥ :واخللف :الظهر.
ف .وهو قوله صىل اهلل عليه ف ُفو ُه ،إذا َت َغ َّ َري ،و َأ ْخ َل ََّغري :قوهلم َخ َل َ ومن الثالث :الت ُّ
يح ا ْملِ ْس ِك"( (٢ومنه اخلالف يف الوعد، ب ِعنْدَ اهللَِّ ِم ْن ِر ِ ِ
الصائ ِم َأ ْط َي ُ "خلُ ُل ُ
وف َف ِم َّ وآله وسلمَ :
ِ
الرجل عن ُخ ُل ِق أبيهَّ :
تغري ،بمعنى ُ فوخ َل َ قال تعاىل ﴿ :ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﴾ [التوبةَ .]٧٧ :
((٣
تغايرمها وعدم اتفاقهام يف اخللق.
ومن هذه املعاين اللغوية جلذر (خ ل ف) يف اللغة ،تدل عىل أن االختالف يف أصل
اللغة ،فيه عملية جتاوز وتنحي لوضع سابق ،نحو وضع جديد يقوم مقام األول ،يقول ابن
َ
تلفون؛ ألن كل واحد منهم ينحي قول ف الناس يف كذا ،والناس ِخ ْل َف ٌة ،أي ُخم
"اخ َت َل َ
فارسْ :
نحاه" (٤(،وتدل كذلك عىل التغاير يف الصفات ،واهليئات،
نفس ُه ُمقا َم الذي َّ
قيم َ
صاحبه ،و ُي ُ
واألخالق وعدم االتفاق فيها.
( )1ابن فارس ،معجم مقاييس اللغة ،مرجع سابق ،مادة( :خلف) ،ج ،٢ص ،٢1٢وانظر أيض ًا:
الرازي ،زين الدين حممد بن أيب بكر الرازي .خمتار الصحاح ،حتقيق :يوسف حممد ،بريوت وصيدا :املكتبة -
العرصية والدار النموذجية ،ط1٤٢0( ،٥ه1999/م) ،مادة( :خ ل ف) ،ص.9٥
ابن منظور ،لسان العرب ،مرجع سابق ،مادة( :خلف) ،ج ،9ص.8٢ -
الراغب األصفهاين ،أبو القاسم احلسني بن حممد .املفردات يف غريب القرآن ،حتقيق :صفوان عدنان الداودي، -
بريوت ودمشق :دار القلم ،والدار الشامية ،ط1٤1٢ ،1ه ،مادة( :خلف) ،ص.٢9٣
( )٢البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :الصوم ،باب :فضل الصوم ،ج ،٣حديث رقم ( ،)189٤ص.٢٤
( )٣ابن فارس ،معجم مقاييس اللغة ،مرجع سابق ،مادة( :خلف) ،ج ،٢ص ،٢1٢وانظر أيض ًا:
الراغب األصفهاين ،املفردات يف غريب القرآن ،مرجع سابق ،مادة( :خلف) ،ص.٢9٥ -
اجلوهري ،الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية ،مرجع سابق ،مادة( :خلف) ،ج ،٤ص.1٣٥٥ -
( )٤ابن فارس ،معجم مقاييس اللغة ،مرجع سابق ،مادة( :خلف) ،ج ،٢ص.٢1٣
٣٢
ومما يؤكد هذا التوجه اللغوي :ورد يف كتب اللغة كذلك "اختلف" :ضدُّ اتفق .وكل
ما مل يتساو فقد ختالف واختلف ،وختالف األمران واختلفا :مل يتفقاِ .
واخل َال ُ
ف :املخالفة
كثري اخلالف ،والقو ُم ِخ ْل َف ٌة؛ أي
فُ ، وخالِ َف ٌة؛ َأي ُخيالِ ُ
ف َورجل َخالِ ٌ
ٌ واخلالف ا ُملضا ّدةُ،
واحد إىل خالف ما ذهب إليه اآلخر، ٍ خمتلفون (1(،وختالف القوم واختلفوا :ذهب ُّ
كل
((٢
فاخلالف ِضدُّ الوفاق.
ُ
( )1ابن منظور ،لسان العرب ،مرجع سابق ،مادة( :خلف) ،ج ،9ص ،91-8٢وانظر أيض ًا:
الفريوز آبادي ،جمد الدين أبو طاهر حممد بن يعقوب بن حممد .القاموس املحيط ،حتقيق :مكتب حتقيق الراث يف -
العرقسويس ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط1٤٢٦( ،8ه٢00٥/م) ،ص.808
ُ مؤسسة الرسالة ،إرشاف :حممد نعيم
الفراهيدي ،كتاب العني ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٢٦9 -
اجلوهري ،الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية ،مرجع سابق ،مادة( :خلف) ،ج ،٤ص.1٣٥٥ -
( )٢الفيومي ،أبو العباس أمحد بن حممد بن عيل .املصباح املنري يف غريب الرشح الكبري ،بريوت :املكتبة العلمية( ،د.ت،).
ج ،1ص.1٧8
( )٣سواء كان ذلك يف الرأي ،أو احلال ،أو الصور ،أو األوضاع ،أو اهليئات ،وسواء تع َّلق األمر بالفرد أو اجلامعة.
٣٣
ﭛ ﴾ [النبأ ﴿ ]٣ – 1 :ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﴾ [الذاريات ﴿ ]8 :ﮰ ﮱﯓ﴾ [النحل ﴿ ]1٣ :ﮦ
((1
ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﴾ [آل عمران".]10٥ :
األول :عدم التفريق بني اخلالف واالختالف ،بل معنامها واحد( (٢وهو" :أن يأخذ ّ
كل
واحد طريق ًا غري طريق اآلخر يف حاله أو قوله".
ألن ّ
الضدّ ؛ ّ ِ
كل الثاين :االختالف واخلالف مع ًا أعم من الضد" ،واخل َالف ّ
أعم من ّ
ضدّ ين خمتلفان ،وليس ّ
كل خمتلفني ضدّ ين".
( )1الراغب ،املفردات يف غريب القرآن ،مرجع سابق ،مادة( :خلف) ،ص .٢9٤وانظر أيض ًا:
الفريوز آبادي ،بصائر ذوي التمييز يف لطائف الكتاب العزيز ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٥٦٣-٥٦٢ -
( )٢عر القرآن الكريم ب "االختالف" يف سياقات متعددة -كام سيأيت -يف اختالف الظواهر الكونية ،ويف اختالف
الناس عموم ًا ،ومل يميز بينها وبني كلمة "خالف "،حيث يعر القرآن بالكلمتني دون متييز يف املعنى ،عىل خالف ما
ذهب إليه عطية حممد سامل ،الذي جعل استعامل »خالف» يكون يف حالة العصيان الواقع عن قصد ،كمن خيالف
األوامر ،واستعامل "اختلف" يكون يف حالة املغايرة يف الفهم الواقع يف تفاوت وجهات النظر ،مستند ًا يف ذلك إىل
بعض السياقات القرآنية .انظر:
سامل ،عطية حممد .موقف األمة من اختالف األئمة ،املدينة املنورة :دار اجلوهرة ،ط1٤٢٦ ،1ه ،ص.1٥ -
لكن ما ذهب إليه غري مطرد يف القرآن كله ،ومما ينقض ما ذهب إليه قوله تعاىل﴿ :ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ
ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎﲏ ﴾ [البقرة ]٢1٣ :فهذا استعامل للفظة "اختلف" ،يف حالة العصيان الواقع
عن قصد ،كمن خيالف األوامر ،ومل يعر القرآن بلفظة "خالف".
وباجلملة ،فإن التفريق بني االختالف واخلالف وعدم التفريق بينهام ،جمرد اصطالح ،وال مشاحة يف
االصطالح ،والذي عليه العلامء من األصوليني والفقهاء يف مؤلفاهتم ،عدم التفريق بينهام ،فإهنم يستعملون أحدمها
مكان اآلخر ،بل تكاد جتد ذلك يف موضع واحد ،ويف مسألة واحدة ،بل يف سطر واحد ،حيث يعر باللفظتني يف
سياق واحد بمعنى واحد .انظر:
-الشافعي ،أبو عبد اهلل حممد بن إدريس الشافعي املطلبي .الرسالة ،حتقيق :أمحد حممد شاكر ،القاهرة :مكتبة
احللبي ،ط1٣٥8( ،1ه19٤0/م) ،ج ،٣ص .٥٦0ويعر الشاطبي عن معنى "االختالف" ب"اخلالف" يقول:
"وإنام يعد يف اخلالف :األقوال الصادرة عن أدلة معترة يف الرشيعة ،كانت مما يقوى أو يضعف "..انظر:
الشاطبي ،املوافقات يف أصول الرشيعة ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.1٢٤ -
٣٤
الثالث :االختالف ال حيمل معنى املنازعة( (1واملشاقة (٢(،املفضية إىل الصدام والرصاع،
حيول االختالف إىل منازعة :واقع الناس ،ونفوسهم التي ال حتتمل االختالف،
وإنام الذي ّ
وال تتسع لقبول املخالف" ،و ّملا كان االختالف بني النّاس يف القول قد يقتيض التّنازع استعري
ذلك للمنازعة واملجادلة" فجاء القرآن الكريم -كام يقول حممد عوامة -يف بعض آياته عىل
((٣
هذا املعنى احلاصل الناتج.
الرابع :أن االختالف واخلالف مغايرة ،وتباين ،وعدم اتفاق يف احلال أو القول "أن
يأخذ ّ
كل واحد طريق ًا غري طريق اآلخر يف حاله أو قوله".
( (1يقول الفراهي يف (التنازع)" :قد تبدّ ل معناه ،ويف الصحيح التنازع هو التداول والتجاذب عموم ًا ،ويف القرآن
الكريم﴿ :ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﴾ [الطور ﴿ ]٢٣ :ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﴾ [طه]٦٢ :
﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ
ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﴾ [الكهف ."]٢1 :وعلق املحقق عىل عبارة" :تبدّ ل
معناه" بقوله :يعني أن معنى "اخلالف" و"التخاصم" غلب عىل معنى "التداول" و"التجاذب ".فزعم أبو حيان :أن
"التنازع يقتيض االختالف" .ثم دخلت الكلمة يف الفارسية واألردية ،بعدما جتردت عن أصلها ،فصارت حمصورة
يف معنى "اخلالف" و"اخلصام" .فأخطأ بعض املفسين واملرمجني ملعاين القرآن الكريم ،وجعلوا "التنازع" بمعنى
"التخاصم" يف املوضع الذي هو فيه بمعنى "التداول" ال غري .ومن أسلوب القرآن الكريم أن "التنازع" إذا أريد به
"التجاذب" و"التداول" ،تعدّ ى إىل مفعوله بنفسه ،وكان مذكور ًا ،كام يف اآليات التي استشهد هبا املؤلف .أما إذا
اجلر (يف) كام يف قوله تعاىل﴿ :ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ كان بمعنى "اخلصام" و"االختالف" فيتعدى إليه بحرف ّ
ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀﲁ﴾ [آل عمران﴿ ]1٥٢ :ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﴾ [النساء:
﴿ ]٥9ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ﴾ [األنفال﴿ ]٤٣ :ﱱ ﱲ ﱳ ﱴﱵ ﴾ [احلج ]٦٧ :أو بحذف
املفعول به كام يف قوله تعاىل ﴿ :ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﴾ [األنفال ]٤٦ :انظر:
الفراهي ،عبد احلميد الفراهي اهلندي .مفردات القرآن نظرات جديدة يف تفسري ألفاظ قرآنية ،حتقيق ورشح: -
حممد أمجل أيوب اإلصالحي ،بريوت :دار الغرب اإلسالمي ،ط٢00٢ ،1م ،ص.1٦0
( )٢وتفسري (الشقاق) عىل أربعة وجوه :األول :الضالل ..والثاين :االختالف ..والثالث :العداوة ..والرابع:
احلجاج .انظر:
-ابن سالم ،حييى بن سالم بن أيب ثعلبة .التصاريف تفسري القرآن مما اشتبهت أسامؤه وترصفت معانيه ،قدمت
له وحققته :هند شلبي ،عامن :مؤسسة آل البيت امللكية للفكر اإلسالمي1٤٢9( ،ه٢008/م) ،ص.٢1٧
وانظر :اآليات التي وردت فيها لفظة "الشقاق" يف:
-مرزوق ،عبد الصبور .معجم األعالم واملوضوعات يف القرآن الكريم ،القاهرة :دار الرشوق ،ط،1
(1٤1٥ه199٥/م) ،ص.٧99
( )٣عوامة ،حممد .أدب االختالف يف مسائل العلم والدين ،بريوت :دار البشائر اإلسالمية ،ط1٤18( ،٢ه199٧/م) ،ص.8
٣٥
األصفهاين يف أن االختالف مغايرة ومباينة وعدم
َّ الراغب
َ ويوافق السمني احللبي
اتفاق بني املختلفني؛ إذ يتخذ كل واحد منهام طريق ًا غري طريق من خيالفه ،يقول السمني
احللبي" :واملخالفة :أن يأخذ كل واحد طريق ًا غري طريق اآلخر يف حاله أو فعله ،قال تعاىل:
((1
﴿ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﴾ [هود"...]88 :
((٣
وقد استعملت كلمة "اختلف" يف القرآن الكريم يف معان متعددة ومتنوعة:
( )1السمني احللبي ،أبو العباس أمحد بن يوسف بن عبد الدايم .عمدة احلفاظ يف تفسري أرشف األلفاظ ،معجم لغوي
أللفاظ القرآن الكريم ،حتقيق :حممد باسل عيون السود ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤1٧( 1هـ199٦/م)،
مادة( :خ ل ف) ،ج ،1ص ،٥٢٣وانظر أيض ًا:
-الفريوز آبادي ،بصائر ذوي التمييز يف لطائف الكتاب العزيز ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٥٦٣-٥٦٢
( )٢الفريوز آبادي ،بصائر ذوي التمييز يف لطائف الكتاب العزيز ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٥٦٢
( )٣تتبع صيغ مادة( :خ ل ف) يف القرآن الكريم واستعامالهتا املختلفة يف:
-عبد احلميد ،أمحد خمتار .املعجم املوسوعي أللفاظ القرآن الكريم وقراءاته ،بمساعدة فريق عمل ،بريوت:
مؤسسة سطور املعرفة ،ط1٤٢٣( ،1ه٢00٢/م)( ،خ ل ف) ،ص.1٧٢-1٧0
-جممع اللغة العربية .معجم ألفاظ القرآن الكريم ،القاهرة :اهليئة املرصية العامة للتأليف والنرش،
(1٤09ه1989/م) ،مادة( :خ ل ف) ،ص.٣٦٧
-عبد الباقي ،حممد فؤاد .املعجم املفهرس أللفاظ القرآن الكريم ،القاهرة :دار احلديث ودار الكتب املرصية،
(1٣٦٤هـ) ،مادة( :خ ل ف) ،ص.٢٣8
مرزوق ،معجم األعالم واملوضوعات يف القرآن الكريم ،مرجع سابق ،ص.٥9٤ -
٣٦
معنى التناقض :قال تعاىل ﴿ :ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﴾ [النساء]8٢ :
أي تعاقبهام.
وعىل هذا يمكن القول بأن "االختالف" يراد به مطلق املغايرة يف القول أو الرأي
بمعنى االختالف العام ،الذي يشمل األفكار واآلراء ((1
أو احلالة أو اهليئة أو املوقف،
((٢
واملذاهب واملواقف.
( )1العلواين ،طه جابر .أدب االختالف يف اإلسالم ،سلسلة قضايا الفكر اإلسالمي ( ،)٢هريندن :املعهد العاملي للفكر
اإلسالمي1٤1٣( ،ه199٢/م) ،ص.٢٢
حق
( )٢وقد يأخذ اخلالف واالختالف معنى اجلدل ،يقول اجلرجاين" :اخلالف :منازعة جتري بني املتعارضني لتحقيق ّ
أو إلبطال باطل ".انظر:
-اجلرجاين ،عيل بن حممد بن عيل .كتاب التعريفات ،حتقيق :مجاعة من العلامء بإرشاف النارش ،بريوت :دار
الكتب العلمية ،ط1٤0٣( ،1ه198٣/م) ،ص.101
ويقول طه جابر العلواين" :إذا اشتد اعتداد أحد املخالفني أو كليهام بام هو عليه من قول أو رأي أو موقف،
وحاول الدفاع عنه ،وإقناع اآلخرين به ،أو محلهم عليه ،سميت تلك املحاولة باجلدل ".انظر:
-العلواين ،أدب االختالف يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.٢٢
ويعرف أمحد البوشيخي االختالف يف الفروع الفقهية بقوله" :تغاير أحكام الفقهاء واملجتهدين يف مسائل
ِّ
الفروع ،سواء كان ذلك عىل وجه التقابل ،كأن يقول بعضهم يف حكم مسألة ما باجلواز ،ويقول البعض اآلخر فيها
باملنع .أو كان عىل وجه دون ذلك ،كأن يقول أحدهم :حكم هذه املسألة الوجوب ،ويقول غريه :حكمها الندب،
أو اإلباحة ".انظر:
-البوشيخي ،أمحد .اخلالف الفقهي :دراسة يف املفهوم واألسباب واآلداب ،كتاب املحجة ( ،)٢آنفو-برانت،
فاس1٤٢٤( ،ه٢00٣/م) ،ص» .٦واالختالف عند بعض املتكلمني :هو كون املوجودين غري متامثلني وغري
متضادين".
-صليبا ،مجيل .املعجم الفلسفي ،بريوت :دار الكتاب اللبناين1٤0٢( ،ه198٢/م) ،ج ،1ص.٤٧
٣٧
لكن ما هيمنا يف هذه الدراسة ،من هذه املعاين وغريها لكلمة "اختلف" ،هو "معنى
التفرق وعدم االتفاق ،وأخذ كل واحد من املختلفني طريق ًا خمالف ًا لآلخر "...و"معنى
التفاوت والتنوع والتباين" ،وغريها من املعاين الدالة عىل االختالف اإلنساين يف اآلراء
واألفكار واملذاهب ،نحاول التامسها يف اآليات القرآنية ،سواء عر القرآن الكريم عنها بلفظ
"االختالف" ،أو بغريه من األلفاظ واإلشارات.
-2مفهوم التدبري:
أ -التدبري يف اللغة:
عاقبتِه ما مل
بته ،واستدبره :رأى يف ِ
ْ َ
عاق ِ
"التدبري" يف اللغة :دبر األمر وتَدبره :نظر يف ِ
َّ َ َّ َ ْ
ير يف َصدْ ِر ِه ،والتدبري يف األمر :أن تنظر إىل ما تؤول إليه عاقبته (1(،و"التَّدْ بِري هو َت ْق ِويم
صالح عاقبته (٢(".ويأخذ معنى السياسة (٣(،ويقال للتدبري املستمر ْاألَمر عىل َما يكون فيه َ
األمر :فعله بعناية وعن فكر ورو ّية ،واملد ِّبر :املدير أو املخ ّطط ،وا ُملد ِّبر:
َ سياسة (٤(،و"د َّبر
ويرصفها عىل وفق مشيئته،
ّ اسم من أسامء اهلل احلسنى ،ومعناه :الذي ُجيري األمور بحكمته
((٥
وعىل ما يوجب ُح ْس َن عواقبها".
ٍ
بفعل شاق ،وقيل :التدبري :النظر يف ويقول اجلرجاين" :التدبري :استعامل الرأي
العواقب بمعرفة اخلري ،وقيل :التدبري :إجراء األمور عىل علم العواقب ،وهي هلل تعاىل
ً ((٦
حقيق ًة ،وللعبد جمازا".
( (1ابن منظور ،لسان العرب ،مرجع سابق ،مادة( :دبر) ،ج ،٤ص ،٢٧٣وانظر أيض ًا:
-الزبيدي ،حممد بن حممد املرتىض .تاج العروس من جواهر القاموس ،حتقيق :جمموعة من املحققني ،الكويت:
دار اهلداية للطباعة والنرش والتوزيع ،19٦٥ ،مادة( :دبر) ،ج ،11ص.٢٦٥
-الرازي ،خمتار الصحاح ،مرجع سابق ،مادة( :د ب ر) ،ص .101
-ابن فارس ،معجم مقاييس اللغة ،مرجع سابق ،مادة( :دبر) ،ج ،٢ص.٣٢٤
( )٢العسكري ،أبو هالل احلسن بن عبد اهلل بن سهل بن سعيد بن حييى بن مهران .الفروق اللغوية ،حتقيق وتعليق:
حممد إبراهيم سليم ،القاهرة :دار العلم والثقافة.( ،د.ت ،).ص.191
( )٣أبو حبيب ،سعدي ،القاموس الفقهي لغة واصطالح ًا ،دمشق :دار الفكر ،ط1٤08( ،٢ه1988/م) ،ص.1٢8
( )٤العسكري ،الفروق اللغوية ،مرجع سابق ،ص.٢٧
( )٥عبد احلميد ،أمحد خمتار .معجم اللغة العربية املعارصة ،بمساعدة فريق عمل ،القاهرة :عامل الكتب ،ط1٤٢9( ،1ه
٢008/م) ،مادة( :د ب ر) ،ج ،1ص.٧٢1-٧٢0
( (٦اجلرجاين ،كتاب التعريفات ،مرجع سابق ،ص.٥٤
٣8
وعىل هذا ،فإن "التدبري" يف اللغة ،يأخذ معنى النظر يف عاقبة اليشء ،والتفكري والتعقل
فيه ٍّ
بتأن وروية ،من غري استعجال ،إلصالحه ،وسياسته ،وإدارته بحكمة.
وقال أبو حيان يف تفسري قوله تعاىل ﴿ :ﭹ ﭺ﴾ [الرعد" ]٢ :التَّدْ بِ ُري إنام هو
واقبها" (٢(.ويقول الراغب يف تفسري قوله تعاىل ﴿ :ﭻ ﭼ ار األُمور و َع َ النظر يف إِ ْد َب ِ
ﭽﱮ﴾ [النساء" ]8٢ :التدبري :النظر يف ُد ُبر األمور وتأ ّملها ،وقد يقال ذلك يف تأ ّمل اليشء
بعد حصوله ،ومعرفة خريه من رشه ،وصالحه من فساده ،كقولك :تدبرت ما فعل فالن
((٣
فوجدته سديد ًا".
ومن تفسري ابن عاشور ،وأيب حيان ،والراغب لكلمة "التدبري" ،يتبني لنا أن "التدبري"
يأخذ معنى النظر والتفكُّر والتقدير يف عواقب األمر املقدّ ر ،ومآالته وعوائقه ،من أجل
حتقيق مقاصده ومصاحله املحمودة ،واجتناب مفاسده ،وآفاته.
وهو املعنى نفسه الذي نستعمل فيه "تدبري االختالف" يف هذه الدراسة ،بمعنى
العمل عىل توجيه االختالف ،بالنظر يف عواقبه ،بام حيقق مقاصده ومصاحله ،واجتناب
مفاسده وآفاته.
( )1ابن عاشور ،حممد الطاهر بن عاشور .التحرير والتنوير ،تونس :الدار التونسية ،ط198٤( ،1م) ،ج ،11ص.8٧
( )٢أبو حيان ،حممد بن يوسف بن عىل بن يوسف ابن حيان الغرناطي األندليس .تفسري البحر املحيط ،حتقيق :عادل
أمحد عبد املوجود وعيل حممد معوض ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤1٣( ،1ه199٣/م) ،ج ،٦ص.٣٤٥
( )٣الراغب ،أبو القاسم احلسني بن حممد بن املفضل األصفهاين .تفسري الراغب األصفهاين ،حتقيق ودراسة :عادل بن
الش ِدي ،الرياض :دار الوطن ،ط1٤٢٤( ،1ه٢00٣/م) ،ج ،٣ص.1٣٤8 عيل ِّ
٣9
وتستعمل الكلمة يف "الراث التفسريي" يف سياق انفراد احلق سبحانه بتدبري
الساموات واألرض وما بينهام ،وتدبري الليل والنهار ،بل تدبري العامل كله (1(،تدبري ًا
حكي ًام ،عىل وفق احلكمة والصواب ،ال ينازعه وال يشاركه أحد يف ذلك ،فهو سبحانه
حكيم يف تدبري خلقه.
وأغلب التفاسري تربط كلمة "حكيم" "حكي ًام" "احلكيم" الواردة يف القرآن الكريم،
ب"التدبري اإلهلي"؛( (2أي جتعلهام متالزمني ،وهذا فيه داللة عىل ارتباط كلمة "التدبري"
ب"احلكمة" ،وهذا يعني أن تدبري األمر هو :توجيهه وترصيفه بحكمة.
كام ورد استعامل الكلمة يف سياق تدبري احلرب ،واحلكم ،وامللك ،واملال ،ومصالح
املعاش يف احلياة الدنيا ،وغريها من املجاالت ،وإحسان سياسة ذلك كله ،وهذا يعني أن
الكلمة مستعملة عند املفسين يف :سياسة األمر بام يصلحه بحكمة وتع ُّقل.
ويف املعنى نفسه استعملها األصوليون ،غري أهنم ركزوا يف استعامالهتم للكلمة عىل
"تدبري املكلف" ،عىل خالف املفسين الذين كان تركيزهم أكثر عىل "التدبري اإلهلي"؛ ألن
املفس هيتم بالكشف عن مراد اهلل تعاىل ،واألصويل هيتم باألحكام العملية املرتبطة باملكلف.
( )1يقول الزخمرشي يف تفسري قوله تعاىل ﴿ :ﲼ ﲽ ﲾﲿ ﴾ [يونس" :]٣1 :ومن ييل تدبري أمر العامل كله ".انظر:
-الزخمرشي ،جاراهلل أبو القاسم حممود بن عمر .الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ،اعتنى به َّ
وخرج أحاديثه
وع ّلق عليه :خليل مأمون شيحا ،بريوت :دار املعرفة ،ط1٤٣0( ،٣ه٢009/م) ،ج ،11ص .٤٦٣ويقول
العز بن عبد السالم يف قوله تعاىل ﴿ :ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺﲻ ﴾ [لقامن" ]٢٦ :له تدبري ذلك" .انظر:
-ابن عبد السالم ،أبو حممد عز الدين عبد العزيز بن عبد السالم السلمي الدمشقي .تفسري القرآن (اختصار
النكت والعيون للاموردي) ،حتقيق :عبد اهلل بن إبراهيم الوهبي ،بريوت :دار ابن حزم1٤1٦( ،ه199٦ /م)،
ج ،1ص.٢٤9
( )٢يقول القرطبي يف تفسري قوله تعاىل﴿ :ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ﴾ [التغابن ﴿" ]18 :ﲻ﴾ يف
األش ِ
ياء ".انظر: املح ِك ُم ِخلَ ِ
لق ْ تدْ بِري خلقه .وقال ا ْب ُن ْاأل ْن َب ِ
احلكيم هو ْ
ُ ار ِّي:
القرطبي ،أبو عبد اهلل حممد بن أمحد بن أيب بكر القرطبي .اجلامع ألحكام القرآن ،حتقيق :هشام سمري البخاري، -
الرياض :دار عامل الكتب( ،د.ت1٤٢٣( ،).ه٢00٣ /م) ،ج ،18ص.1٤٧
٤0
ُ
وأصل اليشء :أساسه الذي يقوم عليه ،وأصول ((1
عبارة عام يفتقر إليه ،وال يفتقر هو إىل غريه.
((٢
العلوم :قواعدها التي تبنى عليها األحكام.
األصل ما يقوم ويرتكز ويبنى عليه اليشء ،فاملقصود باألصول هي :القواعد الكلية التي
ويتأسس عليها التوافق اإلنساين ،واالئتالف بينهم ،وتدبري اختالفاهتم يف القرآن الكريم.
ّ يبنى
إذا كان "االختالف" -كام سبق -يأخذ معنى املضادة والتفرق وعدم االتفاق،
ذهاب كل واحد
ُ والتناقض والتعاقب والتنوع ،وكل ما مل يتساو فقد ختالف واختلف ،وهو
إىل خالف ما ذهب إليه اآلخر ،فإن املراد بـ"أصول تدبري االختالف" يف هذا الكتاب:
ويتأسس( (٣عليها التوافق ،واالئتالف ،والوحدة ،بني بني اإلسالم ،أو
ّ األصول التي ينبني
بينهم وبني بني اإلنسان؛ أي وجود أصول كلية قرآنية يؤمن هبا اجلميع ،وحيرمها ،ويتم
فض النزاعات ،واختالف اآلراء واألفكار واملعتقدات.
االحتكام إليها ،يف حالة ّ
وبذلك يكون املقصود من تدبري االختالف هو :الكشف عن مواطن االتفاق ،وتقليل
مثارات االختالف ،وتضييق دائرة النزاع والرصاع اإلنساين ،وضبط عالقاهتم وتعامالهتم،
وفتح باب احلوار والتواصل األخالقي واملعريف.
وتدبري االختالف عموم ًا يوحي بالتوجيه احلكيم لالختالف ،وحسن إدارته وتسيريه،
ليحقق مقاصده الترشيعية ،وهي التعاون والتكامل والتعارف ،والبعد به عن أن يكون
معوالً للهدم ،وطريق ًا للنزاع واحلروب ،من أجل حتقيق التفاهم والتقارب ،والوصول إىل
نتائج علمية وعملية.
ومن ثم يكون تدبري االختالف اإلنساين هو :إجياد مشركات وحمتكامت وتقاطعات،
تكون أرضية للتعاون اإلنساين ،جتعل االختالف إجيابي ًا وبناء؛ ألن "االختالف بني الناس
( )1الراغب ،املفردات يف غريب القرآن ،مرجع سابق ،مادة( :أصل) ،ص .٧9وانظر أيض ًا:
-اجلرجاين ،كتاب التعريفات ،مرجع سابق ،ص.٢٦
( )٢مصطفى ،إبراهيم وآخرون .املعجم الوسيط ،القاهرة :جممع اللغة العربية ومكتبة الرشوق الدولية ،ط،٤
(1٤٢٥ه٢00٤/م) ،مادة( :أصل) ،ص.٢0
( )٣أساس اليشء :قاعدته التي يبتنى عليها .انظر:
(أس) ،ص .٧٥
َ مادة: سابق، مرجع القرآن، -الراغب األصفهاين ،املفردات يف غريب
٤1
يف أفكارهم وعقائدهم وانتامءاهتم يف النظر الرشعي ال يلغي االئتالف بينهم" (1(،وال يعني
القضاء عىل االختالف وحسمه هنائي ًا ،بل التخفيف من آثاره ،وتضييق دائرته ،للوصول إىل
التوافقات املمكنة.
وفيام ييل تفكيك ودراسة اآليات القرآنية الواردة يف هذه السياقات ،لتجلية أن
االختالف "سنة كونية" ،و"حقيقة رشعية" ،و"رضورة برشية" ،...وإذا كان األمر كذلك،
فإن أي حماولة إلهناء االختالف ،أو القضاء عليه ،هي حماولة فاشلة ،وغري ممكنة ،تسري ضد
إرادة اهلل تعاىل التكوينية ،لذلك ينبغي االشتغال باملمكن ،وهو تدبري االختالف وتنظيمه
والتقليل منه ،وهو ما يوافق إرادة اهلل الترشيعية.
( )1رفيع ،حمامد .النظر الرشعي يف بناء االئتالف وتدبري االختالف :دراسة تأصيلية حتليلية ،القاهرة :دار السالم ،ط،1
(1٤٣٣ه٢01٢/م) ،ص.8
( )٢عبد الباقي ،املعجم املفهرس أللفاظ القرآن الكريم ،مرجع سابق ،مادة( :خ ل ف) ،ص ،٢٣8وانظر أيض ًا:
مرزوق ،معجم األعالم واملوضوعات يف القرآن الكريم ،مرجع سابق ،ص.٥9٤ -
( )٣والسياق يف اللسان يأيت بمعنى املتابعة ،ومنه :ساق اإلبل يسوقها سوق ًا وسياق ًا ،وتساوقت اإلبل ،أي تتابعت.
انظر:
ابن منظور ،لسان العرب ،مرجع سابق ،مادة( :سوق) ،ج ،10ص.1٦٦ -
ومن املجاز قوهلم :فالن "يسوق احلديث أحسن سياق ،وإليك ُيساق احلديث ،وهذا الكالم مساقه إىل كذا"،
بمعنى النمط الذي يتخذه احلديث يف تتابعه .انظر أيض ًا:
الزخمرشي ،جار اهلل أبو القاسم ،حممود بن عمر .أساس البالغة ،حتقيق :حممد باسل عيون السود ،بريوت: -
دار الكتب العلمية ،ط1٤19( ،1ه1998/م) ،مادة( :س و ق) ،ج ،1ص.٤8٤
٤٢
-1سياق االختالف الطبيعي واإلنساين:
اآليات القرآنية الدالة عىل االختالف الطبيعي ،وإن تعددت وتنوعت عباراهتا ،تدل
عىل معنى مشرك ،مفاده :تنبيه املجتمع اإلنساين ،وال سيام أولو األلباب ،والعقول ،والفطر
السليمة ،إىل هذا االختالف احلاصل يف اآليات الكونية املختلفة ،وإعالمهم هبذه الدالئل
واحلجج احلسية الظاهرة املختلفة ،الدالة عىل وحدانية اهلل سبحانه ،وعىل قدرته عىل اخللق
ٌ
مدخل مهم لفقه االختالف يف الرؤية القرآنية. واإلجياد من عدم ،وفهم هذه احلقيقة
وما يميز اخلطاب( (1القرآين الدال عىل هذه احلقيقة معلامن كبريان:
((٤
عن هذه الظواهر الكونية بـ"اآليات" (٣(،أي "اآليات الكونية القدرية ،بمعنى العالمة".
(" )1اخلطاب" لفظ قرآين ،قال اهلل تعاىل ﴿ :ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ﴾ [ص ،]٢0 :وقال تعاىل﴿ :ﮡ
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ﴾ [ص ،..]٢٣ :لكن الذي شاع عند املفكرين اإلسالميني هو" :القول "،استعمل ابن رشد
"القول اجلديل" ،و"القول اخلطايب "،و"القول الرهاين "،وخطاب وخماطبة ،يدل عىل املفاعلة ،ويشري إىل معنى
املشاركة .واملخاطبة واملحاورة واملجادلة ،واملصارعة ،واملسابقة ،وهي صيغ تدل عىل االشراك ،ووجود أكثر من
طرف .وبعبارة جامعة يمكن القول بأنه :جمموع املعاين التي يستنبطها متلقي اخلطاب ،أو يفهمها ،أو يعقلها ،أو
يستنتجها ،أو يستخلصها ،ويتبينها من اخلطاب .يقول الزخمرشي يف قوله تعاىل ﴿ :ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ
ﭲ﴾ [ص" ]٢0 :فمعنى فصل اخلطاب :البني من الكالم امللخص الذي يتبينه من خياطب به ال يلتبس عليه ،وجيوز
خمل وال إشباع ّ
ممل" .انظر: أن يراد اخلطاب القصد الذي ليس فيه اختصار ّ
-الزخمرشي ،الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ،مرجع سابق ،ج ،٢٣ص .9٢1ويقول السيوطي:
ِ
"اخل َطاب :الكالم الذي يفهم املستمع منه شيئ ًا" .انظر:
-السيوطي ،جالل الدين عبد الرمحن بن أيب بكر بن حممد .معجم مقاليد العلوم يف احلدود والرسوم ،القاهرة:
مكتبة اآلداب ،ط1٤٢٤( ،1ه٢00٤/م) ،ص.٦٢
( )٢تأمل قوله تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ
ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭶﭷﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ﴾ [البقرة.]1٦٤ :
( )٣وتفسري اآلية عىل وجهني :األول :العرة ..والثاين :العالمة .انظر:
-ابن سالم ،التصاريف تفسري القرآن مما اشتبهت أسامؤه وترصفت معانيه ،مرجع سابق ،ص.٤19
-الفراهي ،مفردات القرآن نظرات جديدة يف تفسري ألفاظ قرآنية ،مرجع سابق ،ص.1٧1
( )٤يقول الشنقيطي :إن "لفظ "اآلية" يطلق يف اللغة عىل معنيني :األول :إطالق "اآلية" بمعنى العالمة ،وهو املشهور
يف كالم العرب .والثاين :بمعنى اجلامعة ،يقال :جاء القوم بآيتهم أي :بجامعتهم .أما إطالقها يف القرآن الكريم عىل =
٤٣
املعلم الثاين :داللة اخلطاب بالنص الرصيح عىل هذه احلقيقة ،من غري اجتهاد وال
تكلف تأويل.
اقتضت مشيئة اهلل تعاىل أن تكون الظواهر الكونية قائمة عىل التنوع والتباين واالختالف،
خمتلفة يف أشكاهلا ووظائفها ،اختالف ثراء ونامء ،ويف هذا معنى قرآين توجيهي لالختالف
البرشي ،نحو فهم حقيقة االختالف ،وتوجهه بالرضورة نحو القضايا املثمرة للعلم والعمل.
من الدواب والطيور
قال تعاىل يف اختالف ألوان وأشكال اخللق يف األرض
((1
وقد جعل القرآن الكريم اختالف هذه الظواهر يف أشكاهلا ووظائفها ..أمر ًا رضوري ًا.
يقول ويل اهلل الدهلوي" :أما هيئات الكواكب :فمن تأثريها ما يكون رضوري ًا كاختالف
=معنيني أيض ًا :األول :إطالق اآلية عىل الرشعية الدينية ،كآيات القرآن العظيم ،ومنه قوله هنا ﴿ :ﯠ ﯡ ﯢ
ﯣ ﯤ ﯥﯦ﴾ [البقرة .]٢٥٢ :وأما الثاين :فهو إطالق اآلية عىل اآلية الكونية القدرية ،كقوله تعاىل ﴿ :ﮉ ﮊ
ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﴾ [آل عمران .]190 :أما اآلية الكونية القدرية فهي بمعنى
اآلية اللغوية التي هي العالمة ،ألن اآليات الكونية عالمات قاطعة ،عىل أن خالقها هو الرب املعبود وحده .وأما اآلية
الرشعية الدينية ،فقال بعض العلامء :إهنا أيض ًا من اآلية التي هي العالمة ،ألن آيات هذا القرآن العظيم ،عالمات عىل
صدق من جاء هبا ،ملا تضمنته من برهان اإلعجاز ،أو ألن فيها عالمات يعرف هبا مبدأ اآليات ومنتهاها .وقال بعض
العلامء :إهنا من اآلية بمعنى اجلامعة ،لتضمنها مجلة ومجاعة من كلامت القرآن وحروفه ".انظر:
-الشنقيطي ،حممد أمني .أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن ،بريوت :دار الفكر ،ط1٤1٥( ،1ه199٥/م)،
ج ،٧ص( .188-18٧بترصف يسري).
( )1تأمل اآليات( :النحل( ،)1٣ :النحل( ،)٦9 :الروم( ،)٢٢ :فاطر( ،)٢8-٢٧ :الزمر.(٢1 :
( )٢البيضاوي ،نارص الدين ،عبد اهلل بن عمر بن حممد بن عيل الشريازي .أنوار التنزيل وأرسار التأويل ،حققه وعلق
عليه وخرج أحاديثه وضبط نصه :حممد صبحي بن حسن حالق .وحممود أمحد األطرش ،دمشق وبريوت :دار
الرشيد ومؤسسة اإليامن ،ط1٤٢1( ،1ه٢000/م) ،ج ،1٤ص .٢٥٥انظر أيض ًا:
-ابن سليامن ،أبو احلسن مقاتل بن سليامن البلخي .تفسري مقاتل ،حتقيق :أمحد فريد ،بريوت :دار الكتب
العلمية ،ط1٤٢٤( ،1ه٢00٣/م) ،ج ،٢ص.٢1٥
( )٣مرزوق ،معجم األعالم واملوضوعات يف القرآن الكريم ،مرجع سابق ،ص.٥9٤
٤٤
الصيف والشتاء ،وطول النهار وقرصه باختالف أحوال الشمس ،وكاختالف اجلزر واملد
((1
باختالف القمر"...
ظواهر كونية بثها احلق سبحانه يف اآلفاق ألهل العقول واأللباب ،عالمات خمتلفة يف
ُعرف اإلنسان بخالقه ،وترشده إىل فهم احلكمة من اختالفها وتعددها.
الشكل والوظيفة ،ت ِّ
وربط القرآن الكريم بني اختالف الظواهر الطبيعية واالختالف اإلنساين يف آيات عديدة،
يف سياق واحد قال تعاىل﴿ :ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ﴾ [فاطر]٢٧:
إيضاح ما سبقه من اختالف أحوال الناس يف قبول
ُ قال ابن عاشور :هذه اآلية "استئناف فيه
أت خ ْلقة النفوس إليه ،ليظهر به أن االختالف بني أفراد األصناف
اهلدى ورفضه بسبب ما هت َّي ْ
األريض ،واملقصود من االعتبار هو
ِّ واألنواع ناموس جبيل فطر اهلل عليه خملوقات هذا العاملِ
اختالف ألوان األصناف من النوع الواحد ،واختالف ألوان األفراد من الصنف الواحد تَار ٍ
ات َ
كاختالف ألوان التّمور والزيتون واألعناب والتفاح والرمان ،و ُقدِّ َم االعتبار باختالف أحوال
((٢
الثمرات؛ ألن يف اختالفها َس َع ًة تشبه َس َع َة اختالف الناس يف املنافع واملدارك والعقائد".
وقال تعاىل ﴿ :ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ
ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ﴾
يقول ابن عاشور" :واختالف ألوان الناس منه اختالف عام ،وهو ألوان [فاطر]٢8 –٢٧ :
أصناف البرش ،وهي األبيض واألسود واألصفر واألمحر حسب االصطالح اجلغرايف ،جيء
يف مجلة ﴿ﮫ ﮬ ﮭ﴾ ﴿ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﴾ باالسمية دون
الفعلية ،كام يف اجلملة السابقة ،ألن اختالف ألوان اجلبال واحليوان الدال عىل اختالف أحوال
اإلجياد اختالف ًا دائ ًام ال َّ
يتغري ،وإنام حيصل مرة واحدة عند اخللق ،وعند تولد النسل".
((٣
( )1الدهلوي ،أبو عبد العزيز أمحد بن عبد الرحيم اهلندي .حجة اهلل البالغة ،حققه وراجعه :السيد سابق ،بريوت :دار
اجليل ،ط1٤٢٦( ،1ه٢00٥/م) ،ج ،1ص.٥1
( (٢ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،٢٢ص.٣01-٣00
( )٣املرجع السابق ،ج ،٢٢ص.٣0٣
٤٥
ﯘ ﯙ ﯚ﴾ [الرعد ]٤ :هذا مثل رضبه اهلل تعاىل" :لبني آدم أصلهم واحد ،واختلفوا
((1
يف اخلري والرش واإليامن والكفر كالثامر املسقية بامء واحد".
فإن اختالف الثامر وتغايرها يف الشكل والطعم ،اختالف تكامل وتوازن ،وليس
اختالف تضاد وتنافر ،فكذلك ينبغي أن يكون االختالف اإلنساين ،فالثامر رغم اختالفها
تُسقى بامء واحد ،كاختالف بني اإلنسان ،يف طباعهم وعقوهلم ومنازعهم ،وأصلهم واحد.
ويقول تعاىل يف االختالف الطبيعي واإلنساين والعالقة بينهام" ،ووجه مقارنة خلق
الساموات األرض واختالف ألسنة البرش وألواهنم"﴿ (٢(:ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ
ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ﴾ [الروم ]٢٢ :يقول ابن عاشور" :وإ ْذ
قد كان أرشف ما عىل األرض نوع اإلنسان قرن ما يف بعض أحواله من اآليات بام يف خلق
األرض من اآليات ،وخص من أحواله املتخالفة؛ ألهنا أشد عرة إذ كان فيها اختالف
بني أشياء متحدة يف املاهية ،وألن هاته األحوال املختلفة هلذا النوع الواحد نجد أسباب
ٍ
خمتلفة ٍ
بأوطان القرار اختالفها من آثار خلق الساموات واألرض ،فاختالف األلسنة سببه
ُ
متباعدة ،واختالف األلوان سببه اختالف اجلهات املسكونة من األرض ،واختالف ٍ
ُم َسا َمت َِة أشعة الشمس هلا فهي من آثار خلق الساموات واألرض .ولذلك ،فالظاهر أن
املقصود هو آية اختالف اللغات واأللوان ،وأن ما تقدمه من خلق الساموات واألرض
((٣
متهيد له وإيامء إىل انطواء أسباب االختالف يف أرسار خلق الساموات واألرض".
يقول الطري﴿ " :ﮤ ﮥ﴾ يقول :واختالف منطق ألسنتكم ولغاهتا
﴿ﮦﮧ﴾ يقول :واختالف ألوان أجسامكم" (٤(،فهذه اآلية تؤسس لالختالف الفكري
( )1ابن عبد السالم ،تفسري القرآن (اختصار النكت والعيون للاموردي) ،مرجع سابق ،ج ،٢ص ،1٤٤وانظر أيض ًا:
-القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،9ص.٢80
( )٢ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،٢1ص.٧٣
( )٣املرجع السابق.
( )٤الطري ،أبو جعفر ،حممد بن جرير .جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،حتقيق :أمحد حممد شاكر ،بريوت :مؤسسة
الرسالة ،ط 1٤٢0( ،1ه٢000/م) ،ج ،٢0ص .8٧انظر أيض ًا:
البغوي ،أبو حممد ،احلسني بن مسعود بن حممد .معامل التنزيل ،حققه وخرج أحاديثه :حممد عبد اهلل النمر -
وعثامن مجعة ضمريية وسليامن مسلم احلرش ،الرياض :دار طيبة ،ط1٤1٧( ،٤هـ199٧/م) ،ج ،٦ص.٢٦٦
٤٦
بني البرش؛ ألن االختالف يف طبيعة اللغة( (1واأللوان ال شك يثمر اختالف ًا فكري ًا.
خالف اهلل تعاىل بني أجناس النطق وأشكاله ،حتى إنك ال جتد لسانني أو منطقني
متامثلني ،كام خالف سبحانه بني ألوان اخللق ،حتى إنك ال جتد صورتني متامثلتني ،وهذا
ظاهر للعيان ثابت بالتجربة واملالحظة ،وفيه داللة عىل اختالف القوميات واألجناس.
فهذا االختالف يف اللغات والصور أراده اهلل تعاىل ،للتدافع بني البرش؛ ألن هذا التدافع ال
يمكن حتققه مع الشبيه املامثل غري املخالف ،يقول السعدي" :ومن عنايته بعباده ورمحته هبم أن قدر
((٢
ذلك االختالف ،لئال يقع التشابه فيحصل االضطراب ويفوت كثري من املقاصد واملطالب".
٤٧
-2سياق االختالف التكويني والترشيعي:
أ -سياق االختالف التكويني:
يدل اخلطاب القرآين عىل أن االختالف واقع رضورة ،ال اختيار فيه للعبد ،واقع بإرادة
اهلل تعاىل التكوينية ،فإن هذا االختالف راجعة أسبابه إىل احلاكم املسبب ،ال دخل لكسب
[هود]118 : اإلنسان فيها ،يقول تعاىل﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ﴾
((1
يقول البيضاوي املفس واألصويل ..." :وهو دليل ظاهر عىل أن األمر غري اإلرادة"...
فلو علم الناس أن ما هم عليه من االختالف سبق به القدر حلصل الوفاق ،يقول
الشاطبي ..." :فمن جهل شيئ ًا عاداه ،فلو علموا حلصل الوفاق ،ومل يسمع اخلالف ،ولكن
سابق القدر حتم عىل اخللق ما هم عليه ،قال تعاىل ﴿ :ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ﴾
[هود (٢(،"]119 – 118 :ويقول ابن عاشور" :وقد علمنا أن انقسام البرش وتشعبه ،وتباعد أقطار
تعس أسباب ّ
وتعذر أو ّ إقامته ،وصعوبة اختالط بعضهم ببعض ،وضعف دواعي تواصلهم،
ذلك ،وضعف القوى النفسية بسبب العداوة والبغضاء بينهم بتوهم كل فريق أو شخص أن
صالحه بإرضار غريه ،وحياته هبالك غريه ،مع ما يضاف إىل ذلك من إغراء الباغني من الزعامء
املضللني ،كل ذلك قد فرق مجاعتهم وباعد بني أخالقهم وعوائدهم ،وبث بينهم اللجاج
((٣
والتهارج ،فحال دون االلتئام واالحتاد والتامزج"
فال مر َّد وال خت ُّلف إلرادته التكوينية القائمة عىل قوله لليشء كن فيكون ،قال تعاىل:
﴿ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ﴾ [يس ]8٢ :يقول ابن عاشور" :أنه تعاىل إذا
أراد شيئ ًا تع َّلقت قدرته بإجياده باألمر التكويني املعر عن تقريبه بـ(كن) ،وهو أخرص كلمة
((٤
تعر عن األمر بالكون؛ أي االتصاف بالوجود".
( )1البيضاوي ،أنوار التنزيل وأرسار التأويل ،مرجع سابق ،ج ،1٢ص.1٥٥
( )٢الشاطبي ،االعتصام ،مرجع سابق ،ج ،1ص .1٧-1٦انظر أيض ًا:
-ابن حزم ،أبو حممد عيل بن أمحد بن سعيد بن حزم الظاهري .اإلحكام يف أصول األحكام ،حتقيق :أمحد حممد
شاكر ،بريوت :دار اآلفاق اجلديدة ،ط1980( ،1م) ،ج ،٥ص.٦٧
( )٣ابن عاشور ،حممد الطاهر ابن عاشور .أصول النظام االجتامعي يف اإلسالم ،تونس واجلزائر :الرشكة التونسية
للتوزيع واملؤسسة الوطنية للكتاب ،ط198٥ ،٢م ،ص.11
( )٤ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،٢٣ص.٧9
٤8
ويقول الغزايل يف سياق الرد عىل منكري القياس يف شبههم" :وأما قوهلم :كيف يكون
االختالف مأمور ًا به؟ .قلنا :بل يؤمر املجتهد بظنه ،وإن خالفه غريه فليس رفعه داخل حتت
اختياره ،فاالختالف واقع رضورة ،ال أنه أمر به" (1(،فهذا بيان من الغزايل بأن االختالف
واقع رضورةً ،ال اختيار فيه ،واقع بإرادة اهلل تعاىل التكوينية.
ٌ
أمر رضوري أزيل ،وهو القانون العام الذي فطر اهلل عليه اخللق ،أما الواحدية
فهو ٌ
واألحدية فهي فقط للذات اإلهلية ،وما عداها قائم عىل االختالف والتغاير ،يقول ابن القيم:
واألنظار
ُ "والفطر
ُ أمر رضوري ال بد منه" (٢(.ويقول الشاطبي:
"وقوع االختالف بني الناس ٌ
((٣
ختتلف ،فوقع االختالف من هنا ال من جهة أنه من مقصود الشارع".
ُ
( )1الغزايل ،أبو حامد حممد بن حممد .املستصفى من علم األصول ،دراسة وحتقيق :حممد سليامن األشقر ،بريوت:
مؤسسة الرسالة ،ط1٤1٧( ،1هـ199٧/م) ،ج ،٢ص.٢٧٤
( )٢ابن قيم اجلوزية ،شمس الدين حممد بن أيب بكر الدمشقي .الصواعق املرسلة يف الرد عىل اجلهمية واملعطلة ،دراسة
وحتقيق :عيل بن حممد الدخيل اهلل ،الرياض :دار العاصمة ،ط1٤08 ،1ه ،ج ،٢ص.٥19
( )٣الشاطبي ،املوافقات يف أصول الرشيعة ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.9٤
( )٤ذهب القايض النعامن اإلسامعييل إىل أن سيدنا عيل يرفع االختالف .انظر:
-القايض النعامن ،أبو حنيفة النعامن بن أيب عبد اهلل حممد بن منصور التميمي .اختالف أصول املذاهب ،حتقيق:
مصطفى غالب ،بريوت :دار األندلس ،ط198٣ ،٣م ،ص .٣1انظر أيض ًا :تعليق عيل أمليل عليه.
-أومليل ،عيل .يف رشعية االختالف ،بريوت :دار الطليعة ،ط199٣ ،٢م ،ص.٦0
٤9
األمة عيل بن أيب طالب كان سبب رفع اخلالف بني اخللق ،أو سبب تأسيس اختالفات ال
((1
تنقطع أبد الدهر".
االختالف راجع ٌة أسبا ُبه إىل احلاكم املسبب ،ال دخل لكسب اإلنسان فيها ،وإذا مل تكن
ُ
مقدور عليه هو الالزم ،وهو
ٌ ٌ
داخل حتت كسبه يف مقدوره وال راجعة إليه ،فمراعاته ملا هو
التامس وحتري إرادة اهلل الترشيعية يف تدبري االختالف ،فاهلل تعاىل خلق العباد يف هذا العامل
"لتظهر تصاريفهم حتت حكم القضاء والقدر ،ولتجري أعامهلم حتت حكم الرشع ليسعد هبا
((٢
من سعد ويشقى من شقي ،وليظهر مقتىض العلم السابق والقضاء املحتم الذي ال مر َّد له"...
وإذا ثبت كون االختالف إرادة تكوينية أقرها اخلطاب القرآين ،فإن آية سورة هود
السابقة ،دالة عىل أن اهلل تعاىل قادر عىل أن جيعل الناس أم ًة واحدة ،عىل عقيدة واحدة ،وطريق
واحد ،ومنهج واحد ،...إال أن إرادته التكوينية قضت بخلق اإلنسان :جمهز ًا بالعقل ،قادر ًا
عىل التفكري والنظر ،جمبوالً عىل ميوالت نفسية هي من أصل خلقته ،متمتع ًا بإرادة احلرية
واالختيار ،ونتيجة هذه اإلرادة التكوينية يف خلقهم عىل هذه الصورة ،هو االختالف يف
األفكار واآلراء واالختيارات ،واملذاهب واألديان وامللل ،فيقوم النزاع واالختالف بينهم
((٣
الختالف ما سبق.
( )1الغزايل ،أبو حامد حممد بن حممد .القسطاس املستقيم ،قدَّ م له وذ َّيله وأعاد حتقيقه :فيكتور شلحت ،بريوت:
منشورات دار الرشوق ،ط ،198٣ ،٢ص .8٣-8٢انظر أيض ًا:
-الرازي ،فخر الدين أبو عبد اهلل حممد بن عمر بن احلسن بن احلسني التيمي البكري .مفاتيح الغيب (التفسري
الكبري) ،بريوت :دار الفكر ،ط1٤01( ،1هـ1981/م) ،ج ،18ص .80وقال الشيعة ب (العصمة) يف تدبري
اختالف األمة .يقول الشاطبي" :وأقوى شبههم مسألة اختالف األمة ،وأنه ال بد من واحد يرتفع به اخلالف،
أن اهلل يقول ﴿ :ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﱑ ﴾ [هود ]119 – 118 :وال يكون كذلك إال إذا أعطي العصمة
كام أعطيها النبي ﷺ؛ ألنه وارث ،وإال فكل حمق أو مبطل يدعي أنه املرحوم ،وأنه الذي وصل إىل احلق
دون من سواه ،فإذا طولبوا بالدليل عىل العصمة مل يأتوا بيشء ،غري أن هلم مذهب ًا خيفونه وال يظهرونه إال
خلواصهم؛ ألنه كفر حمض ،ودعوى بغري برهان ".انظر:
-الشاطبي ،االعتصام ،مرجع سابق ،ج ،1ص .110انظر أيض ًا :ج ،٢ص.٥0٦-٤8٧
( )٢الشاطبي ،املوافقات يف أصول الرشيعة ،مرجع سابق ،ج ،1ص.1٤8
( )٣ويقسم طه عبد الرمحن االختالف الفكري إىل ثالثة أقسام كرى ،يقول عنها" :ينقسم االختالف الفكري بني األمم
بحسب املجاالت إىل ثالثة أقسام كرى ،وهي :االختالف يف املفاهيم ،واالختالف يف األحكام ،واالختالف يف
القيم "..انظر:
-عبد الرمحن ،احلق اإلسالمي يف االختالف الفكري ،مرجع سابق ،ص.1٣٥
٥0
ب -سياق االختالف الترشيعي:
اإلرادة الترشيعية جاءت عىل وفق اإلرادة التكوينية ومل ختالفها؛ إذ ّ
إن الرشع راعى هذا
االختالف التكويني يف خماطبة الناس املختلفني ،ويتجىل ذلك يف اختالف الرشائع الساموية،
ونسخ املتأخر للمتقدم ،ويف تنوع أساليب وطرق اإلقناع ،ويف األمر باالجتهاد ،واستعامل
العقل ،وكل ذلك ملوافقة الرشع لطبيعة االختالف اإلنساين .وباجلملة ،فإن الترشيعي جاء
ليخدم التكويني.
-اختالف الرشائع الساموية:
إن الفروع العملية من الشعائر واملناسك والعبادات خمتلفة عند مجيع األمم واألفراد
واجلامعات ،بل لكل أمة من الناس ما يناسبها ،ويناسب ظرفها الزمني والبيئي واالجتامعي،
لقوله تعاىل﴿ :ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ﴾ [احلج ،]٣٤ :فسنة اهلل تعاىل يف األقوام السابقة
أن يرسل هلم كلام طال عليهم األمد من يعالج أسقامهم وأمراضهم الفكرية والسلوكية
((1
واالجتامعية ،يقول الشعراوي إن" :الترشيعات الساموية تأيت عالج ًا آلفات اجتامعية".
وهذا االختالف يف التكاليف الترشيعية ،إنام هو الختالف األزمنة واألمكنة،
واألشخاص ،واملصالح .يقول ويل اهلل الدهلوي" :وكثري ًا ما ختتلف النبوات الختالف امللل
النازلة تلك النبوة فيها" (٢(،لكن اإلله واحد ﴿ﮌ ﮍ ﮎ﴾ [احلج ]٣٤ :يقول الغزايل:
((٣
"مجيع الرشائع وامللل من عند اهلل ،وهي خمتلفة".
فإن الرشيعة واملنهاج املختلف فيهام يف قوله تعاىل ﴿ :ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ﴾
[املائدة ]٤8 :هي :األوضاع اخلاصة لكل أمة ،حسب زماهنا ومكاهنا ومصاحلها وارتفاقاهتا،
"وباجلملة ،فاألوضاع اخلاصة التي مهدت وبنيت هبا أنواع الر واالرتفاقات هي الرشيعة
" ...ألن الرشائع العملية وطرق التزكية األدبية ،ختتلف باختالف أحوال ((٤
واملنهاج"،
٥1
ويروي الصنعاين عن معمر عن قتادة ..." :الدين واحد، ((1
االجتامع واستعداد البرش".
((٢
والرشيعة خمتلفة".
اختالف الرشائع منشؤه اختالف مصالح األمم واألقوام ،حسب العصور واألزمان،
يقول ويل اهلل الدهلوي" :فمن عرف أصل الدين وأسباب اختالف املناهج مل يكن عنده تغيري
وال تبديل" (٣(،فمن علم أسباب هذا االختالف يف الرشائع ،فهم حقيقته ،وهان عنده أمره،
ومل يستشكل عليه وقوعه.
فإن شعائر اهلل تعاىل روعي يف ترشيعها حال املكلفني وعاداهتم ،لذلك أرسل كل رسول
لقومه خاصة .يقول البوطي" :الترشيع إنام هو إقامة األحكام التي يتوخى منها تنظيم حياة
املجتمع والفرد ،وبدهي؛ أن يكون للتطور الزمني واختالف األمم واألقوام أثر يف تطور
رشائعهم؛ إذ إن فكرة الترشيع من أساسها قائمة عىل ما تقتضيه مصالح العباد يف دنياهم
وآخرهتم ،وهذه املصالح كثري ًا ما ختتلف باختالف األزمنة واألمكنة (٤("،إىل أن ختم الدين
برشيعة حممد ﷺ ،وجاء اإلسالم بالرسالة الشاملة لكل احتياجات البرشية بام تضمنته من
سامحة يف أحكامها ،وسعة يف استيعاب كل اآلراء واألفكار واملعتقدات ،قال تعاىل ﴿ :ﲀ
ﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﴾ [األنبياء.]10٧ :
فغاية األديان إصالح العامل بإصالح أفراده ،يقول ابن عاشور" :هذه غاية األديان
وسلكت هلا مسالك كثرية ،وهي مثل طرق السائرين ،ختتلف بالطول والقرص ،والسعة
والضيق ،والوضوح واخلفاء ،عىل حسب اختالف استعداد العصور واألمم ،كي ال حيرج
( )1رضا ،حممد رشيد .تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،القاهرة :اهليئة املرصية العامة للكتاب1990 ،م ،ج،٦
ص.٣٤٢-٣٤1
( )٢الصنعاين ،عبد الرزاق بن اهلامم .تفسري القرآن ،حتقيق :مصطفى مسلم حممد ،الرياض :مكتبة الرشد ،ط،1
(1٤10ه1989 /م) ،ج ،1ص.19٢
( )٣الدهلوي ،حجة اهلل البالغة ،مرجع سابق ،ج ،1ص.1٦٣
( )٤البوطي ،حممد سعيد رمضان .كربى اليقينيات الكونية وجود اخلالق ووظيفة املخلوق ،دمشق وبريوت :دار الفكر
املعارص ،ط198٢ ،8م ،ص.٧٢
٥٢
بتحمله ،رمحة منه تعاىل؛ إذ علم أن يف طبع البرش البعد
ُّ اهلل الناس بتحميلهم ما ال ِق َبل هلم
((1
عن إدراك ما مل تتهيأ نفسه إلدراكه"...
ويقول أيض ًا رمحه اهلل ..." :كانت األديان والرشائع السالفة قبل اإلسالم جتيء خاصة
بعشائر ،ثم بقبائل أو مدن ،ثم بأمم ،ألنك جتد الدين الذي يناسب حال أمة أو قبيلة ال
يناسب حال غريها ،إال أن أصول ذلك كله ال ختتلف كام أنبأ بذلك قوله تعاىل ﴿ :ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾ [الشورى.]1٣ :
((٢ ُ
األديان السالفة كلها والرشائع السابقة بتخصيص دعوهتا بقوم معينني". رصحت
وقد َّ
-تنوع طرق اإلقناع الترشيعية:
( )1ابن عاشور ،أصول النظام االجتامعي يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.11
( )٢املرجع السابق.
(" )٣احلق -1 :ما هو الواقع صدق ًا -٢ .والواجب خلق ًا -٣ .والبني ظهور ًا .فالقيامة حق ،واهلل تعاىل حق باملعنى األول
والثالث ،والعدل حق باملعنى الثاين ،واحلكمة حق باملعنى الثالث .والشواهد عىل املعنى األول والثاين كثرية ،وأما
املعنى الثالث فقوله تعاىل ﴿ :ﱤ ﱥ ﱦ ﱧﱨ ﱩ﴾ [البقرة."]٧1 :
الفراهي ،مفردات القرآن نظرات جديدة يف تفسري ألفاظ قرآنية ،مرجع سابق ،ص.1٧1 -
( )٤يقول القرطبي يف سبب نزول هذه اآلية ،والقول بنسخها من عدمه" :هذه اآلية نزلت بمكة يف وقت األمر بمهادنة
قريش ،وأمره أن يدعو إىل دين اهلل ورشعه بتلطف ولني دون خماشنة وتعنيف ،وهكذا ينبغي أن يوعظ املسلمون إىل
يوم القيامة .فهي حمكمة يف جهة العصاة من املوحدين ،ومنسوخة بالقتال يف حق الكافرين .وقد قيل :إن من أمكنت
معه هذه األحوال من الكفار ورجي إيامنه هبا دون قتال فهي فيه حمكمة .واهلل أعلم".
-القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٦ص.٤٦
٥٣
فالناس متباينون وخمتلفون يف طرق إقناعهم ،منهم من حيتاج إىل اليقني ،ومنهم دون
ذلك؛ إذ يقترص عىل الظن ،ومنهم املعاند املحتاج إىل اإلفحام ،يقول الرازي" :إن إقناع الناس
ال بد له من حجة ،واحلجج تنحرص يف ثالث :أوهلا :احلجة القطعية املفيدة للعقائد اليقينية،
وذلك هو املسمى باحلكمة ،وهذه أرشف الدرجات وأعىل املقامات ..وثانيها :األمارات
الظنية والدالئل اإلقناعية ،وهي املوعظة احلسنة .وثالثها :الدالئل التي يكون املقصود من
((1
ذكرها إلزام اخلصوم وإفحامهم ،وذلك هو اجلدل"...
ويقول الشوكاين" :باحلكمة؛ أي باملقالة املحكمة الصحيحة ،قيل :وهي احلجج القطعية
املفيدة لليقني ،واملوعظة احلسنة ،وهي املقالة املشتملة عىل املوعظة احلسنة التي يستحسنها
السامع ،وتكون يف نفسها حسنة باعتبار انتفاع السامع هبا .قيل :وهي احلجج الظنية اإلقناعية
املوجبة للتصديق بمقدمات مقبولة ،قيل :وليس للدعوة إال هاتان الطريقتان ،ولكن الداعي
قد حيتاج مع اخلصم األلد إىل استعامل املعارضة واملناقضة ونحو ذلك من اجلدل ،وهلذا قال
سبحانه ﴿ :ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ﴾ [النحل]1٢٥ :؛ أي بالطريق التي هي أحسن طرق
املجادلة ،وإنام أمر سبحانه باملجادلة احلسنة لكون الداعي حمق ًا وغرضه صحيح ًا ،وكان
((٢
ال وغرضه فاسد ًا".
خصمه مبط ً
فهي طرق وأساليب متنوعة يف خماطبة املخالف ،ودعوته إىل سبيل اهلل تعاىل ،وهو
اإلسالم ،ختتلف باختالف الطبيعة والبنية العقلية للمخاطب ،وحسب طبيعته واستعداده
يف فهم اخلطاب واستيعابه ،يقول البقاعي يف تفسري اآلية السابقة" :فهو بيان ألصناف
الدعوة بحسب عقول املدعوين؛ ألن األنبياء عليهم السالم مأمورون بأن خياطبوا الناس
((٣
عىل قدر عقوهلم".
( )1الرازي ،مفاتيح الغيب (التفسري الكبري) ،مرجع سابق ،ج ،٢0ص.1٤0
( )٢الشوكاين ،حممد بن عيل .فتح القدير اجلامع بني فني الرواية والدراية من علم التفسري ،دمشق وبريوت :دار ابن كثري
ودار الكلم الطيب ،ط1٤1٤ ،1ه ،ج ،٣ص .٢٤٢انظر أيض ًا:
-الزخمرشي ،الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ،مرجع سابق ،ج ،1٤ص.٥88
( )٣البقاعي ،أبو احلسن برهان الدين إبراهيم بن عمر بن حسن .نظم الدرر يف تناسب اآليات والسور ،حتقيق:
عبد الرزاق غالب املهدي ،بريوت :دار الكتب العلمية1٤1٥( ،ه199٥/م) ،ج ،٤ص.٣٢٤
٥٤
إذ منهم صاحب العقل الثاقب ،ومنهم من ال استعداد عنده ،ومنهم املعاند اجلاحد،
فاحلكمة للعقالء أهل النظر الثاقب ،واملوعظة للسذج ،واجلدل للذين مل يرتقوا إىل
مرتبة احلكمة ومل يقتنعوا باملوعظة (1(،فهو أمر بخطاب الناس بام تسعه عقوهلم من أجل
التصديق واإلقناع.
ويف هذا داللة عىل اختالف مستويات اخلطاب ،الختالف مستويات التصديق
واإلقناع عند املخاطبني ،يقول الغزايل" :واعلم أن املدعو إىل اهلل باحلكمة قوم ،وباملوعظة
قوم ،وباملجادلة قوم" (٢(،وقال أيض ًا فيام نقله عنه ابن عرفة" :والرهان خياطب به األذكياء،
واخلطابة خياطب العوام؛ ألهنم ال يفهمون الرهان ،وإنام يفهمون املواعظ ،واجلدال ال
((٣
خياطب به إال املعاندون يف االعتقاد؛ ألهنم ال يرجعون عن مذهبهم باملوعظة".
حاج خصمه ﴿ﭼ ﭽ
َّ وذكر الغزايل أن "إبراهيم اخلليل صلوات اهلل عليه ملا
ﭾ ﭿ﴾ [البقرة ]٢٥8 :فلام رأى أن ذلك ال يناسبه وليس حسن ًا عنده قال ﴿ :ﮀ ﮁ
ﮂ ﮃﮄ﴾ [البقرة ]٢٥8 :وعدل إىل األوفق لطبعه واألقرب إىل فهمه ،فقال﴿ :ﮇ ﮈ
ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﴾ [البقرة ]٢٥8 :ومل يركب اخلليل
صلوات اهلل عليه ظهر اللجاج يف حتقيق عجزه عن إحياء املوتى؛ إذ علم أن ذلك يعس عليه
فهمه :فإنه يظن أن القتل إماتة من جهته .وحتقيق ذلك ال يالئم قرحيته ،وال يناسب حده يف
((٤
البصرية ودرجته"...
فتفاوت العقول اإلنسانية ،يتطلب تنويع ًا يف اخلطاب ،بام يوافق حال املخاطب املدعو،
ومن إعجاز القرآن ،مراعاة هذا التفاوت واالختالف يف القدرات العقلية اإلنسانية ،فجاء
اخلطاب إىل حممد بن عبد اهلل ﷺ يف هذه اآلية جامع ًا ألصول االستدالل التي يقع هبا
( )1رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.٢1٦
( )٢الغزايل ،القسطاس املستقيم ،مرجع سابق ،ص.٤1
( )٣ابن عرفة ،أبو عبد اهلل حممد بن حممد الورغمي .تفسري ابن عرفة ،حتقيق :جالل السيوطي ،بريوت :دار الكتب
العلمية ،ط٢008( ،1م) ،ج ،٣ص.٥٦
( )٤الغزايل ،القسطاس املستقيم ،مرجع سابق ،ص .٤٢
٥٥
اإلقناع العقيل (1(،يقول ابن عاشور" :ومن اإلعجاز العلمي يف القرآن أن هذه اآلية مجعت
احلق ،وهي :الرهان واخلطابة واجلدل املعر عنها يف علم املنطق
أصول االستدالل العقيل ّ
((٢
بالصناعات ،وهي املقبولة من الصناعات".
فالناس خيتلفون يف تصديقاهتم رغم وحدة احلقيقة( ،(٣فطرق الوصول إليها ختتلف
وتتغاير ،يقول ابن رشد" :وذلك أن عقول الناس متفاضلة يف التصديق ،فمنهم من يصدق
بالرهان ،ومنهم من يصدق باألقاويل اجلدلية تصديق صاحب الرهان بالرهان؛ إذ ليس
يف طباعه أكثر من ذلك ،ومنهم من يصدق باألقاويل اخلطابية ،كتصديق صاحب الرهان
((٤
باألقاويل الرهانية".
والرشيعة اإلسالمية خصت بدعوة الناس مجيع ًا هبذه الطرق الثالث ،مراعية بذلك
االختالف التكويني ،فعم التصديق هبا كل الناس ،لذلك كان رسول اهلل ﷺ خمصوص ًا دون
((٥
غريه من األنبياء ببعثته إىل األمحر واألسود ،لتضمني رشيعته كل طرق الدعوة إىل اهلل.
فهذا اعراف بتفاوت الناس يف مستويات تصديقهم وإقناعهم ،لذلك رشع ما يوافق
هذه الطبيعة اإلنسانية ،ومراعاهتا يف اخلطاب الترشيعي ،يقول ابن عرفة" :والختالف الناس
ُأمر ُّ
النبي صىل اهلل عليه وعىل آله وسلم أن يدعو بالثالثة قدر العمل والفهم ،فدعا بعض
اخللق باحلكمة وهم اخلواص ،ومن دوهنم دعاهم باجلدال ،والعوام دعاهم باملوعظة؛ إذ لو
((٦
دعوا باحلكمة مل يفهموها"..
( )1محدان ،خالد حسني" .اإلقناع أسسه وأهدافه يف ضوء أسلوب القرآن الكريم :دراسة وصفية حتليلية» ،مؤمتر الدعوة
اإلسالمية ومتغريات العرص ،اجلامعة اإلسالمية بغزة ،كلية أصول الدين1٤٢٦( ،ه٢00٥/م) ،وانظر أيض ًا:
-القييس ،عبد احلميد" .الرهان واستدالالته يف القرآن "،جملة كلية العلوم اإلسالمية ،العدد،)1٦( :
(1٤٢8ه٢00٧/م) ،ص.٢٦1
( )٢ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،1٤ص.٣٣1
( )٣انظر ما ذكره ابن عاشور يف حتقيق معاين" :احلقائق" و"االعتبارات" و"األوهام "،و"التخيالت "،يف فصل" :اإلسالم
حقائق ال أوهام ".يف:
-ابن عاشور ،أصول النظام االجتامعي يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.٢8
( )٤ابن رشد ،أبو الوليد حممد بن أمحد بن رشد .فصل املقال فيام بني احلكمة والرشيعة من االتصال ،دراسة وحتقيق:
حممد عامرة ،القاهرة :دار املعارف ،ط( ،٢د.ت) ،ص.٣1
( )٥املرجع السابق.
( )٦ابن عرفة ،تفسري ابن عرفة ،مرجع سابق ،ج ،٣ص( .٥٦بترصف يسري).
٥٦
اخلطاب القرآين
ُ ونظر ًا هلذه االختالفات التكوينية ،التي فطر اهلل عليها اخللق ،جاء
مراعي ًا هذه الفطرة اإلنسانية ،وهذا االختالف يف التل ّقي عن اهلل ،يقول الغزايل" :إن القرآن
((1
الكريم جاء فيه أمر وهني وإباحة ،ووعد ووعيد ،وأمثال ومواعظ ،وهذه اختالفات"،
وهذا اختالف يف األحكام الختالف األحوال.
تنوع مستويات خطابه اإلقناعي ،يؤسس لالختالف
وبذلك يكون اخلطاب القرآين يف ّ
اإلنساين ،ويعرف بمستويات عقول البرش ،واستعداداهتم ،وميوالهتم يف التلقي واالمتثال،
لذلك ّقرر العلامء أنه إذا »قال الشارع حيل ركوب البحر ملن غلب عىل ظنه السالمة ،وحيرم
عىل من غلب عىل ظنه اهلالك ،فغلب عىل ظن اجلبان اهلالك ،وعىل ظن اجلسور السالمة،
حرم عىل اجلبان ،وحل للجسور ،الختالف حاهلام" (٢(،فاختالف حال املكلف يف اتباع ما
معرف به يف إناطة األحكام .كام أن التكليف يرد "عليه
ٌ ر يف الرشع،
غلب عىل ظنه معت ٌ
معل ًام مؤدب ًا يف حالته التي هو عليها"( (٣من االختالف فيام جبله اهلل عليه من الغرائز الفطرية
واملطالب اإلهلامية.
-األمر باالجتهاد واستعامل العقل:
أشار القرآن الكريم إىل مرشوعية االجتهاد ،وأنه طريق النظر يف علوم الرشيعة(،(٤
وهو منشأ االختالف يف الظنيات (٥(،قال تعاىل﴿ :ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ
٥٧
ﮜ ﮝ ﮞ ﮛ﴾ [النساء]8٣ :؛ "أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة
((1
وعلومهم الرشيدة".
وقال تعاىل ﴿ :ﮞ ﮟ ﮠ﴾ [الشورى" ]٣8 :والشورى تعني البحث عن الصواب
فيام يعرض من أمور وفق أدلة الرشع ،منصوصة أو غري منصوصة ،وهذا ال يكون إال من
((٢
خالل االجتهاد من أهل الرأي عىل اختالف ختصصاهتم وتنوع خراهتم".
والناس خيتلفون يف مستويات فهمهم ،وقدراهتم العقلية ،والقدرة عىل التعمق،
والتحليل ،والتدقيق يف احلقائق العلمية ،وأشار اخلطاب القرآين إىل االختالف يف الفهم
واالستنباط لألحكام يف قوله تعاىل ﴿ :ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ
ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﴾ [األنبياء]٧9 – ٧8 :
ومضمون القصة :أن نزاع ًا وقع حول غنم قوم رعت حرث ًا لقوم آخرين ،فرجعوا إىل سيدنا
داود عليه السالم ليحكم بينهم ،فاجتهد بتقدير ما تلف من احلرث ويعوض عنه أصحابه
بام يعادله من أغنام اآلخرين ،وحكم سيدنا سليامن باجتهاد وفهم خمالف يف املسألة،
وهو :أن تدفع الغنم ألصحاب احلرث يستفيدون من ألباهنا وأصوافها ،ويدفع احلرث
ألصحاب الغنم يصلحونه ثم يسرد ٌّ
كل حقه إليه ،فرجع الغنم إىل أصحاهبا ،واحلرث
((٣
إىل أصحابه.
أقر اهلل ك ً
ال منهام عىل اجتهاده بقوله: هذان اجتهادان خمتلفان يف فهم مسألة واحدةَّ ،
﴿ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﴾ قال ابن تيمية" :فاختص سليامن بالفهم ،وأثنى عليهام باحلكم
والعلم"( ،(٤ويقول ابن عاشور" :يف قصة داود وسليامن تنبيه عىل أصل االجتهاد ،وهذه اآلي ُة
((٥
أصل يف اختالف االجتهاد".
( )1السعدي ،تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان ،مرجع سابق ،ج ،1ص.190
( )٢القرضاوي ،يوسف .االجتهاد يف الرشيعة اإلسالمية مع نظرات حتليلية يف االجتهاد املعارص ،الكويت والقاهرة :دار
القلم ،ط1٤1٧( ،1هـ199٦/م) ،ص.٧٧
( )٣الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،18ص.٤٧9-٤٧٤
( )٤ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .رفع املالم عن األئمة األعالم ،الرياض :الرئاسة العامة إلدارة البحوث
العلمية واإلفتاء والدعوة واإلرشاد ،يف اململكة العربية السعودية1٤1٣( ،ه) ،ص.٣8
( )٥ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،1٧ص.118
٥8
"أمر باالعتبار"( (1والنظر ،ويقول
وقال تعاىل﴿ :ﯡ ﯢ ﯣ﴾ [احلرش ]٢ :فهذا ٌ
تعاىل يف األمر بحجة العقل ﴿ (٢( :ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﴾ [الذاريات.]٢1 :
ِ وقال ﷺ" :إِ َذا حكَم ا ِ
اب َف َل ُه َأ ْج َرانَ ،وإِ َذا َحك ََم َف ْ
اجت ََهدَ ُث َّم اجت ََهدَ ُث َّم َأ َص َ
حلاك ُم َف ْ
َ َ َ
رصيح
ٌ َأ ْخ َط َأ َف َل ُه َأ ْج ٌر"( (٣يقول عبد الكريم زيدان" :ووجه الداللة هبذا احلديث الرشيف أنه
يف إمكان خطأ املجتهد ،ومعنى ذلك إمكان وقوع االختالف بني املصيب واملخطئ ،وقد
حتقق هذا اإلمكان بوقوع االختالف فعالً ،وملا كان احلديث الرشيف يقرر حصول األجر
للمصيب وللمخطئ؛ أي للمختلفني من املجتهدين ،فمعنى ذلك أن اختالفهم سائغ
((٤
مقبول؛ ألن األجر ال يرتب عىل فعل يشء مذموم".
وتأسيس ًا عىل خطاب الوحي ،قال األصوليون بوجوب االجتهاد عىل املجتهد ،يقول
اجلويني" :فقد وضح وجوب االجتهاد باألدلة القاطعة ،فال سبيل إىل ترك ما ثبت قطع ًا بام مل
يثبت" (٥(،ويف هذا داللة قوية عىل إرادة االختالف يف الفروع ،وأن االختالف بني املذاهب
الفقهية يف الفروع (الظنيات) ،يغاير االختالف يف األصول (القطعيات).
ويقول ابن رشد" :والسبب يف ورود الرشع فيه الظاهر والباطن هو اختالف نظر الناس
وتباين قرائحهم يف التصديق ،والسبب يف ورود الظواهر املتعارضة فيه ،هو تنبيه الراسخني
يف العلم عىل التأويل اجلامع بينهام ،وإىل هذا املعنى وردت اإلشارة بقوله تعاىل﴿ :ﲇ ﲈ
((٦
ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ﴾ إىل قوله﴿ :ﲩ ﲪ ﲫ﴾ [آل عمران".]٧ :
( )1أبو يعىل ،القايض أبو يعىل حممد بن احلسني احلنبيل ابن الفراء .املعتمد يف أصول الدين ،حتقيق :وديع زيدان حداد،
بريوت :دار املرشق ،ط198٦( ،1م) ،ص.٢٦
( )٢املرجع السابق.
( )٣البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :االعتصام بالكتاب والسنة ،بابِ :
أجر احلاك ِم إذا اجتهد فأصاب
أو أخطأ ،ج ،9حديث رقم ( ،)٧٣٥٢ص.180
( )٤زيدان ،عبد الكريم .اخلالف يف الرشيعة اإلسالمية ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط1٤08( ،٢ه1988/م) ،ص.٢0
( )٥اجلويني ،أبو املعايل إمام احلرمني عبد امللك بن عبد اهلل بن يوسف بن حممد .االجتهاد (من كتاب التلخيص إلمام
احلرمني) ،حتقيق :د .عبد احلميد أبو زنيد ،دمشق وبريوت :دار القلم ودارة العلوم الثقافية ،ط1٤08( ،1ه) ،ص.11٤
( )٦ابن رشد ،فصل املقال فيام بني احلكمة والرشيعة من االتصال ،مرجع سابق ،ص.٣٤
٥9
ويقول القرضاوي يف بيان جمال االجتهاد" :ويظهر يل -واهلل أعلم -أن جمال االجتهاد
هو :كل مسألة رشعية ليس فيها دليل قطعي الثبوت ،قطعي الداللة ،سواء كانت من املسائل
((1
األصلية االعتقادية ،أم من املسائل الفرعية العملية".
فاالختالف الذي أراده اهلل تعاىل بإرادته الترشيعية ،هو االختالف الذي ال رضر فيه.
يروي الطري عن احلسن يف قوله تعاىل﴿ :ﭢ ﭣﭤ﴾ [هود" :]119 :أما أهل رمحة اهلل
يرضهم"" (٢(،يعني ألنه -أي االختالف -يف مسائل االجتهاد التي فإهنم ال خيتلفون اختالف ًا ّ
((٣
ال نص فيها بقطع العذر ،بل هلم فيه أعظم العذر".
وجييب الشاطبي عن سؤال :هل أهل الرمحة داخلون حتت قوله تعاىل﴿ :ﭙ ﭚ
ﭛ﴾ [هود ]118 :أم ال؟ بقوله ..." :واجلواب أنه ال يصح أن يدخل حتت مقتضاها أهل
( )1القرضاوي ،االجتهاد يف الرشيعة اإلسالمية مع نظرات حتليلية يف االجتهاد املعارص ،مرجع سابق ،ص.٦٥
وذكر املؤلف "أن جميء خطاب الرشع عىل هذه الصفة من الظنية دليل عىل اإلذن يف االجتهاد فيها ،ولو
شاء سبحانه ألنزل فيها قواطع األدلة ،ومنع االختالف فيها ،لكنه أنزل كتابه ﴿ :ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ
ﮣ﴾ [آل عمران ]٧ :وهذا ما جعل دين اهلل يتسع للمختلفني ،أما تأثيم املجتهد يف املسائل العلمية واالعتيادية،
فهو مناف ملا قرره القرآن والسنة ،..وكل من بذل وسعه يف طلب احلقيقة فقد أتى بام كلفه اهلل به من بذل اجلهد،
ومل يكلفه اهلل فوق طاقته ،وهذا منقول عن ابن دقيق العيد وابن تيمية .أما التفريق بني أصول يكفر بإنكارها
وفروع ال يكفر بإنكارها ال أصل له يف الصحابة والتابعني وال أئمة اإلسالم ،وإنام هو منقول عن املعتزلة ،أما
إخراج املسائل العلمية االعتقادية من جمال االجتهاد ،فأدى إىل تكفري املخالفني هلم يف األصول ".انظر:
-القرضاوي ،االجتهاد يف الرشيعة اإلسالمية مع نظرات حتليلية يف االجتهاد املعارص ،مرجع سابق( ،بترصف
جعل الدين قسمني :أصوالً يسري) .يقول ابن تيمية" :ومل يفرق أحد من السلف واألئمة بني أصول وفروع .بل ُ
وفروع ًا ،مل يكن معروف ًا يف الصحابة والتابعني ،ومل يقل أحدٌ من السلف والصحابة والتابعني :إن املجتهد الذي
استفرغ وسعه يف طلب احلق يأثم ال يف األصول وال يف الفروع ،ولكن هذا التفريق ظهر من جهة املعتزلة،
ٍ احل َس ِن ا ْل َعن َ ِْر ِّي أنه قال :كل ِ
جمتهد وأدخله يف أصول الفقه من نقل ذلك عنهم ،وحكوا عن ُع َب ْيد اهللَِّ ْب ِن ْ َ
األئمة كأيب حنيفة والشافعي وغريمها .وهلذا يقبلون شهادة أهل ِ يأثم .وهذا قول عامة
مصيب ،ومراده :أنه ال ُ
ٌ
األهواء ،ويص ّلون خلفهم ،ومن ردها -كاملك وأمحد -فليس ذلك مستلزم ًا إلثمهام؛ لكن املقصود إنكار
صل خلفه ،ومل تقبل شهادته كان ذلك منع ًا له من إظهار البدعة، املنكر وهجر من أظهر البدعة ،فإذا هجر ومل ُي ّ
وهلذا َّفرق أمحد وغريه بني الداعية للبدعة املظهر هلا وغريه ،وكذلك قال اخلرقي :ومن صىل خلف من جيهر
ببدعة أو منكر أعاد" انظر:
-ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .جمموع الفتاوى ،حتقيق :عبد الرمحن بن حممد بن القاسم ،املدينة
املنورة :جممع امللك فهد لطباعة املصحف الرشيف1٤1٦( ،ه199٥/م) ،ج ،1٣ص.1٢٥
( )٢الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،1٥ص.٥٣٦
( )٣الشاطبي ،االعتصام ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٣9٤
٦0
هذا االختالف من أوجه :أحدها :أن اآلية اقتضت أن أهل االختالف املذكورين مباينون
ألهل الرمحة (1("...واختالف أهل الرمحة فيام بينهم ال يرض؛ ألن هلم أصالً يرجعون إليه ،يقول
الشاطبي" :ومع أن الشارع ملا علم أن هذا النوع من االختالف واقع ،أتى فيه بأصل يرجع
((٢
إليه ،وهو قول اهلل تعاىل﴿ :ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ﴾ [النساء".]٥9 :
ذكر القرآن الكريم أن من سبقنا من أهل الرشائع قد اختلفوا يف الدين ،بعد ما جاءهتم
البينات ،وجاءهم العلم ،قال تعاىل يف افراق أهل الكتاب بعد جميء البينات ﴿ :ﮌ ﮍ
ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾ [البينة ،]٤ :وقال تعاىل﴿ :ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ
ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎﲏ﴾ [البقرة ،]٢1٣ :وقال يف شأن بني إرسائيل كذلك
واختالفهم بعد البينات والعلم بغي ًا بينهم ﴿ :ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ
ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ﴾ [اجلاثية.]1٧ :
وقال تعاىل يف شأن النصارى واختالفهم يف أمر سيدنا عيسى بغي ًا بينهم ،وتعمد ًا
لالختالف بعد ما جاءهم العلم(﴿ :(٣ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ
ﮈ ﮉ ﮊﮋ﴾ [آل عمران ،]19 :وقال سبحانه يف حق تفرق الكفار املرشكني واختالفهم،
بعدما جاءهم سيدنا نوح بالدين احلق ،وهناهم عن عدم التفرق فيه( ﴿ :(٤ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﴾ [الشورى .]1٤ :وذم القرآن الذين تفرقوا واختلفوا يف الدين من أهل
ِّ
"تحذر من التفرق الذي ينتهي إىل تكوين الفرق ،ومن تقطع األمر الكتاب يف آيات كثرية،
والتعصب ،الذي يقود بدوره إىل الترشذم والتش ّيع
ّ التحزب
ّ زبر ًا ،الذي ينتهي بدوره إىل
((٥
ليصبح ﴿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ﴾ [الروم".]٣٢ :
( )1الشاطبي ،االعتصام ،مرجع سابق ،ذكر عدة أوجه راجعها يف حملها ،ج ،٢ص.٣9٤
( )٢املرجع السابق ،ج ،٢ص.٣9٣
( )٣الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٦ص.٢٧٦
( )٤املرجع السابق ،ج ،٢1ص.٥1٤
( )٥العلواين ،طه جابر .األزمة الفكرية ومناهج التغيري ،قضايا إسالمية معارصة ،بريوت :دار اهلادي ،ط،1
(1٤٢٤ه٢00٣/م) ،ص.18٧
٦1
ويقول تعاىل حمذر ًا املؤمنني من مثل فعل أهل الكتاب وهو :إلقاء الشبهات يف
النصوص ،واستخراج التأويالت الفاسدة والبعيدة ،واملغرية لداللة هذه النصوص(،(1
واملفضية إىل االفراق وضياع الوحدة واالئتالف ﴿ :ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ
ﮮ ﮯﮰ ﴾ [آل عمران (٢(]10٥ :فاآلية تضمنت ثالثة أمور:
األول :التحذير للمؤمنني من فعل أهل الكتاب.
والثاين :الذم لفعل أهل الكتاب.
والثالث :أن االختالف واالفراق كان بعد البينة الواضحة ،فهو اختالف من غري
مسوغ موضوعي.
ونظريه يف التحذير قوله تعاىل ﴿ :ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ
ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ﴾ [الروم ]٣٢ – ٣1 :يقول ابن عاشور" :وهذه
حالة ذميمة من أحوال أهل الرشك يراد حتذير املسلمني من الوقوع يف مثلها ،فإذا اختلفوا يف
أمور الدين االختالف الذي يقتضيه اختالف االجتهاد ،أو اختلفوا يف اآلراء والسياسات
فليحذروا أن جيرهم ذلك االختالف إىل أن يكونوا شيع ًا متع ِ
ادين َ الختالف العوائد،
َ َّ
((٣
بعضهم بأس بعض".
ْ متفرقني؛ يلعن بعضهم بعض ًا ،و ُي ِذيق
ِّ
جذري يف العقائد وما وراء املادة
ٌّ خالف
ٌ املنهي عنه
َّ ويرى حممد الغزايل ّ
أن" :التفريق
واملغيبات؛ ألن الكالم فيها ليس له سند عقيل عند الناس ،ولكنه تطاحن عىل فهم بدا
لصاحبه ،هذا كله كالم أرى اخلوض فيه ُيعدّ أوالً :كالم ًا ال معنى له وال لزوم له ،وثاني ًا:
((٤
ألن اخلوض فيه يؤدي إىل انقسام ديني خطري"...
٦٢
ويقول الشاطبي" :قوله تعاىل ﴿ :ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ
ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﴾ [آل عمران ]10٥ :فهذا وعيد ،ثم قال تعاىل﴿ :ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ
ﯛﯜ﴾ [آل عمران ]10٦ :وتسويد الوجوه عالمة اخلزي ودخول النار ،ثم قال تعاىل ﴿ :ﯡ ﯢ
ﯤ ﯥ﴾ [آل عمران]10٦ : ﯣ ﴾ [آل عمران ]10٦ :وهو تقريع وتوبيخ ،ثم قال تعاىل﴿ :
((1
وهو تأكيد آخر .وكل هذا التقرير بناء عىل أن املراد باآليات أهل القبلة من أهل البدع".
وهذا التحذير للمؤمنني خمافة سلوك مسلك اآلخرين يف االختالف والتفرق ،وقد
أخر النبي ﷺ بافراق األمة كافراق األمم السابقة ،قال بعد ذكر افراق اليهود والنصارى:
ني فِ ْر َق ًة" (٢(،يقول الشاطبي" :وهذا ...عند كثري من ث َو َس ْب ِع َ
" ...و َت ْف َ ِر ُق ُأمتِي َع َىل َث َال ٍ
َّ َ
ِ ِ
ر ًا َان َق ْب َلك ُْم ،ش ْ
ر ًا ش ْ أهل العلم خاص بأهل األهواء" (٣(،وقال ﷺَ » :ل َت ْت َب ُع َّن َسنَ َن َم ْن ك َ
ِ ِ
وه ْم"( (٤يقول الشاطبي" :وهذا ...عام ب تَبِ ْعت ُُم ُ
َوذ َراع ًا بِذ َراعٍَ ،حتَّى َل ْو َد َخ ُلوا ُج ْح َر َض ٍّ
يف املخالفات (٥(".واآلية جاءت يف سياق أمرهم باالعتصام بحبل اهلل واالجتامع واأللفة،
وتذكريهم بفضل اهلل عليهم الذي ألف بني قلوهبم باإلسالم ،بعد ما كان بينهم من عداوة
قبله ،قال تعاىل﴿ :ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ
ﭿ ﮀ ﮁ [ ﴾...آل عمران.]10٣ :
حرم اخلطاب القرآين االفراق يف الدين واالختالف يف أصوله وهنى عنه( (٦يقول
وقد ّ
اهلل تعاىل ﴿ :ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﴾ [األنعام (٧( ]1٥9 :حكى الطري:
٦٣
(إن ا َّل ِذي َن َف َار ُقو ْا ِدين َُه ْم) وهي منسوبة لسيدنا عيل ،وعىل
يف اآلية قراءتان (1(:األوىلَّ :
هذه القراءة يكون املراد :افراق أهل القبلة ،وهي القراءة التي تعنينا هنا .والقراءة الثانية:
تفرق اليهود والنصارى
﴿ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ﴾ وهي قراءة عبد اهلل بن مسعود ،فيكون املراد ّ
يف أصل الدين الواحد.
ِ
رسول اهلل ﷺ ممن َّفرق نؤصل له ،وهو براءة
وكلتا القراءتني ختدمان املعنى الذي ّ
الدين اجلامع املؤ َّلف ،بالشبهات الباطلة ،والتأويالت املخرجة للنصوص عن دالالهتا،
واتباع املتشابه من غري إرجاعه إىل املحكم ،سواء كان حنيف ًا مسل ًام أو كان من أهل الكتاب،
يقول الشاطبي رواي ًة عن بعض العلامء بخصوص اآلية" :صاروا فرق ًا التباع أهوائهم،
وبمفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافرقوا ،وهم أصحاب البدع وأصحاب الضالالت،
والكالم يف ما مل يأذن اهلل فيه وال رسوله" (٢(.واملقصود بالتفريق يف اآلية التفريق يف العقائد،
((٣
وهو االختالف املذموم ،وليس التفريق يف املذاهب االجتهادية ،وهو االختالف املحمود.
وقال ابن كثري" :والظاهر أن اآلية عامة يف كل من فارق دين اهلل وكان خمالف ًا له ،فإن
اهلل بعث رسو َله باهلدى ودين احلق ليظهره عىل الدين كله ،ورشعه واحد ال اختالف فيه
وال افراق ،فمن اختلف فيه ﴿ ﭽ ﭾ﴾؛ أي فرق ًا كأهل امللل والنحل -وهي األهواء
والضالالت -فاهلل قد َب َّرأ رسوله مما هم فيه .وهذه اآلية كقوله تعاىل ﴿ :ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ
ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ
((٤
ﮑﮒ ﴾ [الشورى".]1٣ :
( )1الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،1٢ص.٢٦9-٢٦8
( )٢الشاطبي ،االعتصام ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٤٢8
( )٣الغزايل ،كيف نتعامل مع القرآن ،مرجع سابق ،ص.11٣
( )٤ابن كثري ،أبو الفداء عامد الدين إسامعيل بن عمر بن كثري الدمشقي .تفسري القرآن العظيم ،حتقيق :سامي بن حممد
سالمة ،بريوت والرياض :دار طيبة للنرش والتوزيع ،ط1٤٢0( ،٢ه1999/م) ،ج ،٣ص.٣٧٧
٦٤
﴿ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ
ﯜﯝ ﴾ [األنعام ،]٦٥ :عرض الطري األقوال يف من عني هبذه اآلية ،هل هم أهل الرشك؟ أم
أن بعضها يف أهل الرشك وبعضها يف املسلمني؟ وبعد ما صوب القول بأهنا يف أهل الرشك
قال ..." :فإنه قد عم وعيده بذلك كل من سلك سبيلهم من أهل اخلالف عىل اهلل وعىل
رسوله ،والتكذيب بآيات اهلل من هذه وغريها"(" ،(1وقال جماهد وأبو العالية :إن اآلية ألمة
رصيح يف أن اختالف األهواء مكروه غري
ٌ حممد ﷺ ،(٢("...ويقول الشاطبي ..." :وهذا كله
((٣
حمبوب ومذموم غري حممود".
فإن التفرقة من أسباب العداوة وتسليط األعداء ،يقول ابن تيمية" :وبالد الرشق :من
((٤
أسباب تسليط اهلل التر عليها كثرة التفرق والفتن بينهم يف املذاهب وغريها"...
وهذا االفراق واالختالف يف أصول الدين (القطعيات) ،هو اختالف الذين يف قلوهبم
زيغ (٦(،يقول تعاىل ﴿ :ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ
ﲓﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡﲢ ﲣ ﲤ ﲥ
ﲦ ﲧﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲﲳ ﲴ ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ﴾
[آل عمران ]٧ :يقول الشاطبي يف بيان هذا اخلطاب القرآين" :فأثبت هلم الزيغ أوالً ،وهو امليل عن
الصواب ،ثم اتباع املتشابه ،وهو خالف املحكم الواضح املعنى ،الذي هو ُأ ّم الكتاب ومعظمه،
ومتشاهبه عىل هذا قليل ،فركوا اتباع املعظم إىل اتباع األقل املتشابه الذي ال ُيعطي مفهوم ًا واضح ًا
ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ،وطلب ًا ملعناه الذي ال يعلمه إال اهلل ،أو يعلمه اهلل والراسخون يف العلم،
( )1الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،11ص.٤٣1
( )٢الشاطبي ،االعتصام ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٤٧
( )٣املرجع السابق ،ج ،1ص.٤٧
( )٤ابن تيمية ،جمموع الفتاوى ،مرجع سابق ،ج ،٢٢ص.٢٥٤
( )٥الشاطبي ،االعتصام ،مرجع سابق ،ج ،1ص.10٣
( )٦املرجع السابق ،ج ،٢ص.٤٢9-٤٢8
٦٥
وليس إال بر ّده إىل املحكم ،ومل يفعل املبتدعة ذلك ،فانظروا كيف اتبعوا أهواءهم أوالً يف مطالبة
الرشع ،بشهادة اهلل" (1(،وبر ِّد املتشابه إىل املحكم يكون لالجتهاد ضابط ،ولالختالف جامع.
فاخلطاب القرآين يشتمل عىل حمكم ومتشابه (٢(،واتباع املتشابه منشئ للفرقة يف الدين،
((٣
يقول الرازي :القرآن "مشتمل عىل حمكم وعىل متشابه ،والتمسك باملتشاهبات غري جائز"،
٦٦
كي ال يزيغ املجتهد فينشأ النزاع والشقاق ،فيكون اخلالف نقم ًة ،ال نعم ًة ورمح ًة؛ ألن الزيغ
ميل عن احلق واتباع للهوى ،وهو طريق الضالل ،يقول البنا" :حمكم تؤمن به وتعمل
تفوض يف
بمقتضاه ،ومتشابه تؤمن به وتفوض علم حقيقته إىل اهلل ،والرسوخ يف العلم :أن ِّ
ذلك هو الظاهر من اآلية" (1(،لكن ينبه حممد الغزايل عىل أنه "ال جيوز وصف اآلخرين بالزيغ
((٢
أو الكفر ،إال إذا كان هناك فع ً
ال من يريد أن يصف رب العاملني بغري ما ينبغي له".
وذكر الشاطبي أن أهل الزيغ يتبعون متشابه القرآن وهو :ما أشكل معناه ،ومل يبني مغزاه،
وقسمه إىل :حقيقي وإضايف ،واحلقيقي :كاملجمل من األلفاظ ،واإلضايف :وهو ما حيتاج يف بيان
معناه احلقيقي إىل دليل خارجي ،وإن كان يف نفسه ظاهر املعنى لبادي الرأي ،ومثل هلذا القسم
الثاين من املتشابه :بإبطال اخلوارج للتحكيم بقوله تعاىل﴿ :ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﴾ [األنعام ،...]٥٧ :فإن
ظاهر اآلية صحيح عىل اجلملة ،وأما عىل التفصيل فمحتاج إىل البيان ،وكذلك حمو االسم من
إمارة املؤمنني ...،وكذلك قوهلم" :قاتل ومل يسب" ...وع ّلق عىل هذا الوجه من الزيغ وغريه
من اتباع املتشابه بقوله" :فتأملوا وجه اتباع املتشاهبات ،وكيف أدى إىل الضالل واخلروج عن
اجلامعة" (٣(،فاالختالف الناشئ عن اتباع املتشاهبات ،هيدم االجتامع واالئتالف.
فهذا النوع من االختالف حمرم يف اخلطاب القرآين ،فهو اختالف يف الثوابت واجلوامع
املؤلفة ،بل جعله القرآن كفر ًا –وإن كان كفر ًا دون كفر ،-حينام حاول بعض اليهود إثارة
النعرة اجلاهلية بني األوس واخلزرج ،فنزل قول اهلل تعاىل ﴿ :ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ
ﰇﰈﰉ ﰊﰋﰌﰍ ﰎ ﰏ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ
ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﴾ [آل عمران.]101 – 100 :
اختالف
ُ وعد الشافعي يف رسالته األصولية هذا النوع من االختالف حمرم ًا؛ ألنه
تفرق ،واختالف بعد جميء البينات (٤(،ويقول الغزايلّ :
إن االختالف" :املنهي عنه االختالف ُّ
( )1البنا ،نظرات يف كتاب اهلل (تفسري الشهيد البنا) ،مرجع سابق ،ص.٥1٤
( )٢الغزايل ،كيف نتعامل مع القرآن ،مرجع سابق ،ص.110
( )٣الشاطبي ،االعتصام ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٤٣0
( )٤الشافعي ،الرسالة ،مرجع سابق ،ص .٥٦0يقول" :االختالف من وجهني أحدمها حمرم ،وال أقول ذلك يف اآلخر".
٦٧
يف أصول الدين ،وعىل الوالة واألئمة" (1(،ويقول اجلوينيّ :
إن االختالف يف أصول الدين
القطعية حمرم؛ ألن املصيب فيها واحد" :املصيب فيها واحد ،ومن عداه جاهل خمطئ ،وهذا
ما صار إليه كافة األصوليني" (٢(.وذكر الغزايل أن املخطئ يف القطعيات آثم ،وقسمها إىل:
((٤
كالمية ،وأصولية ،وفقهية (٣(،بل حيكم بكفره.
وهذا االختالف يف أصول الدين إرادة تكوينية ،فهو داخل يف عموم قوله تعاىل﴿ :ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ﴾ [هود ]118 :فاآلية تنتظم هذا النوع من االختالف
وهو "أن يقع االتفاق يف أصل الدين ،ويقع االختالف يف بعض قواعده الكلية ،وهو املؤدي إىل
ً ((٥
التفرق شيعا".
ويدل عليه كذلك قصة رغبة النبي ﷺ يف كتابة كتاب للصحابة ،ال تضل األمة بعده،
وملا تنازع الصحابة ،وكثر اللغط واالختالف ،وغلبه ﷺ الوجع ،رجع عن رأيه ،وقال:
" ُقو ُموا َعنِّي" (٦(،وعلق الشاطبي عىل القصة بقوله ..." :فكان ذلك –واهلل أعلم -وحي ًا
أوحى اهلل إليه أنه إن كتب هلم ذلك الكتاب مل يضلوا بعده البتة ،فتخرج األمة عن مقتىض
قوله ﴿ :ﭙ ﭚ ﭛ ﴾ بدخوهلا حتت قوله ﴿ :ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ﴾ [هود ]119 :فأبى اهلل إال
ما سبق به علمه من اختالفهم ،كام اختلف غريهم ،رضينا بقضاء اهلل وقدره ،ونسأله أن يثبتنا
((٧
عىل الكتاب والسنة ،ويميتنا عىل ذلك بفضله".
٦8
وذكر اخلطاب القرآين اآلثار السلبية هلذا النوع من االختالف عىل األمة اإلسالمية،
ومن أمهها اآلثار التالية:
أ -الضعف والعجز:
والنتيجة الطبيعية لذلك ،ختلف النرص عن األمة وعجزها ،قال اهلل تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﴾ [األنفال ]٤٦ :يقول الطري:
فتفرقوا وختتلف قلوبكم فتفشلوا ،يقول :فتضعفوا
" ﴿ﭔ ﭕ ﭖ﴾ يقول :وال ختتلفوا ّ
((٢
وجتبنوا ،وتذهب رحيكم" (1(،يقول زيد بن عيل ﴿ " :ﭗ ﭘﱉ﴾ معناه تنقطع دولتكم".
فهذا النوع من االختالف يوقع األمة يف العقوبات املعنوية .روى البخاري عن
عبادة بن الصامت :أن رسول اهلل ﷺ خرج خير بليلة القدرَ ،ف َتال ََحى رجالن من املسلمني
رك ُْم بِ َل ْي َل ِة ال َقدْ ِرَ ،وإِ َّن ُه َتال ََحى ُفال ٌَن َو ُفال ٌَنَ ،ف ُرفِ َع ْت (٣("...يقول ِ
فقال" :إِ ِّين َخ َر ْج ُت ألُ ْخ ِ َ
ابن حجر" :قوله َفت ََال َحى بفتح احلاء املهملة مشتق من الت ََّال ِحي بكسها ،وهو التنازع
واملخاصمة ...قال القايض عياض :فيه دليل عىل أن املخاصمة مذمومة ،وأهنا سبب يف
((٤
العقوبة املعنوية؛ أي احلرمان"...
ب -براءة الرسول ﷺ من املفرتقني:
قال اهلل عز وجل﴿ :ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﱳ﴾ [األنعام ،]1٥9 :قال
اجلصاص ﴿ " :ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ﴾ املباعدة التامة من أن جيتمع معهم يف معنى من مذاهبهم
((٥
الفاسدة ،فليس منهم يف يشء؛ ألنه بريء من مجيعه".
٦9
ت -اسوداد وجوه طوائف من املفرتقني يوم القيامة:
وباجلملةّ ،
فإن االختالف املذموم يف القرآن الكريم هو االختالف يف الدين ،ال
التفرق واالختالف بعد جميء
ُّ االختالف يف فهم الدين ،لذلك جتد اآليات تنهى عن
البينات ،والعلم الذي ال ريب فيه ،وتنهى كذلك عن الزيغ ،والبغي ،والعدوان ،واتباع
الظن ،والتقليد ،واجلهل ،واتباع اهلوى ،والتعصب.
( )1ابن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.1٦٧
( )٢رفيع ،حمامد» .ضوابط تدبري االختالف مع اآلخر يف أصول الراث اإلسالمي »،جملة إسالمية املعرفة ،املعهد العاملي
للفكر اإلسالمي ،الواليات املتحدة األمريكية ،العدد1٤٢9( ،٥٢ :ه٢008/م) ،ص.9٧-9٦
٧0
وبذلك نستنتج أن كلمة "االختالف" غري مذمومة لذاهتا ،بل الذم أو املدح يرتبط باملجال
الذي تستعمل فيه ،فإذا كان االختالف يف الدين ،اعتامد ًا عىل امليوالت النفسية ،واالعوجاج
يف االستدالل ،باتباع تقليد اآلباء والكراء ،أو اتباع الظنون واألهواء ،فهذا اختالف مذموم،
وإذا كان االختالف فيام تتفاوت فيه األفهام ،وختتلف فيه املدارك العقلية ،حسب اختالف
كام وكيف ًا ،فهذا من االختالف املحمود ،وهو
مصادر املعرفة ،واختالف العلوم واملعارف ّ ً
اختالف أهل الرمحة؛ ألنه اختالف ال يرضهم ،بل هو مرشوع برشعية االجتهاد.
-4سياق االختالف يف إطار اجلوامع واملشرتكات:
وقد دعا القرآن الكريم إىل اجلامعة اإلسالمية اإلنسانية( ،(1قال اهلل تعاىل يف سورة
األنبياء خماطب ًا أمة اإلسالم واإليامن ﴿ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ﴾
[األنبياء ]9٢ :ثم بني ألمة اإلسالم يف سورة (املؤمنون) أنه خاطب مجيع النبيني هبذه الوحدة
لألمة فقال ﴿ :ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ﴾ [املؤمنون.]٥٢ :
قال الزخمرشي ﴿ :ﭰ ﭱ ﭲ ﴾ مستوية بيننا وبينكم ،ال خيتلف فيها القرآن
والتوراة واإلنجيل ﴿ ﮄ ﮅ﴾ عن التوحيد ﴿ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ﴾؛ أي لزمتكم
((٣
احلجة ،فوجب عليكم أن تعرفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم".
وش َّبه رسول اهلل ﷺ الرشائع التي جاء هبا األنبياء والرسل ،بالبيت اجلامع املؤلف
لألنبياء وأتباعهم ،عن أيب هريرة أن رسول اهلل ﷺ قال" :إِ َّن م َث ِىل وم َث َل األَنْبِي ِ
اء ِم ْن َق ْب ِىل َ َ َ َ َ
( )1رضا ،حممد رشيد .الوحي املحمدي ،ثبوت النبوة بالقرآن ودعوة شعوب املدينة إىل اإلسالم دين األخوة اإلنسانية
والسالم ،القاهرة :مؤسسة عز الدين للطباعة والنرش ،ط1٤0٦ ،٣ه ،ص.٢٧٦-٢٧٥
( ﴿ (٢ﭪ ﭫ ﭬ ﴾ قيل :هم أهل الكتابني .وقيل :وفد نجران .وقيل :هيود املدينة.
( )٣الزخمرشي ،الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ،مرجع سابق ،ج ،٣ص ،1٧٦-1٧٥وانظر أيض ًا:
-ابن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٥٦-٥٥
٧1
ون بِ ِه
َّاس َي ُطو ُف َ ٍ ٍ ِ ِ
مج َل ُه ،إِالَّ َم ْوض َع َلبِنَة م ْن َز ِاو َيةَ ،ف َج َع َل الن ُ ك ََم َث ِل َر ُج ٍل َبنَى َب ْيت ًا َف َأ ْح َسنَ ُه َو َأ ْ َ
((1
ال ُو ِض َع ْت َه ِذ ِه ال َّلبِنَ ُّةَ .ق َالَ :ف َأنَا ال َّلبِنَ ُةَ ،و َأنَا َخاتِ ُم النَّبِ ِّي َ
ني". ونَ :ه َّ ون َل ُهَ ،و َي ُقو ُل َ
َو َي ْع َج ُب َ
والقرآن الكريم الكتاب املعجز ،املصدق للرسائل السابقة ،والدليل عىل صدق الرسل
وما جاؤوا به ،دعا البرشية مجعاء ،السيام أتباع الرساالت الساموية إىل تدبري االختالف،
باالحتكام إىل األصول اجلامعة ،باعتبارها جوامع تؤ ِّلف ،وال ِّ
تفرق بني أتباع كل األنبياء
((٢
سامهم اهلل تعاىل يف كتابه.
والرسل ،الذين ّ
( )1البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :املناقب ،باب :خاتم النبيني ﷺ ،ج ،٤حديث رقم (،)٣٥٣٥
ص.18٦
( )٢ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،٢٥ص.٥٣
( )٣رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٥٦
٧٢
َ
أصول الدين التي بعث هبا األنبياء -والتي مهمتها االرتقاء ويقول رشيد رضا أن
باإلنسان -ال خالف فيها" :وأما تلك األصول ،وهي اإليامن الصحيح وعبادة اهلل تعاىل
((1
وحده ،وحسن املعاملة مع الناس فهي التي ال خالف فيها".
ودعوة القرآن الكريم دعوة جامعة ومؤلفة؛ ألهنا رسالة عاملية (٢(،رسالة مجع وتأليف
((٣
تعصب وال رفض وال إكراه ،وال انغالق .وبني الشافعي يف الرسالة
واستيعاب ،ال ّ
كيف تدرجت رسالة اإلسالم يف خطاهبا من دعوة عشرية رسول اهلل ﷺ (٤(،إىل نداء بطون
قريش ،إىل إنذار أم القرى ومن حوهلا ،ثم دعوة قومه مجيع ًا وهم العرب ،إىل أن َّ
عم ((٧ ((٦ ((٥
((8
اخللق كلهم بالبشارة والنذارة هبذه الرسالة اخلالدة ،فأصبحت رسالة عاملية للبرشية كلها.
٧٣
ويف سياق حرص القرآن الكريم عىل أن يبقى االختالف يف إطار اجلوامع ،حتى ال يكون
هادم ًا لالئتالف ،يقول تعاىل يف ذم التفرق واالختالف فيام جاءت به البينات (1(،وهي بمثابة
املرجعية اجلامعة﴿ :ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ﴾ [البينة.]٤ :
فاالختالف يف اخلطاب القرآين خيدم االئتالف واالجتامع ،وال هيدمه وال يقوض
والتحاب والراحم والتعاطف ،فكل
ّ أركانه ،يقول الشاطبي" :اإلسالم يدعو إىل األلفة
رأي أ ّدى إىل خالف ذلك فخارج عن الدين .وهذه اخلاصية قد َّ
دل عليها احلديث املتكلم
عليه (حديث االفراق) وهي موجودة يف كل فرقة من الفرق املتضمنة يف احلديث ...إال َّ
أن
الفرقة ال تعتر عىل أي وجه كانت؛ ألهنا ختتلف بالقوة والضعف"(.(٢
يقول ابن تيمية" :وأمرنا اهلل تعاىل باالجتامع واالئتالف ،وهنانا عن التفرق
واالختالف" (٣(،وهذا ما نطق به القرآن الكريم يف قوله تعاىل ﴿ :ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ
ﭵ ﭶﭷ ﴾ [آل عمران.]10٣ :
الك َُام ُحم ْ ِس ٌنَ ،والَ وقوله ﷺ البن مسعود يف شأن االختالف يف القراءة القرآنيةِ :
"ك َ
اخ َت َل ُفوا َف َه َلكُوا"( (٤ويقول ابن حجر" :إن يف هذا احلديث ّ
احلض ختت َِل ُفواَ ،فإِ َّن َم ْن ك َ
َان َق ْب َلك ُُم ْ َْ
((٥
عىل اجلامعة واأللفة والتحذير من الفرقة واالختالف".
( )1الشافعي ،الرسالة ،مرجع سابق ،ج ،٣ص ،٥٦1-٥٦0وانظر أيض ًا:
-اآللويس ،روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين ،مرجع سابق ،ج ،٣0ص.٢00
( )٢الشاطبي ،االعتصام ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٤٢9
( )٣ابن تيمية ،جمموع الفتاوى ،مرجع سابق ،ج ،19ص.11٦
( )٤البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :أحاديث األنبياء ،باب :حديث الغار ،ج ،٤حديث رقم
( ،)٣٤٧٦ص.1٧٥
( )٥ابن حجر ،فتح الباري ،مرجع سابق ،ج ،9ص.10٢0
( )٦قطب ،سيد .العدالة االجتامعية يف اإلسالم ،القاهرة :دار الرشوق ،ط1٤1٣( ،1٣ه199٣/م) ،ص.٢٣
٧٤
ويقول طه جابر العلواين" :فالبرشية يف إطار املنهج اإلسالمي وحدة واحدة ،وكل
موحد ال يتجزأ ،فالوحدة اإلنسانية يف هذا املنهج هي حقيقة احلياة واألحياء عىل تنوع
األجناس واألنواع ،والوحدة اإلنسانية هي حقيقة اإلنسان واالجتامع البرشي عىل تنوع
الشعوب والقبائل ،واختالف الديار ،ووحدة الدين سمة من سامت هذا املنهج ،ووحدة
الرسل والرساالت جزء من العقيدة التي جاء هبا ،فالبرش كلهم قد خلقهم اهلل من نفس
واحدة ،وخلق منها زوجها ،وبث منهام رجاالً كثري ًا ونساء ،ليصبح الناس شعوب ًا وقبائل
((1
تسعى لبناء عالقات التآلف بينها بعد التعارف ،ثم الدخول يف السلم كافة".
