You are on page 1of 21

‫تقنيات السرد أساس أدبية الرحلة‬

‫د‪.‬عبد العليم محمد إسماعيل علي‬


‫مدخل‬
‫الرحالت جمع رحلة‪ّ .‬أول األسئلة التي يجب استثارتها هي‪ :‬لماذا أدب الرحلة وليس الرحلة؟ هل‬
‫تحتاج الرحالت إلى إضافة كلمة (أدب) حتى تكتسب شرعيتها األدبية؟ وما الذي ستفعله كلمة‬
‫أدب بجوار كلمة رحالت حتى تخلصها من التعميم الذي تطلقه الثقافة العربية على عدد من‬
‫الكتابات التي أضيفت إلى كلمة أدب مثل‪ :‬أدب السفر‪ ،‬أدب الكاتب‪ ،‬أدب النديم إلخ‪ ،...‬فإضافة‬
‫كلمة أدب إلى هذه الكلمات (السفر‪ ،‬الكاتب‪ ،‬النديم‪ ،‬إلخ‪ )...‬لم تؤهلها لإلندراج ضمن األجناس‬
‫األدبية‪ ،‬فاألجناس األدبية واألنواع المتفرعة عنها– كما حددها تاريخ األدب والنقد‪ -‬ال تحتاج‬
‫هذه اإلضافة حتى تكتسب شرعيتها األدبية‪ ،‬فالمالحم والمسرحية والرواية والقصة القصيرة‬
‫والقصيدة وحتى المقامة وبعض األشكال التعبيرية مثل‪ :‬كليلة ودمنة‪ ،‬ألف ليلة وليلة رسالة‬
‫الغفران‪ ،‬الكوميديا اإللهية‪ ،‬إلخ‪ ...‬خالية من إضافة أدب لكنها تنتظم في دائرة األدب‪ .‬فلماذ‬
‫تحتاج الرحلة إلى إضافة كلمة أدب؟‬

‫إذا تجاوزنا التعريف اللغوي لكلمة (ر ح ل) التي تحيل إلى السفر واالنتقال من مكان إلى مكان أو‬
‫أماكن أخرى ‪ّ -‬‬
‫فإن الرحلة تضم عدة مسارات‪ ،‬وتتنازعها عدة حقول معرفية‪ :‬الجغرافيا‪ ،‬التاريخ‪،‬‬
‫األسفار‪ ،‬االثنوجغرافيا‪ ،‬إلخ‪ ...‬لذلك تم تصنيف الرحالت في عدة معارف‪ ،‬وأختلفت نتيجة ذلك‬
‫تعريفاتها‪ .‬إال أن القضية األساسية بالنسبة لألدب وتاريخه والنقد األدبي هي قضية تجنيس‬
‫الرحلة وطبيعة دراستها وتحديد عناصرها التي تجعل منها أدبا‪ ،‬وهذا ما تسعى هذه الدراسة إلى‬
‫ضبطه‪ .‬وقد اتخذنا من "رحلة ابن فضالن إلى بالد الترك والروس والصقالبة" – في العام ‪309‬ه ‪-‬‬
‫محورًا الستشهاداتنا واستدالالتنا على رؤيتنا‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫ُ‬
‫تنقل من ميادين التاريخ والجغرافيا واألسفار إلى دائرة األدب‪ ،‬لتنحصر دائرتها في الكتابة التي‬ ‫تعريف الرحلة وأدبها‬
‫راو محدد‪ ،‬وتعبر عن وجهة نظر معينة لرؤية العالم‪ ،‬وطريقة محددة في صياغة العبارة‬
‫ينتجها ٍ‬
‫وتخييل األشياء‪.‬‬ ‫تواجه الباحث في أدب الرحلة صعوبات جمة في تعريفه‪ ،‬وقد أرجع شعيب حليفي هذه‬
‫الصعوبات إلى عدة عوامل‪ ،‬منها‪ :‬غياب تعريفات دقيقة لدي الباحثين‪ ،‬وتعدد نصوص الرحلة‬
‫كذلك عرفها د‪ .‬أحمد عبد المجيد هريدي بأنها (ضرب من ضروب النشاط البشري تمتد جذورها‬
‫واختالف أساليبيها ( ‪ .) 1‬كما أن أهمية المعلومات والوثائق التأريخية والجغرافية واألنثروبولوجية‬
‫إلى بدايات الجنس البشري) ( ‪ .) 2‬وهذا التعريف‪ -‬أيضا‪ -‬يشير إلى الرحلة بوصفها نشاطا إنسانيا‬
‫واالثنولوجية وغير ذلك – قد جعل من الرحلة قيمة معرفية تفوق أهميتها األدبية؛ حتى أن‬
‫بدنيا حركيا عبر األمكنة‪ ،‬وال يشير إلى أي بعد أدبي‪ .‬أما عماد الدين خليل فيعرف الرحلة بأنها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بعض المفكرين‪ -‬مثل محمد جمال باروت‪ -‬رأى أنه (إذا كان هناك من معنى ألدب الرحلة فإنه‬
‫(حركة في الطول والعرض‪ ....‬تجوال في جغرافية األماكن والظواهر واألشياء‪ ...‬وإيغال في‬
‫سيكون في إطار هذا المنظور؛ بمعنى األدب النياسي المبكر الذي تشكل في إطار معاينة اآلخر في‬
‫‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫النبض الذي كاد يغيب عن العيان)‬
‫عالم متنوع الثقافات) ( ‪.) 2‬‬
‫لم يجد أدب الرحالت مكانة واضحة في نظرية األدب؛ ولم تستوعبه نظرية األجناس األدبية ضمن‬ ‫وبعضهم ّ‬
‫عد الرحلة عين الجغرافية المبصرة‪ ،‬وأن (رحلة الدراسة الميدانية‪ ،‬هي التي ولدت من‬
‫طاقتها التصنيفية؛ وذلك لغياب رؤية فلسفية واضحة المعالم في النقد العربي قبل االنفتاح‬
‫رحم رحلة الكشف الجغرافي ومعاينة الصورة الجغرافية ( ‪ .) 3‬وبعضهم جعل الرحلة أحد فنون‬
‫على النقد الغربي‪ ،‬لذا فالحديث عن أدب الرحالت لم يأخذ طابعا معرفيا يندرج ضمن نظرية أو‬
‫القول الذي يتعرض إلى جميع نواحي الحياة بما يقدمه من مادة وفيرة للمؤرخ والجغرافي وعالم‬
‫رؤية واضحة لمفهوم األدب‪ ،‬ويؤكد ما ذهبنا إليه أن مؤرخا أدبيا كبيرا مثل د‪ .‬شوقي ضيف ال‬
‫االجتماع واالقتصادي ومؤرخ اآلداب واألديان واألساطير‪ ،‬فالرحالت (منابع ثرة لمختلف العلوم‪،‬‬
‫‪ ،‬وال يرى في‬ ‫(‪)4‬‬
‫يرى فيها إال كونها كتب رحالت (منها الجغرافية والبحرية والبرية في البلدان)‬ ‫وهي بمجموعها سجل حقيقي لمختلف مظاهر الحياة ومفاهيم أهلها على ّ‬
‫مر العصر) ( ‪.) 4‬‬
‫الرحالت البحرية إال كونها مغامرات تحوي كثيرا (من المعلومات عن البحار وحيواناتها وأسماكها‬
‫وأصدافها واألقوام الذين يسكنون على شواطئها) ( ‪ .) 5‬كما أنه يقصر البعد األدبي في هذه‬ ‫بسبب هذا التششت ذهب بعض الباحثين إلى إضافة كلمة أدب إلى الرحلة (أدب الرحلة)‬

‫الرحلة على أنها تأتي (في أسلوب قصصي بديع‪ ،‬يؤكد الواقع أحيانا‪ ،‬وينشئ لنا عوالم خيالية‬ ‫ليفرقوا بينها وبين الرحلة بوصفها حدثا واقعيا لها أهداف ودوافع تخرجها من دائرة األدب إلى‬
‫ً‬ ‫أحيانا أخرى)‪ .‬فاإلنسان في رأي شوقي ضيف ُ‬ ‫دائرة المعارف والعلوم‪.‬‬
‫(ولد راحال‪ ،‬وإن أعجزته الرحلة‪ ،‬تخيل رحالت غير‬
‫ً‬ ‫ومن هنا فقد جاء تعريف الرحلة مختلفًا عن تعريف أدب الرحلة‪ ،‬فالرحلة‪ -‬كما عرفها د‪ .‬حسن‬
‫محسوسة في عالم الخيال‪ ،‬ونجد ذلك مبثوثا في األساطير األولى‪ ،‬كما نجده ماثال في الحروب‬
‫والفتوح القديمة إلخ‪.) 6 ( )...‬‬ ‫محمد فهيم‪ -‬نوع من الحركة‪ ،‬ومخالطة الناس واألقوام‪ ،‬وتبرز قيمتها‪ -‬في رأيه‪ -‬من كونها مصدرًا‬

‫يبدو واضحا الخلط المنهجي بين األشكال؛ الخلط بين الرحلة الواقعية والرحلة الخيالية‪ ،‬الخلط بين‬ ‫(لوصف الثقافات اإلنسانية‪ ،‬ولرصد بعض جوانب حياة الناس اليومية في مجتمع معين خالل‬

‫أدبية الرحلة ووثائقية الرحلة والتاريخ وغيره من األشكال التعبيرية ذات األهداف المعلوماتية‬ ‫فترة زمنية محددة) ( ‪ .) 1‬هذا التعريف ينطبق على الرحلة بوصفها نشاطا بشريا فيزيائيا له قيمة‬

‫التوثيقية‪.‬‬ ‫توثيقية وتعريفية محددة‪ ،‬وهو تعريف يركز على النشاط الفعلي والواقعي للحركة والرصد‪ ،‬وال‬
‫يشير إلى البعد التعبيري الذي ّ‬
‫يحول الرحلة من ثقل ماديتها إلى إعادة إنتاجها كتابيا؛ حيث‬
‫( ‪ ) 1‬أدب الرحالت‪ ،‬حسن محمد فهيم‪ ،‬ط سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ -‬الكويت‪1989 ،‬م‪ ،‬كتاب رقم ‪ ،138‬ص ‪15‬‬
‫( ‪ ) 2‬مقدمة الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بالد الشام والحجاز عبد الغني بن إسماعيل النابلسي (توفي ‪1243‬ه)‪ ،‬تقديم وإعداد د‪ .‬أحمد عبد المجيد هريدي‪،‬‬ ‫المتخيل‪ ،‬د‪.‬شعيب حليفي‪ ،‬الهيئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬كتابات نقدية شهرية ‪ ،121‬ط‪،‬‬‫ّ‬ ‫( ‪ ) 1‬الرحلة في األدب العربي‪ :‬التجنيس‪ ،‬آليات الكتابة‪ ،‬خطاب‬
‫ط الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ -‬القاهرة‪1986 ،‬م‪ ،‬ص‪5‬‬ ‫شركة األمل للطباعة والنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪ -‬المغرب‪ ،‬أبريل ‪2002‬م ص ‪68‬‬
‫( ‪ ) 3‬من أدب الرحالت‪ ،‬د‪.‬عماد الدين خليل‪ ،‬ط‪ ،‬دار بن كثير‪2005 ،‬م‪ ،‬ص ‪6‬‬ ‫( ‪ ) 2‬انثروبولوجيا المكان والرحلة ورؤية اآلخر‪ ،‬محمد جمال باروت‪ ،‬مجلة الحياة اإللكترونية‪ ،‬العدد ‪ ،15121‬تاريخ النشر ‪2004/8/21‬م‬
‫( ‪ ) 4‬فنون األدب العربي‪ :‬الفن القصصي‪ 4 -‬الرحالت‪ ،‬د‪ .‬شوقي ضيف‪ ،‬ط‪ ،4‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ -‬مصر‪1956 ،‬م ص ‪5‬‬ ‫(‪ ،)http://www.alhayat.com/Home‬ص‪15‬‬
‫( ‪ ) 5‬المرجع السابق‪ ،‬ص نفسها‬ ‫( ‪ ) 3‬الرحلة عين الجغرافيا المبصرة‪ ،‬د‪.‬صالح الدين الشامي‪ ،‬ط‪ ،2‬منشأة المعارف‪ ،‬االسكندرية‪ -‬مصر ‪1999‬م‪ ،‬ص‪5‬‬
‫( ‪ ) 6‬الرحالت‪ ،‬د‪ .‬شوقي ضيف‪ ،‬ص ‪7‬‬ ‫( ‪ ) 4‬أدب الرحلة عند العرب‪ ،‬د‪ .‬حسني محمود حسين‪ ،‬ط‪ ،2‬دار األندلس‪ ،‬بيروت – لبنان‪1983 ،‬م‪ ،‬ص ‪6‬‬

‫‪5‬‬ ‫‪4‬‬
‫للرحلة بأنها (خطاب تنشئه ذات مركزية‪ ،‬هي ذات الرحالة‪ ،‬تحكي فيه أحداث سفر‪ ،‬وتصف‬ ‫وقد شذ عن هذه التعريفات تعريف إسماعيل دردوحي حين قال‪( :‬الرحلة مادة حكائية قائمة‬
‫األماكن َ‬
‫المزورة واألشخاص الذين لقيتهم‪ ،‬وما جرى معهم من حديث‪ ،‬وغايتها من هذا الحكي‬ ‫على السفر واالنتقال‪ ،‬تجري في زمن مسجل بدقة‪ ،‬تحكي أحداثًا وقعت في أمكنة متعددة‪ ،‬وفي‬
‫إفادة القارئ وإمتاعه) ( ‪.) 4‬‬ ‫زمن مضى) ( ‪ .) 1‬لقد أورد دردوحي بعض المقومات التعريفية التي تنقل الرحلة من بعدها المادي‬
‫مواز للحدث الواقعي‪،‬‬ ‫ّ‬
‫من خالل االستعراض السابق لتعريفات الرحلة‪ ،‬وبيان الفرق بين الرحلة وأدب الرحلة تبين مدى‬ ‫تال أو ٍ‬
‫بعد كتابي تخييلي تحدثه الكتابة بوصفها عمال ٍ‬
‫الوثائقي إلى ٍ‬
‫التشتت الكبير حول المفهوم والتجنيس وعدم االتساق في تحديد هوية الرحلة‪.‬‬ ‫فقوله ‪ :‬مادة حكائية‪ ،‬وجرت في زمن مضى‪ ،‬وتسرد أحداثا‪ ،‬وتبني أمكنة‪ -‬انتقال بمفهوم الرحلة‬
‫إلى مجال األدب‪.‬‬
‫وبالتدقييق في هذه التعريفات يتضح إن هذا التشتت يعود‪ -‬في جزء كبير – منه إلى مسألة‬
‫المختلف حوله موضوع محدد المعالم والمكونات‬ ‫استراتيجية القراءة لدى كل باحث‪ّ ،‬‬
‫ألن الموضوع ُ‬ ‫وأحيانا يطلق البعض أدب الرحلة على الرحلة بكل عناصرها التي تنظر إلى الكتابة باعتبارها‬
‫والعناصر والسمات‪ ،‬فالجميع يتفق ّ‬
‫أن للرحلة بعدين‪ :‬مادي وكتابي‪ ،‬أي الرحلة حركة في الفضاء‬ ‫جزء منها أو وسيطا معرفًا بها‪ ،‬وأحيانا يقصدون بأدب الرحلة تلك الكتابات التي يصف فيها‬

‫من قبل شخص واقعي ينتقل من مكان إلى مكان أو أماكن أخري في زمان محدد؛ مستكشفًا تلك‬ ‫الرحالة البلدان وما يتصل بها‪ ،‬يقول د‪ .‬حسين فهيم‪( :‬هذا وقد درج الكتاب العرب على استخدام‬

‫األمكنة ومكوناتها‪ ،‬ثم يكتب هذا الشخص عن هذه الرحلة معرفًا بما شاهده وعايشه من أماكن‬ ‫عبارة أدب الرحالت لإلشارة إلى كتابات الرحالة المسلمين وغيرهم التي يصفون فيها البلدان‬

‫وأشياء وبشر وسلوك وكل ما رأى أنه جدير بالتدوين؛ فالجميع متفق حول هذه المسألة‪ ،‬ويأتي‬ ‫واألقوام‪ ،‬والتي يذكرون فيها أحداث تجوالهم‪ ،‬ودوافع رحالتهم إلخ‪.) 2 ( )...‬‬

‫اختالفهم حول تجنيس هذه الظاهرة االستكشافية المتعددة األبعاد والعناصر‪ ،‬فهل هذا الشكل‬ ‫وفي تفريقهم بين الرحلة وأدب الرحلة يعتبرون الجانب األدبي ملحقا باألدب من خالل بعض‬
‫التعبيري ينتمي إلى األدب؟‪.‬‬ ‫المالمح؛ دون إعطائه األحقية األدبية؛ فغالبا ما يركزون على المتن مقابل الخطاب كتلفظ‬
‫ال ينكر أحد أهمية القيمة العلمية لما تحويه الرحلة من معلومات وحقائق تفيد الجغرافي‬ ‫وسردية وتنظيم لغوي له سماته األسلوبية‪ ،‬يقول – في ذلك نوري الجراح‪ ...( :‬فإن لغته عموما‪،‬‬
‫والتاريخي وعالم االجتماع واألنثروبولوجي وغيرهم‪ ،‬إال ّ‬
‫أن االستراتيجية التي يتبعها النقد األدبي‬ ‫تتميز باالقتصاد والدقة‪ .‬وهي في بعض الحاالت لغة أدبية بارعة من حيث إيفائها لغرض السرد‬
‫أن يختلف عن كل هؤالء‪ ،‬فالنقد عندما ينظر إلى األدب ال يقف‬‫في التعامل مع الرحلة يجب ْ‬ ‫واإلخبار والتصوير ) ( ‪.) 3‬‬
‫ّ‬
‫عند حدود المعنى والمضمون‪ ،‬وإنما كيفية قول المعنى الذي يجعل منه أدبا‪ ،‬ومن هنا فما يشغل‬ ‫وتتجه بعض األصوات إلى إطالق كلمة أدب بمفهومها العام‪ ،‬وتدرج الرحلة ضمن كتب‬
‫النقد األدبي ‪ -‬قبل استكشاف المعرفة التي تقدمها الرحلة ‪ -‬هو أدبية الرحلة؛ وتتمثل األسئلة‬ ‫الجغرافية التي تحمل طابعا أدبيا في لغتها‪ ،‬وهذا النوع من الدرس ال يقيم وزنا إلى الرحلة‬
‫أي جنس أدبي يمكن ْ‬
‫أن‬ ‫المركزية في‪ :‬هل الرحلة شكل أدبي؟ ما هي مقوماتها األدبية؟ وإلى ّ‬ ‫صعب إدراج الرحلة ضمن أجناس األدب‪ ،‬ويرجع هذا الخلط بين مادة‬ ‫بوصفها حكاية؛ وهذا ما ُي ّ‬

