You are on page 1of 331

‫اجلبمعت اإلسالميت ‪ -‬غسة‬

‫ش ئو ن البحث العلمي والدراسبث العليب‬


‫كليت اآلداة ‪ -‬قسم اللغت العربيت‬

‫تحوالت الرواية التاريخية في‬


‫األدب العربي‬
‫‪The Historical Novel Changes in Arabic Literature‬‬

‫رسالة ماجستري مقدمة من الطالب‬


‫محمد محمد حدن طبيل‬
‫إشراف األستاذ الدكتور‬

‫يوسف موسى رزقت‬


‫قدمت هذه امرساةل اس تكام الً ملتطلبات احلصول عىل درجة املاجس تري من قسم انلغة‬
‫امعربية بلكية ا لآ داب يف اجلامعة ا الإسالمية بغزة‬

‫امعام اجلامعي‬
‫‪7341‬ىـ‪6172 /‬م‬
‫اإلهداء‬
‫إىل مو شيذاء ًأسشٍ ًجشحَ ًطننب اىغبيل فيسطني‪ ..‬األمشً ٍنب مجْعبً‪..‬‬

‫إىل سًح أبِ اىطبىشة اىضمْت يف جنبُ اخليذ إُ شبء اهلل –حببسك ًحعبىل ‪..-‬‬

‫إىل أٍِ اىغبىْت‪ٍ ..‬صذس اىطْبت ًاحلنبُ‪..‬‬

‫إىل صًجيت احلبْبت‪ٌّ ..‬س عْين ًٍيجت فؤادُ‪..‬‬

‫إىل حُيَِ اىزُ ٍبصاه ّنرب أٍبً عْين‪ّ ..‬بسش ًحسِ ًّبمسني‪..‬‬

‫إىل أمجو ٍب يف حْبحِ‪ ..‬إخٌاِّ ًأخٌاحِ‪..‬‬

‫حسِ ًحسني ًحمٌَد ًحنبُ ًٍشٌّ ًإميبُ‪..‬‬

‫إىل مو أصذقبئِ ًأحبيت ًسفقبء دسبِ‪..‬‬

‫إليهم مجيعاً أهدي حبثي هذا‪..‬‬

‫‌أ‬
‫الشكر والتقدير‬
‫أمحذ اهلل –عض ًجو ‪ -‬محذاً مثرياً طْببً ٍببسمبً فْو‪ٍ ،‬وء اىسَبًاث‪ًٍ ،‬وء‬

‫األسض‪ًٍ ،‬وء ٍب بْنيَب‪ًٍ ،‬وء ٍب شئج ٍِ شِء بعذ‪ .‬اىييٌ ىل احلَذ مَب ّنبغِ جلاله‬

‫ًجيل ًعظٌْ سيطبّل‪ ،‬عيَ أُ ىذّخين ًًفقخين إلجنبص ىزه اىشسبىت اىعيَْت‪ً ،‬أصيِ‬

‫ًأسيٌ عيِ اىنيب حمَذ –صيَ اهلل عيْو ًسيٌ ‪ -‬ادلبعٌد سمحت ىيعبدلني‪.‬‬

‫أحقذً ب نو اىشنش ًاىخقذّش إىل األسخبر اىذمخٌس ٌّسف ٌٍسَ سصقت اىزُ‬

‫أششف عيَ سسبىيت ‪ً ،‬مل ّبخو عيَِّ بأُ جيذ أً حٌجْو أً إسشبد يف سبْو إظيبسىب عيَ‬

‫خري ًجو‪ ،‬فجضاه اهلل عين خري اجلضاء‪.‬‬

‫مَب ًأحقذً بعظٌْ اىشنش ًاالٍخنبُ إىل موٍّ ٍِ األسخبرِّ اىفبضيني يف جلنت‬

‫ادلنبقشت‪ ،‬األسخبر اىذمخٌس مَبه أمحذ غنٌْ‪ً ،‬األسخبر اىذمخٌس ٌٍسَ إبشاىٌْ‬

‫أبٌ دقت اىيزاُ حفضال بقبٌه ٍنبقشت ىزه اىشسبىت‪.‬‬

‫ًاىشنش ٌٍصٌه أّضبً إىل مو األحبت ًاألصذقبء اىزِّ مبٌّا خري سنذ ًٍعني‬

‫يل يف إمتبً اىشسبىت ًإخشاجيب عيَ أفضو صٌسة‪.‬‬

‫‌‬
‫ب‬
‫الممخص‬

‫تحوالت الرواية التاريخية في األدب العربي‬

‫ناقشت ىذه الدراسة تحوالت الرواية التاريخية في األدب العربي شكبلً ومضموناً عبر‬
‫مسيرتيا الطويمة منذ نشأتيا في نياية القرف التاسع عشر وحتى عصرنا الحالي‪ ،‬وذلؾ بتتبع‬
‫إنتاج الرواد األوائؿ ليذا الفف‪ ،‬وبياف العوامؿ التي دفعتيـ لمكتابة فيو‪ ،‬مع وض ع السمات العامة‬
‫التي سيطرت عمى إ نتاجيـ الروائي الذي مثَّؿ االتجاه التقميدي لمرواية التاريخية‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫مبلحظة ورصد أىـ التحوالت الفنية والموضوعية التي طرأت عمى الرواية التاريخية ذات االتجاه‬
‫الواقعي التي تستدعي التاريخ؛ لتتخذ منو قناعًا فنيًا يناقش قضايا األمة ويطرح الحموؿ المناسبة‬
‫ركزت الدراسة عمى بياف أىـ مظاىر‬ ‫ليا مف خبلؿ إسقاط الماضي عمى الحاضر‪ ،‬كذلؾ َّ‬
‫التجديد التي ارتبطت بظيور الرواية العربية الجديدة التي تستعمؿ التاريخ‪ ،‬في سبيؿ تقديـ رؤية‬
‫شاممة لمكوف والحياة باستخداـ عدد مف التقنيات الفنية الحديثة التي تعمؿ عمى المزج بيف‬
‫الماضي والحاضر والمستقبؿ‪.‬‬

‫وقد اعتمد الباحث عمى التحميؿ النقدي لعدد مف الروايات التاريخية التي تنتمي إلى‬
‫مراحؿ زمنية مختمفة‪ ،‬حيث تـ عقد مقارنة فيما بينيا؛ لمتعرؼ عمى أىـ التحوالت التي طرأت‬
‫عمييا مف الناحيتيف الفنية والموضوعية‪ .‬وقد توصمت الدراسة إلى عدد مف النتائج تتمثؿ أىميا‬
‫مر بيا‬
‫في بياف ارتباط تطور الرواية التاريخية بالظروؼ االجتماعية والفكرية والسياسية التي َّ‬
‫الوطف العربي في العصر الحديث‪ ،‬كما َّبينت تنوع المواد التاريخية التي استمد منيا الروائيوف‬
‫عوالميـ الروائية‪ ،‬واختبلفيـ حوؿ طريقة التعامؿ مع ىذه المواد‪ ،‬وأىـ ما في الدراسة أنيا‬
‫مشكبلت السرد الروائي مف لغة وشخصيات‬ ‫أظيرت التحوالت الفنية الكبيرة التي أصاب ت كؿ ّْ‬
‫وزماف ومكاف خاصة تمؾ التي ترتبط بالرواية التاريخية الجديدة‪.‬‬
‫‌‬

‫‌‬

‫‌‬

‫‌‬

‫‌‬

‫‌‬

‫‌‬

‫‌‬
‫ت‬
Abstract
The Historical Novel Changes in Arabic Literature
This study discussed the historical novel changes in Arabic
literature in the form and content through its long progression since the
inception at the end of the nineteenth century up to the present era. This
was achieved through observing the productions of the early pioneers of
this art, stating the factors that pushed them to write about it and
showing the general characteristics that controlled their output which
represents the traditional trend of the historical novel. In addition, this
study focused on observing and monitoring the most important changes
that have taken place on the historical realistic novel that recall history to
be considered as an artistic mask in order to discuss the issues of the
nation and put appropriate solutions through recalling the past to the
present. Moreover, the study aimed at showing the most important
aspects of renovation associated with the emergence of the new Arabic
novel that employs history to present a comprehensive vision for the
universe and life by using a number of modern artistic techniques that
blend the past, present and future.
The researcher adopted the critical analysis of a number of
historical novels of different eras. The researcher compared between
these novels to identify the most important changes that have taken place
in the form and content.
The results of the study showed a close link between the historical
novel and the social, intellectual and political conditions of the Arab
world in the modern era. Moreover, the study indicated the diversity of
the historical references that inspired the novelists their fictional worlds
and how they dealt with these materials. The most important point in this
study is that it showed the great technical changes that occurred in the
elements of the narrative forms such as language, characters, time and
place especially those related to the new historical novel.


‫ث‬
‫المقدمة‬
‫الحمد هلل الذي عمـ بالقمـ‪ ،‬والصبلة والسبلـ عمى رسولو األكرـ‪ ،‬محمد بف عبد اهلل وعمى‬
‫آلو وصحبو وسمـ‪ .‬وبعد‪...‬‬
‫إف لفف الرواية أىمية كبيرة جداً عمى المستوييف العربي والدولي‪ ،‬وىو أحد الفنوف األدبية‬
‫الحديثة‪ ،‬التي وفدت إلى عالمنا العربي في مطمع القرف التاسع عشر مف أوروبا‪ ،‬وقد أعجب بيا‬
‫أدباؤنا وأنتجوا الكثير مف الروايات التي عبرت بشكؿ واضح وجمي عف الواقع العربي‪ ،‬وأظيرت‬
‫كذلؾ مدى إبداع الكتاب واألدباء العرب في ابتكار الصور الجديدة والخياالت المبدعة الخبلقة‪،‬‬
‫ومدى قدرتيـ أيضًا عمى توظيؼ المغة العربية في الكتابة الروائية توظيفًا فنيًا وشاعريًا‪ ،‬فأضحى‬
‫بحؽ ىذا العصر ىو عصر الرواية‪.‬‬
‫العبلقة بيف الرواية والتاريخ عبلقة وطيدة وقوية منذ نشأة الرواية كفف أدبي‪ ،‬إذ يعتبر‬
‫التاريخ مف الروافد األساسية التي نيؿ منيا الكتاب واستعانوا بيا في إنتاج عدد مف الروايات‬
‫التاريخية التي تستميـ الماضي وتستدعيو ألغراض متعددة‪ ،‬وتبدو أىمية الروايات التاريخية‬
‫بأشكاليا المتنوعة في أنيا تتعمؽ بالماضي التاريخي والتراثي والحضاري لؤلمة العربية‬
‫واإلسبلمية‪ ،‬األمر الذي يتصؿ بيوية األمة اتصاالً مباش ًار‪ ،‬ويعبر عف أصالتيا وعراقتيا‬
‫ماض ليس لو حاضر‪ ،‬ومف يتجاىؿ ماضيو‪ ،‬لف يسعى‬ ‫ٍ‬ ‫واستمراريتيا في الحياة‪ ،‬فمف ليس لو‬
‫اع‬
‫إلى استكشاؼ وبناء مستقبمو‪ ،‬وال جداؿ في أف استدعاء الماضي وتوظيفو روائياً لو دو ٍ‬
‫وأسباب ترتبط بحاضر األمة ومستقبميا الفكري واالجتماعي والسياسي‪.‬‬
‫القت الرواية التاريخية رواجًا كبي ًار منذ نشأتيا في الوطف العربي‪ ،‬ونالت الكثير مف‬
‫إعجاب القراء وترحيبيـ‪ ،‬لما تحممو مف روح الفخر بالماضي العربي العريؽ والحنيف إليو‪ ،‬وقد‬
‫مرت الرواية التاريخية بمراحؿ متعددة وتعرضت إلى الكثير مف التغيرات والتحوالت الموضوعية‬
‫َّ‬
‫والفنية مف خبلؿ مسيرتيا الطويمة منذ نشأتيا أواخر القرف التاسع عشر وحتى عصرنا الحالي‪،‬‬
‫وىنا تكمف أىمية موضوع بحثنا (تحوالت الرواية التاريخية في األدب العربي) الذي يعمؿ عمى‬
‫مبلحظة وكشؼ ورصد أىـ التحوالت التي تعرضت ليا الرواية التاريخية في األدب العربي‬
‫ويعنى البحث بالتحوالت جميعيا مف جزئية وكمية‪،‬‬
‫الحديث عمى مستوى الشكؿ والمضموف‪ُ .‬‬
‫ومف موضوعية وفنية ‪ ،‬ويمتقي مصطمح التحوالت ىنا بمصطمحات (التطور والتجديد والتوظيؼ‬
‫الحداثي لمتاريخ) دوف تركيز عمى الفروؽ بينيا‪.‬‬

‫‌‬
‫ج‬
‫تعددت عوامؿ وأسباب اختيار الباحث ليذا الموضوع‪ ،‬مف أىميا‪:‬‬
‫ٔ ‪ -‬غ از ةرُ إنتاج الرواية التاريخية في األدب العربي الحديث والمعاصر‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬أف الرواي َة التاريخي َة أضحت ىدفًا لئلنتاج واإلخراج التمفزيوني والسينمائي في عصرنا‬
‫الحالي‪ ،‬وليذا تأثير كبير في تشكيؿ الوعي الثقافي والحضاري لمجيؿ الناشئ‪.‬‬
‫ِ‬
‫وجود دراسة شاممة تتعرض لمموضوِع ذاتو‪.‬‬ ‫عدـ‬
‫ٖ‪ُ -‬‬
‫لقد حاولت ىذه الدراسة اإلجابة عمى األسئمة اآلتية‪:‬‬
‫‪ -‬ما المقصود بالرواية التاريخية؟ وما أىميتيا؟‬
‫‪ -‬ىؿ لمرواية التاريخية أصوؿ في األدب العربي؟‬
‫‪ -‬كيؼ نشأت الرواية التاريخية في األدب العربي؟‬
‫‪ -‬ما الموضوعات التي تتناوليا الرواية التاريخية؟‬
‫‪ -‬ما أثر الرواية الفنية عمى الرواية التاريخية؟‬
‫‪ -‬ىؿ تأثرت الرواية التاريخية باتجاىات الرواية الجديدة؟‬
‫لعؿ مف أىـ الصعوبات التي واجيت الباحث في دراستو ىي خصوصية الوضع‬
‫الفمسطيني القائـ في قطاع غزة‪ ،‬والمتمثؿ في الحصار واإلغبلؽ‪ ،‬وعدـ االستقرار السياسي‬
‫والوظيفي في ظؿ العدواف اإلسرائيمي اليمجي والمستمر عمى قطاعنا الحبيب الذي أصبح بمثابة‬
‫سجف كبير يعاني أىمو الكثير مف الويبلت‪ ،‬باإلضافة إلى انقطاع التيار الكيربائي‪ ،‬وبالتأكيد‬
‫كاف لكؿ ذلؾ أثر كبير عمى عممية البحث‪ ،‬ومف ناحية أخرى واجيت الباحث مجموعة مف‬
‫المشاكؿ المتعمقة بموضوع البحث‪ ،‬مف أىميا ندرة الدراسات األدبية والنقدية التي تناولت‬
‫موضوع الدراسة‪ ،‬حتى واف ُو ِجد القميؿ منيا فإف الباحث عانى مف عدـ توفرىا في قطاع غزة‪،‬‬
‫وما توفر منيا كاف بشؽ األنفس‪.‬‬
‫ورغـ ذلؾ‪ ،‬فقد عثر الباحث في أثناء دراستو عمى عدد مف الرسائؿ العممية التي قاربت‬
‫الموضوع ‪ ،‬والتي كاف ليا دور في تطوير مادة البحث والدراسة‪ ،‬وتتمثؿ ىذه الدراسات فيما يأتي‪:‬‬
‫ٔ ‪ -‬مستويات الخطاب في الرواية التاريخية العربية لمباحث نضاؿ محمد الشمالي‪ ،‬وىي‬
‫رسالة دكتوراه قُّْدمت لقسـ المغة العربية بكمية الدراسات العميا في الجامعة األردنية عاـ‬
‫ٕٗٓٓـ‪ ،‬وقد قامت ىذه الدراسة بتحميؿ الخطاب الروائي في الرواية التاريخية العربية‬
‫مف خبلؿ ثبلثة مستويات ىي ‪:‬المستوى التركيبي السردي‪ ،‬والمستوى التاريخي‪،‬‬
‫والمستوى النسقي‪.‬‬

‫‌‬
‫ح‬
‫ٕ ‪ -‬الرواية التاريخية العربية في األدب العربي الحديث (‪ )ٕٓٓٓ- ٜٔٙٚ‬دراسة في الرؤية‬
‫والتشكيؿ لمباحث شاىر محمد عبد الرحيـ جبر‪ ،‬وىي رسالة دكتوراه قُّْدمت لكمية‬
‫الدراسات العميا بالجامعة األردنية عاـ ‪ٕٓٓٛ‬ـ‪ ،‬وقد اعتمدت الدراسة عمى التحميؿ‬
‫النقدي إلحدى عشرة رواية تاريخية مف مناطؽ وبمداف مختمفة؛ بيدؼ التعرؼ عمى‬
‫الخصائص العامة لمرواية التاريخية في الفت ةر المحددة لمدراسة‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬الرواية والتاريخ ‪ -‬دراسة في العبلقات النصية (رواية َّ‬
‫العبلمة لبف سالـ حميش نموذجاً)‬
‫لمطالبة سميمة عذاوري‪ ،‬وىي رسالة ماجستير تـ تقديميا لقسـ المغة العربية وآدابيا‬
‫بجامعة بف يوسؼ بف خدة بالجزائر في العاـ الدراسي ٕ٘ٓٓ‪ ،ٕٓٓٙ/‬وقد ركزت‬
‫الدراسة عمى تقنية التناص في الرواية التاريخية‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬مفيوـ الرواية التاريخية في النقد الروائي في سورية لمطالبة غدير يوسؼ‪ ،‬وىي رسالة‬
‫ماجستير في المغة العربية وآدابيا‪ ،‬قُّْدمت لقسـ المغة العربية بكمية اآلداب والعموـ‬
‫اإلنسانية ‪ -‬الدراسات العميا بجامعة حمب عاـ ‪ٕٜٓٓ‬ـ‪ ،‬وقد اعتمدت الدراسة عمى‬
‫المنيج الوصفي االستقرائي‪ ،‬وىي تفرؽ بيف النقد التقميدي والنقد الحداثي في تعامؿ كؿ‬
‫منيما مع الوثيقة التاريخية‪.‬‬

‫اعتمد الباحث في دراستو عمى المنيج الوصفي التحميمي‪ ،‬واستعاف بالمنيجيف التاريخي‬
‫والمقارف؛ وذلؾ ليتتبع نشأة الرواية التاريخية وتطورىا في األدب العربي‪ ،‬ومف ثـ يقوـ بتحميؿ‬
‫الروايات التاريخية التي يتـ اختيارىا‪ ،‬لمكشؼ عف التحوالت الموضوعية والفنية التي ظيرت فييا‬
‫مف خبلؿ الدراسة التطبيقية‪ .‬واعتمدت الدراسة في عممية التوثيؽ وصناعة اليوامش والفيارس‬
‫عمى المنيج (العربي) كما شرحو د‪ .‬رمضاف عبد التواب في كتابو (مناىج تحقيؽ التراث بيف‬
‫القدامى والمحدثيف) ومف خطواتو‪ :‬الجمع بيف المصادر والمراجع ببل تفريؽ بينيا‪ ،‬وبدء التوثيؽ‬
‫في اليامش باسـ الكتاب‪ ،‬واالك تفاء بو وبالجزء والصفحة‪ ،‬وعدـ ذكر المؤلؼ إال في حالة تماثؿ‬
‫كتابيف في االسـ‪ ،‬وتقديـ كافة المعمومات عنو في فيرس المصادر والمراجع‪.‬‬
‫لقد اشتممت الدراسة عمى مقدمة عامة وتمييد وأربعة فصوؿ وخاتمة‪ ،‬وقد جاءت وفؽ‬
‫الترتيب اآلتي‪:‬‬
‫المقدمة‪ :‬كشفت عف أىمية موضوع البحث‪ ،‬وأسباب ودوافع اختياره‪ ،‬باإلضافة إلى‬ ‫‪-‬‬

‫الصعوبات التي واجيت الباحث‪ ،‬والدراسات السابقة‪ ،‬والمنيج المتبع في الدراسة‪.‬‬


‫التمييد‪َّ :‬‬
‫تحدث عف الرواية التاريخية بشكؿ عاـ مف خبلؿ التعرض لتعريفاتيا المختمفة‪،‬‬ ‫‪-‬‬

‫ووضع سماتيا العامة‪ ،‬وبياف أىدافيا ودوافع كتابتيا‪.‬‬

‫‌‬
‫خ‬
‫الفصؿ األوؿ‪ :‬تناوؿ نشأة الرواية التاريخية وتطورىا في األدب العربي الحديث‪ ،‬وتـ فيو‬ ‫‪-‬‬

‫التعرض ألثر الرواية التاريخية في أوروبا عمى الرواية العربية‪ ،‬ثـ الكشؼ عف نشأة‬
‫الرواية التاريخية في األدب العربي وأىـ أعبلميا ومراحؿ تطورىا‪ ،‬مع التركيز عمى‬
‫روايات جورجي زيداف التاريخية التي ش َّكمت عبلمة فارقة في مرحمة النشأة‪ ،‬وبياف أىـ‬
‫المآخذ واالنتقادات التي تعرضت ليا‪ ،‬باإلضافة إلى التعرض إلنتاج محمد فريد أبو‬
‫حديد في الرواية التاريخية التي شكم ت رؤيتو الفنية والموضوعية تطو اًر وتحوالً واضحاً‬
‫عف سابقو‪.‬‬
‫‪ -‬الفصؿ الثاني‪ :‬تحدث فيو الباحث عف تحوالت الرواية التاريخية في ظؿ الرواية‬
‫الواقعية‪ ،‬وذلؾ بذكر أثر الرواية الفنية ذات االتجاه الواقعي عمى الرواية التاريخية فنيًا‬
‫وموضوعياً مف خبلؿ التعرض لمتحوالت البارزة فنياً وموضوعياً عند اثنيف مف أشير‬
‫كتاب الرواية التاريخية في األدب العربي وىما‪ :‬نجيب محفوظ في رواية كفاح طيبة‪،‬‬
‫وعمي أحمد باكثير في روايتي واإسبلماه والثائر األحمر‪.‬‬
‫‪ -‬الفصؿ الثالث‪ :‬عبارة عف مقاربة نظرية بعنواف ( تحوالت الرواية الجديدة)‪ ،‬تعرض لما‬
‫أحدثتو الرواية الجديدة مف تحوالت جذرية في مسي ةر الرواية العربية الحديثة والمعاصرة‪،‬‬
‫فتكمـ عف نشأة الرواية الجديدة‪ ،‬وعوامؿ ظيورىا‪ ،‬وعبلقتيا بالواقع‪ ،‬وموقفيا مف‬
‫المتمقي‪ ،‬ثـ َّبيف أىـ التحوالت التي طرأت عمى كؿ ّْ‬
‫مشكبلتيا السردية‪.‬‬
‫‪ -‬الفصؿ الرابع‪ :‬أشار إلى تحوالت الرواية التاريخية في ظؿ الرواية الجديدة‪ ،‬وذلؾ مف‬
‫ال لنشأة الرواية الجديدة وما أحدثتو مف تطور ممحوظ عمى كؿ‬ ‫خبلؿ التعرض أو ً‬
‫مشكبلت السرد الروائي‪ ،‬ثـ بياف أثرىا عمى الرواية التي وظَّفت التاريخ لمتعبير عف‬
‫ّْ‬
‫رؤيتيا الفنية والحضارية متأث ةر بالتقنيات الفنية الحديثة مثؿ تقنية التداعي وتيار الوعي‬
‫واالسترجاع واالستباؽ والسي ةر الذاتية والمفارقات‪ ..‬وغيرىا‪ ،‬عند كؿ مف جماؿ الغيطاني‬
‫في رواية الزيني بركات‪ ،‬ورضوى عاشور في ثبلثية غرناطة‪ ،‬وأحمد رفيؽ عوض في‬
‫روايتي القرمطي وعكا والمموؾ‪.‬‬
‫ذكر ألىـ نتائج الدراسة باإلضافة إلى توصيات الباحث واقتراحاتو‬
‫‪ -‬الخاتمة‪ :‬وفييا ٌ‬
‫المتعمقة بتطوير ميداف البحث في الرواية التاريخية‪.‬‬

‫وأخي اًر‪ ،‬فإنني أسأؿ اهلل –عز وجؿ ‪ -‬أف أكوف قد وفقت فيما قصدت‪ ،‬وكمي أمؿ في أف‬
‫تعـ الفائدة‪ ،‬واهلل الموفؽ والمستعاف‪.‬‬

‫‌د‬
‫متهيد‬
‫امرواية امتارخيية‬
‫(ثعريفاهتا وسامهتا وأهدافها)‬
‫‌‬
‫‌‬
‫‌‬
‫‌‬
‫‌‬
‫‌‬
‫‌‬
‫‌‬
‫‌‬

‫‪1‬‬
‫الرواية التاريخية‬

‫(تعريفاتيا وسماتيا وأىدافيا)‬

‫ظير فف الرواية في األدب العربي حديثاً في مطمع القرف العشريف‪ ،‬وذاع بعد ذلؾ وانتشر‬
‫انتشػا اًر واسػعاً‪ ،‬وتعػددت أنواعػو وأغ ارضػو وميادينػو التػػي يجمػع بينيػا البعػد اإلنسػاني العػاـ‪ ،‬حتػػى‬
‫أصبح عصرنا بحؽ عصر الرواية ببل منافس‪.‬‬

‫الرواية‪" :‬نص نثري تخيمي سردي واقعي غالباً‪ ،‬يدور حوؿ شخصػيات متورطػة فػي حػدث‬
‫ميػـ‪ ،‬وىػػي تمثيػػؿ لمحيػػاة والتجربػػة واكتسػػاب المعرفػة"‪ )ٔ (.‬وىػػي‪" :‬شػػكؿ أدبػػي يرتػػدي أرديػػة لغويػػة‬
‫تػػنيض عمػػى جممػػة مػػف األشػػكاؿ واألص ػػوؿ كالمغػػة‪ ،‬والشخصػػيات‪ ،‬والزمػػاف‪ ،‬والمكػػاف‪ ،‬والح ػػدث‪،‬‬
‫يربط بينيا طائفة مف التقنيات كالسرد‪ ،‬والوصؼ‪ ،‬والحبكة‪ ،‬والصراع؛ لتصؿ إلى نياية مرسومة‬
‫( ٕ)‬
‫بدقة متناىية وعناية شديدة"‪.‬‬

‫ػاب الروائػي بأنػو‪" :‬بنيػة لغويػة دالػة‪ ،‬وىػو تشػكيؿ لغػوي سػردي داؿ‪ ،‬يصػوغ‬
‫وُيع َّػرؼ الخط ُ‬
‫خاصػا‪ ،‬تتنػوع وتتعػدد وتختمػؼ فػي داخمػو المغػات واألسػاليب واألحػداث واألشػخاص‬
‫ً‬ ‫عالما موح ًػدا‬
‫ً‬
‫واألصػوات والعبلقػات واألمكنػة واألزمنػة‪ ،‬دوف أف يقضػي ىػذا التنػوع والتعػدد واالخػتبلؼ عمػى‬
‫خصوصية ىذا العالـ ووحدتػو الدالػة"‪ )ٖ (.‬ويمكننػا تعريػؼ الروايػة بأنيػا‪ :‬جػنس أدبػي نثػري سػردي‬
‫خيالي‪َ ،‬يربِطُ بيف عناصر الحدث والشخصيات والزماف والمكاف فيو لغةٌ شاعرية دالة‪ ،‬ذات بع ٍػد‬
‫إنساني‪.‬‬
‫و ُّ‬
‫تعد الرواية التاريخية أحد أىـ أنواع الرواية بشكؿ عاـ‪ ،‬وقد تعددت تعريفات النقاد العرب‬
‫واألجانب ليا‪ ،‬إال أنيا تتفؽ جميعًا فػي الػنص عمػى اعتمادىػا عمػى التػاريخ كمػادة أساسػية لمعمػؿ‬
‫الروائػػي‪ .‬ويمكننػػا التميي ػػز بػػيف ن ػػوعيف مػػف التعريفػػات‪ ،‬يتمث ػػؿ النػػوع األوؿ ف ػػي التنػػاوؿ التقمي ػػدي‬
‫ل مرواية التاريخية‪ ،‬والذي يحرص عمى األمانة في نقؿ األحداث التاريخية وعدـ تزييفيا‪ ،‬أما النوع‬
‫اآلخر فيتمثؿ في التناوؿ الحداثي والجديد لمتاريخ‪ ،‬حيث تستعمؿ الروايػة التػاريخ كمػادة خػاـ‪ ،‬ال‬
‫لنقميا أو إعادة صياغتيا‪ ،‬ولكف لتحقيؽ أىداؼ روائية ال تتحقؽ إال بيا‪.‬‬

‫)ٔ( معجـ مصطمحات نقد الرواية‪ ،‬ص‪ٜٜ‬‬


‫)ٕ( في نظرية الرواية‪ ،‬صٕٗ‬
‫)ٖ( البنية والداللة في القصة والرواية العربية المعاصرة‪ ،‬صٕٗ‬

‫‪2‬‬
‫وم ػ ػػف أىػ ػ ػػـ التعريف ػ ػػات التػ ػ ػػي تمثػ ػ ػػؿ الجان ػ ػػب التقميػ ػ ػػدي لمروايػ ػ ػػة التاريخي ػ ػػة تعريػ ػ ػػؼ معجػ ػ ػػـ‬
‫المصػ ػػطمحات األدبيػ ػػة المعاصػ ػ ػ ةر لمروايػ ػػة التاريخيػ ػػة بأني ػ ػػا‪" :‬سػ ػػرد قصصػ ػػي يرتك ػ ػػز عمػ ػػى وق ػ ػػائع‬
‫تاريخيػة‪ ،‬تُنسػج حوليػػا كتابػات تحديثيػة ذات بعػػد إييػامي معرفػي‪ ،‬وتنحػػو – الروايػة التاريخيػػة –‬
‫غالب ػاً إل ػػى إقامػػة وظيف ػػة تعميمي ػػة وتربويػػة"‪ )ٔ (.‬وج ػػاء فػػي معج ػػـ المص ػػطمحات العربيػػة ف ػػي المغ ػػة‬
‫واألدب تعريػؼ آخػر لمروايػة التاريخيػة‪ ،‬فيػي‪" :‬سػرد قصصػي يػدور حػوؿ حػوادث تاريخيػة وقعػػت‬
‫( ٕ)‬
‫بالفعؿ‪ ،‬وفيو محاولة إلحياء فترة تاريخية بأشخاص حقيقييف أو خيالييف أو بيما معاً"‪.‬‬
‫ومف تعريفات الروايػة التاريخيػة القديمػة والتقميديػة أيضػاً تعريػؼ جوناثػاف فيمػد ( ‪)J.Field‬‬
‫الذي يرى أف الرواية تعتبر تاريخية عندما تقدـ تواريخػًا وأشخاصػًا وأحػداثًا يمكػف التع ّػرض إلػييـ‪،‬‬
‫وقد َّبيف ستودارد )‪ (Stoddard‬أف الرواية التاريخية تمثؿ سجبلّ لحيػاة األشػخاص أو لعػواطفيـ‬
‫( ٖ)‬
‫فالروايػػة أو القص ػػة التاريخيػػة ىػػي تس ػػجيؿ لحيػػاة اإلنس ػػاف‪،‬‬ ‫تحػػت بعػػض الظ ػػروؼ التاريخيػػة‪.‬‬
‫ولعواطفو والنفعاالتو في إطار تاريخي‪ .‬ومعنى ىذا أنيا تقوـ عمى عنصريف‪ ،‬أوليما‪ :‬الميػؿ إلػى‬
‫( ٗ)‬
‫التاريخ وتفيـ روحو وحقائقو‪ ،‬وثانييما‪ :‬فيـ الشخصية اإلنسانية وتقدير أىميتيا في الحياة‪.‬‬
‫إنػػو وم ػػف خػػبلؿ الوق ػػوؼ عمػػى التعريف ػػات الجديػػدة لمرواي ػػة التاريخيػػة يظي ػػر مػػدى التط ػػور‬
‫والتحػوؿ الػذي أصػاب ىػذا الفػف الروائػي حيػث َكثُػر تنػاوؿ الكتػاب لمروايػة التاريخيػة وفػؽ رؤيػتيـ‬
‫التي انتيت إلى الرواية الجديدة التي تستعمؿ التاريخ وتوظفو ألغراض حضارية حديثة‪.‬‬
‫الروايػ ػػة التاريخيػ ػػة ليس ػ ػت حػ ػػديثًا فػ ػػي الػ ػػزمف الماضػ ػػي‪ ،‬بػ ػػؿ ىػ ػػي روايػ ػػة تستحضػ ػػر م ػ ػػيبلد‬
‫ػوة دافعػ ػةً ف ػػي مصػ ٍ‬
‫ػير ل ػػـ يتش ػػكؿ بعػػد‪ ،‬وتق ػػوـ عم ػػى‬ ‫األوضػػاع الجدي ػػدة‪ ،‬وتصػػور بدايػ ػةً ومس ػػا اًر وقػ ً‬
‫( ٘)‬
‫وىػ ػػي عنػ ػػد جػ ػػورج‬ ‫اس ػػتخبلص فرديػ ػػة الشخصػ ػػيات مػ ػػف الطػ ػػابع الت ػػاريخي الخػ ػػاص لعصػ ػػرىـ‪.‬‬
‫لوكاش‪" :‬رواية تثير الحاضر‪ ،‬ويعيشيا المعاصروف بوصفيا تاريخيـ السابؽ بالذات"‪ )ٙ (.‬ويعرفيا‬
‫ألفرد شيبارد ( ‪ )Alfred Sheppard‬بقولو‪ " :‬تتناوؿ القصة التاريخية الماضي بصػورة خياليػة‪،‬‬
‫يتمتػع الروائػي بقػدرات واسػعة يسػتطيع معيػا تجػاوز حػدود التػاريخ‪ ،‬لكػف عمػى شػرط أف ال يسػػتقر‬
‫( ‪)ٚ‬‬
‫ىناؾ لفترة طويمة إال إذا كاف الخياؿ يمثؿ جزًءا مف البناء الذي سيستقر فيو التاريخ"‪.‬‬

‫)ٔ( معجـ المصطمحات األدبية المعاصرة‪ ،‬صٖٓٔ‬


‫)ٕ( معجـ المصطمحات العربية في المغة واألدب‪ ،‬صٗ‪ٔٛ‬‬
‫)ٖ( الرواية والتاريخ‪ ،‬صٖٔٔ‬
‫)ٗ( فف القصة‪ ،‬ص‪ٔ٘ٚ‬‬
‫)٘( انظر‪ ،‬معجـ المصطمحات األدبية‪ ،‬ص‪ٔٚٛ - ٔٚٚ‬‬
‫)‪ (ٙ‬الرواية التاريخية‪ ،‬ص‪ٜٛ‬‬
‫)‪ (ٚ‬الرواية والتاريخ‪ ،‬صٔٔٔ ‪ٕٔٔ -‬‬

‫‪3‬‬
‫اريخيػة لديػػو‬
‫وتجػدر اإلشػارة أيضػا إلػػى مفيػوـ الروايػة عنػد بيػػوكف ( ‪ )Buchan‬فالروايػة التّ ّ‬
‫ىي "كؿ رواية تحاوؿ إعادة تركيب الحياة في فترة مف فترات التاريخ" وىذا تحديد جيد مف بيوكف‬
‫محددة ُيعمؿ فييا الكاتػب أدواتػو‬‫تختص بفترة تاريخية ّ‬
‫ّ‬ ‫البد مف أف‬‫يبرز فيو أف الرواية التاريخية ّ‬
‫( ٔ)‬
‫فنياً موحياً بعيداً عف سطوة الوثائقية‪.‬‬
‫الفنية إلعادة إظيار ىذه الفترة إظيا اًر ّ‬
‫ّ‬
‫ومػف المفػاىيـ اليامػة والجديػدة لمروايػة التاريخيػة‪" :‬أنيػا بنيػة زمنيػة متخيمػة خاصػة‪ ،‬داخػؿ‬
‫البنية الحدثية الواقعية‪ ،‬أو بتعبير آخر ىي تاريخ متخيؿ خاص داخؿ التاريخ الموضوعي‪ .‬وقد‬
‫تاريخا لشخص أو‬
‫ً‬ ‫مجتمعيا‪ ،‬فقد يكوف‬
‫ً‬ ‫ذاتيا أو‬
‫عاما‪ً ،‬‬
‫جزئيا أو ً‬
‫تاريخا ً‬
‫يكوف ىذا التاريخ المتخيؿ ً‬
‫لحػدث أو لموقػؼ أو لخبػرة‪ ،‬أو لجماعػة‪ ،‬أو لمحظػة تحػوؿ اجتمػاعي إلػى غيػر ذلػؾ‪ .‬ورغػـ‬
‫االختبلؼ في الطبيعة البنيوية الزمنية بيف المتخيؿ والموضوعي‪ ،‬فإف بيف الزمنيف أو التاريخيف‬
‫عبلقة ضرورية‪ ،‬أكبر مف تزامنيما‪ ،‬ىػي عبلقػة التفاعػؿ بينيمػا‪ .‬فبنيػة الروايػة ال تنشػأ مػف فػراغ‪،‬‬
‫وانما ىي ثمرة لمبنية الواقعية السائدة االجتماعية والحياتية والثقافية عمى السػواء‪ ،‬وىػي ثمػ ةر بمغػة‬
‫( ٕ)‬
‫التخييؿ ال بمغة االستنساخ واالنعكاس المباشر"‪.‬‬
‫مجردة‬
‫ال حقائؽ ّ‬
‫الرواية التاريخية ىي نتيجة المتزاج التاريخ باألدب؛ فالتاريخ ما ىو إ ّ‬
‫أف ىذا التاريخ‬
‫بالشخصيات‪ ،‬بيد ّ‬
‫ّ‬ ‫لوقائع تاريخية معينة سواء أكاف األمر يتعّمؽ بالحوادث أـ‬
‫المجرد عندما يدخؿ بنية أساسية تعتمد عمييا الرواية يأخذ شكبلً جديداً؛ بحيث يصبح عنص اًر‬
‫فنياً مف عناصر تكويف الرواية‪ ،‬فيخض ع حينيا لكاتب الرواية الذي يفسره وفقاً لمزاجو‬
‫ّ‬
‫( ٖ)‬
‫الشخصي‪.‬‬

‫ويفػرؽ بعػض البػاحثيف بػيف الروا يػة التاريخيػة وبػيف مػا يسػميو ب ػ (روايػة الروايػة التاريخيػػة)‬
‫"فالرواي ػ ػػة التاريخيػ ػ ػػة تق ػ ػػدـ بطميػ ػ ػػا أو بطمتيػ ػ ػػا بوص ػ ػػفو‪ /‬بوصػ ػ ػػفيا نموذجػ ػ ػاً أو نمط ػ ػ ػاً‪ ،‬وتسػ ػ ػػتوعب‬
‫المعمومػػات التاريخي ػػة وتص ػػوغيا بمػػا يعط ػػي إحساسػ ػاً بق ػػدرتيا عمػػى الص ػػمود الختب ػػارات الص ػػدؽ‬
‫والك ػػذب‪ ،‬أم ػػا فػ ػػي رواي ػػة الرواي ػػة التاريخيػ ػػة ف ػػبل تح ػػدث تمػ ػػؾ النمذج ػػة والتنم ػػيط‪ ،‬بػ ػػؿ نج ػػد طرح ػ ػًا‬
‫لمتساؤالت حوؿ مصداقية التاريخ نفسو وكيؼ نتعامؿ معو‪ ،‬وكيؼ يصؿ إلينا الماضي وما الذي‬
‫( ٗ)‬
‫يصؿ إلينا منو؟"‪.‬‬

‫)ٔ( الرواية والتاريخ‪ ،‬صٗٔٔ‬


‫)ٕ( البنية والداللة في القصة والرواية العربية المعاصرة‪ ،‬صٖٔ‬
‫)ٖ( مدخؿ إلى الرواية التاريخية ‪http://odabasha.ipower.com/show.php?sid=2373‬‬
‫)ٗ( النزعة اإلنسانية في الرواية العربية وبنات جنسيا‪ ،‬ص‪ٜٔٚ‬‬

‫‪4‬‬
‫ويمكف التفريؽ بيف الرواية التاريخية والرواية التي توظؼ التاريخ‪ ،‬في أف مصطمح الرواية‬
‫التاريخيػة يػدؿ عمػػى أف التاريخيػة صػفة لمروايػػة‪ ،‬أي أف الروايػة تفقػد خصائصػػيا لصػالح التػػاريخ‬
‫ال ػػذي يي ػػيمف بخصائص ػػو عم ػػى الرواي ػػة‪ ،‬ويطبعيػ ػػا بطابع ػػو عم ػػى مس ػػتوى البيئ ػػة‪ ،‬والشخصػ ػػيات‪،‬‬
‫وطريقة السرد‪ .‬أما الرواية التي توظؼ التاريخ فيي تخضع الخطاب التاريخي لسيطرتيا‪ ،‬فتقدمو‬
‫( ٔ)‬
‫فالمقصػود بروايػة الروايػة التاريخيػة ىػو نقػد‬ ‫بطريقة جديدة‪ ،‬تتناسب وطبيعة الخطاب الروائي‪.‬‬
‫التػػاريخ واعػػادة مس ػػاءلتو‪ ،‬والنظػػر بت ػػدبر فػػي روايت ػػو؛ لمتعػػرؼ عم ػػى مػػدى ص ػػدؽ ىػػذه الرواي ػػة أو‬
‫كذبيا‪ ،‬انطبلقاً مف أف التاريخ في النياية يعبر عف أيديولوجية كاتبو والعصر الذي كتب فيو‪.‬‬

‫كتػ ػاب الروايػ ػػة التاريخيػ ػػة الجػ ػػدد يتنػ ػػاولوف التػ ػػاريخ بالتأويػ ػػؿ والتحميػ ػػؿ حسػ ػػب أىػ ػػدافيـ‬
‫إف ّ‬
‫أدبػا فيػو‬
‫تاريخا‪ ،‬بؿ يكتػب ً‬ ‫ً‬ ‫شيئا في المسار التاريخي ألف األديب ال يكتب‬ ‫الفكرية‪ ،‬وقد يحدثوف ً‬
‫بناء عمػى مرجعيػة ثقافيػة وجماليػة تناسػب عصػره‪ ،‬وقػد يكػوف ىدفػو نيضػوي‪،‬‬
‫خياؿ أدبي خبلؽ‪ً ،‬‬
‫إحيائي لواقع معاش‪ )ٕ (.‬فتنحرؼ الرواية بالتاريخ لغاية في نفس الكاتب‪ ،‬ال شأف ليا فػي التػاريخ‬
‫( ٖ)‬
‫إال التسمية‪ ،‬بؿ ىي عصرنة لفك ةر ما لدى الفناف‪.‬‬

‫ولكنيػا ال تنقػؿ التػاريخ‬


‫فالروايػة التاريخيػة الجديػدة‪" :‬عمػؿ ّفنػي يتخػذ مػف التػاريخ مػادة لػو‪ّ ،‬‬
‫الفناف لو وتوظيفو ليذه الرؤية؛ لمتعبير عف تجربة مف تجاربو‪ ،‬أو‬ ‫تصور رؤية ّ‬ ‫بحرفيتو‪ ،‬بقدر ما ّ‬
‫( ٗ)‬
‫موقؼ مف مجتمعو يتخذ مف التاريخ ذريعة لقولو"‪.‬‬

‫يمكف مف خبلؿ التعريفات السابقة ذكر عدد مف السمات والخصائص العامة التي يتـ مف‬
‫خبلليػا التفريػػؽ بػيف الروايػػة التاريخيػة التقميديػػة‪ ،‬والروايػػة الجديػدة التػػي توظػؼ التػػاريخ ألغ ػراض‬
‫حضارية عمى النحو اآلتي‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬الرواية التاريخية التقميدية‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬تعتمد عمى أحداث ووقائع تاريخية موثقة حدثت بالفعؿ في الزمف الماضي‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬األمانة في نقؿ األحداث والمواقؼ التاريخية العامة واالبتعاد عف تزييفيا أو العبث فييا‪.‬‬

‫)ٔ( انظر‪ ،‬توظيؼ التراث في الرواية العربية المعاصرة ‪ ،‬صٗٓٔ ‪ٔٓٙ -‬‬
‫)ٕ( انظر‪ ،‬روايات نجيب محفوظ التاريخية (بحث)‪ ،‬صٕٓٔ‬
‫)ٖ( انظر‪ ،‬نجيب محفوظ في مجيولو المعموـ‪ ،‬ص‪ٜ‬‬
‫)ٗ( بناء الرواية في األدب المصري الحديث‪ ،‬صٖٖ‬

‫‪5‬‬
‫ٖ ‪ -‬تص ػػوغ وتش ػ ّْػك ؿ الم ػػادة التاريخي ػػة بش ػػكؿ فن ػػي خي ػػالي دوف الت ػػأثير عم ػػى المبلم ػػح العام ػػة‬
‫لمحدث التاريخي‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬تركػز عمػى الظػػروؼ الثقافيػة والفكريػػة والسياسػية واالقتصػػادية ألمػة مػػف األمػـ أو لشػػعب‬
‫مف الشعوب ضمف فترة تاريخية محددة‪.‬‬
‫٘ ‪ -‬تعتمػد عمػى البنػػاء الروائػي التقميػػدي الػذي يق ّْػدس الشخصػػية ويحػافظ عمػػى تراتبيػة الػػزمف‬
‫وتسمسمو‪.‬‬
‫‪ - ٙ‬التاريخ مرجعية لمعمؿ الروائي‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬الرواية التاريخية الجديدة‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬تمثّْؿ الروائية في الرواية الجديدة المقوـ األوؿ لمعمؿ الروائي‪.‬‬


‫ٕ ‪ -‬تتسػػـ بػػالترىيف الزمنػػي‪ ،‬في ػػي تحمػػؿ معػػاني عميقػػة تم ػػس الواقػػع المعػػيش‪ ،‬بحيػػث ت ػػربط‬
‫الزمف الماضي بالزمف الحاضر‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬تُ ّْ‬
‫عبر عف أفكار الكاتب الروائي وأيديولوجيتو الخاصة‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬تسعى إلى تحقيؽ أىداؼ محددة يقصدىا الروائي المبدع‪ ،‬ويشاركو فييا المتمقي‪.‬‬
‫٘ ‪ -‬تعتمد عمى الخياؿ كعنصر أساسي في بناء الحدث الروائي‪.‬‬
‫‪ - ٙ‬تتك ػػئ عمػ ػػى البن ػػاء الحػ ػػداثي لمرواي ػػة‪ ،‬الػ ػػذي يس ػػتعمؿ عػ ػػدد كبي ػػر مػ ػػف التقني ػػات السػ ػػردية‬
‫الحديثة‪.‬‬
‫‪ - ٚ‬ليس ليا مرجعية غير نفسيا‪ ،‬وروائيتيا ىي التي تقودىا‪.‬‬

‫ػاء عم ػػى م ػػا تقػػدـ يمك ػػف تعري ػػؼ الروايػػة التاريخي ػػة بأني ػػا‪ :‬ذلػػؾ الج ػػنس الروائ ػػي‪ ،‬ال ػػذي‬
‫وبنػ ً‬
‫يسػتعمؿ حادثػػة تاريخيػػة موثقػػة‪ ،‬ويتنػػاوؿ شخوصػػيا وبيئتيػػا الزمانيػػة والمكاني ػة‪ ،‬ويعيػػد صػػياغتيا‬
‫بشكؿ فني خيالي؛ لمتعبير عف رؤية كاتبيا وفك هر في العصر الذي يعيش فيو‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫أىداف الرواية التاريخية ودوافعيا‪:‬‬

‫اعتم ػػدت الرواي ػػة العربي ػػة ف ػػي العص ػػر الحػ ػػديث عم ػػى الت ػػاريخ‪ ،‬ولج ػػأت إلي ػػو لع ػػدة أس ػ ػباب‬
‫ودوافػع؛ لتحقيػػؽ مجموعػػة مػػف الغايػات واألىػػداؼ‪ ،‬قػػد يػػرتبط بعضػيا بػػالروائي المبػػدع أو القػػارئ‬
‫المتمقػي‪ ،‬ويػرتبط بعضػػيا اآلخػر بػالواقع العربػػي المػأزوـ والمعقػػد الػذي يعػاني الكثيػػر مػف الضػػغط‬
‫والقير السياسي واالجتماعي والثقافي‪.‬‬

‫إف "وظيفة الروائ ي التاريخي ال تقتصر عمػى إعػادة تسػجيؿ الحقػائؽ التاريخيػة ونقميػا إلػى‬
‫القارئ‪ ،‬فيذه ميمة وثائؽ المؤرخ وسجبلتو‪ ،‬وأما وظيفة الروائػي التػاريخي فػتكمف فػي اختيػا هر مػف‬
‫تمػؾ الوثػائؽ والسػجبلت مػا يمثػػؿ امتػدادًا لواقعػو وحاضػره‪ ،‬ومػا لػػو صػمة بواقعػو وبقضػايا مجتمعػػو‬
‫الراىنػة‪ ،‬بمػا يعيػػد ذىػف القػػارئ إلػى تمػؾ الصػػمة التػي تشػػد الروايػة التاريخيػة إلػػى الحاضػر‪ ،‬عمػػى‬
‫( ٔ)‬
‫الرغـ مف توغميا في الماضي"‪.‬‬

‫ومف المبلحظ أف أغمب الروائييف العرب قد بدأوا إبداعيـ الروائي بكتابة الرواية التاريخية‬
‫مثػؿ جػػورجي زيػداف مػػف لبنػػاف‪ ،‬ومعػروؼ األرنػػاؤوط مػػف سػوريا‪ ،‬ومحمػػد فريػػد أبػو حديػػد ونجيػػب‬
‫محفوظ وجماؿ الغيطاني مف مصر‪ ،‬وواسيني األعػرج مػف الج ازئػر‪ ..‬وغيػرىـ‪ .‬حيػث يسػيؿ عمػى‬
‫الكاتػػب ف ػػي بداي ػػة حيات ػػو الروائيػػة أف يس ػػتقي م ػػف الت ػػاريخ المػػادة األساس ػػية لروايات ػػو م ػػف أح ػػداث‬
‫وشخص ػيات وزمػػاف ومك ػػاف‪ ،‬ومػػا عمي ػػو إال إعػػادة ص ػػياغتيا وتشػػكيميا‪ ،‬واض ػػافة بعػػض األح ػػداث‬
‫والشخصيات الخيالية المتعمقة بالجانب الفني الروائي عمييا؛ لمتعبير عف أفكا هر الخاصة‪ ،‬وعبلوة‬
‫عمػػى ذلػػؾ فق ػػد وجػػد الروائي ػػوف العػػرب ف ػػي الروايػػة التاريخيػػة مج ػػاالً خصػػباً لمتعبي ػػر عػػف أفك ػػارىـ‬
‫السياسية واالجتماعية والثقافية المختمفة‪ .‬ويرى الباحػث أف ارتػداء التػاريخ كقنػاع لمحاكمػة الواقػع‬
‫ومسػاءلتو كػاف نتيجػة ألسػباب متعػددة مػف أىميػػا الخػوؼ مػف بطػش األنظمػة الحاكمػة فػي الػػببلد‬
‫العربية‪ ،‬ىذه األنظمة ذات الحكـ الشمولي المستبد التي ال تسمح ألي معارض أو مخالؼ بإبداء‬
‫وجية نظ هر بشكؿ مباشر وواضح‪ ،‬باإلضافة إلى امتبلء وغنى التاريخ العربي واإلسبلمي بنماذج‬
‫كثي ػ ةر متقاربػػة م ػػع الواقػػع فػػي العص ػػر الحػػديث‪ ،‬وعمػػى ذل ػػؾ لػػـ تكػػف الع ػػودة إلػػى التػػاريخ بغ ػػرض‬
‫التاريخ ذاتو‪ ،‬إنما اتخذت مف التاريخ ستا اًر وقناعاً لمعالجة قضايا الواقع‪.‬‬

‫إف المتتبع لئلنتاج الروائي في القرف التاسػع عشػر يبلحػظ أنػو قػد ىػدؼ إلػى تسػمية القػراء‬
‫وامتػاعيـ‪ ،‬فػي ظػؿ رواج الصػحؼ بمػا تحويػو مػف قصػص وروايػات مشػوقة‪ .‬وقػد فرضػت طبيعػة‬

‫)ٔ( التجميات الممحمية في رواية األجياؿ العربية‪ ،‬ص‪ٜ٘‬‬

‫‪7‬‬
‫الحيػاة االجتماعيػة عمػى الكتػاب أف يضػفوا عمػػى أعمػاليـ الروائيػة والقصصػية‪ ،‬عناصػر التثقيػػؼ‬
‫والتيػذيب والتعمػػيـ‪ ،‬حتػػى يطمػػئف الق ػراء إلػػى جػػدوى ىػػذه األعمػػاؿ‪ ،‬ولتنتفػػي مػػف أذىػػانيـ األفكػػار‬
‫الس ػػمبية تجاىي ػػا‪ ،‬ولعػ ػػؿ ى ػػذا يفسػ ػػر إصػ ػرار كثيػ ػػر م ػػف الكتػ ػػاب والمج ػػبلت عمػ ػػى أىمي ػػة الجانػ ػػب‬
‫( ٔ)‬
‫وتختمؼ نظ ةر المتمقيف في تناوؿ الرواية التاريخية‪ ،‬فمنيـ مف‬ ‫األخبلقي والتعميمي في الرواية‪.‬‬
‫يعدىا وسيمة لمتسمية والترفيو وازجاء وقت الفراغ‪ ،‬ومنيـ مف يعدىا وسيمة لتعمـ التاريخ‪ ،‬بأسموب‬
‫شيؽ وجذاب وسمس بخبلؼ كتب التاريخ الجافة‪ .‬وفػي كػؿ األحػواؿ فقػد القػت الروايػة التاريخيػة‬
‫رواجاً كبي ًار‪.‬‬
‫" وقػػد اتجي ػػت الروايػػة نح ػػو الت ػػاريخ الػػوطني أو الق ػػومي أو العربػػي أو اإلس ػػبلمي؛ لتس ػػتميـ‬
‫الوجػػو الحضػػاري لممجتم ػػع‪ ،‬أو األصػػوؿ التاريخي ػػة لػػو‪ ،‬أو األبط ػػاؿ الثػػورييف ال ػػذيف عمم ػوا عم ػػى‬
‫( ٕ)‬
‫تغيير الحياة في ماضي أيامو"‪.‬‬

‫وكانػت العػػودة إلػػى التػاريخ أحيان ػًا محاولػػة لميػروب مػػف الواقػػع العربػي الميػػزوـ والضػػعيؼ‬
‫سياسياً واجتماعياً وحضارياً‪ ،‬بسبب سيطرة االحتبلؿ األجنبي عمى الببلد العربية في بداية القرف‬
‫العشريف‪ ،‬وصعود الروح القومية والرغبة في االستقبلؿ‪ ،‬ثـ الحكـ الجبري الظالـ‪ ،‬واليزائـ العربية‬
‫المتتالية بدءاً بضياع فمسطيف عاـ ‪ٜٔٗٛ‬ـ حتى ىزيمة عاـ ‪ٜٔٙٚ‬ـ‪ ،‬وفقداف األفؽ واألمؿ في‬
‫الغد ‪ ..‬كؿ ذلؾ دعا إلى البحػث عػف فتػرات المجػد والقػوة والعظمػة فػي التػاريخ العربػي اإلسػبلمي؛‬
‫إلحيائيػا وبعثيػػا مػف جديػػد‪ ،‬ولمتعبيػر عػػف رفػض ىػػذا الواقػع األل ػيـ‪ ،‬والػدعوة إلػػى الثػو ةر والتغييػػر‪.‬‬
‫ليذا فإف "الروائي قد يجد نفسو مضط ًار إلى مخاطبة الحاضر مف خبلؿ الماضي‪ ،‬وىنا يجػد فػي‬
‫( ٖ)‬
‫ال رحبًا لمتعبير عف نفسو عف طريؽ الرواية التاريخية"‪.‬‬
‫التاريخ مجا ً‬

‫ويمكف تمخيص أىـ أىداؼ كتابة الرواية التاريخية ودوافعيا فيما يأتي‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬تعميـ التاريخ بأسموب الروايػة لترغيػب النػاس فػي مطالعتػو‪ ،‬وكػاف ذلػؾ فػي مرحمػة النشػأة‬
‫عند جورجي زيداف ومف لحؽ بو‪.‬‬

‫)ٔ( تطور الرواية العربية الحديثة في ببلد الشاـ‪ ،‬صٓ٘‬


‫)ٕ( بانوراما الرواية العربية الحديثة‪ ،‬ص٘ٗ‬
‫)ٖ( الرواية التاريخية العربية زمف االزدىار‬
‫‪http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=394&ID=17‬‬

‫‪8‬‬
‫ٕ ‪ -‬إحيػاء الماضػي وبعثػػو مػف جديػد ‪ ،‬وبخاصػػة المجيػد منػو الػػذي يمثػؿ بطولػة ؛ لبػػث روح‬
‫االعتزاز والفخر بالتاريخ الوطني أو القومي‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬إسقاط الماضي عمى الحاضر‪ ،‬بتصوير الحاضر ومناقشة قضاياه مف خبلؿ النظر إلى‬
‫األحدا ث والمواقؼ المشابية لو بالتاريخ‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬اليػروب إلػى التػػاريخ‪ ،‬نتيجػة النتشػار حالػػة اليػأس واإلحبػاط وفقػػداف األمػؿ التػي يعيشػػيا‬
‫العالـ العربي عمى كافة المستويات السياسية واالجتماعية والحضارية‪.‬‬
‫٘ ‪ -‬استش ػراؼ المسػػتقبؿ‪ ،‬مػػف خػػبلؿ النظػػر إلػػى أحػػداث التػػاريخ‪ ،‬والتفكػػر فػػي نتائجيػػا وأخػػذ‬
‫العبرة منيا‪ ،‬وتجنب األخطاء التي وقع فييا السابقوف؛ لصنع َغٍد أفضؿ‪.‬‬
‫‪ - ٙ‬اإلب ػػداع الفن ػػي‪ ،‬بإع ػػادة ص ػػياغة وتق ػػديـ التػ ػػاريخ وشخص ػػياتو بط ػػرؽ فني ػػة جدي ػػدة جذابػ ػػة‬
‫ومشوقة‪ ،‬تظير ما لـ تظيره كتب التاريخ‪.‬‬
‫‪ - ٚ‬نق ػػد الت ػػاريخ‪ ،‬فم ػػيس ك ػػؿ م ػػا ورد ف ػػي الت ػػاريخ ص ػػحيحاً‪ ،‬فق ػػد يش ػػوب ى ػػذا الت ػػاريخ بع ػػض‬
‫التزييؼ ممف قاموا بكتابتو‪ ،‬وقد ظيرت مثؿ ىذه األفكار في مدرسة الحداثة‪ ،‬التي تدعو‬
‫إلى ىدـ الماضي والشؾ فيو‪.‬‬

‫يتضح مما سبؽ األىمية الكبي ةر لمرواية التاريخية‪ ،‬فيي ال ترتبط بالزمف الماضي فقط‪ ،‬بؿ‬
‫تعبػر عػف الحاضػر والمسػتقبؿ أيض ػاً‪ ،‬وتسػيـ فػي وضػع رؤيػة جديػػدة لمسػتقبؿ أفضػؿ مػف خػػبلؿ‬
‫النظر إلى الماضي‪.‬‬

‫‌‬
‫‌‬
‫‌‬
‫‌‬
‫‌‬
‫‌‬

‫‌‬

‫‌‬

‫‌‬

‫‌‬

‫‌‬

‫‪9‬‬
‫‌‬

‫‌‬

‫‌‬

‫‌‬

‫‌‬

‫‌‬

‫‌‬

‫‌‬

‫‌‬

‫الفصل األول‬

‫امرواية امتارخيية امعربية يف مرحةل امنشأة‬

‫‪11‬‬
‫المبحث األول‬

‫بواكير نشأة الرواية التاريخية في األدب العربي‬

‫أثر كبير عمى ظيور‬


‫كاف ل ظيور الرواية التاريخية وازدىارىا وتطورىا في ببلد الغرب ٌ‬
‫وتطور الرواية التاريخية في األدب العربي الحديث في النصؼ الثاني مف القرف التاسع عشر‬
‫ومطمع القرف العشريف‪ ،‬فظاى ةر التأثير والتأثر ليست غريبة عمى اآلداب العالمية‪ ،‬بؿ ىي ظاى ةر‬
‫طبيعية تعمؿ عمى تطور اآلداب القومية والعالمية بشكؿ عاـ‪ .‬فبل يستطيع أي إنساف أف يتطور‬
‫إال باالستفادة مف خبرات اآلخريف وتجاربيـ‪ ،‬واألخذ بالمفيد مف آرائيـ ودعواتيـ‪ ،‬وكذلؾ‬
‫المجتمعات والشعوب تؤثر وتتأثر بعضيا ببعض‪ .‬وأرى أننا ىنا في حاجة لمحديث عف الرواية‬
‫التاريخية في ببلد الغرب قبؿ الحديث عف نشأتيا عندنا في أدبنا العربي‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬نشأة الرواية التاريخية وتطورىا في بالد الغرب‪:‬‬

‫نشػأت الروايػة التاريخيػة فػي أوروبػا مطمػع القػرف التاسػع عشػر‪ ،‬وذلػؾ زمػف انييػار نػػابميوف‬
‫تقريبًا‪ ،‬فقد أدت الثورة الفرنسية‪ ،‬وانتشار الفكر الثوري‪ ،‬وظيور االتجػاه القػومي واالعتػزاز بػو فػي‬
‫مختمؼ أنحاء أوروبا إلى زيادة االىتماـ بالتاريخ واالستفادة منو‪.‬‬

‫"ومػف الوجيػػة التاريخيػػة نجػد الروايػػة التػػي تأخػذ مػػف بعػػض حػوادث التػػاريخ أو شخصػػياتو‬
‫أساسا لبنائيا‪ ،‬قد نشأت في رحاب الرومانسية ألسباب تاريخية وسياسية‪ ،‬منيا االعتزاز القومي‪،‬‬
‫ً‬
‫يأسا منو‬
‫وأسباب فمسفية اعتنقيا أكثر الرومانسييف‪ ،‬كالرغبة في اليروب ورفض الواقع المعيش‪ً ،‬‬
‫وقد َّ‬
‫قدـ الرومانتيكيوف خدمة جميمة لمرواية التاريخية‪ ،‬فقد طالبوا بإبراز الصبغة‬ ‫( ٔ)‬
‫أو ثو ةر عميو"‪.‬‬
‫( ٕ)‬
‫التاريخية‪ ،‬وباإلحساس بالعصر واستيعابو‪ ،‬وىذا ما نجده في روايات والتر سكوت‪.‬‬
‫( ٖ)‬
‫األب الحقيقي لمرواية التاريخية في الغرب‪ ،‬وقد تأثر بو كؿ مف جاء‬ ‫ويعد والتر سكوت‬
‫بعده‪ .‬ومما ىيأ لو ىذه المكانة براعتو في السرد‪ ،‬وثقافتو‪ ،‬ووطنيتو االسكتمندية القوية‪ ،‬وذوقو في‬

‫)ٔ( الواقعية في الرواية العربية‪ ،‬صٕ‪ٜٔ‬‬


‫)ٕ( انظر‪ ،‬المدخؿ إلى اآلداب األوروبية‪ ،‬صٕ‪ٜٔ‬‬
‫)ٖ( سكوت ‪ ،‬السير والتر ‪ :) ٖٕٔٛ – ٔٚٚٔ ( Sir Walter Scott‬شاعر وروائي اسكتمندي‪ ،‬يعتبر‬
‫مؤسس الرواية التاريخية وأحد أكثر الروائييف شعبية في جميع العصور‪ ،‬مف أشير رواياتو‪" :‬آيفنيو" ‪Ivanhoe‬‬
‫عاـ ‪ ،ٜٔٛٔ‬والطمسـ ‪ The Talisman‬عاـ ٕ٘‪( ٔٛ‬معجـ أعبلـ المورد‪ ،‬صٕٓٗ)‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫القديـ( ٔ) ‪ ،‬وعدـ اعتماده عمى التاريخ بشكؿ كمي‪ ،‬فسمؾ بنظرتو الجديدة إلى التاريخ طريؽ الشي ةر‬
‫والمجػد‪ .‬وتقػوـ الروايػة التاريخيػػة عنػده عمػى إحيػاء مرحمػػة تاريخيػة لػـ يعػد ليػػا وجػود‪ ،‬وبعثيػا مػػف‬
‫جديػػد مػػف خػػبلؿ شخص ػػيات تاريخيػػة ذات شػػيرة ‪ -‬غالب ػًا ‪ -‬وشخص ػػيات خياليػػة يبتكرىػػا الكات ػػب‪،‬‬
‫يعػرض مػف خبلليػا صػػو ةر العصػر المػراد بعثػػو وتسػميط الضػوء عميػو مػػف جميػع النػواحي النفسػػية‬
‫واالجتماعية والسياسية‪.‬‬

‫وتميز والتر سكوت بأنو يعرض بشكؿ فني الواقع التاريخي بتصوي هر لؤلزمات الكبرى في‬
‫التاريخ اإلنجميزي‪ ،‬ويجد في ىذا االتجاه تعبي اًر مباش اًر في الطريقة التي يبني بيا حبكتو‪ ،‬ويختار‬
‫شخصيتو المركزية‪ .‬والبطؿ في أية رواية مف رواياتو ىو دائماً سيد إ نجميزي‪ ،‬أقؿ مف البارز أي‬
‫متوسػػط‪ ،‬فيػػو يممػػؾ بصػػفة عامػػة درجػػة معينػػة مػػف الػػذكاء العممػػي‪ ،‬وشػػيئاً مػػف الثبػػات األخبلق ػػي‬
‫( ٕ)‬
‫واالحتشاـ الذي يرتفع حتى إلى القد ةر عمى التضحية بالذات ‪.‬‬

‫وتعد رواية (وافرلي ‪ )Waverley‬لػوالتر سكوت الصاد ةر عاـ ٗٔ‪ٔٛ‬ـ أوؿ رواية تاريخية‬
‫تستدعي زمناً ماضياً بكؿ ألوانو الحالمة الزاىية‪ ،‬مع محاولة لمتحميؿ التاريخي واالجتماعي‪ ،‬وقد‬
‫كػػاف ليػػا الت ػػأثير األكبػػر بعنص ػػرىا الممحمػػي والتػػاريخي الممت ػػزج بالخيػػاؿ‪ ،‬إل ػػى درجػػة أف الت ػػاريخ‬
‫( ٖ)‬
‫يستفيد مف مدرسة الرواية في بث الحياة في لوحاتو‪.‬‬

‫وقػد نػادى والتػر سػكوت بالحريػة القصصػية‪ ،‬وعػدـ التقيػد بالتػاريخ‪ ،‬خاصػة إذا وقػؼ حجػر‬
‫تعرض لنقػد الكثيػر مػف المػؤرخيف‬
‫عثرة في سبيؿ ظيور القصة في إطار فني حر طميؽ‪ ،‬ولذلؾ َّ‬
‫بحجػة أنػو لػـ يمتػػزـ بالحقػائؽ التاريخيػة‪ ،‬وأنػو كػػاف يعبػث بالتػاريخ ويحػوره فػػي سػبيؿ القصػة‪ ،‬فقػػد‬
‫عبػػث بالمغػػة مػػثبلً‪ ،‬ول ػػـ يتقيػػد بواقعيػػا الت ػػاريخي‪ ،‬كمػػا أنػػو غيػػر التسمس ػػؿ الزمنػػي لؤلحػػداث‪ ،‬ول ػػـ‬
‫( ٗ)‬
‫وقػد القػػت طريقػة سػكوت الكثيػر مػف اإلعجػاب لػػدى‬ ‫يحػافظ عمػى األجػواء والبيئػات التاريخيػة‪.‬‬
‫الروائييف التاريخييف في أوروبا‪ ،‬حيث إنيـ اىتموا بإحياء الماضي ولـ ييتموا بصحة المعمومات‬
‫( ٘)‬
‫التاريخية‪ ،‬وحاولوا تقديـ رواية ناجحة‪.‬‬

‫)ٔ( انظر‪ ،‬األدب المقارف‪ ،‬ماريوس فرنسوا غويار‪ ،‬ترجمة ىنري زغيب‪ ،‬صٖ٘‬
‫)ٕ( انظر‪ ،‬الرواية التاريخية‪ ،‬صٕٖ‬
‫)ٖ( انظر‪ ،‬األدب المقارف‪ ،‬كمود بيشو وأدريو روسو‪ ،‬ترجمة أحمد عبد العزيز‪ ،‬ص‪ٜٔ٘‬‬
‫)ٗ( فف القصة‪ ،‬صٓ‪ٔٙ‬‬
‫)٘( تحوالت السرد‪ ،‬ص‪ٖٙ‬‬

‫‪12‬‬
‫ويستند سكوت إلى الطابع الشػعبي فػي فنػو‪ ،‬وىػو يصػور تحػوالت التػاريخ الكبيػ ةر بوصػفيا‬
‫تح ػ ػوالت الحيػ ػػاة الش ػ ػػعبية‪ ،‬ويعنػ ػػي ب ػ ػػذلؾ تػ ػػأثير الحركػ ػػات األيديولوجي ػ ػػة والسياسػ ػػية واالجتماعي ػ ػػة‬
‫واألخبلقية عمى التحوالت الكبي ةر لمتاريخ‪ .‬ويبدو ىدؼ سكوت الفني الكبير في تصوي هر لؤلزمات‬
‫التاريخي ػػة فػ ػػي الحيػ ػػاة الشػ ػػعبية ىػ ػػو إظيػ ػػار العظمػ ػػة اإلنسػ ػػانية‪ ،‬وىػ ػػو بػ ػػذلؾ يجعػ ػػؿ التػ ػػاريخ حي ػ ػاً‬
‫( ٔ)‬
‫ومؤث ًار‪.‬‬

‫ويظيػر بػذلؾ دافػع الكتابػة عنػد سػكوت فيػو دافػع قػومي وطنػي‪ ،‬يظيػر الكاتػب مػف خبللػػو‬
‫فخره بتطور شعبو وتقدمو‪ ،‬وىو يقرب الماضي ليجعمو حيًا في الحاضر‪.‬‬

‫وعمى ذلؾ يمكف القػوؿ إف الروايػة التاريخيػة الحديثػة قػد تجمػت معالميػا عنػد والتػر سػكوت‬
‫الػذي اعتنػى بػالخمؽ والخيػاؿ واإلبػداع داخػؿ اإلطػار التػاريخي‪ ،‬فكػاف ذلػؾ تمييػدًا ألعمػاؿ روائيػة‬
‫أخػػرى س ػػارت عمػػى ىدي ػػو وحاولػػت تتب ػػع القضػػايا العام ػػة النابعػػة م ػػف روح العصػػر‪ ،‬ببي ػػاف رؤي ػػة‬
‫وأيديولوجية الفناف التاريخية‪ ،‬ىذه الرؤية التي تمنح الرواية أبعاداً حضارية وثقافية مف شأنيا أف‬
‫توطد عبلقة اإلنساف بالتاريخ‪.‬‬

‫وقد ازدىرت الروايػات التاريخيػة فػي أوروبػا مػف عػاـ ٕ٘‪ ٔٛ‬إلػى عػاـ ٓ٘‪ ،ٔٛ‬حيػث نجػد‬
‫كػؿ مػف ألفػػرد دو فينيػي فػػي (الخػامس مػػف مػارس) عػػاـ ‪ ،ٕٔٛٙ‬ومػانزوني فػػي (المخطوبػة) عػػاـ‬
‫‪ ،ٕٔٛٚ‬وبعػػده بمػ ػزاؾ ف ػػي (الثػػائروف) ع ػػاـ ‪ ،ٕٜٔٛ‬وبروس ػػبير ميريمي ػػو فػػي (ت ػػاريخ زم ػػف ش ػػارؿ‬
‫التاسع) عاـ ‪ ،ٕٜٔٛ‬وفكتور ىوجو في (نوترداـ دي باري) عاـ ٖٔ‪ ،ٔٛ‬وليتوف في (أياـ بومبي‬
‫األخي ػ ػرة) عػ ػػاـ ٖٗ‪ ،ٔٛ‬وروبػ ػػرت جريفػ ػػز فػ ػػي (كموديػ ػػوس) عػ ػػاـ ٖٗ‪ ،ٜٔ‬والكسػ ػػندر دومػ ػػاس فػ ػػي‬
‫(الفرساف الثبلثة) عاـ ٗٗ‪ ٔٛ‬والذي يعد مف أكثر المتأثريف بػوالتر سكوت فقد اتبعو وسار عمػى‬
‫نيجو‪.‬‬

‫وقد استمر ظيور وانتشار الرواية التاريخية بعد ذلؾ فنجػدىا عنػد ولػيـ ثاكػاري فػي (ىنػري‬
‫أزمون ػػد) ع ػػاـ ٕ٘‪ ،ٔٛ‬وفم ػػوبير فػ ػػي (س ػػاالمبو) ع ػػاـ ٕ‪ ،ٔٛٙ‬وج ػػورج إليػ ػػوت ف ػػي (رومػ ػوال) عػ ػػاـ‬
‫ٖ‪ ،ٔٛٙ‬وايبرس في (األميرة المصرية) عاـ ٗ‪ ،ٔٛٙ‬وكذلؾ ظيرت في األدب الروسي عند ليو‬
‫تولسػتوي فػي (الحػرب والسػبلـ) عػاـ ‪ ٜٔٛٙ‬وىػػي واحػدة مػف أعظػـ الروايػات التاريخيػة العالميػػة‪،‬‬
‫تدور أحداثيا في بداية القرف التاسع عشر‪ ،‬مع اجتياح القائد الفرنسي نابميوف بونابارت لؤلراضي‬
‫الروسػػية‪ ،‬ودخػػوؿ موس ػػكو وانسػػحابو بعػػد الخيب ػػة والفشػػؿ فػػي مواجي ػػة الشػػتاء الروسػػي الق ػػارص‪،‬‬

‫)ٔ( انظر‪ ،‬الرواية التاريخية‪ ،‬ص ‪ٕٙ - ٜ٘‬‬

‫‪13‬‬
‫ورفض القيصر الروسي ألكسندر األوؿ االستسبلـ‪ ،‬وىي "تبدأ في النمو مف فك ةر مسػي ةر األجيػاؿ‬
‫( ٔ)‬
‫وىي رواية تاريخية مف نوع فريد مستوحاة مف ظروؼ الحياة الفعمية‪،‬‬ ‫التي تتغير وتتجدد دومًا"‬
‫تجمع بيف التفسير الحضاري لمتاريخ‪ ،‬والتفسير العاطفي الذي يصور العواطؼ اإلنسانية الخالدة‬
‫فػي حيػاة األجيػػاؿ‪ ،‬وبالتػالي فيػػي الممحمػة العصػػرية لمحيػاة الشػػعبية التػي تشػػكؿ األسػاس الفعمػػي‬
‫( ٕ)‬
‫لؤلحداث التاريخية‪.‬‬

‫وقد مرت الرواية التاريخية في أوروبا حتى أواخػر القػرف التاسػع عشػر بػأطوار ثبلثػة‪ ،‬تبػدأ‬
‫بطػػور اإليحـــال التـــاريخي‪ ،‬والػػذي يفس ػػر الت ػػاريخ مػػف الخ ػػارج م ػػف خػػبلؿ الحم ػػبلت والمخ ػػاطرات‬
‫والمبػارزات واألسػػمحة والمبلبػس لئلشػػا ةر إلػى فت ػرات تاريخيػة محػػددة‪ ،‬وخيػر مػػا يمثػؿ ىػػذا االتجػػاه‬
‫والت ػػر سػ ػػكوت والكس ػػندر دومػ ػػاس‪ ،‬ث ػػـ اتجيػ ػػت الروايػ ػػة التاريخي ػػة إلػ ػػى ط ػػور التحميــــل المنطقــــي‬
‫والتفسـير العقمــي المبنػي عمػػى وقػائع التػػاريخ ويمثػؿ ىػذا االتجػػاه ليتػوف وايبػرس‪ ،‬ثػػـ أخيػ اًر طػػور‬
‫التفسير اإلنساني العاطفي ‪ ،‬الذي يقوـ عمى تفسير التاريخ مف الداخؿ‪ ،‬مف خبلؿ التركيػز عمػى‬
‫( ٖ)‬
‫العواطؼ اإلنسانية الخالدة واستمرارىا عبر العصور‪ ،‬ويمثؿ ىذا االتجاه ثاكاري‪.‬‬

‫وق ػػد تط ػػورت الرواي ػػة التاريخي ػػة ف ػػي أوروبػ ػػا مطم ػػع الق ػػرف العش ػػريف‪ ،‬وخاص ػػة بع ػػد الحػ ػػرب‬
‫العالمية األولى وما سػببتو مػف ويػؿ ودمػار لمبشػرية‪ ،‬فظيػر اتجػاه جديػد يعبػر عػف أزمػة الحضػا ةر‬
‫اإلنس ػػانية المعاصػ ػرة‪ ،‬ومشػ ػػكمة الف ػػرد وعبلقتػ ػػو ب ػػالمجتمع‪ ،‬وم ػػا إلػ ػػى ذل ػػؾ مػ ػػف آراء وأفك ػػار عقميػ ػػة‬
‫مثالية‪.‬‬

‫ومػا ازلػت الروايػة التاريخيػة حتػى عصػرنا ىػذا تحػتفظ بمكانػة مرموقػة عنػد الغػرب‪ ،‬ويمكػػف‬
‫الق ػػوؿ بأنيػ ػػا تع ػػيش عص ػ ػ اًر ذىبيػ ػاً اآلف عمػ ػػى ي ػػد كثيػ ػػر م ػػف الكتػ ػػاب المعاص ػػريف أمثػ ػػاؿ خوسػ ػػيو‬
‫( ٗ)‬
‫ص ػػاحب (حص ػػار لش ػػبونة) عػ ػػاـ ‪ ٜٜٔٛ‬و(اإلنجي ػػؿ يروي ػػو المس ػػيح) عػ ػػاـ ٕ‪،ٜٜٔ‬‬ ‫س ػػاراماجو‬
‫( ٔ)‬ ‫( ٘)‬
‫صػاحبة (الممكيػة‬ ‫صاحب روايػة (الجنػراؿ فػي متاىػة) عػاـ ‪ ،ٜٜٔٛ‬وفػاليري مػارتف‬ ‫وماركيز‬

‫)ٔ( صنعة الرواية‪ ،‬ص‪ٖٚ‬‬


‫)ٕ( انظر‪ ،‬الرواية التاريخية‪ ،‬صٖٔٔ‬
‫)ٖ( انظر‪ ،‬فف القصة‪ ،‬صٔ‪ٕٔٙ - ٔٙ‬‬
‫)ٗ( ساراماجو‪ ،‬خوسيو (ٕٕ‪ :) ٕٓٔٓ – ٜٔ‬كاتب أدبي و روائي ومسرحي برتغالي‪ ،‬حصؿ عمى جائزة نوبؿ‬
‫في اآلداب لعاـ ‪ ،ٜٜٔٛ‬تستعرض كتاباتو عادة أحداث ًا تاريخية ذات بعد إنساني في التاريخ البرتغالي‪.‬‬
‫)٘( ماركيز‪ ،‬جابرييؿ (‪ :) ٕٓٔٗ – ٜٕٔٚ‬روائي وصحفي وناشط سياسي كولومبي‪ ،‬قضى معظـ حياتو في‬
‫المكسيؾ وأوروبا‪ ،‬مف أشير كتاب الواقعية العجائبية‪ ،‬حصؿ عمى جائزة نوبؿ في اآلداب لعاـ ٕ‪ ،ٜٔٛ‬كاف‬

‫‪14‬‬
‫( ٕ)‬
‫صاحبة (قصر الذئاب ‪ )Wolf Hall‬عاـ ‪،ٕٜٓٓ‬‬ ‫‪ )Property‬عاـ ٖٕٓٓ‪ ،‬وىيبلري مانتؿ‬
‫( ٖ)‬
‫صاحب(النقي ‪ )Pure‬عاـ ٕٔٔٓ ‪ ..‬وغيرىـ‪.‬‬ ‫وأندرو ميمر‬

‫ثانياً‪ :‬نشأة الرواية التاريخية في األدب العربي‪:‬‬

‫اختمؼ النقاد العرب في بياف جذور الرواية التاريخية في األدب العربي‪ ،‬وانقسموا في ىذا‬
‫اإلطار إلى ثبلثة اتجاىات‪:‬‬

‫االتجاه األول‪:‬‬

‫وىو األغمب األعـ يػرى أف الروايػة التاريخيػة فػي األدب العربػي الحػديث مػا ىػي إال نتػاج‬
‫لمتأثر بالرواية التاريخية الغربية وخاصة روايات والتر سكوت والكسندر دوماس‪" .‬فالرواية العربية‬
‫الحديثػػة ال يمكػػف اعتبارى ػػا امتػػدادًا لمتػ ػراث القصصػػي العربػػي الق ػػديـ‪ ،‬ولػػيس ىن ػػاؾ ريػػب ف ػػي أف‬
‫( ٗ)‬
‫وىػي "دخيمػة عمػػى األدب‬ ‫القصػة العربيػة الحديثػة نتػاج جديػد‪ ،‬ال تربطػػو بأدبنػا القػديـ وشػائج"‪.‬‬
‫العربي منذ عصر النيضة‪ ،‬شأنيا فيو شأف غيرىا مف األنواع األوروبيػة التػي لػـ يعالجيػا أدباؤنػا‬
‫( ٘)‬
‫و "قد أقدـ كتابنػا عمػى كتابػة‬ ‫مف قبؿ‪ ،‬وقد بدأت بالترجمة واالقتباس ثـ استقرت في التأليؼ"‪.‬‬
‫( ‪)ٙ‬‬
‫وقد أكد الدكتور شوقي ضيؼ ىذا الرأي‪،‬‬ ‫الرواية التاريخية متأثريف بالرواية التاريخية الغربية"‪.‬‬
‫وقػ ػػاؿ‪" :‬إنمػ ػػا حػ ػػدث ىػ ػػذا التبػ ػػدؿ األدبػ ػػي حػ ػػيف أخػ ػػذوا يتصػ ػػموف مباش ػ ػ ةر باآلثػ ػػار األدبيػ ػػة الغربي ػ ػػة‬

‫رافض ًا لمسياسة األمريكية‪ ،‬ومف أشير أعمالو الروائية‪" :‬مئة عاـ مف العزلة" عاـ ‪ ،ٜٔٙٚ‬و "الحب في زمف‬
‫الكوليرا" عاـ ٘‪.ٜٔٛ‬‬
‫‪ :) /‬روائية وكاتبة قصة قصيرة أمريكية‪ ،‬مف أىـ‬ ‫)ٔ( مارتف‪ ،‬فاليري ‪- ٜٔٗٛ ( Valerie Martin‬‬
‫رواياتيا‪ " Alexandra" :‬عاـ ‪ ،ٜٜٔٚ‬و "‪ " Italian Fever‬عاـ ‪ ،ٜٜٜٔ‬و "‪ " Property‬عاـ ٖٕٓٓ والتي تعد‬
‫مف أفضؿ الروايات التاريخية‪.‬‬
‫)ٕ( مانتؿ‪ ،‬ىيبلري ‪ :) / - ٜٕٔ٘( Hilary Mary Mantel‬كاتبة وروائية بريطانية‪ ،‬بدأت الكتابة عاـ‬
‫٘‪ ،ٜٔٛ‬حصمت عمى جائزة بوكر األدبية عاـ ‪ ٕٜٓٓ‬عمى روايتيا "قصر الذئاب" وعاـ ٕٕٔٓ عمى رواية‬
‫"أخرجوا الجثث"‪ ،‬وكمتا الروايتيف تتناوالف حياة توماس كرومويؿ أحد مستشاري الممؾ اإلنجميزي ىنري الثامف‪.‬‬
‫‪ :) /‬كاتب وروا ئي بريطاني‪ ،‬مف كتاب الرواية التاريخية‪،‬‬ ‫)ٖ( ميمر‪ ،‬أندرو ‪- ٜٔٙٔ( Andrew Miller‬‬
‫حصؿ عمى العديد مف الجوائز األدبية الدولية‪ ،‬مف أىـ رواياتو‪ " Casanova" :‬عاـ ‪ ،ٜٜٔٛ‬و"‪ " Oxygen‬عاـ‬
‫ٕٔٓٓ‪ ،‬و"‪ " Pure‬عاـ ٕٔٔٓ‪.‬‬
‫)ٗ( بانوراما الرواية العربية الحديثة‪ ،‬صٔ‪ٜ‬‬
‫)٘( مف األدب المقارف‪ ،‬صٖٖ‬
‫)‪ (ٙ‬بناء الرواية في األدب المصري الحديث‪ ،‬ص ٖٖ‬

‫‪15‬‬
‫ويتذوقونيا‪ ،‬ولـ يكتفوا بذلؾ فقد أخذوا يترجمونيا‪ ،‬وشاركيـ في ىذه الترجمة عنصر عربي ىاجر‬
‫إلى ديارنا ىو عنصر السورييف والمبنانييف‪ ،‬وكاف ىػذا العنصػر السػوري المبنػاني شػديد االتصػاؿ‬
‫( ٔ)‬
‫ويؤكػ ػػد الػ ػػدكتور فػ ػػوزي الح ػ ػػاج أف أصػ ػػؿ فػ ػػف الروايػ ػػة غربػ ػػي فيق ػ ػػوؿ‪" :‬إف‬ ‫بػ ػػاآلداب األجنبيػ ػػة"‪.‬‬
‫الموضوعية تقتضينا أف نقػرر أف فنػوف األدب الموضػوعية كالمسػرحية والروايػة والقصػة القصػي ةر‬
‫قد استوردناىا استيراداً ولـ ينشأ منيا لدينا شيء‪ ،‬وبالتالي فإف محاولػة ربػط الروايػة أو المسػرحية‬
‫بأصوؿ تراثية كالمقامات أو غيرىا إنما ىي محاوالت غير جادة‪ ،‬وال تستيدؼ روح العمـ بقدر ما‬
‫( ٕ)‬
‫تستيدؼ أشياء أخرى"‪.‬‬

‫االتجاه الثاني‪:‬‬

‫كقصػة‬
‫أف الرواية التاريخية كانت تطو اًر طبيعيػاً عػف قصػص التػراث العربػي القػديـ ‪ّ ،‬‬ ‫يرى ّ‬
‫عنت ػ ػرة‪ ،‬والسػ ػػيرة اليبلليػ ػػة‪ ،‬وسػ ػػيرة الظػ ػػاىر بيب ػ ػػرس ‪ ..‬وغيرىػ ػػا ‪ .‬فػ ػ ػ "إف االنتػ ػػاج الروائػ ػػي العرب ػ ػػي‬
‫المعاصر‪ ،‬يصؿ إلى درجة مف األصالة تجعؿ مف المذىؿ حقًا أف يكوف ىذا الفػف وليػد عشػرات‬
‫السنيف فحسب‪ ،‬كما تجعؿ مف المتعذر عمى التفكير العممػي أف يقبػؿ مػا يػردده الكثيػروف مػف أف‬
‫ى ػػذا الفػ ػػف مسػ ػػتحدث ف ػػي أدبنػ ػػا العربػ ػػي ال جػ ػػذور ل ػػو‪ ،‬نقمنػ ػػاه مػ ػػع مػ ػػا نقمن ػػا مػ ػػف صػ ػػور الحضػ ػػا ةر‬
‫( ٖ)‬
‫وم ػػف الخطػػأ أف يق ػػاس أدبنػػا عم ػػى أدب اإلنجميػػز والفرنس ػػييف واأللمػػاف ‪ ،‬إنم ػػا يق ػػاس‬ ‫الغربيػػة"‪.‬‬
‫األدب عمى مزاج األمـ التي يصدر عنيا‪ ،‬ومبلؾ األمر في ذلؾ كمو أف يعبر األدب عف عقوؿ‬
‫( ٗ)‬
‫أىمو وأحبلميـ وشيواتيـ وما يجري في خواطرىـ ‪.‬‬

‫االتجاه الثالث‪:‬‬

‫يػرى أف الروايػة التاريخيػة نشػأت نتيجػة مزاوجػة بػيف المػوروث مػف قصػص التػراث العربػػي‬
‫القديـ مف جية‪ ،‬وبيف ما ورد إلينا مف الغرب مف جية أخػرى‪ ،‬حيػث "تمخػض الػوعي عػف حركػة‬
‫مزاوجػة كبػرى بػيف القصػص القػومي القػػديـ بألوانػو التقميديػة والعصػرية والشػعبية والتجاريػة‪ ،‬وبػػيف‬
‫المثػػؿ العمي ػػا الغربيػػة واإلنس ػػانية لمقص ػػة ونػػتج ع ػػف حركػػة المزاوج ػػة انقس ػػاـ القصػػص الفن ػػي إل ػػى‬
‫( ٘)‬
‫وىكػذا نجػد جػػورجي‬ ‫قصػص تػاريخي طويػؿ وقصػير والػى قصػػص اجتمػاعي طويػؿ وقصػير"‪.‬‬

‫)ٔ( األدب العربي المعاصر في مصر‪ ،‬ص ٗ‪ٔٚ٘ - ٔٚ‬‬


‫)ٕ( المسرحية والرواية والقصة القصيرة‪ ،‬صٕٕٓ‬
‫)ٖ( الرواية العربية (عصر التجميع)‪ ،‬ص‪ٜ‬‬
‫)ٗ( خصائص األدب العربي في مواجية نظريات النقد األدبي الحديث‪ ،‬صٕٕٖ‬
‫)٘( الفف القصصي في األدب المصري الحديث‪ ،‬ص‪ٖٜٔ - ٖٔٛ‬‬

‫‪16‬‬
‫زيػداف قػد اسػتفاد مػػف التػراث فػي المػادة التاريخيػػة‪ ،‬ثػـ فػي بعػض العناصػػر القصصػية‪ ،‬التػي أقػػاـ‬
‫عمييػا األحػداث الخياليػػة فػي رواياتػو‪ ،‬وكػػاف مصػد هر فػي المػػادة التاريخيػة كتػب التػػاريخ‪ ،‬كمػا كػػاف‬
‫مصدره في بعض العناصر القصصية القصص الشعبي‪ ،‬كذلؾ استفاد الشكؿ الروائي مف األدب‬
‫( ٔ)‬
‫الغربي‪ ،‬وخاصة كتابات الروائييف التاريخييف‪.‬‬

‫ويوافػػؽ الباح ػػث االتجػػاه الثال ػػث‪ ،‬فػػي أف ال ػػروائييف العػػرب ق ػػد مزج ػوا ب ػػيف ثقػػافتيـ العربي ػػة‬
‫ومػوروثيـ العربػي األصػيؿ مػػف قصػص شػعبي يمجػد البطولػػة العربيػة‪ ،‬وبػيف القصػص التاريخيػػة‬
‫التي وفد ت إلييـ مف ببلد الغرب‪ ،‬فالكاتب أو المبدع ال يمكف أف ينقطع عف مجتمعو‪ ،‬حتى ولو‬
‫حػاوؿ تبقػى طبيعتػو وفطرتػو المتػأث ةر بعاداتػو وتقاليػػده وثقافتػو األصػيمة‪ .‬فنسػج أدباؤنػا العػرب فػػي‬
‫العصػػر الحػػديث ع ػػدداً كبي ػ اًر م ػػف الروايػػات التاريخي ػػة‪ ،‬التػػي ت ػػأثرت فػػي ش ػػكميا الفنػػي بالقص ػػص‬
‫التاريخي الغربي‪.‬‬

‫مرت عبر مسيرتيا الطويمة بػثبلث م ارحػؿ‬


‫وقد الحظ الباحث أف الرواية التاريخية العربية َّ‬
‫شكمت عبلمات بارزة في تحوالتيا الموضوعية والفنية‪ ،‬وقد جاءت عمى النحو اآلتي‪:‬‬ ‫عامة َّ‬

‫‪ -‬المرحمة األولى‪ :‬مرحمة النشأة والتي يمكف تسميتيا بالرواية التاريخية التقميدية‪.‬‬
‫‪ -‬المرحمة الثانية‪ :‬تحوالت الرواية التاريخية في ظؿ الرواية الواقعية‪ ،‬والتػي يمكػف تسػميتيا‬
‫بالرواية التاريخية الواقعية‪.‬‬
‫‪ -‬ا لمرحم ػػة الثالث ػػة‪ :‬التحػ ػوالت الت ػػي أص ػػابت الرواي ػػة التاريخي ػػة ف ػػي ظ ػػؿ اتجاى ػػات الروايػ ػػة‬
‫الجديدة‪ ،‬والتي يمكف تسميتيا بالرواية التاريخية الجديدة‪.‬‬

‫وسيتـ في ىذا الفصؿ الحػديث عػف المرحمػة األولػى (مرحمػة النشػأة) وأبػرز التحػوالت التػي‬
‫طػرأت عمييػا‪ ،‬فػي حػػيف سيسػتفيض الباحػث فػػي الحػديث عػف المػػرحمتيف األخػرتيف فػي الفصػػميف‬
‫الثاني والثالث مف الدراسة‪.‬‬

‫)ٔ( تطور األدب الحديث في مصر‪ ،‬ص‪ٜٔٙ‬‬

‫‪17‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬أعالم الرواية التاريخية العربية في مرحمة النشأة‪:‬‬

‫كػ ػػاف أوؿ ظي ػ ػػور لمرواي ػ ػػة التاريخيػ ػػة ف ػ ػػي األدب العرب ػ ػػي ف ػ ػػي لبنػ ػػاف عن ػ ػػد س ػ ػػميـ البس ػ ػػتاني‬
‫(‪ )ٔٛٛٗ– ٔٛٗٛ‬فػي روايػة (زنوبيػا) عػػاـ ٔ‪ ،ٔٛٚ‬والتػي تػـ نشػرىا متسمسػػمة فػي مجمػة الجنػػاف‪،‬‬
‫وىػي تصػػور موجػات الص ػراع الػػذي دار بػيف ممكػػة تػػدمر‪ ،‬وبػيف الرومػػاف فػػي القػرف الثالػػث‪ ،‬وقػػد‬
‫أرادىػا تاريخيػة؛ لتشػد إلييػػا ىػواة التػاريخ مػف الق ػراء‪ .‬ثػـ كتػب (بػدور) فػػي أعػداد عػاـ ٕ‪ ٔٛٚ‬مػػف‬
‫مجمة الجناف‪ ،‬وأدارىا حوؿ أمي ةر أموية تقع في حب ابف عميا عبد الرحمف الداخؿ مؤسس دولة‬
‫بنػػي أمي ػػة ف ػػي ش ػػبو جزي ػ ةر األن ػػدلس‪ .‬وكت ػػب بع ػػد ذلػػؾ (اليي ػػاـ ف ػػي فت ػػوح الشػػاـ) ف ػػي أع ػػداد س ػػنة‬
‫وعمر‪.‬‬
‫ٗ‪ ،ٔٛٚ‬وجعؿ أحداثيا تدور حوؿ فتح ببلد الشاـ في عصر الخمفاء الراشديف أبي بكر ُ‬
‫إال أنو شاب ىذا اإلنتاج الروائي الكثير مف العيوب‪ ،‬أىميػا ضػعؼ المعمػار الفنػي النػاتج‬
‫ػبلوة عم ػ ػػى كثػ ػ ػرة المصػ ػ ػػادفات‬
‫ع ػ ػػف ع ػ ػػدـ الت ػ ػ ػرابط وكثػ ػ ػرة التفك ػ ػػؾ والتقطيػ ػ ػػع ألح ػ ػػداث الرواي ػ ػػة‪ ،‬عػ ػ ػ ً‬
‫والمفاجئػ ػػات والتػ ػػدخبلت ب ػ ػػالعبر و ِ‬
‫الحكػ ػػـ والم ػ ػواعظ‪ ،‬ث ػ ػػـ االبتعػ ػػاد عػ ػػف الوص ػ ػػؼ الحػ ػػي لمظػ ػ ػواىر‬
‫االجتماعية واألخبلقية والتاريخية السائدة‪ ،‬فيػي ال تػرد إال بشػكؿ سػطحي بسػيط‪ ،‬إضػافة إلػى أف‬
‫شخصيات ىذه الروايات نمطية تأخذ صو ةر واحدة‪ ،‬ال تتغير وال تتبدؿ بفعؿ الظروؼ واألحداث ‪،‬‬
‫( ٔ)‬
‫وقػد كانػػت لغػػة البسػتاني بسػػيطة دارجػػة قريبػػة مػف النػػاس‪ ،‬غيػػر أنيػا كانػػت مسػػجوعة متكمفػػة‪.‬‬
‫ونبلحػػظ أف ىػػذه المغ ػػة فػػي بس ػػاطتيا وقربيػػا م ػػف النػػاس تب ػػدو متػػأث ةر باألس ػػموب الصػػحفي وبمغ ػػة‬
‫الروايػػة الغربي ػػة‪ ،‬وفػػي محافظتي ػػا عمػػى الس ػػجع والبػػديع تب ػػدي تعمقيػػا بالقص ػػص الشػػعبي والتػ ػراث‬
‫السردي العربي‪ .‬والكاتب بذلؾ حاوؿ أف يوازف بيف ما تعممو مف أسموب غربػي‪ ،‬وبػيف المػوروث‬
‫السردي والقصصي الشعبي العربي الذي كاف سائداً آنذاؾ‪.‬‬

‫وال شػؾ فػي أف سػػميـ البسػتاني قػد تػػأثر بالروايػة الغربيػة‪ ،‬فػ ػ "لعػؿ عممػو مترجم ػًا رسػميًا فػػي‬
‫القنص ػػمية األمريكي ػػة ق ػػد مكن ػػو م ػػف االط ػػبلع عم ػػى جوان ػػب كثيػ ػ ةر م ػػف الف ػػف القصص ػػي ف ػػي المغ ػػة‬
‫اإلنجميزي ػػة‪ ،‬وكشػ ػػؼ لػ ػػو عػ ػػف تي ػػار حػ ػػديث يوجػ ػػو الفػ ػػف القصص ػػي فػ ػػي أوروبػ ػػا أو أمريكػ ػػا وجيػ ػػة‬
‫( ٕ)‬
‫إال أف تػأث هر ى ػذا كػاف فػي االتجػػاه والشػكؿ الخػػارجي فقػط‪ ،‬ولػـ يتطػػور ليشػمؿ المعمػػار‬ ‫خاصػة"‬
‫الفني لمرواية الغربية‪.‬‬

‫)ٔ( انظر‪ ،‬الجيود الروائية مف سميـ البستاني إلى نجيب محفوظ‪ ،‬صٖٓ – ٖٖ‬
‫)ٕ( الجيود الروائية مف سميـ البستاني إلى نجيب محفوظ‪ ،‬صٖٖ ‪ٖٗ -‬‬

‫‪18‬‬
‫وقػد أثػػر سػميـ البسػػتاني فػػي اتجػاه كثيػػر مػػف الكتػاب نحػػو الروايػػة التاريخيػة‪ ،‬مثػػؿ‪ :‬جميػػؿ‬
‫نخمػػة الم ػػدور (ت ‪ )ٜٔٓٚ‬ال ػػذي أدار روايت ػػو التاريخي ػػة (حضػػا ةر اإلس ػػبلـ ف ػػي دار الس ػػبلـ) ع ػػاـ‬
‫٘ٓ‪ ٜٔ‬حػوؿ ا لتنقػؿ فػي الػببلد أيػاـ ىػاروف الرشػيد‪ ،‬حػيف مضػى األميػر الفارسػي يتعػرؼ بػأحواؿ‬
‫ىذه الببلد ويضع يده عمى مواطف اإلشراؽ فييا‪ ،‬وىي وثيقة تحاوؿ أف تمـ باألوضاع التي قامت‬
‫( ٔ)‬
‫وكذلؾ فرح أنطوف (ٗ‪ )ٜٕٕٔ– ٔٛٚ‬الذي قاـ بترجمة العديد مف الروايػات‬ ‫فييا الدولة آنذاؾ‪.‬‬
‫األجنبيػة‪ ،‬ثػػـ ق ػاـ بكتابػة روايػػة (أورشػػميـ الجديػدة) سػػنة ٗٓ‪ ،ٜٔ‬والتػػي حػاوؿ فييػػا عػػرض تػػاريخ‬
‫مدينة القدس وفتح المسػمميف ليػا مػف وجيػة نظػر مسػيحية‪ ،‬ومػف خػبلؿ قصػة غراميػة تجمػع بػيف‬
‫قمػب شػػاب مسػػيحي وقمػب فتػػاة ييوديػػة‪ ،‬إال أنػػو لػـ يػػتمكف مػػف إقامػػة البنػاء الفنػػي لمروايػػة بشػػكمو‬
‫الصػحيح رغػـ ثقافتػو ومعرفتػو بالروايػة الغربيػة‪ .‬وظيػر أيضػًا يعقػوب صػػروؼ (ٕ٘‪)ٜٕٔٚ– ٔٛ‬‬
‫والػذي عمػد إلػى كتابػػة الروايػة االجتماعيػة والتاريخيػػة‪ ،‬ومػف أشػير رواياتػػو (فتػاة مصػر)‪ ،‬و(أميػػر‬
‫( ٕ)‬
‫األمػػر‬ ‫لبنػاف)‪ .‬والروايػة عنػده "أخػػبلؽ ووعػظ وارشػاد ومدرسػة تنطمػػؽ فػي فصػوليا المحاضػرات"‬
‫الذي أدى إلى ضعؼ البناء الفني لمرواية‪ ،‬وتفكؾ وحدتيا الفنية والموضوعية‪ .‬وىذه السمة غالبة‬
‫عم ػػى كػ ػػؿ الروايػ ػػات فػ ػػي تمػ ػػؾ المرحمػ ػػة‪ .‬فػ ػ ػ "ل ػػو أننػ ػػا بحثنػ ػػا عػ ػػف مػ ػػدى تػ ػػوفر الخصػ ػػائص الفنيػ ػػة‬
‫والموضػوعية فيمػا كتبػو المبنػانيوف حتػػى أواخػر العقػد األوؿ مػف القػػرف العشػريف لمػا ظفرنػا بروايػػة‬
‫واحػدة مكتممػة‪ ،‬فقػػد اضػطرب النتػػاج وتعثػر‪ ،‬وتذبػذب الكتػػاب بػيف اليػػدؼ التعميمػي أو األخبلقػػي‬
‫( ٖ)‬
‫وبيف تسمية القارئ وامتاعو‪ ،‬وراحوا يضربوف في كؿ لوف"‪.‬‬

‫وقػػد مثػَّػؿ جػػورجي زيػػداف (ٔ‪ )ٜٔٔٗ - ٔٛٙ‬الػػذي تخصػػص فػػي كتابػػة الروايػػة التاريخي ػػة‬
‫نقطػة تحػوؿ وانطػػبلؽ حقيقػي ليػا فػػي األدب العربػي‪ ،‬حيػػث تبنػى االتجػاه التػػاريخي لمروايػة‪ ،‬ولػػـ‬
‫يغير اتجاىو ىػذا حتػى آخػر حياتػو‪ ،‬فكتػب اثنتػيف وعشػريف روايػة تاريخيػة‪ ،‬وأطمػؽ عمييػا تسػمية‬
‫(روايات تاريخ اإلسبلـ)‪ ،‬وقد كانت رواياتو أفضؿ حاالً وأكثر تماسكاً مف سابقاتيا في النػاحيتيف‬
‫الفنية والموضوعية‪ ،‬ويعده معظـ النقاد رائد الرواية التاريخية في األدب العربي‪.‬‬

‫ويبػدو تػػأثر جػورجي زيػػداف بالروايػة التاريخيػػة عنػد والتػػر سػكوت والكسػػندر دومػاس بشػػكؿ‬
‫مباشر وبمغاتيـ األصمية في المقدمة التي كتبيا لرواية (الحجػاج بػف يوسػؼ الثقفػي) والتػي يقػوؿ‬
‫فييا‪" :‬وقد رأينا باالختبار أف نشر التاريخ عمى أسموب الرواية أفضػؿ وسػيمة لترغيػب النػاس فػي‬

‫)ٔ( الجيود الروائية مف سميـ البستاني إلى نجيب محفوظ‪ ،‬صٗٗ‬


‫)ٕ( الجيود الروائية مف سميـ البستاني إلى نجيب محفوظ ‪ ،‬ص‪ٗٛ‬‬
‫)ٖ( بانوراما الرواية العربية الحديثة‪ ،‬صٔ‪ٜ‬‬

‫‪19‬‬
‫مطالعتو‪ ،‬واالستزادة منو‪ ،‬وخصوصاً ألننا نتوخى جيدنا في أف يكوف التاريخ حاكماً عمى الرواية‬
‫ال ىػػي عمي ػػو كم ػػا فع ػػؿ بعػػض كتب ػػة اإلف ػػرنج"‪ .‬فك ػػاف األث ػػر الواضػػح لكت ػػاب الغ ػػرب أني ػػـ أش ػػاروا‬
‫لػ ػػجورجي زي ػػداف إل ػػى االتجػ ػػاه فق ػػط‪ ،‬أم ػػا شػ ػػكؿ روايات ػػو فك ػػاف م ػػدينًا فيػ ػػو لمبيئ ػػة والت ػػاريخ والت ػ ػراث‬
‫الشعبي‪ ،‬فقد حاوؿ التوفيؽ بيف متطمبات البيئة مف ناحية‪ ،‬وبيف تأث هر بالشكؿ الروائي الغربي مف‬
‫( ٔ)‬
‫ناحية أخرى‪.‬‬