وقال تعاىل يف اجلامع الضابط لالختالف ،يف الدائرة الصغرى لالختالف بني أهل
امللة الواحدة ،ملة اإلسالم ،ومحاية وحدة اجلامعة﴿ :ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ
ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ
ﰑ ﰒ ﴾([ (٢النساء (٣(]٥9 :يف هذه اآلية حث لألمة اإلسالمية عىل التمسك باملرجعية
٧٥
العاصمة من االختالف ،املوحدة للفكر واملنهج ،املوجهة لالختالف نحو اجلامع املؤلف،
يقول الشاطبي :إن الشارع " ...ملا علم أن هذا النوع من االختالف واقع ،أتى فيه بأصل
((1
يرجع إليه ،وهو قوله تعاىل ﴿ :ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ﴾ [النساء".]٥9 :
ويقول الشاطبي يف املرجعية الضابطة لتأويل املتشابه ،وذلك يف سياق تفسري قوله تعاىل:
﴿ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓﲔ ﲕ ﲖ ﲗ
ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ( (٢ﲞ ﲟ ﲠ ﲡﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧﲨ ﲩ
وبر ِّد املتشابه إىل املحكم يكون لالجتهاد ضابط ،ولالختالف جامع؛ َّ
ألن القرآن كام
يقول الرازي" :مشتمل عىل حمكم وعىل متشابه ،والتمسك باملتشاهبات غري جائز" (٥(،كي
ال يزيغ املجتهد فينشأ النزاع والشقاق ،فيكون اخلالف نقمة ال نعمة ورمحة ،ويقول الكيا
((٦
اهلرايس" :وسمى املحكامت أم الكتاب ،وذلك يقتيض رد املتشاهبات إليها"...
٧٦
ويقول ابن القيم يف رس اختالف الصحابة من غري هدم االئتالف" :فإن األصل الذي
بنوا عليه واحد ،وهو كتاب اهلل وسنة رسوله ،والقصد واحد ،وهو طاعة اهلل ورسوله،
والطريق واحد ،وهو النظر يف أدلة القرآن والسنة ،وتقديمها عىل كل قول ورأي وقياس
((1
وذوق وسياسة".
وهذا السياق القرآين لالختالف يف إطار اجلوامع ،فقهه مفكرو اإلسالم ،وترمجوه يف
أقواهلم وممارساهتم احلوارية مع املخالف ،واعتروا االختالف يف دائرة الدين -كام أشار إىل
((٣
ذلك الشاطبي وابن القيم سابق ًا -اختالف ًا مرشوع ًا ،ال هيدم كيان اجلامعة ووحدهتا وألفتها،
( )1ابن القيم ،الصواعق املرسلة يف الرد عىل اجلهمية واملعطلة ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٥19
( )٢ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .مقدمة يف أصول التفسري ،بريوت :دار مكتبة احلياة1٤90( ،ه1980/م) ،ص.10
( )٣وقد وضع علامء األصول الذين فهموا هذا السياق القرآين يف التوجه نحو االجتامع واالئتالف ،املنهج لضبط هذا
االختالف ،وضع معامله الكرى اإلمام الشافعي يف كتابه "الرسالة "،ومن القضايا التي اهتم هبا أهل هذه الصناعة
فيام يتعلق بتدبري االختالف وقصد االئتالف قضية "اإلمجاع" ،هذا األصل الذي هيدف إىل مجع كلمة املجتهدين ،أو
أغلبهم يف القضية املختلف فيها.
يقول األستاذ عالل الفايس" :وعند الفقهاء أن العدالة ليست ثابتة لكل فرد من األمة ،بل ملجموع األمة،
وحجتهم يف ذلك قوله تعاىل﴿ :ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾ [البقرة﴿ ]1٤٣ :ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ
ﭢ﴾ [آل عمران ]110 :وأن هذه الفضيلة جتعل لإلمجاع وأحكامه حجة عىل االفراض وسلطان ًا؛ ألهنا صادرة من
العدالة ".انظر:
-عالل الفايس( ،عالل) بن عبد الواحد بن عبد السالم الفايس الفهري .مقاصد الرشيعة اإلسالمية ومكارمها،
بريوت :دار الغرب اإلسالمي ،ط1991( ،٥م) ص.٤8
فكانت األمة وسط ًا وشاهدة بمقتىض اجلعل اإلهلي ،وكانت خمرجة للناس خلرييتها ،وثبتت هلا صفة العدالة،
وكل ذلك ثابت هلا حني اجتامعها ال حني تفرقها ومتزقها.
وأشار القرآن الكريم إىل "التحكيم" يف اإلصالح بني الزوجني ﴿ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ
ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﴾ [النساء ،]٣٥ :واملراد به حتكيم طرف خارج
طريف النزاع أو أطراف النزاع ،ورجوع األطراف إليه ،وااللتزام بام حيكم به ،وحماولة تقريب اهلوة بني املختلفني.
لفض نزاع سيايس -بعد أن تم وحكّم الرسول ﷺ سعد ًا بن معاذ يف قصة حصاره لبني قريظة- ،وهو حتكيم ّ
= االتفاق عليه بني الطرفني ،ونزل الطرفان عند حكمه .انظر:
٧٧
َّ
ألن ذلك يسري مع سنة اهلل يف اخللق ،التي اقتضت التباين والتغاير الطبيعي والفكري.
وخاطب القرآن َ
أهل الثقافات احلديثة بخطاب االئتالف واالجتامع ،يقول النوريس:
"إن هذا العرص الذي اغر بنفسه وأصم أذنيه عن سامع القرآن الذي خياطبهم بـ"أهل
موجه إىل هذا العرص بالذات؛ إذ إن لفظ
الكتاب ...يا أهل الكتاب" حتى كأن ذلك اخلطاب ّ
"أهل الكتاب" يتضمن معنى :أهل الثقافة احلديثة أيض ًا .فالقرآن يطلق نداءه يدوي يف أجواء
اآلفاق ويمأل األرض والسبع الطباق بكل شدة وقوة ،وبكل نضارة وشباب ،فيقول ﴿ :ﭪ
((1
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﴾ [آل عمران".]٦٤ :
يقول حممد عامرة يف تعليقه عىل بعض بنود الوثيقة" :ففي إطار جامعة األمة الواحدة،
والدولة الواحدة ،ذات املرجعية الترشيعية الواحدة تعددت االنتامءات القبلية والدينية،
= -ابن هشام ،عبد امللك بن هشام بن أيوب احلمريي املعافري .السرية النبوية ،ختريج وحتقيق :وليد بن حممد
سالمة وخالد بن حممد بن عثامن ،القاهرة :مكتبة الصفا ،ط1٤٢٢( ،1ه٢001/م) ،ج ،٣ص.٢٤8
-أبو يوسف ،يعقوب بن إبراهيم بن حبيب األنصاري الكويف البغدادي .اخلراج ،حتقيق :طه عبد الرؤوف
سعد وسعد حسن حممد ،القاهرة :املكتبة األزهرية للراث( ،د .ت ،).ص.٢0٤-٢0٢
-القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٦ص .1٧٦وطبق سيدنا عيل قاعدة التحكيم مع سيدنا
معاوية ،ورفض اخلوارج التحكيم.
( )1النوريس ،بديع الزمان ،سعيد .كليات رسائل النور ( )1الكلامت ،ترمجة :إحسان قاسم صاحلي ،القاهرة :رشكة
سوزلر للنرش ،ط٢00٤ ،٤م ،ص.٤٧1
( )٢احليدر آبادي ،حممد محيد اهلل .جمموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي واخلالفة الراشدة ،بريوت :دار النفائس ،ط،٦
(1٤0٧ه198٧/م) ،ص.٦٢-٦1
٧8
((1
ونظم الدستور عالقات فرقاء هذا االنتامء اجلامع النتامءاهتم الفرعية املتعددة".
يقول القرضاوي بخصوص دعوة الغرب إىل التعاون والتعارف ،يف إطار الدفاع عن
اإلنسان ،ومحاية حقوقه ،وكرامته وحرماته" :نريد أن نتعامل مع الغرب من منطق إنساين
وأخالقي وإيامين ،وننادي أحرار الغرب بام نادى به اإلسالم أهل الكتاب من قبل ﴿ :ﭪ
ﭫﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ
ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮃﮂ ﴾ [آل عمران ،]٦٤ :نريد أن نتعامل مع الغرب ،وأن يتعامل معنا
َّ
يتخىل عن عقده املوروثة من عهد احلروب الصليبية القديم، الغرب معاملة الند للند ،وأن
وعهد االستعامر احلديث ،فنحن أبناء اليوم ال بقايا األمس ،نريد أن نقف مع ًا مدافعني عن
اإلنسان يف كل مكان :عن كرامته وحقوقه وحرماته ،ونقول لكل من جار عىل حق أخيه ما
((٢
قاله ابن اخلطاب :متى استعبدتم الناس وقد ولدهتم أمهاهتم أحرار ًا؟"
ومقصد التعاون واالئتالف ووحدة الصف اإلنساين ،ال يعني التساهل أو التفريط يف
يشء من الدين؛ ألننا مطالبون بتبليغ رسالتنا للناس كافة ،يف إطار التعاون والتعارف معهم،
( )1عامرة ،حممد .اإلسالم والتعددية :االختالف والتنوع يف إطار الوحدة ،القاهرة :دار الرشاد ،ط1٤18( ،1ه1998/م)،
ص.11
( (٢كلمة القرضاوي يف افتتاح جملة األمة الوسط ،تصدر عن االحتاد العاملي لعلامء املسلمني ،ملف العدد :الوسطية
والتحديات املعارصة ،العدد( ،1 :السنة :األوىل)٢009( ،م) ،ص .1٥ويقول القرضاوي يف حديثه عن التعاون
بني املسيحية واإلسالم »أوالً :جمال اإليامن باهلل والدار اآلخرة يف مواجهة املادية العاتية ،التي تنكر الغيب وكل ما
وراء احلس ،وتشيع اإلحلاد يف العامل ،وترى أن قصة احلياة كلها :أرحام تدفع ،وأرض تبلع ،وال يشء بعد ذلك
﴿ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﴾ [اجلاثية .]٢٤ :وثاني ًا :جمال القيم واألخالق يف مقابلة موجة اإلباحية والتحليل،
التي تكاد تدمر الفضائل اإلنسانية الرفيعة ،التي توارثتها البرشية من مواريث النبوة اهلادية :من احلياء والعفاف
واإلحصان واإليثار واألخوة .وثالث ًا :جمال العدل والكرامة واحلرية ،وكل ما يتع ّلق بحقوق اإلنسان وسيادة
الشعوب ،وحقها يف اسرداد حقوقها ،وحريتها يف أرضها".
-املرجع السابق ،ص.1٥
٧9
من غري التنازل أو التفريط يف معامل هويتنا ،هذه املعامل املميزة لنا ،املعرة عن خصوصيتنا ،أمة
هلا كياهنا ووجودها يف العامل ،وباعتبارها أمة الشهادة عىل العامل.
ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈﲉ﴾
[املائدة ،]٤8 :ويف معرض كالمه عن التحذير من التفريط أو التساهل بيشء من الدين يف
سبيل توحيد الصفوف مع املخالفني وإرضاء مجيع الفرقاء" :إن رشيعة اهلل أبقى وأغىل من
((1
أن يضحى بجزء منها يف مقابل يشء قدر اهلل أال يكون"...
وباجلملة ،فإن االختالف هو عدم االتفاق يف الرأي ،وسلوك كل طرف سواء كان فرد ًا
أو أمة ،أو مذهب ًا مغاير ًا ومباين ًا ملذهب اآلخر يف الفكر أو السلوك ،وتدبري االختالف هو:
إدارته ،وتوجيهه ،وتسيريه بروية وحكمة ،والنظر يف عواقبه بام حيقق مقاصده ومصاحله،
وقد ورد يف القرآن الكريم يف سياقات ومواضيع متنوعة ومتعددة منها:
سياق االختالف الطبيعي واإلنساين :تبني -مما سبق -أن اهلل تعاىل ذكر االختالفني يف
سياق واحد ،تنبيه ًا لإلنسان وإرشاد ًا له إىل احلكمة من هذا االختالف ،وهي إثبات قدرة اهلل
تعاىل ووحدانيته من جهة ،وإثبات أن اختالف الظواهر الطبيعية ،مقصده التكامل والتوازن
بني عنارصها من جهة أخرى.
وسياق االختالف املذموم واملحمود :وتبني أن القرآن الكريم يذ ّم االختالف الذي ال
ينضبط بضابط (االختالف يف الدين)؛ االختالف بعد جميء البينات (العلم) ،واالختالف
القائم عىل امليوالت النفسية :اهلوى ،والتعصب ،والزيغ ،وإنكار احلق بعد وضوحه
( (1قطب ،سيد .يف ظالل القرآن ،القاهرة :دار الرشوق ،ط1٤٢٣( ،٣٢ه٢00٣/م) ،ج ،٦ص .90٣
80
ويقر االختالف يف الفهم (االختالف يف فهم الدين) ،القائم عىل اختالف املدارك
وجالئهّ ،
يف إدراك احلقائق.
( )1فهم االختالف يف سياق تدبريه وإدارته بحكمة ،يقتيض التمييز بن ثالث دوائر كرى :األوىل :دائرة االختالف
اإلنساين العام ،وهلذا النوع من االختالف مشركاته اإلنسانية من قبيل :األصل اإلنساين الواحد (األخوة
اإلنسانية) ،الكرامة اإلنسانية ،طهارة الفطرة ،حترير العقل ،التعاون ،والتعارف ،..وغريها من املشركات .الثانية:
دائرة االختالف الديني :وهذا النوع من االختالف مرتبط باختالف األديان الساموية ،وله مشركاته التي يتم تدبري
عر عنها القرآن الكريم
االختالف عىل أساسها ،زيادة عىل املشركات السابقة املرتبطة بالدائرة األوىل ،وهي التي ّ
ب"إقامة الدين" ،وهي األصول االعتقادية ،واألصول األخالقية ،وهذه املشركات كذلك تعم الدائرة األوىل ،بحكم
أن القرآن الكريم خاطب هبا العقول والفطر اإلنسانية .الثالثة :وهي دائرة االختالف اإلسالمي ،اختالف أصحاب
رشيعة القرآن ،فقد وضع هلا القرآن الكريم قواعد ومشركات إلدارة االختالف ،زيادة عىل مشركات الدائرتني
السابقتني مثل :وحدة املرجعية (القرآن والسنة) ،ور ّد املتشابه إىل املحكم ،واالنضباط إىل القطعيات :الكالمية
واألصولية والفقهية ،التي تشكل معامل وحدة األمة.
( )٢ابن عاشور ،أصول النظام االجتامعي يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص .1٣
81
الفصل األول:
( )1يقول ابن عاشور :إنه مل حيصل "احتاد يف التفكري وال اشتهار اتفاق فريق عىل فكرة واحدة يف غري أهل امللل الذين يتبع
كل فريق منهم دين ًا يتفقون يف عقائده وآثارها ".انظر:
-ابن عاشور ،أصول النظام االجتامعي يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.10٦
ويقول الشوكاين عن هذه األصول املشركة إهنا أهم ما جيب عىل الناس اإليامن به" :ألن الكتب قد نطقت هبا،
والرسل قد اتفقت عليها ،اتفاق ًا يقطع كل ريب ،وينفي كل شبهة ،ويذهب كل شك ".انظر:
-الشوكاين ،حممد بن عيل .إرشاد الثقات إىل اتفاق الرشائع عىل التوحيد واملعاد والنبوات ،صححه وضبطه:
جمموعة من العلامء بإرشاف النارش ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤0٤( ،1ه198٤/م) ،ص .٤وعنوان
كتاب الشوكاين هذا فيه داللة قوية عىل اتفاق الرشائع عىل هذه األصول االعتقادية التي هي موضوع الدراسة
يف هذا الفصل .وانظر فصل" :آرصة العقيدة هي أساس االرتباط بني الناس".
-العمري ،أكرم ضياء .املجتمع املدين يف عهد النبوة ،خصائصه وتنظيامته األوىل ،حماولة لتطبيق قواعد املحدثني
يف نقد الروايات التارخيية ،املدينة املنورة :املكتبة العربية السعودية ،اجلامعة اإلسالمية ،املجلس العلمي ،إحياء
الراث اإلسالمي ،ط1٤0٣( ،1ه198٣/م) ،ص.81
8٣
واالستقراء ّ
يدل عىل أن هذه األصول ثالثة :األول :اإليامن باهلل وتوحيده .والثاين:
اإليامن بالرسل واألنبياء .والثالث :اإليامن باملصري واملآل األخروي .وهذه القضايا اإليامنية
قد شغلت حيز ًا كبري ًا ،ومساحة واسعة يف اخلطاب القرآين ،وقد َّ
وجه القرآن الكريم اخلطاب
((1
فيها للعقل اإلنساين ،للنظر والتفكر من أجل اإلقناع.
أكّد اخلطاب القرآين قض ّية اإليامن باهلل وتوحيده ،مفهوم ًا عقدي ًا مركزي ًا ،يف تصوره لوحدة
املجتمع اإلنساين وتدبريه الختالفاته ،فرسالة القرآن هبذه العقيدة هي" :دين الوحدة اإلنسانية
ألن هذا التوحيد ،واخلضوع اإلرادي هلل تعاىل كفيل بحامية تكامل البرشية، ((٢
اجلامعة"؛
وتعاوهنا يف خمتلف األبعاد واملجاالت ،من بناء اإلنسان إىل بناء العمران ،عىل خالف العلامنية
الشاملة التي جتعل مرجعية اإلنسان ذاته ،فهي تتمركز حول اإلنسان ،وجتعله مركز الكون،
ومرجعيته النهائية ،دون حاجة إىل وحي إهلي .ومن دون مرجعية عليا ،تتجاوز ذاته الفردية،
فإن اإلنسان ينغلق عىل ذاته ،فيصبح إنسان ًا فردي ًا ،ال يفكِّر إال يف ذاته ،ويف مصلحته ،وال هتمه
الذات اإلنسانية ،حينئذ تتحول هذه الذات الفردية ،املتمركزة حول نفسها ال "اإلنسانية مجعاء"،
وال تتسع رؤية اإلنسان الفرد لتضم اآلخرين ،فالفكر العلامين بصورته املطلقة والشاملة ،جعل
((٣
حتوله إىل حالة عداء رصيح لآلخر ،وإىل اإلنسان ككل.
مرجعية اإلنسان ذاتهّ ،
( )1رضا ،رشيد .تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،1ص .٥٦ويقول الرازي :فكام أن اخلطاب
القرآين "هدى للمتقني وداللة هلم ..فهو أيض ًا داللة للكافرين ".انظر:
الرازي ،مفاتيح الغيب ،مرجع سابق ،ج ،٢ص .٢٤يف سياق تفسري قوله تعاىل ﴿ :ﭘﭙ ﭚ ﭛ﴾ [البقرة.]٢ : -
( )٢أبو زهرة ،حممد .املجتمع اإلنساين يف ظل اإلسالم ،جدة :الدار السعودية ،ط1٤01( ،٢ه1981/م) ،ص.٤٥
( )٣املسريي ،عبد الوهاب .العلامنية اجلزئية والعلامنية الشاملة ،القاهرة :دار الرشوق ،ط1٤٢٣( ،1ه٢00٢/م) ،ج،1
ص.٢٦٧-٢٦٥
8٤
ومقصودنا من املرجعية هنا هو توحيد اهلل وحده ،ال رشيك له ،يف كل ما أوجب إفراده
به ،وهو أصل األصول يف اخلطاب القرآين ،واملقصد الكيل لكل مقاصده (1(،وهو مقتىض ال
إله إال اهلل ،لقوله تعاىل﴿ :ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ﴾ [حممد ]19 :وقال تعاىل ﴿ :ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ﴾ [هود" ]1٤ :وهذا يقتيض األمر هبا" (٢(.وتوحيد اهلل تعاىل "أهم قواعد
التزكية اإلهلية لإلنسان ،وهي قاعدة تساعد يف الوقت ذاته عىل استعالء اإلنسان بخالقه عىل
ما سواه ،والتوحيد اخلالص النقي ،توحيد اهلل تعاىل يف ألوهيته وربوبيته وصفاته ،فالتوحيد
((٣
اخلالص أهم قواعد إجياد إنسان التغيري ﴿ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﴾ [لقامن".]1٣ :
ولدراسة هذا األصل ،والوقوف عىل مضامينه ،ومعامله يف القرآن الكريم ،وقوته يف
تدبري االختالف اإلنساين ،نفكك املوضوع عىل النحو اآليت:
( )1الغزايل ،أبو حامد حممد بن حممد .جواهر القرآن ،حتقيق :حممد رشيد رضا القباين ،بريوت :دار إحياء العلوم ،ط،٣
(1٤11ه1990 /م) ،ص.٢٣
( )٢احلنبيل ،املعتمد يف أصول الدين ،مرجع سابق ،ص.٢9
( )٣العلواين ،األزمة الفكرية ومناهج التغيري ،مرجع سابق ،ص.18
( )٤البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :الزكاة ،باب :ال تؤخذ كرائم أموال الناس يف الصدقة ،ج،٢
حديث رقم ( ،)1٤٥8ص .119وانظر:
-مسلم ،أبو احلسني مسلم بن احلجاج القشريي النيسابوري .املسند الصحيح املخترص بنقل العدل عن العدل
إىل رسول اهلل ﷺ (صحيح مسلم) ،حتقيق :حممد فؤاد عبد الباقي ،بريوت :دار إحياء الراث العريب ،ط،1
(د.ت ،).كتاب :اإليامن ،باب :الدعاء إىل الشهادتني ورشائع اإلسالم ،ج ،1حديث رقم ( ،)19ص.٥1
8٥
ﭓﭔ ﭕ ﭖﭗ ﴾ [إبراهيم ]٢٥-٢٤ :يقول ابن القيم حكاية عن مجهور املفسين" :الكلمة
الطيبة هي شهادة أن ال إله إال اهلل ،فإهنا تثمر مجيع األعامل الصاحلة الظاهرة والباطنة"(.(1
((٢
لذلك عر العلامء بقوهلم" :ال إله إال اهلل منهاج حياة".
ِ
املصلحة للفرد ،واملوحدة واملؤلفة ((٣
وهذه الكلمة الطيبة ،أو الكلمة السواء،
يشع نورها عىل الكون كله ،فريتقي هبا اإلنسان من
للجامعات والطوائف والدول واألفكارُّ ،
مرتبة البهيمية إىل مرتبة اإلنسانية ،فيقوم بوظيفته االستخالفية .يقول النوريس" :إن اإليامن
جيعل اإلنسان إنسان ًا حق ًا ،بل جيعله سلطان ًا ،لذا كانت وظيفته األساس اإليامن باهلل تعاىل
والدعاء إليه ،بينام الكفر جيعل اإلنسان حيوان ًا مفرس ًا يف غاية العجز" (٤(،فرغم حيوانيته
املفرسة ،فهو عاجز عن العمل الصالح املفيد؛ ألنه يفتقد مكون ًا أساسي ًا من مكونات
اإلنسانية ،التي تسمو بالروح ،وهتذب السلوك.
واإليامن باهلل يزكّي النفس ،وحيمي الفطرة ،ويعصم العقل من اخلطأ ،والزلل ،واتباع
الكتشاف احلقائق؛ ألن اإليامن باهلل تعاىل يفسح ((٥
اهلوى ،مما يفسح املجال أمام الفكر
املجال واسع ًا أمام العقل لالكتشاف واإلبداع ،فتكون بذلك املعرفة اإلنسانية املكتشفة غري
مقطوعة عن السامء ،يقول الطيب برغوث" :فالتوحيد بالنسبة للوجود اإلنساين –كام هو
( )1ابن القيم ،شمس الدين حممد بن أيب بكر بن أيوب الدمشقي .األمثال يف القرآن ،دراسة وحتقيق :نارص بن سعد
الرشيد ،مكة املكرمة :مطابع الصفا ،ط1٤0٢( ،٢ه198٢/م) ،ص ،٣٤وانظر أيض ًا:
-الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،1٦ص.٥8٣-٥٦٧
( )٢قطب ،سيد .معامل يف الطريق ،القاهرة :دار الرشوق ،السعودية .وزارة املعارف ،املكتبات املدرسية ،ط،٦
(1٣99ه19٧9/م) ،ص.8٣
( )٣قال تعاىل ﴿ :ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ
ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ﴾ [آل عمران.]٦٤ :
( )٤النوريس ،كليات رسائل النور ( )2املكتوبات ،مرجع سابق ،ص.٣٥٤
( )٥يقول الفراهي" :الفكر" هو النظر فيام وراء اليشء ،وربام يسمى "اعتبار ًا" .فهو ُس َّل ٌم إىل فوق .فإذا انتهى إىل ما هو املنتهى
القهقرى ،أو وقف .ولكن التوقف ليس من شأن الفكر ،فال بدّ من رجعة بعد املنتهى .ولذلك منع عن الفكر يف َ رجع
ذات اهلل إىل الفكر يف آالئه .وهذا يشبه انعكاس كل قوة إىل نفسها إذا صادفت ما ال تستطيع أن جتاوزه ﴿ :ﭽ ﭾ ﭿ
ﮄ ﮅ ﮆ ﴾ [امللك.]٤ : ﮀ ﮁﮂ ﮃ
الفراهي ،مفردات القرآن نظرات جديدة يف تفسري ألفاظ قرآنية ،مرجع سابق ،ص.٣0٢ -
8٦
بالنسبة للوجود الكوين كله -هو الضابط األساس يف ضامن أداء الوظيفة االستخالفية التي
((1
تعدّ املدار الطبيعي حلركة الوجود اإلنساين".
( )1برغوث ،منهج النبي ﷺ يف محاية الدعوة واملحافظة عىل منجزاهتا خالل الفرتة املكية ،مرجع سابق ،ص.1٣0
( )٢ابن حزم ،أبو حممد عيل بن أمحد بن سعيد بن حزم الظاهري .رسائل ابن حزم ،حتقيق :إحسان عباس ،بريوت:
املؤسسة العربية للدراسات والنرش ،ط198٣( ،1م) ،ج ،٤ص.٣9٧
( (٣قال اهلل تعاىل﴿ :ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ
ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﴾ [آل عمران.]10٣ :
8٧
ٌ
أصل يف تدبري االختالف الديني واإلنساين عموم ًا ،وهذا ما أشار إليه فالتوحيد
اخلطاب القرآين يف دعوته الناس مجيع ًا ،دعوة عامة للخضوع إليه وحده وعبادته (1(،فاحلق
سبحانه مل يرك هذا االختالف دون جامع ومؤلف ،لدرء االختالف الضار ،وأقام هذا
األصل (املحتكم) عىل قواعد ،جتعل العاقل املنصف ينزع نحوه ويؤمن به.
88
هبذا امليثاق يف قوله تعاىل ﴿ :ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ
ﮝﮞ ﴾ [املائدة ،]٧ :وقال تعاىل ﴿ :ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ
ﯡ ﯢ ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ﴾ [الروم ]٣0 :واملراد
بالفطرة هنا جمموع رشيعة اإلسالم( (1وقال ابن عاشور﴿" :ﯔ ﯕ ﯖ﴾ هو دين
((٢
اإلسالم بمجموعه يف اعتقاده وترشيعاته وأن هذا الدين هو الفطرة"...
فهذا إقرار وميثاق قطعه اهلل تعاىل عىل اإلنسان يف األزل ،وشهد بذلك اإلنسان عىل
ٌ
وأصل لتدبري االختالف ،أقره اإلنسان وألزم به نفسه ،فإن أنكر نفسه ،فهو مشرك إنساين،
وجحد فال حجة له عند اهلل ،يقول حممد الغزايل" :اآليات تقول للمرشكني عن رب العزة:
ال يفكرال وجاهة لكم عندي ،ليس لكم عذر قائم وال حجة ناهضة ،إنني منحتكم عق ً
وفطرة تبعث عىل التوحيد واالستقامة ،وأنزلت ما يمنعكم من تقليد اآلباء اجلهلة ،فلامذا
جتاهلتم هذه املعامل كلها ،ومهتم عىل وجوهكم يف طرق الرش والغواية ،أفبعد هذا التفصيل
((٣
والتوضيح تبعدون عني وال ترجعون إيل؟"
-4التوحيد ٌ
أصل واالختالف فيه طارئ:
كان آدم وبنوه عىل دين واحد ،وهو االستسالم ،واخلضوع ،والتوحيد هلل عز وجل،
ثم اختلفوا يف دينهم يقول تعاىل مشري ًا إىل هذه احلقيقة﴿ :ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ
ﯩ﴾ [يونس ]19 :يقول الطري" :وما كان الناس إال أهل دين واحد وملة واحدة،
فاختلفوا يف دينهم ،فافرقت هبم السبل يف ذلك" (٤(،ويقول تعاىل ﴿ :ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ
ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ﴾
[البقرة (٥(]٢1٣ :يقول ابن عاشور" :وكلتا اآليتني تشريان إىل أن االحتاد هو املبدأ األول ،وأن
( (1ابن عاشور ،أصول النظام االجتامعي يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.1٦
( (٢املرجع السابق ،ص .1٧انظر :كالم املؤلف يف توضيح معنى الفطرة يف نفس املوضع.
( (٣الغزايل ،حممد ،املحاور اخلمسة للقرآن الكريم ،القاهرة :دار هنضة مرص ،ط( ،1د.ت ،).ص.٢8
( )٤الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،1٥ص ،٤٧وانظر أيض ًا:
-اآللويس ،روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٤9٥
( )٥بعث اهلل تعاىل األنبياء والرسل بترشيعات وقوانني ،اشتملت عىل أصول وحمتكامت تضبط االختالف اإلنساين ،من
أجل االئتالف وإحكام االختالف.
89
عارض أنجز إىل الناس من الكثرة والتفرق (1(،"...فكانت البرشية عىل توحيد اهلل
ٌ االختالف
متفقة ،إىل أن طرأ االختالف عليهم ،فكان بذلك االتفاق واالئتالف أصالً ،وكان االختالف
طارئ ًا عىل البرشية بعد قتل قابيل هلابيل ،أو بعد طوفان نوح عىل اختالف املفسين يف
ذلك (٢(،فهذا إرشاد إهلي للبرشية لرك االختالف الطارئ ،والرجوع إىل االتفاق الذي كان
عليه آباؤهم وأجدادهم ،وأشهدوا عليه أنفسهم يف األزل.
فاالختالف يف الدين دخيل ،وحادث يف اخللق بعدما كانوا عىل دين اإلسالم من آدم
إىل سيدنا نوح .يروي ابن كثري عن ابن عباس" :كان بني آدم ونوح عرشة قرون ،كلهم
عىل اإلسالم ،ثم وقع االختالف بني الناس ،و ُعبِدت األصنام واألنداد واألوثان ،فبعث اهلل
الرسل بآياته وبيناته وحججه البالغة وبراهينه الدامغة ﴿ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ
((٣
ﮓ ﮔ ﮕ﴾ [األنفال".]٤٢ :
فجاء الرسل يدعون الناس إىل تدبري االختالف ،بناء عىل وحدة اإليامن باهلل وتوحيده،
والرجوع إىل األصل الذي كانوا عليه من االتفاق ،عىل الكلمة الطيبة ،عىل الكلمة السواء،
الداعية إىل اخلضوع واالستسالم هلل ،ودرء االختالف ،وإقامة الدين املوحد واملؤلف ،يقول
تعاىل ﴿ :ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ
ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀﲁ ﲂ ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ
ﲎﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ
ﲡ﴾ [البقرة.]٢1٣ :
وهذه احلقيقة التارخيية التي أثبتها القرآن منذ مخسة عرش قرن ًاَّ ،
دل عليها تاريخ البرشية
وواقعها ،كان الناس عىل دين واحد ،فدخل عليهم الرشك ،وعبادة األوثان بفعل فاعل.
يقول الباحث األملاين ميلر" :إن الناس كانوا يف أقدم عهودهم عىل التوحيد اخلالص ،وإن
((٤
الوثنية عرضت عليهم بفعل رؤسائهم الدينيني".
( )1ابن عاشور ،أصول النظام االجتامعي يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.109
( )٢الزخمرشي ،الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون األقاويل يف وجوه التأويل ،مرجع سابق ،ج،11
ص.٤٦0-٤٥9
( )٣ابن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٢٥٧
( )٤البوم ،جول .تفصيل آيات القرآن احلكيم ،ترمجة :حممد فؤاد عبد الباقي ،القاهرة :مطبعة عيسى البايب احللبي ،ط،1
(1٣٤٢ه19٢٤ /م) ،مقدمة حممد فريد وجدي ،ص.٦
90
-5اتفاق الرشائع عىل اإليامن باهلل وتوحيده:
اخلضوع واالستسالم هلل وتوحيده وعبادته ،هو الدين الذي أرسل اهلل به َّ
كل الرسل،
من آدم إىل سيدنا حممد ﷺ ،ليخرج الناس من حالة االختالف إىل واقع االئتالف ،يقول
تعاىل تأكيد ًا وتقرير ًا وترصحي ًا ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ
ﭞ ﭟ﴾ [األنبياء ،]٢٥ :وقال تعاىل﴿ :ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ
ﭽ ﭾﭿ ﴾ [النحل ،]٣٦ :يقول ابن كثري" :مجيع الرسل يدعون إىل عبادة اهلل وحده
((1
ال رشيك له".
وأول األنبياء بعد آدم ،يدعو قومه إىل هذا األصل العظيم ،واملنهج القويم ،سيدنا
نوح ،وتاله إخوانه األنبياء والرسل :هود وصالح وإبراهيم ووىص هبا إبراهيم بنيه ،وحافظ
وىص ذريته بدعوة التوحيد ،وأقر هبا بنوه من
نبي اهلل يعقوب عىل وصية جده إبراهيم؛ إذ ّ
بعده ﴿ ﲶ ﲷ ﲸ﴾ (٢(،اإلله "املتفق عىل وجوده وألوهيته ووجوب عبادته" (٣(،ودعا
((٤
نبي اهلل شعيب مدين.
وحفاظ ًا عىل الوصية اإلبراهيمية جاء عىل لسان سيدنا يوسف ﴿ :ﯲ ﯳ ﯴ
ﯵ﴾ [يوسف ،]101 :ودعا سيدنا موسى قومه إىل وصية إبراهيم التوحيدية (٥(،وقال
اهلل تعاىل يف حوار سيدنا عيسى للحواريني ﴿ :ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ
ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾ [آل عمران ،]٥٢ :وهذا
إخبار من القرآن الكريم أن نبي اهلل عيسى وهو آخر أنبياء بني إرسائيل ،بقي عىل عهد
األنبياء من قبله يف تبليغ دعوة التوحيد.
( )1ابن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،٣ص ،٤٤0وانظر أيض ًا:
-ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،1٧ص.٤9
( )٢الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.99-98
( )٣البيضاوي ،أنوار التنزيل وأرسار التأويل ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٤0٧
( (٤قال تعاىل﴿ :ﭩ ﭪ ﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﴾ [هود.]8٤ :
( (٥قال تعاىل﴿ :ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﴾ [يونس.]8٤ :
91
»أن الرشائع كلها اتفقت عىل إثبات التوحيد عىل كثرة عدد الرسليذكر لنا الشوكاينّ :
واملرسلني ،وكثرة كتب اهلل عز وجل املنزلة عىل أنبيائه" (1(،وأن يف التوراة نصوص ًا تدعو
وحتث عىل التوحيد ،وحتكي قصص ًا خلصومة أهل األصنام ،ال سيام بعد وفاة موسى وقيام
أنبياء بني إرسائيل ،وكانوا يوجبون عليهم مقاتلة عبدة األصنام ،وحيكي لنا الشوكاين األمر
نفسه عن الزبور بعد بعثة سيدنا املسيح عليه السالم ،وكذلك اإلنجيل "وباجلملة فكتب اهلل
عز وجل بأرسها ،ورسله مجيع ًا ،متفقون عىل التوحيد والدعاء إليه ،ونفي الرشك بجميع
((٢
أقسامه".
ويذهب أ.س .ميغوليفسكي بعد مناقشة تصور كل من الديانات الغربية والرشقية
لإلله ،إىل نتيجة مفادها أن ..." :ك ً
ال من التصورين الرشقي والغريب يقر بوجود إله واحد
أحد للكون كله ،أما تفاصيل نشاطاته وتنظيمها ،فهي أمر ليس له أمهية ،وليس اإلنسان
مؤه ً
ال للحكم فيها" (٣(،فإن اهلل تعاىل يف الديانات الساموية" :اليهودية واملسيحية واإلسالم،
((٤
العلة األوىل لكل يشء".
فكان توحيد اهلل عز وجل ،وعبادته ،وعدم اإلرشاك به هو الدين الذي رشع ألول
الرسل بعد آدم وهو نوح عليه السالم ،وآخرهم ،وهو حممد ﷺ ،وما بينهام وهم أولو العزم:
إبراهيم وموسى وعيسى( (٥يف قوله تعاىل ﴿ :ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ﴾ [الشورى ]1٣ :فكان الرسل
مجيعهم متفقني ومتحدين عىل إقامة دين التوحيد.
فإن اإليامن باهلل ،وتوحيده ،وعبادته ،وعدم اإلرشاك به ،مشرك إيامين بني األنبياء
من لدن آدم إىل سيدنا حممد ﷺ ،وال سيام أرباب الرشائع :نوح وإبراهيم وموسى وعيسى
( )1الشوكاين ،إرشاد الثقات إىل اتفاق الرشائع عىل التوحيد واملعاد والنبوات ،مرجع سابق ،ص.٥
( )٢املرجع السابق ،ص.8 - ٦
( )٣ميغوليفسكي ،أ.س .أرسار اآلهلة والديانات ،ترمجة :حسان خمائيل إسحاق ،دمشق :دار عالء الدين ،ط،٤
٢009م ،ص.٢٥٤
( )٤املرجع السابق ،ص.٢٥٣
( )٥ابن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،٧ص.19٥-19٤
9٢
وحمتكام لتدبري االختالف بني أهل القرآن وأهل الكتاب،
ً وحممد ﷺ (1(،وبذلك كان ً
أصال
بني بني اإلسالم وبني اإلنسان.
وباجلملةّ ،
فإن القرآن الكريم يربط اإلنسانية بخالقها اجلليل ،لتكون وجهتها واحدة،
فيسهل مجعها واتفاقها؛ ألن بتوحيد اهلل ،واإليامن به تكتسب قيمة وجودية ،وتنقذ من العدم
والعبث يف الدنيا ،واخلسان يف اآلخرة ،لذلك فإن تفويض أمر اخللق لصانع واحد يسهل
أمر اجتامعها ووحدهتا ،يقول النوريس" :عندما يسند إجياد املوجودات مجيعها إىل الصانع
الواحد ،يسهل األمر كسهولة إجياد خملوق واحد ،بينام إذا أسند للكثرة يصعب -عىل هذه
((٢
الكثرة -أمر إجياد خملوق واحد بقدر صعوبة إجياد مجيع املوجودات"...
ّ
فجل االختالفات والنزاعات اإلنسانية ،إن مل نقل كلها ،راجعة إىل عدم إسالم النفس
((٣
والقلب والعقل لواحد ،فإذا كان الكون بام فيه خاضع جلالل اهلل وعظمته يسبح بحمده،
فعىل البرشية أن ال ختالف سنن اهلل يف خلقه ،وأن توحد اهلل يف ألوهيته وربوبيته؛ ألن ذلك
حيد من النزاعات ويقلل من االختالفات ،فاملطلوب من املجتمع البرشي أن يتفق مع إسالم
الكون وخضوعه ملواله ،يقول تعاىل ﴿ :ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ
ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ﴾ [آل عمران.]8٣ :
ظلم للنفس، [لقمان]1٣ : أما الكفر والرشك فهو ظلم ﴿ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ﴾
وظلم للمخلوقات" ،يفسد قوى اإلنسان واستعداداته إىل درجة يسلب منه القدرة عىل تق ّبل
اخلري والصالح (٤("،بل "إن الكفر املطلق يبيد احلياة األبدية ،وحيول احلياة الدنيوية إىل ُس ٍّم
((٥
زعاف ويمحي لذهتا ومتعها"...
9٣
ثاني ًا :أصل اإليامن باألنبياء والرسل
متهيد:
األنبياء والرسل قادة املجتمع البرشي إىل األلفة وترك الفرقة ،فهم رمز الوحدة
واالجتامع؛ ألن إضافتهم إىل احلق سبحانه واحدة ،والتنزيل إليهم واحد ،ووظيفتهم يف
التبليغ واإلرشاد واحدة ،ودينهم واحد يف أصوله ومقاصده ،فهم عليهم السالم يدعون
للوحدة؛ ألهنم منهج واحد ،ويدل عىل ذلك وحدة التلقي عن اهلل بوساطة الوحي (1(.ومن
املعاين اجلامعة للرسول والنبي حسب اإلجيي (٢( :االصطفاء ،واإلرسال ،والتبليغ ،والبعث،
واإلنباء ،فالرسول والنبي واسطة بني اخللق وخالقهم.
من أجل الوقوف عىل هذا األصل اإليامين يف السياق القرآين ،والرهنة عىل دوره يف
تدبري االختالف اإلنساين ،نقوم بدراسته ،وحتليل مضامينه ،والوقوف عىل معامله ،من خالل:
-1األنبياء والرسل قادة البرشية للوحدة واالئتالف:
األنبياء والرسل قادة املجتمع البرشي إىل األلفة وترك الفرقة ،والتفريق بني األنبياء،
أو اإليامن ببعضهم والكفر ببعضهم اآلخر ،دعوى باطلة ،لذلك شدّ د اخلطاب القرآين عىل
الذين يفرقون بينهم ،وحكم عليهم بالكفر ،غافلني عن حقيقة الصلة بينهم ،وأهنم منهج
9٤
واحد ،فال يصح اإليامن باهلل إال من طريقهم ،قال تعاىل ﴿ :ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ
ﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮂﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﴾ [النساء.]1٥1-1٥0 :
فاخلطاب القرآين هبذه اآلية وغريها مما يف معناها (1(،جعل اإليامن بالنبوة سبيل االتفاق
واالحتاد؛ ألن باإليامن هبم مجيع ًا ،وعدم التفريق بينهم ،يقع التقريب بني أهل الرشائع .أما
التفريق بينهم ،واإليامن ببعضهم ،والكفر ببعضهم اآلخر ،يوسع اخلالف وال يرك لالتفاق
((٢
طريق ًا ،وبذلك كانت النبوات مقصد ًا عظي ًام من مقاصد القرآن.
فهم صلوات اهلل وسالمه عليهم قادة البرشية للوحدة واأللفة واالتفاق ،فاإليامن هبم،
وعدم التفريق بينهم ،واتباعهم يف هدهيم ،أصل يرشد البرشية إىل الوحدة تأسي ًا بوحدهتم،
يقول حممد رشيد رضا" :مثل األنبياء كمثل والة األقطار يف مملكة واحدة ،أو مثل قواد
اجليش يف املعسكرات املتفرقة لدولة حمدودة ،ومثل خامتهم صاحب الرسالة العامة ،كمثل
((3
القائد والوايل العام ،عند إرادة توحيد السياسة والقيادة"...
((٤
ويف السياق نفسه بعد النهي عن التفريق بينهم ،هني اهلل عز وجل عن تكذيبهم؛
ألهنم منهج واحد ،قال تعاىل ﴿ :ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ
9٥
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﴾ [الفرقان ]٣٧ :اهلل عز وجل ذكر يف هذه اآلية أن قوم نوح كذبوا
تكذيب لكل الرسل،
ٌ الرسل ،مع أهنم مل يكذبوا إال نوح ًا؛ ألن تكذيب رسول واحد هو
منهج واحدٌ .
ٌ وألهنم
وتكذيبهم معصية هلل ،وتصديقهم قرب ٌة منه سبحانه ،يقول ابن تيمية" :فإنه قد
تواتر عند كل أحد حال األنبياء ،ومصدقهم ومكذهبم ،وعاينوا من آثارهم ما َّ
دل عىل أنه
سبحانه عاقب مكذهبم وانتقم منهم ،وأهنم كانوا عىل احلق الذي حيبه ويرضاه ،وأن من
هلل عىل أهله ،وأن طاعة الرسل طاعة هللّ ،ومعصيتهم
كذهبم كان عىل الباطل الذي يغضب ا ّ
((1
معصية هللّ".
وهنى اهلل عن تكذيب الرسل؛ ألهنم أمة واحدة ،قال تعاىل ﴿ :ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ
ﯕ ﯖ ﴾ [املؤمنون ،]٥٢ :وقال تعاىل ﴿ :ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﴾
[األنبياء ]9٢ :يقول طه جابر العلواين" :فاألنبياء أمة واحدة يف طبيعة رساالهتم ومصدريتها وأسس
((٢
دعوهتا إىل إقامة القيم العليا ،وتزكية النفس اإلنسانية إلقامة أركان العمران يف األرض"...
فاألنبياء صادقون فيام جاءوا به ،ومتفقون عىل تصديق بعضهم بعض ًا ،يف كل ما جاءوا
به ،من حمتكامت ،وقواعد الدين اجلامع وقد بلغ عددهم" :إىل مائة ألف وأربعة وعرشين
ألف ًا ،وال خالف بني أهل النظر أن اتفاق مثل هذا العدد يفيد العلم الرضوري بصدق ما
((٣
اتفقوا عليه".
والتوراة نفسها "اشتملت عىل حكاية حال األنبياء من لدن آدم إىل بعثة موسى،
وفيها الترصيح بتصديق بعضهم بعض ًا ،ومل يقع من أحد منهم اإلنكار لنبوة أحد ممن
تقدمه ،وهكذا اإلنجيل"(" ،(٤فلم يقع اختالف بينهم قط يف الدعاء إىل توحيد اهلل،
9٦
وإثبات املعاد وصحة نبوة كل واحد منهم ،وصدقه فيام جاء به من الرشع ،وفيام حكاه
((1
عن اهلل سبحانه".
مبرشين ومنذرين ،ليحكموا بني اخللق فيام اختلفوا فيه ،قال تعاىل:
وقد بعث اهلل األنبياء ّ
﴿ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ﴾
[البقرة (٢(]٢1٣ :فجاءت النبوة بالكتاب لتدبري اختالفاهتم ،وضبط عالقاهتم احلياتية واملجتمعية،
وإرجاع املجتمع اإلنساين إىل حالة الوحدة الفطرية األوىل ،فتح ّققت هلم بالنص وظيفتان:
األوىل :وظيفة التبشري واإلنذار.
الثانية :وظيفة احلكم بني الناس فيام اختلفوا فيه ،بام معهم من كتاب.
يقول الزخمرشي﴿ " :ﮇ ﮈ ﮉ﴾ يريد اجلنس ،أو مع كل واحد منهم كتابه
﴿ﮋ﴾ اهللَّ ،أو الكتاب ،أو النبي املنزل عليه ﴿ ﮎ ﮏ ﮐ﴾ يف احلق ودين اإلسالم
الذي اختلفوا فيه بعد االتفاق ﴿ﮒ ﮓ ﮔ﴾ يف احلق ﴿ﮕ ﮖ ﮗ﴾ إال الذين أوتوا
((٣
الكتاب املنزل إلزالة االختالف".
األنبياء والرسل قادة اخللق لالئتالف ،فقد بعثهم احلق سبحانه إلقامة الدين ،وتدبري
االختالف بني البرشية ،والسعي نحو األلفة واجلامعة وترك الفرقة واملخالفة ،لذلك جاءهم
النهي عن التفرق يف الدين( (٤قال تعاىل ﴿ :ﮏ ﮐ ﮑ﴾ [الشورى ]1٣ :فكانت مهمة الرسل
االئتالف اإلنساين ،وعدم الفرقة واالختالف يف الدين.
هم ملجأ اخللق يف بيان ما اختلفت عليه عقوهلم وشهواهتم ورغباهتم ،يقودوهنم
لالجتامع واأللفة .يقول حممد عبده يف تقرير هذا املعنى" :يبينون للناس ما اختلفت عليه
( )٣الزخمرشي ،الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون األقاويل يف وجوه التأويل ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.1٢٥
( )٤الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٢1ص ،٥1٢وانظر أيض ًا:
-البغوي ،معامل التنزيل ،مرجع سابق ،ج ،٧ص.18٧
-ابن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،٧ص.19٥-19٤
9٧
عقوهلم وشهواهتم وتنازعته مصاحلهم ولذاهتم ،فيفصلون يف تلك املخاصامت بأمر اهلل
الصادع ،يعودون بالناس إىل األلفة ،ويكشفون هلم رس املحبة ،ويستلفتوهنم إىل أن فيها
((1
انتظام شمل اجلامعة"...
فبعثة الرسل واألنبياء متهيد لتصحيح اختالفات البرشية ،وبناء وحدهتا ،وتقوية
ألفتها ،والتقليل من نزاعاهتا ،يقول رشيد رضا :فببعثة الرسل تم متهيد "السبيل لأللفة
((٢
واألخوة اإلنسانية العامة"...
إن منهج الرسل واحد ،ورسالتهم واحدة ،ودعوهتم واحدة" ،فأما احلقيقتان اللتان
تظلالن جو السورة (يقصد سورة إبراهيم) وتتسقان مع ظل إبراهيم أيب األنبياء ،الشكور األواه
املنيب ،ومها حقيقة وحدة الرسالة والرسل ،ووحدة دعوهتم ،ووقفتهم أمة واحدة يف مواجهة
((٣
اجلاهلية املكذبة ،وحقيقة نعمة اهلل عىل البرش كافة وعىل املختارين منهم بصفة خاصة"...
ويقول الشوكاين" :اعلم أن األنبياء عليهم السالم عىل كثرة عددهم واختالف
أعصارهم وتباين أنساهبم ،وتباعد مساكنهم ،قد اتفقوا مجيع ًا عىل الدعاء إىل اهلل عز وجل،
((٤
وصار اآلخر منهم يقر بنبوة من تقدمه ،وبصحة ما جاء به".
وقال تعاىل يف مهمة سيدنا عيسى وهي :بيان بعض ما اختلف فيه اخللق ﴿ :ﭦ
ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﴾
[الزخرف ،]٦٣ :وقال تعاىل يف شأن مهمة إخراج الناس من الظلامت إىل النور ،التي أرسل من
أجلها سيدنا موسى ﴿ :ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﴾ [إبراهيم.]٥ :
( )1عبده ،حممد .رسالة التوحيد ،حتقيق :حممد عامرة ،القاهرة :دار الرشوق ،ط1٤1٤( ،1ه199٤/م) ،ص.111-110
( )٢رضا ،الوحي املحمدي ،مرجع سابق ،ص.٢٢٦
( )٣قطب ،يف ظالل القرآن ،مرجع سابق ،ج ،1٣ص.٢0٧9
( )٤الشوكاين ،إرشاد الثقات إىل اتفاق الرشائع عىل التوحيد واملعاد والنبوات ،مرجع سابق ،ص.٢٥
98
((1
-2النبوة طريق للهداية وحتقيق اخلري والصالح:
مل يرك اهللُ تعاىل اخللق دون ٍ
هاد وال مرشد ،لتنزهه سبحانه عن العبث ،فاقتضت إرادته أن
يبعث للخلق الرسل واألنبياء ،يقول تعاىل﴿ :ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ﴾ [فاطر ،]٢٤ :وقال تعاىل:
﴿ﮏ ﮐ ﮑ﴾ [يونس ،]٤٧ :وقال تعاىل﴿ :ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾ [النحل.]٣٦ :
وأشار القرآن الكريم إىل رضورة االنقياد للنبوة ،فقال تعاىل ﴿ :ﮢ ﮣ ﮤ
ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ﴾ [النساء ،]٦٤ :وهذا أمر رشعي للبرشية بطاعة الرسل .يقول
الرازي" :املراد من الكالم ليس اإلرادة ،بل األمر ،والتقدير :وما أرسلنا من رسول إال ليأمر
((٢
الناس بطاعته".
ومع أن احلق سبحانه أقام الدالئل والراهني القاطعة ،عىل أنه املعبود وحده ال رشيك
له يف ملكه -كخلق الساموات واألرض ،وإحياء األرض واإلنسان بعد املوت ،وما ُجبل عليه
اخللق من فطرة التوحيد ،قال تعاىل﴿ :ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ﴾ [الروم ،]٣0 :وأخرج مجيع
[األعراف]1٧٢ : ذرية آدم من ظهور اآلباء وأشهدهم عىل أنفسهم يف قوله تعاىل ﴿ :ﭲ ﭳﭴ﴾
وشهدوا بذلك ﴿ :ﭵ ﭶﭷ ﴾ -فقد أرسل إليهم الرسل زيادة يف إقامة احلجة ،وتذكري ًا هلم هبذه
الشهادة .ويشري إىل ذلك قوله تعاىل ﴿ :ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾ [اإلرساء ،]1٥ :وقوله تعاىل:
﴿ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ﴾ [النساء .]1٦٥ :يقول الشنقيطي:
إن اهلل أقام احلجة عىل اخللق بالرسل" :فرصح بأن الذي تقوم به احلجة عىل الناس ،وينقطع به
((٣
عذرهم :هو إنذار الرسل ال نصب األدلة واخللق عىل الفطرة".
99
فاإليامن هبم وتصديقهم بام جاؤوا به ،دليل الفالح والصالح يف الدنيا ،والفوز برضا
اهلل يف اآلخرة .ويرى رشيد رضا أن" :وظيفة مجيع الرسل تعليم الناس ما به يصلح حاهلم،
ويستعدون ملآهلم ،بطريق التبشري ملن آمن وأصلح عم ً
ال بحسن الثواب ،وإنذار من كفر
فكان اإليامن بالرسل أصالً مشرك ًا بني البرشية ،يقودوهنم ((1
وأفسد عم ً
ال بالعقاب"،
إلصالح حاهلم يف الدنيا ،وأمنهم من سخط اهلل يف اآلخرة.
يقول عالل الفايس عن دور الرسل وفضلهم يف السمو باإلنسان عن درجة احليوانية،
بام جاؤوا به من خلق ودين" :واحلقيقة أن اإلنسان حيوان قبل كل يشء ،وال يسمو به عن
درجة احليوانية إال ما أخذ به نفسه من خلق ودين ،وهو ما ُركّب يف فطرته كإنسان مك َّلف،
وما مل يكن ليدركه لوال الرسل عىل مذهب األشاعرة ،أو كان يمكنه أن يصل إىل أخذ نفسه
وألن هدى ((٢
به ،ليخرج عن طور احليوانية ومقتضيات الطبيعة عىل ما يراه املعتزلة".
الرسل ،يرفع اإلنسان يف مدارج الكامالت .يقول النوريس عن رشيعة القرآن« :تضع اهلدى
((٣
بدالً من اهلوى ،واهلدى من شأنه :رفع اإلنسان روحي ًا إىل مراقي الكامالت".
فاألنبياء والرسل قادة للبرشية ،وعنوان للخري والصالح ،قال تعاىل ﴿ :ﭑ
ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ
ﭠ ﴾ [األنبياء ،]٧٣ :وقال تعاىل ﴿ :ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ
ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﴾
[آل عمران ]1٦٤ :يقول شارح العقيدة الطحاوية" :وإرسال الرسل من أعظم نعم اهلل عىل
َان َح ّق ًا َع َل ْي ِه
ُن نَبِ ٌّي َق ْب ِيل إِالَّ ك َ
خلقه ،وخصوص ًا حممد ﷺ (٤(".ويف هذا يقول ﷺ" :إِ َّن ُه ْمل َ َيك ْ
ِ ِ
َأ ْن َيدُ َّل ُأ َّم َت ُه َع َىل َخ ْري َما َي ْع َل ُم ُه َهل ُ ْمَ ،و ُينْذ َر ُه ْم َ َّ
رش َما َي ْع َل ُم ُه َهل ُ ْم".
((٥
100
فاألنبياء جعلهم اهلل للهداية ،وفعل اخلريات ،واألمر بالعبادة التي هي عنوان
االستقامة ،فهم مصابيح اهلدى ،التي تنري للخلق طريق السعادة ،من جلب املصالح ودرء
املفاسد الدنيوية واألخروية ،فاإليامن بالنبوة يرشد للهدى والسعادة" :واإليامن بالنبوة أصل
النجاة والسعادة .فمن مل حيقق هذا الباب اضطرب عليه باب اهلدى والضالل ،واإليامن
والكفر ،ومل يم ّيز بني اخلطأ والصواب"( ،(1ويقول رشيد رضا ّ
إن" :موضوع الرسالة :تعليم
وإرشاد إهلي يملك الوجدان ،وتذعن له النفس باإليامن ،فيكون هداية تزع صاحبها عن
((٢
الباطل والرش ،وتوجهه إىل احلق واخلري".
ولذلك أمر احلق سبحانه البرشية باالقتداء هبم واتباعهم؛ ألن يف ذلك سعادهتم
وصالحهم( ،(٣وألهنم أكمل اخللق ،وأعلمهم ،قال تعاىل ﴿ :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ
ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﴾ [األحزاب ،]٢1 :وقال تعاىل ﴿ :ﯬ ﯭ
ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲﯳ ﴾ [األنعام.]90 :
ووصف اخلطاب القرآين الرسائل الساموية بأهنا نور وهدى للبرشية ،والنبوة هي طريق
تبليغ هذا اهلدى الرباين للخلق ،يقول تعاىل﴿ :ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ
ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ
( )1ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .كتاب النبوات ،حتقيق :عبد العزيز الطويان ،الرياض :أضواء السلف،
ط1٤٢0( ،1ه٢000/م) ،ج ،1ص.٥0٧
( )٢رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،1ص.18٦-18٥
( )٣قال تعاىل يف وصف سيدنا حممد ﷺ ﴿ :ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨ﴾ [األحزاب ،]٤٦-٤٥ :وقال تعاىل ﴿ :ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ
ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾ [البقرة ،]1٥1 :وقال تعاىل واصف ًا أنبياءه عموم ًا بالبشارة والنذارة:
﴿ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ﴾ [البقرة ،]٢1٣ :وقال تعاىل﴿ :ﭾ ﭿ ﮀ﴾
[النساء ،]1٦٥ :وقال تعاىل ﴿ :ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﴾
[األنعام ،]٤8 :وقال تعاىل﴿ :ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ﴾ [الكهف.]٥٦ :
101
﴿ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶﱷ﴾ [املائدة ،]٤٤ :وقال تعاىل﴿ :ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ
فوصف اهلدى والنور ،دليل إرشاد النبوة للخلق إىل اخلري والسعادة ﱒ﴾ [املائدة]٤٦ :
والصالح.
فالنبوة دليل صالح اإلنسان يف املعاش ،وفوزه يف املعاد ،فهي تنظم العالقة اإلنسانية،
ّ
وال جتعلها خاضعة ألهواء الناس وميوالهتم النفسية .فاخلطاب القرآين يرشد البرشية إىل
أن اإليامن بالنبوة والتصديق هبا ،أصل مهم لتدبري االختالف؛ ألن النبوة وسيلة تبليغ اخللق
"يبني القرآن الكريم أن األنبياء عليهم السالم قد ُبعثوا إىل
ما يصلحهم ،يقول النوريسّ :
جمتمعات إنسانية ليكونوا هلم أئمة اهلدى ُيقتدى هبم ،يف رقيهم املعنوي ونصبهم رواد ًا
((1
للبرشية وأساتذة هلا يف تقدمها املادي أيض ًا".
ومن قواعد النبوة يف احلياة اإلنسانية :الدعوة إىل التخ ُّلق بأخالق اهلل ،واألنبياء هم
القدوة يف ذلك ،فال بد للبرشية من نامذج يقتدون هبا وهم يصلحون األفراد واملجتمعات،
فهم يف حاجة إىل الرسل( ،(٢وقد عرف كل قوم نبيهم ،وأنه يف أعىل درجات اخللق القويم،
ويستحيل يف العقل أن يكون النبي ،أي نبي ،قد ُج ِّرب عليه كذب أو خيانة ،أو أي يشء ولو
من خوارم املروءة(.(٣
ّ
إن قصور اإلنسان يف إدراك مصاحله ومنافعه ،يفرض رضورة احتياجه إىل مرشد
يرشده إىل كامل نقصه ،وهذه هي وظيفة النبوة ،وقد بني اهلل عز وجل حقيقة النفس اإلنسانية،
وقصورها يف إدراك منافعها(.(٤
( )1النوريس ،كليات رسائل النور ( )1الكلامت ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٢٧9
( )٢امليداين ،عبد الرمحن حسن حبنكة .العقيدة اإلسالمية وأسسها ،دمشق وبريوت :دار القلم ،ط1٣99( ،٢ه/
19٧9م) ،ص.٣0٢
( )٣ابن تيمية ،كتاب النبوات ،مرجع سابق ،ص.٢٥-٢٤
( )٤انظر :فصل "حقيقة النبوة واضطرار كافة اخللق إليها" يف:
-الغزايل ،أبو حامد حممد بن حممد .املنقذ من الضالل ،حققه وقدم له :حممود بيجو ،راجعه :حممد سعيد رمضان
البوطي وعبد القادر األرناؤوط( ،د .م)( :د .ن)( ،د .ت ،).ص.٧٢
10٢
ال قيام ملدنية يف األرض ،إال عىل أساس الدين الذي طريقه النبوة ،يقول رشيد رضا:
" ...وقد ع َّلمنا التاريخ أنه مل تقم مدني ٌة يف األرض من املدنيات التي وعاها وعرفها إال
عىل أساس الدين ،حتى مدنيات األمم الوثنية كقدماء املرصيني ،والكلدانيني ،واليونانيني،
وع َّلمنا القرآن أنه ما من أمة إال وقد خال فيها نذير مرسل من اهلل -عز وجل -هلدايتها،
فنحن هبذا نرى أن تلك الديانات الوثنية كان هلا أصل إهلي ،ثم رست الوثنية إىل أهلها حتى
((1
غلبت عىل أصلها ،كام رست إىل من بعدهم من أهل الديانات".
فالنبوة رضورة لإلنسان ،أكثر من رضورة اإلنسان املريض إىل الطب .ويقول ابن تيمية
يف تقرير هذا املعنى" :وحاجة العبد إىل الرسالة أعظم بكثري من حاجة املريض إىل الطب،
فإن آخر ما يقدر بعدم الطبيب موت األبدان ،وأما إذا مل حيصل للعبد نور الرسالة وحياهتا
مات قلبه موت ًا ال ترجى احلياة معه أبد ًا ،أو شقي شقاوة ال سعادة معها أبد ًا ،فال فالح إال
باتباع الرسول (٢("،ويقول" :والرسالة رضورية للعباد ال بد هلم منها ،وحاجتهم إليها فوق
((٣
حاجتهم إىل كل يشء"...
فالنبوة رضورة عق ً
ال للبرشية كرضورة اجتامعهم؛ ألنه إذا كان اجتامعهم رضورة
فطرية ،وحاجة اجتامعية ،فإن هذا يرتب عليه رضورة تنظيم هذا االجتامع بأصل حيكم
العالقات اإلنسانية ،وهذا األصل احلاكم إما أن يكون بالوضع اإلنساين ،أو بالوضع
الرشعي عن طريق النبوة ،وبطل أن يكون هذا األصل بالوضع اإلنساين؛ ألنه ال حيقق إال
ثم فإن هذا األصل لالجتامع اإلنساين ال يكون إال بالنبوة التي
السعادة الدنيوية فقط ،ومن ّ
حتقق السعادتني :الدنيوية واألخروية.
واألنبياء برش صاحلونُ ،ك ِّلفوا هبداية البرشية وقيادهتا إىل اخلري والصالح ،وإقامة الدين
التفرق ،وهبذا يقول عالل الفايس بعد إطالة النظر يف جمموعة من اآليات القرآنية يف هذا
وعدم ُّ
( )1رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٣٥1
( )٢ابن تيمية ،جمموع الفتاوى ،مرجع سابق ،ج ،19ص.9٧-9٦
( )٣املرجع السابق ،ج ،19ص .9٣وانظر أيض ًا:
-ابن القيم ،شمس الدين حممد بن أيب بكر الدمشقي .زاد املعاد يف هدي خري العباد ،بريوت والكويت :مؤسسة
الرسالة ومكتبة املنار اإلسالمية ،ط1٤1٥( ،٢٧ه199٤/م) ،ج ،1ص.٦8
10٣
السياق" :فمجموع هذه اآليات القرآنية يبني بوضوح أن الغاية من إرسال األنبياء والرسل وإنزال
((1
الرشائع ،هو إرشاد اخللق؛ ملا به صالحهم وأداؤهم لواجب التكليف املفروض عليهم".
ومن خالل ما تقدم يتبني أن اخلطاب القرآين يقدم أصل النبوة حاك ًام للخلق ،ومقصد ًا
إلصالح الكون واإلنسان ،فهي رضورة رشعية وحاجة حياتية ،لبناء اإلنسان والعمران،
حترض دون هاد ومرشد ومنهج ،وهذا ال يتأتى دون خطاب اهلل تعاىل عن
فال متدُّ ن وال ُّ
طريق النبوة ،فالنبوة أصل مهم يف تنظيم العالقات اإلنسانية ،وتدبري اختالفاهتا ونزاعاهتا؛
ألن العقل والعلم غري كافيني يف ذلك" ،وال جيوز أن يرك الناس وآراءهم يف ذلك،
فيختلفون ،(٢("...والدليل ما تعيشه اإلنسانية اليوم ،مع وجود التقدم العلمي والتطور
التكنولوجي ،الذي مل يصاحبه تقدم أخالقي ومصدره النبوة.
ختمت النبوة بكامل الدين الساموي وهو اإلسالم ،وهو آخر أدوار الرسالة اإلهلية ،فهو
الدين اجلامع املؤلف ،ولذلك قال تعاىل يف آخر آية نزلت من القرآن الكريم ﴿ :ﭻ ﭼ
ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ﴾ [املائدة (٣(،]٣ :فاإلسالم ختم النبوة،
ومجع اخللق عىل رسالة واحدة ،ودين كامل واحد ،يقول ابن رشد ّ
إن رشيعة اإلسالم" :إذا
قويست بسائر الرشائع ،وجد أهنا الرشيعة الكاملة بإطالق ،ولذلك كانت خامتة الرشائع"(،(٤
ويقول ابن عاشور يف قوله تعاىل﴿" :ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ﴾ [آل عمران ]19 :والعندية يف
((٥
قوله ﴿ﭺ ﭻ﴾ عندية اعتزاز وكامل".
10٤
اخللق مجيعهم للقيام
َ اإلسالم تم وكمل برسالة حممد ﷺ ،فهو املنهج الذي تع َّبد اهللُ به
بوظيفة االستخالف" :فاإلسالم هو املنهج العميل املختار من اهلل ،واملرقي لإلنسان ،لكي
ينجز به مهمته االستخالفية يف عامل الشهادة ،فهو وحده الترشيع اإلهلي احلكيم الذي يستطيع
به اإلنسان حتقيق مضمون اخلالفة وهو عبادة اهلل وحده" (1(.واإلسالم يمتاز بأوصاف ثالثة
((٢
مل تتصف هبا الرساالت من قبله وهي :العموم ،والدوام ،والفطرة.
وحممد بن عبد اهلل ﷺ خاتم األنبياء ﴿ :ﯱ ﯲﯳ﴾ [األحزاب ]٤0 :يقول أبو يعىل
((٣
احلنبيل" :ونبينا ﷺ خاتم األنبياء ،وال يبعث اهلل نبي ًا بعد نبينا".
وختم الرسالة وكامل الدين يقتيض :أوالً :اإليامن بنبوة حممد ﷺ ،وثاني ًا :االعراف
بعاملية رسالته ،وثالث ًا :اإلقرار بنسخ الرسائل الساموية قبله ،ورابع ًا :اإلقرار بتصديق رسالته
لألصول اجلامعة التي جاءت هبا األديان قبله ،فهذه أربع قضايا تثبت كامل الدين اخلاتم،
وانقطاع النبوة بعد حممد ﷺ ،وأن رسالته هي الدين اخلاتم الذي ارتضاه اهلل للناس ،وأنه
الدين اجلامع املؤلف الشتامله عىل كل عنارص الوحدة واأللفة:
ويدخل يف اإليامن بالنبوة عموم ًا ،اإليامن بمحمد ﷺ (٤(،وبالكتاب الذي أنزل إليه:
القرآن الكريم ،وعدم الكفر به ،وال سيام وقد برشت به كل الكتب التي أنزلت عىل إخوانه
( )1برغوث ،منهج النبي ﷺ يف محاية الدعوة واملحافظة عىل منجزاهتا خالل الفرتة املكية ،مرجع سابق ،ص.118
( )٢ابن عاشور ،أصول النظام االجتامعي يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.٢0
( )٣احلنبيل ،املعتمد يف أصول الدين ،مرجع سابق ،ص.1٦٧
( )٤والذين ينكرون نبوة حممد ﷺ نوعان :النوع األول :هم منكرو النبوات عموم ًا ،والنوع الثاين :هم مثبتو النبوات،
وهم عىل أصناف :صنف قالوا :بإنكار النسخ ،واختلفوا يف املانع من النسخ ،بني قائل بالعقل ،وقائل بالرشع.
وصنف قال :هو مبعوث إىل قومه من العرب ،وليس نبي ًا لعموم الناس .وصنف قال :هو نبي ملن مل يتمسك برشع
يأت بمعجزة قاهرة .انظر تفصيل ذلك يف: من عبدة األوثان ،وصنف قال :إنه ليس بنبي ،ألنه مل ِ
-املاوردي ،أبو احلسن عيل بن حممد .أعالم النبوة ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤0٦( ،1ه198٦/م) ،ص.٥0
اإلجيي ،كتاب املواقف ،مرجع سابق ،ج ،٣ص .٣٧٦وانظر يف إثبات نبوة سيدنا حممد ﷺ: -
اجلويني ،كتاب اإلرشاد إىل قواطع األدلة يف أصول االعتقاد ،مرجع سابق ،ص.٣٣8 -
10٥
األنبياء ،قال تعاىل﴿ :ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
((1
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﴾ [املائدة.]19 :
فهذه دعوة أهل الكتاب إىل التوحيد واجتناب الرشك ،واإليامن بمحمد ﷺ النبي
َّك اخلاتم الذي يعرفونه يقين ًا كام يعرفون أبناءهم (٢(،وقال ﷺ ملا أرسل معاذ ًا إىل اليمن" :إِن َ
َابَ ،فإِ َذا ِج ْئت َُه ْم َفا ْد ُع ُه ْم إِ َىل َأ ْن َي ْش َهدُ وا َأ ْن الَ إِ َل َه إِ َّال اهللََُّ ،و َأ َّن ست َْأ ِيت َقوم ًا ِمن َأه ِل ِ
الكت ِ ْ ْ ْ َ
((٣ ُحم َ َّمد ًا َر ُس ُ
ول اهللَِّ".
فظهور حممد بن عبد اهلل ﷺ ،تصديق لنبوة األنبياء والرسل من قبله ،لقوله تعاىل﴿ :
فلو مل تظهر نبوة حممد بن عبد اهلل ،لبطلت النبوات قبله .يقول ابن القيم" :فعادة اهلل يف
رسله أن السابق يبرش بالالحق ،والالحق يصدِّ ق السابق ،فلو مل يظهر حممد بن عبد اهلل ومل
((٤
يبعث لبطلت نبوة األنبياء قبله ،واهلل سبحانه ال خيلف وعده ،وال يكذب خره".
( )٣البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :الزكاة ،باب :بعث أيب موسى ومعاذ إىل اليمن قبل حجة الوداع،
ج ،٥حديث رقم ( ،)٤٣٤٧ص.1٦٢
( )٤ابن القيم ،شمس الدين حممد بن أيب بكر الدمشقي .هداية احليارى يف أجوبة اليهود والنصارى ،بريوت :دار ابن
زيدون ،ط1٤10( ،1ه1990/م) ،ص.٢٢9
10٦
فمحمد ﷺ ،والقرآن الكريم (1(،احلجة الوحيدة عىل صدق األنبياء ،وهو الشاهد عىل
النبوات قبله ،فإنكار نبوته ،ورسالته إنكار لكل الرسل قبله؛ ألن ذلك ثابت بالراهني،
واألدلة العقلية والواقعية املشاهدة جي ً
ال عن جيل ،عكس الكتب السابقة ،ويف هذا يقول
رشيد رضا" :فإن الكتب التي نقلتها ال يمكن إثبات عزوها إىل من ُعزيت إليهم؛ إذ ال
يوجد نسخ منها منقولة عنهم باللغات التي كتبوها هبا ال تواتر ًا وال آحاد ًا ،وال يمكن
إثبات عصمتهم من اخلطأ فيام كتبوه عىل اختالفه ،وتناقضه وتعارضه ،وال إثبات صحة
الراجم التي نقلت هبا ..إن الكتاب اإلهلي الوحيد الذي نقل بنصه احلريف تواتر ًا عمن جاء
به بطريقتي احلفظ والكتابة مع ًا هو القرآن ،وإن النبي الوحيد الذي نقل تارخيه بالروايات
املتصلة األسانيد حفظ ًا وكتابة هو حممد ﷺ ،فالدين الوحيد الذي يمكن أن يعقله العلامء
((٢
املستقلون يف الفهم والرأي ،ويبنوا عليه حكمهم هو اإلسالم".
ملا اختلف اليهود والنصارى يف دينهم ،واختلفوا عىل أنبيائهم ،ودخل فيهم الرشك،
وفسدت عباداهتم" :بعث خاتم النبيني الذي برش به موسى وعيسى عليه وعليهم الصالة
وبني للفريقني –اليهود والنصارى– ما اختلفوا فيه من أمر الدين (٣(."...فـ"حممد
والسالمَّ ،
رسول اهلل ﷺ ،خالف ًا لليهود والنصارى واملجوس وغريهم من ُ ابن عبد اهلل بن عبد املطلب،
املرشكني يف قوهلم :مل يكن نبي ًا وال صادق ًا يف دعواه للرسالة ،والداللة عىل صدقه قيام املعجز
من جهته اخلارق للعادة ،وذلك من وجهني :أحدمها القرآن ،والثاين :اآليات الظاهرة،
أما القرآن فمن الوجوه الثالثة :أحدمها نظمه وبراعته ،وثانيهام :ما انطوى عليه من علم
((٤
الغيوب ،والثالث :ما تضمنه من اإلخبار عن قصص من تقدمه من األنبياء"...
( )1احلنبيل ،وجوه إعجاز القرآن الكريم يف :املعتمد يف أصول الدين ،مرجع سابق ،ص .1٥8وانظر كذلك يف حتقيق
قضايا القرآن الكريم:
-الباقالين ،أبو بكر حممد بن الطيب بن حممد بن جعفر .االنتصار للقرآن ،حتقيق :حممد عصام القضاة ،عامن
وبريوت :دار الفتح ودار ابن حزم ،ط1٤٢٢( ،1ه٢001/م).
( )٢رضا ،الوحي املحمدي ،مرجع سابق ،ص.11٦-11٥
( )٣املرجع السابق ،ص.٢٢٤
( )٤انظر تفصيل املؤلف يف هذه الوجوه يف:
-احلنبيل ،املعتمد يف أصول الدين ،مرجع سابق ،ص.1٥٧
10٧
واملسلمون يؤمنون بكل الرسل واألنبياء (1(،قال تعاىل ﴿ :ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ
ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾ [البقرة ،]٢8٥ :من غري تفريق بينهم ،أو الكفر ببعضهم،
يقول رشيد رضا" :وأما املسلمون فيؤمنون بأن رب العاملني أرسل يف كل األمم رس ً
ال هادين
((٢
مهديني ،فهم يؤمنون هبم إمجاالً ،وبام قصه القرآن عن بعضهم تفصيالً".
ويؤمن املسلمون بصدقهم ،يقول الغزايل" :ملا ثبت برهان العقل صدق األنبياء،
وتصديق اهلل تعاىل إياهم باملعجزات" (3(،ويقول أبو زهرة" :واإلسالم؛ ألنه جامع للرساالت
((4
كلها ،مشتمل عىل غايتها ولبها ،كان اإليامن بالرسل السابقني جزء ًا من العقيدة اإلسالمية".
((5
و"قطع ًا عىل أن من جحد نبوة نبينا كان كافر ًا ..والداللة عليه إمجاع األمة"...
فالقرآن الكريم يأمر أهل الكتاب بإقامة ما أمروا به يف التوراة واإلنجيل ،قال تعاىل:
[املائدة: ﴿ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾
ومما جيب عليهم، ((٦
]٦8يقول البغوي" :أي :تقيموا أحكامهام وما جيب عليكم فيهام"،
اإليامن برسول اهلل ﷺ وما أنزل عليه من الفرقان ،قال تعاىل﴿ :ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾
((٧
يقول ابن كثري" :يعني :القرآن العظيم".
108
برشت
اإليامن بمحمد ﷺ ،من مقتضيات اإليامن بالرسل؛ ألن الرسائل الساموية كلها َّ
ٍ
ببعض والكفر ببعضهم اآلخر ،وألن الكفر بأحدهم كفر باجلميع .يقول به ،فال جمال لإليامن
الطري يف سياق تفسري قوله تعاىل﴿ :ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾ [املائدة .." ]٦8 :وتقروا بأن كل
ذلك من عند اهلل؛ أي الرسائل الساموية وما وجاء فيها من التبشري بمحمد ﷺ ،فال تكذبوا
بيشء منه ،وال تفرقوا بني رسل اهلل فتؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض ،فإن الكفر بواحد من ذلك
((1
كفر بجميعه؛ ألن كتب اهلل يصدق بعضها بعض ًا ،فمن كذب ببعضها فقد كذب بجميعها".
ٌ
فالدعوة إىل وحدة اإليامن بالرسل ،وعدم التفريق بينهم لوحدة منهجهم ،أصل عقدي
يدبر االختالف ،ويقلل من النزاعات املفضية إىل احلروب الطائفية باسم الدين.
وقد أمر احلق سبحانه املؤمنني بالتصديق واإليامن باهلل وبرسله وما أنزل إليهم ،ومن
ذلك اإليامن بمحمد ﷺ ،وما أنزل إليه من الفرقان ،وما أنزل إىل إبراهيم وإسامعيل وإسحاق
املنزل عىل عيسى قال تعاىل:
ويعقوب واألسباط (٢(،والتوراة املنزلة عىل موسى ،واإلنجيل ّ
﴿ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ
ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ﴾ [البقرة .]1٣٦ :فهذه اآلية
دعوة ألهل القرآن بتدبري االختالف مع أهل الكتاب وغريهم ،وذلك باإليامن بالرسل،
((٣
وتصديقهم يف ما جاؤوا به من الدين ،وعدم التفريق بينهم كام فعل اليهود والنصارى،
( )1الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،10ص ،٤٧٣وانظر أيض ًا:
-القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٦ص.٢٤٥
( )٢يقول البغوي يف األسباط" :يعني أوالد يعقوب ،وهم اثنا عرش سبط ًا ،واحدهم سبط ،سموا بذلك؛ ألنه ولد
لكل واحد منهم مجاعة ،وسبط الرجل حافده ،ومنه قيل للحسن واحلسني ريض اهلل عنهام سبطا رسول اهلل ﷺ،
واألسباط من بني إرسائيل كالقبائل من العرب من بني إسامعيل ،والشعوب من العجم ،وكان يف األسباط أنبياء،
ولذلك قال :وما أنزل إليهم ،وقيل هم بنو يعقوب من صلبه صاروا كلهم أنبياء ".انظر:
-البغوي ،معامل التنزيل ،مرجع سابق ،ج ،1ص.1٥٦
-الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.110
( )٣الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٣ص ،111-109وانظر أيض ًا:
-البغوي ،معامل التنزيل ،مرجع سابق ،ج ،1ص.1٥٦
109
يروي الطري عن قتادة" :أنزلت هذه اآلية ،أمر ًا من اهلل تعاىل ذكره للمؤمنني بتصديق
((1
رسله كلهم".
وهذه دعوة من القرآن الكريم إىل تدبري االختالف الديني ،عىل أصل اإليامن بالرسل،
وهو مشرك ديني بني الرسائل الساموية ،وهي دعوة كذلك إىل التسامح والتعايش مع
املخالف رغم االختالف.
احلق سبحانه َ
أهل القرآن باإليامن برسوهلم وكتاهبم ،واإليامن بالرسل فبعد أن أمر ُّ
مجيعهم ،وبام أنزل عليهم ،من أجل االئتالف وترك الفرقة والنزاع ،برأ ساحة املؤمنني،
أهنم ليسوا سبب الفرقة واالختالف والنزاع ،إن مل يؤمن اآلخرون بام آمن به املؤمنون،
واهتدوا إىل املشرك العقدي قال تعاىل ﴿ :ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ
ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ﴾ [البقرة ]1٣٧ :يقول الزخمرشي" :وإن تولوا
عام تقولون هلم ومل ينصفوا فام هم إال يف شقاق؛ أي يف مناوأة ومعاندة ال غري ،وليسوا من
((٢
طلب احلق يف يشء".
إن املسلمني حيرمون أتباع الرسل وكتبهم املقدسة ،فال يتعرضون هلا بالسوء أو اإلذاية،
بخالف ما نعيشه اليوم يف العرص احلديث ،من متزيق القرآن وتدنيسه ،والتطاول عىل مقام
النبوة باألفالم واألقالم ،والرسوم املشوهة للحقائق ،بدعوى حرية التعبري واإلبداع (٣(،فأي
املس باملعتقد ،ال سيام إذا كان هذا املعتقد من الركائز القوية ،واملعامل
تدبري لالختالف يف ظل ّ
الكرى التي يرجى بناء االئتالف عليها؟ ،يقول النوريس ّ
إن تدبري االختالف يقتيض" :أن
( )1الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.111-109
( )٢الزخمرشي ،الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون األقاويل يف وجوه التأويل ،مرجع سابق ،ج ،1ص.99
وانظر أيض ًا:
-البغوي ،معامل التنزيل ،مرجع سابق ،ج ،1ص.1٥٧-1٥٦
( )٣فإن اإلسالم ليس ضد حرية التعبري واإلبداع ،لكن عىل املنطلقني من مسألة حرية التعبري واإلبداع أن يتعرفوا
خصوصيات الشعوب ومقدساهتم ،حتى ال يسيئوا لآلخرين ،فانتهاك حرمة الرسل واألنبياء بام ييسء لقدرهم،
يفوق يف نظر اإلسالم واملسلمني االعتداء عىل األوطان أو غريها من القضايا ،ألهنم قدوة البرشية إىل اخلري
والصالح.
110
يسعى كل واحد لرويج مسلكه وإظهار صحة وجهته وصواب نظرته ،دون أن حياول هدم
مسالك اآلخرين ،أو الطعن يف وجهة نظرهم وإبطال مسلكهم ،بل يكون سعيه إلكامل
((1
النقص ورأب الصدع واإلصالح ما استطاع إليه سبيالً".
فالقرآن الكريم يرسم الطريق لتدبري االختالف باإليامن بالرسل ،وما أنزل عليهم من غري
تفريق بينهم ،وال تكذيب ألحد منهم ،فكان بذلك أهل القرآن أسبق للدعوة إىل تدبري االختالف،
وأقرب إىل املخالف ،بإيامهنم هبذا األصل ،املنقذ للبرشية من النزاع واخلالف والعداوة ،يقول
رشيد رضا .." :كان لكل نبي أمة من الناس هم قومه ،وأما خاتم النبيني أمته مجيع الناس ،وقد
فرض اهلل عليهم اإليامن بجميع رسله وعدم التفرقة بينهم ،فاإليامن بخامتهم كاإليامن بأوهلم
وبمن بينهام ،فمثلهم كمثل امللوك أو الوالة يف الدولة الواحدة ،ومثل اختالف رشائعهم بنسخ
((٢
املتأخر منها ملا قبله ،كمثل تعديل القوانني يف الدولة الواحدة إىل أن كمل الدين".
111
((1
[األنعام ]19 :فهو مبعوث إىل الناس مجيعهم ،خالف ًا ملن ادعى أنه رسول إىل قومه من العرب.
ويأمره احلق سبحانه بإعالن هذه احلقيقة للخلق ،فقال تعاىل﴿ :ﮢ ﮣ ﮤ
ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ﴾ [األعراف ]1٥8 :فهو صىل اهلل عليه وسلم رسول الناس كافة،
ولكن أكثر الناس ال يعلمون هذه احلقيقة .ويتأكد هذا بقوله تعاىل ﴿ :ﮥ ﮦ ﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﴾ [سبأ.]٢8 :
جاء برسالة عامة وشاملة ،عكس األنبياء الذين أرسلهم اهلل عز وجل ألقوامهم
خاصة ،قال تعاىل﴿ :ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ﴾ [األعراف ]1٥8 :ويقول
الطري" :يقول تعاىل ذكره لنبيه حممد ﷺ﴿ :ﮢ﴾ يا حممد للناس كلهم ﴿ ﮥ ﮦ ﮧ
الرسل (٢("..ولرشفه،
ﮨ ﮩ﴾ ،ال إىل بعضكم دون بعض ،كام كان من قبيل من ُّ
((٣
وعظمته ،وكريم منزلته عند اهلل أرسل للناس كافة.
وقيد يف موضع آخر عموم رسالته ببلوغ هذا القرآن( (٤قال تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ
ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﴾ [األنعام ]19 :يقول الغزايل" :ينذر كل
((٥
قوم ،بل كل شخص بحكمه ،فيكون رشعه عام ًا".
ورصح القرآن الكريم بشمول رسالته ﷺ ألهل الكتاب مع العرب( (٦بقوله تعاىل﴿ :ﮞ
ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ﴾ [آل عمران]٢0 :
يقول ابن كثري" :وهو معلوم من دين اإلسالم رضورة أنه صلوات اهلل وسالمه عليه ،رسول اهلل
إىل الناس كلهم" (٧(،وأن الناس مجيعهم مطالبون باإلسالم.
11٢
ورصح بذلك ﷺ بقولهَ " :ل َقدْ ِج ْئ ُتك ُْم ِ َهبا َب ْي َضا َء ن َِق َّي ًةَ ..،وا َّل ِذي َن ْف ِيس بِ َي ِد ِه َل ْو َأ َّن
َان َح ّي ًاَ ،ما َو ِس َع ُه إِ َّال َأ ْن َيتَّبِ َعنِي" (1(،ومما يدل عىل عاملية رسالته :إمامته ﷺ يف البيت وسى ك َ
ُم َ
تبع له ،وأنه وجهة البرشية
املقدس ،وصالته باألنبياء هبا ،وهذا فيه داللة عىل أن مجيعهم ٌ
مجيع ًا لوحدهتا وألفتها ،ومنقذها من ضالل الدنيا ،وعقاب اآلخرة.
رسالة حممد ﷺ خامتة الرسائل وناسخة هلا (٢(،يقول تعاىل تقرير ًا هلذه احلقيقة ﴿ :ﯧ ﯨ
[األحزاب]٤0 : ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﴾
فرسول اهلل ﷺ هو خاتم األنبياء ،ال نبي وال رسول بعد حممد ﷺ.
ومع أن األنبياء من قبله عليهم السالم برشوا بمجيئه( (٣فقال تعاىل﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ
ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ﴾ [الصف]٦ : ﭖﭗﭘﭙﭚﭛ
فقد أمره اهلل عز وجل بأن يبرش بنفسه وعىل لسانه ،فقال تعاىل﴿ :ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ
ﮨ ﮩ﴾ [األعراف.] 1٥8 :
( )1ابن حنبل ،أبو عبد اهلل أمحد بن حممد بن حنبل .مسند أمحد ،حتقيق :شعيب األرنؤوط وآخرون ،إرشاف :عبد اهلل
بن عبد املحسن الركي ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط1٤٢1( ،1ه٢001/م) .ج ،٢٣حديث رقم (،)1٥1٥٦
ص.٣٤9
( )٢انظر الكالم عن هذه املسألة ومناقشتها يف:
-القايض عبد اجلبار ،عبد اجلبار بن أمحد بن عبد اجلبار .رشح األصول اخلمسة ،تعليق :أمحد بن احلسني بن أيب
هاشم ،حققه وقدم له :عبد الكريم عثامن ،القاهرة :مكتبة وهبة ،ط1٤1٦( ،٣ه199٦/م) ،ص.٥٧٦
الشهرستاين ،أبو الفتح حممد بن عبد الكريم .امللل والنحل ،صححه وع ّلق عليه أمحد فهمي حممد ،بريوت: -
دار الكتب العلمية ،ط1٤1٣( ،٢ه199٢/م) ،ج ،٢ص.٢٣٧
الباقالين ،القايض أبو بكر حممد بن الطيب بن حممد بن جعفر .كتاب التمهيد يف الرد عىل امللحدة واملعطلة -
واخلوارج واملعتزلة ،عُني بتصحيحه ونرشه :األب رترشد يوسف مكارثي الياسوعي ،بريوت :املكتبة
الرشقية19٥٧ ،م ،ص.18٤-1٧9
الغزايل ،االقتصاد يف االعتقاد ،مرجع سابق ،ص.1٥1 -
( )٣انظر :فصل" :تبشري التوراة واإلنجيل بمحمد ﷺ" وبعده فصل" :إشارة القرآن والسنة إىل بشارة الكتب السابقة
بمحمد ﷺ" يف:
الشوكاين ،إرشاد الثقات إىل اتفاق الرشائع عىل التوحيد واملعاد والنبوات ،مرجع سابق ،ص.٢٧ -
11٣
وجاء عن عرباض بن سارية ،قال :سمعت رسول اهلل ﷺ يقولِ ّ :
ُوب"إين عنْدَ اهللِ َم ْكت ٌ
ِ ِ ِ ِ ِِ ِ خلَاتِ ُم النَّبِ ِّي َ
يمَ ،وبِ َش َار ُة رك ُْم بِ َأ َّول َذل َكَ :د ْع َو ُة َأيب إ ْب َراه َ وس ُأخ ُ إن آ َد َم َُملن َْجد ٌل ِيف طينَتهَ ،
نيَ ،و َّ
ني َو َض َعتْنِي َأ َّن ُه
نيَ ،ي َر ْي َن َأ َّهنَا َر ْأ ْت ِح َ
ات النَّبِ ِّي َ رأت ُأ ِّميَ ،وك َِذ َ
لك ُأ َّم َه ُ الر ْؤ َيا التي ْ يسى ِيبَ ،و ُّ ع َ
ِ
ِ ِ
ُور َأ َضا َء ْت منْ ُه ُق ُص ُ
َخ َر َج من َْها ن ٌ
ِ ((1
الشام".ور َّ
وش ّبه رشيد رضا النسخ احلاصل بني الرشائع بتعديل القوانني" :ومثل اختالف رشائعهم
((٤
بنسخ املتأخر منها ملا قبله ،كمثل تعديل القوانني يف الدولة الواحدة إىل أن كمل الدين".
فإذا كانت رسالة حممد ﷺ ناسخة للرشائع السابقة عليه ،فإهنا يف الوقت نفسه جاءت مصدقة
لألصول الكلية التي ال نسخ فيها ،والتي جاءت هبا كل الكتب السابقة من توراة وإنجيل.(٥(...
وجاء ﷺ داعي ًا إىل الوحدة ،ونبذ الفرقة ،عىل أساس هذه األصول التي ال نسخ فيها،
قال تعاىل ﴾ ﴿ :فكانت دعوته ﷺ جامعة ،ومؤلفة تق ّعد لتدبري
( )1الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٢٣ص.٣٥9
( )٢الشوكاين ،إرشاد الثقات إىل اتفاق الرشائع عىل التوحيد واملعاد والنبوات ،مرجع سابق ،ص.٢٥
( )٣املرجع السابق.
( )٤رضا ،الوحي املحمدي ،مرجع سابق ،ص.٢٧٦-٢٧٥
( )٥القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٧ص.٣0٢
وللتأمل يف مفهوم التصديق واهليمنة يف القرآن ،انظر مقال إلكروين بعنوان :من مكونات املنهج النقدي يف
القرآن الكريم :التصديق واهليمنة ،أمحد عبادي ،األمني العام للرابطة املحمدية للعلامء ،عىل موقع مركز الدراسات
http: //www.alquran.ma/Article.aspx?C=5562 القرآنية ،التابع للرابطة املحمدية للعلامء ،عىل الرابط:
11٤
االختالف ،عىل أساس وحدة اإلله ،ووحدة الرسل وما أنزل إليهم من رهبم ،قال تعاىل ﴿ :ﮖ
ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾ [املائدة.]٦8 :
وجاء القرآن الكريم ليبني للناس ما اختلفوا فيه ،قال تعاىل﴿ :ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ
ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ﴾ [النحل ،]٦٤ :وقال تعاىل يف سياق
الرد عىل شبه املرشكني ﴿ :ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ﴾
[النحل ،]٣9 :وقال تعاىل ﴿ :ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ
وبذلك تكون رسالة القرآن الكريم التي جاء هبا خاتم األنبياء ،مرجعية لتدبري ما
اختلف فيه الناس ،سواء أكانوا أتباع رساالت ساموية ،أو مذاهب أرضية؛ ألهنا جامعة
ملا به تقع وحدهتم وألفتهم ،وهي اليقينيات االعتقادية واإليامنية التي أقرهتا كل الرساالت
الساموية قبله.
لذلك ليس هناك دين أحق باجلمع والتوحيد إال اإلسالم؛( (٤ألن رسالة حممد ﷺ
((٥
دائمة ،ومل يدَّ ِع أحد من الرسل أن رسالته دائمة ،بل كل رسول يبرش برسول يأيت من بعده.
( )1الزخمرشي ،الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون األقاويل يف وجوه التأويل ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.1٢٥
( )٢رضا ،الوحي املحمدي ،مرجع سابق ،ص.٢٧٦
( )٣ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.19٥
( )٤رضا ،الوحي املحمدي ،مرجع سابق ،ص.٣٥٧
( )٥ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.19٥
11٥
برش األنبياء بمحمد ﷺ ،وأخذ امليثاق عليهم بوجوب اإليامن به
وهلذه اخلصائص ّ
ونرصه واتباعه (1(،وهو خطاب للبرشية مجعاء ،يقول طبارة ..." :فالناقد البصري يرى أن
مذهب اإلسالم يف توحيد األديان حول رسالة حممد هو خري املذاهب؛ ألنه بعد أن قرر
أن األديان كلها وحي إهلي عاد فقرر أن طول الزمن أدى إىل انحراف الناس عن حقيقة
تلك األديان ،وبعد هذا أخذ اإلسالم يدعو الناس كافة إىل العمل بالقرآن الذي جيمع مجيع
((٢
فضائل الكتب اإلهلية السابقة ،ويزيد عليها ما اقتضاه تطور األمم وحاجاهتا".
وعىل هذا فقد انتهت إىل اإلسالم أحكام الرشائع الساموية السابقة كلها ،ظاهرها
وباطنها ،يقول الشهرستاين ..." :ففي التوراة أحكام السياسة العامة الظاهرة ،ويف
ً ((٣
اإلنجيل أحكام السياسة الباطنة اخلاصة ،ويف القرآن أحكام السياستني مجيعا".
فالقرآن يقر أنه كام أوحي إىل األنبياء السابقني ،أوحي إىل حممد ﷺ (٤(،ثم أمر القرآن
أهل الكتاب بأن يؤمنوا بكل الرسل ،وما أنزل إليهم ،وأن ال يفرقوا بينهم ،فيؤمنوا ببعض
ويكفروا ببعض (٥(.وقال تعاىل خماطب ًا عقول أهل الكتاب ،مبين ًا هلم التناقض الذي وقعوا
فيه ،عندما مل يؤمنوا بمحمد ﷺ ،وقد جاء مصدق ًا ملا نزل عىل أنبيائهم ﴿ ،ﮋ ﮌ ﮍ
11٦
ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ
ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ﴾ [البقرة ]91 :فهم يقولون ّ
أن ما عندهم هو
ثم فرسالة حممد ﷺ حق ،فام يؤكد احلق ،وحممد ﷺ جاء بام يؤكد ويصدق هذا احلق ،ومن ّ
ويصدق احلق حق ،لكنهم تناقضوا بمقتىض هذا الرهان؛ ألن النتيجة السليمة هي إيامهنم
برسالة حممد ﷺ ،لكنهم مل يفعلوا ،فوقعوا يف التناقض.
ويقرر هلم القرآن حقيقة ما أوحاه ألنبيائه ورسله مجيع ًا ،وهي أن دينهم واحد يف
أصوله الكلية ،فال جمال لالختالف والنزاع حول قضايا الرشائع ألهنا خمتلفة ،واملتأخر منها
((1
ناسخ للمتقدم.
ويستخلص مما سبق أن القرآن الكريم يدعو اخللق لالئتالف وتدبري االختالف ،من
خالل أصل اإليامن بالنبوة ،املوحدة واملؤلفة ،وذلك للحقائق اآلتية:
أ -األنبياء قادة البرشية للوحدة واأللفة؛ ألن منهجهم واحد ،يمنع اإليامن ببعضهم
والكفر ببعضهم اآلخر ،فالتفريق بينهم موجب لالختالف ،لكن االجتامع عليهم
واإليامن هبم حقيقة واحدة ،موجب لالجتامع واالتفاق.
ب -األنبياء والرسل أئمة اهلدى والصالح ،واإلرشاد للخري والفالح ،فاإليامن هبم،
واعتقاد نبوهتم ،واتباعهم فيام جاؤوا به ،مصلح ألحوال اخللق ،ومنظم لعالقاهتم،
فال يمكن إصالح العالقات اإلنسانية ،إال باعتقاد النبوة؛ ألهنا التي جاءت
بام يؤلف وجيمع ،أما األفكار الوضعية فإن فرضنا صالحيتها ،فال تؤدي الدور
اإلصالحي نفسه.
ت -االعتقاد بختم النبوة؛ ألن االعتقاد بخالف هذا يعني بقاء االختالف يف الرشائع
ودوامه ،أما االعتقاد بختم النبوة باإلسالم ،الرسالة اخلامتة التي أكمل هبا دين
األنبياء ،موجب لالتفاق ،ألهنا اشتملت عىل األصول الكلية ،التي جاءت هبا
الرساالت الساموية كلها ،والتي تبني االئتالف بني أهل الرشائع.
11٧
ثالث ًا :أصل اإليامن باملصري واملآل األخروي
متهيد:
املقصود باإليامن باملصري واملآل األخروي (1( :التصديق بحقائق الغيب بعد املوت،
كام جاء اإلخبار هبا يف القرآن الكريم ،ومن هذه احلقائق :البعث واملعاد ،وما يتبع ذلك من
الثواب والعقاب بعد املوت .واملتأمل يف آيات القرآن الكريم املتعلقة هبذا األصل االعتقادي،
جيد أن سياقاته متنوعة وخمتلفة ،منها :آيات إثبات املصري األخروي باحلجج والراهني ،وأن
ذلك حق ال ريب فيه ،ومنها :بيان فضل العمل لآلخرة ،والثواب والسعادة التي تنتظر
اإلنسان فيها ،ويقارن بني ذلك ومتاع الدنيا ،ومنها :حتفيز اخللق عىل طلب اآلخرة والعمل
هلا بذكر قصص األنبياء والصديقني والصاحلني.
لكننا نقترص يف هذه الدراسة عىل ما خيدم القصد منها وهو :دور اإليامن باملصري
األخروي يف تدبري االختالف اإلنساين ،ومن أجل ذلك يتطلب األمر الرهنة عىل:
يشري اخلطاب القرآين إىل وحدة املصري واملآل اإلنساين ،واحلساب اإلهلي ،فاهلل تعاىل
جامع الناس ليوم ال ريب فيه ،حماسبهم عىل أقواهلم وأفعاهلم ،وأن ذلك شامل جلميع اخللق،
قال تعاىل ﴿ :ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ﴾ [األنعام (٢(،]٦٢ :وجاء
يف السنة عن عدي بن حاتم قال رسول اهلل ﷺَ " :ما ِمنْك ُْم ِم ْن َأ َح ٍد إِ َّال َس ُي َك ِّل ُم ُه َر ُّب ُهَ ،ل ْي َس
ِ
حي ُج ُب ُه"( (٣ويقول شارح احلديث بدر الدين العيني" :قوله: انَ ،والَ ح َج ٌ
اب َ ْ مج ٌ
َب ْينَ ُه َو َب ْينَ ُه ت ُْر ُ َ
( )1وتفسري اآلخرة عىل مخسة وجوه :األول :يعني القيامة ،والثاين :يعني اجلنة خاصة ،والثالث :يعني جهنم خاصة،
والرابع :يعني القر ،واخلامس :يعني األخري .انظر:
-ابن سالم ،التصاريف تفسري القرآن مما اشتبهت أسامؤه وترصفت معانيه ،مرجع سابق ،ص.٤٢٥
( (٢واآليات الدالة عىل وحدة املصري اإلنساين واحلساب واجلزاء كثرية ،نذكر منها :قال تعاىل ﴿ :ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ
ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ﴾ [آل عمران ،]9 :وقال﴿ :ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ﴾ [آل عمران،]٢٥ :
وقال ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﴾ [النساء ،]8٧ :وقال ﴿ :ﮜ ﮝ ﮞ ﴾ [األنعام،]٢٢ :
وقال﴿ :ﯓ ﯔ ﯕ﴾ [البقرة ،]٢8٥ :وقال﴿ :ﯷ ﯸ ﯹ﴾ [آل عمران﴿ ،]٢8 :ﭱ ﭲ ﭳ ﴾ [املائدة.]18 :
( )٣البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :التوحيد ،باب :قول اهلل تعاىل ﴿ :ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ﴾
[القيامة ،]٢٣-٢٢ :ج ،9حديث رقم ( ،)٧٤٤٣ص.1٣٢
118
" َما ِمنْك ُْم" اخلطاب للمؤمنني ،وقيل :بعمومه" (1(،فخطاب الوحي بوحدة املصري واملآل ،وما
يتبع ذلك من حساب وجزاء ،عام يشمل البرشية مجيع ًا ،املسلم والكتايب وغريمها .ويقول
((٢
حممد قطب» :والناس كلهم صائرون إىل اهلل ،إخوة يف املصري".
ومصري اإلنسان ومآله بعد املوت ،هي احلياة املأمولة واحلقيقية (٣(،و"التي تتميز بالبقاء
والدوام ،والتي كتب لإلنسان فيها اخللود املطلق" (٤(،حيث إعادة بعثه من جديد للحساب
واجلزاء ،وهذه احلياة التي يسعد فيها اإلنسان أو يشقى ،تقوم عىل مدى التزام اإلنسان
العقدي والترشيعي واألخالقي يف احلياة الدنيا .فهذا املفهوم العقدي اإليامين للمعاد
واملصري ،يربط الدنيا باآلخرة ،وجيعل اإلنسان مسؤوالً أمام سلوكاته وممارساته.
وآيات إثبات املصري واملآل األخروي -املعاد واليوم اآلخر -يف القرآن الكريم ،تستند
يف تقرير هذا األصل عىل مقصدين:
األول :تنزيه اهلل تعاىل عن العبث ،وتنزهيه عن الظلم ،بمعنى أنه سبحانه حكيم غري
عابث ،وعادل غري ظامل.
( )1العيني ،بدر الدين أبو حممد حممود بن أمحد بن موسى بن أمحد ،العيني احلنفي .عمدة القاري يف رشح صحيح
البخاري ،بريوت :دار إحياء الراث العريب( ،د.ت ،).ج ،٢٥ص.1٣٣
( )٢قطب ،حممد .منهج الرتبية اإلسالمية ،القاهرة :دار الرشوق ،ط1٤1٤( ،1٤ه199٣/م) ،ج ،1ص.٧0
( )٣تأمل قوله تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﴾ [العنكبوت،]٦٤ :
وقوله تعاىل ﴿ :ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾ [احلديد،]٢0 :
وقوله تعاىل ﴿ :ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏﰐ ﰑ ﰒ ﰓ
ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﴾ [الكهف.]٤٦-٤٥ :
( )٤خليل ،عامد الدين .العقل املسلم والرؤية احلضارية ،الدوحة :دار احلرمني ،ط1٤0٣( ،1ه ،)198٣/ص.٣٥
( )٥البطليويس ،اإلنصاف يف التنبيه عىل املعاين واألسباب التي أوجبت االختالف بني املسلمني يف آرائهم ،مرجع
سابق ،ص.٢٦
119
والثاين :إثبات القدرة اإلهلية عىل اخللق من جديد ،بمعنى أن من أنكر البعث كان
منطلقه إنكار القدرة اإلهلية.
ويف سياق هذه النظرة املقاصدية للمعاد والبعث بعد املوت يعرض القرآن الكريم
لشبه املخالفني منكري البعث ،ويرد عليها بالدليل العقيل واحليس بأسلوب جديل برهاين،
من أجل إقناع املخالف ،وإزالة أغالل الفكر املانعة من الفهم(.(1
والقرآن الكريم يوجه عقوهلم إىل ما يقنعهم عن طريق االستدالل باملعقول والشواهد
احلسية والظاهرة ،وهي كثرية ،يقول ابن تيمية" :إن اهلل تعاىل يف كتابه ذكر من دالئل املعاد
وبراهينه ما ال يقدر أحد عىل أن يأيت بقريب منه" (٣(،فالقرآن الكريم كتاب دليل وبرهان،
فهو يكثر األدلة والراهني بصيغ خمتلفة ،الختالف العقول واألفهام.
1٢0
االستدالل ((٢
االستدالل بالنشأة األوىل عىل الثانية، ((1
ومن هذه االستدالالت:
بإحياء األرض امليتة (٣(،االستدالل بخروج اليشء من ضده (٤(،االستدالل باألصعب عىل
((٧
األيس (٥(،توجيه النظر إىل قدرة اهلل وعلمه (٦(،االستدالل بحصول اليقظة بعد النوم،
((8
االستدالل عىل البعث بأن حكمة اهلل وعدله يقتضيان وجوبه.
ومن هذه االستدالالت ،نقف عىل أن القرآن الكريم يوجه اخللق إىل اإلقرار واإليامن
بأن اهلل تعاىل حكيم منزه عن العبث ،عادل غري ظامل ،قادر عىل فعل ما يشاء ،منزه عن العجز.
فإذا ثبتت هذه املقدمة ،ثبت كون البعث واملعاد حق .يقول ابن تيمية" :فلو مل يكن
املعاد حق ًا لزم :إما جحد كون الرسول أخر به ،وإما جحد صدقه فيام أخر ،وكالمها
ممتنع ،وإال فمن علم أن الرسول أخر به ،وعلم أنه ال خير إال بحق ،علم بالرضورة أن
((9
املعاد حق".
( )1األشعري ،أبو احلسن عيل بن إسامعيل بن إسحاق .كتاب اللمع يف الرد عىل أهل الزيغ والبدع ،صححه وقدم له
وع ّلق عليه :محودة غرابة ،القاهرة :مطبعة مرص19٥٥ ،م ،ص ،٢1وانظر أيض ًا:
-ابن رشد ،الكشف عن مناهج األدلة يف عقائد امللة ،مرجع سابق ،ص.٢0٢
وخرج
َّ عليه وعلق نصه ضبط الكريم، -ابن احلنبيل ،أبو الفرج ناصح الدين .كتاب استخراج اجلدل من القرآن
أحاديثه :حممد صبحي حسن حالق ،بريوت :مؤسسة الريان ،ط1٤1٣( ،1ه199٢/م) ،ص.٥0
-الشنقيطي ،أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن ،مرجع سابق ،ج ،٧ص.18٣
-إسامعيل ،فاطمة إسامعيل حممد .القرآن والنظر العقيل ،هريندن :املعهد العاملي للفكر اإلسالمي ،ط،1
(1٤1٣ه199٣/م) ،ص.198
-طبارة ،روح الدين اإلسالمي عرض وحتليل ألصول اإلسالم وآدابه وأحكامه حتت ضوء العلم والفلسفة،
مرجع سابق ،ص.1٢1
(( (٢اإلرساء( ،)٥1 :األنبياء( ،)10٤ :احلج( ،)٥ :العنكبوت( ،)٢0 :يس( ،)٧9-٧8 :مريم( ،)٦٧ :الواقعة.(٦٢ :
(( )٣فصلت( ،)٣9 :فاطر( ،)9 :األعراف( ،)٥٧ :ق( ،)11-٦ :يس( ،)٣٣ :احلج( ،)٦٣ :احلديد( ،)1٧ :الزخرف.(11 :
(( (٤األنعام( ،)9٥ :يس( ،)80 :البقرة( ،)٢8 :احلج.(٦٦ :
(( (٥اإلرساء( ،)99-98 :األحقاف( ،)٣٣ :غافر.(٥٧ :
(( (٦لقامن( ،)٢8 :السجدة( ،)10 :ق( ،)٤ :يونس.(٦1 :
(( (٧األنعام( ،)٦0 :األنعام( ،)٦٢-٦1 :الزمر.(٤٢ :
(( )8ص( ،)٢8القيامة( ،)٣٦ :سبأ.(٥-٣ :
( )9ابن تيمية ،درء تعارض العقل والنقل ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.٣01
1٢1
-2اتفاق الرشائع عىل اإليامن باملصري واملآل األخروي:
يذكر الشوكاين أن يف التوراة ترصحي ًا باسم اجلنة والنار باللفظ ،واألمر نفسه يف
اإلنجيل املسيحي (1(،وبعد ذكر حلقائق تؤكد اتفاق أهل الرشائع عىل هذا األصل املشرك
يقول" :واحلاصل أن هذا أمر اتفقت عليه الرشائع ،ونطقت به كتب اهلل عز وجل سابقها
((٢
والحقها ،وتطابقت عليه الرسل".
وهذا الذي حكاه الشوكاين عن أهل الكتاب ،من إيامهنم باملصري واملآل األخروي،
من البعث واجلزاء واجلنة والنار ،حكاه القرآن الكريم عنهم ،حيث وردت آيات عديدة
حتكي كالم اليهود والنصارى عن اجلنة والنار ويوم القيامة واآلخرة ،إىل غريها من القضايا
املرتبطة باملعاد وأحواله ،نذكر منها:
فمن خالل ما سبق يتضح أن الرشائع متفقة عىل أصل املعاد واملصري واملآل ،واجلنة
والنار واحلساب والعقاب ،والنعيم والثواب .يقول ابن رشد" :واملعاد مما اتفقت عىل وجوده
الرشائع ،وقامت عليه الراهني عند العلامء" (٤(،ويقول العقاد" :األديان الكتابية عىل اتفاق
( )1الشوكاين ،إرشاد الثقات إىل اتفاق الرشائع عىل التوحيد واملعاد والنبوات ،مرجع سابق ،ص.1٢-10
( )٢املرجع السابق ،ص .1٤تابع مناقشة الشوكاين ملوسى بن ميمون اليهودي يف املعاد ،يف:
-الشوكاين ،إرشاد الثقات إىل اتفاق الرشائع عىل التوحيد واملعاد والنبوات ،ص.1٢-10
( )٣قال تعاىل﴿ :ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ
ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ﴾ [املائدة ،]٧٢ :وقال تعاىل ﴿ :ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ﴾
[غافر.]٣٢ :
( )٤ابن رشد ،الكشف عن مناهج األدلة يف عقائد امللة ،مرجع سابق ،ص.199
1٢٢
يف اإليامن باحلياة بعد املوت ،وإن اختلفت بينها بعض االختالف يف متثيل تلك احلياة .وقد
((1
آمن الفالسفة باحلياة األخرى قبل األديان الكتابية مجيع ًا وبعدها".
ويقول السبحاين" :االعتقاد باملعاد عنرص أسايس يف كل رشيعة هلا صلة بالسامء ،وحيتل
يف األصالة والتأثري حمل العمود الفقري يف بدن اإلنسان ،وبدونه تصبح الرشائع مسالك
برشية مادية ،ال متت إىل اهلل تعاىل بصلة ،فقوام الرشيعة باملبدأ واملعاد ،وألجل ذلك ال ترى
رشيعة تتسم بأهنا رشيعة إهلية ولو بعد حتريفها ،خالية من الدعوة إىل احلياة األخروية ،وحرش
((٢
اإلنسان بعد املوت ،وإقامة احلساب واجلزاء والثواب والعقاب".
فإذا كان املعاد ثابت ًا بالنقل عن طريق الرشائع ،وبالرهان عن طريق العقل ،وثبت
اتفاق الرشائع عليه ،ثبتت قطعيته وقدرته للتحكيم يف تدبري االختالف.
( )1العقاد ،عباس حممود .الفلسفة القرآنية ،القاهرة :دار هنضة مرص( ،د .ت ،).ص.1٥٥
( )٢السبحاين ،جعفر .اإلهليات عىل هدى الكتاب والسنة والعقل ،حترير :حسن حممد العاميل ،بريوت :الدار اإلسالمية
للطباعة والنرش ،ط1٤10( ،1ه1990 /م) ،ج ،٢ص.٦٥٦
( )٣أبو زهرة ،املجتمع اإلنساين يف ظل اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.٣٦
1٢٣
فإذا علم اإلنسان أن مصريه ومآله إىل اهلل ،وأنه حماسب عىل قوله وعمله بالثواب
والعقاب ،كان لذلك أثره عىل عالقاته اإلنسانية ،من حيث احلدّ من الطغيان اآلدمي ،الذي
هو أحد أكر أسباب االختالف اإلنساين ،قال تعاىل﴿ :ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ
ﮥ ﮦ ﮧﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ
ﯘ﴾ [آل عمران ]18٥ :فاإليامن باملصري واملآل بعد املوت ،جيعل املؤمن يربط كل أفعاله
وأعامله يف الدنيا باآلخرة؛ ألن غايته النجاة يف اآلخرة ،فتكون أعامله وممارساته يف الدنيا
قائمة عىل تقوى اهلل ،والر بالناس ،مما حيد من االختالفات والنزاعات اإلنسانية.
فاإليامن باملصري واملآل األخروي ،من األصول اإليامنية اجلامعة واملؤلفة للخلق،
املرشدة للفكر والسلوك ،فاإليامن باليوم اآلخر والتصديق بحقائقه ،كام جاءت يف القرآن
مقوم من مقومات بناء الضمري
الكريم ،وما يتبع ذلك من الثواب والعقاب بعد املوتّ ،
اإلنساين ،وحتفيزه عىل العمل الصالح ،وبناء الوازع الداخيل يف اإلنسان ،ليحاكم نفسه
بنفسه من غري حاجة إىل مراقبة خارجية؛ ألن ضعف اإليامن بالبعث واجلزاء األخروي أو
إنكاره ،يفيض إىل االعتداء عىل املخالف ،وضياع حقوقه ،من قبل املتحكمني ،أو القادرين
عىل التفلت من العقاب ،أو التالعب بالقوانني ،فقد عجزت القوانني البرشية عن كبح مجاح
اإلنسان؛ ألهنا ال قدرة هلا عىل القلوب ،مما يثري النزاعات واحلروب والرصاعات بني بني
اإلنسان ،وتكثر معه املحاكم ،والقوانني ،واهليئات املطالبة بحقوق اإلنسان .لذلك كان
اإليامن بالبعث واجلزاء يف اآلخرة أصل مهم لتدبري االختالفات اإلنسانية؛ ألنه حيد من
النزاعات ويقلل من االختالفات ،ويقيم املحاسبة الذاتية -الوازع الداخيل -مقام املحاسبة
اخلارجية -القانون ،-فتعم األلفة واالتفاق عىل حساب االختالف واالفراق.
فإن اختالف غايات الناس ورغباهتم ،من أسباب االفراق والنزاع يف احلياة الدنيا،
فمنهم من غايته إشباع شهواته ،والتمتع بالدنيا ونعيمها ،واالسرسال يف إرضاء غرائزه،
ولو أدى األمر إىل أخذ ما عند اآلخرين ،واالستيالء عىل ممتلكاهتم وحقوقهم ،مما يذكي
النزاع والرصاع واالختالف.
ومنهم من رغبته التحكم يف رقاب الناس ،والتسلط عليهم ،مما ينتج رصاع ًا عىل
السلطة والثروة ،التي تسرخص يف سبيلهام األنفس واألعراض ،وتضيع معهام القيم
1٢٤
اإلنسانية والدينية ،ويف هذا ما يذكي االختالف والنزاع اإلنساين ،مما ال خيفى عىل ذي عقل.
يقول النوريس عن املدنية احلارضة يف سياق مقارنتها باملدنية التي يقرها القرآن الكريم:
((1
"هدفها وقصدها :املنفعة ،وهذه من شأهنا :التزاحم".
فإذا كانت هذه النوازع مركوزة يف خلق اإلنسان ال ينفك عنها ،كان البد من املعاد
للوقوف عىل حقائق هذا النزاع واالختالف ،يقول البطليويس" :فلام ثبت أن ههنا حقيقة
موجودة ال حمالة ،وكان ال سبيل لنا يف حياتنا هذه إىل الوقوف عليها ،وقوف ًا يوجب لنا
االئتالف ويرفع عنا االختالف؛ إذ كان االختالف مركوز ًا ِيف فطرنا ،مطبوع ًا يف خلقنا،
وكان ال يمكن ارتفاعه وزواله إال بارتفاع هذه اخللقة ،ونقلنا إىل جبلة غري هذه اجلبلة ،صح
((٢
رضورة أن لنا حياة أخرى غري هذه احلياة ،فيها يرتفع اخلالف والعناد".
واالختالف رضورة من رضورات الوجود اإلنساين ،يالزمه ما دام اإلنسان إنسان ًا،
فال يمكن إزالة االختالف من الوجود اإلنساين ،بل يمكن تقليله وتدبريه ،وتضييق دائرته،
وتوسيع دائرة املشرك املتفق عليه ،ما تستطيعه اإلنسانية ،وما هو داخل حتت قدرهتا ،وما هي
مأمورة به رشع ًا ،هو حماولة إزالة االختالفات املذمومة ما أمكن ،يف ظروف معينة ،ويف ميادين
معينة ،ويف جمتمع معني؛ ألن االختالف سبب لالرتباك والتخبط والضعف ،وعدم االطمئنان
النفيس واملجتمعي ،وادعاء زوال االختالف من الوجود ،دعوى ساذجة وحاملة ،ألن ذلك
يتناىف مع إرادة اهلل التكوينية ،وألن االختالف سبب احلركة والتقدم ،والوصول إىل مزيد من
التنوع والثراء الفكري ،وهو سنة إهلية لتحقيق التدافع والتنافس اإلنساين يف فعل اخلريات.