‫نصنفها‪ ،‬وبأي استراتيجية يمكن قراءتها؟ هذه هي األسئلة التي يجب أن يجاب عنها في مسألة‬ ‫الرحلة وصيغتها إلى قصور الرؤية المنهجية لهؤالء‪.‬‬
‫تصنيف الرحالت من منظور األدب والنقد‪ ،‬وهي أسئلة تغاير أسئلة المؤرخ التي تفرض أسئلة من‬ ‫وفي اآلونة األخيرة‪ ،‬وبعد رسوخ نظرية األجناس وبروز السرديات والشعرية‪ -‬بدأت النظرة المنهجية‬
‫باب‪ :‬هل حدثت هذه الرحلة حقا؟ ما مدي صدقية الراوي؟ وغير ذلك من األسئلة التي ال تفيد‬ ‫الفاحصة في تحديد مفاهيم دقيقة عن الرحلة‪ ،‬ومن بين التعريفات الدقيقة تعريف الحاتمي‬
‫ّ‬
‫الناقد أو تغير من استراتيجية قراءته؛ لكنها جوهرية للمؤرخ واألناسي واالجتماعي إلخ‪...‬‬

‫( ‪ ) 1‬تقنيات السرد في رحلة فيض العباب وإفاضة قداح اآلداب‪ ،‬إسماعيل دردوحي‪ ،‬مجلة العلوم اإلنسانية‪ ،‬جامعة محمد خيضر بسكرة‪ ،‬ع ‪ ،8‬يوليو ‪2005‬م‪،‬‬
‫ص‪2‬‬
‫( ‪ ) 2‬أدب الرحالت‪ ،‬د‪.‬حسين محمد فهيم‪ ،‬ص‪13‬‬
‫ّ‬
‫( ‪ ) 3‬رحلة الوزير في افتكاك األسير‪ ،‬محمد الغساني األندلسي‪ ،‬تحرير وتقديم نوري الجراح‪ ،‬ط‪ ،1‬دار السويدي للنشر‪ ،‬اإلمارات العربية المتحدة‪2002 ،‬م‪ ،‬ص ‪9‬‬
‫( ‪ ) 4‬الرحالت المغربية السوسية‪ ،‬محمد الحاتمي‪ ،‬ط ‪ ،‬مطبعة المعارف الجديدة‪ ،‬الرباط‪ -‬المغرب‪2012 ،‬م‪ ،‬ص ‪30‬‬

‫‪7‬‬ ‫‪6‬‬
‫تجنيس الرحلة‬ ‫لقد خلط كثير من الباحثين – منهجيًا ‪ -‬بين مكونات الرحلة وأدبية الرحلة‪ ،‬وبين دراسة المضمون‬
‫في إطار الشكل وبين دراسة المضمون في إطار الحقل‪ ،‬فاألنثروبولوجي والجغرافي وعالم االجتماع‬
‫ّ‬
‫الناقد األدبي تحكمه أعراف الحقل النقدي التي تشكلت عبر صيرورة طويلة؛ أعراف شكلت اإلطار‬ ‫وغيرهم من أصحاب المعارف‪ -‬يدرسون الرحلة في إطار الحقول المعرفية التي ينتمون إليها؛‬
‫العام الذي يسمح للناقد باختيار استراتيجيته في التعامل مع األشكال التعبيرية‪ ،‬سواء أكانت‬ ‫فالرحلة بالنسبة إليهم عبارة عن وثيقة تاريخية تفصح عن معلومات ومضامين وقيم‪ ،‬أما النقد‬
‫استراتيجية منجزة ومتشكلة في منهج نقدي واضح أم بابتكار استراتيجية جديدة تمثل تطورا‬ ‫األدبي فنظرته مختلفة؛ فمنذ تأسيس الشكالنيين الروس مفهوم الشعرية أو األدبية لم يترك‬
‫لحقل النقد‪ .‬هذا االتجاه في التعامل مع الرحلة يقتضي تجنيس الرحلة ضمن حقول المعرفة‬ ‫الباب مفتوحا للتخمين واالنطباع عن قضية األدب؛ فقد جعلوا األدبية أو الشعرية بحثًا في‬
‫اإلنسانية‪ ،‬ثم تجنيسها داخل حقلها المعرفي؛ فعندما القول ّ‬
‫بأن الرحلة تنتمي إلى حقل‬ ‫السمات أو الخصائص التي تجعل من قول ما أدبًا ( ‪.) 1‬‬
‫األدب يعني ّأنها تنتمي إلى حقول المعرفة اإلنسانية‪ ،‬وكون خطاب الرحلة نصًا أدبيا ّ‬
‫فإن ذلك‬
‫استنادا إلى هذا المفهوم فمعظم من تحدث عن الرحلة انصرف إلى مقومات خارجية ال تحقق‬
‫يستوجب تجنيسه داخل حقول األدب وأنواعه؛ فإذا لم يندرج ضمن األجناس أو األنواع األدبية‬
‫فإن ذلك يعني في رأي كلر (أن هناك فصيلة ال بد ّ‬
‫المعروفة ّ‬ ‫أدبية الرحلة‪ ،‬فالوثائقية وتخييل اآلخر أو حواره‪ ،‬ووصف المكان وتصويره‪ ،‬واكتشاف الثقافات‬
‫أن نسلم بها‪ ،‬وبهذه الطريقة‬
‫والتعرف عليها‪ -‬كل ذلك ال يمت إلى األدبية بصلة؛ على الرغم من أهميته في التعريف بالرحلة‬
‫سيكون أدب الال‪ -‬نوع مفهوما غير مقبول) ( ‪) 1‬؛ لذا فليس من الضروري‪ -‬في رأي تودوروف‪ -‬أن‬
‫يجسد العمل األدبي‪ ،‬بإخالص‪ ،‬النوع الذي ينتمي إليه (وإذا أخبرك أحد ّ‬ ‫ال أدبيتها‪ .‬فإذا أردنا أن نحدد بشكل قاطع عالقة الرحلة باألدب وأجناسه علينا التوجه إلى‬
‫أن عمال معينا ال يجد‬
‫تحديد المحور الذي يجب النظر إليه من بين محاور الرحلة‪ .‬فالرحلة تضم بعدين مهمين‪ :‬األول هو‬
‫مكانه في مقوالتك‪ ،‬فمقوالتك إذن خاطئة) ( ‪.) 2‬‬
‫الحدث المادي للرحلة بوصفها تنقل وارتحال في الفضاء واألمكنة؛ والوجه الثاني الصياغة اللغوية‬
‫ومن هنا ّ‬
‫فإن أدب الرحلة شكل أدبي له خصوصياته التي تشير إلى إضافة نوع أدبي جديد‬ ‫للرحلة؛ أي‪ ،‬الخطاب بوصفه كتابة عن ذلك الحدث الذي صار في الماضي‪ .‬فاألدبية ال تشغل‬
‫يسمى أدب الرحالت‪ ،‬نوع يشبه الرواية من تنوع عوالمه‪ ،‬ولكنه يختلف عنها من حيث تقنيات‬ ‫نفسها بالبعد األول‪ ،‬فاألدبية يهما طريقة صياغة الخطاب‪ .‬ومن هنا فإننا نرمي بثقل بحثنا‬
‫السرد التي يهيمن عنصر الزمن وتنوع إيقاعه في الرواية‪ .‬وتقترب من السيرة الذاتية وأدب‬ ‫حول ماهية الخصائص والسمات التي تحقق أدبية خطاب الرحلة‪ .‬فال يهمنا مصداقية الرحلة‬
‫المذكرات من حيث تطابق الراوي والمؤلف وواقعيته‪ ،‬وتختلف عنهما في طريقة التبئيير‪ ،‬ففي‬ ‫والمعلومات واألزمنة كثيرًا؛ ّ‬
‫ألن األدبية هي طريقة القول وليس صدق القول‪.‬‬
‫الرحلة – رغم وجود التبئيير‪ -‬فإن السرد يراعي الموضوعية المرتبطة بمسائل خارجية تتمثل في‬
‫فالرحلة– من منظور السرديات‪ -‬صيغة لغوية لها سماتها األسلوبية التي تميزها عن غيرها من‬
‫هدف الرحلة‪ ،‬كذلك فإن مسألة تدوين الرحلة يكون – غالبا‪ -‬أثناء أو بعد نهاية الرحلة مباشرة؛‬ ‫األشكال التعبيرية‪ّ ،‬‬
‫وأن المضامين والقيم ما هي إال نتيجة لهذه الصيغة وهذا االختيار األسلوبي؛‬
‫خالفا ألدب المذكرات والسيرة الذاتية التي تتمحور حول استدعاء الذاكرة من قبل المؤلف‪.‬‬
‫راو محدد بصيغة وأسلوب محددين‪ ،‬وزمن معين‪ ،‬وأشخاص‪ ،‬وأحداث‪،‬‬
‫فهي حكاية يسردها ٍ‬
‫ومهما يكن من أمر فإن خطاب الرحلة شكل تعبيري يصلح أن يمثل جنسًا أدبيا؛ من أهم مالمحه‬ ‫وفضاء كلي‪ ،‬وأمكنة متنوعة‪.‬‬
‫تعدد المالمح الشكلية‪ ،‬فهو يستضيف‪ -‬كما الرواية‪ -‬كما هائال من األساليب والصيغ والخطابات‪.‬‬

‫( ‪ ) 1‬ما بعد الحداثة‪ ،‬جوناثان كلر‪ ،‬كتاب‪ :‬القصة الرواية‪ ،‬ص‪194‬‬ ‫( ‪ ) 1‬انظر نظرية المنهج الشكلي (نصوص الشكالنيين الروس)‪ ،‬مجموعة مؤلفين‪ ،‬ترجمة إبراهيم الخطيب‪ ،‬الشركة ط‪ ،1‬المغربية للناشرين المتحدين ومؤسسة‬
‫( ‪ ) 2‬األنواع األدبية‪ ،‬تودوروف‪ ،‬كتاب‪ :‬القصة الرواية‪ ،‬ص ‪53‬‬ ‫األبحاث العربية‪1982 ،‬م‪ ،‬ص‪30‬‬

‫‪9‬‬ ‫‪8‬‬
‫ولما كان السرد وحده ال يمكن أن يجعل من عمل ما أدبا ‪ -‬فيجب بروز خصائص تميز السرد‬ ‫وبنظرة فاحصة ّ‬
‫فإن خطاب الرحلة تمثيل سردي لحكاية واقعية يرويها شخص بضمير األنا‬
‫األدبي عن غيره من األعمال السردية التقريرية مثل‪ :‬التاريخ الذي يبهت فيه صوت الراوي أمام‬ ‫أو النحن أو الهو‪ ،‬وهذا يعني توافر األسس العامة للسرد الذي هو (التمثيل لحدثين أو موقفين‬
‫موضوعية الحدث وقيمته المعرفية التوثيقية؛ حيث يتراجع التخييل والتبئير أمام التقريرية‪،‬‬ ‫حقيقيين أو متخيلين في ترتيب زمني‪ ،‬وكل منهما ال يفترض اآلخر وال يستلزمه) ( ‪ .) 1‬أو هو‬
‫ٌ‬
‫تمثيل ألحداث ومواقف فعلية أو افتراضية متسلسة زمنيا) ( ‪ .) 2‬ومن هنا يمكن الذهاب إلى ّ‬
‫فالسرد األدبي يقتضي بروز صوت الراوي‪ ،‬ودرجة التبئير‪ ،‬والتخييل‪ ،‬والحبكة‪ ،‬وغير ذلك من‬ ‫أن‬ ‫ٍ‬
‫مقومات السرد؛ سواء أكان على مستوى حضور عناصر الخطاب السردي أم على مستوى تقنيات‬ ‫خطاب الرحلة جنس أدبي سردي له قدرة هائلة على تمثيل األحداث زمنيا‪.‬‬
‫السرد‪ .‬فنص مثل رحلة ابن حوقل ال يمكن إدراج خطابه السردي في دائرة األدب إال بالمفهوم‬ ‫وتمثيل األحداث وفق التسلسل الزمني يحقق التتابعية السردية‪ ،‬ويفترض حضور الراوي الذي‬
‫العام لكلمة أدب‪ ،‬يقول ابن حوقل‪( :‬قد عملت هذا الكتاب على صفة أشكال األرض‪ ،‬ومقدارها‬ ‫ترتبط بوجوده مجمل آليات السرد الموظفة في الحكايات المنجزة أو المحتملة‪ ،‬قديمًا أو حديثا‪.‬‬
‫في الطول والعرض‪ ،‬وأقاليم البلدان‪ ،‬ومحل الغامر منها والعمران‪ ،‬من جميع بالد اإلسالم بتفصيل‬
‫مدنها إلخ‪ .) 3 ( )...‬صحيح ّ‬ ‫فالرحلة نص سردي قابل لإلدراك والتحليل والمساءلة من خالل السرديات بوصفها نظريات‬
‫أن الكتاب يحمل إشراقات سردية أدبية تمتد لصفحات أحيانا‪ ،‬إال‬ ‫تعنى بدراسة النصوص ذات الطابع الحكائي‪ .‬ومن هنا ّ‬
‫فإن أدبية خطاب الرحلة تتحقق بتوافر‬
‫أن األسلوب العام للكتاب فإنه وصف تقريري وإيراد معلومات من غير تبئيير؛ أي ال يضيف ابن‬
‫المعطايات اآلتية‪:‬‬
‫حوقل صفات وخصائص للفضاءات واألماكن واإلنسان واألشياء‪ -‬تعبر عن وجهة نظره إال نادرا‪،‬‬
‫فهو يورد المعلومة بحيادية تضع كتاب الرحلة في باب التقارير الجعرافية‪ ،‬فال وضوح لصوت‬ ‫أوال‪ :‬سردية الرحلة‬
‫الراوي الذي يرسم األشياء كما يراها من زاويته ويتفاعل معها سلبا أو إيجابا‪ ،‬كما ال يعبر ابن‬
‫ّ‬ ‫يمكن تقسيم األعمال األدبية إلى‪ :‬سردية‪ ،‬حوارية‪ ،‬وصفية‪ .‬وال يعني ذلك أن هذا التقسيمات‬
‫حوقل عن انطباعاته الشخصية التي تمثل روح السرد األدبي إال نادرا‪ ،‬فقد سيطر الوصف المحض‬
‫تقوم في عزلة عن بعضها‪ ،‬فالعمل السردي‪ -‬مثل الرواية‪ -‬قد يحتوي على مساحات كبيرة من‬
‫الذي خص به األشياء واألماكن دون البشر وعالقاتهم باألشياء واألماكن‪ .‬وكذا رحلة المقدسي التي‬
‫الوصف والحوار؛ والعمل الوصفي‪ -‬مثل الشعر‪ -‬قد يحوي على أبعاد سردية وحوارية مهمة؛ وكذا‬
‫حظيت بدراسات كثيرة ال يمكن أن نصنفها جملة في دائرة األدب‪ ،‬فهي وصف وتوثيق وتأريخ‬
‫العمل الحواري‪ -‬مثل المسرح‪ -‬يحتوى على سرد ووصف بالضرورة؛ ألن أصله حكاية‪.‬‬
‫يتخللها سرد أدبي وتبئيير في بعض أجزاء الكتاب‪ ،‬وهذا النوع من كتب الرحالت يشبه كتب‬
‫ّ‬
‫فالسرد يتأسس على صيغة مركزية ومجموعة سمات تسمح بوصف العمل بأنه عمل سردي‪،‬‬
‫أبعاد أدبية دون أن‬
‫ٍ‬ ‫التاريخ والجغرافيا وغيرها من كتب المعرفة التي نعثر ‪ -‬في ثناياها ‪ -‬على‬
‫فالراوي الذي يحكي هو المهيمنة األساسية‪ -‬بدرجات متفاوتة‪ -‬في كل األعمال السردية‪ .‬ويقتضي‬
‫نصنفها في دائرة األدب‪ ،‬فهذا النوع تناسبه دراسات تحت عناوين مثل‪( :‬الجوانب األدبية في‬
‫ُ‬ ‫السرد التتابعية التي تخضع إما إلى الحبكة أو خط سير السرد مع الزمن في تقدمه إلى األمام‪،‬‬
‫رحلة فالن)؛ كما تدرس الجوانب األدبية في كتب التاريخ وغيره‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى ّ‬ ‫فكلما ضعفت الحبكة في الحكاية احتاج العمل األدبي إلى بروز عنصر الزمن الخارجي‪ .‬وتتابعية‬
‫فإن بعض الرحالت تمثل نصوصًا أدبية من خالل صيغتها السردية المتماسكة‬
‫السرد تفترض وجود أحداث وشخصيات وأزمنة وفضاء وأمكنة تمثل منبع الحكي‪.‬‬
‫من بدايتها إلى نهايتها‪ ،‬ويأتي الوصف ‪ -‬فيها ‪ -‬خادما للعملية السردية كما في السرد الحديث؛‬
‫سواء أتى خطاب الرحلة في سرد متتابع فيقترب من السيرة الذاتية أو في مجموعة حكايات‬
‫ترتبط بشخصية السارد‪/‬الرحال‪/‬المؤلف فيقترب من أدب المذكرات؛ وخير مثال على النوع األول‬
‫( ‪ ) 1‬علم السرد( الشكل والوظيفة في السرد) ‪،‬جيرالد برنس‪ ،‬ترجمة د‪ .‬باسم صالح‪ ،‬ط‪ 1‬دار الكتب العليمية‪ -‬بيروت‪ ،‬ص‪10‬‬
‫( ‪ ) 2‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪7-6‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫( ‪ ) 3‬كتاب المسالك والممالك‪ ،‬أبو القاسم بن حوقل‪،‬ط‪ ،1‬مطبعة بريل‪ ،‬مدينة ليدن‪1873 ،‬م‪ ،‬ص‪4‬‬