‫كػػاف تػػأثر جػػورجي زيػػداف بالرواي ػػة األوربيػػة تػػأث ًار ظاىري ػًا شػػكميًا فق ػػط‪ ،‬فيػػو لػػـ يمتفػػت إل ػػى‬
‫الخصائص الفنية لمرواية كفف أدبي خيالي‪ ،‬وانما أراد لمرواية أف تكوف خادم ًة لمتاريخ معممػ ًة لػو‪،‬‬
‫بخػػبلؼ الروايػػة التاريخيػػة فػػي الغػػرب التػػي ق ػ َّػدمت الروايػػة عمػػى التػػاريخ‪ ،‬فاعتمػػدت عمػػى بع ػػض‬
‫الح ػوادث التاريخيػػة إال أني ػػا تحػػررت مػػف قي ػػود التػػاريخ‪ ،‬وأعط ػػت الروايػػة حقيػػا ف ػػي بعػػدىا الفن ػػي‬
‫والخيالي‪ .‬ثـ لـ َتظير العاطفة القومية في روايات جورجي زيداف تمؾ العاطفػة التػي وجيػت رواد‬
‫الروايػػة التاريخيػػة ف ػػي الغػػرب‪ ،‬فمػػـ نمح ػػظ أي تعػػاطؼ أو حن ػػيف مػػف طرفػػو تج ػػاه التػػاريخ العرب ػػي‬
‫اإلسبلمي‪.‬‬

‫وقد استمر ظيور الرواية التاريخية بعد جورجي زيداف‪ ،‬ففػي مصػر كتػب أحمػد شػوقي (‪- ٔٛٙٛ‬‬
‫ٕٖ‪ )ٜٔ‬رواية (الدياس الفاتنة) عاـ ‪ٜٜٔٛ‬ـ‪ ،‬التي استدعت التاريخ الفرعوني‪ ،‬واعتمدت البناء‬
‫التقميدي البسيط لمرواية التاريخية الذي يقوـ عمى قصة الحب كحاؿ الروايات التاريخية السابقة‪.‬‬
‫كمػا ظيػػر عمػػي الجػػارـ (ٔ‪ )ٜٜٔٗ– ٔٛٛ‬الػذي قػ َّػدـ العديػػد مػػف الروايػات التاريخيػػة منيػػا (فػػارس‬
‫بنػي حمػداف)‪ ،‬و(الشػاعر الطمػوح)‪ ،‬و(غػادة رشػيد)‪ ،‬و(ىػاتؼ مػف األنػدلس)‪ ،‬و(شػاعر ممػؾ)‪ .‬ثػػـ‬
‫ج ػػاء محمػ ػػد فريػ ػػد أبػ ػػو حديػ ػػد (ٖ‪ )ٜٔٙٚ– ٜٔٛ‬الػ ػػذي يعتبػ ػػر البدايػ ػػة الحقيقيػ ػػة المتطػ ػػو ةر لمروايػ ػػة‬
‫التاريخيػة ذات االتجػاه الػػوطني والقػومي‪ ،‬حيػػث االعتػزاز بالتػاريخ العربػػي والفخػر بػػو فػي (الممػػؾ‬
‫الض ػػميؿ)‪ ،‬و(الميميػ ػػؿ س ػػيد ربيعػ ػػة)‪ ،‬و(زنوبي ػػا ممكػ ػػة تػ ػػدمر)‪ .‬وك ػػذلؾ بػ ػػرز محم ػػد سػ ػػعيد العريػ ػػاف‬
‫(٘ٓ‪ )ٜٔٙٗ– ٜٔ‬الذي اقتصر عمى تاريخ مصػر اإلسػبلمي‪ ،‬وخاصػة عيػد األيػوبييف والمماليػؾ‬
‫في (قطر الندى)‪ ،‬و(شجرة الدر)‪ ،‬و(عمى بػاب زويمػة)‪ .‬وظيػر أيضػاً عبػد الحميػد جػودة السػحار‬
‫(ٖٔ‪ ) ٜٔٚٗ– ٜٔ‬الذي تناوؿ التاريخ اإلسبلمي فكتب السي ةر النبوية في عشريف كتاباً أقرب إلى‬
‫القصػػة فػػي صػػياغتيا‪ ،‬وق ػػدـ الكثيػػر مػػف الروايػػات التاريخيػ ػة أشػػيرىا (أحمػػس بطػػؿ االس ػػتقبلؿ)‪،‬‬
‫و(أميرة قرطبة)‪ ،‬و(قمعة األبطاؿ)‪.‬‬

‫)ٔ( انظر‪ ،‬تطور الرواية العربية الحديثة في مصر (ٓ‪ ،)ٜٖٔٛ– ٔٛٚ‬صٗ‪ٜٚ - ٜ‬‬

‫‪21‬‬
‫أما في لبناف فقد برز كرـ ممحـ كرـ (ٖٓ‪ )ٜٜٔ٘- ٜٔ‬الذي ألؼ عدداً مف الروايات‬
‫التاريخية منيا‪( :‬دمعة يزيد) ‪ ،ٜٔٗٙ‬و(صقر قريش) ‪ ،ٜٔٗٛ‬و(قيقية الجزار) ٔ٘‪،ٜٔ‬‬
‫وتتحدث الرواية األولى عف يزيد ودىاء الخميفة معاوية‪ ،‬أما الرواية الثانية فتدور حوؿ قصة‬
‫غرامية تمثؿ الصراع الذي قاـ بيف الياشمييف واألموييف في عيد سميماف بف عبد الممؾ‪،‬‬
‫والرواية األخيرة تتناوؿ التاريخ الحديث‪ .‬إال أف ىذه الروايات لـ تسيـ بأي جديد‪ ،‬فيي تعتمد‬
‫( ٔ)‬
‫عمى جذب القارئ وتشويقو لغرابة ما تقدمو مف أحداث‪.‬‬

‫ولـ تتح لمرواية التاريخية في سوريا فرصة تأكيد وجودىا في مواجية تيار جورجي زيداف‬
‫وزعامتو لمرواية التاريخية حتى ظير معروؼ األرناؤوط (ٕ‪ )ٜٔٗٛ- ٜٔٛ‬الذي أظير اتجاىاً‬
‫قومياً واضحاً في أربع روايات تاريخية‪ ،‬األولى بعنواف (سيد قريش) عاـ ‪ ٜٕٜٔ‬والتي عرض‬
‫فييا سيرة النبي محمد في ثبلثة أجزاء قاربت األلؼ صفحة‪ ،‬وكانت روايتو الثانية (عمر بف‬
‫الخطاب) ‪ ،ٜٖٔٙ‬ثـ أصدر في عاـ ٔٗ‪ ٜٔ‬روايتو الثالثة (طارؽ بف زياد)‪ ،‬وأعقبيا عاـ‬
‫ٕٗ‪ ٜٔ‬بروايتو الرابعة (فاطمة البتوؿ)‪ ،‬وىو في رواياتو جميعاً يبدي اعت از اًز كبي اًر بالتاريخ‬
‫( ٕ)‬
‫ولـ يكف االتجاه القومي ظاى اًر في تمؾ المرحمة و"لعؿ معروؼ األرناؤوط‬ ‫العربي اإلسبلمي‪.‬‬
‫يتفرد بوجود اإلحساس القومي الذي وجو رؤيتو لمتاريخ مف أحداثو وشخصياتو ومغزاه فك اًر‬
‫( ٖ)‬
‫ومع ذلؾ ظمت رواياتو مف الناحية الفنية تدور في نطاؽ المرحمة األولى لمرواية‬ ‫وحضارة"‪.‬‬
‫التاريخية‪.‬‬

‫كذلؾ ظيرت الرواية التاريخية في األردف عند روكس العزيزي (ٖٓ‪ )ٕٓٓٗ- ٜٔ‬في‬
‫رواية (أبناء الغساسنة وابراىيـ باشا) عاـ ‪ ٜٖٔٚ‬وىي تركز عمى التاريخ الحديث‪ ،‬وتظير‬
‫تصدي شيخ الكرؾ وسميؿ الغساسنة إبراىيـ الضمور لحممة إبراىيـ باشا عاـ ٕٖ‪ ٔٛ‬التي كانت‬
‫تيدؼ إلى السيطرة عمى ببلد الشاـ في ظؿ ضعؼ الدولة العثمانية‪ ،‬وتبرز في الرواية روح‬
‫المقاومة والشرؼ والكرامة التي يدفع البطؿ مقابميا ثمناً غالياً حيث يضحي بولديو حفظاً‬
‫وصيانة لشرفو وكرامتو‪ ،‬ومف الواضح أف " ىدؼ الرواية ىو استنياض اليمـ ودفع النفوس إلى‬
‫( ٗ)‬
‫التحدي واإلباء والمقاومة وىي بيذا ال تخرج عف إطار الوعظ واإلرشاد"‪.‬‬

‫)ٔ( انظر‪ ،‬الجيود الروائية مف سميـ البستاني إلى نجيب محفوظ‪ ،‬ص‪ٜٙ‬‬
‫)ٕ( انظر‪ ،‬األدب العربي المعاصر في سورية (ٓ٘‪ ،)ٜٔ٘ٓ- ٔٛ‬صٕٓ٘ ‪.ٕٕ٘ -‬‬
‫)ٖ( تحوالت السرد‪ ،‬ص٘‪ٙ‬‬
‫)ٗ( معالـ الحياة األدبية في فمسطيف واألردف (ٓ٘‪ ،)ٕٓٓٓ - ٜٔ‬صٖ‪ٗٙٗ - ٗٙ‬‬

‫‪21‬‬
‫ظيرت الرواية التاريخية في المغرب العربي التي تأثرت بمثيبلتيا في الشرؽ العربي‪ ،‬مثؿ‬
‫رواية (وزير غرناطة) لمكاتب المغربي عبد اليادي بوطالب عاـ ٓ‪ ،ٜٔٙ‬كنموذج لمتوثيؽ‬
‫التاريخي لسيرة لساف الديف بف الخطيب في صراعو الحاد مع السمطة والطامعيف فييا‪ .‬ويرى‬
‫الدكتور جميؿ حمداوي خمو ىذه الرواية مف التحميؿ الفني‪ ،‬وىيمنة البعد المرجعي والرؤية‬
‫العارفة عمى فضاءاتيا وشخوصيا وأحداثيا‪ ،‬واالرتكاف إلى األسموب التقريري المباشر "فيذا‬
‫( ٔ)‬
‫العمؿ فيو الفائدة التاريخية المحضة أكثر مف المتعة الفنية والتشويؽ الجمالي"‪.‬‬

‫وفي فمسطيف‪ ،‬لـ تواكب الرواية التاريخية مثيبلتيا في الوطف العربي‪ ،‬ولـ تظير في‬
‫مرحمة مبكرة توازي نشأتيا في غيرىا مف البمداف‪ ،‬وذلؾ "ليس ألنيـ مفصولوف عف تاريخيـ‬
‫وماضييـ وحضارتيـ‪ ،‬ولكف ألف رؤيتيـ لمواقع وارتباطيـ بو فكرياً‪ ،‬ووجدانياً‪ ،‬وفنياً طغى عمى‬
‫( ٕ)‬
‫فما حصؿ في فمسطيف لـ يحصؿ في أي مكاف آخر‪ ،‬فالتخطيط لنيب األرض‪،‬‬ ‫كؿ شيء"‬
‫أمر جمؿ وخطير البد مف مواجيتو بأقصى‬
‫وطرد أىميا منيا‪ ،‬واحبلؿ الييود الصياينة محميـ‪ٌ ،‬‬
‫سرعة‪ ،‬فاصطدـ اإلنساف الفمسطيني عامة واألديب والمثقؼ خاصة بواقعو وعمؿ عمى مواجيتو‬
‫بكؿ ما يممؾ مف قوة‪ ،‬وكاف ىذا الواقع المرير الذي يعايشو ال يدع لو فرصة لمنظر إلى التاريخ‬
‫مشرفاً ومشرقا‪.‬‬
‫والتفكر فيو‪ ،‬فواقعو يرسـ أماـ عينيو تاريخ ببلده الذي يرجو أف يكوف ّْ‬

‫بناء عمى ما سبؽ‪ ،‬يمكف القوؿ بأف سميـ البستاني‪ ،‬وجورجي زيداف‪ ،‬ومعروؼ األرناؤوط‪،‬‬
‫ً‬
‫وفرح أنطوف‪ ،‬ويعقوب صروؼ‪ ،‬ومحمد فريد أبو حديد‪ ..‬وغيرىـ يمثموف الجيؿ األوؿ مف كتاب‬
‫الرواية التاريخية في الوطف العربي‪ ،‬الجيؿ الػذي اتجػو نحػو التػاريخ إمػا بغػرض التسػمية والترفيػو‬
‫وجذب القراء لقراءة الصػحؼ حينػًا‪ ،‬وامػا بغػرض تعمػيـ التػاريخ حينػًا آخػر‪ ،‬وفػي كمتػا الحػالتيف لػـ‬
‫ػرؽ الرواي ػػة التاريخي ػػة ف ػػي تمػػؾ المرحم ػػة إل ػػى المس ػػتوى الفن ػػي لمروايػػة الغربي ػػة‪ .‬وم ػػع ذل ػػؾ فمي ػػذه‬
‫تػ َ‬
‫الروايات أىمية كبيرة؛ فيػي تعػد مقدمػة ميػدت الطريػؽ لظيػور الروايػة التاريخيػة‪ ،‬وزيػادة االىتمػاـ‬
‫بيا وانتشارىا بعد ذلؾ بشكؿ أقوى فنياً وموضوعياً‪.‬‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬رواية التوثيؽ التاريخي ‪http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=87110‬‬


‫)ٕ( بانوراما الرواية العربية الحديثة‪ ،‬صٔٗٔ‬

‫‪22‬‬
‫المبحث الثاني‬

‫جورجي زيدان والرواية التاريخية‬

‫لعب جورجي زيداف دو اًر كبي اًر في نشأة الرواية التاريخية وتطورىا في األدب العربي‪،‬‬
‫وكاف إنتاجو الروائي أحسف حاالً وأكثر تماسكاً وجاذبية وتشويقًا ممف سبقو في ذات المجاؿ؛‬
‫وقد حقؽ لو ذلؾ شيرة واسعة عمى مستوى العالـ العربي‪ ،‬حتى َّ‬
‫عده معظـ النقاد رائد الرواية‬
‫التاريخية في أدبنا العربي الحديث‪ .‬ويمكف رصد أىـ الخصائص التي َّ‬
‫ميزت اإلنتاج الروائي‬
‫التاريخي لجورجي زيداف عف غي هر مف الكتاب الذيف سبقوه فيما يأتي‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬أنو أوؿ مف أسس ونظَّر ليذا الفف‪.‬‬

‫ٕ ‪ -‬تحرر مف النظاـ التقميدي في لغة الكتابة‪ ،‬فتخمص مف سيطرة المحسنات البديعية مف‬
‫سجع وجناس‪ ،‬وكتب بمغة سمسة بسيطة قريبة مف المتمقي العادي‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬تخمص مف جو النصح واإلرشاد الذي كاف مسيط اًر عمى فف الرواية التاريخية عند‬
‫أسبلفو‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬لـ يكثر مف التعميقات والمداخبلت واالستدراكات في رواياتو التاريخية مقارنة بمف سبقو‪.‬‬
‫٘ ‪ -‬عمؿ عمى تحديد موضوعاتو الروائية‪ ،‬وأحكـ حبكتيا‪ ،‬فقد قسـ رواياتو إلى أجزاء يربطيا‬
‫حدث واحد‪ ،‬يتطور حتى يصؿ إلى نيايتو‪.‬‬
‫‪ - ٙ‬اعتمد عمى تحقيؽ عنصر اإلثا ةر والتشويؽ‪.‬‬
‫عـ وانتشر كأساس لمبناء الفني‬
‫‪ - ٚ‬مزج بيف القصة التاريخية والحكاية الغرامية‪ ،‬األمر الذي َّ‬
‫عند أغم ب كتاب الرواية التاريخية فيما بعده‪.‬‬
‫‪ - ٛ‬ظير عنده بوضوح انسجاـ وتوافؽ العناصر الفنية لمرواية التاريخية مف أحداث‬
‫وشخصيات وزماف ومكاف‪ ،‬واف كاف بشكؿ تقميدي وبسيط إال أنو شكؿ تطو ًار فنيًا‬
‫ممموساً عمى أسبلفو مف كتاب الرواية التاريخية‪.‬‬
‫وقد تخصص جورجي زيداف في كتابػة الروايػة التاريخيػة منػذ بمػ الثبلثػيف مػف عمػ هر حتػى‬
‫وفاتػو‪ ،‬وكػاف ييػدي إلػى ق ارئػػو كػؿ عػاـ روايػة حتػى بمغػػت رواياتػو التاريخيػة اثنتػيف وعشػريف‪ ،‬فػػي‬
‫البداية نشرىا مسمسمة عمى صفحات مجمة "اليبلؿ" في أواخر القػرف التاسػع عشػر ومطمػع القػرف‬

‫‪23‬‬
‫العشػريف‪ ،‬ثػػـ صػدرت بعػػد ذلػؾ عمػػى شػكؿ كتػػاب مسػتق ؿ لكػػؿ روايػة‪ ،‬وقػػد أطمػؽ عمييػػا (روايػػات‬
‫تاريخ اإلسبلـ) كونيا تتناوؿ مراحؿ التاريخ اإلسبلمي منذ بدايتو حتي العصر الحديث‪ ،‬وقد ركز‬
‫فييػا عمػػى عنصػػر التشػػويؽ واإلثػػارة‪ ،‬بيػػدؼ حمػؿ النػػاس عمػػي ق ػراءة التػػاريخ دوف كمػػؿ أو ممػػؿ‪،‬‬
‫ونشر المعرفة التاريخية بيف أكبر شريحة منيـ‪ .‬وىو بذلؾ "يمثؿ الرعيؿ األوؿ مف كتاب القصة‬
‫التاريخيػػة اإلسػػبلمية‪ ،‬وقػػد جمعػػت مقومػػات فنػػو بػػيف آثػػار الكاتػػب والصػػحفي والباحػػث التػػاريخي‬
‫( ٔ)‬
‫واألديب"‪.‬‬

‫كانػت روايػات جػػورجي زيػداف أفضػؿ بكثيػػر مػف بعػض األعمػػاؿ المترجمػة أو المقتبسػػة أو‬
‫المكتوبة التي كانت تنشر عمى شكؿ حمقات‪ ،‬وقد لعبت دو اًر ميماً جداً في تنشئة جيػؿ مػف قػراء‬
‫( ٕ)‬
‫الرواية العربية الحديثة‪.‬‬

‫وروايات جورجي زيداف بالترتيب ىي‪ :‬الممموؾ الشارد ٔ‪ ،ٜٔٛ‬استبداد المماليػؾ ٖ‪،ٜٔٛ‬‬
‫أسير المتميدي ٘‪ ،ٜٔٛ‬أرمانوسة المصرية ٘‪ ،ٜٔٛ‬فتاة غساف ‪ ،ٜٔٛٙ‬عذراء قػريش ‪،ٜٔٛٛ‬‬
‫‪ ٔٚ‬رمضػػاف ‪ ،ٜٜٔٛ‬غػػادة كػػرببلء ٓٓ‪ ،ٜٔ‬الحجػػاج بػػف يوسػػؼ الثقفػػي ٔٓ‪ ،ٜٔ‬فػػتح األن ػػدلس‬
‫ٕٓ‪ ،ٜٔ‬شػ ػػارؿ وعب ػ ػػد ال ػ ػػرحمف ٖٓ‪ ،ٜٔ‬أب ػ ػػو مس ػ ػػمـ الخ ارس ػ ػػاني ٗٓ‪ ،ٜٔ‬العباس ػ ػػة أخ ػ ػػت الرش ػ ػػيد‬
‫٘ٓ‪ ،ٜٔ‬األمػ ػػيف والم ػ ػػأموف ‪ ،ٜٔٓٙ‬عػ ػػروس فرغان ػ ػػة ‪ ،ٜٔٓٚ‬أحم ػ ػػد بػ ػػف طول ػ ػػوف ‪ ،ٜٔٓٛ‬عب ػ ػػد‬
‫الرحمف الناصر ‪ ،ٜٜٔٓ‬االنقبلب العثماني ٓٔ‪ ،ٜٔ‬فتاة القيرواف ٔٔ‪ ،ٜٔ‬صبلح الديف األيوبي‬
‫ٕٔ‪ ،ٜٔ‬شج ةر الدر ٖٔ‪ ،ٜٔ‬جياد المحبيف ٗٔ‪.ٜٔ‬‬

‫وقػد جعػؿ جػورجي زيػداف الروايػة خادمػة لمتػاريخ ومعممػة لػو‪ ،‬فوظيفػة الروايػة عنػده تعميميػػة‬
‫بحتػة‪ ،‬وكػػاف بػذلؾ حريص ػاً عمػى التػػاريخ‪ ،‬وىػو يعمػػف صػراحة أنػػو يصػور التػػاريخ ليعممػو لمنػػاس‪،‬‬
‫( ٖ)‬
‫وكػػاف‬ ‫ومػع ذلػؾ اسػتطاع أف يقػدـ لمقػارئ العربػي نمػاذج شػيقة مػف التػاريخ فػي أغمػب األحيػاف‪.‬‬
‫ارئػػد ىػػذا الف ػػف فػػي العػػالـ العرب ػػي‪ ،‬فوضػػع رواياتػػو وس ػػرد فييػػا تػػاريخ الع ػػرب والمسػػمميف‪ ،‬وت ػػاريخ‬
‫( ٗ)‬
‫وال تكتفي رواياتػو بالجانػب التػاريخي‪ ،‬وانمػا البػد وأف‬ ‫مصر الحديث وتاريخ الخبلفة العثمانية‪.‬‬
‫( ٘)‬
‫ولذلؾ قػاؿ د‪ .‬شػوقي ضػيؼ‪" :‬إف قصػص جػورجي‬ ‫تتضمف قصة حب‪ ،‬ومواقؼ غراـ وعشؽ‪.‬‬

‫)ٔ( مقومات القصة العربية الحديثة في مصر‪ ،‬ص‪ٜٛ‬‬


‫)ٕ( الرواية العربية‪ ،‬صٕ٘‬
‫)ٖ( بناء الرواية في األدب المصري الحديث‪ ،‬صٖٗ‬
‫)ٗ( انظر‪ ،‬الجامع في تاريخ األدب العربي الحديث‪ ،‬صٖ‪ٜٔ‬‬
‫)٘( بانوراما الرواية العربية الحديثة‪ ،‬صٗ‪ٜ‬‬

‫‪24‬‬
‫زيػداف ليسػت قصص ػاً بػالمعنى الػػدقيؽ‪ ،‬إنمػا ىػػي تػاريخ قصصػي تػػدمج فيػو حكايػػة غراميػة‪ ،‬وىػػو‬
‫تػػاريخ يحػػافظ فيػػو الكاتػػب عمػػى األحػػداث دوف أي تعػػديؿ‪ ،‬ودوف أي تحميػػؿ لممواقػػؼ والعواطػػؼ‬
‫( ٔ)‬
‫ولقد كاف زيداف شديد الحرص عمى أف يجعؿ رواياتو مرجعػًا تاريخيػًا بعػد تصػفيتيا‬ ‫اإلنسانية"‪.‬‬
‫مف العنصر الغرامي‪ ،‬ومف دالئؿ ذلؾ أنو يمخص محتويات كؿ روايػة بعػد العنػواف مباشػرة‪ ،‬وىػو‬
‫ال يشير في ىذا التمخيص إلى الجانب الغرامي‪ ،‬ولكنو يشير إلى المحتوى التاريخي والحضػاري‬
‫لروايتو‪ ،‬ثـ إنو كاف يحاوؿ أف يربط كؿ رواية بالرواية التي تسبقيا؛ لكي يحقؽ االرتباط بينيما‪،‬‬
‫إضػافة إلػػى أنػو يشػػير إلػى الم ارجػػع التػي اسػػتمد منيػػا مادتػو العمميػػة فػي كػػؿ روايػة‪ ،‬ومػػا ذلػػؾ إال‬
‫إلقناع القارئ واييامو بدقتو‪ ،‬وبصحة وحقيقة ما يرويو مف أحداث تاريخية‪.‬‬

‫ويرجع سبب اىتماـ زيداف بالتاريخ إلى الظروؼ البيئية والثقافية المحيطة بو‪ ،‬حيث كػاف‬
‫اىتماـ المثقفيف في ذلؾ الوقت منصبًا عمى تعمػـ التػاريخ العربػي والتعػرؼ عميػو ىػذا مػف ناحيػة‪،‬‬
‫ومف الناحية األخرى رغبتو في جذب الناس إلى قػراءة مجمػة (اليػبلؿ) عػف طريػؽ ىػذا األسػموب‬
‫الجديد الذي يربط الحقي قة التاريخية بقصة غرامية جذابة ومشوقة ومسمية في ذات الوقت‪.‬‬

‫ويرى د‪ .‬عبد الحميد القط أف جورجي زيداف "يتوخى الموضوعية والصػدؽ التػاريخي‪ ،‬ممػا‬
‫يحيؿ صفحاتو في كثير مف األحياف إلى ما يشبو صفحات كتب التاريخ‪ ،‬ولكنو مع ذلؾ يصور‬
‫المكاف والزماف‪ ،‬ويرسـ الشخصيات ويدير الحوار بينيا‪ ،‬بؿ ويصور الصراع بينيا تصوي اًر طيباً‪،‬‬
‫وىػو يمتػزـ بنظػاـ الحقبػة التاريخيػػة التػي تصػورىا الروايػة‪ ،‬وينيػي تمػػؾ الحقبػة عػادة بحادثػة ىامػػة‬
‫( ٕ)‬
‫إال أف ىػذا الػرأي يتعػارض مػع الحقيقػة‬ ‫تكمميا الحمقة التاليػة‪ ،‬فالتػاريخ اإلسػبلمي عنػده وحػدة"‪.‬‬
‫التػي تؤكػػد بػػأف زيػداف لػػـ يكػػف موضػػوعيًا‪ ،‬ولػـ يمتػػزـ بالحقيقػػة التاريخيػػة التػي جعميػػا َح َكم ػًا عمػػى‬
‫رواياتو‪ .‬فنرى د‪ .‬إبراىيـ السعافيف يقوؿ‪" :‬إف جورجي زيداف يعمد إلى تغميب فكرتو عمى الحقيقة‬
‫التاريخية‪ ،‬إذ يظؿ وفياً لمحقيقة التاريخية حتى تصطدـ مع فكرتػو األساسػية‪ ،‬فػبل يجػد حرجػاً فػي‬
‫( ٖ)‬
‫مخالفة التاريخ ليحقؽ تمؾ الفكرة"‪.‬‬

‫)ٔ( األدب العربي المعاصر في مصر‪ ،‬صٕٔٔ‬


‫)ٕ( بناء الرواية في األدب المصري الحديث‪ ،‬صٖٗ‬
‫)ٖ( تحوالت السرد‪ ،‬ص٘‪ٙ‬‬

‫‪25‬‬
‫الخصائص الفنية لمرواية التاريخية عند جورجي زيدان‪:‬‬

‫مثَّؿ جورجي زيداف طريقة البناء الفني التقميدي البسيط لمرواية التاريخية في مرحمة النشأة‪،‬‬
‫ىػػذا البنػػاء الػػذي سػػيط أر عميػػو الكثيػػر مػػف التح ػوالت الفنيػػة فػػي الروايػػات التاريخيػػة الواقعيػػة عن ػػد‬
‫نجيػب محفػػوظ وعمػػي أحمػد بػػاكثير‪ ،‬والروايػػات التاريخيػة الجديػػدة عنػػد جمػاؿ الغيطػػاني ورضػػوى‬
‫عاشػور وأحمػد رفيػؽ عػوض فيمػا بعػد‪ .‬وسػيتـ التعػرض لمخصػائص الفنيػة لمروايػة التاريخيػة عنػػد‬
‫جورجي زيداف وفؽ المحاور اآلتية‪:‬‬

‫أو ًال‪ :‬البنال الفني‪:‬‬

‫إف أوؿ مػػا يواج ػػو المتمقػػي ف ػػي أي عم ػػؿ روائػػي ى ػػو العنػ ػواف‪ ،‬ولػػذلؾ أواله ج ػػورجي زي ػػداف‬
‫أىميػة كبيػرة‪ ،‬فاختػار عنػػاويف رواياتػو التاريخيػة بعنايػػة فائقػة؛ وذلػؾ بيػػدؼ جػذب وتشػويؽ الق ػراء‬
‫لموضوعاتو الروائية‪ ،‬وتحقيؽ غايتي التعميـ والتسمية المذيف وضعيما لنفسو منذ البداية‪ .‬فيو في‬
‫بعػض الروايػػات يختػػار العن ػواف الػػذي يشػػير إلػػى التػػاريخ مثػػؿ‪( :‬فػػتح األنػػدلس)‪ ،‬و(الحجػػاج ابػػف‬
‫يوسػػؼ)‪ ،‬و(األم ػػيف والم ػػأموف) ‪ ..‬الػػخ‪ ،‬وأحيانػ ػاً أخ ػػرى يختػػار العنػ ػواف ال ػػذي يشػػير إل ػػى الجان ػػب‬
‫الغرامي مثؿ‪( :‬فتاة غساف)‪ ،‬و(عػذراء قػريش)‪ ،‬و(غػادة كػرببلء)‪ ..‬الػخ‪ ،‬وفػي حػاالت نػاد ةر يختػار‬
‫العن ػواف ا لػػذي يكشػػؼ جانػػب المغػػام ةر فػػي مثػػؿ‪( :‬صػػبلح الػػديف ومكائػػد الحشاشػػيف)‪ ،‬و(الممم ػػوؾ‬
‫الشػػارد)‪ ،‬و(أس ػػير المتمي ػػدي)‪ ،‬وق ػػد يح ػػتفظ لػػبعض روايات ػػو ب ػػالعنوانيف الغ ارم ػػي والت ػػاريخي مث ػػؿ‪:‬‬
‫(أرمانوسة المصرية أو فتح مصر)‪ ،‬و(العباسة أخت الرشيد أو نكبة البرامكة)‪" .‬وىو يصؼ كػؿ‬
‫رواي ػػة م ػػف روايات ػػو بأني ػػا تاريخي ػػة غرامي ػػة‪ ،‬إال ف ػػي بع ػػض األحػ ػواؿ الت ػػي يض ػػعؼ فيي ػػا العنص ػػر‬
‫( ٔ)‬
‫الغرامي‪ ،‬ليحؿ محمو عنصر المغامرات في أحواؿ ناد ةر فيسمييا تاريخية أدبية"‪.‬‬

‫وقد اعتمد جورجي زيداف عمى البناء التقميدي البسيط لمرواية‪ ،‬حيث أثَّػر اليػدؼ التعميمػي‬
‫لرواياتو التاريخية عمى تناولو لمحدث وتطوره‪ ،‬وتصويره لمشخصيات‪ .‬فالجانب الروائي عنده يقوـ‬
‫خيػػر بصػػورة مطمقػة يحػػب بطمػة ّْ‬
‫خي ػرة‪ ،‬وتقػوـ العقبػػات والدسػػائس‬ ‫عمػى عبلقػػة غراميػة بػػيف بطػؿ ّْ‬
‫والمػ ػؤامرات بينيمػ ػػا وب ػػيف حبيمػ ػػا‪ .‬وتنتي ػػي ىػ ػػذه العبلقػ ػػة الغرامي ػػة بمجػ ػػرد االنتي ػػاء مػ ػػف األحػ ػػداث‬
‫التاريخية لمرواية ‪.‬‬

‫)ٔ( تطور الرواية العربية الحديثة في مصر (ٓ‪ ،)ٜٖٔٛ – ٔٛٚ‬صٓٓٔ‬

‫‪26‬‬
‫ويبدو أف زيداف قػد تػأثر فػي بنػاء رواياتػو التاريخيػة عمػى العبلقػة الغراميػة بػاألدب الشػعبي‬
‫أمثاؿ قصص (ألؼ ليمة وليمة)‪ ،‬و(سي ةر عنت هر بف شداد)‪ ،‬و( السي ةر اليبللية)‪ ..‬وغيرىا‪ ،‬والتي ال‬
‫تخمو مف أمثاؿ ىذه العبلقات الغرامية الجذابة والمشوقة‪.‬‬

‫وتترابط األحداث ترابطا منطقيا بحيث يتناوب الخط التاريخي مع الخط القصصي‪ ،‬فعندما‬
‫ينتي ػػي الكات ػػب م ػػف الس ػػرد الت ػػاريخي ينتق ػػؿ إل ػػى الس ػػرد القصص ػػي‪ ،‬وبع ػػد ذل ػػؾ يع ػػود إل ػػى الس ػػرد‬
‫التاريخي‪ ،‬وىكذا دواليؾ مستعمبل تقنيتي التمخيص والتػذكير لمفاصػؿ السػرد واسػترجاع المحظػات‬
‫( ٔ)‬
‫التاريخية السابقة‪.‬‬

‫و"العقد في روايات جورجي زيداف م تشابية‪ ،‬بؿ إنيا توشػؾ أف تكػوف موحػدة‪ ،‬وىػو يحػاوؿ‬
‫ُ‬
‫يفصؿ الموضوع الغرامي عمى‬ ‫في بنائو ليذه العقدة أف يخضعيا لمموضوع التاريخي‪ ،‬ولذلؾ فيو ّْ‬
‫( ٕ)‬
‫وبالتػػالي ال يسػػتطيع الػػتحكـ فػي عقدتػػو الغراميػػة أو االنػػدفاع فييػػا؛ ألنػػو‬ ‫شخصػيات تاريخيػػة"‪.‬‬
‫يحػتكـ إلػى أحػداث التػاريخ ويػرتبط بيػا‪ .‬فعنػدما يػرتبط الجانػب الغ ارمػي بشخصػيات تاريخيػة يقػؿ‬
‫االعتم ػػاد عم ػػى عنصػ ػػر المص ػػادفة والمغ ػػامرة‪ ،‬أمػ ػػا إذا كان ػػت الشخص ػػيات غيػ ػػر تاريخي ػػة فيمكنػ ػػو‬
‫االعتمػػاد عمػػى المصػػادفة والمغػػام ةر بشػػكؿ واس ػػع‪ .‬ومظػػاىر الصػػدؼ ىػػي "التػػي تحػػرؾ الرواي ػػات‬
‫وتتػدخؿ فػػي حػؿ األزمػػات‪ ،‬وتعقيػػد الموضػوع‪ ،‬عنػػدما يريػد الكاتػػب اإلطالػػة‪ .‬ىػذه الصػػدؼ تكػػوف‬
‫( ٖ)‬
‫إال‬ ‫قاعدة مف قواعد الحياة فػي قصصػو‪ ،‬ولكنيػا ليسػت قاعػدة مطػردة فػي واقػع الحيػاة العاديػة"‪.‬‬
‫أنو وفي الوقت نفسو تجنػب ذلػؾ السػيؿ مػف المصػادفات واألعمػاؿ البطوليػة المبػال فييػا‪ ،‬والتػي‬
‫( ٗ)‬
‫غمرت روايات المغامرات التي كتبت في سنوات سابقة‪.‬‬

‫وكما يتحكـ التاريخ في تطور عقدة القصة الغرامية وبنائيا‪ ،‬فإنو يتحكـ أيضػاً فػي نيايػات‬
‫الروايػات‪ ،‬فالنيايػػة قػد تكػػوف سػػعيدة بانتصػار الخيػػر عمػػى الشػر‪ ،‬وقػػد تكػػوف النيايػة كارثيػػة عمػػى‬
‫أبطاؿ القصة الغرامية‪ ،‬ويتحكـ في ىذا كمو العنصر التاريخي والنياية الحقيقية ألحداث التاريخ‪،‬‬
‫ال تي ال يستطيع المؤلؼ الخروج عمييا أو التنكر ليا ‪.‬‬

‫)ٔ( روايات جورجي زيداف بيف التاريخ والتشويؽ الفني‬


‫‪http://www.diwanalarab.com/spip.php?article7989‬‬
‫)ٕ( تطور الرواية العربية الحديثة في مصر (ٓ‪ ،)ٜٖٔٛ – ٔٛٚ‬ص ٗٓٔ‬
‫)ٖ( مقومات القصة العربية الحديثة في مصر‪ ،‬ص‪ٜٙ‬‬
‫)ٗ( الرواية العربية‪ ،‬صٓ٘‬

‫‪27‬‬
‫"كمػا أف رغبػػة جػػورجي زيػػداف فػي تعمػػيـ التػػاريخ تقػػؼ دائم ػاً عائقػاً فػػي وجػػو ت ػرابط الحػػدث‬
‫الروائي وتسمسمو‪ ،‬فيو يفتتح كؿ رواية بتقديـ وصؼ تاريخي وجغرافي دقيؽ وعممي لممدينة التي‬
‫تػدور فييػػا أحػداث الروايػػة‪ ،‬كمػا ينتيػػز الفػػرص ل يحػدثنا عػػف معموماتػو عػػف حضػا ةر العصػػر الػػذي‬
‫تػػدور فيػػو الرواي ػػة‪ ،‬فارض ػاً ى ػػذه المعمومػػات عم ػػى تطػػور األح ػػداث فػػي روايت ػػو‪ ،‬حتػػى إف عن ػػاويف‬
‫الفصػػوؿ فػػي روايتػػو تتػػأرجح دائم ػاً بػػيف دالالتيػػا عمػػى المعمومػػات التاريخيػػة وبػػيف دالالتيػػا عم ػػى‬
‫( ٔ)‬
‫الحدث الروائي"‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬المغة‪:‬‬

‫ظي ػػر م ػػف البداي ػػة أف غاي ػػة ج ػػورجي زي ػػداف م ػػف كتاب ػػة الرواي ػػة ى ػػي خدم ػػة الت ػػاريخ ول ػػيس‬
‫العكػس‪ ،‬وقػد مػػاؿ نتيجػة لػػذلؾ إلػى أسػموب لغػػوي سػردي بسػػيط‪ ،‬قريػب مػف فيػػـ النػاس‪ ،‬ليوصػػؿ‬
‫إلييـ معموماتو التاريخية بأسموب واضح سيؿ وسمس‪ ،‬وقد كانت لغتو حقًا أكثر سبلسة مػف لغػة‬
‫كثير ممف جػاءوا بعػده‪ ،‬ومػف أىػـ العوامػؿ التػي سػاعدت زيػداف عمػى اتبػاع ىػذا األسػموب المغػوي‬
‫البسػػيط اتصػػالو بالثقافػػة الغربيػػة‪ ،‬وازدىػػار الصػػحافة وعممػػو بيػػا‪ ،‬ومػػا نجػػـ عػػف ذلػػؾ مػػف اىتمػػاـ‬
‫بالمضموف دوف الشكؿ‪ ،‬فكاف االبتعاد عف المحسنات البديعية والببلغية التي تركز عمى الشػكؿ‬
‫فقػط‪ ،‬وتػـ اعتمػاد لغػة فصػػحى ميسػو ةر وعصػرية عذبػة اإليقػػاع تركػز عمػى الفكػ ةر والمضػػموف‪ ،‬إال‬
‫أنيا "ظمت ذات جرس ورنيف في كؿ سطر‪ ،‬وفي كػؿ روايػة‪ ،‬ال تتمػوف وال تتشػكؿ بتمػوف وتشػكؿ‬
‫( ٕ)‬
‫المواقؼ والشخوص واألحداث واألفكار"‪.‬‬

‫ويقػ ػػوـ جػ ػػورجي زيػ ػػداف فػ ػػي رواياتػ ػػو التاريخيػ ػػة بػ ػػدور ال ػ ػراوي العػ ػػالـ العػ ػػارؼ بكػ ػػؿ أحػ ػػداثيا‬
‫وتفاصػػيميا‪ ،‬وصػػفات شخصػػياتيا‪ ،‬فيكتفػػي برؤيػػة سػػردية واحػػدة فػػي كػػؿ رواياتػػو ىػػي الرؤيػػة مػػف‬
‫الخمػػؼ و ض ػػمير الغيػػاب مص ػػو ار الشخص ػػيات بأبعادىػػا النفس ػػية والفيزيائي ػػة‪ ،‬ومحركػػا إياى ػػا م ػػف‬
‫منظور عموي ومف خمفية سياسية أو دينية في إطار ثنائية الخير والشر أو الشقاء والسعادة‪.‬‬

‫وقد أكثر مف الوصؼ عمى حساب الحوار‪ ،‬ثـ إف سرد األحداث لـ يقتصػر عمػى الجانػب‬
‫التاريخي فحسب‪ ،‬وانما تعداه إلى الجانب الغرامي‪ ،‬وىو الجانب الفني اإلبداعي‪ ،‬الذي يطمؽ فيو‬
‫المؤلػػؼ العن ػػاف لخيالػػو‪ ،‬ليظي ػػر مػػدى قدرت ػػو عمػػى البن ػػاء الفنػػي لمرواي ػػة بأسػػموب جمي ػػؿ ومش ػػوؽ‬
‫وجػذاب‪ .‬فكانػت المغػة تخاطػػب العقػؿ تػا ةر حػػيف يحضػر السػرد التػػاريخي ويعقبػو التعمػيـ واإلفػػادة‪،‬‬

‫)ٔ( تطور الرواية العربية الحديثة في مصر (ٓ‪ ،)ٜٖٔٛ – ٔٛٚ‬ص‪ٔٓٙ‬‬


‫)ٕ( بانوراما الرواية العربية الحديثة‪ ،‬صٗ‪ٜ‬‬

‫‪28‬‬
‫وتخاطػػب الوجػػداف والعاطفػػة تػػا ةر أخػػرى حػػيف يحضػػر السػػرد القصصػػي ويعقبػػو الترفيػػو والتسػػمية‬
‫واإلمتاع‪.‬‬

‫السرد عند زيداف يقترف بالحقائؽ‪ ،‬حتى ليضطر أحياناً إلى أسموب الخطابة المعتمد عمى‬
‫المباشػرة فػي ذكػر حقائقػو‪ ،‬فيفػػرد صػفحات كاممػة ليػذا فػي رواياتػػو‪ ،‬وقػد أغػرؽ المؤلػؼ أحيانػاً فػػي‬
‫ىذا الجانب حتى خرج عف فنية العمؿ في فصوؿ تتعمؽ بوصؼ المدف أو األحيػاء الجديػدة فػي‬
‫بعػػض البمػػداف‪ .‬وىػػذه الفصػػوؿ تبػػدو منفصػػمة تمام ػًا عػػف سػػياؽ األحػػداث الميػػـ إال إذا أخػػذنا فػػي‬
‫( ٔ)‬
‫اعتبارنا الجوانب الحضارية مف مفيومو لتعميـ التاريخ‪.‬‬

‫وحيف يمجأ إلى الحػوار مضػط ًار فػإف الشخصػيات ال تعبػر بػالحوار عػف نفسػيا‪ ،‬وانمػا تنقػؿ‬
‫عف طريقو المعمومات التاريخية‪ ،‬وحػيف تختمػؼ طبيعػة الحػوار بػيف الفصػحى والعاميػة‪ ،‬فػإف ىػذا‬
‫الخ ػػبلؼ ينب ػػع م ػػف طبيع ػػة الم ارج ػػع التاريخي ػػة الت ػػي يس ػػتمد مني ػػا الكات ػػب معمومات ػػو‪ ،‬وح ػػيف تق ػػدـ‬
‫الشخص ػػيات فػ ػػي حوارىػ ػػا ش ػػيئاً آخػ ػػر غيػ ػػر المعموم ػػات التاريخيػ ػػة فإنيػ ػػا تعب ػػر عػ ػػف آراء المؤلػ ػػؼ‬
‫( ٕ)‬
‫نفسو‪.‬‬

‫وأخي اًر فإف " النصوص السردية التي كتبيا جورجي زيداف تمثؿ خير تمثيؿ رواية التشػويؽ‬
‫الفني لمتاريخ؛ ألنيا تستقرئ تاريخ الماضي أو الحاضر بمغػة سػيمة معاصػ ةر مػف خػبلؿ االرتكػاز‬
‫( ٖ)‬
‫عمى العقدتيف التاريخية والفنية"‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬الشخصيات‪:‬‬

‫نظػ ػ ةر ج ػػورجي زي ػػداف لمشخص ػػيات نظػ ػرة تقميدي ػػة‪ ،‬في ػػي عن ػػده إم ػػا خي ػػر مطم ػػؽ‪ ،‬وام ػػا ش ػػر‬
‫مطمؽ‪ ،‬شخصيات ذات اتجاه واحد ال تتغير وال تتبدؿ‪ ،‬ورواياتو تقوـ عمى مغام ةر غرامية تصور‬
‫شخصيتيف مثاليتيف – بطؿ وبطمة – يقوـ بينيما حب عفيؼ طاىر ذو ىدؼ ٍ‬
‫ساـ‪ ،‬إال أف ىذا‬
‫الحب يتعرض لؤلذى مف شخصية شري ةر أخرى تستخدـ كؿ وسائؿ المكر والكيد والنفاؽ لمتفريؽ‬
‫بيف ىاذيف المحبيف وأىدافيما السامية ‪.‬‬

‫)ٔ( انظر‪ ،‬فف الرواية عند جورجي زيداف (بحث)‪ ،‬ص‪ٕٕٛ‬‬


‫)ٕ( تطور الرواية العربية الحديثة في مصر (ٓ‪ ،)ٜٖٔٛ – ٔٛٚ‬صٓٔٔ‬
‫)ٖ( روايات جورجي زيداف بيف التاريخ والتشويؽ الفني‬
‫‪http://www.diwanalarab.com/spip.php?article7989‬‬

‫‪29‬‬
‫ويقػػدـ جػػورجي زي ػػداف الشخصػػية لمق ػػارئ دفعػػة واح ػػدة كاممػػة بكاف ػػة تفاصػػيميا وس ػػماتيا‪ ،‬وال‬
‫يدع الشخ صية تقدـ نفسيا‪ ،‬أو تظير صفاتيا مف خبلؿ تطور أحداث الرواية‪ ،‬مما يضػعؼ دور‬
‫الشخصػية الروائيػة واسػػياميا فػي تطػػور الحػدث الروائػػي‪ .‬وىػي شخصػػيات تاريخيػة وموضػػوعية‪،‬‬
‫تُعرض بطريؽ الوصؼ والتحميؿ‪ ،‬ولكف الوصؼ والتحميػؿ ال يبعثػاف فييػا الحيػاة حتػى تحيػا فػي‬
‫القصص‪ ،‬وال ينجح الحوار في إكسابيا أبعاد الحياة‪ ،‬ألف الكاتب أراد الوصؼ وسرد التاريخ دوف‬
‫أف يسعى إلى التحميؿ اإلنساني الكامف وراء التاريخ‪ )ٔ (.‬وشخصيات "زيداف" تتشابو في خطوطيا‬
‫العريضػة‪ ،‬وتتشػابو أيض ػاً فػي نفسػياتيا وصػػفاتيا‪ ،‬فيػي حػيف تعبػػر عػف حبيػا أو عػػف قمقيػا تعبػػر‬
‫بصػػو ةر تكػػاد تكػػوف متشػػابية‪ ،‬فقمػػؽ "الرشػػيد" عم ػػى عرشػػو ىػػو نفسػػو قمػػؽ السػػمطاف "عبػػد الحمي ػػد"‬
‫عميػو‪ ،‬وحػب كػػؿ بطمػة ىػػو نفسػو حػػب البطمػة األخػرى‪ ،‬حتػػى إف مواقػؼ األبطػػاؿ وتعبيػرىـ عػػف‬
‫( ٕ)‬
‫ث ػػـ إن ػػو ال يق ػػوـ‬ ‫شػػعورىـ وانفع ػػاالتيـ إزاء األح ػػداث أو الطبيع ػػة يتش ػػابو ف ػػي روايات ػػو المختمف ػػة‪.‬‬
‫بتحميؿ نفسيات شخصياتو الروائية وال يتعمقيا مف الداخؿ‪ ،‬بؿ يعمؿ عمى تعميـ المواقؼ النفسية‬
‫لمشخصيات في تعامميا مػع المواقػؼ المختمفػة‪ ،‬فتصػبح شخصػياتو بيػذه الحالػة نمػاذج عامػة مػف‬
‫البشر‪ ،‬تمثؿ قيمًا عامة كالحب واإلخبلص والشجاعة والوفاء‪ ،‬أو تمثؿ نقيض ىذه الصفات مف‬
‫غدر وخيانة وجبف‪ ،‬دوف وجود سمات نفسية خاصة تميز كؿ شخصية عف األخرى‪.‬‬

‫واخػتبلؼ الشخصػيات فػي روايػات جػورجي زيػداف يكػوف فػي المظيػر الخػارجي فقػط‪ ،‬وىػػذا‬
‫االختبلؼ يبدو في تأثر الشخصية بحضا ةر العصر الذي تمثمو‪ ،‬ثـ في اختبلؼ العادات والتقاليد‬
‫االجتماعية بيف األماكف المختمفة‪ .‬وما دوف ذلؾ فشخصػياتو متشػابية فػي حػاال ت الخيػر والشػر‪،‬‬
‫وطرؽ التعبير عف المشاعر المختمفة كما ذكر سابقاً‪ .‬وال شؾ أف التمسؾ بحػوادث التػاريخ وعػدـ‬
‫القدرة عمى الخروج مف سطوتو يضعؼ البناء الفني لمرواية بشكؿ عاـ‪ ،‬وال يعطي الكاتب الحرية‬
‫في اإلبداع واالبتكار‪ ،‬األمر الذي يجعؿ الشخصيات نمطية ثابتة غير متطورة‪ ،‬وال يسػتطيع أي‬
‫كاتب أف يمنحيا صفة الحياة داخؿ العمؿ الروائي‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬المكان والزمان‪:‬‬

‫ال كاممػة‬
‫أولى جورجي زيداف المكاف في رواياتو التاريخية أىمية كبيرة‪ ،‬حتى أنو أفػرد فصػو ً‬
‫فػػي رواياتػػو لوصػػؼ األمػػاكف بكافػػة تفاصػػيميا مػػف بمػػداف ومػػدف وقصػػور وأدي ػ ةر ‪ ..‬وغيرىػػا بشػػكؿ‬
‫مباشر‪ ،‬حيث إف أماكف وقوع األحداث تتحدد بطرؽ ووسػائؿ عمميػة‪ ،‬يسػتقي المؤلػؼ مادتيػا مػف‬

‫)ٔ( انظر‪ ،‬مقومات القصة العربية الحديثة في مصر‪ ،‬ص‪ٜٚ‬‬


‫)ٕ( تطور الرواية العربية الحديثة في مصر (ٓ‪ ،)ٜٖٔٛ – ٔٛٚ‬ص ‪ٔٓٛ‬‬

‫‪31‬‬
‫المراجع ال تاريخية المختمفة التي يذكرىا في رواياتو‪ .‬واألماكف عنػد زيػداف مرتبطػة بالتػاريخ‪ ،‬وىػي‬
‫ليست أمكنة عامة غير محددة المعػالـ‪ ،‬بػؿ ىػي أمكنػة تاريخيػة ليػا داللػة فػي تطػور الحػدث لكػف‬
‫بل عمػ ػػى‬
‫بل ودخػ ػػي ً‬
‫بش ػػكؿ تقميػ ػػدي مباشػ ػػر بسػ ػػيط وسػ ػػطحي‪ ،‬حيػ ػػث يك ػػوف وصػ ػػؼ األمػ ػػاكف منفص ػ ػ ً‬
‫األحداث‪ ،‬ويكوف لػذلؾ أ ثػر سػمبي واضػح عمػى البنػاء الفنػي لمروايػة‪ .‬وعػادة مػا ينتقػؿ الحػدث مػف‬
‫مك ػػاف آلخػ ػػر‪ ،‬وقمم ػػا يبقػ ػػى الح ػػدث فػ ػػي ح ػػدود مكػ ػػاف مدين ػػة واحػ ػػدة‪ ،‬فتنتق ػػؿ شخصػ ػػيات وأحػ ػػداث‬
‫الروايػات بػيف مصػر وبػبلد الشػاـ وشػبو الجزيػ ةر العربيػة وتركيػا ‪ ..‬وغيػر ذلػؾ‪ ،‬وىػو بػذلؾ يعػرض‬
‫لمبيئ ػػة العربيػ ػػة والحضػ ػػا ةر اإلسػ ػػبلمية ويص ػػورىا بشػ ػػكؿ كمػ ػػي حيػ ػػث اليس ػػر والسػ ػػيولة فػ ػػي التنقػ ػػؿ‬
‫والترح ػػاؿ‪ ،‬والتش ػػابو الكبيػ ػػر ف ػػي الش ػػكؿ المعمػ ػػاري وم ػػا يحمػ ػػؿ ذل ػػؾ م ػػف إيحػ ػػاءات تع ػػزز الوحػ ػػدة‬
‫الجغرافية والمكانية والحضارية‪" .‬وتوزع الحدث بيف أكثر مف مكاف‪ ،‬وتعرضو ألكثر مف بعد أدى‬
‫إلى قدر مف االتساع الزماني‪ ،‬ولكنو ال يطوؿ ليشمؿ حياة جيؿ مثبلً‪ ،‬ولكنو يطوؿ ليتسع اللتقاء‬
‫( ٔ)‬
‫أكثر مف بعد تاريخي‪ ،‬يمكف لممتمقي فيو أف يعايش حقبة متكاممة حدثياً ومكانياً وزمانياً"‪.‬‬

‫والػزمف فػػي روايػات زيػػداف تقميػدي‪ ،‬زمػػف خطػػي تتػابعي مسػػتقيـ يسػير فػػي اتجػاه واحػػد مػػف‬
‫البدايػ ػػة حت ػ ػػى النياي ػ ػػة‪ ،‬مػ ػػع وج ػ ػػود بع ػ ػػض األنمػ ػػاط الس ػ ػػرد ية الت ػ ػػي توظػ ػػؼ البع ػ ػػد الزم ػ ػػاني مث ػ ػػؿ‬
‫االسترجاع‪ ،‬حيث العودة بالحدث الروائي إلػى الػزمف السػابؽ والرجػوع إلػى الػوراء والػذكريات التػي‬
‫تركت أث اًر في النفس في األولى‪ ،‬واالستباؽ الذي يتعمؽ بالذكر أو التمييد لبعض األحداث التي‬
‫يمكػف أف تحػػدث فػػي المسػػتقبؿ‪ .‬ويػػرتبط البعػػد الزمػػاني عن ػد زيػػداف بشػػكؿ عػػاـ بػػالزمف التػػاريخي‬
‫حيث التسمسؿ المنطقي لؤلحداث دوف تقطيع أو بتر‪.‬‬

‫وال شػؾ أف جػورجي زيػداف أحػػد رواد الروايػة العربيػة بشػكؿ عػػاـ‪ ،‬والروايػة التاريخيػة بشػػكؿ‬
‫خاص‪ ،‬وقد سبؽ أبناء جيمو وتفوؽ عمييـ في توظيفو لمعناصػر الفنيػة لمعمػؿ الروائػي مػف حيػث‬
‫استخدامو لمغة‪ ،‬ورسمو لمشخصيات‪ ،‬وتناولػو لمزمػاف والمكػاف‪ ،‬وعرضػو لمصػراع والقصػة الغراميػة‬
‫في جو مف التشويؽ واإلثارة والجاذبية‪ .‬فكاف لو أسػموبو وبصػمتو الخاصػة التػي أثَّػرت فػي معظػـ‬
‫مف جاء بعده مف كتاب وروائييف ممف اتبعوا أسموبو وحاولوا تقميده وساروا عمى نيجو‪.‬‬

‫)ٔ( فف الرواية عند جورجي زيداف (بحث)‪ ،‬ص‪ٜٔٛ‬‬

‫‪31‬‬
‫مآخذ النقاد عمى روايات جورجي زيدان من الناحية الفنية‪:‬‬

‫تميز جورجي زيػداف عمػى ُك َّتػاب الروايػة التاريخيػة الػذيف سػبقوه وعاصػروه مػف الناحيػة‬ ‫رغـ ُّ‬
‫الفنيػة إال أف رواياتػػو تعرضػػت ‪-‬رغػػـ كثػ ةر المعجبػػيف بيػػا – ليجػػوـ شػرس ولكثيػػر مػػف االنتقػػادات‬
‫عمػى مسػػتوى الشػػكؿ الفنػػي‪ ،‬حيػػث يجمػػع معظػػـ النقػاد عمػػى ضػػعؼ وضػػآلة العنصػػر الفنػػي فػػي‬
‫روايات جورجي زيداف التاريخية‪ ،‬حتى أف بعضيـ نفى عنيا صفة الروايات لعدـ التزاميا بقواعػد‬
‫الرواية الفنية‪.‬‬

‫أخذ معظـ النقاد عمى جورجي زيداف تعميمية ىدفو الروائي‪ ،‬وعدوا ذلؾ أحد العيوب الفنية‬
‫الظاىرة في رواياتو‪ ،‬فالرواية قد تعتمد عمى التاريخ إال أنيا ال تكوف خادمػة لػو كمػا أراد ليػا‪ ،‬فيػو‬
‫يمتزـ بالتاريخ التزاماً حرفياً – عمى حد زعمو – ويستشيد بنصوصو‪ ،‬ويذكر المراجع التي يعتمػد‬
‫عمييا‪ ،‬كما لو كاف بصدد إعداد بحث تػاريخي‪ ،‬لقػد أراد أف يكػوف معممػًا لمتػاريخ القػديـ‪ ،‬بمثػؿ مػا‬
‫كػاف معمم ػًا لتػػاريخ آداب المغػػة العربيػػة‪ .‬وىػػو بػػذلؾ يأخػػذ الروايػػة إلػػى منحػػى آخػػر غيػػر منحاىػػا‪،‬‬
‫وطبيعة أخرى غير طبيعتيا الفنية الخيالية‪.‬‬

‫ويرى الباحث أنو ال يصح اعتماد الرواية بأي حاؿ كمرجع لمتاريخ‪ ،‬فيي بذلؾ تتخمى عف‬
‫عنصر أساسي مف عناصرىا أال وىو الخيػاؿ الفنػي‪ ،‬وال عيػب فػي أف تعتمػد الروايػة عمػى حػدث‬
‫تاريخي بشرط أف توظفو بناحية فنية داللية وال تمتزـ بحرفية التاريخ‪ ،‬ومشكمة جورجي زيداف أنو‬
‫ربػط نفسػو بالتػاريخ‪ ،‬وجعمػو َح َكمػًا عمػى أعمالػو‪ ،‬وجعػؿ مػف رواياتػو مراجعػاً لمتػاريخ وىػذا يضػػعؼ‬
‫العمؿ الروائي‪.‬‬

‫وتتمثؿ أىـ مظاىر الضعؼ الفني في روايات زيداف التاريخية فيما يأتي‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬اض ػػطراب البنػ ػػاء الفنػ ػػي الع ػػاـ لكػ ػػؿ روايػ ػػة م ػػف رواياتػ ػػو‪ ،‬حيػ ػػث التن ػػافر بػ ػػيف األشػ ػػخاص‬
‫واألحػػداث‪ ،‬ممػػا أحػػدث شػػرخاً كبيػ ػ اًر فػػي ىػػذا البنػػاء‪ ،‬والسػػبب ف ػػي ذلػػؾ ىػػو عػػدـ ح ػػرص‬
‫الكاتب عمى عرض حقيقة الشخصية التاريخية‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬عدـ قدرة الكاتب عمى التغمغؿ في أعماؽ شخصياتو التاريخية والخيالية‪ ،‬واالعتماد عمى‬
‫وصؼ الشخصيات مف الخارج فقط‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬إخف ػػاؽ الكاتػ ػػب ف ػػي اسػ ػػتخداـ عناص ػػر التشػ ػػويؽ ف ػػي رواياتػ ػػو‪ ،‬ألن ػػو يعمػ ػػد إل ػػى مفاجػ ػػآت‬
‫ومصػػادفات رخيصػػة ال يتقبميػػا العقػػؿ وال يرضػػى بيػػا الفػػف الروائػػي السػػميـ‪ ،‬وألنػػو يعتم ػػد‬

‫‪32‬‬
‫دائمػاً عمػػى القصػػة الغراميػػة المتشػػابية فػػي كػؿ الروايػػات‪ ،‬ويركػػز عمػػى الوصػػؼ الحسػػي‬
‫الظاىري فقط دوف تحميؿ‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬ض ػػعؼ أس ػػموب الكات ػػب واضػ ػػطراب لغت ػػو وتفك ػػؾ جمم ػػو وعبا ارتػ ػػو‪ ،‬في ػػو يع ػػرض أحداثػ ػػو‬
‫وشخوصػ ػػو بأسػ ػػموب بعي ػ ػػد عػ ػػف البنػ ػػاء المغ ػ ػػوي السػ ػػميـ والتركيػ ػػب الص ػ ػػحيح بػ ػػالرغـ م ػ ػػف‬
‫اسػػتخدامو لمكمم ػػات العربي ػػة الفص ػػيحة ف ػػي روايات ػػو كمي ػػا‪ ،‬إال أن ػػو يغم ػػب عمي ػػو األس ػػموب‬
‫الصحف ي‪ .‬والمغة عنده متساوية مع جميع الشخصيات‪ ،‬وىذا عيب كبير يؤدي إلى عدـ‬
‫( ‪)1‬‬
‫االنسجاـ بيف العبارات والجمؿ وبيف األشخاص الذيف ينطقوف بيا‪.‬‬
‫٘ ‪ -‬لػـ يتقيػد بالتسمسػؿ الزمنػػي ألحػداث التػاريخ؛ حيػث إف تسمسػػؿ الروايػات وترتيبيػا حسػػب‬
‫زمف كتابتيا ونشرىا ال يتوافؽ مع الترتيب الزمني لوقوع أحداثيا تاريخيًا‪ ،‬وىذا يدؿ عمى‬
‫أف الكاتػب لػـ يكػف معنيػاً بالتسمسػػؿ التػاريخي لؤلحػداث فػي رواياتػػو‪ ،‬بقػدر مػا كػاف معني ػاً‬
‫بانتقػاء بعػض األحػػداث التاريخيػة التػػي تخػدـ فكرتػو األساسػػية وىدفػو الحقيقػػي مػف ج ػراء‬
‫كتابة ىذه الروايات‪.‬‬
‫‪ - ٙ‬تصرفو في أحداث وشخوص التاريخ اإلسبلمي بالتغيير والتبديؿ والتقديـ والتػأخير‪ ،‬ممػا‬
‫جعؿ تمؾ الروايات تفقد أىـ ركي ةز فنية لمرواية التاريخية اإلسبلمية‪ ،‬أال وىي الموضوعية‬
‫القائمة عمى إيجاد التوازف بيف اإلبداع الفني والصدؽ التاريخي‪.‬‬

‫وق ػػد يػ ػػربط ال ػػبعض ضػ ػػعؼ الناحي ػػة الفنيػ ػػة عن ػػد زيػ ػػداف بعام ػػؿ الريػ ػػادة لي ػػذا الفػ ػػف األدبػ ػػي‬
‫المستحدث‪ ،‬في محاولة لتبرير موقفو والدفاع عنو‪ ،‬وكاف مف الممكػف قبػوؿ ذلػؾ إذا اتسػمت ىػذه‬
‫الروايات بالصدؽ الفني في التعامؿ مع التاريخ‪ ،‬أما والواقع خبلؼ ذلؾ فبل يمكف قبوؿ أو تبرير‬
‫تزييؼ حقائؽ التاريخ وتحويرىا؛ لما في ذلؾ مف إساءة بالغة ألمتنا العربية واإلسبلمية وتاريخيا‬
‫العظيـ‪.‬‬

‫مظاىر انحراف جورجي زيدان في تناول موضوعات التاريخ اإلسالمي‪:‬‬

‫ادعػػى ج ػػورجي زي ػػداف أف غايت ػػو م ػػف كتاب ػػة الروايػػة التاريخي ػػة ى ػػي تعم ػػيـ الت ػػاريخ‪ ،‬وتبن ػػي‬
‫الحق ػػائؽ التاريخي ػػة وتق ػػديميا فػ ػػي ص ػػو ةر فني ػػة وجذاب ػػة‪ ،‬إال أف النظ ػ ػ ةر الدقيق ػػة الفاحص ػػة إلنتاجػ ػػو‬
‫ال لمشؾ أنو لـ يكف صادقًا في مسعاه‪ ،‬حيث إنو لـ ينصؼ العرب‬ ‫الروائي تثبت بما ال يدع مجا ً‬
‫والمسػمميف فػػي رواياتػو التاريخيػػة‪ ،‬وق َّػدميـ فػػي صػػورة سػمبية سػػيئة ومنفػرة‪ ،‬فقػػد كػاف ينتقػػي بعػػض‬

‫)ٔ( انظر‪ ،‬وقفة مع جورجي زيداف‪ ،‬ص‪ٛٙ – ٚٚ‬‬

‫‪33‬‬
‫ويحوُرى ػػا؛ لتخ ػػدـ فكرتػػو األساس ػػية الت ػػي تن ػػاؿ مػػف الت ػػاريخ العرب ػػي اإلس ػػبلمي‬
‫المواقػػؼ التاريخي ػػة ّْ‬
‫وتشوىو‪ ،‬وىو بذلؾ يفتقد روح الحيادية والموضوعية التي جعميا أساساً لرواياتو التاريخية‪.‬‬

‫ومف أىـ مظاىر انحراؼ زيداف عف حقائؽ التاريخ العربي واإلسبلمي‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬تركي هز عمى فترات االضطراب والقمؽ السياسي في التاريخ العربي اإلسبلمي‪ ،‬فتناوؿ‬
‫مواضع الفتف والصراعات والحروب الداخمية‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬ع ػػدـ التع ػػرض ألي موق ػػؼ م ػػف مواقػ ػػؼ البطول ػػة والعػ ػ ةز والش ػػرؼ لمت ػػاريخ اإلسػ ػػبلمي‬
‫ولشخصياتو العظيمة‪ ،‬بؿ عمى العكس لـ يذكرىا وكأنيا لـ تكف‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬اىتـ بصنع شخصػيات وأحػداث خياليػة تأخػذ الحيػز األكبػر مػف أعمالػو؛ وذلػؾ ىربػًا‬
‫مف حقائؽ التاريخ اإلسبلمي الناصعة‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬تأثر في نظرتو إلى العالـ اإلسبلمي ببعض المؤرخيف الغػربييف‪ ،‬مػف حيػث إنصػاؼ‬
‫الشػعوب األعجميػة ووضػع ىػػاالت مػف القداسػة والمثاليػة حػػوؿ األديػرة والرىبنػة‪ ،‬مػػع‬
‫إضفاء صفات الغدر والخيانة والوصولية عمى الشخصيات اإلسبلمية‪.‬‬
‫٘ ‪ -‬كاف يكتب الرواية التاريخية اإلسبلمية بما يتبلءـ مع معتقداتو النصرانية المسيحية‪،‬‬
‫ومنطمقاتو النفسية والفكرية الساخطة والحاقدة عمى التاريخ العربي اإلسػبلمي‪ ،‬فعمػؿ‬
‫عمى تدمير الشخصية اإلسبلمية‪ ،‬وقطع صمة المسمميف بتاريخيـ العظيـ‪.‬‬
‫‪ - ٙ‬احتػػذى حػػذو المستشػػرقيف فػػي شػػبياتيـ‪ ،‬فالرىبػػاف ىػػـ الػػذيف عمم ػوا النبػػي صػػمى اهلل‬
‫عميػػو وسػػمـ‪ ،‬وأف اإلسػػبلـ ل ػػـ ينتشػػر إال بحػػد السػػيؼ وس ػػفؾ الػػدماء‪ ،‬وأنػػو ال يش ػػجع‬
‫عمى الحرية الفكرية‪ ،‬كذلؾ ذكر بطش وظمـ وجشع العرب والمسمميف واثارة الشكوؾ‬
‫حوؿ فتوحاتيـ‪ ،‬فما كانت حروبيـ إال لمسمب والغنيمة‪.‬‬
‫‪ - ٚ‬االعتمػػاد عم ػػى مص ػػادر تاريخي ػػة ش ػ َّػكؾ فييػػا المؤرخ ػػوف‪ ،‬مث ػػؿ كت ػػاب األغ ػػاني ال ػػذي‬
‫جعمػو مرجعػاً رئيس ػاً فػي معظػػـ رواياتػو عمػػى الػرغـ مػف كونػػو كتػاب أدبػػي فيػو الكثيػػر‬
‫م ػػف القصػ ػػص المختمقػ ػػة‪ ،‬واإلىمػ ػػاؿ التػ ػػاـ لممص ػػادر الدينيػ ػػة التػ ػػي ال يمكػ ػػف إغفاليػ ػػا‬
‫لشخص يكتب عف اإلسبلـ وفرقو‪ ،‬واالكتفاء بمصادر المستشرقيف‪.‬‬
‫‪ - ٛ‬ضػعؼ األمانػة العمميػة‪ ،‬وعػػدـ تحػري الدقػة فػي ذكػػر المصػادر والم ارجػع التػي اعتمػػد‬
‫عمييا في رواياتو‪ ،‬فػإف أشػار إلػى مرجػع ونقػؿ فقػرة نقميػا مشػوىة دوف ذكػر الجػزء أو‬
‫الصفحة أو الطبعة‪ ،‬وما ذلؾ إال إليياـ القارئ بموضوعيتو‪.‬‬
‫‪ - ٜ‬شوه العديد مف ِسَير الصحابة الكراـ أمثاؿ‪ :‬عمرو بف العاص‪ ،‬وعثماف بف عفاف‪،‬‬
‫وعمي بف أبي طالب ‪-‬رضي اهلل عنيـ – باإلضافة إلى تشويو سيرة أـ المؤمنيف‬

‫‪34‬‬
‫السيدة عائشة ‪-‬رضي اهلل عنيا ‪ -‬والعديد مف الشخصيات التاريخية البارزة مثؿ‪:‬‬
‫سيرة عبد الرحمف الغافقي‪ ،‬وسيرة المنصور‪ ،‬وأمير المؤمنيف ىاروف الرشيد‪ ،‬وأختو‬
‫العباسة‪ ،‬وسيرة المعتصـ‪ ،‬وأحمد بف طولوف‪ ..‬وغيرىـ‪.‬‬
‫ٓٔ‪ -‬عمؿ عمى نشر واثارة النعرات واألحقاد والفتف الطائفية‪ ،‬وخاصة بيف السنة‬
‫والشيعة في روايات مثؿ‪ :‬عذراء قريش‪ ،‬وغادة كرببلء‪ ،‬وأبو مسمـ الخراساني‪،‬‬
‫واألميف والمأموف‪ ،‬وصبلح الديف األيوبي‪.‬‬
‫ٔٔ‪ -‬جعؿ تاريخنا العربي مميئاً بالدسائس والوشايات والجواسيس والمصوص والظالميف‬
‫وقطاع الطرؽ‪ ،‬ولقد تكررت مثؿ ىذه العبارات كثي ًار في رواياتو‪.‬‬
‫ٕٔ‪ -‬جعؿ وراء األحداث غانيات فاتنات‪ ،‬ممكات جماؿ‪ ،‬ممشوقات القواـ‪ ،‬ممتمئات‬
‫الجسـ‪ ،‬مستديرات الوجو كالبدر‪ ،‬جمعف بيف لطؼ النساء وحزـ الرجاؿ وشجاعتيـ‪،‬‬
‫يتنقمف بخفة متناىية بيف بمد وبمد وبيف فئة وأخرى ّْ‬
‫ليسيرف األحداث في تاريخنا‬
‫العربي اإلسبلمي‪.‬‬

‫ػاء عمػػى ذلػػؾ فػػإف ج ػػورجي زيػػداف لػػـ يحسػػف انتخ ػػاب األحػػداث التػػي تصػػمح ألف تك ػػوف‬
‫بنػ ً‬
‫المادة الخاـ لعممو‪ ،‬ولـ يختر الزاويػة المػؤث ةر التػي ينظػر مػف خبلليػا إلػى قارئػو‪ .‬و "لػو أنػو أعمػؿ‬
‫فكره وأمعف النظر طويبلً في المادة التاريخية المتوفرة لديو‪ ،‬ثـ تناوليا بحس الفناف وبروح الناقد‪،‬‬
‫ومػف زاويػة صػاحب الػرأي‪ ،‬الػذي يريػد أف يقػوؿ مػف ورائيػا شػيئًا السػتطاع أف يبمػ مرتبػة الكتػاب‬
‫( ‪)1‬‬
‫العالمييف الذيف سبقوه إلى ارتياد ىذا الطريؽ"‪.‬‬

‫لقػد كانػت الغايػة التػي توخاىػا ىػي تحقيػر األمػة العربيػة‪ ،‬وابػداء مسػاوييا‪ ،‬وتمييػع تاريخيػا‬
‫وتفسػػيره تفس ػػي ًار جنس ػػيًا فرويػػديًا‪ ،‬وم ػػف أج ػػؿ ذلػػؾ تعم ػػد التحري ػػؼ والػػدس والتش ػػويو‪ ،‬وتعم ػػد فس ػػاد‬
‫( ٕ)‬
‫ومما ال شؾ فيو أف روايات جورجي‬ ‫االستنباط مع الطعف المدروس لمتاريخ العربي اإلسبلمي‪.‬‬
‫زيداف "قد أحدثت في نفوس الناشئة شكاً قاتبلً في سبلمة تاريخيـ‪ ،‬وأفقدت الكثير منيـ الثقة في‬
‫نيػات بعػض أبطػاؿ اإلسػبلـ الػػذيف بػذلوا نفوسػيـ نصػ ةر لػدينيـ‪ ،‬وحفاظ ػاً عمػى أمػتيـ‪ ،‬وذلػؾ مػػا ال‬
‫( ٖ)‬
‫األمػ ػػر الػ ػػذي أثػ ػػار حفيظػ ػػة الكثيػ ػػر مػ ػػف النق ػ ػػاد‬ ‫يخطئػ ػػو ال ػ ػدارس المنصػ ػػؼ لرواياتػ ػػو التاريخيػ ػػة"‬
‫والمؤرخيف عمى زيداف َّ‬
‫وشكؾ في مصداقيتو‪.‬‬

‫)ٔ( بانوراما الرواية العربية الحديثة‪ ،‬صٗ‪ٜ‬‬


‫)ٕ( جرجي زيداف في الميزاف‪ ،‬ص‪ٖٓٚ‬‬
‫)ٖ( وقفة مع جورجي زيداف‪ ،‬ص ٘‪ٚ‬‬

‫‪35‬‬
‫يظيػػر ممػػا سػػبؽ أف نظ ػ ةر جػػورجي زيػػداف لمتػػاريخ العربػػي اإلسػػبلمي لػػـ تكػػف بػػدافع الغي ػ ةر‬
‫عم ػػى ىػ ػػذا الت ػػاريخ أو الحػ ػػرص عم يػ ػػو‪ ،‬واظي ػػار مػ ػػا في ػػو مػ ػػف أمجػ ػػاد الع ػػرب ووحػ ػػدتيـ وفتوحػ ػػاتيـ‬
‫وانتصػاراتيـ‪ ،‬بػؿ إنيػػا لػـ تحمػؿ أي إحسػػاس قػومي تجػاه ىػػذا التػاريخ المجيػد‪ ،‬فيػػي مميئػة بمعػػالـ‬
‫التشػويو لكثيػػر مػػف أحداثػػو ووقائعػػو‪ ،‬وقػػد عممػػت عمػػى اإلسػػاءة لمتػػاريخ العربػػي اإلسػػبلمي بشػػكؿ‬
‫مقصود‪ ،‬وكأف ىذا التاريخ ال يحمؿ سوى ا لصراعات والفتف والمفاسد‪ ،‬وسيظير ذلؾ بشكؿ جمي‬
‫وواضح في أثناء تحميمنا لرواية (صبلح الديف األيوبي) في الصفحات القادمة‪ ،‬والتي ّْ‬
‫ستبيف بكؿ‬
‫وضوح مدى تحريؼ زيداف لمحقائؽ التاريخية‪ ،‬ومدى تشوييو لمشخصيات التاريخية الكبي ةر ذات‬
‫المكانة العظيمة في الوجداف العربي واإلسبلمي‪.‬‬

‫ال شؾ في أف ىذه النظ ةر السمبية لمتاريخ العربي واإلسبلمي لـ تستمر طويبلً بعد جورجي‬
‫زيػػداف؛ وذلػػؾ بسػػبب ظيػػور عػػدد مػػف ُكت ػػاب الروايػػة التاريخيػػة الػػذيف عمم ػوا عمػػى إحيػػاء الت ػػاريخ‬
‫العربػي واإلسػبلمي فػي عصػو هر المشػرقة أمثػاؿ عمػي أحمػد بػاكثير والػذي سػنتعرض لػو بالتفصػػيؿ‬
‫فػي الفصػػؿ الثػاني إف شػػاء اهلل –تبػػارؾ وتعػالى ‪ -‬وربمػػا كػػاف ىػذا ىػػو التحػػوؿ األىػـ فػػي الروايػػة‬
‫التاريخية مف حيث الموضوع‪ ،‬وأسموب التناوؿ‪.‬‬

‫رواية (صالح الدين األيوبي) نموذجاً‪:‬‬

‫تتعػرض الروايػة ل نيايػة الدولػػة الفاطميػة وعيػد آخػر خمفائيػػا فػي مصػر وىػو الخميفػػة‬
‫العاضد‪ ،‬وبداية الدولة األيوبية عمى يد السمطاف صبلح الديف األيوبي‪ ،‬باإلضافة إلى أنيا‬
‫تصؼ طائفة اإلسماعيمية المعروفة بجماعة الحشاشيف في ذلؾ العصر ‪.‬‬

‫ويبدو مف بداية الرواية تأثر جػورجي زيػداف بفػف المسػرحية‪ ،‬حيػث إنػو يػذكر أبطػاؿ‬
‫الروايػػة ف ػػي الص ػػفحة الثاني ػػة مباشػ ػرة وى ػػذا ل ػػيس مطموب ػاً ف ػػي الف ػػف الروائ ػػي‪ ،‬بق ػػدر م ػػا ى ػػو‬
‫مطمػوب فػػي المسػرحية‪ .‬ويػػذكر بعػد ذلػػؾ – فػي نفػػس الصػفحة ‪ -‬الم ارجػػع التاريخيػة التػػي‬
‫اعتمد عمييا في روايتو‪ ،‬وذلؾ إليياـ القارئ بصدؽ األحداث التي يسردىا‪ ،‬والمواقؼ التي‬
‫يتعرض ليا‪.‬‬

‫وتحت عنواف (فذلكة تاريخيػة) يػربط جػورجي زيػداف بػيف األحػداث التػي انتيػت بيػا‬
‫رواية (فتاة القيرواف) وأحداث رواية (صبلح الػديف األيػوبي) ذاكػ ًار ك يفيػة دخػوؿ الفػاطمييف‬
‫مصػر وسػػيطرتيـ عمييػا واسػػتقبلليـ عػػف الدولػة العباسػػية إلػػى أف ضػعفت دولػػتيـ وسػػيطر‬
‫صبلح الديف عمى حكـ مصر ‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫وتمثؿ الرواية صراعاً عمى الحكـ والسيطرة عمى مصر بيف كؿ مػف الخميفػة العاضػد آخػر‬
‫خمفػاء الدولػػة الفاطميػػة‪ ،‬ووزي ػ هر صػبلح الػػديف صػػاحب القػػوة الفعميػة‪ ،‬وأبػػي الحسػػف ذلػػؾ المخػػادع‬
‫الذي ادعى النسب العموي‪ ،‬وكاف يتقرب مف الخميفة العاضد وينافقػو ويحػاوؿ مصػاىرتو ليتسػنى‬
‫ل ػػو بػ ػػذلؾ حك ػػـ مصػ ػػر دوف من ػػافس‪ .‬إال أف الخميفػ ػػة يمػ ػػوت‪ ،‬وي ػػتمكف صػ ػػبلح ال ػػديف مػ ػػف فػ ػػرض‬
‫سػيطرتو عمػى مصػر‪ ،‬وتفشػؿ كػؿ محػاوالت ومخططػػات أبػي الحسػف وأعوانػو فػي االنقػبلب عمػػى‬
‫صػبلح الػػديف‪ .‬وتنتيػي الروايػػة بمقتػػؿ أبػي الحسػػف عمػى يػػد عمػػاد الػديف وىػػو أحػد رجػػاؿ صػػبلح‬
‫الديف األقوياء والمخمصيف‪.‬‬

‫وقػد تطػورت أحػداث الروايػة فػػي ظػؿ القصػة الغراميػة التػي جمعػػت بػيف سػيدة الممػؾ أخػػت‬
‫الخميفػة العاضػد‪ ،‬وعمػػاد الػديف أحػػد أتبػاع صػػبلح الػديف‪ ،‬والػػذي تمكػف مػػف إنقػاذ سػػيدة الممػؾ مػػف‬
‫الخطؼ والموت عمى يد بعض المصوص‪ ،‬فتعمؽ قمبيا بو وأحبتو‪ ،‬إال أنو اعترض ىػذه العبلقػة‬
‫الكثير مف المنغصات والمكائد مف أبرزىا الفروؽ الطبقية‪ ،‬وسػفر عمػاد الػديف فػي ميمػة خاصػة‪،‬‬
‫وكذلؾ ما يقوـ بو أبي الحسف مف دسائس ومحاوالت حثيثة لمتفريؽ بيف الحبيبيف‪ ،‬وكانت النياي ة‬
‫السػعيدة والتػي تكممػت بالقضػػاء عمػى كػؿ المتػػآمريف والمنػافقيف ثػـ الػزواج بػػيف سػيدة الممػؾ وعمػػاد‬
‫الديف بمباركة صبلح الديف‪.‬‬

‫وعمػى الػػرغـ مػػف أف عن ػواف الروايػػة (صػػبلح الػػديف األيػػوبي) إال أننػػا ال نكػػاد نجػػد صػػبلح‬
‫الديف في الرواية‪ ،‬فيظير أف لجورجي زيداف صػبلح ديػف آخػر‪ ،‬يختمػؼ عػف ذلػؾ البطػؿ العظػيـ‬
‫الذي نعرفو ونتمنى عودتػو‪ .‬إف ىػذا العنػواف يػوحي بػالكثير إلػى المػواطف العربػي‪ ،‬إنػو يأخػذه إلػى‬
‫عصػر الوحػػدة والتمكػػيف‪ ،‬عصػر االنتصػػارات‪ ،‬عصػػر تحريػر مدينػػة القػػدس الشػريؼ التػػي بقيػػت‬
‫تحػت احػػتبلؿ الصػػميبييف مػا يقػػرب مػػف مئػة عػػاـ‪ ،‬وحررىػػا الناصػر صػػبلح الػػديف‪ .‬ومػع ذلػػؾ ل ػـ‬
‫ألي مف ىذه الموضوعات وكأنيا لـ تكف‪ .‬إف صبلح الػديف لػـ ُيخمػد فػي التػاريخ‬ ‫تتعرض الرواية ٍّ‬
‫العربػي اإلسػػبلمي إال لتحري ػ هر بيػػت المقػدس مػػف يػػد الصػػميبييف‪ ،‬ول ػوال ىػذا لمػػا ذك ػ هر أحػػد‪ .‬فكيػػؼ‬
‫أغفؿ جورجي زيداف ىذا الحدث وكأنو لـ يكف؟ وكيؼ ُي َعمّْـ جورجي زيداف التػاريخ بيػذه الطريقػة‬
‫التي تبت هر وتزيؼ حقائقو؟!‪ .‬وال شؾ في أف تجاىؿ زيػداف لمكثيػر مػف المواقػؼ الحقيقيػة المشػرفة‬
‫والمرتبطػػة بالتػػاريخ العربػػي واإلسػػبلمي تحمػػؿ الكثيػػر مػػف اإليحػػاءات والػػدالالت التػػي تعبػػر ع ػػف‬
‫شخصية الكاتب‪ ،‬تتمثؿ أىميا في‪:‬‬
‫ٔ ‪ -‬افتقاد الكاتب لمروح القومية‪ ،‬ومجافاتو لمفكر اإلسبلمي‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬عنصريتو وتعصبو ألبناء جمدتو مف المسيحييف والنصارى‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬عدـ صدؽ دعواه في تعميـ التاريخ بحيادية وموضوعية‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫وال يكتفػي جػػورجي زيػداف بتجاىػػؿ الحقػػائؽ واألحػداث التاريخيػػة التػػي خمػدت ذكػػر صػػبلح‬
‫الديف في التاريخ العربي اإلسبلمي فقط‪ ،‬بؿ يعمؿ عمى تشويو صورتو‪ ،‬وتشكيؾ المتمقي العربي‬
‫في تاريخو مف خبلؿ وسمو بعدد مف الصفات الدنيئة مثؿ‪:‬‬

‫‪ - 7‬الوصولية‪:‬‬

‫حيث تصور الرواية شخصية صبلح الديف عمػى أنيػا شخصػية وصػولية لػيس ليػا ىػـ إال‬
‫الوصوؿ إلى الحكـ‪ ،‬فعندما طمب منو والده نجػـ الػديف بيعػة الخبلفػة العباسػية‪ ،‬اشػترط أف يكػوف‬
‫ىو حاكـ مصر ال أف يكوف تابعاً لنور الديف أمير دمشؽ‪ .‬فيقوؿ عمى لساف صبلح الديف‪" :‬إني‬
‫قػد دبػػرت أمػػر مصػػر‪ ،‬ونظمػػت شػػؤونيا بسػػيفي وتػدبيري‪ ،‬وبسػػيؼ عمػػي مػػف قبمػػي‪ ،‬ونػػور الػػديف‬
‫جالس في قص هر بدمشؽ‪ ،‬ومممكتو واسعة‪ ،‬ومماليكو كثيروف‪ .‬فيؿ مف العػدؿ أف تكػوف مصػر لػو‬
‫أيضاً ونبقى نحف مف خدمو أو قواده؟ ما الذي يمتاز بو نور الديف عنا؟ ىؿ ابتاعنا بمالو؟ نحف‬
‫لسنا مماليكو ‪ ..‬إننا قواد ‪ ..‬وىذه مصر يستحيؿ عميو إخضاعيا بدوني ‪ ..‬فأنا ال أبػايع لمخميفػة‬
‫العباسي إال بشرط أف أكوف أنا صاحب مصر وليس نور الػديف"‪ )1 (.‬وانظػر أيضػاً‪" :‬بػات صػبلح‬
‫الػػديف تمػػؾ الميمػػة كعادتػػو وىػػو يفكػػر فػػي أم ػػر مصػػر‪ ،‬ومطامعػػو فييػػا‪ ،‬حتػػى غمػػب عميػػو النع ػػاس‬
‫( ‪)2‬‬
‫فناـ"‪.‬‬

‫‪ - 6‬العنصرية‪:‬‬

‫تظيػػر ف ػػي الروايػػة النزع ػػة العنصػػرية‪ ،‬حي ػػث يص ػػؼ جػػورجي زي ػػداف صػػبلح ال ػػديف ووال ػػده‬
‫وجنػوده أكثػػر مػف م ػ ةر بػ ػ (الكػردي أو األك ػراد)‪ ،‬وفػػي ذلػؾ تممػػيح لمعنصػػرية‪ ،‬كمػا تظيػػر عنصػػرية‬
‫صبلح الديف بشكؿ واضح في قوؿ الخميفة العاضد‪" :‬إف يوسؼ صبلح الديف عزؿ قضاة مصر‬
‫( ٖ)‬
‫وأحيانػًا يعمػػؿ الكاتػب عمػػى التقميػؿ مػػف‬ ‫ألنيػـ مػػف شػيعتنا‪ ،‬وولػػى قضػاة شػػافعية عمػى مذىبػػو"‪.‬‬
‫قيمػػة الشخص ػػية والحػػط م ػػف شػػأنيا أيضػ ػًا مػػف منطم ػػؽ عنصػػري كال ػػذي يظيػػر ف ػػي قػػوؿ الػ ػراوي‪:‬‬
‫( ٗ)‬
‫"وصػػار النفػػوذ إلػػى ىػػذا الك ػػردي" وفػػي نفػػس الصػػفحة‪" :‬وقػػد يك ػػوف ىػػذا الكػػردي أحسػػف من ػػو"‪.‬‬
‫( ٘)‬
‫وغيػر ذلػؾ كثيػر فػي‬ ‫وأيضاً قولو‪" :‬والبسطاء يستغربوف خروج الخميفة الستقباؿ ذلػؾ الكػردي"‪.‬‬

‫)ٔ( صبلح الديف األيوبي (رواية)‪ ،‬صٖٖ‬


‫)ٕ) صبلح الديف األيوبي‪ ،‬ص٘ٔٔ‬
‫(ٖ( صبلح الديف األيوبي‪ ،‬ص‪ٖٛ‬‬
‫(ٗ) صبلح الديف األيوبي‪ ،‬صٔٔ‬
‫(٘) صبلح الديف األيوبي‪ ،‬صٕٓ‬

‫‪38‬‬
‫ثنايػا الروايػة‪ ،‬وال جػػداؿ فػي أف إثػا ةر مثػػؿ ىػذه النعػرات الطائفيػػة يحمػؿ خطػ اًر كبي ػ اًر عمػى مسػػتوى‬
‫الفرد والجماعة في الماضي والحاضر‪.‬‬

‫‪ - 4‬الكذب‪:‬‬

‫تحامػؿ جػورجي زيػػداف عمػى صػبلح الػػديف‪ ،‬وأظيػ هر بمظيػػر الكػاذب المػدعي لمػػا لػيس فيػػو‬
‫عنػد الحاجػة‪ ،‬مػف أجػؿ تحقيػؽ مػا يصػبو ويطمػح إليػو فػي حكػـ مصػر‪ .‬لننظػر إلػى قولػو‪" :‬وأدرؾ‬
‫صبلح الديف أنو ييوف عميو ادعاء الخبلفة بزواجو بأخت الخميفة‪ ،‬واذا لزـ ال نسب القرشي انتحؿ‬
‫( ٔ)‬
‫وفي موقؼ آخر يكذب عمى نور الديف‪ ،‬ويتركو وحده يحارب الصميبيف ويعود‬ ‫لو نسباً فييـ"‪.‬‬
‫إلى مصر؛ حتى ال يتفرغ لو نور الديف إذا تمكف مف ىزيمة الصميبييف‪ .‬انظر‪" :‬وأشار عميو أف‬
‫( ٕ)‬
‫‪ ،‬ثػـ‪" :‬فرجػع موالنػا السػمطاف إلػى مصػر‪ ،‬وكتػب إلػى نػور الػديف‬ ‫يرجع لمصر بحجػة ينتحميػا"‪.‬‬
‫يعتػػذر بػػاختبلؿ الػػديار المصػػرية ألمػػور بمغتػػو ع ػػف بعػػض شػػيعة العمػػوييف‪ ،‬وأنيػػـ عػػازموف عم ػػى‬
‫( ٖ)‬
‫الوثوب عمييا"‪.‬‬

‫‪ - 3‬السذاجة وضعف الشخصية‪:‬‬

‫ح ػػرص ج ػػورجي زي ػػداف عمػ ػػى إظي ػػار ص ػػبلح ال ػػديف كشخصػ ػػية ض ػػعيفة وس ػػاذجة‪ ،‬يسػ ػػيؿ‬
‫التأثير عميو وتوجييو‪ ،‬ومف ذلؾ قولو‪" :‬إف عيسى اليكػاري لمػا خػرج مػف دار العمػـ سػار تػوًا إلػى‬
‫صػبلح الػػديف‪ ،‬وأسػػرع فػػي مقابمتػػو عمػى انف ػراد فػػي خمػػوة‪ ،‬وتطػػرؽ فػي الحػػديث إلػػى خطبػػة أخػػت‬
‫الخميفػة‪ ،‬وأقنعػو بمػا تقػػدـ مػف األدلػة السياسػػية‪ ..‬فاستحسػف صػبلح الػػديف أريػو‪ ،‬واسػتميمو ليشػػاور‬
‫( ٗ)‬
‫ويظير مما سبؽ سيولة إقناع صبلح الديف‪ ،‬ثـ بعد ذلؾ وبالرغـ ممػا‬ ‫أباه فنياه عف مشورتو"‪.‬‬
‫حققو ووصؿ إليو مف مكانة يشاور أباه فػي كػؿ صػغي ةر وكبيػرة‪ ،‬والػذي ينيػاه عػف ذلػؾ ىػو عاممػو‬
‫وأحػػد رجالػػو‪ ،‬فمػػف ذا الػػذي يني ػى اآلخػػر؟‪ .‬وف ػػي الصػػفحة نفسػػيا يقػػوؿ اليكػػاري مخاطب ػًا ص ػػبلح‬
‫( ٘)‬
‫وم ػػف س ػػذاجة ص ػػبلح ال ػػديف وتس ػػرعو أن ػػو يعق ػػد‬ ‫الػػديف‪" :‬ال أعي ػػدؾ ض ػػعيؼ الع ػػزـ ي ػػا مػ ػوالي"‪.‬‬
‫اجتماعًا لمعظـ قواده وأىمو؛ ليعرض عمييـ رسالة نور الديف التي ييدده فييا بالحرب وكيفية الرد‬
‫عميي ػػا‪ ،‬ويعمػ ػػف موقف ػػو ال ػ ػرافض لمرس ػػالة بص ػ ػراحة أمػ ػػاـ الجمي ػػع‪ ،‬غيػ ػػر مق ػ ٍ‬
‫ػدر أنػ ػػو ق ػػد يكػ ػػوف أحػ ػػد‬

‫)ٔ( صبلح الديف األيوبي‪ ،‬ص‪ٜٔٓ‬‬


‫)ٕ( صبلح الديف األيوبي‪ ،‬ص٘‪ٔٙ‬‬
‫)ٖ( صبلح الديف األيوبي‪ ،‬ص٘‪ٔٙ‬‬
‫)ٗ( صبلح الديف األيوبي‪ ،‬ص‪ٜٔٓ‬‬
‫)٘( صبلح الديف األيوبي‪ ،‬ص‪ٜٔٓ‬‬

‫‪39‬‬
‫الحاضريف عيناً لنور الديف‪ .‬لننظػر إلػى قػوؿ نجػـ الػديف مخاطبػاً ابنػو صػبلح الػديف‪" :‬بػأي عق ٍػؿ‬
‫فعمػػت ىػػذا يػػا يوسػػؼ؟ أم ػػا تعمػػـ أف نػػور الػػديف إذا سػػمع ع ػػف عزمنػػا عمػػى منعػػو ومحاربتػػو وج ػػو‬
‫( ٔ)‬ ‫ٍ‬
‫وحينئذ ال نقوى عميو"‪.‬‬ ‫ىجومو إلينا‬

‫‪ - 5‬النسوية‪:‬‬

‫حيث يبدي جورجي زيداف نظرة صبلح الديف لمنساء‪ ،‬فيي نظرة حسية جسدية تحمؿ بعداً‬
‫( ٕ)‬
‫وقػػد حصػػر‬ ‫جنسػياً‪ ،‬فعنػػدما سػألو أبػػوه‪ :‬ىػػؿ تعػرؼ الفتػػاة؟ قػاؿ‪" :‬قيػػؿ لػػي أنيػا بارعػػة الجمػاؿ"‪.‬‬
‫الكاتػب بػػذلؾ اىتمػػاـ صػػبلح الػػديف ‪-‬بالنسػبة لمنسػػاء ‪ -‬بجانػػب الجمػػاؿ فقػػط‪ ،‬دوف أف يظيػػر أي‬
‫اىتماـ بالجوانب األخرى الدينية أو األخبلقية‪ ،‬وبالتأكيد ىذا الكبلـ ال يتماشى مع ما ذكرتو كتب‬
‫التاريخ عف ىذا القائد التقي الورع المجاىد‪.‬‬

‫ويبػدو مػػف خػػبلؿ كػػؿ مػػا سػػبؽ‪ ،‬أف شخصػػية صػػبلح الػػديف فػػي الروايػػة ال تمثػػؿ أي رمػ ٍػز‬
‫ال لموصولية واالستغبلؿ والكذب واالدعاء باإلضافة إلى‬
‫لمبطولة‪ ،‬بؿ عمى العكس‪ ،‬فقد كانت مثا ً‬
‫التسرع والسذاجة والنسوية‪ .‬وتمثمت البطولة الحقيقية في شخصية خيالية‪ ،‬وىػي شخصػية "عمػاد‬
‫الػديف" الػذي يحمػؿ صػفات الخيػر والشػجاعة والتضػػحية‪ ،‬ذلػؾ الجنػدي الػذي يضػحي بحياتػو مػػف‬
‫أجػػؿ قائ ػػده‪ ،‬وال يستس ػػمـ ألي إغ ػراء بالحي ػػاة اآلمن ػػة اليانئػػة المس ػػتق ةر م ػػع أمي ػ ةر مث ػػؿ س ػػيدة المم ػػؾ‬
‫عنػدما صػارحتو بحبيػا وعرضػت عميػو الػزواج بيػا( ٖ)‪ ،‬إال أنػو رفػض ذلػؾ مقػدماً واجبػو تجػاه قائػده‬
‫"صبلح الديف" عمى أي اعتبار آخر‪ ،‬واستمر في إخبلصو لو حتى نياية الرواية‪.‬‬

‫وىكػػذا تػػأتي الروايػػة خبػ ػ اًر عػػف شخصػػية خياليػػة‪ ،‬ى ػػي شخصػػية "عمػػاد الػػديف"‪ ،‬وشخص ػػية‬
‫تاريخي ػػة ى ػػي شخص ػػية "س ػػيدة المم ػػؾ" والت ػػي ل ػػـ يوف ػػؽ "ج ػػورجي زي ػػداف" ف ػػي اختيارى ػػا‪ ،‬فق ػػد وجػ ػػد‬
‫أ‪ .‬شػوقي أبػو خميػػؿ صػاحب كتػاب (جػػورجي زيػداف فػي المي ػزاف) أف فػي ىػذه الروايػػة خطػأ فػػادح‬
‫بل فػػي‬
‫ال فػي خيػػاؿ ودج ػ ً‬
‫يكفػي لنقضػػيا وتػػدميرىا مػف أرومتيػػا‪ ،‬ومػػف أسػػاس فكرتيػا‪ ،‬ويجعميػػا خيػػا ً‬
‫دجػػؿ‪ ،‬مػػع تشػػويو ل ػػبعض الحقػػائؽ التاريخيػػة وى ػػذا الخطػػأ التػػاريخي يتمث ػػؿ فػػي شخصػػية (س ػػيدة‬
‫الممػػؾ) التػػي جعميػػا المؤل ػػؼ عمػػوداً فقري ػاً لمرواي ػػة ولمقصػػة الغراميػػة بالتحدي ػػد‪ ،‬وقػػد وصػػفيا بأني ػػا‬
‫أخت الخميفة الفػاطمي العاضػد‪ ،‬مػع أنيػا كانػت أخػت الحػاكـ بػأمر اهلل الفػاطمي صػاحب مصػر‪،‬‬
‫وال ػػذي سػ ػػبؽ العاض ػػد بمػ ػػا يزيػ ػػد ع ػػف قػ ػػرف ونص ػػؼ مػ ػػف الزمػ ػػاف‪ .‬وق ػػد توفيػ ػػت س ػػيدة الممػ ػػؾ سػ ػػنة‬

‫)ٔ( صبلح الديف األيوبي‪ ،‬ص‪ٜٔٙ‬‬


‫)ٕ( صبلح الديف األيوبي‪ ،‬ص‪ٕٔٚ‬‬
‫)ٖ( انظر‪ ،‬صبلح الديف األيوبي‪ ،‬صٕٗٔ ‪ٔٗٚ -‬‬

‫‪41‬‬
‫٘ٔٗىػػ‪ٕٔٓٗ/‬ـ أي قبػػؿ قيػػاـ دولػة األيػػوبييف بك ثيػػر‪ ،‬وقبػؿ العاضػػد بكثيػػر‪ ،‬فالعاضػد خمػػع سػػنة‬
‫‪ ٘ٙٚ‬ىػ‪ .‬فسيدة الممؾ ليست أخت العاضد‪ ،‬لقد كانت عظاميا رميمًا قبؿ العاضد بقرف ونصػؼ‪.‬‬
‫دؿ فإنما ُّ‬
‫يدؿ عمى عدـ دقة "زيداف"‬ ‫فكيؼ نسجت الرواية عمى ىذا الخطأ التاريخي؟‪ )ٔ (.‬وىذا إف َّ‬
‫في تعاممو مع شخصيات التاريخ اإلسبلمي‪ ،‬باإلضافة إلى ابتعاده عف الموضوعية والصدؽ في‬
‫تناولو لؤلحداث التاريخية‪.‬‬

‫أمػػا لغ ػػة الروايػػة فإن ػػو يغمػػب عميي ػػا سػػيط ةر األس ػػموب السػػردي التقري ػػري المتػػأثر باألس ػػموب‬
‫الصحفي‪ ،‬إضافة إلى ما تتصؼ بو ىذه المغة مف اليسر والسيولة والوضوح فػي العػرض‪ ،‬بعيػداً‬
‫عػف سػيطرة البػديع الػذي كػاف شػائعاً فػي نثػر ذلػؾ الزمػاف‪ .‬وقػد أكثػر جػورجي زيػداف مػف الوصػػؼ‬
‫داع‪ ،‬مثػؿ المبالغػة فػػي‬
‫فػي الفصػوؿ األولػى مػف الروايػة ممػػا أسػيـ فػي تبطئػة السػرد بمػػا لػيس لػو ٍ‬
‫وصػ ػػؼ القصػ ػػور‪ ،‬ووصػ ػػؼ موكػ ػػب الخميفػ ػػة العاض ػ ػػد وفرسػ ػػو وعمامتػ ػػو‪ ،‬وموكػ ػػب صػ ػػبلح ال ػ ػػديف‬
‫( ٕ)‬
‫ومف الجدير بالذكر إف الوصػؼ المكػاني عنػد زيػداف كػاف وصػفًا جغرافيػًا‬ ‫واألماكف بشكؿ عاـ‪.‬‬
‫عاماً ال يسيـ في تطور األحداث‪ ،‬وال يعكس الحالة النفسية لمشخصيات الروائية كالػذي نػراه فػي‬
‫الرواية التاريخية الجديدة عند جماؿ الغيطاني وأحمد رفيؽ عوض وغيرىـ‪.‬‬

‫وقػػد كانػػت لغػػة الحػ ػوار فصػػيحة مبسػػطة كمغ ػػة السػػرد والوصػػؼ‪ ،‬ول ػػـ ييػػبط بػػالحوار إل ػػى‬
‫العامية أو االبتذاؿ‪ .‬إال أف ىذا الحوار لػـ يعبػر عػف شخصػيات أصػحابو‪ ،‬ولػـ يتعمػؽ نفسػياتيـ‪،‬‬
‫ولـ يسيـ في تحميميا والكشؼ عف بواطنيا‪ ،‬فكاف بذلؾ سطحياً وعاماً‪.‬‬

‫وقد اعتمد جورجي زيداف في روايتو عمى تقنية الرؤية مف الخمؼ واستخداـ ضمير الغائب‬
‫بشكؿ عاـ‪ ،‬فيو عمى عمـ ومعرفة بكافة أحداث الرواية وتفاصيميا‪ ،‬وصفات شخصياتيا الظاى ةر‬
‫والباطنػة‪ ،‬وتاريخيػػا وحاضػػرىا ومسػتقبميا‪ ،‬ولػػذلؾ ن ػراه يكثػر مػػف التػػدخؿ والتعميػؽ عمػػى األحػػداث‬
‫والشخصيات‪ ،‬وابداء وجية نظره فييا‪ ،‬مثؿ قولو‪" :‬والدولة فػي أواخػر أياميػا تػروج فييػا السفاسػؼ‬
‫والمظػاىر‪ ،‬ويتعمػػؽ أصػحابيا باألوىػػاـ دوف الحقػػائؽ‪ ،‬وبالقشػور دوف المبػػاب‪ ...‬فيصػبح أكثػػر مػػا‬
‫( ٖ)‬
‫وأيضًا قولو‪" :‬والمرء إذا رغب في شيء واف كػاف بعيػدًا عنػو‪ ،‬فػإف‬ ‫يعوؿ الناس عمى المظاىر"‬
‫( ٗ)‬
‫وكذلؾ قولو‪ " :‬وليس مف شيء كالسخاء يحبػب صػاحبو إلػى النػاس‬ ‫رغبتو فيو تريو إياه قريباً"‬

‫)ٔ( انظر‪ ،‬جرجي زيداف في الميزاف‪ ،‬صٕٔ٘ ‪ٕٕ٘ -‬‬


‫)ٕ( صبلح الديف األيوبي‪ ،‬صٗٔ ‪ٕٗ -‬‬
‫)ٖ( صبلح الديف األيوبي‪ ،‬ص‪ٙٙ‬‬
‫)ٗ( صبلح الديف األيوبي‪ ،‬صٕٕ٘‬

‫‪41‬‬
‫ميما يكف فيو مف العيوب ‪ ...‬ولو عمـ األغنياء ما يغطيو الكرـ مف عيوبيـ‪ ،‬لكرىوا البخؿ وبعدوا‬
‫( ٔ)‬
‫وغيػر ذلػػؾ‬ ‫عنػو‪ ،‬وكمػا يػػذىب الكػرـ بعيػوب األغنيػػاء‪ ،‬فالبخػؿ يمصػؽ بيػػـ عيوبػًا ليسػت فػػييـ"‬
‫كثير‪ ،‬فما فائدة ىذه المداخبلت في البناء الفني لمرواية ؟ إف مثؿ ىذه المػداخبلت تضػعؼ البنػاء‬
‫الفنػي‪ ،‬وتقمػػؿ مػػف تػػرابط األحػػداث وتماسػػكيا‪ ،‬وال قيمػػة ليػػا إال إذا كانػػت بغػػرض التعمػػيـ واظيػػار‬
‫المعرفة والثقافة بأحواؿ الناس وعاداتيـ‪ .‬وقد تجاوزت كؿ مف الرواية التاريخيػة الواقعيػة والجديػدة‬
‫مثػػؿ ىػػذه العيػػوب الفنيػػة‪ ،‬فط ػػورت مػػف أسػػاليب وتقنيػػات السػػرد الروائ ػػي ولػػـ تكتػػؼ بسػػارد واح ػ ٍػد‬
‫لؤلح ػػداث‪ ،‬ب ػػؿ م نحػ ػػت الشخص ػػيات الحريػ ػػة ف ػػي التعبي ػػر عػ ػػف نفس ػػيا وابتعػ ػػدت ع ػػف المػ ػػداخبلت‬
‫والتعميقات غير المفيدة في العمؿ الروائي‪.‬‬