وقد اقتضت حكمته سبحانه عدم التسوية بني املصلح واملفسد ،واملؤمن والكافر،
واملتقني والفجار (٣(،..بل ال بد من احلساب واجلزاء عىل العمل ،فإن اهلل تعاىل مل خيلق الكون
1٢٥
عبث ًا وال لعب ًا (1(،ولكن أكثر اخللق ال يعلم هذه احلقيقة ،يقول تعاىل ﴿ :ﯿ ﰀ ﰁ
ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﴾ [الدخان،]٣9-٣8 :
وقال تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ
ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﴾ [ص،]٢8-٢٧ :
وقال تعاىل﴿ :ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ
ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ﴾ [املؤمنون.]11٦-11٥ :
واعتناء اخلطاب القرآين باملصري واملآل بعد املوت ،إنام ملا له من أثر عىل إصالح اخللق
يف الدنيا وصالحهم ،وإجياد جمتمع الوحدة اإلنسانية ،ولو أن اخللق استقروا عىل هذا املعتقد،
وأقره ،الستقامت
الذي اتفقت عليه كل الرشائع الساموية السابقة ،وأكده القرآن الكريم ّ
عالقاهتم اإلنسانية ،وكثر فيهم اخلري وقل فيهم الرش .ويرى طبارة أن القرآن الكريم اعتنى
بعقيدة املعاد والبعث" :ألهنا أصل عظيم من أصول الصالح واإلصالح يف العامل ،فلو أن
الناس مجيع ًا استقرت فيهم هذه العقيدة ،وآمنوا هبا إيامن ًا ال خيارمه شك الستقامت أمورهم،
((٢
وقل بينهم الرش والفساد". وكثر فيهم اخلري واإلحسانَّ ،
خامتة:
يبني القرآن الكريم العالقة مع املخالف عموم ًا ،ومع أهل الرشائع الساموية خاصة،
عىل هذه األصول اإليامنية الثالثة ،ويدعوهم إىل االجتامع عليها ،وإىل حتكيمها لتنظيم
العالقة اإلنسانية ،وتقليل موارد اختالفها ونزاعها ،ومظنة هذه األصول حتقق املساواة،
وعدم التفاضل بني اجلنس البرشي ،إال بقدر متسكهم هبذه املحتكامت ،دون متيز وال أفضلية.
وهذه األصول اإليامنية ،هي معنى اإلسالم يف اخلطاب القرآين ،فاإلسالم يف القرآن
ليس اس ًام لدين خاص ،بل هو اسم للدين املشرك ،الذي هتف به كل األنبياء ،وانتسب إليه
كل أتباع األنبياء (٣(،ثم أصبح مقترص ًا بعد بعثة حممد ﷺ عىل رسالته اخلامتة.
( )1ومن مقاصد هذا األصل :أوالً :بناء الوازع الداخيل ،ثاني ًا :العمل الصالح ،ثالث ًا :تقليل االختالف.
( )٢طبارة ،روح الدين اإلسالمي ،مرجع سابق ،ص.1٢1
( )٣دراز ،حممد عبد اهلل ،الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ األديان ،الكويت وبريوت :دار القلم والرشكة املتحدة
للتوزيع والنرش ،ط19٧٣ ،1م ،ص.1٧٥
1٢٦
ال قوي ًا للحد من النزاعات والرصاعات،
وهبذا تكون هذه األصول اإليامنية مدخ ً
التي تقوم عىل أساس الدين أو املعتقد ،وتساهم كذلك يف احلدِّ من النزاعات األخرى،
التي أساسها اللون أو العرق أو الطائفة .إن إعراض أبناء آدم عن هذه املحتكامت اإليامنية،
هيدد حضارهتم ،وارتقاءهم العلمي ،وتقدمهم املدين ،ويدمر أخالقهم ،وجيعلهم عرضة
للفرقة واالختالف.
وهبذا التصور الكامل ،واملنهج اإليامين الشامل للخطاب القرآين القائم عىل هذه
األصول الثالثة (1(،حتفظ وحدة املجتمع اإلنساين ،وحيد من خالفاته ونزاعاته .وألمهية هذا
املدخل اإليامين وعظمته ،أرسل اهلل عز وجل كل الرسل بالدعوة إليه .لذلك عىل العقالء
من بني البرش ،املسارعة واملسابقة للتمسك هبذه األصول العقدية ،لتنقية القلوب والعقول
مما يذكي اخلالفات والنزاعات ،فهو أعظم وأفضل وأنفع ما جتتمع عليه القلوب والعقول
البرشية؛ لتدبري اختالفاهتا.
وقد ركز القرآن الكريم عىل هذه األصول واملحتكامت اإليامنية ،التي حتكم تصور
اإلنسان ،وتوجه فكره وسلوكه ،وأكدها يف كل سياقاته املختلفة ،حتى رفعها إىل مرتبة املقاصد
الكلية ،حاث ًا اإلنسانية عىل التمسك هبا ،واختاذها أرضية مشركة ،لتدبري االختالف ،فتوحيد
اهلل عز وجل نراس ييضء الطريق ،واألنبياء طريق اهلداية للبرش ،واملصري واملآل األخروي هو
((٢
املحفز المتثال اهلدى النبوي ،من أجل عمران األرض وإصالحها بالعلم والعمل.
( )1يقول أبو حامد الغزايل يف ثبوت هذه األصول الثالثة ،وأهنا رسخت يف نفسه ال بدليل واحد ،بل بدالئل وقرائن
ال يمكن حرصها" :وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها واملسالك التي سلكتها يف التفتيش عن صنفي
العلوم الرشعية والعقلية إيامن ًا يقيني ًا باهلل تعاىل وبالنبوة واليوم اآلخر ،فهذه األصول الثالثة من اإليامن كانت قد
رسخت يف نفيس ال بدليل معني جمرد ،بل بأسباب وقرائن وجتارب ال تدخل حتت احلرص تفاصيلها ".انظر:
-الغزايل ،املنقذ من الضالل ،مرجع سابق ،ص.٦٦-٦٥
( )٢يقول رشيد رضا" :فهذا اإليامن باألركان الثالثة من الغيب هو الذي أوصل البرش إىل علوم وأعامل كان يعدها غري
املؤمنني بالغيب من حماالت العقول ،كالغيب الذي أنكروه ،حتى مل يعد يشء من أخبار الغيب بعيد ًا عن العقل بعد
ثبوهتا ".انظر:
-رضا ،الوحي املحمدي ،مرجع سابق ،ص.٢٥٣
1٢٧
وهذه األصول الثالثة متفق عليها بني الرشائع الساموية ،لذلك لزم أتباع هذه الرشائع،
ومن أراد النجاة من غريهم ،أن يوحد اهلل عز وجل ،ويؤمن بالنبوة ،وباملصري واملآل
األخروي ،والتخلص مما دخل من فساد يف االعتقاد هبذه األصول ،بفعل التحريف والبدع،
فقد جاء حممد ﷺ وأصلح كل هذه املعتقدات ،فأزال ما علق هبا من الرشك واخلرافات،
فأرشد البرشية إىل الدين الكامل ،اجلامع املؤلف ،وحث البرشية عىل ترمجة هذا اإليامن
الصحيح ببناء العمران ،والقيام بوظيفة االستخالف يف األرض.
وال يكفي أن نقرر هذه احلقيقة علمي ًا -نظري ًا ،-بل نحتاج إىل القوة -ليس العنف-
ليسمع العامل منا هذا املرشوع اإليامين لتدبري االختالف ،حتى إذا حدثناهم عن هذه األصول
((1
املؤلفة للمجتمع اإلنساين ،ال يقولون هذه غيبيات العامل الثالث.
( )1يقول حممد الغزايل» :ملاذا ال نعرف الكون مثلام يعرفون أو أفضل ،ثم ينظر القوم إلينا فال جيرؤ أحد عىل انتقاصنا،
أو االستهانة بنا ،فإذا حدثناهم عن اهلل الواحد أعطونا آذاهنم مقدرين متأملني ..وإذا رأونا نضبط غرائزنا ،ونحكم
هوانا ،ونذكر ربنا بالغدو واآلصال مل يقل أحدهم :هذه غيبيات العامل الثالث التي أزرت به وعرقلت سريه ،..
اإلسالم فوق أرضه املهزومة ،دين مثخن باجلراح »..انظر:
-الغزايل ،املحاور اخلمسة للقرآن الكريم ،مرجع سابق ،ص.٢٧
1٢8
الفصل الثاين:
أصول تدبري االختالف الترشيعية
مقدمة:
إذا كان الفصل األول عالج مدخل تدبري االختالف العقدي؛ أي األصول الكلية الدينية
التي يقرحها القرآن الكريم عىل أتباع الديانات الساموية أوالً ،بوصفهم أهل كتاب ،وعىل
اإلنسانية عموم ًا بكوهنا صاحبة عقول وفطر سليمة ،فخاطبها القرآن الكريم وحاججها بالدليل
والرهان ،وخاطب فيها العقل والفطرة؛ ألهنام مشركان عامان لإلنسان بغض النظر عن فكره
أو معتقده ،فإن هذا الفصل يعالج املدخل الترشيعي العميل لتدبري االختالف اإلنساين- ،وتطلق
لفظة "الرشيعة" ويراد هبا عند األصوليني األحكام العملية يف مقابل األحكام العقدية؛ أي بيان
دور األصول الترشيعية العملية ،واملقاصد الكلية العامة للقرآن الكريم ،يف تدبري االختالف،
وتوجيه ،وإدارته بحكمة ،وهي مشركات عامة ،وقائية وعالجية لالختالف اإلنساين ،متثل
معامل كرى لتوظيف مقاصد القرآن الترشيعية يف تدبري االختالف مع اآلخر.
( )1اختلف العلامء يف األصل يف العالقات الدولية يف اإلسالم ،هل هي عالقة حرب دائمة ،أم هي عالقة سلم دائمة،
انظر تفاصيل ذلك يف:
-اخلملييش ،عبد اهلادي .السلم يف القرآن والسنة مرتكزاهتا ووسائل محايتها ،بريوت :دار ابن حزم ،ط،1
(1٤٢9ه٢008 /م) ،ص.٤٢٢-٣8٥
ومن العلامء الذين قالوا األصل يف العالقة بني املسلمني وغريهم هي السلم :أبو زهرة يف:
-أبو زهرة ،املعجزة الكربى القرآن؛ نزوله ،كتابته ،مجعه ،إعجازه ،جدله ،علومه ،حكم الغناء به ،تفسريه ،مرجع
سابق ،ص.٥٤٤
-أبو زهرة ،حممد .نظرية احلرب يف اإلسالم ،القاهرة :املجلس األعىل للشؤون اإلسالمية ،ط،٢
(1٤٢9ه٢008/م) ،ص.٣٧
-البوطي ،حممد سعيد رمضان .اجلهاد يف اإلسالم كيف نفهمه؟ وكيف نامرسه؟ بريوت ودمشق :دار الفكر
املعارص و دار الفكر ،ط1٤1٤( ،1ه199٣/م) ،ص.٣00-٢٢9
1٢9
"فبدأ يظهر للبرش أن احلرب ليست الوسيلة التي ال بد منها للحياة البرشية ،بل إهنا ال تليق
((1
باحلياة البرشية".
ويمكن استجالء أصل إقامة السلم وترك احلرب يف اخلطاب القرآين (٢(،والوقوف عىل
معامله ،من خالل:
أمر اهلل تعاىل بالدخول يف السلم وترك نقيضها وهو احلرب ﴿ (٣( :ﮭ ﮮ ﮯ
[البقرة]٢08 : ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾
( )1سعيد ،جودت .مذهب ابن آدم األول مشكلة العنف يف العمل اإلسالمي ،بريوت :دار الفكر املعارص ،ط،٥
(1٤1٤هـ199٣ /م) ،ص.٦1
( )٢يقول رشيد رضا» :القتال رشع يف اإلسالم ملصلحتني أو ثالث :األوىل :الدفاع عن املسلمني وأوطاهنم ،فإن
املرشكني أخرجوا النبي ﷺ ومن كان آمن معه من أهل مكة ،ثم بدأوهم بالقتال وساعدهم عليهم أهل الكتاب،
وما زالوا يبدأوهنم ويقاتلوهنم حتى عجزوا ،وذلك قوله تعاىل ﴿ :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ
ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ﴾ [البقرة ،]190 :الثانية :تأمني حر ّية الدين ومنع االضطهاد فيه ،وهو قوله ﴿ :ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ﴾ [البقرة ]19٣ :هذا ما نزل يف هذه السورة .الثالثة :ما يف سورة
التوبة من تأمني سلطان اإلسالم وسيادته بدفع املخالفني له للجزية" .انظر:
رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،1ص.98 -
( )٣من أسامء اهلل تعاىل "السالم" ،ورسالة اإلسالم وحتيته للعامل "السالم عليكم" ،واجلنة دار السالم :قال تعاىل﴿ :ﭽ
ﭾ ﭿﮀ﴾ [يونس[ ،]10 :إبراهيم ،]٢٣ :وقال ﷺ لقريش ملا دخل مكة ،وبعد طوافه بالبيتَ " :يا َم ْع َ َ
رش ُق َر ْي ٍ
شَ ،ما ت َُر ْو َن
يمَ ،وا ْب ُن َأخٍ ك َِري ٍم ،قال" :ا ْذ َه ُبوا َف َأ ْنت ُْم ال ُّط َل َقا ُء" .انظر: ِ ِ
َأ ِّين َفاع ٌل فيك ُْم؟" قالواَ :خ ْري ًاَ ،أ ٌخ ك َِر ٌ
ابن هشام ،السرية النبوية ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٣٥ -
ولو مل يكن يف حياة سيدنا حممد ﷺ ،إال هذا الفعل ،وهذا السلوك احلضاري ،لكفى به دلي ً
ال عىل أنه رسول
سالم ،ورسالته رسالة سالم .وكان ﷺ حيب األسامء التي فيها داللة عىل احلياة والسلم والسالم ،..ال احلرب
حي ُل ُب َها" ،فقال رجل :أنا ،قالَ » :ما يش ا ْل ِغ َف ِ
ار ِّي قال :دعا رسول اهلل ﷺ بناقة يوم ًا فقالَ " :م ْن َ ْ والتشاؤم ،..عن َي ِع َ
اس ُم َك؟ "،قال ُم َّرةُ :قال" :ا ْق ُعدْ "،ثم قام آخر ،فقال: اس ُم َك؟ "،قال ُم َّرةُ ،قال" :ا ْق ُعدْ "،ثم قام آخر ،فقالَ " :ما ْ
ْ
"اح ُل ْب َها ".انظر: قال: ، ُ
يش ِ
ع ي قال: ؟" َ
ك م اس ا م " فقال: "، ُ
يش "ما اسم َك؟ "،قالَ :مجْرةُ ،قال" :ا ْقعدْ ُ ،ثم َقام ي ِ
ع
ْ َ َ ْ ُ َّ َ َ ُ َ َ ْ ُ
-الطراين ،أبو القاسم سليامن بن أمحد بن أيوب .املعجم الكبري ،حتقيق :محدي بن عبد املجيد السلفي ،القاهرة:
مكتبة ابن تيمية ،ط( ،٢د .ت ،).ج ،٢٢حديث رقم ( ،)٧10ص.٢٧٧
1٣0
ويقول ابن عاشور يف حقيقة السلم املأمور به يف اآلية" :الصلح وترك احلرب (1(،"..ويقول أبو
زهرة" :األصل يف عالقات الدول بعضها مع بعض أو بعبارة أدق العالقة بني املسلمني وغريهم
((٢
السلم ال احلرب ،فاملسلم ينظر إىل من خيالفه نظرة الود الراحم ،ال العداوة القاطعة".
وقال تعاىل يف امليل إىل السلم وترك القتال إذا طلبه املخالف ﴿ :ﯼ ﯽ ﯾ
ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ﴾ [األنفال (٣(]٦1 :يقول زيد بن عيل" :معناه :مالوا،
والسلم الصلح" (٤(،ويقول أبو زهرة" :وإذا قامت احلرب بني املسلمني املؤمنني بالقرآن،
فإن اإلسالم يتشوف للسلم يبتغيه ،وال يريد االستمرار يف مذبحة برشية ،فإن مالوا للسلم
أجاهبم املسلمون ،ولو كانوا يتوقعون اخلديعة ،ما دامت مل تظهر أماراهتا (٥(،"...ويقول
القنوجي البخاري" :واآلية حمكمة عند أهل العلم املحققني ،والقول بالنسخ مرجوح
((٦
ومؤول باجلمع بني اآليات"...
1٣1
يأمر اهلل تعاىل يف هذه اآلية نبيه ﷺ بالتوكل عىل اهلل ،واجلنوح نحو السلم ،وعدم
اخلوف من إبطاهنم للمكر واخلديعة يف جنوحهم إىل السلم (1(،وبذلك يقطع القرآن الكريم
عىل املسلمني كل عذر يف عدم امليل إىل السلم واملساملة.
وال جيوز قتال املخالف إذا جنح إىل السلم ،وثبت عىل الصلح الذي بينه وبني املسلمني،
[النساء: قال تعاىل﴿ :ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ﴾
.]90يقول السمرقندي" :فإِن ﴿ﲩ﴾ يف القتال ﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾؛ أي
الصلح ،معناه أهنم لو ثبتوا عىل صلحهم فال تقاتلوهم ،فذلك قوله﴿ :ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ
((٢
ﯥ﴾ ،أي حجة وسلطان ًا يف قتاهلم".
ويرى أبو زهرة أن املخالف يف نظر اخلطاب القرآين ثالثة أقسام" :األول :املحاربون
للمسلمني ،وهؤالء جيب قتاهلم لرد اعتدائهم .والقسم الثاين :أهل امليثاق الذين بينهم
وبني املؤمنني ميثاق عدم االعتداء ،وهؤالء حيرم ميثاقهم ،بل يمتد احرام امليثاق إىل الذين
هلم به صلة ،بحيث يكون سلمهم واحدة وحرهبم واحدة .والقسم الثالث :املحايدون
الذين ال يكونون مع املؤمنني وال مع أعدائهم ،فقال ال سبيل عليهم ،فكان احلياد ثابت ًا
((٣
بنص القرآن الكريم".
1٣٢
وهبذا ،فإن اإلسالم حيث عىل امليل إىل السلم وترك احلرب ما أمكن ،مستعم ً
ال يف ذلك
كل األساليب والوسائل الوقائية؛ ألن حالة السلم هي األصل يف منهج اإلسالم ،أما احلرب
فهي استثناء ،ووضع طارئ.
يقوم أصل السلم يف تدبري االختالف مع املخالف ،عىل معاملة املخالف باملثل من
غري ظلم وال اعتداء (1(،والشاهد عىل ذلك آيات ترشيع القتال لرد العدوان؛ يقول تعاىل يف
رد اعتداء الكفار ومعاملتهم باملثل ﴿ :ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ
ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ﴾ [البقرة (٢(]19٤ :يقول زيد بن عيل عليهام السالم" :االعتداء
((٣
األول .. :ظلم ،والثاين .. :جزا ٌء وليس بظل ٍم ،وقد اتفق اللفظان".
( )1أباح القرآن الكريم رد االعتداء باملثل من غري ظلم وال بغي ،يقول تعاىل﴿ :ﱶﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ
ﲜ ﲝ ﲞ ﲟﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﲮ ﲯ ﲰ ﲱ ﲲ ﲳ ﲴ
ﲵ ﲶ ﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁﳂ ﳃ ﳄ ﳅ ﳆ﴾ [الشورى...]٤٢-٣9 :
وغريها من اآليات الدالة عىل املعاملة باملثل ،وإن كان له أن يعفو ويصفح .انظر:
أبو عرة ،نبيه أمحد حسن" .املعاملة باملثل يف القرآن الكريم"( ،رسالة ماجستري ،جامعة النجاح الوطنية كلية -
الدراسات العليا ،نابلس ،فلسطني٢01٢ ،م).
ومن اعتدائهم قوله تعاىل﴿ :ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ
ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ﴾ [البقرة]٢1٧ :
( )٢والقرآن الكريم كام يف هذه اآلية يؤكد عىل املعاملة باملثل عموم ًا ،مثل قوله تعاىل﴿ :ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ
ﯫ ﯬ ﯭ﴾ [النحل.]1٢٦ :
( )٣ابن عيل ،تفسري غريب القرآن املجيد ،مرجع سابق ،ص.٥8-٥٧
1٣٣
وهذا رصيح يف أن القتال لرد االعتداء ودفعه (1(،وهذه اآلية هي "القاعدة العامة للقانون
الدويل يف اإلسالم يف السلم واحلرب مع ًا"؛ ألن ّ
النبي ﷺ ملا صده املرشكون عن أداء املناسك، ((٢
وقاتلوه عام احلديبية يف ذي القعدة الشهر احلرام ،مل يقاتلهم الرسول ﷺ ،وإنام مال إىل السلم
ٍ
عامئذ باملثل رغبة منه يف حقن الدماء وكراهة للقتال ،يقول رشيد رضا" :ولو قابلهم املسلمون
((٣
يرض النبي بالصلح الحتدم القتال ،وملا خرجوا يف العام اآلخر لعمرة القضاء"...
ومل َ
قبل ﷺ بتلك الرشوط الثقيلة منع ًا للفتنة يف الدين ،وإشاعة لروح احلرية والسلم
مع املخالف ،وجنوح ًا منه للحكمة ،واجلدل بالتي هي أحسن ،يف دعوة املخالف
واالختالط معه ،حتى خيتار اإلسالم عن قناعة واختيار ،لذلك كثر عدد الداخلني
واملعتنقني لإلسالم بعدها.
وذكر رشيد رضا أن اآلية نبهت عىل مراعاة املامثلة يف رد اعتداء املعتدي ،ومنع الظلم
والعدوان واالضطهاد ،وتقرير األمن والعدل واإلحسان (٤(،...والتذكري بالتقوى يف اآلية،
إشارة إىل تذكري املقاتلني املسلمني بالقصد من القتال ،وهو رد االعتداء ومعاملة املخالف
باملثل ،واحلذر من انتهاك حدود اهلل ،برعاية حق اإلنسانية والكرامة البرشية ،ألن معية اهلل
هلم مرشوطة بتقواه ﴿ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ﴾[البقرة.]19٤ :
فرشيعة املسلمني السلم ،وليس القتال ،فهم ال يقاتلون إال من بدأهم بالقتال ،واعتدى
يقول تعاىل ﴿ :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ((٥
عليهم،
1٣٤
ﯼ﴾ [البقرة ]190 :فهذا أمر بقتال املعتدي املقاتل ال املسامل "﴿ ...ﯵ ﯶﯷ﴾؛
أي :ال تبدؤوهم بالقتال" (1(،ويروي ابن اجلوزي عن سعيد بن جبري ،وأيب العالية ،وابن
زيد أن املراد باالعتداء" :ال تقاتلوا من مل يقاتلكم" (٢(،وال تقاتلوا من مل يقاتلكم حال القتال
((٣
كالشيوخ والنساء...
والقرآن الكريم؛ إذ يقرر هذا املعلم من معامل السلم العاملي ،فإنه يقصد إىل تدبري
االختالف اإلنساين ،واحلد من الرصاعات والنزاعات واحلروب املدمرة للحرث والنسل.
فهذه إشارة مهمة يف قصد القرآن إىل الوحدة واالئتالف ،وترك النزاع والرصاع القائم عىل
االعتداء ،والنزوع نحو السلم واألمن االجتامعيني.
وقصد الوحدة واأللفة حارض يف املنهج اإلهلي ،والرشيعة الربانية ،حتى يف قضية
احلرب ،فمن مقاصد عدم ترشيع القتال يف املرحلة املكية ،وطلب القرآن من املسلمني
اإلعراض والكف عن املخالف ،مع إذايته وعدوانه هلم؛ إذ قال تعاىل ﴿ :ﮎ ﮏ ﮐ
ﮑ ﮒ ﮓ﴾ [النساء ]٧٧ :احلفاظ عىل وحدة األرس وألفتها وعدم تفريقها؛ ألن كل
( )1السمعاين ،أبو املظفر منصور بن حممد بن عبد اجلبار ابن أمحد املروزى .تفسري القرآن ،حتقيق :أبو بالل غنيم بن
عباس بن غنيم ،الرياض :دار الوطن ،ط1٤18( ،1ه199٧/م) ،ج ،1ص.19٢
( )٢ابن اجلوزي ،أبو الفرج عبد الرمحن بن عيل بن حممد القريش البغدادي .زاد املسري يف علم التفسري ،حتقيق :حممد زهري
الشاويش وشعيب األرناؤوط وعبد القادر األرناؤوط ،بريوت :املكتب اإلسالمي ،ط1٤0٤( ،٢ه198٤/م)،
ج ،1ص.19٧
( )٣أبو زهرة ،املعجزة الكربى القرآن؛ نزوله ،كتابته ،مجعه ،إعجازه ،جدله ،علومه ،حكم الغناء به ،تفسريه ،مرجع
سابق ،ص.٥٤٢
( )٤أبو زهرة ،نظرية احلرب يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.٣٢-٣1
1٣٥
واحد من املسلمني ينحدر من أرسة ،ولو رشع القتال حينها ،لنشب الرصاع بني أفراد
األرسة الواحدة ،ولبدا لغري املسلمني أن دعوة اإلسالم مفرقة ومشتتة لشمل األرس .لكن
بعد اهلجرة أصبح املسلمون وحدة مستقلة عن أرسهم ويشكلون مجاعة متحدة ،لذلك رشع
((1
القتال ،للحفاظ عىل هذه اجلامعة ،ومحاية وجودها ،وحتصني كياهنا.
وقصد التأليف واجلمع كانت سياسة النبي ﷺ ،فهي حرب رحيمة ،تبغي األلفة
وترفض الفرقة ،يقول أبو زهرة" :كان الرسول ﷺ يسري عىل سياسة التأليف بني الناس
ما أمكن التأليف ،وكان ذلك حتى يف القتال ،وأمر جنوده وهو يف القتال أن حيرصوا عىل
((٢
التأليف والتأين بدل التقتيل والفتك"...
أما ما يظهر من تعارض بني األحاديث النبوية الصحيحة ،وظواهر اآليات الداعية إىل
َّاس َحتَّى َي ْش َهدُ وا َأ ْن الَ إِ َل َه إِ َّال اهللََُّ ،و َأ َّن ُحم َ َّمد ًا ِ ِ
السلم ،مثل قول النبي ﷺُ " :أم ْر ُت َأ ْن ُأ َقات َل الن َ
الزكَاةََ ،فإِ َذا َف َع ُلوا َذلِ َك َع َص ُموا ِمنِّي ِد َما َء ُه ْم َو َأ ْم َو َاهل ُ ْم الةََ ،و ُي ْؤتُوا َّالص َيموا َّ
ول ا َّ ِ
هللَِ ،و ُيق ُ َر ُس ُ
اهب ْم َع َىل اهللَِّ"ّ (٣(، ِ إِ َّال بِ َح ِّق ِ
فإن اإلجابة عن هذا اإلشكال تبدو يف قول دروزة: ال ِمَ ،وح َس ُ ُ
اإل ْس َ
"إن النبي ﷺ أجل من أن يناقض التقريرات القرآنية املحكمة ،وأن املأثور املتواتر من سريته
وسرية خلفائه الذين ساروا عىل هداه ،أهنم مل يقاتلوا إال األعداء املعتدين عىل اإلسالم
واملسلمني بدء ًا أو نكث ًا بعد عهد ..فهذا هو املتساوق مع نصوص اآليات املحكمة التي ال
((٤
يمكن أن ينقضها رسول اهلل .وهذا هو املؤيد باملأثور املتواتر من السرية النبوية"...
وهذا عىل فرض القول بالتعارض ،وإال فإن النبي ﷺ مل يقل" :أمرت أن أقتل الناس"،
ِ ِ
بل قالُ " :أم ْر ُت َأ ْن ُأ َقات َل الن َ
َّاس" ،وهذا يدل عىل املفاعلة" ،فإن املقاتلة مفاعلة تقتيض
((٥
احلصول من اجلانبني".
1٣٦
-3محاية حرية الفكر واالعتقاد (عدم الفتنة يف الدين):
ومن معامل السلم القرآين أن القتال رشع ليكون الدين كله هلل ،وال يفتن أحد عن
فالقتال إلزالة الفتنة عن الدين قال ((1
دينه ،فيامرس اجلميع حريتهم من غري إكراه،...
تعاىل﴿ :ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ﴾ [البقرة ،]19٣ :وقال تعاىل﴿ :ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾ [األنفال (٢(]٣9 :يقول رشيد رضا؛ أي قاتلوهم:
" ...حتى يكون الدين كله هلل ،ال يستطيع أحد أن يفتن أحد ًا عن دينه ،ليكرهه عىل تركه إىل
دين املكره له فيتقلده تقية ونفاق ًا .ونقول :إن املعنى بتعبري هذا العرص :ويكون الدين حر ًا؛
أي يكون الناس أحرار ًا يف الدين ال يكره أحد عىل تركه إكراه ًا ،وال يؤذى ويعذب ألجله
((٣
تعذيب ًا ،ويدل عىل العموم قوله تعاىل﴿ :ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ﴾ [البقرة"]٢٥٦ :
ويقول أبو زهرة" :فام كان السبب ليستبيح دماء املخالفني ألجل املخالفة ،بل يستبيحها ألهنم
استباحوا دم أهله ،وألهنم أرادوا محل املومنني عىل تغيري دينهم ،وفتنوهم يف ذلك ،والفتنة كام
((٤
قال تعاىل ﴿ :ﭚ ﭛ ﭜ﴾".
( )1األبارة ،سمري مثنى عيل" .منهج القرآن يف تقرير محاية األفكار( "،رسالة دكتوراه ،وزارة التعليم العايل والبحث
العلمي ،جامعة أم درمان اإلسالمية ،كلية الدراسات العليا ،مجهورية السودان1٤٣٤ ،ه٢01٣/م) .الرسالة كلها
نافعة وتسري يف السياق نفسه الذي هو قصد هذه الدراسة ،لكن نحيل إىل الفصل الرابع منها املتعلق بمنهج القرآن
يف محاية األفكار .انظر:
املرجع السابق ،ص.٢٥0 -
( )٢ولفظ "الفتنة" يقول ابن العريب" :حيتمل أن يريد به ،وقاتلوهم حتى ال يكون كفر .وحيتمل أن يكون :وقاتلوهم حتى
ال يفتن أحد عن دينه .وكالمها جيوز أن يكون مراد ًا".
ابن العريب ،أبو بكر حممد بن عبد اهلل بن حممد املعافري االشبييل املالكي .أحكام القرآن ،راجع أصوله وخرج أحاديثه -
وعلق عليه :حممد عبد القادر عطا ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤٢٤( ،٣ه٢00٣/م) ،ج ،٢ص.٤00
وقال اآللويس﴿ " :ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﴾؛ أي ال يوجد منهم رشك ،كام روي عن ابن عباس .واحلسن ،وقيل:
املراد حتى ال يفتتن مؤمن عن دينه"..
اآللويس ،روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.19٤ -
( )٣رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،9ص.٥٥٣
( )٤أبو زهرة ،املعجزة الكربى القرآن؛ نزوله ،كتابته ،مجعه ،إعجازه ،جدله ،علومه ،حكم الغناء به ،تفسريه ،مرجع
سابق ،ص.٥٣٥
1٣٧
فرشيعة القتال يف اإلسالم حلامية حرية االعتقاد ،قال تعاىل ﴿ :ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ
ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ
ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ﴾ [احلج (1(،]٤0 :فالتدافع إرادة إهلية تكوينية ليعم السلم ،ويامرس
الناس معتقداهتم بحرية ،فقد شاءت إرادة اهلل تعاىل أن خيتلف الناس ليقع التدافع بينهم؛
التدافع بني احلق والباطل ،ليتحقق من ذلك إصالح األرض ومحايتها من اإلفساد ،ومحاية
دور العبادة من اهلدم ،والعبث بمقدسات الناس ،فيتحقق بذلك السلم املجتمعي ،واحلرية
يف ممارسة الشعائر الدينية.
ويقول تعاىل تعزيز ًا ألصل السلم ،ومحاية احلرية يف الفكر واملعتقد بأوضح صيغة:
﴿ﯿ ﰀ ﰁ ﰂﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ﴾ [البقرة ]٢٥٦ :ويرى ابن عاشور يف موضوع نسخ
هذه اآلية أو إحكامها وعالقتها بام نزل قبلها أو بعدها من آيات القتال" :أن اآليات النازلة
قبلها أو بعدها أنواع ثالثة :أحدها :آيات أمرت بقتال الدفاع كقوله تعاىل﴿ :ﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ﴾ [التوبة ،]٣٦ :وقوله ﴿ :ﮇ ﮈ ﮉ
ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖﮗ ﮘ ﮙ﴾ [البقرة،]19٤ :
وهذا قتال ليس لإلكراه عىل اإلسالم ،بل هو لدفع غائلة املرشكني .النوع الثاين :آيات أمرت
تغي بغاية ،فيجوز أن يكون إطالقها مق ّيد ًا بغاية آية ﴿ ﮓ ﮔ
بقتال املرشكني والكفار ومل َّ
ٍ
وحينئذ فال تعارضه آيتنا هذه ﴿ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾ .النوع الثالثَ :ما ُغ ِّي َي ﮕ﴾ [التوبة]٢9 :
الناس"( (٢هذا ما يظهر لنا يف معنى اآلية ،واهلل أعلم" (٣(.ويف هذا داللة واضحة عىل أن اآلية
حمكمة وغري منسوخة ،وأنه ال تعارض بينها وبني آيات القتال ،سواء ما نزل قبلها أو بعدها.
( )1االختالف يؤدي إىل التدافع ،والتدافع حيقق مقصدين :األول :إصالح األرض وعدم اإلفساد فيها ،والثاين :محاية
دور العبادة.
﴿ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾ ( )٢البخاري ،الصحيح ،مرجع سابق ،كتاب :اإليامن ،باب:
[التوبة ،]٥ :ج ،1حديث رقم ( ،)٢٥ص.1٤
( )٣ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.٢٧-٢٦
1٣8
ويقول تعاىل تعلي ًام لنبيه ،وتنبيه ًا ألمته ،وللمجتمع اإلنساين بعده ،أن طريق الدعوة إىل
اإلسالم ال تعدو ثالث طرق ،وهي :احلكمة واملوعظة واجلدال باحلسنى ﴿ :ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ
ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ
ﯟ ﴾ [النحل ،]1٢٥ :قال الرازي" :واعلم أنه تعاىل أمر رسوله أن يدعو الناس بأحد هذه
الطرق الثالث ،وهي احلكمة واملوعظة احلسنة واملجادلة بالطريق األحسن" (1(،فإذا كانت
دعوة الرسول ﷺ حمددة يف هذه الطرق الثالث ،فال حمل لطريق اإلكراه عىل اإلسالم بالقتال.
يقول جودت سعيد" :إن رسول اهلل مل يصل إىل احلكم بالقوة املسلحة وإنام بقوة الفكرة،
انتزع السيادة والسلطة يف أقسى بيئة ،من غري استخدام القوة ،ولكن بعد ذلك استخدمت
القوة حلامية حرية االختيار ﴿ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ﴾ [البقرة ]19٣ :والفتنة هي اإلكراه
يف الدين .يقول اهلل تعاىل﴿ :ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ﴾ [الروج ]10 :يف قصة أصحاب
((٢
األخدود .إن الفتنة هي تعذيب اإلنسان حتى يرك دينه ،أو قتله إن مل يرك دينه".
-4الدفاع عن املستضعفني:
يف األرض، ومن معامل السلم يف اخلطاب القرآين ،رفع الظلم عن املستضعفني
((٣
فإن اإلسالم ال ُي ِق ُّر الظلم واالعتداء عىل الناس ،يقول تعاىل يف نرصة املستضعفني ورفع
الظلم عنهم ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ
ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﴾ [النساء]٧٥ : ﭟﭠﭡﭢﭣ
يقول مقاتل بن سليامن﴿ " :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ﴾ ،وتقاتلون عن ﴿ﭘ﴾ ،يعني
املقهورين ﴿ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ﴾ املقهورين بمكة حتى يتسع األمر ،ويأيت إىل اإلسالم
((٤
من أراد منهم".
1٣9
ال جير أحد عىل اإلسالم بالقتال ،فإن النبي ﷺ كان يأيت بالقرآن الكريم ويقرؤه عىل
الناس ،ليعلمهم موقف اإلسالم من احلرب والنزاع والشقاق يقول أ.س .ميغوليفسكي:
((1
"لقد أعلن حممد ﷺ غري مرة موقفه املناهض للحرب ،والنزاعات والشقاق".
1٤0
ليصل إىل أولئك املستضعفني ،وختلو وجوههم إلدراك احلقائق اجلديدة ،وإعالن اعتناقها
((1
إن رأوا ذلك وآمنوا به".
ومن معامل السلم يف اخلطاب القرآين ،أخالق احلرب (٢(،فقد هنى اخلطاب القرآين عن
االعتداء والظلم وجتاوز احلد ،قال تعاىل ﴿ :ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ﴾
[البقرة ،]190 :وأمر برك من مل يؤذ املسلمني ومل يعتد عليهم( (٣قال تعاىل ﴿ :ﯙ ﯚ ﯛ
ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ﴾ [النساء.]90 :
ومن االعتداء الذي هنى عنه القرآن ،االعتداء بعدم االلتزام باألخالق الربوية يف
القتال ،من عدم قتل الصبيان ،والنساء ،والشيوخ ،والرهبان املتعبدين يف صوامعهم .قال
1٤1
القرطبي يف قوله تعاىل﴿ :ﮬ ﮭ﴾" :عام يف كل مرشك ،لكن السنة خصت منه ما
((1
تقدم بيانه يف سورة "البقرة" من امرأة وراهب وصبي وغريهم".
كام شدد القرآن عىل اإلحسان إىل األرسى ،وعدم إساءة التعامل معهم ،أو االنتقام
منهم ،أو التمثيل هبم ،بل إلمام املسلمني أن يترصف فيهم بالعفو أو الفداء ،قال تعاىل ﴿ :ﮂ
ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ
ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﴾ [حممد ]٤ :ولو كانت
علة القتال الكفر ما فدى النبي ﷺ األرسى أو عفا عنهم ،بل كان مصريهم القتل؛ ألهنم كفار.
ومن اإلحسان إىل األسري ،أن يعامل معاملة إنسانية ،من غري اعتداء وال ظلم ،واألمثلة
عىل ذلك يف تاريخ املسلمني ،منذ العرص النبوي ،مرور ًا باخلالفة اإلسالمية كثرية ،نذكر منها
أن النبي ﷺ عامل أرسى بدر بام قرره القرآن من منهج امليل إىل السلم وترك االعتداء ،حيث
1٤٢
((1
استشار أصحابه يف شأهنم ،فأشري عليه بقتلهم ،وأشري عليه بفدائهم ،فوافق عىل الفداء...
ولو كان قصد اإلسالم بر الكفر ،وإقصاء املخالف ،وحموه من الوجود ،ما ترك
الرهبان وهم أصل الكفر؛ ألن بقتل الرهبان تنتهي دعوهتم ،ويكون حينها اإلسالم قد
اخترص الطريق ،عوض قتال األتباع ،لكن قصد الرشع من القتال هو الدفاع عن النفس،
وعن املستضعفني يف األرض ،ومنع الفتنة يف الدين ،ليامرس الناس معتقداهتم بحرية،
ويسود بذلك السلم والسالم يف العامل.
فاحلرب يف التصور القرآين ،تنبني عىل منهج الرمحة والفضيلة ،ال الرغبة يف االنتقام،
واالستعامر لألرض ،واستعباد الناس ،واستغالل خرياهتم ،لذلك يقع االستغراب كيف
يمكن اجلمع بني احلرب والفضيلة والعدل والرمحة "ولذلك كان ال بد من ٍ
هاد يف هذا األمر،
لتكون احلرب والفضيلة مع ًا يف امليدان ،وذلك العادي ال بد أن يستمد هدايته من السامء ،ال من
الطبائع األرضية املتناحرة ،التي ختتفي العدالة عند سيطرهتا ،وال يظهر إال البغي (٢(،"...ويقول
النوريس عن املدنية التي يقرها القرآن" :هدفها الفضيلة بدالً من املنفعة ،والفضيلة من شأهنا:
املودة والتجاذب (٣(".ويقول أبو زهرة" :جيب علينا عند املعاملة باملثل أن نستمسك بالفضيلة،
فإن الفضيلة هي القانون العام يف كل معاملة إنسانية ،فإذا كان العدو يقتل الذرية ال نقتلها ،وإن
((٤
كان ينتهك األعراض ال ننتهكها ،وإن كان خيرب ديار اآلمنني ال نخرهبا ،ما وسعنا ذلك".
ويقول العقاد بعد ذكر اهلمجية التي تعاملت هبا دول احلرب العاملية الثانية مع عرشات
األلوف من األرسى" :فالقرآن قد أباح استخدام األرسى؛ ألن األرس حالة ال بد من دخوهلا
يف احلساب ما دامت يف الدنيا حروب ،وما دام فيها غالب ومغلوب ،ولكنه حث املسلمني
ِ ِ
غزوة ٍ ِ اإلم ِ
وإباحة الغنَائ ِم، بدر باملالئكة يف داد ( )1مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :اجلهاد والسري ،بابْ ِ :
ج ،٣حديث رقم ( ،)1٧٦٣ص.1٣8٣
( )٢أبو زهرة ،نظرية احلرب يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.1٧
( )٣النوريس ،كليات رسائل النور ( )2املكتوبات ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٦0٧
( )٤أبو زهرة ،املعجزة الكربى القرآن؛ نزوله ،كتابته ،مجعه ،إعجازه ،جدله ،علومه ،حكم الغناء به ،تفسريه ،مرجع
سابق ،ص.٥٤٥
1٤٣
عىل فك األرسى كرم ًا ومنّ ًا ،أو قبول الفدية من أوليائهم أو منهم ،ومعاونتهم عىل تيسريها
((1
كلام استطيع التيسري"...
ويقول حممد قطب عن أخالق املسلمني اجتاه مهجية احلروب الصليبية" :وذلك كان
شعور املسلمني وسلوكهم يف كل حرب دخلوا فيها ،حتى يف احلروب الصليبية حني أمكنهم اهلل
من عدوهم الذي فسق وفجر ونقض كل عهود األمان ،ودخل عىل املسلمني يف بيت املقدس
وحول املسجد إىل بركة بشعة من الدماء ...حتى حينئذ تذكر املسلمون
فأعمل فيهم السيف ّ
((٢
إحياء دينهم ،وارتفعوا عىل أنفسهم وعىل البرشية كلها فلم ينتقموا باملثل من املجرمني".
فأصل السلم وترك احلرب أصل ترشيعي لتدبري االختالف اإلنساين؛ ألن احلرب يف
﴿ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾ [البقرة]190 : القرآن الكريم زيادة عىل املعامل السابقة هي يف سبيل اهلل
بيان أن القتال يف اإلسالم هو يف سبيل اهلل ،وليس يف سبيل املال ،وال الرياسة ،وال احلمية
والعصبية والعنرصية ،فهو قتال يف سبيل اجلامع املشرك بني البرشية مجعاء ،فزيادة عىل أنه
دفاع عن احلق ،ودفاع عن احلرية واالختيار ،فهو دعوة للجامع املؤلف للبرشية ،فهو تعبري
مغاير ملا كان سائد ًا يف اجلاهلية ،من القتال العدواين" ،فهو يمكن أن يكون مرادف ًا لتعبري
آخر هو الرسالة اإلنسانية" ،وسبيل اهلل" من التعبريات التي ألح عليها القرآن ،وكررها أكثر
((٣
من مائة مرة".
وهذا فرق كبري بني القتال يف رشعة البرش ،والذي هو قتال من أجل االستعالء يف
األرض ،واستغالل خرياهتا ،أو حرب ليسود جنس عىل حساب جنس آخر ،أو حرب
للتوسع اجلغرايف واالقتصادي .فال شك أن هذه احلرب تشتت وال جتمع ،تفرق وال تؤلف،
حرب من أجل النزاع ،من أجل االختالف ،ال من أجل تدبري االختالف.
( )1العقاد ،عباس حممود .الفلسفة القرآنية؛ كتاب عن مباحث الفلسفة الروحية واالجتامعية التي وردت موضوعاهتا يف
الكتاب الكريم ،القاهرة :دار هنضة مرص( ،د .ت ،).ص.٧٤
( )٢قطب ،منهج الرتبية اإلسالمية ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٧1
( )٣قميحة ،املدخل إىل القيم اإلسالمية ،مرجع سابق ،ص.٣٧
1٤٤
يقول حمامد رفيع" :وهكذا يظهر جلي ًا أن القرآن الكريم يريس قواعد بناء السلم العاملي
ويؤسس نظام التعايش عىل األرض بني خلق اهلل أمجعني؛ ألنه رشط أساس يف حتقيق مقصد
التعارف والتعاون والتبادل بني خمتلف الثقافات واحلضارات واملجتمعات ،وهو اآلن
مطلب مشرك عزيز لشعوب العامل ،ينبغي أن يسعى اجلميع إلهناء حاالت التوتر واحلروب
((1
التي جتري اآلن من خمتلف مناطق العامل".
فالعدل أصل قرآين لتدبري االختالف اإلنساين يف املجاالت كلها ،وليس خاص ًا بمجال
القضاء فحسب ،بل هو شامل لكل مناحي احلياة العامة واخلاصة ،فاستعامله يشمل اإلنسان
يف خاصة نفسه ،وكذلك عالقاته العامة مع املخالف ،وهو أصل لتدبري االختالف" ،يدعو
إىل األلفة ...وقال بعض احلكامء :بالعدل واإلنصاف تكون مدة االئتالف" (٣(،وهو يعيد
( )1رفيع ،حمامد" .منهج القرآن يف بناء املشرك اإلنساين" ،جملة إسالمية املعرفة ،املعهد العاملي للفكر اإلسالمي ،الواليات
املتحدة األمريكية ،العدد٢011 ،)٦٦( :م ،ص.1٤0
( )٢والقسط :العدل ،ويدل عىل ذلك القرآن الكريم ،حيث يعر عىل املعنى الواحد باللفظني ويف سياق واحد ،قال
تعاىل ﴿ :ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ﴾ [احلجرات ،]9 :وقال ﴿ :ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ
ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ ﯟ ﯠﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ﴾ [املائدة.]8 :
( )٣املاوردي ،أبو احلسن عيل بن حممد .أدب الدنيا والدين ،حتقيق :حممد كريم راجح ،بريوت :دار إقرأ ،ط،٤
(1٤0٥ه198٥/م) ،ص.1٥٣-1٤8
1٤٥
التوازن واالستقرار للعالقات اإلنسانية ،فهو أصل توزن به األعامل الشخصية ،والعقود
واملعامالت املالية ،واألحكام القضائية ،واألحكام السلطانية ،والعالقات الدولية.
ولتجلية معامل هذا األصل الترشيعي يف اخلطاب القرآين ،نتناوله بالدراسة والتحليل
يف املواضيع اآلتية:
( )1ابن القيم ،شمس الدين حممد بن أيب بكر الدمشقي .إعالم املوقعني عن رب العاملني ،دراسة وحتقيق :طه
عبد الرؤوف سعد ،القاهرة :مكتبة الكليات األزهرية1٣88( ،ه19٦8/م) ،ج ،٤ص.٢8٤
( )٢يقول أبو زهرة" :فإذا هنى اهلل تعاىل نبيه داود عن اتباع اهلوى وهو خليفة حاكم ،فإنام هناه عام يؤدي إىل فساد احلكم،
وهبذا يتبني أن حكم اهلوى كان مصدر فساد احلكم يف املايض ،كام هو مصدر الفساد يف كل األزمان ."..انظر:
-أبو زهرة ،املعجزة الكربى القرآن نزوله؛ كتابته ،مجعه ،إعجازه ،جدله ،علومه ،حكم الغناء به ،تفسريه ،مرجع
سابق ،ص.٢1٢
( )٣بمعنى تفسري امليزان بالعدل.
( )٤ابن عطية ،املحرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.٢٦9
( )٥الريسوين ،أمحد .الكليات األساسية للرشيعة اإلسالمية ،القاهرة :دار الكلمة ،ط1٤٣٤( ،1ه٢01٣/م) ،ص.8٥-8٤
1٤٦
فالعدل مشرك ديني بني كل الرشائع الساموية ،يقول النوريس :فأسس العدالة
والفضيلة شيدها األنبياء عليهم السالم؛ أي َّ
إن األنبياء هم الذين أرسوا تلك القواعد
واألسس" (1(،فدلت اآلية (احلديد )٢٥ :عىل أن غاية إرسال الرسل والكتب هو القيام
بالقسط ،فكل الرسل وكل الرساالت التي أرسل هبا األنبياء ،وكل املوازين التي جاؤوا
هبا ،هي من أجل إقامة العدل ،وهو مطلوب من الناس مجيعهم ،فهو الذي حيفظ لكل ذي
حق حقه ،بغض النظر عن معتقده أو فكره أو جنسه أو لونه ،وحيمل اإلنسان عىل اعتدال
أخالقه (٢(،كام هو رصيح القرآن.
فإن عدالة الرشائع الساموية ،أعظم القوانني ،وأقواها يف حتقيق العدالة اإلنسانية،
وأعالها الرشيعة اإلسالمية ،ملناسبتها للخلق ،يقول ابن عاشور" :أعىل القوانني يف حتقيق
العدالة ،الرشائع اإلهلية ملناسبتها حلال من رشعت ألجلهم ،وأعظمها رشيعة اإلسالم،
البتنائها عىل أساس املصالح اخلالصة أو الراجحة ،وإعراضها عن أهواء األمم والعوائد
الضالة ...بل تبنى عىل مصالح النوع البرشي وتقويمه وهديه إىل سواء السبيل" (٣(،فالعدالة
اإلهلية املوحدة واملؤلفة ،عاصمة من األهواء والعوائد الضالة املسببة يف النزاع واالختالف،
فمصدر العدالة هو اهلدى الذي جاء به األنبياء .يقول عالل الفايس ..." :فإن العدالة من
((٤
صميم مقاصد الرشيعة ،وجتلت احلاجة إىل استنباطها من املقاصد منذ بداية الترشيع"...
( )1النوريس ،كليات رسائل النور ( )10صيقل اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.1٣9
أخالقه ،وتوس ِ
طه فيها بني طريف اإلفراط والتفريط .فيحمله عىل خلق ِ ِ
اعتدال ( )٢يقول ابن القيم" :والعدل :حيمل ُه عىل
َ ُّ
جلبن والتهور .وعىل ا بني ٌ
توسط هو الذي الشجاعة، خلق وعىل .ة ِ ح ِ
ق ْ
ل او لِّ ُّ
الذ توس ٌط بنيَ
ُ َ َ والسخاء الذي هو ّ
اجلود ّ
ِ ِ َ
خلق احللم ،الذي هو توسط بني الغضب وامل َهانَة وسقوط النَّفس".
-ابن القيم ،شمس الدين حممد بن أيب بكر الدمشقي .مدارج السالكني بني منازل إياك نعبد وإياك نستعني،
حتقيق :حممد املعتصم باهلل ،بريوت :دار الكتاب العريب ،ط1٤1٦( ،٣ه199٦/م) ،ج ،٢ص.٢9٤
( )٣ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.9٥
( )٤الفايس ،مقاصد الرشيعة اإلسالمية ومكارمها ،مرجع سابق ،ص.٥٣
1٤٧
العدل والقسط بني الناس ،فإن رشيعة اإلسالم وهي الرسالة اخلامتة ،يقول ابن القيم..." :
عدل كلها ..وكل مسألة خرجت من العدل إىل اجلور ...فليست من الرشيعة وإن أدخلت
فيها بالتأويل ...فالرشيعة عدل اهلل بني عباده (1(،"...ويقول شيخه ابن تيمية" :فالرشع هو
العدل ،والعدل من الرشع ،ومن حكم بالعدل فقد حكم بالرشع ...فإن هذا الرشع املنزل
((٢
كله عدل ،ليس فيه ظلم وال جهل".
( )1ابن القيم ،إعالم املوقعني عن رب العاملني ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.11
( )٢ابن تيمية ،جمموع الفتاوى ،مرجع سابق ،ج ،٣٥ص.٣٦٦
( )٣ابن القيم ،إعالم املوقعني عن رب العاملني ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٢8٤
ويقول يف مؤلف آخر" :فإن اهلل سبحانه أرسل رسله ،وأنزل كتبه ،ليقوم الناس بالقسط ،وهو العدل الذي
قامت به األرض والسموات .إذا ظهرت أمارات العدل ،وأسفر وجهه بأي طريق كان ،فثم رشع اهلل ودينه".
-ابن القيم ،شمس الدين حممد بن أيب بكر الدمشقي .الطرق احلكمية يف السياسة الرشعية ،دراسة وحتقيق :حممد
مجيل غازي ،القاهرة :مطبعة املدين( ،د.ت ،).ص.٣1
1٤8
أصحاب النفوذ واملصالح التي تريد استغالل البالد والعباد ،تريد الظلم ال العدل والقسط،
يقول تعاىل ﴿ :ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ
ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﴾ [آل عمران.]٢1 :
جعل القرآن الكريم أساس العالقة بني الناس العدل والقسط ،قال تعاىل ﴿ :ﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾ [النساء» ،]٥8 :هكذا هبذا التعميم ،إذا حكمتم بني الناس
ال بني املسلمني فحسب» (1(،وجاء بأقوى صيغة للتكليف واإللزام يف قوله تعاىل﴿ :ﭻ ﭼ
ﭽ ﭾ ﭿ﴾ [النحل .]90 :يقول العز بن عبد السالم بعد ما عدّ هذه اآلية أمجع
آية يف القرآن للحث عىل املصالح والزجر عن املفاسد" :األلف والالم يف العدل للعموم
واالستغراق ،فال يبقى من دق العدل وج ّله يشء إال اندرج يف قوله ﴿ :ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ﴾
والعدل هو التسوية واإلنصاف (٢(،"..ويقول أبو زهرة يف سياق االستدالل هبذه اآلية:
"كل النظم اإلسالمية قامت عىل العدالة ،إذا كانت الشعارات تدعو إىل التسامح ولو
مع الظامل ويقول قائلها :استغفروا ألعدائكم ،فاإلسالم يقول اعدلوا مع كل إنسان ولو
كان عدو ًا مبين ًا .ومكان التسامح يف األمور الشخصية ،ال يف األمور التي تتعلق بتنظيم
((٣
العالقات اإلنسانية".
( )1القرضاوي ،يوسف .كيف نتعامل مع القرآن العظيم ،القاهرة :دار الرشوق ،ط1٤٢1( ،٣ه٢000/م) ص.119
( )٢ابن عبد السالم ،أبو حممد عز الدين عبد العزيز بن عبد السالم .قواعد األحكام يف مصالح األنام ،راجعه وعلق
عليه :طه عبد الرؤوف سعد ،القاهرة :مكتبة الكليات األزهرية1٤1٤( ،ه1991/م) ،ج ،٢ص.190-189
( )٣أبو زهرة ،املعجزة الكربى القرآن؛ نزوله ،كتابته ،مجعه ،إعجازه ،جدله ،علومه ،حكم الغناء به ،تفسريه ،مرجع
سابق ،ص.٤٥٦
( )٤ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،1٤ص.٢٥٥
1٤9
آداب ،وحقوق ،وأقضية ،وشهادات ،ومعاملة مع األمم (1(،"...فالعدل أصل أسايس يف
تدبري اختالف الناس؛ ألنه حسب ابن عاشور األصل اجلامع لكل احلقوق الراجعة إىل
الرضوريات واحلاجيات.
واخلطاب القرآين ميلء باآليات الدالة عىل وجوب العدل بني الناس ،وحتريم الظلم
والبغي بينهم ،فقضية العدل مركزية يف القرآن الكريم ،تذوب معها كل مظاهر االختالف
اإلنساين ،فهي تقر العدل والقسط املطلق مع مجيع اخللق (٢(،يف ٍ
تعال تام عن اللغة أو اللون
((٣
أو الفكر والعقيدة ،فالعدالة القرآنية "رضورة اجتامعية إلقامة املجتمع املثايل".
وفيام ييل نحاول الوقوف عىل هذه احلقيقة من خالل اآليات املركزية يف املوضوع:
يقول تعاىل يف اإلشارة إىل أن أساس العالقة مع النفس واألقارب ،والفقري والغني
والقريب والبعيد هو العدل والقسط ﴿ :ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ
ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ
ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﴾ [النساء ،]1٣٥ :وقال تعاىل يف العدل مع
القرابة﴿ :ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ﴾ [األنعام ،]1٥٢ :وقال تعاىل يف العدل األرسي:
﴿ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ
ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﴾ [النساء ،]٣ :وقال تعاىل يف العدل مع املوافق ممن نحب﴿ :ﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ﴾ [النساء.]1٣٥ :
1٥0
((1
االبن أن يشهد ضد أبيه وأمه يف قضية مدنية أو جنائية".
يقول أبو زهرة يف آية النساء السابقة إهنا تدل عىل أمور ثالثة ،هي ..." :األمر الثالث:
الذي تدل عليه داللة رصحية أنه ال طبقية يف اإلسالم بالغنى والفقر ،فال يكرم الغني لغناه،
((٢
وال يذل الفقري لفقره ،بل اجلميع أمام العدالة عىل سواء"...
واخلطاب القرآين ال يفرق يف قانون العدالة بني اخللق حسب لوهنم ،أو جنسهم ،أو
عرقهم ...يقول أبو زهرة" :وال تفرقة بني العنارص يف حتقيق العدالة ،فاهلل تعاىل خلق اخللق
عىل ألوان خمتلفة ،ولكنهم مجيع ًا خلق اهلل تعاىل ،وإن اختالف األلوان واأللسنة من آيات
اهلل تعاىل الكرى ،فهو يقول سبحانه يف كتابه العزيز اخلالد بلفظه وحقائقه ومعانيه ﴿ :ﮟ
ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ﴾ واجلميع
((٣
عباد اهلل تعاىل ،فال يصح أن يظلم زنجي للونه ،وال حيابى أبيض لشقرته"...
ويقول تعاىل يف النزاع واخلالف الواقع بني طوائف األمة اإلسالمية ،وأن أساس
اإلصالح بينهم هو العدل ﴿ :ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ
ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ
فبعد االنتهاء من القتال جيب اإلصالح بالعدل والقسط؛ ألن [احلجرات]9 : ﯚ﴾
العدل هو األصل الذي ينبغي ألطراف اخلالف الوقوف عنده.
( )1دراز ،حممد عبد اهلل .دستور األخالق يف القرآن ،تعريب وحتقيق وتعليق :عبد الصبور شاهني ،مراجعة :حممد السيد
بدوي ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط1٤18( ،10ه1998/م) ،ص.1٤٤
وانظر كذلك ما ذكره املؤلف يف "قاعدة العدالة الشاملة" في:
-املرجع السابق ،ص.٥٣
( )٢أما األمران األول والثاين ،اللذان استفادمها من النص فهام» :إن هذه اآلية تدل عىل أمور ثالثة :أوهلا :أن العدالة يف
ذاهتا مطلوبة ،ألهنا أقرب القربات إىل اهلل تعاىل ،والعدالة يف كل يشء ويف كل عمل ،ولذلك قال سبحانه وتعاىل﴿ :ﭕ
ﭖ ﭗ﴾ يف كل أعاملكم سواء كنتم حكام ًا أم كنتم حمكومني ،وأن تكونوا شهداء هلل ال ألنفسكم ،وال ألوليائكم
واألقربني منكم .األمر الثاين الذي تدل عليه اآلية ،أن اإلعراض عن احلكم ظلم ،أو متكني للظاملني ،فالسكوت عن
رد الباطل ظلم ،واملؤمن جيب عليه أن يقوم باحلق ،وأن ينرص احلق ،وأن يؤيد احلق حيثام كان »...انظر:
-أبو زهرة ،املعجزة الكربى القرآن؛ نزوله ،كتابته ،مجعه ،إعجازه ،جدله ،علومه ،حكم الغناء به ،تفسريه،
مرجع سابق ،ص.٤٥٧
( )٣املرجع السابق ،ص.٤٥٧
1٥1
يقول اهلل تعاىل يف أن العدل أساس العالقة بني املسلمني وأهل الكتاب ﴿ :ﯦ ﯧ ﯨ
ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭑ ﭒﭓ ﭔ ﭕ
ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ﴾
[النساء ]10٧-10٥ :يذكر املفسون أن هذه اآليات نزلت يف حكم رسول اهلل ﷺ يف اخلالف
بني أحد األنصار وهيودي ،فكاد رسول اهلل ﷺ يميل ويقتنع بحجة األنصاري ،ثم تغلب
عىل عاطفته فاهتدى إىل احلق وأبرأ اليهودي ،ومع ذلك عاتبه اهلل تعاىل ملجرد أنه كاد يدين
((1
اليهودي بالسقة ظل ًام ،ودعاه لطلب املغفرة.
وال شك أن هذه القصة تبني قيمة العدل أساس ًا للحكم بني الناس ،وتدبري اختالفاهتم،
من غري اعتبار ملعتقد املخالف؛ ألن املعيار هو املساواة يف اإلنسانية ،وأن حفظ مال املسلم
"فبني أن مال الكافر حمفوظ عليه كامل املسلم ،إال يف
كحفظ مال الكافر ،قال القرطبيّ :
((٢
املوضع الذي أباحه اهلل تعاىل".
فإن القرآن الكريم بالرغم من تكذيب أهل الكتاب له ،وكراهيتهم ملا جاء به من
اليقني واحلق ،وعدم اإليامن برسول الرمحة ،فإنه يأمر الرسول باإليامن بكل الرسل وكل
الكتب ،متهيد ًا لأللفة ونبذ الفرقة ،ووضع أرضية لتدبري االختالف ،بل يأمر نبيه بالعدل
بني اجلميع ،لتدبري االختالفات والرصاعات ،مع بقاء كل طرف عىل معتقده ،يقول تعاىل:
﴿ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ
ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ﴾ [الشورى.]1٥ :
وقال تعاىل يف أن العدل والقسط أساس العالقة بني املسلمني واملرشكني ﴿ :ﯦ ﯧ ﯨ
ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾ [التوبة .]٦ :يقول القرطبي ﴿ :ﯦ
ﯧ ﯨ ﯩ﴾؛ أي من الذين أمرتك بقتاهلم ﴿ ،ﯪ﴾؛ أي سأل جوارك؛ أي أمانك
( )1الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،9ص ،1٧٦وانظر أيض ًا:
-ابن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٤0٥
( )٢القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.٣٧٧
1٥٢
وذمامك ،فأعطه إياه ليسمع القرآن ،أي يفهم أحكامه وأوامره ونواهيه .فإن قبل أمر ًا فحسن،
((1
وإن أبى فر ّده إىل مأمنه .وهذا ما ال خالف فيه .واهلل أعلم".
اخلطاب القرآين عدله مطلق يشمل اخللق مجيعهم ،فكام يشري إىل العدل مع أهل
الكتاب ،يأمر كذلك بالعدل مع املرشكني الذين ال كتاب هلم.
واخلطاب القرآين يأمر بالعدل وينهى عن الظلم للمخالف الذي بينه وبني املسلمني
كراهية وشنآن ،قال تعاىل﴿ :ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ
ﯫ﴾ [املائدة (٢(،]٢ :يقول الكيا اهلرايس" :أي ال يكسبنكم شنآن قوم؛ أي البغض ،أن
تتعدوا احلق إىل الباطل ،والعدل إىل الظلم (٣(،"...وقال تعاىل﴿ :ﮱ ﯓ ﯔ
يقول القرطبي؛ "أي :ال حيملنكم [املائدة]8 : ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝﯞ﴾
بغض قوم عىل ترك العدل فيهم ،بل استعملوا العدل يف كل أحد ،صديق ًا كان أو عدو ًا،
وهلذا قال﴿ :ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾؛ أي :عدلكم أقرب إىل التقوى من تركه" (٤(،ويقول
أبو زهرة" :والعدل ليس مواالة األولياء ،ومعاداة األعداء إنام العدالة للجميع عىل سواء،
((٥
فالعدالة مع األعداء املبغوضني كحاله مع األولياء املحبوبني أقرب للتقوى".
1٥٣
فهذه اآليات نزلت بسبب بغض املسلمني للكفار ،وهو بغض مأمور به ،إال أن
اخلطاب القرآين هنى عن الظلم والبغي والتجاوز بسبب البغض (1(،فهم مأمورون بالعدل؛
ألنه أساس احلكم يف العالقة بني الناس ،فاخلطاب القرآين ينهى عن االعتداء ،وجماوزة
العدل مع املخالف يف حالة البغض والكراهية ،الناشئة عن التدافع البرشي.
إن العدالة القرآنية املنصفة للمخالف حتذر املسلمني من الظلم واالعتداء ،وفرضت
عليهم املودة مع املخالف غري املعتدي ،إذا كانت جتمعهم معه مشركات وجوامع ،من أجل
البناء احلضاري ،واإلنساين ،وهذا ما يدل عليه قوله تعاىل ﴿ :ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ
ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ﴾ [املمتحنة]9-8 :
فاخلطاب القرآين جعل أساس العالقة الر( (٢والقسط ،وذهب الطري إىل أن هذه اآلية
حمكمة غري منسوخة ،وهي عامة يف كل من مل يقاتل املسلمني ،من كل أصناف امللل واألديان،
((٣
من غري ختصيص لبعض دون بعض.
( )1ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .منهاج السنة النبوية ،دراسة وحتقيق :حممد رشاد سامل ،الرياض :جامعة
حممد بن سعود ،ط1٤0٦( ،1ه198٦/م) ،ج ،٥ص.1٢٧
وخاص وهو اإليفاء باحلقوق والواجبات ،وأمجع وجوهه
ٌّ ( )٢يقول الفراهي" :للر وجهان :عا ٌّم يشمل مجيع اخلريات،
معناه اإليفاء بحق الكبري واإلحسان إىل الصغري ".انظر:
-الفراهي ،مفردات القرآن نظرات جديدة يف تفسري ألفاظ قرآنية ،مرجع سابق ،ص.1٧1
( )٣الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٢٣ص.٣٢٣
( )٤املرجع السابق ،ج ،٢٣ص .٣٢٣-٣٢٢وانظر:
-القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،ج ،18ص.٦0-٥9
-ابن العريب ،أحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٢٢8
1٥٤
وكشف ملعامل العالقة بني املسلمني
ٌ وهذا ٌ
بيان قرآين بحقوق األقليات الدينية،
وغريهم ،اشتملت عىل قاعدتني مهمتني ،مها" :الر" و"القسط" ملن مل يقاتل املسلمني،
أو خيرجهم من ديارهم ،فهو حرص قرآين عىل صلة املخالف ،يقول ابن اجلوزي:
"قال املفسون :وهذه اآلية رخصة يف صلة الذين مل ينصبوا احلرب للمسلمني ،وجواز
برهم ،وإن كانت املواالة منقطعة منهم" (1(،ويقول القرضاوي" :فالر والقسط مطلوبان
من املسلم للناس مجيع ًا ،ولو كانوا كفار ًا بدينه ،ما مل يقفوا يف وجهه وحياربوا دعاته،
((٢
ويضطهدوا أهله".
واخلطاب القرآين يضع املنهج الواضح يف العالقة مع املخالف ،ويميز بني املخالف
املقاتل املعتدي ،واملخرج من الديار ،وهذا الوصف ينطبق عىل املعتدين املغتصبني للحق يف
الوجود ،واملخالفني الذين مل يقاتلوا املسلمني ومل يعتدوا عليهم ،وهذا الوصف ينطبق عىل
الدول امللتزمة باملعاهدات والقوانني الدولية ،مع ما يف هذه املعاهدات والقوانني من ّ
عالت،
ختدم منطق القوي مادي ًا وعسكري ًا ،فالقرآن الكريم يأمرنا بالر والعدل والقسط يف معاملة
غري املعتدي ،ومعاملة املعتدي باملثل دون جماوزة للحد.
فمن قتل نفس ًا بإطالق ،كأنام قتل الناس ،فلفظ "النفس" يف اآلية مطلق يشمل املوافق
وعر اخلطاب القرآين يف السياق نفسه
واملخالف﴿ :ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ﴾ [املائدةّ ،]٣٢ :
بلفظ "الناس" وهو مطلق يشمل كل الناس مؤمنهم وكافرهم ﴿ ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ﴾ [املائدة ،]٣٢ :فهي مساواة يف العدالة اإلهلية املطلقة املوحدة للبرشية.
يذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إىل واليه عىل البرصة عدي بن أرطأة يوصيه..." :
ثم انظر من قبلك من أهل الذمة قد كرت سنه ،وضعفت قوته ،وولت عنه املكاسب ،فأجر
( )1ابن اجلوزي ،زاد املسري يف علم التفسري ،مرجع سابق ،ج ،8ص.٢٣٧
( )٢القرضاوي ،يوسف .غري املسلمني يف املجتمع اإلسالمي ،القاهرة :مكتبة وهبة ،ط1٤1٣( ،٣ه199٢/م) ،ص .٦
1٥٥
عليه من بيت مال املسلمني ما يصلحه ...وذلك أنه بلغني أن أمري املومنني عمر مر بشيخ
من أهل الذمة يسأل عىل أبواب الناس ،فقال :ما أنصفناك ،أن كنا أخذنا منك اجلزية يف
((1
شبيبتك ،ثم ضيعناك يف كرك ،قال :ثم أجرى عليه من بيت املال ما يصلحه".
وأمر عمر بن عبد العزيز -رمحه اهلل -يوم ًا منادي ًا ينادي" :أال من كانت له مظلمة
فلريفعها .فقام إليه رجل ذمي من أهل محص فقال :يا أمري املؤمنني ،أسألك كتاب اهلل،
قال :ما ذاك؟ العباس بن الوليد بن عبد امللك اغتصبني أريض –والعباس جالس .-فقال
له عمر :يا عباس ما تقول؟ قال :نعم! أقطعنيها أمري املؤمنني الوليد وكتب يل هبا سجالً،
فقال عمر :ما تقول يا ذمي؟ قال :يا أمري املؤمنني أسألك كتاب اهلل تعاىل .فقال عمر :نعم
كتاب اهلل أحق أن يتبع من كتاب الوليد ،قم فاردد عليه ضيعته ،فردها عليه .ثم تتابع الناس
يف رفع املظامل إليه"( (٢وتاريخ اإلسالم واملسلمني ميلء بصور العدل ورفع املظامل وال سيام
مع املخالف غري املسلم.
األمر بالعدل من أجل االئتالف وتدبري االختالف ،مل يقترص عىل األمر الترشيعي
بالوجوب ،بل تعداه إىل اإلرادة التكوينية؛ أي قانون ميزان العدل الذي أقام اهلل عليه
( )1ابن القيم ،شمس الدين حممد بن أيب بكر الدمشقي .أحكام أهل الذمة ،دراسة وحتقيق :طه عبد الرؤوف سعد،
بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤٢٣( ،٢ه٢00٢/م) ،ج ،1ص.٤٥
( )٢ابن كثري ،أبو الفداء عامد الدين إسامعيل بن عمر بن كثري الدمشقي .البداية والنهاية ،حتقيق :عيل شريي ،بريوت :دار
إحياء الراث العريب ،ط1٤08( ،1ه1988/م) ،ج ،9ص.٢٣9
( )٣النوريس ،كليات رسائل النور( )1الكلامت ،مرجع سابق ،ص.٥٢٦
1٥٦
الكون ،من تكامل وانسجام ،وانتظام بني كل ظواهره بجاملية تامة وكاملة ،يقول حمامد رفيع:
"فالعدالة التكوينية يف اجلملة ذلكم التدبري العادل األمثل املطرد للكون بجميع مكوناته وفق
((1
إرادة اهلل التكوينية".
فهذا تدبري الختالف الظواهر الكونية يف اتساق تام ،ومجالية دقيقة ،تدعو اإلنسانية
إىل تأمل هذا امليزان العادل يف الطبيعة ،ليستفيدوا منه يف عالقتهم باملخالف ،أما إعراضهم
وعدوهلم عن هذا املشرك املقاصدي ،فظلم للنفس وللمخالف يف رؤية القرآن لقانون بناء
االئتالف وتدبري االختالف.
فالعدل مأمور به بني الناس كل الناس ،سواء كانت عالقة قرابة يف النسب ،أو
الدين ،أو عالقة املسلمني بغريهم من أهل الرشائع ،أو األديان الوضعية ،بام جيعل العدل
أساس تنظيم العالقات اإلنسانية وتدبري اختالفاهتا ،ألن أصل العدل حمتكم إنساين
ال حيايب أحد ًا ،ويأمر القرآن الكريم بتطبيق العدل مع املوافق واملخالف ،ومع القريب
والبعيد ،ومع العدو والصديق.
وملا كان العدل اإلهلي أساس احلكم يف العالقات اإلنسانية ،وهو األصل احلاكم عىل
اجلميع ،فقد أكده اهلل تعاىل يف اخلطاب املكي واملدين ،يقول رشيد رضا" :ملا كان العدل
أساس األحكام وميزان الترشيع وقسطاسه املستقيم أكد اهلل تعاىل األمر به واملساواة فيه
جسد هذا
بني الناس يف السور املكية واملدنية "...ويقول حممد عامرة" :فإن القرآن الكريم َّ
((٢
األصل واملقصد الرشعي يف خمتلف اجلوانب اإلنسانية ،من أجل االئتالف واجلمع ،فكانت
جتليات العدل القرآين من سامت تفوق حضارتنا وقدرهتا عىل االستيعاب واجلمع ملختلف
((٣
األصناف واألجناس البرشية ،واحلد من النزاعات واالضطرابات"...
( )1رفيع ،حمامد" .جدلية الربط بني السلب واإلجياب يف مفهوم العدالة من خالل كليات رسائل النور "،كتاب:
العدالة ألجل عامل أفضل لإلنسانية ،املؤمتر العاملي للنوريس ،استانبول :مؤسسة استانبول للثقافة والعلوم ،ط،1
(1٤٢8ه٢00٧/م) ،ص.٤٧٣
( )٢رضا ،الوحي املحمدي ،مرجع سابق ،ص.٢9٥
( )٣عامرة ،اإلسالم والتعددية :االختالف والتنوع يف إطار الوحدة ،مرجع سابق ،ص.٢٢1
1٥٧
إذا كان القرآن الكريم يقرر العدل املطلق ،وهو العدل اإلجيايب حسب النوريس؛ أي
إعطاء كل ذي حق حقه (1(،ويصف شمولية هذا القسم من العدالة بقوله" :فهذا القسم من
العدالة حميط وشامل لكل ما يف هذه الدنيا لدرجة البداهة" (٢(،فإنه يضع النظام العقايب من
حدود وتعازير ،وهو ما يسميه النوريس بالعدل السلبي ،ويقول عن هذا القسم من العدالة:
((٣
"وأما القسم السلبي فهو تأديب غري املحقني؛ أي إحقاق احلق بإنزال اجلزاء والعذاب عليهم".
فقيمة العدل تشمل الكون واإلنسان إجياب ًا وسلب ًا :فاإلجياب بإعطاء كل ذي حق حقه،
((٤
وسلب ًا النظام العقايب الذي وضعه احلق سبحانه حلفظ دوام احلياة الدنيا من جانب العدم،
فإن نظام العقوبات القرآين منع حدود ًا وتعازير من صميم العدل حلامية احلقوق ،ومنع
جتاوزات الظامل واملعتدي؛( (٥ألنه كلام ساد العدل والقسط ،وقع االعتدال يف السلوكات
((٦
واملواقف واألفكار اإلنسانية.
الظلم منذر بفساد العمران وهالك األمم (٧(،لذلك أشار القرآن الكريم إىل حتريم
الظلم( (8وعاقبته عىل األمم واجلامعات" ،فقد ذكر الظلم يف مئات من آيات القرآن أسوأ
1٥8
الذكر ،وقرن يف بعضها بأسوأ العواقب يف الدنيا واآلخرة ،وبأن اجلزاء عليه فيهام أثر الزم
له لزوم املعلول للعلة ،واملسبب للسبب ،...ومن أثره وعاقبته يف الدنيا أنه مهلك األمم،
((1
وخمرب العمران".
وحذر اخلطاب القرآين من الظلم؛ ألنه سبب للهالك ،فقال تعاىل ﴿ :ﯸ ﯹ ﯺ
ﯻ ﯼ ﯽ﴾ [الشعراء ،]٢٢٧ :وحذر من التجر والطغيان ،واتباع الظلمة فقال تعاىل عن
أمر فرعون﴿ :ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﴾ [هود ،]9٧ :وقال تعاىل بخصوص فعل
الطغاة بالناس﴿ :ﮟ ﮠ ﮡ﴾ [الزخرف ،]٥٤ :وحكم بالفسق عىل طاعتهم له
فقال تعاىل ﴿ :ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ﴾ [الزخرف.]٥٤ :
أمر القرآن برفض الظلم بكل أشكاله (٢(،سواء كان ظلامً اجتامعي ًا أو سياسي ًا ،وأن تتوىل
األمة أفراد ًا ومجاعات مسؤولية رفضه ودفعه؛ ألن "البلوى االجتامعية إذا عمت طالت من
((٣
ال يد له فيها ،ولذلك دعانا اهلل إىل اتقاء الفتنة التي ال تصيب الذين ظلموا دون سواهم"
﴿ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ﴾ [األنفال ]٢٥ :ألن نتائجها من هالك وغريه،
ال تصيب الظلمة وحدهم ،بل تتعداهم إىل غريهم ،يقول رشيد رضا ..." :وهذا العقاب
((٤
عىل األمة بأرسها ،ال عىل مقريف الظلم وحدهم منها"...
1٥9
وهالك األمم لعلة الظلم ،من سنن اهلل تعاىل يف اخللق ،قال تعاىل ﴿ :ﯿ ﰀ ﰁ
ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﴾ [هود" :]11٧ :أي ما كان من شأنه وال من سنته يف نظام
االجتامع أن هيلك األمم بظلم منه هلم وهم مصلحون يف سريهتم وأعامهلم ،وإنام هيلكهم بظلمهم
((٢
وإفسادهم" (1(،ويقول ابن خلدون" :الظلم مؤذن بخراب العمران املفيض لفساد النّوع".
ويقول خري الدين التونيس وهو أحد رواد الفكر اإلصالحي العريب اإلسالمي املعارص يف أول
((٣
مجلة يفتتح هبا القول بعد البسملة" :سبحان من جعل من نتائج العدل العمران".
وما هلكت األمم ،ودمرت احلضارات ،إال بانتفاء العدل وحلول الظلم حمله؛ ألن
الظلم مؤذن هبالك األمم ،يقول تعاىل يف إهالك القرية الظاملة﴿ :ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ﴾ [احلج ،]٤٥ :وقال تعاىل:
﴿ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾ [القصص ،]٥9 :وقال تعاىل﴿ :ﭾ ﭿ ﮀ
ﮁ ﮂ﴾ [األنعام ،]٤٧ :وقال تعاىل ﴿ :ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ
ﯩ﴾ [الكهف ،]٥9 :وقال تعاىل ﴿ :ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ
((٤
ﮙ﴾ [هود ،]10٢ :وقال تعاىل﴿ :ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ﴾ [األحقاف.]٣٥ :
فهذه اآليات بمجموعها تفيد اليقني والقطع بأن الظلم مهلك للظلمة ،سواء كانوا
أفراد ًا أو مجاعات أو أمم ًا ،فقد " ...ثبت باالستقراء من كون الظلم يف األمم يقتيض عقاهبا يف
((٥
الدنيا بالضعف واالختالل ،الذي قد يفيض إىل الزوال ،أو فقد االستقالل"...
( )٥رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،10ص.1٢٢-1٢1
1٦0
فاحلق سبحانه رتب العقاب والدمار عىل الظلم ،يقول اهلل تعاىل عن قوم فرعون ومن
سبقهم﴿ :ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ
ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾ [األنفال ،]٥٤ :واختالل العدل يؤدي إىل اختالل احلكم ،قال تعاىل:
﴿ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾ [الرمحن ]٧ :ويقول ابن تيمية" :وأمور الناس تستقيم يف الدنيا
مع العدل ،الذي فيه االشراك يف أنواع اإلثم ،أكثر مما تستقيم مع الظلم يف احلقوق وإن
مل تشرك يف إثم ،وهلذا قيل :إن اهلل يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ،وال يقيم الظاملة
((1
وإن كانت مسلمة".
ويقول رمحه اهلل" :ويقال :الدنيا تدوم مع العدل والكفر ،وال تدوم مع الظلم واإلسالم...
العدل نظام كل يشء ،فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن مل يكن لصاحبها يف اآلخرة من
((٢
خالق ،ومتى مل تقم بعدل مل تقم وإن كان لصاحبها من اإليامن ما جيزى به يف اآلخرة".
إن إقامة العدل والقسط بني الناس فيه خري هلم ،قال تعاىل﴿ :ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ
((٣
ﯫ ﯬ ﯭ﴾ [اإلرساء ،]٣٥ :وفيه حب اهلل تعاىل ﴿ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ﴾ [املائدة،]٤٢ :
أما الظلم فيرتب عليه العقاب الدنيوي واألخروي ،قال تعاىل ﴿ :ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ
ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﴾ [الكهف ،]8٧ :ويرتب عليه هالك األمم وتدمريها ،فقال تعاىل:
﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ﴾ [األنبياء ،]11 :ويف اآلخرة رتب
عليه القرآن التعذيب بنار جهنم ﴿ :ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ
ﮐ ﮑ ﴾ [النساء.]10 :
1٦1
ففي الظلم فساد العمران ،وخراب األرض ،أما العدل فهو أساس العمران األخوي،
ويقيم األلفة بني الناس ،فالعدل أصل ترشيعي لتدبري االختالف ،وحا ٍم للعمران من اخلراب
والفساد؛ ألن العدل رشيعة القرآن .يقول النوريس عن رشيعة القرآن" :فإن نقطة استنادها:
((1
احلق بدالً من القوة ،واحلق من شأنه :العدالة والتوازن".
ويقول طه عبد الرمحنّ :
إن "الواقع الكوين" يزن األفضلية بميزان القوة ال احلق" :ما
دام (الواقع الكوين) يزن أفضلية القيم ،ال بميزان احلق ،وإنام بميزان القوة ،فلام كان أقوى
من هذه األمة ،كانت قيمه أفضل من قيمها ،بل كانت أفضل القيم عىل اإلطالق ،لظهور
((٢
تفوق قوته عىل أية قوة أخرى".
وباجلملة ،فإن املجتمع اإلنساين املعارص ،يفتقد إىل اهلدى القرآين ،إلعادة بناء وحدته
وألفته ،للخروج من حالة الرصاع والنزاع ،والتفكك ،والظلم واالستبداد ،واألنانية وحب
األثرة باملال واجلاه والسلطة ،دون اآلخرين ،لذلك أمر القرآن الكريم بإقامة العدل والقسط
يف األرض ،وهنى عن الظلم بكل أشكاله وألوانه ،تعالي ًا عن كل مظاهر االختالف اإلنساين،
من أجل بناء االئتالف وتدبري االختالف ،والتعاون والتساند والتبادل احلضاري.
ورقي العالقة اإلنسانية وحترضها ،قائم عىل مدى تفاعلها مع منهج اخلطاب اإلهلي ،الباين
لالئتالف ،واملضيق ملساحة االختالف" ،فقوام صالح العامل باإليامن بالكتاب الذي حيرم الظلم
((٣
وسائر املفاسد ...ويأمر بالعدل يف األحكام ،الذي يردع الناس عن الظلم بعقاب السلطان".
وقد أدارت البرشية اليوم ظهرها لعدالة السامء ،لذلك ضاعت احلقوق ،سواء
الشخصية أو الدولية ،وكثرت التجاوزات واالعتداءات ،واتسعت دائرة االختالفات،
((٤
وأصبح احلق من جهة القوي ،وضاعت حقوق الضعفاء.
1٦٢
فالعدل يقتيض إعادة هيكلة االقتصاد العاملي ،ملواجهة الفقر الذي ينخر الدول
املستضعفة ،واستغالل املوارد الطبيعية ،واستهالكها بشكل عادل يوفر الرخاء
االقتصادي واالجتامعي العاملي ،عوض النهب واإلفراط يف االستهالك عىل حساب
دول العامل الثالث.
ومن الظلم ،ظلم األقوياء للضعفاء ،ومن أعظم الظلم ،ظلم دول االستكبار العاملي
لدول العامل الثالث ،حيث يتمتعون بثروة العامل ،ويركون الدول الضعيفة متوت جوع ًا،
وحيولون هذه الدول إىل سوق استهالكية ،وما يقدمونه هلا من مساعدات تقدم عىل أساس
((1
اإلحسان ،أو عىل أساس رشوط "صندوق النقد الدويل".
((٢
فالعدل االجتامعي ،القائم عىل العدل يف احلكم ،والعدل يف قسمة األرزاق،
يؤسس لعالقة إنسانية داخل املجتمع الصغري (الوطن) ،أو املجتمع الكبري (العامل) ،قوامها
اإلنصاف والقسط ،فبإقامة أصل العدل القرآين ،وحتكيمه يف تدبري االختالفات والنزاعات
اإلنسانية ،فال يكون هناك ظلم ،وال استبداد ،وال استعالء بني األفراد ،وال اجلامعات،
وال الطبقات االجتامعية ،وال بينهم وبني حكامهم ،وال بني الدول الغنية ،والدول الفقرية
املستضعفة ،فهو تنظيم متوازن للكون بام فيه اإلنسان ،مساواة مطلقة عىل أساس العدل
اإلهلي املطلق يف الدنيا واآلخرة.
متهيد:
االختالف يقتيض التعاون؛ ألنه ال تعاون مع املتامثلني ،فاالختالف يف القدرات
والطاقات واخلصائص اإلنسانية ،جيعل اإلنسان يف حاجة إىل أخيه اإلنسان لقضاء حوائجه،
( )1صندوق النقد الدويل هو :وكالة متخصصة من منظومة بريتون وودز تابعة لألمم املتحدة ،أنشئ بموجب معاهدة
دولية يف عام 19٤٥م ،للعمل عىل تعزيز سالمة االقتصاد العاملي .انظر للتفصيل أكثر:
رفيع ،حمامد .النظر املقاصدي رؤية تنزيلية ،بريوت :دار السالم ،ط1٤٣1( ،1ه٢010/م) ،ص.89 -
( )٢ويف كتاب عمر بن اخلطاب -حول القضاء -إىل أيب موسى األشعري يقول" :وبحسب املسلم الضعيف من العدل،
أن ينصف يف احلكم ويف القسم".
-الطري ،أبو جعفر حممد بن جرير .تاريخ الطربي ،بريوت :دار الراث ،ط1٣8٧ ،٢ه ،ج ،٤ص.٢0٣
1٦٣
وإكامل نقصه ،وتغطية اجلوانب األخرى من حياته التي ال يقدر عىل تغطيتها ،وحيتاج فيها
إىل اآلخرين .يقول ابن خلدون ..." :فال بدّ يف ذلك ك ّله من التّعاون عليه بأبناء جنسه وما
تتم حياته ملا ركّبه اهلل تعاىل عليه من
مل يكن هذا التّعاون فال حيصل له قوت وال غذاء ،وال ّ
((1
احلاجة إىل الغذاء يف حياته ،وال حيصل له أيض ًا دفاع عن نفسه"...
والقرآن الكريم راعى هذه الغريزة ،واجلبلة اإلنسانية ،التي ركبها اهلل تعاىل يف اإلنسان،
من احلاجة إىل غريه من املخالفني له ،وذلك بترشيع أصل التعاون اإلنساين فقال تعاىل﴿ :ﯭ
ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ﴾ [املائدة.]٢ :
نحاول من خالل هذا األصل الترشيعي ،إثبات رضورة التعاون اإلنساين يف تدبري
االختالف ،وذلك يف املواضيع اآلتية:
( )1ابن خلدون ،مقدمة ابن خلدون ،مرجع سابق ،ج ،1ص.1٣8
( )٢عاشور ،منهج القرآن يف تربية املجتمع ،مرجع سابق ،ص.٣٧٤
( )٣ابن عطية ،املحرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز ،مرجع سابق ،ج ،٢ص .1٥0-1٤9فاألمر موجه إىل النبي ﷺ
واملسلمني عموم ًا ،بالتعاون مع املرشكني ،عىل قيم الر والتقوى ،وإيقاف احلرب ،وعدم سفك الدماء يف احلرم.
( )٤القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٦ص.٤٦
( )٥ابن حزم ،أبو حممد عيل بن أمحد بن سعيد بن حزم الظاهري .الفصل يف امللل واألهواء والنحل ،حتقيق :حممد إبراهيم
نرص ،عبد الرمحن عمرية ،بريوت :دار اجليل( ،د .ت ،).ج ،٤ص.1٣0-1٢9
( )٦التونيس ،أقوم املسالك يف معرفة أحوال املاملك ،مرجع سابق ،ص.٣
1٦٤
وقوله تعاىل﴿ :ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ﴾ يشمل األعامل اخلريية ،واملشاريع االجتامعية
يف التعليم والصحة االقتصاد واإلسكان" .قال ابن خويزمنداد يف أحكامه :والتعاون عىل
الر والتقوى يكون بوجوه ،فواجب عىل العامل أن يعني الناس بعلمه فيعلمهم ،ويعينهم
الغني بامله ،والشجاع بشجاعته (1(،"...وال شك أن هذا متثيل ال حرص ،فكل ما ينطبق عليه
مسمى الر والتقوى فيجب فيه التعاون" ،وكل عمل ُيصلح االرتفاقات التي بني عليها نظام
اإلنسان" (٢(،فهو من الر الذي جيب التعاون عليه.
فكل األعامل الصاحلة والنافعة ،الظاهرة والباطنة ،الضامنة حلقوق اهلل ،وحقوق
حماب اهلل تعاىل ،واجتناب مكارهه ،فهو تعاون عىل الر والتقوى" (٣(،قال
ّ الناس ،وفعل
املاوردي :ندب اهلل سبحانه إىل التعاون بالر وقرنه بالتقوى له؛ ألن يف التقوى رضا اهلل
تعاىل ،ويف الر رضا الناس ،ومن مجع بني رضا اهلل تعاىل ورضا الناس فقد متت سعادته
((٤
وعمت نعمته"...
القرآن خطاب هداية الناس إىل ما يصلح عالقاهتم مع خالقهم ،من غري أن يغفل
الواجب االجتامعي واإلنساين ،املتعلق بعالقات الناس فيام بينهم ،وإدارة اختالفاهتم ،فيعود
((٥
معنى الر والتقوى إىل" :الصالح والتقوى االجتامعيان".
1٦٥
و"هو ((1
والواجب ترك التعاون عىل اإلثم وهو "كل عمل يفسد االرتفاقات"،
اليسء املستتبع للتأخر يف أمور احلياة السعيدة" (٢(،وترك التعاون عىل العدوان،
العمل َّ ّ
يقول السعدي ﴿ " :ﯶ﴾ وهو التعدي عىل اخللق يف دمائهم وأمواهلم وأعراضهم،
فكل معصية وظلم جيب عىل العبد كف نفسه عنه ،ثم إعانة غريه عىل تركه (٣("...ويقول
الطباطبائي ..." :العدوان وهو التعدي عىل حقوق الناس احلقة بسلب األمن من نفوسهم
أو أعراضهم أو أمواهلم ...ثم أكد سبحانه هنيه عن االجتامع عىل اإلثم والعدوان بقوله:
((٤
﴿ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ﴾ وهو يف احلقيقة تأكيد عىل تأكيد".
واآلية تبني معنى آخر ،هو "أن الشنآن ال يمنع من التعاون عىل أمور الر والتقوى،
والنهي عن اإلثم والعدوان" ،فاألمر بالتعاون جاء يف سياق النهي عن االعتداء ،بسبب
البغضاء والشنآن ،قال تعاىل﴿ :ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ
فاآلية تنهى عن االعتداء ،وجماوزة العدل مع املخالف يف حالة البغض ﯫ﴾ [املائدة]٢ :
والكراهية ،الناشئة عن التدافع البرشي ،الذي هو إرادة إهلية ،ويوجه القرآن الكريم املسلمني
إىل املنهج الصحيح السليم ،وهو التعاون.
فهذا سمو يف املنهج ،وقمة يف السامحة ،وضبط النفس وسالمة القلب؛ إذ يطلب
القرآن من املسلمني التجاوز عىل ما يقع عىل أشخاصهم ،وذواهتم من أجل تقديم نموذج
من السلوك الذي يقرحه اإلسالم عىل البرشية ،من أجل التقرب للناس ،والتواصل
ودوام الصلة معهم.
1٦٦
اإلثم والعدوان ،وجاء هذا املنهج الربوي الرباين يف ظل جمتمع يؤمن بمبدأ "انرص أخاك ظامل ًا
((1
أو مظلوم ًا" ،وبذلك كانت املسافة شاسعة بني ضنك اجلاهلية ،وسمو اإلسالم.
إن اإلنسانية يف التصور اإلسالمي" :وحدة تفرق أجزاؤها لتجتمع ،وختتلف لتتسق،
وتذهب شتى املذاهب لتتعاون يف النهاية بعضها مع بعض ،كي تصبح صاحلة لتتعاون مع
الوجود املوحد (٢(".فالتعاون اإلنساين رضورة اقتضتها املواطنة ووحدة الدار ،فال يمكن
بناء األوطان وتنميتها يف ظل اإلقصاء ،أو النزاع الطائفي والديني أو احلزيب ،فبناء دولة
املؤسسات اليوم ،يقتيض التعاون ،وفتح قنوات التواصل والتعارف ،من أجل العيش
املشرك" :فالتعارف أساس دعا إليه القرآن ،ورضورة أملتها ظروف املشاركة يف الدار أو
الوطن بالتعبري العرصي ،وإعامل لروح األخوة اإلنسانية بدالً من إمهاهلا ،فقد نص القرآن
الكريم بإطالق ،ومن غري تقييد وال ختصيص (٣(،أن من مقاصد التنوع بني البرش التعارف
والتعاون (٤(."...ويقول ابن خلدون" :البرش ال يمكن حياهتم ووجودهم إالّ باجتامعهم
((٥
وتعاوهنم عىل حتصيل قوهتم ورضور ّياهتم".
ومن معامل التعاون اإلنساين يف القرآن الكريم ،أن مهمة األنبياء هي فعل اخلريات،
تعلي ًام ألتباعهم ،وإرشاد ًا لإلنسانية إىل التعاون عىل جلب املصالح ،ودفع املفاسد ،فقال
تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾ [األنبياء ،]٧٣ :وقال تعاىل﴿ :ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ
ﯪ ﴾ [األنبياء.]90 :
1٦٧
وحكى القرآن الكريم أن من صفات أهل الكتاب األمر باملعروف والنهي عن املنكر،
وفعل اخلريات ،وحكم عليهم بأهنم من الصاحلني فقال تعاىل ﴿ :ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ
ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯡ
ﯢﯣﯤﯥ ﯦ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯯﯰ
ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ﴾ [آل عمران.]11٥-11٣ :
1٦8
ب -حرمة دم املخالف وعرضه وماله:
حرمة دم املخالف وماله وعرضه ،من معامل إقرار القرآن الكريم ألصل التعاون
اإلنساين ،من أجل تدبري االختالف ،يقول تعاىل ﴿ :ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ
ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ
ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ﴾ [البقرة .]1٧8 :يقول القرطبي
يف هذه اآلية" :فإن الذمي حمقون الدم عىل التأبيد ،واملسلم كذلك ،وكالمها قد صار من أهل
دار اإلسالم ،والذي حيقق ذلك أن املسلم يقطع بسقة مال الذمي ،وهذا يدل عىل أن مال
((1
الذمي قد ساوى مال املسلم ،فدل عىل مساواته لدمه؛ إذ املال إنام حيرم بحرمة مالكه"،
ويقول ابن العريب" :وأهم قواعد الرشائع محاية الدماء عن االعتداء ِ
وحيا َط ُت ُه بالقصاص ك ّف ًا
وردع ًا للظاملني واجلائرين ،وهذا من القواعد التي ال ختلو عنها الرشائع واألصول التي ال
((٢ ختتلف فيها ُ
امللل". ُ
فحفظ الدين والنفس والعقل والعرض واملال ،من مقاصد الرشيعة الرضورية املراعاة
يف كل ملة (٣(،و"املسددة للفعل اإلنساين عموم ًا" (٤(،ومن حقوق اإلنسان املتشوف إليها
إنساني ًا ،التي جيب احلفاظ عليها ومحايتها ،ويستوي يف كل ذلك املسلم وغري املسلم ،سواء
كان مواطن ًا يف البالد اإلسالمية ،أم وافد ًا عليها ،وهذا ما قرره اخلطاب القرآين ،يف آية
الوصايا التي اتفقت عليها الرشائع الساموية فقال تعاىل﴿ :ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ
ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﴾ [األنعام ]1٥1 :يقول الشوكاين" :أي ال تقتلوه يف حال من
((٥
األحوال إال يف حال احلق ،أو ال تقتلوها بسبب من األسباب إال بسبب احلق"...
1٦9
وجلب املصالح ودرء املفاسد ،أمر مشرك بني الرشائع؛ ف "املصالح ثالثة أقسام:
أحدها واجب التحصيل ،فإن عظمة املصلحة وجبت يف كل رشيعة ...،واملفاسد ثالثة
أقسام :أحدها ما جيب درؤه ،فإن عظمت مفسدته وجب درؤه يف كل رشيعة ،وذلك
((1
كالكفر ،والقتل ،والزنا ،والغصب وإفساد العقول"...
وبني اخلطاب القرآين خطورة إزهاق نفس واحدة دون حق فقال تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ
ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ
ﭷ ﭸ ﭹ﴾ (املائدة (٣٢ :يقول ابن كثري" :من قتل نفس ًا بغري سبب من قصاص ،أو
فساد يف األرض ،واستحل قتلها بال سبب وال جناية ،فكأنام قتل الناس مجيع ًا ،ألنه ال فرق
عنده بني نفس ونفس ﴿ﭦ ﭧ﴾؛ أي حرم قتلها واعتقد ذلك ،فقد سلم الناس كلهم
((٢
منه هبذا االعتبار ،وهلذا قال﴿ :ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾".
وجاء النهي والزجر من النبي ﷺ يف قتل املعاهد .روى البخاري عن عبد اهلل بن
جلن َِّةَ ،وإِ َّن ِ
اهد ًا َمل ْ َي ِر ْح َرائ َح َة ا َ
عمرو ريض اهلل عنهام عن النبي ﷺ مرفوع ًاَ » :م ْن َقت ََل ُم َع َ
ني َعام ًا" (٣(،وعن أيب هريرة عن النبي ﷺَ " :أ َال َم ْن َقت ََل َن ْفس ًا ُوجدُ ِم ْن َم ِس َري ِة َأ ْر َب ِع َ ِر َ
حي َها ت َ
ِ ِ اهد ًا َل ُه ِذ َّم ُة اهللِ َو ِذ َّم ُة َر ُسولِ ِهَ ،ف َقدْ َأ ْخ َف َر بِ ِذ َّم ِة اهللَِ ،ف َ
مع ِ
حي َهاال ُي َر ْح َرائ َح َة اجلَنَّةَ ،وإِ َّن ِر َ َُ
ني َخ ِريفا".
ً ((٤
وجدُ ِم ْن َم ِس َري ِة َس ْب ِع َ
َل ُي َ
( )1ابن عبد السالم ،قواعد األحكام يف مصالح األنام ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٤٢
( )٢ابن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.9٢
( )٣البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :اجلزية واملوادعة ،باب :إثم من قتل معاهد ًا بغري جرم ،ج،٤
حديث رقم ( ،)٣1٦٦ص.99
( )٤الرمذي ،أبو عيسى ،حممد بن عيسى بن سورة .سنن الرتمذي (اجلامع الكبري) ،حتقيق :بشار عواد معروف،
بريوت :دار الغرب اإلسالمي ،ط1998( ،1م) باب :ما جاء فيمن يقتل نفس ًا معاهدة ،ج ،٣حديث رقم (،)1٤0٣
ص ،٧٢وقال عن احلديث :حديث حسن صحيح.
1٧0
ِ ِ
وقال الفقهاء بحامية مال املخالف ودمه ،يقول ا َمل ْرغ ْين ُّ
َاين" (1( :وإذا دخل املسلم دار
احلرب تاجر ًا فال حيل له أن يتعرض ليشء من أمواهلم وال من ِ
دمائهم (٢(،"...وقال الشافعي: َّ
"لو أن حربي ًا دخل إلينا بأمان وكان معه مال لنفسه ومال لغريه من أهل احلرب ،مل نعرض له
يف ماله ملا تقدم له من األمان ،وال يف املال الذي معه لغريه ،فهكذا ملا كان للذمي أمان متقدم
((٣
مل يتعرض له يف ماله وال يف املال الذي معه لغريه مثل هذا سواء".
ويف هذا داللة ترشيعية عىل عدم االعتداء عىل املخالف غري املسلم ،إذا مل يكن حمارب ًا،
فحامية النفس واملال والعرض ،مشرك حممي بني البرش ،بغض النظر عن العقيدة أو الدين،
فهي مقاصد كلية مشركة هتدف إىل إعامر الكون ،وحفظ النظام العام ،وضبط عالقات الناس
وترصفاهتم ،بام يعصمهم من النزاع والتفاسد ،ف " ...مقصد الرشيعة من الترشيع حفظ نظام
العامل ،وضبط ترصف الناس فيه عىل وجه يعصم الناس من التفاسد والتهالك ،وذلك إنام
((٤
يكون بتحصيل املصالح واجتناب املفاسد عىل حسب ما يتحقق به معنى املصلحة واملفسدة"،
ويقول رشيد رضا إن من األصول التي اختصت هبا رشيعة القرآن عن غريها من الرشائع:
((٥
"بناء األحكام األدبية والعملية عىل قواعد املصالح واملنافع ودفع املضار واملفاسد".
فكل ما يعود عىل هذه الرضوريات اخلمس :الدين والنفس والعرض والعقل واملال
باحلفظ فهو مصلحة ،وكل ما يعود عليها باإلفساد والتفويت فهو مفسدة ،كام قال الغزايل:
"فكل ما يتضمن حفظ هذه األصول اخلمسة فهو مصلحة ،وكل ما يفوت هذه األصول فهو
((٦
مفسدة ،ودفعه مصلحة".
ِ ِ ِ ِ
َاين :عامل ما وراء النهر ،برهان الدين ،أبو احلسن عيل بن أيب بكر بن عبد اجلليل ا َمل ْرغ ْين ُّ
َاين ،حنفي املذهب ،له ( )1ا َمل ْرغ ْين ُّ
كتاب (اهلدَ ا َية) ،يف املذهب احلنفي ،انظر:
-الذهبي ،أبو عبد اهلل شمس الدين حممد بن أمحد بن عثامن بن قايامز .سري أعالم النبالء ،حتقيق :جمموعة من
املحققني بإرشاف شعيب األرناؤوط ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط1٤0٥( ،٣ه198٥/م) ،ج ،٢1ص.٢٣٢
( )٢املرغيناين ،أبو احلسن برهان الدين عيل بن أيب بكر بن عبد اجلليل .متن بداية املبتدي يف فقه أيب حنيفة ،القاهرة :مكتبة
ومطبعة حممد عيل صبح( ،د .ت ،).ج ،1ص.118
( )٣الشافعي ،أبو عبد اهلل حممد بن إدريس .األم ،بريوت :دار املعرفة1٤10( ،ه1990 /م) ،ج ،٤ص.٢٦1
( )٤ابن عاشور ،مقاصد الرشيعة اإلسالمية ،مرجع سابق ،ص.٢99
( )٥رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٥٦
( )٦الغزايل ،املستصفى من علم األصول ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٤1٧
1٧1
وضابط هذه املقاصد الرضورية هو فقدان النظام عند اختالهلا "فاملصالح الرضورية
هي التي تكون األمة بمجموعها وآحادها يف رضورة إىل حتصيلها بحيث ال يستقيم النظام
((1
باختالهلا ،فإذا انخرمت تؤول حالة األمة إىل فساد وتالش".
وقد محى القرآن الكريم هذه املقاصد العليا للرشيعة اإلسالمية ،ورتب عقوبات
زاجرة عىل كل اجلرائم املرتكبة بخصوصها ،من أجل محايتها من جانب احلفظ ومن جانب
الوجود ،وذلك بوساطة احلدود والتعازير ،وهدف القرآن الكريم من هذه العقوبات
اجلنائية ،هو معاجلة التجاوزات الواقعة عىل األفراد واملجتمعات ،وزجر املجرمني ،ومحاية
املجتمع من هذه اجلرائم املرضة بالدين والنفس( (٢والعقل والعرض واملال؛ ألن اإلجرام
فساد لألرض والعباد ،قال تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ
ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﴾
[املائدة ]٣٢ :لذلك كان القانون اجلنائي اإلسالمي أص ً
ال من أصول تدبري االختالف حلامية عامل
الناس ،ذلك ّ
أن »إقامة احلدود والقصاص مرشوع ملصلحة الزجر عن الفساد» (٣(،فمكافحة
اجلرائم ٌ
أصل قرآين ينظم العالقات اإلنسانية ،دولية كانت أو إقليمية.
املعاملة احلسنة من معامل التعاون يف اخلطاب القرآين (٤(،بني املسلمني وغريهم من
املخالفني ،قال تعاىل ﴿ :ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ
1٧٢
ﮈ ﮉﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ﴾ [املمتحنة" ]8 :ومعنى اآلية :أن اهلل سبحانه ال ينهى عن بر
ِ
يظاهروا الكفار أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا املؤمنني عىل ترك القتال ،وعىل أن ال
((1
عليهم ،وال ينهى عن معاملتهم بالعدل"...
وعن أسامء بنت أيب بكر ريض اهلل عنهام قالت :قدمت عىل أمي وهي مرشكة يف عهد
رسول اهلل ﷺ فاستفتيت رسول اهلل ﷺ ،قلت :إن أمي قدمت وهي راغبة ،أفأصل أمي؟،
((٢
قال ﷺَ " :ن َع ْم ِص ِيل ُأ َّم ِك".
والناظر يف سرية سيدنا حممد ﷺ ،جيدها مليئة بالصور املرشقة للمعاملة احلسنة مع
املخالف غري املسلم ،كام هو ثابت يف قصة الغالم اليهودي الذي مرض فعاده النبي ﷺ.
جاء يف صحيح البخاري أن النبي ﷺ عاد الغالم اليهودي الذي كان خيدمه وعرض عليه
اإلسالم ،فأسلم ،وخرج مسور ًا وهو يقول" :احلَ ْمدُ هلل ا َّل ِذي َأ ْن َق َذ ُه ِم َن النَّار".
ِ ((٣
وكان يتعامل معهم ،ويقبل اهلدية منهم ،حتى إن امرأة هيودية وضعت له السم يف ذراع
شاة أهدته إياها ،جاء يف صحيح البخاري عن أنس بن مالك ،أن هيودية أتت النبي ﷺ
((٤
بشاة مسمومة ،فأكل منها ،فجيء هبا فقيلَ :أالَ َن ْق ُت ُل َها ،قال" :ال"...
وكان يقابل إساءهتم باإلحسان ،ففي صحيح البخاري" :عن عائشة -ريض اهلل عنها:-
السا ُم عليكم ،فقالت عائشة :عليكم ،ولعنكم اهلل ،وغضب اهلل أن هيود ًا َأت َُوا النبي ﷺ فقالواَّ :
ْف َوال ُف ْح َش" قالت :أومل تسمع ما ال يا َع ِائ َش ُةَ ،ع َلي ِك بِالر ْف ِق ،وإِي ِ
اك َوال ُعن َ َ َّ ِّ ْ عليكم .قالَ " :م ْه ً َ
اب َهل ُ ْم ِ َّيف". ِ ِ
((٥
اب ِيل ف ِيه ْمَ ،والَ ُي ْست ََج ُقالوا؟ قالَ " :أ َو َمل ْ ت َْس َمعي َما ُق ْل ُت؟ َر َد ْد ُت َع َل ْي ِه ْمَ ،ف ُي ْست ََج ُ
( (1الشوكاين ،فتح القدير اجلامع بني فني الرواية والدراية من علم التفسري ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.٢٥٤
( )٢البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :اهلبة وفضلها والتحريض عليها ،باب :اهلدية للمرشكني ،وقول
اهلل تعاىل﴿ :ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ[ ﴾...املمتحنة ،]8 :ج ،٣حديث رقم ( ،)٢٦٢0ص.1٦٤
( )٣البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :اجلنائز ،باب :إذا أسلم الصبي فامت ،هل يصىل عليه ،وهل
يعرض عىل الصبي اإلسالم ،ج ،٢حديث رقم ( ،)1٣٥٦ص.9٤
( )٤املرجع السابق ،كتاب :اهلبة وفضلها والتحريض عليها ،باب :قبول اهلدية من املرشكني ،ج ،٣حديث رقم
( ،)٢٦1٧ص.1٦٣
( )٥املرجع السابق ،كتاب :األدب ،باب" :مل يكن النبي ﷺ فاحش ًا وال متفحش ًا" ،ج ،8حديث رقم ( ،)٦0٣0ص.1٢
1٧٣
وجاء يف صلة األقارب واملعارف من الكفار" :عن ابن عمر ،أن عمر بن اخلطاب،
رأى ُح َّل ًة ِس َ َريا َء عند باب املسجد ،فقال :يا رسول اهلل ،لو اشريت هذه فلبستها للناس
يوم اجلمعة ولِ ْل َو ْف ِد إذا قدموا عليك ،فقال رسول اهلل ﷺ" :إِن ََّام َي ْل َب ُس َه ِذ ِه َم ْن َال َخ َال َق
جاءت رسول اهلل ﷺ منها ُح َل ٌل ،فأعطى ُع َم َر منها ُح َّل ًة ،فقال ُع َم ُر :ياْ َل ُه ِيف ْاآل ِخ َر ِة" ،ثم
ار ٍد ما َ
قلت ،فقال رسول اهلل ﷺ" :إِ ِّين َمل ْ َأك ُْسك ََها رسول اهلل ،ك ََس ْوتَنِ َيها ،وقد قلت يف ُح َّل ِة ُع َط ِ
رشك ًا بِ َم َّك َة" (1(،قال النووي يف رشح احلديث" :وفيه صلة اها ُع َم ُر َأخ ًا َل ُه ُم ْ ِ ِ
ل َت ْل َب َس َها»َ ،فك ََس َ
((٢
األقارب واملعارف وإن كانوا كفار ًا"...
ومما يدل عىل حسن معاملة النبي ﷺ للمخالف غري املسلم" ،الصحيفة" التي كتبها بني
املهاجرين واألنصار ،وموادعة اليهود؛ إذ حتدثت الصحيفة عن عالقة املسلمني فيام بينهم،
ثم عالقتهم مع بطون اليهود املقيمني آنذاك يف املدينة املنورة( ،(٣مما يعطي درس ًا يف كيفية
التعايش السلمي ،والتعاون بني املواطنني.
( )1مسلم ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب اللباس ،باب :حتريم استعامل إناء الذهب والفضة ،..ج ،٣حديث
رقم ( ،)٢0٦8ص .1٦٣8وانظر:
البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :األدب ،باب :صلة األخ املرشك ،ج ،8حديث رقم ( ،)٥981ص.٥ -
( )٢النووي ،أبو زكريا حييى بن رشف بن مري النووي .املنهاج يف رشح صحيح مسلم بن احلجاج ،بريوت :دار إحياء
الراث العريب ،ط1٣9٢ ،٢هـ ،ج ،1٤ص.٣8
( )٣ابن هشام ،السرية النبوية ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.9٦-9٤
( )٤ابن عاشور ،أصول النظام االجتامعي يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص .1٧٣انظر:
-القرايف ،شهاب الدين أبو العباس أمحد بن إدريس بن عبد الرمحن .الفروق »أنوار الربوق يف أنواء الفروق»،
دراسة وحتقيق :مركز الدراسات الفقهية واالقتصادية حممد أمحد رساج وعيل مجعة حممد ،القاهرة :دار السالم،
ط1٤٢1( ،1هـ٢001/م) ،ج ،٤ص.1٢٣1
-الزركيش ،أبو عبد اهلل ،بدر الدين حممد بن هبادر بن عبد اهلل الزركيش .املنثور يف القواعد الفقهية ،الكويت= :
1٧٤
وصار الصحابة -ريض اهلل عنهم -عىل أثر النبي ﷺ يف حسن معاملة املخالفني من
غري املسلمني ،فعن عبد اهلل بن عمرو أنه ذبحت له شاة يف أهله ،فلام جاء قال :أهديتم
سمعت رسول اهلل ﷺ يقولَ " :ما َز َال ِج ْ ِر ُيل
ُ جلارنا اليهودي ،أهديتم جلارنا اليهودي؟
وصينِي بِاجلَ ِ
ار َحتَّى َظنَن ُْت َأ َّن ُه َس ُي َو ِّر ُث ُه" (1(،وتاريخ املسلمني ميلء بصور حسن التعامل مع ي ِ
ُ
املخالف غري املسلم ..." (٢(،فقد استطاع املسلمون أن يتجاوزوا ثنائية الرشق والغرب ،كام
استطاعوا استيعاب التعدديات الدينية والثقافية واحلضارية كلها يف إطار (عاملية اخلطاب
اإلسالمي) ..." (٣(،"..فكان الكيان اإلسالمي أول كيان يتآلف فيه مجيع الذين يصدرون
((٤
عن األديان اإلبراهيمية وغريهم وال ُيكره أحد عىل تغيري دينه".
أحل اهلل تعاىل طعام أهل الكتاب (املخالف)( (٥فقال تعاىل﴿ :ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ
1٧٥
ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾ [املائدة .]٥ :وال خيفى ما فيه من فتح أبواب التواصل االجتامعي من
أجل التعاون والتعارف والتعايش احلضاري.
وهذا من معجزات القرآن الكريم ،ألننا اليوم يف أوطاننا العربية واإلسالمية التي
تعيش داخلها أقليات دينية ،تفرض عىل املسلم يف إطار عالقاته مع جريانه ،أو زمالئه يف
العمل ،التزاور والتضايف ،الذي يكون من مستلزماته األساسية األكل والرشب ،فال
حيصل تعاون حقيقي ،إذا كانت هناك قطيعة اجتامعية.
وزيادة يف السامحة وتعميق روابط التعاون ،ينتقل القرآن إىل األرسة التي حرص
الرشع عىل محايتها وحفظها ،واحلرص عىل متاسكها وانسجام أعضائها ،ويؤكد ذلك ما
قرره القرآن من مقاصد األرسة ،لكن مع ذلك سمح برابطة املصاهرة بني أهل الرشائع
الساموية (1(،فأحل للمسلم الزواج من نسائهم ،املحصنات العفيفات احلرائر ،قال تعاىل:
﴿ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾ [املائدة ]٥ :فدلت اآلية عىل
حل نكاح الكتابيات ،ويدخل يف ذلك الذميات واحلربيات ،يقول البيضاوي" :وإن كن
=مالك أن هذه اآلية نسخت قوله تعاىل ﴿ :ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ﴾ [األنعام ]1٢1 :وهي معتمد
هذا الرأي ،ويرى مالك أكل ذبائح أهل الكتاب إال ما ذبحوا يوم عيدهم وألنصاهبم ،وآية حل طعام أهل الكتاب
عامة وختصيصها حيتاج إىل دليل ،ولعل دليل مالك :قصد ونية القربة بالذبيحة ،وهذا ينطبق عىل من ذكر اسم غري
اهلل عىل الذبيحة كعيسى مثالً ،فينبغي أن يكون احلكم سواء واهلل أعلم .انظر توثيق قول الشافعية ،والقول بالنسخ،
وقول مالك يف:
ابن العريب ،أحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٤٣-٤1 -
( )1يقول القرطبي يف خالفهم يف املسألة" :وروي عن ابن عباس يف قوله تعاىل ﴿ :ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ﴾ هو عىل
العهد دون دار احلرب فيكون خاص ًا .وقال غريه :جيوز نكاح الذمية واحلربية لعموم اآلية .وروي عن ابن عباس
أنه قال﴿ :ﯬ﴾ العفيفات العاقالت .وقال الشعبي :هو أن حتصن فرجها فال تزين ،وتغتسل من اجلنابة .وقرأ
الشعبي ﴿ﯬ﴾ بكس الصاد ،وبه قرأ الكسائي .وقال جماهد ﴿ :ﯬ﴾ احلرائر ،قال أبو عبيد :يذهب إىل أنه
ال حيل نكاح إماء أهل الكتاب ،لقوله تعاىل﴿ :ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾ وهذا القول الذي عليه
جلة العلامء".
-القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٦ص.٧9
1٧٦
حربيات" (1(،و"مجهور السلف واخللف جييزون نكاح الكتابيات (٢("...بدليل هذه اآلية.