‫‪11‬‬ ‫‪10‬‬
‫يستوجبها كل محور‪ :‬فالمحور األول الترجمة والنسب وتاريخ األسالف وهو ترجمة وتوثيق يتطلب‬ ‫"رحلة ابن بطوطة" و"رحلة بن خلدون"‪ ،‬ومن أمثلة النوع الثاني معظم الرحالت التي كتبت في‬
‫ّ‬
‫ومادونه‬ ‫الدقة والتحري والوضوح‪ .‬أما المحور الثاني فيتناول حياة ابن خلدون الشخصية ومعاناته‬ ‫العصر الحديث‪ .‬وتمثل "رحلة ابن فضالن"‪309 -‬ه‪ -‬أفضل أنموذج للرحلة األدبية‪.‬‬
‫يوما بيوم عن تلك المعاناة‪ ،‬وهو محور يقتضي أسلوب وجداني لنقل التجربة من خالل ما يدور‬ ‫من هنا فال يمكن إدراج جميع النصوص الرحلية في دائرة األدب‪ ،‬فعلى الرغم من الحماس الكبير‬
‫ويؤثر في محيط النشأة والعمل وتطور األشياء والحياة وهذا النوع من الكتابة يراوح بين أدب‬ ‫لدي بعض الباحثين في محاوالتهم إدراج جميع الرحالت ضمن األنواع األدبية‪ -‬فإن الواقع يناقض‬
‫المذكرات والسيرة الذاتية‪ .‬أما المحور الثالث فهو رحالته‪ ،‬وأسلوبه سردي يروي حكاية متتابعة‬ ‫ذلك؛ فالرحالت التي وصلتنا منذ قديم الزمان تتفاوت في درجة سماتها األدبية؛ فبعض الرحالت‬
‫األحداث‪ .‬لقد اتجه معظم الباحثين – إن لم يكن جلهم‪ -‬إلى عد الترجمة والنسب وتاريخ األسالف‬ ‫محض كتابة تقريرية يتوارى صوت الراوى من مشهدها ليفسح المجال أمام الوصف الموضوعي‬
‫جزء من خطاب رحلة ابن خلدون‪ ،‬وهذا ما نعترض عليه؛ فالرحلة تبدأ بحديث ابن خلدون عن‬ ‫الذي تنعدم فيه درجات التخييل والتبئيير؛ لذا فإن تجنيس الرحلة أدبيا يقتضي وجود السمات‬
‫نفسه ومعاناته ورحلته؛ باعتبار ذلك يمثل سردية متناسقة‪ .‬أما حديثه عن تاريخ أسالفه فهو‬ ‫األساسية لألدبية‪.‬‬
‫عتبة قد تعين على إضاءة ابن خلدون المفكر عامة وليس جزء من الرحلة؛ ألنه توثيق تأريخي‬ ‫والرحلة بوصفها عمال سرديا تتأسس على ثنائية متن‪/‬خطاب‪ّ ،‬‬
‫فإن الراوي‪/‬المؤلف يقوم بتحويل‬
‫محض‪ ،‬ولغته تقريرية محضة تبدأ هكذا (وأصل هذا البيت من إشبيلية‪ ،‬انتقل سلفنا‪ ...‬إلى‬
‫المتن إلى خطاب سردي تنتجه ألفاظ اللغة‪ ،‬فيستعمل أسلوبا مخصوصا في هذه العملية‬
‫‪ .‬ويستمر في التعريف بنفسه وأسالفه من (ص ‪27‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫تونس في أواسط المائة السابعة إلخ‪)...‬‬ ‫التحويلية‪ ،‬ولما كانت الرحلة حكاية ّ‬
‫فإن فحص أدبيتها من مهمة السرديات‪ ،‬و تتحقق أدبية‬
‫إلى ص‪ ،)36‬وهذا الجزء يندرج في أدب التراجم وال عالقة له بالرحلة على الرقم من أن المحقق‬
‫الرحلة بتحقق األبعاد السردية التالية‪:‬‬
‫ثان‪ -‬من (ص‪ 37‬إلى ص ‪-)84‬‬‫محور ٍ‬
‫ٍ‬ ‫والمحرر يجعالنه من نص الرحلة‪ ،‬ثم ينتقل ابن حلدون إلى‬
‫ّ‬ ‫ثانيًا‪ :‬تتابع السرد‪:‬‬
‫فيتناول "نشأته ومشيخته وأحواله وأحوال عصره"‪ ،‬وهذا الجزء يندرج ضمن أدب المذكرات؛ ألنه‬
‫يؤرخ ألحواله وما شهده عصره من أحداث وتقلبات بعين فاحصة‪ .‬أما الرحلة فتبدأ – في رأينا‪-‬‬
‫قبل النظر في تتابعية سرد خطاب الرحلة يجب التفريق بين خطاب الرحلة والعتبات الكثيرة‬
‫من (ص‪ )84‬بصيغة واضحة وعنوان واضح هو (الرحلة إلى األندلس) وذلك ببداية سردية تختلف‬
‫التي تبدأ بها كتب الرحالت؛ فأحيانا يكتب الرحلة شخص آخر غير صاحب الرحلة فيكتب مقدمة‬
‫عن الجزء األول والثاني‪ ،‬على الرغم من ورود معلومات عن الرحلة إلى االندلس وتلمسان والمغرب‬ ‫وتفسيرات قبل االنطالق في إيراد نص الرحلة‪ .‬إال ّ‬
‫ّ‬ ‫أن الذي ُيحدث الخلط هو مقدمات المؤلف‬
‫في سياقات مختلفة؛ لكنها وردت ضمن خطاب المذكرات بوصفها معلومات‪ ،‬وقد أعاد ذكر كل‬ ‫نفسه؛ وهي مقدمات تختلف من رحلة إلى أخرى‪ ،‬فبعضها مقدمات ّ‬
‫المعلومات التي ارتبطت برحلته إلى األندلس عندما سرد رحلته؛ ّ‬ ‫تفسر دوافع الرحلة‪،‬‬
‫ألن للرحلة نقطة بداية زمنية‬
‫ونهاية وربما عودة إلى نقطة البدء؛ لذا نعتقد ّ‬ ‫وبعضها تقدم السيرة الذاتية لصاحب الرحلة كما في رحلة ابن خلدون التي تحوي عدة مقدمات‪،‬‬
‫أن ما يسميه المحققون وبعض الباحثين كتاب‬ ‫منها مقدمة المحقق التي ُت ّ‬
‫عرف بابن خلدون يقول المحقق‪( :‬هذا الكتاب "رحلة ابن خلدون" هو‬
‫رحلة ابن خلدون هو ثالثة نصوص متباينة‪ :‬ترجمة تعربفية‪ ،‬ومذكرات‪ ،‬ورحلة تبدأ بقوله‪( :‬ولما‬ ‫َ‬
‫عبارة عن مذكرات شخصية كان يدونها يوما بيوم وأطلق عليها "التعريفات بابن خلدون" وفيها‬
‫أجمعت الرحلة إلى األندلس بعثت بأهلي وولدي إلى أخوالهم بقسنطينة إلخ‪ ،) 2 ( )...‬وهكذا‬
‫ترجمته ونسبه وتاريخ أسالفه‪ ،‬وشرح في هذه المذكرات ماعاناه في حياته ورحالته في الشرق‬
‫تنطلق الرحلة في تدفق سرد خطابها إلى نهاية الكتاب‪.‬‬
‫والغرب) ( ‪ .) 1‬في هذه المقدمة إشارة إلى ثالثة محاور مختلفة من حيث صيغة الكتابة التي‬

‫( ‪ ) 1‬رحلة ابن خلدون‪ ،‬ص ‪27‬‬ ‫( ‪ ) 1‬رحلة ابن خلدون‪ ،‬عبد الرحمن بن محمد الحضرمي االشبيلي (ت‪808‬ه)‪ ،‬تحقيق محمد بن تاويت الطنجي‪ ،‬تحرير وتقديم نوري الجراح‪ ،‬ط‪ ، 1‬دار الكتب‬
‫( ‪ ) 2‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪84‬‬ ‫العلمية‪ ،‬بيروت‪ -‬لبنان‪2004 ،‬م‪،‬ص ‪3‬‬

‫‪13‬‬ ‫‪12‬‬
‫زمن الخطاب‬ ‫ج‬ ‫ب‬ ‫أ‬ ‫هذه المقدمات والعتبات قد شوشت على الكثيرين في تحديد بداية خطاب الرحلة‪ ،‬فال بد من‬
‫ّ‬
‫االنتباه إلى ذلك؛ ألنه يؤثر مباشرة على تناسق خطاب الرحلة بوصفها حكاية سردية يجب أن‬
‫ّ‬
‫المقوم الجوهري ألي عمل سردي‪.‬‬ ‫تخضع إلى تتابعية السرد التي تمثل‬

‫وهناك مقدمات لرحالت تشرح مسار الرحلة بصورة عامة‪ ،‬وقد تجيء هذه المقدمات‪ -‬في بعض‬

‫ج‬ ‫ب‬ ‫أ‬


‫الرحالت‪ -‬مقتضبة ومتصلة بحركة السرد كما في رحلة ابن فضالن‪ ،‬فتمتزج المقدمة بنقطة‬
‫زمن الرحلة‬
‫البداية الحقيقية للخطاب السردي للرحلة‪ ،‬أما إذا لم تنصهر المقدمات والتراجم والتعريفات في‬
‫وال يعني ذلك أن جميع الرحالت‪ -‬بوصفها خطابا‪ -‬سرديًا تخضع لهذه الصيغة الزمنية الخطية؛‬ ‫نقطة بداية الخطاب السردي التي يضعها كاتب الرحلة فيجب النظر إليها ضمن العتبات وليس‬
‫توظف تقنية الفالش باك واالستباق‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ضمن نص الخطاب؛ ّ‬
‫وأن‬ ‫فبعض الرحالت ‪ -‬خاصة الرحالت في العصر الحديث‪-‬‬ ‫ألن كل ما يكتبه المؤلف‪/‬الراوي مفيد في تأويل الرحلة إال أنه ليس من‬
‫خط السرد ال ُي ّ‬
‫عول على زمن الرحلة الواقعي في انتظامه‪ ،‬فيظهر صوت الراوي بارزًا ومهيمنا‬ ‫صلب الرحلة عندما يتعلق األمر بمسألة تجنيس الرحلة بوصفها حكاية مسافر‪ ،‬فهذه المقدمات‬
‫على الحكي‪ ،‬وتفرض صيغة السرد حبكة داخلية تنظم أحداث الرحلة في خط سردي يسير إلى‬ ‫تمثل عتبات تفيد التحليل المضموني؛ وال سيما السيميائي‪ ،‬وهي مقدمات مثل عتبات النص‬
‫األمام وفق المنطق الداخلي لألحداث‪ ،‬ويترابط خطاب الرحلة في تتابعية تحتفظ بتقدم الزمن‬ ‫الروائي المتمثلة في العنوان‪ ،‬والغالف‪ ،‬واالقتباسات االستهاللية والرسومات‪ ،‬وغير ذلك‪ّ .‬أما‬
‫إلى األمام دون أن يجعل من الزمن الواقعي ناظما لزمن خطاب الرحلة؛ أي إن الراوي ال يلجأ إلى‬ ‫الرحلة بوصفها حكاية وخطاب فإن بدايتها تكون من نقطة االنطالق التي حددها خطاب الرحلة‬
‫استحضار الزمن بالساعة أو اليوم أو الشهر أو السنة ليجعل منه إطارا لألحداث؛ على الرغم من‬ ‫بواسطة الرحال‪/‬الراوي‪/‬المؤلف‪ ،‬وبتدقيق أكثر عندما يبرز صوت الراوى واضحا لنقل الحكاية على‬
‫تطابقهما في االتجاه إلى األمام‪.‬‬ ‫لسانه‪ ،‬منطلقا بحركة السرد في تنطيم سردي يتقدم إلى األمام حتى نهاية خطاب الرحلة؛ إما‬
‫ومن خالل وقوفنا على معظم الرحالت لحظنا هذا التنظيم بشقيه المنطقي والزمني‪ ،‬ففي بعض‬ ‫مع حركة الزمن الواقعي للرحلة‪ ،‬أو من خالل تنظيم سردية الرحلة استنادا إلى منطق األحداث‬
‫الرحالت استعمل الراوي‪ /‬المؤلف التنظيم المنطقي لألحداث (الحبكة)‪ ،‬ولم يستدع الزمن الواقعي‬ ‫الداخلي‪ ،‬وهذا ما نطلق عليه التتابعية التي تميز النصوص األدبية السردية عن النصوص األدبية‬
‫ً‬ ‫الوصفية‪.‬‬
‫التوثيق التأريخي إال لماما‪ ،‬وهذا ما جعل من هذه النصوص الرحلية أعماال أدبية عظيمة‪ ،‬وتمثل‬
‫رحلة ابن فضالن أفضل أنموذج للرحلة األدبية التي تتبع منطق الحبكة الداخلية‪.‬‬ ‫تخضع جميع الخطابات السردية إلى التتابعية الزمنية‪ ،‬فمن أساسيات السرد األدبي التتابع وفق‬
‫ّ‬
‫تبدأ رحلة ابن فضالن‪ -‬منذ الجملة األولى‪ -‬بداية سردية؛ على خالف معظم الرحالت التي يصعب‬ ‫منطق محدد‪ ،‬فإما السير في تتابع خطي محكوم بحركة الزمن التاريخي الذي ال يتراجع إلى الوراء‬
‫تضمين دواعي الرحلة وأهدافها ضمن العملية السردية‪ ،‬فابن فضالن يفتتح الرحلة بذكر‬ ‫(وهذا النوع يتجلي في السرد التاريخي عموما والروايات التقليدية)‪ ،‬أو يتحرك السرد في تتابعه‬
‫ّ‬
‫األسباب والدوافع بطريقة مقتضبة في قوله‪( :‬فلما وصل كتاب ألمش بن يلطور ملك الصقالبة‬ ‫وتقدمه إلى األمام وفق السببية التي تربط األحداث استنادا إلى منطقها الداخلي؛ دون حاجة‬
‫إلى أمير المؤمنين يسأله فيه البعثة إليه ممن يفقهه‪ ...‬فأجيب إلى ما ًسئل‪ ..‬فكان السفير له‬ ‫السرد إلى حركة الزمن الطبيعي‪/‬الواقعي‪ ،‬حيث زمن السرد هو الذي يتحكم في السردية؛ فيتقدم‬
‫نذير الحامي‪ ،‬فندبت أنا لقراءة الكتاب عليه‪.) 1 ( )...‬‬ ‫ويتراجع وفق تقنيات يوظفها الروائي ببراعة؛ فتبرز مفارقة واضحة بين زمن الخطاب السردي‬
‫وزمن الحكاية (المتن) التخيلية التي يخططها الروائي‪.‬‬
‫( ‪ ) 1‬رحلة بن فضالن إلى بالد الترك والروس والصقالبة‪ ،‬أحمد بن فضالن‪ ،‬تحرير وتقديم شاكر لعيبي‪ ،‬ط‪ ،1‬دار السويدي للنشر والتوزيع والمؤسسة العربية‬ ‫أما الرحلة بوصفها خطابا سرديا لحكاية واقعية ّ‬
‫فإن تتابعية خطابها السردي فإنها تخضع‬
‫للدراسات والنشر‪ ،‬ابو ظبي‪ -‬األمارات‪ ،‬بيروت‪ -‬لبنان‪2003 ،‬م‪ ،‬ص ‪39-37‬‬

‫‪ -‬بالضرورة ‪ -‬إلى زمن الحكاية (متن الرحلة)؛ فيتطابق زمن الخطاب السردي مع زمن الحكاية‪،‬‬
‫ويتقدم زمن الخطاب السردي للرحلة في مطابقة مع زمن الحكاية الواقعية كما في الشكل اآلتي‪:‬‬
‫‪15‬‬ ‫‪14‬‬
‫وأهلها وعاداتهم‪ ،‬وعندما يريد االنتقال من بخارى إلى خوارزم لم يستعمل حرف العطف (ثم)‬ ‫هذه المقدمة المقتضبة في‪ )12‬سطر) والتي أوضحت أسباب قيام الرحلة وتمويلها وطاقمها–‬
‫ّ‬
‫كما فعل مع المدن السابقة‪ ،‬وإنما مهد بتقديم أسباب تعجيل الرحيل من بخارى‪( :‬وأقمنا ببخارى‬ ‫لم تنفصل عن البداية السردية للرحلة؛ فقد جاءت بصيغة خبرية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بخطاب‬
‫ثمانية وعشرين يومًا‪ ،‬وقد كان الفضل بن موسى أيضًا واطأ عبد الله بن باشتو وغيره من‬ ‫الرحلة؛ بل ال يمكن فصلها‪ -‬كما في بعض الرحالت‪ -‬عن بنية سرد الرحلة؛ لصعوبة تفسير‬
‫أصحابنا يقولون‪ْ :‬‬
‫إن أقمنا هجم الشتاء وفاتنا الدخول‪ ،‬وأحمد بن موسى إذا وافانا لحق بنا) ( ‪.) 3‬‬ ‫بعض األحداث وما يجري من تفاصيل سردية بعيدًا عن هذه المقدمة‪ ،‬فقد شكلت هذه المقدمة‬

‫لقد تجلى التتتابع السردي في رحلة "ابن فضالن" بكل شروطه؛ فحققت الرحلة‪ -‬بذلك‪ -‬أحد‬ ‫التعريفية المقتضبة متنًا والرحلة هامشًا؛ فقد ربط ابن فضالن هذه المقدمة بخطاب الرحلة‬