‫ويكثػػر ج ػػورجي زي ػػداف فػػي روايت ػػو ك ػػذلؾ مػػف االعتم ػػاد عم ػػى المصػػادفات الت ػػي تس ػػيـ ف ػػي‬
‫ُ‬
‫تطور األحداث وربطيا واتساعيا‪ ،‬ىذه المصادفات التي رفضتيا فيمػا بعػد الروايػة الفنيػة الواقعيػة‬
‫العمية أو السببية في تطور أحداثيا‪ ،‬كما أنكرتيا الرواية الجديدة التي تقدر‬ ‫التي تعتمد عمى مبدأ ّْ‬
‫القػارئ وتحترمػو وال تسػعى إلػى تصػغي هر بمثػؿ ىػذه األسػاليب التقميديػة‪ .‬وقػد انتشػرت المصػػادفات‬
‫في أعماؿ جورجي زيداف التاريخية‪ ،‬ومف أمثمتيا في رواية صبلح الديف األيػوبي تمػؾ المصػادفة‬
‫التػػي أوجػػدىا الكاتػػب عنػػدما رغبػػت "سػػيدة الممػػؾ" فػػي رؤيػػة محبوبيػػا "عمػػاد الػػديف" مػػع اس ػػتحالة‬
‫ذلػؾ‪ ،‬فػػإذا بسػرداب تحػػت األرض يمتػد مػػف مكػاف قريػػب مػف مقػػر إقامػة "عمػػاد الػديف" إلػػى غرفػػة‬
‫( ٕ)‬
‫وكػذلؾ المصػػادفة فػي تمكػػف "أبػي الحسػػف"‬ ‫قريبػة مػػف مخػدع "سػػيدة الممػؾ" يمكنيمػػا مػف المقػػاء‪.‬‬
‫مػف الف ػرار مػػف قبضػة جنػػود "صػػبلح الػديف" الػػذيف ىجم ػوا عميػو وعمػػى المتػػآمريف فػي الػػدار التػػي‬
‫كػانوا مجتمعػيف فييػػا‪ ،‬وقػد تػـ القػػبض عمػى جميػع المتػػآمريف‪ ،‬ولػـ يػتمكف أحػػد مػف الفػرار إال "أبػػو‬
‫( ٖ)‬
‫والمصػػادفة‬ ‫الحسػف" دوف أف يتطػػرؽ الكاتػب لػػذكر طريقػة ىروبػػو وفػ ار هر رغػػـ الحصػار الشػػديد‪.‬‬
‫أيضػ ػاً ف ػػي مقابم ػػة "عم ػػاد ال ػػديف" ل ػ ػ "س ػػيدة المم ػػؾ" وانق ػػاذه لي ػػا م ػػف الخط ػػؼ عم ػػى ي ػػد المصػ ػػوص‪،‬‬
‫( ٗ)‬
‫ثػـ المصػػادفة‬ ‫واعطائػو إياىػا خصػػمة الشػعر التػي توقػػع أف تكػوف ليػا وصػػدؽ حدسػو فػي ذلػػؾ‪.‬‬
‫العجيب ة التي تجمع في نياية القصة بيف "عماد الديف" و"أبي الحسف" عند "راشد بف سناف" زعيـ‬
‫الحشاشيف والذي كاف صديقاً قديمًا لػ "أبي الحسف"‪ ،‬والذي يكمؼ "عماد الديف" بقتؿ "أبي الحسف"‬
‫واالستيبلء عمى أموالو والمرأة المصاحبة لو لوجود خبلؼ بينيما‪ ،‬ويتمكف "عماد الديف" فعبلً مػف‬

‫)ٔ( صبلح الديف األيوبي‪ ،‬ص‪ٕٙٙ‬‬


‫)ٕ( صبلح الديف األيوبي‪ ،‬صٖٔٔ ‪ٖٜٔ -‬‬
‫)ٖ( صبلح الديف األيوبي‪ ،‬صٕٗٗ‬
‫)ٗ( صبلح الديف األيوبي‪ ،‬ص ٗ٘ ‪٘ٙ -‬‬

‫‪42‬‬
‫قتمػو ويػتخمص مػف شػػرو هر إلػى األبػد‪ ،‬وتكػػوف ىنػا المفاجػأة الكبػرى عنػػدما يكتشػؼ أف المػرأة التػػي‬
‫كانػػت معػػو ىػػي نفسػػيا "سػػيدة الممػػؾ" التػػي تمك ػػف "أبػػو الحسػػف" مػػف اختطافيػػا بػػالرغـ مػػف حماي ػػة‬
‫( ٔ)‬
‫وىكذا تؤثر‬ ‫"صبلح الديف" ليا‪ ،‬فينقذىا "عماد الديف" ويعود بيا إلى مصر حيث يتـ زواجيما‪.‬‬
‫المصادفات سمباً عمى البناء الفني لمعمؿ الروائي‪ ،‬فتقتؿ صػدقو الفنػي والتػاريخي‪ ،‬وتصػيبو بػداء‬
‫التفكؾ‪ ،‬وعدـ القدرة عمى إقناع القارئ أو الحصوؿ عمى تقديره‪.‬‬

‫وم ػػف خ ػػبلؿ م ػػا تق ػػدـ‪ ،‬يمك ػػف الق ػػوؿ إف مض ػػموف رواي ػػات ج ػػورجي زي ػػداف ال يعم ػػـ الت ػػاريخ‬
‫اإلسػػبلمي بق ػػدر مػػا يس ػػيء إليػػو‪ ،‬في ػػو يحمػػؿ ف ػػي طياتػػو الكثي ػػر مػػف التزيي ػػؼ والكػػذب والتش ػػكيؾ‬
‫والتشػويو ألحداثػو وشخوصػو‪ ،‬ومػا ذكػر المصػػادر والم ارجػع إال لمتمويػو‪ ،‬واييػاـ القػارئ بصػدؽ مػػا‬
‫يقػوؿ‪ .‬وكػػاف لػذلؾ مػػردوده السػيء الػػذي أسػيـ فػػي ضػعؼ البنػػاء الفنػي لرواياتػػو التاريخيػة بشػػكؿ‬
‫عاـ‪.‬‬

‫وفػي النيايػػة‪ ،‬ميمػا تكػػف المآخػذ التػػي تسػجؿ عمػػى روايػات جػػورجي زيػداف فػػبل شػؾ أف لػػو‬
‫إسػياماً كبيػ اًر وواضػحاً فػػي إرسػاء قواعػد ىػذا الفػػف الروائػي‪ ،‬فقػد انتشػرت أعمالػػو‪ ،‬وامتػد تػأثي هر فػػي‬
‫الكتػػاب عمػػى المبػػادئ الفنيػػة نفسػػيا‪ ،‬الت ػػي‬
‫الروايػػة التاريخيػػة العربيػػة المعاص ػرة‪ ،‬إذ اعتمػػد معظ ػػـ ُ‬
‫نادى بيا زيداف خاصة في مجاؿ العقدة الغرامية التي جعميػا عنصػ ًار رئيسػًا فػي تطػور األحػداث‪،‬‬
‫والت ػػي اس ػػتمر ظيورىػ ػػا حت ػػى عن ػػد نجيػ ػػب محف ػػوظ وعم ػػي أحمػ ػػد ب ػػاكثير رغ ػػـ اخػ ػػتبلفيـ مع ػػو فػ ػػي‬
‫توجيػػاتيـ الموضػػوعية ورؤاىػػـ الفكري ػػة‪ ،‬وىػػو كػػذلؾ أفض ػػؿ بكثيػػر ممػػف س ػػبقو فػػي مجػػاؿ الرواي ػػة‬
‫التاريخيػػة م ػػف الناحيػػة الفني ػػة‪ ،‬ولػػو أن ػػو أحسػػف اختي ػػار موضػػوعاتو ومض ػػامينو الروائيػػة‪ ،‬وتن ػػاوؿ‬
‫التػػاريخ اإلسػػبلمي بشػػكؿ أدبػػي فنػػي صػػادؽ –كم ػػا ألػػزـ نفسػػو – دوف تشػػويو أو بتػػر‪ ،‬لكػػاف حال ػػو‬
‫أفضؿ بكثير‪ ،‬ولما تعرض ليذا اليجوـ الشرس‪.‬‬

‫)ٔ( صبلح الديف األيوبي‪ ،‬ص ٖٖٗ‬

‫‪43‬‬
‫المبحث الثالث‬

‫تحوالت الرواية التاريخية عند محمد فريد أبو حديد‬

‫ُّ‬
‫يعد محمد فريد أبو حديد أحد رواد كتابة الرواية التاريخية في مصر والعالـ العربي‪ ،‬سػاىـ‬
‫بشػكؿ ممحػػوظ فػػي تطػػور ىػػذا الفػػف الروائػػي بتوجييػػو وجيػػة خاصػػة‪ ،‬تجػػاوز بيػػا مرحمػػة جػػورجي‬
‫زي ػػداف ش ػػكبلً ومضػ ػػموناً‪ ،‬وق ػػد تمثم ػػت ىػ ػػذه التحػ ػوالت ف ػػي حسػ ػػف اختي ػػا هر وتوظيف ػػو لمموضػ ػػوعات‬
‫عاؿ ألمتو‪ ،‬فقد عمؿ عمى إعػادة‬ ‫إحساس قومي وانتماء ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الروائية‪ ،‬التي كشفت عما يتمتع بو مف‬
‫إحياء التاريخ والتراث العربي‪ ،‬وأنتج مجموعة مف الروايػات التاريخيػة يػدور معظميػا حػوؿ الحيػاة‬
‫العربيػػة القديمػػة فػػي العص ػػر الجػػاىمي مثػػؿ روا يػػة (زنوبي ػػا)‪ ،‬و(الممػػؾ الضػػميؿ)‪ ،‬و(الميميػػؿ س ػػيد‬
‫ربيعػة)‪ ،‬و(أبػو الف ػوارس عنتػرة)‪ ،‬و(الوعػػاء المرمػري)‪ .‬وتقػدي اًر لجيػػوده األدبيػة حصػػؿ عمػى جػػائزة‬
‫الدولػػة التقديري ػػة فػػي اآلداب ع ػػاـ ٖ‪ٜٔٙ‬ـ‪ .‬ويمكػػف رص ػػد ىػػذه التحػ ػوالت فػػي نق ػػاط محػػددة ى ػػي‪:‬‬
‫(االنتقاؿ مف التاريخية التقميدية إلى التاريخية الواقعية‪ ،‬والعنايػة بالبعػد الػوطني والقػومي‪ ،‬إضػافة‬
‫إلى البعد المأساوي) وىي تحوالت ذات مغزى في ىذه الفت ةر المبكرة‪.‬‬

‫مثػَّػؿ أبػػو حديػػد نموذجػ ػاً لموسػػطية بػػيف الروايػػة التاريخي ػػة التقميديػػة والروايػػة التاريخي ػػة ذات‬
‫االتجاه الواقعي‪ ،‬ولعؿ ذلؾ كاف مف أكبر التحوالت التي طػرأت عمػى الروايػة التاريخيػة فػي الفتػ ةر‬
‫التي تمت جورجي زيداف‪ ،‬والتي ستتضح مف خػبلؿ تحميمنػا لروايػة (الميميػؿ سػيد ربيعػة)‪ .‬ويؤكػد‬
‫د‪ .‬ج ػػابر عص ػػفور ذل ػػؾ بقول ػػو‪" :‬إف أب ػػا حدي ػػد ق ػػد اى ػػتـ بالرواي ػػة اىتمامػ ػاً خاصػ ػاً‪ ،‬لكن ػػو ظ ػػؿ فػ ػػي‬
‫المنطقػػة اليادئػػة م ػػف الفكػػر واإلب ػػداع‪ ،‬تمػػؾ المنطق ػػة التػػي ال تع ػػرؼ الحديػػة ف ػػي رفػػض الق ػػديـ أو‬
‫الجذريػػة ف ػػي التجدي ػػد‪ ،‬فك ػػاف نموذجػ ػاً لموس ػػطية الت ػػي ال تثي ػػر العواص ػػؼ‪ ،‬وال تي ػ ّْػيج البػ ػراكيف‪ ،‬وال‬
‫تتحوؿ إلى زلػزاؿ‪ ،‬وانمػا تمضػي فػي يسػر إلػى ىػدفيا الػذي يكمػؿ ميمػة غيرىػا‪ ،‬ويضػيؼ إلػى مػا‬
‫( ٔ)‬
‫سبؽ عمى سبيؿ التراكـ الكمي"‪.‬‬

‫ولقد تأثر أبو حديد في اتجاىو نحو التاريخ بروايات والتػر سػكوت التاريخيػة التػي أعجػب‬
‫بيػػا وقػ ػ أر معظميػػا‪ ،‬إض ػػافة إل ػػى تػػأث هر الع ػػاطفي الكبيػػر بمآس ػػي شكس ػػبير التاريخيػػة‪ ،‬ويظي ػػر ذل ػػؾ‬
‫بالتحديد في روايتي (الممؾ الضميؿ) و(الميميؿ سيد ربيعة) حيث إف شخصية البطؿ في كمتييما‬

‫)ٔ( محمد فريد أبو حديد وذكرى رائد منسي (بحث)‪ ،‬ص‪ٛٛ‬‬

‫‪44‬‬
‫ذات طبيعػة تراجيديػػة‪ ،‬بمعنػػى إنػػو يحمػػؿ فػػي نفسػػو نقص ػاً أو عيب ػاً يػػؤدي إلػػى سػػقوطو فيمػػا بعػػد‬
‫( ٔ)‬
‫ويتسبب في مأساتو‪.‬‬

‫كاف أبو حديػد يتحػرؾ مػف موقػؼ المعجػب بالشخصػية التاريخيػة (مفيػوـ البطولػة الفرديػة)‬
‫فػي الغالػػب‪ .‬وىػذا ال يمنػػع أنػػو تطػور بنظرتػػو الحقػاً‪ ،‬فكتػػب فػػي آخػر نتاجػػو روايػة (أنػػا الشػػعب)‬
‫وبيذا تغير مفيومو عف التاريخ‪ ،‬إ نو ليس مف صنع البطوالت الفردية بقدر ما ىو جيد الشعوب‬
‫( ٕ)‬
‫وسعييا‪.‬‬

‫ويرى أبو حديد أف كؿ رواية تاريخية تعبر عف النفس البشرية الخالدة‪ ،‬التي استمرت فػي‬
‫الماضػي وال ت ػزاؿ مسػػتم ةر فػي الحاضػػر‪ ،‬وستسػػتمر فػي كػػؿ وقػػت‪ ،‬فقػد تختمػػؼ الوجػػوه والمبلبػػس‬
‫والعقائد والعادات ولكف النفس ال بشرية واحدة في كؿ زماف ومكػاف‪ .‬وىػو فػي رواياتػو يحػافظ عمػى‬
‫الحقػائؽ والوقػػائع الثابتػػة تاريخي ػاً‪ ،‬ويجتيػػد فػػي تفسػيرىا وتأويميػػا بمػػا يتفػػؽ مػػع منطقيػػة الظػػروؼ‬
‫والشخصيات‪ )ٖ (.‬فيزاوج بيف الصدؽ التاريخي‪ ،‬والصدؽ الفني الروائي‪.‬‬

‫استمد محمد فريد أبو حديد المادة األساسية لرواياتو التاريخية مف العصر الجػاىمي غالبػًا‪،‬‬
‫حيػث صػػور الحيػاة العربيػػة فػي ذلػػؾ الوقػت بكػػؿ أبعادىػا وتفاصػػمييا‪ ،‬مػف عػػادات وتقاليػد‪ ،‬وسػػمـ‬
‫وحرب‪ ،‬واقامة وظعف‪ ،‬تصوي اًر يكشؼ عف انتمائو القومي واعت از هز بتراثو العربي‪ ،‬فػي شػكؿ فنػي‬
‫جميػؿ ومشػػوؽ وىػادؼ فػػي الوقػػت ذاتػو‪ .‬كيػػؼ ال وىػو األديػػب صػػاحب الروايػة التاريخيػػة‪ ،‬التػػي‬
‫يوضح فييا عف طريؽ أبطالو المبادئ السامية‪ ،‬والقيـ النبيمة‪ ،‬واألخبلؽ الرفيعػة؛ لتكػوف نموذجػًا‬
‫يقتدي بو الناس في حياتيـ‪.‬‬

‫تأثر الكاتب بالمسػرحية وفنيػا تػأث ًار قويػًا‪ ،‬حيػث يظيػر ىػذا فػي عرضػو لمموضػوع وتطػوره‪،‬‬
‫ػادة‬
‫وفػي تعقيػػده وحمػػو‪ ،‬وفػػي تحميػؿ الشخصػػيات‪ ،‬خاصػػة شخصػػية البطػؿ‪ .‬فيػػو يبػػدأ قصصػػو عػ ً‬
‫بعػرض ب ػوادر األزمػة أو المشػػكمة المتعمقػة باألحػػداث أو الشخصػيات فػػي الفصػوؿ األولػػى‪ ،‬وفػػي‬
‫الفصػػوؿ التالي ػػة يأخ ػػذ الح ػػدث فػػي التص ػػاعد م ػػف خ ػػبلؿ عنصػػري الزم ػػاف والمك ػػاف‪ ،‬وم ػػف خ ػػبلؿ‬
‫التوظيػؼ الفنػػي لمشخصػية التػػي يصػورىا فػػي إطػار الظػػروؼ البيئيػة المحيطػػة بيػا‪ ،‬ومػػف خػػبلؿ‬
‫صػ ػراعيا النفس ػػي ال ػػداخمي‪ ،‬وصػ ػراعيا م ػػع بقيػ ػػة الشخص ػػيات‪ ،‬حت ػػى تص ػػؿ القص ػػة إل ػػى ذروتيػ ػػا‬

‫)ٔ( انظر‪ ،‬عشرة أدباء يتحدثوف‪ ،‬ص٘‪ٔٛ‬‬


‫)ٕ( انظر‪ ،‬الواقعية في الرواية العربية‪ ،‬صٕ٘ٔ‬
‫)ٖ( عشرة أدباء يتحدثوف‪ ،‬ص‪ٔٛٙ‬‬

‫‪45‬‬
‫وتشػػرؼ عمػػى نيايتيػػا والتػػي تتمثػػؿ غالب ػاً بمػػوت الشخصػػية الرئيسػػة‪ ،‬لتشػػبو بػػذلؾ بطػػؿ المأسػػاة‬
‫اإلغريقية واإلنجميزية‪.‬‬

‫جمػع أبػػو حديػػد بػػيف الناحيػة األدبيػػة والناحيػػة التاريخيػػة‪ ،‬وممػا سػػاعده عمػػى ذلػػؾ اطبلعػػو‬
‫عمػى االتجاىػات الحديثػػة فػي القصػة والنقػػد القصصػي الغربػػي‪ ،‬ثػـ تػأث هر بالنزعػػة العامػة لمعصػػر‪،‬‬
‫ػاء حػػديثاً‪" .‬وقػػد اتضػػحت ىػػذه‬
‫تمػؾ النزعػػة التػػي تسػػعى إلػػى إحيػػاء الت ػراث العربػي اإلسػػبلمي إحيػ ً‬
‫الجوانػب فيمػا أنػػتج مػف آثػار عػػف شكسػبير‪ ،‬ود ارسػتو فػػي تػاريخ العصػور الوسػػطى‪ ،‬وسػي ةر السػػيد‬
‫عمػر مكػرـ‪ ،‬وصػبلح الػػديف وعصػره‪ ،‬وترجمتػو لكتػػاب فػتح العػرب لمصػػر أللفػرد دبتمػر‪ ،‬وتجاربػػو‬
‫( ٔ)‬
‫المسرحية األولى‪ :‬ميسوف الغجرية‪ ،‬ومذكرات المرحوـ محمد"‪.‬‬

‫لقد تطورت الرواية التاريخية بعػد الحػرب العالميػة األولػى تطػو ًار ممحوظػًا‪ ،‬وكػاف أبػو حديػد‬
‫"أوؿ مػف أوفػػى بالروا يػة التاريخيػػة عمػػى الغايػة مػػف الكمػػاؿ الفنػي فػػي روايتػػو (زنوبيػا) وقػػد أتبعيػػا‬
‫بقصصػو األخػرى‪ ،‬وىػو فػي قصصػو جميعػاً يػػتقف البنػاء القصصػي‪ ،‬ورسػـ شخوصػو والنفػوذ إلػػى‬
‫( ٕ)‬
‫دخائميا وخباياىا النفسية"‪.‬‬

‫يػرى د‪ .‬أحمػػد ىيكػػؿ أف أب ػا حديػػد يمثػػؿ خطػػوة نحػػو الروايػػة التاريخيػػة القوميػػة فػػي روايتػػو‬
‫(اب ن ػػة الممم ػػوؾ) الص ػػاد ةر س ػػنة ‪ٜٕٔٙ‬ـ‪ ،‬الت ػػي تتع ػػرض لفتػ ػ ةر م ػػف أى ػػـ فتػ ػرات الت ػػاريخ المصػ ػػري‬
‫الحديث وىي سيط ةر (محمد عمي) عمى السمطة‪ ،‬وتآم هر ومكػ هر وخداعػو لممصػرييف لموصػوؿ إلػى‬
‫الحكػػـ مػػف خػػبلؿ القضػػاء عمػػى سػػيط ةر المماليػػؾ‪ .‬يقػػوؿ‪" :‬وقػػد اعتبػػرت ىػػذه الروايػػة خطػػوة نح ػػو‬
‫الرواية التاريخية القومية‪ ،‬ألنيا في الواقع اىتمت بتعميـ التاريخ كروايات جػورجي زيػداف‪ ،‬ولكنيػا‬
‫تخؿ في الوقت نفسػو مػف اإلحسػاس القػومي واليػدؼ الػوطني‪ ،‬ولػو أنيػا خمصػت لمتعبيػر عػف‬ ‫لـ ُ‬
‫ىذا اإلحساس وخدمة ىذا اليدؼ‪ ،‬لكانت البداية الحقيقية لمرواية التاريخية القومية"‪ )ٖ (.‬والواقع إف‬
‫صفة التأكيد عمى اليوية الوطنية أو القومية‪ ،‬ىما األصؿ الذي يشترؾ فيو محمد فريد أبو حديد‬
‫( ٗ)‬
‫وأبناء جيمو‪.‬‬

‫وكما تطور مفيوـ القصػة لػدى الكاتػب‪ ،‬كػذلؾ تطػور فنػو القصصػي‪ ،‬فقػد أخػذ موضػوعات‬
‫ذات شي ةر في تاريخ العرب‪ ،‬ذكرت باختصار؛ ليتفنف في إحياء صورىا‪ ،‬عمى أف مػنيج الكاتػب‬

‫)ٔ( مقومات القصة العربية الحديثة في مصر‪ ،‬صٗٓٔ‬


‫)ٕ( األدب العربي المعاصر في مصر‪ ،‬صٕٔٔ‬
‫)ٖ( األدب القصصي والمسرحي في مصر‪ ،‬صٖٕٗ‬
‫)ٗ( انظر‪ ،‬محمد فريد أبو حديد وذكرى رائد منسي (بحث)‪ ،‬ص‪ٛٛ‬‬

‫‪46‬‬
‫الفني يجمع بيف النزعة التحميمية التي تستعيف بالوصؼ لتستكمؿ الصو ةر ألوانيا‪ ،‬فيو يسعى إلى‬
‫بل موضوعيًا‪ ،‬فػي إطػار فنػي رفيػع‪ ،‬وىػو يسػتفيد‬
‫إبراز عالـ متكامؿ في بيئتو وناسو وحوادثو تكام ً‬
‫مف عمـ النفس الحديث في تعمقو في التحميؿ‪ ،‬وتدسسػو وراء انفعػاالت الػنفس وعواطفيػا ودقػائؽ‬
‫( ٔ)‬
‫حياتيا في إطار القصة العاـ‪.‬‬

‫إف أىػػـ مػػا يميػػز روايػػات أبػػي حديػػد التاريخيػػة أف شخصػػياتيا ليسػػت مثاليػػة النزعػػة‪ ،‬فف ػػي‬
‫أعم ػػاؽ زنوبيػ ػػا تس ػػتقر الم ػ ػرأة إلػ ػػى جان ػػب الممكػ ػػة‪ ،‬واذا كػ ػػاف عنتػ ػرة فارس ػ ػًا فػ ػػإف في ػػو قسػ ػػوة وتيػ ػػو ًار‬
‫ولصوصية أيضاً‪ ،‬وكذلؾ كاف الميميؿ‪ .‬فالشخصية اإلنسانية ىنا تأخذ صورة واقعية مقبولة عمى‬
‫( ٕ)‬
‫ولػـ تعػد الشخصػية خيػ اًر مطمقػاً‪ ،‬وال شػ اًر مسػتطي ًار‪ ،‬فقػد‬ ‫الرغـ مف إسباغ أثػواب البطولػة عمييػا‪.‬‬
‫أصبحت أكثر توازناً وواقعي ًة وتمثيبلً لطبيعة النفس البشرية التي ال تستقر عمػى حػاؿ واحػد‪ ،‬بػؿ‬
‫تميؿ إلى التغير والتطور حسب تغير الظػروؼ واألحػواؿ‪ .‬ولمكشػؼ عػف التحػوالت التػي حػدثت‪،‬‬
‫وتعزيػز مػا تقػػدـ ذكػره‪ ،‬أعػرض باختصػػار لمتحػوالت الموضػػوعية والفنيػة فػي روايػػة (الميميػؿ سػػيد‬
‫ربيعة) نموذجًا‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬التحوالت الموضوعية‪:‬‬

‫الموضػوع الػػرئيس ليػػذه الروايػة محاربػػة الظمػػـ واالسػتبداد‪ ،‬وقػػد ظيػػر فػي أكثػػر مػػف روايػػة‬
‫لمكاتب‪ ،‬وال شؾ أف طرحو ال يأتي مف قبيؿ الصدفة أو المتعة األدبية أو تعميـ التاريخ فقط‪ ،‬إنما‬
‫تكوف لو دوافع أخػرى قػد تػرتبط بػنفس الكاتػب المبػدع‪ ،‬أو بواقعػو االجتمػاعي الػذي يعيشػو‪ ،‬حتػى‬
‫ولو لـ يصرح الكاتب بذلؾ‪ ،‬فإف انتقػاء أي حػدث تػاريخي دوف األحػداث األخػرى بالتأكيػد يحمػؿ‬
‫دالالت ذات مغزى‪.‬‬

‫ومف المبلحظ أف حبكة الرواية وطريقة بنائيا تشبو المسرحية إلى حد كبيػر‪ ،‬حيػث يظيػر‬
‫ويس ػػود عنص ػػر الصػ ػراع م ػػف بدايػ ػػة الرواي ػػة حت ػػى نيايتي ػػا‪ ،‬فكميػ ػػب يب ػػدو ف ػػي أوؿ الرواي ػػة حزين ػ ػاً‬
‫وميمومػًا بسػػبب تحػػدي صػػيره جسػػاس لػػو‪ ،‬ومػػا يشػػيعو عنػػو فػػي ن ػوادي القػػوـ مػػف اسػػتبداد وظمػػـ‬
‫واستعباد لقبائؿ بكر‪ ،‬ثـ يظير الصراع واضحًا بيف كميب وجساس الذي يثور لكرامتو وعزة نفسو‬
‫فيقتػؿ كميبػاً مقابػؿ ناقػة خالتػو البسػوس التػي كانػت فػي جػواره‪ ،‬ثػـ يتحػوؿ ىػذا الصػراع بعػد مقتػػؿ‬
‫كميب‪ ،‬ليصبح صراعاً بيف بكر بقيادة ُم ةر والد جسػاس‪ ،‬وبػيف تغمػب بقيػادة الميميػؿ الػذي يطمػب‬

‫)ٔ( مقومات القصة العربية الحديثة في مصر‪ ،‬ص‪ٔٓٙ‬‬


‫)ٕ( انظر‪ ،‬الواقعية في الرواية العربية‪ ،‬ص‪ٕٓٓ- ٜٜٔ‬‬

‫‪47‬‬
‫ثأر أخيو كميب‪ ،‬ويستمر ىذا الصراع وما يجره مف حرب وويبلت زمناً طويبلً يعاني فيو جساس‬
‫وأىمو القتؿ والتشريد واليزائـ تمو اليزائـ مف مبلحقات الميميؿ وثاراتو ألخيو كميب‪ ،‬وال ينتيي إال‬
‫بيزيمة الميميؿ بسبب غموه وغطرستو ومبالغتو في طمب الثأر‪ ،‬ثـ موتو بعد ذلؾ أثناء األسر‪.‬‬

‫تتمثػؿ أبػػرز ا لتحػوالت الموضػػوعية عنػد أبػػي حديػد فػػي محاولػة إثػػا ةر قضػايا الواقػػع‪ ،‬األمػػر‬
‫الػذي نفتقػػده عنػد جػػورجي زيػداف‪ ،‬وال نقػػوؿ تصػوير الواقػػع‪ ،‬بػؿ التممػػيح إليػو بحػػذر وبشػكؿ غيػػر‬
‫مباشػر‪ ،‬مػف خػبلؿ الحػػديث عػف أثػر الظمػػـ‪ ،‬والػدعوة إلػى الثػػو ةر عمػى الظػالميف المسػػتبديف‪ ،‬إذ ال‬
‫ُيخف ػػي الكات ػػب إعجابػ ػػو بجس ػػاس الػ ػػذي ث ػػار لكرامتػ ػػو وعػ ػ ةز نفسػ ػػو‪ ،‬وتح ػػدى ظمػ ػػـ كمي ػػب وجبروتػ ػػو‬
‫واستبداده‪ ،‬وحرض الناس عمى الثورة عميو والتخمص مف استعباده وذلّْو‪ .‬والحوار اآلتي الذي دار‬
‫بيف ُكميب وجساس المتعمؽ بناقة البسوس يظير ذلؾ‪:‬‬

‫فكظـ كميب غيظو‪ ،‬وقاؿ متساىبلً‪" :‬لقد ىممت أف أقتميا‪ ،‬ولكف احذر أف تعود تمؾ الناقة‬
‫إلػى الرعػػي فػي مرعػػاي"‪ .‬فقػاؿ جسػػاس وقػػد ضػحؾ سػػاخ اًر‪" :‬مرعػاؾ! كأننػػا ال يحػؽ لنػػا أف نرعػػى‬
‫( ٔ)‬
‫إبمنا في ىذه األرض! إنما ىي أرض بكر كما ىي أرض تغمب‪ ،‬ولـ يورثيا لؾ أبوؾ ربيعة"‪.‬‬

‫ويقوؿ جساس في موقػؼ آخػر محػاو اًر شػيوخ القػوـ‪" :‬أمػا ليػذا اليػواف مػف آخػر؟‪ ..‬إنػي لػف‬
‫أصبر عمى ما تصبروف عميو‪ ،‬ىأنذا قد أنذرت ‪ ..‬أقوؿ إنني لف أصبر عمػى الضػيـ‪ ،‬ىػذا رجػؿ‬
‫يسومكـ الخسؼ وال تتحركوف لو‪ ،‬وقد وضعتـ أعناقكـ إليو ليطأىا بقدميو‪ ،‬ولكني لف أكوف معكـ‬
‫( ٕ)‬
‫في ذلؾ العار"‪.‬‬

‫إف جساس يقؼ ضد ما يعتبره ظمماً وطغياناً متمثبلً في سػيطرة ابػف عمػو كميػب عمػى كػؿ‬
‫شيء‪ ،‬إضافة إلى منعو لآلخريف الذيف ىـ أصحاب األرض أيضًا مف التنعـ بخيراتيا‪ .‬وكأف في‬
‫ذلػػؾ تمميح ػًا –واف كػػاف غي ػػر مباشػ ٍػر – لحػػاؿ مصػػر زم ػػف كتابػػة الروايػػة عػػاـ ٗٗ‪ٜٔ‬ـ‪ ،‬حي ػػث إف‬
‫الشعب المصري كاف يحرـ مف خيرات ببلده وثرواتيا‪ ،‬وكاف يعيش عذابات الكدح والحرماف بيف‬
‫قصر الممؾ الظالـ والضعيؼ مف جيػة‪ ،‬وبػيف االحػتبلؿ اإلنجميػزي البغػيض والمسػتغؿ مػف جيػة‬
‫أخرى‪ .‬وكأف ىذا الحوار البسيط يحمؿ في طياتو دعوة لمشعب المصري إلػى الثػو ةر عمػى الظمػـ‪،‬‬
‫ظمـ الممؾ المستبد‪ ،‬وظمـ االحتبلؿ الذي يستعبد الناس ويستغؿ ببلدىـ‪ ،‬وكأف الكاتػب يقػوؿ إف‬
‫جساس ذلؾ ا لعربي البسيط لـ يقبؿ الغطرسة والظمـ مف قريبو وابف عمو‪ ،‬فكيؼ نرضاه نحف مف‬

‫)ٔ( الميميؿ سيد ربيعة (رواية)‪ ،‬صٖٕ‬


‫)ٕ( الميميؿ سيد ربيعة‪ ،‬ص‪ٕٜ – ٕٛ‬‬

‫‪48‬‬
‫غريب ليس مػف بنػي جمػدتنا سػواء كػاف َممِ َكػاً أو ُمحػتبلً‪ .‬ثػـ إف بعػد مقتػؿ كميػب‪ ،‬اسػتخدـ الكاتػب‬
‫عمى لساف أبنػاء بكػر كممػة (الطاغيػة) بكثػرة‪ ،‬حيػث نبلحػظ تكرارىػا فػي كثيػر مػف العبػارات مثػؿ‪:‬‬
‫"كػاف كميػب طاغيػة ‪ ..‬قػوـ الطاغيػة الظػالـ ‪ ..‬قُِتػػؿ الطاغيػة ‪ ..‬فمػا كانػت بكػر ليخفػر جوارىػػا أو‬
‫تستكيف لمطاغية ‪ ..‬لقد ىمؾ الطاغية"( ٔ) ولعؿ في كؿ ذلؾ داللة واضحة عمى ك هر الكاتب لمظمػـ‬
‫والطغيػاف ودعوتػو لرفضػو والثػو ةر عميػو‪ .‬وىػذا يؤكػد االتجػاه الػوطني والقػومي (التحػوالت الواقعيػة)‬
‫ظؿ مموىاً غير واضح المعالـ لـ يكتمؿ ولـ ينضج بعد ليشكؿ‬ ‫عند أ بي حديد‪ ،‬ىذا االتجاه الذي َّ‬
‫ظاىرة تحتؾ بالواقع احتكاكاً واضحاً وتناقش قضاياه وتعكسيا بشكؿ مباشر‪.‬‬

‫ويصؼ الكاتب تفرؽ تغمب بعد مقتؿ كميب‪ ،‬وعدـ إجماعيـ عمى زعيـ يمػـ الشػمؿ ويوحػد‬
‫الص ػػؼ‪ ،‬مب ػػر اًر ذلػ ػػؾ بم ػػا ك ػػاف يفعػ ػػؿ وائ ػػؿ (كمي ػػب) حيػ ػػث "ك ػػاف وائ ػػؿ مسػ ػػتأث اًر بالزعام ػػة والقيػ ػػادة‬
‫ال إلػى جػواره‪ .‬كانػت تغمػب كميػا رعيػة لػو تطيػع إذا أمػر‪ ،‬وتسػير إذا‬
‫والبطولػة‪ ،‬فمػـ يػدع لغيػره مجػا ً‬
‫سار‪ ،‬وتتجو حيثما أشار‪ ،‬فمـ ينب فييـ مف تعود األمر والقيادة‪ ،‬ولـ يعتػد النػاس أف يمتفػوا حػوؿ‬
‫أحػ ٍػد م ػػف رؤس ػػائيـ‪ ،‬إذ ك ػػاف وائ ػػؿ ال ي ػػدع ألح ػ ٍػد م ػػنيـ رياسػ ػ ًة وال س ػػمطاناً وال جاىػ ػاً‪ .‬ك ػػاف يس ػػتأثر‬
‫بالسمطاف في غيرة‪ ،‬فبل يرى أحداً مف فرساف قومو يرفػع أرسػو إلػى زعامػة حتػى يػبطش بػو ويذلػو‬
‫وينزع منو كؿ مطمع"( ٕ) مع العمـ أف ىذا ىو النظاـ الذي كاف سػائداً فػي الجاىميػة فقػد كػاف لكػؿ‬
‫قبيمػػة زعػػيـ يقػػر لػػو الجميػػع بالسػػمع والطاع ػػة‪ ،‬وكػػانوا يجمونػػو ويعترفػػوف بفضػػمو وقوتػػو وحكمت ػػو‪،‬‬
‫يأتمروف بأمره وينتيوف بنييو في حالتي الحرب والسمـ‪ ،‬فمـ يكف غريبًا المبالغة في طاعة كميب‪.‬‬
‫وال شػؾ أف فػي قػوؿ الكاتػب وعرضػو تمميحػًا واضػحًا لمسػاوئ الحكػـ الممكػي الػذي يسػتفرد بػالحكـ‬
‫والسػػمطة والػػذي ك ػػاف سػػائداً ف ػػي مصػػر وس ػػائر الػػببلد العربي ػػة آنػػذاؾ‪ .‬فق ػػد وظػػؼ أب ػػو حديػػد ى ػػذه‬
‫القصة ليممح مف خبلليا إلى واقعو المرير‪.‬‬

‫لقد قاؿ الكاتب ما يريد في الفصوؿ األولى مػف الروايػة‪ ،‬ولػذلؾ توسػع فػي الوصػؼ وبيػاف‬
‫أسػاس الم شػػكمة‪ ،‬وعػرض لمص ػراع القػائـ بػػيف جسػػاس وكميػب بشػػيء مػف التفصػػيؿ‪ ،‬ثػـ بعػػد ذلػػؾ‬
‫جعؿ األحداث تتوالى سراعاً‪ ،‬فإذا بالسنيف تمر بسرعة البرؽ‪ ،‬واذا باألجياؿ تتغيػر‪ ،‬ويمػوت قػادة‬
‫ويظير آخروف‪ ،‬وتنتقؿ بكر مف حاؿ اليػأس واليزيمػة إلػى حػاؿ النصػر والتمكػيف بقيػادة الحػارث‬
‫بف عباد‪ .‬لقد نجح أبو فريد في التمميح إلى الواقع الذي يعيشو ودعا إلى تغيي هر والتمرد عميو مف‬
‫خبلؿ تصوي هر لتمرد جساس وثورتو عمى ظمـ كميب فػي الفصػوؿ األولػى مػف الروايػة‪ ،‬إال أنػو لػـ‬

‫)ٔ( انظر‪ ،‬الميميؿ سيد ربيعة‪ ،‬ص‪ٛٓ - ٚٛ‬‬


‫)ٕ( الميميؿ سيد ربيعة‪ ،‬صٗ‪ٜ‬‬

‫‪49‬‬
‫يكػػف جريئ ػاً إل ػػى ذلػػؾ الح ػػد الػػذي يجعم ػػو يصػػطدـ ب ػػالواقع ويحتػػؾ ب ػػو احتكاك ػاً مباشػ ػ ًار‪ ،‬فعػػاد إل ػػى‬
‫التاريخ وتعمؽ في قصتو واكتفى بالتمميح فقط‪ .‬لقد خطا أبو حديد بتمميحو ىػذا خطػوة – واف لػـ‬
‫تكػف كبي ػ ةر – نحػػو الواقعيػة‪ ،‬التػػي حػػاـ حػػوؿ حماىػا إال أنػػو لػػـ يػػدخميا أو يتغمغػؿ فييػػا كمػػا فعػػؿ‬
‫البلحقػوف بػػو‪ ،‬ولػذلؾ كػػاف لػو بصػػمة واضػحة فػػي تطػور الروايػػة التاريخيػة العربيػػة نحػو (القوميػػة‬
‫والواقعية)‪.‬‬

‫ا عتػز أبػػو حديػػد بالتػػاريخ العربػي القػػديـ وحػػاوؿ بعثػػو مػػف جديػد‪ ،‬كمػػا حػػاوؿ ربطػػو بػػالواقع‬
‫المعيش‪ ،‬واف بشكؿ غير مباشػر‪ ،‬غيػر أنػو لػـ يصػؿ الغايػة فػي ربطػو باألبعػاد اإلنسػانية العامػة‪.‬‬
‫فإن ػػو حػ ػػيف كت ػػب عػ ػػف (كمي ػػب) واسػ ػػتبداده ببن ػػي عمػ ػػو‪ ،‬ل ػػـ يمتفػ ػػت إل ػػى االسػ ػػتبداد كظ ػػاى ةر مػ ػػدمرة‬
‫لمعبلقات اإلنسانية التفاتاً كبي ًار‪ " ،‬بؿ لعمػو جعمنػا نرثػي لكميػب وقػد طعػف مػف الخمػؼ بػرغـ تجبػره‪،‬‬
‫كمػا لػـ يسػتطع أف يػوحي بػالتنظير الػذكي إلػى مػا تعانيػو مصػر مػف انقسػاـ القػوى الوطنيػة تحػػت‬
‫( ٔ)‬
‫ضغط االستبداد"‪.‬‬

‫ومػػف أبػػرز التح ػوالت عنػػد أبػػي حديػػد سػػيط ةر المأسػػاة عمػػى الروايػػة بشػػكؿ عػػاـ‪ ،‬ىػػذا الجػػو‬
‫المأساوي الصاخب لـ نممحو عند جورجي زيداف‪ ،‬حيث تمثؿ الرواية لوحة مأسػاوية‪ ،‬فقػد خيمػت‬
‫المأساة عمييا مف بدايتيا حتى نيايتيا‪ ،‬فكميب يقتؿ مقابؿ ناقة والذي يقتمو ىو صي هر وابف عمػو‬
‫جساس‪ ،‬ثـ ت بدو الممحة المأساوية األخرى في نياية جساس بف ُمرة‪ ،‬حيث يمعب القػدر دوره فػي‬
‫ضرورة أف يأخذ االبف بثأ هر مف قاتؿ أبيو‪ ،‬فرغـ أف الميميؿ بػال فػي قتػؿ بنػي شػيباف إال أنػو لػـ‬
‫يتمكف مف قتؿ جساس‪ ،‬وكاف قاتؿ جساس ىو اليجرس بف كميب‪ ،‬والػذي ولػد فػي بيػت أخوالػو‪،‬‬
‫ورباه خالو جساس‪ ،‬وجعمو صي ًار لو بتزويجو مف ابنتو‪ ،‬إال أف اليجرس عنػدما اكتشػؼ أف قاتػؿ‬
‫أبيػو ىػو خالػو جسػاس صػمـ عمػى قتمػو والثػأر منػو وتػـ لػو ذلػؾ‪" .‬قُتِ َػؿ جسػاس ولكػف لػـ ُيقتػؿ فػػي‬
‫ميداف حرب‪ ،‬ولـ تطعنو يد غريبة ترصدت لو‪ ،‬بؿ أحاطت بمقتمو روعة خمعت عميػو لونػاً قاتمػاً‬
‫( ٕ)‬
‫وكػذلؾ تبػػدو‬ ‫مػف الفداحػة‪ ،‬فمػػا كػاف قاتمػػو سػوى ابػػف أختػو جميمػػة اليجػرس بػػف كميػب التغمبػػي"‪.‬‬
‫المأسػاة فػي شخصػية الجميمػة التػي فقػدت زوجيػػا بيػد أخييػا جسػاس‪ ،‬وطػردت مػف بيتيػا‪ ،‬ونشػػبت‬
‫ح ػػرب الث ػػأر فشُ ػ ّْػرَد أىمي ػػا وقُتّْ ػػؿ أخوتي ػػا الواح ػػد تمػ ػػو اآلخ ػػر‪ ،‬ث ػػـ ق ػػاـ ابني ػػا اليج ػػرس بقت ػػؿ أخييػ ػػا‬
‫جساس‪ )ٖ (.‬مع وجود رواية أخرى تـ تجاىميا موجودة في كتب األدب والمصادر التاريخيػة تػذكر‬

‫)ٔ( الواقعية في الرواية العربية‪ ،‬ص ٕٕٓ‬


‫)ٕ( الميميؿ سيد ربيعة‪ ،‬صٕٗٔ‬
‫)ٖ( انظر‪ ،‬الميميؿ سيد ربيعة‪ ،‬صٖٓٔ –ٖٔٔ‬

‫‪51‬‬
‫أف مقتؿ جساس كاف عمى أثر جرح أصيب بو عندما تقاتؿ مع أبي نوي ةر التغمبي الػذي تعػرض‬
‫( ٔ)‬
‫لو أثناء سف هر إلى أخوالو في الشاـ‪.‬‬

‫ظيرت كذلؾ مأساة ُمرة حيث "بقي الشيخ ُم ةر فػي شػيباف وحيػداً‪ ،‬فقػد أحنػت ظيػره السػنوف‬
‫المتطاولػة‪ ،‬وعصػفت بػو أحػداثيا المتعاقبػة‪ ،‬واجتمعػػت عمػييـ مصػاب اليزيمػة وحػزف فقػد األع ػزاء‬
‫مػػف أبنائػػو وم ػػف فرسػػاف ش ػػيباف الػػذيف قص ػػفتيـ الحػػروب واحػػدًا بع ػػد واحػػد‪ ،‬وت ػػركتيـ معقػػريف ف ػػي‬
‫الوديػػاف تنيشػػيـ السػػباع وج ػوارح الطيػػر‪ ،‬فتضعض ػػعت نفسػػو‪ ،‬وانطفػػأت فيػػو سػػو ةر الكبريػػاء الت ػػي‬
‫( ٕ)‬
‫وىػذا قمػة‬ ‫كانت مف قبؿ تدفعو وتجمح بو‪ ،‬فمـ يجد بداً مف أف يسعى إلػى مصػالحة الميميػؿ"‪.‬‬
‫المأساة‪ ،‬فما أصعب ذلؾ الموقػؼ الػذي يجبػر فيػو اإلنسػاف عمػى المصػالحة مػع ألػد أعدائػو حتػى‬
‫يحافظ عمى ما بقي مف قومو‪ .‬وما أجمؿ ىذا الحوار الذي يظير شدة اليأس والحزف واأللـ عمػى‬
‫فقػد األىػؿ واألحبػة‪ ،‬وأثػػر ذلػؾ كمػو سػػمبًا عمػى نفسػية ُم ػ ةر التػي أصػبحت ضػػعيفة بعػد قػوة‪ ،‬يائسػػة‬
‫ومحبطة بعد ثقة ويقيف وعزة‪ .‬لنتمعف معًا ىذا الحوار‪:‬‬

‫(أما تتجمؿ بالصبر يا أبا الحارث؟ فقاؿ الشيخ والحس ةر تغمبو‪" :‬ماذا بقي لي في الحياة يا‬
‫أبا مالؾ حتى أتجمؿ وأصبر؟ إف ىما إال يوماف أقضييما في البكاء ثـ أمضي"‪.‬‬

‫فقػاؿ أبػػو مالػػؾ عاطف ػاً‪" :‬لػئف بكيػػت يػػا أبػػا الحػارث لقػػد حػػؽ لػػؾ البكػاء‪ .‬ولكنػػا كنػػا نتأسػػى‬
‫بصبرؾ ونتثبت بثباتؾ‪ .‬فمسنا نممؾ اليوـ معؾ إال الرثاء ألنفسنا لما فقدنا مف أسرتؾ"‪.‬‬

‫فقػػاؿ م ػرة متني ػػداً‪" :‬واحػػر قمب ػػاه! لػػـ يب ػػؽ لػػي أحػػد م ػػف ولػػدي‪ ..‬ل ػػـ يبػػؽ ل ػػي إال ىػػذه الفتي ػػة‬
‫الصغار مف أبنائيـ‪ ،‬الذيف حكـ الػدىر عمػى أف أعػيش أل ارىػـ حػولي أيتامػاً ضػعافاً‪ ..‬واحػر قمبػاه‬
‫ػاء مػ ػ ًار‪ ،‬وصػػمت جميس ػػو ينظػػر إلي ػػو فػػي ح ػػزف‬
‫ياىمػػاـ! واحػػر قمب ػػاه ياجسػػاس"‪ .‬ث ػػـ أخػػذ يبك ػػي بكػ ً‬
‫عميؽ)‪)ٖ (.‬وكأف ىذا الحوار صورة حية تنطؽ بما في نفس ُمػرة مػف يػأس واحبػاط وحػزف مػف ىػذا‬
‫المصير الذي وصؿ إليو ىو وقومو‪.‬‬

‫وكان ػ ػػت نياي ػ ػػة الميمي ػ ػػؿ مأس ػ ػػاة ف ػ ػػي ح ػ ػػد ذاتي ػ ػػا‪ ،‬فبع ػ ػػد حي ػ ػػاة المي ػ ػػو والعب ػ ػػث والع ػ ػػز والقػ ػ ػػوة‬
‫واالنتصػارات المتتاليػة‪ ،‬تنتيػي حياتػو جوعػًا وعطشػًا أثنػػاء أسػره عنػد عػوؼ بػف مالػؾ‪ ،‬وقػد رف ػض‬
‫اليرب حفظاً لكرامتو مع العمـ أف بعض المراجع التاريخية تحدثت عف أف مف قاـ بقتؿ الميميؿ‬

‫)ٔ( انظر‪ ،‬أياـ العرب في الجاىمية‪ ،‬ص‪ٔ٘ٛ‬‬


‫)ٕ( الميميؿ سيد ربيعة‪ ،‬ص‪ٕٔٙ‬‬
‫)ٖ( الميميؿ سيد ربيعة‪ ،‬ص‪ٕٜٔ - ٕٔٛ‬‬

‫‪51‬‬
‫بػػف ربيعػػة ىم ػػا خادمػػاه الم ػػذاف مػ َّػبل م ػػف خدمتػػو‪ ،‬وقػػد كش ػػؼ الميميػػؿ مكرىم ػػا فأوصػػاىما قب ػػؿ أف‬
‫بل بالكشػؼ‬
‫يقتبله بقوؿ بيت مف الشعر ألىمو‪ ،‬ثـ االدعاء أنو قػد مػات‪ ،‬وقػد كػاف ىػذا البيػت كفػي ً‬
‫( ٔ)‬
‫ويمكنن ػػا الق ػػوؿ إف توظي ػػؼ الرواي ػػات التاريخي ػػة األكث ػػر مأس ػػاوية ك ػػاف بيػ ػػدؼ‬ ‫ع ػػف جريمتيم ػػا‪.‬‬
‫التعبير عف العاقبة الوخيمة والطبيعية لمتمادي في الظمـ والبغي والغي‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬التحوالت الفنية‪:‬‬

‫يمكػف رصػػد أبػرز التح ػوالت الفنيػة المتعمقػػة فػي الروايػػة مػف خػػبلؿ مقاربػة مشػ ّْػكبلت السػػرد‬
‫فيما يأتي‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬المغة وأساليب السرد‪:‬‬

‫َّ‬
‫تميز أبو حديد بأسموب لغوي قوي ومتيف وجميؿ في الوقت نفسو‪ ،‬وىو في ذلؾ يختمؼ‬
‫عف أسموب جورجي زيداف الذي كاف يتصؼ بضعؼ التراكيب المغوية أحياناً‪ ،‬فقد عني أبو‬
‫َ‬
‫حديد عناية خاصة برونؽ المغة كركف مف األركاف الفنية لمرواية كعمؿ أدبي‪ ،‬إال أنو ابتعد في‬
‫رواياتو التاريخية بشكؿ عاـ عف البيانية الصارخة التي ِ‬
‫وجدت عند غيره مف الكُتاب مثؿ عمي‬
‫الجارـ‪ ،‬فاتسمت لغتو بالبساطة والسبلسة‪ ،‬وكانت أكثر قرباً إلى طبيعة الفف الروائي‪.‬‬

‫وقد اعتمد في روايتو عمى أسموب سردي عربي تقميدي‪ ،‬مكث اًر مف استخداـ الفعؿ السردي‬
‫أثر كبير في تطور أحداث الرواية‪ ،‬فيو العالـ‬
‫(كاف) ومعتمدًا عمى ضمير الغائب‪ ،‬فكاف لمراوي ٌ‬
‫العارؼ الذي يعرض األحداث‪ ،‬ويقدـ الشخصيات ويحمؿ نفسياتيا ويبرر مواقفيا بأسموب شيؽ‬
‫وممتع‪ .‬وىو يكثر مف الوصؼ عمى حساب الحوار‪ ،‬ولغة الحوار فصيحة منسجمة مع لغة‬
‫السرد المتينة والقوية‪ ،‬ثـ إنو "أخضع الحوار لمحركة النفسية والمادية في القصة‪ ،‬وجعمو وسيمة‬
‫( ٕ)‬
‫لمعرض والتحميؿ والتصوير"‪.‬‬

‫لغة أبي حديد جميمة جذابة وشاعرية‪ ،‬فكثي اًر ما يوظؼ صوره الفنية إلبراز المعنى المراد‪،‬‬
‫( ٖ)‬
‫ومف أمثمة ذلؾ قولو‪" :‬يرى في كؿ زىرة ثغ اًر باسماً‪ ،‬وفي كؿ غصف رطيب قواماً مائساً"‪.‬‬
‫وقولو‪" :‬وكانت المياه في ىبوطيا عمى الجوانب الصخرية تيمس في خرير رقيؽ يشبو وسوسة‬

‫)ٔ( انظر‪ ،‬خزانة األدب ولب لباب لساف العرب‪ ،‬ج ٕ‪ ،‬صٖ‪ٔٚٗ - ٔٚ‬‬
‫)ٕ( مقومات القصة العربية الحديثة في مصر‪ ،‬ص ‪ٔٓٚ‬‬
‫)ٖ( الميميؿ سيد ربيعة‪ ،‬صٗ‬

‫‪52‬‬
‫( ٔ)‬
‫احتفاء بجمالية‬
‫وما إلى ذلؾ مف صور تظير تمكناً ووعياً و ً‬ ‫أوراؽ األغصاف إذا ىزىا النسيـ"‪.‬‬
‫المغة وشاعريتيا‪.‬‬

‫ثـ إنو وظؼ الشعر الجاىمي عمى ألسنة بعض الشخصيات( ٕ)‪ ،‬حيث كاف لمشعر مكانة‬
‫عالية ومرموقة ال يمكف تجاىميا في ذلؾ العصر‪ ،‬وتوظيفو في الرواية ال يأتي مف فراغ‪ ،‬بؿ‬
‫ليجعميا أكثر قربًا ومبلءمة لمعصر الجاىمي‪ .‬ويمكف أف يذكر الكاتب في روايتو بعض األلفاظ‬
‫الغريبة مثؿ‪( :‬تكاوح نفسيا‪ ،‬ال تُراعي‪ ،‬احتوشتيا المخاوؼ‪َ ،‬ق َمَر صاحبو ‪..‬الخ)‪ ،‬وال يكوف ذلؾ‬
‫بيدؼ الغرابة‪ ،‬ولكف ليضفي عمى الرواية وأحداثيا تمؾ الروح العربية في ذلؾ العصر‪ ،‬وكأنو‬
‫يجعؿ القارئ يعيش تمؾ الفت ةر بروحيا وطبيعتيا ولغتيا‪.‬‬

‫وال يكثر أبو حديد مف التدخؿ في الرواية بالتعميؽ عمى األحداث وتفسير المواقؼ‬
‫وتعميميا‪ ،‬وىو في ذلؾ يفارؽ جورجي زيداف الذي كاف يكثر مف المداخبلت والتعميقات عمى‬
‫األحداث في رواياتو التاريخية‪ ،‬األمر الذي أسيـ في ضعؼ البناء الفني عند زيداف‪ ،‬أما أبو‬
‫حديد فأحداث روايتو تسير وتتطور بشكميا الطبيعي دوف أف يفرض عمييا تدخبلتو‪ .‬إف تدخبلت‬
‫الراوي عند أبي حديد ال تبدو فجائية ‪ ،‬بؿ ىي طبيعية في مكانيا‪ ،‬جميمة في عرضيا‪ ،‬خادمة‬
‫لتطور األحداث داخؿ الرواية‪ .‬ولذلؾ َّ‬
‫خفت حدة المصادفات في رواياتو‪ ،‬فيي ترد بشكؿ خفيؼ‬
‫ومنطقي مقبوؿ "وقد بسطت مقدماتيا‪ ،‬واتضحت نتائجيا‪ ،‬وبرزت معانييا اإلنسانية خبلؿ‬
‫( ٖ)‬
‫حيث يظير التدرج المنطقي لتطور األحداث في رواية الميميؿ مف بدايتيا‬ ‫مظاىرىا الفنية"‬
‫حتى نيايتيا دوف افتعاؿ‪ ،‬ودوف أف تحركيا عوامؿ الصدفة التي تقمؿ مف قيمة العمؿ الروائي‪،‬‬
‫فكانت بذلؾ أكثر إقناعًا لمقارئ وأكثر تعبي ًار عف حقيقة العصر الذي تتناولو‪ .‬ورغـ ذلؾ فقد‬
‫تخمؿ الرواية بعض التناقض الذي ال يؤثر عمى سير األحداث بشكؿ عاـ‪ ،‬حيث يبدو ُمرة‬
‫ضعيفاً منيكاً ال يقوى عمى شيء ومع ذلؾ يشارؾ في القتاؿ مع الحارث بف عباد‪ .‬ومف ذلؾ‬
‫أيضاً أف ُيجبر الميميؿ عمى تزويج ابنتو بمير قميؿ ألنو ال يستطيع الدفاع عنيا‪ ،‬ثـ بعد ذلؾ‬
‫يذكر المؤلؼ أنو قاتؿ البكري يف قتاالً عنيفاً وقتؿ منيـ عدداً مف الفرساف عندما اعترضوا طريقو‪،‬‬
‫وكاد أف يتغمب عمييـ لوال أنيـ أسروه في النياية عند عوؼ بف مالؾ‪.‬‬

‫)ٔ( الميميؿ سيد ربيعة‪ ،‬صٔٗ‬


‫)ٕ( انظر‪ ،‬الميميؿ سيد ربيعة‪ ،‬صٕٔ‪ ،‬ص‪ ،ٖٔٛ‬ص‪ ،ٖٜٔ‬صٓٗٔ‪ ،‬ص‪ٜٔٚ‬‬
‫)ٖ( مقومات القصة العربية الحديثة في مصر‪ ،‬ص‪ٔٓٚ‬‬

‫‪53‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬الشخصيات‪:‬‬

‫اعتمد الكاتب في اختيار شخصيات روايتو عمى التاريخ الجاىمي‪ ،‬مخالفًا زيداف الذي‬
‫اختار معظـ شخصياتو مف التاريخ اإلسبلمي‪ ،‬فقد أخذ أبو حديد شخصية خصبة مف‬
‫شخصيات العصر الجاىمي وىي الميميؿ بف ربيعة بطؿ حرب البسوس‪ ،‬الذي ُذ ِكرت سيرتو في‬
‫القصص الشعبية التي جعمتو أسطورة في القوة والشجاعة وشدة البأس والتصميـ عمى األخذ‬
‫بالثأر دوف أي رحمة أو شفقة‪ ،‬ويبدو تأثر الكاتب باألدب الشعبي‪ ،‬وتشبثو بالتاريخ الجاىمي‪ ،‬فمـ‬
‫يخرج عما أورده مف أحداث وشخصيات‪ ،‬بؿ يصورىا "في إطار بيئتيا وطبيعتيا الخاصة‪،‬‬
‫( ٔ)‬
‫وصراعيا مع خصوميا‪ ،‬ثـ يتوقؼ عند موتيا أو انتصارىا"‪.‬‬

‫ورغـ أف عنواف الرواية ىو (الميميؿ سيد رب يعة) إال أنو لـ يتـ ذكر الميميؿ إال بعد‬
‫أربعيف صفحة‪ ،‬وكاف يمكف عرض أصؿ الحكاية بشكؿ سريع‪ ،‬ثـ يتـ التوسع في تحميؿ البعد‬
‫النفسي لشخصية الميميؿ وموقفو مف الحرب مع بني بكر‪ ،‬ولذلؾ كاف ارتباط الرواية بالحدث‬
‫وتطوره أكثر مف ارتباطيا بأي شخصية‪ ،‬فقد سيطر الحدث عمى الرواية‪ ،‬وكانت كؿ تصرفات‬
‫الشخصيات نتيجة ليذا الحدث‪ ،‬بدءاً مف ظمـ وجبروت كميب‪ ،‬وما نتج عف ذلؾ مف قتمو عمى‬
‫يد جساس بف مرة الذي ثار لكرامتو ومروءتو‪ ،‬ثـ نشوب حرب الثأر واستمرارىا عمى يد الميميؿ‬
‫مع ظيور عدد مف الشخصيات المحورية التي أثَّرت في صنع الحدث واستم ارره مثؿ‪ :‬كُميب‬
‫ومرة‪ ،‬وكذلؾ وجود بعض الشخصيات الثانوية المكممة لمحدث والتي تظير‬
‫وجساس والميميؿ ُ‬
‫ألداء دور معيف ثـ تختفي بعد ذلؾ مثؿ‪ :‬عمرو صاحب جساس‪ ،‬وأبي عامر الذي أقنع ُمرة‬
‫بالحرب وبصحة ما فعؿ جساس بقتمو لكميب‪ ،‬وأبي نويرة التغمبي الذي أقنع قومو (تغمب)‬
‫بالروية والصبر وعدـ التسرع في حرب بكر‪.‬‬

‫ومف الصعب تحديد بطؿ ليذه الرواية‪ ،‬وىذا تطور بارز عف روايات جورجي زيداف‬
‫التاريخية التي كانت تعتمد عمى إبراز البطولة الفردية بشكؿ كبير‪ ،‬أما الرواية عند أبي حديد‬
‫فيي رواية حدث كما ذُكر سابقاً‪ ،‬ويذكر الدكتور عبد الحميد القط أف بطؿ ىذه الرواية‪" :‬ىو م ةر‬
‫والد جساس‪ ،‬وىو شيخ محنؾ‪ ،‬متماسؾ لـ يستسمـ لعدوه برغـ ما عاناه مف فقد األبناء واحدًا في‬
‫( ٕ)‬
‫ومع ذلؾ فيمكف أف يكوف البطؿ ىو الميميؿ الذي ترؾ حياة الميو والترؼ‪ ،‬ولـ‬ ‫إثر اآلخر"‬
‫يقبؿ ما ُعرض عميو مف عوض‪ ،‬وصمـ عمى طمب ثأر أخيو حتى آخر حياتو‪ ،‬وحقؽ كثير مف‬

‫)ٔ( بناء الرواية في األدب المصري الحديث‪ ،‬صٕ‪ٙ‬‬


‫)ٕ( بناء الرواية في األدب المصري الحديث‪ ،‬ص‪ٙٙ‬‬

‫‪54‬‬
‫االنتصارات‪ ،‬وال يؤخذ عميو إال مغاالتو في طمب الثأر وقتمو لؤلبرياء دوف ذنب‪ .‬وال شؾ أف‬
‫األقرب إلى البطولة ىو جساس الذي كاف محو ًار رئيسًا في تحريؾ الحدث الروائي مف بدايتو‪،‬‬
‫فيو مف تحدى ُكميب وثار عميو وحرض القوـ عمى التخمص مف ظممو وكبره وجبروتو‪ ،‬وىو مف‬
‫قتمو في النياية حفظاً لكرامتو ومروءتو‪ ،‬ثـ إنو َّ‬
‫بدؿ موقفو بعدما رأى آثار الحرب عمى قومو‪ ،‬فقد‬
‫قُتِؿ معظميـ وشردوا في األرض‪ ،‬فعرض عمى أبيو أف يسمـ نفسو لبني تغمب فيقتموه بدؿ كميب‬
‫وتنتيي الحرب‪ ،‬إال أف أباه رفض ىذا العرض ولـ يقبمو‪.‬‬

‫ومف التحوالت الفنية في تعامؿ أبي حديد مع شخصيات روايتو أنو لـ يجعميا شخصيات‬
‫ثابتة كشخصيات زيداف الروائية‪ ،‬بؿ كانت شخصياتو نامية ومتطو ةر غير ثابتة‪ ،‬فجساس طائش‬
‫متسرع ومتيور إال أنو شجاع ومتمرد‪ ،‬ووائؿ (كُميب) متغطرس ويمتاز بالكبرياء والعظمة إال أنو‬
‫حنوف لطيؼ المعشر ممتزـ بالعيود والمواثيؽ‪ ،‬وكذلؾ سالـ الزير ِس ّكير ال ييمو سوى شربو‬
‫وكأسو إال أنو يغير نمط حياتو‪ ،‬ويتحمؿ مسؤولية قومو‪ ،‬ويصمـ عمى الثأر ألخيو‪ .‬ويبدو في‬
‫الرواية الكشؼ عف أعماؽ الشخصيات وتحميؿ اتجاىاتيا النفسية عف طريؽ الحوار والسرد‬
‫المباشر‪ .‬وباإلضافة إلى ذلؾ فقد حرص عمى التعمؽ في نفسيات شخصياتو الروائية‪ ،‬والكشؼ‬
‫عف نوازعيا ودوافعيا الداخمية عف طريؽ حواراتيا المختمفة الداخمية والخارجية‪.‬‬

‫ومف التحوالت البارزة حرصو عمى إبراز الدور اإليجابي لممرأة‪ ،‬فيي عنده محافظة عمى‬
‫الشرؼ والكرامة‪ ،‬فيذه الجميمة زوجة كميب ومحبوبتو‪ ،‬وأخت جساس غريـ زوجيا تحاوؿ أف‬
‫تستثمر حب زوجيا ليا مف أجؿ اإلصبلح بينو وبيف أخييا‪ .‬وىي تحرص عمى أخييا جساس‬
‫وتحذره مف التمادي في عداوة كميب‪ ،‬فتذىب إلى بيت أىميا لتخبرىـ بما كاف مف أمر جساس‬
‫قائمة‪" :‬أدرؾ جساسًا يا والدي"( ٔ) ثـ توجو خطابيا إلى أخييا جساس فتقوؿ‪" :‬أي جساس! أنت‬
‫أخي وىو زوجي‪ ،‬فبحقي عميؾ ال تقطع رحمؾ وال تؤذني في صاحبي"( ٕ) وىذا إف َّ‬
‫دؿ فإنما يدؿ‬
‫عمى عقميا الرشيد ورأييا السديد‪ ،‬فيي ال تريد أف تخسر أىميا وال أف تفقد زوجيا‪ ،‬بؿ تسعى إلى‬
‫اإلصبلح والتوفيؽ بيف الطرفيف لتبقى حياتيا آمنة مطمئنة‪.‬‬

‫لق ػػد عم ػػؿ أب ػػو حديػ ػػد ع م ػػى تحمي ػػؿ ش ػػخوص رواياتػ ػػو التاريخي ػػة ود ارس ػػة أبع ػػادىـ النفسػ ػػية‪،‬‬
‫والكش ػػؼ عػ ػػف أعماقيػ ػػا متػ ػػأث اًر فػ ػػي ذلػ ػػؾ بمدرسػ ػػة التحميػ ػػؿ النفسػ ػػي‪ ،‬بخػ ػػبلؼ زيػ ػػداف الػ ػػذي جعػ ػػؿ‬
‫لشخصياتو صورة نمطية واحدة مف أوؿ القصة حتى آخرىا‪ ،‬ولـ ييتـ بتحميؿ جوانبيا النفسية أو‬

‫)ٔ( الميميؿ سيد ربيعة‪ ،‬صٖ٘‬


‫)ٕ( الميميؿ سيد ربيعة‪ ،‬ص‪ٖٙ‬‬

‫‪55‬‬
‫الكشػؼ عػػف أعماقيػا‪ .‬وقػػد أعطػػى أبػو حديػػد دو اًر لمشخصػية فػػي صػػنع الحػدث وتطػػوره‪ ،‬ومنحيػػا‬
‫االستقبلؿ الذاتي الذي يمكنيا مف التعبير عف نفسيا بكؿ حرية‪ ،‬أما شخصيات زيداف فيي تابعة‬
‫ومكممة لمحدث ال تؤثر فيو إال بالقدر اليسير‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬المكان والزمان‪:‬‬

‫اىتـ أبو حديد بالبعد المكاني‪ ،‬وجعؿ لو دو ًار ممي ًاز ومؤث ًار‪ ،‬وىو "ال ُيعرض عرضًا وصفيًا‬
‫تركيبيًا‪ ،‬وانما ىو لوف كامف وراء الصورة‪ُ ،‬ي َح ُّس بوجوده وال يقؼ في طريؽ حركة القصة‪ ،‬وانما‬
‫( ٔ)‬
‫وقد تعرض لذكر أماكف في الجاىمية مثؿ وادي قضة‪،‬‬ ‫يكمف وراءىا ليعطييا لونيا العاـ"‬
‫ون ْج ْد كمجاؿ لعرض األحداث والحروب ال تي دارت بيف شيباف وربيعة‪،‬‬ ‫وواردات‪ ،‬والقصيبات‪َ ،‬‬
‫ولكف أىـ ما يبدو مف ذلؾ ىو تأثر الكاتب بالطبيعة تأث اًر كبي اًر‪ ،‬فكثي اًر ما كاف "يجعؿ الطبيعة‬
‫( ٕ)‬
‫ويظير مف بداية‬ ‫ال في رواياتو‪ ،‬وكأنيا شخصية مف الشخصيات بثقميا وتميزىا"‬
‫عنص ًار فعا ً‬
‫الرواية إعجاب الكاتب بالطبيعة حيث يقوؿ‪" :‬كاف اليوـ مف تمؾ األياـ المطي ةر القميمة التي يجود‬
‫بيا شتاء الصحراء‪ ،‬وقد أسفر وجو السماء بعد أف جمؿ المطر أعواد الخزامى والشيح‪ ،‬وصفا‬
‫الجو ورؽ النسيـ البارد‪ ،‬وسطعت أشعة الشمس رقيقة دفيئة تغمر الرماؿ الصفراء الندية‪ ،‬وتممع‬
‫تحتيا الجداوؿ الدقيقة المتعرجة ‪ ...‬وكاف وائؿ التغمبي ‪ -‬وائؿ بف ربيعة فارس تغمب وسيدىا ‪-‬‬
‫( ٖ)‬
‫ولـ يبؽ المكاف جغرافياً بؿ تحوؿ‬ ‫يسير في جانب الوادي المعشب الذي ضربت فيو خيامو"‪.‬‬
‫إلى مكاف نفسي حيث كاف ليذه الطبيعة أثر كبير عمى نفسية كميب‪ ،‬فيو ييدأ مف غضبو‬
‫بمجرد ما يرى العشب األخضر‪ ،‬وقطرات الماء مف أثر األمطار التي تممع تحت ضوء الشمس‬
‫في ثنايا األعواد وفي ثغور أزىار األقاحي والعرار‪ ،‬ثـ إذا مضى بيف التبلع والوىاد‪ ،‬ونظر إلى‬
‫السماء الزرقاء الصافية َّ‬
‫دب السبلـ رويداً إلى قمبو‪ ،‬وانفرجت عقدة جسمو والحت عمى وجيو‬
‫( ٗ)‬
‫بناء يسيـ في التأثير‬
‫بل إ يجابيًا ً‬
‫بسمة االرتياح‪ .‬فكاف بذلؾ تعامؿ الكاتب مع الطبيعة تعام ً‬
‫عمى النفس اإلنسانية وتيدئتيا واعادتيا إلى طب يعتيا اليادئة الجميمة والمسالمة‪ .‬ووصؼ الطبيعة‬
‫عند أبي حديد جميؿ‪ ،‬يريح نفس القارئ‪ ،‬ويجعمو محباً لمطبيعة العربية شغوفاً بيا‪ .‬ويرى الدكتور‬
‫عبد الحميد القط أف‪" :‬المؤلؼ يصؼ الطبيعة كمما س نحت لو الفرصة‪ ،‬وال رغبة لو إال البياف‪،‬‬

‫)ٔ( مقومات القصة العربية الحديثة في مصر‪ ،‬صٗٓٔ‬


‫)ٕ( بانوراما الرواية العربية الحديثة‪ ،‬ص‪ٗٙ‬‬
‫)ٖ( الميميؿ سيد ربيعة‪ ،‬صٔ‬
‫)ٗ( انظر‪ ،‬الميميؿ سيد ربيعة‪ ،‬ص‪ٔٚ‬‬

‫‪56‬‬
‫( ٔ)‬
‫ومف الممكف تحميؿ رؤية الكاتب لمطبيعة‬ ‫كما يصؼ رماؿ الصحراء ببل داع فني حقيقي"‪.‬‬
‫بأنو أراد أف يظير الرباط المتيف بيف شخصيات الرواية وطبيعة األرض التي يقطنوف فييا‪،‬‬
‫وكذلؾ أثر ىذه الطبيعة عمى الشخصيات‪ ،‬فاإلنساف العربي مرتبط بببلده ارتباطًا وثيقًا‪ ،‬ال‬
‫يتخمى عنيا أبداً ميما كانت الظروؼ‪ ،‬فاألشخاص يصنعوف األحداث في ظؿ ىذه الطبيعة التي‬
‫تمنحيـ الحياة‪ ،‬وتضفي عمييـ مف صفاتيا‪ ،‬وىذا ىو الوطف العربي‪ ،‬فبل يكوف العربي عربياً إال‬
‫في ظؿ ىذه الطبيعة التي تبرز شخصيتو‪ ،‬وتعطيو مف صفاتيا الص بر والجمد والقوة والتحمؿ‪،‬‬
‫واالعتزاز والفخر بالنفس‪.‬‬

‫وزمػػف الروايػػة تقميػػدي منػػتظـ بشػػكؿ عػػاـ‪ ،‬ومػػع ذلػػؾ فقػػد اسػػتطاع الكاتػػب توظيػػؼ بعػػض‬
‫التقنيات الزمنية المتعمقة بفف الرواية‪ ،‬فقد كػاف لموصػؼ تػأثي اًر واضػحاً عمػى العنصػر الزمنػي فػي‬
‫بل‪ ،‬وممػػا سػاعد عمػػى ذلػػؾ بػػروز‬
‫بدايػة الروايػػة‪ ،‬حيػػث اسػتغرؽ سػػرد األحػػداث ووصػػفيا زمنػًا طػػوي ً‬
‫الزمف النفسي الذي عمؿ عمػى تبطػيء زمػف الروايػة فػي الفصػوؿ األولػى مػف خػبلؿ الحػديث مػع‬
‫الػنفس والتػذكر وربػػط األحػداث الماضػػية بالحاليػة‪ ،‬والكشػػؼ عػف أعمػػاؽ الشخصػيات ومكنوناتيػػا‬
‫وبواعث سموكيا‪ ،‬فظيرت تقنية االسترجاع التي يأخذىا الكاتب مدخبلً لتحميؿ نفسية ُكميب الذي‬
‫يتذكر مآث هر وحروبو التػي خاضػيا مػف أجػؿ إعػبلء شػأف قومػو فكانػت ليػـ السػيادة والمنعػة والقػوة‪،‬‬
‫ثػـ ىػا ىػـ يعترضػوف عميػو ويتحدونػو وينكػروف فضػمو‪ ،‬وىػو غيػر ر ٍ‬
‫اض عػف ىػذه التصػرفات‪ ،‬ثػػـ‬
‫إنيـ أطمقوا ألسنتيـ بما لـ يكونوا مف قبؿ يجرؤوف عميو‪ ،‬صاروا يتحدثوف عف مبالغتو في الكبر‬
‫والعتو بحمايتو الػوحش والطيػر‪ ،‬ثػـ حػديثيـ عػف مراعيػو التػي تُسػد ومائػو الػذي ال يسػتطيعوف أف‬
‫يردوه‪ ،‬فما ىو إال طاغية متكبر‪ )ٕ (.‬وكذلؾ برزت تقنية االستباؽ حيػث توقػع كميػب حتميػة وقػوع‬
‫الصراع بينو وبيف جساس‪ ،‬ويعبر الراوي عف ذلؾ بقولو‪" :‬عاد إلى بي تو يسرع الخطى وقمبو يفور‬
‫وأنفاسو تضطرب‪ ،‬وقد تمثمت أماـ عينيو مناظر الصراع المقبؿ الػذي يوشػؾ أف يقػع بينػو وبػيف‬
‫( ٖ)‬
‫ث ػػـ إف األح ػػداث تس ػػير وتتػ ػوالى بس ػػرعة كبيػ ػ ةر وت ػػزداد وتيرتي ػػا وح ػػدتيا بع ػػد‬ ‫الف ػػارس الج ػػريء"‪.‬‬
‫الفصػؿ السػابع مػف الروايػة‪ ،‬والسػرد يختصػر الػػزمف بشػكؿ واضػح‪ ،‬فيوظػؼ القطػع الزمػاني الػػذي‬
‫يختصر الكثير مف السنوات حيث "مضت السنوات تتوالى‪ ،‬والحرب ال تزاؿ دائ ةر بػيف بنػي العػـ‬

‫)ٔ( بناء الرواية في األدب المصري الحديث‪ ،‬ص‪ٙٙ‬‬


‫)ٕ( انظر‪ ،‬الميميؿ سيد ربيعة‪ ،‬ص٘ ‪ٛ -‬‬
‫)ٖ( الميميؿ سيد ربيعة‪ ،‬صٔٔ‬

‫‪57‬‬
‫المتناضميف إلى الفناء‪ ،‬وشب الصغير في أثنائيا وفني الكبير ‪ ..‬ولكف الميميؿ لػـ تيػدأ ثائرتػو‪،‬‬
‫( ٔ)‬
‫ولـ يرتو بعد مما أساؿ مف الدماء"‪.‬‬

‫ويمكف مبلحظة نقاط التحوؿ السابقة بشكؿ واضح عند إجراء موازنة سريعة بيف اإلنتاج‬
‫الروائي لكؿ مف جورجي زيداف وأبي حديد‪ .‬فقد تطور فف القصة بيف زيداف وأبي حديد مف‬
‫مفيوـ ذاتي إلى مفيوـ موضوعي‪ ،‬ومف تصوير ينيج نيج القصة الشعبية وألوانيا المثيرة مف‬
‫مفاجآت وصراع يقوـ عمى الشيرة التاريخية‪ ،‬وعمى المنيج التركيبي‪ ،‬إلى قصة محبوكة تتطور‬
‫تطو اًر داخمياً وخارجياً‪ ،‬وتنبع عوامؿ المفاجأة والصراع مف طبيعة الموضوع‪ ،‬وتقوـ عمى العرض‬
‫التحميمي الذي يتجو اتجاىاً إنسانيا‪ .‬والخبلصة أف القصة التاريخية قد اتخذت ليا رسالة إنسانية‬
‫( ٕ)‬
‫عند أبي حديد‪.‬‬

‫ويتقدـ أبو حديد بالتكنيؾ الروائي خطوة كبيرة‪ ،‬إذ ال يعتمد عمى حوادث كبرى مف‬
‫التاريخ‪ ،‬وىو ما آثره زيداف كاستشياد الحسيف وفتح العرب لمصر ‪..‬الخ‪ ،‬وانما يختار شخصية‬
‫ذات طابع ممحمي أو تراجيدي‪ ،‬ويحاوؿ أف يخمصيا مف ىذا الثوب الذي أسبغو التاريخ عمييا؛‬
‫( ٖ)‬
‫ليرد إلييا إنسانيتيا وطبيعتيا مع الحفاظ عمى تميزىا البطولي‪.‬‬

‫يتضػح مػػف خػبلؿ التح ػوالت الفنيػة السػػابقة بمػا ال يػػدع مجػاالً لمشػػؾ مػدى مشػػاركة محمػػد‬
‫فريػد أبػو حديػد فػي إرسػاء قواعػد الروايػة التاريخيػة وتطويرىػا فػي األدب العربػي‪ ،‬حتػى واف كانػػت‬
‫ىػػذه التح ػوالت بس ػػيطة فػػي شػػكميا‪ ،‬إال أف مض ػػمونيا يحمػػؿ الكثيػػر م ػػف األفكػػار والمبػػادئ الت ػػي‬
‫وجيت الرواية التاريخية نحو الواقع‪.‬‬

‫ال بػػار ًاز لدي ػػو‪ ،‬فيػػو ل ػػـ يػ َّػد ِع االلتػ ػزاـ‬
‫وقػػد شػػكمت طريق ػػة تعامػػؿ أب ػػي حديػػد م ػػع التػػاريخ تحػ ػو ً‬
‫بالتػػاريخ ثػػـ يفارقػػو كمػػا فع ػػؿ جػػورجي زيػػداف‪ ،‬ولػػـ يخػػرج ع ػػف الح ػوادث التاريخيػػة بقصػػة غرامي ػػة‬
‫مبتدعة عمى طريقة زيداف أيضًا‪ ،‬بؿ التزـ بالتاريخ ولـ يخرج عف نطاقو‪ ،‬إال أنو اختار الروايات‬
‫التاريخية األكثر مأساوية ووظفيا في روايتو‪.‬‬

‫‌‬

‫)ٔ( الميميؿ سيد ربيعة‪ ،‬صٕٗٔ‬


‫)ٕ( مقومات القصة العربية الحديثة في مصر‪ ،‬صٕٓٔ‬
‫)ٖ( الواقعية في الرواية العربية‪ ،‬صٕٗٔ ‪ٕٔ٘ -‬‬

‫‪58‬‬
‫‌‬
‫‌‬

‫الفصل الثاني‬
‫حتٌالث اىشًاّت اىخبسخيْت يف ظو اىشًاّت اىٌاقعْت‬

‫‪59‬‬
‫المبحث األول‬

‫أثر الرواية الواقعية في الرواية التاريخية‬

‫تميزت الرواية الواقعية عف غيرىا مف روايات ما قبؿ الواقعية باتجاىيا إلى الواقع‪ ،‬وعدـ‬
‫اعتمادىا عمى الوىـ والخياؿ المجنح‪ ،‬بخبلؼ الرواية الرومانسية التي تيرب مف الواقع‪.‬‬

‫لـ تبرز الواقعية كمدرسة أدبية مستقمة واضحة السمات إال بعد منتصؼ القرف التاسع‬
‫( ٕ)‬ ‫( ٔ)‬
‫ثـ أخذت‬ ‫إذ بدأت معالميا في التكوف والظيور قبؿ ذلؾ في ظؿ الرومانسية‬ ‫عشر‪.‬‬
‫العناصر الواقعية تييمف تدريجياً عمى مجاؿ األدب والفف‪ .‬وكانت ثمة مرحمة انتقالية يمثميا عمى‬
‫سبيؿ المثاؿ ال الحصر فيكتور ىوجو الذي جمع في رواية (البؤساء) بيف الروح الرومانسية‬
‫الثورية‪ ،‬والرؤية الواقعية الواعية ألحداث التاريخ الفرنسي‪ .‬ثـ سيطرت الواقعية بعد ذلؾ عمى كؿ‬
‫شيء‪ ،‬وتربعت عمى عرش األدب والفف‪ ،‬ودعا روادىا ومف أبرزىـ شانفموري إلى رفض كؿ‬
‫( ٖ)‬
‫أشكاؿ األدب الرومانسي الخيالي‪.‬‬

‫تدعو الرواية الواقعية إلى تغيير الواقع‪ ،‬بيدؼ خدمة المجتمع واصبلحو مف خبلؿ تدعيـ‬
‫القيـ اإليجابية والطاقات الفاعمة‪ ،‬وتقديـ نماذج بشرية‪ ،‬ومناقشة األزمات‪ .‬وقد سميت الرواية‬
‫الواقعية بيذا االسـ ؛ ألنيا تستمد أحداثيا وأشخاصيا مف الواقع‪ ،‬أو مما يمكف أف يقع ويتقبمو‬
‫العقؿ‪ ،‬وىي تسعى إلى تحرير الذات المفردة‪ ،‬وتحرير اإلنساف بشكؿ عاـ وتطييره مف عقد‬
‫الخوؼ واالنحراؼ‪ .‬وتستعيف لتحقيؽ ذلؾ بكؿ سبؿ اإلبداع الفني‪ ،‬والخياؿ الروائي الذي يضفي‬
‫كثي ًار مف المتعة الجريئة في نقد الواقع‪ .‬ويمكف القوؿ إف تقميص حرية الرأي والتعبير في المنابر‬
‫والفضاءات اإلعبلمية العامة آؿ ببعض الكتاب إلى اعتماد النص اإلبداعي الروائي كبديؿ‪،‬‬
‫ُيعنى بميمة كشؼ المستور وقوؿ ما يجب أف يقاؿ باستخداـ الخياؿ الفني الذي يوظؼ الرمز‬
‫واإلشارة دوف خوؼ مف منع أو متابعة ومبلحقة‪.‬‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬المذاىب األدبية لدى الغرب‪ ،‬ص‪ٖٔٚ‬‬


‫(ٕ ) انظر‪ ،‬المذاىب األدبية الكبرى في فرنسا‪ ،‬ص‪ٕٖٙ‬‬
‫(ٖ ) انظر‪ ،‬المذاىب األدبية الكبرى في فرنسا‪ ،‬صٕٓٗ ‪ٕٗٔ-‬‬

‫‪61‬‬
‫ىذا وقد تعددت الواقعيات في الغرب‪ ،‬فكاف منيا‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬الواقعية النقدية‪ :‬وىي الواقعية األصمية التي نشأت في أوروبا وبالتحديد في فرنسا‪،‬‬
‫َّ‬
‫السمبية في المجتمع كاألخبلؽ الفاسدة واالستغبلؿ والظمـ واإلجراـ‬ ‫وىي تقوـ برصد الجوانب‬
‫بيدؼ معالجتيا‪ ،‬ومف أشير ممثمييا الروائي الفرنسي بمزاؾ صاحب (الكوميديا البشرية)‪.‬‬
‫شر في جوىره‪،‬‬
‫ويصؼ بعض النقاد ىذه الواقعية بػ (السوداء) وذلؾ ألنيا ترى أف الواقع العميؽ ٌ‬
‫شرير بطبعو‪ ،‬وما يظير في بعض‬
‫وأف ما يبدو خي ًار ليس في حقيقتو إال بريقًا كاذبًا‪ ،‬فاإلنساف ٌ‬
‫( ٔ)‬
‫تصرفاتو مف أعماؿ الخير‪ ،‬إنما ىو رياء وطبلء يخفي جوىره المغاير تمامًا لمظيره وسموكو‪.‬‬

‫ويعد‬
‫ٕ ‪ -‬الواقعية الطبيعية‪ :‬التي تدعو إلى إدخاؿ طريقة العموـ التجريبية في األدب‪ُ ،‬‬
‫زوال رائدًا ليا في الغرب برواياتو الشييرة مثؿ‪( :‬الفبلحوف)‪ ،‬و(جيرميناؿ)‪ ،‬والرواية الطبيعية عنده‬
‫( ٕ)‬
‫عبارة عف "تجربة حقيقية يجرييا الروائي عمى اإلنساف مستعينًا بالمبلحظة"‪.‬‬

‫ٖ ‪ -‬الواقعية االشتراكية‪ :‬وىي أدب التبلحـ مع الجماىير‪ ،‬والنضاؿ معيا‪ ،‬وقد ازدىرت‬
‫في روسيا خبلؿ القرف التاسع عشر‪ ،‬وميدت لمثورة‪ ،‬وزادت قوة وانتشا ًار بعد انتصار ثورة‬
‫( ٖ)‬
‫وىي تمتزـ بتفسير الفكر‬ ‫‪ ،ٜٔٔٚ‬وانتقمت إلى البمد اف االشتراكية األخرى في القرف العشريف‬
‫الشيوعي لمحي اة والموجودات‪ ،‬ومف أشير رواد الواقعية االشتراكية مكسيـ جوركي‪ ،‬والكسندر‬
‫تولستوي‪.‬‬

‫ىذه بعض أشكاؿ الواقعية األكثر شيرة‪ ،‬وليس لمبحث حاجة في تتبع األشكاؿ الباقية‪ ،‬وال‬
‫في تفصيؿ خصائص وسمات ما ذكر منيا‪ ،‬وحسبنا أف نعرض باختصار لكيفية تناوليا‬
‫لمشخصية والحدث‪ ،‬تمييدًا لبياف سماتيا وخصائصيا العامة التي تكشؼ عف جوىر تحوالتيا‬
‫الموضوعية والفنية‪.‬‬

‫ويكوف‬
‫ّْ‬ ‫عممت الرواية الواقعية عمى تصوير العالـ الخارجي الذي يحيط باإلنساف‬
‫اتجاىاتو‪ ،‬إال أف ىذا ال يعني بأي حاؿ أنيا تقدـ صو ةر فوتوغرافية دقيقة عف الواقع الحقيقي فػ‬
‫"انعكاس الواقع ال يكوف انعكاسًا ميكانيكيًا جاى ًاز‪ ،‬واال جاء في إفراغو عمى الورؽ مسطحًا‪،‬‬

‫(ٔ ) انظر‪ ،‬االتجاه اإلسبلمي في أعماؿ نجيب الكيبلني القصصية‪ ،‬ص‪ٙٓ- ٜ٘‬‬
‫(ٕ) المذاىب األدبية الكبرى في فرنسا‪ ،‬صٕٕ٘‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬المذاىب األدبية لدى الغرب‪ ،‬صٕ٘ٔ ‪ٖٔ٘-‬‬

‫‪61‬‬
‫( ٔ)‬
‫بؿ يعني‬ ‫فوتوغرافياً‪ ،‬مزيفاً‪ ،‬ودخؿ في باب الواقعية غير الفنية‪ ،‬التقريرية‪ ،‬العجفاء والخائبة"‪.‬‬

‫ذلؾ رسـ واقع فني إبداعي يحاكي الواقع الحقيقي ويشبيو‪ ،‬خاصة أنو يجري في ميدانو ويخضعُ‬
‫لشروطو‪ ،‬فالحدث الواقعي يجب أف يصاغ صياغة فنية جديدة‪ ،‬تعكس قد ةر الكاتب عمى اإلبداع‬
‫واالبتكار في تشخيص الواقع ومعالجتو‪ ،‬ويتجمى إبداع الكاتب في تقديـ كؿ جديد يتعمؽ ببياف‬
‫اليامش المغيب مف المجتمع‪ ،‬ومعرفة الوجداف الخفي‪ ،‬وكشؼ الحقائؽ المطموسة‪ ،‬وال ننسى أف‬
‫النظرة الواقعية نسبية تختمؼ مف كاتب آلخر‪ ،‬إذ ترتبط برؤية المبدع وميولو الشخصية‪ ،‬وأف‬
‫المبدع أماـ واقعيات متعددة بخصائص متفاوتة‪.‬‬

‫تنظر الرواية الواقعية لمشخصية الروائية بمنظار واقعي‪ ،‬ولذلؾ يجب أف يتوافر في ىذه‬
‫الشخصية عدد مف الشروط أىميا أف تكوف مقنعة‪ ،‬فاألفعاؿ التي تقوـ بيا يمكف حدوثيا في‬
‫واقع الحياة اليومية‪ ،‬وعمى الشخصية أف تعبر عف نفسيا‪ ،‬وتبتعد عف المبالغة أو التناقض‪،‬‬
‫كذلؾ عمييا التفاعؿ مع األحداث‪ ،‬بأ ف تكوف حيوية وفعالة تتأثر باألحداث وتؤثر فييا‪ .‬فػ‬
‫"الشخصية القصصية يجب أال تكوف خارقة‪ ،‬تتحدى الواقع وتتجاوزه‪ ،‬وال ىزيمة تنحط عف الواقع‬
‫مزيجا مف الخير والشر كالشخصيات العادية التي نراىا في‬
‫ً‬ ‫وتنكمش عنو‪ ،‬بؿ يجب أف تكوف‬
‫( ٕ)‬
‫حياتنا اليومية‪ ،‬أو نكتشفيا في ذواتنا"‪.‬‬
‫لذلؾ يحرص كاتب الرواية الواقعية عمى العرض الشامؿ العميؽ لطبيعة العبلقات التي‬
‫تربط بيف شخصياتو األدبية مف ناحية‪ ،‬والعبلقات التي تربط ىذه الشخصيات بوجودىا ومحيطيا‬
‫االجتماعي مف ناحية أخرى‪ ،‬مع ضرورة بياف المعضبلت التي تواجو ىذا الوجود وتنفره مف‬
‫واقعو الحياتي ‪ ،‬وكمما كاف إدراؾ ىذه العبلقات أعمؽ‪ ،‬كاف العمؿ الروائي أكثر قيمة وأكثر‬
‫تعبي اًر عف الحياة الحقيقية الواقعية‪ .‬وىذا يستوجب التعامؿ اإليجابي مع شخصيات العمؿ‬
‫الروائي‪ ،‬األمر الذي يعني منح الشخصيات الحرية واالستقبلؿ الفكري في التعبير عف ذاتيا‬
‫وعف العالـ الذي يحيط بيا فػ "أي وصؼ ال يشتمؿ عمى نظرة شخصيات العمؿ األدبي إلى‬
‫العالـ ال يمكف أف يكوف تامًا‪ ،‬فالنظرة إلى العالـ ىي الشكؿ األرقى لموعي‪ ،‬والكاتب يطمس‬
‫العنصر األىـ مف الشخص القائـ في ذىنو حيف ييمؿ النظرة إلى العالـ‪ .‬إف النظ ةر إلى العالـ‬
‫ىي تجربة شخصية عميقة يعيشيا الفرد‪ ،‬وىي أرقى تعبير ّْ‬
‫يميز ماىيتو الداخمية‪ ،‬وىي تعكس‬
‫( ٖ)‬
‫ويتضح بذلؾ أف بياف النظرة الفكرية‬ ‫بذات الوقت مسائؿ العصر اليامة عكساً بميغاً"‪.‬‬

‫(ٔ) الرواية والروائي‪ ،‬صٖ٘‬


‫(ٕ) فف القصة‪ ،‬ص‪ٔٓٚ‬‬
‫)ٖ( دراسات في الواقعية‪ ،‬صٕ٘‬

‫‪62‬‬
‫لمشخصيات الروائية إلى العالـ المحيط بيا بكؿ حرية ّْ‬
‫يشكؿ عامبلً ىاماً وضرورياً مف الترجمة‬
‫الفنية الصادقة لمواقع المعيش‪ ،‬وأث هر في تشكيؿ النوازع اإلنسانية المختمفة التي تسيـ في تكويف‬
‫الشخصية الفردية لئلنساف وتميزه عف اآلخريف‪.‬‬

‫واذا كانت الرواية الواقعية تعتمد عمى اختيار الشخصية الواقعية بشروطيا المعروفة‪ ،‬فإنيا‬
‫تعتمد في الحدث عمى اختيار األحداث المؤثرة في حياة اإلنساف‪ ،‬فأحداث الواقع التي يواجييا‬
‫اإلنساف كثي ةر ومتغيرة‪ ،‬وما ييـ منيا تمؾ التي ترتبط بقيـ اإلنساف الفكرية والحضارية التي تتسـ‬
‫بصفة الثبات واالستقرار فبل تتأثر بتغير الظروؼ واألحواؿ "فحرية اإلنساف وحقو المشروع في‬
‫االعتقاد‪ ،‬وقدرتو عمى االختيار ومقاومتو لمظمـ والتوحش‪ ،‬ورفضو لمقير والتعذيب أمور ليست‬
‫مرتبطة بعصر دوف آخر‪ ،‬وال وطف دوف غيره‪ ،‬وال إنساف دوف سواه‪ ،‬بؿ ىي أمور إنسانية عامة‬
‫( ٔ)‬
‫ذات أىمية في كؿ زماف ومكاف‪ ،‬ومف ىنا فإف التصدي ليا يمثؿ اختيا اًر موفقاً"‪.‬‬

‫إف عكس الواقع مف خبلؿ فف الرواية يرتكز عمى إثارة قدرات اإلنساف الكامنة‪ ،‬وتوفير‬
‫اإلمكانات البلزمة لتفعيؿ ىذه القدرات‪ ،‬التي إف أحسف اإلنساف استثمارىا كانت سبيبلً لبلنفتاح‬
‫والتغيير نحو حياة أفضؿ‪ .‬فػ "المعرفة العميقة لمحياة ال تنحصر أبدًا في معاينة الشأف اليومي‪،‬‬
‫بؿ إنيا تقوـ استنادًا إلى استيعاب المبلمح الجوىرية‪ ،‬عمى خمؽ شخصيات وحاالت غير ممكنة‬
‫بتماميا في الحياة اليومية‪ ،‬لكنيا تكشؼ عف تمؾ الطاقات الفاعمة والميوؿ‪ ،‬التي ال يظير فعميا‬
‫( ٕ)‬
‫في الحياة اليومية إال مشوشاً"‪.‬‬
‫الواقعية سماتيا وتحوالتيا‪:‬‬
‫أسيمت الرواية الواقعية في التجديد األدبي مف خبلؿ تحميؿ الواقع وتفسيره‪ ،‬فانتقمت بذلؾ‬
‫مف مرحمة البساطة والتقميد إلى مرحمة النضج الفني‪ ،‬إذ إف "التجديد األدبي يعني إحساس‬
‫األديب بأف األدوات القديمة أو المألوفة لـ تعد ناجعة في تحميؿ الواقع والتفاعؿ معو وتفسي هر‬
‫( ٖ)‬
‫ولذلؾ اختمفت‬ ‫وفيمو‪ ،‬وليذا البد مف البحث عف أدوات جديدة فاعمة في ىذا المضمار"‪.‬‬
‫الرواية الواقعية عف الرواية التقميدية التي كانت تعتمد عمى الوعظ واإلرشاد والتعميـ‪ ،‬بؿ إف‬
‫الرواية الواقعية عممت عمى بمورة رؤية فنية جديدة لمعالـ مف خبلؿ فيـ الظواىر‪ ،‬والربط فيما‬
‫بينيا‪ ،‬وتفسيرىا وتعميميا واستكشافيا‪ ،‬والتعرؼ عمى خباياىا وأعماقيا‪ ،‬فيذه الرواية تتغمغؿ إلى‬

‫(ٔ ) الواقعية اإلسبلمية في روايات نجيب الكيبلني‪ ،‬ص‪ٖٚ‬‬


‫)ٕ( دراسات في الواقعية‪ ،‬ص ٖٗ ‪ٖ٘ -‬‬
‫)ٖ( الرواية العربية في فمسطيف واألردف في القرف العشريف‪ ،‬ص‪ٜٗ‬‬

‫‪63‬‬
‫جذور الظواىر االجتماعية وتصور عبلقاتيا مف الداخؿ‪ ،‬وقد انعكس كؿ ذلؾ عمى طريقة بنائيا‬
‫وأسموبيا وتقنياتيا الحديثة التي تسيـ في تحقيؽ االنسجاـ بيف عناصرىا‪ .‬فػ "لـ تعد الرواية فقط‬
‫بل مف سبؿ التفكو والتسمية‪ ،‬أو وسيمة مف‬ ‫بل مف ّْ‬
‫المقببلت‪ ،‬أو سبي ً‬ ‫مادة مف مواد اإلغراء‪ ،‬أو ّْ‬
‫مقب ً‬
‫وسائؿ صب المعمومات والمعارؼ المتدفقة في شتى حقوؿ المعرفة‪ ،‬أو منب اًر يعتميو الكاتب‬
‫ليقذؼ بمواعظو ونصائحو وحكمو عمى رؤوس الناس"( ٔ)‪ ،‬بؿ أصبح لمرواية معما اًر فنياً أوجب‬
‫عمى المؤلؼ تثقيؼ نفسو واالرتقاء بقدراتو الفنية واإلبداعية التي تمكنو مف ممارسة دو هر‬
‫اإلصبلحي في المجتمع الذي يستمد منو طاقتو اإلبداعية‪ ،‬ويجعؿ مف قضاياه الفكرية والثقافية‬
‫واالجتماعية والسياسية دعامة أساسية لمضاميف رواياتو الفنية التي تعمؿ عمى إثارة المجتمع‬
‫وتحريكو وبعثو مف جديد‪ .‬ويتـ في الرواية الواقعية الحديثة التركيز عمى اإليياـ بواقعية عالميا‬
‫الفني ومشابيتو لمواقع المعيش‪ ،‬فالرواية الواقعية رغـ كونيا عمبلً فنياً يرتكز عمى الخياؿ إال إنيا‬
‫بنية دالة تحاوؿ تسميط الضوء عمى المشاكؿ واآلالـ التي يعايشيا اإلنساف في عالمو؛ مف أجؿ‬
‫الكشؼ عف مواقع الخمؿ والبحث عف الحموؿ المناسبة والكفيمة بإيجاد حياة أفضؿ‪.‬‬

‫ويمكف لمباحث أف يذكر سماتيا التي ميزتيا والتي تشير إلى ما أحدثتو مف تحوالت‪:‬‬
‫ٔ ‪ -‬الرواية الواقعية وسيمة لمتعبير عف أزمة الفرد واإلنساف المعاصر سياسياً واجتماعياً‬
‫وفكرياً‪ ،‬فمـ تعد وسيمة لمتعميـ والوعظ واإلرشاد‪ ،‬أو سبيبلً لمتسمية والترفيو‪ ،‬بؿ تخطت‬
‫ذلؾ لتعبر عف معاناة اإلنساف الحضارية في كؿ المجاالت‪.‬‬
‫الذاتية والحس الفردي‪ ،‬حيث تيتـ الرواية الواقعية بتصوير المشاعر‬
‫ٕ ‪ -‬احتراـ التجربة ّ‬
‫اإلنسانية في المواقؼ المختمفة‪ ،‬وتبتعد عف الشخصيات المطمقة أو النمطية التي تعتمد‬
‫عمييا الرواية التقميدية‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬التدرج الفني والتصميـ اليندسي المتقف‪ ،‬الذي يعتمد عمى الترابط بيف األحداث وتسمسميا‬
‫تسمسبلً منطقياً‪ ،‬يمتزـ بمبدأ ال سببية‪ ،‬ويبتعد عف جو المصادفات والمفاجآت الغريبة‪،‬‬
‫فيكوف العمؿ الروائي أكثر إقناعاً وتأثي اًر في تقديـ التجربة اإلنسانية‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬التنوع في أشكاؿ البناء الفني لمرواية‪ ،‬فتا ةر يتـ تقسيـ الرواية إلى عدد مف الفصوؿ ليس‬
‫ليا عناويف‪ ،‬وتارة تتكوف الرواية مف عدد مف األقساـ التي يجمعيا حدث واحد‪ ،‬ويكوف‬
‫لكؿ قسـ عنواف رئيسي وىو تحتوي عمى عدد مف الفصوؿ المرتبة ترتيبًا رقميًا‬
‫تصاعدياً‪.‬‬

‫)ٔ( الجيود الروائية‪ ،‬ص‪ٚٙ‬‬

‫‪64‬‬
‫٘ ‪ -‬تقديـ المادة الروائية بموضوعية فنية‪ ،‬حيث يختفي دور الكاتب باالبتعاد عف المداخبلت‬
‫والتعميقات والتفسيرات غير المجدية في العمؿ الفني‪ ،‬والتي ّْ‬
‫تنفر القارئ وال تقنعو بالعمؿ‬
‫األدبي‪.‬‬
‫‪ - ٙ‬تحقيؽ التوازف والتفاعؿ بيف األحداث والشخصيات‪ ،‬حيث تنمو الشخصيات وتتطور‬
‫بشكؿ فني يظير استقبلليا الذاتي ويسيـ بوضوح في تطور األحداث‪.‬‬
‫‪ - ٚ‬تفعيؿ عنصري الزماف والمكاف‪ ،‬فبل يكونا مجرد وعاء تدور فيو األحداث‪ ،‬بؿ يتـ‬
‫توظيفيما بشكؿ فني وبتقن يات سردية جديدة؛ تعمؿ عمى إبراز دور كؿ منيما في تطور‬
‫األحداث‪ ،‬والتأثير عمى الشخصيات‪ ،‬مما يؤدي إلى زيادة التماسؾ والترابط في البناء‬
‫الروائي بشكؿ عاـ‪.‬‬
‫‪ - ٛ‬االعتماد عمى المغة اإليحائية التصويرية المؤثرة‪ ،‬مع االبتعاد عف المغة التقريرية‬
‫المباشرة التي كانت مسيطرة ع مى الرواية التقميدية‪ ،‬مما أدى إلى تقريب المشاىد‬
‫واألحداث والشخصيات مف ذىف القارئ‪ ،‬األمر الذي جعمو يعيش الحدث الروائي‬
‫ويشعر بو‪ ،‬كأنو يشارؾ في تكوينو‪.‬‬
‫‪ - ٜ‬التقميؿ مف االعتماد عمى شخصية الراوي التقميدي كمي المعرفة‪ ،‬وتوظيؼ طرؽ فنية‬
‫جديدة في الحكي مثؿ الراوي المحا يد‪ ،‬والراوي المشارؾ بضمير المتكمـ الذي يضع‬
‫السارد والقارئ وجياً لوجو دوف وسيط‪ ،‬مما يمنح الشخصية الروائية مزيداً مف الحرية‬
‫واالستقبللية في تقديـ نفسيا بشكؿ مؤثر وجذاب‪.‬‬
‫ٓٔ‪ -‬التأثر بتقنيات التحميؿ النفسي مف خبلؿ توظيؼ تقنيات سردية حديثة مثؿ التذكر‬
‫والتداعي والحوار الداخمي وغير ذلؾ مف التقنيات التي تكشؼ عف األعماؽ النفسية‬
‫ومشوؽ‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫لمشخصيات الروائية‪ ،‬وتصور صراعاتيا النفسية وتفسّْرىا بشكؿ ج ّذاب‬
‫ٔٔ‪ -‬توظيؼ الرمز الفني كمعادؿ موضوعي لمواقع‪ ،‬يعمؿ عمى إشراؾ القارئ واثارة نشاطو‬
‫الذىني في تحميؿ العمؿ الفني‪ ،‬واستكناه أسراره وخفاياه‪ ،‬بالكشؼ عف العبلقات المتبادلة‬
‫بيف العالـ الروائي الخيالي والعالـ الواقعي الحقيقي‪.‬‬

‫تحوالت الرواية التاريخية نحو الواقع‪:‬‬

‫َّ‬
‫شكؿ ارتباط الرواية بالواقع نقمة نوعية في تحوؿ الرواية التاريخية وتطورىا بشكؿ عاـ‪،‬‬
‫حيث تخطت الرواية التاريخية مرحمة عرض التاريخ‪ ،‬بغرض التعميـ أو التسمية والترفيو‪ ،‬فعممت‬
‫عمى توظيؼ التاريخ لمتنظير بالواقع‪ ،‬فتناولت القضايا الحياتية ومتغيراتيا السياسية واالجتماعية‬
‫والثقافية‪ ،‬وبينت الصراع اإلنساني في جوىره الحقيقي‪ ،‬وحاولت البحث عف األسباب والدوافع‬