وهبذا املنهج يقول حمامد رفيع" :يمدد القرآن مبدأ االندماج االجتامعي مع املخالف
الديني إىل أخص اخلصائص ،وهي احلياة الزوجية ،واللبنة األساس للمجتمع ،وهو ما
جيعل املخالف يف املجتمع اإلسالمي يعيش كامل مواطنته بإجيابية عالية ،كام كان األمر عىل
األقل زمن النبوة واخلالفة الراشدة"( (٣مع ما يف هذا الزواج من احتامالت التأثري عىل متاسك
األرسة الديني والعقدي ،وانعكاسات ذلك عىل األبناء" (٤(.وهكذا يبدو أن اإلسالم هو
املنهج الوحيد الذي يسمح بقيام جمتمع عاملي ،ال عزلة فيه بني املسلمني وأصحاب الديانات
الكتابية ،وال حواجز بني أصحاب العقائد املختلفة ،التي تظلها راية املجتمع اإلسالمي ،فيام
((٥
خيتص بالعرشة والسلوك"...
جسد الفعل احلضاري اإلسالمي هذه النظرة القرآنية عىل مستوى التعارف
وكام ّ
جسد هذا الفعل علامء
والتعاون االجتامعي ،بتناول أطعمة املخالف واملصاهرة معه ،فقد ّ
اإلسالم ،عىل مستوى التعارف والتعاون والتكامل املعريف يف تاريخ اإلسالم ،وذلك برمجة
كتب اليونان لالطالع عىل أفكار املخالف ،ومنتجه احلضاري ،وذلك إيامن ًا منهم بتفاعل
احلضارات ،والثقافات ،وتالقيها يف إطار احلضارة اإلنسانية ،ألنه تصور عقدي لدى
املسلم ،استمده من التوجيهات القرآنية ،بالراص واالحتاد والتعاون يف القضايا املصريية
( )1البيضاوي ،أنوار التنزيل وأرسار التأويل ،مرجع سابق ،ج ،٦ص.٤٢0
( )٢ابن تيمية ،اجلواب الصحيح ملن بدل دين املسيح ،مرجع سابق ،ج ،٣ص .11٥وانظر:
ابن قدامة ،املغني ،مرجع سابق ،ج ،٧ص.1٣0 -
( )٣رفيع ،منهج القرآن يف بناء املشرتك اإلنساين ،مرجع سابق ،ص.1٣٦
( )٤يقول أمحد الريسوين يف تعليقه عىل فتوى منع زواج املسلمني يف الدول الغربية من نساء غري مسلامت ،يف سياق تقريره
ملعنى :اعتبار املآل والعواقب يف األحكام" :هذا الزواج حمفوف بمخاطر ماثلة للعيان ،ولذلك فالنظر إىل مآالت
الزواج يف مثل هذه الظروف ،يقتيض القول بمنعه وعدم جوازه يف هذه احلاالت ،وهذا يف احلقيقة ليس حتري ًام لعني
الزواج ،بل هو حتريم للتسبب إىل مآالته املذكورة".
-الريسوين ،أمحد .مقاصد املقاصد :الغايات العلمية والعملية ملقاصد الرشيعة ،بريوت :الشبكة العربية
لألبحاث والنرش ومركز املقاصد للدراسات والبحوث ،ط٢01٣ ،1م ،ص.٥9
( )٥قطب ،يف ظالل القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٦ص.8٤8
1٧٧
لألرسة اإلنسانية ،بل سمى سورة من سور القرآن "بالصف" وفيها ﴿ :ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ
ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ﴾ [الصف ]٤ :فالراص والتعاون والتصاف،
حماب اهلل تعاىل.
كالبنيان املرصوص من ّ
التعاون عىل عمل من أعامل الر العام ،ال يعني بالرضورة والء وال قربى مع املخالف،
وأن التقاء املصالح يف حلظة من اللحظات ،مع فريق من غري املسلمني ،والسعي املشرك من
أجل حتقيقها ،إنام هي تدابري مرحلية متليها املصالح واحلاجات أو الرضورات ،وال يعني
بحال من األحوال اختاذ الكافرين أولياء من دون املؤمنني ،أو أن أولياء الشيطان قد صاروا
أولياء للرمحن (1(،بل يواىل الصالح بقدر ما فيه من خري ويعادى بقدر ما فيه من رش.
قد أيسء فهم اآليات الكثرية الواردة يف القرآن هبذا اخلصوص؛ أي التي تنهى عن
مواالة غري املسلمني ،فاختذها بعضهم دلي ً
ال عىل منع التعاون مع املخالفني يف الدين كاليهود
والنصارى ،أو غريهم ممن تربطنا هبم مصالح مشركة يف تدبري العمران ،واآليات كثرية
نأخذ منها ما كان أكثر عموم ًا ووضوح ًا:
( )1انظر تفصيل أكثر يف موضوع والية اليهود والنصارى بمعنى التحالف والتنارص ،وما قرره سيد قطب من املنع،
استناد ًا إىل اآليات القرآنية ،واألحاديث النبوية ،ومعطيات التاريخ ،التي أكدت حسب سيد قطب استحالة
التحالف والتنارص بني املسلمني وأهل الكتاب .انظر:
-قطب ،يف ظالل القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٦ص.909
1٧8
ﮯ﴾ [النساء ،]1٤٤ :وقال كذلك ﴿ :ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
((1
ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﴾ [النساء.]1٣9-1٣8 :
1٧9
وكرامته ،وكل ما حيقق مقصد العمران ،ويعني عىل القيام بمهمة االستخالف يف األرض،
فإن هذه املشركات ال عالقة هلا بتقوية أو تضعيف أو نرش معتقدات اآلخرين ،أو الرضا
هبا ،فالذين يتعاونون معنا ال يرتضون ديننا ،كام ال نرتيض دينهم؛ ألننا نتعاون يف دائرة
املشرك (حتقيق املصالح) ،ونرك املختلف عليه (املعتقد) للتدافع املعريف ،للجدل بالتي هي
أحسن ،نتعاون لتحقيق مصالح حياتية مشركة للمجتمع اإلنساين ،بعيد ًا عن املختلف فيه
الذي حكمه إىل اهلل.
وقد قام القرضاوي بدراسة اآليات التي تنهى عن مواالة غري املسلمني ،وانتهى إىل أن
الناظر يف أسباب نزول هذه اآليات وغريها ،واملتعلق بوالية املؤمنني للكافرين ،واملتأمل يف
سياقاهتا ،ودراستها جمتمعة ،من غري االستدالل بآية واحدة منها ،منفصلة عن بقية اآليات
يف املوضوع خيلص إىل أن "النهي عن اختاذ الكافرين أولياء" ،املقصود به أن يكون ذلك
عىل حساب الوالء لألمة اإلسالمية ،وهذا ما يعر عنه باخليانة ،وأن "املوادة التي هنت عنها
اآليات" هي موادة من آذى املسلمني ،وأخرجهم من ديارهم ،وحا َّد اهلل ورسوله ،عكس
من مل يقاتل املسلمني ،وخيرجهم من ديارهم ،وأن اإلسالم أباح للمسلم الزواج من نساء
أهل الكتاب ،والزواج يقوم عىل املودة والرمحة ،وهذا يدل عىل أن موادة املسلم لغري املسلم
جائزة ،واإلسالم يؤكد عىل آرصة العقيدة ،والرابطة الدينية ،وأهنا أوثق وأقوى من أية رابطة
أخرى ،ولو كانت أرسية ،أو إقليمية ،أم عنرصية ،وهذا ليس يف اإلسالم وحده ،بل هو
((1
متعارف عليه يف كل دين أو فكر أو عقيدة.
ٌ
( )1القرضاوي ،غري املسلمني يف املجتمع اإلسالمي ،مرجع سابق ،ص ٧٢وما بعدها (بترصف) ،وانظر أيض ًا:
-الطريقي ،عبد اهلل بن إبراهيم .التعامل مع غري املسلمني :أصول معاملتهم واستعامهلم ،دراسة فقهية ،سلسلة
الرسائل اجلامعية ( ،)٤٧القاهرة والرياض :دار اهلدي النبوي و دار الفضيلة ،ط1٤٢8( ،1ه٢00٧/م) ،ص.81
وأقوال السلف يف الوالء والراء كثرية ومعلومة ،وقد ُأ ّلفت فيها رسائل علمية منها:
-القحطاين ،حممد بن سعيد .من مفاهيم عقيدة السلف الصالح :الوالء والرباء يف اإلسالم ،مكة املكرمة
والرياض :دار طيبة ،ط1٤1٣ ،٦ه.
-بن جلعود ،حمامس بن عبد اهلل بن حممد .املواالة واملعاداة يف الرشيعة اإلسالمية ،الرياض :دار اليقني للنرش
والتوزيع ،ط1٤0٧( ،1ه198٧ /م).
180
واملتأمل لسياق هذه النصوص القرآنية ،ما ورد قبلها وما ورد بعدها ،جيد أن هذه
اآليات واردة يف املعتدين عىل اإلسالم ،واملحاربني له ،ألن اختاذ احلذر من اخلصوم،
واملحاربني لألمة واجب يتجدد يف كل عرص ،وهذا يدل عىل أن هذه اآليات وغريها يف
املوضوع نفسه ،ال صلة هلا بالتعامل العادي بني املسلمني ،واملخالفني هلم يف االعتقاد ،بل
املسلمون مأمورون بالر والقسط مع املخالف غري املعتدي (1(.لكن هناك من الفقهاء من
ذهب إىل منع كل مواالة للمخالف (الكفار) بإطالق ،من غري تقييد ،وذهب اجلمهور إىل
تقييد املواالة املمنوعة بالقيدين املذكورين يف النصوص الرشعية:
ومن األدلة الناقضة لدعوى عدم التعاون مع املخالف" ،حلف الفضول"( ،(٣وفيه
داللة قوية عىل التعاون اإلنساين عىل القيم الفاضلة ،واملقاصد النبيلة ،وقد شهده النبي ﷺ
يف شبابه ،فقد اتفق املوقعون عليه عىل رد املظامل وإعانة املظلوم ،وغريها من القيم اإلنسانية
املشركة.
( )1هويدي ،فهمي .مواطنون ال ذميون ،القاهرة :دار الرشوق ،ط1٤٢0( ،٣ه1999/م) ،ص.1٥٦
( )٢قام فيصل مولوي بدراسة القضية حتت عنوان" :مفهوم الوالء والراء وأثره عىل مرشوعية العيش املشرك ".انظر:
-مولوي ،فيصل .املسلم مواطن ًا يف أوروبا ،سلسلة قضايا األمة ( ،)٢لندن :االحتاد العاملي لعلامء املسلمني ،جلنة
التأليف والرمجة1٤٢9( ،ه٢008/م) ،ص.٢٣
( )٣النووي ،املنهاج يف رشح صحيح مسلم بن احلجاج ،مرجع سابق ،ج ،1٦ص .8٢حيث يقول عن أحالف اجلاهلية:
"وا ُْمل َحا َل َف ُة عىل طاعة اهلل تعاىل والتنارص يف الدين والتعاون عىل الر والتقوى وإقامة احلق ،فهذا باق مل ينسخ".
181
وهذا احللف دليل عىل إقرار أصل التعاون اإلنساين ،وال يضعف االستشهاد به كونه
وقع قبل اإلسالم ،فإن النبي أقره بعد البعثة وأكد التزامه به .قال ابن كثري فيام ينقله عن
أصحاب السري" :حتالفوا أن ترد الفضول عىل أهلها وأال يغزو ظامل مظلوم ًا" (1(.وذهب
الطحاوي إىل أن التعاون يف احللف كان عىل األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،وعىل نرصة
ُهم عىل األمر باملعروف ،والنهي عن املنكر ،وأن ال يدعوا ألحد عند
املظلوم" :وكان حمالفت ْ
((٢
أحد فض ً
ال إال أخذوه ،وبذلك سمي حلف الفضول".
وذكر ابن حجر أن احللف كان عا ّم ًا يف كل خالل اخلري" :وكان مجع من قريش اجتمعوا،
فتعاقدوا عىل أن ينرصوا املظلوم وينصفوا بني الناس ،ونحو ذلك من خالل اخلري" (٣(،وقال
أيض ًا" :وكان حلفهم أن ال يعني ظامل مظلوم ًا بمكة ،وذكروا يف سبب ذلك أشياء خمتلفة
حمصلها أن القادم من أهل البالد كان يقدم مكة ،فربام ظلمه بعض أهلها فيشكوه إىل من هبا
من القبائل ،فال يفيد ،فاجتمع بعض من كان يكره الظلم ويستقبحه ،إىل أن عقدوا احللف،
وظهر اإلسالم وهم عىل ذلك (٤(".يقول القرطبي" :فسمت قريش ذلك احللف حلف
ان ِح ْلف ًا َما
الفضول ،وهو الذي قال فيه الرسول ﷺَ " :ل َقدْ َش ِهدْ ُت ِيف َد ِار َع ْب ِد اهللِ ْب ِن ُجدْ َع َ
اإل ْس َال ِم َألَ َج ْب ُت" (٥(.وهذا احللف هو املعنى املراد مح َر النَّ َع ِمَ ،و َل ْو ُأ ْد َعى بِ ِه ِيف ْ ِ
ب َأ َّن ِ َيل بِ ِه ُ ْ ِ
ُأح ُّ
اإل ْس َال ُم إِ َّال ِشدَّ ةً"؛( (٦ألنه موافق اه ِل َّي ِة َمل َي ِز ْد ُه ْ ِ
ْ
اجل ِ
َان ِيف ْ َفك َ يف قوله عليه السالم" :و َأيام ِح ْل ٍ
َ ُّ َ
18٢
للرشع؛ إذ أمر باالنتصاف من الظامل .فأما ما كان من عهودهم الفاسدة وعقودهم الباطلة
((1
عىل الظلم والغارات فقد هدمه اإلسالم واحلمد هلل".
فهذا دليل عميل عىل أصل التعاون اإلنساين ،فهو حلف أخالقي مشرك بني عقالء
الناس ،حدث قبل اإلسالم ،وأقره اإلسالم؛ ألنه جيسد النموذج التعاوين الذي يقرحه
اإلسالم عىل البرشية ،لتنظيم عالقاهتم ،وتقليل اختالفاهتم.
ومن األدلة كذلك جواز التعاون مع املخالف يف التجارة ،ويدل عىل ذلك اجتهادات
الفقهاء( ،(٢قال الفقهاء بجواز التعامل بني املسلمني وغريهم يف التجارة "قال ابن القاسم :ولقد
سألت مالك ًا عن الروم ينزلون بساحل املسلمني معهم التجارات بأمان فيبيعون ويشرون ،ثم
يركبون البحر راجعني إىل بالدهم ،فإذا َأ ْم َعنُوا يف البحر رمتهم الريح إىل بعض بلدان املسلمني
ان؟ قال :قال مالك :هلم األمان َأ َبد ًا ما داموا يف َ ْجت ِر ِه ْم
غري البالد التي كانوا أخذوا فيها األَ َم َ
حتى يرجعوا إىل بالدهم وال أرى هلم أن هياجروا (٣(".وقال السخيس" :وإذا دخل املسلم أو
الذمي دار احلرب تاجر ًا بأمان فأصاب هناك ماالً ودور ًا ،ثم ظهر املسلمون عىل ذلك كله ،فهو
((٥
له كله (٤("..وكالم العلامء يف هذا كثري ،مما يدل عىل جواز التعاون مع املخالف يف التجارة.
18٣
فإذا كان هناك اختالف أسس له اخلطاب القرآين ،باإلرادة التكوينية والترشيعية ،فإنه
ال يعني أن نختلف يف تسيري أمور حياتنا ومعاشنا ،التي تقوم عىل املصالح املشركة ،فإن
اخلطاب القرآين أرشد البرشية إىل أصل التعاون لتدبري هذا االختالف.
والبرشية وهي تسلك طريق التعاون ،ينبغي التمييز بني التعاون عىل نرصة املظلوم
واإلنكار عىل الظامل ،وبني التعرض لديانته أو طائفته أو عرقه أو دولته؛ ألن إنكار املنكر ال
ينبغي ربطه مبارشة بتوجهات أصحاب املنكر ،ما مل يقم دليل قاطع عىل إثبات ذلك.
فالقرآن الكريم يف دعوته املجتمع البرشي للتعاون ،ينري الطريق للبرشية الستثامر ُسنَّة
االختالف ،وتدبري االختالف بالتعاون عىل املصالح املشركة يف احلياة ،بغض النظر عن
االختالف بكل مظاهره.
فاالجتاه نحو الصلح حلامية األمن والسلم أسلوب حضاري ،يقرحه القرآن الكريم
عىل بني اإلنسان ،وجعل فيه اخلريية املطلقة ،فقال تعاىل﴿ :ﭡ ﭢ﴾ [النساء ،]1٢8 :للحد
من اخلصومات املفضية إىل القتال وسفك الدماء ،وحتصني املجتمع البرشي من تداعيات
االختالف التي ال ضابط هلا.
ونحاول يف هذا املبحث حتليل ودراسة أصل الصلح ،لتجلية دوره يف تدبري االختالف
اإلنساين ،من خالل:
18٤
-1الصلح العام بني الناس:
الص ْل ُح( (1يف (اللغة) إهناء اخلصومة بني الناس ،وإهناء احلروب بينهم ،ويدل عىل
ُّ
((٣
خيتص بإزالة النّفار بني الناس".
ّ "والص ْل ُح
ُّ خالف الفساد (٢(.وقال الراغب األصفهاين:
واإلصالح بني املختلفني املتباينني :إرجاعهام إىل األلفة واجتامع الكلمة باملودة إذا فسدت
((٥
العالقة بينهم (٤(،واصطلح الناس أو القوم :...زال ما بينهم من خالف.
( )1ذكر ابن حجر أقسام ًا للصلح فقال" :والصلح أقسام :صلح املسلم مع الكافر ،والصلح بني الزوجني ،والصلح
ال ،والصلحني كالزوجني ،والصلح يف اجلراح كالعفو عىل م ٍ بني الفئة الباغية والعادلة ،والصلح بني ا ُْمل َتغ ِ
َاض َب ْ ِ
َ
َالش َو ِارعِ ،وهذا األخري هو الذي يتكلم فيه امح ُة؛ إِما يف ْاألَم َال ِك ،أو يف ا ُْمل ْش َرك ِ
َات ،ك َّ لقطع اخلصومة إذا وقعت ا ُْملزَ َ َ
َ ْ
أصحاب الفروع "،انظر:
-ابن حجر ،فتح الباري رشح صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.٢98
وذكر ابن قدامة أنواع ًا للصلح وهي :الصلح بني املسلمني وأهل احلرب ،والصلح بني أهل العدل وأهل
البغي ،والصلح بني الزوجني .انظر:
-ابن قدامة ،املغني ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٣٥٧
( (٢ابن منظور ،لسان العرب ،مرجع سابق ،مادة( :صلح) ،ج ،٢ص .٥1٧وانظر أيض ًا:
( (٣الراغب ،املفردات يف غريب القرآن ،مرجع سابق ،مادة( :صلح) ،ص.٤89
( )٤الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،9ص .٢0٢-٢01وانظر أيض ًا:
-اآللويس ،روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.1٣9
( )٥أبو حبيب ،القاموس الفقهي لغة واصطالح ًا ،مرجع سابق ،ص.٢1٤
والصلح يف اصطالح الفقهاء :عرفه احلنفية بأنه "عقد يرفع النزاع" ويقطع اخلصومة .انظر:
-النسفي ،أبو الركات وعبد اهلل بن أمحد بن حممود .كنز الدقائق ،حتقيق :سائد بكداش ،بريوت :دار البشائر
اإلسالمية ودار الساج ،ط1٤٣٢( ،1ه٢011/م) ،ص.٥1٦
ض لرفع نزاع ،أو خوف وقوعه ".انظر: وعرفه املالكية" :الصلح :انْتِقال عن َح ٍّق أو َدع َْوى بِ ِع َو ٍ
-احلطاب ،أبو عبد اهلل حممد بن حممد بن عبد الرمحن الرعيني .مواهب اجلليل يف رشح خمترص خليل ،بريوت:
دار الفكر ،ط1٤1٢( ،٣ه199٢/م) ،ج ،٥ص.٧9
وهو عند الشافعية" :عقدٌ حيصل به قطع النزاع"(بترصف) .انظر:
-الرشبيني ،شمس الدين حممد بن أمحد اخلطيب الرشبيني .مغني املحتاج إىل معرفة معاين ألفاظ املنهاج ،بريوت:
دار الكتب العلمية ،ط1٤1٥( ،1هـ199٤/م) ،ج ،٣ص.1٦1
ِ
املختل َف ْني ".انظر: اإلصالح بني وعند احلنابلة" :الصلح ُم َعا َقدَ ٌة يتوصل هبا إىل ِ
-ابن قدامة ،املغني ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٣٥٧
وجاء يف املوسوعة الفقهية :الصلح "معاقدة يرتفع هبا النزاع بني اخلصوم ،ويتوصل هبا إىل املوافقة بني
= املختلفني ".انظر:
18٥
فالصلح واإلصالح هو :إهناء أو إزالة اخلصومات والنزاعات واخلالفات بني الناس،
من أجل بناء االئتالف اإلنساين ،فهو أصل مهم يف تدبري االختالف.
قال تعاىل يف الدعوة إىل اإلصالح بني عموم الناس (1(،يف سياق النهي عن النجوى:
﴿ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ﴾ [النساء ]11٤ :يروي البغوي عن جماهد قوله:
((٢
"اآلية عام ٌة يف حق مجيع الناس".
وهو عام كذلك يف كل ما خيتلف ويتنازع فيه الناس ،يقول القرطبي﴿ " :ﭞ ﭟ
ﭠ ﭡ﴾ عام يف الدماء واألموال واألعراض ،ويف كل يشء يقع التداعي واالختالف
فيه (٣(،"...ويقول القايض أبو الوليد بن رشد" :وهذا عام يف الدماء واألموال واألعراض،
((٤
ويف كل يشء يقع التداعي واالختالف فيه بني املسلمني".
فالصلح أصل ترشيعي عام لتدبري االختالف بني الناس ،والتوفيق بينهم ،يف كل ما
يقع بينهم من نزاعات وخصومات ،يف األموال أو الدماء أو األعراض ،وال يقترص عىل
الصلح بني الطوائف اإلسالمية ،أو بني العالقات األرسية واالجتامعية الفردية واجلامعية؛
= -وزارة األوقاف والشئون اإلسالمية .املوسوعة الفقهية ،الكويت والقاهرة :وزارة األوقاف والشؤون
اإلسالمية ومطابع دار الصفوة ،ط( ،1من1٤٢٧-1٤0٤ :ه) ،ج ،٢٧ص .٣٢٣ويتبني من التعريف
اللغوي ،وتعريفات الفقهاء ،أن الصلح :إهناء النزاع واخلصومة بني املختلفني.
( )1احلواس ،حممد» .اإلصالح بني الناس يف القرآن الكريم »،جملة تبيان للدراسات القرآنية ،اجلمعية العلمية السعودية
للقرآن الكريم وعلومه ،العدد1٤٣٥ ،)1٥( :ه ،ص.1
( )٢البغوي ،معامل التنزيل ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٢8٦
( )٣القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٥ص .٣8٤وانظر كذلك:
-الشوكاين ،فتح القدير اجلامع بني فني الرواية والدراية من علم التفسري ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٥9٤
وقال الشنقيطي" :مل يبني هنا هل املراد بالناس املسلمون دون الكفار أو ال .ولكنه أشار يف مواضع آخر أن املراد
بالناس املرغب يف اإلصالح بينهم هنا املسلمون خاصة ".انظر تفصيل هذا الرأي يف:
-الشنقيطي ،أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٣0٧-٣0٦
( )٤ابن رشد ،أبو الوليد حممد بن أمحد .املقدمات املمهدات ،بريوت :دار الغرب اإلسالمي ،ط1٤08( ،1هـ/
1988م) ،ج ،٢ص.٥1٥
18٦
فجميع أنواعه حسن ،يقول الزيلعي" :قالوا معناه جنس ((1
ألن املراد جنس الصلح،
الصلح خري وال يعود إىل الصلح املذكور؛ ألنه خرج خمرج التعليل ،والعلة ال َت َت َق َّيدُ بمحل
ِ
املنازعات ورفع احلكم فيعلم هبذا أن مجيع أنواعه َح َس ٌن؛ ألن فيه إطفا َء الن َِّائ َر ِة بني الناس
َ
((٢
عنهم". ا ُْملوبِ َق ِ
ات
ْ
﴿ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﴾ [احلجرات]9 : واحلكم يف قوله تعاىل:
ال يقترص عىل اجلامعات ،بل يتعداه إىل األفراد كذلك ،يقول ابن عطية" :فهذه اآلية احلكم
فيها يف األفراد ويف اجلامعات واحد" (٣(،وقد ذكر ابن تيمية أن حكم اآلية ال خيتص بسببها
بل يشمله ويعم ما يشبهه (٤(،مما يؤكد أن الصلح أصل لتدبري االختالف عموم ًا ،وال خيتص
باألنواع التي ورد النص عليها؛ ألن الصلح خرج خمرج التعليل ،فال يتقيد بمحل احلكم كام
ذكر الزيلعي.
وجعل اخلطاب القرآين اخلريية يف اإلصالح مطلقة ،يف كل نزاع بني الناس مجيعهم ،يف
سياق األمر باإلصالح بني الناس ،قال تعاىل﴿ :ﭡ ﭢ﴾ [النساء ]1٢8 :يقول ابن عطية:
" ﴿ﭡ ﭢ﴾ لفظ عام مطلق بمقتىض أن الصلح احلقيقي الذي تسكن إليه النفوس
ويزول به اخلالف خري عىل اإلطالق" (٥(،ويقول الزركيش" :فإهنم استدلوا هبا عىل استحباب
ِ ِ ِ ِ ((٦
كل صلح ،فاألول :الصلح بني الزوجني داخل يف الثاين :الصلح العام وليس بجنْسه".
( )1يف قوله تعاىل ﴿ :ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﴾ [احلجرات ،]9 :وقوله تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ
ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ
ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﴾ [النساء.]1٢8 :
( )٢الزيلعي ،فخر الدين عثامن بن عيل الزيلعي .تبيني احلقائق رشح كنز الدقائق ،القاهرة :املطبعة الكرى األمريية،
بوالق ،ط1٣1٣( ،1هـ) ،ج ،٥ص.٣0
( )٣ابن عطية ،املحرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.1٤8
( )٤ابن تيمية ،مقدمة يف أصول التفسري ،مرجع سابق ،ص.1٦-1٥
( )٥ابن عطية ،املحرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز ،مرج سابق ،ج ،٢ص.1٢0
( )٦الزركيش ،أبو عبد اهلل ،بدر الدين حممد بن هبادر بن عبد اهلل .الربهان يف علوم القرآن ،حتقيق :حممد أبو الفضل إبراهيم،
بريوت والقاهرة :دار إحياء الكتب العربية ومطبعة عيسى البايب احللبي ورشكائه ،ط1٣٧٦( ،1ه19٥٧/م) ،ج،٤
ص.100
18٧
وحرص ًا عىل الصلح أجاز النبي ﷺ الكذب (1(،قال فيام روته عنه أم كلثوم بنت عقبة:
َّاس َف َق َال َخ ْري ًا َأ ْو ن ََمى َخ ْري ًا" (٢(.وجاء يف التمهيد..." : " َل ْي َس بِا ْلك ََّذ ِ
اب َم ْن َأ ْص َل َح َب ْ َ
ني الن ِ
أليس من قال ما مل يكن فقد كذب؟ قال :ال ،إنام الكاذب ْاآلثِ ُم ،فأما املأجور فال ،أمل تسمع
إىل قول إبراهيم عليه السالم ﴿ :ﮓ ﮔ﴾ ،و ﴿ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾ ،وقال يوسف
إلخوته﴿ :ﭞ ﭟ﴾ وما رسقوا ،وما أثم يوسف؛ ألنه مل يرد إال خري ًا ،قال اهلل عز وجل:
﴿ ﮠ ﮡ ﮢﮣ﴾ ،وقال امللكان لداود عليه السالم﴿ :ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ﴾ ومل
يكونا خصمني ،وإنام أرادا اخلري ،واملعنى احلسن ،ويف حديث هجرة النبي ﷺ مع أيب بكر إىل
املدينة ،أهنام لقيا رساقة بن مالك بن ُج ْع ُش ٍم ،وكان النبي ﷺ قد أراد من أيب بكر أن يكون
الر ُج ُل؟
املقدم عىل دا َّبته ،ويكون النبي عليه السالم خلفه ،فلام لقيا رساقة قال أليب بكر :من َّ
قال :باغٍ ،قال :فمن الذي خلفك؟ قال :ه ٍ
اد ،قالَ :أ ْح َس ْس َت ُحم َ َّمد ًا؟ قال :هو ورائي".
((٣
َ َ
ويظهر بجالء حرص اإلسالم عىل الصلح يف التطبيق العميل للسنة النبوية( ،(٤وذلك
يف قصة صلح احلديبية (٥(،مع ما اكتنف الوثيقة من بنود جمحفة يف حق املسلمني ،وما ورد
188
فيها من تنازالت من جهة الرسول ﷺ ،عن كتابة (بسم اهلل الرمحن الرحيم) وكتابة (حممد
رسول اهلل) ،حتى استاء الصحابة ،وأحسوا بإجحاف الوثيقة ،وإهانة املسلمني.
إال أنّه ﷺ الفقيه خلطاب اهلل تعاىل ،املتمثل ملقاصده وقيمه الكلية العامة ،كان حريص ًا
عىل املقصد األسمى من الوثيقة ،تعلي ًام للمسلمني ،وللمخالف ،وللبرشية مجعاء ،بأن
الصلح كيل ،ومقصد عظيم لتدبري االختالف ،جيب التمسك به .وقصده يف كل األقوال
واألعامل ،من أجل تدبري االختالف ،ولو بالتنازل عىل أمور شكلية جزئية تفصيلية؛ ألن
"اخلالف يكمن أكثر يف التفاصيل ،والوفاق يتحقق أكثر مع الكليات العامة الناظمة ملا ال
((1
حرص له من اجلزئيات".
فإذا كان القرآن الكريم يدعو إىل الصلح العام بني عموم الناس ،فإنه أمر املؤمنني
بإصالح ذات بينهم ،من أجل احلفاظ عىل األخوة واأللفة ،وترك النزاع واخلصومة
فيام بينهم ،حتى تبقى األمة اإلسالمية موحدة ،بعيدة عن كل ما يثري النزاع أو االفراق
بينها ،فقال تعاىل يف إصالح ذات البني﴿ :ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ﴾ [األنفال]1 :؛
"أي :أصلحوا ما بينكم من التشاحن والتقاطع والتدابر ،بالتوادد والتحاب والتواصل،
فبذلك جتتمع كلمتكم ،ويزول ما حيصل -بسبب التقاطع -من التخاصم ،والتشاجر
والتنازع" (٢(.وقال البغوي" :أي اتقوا اهلل بطاعته ،وأصلحوا احلال بينكم برك املنازعة
((٣
واملخالفة".
واألمر باإلصالح هنا ،جاء يف سياق االختالف والتنازع حول موضوع الغنائم" (٤(،وإذا
((٥
كان ذلك معناه ،جاز أن يكون نزوهلا من أجل اختالف أصحاب رسول اهلل ﷺ فيها".
( )1الريسوين ،مقاصد املقاصد :الغايات العلمية والعملية ملقاصد الرشيعة ،مرجع سابق ،ص( .٦٣بترصف)
( )٢السعدي ،تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٣1٥
( )٣البغوي ،معامل التنزيل ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.٣٢٦
( )٤الشوكاين ،فتح القدير اجلامع بني فني الرواية والدراية من علم التفسري ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٣٢٦
( )٥الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،1٣ص.٣٧9
189
رك ُْم بِ َأ ْف َض َل ِم ْن
ورغب ﷺ يف إصالح ذات البني ،وحذر من فسادها بقولهَ " :أ َال ُأ ْخ ِ ُ
اتنيَ .ق َال :و َفساد َذ ِ درج ِة الص َال ِة ،والصيا ِم ،والصدَ َق ِة؟" قالوا :بىل .قال" :إِص َالح َذ ِ
ات ا ْل َب ْ ِ
َ َ ُ ْ ُ َ ِّ َ َ َّ َّ ََ َ
ْ ِ َ ُ ((1 ا ْلب ِ ِ
احلالقة".
ني ه َي َ َْ
وقال تعاىل يف األمر بالصلح بني الطائفتني املختصمتني داخل الدائرة اإلسالمية
وهو"صلح بني أهل العدل وأهل البغي" ﴿ (٢( :ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ﴾ [احلجرات.]10-9 :
واختُلف يف سبب نزول هذه اآلية عىل أربعة أقوال (٣(،لكن كل ما ُذكر يدخل حتت
عموم اآلية ،وهو طلب اإلصالح بني املتنازعني املختلفني ،واإلصالح األول يف قوله تعاىل:
﴿ ﮞ ﮟ﴾ إصالح »بإزالة االقتتال نفسه ،وذلك يكون بالنصيحة أو التهديد والزجر
واإلصالح الثاين يف قوله تعاىل﴿ :ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ﴾ إصالح ((٤
والتعذيب»،
"بإزالة آثار القتل بعد اندفاعه من ضامن املتلفات" (٥(،وقال السعدي" :هذا أمر بالصلح،
((٦
وبالعدل يف الصلح".
( )1ابن حنبل ،مسند اإلمام أمحد ،مرجع سابق ،ج ،٤٥حديث رقم ( ،)٢٧٥08ص.٥00
( )٢ابن قدامة ،املغني ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٣٥٧
( )٣ابن العريب ،أحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٤ص .1٤8ومما ورد يف سبب نزوهلا ما جاء عن أنس بن مالك قال:
فانطلق املسلمون يمشون مع ُه وهي
َ يب" ،فانْطلق إليه النبي ﷺ وركب محار ًا، قيل للنبي ﷺ :لو أتيت عبد اهلل ْب َن ُأ َ ٍّ
منهم :واهلل
رجل من األنصار ْأرض َسبِ َخ ٌة "،فلام أتاه النبي ﷺ ،فقال :إليك عني ،واهلل لقدْ آ َذاين َن ْت ُن محارك ،فقال ٌ ٌ
ٍ ِ ِ
رجل من قومه ،فشتم ُه ،فغضب لكل واحد منهام أصحا ُب ُه، ِ
منك ،فغضب لع ْبد اهلل ٌ أطيب رحي ًا َ حلامر رسول اهلل ﷺ
ُ ُ
ُ ِ
فكان بينهام رضب باجلريد واأليدي والنعال ،فبلغنا أهنا أنزلت﴿ :ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﴾ ِ ِ
[احلجرات ".]9 :انظر:
-البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :الصلح ،باب :ما جاء يف اإلصالح بني الناس إذا تفاسدوا،..
ج ،٣حديث رقم ( ،)٢٦91ص.18٣
( )٤الرازي ،مفاتيح الغيب ،مرجع سابق ،ج ،٢8ص.1٢9-1٢8
( )٥املرجع السابق ،ج ،٢8ص.1٢9-1٢8
( )٦السعدي ،تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان ،مرجع سابق ،ج ،1ص.800
190
ورشع اهلل تعاىل وجوب قتال الفئة الباغية الرافضة للصلح ﴿ :ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ
يكون بني ِ
الفريقني ُ ٍ
اختالف ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ﴾ ألنه "لو كان الواجب يف كل
جور سبي ً
ال ِ
النفاق وال ُف ِ باطل ،ولوجدَ ُ
أهل طل ٌ أقيم حدٌّ وال ُأ ْب َ ِ
ولزو ُم املنازل ملا َاهل َ َر ُب منه ُ
ِ ِ ِ ِ
إىل استحالل كل ما حر َم اهلل عليهم من أموال املسلمني َو َس ْب ِي نسائهم وسفك دمائ ْ
هم ،بأن
ْهم" (1(،فكان املقصد من قتال الفئة الباغية،ُف املسلمون أيدهيم عن ْ ِ
عليه ْم ،و َيك َّ يتحزبوا
َّ
احلفاظ عىل األلفة واالجتامع ،وترك الفرقة بني املسلمني.
والصلح املأمور به لتدبري االختالف بني املتخاصمني املتنازعني ،يكون "بالنصح وإزالة
الشبهة إن كانت ،والدعاء إىل حكم اهلل عز وجل" (٥(،وبكل وسيلة وطريقة ما دام يتحقق هبا
اإلصالح بني املتنازعني ،وحتقن هبا الدماء ،وجتتنب هبا الفتن ،يقول حممد حسني فضل اهلل" :
﴿ﮱ ﯓ﴾ بالوسائل التي متلكون حتريكها يف مجع الشمل ومل الشعث وتأليف القلوب
( )1القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،1٦ص .٣1٧وهذا الكالم يرويه القرطبي عن الطري ،لكني
بحثت عنه يف تفسري الطري فلم أجده ،لعله منقول من كتاب آخر للطري.
( )٢الرازي ،مفاتيح الغيب ،مرجع سابق ،ج ،18ص.1٢9
( )٣الزخمرشي ،الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ،مرجع سابق ،ج ،٢٦ص.10٣8
( )٤الرازي ،مفاتيح الغيب ،مرجع سابق ،ج ،18ص.1٣0
( )٥اآللويس ،روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين ،مرجع سابق ،ج ،1٣ص.٣01
191
وتقريب املواقف أو توحيدها ،وقد وضع اإلسالم اإلصالح بني املؤمنني يف مرتبة عليا تتقدم
عىل املستحب من الصالة والصيام ،وقد بلغ االهتامم به حد ًا كبري ًا ،بحيث أجاز للمصلحني
((1
الكذب إذا توقف اإلصالح عليه".
وال يعدل عن الصلح إال يف حالة البغي (٢(،والعلو بغري وجه حق ،قال ابن العريب يف
((٣
تقرير هذا املعنى" :إن اهلل سبحانه أمر بالصلح قبل القتال ،وحني القتال عند البغي"،..
وقد طبق هذه القاعدة سيدنا عيل ؛ إذ قاتل من رفض الصلح ،وطبقها سيدنا احلسن ،
"إن ا ْبنِي َه َذا َس ِّيدٌ َ ،و َل َع َّل اهللََّ َأ ْن
حيث صالح سيدنا معاوية ،فنفذ بذلك وعد رسول اهلل َّ
ُْ ِ ِ ((٥( (٤ يمت ْ ِ ني فِ َئت ِ ِ ِ ِ
ني ".
َني من امل ْسلم َ ُي ْصل َح بِه َب ْ َ ْ
َني َعظ َ
يقول ابن حجر" :ويف هذه القصة من الفوائد َع َل ٌم من َأ ْع َال ِم النُّ ُب َّو ِة َو َمنْ َق َب ٌة للحسن بن
ِ
حقن دماء عيل ،فإنه ترك امللك ال لِ ِق َّل ٍة وال لِ ِذ َّل ٍة وال لِ ِع َّل ٍة ،بل لرغبته فيام عند اهلل ملا رآ ُه من
ٍّ
األمة ،وفيه فضيلة اإلصالح بني الناس ،وال سيام يف ِ املسلمني ،فرا َعى أمر الدين ومصلحة
((٦
حقن دماء املسلمني".
( )1فضل اهلل ،حممد حسني .تفسري من وحي القرآن ،بريوت :دار املالك ،ط1٤19( ،٢ه1998/م) ،ج ،٢1ص.1٤٥
( )٢وكلمة البغي يف اللغة تدل عىل معاين متعددة منها :التجاوز ،والتعدي ،والظلم ،والعدول عن احلق ،وجماوزة
احلد ،..والفئة الباغية هي الفئة الظاملة اخلارجة عن العادل .انظر:
-ابن منظور ،لسان العرب ،مرجع سابق ،مادة( :بغا) ،ج ،1٤ص.٧8
-الزخمرشي ،أساس البالغة ،مرجع سابق ،مادة( :ب غ ي) ،ج ،1ص.٧0
وذكر األصفهاين أن البغي منه املحمود واملذموم ،وورد يف أكثر املواضع مذموم ًا .انظر:
-الراغب ،املفردات يف غريب القرآن ،مرجع سابق ،مادة( :ع ل م) ،ص.1٣٦
وذكر ابن اجلوزي أن الكلمة وردت يف القرآن عىل ثالثة أوجه :الظلم واملعصية واحلسد .انظر:
-ابن اجلوزي ،نزهة األعني النواظر يف علم الوجوه والنظائر ،مرجع سابق ،ص.191
( )٣ابن العريب ،أحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.1٥1
ِ
( )٤البخاري ،صحيح البخاري ،كتاب :الصلح ،باب :قول النبي ﷺ للحسن بن عيل ريض اهلل عنهام" :ا ْبني َه َذا َس ِّيدٌ ،
َني" َو َق ْولِ ِه َج َّل ِذك ُْر ُه ﴿ :ﮱ ﯓ﴾ [احلجرات ،]9 :ج ،٣حديث رقم يمت ْ ِ ني فِ َئت ِ ِ ِ ِ
َو َل َع َّل اهللََّ َأ ْن ُي ْصل َح بِه َب ْ َ ْ
َني عَظ َ
( ،)٢٧0٤ص.18٦
( )٥ابن العريب ،أحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.1٥٢
( )٦ابن حجر ،فتح الباري رشح صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،1٣ص.٦٦
19٢
كام أن سيدنا علي ًا صالح سيدنا معاوية" (1( :عىل أساس استقالل عيل بحكم العراق
وبعض البالد واستقالل معاوية بحكم الشام وبعض البالد» (٢(،وأكد عىل الصلح يف كتابه
الذي أرسله لألشر النخعي ملا واله عىل مرص وأعامهلا" :وال تدفعن صلح ًا دعاك إليه عدوك
وهلل فيه رىض ،فإن يف الصلح دعة جلنودك وراحة هلمومك ،وأمن ًا لبالدك ،ولكن احلذر احلذر
((٣
من عدوك بعد صلحه ،فإن العدو ربام قارب ليتغفل ،فخذ باحلزم واهتم يف ذلك حسن الظن".
وجاء عن النبي ﷺ يف جواز الصلح بني املسلمني عن أيب هريرة قال :قال رسول
ني ا ُْملس ِل ِم َ ِ
املسلمني". جائز بني
لح ٌ "الص ُ
ني َجائ ٌز" (٤(،وقال ﷺُّ : "الص ْل ُح َب ْ َ ْ
اهلل ﷺُّ :
((٥
َ
َف َأ ْم ُر اهلل تعاىل بالصلح؛ ألن به جتتمع الكلمة ،وحيسم النزاع واخلالف ،وحيمى نظام
ويقول ((٦
احلكم .يقول الفخر الرازي" :وعند العود إىل الصلح تتفق كلمة كل طائفة"،
السعدي يف تفسري آيتي احلجرات" :هذا متضمن لنهي املؤمنني عن أن يبغي بعضهم عىل
بعض ،ويقاتل بعضهم بعض ًا ،وأنه إذا اقتتلت طائفتان من املؤمنني ،فإن عىل غريهم من
املؤمنني أن يتالفوا هذا الرش الكبري باإلصالح بينهم ،والتوسط بذلك عىل أكمل وجه يقع به
الصلح ،ويسلكوا الطريق املوصلة إىل ذلك ،فإن صلحتا فبها ونعمت ،وإن ﴿ ﮢ ﮣ
( )1يقول ابن خلدون يف اخلالف الذي وقع بني سيدنا عيل وسيدنا معاوية" :و ّملا وقعت الفتنة بني ّ
عيل ومعاوية،
دنيوي أو إليثار باطل
ّ احلق واالجتهاد ،ومل يكونوا يف حماربتهم لغرض وهي مقتىض العصب ّية كان طريقهم فيها ّ
كل واحد نظر احلق وس ّفه ُّ
متوهم ،وينزع إليه ملحد ،وإنّام اختلف اجتهادهم يف ّ يتومهه ّأو الستشعار حقد كام قد ّ
احلق ،فاقتتلوا عليه ،وإن كان املصيب عل ّي ًا ،فلم يكن معاوية قائ ًام فيها بقصد الباطل ،إنّام قصد
صاحبه باجتهاده يف ّ
والكل كانوا يف مقاصدهم عىل حق". ُّ احلق وأخطأ،
ّ
-ابن خلدون ،مقدمة ابن خلدون ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٣8٦
( )٢دروزة ،التفسري احلديث ،مرجع سابق ،ج ،8ص.٥0٧
( )٣ابن أيب طالب ،عيل ،هنج البالغة ،مجعه ونسق أبوابه :الرشيف الريض ،رشحه وضبط نصوصه :حممد عبده،
بريوت :مؤسسة املعارف ،ط1٤10( ،1ه1990/م) ،ص.٦٤٤
( )٤احلاكم ،أبو عبد اهلل حممد بن عبد اهلل بن محدويه الضبي النيسابوري .املستدرك عىل الصحيحني ،حتقيق :مصطفى عبد
القادر عطا ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤11( ،1ه1990/م) ،كتاب البيوع ،ج ،٢حديث رقم (،)٢٣1٣
ص.٥8
( )٥أبو داود ،سنن أيب داود ،مرجع سابق ،كتاب :األقضية ،باب :يف الصلح ،ج ،٥حديث رقم ( ،)٣٥9٤ص.٤٤٦
( )٦الرازي ،مفاتيح الغيب ،مرجع سابق ،ج ،٢8ص.1٢٧
19٣
ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ﴾؛ أي ترجع إىل ما حد اهلل ورسوله ،من فعل اخلري
((1
وترك الرش ،الذي من أعظمه االقتتال".
وكام يكون الصلح بعد االختالف واخلصام ،فقد يكون قبل ذلك ،يقول تعاىل ﴿ :ﭑ
ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﴾ [البقرة" ]18٢ :فمن خاف
فخوف اجلنف واإلثم من املويص ،إنام هو كائن قبل وقوع
ُ جينَف أو َيأثم. ٍ
موص أن َ ْ من
ُ
حدوث االختالف اإلصالح بني الفريقني ،فيام كان خموف ًا
ُ اجلنف واإلثم ...فمن اإلصالح
بينهم فيه ،بام يؤمن معه ُحدوث االختالف .ألن "اإلصالح" ،إنام هو الفعل الذي يكون معه
إصالح ذات البني ،فسواء كان ذلك الفعل الذي يكون معه إصالح ذات البنيَ ،
قبل وقوع ُ
((٢
االختالف أو بعد وقوعه".
فكان اإلصالح قبل النزاع ،من األصول التي قررها القرآن للتقليل من االختالف
والنزاع؛ ألن حماربة النزاع قبل الوقوع ،ال شك أسهل وأيس من حماربته بعده.
واملتأمل يف اآليات السابقة ،جيدها أكدت عىل أصل الصلح إلدارة االختالف وتدبريه،
وحسم مادة النزاع واالفراق داخل أمة اإلسالم ،ومحاية اجلامعة اإلسالمية.
( )1السعدي ،تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان ،مرجع سابق ،ج ،1ص.800
( )٢الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.٤0٤
19٤
-3الصلح األرسي واالجتامعي:
شهد عاملنا املعارص بفعل اخلالفات الزوجية واألرسية مآيس كثرية ،نتج عنها :كثرة
الطالق ،والنزاعات الزوجية ،وتفكك األرس ،وضياع األبناء؛ األمر الذي انعكس سلب ًا
عىل املجتمع عموم ًا ،وكثرت القضايا أمام املحاكم ،وواكب ذلك عجز القضاء تدبري هذه
االختالفات ،لكثرهتا وتنوعها وتشعبها ،بتشعب قضايا عاملنا املعارص ،وهذا ناتج عن قصور
هذه املحاكم عىل اختالف ختصصاهتا ،عن تفعيل أصل الصلح الودي بني الزوجني أو بني
أفراد األرسة عموم ًا ،عىل وفق اهلدى القرآين.
فقد حث القرآن الكريم الزوجني عىل الصلح عند االختالف والنزاع ،املتعلق بنشوز
الزوج أو اإلعراض عن زوجته ،قال تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ
ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢﭣ ﴾ [النساء .]1٢8 :و "معنى اآلية إباحة الصلح
بني الزوجني ،إذا خافت النشوز أو اإلعراض ،وكام جيوز الصلح مع اخلوف كذلك جيوز بعد
وقوع النشوز أو اإلعراض" (1(،ويقول الرازي" :قوله﴿ :ﭖ ﭗ ﭘ﴾ املراد بالنشوز
إظهار اخلشونة يف القول أو الفعل أو فيهام ،واملراد من اإلعراض السكوت عن اخلري والرش
((٢
واملداعاة واإليذاء؛ ألن هذا اإلعراض يدل داللة قوية عىل النفرة والكراهة".
فهذا توجيه للزوجني بسلوك كل الطرق املؤدية إىل الصلح ،من أجل األلفة واالستقرار
األرسي واالجتامعي" :وأنواع الصلح كلها مباحة يف هذه النازلة ،أن يعطي الزوج عىل أن
تصر هي ،أو تعطي هي عىل أن ال يؤثر الزوج ،أو عىل أن يؤثر ويتمسك بالعصمة ،أو يقع
((٣
الصلح عىل الصر عىل األثرة ،فهذا كله مباح".
يقول الرازي يف توجيه القراءات الواردة يف اآلية ،أن من قرأ ﴿ ﱍ﴾ وهي قراءة
عاصم ومحزة والكسائي ،فوجهه أن اإلصالح عند التنازع والتشاجر مستعمل ،قال تعاىل:
( )1ابن جزي الكلبي ،أبو القاسم حممد بن أمحد بن حممد بن عبد اهلل .التسهيل لعلوم التنزيل ،عناية :أبو بكر بن عبد اهلل
سعداوي ،الشارقة :املنتدى اإلسالمي ،ط1٤٣٣( ،1هـ٢01٢/م) ،ص.٢001
( )٢الرازي ،مفاتيح الغيب ،مرجع سابق ،ج ،11ص.٦٦
( )٣ابن عطية ،املحرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.119
19٥
﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ (البقرة ،(18٢ :وقال﴿ :ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾
[النساء ،]11٤ :ومن قرأ يصاحلَا بفتح الياء والصاد ،واأللف بني الصاد والالم ،وتشديد الصاد
من التصالح ،وهي قراءة الباقني ،وهو االختيار عند األكثرين ،قال :أن يصاحلا معناه:
يتوافقا ،وهو أليق هبذا املوضع ،ويف حرف عبد اهلل ﴿فال جناح عليهام إن صاحلا﴾ .(1(...هذه
القراءة وردت يف مصحف ورش أرجو االنتباه.
لكن الصلح بني الزوجني حيتاج إىل اإلرادة الصادقة ،والنية الصاحلة ،سواء بني
احلكمني املصلحني أو من الزوجني الواقع بينهام الشقاق والنزاع ،يقول تعاىل ﴿ :ﭾ ﭿ
ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ
ﮓ ﮔ ﴾ [النساء .]٣٥ :يقول البيضاوي ﴿" :ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ﴾ خالف ًا بني املرأة
وزوجها ﴿ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ﴾ الضمري األول للحكمني والثاين للزوجني؛ أي
إن قصدا اإلصالح أوقع اهلل بحسن سعيهام املوافقة بني الزوجني .وقيل :كالمها للحكمني؛
أي إن قصدا اإلصالح يوفق اهلل بينهام لتتفق كلمتهام وحيصل مقصودمها .وقيل :للزوجني؛
أي إن أرادا اإلصالح وزوال الشقاق أوقع اهلل بينهام األلفة والوفاق ،وفيه تنبيه عىل أن من
أصلح نيته فيام يتحراه أصلح اهلل مبتغاه ﴿ .ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﴾ بالظواهر والبواطن،
فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق"( ،(٢نسأله سبحانه وتعاىل التوفيق للوفاق،
واجتناب الشقاق.
فالصلح أصل لتدبري االختالف بني املتخاصمني ،والتوافق بني الناس ،ورفع النزاع
والرصاع بينهم ،ووقف القتال ،وقطع اخلصومات الواقعة أو املتوقعة .فهو طريق واضح
لبناء االئتالف ،واحلد من النزاعات ،واالختالفات املفضية إىل احلروب ،سواء بني املسلمني،
أو بينهم وبني غريهم من املخالفني هلم يف الدين أو املعتقد ،حماربني أو غري حماربني ،وسواء
تعلق األمر باالختالفات األرسية أو االجتامعية ،فردية أو مجاعية.
19٦
كل ذلك أقره اخلطاب القرآين ،والسنة العملية ،واجتهادات الفقهاء ،يقول ابن
قدامة" :وأمجعت األمة عىل جواز الصلح يف هذه األنواع التي ذكرناها" (1(،فإن اختيار طريق
الصلح ،حيمي املجتمع اإلنساين من االضطرابات الدولية ،واملجتمعية ،واألرسية ،والفردية
واجلامعية ،وحيافظ عىل مقصد الوحدة واأللفة بني بني البرش.
-هتيئة األجواء املناسبة لتبليغ رسالة اإلسالم للناس ،وهي رسالة سلم وأمان
لإلنسانية يف هذا الكون ،تعرفه بخالق الكون ،ووظيفته فيه ،ومآله ومصريه.
-املحافظة عىل روابط األخوة ،واحلب ،والود بني الناس عموم ًا ،وبني املسلمني ّ
خاصة.
-محاية األرسة واملجتمع ،واملحافظة عىل تقوية صالت األرحام ،والتقليل من
االختالفات اهلادمة لألرس ،املفسدة للمجتمعات.
وعليه؛ فإن الصلح رضورة حتمية للبرشية ،تدعو احلاجة املاسة إليه؛ ملا نراه يف عاملنا
املعارص من كثرة االختالفات والنزاعات ،والعداوات ،واألحقاد ،بني األفراد والطوائف
واألمم .فإن البرشية اليوم جنحت نحو القضاء ،وتفعيل القوانني ،للفصل يف اخلصومات
واالختالفات ،عىل حساب الصلح.
فإن الصلح فيه ألفة للقلوب ،وتربية لإلنسان عىل تدبري االختالف من غري فرض وال
سلطة ،أما القضاء فإنه يسبب الضغائن؛ ألن تدبريه لالختالف أقل نجاعة من الصلح ،قال
19٧
الض َغ ِائ َن اخلصوم حتَّى يص َط ِلحواَ ،فإِ َّن َفص َل ا ْل َقض ِ
اء ُي ِ
ث َّور ُ َ ْ ُ "ر ُّدوا ْ ُ ُ َ َ َ ْ
سيدنا عمر بن اخلطابُ :
ِ ((1
ني النَّاس".
َب ْ َ
وإذا حصل الصلح عىل وفق اهلدى القرآين ،كان شفاء لكل مثارات االختالف والنزاع
اإلنساين ،لذلك عىل اإلنسانية اليوم ،التفكري اجلاد يف الرجوع إىل االستمداد من اخلطاب
القرآين ،فهو الدواء لكل أدوائها.
وهي نقيض االستبداد (٣(،الذي ال يعرف باملخالف (٤(،بل يستأثر بالسلطة وبالرأي
( )1الصنعاين ،أبو بكر عبد الرزاق بن مهام بن نافع احلمريي .مصنف عبد الرزاق ،حتقيق :حبيب الرمحن األعظمي،
سيمالك داهبيل (اهلند) :املجلس العلمي ،ط1٤0٣( ،٢هـ) ،كتاب :البيوع ،باب :هل يرد القايض اخلصوم حتى
يص َط ِل ُحوا؟ ج ،8حديث رقم ( ،)1٥٣0٤ص.٣0٣ ْ
( )٢والشورى آلية من آليات اإلمجاع ،للوصول إىل رأي بني أهل العلم والذكر.
( )٣فإذا كانت السياسة هي إدارة شؤون الناس بام يصلح أحواهلم ،ويدفع عنهم الرضر والفساد بمقتىض احلكمة،
فإن أول مباحث السياسة "االستبداد "،الذي هو الترصف يف شؤون الناس املشركة بمقتىض اهلوى ،ويراد به عند
اإلطالق استبداد احلكومة خاصة ،أو هو ترصف فرد أو مجاعة يف حقوق قوم باملشيئة وبال خوف تبعة ،وقد تستعمل
كلامت" :االستعباد "،و"االعتساف "،و"التسلط "،و"التحكم "،مقام كلمة "االستبداد "،ويف مقابلها كلامت:
"املساواة "،و"احلس املشرك "،و"التكافؤ "،و"السلطة العامة ".انظر:
-الكواكبي ،عبد الرمحن .طبائع االستبداد ومصارع االستعباد ،تقديم :أسعد السحمراين ،بريوت :دار النفائس،
ط1٤٢٧( ،٣هـ٢00٦/م) ،ص .٣٧-٣٤وتعريف الكواكبي لالستبداد أشهر التعريفات ،وأكثرها استعامالً
من طرف الباحثني ،باعتبار الرجل أحد أشهر العارفني بطبائع االستبداد.
( )٤القبول باالختالف واحلق فيه أمر ذهني وعقيل ،ال بد من حترير العقل من االستعداد لقبول االستبداد" ،ليتهيأ
للتشبع باملبادئ التي يتأسس عليها النظام الديمقراطي :مبادئ التعاقد ،واملصلحة العامة ،وفصل السلطات =
198
دون اآلخرين ،ونقيض الفوىض التي ال تعرف بحقوق وال واجبات ،وال التزامات متبادلة
بني احلكام واملحكومني ،وهذا ما يثري النزاعات ،والرصاعات ،واملعارضات املخربة ،بل
املعارضة املسلحة ،التي تتغيا إسقاط االستبداد.
ونحاول من خالل هذا املبحث ،دراسة أصل الشورى يف تدبري االختالف ،وذلك
من خالل:
ولفظ الشورى يف اللغة ،من املشاورة ،واملشورة مصدر للفعل شاور ،وهو عرض
اليشء وإظهاره ،وشار العسل استخرجه واجتناه من موضعه (1(،وشاوره يف األمر مشاورة:
طلب رأيه فيه ،وشار اليشء عرفه ليبدي ما فيه من حماسن (٢(،فالشورى يف اللغة تدور حول
االستخراج واإلظهار لليشء أو الرأي.
وقال ابن عاشور الشورى" :هي أن قاصد عمل يطلب ممن َي ُظ ُّن فيه صواب الرأي
((٣
والتدبري أن يشري عليه بام يراه يف حصول الفائدة املرجوة من عمله".
وعرض اهلل تعاىل عىل املالئكة أمر استخالف اإلنسان يف األرض (٤(،وهو الغني عن
السنة ،كانت من طبيعة البرش ومقرنة
اخللق ،لتكون الشورى ُسنَّة يف البرش ،وبمقتىض هذه ُّ
بأصل تكوينهم ،واستشار فرعون يف شأن موسى عليه السالم (٥(،واستشارت بلقيس يف شأن
=وتداوهلا ،وسيادة القانون ،وكذلك القيم الضابطة هلذا النظام ،مثل :احلرية والتسامح ،والكرامة اإلنسانية "،وهذا
ما قام به جمموعة من املفكرين من أمثال :جون لوك ،وديفيد هيوم ،وذلك بنقد النظام االستبدادي بمراجعة مفهوم:
"السيادة" و "املرشوعية" و "مصدر السلطة" و"القانون ».انظر:
-أومليل ،يف رشعية االختالف ،مرجع سابق ،ص.10٤
( )1الفريوز آبادي ،القاموس املحيط ،مرجع سابق ،ص ،٤٢0وانظر أيض ًا:
-ابن منظور ،لسان العرب ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٤٣٥-٤٣٤
( )٢ابن منظور ،لسان العرب ،ج ،٤ص.٤٣٧
( )٣ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،٢٥ص.11٢
قال تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ [البقرة.]٣0 : ()٤
قال تعاىل ﴿ :ﮏ ﮐ﴾ [األعراف.]110 : ()٥
199
((٢
سيدنا سليامن (1(،وعلق ابن عاشور بقوله" :وإنام يلهي الناس عنها حب االستبداد،"...
وقال حممد عامرة :الشورى" :فضيلة من فضائل الدول واملجتمعات- ،برصف النظر عن
((٣
عقائدها -عر التاريخ".
واألمر بالشورى عام ،سواء كانت بني األفراد العاديني أو يف األرسة أو املجتمع أو
املؤسسات ،أو يف جمال السياسة بني احلكام واملحكومني ،فهي تدير كل االختالفات التي
منشؤها االجتهاد ،وكل ما سكت عنه الوحي ،أو ورد فيه النص ،لكنه ظني الداللة أو
الثبوت ،أو مها مع ًا ،فحيث يكون االختالف تقع رضورة الشورى لتدبريه وإدارته.
ث ،وإضاف ُة اسم وقال ابن عاشور"األمر :اسم من أسامء اجلنس العامة مثلَ :يش ٍء وح ِ
اد ٍ
َ ْ
((٥ اجلن ِ
ْس قد تفيد العموم بمعونة املقام؛ أي مجيع أمورهم متشاور فيها بينهم".
٢00
وجاء األمر بالشورى عام ًا للمسلمني يف كل شؤوهنم ،قال تعاىل﴿ :ﮞ ﮟ ﮠ ﴾
[الشورى ]٣8 :ف "هذه اآلية نزلت يف املسلمني قبل أن يكون هلم خليفة وال دولة أصالً ،فهي
تتحدث عن مجاعة املومنني مبارشة وأصالة .فلفظ اآلية ،والواقع الذي تتحدث عنه يتعلقان
بعموم املسلمني ،وليس بدولتهم وال برئيسهم ،وال هبيئة حاكمة فيهم .وجاء األمر بالشورى
(يقصد :آل عمران )1٥9 :مسبوق ًا بعبارات وأوامر أخرى ال يشك أحد يف أهنا متعلقة
بالعموم ال باخلصوص" (1(،ويقول رشيد رضا" :فاملراد باألمر :أمر األمة الدنيوي الذي فيه
((٢
جمال للرأي ،ال أمر الدين املحض الذي مداره عىل الوحي دون الرأي".
( )1الريسوين ،أمحد .األمة هي األصل مقاربة تأصيلية لقضايا الديمقراطية ،حرية التعبري ،الفن ،بريوت :الشبكة العربية
لألبحاث والنرش ،ط٢01٢ ،1م ،ص.٢٥-٢٤
( )٢رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،٤ص( .1٦٤ترصف يسري).
( )٣يقول ابن عاشور" :واختلف العلامء يف مدلول قوله ﴿ :ﭭ﴾ هل هو للوجوب أو للندب "، ..انظر:
-ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.1٤8
وذكر أن مذهب املالكية الوجوب ،واالستحباب عند الشافعي ،واملختار عند النووي من علامء الشافعية الوجوب،
وكذلك الفخر الرازي كام سبق ذكره ،أما احلنفية فقال ابن عاشور أنه مل ينسب هلم كالم يف املسألة ،إال أن جمموع قول
اجلصاص أحد علامئهم يدل عىل الوجوب ،انظر:
-املرجع السابق ،ج ،٤ص.1٤9-1٤8
( )٤واملأمور بمشاورهتم ﷺ يف اآلية هم املنهزمون يف أحد ،واآلية ليست خاصة هبم ،بل "العرة بعموم اللفظ ال
بخصوص السبب".
( )٥القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٢٥0
٢01
وقال صاحب املنار يف قوله تعاىل ﴿ :ﭭ﴾ "العام الذي هو سياسة األمة يف
احلرب والسلم ،واخلوف واألمن ،وغري ذلك من مصاحلهم الدنيوية؛ أي ُد ْم عىل املشاورة
((1
وواظب عليها ،كام فعلت قبل احلرب يف هذه الواقعة (غزوة أحد)".
وأمر اهلل عز وجل نبيه بالشورى يف "أي أمر كان مما يشاور يف مثله" (٢(،وإن كان ﷺ
غني عن الرأي ،لرجاحة عقله وكامله ،ولكن لتحقيق التوافق واالجتامع عىل أصلح وأحسن
ٌّ
اآلراء ،بعد اجتهاد كل أفراد املشاورة يف استخراج أفضل ما جادت به عقوهلم ،وهي تكليف
رش َع َل ْي ِه (٣(".فمن بني الفوائد املستفادة يف
ِ
نبوي ،قال ﷺ" :إِ َذا ْ
است ََش َار َأ َحدُ ك ُْم َأ َخا ُه َف ْل ُي ْ
األمر اإلهلي بالشورى لنبيه" :وشاورهم يف األمر ال ألنك حمتاج إليهم ،ولكن ألجل أنك
إذا شاورهتم يف األمر اجتهد كل واحد منهم يف استخراج الوجه األصلح يف تلك الواقعة،
فتصري األرواح متطابقة متوافقة عىل حتصيل أصلح الوجوه فيها ،وتطابق األرواح الطاهرة
((٤
عىل اليشء الواحد مما يعني عىل حصوله"...
والشورى »كام هي فريضة إهلية يف سياسة الدولة وشؤون االجتامع اإلنساين لألمة،
هي كذلك يف نطاق األرسة ،كلبنة يف رصح االجتامع اإلنساين ،إهنا السبيل إىل الرايض الذي
حيقق لألرسة السعادة والوفاق» (٥(،قال تعاىل يف الشورى العائلية﴿ :ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ
ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ﴾ [البقرة.]٢٣٣ :
فالشورى عامة تشمل كل املجاالت من العائلة إىل القبيلة إىل األمة ،يقول ابن عاشور :إهنا
((٦
"يف مراتب املصالح كلها :وهي مصالح العائلة ومصالح القبيلة أو البلد ،ومصالح األ َّمة".
( )1رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.1٦٣
( )٢الشوكاين ،فتح القدير اجلامع بني فني الرواية والدراية من علم التفسري ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٤٥1
( )٣ابن ماجه ،أبو عبد اهلل حممد بن يزيد الربعي القزويني .سنن ابن ماجه ،حتقيق :حممد فؤاد عبد الباقي ،القاهرة :دار
إحياء الكتب العربية ،فيصل عيسى البايب احللبي( ،د.ت ،).كتاب :األَ َد ِ
ب ،باب :ا ُمل ْست ََش ُار ُمؤْ َمت َ ٌن ،ج ،٢حديث رقم
( ،)٣٧٤٧ص.1٢٣٣
( )٤الرازي ،مفاتيح الغيب ،مرجع سابق ،ج ،9ص .٦8ذكر الرازي ثامنية أوجه مستفادة من أمر اهلل تعاىل بالشورى لنبيه.
( )٥عامرة ،معامل املنهج اإلسالمي ،مرجع سابق ،ص.1٤٦
( )٦ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.1٤8
٢0٢
-2الشورى وعزمة اإلمام حلسم االختالف:
أمهية الشورى ،وثمرهتا ،والقصد منها ،هو النتيجة العملية ،والقرار التنفيذي الذي
خيلص إليه جملس الشورى ،إما باإلمجاع أو اتباع األغلبية ،ولكي ال تتحول الشورى إىل جلاج
وجدال مذموم ،تتسع معه دائرة االختالف والتفرق ،يرشدنا القرآن إىل طريقة اختاذ القرار
يف الشورى ،فإما إمجاع أو اتباع األغلبية ،أو عزمة اإلمام وطاعته حلسم مادة االختالف،
يقول تعاىل ﴿ :ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﴾ [آل عمران.]1٥9 :
يقول الشوكاين" :أي إذا عزمت عقب املشاورة عىل يشء ،واطمأنت به نفسك ،فتوكل
وفوض إليه"( ،(1وروي عن جابر بن زيد أنه قرأ ﴿ ﭱ
عىل اهلل يف فعل ذلك؛ أي اعتمد عليهّ ،
ﭲ﴾ بضم التاء ،واملعنى أن اهلل تعاىل قال للرسول :إذا عزمت أنا فتوكل ،وض ّعف الرازي
هذه القراءة (٢(.فاآلية رصحية يف عزمة اإلمام املستكملة لرشوطها يف األمور العامة (٣(،إن
مل يكن إمجاع أو أغلبية ،فاآلية ﴿ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﴾ ترد الطاعة واالتباع إىل
صاحبها ،فتحسم مادة االختالف للخروج بنتيجة عملية ،كام أن عزمة اإلمام فيها رصامة
وقوة ،جيب أن تتوفر يف اإلمام ،يقول صاحب املنار" :وذلك أن نقض العزيمة ضعف يف
((٤
النفس ،وزلزال يف األخالق ال يوثق بمن اعتاده يف قول وال عمل".
وبعد العزمة تكون الرعية ملزمة بقرار الشورى ،لقوله تعاىل﴿ :ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ
ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ﴾ [النساء ،]٥9 :فهذا منهج قرآين واضح يف تدبري اختالف جملس
الشورى ،فاإلمام يستشري امتثاالً ألمر اهلل تعاىل ،وتأسي ًا برسوله ﷺ ،ثم يتبع اإلمجاع أو
أغلبية واضحة( ،(٥وإن خيش النزاع واللجاج ،تبقى له العزمة احلاسمة للنزاع واالختالف
برصيح القرآن ،من أجل اجتامع الكلمة ،واحلصول عىل النتيجة العملية.
( )1الشوكاين ،فتح القدير اجلامع بني فني الرواية والدراية من علم التفسري ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٤٥1
( )٢الرازي ،مفاتيح الغيب ،مرجع سابق ،ج ،9ص.٧0
( )٣رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.1٦9-1٦8
( )٤املرجع السابق ،ج ،٤ص.1٦9-1٦8
ٍ ِ ِ
ورة َما َخا َل ْف ُتك َُام". ( )٥قال ﷺ أليب بكر وعمر نزوالً عند رأي األغلبية فيام هو شورى برشيةَ " :لو ْ
اجت ََم ْعت َُام يف َم ُش َ
-أمحد ،مسند أمحد ،مرجع سابق ،حديث عبد الرمحن بن َغنْ ٍم ْاألَ ْش َع ِر ِّي ،ج ،٢9حديث رقم (،)1٧99٤
ص.٥18
٢0٣
ومما حيد من االختالفات والنزاعات ،لزوم نتائج الشورى للحاكم ،وذلك باتباع
اإلمجاع أو األغلبية ،وال سيام يف زماننا الذي ق ّلت فيه الديانات ،وضعف فيه الوازع اإليامين
واألخالقي ،وكثرت فيه مظاهر ظلم احلكام واستبدادهم عىل الشعوب" ،إننا نتبنى القول
وحسب أمتنا
ُ بوجوب الشورى ،وبأن نتائجها ملزمة ،ما دامت صادرة من أهلها يف حملها،
((1
ما القت من الطغاة واملستبدين".
فالشورى من مفاخر اإلسالم ،ومن األدوات واآلليات التي قررها القرآن الكريم،
لتدبري االختالف السيايس ،وتنظيم العالقة بني احلكام والشعوب ،فهي "فريضة إهلية،
وقد أثبتت كفاءهتا ونجاعتها يف نظام احلكم ((٢
وليست جمرد حق من حقوق اإلنسان"،
يف عرص اخلالفة الراشدة ،التي متثل املرحلة التطبيقية ألحكام القرآن يف احلكم وسياسة
األمة (٣(،وهذا بشهادة املخالف قبل املوافق ،يقول رشيد رضا" :قال أحد كبار علامء األملان
يف األستانة ،لبعض املسلمني فيهم أحد رشفاء مكة ،أنه ينبغي لنا أن نقيم متثاالً من الذهب
ملعاوية ابن أيب سفيان يف ميدان كذا من عاصمتنا (برلني) قيل له :ملاذا؟ قال :ألنه هو الذي
حول نظام احلكم اإلسالمي عن قاعدته الديمقراطية إىل عصبية الغلب ،ولوال ذلك لعم
((٤
اإلسالم العامل كله ،ول ُكنّا نحن األملان وسائر شعوب أوروبا عرب ًا مسلمني".
( )1القرضاوي ،يوسف .الصحوة اإلسالمية ومهوم الوطن العريب واإلسالمي ،القاهرة :مكتبة وهبة ،ط،٢
(1٤1٧ه199٧/م) ،ص ،٧٣وانظر أيض ًا:
-القرضاوي ،يوسف ،االجتهاد يف الرشيعة اإلسالمية مع نظرات حتليلية يف االجتهاد املعارص ،الكويت والقاهرة:
دار القلم للنرش والتوزيع ،ط1٤1٧( ،1ه199٦/م) ،ص.1٢٢
يقول عبد الكريم زيدان بخصوص سؤال :هل الشورى ملزمة أم معلمة؟ قال" :واجلواب يتوقف عىل نظام
اجلامعة ،فام يقرره نظامها من كون الشورى يف اجلامعة ،ملزمة ألمريها أو معلمة فقط ،يكون هو اجلواب التنفيدي يف
حق األمري ويف حق اجلامعة كلها ..وكل ما نقوله هنا أن املسألة اجتهادية "...انظر:
زيدان ،السنن اإلهلية يف األمم واجلامعات واألفراد يف الرشيعة اإلسالمية ،مرجع سابق ،ص.1٦0 -
( )٢عامرة ،معامل املنهج اإلسالمي ،مرجع سابق ،ص.1٤٥
( )٣الرفاعي ،عاطف إبراهيم املتويل" .احلكم وسياسة األمة يف القرآن الكريم :دراسة يف التفسري املوضوع"( ،رسالة
دكتوراه ،جامعة املدينة العاملية ،كلية العلوم اإلسالمية ،ماليزيا1٤٣٦ ،ه٢01٥/م).
( )٤رضا ،الوحي املحمدي ،مرجع سابق ،ص.٢8٢
٢0٤
أدرك الصحابة -رضوان اهلل عليهم -بفطرهتم ،وبام فهموه من مقاصد الوحي ،أمهية
اجتامع الكلمة ،والوحدة واأللفة ،واتقاء الفتنة واالفراق ،وذلك حني توجهوا بعد وفاة
رسول اهلل ﷺ إىل القيادة السياسية؛ ألهنا ضامن أسايس لتدبري االختالف ،وبناء العمران،
وكانت الشورى هي معتمدهم يف اختيار اخلليفة بعد رسول اهلل ﷺ ،من غري غصب للحكم،
وال توريثه ،وال استيالء عليه بالسيف كام وقع بعد اخلالفة الراشدة ،ويقع يف زماننا ،مع
وجود ما توصل إليه اإلنسان املعارص من آليات ديمقراطية يف إدارة نظام احلكم.
والشورى تربية عىل فقه االختالف ،وتدبريه وإدارته ،واحرام اآلراء املخالفة
واملعارضة ،الحتامل صحتها من بعض الوجوه ،والبعد عن التعصب لآلراء ،وهي ممارسة
تط ّيب النفوس؛ ألن النفس اإلنسانية جمبولة عىل تق ُّبل األمور التي تستشار فيها ،وتقوم عىل
تنفيذها ،وتكون أكره ملا يفرض عليها ،وألن املشاركة يف اختاذ القرار حمفز عىل العمل والنجاح،
وهو ما بات يعرف اليوم ب "التشاركية" التي تنهجها الرشكات واملعامل واملؤسسات عندما
تتجه ألخذ آراء املوظفني والعامل ،فيام خيص سري املؤسسة أو الرشكة أو املعمل.
والشورى أصل قرآين ،هيدف إىل االئتالف واالجتامع ،واجتناب الفتنة والشقاق،
فهي أسلوب للمامرسة الفردية واجلامعية واألرسية ،ومن مقاصدها احلث عىل التفكري،
٢0٥
واحلرية يف ممارسة الرأي ،واختبار اآلراء واستخراج أصلحها وأحسنها للعمل واملامرسة،
ومنع االستبداد والطغيان ،وإقامة العدل بني الناس ،ومحاية احلقوق ،وضامن أداء
الواجبات .وهبذه املقاصد العليا تستطيع الشورى تدبري االختالفات اإلنسانية ،وتوجيهها
نحو األلفة والوحدة ،ومواكبة ما يستجدّ يف عامل الناس من مناهج وآليات ،من غري اخلروج
عن حمكامت الرشع.
وقد انفرط عقد الشورى يف تاريخ املسلمني من زمن مبكر ،فطغى االستبداد والظلم،
وكثر االختالف والنزاع ،وبعدت اهلوة بني احلكام والشعوب من جهة ،والقرآن والسلطان
من جهة أخرى ،يقول رشيد رضا" :فمبايعة اخللفاء الراشدين كانت من األمة برضاها،
وكانوا يستشريون أهل العلم والرأي يف كل يشء ،إال أن بني أمية قد أحاطوا بعثامن وغلبوا
األمة عىل رأهيا عنده ،فكان من عاقبة ذلك ما كان من الفتن ،حتى استقر األمر فيهم بقوة
العصبية والدهاء ،ال باستشارة الدمهاء ،فهم الذين هدموا قاعدة احلكم بالشورى يف
اإلسالم ،بدالً من إقامتها ،ووضع القوانني التي حتفظها ،وجتعل استفادة األمة منها تابعة
((1
لتقدم العلوم واملعارف وأعامل العمران فيها".
ويؤكد حمامد رفيع هذه القضية ،مشري ًا إىل أمهية الشورى يف تدبري االختالف بقوله:
"وتظهر أمهية مبدأ الشورى يف تدبري االختالف حني خيتفي وحيل حمله االستبداد بالرأي،
كام حدث بعد زمن اخلالفة الراشدة ،حيث يصبح الرأي املخالف يف اختاذ القرار مرفوض ًا
((٢
ومذموم ًا ،بل ومقبور ًا".
أما الديمقراطية فهي ابتكار برشي ،وإنجاز إنساين ،ملنع الظلم واالستبداد السيايس،
وتدبري االختالف بني األقلية واألغلبية داخل الوطن الواحد ،وإخضاع السلطة لرقابة الشعب،
واحلد من سلطات احلكام ،وبناء دولة املؤسسات ،ومحاية حقوق املواطنني وحرياهتم.
والديمقراطية ليست كفر ًا وال فسق ًا ،فكل ما يف األمر ،هو أن اغتيال الشورى يف وقت
مبكر ،وعدم قيام املسلمني بواجب الشهود احلضاري ،وإعطاء البدائل التي يقرحها الوحي
( )1رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.1٦٧
( )٢رفيع ،النظر الرشعي يف بناء االئتالف وتدبري االختالف :دراسة تأصيلية حتليلية ،مرجع سابق ،ص.1٦٧-1٦٦
٢0٦
عىل اخللق ،وممارستها عىل أرض الواقع ،ظهرت الديمقراطية بآلياهتا و"يمكن أن يقبل
املسلمون آليات الديمقراطية ،وأن خيضعوها لسقفنا اإلسالمي ،وهو التزام حكم اهلل فيام
((1
هو من القطعيات والثوابت"...
والديمقراطية يف النظر الغريب قائمة عىل ضبط الرصاع االجتامعي؛ ألن "الرصاع يف
النظر الغريب هو األصل يف العالقات البرشية ،وليس األخوة يف املنشأ ،واألصل ،واملآل،
والوظيفة االستخالفية العمرانية املشركة التي جيب التعاون عىل إنجازها ،ليصبح الكون
((٢
بيت ًا عامر ًا آمن ًا للبرشية كام هو احلال يف الرؤية اإلسالمية".
متهيد:
ُّ
وحيث ويشدّ د يشري اخلطاب القرآين يف آيات عديدة إىل مرشوعية العهود واملواثيق،
عىل الوفاء هبا ،والوقوف عند حدودها ،وااللتزام بمضامينها ،والتحذير من اخليانة والغدر
ونقض العهود ،ملا حتققه من مقاصد حفظ السلم واألمن والتعايش اإلنساين ،واجتناب
النزاعات واحلروب التي تدمر العمران ،وتعيق التنمية والتطور ،حتى قيل يف تعريف العهد:
"احلفاظ ورعاية احلق واحلرمة والعهد :األمان" (٣(،وبذلك يكون االلتزام والوفاء بالعهود
واملواثيق والعقود املرمة مع املخالف -األفراد أو األمم واجلامعات -من أصول تدبري
((٤
االختالف يف اخلطاب القرآين.
٢0٧
ونحاول دراسة هذا األصل وحتليله ،وتفكيك مضامينه ،عىل وفق سياقاته القرآنية ،يف
املواضيع اآلتية:
( (1الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،1٢ص.٢٢٦-٢٢٥
( )٢املرجع السابق ،ج ،1٧ص٤٤٤
( )٣فإن هذه األلفاظ" :العهد" و"امليثاق" و"العقد" تأخذ يف هذا الفصل نفس املعنى ،لذلك فإن الباحث يستعمل األلفاظ
الثالثة بنفس املعنى ،ويعر بجميعها .ومعتمد الباحث يف ذلك هو تعريف الطري لـ "لعقد" حيث عرفه ب"امليثاق"
وب"العهد "،يقول الطري" :و"العقود" مجع" َع ْق ٍد "،وأصل "العقد "،عقد اليشء بغريه ،وهو وصله به ،كام يعقد احلبل
ِ
باحلبل ،إذا وصل به شدّ ًا .يقال منه" :عقد فالن بينه وبني فالن عقد ًا ،فهو يعقده ..وذلك إذا َواثقه عىل أمر وعاهده عليه
ِ
عهد ًا بالوفاء له بام عاقده عليه ،من أمان وذ َّمة ،أو نرصة ،أو نكاح ،أو بيع ،أو رشكة ،أو غري ذلك من العقود ".انظر:
-الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،9ص.٤٥٢-٤٥1
( (٤قطب ،يف ظالل القرآن ،مرجع سابق ،ج ،1٣ص.٢0٥٧
( (٥الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،9ص.٤٥٢-٤٥1
٢08
أي سواء تعلق األمر بالنظام السيايس ،أو النظام األرسي ،أو النظام االقتصادي بالبيع
والرشاء ،أو غري ذلك من املعامالت اإلنسانية.
ويوجه القرآن الكريم اخلطاب ملن ينقض العهد بصيغة النهي ﴿ :ﮣ ﮤ ﮥ
ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ
ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﴾ [النحل ]9٢ :فالقرآن الكريم
يشبه ناقض العهد باملرأة التي تنقض غزهلا من بعد إحكامه وإمتام إبرامه ،فهو هني يف معرض
التقبيح ،كام يدل عىل ذلك سياق اآلية.
كام أشار هذا النص القرآين إىل أنه ال جيوز أن تكون القوة العسكرية أو غريها سبب ًا
يف نقض العهود املرمة مع املخالف ف "ال يصح أن تكون سعة األرض ،أو زيادة السلطان
سبب ًا يف الغدر ،ولذلك قال سبحانه يف بواعث الغدر﴿ :ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ﴾؛ أي
أوسع أرض ًا ،وأكثر عدد ًا ،وأقوى سالح ًا ،فال يصح أن يكون التوسع باعث ًا للغدر؛ ألنه
((1
يؤدي ال حمالة إىل الضعف".
ويشدد عىل االلتزام باملعاهدات ،ولو مع أشد الناس عداوة للمؤمنني ،قال تعاىل:
﴿ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ
ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ﴾ [التوبة ]٤ :فاالستثناء يف اآلية يتعلق باملعاهدين" ،ويف االستثناء
((٢
حكم مستمر املدى كام هو املتبادر".
( )1أبو زهرة ،املعجزة الكربى القرآن؛ نزوله ،كتابته ،مجعه ،إعجازه ،جدله ،علومه ،حكم الغناء به ،تفسريه ،مرجع
سابق ،ص.٥٤٦
( )٢دروزة ،التفسري احلديث ،مرجع سابق ،ج ،9ص.٣٥0
٢09
-2االلتزام بالعهود واملواثيق حيقن دم املخالف:
مع حرص القرآن الكريم عىل املعاهدات وااللتزام هبا ،لتدبري االختالف اإلنساين
بعيد ًا عن احلروب ،مل جيعل االلتزام بالعقود عىل إطالقه ،بل قيده بالتزام الطرف اآلخر،
لذلك أجاز القرآن الكريم قتال املخالف إذا مل يلتزم باملتفق عليه ،ونقض العهد ،قال تعاىل:
﴿ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ
ﯘ ﯙ ﯚ﴾ [التوبة ]1٢ :واألمر حسب ابن عاشور للوجوب ،وفيه اإلذن بالقتال
كام يف (آية التوبة (1(،)٥ :ويقول القنوجي البخاري" :فيه وجوب قتاهلم إذا نكثوا األيامن
ونقضوا العهد ،وأعلمنا سبحانه أهنم إذا طعنوا يف ديننا ،كطعنهم يف القرآن العظيم وسبهم
((٢
النبي ﷺ انتقض عهدهم".
وقال تعاىل حض ًا للمؤمنني عىل قتال من نقض العهد ،وسعى يف إخرج الرسول ﷺ من
وطنه ،وابتدأ املؤمنني بالقتال يوم بدر﴿ (٥( :ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ
٢10
فنقض العهد واالبتداء بالقتال موجب ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾ [التوبة]1٣ :
لقتاهلم دفع ًا للعدوان ،وإرغامهم عىل احرام العهود ،وحس ًام ملادة النزاع واالختالف،
ليسود السلم والسالم املجتمع اإلنساين.
وقال تعاىل يف إشارة إىل أنه ال سبيل للمؤمنني عىل من مل يقاتل ،وأراد السلم بدخوله
ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ﴾ [النساء: يف عداد من بينه وبني املسلمني ميثاق ﴿ :ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ
]90يقول ابن الفرس" :خذوا الكافرين واقتلوهم حيث وجدمتوهم إال من دخل منهم يف
عداد من بينكم وبينهم ميثاق (1(،"...ويقول الزخمرشي" :كأنه قيل :إال الذين يصلون إىل
((٢
قوم معاهدين"...
ويقول تعاىل ّ
إن السلم واالستقامة عىل العهد ملن استقام عىل العهد﴿ :ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ
ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ﴾ [التوبة]٧ :؛ "أي ليس العهد إال هلؤالء الذين مل ينكثوا ﴿ ،ﭠ
((٣
ﭡ ﭢ﴾ عىل العهد ﴿ﭣ ﭤﭥ﴾ عليه".
( )1ابن الفرس ،أبو حممد عبد املنعم بن عبد الرحيم اخلزرجي .أحكام القرآن ،حتقيق :منجية بنت اهلادي النفري،
بريوت :دار ابن حزم ،ط1٤٢٧( ،1هـ٢00٦/م) ،ج ،٢ص.٢٢٧-٢٢٦
( )٢الزخمرشي ،الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون األقاويل يف وجوه التأويل ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.٢٥٢
( )٣ابن أيب زمنني ،أبو عبد اهلل حممد بن عبد اهلل بن عيسى املري .تفسري القرآن العزيز ،حتقيق :عبد اهلل بن حسني عكاشة،
وحممد بن مصطفى الكنز ،القاهرة :الفاروق احلديثة ،ط1٤٢٣( ،1ه٢00٢/م) ،ج ،٢ص.19٥
( )٤الشوكاين ،فتح القدير اجلامع بني فني الرواية والدراية من علم التفسري ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٣8٧
( )٥الطباطبائي ،امليزان يف تفسري القرآن ،مرجع سابق ،ج ،10ص.1٦1
٢11
تعاىل﴿ :ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ
ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﴾ [التوبة.]٤ :
وأبقى القرآن للمخالف حق إعالمه بقطع العالقة معه يف حالة نقض عهده مع املسلمني،
ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ﴾ [األنفال] ٥8 : قال تعاىل﴿ :ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ
"واملراد باخليانة هنا الغش ونقض العهد ،واملعنى أنه خيرهم إخبار ًا ظاهر ًا مكشوف ًا بالنقض،
وال يناجزهم باحلرب بغتة ،والظاهر أن هذه اآلية عامة يف كل معاهد خياف من وقوع النقض
منه" (1(،فالقاعدة األساسية هي﴿ :ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ﴾ [التوبة.]٧ :
فإذا كان غري املتدين حمكوم ًا برشيعة القانون الدنيوية ،فإن املؤمن حمكوم برشيعة اهلل يف
الدنيا ،ومستحرض لعقيدة البعث واجلزاء يف اآلخرة ،لذلك كان االلتزام بالعقود واحرامها
عقيدة عند املسلمني ،ألن اهلل تعاىل مسائلهم عنها يوم احلساب ﴿ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾
[اإلرساء .]٣٤ :يقول الطري ..." :إن اهلل جل ثناؤه سائل ناقض العهد عن نقضه إياه ،يقول:
فال تنقضوا العهود اجلائزة بينكم ،وبني من عاهدمتوه أهيا الناس فتخفروه ،وتغدروا بمن
((٢
أعطيتموه ذلك".
من خالل اآليات السابقة يتبني مدى تأكيد القرآن الكريم عىل احرام العقود واملواثيق،
حلقن الدماء ،وإدامة السلم يف املجتمع اإلنساين.
وتتجىل أمهية املعاهدات واملواثيق يف إدارة االختالف وتدبريه ،يف التطبيق العميل
للقرآن الكريم عىل يد رسول الرمحة حممد ﷺ (٣(،مع اليهود يف املدينة املنورة بعد اهلجرة ،يف
( )1البخاري ،العربة مما جاء يف الغزو والشهادة واهلجرة ،مرجع سابق ،ص.٧٥
( )٢الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،1٧ص.٤٤٤
ِ َقص ُه أو ك َّل َف ُه َ
فوق طا َقته أو َ ِ
أخذ ( )٣فقد شدد رسول اهلل ﷺ عىل محاية املخالف املعاهد بقوله" :أال َمن َظلم ُمعاهد ًا أو انت َ
ِ غري طِ ِ
القيامة". َفس؛ فأنا َح ِج ُ
يج ُه يوم يب ن ِ من ُه شيئ ًا بِ ِ
-أبو داود ،سنن أيب داود ،مرجع سابق ،كتاب اخلراج والفيء واإلمارة ،بابَ :ت ْع ِشري ِ
أهل الذمة إذا اختلفوا
بالتجارات ،ج ،٤حديث رقم ( ،)٣0٥٢ص.٦٥٣
٢1٢
إطار التأسيس ألول دولة إسالمية "فخانوا وغدروا"( (1ومعاهدة صلح احلديبية مع مرشكي
مكة" (٢(،فنقضوا عهدهم" (٣(،والعهد النبوي لنصارى نجران بتاريخ الثالث من حمرم ،يف
((٤
السنة الثانية للهجرة.
( )1رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،10ص.1٣٤
( )٢ابن هشام ،السرية النبوية ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.٢0٥-٢0٤
( )٣رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،10ص.1٣٤
( )٤احليدر آبادي ،جمموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي واخلالفة الراشدة ،مرجع سابق ،ص ٥٦1وما بعدها.
( )٥انظر حتليل الوثيقة يف:
-العمري ،أكرم ضياء .املجتمع املدين يف عهد النبوة ،خصائصه وتنظيامته األوىل ،حماولة لتطبيق قواعد املحدثني
يف نقد الروايات التارخيية ،املكتبة العربية السعودية ،اجلامعة اإلسالمية ،املجلس العلمي ،املدينة املنورة :إحياء
الراث اإلسالمي ،ط1٤0٣( ،1ه198٣/م) ،ص.81
( )٦رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،10ص.1٣٤
( )٧يوتغ :هيلك.
٢1٣
يثرب حرام جوفها ألهل هذه الصحيفة ..،وإنه ما كان بني أهل هذه الصحيفة من حدث أو
اشتجار خياف فساده ،فإن مرده إىل اهلل عز وجل ،وإىل حممد رسول اهلل ﷺ ...،وإنه ال جتار
قريش وال من نرصها ،وإن بينهم النرص عىل من دهم يثرب ...،وإنه ال حيول هذا الكتاب
((1
دون ظامل وآثم ،وأنه من خرج آمن ،ومن قعد آمن باملدينة ،إال من ظلم أو أثم".
هذا نموذج لوثيقة دستورية ،أقر فيها النبي ﷺ احلق يف االختالف ،وعمل عىل تدبريه
هبذه الوثيقة؛ إذ أقر اليهود عىل دينهم ،وأعطاهم احلق يف ممارسة شعائرهم ،كاملسلمني؛
ألهنم مواطنون مثلهم مثل املسلمني ،وجعلت املعاهدة أهل املدينة مجيعهم أمة واحدة –
األمة السياسية ال األمة الدينية -متساوين يف احلقوق والواجبات ،من نرص للمظلوم،
والتعاون عىل احلرب ونفقاهتا يف حالة االعتداء عليهم ،وجعل املرجعية العليا يف النزاعات
املتعلقة بالنظام العام للدولة هي الرشيعة اإلسالمية ،وقبل اليهود ذلك ،ويف هذا رد عىل من
يرفض تطبيق أحكام الرشيعة ،يف ما يتعلق بالنظام العام للدولة ،يف بلد إسالمي فيه أقليات
غري مسلمة ،فهؤالء هيود يثرب قبلوا املرجعية اإلسالمية ،فليس أقليات البلدان اإلسالمية
بأفضل من هؤالء زمن رسول اهلل ﷺ ،إال إذا كان أولئك يفهمون اإلسالم ،وحقيقته يف
التعامل مع املخالف ،وهؤالء ال يفهمون هذه احلقيقة أو يتجاهلوهنا.
أقرت الصحيفة بقاء اليهود عىل دينهم :جاء يف الوثيقة" :وأن هيود بني عوف أمة مع
فالوثيقة هبذه القاعدة تعرف باختالف ((٢
املؤمنني ،لليهود دينهم ،وللمسلمني دينهم"،
الرشائع ،من غري إقراره أو تسويغه ،لكنها مع ذلك ال تعدّ هذا النوع من االختالف مانع ًا
دون إمتام التعاون ،لتحقيق مصالح املجتمع اإلنساين.
٢1٤
-التعاون عىل حتقيق مصالح املجتمع:
أشارت الوثيقة إىل قاعدة التعاون عىل حتقيق مصالح جمتمع املدينة ،جاء يف الوثيقة:
"وإنه من تبعنا من هيود ،فإن له النرص واألسوة ،غري مظلومني وال متنارصين عليهم ...وإن
بينهم النرص عىل من حارب أهل هذه الصحيفة ،وإن بينهم النصح والنصيحة والر دون
اإلثم ...وإن النرص للمظلوم ،وإن اليهود ينفقون مع املؤمنني ما داموا حماربني ..وإن بينهم
((1
النرص عىل من دهم يثرب".
وإذا كانت الوثيقة يف هذه القاعدة تشري إىل التعاون عىل محاية املدينة من االعتداء
اخلارجي ،فإن هذا يفتح الباب واسع ًا أمام املسلمني للتعاون مع املخالف يف كل املجاالت
التي حتقق النفع العام.
فهذا العهد من حسن سياسته ﷺ ،وكامل حكمته ،ألف بني املسلمني واليهود ومجع
بينهم ،هبذه املعاهدة ،فصاروا أمة ومجاعة واحدة ،يتمتعون باحلقوق الكاملة ال فرق بينهم،
ويتعاونون يف دفع االعتداء عنهم .فهذا تدبري لالختالف العقدي والفكري والسيايس بني
سكان الوطن الواحد ،ممتث ً
ال يف ذلك املنهج القرآين الذي خاطب األنبياء والرسل مجيعهم
بأهنم "أمة واحدة" ﴿ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ﴾ [املؤمنون.]٥٢ :
وكانت هذه املعاهدة شاقة عىل املسلمني؛ ألهنم اعتقدوا أن فيها ذالً للمسلمني،
وإعطاء للدنية ،وهم عىل احلق ،وال سيام سيدنا عمر؛ إذ قال» :يا رسول اهلل ،ألست برسول
اهلل؟ قال" :بىل" قال :أو لسنا باملسلمني؟ قال" :بىل" قال :أو ليسوا باملرشكني؟ قال" :بىل"
قال :فعالم نعطي الدنية يف ديننا؟ قال" :أنا عبد اهلل ورسوله ،لن أخالف أمره ،ولن يضيعني"
قال :فكان عمر يقول :ما زلت أتصدق وأصوم وأصيل وأعتق ،من الذي صنعت يومئذ،
((٢
خمافة كالمي الذي تكلمت به ،حتى رجوت أن يكون خري ًا".
٢1٥
ونص املعاهدة" :قال :ثم دعا رسول اهلل عيل بن أيب طالب رضوان اهلل عليه ،فقال:
"اكتب :بسم اهلل الرمحن الرحيم" ،قال :فقال سهيل :ال أعرف هذا ،ولكن اكتب :باسمك
اللهم ،فقال رسول اهلل ﷺ" :اكتب بسمك اللهم" فكتبها ،ثم قال" :اكتب :هذا ما صالح
عليه حممد بن عبد اهلل ،سهيل بن عمرو ،اصطلحا عىل وضع احلرب عن الناس عرش سنني
يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض ،عىل أنه من أتى حممد ًا من قريش بغري إذن وليه
رده عليهم ،ومن جاء قريش ًا ممن مع حممد مل يردوه عليه ،وإن بيننا عيبة مكفوفة ،وأنه ال
إسالل وال إغالل ،وأنه من أحب أن يدخل يف عقد حممد وعهده ،دخل فيه ،ومن أحب أن
((1
يدخل يف عقد قريش وعهدهم ،دخل فيه".
يتبني للقارئ املتمعن يف هذه املعاهدة معاين جليلة ،وتوجيهات عظيمة ،يف التعامل
مع املخالف املعارض ،ابتدأت املعاهدة باحرام املخالف يف اعتقاده ،واإلذعان إىل اختياره،
رغبة من الرسول ﷺ يف تدبري االختالف ،مع أن رشوط املعاهدة يف الظاهر ال ختدم الدعوة
اإلسالمية ،لكن رسول اهلل ﷺ واثق من وعد اهلل له ،وحريص عىل الصلح وترك احلرب.
وجتدر اإلشارة إىل أن هذه القصة اشتملت عىل نوعني من االختالف؛ األول:
"اختالف خارجي مع املرشكني" ،جاءت هذه الوثيقة إلدارته وتدبريه ،وم ّثلهم يف عقدها
سهيل بن عمرو ،والثاين" :اختالف داخيل بني املسلمني" ،ويتعلق باالختالف حول مضمون
هذه الوثيقة ،ويمثل هذا النوع من االختالف ،سيدنا عمر وعموم املسلمني ،والنبي ﷺ.
والدليل هو ما ورد يف احلديث السابق ،من تردد سيدنا عمر واستفساره ،وشعوره بالدونية
إزاء هذه الوثيقة ،وكان هذا االختالف عىل شكل معارضة مجاعية ،إال ما كان من موقف
سيدنا أيب بكر املؤيد ملوقف رسول اهلل ﷺ.
كان العهد النبوي لنصارى نجران بتاريخ الثالث من حمرم يف السنة الثانية للهجرة،
وجاء فيه" :وإن احتمى راهب أو سائح يف جبل أو ٍ
واد أو مغارة أو عمران أو سهل أو رمل
٢1٦
أو ردنة أو بيعة ،فأنا أكون من ورائهم ذا ّب ًا عنهم ،من كل عدة ،هلم بنفيس وأعواين وأهل
ملتي وأتباعي ،كأهنم رعيتي وأهل ذمتي ،وأنا أعزل عنهم األذى ...وال يغري أسقف من
أسقفيته ،وال راهب من رهبانيته ،وال حبيس من صومعته ،وال سائح من سيحته ،وال هيدم
بيت من بيوت كنائسهم وبيعهم ،وال يدخل يشء من مال كنائسهم يف بناء مسجد وال يف
منازل املسلمني ،فمن فعل شيئ ًا من ذلك فقد نكث عهد اهلل وخالف رسوله ،وال ُحيمل عىل
الرهبان واألساقفة ،وال من يتعبد جزية وال غرامة ،وأنا أحفظ ذمتهم أينام كانوا من بر أو
بحر ،يف املرشق واملغرب والشامل واجلنوب ،وهم يف ذمتي وميثاقي وأماين من كل مكروه،
وكذلك من ينفرد بالعبادة يف اجلبال واملواضيع املباركة ،ال يلزمهم ما يزرعوه ،ال خراج وال
((1
عرش ...ومن خالف عهد اهلل واعتمد بالضد من ذلك فقد عىص ميثاقه ورسوله".
((٣
ظهر من خالل هذه الوثيقة مدى إيامن اإلسالم باالختالف ،والتعددية((٢الدينية،
ومحايته للمخالف املغاير يف الفكر والعقيدة ،وعدم إكراهه عىل تغيري دينه ومعتقده ،بل
شملت احلامية بيوت عباداهتم ،ورجال دينهم املحبوسني للعبادة يف صوامعهم ،وعدم
فرض اجلزية عليهم (٤(،فهذا عهد أمان لنصارى نجران ،يقرهم عىل رشيعتهم ،و ُيؤ ّمنهم من
كل مكروه أو اعتداء ،سواء من طرف املسلمني أو غريهم ،ويدير العالقة معهم ،وينظمها
( )1احليدر آبادي ،جمموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي واخلالفة الراشدة ،مرجع سابق ،ص ٥٦1وما بعدها.
( )٢التعددية مصدر صناعي ،يستعمل للداللة عىل اخلاصية املأخوذة من لفظ "التعدد "،بمعنى أن التعددية هي خاصية
كون اليشء متعدد ًا ،مثل" :التعددية الثقافية" و"تعددية األطراف" و»تعددية األحزاب ».انظر:
-عبد احلميد ،أمحد خمتار .معجم اللغة العربية املعارصة ،بريوت :عامل الكتب ،ط1٤٢9( ،1هـ٢008 /م)،
مرجع سابق ،ج ،٢ص.1٤٦٤
-عبد الرمحن ،طه .تعدد القيم :ما مداها؟ وما حدودها؟ ،مراكش :املطبعة الورقية الوطنية ،ط٢001 ،1م،
ص.1٢
( )٣انظر :حمارضة »التعددية الدينية» سعيد فودة ،يناقش مذهب القائلني بالتعددية الدينية ،وذكر أدلتهم وحماولة
نقدها ،..وخالصة هذا املذهب الفلسفي حسب املحارض :أن مجيع األديان الكرى طرق صحيحة ،توصل إىل اهلل،
أو إىل احلقيقة العليا ،أو األسمى.
https: //www.youtube.com/watch?v=KwetodXI0Cc
( )٤انظر الكالم عىل اجلزية ،واالجتهاد يف النص.
-عامرة ،معامل املنهج اإلسالمي ،مرجع سابق ،ص.11٣-11٢
٢1٧
ويضبطها حتى ال تتحول إىل اختالف تنازع وصدام أو معارضة هدامة ،تشتت وال جتمع،
وهتدم وال تبني.
وبناء عىل هذا التأصيل القرآين ،والتطبيق العميل لرسول اهلل ﷺ ،فإن ما ذكره الفقهاء
فيام يتعلق بالعالقات الداخلية بني املواطنني ،أو ما يتعلق بالعالقات اخلارجية بني الدول،
وال سيام ما يتعلق باملعاهدات واملواثيق ،حيتاج إلعادة قراءة عىل ضوء املستجدات التي
يشهدها العامل اليوم ،ألن تلك االجتهادات صيغت يف ظل قوة اإلسالم ،بخالف ما عليه
األمر اليوم ،حيث يعيش املسلمون حالة من االستضعاف ،ساهم فيها تفرقهم وتشتتهم إىل
دويالت نووية ،وهذا ما يتطلب اجتهاد ًا فقهي ًا يالئم املرحلة.
وما ينبغي مراعاته يف مراجعة هذه املعاهدات واملواثيق ،هو مقاصدها وغاياهتا ،لذلك
قرر علامء األصول قواعد ضابطة وحاكمة من قبيل" :االعتبار باملعاين واملقاصد يف األقوال
((٢
واألفعال" (1(،و"العرة يف العقود للمقاصد واملعاين ،ال لأللفاظ واملباين".
((٣
وهذا ما قرره جملس جممع الفقه اإلسالمي الدويل املنبثق عن منظمة املؤمتر اإلسالمي:
"ليس هناك مانع رشعي من إبرام االتفاقيات الدولية التي ال تتعارض مع مبادئ اإلسالم
وأحكامه ،وال تؤدي إىل هيمنة أي قوة دولية عىل الدول املتعاقدة أو عىل الدول األخرى
وذلك يف مجيع املجاالت التي حتقق مصلحة املسلمني".
أما ما يتعلق باختالف العلامء يف مسألة :هل جيوز إبرام عقود الصلح دائمة مع
( )1ابن القيم ،إعالم املوقعني عن رب العاملني ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.1٣٤
( )٢الزرقا ،أمحد .رشح القواعد الفقهية ،صححه وعلق عليه :مصطفى أمحد الزرقا ،دمشق :دار القلم ،ط،٢
(1٤09هـ1989/م) ،ص .٥٥وانظر أيض ًا:
-الزحييل ،حممد مصطفى .القواعد الفقهية وتطبيقاهتا يف املذاهب األربعة ،دمشق :دار الفكر ،ط 1٤٢٧( ،1ه٢00٦/م)،
مرجع سابق ،ج ،1ص.٤0٣
-الريسوين ،أمحد .نظرية املقاصد عند الشاطبي ،بريوت :الدار العاملية للكتاب اإلسالمي ،ط،٢
(1٤1٢ه199٢/م) ،ص.٧9
( )٣انعقدت دورته السابعة عرشة بعامن يف (اململكة األردنية اهلاشمية) من ٢8مجادى األوىل إىل ٢مجادى اآلخرة
1٤٢٧هـ ،املوافق ٢8 – ٢٤حزيران (يونيو) ٢00٦م .انظر:
http: //www.fiqhacademy.org.sa/qrarat/17-9.htm
٢18
املخالف؟ أم ينبغي توقيته بأجل معني؟ يقول البوطي" :فإننا ال نرى ما يمنع من الذهاب إىل
جواز إبرام صلح دائم ،بناء عىل أن السلم يف العالقات القائمة بني املسلمني وغريهم ،بل
بني الناس مجيع ًا عىل اختالف نحلهم وفئاهتم هو األصل ،برشط أن ينهض هذا الصلح عىل
أساس متكني املسلمني بواجبهم الذي كلفهم اهلل به ،أال وهو واجب الدعوة إىل اهلل ،وتبصري
((1
الناس بحقائق اإلسالم دون أي إحراج أو تضييق".
ّ
إن أصل االلتزام بالعهود واملواثيق يف القرآن الكريم ،حيقق احلفاظ عىل اجلامع
اإلنساين بتدبري االختالف ،واحلد من النزاع الواقع أو املتوقع ،وحيقن الدم اإلنساين برصف
النظر عن جنسه أو معتقده ،ويمنع فساد األرض باحلروب ،ويساهم يف االستقرار واألمن
إلعامر األرض وتنميتها ،والتعاون عىل املشرك وجتاوز املختلف فيه ،وقد ترمجت السنة
املطهرة ذلك عىل أرض والواقع ،وزاده الفقهاء حتقيق ًا وتنقيح ًا.
فالوفاء بكل العهود واملواثيق ،سواء بني األفراد أو اجلامعات أو األمم ،أصل قرآين
لتدبري االختالف اإلنساين ،فالناس مضطرون إىل التعاون ،وال يتم تعاوهنم إال بمراعاة
العهد والوفاء به ،وال يتم تدبري اختالفاهتم ،ومد جسور احلوار والتعارف ،إال بالعقود التي
يعقدوهنا بينهم ،داخل الوطن الواحد ،واملوسومة بالدساتري ،والقوانني التنظيمية ،التي
حتكم العالقة بني احلاكم واملحكومني ،وحتكم العالقة بني املواطنني ،واألمر نفسه ينطبق عىل
املعاهدات واملواثيق الدولية ،التي حتافظ عىل السلم واألمن العامليني ،وغريها من املواثيق.
متهيد:
ممارسة واجب األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،كفيل بحامية األلفة واالجتامع
اإلنساين ،وممارسة النقد البناء ،فإنه يقوم بتطهري املجتمع من املنكر وبناء رصح املعروف،
وتنظيم العالقات اإلنسانية ،ليقل املنكر ويشيع املعروف يف املجتمع اإلنساين( ،(٢وشواهد
( )1البوطي ،اجلهاد يف اإلسالم كيف نفهمه؟ وكيف نامرسه؟ ،مرجع سابق ،ص.٣00-٢٢9
( )٢وقد كان يف تاريخ اإلسالم يطلق عىل القائمني بمهمة "األمر باملعروف والنهي عن املنكر" "املحتسبني" ومهمتهم
مالحقة االنحرافات الدينية واالجتامعية والسياسية يف واقع الناس.
٢19
هذا األصل يف اخلطاب القرآين كثرية ومتنوعة يف سياقاهتا ،نتعرض بالتحليل والدراسة ملا
كان منها واضح الداللة:
املعروف :اسم جامع لكل ما عرف من طاعة اهلل والتقرب إليه ،وقيل :ما عرف حسنه
ال ورشع ًا ،قال
ال ورشع ًا .وضده املنكر ،وهو :ما أنكره الرشع وهنى عنه ،وعرف قبحه عق ً
عق ً
تعاىل﴿ :ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ﴾ [آل عمران ،]10٤ :وقال تعاىل ﴿ :ﯧ ﯨ ﯩ
ﯪ ﯫ ﴾ [لقامن ،]1٧ :وقال تعاىل﴿ :ﭲ ﭳ ﭴ﴾ [األحزاب (1(،"]٣٢ :ف«األمر باملعروف:
اإلرشاد إىل املراشد املنجية ،والنهي عن املنكر :الزجر عام ال يالئم يف الرشيعة (٢(،"...ويقول
رشيد رضا" :املعروف عند إطالقه يراد به ما عرفته العقول والطباع السليمة واملنكر ضده،
((٣
وهو ما أنكرته العقول والطباع السليمة".
( )1ابن منظور ،لسان العرب ،مادة( :عرف) ،مرجع سابق ،ج ،9ص .٢٣9وانظر:
-الراغب األصفهاين ،املفردات يف غريب القرآن ،مرجع سابق ،مادة( :عرف) ،ص.٥٦1
-ابن اجلوزي ،نزهة األعني النواظر يف علم الوجوه والنظائر ،مرجع سابق ،ص.٥٧٤
وذكر ابن اجلوزي أن »املعروف» عند أهل التفسري عىل ثامنية أوجه :الت َّْو ِحيد ،ا ِّت َباع النبي ﷺ ،ا ْل َق ْرض ،تَزْ يني املرأة
ِ
نفسها ،التعريض باخلطبة يف العدة ،القول اجلميل ،ما يتيس لإلنسان يف العادة ،العادة احلسنة .وتفسري املعروف عىل
مخسة وجوه :األول :القرض ...والثاين :الزينة ...والثالث :العدة احلسنة ...والرابع :الدعاء باخلري ...واخلامس:
ما تيس عىل اإلنسان ...وتفسري األمر باملعروف والنهي عن املنكر عىل وجهني :األول :األمر باملعروف بالتوحيد،
والنهي عن املنكر عن الرشك ...والثاين :األمر باملعروف اتباع النبي ﷺ والتصديق به ،واملنكر التكذيب به.
ال مستحسن ًا ،غري مستقبح يف أهل اإليامنويقول الطري" :وأصل "املعروف" كل ما كان معروف ًا فعله ،مجي ً
باهلل ،وإنام سميت طاعة اهلل "معروف ًا" ،ألنه مما يعرفه أهل اإليامن وال يستنكرون فعله .وأصل "املنكر" ،ما أنكره اهلل،
ورأوه قبيح ًا فعله ،ولذلك سميت معصية اهلل "منكر ًا" ،ألن أهل اإليامن باهلل يستنكرون فعلها ،ويستعظمون ُركوهبا".
الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٧ص .10٥يف سياق تفسريه لقوله تعاىل ﴿ :ﭞ -
ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ﴾ [آل عمران.]110 :
هني عام متيل إليه النفس
أمر بام يوافق الكتاب والسنة ،والنهي عن املنكرٌ : ( )1ومتام كالمه" :وقيل :األمر باملعروفٌ :
والشهوة ،وقيل :األمر باملعروف إشارة إىل ما ُيريض اهلل تعاىل من أفعال العبد وأقواله ،والنهي عن املنكر :تقبيح ما
تنفر عنه الرشيعة والعفة ،وهو ما ال جيوز يف دين اهلل تعاىل ".انظر:
-اجلرجاين ،كتاب التعريفات ،مرجع سابق ،ص.٣٧-٣٦
( )٢رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،٤ص .٢٣يف سياق تفسري قوله تعاىل ﴿ :ﮖ ﮗ ﮘ
ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾ [آل عمران ،]10٤ :وانظر أيض ًا:
السعدي ،تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان ،مرجع سابق ،ج ،1ص.1٤٢ -
٢٢0
وعىل هذا ،فإن املقصود بأصل األمر باملعروف والنهي عن املنكر :االحتكام إىل كل ما
يستحسنه العقل والرشع من أعامل اخلري والنفع اإلنساين ،ملا يف ذلك من تدبري لالختالف،
وتقليل أسبابه ،واتساع مساحة املعروف ،وتضييق مساحة املنكر.
وألمهية األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،يف تدبري االختالف اإلنساين ،جعله اخلطاب
القرآين واجب ًا عىل كل فرد قادر عليه ،يقول ابن تيمية يف قوله تعاىل﴿ :ﮑ ﮒ ﮓ
ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﴾ [التوبة" ]٧1 :مناط الوجوب هو القدرة،
فيجب عىل كل إنسان بحسب قدرته ،قال تعاىل ﴿ :ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾ [التغابن (1(".]1٦ :وذهب
((٢
املفسون إىل أن األمر باملعروف والنهي عن املنكر "واجب عىل كل فرد من األمة بحسبه".
وبذلك يكتسب مرشوعيته يف أعىل مراتب التكليف الرشعي ،فيكون طلبه طلب ًا جازم ًا ،يلحق
العقاب من تركه ،ويؤجر فاعله ،وهو واجب عىل الفرد واجلامعة :هيئة أو نقابة أو منظمة أو
دولة ،وبذلك يكون إبداء الرأي باملعروف والنهي عن املنكر ،قربة يتقرب هبا اإلنسان إىل ربه،
ويسأل عنها يوم القيامة.
وقد اقترصت اآليات القرآنية يف أصل األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،عىل جمرد
األمر والنهي ،بينام احلديث الرشيف رتب األمر باملعروف والنهي عن املنكر عر مستويات
ثالثة :اليد واللسان والقلب (٣(،قال ﷺَ " :م ْن َر َأى ِمنْك ُْم ُمنْكَر ًا َف ْل ُي َغ ْ ِّري ُه بِ َي ِد ِهَ ،فإِ ْن ْمل َ َي ْستَطِ ْع
( )1ابن تيمية ،احلسبة يف اإلسالم ،أو وظيفة احلكومة اإلسالمية ،مرجع سابق ،ص .11وانظر:
-ابن تيمية ،األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،مرجع سابق ،ص .9ويقول العز بن عبد السالم أن فروض
الكفايات تتفاوت فيام جتلبه من مصلحة ،أو تدرؤه من مفسدة» :وكذلك تتفاوت رتب األمر باملعروف والنهي
عن املنكر بتفاوت رتب املأمور به يف املصالح واملنهي عنه يف املفاسد».
-ابن عبد السالم ،قواعد األحكام يف إصالح األنام ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٧٧
( )٢ابن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،٢ص .91وانظر كذلك:
السعدي ،تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان ،مرجع سابق ،ج ،1ص .1٤٢يف سياق تفسري قوله تعاىل: -
﴿ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾ [آل عمران.]10٤ :
٢٢1
اإل َيام ِن" (1(،يقول فريد األنصاري" :أمره ﷺ
ف َِْفبِ ِل َسانِ ِهَ ،فإِ ْن َمل ْ َي ْستَطِ ْع َفبِ َق ْلبِ ِهَ ،و َذلِ َك َأ ْض َع ُ
بتغيري املنكر عام شامل لكل مكلف يف نفسه ،شهد منكر ًا أو سمع به ..،وهو بتحقيق مناطه
اليوم يكون واجب ًا عيني ًا ،متعلق ًا بذمة كل مكلف يف ذاته جتاه نفسه واآلخرين ،وجوب ًا ال
((٢
تسقطه رخصة إسقاط ًا تام ًا ،وإنام تتباين مراتبه حسب مؤهالت الفرد وإمكاناته".
لكن بالنظر إىل اآليات القرآنية التي حتدد مهمة رسول اهلل ﷺ يف جمرد التبليغ ،دون
هداية الناس؛ ألهنا من عند اهلل ،تكون هذه اآليات هي املوجه واملرشد لألمر باملعروف
والنهي عن املنكر ،بأن يكون دور الفرد مقترص ًا عىل التبليغ باللسان بالتي هي أحسن،
واإلنكار بالقلب ،أما اليد فهي من اختصاص اجلهة التي تفوضها الدولة ،يقول الزخمرشي
يف تفسري قوله تعاىل ﴿ :ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ
ﮣ ﮤ﴾ [آل عمران" :]10٤ :وأما اإلنكار الذي بالقتال ،فاإلمام وخلفاؤه أوىل؛ ألهنم
((٣
أعلم بالسياسة ومعهم عدهتا".