‫أهم شروط أدبية الرحلة بوصفها حكاية‪ ،‬فطقت طرائق السرد والوصف والحوار والتبئيير‬ ‫مباشرة من خالل حرف العطف الـ(فاء) الذي يفيد التتابع (فرحلنا من مدينة السالم يوم الخميس‬

‫والتشويق والتتابع‪ -‬على البعد المعرفي التوثيقي للرحلة‪ .‬فالرحلة منذ انطالق صوت الراوي‬ ‫إلحدى عشر ليلة خلت من صفر سنة تسع وثالثمائة‪ ،‬فأقمنا بالنهروان يومًا واحدًا‪ ،) 1 ( )...‬وهكذا‬

‫تحركت في سرد مدهش ومشوق ومتتابع يشد القارئ من خالل تنويع السرد بالوصف والحوار‬ ‫يسرد‪ -‬ابن فضالن‪ -‬رحلته؛ معددا األيام التي قضوها في المدن التي مروا بها دون إشارة إلى‬
‫والتخييل وتنوع الحكايات ومزج العجائبي واألسطوري بالواقعي‪ ،‬وقد ترابط خيط سردها رغم‬ ‫األيام التي قضوها في السير إال نادرًا؛ مستعمال أداة العطف (ثم) التي تفيد التراخي لمتابعة‬
‫اختالف األحداث مكانا وزمانا‪ ،‬وغياب الرابط الموضوعي بين األحداث واألمكنة واألزمنة؛ فتراه‬ ‫خط سير الرحلة‪ ،‬و(حتي) لإلشارة إلى وصول مدينة ما في الطريق‪ ،‬وحرف العطف (الفاء) الذي‬
‫ينتقل من مكان إلى مكان ومن قوم إلى قوم دون أن تفقد الحكاية تماسكها المنطقي حتى‬ ‫يفيد التتابع لبيان مدة اإلقامة في جمل متتابعة على هذا النحو (‪ ...‬ثم رحلنا‪ ...‬حتى وافينا‪..‬‬
‫نهاية الرحلة؛ فرحلة ابن فضالن هذه أقرب إلى المذكرات الشخصية لحركة مسافر رمت به‬ ‫ثم رحلنا‪ ...‬فأقمنا إلخ‪ )...‬فتراه ينتقل من مدينة إلى مدينة دون تفاصيل وافية عن تلك المدن؛‬
‫األقدار؛ ال مبعوث لمهمة محدودة؛ فالحكاية تنتطم في خط السرد وفق منطق التتتابع الداخلي‬ ‫أو وصف لتافصيل الطريق حتى بلوغهم مدينة (بخارى) حيث اختلفت طريقة السرد فتحولت‬
‫لألحداث التي تدور حول شخصية الراوي أكثر مما يدور الراوي حولها بالرصد والوصف؛ فقد‬ ‫من الخبرية إلى السرد والوصف والحوار؛ فابن فضالن وظف تقنيتا الحذف والتلخيص ببراعة؛‬
‫ُ‬
‫قام الراوي بربط األحداث والشخصيات والفضاء واألمكنة واألشياء من خالل التبئيير‪ .‬ومن هنا‬ ‫ألنه يريد أن ينتقل مباشرة إلى ذروة الحدث‪ ،‬وانتقي أدواة العطف ببراعة كبيرة لتغنيه عن ذكر‬
‫ّ‬
‫فإن تتابع السرد الرحلي يرتبط بقدرة الراوي على اإلمساك بحركة السرد من نقطة البداية إلى‬ ‫المعلومات التي ليست بذات أهمية‪( :‬ثم دخلنا بخارى‪ ،‬وصرنا إلى الجيهاني‪ ...‬فتقدم بأخذنا إلى‬
‫نهايتها‪.‬‬ ‫الدار‪ ...‬ثم استأذن لنا على نصر بن أحمد‪ ...‬ثم قرئ الكتاب عليه بتسليم‪ ...‬وإنفاذنا‪.) 2 ( )...‬‬

‫وبعد دخولهم مدينة بخارى يذكر بعض األحداث مثل‪ :‬مقابلة الجيهاني واالستئذان على نصر‪،‬‬
‫ثالثا‪ :‬تقنيات السرد‬
‫وقراءة الكتاب؛ ويذكر ذلك في إطار المعلومات العامة التي تعين على فهم ما سيجري أو لترابط‬
‫يشمل السرد أشكاال تعبيرية عدة‪ ،‬معظمها يندرج في باب األدب‪ ،‬وقليل منها يمثل حقال معرفيا‬ ‫السرد وتتابعه في إطار منطق الحبكة؛ وفي ذلك يستعمل الحرف (ثم) في موضعين؛ وينتقل‪-‬‬
‫منفصال مثل‪ :‬التاريخ‪ ،‬الجغرافيا الوصفية وغير ذلك‪ ،‬إال أن الفارق بين السرد األدبي وغيره يكمن‬ ‫بعد بخارى‪ -‬من الخبر إلى السرد الخالص المبأر (تبئيير) من قبل الراوي‪ ،‬ويتنوع السرد بالوصف‬
‫ً‬
‫في طبيعة تقنيات السرد‪ .‬والرحلة بوصفها شكال أدبيا لها من المقومات السردية ما يبعدها من‬ ‫والحوار والتهكم والسخرية؛ فيبدأ الراوائ بسرد التفاصيل عن مدينة بخارى؛ وتختفي أداة العطف‬
‫التأريخ والجغرافيا واالثنولوجيا و يقربها من األدب السردي‪ .‬وتلعب طريقة توظيف تقنيات السرد‬ ‫لعدة صفحات‪ ،‬تاركة األحداث تترابط وفق منطق داخلي مركزه الراوي‪ ،‬فيصف بخارى ودنانيرها‬
‫دورًا مهما في أدبية الرحلة‪ ،‬وتتمثل هذه التقنيات في اآلتي‪:‬‬
‫( ‪ ) 1‬رحلة بن فضالن‪ ،‬ص ‪43‬‬
‫‪ -1‬الراوي في الرحلة‬ ‫( ‪ ) 2‬رحلة ابن فضالن‪ ،‬ص‬
‫( ‪ ) 3‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪47‬‬
‫يمثل الراوي بعدًا مهمًا في السرديات عموما‪ ،‬فالمستوى السردي‪ -‬كما يذهب روالن بارت ‪ -‬تهيمن‬
‫عليه العالمات السردية التي هي عبارة عن مجموعة من العناصر اإلجرائية التي تعمل على دمج‬
‫‪17‬‬ ‫‪16‬‬
‫في الرحلة (فرحلنا من مدينة السالم يوم الخميس إلحدى عشرة ليلة خلت من صفر سنة تسع‬ ‫الوظائف واألفعال داخل الفعل السردي‪ ،‬وهي عملية تتمحور حول السارد أو المتلقي( ‪ .) 1‬فالسارد‪/‬‬
‫وثالثمائة ‪ ...‬وسرنا‪ ...‬ثم سرنا‪ .) 1 ( )...‬وهكذا يسرد الراوي الحكاية بضمير الجمع (ثم قطعنا‬ ‫الراوي هو األداة التي تنظم الخطاب السردي‪ ،‬ففي الرواية الحديثة يختلف الراوي عن كاتب‬
‫المفازة‪ ,‬ثم رحلنا إلى سرخس‪ ،‬ثم استأذن لنا‪ ،‬وأقام لنا رجل‪ ،‬فقلنا‪ .)...‬ويعود الراوي إلى ضمير‬ ‫الراوية؛ وفي نظر البنيويين أمثال روالن بارت فالراوي كائن ورقي يبتكره الكاتب‪.‬‬
‫األنا عندما يغوص في تفاصيل األحداث‪ ،‬فينتقل ببراعة من الــ(نحن) إلى الــ(أنا) كما في قوله‬ ‫أما الراوي في أدب الرحلة فهو شخص واقعي من لحم ودم يروي الحكاية بضمير األنا ‪ -‬في معظم‬
‫(وأقمنا نحن ببخارى ثمانية وعشرين يوما‪ ...‬ورأيت الدراهم ببخارى ألوانًا شتى‪ .) 2 ( )...‬ثم يعود‬ ‫الرحالت ‪ -‬أو النحن في بعضها‪ ،‬وقد يكون سارد خطاب الرحلة هو الرحالة نفسه‪ ،‬وقد يرويها‬
‫ُ‬ ‫شخص آخر كما في رحالت ابن بطوطة التي رواها "ابن جزي"‪ ،‬وفي الغالب األعم ّ‬
‫من ضمير الــ(أنا) إلى الــ(نحن) بذات اليسر (فلما سمعت كالم عبد الله بن باشتور وكالم غيره‬ ‫فإن الرحالة‬
‫يحذرونني من هجوم الشتاء رحلنا من بخارى راجعين إلى النهر‪.) 3 ( )..‬‬ ‫نفسه هو من يروي حكايته‪.‬‬
‫لقد راوح ابن فضالن في سرده بين ضمير الـ(أنا) والـ(نحن) حتى نهاية الرحلة‪ ،‬فكلما تحدث عن‬ ‫وعلى الرغم من االختالف بين السارد في األدب التخييلي االحتمالي والسارد في أدب الرحالت‪-‬‬
‫الحركة والتنقل واللقاء بالمسؤولين أو ما يقابلونه في الطريق أو عند دخول المدن أو مغادرتها‬ ‫ّ‬
‫فإن المهم هو إبداعية السرد على لسان الراوي‪ .‬ففي أدب الرحالت يمسك الراوي بخيوط السرد من‬
‫يستعمل‪ -‬في الغالب‪ -‬ضمير الـ(نحن)‪ ،‬وكلما غاص في التفاصيل والوصف والمالحظة‪ -‬أثناء‬ ‫بداية الرحلة إلى نهايتها‪ ،‬وهو ما يشكل التتابعية التي ّ‬
‫تعوض الحبكة التي ترابط األحداث في‬
‫اإلقامة‪ -‬استعمل‪ -‬في الغالب‪ -‬ضمير الــ(أنا)‪.‬‬ ‫السرد الروائي وفق منطق السببية؛ ففي خطاب الرحلة ُت ُ‬
‫سرد أحداث قد ال يوجد ما يربط بينها‬
‫وعلى الرغم من استعماله ضمير الـ(نحن) بكثرة إال أن الذي يروى هو الـ(أنا) الممثلة البن فضالن‬ ‫غير مركزية الراوي‪ /‬الرحالة؛ فراوي الرحلة هو األداة الممسكة بخيوط السرد‪ ،‬والمبتكرة للحبكة أو‬
‫راوي خطاب الرحلة‪ ،‬واستعمال ضمير الـ(نحن) في السرد كان الغرض منه اإلشارة إلى الرفقة التي‬ ‫اإلطار الكلي الذي يجمع شتات األمكنة واألحداث من أجل سردية متناسقة األبعاد‪.‬‬
‫كانت معه أو التي كان معها‪ .‬وال يخضع استعمال الضمائر في الحكي‪ -‬عند ابن فضالن‪ -‬إلى‬ ‫لقد اختلف كتاب الرحلة في طرائق بناء خطاب الرحلة‪ ،‬فمعظمهم اعتمد أسلوب الوصف المحض‬
‫قانون ثابت‪ ،‬فمرة يستعمل ضمير الـ(نحن) في موضع التبئير الذي يقتضي استعمال ضمير‬ ‫نشدانا للموضوعية؛ فجاءت رحالتهم تقارير صارمة خالية من التبئير وروح السرد؛ لذا ال نرى ّ‬
‫أن‬
‫الـ(أنا) ( فرأينا بلدا ما أظننا إال أن بابا من الزمهرير قد فتح علينا‪ .) 4 ( )...‬فقد يصلح هذا المشهد‬ ‫هذا النوع من الرحالت يندرج في دائرة األدب‪ ،‬فالعملية السردية وقدرة الراوي على تنويع السرد‬
‫أن بابا من الزمهريير‪)...‬؛ ّ‬
‫ألن هذه الصورة التي‬ ‫للتعبير عنه بضمير األنا (فرأيت بلدًا ما أظن إال ّ‬
‫من أهم مقومات أدبية الرحلة‪.‬‬
‫رسمها قد ال يوافقه عليها رفاقه كلية أو إلى حد ما‪.‬‬
‫ومن خالل رحلة ابن فضالن سنوضح أثر الراوي في تحقيق أدبية الرحلة وتماسكها وتتابع حركة‬
‫ّ‬
‫وتحول الراوي المركزي‪ /‬المؤلف إلى‬ ‫وبجوار الراوي المركزي هناك رواة ثانويين شاركوا في السرد؛‬ ‫السرد‪ .‬لقد أمسك ابن فضالن بخيوط سرد خطاب رحلته التي شملت ‪ 25‬بلدًا من بداية رحلته‬
‫مستمع‪ ،‬ومن أبرز الرواة الثانويين ملك الصقالبة‪ ،‬وقد أدخله ابن فضالن في السرد بطريقة‬ ‫هو ورفاقه التي انطلقت من بغداد حتى بالد الخزر‪ .‬فالراوي المركزي هو ابن فضالن‪ ،‬حيث‬
‫بارعة؛ حيث بدأ الرواي المركزي ابن فضالن بسرد الحكاية بقوله (وكان تكين حدثني ّ‬
‫أن في‬ ‫ابتدر السرد بضمير األنا الواضح ّ‬
‫(لما وصل كتاب ألمش‪ ...‬إلى أمير المؤمنين‪...‬كان السفير له‬
‫بلد الملك رجل عظيم الخلق جدا‪ ،‬فلما صرت إلى البلد سألت الملك عنه فقال‪ :‬نعم قد كان في‬ ‫نذير الحرمي‪ ،‬فندبت أنا لقراءة الكتاب‪ .) 2 ( )...‬يستعمل الراوي ضمير الــ(نحن) ليشمل رفاقه‬
‫بلدنا‪ ) 5 ( )...‬ويستلم الملك الحكي ويتحول الراوي األول ابن فضالن إلى مستمع والملك يسرد‬

‫( ‪ ) 1‬طرائق تحليل السرد األدبي‪ ،‬روالن بارت وآخرون( التحليل البنيوي للسرد‪ ،‬روالن بارت‪ ،‬ترجمة حسن بحراوي وآخرون)‪ ،‬ط‪ ،‬منشورات اتحاد كتاب المغرب‪،‬‬
‫( ‪ ) 1‬المرجع السابق ص ‪43‬‬
‫‪1992‬م‪ ،‬ص ‪29‬‬
‫( ‪ ) 2‬المرجع السابق ص‪47‬‬
‫( ‪ ) 2‬رحلة ابن فضالن‪ ،‬ص‪39‬‬
‫( ‪ ) 3‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪48‬‬
‫( ‪ ) 4‬رحلة ابن فضالن‪ ،‬ص‪51‬‬
‫( ‪ ) 5‬المرجع السابق ص ‪96-94‬‬

‫‪19‬‬ ‫‪18‬‬
‫تظهر في أسلوبها شخصية الراوي‪/‬الكاتب‪ ،‬وخير مثال على ذلك " الرحلة األولى للبحث عن‬ ‫حكايته التي استغرقت صفحتين من الكتاب المحقق عن الرحلة‪ .‬وهكذا تسير حركة السرد على‬
‫ينابيع البحر األبيض (النيل األبيض)" التي قام بها "البكباشي سليم قبودان"‪ ،‬وتحركت بأمر‬ ‫لسان الراوي المركزي ‪-‬وبعض الرواة الثانويين الذين يدخلهم ابن فضالن ليسردوا بأنفسهم‪ -‬حتى‬
‫من محمد علي باشا سنة (‪1255‬هـ‪1839 -‬م)‪ .‬وعلى الرغم من تشابه المهمتين في الرحلتين‪:‬‬ ‫نهاية السردية‪.‬‬
‫رحلة ابن فضالن‪ ،‬ورحلة البكباشي‪ -‬مع اختالف دوافع الرحلتين‪ -‬فإن االختالف بينهما من حيث‬ ‫وما زاد من جماليات السرد في رحلة ابن فضالن أن ابن فضالن الراوي ال يعتمد الوصف المحض‬
‫األدبية كبير جدا؛ فرحلة بن فضالن حكاية سردية فيها كل مواصفات السرد األدبي‪ ،‬بينما رحلة‬ ‫المحايد؛ وإنما استعمل أسلوب السرد الذي يوظف الوصف ضمن حركة السرد‪ ،‬فقد ركز ابن‬
‫البكباشي وصف تقريري يفتقر إلى التماسك والتتابع السردي التخييل‪ ،‬فال يغوص البكباشي‬ ‫فضالن على األحداث وجعل منها منفذا لوصف األشياء‪ ،‬فصار الراوي مشاركًا في الحدث وليس‬
‫في أسرار النيل األبيض كما فعل ابن فضالن الذي لم يأخذ من أنهار شرق أسيا إال ما يمثل فعال‬ ‫مراقبا وواصفا وحسب‪ ،‬فجاءت المشاهد مرسومة من وجهة نظر الراوي‪/‬الرحالة؛ إلى درجة برز‬
‫عجيبا ومدهشًا‪ ،‬فينطلق منه للتعريف بالناس وسلوكهم وعاداتهم ومعتقداتهم من منظوره‬ ‫فيها التبئيير واضحا‪ ،‬فاقترب برحلته إلى المحتمل السردي رغم واقعية المسرود الذي هو موضوع‬
‫كراوي (التبئيير)‪ ،‬أما البكباشي فقد لجأ إلى لغة تقريرية عمادها الوصف الذي يخدم موضوعية‬ ‫الرحلة وهدفها‪ ،‬فقد وظف ابن فضالن كل أساليب السرد التي نجدها في السرد الحديث‪ ،‬وانتخب‬
‫الخبر ودقة المعلومة‪ ،‬ولم يأت التخييل الوصفي إال في صور محدودة ومعدودة‪ ،‬منها تشبيه‬ ‫أسلوبًا تخييليا تجسيميا إلبراز األحداث واألشخاص واألماكن‪.‬‬
‫النيل باألفعوان في انسيابه؛ وهي صورة بالغية تزيينية معزولة عن حركة السرد‪( :‬بعد ّ‬
‫أن حمد‬
‫البكباشي سليم قبودان بارئ النسم‪ ،‬ومجري النعم على ما ّزين به البالد السودانية من بديع‬ ‫‪ –2‬الوصف والتبئيير( ‪:) 1‬‬
‫المخلوقات‪ ...‬قال‪ :‬إنه تعلق بعون العناية الربانية إرادة مشير المجد‪ ...‬الستكشاف مجرى البحر‬ ‫يعد الوصف من أهم مقومات الفعل السردي؛ فاألعمال السردية هي مراوحة بين السرد والوصف‬