‫‪65‬‬
‫الحقيقية لمسموؾ اإلنساني مف منط مؽ تاريخي يشبو الواقع ويحاكيو‪" ،‬فالييمنة الفنية عمى التاريخ‬
‫تعني إمكانية المبدع عمى تعميـ خصوصية الحاضر المباشر‪ ،‬بإيبلء األىمية الممموسة‬
‫(التاريخية) لمزماف والمكاف‪ ،‬والظروؼ االجتماعية‪ ،‬والنظرة إلى اإلنساف بوصفو نتاج نفسو‬
‫ونتاج نشاطو في التاريخ‪ ،‬مما يؤدي بالضرورة إلى اعتبار فكرة التقدـ اإلنساني قانوناً تاريخياً‬
‫( ٔ)‬
‫وعمى ذلؾ‪ ،‬فقد تجاوزت الرواية التاريخية بإسقاطاتيا الواقعية تمؾ النظ ةر‬
‫وفمسفياً محسوساً"‪.‬‬
‫البسيطة التي َّ‬
‫عبر عنيا روادىا األوائؿ في التزاميـ بالتاريخ‪ ،‬بحيث راحت "تعمؽ صمتيا‬
‫المرضي بالحادثة التاريخية‪ ،‬بقدر‬
‫بالحاضر والواقع المعيش‪ ،‬ولـ تعد تبدي ذلؾ االىتماـ َ‬
‫اىتماميا بما تمنحو الحادثة لمراىف"‪ )ٕ (.‬ودخمت بذلؾ مرحمة جديدة‪ ،‬تحررت فييا مف عبودية‬
‫التاريخ‪ ،‬وأضحت نصًا روائيًا يستميـ التاريخ ويوظّْفو وفؽ بنية فنية خاصة‪ ،‬تمزج بيف الماضي‬
‫والحاضر‪ ،‬لتعبر عف رؤية الكاتب‪ ،‬التي تتعرض لمعاناة اإلنساف الحضارية في عالمو الواقعي‪،‬‬
‫حيث تعمؿ عمى زيادة التحريض واإلثارة مف أجؿ النيوض بالحاضر‪ ،‬ومحاولة تغييره نحو‬
‫األفضؿ‪.‬‬

‫لـ يقؼ األمر عند ذلؾ فقد تطورت الحبكة الروائية وأصبحت أكثر تماسكاً وترابطاً مف‬
‫بناء ىندسياً منتظماً لو بداية ووسط ونياية‪ ،‬ومالت الحوادث إلى التحميؿ‬
‫ذي قبؿ‪ ،‬واعتمدت ً‬
‫المنطقي‪ ،‬ولـ يعد مقبوالً االعتماد عمى المصادفة والقدر‪ ،‬فاختفت الخوارؽ والمبالغات التي ال‬
‫لزوـ ليا‪" ،‬وتطورت العقدة مف البساطة والتفسخ بيف قضية حب وسرد تاريخ إلى عمؿ متناغـ‬
‫ينبض بالحياة"( ٖ) كؿ ذلؾ دفع بالرواية التاريخية نحو الواقعية التي تُعنى بتصوير الحياة اليومية‬
‫في صورتيا الحقيقية بشكؿ فني ىادؼ مف خبلؿ استخداـ تقنية الرمز إذ "يكتب الروائي العربي‬
‫اليوـ مف داخؿ مجتمع ال يكؼ عف التدحرج نحو االنحدار واالنغبلؽ‪ ،‬محاص اًر بأنظمة ال‬
‫ديمقراطية؛ ومف ثـ فإف كتابتو تكتسي قوة رمزية باتجاه مقاومة شروط اليأس‪ ،‬وتسعؼ عمى‬
‫صوغ أسئمة جذرية بحثًا عف مستقبؿ"‪ )ٗ (.‬وىذا ما حصؿ في الرواية التاريخية إذ تـ توظيؼ‬
‫الرمز التاريخي الذي يعمؿ عمى المزج بيف الزمنيف الماضي والحاضر‪ ،‬بحيث ّْ‬
‫يشكؿ ىذا الرمز‬
‫معادالً موضوعيًا يحاكي عالـ الواقع ويشابيو‪ ،‬ويتـ بذلؾ إسقاط الماضي التاريخي عمى الواقع‬
‫المعاصر‪ .‬وترى د‪ .‬عائشة عبد الرحمف إنو "ميما يوغؿ األديب المعاصر في الماضي البعيد‬

‫(ٔ) الرواية والتاريخ (دراسة في مدارات الشرؽ)‪ ،‬ص‪ٚ‬‬


‫(ٕ ) نحو ممحمة روائية عربية (دراسة في مدارات الشرؽ)‪ ،‬صٓٔ‬
‫)ٖ( الواقعية في الرواية العربية‪ ،‬ص‪ٕٔٛ‬‬
‫(ٗ) الرواية العربية ورىاف التجديد‪ ،‬صٔٗ‬

‫‪66‬‬
‫لتتحقؽ لو مبلبسةُ التجربة األدبية واالندماج التاـ في مسرح األحداث التي اختارىا مف القديـ‬
‫موضوعًا لعممو األدبي‪ ،‬بؿ ميما يغب عف الزماف والمكاف في استغراقو الوجداني فيما ُيكتب‬
‫( ٔ)‬
‫وقد‬ ‫عنو مف العصور الخوالي‪ ،‬يظؿ دائمًا عمى اتصاؿ حتمي وثيؽ بعصرنا الذي نعيش فيو"‪.‬‬
‫َّ‬
‫عبرت الرواي ة التاريخية عف رؤية مبدعيا واتجاىاتو الفكرية‪ ،‬في تعاممو مع قضايا الواقع‬
‫المختمفة‪ ،‬ولذلؾ نجد تنوعاً في طبيعة الروايات التاريخية التي تستميـ التاريخ وتوظفو فنياً بطرؽ‬
‫مختمفة‪.‬‬

‫ارتبطت الرواية التاريخية بالواقع العربي ارتباطاً وثيقاً‪ ،‬وخاصة األحداث التي مر بيا‬
‫الوطف العربي في نياية القرف التاسع عشر ومطمع القرف العشريف وأثر الحربيف العالميتيف‬
‫األولى والثانية ونتائجيما المتمثمة في تقسيـ الوطف العربي واضعافو‪ ،‬وضياع فمسطيف واقامة‬
‫دولة الكياف الصييوني‪.‬‬

‫لقد شكمت األحداث السياسية المتصاعدة في العالـ العربي واإلسبلمي آ نذاؾ في اتجاه‬
‫الكثير مف كتاب الرواية إلى التاريخ العربي واإلسبلمي ليبحثوا عف النماذج المشابية لواقعيـ‬
‫الذي يحيونو‪ ،‬ويسقطونيا عميو‪ ،‬في محاولة لبث روح األمؿ في نيضة األمة العربية واإلسبلمية‬
‫ومشرفة يمكف‬
‫ّْ‬ ‫مف جديد رغـ ما تحياه مف ضعؼ وىواف‪ ،‬مف خبلؿ تقديـ نماذج تاريخية حقيقية‬
‫االحتذاء بيا لتغيير ىذا الواقع المأساوي‪.‬‬

‫وقد سيطر عمى تحوالت الرواية التاريخية مف حيث الموضوع ومقاربة التاريخ في تمؾ‬
‫الفترة اتجاىاف ‪ ،‬االتجاه األوؿ يعود لمتاريخ الفرعوني القديـ ويسقطو عمى الواقع ويمثمو نجيب‬
‫محفوظ‪ ،‬واالتجاه الثاني يركز عمى ال تاريخ اإلسبلمي ويمثمو عمي أحمد باكثير‪ ،‬وسنتناوؿ كؿ‬
‫كاتب مف الكاتبيف السابقيف عمى حدة‪ ،‬لنتعرؼ عمى إسياماتو في اتجاه الرواية التاريخية نحو‬
‫الواقع موضوعياً وفنياً‪ ،‬وىو ما سنعرض لو في المبحثيف التالييف‪.‬‬

‫(ٔ ) قيـ جديدة لؤلدب العربي القديـ والمعاصر‪ ،‬صٕ‪ٔٙ‬‬

‫‪67‬‬
‫المبحث الثاني‬

‫االتجاه نحو التاريخ الفرعوني عند نجيب محفوظ‬

‫عد نجيب محفوظ مف أشير وأبرز كتاب الرواية العربية‪ ،‬وقد لُقّْب بأميرىا‪ ،‬ووصؿ إلى‬
‫ُي ُّ‬
‫العالمية بحصولو عمى جائزة نوبؿ لآلداب سنة ‪ٜٔٛٛ‬ـ‪ ،‬وترجمت أعمالو إلى معظـ لغات‬
‫العالـ‪.‬‬

‫اتجو نجيب محفوظ إلى الرواية التاريخية في بداية إنتاجو الروائي‪ ،‬وقد خطط لعمؿ‬
‫أربعيف رواية تاريخية تركز عمى البيئة الفرعونية لمصر القديمة بمراحميا المختمفة‪ ،‬إال أنو لـ‬
‫( ٔ)‬
‫فقد بدأ حياتو األدبية بثبلث روايات تاريخية‪ ،‬ىي عمى‬ ‫يكمؿ مشروعو الروائي التاريخي‬
‫الترتيب (عبث األقدار) عاـ ‪ٜٖٜٔ‬ـ‪ ،‬و(رادوبيس) عاـ ٖٗ‪ٜٔ‬ـ‪ ،‬و(كفاح طيبة) عاـ ٗٗ‪ٜٔ‬ـ‪،‬‬
‫واتجو بعد ذلؾ اتجاىًا واقعيًا اجتماعيًا وسياسيًا يركز فيو عمى القضايا الحياتية لمشعب‬
‫المصري‪ .‬عمماً بأف رواياتو التاريخية لـ تنفصـ عف الواقع المصري خاصة روايتو الثالثة التي‬
‫شكمت البداية الفنية الحقيقية لمرواية التاريخية ذات االتجاه الواقعي‪.‬‬

‫عوامل اتجاه نجيب محفوظ نحو التاريخ الفرعوني‪:‬‬

‫ترجع أسباب اتجاه نجيب محفوظ في معالجة القضايا السياسية واالجتماعية والفكرية‬
‫لممجتمع المصري إلى العصر الفرعوني إلى‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬إعجابو بالحضارة الفرعونية ورغبتو في ربط الثقافة المصرية الحديثة بالتاريخ الفرعوني‪،‬‬
‫ومما يدؿ عمى ذلؾ ترجمتو لكتاب (مصر القد يمة) لمكاتب اإلنجميزي جيمس بيكي إلى‬
‫العربية‪ ،‬وال شؾ أف اختياره لترجمة ىذا الكتاب لـ ِ‬
‫يأت مف فراغ‪ ،‬فبلبد مف وجود اىتماـ‬
‫بالحضارة المصرية القديمة‪ ،‬ورغبة في تعميؽ الوعي بالتاريخ الفرعوني‪ ،‬األمر الذي‬
‫أمده بمرجعية فكرية وثقافية وحضارية عف ذلؾ العصر‪ ،‬مما أىمو لبدء مشروعو الروائي‬
‫بالعودة إلى التاريخ المصري القديـ الذي مؤل ذىنو ووجدانو‪ ،‬فأبدع رواياتو الثبلث‬
‫األولى التي عممت عمى إحياء أمجاد الفراعنة وبعثيا في ثوب فني جديد‪.‬‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬عشرة أدباء يتحدثوف‪ ،‬صٖ‪ٖٙٗ- ٖٙ‬‬

‫‪68‬‬
‫ٕ ‪ -‬وجد أف العصر الفرعوني زمف احتبلؿ اليكسوس لمصر أكثر قرباً ومشابية لواقع مصر‬
‫السياسي واالجتماعي‪ ،‬المتمثؿ في فساد الحكـ وطوؿ أمد االحتبلؿ اإلنجميزي وضعؼ‬
‫أمؿ التحرر‪ ،‬األمر الذي لـ يتكرر في العصور التاريخية األخرى‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬اإلحساس باالغتراب الثقافي وعدـ القدرة عمى التكيؼ مع الظروؼ االجتماعية‬
‫والسياسية‪ ،‬وعدـ الثقة في إمكانية تحقيؽ االستقبلؿ ونيؿ الحرية في ظؿ تعدد األفكار‬
‫واختبلؼ التوجيات السياسية السائدة‪ ،‬كؿ ذلؾ أدى بو إلى العودة إلى التاريخ‬
‫الفرعوني؛ ليبرز مف خبللو قيمة اإلنساف المصري وتميزه وتمسكو بحضارتو وأرضو‪.‬‬
‫ومما يؤكد حالة االغتراب لدى محفوظ قولو‪" :‬حينما أعود بذاكرتي إلى ىذه السنوات‬
‫أجد أف باكثير والسحار لـ يداخميما أي شؾ في قيمة إ نتاجيما ووجوب االستمرار فيو‪،‬‬
‫فقد كانا ممتمئيف بالتفاؤؿ‪ ،‬أما عادؿ كامؿ وزكي مخموؼ وأنا فكنا نعاني مف أزمة‬
‫نفسية غريبة جداً طابعيا التشاؤـ الشديد واإلحساس بعدـ قيمة أي شيء في الدنيا‪،‬‬
‫والعبث‪ ..‬ولعؿ منشأ ىذه الحالة راجع إلى تبمور كؿ ىذه الصفات في حياتنا السياسية‬
‫( ٔ)‬
‫وقتذاؾ"‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬ربما يرجع توجو نجيب محفوظ إلى الفرعونية إلى ظيور ثقافتيف في ظؿ االستعمار‪،‬‬
‫تمثمتا في الثقافة الفرنسية (الفرانكفونية) والثقافة اإلنجميزية (األنجموسكسونية)؛ فأراد‬
‫اعتماد تيار ثقافي آخر يستند إلى مصر الفرعونية( ٕ)‪ ،‬بحيث يحدد مف خبللو شخصية‬
‫مصر المستقمة البعيدة عف التبعية الفكرية والثقافية لقوى االستعمار‪.‬‬
‫٘ ‪ -‬التأثر بدعاة تمصير األدب العربي وربطو بالعصر الفرعوني مف أمثاؿ دعوات أحمد‬
‫لطفي السيد وسبلمة موسى المذاف كاف ليما األثر الكبير في تشكيؿ شخصية نجيب‬
‫محفوظ األدبية‪ ،‬حيث َّ‬
‫عد محفوظ سبلمة موسى ممثبلً إلرادة النيضة األدبية الحديثة‪،‬‬
‫( ٖ)‬
‫فكاف البحث عف‬ ‫ووصؼ عبلقتو بو بقولو‪" :‬عبلقتي بو عبلقة تمميذ بأستاذ عظيـ"‬
‫أصوؿ الشخصية المصرية في جذورىا الفرعونية كأساس النتماء المصرييف‪ ،‬في‬
‫مواجية تيار بعث التراث العربي اإلسبلمي الذي يرى في الحفاظ عمى الفكر اإلسبلمي‬
‫أساسًا لبلستقبلؿ والتقدـ والتحرر مف التبعية‪.‬‬

‫(ٔ) عشرة أدباء يتحدثوف‪ ،‬صٓ‪ٖٚ‬‬


‫(ٕ ) انظر‪ ،‬روايات نجيب محفوظ التاريخية (بحث)‪ ،‬صٖٕٔ‬
‫(ٖ) أساتذتي لنجيب محفوظ‪ ،‬صٕٖٕ‬

‫‪69‬‬
‫‪ - ٙ‬انتمائو إلى حزب الوفد وتأثره بأفكاره‪ ،‬فقد كاف محفوظ ينظر إلى الواقع الثقافي‬
‫والسياسي‪ ،‬مف خبلؿ المنظور السياسي لحزب الوفد الذي انضـ إليو عاـ ٕ٘‪ ،ٜٔ‬وظؿ‬
‫مخمصًا لمبادئو األساسية عمى امتداد مراحؿ تاريخو اإلبداعي‪ ،‬ولذلؾ بدأ توجياتو‬
‫السياسية والفكرية في الثبلثينيات واألربعينيات بالروايات التاريخية التي تنسجـ مع‬
‫السياسية المصرية العامة الداعية إلى تغميب االتجاه المصري الفرعوني‪.‬‬

‫روايات محفوظ التاريخية وعالقتيا بالواقع‪:‬‬

‫فتحت روايات نجيب محفوظ مسمكاً جديدًا لمرواية التاريخية في األدب العربي‪ ،‬ذلؾ أنيا‬
‫ال تيدؼ إلى تعميـ التاريخ أو خدمتو كروايات جورجي زيداف‪ ،‬بؿ ىدفت إلى اتخاذ التاريخ َّ‬
‫مطية‬
‫لتصوير الواقع المصري‪ ،‬ومناقشة قضاياه االجتماعية والسياسية بشكؿ فني رامز‪ ،‬حيث كانت‬
‫مصر خاضعة في تمؾ الفت ةر لبلحتبلؿ ا لبريطاني الظالـ‪ ،‬ولمنظاـ الممكي المستبد المتحالؼ مع‬
‫القوى اإلقطاعية الغنية المعادية لمتحرر والديموقراطية‪ ،‬المتكب ةر عمى الشعب المصري والممارسة‬
‫لكؿ أشكاؿ القمع المادي والمعنوي ضد القوى الوطنية التي تيدؼ إلى التحرر مف االحتبلؿ‬
‫واالستبداد‪.‬‬

‫كانت ىذه المؤثرات ا لخارجية فيما يبدو ىي التي أدت بمحفوظ إلى كتابة الروايات‬
‫التاريخية؛ ليقدـ مف خبلليا الحؿ الذي يراه مناسباً لتمكيف المصرييف مف التحرر واالستقبلؿ‪،‬‬
‫ولذلؾ عمد إلى استعارة نماذج مشابية ليذا الواقع مف التاريخ المصري القديـ يمكف مف خبلليا‬
‫التحفيز عمى محاكاتيا في ا لحاضر‪ ،‬وىذا يدؿ عمى مدى عمؽ اإلحساس الوطني آنذاؾ‪ ،‬عبلوة‬
‫عمى اإلدراؾ العاـ والتفاعؿ مع الحس الشعبي الرافض لوجود المحتؿ والحاكـ المستبد‪.‬‬

‫وقد وصؼ الناقد غالي شكري عودة محفوظ إلى زمف الفراعنة بالقناع الذي يخفي الوجو‬
‫الحقيقي لحمـ الثو ةر حيث قاؿ‪" :‬فالقناع ىو مصر القديمة‪ ،‬ومصر الفرعونية مف عناصر الرؤية‬
‫( ٔ)‬
‫الرومانسية ليذا العصر وىو يكافح االستعمار األجنبي بإبراز أمجادنا القديمة"‪.‬‬

‫وعمى ذلؾ فقد عبرت رواية (عبث األقدار) عف إدانة االستبداد مع التسميـ بالحقيقة‬
‫القدرية في حتمية التغيير‪ ،‬فكاف االستسبلـ لمقدر دوف إرادة فعم ية لئلنساف ىو سيد الموقؼ‪،‬‬
‫وىذا الطرح يبرز نظرة سمبية لمتعامؿ مع الواقع‪ .‬أما رواية (رادوبيس) فقد فضحت الفساد‬
‫الممكي‪ ،‬وطالبت بالقضاء عمى رأس النظاـ مف خبلؿ قتؿ الممؾ وتصفيتو‪ ،‬إال أنيا لـ تنظر إلى‬

‫(ٔ) معنى المأساة في الرواية العربية‪ ،‬صٕٔ‬

‫‪71‬‬
‫ذلؾ األسموب بوصفو وسيمة لمتحرر والتغيير‪ ،‬وىذا يتضح مف خبلؿ تصوير الرواية لمظاىر‬
‫االحتفاء بجثماف فرعوف‪ ،‬مما يدؿ عمى عدـ كفاية التصفية الجسدية لرأس النظاـ‪ ،‬حيث يبقى‬
‫( ٔ)‬
‫صورت رواية (كفاح طيبة) قصة كفاح الشعب المصري‬
‫النظاـ قائمًا وقد يزداد عنفًا‪ .‬في حيف َّ‬
‫لنيؿ حريتو‪ ،‬وطرد الغزاة اليكسوس مف ببلده في إسقاط تاريخي لؤلحداث عمى كفاح الشعب‬
‫المصري في أوائؿ القرف العشريف لمتحرر مف االحتبلؿ البريطاني‪ ،‬فكما نجح الشعب المصري‬
‫في تحقيؽ استقبللو في العصور الغابرة فإنو سينجح أيضا في استعادة ذاتو وتأكيد ىويتو‬
‫وتحقيؽ استقبللو في العصر الحديث‪ .‬واذا كانت الدعوة إلى البحث عف اليوية المفتقدة والذات‬
‫المسموبة لمشعب المصري ال تتـ في ظؿ الموانع القائمة المتمثمة في وجود االحتبلؿ والنظاـ‬
‫الميادف لو‪ ،‬كاف لزامًا التخمص مف االثنيف معًا‪ ،‬وىذا ما أكدت عميو رواية كفاح طيبة التي‬
‫وضحت أف تغيير الواقع واصبلحو يحتاج إلى عمؿ ثوري منظـ‬ ‫سنقوـ بتحميميا ودراستيا‪ ،‬حيث َّ‬
‫ومدروس يستيدؼ كؿ أركاف الفساد في النظاـ القائـ بحيث يكوف لمجيش وأبناء مصر‬
‫المخمصيف الدور األكبر في ذلؾ‪ .‬ويشكؿ ىذا الطرح تطو اًر كبي اًر في إدراؾ الواقع السياسي‬
‫واالجتماعي المتمثؿ في فشؿ البرامج السياسية لؤلحزاب الوطنية في ظؿ النظاـ الممكي الفاسد‬
‫وسيطرة االحتبلؿ اإلنجميزي‪ ،‬ثـ عدـ جدوى عمميات المنظمات السرية‪ ،‬باإلضافة إلى الدور‬
‫الكبير الذي لعبو أبناء الطبقة الوسطى الذيف التحقوا بمدرسة الضباط أواخر الثبلثينيات‪.‬‬

‫لقد استثمر نجيب محفوظ تاريخ مصر القديـ واستخدمو لغاية واقعية واضحة وفي ىذا‬
‫المجاؿ يقوؿ‪" :‬استوح يت رواية رادوبيس ورواية عبث األقدار مف أسطورتيف‪ ،‬أما كفاح طيبة‬
‫ٍ‬
‫وقتئذ‪ ،‬وليذا تجد الجوانب التاريخية عندي‬ ‫فكانت انعكاساً لمظروؼ التي تمر بيا مصر‬
‫( ٕ)‬
‫وقد أكد النقاد عمى قوؿ محفوظ حيف أقروا بتجاوز رواية كفاح طيبة لمروايتيف‬ ‫ضعيفة"‪.‬‬
‫السابقتيف مف حيث المرجعية الثقافية الباعثة لمكتابة‪ ،‬ومف حيث التوجو واليدؼ‪ ،‬وعمى أف‬
‫اإلحساس القومي الذي يجسد آماؿ المصرييف ورغبتيـ في التحرر واالستقبلؿ مطمع األربعينيات‬
‫( ٖ)‬
‫وعمى ذلؾ اتخذت رواية كفاح طيبة بعدًا واقعيًا وسياسيًا‬ ‫ىو الدافع الحقيقي مف وراء كتابتيا‪.‬‬
‫واضحاً‪ ،‬فقد جمب نجيب محفوظ مف التاريخ الفرعوني ما يقوي عزيمة المصرييف‪ ،‬ويشجعيـ‬
‫عمى الثورة‪ ،‬وينمي لدييـ اإلحساس بالعزة والكرامة والشرؼ‪ ،‬فيـ أصحاب تاريخ عريؽ مف آالؼ‬
‫السنيف‪ ،‬وعمييـ أال يستسمموا لممحتؿ‪.‬‬

‫(ٔ) ا نظر‪ ،‬الرواية التاريخية وتمثؿ الواقع ‪http://www.aljabriabed.net/n85_04mahfoud.htm‬‬


‫(ٕ) نجيب محفوظ يتذكر‪ ،‬صٗٗ‬
‫(ٖ ) انظر‪ ،‬روايات نجيب محفوظ التاريخية (بحث)‪ ،‬ص‪ٕٕٚ‬‬

‫‪71‬‬
‫تعامل نجيب محفوظ مع التاريخ‪:‬‬

‫مف خبلؿ مقارنة أحداث رواية (كفاح طيبة) بما ورد مف أحداث تتناوؿ موضوع احتبلؿ‬
‫( ٔ)‬
‫يتضح عدـ تقيد‬ ‫اليكسوس لمصر وطردىـ منيا في كتب التاريخ الفرعوني المصري القديـ‬
‫نجيب محفوظ بالرواية التاريخية وعدـ التزامو بحرفيتيا‪ ،‬إنما كاف ح اًر في توظيؼ شخصياتو‬
‫التاريخية وبناء أدوارىا بما ينسجـ ومبتغاه الفني والموضوعي‪ ،‬وىذا شيء يحسب لو ال عميو‪،‬‬
‫فيو لـ َّ‬
‫يد ِع االلتزاـ والتقيد بالرواية التاريخية ثـ خالؼ ذلؾ كما فعؿ جورجي زيداف‪ ،‬إنما ىو‬
‫بتحرره مف الرواية التاريخية لؤلحداث يظير تأثره بوالتر سكوت الذي دعا إلى الحرية القصصية‬
‫وتوظيؼ التاريخ لخدمة الرواية وليس العكس‪ ،‬وىو يبدي أيضًا فيمًا واعيًا وتمكنًا عاليًا‬
‫بمقتضيات الفف الروائي‪ ،‬حيث كاف "لتغميب الجانب الفني لمعمؿ األدبي عمى حساب الجانب‬
‫التاريخي األثر في توجو نجيب محفوظ نحو فنية الرواية التاريخية‪ ،‬فالكاتب رغـ اعت از هز بتاريخ‬
‫( ٕ)‬
‫ولذلؾ كانت صمة نجيب‬ ‫مصر الفرعونية لـ يسمح لنفسو بالتحجر عند جزئياتو وتفصيبلتو"‬
‫محفوظ بالواقع أكثر مف صمتو بالتاريخ‪ ،‬فعبر عف واقع ومعاناة وآالـ شعبو وطموحاتو وآمالو في‬
‫التحرر واالستقبلؿ مف خبلؿ استدعاء ىذه الحادثة التاريخية واحيائيا مف جديد ٍ‬
‫بحمة جديدة‪.‬‬

‫ومف أمثمة الخروج عف الرواية التاريخية قصة الحب التي جمعت بيف الممؾ أحمس‬
‫واألميرة امنريدس ابنة ممؾ اليكسوس‪ ،‬األمر الذي لـ تذكره كتب التاريخ الفرعوني مطمقاً ولـ‬
‫تتعرض لو‪ .‬ثـ إف الرواية ذكرت أف أحمس ىو ابف كاموس في حيف أف كتب التاريخ تذكر أف‬
‫أحمس ىو شقيؽ كاموس وىو ابف سيكننرع وليس حفيده‪ .‬وقد أكدت الرواية عمى عبلقات‬
‫التعاوف واأللفة بيف مموؾ طيبة وحكاـ جنوب مصر مف النوبييف‪ ،‬حتى إف الكاتب جعؿ مف ببلد‬
‫النوبة ممجأً ومق اًر ألسرة سيكننرع بعد استشياده أثناء الدفاع عف مدينة طيبة‪ ،‬وجعؿ مف النوبة‬
‫أيضًا مرك ًاز إلعداد وتدريب الجيش الذي سيتـ عمى يديو تحرير مصر مف اليكسوس وىذا لـ‬
‫يحدث‪ ،‬فاليكسوس حسب الرواية التاريخية لؤلحداث لـ يتمكنوا مف احتبلؿ طيبة أو السيطرة‬
‫عمييا‪ ،‬كما لـ تمجأ أسرة سيكننرع بعد موتو إلى ببلد النوبة بؿ ظموا يعدوف العدة لجياد‬

‫(ٔ) انظر الكتب اآلتية‪:‬‬


‫ٔ ‪ -‬مصر القديمة‪ ،‬ص‪ٔٓٗ- ٜٜ‬‬
‫ٕ ‪ -‬مصر الفرعونية‪ ،‬ص‪ٕٓٗ- ٜٔٛ‬‬
‫ٖ ‪ -‬في تاريخ مصر القديمة‪ ،‬صٕٖٕ ‪ٕٗٔ-‬‬
‫ٗ ‪ -‬تاريخ مصر القديمة‪ ،‬جٕ‪ ،‬صٕٗ ‪ٖٙ-‬‬
‫(ٕ) روايات نجيب محفوظ التاريخية (بحث)‪ ،‬ص‪ٕٖٚ‬‬

‫‪72‬‬
‫اليكسوس وتحرير مصر مف مقرىـ في طيبة‪ ،‬بؿ إف عبلقة مموؾ طيبة مع النوبييف لـ تكف‬
‫عمى ما يراـ‪ ،‬فقد كانوا يخشوف مف تعاوف النوبييف مع اليكسوس؛ ولذلؾ فرضوا عمييـ نوعًا مف‬
‫الرقابة والحصار االقتصادي حتى يأمنوا مكرىـ‪ .‬وقد أنيى نجيب محفوظ روايتو بفرار اليكسوس‬
‫واالتفاؽ عمى الصمح ونشر السبلـ بمجرد خروجيـ مف مصر ولعؿ في ذلؾ بعداً إنسانياً‬
‫مقصوداً‪ ،‬إال أف كتب التاريخ ذكرت أف جيش أحمس ظؿ يطارد اليكسوس حتى بعد خروجيـ‬
‫مف مصر‪ ،‬ولحؽ بيـ وحاصرىـ في مدينة شاروىف جنوب غزة ثبلث سنوات حتى سقطت‪ ،‬وتـ‬
‫النصر التاـ عمى اليكسوس‪ ،‬وبعد ذلؾ وجو أحمس اىتمامو إلى إعادة تنظيـ واعمار ببلده‪.‬‬

‫التحوالت الفنية في ضول رواية كفاح طيبة‪:‬‬

‫َّ‬
‫شكؿ نجيب محفوظ البداية الفنية الحقيقية لمرواية التاريخية ذات االتجاه الواقعي في‬
‫الوطف العربي‪ ،‬وذلؾ مف خبلؿ روايتو التاريخية الثالثة (كفاح طيبة)‪ ،‬حيث اختمفت طريقة‬
‫توظيفيا لمتاريخ‪ ،‬وظير االىتماـ بالمغة اإليحائية المؤثرة‪ ،‬والشخصيات الصادقة المعبرة‪،‬‬
‫واألحداث المترابطة التي تسيـ بشكؿ إيجابي في ىندسة البناء الفني لمرواية‪ ،‬والرؤية‬
‫الموضوعية الواعية بقضايا المجتمع المصري‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬البنال الفني العام‪:‬‬

‫إف أوؿ ما يمفت االنتباه في بداية أية رواية ىو العنواف‪ ،‬ونمحظ تطو اًر بار اًز في اختيار‬
‫محفوظ لعنواف روايتو (كفاح طيبة) وما يحويو مف دالالت ورموز‪ ،‬تبدو ىامة في تسميط الضوء‬
‫عمى الدور الشعبي والحس الجماىيري وأثره في صنع التحوالت التاريخية الكبي ةر المؤثرة‪ ،‬األمر‬
‫الذي نفتقده في عناويف الروايات التاريخية عند جورجي زيداف‪ ،‬التي كانت تركز عمى الشخصية‬
‫التاريخية دوف أف تمتفت إلى ىموـ وتضحيات الشعب صاحب الفعؿ النضالي الحقيقي الذي‬
‫لواله لما نجح أي مشروع ثوري تحرري‪ .‬كما ويؤكد ىذا العنواف عمى فكرة الكفاح المسمح كحؿ‬
‫واقعي وفعاؿ لطرد االحتبلؿ وتحقيؽ االستقبلؿ في ظؿ فشؿ كؿ الحموؿ والبدائؿ األخرى‬
‫المتمثمة في المفاوضات والمساومات التي ال تجدي نفعاً بؿ تزيد مف غطرسة المحتؿ‪.‬‬

‫وقد ساىـ محفوظ في تطوير البناء الفني لمرواية التاريخية التي كانت تعتمد عمى الوحدة‬
‫المتكاممة عند زيداف وأبي حديد‪ ،‬فعمؿ عمى تقسيـ الرواية إلى ثبلثة أقساـ رئيسة منفصمة‪ ،‬تعبر‬
‫عف ثبلثة أجياؿ متعاقبة تمتد عبر الزماف والمكاف الروائي يربطيا ىدؼ واحد يسعى الجميع‬
‫لتحقيقو وىو تحرير مصر وطرد الغزاة اليكسوس‪ ،‬وكاف لكؿ قسـ عنواف عاـ يحتوي عمى عدد‬

‫‪73‬‬
‫مف المشاىد المرقمة والمرتبة ترتيباً عددياً تصاعدياً‪ ،‬القسـ األوؿ بعنواف (سيكننرع) وقد تكوف‬
‫بل‪ ،‬وكذلؾ القسـ الثاني الذي ُع نوف بػ (بعد عشرة أعواـ)‪ ،‬إال أف القسـ‬
‫مف خمسة عشر فص ً‬
‫األخير والذي يحمؿ عنواف (كفاح أحمس) كاف أكبر حجمًا مف سابقيو فقد تكوف مف أربعة‬
‫وثبلثيف مشيدًا‪.‬‬

‫يصور القسـ األوؿ تمسؾ سيكننرع ممؾ طيبة بحرية ببلده واستقبلليا في ظؿ سيط ةر‬
‫ال في التضحية والبطولو باستشياده بعد مقاومة عنيفة‬
‫اليكسوس عمى مصر‪ ،‬حيث ضرب مثا ً‬
‫لغزو اليكسوس لمممكتو‪ ،‬ويمثؿ ىذا القسـ كفاح الجيؿ األوؿ ‪-‬جيؿ اآلباء ‪ -‬الذي لـ يتمكف مف‬
‫صد اليكسوس أو ىزيمتيـ‪ .‬ويجسد القسـ الثاني كفاح األبناء الذيف اتخذوا مف ببلد النوبة مق اًر‬
‫لمتجييز واإلعداد لتحرير وطنيـ واستعادتو مف اليكسوس‪ ،‬بينما ُيظ ِير القسـ الثالث جيؿ األحفاد‬
‫ويبلحظ‬
‫الممثؿ بأحمس الذي يتمكف مف تحقيؽ النصر بيزيمة اليكسوس وطردىـ مف مصر‪ُ .‬‬
‫أف ىذه األقساـ الثبلثة غير منفصمة بؿ إنيا مترابطة ومتكاممة بحيث يفضي كؿ منيا إلى‬
‫اآلخر عبر األحداث الدائ ةر في امتداد زماني ومكاني متدرج ومنتظـ بدأ بذكر طيبة ثـ امتد إلى‬
‫ببلد النوبة التي استمر فييا عشر سنوات‪ ،‬حتى أصبحت مصر كميا مف جنوبيا إلى شماليا‬
‫ميداناً لمحرب والقتاؿ في سبيؿ نيؿ الحرية وتحقيؽ االستقبلؿ‪ .‬وال يؤخذ عمى ىذا التقسيـ إال‬
‫الزيادة الواضحة والكبيرة في عدد فصوؿ ومشاىد القسـ الثالث التي وصمت إلى أربعة وثبلثيف‬
‫يحاء لصعوبة الكفاح وتكمفتو الكبيرة وتضحياتو العظيمة‪ ،‬أو‬
‫مشيدًا‪ ،‬ولعؿ في ىذا الطوؿ رم ًاز وا ً‬
‫أف الكاتب أُجبَِر عمى ذلؾ حتى يتمكف مف إنياء قصة الحب بيف الممؾ أحمس واألمي ةر‬
‫امنريدس‪ ،‬أو لعمو لـ يرغب في إنياء الرواية بالحرب بؿ أراد أف يكمؿ النياية باالتفاؽ عمى‬
‫الصمح والسبلـ كما حدث بالفعؿ‪.‬‬

‫يتخؿ نجيب محفوظ عف القصة الغرامية في روايتو‪ ،‬بؿ جعميا أساساً في البناء الفني‬
‫َ‬ ‫لـ‬
‫لمرواية مف خبلؿ إسياميا في تطور األحداث وىو في ذلؾ يبدي تأث اًر كبي اًر بطريقة جورجي‬
‫زيداف الفنية في بناء رواياتو التاريخية‪ ،‬فيا ىو أحمس يعجب باألميرة أمنريدس ابنة ممؾ‬
‫اليكسوس ألد أعدائو‪ ،‬ثـ تجمع بينيما قصة حب‪ ،‬وىذه األمي ةر ىي التي وفرت لو سبؿ النجاح‪،‬‬
‫ومكنتو مف تخطي الحواجز أثناء وجوده في طيبة متنك ًار بزي تاجر‪ ،‬ثـ ىي نفسيا التي أنقذتو‬
‫مف الموت المؤكد حيف اعترض طريؽ عودتو إلى النوبة أحد قادة اليكسوس‪ .‬وقد أضفى الكاتب‬
‫صور الصراع النفسي‬
‫عمى ىذه القصة الغرامية بعداً إنسانياً زاد مف روعتيا وجاذبيتيا‪ ،‬حيف َّ‬
‫الذي تممؾ أحمس جراء ىذا الحب المستحيؿ‪ ،‬فيؿ يس تسمـ لرغباتو الخاصة ويستجيب لنداء قمبو‬
‫في قبوؿ حب األمي ةر ابنة الرعاة الذيف أذلوا قومو وأذاقوىـ الويبلت‪ ،‬فيعارض المبادئ التي تربى‬

‫‪74‬‬
‫عمييا أـ يرفض ذلؾ الحب ويضحي بو في سبيؿ تحقيؽ آماؿ قومو في نيؿ الحرية وتحقيؽ‬
‫االستقبلؿ؟ وظؿ ىذا الصراع يعتمؿ في صدره حتى نياية الرواية‪ ،‬صراع بيف العقؿ والعاطفة‪،‬‬
‫صراع بيف نداء القمب وأداء الواجب‪ ،‬إال أنو في النياية لـ يستسمـ لنداء قمبو ورفض االنسياؽ‬
‫وراء عاطفتو وصمـ عمى السعي مف أجؿ تحقيؽ آماؿ قومو ولو كاف ذلؾ عمى حساب قمبو‬
‫وحبو‪.‬‬

‫كذلؾ لـ يكثر نجيب محفوظ مف المصادفات كما فعؿ جورجي زيداف بمصادفاتو غير‬
‫المنطقية‪ ،‬بؿ لجأ إلى بعض المصادفات المقبولة؛ ليجيد الربط بيف أحداث روايتو وليتحقؽ‬
‫عنصر الجاذبية والتشويؽ دوف مبالغة‪ ،‬مثؿ المصادفة التي جمعت بيف أحمس واألمي ةر‬
‫امنريدس عمى شاطئ النيؿ واعجابيا بما لدية مف بضاعة وىدايا عجيبة‪ ،‬ىذا المقاء كاف سبباً‬
‫لقصة الحب التي وقعت بينيما بعد ذلؾ‪ .‬وكذلؾ المصادفة‪ ،‬التي جعمت أحمس يسمع بالظمـ‬
‫الذي تعرضت لو المرأة المصرية مف الضابط الذي أراد ضميا إلى نسائو‪ ،‬وحضر محاكمتيا‬
‫ودف ع عنيا خمسيف قطعة ذىبية ثـ تعرؼ عمى ابنيا أحمس‪ ،‬ويتضح بعد ذلؾ أف ىذه المرأة ىي‬
‫زوجة قائد الجيش بيبي‪ ،‬وأف أحمس ابف ىذا القائد الشريؼ الذي تربطو بأس ةر سيكننرع صبلت‬
‫عريقة‪ .‬فجعؿ نجيب محفوظ ىذا المقاء يتـ عف طريؽ المصادفة بالقضاء والقدر دوف تخطيط‬
‫مسبؽ‪ ،‬ولو أنو جعؿ وسيمة اتصاؿ بينيما لكاف أفضؿ وأكثر منطقية وقرباً مف واقع الحياة‪،‬‬
‫فبلبد مف بقاء أواصر الصمة وسبؿ االتصاؿ بيف القائد وأنصا هر لحيف عودتو‪ .‬وال شؾ أف ليذه‬
‫المصادفة دور كبير في أداء أحمس لميمتو ومشروعو الثوري الذي يتمثؿ في التعرؼ عمى مف‬
‫يناصروف مميكيـ ومف يرغبوف في الثورة الحقيقية عمى الرعاة لكنيـ يحتاجوف لمف يحركيـ‬
‫ويدعميـ‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬المغة وأساليب السرد‪:‬‬

‫تفوؽ نجيب محفوظ عمى سابقيو في استخدامو لمغة الروائية‪ ،‬حيث اعتمد في كتابة روايتو‬
‫عمى المغة الفصيحة سواء عمى مستوى السرد أـ الحوار‪ ،‬واستخدـ المغة استخداماً قوياً راقياً‬
‫ومتينًا‪ ،‬وفي ذلؾ يقوؿ نجيب محفوظ‪" :‬أنا ال أعترؼ إال بالفصحى لغة لمكتابة‪ ،‬والمغة العامية‬
‫ليست لغة قائمة بذاتيا‪ ،‬والمغة العامية مف جممة األمراض التي يعاني منيا الشعب‪ ،‬والتي‬
‫سيتخمص منيا حتماً عندما يرتقي‪ ،‬وأنا أعتبر العامية عيباً مف عيوب مجتمعنا مثؿ الجيؿ‬
‫( ٔ)‬
‫ولذلؾ كاف اىتماـ محفوظ بالفصحى واضحاً فيو يراىا ىدفاً يسعى‬ ‫والفقر والمرض تماماً"‪.‬‬

‫(ٔ) أنا نجيب محفوظ‪ ،‬ص٘‪ٜٔ‬‬

‫‪75‬‬
‫لتحقيقو والحفاظ عميو‪ ،‬فجاءت لغتو سمسة واضحة تصؼ المشاىد وتثري السرد وتعمؽ الحوار‬
‫بما يكفؿ تحقيؽ االنسجاـ الفني بيف كؿ عناصر العمؿ الروائي‪.‬‬

‫وقد سيطر عمى الرواية أسموب السرد التقميدي كمي المعرفة الذي يعتمد عمى ضمير‬
‫الغائب المرتبط بالزمف الماضي‪ ،‬األمر الذي يناسب الكتابة التاريخية‪ .‬وتعددت األشكاؿ المغوية‬
‫عند محفوظ بحيث تجاوزت لغة زيداف التي غمب عمييا األسموب التقريري‪.‬‬

‫ويمكف رصد أربعة أشكاؿ لغوية عمؿ نجيب محفوظ عمى توظيفيا في روايتو وىي‪:‬‬

‫‪ - 7‬المغة الخطابية‪:‬‬

‫وظؼ محفوظ المغة الخطابية التي تثير اليمـ وتحفزىا لمثورة عمى الظمـ والطغياف‬
‫وتحذرىا مف اليأس والقنوط نحو قوؿ سيكننرع مخاطبًا شعب مصر‪" :‬فإذا شاءت حكمة الرب أف‬
‫إلي جميعاً‪ ،‬إذا سقط سيكننرع فبل‬
‫يبوء جيادنا بخذالف‪ ،‬فما ينبغي أف ينقطع جيادنا قط‪ ،‬أصغوا َّ‬
‫تيئسوا فسيخمؼ كاموس أباه‪ ،‬واذا سقط كاموس خمفو أحمس الصغير‪ ،‬واذا فني جيشنا ىذا‬
‫فمصر مؤلى بالرجاؿ‪ ،‬واف تسقط بطمماي س فمتحارب كبتوس‪ ،‬واف تقتحـ طيبة فمتثب أمبوس‬
‫وسييف وبيجة‪ ،‬أو يقع الجنوب في أيدي الرعاة فينالؾ النوبة لنا فييا رجاؿ أشداء مخمصوف‪،‬‬
‫وستتولى توتيشيري األبناء بما تولت بو اآلباء واألجداد‪ ،‬فبل أحذركـ إال مف عدو واحد ىو‬
‫( ٔ)‬
‫وكذلؾ قوؿ األمير كاموس‪" :‬إف أبو فيس ينظر بجشع إلى عزتنا القومية‪ ،‬ويأبى إال‬ ‫اليأس"‪.‬‬
‫أف يذؿ الجنوب كما أذؿ الشماؿ‪ ،‬ولكف الجنوب الذي لـ يرض المذلة وعدوه في أوج قوتو لف‬
‫( ٕ)‬
‫ىذه المغة الخطابية الحماسية الممتمئة بالتضحية والفداء وقوة العزيمة ىي أكثر‬ ‫يرضاىا اآلف"‬
‫ارتباطاً ومبلءمةً لمحدث الروائي الذي تسوده أجواء الحرب والقتاؿ‪.‬‬

‫‪ - 6‬المغة الرومانسية‪:‬‬

‫اعتمد محفوظ عمى المغة الرومانسية الحالمة في وصؼ مشاىد الحب بيف الممؾ أحمس‬
‫واألميرة امنريدس التي منحيا بعداً شاعرياً جذاباً‪ ،‬أنقذ الرواية مف سيطرة السرد التاريخي‬
‫المباشر‪ ،‬وجعؿ منيا عمبلً فنياً مشوقاً‪ ،‬مثؿ ىذا المشيد الذي يصؼ المقاء بيف أحمس واألمي ةر‬
‫بعدما أنقذت حياتو مف موت محتـ عمى يد أحد قادة اليكسوس‪:‬‬

‫(ٔ) كفاح طيبة (رواية)‪ ،‬ص ٖٖٖ‬


‫(ٕ) كفاح طيبة‪ ،‬ص‪ٖٕٙ‬‬

‫‪76‬‬
‫"ووجب قمبو‪ ،‬ونظر إلى زرقة عينييا فرأى نظرة استسبلـ وحنو أعذب مف الحياة التي‬
‫وىبتو إياىا‪ ،‬وأحس أف ما بينيما مف ىواء ينتفض بح اررة عميقة بسحر يجذب إليو روحييما‬
‫ليمتقيا ويمتزجا‪ ،‬ففقد لبو وىوى عمى قدمييا‪ ..‬ثـ سألتو وقد ىفت ذؤابات مف شعرىا الذىبي عمى‬
‫جبينيا األغر وأذنييا‪:‬‬

‫ىؿ تغيب طويبلً؟‬

‫فقاؿ وىو يتنيد‪ :‬شي اًر ياموالتي‪.‬‬

‫فبلحت في عينييا نظ ةر حزف وقالت‪:‬‬

‫ولكنؾ تزمع العودة‪ ..‬أليس كذلؾ؟‬

‫نعـ ياموالتي وحؽ حياتي التي ىي لؾ ‪ ..‬وحؽ ىذه المقصو ةر المقدسة‪..‬‬

‫فمدت إليو يدىا وقالت‪:‬‬

‫إلى الممتقى‪..‬‬

‫فمثـ يدىا وقاؿ‪:‬‬


‫( ٔ)‬
‫إلى الممتقى"‪.‬‬

‫‪ - 4‬المغة الفنية التصويرية‪:‬‬

‫َّ‬
‫شكمت لغة التصوير الفني بعدًا فنيًا راقيًا‪ ،‬أسيـ في رسـ المشاىد الروائية وتوضيحيا‪،‬‬
‫ومف ذلؾ قوؿ الكاتب‪" :‬وحيف تراءى الجمعاف‪ ،‬بدأ القتاؿ واتصؿ البحر المتبلطـ بالجدوؿ‬
‫( ٕ)‬
‫وقولو في وصؼ تأثر أحمس بذكرياتو‪" :‬فبلحت في عينيو نظ ةر حناف كنور القمر‬ ‫الصافي"‪.‬‬
‫( ٖ)‬
‫وقولو في وصؼ فشؿ الرعاة‪" :‬واستطاع الرعاة أف يقاتموا في بعض‬ ‫في صفائو وحيائو"‪.‬‬
‫المواقع فدافعوا عف أنفسيـ دفاع اليائس‪ ،‬وتساقطوا كأوراؽ الخريؼ اليابسة ىبت عمييا ريح‬
‫( ٗ)‬
‫إف ليذه الصور الجمالية أىمية عظيمة في إذكاء األحاسيس والمشاعر الجياشة‬ ‫عاصفة"‪.‬‬

‫(ٔ) كفاح طيبة‪ ،‬ص‪ٖٚٛ - ٖٚٚ‬‬


‫(ٕ) كفاح طيبة‪ ،‬ص‪ٖٗٙ‬‬
‫(ٖ) كفاح طيبة‪ ،‬ص‪ٖٜٙ‬‬
‫(ٗ) كفاح طيبة‪ ،‬صٗ‪ٖٛ‬‬

‫‪77‬‬
‫لدى المتمقي‪ ،‬الذي يعجب ويتأثر بالعمؿ األدبي و يزداد تعمقاً بو‪ ،‬حي ث كانت المغة تتفجر‬
‫حيوية وصدقاً وشاعرية‪.‬‬

‫‪ - 3‬لغة الرمز‪:‬‬

‫أكثر محفوظ مف استخداـ لغة الرمز في بناء تراكيب لغتو ومف ذلؾ قولو‪( :‬ممؾ الرعاة‬
‫البيض) في وصؼ أبو فيس ممؾ اليكسوس‪ ،‬ونرى في ذلؾ داللة ورم ًاز‪ .‬فيؿ يقصد بالرعاة‬
‫البيض االحتبلؿ اإلنجميزي أـ الممؾ ذي األصؿ التركي الشركسي‪ ،‬الذي كاف ممكاً في ظؿ‬
‫االحتبلؿ وىو في األساس ليس مصرياً؟ ال شؾ أنو يقصد االثنيف معاً‪ ،‬ويذكر أف اليكسوس‬
‫يثف شعب مصر عف التفكير في حربيـ وتحرير‬ ‫سيطروا عمى مصر قرابة مائتي عاـ‪ ،‬وىذا لـ ِ‬
‫الببلد مف ظمميـ‪ ،‬وعدـ القبوؿ باألمر الواقع أو التسميـ بو‪ ،‬بؿ رفضوه وعمموا عمى تغييره فثاروا‬
‫عمى اليكسوس وحرروا مصر مف طغيانيـ‪ .‬كاف ىذا قديماً‪ ،‬أما حديثاً فاالحتبلؿ اإلنجميزي‬
‫لمصر لـ ُيِقـ كؿ ىذه المدة‪ ،‬وىا ىو يعيث فساداً وقتبلً وتخريبا‪ ،‬فما باؿ المصرييف اليوـ ال‬
‫يسعوف إلى تحرير ببلدىـ بالقوة كما فعموا قديماً مع اليكسوس؟ لقد كاف نجيب محفوظ واضحاً‬
‫في طرحو مف البداية‪ ،‬فيو يدعو المصرييف إلى الثو ةر عمى االحتبلؿ البريطاني والسعي إلى‬
‫التحرر واالستقبلؿ بالقوة والكفاح كما فعؿ أسبلفيـ الفراعنة في ماضييـ السحيؽ‪.‬‬

‫ويبدو الرمز كذلؾ في التمميح إلى استغبلؿ الببلد وسرقة خيراتيا في قوؿ أحد البائسيف‪:‬‬
‫"غير مسموح بالسرقة في ىذا البمد لغير األغنياء والحكاـ ‪ ..‬القاعدة المتبعة في مصر أف يسرؽ‬
‫( ٔ)‬
‫ويبرز ىنا النقد السياسي بشكؿ‬ ‫األغنياء الفقراء‪ ،‬ولكف ال يجوز أف يسرؽ الفقراء األغنياء"‪.‬‬
‫واضح‪ ،‬فالكاتب يصور بؤس وشقاء وفقر المصرييف الذيف ال يجدوف ما يأوييـ ويسد رمقيـ‪ ،‬في‬
‫حيف يتمتع الحكاـ واألغنياء المترفوف بكؿ المميزات‪ ،‬ويعيشوف الحياة اليانئة الرغيدة ويستغموف‬
‫مناصبيـ‪ ،‬ويسرقوف خيرات الببلد دوف رقيب أو حسيب‪.‬‬

‫ورغـ أف الرواية تتناوؿ العصر الفرعوني‪ ،‬إال أف الكاتب قد آثر استخداـ بعض األلفاظ‬
‫اإلسبلمية‪ ،‬وأطمقيا عمى وصؼ الحياة الفرعونية مثؿ‪( :‬التيميؿ والتكبير‪ ،‬الجياد‪ ،‬المؤمنيف‪،‬‬
‫( ٕ)‬
‫وفي ذلؾ داللة عمى التأثر بالحياة العربية‬ ‫الشييد‪ ،‬األدعية المختمفة‪ ،‬الصبلة‪ ،‬صبلة جامعة)‬
‫واإلسبلمية واالرتباط بيا‪ ،‬وال ننسى أف في ذلؾ إشارة إلى الحياة الواقعية وتساوقاً معيا‪.‬‬

‫(ٔ) كفاح طيبة‪ ،‬ص‪ٖ٘ٚ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬كفاح طيبة‪ ،‬صٖٖٔ‪ ،‬صٕٖٖ‪ ،‬ص‪ ،ٖٖٙ‬صٖٓٗ‪ ،‬صٖٔٗ‪ ،‬صٗ‪ٖٛ‬‬

‫‪78‬‬
‫وباإلضافة إلى ذلؾ نمحظ تأثر الكاتب بالقرآف الكريـ مف خبلؿ توظيفو لمتناص الديني‬
‫الذي يظير في قوؿ أحمس ابف القائد بيبي ألمو‪" :‬أماه ال تخافي وال تحزني"( ٔ)‪ ،‬وفي قوؿ القائد‬
‫محب‪" :‬اآلف حصحص الحؽ"( ٕ)‪ ،‬وأيضًا في وصؼ الكاتب لشدة تأثر الجنود المصرييف عندما‬
‫( ٖ)‬
‫أروا تنكيؿ اليكسوس وتمثيميـ بأىميـ حيث قاؿ‪" :‬فأسقط في أيدي الرجاؿ"‪.‬‬

‫وقد اعتمد الكاتب عمى الوصؼ التفصيمي الدقيؽ والمؤثر‪ ،‬وابتعد عف الوصؼ العاـ الذي‬
‫يختصر الحكاية وال يظير تمكنًا أو إبداعًا‪ .‬فيا ىو يصؼ الحانة التي دخميا أحمس والتو‬
‫فيقوؿ‪" :‬ودخبل الحانة معاً‪ ،‬فوجدا نفسييما في مكاف متسع حوائطو عالية‪ ،‬يتدلى مف سقفو‬
‫مصباح يعموه الغبار‪ ،‬وفي وسطو وضعت الدناف‪ ،‬يحيط بيا سور طولو ذراعاف وعرضو ذراع‪،‬‬
‫اصطفت عميو أكواب الفخار وأحاط بو الشاربوف‪ .‬ويقؼ في دائرتو صاحب الحانة فيمؤل األقداح‬
‫وقد يتكرر‬ ‫( ٗ)‬
‫يافع إلى الجموس في األركاف عمى أرض الحاف"‪.‬‬
‫ساؽ ٍ‬‫لمممتفيف بو‪ ،‬أو يرسميا مع ٍ‬
‫وصؼ المشيد أكثر مف مرة‪ ،‬ىذا الوصؼ لو دور إيجابي في توضيح جوانب الحدث والربط‬
‫بيف أجزائو المختمفة‪ ،‬ومف ذلؾ تكرار مشاىد سير المعارؾ خصوصاً في القسميف األوؿ والثالث‪،‬‬
‫حيث يغمب الطابع الحربي عمى الرواية‪ ،‬وكذلؾ المشيد المتكرر لنير النيؿ والمراكب التي‬
‫تعبره‪ ،‬ما يفسر شدة تعمؽ الكاتب وارتباطو بنير النيؿ الذي تشكمت حضا ةر مصر عمى جانبيو‪،‬‬
‫فمصر ىبة النيؿ كما قاؿ المؤرخ المصري القديـ ىيردوت‪.‬‬

‫بناء عمى ما سبؽ‪ ،‬يمكف القوؿ إ ننا الحظنا تحوالت واضحة‪ ،‬وتطورات إيجابية ممموسة‬ ‫ً‬
‫عمى لغة نجيب محفوظ الروائية‪ ،‬وكاف ىذا التطور مساي اًر لتطور رؤية الفناف الفنية التي فاقت‬
‫رؤية غيره في تناوؿ الرواية التاريخية ولغتيا‪ .‬وىذا يفضي لمحديث في التحوالت التي أصابت‬
‫الشخصية في روايتو‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬الشخصيات‪:‬‬

‫بل وتأثي ًار في تقدـ األحداث‪ ،‬حيث‬


‫كانت شخصية أحمس مف أكثر الشخصيات نموًا وتفاع ً‬
‫عمؿ الكاتب عمى تصوير صراعاتو الداخمية ومشاعره الخاصة العميقة‪ ،‬وبذلؾ َّ‬
‫تميز وتجاوز‬
‫النمطية الجامدة المسيطرة عمى بقية الشخصيات‪ ،‬فيو مف تمكف مف خداع اليكسوس ودخؿ‬

‫(ٔ) كفاح طيبة‪ ،‬ص‪ٖٙٚ‬‬


‫(ٕ) كفاح طيبة‪ ،‬صٗ‪ٖٜ‬‬
‫(ٖ) كفاح طيبة‪ٖٜٛ ،‬‬
‫(ٗ) كفاح طيبة‪ ،‬ص ‪ٖ٘ٙ‬‬

‫‪79‬‬
‫طيبة متنك اًر في زي تاجر‪ ،‬وىو أيضاً مف جمب الثوار والمقاتميف وعمؿ عمى تدريبيـ في ببلد‬
‫النوبة ثـ عاد ليحقؽ عمى أيدييـ النصر عمى اليكسوس‪ ،‬وباإلضافة إلى ذلؾ كمو ىو بطؿ‬
‫قصة الحب المستحيمة التي تخطى بيا الحواجز النفسية لشعبو ووطنو‪ ،‬ثـ ىو مف قبؿ السبلـ‬
‫وأكد عمى أىمية تحقيقو والحفاظ عميو حيث يقوؿ‪" :‬إف السبلـ أكبر مف الحرب حاجة إلى يقظة‬
‫لقد َّ‬
‫قدمت ىذه الشخصية نظرة إنسانية متسامحة حتى مع األعداء‪.‬‬ ‫‪)ٔ (.‬‬
‫النفوس وتوثب العزائـ"‬

‫لعؿ مف أىـ تحوالت بناء الشخصية عند نجيب محفوظ ىو حرصو عمى إبراز الشخصية‬
‫المصرية وتحيزه ليا في مقابؿ اليكسوس‪ ،‬فقد أطمؽ ُج َّؿ الصفات الحسنة مف شرؼ وعزة‬
‫وكرامة وتواضع وتديف وقوة وشجاعة عمى المصرييف‪ ،‬وألحؽ كؿ الرذائؿ والمفاسد باليكسوس‬
‫فتمثؿ فييـ الظمـ وقسوة الطبع والفظاعة والوحشية‪ ،‬باإلضافة إلى الفساد األخبلقي والجشع‬
‫والطمع‪ ،‬عبلوة عمى احتقار المصرييف والتكبر عمييـ‪ .‬وقد شيد الكاتب لميكسوس بالقوة‬
‫والشجاعة والتميز في فنوف القتاؿ‪ ،‬وال نرى في ذلؾ مدحًا لميكسوس بقدر ما فيو مف إشادة‬
‫وتعظيـ لجيش مصر حيث‪" :‬قاتؿ الرعاة بما عرؼ عنيـ مف الشجاعة‪ ،‬ولكنيـ كانوا يتساقطوف‬
‫( ٕ)‬
‫وال شؾ أف االنتصار عمى عدو قوي‬ ‫سقوط األوراؽ الجافة تعرضت لرياح الخريؼ العاتية"‪.‬‬
‫ٍ‬
‫خصـ ضعيؼ‪.‬‬ ‫أفضؿ بكثير مف الفوز عمى‬

‫ومف التحوالت الواضحة في تناوؿ محفوظ لمشخصية في الرواية التاريخية تفعيمو لدور‬
‫أفراد الشعب المصري وتصويره لكفاحيـ مف خبلؿ خمؽ نماذج حية‪ ،‬لعبت دو اًر وطنياً وكفاحياً‬
‫بار اًز تمثؿ في مساندة أحمس ومشاركتو في السعي لتحرير مصر وطرد اليكسوس منيا‪ ،‬وىنا‬
‫تبرز أكثر مف ش خصية شعبية مثؿ أحمس أبانا‪ ،‬وحور‪ ،‬وديب‪ .‬وىذا األمر لـ نجده عند كؿ مف‬
‫جورجي زيداف وأبي حديد المذاف كانا يركزاف عمى الشخصيات التاريخية الكبيرة ولـ يمتفتا إلى‬
‫إبراز دور الشخصيات الشعبية البسيطة في تطور األحداث‪.‬‬

‫بل جديدًا لمصراع‪ ،‬حيث تحوؿ الصراع مف صراع فردي تسيطر عميو‬
‫تبرز الرواية شك ً‬
‫السمة الشخصية بيف أبطاؿ زيداف وأبي حديد‪ ،‬إلى صراع جماعي يعبر عف الروح الشعبية‬
‫الجماىيرية‪ ،‬فجسدت رواية كفاح طيبة صراعاً بيف قوى الشعب المصري وقوى االحتبلؿ‬
‫المتمثمة في اليكسوس‪ ،‬حيث تنتصر الجماىير بقائدىا الباسؿ الشجاع مف خبلؿ العمؿ‬

‫(ٔ) كفاح طيبة‪ ،‬ص ٕٕٗ‬


‫(ٕ) كفاح طيبة‪ ،‬ص ٗٔٗ‬

‫‪81‬‬
‫الدءوب‪ ،‬واإلعداد والتدريب المستمر‪ ،‬واألخذ بأسباب النصر والتمكيف بعيداً عف جو المصادفات‬
‫الباىت‪.‬‬

‫مما يمفت االنتباه مف تحوالت تطور نظرة محفوظ إلى المرأة‪ ،‬حيث أوالىا اىتماماً كبي ًار‪،‬‬
‫ِ‬
‫يكتؼ بشخصية المرأة الفاتنة أو العاشقة عند جورجي زيداف‪ ،‬وال بشخصية المرأة الواعية‬ ‫فيو لـ‬
‫الحكيمة عند أبي حديد‪ ،‬بؿ عمؿ عمى إبراز دورىا اإليجابي والمؤثر في المجتمع‪ ،‬وذلؾ مف‬
‫خبلؿ توظيفو لثبلثة نماذج نسائية كانت فاعمة في تطور األحداث الروائية‪ ،‬وىي‪:‬‬

‫‪ - 7‬المرأة الحكيمة القائدة‪:‬‬

‫وقد بدت واضحة في رسـ شخصية األـ المقدسة (توتيشيري) ‪-‬أـ الممؾ سيكننرع ‪ -‬المثقفة‬
‫التي ضربت مثاالً في الصرامة والصبلبة والجمد‪ ،‬وكانت تحث أىؿ الجنوب‪ ،‬وتبعث األمؿ في‬
‫نفوسيـ دائماً‪ ،‬وتشجعيـ عمى تخطي الصعاب وتحقيؽ األىداؼ المتمثمة في تحرير وادي النيؿ‬
‫كمو مف حكـ الطغا ة المحتميف‪ ،‬وجعمت مف ذلؾ الغاية األسمى التي يسعى الجميع لتحقيقيا‪.‬‬
‫يقوؿ الكاتب في وصفيا‪" :‬إنيا بثت فيمف حوليا وعمى رأسيـ ابنيا الممؾ سيكننرع وحفيدىا‬
‫كاموس حب مصر جنوبيا وشماليا وكراىية الرعاة المغتصبيف الذيف ختموا العيود الجميمة أسوأ‬
‫ختاـ‪ ،‬ولقنت الجميع أف غايتيـ السامية التي يجب أف يعدوا أنفسيـ لتحقيقيا تحرير وادي النيؿ‬
‫مف قبضة الرعاة المستبديف‪ ،‬وأوصت الكينة عمى اختبلؼ طبقاتيـ مف رجاؿ المعابد ومدرسي‬
‫المدارس أف ّْ‬
‫يذكروا الناس دائمًا بالشماؿ المغتصب والعدو الغاصب‪ ،‬وما ارتكبو مف آثاـ أذؿ‬
‫بيا القوـ واستعبدىـ وان تيب أرضيـ واستأثر بخيراتيا وىبط بيـ إلى مستوى البيائـ التي تعمؿ‬
‫في الحقوؿ‪ ،‬فإذا كاف في الجنوب جذوة نار مقدسة تميب القموب وتحيي اآلماؿ فالفضؿ في‬
‫إذكائيا لوطنيتيا وحكمتيا‪ ،‬ولذلؾ قدسيا الجنوب جميعيا ودعاىا الناس األـ المقدسة‬
‫( ٔ)‬
‫توتيشيري"‪.‬‬

‫‪ - 6‬المرأة‪ :‬الزوجة واألم‪:‬‬

‫ال لمتضحية‬‫َتمثَّؿ ىذا النموذج في شخصية السيدة (أبانا) زوجة القائد بيبي الذي كاف مثا ً‬
‫والفداء فقتؿ وىو يدافع عف طيبة‪ ،‬وقد حفظت ذكرى زوجيا‪ ،‬ورفضت مساومات األعداء لمنيؿ‬
‫َّ‬
‫وضحت بعمرىا في سبيؿ تربية ابنيا (أحمس أبانا) عمى حب الوطف وكراىية اليكسوس‬ ‫منيا‪،‬‬
‫المحت ميف‪ ،‬وقد أحسنت ىذه التربية حتى أصبح ولدىا أحد القادة المحرريف‪.‬‬

‫(ٔ) كفاح طيبة‪ ،‬ص ‪ٖٕٛ‬‬

‫‪81‬‬
‫‪ - 4‬المرأة الجميمة الفاتنة‪:‬‬

‫وقد مثَّمت األميرة امنريدس ابنة ممؾ اليكسوس ىذا الجانب‪ ،‬وكانت رم اًز لمفتنة والجماؿ‪،‬‬
‫نحو قوؿ الكاتب في وصؼ رؤية أحمس ليا‪" :‬رأى وجياً تجسـ فيو الحسف والكبرياء‪ ،‬ففيو مف‬
‫دواعي الفتنة بقدر ما فيو مف نوازع الييبة‪ ،‬ورأى عينيف زرقاويف يتجمى في صفائيما التعالي‬
‫( ٔ)‬
‫وكانت أيضاً رم اًز لموفاء واإلخبلص والتضحية فقد خاطرت بمكانتيا كأميرة‬ ‫واإلقداـ"‪.‬‬
‫وسارعت ف ي إنقاذ حبيبيا (أحمس) مف غدر القائد اليكسوسي (رخ) الذي أراد قتمو‪ ،‬وعندما طاؿ‬
‫غياب أحمس أرسمت لو رسالة تعاتبو عمى نكثاف وعده بالعودة إلييا م ةر أخرى( ٕ)‪ ،‬عمماً بأنو كاف‬
‫بالنسبة إلييا تاج اًر مف عامة الشعب الذي يقع تحت احتبلليـ وسيطرتيـ‪ .‬ثـ إنيا ضحت بحبيا‬
‫وفضمت العودة إلى أىميا ذوييا عمى البقاء عند محبوبيا أحمس بعد أف اكتشفت حقيقتو؛ انظر‬
‫قوليا‪" :‬نحف قوـ الموت أروح لنفوسيـ مف اليواف ‪ ..‬أليس مف اليواف أف أفتح ذراعي آلسري‬
‫( ٖ)‬
‫وىذا موقؼ يحسب ليا‪ ،‬فقد ضحت بحبيا مف أجؿ الحفاظ عمى شرفيا وكرامة‬ ‫وعدو أبي"‪.‬‬
‫أىميا‪ ،‬كما ضحى األمير أحمس بيذا الحب مف قبؿ في سبيؿ تحرير وطنو واستقبللو‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬المكان والزمان‪:‬‬

‫شكؿ المكاف الروائي عنص ًار أساسيًا في البناء الفني لمرواية التاريخية عند نجيب محفوظ‪،‬‬
‫ويبدو ذلؾ في حضوره بشكؿ كبير في رواية (كفاح طيبة)‪ ،‬وأوؿ ما نبلحظ فعاليتو وتأثي هر في‬
‫العنواف الذي يركز عمى مدينة طيبة التي اتُ ِخذت مق اًر لكفاح اليكسوس وسعت إلى التحرر‬
‫واالستقبلؿ‪ ،‬حيث يشكؿ المكاف الروائي بعداً فنياً متخيبلً يرتبط بمكاف تاريخي حقيقي (مصر‬
‫الفرعونية)‪ ،‬ويرمز إلى مكاف واقعي يشترؾ معو في نفس الظروؼ والمبلبسات (مصر الحديثة)‪.‬‬
‫وقد ح فمت الرواية بدالالت الشوؽ والحنيف إلى الوطف المسموب‪ ،‬ثـ ركزت عمى عبلقة اإلنساف‬
‫باألرض والمكاف‪ .‬لقد رسـ محفوظ المكاف بعناية واتخذه منطمقاً أل يديولوجيتو الخاصة‪ ،‬التي‬
‫تربط المكاف (طيبة) نفسياً واجتماعياً ودينياً بالشخصيات المكونة لمحدث الروائي؛ لتحقيؽ ىدؼ‬
‫واحد ىو دحر الغزاة واستعادة المكاف المتمثؿ في الوطف المغتصب‪.‬‬

‫(ٔ) كفاح طيبة‪ ،‬صٖٖ٘‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬كفاح طيبة صٔ‪ٖٛ‬‬
‫(ٖ) كفاح طيبة‪ ،‬صٕٓٗ‬

‫‪82‬‬
‫استأثرت طيبة كمكاف ّْ‬
‫وحيز بالحظ األوفر مف الوصؼ في الرواية‪ ،‬وفي كؿ مرة يمعب‬
‫وصؼ الحيز والمكاف دو ًار فنيًا جديدًا في إثراء الحدث‪ ،‬وبياف العبلقة الوثيقة بينو وبيف‬
‫الشخصية تقوؿ الرواية‪" :‬وكاف اسفينيس يغرؽ في أحبلمو‪ ،‬فذكر طيبة وأىؿ طيبة‪ ،‬طيبة أعظـ‬
‫مدف األرض‪ ،‬المدينة ذات األبواب المائة‪ ،‬والمسبلت التي تناطح الجوزاء‪ ،‬والمعابد اليائمة‬
‫والقصور الشـ‪ ،‬والسبؿ الطويمة‪ ،‬والمياديف العظيمة‪ ،‬واألسواؽ التي ال تيدأ وال تسكف آناء الميؿ‬
‫( ٔ)‬
‫ويخاطب أحمس طيب ة وىو يسعى بالجيش إلى تحريرىا ويقوؿ‪" :‬طيبة‪..‬‬ ‫وأطراؼ النيار"‪.‬‬
‫( ٕ)‬
‫وقد‬ ‫طيبة‪ ..‬يا أرض المجد‪ ..‬ومثوى اآلباء واألجداد‪ ،‬أبشري فغداً يطمع عميؾ صبح جديد"‪.‬‬
‫بل‪" :‬طيبة‪ ..‬يا منبع دمي‪ ..‬ومنبت جسدي‪ ..‬ومرتع روحي‪..‬‬
‫خاطبيا عندما دخميا منتص ًار قائ ً‬
‫( ٖ)‬
‫لقد تمكف المكاف الروائي‬ ‫افتحي ذراعيؾ وضمي إلى صدرؾ الحنوف أبناءؾ البررة البواسؿ"‪.‬‬
‫مف تشكيؿ اليوية التاريخية والوطنية والنفسية لمشخصيات المحركة لؤلحداث‪.‬‬

‫ىذا تطور كبير يحسب لنجيب محفوظ‪ ،‬حيث كاف يغمب عمى المكاف عند جورجي زيداف‬
‫الطابع الجغرافي‪ ،‬ويقدمو كإطار عاـ تدور فيو األحداث‪ ،‬لذلؾ كاف يأخذ حي اًز كبي اًر مف الوصؼ‬
‫الذي يخمو مف المشاعر النفسية‪ ،‬كما في وصفو لموضع القصر الشرقي الكبير حيث يقوؿ‪:‬‬
‫"وموضع القصر الكبي ر الشرقي اآلف في شرقي القاىرة القديمة وشمالييا فيما بيف األزىر وباب‬
‫الفتوح‪ ،‬ويدخؿ في ذلؾ خاف الخميمي‪ ،‬وبيت القاضي‪ ،‬والجمالية‪ ،‬والنحاسيف‪ .‬وقد سمي ىذا‬
‫القصر بالشرقي تميي ًاز لو عف قصر آخر غربي أصغر منو كاف غربي القصر الشرقي‪ ،‬وبينيما‬
‫( ٗ)‬
‫وال يخفى عمى الباحث ما في ىذه الفقرة مف‬ ‫ساحة يقاؿ ليا الميداف بيف القصريف‪ ..‬إلخ"‪.‬‬
‫سيط ةر لمطابع التعميمي الجغرافي‪.‬‬

‫ولـ ترتبط رواية كفاح طيبة ّْ‬


‫بحيز واحد لؤلحداث فقد بدأت بذكر طيبة‪ ،‬وانتقمت إلى ببلد‬
‫النوبة أقصى جنوب مصر‪ ،‬ثـ شممت مصر كميا بمدنيا المختمفة مثؿ‪( :‬ىبسيؿ‪ ،‬وليكوبوليس‪،‬‬
‫وس ينوبولس‪ ،‬أرسنوي‪ ،‬ومنؼ)‪ ،‬مرو اًر بالنير المقدس –نير النيؿ كما يصفو الكاتب ‪ -‬الذي َّ‬
‫شكؿ‬
‫عبلمة مكانية وشخصية فاعمة تسيـ في تأكيد الروح المصرية الثائرة التي تسعى إلى تحرير‬
‫كامؿ تراب مصر وال تفرط بأي جزء منو‪ ،‬وىذا ليس غريباً‪ ،‬فقد جسَّد النيؿ شخصية مصر منذ‬

‫(ٔ) كفاح طيبة‪ ،‬ص٘‪ٖٚ‬‬


‫(ٕ) كفاح طيبة‪ ،‬ص٘‪ٖٜ‬‬
‫(ٖ) كفاح طيبة‪ ،‬صٓٓٗ‬
‫(ٗ) صبلح الديف األيوبي‪ ،‬صٕٕ‬

‫‪83‬‬
‫وشكؿ وحدتيا‪ ،‬وأثَّر في طبيعة شعبيا‪ ،‬وىو رمز لمحضارة المصرية في ماضييا‬
‫َّ‬ ‫األزؿ‪،‬‬
‫وحاضرىا ومستقبميا‪.‬‬

‫ويظير أثر المكاف عمى نفسية الشخصيات‪ ،‬حيف ُي ِ‬


‫برز شدة شوؽ وحنيف أحمس إلى‬
‫القصر الذي نشأ فيو بطيبة‪ ،‬أثناء دخولو إليو عمى أنو تاجر مف ببلد النوبة‪ ،‬حيث تصؼ‬
‫الرواية ذلؾ فتقوؿ‪" :‬وكاف اسفينيس يذكر المكاف جيد الذكرى‪ ،‬وكأنما فارقو أمس آخر مرة‪.‬‬
‫وحيف بمغوا ممر األعمدة الكبير المؤدي إلى الحديقة‪ ،‬اشتد وجيب قمبو‪ ،‬وعض عمى شفتو‬
‫( ٔ)‬
‫لقد انعكس‬ ‫السفمى مف شدة التأثر‪ ،‬وذكر كيؼ كاف يمعب في ىذا الممر مع نيفرتاري"‪.‬‬
‫المكػاف الروائي عمى شخصية البطؿ وأسيـ في التأثير عمى نفسيتو وتشكيؿ دوافعو الواقعية التي‬
‫يسعى إلى تحقيقيا‪.‬‬

‫كذلؾ عمؿ المكاف الروائي عمى بياف المفارقات االجتماعية بيف الشخصيات‪ ،‬حيث‬
‫تختمؼ مساكف اليكسوس المحتميف عف أحياء الفقراء والبسطاء مف المصرييف‪ ،‬انظر‪" :‬وعبرت‬
‫السفينة أحياء الفقراء‪ ،‬وأقبمت عمى القصور الشـ الغارقة بيف أدواح النخيؿ‪ ،‬وأشجار الجميز‬
‫تيفو عمييا األطيار مف كؿ نوع ولوف‪ ،‬وتفصؿ بينيا وتترامى وراءىا الحقوؿ‪ ،‬ذات الخض ةر‬
‫النضرة‪ ،‬تشقيا الجداوؿ الفضية والودياف والنخيؿ والكروـ‪ ،‬وترعاىا الثيراف والبقر‪ ،‬ويعكؼ عمييا‬
‫( ٕ)‬
‫في حيف يصؼ الكاتب حي الصياديف بطيبة فيقوؿ‪" :‬وعمى‬ ‫الفبلحوف العراة الصابروف"‪.‬‬
‫مسير دقائؽ مف الشاطئ أقيمت أكواخ صغيرة أو متوسطة الحجـ مف اآلجر‪ ،‬مسقوفة بجذوع‬
‫( ٖ)‬
‫وال شؾ في أف ىذا التمايز االجتماعي الذي‬ ‫النخيؿ‪ ،‬يدؿ مظيرىا عمى السذاجة والفقر"‪.‬‬
‫نستقرأه مف خبلؿ المكاف الروائي يعزز فكرة رفض االحتبلؿ‪ ،‬ويدعـ مقارعتو والثو ةر عميو‪.‬‬

‫وبالنسبة لمزماف فقد ظؿ التتابع والتدرج الزمني المنتظـ مسيط اًر عمى فف الرواية التاريخية‬
‫عند نجيب محفوظ‪ ،‬حيث بقي الزمف تقميدياً ال تعترضو التعرجات أو الخمخمة والتقمبات الزمنية‬
‫التي نجدىا كثي ًار في الرواية التاريخية الجديدة‪ ،‬فيو زمف بسيط يمكف متابعتو واإلمساؾ بو بكؿ‬
‫بلحظ ممارسة السرد لسمطتو في تشكيؿ الزمف‪ ،‬فيو تارة يميؿ إلى اإلطالة‬
‫وي َ‬
‫يسر وسيولة‪ُ .‬‬
‫حيث يعمد إل ى التوقؼ الزمني في مشاىد الوصؼ التفصيمي خاصة في القسـ األوؿ مف‬
‫باختصار وقطعو ويبدو ذلؾ في عنواف‬
‫ه‬ ‫الرواية‪ ،‬وتارة يزيد مف سرعة الزمف ِ‬
‫وح َّدتو حيث يقوـ‬

‫(ٔ) كفاح طيبة‪ ،‬صٓ‪ٖٚ‬‬


‫(ٕ) كفاح طيبة‪ ،‬صٕ‪ٖٙ‬‬
‫(ٖ) كفاح طيبة‪ ،‬صٖ٘٘‬

‫‪84‬‬
‫القسـ الثاني لمرواية (بعد عشرة أعواـ)‪ ،‬وفي بعض العبارات مثؿ‪( :‬مضت أسابيع‪ ،‬وتوالت‬
‫ٍ‬
‫ولياؿ‪ ،‬ومضت األياـ والشيور الطواؿ)‪ .‬وباإلضافة إلى ذلؾ فقد وظؼ‬ ‫األياـ‪ ،‬ومضت أياـ‬
‫يعرؼ القارئ باألحداث التي لـ‬
‫بل ّْ‬
‫الكاتب تقنية التذكر أو العودة إلى الوراء‪ ،‬وجعؿ مف ذلؾ سبي ً‬
‫اؽ وجميؿ‪ ،‬عبلوة عمى إسيامو في تطور األحداث وربطيا مع‬ ‫يتـ ذكرىا مف قب ؿ بأسموب ر ٍ‬
‫بعضيا البعض بشكؿ جذاب‪ ،‬ثـ بياف أثر ىذا الماضي عمى نفسية وباطف الشخصية التي ال‬
‫وتقوي عوامؿ الصمود والبقاء واالستمرار في العمؿ حتى‬
‫ينفؾ ارتباطيا بالذكريات التي تعزز ّْ‬
‫استعادة الحقوؽ وتحرير الببلد مف الطغاة انظر‪" :‬وطاب لخيالو أف يتردد بيف الماضي القريب‬
‫والحاضر الغريب‪ ،‬فتمثؿ ساعة الوداع في نباتا‪َّ ،‬‬
‫وجدتو توتيشيري تبشره بأف روح آموف أوحت‬
‫إلييا أف ترسمو إلى مصر‪ ،‬وقد وقؼ أبوه كاموس قريبًا منو يوصيو بصوتو الجيوري المؤثر‪،‬‬
‫وذكر أمو الممكة ستكيموس وىي تمثـ جبينو‪ ،‬وزوجو نيفرتاري وىي تمقي عميو نظ ةر الوداع مف‬
‫( ٔ)‬
‫خبلؿ أىدابيا المبتمة‪ ..‬فبلحت في عينية نظرة حناف كنور القمر في صفائو وحيائو"‪.‬‬

‫ومف أىـ عناصر التجديد المتعمقة بعنصر الزماف والتي يمكف مبلحظتيا في رواية كفاح‬
‫تعمد الكاتب إلسقاط القصة التاريخية المرتبطة بالزمف الماضي(زمف القصة) عمى‬
‫طيبة ُّ‬
‫األحداث التي تمر بيا مصر زمف الكتابة‪ ،‬وىذا تحوؿ كبير لـ نجده مطمقاً عند جورجي زيداف‬
‫الذي لـ ييدؼ إلى مقاربة الواقع أو معالجة قضاياه السياسية واالجتماعية‪ ،‬بؿ ظؿ محتفظاً‬
‫بالبعد التاريخي‪ ،‬فجعؿ مف الرواية خادمًا لمتاريخ كما قمنا سابقًا‪ ،‬أما بالنسبة لنجيب محفوظ فقد‬
‫قامت روايتو التاريخية عمى التناظر والتشابو الكبير بيف الوضع السياسي واالجتماعي‬
‫المصاحب لزمف الكتابة وبيف مدار النص التاريخي في الزمف الفرعوني‪ ،‬فالشعب المصري‬
‫المستعبد الذليؿ الذي يعاني بفعؿ ممارسات النظاـ الممكي الفاسد واالحتبلؿ البريطاني الظالـ‬
‫زمف الكتابة يعيد ويكرر نفس المعاناة التي مرت بو زمف احتبلؿ اليكسوس لمصر في التاريخ‬
‫الفرعوني القديـ الذي جعمو الكاتب مدا ًار فنيًا لنصو الروائي‪ .‬واستطاعت ىذه الرواية التي‬
‫امتازت بوضوحيا األيديولوجي وسرعة تأثيرىا عمى المتمقي أف تتجاوز ىدفيا المحدد في الزمف‪،‬‬
‫لتصبح عبلمة فنية قابمة ألف تق أر في سياقات وأزمنة مختمفة‪ ،‬وأف تقدـ مع ذلؾ دالالت غنية‬
‫تتجاوز شرط وجودىا األوؿ‪ ،‬فقد أبدع نجيب محفوظ في روايتو حتى أنيا تصمح لكؿ األزماف‬
‫التي يسودىا الظمـ واالحتبلؿ والسيطرة عمى مقدرات الشعوب واستغبلليا‪.‬‬

‫(ٔ) كفاح طيبة‪ ،‬ص‪ٖٜٙ‬‬

‫‪85‬‬
‫وبعد‪ ،‬فإنني أؤكد عمى أف تناوؿ نجيب محفوظ لمرواية التاريخية قد شكؿ عبلمة فنية‬
‫بارزة في تطور الرواية التاريخية ال يمكف تجاوزىا‪ ،‬وذلؾ مف خبلؿ مجموعة مف التحوالت التي‬
‫يمكف جمعيا بشكؿ موجز فيما يأتي‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬إنو أوؿ مف وجو الرواية التاريخية وجية فنية واقعية خاصة في رواية (كفاح طيبة)‪،‬‬
‫َّ‬
‫عب رت عف رؤية الكاتب وفمسفتو في معالجة قضايا الواقع السياسي واالجتماعي لمصر‬
‫فت ةر األربعينيات‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬بياف توجو محفوظ إلى التاريخ المصري الفرعوني القديـ؛ ُي ّْ‬
‫عبر عف مرحمة فكرية تدعو‬
‫إلى بعث التاريخ الفرعوني واالعتزاز باليوية المصرية الفرعونية في مواجية التيار‬
‫اإلسبلمي‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬تطور أدوات محفوظ الفنية في التعامؿ مع التاريخ‪ ،‬حيث لـ يتقيد بحرفيتو‪ ،‬بؿ تجاوز‬
‫المادة التاريخية‪َّ ،‬‬
‫وغم ب جانب الخياؿ الفني الذي تقوـ عميو الرواية‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬أسيـ محفوظ في تطور البناء الفني لمرواية‪ ،‬بحيث قسميا إلى مجموعة مف الوحدات‬
‫التي يجمعيا موضوع واحد‪.‬‬
‫طور العنواف الروائي مف عنواف يركز عمى الشخصية التاريخية‪ ،‬إلى عنواف يرتبط‬
‫٘ ‪َّ -‬‬
‫بالحدث التاريخي واليـ الشعبي‪.‬‬
‫‪ - ٙ‬تحوؿ نمط الصراع عمى يد محفوظ مف صراع فردي بسيط إلى صراع جمعي يدور بيف‬
‫قوى الشعب التي تسعى إلى التحرر واالستقبلؿ وبيف االحتبلؿ البغيض الذي يحتقر‬
‫الشعب ويسرؽ خيرات ببلده‪.‬‬
‫‪ - ٚ‬االىتماـ بالمغة‪ ،‬وابراز دورىا الفني عمى مستوى السرد والحوار‪ ،‬بأشكاؿ متعددة‬
‫كالخطابية والرومانسية والرمزية‪.‬‬
‫‪ - ٛ‬اعتنى محفوظ بدور الشخصية النسائية‪ ،‬وقدميا بأشكاؿ إيجابية وفاعمة ومؤثرة في‬
‫تطور األحداث‪.‬‬
‫‪ - ٜ‬وظؼ جماليات المكاف أو الحيز الروائي‪ ،‬وقدمو حياً حيوياً مف خبلؿ البعد النفسي‬
‫واالجتماعي والتاريخي لمشخصيات المختمفة‪.‬‬
‫ٓٔ‪ -‬ربط بيف زمف القصة التاريخية وزمف الخطاب الروائي‪ ،‬مف خبلؿ إسقاط الزمف‬
‫الماضي عمى الزمف الحاضر‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫وىذه تحوالت موضوعية وفنية جيدة في ىذه المرحمة مف كتابة الرواية التاريخية والتي نعدىا‬
‫مرحمة وسطًا بيف بدايات زيداف والرواية الجديدة‪ ،‬وىي مرحمة ميمة ومؤثرة في تحوالت الرواية‬
‫التاريخية نحو الرواية الجديدة بموضوعاتيا وبنيتيا الفنية‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫المبحث الثالث‬

‫باكثير وريادة التوجو اإلسالمي لمرواية التاريخية‬

‫اقتحـ عمي أحمد باكثير عالـ الرواية التاريخية فت ةر األربعينيات مف القرف العشريف كغي هر‬
‫مف أبناء جيمو مثؿ نجيب محفوظ وعادؿ كامؿ ومحمد فريد أبو حديد‪ ،‬إال أنو وجييا وجية‬
‫إسبلمية خالصة مف خبلؿ خمس روايات تاريخية ىي‪( :‬سبلمة القس) عاـ ٗٗ‪ٜٔ‬ـ‪،‬‬
‫و(واإسبلماه) عاـ ٘ٗ‪ٜٔ‬ـ‪ ،‬و(الثائر األحمر) عاـ ‪ٜٔٗٛ‬ـ‪ ،‬و(سيرة شجاع) عاـ ‪ٜٔ٘ٙ‬ـ‪،‬‬
‫و(الفارس الجميؿ) عاـ ٘‪ٜٔٙ‬ـ‪ .‬وىذه الروايات ‪-‬رغـ قمتيا مقارنة بمسرحياتو ‪ -‬جعمت منو رائدًا‬
‫شكؿ قفزة جديدة في كتابة الرواية التاريخية التي جمعت بيف‬ ‫لمرواية التاريخية اإلسبلمية‪ ،‬فقد َّ‬
‫االلتزاـ الفكري والتجديد الفني في مزيج رائع وبديع‪ ،‬حيث إنو "اعتمد تكنيكاً جديداً في بناء‬
‫رواياتو‪ ،‬وأفاد كثي اًر مف التقنيات الفنية المتوفرة آنذاؾ‪ ،‬فخرجت رواياتو بذلؾ عف المواصفات‬
‫التقميدية لمرواية‪ ،‬وقد بدت في ىذه الروايات جرأتو الفنية في تطوير الشكؿ والمضموف وتقديـ‬
‫( ٔ)‬
‫وفي أثناء التركيز عمى أثر الرواية الفنية‬ ‫صياغة جديدة لـ تعيد في روايات مف قبمو"‪.‬‬
‫الواقعية عمى الرواية التاريخية عند باكثير تـ تسميط الضوء عمى روايتيف مف أشير رواياتو ىما‬
‫واإسبلماه والثائر األحمر‪ ،‬وكاف سبب اختيار ىاتيف الروايتيف أنيما كانتا أكثر محاكاة ومقاربة‬
‫لمواقع ا لذي عايشو الكاتب‪ ،‬ثـ إنيما شكبل تطو اًر جعميما األنضج واألرقى فنياً مف غيرىما كما‬
‫يؤكد الكثير مف النقاد‪.‬‬

‫وح ِجبت أعمالو‬ ‫ِ‬


‫وقد عانى كاتبنا كثي اًر؛ ألنو كاف يؤمف بأصالة الفكر اإلسبلمي‪ ،‬فقد ظُمـ ُ‬
‫بسبب سيطرة الماركسييف عمى الساحة األدبية واإلعبلمية والثقافية أواخر الستينيات( ٕ)‪ ،‬وربما‬
‫كاف ذلؾ بسبب اتجاىات النظاـ الحاكـ الرافض لبلتجاه اإلسبلمي‪ .‬حتى إف كثي ًار مف النقاد‬
‫السائريف في فمؾ الغرب كا نوا يغمطوف حؽ ىذا الكاتب العظيـ‪ ،‬فكانوا يغمزوف نحوه في مجالس‬
‫األدب ومنتدياتو ويقولوف عنو في سخرية‪" :‬عمي اسبلمستاف!" وكاف ىو يضحؾ ويقوؿ بثقة‪:‬‬
‫( ٖ)‬
‫وفي ذلؾ يقوؿ د‪ .‬حممي‬ ‫"إنو لشرؼ عظيـ لي أف أتيـ باإلسبلمية فيما أقدمو مف أدب"‪.‬‬
‫القاعود عف باكثير‪" :‬كاف ضحية لمعبث الذي ساد حياتنا األدبية والثقافية في فت ةر الغياب الكامؿ‬

‫(ٔ ) انظر‪ ،‬روايات عمي أحمد باكثير قراءة في الرؤية والتشكيؿ‪ ،‬ص‪ٛ‬‬
‫(ٕ) انظر‪ ،‬عمي أحمد باكثير في مرآة عصره‪ ،‬ص‪ٖٔٚ‬‬
‫(ٖ ) انظر‪ ،‬عمي أحمد باكثير رائد الرواية التاريخية اإلسبلمية في األدب العربي‬
‫‪http://www.alukah.net/literature_language/0/37552‬‬

‫‪88‬‬
‫لمحرية‪ ،‬وطغياف القير عمى المستوى السياسي والفكري‪ ،‬فقد عانى مف التجاىؿ الذي فرضو‬
‫أنصار الفكر الطاغوتي‪ ،‬ومف المضايقات التي أحدثيا الشعوبيوف الجدد‪ ،‬وأذلوا بيا كؿ مف‬
‫( ٔ)‬
‫ويؤكد فاروؽ خورشيد ذلؾ فيقوؿ‪" :‬لـ يظمـ النقد‬ ‫خالؼ اتجاىاتيـ وشذ عف فكرىـ القبيح"‪.‬‬
‫( ٕ)‬
‫األدبي كاتبًا كما ظمـ عمي أحمد باكثير"‪.‬‬

‫عوامل اتجاه باكثير نحو التاريخ اإلسالمي‪:‬‬

‫أسيمت مجموعة مف العوامؿ في توجو باكثير إلى التاريخ اإلسبلمي‪ ،‬يمكف إجماليا فيما‬
‫يأتي‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬النشأة اإلسبلمية المحافظة في حضرموت باليمف‪ ،‬حيث بدأ خطواتو التعميمية في‬
‫الكتاتيب عمى أيدي أساتذة أجبلء متعمقيف في الدراسات اإلسبلمية‪ ،‬ثـ انتقؿ إلى‬
‫المعيد الديني‪ ،‬وتشرب الثقافة العربية العميقة واتصؿ اتصاالً قوياً بكتب التراث العربي‬
‫واإلسبلمي وخاصة الجانب األدبي والشعري‪ .‬يقوؿ د‪ .‬نجيب الكيبلني‪" :‬أما عمي باكثير‬
‫مؤلؼ (واإسبلماه) فقد بدأ حياتو دارساً لئلسبلـ والفقو والحديث والتاريخ‪ ،‬أراد أف يكوف‬
‫( ٖ)‬
‫وكاف ليذه‬ ‫عالمًا مجتيدًا مف عمماء اإلسبلـ‪ ،‬وشاء اهلل أف يصبح أديبًا مف أدبائو"‪.‬‬
‫النشأة أثر كبير في توجو باكثير إلى استمياـ التاريخ اإلسبلمي وتوظيفو فنيًا في رواياتو‬
‫التاريخية‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬االعتزاز بالتاريخ العربي واإلسبلمي‪ ،‬فالناظر إلى أعماؿ باكثير األدبية يممس أفؽ‬
‫اإلسبلـ واذكاء روحو وأحكامو‪ ،‬ويجد كذلؾ إشادة وتمجيداً بقادة العرب العظاـ عمى مر‬
‫العصور‪ ،‬فقد ألؼ أكثر مف تسعيف كتابًا بيف رواية ومسرحية شعرية ومسرحية نثرية‬
‫اعتمدت معظميا عمى التاريخ اإلسبلمي‪ ،‬وقد عده د‪ .‬أبو بكر حميد المتخصص في‬
‫( ٗ)‬
‫وىذا مف أىـ التحوالت‬ ‫أعمالو رائداً لبلتجاه اإلسبلمي في الرواية التاريخية العربية‪.‬‬
‫الموضوعية عمى الرواية التاريخية في ىذه الفت ةر التي شيدت صراع اليويات‪.‬‬

‫(ٔ) عمي أحمد باكثير في مرآة عصره‪ ،‬ص‪ٜٜ‬‬


‫(ٕ) عمي أحمد باكثير في مرآة عصره‪ ،‬صٖ‪ٜ‬‬
‫(ٖ) اإلسبلمية والمذاىب األدبية‪ ،‬ص‪ٔٓٙ‬‬
‫(ٗ ) انظر‪ ،‬عمي أحمد باكثير رائد الرواية التاريخية اإلسبلمية في األدب العربي‬
‫‪http://www.alukah.net/literature_language/0/37552‬‬

‫‪89‬‬
‫ٖ ‪ -‬الظروؼ السياسية واالجتماعية السائدة‪ ،‬فبل جداؿ في أف الظروؼ السياسية‬
‫واالجتماعية التي وجيت نجيب محفوظ إلى التاريخ الفرعوني تعزي ًاز لقومية مصر‬
‫وأصالتيا ىي نفسيا التي دفعت باكثير بشكؿ مقابؿ لمبحث في التاريخ اإلسبلمي؛‬
‫ليكتب مف أجؿ البعث الجديد لئلنساف المسمـ‪ ،‬ومف ىنا جاء إلحاحو عمى االنتصارات‬
‫اإلسبلمية بعد اليزائـ المروعة والمتبلحقة التي لقييا المسمموف في فترة مف أشد فترات‬
‫تاريخيـ خطورة‪ ،‬فرسـ لنا طريؽ التحرر واالستقبلؿ بالحفاظ عمى اليوية العربية‬
‫واإلسبلمية‪ ،‬وأكد ع مى التفاؤؿ بحتمية النصر في ظؿ اليأس الشعبي العاـ الذي شكمو‬
‫استمرار وجود االحتبلؿ األجنبي والحكـ الممكي الفاسد والمستبد الموالي لو‪ .‬ويشكؿ ىذا‬
‫التوجو فرقًا أساسيًا في الرؤية الحضارية بينو وبيف محفوظ‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬الرد عمى دعاة الفرعونية‪ ،‬والرغبة في مواجية الذيف تنكروا لتاريخ األمة اإلسبلمية‪،‬‬
‫وراقت ليـ فك ةر االلتحاؽ بالحضا ةر الغربية بالدعوة إلى العودة إلى الديف اإلسبلمي الذي‬
‫يوحد األمة ويجسد شخصيتيا األصيمة‪ ،‬ويمثؿ حبلً فعاالً وجذرياً لكؿ مشاكميا‪.‬‬
‫٘ ‪ -‬التأثر بالفكر اإلسبلمي المستنير عند جماؿ الديف األفغاني ومحمد عبده‪ ،‬حيث كاف‬
‫التصاؿ باكثير بأعبلـ األدب وقادة الفكر والثقافة اإلسبلمية أثر كبير عمى حياتو‬
‫ونتاجو في حضرموت وتشكيؿ اتجاىاتو األدبية بعد ذلؾ‪ ،‬فمف خبلؿ اتصالو برائدي‬
‫المدرسة السمفية الحديثة محمد رشيد رضا ومحب الديف الخطيب تمكف مف استيعاب‬
‫فكر جماؿ الديف األفغاني واإلماـ محمد عبده وتأثر بدعوتيما إلى الجامعة اإلسبلمية‬
‫والى انفتاح المسمميف عمى روح العصر ونبذ الخرافات واألوىاـ‪ ،‬والعودة الحقيقية إلى‬
‫( ٔ)‬
‫جوىر اإلسبلـ كما قدرتو السنة النبوية الشريفة وأفعاؿ الصحابة األكرميف‪.‬‬

‫روايات باكثير التاريخية وعالقتيا بالواقع‪:‬‬

‫ال شؾ أف األديب ال ينفصـ عف واقعو‪ ،‬خاصة أف كاتب الرواية ال يختار مف كـ التاريخ‬


‫اليائؿ بشكؿ عبثي‪ ،‬بؿ يختار عف فيـ ودراسة واعية لواقع الحياة ومشاكميا وىموميا‪ .‬وقد وجد‬
‫أف‬
‫آمنةً وواسعة وحافمة بالنماذج الساطعة التي يمكف ْ‬ ‫باكثير في التاريخ اإلسبلمي مساحة ِ‬
‫حت َذ ى في الواقع المعيش الذي تحوطو اليزيمة‪ ،‬وتتنازعو الصراعات‪ ،‬وتسوده النكسات‬
‫تُ َ‬

‫(ٔ ) انظر‪ ،‬عمي أحمد باكثير النشأة األدبية في حضرموت‬


‫‪http://www.islamweb.net/ramadan/index.php?page=article&id=10342‬‬

‫‪91‬‬
‫شرفة‪ ،‬وبعث شخصياتيا‬
‫الم ّْ‬
‫والعذابات فكاف البد مف استعادة المواقؼ التاريخية المضيئة و ُ‬
‫العظيمة المؤث ةر مرة أخرى إلى الحياة في الزمف الحاضر‪.‬‬

‫ركًاز عمى لحظاتو‬ ‫يد شرحو وتوص يفو‪ ،‬إنما عاد إليو م ّْ‬
‫ُ‬ ‫لـ يعد باكثير إلى التاريخ ُلي ِع َ‬
‫اجيدية لمكشؼ عف تقاطُعاتو مع الحاضر‪،‬‬ ‫امية والتر َّ‬
‫اإلنسانية ذات األبعاد الدر َّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫المفصمية‪ ،‬ومواقفو‬
‫معا‪ )ٔ (.‬فػ "اتجو في‬ ‫ّْ‬ ‫ائيا عبر حبكة َّ‬‫وإلحيائو رو ِّ‬
‫فنية تُحقؽ المتعة والمعرفة بالماضي والحاضر ً‬
‫كتاباتو الروائية إلى التاريخ يغترؼ منو الحوادث والظروؼ المشابية لما مرت بو األمة‬
‫( ٕ)‬
‫ثـ "انتزع مف أحداث التاريخ اإلسبلمي حوادث تاريخية‬ ‫اإلسبلمية في العصر الحديث"‪.‬‬
‫معينة؛ ليبعث مف خبلليا مفاىيـ فكرية معينة‪ ،‬ويمبسيا رؤية معاصرة‪ ،‬ويقدـ لنا مف التاريخ‬
‫( ٖ)‬
‫عمبلً فنياً رائعاً‪ ،‬يمتعنا ذىن ياً ويقودنا فكرياً إلى غايات سامية ومثؿ عميا"‪.‬‬

‫عمؿ باكثير عمى استمياـ التاريخ اإلسبلمي الناصع المشرؽ‪ ،‬وركز عمى مواقؼ السقوط‬
‫والنيضة في محاولة منو لتوجيو أنظار الناس إلى (الحؿ اإلسبلمي) في مواجية قسوة الظروؼ‬
‫السياسية واالجتماعية والفكرية التي يعيشونيا‪ .‬وقد جسَّد بذلؾ تحوالً كبي اًر وربما جذرياً عف نظرة‬
‫جورجي زيداف السمبية إلى التاريخ اإلسبلمي‪ ،‬فإذا كاف زيداف يسيء لمتاريخ العربي اإلسبلمي‬
‫ويسعى لمنيؿ منو‪ ،‬فإف عمي أحمد باكثير يفخر بيذا التاريخ ويمجده‪ .‬واذا استدعى زيداف فترات‬
‫الفتف والصراعات واالضطرابات السياس ية‪ ،‬فإف باكثير استميـ فترات المجد والقوة واالنتصارات‬
‫المشرفة؛ ليقدـ نموذجاً يمكف االحتذاء بو في عالـ الواقع‪.‬‬
‫ّْ‬

‫تطرقت رواية (واإسبلماه) الصادرة سنة ٘ٗ‪ٜٔ‬ـ لفترة مف أشد فترات التاريخ العربي‬
‫واإلسبلمي خطورة‪ ،‬حيث تعرض العالـ اإلسبلمي لخطريف محدقيف‪ ،‬تمثؿ الخطر األوؿ في‬
‫الوجود الصميبي في ببلد المسمميف وخاصة ببلد الشاـ‪ ،‬وتمثؿ الخطر الثاني وىو األىـ في‬
‫غزو التتار لببلد المسمميف واحتبلليـ ليا‪ ،‬وتمكنيـ مف القضاء عمى الخبلفة العباسية في بغداد‪،‬‬
‫وتوجييـ إلى الشاـ وسيطرتيـ عمييا‪ ،‬ورغـ ىذه الكبوات المتتالية إال أف الرواية ركزت عمى‬
‫كيفية النيوض والتصدي ليذيف الخطريف العظيميف باإلعداد والتجييز لمجياد بقيادة الممؾ‬

‫(ٔ ) باكثير وريادة التصور اإلسبلمي في الرواية التاريخية‬


‫‪http://www.alukah.net/literature_language/0/32775‬‬
‫(ٕ ) انظر‪ ،‬مف مبلمح الرواية التاريخية عند باكثير الثائر األحمر وفشؿ المشروع القرمطي‬
‫‪http://www.alukah.net/culture/0/418‬‬
‫(ٖ) الرواية التاريخية عند باكثير (بحث)‪ ،‬ص٘ٔٗ ‪ٗٔٙ-‬‬

‫‪91‬‬
‫المظفر قطز سمطاف مصر الذي رد كيد التتار وحقؽ النصر المؤزر لممسمميف في معركة عيف‬
‫جالوت‪ ،‬فقضى عمى الخطر المغولي الذي كاد أف يقضي عمى العالـ اإلسبلمي بأسره‪ .‬وال‬
‫ينسى باكثير في الرواية دور الشعب في الكفاح والجياد‪ ،‬إال أنو أبرز بشكؿ أكثر أىمية دور‬
‫القائد في إثا ةر ىمـ الجماىير نحو النيضة والتحرر واالستقبلؿ إذ يقوؿ وىو يقدـ لمرواية‪" :‬وىي‬
‫بعد شيادة ناطقة بأف ىذا الشعب الوديع الذي يسكف عمى ضفاؼ النيؿ قوة كامنة‪ ،‬إذا وجدت‬
‫( ٔ)‬
‫فكانت ىذه الرواية بمثابة‬ ‫مف يحسف استثارتيا واالنتفاع بيا أتت بالعجائب وقامت بالمعجزات"‬
‫رسالة لمشعب المصري توضح فساد الحاكـ في ظؿ وجود االحتبلؿ اإلنجميزي‪ ،‬واستمرار‬
‫التناحر السياسي بيف األحزاب المختمفة‪ .‬وبعبارة أخرى ىي دعوة لمتخمص مف الممؾ الفاسد‬
‫بل عمى طرد االحتبلؿ منطمقًا مف توحيد‬
‫الموالي لبلحتبلؿ وابدالو بقائد وطني مخمص يعمؿ فع ً‬
‫طاقات الشعب ومعتمداً عمى مبدأ الجياد تحت راية اإلسبلـ كطريؽ لحفظ الكرامة وجمب الحرية‬
‫واالستقبلؿ‪.‬‬

‫وتنطمؽ رواية (الثائر األحمر) الصادرة سنة ‪ٜٔٗٛ‬ـ مف الماضي إلى الحاضر لتناقش‬
‫قضية الرأسمالية والشيوعية‪ ،‬وتصور صراعيما العنيؼ‪ ،‬وتبيف موقؼ اإلسبلـ منيما‪ ،‬وقد‬
‫حرص الكاتب عمى إبراز ىذه الفكرة بوضعو عنواف فرعي توضيحي لمرواية ىو (قصة الصراع‬
‫بيف الرأسمالية والشيوعية والعدؿ اإلسبلمي) إذ يبيف فشؿ الرأسمالية والشيوعية في تحقيؽ األمف‬
‫والسكينة والعدالة واالزدىار الروحي لئلنساف مف خبلؿ تصوير الصراع بيف دولة الخبلفة ببغداد‬
‫والحركات الثائرة عمييا وأىميا حركة القرامطة وزعيميا حمداف قرمط الذي ثار عمى الدولة‬
‫اإلسبلمية لشعوره بالظمـ الذي يمارسو عميو اإلقطاعي الغني ابف الحطيـ الذي يستغؿ ثروتو‬
‫ونفوذه في ظمـ الناس‪ ،‬ويتمكف حمداف قرمط مف إنشاء دولة القرامطة التي ىرع إلييا الفبلحوف‬
‫واألجراء البسطاء الذيف كانوا ينشدوف المساواة في مممكة العدؿ الشامؿ‪ ،‬ولكف سرعاف ما‬
‫بل إلى بغداد مركز الدولة اإلسبلمية‪،‬‬
‫ينكشؼ زيفيا وبيتانيا‪ ،‬فيأخذ الناس في اليرب لي ً‬
‫وتضطرب األمور في دولة القرامطة ويشتد فييا الصراع إلى أف تتفتت‪ ،‬حتى إف حمداف قرمط‬
‫نفسو يييـ في األرض ضائعًا مشتت الفكر إلى أف ينتيي بو الحاؿ إلى دولة العدؿ والمساواة‬
‫اإلسبلمية في بغداد‪ .‬ويبدو بشكؿ واضح أف الرواية ال تيدؼ إلى تجديد وبعث التاريخ م ةر‬
‫صراعٌ فكري‬ ‫أخرى‪ ،‬إنما ىدفت إلى محاكاة الواقع الثقافي واأليديولوجي‪ ،‬حيث تخمؿ ىذه الفترة ِ‬
‫بيف التيارات العممانية والميبرالية ذات التوجيات الغربية و َّ‬
‫التيارات االشتراكية واليسارية ذات‬
‫التوجيات المادية اإللحادية‪ ،‬إضافة إلى بروز الفكر القومي العربي‪ ،‬فقد أضحت الساحة‬