فاألمر باملعروف والنهي عن املنكر باللسان والقلب ،أو باليد من طرف اجلهة املكلفة
يف الدولة ،ضامنة لتدبري االختالف؛ ألنه يعطي احلق للمخالف يف التعبري عن رأيه ،واحلق
يف اعتناق اآلراء واألفكار واملعتقدات ،ألن القرآن حيدد مهمة النبوة يف التبليغ ،واإلرشاد،
( )1مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :اإليامن ،باب :بيان كون النهي عن املنكر من اإليامن ،وأن اإليامن يزيد
وينقص ،وأن األمر باملعروف والنهي عن املنكر واجبان ،ج ،1حديث رقم ( ،)٤9ص.٦9
( )٢األنصاري ،الفجور السيايس واحلركة اإلسالمية يف املغرب دراسة يف التدافع االجتامعي ،مرجع سابق ،ص.٥9
( )٣الزخمرشي ،الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون األقاويل يف وجوه التأويل ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.188
( )٤ابن تيمية ،احلسبة يف اإلسالم ،أو وظيفة احلكومة اإلسالمية ،مرجع سابق ،ص .11وانظر كذلك:
-ابن تيمية ،األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،مرجع سابق ،ص.9
٢٢٢
واجلدل بالتي هي أحسن ،من غري إكراه وال فرض ،مع اعرافه باالختالف ،وألنه لو مل
يكن اختالف يف اآلراء –معروف ومنكر -ما كان قصد وال غاية من ترشيع األمر باملعروف
والنهي عن املنكر.
وقال تعاىل يأمر املسلمني أن ينتدبوا من بينهم من يقوم بواجب الدعوة إىل اخلري،
واألمر باملعروف والنهي عن املنكر ﴿ :ﮖ ﮗ ﮘ( (٢ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ
ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﴾ [آل عمران" (٣(]10٤ :واملقصود من هذه اآلية أن تكون ْفر َقة
( )1الشاعر ،أمحد عبد احلميد .القرآن الكريم يف مواجهة املاديني امللحدين ،الكويت :دار القلم ،ط1٤0٢( ،٢ه198٢/م)،
ص.٥٤
( )٢يقول ابن عاشور" :وأصل األمة يف كالم العرب الطائفة من الناس التي تؤم قصد ًا واحد ًا :من نسب ،أو موطن ،أو
دين ،أو جمموع ذلك ،ويتعني ما جيمعها باإلضافة أو الوصف كقوهلم :أمة العرب ،أمة غسان ،وأمة النصارى ".انظر:
-ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،٤٧ص .٣٧
( )٣العامري ،أبو املكارم نجم الدين حممد بن حممد بن حممد الغزي العامري القريش الدمشقي .رسالة يف الكالم عىل
آية األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،حققها وضبطها وعلق عليها :نشأت بن كامل املرصي ،بريوت :املكتبة
اإلسالمية ،ط1٤٢٦( ،1ه٢00٥/م).
اعتمد املؤلف يف هذا الكتاب عىل ما ذكره الزخمرشي يف الكشاف عند تفسريه هلذه اآلية ،وكان عمل املؤلف يف
هذا الكتاب هو :الرشح ،واالستدراك ،والزيادة عىل ما ذكره الزخمرشي يف الكشاف ،وهي رسالة نافعة يف مسائل
األمر باملعروف والنهي عن املنكر.
٢٢٣
من األ َّمة متصدية هلذا الشأن (1(،"...ويقول ابن عطية فيام يرويه عن الضحاك والطري
((٢
وغريمهاُ " :أ ِم َر املؤمنون أن تكون منهم مجاعة هبذه الصفة (٣("...صفة اخلري ،واألمر
باملعروف والنهي عن املنكر ،يف كل جوانب احلياة؛ ألنه يتعذر القيام هبذه املهمة من كل
األمة ،وال سيام يف زماننا" ،وصيغة﴿ :ﮖ ﮗ ﮘ﴾ صيغة وجوب ألهنا أرصح يف
((٤
األمر من صيغة افعلوا ألهنا أصلها".
ويؤكد رشيد رضا هذا املعنى ،عندما يرى أن األمة ليس املقصود هبا اجلامعة" :كام قيل
وإال ملا اختري هذا اللفظ ،والصواب أن األمة أخص من اجلامعة ،فهي اجلامعة املؤلفة من
أفراد ،هلم رابطة تضمهم ،ووحدة يكونون هبا كاألعضاء يف بنية الشخص" (٥(،وهذا الذي
ذكره رشيد رضا ينطبق عىل التنظيامت املعارصة ،من نقابات ومجعيات وأحزاب ،فإن هلم
برناجم ًا يربطهم ،وهم يتألفون وجيتمعون كالشخص الواحد.
وجه اهلل تعاىل أمره بتكوين األمة اآلمرة باملعروف ،والناهية عن املنكر ،بني أمرين
يتصل كل منهام بوحدة األمة ،واجتامع كلمتها ،عىل مستوى النظر والعمل ،فإذا كان سبحانه
وتعاىل يأمرنا يف هذه اآلية بتكوين األمة ،فإنه قد سبق هذه اآلية قوله تعاىل ﴿ :ﭱ
ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
ﮄ﴾ [آل عمران ،]10٣ :ثم أعقبها سبحانه بقوله﴿ :ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ
((٦
ﮮ ﮯﮰ ﴾ [آل عمران.]10٥ :
وذهب جل املفسين إىل أن األمر باملعروف والنهي عن املنكر واجب كفائي» ،العلامء
اتفقوا عىل أن األمر باملعروف والنهي عن املنكر من فروض الكفايات ومل خيالف يف ذلك إال
( )1ابن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،٢ص ،91وانظر أيض ًا:
-السعدي ،تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان ،مرجع سابق ،ج ،1ص.1٤٢
( )٢الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٧ص.90
( )٣ابن عطية ،املحرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٤8٥
( )٤ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٣٧
( )٥رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٣0
( )٦العلواين ،األزمة الفكرية ومناهج التغيري ،مرجع سابق ،ص.18٦
٢٢٤
النزر»؛( (1أي إذا قام به بعضهم سقط عن اآلخرين؛ أي إذا قامت به مجاعة أو فئة ،أو قامت
به الدولة من خالل املؤسسات املختصة ،سقط الوجوب عن األفراد.
واألمر باملعروف والنهي عن املنكر ،أحد وظائف الدولة املسلمة ،قال تعاىل يف حق
من إن مكنهم يف األرض تقربوا إىل اهلل بالعبادات ،ومنها األمر باملعروف والنهي عن املنكر
﴿ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ
ﮔ ﮕ﴾ [احلج" ،]٤1 :واملراد من هذا التمكن السلطنة ونفاذ القول عىل اخللق (٢(".فإذا
حتقق التمكني يف األرض ،كانت وظيفة الدولة هي القيام هبذه الوظائف األربع ،ومنها األمر
باملعروف والنهي عن املنكر ،كام فعل اخللفاء الراشدون -ريض اهلل عنهم ،-يقول رشيد رضا
رد ًا عىل من خصص اآلية يف اخللفاء الراشدين ..." :يتجه األمر يف مجيع الناس ،وإنام اآلية آخذة
((٣
عهد ًا عىل كل من مكّنه اهلل ،كل عىل قدر ما ُم ِّك ْن"...
واألمر باملعروف والنهي عن املنكر يتخذ صيغ ًا خمتلفة ،ختتلف باختالف العصور
واألزمان ،فالنقابات ،واألحزاب ،واهليئات ،واجلمعيات ،والتنظيامت ،كلها تقوم عىل
أساس األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،وكلها تنظيامت جيمعها برنامج فكري واحد،
تدافع عنه وتعدّ ه معروف ًا.
( )1اآللويس ،روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين ،مرجع سابق ،ج ،٢ص ،٢٣8وانظر كذلك:
الزخمرشي ،الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون األقاويل يف وجوه التأويل ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.18٧ -
اجلصاص ،أحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٣1٥ -
ابن تيمية ،احلسبة يف اإلسالم ،أو وظيفة احلكومة اإلسالمية ،مرجع سابق ،ص.11 -
ابن تيمية ،األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،مرجع سابق ،ص.9 -
التلمساين ،أبو عبد اهلل بن قاسم العقباين .كتاب حتفة الناظر وغنية الذاكر يف حفظ الشعائر وتغيري املناكر، -
حتقيق :عيل الشنويف ،دمشق :املعهد الثقايف الفرنيس19٦٧ ،م ،ص.٤
ويقول األشعري" :وأمجعت املعتزلة إال "األصم" عىل وجوب األمر باملعروف والنهي عن املنكر مع اإلمكان
والقدرة "..انظر:
-األشعري ،مقاالت اإلسالميني واختالف املصلني ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٣٣٧
( )٢الرازي ،مفاتيح الغيب ،مرجع سابق ،ج ،٢٣ص.٤٢
( )٣رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٦1
٢٢٥
-3األمر باملعروف والنهي عن املنكر حافظ جلامعة األمة وألفتها:
وسواء قامت األمة بمجموعها بذلك ،أو قامت به مجاعة أو طائفة ،أو قام به فرد
واحد ،كان املقصود هو االجتامع واالئتالف ،والتعاون عىل إقامة واجب األمر باملعروف
والنهي عن املنكر ،وهذا ما يؤكده سياق اآلية؛ إذ أمر اهلل تعاىل يف اآلية التي قبلها باالعتصام
بحبل اهلل واأللفة وهنى عن االفراق ،فقال تعاىل﴿ :ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ
ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ﴾ [آل عمران.]10٣ :
"فاألمر باملعروف والنهي عن املنكر حفاظ اجلامعة وسياج الوحدة ...وأما كون هذا حفاظ ًا
للوحدة ومانع ًا من الفرقة ،فهو أن األمة إذا اجتمعت عىل هذا املقصد العايل الرشيف ،وهو
أن تكون مسيطرة عىل األمم كلها ،ومربية هلا ومهذبة لنفوسها فال شك أن مجيع األهواء
الشخصية تتالشى من بينهم ،فإذا عرض احلسد والبغي ألحد من أفرادهم تذكروا وظيفتهم
العالية الرشيفة التي ال تتم إال بالتعاون واالجتامع ،فأزالت الذكرى ما عرض ،وشفت
((٢
النفوس قبل متكُّن املرض".
( )1ابن عطية ،املحرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٤8٥
( )٢رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٢٤-٢٣
٢٢٦
-4األمر باملعروف والنهي عن املنكر مشرتك إنساين:
ولتأكيد هذا املشرك اإلنساين يف تدبري االختالف ،جعل اهلل تعاىل األمر باملعروف
والنهي عن املنكر ،من أوصاف نبي الرمحة حممد ﷺ ،ومن أوصاف أمته ،كام ن ّبه عىل أنه
ليس خاص ًا بأمة اإلسالم وحدها ،ولعن وأنكر عىل من تركه من األمم السابقة ،وطلب
إجياد أويل بقية ينهون عن الفساد يف األرض ،يقول تعاىل ﴿ :ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ
ﭹﭺﭻﭼ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮃﮄ﴾
[األعراف ،]1٥٧ :يروي القرطبي عن عطاء﴿" :ﮀ ﮁ﴾ بخلع األنداد ،ومكارم
((1
األخالق ،وصلة األرحام ﴿ .ﮂ ﮃ ﮄ ﴾ عبادة األصنام ،وقطع األرحام".
واألمر باملعروف والنهي عن املنكر ،من أوصاف أمة اإلسالم ،ومن أسباب خرييتها،
قال تعاىل ﴿ :ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩﭪ﴾ [آل عمران ،]110 :فخريية األمة ليست حماباة ،وال مصادفة ،وال نفي ًا لآلخر ،كام كان
أهل الكتاب يقولون﴿ :ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ﴾ [املائدة ،]18 :بل هي خريية العمل اإلجيايب،
الذي حيمي احلياة البرشية وحيفظها من املنكر ،وينرش املعروف ،باالستناد إىل املرجعية
((٢
اإليامنية املحددة للمنكر واملعروف.
وجلاللة قدر هذا األصل ،قرنه اهلل تعاىل باإليامن باهلل ،الذي هو سبب النجاة وأصل
السعادة والسالمة ،فجمعت هذه األمة الصفتني مع ًا ،وبسبب ذلك كانت خري أمة أخرجت
((٣
للناس ،واستحقت املدح عىل ذلك.
((٤
كام قرنه احلق سبحانه بالصالة والزكاة ،وهي عبادات من أركان اإلسالم الكرى،
قال تعاىل﴿ :ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ
ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﴾ [احلج .]٤1 :ف "النهوض بتكاليف األمة اخلرية ،بكل ما وراء
٢٢٧
هذه التكاليف من متاعب ،وبكل ما يف طريقها من أشواك ...إنه التعرض للرش والتحريض
عىل اخلري وصيانة املجتمع من عوامل الفساد ...وكل هذا متعب شاق ،ولكنه كذلك
رضوري إلقامة املجتمع الصالح وصيانته ،ولتحقيق الصورة التي حيب اهلل أن تكون عليها
((1
احلياة".
وقال تعاىل منكر ًا عىل املنافقني ،الذين هم عىل خالف صفات املؤمنني ،الذين
يأمرون باملعروف وينهون عن املنكر﴿ (٢( :ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ
ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ﴾ [التوبة .]٦٧ :و"ملا ذكر اهلل تعاىل صفات املنافقني الذميمة،
﴿ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ((٣
عطف بذكر صفات املؤمنني املحمودة"
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾ [التوبة.]٧1 :
فاألمر باملعروف والنهي عن املنكر ،ليس خاص ًا بأمة اإلسالم ،بل هو أصل مشرك مع
أهل الكتاب .يقول تعاىل يف حق أمة من أهل الكتاب﴿ :ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﴾ [آل عمران ]11٤ :وعىل
هذا يكون "املراد أهنم يأمرون باملعروف وينهون عن املنكر «فيام بينهم وإن مل يكن هلم صوت
لغلبة ِ
الف ِ
سق والفساد عل ْيها (٤(".فاألمر باملعروف والنهي عن املنكر املراد هنا ِ يف مجهور أمتِ ِهم
يف هذه اآلية مطلق ،كام هو األمر والنهي الوارد بخصوص املسلمني ،فال جيوز ختصيصه بغري
دليل (٥(،كام أن هذا املشرك جاء يف سياق ذكر مشركات أخرى :اإليامن باهلل ،واإليامن باليوم
اآلخر ،واملسارعة يف فعل اخلريات.
٢٢8
وصاه باألمر باملعروف والنهي عن املنكر ،والصر عىل ما يصيبه من أذى فيهام ،فإن "ذلك
إنه ّ
((1
من مكارم األخالق وعزائم أهل احلزم السالكني طريق النجاة".
وتأكيد ًا هلذا املشرك اإلنساين ،لعن اهلل تعاىل من ترك هذا الواجب من بني إرسائيل:
﴿ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ
ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ﴾ [املائدة]٧9-٧8 :
ٍ
منكر ف َعلو ُه؛ أي أهنم كانوا يتناهون عن
ْ فقد "ذم اهلل تعاىل هذه الفرقة امللعونة بأهنم كانوا ال
ناه فعن غري جد ،بل كانوا ال يمتنع املمسك منهم عن يتجاهرون باملعايص ،وإن هنى منهم ٍ
مواصلة العايص ومؤاكلته وخلطته (٢(".عن عبد اهلل بن مسعود قال :قال :ﷺََّ " :ملا َو َق َع ْت
وه ْم ِيف َجمَالِ ِس ِه ْم َ -ق َال َي ِزيدُ َ :أ ْح ِس ُب ُه ِ بنُو إِ ِ
رسائ َيل ِيف ا َْمل َعايصَ ،هنَت ُْه ْم ُع َل َام ُؤ ُه ْمَ ،ف َل ْم َينْت َُهواَ ،ف َجا َل ُس ُ َ َْ
ض ،و َلعنَهم َع َىل لِسانِ ِ ِ
َ وب َب ْعض ِه ْم بِ َب ْع ٍ َ َ ُ ْ رض َب اهللُ ُق ُل َ وه ْمَ ،ف َ َ وه ْم َو َش َار ُب ُ َق َالَ :و َأ ْس َواق ِه ْمَ -و َوا َك ُل ُ
ول اهللِ ﷺ ُمت َِّكئ ًاَ ،ف َج َل َس، َان َر ُس ُ ون"َ ،وك َ يسى ا ْب ِن َم ْر َي َمَ ،ذلِ َك بِ َام َع َص ْوا َوكَانُوا َي ْعتَدُ َ ِ
َد ُاو َدَ ،وع َ
ِ ِِ ِ
َ ْ ً ((٣
احل ِّق أطرا".وه ْم َع َىل ْ َ َف َق َال"َ :الَ ،وا َّلذي َن ْفيس بِ َيدهَ ،حتَّى ت َْأ ُط ُر ُ
وأنكر القرآن الكريم عىل قوم لوط بعد إعراضهم عن املعروف ،ومتادهيم يف املنكر،
ومل يعبأوا بخطاب لوط ،وحذرهم من أن إتيان املنكر وشيوعه سبب يف اهلالك ،قال تعاىل:
[العنكبوت.]٢9 : ﴿ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾
وقال تعاىل يف طلب إجياد أويل بقية ينهون عن الفساد يف األرض﴿ :ﯣ ﯤ ﯥ
ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ﴾ [هود" ]11٦ :يقول تعاىل ذكره :فهال
كان من القرون الذين قصصت عليك نبأهم يف هذه السورة ،الذين أهلكتهم بمعصيتهم
إياي ،وكفرهم برسيل من قبلكم﴿ .ﯩ ﯪ﴾ ،يقول :ذو بقية من الفهم والعقل ،يعترون
َ
مواعظ اهلل ويتدبرون حججه ،فيعرفون ما هلم يف اإليامن باهلل ،وعليهم يف الكفر به ﴿ ﯫ
( )1القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،1٤ص .٦9وانظر أيض ًا:
-ابن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،٦ص.٣٣8
-البغوي ،معامل التنزيل ،مرجع سابق ،ج ،٦ص.٢89
-السعدي ،تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٦٤8
( )٢ابن عطية ،املحرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٢٢٤
( )٣ابن حنبل ،مسند أمحد ،مرجع سابق ،ج ،٦حديث رقم ( ،)٣٧1٣ص.٢٥0
٢٢9
ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ﴾ ،يقول :ينهون أهل املعايص عن معاصيهم ،وأهل الكفر باهلل عن
((1
كفرهم به يف أرضه".
وباجلملة ،يتبني مما سبق أن أصل األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،أصل عالجي
لالختالف اإلنساين ،ألنه لو ترك النزاع اإلنساين القائم حتى يسترشي ،واخلصام حتى
يستفحل ،فإنه سيؤدي حت ًام إىل ضياع اجلوامع ،واملشركات اإلنسانية .وحرص ًا من اخلطاب
القرآين عىل األلفة ،وبناء روابط التعاون ،والتواصل اإلنساين ،أمر اخللق بإقامة األمر
باملعروف والنهي عن املنكر ،لتدبري االختالف وبناء االئتالف.
وأكد القرآن الكريم هذا األصل لتدبري االختالف اإلنساين يف سياقات خمتلفة –
كام سبق بيانه-؛ إذ أعطى احلق يف إبداء الرأي املعارض ،والوقوف مع احلق واملعروف،
والرفض لكل منكر يف حرية تامة ،وأمر اهلل تعاىل به "لرفع احلق وإمخاد الباطل" (٢(،فهو أصل
لسري نظام احلكم يف الدولة اإلسالمية ،وضابط للعالقات األخرى ،سواء كانت فردية أو
أرسية أو اجتامعية.
فهذا األصل حيمي املجتمع اإلنساين من الظلم واالستبداد والفساد ،واالنفراد بالرأي،
واختاذ القرار من جهة واحدة حيمي احلقوق ،ويساعد عىل أداء الواجبات ،يرد املظامل إىل
أهلها ،ويوجه اخلالف اإلنساين ،ويضبطه بطلب احلق ،وقصد الصواب" ،فإذا توهم متوهم
فيام هو حق ،أنه باطل وتصوره بخالف صورته ،فأخذ يذب عنه ،فالواجب يف األمر باملعروف
((٣
والنهي عن املنكر ،أن يدفع عن ذلك ،ويبني له وجه خطئه لريجع عنه ويتبرص".
ّ
إن تعطيل األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،وختاذل الناس يف ممارسته ،مدخل لفساد
احلكم ،وأكل أموال الناس بالباطل ،وضياع احلقوق ،والتامطل يف أداء الواجبات ،إىل غري
ذلك من مظاهر الفساد؛ مما ينتج عنه خراب العمران ،وال خيفى ما ينتج عن هذا كله من
نزاعات واختالفات ال يعلم كنهها إال اهلل .يقول الغزايل" :األمر باملعروف والنهي عن املنكر
( )1الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،1٥ص.٥٢٧-٥٢٦
( )٢الشاطبي ،املوافقات يف أصول الرشيعة ،مرجع سابق ،ج ،1ص.1٧٥
( )٣ابن فورك ،أبو بكر حممد بن احلسن .جمرد مقاالت أيب احلسن األشعري ،حتقيق :أمحد عبد الرحيم السايح ،القاهرة:
مكتبة الثقافة الدينية ،ط1٤٢٧( ،٢هـ٢00٦/م) ،ص.٣09
٢٣0
هو القطب األعظم يف الدين ،وهو املهم الذي ابتعث اهلل له النبيني أمجعني ،ولو طوى بساطه
وأمهل علمه وعمله لتعطلت النبوة ،واضمحلت الديانة ،وعمت الفرة ،وفشت الضاللة،
وشاعت اجلهالة ،واسترشى الفساد واتسع اخلرق ،وخربت البالد ،وهلك العباد ومل يشعروا
((1
باهلالك ،إال يوم التناد".
-سبيل األنبياء والصاحلني ،من األمم السابقة ،وعالمة حممد ﷺ عند أهل الكتاب،
وسبب خريية األمة اإلسالمية ،وقوام نظام دولتها.
-حيقق اخلري لإلنسانية ،بتوسيع دائرة املعروف واإلصالح ،وتضييق دائرة املنكر
والفساد ،وتطهري املجتمع اإلنساين من األمراض التي تثري االختالفات والنزاعات،
فينحرص الفساد يف دوائر ضيقة ،يستطيع املجتمع السيطرة عليها.
-يؤثر يف الفرد واملجتمع ،وذلك بالقضاء عىل أسباب االنحراف ومظاهره ،ويقطع
كل الطرق املؤدية إىل اجلريمة ،وذلك بتقوية الوازع الذايت لألفراد ،ونرش ثقافة
قانون األخالق يف املجتمع.
-مشرك إنساين ،لذلك طلب اخلطاب القرآين إجياد أويل بقية ،ينهون عن الفساد يف األرض.
-أسلوب سلمي يف معاجلة االختالف وتدبريه؛ إذ أكد القرآن الكريم الدعوة واجلدل
بالتي هي أحسن.
-حيمي املجتمع اإلسالمي واإلنساين ،من مثارات االختالف والنزاع ،وحيافظ عىل
الوحدة واالئتالف.
٢٣1
خامتة:
من خالل ما تقدم يتبني أن هذه األصول الترشيعية متثل مشرك ًا إنساني ًا ،وآليات قوية
لتدبري االختالف الداخيل واخلارجي ،والديني واإلنساين ،فهي متثل املستوى الثاين لتدبري
االختالف ،بعد املستوى العقدي ،فهي املدخل واألرضية األوسع ،ومتثل اجلواب القرآين
الترشيعي العميل ألسئلة الوفاق اإلنساين ،يف واقعنا املعارص.
٢٣٢
الفصل الثالث:
( )1الزبيدي ،تاج العروس من جواهر القاموس ،مرجع سابق ،مادة( :هنج) ،ج ،٦ص ،٢٥1وانظر أيض ًا:
-الفريوز آبادي ،بصائر ذوي التمييز يف لطائف الكتاب العزيز ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.1٢8
( )٢النشار ،عيل سامي .نشأة الفكر الفلسفي يف اإلسالم ،القاهرة :دار املعارف ،ط19٧٧ ،9م ،ج ،1ص .٣٦وانظر أيض ًا:
-البوطي ،حممد سعيد رمضان .السلفية مرحلة زمنية مباركة ال مذهب إسالمي ،دمشق :دار الفكر ،ط،1٤
(1٤٣1ه٢010/م) ،ص.٦0
( )٣البيانوين ،حممد أبو الفتح .املدخل إىل علم الدعوة دراسة منهجية شاملة لتاريخ الدعوة وأصوهلا ومناهجها وأساليبها
ووسائلها ومشكالهتا يف ضوء النقل والعقل ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط1٤1٥( ،٣ه199٥/م) ،ص.٤٥
( )٤بدوي ،عبد الرمحن ،مناهج البحث العلمي ،الكويت :وكالة املطبوعات ،ط19٧٧ ،٣م ،ص.٧
( )٥ونريد قبل الدراسة والتحليل هلذا املبحث اإلشارة يف عجالة إىل اآليت:
-كثر يف اخلطاب القرآين جمادلة أهل الكتاب خاصة ،ومن ذلك قوله تعاىل﴿ :ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ
ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﮙ ﮚ﴾ [آل عمران ،]٦٥ :وقوله تعاىل﴿ :ﯾ ﯿ ﰀ
ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﴾ [آل عمران[ ،]٧0 :النساء[ ،]1٧1 :املائدة[ ،]٥9 :املائدة[ ،]٦8 :املائدة ،..]٧٧ :وقال
تعاىل مرشد ًا املسلمني إىل األسلوب األحسن يف املنهج اجلديل مع أهل الكتاب﴿ :ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ
ﭗ ﭘ ﭙ﴾ [العنكبوت ،]٤٦ :وقال تعاىل يف أساس هذا املنهج ،وهو االعتامد عىل الدليل والرهان﴿ :ﭷ ﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ﴾ [األنعام.]1٤8 :
واخلطاب القرآين حافل بعدد من املواقف اجلدلية ،سواء مع أهل الكتاب أو غريهم من املخالفني عموم ًا، -
مما يدل عىل أن اخلطاب القرآين اعتمد املنهج اجلديل يف تدبري االختالف مع املخالف ،وهذا ما سنقوم بإثباته
يف هذا املبحث .يقول ويل اهلل الدهلوي» :قد وقعت املخاصمة يف القرآن العظيم مع الفرق األربع الضالة= :
٢٣٣
رسمته اآليات القرآنية للبحث عن احلقيقة (1(،وهو املقصود يف هذه الدراسة ،فاملراد باملنهج:
"أصول اجلدل واملناظرة التي أشار إليها اخلطاب القرآين للبحث عن احلقيقة ،وهي تنقسم إىل
أصول كلية ،وأصول تفصيلية ،وهذه األخرية تنقسم إىل :أصول أخالقية ،وأصول معرفية".
فإذا كان الفصل األول عالج األصول التصورية العقدية ،والفصل الثاين تناول
األصول الترشيعية العملية ،فإن هذا الفصل جاء لدراسة األصول املنهجية لتدبري االختالف،
والتي تعنى باحلوار واجلدل بالتي هي أحسن؛ أي تدبري االختالف العلمي واملعريف بقواعد
حيادية ،حتمي العقل والفكر من االعوجاج يف االستدالل واملحاججة.
=املرشكني واليهود والنصارى واملنافقني ،وهذه املخاصمة عىل طريقني :األول :أن يذكر سبحانه وتعاىل
العقيدة الباطلة ،مع التنصيص عىل شناعتها ،ويذكر استنكارها فحسب .الثاين :أن يبني شبهاهتم الواهية،
ويذكر حلها باألدلة الرهانية أو اخلطابية ".انظر:
-الدهلوي ،الفوز الكبري يف أصول التفسري ،مرجع سابق ،ص.٢0
أما شبهة من قال بمنع احلوار مع املخالف فإهنا باطلة ،ألن اهلل تعاىل قال –زيادة عىل ما سبق﴿ :-ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ
ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾[النحل،]1٢٥ :
رش ِكنيَ بِ َأ ْم َوالِك ُْم َو َأ ْن ُف ِسك ُْم َو َأ ْل ِسنَتِك ُْم ".انظر: وقال ﷺ" :ج ِ
اهدُ وا ا ُْمل ْ ِ َ
-احلاكم ،املستدرك عىل الصحيحني ،مرجع سابق ،كتاب :اجلهاد ،ج ،٢حديث رقم ( ،)٢٤٢٧ص.91
ويقول ابن حزم" :وهذا حديث يف غاية الصحة وفيه األمر باملناظرة وإجياهبا كإجياب اجلهاد والنفقة يف سبيل
اهلل ".انظر:
-ابن حزم ،اإلحكام يف أصول األحكام ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٢٦
وانظر كذلك رد ابن تيمية عىل شبهة :منع اجلدل مع الكفار بناء عىل ظهور دالئل النبوة يف:
-ابن تيمية ،اجلواب الصحيح ملن بدل دين املسيح ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٢٤٣
ورده كذلك عىل شبهة :منع اجلدل مع الكفار ،بناء عىل نسخ آيات اجلدال معهم بآيات السيف ،وفرضية
اجلهاد ،وجاء رده عىل هذه الشبهة يف تسعة وجوه .انظر:
-املرجع السابق ،ص .٢٤٦-٢19
ولالستزادة انظر:
-الزين ،حممود أمحد .حوار القرآن مع املخالفني :أصوله وأساليبه ،التدقيق اللغوي :رشوق حممد سلامن،
إخراج :حميي الدين حسني يوسف ،ديب :دائرة الشؤون اإلسالمية والعمل اخلريي ،إدارة البحوث .ط،1
(1٤٣٢ه٢011/م).
( )1الباجي ،أبو الوليد سليامن بن خلف بن سعد التجيبي القرطبي .املنهاج يف ترتيب احلجاج ،حتقيق :عبد املجيد تركي،
بريوت :دار الغرب اإلسالمي ،ط198٧ ،٢م ،ص .8وانظر أهم الكتب التي ألفت يف فن اجلدل يف:
-املراكيش ،ابن البناء .رسالة يف اجلدل بمقتىض قواعد األصول ،حتقيق :حمامد رفيع ،بريوت :دار ابن حزم ،ط،1
(1٤٣1هـ٢010/م) ،ص.٣٢
٢٣٤
ونحاول يف هذه الدراسة استقراء آيات اخلطاب القرآين ،واستنباط هذه األصول
املنهجية لتدبري االختالف املعريف ،العتقادنا أن سلوك طريق اجلدل هبذه األصول املنهجية،
سبيل نافع لتدبري االختالف اإلنساين ،ولتقويم اخلالفات ،والنزاعات الفكرية واملعرفية،
واالختيارات املنهجية القديمة واحلديثة؛ ألن مسالك احلجاج( (1كام يقول طه عبد الرمحن
((٢
"حتصل اإلقناع".
حيق له االعراض
موجه إىل الغري إلفهامه دعوى خمصوصة ّ "احلجاج" هوّ : ( )1يقول طه عبد الرمحنِ :
"كل منطوق به ّ
عليها ".انظر:
-عبد الرمحن ،طه .اللسان وامليزان أو التكوثر العقيل ،الدار البيضاء :املركز الثقايف العريب ،ط1998 ،1م،
ص.٢٢٦
( )٢عبد الرمحن ،طه .يف أصول احلوار وجتديد علم الكالم ،الدار البيضاء :املركز الثقايف العريب ،ط٢000 ،٢م ،ص.٦٦
( )٣يقول القرضاوي" :فالعقلية العلمية هي التي تنحي األهواء واالنفعاالت والعواطف جانب ًا ،وتنظر إىل األمر نظرة
موضوعية حمايدة ".يف:
-القرضاوي ،العقل والعلم يف القرآن الكريم ،مرجع سابق ،ص.٢٥٣
٢٣٥
-1أصل تزكية النفس:
القرآن الكريم بربيته العظيمة ،زكّى وعالج كل خصائص وصفات ومستويات النفس
أصال منهجي ًا من األصول الكلية لتدبري
اإلنسانية (1(،األمر الذي جيعل تزكية النفس اإلنسانية(ً (٢
االختالف اإلنساين ،فهو أصل مثمر للعلم ،وللتحاب والتوافق والتآلف ،جيعل االختالف
إجيابي ًا ال سلبي ًا (٣(،فتدبري االختالف ال يمكن أن يتحقق إال بعد التخلص من ميوالت النفوس
ونوازعها ،وضبطها بتوجيهات الرشع ،وبغري تزكية النفس خيرج اجلدل العلمي واملعريف من
دائرة العلم والتعاون عىل كشف احلقائق ،إىل دائرة االنتصار للنفس وحب الغلبة.
ٍ
معان منها :النامء والطهارة واإلصالح (٤(،فهي تعني تطهري والتزكية يف اللغة تطلق عىل
النفس( (٥من الرشك واملعايص ،وتنميتها وإصالحها بالطاعات واألعامل الصاحلة ،ف "قوله:
( )1امليداين ،عبد الرمحن حسن حبنكة ،األخالق اإلسالمية وأسسها ،دمشق :دار القلم ،ط1٤٢0( ،٥هـ1999/م)،
ج ،1ص.٢٢٧
( )٢يقول طه عبد الرمحن :إن عمل التزكية "هو العمل اجلذري الذي إذا دخل فيه اإلنسان ،أخذ يقطعه عن سابق أحواله،
وعىل قدر تغلغله فيه ،يكون انقطاع هذه األحوال عنه ،حتى خيرج إىل أضدادها؛ إذ يتوىل حتريره من سلطان النفس
عليه ،حتى إذا ترقى يف هذا التحرر ،اسرجع ذاكرته األصلية التي فطر عليها ،وجتددت صلته بالعامل الغيبي ،وحينها
يقطع البقية الباقية من حب السيادة عىل غريه ،منقلب ًا بالكلية إىل عبادة ربه ،شاهد ًا بحاله فض ً
ال عن مقاله" .انظر:
-عبد الرمحن ،طه .روح الدين :من ضيق العلامنية إىل سعة االئتامنية ،الدار البيضاء :املركز الثقايف العريب ،ط،٢
٢01٢م ،ص.٢٦-٢٥
وذكر ماجد عرسان الكيالين أن حمتوى منهاج التزكية يف الربية اإلسالمية يشمل :تزكية النفس ،وتزكية
البيئة العامة .وأنواع تزكية النفس :تزكية القدرات العقلية ،وتزكية القدرات اإلرادية ،وتزكية القدرات السمعية
والبرصية ،وتزكية اجلسم .انظر:
-الكيالين ،ماجد عرسان .مناهج الرتبية اإلسالمية واملربون العاملون فيها ،بريوت :عامل الكتب ،ط،1
(1٤1٦ه199٥ /م) ،ص.٢01-1٣0
( )٣تدبري االختالف بتزكية النفس اإلنسانية جيعل االختالف إجيابي ًا وبنا ًء ،ويقابله عند النوريس" :اخلالف السلبي عندما
حياول كل خمالف إبطال مذهب خمالفه ،والتفرد باحلق والصواب ،ومبعثه احلقد والعداوة والضغينة ،وهذا النوع
مردود غري معتر ،ألن البحث عن احلقيقة فيه ألجل أغراض شخصية ،وللتسلط واالستعالء ،وإشباع شهوات
نفوس فرعونية ،ونيل الشهرة وحب الظهور ".انظر:
-النوريس ،كليات رسائل النور ( )2املكتوبات ،مرجع سابق ،ص.٣٤٧
( )٤ابن منظور ،لسان العرب ،مرجع سابق ،مادة( :زكا) ،ج ،1٤ص.٣٥8
( )٥والنفس يف اخلطاب القرآين أطلقت "عىل يشء هو يف داخل كيان اإلنسان ،يشتمل عىل كل الصفات واخلصائص
التي تكونت منها ماهيته دون النظر إىل اهليكل اجلسدي الذي هو وعاء هلا ".انظر:
-امليداين ،األخالق اإلسالمية وأسسها ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٢٢٧
٢٣٦
﴿ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ﴾ [الشمس .]9 :يقول :قد أفلح من زكَّى اهلل نفسه ،فك َّثر تطهريها من الكفر
((1
واملعايص ،وأصلحها بالصاحلات من األعامل".
ونشري بالدراسة والتحليل إىل معامل هذا األصل املنهجي القرآين يف املسائل اآلتية:
تزكية النفس اإلنسانية من املقاصد العامة لرسالة سيدنا حممد ﷺ (٢(،قال تعاىل يف
دعوة إبراهيم وإسامعيل لألمة املسلمة املوعودة ﴿ :ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ
ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ﴾ [البقرة ]1٢9 :يقول القرطبي:
((٣
"يعني حممد ًا ﷺ".
( )1الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٢٤ص.٤٥٦
ويف التزكية يقول العلامء املعارصون" :فعندما نقول :تزكية النفس ،فاملراد :ختليص النفس من نجاساهتا ،ومن
شهوانيتها اخلاطئة ،وحيوانيتها اهلابطة ،ومن منازعتها الربوبية ،وختليصها من كل أنواع الظلامت ،وإنام بعث الرسل
عليهم الصالة والسالم ملثل هذا ".انظر:
-حوى ،املستخلص يف تزكية األنفس ،مرجع سابق ،ص .٢8وقال يف ص .." :1٥٥فمام يدخل يف تزكية النفس
تطهريها من شهواهتا املحرمة ،أو تطهريها من السلوك املحرم لقضاء الشهوات".
ويقول ماجد عرسان الكيالين" :التزكية عملية تطهري وتنمية شاملني ،هدفها استبعاد العنارص املوهنة إلنسانية
اإلنسان ،وما ينتج عن هذا الوهن من فساد وخت ُّلف وخسان ،وتنمية كاملة للعنارص املحققة إلنسانية اإلنسان ،وما
ينتج عن هذه التنمية من صالح وتقدم وفالح يف حياة األفراد واجلامعات .فالتزكية حسب هذا التعريف نوعان:
تزكية معنوية ميداهنا العقيدة والقيم والثقافة .وتزكية مادية مادهتا النظم والتطبيقات ".انظر:
-الكيالين ،مناهج الرتبية اإلسالمية واملربون العاملون فيها ،مرجع سابق ،ص.1٢٧
( )٢الريسوين ،مقاصد املقاصد :الغايات العلمية والعملية ملقاصد الرشيعة ،مرجع سابق ،ص.٤٤
( )٣القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.1٣1
٢٣٧
واملتأمل يف اآليات الثالث األخرية ،جيد أن القرآن الكريم قدم "التزكية" عىل "تعليم
الكتاب واحلكمة" ،وفيه إشارة عظيمة إىل أمهية التزكية قبل التعليم؛ ألن العلم من دون
تزكية نفسية ،وتربية خلقية ،يؤدي إىل التعايل عىل اخللق والتكر عليهم؛ مما يعود عىل
املجتمع البرشي بالضياع واخلسان ،فال بد من ختليق العلم بتزكية النفس ،للحد من
مثارات االختالف والنزاع اإلنساين ،والواقع اإلنساين املعارص ،دليل االنفصام النكد بني
العلم والتزكية؛ إذ تطور العلم يف كل املجاالت اإلنسانية ،ومل يواكبه تطور أخالقي بربية
النفس وتزكيتها »فمقتىض النظر املقاصدي يف هذا اإلشكال العميق التأسيس لعقد القران
((1
بني ثنائيتي التحصيل اإليامين والتحصيل املعريف"...
وكان ﷺ يدعو ربه ،ويطلب تزكية نفسه ،فعن زيد بن أرقم أن رسول اهلل ﷺ كان
اب ،ا ْل َق ْ ِر ِ
"الله َّم إِ ِّين َأ ُعو ُذ بِ َك م َن ا ْل َع ْج ِزَ ،وا ْلك ََس ِلَ ،و ْ ُ
اجل ْب ِنَ ،وا ْل ُب ْخ ِلَ ،و ْاهل َ َر ِمَ ،و َع َذ ِ ُ يقول:
((٢
ْت َولِ ُّي َها َو َم ْو َال َها"... َّاهاَ ،أن َ
ْت َخ ْ ُري َم ْن َزك َآت َن ْف ِيس َت ْق َو َاهاَ ،و َزك َِّها َأن َ
اللهم ِ
ُ َّ
فإن تزكية النفس اإلنسانية وتطهريها ،وحتليها باألوصاف املحمودة اخلرية ،واجتناهبا
األوصاف املذمومة ،أصل قوي لتدبري االختالف اإلنساين ،وذلك بسمو اإلنسان عىل نزعاته
وميوالته النفسية ،حتى يصل اإلنسان إىل مرتبة اإلحسان ،الذي عرفه النبي ﷺ يف احلديث
الصحيح الذي رواه عمر بن اخلطاب عن النبي ﷺ قالَ " :أ ْن َت ْع ُبدَ اهللََّ ك ََأن ََّك ت ََرا ُهَ ،فإِ ْن َمل ْ َت ُك ْن
ت ََرا ُه َفإِ َّن ُه َي َراك".
َ ((٣
وبذلك يتأهل اإلنسان بحق للخالفة عن اهلل تعاىل يف األرض ،واإلسهام الفعال يف
عامرهتا وتنميتها ،وحتقيق الغاية الكرى من وجوده لعبادة اهلل الواحد األحد ﴿ ﭳ ﭴ
ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾ [الذاريات ]٥٦ :ويرى العلواين أن من شأن التزكية "أن تقوم بتحصني
اإلنسان من داخله ضد سائر استعدادات الرش واالنحراف فيه ،وسائر املؤثرات اخلارجية
٢٣8
عليه ،وحتجيم نوازعه الداخلية ،وتوجيه طاقاته باجتاه البناء والعمران يف إطار من الضوابط
العقلية والتزكية السلوكية واألخالقية ،ليصبح اإلنسان عمراني ًا بنّاء نافع ًا لنفسه ،مفيد ًا لبني
((1
جنسه مدرك ًا النتامئه اإلنساين ودوره العمراين"...
يشري اخلطاب القرآين إىل أن فالح اإلنسان رهني بتزكية نفسه فقال تعاىل ﴿ :ﭨ ﭩ
[الشمس]10-٧ : ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾
فقد أعطى اهلل تعاىل القدرة لإلنسان يف االختيار ،وفق ًا حلكمة اهلل يف اخللق (٢(،وخلقه وهداه
يقول الفراء" :النجدان :سبيل اخلري، [البلد]10 : النجدين ،قال تعاىل ﴿ :ﮠ ﮡ﴾
((٣
وسبيل الرش".
واملراد من هذه اهلداية" :الداللة ،وهي بمنزلة إيقاف اإلنسان عىل رأس الطريقني:
املهلك واملنجي ،مع بيان ما يؤدي إليه كل منهام ،وهي مما تفضل اهلل به عىل مجيع أفراد
البرش" (٤(،لالختيار والسعي واالجتهاد واإلبداع؛ ألن لكل إنسان حظه من اخلري والرش
مصيبه ال حمالة ،لقوله تعاىل﴿ :ﮑ ﮒ ﮓ﴾ [يس ]19 :يقول أبو عبيدة" :أي حظكم
((٥
من اخلري والرش".
وعىل اإلنسان بإرادته وعقله أن خيتار طريق تزكية النفس من أجل الفالح ،قال تعاىل:
﴿ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾ [األعىل ،]1٤ :وقال تعاىل ﴿ :ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ﴾ [الشمس" ]9 :أي طهرها ورفعها
( )1العلواين ،األزمة الفكرية ومناهج التغيري ،مرجع سابق ،ص .18انظر القواعد األساسية للتزكية عند املؤلف.
( )٢قطب ،يف ظالل القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٣0ص.٣911
( )٣الفراء ،حييى بن زياد بن عبد اهلل بن منظور الديلمي .معاين القرآن ،بريوت :عامل الكتب ،ط1٤0٣( ،٣ه198٣/م)،
ج ،٣ص.٢٦٤
( )٤رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،1ص .٥٣يف سياق تفسري قوله تعاىل﴿ :ﭧ ﭨ
ﭩ﴾ [الفاحتة.]٦ :
( )٥أبو عبيد ،معمر بن املثنى التيمي .جماز القرآن ،حتقيق :حممد فؤاد سزكني ،القاهرة :مكتبة اخلانجي( ،د .ت ،).ج،٢
ص.1٥9
٢٣9
[الشمس]10 : عن مواطن الرجس" (1(،واخلسان والضياع ،وقال تعاىل﴿ :ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾
((٢
"أي غمسها بأرجاس الكفر والفسوق والعصيان".
وهنا تأيت الربية( (٣القرآنية لتزكية النفس ،لتهز كيان اإلنسان ،وتربطه بخالقه مصدر
اهلداية والنجاة ،للقضاء عىل نوازع الرش يف النفس ،والتحيل بكل األخالق الفاضلة ،التي
تساهم يف التقليل من النزاعات والرصاعات البرشية.
ويشري القرآن الكريم إىل أن أساس التغيري هو تغيري ما بالنفوس ،قال تعاىل ﴿ :ﭑ
[األنفال]٥٣ : ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ﴾
﴿ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ
ﯦ﴾ ([الرعد.]11 :
فتزكية النفس سبب للفالح والفوز باجلنة ،قال تعاىل ﴿ :ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ﴾ [النازعات ]٤1-٤0 :فاخلشية من اهلل تعاىل ،وهني النفس عن
ميوالهتا الفاسدة ،سبب للفالح والفوز بجنة النعيم .قال تعاىل﴿ :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾ عن
امليل إليه بحكم اجلبلة البرشية ومل يعتد بمتاع احلياة الدنيا وزهرهتا ومل يغر بزخارفها وزينتها
((٤
عل ًام منه بوخامة عاقبتها ﴿ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ﴾ له ال غريها".
٢٤0
تتحقق تزكية النفس بغريه ،وهو ما رشعه من عبادات (1(،وأحكام ترشيعية ،من أجل بناء
جمتمع متحرض( (٢يقول ابن عاشور" :تزكية النفس أهم ما دعا إليه اإلسالم ،وذلك هو قسم
العبادات ،فالعبادات هلا خصوصية تزكية النفس بام يقارهنا من مراقبة اخلالق ومن التفكري
يف رفع الدرجات ،فتحصل من تكرارها آثار يف النفس تزكيها وتطهرها حتى يصري اخلري هلا
سجية (٣(،"..ويقول عامد الدين خليل إن مفهوم العبادة جتعل اإلنسان" :يتجاوز السفوح
((٤
الدنيا للنشاط البرشي إىل القمم التي تليق بمكانة اإلنسان يف العامل".
وبني القرآن الكريم أثر العبادات يف تزكية النفس اإلنسانية ،فقال تعاىل يف أثر الصالة:
،]٤٥فإن [العنكبوت: ﴿ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ﴾
الصالة تنهى عن كل املعايص التي تشتهيها النفوس ،وتستنكرها العقول والفطر ،وبذلك
يتطهر القلب ،وتقوى الرغبة يف فعل اخلريات ،فالنهي عن الفحشاء واملنكر مقصد عظيم
من مقاصد الصالة (٥(.ويقول حممد قطب يف تأثري الصالة يف اإلنسان" :الصالة التي تربط
اإلنسان بخالقه ،فإذا هو كائن عجيب ال يشبهه يشء من خلق اهلل كله ،كائن يقف بجسمه
عىل األرض ،وروحه تسبح يف السامء ،كائن قادر -يف عجزه وطاقته املحدودة الفانية -أن
( )1منهج القرآن يف تزكية النفس ،له مداخل كثرية غري العبادات ،فكل األحكام العقائدية والترشيعية واألخالقية هتدف
إىل تزكية النفس اإلنسانية ،فالقرآن الكريم منهج متكامل يف تزكية النفس اإلنسانية؛ ألهنا املدخل األول واألساس
يف أي إصالح أو تغيري ،والقرآن كله دعوة إىل تزكية النفس حتى إنه "قيل لعامل مسلم :هل قرأت أدب النفس
ألرسطو؟ فقال :بل قرأت أدب النفس ملحمد بن عبد اهلل ﷺ "..انظر:
الغزايل ،حممد .خلق املسلم ،القاهرة :هنضة مرص ،ط٢00٥ ،10م ،ص.٤ -
( )٢البهي ،حممد .منهج القرآن يف تطوير املجتمع ،القاهرة :مكتبة وهبة ،ط1٤1٦( ،٢ه199٥/م) ،ص،٣٤-9
وبني من خالهلا كيف بنى القرآن الكريم املجتمع
قام الكاتب بدراسة آيات الصالة ،والصيام ،والزكاة ،واحلجّ ،
املتحرض بتدرج.
( )٣ابن عاشور ،أصول النظام االجتامعي يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.80
( )٤خليل ،العقل املسلم والرؤية احلضارية ،مرجع سابق ،ص.19
( )٥السعدي ،تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،٦٣٢وانظر أيض ًا:
-ابن عطية ،املحرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٣19
-الشوكاين ،فتح القدير اجلامع بني فني الرواية والدراية من علم التفسري ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٢٣٦
٢٤1
يقوم باملعجزة (1("...ويقول عبد الفتاح عاشور" :والفحشاء واملنكر أسوأ ما يتصف هبام فرد
أو جمتمع ،ومهام ادعى أصحاب الدراسات األخالقية واملذاهب االجتامعية من أن دراستهم
ومذهبهم يمكن أن تقيض عىل أسباب الفواحش واملنكرات ،وتعيد لألخالق الكريمة هباءها
ورونقها مهام حاولوا فلن يستطيعوا إال إذا أعلنوا انضاممهم للواء املنهج اإلهلي ..وهذه هي
((٢
الصالة منهج متناسق لربية الفرد واملجتمع يصل هبام إىل قمة السمو األخالقي"...
فالصالة تريب اإلنسان عىل االجتامع واالئتالف ،لذلك رشع اهلل تعاىل الصالة يف
اجلامعة ،وجعل صالة اجلامعة أفضل من صالة الفرد بسبع وعرشين درجة ،ورشع صالة
اجلمعة فال تصح إال يف اجلامعة ،فهي تربية عىل االجتامع والوفاق.
والصالة مصدر مهم من مصادر التزكية النفسية ،فبها يتحقق االتصال الدائم باحلق
سبحانه ،اهلادي واملرشد لكل خري ،وحتقق لإلنسان الطهارة اجلسمية واالطمئنان النفيس،
وتعوده عىل النظام وحسن استغالل الوقت ،وغري ذلك من مقاصد وقيم.
واهلدوء الروحيّ ،
وقال تعاىل يف أثر الزكاة﴿ :ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ﴾ [التوبة .]10٣ :يقول
البيضاوي﴿" :ﮞ﴾ من الذنوب أو حب املال املؤدي هبم إىل مثله .وقرئ ﴿ ﮞ﴾
من أطهره بمعنى طهره و﴿ﮞ﴾ باجلزم جواب ًا لألمر ﴿ .ﮟ ﮠ﴾ وتنمي هبا حسناهتم
وترفعهم إىل منازل املخلصني" (٣(،فإخراج الزكاة تطهري للنفس ،وتزكية هلا؛ ألن "النفس حتب أن
تتملك ،والتملك أمر غريزي يف النفس" (٤(".والزكاة تطهري من شح النفس ،وإطالق للروح
من األثرة البغيضة التي حتس بوجودها وحدها ،وال حتس باآلخرين ،إهنا إحساس باألخوة
النبيلة التي جتمع األرسة البرشية الواحدة ،فإذا كلها قريب من قريب ،وكل فرد فيها ذو
رحم مع اآلخرين ،األخوة التي خترج باإلنسان عن الشعور بامللك فيام يمتلك ،فليس هناك
((٥
ملك خالص يف األرسة الواحدة ،وإنام الناس رشكاء يف اخلري ،أصالء يف رزق اهلل العميم".
٢٤٢
وتعود
ّ والشح واجلشع،
ّ وتطهرها من رذائل :البخل ّ وهبذا فالزكاة تزكي النفس
اإلنسان عىل األخالق احلميدة :الكرم واجلود واإليثار ،ومتكِّن من التضامن والتكافل
االجتامعي ،وتوفر االستطاعة للمحتاجني ،وتساهم يف إقامة املصالح اإلنسانية املشركة
ذات النفع العام ،وحتد من تكديس األموال يف يد األغنياء عىل حساب الفقراء ،فهي رمز
((1
لألخوة املتضامنة.
وقال تعاىل يف أن االلتزام بأحكام الرشع وما جاء به من عبادات يزكِّي النفس البرشية:
[النور: ﴿ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ﴾
،]٣0وقال تعاىل يف آداب االستئذان﴿ :ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ﴾ [النور ،]٢8 :وقال تعاىل يف أثر االلتزام باألحكام الرشعية يف التزكية ﴿ :ﮄ ﮅ
ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ﴾ [البقرة.]٢٣٢ :
يقول القرضاوي" :إن الذي ال ريب فيه :أن صالح األمم واملجتمعات إنام هو
بصالح أفرادها ،وصالح األفراد إنام هو بصالح أنفسهم التي بني جنوهبم ،وبعبارة أخرى:
بتزكية هذه األنفس حتى تنتقل من (النفس األمارة بالسوء) إىل (النفس اللوامة) ثم (النفس
"((٢
املطمئنة).
والعبادات يف اإلسالم ال تؤدي دورها يف تزكية النفس وتطهريها إال إذا روعي يف
وإىل هذا أشار اخلطاب القرآين ((٣
أدائها املعاين الباطنة ،ومرافقة العمل الظاهر للباطن،
( )1يقول طه عبد الرمحن" :إن العمل التزكوي بمقدوره أن يثبت يف قلب الفرد حب التعبد ..جمتث ًا منه حب التسيد" ..
انظر:
-عبد الرمحن ،روح الدين :من ضيق العلامنية إىل سعة االئتامنية ،مرجع سابق ،ص.٢٧0
( )٢القرضاوي ،كيف نتعامل مع القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ص.9٤
( )٣يقول طه عبد الرمحن" :الغرض من الشعرية هو ما يركه آداؤها من آثار خمصوصة يف القائم هبا تنقله من احلال التي
هو عليها إىل حال أخرى تفضلها ،وهذه اآلثار التي منها اجليل ومنها اخلفي هي التي ينبغي من جهتها أن نطلب
معقولية هذه الشعائر ،بحيث تكون الشعائر معقولة ،ال بظواهرها ،وإنام بآثارها "..انظر:
-عبد الرمحن ،طه .سؤال األخالق مسامهة يف النقد األخالقي للحداثة الغربية ،الدار البيضاء :املركز الثقايف
العريب ،ط٢000 ،1م ،ص.٥٢
٢٤٣
يف قوله تعاىل﴿ :ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ
ﭡﭢ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭫﭬﭭ
ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ
ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ﴾ [البقرة ]1٧٧ :فاخلطاب القرآين ينبه
إىل أن الر الذي هو اسم جامع لكل اخلصال احلميدة (1(،ليس مظاهر فقط ،بتولية الوجه قبل
املرشق واملغرب ،بل هو تكامل بني الظاهر والباطن (٢(،فقد " ...جعلت األعامل الظاهرة يف
دليال عىل ما يف الباطن ،فإن كان الظاهر منحرف ًا ،حكم عىل الباطن بذلك ،أو مستقي ًام،
الرشع ً
حكم عىل الباطن بذلك أيض ًا ،وهو أصل عام يف الفقه (٣("...ويقول سعيد حوى" :العبادات
الرئيسية يف اإلسالم منورة ومطهرة بقدر ما تالحظ معانيها الباطنة ،فهي تؤثر التأثري الكامل
((٤
إذا كانت كاملة بحيث يرافق عمل الظاهر فيها عمل الباطن"...
وهناك فرق بني عبادة اهلل تعاىل ،وعبادة الشهوات والغرائز ،ف "هناك فرق بني أن يكون
اهلدف من احلياة هو عبادة اهلل ،وبني أن يكون اهلدف هو عبادة الغرائز والشهوات .فقد أثبت
تاريخ اإلنسان عىل األرض ،أن اإلنسان يرتقي ويتسامى ،ويتقدم علمي ًا واجتامعي ًا حني يعبد
اهلل .ولكنه حني يعبد شهواته يقع ضحية الفرقة والرصاع والعزلة والوحدة واالغراب،
((٥
وكلها تنتهي بتحطيم اإلنسان ،أفراد ًا ومجاعات".
والعبادات تريب الضمري اإلنساين عىل التآلف والتعاون ،و"تريب الضمري اجلامعي،
والوجدان اإلنساين ،وروح التعاون بني الناس بعضهم مع بعض .والعبادات هي قوام
( )1الرازي ،مفاتيح الغيب ،مرجع سابق ،ج ،٥ص .٤0وانظر أيض ًا:
-السعدي ،تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان ،مرجع سابق ،ج ،1ص.8٣
( )٢بذلك نتخلص من النفاق االجتامعي والسيايس الذي نعاين منه يف زماننا املعارص.
( )٣الشاطبي ،املوافقات يف أصول الرشيعة ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،1٧1وانظر أيض ًا:
-ابن تيمية ،جمموع الفتاوى ،مرجع سابق ،ج ،٧ص.٥8٢
( )٤حوى ،املستخلص يف تزكية األنفس ،مرجع سابق ،ص.٣1
( )٥الكيالين ،ماجد عرسان .فلسفة الرتبية اإلسالمية :دراسة مقارنة بني فلسفة الرتبية اإلسالمية والفلسفات الرتبوية
املعارصة ،مكة املكرمة وجدة :مكتبة املنارة ودار املنارة ،ط1٤0٧( ،1ه198٧/م) ،ص.80
٢٤٤
اجلامعات؛ ألن تكوين اجلامعات ال يكون إال بأمر معنوي يؤلف بينهم ،ويزيل النفرة ،وذلك
((1
بأن يكون املؤمن رباني ًا يتجه إىل رب اخللق ،ويصر عىل ميزان احلق".
املقصود من تزكية النفس هو :احلفاظ عىل سالمة الفطرة اإلنسانية من اكتساب التعاليم
الباطلة والسيئة ،ذلك ّ
أن "من قضايا الفطرة ما هو بدهيي أو واضح للمتأمل ،ومنها ما هو
خفي عن املدركات ،ومنها ما تضاءل يف النفوس ملا غشيها من سلطان األهواء النفسية،
((٢
والعادات الذميمة واألخالق النظرية"...
وتقول عائشة عبد الرمحن" :ولو أن هذا اإلنسان قد رجع إىل فطرته ،وثاب إىل رشده
وحسه وبصريته ،الهتدى إىل معامل اخلري والرش واضحة أمامه شاخصة (٣(،"...ويقول طه
عبد الرمحن إن الناس" :كلام زاد نفوذهم إىل أرسار هذه الفطرة ،زادت قدرهتم عىل متييز
املعروف من املنكر ،بل زادت رغبتهم يف اجتالب األول واجتناب الثاين (٤(،"..فكلام نفذ
اإلنسان إىل أرسار فطرته ،تكونت لديه القدرة عىل متييز املعروف من املنكر ،بل مال إىل
املعروف وترك املنكر ،وبذلك يقع تضييق دائرة االختالف وحتقيق االئتالف.
وقد جعل اهلل تعاىل دين اإلسالم دين الفطرة فهو عام جلميع اخللق ،وهذه الفطرة
املتقررة واملركوزة يف نفوسهم مشرك جامع للبرشية عىل اختالفهم ،فهي قدر مشرك بينهم
((٥
ال يتخلف وال خيتلف.
( )1أبو زهرة ،املعجزة الكربى القرآن؛ نزوله ،كتابته ،مجعه ،إعجازه ،جدله ،علومه ،حكم الغناء به ،تفسريه ،مرجع
سابق ،ص.٤٦٢
( )٢ابن عاشور ،أصول النظام االجتامعي يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.٢1-٢0
( )٣بنت الشاطئ ،عائشة عبد الرمحن .التفسري البياين للقرآن الكريم ،القاهرة :دار املعارف ،ط( ،٧د .ت ،).ج،1
ص.18٦
( )٤عبد الرمحن ،احلق اإلسالمي يف االختالف الفكري ،مرجع سابق ،ص.٧٢
( )٥ابن عاشور ،أصول النظام االجتامعي يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.٢1-٢0
٢٤٥
وا ْلف ْط َرة يف اللغة" :اخللقة التي يكون عليها كل َم ْو ُجود أول خلقه ،والطبيعة السليمة مل
((1
العزيز ﴿ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ﴾ [الروم".]٣0 : تشب ب َع ْيب ،ويف التنْزيل ِ
فالفطرة هي الطبيعة األوىل التي خلق عليها اإلنسان ،قبل أن يتعرض للمؤثرات
((٢
اخلارجية ،وهي اجلبلة والطبيعة واخلليقة ،وأكثر ما يستعمل ذلك فيام ال يمكن تغيريه.
الف ْط َر ِةَ ،ف َأ َب َوا ُه ُ َهي ِّو َدانِ ِه َأ ْو
ود إِ َّال يو َلدُ َع َىل ِ
ُ
عن أيب هريرة قال :قال النبي ﷺ" :ما ِمن مو ُل ٍ
َ ْ َْ
ِ ِ ِ ِِ ين ِ ِ
يها م ْن َجدْ َعا َء" ،ثم يقول مج َعا َءَ ،ه ْل ُحت ُّس َ
ون ف َ يم ًة َ ْ َرصانهَ ،أ ْو ُي َم ِّج َسانه ،ك ََام ُتنْت َُج ال َب ِه َ
يم ُة َهبِ َ ُ ِّ َ
((٣
أبو هريرة ﴿ :ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ﴾ [الروم ]٣0 :اآل َي َة.
فإن احلرص عىل سالمتها ،وطهارهتا ،من شأنه التقليل من االختالف اإلنساين ،لذلك
يكتسب أصل تزكية النفس اإلنسانية ،قوته وأولويته يف تدبري االختالف اإلنساين ،يقول
امليداين" :وأساس الفطرة اإلنسانية أكثر مي ً
ال إىل احلق واخلري والفضيلة" (٤(،ويقول زيدان:
"فإذا بقيت الفطرة سليمة أدرك البرش احلق ،وزالت عنهم أسباب االختالف املقيت ،ألن اهلل
تعاىل فطرهم عىل معرفته ،وعىل إدراك احلق ،ولكن هذه الفطرة يمكن أن تلوث وتنحرف،
((٥
فال ترى احلق فيقع أصحاهبا يف االختالف املقيت".
(" )1والفطرة السليمة يف اصطالح الفالسفة :استعداد إلصابة احلكم والتمييز بني احلق والباطل ،والفطرية :القول بأن
األفكار واملبادئ جبلية وموجودة يف النفس قبل التجربة والتلقني ".انظر:
-النجار ،املعجم الوسيط ،مرجع سابق ،ص.٦9٤
( )٢ابن منظور ،لسان العرب ،مادة( :فطر) ،ج ،٥ص .٥8-٥٦وانظر االختالف يف معنى الفطرة واملراد هبا يف:
-ابن القيم ،شمس الدين حممد بن أيب بكر الدمشقي .شفاء العليل يف مسائل القضاء والقدر واحلكمة والتعليل،
حتقيق :حممد بدر الدين احللبي ،بريوت :دار الفكر1٣98( ،هـ19٧8/م) ،ص.٢8٣
العقل يف االعتقادِ
ُ ِ
بكر" :األخذ بام يرشدُ إليه والقايض أيب ٍِ وأصل الفطرة كام يروي رشيد رضا عن أيب مسل ٍم
ِ
ض يف اآليات الدالة عىل وجود الصانع ووجوب شكره ،ثم كانوا املح ِ هيتدون بعقوهلم والن ِ
َّظر ْ َ والعمل ،فكان الناس
واملضار ".انظر:
ِّ ِ
الصحيح بالنظر يف املناف ِع
ِ َ ِ
القبيح ،والباطل من َ
يميزون احلس َن من
-رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٢٢٢
صىل ِ
عليهْ ، هل ُي َّامتْ ،
الصبي َف َ
وهل ُّ لم
أس َ ( )٣البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :اجلنائز ،باب :إذا ْ
عرض عىل الصبِ ِّي اإلسال ُم ،ج ،٢حديث رقم ( ،)1٣٥8ص.9٤ ُي ُ
( )٤امليداين ،األخالق اإلسالمية وأسسها ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٢٥٤
( )٥زيدان ،اخلالف يف الرشيعة اإلسالمية ،مرجع سابق ،ص.1٢
٢٤٦
وهذه الفطرة الطاهرة النقية التي فطر اهلل عليها اإلنسان ،هتيئه ملعرفة احلقائق ،إذا خلت
من العوارض "والذي يعتمد عليه يف تفسري هذه اللفظة أهنا اخللقة واهليئة يف نفس الطفل
التي هي معدة مهيأة ألن يميز هبا مصنوعات اهلل تعاىل ويستدل هبا عىل ربه ويعرف رشائعه
ويؤمن به ،فكأنه قال﴿ :ﯔ ﯕ ﯖ﴾ الذي هو احلنيف وهو ﴿ﯙ ﯚ﴾ الذي عىل
اإلعداد له فطر البرش لكن تعرضهم العوارض (1("...ويقول الغزايل" :أي كل آدمي فطر عىل
اإليامن باهلل عز وجل بل عىل معرفة األشياء عىل ما هي عليه ،أعني أهنا كاملضمنة فيها لقرب
((٢
استعدادها لإلدراك"...
فسالمة الفطرة بتزكية النفوس ،تساعد عىل إصابة احلق ،يقول ابن عاشور" :الفطرة
اإلنسانية؛ أي االنفعاالت احلاصلة لنفوس البرش يف حالة سالمة النفوس من اكتساب التعاليم
الباطلة والعوائد السيئة ،وهي أساس النظم التي أقيمت عليها احلضارة األوىل يف البرش من
توخي الصالح ودرء الفساد وإصابة احلق ،سواء كان حصوهلا باإلهلام املودع يف اخللقة املشار
إليه يف القرآن يف قصة ابني آدم يف قوله تعاىل﴿ :ﰃ ﰄ ﰅ﴾ [املائدة﴿ ]٣1 :ﯷ ﯸ
ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ﴾ [املائدة ]٣1 :أم كان حصوهلا بواسطة تلقني
((٣
الوحي اإلهلي".
إن نوازع النفس وميوالهتا الفاسدة من "باطن اإلثم" الذي أمرنا باتقائه يف قوله تعاىل:
﴿ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ﴾ [األنعام ،]1٢0 :فـ"النفس تغشاها ظلامت فال ترى احلقائق كام
هي" (٤(،إن أمراض النفس جتعل العامل يغر بعلمه ،يتوهم أنه عىل حق ،وخمالفه عىل باطل،
"وإذا ما كان ثمة غرور وأنانية يف النفس يتوهم املرء نفسه حمق ًا وخمالفيه عىل باطل ،فيقع
االختالف واملنافسة بدل االتفاق واملحبة" (٥(،وهذه هي حقيقة النفس البرشية ،تنزع نحو
( )1ابن عطية ،املحرر الوجيز يف تفسري الكتاب العزيز ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.٣٣٦
( )٢الغزايل ،إحياء علوم الدين ،مرجع سابق ،ج ،1ص.10٣
( )٣ابن عاشور ،أصول النظام االجتامعي يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.19-18
( )٤حوى ،املستخلص يف تزكية األنفس ،مرجع سابق ،ص.٢8
( )٥النوريس ،كليات رسائل النور ( )3اللمعات ،مرجع سابق ،ص.٢٢8
٢٤٧
الغضب والعداوة والبغضاء والرش واحلرص؛ هلذا أمر القرآن الكريم بتزكيتها وتطهريها ،فإن
اإلنسانية حتتاج إىل أصل تزكية النفس ،لتتقي اآلفات التي تتلبس بالنفس ،وتؤثر عىل العقل.
والواقع الكوين يقدم مقتىض الصنعة اإلنسانية عىل مقتىض الفطرة اآلدمية؛ "إذ اإلنسان
بغري فطرة كاجلسم بغري روح ،فتكون اآللة أسلم منه؛ ألن الرضر ال يأيت من فعلها ،وإنام من
((1
فعل اإلنسان هبا؛ إذ هو باق عىل إرادته ولو عدم فطرته ،واآللة أص ً
ال ال إرادة هلا".
وتزكية النفس حتمي الفطرة من االنحراف عن احلق والصواب؛ ألن انحراف الفطرة
يؤدي إىل تعطيل احلواس عن مهمتها ،وهي تزويد العقل بالعلوم واملعارف ،وقد قال تعاىل
حكاية عن حال الذين انحرفت فطرهم فلم تغن عنهم حواسهم ﴿ (٢( :ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ
ﮰﮱ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ﴾ [األحقاف ،]٢٦ :وقال تعاىل:
﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ
ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ﴾ [األعراف.]1٧9 :
( )1عبد الرمحن ،احلق اإلسالمي يف االختالف الفكري ،مرجع سابق ،ص.٣٧
( )٢قال ابن تيمية يف شأن الفالسفة الكبار" :أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء ،وأعطوا فهوم ًا وما أعطوا علوم ًا ،وأعطوا سمع ًا
وأبصار ًا وأفئدة ﴿ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ
ﯬ﴾ [األحقاف ".]٢٦ :انظر:
-ابن تيمية ،جمموع الفتاوى ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.119
انقطعت؟ ،ج ،٤حديث رقم (،)٢٤٧9 ْ ِ
اهلجرة هل ( )٣أبو داود ،سنن أيب داود ،مرجع سابق ،كتاب :اجلهاد ،باب :يف
ص.1٣٦
٢٤8
فالتوبة باب لتزكية النفس ،متجدد بتجدد األخطاء واآلثام ،فهو باب يضيق االختالف،
ويقلل منه بقدر عدد التائبني املنيبني إىل اهلل تعاىل ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ﴾
[التحريم ،]8 :وقال تعاىل﴿ :ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ﴾ [النور،]٣1 :
وقال تعاىل﴿ :ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ﴾ [احلجرات (1(]11 :يقول ابن القيم" :قسم العباد إىل
تائب وظامل ،وما ثم قسم ثالث ألبتة ،وأوقع اسم الظامل عىل من مل يتب ،وال أظلم من ُه ،جلهله
((٢ ِ
أعامله"... بربه وبحقه ،وبعيب نفسه وآفات
يقول سعيد حوى" :ومن وسائل التزكية التوبة؛ ألهنا هي التي تصحح مسار النفس
كلام انحرفت ،وهي التي ترد النفس إىل نقاط االنطالق الصحيحة ،وهي التي حتول بني
النفس واستمرارها يف اخلطأ ،لذلك يتكرم اهلل عىل أصحاهبا ،بأن جيعل سيئاهتم حسنات:
((٣
﴿ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ﴾ [الفرقان".]٧0 :
ويوضح ابن القيم أمهية التوبة بكوهنا وسيلة عملية يف تزكية النفس اإلنسانية بقوله:
»منزل التوبة أول املنازل ،وأوسطها ،وآخرها ،فال يفارقه العبد السالك ،وال يزال فيه إىل
ِ
املامت ...،فالتوبة هي بداية العبد وهنايته ،وحاجته إليها يف النهاية رضورية ،كام أن حاجته
((٤
إليها يف البداية كذلك".
فتزكية النفس وتطهريها ،والسمو هبا عىل وفق ما رشعه اهلل تعاىل من عبادات ،يطهر
الفطرة اإلنسانية ،وجيعلها أقرب إىل احلق والصواب ،وأبعد عن االختالف والنزاع ،إذا
مل تتدخل العوارض املدنسة احلاجبة هلا عن حقائق األشياء ،املثرية للنزاعات والرصاعات
اإلنسانية .وهذا املنهج القرآين يف تزكية النفس –والذي بسطنا بعض جوانبه -مل يأت به
قانون ،ومل تفرضه سلطة عىل مر التاريخ اإلنساين ،لكن أتى به اخلطاب القرآين فأثر يف
( )1زين ،سفري حممد" .آيات التوبة يف القرآن الكريم :دراسة موضوعية( "،رسالة ماجستري ،جامعة املدينة العاملية ،كلية
العلوم اإلسالمية ،ماليزيا1٤٣٣ ،ه٢01٢/م).
( )٢ابن القيم ،مدارج السالكني بني منازل إياك نعبد وإياك نستعني ،مرجع سابق ،ج ،1ص.19٦
( )٣حوى ،املستخلص يف تزكية األنفس ،مرجع سابق ،ص.٣1
( )٤ابن القيم ،مدارج السالكني بني منازل إياك نعبد وإياك نستعني ،مرجع سابق ،ج ،1ص.19٦
٢٤9
وغري مسار التاريخ ،ونظم العالقات اإلنسانية ،بتطهري النفس وتزكيتها ،فق ّلت
النفوسّ ،
النزاعات واالختالفات يف املجتمع اإلنساين.
وقد كان للترشيع القرآين أثر كبري عىل النفوس اإلنسانية ،فالنفوس التي استجابت
لنداء القرآن الكريم تغريت لدهيا املفاهيم والقيم ،حول اإلله واإلنسان والكون ،فانتقلت
من عبادة األشياء إىل عبادة رب األشياء ،ومن الغزو والسلب واحلرب إىل السلم والصلح،
ومن سيطرة العصبية للقبيلة وللعائلة إىل سيادة القانون والعدل ،ومن نظام الطبقات
واحتقار وتعايل بعضها عىل بعض إىل نظام املساواة .واإلنسان الذي كان حيتكم إىل نزواته
وشهواته وميوالته النفسية ،أصبح حيتكم إىل الرشع ،بالصر عىل اخللق ،واالحتساب،
وابتغاء األجر والثواب ،وكان قبل اإلسالم يسارع إىل محل السالح ،اعت ُِد َي عليه أم مل ُي ْعتَدَ
عليه ،أصبح بعد اإلسالم الذي زكّى نفسه ،وطهرها من كل األحقاد والضغائن ،يصر عىل
اعتداء املخالف حتى يأتيه اإلذن بالقتال ،وكان قبل اإلسالم يسارع إىل الثأر لنفسه أو لعائلته
أو لقبيلته فأصبح بعد اإلسالم يلتزم بأحكام الرشع يف احلدود والقصاص.
فهذه الصفات الكريمة واألخالق احلميدة ،ال يتصف هبا إال من سمت نفسه ،وال
يرقى إليها إال من بلغ درجة من الكامل يف تزكية النفس ،وبذلك كانت رشيعة القرآن رشيعة
الكامل األخالقي اإلنساين ف "الرشيعة كلها إنام هي ختلق بمكارم األخالق ،وهلذا قال عليه
السالم " :إنما ُب ِع ْث ُت ِألُ َمت ِّ َم َمك ِ
َار َم ْاألَ ْخ َال ِق" (1("،ويقول جوستاف لوبون" :اإلسالم من
أكثر الديانات مالءمة الكتشافات العلم ،ومن أعظمها هتذيب ًا للنفوس ،ومح ً
ال عىل العدل
فقد اعتنى اخلطاب القرآين بتزكية النفس اإلنسانية من كل ((٢
واإلحسان والتسامح،"...
جوانبها ،من أجل تنظيم العالقة باملخالف ،فام "اشتمل عليه القرآن من أحكام تتعلق بتنظيم
املجتمع ،وإقامة العالقات بني آحاده عىل دعائم من املودة والرمحة والعدالة ،مل يسبق به
يف رشيعة من الرشائع األرضية ،وإذا وازنّا ما جاء يف القرآن بام جاءت به قوانني اليونان
٢٥0
والرومان ،وما قام به اإلصالحيون للقوانني والنظم ،بام جاء يف القرآن ،وجدنا أن املوازنة
((1
فيها خروج عن التقدير املنطقي لألمور"...
فقد اعتنى اخلطاب القرآين بتزكية النفس ،وتطهريها من كل الرشور واآلثام ،للحفاظ
((٢
عىل طهارة الفطرة ونقائها ،وإذا تزكت النفس ،كانت صاحلة لتقبل كل القيم السامية،
والتنزه عن كل القيم اهلابطة ،فيستقيم بذلك السلوك اإلنساين ،وتتهيأ األجواء املناسبة
لوضوح احلقائق ،التي تؤثر يف ضمورها األهواء والشهوات واألوهام ،وبذلك يتحقق
التقارب اإلنساين باالجتامع واالئتالف ،ألن تزكية النفس تقي من مزالق العقل وآفاته ،التي
تؤثر يف إدراك احلقائق السليمة.
وأصل تزكية النفس اإلنسانية حيقق مقاصد كرى للمجتمع اإلنساين ،تساهم بشكل
كبري يف تدبري االختالف اإلنساين ،ومنها:
-تطهري اإلنسان وإصالحه ،وذلك باجتناب كل املدنسات ،واالمتثال لكل الطاعات
واألعامل الصاحلة.
-احلفاظ عىل طهارة الفطرة التي خلق اهلل تعاىل عليها البرشية ،وهي مشرك إنساين،
ألن تدنيسها حيجب احلقائق ،ويثري االختالف.
-فتح باب األخوة اإلنسانية ،وذلك بمعاجلة أمراض العصبية والعنرصية لألفكار
واملدارس والقوميات واألجناس ،التي ابتليت هبا البرشية يف العرص احلارض.
( )1أبو زهرة ،املعجزة الكربى القرآن؛ نزوله ،كتابته ،مجعه ،إعجازه ،جدله ،علومه ،حكم الغناء به ،تفسريه ،مرجع
سابق ،ص.٤٥٥
( )٢هذه القيم التي جيب أن يتطلع إليها اإلنسان ،ويكون مشدود ًا إليها ،وال خيضع إىل أحكام الواقع وحدها ،يقول طه
عبد الرمحن" :إن اإلنسان ال يركن إىل ما هو كائن وما هو واقع ،بل يسعى دوم ًا إىل أن يكون موجه ًا بقيم معينة متيل
معان تعلو هبمته للخروج من حالة احلارض وابتغاء أحوال ٍ عليه ما جيب أن يكون ،وما جيب أن يقع ،ومشدود ًا إىل
أخرى غريها ،والشاهد عىل ذلك كونه ال يفتأ يطلب الكامل يف كل أفعاله ،فال يصل إىل رتبة حتى يطلب مرتبة
فوقها ،وال يزال آخذ ًا يف هذا التدرج من كامل إىل أكمل منه ،فاألكمل ،ولوال هذا التعلق بام ينبغي أن يكون ،وما
ينبغي أن يقع ،ملا خرج اإلنسان إىل طلب هذا الكامل واستفراغ اجلهد يف حتصيله ".انظر:
-عبد الرمحن ،سؤال األخالق مسامهة يف النقد األخالقي للحداثة الغربية ،مرجع سابق ،ص.٦٢
٢٥1
-إشاعة معاين الصفح ،والعفو ،والتسامح ،وعدم رد اإلساءة بمثلها ،واإليثار،
وإمساك اللسان عن األعراض.
وغريها من املعاين واملبادئ األخالقية ،التي تسود املجتمع اإلنساين ،وحتد من
اختالفاته ،إذا حتقق أصل تزكية النفس.
حترير العقل وسالمته مما يعوق تفكريه (1(،من أصول تدبري االختالف اإلنساين املنهجية؛
ألن العقل املكبل بمامرسات اجتامعية خاطئة ،تنبني عىل اخلرافة والشعوذة ،والعقل الذي
يسلك طريق االعوجاج يف االستدالل عىل احلقائق ،والعقل الذي ال ينظر ويفكر يف الظواهر
الكونية التي حوله ،والوقائع املحسوسة (الكتاب املنظور) ،وال يتدبر ويتفكر يف الوحي
املنزل من السامء (الكتاب املسطور) ،والعقل الذي ال يتمتع باحلرية يف االعتقاد والتعبري
((٢
والنقد واالعراض ،ال تنفع معه جمادلة ،وال ينفع معه حوار ،وال دليل ،وال برهان.
( )1يرى حممد قطب أن اإلسالم يضع خطوات منهجية »للربية العقلية» وهي :حتديد جمال النظر العقيل ،ثم تدريب
تعرف احلقيقة ،ويتخذ يف ذلك وسيلتني :األوىل :وضع املنهج الصحيح
الطاقة العقلية عىل طريقة االستدالل يف ّ
للنظر العقيل ،الثانية :تدبر نواميس الكون .انظر:
قطب ،منهج الرتبية اإلسالمية ،مرجع سابق ،ص.٧٧ -
قلجة ،ميساء كامل" .البناء العقيل يف ضوء القرآن الكريم :دراسة موضوعية( "،رسالة ماجستري ،اجلامعة -
اإلسالمية ،كلية أصول الدين ،غزة1٤٣0 ،هـ٢009/م) .وانظر ما كتبه القرضاوي يف "الفصل اخلامس:
تكوين العقلية العلمية يف القرآن ".يف:
القرضاوي ،العقل والعلم يف القرآن الكريم ،مرجع سابق ،ص.٢8٢-٢٤٧ -
وانظر دراسة:
احلدري ،خليل بن عبد اهلل بن عبد الرمحن» .منهجية التفكري العلمي يف القرآن الكريم ،وتطبيقاهتا الربوية، -
يف املؤسسات اجلامعية املعارصة ،تصور مقرح( »،رسالة دكتوراه ،جامعة أم القرى ،كلية الربية ،السعودية،
مكة املكرمة1٤٣٢ ،هـ).
( )٢يرى البريوين أن "العوارض املردية ألكثر اخللق ،واألسباب املعمية لصاحبها عن احلق وهي -1 :العادة املألوفة،
-٢التعصب والتظافر -٣ ،اتباع اهلوى -٤ ،التغالب والرئاسة ،وأشباه ذلك ".انظر:
-البريوين ،أبو الرحيان حممد بن أمحد .اآلثار الباقية عن القرون اخلالية ،القاهرة :مكتبة الثقافة الدينية ،ط،1
(1٤٢8ه٢008/م) ،ص .٥-٤
٢٥٢
لذلك جاء القرآن الكريم بثالثة معامل كرى ألصل السالمة العقلية ،وتكوين العقلية
العلمية ،القادرة عىل احلوار واجلدل بالتي هي أحسن ،وفهم احلجة والرهان:
أ -إبطال املامرسات االجتامعية اجلاهلية:
ولكي يفسح القرآن الكريم الباب واسع ًا أمام العقل ،وحتريره من كل ما يعوق
تفكريه ،ارتفع القرآن الكريم بالعقل اإلنساين عن كل ما يعطل قدراته ،تشجيع ًا له عىل
التفكري واإلنتاج واإلبداع لألفكار ،فأبطل كثري ًا من املامرسات االجتامعية التي كانت سائدة
يف اجلاهلية ،وكانت تكبل عقل اإلنسان ،وتعطل وظيفته يف االفراض ،والتفكري ،والتحليل،
واالستنتاج ،ذلك أن "العقيدة اإلسالمية عقيدة الوضوح واالستقامة والنصاعة .فال يقوم
((1
يشء فيها عىل الظن أو الوهم أو الشبهة"...
إن هذه املامرسات هتدف إىل فرض سلطة واحدة عىل املجتمع اإلنساين ،أساسها
تعطيل العقل ،ورفض االجتهاد والتجديد ،والنتيجة رفض االختالف ،الذي هو عامل ثراء
ونامء للمجتمعات ،وانتشار واتساع دائرة النزاع والرصاع اإلنساين.
فألجل حترير العقل اإلنساين ،وإفساح املجال له لالجتهاد العقيل السليم ،املفيض
رضورة للحقائق اليقينية ،أبطل اخلطاب القرآين ممارسات وأفعاالً خاطئة ،تكبل العقل
اإلنساين ،وحتجب عنه احلقيقة ،نذكر منها :إبطال اختاذ األنداد والطواغيت اعتامد ًا عىل
اخلرافة واألوهام ،وإبطال السحر املعتمد عىل التخيالت الباطلة املجانبة للحقيقة ،وإبطال
الطرية والكهنة ،وحتريم اخلمر ،وغريه من املسكرات واملخدرات ،واملحرمات املرضة بكيل
العقل ،وقد شدد اخلطاب القرآين يف رفض هذه العوائق واآلفات العقلية:
يقول اهلل تعاىل يف إبطال عبادة الطواغيت ،واختاذ األنداد( (٢من دون اهلل ،اعتامد ًا عىل
األوهام والتخيالت الباطلة من غري تعقل وال تفكر ﴿ :ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾
٢٥٣
[البقرة (1(]٢٢ :ويقول صاحب "إرشاد العقل السليم"" :فتهكم هبم وشنع عليهم ،أن جعلوا
أنداد ًا ملن يستحيل أن يكون له ند واحد" (٢(،وقوله تعاىل ﴿ :ﯟ ﯠ﴾ فيه "دليل عىل
((٣
األمر باستعامل حجج العقول"...
ويذكر اخلطاب القرآين بعض أسامء آهلتهم التي كانوا يعبدوهنا من دون اهلل من غري
تعقل ،فيقول تعاىل ﴿ :ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ﴾ [النجم ،]٢0-19 :ويقول
تعاىل ﴿ :ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ﴾ [نوح ،]٢٣ :فهذه هي
املسميات التي كانوا يعبدوهنا ،ويعتقدون فيها ما خيالف حقيقتها ،لسيطرة اخلرافة والتقليد
واألهواء عىل عقوهلم ،فأبطل اخلطاب القرآين عبادة كل هذه الطواغيت واألنداد ،وهناهم
عن كل الطقوس والشعائر واخلرافات التي كانوا يعتقدوهنا فيهم ،ودعاهم إىل استعامل
عقوهلم وحتريرها مما حيجب عنها نور احلق واليقني.
-إبطال السحر:
يقول تعاىل يف إبطال السحر املعتمد عىل التمويه واخلداع وجمانبة احلقيقة واليقني:
﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ
ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ
ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ
ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ
ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ﴾ [البقرة.]10٢ :
واآلية تصف اليهود الذين يتبعون ما تتلوه السحرة من كتب السحر يف عهد سليامن،
ويقولون :إن حكمه كان يقوم عىل السحر ،ففند احلق سبحانه دعواهم ،وبرأ ساحة سيدنا
سليامن ،وكفر السحرة الذين يعلمون الناس السحر ،والسحر يف عرف الرشع :هو كل ما
( )٢أبو السعود ،إرشاد العقل السليم إىل مزايا الكتاب الكريم ،مرجع سابق ،ج ،1ص.109
( )٣القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٢٣1
٢٥٤
خفي سببه ،وختيل عىل غري حقيقته ،ويعتمد عىل التمويه واخلداع ،ومتى أطلق يف القرآن من
((1
غري تقييد أفاد ذم فاعله.
وذكر احلق سبحانه أن السحر من أسباب التفريق بني الزوجني؛ ملا فيه من متويه
وحيل ،قال تعاىل﴿ :ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ﴾ ،كام أن يف تعليمه
رضر ًا هلم ،وال نفع وال مصلحة فيه ،ألن قصد تعليمه هو :إيقاع الرش بالناس﴿ ،ﮉ ﮊ
ﮋ ﮌ ﮍ﴾.(٢(...
وخلطورة السحر عىل السالمة العقلية ،ذم اخلطاب القرآين فعل اليهود فقال تعاىل:
﴿ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞﮟ ﮠ ﮡ ﮢ﴾ .يقول أبو السعود ﴿" :ﮠ ﮡ
ﲒ﴾؛ أي يعملون بعلمهمُ ،ج ِعلوا غري عاملني لعدم عملهم بموجب علمهم ،أو لو
((٣
كانوا يتفكرون فيه ،أو يعلمون قبحه عىل اليقني ،أو حقيقة ما يتبعه من العذاب"...
-إبطال الطرية:
٢٥٥
-إبطال الكهنة:
وقد عدّ علامء املقاصد حفظ العقل -بناء عىل االستقراء ،-أحد الكليات اخلمس ،التي
دعا الرشع إىل حفظها من جانبي الوجود والعدم ،حرص ًا عىل سالمته "واحلفظ هلا يكون
بأمرين :أحدمها :ما يقيم أركاهنا ويثبت قواعدها ،وذلك عبارة عن مراعاهتا من جانب
( )1انظر" :الفصل الثامن والعرشون يف علوم السحر والطلسامت" .فيه الكالم عىل السحر ،..والكهنة ..والفرق بينها
وبني النبوة.
-ابن خلدون ،املقدمة ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٢٧٣
ِ الس َالمِ ،باب :حتريم
الكهان ،ج ،٤حديث رقم َّ الكهانة وإتيان
َ ( )٢مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتابَّ :
( ،)٢٢٣0ص.1٧٥1
ِ
بفوائد مسلم ،حتقيق: ( )٣القايض عياض ،أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي .إكامل املعلم
حييى إسامعيل ،املنصورة :دار الوفاء للطباعة والنرش والتوزيع ،ط1٤19( ،1ه1998 /م) ،ج ،٧ص.1٥٢
( )٤مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :السالم ،باب :حتريم الكهانة وإتيان الكهان ،ج ،٤حديث رقم
( ،)٢٢٢8ص .1٧٤8
( )٥ابن العريب ،أحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.1٦٥-1٦٤
٢٥٦
الوجود .والثاين :ما يدرأ عنها االختالل الواقع أو املتوقع فيها ،وذلك عبارة عن مراعاهتا
((1
من جانب العدم".
فاخلطاب القرآين وجه اإلنسان إىل ترك كل ما يعطل العقل ،وحيول دون استعامله
االستعامل الصحيح السليم؛ ألن تعطيل هذه امللكة يفيض بالناس إىل عدم اإلبداع ،وإنتاج
احلقائق الصحيحة والسليمة ،فحرم اخلطاب القرآين كل هذه املامرسات اجلاهلية؛ ألهنا
آفات حتد من قدرات العقل ،وسالمته ،وحريته يف النظر والتفكر ،من أجل التوصل إىل
احلقائق اليقينية.
اهلوى هو :ميل النفس إىل شهواهتا ،خمالفة بذلك داعي الرشع (٢(،و "اهلوى ميل الطبع
إىل ما يالئمه ،وهذا امليل خلق يف اإلنسان لرضورة بقائه (٣(."...ويقول زيدان" :خمالطة
اهلوى للقلب تورث اتباع ما هتواه النفس من باطل ،وترك احلق ومعاداة أهله ،فيقع صاحب
((٤
اهلوى يف االختالف املذموم مع أهل احلق"...
٢٥٧
وذم اهلل تعاىل يف كتابه امليل النفيس إىل اهلوى (1(،وكذلك "عظم اهلل تعاىل ذم اتباع
اهلوى" (٢(،فقال تعاىل يف النهي عن اتباع األهواء وميل النفس إليها ﴿ (٣( :ﯷ ﯸ ﯹ
ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﰈ ﴾ [ص ،]٢٦ :وقال تعاىل:
﴿ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﴾ [النساء ،]1٣٥ :وقال
تعاىل ينفي اتباع اهلوى عن رسوله ﴿ :ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ﴾ [النجم ،]٣ :وقال تعاىل ﴿ :ﯪ ﯫ ﯬ
((٤
ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﴾ [النازعات.]٤1-٤0 :
ويقول ابن اجلوزي يف تأثري اهلوى عىل العقل" :وال ينبغي أن يدال اهلوى عليه فإنه
عدوه ،فيحطه عن رتبته ،ويستنزله عن درجته" (٥(،ويقول يف تقرير معنى اجتناب اهلوى
يف حمل العلم( (٦ألنه ضده" :وقد يكون اهلوى يف العلم فيخرج بصاحبه إىل ضد ما يأمر
به العلم" (٧(،لذلك كان من مقاصد الرشيعة العامة" :إخراج املكلفني من سلطان اهلوى
((8
والشهوة إىل سلطان الرشع والعقل".
٢٥8
واتباع اهلوى من أكر األسباب يف رد احلق والتكر عليه ،واإلقامة عىل الباطل
والتشبث به ،كام قال سبحانه﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ﴾ [اجلاثية،]٢٣ :
فالواجب عىل اإلنسان اجتناب اهلوى والشبهات يف حمل العلم ،فاحلقائق العلمية ال تقبل
العواطف واألهواء والشهوات" ،فالعقلية العلمية هي التي تنحي األهواء واالنفعاالت
((1
والعواطف جانب ًا ،وتنظر إىل األمر نظرة موضوعية حمايدة".
وأهواء الناس خمتلفة ،وليست عىل نمط واحد ،لذلك قال احلق سبحانه﴿ :ﯣ ﯤ ﯥ
ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [املؤمنون ،]٧1 :فاألهواء خمتلفة ،واتباع األهواء
املختلفة يؤدي إىل اختالف العقول اإلنسانية يف احلقائق العلمية ،فتكثر اخلالفات والنزاعات
هوى
ً اإلنسانية ،يقول الراغب األصفهاين" :فإنام قاله بلفظ اجلمع تنبيه ًا عىل أن لكل واحد
((٢
غري هوى اآلخر ،ثم هوى كل واحد ال يتناهى ،فإذ ًا اتباع أهوائهم هناية الضالل واحلرية".
وامليل إىل اهلوى يؤدي إىل االقتتال بني املختلفني مع وضوح احلق وجالئه؛ ألن اهلوى
جيعل صاحبه أبعد عن العلم الصحيح ،قال تعاىل﴿ :ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ
ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ﴾ [البقرة" ]٢٥٣ :فليس اقتتاهلم عن جهالة ،بل هو بعد أن تبني احلق
((٣
ووضحت معامله ،وذلك ألن اهلوى يعمي ،واألعمى ال يبرص ولو كانت الشمس مرشقة"،
فمجيء البينات يقتيض الوفاق ال االختالف ،لكن آفة اهلوى مزلق مؤثر يف إثارة االختالف
والبلوغ به إىل االقتتال .و "منازعة اهلوى للعقل" (٤(،وسيطرة األهواء ،وحظوظ النفس
عليه ،واسرقاقه ،مما يفيض إىل عدوان الناس بعضهم عىل بعض ،فيقع النزاع ،واالختالف،
والرصاع املفيض إىل الفناء ..." ،وهذه احلظوظ واألهواء ليس هلا حد يقف اإلنسان عنده،
وما هو بعائش وحده ،وكثري ًا ما تتطاول به إىل ما يف يد غريه ،فهي هلذا تقتيض أن يعدو بعض
٢٥9
أفراده عىل بعض ،فيتنازعون ويتدافعون ،ويتجادلون ويتجالدون ،ويتواثبون ويتناهبون
((1
حتى يفني بعضهم بعض ًا".
إن التعامل العلمي مع األدلة ،يتطلب التخلص من امليول إىل األهواء ،لتمكني العقل
من إدراك احلقائق ،ف "إذا دخل اهلوى أدى إىل اتباع املتشابه حرص ًا عىل الغلبة والظهور بإقامة
العذر يف اخلالف ،وأدى إىل الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء ،الختالف األهواء وعدم
اتفاقها ،وإنام جاء الرشع بحسم مادة اهلوى بإطالق ،وإذا صار اهلوى بعض مقدمات الدليل
((٢
مل ينتج إال ما فيه اتباع اهلوى"...
وروى الشاطبي يف "االعتصام" عن أيب العالية ..." :وإياكم وهذه األهواء التي تلقي
"واإلسالم مل يقطع الشهوات واألهواء ،ولكن أرادها ((٣
بني الناس العداوة والبغضاء"،
قائمة عىل أن تكون خاضعة للعقل ،وما يوجبه ضبط النفس" (٤(،ومن هنا حذر النبي ﷺ من
ِ ِ ((٥ "ال ُي ْؤ ِم ُن َأ َحدُ ك ُْم َحتَّى َيك َ
ُون َه َوا ُه َت َبع ًا ََّملا ِج ْئ ُت به". اتباع اهلوى ،فقالَ :
( )1رضا ،تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٥٢
( )٢الشاطبي ،املوافقات يف أصول الرشيعة ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.1٦1
وقد حذر الشارع من اهلوى ومن نتائجه التي تؤول إىل االختالف والنزاع ،لذلك أمر باالحتكام إىل الرشع وضبط
األهواء بضوابط الرشع ،يقول الشاطبي" :املقصد الرشعي من وضع الرشيعة إخراج املكلف عن داعية هواه ،حتى
يكون عبد ًا هلل اختيار ًا ،كام هو عبد هلل اضطرار ًا ".انظر:
املرجع السابق ،ج ،٢ص .1٢8ويقول" :قصد الشارع من وضع الرشائع إخراج النفوس عن أهوائها وعوائدها". -
املرجع السابق ،ج ،1ص .٢٥1ويقول" :وضع الرشيعة عىل أن تكون أهواء النفوس تابعة ملقصود الشارع فيها". -
املرجع السابق ،ج ،1ص.٢٥٢ -
( )٣الشاطبي ،االعتصام ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٦٤
( )٤أبو زهرة ،املجتمع اإلنساين يف ظل اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.80
الشهوات" :ليس املراد إبطاهلا بالك ّل ّية؛ ّ
فإن من بطلت شهوته كان نقص ًا يف ح ّقه .وإنّام ويقول ابن خلدون ذ ّم ّ
مترصف ًا طوع األوامر اإلهل ّية ".انظر:
ّ املراد ترصيفها فيام أبيح له باشتامله عىل املصالح ،ليكون اإلنسان عبد ًا
-ابن خلدون ،املقدمة ،مرجع سابق ،ج ،1ص .٣8٣
( )٥أورده اإلمام النووي يف كتاب" :األربعني النووية" وقال :حديث حسن صحيح ،وقال ابن رجب" :وتصحيح هذا
احلديث بعيد جد ًا من وجوه "..انظر:
-ابن رجب ،أبو الفرج زين الدين ،عبد الرمحن بن أمحد .جامع العلوم واحلكم ،إرشاف :حممد بنيس ،بريوت:
دار املعرفة1٤٢1( ،ه٢000/م) ،ص.٣9٦
٢٦0
وهنى اخلطاب القرآين عن اتباع األهواء؛ ألن ذلك يؤدي إىل الفساد يف األرض ،قال
تعاىل﴿ :ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [املؤمنون.]٧1 :
فاألهواء والشهوات قد تتمكن يف النفس ،وتسيطر عىل العقل وتوجهه نحو إصدار
األحكام املخالفة للواقع" ،فإذا عرض عليهم يشء من الكالم يف النبوات واألديان وهم
من أنفسهم هام باإلصغاء دافعوه بام أوتوا من االختيار يف النظر ،وانرصفوا عنه وجعلوا
أصابعهم يف آذاهنم حذر أن خيالط الدليل أذهاهنم ،فيلزمهم العقيدة وتتبعها الرشيعة،
((1
فيحرموا لذة ما ذاقوا وما حيبون أن يتذوقوا ،وهو مرض يف األنفس والقلوب".
ويشري القرآن الكريم إىل أسباب ميل النفس إىل األهواء والشهوات يف آيات عديدة،
ونذكر من هذه األسباب:
-ضعف معرفة اهلل تعاىل:
فمعرفة اهلل تعاىل عاصمة من األهواء ،وضعف املعرفة به سبحانه موقعة يف األهواء،
قال تعاىل[ ﴾ ﴿ :حممد ]1٤ :فمن
كان يعبد اهلل تعاىل ويوحده عىل بينة وبرهان ومعرفة حقيقية ،فهو عىل بصرية من ربه ،له رب
حسن له الشيطان قبيح أعامله وسيئها ،باتباع هواه ،فهو مقيم عليها
جيازيه عىل عمله ،ومن َّ
((٢
بعيد عن احلق والصواب.
ويقول القرطبي﴿" :ﮃ ﮄ﴾؛ أي ما اشتهوا ،وهذا التزيني من جهة اهلل خلق ًا،
وجيوز أن يكون من الشيطان دعاء ووسوسة ،وجيوز أن يكون من الكافر؛ أي زين لنفسه
((٣
وأرص عىل الكفر"...
َّ سوء عمله
-اتباع وساوس الشيطان:
خلق اهلل تعاىل اإلنسان وركّب فيه امليل إىل األهواء والشهوات ،وخلق الشيطان
وجعل مهمته يف األرض الوسوسة لبني اإلنسان إىل يوم الدين ،وقد حذرنا اخلطاب القرآين
منه﴿ :ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ﴾ [فاطر.]٦ :
٢٦1
وأشار القرآن الكريم رصاحة إىل أنه هو الداعي إىل اهلوى ،ومزينه يف النفوس
اإلنسانية ﴿ :ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ
ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ
ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾ [االنعام ]٧1 :يقول القرطبي ﴿" :ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ
((1
ﮥ﴾ أي استغوته وزينت له هواه ودعته إليه".
فوساوس الشيطان سبب لالختالف اإلنساين ،فهو يؤثر عىل العقل اإلنساين وسالمة
ثم حتكيم
تفكريه ،فمنهم من يستطيع التغلب عىل غواية الشيطان ،والتحكم يف نزغاته ،ومن ّ
عقله ،واالنضباط له ،ومنهم من ال يستطيع ذلك ،فيسري يف ركاب الغواية ،واالستسالم
لوساوس الشيطان ،فينشأ النزاع واالختالف بني الناس ،بقدر استسالمهم أو تغلبهم عىل
نزغات الشياطني.
اخلطاب القرآين يرفض ميل النفس إىل االعتقاد القائم عىل الظن؛( (٣أي "عىل العلم
٢٦٢
املخطىء أو اجلهل املركب والتخيالت الباطلة" (1(،يف احلقائق املطلوب فيها اليقني( (٢ال
الشك ،وهي احلقائق العقلية ،يقول تعاىل ﴿ :ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾
[يونس ]٣٦ :يقول ابن عاشور" :إن العلم املشوب بشك ال يغني شيئ ًا يف إثبات احلق املطلوب،
وذلك ما يطلب فيه اجلزم واليقني من العلوم احلاصلة بالدليل العقيل؛ ألن اجلزم فيها ممكن
((٣
ملن أعمل رأيه إعامالً صائب ًا؛ إذ األدلة العقلية حيصل منها اليقني".
ويقول تعاىل منبه ًا نَب َّيه إىل أن هذا امليل النفيس باتباع الظن ،أدى إىل ضالل أكثر اخللق
من الكفار واجلهال وأتباع األهواء ﴿ (٤( :ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢﯣ ﯤ
ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [األنعام ]11٦ :فاحلق سبحانه ينفي القطعية عن املخالف
يف نزاعه ،وينسب إليه االعوجاج يف االستدالل باتباع الظن واخلرص الذي ال يوصل إىل
ثم تتسع مساحة االختالف بني املتنازعني ،فاملتنازعون " ...غري
نتائج علمية صحيحة ،ومن ّ
((٥
قاطعني بصحة مذاهبهم ،بل ال يتبعون إال الظن وهم خراصون كذابون يف ادعاء القطع".
٢٦٣
وقد أشار القرآن الكريم يف آيات عديدة إىل بيان هذا املعنى (1(،واملتأمل يف اخلطاب
القرآين جيده حيث العقول عىل اجتناب الظن يف القضايا العقلية التي تتطلب اليقني ال الظن،
وأكثر استعامالت الظن يف القرآن الكريم واردة يف هذا املعنى (٢(،وأن هذا املسلك اعوجاج
يف االستدالل ،مؤ ٍّد إىل االختالف.
وهيدف اخلطاب القرآين هبذا الرفض الشديد للميول النفسية إىل الظن يف حمل اليقني،
ويعوده
ّ إىل تنقية العقل من األحكام املبنية عىل الظنون والتخمينات ،فذلك يرض بالعقل
أن يأخذ بام يباعد بينه وبني احلق واحلقيقة ،بل حيول بينه وبني العلم ،فتكثر االختالفات
والنزاعات .فكلام احتكم اإلنسان إىل العقل يف جمال العلم وابتعد عن العواطف وامليوالت
النفسية كان أقرب إىل احلقيقة والصواب.
التقليد (٣( :اتباع اإلنسان لغريه من غري تعقل وال نظر يف الدليل ،فهو اتباع للغري بال
حجة وال برهان (٤(،وقد ذ ّم القرآن الكريم هذا النوع من امليول النفسية يف االستدالل عىل
٢٦٤
احلقائق ،بمعنى أن جيعل اإلنسان امليول إىل التقليد هبذه الصورة ،دلي ً
ال يعتمده يف االستدالل
عىل احلقائق العلمية التي يعتقدها ،يقول تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ
ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ﴾ [البقرة ]1٧0 :ويقول
الشوكاين يف تفسري هذه اآلية" :ويف هذه اآلية من الذم للمقلدين والنداء بجهلهم الفاحش،
((1
واعتقادهم الفاسد ما ال يقادر قدره".
وقد انعكس أثر امليول إىل التقليد عىل ثقافة االختالف؛ ألن الناس تأثروا يف ممارساهتم
احلياتية والعملية بأفكار ورثوها واكتسبوها من أسالفهم ،وأحاطوها بالقداسة بغض النظر
عن موافقتها للحق والصواب ،وجادل الناس من أجلها وانترصوا هلا ،مما أفرز لنا خالفات
ومناقشات يسيطر عليها الغل والشحناء والتعصب ،فكان "العكوف عىل تقليد الغري دون
دليل أو برهان"( (٤من مثارات االختالف ،ولو جتنبوا التقليد والقيود واألغالل وفسحوا
املجال لالستدالل العقيل السليم "لالح هلم وضح احلق البني ،وأشد ما يكون االختالف
((٥
بسبب التقليد يف املسائل االجتامعية".
( )1الشوكاين ،فتح القدير اجلامع بني فني الرواية والدراية من علم التفسري ،مرجع سابق ،ج ،1ص.19٣
( )٢املرجع السابق .ج ،1ص.19٣
( )٣وقال تعاىل﴿ :ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾ [يونس ،]٧8 :وقال تعاىل ﴿ :ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ﴾ [األنبياء[ ،]٥٣-٥٢ :الشعراء[ ،]٧٤ :لقامن[ ،]٢1 :الزخرف[ ،]٢٢ :الزخرف،]٢٣ :
[املائدة[ ،]10٤ :األعراف[ ،]٢8 :يونس.]٧8 :
٢٦٥
َ
اإلنسان إىل عدم االعتامد عىل هذا النوع من االعتقاد، القرآين
ُّ وهبذا وجه اخلطاب
القائم عىل امليول النفسية ،من غري تعقل ونظر؛ ألن التقليد مجود ال حركية فيه ،ف "التقليد
إبطال منفعة العقل ،فالعقل إنام خلق للتأمل والتدبر ،وقبيح بمن أعطي شمعة يستيضء ِهبا
أن يطفئها ويميش يف الظلمة" (1(،فالتقليد تنميط لألفكار والقيم ،من غري إنتاج وال إبداع،
وال عطاء علمي ومعريف ،بل فيه نزوع نحو النزاع والتعصب والرصاع الفكري.
والتقليد ينتج أنامط ًا متشاهبة واحدة ووحيدة ،ويف ذلك مجود وقتل لإلبداع ،وإقصاء
ثم مصادرة احلق يف االختالف ،وقد ركز
لآلراء اجلديدة وهذا ما ال يريده القرآن ،ومن ّ
القرآن الكريم عىل نمط تقليد اآلباء؛ ألنه نموذج العتناق األفكار واحلقائق العلمية بطريق
استداليل غري صحيح ،بعيد عن التعقل والتحقيق العلمي.
وهيدف اخلطاب القرآين إىل املباعدة بني العقل والتبعية ،وتعويده رفض التقليد،
وذلك أن كل إنسان يستعمل عقله يف التفكري فيام حييط به من أمور ،وال يتبع يف ذلك أحد ًا،
وأن ال يميل إىل تقليد سواه دون تعقل وتدبر ،قال تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ﴾ [البقرة.]1٧0 :
"فالقرآن جاء هيدي كل متبعي امللل واألديان السابقة إىل استعامل عقوهلم مع ضامئرهم
للوصول إىل العلم واهلدى يف الدين ،وأال يكتفوا بام كان عليه آباؤهم وأجدادهم من ذلك،
فإن هذا جناية عىل الفطرة البرشية والعقل والفكر والقلب التي امتاز هبا البرش ،وهبذا
ً ((٢
العلم واهلدى امتاز اإلسالم ،ودخل فيه العقالء من مجيع األمم أفواجا".
ويقول تعاىل يف هني أهل الكتاب عن امليل إىل التبعية بدافع الشهوة ﴿ (٣( :ﭑ ﭒ
ﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ
( )1ابن اجلوزي ،أبو الفرج عبد الرمحن بن عيل بن حممد .تلبيس إبليس ،دراسة وحتقيق :أمحد بن عثامن املزيد ،الرياض:
دار الوطن ،ط1٤٢٣( ،1ه٢00٢/م) ،ص.٤8٢
( )٢رضا ،الوحي املحمدي ،مرجع سابق ،ص.٢٧1
( )٣يعتر ابن القيم الشهوة من أركان األخالق السافلة" :ومنشأ مجيع األخالق السافلة ،وبناؤها عىل أربعة أركان:
اجلهل ،والظلم ،والشهوة ،والغضب ".انظر:
-ابن القيم ،مدارج السالكني بني منازل إياك نعبد وإياك نستعني ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٢9٥
٢٦٦
ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ﴾ [املائدة ]٧٧ :فهذا هني هلم عن تقليد أسالفهم الذين قد
ضلوا من قبلهم ،باتباعهم األهواء الباطلة املوافقة مليوالهتم النفسية ،فمذاهبهم باطلة مل
((1
تقم عليها حجة وال برهان.
ويقول طنطاوي" :واخلالصة أن التقليد لآلباء والرؤساء وغريهم ،من أشد أسباب
((٢
االختالف بني الناس ،ال سيام إذا كان عن عناد ،وجحود للحق ،وانقياد للهوى والشهوات"...
ويقول الشوكاين» :والنظر :هو الفكر املطلوب به علم أو ظن» (٥(،ويروي ابن اجلوزي
عن شيخه عيل بن عبيد اهلل معاين للنظر منها .." :الفكرة يف حقائق األشياء الستخراج احلكم
((٦
باالعتبار ،ليصل بذلك إىل العلم باملعلومات".
( )1اآللويس ،روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.٣٧٥-٣٧٤
( )٢طنطاوي ،أدب احلوار يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.11
( )٣سواء يف فهم احلقائق ،أو يف فهم احلوادث ،أو يف فهم النصوص.
وألف عباس العقاد "التفكري فريضة إسالمية" ،األمر الذي يدل عىل أمهية التفكري يف اإلسالم .انظر:
-العقاد ،عباس حممود .موسوعة العقاد اإلسالمية ،بريوت :دار الكتاب العريب1٣91( ،ه19٧1/م) ،ج،٥
ص .8٢٧وانظر كذلك دراسة:
-املجايل ،حممد خازر» ،مصطلح »التفكر» كام جاء يف القرآن الكريم ،دراسة موضوعية »،جملة الرشيعة والقانون،
العدد1٤٢٦( ،)٢٣( :ه٢00٥/م) ،ص.٢1
-حنايشة ،عبد الوهاب حممود إبراهيم» .التفكري وتنميته يف ضوء القرآن الكريم( »،رسالة ماجستري ،جامعة
النجاح الوطنية ،كلية الدراسات العليا ،نابلس ،فلسطني٢009 ،م).
( )٤ابن رشد ،الكشف عن مناهج األدلة يف عقائد امللة ،مرجع سابق ،ص.11٧
( )٥الشوكاين ،إرشاد الفحول إىل حتقيق احلق من علم األصول ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٦٥
( )٦ابن اجلوزي ،نزهة األعني النواظر يف علم الوجوه والنظائر ،مرجع سابق ،ص.٥88
٢٦٧
وجاء النظر يف القرآن عىل أوجه ،منها :التفكر واالعتبار (1(،ومنه قوله تعاىل﴿ :ﲧ
ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬﲭ﴾ [األنعام ،]99 :وقوله تعاىل﴿ :ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾
[يونس (٢(.]101 :واملقصود هو :تلك العمليات التي يقوم هبا العقل من تفكري وحتليل ونظر
وتدبر واعتبار ومتييز ومقارنة...
والفكر( (٣والنظر هو الوقوف عىل احلكم واملقاصد ،التي يرتقي هبا العقل اإلنساين إىل
إدراك احلقائق العلمية ،واملعرفية اليقينية الضابطة لالختالف ،احلاسمة ألرضاره ،ف "احلث
عىل النظر يف األكوان ،للعلم واملعرفة بام فيها من احلكم واألرسار ،التي يرتقي هبا العقل
وتتسع هبا أبواب املنافع لإلنسان" (٤(،ويقول حممد قطب" :تدبر نواميس الكون ،تطبع العقل
((٥
بطابع من الدقة والتنظيم ...وتعود العقل عىل دقة النظر وانضباط األحكام".
٢٦8
وقد أمر القرآن الكريم اإلنسان بالنظر يف آيات اهلل التي بثها وأودعها يف الكون ،وفتح
قنوات اإلحساس اإلنساين عىل بديع صنع اهلل تعاىل يف الوجود ،قال تعاىل﴿ :ﯘ ﯙ ﯚ
ﯛ ﯜ ﯝ﴾ [األنعام ﴿ ،]99 :ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ
ﮋ﴾ [ق ،]٦ :وهو نظر االستدالل عىل وجود اخلالق سبحانه ،وتعطيل النظر يف آيات اهلل
((1
الدالة عىل بديع صنعه ،هو تعطيل للدليل عىل وجود الصانع املبدع.
وعر
ويف سياق حث القرآن الكريم للعقل عىل النظر ،أشار إىل الوظائف العقليةّ ،
عن ذلك بصيغ خمتلفة ومتنوعة ،تدل عىل االجتهاد العقيل ،كام حث عىل التعقل يف قضايا
العقيدة ،وقضايا الترشيع عىل السواء.
ويالحظ القارئ لكتاب اهلل تعاىل ،كثرة ورود الوظائف العقلية ،ومنها :التدبر والتفكر
والنظر والتعقل ،وأهل هذه العمليات العقلية هم :أولو النهى ،وأولو األلباب .واحلث عىل
النظر يف خلق الساموات واألرض ،وما فيهن من آيات اهلل الدالة عىل حكمته وقدرته ،وأن
تعطيل هذه الوظائف وإمهاهلا سبب عذاب اآلخرة ،يقول تعاىل عىل لسان هؤالء ﴿ :ﯫ ﯬ
=
ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﴾ [امللك.]10 :
ّ
وحيث اخلطاب القرآين عىل التفكري ،واستعامل العقل ،ويضع بني يدي اإلنسان
ملكوت الساموات واألرض ،وملكوت الساموات :الشمس والقمر والنجوم ،وملكوت
األرض :اجلبال والبحار واألشجار ،ليتأمل ويتدبر ويتفكر يف صنع اهلل تعاىل ،ليهتدي بعقله
( )1وهنى القرآن الكريم عن تعطيل النظر والتدبر ..يف آيات عديدة ،وجاء هذا عىل صورتني:
-تعطيل أدوات النظر واإلحساس عن القيام بوظيفتها (هذه الصورة هي التي تم الركيز عليها يف البحث).
-النظر إىل اآليات الكونية جمردة عن القيم املودعة فيها :فاملخالفون ينظرون إىل الظواهر الكونية نظرة مادية،
جمردة عن القيم التي أودعها اهلل فيها ،فوصفهم احلق سبحانه بقوله ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ
ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ
ﭱ﴾ [األعراف ،]1٧9 :ومثله قوله تعاىل﴿ :ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ
ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ﴾ [احلج.]٤٦ :
٢٦9
-الذي وهبه اهلل تعاىل -إىل حقائق هذا الكون ،ألن "من اهلداية التكوينية يف اإلنسان العقل
املوهوب له ،واملرشد له إىل معامل اخلري والصالح ،وما ورد يف الذكر احلكيم من اآليات احلاثة
عىل التعقل والتفكر والتدبر خري دليل عىل وجود هذه اهلداية العامة يف أفراد اإلنسان ،وإن
((1
كان قسم منه ال يستيضء بنور العقل وال هيتدي بالتفكر والتدبر".
فالقرآن الكريم جمّد العقل ،وحكّمه يف الوصول إىل احلقائق العلمية واملعرفية ،من خالل
التفكري ،والتأمل يف الظواهر الكونية .يقول حممد عبده إن آيات الدعوة إىل النظر والتعقل
((٢
والتفكر كثرية" ،فلو أردت رسد مجيعها ألتيت بأكثر من ثلث القرآن ،بل من نصفه"...
وقد جاءت بصيغ خمتلفة :منها آيات حتدثت عن العقل والتعقل ،وآيات تتحدث عن
القلب واللب والنهى (٣(،وآيات تتحدث عن التفكر ،والتذكر ،واحلكمة ،والفقه ،والتفقه،
والتدبر واالعتبار والتبرص (٤(،...وهناك آيات أخرى بلفظ (كيف) املشعر باستفزاز األذهان
( )1السبحاين ،اإلهليات عىل هدى الكتاب والسنة والعقل ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٧٣٤-٧٣٣
( )٢عبده ،حممد .األعامل الكاملة ،حتقيق :حممد عامرة ،القاهرة :دار الرشوق ،ط1٤1٤( ،1هـ199٣/م) ،ج،٣
ص.٢9٧
﴿ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ﴾ [طه ﴿ ،]٥٤ :ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ﴾ [طه.]1٢8 : ((٣
( )٤وقد أحىص الباحثون اآليات التي وردت فيها األلفاظ احلاثة عىل االجتهاد العقيل عموم ًا ،يقول عبد اهلل أمحد اليوسف:
" ..ويكفي أن نعلم أن عدد اآليات التي وردت يف القرآن الدالة عىل التفكري واالجتهاد وما يتعلق هبام من ألفاظ
كالتعقل والتفقه والتدبر والتأمل والتذكر ،ما يقارب الثالثامئة آية ،فآيات القرآن التي حتدثت عن فعل العقل والتعقل
هي تسع وأربعون آية ،وآياته التي حتدثت عن القلب ،ومن وظائفه التفكري والتعقل ،مائة واثنتان وثالثني آية ،ولقد
ورد احلديث يف القرآن عن (اللب) بمعنى العقل ،ألنه جوهر اإلنسان وحقيقته ،يف ستة عرش موضع ًا ،وجاء احلديث
فيه عن (الفقه) يف عرشين موضع ًا ،وجاء حديثه عن (التدبر) يف أربع آيات ،وعن (االعتبار) يف سبع آيات ،وعن
(احلكمة) يف تسع عرشة آية ..األمر الذي جيعل رصيد (التفكري) و(االجتهاد) يف القرآن ضخ ًام جد ًا "..انظر.