‫األبيض أو النيل األبيض المنساب في األقطار الشرقية انسياب األفعوان إلخ‪.) 3 ( )...‬‬ ‫والحوار‪ ،‬إال أن السرد والوصف يطغيان على الحوار‪ ،‬وعالقة السرد بالوصف عالقة حركة وتوقف؛‬
‫فالسرد يمثل التتابع والفعل والتقدم؛ ويأتي الوصف‪ -‬ومعه الحوار‪ -‬إلبطاء حركة السرد( ‪.) 2‬‬
‫ّأما الوصف في رحلة ابن فضالن فقد جاء منتظما ضمن حركة السرد‪ ،‬مبتعدًا عن التقريرية‪،‬‬
‫كاشفا لألشياء وأحجامها وأشكالها‪ ،‬مصورًا لألحداث ودراميتها‪ ،‬راسمًا للشخصيات في تبايناتها‬ ‫ويعتبر الوصف مقومًا أساسيًا في أدب الرحالت؛ حيث يطغى هذا األسلوب على غيره من‬

‫ونمطياتها الجارية بحكم تأصل العادات‪ ،‬وكل ذلك جاء في أساليب تخييلية إبداعية تراوح‬ ‫األساليب‪ ،‬وقد يغرق الرحالة في الوصف المحايد إلى درجة تجعل من الرحلة تقريرا يخلو من أي‬
‫ّ‬ ‫لمحة شعرية‪ ،‬وقد يستعمل الوصف بطريقة تخييلة رائعة تجعل منه خادما للعملية السردية‪.‬‬
‫بين التجسيم والتشخيص والتهكم والسخرية؛ فهو ينقل المعلومة المراد إيصالها بكل حصافة‬
‫وتشويق؛ فتمتزج المعرفة بالشعرية؛ وتتحقق المعرفة دون أن يسقط الخطاب الرحلي في‬ ‫فخطاب الرحلة – في األساس‪ -‬وصف لمشاهد متنوعة‪ :‬أماكن‪ ،‬أشياء‪ ،‬بشر إلخ‪ ،...‬إال أن المهم‬
‫التقريرية التوثيقية‪ّ ،‬‬
‫ألن بروز وجهة نظر السارد‪ /‬ابن فضالن في التصوير نقلت التعبير من‬ ‫ليس كون الرحلة توغل في الوصف وإنما كيف جاء الوصف في خطاب الرحلة‪ ،‬فبعض الرحالت‬

‫التقريرية إلى التبئيير الذي صور األشياء من زاوية الراصد‪ /‬الراوي‪ ،‬ويتضح ما ذهبنا إليه من خالل‬ ‫تجعل من الوصف قيمة لذاته؛ فيقلل من أدبيتها‪ ،‬وبعضها تجعل من الوصف أداة ووسيلة‬

‫هذا الوصف الذي يجمع بين نقل الحقيقة والتخييل والتبئيير؛ فيترك مساحة كبيرة للقارئ إلعادة‬ ‫لوصف األشياء واألماكن واإلنسان واألحداث في إطار تفاعلي بغية كشف أبعادها الخفية؛ فيعطي‬

‫البناء من خالل التأويل؛ ففي وصف البرد وظف ابن فضالن في رحلته عددا من األساليب؛ مظهرًا‬ ‫الرحلة بعدها األدبي السردي؛ ألن هذا النوع من الرحالت يركز على سرد الحكاية من منظور الحركة‬
‫التي ترتكز على األحداث‪ .‬ومن خالل رحلة ابن فضالن ينكشف هذا النوع من الوصف الذي يأتي‬

‫( ‪ ) 1‬أدرجنا الوصف مع التبئيير لتالزمهما‪ ،‬وألن التبئيير يمثل بعدا حاسما في تبيان الفرق بين الوصف الموضوعي الجغرافي وبين الوصف المبأر الذي‬
‫خادما للعملية السردية‪.‬‬
‫ً‬
‫يجعل من الرحلة عمال أدبيا‪.‬‬
‫( ‪ ) 2‬انظر بناء الرواية دراسة مقارنة في ثالثية نجيب محفوظ‪ ،‬د‪.‬سيزا قاسم‪ ،‬سلسلة مهرجان القراءة للجميع‪ ،‬هيئة الكتاب‪ ،‬القاهرة‪2004،‬م‪ ،‬ص‪117‬‬ ‫لقد جاء الوصف في رحلة ابن فضالن وصفًا تصويريا ومتنوعا داخل حركة السرد‪ ،‬فبعض‬
‫( ‪ ) 3‬الرحلة األولى للبحث عن ينابيع البحر األبيض (النيل األبيض)‪ ،‬البكباشي سليم قبودان‪ ،‬ترجمة محمد مسعود‪ ،‬ط‪ ،2‬مكتبة مدبولي‪ ،‬القاهرة‪1996 ،‬م‪،‬‬
‫ص‪7‬‬
‫الرحالت تعتمد على الوصف الخارجي‪ ،‬فتأتي الرحلة تقريرا صارما لمهمة علمية موضوعية ال‬

‫‪21‬‬ ‫‪20‬‬
‫وصفه للشعب الروسي يبرز التبئيير من خالل األوصاف اإلضافية التي تعبر عن وجهة النظر؛‬ ‫المعاناة التي واجهوها؛ فيخيل ويجسم ويستدعي الحكاية‪ ،‬ويرسم صورا كاريكتيرية من خالل‬
‫فابن فضالن ال يصف الحقيقة عارية؛ وإنما يصفها كما يراها هو؛ وهي حقيقة يتفق معه القارئ‬ ‫بيان أثر البرد في األشياء واإلنسان‪ ،‬فمن وصف آثار البرد في البشر واألشياء يقول‪( :‬وتطاول‬
‫في وجودها ولكن ربما يختلف معه حول تصويرها‪ ،‬يبدأ الحديث عن الروس بقوله‪( :‬وقد رأيت‬ ‫مقامنا بالجرجانية‪ ...‬وكان طول مقامنا من جهة البرد وشدته‪ ،‬ولقد بلغني أن رجلين ساقا اثني‬
‫ّ‬ ‫الروسية وقد وافوا في تجارتهم ونزلوا على نهر إتل‪ ،‬فلم أر ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫حطبا من بعض الغياض‪ ،‬فنسيا ْ‬
‫أتم أبدانًا منهم كأنهم النخل شقر‬ ‫أن يأخذا عليها قداحة وحراقة‪ ،‬وأنهما‬ ‫عشر جمال َليحمال عليها‬
‫حمر ال يلبسون القراطق وال الخفاقين ولكن يلبس الرجل منهم كساء يشتمل به على أحد شقيه‪،‬‬ ‫باتا بغير نار فأصبحا والجمال موتى لشدة البرد) ( ‪ .) 1‬ويواصل وصف البرد من خالل أثره على‬
‫ويخرج أحدي يديه منه‪ ،‬ومع كل واحد منهم فأس وسيف وسكين ال يفارقه‪ ...‬وسيوفهم صفائح‬ ‫األشياء في أسلوب تخييلي مبدع‪ ،‬فمن خالل وصف البرد يصف المدينة وشوارعها وسلوك الناس‪،‬‬
‫مشطبة أفرنجية‪ ...‬وكل امرأة منهم فعلى ثديها حقة مشدودة إما من حديد وإما من فضة‬ ‫فيقدم صورة حية من خالل الوصف التخييلي والتصوير الكاركتيري الذي يثير الضحك‪ُ ،‬‬
‫فيبرز‬
‫وإما من نحاس وإما من ذهب على قدر مال الرجل) ( ‪ .) 4‬بعد هذا الوصف الموضوعي الذي ال يبدو‬ ‫الحقائق في ثوب طريف‪ ،‬يقول ابن فضالن واصفا فعل البرد والهواء في شوارع جرجان وأسواقها‬
‫فيه تبئييرا واضحا وال تخييال إال في تشبيه أجسادهم بالنخل ‪ -‬وهو تشبيه شائع‪ -‬ينتقل إلى‬ ‫ولحى البشر‪( :‬ولقد رأيت لهواء بردها بأن السوق بها والشوارع لتخلو حتى يطوف اإلنسان أكثر‬
‫الوصف الذي تبرز فيه وجهة النظر الشخصية؛ فيرسم صورة لتخييل الروس بوصفهم آخر مختلفا؛‬ ‫الشوارع واألسواق فال يجد أحدا‪ ،‬وال يستقبله إنسان‪ .‬ولقد كنت أخرج من الحمام فإذا دخلت البيت‬
‫فيتضمن الوصف أحكاما قيمية مركزها الراوي بوصفه حالة ثقافية نقيض هذا الوصف‪ ،‬يقول‪:‬‬ ‫نظرت إلى لحيتي وهي قطعة واحدة من الثلج حتى كنت أدنيها من النار) ( ‪.) 2‬‬
‫( وهم أقذر خلق الله ال يستنجون من غائط وال بول‪ ،‬وال يغتسلون من جنابة‪ ،‬وال يغسلون أيديهم‬ ‫ويرسم في وصف بديع وسرد دافئ صورة ألثر البرد على األرض واألشجار‪ ،‬ويربط بين ذهاب‬
‫من طعام‪ ،‬بل هم كالحمير الضالة يجيئون من بلدهم فيرسون سفنهم بإتل وهو نهر كبير‬ ‫البرد وانتقالهم من مدينة جرجان بطريقة رائعة تجعل السرد متتابعا؛ وذلك بقوله‪( :‬ولقد رأيت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تتشقق فيها أودية عظام لشدة البرد‪ّ ،‬‬
‫ويبنون على شطه بيوتًا كبارًا من خشب) ( ‪ .) 1‬هذا الوصف المبأر من قببل الراوي يمنح خطاب‬ ‫وأن الشجرة العظيمة (العادية = العاتية) لتنفلق‬ ‫األرض‬
‫يحول الوصف من تقريرته وموضوعيته إلى سردية أدبية تعبر عن وجهة نظر‬ ‫الرحلة بعدًا أدبيا ّ‬ ‫ّ‬
‫بنصفين لذلك‪ .‬فلما انتصف شوال من سنة تسع وثالثمائة أخذ الزمان في التغير‪ ،‬وانحل نهر‬
‫الراوي دون أن تنفي موضوعية الحقيقة‪ ،‬وإنما تحولها إلى محتمل؛ وهذا أساس السرد األدبي في‬ ‫جيحون وأخذنا نحن فيما نحتاج إليه من آلة السفر) ( ‪.) 3‬‬
‫جميع أنواعه‪.‬‬
‫ويتجلى جمال الوصف في طريقة إيصال الحقيقة الموضوعية من خالل التشخيص ورسم الصور‬
‫ويبرز التبئيير من خالل الوصف؛ وال سيما وصف الشخصيات‪ ،‬فقد وصف ابن فضالن رجال تركيا‪:‬‬ ‫التي تتماهى فيها الذات والصورة ُ‬
‫المصاغة عن الحقيقة؛ فابن فضالن برع في تصوير البرد؛‬
‫ّ‬ ‫ََ‬
‫(فلما كان من غد لق َينا رجل واحد من األتراك‪ ،‬دميم الخلقة‪ ،‬رث الثياب‪ ،‬قميء المنظر‪ ،‬خسيس‬ ‫فهو لم يقدم تقريرا عن البرد‪ ،‬وإنما قدم صورة للبرد وهو يفعل فعله في المكان والفضاء والناس‬
‫المخبر) ( ‪ ،) 2‬هذه الصورة السلبية التي رسمها ابن فضالن عن الرجل التركي تعبر عن وجهة نظر‬ ‫وسلوكهم‪.‬‬
‫تمهد لما بعدها‪ ،‬وهو معاناة ابن فضالن ورفاقه من المطر ومحاولة هذا الرجل التركي منعهم‬
‫ويظهر التبئيير ليعطي نص رحلة ابن فضالن خاصية سردية تبرز الحقيقة من خالل وجهة نظر‬
‫من المرور‪ ،‬يقول في ذات السياق‪...( :‬خسيس المخبر‪ ،‬وقد أخذنا مطر شديد فقال‪ :‬قفوا‪ ،‬فوقفت‬
‫راوي الرحلة بوصفها خطابًا‪ ،‬فتتحول الرحلة إلى سردية تراواح بين المحتمل والواقعي‪ ،‬ففي‬
‫القافلة بأسرها‪ ،‬وهي نحو ثالثة آالف دابة وخمسة آالف رجل‪ ،‬ثم قال‪ :‬ليس يجوز منكم أحد‪.‬‬
‫فوقفنا طاعة ألمره فقلنا له‪ :‬نحن أصدقاء كوزركين‪ ،‬فأقبل يضحك ويقول‪ :‬من كوزركين؟ أنا‬
‫رحلة ابن فضالن‪ ،‬ص ‪52‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫أخري على لحية كوزركين‪ .‬ثم قال‪ :‬بكند يعني الخبز بلغة خوارزم‪ ،‬فدفعت إليه أقراصًا‪ ،‬فأخذها‬ ‫رحلة بن فضالن ‪53 -52‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫وقال‪ :‬مروا قد رحمتكم) ( ‪ .) 3‬هذا الحوار مع الرجل التركي الذي وصفه ابن فضالن بالقميء يحمل‬ ‫رحلة ابن فضالن‪ ،‬ص‪58‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬ص ‪102-101‬‬ ‫(‪)4‬‬
‫مفارقة تطرح التساؤل‪ :‬كيف لرجل واحد يمنع قافلة تتكون من ثالثة آالف دابة وخمسة آالف‬

‫‪23‬‬ ‫‪22‬‬
‫فيها أيضاء رجاال ودواب وسالحا‪ ،‬فأقبلت هذه القطعة تحمل على هذه كما تحمل الكتيبة على‬ ‫رجل؟! بل األعجب من ذلك ّ‬
‫أن هذا الرجل الواحد يستعمل أسلوبا تهكميًا ساخرًا ومستخفا في‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التضرع والدعاء‪ ،‬وهم يضحكون منا ويتعجبون من فعلنا‪...‬‬ ‫الكتيبة‪ ،‬ففزعنا من ذلك‪ ،‬وأقبلنا على‬ ‫مواجهة خمسة آالف رجل‪ .‬بعيدًا عن المصداقية الخبرية فالمفارقات التي أوجدها السرد من‬
‫وكنا ننظر إلى القطعة تحمل على القطعة‪ ...‬فما زال األمر كذلك ساعة من الليل ثم غابتا‪ ،‬فسألنا‬ ‫الوصف (رجل قميء المنظر‪ ،‬خسيس المخبر) والسخرية (أنا أخري على لحية كوزركين)؛ وهي نوع‬
‫الملك عن ذلك فزعم ّ‬
‫أن أجداده كانوا يقولون‪ :‬إن هؤالء كانوا من مؤمني الجن وكفارهم‪ ،‬وهم‬ ‫من السخرية التي يستعملها ماركيز كثيرا في تصوير المفارقات؛ كما في نهاية روايته "ليس‬
‫يقتتلون في كل عشية) ( ‪.) 1‬‬ ‫لدى الجنرال من يكاتبه"‪.‬‬

‫ويصف األشجار والحياة ببراعة قصصية تحمل بين جنباتها انفعاالت السارد تجاه ما يصف؛ حتى‬ ‫وقد وصف ابن فضالن كل شيء‪ :‬البشر‪ ،‬الطبيعة‪ ،‬األشياء‪ ،‬الحيوانات‪ ،‬وكان وصف البشر ال يقف‬
‫ّ‬
‫كأن المشهد صورة ذاتية تخييلية وليست واقعية‪ ،‬ويتخلل الوصف الحوار‪ ،‬فتبرز العالقة بين‬ ‫عند أشكالهم؛ بل يتعداها إلى وصف سلوكهم وطرائق تعبيرهم وردود أفعالهم‪ ،‬وقد خص‬
‫اإلنسان والطبيعة األشياء في تناغم بديع‪ ،‬يقول ابن فضالن‪( :‬ورأيت الحياة عندهم كثيرة حتى‬ ‫األتراك بأكثر األوصاف الساخرة الفاحصة ألدق التفاصيل السلوكية‪ ،‬يقول عن قذارتهم وحبهم‬
‫ّ‬
‫أن الغصن من الشجرة عليه العشرة منها واألكثر وال يتلونها وال تؤذيهم‪ ،‬حتى لقد رأيت في‬ ‫للقتل وأكلهم للقمل‪( :‬ووقفنا في بلد قوم من األتراك يقال لهم الباشغرد‪ ،‬فحذرناهم أشد الحذر‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫بعض المواضع شجرة طويلة يكون طولها أكثر من مائة ذراع‪ ،‬وقد سقطت وإذا بدنها عظيم جدًا‬ ‫وذلك أنهم شر األتراك وأقذرهم‪ ،‬وأشدهم إقداما على القتل‪ ،‬يلقى الرجل الرجل فيفزر هامته‬
‫فوقفت أنظر إليه إذ تحرك فراعني ذلك‪ ،‬وتأملته فإذا عليه ّ‬
‫حية قريبة منه في الغلظ والطول‪،‬‬ ‫ويأخذها ويتركه‪ .‬وهم يحلقون لحاهم‪ ،‬ويأكلون القمل‪ ،‬يتتبع الواحد منهم درز قرطقة فيقرض‬
‫فلما رأتني سقطت منه وغابت بين الشجر‪ ،‬فجئت فزعًا فحدثت الملك ومن كان في مجلسه فلم‬ ‫القمل بأسنانه‪ .‬ولقد كان معنا منهم واحد قد أسلم‪ ،‬وكان يخدمنا‪ ،‬فرأيته وجد قملة في ثوبه‬
‫يكترثوا لذلك وقال‪ :‬ال تجزع فليس تؤذيك) ( ‪.) 2‬‬ ‫فقصعها بظفره‪ ،‬ثم لحسها وقال ّلما رآني‪ :‬جيد) ( ‪.) 4‬‬