‫(ٔ) واإسبلماه (رواية)‪ ،‬صٖ‬

‫‪92‬‬
‫يكف في الساحة َمف يممؾ‬
‫ودىا المغط والفوضى واالرتباؾ‪ ،‬ولـ ْ‬
‫س ُ‬ ‫ٍ‬ ‫السياسية و َّ‬
‫َّ‬
‫الفكرية "أشبو بحمبة َي ُ‬
‫األمة"( ٔ) وفي ظؿ ىذا الواقع كاف البد مف ظيور التيار الفكري‬
‫وبعث َّ‬ ‫رؤي ًة لئلرادة و َّ‬
‫اليوية ْ‬
‫اإلسبلمي األصيؿ والشامؿ الذي يمكف مف خبل لو النيوض‪ ،‬ومقارعة ىذه التيارات الغريبة‬
‫واالنتصار عمييا في حاؿ تطبيقو عمى أرض الواقع‪.‬‬

‫ظيرت في الروايتيف السابقتيف مجموعة مف القيـ واألفكار التي ترتبط بطبيعة المجتمع‬
‫العربي اإلسبلمي وسبؿ نيوضو وتقدمو‪ ،‬فأكدت كؿ منيما عمى أىمية وجود الحاكـ الصالح‬
‫الذي يحرص عمى مصمحة األمة فيحقؽ العدؿ والمساواة بيف الناس‪ ،‬ويقضي عمى الظمـ والفساد‬
‫واالنحراؼ األخبلقي‪ ،‬ويعمؿ عمى إحياء فريضة الجياد‪ّْ ،‬‬
‫ويقدر العمماء المخمصيف ويسترشد‬
‫بفكرىـ المستنير مما يحقؽ األمف والرضى والتكافؿ االجتماعي‪ ،‬فتتبلشى مسببات الفتف وآثارىا‬
‫السيئة‪ ،‬وتنجم ي مظاىر الضعؼ والتفكؾ واالنييار‪ ،‬ويتـ إعادة بناء المجتمع مف الداخؿ عف‬
‫طريؽ مواجية المتغيرات الفكرية والسياسية والتفاعؿ معيا بما يمزميا مف إصبلح أو تقويـ‪،‬‬
‫باالعتماد عمى مبادئ وقيـ وأخبلؽ الديف اإلسبلمي الحنيؼ‪ ،‬الذي يحافظ عمى المجتمع العربي‬
‫مف الزلؿ والضياع‪.‬‬

‫يدؿ ىذا االتجاه اإلسبلمي الواضح عمى مدى الفيـ العميؽ‪ ،‬والتفسير الدقيؽ‪ ،‬والعناء‬
‫الكبير الذي بذلو باكثير في أثناء تحويمو لممادة التاريخية الخاـ إلى عمؿ روائي فني إبداعي‪،‬‬
‫يصور جزءاً مف التاريخ الناصع لمحضارة اإلسبلمية بما يحويو مف صراعات وأزمات واتجاىات‬
‫فكرية‪ ،‬مؤكداً عمى أىمية الثورة عمى قيـ الحاضر التي ثبت فشميا باستمرار حالة الجمود‬
‫والتخمؼ المتمثمة في التبعية الفكرية لمغرب وفمسفاتو‪.‬‬

‫تعامل باكثير مع التاريخ‪:‬‬

‫يقدـ باكثير التاريخ عمى طريقة المؤرخيف‪ ،‬بؿ ّْ‬


‫يقدمو بطريقة فنية خيالية‪ ،‬فيو ال يمتزـ‬ ‫ال ّْ‬
‫عمؿ فييا فكره‪ ،‬فينتقي مف أحداث التاريخ‪ ،‬ويتجنب بعضيا‬ ‫بالحقيقة ا لتاريخية التزامًا تامًا‪ ،‬بؿ ي ِ‬
‫ُ‬
‫بما يخدـ رؤيتو الفنية التي يريد تحقيقيا وايصاليا إلى القراء‪ ،‬وىو يفسر األحداث تفسي ًار‬
‫إسبلمياً‪ ،‬ويحمؿ الشخصيات كاشفاً عف أعماقيا النفسية بما يتناسب مع ظروفيا المكانية‬
‫والزمانية‪ ،‬وال يختار مف التاريخ إال ما يشبو الحاضر ويحتؾ بو‪ ،‬فيو ال يخدـ التاريخ بقدر ما‬

‫(ٔ ) باكثير وريادة التصور اإلسبلمي في الرواية التاريخية‬


‫‪/http://www.alukah.net/literature_language/0/32775‬‬

‫‪93‬‬
‫يعمؿ عمى استقراء الواقع وتوجييو واصبلحو‪ .‬ويعد اتجاه باكثير إلى التاريخ اإلسبلمي في‬
‫ال إيجابيًا في مقابؿ االتجاه اإلسبلمي المزيؼ والمنحرؼ لزيداف مف‬
‫عصور القوة واالزدىار تحو ً‬
‫ناحية‪ ،‬وفي مقابؿ اتجاه نجيب محفوظ إلى التاريخ المصري القديـ الذي عمؿ عمى معالجة‬
‫قضايا الواقع المصري مف خبلؿ استدعاء التاريخ الفرعوني مف ناحية أخرى‪.‬‬

‫استوحى الكاتب معظـ الحقائؽ التاريخية المتعمقة بتاريخ مصر في رواية واإسبلماه مف‬
‫سمى‬
‫كتاب المقريزي الموسوـ بػ (السموؾ لمعرفة دوؿ المموؾ) وخير دليؿ عمى ذلؾ أف باكثير َّ‬
‫شجرة الدر في الرواية بػ (شجر الدر) وىذه التسمية مأخوذة مف كتاب المقريزي‪ ،‬ثـ إنو استعاف‬
‫ببعض األشعار الواردة في الكتاب ووظفيا في روايتو‪ ،‬كما نجد بعض المواقؼ واألقواؿ في‬
‫( ٔ)‬
‫وباإلضافة إلى ذلؾ فقد اعتمد في‬ ‫الرواية تتطابؽ تماماً مع ما رواه المقريزي في كتابو‪.‬‬
‫استقائو لؤلحداث عمى كتاب (النجوـ الزاىرة) الذي تعرض بعجالة لحياة قطز في دمشؽ‪ ،‬فذكر‬
‫شخصيتي ابف الزعيـ وخادمو الحاج عمي الفراش المتاف وردتا في الرواية‪ ،‬كذلؾ عرض الكتاب‬
‫لقصة المنجـ الذي تنبأ لقطز بيزيمة التتار‪ ،‬ثـ رؤية قطز لمنبي ‪-‬صمي اهلل عميو وسمـ ‪ )ٕ (-‬وال‬
‫شؾ أف في استقصائو لحياة السمطاف جبلؿ الديف بف خوارزـ شاه وجياده لمتتار قد اطَّمع عمى‬
‫كتب التاريخ اإلسبلمي مثؿ كتاب (شذرات الذىب في أخبار مف ذىب) البف عماد‪ ،‬وكتاب‬
‫(البداية والنياية) البف كثير‪ ،‬حيث إ ف المدة الزمنية التي تتناوليا الرواية كبي ةر تتجاوز النصؼ‬
‫قرف‪ ،‬وىي تحوي العديد مف األحداث الجساـ‪ ،‬وتنتقؿ بيف الكثير مف البيئات والبمداف والثقافات‪،‬‬
‫مما يستوجب سعة اطّْبلع ومعرفة الكاتب‪ ،‬وحسف اختياره لؤلحداث والمواقؼ التاريخية التي‬
‫يمكف أف تسيـ في خدمة البناء الفني لمرواية‪ .‬وقد أبدع باكثير في ذلؾ‪ ،‬فأخرج األحداث اليامة‬
‫والشخصيات الفاعمة مف كتب التاريخ‪ ،‬لكنو لـ يأخذىا كما ىي‪ ،‬بؿ ألبسيا ثوباً فنياً مضيفاً إلييا‬
‫الكثير مف التخيبلت‪ ،‬بمغة روائية مؤثرة‪ ،‬وحبكة فنية مشوقة وجذابة‪.‬‬

‫إف أىـ ما َّ‬


‫تميز بو باكثير في تناولو لمرواية التاريخية ىو تبح هر في نفسيات الشخصيات‬
‫التاريخية المكونة لؤلحداث‪ ،‬وىو بذلؾ يتخمص مف سمطة التاريخ‪ ،‬ويرتدي ثوب الفناف الذي‬
‫يستطيع مف خبلؿ تحميمو لذوات شخصياتو‪ ،‬وبياف أحاسيسيا ومشاعرىا ودوافعيا الخاصة‪ ،‬رغـ‬
‫يحوؿ الشخصيات المنزوية‬
‫اختبلؼ مكوناتيا الثقافية والحضارية وبيئاتيا الزمانية والمكانية‪ ،‬أف ّْ‬

‫(ٔ ) انظر‪ ،‬السموؾ لمعرفة دوؿ المموؾ‪ ،‬ج ٔ‪ ،‬ص‪ ٜٗ٘‬وما بعدىا‬
‫(ٕ ) انظر‪ ،‬النجوـ الزاىرة في مموؾ مصر والقاىرة‪ ،‬ج ‪ ،ٚ‬ص‪ٛٔ- ٚٚ‬‬

‫‪94‬‬
‫في بطوف الكتب التاريخية إلى كائنات حية‪ ،‬تقتحـ حاضرنا‪ ،‬وتطرح قضايانا الكبرى وتفسرىا‪،‬‬
‫وتطرح الحموؿ المناسبة ليا وفؽ رؤية منطقية أثبتت جدارتيا في الواقع التاريخي‪.‬‬

‫يتضح خروج باكثير عف الحقيقة التاريخية في رواية واإسبلماه‪ ،‬حيث ابتدع خيالو‬
‫شخصية جياد (جمنار)‪ ،‬وأعطاىا دو اًر رئيسياً وفاعبلً بجانب البطؿ التاريخي محمود (قطز)‪،‬‬
‫وصور قصة الحب الطاىرة التي جمعت بينيما‪ .‬ىذه الشخصية األنثوية وما اتصؿ بيا مف‬
‫َّ‬
‫وقائع غرامية وتضحيات جيادية في أرض المعركة لـ تذكرىا كتب التاريخ‪.‬‬

‫كذلؾ انحرؼ بالخياؿ الفني عف الحقيقة التاريخية في رواية الثائر األحمر وبالتحديد في‬
‫تناولو لشخصية حمداف قرمط زعيـ القرامطة‪ ،‬الذي تعاطؼ معو في بداية الرواية‪ ،‬وصو هر‬
‫كإنساف مظموـ دفعتو الظروؼ القاسية لمثو ةر عمى الظمـ‪ ،‬فاستغمتو الجماعات الخارجة والمتطرفة‬
‫في تحقيؽ أىد افيا‪ ،‬وفي نياية الرواية جعمو الكاتب يعود إلى حضف الدولة اإلسبلمية‪ ،‬وينتصر‬
‫بذلؾ المنيج اإلسبلمي؛ تحقيقاً لرؤية الكاتب‪ ،‬وقد شكمت ىذه النياية انحرافًا عف الحقيقة‬
‫التاريخية‪ .‬وعمى الرغـ مف أنو ذكر وقائع ومعمومات حقيقية تفضح القرامطة‪ ،‬وتقبح فكرىـ‪ ،‬وتذـ‬
‫سموكيـ مث ؿ ليمة االماـ المعصوـ التي ترتكب فييا الفواحش حتى مع المحارـ‪ ،‬إال أنو تجنب‬
‫اإلشارة إلى بعض األحداث التاريخية اليامة‪ ،‬فمـ يشر إلى المعارؾ العنيفة التي دارت بيف دولة‬
‫القرامطة والدولة العباسية‪.‬‬

‫التحوالت الفنية عند باكثير‪:‬‬

‫استثمر باكثير خبرتو األدبية الكبيرة وقدراتو الفنية العالية؛ لينسج مف رواياتو التاريخية‬
‫أعماالً فنية رائعة تنبض بالقوة والحياة‪ ،‬وتحفؿ بالتشويؽ واإلثارة والخياؿ‪ ،‬مما أىمو لحمؿ لواء‬
‫التجديد الذي تبمور لديو بظيور مجموعة مف التحوالت الفنية التي أسيمت في تطور الرواية‬
‫التاريخية وتوجيييا وجية فنية واقعية إسبلمية خالصة‪.‬‬

‫أو ًال‪ :‬البنال الفني العام‪:‬‬

‫تظير أوؿ التحوالت عند باكثير في صياغتو لعناويف رواياتو التي تمثؿ عتبة النص‬
‫الروائي‪ ،‬حيث عمؿ عمى اختيارىا بعناية فائقة‪ ،‬ومف أىـ ما تـ مبلحظتو عمى ىذه العناويف أنيا‬
‫ال تدؿ عمى المحتوى بشكؿ مباشر‪ ،‬وال تحيمنا إلى مكاف تاريخي محدد‪ ،‬أو شخصية تاريخية‬
‫بارزة كما فعؿ أسبلفو السابقوف‪ ،‬إنما كاف يميؿ بعناوينو إلى استخداـ األلفاظ اإليحائية التي‬
‫تركز عمى الفكرة أو البؤرة التي تدور حوليا أحداث الرواية‪ .‬وربما كاف ذلؾ إلثا ةر فضوؿ القراء‬

‫‪95‬‬
‫ولفت أنظارىـ إلى أف ىذه الروايات ال ترتبط بالتاريخ بقدر ما تتعمؽ بالواقع‪ ،‬فاختيار العنواف‬
‫بل يدعو إلى الحؿ اإلسبلمي‪ ،‬خاصة إذا ربطنا ىذا العنواف بأسموب الندبة حيث‬
‫(واإسبلماه) مث ً‬
‫االستغاثة باإلسبلـ في ظؿ األخطار التي تتعرض ليا األمة‪ .‬كذلؾ فإف الناظر ألوؿ وىمة إلى‬
‫عنواف (الثائر األحمر) ُيحار في فيـ داللتو الرمزية والمونية التي تميؿ إلى الثورة الدموية‬
‫العنيفة‪ ،‬لكنو ال يعمـ قبؿ قراءتو لمرواية أنيا تحيمو إلى أواخر العصر العباسي‪ ،‬حيث تركز عمى‬
‫عوامؿ ظيور وأفوؿ حركة القرامطة المتمردة عمى كؿ القيـ األخبلقية والدينية في ظؿ ضعؼ‬
‫الدولة العباسية‪ ،‬وكأف الكاتب يريد التحذير مف الحركات الثورية ذات المرجعية الفكرية الغريبة‬
‫عف األمة‪ ،‬والتي بدأت في الظيور عمى أرض الواقع‪.‬‬

‫تكونت رواية واإسبلماه مف ستة عشر فصبلً بغير عناويف أو أرقاـ‪ ،‬كانت جميعيا متقاربة‬
‫في الحجـ عدا الفصؿ الخامس عشر الذي كاف قصي ًار جدًا بحيث تكوف مف صفحتيف ونصؼ‬
‫فقط‪ .‬وقد سيطرت الحبكة النمطية التقميدية ذات النسيج الروائي المتماسؾ‪ ،‬حيت تسمسمت‬
‫األحداث وتطورت بشكؿ منطقي مقبوؿ‪ ،‬عمؿ فيو السارد عمى ربط األسباب بالنتائج برباط‬
‫وثيؽ‪ ،‬مراعيًا البعد اإلنساني الذي يحرؾ األحداث ويعمؿ عمى بمورتيا‪ ،‬مع االتكاء عمى عنصر‬
‫ُّ‬
‫التحكـ في مسار السرد وايقاعو وقوة تأثيره‪.‬‬ ‫اإلثارة والتشويؽ‪ ،‬مما ساعد عمى‬

‫وقد تمكف باكثير مف الربط بيف األحداث والمشاىد المختمفة في الرواية بطرؽ فنية تأثر‬
‫فييا بالتقنيات السينمائية ‪ ،‬فعمؿ عمى توليؼ المشاىد‪ ،‬حيث تبدو المفتة المطيفة في إنياء مشيد‬
‫حديث السائس مع الشيخ سبلمة بنوـ السائس‪ ،‬ثـ ينتقؿ لمشيد آخر ىو مشيد استيقاظ‬
‫وكذلؾ حيف ينتقؿ مف مشيد إلى مشيد آخر مو ٍاز لو يستدرؾ فيو ما فات مف أحداث‬ ‫( ٔ)‬
‫محمود‪.‬‬
‫بل حاؿ مصر وقطز بعد مقتؿ شجرة الدر في نياية الفصؿ‬
‫تتعمؽ بشخصيات أخرى‪ ،‬فيترؾ مث ً‬
‫الثاني عشر‪ ،‬ليتحدث في بداية الفصؿ الثالث عشر عف مصير بيبرس في الشاـ الذي ترؾ‬
‫مصر بعد مقتؿ أستاذه فارس ا لديف أقطاي‪ .‬واعتمد عمى تفصيؿ األحداث بعد إجماليا‪ ،‬ويبدو‬
‫ذلؾ في قولو موضحاً بعد أف بيف نجاة الطفميف (محمود وجياد)‪" :‬ذلؾ أف عائشة خاتوف ِ‬
‫وجياف‬
‫خاتوف لما أيقنتا بالنكبة يوـ النير‪ ،‬ورأتا أف ال محيص مف الموت أو األسر‪ ،‬عز عمييما أف‬
‫( ٕ)‬
‫تريا الطفميف البريئيف يذبحاف ب خناجر التتار المتوحشيف‪ ،‬أو يغرقاف معيما في النير‪ ...‬الخ"‪.‬‬

‫(ٔ) واإسبلماه‪ ،‬ص‪ٖٛ‬‬


‫(ٕ) واإسبلماه‪ ،‬صٕٕ‬

‫‪96‬‬
‫وقد طور باكثير مف نظاـ بناء الرواية في الثائر األحمر‪ ،‬فابتدع نظاـ األسفار الذي لـ‬
‫يستخدمو أحد مف قبمو‪ ،‬حيث قسـ الرواية إلى أربعة أسفار‪ ،‬يحتوي كؿ سفر عددًا مف الفصوؿ‬
‫التي تبرز أحداث الرواية وشخوصيا في مكاف وزماف معيف‪ ،‬مع الحرص عمى ترابط األحداث‬
‫وتطورىا الطبيعي الذي يبتعد عف الصدؼ المفتعمة والمفاجئات الغريبة‪ ،‬فمـ يضر ىذا التقسيـ‬
‫بالشكؿ الروائي ولـ يعمؿ عمى تفكيكو أو التأثير عمى تماسكو وتبلحمو‪.‬‬

‫بل شكمت ثمث الرواية تقريبًا‪ ،‬عرض فيو الكاتب‬


‫وقد ضـ السفر األوؿ أحد عشر فص ً‬
‫لطبيعة المكاف الروائي‪ ،‬وعبلقات الشخصيات وطبائعيا المختمفة خاصة شخصية حمداف قرمط‪،‬‬
‫وىيأ األجواء لظيور الصراع األساسي واستم ارره وتطوره في بقية األسفار‪ .‬أما السفر الثاني فقد‬
‫تكوف مف خمسة فصوؿ تحدث فييا عف مصير (عبداف) ‪-‬الشخصية الرئيسة الثانية في الحركة‬
‫القرمطية ‪ -‬الذي انتقؿ إلى بغداد وتفوؽ في مجاؿ العمـ والفقو‪ ،‬وكاف مف المنتظر أف يسيـ في‬
‫اإلصبلح ونشر الفضيمة‪ ،‬إال أنو انحرؼ بسبب عبلقتو بالحركة السرية الباطنية التي غوتو‬
‫جنسياً عف طريؽ امرأة اسميا (شير)‪ ،‬فتحوؿ فكرياً إلى عضو فعاؿ يسعى إلى ىدـ الدولة‬
‫اإلسبلمية في سبيؿ تحقيؽ ما يسمى بػ (مممكة العدؿ الشامؿ)‪ .‬وفي السفر الثالث الذي يضـ‬
‫اثنا عشر فصبل تُقاـ مممكة القرامطة التي تدعي العدؿ الشامؿ في جنوب العراؽ حيث تظير‬
‫ذروة الصراع بينيا وبيف المشروع اإلسبلمي الذي يقوده عالـ الديف أبو البقاء البغدادي؛ إلنقاذ‬
‫الدولة مف الخراب والدمار الذي أصابيا بسبب انتشار الظمـ والفساد‪ .‬وكاف السفر الرابع أكبر‬
‫بل تبلحقت فييا األحداث والصراعات بيف األفكار والرؤى‬
‫ضـ ثبلثة وعشريف فص ً‬
‫األسفار‪ ،‬حيث َّ‬
‫المختمفة وما يمثميا مف شخصيات‪ ،‬وقد تحددت المصائر وتجمت النياية بانتصار فكرة العدؿ‬
‫اإلسبلمي عمى المشروع القرمطي الفاسد المنحرؼ‪.‬‬

‫ومف أبرز مبلمح التجديد عند باكثير حرصو عمى اتصاؿ البناء الروائي بالنص القرآني‪،‬‬
‫وىذا ما لـ نجده عند جورجي زيداف الذي كاف َّ‬
‫يدعي كتابة تاريخ اإلسبلـ بأسموب قصصي‪ ،‬ولـ‬
‫يتعرض لمقرآف الكريـ الذي ُيعد المصدر األوؿ لم تشريع اإلسبلمي‪ ،‬كما لـ نجده عند نجيب‬
‫محفوظ الذي استدعى التاريخ الفرعوني‪ .‬أما باكثير كمعبر عف التوجو اإلسبلمي الصادؽ‪ ،‬فإنو‬
‫صدر رواياتو بآيات مف القرآف الكريـ التي يرتبط مدلوليا بمضموف وأحداث ىذه‬ ‫غالبًا ما ُي ّْ‬
‫اؤ ُك ْـ َِوا ْخَو ُان ُك ْـ‬
‫اؤ ُك ْـ َوأ َْبَن ُ‬
‫اف َآب ُ‬‫صدر رواية واإسبلماه بقولو تعالى‪" :‬قُ ْؿ ِإ ْف َك َ‬ ‫الروايات‪ .‬ومف ذلؾ أنو ّ‬
‫ب إَِل ْي ُك ْـ ِم َف‬ ‫َح َّ‬
‫ض ْوَن َيا أ َ‬
‫ِ‬ ‫وىا َوتِ َج َة‬
‫ارٌ َت ْخ َش ْو َف َك َس َاد َىا َوَم َساك ُف َت ْر َ‬
‫ِ‬
‫اج ُك ْـ َو َعش َيرتُ ُك ْـ َوأ َْمَوا ٌؿ ا ْق َتَرْفتُ ُم َ‬
‫َوأ َْزَو ُ‬

‫‪97‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ِِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫المَّ ِو ور ِ‬
‫صوا َحتَّى َيأْت َي الموُ بِأ َْم ِِهر َوالموُ َال َي ْيدي الْقَ ْوَـ الْفَاسق َ‬
‫يف"( ٔ) حيث‬ ‫سولِو َو ِج َياد في َسبِيمو فَ َتَرَّب ُ‬
‫ََ ُ‬
‫حيث تصور الرواية واقع ضعؼ المسمميف وغزو كؿ مف الصميبييف والتتار لببلدىـ‪ ،‬وتؤكد أف‬
‫صدر رواية الثائر‬ ‫يتـ إال بالجياد في سبيؿ اهلل‪ .‬كذلؾ َّ‬ ‫تحرير الببلد وحفظ كرامة العباد ال‬
‫ييا َف َح َّؽ َعَم ْي َيا الْ َق ْو ُؿ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ييا َف َف َسقُوا ف َ‬
‫ُن ْيم َؾ َق ْرَي ًة أ ََم ْرَنا ُم ْتَرف َ‬ ‫َف‬
‫األحمر بقولو تعالى‪َِ " :‬وا َذا أََرْدَنا أ ْ‬
‫عف فساد الحكاـ وظمميـ الذي يعمؿ عمى ظيور الفتف‬ ‫وتتحدث الراوية‬ ‫َّ‬ ‫( ٕ)‬
‫اىا َت ْد ِم ًا‬
‫ير"‪.‬‬ ‫َف َد َّم ْرَن َ‬
‫واالنحرافات ال تي تودي بالدولة وتدمرىا وتقضي عمييا‪ .‬لقد أثبت باكثير مف خبلؿ ىذا التصدير‬
‫فعبر عف قدرتو عمى الغوص في معانييا‪ ،‬والتفاعؿ معيا‪،‬‬ ‫القرآني ُحسف توظيفو لآليات القرآنية؛ َّ‬
‫والتأثر بنصوصيا‪ ،‬حيث َّ‬
‫أعد القرآف الكريـ مصد اًر رئيسياً ومرجعاً فكرياً ينيؿ منو ويعتمد عميو‪.‬‬

‫اعتمد باكثير في بناء رواياتو عمى القصة الغرامية كغيره مف كتاب الرواية التاريخية في‬
‫صور الحب العذري الطاىر‬ ‫األدب العربي‪ ،‬إال أنو أديب ٍ‬
‫ممتزـ بالقيـ واآلداب اإلسبلمية العامة‪َّ ،‬‬
‫العفيؼ في رواية واإسبلماه في قصة حب محمود وجياد التي أسيمت في تطور األحداث‬
‫واكسابيا طابعاً درامياً مؤث ًار‪ ،‬حيث وقع محمود (قطز) في حب جياد (جمنار) التي جعميا‬
‫الكاتب قدره كما كاف ىو قدرىا مف بداية الرواية‪ ،‬فقد نشآ معاً في بيت واحد‪ ،‬وتعمؽ كؿ منيما‬
‫باآلخر‪ ،‬حتى عندما تـ اختطافيما‪ ،‬وخشيا االفتراؽ عف بعضيما حينما تقرر بيعيما كرقيؽ‪،‬‬
‫اشتراىما رجؿ صالح أحسف معاممتيما وتربيتيما‪ ،‬وقد نمت بذ ةر الحب بينيما مف الطفولة حتى‬
‫َكبِ ار َّ‬
‫وفرقت بينيما األياـ‪ ،‬وقد تحمى الحبيباف بالقيـ اإلسبلمية مف حياء وصبر وورع في مواجية‬
‫نار الشوؽ ولوعة الحب‪ ،‬وأخمص كؿ منيما لآلخر حتى جمعتيما الظروؼ في مصر وتـ‬
‫زواجيما‪.‬‬

‫يظير مما سبؽ مف تحوالت تطور البناء الفني في روايات باكثير التاريخية؛ الرتباطو‬
‫بخصائص األدب اإلسبلمي‪ ،‬التي تركز عمى معالجة قضايا الواقع بربطيا بالقرآف الكريـ الذي‬
‫يعد مصدر إلياـ فكري وشعوري وتطبيقي‪ ،‬وكاف تأثير ذلؾ في بدء رواياتو بآيات قرآنية ترتبط‬
‫بفكرة الرواية‪ ،‬ثـ ابتعاده عف المصادفات الفجة غير المقبولة‪ ،‬وتجنبو لممشاىد الغرامية المثيرة‪.‬‬

‫(ٔ) القرآف الكريـ‪ ،‬سورة التوبة‪ٕٗ :‬‬


‫(ٕ) القرآف الكريـ‪ ،‬سورة اإلسراء‪ٔٙ:‬‬

‫‪98‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬المغة وأساليب السرد‪:‬‬

‫اىتـ باكثير بالمغة العربية الفصحى ولـ يستعمؿ غيرىا في كتاباتو‪ ،‬وكاف مف أكثر الكتاب‬
‫في العصر الحديث تشددًا في استعماليا عمى مستوى السرد أو الوصؼ أو الحوار‪ ،‬وقد دأب‬
‫عمى استخداميا في أسموب أنيؽ وعبارات جزلة‪ ،‬ال تخمو مف بعض العبارات المسجوعة أو‬
‫التعبيرات الخطابية الرنانة‪ .‬وقد كاف حريصاً عمى أف تكوف المغة المستخدمة في رواياتو مناسبة‬
‫ومعبرة عف العصر التاريخي الذي تتعرض لو‪ ،‬ولذلؾ نجد المغة القوية الرصينة‪ ،‬والعبا ةر محكمة‬
‫السبؾ في رواية الثائر األحمر‪ ،‬وكأننا نعيش في زمف الجاحظ وابف قتيبة‪ .‬بينما نبلحظ شيئاً مف‬
‫السيولة المغوية في رواية واإسبلماه األمر الذي يتناسب مع عصر المماليؾ‪ ،‬حتى إننا نجد‬
‫بعض المصطمحات التي كاف يستخدميا المماليؾ فيما بينيـ مثؿ‪( :‬خوند‪ ،‬خشداشية‪ ،‬أستاذي)‪.‬‬
‫ال شؾ أف ىذا االستخداـ المغوي المميز يتطمب دراسة متعمقة ودقيقة لمغة العصر الذي يتناولو‪،‬‬
‫فكما استطاع كاتبنا تحري الواقع التاريخي لرواياتو‪ ،‬تمكف أيضاً مف تجسيد الواقع المغوي‬
‫واألسموبي لتمؾ العصور الغابرة‪.‬‬

‫استخدـ الكاتب أسموباً سردياً تقميدياً محايداً‪ ،‬حيث اعتمد عمى ضمير الغائب الذي يبلئـ‬
‫القص التاريخي‪ ،‬وأظير سيط ةر الراوي ا لعميـ كمي المعرفة باألحداث وطبائع الشخصيات‪ ،‬والذي‬
‫ّْ‬
‫ٍ‬
‫تعميؽ أو إرشاد كما كاف يفعؿ جورجي زيداف‪ ،‬واف‬ ‫نصح أو‬
‫ٍ‬ ‫اتصؼ بالحيادية فمـ يتدخؿ بأي‬
‫ورد بعض النصح فإنو يكوف طبيعيًا عمى لساف بعض الشخصيات الروائية وليس عمى لساف‬
‫الراوي‪ ،‬ويكوف ذلؾ في مواقؼ تستوجب النصح والتوج يو بحيث تسيـ في إثراء البناء الروائي‬
‫وتطوره‪ .‬وقد راوح المؤلؼ بيف نوعيف مف السرد‪ ،‬يمثؿ السرد التقريري المباشر النوع األوؿ‬
‫منيما‪ ،‬أما النوع اآلخر فيمثمو السرد التحميمي الذي يميؿ إلى تفصيؿ األحداث‪ ،‬واستكناه أسبابيا‬
‫المنطقية‪ ،‬وىذا ما يميز باكثير ويظير قدراتو ا لتخييمية في سبر أغوار األفراد والجماعات‬
‫والتعرؼ عمى أعماقيا ودوافعيا الحقيقية‪.‬‬

‫ومف مظاىر التحوؿ المغوي واألسموبي عند باكثير‪ ،‬غمبة أسموب الحوار عمى رواياتو‬
‫التاريخية‪ ،‬األمر الذي ال نجده بيذه الكثرة عند جورجي زيداف ونجيب محفوظ حيث كاف يبرز‬
‫السرد والوصؼ في روايات كؿ منيما‪ ،‬ولعؿ ما دعا باكثير إلى ذلؾ ىو تأثره بأسموب الكتابة‬
‫صياغة‬ ‫وتميزه الواضح في ِ‬
‫المسرحية التي أبدع فييا بنماذج كثيرة‪ ،‬وال تخفى براعةُ الكاتب ُّ‬
‫الجمؿ الحو َّ‬
‫ارية المكثفة والدالة في نفس الوقت‪ .‬والحوار بشقيو الخارجي والداخمي أعطى مجاالً‬
‫واسعاً لمشخصي ات في التعبير عف مواقفيا المختمفة الظاى ةر والباطنة بشكؿ مستقؿ ومباشر‪ ،‬مع‬

‫‪99‬‬
‫دور بارز في البناء‬
‫استكشاؼ البعد النفسي وتأثيره عمى سير األحداث وتنميتيا‪ ،‬فكاف لمحوار ٌ‬
‫بل عف كسر حدة‬ ‫الروائي عند باكثير مف خبلؿ توضيح األحداث‪ ،‬وتشويؽ القارئ لمتابعتيا‪ ،‬فض ً‬
‫حية نابضة عالية‬‫ارية َّ‬
‫سردية وحو َّ‬ ‫فنية ٍ‬
‫ولغة َّ‬ ‫"استطاع باكثير ببر ٍ‬
‫اعة َّ‬ ‫وطبيعة السرد المعتاد‪ .‬وقد َ‬
‫نابضا َّ‬
‫وكأننا نممس الشخوص ونعيش في قمب‬ ‫ً‬ ‫تحرًكا‬
‫سبؽ ُم ّْ‬
‫أف ينقؿ لنا ما َ‬
‫األداء والمستوى ْ‬
‫( ٔ)‬
‫معا"‪.‬‬ ‫األحداث َّ ّْ‬
‫القدر الكبير مف الفائدة والمتعة ً‬
‫مما ُيحقؽ لمقارئ َ‬
‫ومف أبرز األشكاؿ المغوية والتقنيات السردية في روايات باكثير التاريخية ما يأتي‪:‬‬

‫‪ - 7‬المغة الشعرية الجميمة الحالمة‪:‬‬

‫التي ظيرت في وصؼ الحب والغراـ الذي جمع بيف قمبي محمود وجياد حيث قاؿ‪:‬‬
‫"وحميت الدنيا في عينييما‪ ،‬فصارت رياضاً وأنيا اًر ووروداً وأزىا اًر وطيوفًا مف ضياء الشفؽ‬
‫( ٕ)‬ ‫أياـ كميا أصيؿ‪ٍ ،‬‬
‫ولياؿ كميا سحر"‪.‬‬ ‫البييج‪ ،‬وروحات مف نسيـ الفجر العميؿ‪ ،‬يتقمباف منيا في ٍ‬

‫‪ - 6‬لغة المناجاة‪:‬‬

‫حيث نجح الكاتب في إيصاؿ مشاعر الشخصية إلى القارئ بيسر وسيولة‪ ،‬عف طريؽ‬
‫المونولوج الداخمي ومناجاة النفس‪ ،‬وقد كثرت ىذه التقنية عند باكثير نتيجة لحرصو عمى التحميؿ‬
‫النفسي لمشخصيات المحورية الرئيسة في رواياتو التاريخية‪ ،‬ويظير أثر األحداث عمى‬
‫الشخصيات المختمفة‪ ،‬فنبلحظ شدة حزف وألـ المظفر قطز وتأثره باستشياد زوجتو وحبيبتو‬
‫جمنار في أرض المعركة في قولو‪" :‬أيف جمنار التي كانت تشاط هر ىمومو وآالمو‪ ،‬وتمسح بيدىا‬
‫الرقيقة شكواه‪ ،‬وتطرد عف نفسو اليأس‪ ،‬وتنعش في قمبو األمؿ‪ ،‬وتذكي في فؤاده الرغبة في‬
‫الحياة والمجد؟ وما لذة الحياة بعد جمنار؟ وفيـ يطمب المجد وقد نامت العيف التي كانت تباركو‬
‫( ٖ)‬
‫وتسير عميو؟"‪.‬‬

‫(ٔ ) باكثير وريادة التصور اإلسبلمي في الرواية التاريخية‬


‫‪http://www.alukah.net/literature_language/0/32775‬‬
‫(ٕ) واإسبلماه‪ ،‬صٔ‪ٛ‬‬
‫(ٖ) واإسبلماه‪ ،‬صٕ٘ٓ‬

‫‪111‬‬
‫‪ - 4‬لغة اليذيان والتخيالت‪:‬‬

‫التي تعبر عف المعاناة النفسية الكبي ةر عند الشخصية‪ ،‬إلى الحد الذي يجعميا تنفصؿ عف‬
‫الواقع‪ ،‬فتكوف أسيرة لؤلوىاـ والتخيبلت‪ ،‬وترتبط ىذه المغة أكثر ما ترتبط بتقنية تيار الوعي في‬
‫بعدىا عف منطقة الوعي العقمي واقترابيا مف البلوعي فتعبر عف المشاعر الخاصة بمغة تمقائية‬
‫يمثميا فيضاف الوعي عمى غير نظاـ أو نسؽ‪ ،‬مف خبلؿ االنسياب المتواصؿ لؤلفكار والمشاعر‬
‫( ٔ)‬
‫وقد ازدىرت ىذه التقنية السردية في الرواية الجديدة التي سعت إلى كشؼ أثر‬ ‫داخؿ الذىف‪.‬‬
‫البعد النفسي في تكويف الشخصيات الروائية‪ ،‬ونجد لغة اليذياف عند باكثير في رواية واإسبلماه‬
‫عندما َّ‬
‫عبر عف األثر النفسي عمى شخصية السمطاف جبلؿ الديف إثر ضياع ممكو وفقدانو‬
‫لطفميو (محمود وجياد) حيث تعمؽ الكاتب في وصؼ حالتو النفسية‪ ،‬فجعمو ييذي بكبلـ غير‬
‫مفيوـ‪ ،‬وأكثر مف لوـ نفسو ومراجعتيا‪" ..‬فكاف الذيف يسيروف عميو مف رجالو يسمعونو يسأؿ‬
‫نفسو ويجيب نفسو‪ ،‬ويموـ نفسو ويعتذر ليا‪ ،‬وسمعوه ذات ليمة يقوؿ‪" :‬أييا الرجؿ البخاري‪ ،‬أييا‬
‫المسمـ البخاري‪ ،‬كأنؾ حاج مف حجاج بيت اهلل الحراـ‪ ،‬أال تقؼ عندي لحظة فأتبرؾ بؾ" ؟‪.‬‬

‫"إنؾ رجؿ أحبطت عممؾ‪ ،‬فأخاؼ أف يمسني عذاب مف الرحمف في المحظة التي أقؼ‬
‫فييا عندؾ"‪.‬‬

‫"بؿ أنا رجؿ مسكيف بائس منكوب‪ ،‬ذىب ممؾ أبي فمات في الجزيرة غماً‪ ،‬وذبح التتار‬
‫( ٕ)‬
‫وت بدو أىمية الحوار السابؽ في الكشؼ عف الصراع‬ ‫أخوتي وأعمامي‪ ،‬وسبوا جدتي"‪ ..‬الخ‬
‫النفسي القائـ داخؿ نفس جبلؿ الديف حيث يعترؼ بذنوبو وتقصي هر في قتاؿ التتار‪.‬‬

‫‪ - 3‬لغة الرؤى واألحالم‪:‬‬

‫وىي المغة التي ترتبط بتقنية الحمـ أو الرؤية حيث األجواء الغرائبية العجيبة التي تأخذ‬
‫اإلنساف إلى أماكف وأزمنة بعيدة دوف إرادة منو أو سيط ةر إذ تصدر عف اإلنساف وىو نائـ خارج‬
‫حدود الوعي‪ ،‬وما يميز لغة األحبلـ أنيا تتصؼ باالختزاؿ والتكثيؼ واتساع الداللة‪ ،‬وىي تحقؽ‬
‫نوعًا مف الترابط واالنسجاـ الفني لمعمار الرواية‪ ،‬وقد َّ‬
‫عدؿ باكثير باستخداـ ىذه التقنية مسار‬
‫روايتو (واإسبلماه) التي قامت فكرتيا مف البداية عمى نبوءة المنجـ‪ ،‬فجعميا تقوـ عمى أساس‬
‫آخر وىو الرؤيا الصالحة التي وجيت الرواية نحو االعتقاد اإلسبلمي الصحيح الذي يبتعد عف‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬معجـ مصطمحات نقد الرواية‪ ،‬ص‪ٙٙ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬واإسبلماه‪ ،‬ص٘٘ ‪٘ٚ -‬‬

‫‪111‬‬
‫عالـ الخرافة والوىـ‪ .‬ويحكي قطز رؤياه فيقوؿ‪" :‬أرقت البارحة ونابني ضيؽ شديد‪ ،‬فقمت‬
‫فتوضأت‪ ،‬وصميت النفؿ وأوترت‪ ،‬ودعوت اهلل‪ ،‬ثـ عدت إلى فراشي فغمبتني عيناي‪ ،‬ورأيت‬
‫كأني ضممت طريقي في برية قفراء‪ ،‬فجمست عمى صخ ةر أبكي‪ ،‬وبينما أنا كذلؾ إذا بكوكبة مف‬
‫الفرساف قد أقبمت‪ ،‬يتقدميا رجؿ أبيض جميؿ الوجو‪ ،‬عمى رأسو جمة تضرب في أذنيو‪ ،‬فمما‬
‫رآني أشار ألصحابو‪ ،‬فوقفوا وترجؿ عف فرسو‪ ،‬ودنا مني فأنيضني بقوة‪ ،‬وضرب عمى صدري‪،‬‬
‫وقاؿ لي‪ :‬قـ يا محمود فخذ ىذا الطريؽ إلى مصر فستممكيا وتيزـ التتار‪ .‬فعجبت مف معرفتو‬
‫اسمي‪ ،‬وأردت أف أسألو مف ىو؟ فما أميمني أف ركب جواده فانطمؽ بو فصحت بأعمى صوتي‪:‬‬
‫مف أنت؟ فالتفت إلي أحد أصحابو وىـ منطمقوف في أثره‪ :‬ويمؾ ىذا محمد رسوؿ اهلل –صمى اهلل‬
‫( ٔ)‬
‫ومف المبلحظ استخداـ‬ ‫عميو وسمـ ‪ -‬وانتبيت مف نومي وأنا أحس برد أناممو في صدري"‪.‬‬
‫الكاتب لضمير المتكمـ –وىو مف الضمائر كثيرة االستخداـ في الرواية الجديدة ‪ -‬عمى لساف‬
‫يمكف الشخصية مف التعبير عف نفسيا بطبلقة وحرية بعيداً عف سمطة الراوي‬ ‫محمود والذي ّْ‬
‫وسيطرتو‪ ،‬كما أنو يوحي بقرب الشخصية مف المتمقي‪ ،‬وقدرتيا عمى إقناعو والتأثير عميو‪.‬‬

‫‪ - 5‬المغة األخالقية‪:‬‬

‫التي تمتزـ بالقيـ اإلسبلمية‪ ،‬فتتجنب وصؼ الرذيمة وتذـ سموكيا‪ ،‬وقد حافظ باكثير عمى‬
‫التزامو األخبلقي فحرص عمى اختيار األلفاظ التي ال تخدش الحياء‪ ،‬وال تثير الشيوات وىو‬
‫بذلؾ "يختمؼ عف كثير مف الروائييف الذيف يتخذوف مياديف الرذيمة والفسؽ والميوعة واالنحبلؿ‬
‫الخمقي مجاالً لتجميات البطولة‪ ،‬فيقفوف وقفات تصويرية طويمة عند كؿ رذيمة تواجو إحدى‬
‫( ٕ)‬
‫فقد استخدـ كاتبنا المغة بشكؿ بما‬ ‫الشخصيات؛ ليضخموىا عمى أنيا قمة الرقي النفسي"‪.‬‬
‫ينسجـ مع الروح األخبلقية لؤلدب اإلسبلمي ومف ذلؾ الوصؼ الجميؿ والشفاؼ الطاىر لمقاء‬
‫العروسيف (قطز وجمنار) في الميمة األولى مف زواجيما في مصر حيث‪" :‬طاب المقاء وساد‬
‫الصفاء‪ ،‬وسالت دموع الفرح‪ ،‬وتحدث القمب إلى القمب ولذت الشكوى‪ ،‬ورقت النجوى‪ ،‬وتذوكرت‬
‫ذنوب الزماف ثـ غفرت لو دفعة واحدة‪ ،‬ومرت المحظات كأنيا حبات عقد مف المؤلؤ النضيد‬
‫وىي سمكو‪ ،‬فانتثر وقرت بنعيـ الوصؿ عيوف طالما أسيدىا البيف الطويؿ‪ ،‬فما كانت تنطبؽ إال‬
‫عمى لوـ نافذ‪ ،‬ومضجع قمؽ‪ ،‬فمشى إلييا النعاس مترفقًا يستعتبيا فأعتبتو‪ ،‬وضمتو في شوؽ‬

‫(ٔ) واإسبلماه‪ ،‬صٖٓٔ ‪ٔٓٗ-‬‬


‫(ٕ) نظرية األدب في ضوء اإلسبلـ‪ ،‬القسـ األوؿ‪ ،‬صٖٕٔ‬

‫‪112‬‬
‫( ٔ)‬
‫وقد ورد في‬ ‫بيف أىدابيا الساجية‪ ،‬فرقد اثناف الحب ثالثيما تحوطيما بسمات اهلل ورضوانو"‪.‬‬
‫رواية الثائر األحمر أكثر مف موقؼ جنسي كاف يمكف لمكاتب االسترساؿ فييا‪ ،‬إال أنو آثر‬
‫الوصؼ العاـ‪ ،‬حيث تجنب المشاىد الغرامية التي يمكف أف تحمؿ أي إيحاءات جنسية مثيرة‪،‬‬
‫واذا اضطر إ لى ذلؾ فإنو يكتفي باإلشارة إلى الموقؼ دوف أف يبال في وصفو وتفصيمو‪ .‬ومف‬
‫ذلؾ وصؼ العبلقات الجنسية بيف َشير وعبداف وكيؼ أنيا أسقطتو في وحؿ الرذيمة واالنحراؼ‪،‬‬
‫كذلؾ تصوير العبلقات المحرمة بيف راجية وعشاقيا‪.‬‬

‫‪ - 2‬لغة الرمز‪:‬‬

‫نجد الرمز في رواية الثائر األحمر بشكؿ واضح‪ ،‬فقد عرض الكاتب األحداث التاريخية‬
‫بمغة روائية فنية خيالية؛ ليرمز إلى ما يقاربيا مف أحداث وصراعات فكرية قائمة عمى أرض‬
‫الواقع‪ ،‬حيث إنو تناوؿ الحركات التاريخية التي شكمت صراعاً حاداً في التاريخ اإلسبلمي؛‬
‫ليحاكي بيا ت يارات فكرية حديثة يحذر مف انتشارىا في ربوع الوطف العربي والعالـ اإلسبلمي‪،‬‬
‫فحركة القرامطة في الرواية ترمز إلى االشتراكية الشيوعية حديثًا التي تنادي بحقوؽ العماؿ‬
‫والكادحيف إال أنيا تستغميـ لتحقيؽ غاياتيا االقتصادية‪ ،‬وابف الحطيـ وأمثالو مف األغنياء‬
‫واإلقطاعيي ف يرمزوف في عصرنا إلى التيار الرأسمالي الغربي الذي يعزز التفرد بالثروة والنفوذ‬
‫والتحكـ بمقدرات الشعوب واالستيبلء عمى خيراتيا‪ ،‬وثورة الزنج في البصرة تقابميا الحركات‬
‫القومية التي يسيطر عمييا الفكر العنصري‪ ،‬وحركة أبي البقاء البغدادي بدار الخبلفة في بغداد‬
‫التي كاف النصر حميفيا ترمز إلى التيارات ذات التوجو اإلسبلمي‪ .‬لقد شكمت ىذه الرواية رسالة‬
‫إنسانية إلى البشرية جمعاء‪ ،‬تظير عدـ صبلحية ىذه التيارات الفكرية الفاسدة التي تتظاىر‬
‫بالفضيمة والعدؿ والحرية‪ ،‬وتبطف الرذيمة والعنصرية واالستغبلؿ في مقابؿ دعوة اإلسبلـ الخالدة‬
‫التي توازف بيف حقوؽ الفرد وحقوؽ الجماعة‪ ،‬وتوفر االنسجاـ الروحي الذي تفتقده مثؿ ىذه‬
‫التيارات المادية‪ ،‬باإلضافة إلى ما يحممو الفكر اإلسبلمي مف رغبة حقيقية في نشر العدالة‬
‫السمحاء بيف كافة البشر دوف تمييز‪.‬‬

‫(ٔ) واإسبلماه‪ ،‬صٓ‪ٔٙ‬‬

‫‪113‬‬
‫ثالثاً‪ :‬التناص‪:‬‬

‫إف أكثر ما يمفت االنتباه في لغة باكثير اعتماده الكبير عمى تقنية التناص‪ ،‬حيث ظيرت‬
‫ىذه التقنية المغوية بوفرة في نصوصو الروائية خاصة التناص الديني مع القرآف الكريـ بالدرجة‬
‫األولى‪ ،‬واألحاديث النبوية الشريفة بالدرجة الثانية‪ ،‬وقصص األنبياء بالدرجة الثالثة‪ ،‬باإلضافة‬
‫إلى التناص األدبي مع الشعر العربي القديـ‪ ،‬ولعؿ نشأتو الدينية وتشربو لروح القرآف الكريـ‬
‫والحديث الشريؼ‪ ،‬باإلضافة إلى تعمقو بالشعر العربي قديمًا وحديثًا؛ شكمت جميعًا عوامؿ ميمة‬
‫في كثرة لجوئو إلى االستشياد بكؿ منيا كمما سنحت الفرصة‪ .‬ويظير ذلؾ بوضوح في رواية‬
‫واإسبلماه حيث وسَّع الكاتب مف آفاؽ النص ودالالتو‪ ،‬فجعؿ السرد المغوي ثرياً وممتعاً في نفس‬
‫الوقت‪ ،‬وكاف ليذه التقنية المغوية أثر كبير في جذب المتمقي وزيادة اندماجو في أحداث الرواية‬
‫مف خبلؿ إلغاء الحدود بيف النصوص المختمفة والربط فيما بينيا؛ لتشكيؿ بنية روائية ىادفة‬
‫وتدؿ عمى اتساع مخزونو األدبي والمعرفي‬‫ُّ‬ ‫ومؤثرة تعكس قدرة األديب ومياراتو الفنية العالية‪،‬‬
‫والثقافي‪ ،‬وميمو إلى التجديد في لغة الرواية وتمييزىا بخاصية االنفتاح عمى األجناس األخرى‪،‬‬
‫وقد ظيرت ىذه التقنية بوفرة في الروايات التاريخية التي تأثرت بخصائص الرواية الجديدة‪.‬‬
‫ويمكننا مبلحظة الت ناص في رواية واإسبلماه وفؽ المحاور اآلتية‪:‬‬

‫‪ - 7‬التناص مع القرآن الكريم‪:‬‬

‫تتمثؿ أكبر التحوالت عند باكثير في تأثره الكبير بمغة القرآف الكريـ سواء عمى مستوى‬
‫السرد أـ الحوار‪ ،‬حيث استشيد بالكثير مف اآليات القرآنية في ثنايا رواياتو‪ ،‬سواء أكاف ىذا‬
‫محو اًر ومتبلحماً مع المواقؼ والمشاىد الروائية المختمفة‬
‫االستشياد والتضميف نصياً صريحاً‪ ،‬أـ َّ‬
‫بما ينسجـ مع األىداؼ الفنية والموضوعية لمخطاب الروائي في األدب اإلسبلمي‪.‬‬

‫مف التناص النصي الصريح مع القرآف الكريـ‪:‬‬

‫حدث ابف الزعيـ الشيخ ابف عبد السبلـ بقصة ممموكو قطز‪ ،‬وأنو مف بيت السمطاف‬ ‫‪َّ -‬‬
‫جبلؿ الديف بف خوارزـ شاه‪ ،‬فتعجب الشيخ مف ىذا الحديث وتبل قولو تعالى‪" :‬قُ ِؿ المَّيَُّـ‬
‫نزعُ الْ ُممْ َؾ ِم َّمف َت َشاء َوتُِعُّز َمف َت َشاء َوتُِذ ُّؿ َمف َت َشاء‬‫َمالِ َؾ الْ ُممْ ِؾ تُ ْؤتِي الْ ُممْ َؾ َمف َت َشاء َوَت ِ‬
‫ٍ ِ‬ ‫ّْ‬ ‫ِ‬
‫بَِيد َؾ الْ َخ ْي ُر إَِّن َؾ َعمَ َى ُكؿ َش ْيء َقد ٌ‬
‫( ٔ)‬
‫ير"‪.‬‬

‫(ٔ) واإسبلماه‪ ،‬ص‪ – ٜٙ‬القرآف الكريـ‪ ،‬سورة آؿ عمراف‪ٕٙ :‬‬

‫‪114‬‬
‫‪ -‬في دعوة الشيخ ابف عبد السبلـ لجياد الصميبييف في الشاـ‪ ،‬استدؿ بقولو تعالى‪" :‬وأ ِ‬
‫َع ُّدوا‬ ‫َ‬
‫يف ِم ْف‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫وف بِو َع ُدَّو المو َو َع ُدَّو ُك ْـ َوَآ َخ ِر َ‬
‫ِ‬ ‫َليـ ما اس َت َ ِ‬
‫ط ْعتُْـ م ْف قَُّوٍة َوِم ْف ِرَباط ا ْل َخ ْي ِؿ تُْرِى ُب َ‬ ‫ُْ َ ْ‬
‫يؿ المَّ ِو ُيو َّ‬
‫ؼ إَِل ْي ُك ْـ َوأ َْنتُْـ َال‬ ‫ونيـ المَّوُ َي ْعَمميـ وما تُْنِفقُوا ِم ْف َشي ٍء ِفي سبِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ُْ َ َ‬ ‫ُدوني ْـ َال َت ْعَم ُم َ ُُ‬
‫( ٔ)‬
‫وف"‪.‬‬
‫تُظَْم ُم َ‬

‫ومف التناص والتضميف القرآني الذي يتبلحـ مع المواقؼ والمشاىد الروائية‪:‬‬

‫‪ -‬وصؼ انقطاع المدد عف الصميبييف‪ ،‬حيث يقوؿ الراوي‪" :‬وما إف انقطع المدد مف‬
‫دمياط عف العدو حتى أذاقيـ اهلل لباس الجوع والخوؼ‪ ،‬وصاروا محصوريف ال يطيقوف‬
‫المقاـ‪ ،‬ويخشوف الذىاب‪ ،‬فضاقت بيـ أنفسيـ وبمغت قموبيـ الحناجر‪ ...‬ثـ خربوا‬
‫بيوتيـ بأيدييـ وأيدي المؤمنيف"‪ )ٕ (.‬وقد استوحى الكاتب الوصؼ السابؽ مف ثبلث آيات‬
‫قرآنية مف سور مختمفة‪ ،‬بحيث شكؿ مف بعض جمميا ومفرداتيا صورة فنية مركبة‬
‫تظير شدة ضعؼ الصميبييف وتميد ليزيمتيـ‪ .‬اآلية األولى ىي اآلية الثانية مف سو ةر‬
‫اب ِم ْف‬ ‫َى ِؿ الْ ِكتَ ِ‬
‫يف َكفَ ُروا ِم ْف أ ْ‬ ‫الحشر يقوؿ فييا الحؽ تبارؾ وتعالى‪" :‬ىو الَِّذي أ ْ َِّ‬
‫َخَرَج الذ َ‬ ‫َُ‬
‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِدَي ِارِى ْـ ِألََّو ِؿ ا ْل َح ْش ِر َما َ‬
‫اى ُـ‬
‫ونيُْـ م َف المو َفأَ َت ُ‬ ‫ص ُ‬ ‫ظُّنوا أََّنيُْـ َمان َعتُيُْـ ُح ُ‬ ‫َف َي ْخ ُر ُجوا َو َ‬ ‫ظَن ْنتُْـ أ ْ‬
‫وتيُْـ بِأ َْيِدي ِي ْـ َوأ َْيِدي‬‫وف ُب ُي َ‬‫ب ُي ْخ ِرُب َ‬ ‫ؼ ِفي قُمُوبِ ِي ُـ ُّ‬
‫الرْع َ‬ ‫ث َل ْـ َي ْح َت ِس ُبوا َوَق َذ َ‬‫المَّوُ ِم ْف َح ْي ُ‬
‫ِ‬
‫ص ِار"‪ .‬واآلية الثانية تمثميا اآلية العاشرة مف سورة‬ ‫اع َتبِ ُروا َيا أُولِي ْاأل َْب َ‬ ‫يف َف ْ‬ ‫الْ ُم ْؤِمن َ‬
‫وكـ ِم ْف َفوِق ُكـ وِم ْف أَس َف َؿ ِم ْن ُكـ وِا ْذ َز َ ِ‬
‫ص ُار‬ ‫اغت ْاأل َْب َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫اء ُ ْ‬‫األحزاب وقولو تعالى‪" :‬إِ ْذ َج ُ‬
‫َّ ِ ُّ‬ ‫ِ‬
‫ونا"‪ .‬أما اآلية الثالثة فتبدو في اآلية الثانية‬ ‫وف بِالمو الظ ُن َ‬ ‫اجَر َوَتظُُّن َ‬ ‫وب الْ َحَن ِ‬
‫َوَبمَ َغت الْقُمُ ُ‬
‫ت َآ ِمَن ًة‬‫ب المَّوُ َمثًَبل َق ْرَي ًة َك َان ْ‬ ‫ضَر َ‬ ‫عشرة بعد المئة مف سورة النحؿ في قولو تعالى‪"َ :‬و َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ييا ِرْزقُ َيا َرَغ ًدا ِم ْف ُك ّْؿ َم َك ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اس ا ْل ُجوِع‬ ‫ت بِأ َْن ُعـ المو َفأَ َذ َاق َيا الموُ لَب َ‬ ‫اف َف َك َفَر ْ‬ ‫ُمطْ َمئَّن ًة َيأْت َ‬
‫ِ‬
‫وف"‪ .‬ومع أف ىذه اآليات تتحدث عف مواقؼ مختمفة‪ ،‬إال أف‬ ‫صَن ُع َ‬ ‫َوالْ َخ ْوؼ بِ َما َك ُانوا َي ْ‬
‫الكاتب استطاع توظيؼ مفرداتيا لغوياً؛ ليعبر تعبي اًر صادقاً ودقيقاً ومؤث اًر عف موقؼ‬
‫واحد ىو بياف حاؿ الصميبييف وقت ىزيمتيـ أماـ المصرييف‪ ،‬مما يدؿ عمى شدة تعمقو‬
‫وتأث هر بمغة القرآف الكريـ‪.‬‬
‫‪ -‬كاف مف أجمؿ ما اقتبسو مف القرآف الكريـ‪ ،‬تصوير ىزيمة ممؾ فرنسا في دمياط‪ ،‬حيث‬
‫قاؿ الممؾ الخاسر‪ :‬سآوي إلى جبؿ يعصمني مف الموت‪ .‬قاؿ المسمموف‪" :‬ال عاصـ‬

‫(ٔ) واإسبلماه‪ ،‬ص‪ – ٜٜ‬القرآف الكريـ‪ ،‬سورة األنفاؿ‪ٙٓ :‬‬


‫(ٕ) واإسبلماه‪ ،‬صٖٗٔ‬

‫‪115‬‬
‫اليوـ مف أمر اهلل إال مف رحـ"‪ .‬وقيؿ‪" :‬يا أرض القتاؿ ابمعي أشبلءؾ‪ ،‬وياسماء الموت‬
‫أقمعي‪ ،‬وغيض الدـ‪ ،‬وقضي األمر‪ ،‬واستوت سفينة اإلسبلـ عمى جودى النصر‪ ،‬وقيؿ‬
‫( ٔ)‬
‫ويتطابؽ ىذا الحوار مع ما ذكره اهلل –عز وجؿ ‪ -‬في القرآف‬ ‫بعدًا لمقوـ الظالميف"‪.‬‬
‫الكريـ‪ ،‬وىو يصور حوار نوح مع ابنو في اآليتيف الثالثة واألربعيف والرابعة واألربعيف‬
‫ص ُمنِي ِم َف‬ ‫اؿ سآَِوي إِلَى جب ٍؿ يع ِ‬
‫ََ َ ْ‬ ‫مف سورة ىود‪ ،‬حيث يقوؿ اهلل ‪-‬تبارؾ وتعالى ‪"َ :-‬ق َ َ‬
‫اف ِم َف‬ ‫ج فَ َك َ‬ ‫اصَـ الَْي ْوَـ ِم ْف أ َْم ِر المَّ ِو إِ َّال َم ْف َرِحَـ َو َح َ‬
‫اؿ َب ْيَنيَُما الْ َم ْو ُ‬
‫اؿ َال ع ِ‬
‫َ‬ ‫اء قَ َ‬‫الْم ِ‬
‫َ‬
‫يؿ يا أَرض ْابمَ ِعي ماء ِؾ ويا سماء أَقْمِ ِعي وِغيض الماء وق ِ‬
‫ضي ْاأل َْم ُر‬
‫َ َ َْ ُ َ ُ َ‬ ‫َ َ َ َ ََ ُ‬ ‫*وِق َ َ ْ ُ‬ ‫يف َ‬‫الْ ُم ْغَرِق َ‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي َوِق َ‬ ‫ت َعَمى ا ْل ُج ِ‬
‫يؿ ُب ْع ًدا ل ْم َق ْوِـ الظالم َ‬
‫يف"‪.‬‬ ‫ود ّْ‬ ‫اس َتَو ْ‬
‫َو ْ‬
‫‪ - 6‬التناص مع الحديث النبوي الشريف‪:‬‬

‫يظير تأثر الكاتب كذلؾ بالحديث النبوي الشريؼ‪ ،‬حيث ض َّمف روايتو عددًا مف األحاديث‬
‫النبوية الشريؼ التي أسيمت في إثراء الحدث الروائي وتفعيؿ الحوار اليادؼ بيف الشخصيات‪،‬‬
‫وربط كؿ ذلؾ بالسي ةر النبوية‪ .‬ومف ذلؾ‪:‬‬

‫‪ -‬قوؿ قطز لصديقو‪" :‬لقد َّفرجت كربي‪ ،‬فرج اهلل كربؾ يوـ القيامة"( ٕ) وىذا القوؿ مأخوذ‬
‫يو ُك ْرَب ًة ِم ْف‬
‫َخ ِ‬
‫مف حديث الرسوؿ –صمى اهلل عميو وسمـ ‪ -‬الذي يقوؿ فيو‪" :‬م ْف َفَّرج ع ْف أ ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫الد ْنَيا َفَّرَج المَّوُ َع ْنوُ ُك ْرَب ًة ِم ْف ُكَر ِب َي ْوِـ الِْقَي َام ِة"‪.‬‬
‫ُكر ِب ُّ‬
‫َ‬
‫‪ -‬عندما سأؿ السمطاف قطز األتابؾ أقطاي عف رأيو في األمير بيبرس‪ ،‬فرد عميو أقطاي‬
‫صمَّى‬ ‫( ٖ)‬
‫بقولو‪" :‬ليس المسؤوؿ عنو بأعمـ مف السائؿ"‪ .‬وىذا يتماشى مع رد رسوؿ اهلل ‪َ -‬‬
‫المَّوُ َعَم ْي ِو َو َسمََّـ ‪ -‬عمى جبريؿ –عميو السبلـ ‪ -‬في الحديث المشيور عندما سألو متى‬
‫الساعة؟ قاؿ‪" :‬ما المسؤوؿ عنيا بأعمـ مف السائؿ"‪.‬‬
‫وىذا‬ ‫( ٗ)‬
‫‪ -‬قوؿ العز بف عبد السبلـ‪ّْ :‬‬
‫"غيروا بأيديكـ ما لـ أقدر عمى تغييره بمساني"‪.‬‬
‫يتطابؽ مع قوؿ رسوؿ اهلل ‪-‬صمى اهلل عميو وسمـ ‪ -‬في الحديث الشريؼ‪" :‬مف رأى منكـ‬
‫منك ار فميغيره بيده‪ ،‬فإف لـ يستطع فبمسانو‪ ،‬فإف لـ يستطع فبقمبو‪ ،‬وذلؾ أضعؼ‬
‫اإليماف"‪.‬‬

‫(ٔ) واإسبلماه‪ ،‬صٖ٘ٔ‬


‫(ٕ) واإسبلماه‪ ،‬صٓ‪ٜ‬‬
‫(ٖ) واإسبلماه‪ ،‬ص‪ٔٛٛ‬‬
‫(ٗ) واإسبلماه‪ ،‬صٔٓٔ‬

‫‪116‬‬
‫‪ - 4‬التناص مع قصص األنبيال‪:‬‬

‫َع ِمؿ باكثير عمى مقاربة قصة بطمو قطز بقصة النبي يوسؼ –عميو السبلـ ‪ -‬مف‬
‫القصص القرآني‪ ،‬وتـ التأكيد عمى ذلؾ في حادثتيف مختمفتيف‪ ،‬الحادثة األولى وردت عمى لساف‬
‫ؼ وبيع وىو صبي لتجار الرقيؽ فقاؿ‪" :‬اذكر قصة‬ ‫الشيخ سبلمة وىو ينصح محمود عندما ُخ ِط َ‬
‫يوسؼ الصديؽ عميو السبلـ‪ ،‬كيؼ بيع بدراىـ معدودة لعزيز مصر‪ ،‬فما لبث أف صار ممكاً‬
‫عمى مصر‪ ،‬وىكذا تحدثني نفسي أنؾ ستكوف كيوسؼ‪ ،‬غير أف يوسؼ كاف مف بيت النبوة‬
‫( ٔ)‬
‫والحادثة الثانية وردت عمى لساف العز بف عبد السبلـ وىو يدعو لقطز‬ ‫وأنت مف بيت الممؾ"‪.‬‬
‫( ٕ)‬
‫بػ "الميـ حقؽ رؤيا عبدؾ قطز كما حققتيا مف قبؿ لعبدؾ ورسولؾ يوسؼ الصديؽ"‪.‬‬

‫ويؤكد الدكتور محمد عمي غبلـ عمى ىذا الربط المطيؼ البديع بيف قصة قطز وقصة‬
‫بل عمى تشرب باكثير مف القرآف الكريـ‪ ،‬ويوضح ذلؾ‬ ‫النبي يوسؼ –عميو السبلـ ‪ -‬ويعد ذلؾ دلي ً‬
‫اآلخر ابف األنبياء‪ ،‬وكبلىما استُِر َّؽ‬ ‫فيقوؿ‪" :‬فكبلىما مف أس ٍرة كريمة؛ َّ‬
‫األوؿ ابف السبلطيف و َ‬
‫وىَبو اهلل مف‬
‫دخؿ القصر مف أوسع أبوابو بما َ‬
‫عبدا في مصر‪ ،‬وكبلىما َ‬ ‫وعدو ًانا‪ ،‬وبِيع ً‬‫ظُ ًمما ُ‬
‫قدر لو مف الشأف العظيـ‪ ،‬وكبلىما َّه‬
‫أعز اهلل بعد ذؿ‪ ،‬واألىـ مف ذلؾ كمو‬ ‫كاء وِفطنة‪ ،‬وبما َّ‬‫َذ ٍ‬
‫( ٖ)‬
‫كبلىما ُب ّْشَر برؤيا صالحة بمصيره الذي ينتظره"‪.‬‬

‫‪ - 3‬التناص مع الشعر العربي‪:‬‬

‫ضمف روايتو بعض األشعار التي‬


‫وظؼ باكثير الشعر خبلؿ سرده ألحداث الرواية‪ ،‬وقد َّ‬
‫ترتبط بحوادث تاريخية حقيقية تـ التعرض ليا في الرواية‪ ،‬ومف ذلؾ ما ورد عمى لساف شاعر‬
‫( ٗ)‬
‫وضمف‬
‫َّ‬ ‫مصر في السخرية مف ىزيمة الفرنسييف الساحقة في دمياط وانسحابيـ الفاضح منيا‪.‬‬
‫روايتو أيضًا بع ض األشعار التي نسجيا خيالو وأطمقيا عمى ألسنة داللي الرقيؽ بغرض جذب‬
‫( ٘)‬
‫وكذلؾ وصؼ المعنويات العالية لجنود المسمميف الذاىبيف لقتاؿ‬ ‫المشتريف في سوؽ حمب‪.‬‬

‫(ٔ) واإسبلماه‪ ،‬ص‪ٙٙ‬‬


‫(ٕ) واإسبلماه‪ ،‬ص٘ٓٔ‬
‫(ٖ ) عمي أحمد باكثير رائد الرواية التاريخية اإلسبلمية في األدب العربي‬
‫‪http://www.alukah.net/literature_language/0/37552‬‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬واإسبلماه‪ ،‬ص ‪ٖٔٚ‬‬
‫(٘) انظر‪ ،‬واإسبلماه‪ ،‬ص ٔ‪ٚٛ ،ٚٚ ،ٚٗ ،ٖٚ ،ٕٚ ،ٚ‬‬

‫‪117‬‬
‫التتار‪ ،‬مف خبلؿ ترديدىـ لؤلناشيد التي تشحذ اليمـ وتقوي العزائـ‪ )ٔ (.‬ومف أجمؿ ما اقتبسو مف‬
‫الشعر العربي القديـ وصفو لقصة الحب بيف قطز وجمنار ومقاربتيا بما قالو الشاعر جميؿ بف‬
‫الممقب بجميؿ بثينة في محبوبتو‪ .‬حيث يقوؿ الراوي في وصفو لرؤية قطز لمحبوبتو‪:‬‬ ‫معمر ُ‬
‫"ولبث دى اًر يكتفي مف حبيبتو بالنظرة العجمى‪ ،‬وباألسبوع تنقضي أوائمو وأواخره ال يراىا إال َّة‬
‫مر‬
‫( ٕ)‬
‫وفي ذلؾ يقوؿ جميؿ بثينة‪:‬‬ ‫مرتيف‪ ..‬ولكف الواشي درى بأمر الحبيبيف فما َّقرت ببلبمو"‪.‬‬
‫أو َّ‬

‫بلبِمُ ْو‬ ‫َلو ْابص هر الو ِ‬ ‫ضى ِم ْف ُبثَْيَن َة بِالَِّذي‬


‫ت َب َ‬
‫اشي َل َقَّر ْ‬ ‫ََُ َ‬ ‫َ‬ ‫َِواّْني أل َْر َ‬
‫وبِالْو ْعِد حتَّى يسأَـ الو ْع َد ِ‬
‫آممُ ْو‬ ‫يع‪َ ،‬وبِالْ ُمَنى‬ ‫بِبلَ وبِأَالَّ أ ِ‬
‫َ َ َ َ َْ َ‬ ‫َس َتط َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫( ٖ)‬
‫ال َن َمتِقي‪َ ،‬وأََوائِمُ ْو‬ ‫أو ِ‬
‫اخ ُهرُ‪َ ،‬‬ ‫َ‬
‫النظْ ِرة الع ْجَمى‪ ،‬وبِالْحو ِؿ َت ْن َق ِ‬
‫ضي‬ ‫َ َْ‬ ‫َوبِ َّ َ َ‬
‫بل نصيًا عف‬
‫تميز الكاتب في توظيفو لمشعر العربي‪ ،‬سواء كاف ذلؾ نق ً‬
‫يتبيف مما سبؽ ّ‬
‫شعراء عايشوا ذلؾ العصر التاريخي‪ ،‬أو كاف ىذا الشعر مف إبداعو ونسج خيالو المحض‪ ،‬أو‬
‫أنو قد استفاد مف الشعر العربي القديـ واستثمره في لغة السرد الروائي‪ .‬فبل ننسى كوف باكثير‬
‫شاع اًر متمي اًز قبؿ أف يكوف مسرحيًا أو روائياً‪ ،‬وىو في تضمينو الشعري في جنس الرواية‬
‫َّ‬
‫الحيوية عمى حركة السَّرد والوصؼ‪ ،‬ويعمؿ كذلؾ عمى إثراء‬ ‫التاريخية يعمؿ عمى إضفاء‬
‫المشيد‪ ،‬ومحاكاة روح ذلؾ العصر‪ ،‬ويحرص عمى شعور القارئ بمعايشة الواقع التاريخي وكأنو‬
‫يراه أماـ عينيو‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬الشخصيات‪:‬‬

‫تظير براعة باكثير في وصؼ شخصياتو الروائية‪ ،‬وقد تجاوز مرحمة التأثر بالرواد إلى‬
‫مرحمة النضج الفني‪ ،‬فيو ُيعنى عناية كبيرة برسـ الشخصيات والغوص في أعماقيا‪ ،‬واذكاء‬
‫تميز في عرضو لشخصياتو عف كثير‬‫عنصر الصراع الداخمي والخارجي لمشخصية( ٗ)‪ ،‬ولذلؾ َّ‬
‫مف الكتاب السابقيف والمعاصريف لو‪ ،‬وتتمثؿ أىـ تحوالت البناء الفني لمشخصية الروائية عنده‬
‫في المحاور اآلتية‪:‬‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬واإسبلماه‪ ،‬صٔ‪ٜٔ‬‬


‫(ٕ) واإسبلماه‪ ،‬صٕ٘ٔ‬
‫(ٖ) ديواف جميؿ بثينة‪ ،‬ص٘ٔٔ‬
‫(ٗ ) انظر‪ ،‬الفضاء التاريخي في الرواية التاريخية بيف عمي أحمد باكثير وجورجي زيداف‬
‫‪http://www.bakatheer.com/upload/al-fada_al-rewaiy_dr_al-khateeb.pdf‬‬

‫‪118‬‬
‫لتحمل دور البطولة‪.‬‬
‫ٔ ‪ -‬تييئة الشخصيات المحورية ُّ‬

‫إف توفر ىذه الصفة الفنية يجعؿ الكاتب أكثر إقناعاً وامتاعاً لمقارئ‪ ،‬بحيث ال يدع لو مجاالً‬
‫لمتساؤؿ عف كيفية وصوؿ الشخصية إلى ىذا المستوى مف الكفاءة والميارة‪ .‬ونجد ذلؾ في‬
‫شخصية محمود‪/‬قطز بطؿ رواية واإسبلماه الذي يظير مف بداية الرواية حرص خالو السمطاف‬
‫جبلؿ الديف بف خوارزـ شاه عمى تربيتو وتوجييو وتعميمو الفروسية وفنوف القتاؿ مف الصغر؛‬
‫حتى يكوف قاد ًار عمى تحمؿ مسؤولية مجابية التتار فيما بعد‪ .‬ثـ إنو عمؿ عمى تييئة البطؿ‬
‫نفسيًا لقتاؿ التتار‪ ،‬حيث نشأ في بيت يقاتؿ التتار‪ ،‬فجده خوارزـ شاه وخالو جبلؿ الديف ضاع‬
‫ممكيما بسبب التتار‪ ،‬وكذلؾ فإف أبيو األمير ممدود قد استشيد وىو يقاتؿ التتار‪ ،‬كؿ ىذه‬
‫العوامؿ َّ‬
‫شكمت دوافع نفسية كبيرة لقتاؿ التتار‪ ،‬فقد جعؿ مف االنتقاـ منيـ وتخميص المسمميف‬
‫مف شرىـ ىدفًا ساميًا أخذ يكبر في نفس الطفؿ الصغير إلى أف أصبح شابًا في دمشؽ‪ ،‬واتصؿ‬
‫بالشيخ ابف عبد السبلـ الذي عزز تحقيؽ ىذا اليدؼ معرفيًا حتى صار قطز سمطانًا عمى‬
‫مصر فجمع كممة المماليؾ‪ ،‬ولـ يستسمـ لمتتار وصمـ عمى قتاليـ‪ ،‬ونص هر اهلل عمييـ في معركة‬
‫عيف جالوت‪.‬‬

‫وينطبؽ ذلؾ أيضًا عمى شخصية حمداف قرمط‪ ،‬الشخصية المحورية النامية التي تصنع‬
‫األحداث‪ ،‬وتدفع بيا إلى األماـ في رواية الثائر األحمر‪ ،‬حيث يظير في بداية الرواية العامؿ‬
‫النفسي الذي يتمثؿ في إحساس حمداف بالظمـ مف عممو كفبلح أجير في األرض التي كاف والده‬
‫سقطت أمبلكيـ في يد ذلؾ المالؾ الكبير‪ ،‬وىو اآلف يتعب كثي اًر وال‬
‫ْ‬ ‫أحد مبلكيا الصغار الذيف‬
‫َ‬
‫يحصد إال الفتات‪ ،‬بينما يذىب معظـ جيده إلى سيده اإلقطاعي المنشغؿ بممذاتو ومبلىيو في‬
‫ّْ‬
‫المتعددة بالكوفة‪ ،‬ويتضاعؼ إحساسو بالظمـ وتنقمب حياتو رأسًا عمى عقب‪ ،‬باختطاؼ‬ ‫قصوره‬
‫أختو عالية واكتشافو بعد ذلؾ أف الذي اختطفيا ىو سيده ابف الحطيـ الذي كاف يأمؿ في‬
‫ىيأه ِّ‬
‫نفسيا فقد كاف في‬ ‫جسديا كما َّ‬
‫ِّ‬ ‫مساعدتو في البحث عنيا واعادتيا إليو‪ّْ .‬‬
‫ويييئ الكاتب بطمو‬
‫نحو الخامسة والثبلثيف مف عمره قوي البنية جمداً عمى العمؿ‪ ،‬في َّقوة اثنيف‪ ،‬حيث َترؾ عممو‬
‫يركز عمى ِسمة احمرار العيف‪ ،‬التي‬
‫في المزرعة الثنيف مف األُجراء يتناوباف عمى القياـ بو‪ ،‬ثـ ّْ‬
‫تميد القارئ لتقبؿ اتجاه الشخصية نحو العنؼ والثورة والتمرد‪ .‬وتسيـ الظروؼ الخاصة التي‬
‫خاضيا حمداف في تحويمو معرفيًا مف شخصية فبلح بسيط ساذج إلى إنساف حاقد وناقـ عمى‬
‫رأس ال نظاـ الحاكـ‪ ،‬مما دفعو إلى المجوء لمجماعات السرية كي تساعده في حؿ مشكمتو‪ ،‬فانضـ‬
‫إلى جماعة َّ‬
‫العياريف التي اكتسب مف خبلليا الكثير مف المعارؼ الصادمة‪ ،‬ثـ تأثر بدعاة‬
‫الباطنية خصوصاً الشيخ حسف األىوازي‪ ،‬الذي أخذ عنو مبادئ المنيج ورسالة اإلماـ أو‬

‫‪119‬‬
‫الميدي المنتظر‪ ،‬ومع ذلؾ كاف إيماف حمداف بالمذىب إيماناً سطحيا لـ يبم حد اليقيف‪ ،‬وكاف‬
‫اإلحساس بالظمـ والرغبة في القضاء عميو ىو الدافع الحقيقي لبللتحاؽ بو‪ .‬ومف ىنا يظير‬
‫تعاطؼ السارد مع شخصية حمداف وتماىيو فييا‪ ،‬فيو يريد أف يأخذ الشخصية إلى الطريؽ‬
‫الذي يحقؽ ىدفو الروائي‪ ،‬وقد تمكف مف ذلؾ إذ جعمو في نياية الرواية يكتشؼ انحراؼ منيجو‬
‫وفساده‪ ،‬فيعمف براءتو مف المذىب ويعود إلى الديف الحنيؼ‪ ،‬وينتصر بذلؾ المنيج اإلسبلمي‬
‫عمى ما عداه مف مناىج باطمة‪.‬‬

‫‪ - 6‬االىتمام بالتحميل النفسي لشخصياتو‪.‬‬

‫وىو في ذلؾ يحرص عمى بياف عواطفيا الخاصة‪ ،‬ويكشؼ عػف بواطنيػا وأعماقيػا الداخميػة بكػؿ‬
‫سبلس ػ ػػة ووض ػ ػػوح‪ ،‬وق ػ ػػد أكث ػ ػػر ب ػ ػػاكثير م ػ ػػف وص ػ ػػؼ المش ػ ػػاعر واألحاس ػ ػػيس الت ػ ػػي تخ ػ ػػتمج قمػ ػ ػػوب‬
‫الشخصيات‪ ،‬وأسيب كثي اًر في التحميؿ النفسي بالتذكر والتأمؿ ومراجعة النفس‪ ،‬سواء عف طريؽ‬
‫السرد المباشر أو الحوار والمونولوج الداخمي‪" .‬لذلؾ لـ تكف شخصياتو مجردة‪ ،‬بؿ كانت بشرية‪،‬‬
‫ليػػا أحاسيس ػػيا ومشػػاعرىا‪ ،‬وفيي ػػا النزعػػة اإلنس ػػانية الت ػػي تسػػاير األح ػػداث‪ ،‬فبػػدت لمق ػػارئ وكأني ػػا‬
‫( ٔ)‬
‫ويمكػػف مبلحظػة ذلػػؾ‬ ‫شخصػيات حقيقيػة ماثمػػة أمامػو‪ ،‬يتفاعػػؿ معيػا‪ ،‬ويتعػاطؼ مػػع أحػداثيا"‪.‬‬
‫عنػد بػاكثير فػي أكثػر مػف موقػؼ منيػا تصػػوير أثػر دعػاء الشػيخ ابػف عبػد السػبلـ عمػى شخصػػية‬
‫قطز بقولو‪" :‬تبدؿ حاؿ قطز منذ دعا لػو الشػيخ‪ ،‬فأضػحى شػديد الثقػة بنفسػو مبػتيج الخػاطر فػي‬
‫( ٕ)‬
‫باإلضػافة إلػى‬ ‫يومو‪ ،‬قوي الرجاء فيما يدخ هر لػو اهلل فػي غػده مػف شػرؼ الممػؾ وسػعادة الحػب"‪.‬‬
‫وصػؼ شػدة الحػزف الػذي طغػى عمػى نفسػية الممػؾ المظفػر (قطػز) بعػد استشػياد زوجتػو (جمنػػار)‬
‫حيػث يقػػوؿ السػػارد‪" :‬طغػػى الحػػزف الجبػػار عمػػى تمػؾ الػػنفس القويػػة فوىنػػت‪ ،‬وعمػػى تمػػؾ العزيمػػة‬
‫الماضية فكمَّت‪ ،‬وعمى تمؾ اليمة الطائرة فييض جناحيا‪ ،‬وعمى ذلؾ الرأي الجميع فانتفض غزلو‬
‫مف بعد قوة أنكاثا‪ ،‬وأصبح الممؾ المظفر يائساً في الحيػاة يسػتثقؿ ظميػا‪ ،‬ويسػتطيؿ أمػدىا‪ ،‬ويػود‬
‫لػو اسػتطاع فجػاز مػػا بقػي لػو فييػػا مػف األيػاـ مرحمػة واحػػدة‪ ،‬إلػى حيػث يمقػػى حبيبتػو الشػييدة فػػي‬
‫( ٖ)‬
‫ومثػؿ ىػذه األوصػاؼ ال نجػدىا عنػد نجيػب محفػوظ الػذي كػاف‬ ‫مقعد صدؽ عند مميؾ مقتػدر"‪.‬‬
‫يكثر مف الوصؼ الخارجي لشخصيات رواياتو التاريخية حيث يقوؿ في وصؼ رسوؿ أبي فيس‬
‫إلى حاكـ طيبة‪" :‬كاف يتصدر المقصورة رجؿ بديف قصير القامة‪ ،‬مستدير الوجو‪ ،‬طويؿ المحية‪،‬‬

‫(ٔ ) انظر‪ ،‬الفضاء التاريخي في الرواية التاريخية بيف عمي أحمد باكثير وجورجي زيداف‬
‫‪http://www.bakatheer.com/upload/al-fada_al-rewaiy_dr_al-khateeb.pdf‬‬
‫(ٕ) واإسبلماه‪ ،‬ص‪ٜٔٓ‬‬
‫(ٖ) واإسبلماه‪ ،‬صٕ٘ٓ ‪ٕٓٙ-‬‬

‫‪111‬‬
‫( ٔ)‬
‫أبيض البشرة‪ ،‬يرتدي معطفاً فضفاضاً ويقبض بيمناه عمى عصا غميظة ذات مقبض ذىبػي"‪.‬‬
‫ويتضػػح م ػػف خ ػػبلؿ ذل ػػؾ م ػػدى اىتم ػػاـ عم ػػي أحم ػػد ب ػػاكثير ببي ػػاف األث ػػر النفس ػػي لؤلح ػػداث عم ػػى‬
‫ال كبيػ ًار فػي الروايػة التاريخيػػة الجديػدة فيمػا بعػد عنػػد‬
‫شخصػياتو الروائيػة‪ ،‬األمػر الػذي سيشػػيد تحػو ً‬
‫كؿ مف جماؿ الغيطاني ورضوى عاشور وأحمد رفيؽ عوض‪.‬‬ ‫ٍّ‬

‫‪ - 4‬االىتمام ب وصف النواحي األخالقية‪.‬‬

‫حرص باكثير عمى تصوير النواحي األخبلقيػة التػي تتصػؼ بيػا شخصػياتو الروائيػة‪ ،‬وابتعػد فػي‬
‫األغمػػب ع ػػف وص ػػؼ المبلم ػػح الجسػػدية‪ ،‬عم ػػى عك ػػس غيػ ػره مػػف الكُتّ ػػاب ال ػػذيف يحرص ػػوف عم ػػى‬
‫الوصؼ الخارجي لمشخصيات مثؿ نجيب محفوظ في وصفو لحاكـ طيبة (سيكننرع) بقولو‪" :‬رأى‬
‫بل مييبػ ػًا حق ػًا‪ ،‬طوي ػػؿ القامػػة‪ ،‬مس ػػتطيؿ الوجػػو جميم ػػو‪ ،‬شػػديد الس ػػمرة‪ ،‬يمي ػػز‬
‫الحػػاكـ المص ػػري رج ػ ً‬
‫( ٕ)‬
‫أو وصػؼ جػػورجي زيػداف لسػػيدة الممػػؾ بقولػو‪" :‬كانػػت سػػيدة‬ ‫مبلمحػو بػػروز فػي أسػػنانو العميػػا"‪.‬‬
‫الممؾ جميمة الخمقة‪ ،‬طويمة القامة‪ ،‬صبوحة الوجو‪ ،‬ذىبية الشعر‪ ،‬جذابة المنظر‪ ..‬إذا نظرت في‬
‫( ٖ)‬
‫أما وصؼ عمي أحمد باكثير األخبلقي فإنػو بػبل شػؾ‬ ‫وجييا شعرت بييبة تتجمى في عينييا"‪.‬‬
‫يػرتبط بػاألدب اإلسػبلمي الػػذي ييػتـ "بنشػر القػيـ الفاضػػمة‪ ،‬والتعػاليـ السػامية‪ ،‬واألخػبلؽ العظيمػػة‬
‫( ٗ)‬
‫ويظير الوصؼ األخبلقي بكث ةر في‬ ‫في جميع األوساط االجتماعية والفئات الشعبية المختمفة"‪.‬‬
‫رواية واإسبلماه‪ ،‬ومف ذلؾ وصؼ شخصية ابف الزعيـ فيو "مثػؿ صػالح لمغنػي الشػاكر نعمػة اهلل‬
‫عميػو‪ ،‬لػـ يػنس حػؽ اهلل فػػي مالػو‪ ،‬فكػاف ينفػؽ عمػى الفق ػراء والمسػاكيف وذوي الحاجػة مػف األ ارمػػؿ‬
‫( ٘)‬
‫وكػذلؾ وصػؼ‬ ‫واليتػامى‪ ،‬وكػاف يػرى أف لدينػو ووطنػو حقوقػاً عميػو‪ ،‬ال تبػ أر ذمتػو حتػى يؤدييػا"‪.‬‬
‫بل صالحًا لمعالـ العامؿ بعممو‪ ،‬الناصح لدينو ووطنو‪ ،‬الػذي‬
‫الشيخ ابف عبد السبلـ حيث كاف "مث ً‬
‫يػرى حقػًا أف العممػاء ورثػة األنبيػاء فػي ىدايػة النػػاس إلػى الخيػر‪ ،‬ودفعيػـ عػف سػبؿ الشػر‪ ،‬اآلمػػر‬
‫بػػالمعروؼ‪ ،‬والن ػػاىي ع ػػف المنك ػػر‪ ،‬ال يخ ػػاؼ ف ػػي اهلل لومػػة الئ ػػـ‪ ،‬ال يتج ػػر بدين ػػو وال يري ػػد ال ػػدنيا‬

‫(ٔ) كفاح طيبة‪ ،‬صٕٖٔ‬


‫(ٕ) كفاح طيبة‪ ،‬صٕٖٗ‬
‫(ٖ) صبلح الديف األيوبي‪ ،‬صٓٗ‬
‫(ٗ ) نظرية األدب في ضوء اإلسبلـ‪ ،‬القسـ الثالث‪ ،‬صٖٔٔ‬
‫(٘) واإسبلماه‪ ،‬ص٘‪ٜ‬‬

‫‪111‬‬
‫بعممو‪ ،‬وال يساوـ في مصالح أمتو ووطنو‪ ،‬وال يشتري بآيات اهلل ثمناً قميبلً مف حطاـ الدنيا ومتاع‬
‫( ٔ)‬
‫العاجمة"‪.‬‬

‫‪ - 3‬البعد عن المثالية في رسم الشخصية‪.‬‬

‫منح باكثير شخصياتو الروائية الحرية في التصرؼ واالستقبلؿ الذاتي‪َّ ،‬‬


‫فقدمت كؿ‬
‫شخصية نفسيا مف خبلؿ تطور األحد اث‪ ،‬فمـ يبال المؤلؼ في تصوير البطولة المثالية‪ ،‬ولـ‬
‫يمبس شخصياتو ثوب القداسة‪ ،‬بؿ جعميا صور إنسانية واقعية طبيعية‪ ،‬تتمتع كؿ منيا بمبلمح‬
‫خاصة وسمات مميزة‪ .‬حتى إف بعض شخصياتو تتصؼ باالزدواجية‪ ،‬ومف ذلؾ َج ْمع الظاىر‬
‫بيبرس في رواية واإسبلماه بيف جياد الصميبييف والتتار والطموح في الحكـ والسمطة والسعي‬
‫إلييا بكؿ الطرؽ‪ ،‬وقد قتؿ السمطاف قطز في نياية الرواية مف أجؿ السمطة‪ .‬وتظير كذلؾ‬
‫شخصية حمداف في رواية الثائر األحمر والذي كانت تتنازعو رغبة الخير والعدؿ والسبلـ مف‬
‫ناحية‪ ،‬والغضب واالنتقاـ مف ناحية أخرى‪ .‬فمـ تكف شخصياتو مثاالً لنموذج شخصي واحد‪ ،‬إما‬
‫خير مطمؽ أو شر مطمؽ كشخصيات جورجي زيداف التاريخية‪.‬‬

‫‪ - 5‬التأكيد عمى دور العممال‪.‬‬

‫أعطى باكثير لشخصية العالـ اإلسبلمي دو ًار بار ًاز في رواياتو التاريخية وىذا تحوؿ بارز‬
‫لـ نشيده عند جورجي زيداف رغـ أنو كاف يصور التاريخ اإلسبلمي الذي كاف يمتمئ بالكثير مف‬
‫النماذج المشرفة لعمماء المسمميف المخمصيف‪ .‬وقد أظير باكثير األثر الكبير لدور العمماء في‬
‫عممية التغيير االجتماعي‪ ،‬وىو بذلؾ يعطي لمعمماء المعاصريف نموذجاً وقدوة حية‪ ،‬تتمثؿ في‬
‫العمماء الربانييف المجاىديف الذيف ال يغيروف مواقفيـ الختبلؼ وتقمب األزماف بيف الشدة‬
‫والرخاء‪ ،‬فبل يرىبيـ و ٍ‬
‫اؿ أو سمطاف‪ ،‬وال يخافوف في اهلل لومة الئـ‪.‬‬

‫ظير ذلؾ في رواية واإسبلماه مف خبلؿ إظيار أثر الشيخ العالـ ابف عبد السبلـ في إثا ةر‬
‫النا س وتوجيييـ صوب الجياد في سبيؿ اهلل‪ ،‬وتحريضيـ عمى ضرورة التخمص مف الحكاـ‬
‫المتآمريف الذيف يوالوف أعداء الديف مف الصميبييف والتتار‪ ،‬ثـ بياف تحريو لمعدؿ وسعيو لتحقيقو‬
‫وتجنبو لمظالميف‪ .‬ولو في ذلؾ الكثير مف المواقؼ منيا إثارة الناس في دمشؽ عمى الممؾ‬
‫الصالح إسماع يؿ لتحالفو مع الصميبييف ضد المسمميف وما نتج عف ذلؾ مف حبسو ونفيو إلى‬
‫مصر‪ .‬وفي مصر والَّه الممؾ الصالح أيوب القضاء‪ ،‬إال أنو لـ يستمر فيو كثي اًر لما رأى عدـ‬

‫(ٔ) واإسبلماه‪ ،‬ص٘‪ٜ‬‬

‫‪112‬‬
‫لس ٍ‬
‫مطاف ال يعدؿ في‬ ‫َّ‬ ‫وجير َّ‬
‫بأنو ال يتولى القضاء ُ‬ ‫إنصافو حيث "عزؿ نفسو عف القضاء‪َ ،‬‬
‫ليسكت عنيا بمصر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫القوة بدمشؽ‬
‫وجو َّ‬
‫بالسوية‪ ..‬فما جير بكممة الحؽ في ْ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫القضية وال يحكـ‬
‫ممف ال خبلؽ ليـ مف‬ ‫صانعة المموؾ عمى حساب ِدينو كما يصنع غيره َّ‬ ‫ولو ارتضى لنفسو ُم َ‬
‫يد مف الثَّراء الواسع والجاه العريض"‪ )ٔ (.‬وىو مف‬
‫نف ْتو دمشؽ‪ ،‬ولكاف لو فييا ما ُي ِر ُ‬
‫العمماء لما َ‬
‫عامة الناس قبؿ أخذ أمواؿ األمراء وأمبلكيـ‬‫بأنو ال يجوز أخذ األمواؿ مف َّ‬ ‫أفتى المظفر قطز َّ‬
‫العامة في مبلبسيـ ونفقاتيـ‪ ،‬وعندما استصعب قطز ذلؾ وطمب منو تغيير الفتوى‬
‫حتى يساووا َّ‬
‫( ٕ)‬
‫قاؿ لو‪" :‬ال أرجع في فتواي لرأي ممؾ أو سمطاف"‪.‬‬

‫ونبلحظ ذلؾ أيضاً في رواية الثائر األحمر حيث نجد العالـ العامؿ أبي البقاء البغدادي‪،‬‬
‫يأمر بالمعروؼ وينيى عف المنكر‪ ،‬ويطالب بحقوؽ المظموميف مف الفقراء والفبلَّحيف‬ ‫الذي كاف ُ‬
‫العماؿ و َّ‬
‫الصناع‪ ،‬ويدافع عنيـ‪ ،‬ويسعى إلى رفع الظمـ الواقع عمييـ‪ ،‬وقد عانى مف ظمـ الحكاـ‬ ‫و َّ‬
‫كثي ًار بسبب مواقفة المعارضة ألىوائيـ‪ .‬وكاف لو دور بارز في إخماد فتنة القرامطة؛ حيث‬
‫"إف بابي ال ُيغَمؽ دونؾ ٍ‬
‫بميؿ أو‬ ‫استنجد بو المعتضد العباسي حينما َولِي الخبلفة وقاؿ لو‪َّ :‬‬
‫َ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫نيار‪ ،‬واني أ ِ‬
‫ُعاىد اهلل ربي ال تدعوني إلى خطة فييا رضا اهلل ورسولو وخير الناس إال نفذتيا‬ ‫ٍ‬
‫( ٖ)‬
‫وقد قاـ ىذا العالـ الجميؿ بنيضة فكرية شاممة‪ ،‬وعمؿ عمى إرساء مجموعة‬ ‫لؾ ما استطعت"‪.‬‬
‫مف اإلصبلحات االقتصادية األساسية التي تقوـ عمى تنفيذ ما شرع اهلل –عز وجؿ ‪ -‬مف العدؿ‬
‫والمساواة‪ ،‬وذلؾ بإنصاؼ الفقراء والعماؿ والفبلحيف الذيف عمؿ القرامطة عمى اجتذابيـ‬
‫دور بارز في فشؿ مشروع دولة‬ ‫َّ‬
‫اإلصبلحية ٌ‬ ‫َّ‬
‫الفكرية و‬ ‫بادعاءاتيـ الباطمة‪ ،‬وكاف ليذه النيضة‬
‫القرامطة‪ ،‬وبقاء وانتصار نظاـ العدؿ اإلسبلمي‪.‬‬

‫‪ - 2‬إظيار الدور التآمري لمشخصية الييودية‪.‬‬

‫َّ‬
‫شكؿ عمي أحمد باكثير نقطة تحوؿ بارزة في التعامؿ مع الشخصية الييودية ومحاولة‬
‫إظيار دورىا الماكر والخبيث في إضعاؼ الدولة اإلسبلمية‪ ،‬األمر الذي تطور بعد ذلؾ عند‬
‫غيره مف ُك ّتاب الرواية التاريخية مثؿ نجيب الكيبلني الذي عمؿ عمى فضح الشخصية الييودية‬
‫مف داخؿ الكياف الصييوني‪ ،‬أما قبؿ باكثير وبالتحديد عند جورجي زيداف الذي َّادعى كتابة‬
‫التاريخ اإلسبلمي بحيادية وموضوعية‪ ،‬فإنو لـ يتعرض في رواياتو التاريخية لمشخصية الييودية‬

‫(ٔ) واإسبلماه‪ ،‬صٕٗٔ‬


‫(ٕ) واإسبلماه‪ ،‬صٕ‪ٔٚ‬‬
‫(ٖ) الثائر األحمر‪ ،‬ص‪ٔ٘ٛ‬‬

‫‪113‬‬
‫بانتقاد رغـ وجود الكثير مف المؤامرات التي قاـ بيا الييود ليدـ الدولة اإلسبلمية منذ نشأتيا‬
‫مرو ًار بعصورىا المختمفة‪ ،‬فقد كاف دائمًا ومف خبلؿ مجمة اليبلؿ "يقؼ بجوار الييود ويمتمس‬
‫( ٔ)‬
‫ليـ األعذار‪ ،‬ويتصدى لمدفاع عنيـ بطرؽ مباش ةر وغير مباشرة"‪.‬‬

‫مثَّؿ الييود في الثائر األحمر شخصيات ثانوية مساعدة‪ ،‬تتصؼ بالغموض؛ ألنيا تحرؾ‬
‫األحداث وتصنعيا في الخفاء ومف وراء ستار‪ ،‬ولذلؾ لـ ييتـ الكاتب برسـ مبلمحيا الداخمية‬
‫وأعماقيا الشعورية‪ ،‬واكتفى ببياف دورىا في األحداث‪ ،‬ويتضح دور كؿ مف عز ار بف صمويؿ‪،‬‬
‫واسرائيؿ بف إسحؽ‪ ،‬ويوشع بف موسى في تمويؿ دعاة القرامطة والقداحييف‪ ،‬لتجنيد األتباع‬
‫والمناصريف الجدد مستفيديف في ذلؾ مف جو األمف الذي تحققو الدولة العباسية لمييود وأىؿ‬
‫الكتاب‪ ،‬فيعمموف عمى تحقيؽ أىدافيـ الخفية ليدـ دولة اإلسبلـ والقضاء عمييا ونشر الفوضى‪.‬‬
‫وألف الييود بشكؿ عاـ ماكريف‪ ،‬ال تظير سموكياتيـ ومخططاتيـ بشكؿ عمني؛ يحرص السارد‬
‫عمى كشؼ سموكيـ السري مف خبلؿ دفاترىـ كتجار‪ ،‬حيث يتـ اكتشاؼ وثيقة تحدد موقفيـ‬
‫الحقيقي مف الدولة اإلسبلمية‪ ،‬انظر‪" :‬ثـ أخذت دفاتر الوكبلء الييود وأوراقيـ التي طمبيا‬
‫المع تضد تصؿ إليو مف اآلفاؽ‪ ،‬حيث تمت عنده في خبلؿ شيريف‪ ،‬وفحصوىا فوجدت كميا‬
‫مؤيدة لما في دفاتر عز ار وأوراقو‪ ،‬وعثر بينيا عمى رسالة صغيرة في حجـ الوصية المكتوبة‬
‫بالعبرية فجيء بمف يفؾ رمزىا فتبيف أنيا سجؿ شركة خطيرة أسسيا جماعة مف كبار تجار‬
‫الييود بمدينة الموصؿ في أواخر عيد الخميفة المأموف‪ ،‬عمى أف تبقى قائمة طواؿ العصور‬
‫يديرىا أبناؤىـ‪ ،‬واذا ليا دستور عجيب ينص عمى وجوب تشجيع الفتف في ببلد الدولة وامداد‬
‫القائميف بيا‪ ،‬والسعي إلثارة الحروب بيف أمراء المسمميف‪ ،‬وبينيـ وبيف الروـ‪ ،‬وتأريث نار‬
‫الخبلؼ بني الطوائؼ والمذاىب وا لنحؿ‪ ،‬واإلفادة مف كؿ ذلؾ في تجميع األمواؿ وتكثير األرباح‬
‫لشركتيـ‪ ،‬وظير مف األوراؽ الممحقة بالسجؿ األصمي أف والد عز ار كاف رئيس الشركة في‬
‫( ٕ)‬
‫وقد يكوف في ذلؾ إشا ةر إلى دور الييود الخفي‬ ‫عيده‪ ،‬وأف رئيسيا اآلف يوشع بف موسى‪."..‬‬
‫في ظيور وانتشار الفكر الشيوعي في العصر الحديث‪ ،‬ويؤكد الدكتور حسف سرباز ذلؾ في‬
‫إب ارزه حرص باكثير عمى "كشؼ خطط الييود ودورىـ في الحركات المشبوىة في تاريخ اإلسبلـ‪،‬‬
‫أساس في فتنة‬
‫ٌ‬ ‫دور‬ ‫َّ‬
‫الماركسية؛ حيث كاف لمييود ٌ‬ ‫َّ‬
‫الييودية و‬ ‫في إشا ٍرة َّ‬
‫خفية إلى العبلقة بيف‬
‫القرامطة التي َبنى الكاتب أساسيا عمى األصوؿ الماركسية والشيوعية المعروفة في القرف‬

‫(ٔ) كتابات جورجي زيداف‪ ،‬ص‪ٖٙٚ‬‬


‫(ٕ) الثائر األحمر‪ ،‬صٔ‪ٜٔ‬‬

‫‪114‬‬
‫( ٔ)‬
‫وعمى ذلؾ‪ ،‬فقد حرص الكاتب عمى التحذير مف الدور الييودي الخبيث في إثا ةر‬ ‫العشريف"‪.‬‬
‫وتأجيج الفتف التي تيدؼ إلى النيؿ مف العالـ العربي واإلسبلمي في عصرنا الحديث‪.‬‬

‫‪ - 1‬إبراز دور المرأة‪.‬‬

‫أكد باكثير عمى أىمية دور المرأة في المجتمع‪ ،‬وىو أديب إسبلمي ال يقمؿ مف شأف‬
‫طور مف نظرتو لممرأة فمـ‬
‫المرأة أو يمتينيا وييينيا‪ ،‬بؿ عمؿ عمى رعايتيا وحفظ كرامتيا‪ .‬وقد َّ‬
‫يقصر شخصيتيا عمي بعد واحد ثابت ال يتغير وال يتبدؿ‪ ،‬بؿ مكنيا مف المساىمة في تطور‬
‫األحداث وتنميتيا‪ ،‬واىتـ بتحم يؿ شخصيتيا والتغمغؿ في أعماقيا النفسية‪ ،‬والتعرؼ عمى دوافعيا‬
‫وتصرفاتيا التي تختمؼ باختبلؼ الظروؼ البيئية والثقافية‪ .‬ويبلحظ تقديمو لنماذج متعددة‬
‫لشخصية المرأة ومف ذلؾ‪:‬‬

‫‪ - 7‬المرأة الرومانسية والزوجة الصالحة المجاىدة‪:‬‬

‫التي تظير بوضوح في شخصية (جمنار) التي احتمت مكاناً بار اًز بجوار الشخصية األولى‬
‫في رواية واإسبلماه‪ ،‬حيث كانت نِعـ الحبيبة والزوجة في اليسر والعسر‪ ،‬ومثمت مصدر ٍ‬
‫إلياـ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وتشجيع لزوجيا في جياد التتار‪ ،‬كما كاف ليا دور بارز وحضور فعاؿ في معركة عيف جالوت‪،‬‬
‫ٍ‬
‫التي اس تشيدت فييا مضحية بنفسيا في سبيؿ إنقاذ زوجيا مف الموت المحقؽ عمى يد ممموؾ‬
‫تتري‪ .‬وقد ظيرت كممة (واإسبلماه) التي ىي عنواف الرواية ألوؿ مرة عمى لساف جمنار زوجة‬
‫المظفر قطز عندما أصيبت في معركة عيف جالوت‪ ،‬وقاؿ ليا زوجيا‪" :‬وا زوجاه! وا حبيبتاه"‬
‫( ٕ)‬
‫ردت عميو‪" :‬ال تقؿ وا حبيبتاه‪ ...‬قؿ وا إسبلماه" ثـ لفظت أنفاسيا األخيرة‪.‬‬

‫‪ - 6‬المرأة القوية الحاكمة‪:‬‬

‫تُمثّْؿ ىذا النموذج النسوي شخصية شجر الدر في رواية واإسبلماه‪ ،‬وىي شخصية‬
‫تاريخية حقيقية حكمت مصر بعد وفاة زوجيا الممؾ الصالح أيوب‪ ،‬وقد كانت ىذه الشخصية‬
‫القوية والطموحة سببًا في تأجيج الصراع بيف زعماء المماليؾ‪ ،‬الذيف كانوا يسعوف لمزواج منيا‬
‫لموصوؿ إلى حكـ مصر‪ ،‬ولـ يخرج السارد في تناولو ليذه الشخصية عف وصؼ كتب التاريخ‪،‬‬
‫التي وصفتيا بالطموح إلى السمطة‪ ،‬ىذا الطموح الذي كاف سبباً في ىبلكيا‪.‬‬

‫(ٔ) االتجاه اإلسبلمي في روا يات عمي أحمد باكثير التاريخية‬


‫‪http://www.alukah.net/literature_language/0/36231‬‬
‫(ٕ) واإسبلماه‪ ،‬صٗ‪ٜٔ‬‬

‫‪115‬‬
‫‪ - 4‬المرأة المؤمنة المضحية‪:‬‬

‫تمثميا شخصية (عال ية) أخت حمداف في الثائر األحمر‪ ،‬التي اختطفت في أوؿ الرواية‪،‬‬
‫وأُبعدت عنوة عف خطيبيا عبداف‪ ،‬وعوممت كجارية في قصر ابف الحطيـ‪ ،‬وعندما عادت مع‬
‫أخييا حمداف حافظت عمى دينيا في ظؿ جو االنحراؼ العاـ‪ ،‬وأصبحت الداعية الوحيدة في‬
‫مممكة القرامطة حتى اضطر حمداف إلى حبسيا لما رأى خطورة حركتيا وتأثيرىا في النساء‪،‬‬
‫ومع ذلؾ قاومت وصبرت حتى اىتدى عمى يدييا حمداف وابنو‪.‬‬