-اليوسف ،عبد اهلل أمحد .رشعية االختالف :دراسة تأصيلية منهجية للرأي اآلخر يف الفكر اإلسالمي ،بريوت:
دار اهلادي ،ط1٤٢٥( ،٢ه٢00٤/م) ،ص.88
ويقول جابر قميحة» :ويف عرشات من اآليات القرآنية ،بل مئات منها تتكرر كلمة (العقل) وما يرتبط هبا من
ألفاظ (الفقه) و(العلم) و(التفكري) عىل النحو اآليت( :عقل) ومشتقاهتا (عقلوه – تعقلون – تعقل) ...إلخ ،ذكرت:
٤8مرة( .علم) ومشتقاهتا (علم – يعلم – يعلمون ...إلخ) ،ذكرت 8٦٦ :مرة( .فقه) ومشتقاهتا (تفقهون – تفقه
– يفقهوا – يفقهوه ...إلخ) ،ذكرت ٢0 :مرة( .فكر) ومشتقاهتا (فكر – تتفكروا – يتفكرون ...إلخ ،ذكرت8٧ :
مرة)( .وعى) ومشتقاهتا (تعيها – أوعى – واعية ...إلخ) ،ذكرت ٤مرات .وجمموع هذه املواد التي ذكرهتا = 10٤٣
٢٧0
وح ّثها عىل التساؤل ،والبحث عن اجلواب من خالل التفكري واستعامل العقل.
((1
ومن اآليات التي ورد فيها لفظ (التعقل) قوله تعاىل﴿ :ﮔ ﮕ﴾ [البقرة،]٢٤٢ ،٧٣ :
((٢
وقوله تعاىل﴿ :ﰍ ﰎ﴾ [البقرة.]٧٦،٤٤ :
ومن اآليات التي ورد فيها لفظ (التفكر) قوله تعاىل﴿ :ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ
((٣
ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ﴾ [سبأ ،]٤٦ :وقوله تعاىل﴿ :ﮜ ﮝ﴾ [األعراف،]18٤ :
وقوله تعاىل ﴿ :ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ((٤
،]1٧٦ [األعراف: وقوله تعاىل﴿ :ﯩ ﯪ﴾
((٥
ﮝ﴾ [الروم.]٢1 :
ومن اآليات التي ورد فيها لفظ (التدبر والتذكر واللب) قوله تعاىل ﴿ :ﭲ ﭳ ﭴ
ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ﴾ [ص ،]٢9 :وقوله تعاىل﴿ :ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ﴾
[البقرة (٦(،]٢٦9 :وقوله تعاىل﴿ :ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ [الرعد (٧(،]19 :وقوله تعاىل﴿ :ﯲ ﯳ
ﯴ﴾ [إبراهيم.]٥٢ :
ومن اآليات التي وردت بلفظ (احلكمة) قوله تعاىل ﴿ :ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ
ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ﴾ [البقرة ،]٢٦9 :وقال تعاىل
يف طلب التبرص ﴿ :ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ﴾ [الذاريات" ]٢1 :إشارة إىل ما فيها من آثار الصنعة،
((8
ولطيف احلكمة ،الدالني عىل وجود الصانع احلكيم ،وأنه واحد قادر عامل مريد"...
=(ثالث وأربعون وألف) لفظة ،كلها تدور عىل تقدير القرآن للعقل والنظر والتفكري ،وهذه املواد التي عرضنا هلا
هي املواد املبارشة ،وهناك مئات من األلفاظ تدور حول العقل والتفكري بطريقة غري مبارشة مل نعرض هلا ».انظر:
-قميحة ،جابر .املعارضة يف اإلسالم بني النظرية والتطبيق ،القاهرة :دار اجلالء ،ط1988 ،1م ،ص.٢8
([ (1يوسف[ ،]٢ :غافر[ ،]٦٧ :الزخرف[ ،]٣ :احلديد.]1٧ :
([ (٢آل عمران[ ،]٦٥ :األنعام.]٣٢ :
([ )٣الروم.]8 :
([ )٤النحل[ ،]٤٤ :احلرش.]٢1 :
([ )٥الزمر[ ،]٤٢ :اجلاثية.]1٣ :
([ )٦آل عمران.]٧ :
([ )٧الزمر.]9 :
( )8ابن رشد ،الكشف عن مناهج األدلة يف عقائد امللة ،مرجع سابق ،ص.٦0-٥9
٢٧1
-طلب القرآن الكريم التعقل يف العقيدة والترشيع:
واآليات الدّ الة عىل هذا األمر جاءت إما عقب قضايا دينية متعلقة بترشيع األحكام ،أو
عقب آيات إثبات القضايا اإليامنية ،ويطلب اهلل تعاىل يف كال القضيتني استعامل العقل والتفكر،
مع أن األصل عند علامء اإلسالم التوقف يف العبادات .أما العقائد فاألصل فيها النظر ،ألهنم
حرموا فيها التقليد (1(.أما املعامالت فإهنا املجال األوسع لالجتهاد واستعامل العقل ،وهذا
املجال خاص ب "أويل األمر" العلامء املجتهدين الذين تكونت لدهيم ملكة االستنباط.
يقول اهلل تعاىل عقب ذكر العديد من القضايا الدينية ،وحث العقل اإلنساين عىل
التفكري ،واستعامل العقل فيها من أجل الوصول إىل حقائقها ﴿ :ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ
ﮇ ﮈﮉ ﮊﮋ ﮌﮍ ﮎﮏﮐﮑ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗ
ﮘﮙ ﮚﮛﮜ ﮝﮞﮟﮠﮡ ﮢﮣﮤﮥ
ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ
ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ
ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ﴾ [النور.]٦1 :
ذكر اهلل عز وجل احتجاجه عىل أهل الرشك ،وأقام األدلة والراهني لعباده عىل
وحدانيته وتفرده باأللوهية دون ما سواه من األشياء ﴿ (٢( :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ
ﭗﭘ ﭙﭚﭛﭜﭝ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ
ﭫﭬﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭶﭷﭸﭹﭺ
ﭻ﴾ [البقرة.]1٦٤ :
٢٧٢
وقد جاء اخلطاب القرآين عنيف ًا مقرون ًا يف بعض األحيان بالتهديد والوعيد ملن ال
يفكر ﴿ :ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ
ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ﴾ [سبأ.]9 :
ويف املقابل يأيت احلض عىل التفكري يف صورة الثناء الودود عىل أويل األلباب ﴿ :ﮉ
ﮊ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ
ﮙ ﮚﮛﮜﮝ ﮞﮟﮠ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ
ﮩ﴾ [آل عمران.]191-190 :
وترتكز قضية اإليامن يف القرآن عىل العقل والرسل (العقل والنقل) ،واحلجة تقوم عىل
اإلنسان إذا كان عاق ً
ال ووصلته رساالت الرسل ،فإذا ختلف أحدمها أو كالمها فال تكليف،
وبذلك يكون النظر العقيل ،أو استعامل العقل أحد املعلمني الكبريين املحددين للعملية
التكليفية يف اإلسالم" ،وقد أراد اإلسالم لإلنسان أن يغني ثقافته العلمية يف أرسار الكون
وسننه التي أودعها اهلل فيه ،واعتر التفكري فريضة إسالمية ،كام فضل تفكري ساعة عىل عبادة
سنة ،ورأى أن العلم هو القيمة التي يرتكز عليها التفاضل﴿ :ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ
ﯺ﴾ [الزمر ]9 :وأكد أن اإليامن يمر بطريق العلم ،وأن مشكلة الكفر هي مشكلة اجلهل،
وحتدث بمنطق القيمة اإلجيابية ،عن الذين يتفكرون يف آفاق الساموات واألرض بالدرجة
التي يعرفون فيها أرسارها بطريقة علمية ﴿ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ
((1
ﯶ ﯷ ﯸ﴾ [فصلت"...]٥٣ :
( )1فضل اهلل ،االجتهاد بني أرس املايض وآفاق املستقبل ،مرجع سابق ،ص.٢٧
٢٧٣
املسخرات ،وذلك بأن يعرفوا ما ختضع له هذه املوجودات من قواعد ثابتة؛ أي من
((1
قانون عام يف وجودها وطرق االنتفاع هبا بموجب هذا القانون العام".
فاخلطاب القرآين يف تقريره هلذا األصل العقيل ،عىل مستوى النظر والتفكر والتدبر يف
آيات الوحي وآيات الكون ،مل حيرصه يف فئة أو جهة معينة ،بل أعطى احلق يف ذلك للجميع،
فتكريم اهلل تعاىل لإلنسان بالعقل دليل أحقيته للنظر العقيل ،املفيض إىل إدراك احلقائق
السليمة بسالمة اآللة املدركة.
النظر العقيل مناط التكليف اإلنساين ،لذلك كان الكفار خماطبني بالرشع
َ الرشع
ُ وجعل
بام أعطاهم من العقول ،وأقام هلم من األدلة والعالمات ،وأرسل هلم من الرسل الذين نبهوا
قال تعاىل ﴿ :ﯡ ﯢ ﯣ﴾ ((٢
العقول وحركوا دواعي النظر والتفكري عندهم
(احلرش (٢ :فهذا حث عىل النظر يف آيات اهلل وأحكامه ،و"نص عىل وجوب استعامل القياس
العقيل ،أو العقيل والرشعي مع ًا (٣("،وقد رد الغزايل عىل منكري القياس ،وهم الشيعة وبعض
((٤
املعتزلة القائلني باستحالة التعبد بالقياس عقالً.
كام قرر علامء اإلسالم ،أن أول واجب يلزم املكلف هو النظر والتفكري (٥(،...يقول
إمام احلرمني اجلويني حاكي ًا رأي املحققني من علامء العقيدة" :وذهب املحققون إىل أن أول
فجعلوا النظر ((٦
واجب عليه [املكلف] النظر واالستدالل املؤديان إىل معرفة الصانع"،
((٧
املوصل إىل العلوم واملعارف أول الواجبات عىل املكلف ،ودليل وجوبه الرشع.
( )1زيدان ،السنن اإلهلية يف األمم واجلامعات واألفراد يف الرشيعة اإلسالمية ،مرجع سابق ،ص.9
( )٢الغزايل ،املستصفى من علم األصول ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٤0٢
( )٣ابن رشد ،فصل املقال فيام بني احلكمة والرشيعة من االتصال ،مرجع سابق ،ص.٢٢
( )٤الغزايل ،املستصفى من علم األصول ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٢٤٢
( )٥وذكر ابن رشد أن هذه القضية خمتلف فيها ،ويقول بعد نقاش املعتزلة واألشاعرة يف قضية التأويل .." :اختلفوا،
فقال قوم :أول الواجبات النظر ،وقال قوم اإليامن "..انظر:
-ابن رشد ،فصل املقال فيام بني احلكمة والرشيعة من االتصال ،مرجع سابق ،ص.٦٤
( )٦اجلويني ،إمام احلرمني أبو املعايل عبد امللك بن عبد اهلل بن يوسف .الشامل يف أصول الدين ،ح ّققه وقدم له :عيل سامي
النشار وفيصل بدير عيون وسهري حممد خمتار ،اإلسكندرية :مطبعة املعارف19٦9 ،م ،ص .1٢0وانظر كذلك:
-اجلويني ،كتاب اإلرشاد إىل قواطع األدلة يف أصول االعتقاد ،مرجع سابق ،ص.٣
( )٧اجلويني ،كتاب اإلرشاد إىل قواطع األدلة يف أصول االعتقاد ،مرجع سابق ،ص.10
٢٧٤
يتبني مما سبق تأكيد القرآن الكريم عىل أصل السالمة العقلية ،بإبطال املامرسات
االجتامعية التي كانت سائدة يف اجلاهلية ،ونقد االعوجاج يف االستدالل عىل احلقائق،
واحلث الشديد عىل النظر والتفكر العقليني ،الستعامل العقل السليم يف التوصل إىل احلقائق،
((1
فاخلطاب القرآين "حيرم الطاقة العقلية ويشجعها ،ويربيها لتتجه يف طريق اخلري".
العقل مشرك إنساين ،جعله اهلل تعاىل يف أصل خلقة اإلنسان وتكوينه ،فإذا حتققت
السالمة العقلية ،توصل العقل إىل االقتناع (٢(،وهذا يقود البرشية إىل طريق الوفاق ،واخلروج
من دائرة االختالف الضار ،فإذا حتققت السالمة العقلية ،يقول الشافعي لتالميذه ..." :فإن
((٣
العقل مضطر إىل قبول احلق".
ونجد اخلطاب القرآين يعطي احلق يف النظر والتفكري لكل صاحب عقل ،بخالف
األمة ذات الوقاحة اإلنكارية ،التي تعتقد أن التفكري من حقها وحدها ،وتعدّ نفسها هي
الوحيدة التي تفكر ،وغريها يتعني عليه تقليدها ،فهي تلغي حق األمم األخرى يف التفكري،
((٤
هذا إذا مل متح احلق يف االختالف من الواقع اإلنساين.
٢٧٥
-3أصل تكامل مصادر املعرفة:
يشري القرآن الكريم إىل االرتباط والتكامل بني مصادر املعرفة (1(،تنبيه ًا للمخالف،
عىل سبب من أسباب االختالف عظيم ،تضيع بسببه احلقائق ،وتكثر بسببه االختالفات
والنزاعات العقلية ،وهو عدم التكامل بني مصادر املعرفة ،فالتكامل جيعل احلقائق يف
الذهن يقينية ،فالغرض من استعامل مصادر املعرفة بطريقة متكاملة هو الوصول إىل
املعرفة احلقة.
وقد ذكر علامء اإلسالم ثالث دوائر ملصادر املعرفة "والعلم يدرك من وجوه ثالثة:
ويقول امليداين يف ارتباط مصادر املعرفة وتعاضدها" :عملية ((٢
احلس ،والنظر ،واخلر"،
البحث عن املعرفة عملية تتعاون فيها وسائل احلس الظاهرة والباطنة واآلالت واألدوات
التي تستخدمها احلواس ،وموازين العقل الفطرية ،واملكتسبة ،ومعارفه السابقة التي اكتسبها
بنفسه ،والتي تلقاها عن غريه ،مما اكتسبه اآلخرون من معارف ،يضاف إىل ذلك ما يوحي به
اهلل ألنبيائه من معارف تكون لدهيم علوم ًا يقينية ،شبيهة بالعلوم اليقينية التي يكتسبها الناس
((٣
العاديون بحواسهم".
( )1يقول فتحي ملكاوي يف حتديد الداللة املبارشة ملفهوم "التكامل املعريف"" :تعددت دالالت هذا املفهوم كام تعددت
سياقات استعامله ،وأكثر هذه الدالالت استعامالً هو املوسوعية ،واإلملام بعلوم متعددة ،يف مقابل االقتصار عىل
التخصص الدقيق ،وربام ييل هذه الداللة يف الشيوع حاجة العلوم إىل بعضها بعض ًا يف نمو العلم وتقدمه من جهة،
أو يف تطبيقه وتوظيف مبادئه عملي ًا من جهة ثانية "..انظر:
ملكاوي ،فتحي حسن .منهجية التكامل املعريف مقدمات يف املنهجية اإلسالمية ،هرندن :املعهد العاملي للفكر -
اإلسالمي ،ط1٤٣٢( ،1هـ٢011/م) ،ص.٢91
( )٢أبو يعىل ،املعتمد يف أصول الدين ،مرجع سابق ،ص٢٧8؛ وانظر كذلك:
القرضاوي ،العقل والعلم يف القرآن الكريم ،مرجع سابق ،ص.1٤9 -
( )٣امليداين ،ضوابط املعرفة وأصول االستدالل واملناظرة ،مرجع سابق ،ص.1٢٧-1٢٦
انظر كالم ًا جيد ًا لطه جابر العلواين عن مصادر املعرفة ومفهوم املعرفة يف:
العلواين ،األزمة الفكرية ومناهج التغيري ،مرجع سابق ،ص.٧٣-٦9 -
٢٧٦
((1
والعقل وسيلة وآلة لإلدراك ،فهي غريزة أو صفة أو قوة مهيئة إلدراك احلقائق،
يقول األصفهاين" :وكل موضع رفع فيه القرآن التكليف عن العبد لعدم العقل فإشارة إىل
هذه اآللة" (٢(،وهو واسطة بني الوحي واحلس ،فهو يقرأ الوحي ،ويأخذ عنه احلقائق التي
تفوق قدراته وطاقته التي خلقه اهلل عليها ،ويتلقى العلوم واملعارف كذلك من احلواس،
وحيوهلا إىل مدركات عقلية قابلة لالحتجاج واالستدالل.
فالعقل يرتبط بالوحي( (٣من جهة (٤(،وباحلس من جهة أخرى ،فعملية التكامل بني
مصادر العلوم واملعارف ،تقتيض االرتباط بني الوحي والعقل من جهة ،والعقل واحلس من
( )1وكل هذه األلفاظ تعبريات للعلامء -وخصوص ًا األصوليني منهم -عىل هذه القوة املدركة يف اإلنسان .انظر:
-الراغب األصفهاين ،املفردات يف غريب القرآن ،مرجع سابق( ،مادة :عقل) ،ص.٥٧8-٥٧٧
-املحاسبي ،أبو عبد اهلل احلارث بن أسد .العقل وفهم القرآن ،حتقيق :حسني القوتيل ،بريوت :دار الفكر ،ط،1
(1٣91ه19٧1/م) ،ص.٢01
-الغزايل ،املستصفى من علم األصول ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٦٤
-آل تيمية ،املسودة يف أصول الفقه ،حتقيق :أمحد بن إبراهيم عباس الذروي ،الرياض :دار الفضيلة ،ط،1
(1٤٢٢ه٢001/م) ،ص.981
-اجلويني ،أبو املعاىل عبد امللك بن عبد اهلل .الربهان يف أصول الفقه ،حتقيق :عبد العظيم الديب ،الدوحة:
جامعة قطر ،ط1٣99 ،1ه ،ج ،1ص.11٣-11٢
-الغزايل ،أبو حامد حممد بن حممد .املنخول من تعليقات األصول ،حتقيق :حممد حسن هيتو ،دمشق :دار الفكر،
ط1٤00( ،٢ه1980 /م) ،ص.٤٥
( )٢الراغب األصفهاين ،املفردات يف غريب القرآن ،مرجع سابق( ،مادة :عقل) ،ص.٥٧8-٥٧٧
( )٣هدي الوحي اإلهلي هو القرآن والسنة الصحيحة ،وكالمها وحي ،لقوله تعاىل﴿ :ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ
ﭤ﴾ [لنجم ،]٤-٣ :ويعر عنهام الشافعي بالنص ،وقد أطلق عىل الوحي يف الفكر اإلسالمي أسامء أخرى متعددة
ٍ
معان منها: منها :السمع ،والنقل ،والرشيعة ،والنص ،قال التهانوي :إن النص يف عرف األصوليني يطلق عىل
"الكتاب والسنة ...ما يقابل اإلمجاع والقياس ."..انظر:
-التهانوي ،حممد بن عيل بن القايض حامد بن حممد بن صابر احلنفي ،موسوعة كشاف اصطالحات الفنون
والعلوم ،تقديم وإرشاف ومراجعة :رفيق العجمي ،حتقيق :عيل دحروج ،نقل النص الفاريس إىل العربية:
عبد اهلل اخلالدي ،الرمجة األجنبية :جورج زيناين ،بريوت :مكتبة لبنان نارشون ،ط199٦ ،1م ،ج ،٢ص.1٦9٧
لكن مقصودنا هنا هو" :ما أوحاه اهلل تعاىل إىل خاتم األنبياء حممد ﷺ ،سواء كان قرآن ًا أو سنة صحيحة".
( )٤انظر ما ذكره الغزايل يف تكامل العقل والوحي وارتباطهام حتت عنوان" :بيان تظاهر العقل والرشع وافتقار أحدمها
إىل اآلخر" يف:
-الغزايل ،أبو حامد حممد بن حممد .معارج القدس يف مدارج معرفة النفس ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط،1
(1٤0٦ه1988/م) ،ص.٧٣
٢٧٧
جهة أخرى ،لذلك يقوم تكامل مصادر املعرفة العقلية عىل قضيتني :األوىل :ارتباط الوحي
((1
والعقل .والثانية :ارتباط العقل واحلس.
أ -ارتباط الوحي والعقل:
ربط اخلطاب القرآين بني العقل والوحي (٢(،وذلك بدعوة العقل إىل التدبر يف الوحي،
يف قوله تعاىل ﴿ :ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ﴾ [النساء،]8٢ :
وقوله تعاىل﴿ :ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ﴾ [حممد ]٢٤ :واملتأمل يف اخلطاب القرآين
جيد العقل والنقل يسريان مع ًا ،جنب ًا إىل جنب وهو ما يفهم من قوله تعاىل ﴿ :ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ
((٣
ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﴾ [امللك.]10 :
يقول األصفهاين يف قوله تعاىل ﴿" :ﯮ ﯯ ﯰﯱ﴾ [النور]٣٥ :؛ أي نور الرشع ونور العقل،
ثم قال﴿ :ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ﴾ [النور ]٣٥ :فجعلهام نور ًا واحد ًا ،فالرشع إذا فقد العقل عجز
عن أكثر األمور عجز العني عند فقد الشعاع" (٤(،فالتكامل بني العقل والوحي طريق للمعرفة
اليقينية؛ ألن الوحي خير باحلقائق ،وحيث العقل عىل النظر واالستدالل والرهنة عليها .ويف
هذا يقول طه جابر العلواين عن زمن النبوة وزمن الصحابة ريض اهلل عنهم" :كان العقل والنص
يسريان مع ًا جنب ًا إىل جنب ،خاضعني حلاكمية اهلل املطلقة ،النص يرشد العقل ويوجهه ،والعقل
((٥
يتفهم النص ويستوعبه وحيسن تطبيقه وفهمه وربطه بالواقع دون أية عملية رصاع".
( )1يقول طه جابر العلواين بالنسبة للمسلم له مصدران للمعرفة" :املصدر األول هو الوحي ،والوحي يعني الكتاب
عيل أن أحددها ،هي التي أنطلق بالتفكري فيها من منطلق الكتاب والسنة ،وهناك قضايا أخر
والسنة ،فهناك قضايا ّ
أنطلق فيها من منطلق الوجود ".انظر:
-العلواين ،األزمة الفكرية ومناهج التغيري ،مرجع سابق ،ص.٧0
( )٢والعقل حيتاج إىل حترير من اخلرافات واألوهام ،ومن كل ما ال دليل عليه ،وحيتاج إىل تنوير فيام ال يدركه بنفسه،
ولذلك كان "فيه خر ما قبلكم ،وخر ما بعدكم ،وفصل ما بينكم" لذلك احتاج اإلنسان إىل من ينوره يف كل ذلك،
فجاء اخلطاب القرآين متوجه ًا للعقل بالتحرير والتنوير .انظر:
-الشنقيطي ،حممد احلسن ولد الددو» ،املدخل لدراسة الرشيعة اإلسالمية »،يف املوقع:
- https: //www.youtube.com/watch?v=ZvfQ_Vx6k3o#t= 29
( )٣دراز ،دستور األخالق يف القرآن ،مرجع سابق ،ص.٣٥-٣٤
( )٤الراغب األصفهاين ،أبو القاسم احلسني بن حممد بن الفضل .تفصيل النشأتني وحتصيل السعادتني ،بريوت :دار
مكتبة احلياة198٣ ،م ،ص.٧٤
( )٥العلواين ،األزمة الفكرية ومناهج التغيري ،مرجع سابق ،ص.٧٣
٢٧8
واإلدراك العقيل ال يغني عن هداية الوحي وإرشاده ،فالعلوم واملعارف نسبية ،وال
سلطان هلا عىل وجدان البرشية ،وبذلك يقع اخلالف والنزاع بشأهنا بني العلامء واحلكامء،
بخالف هداية الوحي؛ ألن مصدرها املطلق ال النسبي ،وطريقها األنبياء ،يقول الغزايل:
"واخللق كلهم يتعلمون من الرسل ما هلم طريق يف املعرفة سواه" (1(،ويقول يف "املستصفى":
"العقل يدل عىل صدق النبي ،ثم يعزل نفسه ويعرف بأنه يتلقى من النبي بالقبول ما يقوله
((٢
يف اهلل واليوم اآلخر ،مما ال يستقل العقل بدركه ،وال يقيض أيض ًا باستحالته"...
فلو كانت العلوم واملعارف العقلية وحدها قادرة عىل توحيد البرشية ،واجتناب اخلالف
والفرقة والنزاع ،ملا كان ما نشاهده يف عامل الناس اليوم من الفوىض ،والنزاعات ،واحلروب،
والدمار للحرث والنسل ،ومل ينفعهم علامؤهم وال حكامؤهم ،مع وجود تطور العلوم يف
مجيع املجاالت يف العرص احلايل ،يقول إلياس بلكا" :والواقع أن أسباب قصور العقل كثرية
ال يمكن حرصها ،فقسم كبري من أسباب حمدودية العقل يعود إىل ما أصبح يطلق عليه اليوم:
تعدد العقالنيات ،بمعنى أننا مل نعد نتصور العقل بوصفه طاقة ثابتة جامدة تسري عىل قوانني
((٣
حمددة خالدة ،وبذلك وىل زمن العقل املطلق ،وحل مكانه العقل النسبي".
فاالهتداء للحق والصواب ال يمكن أن يكون بالعقل وحده دون اهلدى اإلهلي،
ألن احلقائق العقلية نسبية ،والعقل قارص عن إدراك احلقائق كلها ،أو اإلحاطة هبا من كل
جوانبها ،بل املنهج هو التكامل بني العقل والرشع" ،وكيف هيتدي للصواب من اقتفى حمض
العقل واقترص ،وما استضاء بنور الرشع وال استبرص؟ فليت شعري كيف يفزع إىل العقل من
حيث يعريه العي واحلرص؟ أوال يعلم أن العقل قارص ،وأن جماله ضيق منحرص؟ هيهات قد
خاب عىل القطع والبتات ،وتعثر بأذيال الضالالت من مل جيمع بتأليف الرشع والعقل هذا
٢٧9
معرف" (٢(،"...ال مبيح ،فإنه
الشتات» ،ويقول يف "املستصفى" ..." :النبي خمر ،والعقل ّ
((1
((٣
معرف للرجحان واالستواء".
مسو ،لكنه ِّ
بمرجح وال ٍّ
ِّ ليس
وهداية الوحي اإلهلي أقوى من هداية الوحي العقيل يف تدبري اختالفات الناس،
فالنفس اإلنسانية تذعن هلا بالوازع النفيس التعبدي "فمن أعظم مزايا هداية الوحي الدينية
عىل العلمية الكسبية ،هو أن مجيع طبقات املؤمنني يذعنون هلا بالوازع النفيس التعبدي،
((٤
فبذلك تكون عامة ثابتة ال جمال للخالف والتفرق فيها"...
وبالنظر يف اخلطاب القرآين يتجىل هدي الوحي للعقل يف القضايا األربع اآلتية(:(٥
-العلوم الرضورية :ليس للعقل دور كبري فيها؛ ألهنا تلزم كل العقالء ،وال تنفك
عنهم؛ إذ ال يمكنه التشكيك فيها ،كعلم اإلنسان بوجوده ،وأن االثنني أكر من
واحد ،إىل غري ذلك مما يسمى قوانني العقل الرضورية.
-العلوم النظرية :وهي املكتسبة بالنظر واالستدالل ،وال بد يف حتصيل هذا العلم
من علم رضوري يستند إليه ،ويدخل يف هذا القسم :الطبيعيات ،والطب،
والصناعات ،وكثري من العلوم ،وللعقل فيها جمال رحب ،يف معرفتها وإدراكها
والتوسع فيها.
٢80
-العلوم الغيبية :وهي ال تعلم بالعقل املجرد وحده ،بل ال بد للعقل إذا أراد أن
يعلمها أن يكون له طريق آخر للعلم هبا ،كعلمه بام يكون يف البلد القايص عنه،
وعلمه بام يف اليوم اآلخر من بعث وجزاء وحساب ،وهذا ال يعلم إال عن طريق
اخلر ،ويدخل يف هذا القسم كثريا من مسائل االعتقاد ،ال سيام التفصيلية منها،
فهذه ال يستقل العقل بمعرفتها ،بل ال بد من اعتامده عىل الوحي" (1(،فالتفسري
الديني للكون -بعيد ًا عن أن يوصف بالكسل الذهني -يتخطى اإلدراك العلمي
ويسمو عليه؛ ألنه يوافق الفكرة العلمية وحيتوهيا ،بل ويتجاوزها إىل ما ال هناية
((٢
فاملتناهي حيتل ركن ًا صغري ًا من الالمتناهي"...
يرتبط اإلدراك العقيل باإلدراك احليس ،فال يكون احلس وحده مصدر ًا للمعرفة حسب
الرؤية القرآنية ،فإن احلواس تتلقى املعلومات من عامل الشهادة وتنقلها إىل العقل لتحويلها
إىل معقوالت.
و"اإلحساس :إدراك اليشء بإحدى احلواس ،فإن كان اإلحساس للحس الظاهر فهو
(املشاهدات) ،وإن كان للحس الباطن فهو (الوجدانيات)"( ،(٣واحلواس عطاء إهلي أنعم
اهلل تعاىل هبا عىل اإلنسان إىل جانب العقل.
واحلواس اخلمس :السمع والبرص واللمس والذوق والشم ،وهي عطاء إهلي لإلنسان
لالهتداء إىل طريق الفهم والعلم ،قال تعاىل ﴿ :ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ
ﮡ﴾ [البلد.]10-8 :
وربط اخلطاب القرآين بني العقل واحلواس يف إدراك املعارف واحلقائق ،فقال تعاىل:
﴿ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ
٢81
ﯲ ﯳ﴾ [النحل" ]٧8 :واملعنى جعل لكم هذه األشياء آالت حتصلون هبا العلم
واملعرفة بأن حتسوا بمشاعركم جزئيات األشياء وتدركوها بأفئدتكم ،وتنتبهوا ملا بينها
من املشاركات واملباينات بتكرير اإلحساس ،فيحصل لكم علوم بدهيية تتمكنون بالنظر
وقال الزخمرشي" :وقوله﴿ :ﯬ ﯭ﴾ معناه: ((1
فيها من حتصيل العلوم الكسبية"،
وما ركب فيكم هذه األشياء إال آالت إلزالة اجلهل الذي ولدتم عليه ،واجتالب العلم
وقوله﴿ :ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ﴾؛ "أي التي تعلمون هبا ((٢
والعمل به"،
وتدركون"" (٣(.وهذه الوسائل الثالث قوى وعي تساعد اإلنسان عىل اكتشاف عنارص
احلق وامليزان ،ليندفع بعد ذلك بإرادة وعزيمة وتصميم عىل إقامة احلق ووضع امليزان،
((٤
واالنتصار للحق يف تناقضه مع الباطل".
وبني اخلطاب القرآين الرابط بني حاستي السمع والبرص والفؤاد ،فقال تعاىل﴿ :ﯷ
َّ
ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ﴾ [اإلرساء ]٣٦ :وهذا يشري إىل التكامل بني
العقل واحلواس يف اإلدراك للحقائق ،فاحلواس أوالً والعقل ثاني ًا ،كام نبه إىل ذلك اخلطاب
القرآين ،فندرك عامل الشهادة باحلواس ،ثم نحول تلك املعارف إىل العقل ،الذي حيوهلا إىل
معارف معقولة.
أما حاسة اللمس فقد تكلم عنها القرآن الكريم بكوهنا مصدر ًا للمعرفة يف قوله تعاىل:
﴿ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾ [األنعام.]٧ :
واحلواس مصدر من مصادر املعرفة جيعلها القرآن الكريم مرتبطة بالعقل غري مستقلة
بنفسها ،فال قيمة للحواس من دون عقل ،فتعطيلها وعدم استعامهلا وإمهاهلا يؤدي إىل تعطيل
( )1اآللويس ،روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين ،مرجع سابق ،ج ،٧ص.٤٣8
( )٢الزخمرشي ،الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون األقاويل يف وجوه التأويل ،مرجع سابق ،ج ،1٤ص.٥80
( )٣القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،10ص.1٥1
( )٤العلواين ،األزمة الفكرية ومناهج التغيري ،مرجع سابق ،ص.1٥
٢8٢
مهمة العقل ،فقال تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ
ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ﴾
[األعراف ،]1٧9 :وقال تعاىل﴿ :ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ
ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ
ﭘ ﭙ ﴾ [طه.]1٢٦-1٢٤ :
بذلك يكون االرتباط بني اإلدراك احليس واإلدراك العقيل معل ًام مه ًام يف أصل تكامل
العلوم واملعارف ،من أجل تدبري االختالف املعريف ،فال العقل يستقل وحده وال احلواس
مستقلة وحدها ،فاحلواس متد العقل بإدراكاهتا ،والعقل يقدم نتائج ذلك اإلدراك ،فهو
يرجم املعرفة احلسية إىل معرفة عقلية.
وكثرية هي اآليات القرآنية التي توجه اإلنسان إىل إدراك املعارف عن طريق حواسه،
وذلك بالنظر يف الظواهر الكونية الطبيعية واالجتامعية اإلنسانية من حوله ،بالنظر يف
األنفس واآلفاق .وينبه القرآن من خالل ذلك العقل إىل جتميع هذه املعارف احلسية
وحتويلها إىل معارف عقلية منطقية يبني عليها معارفه الصحيحة ،يقول تعاىل ﴿ :ﮨ ﮩ
ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯓﯔﯕﯖﯗ ﯘﯙﯚﯛ ﯜ
ﯝ﴾ [الغاشية.]٢0-1٧ :
والناظر يف اخلطاب القرآين ،جيده يدعو إىل سلوك طريق احلس إلدراك املعارف ،يقول
تعاىل ﴿ :ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ
يقول اآللويس" :واملعنى جعل لكم هذه األشياء آالت [النحل]٧8 : ﯲ ﯳ﴾
٢8٣
حتصلون هبا العلم واملعرفة بأن حتسوا بمشاعركم جزئيات األشياء ،وتدركوها بأفئدتكم،
وتنتبهوا ملا بينها من املشاركات واملباينات بتكرير اإلحساس ،فيحصل لكم علوم بدهيية،
تتمكنون بالنظر فيها من حتصيل العلوم الكسبية" (1(،وأشار القرآن الكريم إىل حسة وندم
من مل يستعملها ،قال تعاىل﴿ :ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ﴾ [امللك.]10 :
فأصل التكامل بني مصادر املعرفة ،اإلدراك احليس (الظاهر والباطن) واإلدراك
العقيل ،والوحي ،طريق منهجي أكده القرآن ودعا إليه من أجل املعرفة احلقة واليقينية ،فبهذا
التكامل واالرتباط بني مصادر املعرفة –الوحي والعقل من جهة ،والعقل واحلس من جهة
ثم تتم إدارة
أخرى -حيصل الوفاق املعريف العاصم للعقل من الرشود واالضطراب ،ومن ّ
اخلالف املعريف القائم عىل اختالف اإلدراك العقيل.
متهيد:
ذكر القرآن الكريم أصول تدبري االختالف املنهجية التفصيلية –األخالقية واملعرفية-
يف سياق حماورة املخالف وجمادلته ،سواء منهم املنافقون ،أو أهل الكتاب ،أو غريهم من
املرشكني والفلسفات األخرى ،فهي عامة وليست خاصة بفئة دون أخرى ،سواء يف تدبري
االختالف داخل الدائرة اإلسالمية ،أو خارجها من أهل الكتاب أو غريهم .كام أن معاجلة
األصوليني هلا يف علم اجلدل واملناظرة ،ليست خاصة بتدبري االختالف العلمي األصويل ،أو
الداخيل اإلسالمي -كام هو متبادر -ألن كالمهم عن هذه "القواعد اجلدلية يف سياق أصويل،
فمن باب ارتباط املنهج باملوضوع ،وإال فهذه القواعد اجلدلية متثل منهج تدبري االختالف
((٢
بصفة عامة سواء كان خالف ًا داخلي ًا أو خارجي ًا".
( )1اآللويس ،روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين ،مرجع سابق ،ج ،٧ص.٤٣8
( )٢رفيع ،النظر الرشعي يف بناء االئتالف وتدبري االختالف :دراسة تأصيلية حتليلية ،مرجع سابق ،ص.109-108
٢8٤
((1
-1أصول تدبري االختالف التفصيلية األخالقية:
يؤكد اخلطاب القرآين هذا األصل يف املامرسة اجلدلية؛ ألن االختالف مشيئة إهلية،
والضالل واهلدى بيد اهلل تعاىل ،والتوفيق للحق والصواب بيده كذلك ،لذلك ينبغي عىل
املجادل أن يسأل اهلل تعاىل أن يلهمه الصواب ،وأن ُيريه احلق ويوفقه التباعه والركون إليه،
قال تعاىل عىل لسان سيدنا موسى ملا أرسله إىل فرعون ﴿ :ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ
ﯟﯠﯡﯢﯣ ﯤ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯮﯯ ﯰ ﯱﯲﯳﯴ
ﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾﯿ ﰀﰁﰂ ﰃ ﰄﰅﰆﰇ ﰈﰉ
ﰊ ﴾ [طه ٢٥ :إىل ]٣٦فسيدنا موسى يف هذه اآليات طلب املعونة من اهلل يف جمادلة فرعون
وحماورته ،يقول ابن كثري" :هذا سؤال من موسى ،عليه السالم ،لربه عز وجل ،أن يرشح له
((٢
صدره فيام بعثه به ،فإنه قد أمره بأمر عظيم ،وخطب جسيم"...
وكف ِّ
الفك. ُّ الكف،
ِّ ( (1والقرآن الكريم كله أخالق" ،وقيل :حسن اخللق :بذل الندى ،وكف األذى .وقيلُّ :
فك
وكف القبيح .وقيل :التخيل من الرذائل ،والتحيل بالفضائل ".انظر:ُّ وقيل :بذل اجلميل
-ابن القيم ،مدارج السالكني بني منازل إياك نعبد وإياك نستعني ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٥٦8
وهذه األصول ينتظمها مبدأ "ضبط النفس وتربيتها وتزكيتها "،وعدم جماراة ميوالهتا ،املؤثرة يف السلوك
اإلنساين ،وإذعانه إىل احلق والتزامه باألصول األخالقية .وقد ذكر الغزايل يف "اإلحياء" جمامع هذه اآلفات األخالقية
يف املناظرة ،وخصص لذلك مبحث ًا عنونه بـ" :بيان آفات املناظرة وما يتولد منها من مهلكات األخالق" وانظر:
-الغزايل ،إحياء علوم الدين ،مرجع سابق ،ص .٥٦وانظر" :باب أدب اجلدل" يف:
-اخلطيب البغدادي ،أبو بكر أمحد بن عيل بن ثابت .كتاب الفقيه واملتفقه ،حتقيق :عادل بن يوسف العزازي،
الرياض :دار ابن اجلوزي ،ط1٤1٧( ،1هـ199٦/م) ،ج ،٢ص.٤٧
وقال اجلويني بشأن املجادلة بالتي هي أحسن امللتزمة باآلداب األخالقية والربوية" :وأحسن يشء يف اجلدال
املحافظة من كل واحد من املتجادلني عىل أدب اجلدل ،فإن األدب يف كل يشء حليته .فاألدب يف اجلدل يزين
صاحبه ،وترك األدب فيه يزري به ويشينه .ومعظم األدب يف كل صناعة استعامل ما خيتص هبا ،واالشتغال بام يعود
نفعه إىل تقويمها واإلعراض عام ال يعود بنفع إليها ".انظر:
-اجلويني ،أبو املعايل إمام احلرمني عبد امللك بن عبد اهلل بن يوسف بن حممد .الكافية يف اجلدل ،تقديم وحتقيق
وتعليق :فوقية حسني حممود ،القاهرة :مطبعة عيسى احللبي ،ط1٣99( ،1هـ19٧9/م) ،ص.٥٣8
( )٢ابن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.٢8٢
٢8٥
ويقول اجلويني يف تأكيد هذا األصل" :وقبل أن يرشع يف الكالم يبتدئ بحمد اهلل
والثناء له ،والصالة عىل رسوله ،فيستعني بذلك عىل طلب احلق ،والتوفيق يف اإلبانة عن
((1
الباطل وبطوله ،والكشف عن الصواب وحقه"...
وهذا ما نبه عليه الباجي كذلك بقوله" :ينبغي للمناظر أن يقدم عىل جدله تقوى اهلل عز
وجل ليزكو نظره ،وحيمد اهلل عز وجل ويصيل عىل رسول اهلل ﷺ كثري ًا ،لتكثر بركاته وتعظم
((٢
فوائده ،ثم يسأله املعونة والتوفيق لنفسه عىل طلب احلق وتوفيقه إلدراكه"...
وااللتزام هبذا األصل األخالقي ،يربط اإلنسان باهلل تعاىل؛ ألنه سبحانه املوفق للحق
والصواب ،فهو العامل الذي ال ختفاه خافية .أما علم اإلنسان ،وقدراته العقلية ،فقارصة.
ب -أصل قبول دعوة املخالف للحوار:
قبول دعوة املخالف للحوار وعدم اإلعراض عنه ،أصل مهم يساعد عىل جعل احلوار
ثقافة علمية وجمتمعية ،فتدبري االختالفات واحلد من النزاعات والرصاعات ،حيتم قبول
احلوار والدعوة إليه ،فاإلعراض عن املحاور ينتج بدائل أخرى غري حضارية وال إنسانية،
فإن أصل قبول الدعوة للحوار أصل يمهد إلرساء ثقافة تدبري االختالف اإلنساين ،عوض
اإلعراض عن سامع املخالف ،وإرادة احلوار معه وجداله بالتي هي أحسن ،فإنه يفوت
الفرصة عىل طريف املناظرة لالستفادة املعرفية والثقافية.
٢8٦
ويقول ابن عاشور" :وملا كانت إقامة املرشك املستجري عند النبي عليه الصالة والسالم
وإسامعه القرآن ،سواء كانت استجارته لذلك أم لغرضِ ال ختلو من عرض اإلسالم عليه
آخر ،ملا هو معروف من شأن النبي ﷺ من احلرص عىل هدي الناس ،جعل سامع هذا املستجري
القرآن غاية إلقامته الوقتية عند الرسول ﷺ فدلت هذه الغاية عىل كالم حمذوف إجياز ًا ،وهو
ما تشتمل عليه إقامة املستجري من تفاوض يف مهم ،أو طلب الدخول يف اإلسالم ،أو عرض
((1
اإلسالم عليه"...
وقد ذهب املفسون حسب ما وقفت عليه ،إىل ما ذكره الطري نفسه ،من الثناء عىل
العباد الذين يستمعون القول فيتبعون األحسن واألهدى إىل احلق ،ويف هذا إشارة إىل حث
القرآن الكريم عىل االستامع للمخالف ،وقبول دعوته للحوار واجلدال ،وتصحيح املعرفة،
واتباع أقرب األقوال للحق.
قال تعاىل عىل لسان سيدنا نوح ملا أرسله إىل قومه ليدعوهم إىل الرشد ،لكنهم رفضوا
الدعوة( ﴿ :(٣ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ
ﯤ ﯥﯦ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳ
ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ﴾ [نوح ]10-٥ :مع أن سيدنا
نوح استعمل معهم أساليب حوارية خمتلفة ،لعل ذلك ينفع يف قبول الدعوة واالستجابة له،
ال وهنار ًا ،رس ًا وجهر ًا ،لكنهم حادوا عن احلق ،ومل يقبلوا دعوته للحوار وال
فحاورهم لي ً
سامع ما عنده ،بل أغلقوا آذاهنم ،وتنكروا له ،واستكروا عن اتباع احلق.
٢8٧
ت -أصل االعرتاف باملخالف وقبول رأيه:
االعراف باملخالف وقبول رأيه( ،(1مقدمة أساسية يف املنهج اجلديل ،فاملناظرة واحلوار
اعراف متبادل؛ ألن املناظرة مراجعة بني رأيني خمتلفني ،قصدها الوصول إىل احلقيقة ،وال
يتم هذا القصد من دون االعراف والقبول للرأي املخالف ،لذلك يفرض املنهج اجلديل
القرآين ،االعراف باملخالف ،وقبول رأيه ،ثم مناقشة أفكاره(.(٢
دعا القرآن الكريم إىل قبول الرأي املخالف ،واالبتعاد عن جو اإلنكار واالنفعال
والعداء ،وذلك يف سياق الرد عىل الكفار ملا اهتموا النبي ﷺ باجلنون ،قال تعاىل ﴿ :ﯢ ﯣ
ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ
ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﴾ [سبأ.]٤٦ :
فإن االعراف باملخالف وقبول رأيه أصل مهم يف املامرسة اجلدلية ،وحيكي القرآن
الكريم قول املرشكني الرافضني لذات املخالف ﴿ :ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ ﴾ [الزخرف ]٣1 :فهم مل يعرضوا عىل الرأي والفكرة ،لكنهم اعرضوا عىل ذات
املخالف ،ومتنوا لو أن هذا القرآن أنزل عىل "الوليد بن املغرية بمكة ،أو عروة بن مسعود
الثقفي بالطائف" (٣(،فكان رفضهم لرسول اهلل ﷺ استناد ًا إىل شهواهتم ورغباهتم ،التي ال
أساس هلا يف منهج املناظرة واملجادلة.
( )1نقل لنا القرآن الكريم ،كل اهتامات املخالف للرسل مجيع ًا ،ومنهم الرسول حممد ﷺ ،حيث قالوا" :ساحر"،
"كذاب" "،كاهن" "،شاعر "،وكذلك تشكيكهم يف مسألة املعاد ،وكثري من قضايا الدين وأحكامه ،وقد تعرض
الباحث يف ثنايا هذه الدراسة – يف غري هذا املوضع -لعدد من اآليات القرآنية التي أشارت إىل أقوال املخالفني،
وعرض آرائهم ومواقفهم ،الدالة عىل اعراف القرآن الكريم باملخالف ،وقبول رأيه.
وتعرض طه عبد الرمحن بالنقد لفلسفة الواقع الكوين جتاه املخالف بقوله" :وإذا نحن رجعنا إىل الذين ينظرون َّ ()٢
لالختالف يف الواقع الكوين ،ظفرنا عندهم بثالثة مبادئ أساسية لضبط االختالف ،وهي" :مبدأ التسامح "،و"مبدأ
االعراف "،و"مبدأ التصويب" ...ولنبني كيف أهنا -املبادئ -ال تويف بالغرض املطلوب؛ أي دفع التصلب عن
االختالف ،أو دفع الوقاحة عن األمة ". ...انظر بيان ذلك ومناقشته هلذه املبادئ يف:
-عبد الرمحن ،احلق اإلسالمي يف االختالف الفكري ،مرجع سابق ،ص.1٤٦
( )٣السيوطي ،جالل الدين ،واملحيل ،جالل الدين .تفسري اجلاللني ،القاهرة :دار احلديث ،ط( ،1د .ت ،).ص.٦٥0
٢88
ومن االعراف باملخالف يف املناظرة ،معرفة قدر املناظر وإنزاله منزلته" ،وعليك
باملحافظة عىل قدرك وقدر خصمك ،وإنزال كل واحد يف وجه كالمك معه درجته ومنزلته،
فتميز بني النظري واملسرشد ،وبني األستاذ ومن يصلح لك ،وال تناظر النظري مناظرة املبتدئ
واملسرشد ،وال تناظر أستاذينك مناظرة األكفاء والنظراء ،بل تناظر ك ً
ال عىل حقه ،وحتفظ
((1
ك ً
ال عىل رتبته".
كان هذا هو موقف القرآن الكريم يف االعراف باملخالف ،وهو يمثل موقف املسلمني
من األغيار ،يقول جوستاف لوبون" :إن مساحمة حممد ﷺ لليهود والنصارى كانت عظيمة
إىل الغاية ،ومل يقل بمثلها مؤسسو األديان التي ظهرت قبله ،كاليهودية والنرصانية عىل وجه
((٢
اخلصوص ،وقد سار خلفاؤه عىل سنته".
فام هو موقف املخالف غري املسلم من األغيار ،والسيام املسلمني منهم يف القرآن الكريم؟
إذا تأملنا اخلطاب القرآين نجد موقف ًا مغاير ًا ،بل موقف ًا غري طبيعي ،فاليهود قرصوا التعامل
بالنبل والعدل والكرم بينهم ،وأباحوا ألنفسهم رفض املخالف وإنكاره ،بل استصغاره
واحتقاره بالتعامل معه بالفواحش والرذائل ،يف نرجسية فاضحة ،يقول تعاىل ﴿ :ﯔ ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ﴾ [آل عمران ،]٧٥ :وقال تعاىل يف
نقضهم للعهود مع املخالف ﴿ :ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ﴾
[البقرة ،]100 :وقال تعاىل يف وصف عداوهتم للمؤمنني بكوهنا شديدة﴿ :ﮮ ﮯ ﮰ
ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ﴾ [املائدة.]8٢ :
ومع أن القرآن الكريم جيعل النرصانية أقرب إىل املسلمني مودة من اليهود ﴿ :ﮮ ﮯ
ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ ﯡﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ﴾ [املائدة ]8٢ :إال أن
بعض املامرسات الكنسية مل تنسجم مع هذه الرؤية واحلقيقة القرآنية .ولعل متثالت احلروب
والرصاعات الدينية التي حدثت يف البلقان وبعض مواقف التنصري يف أفريقيا شاهد عىل هذا.
٢89
وهذا املوقف اإلنكاري للمخالف أخرنا القرآن عىل أنه موقف متبادل بني اليهود
والنصارى أنفسهم﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ﴾ [البقرة ]11٣ :يقول ابن عاشور" :معطوف عىل قوله تعاىل﴿ :ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ
ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ﴾ [البقرة ]111 :لزيادة بيان أن املجازفة دأهبم ،وأن رمي املخالف
بأنه ضال شنشنة قديمة فيهم ،فهم يرمون املخالفني بالضالل ملجرد املخالفة (1(،"...كام هو
موقف املرشكني الذين أنكروا األديان كلها ،قال تعاىل ﴿ :ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ﴾
[األنعام ]91 :فهؤالء أنكروا كل خمالف يعتنق دين ًا ساموي ًا كيفام كان ،فهم يرفضون املخالف
املسلم واليهودي واملسيحي.
ينكر التفكري االستعامري الغريب االختالف والتعدد ،ويسعى للهيمنة عىل العامل،
وادعاء املركزية احلضارية ،ونفي اآلخر املخالف وإقصائه ،وعدم االعراف به ثقافة وفكر ًا
وحضارة ،ف "هذه النزعة املركزية قد جعلت الثقافة الغربية تنكر تنوع العامل إىل حضارات
متعددة ومتاميزة ومستقلة يف ثقافاهتا ،فزعمت هذه املركزية أن احلضارة الغربية هي احلضارة
العاملية ،وأن العامل والتحرض قد بدأ باإلغريق ،وانتهى بالنهضة الغربية احلديثة ،وأن
إسهامات اآلخرين –وخاصة املسلمني -ال تعدو أن تكون "إسهامات" ساعي بريد ،نقل
تراث اإلغريق إىل أوربا عرص النهضة والتنوير"...
٢90
تبق يف نظر فوكوياما سوى احلضارة الغربية بعد أن انترصت مبادئها الليرالية ،ومل يعرف
َ
بيشء ألحد ،حتى لإلسالم ،فكيف يمكن للغرب أن خيوض حوار ًا حضاري ًا مع طرف مل
((1
يعرف به بعد؟"
والغرب من أجل تكريس النظرة اإلقصائية للمخالف –اإلسالمي حتديد ًا -أخذ
يطرح نظام العوملة لفرض أنساقه الثقافية ،متجاه ً
ال خصوصيات الشعوب واحلضارات،
( )1الغرباوي ،ماجد .إشكالية التجديد ،كتاب قضايا إسالمية معارصة ،القاهرة :دار اهلادي ( ،د .ت ،).ص.٤8
وباإلضافة إىل هذه النظرية اإلقصائية اإللغائية الرافضة للمخالف ،نجد كذلك نظرية هانتنجتون القائلة "بصدام
احلضارات"( ..مقالة منشورة يف جملة ،)199٣( Foreign Affairs :وفصل النظرية يف كتابه .انظر:
-صامويل هانتنجتون ،صدام احلضارات إعادة صنع النظام العاملي ،ترمجة :طلعت الشايب ،ط1999 ،٢م.
وقد تناوهلا عدد من الباحثني بطرق خمتلفة ،منهم من رشح النظرية ،ومنهم:
-مقري ،عبد الرزاق .صدام احلضارات؛ حماولة للفهم أبعاد وأسباب ومآالت العدوان األمريكي عىل األمة،
اإلسالمية ،املنصورة :دار الكلمة ،ط1٤٢٥( ،1ه٢00٤/م).
ومنهم من ناقش النظرية ورد عليها ،ومنهم:
-القرضاوي ،يوسف .املسلمون والعوملة ،بريوت :دار التوزيع والنرش اإلسالمية٢000 ،م .وتعرض الكاتب
لكتاب "صدام احلضارات" صامويل هانتنجتون ،يف الباب الثالث ،وأثار لديه الكثري من التساؤالت عن
رضورة وحتمية حدوث رصاع للحضارات ،موضح ًا أن األصل يف االختالف يف اإلسالم ،هو السلم
والتحاور والتعايش ال التصارع ،داعي ًا حلوار احلضارات ،ومذكر ًا بقوله تعاىل﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ
ﭖﭗ﴾ (البقرة ،(٢1٦ :وأشار إىل النظرية يف بعض كتبه األخرى.
-حممد عامرة ،احلضارات العاملية تدافع أم رصاع؟ القاهرة :هنضة مرص ،يف التنوير اإلسالمي ( ،)٢٤ط،1
1998م.
-العلواين ،األزمة الفكرية ومناهج التغيري ،مرجع سابق ،ص.1٤٦
وقد ناقش حممد عابد اجلابري قضية "صدام احلضارات" يف:
-اجلابري ،حممد عابد .قضايا يف الفكر املعارص :العوملة ،رصاع احلضارات ،العودة إىل األخالق ،التسامح،
الديمقراطية ونظام القيم ،الفلسفة واملدنية ،بريوت :مركز دراسات الوحدة العربية ،ط199٧ ،1م ،ص.18
وقد نعدّ دراسة :رصاع احلضارات يف املفهوم اإلسالمي ،عبد العزيز التوجيري ،طريقة مغايرة يف معاجلة
املوضوع ،فقد حاول الركيز عىل النظر الرشعي اإلسالمي للتدافع والتعايش اإلنساين.
ومن الكتب التي ألفت يف رشح النظرية:
-مقري ،صدام احلضارات حماولة للفهم وأبعاد وأسباب ومآالت العدوان األمريكي ،عىل األمة اإلسالمية،
مرجع سابق .وانظر:
-قاعود ،حييى سعيد حممد" .طروحات فوكوياما وهانتنغتون والنظام العاملي اجلديد :دراسة حتليلية مقارنة"،
(رسالة ماجستري ،كلية االقتصاد والعلوم اإلدارية ،جامعة األزهر ،غزة1٤٣٥( ،ه٢01٤/م).
٢91
مستعم ً
ال يف ذلك ما توصل إليه من تقدم تكنولوجي ومعلومايت ،يف هجوم وتغلغل سافر
لتنميط القيم ،وإحلاق العامل بالفلك الغريب.
ويبقى موقف اإلسالم من االعراف باآلخر ،موقف ًا متميز ًا عن غريه من مواقف أهل
الكتاب والغرب العلامين.
اإلنصاف( (1من أهم أصول احلوار واجلدل مع املخالف؛ ألن املخالف إذا مل يلمس
من املحاور اإلنصاف ،ال يطمئن ملحاورته وال هتدأ نفسه ،وال يتهيأ اجلو السليم للحوار؛
إذ إن املحاور لن يسمع احلجج ،ولن يذعن للحق ،ولن يتحقق الفهم واإلفهام ،فاملحاورة
واملحاجة ال تصلح وال تنفع إال مع اإلنصاف من النفس.
وجاءت آيات كثرية تأمر بالعدل وتنهى عن الظلم والشنآن ،قال تعاىل﴿ :ﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [املائدة ،]٢ :وقال تعاىل﴿ :ﮱ
ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾ [املائدة ]8 :يقول ابن تيمية:
"وهذه اآلية نزلت بسبب بغضهم للكفار ،وهو بغض مأمور به ،فإذا كان البغض الذي أمر
اهلل به قد هنى صاحبه أن يظلم من أبغضه ،فكيف يف بغض مسلم بتأويل وشبهة أو هبوى
((٢
نفس ،فهو أحق أن ال يظلم بل يعدل عليه".
واإلنصاف يف نقل رأي املخالف وحجته منهج قرآين؛ إذ نقل لنا القرآن الكريم آراء
املخالفني من غري زيادة وال نقصان ،بل قد يكون تعبري القرآن الكريم عن آرائهم وأفكارهم
أحسن وأمجل من تعبرياهتم ،قال تعاىل﴿ :ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ
( )1يقول حاتم األصم يف بيان إنصافه ملخالفه" :معي ثالث خصال هبن أظهر عىل خصمي ،قالوا :أي يشء هي؟ قال:
أجتهل عليه .فبلغ ذلك أمحد بن حنبل ،فقال:
أفرح إذا أصاب خصمي ،وأحزن إذا أخطأ ،وأحفظ نفيس أن ال ّ
سبحان اهلل ما أعقله ".انظر:
-أبو نعيم ،أمحد بن عبداهلل األصفهاين .حلية األولياء وطبقات األصفياء ،القاهرة :دار السعادة1٣9٤( ،هـ19٧٤/م)،
ج ،8ص.8٤
( )٢ابن تيمية ،منهاج السنة النبوية ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.1٢٧
٢9٢
ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ﴾ [يس ]٤٧ :فمطلب اإلنصاف يقتيض
عدم حتريف قول املخالف ،أو الزيادة أو النقصان فيه ،يقول اجلويني" :وعليهام أن ينصفا يف
حكاية كل واحد منهام كالم صاحبه من غري زيادة وال نقصان (1(،"...ويقول الباجي" :وال
((٢
يناظر من ال ينصف من نفسه".
فاملنهج اجلديل يفرض عىل املتناظرين اإلنصاف من النفس ،وعدم ربط احلق بشخص
املناظر وذاته ،بل احلق ال حيايب أحد ًا "واهلل قد أمرنا أال نقول عليه إال احلق ،وأال نقول عليه
إال بعلم ،وأمرنا بالعدل والقسط ،فال جيوز لنا إذا قال هيودي أو نرصاين فض ً
ال عن الرافيض
((٣
قوالً فيه حق أن نركه أو نرده كله ،بل ال نرد إال ما فيه من الباطل دون ما فيه من احلق"،
وهذه كلمة عظيمة من عامل جليل ،تدل عىل موقف اإلسالم ومنهجه يف إنصاف املخالف.
واإلنصاف أصل عام وأسايس يف العملية احلجاجية واجلدلية ،يفرض عىل املجادل
احرام املخالف ،وقبوله ،والبعد عن اهلوى ،واالنتصار للنفس" ،وعالقة اإلنصاف
واالحرام عالقة متبادلة بني الطرفني املتجادلني ،حيرص عليها كل واحد منهام؛ ألهنا تقود
إىل قبول احلق ،والبعد عن اهلوى ،واالنتصار للنفس ،أما انتقاص الرجال واحتقارهم فأمر
((٤
معيب وغري مقبول يف خمتلف الثقافات".
٢9٣
وغالب ًا ينعدم اإلنصاف يف أجواء اخلالف واملناظرة ،ويظهر التعصب وأهواء النفوس،
((1
وقد كان اإلمام مالك يشكو من أهل زمانه قائالً" :ما يف زماننا يشء أقل من اإلنصاف".
فالعدالة واإلنصاف مع املخالف ميزان يضبط حرية الطرفني يف املامرسة اجلدلية،
"والعدالة هي امليزان الذي يضبط به كل عمل واحلرية خاضعة هلذا امليزان ،تعطي صاحبها
بمقدار ما يطالب غريه به ال يزيد" (٢(.ويقول ابن القيم عن ُخلق العدالة واإلنصاف:
"العدل :حيمله عىل اعتدال أخالقه ،وتوسطه فيها بني طريف اإلفراط والتفريط ،فيحمله عىل
خلق اجلود والسخاء الذي هو توسط بني الذل وا ْل ِق َح ِة ،وعىل خلق الشجاعة ،الذي هو
توسط بني اجلبن والتهور ،وعىل خلق احللم ،الذي هو توسط بني الغضب واملهانة وسقوط
النفس (٣(".ويقول ابن عاشور" :اإلنصاف من النفس أجىل مظاهر اخللق الكريم ،وأدهلا عىل
رسوخ حمبة العدل يف الضمري .واسم اإلنصاف أشهر ما يطلق عىل إعطاء حق الغري طوع ًا،
ً ((٤
يقال :أنصف إذا أعطى حق ًا عليه طوعا".
وفيام يآيت الوقوف عىل بعض جتليات اإلنصاف مع املخالف يف اخلطاب القرآين:
( )1ابن عبد الر ،أبو عمر يوسف بن عبد اهلل بن حممد .جامع بيان العلم وفضله ،حتقيق :أبو األشبال الزهريي ،الرياض:
دار ابن اجلوزي ،ط1٤1٤( ،1ه199٤/م) ،ج ،1ص.٢٦٣
( )٢أبو زهرة ،املجتمع اإلنساين يف ظل اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.٢٥9
( )٣ابن القيم ،مدارج السالكني بني منازل إياك نعبد وإياك نستعني ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٢9٤
( )٤ابن عاشور ،أصول النظام االجتامعي يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.1٣٣
( )٥الداعوق ،عمر وفيق» .مؤمنو أهل الكتاب ومكانتهم يف اإلسالم »،جملة كلية الدراسات اإلسالمية والعربية،
اإلمارات العربية املتحدة ،ديب ،العدد1٤18( ،1٤ :ه199٧/م) ،ص.1٤1
( )٦ويقول تعاىل ﴿ :ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ
ﯠ ﯡﯢﯣﯤﯥ ﯦ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯯﯰ ﯱ
ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ﴾[آل عمران ،]11٥-11٣ :ويقول ﴿ :ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ =
٢9٤
التعبري بالكثري دون التعميم عدل وإنصاف يالزمان دائ ًام أحكام القرآن الكريم ،وال جتد
أعدل حك ًام وال أكثر نصفة من أحكامه حني يصدرها حتى عىل خمالفيه ،والذين ال يؤمنون
((1
به ،وذلك واضح يف كل مواضعه"...
العدالة القرآنية املنصفة للمخالف حتذر املسلمني من ذهنية الكيل بمكيالني ،وتفرض
عليهم املودة والقسط مع املخالف غري املعتدي ،إذا كانت جتمعهم معه مشركات وجوامع،
= ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ
ﯡ ﴾ [آل عمران ،]٧٥ :ويقول ﴿ :ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ﴾
[آل عمران﴿ .]110 :ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾
[احلديد ﴿ .]٢٦ :ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ
ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ
ﮧ ﮨ ﮩ ﴾ [احلديد.]٢٧ :
( )1البنا ،نظرات يف كتاب اهلل ،مرجع سابق ،ص.٢8٧
٢9٥
((1
من أجل البناء احلضاري واإلنساين.
ويقرر القرآن الكريم هذه احلقيقة الناصعة ،التي تقيض بالتمييز بني املخالفني عىل
أساس قاعدة اإلنصاف مع من ينفي ،ويرفض ،ويستأصل كل من عداه ،سواء كان معادي ًا
وحمارب ًا له ،أو كان مسامل ًا يمد يده للتعاون والتعارف والتكامل احلضاري.
حيرص القرآن الكريم يف إنصافه للمخالفني عىل إدامة الصلة معهم ،لذلك نجد يف
القرآن الكريم عدد ًا من اآليات تؤسس لقاعدة" :الراءة من فعل املخالف أو قوله ...ال
من شخصه" ،إنصاف ًا له؛ ألن املخالف ال تصدر عنه األفعال واألقوال اخلاطئة فقط ،بل
قد يصيب وقد خيطئ ،والصواب واخلطأ خاضع للتدافع املعريف اإلنساين ،فهي مساحة
للتفاعل ،وليست دافع ًا للقطيعة والراءة من شخص املخالف.
فاحلق سبحانه خياطب نبيه يف إشارة إىل هذا املعنى يف قوله تعاىل ﴿ :ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ
ﮏ ﮐ﴾ [الشعراء ]٢1٦ :فأمره سبحانه بإنذار عشريته ،لكن إن عصوا وأرصوا عىل موقفهم
الرافض للحق ،ترأ من عملهم (٢(،الذي هو باطل من وجهة نظره ،ومل يطلب منه سبحانه
قتاهلم ،أو استئصاهلم ،بل الراءة من ترصف املخالف ،وتركه وما يعتقد.
واملنهج نفسه سلكه النبي ﷺ مع املخالفني املرشكني ،قال تعاىل ﴿ :ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ
ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ﴾ [األنعام ،]19 :وقال تعاىل ﴿ :ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﴾ [األنعام.]٧8 :
وينتقل القرآن الكريم من طلب ممارسة هذا املنهج ،إىل طلب تعليمه للمخالف،
قال تعاىل ﴿ :ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ﴾
٢9٦
[يونس (1(]٤1 :فاآلية ختاطب رسول اهلل ﷺ بأن يقول للمكذبني :لكل عمله حياسب عليه ،ال
يؤاخذ أحد منا بجريرة عمل اآلخر (٢(،فينبغي أن يترأ كل منا من عمل اآلخر أو من قوله
إذا ظهر له خطؤه من جهته ،مع البقاء عىل التواصل احلواري من أجل اإلقناع ،ال القطيعة
والنزاع ،والصد واإلنكار ،واإلعراض عن سامع الرأي.
ويأيت القرآن بعدد من اآليات تؤكد هذه احلقيقة ،وختاطب املخالف العتامدها أسلوب ًا
منهجي ًا لقبول املخالف واالعراف به ،وتأكيد حقه يف االختالف ،ومسؤوليته عىل أعامله
وأقواله ومواقفه ،يقول تعاىل ﴿ :ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ
ﯲ﴾ [هود ،]٣٥ :وقال تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ
ﭟ ﭠ ﭡ﴾ [هود ،]٥٤ :وقال تعاىل ﴿ :ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ﴾ [الشعراء.]٢1٦ :
ويف تواضع تام مع املخالف ،وإبداء االستعداد للتحاور ،واجلدل بالتي هي أحسن،
واالعراف بالرأي املخالف يقول اهلل تعاىل تعلي ًام لنبيه حممد ﷺ﴿ :ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ
ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ﴾ [سبأ]٢٥ :؛ أي إن كنتم تعدّ ون أن ما ندعو إليه إجرام فلكل عمله ولكل
ال يسأل أي منا عن عمل اآلخر ،وقال يف اآلية التي قبلها﴿ :ﭶ ﭷ ﭸ ((٣
جزاؤه،
ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ﴾ [سبأ" ]٢٤ :وهذه غاية النصفة واالعتدال واألدب يف اجلدال..،
اجلدل عىل هذا النحو املهذب املوحي أقرب إىل ملس قلوب املستكرين واملعاندين املتطاولني
باجلاه واملقام ،املستكرين عىل اإلذعان واالستسالم ،وأجدر بأن يثري التدبر اهلادئ واالقتناع
((٤
العميق ،وهو نموذج من أدب اجلدل ينبغي تدبره من الدعاة"...
وبالروح نفسها املتقبلة لآلخر ،احلريصة عىل الصلة معه ،ورفض القطيعة يقول تعاىل
توجيه ًا لرسوله ﷺ ،وتعلي ًام لبني اإلنسان ﴿ :ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎﰏ ﰐ ﰑ
ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ﴾ [يونس ،]٤1 :وقال تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ
( )1يقول أبو جعفر الطري" :وقيل :إن هذه اآلية منسوخة ،نسخها اجلهاد واألمر بالقتال ".انظر:
-املرجع السابق ،ج ،1٥ص.9٥
( )٢املرجع السابق ،ج ،1٥ص.9٤
( )٣قطب ،يف ظالل القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.٢90٥
( )٤املرجع السابق ،ج ،٢٢ص.٢90٥
٢9٧
ﭗﭘﭙ ﭚﭛ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩﭪﭫ
ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﴾ [الكافرون.]٦-1 :
وجاء عن رسول اهلل ﷺ" :ال َّل ُه َّم إِ ِّين َأ ْب َر ُأ إِ َل ْي َك ِممَّا َصن ََع َخالِدٌ َم َّرت ْ ِ
َني"( (1فالنبي ﷺ مل يترأ
من شخص خالد؛ ألنه سيف اإلسالم ،فكام أن لسيدنا خالد أخطاء ،فإن له ميزات كثرية ،مع
أن املخطئ يف كثري من األحيان قد يصحح خطأه ،بظهور احلق له وانجالئه يف املستقبل.
واملنهج نفسه سلكه األنبياء قبل رسول اهلل ﷺ ،فهذا نبي اهلل إبراهيم يترأ من آهلة قومه،
قال تعاىل ﴿ :ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ﴾ [الزخرف ،]٢٦ :وقول لوط لقومه
املجرمني فيام حيكيه عنه القرآن ﴿ :ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ﴾ [الشعراء.]1٦8 :
وقد وردت الراءة من شخص املخالف يف القرآن الكريم يف قوله تعاىل﴿ :ﮣ ﮤ
[املمتحنة: ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ﴾
" ]٤واملراد هنا الترؤ من خمالطتهم ومالبستهم"( ،(٢وقوله تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ
ﭗ ﭘ ﭙ﴾ [التوبة ]1 :وهي براءة من املرشكني ألهنم نقضوا العهد.(٣(.
يف هذا إشارة عظيمة إىل اإليامن واالعراف باملخالف ،وأن املخالف قد يأيت بأعامل
حيمد عليه فيكون من املشركات التي
تستحق أن ُيبغض عليها و ُيترأ منها ،وقد يأيت بام ُ ْ
يتعاون معه عليها ،وأرضية لتدبري االختالف معه ،وذلك إنصاف ًا له ،لذلك كانت الراءة يف
القرآن من القول أو الفعل ،ال من صاحب القول أو العمل.
فالقرآن الكريم حيرص عىل اإلنصاف للمخالف وعدم قطع الصلة معه ،ولو كانت
هذه الصلة ضعيفة ،وهذا درس منهجي نستفيده اليوم يف عاملنا املعارص ،يف عالقاتنا
مع املخالفني يف كل رضوب اخلالف والنزاع؛ إذ كثرت اخلالفات والنزاعات ،وقل
الفهم والفقه السليم لألصول املؤسسة للحق يف االختالف ،وإبداء الرأي والتعبري عنه،
٢98
وسامعه واإلصغاء للمخالف ،والصر واحللم املتبادل ،حتى تظهر احلقيقة يف جو من
التعاون والتيارس.
يف سياق إنصاف املخالف ،للقرآن منهج أصيل يف الرد عىل املخالف امليسء (1(،الذي
مل ينضبط بحدود العدل واإلنصاف ،يقول تعاىل يف بيان هذا املنهج لرسوله ﷺ﴿ :ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱ﴾ [النحل ]1٢٥ :يروي الطري عن جماهد يف تفسري هذه اآلية" :أعرض عن
((٢
أذاهم إياك".
فقد التزم القرآن الكريم بمنهج عدم مقابلة اإلساءة باإلساءة مع املخالف ،إنصاف ًا
له ،حتى وإن أساء وخرج عن األسلوب احلضاري يف احلوار والتخاطب (٣(،فيحكي القرآن
الكريم التزام سيدنا شعيب بمنهج اإلنصاف ،وعدم رد اإلساءة باإلساءة ،يف املكاملة واملراجعة
احلوارية واجلدلية؛ إذ قال له قومه﴿ :ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ﴾ [األعراف ]٦٦ :وضبط ًا لالختالف،
( )1القرين ،عيل بن عبد اهلل" .منهج القرآن الكريم يف الرد عىل املخالف يف مسائل االعتقاد "،جملة تبيان للدراسات
القرآنية ،اجلمعية العلمية السعودية للقرآن الكريم وعلومه ،العدد1٤٣٥( ،)1٥( :ه) ،ص.٢1٧
( )٢الشنقيطي ،أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٤٦٥
( )٣وجاءت آيات عديدة توضح هذا املنهج ،نذكر منها قوله تعاىل ﴿ :ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ
ﮚ ﮛ﴾ [فصلت ،]٣٤ :وقوله تعاىل﴿ :ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ﴾ [األعراف﴿ ]199 :ﯷ ﯸ
ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ﴾ [األنعام ،]٦8 :وقوله تعاىل ﴿ :ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ
ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ
ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ﴾ [احلجر ،]99-9٤ :وقوله تعاىل ﴿ :ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ
ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﯙ﴾ [األنعام ،]108 :وقوله تعاىل ﴿ :ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ
ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ﴾ [القصص.]٥٥ :
وقد وردت آيات كثرية يدعو فيها القرآن الكريم الرسول ﷺ إىل اإلعراض عن املعاندين ،منها :قوله تعاىل:
﴿ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ﴾ [النساء ﴿ ]٦٣ :ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﴾
[النساء ،]81 :وقوله تعاىل﴿ :ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾ [النجم ،]٣0-٢9 :وقوله تعاىل ﴿ :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ﴾ [السجدة:
.]٣0انظر:
-عرص ،صبحي عبد الرؤوف .املعجم املوضوعي آليات القرآن الكريم ،القاهرة :دار الفضيلة( ،د .ت ،).لكن
رقم اإليداع يشري إىل (1990م) ،ص.٣٧0
٢99
وعدم االنطالق يف حرية الرد دون إنصاف ،مل يزد نبي اهلل شعيب عىل أن نفى وصف السفه
عن نفسه ،وحدد مهمته الرسالية ﴿ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ﴾
[األعراف ]٦٧ :فلم يرد عىل إساءهتم باإلساءة ،لكنه اختار املنهج القرآين.
وقال تعاىل توجيه ًا لنبيه إىل أن ما يتعرض له من استهزاء تعرض له إخوانه األنبياء
من قبل﴿ :ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ﴾ [األنعام (1(،]10 :وتذكريه أن هذه اإلذاية سنة اهلل
يف األنبياء ،قال تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ ﭛ
[اإلرساء-٧٦ : ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾
،]٧٧ومن استهزائهم أيض ًا ما ورد يف قوله تعاىل ﴿ :ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ
ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ﴾ [األنبياء.]٥ :
فمنهج القرآن الكريم يف الرد عىل املخالف هو الرد العلمي بالدليل والرهان ،بعيد ًا عن
كل إساءة إىل شخص املحاور ،يقول تعاىل يف سياق تفنيد دعوى املخالف بأن رسول اهلل ﷺ
يعلمه إنسان وليس يوحى إليه قال تعاىل﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ
ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ [النحل.]10٣ :
هذه رؤية القرآن لالعراف باملخالف واحرامه ،والرقي بالعالقة معه إىل مستوى
احلجاج العلمي البعيد عن كل إذاية أو تنقيص .واآليات يف هذا املعنى يصعب حرصها
لكثرهتا .ولعالقة هذا املعنى الذي نؤصل له بمنظومة األخالق يف القرآن ،وهي منظومة غنية
٣00
((1
ومتشعبة ،يقول ابن القيم" :الدين كله خلق ،فمن زاد عليك يف اخللق :زاد عليك يف الدين".
ضد الكذب ،وصدقه احلديث أنبأه بالصدق ،ويقال :صدقت القوم؛ أي ((٢
الصدق
((٤ ً
ومماثال للواقع يف اخلارج"، قلت هلم صدق ًا (٣(،وهو "أن يكون مدلول الكالم اخلري مطابق ًا
فالصدق يف الدعوى ،وعدم الكذب واالفراء عىل املحاور واملجادل ،أصل أسايس يف سري
املناظرة ،وحتريف األدلة من أجل الغلبة يف اجلدال أمر مذموم ،فالقرآن الكريم حيثنا عىل الصدق
يف احلديث ،واهلل تعاىل أصدق حديث ًا ،قال تعاىل﴿ :ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ﴾ [النساء ،]8٧ :وقال
تعاىل﴿ :ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ﴾ [النساء ،]1٢٢ :وجاء القرآن الكريم مصدق ًا ملا بني يديه من
((٥
الكتب السابقة﴿ :ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ﴾ [البقرة.]٤1 :
واخلطاب القرآين يصف األنبياء بالصدق يف معرض املدح والثناء يقول تعاىل ﴿ :ﭧ
ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ﴾ [مريم ،]٤1 :وقال تعاىل﴿ :ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ﴾ [مريم ،]٥٤ :وقال تعاىل﴿ :ﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ﴾ [مريم.]٥٦ :
ِ الر ،وإِ َّن ِ ِ ِ
الر ُج َل َل َي ْصدُ ُق َحتَّى َيك َ
ُون الر َ ْهيدي إِ َىل اجلَنَّةَ ،وإِ َّن َّ
َّ الصدْ َق َ ْهيدي إِ َىل ِ ِّ َوقال ﷺ" :إِ َّن ِّ
الر ُج َل َل َيك ِْذ ُب َحتَّى ِ
ور َ ْهيدي إِ َىل الن َِّارَ ،وإِ َّن َّ ِصدِّ يق ًاَ .وإِ َّن الك َِذ َب َهي ِدي إِ َىل ال ُف ُج ِ
ورَ ،وإِ َّن ال ُف ُج َ ْ
َب ِعنْدَ اهللَِّ كَذابا".
َّ ً ((٦
ُي ْكت َ
( )1ابن القيم ،مدارج السالكني بني منازل إياك نعبد وإياك نستعني ،مرجع سابق ،ج ،٢ص .٢9٤لتأكيد أن الدين كله
ال رائع ًا يف كتابه عنونه ب " فصل :الدين كله خلق".
خلق ،وضع ابن القيم فص ً
( )٢ذكر سعيد حوى ستة معان للصدق :الصدق يف القول ،والصدق يف النية واإلرادة ،والصدق يف العزم ،والصدق يف
الوفاء بالعزم ،والصدق يف العمل ،والصدق يف حتقيق مقامات الدين كلها .انظر تفصيل ذلك يف:
-حوى ،املستخلص يف تزكية األنفس ،مرجع سابق ،ص.٢٧0
( )٣ابن منظور ،لسان العرب ،مرجع سابق ،مادة( :صدق) ،ج ،10ص.19٣
( (٤ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،1ص .٣٤1يف سياق تفسري قوله تعاىل﴿ :ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ
ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ﴾ [البقرة.]٢٣ :
( )٥وتأمل كذلك( :البقرة( ،)9٧-91-٧9 :آل عمران( ،)٣ :النساء( ،)٤٧ :املائدة( ،)٤8 :األنعام( ،)9٢ :فاطر.(٣1 :
( )٦البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :األدب ،باب :قول اهلل تعاىل ﴿ :ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ
ﭸ ﭹ﴾ [التوبة ]119 :وما ُين َْهى عن الكذب ،ج ،8حديث رقم ( ،)٦09٤ص.٢٥
٣01
فإنه ال يستقيم التفاهم بني الناس ،وال يقع التواصل بينهم ،والتعاون عىل إدراك
احلقائق الصحيحة ،إال بالصدق يف اإلخبار واإلبانة عن الواقع ف »الصدق هو اإلبانة عن
احلق ،واإلخبار بالواقع ،وبه يستقيم التفاهم بني الناس ،ويكون التناصح والتعاون ،وتسجل
((1
احلقائق والوقائع ،ومن دونه يصري ختاطب الناس غش ًا ،وتفامههم باطالً ،وتعاوهنم حماالً».
فاجلدل املوصل إىل اإلقناع هو اجلدل الصادق ،الذي يلتزم فيه الطرفان بالصدق يف
الدعوى وعدم الكذب فيها ،أو حتريفها بام يغري معاملها ،وااللتزام األخالقي بالصدق جيعل
كل طرف يطمئن إىل اآلخر ،أما الكذب فيؤدي إىل فقدان الثقة بني طريف احلوار ،وهذا مؤ ٍّد
بدوره إىل فشل املكاملة واملحاورة.
وقد وردت آيات كثرية يف النهي عن الكذب واالفراء ،والقول من دون علم وال حجة
وال سلطان من اهلل ،قال تعاىل﴿ :ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾ [األنعام ،]٢1 :وقال تعاىل ﴿ :ﭽ
ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ﴾ [آل عمران ،]9٤ :وقال تعاىل ﴿ :ﯮ ﯯ
ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ﴾ [األعراف.]٣٧ :
وقد أخذ اهلل تعاىل امليثاق عىل املخالف بعدم كتم احلق وبيانه للناس يقول تعاىل:
﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ﴾ [آل عمران ،]18٧ :ويتو ّعد
اهلل تعاىل بالعقاب عىل ذلك بالعذاب األليم ﴿ :ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ
ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ﴾ [البقرة ،]1٦0-1٥9 :وأشار النبي ﷺ إىل هذا
أجل َم ُه اهلل ِبلجا ٍم من ٍ ِ ِ
نار يو َم القيامة". املعنى بقولهَ " :من ُسئ َل َع ْن ع ْل ِم ف َكت ََم ُهَ ْ ،
((٢
وقد هنى القرآن الكريم أهل الكتاب عن تلبيس احلق بالباطل ،إلخفائه وكتامنه
وتضييعه يف غامر الباطل ،عن علم هبتان ًا وكذب ًا (٣(،قال تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ
( )1عزام ،عبد الوهاب .أخالق القرآن ،القاهرة :مكتبة النور( ،د .ت ،).ص.٣1
( )٢أبو داود ،سنن أيب داود ،مرجع سابق ،كتاب :العلم ،باب :كراهية منع العلم ،ج ،٥حديث رقم ( ،)٣٦٥8ص.٤99
( )٣قطب ،يف ظالل القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.٤1٤
٣0٢
ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ﴾ [آل عمران" ]٧1 :أي تسرونه به ،أو ختلطونه به (1("..وقال
تعاىل﴿ :ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ﴾ [آل عمران.]٧٥ :
ويشري القرآن الكريم إىل بعض أهل الكتاب ،الذين يتخذون الكذب يف الدعوى
طريق ًا ومسلك ًا يف املامرسة اجلدلية ،وهم عىل علم أن ما حياججون به اخلصم هو افراء
وهبتان ،فهم يعطون للنصوص دالالت مفتعلة ومكذوبة ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ
ﭖﭗ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ
ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾ [آل عمران.]٧8 :
وهذا التعمد للكذب عىل اهلل ،ال خيص أهل الكتاب فقط ،بل تبتىل به كل أمة ضعف
الدين يف قلوب أهلها ،وفسدت ذممهم ،حتى ال يتحرج القلب من الكذب عىل اهلل ،فإن "هذا
النموذج من بني إرسائيل كانوا يتلبسون يف كتاب اهلل اجلمل ذات التعبري املجازي ،فيلوون
ألسنتهم هبا؛ أي يف تأويلها واستخراج مدلوالت منها هي ال تدل عليها بغري ليها وحتريفها،
ليومهوا الدمهاء أن هذه املدلوالت املبتدعة هي من كتاب اهلل ،ويقولون بالفعل هذا ما قاله
((٢
اهلل ،وهو ما مل يقله سبحانه"...
وقال تعاىل يف الداللة عىل حتريف أهل الكتاب للتوراة واإلنجيل﴿ :ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ
ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ﴾ [األنعام ،]91 :ومن صور
كذهبم وحتريفهم تعطيل التوراة واإلنجيل وعدم إقامتها ،قال تعاىل﴿ :ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ
ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ
ﭶ ﭷ﴾ [املائدة (٣(،]٦٦ :وقال تعاىل يف كذهبم﴿ :ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ
ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ﴾ [آل عمران.]9٤-9٣ :
( )1اآللويس ،روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.191
( )٢قطب ،يف ظالل القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.٤18
( )٣وقال تعاىل﴿ :ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ﴾ [املائدة.]٦8 :
٣0٣
[البقرة]٧9-٧8 : ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ﴾
يقول اآللويس ..." :فإن نسبة املحرف والتأويل الزائغ إىل اهلل سبحانه رصحي ًا أشد شناعة من
((1
نفس التحريف والتأويل"...
واجلرأة عىل حتريف الكلم اإلهلية عن موضعها ،نتيجة لقساوة القلب ،ومقدمة لنسيان
ما أنزل اهلل وإمهاله ،قال اهلل عز وجل ﴿ :ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ
ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ﴾ [املائدة ]1٥ :ثالث
مراحل :قسوة القلب ،فالتحريف ،فالنسيان.
األمانة ضد اخليانة (٢(،و"اإلنسان األمني" الذي قام بحفظ ما عهد له به حتى يؤديه
دون نقص أو زيادة أو تغيري (٣(،و"املجادل األمني" هو امللتزم بام تقتضيه األمانة العلمية ،يف
النقل واإلخبار...
وركز األنبياء عليهم الصالة والسالم عىل هذا األصل األخالقي والربوي يف حماورة
أقوامهم ،يقول اهلل تعاىل يف بيان مهمة سيدنا هود ،والتزامه باألمانة يف النقل ﴿ :ﭑ
ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ﴾ [األعراف ،]٦8 :بل إن كل األنبياء التزموا األمانة العلمية يف النقل
وخماطبة أقوامهم :نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ،...كلهم كانت كلمتهم واحدة قال
( )1اآللويس ،روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٣0٣
( )٢ابن منظور ،لسان العرب ،مرجع سابق ،مادة( :أمن) ،ج ،1٣ص.٢1
( )٣ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،٣0ص .1٥٦يف سياق تفسري قوله تعاىل﴿ :ﮥ ﮦ ﮧ﴾[التكوير.]٢1 :
٣0٤
تعاىل ﴿ :ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾ [الشعراء (1(،]10٧ :فاألنبياء خاطبوا أقوامهم بام يدل عىل التزامهم
هبذا األصل األخالقي والربوي ،قبل الدخول يف احلوار واجلدل من أجل اإلقناع ،فاألمانة
العلمية مقدمة أخالقية قبل اجلدل واملناظرة.
فاألنبياء أدوا األمانة التي محلهم اهلل تعاىل إياها من غري زيادة أو نقصان ،وهذا درس
جديل أخالقي ينبغي أن نستفيده يف معاجلة قضايانا الفكرية ،عند عرضها عىل ميزان اجلدل
واملناظرة ،وذلك بااللتزام باألمانة العلمية يف النقل لألخبار واملعارف.
والقرآن الكريم مل يصف األنبياء وحدهم هبذه الصفة ،بل وصف الناس العاديني هبا
كذلك ،كي ال يتبادر إىل الذهن أن هذا خلق خاص باألنبياء فقط ،قال تعاىل يف إشارة إىل أن
األمانة من صفات املؤمنني ﴿ :ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ﴾ [املؤمنون.]8 :
فاألمانة ال غنى عنها يف اجلدل واحلوار اإلنساين ،وإال فقدت املجادلة قيمتها يف سر
احلقائق ،وذلك عندما تُفقد الثقة بني املتناظرين ،وال يأمن بعضهم بعض ًا ،وقد أكد القرآن
الكريم هذا األصل األخالقي ،وهنى عن نقيضه وهو اخليانة ،قال تعاىل ﴿ :ﭥ ﭦ ﭧ
((٢
ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﴾ [األنفال" ]٢٧ :أي :ما ائتمنتم عليه".
فعىل العامل أن يؤدي أمانة العلم للناس ،وأن ال خيون أمانته ،كام جيب أداء األمانة
املالية" ،واألمانة حق عند املكلف يتعلق به حق غريه ،ويودعه ألجل أن يوصله إىل ذلك
((٣
الغري كاملال والعلم".
ويقول حمامد رفيع عن أصل األمانة العلمية وتأثريها عىل التحقيق العلمي" :وإن إمهال
هذا املبدأ أو اإلخالل به ليؤدي إىل كارثة علمية وعملية ،تتمثل يف ظهور علامء يقولون ما
ال يفعلون ،ويفعلون ما ال يؤمرون ،ويوظفون البحث العلمي ألغراض غري علمية ،وال
يتورعون يف تزييف احلقائق العلمية ،وهذا ما وقع -لألسف -لكثري من العلوم منها علم
((٤
اجلدل ،عندما وجله من ُأرشب يف قلبه عجمة اإليامن قبل عجمة الفكر واللسان".
٣0٥
وأصل األمانة العلمية خلق إنساين رفيع هيدف إىل حفظ احلقوق وعدم ضياعها ،وكثري
من االختالفات والنزاعات نشأت عن اخليانات لألمانات بني بني البرش ،لكن اخلطاب القرآين
يوجه اإلنسانية إىل العالج األخالقي ،القادر عىل جتاوز الكثري من النزاعات واالختالفات،
قال تعاىل﴿ :ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ﴾ [البقرة ،]٢8٣ :وقال تعاىل ﴿ :ﯙ ﯚ
ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾ [النساء.]٥8 :
وقد أشار القرآن الكريم إىل األمانة ،واألمانات يف عدد من اآليات ويف سياقات
خمتلفة ،ومن هذه اآليات األمر العام باألمانة للناس مجيع ًا ،ويف كل أنواع األمانات ،سواء
كانت علمية أو غريها ،يقول الزخمرشي يف قوله تعاىل ﴿ :ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ
((٢
ﯠ﴾ [النساء" ]٥8 :اخلطاب عام لكل أحد يف كل أمانة"...
٣0٦
واملراد بقوله" :مثنى"؛ أي جيتمع اثنان فيتناظران يف أمر رسول اهلل ﷺ .واملراد ب "فرادى" :أن
يتفكر الرجل وحده ،ومعنى الكالم :ليتفكر اإلنسان منكم وحده ،وليخل بغريه ،وليناظر،
((1
وليسترش ،فيستدل باملصنوعات عىل صانعها ،ويصدق الرسول عىل اتباعه".
يقول حمامد رفيع" :فاحلوار حني جيري :مثنى ،وفرادى ،وأعداد ًا متقاربة ،يكون أدعى
إىل استجامع الفكر والرأي ،كام أنه يساعد املخطئ عىل أن يرجع إىل احلق ،ويتنازل عام هو فيه
من الباطل أو املشتبه ،بخالف احلال أمام الناس ،فقد يعز عليه التسليم واالعراف باخلطأ
أمام مؤيديه أو خمالفيه؛ لذلك بات من الالزم أن يتسلح املجادل برصيد تربوي خلقي،
قبل الرصيد املعريف واملنهجي ،ليتمكن من الصمود أمام العواصف النفسية ،التي حتاول أن
((٢
تعصف بأمانته العلمية وإخالصه يف مقصده".
فهذه دعوة إىل التفكر يف العزلة ،أو يف صحبة شخص آخر؛ أي بعيد عن تأثري
اجلامهري (٣(،التي قد تؤثر عىل قبول احلق ،وإثارة نوازع الظهور واألثرة ،يقول سيد قطب:
" ...مثنى لرياجع أحدمها اآلخر ،ويأخذ معه ويعطي يف غري تأثر بعقلية اجلامهري التي تتبع
االنفعال الطارئ ،وال تتلبث لتتبع احلجة يف هدوء ...وفرادى مع النفس وجه ًا لوجه يف
((٤
متحيص هادئ عميق"...
فطلب الظهور ،والتلهي باجلدل ،واملخاصمة أمام الناس ،ابتغاء للجاه والسمعة
والوجاهة ،ليس من مهام اجلدل ،يقول اجلويني" :وتوق جمالس الصدور الذين قصدهم
بام يسمعون التلهي ال متييز احلق عن الباطل وابتغاء نصيحة اهلل ونصيحة رسوله يف
الدين ،وتبيني احلق ومعرفته (٥(،"...ويقول الغزايل" :أن تكون املناظرة يف اخللوة أحب
( )1ابن اجلوزي ،زاد املسري يف علم التفسري ،مرجع سابق ،ج ،٦ص.٤٦٥
( )٢رفيع ،ضوابط تدبري االختالف مع اآلخر يف أصول الرتاث اإلسالمي ،مرجع سابق ،ص.10٤
( )٣دراز ،دستور األخالق يف القرآن ،مرجع سابق ،ص.٦٦
( )٤قطب ،يف ظالل القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٢٢ص.٢91٤
( )٥اجلويني ،الكافية يف اجلدل ،مرجع سابق ،ص.٥٣1
٣0٧
إليه (املناظر) ،وأهم من املحافل وبني أظهر األكابر والسالطني ،فإن اخللوة أمجع للفهم،
وأحرى بصفاء الذهن والفكر ودرك احلق ،ويف حضور اجلمع ما حيرك دواعي الرياء،
((1
ويوجب احلرص عىل نرصة كل واحد نفسه حمق ًا كان أو مبطالً".
وعىل املناظر املجادل أن يميز بني املناظرات التي قصدها التحقيق العلمي ،وجمالس
التسلية والتحرش بني املتناظرين .وااللتزام هبذا األصل األخالقي يعصم النفس اإلنسانية
من امليول إىل حب الظهور والتعايل عىل اخلصم ،ورفض احلق .فاملناظرة أمام املأل -والتي
غالب ًا ما تكون مشحونة بالتوتر والتعصب للرأي -ال توصل إىل نتيجة علمية؛ ألن املناظر ال
يستطيع أن يذعن للحق إذا كان مع خمالفه ،للضغط عليه من مؤيديه أو من معارضيه ،فيكون
ذلك منافي ًا لإلخالص يف طلب احلق ،ولعدم حتقق رشط ﴿ﯬ ﯭ﴾ ألن التفكر
وإمعان النظر بروية يف األدلة ،ومعرفة مالبسات القضية املختلف فيها ال يتحقق أمام املأل.
د -أصل الرفق واللني وعدم اإلساءة للمخالف:
الرفق واللني وعدم اإلساءة يف خماطبة الناس ،أصل أخالقي وتربوي يف الدعوة
إىل اهلل عموم ًا ،وأصل منهجي يف املكاملة واملراجعة ،ويف احلوار واملناظرة واجلدل بالتي
هي أحسن ،فالنفوس البرشية تطمئن خلطاب الرفق ،وتنفر من خطاب الشدة واإلساءة،
وقد أشارت آيات كثرية هلذا املعنى ،توجيه ًا للدعاة واملفكرين ،من أجل إدارة اختالفاهتم
الفكرية بكفاءة عالية.
٣08
وجاء يف أمر اهلل تعاىل سيدنا موسى عليه السالم بالذهاب إىل فرعون ،وخماطبته بالقول
اللني ،قال تعاىل﴿ :ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ
ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﴾ [طه ]٤٤-٤٢ :يقول ابن كثري بعد ذكر أقوال أهل التفسري يف
"القول اللني"" :واحلاصل من أقواهلم أن دعوهتام له تكون بكالم رقيق لني قريب سهل،
((1
ليكون أوقع يف النفوس وأبلغ وأنجع".
ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
ومن اإلساءة للمخالف السب والشتم والرمي بالتهم الباطلة ،فقال تعاىل حكاية عن
الكفار يف رميهم رسول اهلل ﷺ بالسحر والكذب ﴿ :ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ
ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ
( )1ابن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.٢9٥
﴿ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ( )٢وقال تعاىل:
ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ﴾ ([النساء.]11٤ :
( )٣ابن فورك ،جمرد مقاالت أيب احلسن األشعري ،مرجع سابق ،ص.٣09
٣09
ﮆﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ﴾ [ص.]٧-٤ :
ومن اإلساءة للمخالف النجوى والتغامز عىل املخالف ،يقول تعاىل﴿ :ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ
ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮚ ﮛ
ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ﴾ [املجادلة ،]8 :وخياطب
اهلل تعاىل املؤمنني حمذر ًا هلم﴿ :ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
((1
ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ﴾ [املجادلة.]10-9 :
ومن اإلساءة يف اخلطاب مقاطعة املخالف يف نوبته" :وال يداخله يف نوبته ويصر له
((٣
حتى يفرغ من كالمه ،فإن املداخلة تذهب بالفائدة وتدعو إىل الوحشة".
قال الشاطبي يف شأن حماورة وجمادلة الفرق الذين ذكروا يف حديث االفراق" :ومتى
حصل باليد منهم أحد ذاكره برفق ،ومل ُي ِر ِه أنه خارج من السنة ،بل يريه أنه خمالف للدليل
الرشعي ،وأن الصواب املوافق للسنة كذا وكذا ،فإن فعل ذلك من غري تعصب وال إظهار
غلبة فهو احلج (٤(،وهبذه الطريقة دعي اخللق ً
أوال إىل اهلل تعاىل ،حتى إذا عاندوا وأشاعوا
((٥
اخلالف وأظهروا الفرقة قوبلوا بحسب ذلك".
٣10
رحم اهلل تعاىل الشاطبي ،عامل بحق ،وضع أربعة ضوابط كرى ملجادلة أهل الفرق
وامللل والنحل داخل الدائرة اإلسالمية ،األول :مذاكرة املخالف وجمادلته برفق ولني،
والثاين :أن يبني للمخالف أنه خمالف للدليل وليس خارج ًا عن السنة ،والثالث :سالمة
القصد يف اجلدل عن التعصب وإظهار الغلبة عىل املخالف ،والرابع :إذا عاند املخالف
وقصد الفرقة عومل باملثل ،فإن وقع االلتزام هبذا املنهج كان اجلدل أنجح وأنفع" ،وهبذه
الطريقة دعي اخللق أوالً إىل اهلل تعاىل".
جيب أن يكون اجلدال بالتي هي أحسن ،من الرفق ،ولني اجلانب ،وعدم التعايل
والغرور ،وإال كان مذموم ًا؛ ألنه سيؤول إىل مفاسد عظيمة وأرضار بالغة ،يقول ﷺَ " :م ْن
ِ ِ ك َ ِ
ُون ِيف َان ُي ْؤم ُن بِاهللَِّ َوال َي ْو ِم اآلخ ِر َف ْل َي ُق ْل َخ ْري ًا َأ ْو ل َي ْص ُم ْت" ،وقال ﷺ" :إِ َّن ِّ
الر ْف َق الَ َيك ُ ((1
يش ٍء إِ َّال َشا َن ُه" (٢(،وعن عبد اهلل بن عمرو بن العاص أنه قال: ِ َ ٍ ِ
يشء إ َّال َزا َن ُهَ ،و َال ُين َْز ُع م ْن َ ْ ْ
ً ((٣ َ َ ِ ِ ِ ِ
ول" :إ َّن م ْن خ َيارك ُْم أ ْح َسنَك ُْم أ ْخالَقا". ِ ِ
َمل ْ َيكُن النَّب ُّي ﷺ َفاحش ًا َوالَ ُم َت َف ِّحش ًاَ ،وك َ
َان َي ُق ُ ِ
فإن اإلساءة إىل املخالف ليست من منهج اجلدل ،وال من املروءة اإلنسانية ،وال سيام إذا
كانت اإلساءة متس ما يعتقده املناظر بدهيا عنده ،غري قابل للحوار واملناقشة .فاملفروض احرام
معتقده ،وترك نقاط االختالف التي ال يرغب املخالف يف إثارهتا ،وحماورته يف غري ذلك.
وغالب ًا ما تتجه احلوارات إىل نقاش األفكار واملعتقدات التي هي حمل اختالف مع غري
املسلمني ،وهذه األفكار واملعتقدات غالب ًا ما تكون بدهيات ومسلامت غري قابلة للحوار
ال وهتوين ًا ملعتقده ،وغالب ًا
عند املخالف ،وكل حوار وجدال حوهلا يعدّ ه املناظر إساءة وتقلي ً
( )1البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :األدب ،باب :حفظ اللسان ،ج ،8حديث رقم (،)٦٤٧٥
ص .11وقال ﷺ" :الك َِل َم ُة ال َّط ِّي َب ُة َصدَ َق ٌة ".انظر:
-املرجع السابق ،كتاب :األدب ،باب :طيب الكالم ،ج ،8حديث رقم ( ،)٢8٢٧ص .11وعن أنس عن النبي ﷺ
رشواَ ،والَ ُتنَ ِّف ُروا" .نفسه ،كتاب :العلم ،باب :ما كان النبي ﷺ يتخوهلم باملوعظة
سواَ ،و َب ِّ ُ سوا َوالَ ُت َع ِّ ُ
قالَ " :ي ِّ ُ
والعلم كي ال ينفروا ،ج ،1حديث رقم ( ،)٦9ص.٢٥
( )٢مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :الر والصلة واألدب ،باب :فضل الرفق ،ج ،٤حديث رقم (،)٢٥9٤
ص.٢00٤
( )٣البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :املناقب ،باب :صفة النبي ﷺ ،ج ،٤حديث رقم (،)٣٥٥9
ص.189
٣11
ما تنتهي هذه املناظرات إىل القطيعة بني طريف اخلالف ،وبذلك تكون سبب ًا لتوسيع دائرة
االختالف ال تضييقها.
لكن جمادلة املخالف واالعراض عليه ،ورد دعواه باحلجة والبينة العلمية ،ليس من
الراشق بالتهم والسباب "وليس من السب إبطال ما خيالف اإلسالم من عقائدهم يف مقام
املجادلة ،ولكن السب أن نبارشهم يف غري مقام املناظرة بذلك ،ونظري هذا ما قاله علامؤنا
فيام يصدر من أهل الذمة ،من سب اهلل تعاىل أو سب النبي ﷺ ،بأهنم إن صدر منهم ما هو
((٣
من أصول كفرهم فال يعد سب ًا ،وإن جتاوزوا ذلك عُدَّ سب ًا".
من مقتىض اجلدل بالتي هي أحسن ،حسن الظن باملخالف ،وعدم السخرية منه ،فذلك
يساعد عىل التأسيس ملجلس املناظرة والتمهيد هلا ،بأن يلتزم طرفا احلوار هبذا األصل ،فهو
أصل أخالقي تربوي متليه مروءة اإلنسان ،ومدى التزامه وتدينه ،أو عىل األقل مدى التزامه
بالقواعد األخالقية اإلنسانية.
( )1الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،1٢ص.٣٣
( )٢ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،٧ص.٤٢8-٤٢٧
( )٣املرجع السابق ،ج ،٧ص.٤٣1-٤٣0
٣1٢
وقد جاءت آيات كثرية يف هذا املعنى تشري إىل أمهية هذا األصل ،وهي يف جمموعها تشكل
قواعد املنظومة األخالقية يف القرآن الكريم ،نذكر منها عىل سبيل املثال ال احلرص ما ييل:
فالنهي هنا عن السخرية واالستهزاء عام يفيد الشيوع ،وليس خاص ًا بقوم دون قوم،
ويقول الشنقيطي عىل املتناظرين" :أال يستهزئ ((٤
فهو هني رصيح يف حتريم السخرية،
أحدمها باآلخر ويسخر منه"» (٥(،ومعنى السخرية االستهانة والتحقري والتنبيه عىل العيوب
((٦
والنقائص عىل وجه يضحك منه"...
٣1٣
وقد وضع اجلويني يف قواعد آداب اجلدل ما يفيد مثل هذا حيث قال" :وإ ّياك
واستصغار من تناظره واالستهزاء به ،كائن ًا ما كان؛ ألن خصمك -إن كان ممن املفرض
((1
عليك يف الدين مناظرته -فهو نظريك ،وال جيمل بك إال مناظرة النظري للنظري".
ومن االستخفاف باملخالف ،اإلعراض عنه إىل غريه ،قال تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ
ﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭞﭟﭠ ﭡﭢﭣﭤ ﭥﭦﭧﭨ ﭩ
ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﴾ [عبس ]10-1 :ذكر غري واحد
من املفسين أن هذه اآليات نزلت يف إعراض رسول اهلل ﷺ عن ابن أم مكتوم ،وعبس يف
((٢
وجهه ،وأقبل عىل أحد عظامء قريش ،وقد طمع رسول اهلل ﷺ يف إسالمه.
وتفرض املناظرة عىل املناظر مساعدة نظريه ،بعيد ًا عن السخرية والتحقري ،فتحقري
املناظر حيكم عىل املناظرة بالفشل ،ويزكي عوامل االحتقان ،ويرز نزعات التغلب
واالنتصار ،يقول اجلويني" :واستحقار اخلصم كاستحقار يسري من النار ،فإنه ينترش من
((٣
يسريها ما حيرق به كثري من الدنيا".
وهناك نصوص قرآنية وحديثية كثرية ،تدل عىل النهي عن السب والشتم ،واإلساءة
لآلخرين ،ويف املقابل هناك نصوص حتض عىل حسن املعاملة يف القول والفعل ،وكل ذلك
من أجل تدبري االختالف بمنهج حجاجي سليم ،يتغيا الوصول إىل احلقائق ،ويتقي اإلساءة
للمخالف وملعتقداته.
نستخلص مما سبق ،أن اخلطاب القرآين يأمر بأن تكون املجادلة "بالتي هي أحسن،
بحسن خلق ولطف ولني كالم ،ودعوة إىل احلق وحتسينه ،ورد عن الباطل وهتجينه ،بأقرب
طريق موصل لذلك ،وأن ال يكون القصد منها جمرد املجادلة واملغالبة وحب العلو ،بل
((٤
يكون القصد بيان احلق وهداية اخللق"...
٣1٤
ر -ترك املكابرة واملراء والشدة يف اخلصومة:
أمر القرآن الكريم باحلوار واجلدل بالتي هي أحسن (1(،بضوابط ومعامل وقواعد تساعد
عىل تدبري االختالف ،والتقليل من حدته ،وإن مل تقض عليه هنائي ًا ،وهنى عن اجلدل الذي
قصده املكابرة واملراء (٢(،والشدة يف اخلصومة ،والغلبة عىل املخالف املحاور ،وهو اجلدل
قال تعاىل﴿ : ((٣
املذموم،
﴾ [البقرة ]٢0٤ :ويقول اآللويس يف تفسري قوله تعاىل﴿" :ﭽ ﭾ
ﭿ﴾؛ أي شديد املخاصمة يف الباطل ..فاملعنى أشد اخلصوم خصومة ،واإلضافة فيه
((٤
لالختصاص كام يف أحسن الناس وجه ًا ،ويف اآلية إشارة إىل أن شدة املخاصمة مذمومة"...
ويقول تعاىل تذكري ًا لإلنسان لريجع عن ريائه وغيه وخصومته ﴿ :ﮯ ﮰ ﮱ
ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ﴾ [النحل ،]٤ :وقال تعاىل ﴿ :ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ
ﮐ ﮑ ﮒ﴾ [يس.]٧٧ :
وقد وصف اخلطاب القرآين املرشكني بأهنم شديدو اخلصومة يف قوله تعاىل﴿ :ﯠ
ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ﴾ [الزخرف ،]٥8 :وقوله تعاىل﴿ :ﭛ
ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ﴾ [مريم" ]9٧ :وعر عن الكفار بقوم
لدّ ذم ًا هلم ،بأهنم أهل إيغال يف املراء واملكابرة؛ أي أهل تصميم عىل باطلهم ،فال ّلدُ :مجع
( )1قال تعاىل ﴿ :ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ﴾ [اإلرساء ،]٥٣ :وقال تعاىل ﴿ :ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ﴾ [النحل،]1٢٥ :
وقال تعاىل ﴿ :ﯦ ﯧ ﯨ﴾ [البقرة ،]8٣ :وقال تعاىل ﴿ :ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ
ﭜ ﭝ﴾ [العنكبوت ،]٤٦ :وقوله تعاىل﴿ :ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ﴾ [النساء.]1٤8 :
واعتقدت َم َو َّد َت ُه ».انظر:
ُ ودافع ،إال سقط من ع ْينِي ،وال قبل ُه إال ِه ْب ُت ُه،
َ ( )٢وعن الشافعي ،قال» :ما كَا َب َر ِين أحد عىل احلق
-الذهبي ،سري أعالم النبالء ،مرجع سابق ،ج ،10ص.٣٣
( )٣قال تعاىل﴿ :ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ
ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ﴾ (الكهف،(٥٧-٥٦ :
وقال تعاىل﴿ :ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐﮑ ﮒ ﮓ ﮔ﴾ [لقامن ،]٧ :وقال تعاىل ﴿ :ﮎ
ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ
ﮮ﴾ [اجلاثية.]9-٧ :
( )٤اآللويس ،روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٤09
٣1٥
ألدّ ،وهو األقوى يف ال ّلدد ،وهو اإلباية من االعراف باحلق ..ومما جره اإلرشاك إىل العرب
((1
من مذام األخالق التي خلطوا هبا حماسن أخالقهم أهنم ربام متدحوا بال ّلدد".
وذم اهلل تعاىل املامرين من املرشكني والكفار املكابرين ،الذين جيادلون يف اهلل بغري علم
عقيل وال دليل نقيل ،فقال تعاىل ﴿ :ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ
[احلج]9-8 : ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ﴾
ومصعر خدهٍ ،
الو رأسه ،معرض ًا مولي ًا ال يريد أن يسمع َِّ هذا املخاصم بغري علم ،هو مستكر
ما قيل له ،تكر ًا وعناد ًا" (٢(،ويبدو من السياق هنا أن العلم يف اآلية هو العلم العقيل ،بدليل
عطف اهلدى والكتاب املنري عليه ،والعطف يقتيض التغاير ،فليس عند هؤالء املجادلني يف
((٣
اهلل علم من عقل ،وال دليل من نقل".
وذم اخلطاب القرآين اليهود الذين زكوا أنفسهم ،وعدّ وا أنفسهم فوق كل األجناس،
كام عدّ وا البرشية خدم ًا وعبيد ًا هلم ،خلقها الرب خلدمتهم ،قال تعاىل ﴿ :ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ
ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾ [النساء.]٤9 :
وقال تعاىل يف شأن تكر النمرود وحماججته وخماصمته لسيدنا إبراهيم ﴿ :ﭭ ﭮ ﭯ
ﭰﭱﭲ ﭳﭴ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﭿﮀﮁﮂ
ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ
((٤
ﮗ ﮘ ﮙ﴾ [البقرة" ]٢٥8 :وكانت تلك املحاجة من بطر امللك وطغيانه".
وقال إبليس تكر ًا وتفاخر ًا بالنفس واستعالء عىل خلق اهلل فيام حيكيه القرآن ﴿ :ﭚ
ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾ [األعراف ]1٢ :فاملتكر منكر للحق والصواب ،واملتكر
حيتقر من سواه ،فهو ال يرى احلق مع غريه ،وينفي كل احلقائق ويبقي عىل احلقيقة التي معه،
٣1٦
رافض ًا لكل من خالفه ،فهو ال يعرف باالختالف وال باملخالف ،ومن ثم ال يؤمن بتدبري
االختالف ،باحلوار واجلدل بالتي هي أحسن.
ومثل قول إبليس قال فرعون للسحرة بعد ما تبني هلم احلق وأذعنوا له ،إنصاف ًا من
أنفسهم وتواضع ًا ،قال تعاىل﴿ :ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ﴾ [األعراف ]1٢٣ :فهذه األنا املستعلية ،من األمراض
النفسية التي ال ينفع معها حجة وال برهان ،فقد عانى األنبياء والرسل ِم ْن ِك ْ ِر أقوامهم،
ومعاندهتم للحق مع جالئه باحلجج الظاهرة املحسوسة ،وباملعجزات اخلارقة للعادة ،لكن
منهم من آمن ،ومنهم من أعرض وأدبر.
ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ﴾ [القصص]٧8 : ويف املعنى نفسه قال تعاىل حكاية عن قارون﴿ :ﭒ
فالتكر وادعاء امتالك احلقيقة املطلقة ،واالستعالء عىل املخالف ،سواء كان فرد ًا أو مجاعة،
أو حزب ًا أو دولة أو حضارة ،إقصاء للرأي اآلخر ،وعدم اإليامن بنسبية املعارف ،وأن اهلل
تعاىل خلق الناس ال تعلم شيئ ًا ،ثم جعل هلم أدوات اكتساب هذه املعارف دون تفاضل
بينهم ،قال تعاىل ﴿ :ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ
ﯰﯱ ﯲ ﯳ﴾ [النحل.]٧8 :
فإنه من اخلطأ البني يف املناظرة العلمية ادعاء طرف من أطراف املناظرة امتالك احلقيقة،
فرد ًا كان أو مجاعة ،فينبغي التسليم بعدم امتالك أي طرف للحقيقة كاملة ،فاحلقيقة والعلم
الكامل ال يعلمه إال اهلل سبحانه وتعاىل﴿ :ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ﴾ [اإلرساء ،]8٥ :واحلقيقة
سواء ذهبنا مع املذهب القائل بتعددها ،أو املذهب القائل بوحدهتا ،فإن إدراك الناس للحقيقة
((1 ٍ
ألسباب منها الذايت ومنها املوضوعي... متعدد ونسبي ،فالبرش تأتيهم البينات ،وخيتلفون
( )1العلواين ،التعددية ،أصول ومراجعات بني االستتباع واإلبداع ،مرجع سابق ،ص.19-18
٣1٧
ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ﴾ [األنعام ]11٢ :فاهلل عز وجل "أخر نبيه أنه جعل له أعداء
من شياطني اجلن واإلنس ،كام جعل ألنبيائه من قبله ،يوحي بعضهم إىل بعض املز َّي َن من
األقوال الباطلة ،ثم أعلمه أن أولئك الشياطني يوحون إىل أوليائهم من اإلنس ليجادلوه
((1
ومن تبعه من املؤمنني".
ومن املراء واملكابرة املفضية إىل الشدة يف اخلصومة ،والغلبة يف اجلدل ،عدم التكافؤ
بني املتحاورين "قيل :ال تصح املناظرة ،ويظهر احلق بني املتناظرين ،حتى يكونا متقاربني أو
((٢
مستويني ،يف مرتبة واحدة ،من الدين والفهم والعقل واإلنصاف وإال فهو مراء ومكابرة".
ومن التكر تزكية النفس أمام املخالف ،لذلك ينبغي عىل املخالف قبل الدخول يف
احلوار التعهد بعدم تزكية نفسه أمام حماوره ،ولذلك أشار القرآن الكريم بقوله تعاىل ﴿ :ﯙ
ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ﴾ [النجم.]٣٢ :
ومن التكر واملباهاة جمادلة املتعنت "وعليك أن ال تفاتح باملناظرة من تعلمه متعنت ًا؛ ألن
((٣
كالم املتعنت ومن ال يقصد مرضاة اهلل يف تعرف احلق واحلقيقة بام تقوله يورث املباهاة"...
َان ِيف َق ْلبِ ِه ِم ْث َق ُال َذ َّر ٍة ِم ْن ِك ْ ٍر"( (٤وفس الكر بقوله ..." :ا ْل ِك ُر وقال ﷺ"َ :ال َيدْ ُخل ْ َ
اجلنَّ َة َم ْن ك َ
"و َغ ْم ُط الن ِ
َّاس" َّاس" (٥(،يقول املازري" :معنى " َب َط ُر ا َحلْ ِّق" إبطالهَ ...، احل ِّقَ ،و َغ ْم ُط الن ِ
َب َط ُر ْ َ
((7
اخل ِص ُم".
هلل َاأل َلدُّ َ معناه استحقار الناس واستهانتهم" (6( .وقال ﷺ" :إِ َّن َأ ْب َغ َض الر َج ِ
ال إِ َىل ا َِّ ِّ
( )1الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،1٢ص.8٣-8٢
( )٢ابن عبد الر ،جامع بيان العلم وفضله ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.9٧٢
( )٣اجلويني ،الكافية يف اجلدل ،مرجع سابق ،ص.٥٣٢
( )٤مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :اإليامن ،باب :حتريم الكر وبيانه ،ج ،1حديث رقم ( ،)91ص.9٣
( )٥املرجع السابق .ج ،1ص.9٣
( )٦املازري ،أبو عبد اهلل حممد بن عيل بن عمر .املعلم بفوائد مسلم ،حتقيق :حممد الشاذيل النيفر ،تونس واجلزائر :الدار
التونسية للنرش واملؤسسة الوطنية للرمجة والتحقيق والدراسات (بيت احلكمة) واملؤسسة الوطنية للكتاب ،ط،٢
1988م ،ج ،1ص.٣0٣
ِْ
اخل َصامِ﴾ ،ج،٣ ﴿و ُه َو َأ َلدُّ ( )٧البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :املظامل والغصب ،باب :قوله تعاىل:
َ
حديث رقم ( ،)٢٤٥٧ص.1٣1
٣18
ز -أصل الصرب عىل ما يصدر من املخالف:
حيتم التعاون عىل طلب احلقيقة يف املنهج اجلديل ،عىل املحاور ،التمتع بقدر ٍ
عال من
الصر واحللم ،عىل ما قد يقع فيه املخالف من أخطاء وهفوات ،ومساعدته عىل تصحيحها،
وعدم التشنيع والتحامل عليه ،بسبب ما وقع فيه من أخطاء.
وبالصر واحللم يكون املحاور متأني ًا عفو ًا كري ًام ،ال يغضب ألتفه األسباب ،وال
يستفزه اخلصم ،ويكظم غيظه وال ينتقم لنفسه .وشواهد هذا األصل يف القرآن الكريم
كثرية ،ألمهيته تربوي ًا وأخالقي ًا "ولست أعرف فضيلة أكد القرآن الدعوة إليها توكيده
الدعوة إىل الصر؛ إذ كان عامد كل نجاح ،وقوام كل جهاد ،ونظام كل عمل صالح ،وقرين
((1
كل خلق فاضل".