‫ويقدم ابن فضالن الوصف متسقا ومترابطا‪ ،‬وينتقل من السرد إلى الوصف دون تكلف أو قفزات‬ ‫وفي وصف السحب المرزمة قدم صورة تشخيصية رائعة‪ ،‬وأبان ردود أفعالهم مما رأوا من مشهد‬
‫تقطع حركة السرد‪ ،‬فيندرج الوصف في الفعل السردي ويصبح تنويعا لحركة السرد التي تتبع‬ ‫مرعب‪ ،‬وقد صورة بطريقة متناسبة مع ردود أفعالهم من خوف لحقهم من مشهد يرونه ألول‬
‫تطورا واضحًا مركزه أنا السارد‪/‬المؤلف‪ ،‬ويتضح ذلك من خالل وصف "وحيد القرن"‪ ،‬فقد جاء‬ ‫مرة‪ ،‬ويتعدى ذلك إلى تصوير ردود أفعال أهل البلد إزاء خوفهم من الرعد‪ ،‬ويتخطى ذلك للسؤال‬
‫وصفه تطورا طبيعيا لألحداث؛ فمن سرد قصة الملك مع قوم سواز الذين لم يسلموا معه ولم‬ ‫عن المشهد‪ ،‬فيدخل العجائبي في تفسير الملك مؤكدا لصورته المتوهمة بسند تاريخي أسطوري‬
‫يرحلوا لما طلب منهم ذلك‪ ،‬فهربوا إلنهر‪ -‬انتقل ابن فضالن إلى وصف النهر‪ ،‬وانتهي وصف‬ ‫عن المشهد‪ ،‬يقول ابن فضالن‪( :‬ورأيت في بلده من العجائب ما ال أحصيها كثرة‪ ،‬من ذلك‪:‬‬
‫النهر على حوافه التي تنفتح على الصحراء التي بها وحيد القرن؛ فكل مشهد أو حدث يرتبط‬ ‫ّ‬
‫احمرت‬ ‫أن أول ليلة بتناها في بلده رأيت قبل مغيب الشمس بساعة قياسية أفق السماء‪ ،‬وقد‬
‫بما قبله دون تكلف؛ وبهذا انتقل من السرد إلى الوصف ليعود إلى السرد دون أن تفقد الحكاية‬ ‫احمرارًا شديدًا‪ ،‬وسمعت في الجو أصواتًا شديدة وهمهمة عالية‪ ،‬فرفعت رأسي‪ ،‬فإذا غيم أحمر‬
‫الرحلية تماسكها وتتابعها‪ ،‬يقول ابن فضالن‪( :‬فلما وجه إليهم خافوا ناحيته فرحلوا بأجمعهم‬ ‫مثل النار قريب مني‪ ،‬وإذا تلك الهمهمة واألصوات منه‪ ،‬وإذا فيه أمثال الناس والدواب‪ ،‬وإذا في‬
‫معه إلى نهر جاوشيز‪ ،‬وهو نهر قليل العرض‪ ،‬يكون عرضه خمسة أذرع وماؤه إلى السرة‪ ،‬وفيه‬ ‫أيدي األشباح التي فيه تشبه الناس رماح وسيوف‪ ،‬أتبينها وأتخيلها‪ ،‬وإذا قطعة أخرى مثلها أرى‬
‫مواضع إلى الترقوة‪ ،‬وأكثره قامة وحوله شجر كثير من الشجر الخدنك وغيره‪ ،‬وبالقرب منه صحراء‬
‫واسعة يذكرون أن بها حيوانا دون الجمل في الكبر‪ ،‬وفوق الثور؛ رأسه رأس جمل‪ ،‬وذنبه ذنب‬
‫( ‪ ) 1‬المرحع السابق‪ ،‬ص ‪72‬‬
‫( ‪ ) 2‬رحلة بن فضالن‪ ،‬ص‪66‬‬
‫( ‪ ) 3‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪66‬‬
‫( ‪ ) 4‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪73‬‬

‫‪25‬‬ ‫‪24‬‬
‫يحفل الخطاب السردي الرحلي بمقومات حوارية بالضرورة؛ ألن الرحالة يخترق الفضاءات واألمكنة‬ ‫ثور‪ ،‬وبدنه بدن بغل‪ ،‬وحوافره مثل أظالف الثور‪ ،‬له في وسط رأسه قرن واحد غليظ مستدير‪،‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫واالجتماع‪ .‬وقد جاء الحوار في كثير من الرحالت منتظما ضمن الخطة السردية الكلية؛ منوعا‬ ‫كلما ارتفع دق حتى يصير مثل سنان الرمح‪ ،‬فمنه ما يكون طوله خمسة أذرع إلى ثالثة أذرع إلى‬
‫للسرد‪ ،‬وموقفًا لتدفقه حتى ال تغرق السردية الرحلية في ذاتية تفقدها طابعها الموضوعي‬ ‫أكثر أو أقل‪ ،‬يرتعي ورق الشجر جيد الخضرة‪ ،‬إذا رأى الفارس قصده‪ ،‬فإن كان تحته جواد أمن‬
‫الذي هو قيمة وهدف للرحلة؛ خالفًا للسرد التخييلي‪ .‬وتتفاوت الخطابات الرحلية في القدرة على‬ ‫منه بجهد‪ ،‬وإن لحقه أخذه من تحت دابته بقرنه ّ‬
‫ثم زج به في الهواء‪ ،‬واستقبله بقرنه‪ ،‬فال يزال‬
‫تأطير الحوار في حركة الفعل السردي؛ فبعض الرحالت جاء الحوار فيها سطحيًا؛ ّ‬
‫ألن الراوي لم‬ ‫كذلك حتى يقتله) ( ‪.) 3‬‬
‫يهتم بانفعاالت األشخاص‪ ،‬ولم يوظف الحوار ضمن خط سير السرد‪ ،‬وبعض الرحالت جاء فيها‬ ‫وهكذا لم يترك ابن فضالن شيئا ذا بال إال وصفه وصفا تصويريا رائعا‪ ،‬ولم يجعل الوصف‪ -‬كما‬
‫ُ‬
‫الحوار حيًا ومعبرا ومنسجما ضمن حركة السرد‪ ،‬ومن بين تلك الرحالت رحلة ابن فضالن التي‬ ‫ذكرنا‪ -‬غايته األولى‪ ،‬بل جاء الوصف من أجل الغوص في تفاصيل األشياء المتداخلة مع الناس‬
‫جاء الحوار فيها متنوعًا‪ ،‬ومن ذلك الحوار الذي جرى بين الراوي وملك الصقالبة في شأن مال لم‬ ‫في عالقات يصعب فصل عراها؛ فابن فضالن ال يصف اإلشياء إال في عالقتها بالناس‪ .‬فقد‬
‫يوصلوه إليه مع الرسالة‪ ،‬وهو حوار يبدأ حوار استفسارات وأسئلة وأحوبة تحقيقية‪ ،‬ثم ينتقل إلى‬ ‫وصف الطبيعة والكائنات واألشياء وأكثر من وصف البشر وعاداتهم وسلوكهم؛ وفي كل ذلك‬
‫حوار في شكل مناظرة‪ ،‬بلغة حجاجية برهانية‪ ،‬وفي جميع ذلك ينتظم الحوار في حركة السرد‪،‬‬ ‫ينتقي ما هو أقرب إلى العحائبي من شدة غرابته‪ ،‬ومن ذلك وصف طقوس الموت عندهم‪ ،‬وقد‬
‫ويساهم في قوة الحبكة التي يمسك الراوي بخيوطها رغم تنوع األحداث والفضاءات واألمكنة‬ ‫وصف ذلك في حكاية عايشها؛ فمزج بين السرد والوصف في تبادل رهيب‪ ،‬والقصة‪ /‬المشهد‬
‫والبشر؛ فمن أبرع الحوارات التي جاءت في رحلة بن فضالن حوار الراوي مع الملك‪ ،‬فجمع بين‬ ‫فيها من الغرابة ما يشوق القارئ إلى متابعتها بنهم؛ فقد وصف أن الرجل إذا مات يزين وتدفن‬
‫التحقيق والمناظرة‪ ،‬وتجسيد االنفعاالت‪ ،‬واالنكسارات‪ ،‬فبدأ الحوار هادئًا باستفسارات الملك؛ وقد‬ ‫معه أشياء قيمة وواحدة من جواريه( ‪ ،) 4‬ويصف طقوس ما قبل ستر الميت الذي يحرق على مركب‬
‫ضمن خطة سردية محكمة البناء ال تحس فيها نشازًا‪ ،‬يقول ابن فضالن‪( :‬ولما كان بعد قراءة‬ ‫يرسلون به إلى النهر؛ والعجيب في الطقس حكاية الجارية التي تموت معه بمحض إرادتها‪،‬‬
‫الكتاب وإيصال الهدايا بثالثة أيام بعث إلي‪ ...‬فلما دخلت إليه أمرني بالجلوس‪ ،‬فجلست ورمى‬ ‫ّ‬
‫والمشوق في األمر الطقوس المصاحبة لحركة الجارية التي يدللونها‪ ،‬وتدخل قباب الكهنة‬
‫إلي بكتاب أمير المؤمنين‪.‬‬ ‫فتجامعهم ويوصونها إلى سيدها الميت‪ .‬فالقصة‪ /‬طويلة وبارعة يتجلى فيها تداخل السرد مع‬
‫فقال‪ :‬من جاء بهذا الكتاب؟‬ ‫الوصف والحوار والتخييل بصورة رائعة‬
‫قلت‪ :‬أنا‪ .‬ثم رمى إلي كتاب الوزير‪،‬‬
‫فقال‪ :‬وهذا؟‬ ‫‪-3‬الحوار‬
‫قلت‪ :‬أنا‪.‬‬ ‫الحوار هو أحد تقنيات السرد؛ فهو يقف بجوار الوصف الذي يعمل على إيقاف حركة السرد‬
‫ُ‬ ‫وإبطائه؛ وهو أساس المسرحية‪ ،‬وأحد التقنيات المهمة في السرد الروائي‪ .‬وفي هذا البعد تقترب‬
‫قال فالمال الذي ذكر فيه ما فعل به؟‬
‫ّ‬ ‫الرحلة من الرواية كثيرًا؛ فهما معا يتعامالن مع شخصيات وأحداث واقعية في األولى ومحتملة‬
‫قلت‪ :‬تعذر جمعه وضاق الوقت فخشينا فوت الدخول فتركناه ليلحق بنا‪.‬‬
‫قال‪ :‬إنما جئتم بأجمعكم وأنفق عليكم موالي ما أنفق لحمل هذا المال إلي حتى أبني به حصنا‬ ‫في الثانية (الرحلة)؛ ولكن هذا ال ُيحدث فارقًا في طبيعة الحوار كقيمة سردية بين الرواية‬

‫يمنعني من اليهود الذين قد استعبدوني‪ ،‬فأما الهدية فغالمي قد كان يحسن أن يجئ بها‪.‬‬ ‫والرحلة‪.‬‬

‫قلت‪ :‬هو كذلك‬ ‫رحلة بن فضالن‪ ،‬ص ‪83-82‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫المرجع السابق‪ ،‬ص ‪85‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫رحلة بن فضالن‪ ،‬ص ‪97‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫انظر المرجع السابق‪ ،‬ص ‪110 -106‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪27‬‬ ‫‪26‬‬
‫فأمير خراسان؟‬ ‫قال‪:‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫فقال للترجمان‪ :‬أنا ال أعرف هؤالء‪ ،‬إنما أعرفك أنت‪ ...‬فأخرج من المال فهو أصلح لك‪)...‬‬
‫ال‪.‬‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫ثم ينتقل ابن فضالن إلى السرد والوصف؛ ليعود بعد ذلك إلى الحوار (فانصرفت من بين يديه‬
‫أليس لبعد المسافة وكثرة من بيننا من قبائل الكفار؟‬ ‫قال‪:‬‬ ‫َ‬
‫مذعورًا مغمومًا‪ ،‬وكان رجال له منظر وهيبة‪ ،‬بدين‪ ،‬عريض كأنما يتكلم من خابيىة‪ ...‬وكان‬
‫بلى‬ ‫قلت‪:‬‬ ‫مؤذنه يثني اإلقامة) ( ‪.) 2‬‬
‫قل له فوالله إني لبمكاني البعيد الذي تراني فيه وإني لخائف من‬ ‫قال‪:‬‬
‫ويستمر السرد لينقلك إلى الحوار بساللة وبراعة جعلت خطاب الرحلة منتظمًا في تتابعية سردية‬
‫أمير المؤمنين؛ وذلك إني أخاف أن يبلغه مني شيء يكرهه‪،‬‬
‫وفق منطق األحداث وتسلسها‪ /‬يقول ابن فضالن (فأقام المؤذن على ذلك أياما؛ وهو يسألني‬
‫فيدعو علي فأهلك بمكاني‪ ،‬وهو بمملكته‪ ،‬وبيني وبينه البلدان‬ ‫فلما يئس منه تقدم إلى المؤذن ْ‬ ‫ُّ‬
‫واحتج فيه‪ّ .‬‬
‫أن يثني‬ ‫عن المال ويناظرني فيه‪ ،‬وأنا أؤيسه منه‪،‬‬
‫الشاسعة‪ ،‬وأنتم تأكلون خبزه وتلبسون ثيابه وترونه في كل وقت‬
‫اإلقامة ففعل‪ .‬وأراد بذلك أن يجعله طريقا إلى مناظرتي‪ .‬فلما سمعت تثنيته لإلقامة‪ ،‬نهيته‬
‫خنتموه في مقدار رسالة بعثكم بها إلي‪ ...‬فألجمنا وما أحرنا جوابا‬
‫وصحت عليه‪ .‬فعرف الملك فأحضرني وأحضر أصحابي‪ ،‬فلما اجتمعنا‬
‫‪.‬‬‫(‪)1‬‬
‫وأنصرفنا من عنده‪ .‬فكان بعد هذا القول يؤثرني)‬
‫قل له (يعنيني‪ )...‬ما يقول في مؤذنين أفرد أحدهما‬ ‫قال الترجمان‪:‬‬
‫وينوع ابن فضالن أساليب الحوار‪ ،‬فمرة يأتي الحوار مسرودًا ال حيًا ومباشرة؛ أي يأتي ضمن حكاية‬ ‫ّ‬ ‫وثنى اآلخر ّ‬
‫ثم صلى كل واحد منهما بقوم أتجوز‬
‫ً‬
‫يسردها ومن بين يسرده الحوار الذي دار‪ ،‬فيكون الحوار – بهذه الطريقا‪ -‬منقوال على لسان الراوي‬ ‫الصالة أم ال؟‬
‫بوصفه مراقبًا‬ ‫الصالة جائزة‬ ‫قلت‪:‬‬
‫مرت وزة طائرة فأوتر قوسه‪ّ ،‬‬
‫وحرك دابته تحتها‪،‬‬ ‫(ولقد رأيته يومًا‪ -‬وهو يسايرنا على فرسه‪ -‬إذ ّ‬ ‫باختالف أم بإجماع‬ ‫فقال‪:‬‬
‫ثم رماها فإذا هو قد أنزلها‪ .‬فلما كان في بعض األيام وجه خلف القواد الذين يلونه وهم‪:‬‬ ‫بإجماع‬ ‫قلت‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫طرخان وينال وابن أخيهما وإيلغز‪ ،‬وكان طرخان أنبلهم وكان أعرج أعمى أشل‬ ‫أقوام‬
‫ٍ‬ ‫إلى‬ ‫ماال‬ ‫قل له فما يقول في رجل دفع إلى قوم‬ ‫قال‪:‬‬
‫إن هوالء رسل العرب إلى صهري ألمش ولم يخير ْ‬
‫أن‬ ‫فقال لهم‪ّ :‬‬ ‫ضعفى محاصرين مستعبدين فخانوه؟‬
‫أطلقهم إال عن مشورتكم‪.‬‬ ‫هذا ال يجوز‪ ،‬وهؤالء قوم سوء‪.‬‬ ‫فقلت‪:‬‬
‫فقال طرخان‪ :‬هذا شيء ما رأيناه قط وما سمعنا به وال اجتاز بنا رسول‬ ‫باختالف أم بإجماع؟‬ ‫قال‪:‬‬
‫سلطان مذ كنا نحن وآباؤنا‪ ،‬وما أظن إال أن السلطان قد‬ ‫بإجماع‪.‬‬ ‫قلت‪:‬‬
‫ّ‬
‫قل له‪ :‬تعلم ّ‬
‫أعمل الحيلة ووجه هؤالء الخزر ليستجيش بهم علينا‪،‬‬ ‫أن الخليفة‪ -‬أطال الله بقا‪-‬ه‪ -‬لو بعث إلي جيشًا كان‬ ‫فقال للترجمان‪:‬‬
‫ّ‬
‫والوجه أن يقطع هؤالء الرسل نصفين نصفين ونأخذ ما‬ ‫يقدر علي؟‬
‫معهم‪.‬‬ ‫ال‪.‬‬ ‫قلت‪:‬‬

‫( ‪ ) 1‬رحلة ابن فضالن‪ ،‬ص ‪82 -81‬‬ ‫( ‪ ) 1‬رحلة ابن فضالن‪ ،‬ص ‪81 -80‬‬
‫( ‪ ) 2‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪81‬‬