‫‪ - 3‬المرأة المنحرفة‪:‬‬

‫ظيرت شخصية (راجية) أخت حمداف الصغرى كنموذج لممرأة الفاسدة المنحرفة في رواية‬
‫الثائر األحمر‪ ،‬حيث كشفت أحداث الرواية عف طبيعتيا الميالة لبلنحراؼ‪ ،‬فقد تطمعت إلى‬
‫(ثمامة) َّ‬
‫العيار بالرغـ مف عمميا بأخبلقو وطباعو الفاجرة‪ ،‬ثـ سقطت مع الشيخ األىوازي داعية‬
‫المذىب القداحي وحممت منو سفاحًا‪ ،‬وانتعشت بتطبيؽ المذىب في جانبو المتعمؽ بإشاعة‬
‫الفوضى الجنسية‪ .‬وتظير كذلؾ في ذات المجاؿ شخصية الغانية (شير) رائدة الغواية في‬
‫مذىب القداحييف‪ ،‬والتي تتفنف في أداء دور الغواية‪ ،‬وتبذؿ كؿ ما في طاقة األنثي لخدمة‬
‫المذىب واجتذاب األنصار واألتباع‪ ،‬ومف ذلؾ غوايتيا لػ (عبداف) الذي أصبح ُمنظّْ اًر لممذىب‬
‫ولدولة القرامطة فيما بعد‪ .‬ونبلحظ مقابمة ىذا النموذج لمنماذج النسائية السابقة وتضاده معيا‪،‬‬
‫والسارد في ذلؾ ال يعمؿ عمى تجميؿ ىذا السموؾ السيء المنحرؼ‪ ،‬بؿ يعمؿ عمى تقبيحو وذمو‬
‫المشرفة‪.‬‬
‫وانتقاده بمقارنتو بالنماذج النسائية العفيفة و ّْ‬

‫التميز في إثارة الصراع وتأجيجو‪:‬‬


‫‪ُّ - 8‬‬

‫القوي ٍّ‬
‫لكؿ مف‬ ‫ّْ‬ ‫نجح باكثير في تأجيج الصراع بيف شخصياتو الروائية وذلؾ بالحضور‬
‫المرأة والسُّمطة‪ ،‬وىما جانباف مف أكثر جوانب الحياة َّ‬
‫قابميةً إلثارة الدرامية والتراجيدية‪ .‬فقد‬
‫جسدت رواية واإسبلماه الصراع عمى السمطة والنفوذ بيف حكاـ المسمميف في مصر والشاـ‪،‬‬
‫واكب ذلؾ صراع آخر بيف المسمميف وأعدائيـ مف التتار والصميبييف الذيف استغموا ضعؼ‬
‫المسمميف وفرقتيـ‪ .‬بينما جسدت الثائر األحمر صراعاً فكريا تطور فيما بعد ليصبح صراعاً عمى‬
‫السيطرة والنفوذ بيف قوى الخير ممثمة بشريعة اإلسبلـ‪ ،‬وقوى الشر ممثمة بالمذاىب الباطمة مف‬
‫إقطاعييف ظالميف‪ ،‬وثائريف خارجيف عف الديف ومتمرديف عمى القيـ الفطرية السميمة لبني‬
‫اإلنساف‪ .‬ومف أشكاؿ حضور المرأة في الصراع في واإسبلماه أف شجر الدر استغمت حب قطز‬

‫‪116‬‬
‫لجمنار ورغبتو في الزواج منيا لتحقيؽ أغراضيا فكمفتو مقابؿ ذلؾ بقتؿ أقطاي وقد كاف‪ ،‬وكذلؾ‬
‫في الثائر األحمر كاف عامؿ اختطاؼ ابف الحطيـ لػ (عالية) أخت حمداف قرمط سببًا في تأجيج‬
‫حيويا ومثي ًار في نفس‬
‫ً‬ ‫الصراع بينيما‪ .‬وقد منحت حركة الشخصيات ىذا الصراع بعدًا دراميًا‬
‫الوقت‪ ،‬مف خبلؿ التعرؼ العميؽ عمى بواطف ودواف ع وممارسات الشخصيات المكونة لو‪.‬‬

‫خامساً‪ :‬المكان والزمان‪:‬‬

‫لـ يعد المكاف عند باكثير عنص ًار جغرافيًا تدور فيو األحداث فقط‪ ،‬بؿ تعدى ذلؾ ليصبح‬
‫عنص اًر فنياً مؤث اًر لو دوره وتأثيره الفعاؿ عمى بقية العناصر‪ ،‬فظيرت جماليات المكاف الروائي‬
‫وتأثيراتو النفسية ودالالتو االجتماعية عمى الشخصيات المختمفة‪ ،‬كما أسيـ في تطور األحداث‪،‬‬
‫ومنحيا طابعاً حيوياً وجذاباً في الوقت نفسو‪ .‬ومف أبرز أشكاؿ المكاف في الرواية التاريخية عند‬
‫باكثير ما يأتي‪:‬‬

‫‪ - 7‬المدينة‪:‬‬

‫َّ‬
‫ركػز بػػاكثير فػي تناولػػو لممكػػاف الروائػي عمػػى طػػابع المدينػة‪ ،‬حيػػث وقعػػت معظػـ أحػػداث رواياتػػو‬
‫التاريخيػة فػػي المػدف اإلسػػبلمية والعربيػػة المختمفػة‪ ،‬فػػذكر عػدة مػػدف مثػػؿ غزنػة ونيسػػابور والىػػور‬
‫ودمشؽ وحمب والقاى ةر وغ ةز والخميػؿ فػي روايػة واإسػبلماه‪ ،‬كػذلؾ ذكػر مػدف العػراؽ الرئيسػة ممثمػة‬
‫ببغػػداد والكوف ػػة والبصػ ػرة فػػي الث ػػائر األحم ػػر‪ .‬ولع ػػؿ مػ َّ‬
‫ػرد ذل ػػؾ اعتم ػػاد رواياتػػو بش ػػكؿ كبي ػػر عم ػػى‬
‫المحػػاور السياس ػػية التػػي تب ػػرز فيي ػػا فك ػرة الصػ ػراع عم ػػى الحكػػـ والس ػػمطة‪ ،‬وق ػػد كانػػت الم ػػدف مقػ ػ ًار‬
‫لمسمطة ومرك اًز لمحكـ‪ .‬ورغـ أف مدف باكثير ا لروائية مدف تاريخية ليا وجودىا الػواقعي والتػاريخي‬
‫المعػروؼ‪ ،‬إال أنيػػا اكتسػػبت طابع ػاً خاص ػاً مػػف خػبلؿ توظيفيػػا الفنػػي فػػي عالميػػا الروائػػي‪ ،‬الػػذي‬
‫شكؿ الكاتب انزياحاً متخيبلً‬ ‫ُيظير التأثيرات المتبادلة بيف األماكف والشخصيات الروائية‪ ،‬وبذلؾ َّ‬
‫عف عالـ الواقع‪ ،‬فنظ ةر باكثير لمدينة القاى ةر أو دمشؽ تختمؼ عػف نظػ ةر أي كاتػب آخػر إلييمػا‪،‬‬
‫وىنا تكمف جوىرية التخييؿ المكاني‪.‬‬

‫سيطر االتجاه اإلسػبلمي لػدى بػاكثير عمػى المكػاف الروائػي‪ ،‬وظيػر مػدى تػأثير القيػادة اإلسػبلمية‬
‫الفاعمػة عمػى المكػػاف بجميػع مكوناتػػو البشػرية والماديػػة حيػث حػػرص السػارد عمػػى تصػوير مدينػػة‬
‫القاىرة فكريًا ومعنويػًا عنػدما يطغػى عمييػا البعػد اإلسػبلمي بقولػو‪" :‬وكػاف شػير رمضػاف قػد دخػؿ‪،‬‬
‫وصاـ الناس بضعة أياـ منو‪ ،‬حينما نودي في القاى ةر وسائر مدف القطر المصري وقراه بالخروج‬
‫إلػػى الجيػػاد فػػي سػػبيؿ اهلل ونصػ ػ ةر ديػػف رسػػوؿ اهلل –صػػمى اهلل عمي ػػو وسػػمـ ‪ .-‬وتػػردد ىػػذا الن ػػداء‬

‫‪117‬‬
‫العظيـ في جميع أرجاء القطر‪ ،‬فخالط الناس شعور عجيب‪ ،‬لـ يعيدوا لو مثيبلً مف قبؿ‪ ،‬وأحسوا‬
‫كػأنيـ خمػؽ آخػر غيػر مػا كػانوا‪ ،‬وأنيػـ يعيشػوف فػي عصػر غيػر عصػرىـ‪ ...‬وطغػى ىػذا الشػػعور‬
‫عمى جميع طبقات العامة‪ ،‬حتى َّ‬
‫كؼ الفسقة عف ارتكاب معاصييـ‪ ،‬وامتنع المدمنوف عف شرب‬
‫ػؽ لمنػاس فػػي‬
‫الخمػور‪ ،‬وتأثمػت العػواىر عػف مزاولػػة البغػاء‪ ،‬وامػتؤلت المسػاجد بالمصػػميف‪ ،‬ولػـ يب َ‬
‫( ٔ)‬
‫البيوت واألندية والمساجد والطرقات مف حديث إال حديث الجياد"‪.‬‬

‫‪ - 6‬القرية‪:‬‬

‫مف مبلمح التجديد عند باكثير ُّ‬


‫تغير نظرتو لمقرية كمكاف روائي‪ ،‬حيث ظيرت القرية في‬
‫رواية الثائر األحمر بشكؿ جديد يختمؼ عف الشكؿ السائد ليا في الرواية العربية‪ ،‬والذي يصفيا‬
‫باليدوء واالستقرار والمحبة واإلخاء‪ .‬فقد برزت القرية عند كاتبنا عمى شكؿ يتأصؿ فيو الصراع‬
‫بيف مالكيف كبيريف‪ ،‬نتج عنو حالة مف التعصب والشجار المستمر بيف أىالي القرية‪ .‬أنظر قوؿ‬
‫الراوي‪" :‬وقد أدى التنافس المستمر بيف ىذيف المالكيف‪ ،‬ثـ بيف وارثييما بعدىما إلى انقساـ أىؿ‬
‫القرية وما حوليا إلى حزبيف كبيريف‪ ،‬يتعصب أحدىما آلؿ الييصـ‪ ،‬واآلخر آلؿ الحطيـ‪ ،‬وقمما‬
‫( ٕ)‬
‫يتسابا في سوؽ القرية"‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يمضي يوـ دوف أف يتشاجر اثناف مف أتباعيما‪ ،‬أو‬

‫ويمكف تمثؿ جماليات المكاف الروائي عند باكثير مف خبلؿ النقاط اآلتية‪:‬‬

‫أ ‪ -‬المكان كمثير اجتماعي‪:‬‬

‫كشؼ المكاف الروائي عف التمايز االجتماعي‪ ،‬ففي رواية واإسبلماه يوحي المكاف الروائي‬
‫بالحالة االجتماعية لمشخصية‪ ،‬حيث أظير حالة الغنى والثراء التي قدر اهلل لقطز وجمنار العيش‬
‫فييا عند الشيخ غانـ المقدسي حيث "نزال في قصره الكبير بدرب القصاعيف‪ ،‬تحيط بو حديقة‬
‫( ٖ)‬
‫يفرؽ المكاف‬
‫وفي رواية الثائر األحمر ّْ‬ ‫غناء حافمة بالكروـ وأشجار التيف والتفاح والزيتوف"‪.‬‬
‫بي ف طبيعة مساكف األغنياء والفقراء مف خبلؿ المقابمة بينيما‪ ،‬فنرى القصر العالي الواسع الكبير‬
‫لمغني القادر‪ ،‬والبيت الصغير الضيؽ الحقير لمفقير الذي بالكاد يجد قوت يومو‪ .‬وقد نتج عف‬
‫ذلؾ وجود أماكف مباحة‪ ،‬وأماكف أخرى محظورة‪ ،‬فالقصر محظور عمى الفقراء‪ ،‬ومف الصعب‬
‫عميي ـ اختراقو في حيف أف الغني مباح لو بيوت الفقراء يفعؿ بيا ما يشاء‪ .‬ومف وصؼ الراوي‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬واإسبلماه‪ ،‬ص٘‪ٔٛ‬‬


‫(ٕ) الثائر األحمر‪ ،‬ص‪ٚ‬‬
‫(ٖ) واإسبلماه‪ ،‬ص‪ٜٚ‬‬

‫‪118‬‬
‫يتأمؿ النقوش‬ ‫انتظر حمداف في حجرة االستئذاف الخار َّ‬
‫جية‪ ،‬فوقَؼ َّ‬ ‫لقصر ابف الحطيـ قولو‪ " :‬و َ‬
‫البديعة عمى جدراف الحجرة ُمحبلة بماء الذىب‪ ،‬والزخارؼ الدقيقة عمى الباب المنجور مف‬
‫أنفؽ عمى ىذه التصاوير‬ ‫األبنوس الفاخر المطعَّـ بالعاج الثميف‪ ،‬ترى كـ بدرة مف الذىب َ‬
‫والتخاطيط التي ال تكسو مف ُعري‪ ،‬وال تُشبع مف جوع؟"‪ )ٔ (.‬وعندما عاد حمداف مف قصر ابف‬
‫بالخزي وخيبة األمؿ لعدـ تحقيؽ ىدفو‪ ،‬أضحى ىذا المكاف أكثر بغضاً‬‫الحطيـ‪ ،‬وىو يشعر ِ‬
‫ممدودا‪ ،‬فما مشى فيو إال‬
‫ً‬ ‫وكراىية عنده‪ ،‬لدرجة أنو ال يريد أف يستظؿ بو حيث "رأى َّ‬
‫ظؿ السور‬
‫حرىا عمى برده؛ كي ال يكوف ليذا الغني المئيـ مف‬ ‫مؤثر َّ‬
‫اً‬ ‫ازور عنو إلى الشمس‪،‬‬‫قميبلً‪ ،‬حتى َّ‬
‫فض ٍؿ عميو"‪ )ٕ (.‬ومف الواضح أف تصوير المكاف الروائي بيذا الشكؿ َّ‬
‫عزز روح التمرد والثو ةر‬ ‫ْ‬
‫عمى الوضع القائـ‪ ،‬الذي يراه البطؿ حمداف ضرو ةر لمتخمص مف الظمـ الواقع عميو وعمى أقرانو‬
‫مف الفبلحيف الضعفاء‪.‬‬

‫ب ‪-‬المكان كمثير نفسي‪:‬‬

‫يبدو ىنا األثر النفسي لممكاف‪ ،‬األمر الذي يؤدي إلى تعمؽ الشخصية بالمكاف وارتباطيا‬
‫تعمؽ قطز بقصر سيده غانـ المقدسي في‬ ‫فيصور الراوي ُّ‬
‫ّْ‬ ‫بو‪ ،‬أو نفورىا منو وابتعادىا عنو‪.‬‬
‫دمشؽ بقولو‪" :‬وقبؿ أف يغادر الرفيقاف درب القصاعيف بدمشؽ‪ ،‬التفت قطز فألقى نظرة عمى‬
‫قصر سيده ابف الزعيـ‪ ،‬ثـ ألقى نظ ةر أخرى عمى قصر مناوح لو قد خيـ عميو السكوف‪ ،‬وسادت‬
‫( ٖ)‬
‫كذلؾ أظيرت‬ ‫فيو الوحشة‪ ،‬وكانت لو في كؿ شرفة مف شرفاتو ذكرى مع حبيبتو جمنار"‪.‬‬
‫رواية واإسبلماه أثر السجف كمكاف مغمؽ عمى نفسية اإلنساف‪ ،‬حيث يثير شجونو وعاطفتو‬
‫لحياتو السابقة وما مر بيا مف أحداث‪ ،‬ومف ذلؾ تصوير شخصية الخادـ سبلمة وىو في‬
‫السجف في قوؿ الراوي‪" :‬وما آوى الشيخ سبلمة إلى محبسو حتى انكب عمى وجيو‪ ،‬وجعؿ يبكي‬
‫بكاء م اًر وىاجت شجونو‪ ،‬فتذكر أيامو في خدمة مواله الكبير السمطاف خوارزـ شاه‪ ،‬وخدمة‬
‫ً‬
‫السمطاف جبلؿ الديف مف بعده‪ ،‬وما شيدت عيناه مف األحداث والنكبات التي حمت ببيتيما‪..‬‬
‫( ٗ)‬
‫الخ"‪.‬‬

‫(ٔ) الثائر األحمر‪ ،‬صٓ٘‬


‫(ٕ) الثائر األحمر‪ ،‬صٕ٘‬
‫(ٖ) واإسبلماه‪ ،‬ص٘ٔٔ‬
‫(ٗ) واإسبلماه‪ ،‬ص‪ٙٚ‬‬

‫‪119‬‬
‫وتتفاعؿ الطبيعة مع النفس اإلنسانية في حاالتيا المختمفة في حالتي الفرح والحزف‪ ،‬ومف‬
‫أمثمة ذلؾ التفاعؿ ما نجده في رواية واإسبلماه مف الوصؼ الجميؿ لحديقة قصر جبلؿ الديف‬
‫حيث الطبيعة الخبلبة التي تريح النفس وتعبر عف جو األلفة والسعادة التي يعيشيا جبلؿ الديف‬
‫في أثناء سيره مع ابف عمو ممدود‪" :‬وانحدر مع ممدود إلى الحديقة‪ ،‬فأخذا يمشياف بيف الكروـ‬
‫واألشجار في ممرات تفصؿ بينيا مفروشة بالرمؿ الناعـ األصفر‪ ،‬وكانت السماء صافية األديـ‪،‬‬
‫والبدر يرسؿ أشعتو البيضاء عمى غصوف الشجر‪ ،‬فيتألؼ مف ذلؾ مزاج مف المونيف‪ ،‬رفيؽ‬
‫بالعيف‪ ،‬ترتاح إلى رونقو الحالـ البييج‪ ،‬وعمى الكروـ المعروشة فتبدو عناقيد العنب كأنيا عقود‬
‫مف المؤلؤ المنضود‪ ،‬وعمى أشجار التفاح بثمارىا المتيدلة كأنيا حساف خفرات غازليا القمر‬
‫العابث فأخذت تموذ منو بورؽ الغصوف‪ ،‬ويسقط فضؿ أشعتو عمى األرض فينثر فييا دنانير‬
‫( ٔ)‬
‫ونجد كذلؾ ىذا االنسجاـ والتفاعؿ بيف الطبيعة والحالة النفسية‬ ‫تمنع الكؼ ما تيح العيوف"‪.‬‬
‫لمشخ صية في رواية الثائر األحمر عندما يذىب عبداف لرؤية خطيبتو عالية حيث تبدو الطبيعة‬
‫مف حولو كأنيا في عرس؛ لتعبر عف حالة الفرح والسرور التي تغمر نفس عبداف حيث "كاف‬
‫بدر التماـ مطبل مف عمياء سمائو بكؿ روائو‪ ،‬وكامؿ ضيائو عمى ذلؾ الكوف المسحور حيث‬
‫استحاؿ كؿ حقيقة إ لى خياؿ‪ ،‬وكؿ خياؿ إلى حقيقة‪ ،‬فالرمؿ األبيض الناعـ قد أمسى ذرو ًار مف‬
‫الفضة تغوص حوافر البغمة فيو‪ ،‬وظبلؿ األشجار عمى جانبي الطريؽ كأنيا شخوص مف الجف‬
‫أدركيا النعاس وىي تييـ في تمؾ البطاح فتمددت حيثما حبل ليا مف األرض‪ ،‬وقد ارتفع حجاب‬
‫وشؼ حتى أوشؾ عبداف أف يرى خواط هر تتمثؿ أمامو في صو ةر شتى قواميا مف ضوء‬
‫ٍ‬
‫موحش يحاوؿ عبداف‬ ‫ٍ‬
‫كئيب‬ ‫ٍ‬
‫شيء‬ ‫القمر"‪ )ٕ (.‬لكف ىذه الطبيعة الساحرة الجميمة تتحوؿ إلى‬
‫بل يوسوس بيف الغصوف‪ ،‬كما كاف عند خروجو مف قريتو عمى‬
‫اليرب منو حيث "كاف النسيـ عمي ً‬
‫بغمتو ولكنو يحس اآلف قشعريرة تسري في ظيره‪ ،‬وكأف حفيفو أنيف خفي ما زالت تردده الثواكؿ‬
‫حتى بحت بو حناجرىا‪ ،‬وىذا القمر مازاؿ مشرقاً في مسائو يرسؿ خيوطو الفضية عمى ما حولو‬
‫مف فضاء وشجر‪ ،‬ولكف عبداف ال يرتاح لنوره الساطع فيموذ منو بأكناؼ الشجر وظبلؿ‬
‫( ٖ)‬
‫األيؾ"‪.‬‬

‫(ٔ) واإسبلماه‪ ،‬ص‪ٛ‬‬


‫(ٕ) الثائر األحمر‪ ،‬صٖٕ‬
‫(ٖ) الثائر األحمر‪ ،‬صٓ‪ٖٚ‬‬

‫‪121‬‬
‫ج‪ -‬دقة الوصف‪:‬‬

‫تعد دقة الوصؼ مف أبرز جماليات المكاف عند باكثير ؛ ويسيـ ذلؾ في شد القارئ‬
‫وتمثمو لجو الرواية‪ ،‬ومف ذلؾ وصؼ سوؽ الرقيؽ بحمب حيث يقوؿ الراوي‪" :‬فإذا سرادقات‬
‫عظيمة ممموءة بالجواري والغمماف مف بيض وسود وألواف بيف ذلؾ شتى‪ ،‬وقد جمسوا عمى‬
‫الحصر جماعات متفرقة‪ ،‬وقاـ عمى كؿ جماعة منيـ الدالؿ الذي عيد إليو ببيعيا‪ ،‬فيأخذ الدالؿ‬
‫أحدىـ ويوقفو عمى دكة منصوبة أمامو‪ ،‬وينادي عميو بيف الذيف حضروا لبلبتياع بكممات‬
‫( ٔ)‬
‫إف ىذا الوصؼ‬ ‫مسجوعة أو منظومة في اإلشادة بمحاسف المعروض لمترغيب في شرائو"‪.‬‬
‫الجميؿ البارع ليشعر القارئ بأنو يشاىد السوؽ أماـ عينيو‪ ،‬ويجعمو أكثر ارتباطاً وانسجاماً‬
‫واحساساً بجو الرواية الذي يعكس معاناة وآالـ البشر في ذلؾ الزماف الذي كانوا يباعوف فيو‬
‫ويشتروف‪.‬‬

‫ويدخؿ ضمف جماليات الوصؼ المكاني مدى تعبير المكاف عف الظرؼ الذي يحيط بو‪،‬‬
‫العياريف ‪-‬حركة‬
‫الشواؼ شيخ َ‬ ‫ّْ‬
‫وقد وفؽ باكثير في ذلؾ‪ ،‬فعندما اجتمع حمداف بالشيخ سبلمة ّ‬
‫سريًا وبعيدًا عف أعيف الناس‪ ،‬وقد أوحى‬
‫سرية محظورة ‪ -‬حرص السارد أف يكوف ىذا االجتماع ّْ‬
‫الوصؼ الفني الدقيؽ لطريقة الوصوؿ لمكاف االجتماع بذلؾ حيث يقوؿ الراوي‪" :‬فإذا بصاحب‬
‫البيت يقودىما في ممر طويؿ ينتيي بدرج ضيؽ‪ ،‬نزؿ بيما فيو حتى دخؿ بيما إلى حج ةر‬
‫واسع ة‪ ،‬تفوؽ في زينتيا وأثاثيا ورياشيا كؿ ما رأى في الدار مف قبؿ‪ ،‬وليا ثبلثة أبواب مف‬
‫داخميا مرخاة عمييا ستائر مف الحرير األسود‪ ،‬رفعيا عبد الرؤوؼ وفتح األبواب فإذا صحف‬
‫واسع في وسطو فسقية يتفجر الماء مف نافورتيا‪ ،‬ومف حوليا أصص مختمفة األحجاـ واألشكاؿ‪،‬‬
‫( ٕ)‬
‫تحمؿ أشجار الورد والريحاف والفؿ والياسميف وغيرىا مف الزىر"‪.‬‬

‫أما بالنسبة لمزماف فقد حافظ باكثير عمى رتابة الزمف الروائي‪ ،‬ولـ يخرج عميو باليدـ‬
‫طور نظرة كتاب الرواية التاريخية في التعامؿ‬
‫والتمزيؽ كما في الروايات الجديدة‪ ،‬ومع ذلؾ فقد َّ‬
‫مع الزمف الروائي‪ ،‬واعتمد عمى تق نيات فنية متنوعة في بنائو‪ .‬ونممح عنده تقنيات تسيـ في‬
‫تسريع السرد‪ ،‬وأخرى تعمؿ عمى تبطئتو‪ ،‬باإلضافة إلى توظيفو لحركة الزمف الروائي ماضياً‬
‫ومستقببل‪.‬‬

‫(ٔ) واإسبلماه‪ ،‬صٔ‪ٚ‬‬


‫(ٕ) الثائر األحمر‪ ،‬صٔ‪ٚ‬‬

‫‪121‬‬
‫‪ - 7‬تسريع السرد‪:‬‬

‫يتـ ذلؾ حيف يكوف زمف القصة التاريخية كبير جداً‪ ،‬بحيث ال يمكف أف تحيطو صفحات‬
‫الرواية بزمنيا الفني‪ ،‬فيضطر المؤلؼ إلى حذؼ بعض األحداث غير الميمة‪ ،‬والتي ال يخدـ‬
‫الحديث عنيا العمؿ الروائي‪ ،‬وال يؤثر عدـ وجودىا عمى رسالة ورؤية الكاتب التي يريد إيصاليا‬
‫إلى القارئ‪ .‬ويستخدـ الكاتب تقنية التمخيص أو الحذؼ والقفز الزماني بطريقتيف ىما‪:‬‬

‫أ ‪ -‬أن يذكر الراوي عبارات دالة تحدد مدة الحذف أو القفز الزماني‪.‬‬

‫ومف أمثمة ذلؾ في رواية واإسبلماه قوؿ الراوي‪" :‬ومرت السنوف سراعاً‪ ،‬وتوالت األحداث‪،‬‬
‫وانقضت ليما في بيت الشيخ غانـ المقدسي عشرة أعواـ أو تزيد نميا فييا وترعرعا‪ ،‬حتى بم‬
‫( ٔ)‬
‫ويبدو كذلؾ الحذؼ والقفز الزماني بكث ةر في‬ ‫قطز مبم الرجاؿ‪ ،‬وبمغت جمنار مبم النساء"‪.‬‬
‫( ٕ)‬
‫و"انقضت شيور عمى حمداف‬ ‫رواية الثائر األحمر حيث‪" :‬مضى أسبوعاف منذ اختفت عالية"‬
‫( ٖ)‬
‫وىو عمى حالو مف التزىد واإلكثار مف الصبلة"‪.‬‬

‫ب ‪ -‬القفز الزماني الذي توحي بو أحداث الرواية‪ ،‬وال يذكره الراوي بشكل مباشر‪.‬‬

‫ويبدو ىذا القفز في رواية واإسبلماه‪ ،‬عندما أظير السارد رغبة قطز في أف يبيعو سيده‬
‫ابف الزعيـ لمصالح أيوب ممؾ مصر‪ ،‬حتى يتمكف مف جياد الصميبييف والتتار وصد خطرىـ مف‬
‫ىناؾ‪ ،‬وحتى يقترب أكثر مف حبيبتو جمنار‪ ،‬ومع ذلؾ فإنيا لـ تتعرض لكيفية بيعو أو وصولو‬
‫لمممؾ الصالح‪ ،‬ولـ تذكر ما تعرض لو مف أحداث أثناء السفر‪ ،‬إنما تـ اختصار الحكاية بقوؿ‪:‬‬
‫( ٗ)‬
‫وأوضح مف ذلؾ ما جاء في رواية الثائر األحمر‪،‬‬ ‫"كاف قطز قد بيع لمممؾ الصالح كما أراد"‬
‫حيث تختطؼ عالية أخت حمداف وتغادر البيت في السفر األوؿ‪ ،‬وال يذكرىا الراوي بعد ذلؾ‬
‫حتى يفاجئنا بالحديث عنيا وعف زوجيا وابنتيا الشابة في السفر الرابع‪ ،‬دوف أف تتعرض الرواية‬
‫لمظروؼ التي مرت بيا في تمؾ الفت ةر الكبي ةر مف حياتيا‪.‬‬

‫(ٔ) واإسبلماه‪ ،‬صٓ‪ٛ‬‬


‫(ٕ) الثائر األحمر‪ ،‬ص‪ٗٙ‬‬
‫(ٖ) الثائر األحمر‪ ،‬صٖ٘ٔ‬
‫(ٗ) واإسبلماه‪ ،‬ص‪ٔٔٙ‬‬

‫‪122‬‬
‫‪ - 6‬تبطئة السرد‪:‬‬

‫ويبرز ذلؾ في الوقفات الوصفية لؤلماكف والشخصيات‪ ،‬باإلضافة إلى المشاىد الحوارية‬
‫التي تتوافر بكث ةر في روايتي واإسبلماه والثائر األحمر‪ ،‬ىذه الوقفات ىي التي تقرب الصو ةر إلى‬
‫المتمقي‪ ،‬وتشع هر بأنو يرى األماكف ويتأثر بتنوع الشخصيات واختبلؼ مواقفيا‪ ،‬ولـ تأت الوقفات‬
‫الوصفية عند الكاتب بشكؿ عفوي غير مقصود‪ ،‬بؿ جاءت موحية تصور البيئة والمجتمع‬
‫ونفسيات الشخصيات تصوي ًار دقيقًا يخدـ فنية الرواية‪ .‬والمشاىد الروائية تكسر حدة السرد‬
‫ونمطيتو‪ ،‬وىي تقوـ بسرد حدث استغرؽ في الرواية زمناً قصي اًر بخطاب نصي طويؿ‪ ،‬فيظير‬
‫الحوار ليعمؽ فكرة معينة يريدىا الكاتب‪ ،‬ومثؿ ذلؾ الحوار الذي ورد في رواية الثائر األحمر‪،‬‬
‫حينما أراد السارد أف يؤكد عمى استحواذ التفكير العقبلني المادي عمى القرامطة‪ ،‬فأجرى حوا اًر‬
‫( ٔ)‬
‫مطوال بيف عبداف والكرماني‪.‬‬

‫‪ - 4‬الزمن الروائي بين االستذكار واالستباق‪:‬‬

‫ظيرت تقنية االستذكار أو االسترجاع والعودة إلى الوراء عند الكاتب بكثرة‪ ،‬وربما كاف‬
‫سعي باكثير إلى التحميؿ النفسي لشخصياتو سبباً الستعمالو ىذه التقنية بوفرة في رواياتو‪ ،‬حيث‬
‫إنيا تعرض لمظروؼ التي عاشتيا الشخصية في الماضي‪ ،‬وبقي أثرىا النفسي والسموكي في‬
‫الحاضر‪ .‬ومف أشكاؿ االستذكار الذي يظير ثقؿ الزمف النفسي المرتبط باألحداث التي عاشتيا‬
‫الشخصية في ماضييا‪ ،‬ما نراه في رواية واإسبلماه حيث يقوؿ الراوي في وصؼ أثر اليزيمة‬
‫عمى نفس السمطاف جبلؿ الديف‪" :‬ثـ ذكر ما وقع لنفسو مف األحداث في الماضي القريب كيؼ‬
‫ود ّْمرت ببلده‪ ،‬وتشتت شممو وشمؿ ذويو‪ ،‬وكيؼ اختُ ِطؼ ابنو الوحيد وولي عيده‬
‫انطوى ممكو‪ُ ،‬‬
‫الذي لـ يبم الثامنة بعد‪ ،‬فحمؿ إلى طاغية التتار‪ ،‬وذُبِح بيف يديو ذبح الشاة‪ ،‬وكيؼ عاش حتى‬
‫رأى أمو الصالحة وزوجتو وأختو وبنات أخوالو وأعمامو يغرقف في اليـ بأمره‪ ،‬وعمى مشيد منو‪،‬‬
‫وكيؼ اختفت ابنتو جياد وابف أختو محمود فمـ يعمـ عنيما شيئًا‪ ...‬وىكذا قدر لو أف يعيش‬
‫وحيدًا في ىذه الدنيا‪ ،‬ال أىؿ لو فييا وال ولد‪ ،‬فكأنما بقي حيًا ليتجرع غصص األلـ والحس ةر‬
‫( ٕ)‬
‫إف ىذه النفس الحزينة المؤلى باليموـ ال تتمتع بممذات الحكـ والسمطة بقدر ما تعاني‬ ‫بعدىـ"‪.‬‬
‫مف قسوة وم اررة الذكريات‪ .‬ومف صور االستذكار في رواية الثائر األحمر قوؿ الراوي‪" :‬وما‬
‫سقطت‬
‫ْ‬ ‫المبلَّؾ الصغار الذيف‬
‫أحد أولئؾ ُ‬ ‫ينسى حمداف مف األشياء‪ ،‬فمف ينسى َّ‬
‫أف والده كاف َ‬

‫(ٔ) الثائر األحمر‪ ،‬ص‪ٕٔٔ- ٜٔٓ‬‬


‫(ٕ) واإسبلماه‪ ،‬صٕٔ‬

‫‪123‬‬
‫( ٔ)‬
‫إف ىذه الذكرى تضغط عمى صاحبيا بشكؿ كبير‪ ،‬فتثير‬ ‫أمبلكيـ في يد ذلؾ المالؾ الكبير"‪.‬‬
‫في نفسو مشاعر الكراىية والحقد والمأساة‪ ،‬التي تميد لخمؽ عنصر الصراع في الرواية‪.‬‬

‫ويجيد باكثير استخداـ تقنية االستباؽ عمى الرغـ مف قمة االعتماد عمييا مقارنة‬
‫باالستذكار ‪ ،‬وتبدو أىمية االستباؽ في كونو عنصر ىاـ مف عناصر اإلثا ةر والتشويؽ التي تدفع‬
‫المتمقي لمواصمة القراءة‪ ،‬حيث إف التمييد لؤلحداث أو ذكرىا قبؿ وقوعيا ال يعني حتمية‬
‫تحققيا‪ ،‬فيي أقرب إلى االفتراض والتوقع فقد تتحقؽ وقد ال تتحقؽ‪ .‬ومف أوضح األمثمة عمى‬
‫توظيؼ باكثير ليذه التقنية ما ورد في رواية واإسبلماه حيث سيطرت تقنية االستباؽ عمى الرواية‬
‫وظيرت في أكثر مف موقؼ منيا‪ :‬نبوءة المنجـ أوؿ الرواية لجبلؿ الديف بأنو سيولد في أىؿ‬
‫بيتو غبلـ يكوف ممكاً عظيماً‪ ،‬وييزـ التتار ىزيمة ساحقة( ٕ)‪ ،‬ورؤيا قطز لمرسوؿ ‪-‬صمى اهلل‬
‫عميو وسمـ ‪ -‬واخ بار الرسوؿ لو بأنو سيدخؿ مصر وينتصر عمى التتار( ٖ)‪ ،‬كذلؾ دعاء الشيخ‬
‫ابف عبد السبلـ بأف يجمع اهلل بيف قطز وحبيبتو جمنار‪ ،‬وتيقف قطز مف تحقيؽ ذلؾ فقاؿ‪:‬‬
‫"الحمد هلل‪ ،‬سألقاىا‪ ..‬سأتزوجيا"( ٗ)‪ ،‬ثـ قوؿ بيبرس في حؽ قطز‪" :‬لقد فعميا صديقي واهلل ليكونف‬
‫( ٘)‬
‫وقد تحققت كؿ ىذه التنبؤات واالستباقات‪.‬‬ ‫مف قتبلي"‪.‬‬

‫‪ - 3‬الربط بين الماضي والحاضر والمستقبل‪:‬‬

‫إذا كاف باكثير يبدي مقاربة واقعية بيف حاضر خطابو الروائي في النصؼ األوؿ مف‬
‫القرف العشريف‪ ،‬والحكاية التاريخية التي تعرضيا رواية واإسبلماه‪ ،‬فيسقط الماضي التاريخي عمى‬
‫الحاضر المعيش‪ ،‬ويطرح فكرة الجياد اإلسبلمي كحؿ فعاؿ لمتخمص مف التبعية واالستعمار‪،‬‬
‫يطور رؤيتو في الثائر األحمر ويتبنى نظرة تنبؤية استشرافية مستقبمية‪ ،‬تظير عمؽ تحميمو‬
‫فإنو ّْ‬
‫لمواقع العربي واإلسبلمي وما يواجيو مف تحديات خطيرة قبؿ أف تحدث‪ ،‬فقد استق أر المستقبؿ‬
‫وحذر مف أثر الصراع وال تنافس بيف القوى العالمية وسعييا إلى بسط نفوذىا وسيطرتيا الفكرية‬
‫عمى العالـ اإلسبلمي عامة والوطف العربي خاصة‪ ،‬وقد حدث ذلؾ بالفعؿ حيث انتشر الفكر‬
‫االشتراكي في خمسينيات القرف المنصرـ في الوطف العربي‪ ،‬وظير الصراع بينو وبيف التيارات‬

‫(ٔ) الثائر األحمر‪ ،‬ص‪ٙ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬واإسبلماه‪ ،‬صٓٔ‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬واإسبلماه‪ ،‬صٖٓٔ ‪ٔٓٗ-‬‬
‫(ٗ) واإسبلماه‪ ،‬ص‪ٔٓٙ‬‬
‫(٘) واإسبلماه‪ ،‬ص‪ٔ٘ٛ‬‬

‫‪124‬‬
‫الميبرالية مف جية واإلسبلمية مف جية أخرى‪ .‬وبالتالي فإف كاتبنا ال يكتفي بإسقاط الماضي‬
‫عمى الحاضر فقط‪ ،‬بؿ إنو يتعدى ذلؾ إلى التوغؿ في المستقبؿ‪ ،‬ومحاولة كشؼ أغوا هر‬
‫ومبلمحو وطرؽ التعامؿ معيا‪.‬‬

‫وفي النياية‪ ،‬يمكف إيجاز أبرز تحوالت الرواية التاريخية عند باكثير فيما يأتي‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬وجو باكثير الرواية التاريخية وجية إسبلمية واقعية صادقة‪ ،‬حيث اعتز بالتاريخ‬
‫المشرفة‪ ،‬بخبلؼ جورجي زيداف الذي َّادعى‬
‫ّْ‬ ‫اإلسبلمي‪ ،‬وأظير صورتو الناصعة‬
‫الصدؽ في روايتو لمتاريخ اإلسبلمي إال أنو تجنب الصفحات المشرقة ليذا التاريخ‪،‬‬
‫وعمؿ عمى تشوييو واإلساءة إليو‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬كاف اليدؼ عند محفوظ ىو الحفاظ عمى مصر األرض والوطف حيث جسَّد العصبية‬
‫القطرية والجغرافيا الضيقة ‪ ،‬بينما تطور ىذا اليدؼ عند باكثير ليصبح الدفاع عف‬
‫اإلسبلـ والحفاظ عميو كديف وعقيدة في أية بقعة مف بقاع األرض‪ ،‬حيث ربط الفكر‬
‫اإلسبلمي بجغرافيتو الواسعة‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬طور عناويف رواياتو التاريخية‪ ،‬فجعميا تعبر عف فكر الكاتب ورؤيتو‪ ،‬وكانت قبؿ ذلؾ‬
‫تعتمد عمى اإلحالة إلى مكاف تاريخي معروؼ‪ ،‬أو شخصية تاريخية بارزة‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬ابتدع نظاـ األسفار في بناء رواية الثائر األحمر‪ ،‬ىذا النظاـ لـ يستخدمو أحد مف قبمو‪.‬‬
‫ص ّْدرت رواياتو التاريخية بآيات مف القرآف‬
‫٘ ‪ -‬ارتبط البناء الروائي بالنص القرآني‪ ،‬حيث ُ‬
‫الكريـ تدؿ عمى مضمونيا‪.‬‬
‫‪ - ٙ‬االلتزاـ بالقيـ واآلداب اإلسبلمية في تصوير الحب العذري الطاىر العفيؼ‪ ،‬وتجنب‬
‫المشاىد الغرامية المثيرة‪.‬‬
‫‪ - ٚ‬الميؿ إلى أسموب الحوار في رواياتو التاريخية‪ ،‬مما أعطى مجاالً لمتعبير عف مواقؼ‬
‫الشخصيات المختمفة بشكؿ مستقؿ ومباشر‪.‬‬
‫‪ - ٛ‬استخداـ بعض األساليب السردية الحديثة كالمناجاة‪ ،‬ولغة اليذياف والتخيبلت‪ ،‬ولغة‬
‫الرؤى واألحبلـ‪ ،‬وتقنية الرمز‪.‬‬
‫‪ - ٜ‬استخدـ تقنية التناص بشكؿ كبير‪ ،‬خاصة التناص الديني مع القرآف الكريـ‪ ،‬والحديث‬
‫النبوي الشريؼ‪ ،‬وقصص األنبياء‪.‬‬
‫لتحمؿ دور البطولة‪ ،‬واىتـ‬
‫ٓٔ‪ -‬عني عناية خاصة برسـ الشخصيات؛ فأحسف تييئتيا ُّ‬
‫بتحميؿ نفسياتيا والغوص في أعماقيا‪ ،‬وركز عمى وصفيا أخبلقياً‪ ،‬ومنحيا االستقبلؿ‬
‫الذاتي‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫ٔٔ‪ -‬أكد عمى الدور اإليجابي لمعمماء المسمميف في تحقيؽ النيضة والحفاظ عمى مقدرات‬
‫األمة‪.‬‬
‫ٕٔ‪َّ -‬‬
‫حذر مف المؤامرات والدسائس الخبيثة التي يقوـ بيا ال ييود إلضعاؼ الدوؿ العربية‬
‫واإلسبلمية‪ ،‬وتأجيج الصراع فيما بينيا‪.‬‬
‫ٖٔ‪ -‬كشؼ عف دور المرأة اإليجابي والفعاؿ في المجتمع المسمـ مف خبلؿ بعض النماذج‬
‫تجمؿ الرذيمة وتنشر الفساد‪.‬‬ ‫ذـ َّ‬
‫وقبح بعض النماذج السيئة التي ّْ‬ ‫المشرفة‪ ،‬كما َّ‬
‫ّْ‬ ‫النسوية‬
‫ٗٔ‪ -‬وظؼ المكاف الروائي فنياً‪ ،‬فجعمو معب اًر عف التأثيرات النفسية والمفارقات االجتماعية‪،‬‬
‫ال وحيويًا وجذابًا‪.‬‬
‫كما اعتمد عمى دقة الوصؼ الذي منح المكاف دو ًار فعا ً‬
‫٘ٔ‪ -‬جمع بيف النظرة الواقعية والرؤية التنبؤية االستشرافية لممستقبؿ مف خبلؿ مقاربة زمف‬
‫الحكاية التاريخية مع زمف الخطاب الروائي‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫حتوالت امرواية اجلديدة‬


‫(مقاربة نظرية)‬

‫‪127‬‬
‫يرتبط مصطمح الرواية الجديدة بعدد مف التحوالت التي َّ‬
‫عبرت عف اتجاه جديد في الكتابة‬
‫الروائية عالميًا وعربيًا‪ ،‬حيث بدأ ظيورىا عالميًا في النصؼ الثاني مف القرف العشريف عمى يد‬
‫عدد مف ال ُك ّتاب الفرنسييف البارزيف أمثاؿ‪ :‬ميشيؿ بوتور‪ ،‬وروب جرييو‪ ،‬وناتالي ساروت‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫عمؿ عربياً منذ ما يزيد عف أربعيف عاماً عند عدد مف الروائييف المتميزيف أمثاؿ‪ :‬جماؿ‬ ‫واستُ ِ‬
‫الغيطاني‪ ،‬وادوار الخراط‪ ،‬وص نع اهلل إبراىيـ‪ ،‬واميؿ حبيبي‪ ..‬وغيرىـ‪ ،‬وقد "أثار ىذا المصطمح‬
‫( ٔ)‬
‫الرواية الجديدة بشكؿ عاـ تشير إلى نوع مف الرواية‬ ‫تساؤالت عدة تتعمؽ بمفيوـ الجديد"‪.‬‬
‫المضادة لمرواية التقميدية‪ ،‬رواية ببل بطؿ وال انفعاالت‪ ،‬تتسـ بالحضور الطاغي والبارد‬
‫وىي "مفارقة لمرواية التقميدية معنى ومبنى"( ٖ)‪ ،‬و"لعؿ أىـ ما تستميز بو الرواية‬ ‫( ٕ)‬
‫لؤلشياء‪.‬‬
‫الجديدة عف التقميدية‪ ،‬أنيا تثور عمى كؿ القواعد‪ ،‬وتتنكر لكؿ األصوؿ‪ ،‬وترفض كؿ القيـ‬
‫والجماليات التي كانت سائدة في كتابة الرواية التي أصبحت توصؼ بالتقميدية‪ ،‬فإذا ال‬
‫الشخصية شخصية‪ ،‬وال الحدث حدث‪ ،‬وال الحيز حيز‪ ،‬وال الزماف زماف‪ ،‬وال المغة لغة‪ ،‬وال أي‬
‫شيء مما كاف متعارفاً عميو في الرواية التقميدية متآلفاً اغتدى مقبوالً في تمثؿ الروائييف‬
‫( ٗ)‬
‫الرواية الجديدة ال يضبطيا أي مفيوـ أو فمسفة كما يري شكري عزيز الماضي إذ‬ ‫الجدد"‪.‬‬
‫ينطوي تحتيا كؿ ما ىو جديد‪ ،‬وىي أيضًا تعبير فني عف حدة األزمات المصيرية التي تواجو‬
‫( ٘)‬
‫فػ "الحداثة لـ تأت رفاىية وتعقيداً لمفف‪ ،‬وانما جاءت استجابة لتعقيدات الحياة مف‬ ‫اإلنساف"‬
‫حولنا‪ ،‬واستجابة لخبرات إنسانية متراكمة"‪ ،)ٙ (.‬كما أنيا تجعؿ السرد "منفتحاً عمى الرؤى‬
‫والمنظورات والعالـ واألشياء مف منظور وعي القاص الجمالي‪ ،‬الذي يفسح المجاؿ لممبنى‬
‫( ‪)ٚ‬‬
‫وقد انصب اىتماـ كتاب الرواية‬ ‫التخييمي والتأممي بعيدًا عف منظور القص الكبلسيكي"‪.‬‬
‫الجديدة عمى بنية النص فػ "كاف ىميـ ىو التفكيؾ والتفتيت وتشظي النص‪ ،‬واعادة بناء‬
‫الموروث وفؽ أنساؽ جديدة‪ ،‬وفي موضوعات تتصؿ ببنية فكر األمة ودوافعيا بدالالتيا ورموزىا‬
‫( ‪)ٛ‬‬
‫وبالتالي فيي ترفض مبدأ العمية أو السببية في بناء األحداث‪ ،‬وال يعني ىذا أف‬ ‫وأبعادىا"‪.‬‬

‫(ٔ) الرواية العربية الجديدة وخصوصية المكاف (بحث)‪ ،‬صٓٔٔ‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬القصة والرواية والمؤلؼ‪ ،‬صٖٖٕ‬
‫(ٖ) أنماط الرواية العربية الجديدة‪ ،‬صٗٔ‬
‫(ٗ) في نظرية الرواية‪ ،‬ص‪ٗٛ‬‬
‫(٘) أنماط الرواية العربية الجديدة‪ ،‬ص٘ٔ‬
‫(‪ )ٙ‬آفاؽ األدب العربي في فمسطيف‪ ،‬صٕٕ‬
‫(‪ ) ٚ‬رؤى الحداثة وآفاؽ التحوالت في الخطاب األدبي األردني الحداثي‪ ،‬ص‪ٜٜ‬‬
‫(‪ )ٛ‬الرواية والتجريب (بحث)‪ ،‬صٕ‪ٛ‬‬

‫‪128‬‬
‫الرواية الجديدة ببل بناء أو شكؿ‪ ،‬فيذا بحد ذاتو ضد الفف‪ ،‬ولكف ىذا يعني أف الرواية الجديدة ال‬
‫تخضع لمقوالب واألنماط الجا ىزة‪ ،‬بؿ تخضع لمتجربة التي تستثمر محاور اإلبداع الروائي التي‬
‫يمثميا ّّ‬
‫كؿ مف المؤلؼ والنص والقارئ‪.‬‬

‫وقد أطمؽ عمى الرواية الجديدة تسميات عدة منيا‪ :‬رواية البلرواية ‪ ،Anti Novel‬والرواية‬
‫التجريبية ‪ ، Experimental Novel‬ورواية الحساسية الجديدة‪ ،‬والرواية الطميعية‪ ،‬والرواية‬
‫( ٔ)‬
‫ومف خبلؿ تعدد‬ ‫الشيئية‪ ،‬غير أف االسـ الذائع والمنتشر ىو الرواية الجديدة ‪.New Novel‬‬
‫تسميات الرواية الجديدة يتضح لنا أنيا ال تندرج في أفؽ محدد‪ ،‬بؿ إننا ال نجانب الحقيقة إذا‬
‫قمنا إنيا تتمرد عمى أي تحديد أو تقعيد‪ ،‬لدرجة وجود بعض التعارضات والتناقضات بيف أنواعيا‬
‫المتعددة‪ ،‬فيي تنفتح عمى الكثير مف النصوص والقراءات وال تنغمؽ عمى رؤية واحدة أو نظاـ‬
‫معيف‪ .‬وال شؾ في أف لواقع الحياة الحديثة المتمثؿ في اىتزاز الثوابت‪ ،‬وتفتت القيـ‪ ،‬وتمزؽ‬
‫المبادئ‪ ،‬وتشتت الذات الفردية والجماعية‪ ،‬وغموض الزمف الراىف واآلتي‪ ،‬واإلحساس باالغتراب‬
‫الفكري والثقافي‪ ،‬وانتشار العبث والنظ ةر النسبية لكؿ شيء‪ ،‬أ ثر كبير عمى ظيور الرواية الجديدة‬
‫بيذا الشكؿ الفني المتمرد والثائر عمى كؿ التقاليد الفنية السابقة‪.‬‬

‫إف الرواية الجديدة ال تناضؿ ضد اغتراب اإلنساف عف طريؽ مضامينيا فحسب‪ ،‬بؿ ىي‬
‫تناضؿ ضد كؿ العناصر الصانعة الغتراب اإلنساف عف طريؽ بنائيا وأساليب السرد فييا‬
‫أيضاً‪ ،‬بما تمنحو ىذه األساليب‪ ،‬وىذا البناء مف اىتماـ ٍ‬
‫عاؿ بالفرد وبرؤيتو الخاصة‪ ،‬ولمحقائؽ‬
‫( ٕ)‬
‫بتعدد دالالتيا وانفتاحيا‪.‬‬

‫عوامل ظيور الرواية الجديدة‪:‬‬

‫تعددت العوامؿ التي أدت إلى ظيور الرواية الجديدة‪ ،‬فمنيا ما يرتبط بالتقدـ العممي‬
‫والتكنولوجي الكبير الذي حققو اإلنساف في العصر الحديث‪ ،‬والذي أدى إلى ظيور تقنيات فنية‬
‫حديثة متأثرة بعالـ السينما والتصوير التمفزيوني مما لـ يكف متاحاً لدى الروائييف التقميدييف‪،‬‬
‫ومنيا ما يتصؿ بتطور الفكر اإلنساني خاصة بعد الحربيف العالميتيف المتاف سقط عمى إثرىما‬
‫الكثير مف الضحايا‪ ،‬مما أدى إلى سقوط المفاىيـ التقميدية عف الفرد والجماعة والقيـ والحياة‪،‬‬
‫ومنيا سطوة الفمسفات الشيوعية واالشتراكية والوجودية‪ ،‬وعمـ نفس فرويد‪ .‬ومنيا ما يتعمؽ بالرؤى‬

‫(ٔ ) انظر‪ ،‬أنماط الرواية العربية الجديدة‪ ،‬صٗٔ‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬قراءات في األدب والنقد‪ ،‬صٕٕٓ‬

‫‪129‬‬
‫األدبية والنقدية الحداثية كتمؾ التي دعت إلى موت المؤلؼ وتفعيؿ دور القارئ كمنتج جديد‬
‫لمنص الروائي‪ ،‬باإلضافة إلى اعتبار الرواية بنية سردية قواميا المغة وَلبِنات األلفاظ بشكؿ‬
‫( ٔ)‬
‫أساسي‪.‬‬

‫وبالنسبة لظيور الرواية الجديدة في الوطف العربي‪ ،‬فبل شؾ في أف لممؤثرات األجنبية‬


‫واالنفتاح الثقافي عمى العوالـ األخرى دور فاعؿ وكبير في انتشارىا وذيوعيا‪ ،‬إال أف الدور األىـ‬
‫مرت بيا الببلد العربية خاصة بعد‬
‫يتمثؿ في الظروؼ السياسية والفكرية واالجتماعية التي َّ‬
‫ىزيمة عاـ ‪ ٜٔٙٚ‬التي َّ‬
‫شكمت انعطافاً فكرياً حاداً وصارخاً لدى المواطف والمثقؼ العربي الذي‬
‫كاف يعاني مف انتشار الظمـ والفساد‪ ،‬مما ولد اىت از اًز في الثوابت الوطنية والتاريخية أدى إلى‬
‫الشؾ في كؿ شيء‪ ،‬األمر الذي انسجـ مع خصائص الرواية الجديدة التي تنظر بريبة إلى كؿ‬
‫ما ىو سائد وتقميدي‪.‬‬

‫عالقة الرواية الجديدة بالواقع المعاصر‪:‬‬

‫تستمد الرواية الجديدة ألوانيا وبيئتيا وطبيعتيا مف الجو العصري‪ ،‬الذي يبدو قاتمًا‪ ،‬حيث‬
‫يبرز الشعور اإلنساني الحاد بالقمؽ والتمزؽ والتمرد‪ ،‬نتيجة لمتقدـ العممي والتكنولوجي السريع‬
‫والمدىش الذي َّ‬
‫قدـ المادة عمى الروح‪ ،‬والذي كاف لو األثر الكبير عمى التعامؿ اإلنساني‬
‫والعبلقات البشرية‪ ،‬واستغبلؿ الشعوب والسيطرة عمى مقدراتيا‪ ،‬وانتشار حالة مف اليستيريا‬
‫والضياع واالزدواجية المقيتة‪ ،‬لصالح نظـ اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية معينة‪ ،‬تحاصر‬
‫العقؿ البشري بالكثير مف الطرؽ والوسائؿ التقنية واإلعبلمية الحديثة؛ لتحقيؽ مصالحيا‪ ،‬لقد‬
‫أحدث كؿ ىذا تغييرات غير محدودة عمى النفس اإلنسان ية‪ ،‬أثرت بشكؿ كبير عمى الحساسية‬
‫الفنية واألدبية لدى الكاتب والقارئ عمى ٍّ‬
‫حد سواء‪.‬‬

‫وقد أطمؽ إدوار الخراط عمى ىذه النقمة في الكتابة اإلبداعية العربية مصطمح الحساسية‬
‫الجديدة‪ ،‬التي نشأت بتأثير مف الواقع االجتماعي الستيني‪ ،‬أو –كما يرى ‪ -‬كرد فعؿ لموجة‬
‫الواقعية التي غمرت الساحة األدبية بغثاء كبير وجدوى قميمة‪ .‬والحساسية الجديدة ظاىرة‪ ،‬كما‬
‫يعتقد الخراط‪ ،‬ليا جانباف عمى األقؿ‪ ،‬األوؿ أنيا ليست مجرد نقمة أساسية في أشكاؿ التقنيات‬
‫الفنية‪ ،‬والجانب اآلخر يرتبط بنقمة أساسية في التطور االجتماعي والتاريخي في مصر والعالـ‬
‫العربي‪ ،‬وىي تحمؿ استشرافاً لنظاـ قيمي جديد‪ ،‬ال في الفف فقط‪ ،‬بؿ عمى المستوى الثقافي‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬خصائص الرواية الجديدة ومبلمحيا (بحث)‪ ،‬ص‪ٛ- ٚ‬‬

‫‪131‬‬
‫واالجتماعي والتاريخي‪ ،‬وتشتمؿ عمى تيارات متعددة‪ ،‬مثؿ‪ :‬تيار التغريب أو العبثية‪ ،‬والتيار‬
‫( ٔ)‬
‫الداخمي‪ ،‬وتيار استيحاء التراث‪ ،‬والتيار الواقعي السحري‪ ،‬والتيار الواقعي الجديد‪.‬‬

‫لـ يعد ُك ّت اب الرواية الجديدة يستجيبوف إلى سرد حكاية‪ ،‬وخمؽ شخصيات‪ ،‬ووصؼ‬
‫أخبلؽ وأوساط اجتماعية‪ ،‬فالواقع في ىذه الرواية يقدـ بوصفو حضو اًر كمياً يمكف تممسو كامبلً‬
‫في أية ناحية مف نواحيو‪ ،‬غير أنو ليس دائماً واقعاً مألوفاً آليًا في تتابعو المكاني والزماني‪،‬‬
‫بحيث يثير اطمئ نانًا كاذبًا لدى القارئ‪ ،‬بؿ ىو واقع غامض يبعث عمى الحيرة والتساؤؿ‪ ،‬تتجرد‬
‫فيو األشياء والكائنات واألحداث مف العبلقات المألوفة دوف أف تتخذ مف ذلؾ مظي اًر شبحياً‪ ،‬فقد‬
‫كونت الرواية الجديدة نظرة شاممة تعتمد عمى الصراحة والوعي الكامؿ لؤلشياء‪ ،‬وىي نظ ةر‬
‫تعطي نوعاً مف االمتياز لما ال يميؽ البوح بو ميما كاف قاتماً وخسيساً باعتباره األكثر داللة‬
‫( ٕ)‬
‫إيحاء‪.‬‬
‫ً‬ ‫واألعمؽ‬

‫الرواية الجديدة والمتمقي‪:‬‬

‫تيتـ الرواية الجديدة بالمتمقي بدرجة عالية‪ ،‬بؿ لعؿ أبرز مظاىر تطورىا يرتبط بعبلقاتيا‬
‫الوطيدة بالقارئ‪ ،‬إذ إنيا تقدره ‪ ،‬وتعمي مف شأنو‪ ،‬وتشركو في عممية السرد‪ ،‬وأحياناً تجعؿ منو‬
‫شخصية يوجو ليا الخطاب الروائي بأسموب السرد المخاطب‪ ،‬وعمى ذلؾ فإف الرواية الجديدة‬
‫"تستجمب قارئاً منتجاً بوسائؿ فنية متعددة منيا‪ :‬ترؾ نيايات الحكي مفتوحة‪ ،‬وعرض وجيات‬
‫نظر متعددة‪ ،‬ورؤى متباينة يغيب معيا الرأي القاطع الحاسـ‪ ،‬وترؾ مساحات وىوامش داللية‬
‫يمكف أف يتميا القارئ حيف يستعيف عمى ذلؾ بقدراتو عمى التخييؿ‪ ،‬ويتعمؽ قراءة النص في‬
‫( ٖ)‬
‫ويرى بعض النقاد أف الكتاب يحرروف التخييؿ‬ ‫ضوء الزماف والمكاف والحاؿ الذي ىو فيو"‪.‬‬
‫مف المعاني المحددة؛ ليفتحوا المجاؿ أماـ المشاركة الشخصية لمقارئ في القصة‪ ،‬ويصؼ‬
‫آخروف القارئ بأنو خالؽ لممعنى‪ ،‬وقد يكوف خمؽ المعنى مغامرة تعاونية يسيـ فييا كؿ مف‬
‫القارئ والكاتب بنصيب‪ ،‬ويمكف أف تكوف المقدرات الحقيقية لمتفسير ىي االفتراضات األدبية‬
‫والثقافية لما يتصو هر الكتاب والقراء ويوجدونو‪ )ٗ (.‬األمر الذي يظير عناية الرواية الجديدة بالقارئ‬
‫بحيث إنيا تجعؿ منو مؤلفاً آخر يعمؿ عمى تنظيـ النص‪ ،‬وضبط إيقاعو‪ .‬فمتمقي ىذا النوع مف‬

‫(‪ )1‬تداخؿ األجناس األدبية في الرواية العربية (الرواية الدرامية أنموذج ًا)‪ ،‬ص ٖ‪ٜ‬‬
‫)ٕ( مراجعات في األدب المصري المعاصر‪ ،‬صٕٔٗ‬
‫(ٖ ) الرؤية وتعدد األصوات في عكا والمموؾ (بحث)‪ ،‬صٔ‪ٔٛ‬‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬نظريات السرد الحديثة‪ ،‬ص‪ٕٓٛ- ٕٓٚ‬‬

‫‪131‬‬
‫الروايات يحتاج إلى درجة عالية مف اليقظة والوعي حتى يتمكف مف جمع شتاتيا‪ ،‬والربط بيف‬
‫أحداثيا وفؽ زمانيا المتشظي‪ ،‬باإلضافة إلى فؾ رموزىا لموقوؼ عمى رؤيتيا الفنية‬
‫والموضوعية‪.‬‬

‫إف الحاجة إلى الرواية الجديدة في ضوء ما تقدـ تبدو فكرية نفسية أكثر منيا حاجة فنية‬
‫تقنية‪ ،‬ومع ذلؾ فإننا في حاجة إلى مقاربة التحوالت الفنية والتقنية وغيرىا التي أصابت‬
‫ّْ‬
‫مشكبلت السرد في بنية الرواية الجديدة‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬التحوالت عمى مستوى المغة وأساليب السرد‪:‬‬

‫يتميز نص الرواية الجديدة بأنو نص لغوي في المقاـ األوؿ‪ ،‬يتفرد بنسقو الخاص في‬
‫إيقاع التناسب بيف السرد والوصؼ والحوار والمناجاة‪ ،‬وبنسيجو المغوي البديع الساحر‪ ،‬الذي‬
‫تييمف عميو الوظيفة الشعرية‪ ،‬انتقمت بموجبيا الرواية الجد يدة إلى رواية شعرية‪ ،‬ىميا األوؿ‬
‫واألخير تحقيؽ ىذه الوظيفة الجمالية دوف احتفاء بالعناصر التقميدية‪ )ٔ (.‬فالرواية الجديدة صناعة‬
‫كمشكؿ أساسي لمسرد‪ ،‬ولـ يبؽ ليا بعد أف أفقدت‬ ‫ّْ‬ ‫لغوية بامتياز‪ ،‬إذ إنيا تنيض عمى المغة‬
‫الشخصية الروائية بريقيا الذي كاف مييمناً عمى الرواية التقميدية غير جماؿ لغتيا وأناقة‬
‫( ٕ)‬
‫وبناء عمى قدرتو‬
‫ً‬ ‫بناء عمى مدى تحكمو في لغتو‪،‬‬ ‫نسجيا‪" .‬ويعمو شأف الكاتب ويعظـ قدره ً‬
‫عمى تحميميا بالمعاني الجديدة التي لـ تكف فييا"‪ )ٖ (.‬فالرواية الجديدة تعتمد عمى لغة مكثفة‬
‫متعددة الدالالت‪ ،‬قد تغيب األحداث‪ ،‬وقد تتكرر‪ ،‬وقد تفقد سمة التتابع والترابط‪ ،‬إال أف القارئ‬
‫( ٗ)‬
‫يتقدـ مف خبلؿ القراءة فقط‪.‬‬

‫سعت الرواية الجديدة إلى ترقية لغتيا وأساليبيا السردية‪ ،‬فالمغة عندىا "لـ تعد مجموعة‬
‫مف الرموز أو ال داالت التقميدية التي تمارس معيا آليات المنطؽ األرسطي نشاطيا‪ ،‬لتحديد‬
‫الواقع والتدليؿ عميو عف طريؽ قنوات الحواس"( ٘) بؿ أصبح لمغة نظاـ خاص لو وحدتو وتماسكو‬
‫واستقبلليتو‪ ،‬ورغـ ذلؾ "فإننا ال نستطيع أف نفصمو فصبلً كامبل عف البنى التحتية التي تشكؿ‬
‫ثقافة ووعي الكاتب‪ ،‬أي إ ننا ال نستطيع أف ندرس أو نحمؿ العمؿ األدبي بمعزؿ عف القوى‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬خصائص الفعؿ السردي في الرواية العربية الجديدة (بحث)‪ ،‬ص‪ٚ‬‬
‫(ٕ) انظر‪ ،‬في نظرية الرواية‪ ،‬صٓٓٔ ‪ٔٓٔ-‬‬
‫(ٖ) في نظرية الرواية‪ ،‬ص‪ٔٓٛ‬‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬أنماط الرواية العربية الجديدة‪ ،‬ص‪ٙٓ- ٜ٘‬‬
‫)٘( المرايا المحدبة (مف البنيوية إلى التفكيؾ)‪ ،‬ص ٓ‪ٔٙ‬‬

‫‪132‬‬
‫( ٔ)‬
‫ويرى روالف بارت أف الخطاب الروائي ينتج‬ ‫االقتصادية واالجتماعية والصراع الطبقي"‪.‬‬
‫الشخصيات فيتخذ منيا لو ظيي ًار‪ ،‬وكأف الشخصيات ىي عينات مف الخطاب‪ ،‬وىو بذلؾ يساوي‬
‫بيف الخطاب الذي ىو تركيب لغوي لمنص األدبي‪ ،‬وبيف الشخصية التي كاف ُيعتقد في النقد‬
‫التقميدي أنيا ىي كؿ شيء‪ ،‬مما يفضي إلى إيجاد عينات مف الشفرات ال حدود ليا‪ ،‬فاتخذت‬
‫( ٕ)‬
‫وعمى ذلؾ‬ ‫الشخصية في الرواية الجديدة منحاً لغوياً بحتاً‪ ،‬فبل يوجد شيء خارج ألفاظ المغة‪.‬‬
‫فتحميؿ الرواية الجديدة ىو تحميؿ لغوي بالدرجة األولى‪ ،‬فالشخصيات واألحداث عبارة عف‬
‫شفرات (كود) في الخطاب المغوي لمرواية الجديدة‪.‬‬

‫تقمص ت الرواية الجديدة لغة الشعر الخارجة عف نمط المغة العادية‪ ،‬وىي المغة‬
‫االنزياحية‪ ،‬والداعي إلى ىذا استخداـ الرواية لمتقنيات الروائية الحديثة‪ ،‬مثؿ تيار الوعي‬
‫والمناجاة‪ ،‬وىذه األدوات تحتاج إلى لغة حميمية ىامسة‪ ،‬ألف في خطاب الذات لمذات صدؽ‬
‫واعتراؼ وبوح‪ ،‬وليذا أصبحت لغة تيار الوع ي والمناجاة مف أىـ تقنيات السرد العالية‪ ،‬تقوـ‬
‫بوظيفة لغوية وسردية ذات دالالت نفسية( ٖ)‪ ،‬ولذلؾ وجدنا طميعة كتاب الرواية الجديدة في‬
‫الوطف العربي يوظفوف عدداً كبي اًر مف التقنيات واألشكاؿ المغوية مثؿ‪ :‬المغة الشعرية‪ ،‬والرمزية‪،‬‬
‫والصوفية‪ ،‬واألسطورية‪ ،‬والتراثية‪ ،‬وا لعجائبية الفانتازية‪ ،‬والشعبية‪ ،‬والرسمية‪ ،‬والمفارقات‪ ،‬والسي ةر‬
‫الذاتية‪ ،‬واليوميات‪ ،‬واالعترافات‪ ،‬والكاريكاتورية الساخرة‪ ،‬والسينمائية‪ ..‬وغير ذلؾ مف المغات مما‬
‫فتح النص الروائي عمى الكثير مف العوالـ والقراءات‪.‬‬

‫إف أىـ تحوؿ سردي ارتبط بالرواية الجديدة ىو تنوع أساليبيا السردية‪ ،‬فإذا كانت الرواية‬
‫التقميدية تعتمد السرد التتابعي في تقديـ األحداث‪ ،‬دوف ارتداد أو التواء في الزماف‪ ،‬مما أدى إلى‬
‫ال سردية جديدة مف أىميا‪:‬‬
‫تماسؾ وترابط أجزاء المتف الروائي فإف الرواية الجديدة قدمت أشكا ً‬

‫ٔ ‪ -‬التداخؿ‪ :‬وىو تناثر مكونات المتف في الزماف‪ ،‬ثـ يقوـ المتمقي بإعادة تنظيميا فالحدث‬
‫السابؽ ال يكوف سببًا لبلحؽ‪ ،‬إنما يجاوره‪ ،‬وقد تظير النتائج قبؿ األسباب‪ ،‬وقد تستبدؿ‬
‫بعبلقات سردية بدؿ العبلقات السببية المعروفة‪.‬‬
‫زمانيا في‬
‫ً‬ ‫ٕ ‪ -‬التوازي‪ :‬يتـ فيو تجزئة المادة الحكائية إلى أكثر مف محور بحيث تتعاصر‬
‫وقوعيا وتختمؼ في أماكف حدوثيا‪.‬‬

‫)ٔ( المرايا المحدبة (مف البنيوية إلى التفكيؾ)‪ ،‬ص ٘‪ٔٙ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬في نظرية الرواية‪ ،‬صٔ‪ٕٛ- ٛ‬‬
‫)ٖ( انظر‪ ،‬آفاؽ األدب العربي في فمسطيف‪ ،‬ص ‪٘ٛ‬‬

‫‪133‬‬
‫نظاما يكررىا أكثر مف مرة‪،‬‬
‫ٖ ‪ -‬التكرار‪ :‬وفيو بعض المتوف ال تقدـ مرة واحدة‪ ،‬وانما تعتمد ً‬
‫تبعا لعدد الشخصيات المشاركة في المادة الحكائية‪ ،‬وىذا النظاـ يعطي لمرؤية السردية‬
‫ً‬
‫( ٔ)‬
‫مكانة في صوغ المتف؛ الختبلؼ رؤية كؿ شخصية لؤلحداث نفسيا‪.‬‬

‫ومف أشكاؿ السرد التي وظفتيا الرواية الجديدة السرد الدائري‪ ،‬الذي تبدأ فيو األحداث مف‬
‫نقطة ما‪ ،‬ثـ تعود إلييا في النياية‪ ،‬وقد تبدأ األحداث مف النياية لتعود إلى البداية‪ .‬ومف أنواع‬
‫ضمف‪ ،‬ويعني أف الرواية تتضمف قصة أو عدداً مف القصص بداخميا‪،‬‬
‫الم َّ‬
‫السرد‪ ،‬أيضاً‪ ،‬السرد ُ‬
‫( ٕ)‬
‫كما في (نير يستحـ في‬ ‫تحكي عف مصير شخصية‪ ،‬أو تفسر واقعة داخؿ الحكاية األـ‪.‬‬
‫بل‪ .‬وىناؾ سرد براني الحكي‪ ،‬يحكي قصة ال يشارؾ فييا‪ ،‬وىناؾ سرد جواني الحكي‬
‫بحيرة) مث ً‬
‫( ٖ)‬
‫يصدر عف شخصية مركزية أو عدد مف الشخصيات المشاركة‪.‬‬

‫ال شؾ أف الرؤية السائدة اليوـ في أساليب السرد في الرواية العربية الجديدة ىي (الرؤية‬
‫المصاحبة أو المجاورة)‪ ،‬وىي أكثر ُرقيًا وتقدماً وانسجاماً مع الخصائص الفنية والموضوعية‬
‫لمرواية الجديدة في مقابؿ الرؤية مف الخمؼ التي تمثؿ بساطة وتقميدية وكبلسيكية الرواية‬
‫العربية‪ .‬وىي رؤية تمنح الشخصيات شراكة حقيقية في عممية السرد‪ ،‬وتمنح الرواية قد ةر عمى‬
‫إيياـ المتمقي بحقيقة وواقعية ما يتمقى‪ ،‬وىو ما نممس أمثمة لو في رواية (الزيني بركات)‪،‬‬
‫وروايتي (القرمطي)‪ ،‬و(عكا والمموؾ)‪ ..‬وغيرىا‪.‬‬

‫لقد أدى تداخؿ األساليب السردية وتقاطعيا فيما بينيا‪ ،‬وغناىا عمى مستوى الكـ والكيؼ‬
‫ِ‬
‫تكتؼ‬ ‫إلى تكسير نمطية السرد وتعدد الرؤى واألصوات في الرواية الجديدة‪ ،‬حيث إنيا لـ‬
‫باستعماؿ ضمير الغائب ‪ ،‬بؿ استعممت الضمائر السردية بأنواعيا الثبلثة اآلتية‪:‬‬

‫‪ - 7‬ضمير الغائب‪:‬‬
‫يعد ضمير الغائب "سيد الضمائر السردية الثبلثة‪ ،‬وأكثرىا تداوالً بيف السراد‪ ،‬وأيسرىا‬
‫( ٗ)‬
‫ويبلحظ شيوع وانتشار استخداـ ىذ‬ ‫استقباالً لدى المتمقيف‪ ،‬وأدناىا إلى الفيـ لدى القراء"‪.‬‬
‫الضمير السردي في الروايات التقميدية‪ ،‬حيث إنو يعد وسيمة صالحة ألف يتوارى وراءىا السارد‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬المتخيؿ السردي‪ ،‬ص‪ٕٔٔ- ٔٓٚ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬نظريات السرد الحديثة‪ ،‬ص ‪ٜٔٚ‬‬
‫(‪‌ )3‬تحليل‌الخطاب‌الروائي‪‌ ،‬ص‪311‬‬
‫(ٗ) في نظرية الرواية‪ ،‬صٕ٘ٔ‬

‫‪134‬‬
‫فيمرر ما يشاء مف أفكار وأيديولوجيات‪ ،‬وتعميمات‪ ،‬وتوجييات‪ ،‬وآراء‪ ،‬دوف أف يبدو تدخمو‬
‫صارخًا‪ ،‬وال مباش ًار‪ .‬كما أنو يحمي المؤلؼ مف إثـ الكذب‪ ،‬ف يجعمو مجرد ٍ‬
‫حاؾ يحكي أو رٍاو‬
‫ينقؿ لمقارئ ما سمعو مف أحداث فقط‪ .‬باإلضافة إلى أف استعماؿ ضمير الغائب يتيح لمكاتب‬
‫الروائي أف يعرؼ عف شخصياتو‪ ،‬وأحداث عممو السردي كؿ شيء( ٔ)‪ ،‬وىذا يناسب الراوي العالـ‬
‫العارؼ في السرد التقميدي‪.‬‬

‫‪ - 6‬ضمير المتكمم‪:‬‬
‫كثُر استعماؿ ضمير المتكمـ في الرواية الجديدة؛ لما يرتبط بو مف جماليات تخدـ الرؤية‬
‫الفنية الجديدة وتتبلءـ معيا‪ .‬إذ إنو يجعؿ الحكاية المسرودة أو األحدوثة المروية مندمجة في‬
‫روح المؤلؼ‪ ،‬ويعمؿ عمى إذابة الفروؽ الزمنية والسردية بيف السارد والشخصية والزمف‪ ،‬واألىـ‬
‫أنو يجعؿ المتمقي يمتص ؽ بالعمؿ السردي ويتعمؽ بو‪ ،‬كما أنو يستطيع التوغؿ إلى أعماؽ النفس‬
‫البشرية فيعرييا ويكشؼ عف نواياىا بحؽ‪ ،‬ويقدميا إلى القارئ كما ىي ال كما يجب أف‬
‫( ٕ)‬
‫تكوف‪.‬‬

‫‪ - 4‬ضمير المخاطب‪:‬‬
‫بل مقارنة بالضميريف السابقيف‪ ،‬ومع ذلؾ فيو األحدث‬
‫كاف استعماؿ ضمير المخاطب قمي ً‬
‫نشأة في الك تابات السردية المعاصرة‪ ،‬ويرى ميشاؿ بيطور أف ضمير المخاطب أقدر الضمائر‬
‫عمى تمثؿ العالـ والوعي وجعمِ ِيما يمثُبلف في الذىف معاً‪ ،‬وفي لحظة واحدة‪ .‬ويرفض الدكتور‬
‫عبد الممؾ مرتاض ذلؾ بقولو‪" :‬إف (األنت) ليس معجزة سردية‪ ،‬وانما ىو مجرد ضمير بسيط‬
‫( ٖ)‬
‫وال شؾ في أف استعماؿ الرواية الجديدة ليذا‬ ‫كبقية الضمائر يؤدي وظيفة تبميغية عادية"‪.‬‬
‫ال وتعمقًا بالحدث الروائي‪ ،‬وكأنو‬
‫الضمير كاف ألىميتو في تفعيؿ دور القارئ‪ ،‬وجعمو أكثر اتصا ً‬
‫شخصية مشاركة فيو‪.‬‬

‫لقد أدى التنوع في استعماؿ الرواية الجديدة لمضمائر المختمفة إلى ذوباف الحدود الفاصمة‬
‫بينيا في كثير مف األحياف‪ ،‬حيث ينتقؿ الراوي مف ضمير الغائب إلى ضمير المتكمـ أو‬
‫المخاطب وبالعكس‪ ،‬مما يؤكد حالة االمتزاج والتداخؿ والتشظي‪.‬‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬في نظرية الرواية‪ ،‬صٖ٘ٔ ‪ٔ٘ٗ-‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬في نظرية الرواية‪ ،‬ص‪ٔٙٓ- ٔ٘ٛ‬‬
‫(ٖ) في نظرية الرواية‪ ،‬ص‪ٔٙٚ‬‬

‫‪135‬‬
‫سعت الرواية الجديدة إلى تحقيؽ االنفتاح عمى الخطابات السردية والبنائية والشعرية‬
‫األخرى مف خبلؿ وعي وادراؾ الكاتب ألىمية التعالقات النصية في تطوير البناء الروائي‪،‬‬
‫وتعميؽ العبلقة التفاعمية بيف الشخصيات واألحداث واألماكف واألزمنة المختمفة‪ ،‬األمر الذي‬
‫يثري رؤية الكاتب وينمييا ويجعميا أكثر واقعية‪ ،‬حيث "تكمف أىمية التناص باإلمساؾ بما ىو‬
‫مشترؾ بيف النصوص مف معطيات فنية وحضارية وانسانية‪ ،‬يعمؿ عمى تجددىا دائماً‪ ،‬ويضفي‬
‫( ٔ)‬
‫وقد استخدمت الرواية الجديدة الكثير مف أشكاؿ التناص مثؿ‬ ‫عمييا حيوية مستمرة أبداً"‪.‬‬
‫التناص األدبي مع الموروث الشعري والنثري القديـ والحديث‪ ،‬والتناص الديني مع القرآف الكريـ‬
‫واألحاديث النبوية الشريفة باإلضافة إلى اقتباسا ت مف التوراة واإلنجيؿ وبعض الرؤى الصوفية‪،‬‬
‫والتناص مع التراث اإلنساني الثقافي بشكؿ عاـ‪ ،‬عبلوة عمى التناص مع األغاني واألىازيج‬
‫الشعبية التي تعكس مشاىد واقعية مف الحياة اليومية‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬التحوالت عمى مستوى الحدث‪:‬‬

‫َّ‬
‫تغير مفيوـ الحدث في الرواية الجديدة عما كاف عميو في الرواية الكبلسيكية‪ ،‬شأنو شأف‬
‫باقي العناصر السردية األخرى‪ ،‬حيث يميؿ الروائيوف الحداثيوف إلى تمزيؽ الحبكة الروائية فبل‬
‫يسيطر عمى الرواية التسمسؿ المنطقي أو التطور التدريجي المنتظـ كحاؿ الرواية التقميدية‬
‫والفنية الواقعية‪ ،‬فقد تبدأ الرواية مف النياية‪ ،‬وقد ينطمؽ السارد مف الحاضر ليعود إلى الماضي‬
‫َّ‬
‫لخطية الزمف‪.‬‬ ‫ثـ المستقبؿ‪ ،‬وذلؾ بتبنى تقنيات سردية مدمرة‬

‫إذا كانت الرواية التقميدية تقوـ عمى مبدأ الترابط والتماسؾ في بناء األحداث وتطورىا‪،‬‬
‫بمشكبلت السرد األخرى مف شخصيات وزماف ومكاف‪ ،‬فإف الرواية الجديدة تقوـ عمى‬ ‫ّْ‬ ‫وعبلقتيا‬
‫التشظي والتفكؾ‪ ،‬وتيدؼ إلى تمزيؽ فمسفة الترابط بكؿ مستوياتيا‪ ،‬فالسارد –عمى الرغـ مف‬
‫تعدد الضمائر ‪ -‬يعطي لنفسو الحرية الكاممة في االنتقاؿ بيف المستويات السردية المتداخمة‬
‫المتكررة المتشابكة‪ ،‬فبل يشعر القارئ بأف ىناؾ منطقًا محددًا يحكـ ىذه االنتقاالت‪ ،‬فالرواية‬
‫( ٕ)‬
‫وتعتمد الرواية‬ ‫تتمثؿ في لقطات متناثرة مبعثرة منوعة رامزة حينًا‪ ،‬وغامضة في أحياف أخرى‪.‬‬
‫الجديدة عمى بنية السرد الفسيفسائي‪ ،‬حيث إف فصوؿ الروايات الجديدة ال تعد فصوالً بالمعنى‬
‫المألوؼ‪ ،‬فبل ترابط بينيا وال تسمسؿ‪ ،‬وال سببية في بناء األحدا ث أو حتمية في سموؾ‬
‫الشخصيات‪ ،‬فالفصوؿ منداحة‪ ،‬ويتمتع كؿ منيا باستقبللية كبي ةر لوال الخيوط الباىتة التي تربط‬

‫(ٔ) حركة التجريب في الرواية الفمسطينية مف الستينات حتى عاـ ٘‪ٜٜٔ‬ـ‪ ،‬ص‪ٕٗٚ‬‬
‫(ٕ) انظر‪ ،‬أنماط الرواية العربية الجديدة‪ ،‬ص‪٘ٛ- ٘ٚ‬‬

‫‪136‬‬
‫فيما بينيا‪ ،‬مثؿ وحدة المكاف‪ ،‬وتكرار أسماء الشخصيات‪ ،‬وقمة األحداث الروائية‪ ،‬وىيمنة‬
‫الوصؼ أو الصور الوصفية عمى الصور السردية‪ ،‬مما يؤدي إلى ىيمنة السكوف مقابؿ‬
‫( ٔ)‬
‫وبالتالي‪ ،‬ال تبرز الحبكة في الرواية الجديدة بصورة واضحة كما ىي في الرواية‬ ‫الحركة‪.‬‬
‫التقميدية‪ ،‬ونجد تدرجاً بسيطاً في كؿ فصؿ‪ ،‬فمكؿ أحدوثة حبكتيا الصغرى‪ ،‬وفي النياية تتجمع‬
‫( ٕ)‬
‫وسنعرض لبياف ذلؾ عممياً في روايتنا‬ ‫كالفسيفساء لتبير القارئ ببريقيا ولمعانيا األخاذ‪.‬‬
‫التاريخية (الزيني بركات ‪ -‬والقرمطي وعكا والمموؾ)‪.‬‬

‫تسيطر عمى بنية األحداث في الرواية الجديدة الرؤية الدرامية‪ ،‬إذ إنيا "تقترب في الكثير‬
‫مف خصائصيا الفنية مف التراجيديا الشعرية‪ ،‬والفرؽ األساسي بيف الرواية الدرامية الجديدة‬
‫والرواية االجتماعية القديمة ‪-‬كثبلثية محفوظ مثبلً ‪ -‬أ ف الفعؿ ال الحادثة ىو أساس ىذه‬
‫( ٖ)‬
‫الرواية"‪.‬‬

‫لقد عبرت الرؤية الدرامية عف نفسيا في الرواية العربية الجديدة‪ ،‬بطرؽ وأساليب عديدة‪،‬‬
‫أبرزىا شيوع الرؤية الداخمية الذاتية‪ ،‬واستخداـ ضمير المتكمـ في سرد األحداث‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫استخداـ الرؤية الذاتية إلى جانب الموضوعية؛ لتحقيؽ الرواية ذات األصوؿ المتعددة‪ ،‬إذ يعمد‬
‫معظـ كتاب الرواية اليوـ إلى رؤية األحداث مف منظورات وزوايا مختمفة‪ ،‬بؿ ومتناقضة‬
‫( ٗ)‬
‫مما يعزز دينامية األحداث ودراميتيا‪ ،‬ويفعّْؿ دور القارئ في العممية اإلبداعية‪.‬‬ ‫أحيانًا‬

‫الحدث في الرواية الجديدة يتسـ بالغموض والتعقيد والدرامية‪ ،‬ويقوـ عمى التفكؾ‬
‫والتشويش‪ ،‬والصراع مع الواق ع‪ ،‬مما يجعؿ األحداث في الرواية الجديدة تكتسي الطابع الفكري‬
‫والفمسفي التأممي‪ ،‬وىذا ال يعني أف الرواية الجديدة تخمو مف األحداث التاريخية واالجتماعية‪،‬‬
‫فمو بحثنا في مظاف الرواية الجديدة ذات االتجاه الفكري أو الفمسفي‪ ،‬لوجدناىا تعالج قضايا‬
‫المجتمع واىتماماتو بأسموب مغاير لما جاءت بو معالجة الروايات التقميدية‪ ،‬إذ تضفي طابعاً‬
‫رمزيًا غامضًا يحتاج إلى التأويؿ واعادة النظر والقراءة المعمقة لموصوؿ إلى اليدؼ المنشود مف‬
‫وراء ىذه األعماؿ السردية‪.‬‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬أنماط الرواية العربية الجديدة‪ ،‬صٖ‪ٛ‬‬


‫(ٕ) آفاؽ األدب العربي في فمسطيف‪ ،‬ص‪٘ٙ‬‬
‫(ٖ) قراءات في األدب والنقد‪ ،‬صٕٕٓ‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬قراءات في األدب والنقد‪ ،‬ص‪ٕٓٙ‬‬

‫‪137‬‬
‫ثالثاً‪ :‬التحوالت عمى مستوى الشخصية وتقنيات السرد‪:‬‬

‫إذا كانت الرواية التقميدية تعتني كثي اًر بالمبلمح الخارجية لمشخصية الروائية‪ ،‬وتبال في‬
‫االىتماـ بيا والتعظيـ مف شأنيا؛ إليياـ القارئ بواقعيتيا في الحياة‪ ،‬فإف الرواية الجديدة ال تيتـ‬
‫كثي اًر بتقديـ شخصية كاممة عمى طريقة الرواية التقميدية والواقعية‪ ،‬بؿ إنيا عممت عمى تقزيـ ىذه‬
‫الشخصية‪ ،‬وتحجيميا‪ ،‬والتقميؿ مف شأنيا‪ ،‬حيث "إف بناء الشخصية في الرواية الجديدة منعدـ‬
‫( ٔ)‬
‫أو كالمنعدـ؛ بحيث تذوب مبلمح الشخصية بيف مجاىؿ النص الذي تكتنفو ضبابية كثيفة"‪.‬‬
‫فاإلنساف في الرواية الجديدة فردي‪ ،‬ثوري‪ ،‬وجودي‪ ،‬متمرد‪ ،‬عبثي‪ ،‬فوضوي ال تحكمو التقاليد وال‬
‫المعايير وال القوانيف‪ ،‬الرواية فك ةر أو قضية‪.‬‬

‫والشخصية في الرواية الجديدة كائف ورقي‪ ،‬لـ يحصؿ عمى تمؾ األىمية التي حصؿ‬
‫عمييا في الرواية التقميدية‪ ،‬بحيث ال تشكؿ الشخصية في الرواية الجديدة "إال عنص اًر مف‬
‫العناصر الشكمية والتقنية معاً لمغة الروائية‪ ،‬مثميا في ذلؾ مثؿ الوصؼ والسرد والمناجاة الذاتية‪،‬‬
‫( ٕ)‬
‫وبالتالي‪ ،‬فإف الشخصية الروائية ال تحمؿ الرواية‬ ‫والحوار‪ ،‬والتعامؿ مع الحيز والزمف"‪.‬‬
‫الجديدة وال تكشؼ مضمونيا‪ ،‬فمـ تعد البطولة الفردية واردة في النصوص الروائية الجديدة‪ ،‬بؿ‬
‫ىي رواية ببل بطؿ‪ ،‬رواية لغة وفك ةر بالدرجة األولى‪.‬‬

‫يرى د‪ .‬عبد الممؾ مرتاض أف الشخصية عمى ورقيتيا في العمؿ السردي تمثؿ أىمية‬
‫قصوى في ىذا الجنس األدبي‪ .‬ذلؾ أف المغة مشتركة بيف جميع األجناس األدبية‪ ،‬فيي عمى‬
‫أساسيتيا توجد في كؿ أجناس األدب‪ ،‬فالشخصية ىي الشيء الذي تستميز بو األعماؿ السردية‬
‫عف أجناس األدب األخرى‪ .‬إف ا لشخصية ىي التي تكوف واسطة العقد بيف جميع المشكبلت‬
‫األخرى‪ ،‬حيث إنيا ىي التي تصطنع المغة‪ ،‬وىي التي تبث أو تستقبؿ الحوار‪ ،‬وىي التي‬
‫تصطنع المناجاة‪ ،‬وىي التي تصؼ معظـ المناظر‪ ،‬وىي التي تنجز الحدث‪ ،‬وىي التي تثير‬
‫الصراع‪ ،‬وىي التي تعمر المكاف‪ ،‬وىي التي تتعامؿ مع الزمف فتمنحو معنى جديدًا‪ ..‬فبل أحد‬
‫ً‬
‫( ٖ)‬
‫مف المكونات السردية األخرى يقتدر عمى ما تقتدر عميو الشخصية في حاؿ غيابيا‪ .‬ولكف‬
‫مرت الشخصية‬
‫ذلؾ ال ينفي تطور تعامؿ كتاب الرواية مع الشخصية منذ نشأة ىذا الفف‪ ،‬حيث َّ‬
‫الروائية بثبلث مراحؿ تتمثؿ المرحمة األولى في مرحمة النشأة التي تـ فييا تعظيـ الشخصية‪،‬‬

‫)ٔ( في نظرية الرواية‪ ،‬صٖ‪ٙ‬‬


‫(ٕ) في نظرية الرواية‪ ،‬ص‪ٖٚ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬في نظرية الرواية‪ ،‬ص‪ٗٛ‬‬

‫‪138‬‬
‫وتمتيا المرحمة الثانية بعد الحرب العالمية األولى حيث برز الشؾ في قيمة الشخصية الروائية‬
‫ومدى تمثيميا لمواقع‪ ،‬أما المرحمة األخيرة فقد ظيرت بعد الحرب العالمية الثانية وتـ فييا تقزيـ‬
‫الشخصية الروائية وتمزيقيا في الرواية الجديدة التي رأت أف الشخصية ليست إال مجرد عنصر‬
‫ّْ‬
‫المشكبلت السردية األخرى‪.‬‬ ‫مف عناصر‬
‫( ٔ)‬
‫أما كيفية تقديـ الشخصية عمى مسرح األحداث في الرواية فيي تكوف بأربع طرؽ‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬بوساطة نفسيا‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬بوساطة شخصية أخرى‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬بوساطة رٍاو يكوف موضعو خارج القصة‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬بوساطة الشخصية نفسيا والشخصيات األخرى والراوي‪.‬‬
‫وىذه الطرؽ تمنح الكاتب مرونة في التعبير‪ ،‬وفي اختيار الطريقة المناسبة في التعامؿ مع‬
‫الشخصيات‪.‬‬

‫وحوؿ عبلقة السارد بالشخصية الروائية‪ ،‬فقد أجرت الرواية الجديدة عددًا مف التحوالت‬
‫السردية التي عززت دور الشخصية في مقابؿ ىيمنة الراوي أو السارد كمي المعرفة‪ ،‬حيث برزت‬
‫ديموقراطية الراوي‪ ،‬وتـ إشراؾ الشخصيات في عممية السرد‪ ،‬ولذلؾ قاـ تزفيتاف تودوروؼ ببياف‬
‫عبلقة السارد مع الشخصيات الروائية وفؽ اآلتي‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬السارد > الشخصية ( الرؤية من الخمف)‪ :‬وىذه الصيغة ىي التي يستعمميا السرد‬
‫الكبلسيكي في أغمب األحياف‪ ،‬ويكوف السارد أكثر معرفة مف الشخصية الروائية‪ ،‬فيو يرى‬
‫ما يجري خمؼ الجدراف‪ ،‬وفي داخؿ عقوؿ الشخصيات‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬السارد = الشخصية الروائية ( الرؤية مع)‪ :‬وقد ظير ىذا الشكؿ في األدب في العصر‬
‫الحديث‪ ،‬ومعرفة السارد ىنا تتساوى مع معرفة الشخصية الروائية‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬السارد < الشخصية الروائية ( الرؤية من الخارج)‪ :‬وتكوف معرفة السارد أقؿ مما تعرفو‬
‫( ‪)2‬‬
‫الشخصيات الروائية‪ ،‬وقد يصؼ لنا ما نراه وما نسمعو‪.‬‬

‫(ٔ)‌عالـ الرواية‪ ،‬ص‪ٔ٘ٛ‬‬


‫(ٕ) طرائؽ تحميؿ السرد األدبي (بحث مقوالت السرد األدبي)‪ ،‬ص ‪ٜ٘ - ٘ٛ‬‬

‫‪139‬‬
‫وتيتـ الرواية الجديدة ببناء المبلمح الداخمية لشخصياتيا الروائية أكثر مف المبلمح الخارجية أو‬
‫الجسدية‪ ،‬فتعمؿ عمى كشؼ جوانبيا النفسية‪ ،‬وتتعمؽ فييا‪ ،‬وتتعرؼ عمى بواطنيا ونزعاتيا‬
‫الحقيقية وتناقضاتيا الفكرية‪ ،‬باستخداـ عدد مف التقنيات‪ ،‬مثؿ‪:‬‬
‫‪ - 7‬تيار الوعي‪:‬‬
‫َّ‬
‫شكؿ تيار الوعي اإلرىاصات األولى لمرواية الجديدة‪ ،‬وىو مف أىـ طرقيا وأساليبيا الفنية‪،‬‬
‫وعرفو بأنو جرياف الذىف الذي يفترض فيو‬
‫استعممو ألوؿ م ةر عالـ النفس األمريكي وليـ جيمس َّ‬
‫( ٔ)‬
‫و" رواية تيار الوعي ىي محاولة لتقديـ داخمية الشخصية عمى الورؽ‪،‬‬ ‫عدـ االنتياء واالستواء‬
‫اعتمادا عمى ما نعرفو مف‬
‫ً‬ ‫ككؿ فف روائي‪ ،‬واالقتراب قدر المستطاع إلى محاكاة ىذه الداخمية‬
‫( ٕ)‬
‫وتأثر بمفاىيمو"‪.‬‬
‫اعتمادا عمى كشوفات عمـ النفس الحديث‪ً ،‬ا‬
‫ً‬ ‫أحيانا‬
‫ً‬ ‫عمـ النفس الحديث‪ ،‬وربما‬
‫عرؼ لورنس بولنج تيار الوعي بأنو‪" :‬طريقة السرد التي بواسطتيا يحاوؿ المؤلؼ أف يعطي‬
‫وقد َّ‬
‫( ٖ)‬
‫اقتباساً مباش اًر مف العقؿ‪ ،‬ال مف منطقة المغة فقط‪ ،‬ولكف مف الوعي كمو"‪.‬‬

‫يعد المونولوج الداخمي مف أىـ أساليب تيار الوعي‪ ،‬ويقصد بو حديث اإلنساف مع نفسو‪،‬‬
‫أو ىو ذلؾ النوع مف الحوار الذي يدور في داخؿ النفس اإلنسانية‪ ،‬وقد َّ‬
‫ميز روبرت ىمفري بيف‬
‫نوعيف‪ ،‬أوليما المونولوج المباشر واآلخر المونولوج غير المباشر‪ .‬المونولوج المباشر ىو‪" :‬ذلؾ‬
‫النمط مف المونولوج الداخمي الذي يمثمو عدـ االىتماـ بتدخؿ المؤلؼ‪ ،‬وعدـ افتراض أف ىناؾ‬
‫سامعا‪ .‬وىو يقدـ الوعي لمقارئ بصورة مباشرة‪ ،‬أي إنو يوجد في غياب كمي أو قريب مف الكمي‬
‫ً‬
‫لممؤل ؼ مف القطعة األدبية‪ ،‬فيو موجود فحسب بإرشاداتو المتمثمة في عبارات (قاؿ كذا) و(فكر‬
‫( ٗ)‬
‫أما المونولوج غير المباشر فإنو‬ ‫عمى النحو الفبلني) كما أنو موجود بتعميقاتو اإليضاحية"‪.‬‬
‫إحساسا بحضور المؤلؼ المستمر‪ ،‬في حيف يستغني المونولوج المباشر عف ىذا‬
‫ً‬ ‫"يعطي‬
‫الحضور كمية أو عمى نحو واضح‪ ،‬وفي النوع المباشر منو يستخدـ ضمير المتكمـ‪ ،‬بينما‬
‫( ٘)‬
‫وبكؿ األحواؿ فقد استخدمت‬ ‫يستخدـ ضمير الغائب أو المخاطب في غير المباشر منو"‪.‬‬
‫المونولوجات الداخمية في الرواية الجديدة لمتعبير عف معاناة الشخصيات الروائية‪ ،‬وتعريؼ‬
‫القارئ ببواطنيا وأعماقيا النفسية‪ ،‬وما يدور فييا مف تأمبلت وأفكار وآماؿ وأحزاف دوف تدخؿ‬

‫(ٔ) تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة‪ ،‬ص ‪ٜ‬‬


‫(ٕ) تيار الوعي في الرواية العربية الحديثة‪ ،‬صٔٔ‬
‫(ٖ) نظريات السرد الحديثة‪ ،‬واالس مارتف‪ ،‬ص‪ٔٚ‬‬
‫(ٗ) تيار الوعي في الرواية الحديثة‪ ،‬صٓ‪ٙ‬‬
‫(٘) تيار الوعي في الرواية الحديثة‪ ،‬ص‪ٙٙ‬‬

‫‪141‬‬
‫مف المؤلؼ أو السارد‪ .‬ويعد الكاتب اإلنجميزي جيمس جويس مف كبار الرواد في رواية تيار‬
‫الوعي‪ ،‬خاصة في رواية (يوليسيس) ‪ ،Ulyesses‬ومف أوائؿ الروايات العربية التي استخدمت‬
‫تيار الوعي (المص والكبلب) لنجيب محفوظ التي رصد فييا الحياة الداخمية لشخصية (سعيد‬
‫ميراف) البطؿ الرئيس في الرواية‪ ،‬بعد أف اكتشؼ خيانة أقرب الناس‪ ،‬وتنكرىـ لو إباف خروجو‬
‫مف السجف‪ .‬وتعد رواية (ما تبقى لكـ) لمكاتب الفمسطيني غساف كنفاني مف الروايات األولى‬
‫الكاممة لتيار الوعي‪.‬‬

‫‪ - 6‬أساليب الالوعي (األحالم والكوابيس واليذيان)‪:‬‬

‫ترتبط أساليب البلوعي بالعقؿ الباطف والبلشعور‪ ،‬وىي تعمؿ عمى استكناه باطف اإلنساف‬
‫لمتعرؼ عمى حقيقة مشاعره‪ ،‬وقد استعممت الرواية الجديدة أساليب البلوعي‪ ،‬ومف أبرزىا‬
‫األحبلـ‪ ،‬والكوابيس‪ ،‬واليذياف ‪ .‬وقد أكثرت الرواية الجديدة مف استعماؿ ىذه التقنيات السردية‪،‬‬
‫كونيا تكشؼ بوضوح عف بواطف الشخصيات الروائية وىواجسيا وطرائؽ تفكيرىا‪ ،‬كما أنيا تعبر‬
‫عف الرغبات المكبوتة بداخؿ الشخصيات‪ ،‬وقد يحقؽ اإلنساف في الحمـ ما يعجز عف تحقيقو‬
‫عمى أرض الواقع‪ ،‬والحمـ يعبر عف تصدع وعي الشخصية‪ .‬واذا كانت األحبلـ تكشؼ أحيانًا‬
‫عف آماؿ وطموحات الشخصية في مستقبؿ أفضؿ مف واقعيا المعيش‪ ،‬فإف الكوابيس وحاالت‬
‫اليذياف تكشؼ في الغالب عف انييارات الشخصيات‪ ،‬ومعاناتيا التي تفصميا عف واقعيا‪ ،‬ومف‬
‫الروايات الجديدة التي كثر فييا استخداـ ىذه التقنيات في الكشؼ عف نوازع الشخصيات‬
‫ومعانتيا وآماليا رواية (ثبلثية غرناطة) لرضوى عاشور التي تصور معاناة المسمميف في ظؿ‬
‫حكـ األسباف‪ ،‬بعد انتياء الخبلفة اإلسبلمية في ببلد األندلس‪.‬‬

‫ٖ ‪ -‬تقنية المفارقات‪:‬‬

‫استخدمت الرواية الجديدة تقنية المفارقات بشكؿ كبير في تقديـ شخصياتيا الروائية‪ ،‬مف‬
‫خبلؿ إظيار التناقضات التي تكتنؼ سموؾ شخصيات بعينيا‪ ،‬فالشخصية في الرواية الجديدة‬
‫ليست شخصية مثالية‪ ،‬وليست شخصية كاممة‪ ،‬والشخصيات ذات الصفات المطمقة ترتبط‬
‫بالرواية التقميدية‪ ،‬التي تقسـ الشخصيات إلى خير مطمؽ أو شر مطمؽ‪ ،‬وىذا تقسيـ غير‬
‫منطقي‪ ،‬فالشخصية اإلنسانية مف طبيعتيا االختبلؼ والتغير والتطور‪ ،‬بحيث تظير فييا الكثير‬
‫مف المفارقات أو التناقضات‪ ،‬وىذا ما تسعى الرواية الجديدة إلى إب ارزه‪" .‬والمفارقة في األدب‬
‫قديمة قدـ األدب نفسو‪ ،‬واف اتخذ المصطمح معاني متعددة وعرضت ماىيتيا ووظيفتيا بصي‬
‫وعبارات م ختمفة‪ .‬فػ (االنقبلب) الذي تحدث عنو أرسطو نوع مف أنواع المفارقات‪ .‬و(الفجوة)‪،‬‬

‫‪141‬‬
‫و(الشعرية)‪ ،‬وحتى (األدبية) التي قاؿ جاكبسوف تنطوي عمى مبدأ التضاد والتنافر والتوازي‬
‫والتجاور وعد التوقع‪ .‬أما كمينث بروكس فيرى أف المفارقة ىي جوىر األدب‪ .‬فما يجعؿ مف‬
‫بل أدبيًا ىو المفارقة‪ .‬وتتجمى قوة المفارقة وتأثيرىا مف خبلؿ وظيفتيا األساسية‬
‫العمؿ األدبي عم ً‬
‫( ٔ)‬
‫وتتوافر ىذه التقنية بشكؿ كبير في رواية (الزيني‬ ‫المتمثمة في إعادة التوازف إلى الحياة"‪.‬‬
‫بركات) لجماؿ الغيطاني خاصة في تقديمو لشخصية الزيني بركات‪ ،‬وفي رواية (نير يستحـ في‬
‫بحيرة)‪.‬‬

‫ٗ ‪ -‬تقسيط المعمومات‪:‬‬

‫تخالؼ الرواية الجديدة مف خبلؿ استعماليا ليذه التقنية السردية الحديثة ما اعتاد عميو‬
‫كتاب الرواية التقميدية الذيف كانوا يقدموف شخصياتيـ الروائية إلى القارئ بشكؿ كامؿ (بدنيًا‬
‫ونفسياً ومعرفياً)‪ ،‬حيث تعمؿ الرواية الجديدة عمى إعطاء معمومات مجزأة ومقسطة عف‬
‫الشخصية الروائية؛ بيدؼ تمزيؽ وتدمير ىذه الشخصية‪ ،‬واثارة نوع مف الجاذبية والتشويؽ‪ ،‬تربط‬
‫القارئ بالعمؿ الفني‪ ،‬وتجعمو يستمر في القراءة باحثًا عف أسرار الشخصية وصفاتيا التي لـ‬
‫تكتمؿ بعد أماـ عينيو‪ .‬وقد اتكأ كتاب الرواية الجديدة عمى ىذه التقنية في تقديـ شخصياتيـ‬
‫الروائية‪ ،‬نبلحظ ذلؾ بشكؿ كبير في تقديـ جماؿ الغيطاني لشخصية الزيني بركات‪ ،‬وتقديـ‬
‫أحمد رفيؽ عوض لكؿ مف الخميفة المقتدر‪ ،‬وأبي طاىر القرمطي في رواية (القرمطي)‪.‬‬

‫‪ - 5‬السيرة والوصية والشيادة‪:‬‬

‫دخمت ٍّ‬
‫كؿ مف تقنية السيرة والوصية والشيادة ضمف النسيج الفني لمرواية الجديدة؛ نتيجة‬
‫لتبني الرواية الجديدة لرؤية تعدد األجناس وتداخميا بما يخدـ رؤية الفناف ورسالتو الروائية‪.‬‬
‫والسيرة في الرواية تقدـ بضمير المتكمـ‪ ،‬وقد تكوف السيرة ذاتية أو تمتزج مع ذاتية المؤلؼ كما‬
‫في رواية نير يستحـ في بحير ليحي يخمؼ‪ ،‬وقد تكوف محاكاة لسي ةر غيرية‪ ،‬يسعى الكاتب إلى‬
‫إنطاؽ الشخصية الروائية داخؿ الرواية‪ ،‬وقد تكوف السيرة جماعية (نحف)‪ ،‬والسيرة بشكؿ عاـ‬
‫وسيمة لمعرفة الذات والتعمؽ فييا‪.‬‬

‫أما بالنسبة لموصية‪ ،‬فقد وظفتيا الرواية الجديدة ألىميتيا في السرد‪ ،‬إذ إف ليا بعداً‬
‫داللياً‪ ،‬وجمالياً‪ ،‬ي وىـ القارئ بواقعية الخطاب وتاريخيتو‪ ،‬ويكسبو مصداقية عالية‪ ،‬ألف الوصية‬
‫تكوف عادة مف اآلباء لؤلبناء‪ ،‬أو القادة لمجند‪ .‬والسيرة والوصية تجمياف الخصائص النفسية‬