وقد جاء الصر يف اخلطاب القرآين يف سياقات خمتلفة ومتنوعة ،تدل داللة واضحة
عىل قوة هذا األصل الربوي يف العالقات اإلنسانية ،وأمهيته يف تدبري اختالفاهتم الفكرية
والعلمية ،فالصر أمر به سيد البرشية حممد ﷺ (٢(،بل هو خلق لألنبياء عليهم السالم
قبله (٣(،وهو كذلك من منازل أويل العزم (٤(،وهو طريق الفوز والفالح ...(٥(،إىل غري
ذلك من سياقاته يف القرآن الكريم ،نتعرض فيام ييل إىل بعضها بالتحليل والدراسة:
أمر القرآن الكريم بالصر عىل ما قد يصدر من اخلصم من إساءة فقال تعاىل﴿ :ﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ﴾ [طه ،]1٣0 :وقال تعاىل ﴿ :ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ﴾ [املزمل،]10 :
وأوىص اهلل تعاىل املؤمنني بالصر يف سياق هنيهم عن النزاع املفيض إىل الفشل وذهاب الريح،
والثبات عند مالقاة العدو ،فقال تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙ
٣19
ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﴾ [األنفال ]٤٦ :يقول القرطبي ﴿" :ﭚﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﴾
((1
أمر بالصر ،وهو حممود يف كل املواطن ،وخاصة موطن احلرب".
ومن الصر كظم الغيظ ،والعفو عن الناس ،قال تعاىل يف الثناء عىل املتصفني هبذه
الصفات ﴿ :ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ
ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾
يقول الطري" :وقوله﴿ :ﭣ ﭤ﴾ يعني :واجلارعني [آل عمران]1٣٤-1٣٣ :
الغيظ عند امتالء نفوسهم منه ،وكظم الغيظ بتجرعه ،وحفظ النفس من أن متيض ما هي
قادر ٌة عىل إمضائه ،باستمكاهنا ممن غاظها ،وانتصارها ممن ظلمها﴿ .ﭥ ﭦ ﭧﭨ﴾
فإنه يعني :والصافحني عن الناس عقوبة ذنوهبم إليهم ،وهم عىل االنتقام منهم قادرون،
الش ِديدُ ا َّل ِذي َي ْم ِل ُك َن ْف َس ُه ِعنْدَ
الرص َع ِة ،إِ َّن َام َّ فتاركوها هلم (٢(".وقال ﷺَ " :ليس َّ ِ
الشديدُ بِ َ ُّ ْ َ
َ ِ ((٤ ِ ((٣
والسفه". ب" ،ف "الغضب :حيمله عىل الكر واحلقد واحلسد ،والعدوان َّ ال َغ َض
ويقول سيد قطب يف تفسري اآلية السابقة" :كذلك تعمل التقوى يف هذا احلقل ،بنفس
البواعث ،ونفس املؤثرات .فالغيظ انفعال برشي ،تصاحبه أو تالحقه فورة يف الدم ،فهو
إحدى دفعات التكوين البرشي ،وإحدى رضوراته .وما يغلبه اإلنسان إال بتلك الشفافية
( )1القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،8ص .٤٥يقول السعدي ﴿" :ﭔ ﭕ﴾ تنازع ًا يوجب تشتت
القلوب وتفرقها ﴿ ،ﭖ﴾ أي :جتبنوا ﴿ ﭗ ﭘ﴾ أي :تنحل عزائمكم ،وتفرق قوتكم ،ويرفع ما وعدتم به
من النرص ".انظر:
السعدي ،تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٣٢٢ -
يقول القنوجي» :فيه النهي عن التنازع ،وهو االختالف يف الرأي ،فإن ذلك يتسبب عنه الفشل ،وهو اجلبن يف
احلرب ،وأما املنازعة باحلجة إلظهار احلق فجائز ،كام قال تعاىل ﴿ :ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ﴾ [النحل ]1٢٥ :بل هي
مأمور هبا برشوط مقررة "..انظر:
البخاري القنوجي ،العربة مما جاء يف الغزو والشهادة واهلجرة ،مرجع سابق ،ص.٧٥ -
( )٢الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٧ص(.٢1٥-٢1٤بترصف يسري).
( )٣البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :األدب ،باب :احلذر من الغضب ،ج ،8حديث رقم (،)٦11٤
ص.٢8
( )٤ابن القيم ،مدارج السالكني بني منازل إياك نعبد وإياك نستعني ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٢9٤
٣٢0
اللطيفة املنبعثة من إرشاق التقوى ،وإال بتلك القوة الروحية املنبثقة من التطلع إىل أفق أعىل
وأوسع من آفاق الذات والرضورات" (1(".فالصر :حيمله عىل االحتامل وكظم الغيظ ،وكف
((٢
األذى ،واحللم واألناة والرفق ،وعدم الطيش والعجلة".
والواجب عىل البرشية التأيس بسيدنا إبراهيم الذي لقي من أبيه ما لقي ،وهدده باجللد
والرجم ،فقال ألبيه املعاند فيام حيكيه القرآن عنه ﴿ :ﯖ ﯗ ﯘﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ ﯡ ﴾ [مريم ]٤٧ :يقول السعدي" :وقد أمرنا اهلل باتباع ملة إبراهيم ،فمن اتباع
ملته ،سلوك طريقه يف الدعوة إىل اهلل ،بطريق العلم واحلكمة واللني والسهولة ،واالنتقال
من مرتبة إىل مرتبة والصر عىل ذلك ،وعدم السآمة منه ،والصر عىل ما ينال الداعي من
((٥
أذى اخللق بالقول والفعل ،ومقابلة ذلك بالصفح والعفو ،بل باإلحسان القويل والفعيل".
ومن الصر عىل املخالف والرفق به ،عدم مقاطعته يف نوبته" :وعليهام مجيع ًا أن يصر
كل واحد منهام لصاحبه يف نوبته وإن كان ما يسمعه منه شبه الوسواس؛ ألهنام متساويان يف
((٦
حق املناوبة ،فمن مل يصر منهام لصاحبه فقد قطع عليه حقه"...
٣٢1
ومن الصر عىل املخالف عدم املؤاخذة بام صدر عنه من زلل من غري قصد ،يقول
اجلويني يف ذلك" :وال تؤاخذ اخلصم بام تعلم أنه ال يقصده من أنواع الزلل ،بل تعلم أنه
يسبق اللسان ،وملا ال خيلو املتكلم منه"( (1ويعلم ذلك منه باالستفسار.
الصر أصل مهم يف إدارة احلوار واجلدل ،فالناس خيتلفون يف أفهامهم وقدراهتم
العقلية وميوالهتم النفسية ،وسوء أخالقهم ،وهذا وغريه حيتم عىل املناظر الصر واحللم،
والعفو والصفح ،ويصر نفسه مع الناس حتى يصل هبم إىل اإلقناع ،ومن أعظم الصر
الصر عىل شهوات النفس من الرغبة يف االنتصار والظهور عىل اخلصم والتفوق عليه ،فإذا
استطاع املحاور الصر عىل خصمه اخلارجي (املناظر) ،وخصمه الداخيل (النفس) ،يكون
قد حتقق بأصل مهم من أصول اجلدل ،وتأهل بذلك ملقام اجلدل واملناظرة.
((٣
أ ْمر دينهم".
٣٢٢
املقصود (1(،"...فإن من اجلدل املذموم "اجلدل بالشغب والتمويه ،نرصة للباطل بعد ظهور
((٢
احلق وبيانه".
ويقول تعاىل يف كيد من يدعي اإليامن وخداعه ،ويريد التحاكم يف اخلصومات إىل غري
املرجعية اإلسالمية( ﴿ :(٣ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ
ﭟﭠﭡﭢ ﭣ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭭﭮ
ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ﴾
[النساء ،]٦1-٦0 :ف "هذا إنكار من اهلل ،عز وجل عىل من يدعي اإليامن بام أنزل اهلل عىل رسوله
وعىل األنبياء األقدمني ،وهو مع ذلك يريد التحاكم يف فصل اخلصومات إىل غري كتاب اهلل
((٤
وسنة رسوله"...
فالتمويه عىل اخلصم ،وتزوير احلقائق ،وخداع اخلصم ضياع للحقائق ،سلوك مشني
ملن تلبس به ،لذا ينبغي عىل طالب احلقائق التنزه عن هذا اخللق ،ومواجهة خصمه باحلجج
والراهني الصحيحة ،فالقصد هو الوصول إىل احلق ،فينبغي شحذ اهلمم واستنهاضها
للتحري والتدقيق يف كل ما يعرض من أدلة يف جملس املناظرة.
( )1السعدي ،تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان ،مرجع سابق ،ج ،1ص.9٥٥
( )٢البغدادي ،كتاب الفقيه واملتفقه ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٥٥٧
ويذكر اخلطيب البغدادي باإلضافة إىل هذا الوجه املذموم للجدل ،وجه ًا آخر وهو :اجلدل بغري علم .ومن اجلدل
املذموم -1 :اجلدل بالباطل لدحض احلق ،قال تعاىل﴿ :ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ﴾ [غافر ،]٥ :وقال تعاىل:
﴿ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ﴾ [الكهف -٢ .]٥٦ :املجادلة يف احلق بعدما تبني﴿ :ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ
ﮝ ﮞ﴾ [األنفال -٣ .]٦ :اجلدال بال علم :قال تعاىل﴿ :ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ
ﮨ ﮩ﴾ [آل عمران.]٦٦ :
( )٣ينطبق عىل أهل املرجعية الواحدة ،لكن إذا اختلفت املرجعيات ،فهناك آليات أخرى لتدبري االختالف مثل:
التفاوض للوصول إىل مصالح متوازنة لألطراف ،وقد استخدم النبي ﷺ هذه اآللية يف صلح احلديبية.
( )٤ابن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٣٤٦
وذكر ابن كثري أن اآلية نزلت يف "رجل من األنصار ورجل من اليهود ختاصام ..وقيل :يف مجاعة من املنافقني،
ممن أظهروا اإلسالم ،أرادوا أن يتحاكموا إىل حكام اجلاهلية .وقيل غري ذلك ،واآلية أعم من ذلك كله ،فإهنا ذامة
ملن عدل عن الكتاب والسنة ،وحتاكموا إىل ما سوامها من الباطل ،وهو املراد بالطاغوت هاهنا "..انظر:
-املرجع السابق ،ج ،٢ص.٣٤٦
٣٢٣
((1
-2أصول تدبري االختالف التفصيلية املعرفية:
وفيه مسائل:
ال بد للمامرسة احلوارية من مرجعية حتكم سريها ،من أجل الوصول إىل الغاية من احلوار
واجلدل ،فاالنضباط للمرجعية احلوارية أصل مهم لتدبري االختالف ،وتوجيه "للمدعي"
-وهو الذي يقول برأي خمصوص ويعتقده -و"املعرض" –وهو الذي ال يقول برأي املدعي
((٢
وال يعتقده -نحو األثر املرتب عن اجلدل واملناظرة ،من غري انحراف عن القصد.
قال تعاىل يف شأن مرجعية املسلمني اجلامعة ،ودعوهتم إىل االنضباط إليها ،وتدبري
االختالف عىل أساسها ﴿ :ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ
ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ﴾ [النساء ،]٥9 :وقال
تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ﴾ [األحزاب ،]٣٦ :وقال تعاىل ﴿ :ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ
ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ﴾ [النور.]٥1 :
ويقول تعاىل يف دعوة الذين أوتوا نصيب ًا من الكتاب ،لكتاب اهلل ليحكم بينهم ،بوصفه
مرجعية جامعة ،فال يستجيب فريق منهم ويتخلف عن حتكيم هذه املرجعية ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ
( )1أو اإلفهامية ،التي تتعلق بالفهم واإلفهام يف املامرسة احلجاجية ،وهذه األصول عدّ تفصي ً
ال ألصيل" :السالمة
العقلية" و"تكامل مصادر املعرفة "،اللذين سبقت دراستهام.
( )٢ومما يدل عملي ًا عىل "أصل االتفاق عىل املرجعية االستداللية واالنضباط هلا »قصة سيدنا ابن عباس مع اخلوارج،
قال للخوارج قبل جمادلتهم" :قلت :أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب اهلل املحكم ،وحدثتكم من سنة نبيه ﷺ ما
ال تنكرون ،أترجعون؟ قالوا :نعم "..انظر:
ِ ِ ِ
-عبد الرزاق ،املصنف ،مرجع سابق ،كتاب :ال ُّل َق َطة ،باب :ما جاء يف ْ
احلَ ُرور َّية ،ج ،10حديث رقم (،)18٦٧8
ص.1٥٧
-الطراين ،املعجم الكبري ،مرجع سابق ،ومن مناقب عبد اهلل بن عباس ،وأخباره ،ج ،10حديث رقم ،10٥98
ص.٢٥٧
-أبو نعيم ،حلية األولياء وطبقات األصفياء ،مرجع سابق ،عبد اهلل بن عباس ،ج ،1ص.٣18
٣٢٤
ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ﴾ [آل عمران]٢٣ : ﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭛ
يقول سيد قطب" :إنه سؤال التعجيب والتشهري من هذا املوقف املتناقض الغريب .موقف
الذين أوتوا نصيب ًا من الكتاب .وهو التوراة لليهود ومعها اإلنجيل للنصارى .وكل منهام
(نصيب) من الكتاب باعتبار أن كتاب اهلل هو كل ما أنزل عىل رسله ،وقرر فيه وحدة ألوهيته
ووحدة قوامته .فهو كتاب واحد يف حقيقته ،أويت اليهود نصيب ًا منه ،وأويت النصارى نصيب ًا منه،
وأويت املسلمون الكتاب كله ،باعتبار القرآن جامع ًا ألصول الدين كله ،ومصدق ًا ملا بني يديه
من الكتاب ...سؤال التعجيب من هؤالء ﴿ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ﴾ [آل عمران ...]٢٣ :ثم هم
يدعون إىل كتاب اهلل ليحكم بينهم يف خالفاهتم ،وليحكم بينهم يف شؤون حياهتم ومعاشهم،
فال يستجيبون مجيع ًا هلذه الدعوة ،إنام يتخلف فريق منهم ،و ُيعرض عن حتكيم كتاب اهلل
ورشيعته ،األمر الذي يتناقض مع اإليامن بأي نصيب من كتاب اهلل ،والذي ال يستقيم مع
((1
دعوى أهنم أهل كتاب".
يقول الشاطبي يف رضورة االتفاق عىل املرجعية االستداللية بني اخلصمني :السائل
واملستدل" :إن اخلصمني إما أن يتفقا عىل أصل يرجعان إليه أم ال ،فإن مل يتفقا عىل يشء ،مل
يقع بمناظرهتام فائدة بحال ...،ومقصود املناظرة رد اخلصم إىل الصواب بطريق يعرفه ،ألن
رده بغري ما يعرفه من باب تكليف ما ال يطاق ،فال بد من رجوعهام إىل دليل يعرفه اخلصم
((٢
السائل معرفة اخلصم املستدل".
٣٢٥
واحلوار ليس تداوالً للكالم بني املتحاورين الذين "ال يتبعون يف ذلك طريق ًا معلوم ًا،
وال ينضبطون بقاعدة خمصوصة ،سوى أن يطلق عنان الكالم لكل واحد منهم حتى ُي ِ
فرغ ما
((1
بجعبته باسم حرية الرأي".
وجاء يف دستور دولة اإلسالم األوىل عىل عهد رسول اهلل ﷺ ،أن املرجعية املشركة
هي احلاكمية اإلهلية ..." :وإنه ما كان بني أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار ُخياف
((٢
فساده ،فإن مرده إىل اهلل عز وجل ،وإىل حممد رسول اهلل ﷺ."...،
العلم والتخصص املعريف يف املوضوع املختلف فيه ،والتكافؤ العلمي بني طريف اجلدل،
((٣
أصل مهم وحاسم يف محاية املنهج اجلديل من التطفل ،وتطاول من ال علم له باملوضوع،
ألن اجلهل باملوضوع ال يوصل للحقيقة (٤(،و"التصديق ال يلحق باملجهول" (٥(،و"احلكم
( )1عبد الرمحن ،احلق اإلسالمي يف االختالف الفكري ،مرجع سابق ،ص.٢98
( )٢ابن هشام ،السرية النبوية ،مرجع سابق ،ج ،٢ص .9٦-9٤
( )٣العلم بموضوع االختالف ،يقلل من االختالف ،ويساعد عىل حسم مادته ،فقد كان أول خالف وقع بني الصحابة
ريض اهلل عنهم هو :موضوع وفاة رسول اهلل ﷺ ،حيث أنكره بعض الصحابة ،األمر الذي دفع بسيدنا أيب بكر،
الذي كان عنده علم باملوضوع املختلف فيه ،أن يتلو عىل الصحابة قوله تعاىل﴿ :ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ﴾ [الزمر.]٣0 :
ثم اختلف الصحابة يف املكان الذي يدفن فيه رسول اهلل ﷺ ،وهذا اخلالف أيض ًا مل حيسمه إال أبو بكر ،حيث
كان عنده علم بموضوع اخلالف ،وهو حفظه حلديث عن رسول اهلل ﷺ "إن األنبياء يدفنون حيث يقبضون" (ومل
أجد هذا احلديث هبذه الصيغة ،ووجدته عند الرمذي بصيغة أخرى ،وهي أن النبي ﷺ قالَ " :ما َق َب َض اهللَُّ نَبِ ّي ًا إِالَّ
ب َأ ْن ُيدْ َف َن فِ ِيه ".انظر: ِ ِ ِ
ِيف ا َْمل ْوض ِع ا َّلذي ُحي ُّ
-الرمذي ،جامع الرتمذي ،باب :ما جاء يف دفن النبي ﷺ َح ْي ُث ُقبِ َض ،ج ،٢حديث رقم ( ،)1018ص٣٢9
فدفن يف حجرته الرشيفة .انظر:
البغدادي ،أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن حممد .الفرق بني الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم ،عقائد الفرق -
اإلسالمية وبيان آراء كبار أعالمها ،دراسة وحتقيق :حممد عثامن اخلشن ،القاهرة :مكتبة ابن سينا( ،د .ت ،).ص.٣٢
( )٤يعدّ ابن القيم اجلهل من أركان األخالق السافلة .انظر:
-ابن القيم ،مدارج السالكني بني منازل إياك نعبد وإياك نستعني ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٢9٥
( )٥ابن نجيم ،زين الدين بن إبراهيم بن حممد .األشباه والنظائر عىل مذهب أيب حنيفة النعامن ،وضع حواشيه وخرج
أحاديثه :زكريا عمريات ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤19( ،1هـ1999/م) ،ص.18٣
٣٢٦
عىل اليشء فرع عن تصوره" (1(،وال يمكن تصور احلقيقة يف قضية معينة يف غياب العلم
بمدخالهتا ،زيادة عىل أن اخلوض يف املراجعات واملكاملات من دون علم وال معرفة ،سبب
قوي للنزاع والرصاع ،واتساع دائرة االختالفات اإلنسانية ،لذلك قال علامؤنا" :لو سكت
((٢
من ال يعلم سقط االختالف".
وألمهية العلم بموضوع اخلالف يف الوصول إىل احلقائق ،جاءت نصوص قرآنية كثرية
يف احلث عليه ،وبيان منزلة أهله ،واإلنكار عىل القول بغري علم وال معرفة ،إىل غري ذلك
مما ورد يف السياق القرآين حتى "تكررت كلمة (علم) يف القرآن ما يقارب سبعامئة وسبعة
علو شأن العلم يف اخلطاب القرآين.
وعرشين مرة" (٣(،ويف هذا داللة قوية عىل ّ
والعلم املراد هنا ليس مطلق العلم ،بل املراد" :التخصص العلمي واملعريف بموضوع
اجلدل واملناظرة"؛( (٤ألن عملية اإلقناع ال تتحقق بني جاهل وعامل ،فاجلهل باملوضوع يؤدي
( )1ابن النجار ،تقي الدين أبو البقاء حممد بن أمحد بن عبد العزيز بن عيل الفتوحي .رشح الكوكب املنري ،حتقيق :حممد
الزحييل ونزيه محاد ،الرياض :مكتبة العبيكان ،ط1٤18( ،٢هـ199٧/م) ،ج ،1ص ،٥0وانظر أيض ًا:
-احلموي ،أبو العباس أمحد بن حممد مكي .غمز عيون البصائر يف رشح األشباه والنظائر ،بريوت :دار الكتب
العلمية ،ط1٤0٥( ،1هـ198٥/م) ،ج ،٢ص .٣1٤واختلفت عبارات األصوليني حسب سياق استعامل
العبارة ومن عباراهتم" :احلكم عىل اليشء بالنفي واإلثبات فرع عن تصوره".
-اإلسنوي ،أبو حممد مجال الدين عبد الرحيم بن احلسن بن عيل .هناية السول رشح منهاج الوصول ،بريوت:
دار الكتب العلمية ،ط1٤٢0( ،1هـ1999/م) ،ص" .1٥الوضع لليشء فرع عن تصوره ".ص .٧9
( )٢ابن عبد الر ،جامع بيان العلم وفضله ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٥8٣
( )٣عبد الباقي ،املعجم املفهرس أللفاظ القرآن الكريم ،مرجع سابق ،ص.٤80-٤٦9
( )٤وقد طبق علامء اإلسالم هذا األصل ،أصل احرام التخصص العلمي ،وعدم اجلدل يف غري التخصص ،قال عبد اهلل
بن حنبل :سمعت أيب يقول :قال الشافعي :أنتم أعلم باألخبار الصحاح منا ،فإذا كان خر صحيح فأعلمني بن أمحد ِ
حتى أذهب إليه ".انظر:
-الذهبي ،سري أعالم النبالء ،مرجع سابق ،ج ،10ص .٣٣جاء رجل إىل ْاألَع َْمش "فسأله عن مسألة فلم جيبه
فيها" قال :القول فيها كذا ،قال" :من أين؟" قال :من حديث فيها ،ونظر فإذا أبو حنيفة فقال" :يا ُن ْع َام ُن ،قل َ
ِ
كذا ،أنت حدَّ ث َتنَا ُه ،قال :فقال ْاألَع َْم ُش" ،نحن َّ
الصيادلة وأنتم األطبا ُء".
ِ ٍ
ر ،جامع بيان العلم وفضله ،مرجع سابق ،ج ،٢ص .10٣0ويقول أبو ُع َب ْيد ا ْل َقاس َم ْب َن َس َّالمٍ" :ما -ابن عبد ال ّ
ناظرين رجل قط وكان ُم َفنِّن ًا يف العلوم إال غلبته ،وال ناظرين رجل ذو ف ٍّن واحد إال غلبني يف علمه ذلك".
اسم" :ال ُأ ِ ِ ٍ ِ
حسن ُه" = -املرجع السابق ،ج ،1ص .٥٢٣جاء رجل إىل ا ْل َقاس ِم ْب ِن حممد "سأله عن يشء ،فقال ال َق ُ
٣٢٧
إىل التخبط وعدم وضوح الرؤية بني املتحاورين؛ إذ يشرط" :أن يكون املتناظران عىل معرفة
باملوضوع الذي يتنازعان فيه ،حتى يتكلم كل منهام ضمن الوظيفة املأذون له هبا يف قواعد
املناظرة وضوابطها ،وإذا تكلم مل خيبط خبط عشواء ،ومل يناقش يف البدهيات بغري علم ،وإذا
((1
ُألزم باحلق التزم به دون مكابرة".
قال تعاىل يف شجب حماجة أهل الكتاب بغري علم وال معرفة يقينية﴿ :ﮜ ﮝ
ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ﴾ [آل عمران]٦٦ :
و"يف اآلية دليل عىل املنع من اجلدال ملن ال علم له ،واحلظر عىل من ال حتقيق عنده ،وقد ورد
((٢
األمر باجلدال ملن علم وأيقن فقال تعاىل﴿ :ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ﴾ [النحل".]1٢٥ :
ويقول السعدي يف اآلية السابقة" :جداهلم يف إبراهيم جدال يف أمر ليس هلم به علم،
فال يمكن هلم وال يسمح هلم أن حيتجوا وجيادلوا يف أمر هم أجانب عنه ،وهم جادلوا يف
((٣
أحكام التوراة واإلنجيل سواء أخطأوا أم أصابوا فليس معهم املحاجة يف شأن إبراهيم"،
ونظريه قوله تعاىل ﴿ :ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ﴾ [احلج .]8 :فهذا
إنكار عليهم يف املجادلة بغري علم ،وال حتقق بموضوع اجلدال واملناظرة ،يقول ابن كثري" :هذا
إنكار عىل من حياج فيام ال علم له به" (٤(،ويقول الفخر الرازي" :املراد من قوله ﴿ :ﮞ
ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ﴾ هو :أهنم زعموا أن رشيعة التوراة واإلنجيل خمالفة لرشيعة القرآن ،فكيف
حتاجون فيام ال علم لكم به ،وهو :ادعاؤكم أن رشيعة إبراهيم كانت خمالفة لرشيعة حممد
عليه السالم؟ .ثم حيتمل يف قوله﴿ :ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ﴾ أنه مل يصفهم
تنظر إىل طول حليتي وكثرة الناس القاسم" :ال ْ ُ = فجعل الرجل يقول :إين ُدفِ ُ
عت إليك ال أعرف غريك فقال
حويل واهلل ما ُأح ِسنُه" فقال شيخ من قريش جالس إىل ِ
جنبه :يا ابن أخي ا ْلزَ ْم َها فواهلل ما رأيتك يف جملس َأ ْن َب َل ْ ُ
ِ ِ
يقطع لساين أحب إ ّيل من أن أتك ّلم بام ال علم يل به". ِ
منك اليو َم ،فقال القاس ُم" :واهلل ْ
ألن
َ
املرجع السابق ،ج.8٣٧ ،٢ -
( )1امليداين ،ضوابط املعرفة وأصول االستدالل واملناظرة ،مرجع سابق ،ص.٣٧٥
( )٢القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.108
( )٣السعدي ،تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان ،مرجع سابق ،ج ،1ص.1٣٤
( )٤ابن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٥8
٣٢8
يف العلم حقيقة ،وإنام أراد إنكم تستجيزون حماجته فيام تدعون علمه ،فكيف حتاجونه فيام
ال علم لكم به البتة؟ .ثم حقق ذلك بقوله﴿ :ﮫ ﮬ﴾ كيف كانت حال هذه الرشائع يف
((1
املخالفة واملوافقة ﴿ ﮭ ﮮ ﮯ﴾ كيفية تلك األحوال".
فاجلدل بغري علم مرفوض رشع ًا ،ويؤكد اخلطاب القرآين عىل هذا املعنى .وكام أشار إىل
ذلك املفسون يف األقوال السابقة ،فاجلهل باملوضوع يعرض احلقائق إىل الضياع ،ويعرض
املناظر اجلاهل إىل االستهزاء والتنقيص ،لذلك ال بد من العلم أوالً قبل اخلوض يف املناظرة.
وعدّ اخلطيب البغدادي "اجلدال بغري علم"( (٢من قسمي اجلدل املذموم.
فالقرآن الكريم خياطب البرشية يف كل عرص وزمان ،ويقول لسيدنا حممد ﷺ:
﴿ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ﴾
[يوسف ]108 :وهو خطاب بوضوح السبيل ،واملعرفة اليقينية بالدعوة وموضوعها؛ ألنه
حتقق عنده به ،وهو القائل ﷺ" :بِ َ
ئس ال يمكن بحال أن يدعو إىل ما ال يعرفه ،أو ما ال َّ
ِ
َمط َّي ُة َّ
الرجلَ :ز َع ُموا".
((٣
ويقول تعاىل لنبيه ﷺ تنبيه ًا عىل هذا األصل اجلديل﴿ :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ﴾
[اإلرساء ]٣٦ :فعىل املجادل أن يتثبت من كل خر أو ظاهرة ،قبل احلكم عليها ،ال احلكم عىل
أمر بمجرد الظنون واألوهام ،وقبل التثبت التام منه .وقد بني اهلل سبحانه وتعاىل يف هذه اآلية
املنهج الصحيح ،الذي ينبغي سلوكه ..." ،ال تقل للناس وفيهم ما ال علم لك به ،فرميهم
بالباطل ،وتشهد عليهم بغري احلق ،فذلك هو القفو" (٤(،ويقول ابن كثري عن قول العلامء يف
هذه اآلية .." :ومضمون ما ذكروه :أن اهلل تعاىل هنى عن القول بال علم ،بل بالظن الذي هو
((٥
التوهم واخليال ،كام قال تعاىل﴿ :ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ﴾ [احلجرات".]1٢ :
٣٢9
ويقول سيد قطب ﴿ " :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ﴾ ..وال تتبع ما مل تعلمه علم اليقني،
وما مل تتثبت من صحته :من قول يقال ورواية تروى ،من ظاهرة تفس أو واقعة تعلل ،ومن
((1
حكم رشعي أو قضية اعتقادية"...
ويضيف قائ ً
ال يف تفسري قوله تعاىل﴿ :ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ
ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﴾ [اإلرساء" ]٣٦ :وهذه الكلامت القليلة تقيم منهج ًا كام ً
ال للقلب
والعقل ،يشمل املنهج العلمي الذي عرفته البرشية حديث ًا جد ًا ،ويضيف إليه استقامة القلب
ومراقبة اهلل ،ميزة اإلسالم عىل املناهج العقلية اجلافة! فالتثبيت من كل خر ،ومن كل
ظاهرة ،ومن كل حركة قبل احلكم عليها ،هو دعوة القرآن الكريم ،ومنهج اإلسالم الدقيق.
ومتى استقام القلب والعقل عىل هذا املنهج مل يبق جمال للوهم واخلرافة يف عامل العقيدة .ومل
يبق جمال للظن والشبهة يف عامل احلكم والقضاء والتعامل .ومل يبق جمال لألحكام السطحية
((٢
والفروض الومهية يف عامل البحوث والتجارب والعلوم"...
ومن مقتضيات هذا األصل قول املناظر" :ال أدري" ،إذا مل يكن له علم بموضوع
اخلالف؛ ألن العلم واملعرفة اليقينية بموضوع احلوار ،من أصول اجلدل واملناظرة ،لذلك
فجهل املناظر باملوضوع ينهي العملية احلوارية ،وإال كانت مناقشة غري متكافئة علمي ًا ومعرفي ًا.
وقد أشار القرآن الكريم إىل هذا األصل يف آيات عديدة لرسول اهلل ﷺ﴿ :ﮈ ﮉ ﮊ
ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ﴾ [األحقاف،]9 :
ففي اآلية يقول النبي ﷺ للمرشكني إنه ال يدري حاهلم يف الدنيا من إيامهنم أو كفرهم به
وبرسالته (٣(،فنفي رسول اهلل ﷺ عن نفسه العلم هبذه القضية ،تنهي احلوار واجلدال حوهلا؛
ألن علمها عند اهلل تعاىل.
٣٣0
ويقول كذلك يف نفي علمه ودرايته بالوقت الذي يقع فيه العقاب عىل املرشكني (1(،قال
تعاىل ﴿ :ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ﴾ [األنبياء،]109 :
وقال تعاىل ﴿ :ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﴾ [األنبياء]111 :؛ أي ال أدري لعل
تأخر العقاب عنكم اختبار لكم (٢(،وقال تعاىل ﴿ :ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ
ﯲ ﯳ ﴾ [اجلن]٢٥ :؛ أي إنه ﷺ ال يعلم وقت قيام الساعة أو نزول العذاب ،فعلم ذلك
((٣
عند اهلل تعاىل.
فإذا كان القرآن الكريم يسجل هذا االعراف من النبي ﷺ بعدم علمه بقضايا
الغيب (٤(،وينسب العلم فيها هلل تعاىل ،ويرفض احلوار واجلدل والنظر فيها ،استناد ًا إىل عدم
درايته بتفاصيلها ،فهو درس منهجي نستفيده يف حياتنا العملية واحلوارية ،بأن ال نخوض
جداالت بغري علم وال دراية ،وأن ال نستحيي من قول" :ال أدري" ،ألن اجلدل بغري علم
مضيعة للوقت واجلهد.
تورع العلامء يف الفتوى بغري علم وال دراية؛ إذ روي أن مالك ًا سأله
وحيكي ابن القيم ُّ
"رجل من أهل الغرب ...عن مسألة فقال :ال أدري ،فقال :يا أبا عبد اهلل تقول :ال أدري؟
((٥
قال :نعم ،فأبلغ من وراءك أين ال أدري".
( )1ابن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.٣88
( )٢البغوي ،معامل التنزيل ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.٣٦0
( )٣القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،19ص.٢٧
( )٤يقول الفراهي -1" :الغيب اسم احلدثان من غاب غيب ًا وغيبة -٢ ..يطلق عىل ما غاب عنك وضده الشهادة..
-٣وعىل ما ال سبيل إىل علمه -٤ ..وعىل املكان الذي ليس بمشهد منك ،واجلانب الذي ال يتعني -٥..وعىل الس
عموم ًا "..انظر:
الفراهي ،مفردات القرآن نظرات جديدة يف تفسري ألفاظ قرآنية ،مرجع سابق ،ص.1٧1 -
( (٥ابن القيم ،إعالم املوقعني عن رب العاملني ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٢٧
٣٣1
ومن توابع العلم بموضوع اجلدال ،حترير حمل النزاع فيه والعلم به بدقة (1(.يقول
حمامد رفيع يف كالمه عن موضوع اجلدل ،وحتديد حمل النزاع يف املجادلة" :موضوع اجلدل
واحلوار هو جوهر العملية برمتها ،وإذا ما جرى االتفاق عىل ذلك كان اجلدل مفيد ًا
وواضح ًا لألطراف املشاركة فيه؛ ألن حترير حمل النزاع يضمن عدم حتول اجلدل إىل نوع
من اللجاج (٢(،"...ويقول حممد سيد طنطاوي" :وقد قالوا :إن حترير حمل النزاع ،يؤدي
إىل حسن االقتناع ،فاأللفاظ متى حتددت معانيها والقضايا متى وضحت معاملها ،سهل
الوصول إىل االتفاق بني املختلفني ،وظهر الرأي الذي تؤيده احلجة القويمة ،وتطمئن إىل
((٣
صحته العقول السليمة"...
ومن مقتضيات هذا األصل :أن يكون موضوع احلوار واجلدل ذا قيمة علمية ،وأن ُيبتغى
َم ْن طرحه للحوار جدوى وفائدة عامة ،كدفع رضر شديد أو استجالب خري وفري ،يقول
القرضاوي" :إن القوم إذا حرموا التوفيق ،تركوا العمل ،وغرقوا يف اجلدل ،وبخاصة أن هذا
((٤
موافق لطبيعة اإلنسان التي مل هيذهبا اإليامن﴿ ،ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﴾ [الكهف".]٥٤ :
فقال مالك" :االستواء غري جمهول والكيف غري معقول ،واإليامن به واجب ،والسؤال عنه بدعة،
( (1وقصة سيدنا ابن عباس يف جمادلته للخوارج ،دليل تطبيقي ملطلب حترير حمل اخلالف يف العملية الكالمية ،لتحجيم
وأول من آمن به وأصحاب ِ وختَنِ ِه
اخلالف وضبطه ،يقول " :قلت :أخروين ما تن ُق ُمون عىل ابن عم رسول اهلل ﷺ َ
رسول اهلل ﷺ معه؟ "قالواَ :ننْ ُق ُم عليه ثالث ًا ،قال :قلت :وما ُه َّن؟ قالوا :أوهل َّن أنه حكَّم الرجال يف دين اهلل وقد قال
اهلل﴿ :ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ﴾ [األنعام ،]٥٧ :قال :قلت :وماذا؟ قالوا :وقاتل ومل يسب ومل يغنم ،لئن كانوا كفار ًا لقد ح َّل ْت له
أمواهلم ،ولئن كانوا مؤمنني لقد حرمت عليه دماؤهم؟ ،قال :قلت :وماذا؟ قالوا :حما نفسه من أمري املؤمنني ،فإن مل
يكن أمري املؤمنني فهو أمري الكافرين "..انظر:
احلَ ُرور َّية ،ج ،10حديث رقم ( ،)18٦٧8ص.1٥٧ ِ ِ -عبد الرزاق ،املصنف ،كتاب :ال ُّل َق َط ِة ،باب :ما جاء يف ْ
-والطراين ،املعجم الكبري ،مرجع سابق ،من اسمه عبد اهلل ،ومن مناقب عبد اهلل بن عباس وأخباره ،ج،10
حديث رقم ( ،)10٥98ص.٢٥٧
-األصبهاين ،حلية األولياء وطبقات األصفياء ،مرجع سابق ،عبد اهلل بن عباس ،ج ،1ص.٣1٥
( )٢رفيع ،اجلدل واملناظرة أصول وضوابط ،مرجع سابق ،ص.٤٣
( )٣طنطاوي ،أدب احلوار يف اإلسالم ،مرجع سابق ،ص.٣٦
( )٤القرضاوي ،الصحوة اإلسالمية بني االختالف املرشوع والتفرق املذموم ،مرجع سابق ،ص.٢٤1-٢٤0
٣٣٢
وما أراك إال ضاالً ،فأخرجوه" (1(،واستنكر مالك عىل الرجل ،ألن املسؤول عنه ال يرتب عليه
((٢
عمل ،سأله عن املتشاهبات ،وهي من املواضع التي ُيكره فيها السؤال ،كام قرر ذلك الشاطبي،
((٣
ومالك يف هذه املسألة «سلك طريق التفويض ،وهو أسلم".
يقول الشاطبي بشأن االختالف يف ما ال ينبني عليه فرع عميل" :املسائل التي ُخيتلف
فيها ،فال ينبني عىل االختالف فيها فرع عميل ،إنام تُعدّ من امل َلح ،ال فائدة جتنى ثمرة
((٤
لالختالف فيها ،فهي خارجة عن صلب العلم".
وكان علامء اإلسالم ّ
حيذرون املناظر من اخلوض يف غري الواقع أو قريب الوقوع،
ويبتعدون عن الطبوليات ،عىل نحو ما ذهب إليه الغزايل ..." :أن ال يناظر إال يف مسألة واقعة
أو قريبة الوقوع غالب ًا ،وال نرى املناظرين هيتمون بانتقاد املسائل التي تعم البلوى بالفتوى
((٥
ُسمع فيتسع جمال اجلدل فيها كيفام كان األمر"...
فيها ،بل يطلبون الطبوليات التي ت َ
ومن اجتناب ما ال ينبني عليه عمل التنزه عن اللغو واللغط ،يقول تعاىل ﴿ :ﮎ ﮏ
ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﴾ [الفرقان.]٧٢ :
ومن القضايا التي ال ينبني عليها عمل ،اختالف الناس اليوم ،وحجاجهم حول مسألة
تعيني ِ
الف َرق التي ذكرها حديث االفراق ،وحماولة تعيني هذه الفرق ،وما يتعلق باملتشاهبات،
يقول الشاطبي أن من العلم ما "ال يطلب نرشه بإطالق ،أو ال يطلب نرشه بالنسبة إىل حال أو
٣٣٣
وقت أو شخص .ومن ذلك تعيني هذه الفرق ،فإنه وإن كان ح ّق ًا فقد يثري فتنة ..،فيكون من
تلك اجلهة ممنوع ًا بثه .ومن ذلك علم املتشاهبات والكالم فيها ،فإن اهلل ذم من اتبعها ،فإذا
((1
مستغنى عنه"...
ً ذكرت وعرضت للكالم فيها ،فربام أدى ذلك إىل ما هو
ومن مقتضيات هذا األصل التكافؤ العلمي واملعريف بني الطرفني ،أو األطراف
املتناظرة ،قال اهلل تعاىل عىل لسان سيدنا إبراهيم يف حواره وجداله مع أبيه ﴿ :ﮁ ﮂ ﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﴾ [مريم ]٤٣ :فسيدنا إبراهيم عنده من العلم
ما مل يكن عند أبيه ،فالتكافؤ العلمي بينهام غري حاصل ،لذلك يطالبه سيدنا إبراهيم باتباعه؛
ألنه أعلم منه وأكفأ .يقول ابن كثري" :يقول :فإن كنت من صلبك وترى أين أصغر منك؛
ألين ولدك ،فاعلم أين قد اطلعت من العلم من اهلل عىل ما مل تعلمه أنت؛ وال اطلعت عليه
((٢
وال جاءك بعد".
ومن عدم التكافؤ أن يكون أحد الطرفني أقوى من الطرف اآلخر عسكري ًا أو اقتصادي ًا،
وهذا ما حكاه لنا القرآن الكريم عن فرعون رمز االستبداد والقهر والتعايل واالستكبار
حني جاءه سيدنا موسى حياوره ،قال تعاىل﴿ :ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ﴾ [غافر ]٢9 :وهذا هو منطق احلوار يف عرصنا احلديث بني دول االستكبار العاملي
ودول االستضعاف ،فهو حوار غري متكافئ ،لذلك آلت نتائجه لصالح الدول القوية
اقتصادي ًا وعسكري ًا ،وأصبح الطرف األضعف معرض ًا لإلمالء وليس للحوار.
٣٣٤
ويفرض منهج اجلدل باإلضافة إىل العلم بموضوع اخلالف ،العلم بالوحدة الفكرية
املتكاملة للدعوى التي يراد الدفاع عنها ،أو نقدها واالعراض عليها .ويرى السيد حممد
فضل اهلل أن من إشكاالتنا أن هناك نامذج تدخل جمال التدافع الفكري ،دون معرفة تامة
بطبيعة الفكرة التي تدافع عنها ،وطبيعة الفكرة التي هتامجها ،سواء تعلق األمر بالذين
يتكلمون باسم اإلسالم أو باسم الكفر ،أو الذين يتكلمون باسم حزب أو مجاعة أو مدرسة
أو مذهب معني داخل دائرة اإلسالم ،ال يعرفون عن أفكار مدارسهم ،وأفكار مدارس
خصومهم ،إال املفاهيم العامة غري الدقيقة ،وبذلك ال تتشكل لدهيم الوحدة الفكرية
((1
املتكاملة ملدارسهم أو ملدارس خصومهم ،فيسيؤون إىل أنفسهم وإىل غريهم.
واملناظر حيتاج عموم ًا إىل:
-العلم بموضوع االختالف :وهو موضوع هذه املسألة.
-العلم بحال املخالف :من العلم واجلهل والفطنة والذكاء ،مما يتعلق بالفروق الفردية.
-العلم بنوع االختالف :بمعنى هل هذا اخلالف من خالف التنوع ،أو خالف
التضاد ،أم هو من اختالف اخلطأ والصواب ،أو اختالف الكفر واإليامن ،أو غري ذلك من
أنواع اخلالف.
ت -أصل حتديد املفاهيم واملصطلحات:
حتديد املفاهيم واملصطلحات قبل الدخول يف املحاجة واملناظرة ،من القضايا املهمة يف
تسهيل عملية التخاطب؛ إذ يفرض يف املناظر أن خياطب مناظره بام يفهمه ،وأن ال يستعمل
ألفاظ ًا ال يفهمها أو ألفاظ ًا حمتملة؛ فطرفا احلوار مطالب كل منهام أن يكلم مناظره ويراجعه
بام قصده من كالمه ،فإذا كان خطاب الدعوى غري مفهوم ،فإن الرد عىل الدعوى سيكون
غري مفهوم أيض ًا.
وقد أمر اهلل تعاىل بتصحيح املفاهيم ،لتكون املكاملة واضحة من غري احتامل ،فإذا مل يتم
حتديد استعامالت األلفاظ واملدلوالت التي استعملت فيها ،أدى ذلك إىل سوء الفهم ،ألن
اللفظ الذي حيتمل معنيني أو أكثر ،قد يستعمله أحد طريف املناظرة يف داللة معينة ،وينرصف
( )1فضل اهلل ،احلوار يف القرآن :قواعده ،أساليبه ،معطياته ،مرجع سابق ،ص.٥1
٣٣٥
ذهن املخاطب للداللة األخرى ،وقد يتضمن س ّب ًا أو شت ًام ،قال تعاىل ﴿ :ﯓ ﯔ ﯕ
ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾ [البقرة ]10٤ :فلفظ "راعنا"
يقصد به املؤمنون يف خماطبة حممد ﷺ :راقبناَّ ،
وتأن بنا فيام تلقننا حتى نفهم عنك ،لكن اليهود
استعملوها يف غري ما يقصده املؤمنون ،وهو سب النبي ﷺ ،فنهى املؤمنني عن ذلك ،وأمروا
بتصحيح اللفظ ،بام يفيد املعنى نفسه ويذهب االلتباس ،وهو "انظرنا" أي انظر إلينا ،..أو
((1
أمهلنا لنحفظ...
وبعد أن ذكر القرآن الكريم حتريف اليهود للكلم عن مواضعه ،وحتريف معاين
األلفاظ واملصطلحات قال تعاىل﴿ :ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ﴾ [النساءَّ ]٤٦ :بني هلم القرآن األصوب
واألقوم واألحسن من األلفاظ التي يقع هبا الفهم واإلفهام ،قال تعاىل ﴿ :ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ
((٢
ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﴾ [النساء.]٤٦ :
ويؤكد القرآن الكريم قضية وحدة اللغة يف املجادلة واملراجعة الكالمية بني بني
ال منهجي ًا يف إدارة االختالفات ،وتسهيل التواصل ،والبيان للخطاب،
اإلنسان ،وعدها أص ً
وذلك بإرسال األنبياء بلغة أقوامهم من أجل البيان ،وتسهيل عملية التخاطب ،يقول تعاىل:
﴿ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ﴾ [إبراهيم.]٤ :
ويف ذلك يقول الباجي" :وال يتكلم عىل ما مل يقع العلم به من جهته ،وال يتكلم إال
عىل املقصود من كالمه ،وال يتعرض ملا ال يقصده مما جرى يف خالله ،فإن الكالم عىل ما مل
يقصده عدول عن الغرض املطلوب" (٣(،ومما يؤدي إىل العدول عن املطلوب والتكلم يف غري
املقصود ،عدم حتديد لغة احلوار واملصطلحات املستعملة فيه.
( )1البيضاوي ،أنوار التنزيل وأرسار التأويل ،مرجع سابق ،ج ،1ص.1٢٦
( )٢الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،8ص.٤٣٦
( )٣الباجي ،املنهاج يف ترتيب احلجاج ،مرجع سابق ،ص.10
٣٣٦
وبذلك تكون قضية حتديد األلفاظ واملصطلحات ،والوقوف عند مدلوالهتا،
واالنتقاء من الدالالت ما يوافق فهم املخاطب ،قضية مركزية قبل الدخول يف احلجاج
واملناظرة" ،إن لتحديد مدلول املصطلحات املراد استعامهلا يف موضوع احلوار مع املخالف
أولوية خاصة ،سيام إذا علمنا أن وترية األداء يف املناظرة واجلدل تتوقف –إىل حد بعيد-
عىل التحديد الواضح للمصطلحات املتداولة بني املتناظرين بوصف تلك املصطلحات لغة
التواصل بينهام ،وعىل قدر وضوح هذه اللغة وجالئها تتوقف فائدة اجلدال وثمرة احلوار
((1
بني أهل اخلالف".
اهلدف من املحاجة بالدليل والرهان( (٢هو طلب احلق ،واملحاجة عند أهل التفسري
وقال ((٣
تعني :املناقشة ،واملناظرة ،واملجادلة ،واملغالبة ،والرد عند اخلالف بالدليل،
( )1رفيع ،النظر الرشعي يف بناء االئتالف وتدبري االختالف :دراسة تأصيلية حتليلية ،مرجع سابق ،ص.98
( )٢وقد ن ّبه اخلطاب القرآين العقل إىل استخدام أنواع االستدالل اجلديل املختلفة ،ذكر منها أبو زهرة أنواع ًا ستة من
االستدالل ،يقول" :ونحن مع إقرارنا أن منهاج القرآن أعىل من اخلطابة ،كام هو أعىل من الشعر ومن السجع،
نرى أن نستعري من علامء البالغة ،كالم ًا يف مصادر االستدالل ،ونريد أن نتعرف املصادر الذاتية التي بنى القرآن
الكريم استدالله عليها ،وإن كان مقامه أعىل وأعظم ،وهو معجز يف ذاته ،وليس ككالم البرش ،وإن بني عىل حروف
البرش وألفاظهم ،ومن جنس كالمهم .ويقولون إن االستدالل الذي يستمد من مصادر ذاتية ،أي تؤخذ من ذات
املوضوع ،وهي أشبه بالرهان املنطقي ،وإن كانت أعىل ،هي ستة مواضع أو ينابيع ،أوهلا التعريف أي معرفة املاهية،
وثانيها التجزئة بذكر أجزاء املوضوع ،وثالثها التعميم ثم التخصيص ،ورابعها العلة واملعلول ،وخامسها املقابلة،
وسادسها التشبيه ورضب األمثال ".انظر:
-أبو زهرة ،املعجزة الكربى القرآن؛ نزوله ،كتابته ،مجعه ،إعجازه ،جدله ،علومه ،حكم الغناء به ،تفسريه ،مرجع
سابق ،ص.٣8٧-٣٧0
( )٣الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،11ص .٤88وانظر:
-ابن كثري ،تفسري القرآن العظيم ،مرجع سابق ،ج ،1ص،٤٥1
-املرجع السابق ،ج ،٣ص.٢9٣
-اآللويس ،روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين ،مرجع سابق ،ج ،٤ص.19٣
املحاجة املخاصمة ،وأكثر
ّ وقال ابن عاشور" :املحاجة ُمفاعلة ،ومل جيىء فِعلها إالَّ بصيغة املفاعلة .ومعنى
حاج يف معنى املخاصمة بالباطل :كام يف قوله تعاىل﴿ :ﯔ ﯕ﴾ [األنعام ]80 :وتقدم عند قوله تعاىل: استعامل فعل ّ
﴿ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ﴾ [البقرة ".]٢٥8 :انظر:
-ابن عاشور ،التحرير والتنوير ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.٢00
٣٣٧
الراغب" :واملحاجة :أن يطلب كل واحد أن يرد اآلخر عن حجته وحمجته" (1(،وقال أبو
حيان" :املحاجة مفاعلة من اثنني ،خمتلفني يف حكمني ،يديل كل منهام بحجته عىل صحة
((٢
دعواه".
والدليل واحلجة والرهان :املرشد واهلادي إىل املطلوب ،يقول الباجي" :والدليل :ما
صح أن يرشد إىل املطلوب ،وهو احلجة والرهان والسلطان" (٣(.ويقول الشاطبي يف حقيقة
الدليل" :حقيقة الدليل أن يكون ظاهر ًا يف نفسه ،وداالً عىل غريه ،وإال احتيج إىل دليل ،فإن
((٤
دل الدليل عىل عدم صحته فأحرى أن ال يكون دليالً".
فالنظر العقيل يؤدي إىل حقائق علمية ،يقتنع هبا املدعي ،ويعتقد صحتها وصواهبا،
لكن خمالفه قد ال يسلم له بام يعتقده ،فيطالبه بالدليل (٥(،وحينها يكون صاحب الدعوى
مطالب ًا بإقامة الدليل والرهان عىل ما يدعيه ،ليقنع بذلك خمالفه ،وبذلك تكون العملية
اجلدلية :طلب الدليل من أحد طريف املناظرة ،وإقامة الدليل من الطرف اآلخر أو االحتجاج
به (٦(،عملية علمية يف حتقيق وتصحيح العلوم واملعارف العقلية.
وبذلك يكون هذا األصل حمكوم ًا بعمليتني :طلب الدليل من أحد طريف العملية
احلجاجية ،وإقامة الدليل من الطرف اآلخر:
( )1الراغب ،املفردات يف غريب القرآن ،مرجع سابق ،مادة( :حج) ،ص.٢19
( )٢أبو حيان األندليس ،حممد بن يوسف بن عيل .تفسري البحر املحيط ،حتقيق :عادل أمحد عبد املوجود ،عيل حممد
معوض ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤1٣( ،1هـ199٣/م) ،ج ،٤ص.1٧٤
( )٣الباجي ،املنهاج يف ترتيب احلجاج ،مرجع سابق ،ص.11
"والدليل ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إىل مطلوب خري ".انظر:
-الشوكاين ،إرشاد الفحول إىل حتقيق احلق من علم األصول ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٦٦
( )٤الشاطبي ،االعتصام ،مرجع سابق ،ج ،1ص.1٧٤
( )٥ويذكر طه عبد الرمحن أن هناك أنواع ًا متعددة من الدليل .انظر:
-عبد الرمحن ،روح الدين :من ضيق العلامنية إىل سعة االئتامنية ،مرجع سابق ،ص.٦1-٦0
( )٦ويطلق أهل اجلدل واملناظرة عىل »املستدل» بكس الدال ،طلب الدليل أو االحتجاج بالدليل .انظر:
-الباجي ،املنهاج يف ترتيب احلجاج ،مرجع سابق ،ص.11
٣٣8
-طلب الدليل واحلجة والربهان من املخالف:
ووردت يف القرآن الكريم آيات كثرية يف عدد من السور تطالب املخالف بإقامة الدليل
عىل دعواه ،والرهنة عىل صحتها ،نذكر منها:
وكان املنهج يف املامرسة احلجاجية يف تاريخ اإلسالم ،هو اتباع احلق الذي قام عليه
الدليل ،وكان أئمة اإلسالم يسريون مع الدليل "زاهدين يف التعصب للرجال ،واقفني مع
احلجة واالستدالل ،يسريون مع احلق أين سارت ركائبه ،ويستقلون مع الصواب حيث
( )1امليداين ،ضوابط املعرفة وأصول االستدالل واملناظرة ،مرجع سابق ،ص.٣٧9
( )٢وقال تعاىل ﴿ :ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ﴾ [البقرة ،]111 :وقال تعاىل ﴿ :ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ﴾ [النمل ،]٦٤ :وقال تعاىل ﴿ :ﮙ ﮚ ﮛ﴾ [القصص.]٧٥ :
٣٣9
استقلت مضاربه ،إذا بدا هلم الدليل بأخذته طاروا إليه زرافات ووحدان ًا (1(".ف "البحث عن
الدليل الذي استند إليه اخلصم فيام ذهب إليه مرحلة غاية يف األمهية تصب يف اجتاه استكامل
جوانب أرضية النقاش ،فبالدليل يتميز القول الساقط من القول املعتر ،وقد علمنا القرآن
الكريم أن نتحاكم مع املخالف يف حماورتنا إىل الدليل والرهان ،مصداق ًا لقول اهلل تعاىل يف
((٢
أكثر من سورة"...
وبعد املطالبة بالدليل ،فإنه من الواجب عىل املحاور أن جييب مناظره إىل طلبه بإقامة
الدليل عىل دعواه ،ليرشعا يف عملية التصحيح واإلبطال« ،اعلم أن الدعوى إىل املذهب
واملقالة ال بد وأن تكون مبنية عىل حجة وبينة" (٣(.وبعد أن طالب القرآن الكريم املخالف
بإقامة الدليل عىل دعواه ،التزم باملنهج نفسه ،وأجاب املخالف لطلبه و"ساق الراهني
واألدلة القادرة عىل إقناع أصعب العقليات" (٤(،والقرآن الكريم غني باألدلة عىل هذا املعنى
نذكر منها:
( )1ابن القيم ،إعالم املوقعني عن رب العاملني ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٥
( )٢رفيع ،النظر الرشعي يف بناء االئتالف وتدبري االختالف :دراسة تأصيلية حتليلية ،مرجع سابق ،ص.10٥
( )٣الرازي ،مفاتيح الغيب ،مرجع سابق ،يف سياق تفسريه قوله تعاىل ﴿ :ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ
ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ﴾ [النحل.]1٢٥ :
( (٤دراز ،مدخل إىل القرآن الكريم عرض تارخيي وحتليل مقارن ،مرجع سابق ،ص.8٥
( )٥الغزايل ،املستصفى من علم األصول ،مرجع سابق ،ج ،1ص .10٢ومثاله ﴿ :ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ﴾ [اإلرساء ]٤٢ :ومتامه أنه "معلوم أهنم مل يبتغوا إىل ذي العرش سبيالً ".انظر:
املرجع السابق ،ج ،1ص.10٢ -
٣٤0
ففي اآلية دليل عىل "برهان التامنع العقيل"( (1الذي حيتج به علامء العقائد ،وذلك أنّا لو
فرضنا إهلني ،فأراد أحدمها شيئ ًا ،وأراد اآلخر نقيضه ،فإما أن تنفذ إرادة كل منهام ،وذلك
حمال ،الستحالة اجلمع بني النقيضني يف الزمان واملكان الواحد ،وهذه قاعدة عقلية متفق
عليها ،وإما أن تنفذ إرادة واحد منهام دون اآلخر ،فيكون األول الذي تنفذ إرادته هو اإلله،
والثاين عاجز ًا ،فال يصلح أن يكون إهل ًا .فاهلل تعاىل مجع يف هذه اآلية بني "الرهان العقيل"
املتفق عليه و"الرهان العلمي املشاهد" ،فهو خياطب املرشكني :أتستطيع آهلتكم إحياء
املوتى؟! ،وهو استفهام إنكاري ،ثم انظروا إىل الكون هل ترون فيه اختالف ًا ،أو فساد ًا يف
((٢
نظامه؟! وتفكروا يف ملكوت األرض ،أال يدلكم ذلك عىل وحدانية اهلل تعاىل.
لكن املرشكني ردوا كل احلجج واألدلة التي أقامها القرآن ،مستمسكني بالتقليد ،قال
تعاىل ﴿ :ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ [الزخرف ،]٢٣ :حتى ملا ُن ِّبهوا عىل وجه الدليل واحلجة بقوله
تعاىل﴿ :ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ﴾ [الزخرف ]٢٤ :كان جواهبم اإلنكار والرفض،
( )1امليداين ،ضوابط املعرفة وأصول االستدالل واملناظرة ،مرجع سابق ،ص.1٢9
( )٢اآللويس ،روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين ،مرجع سابق ،ج ،1٢ص .٣٥0وانظر أيض ًا:
-البقاعي ،نظم الدرر ،مرجع سابق ،ج ،٥ص.٢9٤
( )٣وقال تعاىل﴿ :ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾
[النحل ،]٢1-٢0 :وقال تعاىل يف السياق نفسه ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾ [الفرقان ،]٣ :وقال تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ
ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ
ﭯ ﴾ [احلج.]٧٣ :
٣٤1
لكل جديد مل يرثوه عن أسالفهم وتنطبع به عقوهلم وأفكارهم وسلوكاهتم ،قال تعاىل﴿ :ﭱ
ال وبرهان ًا قاب ً
ال للنقاش واجلدل. ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ﴾ [الزخرف ]٢٤ :ومل يكن معتمدهم دلي ً
٣٤٢
وقال تعاىل يف إقامة األدلة العقلية املحسوسة عىل وحدانيته ووجوده﴿ :ﭳ ﭴ ﭵ
ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ
ﮛ ﮜ ﮝ[ ﴾...النمل ]٦٤ -٥9 :وبعد إقامة األدلة عليهم ،طالبهم القرآن بالدليل ،قال
تعاىل﴿ :ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾ [النمل.]٦٤ :
وحيكي القرآن الكريم عىل منكري البعث ملا طلبوا الدليل﴿ :ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ
ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﴾ [اجلاثية ،]٢٥ :فأجاهبم القرآن إىل طلبهم وأقام
الدليل عىل ما طلبوا ،قال تعاىل ﴿ :ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ
ﮣ ﮤ ﮥ﴾ [اجلاثية.]٢٦ :
كام أنكر القرآن الكريم عىل من جيادل وحياور بغري دليل وال حجة وال سلطان،
﴿ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ
ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﴾ [غافر ،]٣٥ :وقال تعاىل ﴿ :ﮘ ﮙ ﮚ
ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ ﴾ [غافر،]٥٦ :
وقال تعاىل﴿ :ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ
( )1اآللويس ،روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٤9٣
٣٤٣
ﯷ﴾ [املؤمنون ]11٧ :يقول اآللويس يف قوله تعاىل﴿ :ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ﴾ " ...تنبيه ًا عىل
((1
أن التدين بام ال دليل عليه ممنوع فض ً
ال عام دل الدليل عىل خالفه".
فالقرآن الكريم حرص كل احلرص عىل هذا األصل وحتكيمه مع املخالف؛ ألن يف
إقامة احلجة والدليل عىل االدعاء بناء ،وهو مسلك صعب ،أما اإلنكار واإلعراض عن حجة
املخالف ،وحماولة إفسادها هدم ،وهو مسلك سهل ،يقول الراغب األصفهاين" :واعلم أن
سبيل إنكار احلجة والسعي إىل إفسادها أسهل من سبيل املعارضة بمثلها واملقابلة هلا ،وهلذا
يتحرى اجلدل اخلصيم أبد ًا بالدفاع ال املعارضة بمثلها ،وذلك أن اإلفساد هدم وهو سهل
((٢
واإلتيان بمثله بناء وهو صعب"...
ج -أصل نقض دعوى املخالف وتصحيحها بغري عنف:
من أجل اإلفهام يف املامرسة احلوارية اجلدلية ،والتقارب الفكري والثقايف واحلضاري،
ينبغي عذر املخالف ،والرد عليه دون طعن وال جتريح ،أو عنف أو إكراه ،ولو ظهر ملحاوره
أنه خمطئ؛ ألنه قد يكون مصيب ًا من وجه آخر ،فالقضايا االجتهادية التي تقبل االختالف،
وتباين اآلراء ،يصعب القطع واليقني فيها ،لذلك عىل املخالف العارض-للدعوى -أو
املعرض-عىل الدعوى -أن يقترص يف نظره عىل الدعوى ،بغض النظر عن املدعي ،والعمل
عىل التعاون إلنجاح املامرسة احلوارية.
واخلطاب القرآين يدعو إىل سلوك الطريق األحسن ،يف مقام احلوار ،واجلدل الفكري
واملعريف واحلضاري ،من غري عنف وال إكراه ،قال تعاىل﴿ :ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾ [فصلت (٣(،]٣٤ :ويقول تعاىل﴿ :ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ
ﮅﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾ [اإلرساء ،]٥٣ :وقال اهلل عز وجل
لنبيه ﴿ :ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ
٣٤٤
ﮟ﴾[احلج ،]٦9-٦8 :وقال تعاىل يف توجيه نبيه ،وتوجيه كل الدعاة ومفكري اإلسالم:
﴿ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ
ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ﴾ [النحل.]1٢٥ :
وقال تعاىل يويص نبيه بعدم العنف ،والشدة مع املنافقني ،واالقتصار عىل اإلعراض،
والوعظ ،والقول البليغ ﴿ :ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ
ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﴾ [النساء ]٦٣ :يقول الطري يف قوله تعاىل﴿ :ﮘ ﮙ
ﮚ﴾ "يقول :فدعهم فال تعاقبهم يف أبداهنم وأجسامهم ،ولكن عظهم بتخويفك
ِ
مكروه ما هم عليه من إياهم بأس اهلل أن حيل هبم ،وعقوبته أن تنزل بدارهم ،وحذرهم من
الشك يف أمر اهلل وأمر رسوله ﴿ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ﴾ يقول :مرهم باتقاء اهلل
((1
والتصديق به وبرسوله ووعده ووعيده".
فاخلطاب القرآين يوجه البرشية إىل تدبري االختالف من خالل أصل نقض دعوى
املخالف من غري عنف وال إساءة لصاحبها ،سواء كان املخالف من أهل ملة اإلسالم أو
خارجها ،وقد وجدت نامذج ،وقصص حوارية يف تاريخ اإلسالم ،توضح كيف كان العلامء
يصححون ويردون عىل الدعاوى يف أدب جم ،واحرام رفيع ،من غري تسفيه وال تضليل
وال اهتام .يقول القرضاوي يف تعليقه عىل رسالة الليث بن سعد لإلمام مالك" (٢( :وإن
( )1الطري ،جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،مرجع سابق ،ج ،8ص.٥1٥
"وحمصل الرسالة أن مالك ًا أراد مجع
ّ ( )٢يقول احلجوي الثعالبي بعد إيراد حاجته من الرسالة ،وموضع الشاهد منها:
متسك برأيه ،وأن ما عليه أهل كل بلد الكلمة عىل عمل املدينة وحديث أهل احلجاز لقوته بام تقدَّ م ،لكن الليث َّ
له حجة وأصل.أما ما انتقده الليث من أقوال اإلمام فكله أجاب عنه أصحابه يف كتب الفقه واخلالفيات ،وليس
املحل الستقصاء ذلك ،وإنام ذلك الكتاب صورة من صور النزاع الذي كان واقع ًا يف هذا العرص ،وصورة من
أصول الفقه ".انظر:
-الثعالبي ،الفكر السامي ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٤٤٦
رسالة مالك ،إىل الليث بن سعد –رمحهام اهلل تعاىل ،-رواها عباس الدوري يف:
-ابن معني ،أبو زكريا حييى بن معني بن عون بن زياد املري .تاريخ ابن معني (رواية الدوري) ،حققه :أمحد
حممد نور سيف ،مكة املكرمة :مركز البحث العلمي وإحياء الراث اإلسالمي ،ط1٣99( ،1ه19٧9 /م)،
ج ،٤ص .٤8٧و ورواها يعقوب بن سفيان يف:
-الفسوي ،أبو عبد اهلل يعقوب بن سفيان بن جوان الفاريس .املعرفة والتاريخ ،حتقيق :أكرم ضياء العمري،
بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط1٤01( ،٢ه1981/م) ،ج ،1ص.٦8٧
٣٤٥
من املؤسف اليوم ،أن نجد من بني املشتغلني بالدعوة إىل اإلسالم ،من يشهر سيف الذم
والتجريح لكل من خيالفه ،مته ًام إياه بقلة الدين ،أو باتباع اهلوى ،أو باالبتداع واالنحراف،
أو بالنفاق ،وربام بالكفر (1(."...ويقول احلجوي الثعالبي عن هذه الرسالة عند ترمجة الليث
بن سعد" :حماورة علمية ،وهو أحسن مثال ألفكار كبار هذا العرص وأدهبم ،واحرام بعضهم
((٢
ألفكار بعض".
وقد كان علامء اإلسالم ملتزمني هبذا األصل ،فكانوا يناظرون املخالف من غري أن
يؤدي ذلك إىل اإلساءة إليه ومقاطعته ،يقول يونس بن عبد األعىل الصديف –وهو تلميذ
الشافعي -عن الشافعي واصف ًا مدى استيعابه هلذا األصل" :ما رأيت أعقل من الشافعي،
ناظرته يوم ًا يف مسألة ،ثم افرقنا ،ولقيني ،فأخذ بيدي ،ثم قال :يا أبا موسى ،أال يستقيم أن
نكون إخوان ًا وإن مل نتفق يف مسألة" (٣(،ويقول تلميذه اآلخر حممد بن عبد احلكم" :وما زال
العلامء قدي ًام وحديث ًا ،يرد بعضهم عىل بعض يف البحث والتواليف ،وبمثل ذلك يتفقه العامل،
((٤
وتترهن له املشكالت".
ّ
إن نقض دعوى املخالف بغري عنف وال إساءة ،له أثره الكبري يف تدبري االختالف
بني طريف النزاع ،فالكلمة الطيبة تؤلف ،وتط ّيب النفوس ،مما يفسح املجال يف الوصول إىل
اجلوامع املشركة بني املتحاورين ،كام أن الكلمة الطيبة تفعل فعلها يف املستمعني ،بينام الكلمة
اخلبيثة املنفعلة تو ّلد النفور والتشاحنّ ،
وحتول احلوار إىل شكل من أشكال املهاترات ،ويسود
االنفعال والغضب ،مما يعطل احلوار ،أو جيعله عديم الفائدة.
( )1القرضاوي ،الصحوة اإلسالمية بني االختالف املرشوع والتفرق املذموم ،مرجع سابق ،ص.٢٣٢
( )٢الثعالبي ،الفكر السامي ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٤٤0
( )٣الذهبي ،سري أعالم النبالء ،مرجع سابق ،ج ،10ص.1٦
ويقول العباس ال َعن َ ِْري يف املعنى نفسه عن أدب املناظرة بني أمحد بن حنبل وعيل بن املديني" :كنت عند أمحد
الشها َد ِة وارتفعت أصواهتام حتى خفت أن يقع بينهام عيل ب ُن ا َْمل ِدينِ ِّي راكب ًا عىل دابة ،قال :فتناظرا يف َّ
بن حنبل وجاءه ُّ
عيل االنرصاف قام أمحد فأخذ ِبركَابِ ِه ".انظر:
ٌّ أراد فلام ، فع
ُ ويدْ ى ب يأ
ٌّ َ وعيل ة
َ د ا
َ َ ه َّ
الش يرى جفا ٌء ،وكان أمحدُ
ابن عبد الر ،جامع بيان العلم وفضله ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.9٦8 -
( )٤الذهبي ،سري أعالم النبالء ،مرجع سابق ،ج ،1٢ص.٥00
٣٤٦
ح -أصل سالمة األسلوب وحسن البيان:
فسالمة لغة اخلطاب ،وحسن عرض األفكار ،أصل مهم يف املنهج اجلديل القرآين،
فاأللفاظ قوالب للمعاين ،مهمتها إيصال قصد املخاطِب للمخا َطب ،بطريقة سليمة،
جتعل طريف املناظرة يف توافق تام من الناحية اخلطابية ،بحيث يفهم كل منهام قصد مناظره.
وهذه سمة اخلطاب القرآين بصفة عامة ،يف خطابه للمجتمع البرشي ،وجتلت بصفة خاصة
يف خطاب األنبياء ألقوامهم ،وحماوراهتم بأسلوب سليم يوافق فهم املخاطب وعقله،
وترتيب األفكار ،وعرض هلا بطريقة واضحة ب ّينة ،يقول تعاىل أنه أرسل الرسل بلسان
أقوامهم من أجل التواصل والبيان﴿ :ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ
ﮞ﴾ [إبراهيم.]٤ :
وجاء يف دعاء سيدنا موسى لربه ،أن حيل العقدة من لسانه ليفهم خطابه ،قال تعاىل:
﴿ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﴾ [طه ،]٢8-٢٧ :ودعاؤه لربه أن يرسل معه أخاه هارون
لفصاحة لسانه ،قال تعاىل ﴿ :ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩﯪ ﯫ
ﯬ ﯭ ﯮ﴾ [القصص ،]٣٤ :وقال تعاىل عن سيدنا عيسى ﴿ :ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ
ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﴾ [الزخرف.]٦٣ :
٣٤٧
ث وجاء يف الصحيحني عن ُأ ّمنا عائشة ريض اهلل عنها ،قالت :إن النبي ﷺ كان ُ َ
"حيدِّ ُ
َح ِديث ًا َل ْو عَدَّ ُه ال َعا ُّد َألَ ْح َصا ُه" (1(،يقول بدر الدين العيني يف رشح هذا احلديث" :واملراد
بذلك املبالغة يف الرتيل والتفهيم" (٢(،فهو ﷺ كان ال يسع يف حديثه ليفهم املتلقي عنه،
وهي مبالغة يف اإلفصاح واإلبانة" ،ومنه (أي احلديث) يؤخذ أنه حيسن اإلبانة للحديث
((٣
واإلبالغ يف إفصاحه واألناة يف التحدث".
فاملجادل ُيطلب منه البيان يف العبارة؛ ألن األسلوب الواضح ،والعبارة الفصيحة هلا
تأثري عىل السامع ،وهلا دور كبري يف التخاطب ،فال يمكن فهم الرسالة إذا كان املضمون
غري واضح.
واملقصود هبذا األصل املنهجي :استخدام املجادل أساليب التعبري املناسبة ،التي
توصل الرسالة التي يريد املرسل أن يوصلها إىل املتلقي ،أثناء حواره معه ،وهذا يقتيض
عدم استخدام مفردات ،أو مجل ملتبسة الدالالت واملعاين ،مع االقتصاد يف التعبري
والكالم ،دون إجياز ّ
خيل باملعنى املقصود ،وال أن يذهب باملحاور إىل التطويل ،الذي جيلب
امللل ،وكثرة األخطاء ،وال استعامل األلفاظ الغريبة ،وال اجلمل املحتملة بال قرينة .وقد
نبه اجلويني إىل ذلك قائالً" :وال تورد يف كل موضع من الكالم إال قدر ما حيتاج إليه.
وهو نصيحة املشايخ – يقولون ألصحاهبم -اتفقوا يف املناظرات ،وإنام قيل ذلك؛ ألنه ربام
توردها هنا كالم ًا ال حتتاج إليه فيفسده اخلصم عليك يف غري موضعه ،فيصعب عليك العود
((٤
إليه يف موضع احلاجة".
( )1البخاري ،صحيح البخاري ،مرجع سابق ،كتاب :املناقب ،باب :صفة النبي ﷺ ،ج ،٤حديث رقم ( ،)٣٥٦٧ص،190
وانظر أيض ًا:
-مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :الزهد والرقائق ،باب :التثبت يف احلديث وحكم كتابة العلم،
ج ،٤حديث رقم ( ،)٧1ص.٢٢98
( )٢العيني ،عمدة القاري رشح صحيح البخاري ،مرجع سابق ،ج ،1٦ص.11٥
( )٣الصنعاين ،حممد بن إسامعيل بن صالح بن حممد الكحالين .التنوير رشح اجلامع الصغري للسيوطي ،حتقيق :حممد
إسحاق حممد إبراهيم ،الرياض :مكتبة دار السالم ،ط1٤٣٢( ،1هـ٢011/م) ،ج ،8ص.٥٥٣
( )٤اجلويني ،الكافية يف اجلدل ،مرجع سابق ،ص.٥٢٧-٥٢٦
٣٤8
خ -أصل التعاون عىل كشف احلقيقة وااللتزام هبا:
أصل التعاون عىل كشف احلقيقة وااللتزام هبا ،أصل منهجي يف تدبري االختالف العقيل
واملعريف بني الباحثني عن احلقائق ،يف كل احلوارات واملناقشات العلمية ،قصد املناظرة يف
اخلطاب القرآين هو الوصول إىل احلقائق العلمية ،وليست سفسطة فارغة.
األصل يف الرؤية القرآنية هو الوصول إىل احلقيقة عن طريق اإلقناع ،فجوهر العمليات
العقلية اجلدلية واحلجاجية ،إبطال دعوى ،وإثبات أخرى ،عن طريق التصحيح واإلبطال،
لذلك ينبغي لطريف املناظرة التسليم وااللتزام بالتعاون عىل طلب احلق ،وعدم النظر إىل
غريه ،وااللتزام به إذا ظهرت معامله ،فإذا حتقق هذا األصل العلمي حصل التوافق وتم
تدبري االختالف املعريف .فإن العقول املختلفة حتتاج إىل التعاون عىل كشف احلقائق ،كل
طرف ينظر من زاويته ليشارك غريه يف البناء املعريف ،ال الرصاع القائم عىل ال َّلدد يف اخلصومة
واملكابرة ،وعدم اإلذعان للحقيقة (1(.وإن العالقة التي تربط بني املتناظرين هي" :التعاون
((٢
من أجل الوصول إىل احلقيقة العلمية"...
وعليه؛ فإن هذا األصل املنهجي املعريف يف إدارته لالختالف ،ينبني عىل مقدمتني ،تنظم
مساره وحتكم وجهته :املقدمة األوىل :التعاون عىل كشف احلقيقة ،واملقدمة الثانية :االلتزام هبا.
جيب عىل الباحثني عن احلقائق االتفاق عىل التعاون عىل كشف احلقيقة وإظهارها،
بغض النظر عن اجلهة التي صدرت منها ،فبهذا التعاون يتحقق التوافق عىل املقصد والغرض
املشرك ،فإذا احتدت الغاية ،مل ترض الوسائل املوصلة إليها.
وقد جاءت آيات كثرية تدل عىل هذا املعنى ،ومنها خطاب األنبياء ألقوامهم؛ إذ
خاطبوا أقوامهم ودعوهم إىل احلق واخلري والرشاد ،ونفوا عن أنفسهم ابتغاء غري احلق ،من
األغراض الدنيوية الزائلة ،بل كانت وجهتهم احلق يف حواراهتم ومناظراهتم ألقوامهم ،قال
( )1انظر( :املائدة( ،)110 :األنعام( ،)٢٥ :احلج( ،)٥٥ :الروم.(٥8 :
( )٢رفيع ،ضوابط االستدالل يف اجلدل واملناظرة أصول وضوابط ،مرجع سابق ،ص.٥1
٣٤9
تعاىل عىل لسان أنبيائه﴿ :ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ﴾ [األنعام،]90 :
وقال تعاىل ﴿ :ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬﯭ ﯮ ﯯ﴾ [هود،]٥1 :
وقال تعاىل ﴿ :ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ﴾
[يونس ،]٧٢ :وقال تعاىل ﴿ :ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ﴾
((1
[سبأ.]٤٧ :
فهم يدعون أقوامهم للحوار مستعدين لقبول احلق إن كان مع غريهم ،وهي حقيقة
أقرها القرآن الكريم يف خطابه لرسول اإلسالم حممد ﷺ ﴿ :ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ
ﮒ﴾ [الزخرف ،]81 :وإن مل يكن يف القرآن كله إال هذه اآلية ،يف الداللة عىل االستعداد
للتعاون عىل احلق ،والتنزه عن طلب غريه لكفتنا.
فهذه اآليات وغريها يف القرآن الكريم ،ترشدنا إىل أصل االلتزام بالتعاون عىل طلب
احلق ،والتنزه عن طلب غريه ،يقول الباجي" :ويقصد بنظره طلب احلق والوكالة عليه،
ليدرك مقصوده وحيوز أجره ،وال يقصد به املباهاة واملفاخرة فيذهب مقصوده ويكتسب إثمه
ووزره" (٢(،وهذا االلتزام أمر رضوري ملجلس املناظرة ،من أجل تصحيح النوايا واالبتعاد
عن كل املقاصد التي مل توضع املناظرة لتحصيلها ،من مباهاة ،أو أموال ،أو جاه ،أو مناصب.
وهذا املعنى جتىل بوضوح يف أول خالف سيايس بني املسلمني .يقول أبو زهرة بعد
حكاية قصة احلوار واجلدل الذي دار بني املهاجرين واألنصار ،حول َمن املستحق للخالفة
بعد رسول اهلل ﷺ ،حيث كان اإلخالص يف طلب احلق قصد الفريقني" :وقد كانت روح
الدين تسود املتجادلني ،واإلخالص كان يسيطر عىل الفريقني ،ولذلك انتهى اخلالف
ً ((٣
وشيكا".
فاملوقف الصحيح ،هو الوقوف مع احلقيقة ،ورفض الباطل بكل أنواعه ،يقول حممد
فضل اهلل يف سياق كالمه عىل رفض اجلدل بالباطل طريق ًا لطلب احلق" :بل املوقف هو
موقف الرصاع بني احلق والباطل من أجل الوقوف مع احلق بجميع جماالته ضد الباطل
( )1انظر( :الشعراء( ،)180 ،1٦٤ ،1٢٧ ،109 :يوسف( ،)10٤ :الفرقان( ،)٥٧ :ص.(8٦ :
( )٢الباجي ،املنهاج يف ترتيب احلجاج ،مرجع سابق ،ص.9
( )٣أبو زهرة ،تاريخ اجلدل ،مرجع سابق ،ص.9٤
٣٥0
بجميع مظاهره ومواقعه .ولذا ،فإن إقرار أي باطل يف أي موقع من املواقع ُيعدّ خيانة ملعركة
الرصاع بني احلق والباطل ،فنحن مع احلق الذي يملكه اخلصم يف نطاقه اخلاص ،بنفس القوة
((1
التي نكون فيها ضد الباطل الذي يعيش يف حياتنا يف بعض حلظات االنحراف".
ويقول تعاىل عن رصاع احلق مع الباطل ﴿ :ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯ
ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ﴾ [الرعد ،]1٧ :وقال تعاىل﴿ :ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﮞ
ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ﴾ [اإلرساء.]81 :
وقد شبه القرآن الكريم احلق والباطل بالشجرتني ،وقارن بينهام من حيث اآلثار ،قال
تعاىل ﴿ :ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ
ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ
ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ﴾ [إبراهيم ]٢٦-٢٤ :يقول دراز:
"هذا التشبيه ينطبق عىل الصدق والكذب العمليني ،كام ينطبق عليهام نظريني ،فالفضيلة
املؤثرة خصبة نافعة تنمي قيمتنا ،وترفعنا من ٍ
عال إىل أعىل ،والرذيلة قبيحة ،وبال غد ،جتعلنا
((٢
سطحيني مبتذلني ،بل إهنا تنزعنا من اإلنسانية".
قضية احلوار واجلدل بالتي هي أحسن ليست رصاع ًا بني طريف احلوار ،يسعى كل منهام
للتغلب عىل خصمه ،بكل الطرق والوسائل وإن مل تكن مرشوعة ،وليست وسيلة لتحصيل
ما ليس من مقاصدها ،بل جوهر قضية احلوار التعاون عىل طلب احلق ،فاحلقيقة ال يمكن
التوصل إليها بوجهة نظر واحدة ،فمن أدرك وجه ًا للحقيقة غابت عنه وجوهها األخرى،
فينبغي عىل طريف املناظرة االهتامم باحلقيقة ال بمن صدرت عنه.
يقول الشافعي" :ما ناظرت أحد ًا قط إال أحببت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه
((٣
رعاية من اهلل وحفظ ،وما ناظرت أحد ًا إال ومل أبال َّبني اهللُ ّ
احلق عىل لساين أو لسانه".
وبذلك يكون كل من املتناظرين قد تعاونا عىل احلقيقة ،فكل واحد منهام قد بذل جهده من
أجلها ،ولوال الطرف الثاين ما استطاع طرف وحده الوصول إىل احلقيقة.
( )1فضل اهلل ،احلوار يف القرآن :قواعده ،أساليبه ،معطياته ،مرجع سابق ،ص.٦0
( )٢دراز ،دستور األخالق يف القرآن ،مرجع سابق ،ص.٢٥8-٢٥٧
( )٣األصبهاين ،حلية األولياء وطبقات األصفياء ،مرجع سابق ،ج ،9ص.118
٣٥1
-قبول احلق من املخالف واإلذعان له:
االلتزام باحلقيقة بعد التعاون عىل كشفها ،وظهورها ،مقدمة ثانية رضورية ،وإال كان
البحث عن احلقيقة بال جدوى ،فإن املخالف ينبغي أن يكون قصده هو االلتزام باحلق،
أينام ظهر ،وعىل أي لسان صدر ،ال كام قال املرشكون ﴿ :ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ
ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ﴾ [األنفال ]٣٢ :فمنطق
املامرسة اجلدلية القرآنية يقتيض أن يكون جواهبم :اللهم إن كان هذا هو احلق ،الذي د َّلت
عليه احلجج والراهني ،اهدنا له ،وأرشدنا إليه.
جيب قبول احلق من املخالف ولو كان دونك عل ًام أو سن ًا أو منزلة ،ويف ذلك أرشد القرآن
إىل أن ابن آدم األول تع ّلم من غراب كيف يواري سوأة أخيه ،كام أن سليامن عليه السالم تع ّلم
من اهلدهد ما مل يكن يعلمه ﴿ :ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ﴾ [النمل.]٢٢ :
فقد كان منهج طلب ومناشدة احلق ،وجهة رسول اهلل ﷺ ،فكان إذا قام من الليل
ض، ات َو ْاألَ ْر ِ َائ َيل ،وإِرسافِ َيلَ ،فاطِر السامو ِ يفتتح صالته قائالً" :اللهم رب جر ِائ َيل ،و ِميك ِ
َ َّ َ َ َ َْ َ ُ َّ َ َّ َ ْ َ
ف فِ ِيه ِم َن ونْ ،اه ِد ِين َملِا ْ
اخت ُِل َ اد َك فِ َيام كَانُوا فِ ِيه َ ْ
خيت َِل ُف َ ني ِعب ِ
ْت َ ْحتك ُُم َب ْ َ َالش َها َد ِةَ ،أن َ ِ
امل ا ْل َغ ْي ِ
ب َو َّ َع َ
ِ ٍ ((1 احل ِّق بِإِ ْذنِ َك ،إِن ََّك َهت ِدي من ت ََشاء إِ َىل ِرص ٍ
فحري بكل مسلم صادق ،أن جيأر ٌّ اط ُم ْستَقيم"، َ ُ َ ْ ْ َْ
هبذا الدعاء يف كل وقت وحني.
وجاء يف رسالة سيدنا عمر بن اخلطاب إىل الصحايب اجلليل أيب موسى األشعري :
حل َّقَّ ،
فإن ِ ِ وه ِد َ ِ ِ "ال يمن ُع ُك قضاء قضيته
يت فيه لرشدك ،أن ت َُراج َع ا َ باألمس ،راج ْع َت فيه نفسكُ ،
خري من التَّامدي يف الباطِ ِل" (٢(،فهذا توجيه أمري من أمراء املسلمني ومراجع َة ا َ
حل ِّق ٌ َ قديم،
حل َّق ٌا َ
ألحد أتباعه ،بأن يكون اتّباع احلق وجهته ،ال حييد عنها.
( )1مسلم ،صحيح مسلم ،مرجع سابق ،كتاب :صالة املسافرين وقرصها ،باب :الدعاء يف صالة الليل وقيامه ،ج،1
حديث رقم ( ،)٧٧0ص.٥٣٤
( )٢الدارقطني ،أبو احلسن عيل بن عمر بن أمحد .سنن الدارقطني ،حققه وضبط نصه وعلق عليه :شعيب االرنؤوط وحسن
عبد املنعم شلبي وعبد اللطيف حرز اهلل وأمحد برهوم ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط1٤٢٤( ،1ه٢00٤/م) ،كتاب يف
األقضية واألحكام وغري ذلك ،كتاب عمر إىل أيب موسى األشعري ،ج ،٥حديث رقم ( ،)٤٤٧1ص.٣٦٧
٣٥٢
وسأل رجل علي ًا عن مسألة ،فقال فيها ،فقال الرجل :ليس كذلك يا أمري املؤمنني،
وفوق ِّ
كل ذي علم عليم" (1(،فهذا أمري املؤمنني وأخطأت َ
ُ "أصبت
َ ولكن كذا وكذا ،فقال عيل :
مل يمنعه علمه وفضله وسلطته من اخلضوع للحق وقبوله ،ولو جاء عىل لسان أحد أفراد األمة.
ويقتيض منطق البحث عن احلقيقة ،تق ُّبل احلق من املخالف إذا د َّلت عليه الراهني،
وليس التعصب للرأي ،فالدخول يف اجلدل واملناظرة ،يعني البحث عن احلقيقة وليس
برش احلق سبحانه عباده الذين يتبعون أحسن األقوال وليس أضلها ،قال
ضياعها ،لذلك َّ
تعاىل﴿ :ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖ ﯗ
ﯘ﴾ [الزمر.]18-1٧ :
وتأكيد ًا هلذا األصل يقول اجلويني" :فال أنفة يف قبول احلق واالنقياد له بأحسن
الوجوه ،فإن الرجوع إىل احلق خري من التامدي يف الباطل" (٢(،ويقول الباجي تنبيه ًا للمناظر
عىل قبول احلق إذا ظهر" :وإذا بان له احلق أذعن له وانقاد إليه ،فإن الغرض بالنظر إصابة
احلق" (٣(،وقد كان غرض علامء ومفكري اإلسالم ،إصابة احلق ال إصابة أغراض دنيوية
من مال أو شهرة أو سلطة .يقول الشافعي" :وددت أن اخللق تعلموا هذا العلم ،عىل أن ال
ينسب إ َّيل حرف منه" (٤(،فهذا قمة اإلخالص يف طلب احلق.
وقد أنكر أهل الكتاب احلق ،ومل يعرفوا به ألحد؛ إذ جعلوه يف جهتهم فقط ﴿ ﯧ
ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ
( (1ابن عبد الر ،جامع بيان العلم وفضله ،مرجع سابق ،ج ،1ص.٥٣1
( )٢اجلويني ،الكافية يف اجلدل ،مرجع سابق ،ص.٥٣٧
( )٣الباجي ،املنهاج يف ترتيب احلجاج ،مرجع سابق ،ص.10
( )٤النووي ،أبو زكريا حييى بن رشف بن مري .آداب العامل واملتعلم واملفتي واملستفتي وفضل طالب العلم ،طنطا :مكتبة
الصحابة ،ط1٤08( ،1هـ198٧/م) ،ص.٢9
"وقال (الشافعي) رمحه اهلل تعاىل :ما ناظرت أحد ًا قط عىل الغلبة ،ووددت إذا ناظرت أحد ًا أن يظهر احلق عىل يديه،
وقال :ما كلمت أحد ًا قط إال وددت أن يوفق ويسدد ويعان ،ويكون عليه رعاية من اهلل وحفظ ".انظر:
-املرجع السابق ،ص .٢9
وقال" :ما ناظرت أحد ًا فأحببت أن خيطئ ".انظر:
البغدادي ،كتاب الفقيه واملتفقه ،مرجع سابق ،ج ،٢ص.٥1 -
٣٥٣
ﯺ =﴾ [البقرة ،]111 :ويف السياق املوضوعي نفسه أنكر بعضهم ما عند
بعضهم ،وهم يعلمون أن ما عند كل طائفة منزل من اهلل ،قال تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ
ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ
ﭥ ﭦ ﭧ﴾ [البقرة.]11٣ :
وقال تعاىل يف شأن صدهم عن احلق ﴿ :ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ
ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ﴾ [آل عمران ،]99 :وقال تعاىل﴿ :ﮋ ﮌ
ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮝ
ﮞ﴾ [البقرة.]91 :
وإنكار احلق هذا أمر خطري هيدد مصري اإلنسان يف اآلخرة ،وتضيع بسببه احلقائق
يف الدنيا؛ إذ تنضم إىل اختالف اآلراء ،عوامل أخرى ،تستغل تباين األنظار واألفكار
للتنفيس عن أهواء باطنة ،ومن ثم ينقلب البحث عن احلقيقة إىل رضب من العناد ،ال
صلة له بالعلم البتة.
ولو جتردت النيات للبحث عن احلقيقة ،وأقبل روادها ،وهم ُبعداء عن طلب الغلبة
واحلسد والسمعة والرياسة ،لق ّلت أو انتهت املنازعات التي مألت التاريخ باألكدار
واملآيس ،ولذلك انص ّبت عناية السلف رمحهم اهلل تعاىل ،عىل ختليص النية من الشوائب عند
املناقشات واملناظرات" ،فإن احلق مطلوب والتعاون عىل النظر يف العلم وتوارد اخلواطر
مفيد ومؤثر" (1(،ويذكر للمناظرة رشوط ًا ،منها" :أن يكون يف طلب احلق كناشد ضالة،
ال يفرق بني أن تظهر الضالة عىل يده أو عىل يد من يعاونه ،ويرى رفيقه معين ًا ال خص ًام،
((٢
عرفه اخلطأ وأظهر له احلق".
ويشكره إذا ّ
كام أن رفض احلق بالتهويل والصياح ،وختجيل اخلصم يف موضع االعراض ،ليس من
اجلدل بالتي هي أحسن ،التي أمر هبا اخلطاب القرآين ،وليس ذلك من املروءة ،وال من طلب
((٣
احلق والنهي عن املنكر ،بل ذلك من اجلدل املذموم.
٣٥٤
ويقول الشاطبي يف املقدمة السابعة يف سياق تقرير أن الرسوخ يف العلم يمنع العامل
من أن خيالف ما علم به ،وحتقق عنده ،وإن وقع فعىل ثالثة أوجه :األول :جمرد العناد :وفيه
خمالفة مقتىض الطبع ّ
اجلبيل ،والغالب عىل هذا الوجه أن يقع بسبب اهلوى .والثاين :الفلتات
الناشئة عن الغفالت :وهذه ال ينجو منها برش .والثالث :اجلهل؛ بمعنى أنه ليس من أهل
((1
العلم وال الرسوخ فيه ،ومل َي ِرص له العلم وصف ًا أو كالوصف.
ويقول املحاسبي" :والذي يمنع من الفهم األنفة التي متنع من اخلضوع للحق،
وحب الغلبة التي تبعث عىل اجلدال ،واجلزع من التخطئة التي متنع من اإلذعان باإلقرار
بالصواب" (٢(،وهذا إبراهيم بن األشعث يسأل الفضيل بن عياض عن التواضع فيجيبه
((٣
َ
لزمك أن تقبله من ُه". قائالً" :أن ختضع للحق وتنْقا َد له مم ْن سمعت ُه ،ولو كان أجهل الناس
مما سبق نستنتج أن أصل التعاون عىل إظهار احلق ،وااللتزام به بعد ظهوره ،أصل
منهجي معريف لتدبري االختالف ،فإن املحاور رشيك يف إظهار احلق ،سواء ظهر احلق عىل
لسانك أو لسانه ،وأن القصد من املحاورة هو إظهار احلقيقة ،فإذا بانت بالدليل والرهان،
فال يمنع من االلتزام هبا مانع ،من عناد أو أنفة أو تعصب.
يف املامرسة اجلدلية ال بد من الوقوف عند نتيجة معينة؛ إذ ال يمكن اجلدل واحلوار إىل ما
توصال إليها ،وإقناع أحدمها
ال هناية ،وهذه النهاية قد تكون باقتناع املتناظرين بالنتيجة التي ّ
لآلخر ،وإن مل يقتنع أحد املتجادلني ،فإن له احلق يف البقاء عىل رأيه ،واملناظر مهمته اإلقناع،
وليس الفرض واإلكراه ،لذلك قال اهلل عز وجل لرسوله ﷺ ﴿ :ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ
ﯤﯥ ﯦ ﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯰ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶ
٣٥٥
ﯷ ﯸ ﯹ﴾ [الغاشية .]٢٦-٢1 :فمهمة املجادل البيان والتذكري ،والتصحيح واإلبطال
بالدليل والرهان ،وإقامة احلجة عىل املناظر ،وحماولة اإلقناع بكل الوسائل املرشوعة ،فإن
رفض اخلصم احلق جحود ًا ،أو مل يقتنع لعدم وضوح األدلة واحلجج عنده ،فإن له احلق يف
حتمل تبعات رأيه يف الدنيا واآلخرة .وهناك آيات قرآنية عديدة توضح
البقاء عىل رأيه ،مع ُّ
هذا األصل وتق ّعد له:
فهذه اآليات تدل بسياقها املوضوعي ،عىل مسؤولية املخالف ،وحقه يف البقاء عىل رأيه
بعد اجلدل واحلوار ،ومقارعة احلجة باحلجة ،فاهلداية والضالل بيد اهلل تعاىل ،هو الذي هيدي
إىل احلق بإذنه ،وطرفا اجلدال كل واحد منهام يتحمل مسؤولية رأيه.
( )1القرضاوي ،الصحوة اإلسالمية بني االختالف املرشوع والتفرق املذموم ،مرجع سابق ،ص.٢٤٧
٣٥٦
والتمسك به:
ُّ ذ -اإلشهاد عىل املبدأ واملوقف
أصل اإلشهاد عىل املبدأ ،منهج قرآين ،سلكه األنبياء ،والدعاة ،والصاحلون مع املخالفني
املعارضني للحق ،املرصين عىل الباطل ،مع جتيل احلق وهتافت الباطل ،وعدم االستمرار يف
جداهلم وحماججتهم؛ ملا يف ذلك من ضياع األوقات ،وفناء األعامر يف ما ال نفع فيه ،يقول
تعاىل لنبيه﴿ :ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ﴾ [آل عمران ]٢0 :يقول ابن عاشور" :فإن
((1
خاصموك خصام مكابرة فقل أسلمت وجهي هلل؛ أي اترك حماججتهم وال ترك دعوهتم".
ويف القرآن الكريم آيات تدل بسياقها املوضوعي عىل هذا األصل:
الكف عن جدال
ّ ويف حالة عدم االستجابة إىل هذه الدعوة املوحدة للبرشية ،يلزم
املخالف واإلشهاد عىل املوقف والتمسك به ،قال تعاىل ألهل الكتاب ﴿ (٤( :ﭪ ﭫ ﭬ
٣٥٧
ﭭﭮ ﭯﭰﭱﭲ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭾﭿ
ﮀ ﮁ ﮂﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ﴾ [آل عمران ]٦٤ :قال الزخمرشي ﴿" :ﭯ
ﭰ ﭱ ﭲ ﴾ مستوية بيننا وبينكم ،ال خيتلف فيها القرآن والتوراة واإلنجيل﴿ ،ﮄ
ﮅ﴾ عن التوحيد ﴿ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ﴾؛ أي لزمتكم احلجة فوجب عليكم
أن تعرفوا وتس ّلموا بأنّا مسلمون دونكم (1(".ونظريه قوله تعاىل﴿ :ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ
ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ﴾ [التوبة ،]1٢9 :وقال تعاىل﴿ :ﮇ ﮈ
[النحل: ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ﴾
،]8٣-8٢وقال تعاىل ﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ
((٢
ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ﴾ [النور.]٥٤ :
٣٥8
ومعنى اإلشهاد عىل املوقف واملبدأ ،هو بيانه وتوضيحه وتسجيله ،حتى ال يظن أن
املسلمني انقطعوا عن متابعة احلوار واجلدال لعوز احلجة والدليل" ،ومعنى هذا اإلشهاد
التسجيل عليهم؛ لئال يظهروا إعراض املسلمني عن االسرسال يف حماجتهم يف صورة
ْ
((1
العجز ،والتسليم بأحقية ما عليه أهل الكتاب ،فهذا معنى اإلشهاد عليهم بأنّا مسلمون".
فاهلل سبحانه وتعاىل يأمر سيدنا حممد ﷺ ،أن يدعو إىل الدين الذي رشعه لألنبياء
من قبله ،وأن يثبت عليه ،قال تعاىل ﴿ :ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀ ﰁ ﰂ ﰃ
ﰄﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ﴾ [الشورى ]1٥ :يقول الطري" :يقول
رشع لكم ،ووىص به نوح ًا ،وأوحاه إليك يا حممد ،فادع
تعاىل ذكره :فإىل ذلك الدين الذي َ َ
عباد اهلل ،واستقم عىل العمل به ،وال تزغ عنه ،واثبت عليه كام أمرك ربك باالستقامة،(٢(".
((٣
ويقول البيضاوي" :فادع إىل االتفاق عىل امللة احلنفية ،أو االتباع ملا أوتيت".
ويقول تعاىل يف االبتعاد عن النزاع واخلصام بعد ما تبني احلق املتفق عليه بالدليل
والرهان﴿ :ﰆ ﰇ ﰈ ﰉﰊ﴾ يقول البيضاوي ..." :ال حجاج بمعنى ال خصومة؛ إذ
((٤
احلق قد ظهر ومل يبق للمحاجة جمال ،وال للخالف مبدأ سوى العناد".
٣٥9
ر -أصل إفحام املخالف أو انقطاعه:
انقطاع املخالف أو عجزه عن مواصلة احلوار ،من أصول املنهج اجلديل ،التي تنهي
العملية الكالمية ،فانقطاع املخالف ،يعني أن احلجة تعوزه ،وليس معه ما يدفع به أدلة
اخلصم املناظر ،وحينها ال يبقى له سوى اإلذعان ألدلة خصمه ،والتسليم بنتائج احلوار" ،ال
خيفى أنه ال بد يف املناقشة أن تنتهي بعجز أحدمها عن دفع دليل اآلخر" (1(،فاحلوار يدور بني
املتحاورين "يف صورة مجلة مرتبة من الدعاوى فاالعراضات فاإلثباتات ،ثم االعراضات
متى لزم األمر" (٢(،وهو تعاون بني املحق واملبطل من املتحاورين" :حتى ينتهي احلوار إما
((٣
بالعجز عن اإلثبات ،أو العجز عن مزيد االعراض".
وهناك يف القرآن الكريم صور ونامذج حوارية تدل عىل هذا األصل املنهجي ،نتعرض
لبعضها بالتحليل والدراسة:
وقال تعاىل يف قصة إقامة سيدنا إبراهيم احلجة عىل النمرود﴿ :ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ
ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﴾ [البقرة (٥(]٢٥8 :فانقطع حني
٣٦0
ألزمه احلجة" (1(،فأبطل إبراهيم هذه الدعوى الباطلة التي هي كفر بواح بدليل مقتضاه:
أنت عاجز عن اإلتيان بالشمس من املغرب ،وكل عاجز عن ذلك فليس برب ،ينتج:
أنت لست برب ،فعارض دليله بدليل صحيح أنتج نقيض دعواه ،فصح بطالهنا بإثبات
نقيضها» ﴿ (٢(،ﮑ ﮒ ﮓ﴾ [البقرة" ]٢٥8 :فانقطع وخصم وحلقه البهت عند أخد احلجة
له (٣(».ويقول الشنقيطي يف قوله تعاىل﴿ :ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ﴾
" ..ريب يقدر عىل أن يأيت بالشمس من املغرب؛ أي كام أتى هبا من املرشق ،فيعكس بعكس
النقيض املوافق إىل الكرى ،والنمرود أيض ًا يس ّلمها ،فلهذا هبت"( ،(٤وأثنى اهلل تعاىل عىل
سيدنا إبراهيم فقال ﴿ :ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾ [األنعام.(٥(]8٣ :
واآلية خطاب إهلي فيه" :أمل تر إىل من عمي عن أدلة اإليامن ،وجادل إبراهيم خليل اهلل
يف ألوهية ربه ووحدانيته ،وكيف أخرجه غروره بملكه الذي وهبه ربه من نور الفطرة إىل
=املناظرة أن يراد هبا اهلل عز وجل ،وأن يقبل منها ما تبني .الثالثة :قالوا :ال تصح املناظرة ويظهر احلق بني املتناظرين
حتى يكونا متقاربني ،أو مستويني يف مرتبة واحدة من الدين والعقل والفهم واإلنصاف ،وإال فهو هراء ومكابرة".
انظر:
-القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٣ص(.٢8٧-٢8٦بترصف يسري).
( )1السعدي ،تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان ،مرجع سابق ،ج ،1ص ،9٥٥وانظر أيض ًا:
-أبو زهرة ،املعجزة الكربى القرآن نزوله ،كتابته ،مجعه ،إعجازه ،جدله ،علومه ،حكم الغناء به ،تفسريه ،مرجع
سابق ،ص.1٧8
( )٢الشنقيطي ،آداب البحث واملناظرة ،مرجع سابق ،ص.٢8٥
﴿ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ﴾ انظر ما قاله املؤلف يف قوله تعاىل:
[األنعام ،]٧٦ :ويف قوله تعاىل﴿ :ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ﴾ [األنبياء ]٢٢ :وغريمها مما جييل أصل إفحام املخالف،
وانقطاعه بإلزامه احلجة .انظر:
-املرجع السابق .ص.٢8٥
( )٣ابن عبد الر ،جامع بيان العلم وفضله ،مرجع سابق ،ج ،٢ص .9٥٤وانظر أيض ًا:
-القرطبي ،اجلامع ألحكام القرآن ،مرجع سابق ،ج ،٣ص.٢8٦
( )٤الشنقيطي ،آداب البحث واملناظرة ،مرجع سابق ،ص.٢٧٧
( )٥الغزايل ،القسطاس املستقيم ،ص.٤9
وانظر متام الكالم يف صورة امليزان الذي أقامه سيدنا إبراهيم عىل قومه يف هذه اآلية عند املؤلف:
املرجع السابق ،ص.٤9 -
٣٦1
ظالم الكفر ،فعندما قال له إبراهيم :إن اهلل حييي ويميت ،بنفخ الروح يف اجلسم وإخراجها
منه ،قال :أنا أحيي وأميت ،بالعفو والقتل ،فقال إبراهيم ليقطع جمادلته :إن اهلل يأيت بالشمس
فتحري وانقطع جدله من قوة احلجة من املرشق ِ
فأت هبا من املغرب ،إن كنت إهل ًا كام تدعي،
ّ
((1
املرصين املعاندين إىل اتباع احلق".
ّ التي كشفت عجزه وغروره ،واهلل ال يوفق
إنه ﷺ برش وال أحد من البرش ُأنزل عليه الكتاب ،فرد عليهم احلق سبحانه بام يفحمهم
ويلزمهم احلجة ،قال تعاىل﴿ :ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ﴾ [األنعام" ]91 :فبطل بذلك
إنكارهم لنبوة سيدنا حممد ﷺ ،فهو إبطال دليل بإثبات نقيضه ،عىل نحو الطرق املعروفة يف
((٢
املناظرة".
يالحظ أن القرآن الكريم يفحم املخالف ،ويقيم احلجة عليه ،و ُيلزمه إلزام ًا» ،ويالحظ
أن القرآن الكريم يف اجلدل الذي يلزم اخلصم ويفحمه جييئه يف اإلفحام من أقرب الطرق،
ويقول دراز عن طريقة إفحام القرآن» :فإن طبيعة استدالالته، ((٣
وأشدها إلزام ًا،"...
والطريقة التي يسوق هبا الدليل ،قد اختريت كلتامها عىل وجه يفحم أعظم الفالسفة دقة،
وأشد املناطقة رصامة ،يف الوقت الذي تلبى فيه أكثر املطالب واقعية ،كام تروق أرقى األذواق
((٤
الشعرية وأرقاها ،وأبسط املدارك وأقلها".
( )1جلنة من علامء األزهر ،املنتخب يف تفسري القرآن الكريم ،مرجع سابق ،ص.٦٢
( )٢الشنقيطي ،آداب البحث واملناظرة ،مرجع سابق ،ص.٢80-٢٧9
( )٣أبو زهرة ،تاريخ اجلدل ،مرجع سابق ،ص.٧٢
ّ
ويقول الدهلوي" :واختار سبحانه وتعاىل يف آيات املخاصمة إلزام اخلصم باملشهورات املسلمة ،واخلطابيات
النافعة ،ال تنقيح الراهني عىل طريقة املنطقيني "..انظر:
-الدهلوي ،الفوز الكبري يف أصول التفسري ،مرجع سابق ،ص.18
( )٤دراز ،دستور األخالق يف القرآن ،مرجع سابق ،ص.1٥
٣٦٢
خامتة:
هبذا املنهج احلواري اجلديل بأصوله التي ذكرناها؛ الكلية والتفصيلية ،يتحقق لنا تدبري
االختالف العلمي ،وذلك بالعمل عىل إدراك احلقائق املعرفية الصحيحة الصاحلة لالعتقاد
واإلعامل ،وإخضاعها للمامرسة والعمل بعد اعتقادها عىل مستوى التصور؛ ألنه ال إعامل
من دون تصور واعتقاد.
ّ
يتخىل املخالف عن وليس من مقاصد منهج اجلدل واحلوار يف اخلطاب القرآين ،أن
وإنام القصد هو التعارف ،والتفاهم ،والتبادل احلضاري، ((1
دينه ومعتقده وهويته،...
واستكشاف احلقائق ،واملساحة املشركة يف ميادين الفكر والثقافة ،ويف كل ميادين احلياة،
((٢
وبذلك حيصل التقارب ،والتآلف بني أفراد املجتمع اإلنساين.
تأسيس ًا عىل ما تقدم ،يصح القول :إن اخلطاب القرآين غني بالنصوص التي تشري إىل
أصول تدبري االختالف املنهجية ،وذلك من خالل صور املناظرات ،وكل أنواع املقابلة،
وتبادل الكالم ،من اجلدل إىل املناظرة إىل احلوار .هذا مع ما فيه من إشارات عظيمة ،إىل
اعتامد أسلوب احلكمة ،والقول احلسن يف الدعوة واملحاورة ،واحلث عىل اعتامد احلجة
والرهان ،مما جيعل من القرآن الكريم خطاب ًا لتدبري االختالف ،واالستقرار يف العالقات
اإلنسانية ،وقبول اآلخر ،واإلقرار بالتنوع واالختالف.
٣٦٣
اخلامتــة
يف خامتة هذه الدراسة أحب أن أذكّر باألسئلة البحثية التي قام عليها إشكال هذه
الدراسة ،لنحاول التذكري كذلك بإجاباهتا التي توصلت إليها الدراسة ،فالسؤال املركزي
الذي أثارته الدراسة هو :هل يمكننا نحن املسلمني أن نقدم لآلخر املوافق واملخالف،
جواب ًا حضاري ًا لفقه االختالف وتدبريه؟ أي هل يمكننا أن نقف يف األصل األول للترشيع
اإلسالمي؛ القرآن الكريم ،عىل معامل كرى لفهم فلسفة االختالف الديني واإلنساين،
وإدارته بحكمة نعرضها عىل املجتمع اإلنساين بدي ً
ال عن الرصاعات والنزاعات واحلروب
عمت عاملنا املعارص ،ونوضح هبا موقف الرسالة اإلسالمية الصحيحة من اآلخر، التي ّ
ونصحح هبا رؤية اآلخر لإلسالم واملسلمني ،ونصحح هبا معتقداتنا نحن املسلمني نحو
املخالف الداخيل واخلارجي ،ونراجع ونجدد عىل ضوئها فقه اآلخر يف تراثنا اإلسالمي؟
االختالف يف القرآن الكريم ،إرادة تكوينية ،حكم هبا سبحانه عىل اخللق ،وتفرد
ال من أدلة وجوده ،وجعل االختالف مركوز ًا
بالوحدانية ،وجعل االختالف آي ًة من آياته ،ودلي ً
يف فطر اخلالئق ،وجزء ًا من تكوينهم اخللقي ،خلقهم خمتلفني يف عقوهلم ومداركهم ،وميوالهتم
َ
الكون احلق سبحانه
النفسية ،وتركيباهتم البدنية ،وغريها مما يرجع إىل اختالف البنى ،كام جعل ّ
الذي يعيشون فيه خمتلف ًا يف ظواهره الطبيعية ،فكان االختالف يشمل الكوين واإلنساين.
ونسب اهلل تعاىل االختالف إىل نفسه ،ومل يذمه سبحانه إالّ إذا كان هادم ًا لالئتالف،
سواء االئتالف داخل الدائرة اإلسالمية ،أو الدائرة اإلنسانية؛ إذ جعل احلق سبحانه لكل
٣٦٥
دائرة جوامع يتم تدبري االختالف عىل وفقها ،والذم واقع عىل االختالف اهلادم لالئتالف،
املوقع يف التفرق والنزاع ،بمعنى االختالف الذي ال جامع له.
والقرآن الكريم راعى االختالف التكويني يف اإلنسان ،وفق رؤية متكاملة تقوم عىل
ثالثة مقومات :مقوم ترشيع أحكام تناسب أحوال الناس يف احلال والزمان واملكان ،ومقوم
ّ
حث الناس عىل االجتهاد واستعامل العقل يف قراءة نصوص الوحي وظواهر الكون ،ورفض
التقليد والتبعية من دون حجة وال برهان ،ومقوم وضع منهج إلدارة وتدبري هذا االختالف.
واشتمل القرآن الكريم عىل رؤية نظرية وتطبيقية ومنهجية لفقه االختالف وتدبريه،
وذلك بتقديمه ثالثة مداخل رئيسة لتدبري االختالف :عقدية وترشيعية ومنهجية .وتكمن
أمهية تدبري االختالف وفق الرؤية القرآنية ،يف توجيه االختالف الوجهة الصحيحة ،وإدارته
بحكمة ،كي ال ينحرف عن املنهج الذي رسمه القرآن الكريم ،وحيصد نتائج سلبية ،وآفات
خطرية ،نتيجة غياب التدبري.
ويف املدخل األول ركز القرآن الكريم عىل مستوى اإليامين واالعتقادي يف تدبري
االختالف الديني واإلنساين ،الديني بكون هذه األصول الكلية االعتقادية من أصول
الدين ،التي أمر اهلل تعاىل بإقامتها ،وعدم التفرق فيها ،وجعلها أرضية مشركة للوفاق
الديني ،واإلنساين بتقديمها ألويل بقية مقرح ًا للوفاق وتدبري االختالف ،فاإلنسانية اليوم
مطالبة -بحكم العقل -باتباع احلقائق اإليامنية.
ويف املدخل الثاين يقرح القرآن الكريم عىل اإلنسانية ،املدخل الترشيعي العميل لتدبري
االختالف ،ويعرض من خالله كليات مقاصدية وأصوالً عامة ،متثل املشرك اإلنساين لبناء
االئتالف ،واألرضية الوفاقية للتبادل احلضاري اإلنساين ،وهي أصول أخالقية مشركة،
تعطي اجلواب القرآين والبديل احلضاري للتعاون والتعارف ،واحلفاظ عىل السلم العاملي.
٣٦٦
فهذه املقاصد القرآنية ،والقيم اإلنسانية املشركة ،كفيلة بتدبري االختالف اإلنساين،
حتقيق ًا ملقاصد رشعية ،ومصالح إنسانية ،وربط ًا جلسور التواصل والتبادل الفكري والثقايف،
وتكريس ًا للسلم والعدل واملساواة والشورى ،وتبشري ًا بمجتمع إنساين يؤمن باالختالف،
ويعرف باحلق فيه .وال شك أن رفض التعاون والتعارف مع املخالف عىل أساس هذه
األرضية املشركة ،هيدم إنسانية اإلسالم ،وعاملية دعوته.
ويف املدخل الثالث يقرح القرآن الكريم منهج احلوار واجلدل بالتي هي أحسن،
منهج ًا للتبادل املعريف والتحقيق العلمي ،ومساعدة اإلنسان عىل التوصل إىل احلقائق
اليقينية ،بوضع أصول عاصمة للعقل من االنحراف ،وللنفس والغرائز من الزيغ ،وهو
منهج سلكه األنبياء- ،وعىل رأسهم حممد بن عبد اهلل ﷺ -يف تدبري االختالف مع أقوامهم،
وكان منهج ًا ناجع ًا يف دعوة املخالف إىل رسالة السامء ،إىل املشرك العقدي والترشيعي.
كام أن ما يمكن استخالصه من املنهج اجلديل القرآين بعد حتديد أصوله وقواعده
الكلية والتفصيلية ،هو االعراف باملخالف؛ ألنه ال حديث عن منهج اجلدل واملناظرة إال
باالعراف باملخالف ،ومتكينه من حقه يف إبداء الرأي والتعبري عنه ،وحقه يف االعراض
والنقد ،وهذا ما جيعل املخالف رشيك ًا ملخالفه ،ومتعاون ًا معه يف الكشف عن احلقائق بكل
حرية واختيار.
وهذا املنهج الذي أسسه اخلطاب القرآين -منهج اجلدل واملناظرة -مل يبتعد عنه
كثري ًا علام ُء اإلسالم ومفكّروه ،فقد جاء تراثنا العلمي واملعريف ،الذي أنتجه علامء اإلسالم
ومفكّروه ،بمذاهبهم الفقهية املتعددة ،ومدارسهم العقدية املتنوعة ،ومنازعهم الفكرية
املختلفة ،ومشارهبم السياسية املتغايرة ،غني ًا بالضوابط والقواعد املنهجية التي تدير
حصن هذا املنهج األمة
االختالف مع املخالف ،سواء كان داخل امللة أو خارجها .فقد َّ
من االختالف املذموم ،وزكّى اخلالف املحمود ،الذي هو عامل ثراء ونامء وتطور ،ومجع
طوائف األمة ،ومذاهبها ،ومناهجها عىل أرضية املؤتلف ،واإلعذار يف املختلف.
تلك هي حقيقة الرؤية القرآنية لقضية االختالف وتدبريه ،حسب ما توصلنا إليه ،ونسأل
اهلل تعاىل أن تكون هذه الدراسة مسامهة -إىل جانب ما ُقدِّ م يف هذا املوضوع -يف مرشوع الكلمة
٣٦٧
السواء التي يدعو إليها القرآن الكريم َّ
كل خمالف ،من أجل وحدة وألفة املجتمع اإلنساين ،عىل
أساس األصول املشركة التي يعرضها القرآن الكريم يف نظرية متكاملة.
وهبذه األصول املستنبطة من كتاب اهلل تعاىل ،يتم تدبري االختالف سواء مع أتباع
األديان الساموية التي تشرك يف أصول الدين مع اختالف الرشائع ،أو غريهم من معتنقي
الديانات غري الساموية ،أو الذين ال ينتسبون إىل أي دين ،أو يعتقدون منهج ًا فلسفي ًا أرضي ًا،
ما داموا ينتسبون إىل اإلنسانية.
هذه أصول جامعة وقواعد كلية لتدبري االختالف اإلنساين ،والوفاق املجتمعي ،بني
بني اإلسالم وبني اإلنسان ،مستنبطة من كتاب اهلل تعاىل "القرآن الكريم"؛ هذا الكتاب
املصدق واملهيمن عىل ما سبقه من الكتب الساموية ،واملناهج األرضية ،اشتمل عىل أصول
كرى قادرة عىل تدبري االختالف وبناء االئتالف.
ونسجل يف األخري أن هذه الدراسة ما هي إال اجتهاد ضمن االجتهادات العلمية التي
سبقتها ،والتي ستتلوها مستقبالً ،ملحاولة فهم قضية من أكر القضايا التي تشغل الفكر
اإلسالمي ،والفكر اإلنساين عموم ًا ،وهي قضية تدبري وإدارة االختالف حملي ًا وكوني ًا ،وما
توصلنا إليه من نتائج ما هي إال بداية لفهم إشكاالت هذه القضية ،ستتلوها بحول اهلل تعاىل
حماوالت لدعم مرشوع" :الكلمة السواء" و"االختالف يف إطار اجلوامع" ،ونقض مرشع:
"النزعة املركزية االستئصالية" و"الوقاحة اإلنكارية االستعالئية".
ويف األخري أعرض بعض املقرحات لبحوث حتتاج إىل جهد الباحثني ،أثارهتا هذه
الدراسة ،أقدمها كتوصيات:
٣٦8
املراجع
أوالً :املراجع العربية:
-آل تيمية ،عبد السالم وعبد احلليم وأمحد .املسودة يف أصول الفقه ،حتقيق :أمحد بن إبراهيم بن
عباس الذروي ،الرياض :دار الفضيلة ،ط1٤٢٢( ،1ه٢001/م).