‫‪29‬‬ ‫‪28‬‬
‫لألشياء وإعادة ترتيب العالقات؛ فتبرز شخصية الروائي‪ ،‬وتتسع دائرة التبئيير حتى تؤسس رؤية‬ ‫وقال آخر‪ :‬ال بل نأخذ ما معهم ونتركهم عراة يرجعون من حيث جاءوا‬
‫فردية للعالم تعبر عن وجهة نظر المبدع؛ دون مطالبة بالمصداقية الواقعية؛ فقط نتوقع منه‬ ‫وقال آخر‪ :‬ال ولكن لنا عند ملك الخزر أسراء فنبعث بهؤالء نفادي بهم‬
‫إيهاما بالواقع الذي نعرفه؛ أي بناء واقع نتعرف على شخوصه وأحداثه وأماكنه المحتملة الوجود‬ ‫أولئك‪.‬‬
‫في العالم الذي نعرفه؛ سواء أكان العالم الذي يجري أمامنا أم العالم الذي نتصوره كما تبنيه‬ ‫فما زالوا يتراجعون بينهم هذه األشياء سبعة أيام ونحن في حالة الموت حتى أجمع رأيهم بأن‬
‫األسطورة والميتافيزيقيا التي تمثل رؤية اإلنسان للعالم منذ بواكير وعيه وإلى اليوم‪ ،‬ويحدث هذا‬ ‫يخلوا سبيلنا ونمضي) ( ‪.) 1‬‬
‫من خالل هيمنة الراوي على سرد الحكاية وقدرته على تصوير الحدث والشخوص واألزمنة واألمكنة‬
‫من وجهة نظره؛ سواء أكان ساردا من الخلف أو من الداخل أو مستشرفا؛ وهذا ما يعرف بالتبئيير‪.‬‬ ‫‪ - 4‬التخييل‬
‫على الرغم من ّ‬
‫أن الرحلة تمثل خطابا سرديا له أهداف ودوافع وأحداث وأشخاص وفضاءات‬
‫أما الرحلة فإنها تسرد أحداثًا وأماكن وأشخاص وأزمنة واقعية وحقيقية‪ ،‬وعلى الرغم من أن‬
‫وأمكنة واقعية‪ -‬فإن التخييل يمثل أحد المقومات التي تجعل من خطاب الرحلة خطابا أدبيا؛‬
‫الرحالة‪/‬الراوي يسعى إلى تحري المصداقية في سرد المعلومة والوقائع واألزمان واألماكن والبشر –‬ ‫ّ‬
‫فاألدب ليس تعبيرا كيفما اتفق‪ ،‬وإنما هو طريقة مخصوصة في التعبير‪ ،‬فالشكل التعبيري هو‬
‫فإن وعيه وثقافته ومزاجه وخبرته تلعب دورًا كبيرًا في جعل خطابه السردي مقاربة تخييلية لما‬
‫الذي يميز بين األدب والال أدب‪ .‬وعلى الرغم من أن الرواية والرحلة جنسان تعبيريان سرديان‬
‫عايشه وشاهده‪ ،‬فراوي‪ /‬كاتب الرحلة يعيد بناء ما شاهده وعايشه خالل تسفاره؛ ومن هنا يكون‬ ‫ينهضان على مستوى التلفظ اللغوي ‪ّ -‬‬
‫فإن الفرق بينهما هو فرق بين التخيييلي والحقيقي‪،‬‬
‫خطاب الرحلة في إطاره العام خطابا تخييليا لحقائق وأحداث وأماكن وأشخاص وأزمنة واقعية؛‬
‫والواقعي واالحتمالي؛ فالرواية تبني عالما تخييليا محتمال؛ إذا ال يوجد ما يطابقه في الواقع‬
‫وما يهم السرديات ليس واقعية األحداث‪ ،‬وإنما صيغة خطاب الرحلة بوصفها لغة لها طريقة‬
‫الخارجي؛ بينما الرحلة سرد ألحداث وأشخاص وأزمان وأماكن وفضاءات واقعية حقيقية‪ ،‬ففي‬
‫بنائها‪ .‬ورغم كل ذلك فالمصداقية والواقعية ال يتعارضان مع مبدأ التخييل؛ فالتخييل طريقة في‬
‫الراوية وكل السرديات التخييلية تنبني العالقة بين النص والمرجع على قاعدة االحتمال؛ بينما‬
‫صياغة الحدث أو الشخصية أو المكان أو األشياء؛ سواء أكانت أحداثا وشخصيات واقعية حقيقة أم‬
‫تنبني عالقة النص الرحلي بالمرجع على قاعدة التطابق والتعيين ال االحتمال‪.‬‬
‫واقعية اعتقادية أم احتمالية وجودية‪ ،‬ومن هنا فصياغة خطاب الرحلة مسألة أسلوبية تخييلية‬
‫في األساس؛ ألن عمادها التذكر وأداة بنائها اللغة‪ ،‬ووسيلة تسجيلها وجهة النظر‪.‬‬ ‫قد يبني بعض الباحثين على هذه القاعدة المعممة تفريقا ينفي به وجود تخييل في السرد‬
‫الرحلي؛ إال ّ‬
‫أن التخييل صياغة تعبيرية؛ والتخييل في السرد الرحلي ال ينافي مصداقية الرحلة‬
‫إال أن الفوارق بين سردية الرحلة تتفاوت من كاتب إلى آخر؛ استنادًا إلى ثقافة الرحالة ووعيه‬
‫وواقعيتها؛ ألن التخييل أسلوب تعبيري يخضع ألعراف الجماعة في تحديد ما هو الواقعي‬
‫ومهنته؛ فإذا كان الرحالة أديبًا مبدعًا أتى خطاب رحلته مختلفا عما إذا كان مؤرخا أو جغرافيا‬
‫والتخييلي؛ فالرحلة والرواية خطابان سرديان أساسهما اللغة؛ واللغة في جوهرها تخييل؛ ألنها‬
‫أوعالم نبات‪ ،‬إلخ‪ ...‬وهذا خالف السرد الروائي الذي يكون فيه الفارق بين الروائيين في التجربة‬
‫تنهض على أرضية العالمة التي تحيل إلى المرجع؛ ومن هنا فالفرق بين التخييل الروائي والرحلي‬
‫والخبرة ال في المهنة والثقافة والوعي والرؤية وأسس بناء الرواية؛ فالفوارق بين الروائيين قياسها‬
‫فرق في الدرجة وليس في النوع‪ ،‬فالرروائي‪ /‬الكاتب يبني عالمًا محتمال أو بديال؛ ولكنه عالم‬
‫بالدرجة وليس النوع‪ .‬ومن هنا فكل رواية تنتمي إلى األجناس األدبية وتمثل كل روايات العالم‬
‫تحكمه ذات القوانين والعالقات التي يقرها االجتماع البشري؛ فيعمد الروائي إلى إعادة تعريف‬
‫نسقا؛ بينما الرحالت تختلف في بنائها الشكلي؛ وال يمكن تجنيس كل الرحالت في دائرة األدب؛‬
‫فهناك رحالت تمثل سردا أدبيا وأخرى ال تعدو كونها تقارير ووصف جغرافي ال يوجد ما يربطه‬
‫( ‪ ) 1‬رحلة ابن فضالن‪ ،‬ص ‪70-69‬‬
‫باألدب‪ .‬ومن هنا فعنصر التخييل الرحلي يعد أبرز السمات التي تؤهل السرد الرحلي للتجنيس‬
‫في دائرة األدب‪.‬‬

‫‪31‬‬ ‫‪30‬‬
‫عجلة من حطب الطاخ بدرهمين من دراهم تكون زهاء ثالثة آالف رطل) ( ‪ .) 4‬ففي هذا الفقرة‬ ‫وبالنظر إلى الرحالت التي وقفنا عندها‪ -‬وهي رحالت كثيرة ‪ -‬فإن بعضها يبلغ درجة من التخييل‬
‫نرى التخييل وترابط األفكار؛ فقد عبر عن جمال البلدة بصورة تخييلية رائعة (بابًا من الزمهرير)‪،‬‬ ‫الذي يقربه من السرد الروائي والسيرة الذاتية ومذكرات األدباء؛ ويدخلها في دائرة األدب دون‬
‫ووصف برودة جوها بأسلوب كنائي (ال يسقط فيه الثلج‪ ،)...‬وجعله تمهيدا لوصف سلوك الناس‬ ‫نزاع‪ .‬ومن بين تلك الرحالت التي يمثل التخييل آلية سردية لخطابها‪ -‬رحلة بن فضالن‪ ،‬ورحلة‬
‫في التعامل مع البرد؛ فوصف تجلي كرمهم نحو بعضهم بإيقاد النار للتدفئة؛ خالفًا إليقاد النار‬ ‫بن بطوطة‪ ،‬وبدرجة ما رحلة ابن خلدون‪ ،‬ومعظم الرحالت في العصر الحديث‪.‬‬
‫عند العرب الذين يوظفونها دليال للتائه شتاء ولكثرة الطبخ (الكرم)‪ ،‬ثم ربط ذلك بوصف طبيعة‬ ‫لقد اعتمد ابن فضالن التخييل أسلوبا في صياغة خطاب رحلته؛ وقد ّ‬
‫نوع من أساليب التخييل‪،‬‬
‫البلد التي تكثر فيها األشجار دون ذكر ذلك صراحة (إال ّ‬
‫أن الله لطف بهم في الحطب)‪ ،‬ويتجلى‬ ‫فمنها األساليب البالغية الشائعة مثل قوله (يقولون‪ :‬إن أقمنها هجم الشتاء وفاتنا الدخول) ( ‪.) 1‬‬
‫إبداع ابن فضالن في ّ‬
‫أن كل ذلك أتى في أسلوب سردي متسق‪.‬‬ ‫وأحيانا يستعمل التخييل في وصف الناس وسلوكهم؛ مستعمال التشبيهات والكنايات لتضخيم‬
‫ّ‬
‫‪ -5‬العجائبي والغرائبي‬ ‫الموصوف أو تصغيره أو التهكم؛ وفي جميع ذلك ال تشعر بتكلف بالغي‪ ،‬وإنما يمتعك بشعرية‬
‫أورد الخليل بن أحمد الفراهيدي ّ‬
‫أن العجيب هو العجب والعجاب هو الذي جاوز الحد( ‪ .) 1‬وذكر ابن‬ ‫السرد التي تنقل الرحلة من الخبر والوصف المحايد إلى األدبية‪ ،‬فمن التخييل الساخر رسم صورة‬
‫أن العجيب هو األمر يتعجب منه( ‪ .) 2‬أما الجرجاني فقد ذكر في معجم تعريفاته ّ‬
‫أن العجيب‬ ‫فارس ّ‬ ‫الشيخ التركي الهرم (وربما رأيت الشيخ الهرم منهم وقد نتف لحيته وترك شيئًا منها تحت‬
‫هو انفعال النفس ّ‬
‫عما خفي سببه( ‪.) 3‬‬ ‫ذقنه‪ ....‬فإذا رآه إنسان من بعيد لم يشك أنه تيس) ( ‪.) 2‬‬

‫وفي النقد الحديث أورد تودوروف في كتابه مدخل إلى األدب العجائبي عددا من التعريفات؛ منها‬ ‫وينقل ابن فضالن من خالل التخيل الصور الشكلية واألصوات والسلوك‪ ،‬وال سيما صور وأصوات‬
‫ِّ‬
‫للسر الخفي‬ ‫تعريف كاستكس الذي يحدد العجائبي بخصائصه المتمثلة في التدخل العنيف‬ ‫وسلوك البشر‪ ،‬ففي تصويره لطريقة كالم أهل جرجان يقول ‪ ( :‬وهم أوحش الناس كالمًا وطبعًا‪،‬‬

‫في إطار الحياة الواقعية‪ ،‬وتعريف لويس فاكس بأنه ذلك القص الذي يقدم لنا بشرًا مثلنا‪ ،‬فيما‬ ‫كالمهم أشبه شيء بصياح الزرازير‪ ،‬وبها قرية يقال لها أردكو‪ ،‬أهلها يقال لهم الكردلية‪،‬‬

‫يقطنون العالم الذي نوجد فيه‪ ،‬إذا بهم فجأة يوضعون في حضرة المستغلق عن التفسير( ‪.) 4‬‬ ‫كالمهم أشبه شيء بنقيق الضفادع‪ ،‬وهم يتبرؤون من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي‬

‫بينما يحدده روجيه كايو بأنه قطيعة أو تصدع للنظام المعترف به‪ ،‬واقتحام الالمعقول لصميم‬ ‫الله عنه في دبر كل صالة ) ( ‪.) 3‬‬

‫الشعرية اليومية التي ال تتبدل( ‪ .) 5‬وقد وضع تودورف ثالثة شروط لتحديد العجائبي‪ ،‬وهي( ‪:) 6‬‬ ‫فالتخييل في رحلة ابن فضالن هو األسلوب الطاغي في في نقل األشياء؛ ويمتلك ابن فضالن‬
‫•أن يحمل النص القارئ على اعتبار عالم الشخصيات كما لو أنهم أشخاص أحياء من جهة‪،‬‬ ‫قدرة بارعة في جعل التخييل يعمق الفكرة الموضوعية التي يريد أن يوصلها‪ ،‬ويربط األفكار مع‬
‫وعلى التردد بين التفسير الطبيعي والفوق طبيعي للحدث المروي‪.‬‬ ‫بعضها البعض في وحدة وتتابع سردي مشوق؛ ففي وصفه إلحدى البلدان عند دخولها يقول‪:‬‬
‫ً‬ ‫(ودخلنا بلدًا ما أظننا إال ّ‬
‫أن بابا من الزمهرير قد فتح منه علينا‪ ،‬وال يسقط فيه الثلج إال ومعه‬
‫•أن يكون دور القارئ مفوضًا إلى شخصية مع وجود التردد ممثال‪ ،‬ويتوحد القارئ مع الشخصية‬
‫في حالة القراءة الساذجة‪.‬‬ ‫ريح عاصف شديد‪ ،‬وإذا اتحف الرجل من أهله صاحبه وأراد بره قال له‪ :‬تعال ّ‬
‫إلي حتى نتحدث‬
‫أن الله قد لطف بهم في الحطب‪ :‬حمل‬‫فإن عندي نارًا طيبة؛ هذا إذا بالغ في بره وصلته‪ ،‬إال ّ‬
‫ّ‬
‫•أن يختار القارئ طريقة خاصة في القراءة حيث سيرفض التأويل األليغوري( ‪ ) 7‬والتأويل الشعري‬
‫الحديث‪.‬‬

‫رحلة ابن فضالن‪ ،‬ص ‪47‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫المرجع السابق‪ ،‬ص ‪67‬‬ ‫(‪)2‬‬
‫المرجع السابق ‪50 -49‬‬ ‫(‪)3‬‬
‫المرجع السابق‪ ،‬ص ‪52 -51‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫‪33‬‬ ‫‪32‬‬
‫نهر بيننا وبينه يوم واحد كما يخرجون‪ ،‬وهذا النهر قد ّ‬
‫مد وطغى ماؤه‪ ،‬فلم أشعر يومًا إال وقد‬ ‫ويتداخل مفهوم العجائبي بمفاهيم مجاورة كثيرة منها الغرائبي الذي يتحدد – في رأي تودوروف‬
‫ّ‬
‫وافاني جماعة من التجار فقالوا‪ :‬أيها الملك قد قفا على الماء رجل إن كان من ّأمة تقرب منا‬ ‫‪ -‬بوصفه جنسًا مجاورا للعجائبي( ‪ .) 8‬ويقيم تودوروف تعالقات بينهما كاآلتي‪:‬‬
‫فال مقام لنا في هذه الديار‪ ،‬وليس لنا غير التحويل‪ .‬فركبت معهم حتى صرت إلى النهر فإذا أنا‬ ‫(‪)9‬‬
‫عجيب محض‬ ‫عجيب‬ ‫عجائبي‬ ‫غريب‬ ‫عجائبي‬ ‫غريب‬
‫بالرجل وإذا هو بذراعي اثنا عشر ذراعًا‪ ،‬وإذا له رأس كأبر ما يكون من القدور‪ ،‬وأنف أكبر من شبر‪،‬‬ ‫فالعجائبي يترك أثره في القارئ‪ ،‬وهو التردد الذي تحدثه مواجهة حدث فوق طبيعي‪ .‬وتكون‬
‫وعينان عظيمتان‪ ،‬وأصابع تكون أكثر من شبر شبر‪ ،‬فراعني أمره وداخلني ما داخل القوم من‬ ‫الحكاية عجائبية لمجرد ّ‬
‫أن يشعر القارئ بإحساس الخوف والرعب‪ ،‬وبحضور عوالم وقوى غير‬
‫الفزع‪ ،‬وأقبلنا نكلمه وال يكلمنا بل ينظر إلينا‪ ،‬فحملته إلى مكاني وكتبت إلى أهل ويسو‪ ،‬وهم‬ ‫مألوفة( ‪.) ١‬‬
‫منا على ثالثة أشهر أسألهم عنه‪ ،‬فكتبوا إلي يعرفونني ّ‬
‫أن هذا الرجل من يأجوج وماجوج‪ ،‬وهم‬
‫ّ‬ ‫إذا استثنسنا حالة الرحالة وغربته التي تجعل كل ما هو أمامه غريبًا؛ ربما يصل إلى العجيب‪-‬‬
‫منا على ثالثة أشهر عراة‪ ،‬يحول بيننا وبينهم البحر؛ ألنهم على شطه‪ ،‬وهم مثل البهائم ينكح‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫فإن سرد العجائبي من األدوات التي تمنح الرحلة بعدًا أدبيًا‪ ،‬وتمكنها من تنويع السرد‪ .‬وقد‬
‫بعضهم بعضا‪ ،‬يخرج الله عز وجل لهم سمكة من البحر‪ ،‬فيجيء الواحد منهم ومعه المدية فيجز‬
‫حفلت معظم الرحالت التي ترقى إلى مستوى األدب بالكثير من العجائبي‪ ،‬فرحلة ابن بطوطة‬
‫منها قدر ما يكفيه ويكفي عياله؛ فإذا أخذ فوق ما يقنعه اشتكى بطنه وكذلك عياله يشتكون‬ ‫ً‬
‫حملت الكثير من العجائبية التي منحت خطابها السردي جماال وتشويقا‪.‬‬
‫بطونهم‪ ،‬وربما مات وماتوا بأسرهم‪ ،‬فإذا أخذوا منها حاجتهم وقعت وانقلبت ووقعت في البحر‪،‬‬
‫وقد جاء العجائبي في رحلة ابن فضالن بارعا في رسمه‪ ،‬ومنسجما في خط السرد‪ ،‬ومربكًا للقارئ‬
‫فهم في كل يوم على ذلك إلخ‪.) ٢ ( )...‬‬
‫في التصديق بما يخالف مجرى الحدث الطبيعي باإلضافات التي تراواح بين الغريب والعجيب‬
‫تتمثل عناصر العجائبي الذي يرقى إلى األسطورة في شيئين‪:‬‬
‫واألسطوري‪ ،‬فالعجائبي في رحلة ابن فضالن يأتي ضمن (السرد داخل السرد)؛ فلم يحكي ابن‬
‫األول‪ :‬أوصاف الرجل‪ :‬طوله ‪ 12‬شبرًا‪ ،‬رأس أكبر من القدر‪ ،‬أنف أطول من شبر‪ ،‬عينان عظيمتان‪،‬‬ ‫فضالن أنه شهد ذلك‪ ،‬وإنما يورده من الحكايات التي سمعها‪ ،‬إال أن ابن فضالن يستعمل أسلوبا‬
‫أصابع أكثر من شبرين‪ ،‬يحدق وال يرد على مخاطبيه‪ ،‬من نسل يأجوج ومأجوج‪.‬‬ ‫سرديا بديعا في جعل الحكاية حقيقة عايشها؛ ألنه يداخل بين السرد الواقعي والعجائبي حتى‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬
‫الثاني‪ :‬السمكة التي تقطع إلى غذاء يكفي قوم يأجوج ومأجوج يوما كامال‪ ،‬وأنها بعد كل ذلك‬ ‫تختلط على القارئ أصوات السرد إذا لم يكن يقظًا؛ فاإلنتقال من صوت الراوي‪ /‬المؤلف إلى صوت‬
‫تعود إلى طبيعتها فترتد إلى النهر مرة أخرى‪ ،‬وأن األشخاص يمرضون حد الموت إذا أخذوا منها‬ ‫سارد الحكاية العجائبية يتم ببراعة وسهولة‪ ،‬ومن تلك السرديات العجائبية حكاية الرجل من‬
‫أكثر من كفايتهم‪.‬‬ ‫جماعة يأجوج ومأجوج‪ ،‬يقول ابن فضالن‪( :‬وكان تكين حدثني ّ‬
‫أن في بلد الملك رجال عظيم‬