‫(ٔ) أنماط الرواية العربية الجديدة‪ ،‬صٕٗ‬

‫‪142‬‬
‫لمشخصيات الروائية مف خبلؿ التعرؼ عمى ماضييا‪ ،‬والعوامؿ التي شكمت سموكيا‪ ،‬ودوافعيا‬
‫واتجاىاتيا المختمفة‪ ،‬وىذا ينسجـ مع رؤية الرواية الجديدة التي تيتـ ببياف النواحي النفسية‪.‬‬
‫وتبرز تقنية الوصية في روايات أحمد رفيؽ عوض‪ ،‬مف خبلؿ شخصية أبي طاىر القرمطي‬
‫وىو يسترجع وصايا والده في رواية (القرمطي)‪ ،‬وشخصية عمر الزيف وىو يسترجع وصية والده‬
‫لو وىو ذاىب لمعمؿ مع الصميبييف في رواية (عكا والمموؾ)‪.‬‬

‫تتعرض تقنية الشيادة لذكر بعض أقواؿ ومواقؼ الشخصيات المشاركة في األحداث‪ ،‬أو‬
‫الشخصيات األخرى المراقبة ليا‪ ،‬وىذه التقنية تؤكد رؤية الرواية الجديدة في تعددية الرؤى‬
‫واألصوات داخؿ الرواية‪ ،‬بحيث ال ينفرد بروي األحداث سارد واحد‪ ،‬بؿ أكثر مف سارد‪ ،‬ومف‬
‫زوايا مختمفة‪ ،‬وبالتالي يتقدـ السرد مف خبلؿ تعدد األصوات الروائية‪ ،‬األمر الذي يتوافؽ مع‬
‫ديموقراطية الراوي‪ .‬نممس ىذه التقنية بشكؿ واضح في تقديـ أحمد رفيؽ عوض لشخصية‬
‫الخميفة المقتدر في (القرمطي)‪ ،‬وتقديمو لشخصية صبلح الديف األيوبي في (عكا والمموؾ)‪.‬‬

‫‪ - 2‬الغموض (أسطرة الشخصية)‪:‬‬

‫أضفت الرواية الجديدة عمى بعض شخصياتيا بعداً أسطورياً عجائبياً يتسـ بالغموض‪،‬‬
‫حيث يمارس السرد دوره في تعمية الشخصية الروائية بعدة طرؽ‪ ،‬مثؿ عدـ الكشؼ عف أصوؿ‬
‫الشخصية‪ ،‬ومصادر قوتيا‪ ،‬باإلضافة إلى عدـ تقديـ أي شيء يكشؼ عف حقيقة الشخصية‬
‫وأعماقيا النفسية‪ ،‬كما يتـ إلحاؽ بعض صفات العظمة إلى ىذه الشخصيات‪ ،‬مثؿ قوة‬
‫ظـ ىيبتيا‪ ،‬ونظراتيا المؤثرة في حدتيا وخشوعيا‪ ،‬وعمؽ صوتيا‪ .‬وىذا النمط مف‬ ‫حضورىا‪ِ ،‬‬
‫وع َ‬
‫الشخصيات ال يظير بشكؿ مباشر في الرواية‪ ،‬بؿ مف خبلؿ أحاديث اآلخريف عنو‪ ،‬ثـ إف‬
‫السارد يضفي عمييا ىا لة مف الضبابية تعزز غموضيا وأسطرتيا‪ .‬ويرى الباحث أف ىذا النوع‬
‫مف الشخصيات يثير القارئ ويجعمو متحف اًز لمعرفة معالـ الشخصية التي يقدميا الكاتب‪ ،‬كما أف‬
‫ىذا النوع مف الشخصيات ينسجـ مع بنية الرواية الجديدة التي تعتمد عمى التشظي‪ ،‬والبد أف‬
‫يرتبط بفكرة الرواية ورؤيتيا‪ ،‬باإلضافة إلى أنيا تفتح الشخصيات عمى كثير مف الرموز الواقعية‪،‬‬
‫فالشخصيات غير محددة المعالـ‪ ،‬بمعنى أنيا منفتحة عمى الكثير مف القراءات والتفسيرات‪.‬‬
‫وخير مثاؿ ليذه الشخصية الروائية شخصية الزيني بركات التي صورىا جماؿ الغيطاني في‬
‫روايتو‪ ،‬وشخصية راشد بف سناف التي ذكرىا أحمد رفيؽ عوض في (عكا والمموؾ)‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫الحيز أو المكان‪:‬‬
‫رابعاً‪ :‬التحوالت عمى مستوى ِّ‬

‫َّ‬
‫شكؿ المكاف أو ّْ‬
‫الحيز الروائي أحد أىـ أعمدة البناء الفني لمرواية الجديدة‪ ،‬إذ تنظر إليو‬
‫عمى أنو عنصر مشارؾ وأساسي وفعاؿ في عممية الخمؽ اإلبداعي لمعمؿ الروائي‪ ،‬فمـ يعد مكاناً‬
‫جغرافياً أو بعداً نمطياً واقعياً تقع فيو األحداث وتتحرؾ فيو الشخوص فحسب‪ ،‬بؿ تعدى ذلؾ‬
‫ّْ‬
‫ليعبر عف الفضاء ال روائي بدالالتو الكثي ةر والمتنوعة‪ ،‬مع إعطاء الرؤية النفسية الدور األكبر في‬
‫تشييد المكاف وبناء دالالتو‪ ،‬حيث تنبع شعرية المكاف مف "خصوصية التجربة الذاتية لممبدع‬
‫( ٔ)‬
‫وامكانية تداخميا مع المتخيؿ السردي"‪.‬‬

‫ال تحتوي مضاميف‬


‫بل في البناء القصصي وليس زائدًا‪ ،‬يتخذ أشكا ً‬
‫"يعد المكاف عنص ًار فاع ً‬
‫( ٕ)‬
‫وعمى ىذا األساس فإف‬ ‫عديدة مف خبلؿ انعكاسو عمى عناصر العمؿ القصصي األخرى"‬
‫سبر أغوار المكاف في الرواية الجديدة ال يتـ إال بالنظر إلى عبلقتو مع غي هر مف عناصر العمؿ‬
‫الروائي‪ ،‬عبلقتو بسير األحداث‪ ،‬وبالشخصيات‪ ،‬وبالزمف الروائي‪ ،‬وبالمغة وأشكاؿ السرد‪،‬‬
‫باإلضافة إلى عبلقتو بالقارئ ومدى ارتباطو بالواقع‪ ،‬فإف عبلقتو مع كؿ ىذه العناصر ىي التي‬
‫تحدد وظائفو وتبرز دالالتو‪ .‬ومف الجدير بالذكر أف "المكاف في مظاىره الخارجية لـ يتغير كثي ًار‬
‫في الرواية الجديدة‪ ،‬إنما الذي تغير ىو طريقة النظر ليذ المكاف‪ ،‬وك يفية إشراكو في صمب‬
‫( ٖ)‬
‫النسيج الروائي"‪.‬‬

‫قمما وجدنا أحداً مف كتاب الرواية الجديدة ُيعنى بتصوير مبلمح ّْ‬
‫الحيز أو المكاف الروائي‬
‫فػ"الحيز في الكتابات الروائية الجديدة تقع عميو التعمية بحيث ال ُي َّ‬
‫قدـ إلى المتمقي تقديماً واضحاً‬
‫بل"( ٗ)‪ ،‬وىو يعبر عف رؤية الكاتب التي يرغب في إيصاليا إلى المتمقي مف خبلؿ تداخمو‬
‫شام ً‬
‫مشكبلت السرد األخرى مف لغة وزماف وشخصيات وأحداث‪ ،‬التي تشكؿ‬ ‫وامتزاجو وتقاطعو مع ّْ‬
‫مجتمعة بنية العمؿ الروائي‪ ،‬فبلبد لمحدث الروائي مف مكاف ينمو فيو ويتطور‪ ،‬كما أف العبلقة‬
‫بيف الزماف والمكاف عبلقة وجودية‪ ،‬فبل زماف دوف مكاف‪ ،‬وال حركة لممكاف دوف زماف‪ ،‬وال‬
‫تتشكؿ مبلمح الشخصيات إال في ظؿ مكاف تتحرؾ فيو‪ ،‬كؿ ذلؾ يجعؿ المكاف أكثر حيوية‬

‫(ٔ ) جماليات الكتابة الروائية عند واسيني األعرج (بحث)‪ ،‬صٓ‪ٙ‬‬


‫(ٕ) جماليات المكاف في قصص سعيد حورانية‪ ،‬صٖٔ‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬الرواية العربية الجديدة وخصوصية المكاف (بحث)‪ ،‬ص٘ٗٔ ‪ٔٗٙ-‬‬
‫)ٗ( في نظرية الرواية‪ ،‬ص‪ٖٔٛ‬‬

‫‪144‬‬
‫وفاعمية‪ ،‬بحيث تتجمى مف خبللو قدرة الكاتب عمى التخييؿ والخمؽ واإلبداع ألماكف روائية‬
‫عميقة اإليحاء والداللة‪.‬‬

‫ّْ‬
‫كمشكؿ أساسي لمسرد‪ ،‬وارتبط‬ ‫تطورت الدراسات النقدية العربية في تناوليا لممكاف الروائي‬
‫ىذا التطور بتطور استعماؿ الروائييف لممكاف الروائي‪ ،‬ففي نقد الرواية التقميدية لـ يحظ المكاف‬
‫الروائي باألىمية الكبي ةر التي حصؿ عمييا في النقد الحديث والمعاصر الذي تعرض لدراسة ىذا‬
‫ّْ‬
‫المشكؿ السردي بعناية في محاولة لمتعرؼ عمى أبعاده ودالالتو وأشكالو المتنوعة‪ .‬وقد تأثرت‬
‫الدراسات النقدية العربية في البداية بالدراسات الغربية خاصة كتاب (جماليات السرد) لغاستوف‬
‫باشبلر حيث َّفرؽ بيف المكاف المألوؼ والمكاف غير المألوؼ أو البغيض‪ ،‬وبعد ذلؾ تطور‬
‫الحديث عف المكاف ليتـ بياف عبلقة المكاف بالزماف الروائي‪ ،‬فظير مصطمح (الزمكاف)‪ ،‬ثـ‬
‫ّْ‬
‫(الحيز) وبعضيـ اآلخر‬ ‫اتسع المصطمح مع تطور الدراسات النقدية ليطمؽ عميو بعض النقاد‬
‫(الفضاء) عمى أساس اتساع وشموؿ ىذا المصطمح الذي يظير أثر المكاف عمى جميع‬
‫( ٔ)‬
‫ّْ‬
‫مشكبلت السرد‪.‬‬

‫يعرؼ المكاف الروائي بأنو‪" :‬المكاف المفظي المتخيؿ داخؿ الرواية‪ ،‬أي المكاف الذي‬
‫َّ‬
‫( ٕ)‬
‫أما المكاف الطبيعي فيو‪" :‬المكاف‬ ‫انصياعا ألغراض التخييؿ الروائي وحاجاتو"‪.‬‬
‫ً‬ ‫صنعتو المغة‬
‫( ٖ)‬
‫فالمكاف في الرواية الجديدة لفظي متخيؿ‪ ،‬يحيؿ إلى‬ ‫الحقيقي في الواقع الخارجي المحسوس"‪.‬‬
‫نفسو‪ ،‬وما محاوالت الروائييف تسميتو باسـ حقيقي إال إليياـ القارئ بمصداقية الحوادث‬
‫وواقعيتيا‪.‬‬
‫وقد صنؼ غاستوف باشبلر المكاف الروائي‪ ،‬فتحدث عف المكاف األليؼ‪ ،‬وىو البيت الذى‬
‫يوجد فيو اإلنساف‪ ،‬ثـ تحدث عف المكاف المتناىي في الصغر والمكاف المتناىي في الكبر‪ ،‬وأكد‬
‫أنيما ليسا متضاديف كما يظف البعض‪ ،‬ففي الحالتيف يجب أال نناقش الصغير والكبير بما ىو‬
‫عميو موضوعيًا‪ ،‬بؿ عمى أساس كونيما قطبيف إلسقاط الصور‪ ،‬كما أكد أف اإلحساس بيما‬
‫( ٗ)‬
‫يوجد في داخمنا وليس بالضرو ةر بشيء في الخارج‪.‬‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬جماليات المكاف في النقد األدبي العربي المعاصر (بحث)‪ ،‬صٕٗٔ ‪ٕٔ٘-‬‬
‫(ٕ) بناء الرواية العربية السورية‪ ،‬صٕٔٗ‬
‫(ٖ) بناء الرواية العربية السورية‪ ،‬صٕٔٗ‬
‫(ٗ) جماليات المكاف‪ ،‬صٖٖ‬

‫‪145‬‬
‫ميز غالب ىمسا بيف ثبلثة أنواع لممكاف بحسب‬
‫تفنف الكُتاب في تقسيمات المكاف‪ ،‬فقد ّ‬
‫عبلقة الرواية بو‪ ،‬وىي المكاف المجازي كما في رواية الفعؿ المحض بحيث يشكؿ إطا ًار‬
‫ألحداث الرواية فحسب‪ .‬والمكاف اليندسي‪ ،‬وعنى بو المكاف الذي تعرضو الرواية مف خبلؿ‬
‫وصؼ أبعاده الخارجية بدقة بصرية وحياد‪ ،‬وأخي اًر المكاف المعادي مثؿ مكاف الغربة أو‬
‫( ٔ)‬
‫المنفى‪.‬‬

‫وقسـ حسف بحراوي المكاف الروائي وفؽ ثبلثة مفاىيـ‪ ،‬وىى (التقاطب) وتعنى وجود‬
‫قطبيف متعارضيف في المكاف كاإلقامة واالنتقاؿ‪ ،‬ومفيوـ (التراتب) الذى يتوزع فيو الفضاء إلى‬
‫عدة طبقات أو فئات مكانية وفؽ مبدأ تراتبي معقد‪ ،‬والمفيوـ األخير الذى اعتمده ىو (الرؤية)‬
‫وىو يمدنا بالمعرفة الموضوعية أو الذاتية التي تحمميا الشخصية عف المكاف‪ ،‬وتحيطنا عمماً‬
‫( ٕ)‬
‫واألىـ مف ىذه التقسيمات في نظرنا ىو الوقوؼ عمى‬ ‫بالكيفية التي ندرؾ بيا أبعاده وصفاتو‪.‬‬
‫الحيز في الرواية وعبلقتو مع ّْ‬
‫مشكبلت السرد األخرى‪.‬‬ ‫دالالت وجماليات المكاف أو ّْ‬

‫ال تظير جماليات المكاف الروائي وشعريتو إال مف خبلؿ عبلقتو بالشخصيات اإلنسانية؛‬
‫وبناء عمى ذلؾ‪ ،‬يمثؿ المكاف‬
‫ً‬ ‫ألف المكاف بدوف اإلنساف يكوف جامدًا ال حياة فيو وال روح‪،‬‬
‫حاضنة لموجود اإلنساني‪ ،‬فتقوـ بينو وبيف اإلنساف عدد مف العبلقات واالرتباطات المتبادلة مع‬
‫مرور الزمف‪ ،‬ويظير الدور الفاعؿ لممكاف في التأثير عمى طبائع وأمزجة وسموكيات األشخاص‬
‫الذي يعيشوف فيو‪ ،‬كما يظير أث هر في تطور األحداث‪ ،‬وىو يبرز كشخصية اعتبارية حية فاعمة‬
‫ومؤثرة في إبداع عدد مبدعي الرواية العربية الجديدة‪.‬‬
‫والمكاف في الرواية الجديدة أكبر مف كونو حي ًاز‪ ،‬أو إطا ًار تدور فيو األحداث‪ ،‬إنو‪" :‬كوف‬
‫( ٖ)‬
‫غير أنو ليس مكانًا واقعيًا أو حقيقيًا حتى واف قارب الواقع‬ ‫حقيقي بكؿ ما لمكممة مف معنى"‬
‫والحقيقة‪ ،‬بؿ إنو مكاف شعري خيالي‪ ،‬حيث إف الرواية الجديدة تسعى إلى تفتيت المكاف الواقعي‬
‫الثقافي‪ ،‬وانتاجو بصورة جديدة مغايرة تتحقؽ مف خبلليا الوظيفة الشعرية الجمالية التي تعبر‬
‫عف رؤية الكاتب الفنية والموضوعية‪.‬‬

‫(ٔ)‌ انظر‪‌،‬جماليات‌المكان‌في‌النقد‌األدبي‌العربي‌المعاصر‌(بحث)‪‌،‬ص‪126‬‬

‫(ٕ) انظر‪ ،‬بنية الشكؿ الروائى‪ ،‬صٔٗ ‪ٕٗ-‬‬


‫(ٖ) جماليات المكاف‪ ،‬ص‪ٖٙ‬‬

‫‪146‬‬
‫طرائق تقديم المكان الروائي‪:‬‬

‫‪ - 7‬الوصف‪:‬‬
‫وىو في حد ذاتو ال يشكؿ غاية فنية في الرواية الجديدة‪ ،‬وال ييدؼ إلى تصوير مكاف‬
‫واقعي‪ ،‬إنما ىو وسيمة لخمؽ الفضاء الروائي بشعريتو وجماليتو التي تخدـ رؤية الرواية‬
‫ورسالتيا‪ ،‬وال يتـ ذلؾ إال مف خبلؿ بياف حركة الشخصيات في المكاف‪ ،‬وتفاعميا معو‪ ،‬كما ال‬
‫يتحقؽ إال مف خبلؿ تعدد األمكنة وقياـ عبلقات متواشجة فيما بينيا‪ ،‬مما يسيـ في تطور‬
‫األحداث بشكؿ ي نسجـ مع البناء الفني العاـ لمرواية‪ .‬ووصؼ األماكف في الرواية الجديدة يعبر‬
‫عف رؤية اإلنساف ووجية نظره المتعمقة بالمكاف‪ ،‬وىو بذلؾ يحيؿ إلى مكاف فني خيالي ال‬
‫واقعي موضوعي‪ .‬وقد حددت سي از قاسـ ثبلث وظائؼ رئيسة لموصؼ المكاني ىي‪":‬الوظيفة‬
‫الزخرفية التي قد تحمؿ المعاني والدالالت‪ ،‬والوظيفة التفسيرية التي تكشؼ عف حياة الشخصية‬
‫النفسية‪ ،‬وتشير إلى مزاجيا وطبعيا مف خبلؿ وصؼ مظاىر الحياة الخارجية مف مدف ومنازؿ‬
‫وأثاث وأدوات ومبلبس‪ ،‬أما الوظيفة الثالثة فيي لئليياـ بالواقع‪ ،‬ويشعر القارئ أنو يعيش في‬
‫( ٔ)‬
‫عالـ الواقع ال عالـ الخياؿ"‪.‬‬
‫‪ - 6‬استخدام الصور الفنية‪:‬‬
‫تعمؿ الرواية الجديدة عمى توظيؼ الصورة الفنية كمظير لبياف جماليات المكاف الروائي‬
‫مف منطمؽ لغوي‪ ،‬حيث يعتمد الروائي عمى قدراتو اإلبداعية في خمؽ أماكنو الخاصة‪ ،‬فيتكأ‬
‫بشكؿ كبير عمى الصورة الفنية التي تكوف نتاجاً لفاعمية الخياؿ‪ .‬وال يعني ذلؾ نقؿ العالـ‬
‫الخارجي وتصويره كما ىو‪ ،‬بؿ يعني إعادة صياغتو وتشكيمو؛ لمكشؼ عف عبلقاتو الكامنة‪،‬‬
‫عناصر المتباعدة‪ ،‬وابراز دالالت جديدة غير مألوفة ترتبط‬
‫ه‬ ‫وخصائصو العميقة‪ ،‬والجمع بيف‬
‫بالوجداف والمشاعر اإلنسانية أكثر مما ترتبط بالعناصر الفيزيائية الحسية لممكاف‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإف‬
‫التصوير المغوي إيحاء ال نيائي يتجاوز الصور المرئية لكونو صو ةر فنية‪ .‬حيث "تتمثؿ أىمية‬
‫الصورة الفنية في الطريقة التي تفرض بيا عمينا نوعاً مف االنتباه لممعنى الذي تعرضو‪ ،‬وفي‬
‫الطريقة التي تجعمنا نتفاعؿ مع ذلؾ المعنى‪ ،‬ونتأثر بو‪ .‬إنيا ال تشغؿ االنتباه بذاتيا إال ألنيا‬
‫تريد أف تمفت انتباىنا إلى المعنى الذي تعرضو‪ ،‬وتفجؤنا بطريقتيا في تقديمو‪ .‬ىناؾ معنى‬
‫مجرد‪ ،‬اكتمؿ في غيبة مف الصورة‪ ،‬ثـ تأتي الصو ةر فتحتوي ذلؾ المعنى أو تدؿ عميو‪ ،‬فتحدث‬
‫( ٕ)‬
‫ويرى الباحث أف حرص الروائي عمى خمؽ أماكنو‬ ‫فيو تأثي اًر متمي ًاز‪ ،‬وخصوصية الفتة"‪.‬‬

‫(ٔ) بناء الرواية‪ ،‬صٔ‪ٛ‬‬


‫(ٕ) الصورة الفنية في التراث النقدي والببلغي عند العرب‪ ،‬ص‪ٖٕٛ- ٖٕٚ‬‬

‫‪147‬‬
‫الروائية بصور فنية جديدة يفتح النص عمى عدد مف التفسيرات والقراءات التي يحقؽ مف خبلليا‬
‫رؤيتو الفكرية‪ ،‬وأيديولوجيتو الخاصة في فيـ الحياة‪.‬‬

‫‪ - 4‬توظيف الرمز‪:‬‬
‫اعتمدت الرواية الجديدة كونيا بنية لغوية موحية ومكثفة عمى الرمز بدرجة كبيرة‪ ،‬والحيز‬
‫المشكبلت السردية التي وظفت الرمز الفني في توسيع دالالتيا لتصبح أكثر‬‫ّْ‬ ‫المكاني مف أىـ‬
‫رقيًا وانفتاحًا‪ ،‬وأكثر تأثي ًار في المتمقي بتعدد قراءاتيا‪ ،‬مما أعطى لمحيز المكاني أىمية بالغة‬
‫فارؽ بيا طبيعة المكاف في الرواية التقميدية الذي كاف يقوـ عمى الداللة الجغرافية المباش ةر‬
‫كإطار لؤلحداث فقط ال غير‪ .‬فكممات مثؿ‪ ( :‬القمر‪ ،‬األفعى‪ ،‬األرض‪ ،‬الماء‪ ،‬النار) حاؿ‬
‫توظيفيا داخؿ النص الروائي‪ ،‬ومف خبلؿ ربطيا بدالالت في أصوليا المرجعية األسطورية‬
‫والدينية والشعبية والتاريخية‪ ،‬تكتسب دالالت مزدوجة مثؿ البداية والنياية‪ ،‬الحياة والموت‪ ،‬وىي‬
‫دالالت مغايرة لمدالالت المباشرة ليذه الكممات‪ .‬وكممة (الصحراء) تشير في داللتيا المباش ةر إلى‬
‫مكاف بعينو‪ ،‬إال أنيا في سياؽ النص الروائي قد تحمؿ داللة رمزية ىي الحرية‪ .‬ذلؾ أف‬
‫الصحراء ال تخضع لسمطة أحد‪ ،‬وال يممكيا أحد‪ ،‬وتكوف الدولة وحاكميا بعيدة بحيث ال تستطيع‬
‫أف تمارس قيرىا‪ .‬كما أف ( تحميؽ الطير في السماء) يمكف تفسيره عمى أنو رمز لمحرية واألنا‬
‫األعمى بما تنطوي عميو مف مثالية وأىداؼ نبيمة‪ ،‬و(السماء) في حد ذاتيا يمكف أف تكوف رم اًز‬
‫لبلعتبلء والصعود الروحي والقوة والخمود‪ .‬ذلؾ أف السماء تعد في كثير مف المعتقدات الشعبية‬
‫مق ار لآللية‪ .‬ويمكف أف ترمز (الشمس) إلى الحياة والقوة والخير وكؿ ما ىو طيب‪ ،‬كما أنيا قد‬
‫( ٔ)‬
‫وباإلضافة إلى ذلؾ‪ ،‬تستعمؿ الرواية الجديدة الكثير مف‬ ‫ترمز إلى التسامي والعقؿ واإليماف‪.‬‬
‫العناصر المرتبطة بالمكاف أو الحيز الروائي كرموز فنية‪ ،‬مثؿ أسماء األماكف التي تحيؿ إلى‬
‫معنى معيف‪ ،‬واأللواف بدالالتيا المختمفة‪ .‬وعمى ذلؾ فالمكاف في الرواية الجديدة ينفتح عمى‬
‫مجموعة مف الدالالت الثقافية وال نفسية واالجتماعية والسياسية‪ ،‬والتي ترتبط في الغالب‬
‫بالسياقات التي تُق أر فييا‪ ،‬وبقدرات القارئ الذي يقوـ بعممية القراءة‪ ،‬والذي يسعى إلى الكشؼ‬
‫عف أعماؽ المكاف ودالالتو المتعددة‪.‬‬

‫‪ - 3‬المفارقة‪:‬‬
‫اعتمدت الرواية الجديدة عمى تقنية المفارقة في بنائيا الفني ألماكنيا الروائية‪ ،‬حيث يظير‬
‫التنافر والتقابؿ بيف بعض األماكف‪ ،‬كما تتضح اختبلؼ نظ ةر الشخصيات الروائية وتبايف رؤاىـ‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬أىمية المكاف في النص الروائي(بحث) ‪/http://www.nizwa.com‬‬

‫‪148‬‬
‫الفكرية تجاه أماكف معينة‪ .‬وقد وظفت الرواية الجديدة بعض األماكف واألحياز الروائية التي‬
‫يظير التقابؿ فيما بينيا‪ ،‬مثؿ التقابؿ بيف أماكف األغنياء وأماكف الفقراء‪ ،‬مما يعطي األماكف‬
‫بعدًا اجتماعيًا واقتصاديًا‪ ،‬كذلؾ المقابمة بيف األماكف المغمقة واألماكف المفتوحة‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫المقابمة بيف األماكف األليفة واألماكف البغيضة واختبلؼ مواقؼ الشخصيات مف ىذه األماكف‬
‫مما يمنح المكاف بعداً نفسياً مؤث ًار‪.‬‬

‫كذلؾ تظير المفارق ة في الرواية الجديدة في التعامؿ مع األماكف المقدسة‪ ،‬حيث يتـ‬
‫تصوير المكاف المقدس كفضاء لمحياة اليومية‪ ،‬فيو ال يمثؿ مكاناً لمقداسة فقط‪ ،‬بؿ يكتسب‬
‫صفات جديدة تممييا طبيعة الحياة اليومية‪ ،‬فالحرـ المكي –مثبلً ‪ -‬ال يمثؿ بالنسبة إلى الساكنيف‬
‫بجواره مكاناً لمقداسة والعبادة فقط‪ ،‬إنما يشكؿ مصدر رزؽ لكثير مف الناس( ٔ)‪ ،‬وىنا تبرز‬
‫المفارقة بيف نظرة زائر المكاف بغرض العبادة‪ ،‬ونظرة المقيـ في المكاف المقدس الذي ال ينظر‬
‫إليو مف منظور ديني فحسب بؿ يستثمره ألغراض حياتية‪ .‬كذلؾ تظير المفارقة بيف نظ ةر‬
‫المسمميف لمحرـ المكي‪ ،‬وبيف نظ ةر القرامطة لو في رواية (القرمطي) ألحمد رفيؽ عوض‪.‬‬

‫وقد توظؼ المفارقة المكانية أحيانًا لمتعبير عف حالة االغتراب التي يعيشيا اإلنساف في‬
‫وطنو‪ ،‬فتظير في رواية (نير يستحـ في البحيرة) لمكاتب الفمسطيني يحي يخمؼ رؤية المؤلؼ‬
‫التي يؤكد فييا رفضو لنتاج أوسمو حيث يقوؿ في رواية‪" :‬أنا العائد أقؼ ضائعاً في شارٍع مف‬
‫( ٕ)‬
‫كما تتمثؿ المفارقة في بعض‬ ‫شوارع وطني‪ ،‬أشعر بالغربة والوحدة‪ ،‬أشعر بالرغبة في البكاء"‪.‬‬
‫الروايات في المفارقة بيف اسـ المكاف وواقعو في الخطاب الروائي‪ ،‬فمدينة (القاىرة) –مثبلً ‪ -‬في‬
‫رواية (الزيني بركات) لجماؿ الغيطاني برزت كمدينة ميزومة داخميًا وخارجيًا‪ ،‬مع أف االسـ‬
‫يوحي بخبلؼ ذلؾ‪.‬‬

‫‪ - 5‬إعالل سمطة المكان والتعمق فيو‪:‬‬


‫تعمؿ الرواية الجديدة عمى إعبلء سمطة المكاف‪ ،‬وىي ال تنشغؿ بالبعد الجغرافي لممكاف‬
‫بقدر ما تنشغؿ بإحاالتو ومرجعياتو وما يمكف أف يثي هر في بناء الرواية‪ .‬فػ "جماليات المكاف ليس‬
‫( ٖ)‬
‫باألشياء ذات الطبيعة الكتمية‪ ،‬وانما بما يصدره مف روائح وأصوات دالة عمى حياة كائناتو"‬
‫حيث تبرز سطوة المكاف مف خبلؿ نسبة الشخصيات إليو‪ ،‬ومف خبلؿ بياف أثر األصوات‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬الرواية العربية الجديدة وخصوصية المكاف (بحث)‪ ،‬صٕٗٔ ‪ٕٔ٘-‬‬
‫(ٕ) نير يستحـ في البحيرة (رواية)‪ ،‬ص‪ٕٙ‬‬
‫(ٖ) شعرية المكاف في الرواية الجديدة‪ ،‬ص‪ٗٔٛ‬‬

‫‪149‬‬
‫المرتفعة‪ ،‬أو األصوات الخفيضة عمى الشخصيات‪ ،‬كذلؾ قد يرد الحديث عف بعض الروائح‬
‫التي تميز أماكف معينة وتشكؿ عبلمة ليا مثؿ‪ :‬رائحة القيوة‪ ،‬ورائحة الخمر‪ ..‬وغيرىا‪ .‬كما أف‬
‫استعماؿ الرواية لعناصر الموف يمدنا بصورة مرئية لممكاف‪ ،‬ويسيـ في تكويف دالالتو المتنوعة‪،‬‬
‫"فإذا ما وصؼ الروائي مكانا ما –وليكف البحر مثبلً – مضفياً عمى مياىو المونيف األخضر‬
‫واألزرؽ‪ ،‬وجدنا أف المونيف يعطياف تفسي اًر طبيعياً لممكاف مف حيث أبعاده المسافية‪ ،‬فالموف‬
‫األخضر يرتبط عمى نحو خاص بالمياه القريبة مف الشاطئ والمياه الضحمة‪ ،‬أما الموف األزرؽ‬
‫( ٔ)‬
‫فيرتبط بالمياه البعيدة العميقة"‪.‬‬

‫‪ - 2‬أنسنة المكان‪:‬‬
‫سعت الرواية الجديدة إلى أنسنة أماكنيا الروائية‪ ،‬وذلؾ بإضفاء الصفات اإلنسانية عمى‬
‫بعض األماكف‪ ،‬مما يعكس حاالت الفرح والسعادة‪ ،‬أو الحزف واأللـ‪ ،‬والقمؽ واالضطراب لقاطني‬
‫ىذه األماكف‪ ،‬األمر الذي يظير خصوصية العبلقة بيف الشخصيات واألماكف المختمفة‪ ،‬وأثر‬
‫المشاعر اإلنسانية‪ ،‬والحياة اليومية في تشكيؿ رؤية شاممة لممكاف أو الفضاء النصي‪ ،‬ليؤكد‬
‫عمى عراقة المكاف وحضوره ومشاركتو الفاعمة في بناء النص الروائي‪ ،‬وفي ىذه الحالة يصبح‬
‫المكاف وكأنو شخصية إنسانية رئيسة وفاعمة في العمؿ الروائي‪.‬‬

‫‪ - 1‬أسطرة المكان‪:‬‬
‫تمنح الرواية الجديدة أمكنتيا بعداً أسطورياً‪ ،‬أو قؿ روحاً أسطورية في مسعاىا الحثيث‬
‫مشكبلت أخرى في بناء الرواية‪ .‬ومنحو صفات مختمفة عما تآلؼ‬ ‫لتفعيؿ المكاف واشراكو مع ّْ‬
‫عميو في التمقي‪ ،‬وىي بذلؾ تسعى لتخمصو مف انتماءاتو التقميدية المألوفة وجره نحو‬
‫( ٕ)‬
‫وقد عمؿ الروائيوف الجدد عمى أسطرة أماكنيـ الروائية مف خبلؿ تجريد المكاف‬ ‫البلمألوؼ‪.‬‬
‫مف خصائصو ومبلمحو الواقعية العامة‪ ،‬واضفاء شيء مف الغرابة والعجائبية عميو‪ ،‬مما يفضي‬
‫بو إلى الغموض‪ ،‬الذي يسيـ كثي اًر في أسطرتو‪ ،‬وبعثو في صورة جديدة تستوحي التراث‬
‫وتستميمو؛ ليصبح المكاف رم اًز فنياً محمبلً بعدد مف الدالالت واإلشارات الرمزية متعددة‬
‫القراءات‪ .‬وال شؾ في أف الداللة األسطورية لممكاف تمثؿ في حقيقتيا نوعاً مف اليروب الذي‬
‫يمارسو الروائيوف مف المكاف الواقعي إلى المكاف األسطوري؛ لتحقيؽ رؤاىـ الفنية والموضوعية‪.‬‬
‫ومف الروايات العربية التي عممت عمى أسطرة أماكنيا رواية (مدينة المياه المعمقة) لمكاتب‬

‫(ٔ) أىمية المكاف في النص الروائي(بحث) ‪/http://www.nizwa.com‬‬


‫(ٕ) الرواية العربية الجديدة وخصوصية المكاف (بحث)‪ ،‬ص‪ٔٔٛ‬‬

‫‪151‬‬
‫اليمني محمد مثنى عاـ ‪ٜٔٛٚ‬ـ‪ ،‬ورواية (موقد الطير) لرجاء عالـ عاـ ٕٕٓٓـ‪ ،‬ورواية‬
‫(غير‪ ..‬وغير) لياجر المكي عاـ ٕ٘ٓٓـ‪ .‬وىناؾ أيضًا أسطرة لممكاف في روايتي القرمطي‪،‬‬
‫ونير يستحـ في بحيرة‪.‬‬

‫‪ - 8‬التقنيات السينمائية‪:‬‬
‫استعانت الرواية الجديدة بالتقنيات الفنية الحديثة التي ارتبطت بالسينما‪ ،‬خاصة في أثناء‬
‫تصويرىا لؤلماكف النفسية التي تظير بوضوح في رواية تيار الوعي‪ .‬ومف أىـ التقنيات والوسائؿ‬
‫السينمائية التي استعممتيا الرواية الجديدة تقنية المونتاج‪ ،‬والمقطات البطيئة‪ ،‬واالختفاء التدريجي‪،‬‬
‫والقطع‪ ،‬والتصوير عف قرب‪ ،‬والمنظر الشامؿ‪ ،‬واالرتداد‪" .‬ويشير المونتاج بالمعنى السينمائي‬
‫إلى مجموعة الوسائؿ التي تستخدـ لتوضيح تداخؿ األفكار أو تداعييا‪ ،‬وذلؾ كالتوالي السريع‬
‫( ٔ)‬
‫وقد‬ ‫لمصور‪ ،‬أو وضع صو ةر فوؽ صورة‪ ،‬أو إحاطة صو ةر مركزية بصور أخرى تنتمى إلييا"‪.‬‬
‫وظفت الرواية الجديدة التقنيات السينمائية ألنيا "تستمزـ نوعًا مف الحركة ال يتقدـ بالتقدـ اآللي‬
‫لمساعة‪ ،‬إنيا تستمزـ ‪-‬بدؿ ذلؾ ‪ -‬حركة التنقؿ إلى الخمؼ والى األماـ‪ ،‬حرية مزج الماضي‬
‫والحاضر‪ ،‬والمستقبؿ المتخيؿ‪ .‬وقد أشار دافيد داتشيز إلى طريقتيف في تقديـ ىذا المونتاج في‬
‫القصص‪ ،‬األولى تمؾ التي يمكف لمشخص فييا أف يظؿ ثابتاً في المكاف بينما يتحرؾ وعيو في‬
‫الزماف‪ ،‬ونتيجة ذلؾ ىي المونتاج الزمنى‪ ،‬أي وضع صور أو أفكار مف زمف معيف عمى صور‬
‫أو أفكار مف زمف آخر‪ .‬والطريقة األخرى –بالطبع ‪ -‬أف يبقى الزمف ثابتًا‪ ،‬ويتغير العنصر‬
‫( ٕ)‬
‫المكاني‪ ،‬األمر الذى ينتج عنو المونتاج المكاني"‪.‬‬

‫خامساً‪ :‬التحوالت عمى مستوى الزمان‪:‬‬

‫الزمف الروائي مف أكثر ّْ‬


‫مشكبلت السرد التي جرى عمييا الكثير مف التغيرات في الرواية‬
‫الجديدة‪ ،‬ولذلؾ "تعددت أقواؿ النقاد في الزمف الروائي وتشعبت في الدراسات المعاص ةر بشكؿ لـ‬
‫يسبؽ لو مثيؿ‪ ،‬بعد أف غفمت عنو الدراسات القديمة‪ ،‬أو قؿ لـ تحفؿ بو بشكؿ الئؽ بوصفو أحد‬
‫( ٖ)‬
‫ويرى معظـ النقاد أف الزمف أصبح ىو الشخصية الرئيسة في‬ ‫أىـ مشكبلت العمؿ الروائي"‪.‬‬
‫الرواية المعاصرة؛ وذلؾ بفضؿ اعتمادىا عمى الكثير مف التقنيات الزمنية الحديثة التي تتحكـ‬

‫(ٔ) تيار الوعي في الرواية الحديثة‪ ،‬صٖ‪ٜ‬‬


‫(ٕ) تيار الوعي في الرواية الحديثة‪ ،‬صٗ‪ٜ‬‬
‫(ٖ) مقاربات نقدية‪( ،‬بحث بنية الخطاب والنص في رواية القرمطي)‪ ،‬صٖ‪ٜ‬‬

‫‪151‬‬
‫في عالـ السرد الروائي فػ "األحداث في كؿ نص تسير في زمف‪ ،‬الشخصيات تتحرؾ في زمف‪،‬‬
‫( ٔ)‬
‫الفعؿ يقع في زمف‪ ،‬الحرؼ يكتب ويق أر في زمف‪ ،‬وال نص دوف زمف"‬

‫وقد رفضت الرواية الجديدة الترتيب التاريخي المنتظـ لؤلحداث الذي يعتمد عمى التسمسؿ‬
‫الزمني في الرواية التقميدية‪ ،‬واتكأت عمى الزمف الدائري والمتذبذب أو المتشظي في مسا هر‬
‫السردي‪ ،‬وال شؾ في أف العبث بالزمف وتكسير تراتبيتو ليس سوى حيمة مف أىـ الحيؿ الفنية في‬
‫تدؿ عمى حالة مف القمؽ والتوتر الذي يتوافؽ مع األساليب والتقنيات‬‫الرواية الجديدة التي ُّ‬
‫السردية الحديثة التي تعمؿ عمى تعويـ الزمف كاالسترجاع‪ ،‬واالستباؽ‪ ،‬والقطع الصادـ‪،‬‬
‫واالنتقاالت المفاجئة ‪ ،‬والتداعي‪ ،‬والمونولوج الداخمي وغير ذلؾ مف التقنيات التي تحيمنا إلى‬
‫الزمف النفسي‪ ،‬في مقابؿ الزمف الواقعي والحقيقي؛ ولذلؾ ال تكتمؿ األحداث في تسمسميا الزمني‬
‫إال في نياية القراءة‪ ،‬ل يعاد ترتيبيا في مخيمة القارئ‪.‬‬

‫ال شؾ في أف تعدد مظاىر الزمف في الرواية الجديدة‪ ،‬وتنوع وظائفو‪ ،‬وأشكالو‪ ،‬ودالالتو‬
‫جعؿ الباحثيف يمضوف وقتاً طويبلً في سبيؿ التعرؼ عمى ماىية الزمف الروائي‪ ،‬الذي يسيـ في‬
‫تصعيد الحدث‪ ،‬وتطويره‪ ،‬ويرسـ الجو النفسي لمشخصيات‪ .‬فالزمف عنصر أساسي في السرد‬
‫الروائي‪ ،‬ويترتب عميو عناصر التشويؽ واالستمرار‪ ،‬وليس لمزمف وجود مستقؿ في الرواية‪ ،‬وانما‬
‫يتخمميا كميا‪ ،‬حيث لـ يعد الزمف في الرواية الجديدة مجرد خيط وىمي يربط األحداث بعضيا‬
‫ببعض‪ ،‬ويؤسس لعبلقات الشخصيات بعضيا مع بعض‪ ،‬ويظاىر المغة عمى أف تتخذ موقعيا‬
‫في إطار السيرورة‪ ،‬ولكنو اغتدى أعظـ مف ذلؾ شأناً‪ ،‬وأخطر مف ذلؾ ديدناً‪ ،‬إذ أصبح‬
‫( ٕ)‬
‫الروائيوف الكبار يعنتوف أنفسيـ أشد اإلعنات في المعب بالزمف‪.‬‬

‫وقد قسـ الباحثوف الزمف الروائي إلى ثبلثة أنواع‪ ،‬ىي‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬األزمنة الخارجية‪ :‬وتتمثؿ في زمف القص‪ ،‬وزمف الكتابة‪ ،‬وزمف القراءة‪ .‬أما زمف‬
‫القص فيو الزمف التاريخي في بيانو لعبلقة التخييؿ بالواقع‪ .‬أما زمف الكتابة فيو الظروؼ التي‬
‫كتب فييا الروائي‪ ،‬والمرحمة الثقافية التي ينتمي إلييا‪ .‬وأما زمف القراءة فيو زمف استقباؿ القارئ‬
‫لمعمؿ الفني‪ ،‬وىو الذي يعطي النص تفسيراتو‪.‬‬

‫(ٔ) إيقاع الزمف في الرواية العربية المعاصرة‪ ،‬صٓ٘‬


‫(ٕ) في نظرية الرواية‪ ،‬صٖ‪ٜٔ‬‬

‫‪152‬‬
‫ٕ ‪ -‬األزمنة الداخمية‪ :‬وتتمثؿ في زمف النص‪ ،‬وىو الزمف الداللي الخاص بالعالـ‬
‫التخييمي‪ ،‬ويتعمؽ بالفترة التي تجري فييا أحداث الرواية حيث يقسـ الكاتب أزمانو‪ ،‬ويوزعيا‬
‫حسب ما تمميو الشخصيات واالحداث‪.‬‬

‫ٖ ‪ -‬األزمنة التخييمية‪ :‬وتتعمؽ بزمف الشخصيات في الرواية حيث يمكف تقسيمو إلى أزمنة‬
‫ثبلثة‪ :‬الماضي والحاضر والمستقبؿ‪ ،‬فالماضي الروائي ىو حاضر الكاتب‪ ،‬والحاضر ىو أكثر‬
‫( ٔ)‬
‫وجودا في العمؿ الروائي‪ ،‬واستخداـ المستقبؿ قميؿ في العمؿ الروائي‪.‬‬
‫ً‬ ‫األزمنة‬

‫ولعؿ أشير وأوضح تقسيمات الزمف الروائي ما ورد عف تودوروؼ الذي ذىب إلى أف‬
‫الرواية تضـ ثبلثة أصناؼ مف األزمنة وىي‪ :‬زمف القصة وىو الزمف التاريخي الصرفي الواقعي‬
‫المنتظـ‪ ،‬وزمف الخطاب الروائي أي الزمف النفسي التخيمي المرتبط بعالـ الرواية‪ ،‬وزمف النص‬
‫( ٕ)‬
‫الذي يتعرض لزمنيف ىما زمف الكاتب‪ ،‬وزمف القارئ‪.‬‬

‫اختمؼ مفيوـ الزمف في الرواية الجديدة عنو في الرواية التقميدية‪ ،‬فإذا كاف الزمف في‬
‫الرواية التقميدية ُيعنى بالماضي فحسب‪ ،‬فإنو أصبح في الرواية الجديدة ُيعنى بالزمف الحاضر‪،‬‬
‫التم ّقي أو القراءة‪ ،‬ذلؾ أف تماىيًا قد حدث بيف زمف المغامرة أو القصة المحكية‪ ،‬وزمف‬
‫وبزمف ّ‬
‫الكتابة أو السرد‪ ،‬وزمف القراءة‪.‬‬

‫الػػزمف‪ ،‬ذلػػؾ الش ػػيء الزئبقػػي ال ػػذي يصػػعب اإلمسػػاؾ ب ػػو‪ ،‬نشػػعر بوج ػػوده‪ ،‬ونحػػس وطأت ػػو‬
‫عمينا‪ ،‬ندركو بعقولنا‪ ،‬وال نستطيع إدراكو بحواسنا‪ ،‬يمكننا أف ندرؾ آثػا هر التػي يعتقػد الػبعض أنيػا‬
‫الػػزمف‪ ،‬فػػنحف نسػػتطيع أف نبلحػػظ حركػػة عق ػػرب الث ػواني فػػي السػػاعة‪ ،‬بينمػػا ال تسػػتطيع الع ػػيف‬
‫المدققة أف تبلحظ حركة عقرب الساعات بالدقة والسرعة نفسيا التي نبلحظ فييا عقرب الثواني‪.‬‬
‫و"في كؿ حاؿ ال نرى الػزمف بػالعيف المجػردة‪ ،‬وال بعػيف المجيػر أيضػًا‪ ،‬ولكنػا نحػس آثػا هر تتجمػى‬
‫( ٖ)‬
‫فينا‪ ،‬وتتجسد في الكائنات التي تحيط بنا"‪.‬‬
‫تيػػتـ الروايػػة الجديػػدة بػػالزمف النفسػػي (الس ػػيكولوجي) بدرجػػة كبي ػ ةر مقارنػػة بغي ػ هر مػػف أنػ ػواع‬
‫وأقساـ الزمف الطبيعية أو الفيزيائية والتاريخية‪ ،‬وقد نتج ىذا عف اىتماـ الرواية الجديدة بالكشؼ‬
‫عػف األعمػاؽ النفسػية لئلنسػاف مػػف خػبلؿ اسػتعماليا لمتقنيػات الزمنيػػة الحديثػة مثػؿ تيػار الػػوعي‪،‬‬
‫واسػترجاع الػػذكريات‪ .‬ويػرى (منػػدالو) إف األزمنػة تتعػػدد بتعػدد النفػػوس التػي تػػدرؾ الػزمف وأنػػو ال‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬فضاء النص الروائي‪ ،‬صٖٕٔ ‪ٕٔ٘-‬‬


‫(ٕ ) انظر‪ ،‬إيقاع الزمف في الرواية العربية المعاصرة‪ ،‬ص‪ٜٗ‬‬
‫(ٖ) في نظرية الرواية‪ٔٚٔ ،‬‬

‫‪153‬‬
‫( ٔ)‬
‫والػزمف النفسػي "زمػف نسػبي داخمػي يقػدر بقػيـ متغيػ ةر باسػتمرار‪،‬‬ ‫يوجد زمف تشترؾ فيو نفسػاف‪.‬‬
‫بعكس الزمف الخارجي الذي يقاس بمعايير ثابتة‪ ،‬فميس مف الضروري أف تمثؿ ساعة واحدة قد ًار‬
‫مسػػاويًا مػػف النش ػػاط ال ػواعي كسػػاعة أخ ػػرى‪ ،‬الوقػػت السػػيكولوجي يتغي ػػر كثي ػ ًار تبع ػًا لمظ ػػروؼ‪ ،‬إذ‬
‫( ٕ)‬
‫يسير الزمف بخطى مختمفة تبعاً الختبلؼ األشخاص"‪.‬‬
‫وبعػد أف كػػاف الػػزمف فػػي الروايػػة التقميديػػة زمن ػاً خطي ػاً فقي ػ ًار‪ ،‬أصػػبح فػػي الروايػػة الحديثػػة‬
‫متكسػ اًر يتػػوزع بػيف عػػدة أزمنػة‪ ،‬ينتشػػر ويتػداخؿ وكأنػػو يػرفض توزيػػع الػزمف إلػػى مػاض وحاضػػر‬
‫ومستقبؿ‪ ،‬مما أثر عمى أسموب القص الروائي بحيث أصبحت المقطة المشيدية سمة مف سمات‬
‫( ٖ)‬
‫ىذا األسموب‪.‬‬
‫وقػد أدى تطػػور الروايػة الجديػػدة إلػى ازديػػاد قيمػػة الحاضػر بالنسػػبة لمروائػي‪ ،‬والػػى تطػػور‬
‫كتػػاب‬
‫واضػح فػي طػػرؽ معالجػة الػػزمف وابتكػار أسػػاليب وتقنيػات جديػدة لمتعبيػػر عنػو‪ ،‬حيػػث لجػأ ّ‬
‫الروايػػة الجدي ػػدة إل ػػى اس ػػتخداـ الفع ػػؿ المض ػػارع ب ػػدالً م ػػف الماض ػػي‪ ،‬وربم ػػا يع ػػود اس ػػتخداـ ال ػػزمف‬
‫( ٗ)‬
‫الحاضر في السرد الحديث إلى السينما التي ال تعرؼ إال زمناً واحداً ىو الزمف الحاضر‪.‬‬
‫إف ما يميز تعامؿ الرواية الجديدة مع الزمف الروائي ىو تبلعبيا بو والعمؿ عمى تكسي هر‬
‫وتفتيتو‪ ،‬فالروائي غير ممزـ بالحفاظ عمى الخط الطبيعي لمزمف‪ ،‬بؿ إنو يتحرر مف قيد الزمف‬
‫التراتبي‪ ،‬فيبدأ السرد مف نقطة يختارىا بنفسو‪ .‬وتسير أحداث الرواية‪ ،‬وشخصياتيا عبر عدة‬
‫أزمنة متداخمة‪ ،‬ومتشابكة دوف أف يختؿ البناء الروائي‪ ،‬وقد استمزـ الغوص في األزمنة المختمفة‬
‫استخداـ عدة تقنيات زمنية حديثة‪ ،‬تعمؿ عمى إنارة خمفيات األحداث‪ ،‬وكشؼ ماضي‬
‫الشخصيات‪ ،‬والتنبؤ بمستقبميا‪ ،‬لعؿ أىـ ىذه التقنيات ىي المفارقات الزم نية (االسترجاع‬
‫واالستباؽ) التي يعتمد عمييا كتاب الرواية الجديدة في تحقيؽ الزمف الدائري‪.‬‬

‫يمثؿ (االسترجاع أو االستذكار) العودة إلى الوراء عند (جينيت)‪ ،‬واإلخبار البعدي عند‬
‫(فاينريش)‪ ،‬وىو يشير إلى أحداث سبؽ لمسرد أف تركيا جانبًا ثـ اتخذت االستذكار وسيمة‬
‫وسد الفراغ الذي حصؿ في القصة‪ ،‬أو العودة إلى أحداث سبقت إثارتيا‪ ،‬تك ار ًار‬
‫لتدارؾ الموقؼ ّ‬
‫يفيد التذكير‪ ،‬أو لتغيير داللة بعض األحداث السابقة‪ .‬واالسترجاع ثبلثة أنواع‪ :‬استرجاع خارجي‬
‫ٍ‬
‫الحؽ لبداية الرواية‪ ،‬واسترجاع‬ ‫ٍ‬
‫ماض‬ ‫يعود إلى ما قبؿ بداية الرواية‪ ،‬واسترجاع داخمي يعود إلى‬

‫(ٔ) الزمف والرواية‪ ،‬ص٘‪ٚ‬‬


‫(ٕ) الزمف والرواية‪ ،‬ص‪ٖٔٛ – ٖٔٚ‬‬
‫(ٖ) الراوي الموقع والشكؿ‪ ،‬صٕٗٔ‬
‫(ٗ) بناء الرواية‪ ،‬ص ‪ٕٛ‬‬

‫‪154‬‬
‫مزجي يجمع بيف النوعيف السابقيف‪ )ٔ (.‬كما ُيعنى (االستباؽ أو االستشراؼ) بالقفز إلى األماـ‪ ،‬أو‬
‫اإلخبار القبمي‪ ،‬وىو كؿ مقطع حكائي يروي أحداثًا سابقة عف أوانيا‪ ،‬أو يمكف توّقع حدوثيا‪.‬‬
‫وعمى المستوى الوظيفي تعمؿ ىذه االستشرافات بمثابة تمييد أو توطئة ألحداث الحقة‪ ،‬أو‬
‫التكيف بمستقبؿ إحدى الشخصيات‪ ،‬كما أنيا قد تأتي عمى شكؿ إعبلف عما ستؤوؿ إليو‬
‫( ٕ)‬
‫مصائر الشخصيات‪ ،‬مثؿ اإلشارة إلى احتماؿ زواج أو مرض أو موت بعض الشخصيات‪.‬‬
‫وتمعب المفارقات الزمنية ما بيف الحاضر‪ ،‬والماضي‪ ،‬والمستقبؿ دو اًر رئيساً في تخطيب السرد‬
‫وترىينو عمى مستوى األحداث والشخصيات؛ ليبدو مستم اًر وفاعبلً وحيوياً حتى المحظة الراىنة‪.‬‬

‫بناء عمى ما سبؽ يمكننا ذكر أىـ خصائص الرواية الجديدة فيما يأتي‪:‬‬
‫ً‬
‫ٔ ‪ -‬تسعى الرواية الجديدة إلى مغايرة السائد والمألوؼ‪ ،‬وىي بذلؾ تحاوؿ التغمب عمى‬
‫معطيات الواقع وتسعى لمتخمص مف مشاكمو بطرؽ غير منطقية تتساوؽ مع واقعو غير‬
‫المنطقي‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬تعددية الرؤى واألصوات الروائية‪ ،‬حيث يتـ الجمع بيف صوت الراوي التقميدي كمي‬
‫المعرفة‪ ،‬والراوي المشارؾ في األحداث‪ ،‬باإلضافة إلى تعبير الشخصيات الروائية عف‬
‫أوجاعيا وآالميا النفسية بشكؿ مباشر‪ ،‬عبلوة عمى إشراؾ القارئ باستخداـ ضمير‬
‫المخاطب‪ ،‬األمر الذي يعكس العبلقة الحميمة التي تربط بيف المؤلؼ والسارد والمتمقي‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬التحديث في المغة واألساليب واألدوات مف خبلؿ إزالة الحواجز وتبلشي الحدود بيف‬
‫األجناس األدبية والفنية والتعبيرية‪ ،‬مما يؤدي إلى انفتاح النص‪ ،‬واثارة فكرة ال نيائية‬
‫القراءات حيث الطبيعة الزئبقية والدالالت المتعددة‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬تقوـ الرواية الجديدة عمى التشظي‪ ،‬واالمتزاج والتداخؿ المتبلحؽ بيف مكونات العمؿ‬
‫الروائي مف شخصيات وأزمنة وأمكنة وأحداث‪ ،‬حيث يتـ الجمع بيف األفكار والرؤى‬
‫المتناقضة التي تبرز عنصر المفارقة بشكؿ كبير‪.‬‬
‫٘ ‪ -‬عمم ت الرواية الجديدة عمى تدمير الشخصية الروائية والتقميؿ مف شأنيا‪ ،‬فيي لـ تعد‬
‫ّْ‬
‫تقدـ نموذجاً متفرداً بالبطولة تدور حولو جؿ األحداث كما كاف يحدث في الرواية‬
‫التقميدية أو الواقعية‪ ،‬بؿ أصبحت البطولة موزعة عمى جميع الشخصيات‪ ،‬كما أسيمت‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬شعرية الخطاب السردي‪ ،‬ص‪ٔٔٓ- ٜٔٓ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬شعرية الخطاب السردي‪ ،‬صٓٔٔ ‪ٔٔٔ-‬‬

‫‪155‬‬
‫كؿ مكونات السرد في بمورة األحداث وتشكيميا وتطويرىا ولـ يقتصر ذلؾ عمى‬
‫الشخصيات‪.‬‬
‫‪ - ٙ‬االعتماد عمى دائرية الزمف التي تمنح الروائي الحرية الكاممة في التبلعب بالزمف‬
‫الروائي وتكسير انتظامو وتراتبيتو؛ لمتعبير عف رؤية الكاتب الفنية تجاه العالـ الخارجي‪.‬‬
‫‪ - ٚ‬االىتماـ بالمشاىد التصويرية والمؤشرات الزمان ية والمكانية بعبلقاتيا ودالالتيا المتعددة‪،‬‬
‫والتي تكوف مشاركة بفاعمية في إثراء السرد وتطور األحداث‪.‬‬
‫‪ - ٛ‬استمياـ التاريخ واألسطورة‪ ،‬وخمؽ عوالـ عجائبية وفنتازية وغرائبية في الشكؿ والمعنى‬
‫والرؤى عمى السواء‪.‬‬
‫‪ - ٜ‬توظيؼ التقنيات السينمائية الحديثة مثؿ الفبلش باؾ‪ ،‬والمقطات المتماوجة‪ ،‬والمشاىد‬
‫المتوازية والمتقابمة‪ ،‬والمونتاج‪ ،‬والربورتاج‪.‬‬
‫ٓٔ‪ -‬االعتماد عمى الرمز بدرجة عالية في كؿ المستويات لغوياً وشخصياً وزمانياً ومكانياً‪.‬‬

‫ىذه بعض أىـ خصائص وسمات الرواية الجديدة‪ ،‬وأحسب أنيا ستتضح أكثر في دراستنا‬
‫التطبيقية التي تقارب عدداً مف الروايات الجديدة التي استعممت التاريخ موضوعاً لمرواية؛ لتقديـ‬
‫فكرة جديدة‪ ،‬ومعالجة قضية معيشة‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫حتوالت امرواية امتارخيية يف ظل امرواية اجلديدة‬

‫‪157‬‬
‫تأثرت الرواية التاريخية في األدب العربي بما َّ‬
‫جد مف تقنيات فنية حديثة ومتطورة ارتبطت‬
‫ال جػادًا نحػو إقػرار مزيػد مػف األدبيػة‪،‬‬
‫بمدرسة الرواية الجديدة‪ ،‬حيث تحولت الرواية التاريخية تحو ً‬
‫التػي تسػػتخدـ التػاريخ كمػػادة خػاـ لغايػػات إبداعيػة صػػرفة‪ ،‬تيػدؼ إلػػى نقػد الػػذات‪ ،‬واالسػتفادة مػػف‬
‫أخطاء وتجارب الماضي‪ ،‬واستكناه المستقبؿ‪ ،‬عف طريؽ استثمار التقنيات السردية الحديثة التي‬
‫تستخدميا الرواية الجديدة‪ ،‬كؿ ذلؾ وفؽ رؤية فنية إسقاطية تربط الماضي بالحاضر‪.‬‬

‫وبػػذلؾ ظي ػػر الجي ػػؿ الثال ػػث لمرواي ػػة التاريخي ػػة الػػذي تبن ػػى االتجاى ػػات الجدي ػػدة ف ػػي كتاب ػػة‬
‫الروايػػة‪ ،‬وم ػػف أش ػػير رواده جمػػاؿ الغيط ػػاني ص ػػاحب رواي ػػة (الزينػػي برك ػػات) س ػػنة ٗ‪ ٜٔٚ‬الت ػػي‬
‫تعالج ظاى ةر الخوؼ والقمع واالستبداد السائدة في المجتم ع العربي المعاصػر فػي إطػار تػاريخي‪.‬‬
‫وكػذلؾ رضػوى عاشػػور وروايػة (ثبلثيػة غرناطػػة) سػنة ٗ‪ ٜٜٔ‬والتػي لخصػػت فييػا ىزيمػة العػػرب‬
‫في األندلس‪ ،‬فأرخت لميزيمة بواقعيا المرير‪ ،‬وكاف في ذلؾ إسقاطًا لمواقع العربي المعػيش‪ .‬ومػف‬
‫رواد ىذا الجيؿ أيضًا عبد الرحمف منيؼ صاحب رواية (أرض السواد) سنة ‪ ٜٜٜٔ‬التي تطرقت‬
‫لتاريخ العراؽ خبلؿ النصؼ األوؿ مف القرف التاسع عشر‪ ،‬وأعادت تشكيمو بنظ ةر فنية جديدة‪.‬‬

‫ومػف المبلحػػظ اآلف انتشػػار الروايػػة التاريخيػة فػػي أنحػػاء الػػوطف العربػي كاف ػة‪ ،‬حيػػث نجػػد‬
‫يوس ػػؼ زي ػػداف م ػػف مص ػػر فػ ػػي رواي ػػة (عزازي ػػؿ) س ػػنة ‪ ٕٓٓٛ‬والتػ ػػي تعي ػػدنا إل ػػى الق ػػرف الخػ ػػامس‬
‫المػػيبلدي‪ ،‬عق ػػب تبنػػي اإلمبراطوري ػػة الرومانيػػة لممس ػػيحية‪ ،‬وتصػػور الصػ ػراع المػػذىبي ب ػػيف آب ػػاء‬
‫الكنيسػػة مػػف ناحيػػة والمػػؤمنيف الجػػدد والوثنيػػة المتراجعػػة مػػف ناحيػػة أخػػرى‪ .‬ونجػػد كػػذلؾ واس ػػيني‬
‫األع ػرج م ػػف الج ازئػػر ف ػػي روايػػة (كت ػػاب األميػػر مس ػػالؾ أب ػواب الحدي ػػد) سػػنة ٕ٘ٓٓ والت ػػي ت ػػدور‬
‫أحػداثيا عػف األميػػر عبػد القػادر بػػف محيػي الػديف الج ازئػػري الػذي قػاـ بمقارعػػة االحػتبلؿ الفرنسػػي‬
‫لمج ازئ ػػر ف ػػي منتص ػػؼ الق ػػرف التاس ػػع عش ػػر‪ ،‬وى ػػي م ػػع ذل ػػؾ تتن ػػاوؿ الوض ػػع العرب ػػي واإلس ػػبلمي‬
‫والعالمي الراىف بوضوح‪ .‬ونجد أيضاً بنسالـ حميش والذي يعد مف أبرز كتػاب الروايػة التاريخيػة‬
‫ف ػػي المغ ػػرب العرب ػػي ف ػػي روايػ ػػة (ى ػػذا األندلس ػػي) س ػػنة ‪ ٕٓٓٚ‬والتػ ػػي تمث ػػؿ صػ ػراع المثق ػػؼ مػ ػػع‬
‫السمطة‪ ،‬مف خبلؿ تناوؿ سي ةر المتصوؼ األندلسي ابف سبعيف‪ ،‬الذي تعرض لمكثيػر مػف األذى‬
‫والظمػـ‪ ،‬نتيجػة معارضػتو لمسػمطة الحاكمػة فػػي محاولتػو تغييػر الواقػع واصػبلحو‪ .‬وال شػؾ أف ىػػذه‬
‫الرواية تعكس واقع المثقؼ العربي في صػراعو مػع السػمطة الحاكمػة فػي عصػرنا الحاضػر‪ ،‬ومػف‬
‫الجػػدير بالػػذكر أف (ىػػذا األندلسػػي) ىػػي الرواي ػػة التاريخيػػة الثالثػػة ل ػػحميش بعػػد روايتػػي (مجن ػػوف‬
‫و(العبلمة) سنة ‪ .ٜٜٔٚ‬وقد ظير في ليبيا أيضاً الكاتب والروائي الشػيير‬
‫ّ‬ ‫الحكـ) سنة ٓ‪،ٜٜٔ‬‬
‫إب ػراىيـ الك ػػوني ال ػػذي كت ػػب الكثي ػػر م ػػف الرواي ػػات الت ػػي وظ ػػؼ فيي ػػا الت ػػاريخ ألغػ ػراض حض ػػارية‬

‫‪158‬‬
‫وعصرية‪ ،‬منيا رواية (جنوب غرب طروادة جنوب شرؽ قرطاجة) سنة ٕٔٔٓ‪ ،‬وروايػة (يوسػؼ‬
‫ببل إخوتو) سنة ‪ ،ٕٓٓٛ‬ورواية (يعقوب وأبناؤه) سنة ‪.ٕٓٓٚ‬‬

‫إضافة إلى ذلؾ برز الكاتب الفمسطيني أحمد رفيؽ عوض والذي يعود إلى التاريخ في‬
‫روايتي (القرمطي) سنة ٕٔٓٓ و(عكا والمموؾ) سنة ٖٕٓٓ؛ ليبيف لنا فساد الحكـ الناتج عف‬
‫ضعؼ وفساد الحاكـ‪ ،‬بنموذج مقتبس مف العصر العباسي في الرواية األولى‪ ،‬ثـ المواجية‬
‫‌‬ ‫الحضارية بيف الشرؽ والغرب في الرواية األخرى‪.‬‬

‫إذا كاف النقد التقميدي ييتـ بمدى مقاربة الرواية التاريخية لمتاريخ‪ ،‬ويتخذىا أساساً لمحقيقة‪،‬‬
‫فينظر إلى مدى حرص الكاتب عمى تبني الحقيقة التاريخية‪ ،‬حيث كانت الرواية التاريخية‪،‬‬
‫بل لحياة األشخاص تحت بعض الظروؼ التاريخية‪ ،‬لذلؾ نجد أف الرواية عند النقاد‬
‫سج ً‬
‫التقميدييف تختزؿ أماـ التاريخ‪ ،‬فيي تصب في قالبو‪ ،‬إنيا تخدـ التاريخ كما ىو الحاؿ عند‬
‫جديدة لعرض التاريخ بأسموب مشوؽ‪ ،‬وعمى ىذا‬
‫ً‬ ‫جورجي زيداف‪ ،‬وما كانت الرواية إال طريقةً‬
‫األساس كاف يتـ محاكمتيا‪.‬‬
‫تطور ىذا المفيوـ في تناوؿ الروائييف والنقاد الواقعييف لمتاريخ‪ ،‬بحيث كاف يسمح بالخروج‬
‫عمى الحقيقة التاريخية‪ ،‬ليس خروجًا تامًا ولكف بما يسمح بظيور الفف الروائي‪ ،‬وأصبحت الرواية‬
‫أكثر فني ًة مف المرحمة األولى‪ ،‬بحيث يتـ تقديـ الفف الروائي عمى الحقيقة التاريخية‪ ،‬عبلوة عمى‬
‫أف الرواية التاريخية عممت عمى تصوير الحاضر مف خبلؿ الماضي‪ ،‬أو بمعنى آخر عممت‬
‫عمى إسقاط الماضي التاريخي عمى الحاضر الواقعي‪ ،‬وقد وجدنا ذلؾ في روايات نجيب‬
‫محفوظ‪ ،‬وعمي أحمد باكثير‪.‬‬
‫إذا حظي التاريخ في الرواية بجؿ اىتماـ الجيؿ التقميدي مف الروائييف والنقاد‪ ،‬فإف الرواية‬
‫ُّ‬
‫وتشكؿ ىذا التاريخ روائياً كانا الشغؿ الشاغؿ لمنقاد الحداثييف‪ .‬وعمى عكس النظرة التقميدية‬
‫لمرواية التاريخية أضحى التاريخ في الرواية الجديدة خادماً لمرواية‪ ،‬وأصبحت الرواية الجديدة‬
‫تستعمؿ التاريخ وتوظفو ألغراض روائية بحتة‪ ،‬وىي ال تمتزـ بالماضي‪ ،‬وقد وضح ذلؾ مف‬
‫خبلؿ ذكر تعريفات النقاد الحداثييف لمرواية التاريخية في بداية الدراسة‪ ،‬حيث كانوا َيتَحدوف‬
‫سمطة التاريخ‪ ،‬ويمنحوف الروائي الحرية التامة في التصرؼ بالمادة التاريخية بتغميب عنصر‬
‫الخياؿ الفني وتجاوز التاريخ بالحذؼ والتقديـ والتأخير وفؽ تقنيات سردية حديثة تجعؿ مف المغة‬
‫مقوماً رئيساً لمرواية‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫إف أىـ ما يشغؿ الرواية الجديدة التي تستعمؿ التاريخ ىو مدى تعبيرىا عف فكرتيا‬
‫ورؤيتيا وفؽ أسس لغوية سردية ال وفؽ إطار التاريخ‪ ،‬إنيا توظؼ الماضي وتستعممو لمتعبير‬
‫عف الحاضر‪.‬‬
‫ليست الرواية الجديدة وثيقة تاريخية يعتمد عمييا الباحثوف في التوثيؽ لمتاريخ‪ .‬والحدث‬
‫التاريخي ال ينفصؿ عف نسيج الرواية الذي ال يبني قواعده عمى أسس تاريخية بقدر ما يبث‬
‫الروائي في تضاعيفو إبداعاً وخياالً فػ "معموـ لدى مؤرخي الرواية ونقادىا أف الرواية التاريخية‬
‫عرض في نسيج تشكيميا خب اًر ألحداث وقعت بالفعؿ‪ ،‬فإف ىذا الخبر يكتسب بوجوده في‬ ‫عندما تَ ِ‬
‫البناء الروائي بعدًا فنيًا يختمؼ عف المعنى الذي يشير إليو ىو ذاتو بيف سياؽ كتاب في‬
‫( ٔ)‬
‫التاريخ"‪.‬‬
‫لقد انتقؿ النقاد في الرواية الجديدة مف التركيز عمى ماىية المادة التاريخية المقدمة‬
‫سردت بيا ىذه المادة‪ ،‬وقُّْدمت مف خبلليا لمقارئ‪ ،‬أما‬
‫ووصفيا‪ ،‬إلى التركيز عمى الكيفية التي ُ‬
‫المتخيؿ فمـ يعد تمؾ الحكاية الخيالية أو القصة الغرامية التي ينسجيا الروائي مف وحي خيالو‬
‫مع مادتو التاريخية ليكوف روايتو‪ ،‬وانما أضحى المادة السردية المنجزة التي تنشأ مف خبلؿ‬
‫العبلقة النشيطة والخبلقة مع حدث ما‪ ،‬وتعطيو امتدادات كبي ةر في الزمف والمكاف‪ ،‬وتخرجو مف‬
‫( ٕ)‬
‫الوثوقية إلى اليشاشة والنسبية‪.‬‬
‫إف الرواية الجديدة ال تعتمد عمى الحقيقة التاريخية‪ ،‬وال تتكئ عمييا‪ ،‬بؿ إف الحقيقة التي‬
‫تتسيدىا ىي حقيقة السرد التي تنشأ مف فعؿ الكتابة‪ ،‬إنيا تستعمؿ المادة التاريخية‪ ،‬وتجعميا‬
‫سردًا يفقدىا زمنيا األولي الحقيقي‪ ،‬ويمنحيا زمنًا جديدًا‪ ،‬يعبر الكاتب مف خبللو عف فكرتو‬
‫ورؤيتو المعاصرة‪ .‬ومف ىنا يظير دور القارئ الذي يربط بيف ما يطرحو الروائي مف خبلؿ‬
‫توظيفو واستعمالو لممادة التاريخية وبيف أحداث الحاضر لتتـ عممية سرد الحدث التاريخي داخؿ‬
‫نسيج النص الروائي‪ ،‬التي تقوـ بدورىا "بمحو الحدود والفواصؿ وتؤسس ٍ‬
‫لعالـ ينتفي فيو التاريخ‬
‫كحقيقة‪ ،‬وتحيؿ الرواية بذلؾ إلى ذاتيا‪ ،‬عمى الرغـ مف حفاظيا عمى بعض عبلمات التاريخ‬
‫كإحاالت إيياميو في األغمب األعـ تقرب القارئ مف عالـ يعرفو أو يحسو‪ ،‬أي التاريخ الذي لـ‬
‫( ٖ)‬
‫ويرى‬ ‫يعد تاريخًا بالمعنى العممي لمك ممة‪ ،‬جراء فعؿ الكتابة والسرد المتممص مف الحقائؽ"‪.‬‬
‫سعيد يقطيف أف "التشابو بيف الذات والتاريخ في األعماؿ السردية الجديدة ينبئ بأف ىناؾ تحوال‬

‫(ٔ) نقد الرواية في األدب العربي الحديث في مصر ‪ ،‬ص ‪ٜ٘‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬مفيوـ الرواية التاريخية في النقد الروائي في سورية‪ ،‬رسالة ماجستير‪ ،‬صٗ٘‬
‫(ٖ) الرواية التاريخية أوىاـ الحقيقة (بحث)‪ ،‬ص‪ٜ‬‬

‫‪161‬‬
‫عمى صعيد الوعي بالكتابة‪ .‬يتأسس ىذا التحوؿ عمى قاعدة أف الرواية يمكف أف تكوف في آف‬
‫واحد نوعًا أو نصًا‪ ،‬وأنيا ال تتحدد عمى قاعدة "المادة الحكائية" التي تتخذىا أساسًا لبنائيا‬
‫( ٔ)‬
‫الخطابي"‪.‬‬
‫إف نقاد الرواية الجديدة ال يشرعنوف استخداـ مصطمح "الرواية التاريخية"‪ ،‬فإذا كاف ىذا‬
‫المفيوـ ينسجـ مع الرواية التقميدية التي تسعى إلى تقديـ التاريخ‪ ،‬فإنو ال ينسجـ مع الرواية‬
‫الجديدة التي تستعمؿ التاريخ روائياً؛ ألف تسجيؿ التاريخ وتوثيقو ليس مف مياميا‪ ،‬بؿ إنيا‬
‫تستعمؿ المادة التاريخية‪ ،‬وتضفي عمييا الكثير مف أشكاؿ الخياؿ الفني؛ لمتعبير عف رؤية‬
‫كاتبيا الفكرية والحضارية‪ .‬ولذلؾ يمكف لمروائي أف يضيؼ إلى األحداث الحقيقية الكثير مف‬
‫األحداث المتخيمة‪ ،‬ويمكنو أيضًا أف يحذؼ منيا الكثير مف األحداث‪ ،‬كما أف بمقدوره إبداع‬
‫وخمؽ شخصيات جديدة تسيـ في تطور الحدث الروائي‪ ،‬وىو يصؼ المشاعر واألحاسيس‬
‫الخاصة والعامة‪ ،‬وال ينقؿ األصؿ الحقيقي‪ ،‬بؿ ينقؿ صورة معدلة عنو‪ ،‬وقد ال تكوف ليا صمة‬
‫بالواقع التاريخي أصبلً‪ .‬فال رواية التي تستعمؿ التاريخ ال ييميا مقدار االرتباط بالتاريخ مف‬
‫عدمو‪ ،‬إف الذي ييميا بالدرجة األولى ىو الفكرة والقضية التي تسعى إلثاراتيا مف خبلؿ العودة‬
‫إلى حقبة تاريخية معينة‪.‬‬
‫ولذلؾ رفض كتاب الرواية الجديدة التي تستعمؿ التاريخ‪ ،‬وصؼ رواياتيـ بالتاريخية‪ ،‬وىـ‬
‫ي طمقوف عمييا (رواية) فحسب‪ .‬وقد رفض جماؿ الغيطاني صاحب رواية (الزيني بركات) وصؼ‬
‫روايتو بالتاريخية‪ .‬ورغـ أف الرواية تعتمد عمى مرجعية تاريخية حقيقية‪ ،‬فإف كاتبيا لـ يعدىا‬
‫صرح في شياداتو بأنو لـ يكتب الزيني بركات كرواية تاريخية‪ ،‬ثـ إنيا ال‬
‫رواية تاريخية‪ ،‬حيث َّ‬
‫ت عتبر كذلؾ في كؿ المغات التي ترجمت إلييا‪ ،‬إذ لـ يعامميا أحد عمى أنيا رواية تاريخية‪ ،‬إنما‬
‫عوممت عمى أساس أنيا رواية ضد القمع وضد قير اإلنساف في أي زماف ومكاف‪ )ٕ (.‬كما رفض‬
‫عبد الرحمف منيؼ وصؼ روايتو (مدف الممح) بالتاريخية أيضاً‪ ،‬إذ يقوؿ‪" :‬أما مدف الممح‪ ،‬فميس‬
‫س يبل أف نطمؽ عمييا رواية تاريخية‪ ،‬ونكتفي بيذه التسمية‪ ،‬ألف أحداثيا وتأثيرات ىذه األحداث‬
‫( ٖ)‬
‫التزاؿ تجري أماـ أنظارنا‪ ،‬أي اآلف وعمى امتداد المنطقة العربية"‪.‬‬

‫(ٔ) الرواية التاريخية وقضايا النوع األدبي (بحث) ‪http://www.nizwa.com/articles.php?id=2462‬‬


‫(ٕ ) انظر‪ ،‬الزيني بركات لجماؿ الغيطاني بيف التخييؿ التاريخي والتأصيؿ التراثي‬
‫‪http://www.arabicnadwah.com/bookreviews/ghitany-hamadaoui.htm‬‬
‫(ٖ) الرواية التاريخية وقضايا النوع األدبي (بحث) ‪http://www.nizwa.com/articles.php?id=2462‬‬

‫‪161‬‬
‫واذا ارتبط التاريخ بالواقع‪ ،‬وكاف مقيداً بحدود مف الزماف والمكاف ال يستطيع االنفصاـ‬
‫عنيا‪ ،‬فإف الرواية تتجاوز حدود الزماف والمكاف‪ ،‬وتنطمؽ إلى آفاؽ أرحب‪ ،‬وأبعد مف ىذه‬
‫( ٔ)‬
‫بكثير‪.‬‬
‫عمـ التاريخ يتعامؿ مع األحداث عمى أنيا تؤرخ لحياة المموؾ والحكاـ فقط‪ ،‬دوف االلتفات‬
‫إلى تاريخ الشعوب‪ ،‬واسياميا في صنع الحضارة‪ ،‬واألصؿ أف تتـ كتابة التاريخ؛ ليعطينا صورة‬
‫حية صادقة عف طب يعة الحياة الشعبية "فالتاريخ ىو تاريخ الشعوب ‪-‬صانعة الحضارة ‪ -‬قبؿ أف‬
‫يكوف تاريخ المموؾ والحكاـ‪ ..‬والتاريخ ىو الحضارة اإلنسانية نفسيا بما فييا مف فنوف وعمراف‬
‫( ٕ)‬
‫وىذا ما نجده في الرواية التي تستعمؿ التاريخ‪ ،‬إذ إنيا تيتـ بتصوير معاناة وآالـ‬ ‫وثقافة"‪.‬‬
‫الفئات الشعبية البسيطة والميمشة‪ ،‬وتكشؼ عف ىموميا‪ ،‬وتفاصيؿ حياتيا‪ .‬وعمى ىذا األساس‬
‫فسوؼ تعطينا الرواية إذا ما استندت عمى التاريخ مادة روائية ثمينة‪ ،‬وتجربة إنسانية عميقة؛‬
‫ألنيا ستكوف معبرة عف طبيعة المجتمع وما فيو مف قيـ‪ ،‬وما يواجيو مف مشاكؿ تشغمو وتؤرقو‪،‬‬
‫كؿ ىذا يتـ عرضو في ثوب فني جميؿ‪.‬‬
‫ويرى الباحث أف التصور الذي يمصؽ الرواية بالتاريخ كاف سائدًا في النقد التقميدي‬
‫لمرواية التاريخية التقميدية‪ ،‬التي كانت أكثر تعالقًا مع التاريخ‪ ،‬في مقابؿ الرواية الجديدة التي‬
‫استعممت التاريخ كمادة خاـ يستثمرىا الروائي في تأكيد رؤيتو ورسالتو الفكرية‪ ،‬مف خبلؿ دمجيا‬
‫في النسيج السردي لمرواية‪ ،‬الذي يمنحيا صورة مغاي ةر لصورتيا األصمية‪ ،‬وفي ىذه الحالة ال‬
‫يمكف تحميؿ الرواية الجديدة عند جماؿ الغيطاني‪ ،‬وأحمد رفيؽ عوض‪ ،‬ورضوى عاشور‪..‬‬
‫وغيرىـ بالرجوع إلى التاريخ‪ ،‬أو الشخصية التقميدية والحدث‪ ،‬وذلؾ ألنيا رواية (فك ةر ولغة)‪.‬‬

‫وفي المباحث القادمة سنحاوؿ التعرؼ عمى أىـ تحوالت الرواية التاريخية الجديدة عمى‬
‫مستوى الشكؿ الفني والمضموف الروائي عند كؿ مف جماؿ الغيطاني في رواية الزيني بركات‪،‬‬
‫ورضوى عاشور في رواية في رواية ثبلثية غرناطة‪ ،‬وأحمد رفيؽ عوض في روايتي القرمطي‬
‫وعكا والمموؾ‪.‬‬
‫‌‬

‫‌‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬في نظرية األدب (مف قضايا الشعر والنثر في النقد العربي الحديث)‪ ،‬الجزء الثاني‪ ،‬ص‪ٜٔٚ‬‬
‫(ٕ) أدباء ومواقؼ‪ ،‬ص‪ٗٚ‬‬

‫‪162‬‬
‫المبحث األول‬

‫الغيطاني والرواية التاريخية الجديدة في الزيني بركات‬

‫ُيعد جماؿ الغيطاني أحد أبرز كتاب الرواية التاريخية الجديدة‪ ،‬حيث إنو أسيـ بشكؿ كبير‬
‫في تطور نظ ةر كتاب الرواية إلى ما يسمى (الرواية التاريخية)‪ ،‬وكيفية استعماؿ التاريخ لمعالجة‬
‫قضايا العصر خاصة في رواية (الزيني بركات) التي حظيت منذ صدورىا عاـ ٗ‪ٜٔٚ‬ـ باىتماـ‬
‫نقدي كبير؛ ألنيا شكمت نقمة نوعية في عالـ الرواية التاريخية‪ ،‬عمى مستوى الشكؿ والمضموف‬
‫في آف واحد‪ ،‬حيث فارقت بشكؿ جذري الرواية التاريخية التقميدية التي تعاممت مع التاريخ‬
‫كمرجع في روايات جورجي زيداف‪ ،‬وتجاوزت المحاكاة الفنية الواقعية واسقاط الماضي عمى‬
‫الحاضر كما في روا يات نجيب محفوظ وعمي أحمد باكثير‪ .‬واستعممت التاريخ‪ ،‬ومسرحتو‪ ،‬مف‬
‫خبلؿ الترىيف والتخطيب‪ ،‬حتى أصبحت الرواية ذات دالالت فكرية ورؤى متعددة‪ ،‬وفتحت‬
‫النص عمى الكثير مف القراءات التي تتصؿ بالماضي والحاضر والمستقبؿ ضمف زمف دائري‪،‬‬
‫يعمؿ عمى ترىيف المحظة التاريخية ‪ ،‬باستخداـ عدد مف التقنيات السردية الحديثة التي تقوـ عمى‬
‫رؤية جديدة في التعامؿ مع التاريخ وأحداثو وشخصياتو وأماكنو المختمفة‪.‬‬

‫التحوالت الموضوعية‪:‬‬

‫لعؿ أىـ التحوالت الموضوعية التي أضافيا الغيطاني عمى الرواية التاريخية‪ ،‬والتي لـ‬
‫يتطرؽ ليا أحد قبمو ىو إثارتو وتناولو لموضوع الحكـ الدكتاتوري القمعي التسمطي الذي يجعؿ‬
‫مف البص ومراقبة الناس ونقؿ أخبارىـ وسيمة وغاية في آف واحد‪ ،‬ىذا النظاـ المخابراتي الذي‬
‫ال يتورع عف فع ؿ أي شيء في سبيؿ الحفاظ عمى بقائو في السمطة‪ ،‬حيث تُعد رواية الزيني‬
‫بركات مف الروايات العربية البارزة التي عالجت ظاىرة القمع والخوؼ‪ ،‬ووقفت عمى أسبابيا‪،‬‬
‫ائيا يتسـ بالظمـ والقير وانعداـ‬
‫عالما رو ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫وبينت مظاىرىا المرعبة‪ ،‬ونتائجيا الفظيعة‪ ،‬فقدمت ً‬
‫األمف‪ ،‬ويمتمئ بالفساد واالنحراؼ واالستبداد السياسي‪ ،‬الذي قاد إلى اليزيمة في الماضي وما‬
‫زاؿ يقود العالـ العربي إلى اليزائـ المتتالية في الزمف الحاضر‪.‬‬

‫اتكػػأ السػػارد فػػي تصػػوي هر لظ ػػاى ةر القمػػع والحكػػـ الجبػػري التس ػػمطي الػػذي يعػػاني منػػو الع ػػالـ‬
‫العربي عمى التاريخ‪ ،‬فاستوحى مف أحداث التاريخ الممموكي شخصػية الزينػي بركػات بػف موسػى‬
‫كرمػػز لمظم ػػـ والفس ػػاد والمك ػػر وال ػػدىاء‪ ،‬إذ تص ػػور الرواي ػػة نياي ػػة حك ػػـ الممالي ػػؾ لمص ػػر ف ػػي عي ػػد‬
‫السػػمطاف قنصػػوة الغػػوري‪ ،‬فتبػػدأ بػػذكر اليزيمػػة النك ػراء التػػي لحقػػت بالمماليػػؾ فػػي أثنػػاء تصػػدييـ‬

‫‪163‬‬
‫لمجيش العثماني سنة ٕٕ‪ ٜ‬ىػ‪ ،‬ثـ تعود لتعرض األحداث التي أدت إلى وقوع ىذه اليزيمة حيث‬
‫تـ عزؿ عمي بف أبي الجود المحتسب القديـ بسبب فسػاده وظممػو لمرعيػة‪ ،‬وصػدر قػرار سػمطاني‬
‫ػي ورٍع‬ ‫بتعيػػيف الزين ػػي بركػػات محم ػػو سػػنة ٕٔ‪ ٜ‬ى ػ ػ والػػذي أظيرت ػػو الروايػػة ف ػػي البدايػػة كإنس ػػاف تق ػ ٍّ‬
‫وحػػريص عمػػى نشػػر العػػدؿ والقض ػػاء عمػػى الظمػػـ‪ ،‬لدرجػػة أنػػو رف ػػض منصػػب الحسػػبة خوف ػاً م ػػف‬
‫معصػية اهلل والوقػػوع فػي ظمػػـ النػاس‪ ،‬ولػػـ يقبمػو إال بضػػغط الجمػاىير عميػػو‪ ،‬وبطمػب مػػف الشػػيخ‬
‫الصالح العالـ بالفروع واألصوؿ أبو السػعود الجػارحي‪ ،‬ثػـ ينكشػؼ بعػد ذلػؾ مػف خػبلؿ الممارسػة‬
‫الفعميػ ػػة الوجػ ػػو الحقيقػ ػػي القبػ ػػيح لمزينػ ػػي بركػ ػػات‪ ،‬حيػ ػػث يتعػ ػػاوف مػ ػػع زكريػ ػػا بػ ػػف ارضػ ػػي –رئػ ػػيس‬
‫البصاصػيف ‪ -‬والػػذي كػاف رم ػ ًاز لمظمػػـ والفسػاد‪ ،‬فيعينػػو نائب ػًا لػو ويمػػارس اإلثنػػاف معػًا ميػػاـ الػػبص‬
‫ومراقبة الناس وقمعيـ وتعػذيبيـ بػدنيًا ونفسػيًا‪ ،‬بحجػة الحفػاظ عمػى أمػف الػببلد والػدفاع عنيػا ضػد‬
‫المتربصيف والمتآمريف عمييا‪ ،‬وتتوالى األحداث في ظؿ ىذا الجو الدرامي المشحوف الذي يمتمئ‬
‫بالكثير مف صور القمع والعذاب التي يتعرض ليا الناس حتى نصػؿ إلػى اليزيمػة البشػعة والتػي‬
‫تتمثؿ في دخوؿ العثمانييف مصر وانتياء حكـ المماليؾ فييا‪.‬‬
‫وفي أثناء عرض الرواية ألشكاؿ القمع والتعذيب المتنوعة ذكرت أىـ وسائؿ األنظمة‬
‫القمعية في التأثير عمى الجماىير والسيطرة عمييا باالعتماد الكبير عمى سياسة الكذب والتضميؿ‬
‫اإلعبلمي‪ ،‬فيي تمتيف صناعة الوىـ‪ ،‬والمعب بعواطؼ الجماىير ومشاعرىـ الوطنية‪ ،‬والتأثير‬
‫عمييـ عف طريؽ استغبلؿ الحس الديني في الييمنة عمى العقوؿ والسيط ةر عمييا‪ .‬يبدو ذلؾ مف‬
‫خبلؿ المغة التي تستخدميا السمطة الحاكمة في ُخطبيا ومراسيميا ونداءاتيا العامة التي تظير‬
‫العدؿ والحرص عمى المصمحة العامة واألمر بالمعروؼ والنيي عف المنكر لكنيا في الواقع‬
‫تفعؿ خبلؼ ذلؾ‪ .‬ومف أمثمة التضميؿ اإلعبلمي إظيار نتائج التحقيؽ مع عمي بف أبي الجود‬
‫وبياف امتبلكو الكثير مف األمواؿ والذىب والعقارات دوف ذكر كيفية الحصوؿ عمى ىذه‬
‫( ٔ)‬
‫ومف‬ ‫المعمومات‪ ،‬مع التأكيد عمى االبتعاد عف تعذيب البدف أو حرقو مع أف الواقع غير ذلؾ‪.‬‬
‫أشكاؿ ا ستغبلؿ الحس الديني لمتأثير عمى الناس حرص الزيني بركات عمى التردد والمقاء مع‬
‫الناس في المسجد‪ ،‬والمقطع اآلتي مف إحدى خطاباتو يظير ذلؾ‪:‬‬

‫"اعذروني إذا رويت لكـ فيما رويت بعض أسرار بيتي‪".‬‬

‫أنتـ أخوتي ‪ ..‬يا أخوتي‪..‬‬

‫ىؿ سرقت واحداً منكـ؟؟‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬الزيني بركات(رواية)‪ ،‬صٖٔٔ ‪ٖٕٔ-‬‬

‫‪164‬‬
‫(تآلفت الحناجر‪ ..‬تسد الفراغ‪)..‬‬

‫حاشا هلل‪..‬‬

‫ىؿ أتيت فاحشة؟؟‬

‫ال‪..‬‬

‫ىؿ ظممت واحدًا منكـ؟؟‬


‫( ٔ)‬
‫وتداخمت األصوات‪ .‬عمت‪ ،‬رأيت ابف موسى يشير بيديو‪...‬الخ‪.‬‬

‫لقد فضحت ىذه الرواية بشكؿ واضح وعمني أساليب ووسائؿ الحجر والقمع الفكري‬
‫والجسدي والنفسي التي تعتمد عمييا األنظمة الفاشية المستبدة‪.‬‬

‫لقد اختمفت نظرة جماؿ الغيطاني ورؤيتو الفكرية عف رؤية كُتّاب الرواية التاريخية‬
‫السابقيف‪ ،‬فإذا كانت غاية جورجي زيداف مف العودة إلى التاريخ تعميمية‪ ،‬واذا كانت غاية محمد‬
‫كؿ مف نجيب محفوظ وعمي أحمد‬ ‫فريد أبو حديد إحياء األمجاد العربية‪ ،‬واذا ارتبطت أفكار ٍّ‬
‫باكثير بالواقع فاستوحت التاريخ بغرض توجيو الشعب ضد االستعمار ومقاومة االحتبلؿ‬
‫األجنبي‪ ،‬فإف استعادة جماؿ الغيطاني لفترة مف أشد فترات التاريخ الممموكي قتامة ىي فت ةر‬
‫اليزيمة لـ تكف إال ترىيناً لمحظة التاريخية التي يعيشيا‪ ،‬في محاولة لربط أسباب ودواعي‬
‫اليزيمة التاريخية في زمف المماليؾ باليزيمة المعاصرة لمصر الناصرية أماـ الكياف الصييوني‬
‫عاـ ‪ ٜٔٙٚ‬ـ؛ ليكشؼ مف خبلليا عف فساد النظاـ السياسي الحاكـ‪ ،‬ويفضح سياساتو القمعية‬
‫الظالمة‪ ،‬وأساليبو المضممة الخادعة التي أوصمت إلى اليزيمة المحققة‪ .‬فالتاريخ في ذاتو لـ يكف‬
‫ىدفاً عند الغيطاني‪ ،‬بؿ إنو أضحى وسيمة وقناعاً ورم اًز فنياً لمتعبير عف حياة القمع والقير‬
‫السياسي الذي تعرض لو الشعب المصري في العيد الناصري وفي ذلؾ يقوؿ جماؿ الغيطاني‪:‬‬
‫"عانينا مف الرقابة في الستينيات وأسموب التعامؿ البوليسي‪ .‬وأتصور أف ىذا كاف أحد أسباب‬
‫عبلقتي القوية بالتاريخ‪ .‬كنت ميمومًا بالبحث في تاريخ مصر‪ ،‬وبقراءة ىذا التاريخ خاصة الفترة‬
‫الممموكية‪ ،‬التي وجدت تشابيًا كبي ًار بيف تفاصيميا وبيف الزمف الراىف الذي نعيش فيو‪ .‬وأنا‬
‫عندما أقوؿ الفترة الممموكية‪ ،‬أعني الفت ةر الممموكية التي كانت مصر فييا سمطنة مستقمة تحمي‬
‫البحريف والحرميف‪ .‬وقد انتيت ىذه السمطنة في عاـ ‪ ٔ٘ٔٚ‬بيزيمة عسكرية كبي ةر في مرج دابؽ‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬صٖٕٓ‬

‫‪165‬‬
‫شماؿ حمب بيزيمة المماليؾ أماـ األتراؾ العثمانييف‪ .‬وعندما طالعت مراجع شيود العياف الذيف‬
‫ذىمت مف تشابو الظرؼ بيف ىزيمة ‪ ٙٚ‬واألسباب التي أدت إلييا وبيف ىزيمة‬
‫ُ‬ ‫عاشوا ىذه الفترة‪،‬‬
‫القرف السادس عشر‪ .‬وأوصمني ىذا فيما بعد إلى ما يمكف أف يسمى باكتشاؼ وحدة التجربة‬
‫( ٔ)‬
‫اإلنسانية في مراحؿ كثي ةر مف التاريخ"‪.‬‬

‫ال شؾ في أف استدعاء اليزيمة مف الحدث التاريخي واسقاطيا عمى ىزيمة مصر الواقعية‬
‫عاـ ‪ ٜٔٙٚ‬ـ ال يعني أف ذلؾ ىو نياية المطاؼ‪ ،‬وليس المقصود منو اليأس أو االستسبلـ‬
‫"ىزمت مصر‬‫لؤلمر الواقع‪ ،‬بقدر ما فيو مف دعوة إلى التفكر والفيـ والنيوض مرة أخرى‪ ،‬فقد ُ‬
‫الممموكية سنة ‪ ، ٔ٘ٔٚ‬واحتميا العثمانيوف ليفرضوا عمييا مئات السنيف مف االنحطاط‪ ،‬ومع ذلؾ‬
‫لـ تكف تمؾ اليزيمة نياية المسي ةر التاريخية لحياة الشعب المصري‪ ..‬مصر التي ىمكت قامت ثـ‬
‫ضربت ثـ قامت ثـ ىا ىي تُضرب مرة أخرى‪ .‬ىكذا يسمح لنا البعد الزمني برؤية ىذه المحظة‬
‫ُ‬
‫القاتمة في سياؽ ممتد مف الظممة والضوء‪ ،‬مف االنكسار واإلنجاز‪ ..‬وفي حيف تـ تجاوز‬
‫اليزيمة األولى‪ ،‬لـ يتـ بعد تجاوز اليزيمة الثانية‪ .‬والسند الذي يستمده الغيطاني مف موازاة‬
‫المحظتيف والذي يريد أف ينقمو إلى قرائو‪ ،‬ىو إمكانية تجاوز ىذه اليزيمة في تاريخنا المعاصر‬
‫( ٕ)‬
‫وعمى ذلؾ فالغيطاني ال ييدؼ مف خبلؿ روايتو إلى التشاؤـ‬ ‫انطبلقاً مف الوعي التاريخي"‪.‬‬
‫واإلحباط أو ترسيخ فكر اليزيمة‪ ،‬بؿ يدعو إلى مساءلة الحاضر واستكشاؼ المستقبؿ مف خبلؿ‬
‫التعرؼ عمى مسببات اليزيمة وعوامؿ الوصوؿ إلييا‪ ،‬في محاولة لتنبيو القائميف عمى األمر‬
‫لتفادي ىذه األسباب‪ ،‬وتخطييا عف طريؽ تحقيؽ الحرية‪ ،‬ونشر العدالة االجتماعية‪ ،‬وتوفير‬
‫متطمبات الحياة الكريمة لمشعب‪ ،‬أما إذا ما بقي الظمـ والقمع والفساد منتش اًر فستظؿ اليزيمة‬
‫قائمة وال أمؿ وقتيا في تحقيؽ أي نصر‪.‬‬

‫اعتمد جماؿ الغيطاني في كتابة رواية الزيني بركات عمى كتاب (بدائع الزىور في وقائع‬
‫الدىور) لمحمد بف أحمد بف إياس الحنفي‪ ،‬الذي يتعرض لتاريخ مصر في زمف المماليؾ‪ ،‬ومما‬
‫يدؿ عمى ذلؾ ورود ذكر ابف إياس أكثر مف مرة في الرواية كشاىد لؤلحداث في مشاىدات‬
‫الرحالة البندقي فياسكونتي جانتي لمدينة القاى ةر ومف ذلؾ قولو‪" :‬رأيت وجو صديقي الشيخ محمد‬
‫أحمد بف إياس قبؿ دخوؿ العثمانمية بيوـ واحد؛ في تقاطيعو رقدت نبوءة باليزيمة المقبمة‪ ،‬كاف‬

‫(ٔ ) الزيني بركات بيف القمع الممموكي والقير البوليسي في الستينات‬


‫‪http://www.almasryalyoum.com/news/details/829206‬‬
‫(ٕ) الزيني بركات لجماؿ الغيطاني(بحث)‪ ،‬صٖٗٔ ‪ٖٔ٘-‬‬

‫‪166‬‬
‫( ٔ)‬
‫وال شؾ أف لحضور ابف إياس في نياية الرواية داللة عميقة‪،‬‬ ‫منكس ًار‪ ،‬لـ أره مف ليمتيا"‪.‬‬
‫ترتبط بإضفاء نوع مف الحيوية والمصداقية عمى أحداث الرواية‪ ،‬خاصة أف السارد حرص عمى‬
‫تصوير شدة حزنو عمى ما لحؽ بالببلد مف ىزيمة‪.‬‬

‫ّأما عف سبب اعتماد جماؿ الغيطاني عمى ابف إياس دوف غيره مف المؤرخيف فقد ذكره‬
‫حيف قاؿ‪" :‬كاف ترحالي في تاريخ مصر الممموكية واإلسبلمية عاماً‪ .‬لكني بعد عاـ‪ ٜٔٙٚ‬عدت‬
‫ألصغي مف جديد إلى مؤرخ مصري سبؽ أف استوقفني صوتو الفريد‪ ،‬الغني الشجي‪ .‬إنو محمد‬
‫شدني ببساطتو‬
‫أحمد بف إياس صاحب بدائع الزىور في وقائع الدىور‪ ،‬كاف دليمي ومرشدي‪ّ ،‬‬
‫وتمقائيتو واىتمامو بتدويف ما جرى لبسطاء الناس‪ ،‬ىؤالء الذيف تسقط سيرتيـ بيف سطور‬
‫( ٕ)‬
‫يضاؼ إلى ذلؾ شدة استقصائو لمحقائؽ وتعميقو عمى الوقائع‪ ،‬فقد‬ ‫المدونات‪."..‬‬
‫الحوليات و ّ‬
‫( ٖ)‬
‫كانت لو شخصيتو الحرة‪ ،‬وما ىو معروؼ بو مف الروية والتبصر واالتزاف في أحكامو ونقده‪.‬‬
‫ولذلؾ تفاعؿ الغيطاني مع كتاب ابف إياس حوا ًار ومساءلة ومعارضة ومحاكاة لمبنى السردية‬
‫وبناء وتركيباً ليس تعالقاً بالماضي‪ ،‬بؿ بغرض تصوير التجربة اإلنسانية في عمقيا‬
‫ً‬ ‫التراثية لغة‬
‫التاريخي‪ ،‬فالكاتب ال يريد العودة إلى التاريخ وتوثيقو‪ ،‬إنما يريد التعبير عف معاناة عص هر‬
‫ورؤيتو لمخروج مف أزماتو الفكرية والسياسية‪ ،‬وىو يعيد التجربة التاريخية ليعمؿ عمى ترىينيا في‬
‫الزمف الحاضر‪.‬‬

‫طور الغيطاني مف طريقة تعامؿ كتاب الرواية مع المادة التاريخية‪ ،‬فيو لـ يمتزـ بالمادة‬
‫َّ‬
‫التاريخية التزاماً تاماً‪ ،‬ولـ َّ‬
‫يد ِع االلتزاـ بيا كما فعؿ جورجي زيداف في رواياتو التاريخية‪ ،‬بؿ إنو‬
‫التزـ بالخطوط العريضة ألحداث التاريخ‪ ،‬وسمح لنفسو بتجاوز النص التاريخي بتفعيؿ عنصر‬
‫الخياؿ الفني‪ ،‬فأبدع صياغة جديدة جعمت مف المرجع التاريخ مادة صرفة خاـ‪ ،‬أعمؿ فييا‬
‫خيالو‪ ،‬فكانت أكتر اتصاالً وقرباً مف حاضره‪ ،‬فيو لـ يكف معنياً بالتاريخ بقدر عنايتو بقراءة‬
‫الواقع واستكناه المستقبؿ‪ ،‬لذلؾ خرج عف الوثائقية التاريخية في أكثر مف موقؼ يمكف ذكر‬
‫بعضيا فيما يأتي‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬اختبلؼ في سنة ظيور الزيني بركات ومشاركتو في الحياة السياسية في العصر‬


‫الممموكي بيف الرواية والمرجع التاريخي‪ ،‬ففي حيف تذكر الرواية أف بداية ظيور الزيني‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬صٕ‪ٕٛ‬‬


‫(ٕ) الرواية والتراث السردي‪ ،‬ص‪ٜٔٚ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬بدائع الزىور في وقائع الدىور‪ ،‬جٔ‪ ،‬القسـ األوؿ‪ ،‬ص‪ٛ‬‬

‫‪167‬‬
‫بركات وتوليو لمنصب الحسبة كاف سنة ٕٔ‪ ٜ‬ىػ‪ ،‬يذكر كتاب ابف إياس أف أوؿ ظيور‬
‫( ٔ)‬
‫وقد تـ إق ار هر عمى حسبة القاى ةر في شعباف‬ ‫لمزيني بركات كاف في شواؿ سنة ‪ٜٓٛ‬ىػ‬
‫( ٕ)‬
‫سنة ٓٔ‪ٜ‬ىػ‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬يخالؼ الغيطاني المرجع التاريخي في تناولو لعنصر الزماف‪ ،‬فالتسمسؿ الزمني التراتبي‬
‫المنتظـ الذي اتبعو ابف إياس ال يجد ما يقابمو في الرواية‪ ،‬إذ اعتمد السارد عمى الزمف‬
‫الدائري‪ ،‬فعمؿ عمى تكسير الزمف والمعب فيو بالتقديـ والتأخير والحذؼ‪ ،‬كما أنو‬
‫استخدـ بعض التقنيات الحديثة التي ترتبط بالزمف النفسي مثؿ االسترجاع واالستباؽ‬
‫والتداعي‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬استند إلى خيالو في وصؼ تعذيب الزيني بركات لعمي بف أبي الجود حيث لـ ترد‬
‫( ٖ)‬
‫والتي جمعت بيف التعذيب النفسي والجسدي لمدة طويمة‬ ‫المشاىد المذكورة في الرواية‬
‫مف الزمف في المرجع التاريخي‪ ،‬وقد أكد ابف إياس عمى أف السمطاف ىو مف قاـ‬
‫بتعذيب عمي بف أبي الجود حيث "عرض السمطاف عمي بف أبي الجود بالحوش وضربو‬
‫( ٗ)‬
‫بالمقارع عشريف شبيبًا حتى خرؽ جنبو‪ ،‬وأشرؼ عمى الموت"‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬الحديث عف المؤتمر العالمي لمبصاصيف سنة ٕٕ‪ ٜ‬ىػ الذى دعا إليو ٍّ‬
‫كؿ مف الزينى‬
‫بركات والشياب زكريا تحت اسـ (اجتماع كبار البصاصيف في أنحاء األرض وأركاف‬
‫الدنيا األربعة فى القاىرة) في السرادؽ الخامس مف الرواية‪ ،‬ىذا كمو مف خياؿ الكاتب‪،‬‬
‫لـ يتحدث عنو المرجع التاريخي‪.‬‬
‫٘ ‪ -‬أساليب التعذيب الواردة في الرواية في مجمميا أساليب حديثة‪ ،‬خاصة تمؾ التي تـ‬
‫ذكرىا في مؤتمر البصاصيف‪ ،‬حيث إنيا تحاكي أساليب التحقيؽ الحديثة‪ ،‬وترتبط‬
‫بالعموـ النفسية واالجتماعية واألمنية التي لـ تكف معمومة في زمف المماليؾ‪.‬‬
‫‪ - ٙ‬ذكر السارد عدد مف المظاىر التي تحرر الرواية مف التاريخ وتشدىا نحو الحاضر‬
‫والحياة المعاصرة‪ ،‬ومف ذلؾ الحديث عف أىمية السيط ةر عمى وسائؿ اإلعبلـ وأثرىا في‬
‫تشكيؿ الرأي العاـ‪ ،‬ورفض التعذيب البدني وذكر وسائؿ تعذيب جديدة تتصؿ بالتعذيب‬

‫(ٔ ) انظر‪ ،‬بدائع الزىور في وقائع الدىور‪ ،‬جٗ‪ ،‬صٓ٘‬


‫(ٕ ) انظر‪ ،‬بدائع الزىور في وقائع الدىور‪ ،‬جٗ‪ ،‬ص٘‪ٚ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٖٗٔ ‪ٖٔٚ-‬‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬بدائع الزىور في وقائع الدىور‪ ،‬جٗ‪ ،‬صٓ٘ ‪٘ٔ-‬‬

‫‪168‬‬
‫النفسي‪ ،‬وبطاقة اليوية‪ ،‬وحصر المواليد‪ ،‬وانشاء فرؽ المخابرات الخاصة‪ ،‬وىذه أشياء‬
‫لـ يكف متعارؼ عمييا في التاريخ القديـ‪.‬‬