-اآللويس ،شهاب الدين حممود بن عبد اهلل .روح املعاين يف تفسري القرآن العظيم والسبع املثاين،
حتقيق :عيل عبد الباري عطية ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤1٥ ،1ه.
-األبارة ،سمري مثنى عيل" .منهج القرآن يف تقرير محاية األفكار"( ،رسالة دكتوراه ،وزارة التعليم
العايل والبحث العلمي ،جامعة أم درمان اإلسالمية ،كلية الدراسات العليا ،مجهورية السودان،
1٤٣٤ه٢01٣/م).
-إسامعيل ،فاطمة إسامعيل حممد .القرآن والنظر العقيل ،هريندن :املعهد العاملي للفكر اإلسالمي،
ط1٤1٣( ،1ه199٣/م).
-اإلسنوي ،أبو حممد مجال الدين عبد الرحيم بن احلسن بن عيل .هناية السول رشح منهاج
الوصول ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤٢0( ،1ه1999/م).
-األشعري ،أبو احلسن عيل بن إسامعيل بن إسحاق .كتاب اللمع يف الرد عىل أهل الزيغ والبدع،
صححه وقدم له وع ّلق عليه :محودة غرابة ،القاهرة :مطبعة مرص19٥٥ ،م.
-األشعري ،أبو احلسن عيل بن إسامعيل بن إسحاق .مقاالت اإلسالميني واختالف املصلني،
حتقيق :حممد حميي الدين عبد احلميد ،بريوت :املكتبة العرصية1٤11( ،ه1990/م).
-األصبحي ،اإلمام مالك بن أنس .املدونة الكربى ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط،1
(1٤1٥ه199٤/م).
-األنصاري ،فريد .أبجديات البحث يف العلوم الرشعية ،سلسلة احلوار ( ،)٢٧اململكة املغربية،
الدار البيضاء :منشورات الفرقان ،ط1٤1٧( ،1ه199٧/م).
-األنصاري ،فريد ،الفجور السيايس واحلركة اإلسالمية يف املغرب دراسة يف التدافع االجتامعي،
القاهرة :دار السالم ،ط1٤٣٢( ،٢ه٢011/م).
-أومليل ،عيل .يف رشعية االختالف ،بريوت :دار الطليعة ،ط199٣ ،٢م.
-اإلجيي ،عضد الدين أبو الفضل عبد الرمحن بن أمحد بن عبد الغفار .كتاب املواقف ،حتقيق :عبد
الرمحن عمرية ،بريوت :دار اجليل ،ط199٧ ،1م.
٣٦9
-الباجي ،أبو الوليد سليامن بن خلف بن سعد التجيبي القرطبي .املنهاج يف ترتيب احلجاج،
حتقيق :عبد املجيد تركي ،بريوت :دار الغرب اإلسالمي ،ط198٧ ،٢م.
-الباقالين ،أبو بكر حممد بن الطيب بن حممد بن جعفر .االنتصار للقرآن ،حتقيق :حممد عصام
القضاة ،عامن وبريوت :دار الفتح ودار ابن حزم ،ط1٤٢٢( ،1ه٢001/م).
-الباقالين ،القايض أبو بكر حممد بن الطيب بن حممد بن جعفر .التمهيد يف الرد عىل امللحدة
واملعطلة واخلوارج واملعتزلة ،عُ ني بتصحيحه ونرشه :األب رترشد يوسف مكارثي الياسوعي،
بريوت :املكتبة الرشقية19٥٧ ،م.
-البخاري ،أبو عبد اهلل حممد بن إسامعيل اجلعفي .اجلامع املسند الصحيح املخترص من أمور
رسول اهلل ﷺ وسننه وأيامه( ،صحيح البخاري) ،حتقيق :حممد زهري بن نارص النارص ،بريوت:
دار طوق النجاة ،ط1٤٢٢ ،1ه.
-بدوي ،عبد الرمحن ،مناهج البحث العلمي ،الكويت :وكالة املطبوعات ،ط19٧٧ ،٣م.
-برغوث ،الطيب .منهج النبي ﷺ يف محاية الدعوة واملحافظة عىل منجزاهتا خالل الفرتة املكية،
سلسلة قضايا الفكر اإلسالمي ( ،)1٧هريندن ،املعهد العاملي للفكر اإلسالمي ،ط،1
(1٤1٦ه199٦/م).
-بروال ،أمحد .وبوزيدي ،سهام" .التعامل مع اآلخر يف الفكر اإلسالمي املعارص" ،جملة البحوث
والدراسات ،جامعة الوادي ،اجلزائر ،العدد٢01٢ ،)1٣( :م.
-بريبانتي ،رالف" .اإلسالم والغرب :تعاون أم صدام" ،جملة إسالمية املعرفة ،املعهد العاملي
للفكر اإلسالمي ،هرندن :الواليات املتحدة األمريكية ،العدد1٤٢1( ،)٢0( :ه٢000/م).
-البطليويس ،عبد اهلل بن حممد بن السيد .اإلنصاف يف التنبيه عىل املعاين واألسباب التي أوجبت
االختالف بني املسلمني يف آرائهم ،حتقيق :حممد رضوان الداية ،دمشق :دار الفكر ،ط،٣
(1٤0٧ه198٧/م).
-البغدادي ،أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن حممد .الفرق بني الفرق وبيان الفرقة الناجية
منهم ،عقائد الفرق اإلسالمية وبيان آراء كبار أعالمها ،دراسة وحتقيق :حممد عثامن اخلشن،
القاهرة :مكتبة ابن سينا( ،د .ت.).
-البغوي ،أبو حممد ،احلسني بن مسعود بن حممد .معامل التنزيل ،حققه وخرج أحاديثه :حممد
٣٧0
عبد اهلل النمر وعثامن مجعة ضمريية وسليامن مسلم احلرش ،الرياض :دار طيبة ،ط،٤
(1٤1٧ه/1997م).
-البقاعي ،أبو احلسن برهان الدين إبراهيم بن عمر بن حسن .نظم الدرر يف تناسب اآليات
والسور ،حتقيق :عبد الرزاق غالب املهدي ،بريوت :دار الكتب العلمية1415( ،ه1995/م).
-بلكا ،إلياس .الغيب والعقل دراسة يف حدود املعرفة البرشية ،هرندن :املعهد العاملي للفكر
اإلسالمي ،ط1429( ،1ه2008/م).
-البنا ،حسن .نظرات يف كتاب اهلل (تفسري الشهيد البنا) ،مجعه وحققه وعلق عليه :عصام تليمة،
القاهرة :دار التوزيع والنرش اإلسالمية1423( ،ه2002/م).
-بنت الشاطئ ،عائشة عبد الرمحن .التفسري البياين للقرآن الكريم ،القاهرة :دار املعارف ،ط،7
(د .ت.).
-البهي ،حممد .منهج القرآن يف تطوير املجتمع ،القاهرة :مكتبة وهبة ،ط1416( ،2ه1995/م).
-البوشيخي ،أمحد .اخلالف الفقهي :دراسة يف املفهوم واألسباب واآلداب ،كتاب املحجة (،)2
فاس :آنفو-برانت1424( ،ه2003/م).
-البوطي ،حممد سعيد رمضان .اجلهاد يف اإلسالم كيف نفهمه؟ وكيف نامرسه؟ بريوت ودمشق:
دار الفكر املعارص و دار الفكر ،ط1414( ،1ه1993/م).
-البوطي ،حممد سعيد رمضان .السلفية مرحلة زمنية مباركة ال مذهب إسالمي ،دمشق :دار
الفكر ،ط1431( ،14ه2010/م).
-البوطي ،حممد سعيد رمضان .كربى اليقينيات الكونية وجود اخلالق ووظيفة املخلوق ،دمشق
وبريوت :دار الفكر املعارص ،ط1982 ،8م.
-البيانوين ،حممد أبو الفتح .املدخل إىل علم الدعوة دراسة منهجية شاملة لتاريخ الدعوة وأصوهلا
ومناهجها وأساليبها ووسائلها ومشكالهتا يف ضوء النقل والعقل ،بريوت :مؤسسة الرسالة،
ط1415( ،3ه1995/م).
-البريوين ،أبو الرحيان حممد بن أمحد .اآلثار الباقية عن القرون اخلالية ،القاهرة :مكتبة الثقافة
الدينية ،ط1428( ،1ه2008/م).
-البيضاوي ،نارص الدين ،عبد اهلل بن عمر بن حممد بن عيل الشريازي .أنوار التنزيل وأرسار
التأويل ،حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه وضبط نصه :حممد صبحي بن حسن حالق .وحممود
٣٧1
أمحد األطرش ،دمشق وبريوت :دار الرشيد ومؤسسة اإليامن ،ط1421( ،1ه2000/م).
-البيهقي ،أبو بكر أمحد بن حسني بن عيل .مناقب الشافعي ،حتقيق :أمحد صقر ،القاهرة :مكتبة دار
الراث ،ط1390( ،1ه1970/م).
-الركي ،عبد اهلل بن عبد املحسن .أسباب اختالف الفقهاء ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط،3
(1431ه2010/م).
-الرمذي ،أبو عيسى ،حممد بن عيسى بن سورة .سنن الرتمذي (اجلامع الكبري) ،حتقيق :بشار
عواد معروف ،بريوت :دار الغرب اإلسالمي ،ط1998 ،1م.
-التلمساين ،أبو عبد اهلل بن قاسم العقباين .،كتاب حتفة الناظر وغنية الذاكر يف حفظ الشعائر
وتغيري املناكر ،حتقيق :عيل الشنويف ،دمشق :املعهد الثقايف الفرنيس1967 ،م.
-التهانوي ،حممد بن عيل بن القايض حامد بن حممد بن صابر احلنفي ،موسوعة كشاف اصطالحات
الفنون والعلوم ،تقديم وإرشاف ومراجعة :رفيق العجمي ،حتقيق :عيل دحروج ،نقل النص
الفاريس إىل العربية :عبد اهلل اخلالدي ،الرمجة األجنبية :جورج زيناين ،بريوت :مكتبة لبنان
نارشون ،ط1996 ،1م.
-التونجي ،عبد السالم .مؤسسة العدالة يف الرشيعة اإلسالمية ،طرابلس :منشورات كلية الدعوة
اإلسالمية ،سلسلة الفكر اإلسالمي ،ط1402( ،1ه1993/م).
-التونيس ،خري الدين باشا .أقوم املسالك يف معرفة أحوال املاملك ،حتقيق :حممد احلداد ،القاهرة
وبريوت :دار الكتاب املرصي ودار الكتاب اللبناين ،ط1433( ،1ه2012/م).
-التونيس ،حممد خليفة .اخلطر اليهودى بروتوكوالت حكامء صهيون ،ترمجة :عباس حممود
العقاد ،بريوت :دار الكتاب العريب ،ط1961 ،4م.
-ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .اقتضاء الرصاط املستقيم ملخالفة أصحاب اجلحيم،
حتقيق :نارص عبد الكريم العقل ،بريوت :دار عامل الكتب ،ط1419( ،7ه1999/م).
-ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،الرياض :وزارة
الشئون اإلسالمية واألوقاف والدعوة واإلرشاد ،ط1418 ،1ه.
-ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .اجلواب الصحيح ملن بدل دين املسيح ،حتقيق :عيل
بن حسن بن نارص عبد العزيز بن إبراهيم العسكر و محدان بن حممد احلمدان ،الرياض :دار
العاصمة ،ط1419( ،2ه1999/م).
٣٧٢
-ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .احلسبة يف اإلسالم "وظيفة احلكومة اإلسالمية"،
بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1977 ،1م.
-ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .خالف األمة يف العبادات ومذهب أهل السنة واجلامعة،
تقديم وتعليق :عثامن مجعة ضمريية ،الطائف :دار الفاروق ،ط1٤10( ،1ه1990/م).
-ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .درء تعارض العقل والنقل ،حتقيق :حممد رشاد سامل،
الرياض :جامعة حممد بن سعود ،ط1٤٤٤( ،1ه.(1991/
-ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .رفع املالم عن األئمة األعالم ،الرياض :الرئاسة العامة
إلدارة البحوث العلمية واإلفتاء والدعوة واإلرشاد ،اململكة العربية السعودية1٤1٣ ،ه.
-ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .جمموع الفتاوى ،حتقيق :عبد الرمحن بن حممد بن
القاسم ،املدينة املنورة :جممع امللك فهد لطباعة املصحف الرشيف1٤1٦( ،ه199٥/م).
-ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .مقدمة يف أصول التفسري ،بريوت :دار مكتبة احلياة،
(1٤00ه1980/م).
-ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .منهاج السنة النبوية ،دراسة وحتقيق :حممد رشاد سامل،
الرياض :جامعة حممد بن سعود ،ط1٤0٦( ،1ه198٦/م).
-ابن تيمية ،تقي الدين أمحد بن عبد احلليم .النبوات ،حتقيق :عبد العزيز الطويان ،الرياض:
أضواء السلف ،ط1٤٢0( ،1ه٢000/م).
-الثعالبي ،أبو زيد عبد الرمحن بن حممد بن خملوف املالكي .اجلواهر احلسان يف تفسري القرآن،
حتقيق :عيل حممد معوض وعادل أمحد عبد املوجود ،وشارك يف حتقيقه :عبد الفتاح أبو سنة،
بريوت :دار إحياء الراث العريب ومؤسسة التاريخ العريب ،ط1٤18( ،1ه199٧/م).
-اجلابري ،حممد عابد .قضايا يف الفكر املعارص :العوملة ،رصاع احلضارات ،العودة إىل األخالق،
التسامح ،الديمقراطية ونظام القيم ،الفلسفة واملدنية ،بريوت :مركز دراسات الوحدة العربية،
ط199٧ ،1م.
-اجلرجاين ،عيل بن حممد بن عيل .التعريفات ،حتقيق :مجاعة من العلامء بإرشاف النارش ،بريوت:
دار الكتب العلمية ،ط1٤0٣( ،1ه198٣/م).
-ابن جزي الكلبي ،أبو القاسم حممد بن أمحد بن حممد بن عبد اهلل .التسهيل لعلوم التنزيل ،عناية:
أبو بكر بن عبد اهلل سعداوي ،الشارقة :املنتدى اإلسالمي ،ط1٤٣٣( ،1ه٢01٢/م).
٣٧٣
-اجلصاص ،أبو بكر أمحد بن عيل الرازي .أحكام القرآن ،حتقيق :حممد صادق القمحاوي ،بريوت:
دار إحياء الراث العريب1٤0٥ ،ه.
-اجللعود ،حمامس بن عبد اهلل بن حممد .املواالة واملعاداة يف الرشيعة اإلسالمية ،الرياض :دار اليقني
للنرش والتوزيع ،ط1٤0٧( ،1ه198٧ /م).
-ابن اجلوزي ،أبو الفرج عبد الرمحن بن عيل بن حممد القريش البغدادي .تلبيس إبليس ،دراسة
وحتقيق :أمحد بن عثامن املزيد ،الرياض :دار الوطن ،ط1٤٢٣( ،1ه٢00٢/م).
-ابن اجلوزي ،أبو الفرج عبد الرمحن بن عيل بن حممد القريش البغدادي .زاد املسري يف علم
التفسري ،حتقيق :حممد زهري الشاويش وشعيب األرناؤوط وعبد القادر األرناؤوط ،بريوت:
املكتب اإلسالمي ،ط1٤0٤( ،٢ه198٤/م).
-اجلوهري ،أبو نرص إسامعيل بن محاد ،الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية ،حتقيق :أمحد
عبد الغفور عطار ،بريوت :دار العلم للماليني ،ط1٤0٧( ،٤ه198٧/م).
-اجلويني ،أبو املعايل إمام احلرمني عبد امللك بن عبد اهلل بن يوسف بن حممد .االجتهاد (من
كتاب التلخيص إلمام احلرمني) ،حتقيق :د .عبد احلميد أبو زنيد ،دمشق وبريوت :دار القلم
ودارة العلوم الثقافية ،ط1٤08 ،1ه.
-اجلويني ،أبو املعايل إمام احلرمني عبد امللك بن عبد اهلل بن يوسف بن حممد .اإلرشاد إىل قواطع
األدلة يف أصول االعتقاد ،حققه وعلق عليه وقدم له وفهرسه :حممد يوسف موسى وعيل عبد
املنعم عبد احلميد ،القاهرة :مكتبة اخلانجي1٣٦9( ،ه19٥0/م).
-اجلويني ،أبو املعايل إمام احلرمني عبد امللك بن عبد اهلل بن يوسف بن حممد .الربهان يف أصول
الفقه ،حتقيق :عبد العظيم الديب ،الدوحة :جامعة قطر ،ط1٣99 ،1ه.
-اجلويني ،أبو املعايل إمام احلرمني عبد امللك بن عبد اهلل بن يوسف بن حممد .الشامل يف أصول
الدين ،ح ّققه وقدم له :عيل سامي النشار وفيصل بدير عيون وسهري حممد خمتار ،اإلسكندرية:
مطبعة املعارف19٦9 ،م.
-اجلويني ،أبو املعايل إمام احلرمني عبد امللك بن عبد اهلل بن يوسف بن حممد .الكافية يف
اجلدل ،تقديم وحتقيق وتعليق :فوقية حسني حممود ،القاهرة :مطبعة عيسى احللبي ،ط،1
(1٣99ه19٧9/م).
-احلاكم ،أبو عبد اهلل حممد بن عبد اهلل بن محدويه الضبي النيسابوري .املستدرك عىل الصحيحني،
٣٧٤
حتقيق :مصطفى عبد القادر عطا ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤11( ،1ه1990/م).
-أبو حبيب ،سعدي .القاموس الفقهي لغة واصطالح ًا ،دمشق :دار الفكر ،ط،٢
(1٤08ه1988/م).
-ابن حجر ،أبو الفضل شهاب الدين أمحد بن عيل بن حممد العسقالين .فتح الباري رشح صحيح
البخاري ،ر َّقم كتبه وأبوابه وأحاديثه :حممد فؤاد عبد الباقي ،قام بإخراجه وصححه وأرشف
عىل طبعه :حمب الدين اخلطيب ،عليه تعليقات :عبد العزيز بن عبد اهلل ابن باز ،بريوت :دار
املعرفة1٣٧9 ،ه.
يب بن حممد .الفكر السامي يف تاريخ الفقه اإلسالمي ،بريوت:
-احلجوي ،حممد بن احلسن بن العر ّ
دار الكتب العلمية ،ط1٤1٦( ،1ه199٥/م).
-احلدري ،خليل بن عبد اهلل بن عبد الرمحن" .منهجية التفكري العلمي يف القرآن الكريم ،وتطبيقاهتا
الربوية ،يف املؤسسات اجلامعية املعارصة ،تصور مقرح"( ،رسالة دكتوراه ،جامعة أم القرى،
كلية الربية ،السعودية ،مكة املكرمة1٤٣٢ ،ه).
-ابن حزم ،أبو حممد عيل بن أمحد بن سعيد بن حزم الظاهري .اإلحكام يف أصول األحكام ،حتقيق:
أمحد حممد شاكر ،بريوت :دار اآلفاق اجلديدة ،ط1980 ،1م.
-ابن حزم ،أبو حممد عيل بن أمحد بن سعيد بن حزم الظاهري .رسائل ابن حزم ،حتقيق :إحسان
عباس ،بريوت :املؤسسة العربية للدراسات والنرش ،ط198٣ ،1م.
-ابن حزم ،أبو حممد عيل بن أمحد بن سعيد بن حزم الظاهري .الفصل يف امللل واألهواء والنحل،
حتقيق :حممد إبراهيم نرص ،عبد الرمحن عمرية ،بريوت :دار اجليل( ،د .ت.).
-ابن حسن ،نورة" .الظلم يف ضوء القرآن الكريم :حقيقته ،أنواعه ،أسبابه ،آثاره ،الوقاية منه"،
(رسالة دكتوراه ،كلية العلوم االجتامعية والعلوم اإلسالمية ،جامعة احلاج خلرض ،اجلزائر،
باتنة1٤٣0 ،ه٢009/م).
-احلطاب ،أبو عبد اهلل حممد بن حممد بن عبد الرمحن الرعينى .مواهب اجلليل يف رشح خمترص
خليل ،بريوت :دار الفكر ،ط1٤1٢( ،٣ه199٢/م).
-حقي ،أمحد معاذ علوان" .الفرق بني النبي والرسول :دراسة حتليلية" ،جملة كلية الدراسات
اإلسالمية والعربية ،اإلمارات العربية املتحدة ،ديب ،العدد (٢01٤ ،)٢8م.
٣٧٥
-محدان ،خالد حسني" .اإلقناع أسسه وأهدافه يف ضوء أسلوب القرآن الكريم :دراسة وصفية
حتليلية" ،مؤمتر الدعوة اإلسالمية ومتغريات العرص ،اجلامعة اإلسالمية بغزة ،كلية أصول
الدين1٤٢٦( ،ه٢00٥/م).
-احلموي ،أبو العباس أمحد بن حممد مكي .غمز عيون البصائر يف رشح األشباه والنظائر ،بريوت:
دار الكتب العلمية ،ط1٤0٥( ،1ه198٥/م).
-حنايشة ،عبد الوهاب حممود إبراهيم" .التفكري وتنميته يف ضوء القرآن الكريم"( ،رسالة
ماجستري ،جامعة النجاح الوطنية ،كلية الدراسات العليا ،نابلس ،فلسطني٢009 ،م).
-ابن حنبل ،أبو عبد اهلل أمحد بن حممد بن حنبل .مسند أمحد ،حتقيق :شعيب األرنؤوط وآخرون،
إرشاف :عبد اهلل بن عبد املحسن الركي ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط1٤٢1( ،1ه٢001/م).
-ابن احلنبيل ،أبو الفرج ناصح الدين .كتاب استخراج اجلدل من القرآن الكريم ،ضبط نصه
وخرج أحاديثه :حممد صبحي حسن حالق ،بريوت :مؤسسة الريان ،ط،1
َّ وعلق عليه
(1٤1٣ه199٢/م).
-احلواس ،حممد" .اإلصالح بني الناس يف القرآن الكريم" ،جملة تبيان للدراسات القرآنية ،اجلمعية
العلمية السعودية للقرآن الكريم وعلومه ،العدد (1٤٣٥ ،)1٥ه.
-حوى ،سعيد .املستخلص يف تزكية األنفس ،القاهرة :دار السالم ،ط1٤٢٤( ،10ه٢00٤/م).
-أبو حيان األندليس ،حممد بن يوسف بن عىل بن يوسف ابن حيان الغرناطي .تفسري البحر
املحيط ،حتقيق :عادل أمحد عبد املوجود وعيل حممد معوض ،بريوت ،دار الكتب العلمية لبنان،
ط1٤1٣( ،1ه199٣/م).
-احليدر آبادي ،حممد محيد اهلل .جمموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي واخلالفة الراشدة ،بريوت:
دار النفائس ،ط1٤0٧( ،٦ه198٧/م).
-اخلالدي ،حمسن" .هوى النفس :دراسة قرآنية موضوعية" ،جملة جامعة النجاح لألبحاث،
املجلد٢010 ،)٤( ٢٤ :م.
-اخلطيب البغدادي ،أبو بكر أمحد بن عيل بن ثابت .كتاب الفقيه واملتفقه ،حتقيق :عادل بن يوسف
العزازي ،الرياض :دار ابن اجلوزي ،ط1٤1٧( ،1ه199٦/م).
-اخلفيف ،عيل .أسباب اختالف الفقهاء ،القاهرة :دار الفكر العريب ،ط1٤1٦( ،٢ه199٦/م).
-ابن خلدون ،عبد الرمحن بن حممد بن حممد .مقدمة ابن خلدون ،حقق نصه وخرج أحاديثه وعلق
عليه :عبد اهلل حممد الدرويش ،دمشق :دار يعرب ،ط1٤٢٥( ،1ه٢00٤/م).
٣٧٦
-خليل ،عامد الدين .العقل املسلم والرؤية احلضارية ،الدوحة :دار احلرمني ،ط،1
(1٤0٣ه.(198٣/
-اخلملييش ،عبد اهلادي .السلم يف القرآن والسنة مرتكزاهتا ووسائل محايتها ،بريوت :دار ابن
حزم ،ط1٤٢9( ،1ه٢008 /م).
-اخلن ،مصطفى سعيد .أثر االختالف يف القواعد األصولية يف اختالف الفقهاء ،بريوت :مؤسسة
الرسالة ،ط1٤0٢( ،٣ه198٢/م).
-الدارقطني ،أبو احلسن عيل بن عمر بن أمحد .سنن الدارقطني ،حققه وضبط نصه وعلق عليه:
شعيب األرنؤوط وحسن عبد املنعم شلبي وعبد اللطيف حرز اهلل وأمحد برهوم ،بريوت:
مؤسسة الرسالة ،ط1٤٢٤( ،1ه٢00٤/م).
-الداعوق ،عمر وفيق" .مؤمنو أهل الكتاب ومكانتهم يف اإلسالم" ،جملة كلية الدراسات
اإلسالمية والعربية ،اإلمارات العربية املتحدة ،ديب ،العدد 1٤18( ،1٤ :ه199٧/م).
-أبو داود ،سليامن بن األشعث السجستاين .سنن أيب داود ،حتقيق :شعيب األرنؤوط وكامل قره
بليل ،بريوت :مكتبة الرسالة ،ط1٤٣0( ،1ه٢009/م).
-دراز ،حممد عبد اهلل .دستور األخالق يف القرآن ،تعريب والتحقيق والتعليق:
عبد الصبور شاهني ،مراجعة :السيد حممد بدوي ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط،10
(1٤18ه1998/م).
-دراز ،حممد عبد اهلل .الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ األديان ،الكويت وبريوت :دار القلم
والرشكة املتحدة للتوزيع والنرش ،ط19٧٣ ،1م.
-دراز ،حممد عبد اهلل .مدخل إىل القرآن الكريم عرض تارخيي وحتليل مقارن ،ترمجة :حممد عبد
العظيم عيل ،مراجعة :السيد حممد بدوي ،الكويت :دار القلم1٤0٤( ،ه198٤/م).
-دروزة ،حممد عزت .التفسري احلديث ،القاهرة :دار إحياء الكتب العربية ،ط،1
(1٣8٣ه19٦٤/م).
-الدهلوي ،أبو عبد العزيز أمحد بن عبد الرحيم اهلندي (شاه ويل اهلل) .اإلنصاف يف بيان
أسباب االختالف ،راجعه وعلق عليه :عبد الفتاح أبو غدة ،بريوت :دار النفائس ،ط،٣
(1٤0٦ه198٦/م).
٣٧٧
-الدهلوي ،أبو عبد العزيز أمحد بن عبد الرحيم اهلندي (شاه ويل اهلل) .حجة اهلل البالغة ،حققه
وراجعه :السيد سابق ،بريوت :دار اجليل ،ط1٤٢٦( ،1ه٢00٥/م).
-الدهلوي ،أبو عبد العزيز أمحد بن عبد الرحيم اهلندي (شاه ويل اهلل) .عقد اجليد يف أحكام
االجتهاد والتقليد ،تقديم :عبد اهلل السبت ،حتقيق :حممد عيل احللبي األثري ،الشارقة :دار
الفتح ،ط1٤1٥( ،1ه199٥/م).
-الدهلوي ،أبو عبد العزيز أمحد بن عبد الرحيم اهلندي (شاه ويل اهلل) .الفوز الكبري يف أصول
التفسري ،دمشق :دار الغوثاين للدراسات القرآنية ،ط1٤٢9( ،1ه٢008/م).
-الذهبي ،أبو عبد اهلل شمس الدين حممد بن أمحد بن عثامن بن قايامز .سري أعالم النبالء،
حتقيق :جمموعة من املحققني بإرشاف شعيب األرناؤوط ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط،٣
(1٤0٥ه198٥/م).
-الرازي ،زين الدين حممد بن أيب بكر الرازي .خمتار الصحاح ،حتقيق :يوسف حممد ،بريوت
وصيدا :املكتبة العرصية والدار النموذجية ،ط1٤٢0( ،٥ه1999/م).
-الرازي ،فخر الدين أبو عبد اهلل حممد بن عمر بن احلسن بن احلسني التيمي البكري .مفاتيح
الغيب (التفسري الكبري) ،بريوت :دار الفكر ،ط1٤01( ،1ه1981/م).
-الراغب األصفهاين ،أبو القاسم احلسني بن حممد بن الفضل .تفسري الراغب األصفهاين ،حتقيق
الش ِدي ،الرياض :دار الوطن ،ط1٤٢٤( ،1ه٢00٣/م). ودراسة :عادل بن عيل ِّ
-الراغب األصفهاين ،أبو القاسم احلسني بن حممد بن الفضل .تفصيل النشأتني وحتصيل
السعادتني ،بريوت :دار مكتبة احلياة198٣ ،م.
-الراغب األصفهاين ،أبو القاسم احلسني بن حممد بن الفضل .الذريعة إىل مكارم الرشيعة ،حتقيق:
أبو اليزيد أبو زيد العجمي ،القاهرة :دار السالم ،ط1٤٢8( ،1ه٢00٧ /م).
-الراغب األصفهاين ،أبو القاسم احلسني بن حممد بن الفضل .املفردات يف غريب القرآن ،حتقيق:
صفوان عدنان الداودي ،بريوت ودمشق :دار القلم والدار الشامية ،ط1٤1٢ ،1ه.
-ابن رشد (اجلد) ،أبو الوليد حممد بن أمحد بن رشد .املقدمات املمهدات ،بريوت :دار الغرب
اإلسالمي ،ط1٤08( ،1ه1988/م).
-ابن رشد (احلفيد) ،أبو الوليد حممد بن أمحد بن رشد .الكشف عن مناهج األدلة يف عقائد امللة،
بريوت :مركز دراسات الوحدة العربية ،ط1998 ،1م.
٣٧8
-ابن رشد (احلفيد) ،أبو الوليد حممد بن أمحد بن رشد .بداية املجتهد وهناية املقتصد ،رشح وحتقيق
وختريج :عبد اهلل العبادي ،القاهرة :دار السالم ،ط1٤1٦( ،1ه199٥/م).
-ابن رشد (احلفيد) ،أبو الوليد حممد بن أمحد بن رشد .فصل املقال فيام بني احلكمة والرشيعة من
االتصال ،دراسة وحتقيق :حممد عامرة ،القاهرة :دار املعارف ،ط( ،٢د .ت.).
-رضا ،حممد رشيد .تفسري القرآن احلكيم (تفسري املنار) ،القاهرة :اهليئة املرصية العامة للكتاب،
1990م.
-رضا ،حممد رشيد .الوحي املحمدي ،ثبوت النبوة بالقرآن ودعوة شعوب املدينة إىل اإلسالم دين
األخوة اإلنسانية والسالم ،القاهرة :مؤسسة عز الدين للطباعة والنرش ،ط1٤0٦ ،٣ه.
-الرفاعي ،عاطف إبراهيم املتويل" .احلكم وسياسة األمة يف القرآن الكريم :دراسة يف التفسري
املوضوع"( ،رسالة دكتوراه ،جامعة املدينة العاملية ،كلية العلوم اإلسالمية ،ماليزيا،
1٤٣٦ه٢01٥/م).
-رفيع ،حمامد" .األساس املقاصدي للنظام اجلنائي اإلسالمي وأثره يف حفظ العدالة اإلنسانية"،
جملة كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ،ظهر مهراز ،فاس املغرب ،العدد٢009 ،)1٦( :م.
-رفيع ،حمامد .اجلدل واملناظرة :أصول وضوابط ،بريوت :دار ابن حزم ،ط1٤٣0( ،1ه٢009/م).
-رفيع ،حمامد" .جدلية الربط بني السلب واإلجياب يف مفهوم العدالة من خالل كليات رسائل
النور" ،كتاب :العدالة ألجل عامل أفضل لإلنسانية ،املؤمتر العاملي للنوريس ،استانبول :مؤسسة
ستانبول للثقافة والعلوم ،ط1٤٢8( ،1ه٢00٧/م).
-رفيع ،حمامد" .ضوابط تدبري االختالف مع اآلخر يف أصول الراث اإلسالمي" ،جملة إسالمية
املعرفة ،املعهد العاملي للفكر اإلسالمي ،الواليات املتحدة األمريكية ،العدد،٥٢ :
(1٤٢9ه٢008/م).
-رفيع ،حمامد" .منهج القرآن يف بناء املشرك اإلنساين" ،جملة إسالمية املعرفة ،املعهد العاملي للفكر
اإلسالمي ،الواليات املتحدة األمريكية ،العدد (٢011 ،)٦٦م.
-رفيع ،حمامد .النظر الرشعي يف بناء االئتالف وتدبري االختالف :دراسة تأصيلية حتليلية ،القاهرة:
دار السالم ،ط1٤٣٣( ،1ه٢01٢/م).
-رفيع ،حمامد .النظر املقاصدي رؤية تنزيلية ،بريوت :دار السالم ،ط1٤٣1( ،1ه٢010/م).
٣٧9
-رفيع ،حمامد" .ضوابط تدبري االختالف مع اآلخر يف أصول الراث اإلسالمي" ،جملة إسالمية
املعرفة ،هريندن :املعهد العاملي للفكر اإلسالمي ،الواليات املتحدة األمريكية ،العدد،)٥٢( :
(1٤٢9ه٢008/م).
-الريسوين ،أمحد .األمة هي األصل مقاربة تأصيلية لقضايا الديمقراطية ،حرية التعبري ،الفن،
بريوت :الشبكة العربية لألبحاث والنرش ،ط٢01٢ ،1م.
-الريسوين ،أمحد .الكليات األساسية للرشيعة اإلسالمية ،القاهرة :دار الكلمة ،ط،1
(1٤٣٤ه٢01٣/م).
-الريسوين ،أمحد .مقاصد املقاصد :الغايات العلمية والعملية ملقاصد الرشيعة ،بريوت :الشبكة
العربية لألبحاث والنرش ومركز املقاصد للدراسات والبحوث ،ط٢01٣ ،1م.
-الريسوين ،أمحد .نظرية املقاصد عند الشاطبي ،بريوت :الدار العاملية للكتاب اإلسالمي ،ط،٢
(1٤1٢ه199٢/م).
-الزبيدي ،حممد بن حممد املرتىض .تاج العروس من جواهر القاموس ،حتقيق :جمموعة من
املحققني ،الكويت :دار اهلداية للطباعة والنرش والتوزيع19٦٥ ،م.
-الزحييل ،حممد مصطفى .القواعد الفقهية وتطبيقاهتا يف املذاهب األربعة ،دمشق :دار الفكر،
ط 1٤٢٧( ،1ه٢00٦/م).
-الزرقا ،أمحد .رشح القواعد الفقهية ،صححه وعلق عليه :مصطفى أمحد الزرقا ،دمشق :دار
القلم ،ط1٤09( ،٢ه1989/م).
-الزركيش ،أبو عبد اهلل ،بدر الدين حممد بن هبادر بن عبد اهلل الزركيش .املنثور يف القواعد الفقهية،
الكويت :وزارة األوقاف الكويتية ،ط1٤0٥( ،٢ه198٥/م).
-الزركيش ،أبو عبد اهلل ،بدر الدين حممد بن هبادر بن عبد اهلل .الربهان يف علوم القرآن ،حتقيق:
حممد أبو الفضل إبراهيم ،بريوت والقاهرة :دار إحياء الكتب العربية ومطبعة عيسى البايب
احللبي ورشكائه ،ط1٣٧٦( ،1ه19٥٧/م).
-الزخمرشي ،جار اهلل أبو القاسم حممود بن عمر .أساس البالغة ،حتقيق :حممد باسل عيون السود،
بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤19( ،1ه1998/م).
-الزخمرشي ،جار اهلل أبو القاسم حممود بن عمر .الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل،
٣80
وخرج أحاديثه وع ّلق عليه :خليل مأمون شيحا ،بريوت :دار املعرفة ،ط،٣
َّ اعتنى به
(1٤٣0ه٢009/م).
-ابن أيب زمنني ،أبو عبد اهلل حممد بن عبد اهلل بن عيسى املري .تفسري القرآن العزيز ،حتقيق:
عبد اهلل بن حسني عكاشة ،وحممد بن مصطفى الكنز ،القاهرة :الفاروق احلديثة ،ط،1
(1٤٢٣ه٢00٢/م).
-أبو زهرة ،حممد .تاريخ اجلدل ،بريوت :دار الفكر العريب ،ط1980 ،٢م.
-أبو زهرة ،حممد .زهرة التفاسري ،القاهرة :دار الفكر العريب( ،د .ت.).
-أبو زهرة ،حممد .املجتمع اإلنساين يف ظل اإلسالم ،جدة :الدار السعودية ،ط،٢
(1٤01ه1981/م).
-أبو زهرة ،حممد .نظرية احلرب يف اإلسالم ،القاهرة :املجلس األعىل للشؤون اإلسالمية ،ط،٢
(1٤٢9ه٢008/م).
-زيدان ،عبد الكريم .اخلالف يف الرشيعة اإلسالمية ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط،٢
(1٤08ه1988/م).
-زيدان ،عبد الكريم .السنن اإلهلية يف األمم واجلامعات واألفراد يف الرشيعة اإلسالمية ،بريوت:
مؤسسة الرسالة ،ط1٤1٣( ،1ه199٣/م).
-الزيلعي ،فخر الدين عثامن بن عيل الزيلعي .تبيني احلقائق رشح كنز الدقائق ،القاهرة :املطبعة
الكرى األمريية ،بوالق ،ط1٣1٣ ،1ه.
-زين ،سفري حممد" .آيات التوبة يف القرآن الكريم :دراسة موضوعية"( ،رسالة ماجستري ،جامعة
املدينة العاملية ،كلية العلوم اإلسالمية ،ماليزيا1٤٣٣ ،ه٢01٢/م).
-الزين ،حممود أمحد .حوار القرآن مع املخالفني :أصوله وأساليبه ،التدقيق اللغوي :رشوق حممد
سلامن ،إخراج :حميي الدين حسني يوسف ،ديب :دائرة الشؤون اإلسالمية والعمل اخلريي،
إدارة البحوث .ط1٤٣٢( ،1ه٢011/م).
-سامل ،عطية حممد .موقف األمة من اختالف األئمة ،املدينة املنورة :دار اجلوهرة ،ط1٤٢٦ ،1ه.
-السبحاين ،جعفر .اإلهليات عىل هدى الكتاب والسنة والعقل ،حترير :حسن حممد العاميل،
بريوت :الدار اإلسالمية للطباعة والنرش ،ط1٤10( ،1ه1990/م).
٣81
-السخيس ،أبو بكر شمس األئمة حممد بن أمحد بن سهل .املبسوط ،بريوت :دار املعرفة،
(1٤1٤ه199٣/م).
-السعدي ،عبد الرمحن بن نارص .تيسري الكريم الرمحن يف تفسري كالم املنان ،حتقيق:
عبد الرمحن بن معال اللوحيق ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط1٤٢0( ،1ه٢000/م).
-أبو السعود ،حممد بن حممد بن مصطفى العامدي .إرشاد العقل السليم إىل مزايا الكتاب الكريم،
حتقيق :عبد القادر أمحد عطا ،الرياض :مكتبة الرياض احلديثة( ،د .ت.).
-سعيد ،جودت .مذهب ابن آدم األول مشكلة العنف يف العمل اإلسالمي ،بريوت :دار الفكر
املعارص ،ط1٤1٤( ،٥ه199٣ /م).
-ابن سالم ،أبو عبيد القاسم بن سالم اهلروي األزدي .األجناس من كالم العرب وما اشتبه
يف اللفظ واختلف يف املعنى ،تصحيح :امتياز عيل عريش ،بريوت :دار الرائد العريب ،ط،1
(1٤0٣ه198٣/م).
-ابن سالم ،حييى بن سالم بن أيب ثعلبة .التصاريف تفسري القرآن مما اشتبهت أسامؤه وترصفت
معانيه ،قدمت له وحققته :هند شلبي ،عامن :مؤسسة آل البيت امللكية للفكر اإلسالمي،
(1٤٢9ه٢008/م).
-ابن سليامن ،أبو احلسن مقاتل بن سليامن البلخي .تفسري مقاتل ،حتقيق :أمحد فريد ،بريوت :دار
الكتب العلمية ،ط1٤٢٤( ،1ه٢00٣/م).
-السمرقندي ،أبو الليث نرص بن حممد بن أمحد بن إبراهيم .بحر العلوم ،حتقيق :حممود مطرجي،
بريوت :دار الفكر ( ،د .ت.).
-السمعاين ،أبو املظفر منصور بن حممد بن عبد اجلبار ابن أمحد املروزى .تفسري القرآن ،حتقيق :أبو
بالل غنيم بن عباس بن غنيم ،الرياض :دار الوطن ،ط1٤18( ،1ه199٧/م).
-السمني احللبي ،أبو العباس أمحد بن يوسف بن عبد الدايم .عمدة احلفاظ يف تفسري أرشف
األلفاظ ،معجم لغوي أللفاظ القرآن الكريم ،حتقيق :حممد باسل عيون السود ،بريوت :دار
الكتب العلمية ،ط1٤1٧( 1هـ199٦/م).
-السيوطي ،جالل الدين عبد الرمحن بن أيب بكر بن حممد .معجم مقاليد العلوم يف احلدود
والرسوم ،القاهرة :مكتبة اآلداب ،ط1٤٢٤( ،1ه٢00٤/م).
-السيوطي ،جالل الدين عبد الرمحن بن أيب بكر .الدر املنثور يف التفسري باملأثور ،بريوت :دار
الفكر. ،
٣8٢
-السيوطي ،جالل الدين عبد الرمحن بن أيب بكر .واملحيل ،جالل الدين حممد بن أمحد .تفسري
اجلاللني ،القاهرة :دار احلديث ،ط( ،1د .ت.).
-السيوطي ،جالل الدين عبد الرمحن بن أيب بكر .صون املنطق والكالم عن فني املنطق والكالم،
حتقيق :عىل سامي النشار وسعاد عيل عبد الرزاق ،القاهرة :سلسلة إحياء الراث اإلسالمي،
جممع البحوث اإلسالمية( ،د .ت.).
-الشاطبي ،أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن حممد اللخمي الغرناطي .االعتصام ،ضبطه
وصححه :أمحد عبد الشايف ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤08( ،1ه1988/م).
-الشاطبي ،أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن حممد اللخمي الغرناطي .املوافقات يف أصول
وخرج أحاديثه :عبد اهلل دراز ،وضع ترامجه :حممد عبد اهلل دراز ،خرج
َّ الرشيعة ،رشحه
آياته وفهرس موضوعاته :عبد السالم عبد الشايف حممد ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط،1
(1٤11ه1991/م).
-الشاعر ،أمحد عبد احلميد .القرآن الكريم يف مواجهة املاديني امللحدين ،الكويت :دار القلم ،ط،٢
(1٤0٢ه198٢/م).
-الشافعي ،أبو عبد اهلل حممد بن إدريس الشافعي املطلبي .الرسالة ،حتقيق :أمحد حممد شاكر،
القاهرة :مكتبة احللبي ،ط1٣٥8( ،1ه19٤0/م).
-الشافعي ،أبو عبد اهلل حممد بن إدريس .األم ،بريوت :دار املعرفة1٤10( ،ه1990/م).
-الرشبيني ،شمس الدين حممد بن أمحد اخلطيب .مغني املحتاج إىل معرفة معاين ألفاظ املنهاج،
بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤1٥( ،1ه199٤/م).
-شعث ،هتاين جر" .ألفاظ اجلهاد يف القرآن :دراسة داللية"( ،رسالة ماجستري ،جامعة األزهر،
غزة ،كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية (1٤٣٢ه٢011/م).
وخرج أحاديثه :أمحد عمر هاشم،
َّ -الشعراوي ،حممد متويل .تفسري (اخلواطر) ،راجع أصله
القاهرة :أخبار اليوم ،قطاع الثقافة والكتب واملكتبات( ،د .ت.).
-الشنقيطي ،حممد األمني .آداب البحث واملناظرة ،حتقيق :سعود العريفي ،الرياض وجدة :دار
عامل الفوائد وجممع الفقه اإلسالمي ،ط1٤٢٦ ،1ه.
-الشنقيطي ،حممد أمني .أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن ،بريوت :دار الفكر ،ط،1
(1٤1٥ه199٥/م).
٣8٣
-الشنقيطي ،حممد األمني .مذكرة يف أصول الفقه ،املدينة املنورة :مكتبة العلوم واحلكم ،ط،٥
٢001م.
-الشهرستاين ،أبو الفتح حممد بن عبد الكريم .امللل والنحل ،صححه وع ّلق عليه أمحد فهمي
حممد ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤1٣( ،٢ه199٢/م).
-الشوكاين ،حممد بن عيل .إرشاد الثقات إىل اتفاق الرشائع عىل التوحيد واملعاد والنبوات،
صححه وضبطه :جمموعة من العلامء بإرشاف النارش ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط،1
(1٤0٤ه198٤/م).
-الشوكاين ،حممد بن عيل .فتح القدير اجلامع بني فني الرواية والدراية من علم التفسري ،دمشق
وبريوت :دار ابن كثري ودار الكلم الطيب ،ط1٤1٤ ،1ه.
-الشريازي ،أبو إسحاق إبراهيم بن عيل بن يوسف .املهذب يف فقه الشافعي ،بريوت :دار الكتب
العلمية( ،د .ت.).
-الصغري ،عبد املجيد .فقه ورشعية االختالف يف اإلسالم ،مراجعات نقدية يف املفاهيم
واملصطلحات الكالمية ،القاهرة :دار رؤية ،ط٢011 ،1م.
-صليبا ،مجيل .املعجم الفلسفي ،بريوت :دار الكتاب اللبناين1٤0٢( ،ه198٢/م).
-الصنعاين ،أبو بكر عبد الرزاق بن مهام بن نافع احلمريي .مصنف عبد الرزاق ،حتقيق :حبيب
الرمحن األعظمي ،سيمالك داهبيل (اهلند) :املجلس العلمي ،ط1٤0٣ ،٢ه.
-الصنعاين ،عبد الرزاق بن اهلامم .تفسري القرآن ،حتقيق :مصطفى مسلم حممد ،الرياض :مكتبة
الرشد ،ط1٤10( ،1ه1989 /م).
-الصنعاين ،حممد بن إسامعيل بن صالح بن حممد الكحالين .التنوير رشح اجلامع الصغري للسيوطي،
حتقيق :حممد إسحاق حممد إبراهيم ،الرياض :مكتبة دار السالم ،ط1٤٣٢( ،1ه٢011/م).
-ابن أيب طالب ،عيل ،Iهنج البالغة ،مجعه ونسق أبوابه :الرشيف الريض ،رشحه وضبط
نصوصه :حممد عبده ،بريوت :مؤسسة املعارف ،ط1410( ،1ه1990/م).
-طبارة ،عفيف عبد الفتاح .روح الدين اإلسالمي عرض وحتليل ألصول اإلسالم وآدابه وأحكامه
حتت ضوء العلم والفلسفة ،بريوت :دار العلم للماليني ،ط1993 ،28م.
-الطباطبائي ،حممد حسني .امليزان يف تفسري القرآن ،صححه وأرشف عىل طباعته :حسني األعلمي،
٣8٤
بريوت :منشورات مؤسسة األعلمي للمطبوعات ،ط1417( ،1ه1997/م).
-الطراين ،أبو القاسم سليامن بن أمحد بن أيوب .املعجم الكبري ،حتقيق :محدي بن عبد املجيد
السلفي ،القاهرة :مكتبة ابن تيمية ،ط( ،2د .ت.).
-الطري ،أبو جعفر حممد بن جرير .تاريخ الطربي ،بريوت :دار الراث ،ط1387 ،2ه.
-الطري ،أبو جعفر ،حممد بن جرير .جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،حتقيق :أمحد حممد شاكر،
بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط 1420( ،1ه2000/م).
-الطحاوي ،أبو جعفر أمحد بن حممد بن سالمة األزدي .رشح مشكل اآلثار ،حتقيق :شعيب
األرنؤوط ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط1415( ،1ه1494/م).
-الطريقي ،عبد اهلل بن إبراهيم .التعامل مع غري املسلمني :أصول معاملتهم واستعامهلم ،دراسة
فقهية ،سلسلة الرسائل اجلامعية ( ،)47القاهرة والرياض :دار اهلدي النبوي و دار الفضيلة،
ط1428( ،1ه2007/م).
-طه ،عبد املجيد" .وسطية اإلسالم :تتميم وتكميل ،ال إقصاء وال هتديم" ،جملة األمة الوسط،
العدد2009 ،)1( :م.
-عاشور ،عبد الفتاح .منهج القرآن يف تربية املجتمع ،القاهرة :مكتبة اخلانجي ،ط،1
(1399ه1979/م).
-ابن عاشور ،حممد الطاهر ابن عاشور .أصول النظام االجتامعي يف اإلسالم ،تونس واجلزائر:
الرشكة التونسية للتوزيع واملؤسسة الوطنية للكتاب ،ط1985 ،2م.
-ابن عاشور ،حممد الطاهر ابن عاشور .التحرير والتنوير ،تونس :الدار التونسية ،ط1984 ،1م.
-ابن عاشور ،حممد الطاهر ابن عاشور .مقاصد الرشيعة اإلسالمية ،حتقيق ودراسة :حممد الطاهر
امليساوي ،األردن ،عامن :دار النفائس ،ط1421( ،2ه2001/م).
-العامري ،أبو املكارم نجم الدين حممد بن حممد بن حممد الغزي .رسالة يف الكالم عىل آية األمر
باملعروف والنهي عن املنكر ،حققها وضبطها وعلق عليها :نشأت بن كامل املرصي ،بريوت:
املكتبة اإلسالمية ،ط1426( ،1ه2005/م).
-عبد الباقي ،حممد فؤاد .املعجم املفهرس أللفاظ القرآن الكريم ،القاهرة :دار احلديث ودار
الكتب املرصية1364 ،ه.
٣8٥
-ابن عبد الر ،أبو عمر يوسف بن عبد اهلل بن حممد .التمهيد ملا يف املوطأ من املعاين واألسانيد،
حتقيق :مصطفى بن أمحد العلوي وحممد عبد الكبري البكري ،الرباط :وزارة األوقاف والشؤون
اإلسالمية ،ط1387 ،1ه.
-ابن عبد الر ،أبو عمر يوسف بن عبد اهلل بن حممد .جامع بيان العلم وفضله ،حتقيق :أبو األشبال
الزهريي ،الرياض :دار ابن اجلوزي ،ط1414( ،1ه1994/م).
-عبد احلميد ،أمحد خمتار .املعجم املوسوعي أللفاظ القرآن الكريم وقراءاته ،بمساعدة فريق عمل،
بريوت :مؤسسة سطور املعرفة ،ط1423( ،1ه2002/م).
-عبد احلميد ،أمحد خمتار .معجم اللغة العربية املعارصة ،بمساعدة فريق عمل ،القاهرة :عامل
الكتب ،ط1429( ،1ه2008/م).
-عبد الرمحن ،طه .تعدد القيم :ما مداها؟ وما حدودها؟ ،مراكش :املطبعة الورقية الوطنية ،ط،1
2001م.
-عبد الرمحن ،طه .احلق اإلسالمي يف االختالف الفكري ،الدار البيضاء :املركز الثقايف العريب،
ط2005 ،1م.
-عبد الرمحن ،طه .احلق العريب يف االختالف الفلسفي ،الدار البيضاء :املركز الثقايف العريب ،ط،٢
٢00٦م.
-عبد الرمحن ،طه .روح الدين :من ضيق العلامنية إىل سعة االئتامنية ،الدار البيضاء :املركز الثقايف
العريب ،ط٢01٢ ،٢م.
-عبد الرمحن ،طه .سؤال األخالق مسامهة يف النقد األخالقي للحداثة الغربية ،الدار البيضاء:
املركز الثقايف العريب ،ط٢000 ،1م.
-عبد الرمحن ،طه .اللسان وامليزان أو التكوثر العقيل ،الدار البيضاء :املركز الثقايف العريب ،ط،1
1998م.
-عبد الرمحن ،طه .يف أصول احلوار وجتديد علم الكالم ،الدار البيضاء :املركز الثقايف العريب ،ط،٢
٢000م.
-ابن عبد السالم ،أبو حممد عز الدين عبد العزيز بن عبد السالم السلمي الدمشقي .تفسري القرآن
(اختصار النكت والعيون للاموردي) ،حتقيق :عبد اهلل بن إبراهيم الوهبي ،بريوت :دار ابن
حزم1٤1٦( ،ه199٦ /م).
٣8٦
-ابن عبد السالم ،أبو حممد عز الدين عبد العزيز بن عبد السالم السلمي الدمشقي .قواعد
األحكام يف مصالح األنام ،راجعه وعلق عليه :طه عبد الرؤوف سعد ،القاهرة :مكتبة الكليات
األزهرية1٤1٤( ،ه1991/م).
-عبده ،حممد .األعامل الكاملة ،حتقيق :حممد عامرة ،القاهرة :دار الرشوق ،ط1٤1٤( ،1ه199٣/م).
-عبده ،حممد .رسالة التوحيد ،حتقيق :حممد عامرة ،القاهرة :دار الرشوق ،ط،1
(1٤1٤ه199٤/م).
-أبو عبيد ،معمر بن املثنى التيمي .جماز القرآن ،حتقيق :حممد فؤاد سزكني ،القاهرة :مكتبة
اخلانجي( ،د .ت.).
-ابن العريب ،أبو بكر حممد بن عبد اهلل بن حممد املعافري اإلشبييل املالكي .أحكام القرآن ،راجع
أصوله وخرج أحاديثه وعلق عليه :حممد عبد القادر عطا ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط،٣
(1٤٢٤ه٢00٣/م).
-ابن عرفة ،أبو عبد اهلل حممد بن حممد الورغمي .تفسري ابن عرفة ،حتقيق :جالل السيوطي،
بريوت :دار الكتب العلمية ،ط٢008 ،1م.
-أبو عرة ،نبيه أمحد حسن" .املعاملة باملثل يف القرآن الكريم"( ،رسالة ماجستري ،جامعة النجاح
الوطنية كلية الدراسات العليا ،نابلس ،فلسطني٢01٢ ،م).
-ابن أيب العز احلنفي ،عيل بن عيل بن حممد بن أيب العز احلنفي الدمشقي .رشح العقيدة
الطحاوية ،حتقيق :مجاعة من العلامء ،ختريج :نارص الدين األلباين ،بريوت :دار السالم ،ط،1
(1٤٢٦ه٢00٥/م).
-عزام ،عبد الوهاب .أخالق القرآن ،القاهرة :مكتبة النور( ،د .ت.).
-العسكري ،أبو هالل احلسن بن عبد اهلل بن سهل بن سعيد بن حييى بن مهران .الفروق اللغوية،
حتقيق وتعليق :حممد إبراهيم سليم ،القاهرة :دار العلم والثقافة( ،د .ت.).
-عرص ،صبحي عبد الرؤوف .املعجم املوضوعي آليات القرآن الكريم ،القاهرة :دار الفضيلة،
(د .ت.).
-عطية ،مجال الدين .نحو تفعيل مقاصد الرشيعة ،هرندن ودمشق :املعهد العاملي للفكر اإلسالمي
ودار الفكر1٤٢٤( ،ه٢00٣/م).
-العقاد ،عباس حممود .اإلنسان يف القرآن ،القاهرة :هنضة مرص( ،د .ت.).
٣8٧
-العقاد ،عباس حممود .الفلسفة القرآنية؛ كتاب عن مباحث الفلسفة الروحية واالجتامعية التي
وردت موضوعاهتا يف الكتاب الكريم ،القاهرة :دار هنضة مرص( ،د .ت.).
-العقاد ،عباس حممود .موسوعة العقاد اإلسالمية ،بريوت :دار الكتاب العريب،
(1٣91ه19٧1/م).
-عالل الفايس ،عالل بن عبد الواحد بن عبد السالم الفايس الفهري .مقاصد الرشيعة اإلسالمية
ومكارمها ،بريوت :دار الغرب اإلسالمي ،ط1991 ،٥م.
-العلواين ،طه جابر .أدب االختالف يف اإلسالم ،سلسلة قضايا الفكر اإلسالمي ( ،)٢هريندن:
املعهد العاملي للفكر اإلسالمي1٤1٣( ،ه199٢/م).
-العلواين ،طه جابر .األزمة الفكرية ومناهج التغيري ،قضايا إسالمية معارصة ،بريوت :دار
اهلادي ،ط1٤٢٤( ،1ه٢00٣/م).
-العلواين ،طه جابر .التعددية أصول ومراجعات بني االستتباع واإلبداع ، ،سلسلة أبحاث علمية
( ،)11القاهرة :املعهد العاملي للفكر اإلسالمي ،ط1٤1٧( ،1ه199٦/م).
-العلواين ،طه جابر" .مفاهيم القرآن وحتديد مهام األنبياء" ،جملة إسالمية املعرفة ،املعهد العاملي
للفكر اإلسالمي ،الواليات املتحدة األمريكية ،العدد (1٤٢٤( ،)٣٤-٣٣ه٢00٣ /م).
-ابن عيل ،أبو احلسني زيد .تفسري غريب القرآن املجيد ،حتقيق :حممد يوسف الدين ،حيدر أباد:
مؤسسة تاج يوسف ،ط1٤٢٢( ،1ه.(٢001 /
-عامرة ،حممد .اإلسالم واآلخر من يعرتف بمن؟ ...ومن ينكر من؟ ،القاهرة :مكتبة الرشوق
الدولية ،ط1٤٢٣( ،٣ه٢00٢ /م).
-عامرة ،حممد .اإلسالم والتعددية :االختالف والتنوع يف إطار الوحدة ،القاهرة :دار الرشاد ،ط،1
(1٤18ه1998/م).
-عامرة ،حممد .احلضارات العاملية تدافع؟ أم رصاع؟ القاهرة :دار هنضة مرص ،ط ،1يف التنوير
اإلسالمي (1998 ،)٢٤م.
-عامرة ،حممد .معامل املنهج اإلسالمي ،سلسلة املنهجية اإلسالمية ( ،)٣القاهرة وهريندن :املعهد
العاملي للفكر اإلسالمي ودار الرشوق ،)٣( ،ط1٤11( ،1ه1991/م).
-عامرة ،حممد .هذا هو اإلسالم ( ،)3احرتام املقدسات ،خريية األمة :رشوط مكتسبة ال عنرصية
٣88
موروثة ،عوامل تفوق اإلسالم :شهادة غربية ،القاهرة :مكتبة الرشوق الدولية ،ط،1
(1٤٢٦ه٢00٥/م).
-العمري ،أكرم ضياء .املجتمع املدين يف عهد النبوة ،خصائصه وتنظيامته األوىل ،حماولة لتطبيق
قواعد املحدثني يف نقد الروايات التارخيية ،املدينة املنورة :املكتبة العربية السعودية ،اجلامعة
اإلسالمية ،املجلس العلمي ،إحياء الراث اإلسالمي ،ط1٤0٣( ،1ه198٣/م).
-عوامة ،حممد .أدب االختالف يف مسائل العلم والدين ،بريوت :دار البشائر اإلسالمية ،ط،٢
(1٤18ه199٧/م).
-العيني ،بدر الدين أبو حممد حممود بن أمحد بن موسى بن أمحد ،العيني احلنفي .عمدة القاري يف
رشح صحيح البخاري ،بريوت :دار إحياء الراث العريب( ،د .ت.).
-الغرباوي ،ماجد .إشكالية التجديد ،كتاب قضايا إسالمية معارصة ،القاهرة :دار اهلادي ( ،د.
ت.).
-الغزايل ،أبو حامد حممد بن حممد الطويس .إحياء علوم الدين ،ومعه املغني عن محل األسفار
يف األسفار يف ختريج ما يف اإلحياء من األخبار ،للعراقي ،بريوت :دار ابن حزم ،ط،1
(1٤٢٦ه٢00٥/م).
-الغزايل ،أبو حامد حممد بن حممد الطويس .االقتصاد يف االعتقاد ،رشح وحتقيق وتعليق :إنصاف
رمضان ،دمشق وبريوت :دار قتيبة ،ط1٤٢٣( ،1ه٢00٣ /م).
-الغزايل ،أبو حامد حممد بن حممد الطويس .أهيا الولد ،تقديم وحتقيق وفهرسة :مجيل إبراهيم
حبيب ،بريوت :دار القادسية( ،د .ت.).
-الغزايل ،أبو حامد حممد بن حممد الطويس .جواهر القرآن ،حتقيق :حممد رشيد رضا القباين،
بريوت :دار إحياء العلوم ،ط1٤11( ،٣ه1990 /م).
-الغزايل ،أبو حامد حممد بن حممد الطويس .املستصفى من علم األصول ،دراسة وحتقيق :حممد
سليامن األشقر ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط1٤1٧( ،1ه199٧/م).
-الغزايل ،أبو حامد حممد بن حممد الطويس .القسطاس املستقيم ،قدَّ م له وذ َّيله وأعاد حتقيقه:
فيكتور شلحت ،بريوت :منشورات دار الرشوق ،ط198٣ ،٢م.
-الغزايل ،أبو حامد حممد بن حممد الطويس .معارج القدس يف مدارج معرفة النفس ،بريوت :دار
الكتب العلمية ،ط1٤0٦( ،1ه1988/م).
٣89
-الغزايل ،أبو حامد حممد بن حممد الطويس .املنخول من تعليقات األصول ،حتقيق :حممد حسن
هيتو ،دمشق :دار الفكر ،ط1٤00( ،٢ه1980 /م).
-الغزايل ،أبو حامد حممد بن حممد الطويس .املنقذ من الضالل ،حققه وقدم له :حممود بيجو،
راجعه :حممد سعيد رمضان البوطي وعبد القادر األرناؤوط( ،د .م)( :د .ن)( ،د .ت.).
-الغزايل ،حممد .كيف نتعامل مع القرآن ،القاهرة :هنضة مرص ،ط٢00٥ ،٧م.
-الغزايل ،حممد .املحاور اخلمسة للقرآن الكريم ،القاهرة :دار هنضة مرص ،ط( ،1د .ت.).
-الغزي ،حممد أبو احلارث .موسوعة القواعد الفقهية ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط،1
(1٤٢٤ه٢00٣/م).
-ابن فارس ،أبو احلسني أمحد بن فارس بن زكريا .معجم مقاييس اللغة ،حتقيق :عبد السالم
هارون ،بريوت :دار الفكر1٣99( ،ه19٧9/م).
-الفراء ،حييى بن زياد بن عبد اهلل بن منظور الديلمي .معاين القرآن ،بريوت :عامل الكتب ،ط،٣
(1٤0٣ه198٣/م).
-الفراهي ،عبد احلميد الفراهي اهلندي .مفردات القرآن نظرات جديدة يف تفسري ألفاظ قرآنية ،حتقيق
ورشح :حممد أمجل أيوب اإلصالحي ،بريوت :دار الغرب اإلسالمي ،ط٢00٢ ،1م.
-الفراهيدي ،اخلليل بن أمحد بن عمرو بن تيم األزدي .كتاب العني ،حتقيق :مهدي املخزومي
وإبراهيم السامرائي ،بريوت :دار ومكتبة اهلالل ( ،د .ت.).
-ابن الفرس ،أبو حممد عبد املنعم بن عبد الرحيم اخلزرجي .أحكام القرآن ،حتقيق :منجية بنت
اهلادي النفري ،بريوت :دار ابن حزم ،ط1٤٢٧( ،1ه٢00٦/م).
-الفسوي ،أبو عبد اهلل يعقوب بن سفيان بن جوان الفاريس .املعرفة والتاريخ ،حتقيق :أكرم ضياء
العمري ،بريوت :مؤسسة الرسالة ،ط1٤01( ،٢ه1981/م).
-فضل اهلل ،حممد حسني .تفسري من وحي القرآن ،بريوت :دار املالك ،ط1٤19( ،٢ه1998/م).
-فضل اهلل ،حممد حسني .احلوار يف القرآن :قواعده ،أساليبه ،معطياته ،بريوت :دار التعارف
للمطبوعات ،ط1٤0٧( ،٥ه198٧ /م).
-ابن فورك ،أبو بكر حممد بن احلسن .جمرد مقاالت أيب احلسن األشعري ،حتقيق :أمحد عبد الرحيم
السايح ،القاهرة :مكتبة الثقافة الدينية ،ط1٤٢٧( ،٢ه٢00٦/م).
٣90
-فوكوياما ،فرانسيس .هناية التاريخ واإلنسان األخري ،ترمجة :فؤاد شاهني ومجيل قاسم ورضا الشايبي،
اإلرشاف واملراجعة والتقديم :مطاع صفدي ،بريوت :مركز اإلنامء القومي199٣ ،م.
-الفريوز آبادي ،جمد الدين أبو طاهر حممد بن يعقوب بن حممد .القاموس املحيط ،حتقيق :مكتب
العرقسويس ،بريوت :مؤسسة الرسالة،
ُ حتقيق الراث يف مؤسسة الرسالة ،إرشاف :حممد نعيم
ط1٤٢٦( ،8ه٢00٥/م).
-الفريوز آبادي ،جمد الدين أبو طاهر حممد بن يعقوب بن حممد .بصائر ذوي التمييز يف لطائف
الكتاب العزيز ،حتقيق :حممد عيل النجار ،القاهرة :وزارة األوقاف ،املجلس األعىل للشؤون
اإلسالمية ،جلنة إحياء الراث اإلسالمي ،ط1٤1٦( ،٣ه199٦/م).
-الفيومي ،أبو العباس أمحد بن حممد بن عيل .املصباح املنري يف غريب الرشح الكبري ،بريوت:
املكتبة العلمية( ،د .ت.).
-القاسمي ،حممد مجال الدين .دالئل التوحيد ،صححه وضبطه :جمموعة من العلامء إرشاف
النارش ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤0٥( ،1ه198٤/م).
-القايض النعامن ،أبو حنيفة النعامن بن أيب عبد اهلل حممد بن منصور التميمي .اختالف أصول
املذاهب ،حتقيق :مصطفى غالب ،بريوت :دار األندلس ،ط198٣ ،٣م.
-القايض عبد اجلبار ،عبد اجلبار بن أمحد بن عبد اجلبار .رشح األصول اخلمسة ،تعليق :أمحد
بن احلسني بن أيب هاشم ،حققه وقدم له :عبد الكريم عثامن ،القاهرة :مكتبة وهبة ،ط،٣
(1٤1٦ه199٦/م).
ِ
بفوائد -القايض عياض ،أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرون اليحصبي .إكامل املعلم
مسلم ،حتقيق :حييى إسامعيل ،املنصورة :دار الوفاء للطباعة والنرش والتوزيع ،ط1٤19( ،1ه/
1998م).
-قاعود ،حييى سعيد حممد" .طروحات فوكوياما وهانتنغتون والنظام العاملي اجلديد :دراسة
حتليلية مقارنة"( ،رسالة ماجستري ،كلية االقتصاد والعلوم اإلدارية ،جامعة األزهر ،غزة،
(1٤٣٥ه٢01٤/م).
-القحطاين ،حممد بن سعيد .من مفاهيم عقيدة السلف الصالح :الوالء والرباء يف اإلسالم ،مكة
املكرمة والرياض :دار طيبة ،ط1٤1٣ ،٦ه.
-القرايف ،شهاب الدين أبو العباس أمحد بن إدريس بن عبد الرمحن .الفروق «أنوار الربوق يف أنواء
٣91
الفروق» ،دراسة وحتقيق :مركز الدراسات الفقهية واالقتصادية حممد أمحد رساج وعيل مجعة
حممد ،القاهرة :دار السالم ،ط1٤٢1( ،1ه٢001/م).
-القرضاوي ،يوسف ،االجتهاد يف الرشيعة اإلسالمية مع نظرات حتليلية يف االجتهاد املعارص،
الكويت والقاهرة :دار القلم للنرش والتوزيع ،ط1٤1٧( ،1ه199٦/م).
-القرضاوي ،يوسف" .االفتتاحية" ،جملة األمة الوسط ،االحتاد العاملي لعلامء املسلمني ،العدد (،)1
السنة (٢009 ،)1م.
-القرضاوي ،يوسف .الصحوة اإلسالمية ومهوم الوطن العريب واإلسالمي ،القاهرة :مكتبة
وهبة ،ط1٤1٧( ،٢ه199٧/م).
-القرضاوي ،يوسف .العقل والعلم يف القرآن الكريم ،القاهرة :مكتبة وهبة ،ط،1
(1٤1٦ه199٦/م).
-القرضاوي ،يوسف .غري املسلمني يف املجتمع اإلسالمي ،القاهرة :مكتبة وهبة ،ط،٣
(1٤1٣ه199٢/م).
-القرضاوي ،يوسف .كيف نتعامل مع القرآن العظيم ،القاهرة :دار الرشوق ،ط،٣
(1٤٢1ه٢000/م).
-القرضاوي ،يوسف .املسلمون والعوملة ،بريوت :دار التوزيع والنرش اإلسالمية٢000 ،م.
-القرطبي ،أبو عبد اهلل حممد بن أمحد بن أيب بكر القرطبي .اجلامع ألحكام القرآن ،حتقيق :هشام
سمري البخاري ،الرياض :دار عامل الكتب1٤٢٣( ،ه٢00٣ /م).
-القرين ،عيل بن عبد اهلل" .منهج القرآن الكريم يف الرد عىل املخالف يف مسائل االعتقاد" ،جملة
تبيان للدراسات القرآنية ،اجلمعية العلمية السعودية للقرآن الكريم وعلومه ،العدد،)1٥( :
1٤٣٥ه.
-قطب ،سيد .العدالة االجتامعية يف اإلسالم ،القاهرة :دار الرشوق ،ط1٤1٣( ،1٣ه199٣/م).
-قطب ،سيد .يف ظالل القرآن ،القاهرة :دار الرشوق ،ط1٤٢٣( ،٣٢ه٢00٣/م).
-قطب ،سيد .معامل يف الطريق ،القاهرة والرياض :دار الرشوق ووزارة املعارف /املكتبات
املدرسية ،ط1٣99( ،٦ه19٧9/م).
-قطب ،حممد .منهج الرتبية اإلسالمية ،القاهرة :دار الرشوق ،ط1٤1٤( ،1٤ه199٣/م).
٣9٢
-قلجة ،ميساء كامل" .البناء العقيل يف ضوء القرآن الكريم :دراسة موضوعية"( ،رسالة ماجستري،
اجلامعة اإلسالمية ،كلية أصول الدين ،غزة1٤٣0 ،ه٢009/م). .
-قميحة ،جابر .املدخل إىل القيم اإلسالمية ،القاهرة :دار الكتاب املرصي ،ط،1
(1٤0٤ه198٤/م).
-قميحة ،جابر .املعارضة يف اإلسالم بني النظرية والتطبيق ،القاهرة :دار اجلالء ،ط1988 ،1م.
-القنوجي ،صديق بن حسن بن عيل احلسيني البخاري .العربة مما جاء يف الغزو والشهادة واهلجرة،
حتقيق :ابن بسيوين زغلول ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤08( ،٢ه1988/م).
-القييس ،عبد احلميد" .الرهان واستدالالته يف القرآن" ،جملة كلية العلوم اإلسالمية ،العدد:
(1٤٢8( ،)1٦ه٢00٧/م).
-ابن القيم ،شمس الدين حممد بن أيب بكر بن أيوب الدمشقي .أحكام أهل الذمة ،دراسة وحتقيق:
طه عبد الرؤوف سعد ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤٢٣( ،٢ه٢00٢/م).
-ابن القيم ،شمس الدين حممد بن أيب بكر بن أيوب الدمشقي .إعالم املوقعني عن رب العاملني،
دراسة وحتقيق :طه عبد الرؤوف سعد ،القاهرة :مكتبة الكليات األزهرية1٣88( ،ه19٦8/م).
-ابن القيم ،شمس الدين حممد بن أيب بكر بن أيوب الدمشقي .األمثال يف القرآن ،دراسة وحتقيق:
نارص بن سعد الرشيد ،مكة املكرمة :مطابع الصفا ،ط1٤0٢( ،٢ه198٢/م).
-ابن القيم ،شمس الدين حممد بن أيب بكر بن أيوب الدمشقي .زاد املعاد يف هدي خري العباد،
بريوت والكويت :مؤسسة الرسالة ومكتبة املنار اإلسالمية ،ط1٤1٥( ،٢٧ه199٤/م).
-ابن القيم ،شمس الدين حممد بن أيب بكر بن أيوب الدمشقي .شفاء العليل يف مسائل القضاء والقدر
واحلكمة والتعليل ،حتقيق :حممد بدر الدين احللبي ،بريوت :دار الفكر1٣98( ،ه19٧8/م).
-ابن القيم ،شمس الدين حممد بن أيب بكر بن أيوب الدمشقي .الصواعق املرسلة يف الرد عىل اجلهمية
واملعطلة ،دراسة وحتقيق :عيل بن حممد الدخيل اهلل ،الرياض :دار العاصمة ،ط1٤08 ،1ه.
-ابن القيم ،شمس الدين حممد بن أيب بكر بن أيوب الدمشقي .الطرق احلكمية يف السياسة
الرشعية ،دراسة وحتقيق :حممد مجيل غازي ،القاهرة :مطبعة املدين( ،د .ت.).
-ابن القيم ،شمس الدين حممد بن أيب بكر بن أيوب الدمشقي .مدارج السالكني بني منازل
إياك نعبد وإياك نستعني ،حتقيق :حممد املعتصم باهلل ،بريوت :دار الكتاب العريب ،ط،٣
(1٤1٦ه199٦/م).
٣9٣
-ابن القيم ،شمس الدين حممد بن أيب بكر بن أيوب الدمشقي .هداية احليارى يف أجوبة اليهود
والنصارى ،بريوت :دار ابن زيدون ،ط1٤10( ،1ه1990/م).
-ابن كثري ،أبو الفداء عامد الدين إسامعيل بن عمر بن كثري الدمشقي .البداية والنهاية ،حتقيق :عيل
شريي ،بريوت :دار إحياء الراث العريب ،ط1٤08( ،1ه1988/م).
-ابن كثري ،أبو الفداء عامد الدين إسامعيل بن عمر بن كثري الدمشقي .تفسري القرآن العظيم ،حتقيق:
سامي بن حممد سالمة ،بريوت والرياض :دار طيبة للنرش والتوزيع ،ط1٤٢0( ،٢ه1999/م).
-الكواكبي ،عبد الرمحن .طبائع االستبداد ومصارع االستعباد ،تقديم :أسعد السحمراين ،بريوت:
دار النفائس ،ط1٤٢٧( ،٣ه٢00٦/م).
-الكيا اهلرايس ،عامد الدين عيل بن حممد .أحكام القرآن ،ضبطه وصححه :مجاعة من العلامء
بإرشاف النارش ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط1٤0٣( ،1ه198٣/م).
-الكيالين ،ماجد عرسان .فلسفة الرتبية اإلسالمية :دراسة مقارنة بني فلسفة الرتبية اإلسالمية
والفلسفات الرتبوية املعارصة ،مكة املكرمة وجدة :مكتبة املنارة ودار املنارة ،ط،1
(1٤0٧ه198٧/م).
-الكيالين ،ماجد عرسان .مناهج الرتبية اإلسالمية واملربون العاملون فيها ،بريوت :عامل الكتب،
ط1٤1٦( ،1ه199٥ /م).
-البوم ،جول .تفصيل آيات القرآن احلكيم ،ترمجة :حممد فؤاد عبد الباقي ،القاهرة :مطبعة عيسى
البايب احللبي ،ط1٣٤٢( ،1ه19٢٤ /م).
-لوبون ،جوستاف .حضارة العرب ،ترمجة :عادل زعير ،القاهرة :مؤسسة هنداوي للتعليم
والثقافة٢01٣ ،م.
-ابن ماجه ،أبو عبد اهلل حممد بن يزيد الربعي القزويني .سنن ابن ماجه ،حتقيق :حممد فؤاد
عبد الباقي ،القاهرة :دار إحياء الكتب العربية ،فيصل عيسى البايب احللبي( ،د .ت.).
-املازري ،أبو عبد اهلل حممد بن عيل بن عمر .املعلم بفوائد مسلم ،حتقيق :حممد الشاذيل النيفر،
تونس واجلزائر :الدار التونسية للنرش واملؤسسة الوطنية للرمجة والتحقيق والدراسات (بيت
احلكمة) واملؤسسة الوطنية للكتاب ،ط1988 ،٢م.
-املاوردي ،أبو احلسن عيل بن حممد .أدب الدنيا والدين ،حتقيق :حممد كريم راجح ،بريوت :دار
إقرأ ،ط1٤0٥( ،٤ه198٥/م).
٣9٤
-املاوردي ،أبو احلسن عيل بن حممد .أعالم النبوة ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط،1
(1٤0٦ه198٦/م).
-املرد ،أبو العباس حممد بن يزيد .ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن املجيد ،حتقيق :أمحد
حممد سليامن أبو رعد ،الكويت :وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية ،سلسلة الرسائل
الراثية ،ط1٤09( ،1ه1989/م).
-املجايل ،حممد خازر" ،مصطلح "التفكر" كام جاء يف القرآن الكريم ،دراسة موضوعية" ،جملة
الرشيعة والقانون ،العدد1٤٢٦( ،)٢٣( :ه٢00٥/م).
-جممع اللغة العربية .معجم ألفاظ القرآن الكريم ،القاهرة :اهليئة املرصية العامة للتأليف والنرش،
(1٤09ه1989/م).
-املحاسبي ،أبو عبد اهلل احلارث بن أسد .العقل وفهم القرآن ،حتقيق :حسني القوتيل ،بريوت :دار
الفكر ،ط1٣91( ،1ه19٧1/م).
-املراكيش ،ابن البناء .رسالة يف اجلدل بمقتىض قواعد األصول ،حتقيق :حمامد رفيع ،بريوت :دار
ابن حزم ،ط1٤٣1( ،1ه٢010/م).
-مرزوق ،عبد الصبور .معجم األعالم واملوضوعات يف القرآن الكريم ،القاهرة :دار الرشوق،
ط1٤1٥( ،1ه199٥/م).
-املرغيناين ،أبو احلسن برهان الدين عيل بن أيب بكر بن عبد اجلليل .متن بداية املبتدي يف فقه أيب
حنيفة ،القاهرة :مكتبة ومطبعة حممد عيل صبح( ،د .ت.).
-مسلم ،أبو احلسني مسلم بن احلجاج القشريي النيسابوري .املسند الصحيح املخترص بنقل العدل
عن العدل إىل رسول اهلل ﷺ (صحيح مسلم) ،حتقيق :حممد فؤاد عبد الباقي ،بريوت :دار
إحياء الراث العريب ،ط( ،1د .ت.).
-املسريي ،عبد الوهاب .العلامنية اجلزئية والعلامنية الشاملة ،القاهرة :دار الرشوق ،ط،1
(1٤٢٣ه٢00٢/م).
-مصطفى ،إبراهيم وآخرون .املعجم الوسيط ،القاهرة :جممع اللغة العربية ومكتبة الرشوق
الدولية ،ط1٤٢٥( ،٤ه٢00٤/م).
-املطعني ،عبد العظيم .مبادئ التعايش السلمي يف اإلسالم :منهج ًا ..وسرية ،القاهرة :دار الفتح
لإلعالم العريب1٤1٧( ،ه199٦ /م).
٣9٥
-ابن معني ،أبو زكريا حييى بن معني بن عون بن زياد املري .تاريخ ابن معني (رواية الدوري)،
حققه :أمحد حممد نور سيف ،مكة املكرمة :مركز البحث العلمي وإحياء الراث اإلسالمي،
ط1٣99( ،1ه19٧9 /م).
-مقري ،عبد الرزاق .صدام احلضارات؛ حماولة للفهم أبعاد وأسباب ومآالت العدوان األمريكي
عىل األمة اإلسالمية ،املنصورة :دار الكلمة ،ط1٤٢٥( ،1ه٢00٤/م).
-ملكاوي ،فتحي حسن .منهجية التكامل املعريف مقدمات يف املنهجية اإلسالمية ،هرندن :املعهد
العاملي للفكر اإلسالمي ،ط1٤٣٢( ،1ه٢011/م).
-ابن منظور ،أبو الفضل مجال الدين حممد بن مكرم بن عيل الرويفعي .لسان العرب ،بريوت :دار
صادر ،ط1٤1٤ ،٣ه.
-مولوي ،فيصل .املسلم مواطن ًا يف أوروبا ،سلسلة قضايا األمة ( ،)٢لندن :االحتاد العاملي لعلامء
املسلمني ،جلنة التأليف والرمجة1٤٢9( ،ه٢008/م).
-امليداين ،عبد الرمحن حسن حبنكة .األخالق اإلسالمية وأسسها ،دمشق :دار القلم ،ط،٥
(1٤٢0ه1999/م).
-امليداين ،عبد الرمحن حسن حبنكة .ضوابط املعرفة وأصول االستدالل واملناظرة ،دمشق :دار
القلم ،ط1٤1٤( ،٤ه199٣/م).
-امليداين ،عبد الرمحن حسن حبنكة .العقيدة اإلسالمية وأسسها ،دمشق وبريوت :دار القلم ،ط،٢
(1٣99ه19٧9 /م).
-ميغوليفسكي ،أ.س .أرسار اآلهلة والديانات ،ترمجة :حسان خمائيل إسحاق ،دمشق :دار عالء
الدين ،ط٢009 ،٤م.
-ابن النجار ،تقي الدين أبو البقاء حممد بن أمحد بن عبد العزيز بن عيل الفتوحي .رشح الكوكب
املنري ،حتقيق :حممد الزحييل ونزيه محاد ،الرياض :مكتبة العبيكان ،ط1٤18( ،٢ه199٧/م).
-ابن نجيم ،زين الدين بن إبراهيم بن حممد .األشباه والنظائر عىل مذهب أيب حنيفة النعامن،
وضع حواشيه وخرج أحاديثه :زكريا عمريات ،بريوت :دار الكتب العلمية ،ط،1
(1٤19ه1999/م).
-الندوي ،أبو احلسن عيل بن عبد احلي .النبوة هي الوسيلة الوحيدة للمعرفة الصحيحة
٣9٦
واهلداية الكاملة وبعض موافقات واتفاقات ،اهلند لكهنؤ :املجمع اإلسالمي العاملي،
(1٤08ه1988/م).
-النسفي ،أبو الركات عبد اهلل بن أمحد بن حممود .كنز الدقائق ،حتقيق :سائد بكداش ،بريوت:
دار البشائر اإلسالمية ودار الساج ،ط1٤٣٢( ،1ه٢011/م).
-النشار ،عيل سامي .نشأة الفكر الفلسفي يف اإلسالم ،القاهرة :دار املعارف ،ط19٧٧ ،9م.
-النوريس ،بديع الزمان سعيد .كليات رسائل النور ( )1الكلامت ،ترمجة :إحسان قاسم صاحلي،
القاهرة :رشكة سوزلر للنرش ،ط٢00٤ ،٤م.
-أبو نعيم ،أمحد بن عبد اهلل األصفهاين .حلية األولياء وطبقات األصفياء ،القاهرة :دار السعادة،
(1٣9٤ه19٧٤/م).
-النووي ،أبو زكريا حييى بن رشف بن مري النووي .املنهاج رشح صحيح مسلم بن احلجاج،
بريوت :دار إحياء الراث العريب ،ط1٣9٢ ،٢ه.
-النووي ،أبو زكريا حييى بن رشف بن مري .آداب العامل واملتعلم واملفتي واملستفتي وفضل طالب
العلم ،طنطا :مكتبة الصحابة ،ط1٤08( ،1ه198٧/م).
-النويري ،شهاب الدين أمحد بن عبد الوهاب .هناية األرب يف فنون األدب ،القاهرة :دار الكتب
والوثائق القومية ،ط1٤٢٣ ،1ه.
-ابن هشام ،عبد امللك بن هشام بن أيوب احلمريي املعافري .السرية النبوية ،ختريج وحتقيق :وليد
بن حممد سالمة وخالد بن حممد بن عثامن ،القاهرة :مكتبة الصفا ،ط1٤٢٢( ،1ه٢001/م).
-هنتنجتون ،صامويل .صدام احلضارات إعادة صنع النظام العاملي ،ترمجة :طلعت الشايب ،ط،٢
1999م.
-وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية .املوسوعة الفقهية ،الكويت والقاهرة :وزارة األوقاف
والشؤون اإلسالمية ومطابع دار الصفوة ،ط( ،1من1٤٢٧-1٤0٤ :ه).
-ابن الوزير ،حممد بن إبراهيم .الربهان القاطع يف إثبات الصانع ومجيع ما جاءت به الرشائع،
القاهرة :املطبعة السلفية1٣9٤ ،ه.
٣9٧
-أبو يعىل ،القايض أبو يعىل حممد بن احلسني احلنبيل ابن الفراء .املعتمد يف أصول الدين ،حتقيق:
-اليوسف ،عبد اهلل أمحد .رشعية االختالف :دراسة تأصيلية منهجية للرأي اآلخر يف الفكر
-أبو يوسف ،يعقوب بن إبراهيم بن حبيب األنصاري الكويف البغدادي .اخلراج ،حتقيق :طه عبد
الرؤوف سعد وسعد حسن حممد ،القاهرة :املكتبة األزهرية للراث( ،د .ت.).
٣98
الكشاف
اختالف داخيل.612 : أ
اختالف يف إطار اجلوامع،18 ،77 ،47 ،17 ،24 ،72 : آراء،891 ،104 ،26 ،25 ،05 ،14 ،83 ،73 ،31 :
.863 ،292 ،662 ،322 ،222 ،602 ،502 ،202
اختالف مصالح األمم واألقوام.25 : .173 ،663 ،453 ،443 ،623
اختالف وتنوع.74 ،71 : آيات قرآنية.653 :
أخطاء.843 ،913 ،89 ،942 ،91 ،71 : إبصار احلق.27 :
أخالق،922 ،722 ،302 ،141 ،201 ،27 ،23 : اجتامع عىل املشركات.51 :
،003 ،052 ،542 ،342 ،242 ،042 ،132 اجتهاد،85 ،75 ،15 ،44 ،72 ،62 ،42 ،22 ،81 :
.123 ،613 ،131 ،08 ،67 ،07 ،86 ،66 ،26 ،06 ،95
أخوة إنسانية.863 ،152 ،761 ،89 ،41 : ،812 ،712 ،402 ،202 ،002 ،391 ،381
إدارة االختالف.863 ،633 ،212 ،491 ،82 ،12 : ،663 ،372 ،272 ،072 ،962 ،352 ،932
أدب االختالف.73 ،53 ،22 : .293 ،873 ،473
أدب االختالف يف اإلسالم (كتاب).752 ،73 ،22 : أحاديث نبوية.871 ،631 ،52 :
إدراك احلقائق،062 ،152 ،532 ،141 ،18 ،35 : احرام املقدسات.983 ،37 ،12 :
.363 ،203 ،972 ،772 ،472 ،862 أحكام،411 ،801 ،08 ،27 ،85 ،75 ،25 ،14 ،04 :
أديان،321 ،221 ،611 ،501 ،18 ،35 ،25 ،05 : ،561 ،261 ،751 ،351 ،641 ،921 ،611
،953 ،092 ،982 ،662 ،162 ،751 ،451 ،052 ،342 ،142 ،812 ،412 ،402 ،171
.863 ،123 ،592 ،472 ،272 ،862 ،462 ،162
إرادة اهلل الترشيعية.05 ،24 : .663 ،033 ،823
استدالل،121 ،021 ،38 ،17 ،65 ،55 ،62 ،42 : اختالف االجتهادات.91 :
،462 ،362 ،752 ،252 ،432 ،081 ،941 اختالف األمم واألقوام.25 :
،872 ،772 ،572 ،472 ،962 ،662 ،562 اختالف الرأي.61 :
.833 ،682 ،082 اختالف الصحابة.77 :
استشهاد.281 ،42 : اختالف تكامل وتوازن.64 :
استعامل العقل،272 ،172 ،962 ،08 ،75 ،15 : اختالف تكويني.366 ،365 ،57 ،56 ،51 ،48 :
.663 ،572 ،372 اختالف تكويني وترشيعي.08 ،24 ،72 :
استقراء نصوص القرآن الكريم.51 : اختالف خارجي.612 :
٣99
أفكار،711 ،68 ،25 ،05 ،14 ،83 ،73 ،52 ،31 : إسالم منترص (موقع).81 :
،152 ،532 ،222 ،502 ،891 ،771 ،851 إسالم وتعددية.751 ،97 ،12 :
،643 ،533 ،113 ،882 ،662 ،562 ،352 أسلوب دعوة.71 :
.953 ،453 ،743 أسيئ فهم االختالف.15 :
إقامة الدين.301 ،79 ،09 ،27 : األشعري ،أبو احلسن عيل بن إسامعيل،121 ،66 :
إقامة السلم وترك احلرب.031 ،921 ،82 : .963
إقامة العدل ونفي الظلم.82 : إشكال حقيقي.91 :
أقليات يف املجتمع اإلسالمي.12 : إشكال علمي.22 ،02 :
إقناع،792 ،532 ،021 ،48 ،65 ،55 ،45 ،35 ،15 : إشكال معريف.61 :
،943 ،243 ،043 ،723 ،223 ،503 ،203 إصالح العامل.25 :
.653 ،553 إصالح الكون.401 :
التزام بالعهود واملواثيق.912 ،012 ،702 ،82 : أصول الدين،511 ،411 ،18 ،37 ،86 ،56 ،61 :
ألفة،79 ،59 ،49 ،78 ،47 ،37 ،36 ،51 ،41 ،31 : .863 ،663 ،523
،541 ،631 ،531 ،421 ،711 ،501 ،89 أصول إيامنية.721 ،621 ،421 ،38 ،72 :
،591 ،191 ،981 ،581 ،261 ،651 ،251 أصول ترشيعية عملية.432 ،232 ،921 ،82 :
،032 ،622 ،912 ،602 ،502 ،791 ،691 أصول تصورية.432 ،82 :
.863 أصول عملية.82 :
أمر باالجتهاد.75 ،15 : أصول كلية عامة.82 ،02 :
أمر باملعروف وهني عن املنكر،912 ،281 ،861 ،82 : أصول منهجية لتدبري االختالف.532 ،432 ،82 :
،622 ،522 ،422 ،322 ،222 ،122 ،022 أصول وضوابط علمية.81 :
.032 ،922 ،822 ،722 أصول ومقاصد.49 ،52 :
أمر بتزكية النفوس وهتذيبها.27 : اعراف باملخالف،892 ،982 ،882 ،502 ،12 :
أمن،202 ،481 ،661 ،951 ،531 ،431 ،41 : .763 ،003
.503 ،912 ،612 ،702 االعتصام (كتاب).86 ،36 ،95 :
أنبياء ورسل،99 ،89 ،79 ،49 ،19 ،17 ،82 ،72 : اعتصام بحبل اهلل.622 ،36 ،51 :
.512 ،641 ،711 ،801 ،601 ،401 ،001 إعجاز القرآن.55 :
إنذار.892 ،692 ،001 ،99 ،79 ،37 : اعوجاج يف االستدالل،362 ،752 ،252 ،432 ،17 :
أهل احلضارات.27 : .572 ،462
أهل الكتاب،601 ،39 ،97 ،87 ،27 ،46 ،26 ،16 : إفحام.263 ،063 ،45 :
٤00
تبادل احلضاري.663 ،363 ،261 ،71 ،61 : ،251 ،241 ،221 ،611 ،211 ،901 ،801
تباين،551 ،89 ،87 ،95 ،44 ،83 ،63 ،53 ،33 : ،722 ،312 ،081 ،571 ،471 ،861 ،351
.453 ،443 ،222 ،303 ،203 ،292 ،482 ،662 ،132 ،822
تبشري.763 ،901 ،001 ،79 : .953 ،753 ،353 ،823
جتاوز اخلالفات اجلزئية.61 : أهواء،622 ،741 ،201 ،17 ،66 ،56 ،46 ،36 :
التحرير والتنوير (كتاب)،85 ،65 ،84 ،64 ،54 ،93 : ،062 ،952 ،852 ،752 ،452 ،152 ،542
،741 ،041 ،831 ،131 ،511 ،19 ،27 ،26 .453 ،492 ،762 ،362 ،162
،322 ،012 ،202 ،102 ،002 ،991 ،941 ائتالف إنساين.681 ،79 ،81 :
،892 ،092 ،782 ،872 ،462 ،362 ،422 إيامن باهلل وتوحيده.29 ،19 ،09 ،78 ،58 ،48 ،72 :
،753 ،733 ،613 ،313 ،213 ،403 ،103 إيامين،402 ،821 ،721 ،911 ،49 ،29 ،97 ،02 :
.683 ،853 .663 ،832
حتقيق مصالح.512 ،412 ،081 ،971 : ب
حتكيم،523 ،523 ،262 ،361 ،621 ،321 ،76 : باحثون.51 :
.443 بحث عن املشرك.32 :
حتليل،641 ،49 ،48 ،85 ،72 ،62 ،52 ،42 ،22 : بداية املجتهد وهناية املقتصد (كتاب).973 ،22 :
،913 ،582 ،382 ،862 ،352 ،732 ،481 بدع.233 ،821 ،07 ،46 ،36 :
.063 برهان،321 ،021 ،711 ،801 ،38 ،65 ،55 ،61 :
تداخل احلضارات والثقافات.71 : ،762 ،562 ،462 ،162 ،352 ،252 ،921
تدبر واعتبار.862 : ،043 ،933 ،833 ،733 ،713 ،313 ،003
تدبري االختالف اإلنساين،49 ،78 ،58 ،14 ،51 : .663 ،363 ،953 ،653 ،553 ،243 ،143
،012 ،481 ،541 ،441 ،531 ،921 ،811 بناء االئتالف،011 ،27 ،32 ،02 ،91 ،81 ،61 :
.863 ،763 ،682 ،252 ،032 ،122 ،912 .863 ،663 ،032 ،961 ،681 ،261 ،751
تدبري االختالف الديني.663 ،011 ،88 ،38 ،82 : بني اإلسالم.863 ،39 ،14 ،02 :
تراث إسالمي.92 ،12 : بني اإلنسان،481 ،421 ،39 ،74 ،64 ،14 ،02 :
تربية.003 ،242 ،042 ،832 ،502 ،791 : .863 ،633 ،792 ،162
ترك االستبداد.891 ،82 : البوشيخي ،أمحد.173 ،73 ،22 :
ترك اخلصام.481 ،82 : ت
تسامح.252 ،052 ،941 ،011 ،32 : تأسيس للحوار.12 :
تصحيح الرؤية إىل اخلالف.51 : تأويل املتشابه.67 :
٤01
توبة.942 ،842 : تصحيح شبهات.12 :
ابن تيمية ،أمحد بن عبد احلليم،101 ،77 ،06 ،85 ،22 : تصحيح معريف.51 :
.381 ،161 ،451 ،021 ،111 تصديق،501 ،201 ،69 ،95 ،65 ،55 ،45 ،35 :
ث ،421 ،811 ،411 ،011 ،901 ،801 ،601
ثقافة االختالف وتدبريه.71 : .543 ،623
ثقافة،092 ،682 ،562 ،132 ،87 ،91 ،71 ،31 : تصور إسالمي.762 ،47 :
.363 تصورات خاطئة.51 :
ج تضاد.533 ،64 ،33 ،31 :
جدل ومناظرة،723 ،423 ،482 ،332 ،52 ،81 : تطرف.91 :
.763 ،353 ،733 ،133 ،033 تعارف،761 ،541 ،97 ،57 ،14 ،91 ،71 ،61 :
جزئيات.482 ،282 ،98 ،62 : ،363 ،743 ،692 ،912 ،081 ،771 ،671
جوامع،77 ،47 ،27 ،17 ،76 ،74 ،24 ،72 ،12 : .763 ،663
،663 ،643 ،592 ،032 ،451 ،18 ،87 تعاقب.14 ،73 ،33 :
.863 تعامل مع االختالف.91 :
ح تعاون إنساين،181 ،871 ،761 ،461 ،14 ،82 :
حاجة املجتمع اإلنساين.71 : .381 ،281
حاكم،402 ،751 ،401 ،301 ،95 ،05 ،84 ،31 : تعدد املذاهب الفقهية.91 :
.912 تعددية يف إطار اجلوامع.12 :
حجاج.953 ،243 ،733 ،003 ،532 ،38 : تعددية.712 ،12 ،71 :
حديث االختالف رمحة.12 : تغاير،613 ،551 ،87 ،65 ،94 ،64 ،63 ،33 ،23 :
حديث االفراق.333 ،013 ،47 ،12 : .763
حرب،331 ،231 ،131 ،031 ،921 ،04 ،82 ،32 : تفاسري املتأخرة واملعارصة.52 :
،441 ،341 ،141 ،041 ،631 ،531 ،431 تفاوض.782 :
،121 ،202 ،102 ،381 ،181 ،171 ،551 تقارب.363 ،953 ،443 ،813 ،703 ،152 ،14 :
.023 ،892 ،022 ،612 ،412 تنظيم العالقات اإلنسانية،941 ،641 ،401 ،71 :
حرية،041 ،931 ،831 ،731 ،431 ،011 ،05 ،41 : .912 ،751
،492 ،252 ،532 ،032 ،602 ،441 ،341 تواصل،191 ،981 ،761 ،661 ،14 ،71 ،61 :
.763 ،623 ،003 ،743 ،733 ،633 ،203 ،792 ،032 ،891
حضارات عاملية.983 ،192 ،12 : .763 ،953
٤0٢
،231 ،031 ،721 ،621 ،811 ،401 ،201 حضارة إسالمية.81 :
،151 ،051 ،841 ،641 ،541 ،141 ،931 حضارة.713 ،192 ،092 ،742 ،771 ،71 ،31 :
،271 ،071 ،461 ،951 ،551 ،451 ،351 احلق اإلسالمي يف االختالف الفكري (كتاب)،05 ،12 :
،132 ،022 ،802 ،702 ،791 ،781 ،481 ،623 ،882 ،572 ،842 ،542 ،271 ،261
،942 ،442 ،342 ،042 ،932 ،532 ،432 .873 ،063
،162 ،752 ،552 ،452 ،352 ،152 ،052 احلق العريب يف االختالف الفلسفي (كتاب)،363 ،12 :
،372 ،962 ،762 ،662 ،562 ،462 ،262 .783
،382 ،282 ،182 ،082 ،872 ،572 ،472 حقائق يقينية.352 ،61 :
،513 ،413 ،603 ،103 ،492 ،982 ،582 حقوق اإلنسان.402 ،971 ،961 ،421 ،02 ،71 :
،743 ،543 ،443 ،923 ،723 ،913 ،613 حقيقة االختالف اإلنساين.91 :
.763 ،363 ،953 ،453 ،943 حقيقة رشعية.24 :
خالف املذاهب الفقهية: حقيقة علمية ومعرفية.862 :
اخلالف يف الرشيعة اإلسالمية (كتاب).22 : حكم بني خمتلفني.41 ،31 :
خري،101 ،001 ،99 ،39 ،74 ،64 ،93 ،83 ،01 ،9 : حكمة،08 ،65 ،55 ،45 ،35 ،54 ،04 ،93 ،02 :
،161 ،061 ،621 ،711 ،611 ،301 ،201 ،932 ،832 ،931 ،431 ،921 ،121 ،911
،591 ،491 ،881 ،781 ،281 ،871 ،861 ،663 ،563 ،363 ،123 ،903 ،172 ،042
،132 ،822 ،722 ،422 ،322 ،122 ،512 .973
،072 ،552 ،642 ،542 ،242 ،142 ،932 حوار قيمي وأخالقي.12 :
.353 ،253 ،943 ،233 ،572 حوار،19 ،14 ،82 ،62 ،42 ،32 ،12 ،71 ،61 :
خريية األمة.132 ،722 : ،882 ،782 ،682 ،352 ،252 ،432 ،912
د ،603 ،503 ،203 ،992 ،792 ،292 ،192
دائرة الصواب واخلطأ.91 : ،813 ،713 ،513 ،213 ،803،113 ،703
دائرة الظنيات.91 : ،433 ،233 ،133 ،033 ،623 ،423 ،223
دائرة القطعيات .91 : ،153 ،053 ،643 ،443 ،733 ،633 ،533
دائرة الكفر واإليامن.91 : .763 ،363 ،063 ،953 ،653 ،553
دراسات جامعية أكاديمية.02 : خ
دراسات ومقاالت.02 : ختم النبوة.711 ،401 :
دراسة تأصيلية حتليلية.92 ،32 : خطاب قرآين،36 ،85 ،75 ،50 ،34،84 ،92 ،02 :
دراسة تأصيلية منهجية.993 ،072 ،12 : ،101 ،59 ،88 ،58 ،48 ،47 ،96 ،76 ،66
٤0٣
رفيع ،حمامد،851 ،751 ،541 ،07 ،24 ،32 ،22 : دراسة موضوعية،393 ،583 ،762 ،252 ،942 :
.361 .693
رؤية اإلسالم لآلخر.51 : دعوة إىل املشرك.17 ،02 :
ز دليل،401 ،201 ،001 ،27 ،96 ،76 ،06 ،84 ،61 :
،181 ،871 ،771 ،241 ،921 ،021 ،911
زيدان ،عبد الكريم.95 ،74 ،22 :
،442 ،832 ،822 ،612 ،481 ،381 ،281
زيغ.763 ،903 ،08 ،67 ،07 ،76 ،56 :
،562 ،462 ،362 ،162 ،062 ،452 ،252
س
،113 ،013 ،003 ،682 ،472 ،072 ،962
سائغ.95 ،12 :
،933 ،833 ،733 ،823 ،523 ،613 ،313
سلم عاملي.663 ،541 ،531 ،02 :
،653 ،553 ،443 ،343 ،243 ،143 ،043
ِس ْلم،331 ،231 ،131 ،031 ،921 ،82 ،02 ،41 :
.563 ،263 ،163 ،063 ،953
،041 ،931 ،831 ،731 ،631 ،531 ،431
الدهلوي ،ويل اهلل.99 ،75 ،22 :
،791 ،951 ،541 ،441 ،341 ،241 ،141 دول عربية وإسالمية.81 :
.663 ،052 ،912 ،212 ،112 ديمقراطية،092 ،702 ،602 ،502 ،402 ،71 :
السلمي ،العز بن عبد السالم.04 : .192
سنة كونية.082 ،24 : دين،66 ،56 ،46 ،36 ،26 ،35 ،25 ،91 ،61 ،31 :
سؤال مركزي.563 ،02 : ،97 ،77 ،57 ،47 ،37 ،27 ،17 ،07 ،86
سياسة رشعية.841 ،131 ،81 : ،69 ،29 ،19 ،09 ،98 ،48 ،38 ،18 ،08
سياق حجاجي برهاين.34 : ،901 ،701 ،501 ،401 ،301 ،001 ،79
سياق قرآين.723 ،913 ،49 ،87 ،77 ،24 ،72 : ،721 ،621 ،711 ،511 ،411 ،211 ،111
الشاطبي ،إبراهيم بن موسى.41 ،31 : ،132 ،102 ،691 ،081 ،871 ،271 ،171
،213 ،703 ،303 ،103 ،662 ،162 ،542
الشافعي ،حممد بن إدريس.43 :
.863 ،663 ،953 ،643 ،523 ،813 ،413
شبهات باطلة.46 :
ر
رشائع ساموية،821 ،621 ،611 ،311 ،38 ،12،15 :
الرازي ،فخر الدين حممد بن عمر.873 ،05 :
.961 ،741
رأي فقهي.91 :
رشعية االختالف.12 :
رمحة،341 ،67 ،17 ،76 ،16 ،06 ،35 ،12 ،91 :
شورى،302 ،202 ،102 ،002 ،991 ،891 ،85 :
.052 ،722 ،322 ،212 ،081 ،251
.763 ،602 ،502 ،402
ابن رشد ،أبو الوليد حممد بن أمحد.77 :
٤0٤
،351 ،251 ،151 ،051 ،941 ،841 ،741 ص
،061 ،951 ،851 ،751 ،651 ،551 ،451 صحيفة املدينة.312 ،97 :
،291 ،091 ،371 ،661 ،361 ،261 ،161 صدام.812 ،53 ،81 ،51 :
،492 ،392 ،292 ،982 ،052 ،602 ،491 صدق،703 ،203 ،103 ،972 ،801 ،701 ،27 :
.763 ،992 ،592 .153
عدم االتفاق.08 ،14 ،83 ،63 ،33 ،23 : رصاع،531 ،421 ،37 ،14 ،53 ،12 ،81 ،71 ،51 :
عدم التساوي.33 : ،952 ،352 ،442 ،702 ،691 ،261 ،631
عدم التفريق.901 ،59 ،43 : .153 ،053 ،943 ،723 ،872 ،662
عقائد،272 ،002 ،771 ،38 ،46 ،26 ،45 ،54 : صلح،481 ،431 ،231 ،131 ،001 ،83 ،82 :
.143 ،191 ،091 ،98 ،881 ،781 ،681 ،581
عقل،39 ،68 ،48 ،08 ،95 ،75 ،55 ،15 ،05 ،61 : ،891 ،791 ،691 ،591 ،491 ،391 ،291
،521 ،321 ،411 ،801 ،401 ،301 ،201 .052 ،912 ،812 ،612 ،512 ،312 ،202
،922 ،122 ،022 ،271 ،171 ،961 ،921 ض
،552 ،452 ،352 ،252 ،152 ،842 ،432 ضبط العالقات اإلنسانية.71 :
،262 ،162 ،062 ،952 ،852 ،752 ،652 رضورة برشية.24 :
،172 ،072 ،962 ،862 ،762 ،662 ،462 ضالالت.972 ،46 :
،972 ،872 ،772 ،572 ،472 ،372 ،272 ضوابط اجلدل واملناظرة.22 :
،813 ،613 ،482 ،382 ،282 ،182 ،082 ط
.763 ،663 ،033 طرح غريب.71 :
عقوبات معنوية.96 : طوائف،981 ،681 ،481 ،151 ،68 ،27 ،07 ،51 :
عقيدة،051 ،621 ،801 ،001 ،48 ،97 ،57 ،05 : .763 ،791
،962 ،162 ،352 ،712 ،212 ،081 ،171 ظ
.033 ،472 ،272 ظنون.923 ،462 ،17 :
عالقات إنسانية،421 ،711 ،401 ،301 ،02 ،71 : ع
،912 ،271 ،751 ،941 ،641 ،541 ،621 ابن عاشور ،حممد الطاهر.75 ،84 ،93 :
.913 ،052 ابن عباس ،عبد اهلل.233 ،423 :
عالقات دولية.641 ،131 ،81 : عبد الرمحن ،طه،532 ،271 ،261 ،05 ،12 ،02 :
علم الكالم.52 : .363 ،833 ،882 ،462 ،752 ،342 ،632
علامء،221 ،701 ،68 ،46 ،75 ،52 ،42 ،71 ،9 : عدل،641 ،541 ،341 ،041 ،431 ،55 ،82 ،91 :
٤0٥
فلسفة غربية.02 : ،812 ،402 ،102 ،381 ،871 ،771 ،531
فهم الدين.18 ،07 : ،503 ،972 ،672 ،472 ،272 ،652 ،422
فهم عميق.51 : ،643 ،543 ،143 ،933 ،333 ،133 ،923
يف رشعية االختالف (كتاب).991 ،94 ،12 : .763 ،353
ق العلواين ،طه جابر،111 ،69 ،57 ،16 ،73 ،22 :
قتل املخالف.91 : .092 ،082 ،872 ،862 ،702
قراءة قرآنية.47 : علوم ومعارف،772 ،472 ،842 ،602 ،17 ،52 :
قسط،051 ،941 ،841 ،741 ،641 ،541 ،91 : .833 ،382 ،082 ،972
،161 ،851 ،751 ،551 ،451 ،251 ،151 عامرة ،حممد.951 ،97 ،37 ،12 :
.592 ،392 ،181 ،361 ،261 عمران،851 ،821 ،721 ،401 ،69 ،48 ،41 :
القسطاس املستقيم (كتاب).163 ،972 ،55 ،05 ،94 : ،602 ،502 ،081 ،871 ،261 ،061 ،951
قصد أصيل.32 ،51 : .932 ،032 ،612 ،702
قصد اهلل الترشيعي.02 : عنف.643 ،543 ،443 ،371 ،821 :
قصد تبعي.51 : عهد الصحابة.22 :
قضايا األمة.81 : عهد نبوي.612 ،312 ،12 :
قواعد عملية كلية.61 : عهود ومواثيق،212 ،012 ،802 ،702 ،82 ،91 :
قواعد قرآنية كرى.82 : .912
قواعد منهجية.61 : عوامل تفوق اإلسالم.37 ،12 :
قوة،602 ،302 ،261 ،041 ،931 ،821 ،87 ،47 : غ
.263 ،153 ،123 ،913 ،772 ،812 ،902 الغزايل ،حممد بن حممد،88 ،58 ،86 ،05 ،94 ،31 :
قوميات.152 ،27 ،74 : .803 ،772 ،201
قيم،152 ،242 ،181 ،261 ،051 ،841 ،421 ،69 : ف
.763 ،662 فرق إسالمية.51 :
ك فطرة،642 ،542 ،921 ،501 ،99 ،98 ،68 ،75 :
كرامة إنسانية.991 ،18 : .163 ،662 ،152 ،942 ،842 ،742
كالم ،كالمية،221 ،99 ،38 ،86 ،64 ،26 ،52 : فقه االختالف.663 ،563 ،502 ،34 ،02 ،81 ،71 :
،103 ،392 ،092 ،782 ،682 ،162 ،381 فقهية.763 ،86 ،95 ،22 ،91 :
،633 ،623 ،813 ،413 ،213 ،903 ،703 فكر إسالمي.863 ،12 :
.363 ،843 فلسفة الرصاع.71 :
٤0٦
مصري ومآل،621 ،421 ،221 ،911 ،811 ،48 ،82 : كلمة سواء.863 ،09 :
.821 ،721 كلمة طيبة موحدة.27 :
مفكرو اإلسالم.871 ،38 ،77 ،81 : كليات القرآن املقاصدية.91 :
مفكرون.71 : م
مفهوم االختالف.863 ،13 ،72 : متشابه.062 ،67 ،76 ،66 ،56 ،46 :
مقاصد كلية.171 : جمتمع إنساين.763 :
مقاالت اإلسالميني (كتاب).522 ،66 : حمتاج.202 ،76 ،45 :
مقاالت.02 ،81 : حمكم.67 ،76 ،66 ،56 ،46 :
مقرح إسالمي.02 : خمالف داخل دائرة اإلسالم.71 :
مقصد ترشيعي عام.71 : خمالف ديني وحضاري.51 :
مقصد قرآين عام.51 : خالف معتدي.91 :
مكلفني.852 ،25 : مدارس فكرية.91 :
ملة إسالمية.56 : مذاهب،56 ،46 ،95 ،05 ،83 ،73 ،22 ،91 ،51 :
ملل ونحل.113 ،46 ،52 ،81 : .242 ،761 ،611 ،511 ،47 ،27
منازعة.952 ،981 ،53 ،33 : مذموم،38 ،08 ،17 ،07 ،56 ،46 ،16 ،95 ،12 :
منجز إنساين.41 : ،313 ،113 ،903 ،103 ،752 ،602 ،302
منطق.353 ،253 ،433 ،551 ،97 ،65 ،64 ،52 : .763 ،453 ،243 ،923 ،323 ،513
منهج استقرائي.62 : مذهب ابن آدم األول (كتاب).931 ،031 ،02 :
منهج القرآن الكريم.003 ،71 : مراجعات نقدية.12 :
منهج حتلييل استنباطي.62 : مراكز علمية خمتصة.61 :
منهج جديل،743 ،933 ،623 ،392 ،882 ،42 : مرجعية فكرية.32 :
.063 مساواة.763 ،052 ،361 ،751 ،551 ،251 ،621 :
منهج وصفي.62 : مشاقة.53 :
مواطنة.863 ،761 ،97 : مشركات عقدية.72 :
موافق،402 ،281 ،751 ،551 ،051 ،63 ،91 ،31 : مشركات كرى.61 :
.563 ،163 ،233 ،013 مصادر اإلسالم األصلية.81 :
املوافقات يف أصول الرشيعة (كتاب)،43 ،62 ،24 : مصادر الترشيع اإلسالمي.42 :
،442 ،032 ،271 ،961 ،66 ،75 ،05 ،94 مصلحة،812 ،291 ،971 ،271 ،171 ،071 ،68 :
.553 ،433 ،333 ،523 ،062 ،752 ،052 .552
٤0٧
.223 ،023 ،813 ،803 ،703 ،603 ،403 موعظة.903 ،931 ،65 ،55 ،45 ،35 :
نقد.763 ،563 ،752 ،252 ،532 ،12 ،02 ،9 : مؤلفات الفكر.52 :
هـ امليداين ،حسن عبد الرمحن حبنكة.632 ،201 ،22 :
هيمنة املخالف.81 : ن
و نزاعات إنسانية.421 :
واقع كوين.842 ،261 ،02 : نسخ املتأخر للمتقدم.15 :
وحدة،26 ،65 ،14 ،12 ،91 ،81 ،71 ،51 ،31 : نظر أصويل.32 :
،49 ،09 ،78 ،48 ،18 ،97 ،87 ،57 ،47 ،17 نظر ترشيعي.32 :
،711 ،511 ،411 ،901 ،501 ،89 ،79 ،59 نظر تكويني.32 :
،631 ،531 ،721 ،621 ،321 ،911 ،811 نظر رشعي.32 ،91 :
،422 ،602 ،502 ،791 ،491 ،761 ،651 نظرية متكاملة.863 ،02 :
.863 ،633 ،533 ،523 ،442 ،132 ،622 نفس،201 ،101 ،69 ،39 ،78 ،68 ،57 ،61 ،9 :
وفاق التام.61 : ،302 ،271 ،071 ،551 ،051 ،341 ،311
وفاق قائم عىل املشرك.61 : ،142 ،042 ،932 ،832 ،732 ،632 ،532
وفاق،202 ،691 ،981 ،84 ،33 ،02 ،81 ،61 ،41 : ،942 ،842 ،742 ،642 ،542 ،342 ،242
.863 ،663 ،482 ،572 ،952 ،242 ،232 ،062 ،952 ،852 ،752 ،252 ،152 ،052
وقاحة إنكارية.863 ،572 ،02 : ،492 ،392 ،292 ،082 ،462 ،262 ،162
٤08
ﺻﺪﺭ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﻌﻬﺪ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ
ﻟﻠﻔﻜﺮ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ
ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب القيــم الحامعيــة :فلســفتها ومرجعيتهــا وتجلياتهــا
أﳼء ﻓﻬﻢ اﻻﺧﺘﻼف ﰲ ﻋﺎﳌﻨﺎ اﳌﻌﺎﴏ ،وأﺻﺒﺢ ﻟﻼﺧﺘﻼف ﻣﻌﻨﻰ اﻟﴫاع واﻟﺼﺪام ،ووﻗﻊ فتحي حسن ملكاوي
ﺑﺎﺣﺚ ﻣﻐﺮﰊ وﻟﺪ ﻋﺎم ١٩٧٨م ﰲ ﻗﺮﻳﺔ
اﻟﺰرﻳﻘﺎت ،ﺑﻤﺪﻳﻨﺔ اﻟﺮاﺷﻴﺪﻳﺔ ،ﺟﻨﻮب اﳌﻤﻠﻜﺔ اﳌﻐﺮﺑﻴﺔ.
وأن اﳌﺨﺎﻟﻒ ﰲ اﻟﺮأي واﳌﻌ ﹶﺘ ﹶﻘﺪ ﳚﺐ
ﴍ ،ﱠاﻻﺿﻄﺮاب ﰲ ﻓﻘﻪ اﻻﺧﺘﻼف وﺗﺪﺑﲑه ،واﻋﺘﹸﻘﺪ أن اﻻﺧﺘﻼف ﻛ ﹼﻠﻪ ﱞ نظريــة النمــو المعرفــي فــي المنظــور النفســي ٕا�ســ�مي
ﺣﺼﻞ ﻋﲆ ﺷﻬﺎدة اﻟﺪﻛﺘﻮراه ﰲ اﻟﻌﻘﻴﺪة واﻟﻔﻜﺮ
وإﻗﺼﺎؤه ،ﺑﻞ واﺳﺘﺌﺼﺎﻟﻪ ،وﻇﻬﺮ ﻋﲆ اﻟﺴﺎﺣﺔ ﺑﺎﺣﺜﻮن وﻣﻨ ﱢﻈﺮون ﳍﺬا اﻻﲡﺎه ﻣﻦ اﳌﺴﻠﻤﲔ وﻣﻦ
ﹸ رﻓﻀﻪ ريم عبد الرزاق الزعبي