‫راو آخر بمقام ملك أشهر إسالمه؛‬ ‫الخلق جدًا‪ ،‬فلما صرت إلى البلد سألت الملك عنه‪ ،‬فقال‪ :‬نعم قد كان في بلدنا ومات ولم يكن‬
‫هذه العجائبية تربك القارئ عندما يسردها الراوي‪ /‬المؤلف عن ٍ‬
‫ّ‬ ‫من أهل البلد وال من الناس أيضًا‪ ،،‬وكان من خبره ّ‬
‫أن قومًا من التجار خرجوا إلى نهر إثل‪ ،‬وهو‬
‫وأن هذا الراوي قد شهد الحدث بنفسه ولم يروه عن غير بوصفه حكاية‪ ،‬وما يجعل أمر التردد بين‬
‫القبول والرفض للقارئ‪ -‬المسلم تحديدا‪ -‬ذكر يأجوج ومأجوج الوارد ذكرهم في القرآن الكريم‪ .‬وما‬
‫( ‪ ) ١‬كتاب العين‪ ،‬الفراهيدي( الخليلي ابن أحمد ت ‪175‬هـ)‪ ،‬تحقيق مهمدي المخزومي وإبراهيم السامرائي‪ ،‬ط‪ ،1‬منشورات مؤسسة األعلمي‪ ،‬بيروت‪ -‬لبنان‪،‬‬
‫يزيد من حيرة القارئ وتردده أن الراواي‪ /‬المؤلف‪ /‬الحقيقي للرحلة رأى آثار هذا الرجل ووصفها‪،‬‬ ‫‪ ،1988‬ج‪ ،1‬ص‪235‬‬
‫( ‪ ) ٢‬مجمل اللغة‪ ،‬ابن فارس ( أبو الحسن أحمد بن زكريا ت ‪ ،) 395‬مجمل اللغة‪ ،‬تحقيق زهير سلطان‪ ،‬ط‪ ،2‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪ -‬لبنا ‪ ،1986‬ج‪ ،3‬ص ‪651‬‬
‫( ‪ ) ٣‬معجم التعريفات‪ ،‬علي بن محمد السيد الشريف الجرجاني‪ ،‬تحقيق محمد صديق المنشاوي‪ ،‬ط دار الفضيلة‪ ،‬القاهرة ص ‪85‬‬
‫( ‪ ) ٤‬مدخل إلى األدب العجائبي‪ ،‬تزفتان تودوروف‪ ،‬ترجمة الصديق أبو عالم‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الكالم‪ ،‬الرباط‪ -‬المغرب‪1993 ،‬م‪ ،‬ص‪54‬‬
‫( ‪ ) ١‬رحلة ابن فضالن‪ ، ،‬ص‪56‬‬ ‫( ‪ ) ٥‬مدخل إلى األدب العجائبي‪ ،‬ص ‪50‬‬
‫( ‪ ) ٢‬رحلة ابن فضالن‪ ،‬ص ‪96 -94‬‬ ‫( ‪ ) ٦‬مدخل إلى االدب العجائبي‪ ،‬ص‪54‬‬
‫( ‪ ) ٧‬طريقة في التأويل تعني البحث عن المعني الخفي استنادا إلى تقنية بالغة النص التي تقوم على ازدواجية المعني‬
‫( ‪ ) ٨‬مدخل إلى األدب العجائبي‪ ،‬ص ‪226‬‬
‫( ‪ ) ٩‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪68‬‬

‫‪35‬‬ ‫‪34‬‬
‫الخاتمة‬ ‫يقول ابن فضالن‪( :‬فسألته عن الرجل فقال‪ :‬أقام عندي مدة فلم يكن ينظر إليه صبي إال مات‪،‬‬
‫إن تمكن من إنسان عصره بيديه حتى يقتله‪ .‬فلما رأيت ذلك‬ ‫وال حامل إال طرحت حملها‪ ،‬وكان ْ‬
‫من خالل هذا البحث الذي وقفنا فيه على الرحلة وأدبها‪ ،‬اتضح ّ‬
‫أن خطاب الرحلة جنس أدبي لم‬ ‫علقته في شجرة حتى مات‪ ،‬إن أردت أن تنظر إلى عظامه ورأسه مضيت معك حتىتنظر إليها‪:‬‬
‫يحظ بالدرس لدى القدماء‪ ،‬ولم يجنس ضمن داخل األجناس واألنواع المتفرعة عنها‪ .‬ومن خالل‬ ‫فقلت أنا والله ّ‬
‫أحب ذلك‪ ،‬فركب معي إلى غيضة كبيرة فيها شجر عظام‪ ،‬فتقدمني إلى شجرة‬
‫وقوفنا على رحلة "ابن فضالن" تبين لنا أن الرحلة تمتلك بعدًا أدبيا مميزا؛ ربما يتفوق كثير من‬ ‫سقطت عظامه ورأسه تحتها‪ ،‬فرأيت رأسه مثل القفير الكبير‪ ،‬وإذا أضالعه أكبر من عراجين‬
‫األشكال التعبيرية التي مصنفة ضمن األدب‪ .‬وبعد الدرس المستفيض حول أدب الرحالت توصلنا‬ ‫النخل‪ ،‬وكذلك عظام ذراعيه وساقيه‪ ،‬فتعجبت منه وانصرفت) ( ‪ .) ١‬هذا السرد يحمل من العحائبي‬
‫إلى النتائج اآلتية‪:‬‬ ‫ما يخلط الحقيقي باألسطوري‪ ،‬والواقعي باالحتمالي‪ ،‬فكون هذا الرجل بهذه المواصفات فإنه‬
‫‪1.1‬الرحلة نص أدبي سردي يدرس في إطار السرديات‪.‬‬ ‫محتمل الوجود؛ فرجل إذا نظر إليه الصبي يموت والحامل تطرح حملها وإذا عصر إنسان بيدية‬
‫‪2.2‬أدبية نص الرحلة يتحقق بتوافر تقنيات السرد‪ ،‬وليس التعبيرات البالغية أو الوصف كما تتجه‬ ‫يقتله – من النادر رؤيته؛ وأيضًا من الصعب تكذيبه‪ .‬هذا النوع من السرد منح رحلة ابن فضالن‬
‫بعض األصوات البحثية‪.‬‬ ‫قيمة أدبية تضعها في مقام السرد الحديث من حيث اإلبداع‪.‬‬
‫‪3.3‬أدبية الرحلة وشعريتها تتحقق في تقنيات السرد وليس من خالل اللغة البيانية‪.‬‬
‫ً‬
‫‪4.4‬بعض الرحالت ال يمثل خطابها شكال أدبيًا؛ ألنه تقرير وثائقي محض‪.‬‬
‫‪5.5‬الرحلة نص متعدد األبعاد‪ ،‬البعد األدبي محدد بتوافر األبعاد السردية التي هي ّ‬
‫مقوم أدبيته‪.‬‬
‫‪6.6‬للرحلة بعدان‪ :‬األول الحركة المادية الفعلية للتنقل‪ ،‬والوجه الثاني تدوين هذه الحركة في‬
‫خطاب لغوي‪ ،‬األدبية تتحقق من خالل الخطاب اللغوي للرحلة‪.‬‬
‫‪7.7‬انشغل معظم الباحثين بقضايا أدب الرحلة‪ ،‬مثل‪ :‬صورة اآلخر‪ ،‬وصف المكان الذي هو ضمن‬
‫الوصف كتقنية سردية‪ ،‬المرأة إلخ‪...‬‬
‫‪8.8‬خطاب الرحلة جنس أدبي قديم أعيد اكتشافه حديثا بعد نضج السرديات والنقد األدبي‬
‫بصفة عامة‪.‬‬
‫‪9.9‬ال يخضع نص الرحلة لتطور تاريخي كما في الشعر والرواية‪ ،‬فهناك نصوص قديمة أكثر‬
‫نضجًا من النصوص الحديثة‪.‬‬
‫‪1010‬يتداخل خطاب الرحلة مع عدد من األشكال التعبيرية مثل‪ :‬السيرة الذاتية‪ ،‬أدب المذكرات‪،‬‬
‫إال أن الفرق بينها وتلك األشكال أن خطاب الرحلة حكاية لتجربة قصدية لها أهداف مسبقة‬
‫وتخطيط وحركة‪ ،‬بينما السيرة الذاتية والمذكرات ال يرتبط بقصدية مسبقة لما يتم تدوينه‪.‬‬

‫( ‪ ) ١‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪96‬‬

‫‪37‬‬ ‫‪36‬‬
‫‪1313‬طرائق تحليل السرد األدبي‪ ،‬روالن بارت وآخرون( التحليل البنيوي للسرد‪ ،‬روالن بارت‪،‬‬ ‫المصادر والمراجع‬
‫ترجمة حسن بحراوي وآخرون)‪ ،‬ط‪ ،‬منشورات اتحاد كتاب المغرب‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪1414‬علم السرد( الشكل والوظيفة في السرد) ‪،‬جيرالد برنس‪ ،‬ترجمة د‪ .‬باسم صالح‪ ،‬ط‪ 1‬دار‬ ‫‪1.1‬أدب الرحالت‪ ،‬حسن محمد فهيم‪ ،‬ط سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة والفنون‬

‫الكتب العليمية‪ -‬بيروت‪،‬‬ ‫واآلداب‪ -‬الكويت‪1989 ،‬م‪.،‬‬

‫‪1515‬فنون األدب العربي‪ :‬الفن القصصي‪ 4 -‬الرحالت‪ ،‬د‪ .‬شوقي ضيف‪ ،‬ط‪ ،4‬دار المعارف‪،‬‬ ‫‪2.2‬أدب الرحلة عند العرب‪ ،‬د‪ .‬حسني محمود حسين‪ ،‬ط‪ ،2‬دار األندلس‪ ،‬بيروت – لبنان‪1983 ،‬م‪،‬‬

‫القاهرة‪ -‬مصر‪1956 ،‬م‪.‬‬ ‫‪3.3‬انثروبولوجيا المكان والرحلة ورؤية اآلخر‪ ،‬محمد جمال باروت‪ ،‬مجلة الحياة اإللكترونية‪ ،‬العدد‬

‫‪1616‬كتاب العين‪ ،‬الفراهيدي( الخليلي ابن أحمد ت ‪175‬هـ)‪ ،‬تحقيق مهمدي المخزومي وإبراهيم‬ ‫‪ ،15121‬تاريخ النشر ‪2004/8/21‬م ‪،) ) http://www.alhayat.com/Home‬‬

‫السامرائي‪ ،‬ط‪ ،1‬منشورات مؤسسة األعلمي‪ ،‬بيروت‪ -‬لبنان‪ ،1988 ،‬ج‪1‬‬ ‫‪4.4‬بناء الرواية دراسة مقارنة في ثالثية نجيب محفوظ‪ ،‬د‪.‬سيزا قاسم‪ ،‬سلسلة مهرجان القراءة‬
‫َ‬ ‫للجميع‪ ،‬هيئة الكتاب‪ ،‬القاهرة‪2004،‬م‪.‬‬
‫‪1717‬كتاب المسالك والممالك‪ ،‬أبو القاسم بن حوقل‪،‬ط‪ ،1‬مطبعة بريل‪ ،‬مدينة ل ْي َدن‪1873 ،‬م‬
‫‪1818‬مقدمة الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بالد الشام والحجاز عبد الغني بن إسماعيل النابلسي‬ ‫‪5.5‬تقنيات السرد في رحلة فيض العباب وإفاضة قداح اآلداب‪ ،‬إسماعيل دردوحي‪ ،‬مجلة العلوم‬

‫(توفي ‪1243‬ه)‪ ،‬تقديم وإعداد د‪ .‬أحمد عبد المجيد هريدي‪ ،‬ط الهيئة المصرية العامة للكتاب‪-‬‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬جامعة محمد خيضر بسكرة‪ ،‬ع ‪ ،8‬يوليو ‪2005‬م‬

‫القاهرة‪1986 ،‬م‪.‬‬ ‫‪6.6‬الرحالت المغربية السوسية‪ ،‬محمد الحاتمي‪ ،‬ط ‪ ،‬مطبعة المعارف الجديدة‪ ،‬الرباط‪ -‬المغرب‪،‬‬

‫‪1919‬مجمل اللغة‪ ،‬ابن فارس ( أبو الحسن أحمد بن زكريا ت ‪ ،) 395‬مجمل اللغة‪ ،‬تحقيق زهير‬ ‫‪2012‬م‪.‬‬

‫سلطان‪ ،‬ط‪ ،2‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪ -‬لبنا ‪ ،1986‬ج‪.3‬‬ ‫‪7.7‬رحلة ابن خلدون‪ ،‬عبد الرحمن بن محمد الحضرمي االشبيلي (ت‪808‬ه)‪ ،‬تحقيق محمد بن‬

‫‪2020‬مدخل إلى األدب العجائبي‪ ،‬تزفتان تودوروف‪ ،‬ترجمة الصديق أبو عالم‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الكالم‪،‬‬ ‫تاويت الطنجي‪ ،‬تحرير وتقديم نوري الجراح‪ ،‬ط‪ ، 1‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت‪ -‬لبنان‪2004 ،‬م‬

‫الرباط‪ -‬المغرب‪1993 ،‬م‪.‬‬ ‫‪8.8‬رحلة ابن فضالن إلى بالد الترك والروس والصقالبة‪ ،‬أحمد بن فضالن‪ ،‬تحرير وتقديم شاكر‬

‫‪2121‬نظرية المنهج الشكلي (نصوص الشكالنيين الروس)‪ ،‬مجموعة مؤلفين‪ ،‬ترجمة إبراهيم‬ ‫لعيبي‪ ،‬ط‪ ،1‬دار السويدي للنشر والتوزيع والمؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬ابو ظبي‪-‬‬

‫الخطيب‪ ،‬الشركة ط‪ ،1‬المغربية للناشرين المتحدين ومؤسسة األبحاث العربية‪1982 ،‬م‬ ‫األمارات‪ ،‬بيروت‪ -‬لبنان‪2003 ،‬م‪.‬‬
‫‪9.9‬الرحلة األولى للبحث عن ينابيع البحر األبيض (النيل األبيض)‪ ،‬البكباشي سليم قبودان‪ ،‬ترجمة‬
‫محمد مسعود‪ ،‬ط‪ ،2‬مكتبة مدبولي‪ ،‬القاهرة‪1996 ،‬م‪.‬‬
‫‪1010‬الرحلة عين الجغرافيا المبصرة‪ ،‬د‪.‬صالح الدين الشامي‪ ،‬ط‪ ،2‬منشأة المعارف‪ ،‬االسكندرية‪-‬‬
‫مصر ‪1999‬م‪.‬‬
‫ّ‬
‫المتخيل‪ ،‬د‪.‬شعيب حليفي‪،‬‬ ‫‪1111‬الرحلة في األدب العربي‪ :‬التجنيس‪ ،‬آليات الكتابة‪ ،‬خطاب‬
‫الهيئة العامة لقصور الثقافة‪ ،‬كتابات نقدية شهرية ‪ ،121‬ط ‪،‬شركة األمل للطباعة والنشر‪،‬‬
‫الدار البيضاء‪ -‬المغرب‪ ،‬أبريل ‪2002‬م‪.‬‬
‫‪1212‬رحلة الوزير في افتكاك األسير‪ ،‬محمد الغساني األندلسي‪ ،‬تحرير وتقديم نوري ّ‬
‫الجراح‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫دار السويدي للنشر‪ ،‬اإلمارات العربية المتحدة‪2002 ،‬م‪.‬‬

‫‪39‬‬ ‫‪38‬‬

You might also like