‫أىدافا وأساليب‬
‫تنظيما و ً‬
‫ً‬ ‫وبعد "فإف المتأمؿ في حقيقة جياز البصاصة في الزيني بركات‪،‬‬
‫عمؿ‪ ،‬سرعاف ما يدرؾ أف التاريخ العربي في كؿ مراحمو الماضية براء مف مثؿ ىذا النموذج‪،‬‬
‫تقريبا كما تكشؼ عنو الرواية إنما ىو منتـ لمتاريخ الحديث‪ ،‬وتابع ألنظمة‬
‫ً‬ ‫وأف الجياز برمتو‬
‫سمطوية حديثة‪ ،‬سواء في مصر أو في غيرىا مف أقطار العالـ المعاصر‪ ،‬تحت اسـ أجي ةز‬
‫المخابرات التي باتت نشاطاتيا وممارساتيا معروفة لمكثيريف‪ ،‬وقد كاف الغيطاني يعي ىذه‬
‫( ٔ)‬
‫الحقيقة ويؤكدىا"‪.‬‬

‫وبناء عمى ذلؾ‪ ،‬فرواية الزيني بركات ليست رواية تاريخية بالمعنى الحرفي لمكممة‪ ،‬إنيا‬
‫ً‬
‫محمؿ‬
‫رواية التخييؿ التاريخي التي تستعيف بالتاريخ؛ لتحولو إلى عمؿ فني إبداعي خيالي َّ‬
‫بالكثير مف الدالالت والمعاني التي تثير تساؤال ت واقعية ال تذكرىا كتب التاريخ‪ ،‬بحيث تتحقؽ‬
‫المماىاة بيف الماضي التاريخي والحاضر المعاصر‪.‬‬

‫التحوالت الفنية‪:‬‬

‫أو ًال‪ :‬البنال الفني العام‪:‬‬

‫ابتدع جماؿ الغيطاني في رواية الزيني بركات نظامًا جديدًا لمبناء الفني لـ نجده عند غيره‬
‫مف كتاب الرواية التاريخية السابقيف‪ ،‬فيو لـ يقسـ روايتو إلى فصوؿ كحاؿ الرواية التاريخية عند‬
‫جورجي زيداف وأبي حديد‪ ،‬ولـ يقسميا إلى أسفار كما فعؿ عمي أحمد باكثير في رواية الثائر‬
‫األحمر‪ ،‬بؿ إنو استخدـ في تقسيمو لمرواية تسمية جديدة ىي (السرادقات) حيث تكونت الرواية‬
‫مف مقدمة وسبعة سرادقات وخاتمة‪ ،‬وىذا أسموب جديد لـ نعيده مف قبؿ‪ ،‬وقد حرص عمى‬
‫التوثيؽ الزمني في سرد األحداث التي تعرضيا المقدمة أو السرادقات المختمفة والخاتمة‪ ،‬وكاف‬
‫لكؿ مف المقدمة والخاتمة عنواف عاـ‪ ،‬كذلؾ كاف لكؿ سرادؽ عنواف عاـ –عدا السرادقيف الرابع‬
‫والخامس ‪ -‬يحتوي عمى عدد مف العناويف الفرعية التي يعبر كؿ منيا عف مشيد معيف يرتبط‬
‫بأحداث الرواية‪ .‬وقد جاءت رواية الزيني بركات وفؽ الترتيب اآلتي‪:‬‬

‫(ٔ) جماؿ الغيطاني والتراث‪ ،‬ص‪ٜٜ‬‬

‫‪169‬‬
‫‪ -‬المقدمة‪ :‬لكؿ أوؿ آخر ولكؿ بداية نياية (ٓٔ صفحات)‬
‫‪ -‬السرادؽ األوؿ ‪ :‬ما جرى لعمػي بػف أبػي الجػود و بدايػة ظيػور الزينػي بركػات بػف موسػى‬
‫(ٔ٘ صفحة)‪.‬‬
‫‪ -‬السرادؽ الثاني ‪ :‬شروؽ نجـ الزيني بركات ‪ ،‬و ثبات أم هر ‪ ،‬وطموع سعده‪ ،‬واتساع حظو‬
‫(ٗ٘ صفحة)‪.‬‬
‫‪ -‬السرادؽ الثالث‪ :‬وأولو‪ ..‬وقائع حبس عمي بف أبي الجود (ٕ٘ صفحة)‪.‬‬
‫‪ -‬السرادؽ الرابع‪ :‬بدوف عنواف (ٖٗ صفحة)‪.‬‬
‫‪ -‬السرادؽ الخامس‪ :‬بدوف عنواف (‪ ٗٛ‬صفحة)‪.‬‬
‫‪ -‬السرادؽ السادس‪ :‬كوـ الجارح (٘ صفحات)‪.‬‬
‫‪ -‬السػ ػرادؽ السػ ػػابع ‪ :‬سػ ػػعيد الجيين ػػي ( يتكػ ػػوف مػ ػػف جمم ػػة واحػ ػػدة‪ :‬آه‪ ،‬أعطبػ ػػوني‪ ،‬وىػ ػػدموا‬
‫حصوني‪.)..‬‬
‫‪ -‬الخاتمة ‪ :‬خارج السرادقات (ٖ صفحات)‪.‬‬
‫ال شؾ أف اختيار الكاتب لمفردة (السرادؽ) كمنطمؽ لبناء األحداث‪ ،‬وجامع لشتاتيا لـ‬
‫ِ‬
‫يأت مصادف ًة أو عبثًا‪ ،‬إنما جاء مبلئمًا ومنسجمًا مع مضموف الرواية وشكميا الفني‪ ،‬حيث إف‬
‫ىذه الرؤية الشكمية ال تنفصؿ عف رؤية السارد الشاممة‪ ،‬التي أراد مف خبلليا تصوير أثر القمع‬
‫والظمـ عمى كؿ فئات المجتمع‪ ،‬ويتضح ذلؾ بشكؿ أكثر وضوحاً مف خبلؿ التعرض لداللة‬
‫كممة (السرادؽ) التي يظير مدى الترابط بينيا وبيف طريقة الرواية وأسموبيا في سرد األحداث‪،‬‬
‫المض ِرب‪ ،‬أو الحائط المشتمؿ عمى الشيء‪،‬‬
‫ْ‬ ‫فالسرادؽ يعني "كؿ ما أحاط بشيء نحو ُّ‬
‫الشقة في‬
‫( ٔ)‬
‫وىو "الفسطاط يجتمع فيو الناس لعرس أو مأتـ‬ ‫وبيت مسردؽ أعبله وأسفمو أي مشدود كمو"‬
‫( ٕ)‬
‫فالمعنى يرتبط باألماكف المغمقة المنزوية والمستورة‪ ،‬كما أنو يجمع بيف المتناقضات‬ ‫وغيرىما"‪.‬‬
‫(الفرح والحزف) األمر الذي يعزز جو المفارقات الذي تعتمد عميو الرواية بشكؿ عاـ‪ .‬كذلؾ‬
‫َحاطَ بِ ِي ْـ‬ ‫ِ َّ ِ ِ‬ ‫ترتبط كممة السرادؽ في القرآف الكريـ بالعذاب لقولو تعالى‪" :‬إَِّنا أ ْ‬
‫ار أ َ‬
‫يف َن ًا‬
‫َع َت ْدَنا لمظالم َ‬
‫سَرِادقُ َيا"‪ )ٖ (.‬وبالتالي فقد وفؽ الكاتب في استخداـ كممة السرادقات؛ ألنيا تعكس لونًا مف‬ ‫ُ‬
‫يصرح بأفكاره بشكؿ مباشر‪ ،‬وال أحد يمتمؾ الجرأة‬
‫الصوت المضطرب الخائؼ المقموع‪ ،‬فبل أحد ّْ‬
‫في التعبير عف رأيو‪ ،‬وال يتـ معرفة األخبار أو األحداث إال عبر أحاديث واشاعات تتردد في‬

‫(ٔ ) كتاب العيف‪ ،‬الخميؿ بف أحمد الفراىيدي‪ ،‬جٕ‪ ،‬صٖٕ٘‬


‫(ٕ) المعجـ الوسيط‪ ،‬مجمع المغة العربية‪ ،‬ص‪ٕٗٙ‬‬
‫(ٖ) سورة الكيؼ‪ٕٜ :‬‬

‫‪171‬‬
‫السرادقات المختمفة ويرددىا الناس دوف أف يتبنوىا‪ ،‬فكؿ صوت يتكمـ بشكؿ منفرد‪ ،‬وكأنو في‬
‫سرادؽ بعيد عف األخريف‪ ،‬ال يريد أف يختمط بالناس‪ ،‬فكانت ىذه التسمية خير تعبير عف حياة‬
‫الخوؼ والعزلة واالنزواء والقمع‪.‬‬

‫ومف أبرز تحوالت البناء الفني لمرواية التاريخية عند الغيطاني اعتماده عمى التشظي‬
‫والتفكؾ‪ ،‬ويمكف مبلحظة ذلؾ عمى مستوى الرواية بشكؿ عاـ‪ ،‬وعمى مستوى السرادؽ الواحد‪،‬‬
‫فعمى مستوى الرواية‪ ،‬غالبًا ما يتـ قطع البناء السردي بعدد مف النداءات والمراسيـ والتقارير‬
‫الرسمية المنتشرة في أرجائيا‪ .‬كما نمحظ تفكؾ البنية السردية عمى مستوى السرادؽ الواحد‪،‬‬
‫فبالرغـ مف تحديد الموضوع سمفاً عف طريؽ وضع عنواف لو‪ ،‬إال أننا نممس التقطع والتفكؾ‬
‫بشكؿ واضح وجمي داخؿ السرادؽ‪ ،‬فمثبلً يندرج السرادؽ األوؿ تحت عنواف (ما جرى لعمي بف‬
‫أبي الجود وبداية ظيور الزيني بركات) إذ يبدأ بالحديث عف إلقاء القبض عمى عمي بف أبي‬
‫الجود‪ ،‬ثـ ينتقؿ لمحديث عف سعيد الجييني ليتحدث مف خبللو عف البصاص عمرو بف‬
‫العدوي‪ ،‬ثـ مرسوـ ينص عمى تولية الزيني بركات والياً لمحسبة‪ ،‬لينتقؿ فيما بعد لرصد حالة‬
‫زكريا بف راضي وموقفو مما يحدث واصفاً طرؽ التعذيب التي يمارسيا داخؿ السجوف لينتقؿ‬
‫إلى كوـ الجارح ‪ ..‬وىكذا‪.‬‬

‫ومف مظاىر التجديد في البناء الفني لمرواية التاريخية عند الغيطاني‪ ،‬وضع عناويف‬
‫ّْ‬
‫بمشكبلت السرد األساسية‬ ‫فرعية داخؿ الس اردقات المختمفة‪ ،‬ذات دالالت فنية متنوعة ومرتبطة‬
‫مف زماف ومكاف وشخصيات وأحداث روائية‪ ،‬ىذا األمر الذي لـ نجده عند كتاب الرواية‬
‫التاريخية السابقيف أمثاؿ نجيب محف وظ وباكثير ونجيب الكيبلني الذيف لـ ييتموا بالعناويف‬
‫الفرعية‪ ،‬إنما كانوا يستعيضوف عنيا بأرقاـ متسمسمة يكتفوف بيا‪ .‬أما الغيطاني فقد أولى العناويف‬
‫الفرعية اىتماماً كبي ًار‪ ،‬وجعميا تسيـ في بناء النص الروائي‪ ،‬حيث نجد بعض العناويف الفرعية‬
‫المرتبطة بالمكاف الروائي مثؿ‪( :‬كوـ الجارح)‪ ،‬كذلؾ ترتبط عناويف أخرى بالدالالت الزمانية‬
‫مثؿ‪( :‬األربعاء‪ ..‬عاشر شواؿ) و(أوؿ الميؿ‪ ..‬عاشر شواؿ)‪ ،‬وتتعرض الكثير مف العناويف‬
‫لمشخصيات الروائية مثؿ‪( :‬سعيد الجييني) و(زكريا بف راضي) و(عمرو بف العدوي)‪ ،‬وىناؾ‬
‫بعض العناويف التي ترتبط بسرد األحد اث مثؿ‪( :‬مصيبة كبرى)‪ .‬كما أننا نمحظ وجود الكثير مف‬
‫العناويف المتعمقة بالوثائقية التاريخية مثؿ‪( :‬مرسوـ شريؼ)‪ ،‬و(بعض مما وجيو كبير‬
‫البصاصيف "الشياب األعظـ" زكريا بف راضي إلى السمطاف واألمراء)‪ .‬إف ىذا التنوع الداللي بما‬
‫يحممو مف إيحاءات يدؿ عمى حرص السارد عمى شموؿ عناويف روايتو وانسجاميا مع كافة‬
‫وم َش ّْكبلت البناء الفني لمرواية‪.‬‬
‫عناصر ُ‬

‫‪171‬‬
‫تتمثؿ أبرز مبلمح التجديد في رواية الزيني بركات في اعتماد السارد عمى الحبكة الروائية‬
‫المركبة‪ ،‬التي تتعرض لمجموعة مف األحداث المتداخمة والشخصيات المختمفة؛ ّْ‬
‫لتعبر عف رؤيػة‬
‫واحػ ػػدة يريػ ػ ػدىا الكاتػ ػػب‪ ،‬وق ػ ػػد تجػ ػػاوز الغيط ػ ػػاني الحبكػ ػػة البس ػ ػػيطة ذات الػ ػػزمف الخط ػ ػػي المن ػ ػػتظـ‬
‫المتسمسػػؿ والص ػػوت الواح ػػد الت ػػي اعتمػػد عميي ػػا ج ػػورجي زي ػػداف ومحمػػد فري ػػد أب ػػو حدي ػػد ونجي ػػب‬
‫محفوظ ‪ ..‬وغيرىـ‪ ،‬فاتكأ عمى الزمف المتشػظي المتقطػع الػدائري –سػنتعرض لػو بالتفصػيؿ حػاؿ‬
‫تناولن ػػا لعنص ػػر الزم ػػاف ‪ -‬واعتم ػ ػد عم ػػى تعددي ػػة األصػ ػوات والػ ػػرؤى الس ػػردية وت ػػداخميا‪ ،‬حيػ ػػث إف‬
‫الروايػػة ذات منظػػور معم ػػاري دائػػري مشػػحوف ب ػػالتوتر والدراميػػة والحػػزف والتش ػػاؤـ؛ لػػذلؾ تخم ػػص‬
‫السارد مف سيط ةر القصة الغرامية عمى البناء الفني لمرواية التاريخية‪ ،‬وابتعد عف جو المصادفات‬
‫والمفاجػػآت غيػػر المقنع ػػة‪ ،‬األمػػر ال ػذي ك ػػاف سػػائدًا عن ػػد معظػػـ كتػػاب الرواي ػػة التاريخيػػة التقميدي ػػة‬
‫خاصة جورجي زيداف‪ ،‬فكاف الغيطاني أكثر واقعية وقرباً مف طبيعة الحيػاة العاديػة‪ .‬ولكػي يحقػؽ‬
‫رؤيتو الفنية الجديدة اتكأ عمى التجريب في التقنيات السردية الحديثة المرتبطة بالرواية الجديدة‪،‬‬
‫فظي ػػر ت ػػأث هر الكبي ػػر بال تقني ػػات الس ػػينمائية التػ ػػي ت ػػرتبط بتص ػػوير المش ػػاىد واالنتق ػػاؿ فيم ػػا بينيػ ػػا‪،‬‬
‫وتكسير البناء الزمني لمنص‪ ،‬والتداخؿ بيف طرؽ وأساليب السرد داخؿ البناء الروائي‪.‬‬
‫ُيعد تناوؿ السارد لعنصر الصراع مف أىـ أشكاؿ التحوالت في الرواية التاريخية‪ ،‬حيث‬
‫تجسد رواية الزيني بركات صراعاً مركباً‪ ،‬تجاوز فيو الغيطاني أشكاؿ الصراعات البسيطة‬
‫والتقميدية التي ظيرت في الروايات التاريخية السابقة‪ ،‬فالصراع عند زيداف كاف صراعاً بسيطاً‬
‫سببو قصة حب‪ ،‬والصراع عند أبي حديد كاف صراعًا بيف القبائؿ العربية‪ ،‬والصراع عند نجيب‬
‫محفوظ كاف صراعًا بيف قوى الشعب المنا ضمة مف أجؿ التحرر وقوى االحتبلؿ‪ ،‬أما الصراع‬
‫عند الغيطاني فقد برز بأشكاؿ متعددة‪ ،‬إذ يظير الصراع الخارجي بيف دولة المماليؾ ودولة بني‬
‫عثماف مف ناحية‪ ،‬ويبدو الصراع عمى التفرد بالسمطات بيف المماليؾ أنفسيـ الذيف يشكموف‬
‫أقطاب النظاـ الحاكـ مف ناحية أخرى‪ ،‬كذلؾ يتض ح الصراع بيف السمطة الحاكمة الظالمة‬
‫والمثقفيف الذيف يطمحوف في التغيير ويتعرضوف في سبيؿ ذلؾ لمقمع والتعذيب‪ ،‬ويظير الصراع‬
‫أيضًا بيف فئات الشعب مف البسطاء حوؿ قضايا ىامشية مثؿ قضية الفوانيس‪ ،‬كما يبرز‬
‫الصراع الداخمي في أثناء حوار الشخصيات المختمفة مع نفسيا وخاصة شخصية كؿ مف زكريا‬
‫بف راضي‪ ،‬وعمرو بف العدوي‪ ،‬وسعيد الجييني‪ .‬لقد عكست ىذه الصور المتعددة ألوجو‬
‫الصراع الروائي في الزيني بركات جواً درامياً مشحوناً بالكثير مف الفتف والمؤامرات التي أدت‬
‫إلى تفشي الفساد وانتشار الظمـ والقمع‪ ،‬وقد أظير كؿ ذلؾ واقعاً مؤلماً وحزيناً وصؿ إلى النياية‬
‫المأساوية التي جسدتيا في اليزيمة النكراء‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫ومف أىـ تحوالت البناء الفني لمرواية التاريخية التي خالؼ بيا الغيطاني أسبلفو مف كُتَّاب‬
‫الرواية التاريخية‪ ،‬أنو أَ ْكثََر مف االعتماد عمى تقنية المفارقات‪ ،‬وىو بذلؾ يظير تأث ًار واضحًا‬
‫وجميًا بالروا ية الجديدة التي وظَّفت ىذه التقنية بشكؿ كبير وممحوظ‪ ،‬بحيث تتجمى أىميتيا‬
‫وقوتيا في "كونيا عنص اًر تكوينياً ميماً مف عناصر الحياة واألدب"( ٔ)‪ ،‬وىي تمتع القارئ‪ ،‬وتثير‬
‫دىشتو وتأممو لعممية تطور األحداث وتحوليا وطريقة تعامؿ الشخصية معيا‪ ،‬وقد امتؤلت رواية‬
‫الزيني بركات بالمفارقات والتناقضات‪ ،‬ومف أمثمة ذلؾ‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬أف البص والتخابر أصبح غاية وشبحاً في الوقت نفسو‪ ،‬فيو غاية يسعى جياز‬
‫البصاصيف لتحقيقيا وتطويرىا‪ ،‬وىو في الوقت نفسو ُيمثّْؿ شبحاً مرعباً ومخيفاً ليس‬
‫لممثقفيف والبسطاء وعامة الناس فقط‪ ،‬بؿ ألرباب السمطة ومف يعمموف في جياز البص‬
‫أيضًا‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬ترسـ الرواية نموذجًا مثاليًا ألجيزة البص أو األجيزة المخابراتية مف خبلؿ شخصية‬
‫زكريا بف راضي رئيس البصاصيف‪ ،‬الذي يفخر ببناء أفضؿ جياز مخابرات بالطرؽ‬
‫الحديثة‪ ،‬وىي في الوقت نفسو تسعى إلى السخرية واالستيزاء مف ىذه األجي ةز القمعية‪،‬‬
‫فتظير شدة ضع فيا أماـ خداع ومكر وتضميؿ الزيني بركات‪ ،‬الذي ادعى امتبلؾ جياز‬
‫بص خاص بو‪ ،‬أخذ مف وقت وتفكير زكريا الكثير‪ ،‬مما شكؿ سقوطاً حاداً ليذه األجيزة‬
‫التي انحرفت عف مياميا األساسية‪ ،‬وثبت فشؿ أساليبيا القمعية تاريخيًا وواقعيًا وخير‬
‫دليؿ عمى ذلؾ اليزائـ المتتالية التي لحقت بيا سواء في الماضي التاريخي في زمف‬
‫المماليؾ‪ ،‬أو في العصر الحديث في زمف عبد الناصر‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬المفارقة بيف ما ُيعمف عمى الناس‪ ،‬وبيف ما يطبؽ في السر أو ما يمكف تسميتو المفارقة‬
‫بيف النظرية والتطبيؽ‪ ،‬ومف ذلؾ ما يظير في النداءات المختمفة مف حرص عمى العدؿ‬
‫واألمر بالمعروؼ والنيي عف المنكر‪ ،‬والواقع الروائي مخالؼ لذلؾ تمامًا‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬ومف المفارقات ذىاب الشيوخ والمجاوريف وطبلب األزىر إلى بيوت الخطيئة مع أف‬
‫التديف‪ .‬ويمثّْؿ ذلؾ منصور صديؽ سعيد الجييني‪ ،‬وسعيد نفسو بعد‬
‫األصؿ فييـ الورع و ُّ‬
‫تعرضو لمظمـ‪ ،‬والشيخ ريحاف البيروني‪.‬‬
‫٘ ‪ -‬المفارقة بيف أسماء الشخصيات الروائية وسموكيا العممي‪ ،‬ومف أمثمة ذلؾ اسـ الزيني‬
‫بركات‪ ،‬فيو اسـ جميؿ ينطوي عمى معاني التقوى والخير والصبلح‪ ،‬لكف شخصية‬
‫صاحبو في الواقع الروائي ال تنطوي إال عمى الظمـ والخداع والنفاؽ والخيانة التي قادت‬

‫(ٔ) أنماط الرواية العربية الجديدة‪ ،‬صٕٗ‬

‫‪173‬‬
‫إلى اليزيمة واالنييار الكامؿ‪ .‬كذلؾ ا سـ سعيد الجييني‪ ،‬الذي يوحي بالفرحة والسعادة‬
‫ظ بأي نوع مف الفرحة أو السعادة بؿ كاف رم ًاز لمشقاء‬
‫والسرور‪ ،‬إال أف صاحبو لـ يح َ‬
‫دم هر جسديًا ونفسيًا‪.‬‬
‫والمعاناة حيث تعرض لمكثير مف الظمـ والتعذيب الذي َّ‬

‫ثاني ًا‪ :‬المغة وأساليب السرد‪:‬‬

‫ميز لغة وأساليب السرد في رواية الزيني بركات ىو‬ ‫إف مف أىـ مبلمح التجديد التي تُ ّْ‬
‫اعتمادىا عمى تعددية األصوات والرؤى السردية داخؿ الرواية‪ ،‬وىذا ما ال نجده في الروايات‬
‫التاريخية السابقة خاصة عند جورجي زيداف ونجيب محفوظ وباكثير الذيف كانوا يعتمدوف في‬
‫سردىـ لؤلحداث عمى رٍاو و ٍ‬
‫احد كمي المعرفة يستخدـ ضمير الغائب مف بداية الرواية حتى‬
‫نيايتيا‪ .‬فاألمر عند جماؿ الغيطاني مختمؼ‪ ،‬فقد ظير صوت الراوي العميـ كمي المعرفة‪ ،‬والذي‬
‫يسرد األحداث ويصؼ المشاىد باستخداـ ضمير الغائب مف منظور عموي‪ ،‬إذ يقوـ بميمة‬
‫الحكي مف خارج الرواية فيقدـ األحداث انطبلقًا مف التنقؿ بيف مختمؼ األصوات واألماكف داخؿ‬
‫الرواية‪ ،‬وقد استعاف الراوي العميـ برٍاو خارجي آخر ىو الراوي الشاىد الذي يستخدـ ضمير‬
‫المتكمـ‪ ،‬ويمثمو صوت الرحالة البندقي فياسكونتي جانتي وىو شخصية خيالية ال وجود ليا في‬
‫الواقع‪ ،‬قَطَ َع السرد خم س مرات في الرواية؛ ليعرض مشاىداتو وتعميقاتو عمى األحداث‪ ،‬فبدأت‬
‫الرواية بأحد مشاىداتو تحت عنواف‪( :‬لكؿ أوؿ آخر ولكؿ بداية نياية)‪ ،‬وانتيت بمقتطؼ آخر‬
‫مف ىذه المشاىدات تحت عنواف‪( :‬خارج السرادقات)‪ ،‬باإلضافة إلى ثبلثة مقتطفات تـ ذكرىـ‬
‫داخؿ السرادقيف الثالث والراب ع‪ .‬وبرز في الرواية كذلؾ صوتاف سردياف صد ار مف داخؿ الخطاب‬
‫الروائي‪ ،‬يتمثؿ األوؿ في صوت السمطة العالي والمرتفع الذي يبدو عبر لغة النداءات‬
‫والتعميمات والتقارير التي تقطع السرد عمى طوؿ الرواية‪ ،‬ويقابؿ ذلؾ صوت الشعب الخافت‬
‫الضعيؼ المرتعش والمقموع‪ .‬ويتمثؿ اآلخر في صوت الشخصيات المكونة لمحدث الروائي‬
‫مثؿ‪( :‬زكريا بف راضي‪ ،‬عمرو بف العدوي‪ ،‬سعيد الجييني‪ ،‬أبو السعود الجارحي‪ )..‬والتي كانت‬
‫تستخدـ في الغالب ضمير المتكمـ في اإلفصاح عف آالميا وآماليا‪ ،‬وفي أثناء استرجاعيا‬
‫لمذكريات‪ ،‬وفي حواراتيا الداخمية وتفاعبلتيا الذاتية حيث تـ الكشؼ عف طبيعة ىذه الشخصيات‬
‫وبناء عمى ذلؾ فالرواية تمتاز بتعدد الرواة وتعدد الرؤى‬
‫ً‬ ‫مف خبلؿ التعمؽ في نفسياتيا‪.‬‬
‫السردية‪ ،‬وال شؾ أف تعددية األصوات في الرواية الواحدة يعكس قدرة المؤلؼ عمى تكسير‬
‫نمطية السرد‪ ،‬والرغبة في االبتعاد عف الرتابة‪ ،‬وذلؾ لخمؽ بنية فن ية جميمة وجذابة وتخييمية‬
‫داخؿ الخطاب الروائي التاريخي‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫ومف التحوالت الظاىرة في ىذه الرواية قمة لغة الحوار الخارجي‪ ،‬وىيمنة السرد والوصؼ‬
‫والمونولوج الداخمي عمى أسموبيا‪ ،‬وجماؿ الغيطاني في ذلؾ يختمؼ عف كتاب الرواية التاريخية‬
‫السابقيف خاصة عمي أحمد باكثير الذي كاف يكثر مف الحوار بيف شخصياتو الروائية كما ذكرنا‬
‫سابقاً‪ ،‬ونجزـ بأف الغيطاني كاف حريصاً عمى قمة المشاىد الحوارية في روايتو؛ ألف ذلؾ ينسجـ‬
‫مع فكرتيا العامة التي تقوـ عمى إظيار أثر القمع واالستبداد عمى المجتمعات‪ ،‬ىذه الرؤية التي‬
‫تصور فقداف الحرية وانعداـ الد يمقراطية وحقوؽ اإلنساف‪ ،‬ما يؤدي إلى انقطاع التواصؿ بيف‬
‫الناس‪ ،‬وفي ىذه الحالة ال يجد اإلنساف أمامو سوى االنكفاء عمى الذات والمناجاة واسترجاع‬
‫الذكريات والصراع الداخمي وىذا ما حدث في الرواية‪.‬‬

‫ومف أبرز مظاىر التجديد المغوي عند الغيطاني حرصو عمى االستعانة بالتقنيات‬
‫السينمائية الحديثة‪ ،‬التي توظؼ كؿ عناصر الصوت والموف والحركة وتنتقؿ بينيا بسبلسة‬
‫فتشكؿ خمفية لممشيد‪ .‬فقد أبدع في تصوير المشاىد الحوارية بما يحيط بيا مف ظروؼ نفسية‬
‫فحمميا الكثير مف اإليحاءات‪ ،‬ويتضح ذلؾ مف خبلؿ المشيد‬
‫ومكانية بشكؿ فني محترؼ‪َّ ،‬‬
‫الحواري اآل تي الذي يجمع بيف الزيني بركات وزكريا بف راضي حيث "نظر زكريا إلى الوجو‬
‫الممثـ‪ ،‬الحزاـ العريض المرصع بفصوص معدنية بارزة‪ ،‬زكريا يتفحص رداءه‪ ،‬ىذه األمور‬
‫الصغي ةر تبدد دىشتو عندما رأى الزيني بنفسو‪ ،‬دخؿ الزيني مباشرة في غرضو قاؿ‪ :‬بدوف لؼ أو‬
‫دوراف‪ ،‬باختصار شديد أ ريد أف أعرؼ بالضبط‪ .‬أيف أخفى عمي بف أبي الجود أموالو؟ أسند‬
‫زكريا جبيتو إلى إصبعيف مف يده اليمنى‪ ،‬باختصار كعناويف البطائؽ "ال أعرؼ" زعؽ طائر‬
‫غريب الحس في السماء‪ ،‬الميؿ يشيخ‪ ،‬قاـ الزيني م ةر واحدة‪ ،‬عمى ميؿ اقترب مف زكريا "أنت يا‬
‫زكريا تعرؼ تماماً أيف موجودات عمي بف أبي الجود‪ ،‬أنت ال يخفى عنؾ شيئاً‪ ،‬ولو خفي لما‬
‫خاطرت بسمعتي وأقررتؾ نائباً لمحسبة‪ ،‬أنت تعرؼ ليس ألنؾ شغمت منصب نائب عمي بف أبي‬
‫الجود إنما ألنؾ زكريا‪ ،‬أتفيمني؟ ألنؾ زكريا بف راضي أعتى مف تولى منصب كبير بصاصي‬
‫مصر" لـ يرد زكريا‪ ،‬ليقؿ الزيني ما يريد‪ ،‬أمر دفيف يوشؾ اإلفصاح عف نفسو‪ ،‬الضوء خافت‬
‫غامض مرعوش‪ ،‬يوشؾ عمى توىج لكف يداً قوية تح بسو‪ ،‬توشؾ عمى إلغائو‪ ،‬قاؿ الزيني بركات‬
‫( ٔ)‬
‫لـ نجد مثؿ ىذا‬ ‫بف موسى "أنت تعرؼ مكاف أموالو يا صاحبي كما أعرؼ أنا قبر شعباف"‪.‬‬
‫العرض المغوي المتأثر بتقنيات التصوير السينمائي عند كتاب الرواية التاريخية السابقيف أمثاؿ‬
‫جورجي زيداف ونجيب محفوظ وباكثير‪ ،‬فقد شكؿ الكات ب خمفية لممشيد الحواري حيث الضوء‬
‫الخافت المرعوش الذي يناسب طبيعة الحوار‪ ،‬ثـ الموسيقى التصويرية التي تظير في وقت‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬ص٘ٗٔ ‪ٔٗٙ-‬‬

‫‪175‬‬
‫معيف يرتبط بادعاء زكريا بف راضي عدـ معرفة أي شيء عف أمواؿ عمي بف أبي الجود "زعؽ‬
‫طائر غريب الحس في السماء"‪ ،‬ويظير األثر النفسي عمى شخصية زكريا إذ "أسند جبيتو إلى‬
‫اصبعيف مف يده اليمنى"‪ ،‬وتظير قوة شخصية الزيني وسيطرتو عمى الحوار حيف "قاـ م ةر‬
‫واحدة‪ ،‬عمى ميؿ اقترب مف زكريا"‪ ..‬كؿ ذلؾ يظير مقدرة الكاتب الفنية وميارتو في استخداـ‬
‫المغة السينمائية التي تثري السرد‪ ،‬وتنمي الحدث‪ ،‬وتبث في روحو الحياة‪.‬‬

‫ومف مظاىر التجديد المتعمقة بالصياغة‪ ،‬اإلكثار مف استخداـ السارد لؤلفعاؿ المضارعة‪،‬‬
‫فإذا كاف معظـ كتاب الرواية التاريخية يكثروف مف استخداـ الفعؿ الماضي ألنو يتوافؽ مع سرد‬
‫األحداث التاريخية الماضية‪ ،‬فإف جماؿ الغيطاني يكثر مف استعماؿ الفعؿ المضارع ولعؿ في‬
‫ذلؾ داللة عمى تجدد واستمرار المعاناة بيف الماضي والحاضر‪ ،‬مما يعمؿ عمى ترىيف الزمف‪،‬‬
‫وبث الحيوية في السرد عمى الرغـ مف تاريخية األحداث‪.‬‬

‫ومف ضمف التحوالت األسموبية اليامة عند جماؿ الغيطاني‪ ،‬اعتماده عمى االمتزاج‬
‫والتداخؿ في طرؽ وأساليب السرد‪ ،‬فيو ال يسير عمى وتي ةر واحدة‪ ،‬بؿ يظير التداخؿ بيف السرد‬
‫والوصؼ والذكريات والمونولوج الداخمي والحوار الخارجي‪ ،‬ومف ذلؾ حديث عمرو بف العدوي‬
‫مع نفسو بعد استدراجو لممعمـ حميـ الديف لمكبلـ بسؤالو‪" :‬لماذا يا شيخ حميـ الديف؟" فإذ بو‬
‫يخاطب نفسو بعدىا مباشرة قائبلً‪" :‬آه‪ ،‬لماذا التسرع؟؟ ىؿ بدا في سؤالو ما يريب‪ ،‬أحدىـ عمى‬
‫وشؾ أف يسأؿ نفس السؤاؿ‪ ،‬المفروض أال يوجيو ىو‪ ،‬ما زالت عنده خفة‪ ،‬لو الجمع كبير‬
‫( ٔ)‬
‫ومف الجدير بالذكر‬ ‫لسجمت عميو زلة مف أحد الذيف يعرفونو وال يعرفيـ ىو‪ ،‬لكف‪ ،‬ما أدراه؟؟"‪.‬‬
‫بالذكر أف ىذا القطع يتـ في الغالب دوف إشارة أو تمييد‪ ،‬فيو ينتقؿ مف الوصؼ إلى الحوار‬
‫الخارجي إلى الحوار الداخمي بشكؿ مباشر وبسرد متصؿ دوف أي إشارة إلى ذلؾ‪ ،‬عبلوة عمى‬
‫أنو غالباً ما يقطع السرد بأشكاؿ وطرؽ مختمفة عف طريؽ النداءات‪ ،‬أو المراسيـ‪ ،‬أو التقارير‪،‬‬
‫أو المشاىدات‪ ،‬أو الذيوؿ‪ .‬وىذا التداخؿ مف سمات الرواية الجديدة وىي تختمؼ في أسموب‬
‫سردىا عف الرواية الفنية التي تعتمد عمى الترتيب والتسمسؿ المنطقي المنظـ لجميع مكوناتيا‬
‫األساسية‪.‬‬

‫تُ َع ُّد طريقة استخداـ المغة مف أىـ مظاىر التجديد في رواية الزيني بركات‪ ،‬حيث تعددت‬
‫أشكاؿ ومستويات المغة تاريخياً واجتماعياً‪ ،‬فرغـ اعتماد الغيطاني عمى المرجعية التاريخية‬
‫واستخدامو لمغة الفصحى‪ ،‬إال أنو أدخؿ المغة العامية إلى عالـ الرواية التاريخية فاستعمؿ الميجة‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪٘ٚ‬‬

‫‪176‬‬
‫المصرية الحديثة مثؿ‪" :‬الحؽ يا متعوس‪ ،‬واال عمقوا لؾ فانوس"( ٔ)‪ ،‬و"إمش"( ٕ)‪ ،‬و"أيوة" بمعنى‬
‫( ٗ)‬
‫لقد خالؼ الكاتب باستعمالو ليذه المغة ‪-‬‬ ‫نعـ و"لو سمحت معي لحظات"( ٖ)‪ ،‬و"أنت بتاعنا"‪.‬‬
‫مع العمـ أنو لـ يكثر منيا ‪ -‬أسبلفو في كتابة الرواية التاريخية الذيف تجنبوا استعماؿ المغة‬
‫العامية؛ اعتقاداً منيـ أنيا تتعارض مع المرجعية التاريخية والحضارية واالجتماعية التي‬
‫يعتمدوف عمييا في كتابة رواياتيـ‪ .‬وقد أراد باستخدامو لمعامية أف يجعؿ روايتو أكثر قرباً‬
‫واتصاالً وتساوقاً مع واقعو الذي عايشو (واقع الستينيات مف القرف المنصرـ)‪ .‬ويرى الباحث أف‬
‫ىذا ال يعد تطو اًر إيجابياً في مسار الرواية التاريخية‪ ،‬فمـ تكف الفصحى قاصرة في يوـ مف األياـ‬
‫عف أداء المعاني‪ ،‬أو إيصاؿ رؤية الكاتب الفكرية‪ ،‬ثـ إف ُك ّتاب الرواية التاريخية السابقيف‬
‫خاصة نجيب محفوظ وباكثير اعتمدوا بشكؿ كامؿ عمى استعماؿ المغة الفصحى في رواياتيـ‬
‫التي أجمع النقاد عمى أنيا تعالج مشاكؿ الواقع‪ ،‬فمـ تقؼ الفصحى أبداً أماـ فنية وواقعية‬
‫الرواية‪ ،‬بؿ إنيا تمنحيا المزيد مف عناصر القوة األسموبية والببلغية والموضوعية‪.‬‬

‫كذلؾ استعمؿ الغيطاني لغة الكتابة التاريخية التي استخدميا المؤرخوف في كتاباتيـ‪،‬‬
‫حمميا مضاميف العصر وقضاياه‪ ،‬فقد حاكى لغة المؤرخيف وتعبيراتيـ التراثية ال‬
‫والجديد أنو َّ‬
‫أساسيا في‬
‫ً‬ ‫ركنا‬
‫سيما التراكيب المغوية التي استخدميا ابف اياس‪ ،‬وقد شكمت ىذه التعبيرات ً‬
‫مستويات المغة عند السارد‪ ،‬حيث عمؿ عمى تضمينيا في سياؽ الجمؿ والتراكيب المغوية التي‬
‫ظا لغوية منتقاة‪،‬‬
‫يستخدميا‪ ،‬وقد اقتربت بعض األشكاؿ المغوية عنده مف فف المقامة باختياره ألفا ً‬
‫وجمبل قصيرة موحية‪ ،‬تعتمد عمى أسموب السجع مثؿ قولو‪" :‬الحمد هلل الذي ىدانا إلى كشؼ‬
‫أشرارنا‪ ،‬واالىتداء إلى خيارنا‪ ،‬لما فيو راحة العباد‪ ،‬واستقرار األمف والنظاـ في الببلد‪ ،‬فمف بعد‬
‫( ٘)‬
‫وقولو‪:‬‬ ‫ترسيمنا عمى الباغي بف أبي الجود‪ ،‬واقامتنا دونو الحدود‪ ،‬رأينا مؿء وظائفو ومراتبو‪"..‬‬
‫( ‪)ٙ‬‬
‫ثـ إننا نجد‬ ‫"ألف الزمف دب فيو الفساد‪ ،‬وكثر ظمـ العباد‪ ،‬وصار الخير والعدؿ في أبعد واد"‪.‬‬
‫الكثير مف األلفاظ والتراكيب التراثية التي استوحاىا الغيطاني مف ابف إياس‪ ،‬والتي تعبر عف‬
‫الحياة في العصر الممموكي‪ ،‬وقد تعددت أشكاؿ ىذه التعبيرات‪ ،‬فمنيا ما يدور حوؿ األلقاب‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٔٓٛ‬‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٜٔٛ‬‬
‫(ٖ) الزيني بركات‪ ،‬صٓ‪ٕٙ‬‬
‫(ٗ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٕٚٙ‬‬
‫(٘) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٕٜ‬‬
‫(‪ )ٙ‬الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٗٙ‬‬

‫‪177‬‬
‫والوظائؼ الممموكية العميا في الدولة مثؿ‪( :‬أمير الخيؿ السمطانية‪ ،‬وكبير البصاصيف‪ ،‬ونظا ةر‬
‫الحسبة‪ ،‬وناظر الحسبة الشريفة‪ ،‬والسنجؽ السمطاني‪ ،‬والسمطاف‪ ،‬والطبمخاناة‪ ،‬واستدارية‬
‫الذخيرة)‪ .‬ومنيا ما يتعرض ألسماء بعض األمراء المماليؾ مثؿ‪( :‬قاني باي الرماح‪ ،‬قوصوف‬
‫الدوادار‪ ،‬ممماي‪ ،‬طغمؽ‪ ،‬ططؽ‪ ،‬طشتمر‪ ،‬خاير بؾ)‪ .‬ومنيا ما يتعمؽ باألماكف التراثية‬
‫المتعددة‪ ،‬مثؿ‪( :‬حواري الحسينية‪ ،‬والباطنية‪ ،‬والجمالية‪ ،‬والعطوؼ‪ ،‬وكوـ الجارح‪ ،‬ورواؽ‬
‫الصعايدة‪ ،‬وبركة الرطؿ‪ ،‬وباب الشعرية‪ ،‬وأشجار األزبكية‪ ،‬وباب زويمة‪ ،‬وقمعة الجبؿ)‪ .‬ومنيا‬
‫ما يرتبط بالمأكوالت‪ ،‬والمشروبات‪ ،‬والروائح العطرية في ذلؾ العصر مثؿ‪( :‬المغات‪ ،‬والسقنقور‬
‫اليندي‪ ،‬والسنبوسؾ‪ ،‬والبسبوسة‪ ،‬والمشبؾ‪ ،‬وائتبلؼ الريحاف بماء الورد المحفوؼ بروح‬
‫السوسف)‪.‬‬

‫ومف أشكاؿ التعدد المغوي الذي ال نجده في أية رواية مف الروايات التاريخية السابقة‪،‬‬
‫َج ْمعُ السارد بيف عدد مف التقنيات المغوية داخؿ الرواية‪ ،‬يظير ذلؾ في استخدامو ألكثر مف‬
‫نمط لغوي مثؿ لغة التقارير( ٔ)‪ ،‬ولغة المراسيـ( ٕ)‪ ،‬ولغة النداءات والتعميمات( ٖ)‪ ،‬ولغة الرسائؿ( ٗ)‪،‬‬
‫الرسائؿ( ٗ)‪ ،‬ولغة المؤتمرات( ٘)‪ ،‬ولغة الذيوؿ( ‪ ،)ٙ‬ولغة الخطابة (خطبة الجمعة)( ‪ ،)ٚ‬ولغة‬
‫ولغة المشاىدات( ‪ . )ٜ‬يدؿ ىذا التنوع المغوي عمى امتبلؾ الكات ب لمعديد مف الميارات‬ ‫( ‪)ٛ‬‬
‫الفتاوى‬
‫المغوية والسردية التي يوظفيا لخدمة رؤيتو الفنية والموضوعية‪ ،‬كما يدؿ عمى وعي وادراؾ‬
‫السارد ألىمية توظيؼ المغة بكافة أشكاليا وأنواعيا في النسيج الروائي التاريخي الذي يتكئ‬
‫عمى مبادئ الرواية الجديدة‪ ،‬ويعتمد عمى التجريب باتباع طرؽ سردية ولغوية جديدة تتجاوز‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٔٗ‪ ،‬صٗٓٔ ‪ ،ٔٓٛ-‬صٖٖٔ ‪ ،ٖٔٚ-‬ص‪ ،ٔٙٙ‬صٔ‪ ،ٜٔٚ- ٔٚ‬صٕ٘ٗ‪،‬‬
‫ص‪ٕٗٚ‬‬
‫(ٕ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٕٜ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٖ‪ ،ٚ‬ص٘‪ ،ٛ‬صٓٓٔ ‪ ،ٔٓٗ-‬ص‪ ،ٜٔٓ‬ص‪ ،ٕٔٚ‬صٖٔٔ ‪،ٖٕٔ-‬‬
‫صٗ‪ ،ٔٙ٘- ٔٙ‬ص‪ ،ٜٔٙ- ٔٙٚ‬صٓ‪ ،ٔٛ‬ص‪ ،ٜٔٙ‬صٕ٘ٓ ‪ ،ٕٓٙ-‬ص‪،ٕٓٛ- ٕٓٚ‬‬ ‫ص‪،ٖٔٛ‬‬
‫صٔ‪ ،ٕٙ‬ص‪ٕٜٙ- ٕٙٚ‬‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬ص‪ ،ٙٚ‬ص‪ٜٙ‬‬
‫(٘) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٖٕٕ ‪ٕٖ٘-‬‬
‫(‪ )ٙ‬انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٕٖٜ- ٕٖٙ‬‬
‫(‪ )ٚ‬انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٗٔٔ ‪ٔٔ٘-‬‬
‫(‪ )ٛ‬انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬ص٘ٔٔ ‪ٔٔٙ-‬‬
‫(‪ )ٜ‬انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬ص‪ ،ٔ٘- ٚ‬ص‪ ،ٔٗٓ- ٖٜٔ‬ص‪ ،ٕٓٗ- ٜٔٚ‬ص‪ ،ٕٕٓ- ٕٜٔ‬صٔ‪ٕٖٛ- ٕٛ‬‬

‫‪178‬‬
‫التقميدي والمألوؼ‪ .‬وقد أبدع الغيطاني في استخداـ وتوظيؼ ىذا العدد مف األنماط المغوية‪،‬‬
‫ونعد ذلؾ تطو ًار إيجابيًا ممحوظًا ظير أثره فيمف لحقو مف ُك ّتاب أمثاؿ رضوى عاشور وأحمد‬
‫رفيؽ عوض وغيرىـ‪ ،‬فقد أسيـ ىذا التنوع المغوي في بياف رؤية الكاتب‪ ،‬حيث ظير الدور‬
‫الفاعؿ لمشكؿ المغوي في إيصاؿ فكرة السارد إلى القارئ‪ ،‬فاألشكاؿ المغوية األكثر استخداماً كما‬
‫الحظنا (النداءات والتقارير) توحي بالتسمط والقير والفوقية عبلوة عمى المتابعة والمراقبة وكبت‬
‫الحريات‪.‬‬

‫وقد الحظ الباحث وجود ثبلثة أشكاؿ لغوية جديدة‪ ،‬تميز بيا السارد عف غي هر مف كتاب‬
‫الرواية التاريخية‪ ،‬وىي‪:‬‬

‫‪ - 7‬المغة الصوفية‪:‬‬

‫مظير مف مظاىر‬
‫ا‬ ‫يمثؿ المجوء إلى التجربة الصوفية‪ ،‬كممارسة إبداعية أو فمسفية لرؤية الكوف‪،‬‬
‫الحداثة في الرواية الجديدة؛ وذلؾ ألف االغتراؼ مف الفكر الصوفي يطبع الرواية بطابع شعري ممحوظ‬
‫وجمي‪ ،‬وألف الرواية الجديدة تمتجئ إلى الشعري‪ ،‬فالفكر الصوفي مف أنجع الطرؽ إلضفاء الشاعرية‬
‫( ٔ)‬
‫وال شؾ في أف الموروث الصوفي يضفي عمى النص الروائي نوعا مف الحيوية‬ ‫عمييا‪.‬‬
‫والشفافية‪ ،‬كما يسيـ في تدفؽ الدالالت‪ ،‬ويفتح التعابير السردية عمى الكثير مف الرموز‪ .‬وقد‬
‫استخدـ الغيطاني المغة الصوفية بكثرة في الرواية‪ ،‬وفي أثناء ذلؾ يكثر مف استعماؿ بعض‬
‫المفردات الصوفية مثؿ‪( :‬األولياء‪ ،‬الصالحوف‪ ،‬والمريدوف‪ ،‬والدراويش‪ ،‬والكرامات النورانية‪،‬‬
‫حي‪ ..‬اهلل حي)‪ ،‬ثـ ىو ينقمنا إلى بعض العوالـ الروحانية العجيبة المرتبطة بالفكر الصوفي‬
‫( ٖ)‬ ‫( ٕ)‬
‫والمقاء ببعض األنبياء أو‬ ‫واألكؿ مف شجرة الحقيقة‬ ‫مثؿ‪ :‬الوصوؿ إلى سدرة المنتيى‬
‫بل بالنبي إلياس عميو السبلـ‪..‬‬
‫األولياء والحديث معيـ‪ ،‬وأخذ النصح منيـ‪" ..‬بعضيـ التقى فع ً‬
‫الشيخ الكرماني حكى لو‪ ..‬التقى برجؿ يمبس البياض‪ ،‬أبيض المحية والشارب وشعر الرأس‪،‬‬
‫يمشي فتياً عفياً كأنو اب ف العشريف‪ ،‬الشيخ الكرماني كاف عمى وشؾ النزوؿ في قارب ليعبر‬
‫البحر الكبير‪ ،‬سمـ عميو الشيخ‪ ،‬مف عينيو ينساؿ بياء غريب‪ ،‬حذره مف ركوب البحر‪ ..‬رجع‬
‫الشيخ الكرماني‪ ،‬واختفى الشيخ األشيب‪ ..‬برؽ الخاطر في عقؿ الشيخ الكرماني‪ ،‬مف التقى بو‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬الصوفي في الروائي ‪http://www.aljabriabed.net/n40_06adada%29.htm‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٕ‪ٔٛ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٕٕٗ‬

‫‪179‬‬
‫( ٔ)‬
‫وتبدو معرفة الكاتب العميقة بتاريخ الفكر‬ ‫وحذره‪ ..‬ىو بعينو سيدنا الخضر عميو السبلـ"‪.‬‬
‫الصوفي مف خبلؿ تعبيره عف مأساة سعيد الجييني باستدعائو حادثة قتؿ الحبلج في بغداد بمغة‬
‫شعرية مؤثرة‪" ..‬مدينة وثنية ترجـ ناسكًا‪ ،‬بغداد اإلسبلـ تمتؼ حوؿ منصة عالية فوقيا‬
‫المنصور‪ ،‬الحسيف بف منصور الحبلج‪ ،‬الرجاؿ والنساء يرمونو باألوحاؿ‪ ،‬المساف الشييد ال‬
‫يكؼ‪ ،‬أنا الحؽ‪ ،‬أنا الحؽ‪ ..‬االبتسامة فوؽ شفتي العابد الزاىد‪ ،‬توحي بالظاىر والباطف‪ ..‬ما‬
‫الزماف ىنا إال امتداد ىذه األياـ الثقيمة النائية‪ ،‬ظؿ لزج ال يروح أبداً‪ ،‬الخير مسكوب والشر باغ‬
‫( ٕ)‬
‫تحمؿ ىذه المغة الشعرية المشحونة العديد مف الدالالت واإليحاءات‪ ،‬أىميا‬ ‫والعير طاغ"‪.‬‬
‫استمرار الظمـ بيف الماضي والحاضر‪ ،‬فالقمع والقير ليست ظواىر طارئة عمى مجتمعاتنا‪ ،‬إنما‬
‫ىي ظواىر قائمة ليا أصوؿ ما زالت مستم ةر في حياتنا‪ .‬لقد أبدع السارد في توظيؼ ىذا النمط‬
‫المغوي الذي يفتح النص الروائي عم ى كثير مف الدالالت والقراءات‪ .‬لـ نجد مثؿ ىذه المغة‬
‫العجائبية الجميمة عند كتاب الرواية التاريخية السابقيف‪ ،‬ولعؿ سعي الغيطاني إلى التجريب ىو‬
‫الذي دفعو إلى استثمار ىذا الشكؿ المغوي‪.‬‬

‫‪ - 6‬لغة اإلشاعة‪:‬‬

‫وىي تنتشر في الرواية‪ ،‬وتعبر عف جو يسوده الخوؼ واالضطراب والشؾ وعدـ اليقيف‬
‫حيث إف "المشاىد األساسية في الرواية تقوـ عمى جماعات مف الناس تتبادؿ األحاديث‬
‫واإلشاعات واألقواؿ عما يدور في أركاف السمطنة وأقبيتيا السرية‪ .‬ال شيء يقيني وال سبيؿ إلى‬
‫( ٖ)‬
‫تستخدـ ىذه المغة غالباً صيغة المبني‬ ‫التعاطؼ الفج مع حدث أو شخص أو ضده"‪.‬‬
‫لممجيوؿ مثؿ‪ُ :‬يقاؿ‪ ،‬فحوؿ شخصية زكريا ُ"يقاؿ إنو يقيـ في أكثر مف مكاف‪ ،‬ال يدري أحد عمره‬
‫الحقيقي‪ ،‬يعرؼ الناس مقره األصمي‪ ،‬بعيداً تحت جبؿ المقطـ‪ ،‬حيث يتيامس البعض بسماعيـ‬
‫بل‪ ،‬يقولوف إنو يناـ‬
‫صرخات بشر يجمدوف‪ ،‬تحرؽ أطرافيـ‪ ،‬يخوزقوف لكف ىؿ يقيـ زكريا ىناؾ فع ً‬
‫( ٗ)‬
‫وتكثر اإلشاعة كذلؾ حوؿ شخصية‬ ‫كؿ ليمة في مكاف مغاير‪ ،‬إف وجيو لـ يره إنساف‪"..‬‬
‫الزيني فػ "الناس ال يقصدوف إال ىو‪ ،‬عطَّؿ أبواب األمراء والقضاة‪ ،‬حتى أشيع أف الزيني ينوي‬
‫الجمع بيف القضاء والحسبة"( ٘) ثـ إف الزيني لـ ينشئ نظاماً خاصاً بو يجس األخبار كما ادعى‪،‬‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬صٕٔٗ‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٕٔٚ‬‬
‫(ٖ) ىموـ المعيشة كما تصورىا الرواية التاريخية (بحث)‪ ،‬ص٘‪ٜ‬‬
‫(ٗ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٜٚ‬‬
‫(٘) الزيني بركات‪ ،‬صٕٔٔ‬

‫‪181‬‬
‫لقد وفّْؽ السارد‬ ‫( ٔ)‬
‫إف "األمر كمو إشاعة أطمقيا الزيني‪ ،‬بنى نظاماً في اليواء‪ ،‬أوجده ولـ يوجده"‪.‬‬
‫في استخداـ ىذا النمط المغوي الذي يتبلءـ مع جو العجز والخوؼ والرعب والصوت الخفيض‬
‫الذي ينتشر في الرواية‪.‬‬

‫‪ - 4‬المغة الجنسية‪:‬‬

‫أكثر السارد مف استخداـ المغة الجنسية الفاضحة‪ ،‬التي تظير في أثناء وصؼ المشاىد‬
‫( ٕ)‬
‫والمقاءات الجنسية المتعددة في الرواية‪ ،‬والتي تعبر أحياناً عف بعض مظاىر الشذوذ الجنسي‬
‫لقد تجاوز الكاتب بيذه المغة الفضائحية العارية غير المقبولة اجتماعياً‪ .‬ويرى الباحث أف‬
‫تصوير المشاىد الجنسية التي تجاوزت المحذور والممنوع لـ يكف مقصودًا لذاتو‪ ،‬بؿ إف‬
‫المشوه وتعريتو‪ ،‬ورفع الحصانة‬
‫َّ‬ ‫المقصود ىو فضح بؤر الفساد‪ ،‬بكشؼ وجييا الحقيقي‬
‫األخبلقية عنو‪ .‬والدليؿ عمى ذلؾ أف معظـ المشاىد الجنسية كانت مرتبطة بأرباب السمطة‬
‫الح اكمة وصنائعيا مثؿ تعرض السارد لمعبلقة الغريبة المثيرة لمشؾ التي تربط السمطاف الغوري‬
‫بأحد غممانو (شعباف)( ٖ)‪ ،‬وولع عمي بف أبي الجود –المحتسب القديـ ‪ -‬بالجنس حتى إنو يمتمؾ‬
‫( ٗ)‬
‫باإلضافة إلى االعتداء الجنسي الذي مارسو زكريا بف‬ ‫سبعًا وستيف جارية غير زوجاتو األربع‬
‫( ٘)‬
‫وغير ذلؾ مف المشاىد التي تبرز وتؤكد‬ ‫راضي –رئيس البصاصيف ‪ -‬عمى غبلـ السمطاف‬
‫فساد وانحراؼ وضعؼ ىذا النظاـ‪ ،‬الذي يظير القوة والتجبر مف خبلؿ تسمطو وقيره لمناس‪،‬‬
‫والحقيقة أنو نظاـ عاجز َخ ِرب مصاب بالعديد مف األمراض النفسية والجنسية التي أوصمتو في‬
‫النياية إلى ا ليزيمة الساحقة‪ ،‬وىذه نتيجة طبيعية لمفساد واالنحراؼ النفسي واألخبلقي‪.‬‬

‫ثالث ًا‪ :‬التناص‪:‬‬

‫تستحضر رواية الزيني بركات أشكاالً كثيرة ومتنوعة مف التناص‪ ،‬وتوظفو بمختمؼ‬
‫الطرائؽ والتقنيات‪ ،‬لذلؾ شكؿ استعماؿ الغيطاني ليذه التقنية ثورة في عالـ الرواية التاريخية‪ ،‬فقد‬
‫يكتؼ بالتناص مع القرآف الكريـ والحديث النبوي الشريؼ أو‬ ‫ِ‬ ‫أكثر مف العبلقات النصية‪ ،‬ولـ‬
‫قصص األنبياء كما ىو الحاؿ عند كتاب الرواية التاريخية السابقيف أمثاؿ عمي أحمد باكثير‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬صٗ‪ٕٙ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٓٔ ‪ ،ٔٔ-‬صٗ‪ ،ٙ‬صٗٗٔ‪ ،‬ص٘‪ ،ٔٚ‬صٕٔٔ ‪ ،ٕٕٔ-‬صٖٖٕ‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٕٖ‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٕٓ‬
‫(٘) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٖٗ‬

‫‪181‬‬
‫الذي تميز في ىذا الجانب‪ ،‬بؿ فتح الباب واسعاً مف بعده الستخداـ الكثير مف األشكاؿ‬
‫التناصية‪ ،‬إذ إف التناص مف العناصر الرئيسة في بناء ىذه الرواية‪ ،‬مما شكؿ ضغطًا عمى‬
‫مجمؿ األحداث‪ ،‬وجعؿ المتمقي دائـ التنقؿ بيف تفاصيؿ التناصات المختمفة‪ ،‬التي تجعؿ النص‬
‫أكثر انفتاحاً وتعالقاً مع النصوص األخرى‪ .‬ومف أبرز أشكاؿ التناص التي استعمميا الغيطاني‬
‫ما يأتي‪:‬‬

‫‪ - 7‬التناص مع القرآن الكريم‪:‬‬

‫اعتمد الغيطاني عمى التناص مع لغة القرآف الكريـ بكثرة في الرواية‪ ،‬وىو بذلؾ يظير‬
‫تأث اًر واضحاً بعمي أحمد باكثير الذي كاف يكثر مف توظيؼ لغة القرآف في رواياتو التاريخية‪،‬‬
‫لكف يبدو اختبلؼ ىدؼ كؿ منيما مف توظيؼ القرآف الكريـ‪ ،‬فكتابة باكثير كانت مف منطمؽ‬
‫إسبلمي‪ ،‬ي ؤكد فييا عمى أىمية الفكر اإلسبلمي في مواجية تيارات التغريب األخرى‪ ،‬لذلؾ أكثر‬
‫مف االعتماد عمى لغة القرآف الكريـ واالقتباس منو‪ .‬أما جماؿ الغيطاني فإنو يكتب مف منطمؽ‬
‫شيوعي حيث اعتنؽ الماركسية في شبابو‪ ،‬وكاف ذلؾ سبباً في اعتقالو عاـ ‪ ٜٔٙٙ‬بتيمة‬
‫االنتماء إلى تنظ يـ شيوعي‪ .‬ومف خبلؿ تناوؿ الرواية وتحميميا يتضح لنا ىدؼ الغيطاني مف‬
‫توظيفو واقتباسو آليات القرآف الكريـ والذي يتمثؿ في فضح ممارسات السمطة الحاكمة وبياف‬
‫مساوئيا‪ ،‬وأنيا تتخذ مف القرآف الكريـ والنصوص الدينية وسيمة لممكر والخداع والكذب سواء‬
‫عمى الناس أـ عمى أنف سيـ‪ ،‬حيث يكثروف مف ذكر اآليات القرآنية الكريمة التي تحث عمى نشر‬
‫الخير واألمف والعدالة إال أنيـ ال يطبقوف منيا شيئاً‪ ،‬ومف ذلؾ أف غالبية الكتب الرسمية‬
‫ص َّدر بآيات قرآنية مثؿ قولو‬
‫الصادرة عف الدولة‪ ،‬أو الرسائؿ المتبادلة بيف أقطاب الحكـ تُ َ‬
‫وقولو‬ ‫نك ِر"‪.‬‬
‫( ‪)7‬‬ ‫نكـ أ َُّمةٌ ي ْدعوف إِلَى الْ َخ ْي ِر ويأْمروف بِالْمعر ِ‬
‫وؼ َوَي ْن َي ْو َف َع ِف الْ ُم َ‬ ‫َ َ ُُ َ َ ُْ‬ ‫َ ُ َ‬ ‫تعالى‪َ" :‬ولْ َت ُكف ّْم ُ ْ‬
‫ص ّْدر بيما‬
‫اف"‪ .‬ىاتاف اآليتاف ُ‬
‫( ٕ)‬
‫اإلثِْـ َوا ْل ُع ْدَو ِ‬
‫تعالى‪" :‬وَت َعاوُنوا َعَمى ا ْلبِّْر والتَّ ْقوى وال َت َعاوُنوا َعَمى ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫المرسوـ السمطاني الذي قضى بعزؿ عمي بف أبي الجود وتعييف الزيني بركات لوالية حسبة‬
‫( ٖ)‬
‫ومع ذلؾ فالسارد ال يجعؿ استعماؿ القرآف الكريـ حك اًر عمى السمطة‬ ‫القاىرة‪ ،‬وغير ذلؾ كثير‪.‬‬
‫الفاسدة‪ ،‬بؿ يجريو أحياناً عمى ألسنة بعض الشخصيات الخيرة الصادقة التي تعبر عف ىموميا‬
‫وأحزانيا وصبرىا بالمجوء إلى آيات القرآف الكريـ( ٗ)‪ ،‬ومف ذلؾ ما يظير في حديث سعيد‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ - ٕٜ‬القرآف الكريـ‪ ،‬سورة آؿ عمراف‪ٔٓٗ :‬‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ - ٕٜ‬القرآف الكريـ‪ ،‬سورة المائدة‪ٕ:‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬ص‪ ،ٙٚ‬صٕٓٔ‪ ،‬صٔ٘ٔ‪ ،‬صٖٕٕ‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٓ‪ ،ٛ‬صٕٓٔ‬

‫‪182‬‬
‫الجييني مع نفسو عندما صدمتو قسوة الظمـ الذي تعرض لو فيقوؿ‪" :‬أتى الزماف الذي ال يعرؼ‬
‫فيو اإلبف أباه‪ ،‬يسأؿ األخ عف أخيو فينكره حتى لو جاوره وقوفًا‪ ،‬أتى اليوـ الذي ترمي فيو كؿ‬
‫ذات حمؿ حمميا‪ ،‬وترى الناس سكارى وما ىـ بسكارى‪ ،‬في اليواء خمدة‪ ،‬أىي القارعة‪ ،‬وما‬
‫أدراؾ ما القارعة؟"‪ )ٔ (.‬ىذا الحديث يتساوؽ مع مجموعة متفرقة مف اآليات القرآنية ىي قولو‬
‫ض َع ٍة َع َّما‬
‫يو"( ٕ) وقولو تعالى‪ " :‬يوـ َترونيا َت ْذى ُؿ ُك ُّؿ مر ِ‬
‫ُْ‬ ‫َْ َ َ ْ َ َ َ‬
‫يو‪ ،‬وأ ُّْم ِو وأَبِ ِ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫تعالى‪"َ :‬ي ْوَـ َيفُّر الْ َم ْرُء م ْف أَخ َ َ‬
‫اب المَّ ِو‬ ‫ِٰ‬ ‫ات َح ْم ٍؿ َح ْممَ َيا َوَتَرى َّ‬ ‫ت وَتضع كُ ُّؿ َذ ِ‬
‫س َك َار ٰى َوَما ُىـ بِ ُ‬
‫س َك َار ٰى َولَك َّف َع َذ َ‬ ‫اس ُ‬ ‫الن َ‬ ‫ض َع ْ َ َ ُ‬
‫أ َْر َ‬
‫َشِديدٌ" وقولو تعالى‪" :‬الْقَ ِارَعةُ‪َ ،‬ما الْقَ ِارَعةُ‪َ ،‬وَما أ َْدَر َ‬
‫اؾ َما الْقَ ِارَعةُ"‪.‬‬
‫( ٗ)‬ ‫( ‪)4‬‬

‫‪ - 6‬التناص مع الحديث النبوي الشريف‪:‬‬

‫وظَّؼ جماؿ الغيطاني األحاديث النبوية الشريفة في روايتو‪ ،‬وجعميا تخدـ النص الروائي‪،‬‬
‫وقد أجراىا عمى ألسنة الشخصيات المختمفة‪ ،‬ليظير تحوير البعض لداللة األحاديث بما يخدـ‬
‫أىدافو الخاصة‪ .‬ومف ذلؾ ما أورده عمى لساف خطباء الجمعة في الرد عمى مف أحّموا تعميؽ‬
‫الفوانيس أماـ البيوت والدكاكيف‪ ،‬فقد حوروا داللة الحديث ليقنعوا الناس بحرمة الفوانيس مع أنيا‬
‫مفيدة لمجميع حيث تنير الشوار والطرقات في ظممة الميؿ فقالوا‪" :‬يا أىؿ مصر‪ ،‬يقوؿ رسوؿ اهلل‬
‫صمى اهلل عميو وسمـ‪" :‬ال يستحي العالـ إذا سئؿ عما ال يعمـ أف يقوؿ ال أعمـ"‪ ..‬وىنا تعالى‬
‫( ٘)‬
‫ومف‬ ‫بكاء الناس في الجوامع‪ ،‬وزعؽ بعضيـ‪ ،‬الميـ اىدـ الفوانيس‪ ،‬الميـ اسحؽ الفوانيس"‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬ما ورد عمى لساف زكريا بف راضي بمناسبة اجتماع‬
‫األحاديث التي وردت في الرواية ً‬
‫كبار البصاصيف في القاىرة حيث استعاف في مطمع خطابو بحديث الرسوؿ ‪-‬صمى اهلل عميو‬
‫خيرا‪ ،‬أو ليصمت"‪ )ٙ (.‬مع أنو لـ‬
‫وسمـ ‪ -‬الذي يقوؿ فيو‪" :‬مف كاف يؤمف باهلل واليوـ اآلخر‪ ،‬فميقؿ ً‬
‫لـ يرد في خطاب زكريا إال ما فيو كؿ شر وقير وظمـ وتعذيب لمنا س‪ .‬وقد أبدع الغيطاني بيذه‬
‫المفارقات والتناقضات في تصوير فساد السمطة ومف يسير في ركابيا‪ ،‬فيـ ال يتورعوف عف‬
‫استغبلؿ األحاديث النبوية الشريفة في الكذب والتضميؿ والخداع الذي يمارس عمى الغير‪ ،‬وىذا‬
‫تطور ممموس في توظيؼ الحديث النبوي الشريؼ‪ ،‬اختمؼ فيو الغيطاني مع باكثير الذي أكثر‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬صٖ‪ٕٚ‬‬


‫(ٕ) القرآف الكريـ‪ ،‬سورة عبس‪ٖ٘- ٖٗ :‬‬
‫(ٖ) القرآف الكريـ‪ ،‬سورة الحج‪ٕ :‬‬
‫(ٗ) القرآف الكريـ‪ ،‬سورة القارعة‪ٖ- ٔ :‬‬
‫(٘) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٗٔٔ ‪ٔٔ٘-‬‬
‫(‪ )ٙ‬الزيني بركات‪ ،‬صٖٕٕ‬

‫‪183‬‬
‫في رواياتو التاريخية (واإسبلماه) مف االستعانة باألحاديث النبوية الشريفة‪ ،‬إال أنو وظفيا عمى‬
‫ألسنة الشخصيات وفؽ دالالتيا ومعانييا الصحيحة دوف تحوير لمقصد أو تبديؿ فيو‪.‬‬

‫‪ - 4‬التناص مع السيرة النبوية‪:‬‬

‫استميـ السارد السيرة النبوية عمى لساف رئيس البصاصيف زكريا بف راضي في أثناء‬
‫خطابو بمناسبة اجتماع كبار البصاصيف في القاىرة حيث يقوؿ واصفًا كراىية الناس‬
‫لمبصاصيف‪" :‬ما مف عاقؿ يزعـ وجود إنساف محبوب مف كافة قومو‪ ،‬لـ يخمؽ ىذا قط‪ ،‬ألـ يكف‬
‫خاتـ المرسميف وسيد البشر مضطيداً مف قومو‪ ،‬ألـ يرمو الييود بالحجارة مف فوؽ أسوار‬
‫الطائؼ‪ ،‬فأليب اليجير باطف قدميو‪ .‬وساؿ دمو‪ ،‬ألـ يتآمروا عمى قتمو؟ ألـ يحاربوه وتأكؿ واحدة‬
‫( ٔ)‬
‫يكشؼ الغيطاني مف خبلؿ التناص السابؽ عف أعماؽ شخصية زكريا‬ ‫منيـ كبد عمو نيئاً؟"‬
‫بل مقدسًا‪ ،‬يسعى فيو البصاص إلى‬
‫المريضة الفاسدة‪ ،‬التي ترى في البص ومراقبة الناس عم ً‬
‫إرضاء اهلل –عز وجؿ ‪ -‬والحفاظ عمى أركاف الدولة‪ ،‬وما كراىية الناس لو إال ككراىية المشركيف‬
‫لمنبي محمد –صمى اهلل عميو وسمـ ‪ -‬الذي كاف يتعرض لؤلذى مف قومو رغـ نش هر لمخير وحممو‬
‫برُ ساحة‬
‫لمرسالة الربانية‪ .‬ما ىذا التناقض العجيب؟ إف رئيس البصاصيف بيذا الشكؿ ُي ّْأ‬
‫البصاص مف أي ذنب‪ ،‬ويجعؿ كؿ مف يعترض عمى عممو في صؼ الكفار والمشركيف الذيف‬
‫يجب القضاء عمييـ‪.‬‬

‫‪ - 3‬التناص مع قصص األنبيال‪:‬‬

‫لـ يكف جماؿ الغيطاني أوؿ مف وظؼ قصص األنبياء في الرواية التاريخية‪ ،‬فقد سبقو‬
‫طور توظيؼ ىذا النوع مف التناص ليصبح أكثر تعبي ًار عف‬
‫في ذلؾ عمي أحمد باكثير‪ ،‬إال أنو َّ‬
‫نفسيات شخصياتو الروائية‪ ،‬فقد استوحى قصة نبي اهلل موسى –عميو السبلـ ‪ -‬مع فرعوف بما‬
‫يخدـ روايتو في التعبير عف نفسية البصاص المريضة‪ ،‬الذي يجمح بو الخياؿ‪ ،‬فيرى عالماً مميئاً‬
‫بالبصاصيف‪ ،‬كؿ شيء فيو مراقب‪ ،‬حتى األطفاؿ وىـ في أرحاـ أمياتيـ‪ ،‬إذ يقوؿ عمى لساف‬
‫رئيس البصاصيف‪" :‬لو أوتي فرعوف مصر بصاصاً عظيماً نفذ إلى حقيقة الطفؿ الذي ألقتو أمو‬
‫في النير‪ .‬لما عرفت الدنيا نبي اهلل موسى‪ .‬ولنجا فرعوف وجنوده مف الغرؽ"‪ )ٕ (.‬كذلؾ استدعى‬
‫السارد قصة إبراىيـ –عميو السبلـ ‪ -‬عندما أراد ذبح ابنو إسماعيؿ طاعة ألمر اهلل –عز وجؿ ‪-‬‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬صٕٕ٘‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٜٙ‬‬

‫‪184‬‬
‫الذي افتداه بكبش سميف في التعبير عف المعاناة والظمـ الذي تعرض لو سعيد دوف أف يفتديو‬
‫أحد حيث إنو " ُذ ِب َح ذبحًا ولـ يفتده جبريؿ عميو السبلـ‪ ،‬لـ يبكو قمبو‪ ،‬بؿ ىاـ كاألبرص‪ ،‬يرى‬
‫الدنيا ثقبًا ضيقًا"‪ )ٔ (.‬كما يظير التناص مع قصة المسيح عيسى بف مريـ‪ ،‬وقصة سيدنا يوسؼ‬
‫( ٕ)‬
‫–عميو السبلـ ‪ -‬عمى لساف زكريا بف راضي في اجتماع البصاصيف‪.‬‬

‫‪ - 5‬التناص مع األمثال الشعبية‪:‬‬

‫استعاف الغيطاني باألمثاؿ الشعبية في رواية الزيني بركات‪ ،‬ويعد ذلؾ أحد أشكاؿ التناص‬
‫الجديدة التي أدخميا السارد عمى الرواية التاريخية‪ ،‬والتي لـ نقع عمييا في الروايات التاريخية‬
‫السابقة عند نجيب محفوظ أو باكثير أو الكيبلني‪ .‬ولؤلمثاؿ الشعبية أىمية كبيرة حيث إنيا‬
‫ترصد تطور الوج داف الشعبي تجاه الظروؼ المحيطة‪ ،‬وتعكس ثقافة الشعب وعاداتو وتقاليده‬
‫وقيمو‪ ،‬وىي بمثابة قوانيف اجتماعية؛ ألنيا تمثؿ وعاء لمتجارب الشعبية في الحياة‪ ،‬ثـ إنيا تعبر‬
‫عف طبيعة الشخصيات الروائية‪ ،‬وطريقة تفكيرىا‪ ،‬وتقييميا لممواقؼ‪ .‬ومف األمثاؿ التي وظفيا‬
‫عمى لساف سعيد الجييني الذي ّْ‬
‫يعبر‬ ‫( ٖ)‬
‫الغيطاني في الرواية قولو‪" :‬عد غنماتؾ يا جحا"‬
‫باستخدامو ليذا المثؿ عف معارضتو لسياسة الدولة‪ ،‬وسخريتو مف عدـ كفاءة أمراء المماليؾ‬
‫( ٗ)‬
‫عمى لساف الرحالة‬ ‫لشغؿ الوظائؼ اليامة‪ .‬كذلؾ ظير المثؿ الشعبي‪" :‬يا فرحة ما تمت"‬
‫البندقي فياسكونتي جانتي عندما ذكر قصة الرجؿ المسف الذي قضى عمره يحمـ بالحصوؿ عمى‬
‫جارية رومية بيضاء‪ ،‬وعندما تحقؽ مراده قبض عميو الزيني َّ‬
‫وعذبو بتيمة سوء معاممة الفتاة‪.‬‬
‫كما يظير المثؿ الشعبي‪" :‬فأؿ اهلل وال فالؾ"‪ )٘ (.‬عمى لساف المعمـ ُمرشدي في أثناء حواره مع‬
‫آخريف عف شخصية الزيني بركات‪ .‬وورد أيضاً المثؿ الشعبي‪" :‬الحؽ يا متعوس‪ ،‬واال عمقوا لؾ‬
‫( ‪)ٙ‬‬
‫عمى لساف بعض شعراء المقاىي في الحط مف قيمة الفوانيس التي تكشؼ عورات‬ ‫فانوس"‬
‫وبناء عمى ذلؾ فقد أحسف السارد توظيؼ األمثاؿ بدالالتيا المتعددة؛ لتكوف‬
‫ً‬ ‫الناس في الميؿ‪.‬‬
‫عبر عف طبيعة الشخصيات الروائية ومواقفيا مف األحداث‪ ،‬فسعيد الجييني ناقـ عمى‬ ‫خير ُم ّْ‬
‫ويمم ُح‬
‫السمطة معارض ألسموبيا في الحكـ‪ ،‬والرحالة البندقي يظير تعاطفاً مع الرجؿ المسف‪ّْ ،‬‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬صٕٗٔ‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬صٕٕ٘‬
‫(ٖ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٕٙ‬‬
‫(ٗ) الزيني بركات‪ ،‬صٕٔ‬
‫(٘) الزيني بركات‪ ،‬صٓ٘‬
‫(‪ )ٙ‬الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٔٓٛ‬‬

‫‪185‬‬
‫لمظمـ الذي تعرض لو عمى يد الزيني بركات‪ ،‬والمعمـ مرشدي يعبر عف طيبة الناس وسذاجتيـ‬
‫وتقديسيـ لمحاكـ‪ ،‬أما الشعراء فيستخدموف األمثاؿ في خداع الجماىير لتحقيؽ مصالحيـ‬
‫الخاصة المرتبطة بالنظاـ‪.‬‬

‫‪ - 2‬التناص مع الحكم واألقوال المأثورة‪:‬‬

‫اعتمد السارد عمى استخداـ بعض الحكـ واألقواؿ المأثورة عمى لساف بعض الشخصيات‬
‫الروائية‪ ،‬وىذا شكؿ جديد مف أشكاؿ الت ناص في الرواية التاريخية‪ ،‬والذي ُي ّْ‬
‫عبر عف ثقافة‬
‫الشخصية ومدى معرفتيا بأخبار السمؼ وما ورد عنيـ‪ ،‬وعبلقة ذلؾ بحاضر الخطاب الروائي‪،‬‬
‫ومف أىـ األقواؿ المأثو ةر الواردة في الرواية ما جاء في خطاب زكريا بف راضي بمناسبة اجتماع‬
‫كبار البصاصيف في القاىرة؛ لتدارس األحواؿ‪ ،‬والنظر في األساليب المتبعة‪ ،‬وما يستجد منيا‪،‬‬
‫ولتبادؿ المعرفة والفوائد‪ ،‬حيث استعاف بقوؿ مأثور عف الصحابي الجميؿ عمرو بف العاص –‬
‫( ٔ)‬
‫ومف‬ ‫رضي اهلل عنو ‪ -‬يقوؿ فيو‪" :‬الكبلـ كالدواء‪ ،‬إف أكثرت منو قتؿ‪ ،‬واف أقممت منو نفع"‪.‬‬
‫الحكـ واألقواؿ المأثورة ما ورد أيضاً عمى لساف مقدـ بصاصي القاىرة وىو يحاور سعيد‬
‫الجييني بعد خروجو مف السجف‪ ،‬طالباً منو العمؿ ضمف جماعة البصاصيف مف خبلؿ العودة‬
‫( ٕ)‬
‫إف ذكر السارد ليذه‬ ‫إلى الشيخ أبي السعود قائبلً‪" :‬يا أخي مف عممني حرفاً صرت لو عبداً"‪.‬‬
‫األقواؿ عمى ألسنة كبار البصاصيف يظير الوجو البشع المخادع ليذا النظاـ الفاسد‪ ،‬الذي يظير‬
‫الخير قوالً ويمارس الشر فعبلً وسموكاً‪.‬‬

‫‪ - 1‬التناص مع األساطير الشعبية‪:‬‬

‫وىو مف أشكاؿ التناص الجديدة التي أضافيا الغيطاني إلى الرواية التاريخية‪ ،‬ىذا النوع‬
‫مف التناص لـ نجده عند زيداف وال أبي حديد وال نجيب محفوظ وباكثير‪ .‬إف ىذه األساطير‬
‫تظير بساطة وسذاجة التفكير الشعبي‪ ،‬الذي يدؿ عمى سطحية المعرفة وقمتيا‪ ،‬فالشعب –‬
‫غالباً ‪ -‬يصدؽ ما يسمع‪ ،‬وىو يتعمؽ بالحكايات األسطورية العجيبة ذات الحموؿ العجائبية التي‬
‫ال نراىا عمى أرض الواقع‪ ،‬ولعؿ في الميؿ إلى األساطير الشعبية دليؿ عمى تفشي حالة اليأس‬
‫واإلحباط مف الواقع بحيث ال يجد اإلنساف األمؿ الذي يخفؼ عنو معاناتو إال في عالـ‬
‫األساطير العجيب‪ .‬وقد ذكرت الرواية العديد مف األساطير الشعبية فتحدثت عف خاتـ سيدنا‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬صٖٕٕ‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬صٗ‪ٕٚ‬‬

‫‪186‬‬
‫سميماف وقدرتو العجيبة عمى استحضار الجف وقضاء الحوائج حيث يقوؿ العامة‪" :‬لدى الشيخ‬
‫أبو السعود خاتـ عميو رسـ سيدنا سميماف‪ ،‬يمكنو فؾ طبلسـ الجاف وتسخيرىـ ألغراض‬
‫اإلنساف‪ ،‬يمكف لمشيخ أف يحمؿ زكريا بف راضي إلى جباؿ واؽ الواؽ‪ ،‬ال يرجع أبدًا‪ ،‬لو شرع‬
‫( ٔ)‬
‫كذلؾ يظير البعد األسطوري العجائبي في‬ ‫في العودة فسيقطع المسافة في ألؼ ألؼ سنة"‪.‬‬
‫الكثير مف الشطحات الصوفية التي ترد بكث ةر في الرواية‪ ،‬ومف ذلؾ قولو‪" :‬يجتمع سيدنا الخضر‬
‫( ٕ)‬
‫وسيدنا إلياس ليمقيا نظرة عمى ببلد يأجوج ومأجوج‪ ،‬حتى ال يكسروا السد‪ ،‬ويغرقوا العالـ"‪.‬‬
‫ومف ذلؾ أيضاً استحضار أسطورة قرقماس ‪-‬أحد أمراء المماليؾ األقوياء الذيف تناقؿ الناس‬
‫أخبارىـ ‪ -‬في وصؼ سعيد الجييني‪ ،‬حيث يقوؿ عامة الناس‪" :‬لو أوتي سعيد قوة قرقماس‬
‫المصارع لما َج ُأر ممموؾ عمى اختطاؼ قشرة حبة فوؿ مف سمة تحمميا طفمة‪ ،‬لكف اهلل خمقو‬
‫( ٖ)‬
‫ضئيؿ الحجـ‪ ،‬كثير األمراض"‪.‬‬

‫‪ - 8‬التناص مع التراث اإلنساني‪:‬‬


‫حرص السارد عمى فتح روايتو عمى التراث اإلنساني بشكؿ عاـ‪ ،‬األمر الذي ال نجده عند‬
‫غيره مف كتاب الرواية التاريخية‪ ،‬ونجد ذلؾ عنده في موضعيف‪ ،‬األوؿ عندما استحضر‬
‫شخصية بمقيس كونيا رمز لمجماؿ في تعبيره عف مأساة سعيد بعد تعرضو لمسجف واالعتقاؿ‬
‫والتعذيب في سجوف الظمـ والقمع حيث يقوؿ‪ " :‬لو جاءت بمقيس نفسيا‪ ،‬لو رقصت أمامو في‬
‫حجرة مغمقة نائية‪ ،‬لف تيتز جذور شعيرات رأسو حتى"‪ )ٗ (.‬واآلخر حينما استدعى شخصية بوذا‬
‫( ٘)‬
‫فقد كانت استعانة السارد بالتراث‬ ‫الذي امتؤلت حياتو باآلالـ والمواجع في سبيؿ دعوتو‪.‬‬
‫اإلنساني –الثقافي والديني ‪ -‬موفقة في عرض طبيعة الشخصيات الروائية والتعبير عف مكنوناتيا‬
‫النفسية‪.‬‬

‫‪ - 9‬التناص مع التاريخ‪:‬‬

‫اعتمدت الروايات التاريخية السابقة لرواية الزيني بركات عمى اإلحالة إلى حدث تاريخي‬
‫معيف‪ ،‬في فترة زمنية معينة‪ ،‬مع ذكر الشخصيات المكونة ليذا الحدث‪ ،‬ومراعاة البيئة الزمانية‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬صٓ‪ٛ‬‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬صٕٗٗ‬
‫(ٖ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٚٙ‬‬
‫(ٗ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٕ٘ٛ‬‬
‫(٘) الزيني بركات‪ ،‬صٕٕ٘‬

‫‪187‬‬
‫طور جماؿ الغيطاني ىذه النظرة‪ ،‬فيو يتناوؿ حدثاً عاماً‬
‫والمكانية وبياف أثرىا في تطوره‪ ،‬وقد َّ‬
‫ىو ىزيمة مصر الممموكية أماـ العثمانييف ويبيف األسباب التي أدت إلييا‪ ،‬لكنو ال يكتفي بيذا‬
‫الحدث‪ ،‬بؿ إنو يعود إلى الكثير مف األحداث التاريخية التي سبقت زمف الخطاب الروائي‪،‬‬
‫فيستنطؽ الواقع التاريخي السابؽ لزمف الرواية‪ ،‬ويسمط الضوء عمى أحداث وشخصيات تاريخية‬
‫ىامة مثؿ شخصية الظاىر بيبرس( ٔ)‪ ،‬وجنكيز خاف واجتياح بغداد( ٕ)‪ ..‬وغير ذلؾ‪ ،‬وقد ِ‬
‫لوحظ‬
‫وجود خيط واحد يربط بيف كؿ ىذه األحداث‪ ،‬يتمثؿ في أنيا ترتبط بفكرة البص‪ ،‬والتجسس‪،‬‬
‫والعمؿ المخابراتي‪ ،‬والتعذيب والقمع‪ .‬فكميا تؤكد عمى رؤية الرواية‪ ،‬وىي في الوقت نفسو توحي‬
‫بانفتاح أحداث الرواية عمى الواقع ماضياً وحاض اًر ومستقببلً‪.‬‬

‫‪ - 71‬التناص مع الروايات األخرى (العربية واألجنبية)‪:‬‬

‫وىو مف أشكاؿ التناص التي تـ توظيفيا في الرواية التاريخية الجديدة‪ ،‬وقد ظير بشكؿ‬
‫واضح في رواية الزيني بركات‪ ،‬حيث يبدو تأثر السارد في أثناء كتابتو لمرواية ببعض الروايات‬
‫العربية واألجنبية‪ .‬ففي مجاؿ الرواية العربية يتضح تأثر الكاتب برواية (عمى باب زويمة) التي‬
‫نشرت عاـ ‪ٜٔٗٚ‬ـ لمكاتب المصري محمد سعيد العرياف‪ ،‬بحيث تتفؽ الروايتاف في التركيز‬
‫عمى الفت ةر التي شيدت نياية دولة المماليؾ وىزيمتيا الساحقة أماـ العثمانييف‪ ،‬إال أنيما اختمفتا‬
‫في طريقة البناء الفني وأسموب التعامؿ مع التاريخ‪ ،‬فقد مثَّمت رواية (عمى باب زويمة) البناء‬
‫التقميدي المنتظـ في عرض األحداث والشخصيات والتعامؿ مع الزماف والمكاف‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫االلتزاـ بأحداث التاريخ كما وردت في كتب المؤرخيف‪ ،‬فالعرياف ال يستعيد التاريخ مف أجؿ‬
‫االرتباط بالواقع أو محاكاتو‪ ،‬إنما يسعى لتقديمو كما ىو مع إبراز مأساة طوماف باي آخر‬
‫المماليؾ الذي أعدمو العثمانيوف عمى باب زويمة عندما دخموا مصر‪ ،‬وحالو في ذلؾ حاؿ‬
‫جورجي زيداف في الرواية التاريخية التقميدية‪ ،‬أما جماؿ الغيطاني في (الزيني بركات) فبل‬
‫يستوحي التاريخ ليعيد تقديمو‪ ،‬بؿ ليعرض مف خبللو رفضو لمواقع الذي عايشو في مصر قبؿ‬
‫ىزيمة عاـ ‪ٜٔٙٚ‬ـ برؤية جديدة وشمولية‪ ،‬تتخذ مف التاريخ قناعاً‪ ،‬وتستثمر كؿ عناصر البناء‬
‫الفني لمرواية مف زماف ومكاف ولغة وشخصيات وفؽ خصائص الرواية الجديدة التي تحاوؿ‬
‫استشراؼ المستقبؿ عف طريؽ الربط بيف الماضي التاريخي والحاضر الواقعي‪.‬‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٖٗٔ‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٓ٘ٔ‬

‫‪188‬‬
‫كذلؾ يظير تأثر الكاتب برواية عالمية حققت شيرة كبيرة ىي رواية (ٗ‪ )ٜٔٛ‬لمكاتب‬
‫اإلنجميزي جورج أورويؿ‪ ،‬ويأتي التناص مع ىذه الرواية في كونيا تركز عمى فكرة البص‪،‬‬
‫والمراقبة‪ ،‬والدولة البوليسية‪ ،‬ونظاـ الحكـ الشمولي الذي يحد مف حرية األفراد‪ ،‬وال يحقؽ أي نوع‬
‫مف التطور والتقدـ الحضاري‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬الشخصيات‪:‬‬

‫طور جماؿ الغيطاني مف طريقة عرض وتشكيؿ الشخصية فيما نسميو الرواية التاريخية‬
‫َّ‬
‫تجاو اًز‪ ،‬خصوصاً في تعاممو مع الشخصية المحورية التي تدور حوليا األحداث‪ ،‬فإذا كاف ُك ّتاب‬
‫الرواية التاريخية السابقوف يعمموف عمى رسـ وتقديـ شخصياتيـ الروائية بشكؿ واضح ومباشر‬
‫كما ىو الحاؿ عند جورجي زيداف ونجيب محفوظ‪ ،‬أو يحرصوف عمى تييئة شخصياتيـ‬
‫المحورية جسديًا ونفسيًا ومعرفيًا لتحمؿ دور البطولة كما ىو الحاؿ عند عمي أحمد باكثير‪ ،‬فإف‬
‫جماؿ الغيطاني منح شخصياتو الروائية التي استقاىا مف التاريخ الحرية الكاممة في تقديـ نفسيا‬
‫بطرؽ مختمفة‪ ،‬فمـ يعرض صفاتيا بشكؿ مباشر‪ ،‬بؿ جاءت ىذه الصفات متناثرة في ثنايا‬
‫الرواية بما يخدـ تطور األحداث‪ ،‬وخير مثاؿ عمى ذلؾ طريقة عرض السارد لشخصية الزيني‬
‫بركات بف موسى‪ ،‬وىي بالمناسبة شخصية تاريخية حقيقية ورد ذكرىا في كتاب (بدائع الزىور‬
‫في وقائع الدىور) البف إياس أكثر مف مرة( ٔ) ‪ ،‬وقد شغؿ الزيني وظيفة الحسبة في عيد السمطاف‬
‫قنصوة الغوري في السنة الثامنة بعد التسعمائة لميجرة –حسب المرجع التاريخي ‪ -‬واستمر في‬
‫منصبو حتى بعد انتياء حكـ المماليؾ لمصر‪ ،‬وقد جعؿ السارد مف شخصية الزيني بركات‬
‫محو اًر رئيساً ألحداث الرواية‪ ،‬واعتمد في تقديميا عمى تقنيتيف جديدتيف ىما‪ :‬تقنية الغموض‪،‬‬
‫وتقنية المفارقات‪.‬‬

‫‪ - 7‬تقنية الغموض‪:‬‬

‫اعتمد السارد في وصفو لشخصية الزيني بركات عمى تقنية الغموض بشكؿ كبير‪ ،‬فرغـ‬
‫تعرض الرواية لتاريخ معظـ الشخصيات األخرى وحرصيا عمى كشؼ أسرارىا وأعماقيا النفسية‪،‬‬
‫إال أنيا لـ تعرفنا بشخصية الزيني‪ ،‬بؿ كانت شخصية غامضة‪ ،‬مغمقة عمى عالميا الداخمي مف‬
‫بداية الرواية حتى نيايتيا‪ ،‬فبل يعمـ القارئ أصوؿ ىذه الشخصية وظروؼ نشأتيا‪ ،‬وحجـ ثروتيا‬
‫أو الماؿ الذي تممكو وكيؼ حصمت عميو‪ ،‬ثـ إننا لـ نستمع إليو أبداً عمى نحو مباشر‪ ،‬إنما‬

‫(ٔ ) انظر‪ ،‬بدائع الزىور في وقائع الدىور‪ ،‬جٗ‪ ،‬صٓ٘‪ ،‬صٔ‪ ،ٚ‬ص٘‪ٚ‬‬

‫‪189‬‬
‫وصمنا صوتو ومضموف كبلمو عبر ما يتردد بيف الناس في السرادقات المختمفة‪ ،‬وعبر حكي‬
‫اآلخريف عنو وخاصة الرحالة البندقي‪ ،‬وزكريا بف راضي‪ ،‬وسعيد الجييني‪ ،‬حتى إف حديث‬
‫الشخصيات األخرى عنو يمنحو بعدًا أسطوريًا عجائبيًا يزيد مف غموض الشخصية‪ .‬فبل يجد‬
‫زكريا في تقارير بصاصيو سوى "بركات بف موسى‪ ،‬لو مقد ةر االطبلع عمى النجوـ‪ ،‬أمو اسميا‬
‫عنقا"( ٔ) ‪ .‬ويصفو الرحالة البندقي فياسكونتي جانتي بقولو‪" :‬لـ َأر مثؿ بريؽ عينيو‪ .‬لمعانيما‪،‬‬
‫خبلؿ الحديث تضيقاف‪ ،‬حدقتي قط في سواد ليمي‪ ،‬عيناه خمقتا لتنفذا في ضباب الببلد الشمالية‪،‬‬
‫في ظبلميا‪ ،‬عبر صمتيا المطبؽ‪ ،‬ال ُيرى الوجو والمبلمح‪ ،‬إنما ينفذ إلى قاع الجمجمة‪ ،‬إلى‬
‫ضموع الصدر‪ ،‬يكشؼ المخبأ مف اآلماؿ‪ ،‬حقيقة المشاعر‪ ،‬في مبلمحو ذكاء براؽ‪ ،‬إغماضة‬
‫( ٕ)‬
‫بل‪:‬‬
‫ويصفو زكريا قائ ً‬ ‫عينيو فييا رقة وطيبة تدني الروح منو‪ ،‬في نفس الوقت تبعث الرىبة"‪.‬‬
‫"الزيني رجؿ لـ يعرؼ لو مثيبلً‪ ..‬ىذا الزيني جاءه مف العصر الغامض النائي الذي يود العيش‬
‫فيو‪ ،‬مثمو ال يستياف بو"‪ )ٖ (.‬وبالنسبة لسعيد الجييني فإنو "ال ينكر قرب الزيني مف روحو‪ ،‬عندما‬
‫( ٗ)‬
‫فػ "ليس‬ ‫اقترب إلببلغو طمب الشيخ أبو السعود‪ ،‬كاف الوقت ليبلً‪ ،‬خرج إليو الزيني ممثماً‪"..‬‬
‫لمزيني كما ترسمو الرواية مبلمح واضحة؛ فدائمًا ىناؾ حواجز بينو وبيف العيوف التي تراه‪ ،‬حتى‬
‫حيف يراه الرحالة في خطبة األزىر الشييرة‪ ،‬ال يراه إال وسط ىالة مف اإلعجاب والرىبة‪ ،‬ومف‬
‫مسافة ال تسمح بالوضوح‪ ،‬أو مف وراء لثاـ كما يحدث في المشيد الختامي‪ ،‬وبحيث ال يتوقؼ‬
‫إال عند أشياء مراوغة كنبرات صوتو‪ ،‬ولمعة عينيو‪ ،‬وىو األمر الذي يزيد صو ةر البطؿ التاريخي‬
‫غموضًا عمى غموضيا‪ ،‬بحيث تبقى في الوضع الذي كانت عميو بالنسبة لمعاصرييا في الواقع‬
‫التاريخي"‪ )٘ (.‬وال شؾ أف اعتماد السارد عمى تقنية الغموض قد أدى إلى زيادة حدة اإلثا ةر‬
‫والتشويؽ لدى القارئ‪ ،‬إذ إف ىذا الغموض يحقؽ نسبة عالية مف الجاذبية والتشويؽ التي تجعؿ‬
‫القارئ متحف ًاز يحاوؿ معرفة واستكشاؼ شخصية الزيني التي لـ يقؼ عمى حدودىا في الرواية‪.‬‬

‫‪ - 6‬تقنية المفارقات‪:‬‬

‫اتكأ السارد عمى المفارقة والتناقض في بناء شخصية الزيني‪ ،‬فشخصية الزيني بركات في‬
‫الرواية ليست ثابتة‪ ،‬بؿ إنيا تجمع بيف الكثير مف المفارقات والمتناقضات التي ال يتـ عرضيا‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٖٜ‬‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬صٓٔ‬
‫(ٖ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٔٗٛ‬‬
‫(ٗ) الزيني بركات‪ ،‬صٖ‪ٛ‬‬
‫(٘) ىموـ المعيشة كما تصورىا الرواية التاريخية(بحث)‪ ،‬ص‪ٜٛ‬‬

‫‪191‬‬
‫بشكؿ مباشر‪ ،‬بؿ إف ىذه المفارقات تظير لمقارئ تدريجياً مع تطور األحداث وتقدميا‪ ،‬لذلؾ‬
‫ُيحار القارئ في جمع شتات ىذه الشخصية الغامضة المتناقضة‪ .‬ومف أبرز المفارقات‬
‫والتناقضات المرتبطة بشخصية الزيني ما يأتي‪:‬‬

‫اىدا في الحياة ومناصبيا‪ ،‬حيث طمب مف السمطاف عمى مرأى‬ ‫ٔ ‪ -‬تصوره الرواية إنساناً ز ً‬
‫مف األمراء أف يعفيو مف وظيفة الحسبة؛ ألنو يخشى مف الوقوع في ظمـ الناس‪ )ٔ (،‬عمى‬
‫الرغـ مف أنو سعى لمحصوؿ عمى ىذا المنصب‪ ،‬ودفع لتحقيؽ ذلؾ رشوة تقدر قيمتيا‬
‫( ٕ)‬
‫بثبلثة آالؼ دينار لؤلمير قاني باي‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬يسعى الزيني بركات إلى نشر العدؿ والحفاظ عمى الرعية‪ ،‬وعندما أصبح والياً لمحسبة‬
‫أبقى زكريا بف راضي ‪-‬رئيس البصاصيف ‪ -‬عمى منصبو كنائب لو‪ ،‬بؿ وأنعـ عميو بمقب‬
‫( ٖ)‬
‫الشياب‪ ،‬عمى الرغـ مف أف زكريا أحد أكبر رموز الظمـ والقمع والفساد في الببلد‪.‬‬
‫ٖ ‪ُ -‬يظير الزيني التواضع والتقرب مف العامة والبسطاء‪ ،‬مع أنو ينظر إلييـ نظرة دونية‪،‬‬
‫َفيُـ عنده كقطيع الماشية‪ ،‬وال بأس مف اختفاء بعضيـ مف حيف إلى آخر؛ بطرؽ ال‬
‫( ٗ)‬
‫يعرفيا أحد؛ لبث الرعب في قموب الباقيف‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬تظير الرواية حرص الزيني عمى العدؿ واألمر بالمعروؼ والنيي عف المنكر مف خبلؿ‬
‫تصدير نداءاتو دائماً بػ "نأمر بالمعروؼ وننيى عف المنكر" مع أنو في الواقع العممي‬
‫ُيمارس كؿ أشكاؿ القمع والظمـ والتعذيب ضد البسطاء مف أبناء الشعب‪ ،‬وقد اتضح‬
‫ذلؾ في أثناء تعذيبو لعمي بف أبي الجود( ٘)‪ ،‬ومتابعتو وسجنو لسعيد الجييني( ‪.)ٙ‬‬
‫٘ ‪ -‬يعاقب صغار التجار مف المحتكريف كي يرضى الناس عنو‪ ،‬بينما يسكت ويغض‬
‫الطرؼ عف التجار الكبار أمثاؿ (برىاف الديف بف سيد الناس) الذي عمؿ عمى احتكار‬
‫( ‪)ٚ‬‬
‫الفوؿ‪.‬‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٔٗ‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٖٜ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٖٓٔ‪ ،‬صٔٔٔ‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٖ٘ٔ‬
‫(٘) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٖٔٚ‬‬
‫(‪ )ٙ‬انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٖ‪ٜٔ‬‬
‫(‪ )ٚ‬انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٕٗٔ‬

‫‪191‬‬
‫‪ - ٙ‬يظير الزيني بركات التقوى والورع مف خبلؿ كثرة ارتياد المسجد وامامة الناس في‬
‫الصبلة‪ ،‬ويتضح في النياية أنو يتخذ مف كؿ ذلؾ وسيمة لكسب ود البسطاء والتأثير‬
‫فييـ‪" ..‬وأخبار الصبلة؟ ابتسـ زكريا‪" ،‬يدي قبمة لمشفاه‪ "..‬تزايد ضحؾ الزيني‪ ،‬اسمع يا‬
‫( ٔ)‬
‫زكريا‪ ،‬البد أف تحتؿ مكانة في قموبيـ أكبر‪."..‬‬
‫‪ - ٚ‬يحرص الزيني طواؿ الرواية عمى تعذيب واعداـ وقتؿ كؿ مف كاف لو صمة‬
‫بالعثمانييف( ٕ)‪ ،‬مع أنو َيثبت في النياية اتصالو بيـ وتعاممو معيـ وخيانتو لمسمطاف‬
‫قنصوة الغوري‪ ،‬ويؤكد ذلؾ إق ارره عمى وظيفتو في والية الحسبة حتى بعد سقوط حكـ‬
‫( ٖ)‬
‫المماليؾ واحتبلؿ العثمانييف لمصر‪.‬‬

‫ومف مظاىر التجديد التي ترتبط بشخصية الزيني بركات الروائية‪ ،‬أف الكاتب جعؿ منيا‬
‫رم ًاز لشخصية الرئيس المصري جماؿ عبد الناصر‪ ،‬وقد أكد الكثير مف النقاد عمى ىذه‬
‫الرمزية( ٗ) ‪ ،‬حيث إف التشابو بينيما كبير‪ ،‬فاسـ الزيني بركات يشبو في داللتو اسـ جماؿ عبد‬
‫الناصر (الزيف والبركات والجماؿ والنصر)‪ ،‬وكبل الرجميف كاف يحاوؿ إقامة العدؿ ويخمؽ‬
‫األعداء‪ ،‬ثـ إف كبل الرجميف خطب في الجامع األزىر لمتأثير عمى الجماىير واستغؿ الوازع‬
‫الديني‪ ،‬وكبل الرجميف حصؿ عمى تأييد كبير مف جماىير الشعب‪ ،‬وأصبح ىو مطمب عامة‬
‫الناس ومحط آماليـ‪ ،‬ولـ يكف يعرؼ حقيقتيما إال القمة القميمة مف المثقفيف‪ ،‬ورغـ أف بعض‬
‫النقاد رفض إقامة ىذه المقاربة بحجة أنيا تتنافى مع الطابع األساسي لمرواية الذي ال يحسـ‬
‫شيئًا ويبقي عمى موقؼ المفارقة‪ ،‬إال أف الباحث يرى أف الكاتب وجد في شخصية الزيني بركات‬
‫رم اًز لمنظاـ المصري القائـ الذي اعتمد عمى المكر بالناس وخداعيـ وقمعيـ في العيد‬
‫الناصري‪.‬‬

‫وقد تطورت نظ ةر الغيطاني لمشخصية في الرواية التاريخية‪ ،‬ومف أبرز مبلمح ىذا التطور‬
‫تناولو لنماذج شخصية جديدة لـ يتعرض ليا أحد مف قبمو مف كتاب الرواية التاريخية‪ ،‬ومف ىذه‬
‫النماذج‪:‬‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬صٗ‪ٜٔ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٛٛ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٖ‪ٕٛ‬‬
‫(ٗ ) انظر‪ ،‬ىموـ المعيشة كما تصورىا الرواية التاريخية‪ ،‬ص‪ٜٔٓ‬‬

‫‪192‬‬
‫‪ - 7‬نموذج رئيس المخابرات‪:‬‬

‫يمثؿ ىذا النموذج شخصية الشياب زكريا بف راضي –رئيس البصاصيف ‪ -‬الذي عمؿ‬
‫السارد عمى تعريتو مف خبلؿ كثرة الحديث مع النفس‪ ،‬والتداعي‪ ،‬واسترجاع الذكريات‪ ،‬األمر‬
‫الذي ُيظير قصور وضعؼ ىذه الشخصية التي يخشاىا الجميع‪ ،‬شخصية خائفة ومترددة‬
‫ومصابة باليوس األمني إلى حد الجنوف فػ "زكريا ال يدري ما تحممو الساعات اآلتية‪ ،‬ال يأمف‬
‫أبداً ميما استقرت األحواؿ‪ ..‬ال يخطئ زكريا تقدير أضيؽ الثغرات‪ ،‬وأتفو االحتماالت‪ ،‬مف‬
‫يدري؟؟ ربما أرسؿ أمير إلى السمطاف يخبره بأمر المحابيس ىنا‪ ،‬منيـ مف نسيو زكريا لطوؿ‬
‫المدة‪ ،‬ربما جاء مماليؾ الغوري‪ ،‬الجمباف أو القرانصة‪ ،‬تسمقوا األسوار‪ ،‬نفذوا مف األبواب‬
‫( ٔ)‬
‫ثـ إنو يشؾ في كؿ مف حولو فػ‬ ‫الممرات والحجب‪ ،‬أمسكوه‪ ،‬بيدلوه‪ ،‬ثـ يفتشوف عف السجف‪"..‬‬
‫"ال يعمو مخموؽ عنده عمى الشؾ"( ٕ) ‪ ،‬وىو شخصية فاسدة وشاذة ال تتورع عف فعؿ أي شيء‬
‫في سبيؿ تحقيؽ رغباتيا الدنيئة( ٖ) ‪ ،‬إنو يرى في متابعة الناس ومراقبة حركاتيـ وسكناتيـ وسيمة‬
‫شرعية لحفظ األمف‪ ،‬إنيا شخصية معقدة مميئة باألمراض النفسية‪ ،‬العظمة‪ ،‬والسادية حيث يتمتع‬
‫بتعذيب اآلخريف‪ ..‬فػ "مف شيور أمسكوا في خاف الخميمي تاج ًار روميًا قيؿ إنو يكاتب ابف‬
‫( ٗ)‬
‫كذلؾ ىي‬ ‫عثماف‪ ..‬راقب عقابو بنفسو‪ .‬تعصير أكعابو‪ .‬حرؽ جمد ظيره بنار ىادئة‪."..‬‬
‫شخصية متناقضة تظير المفارقة بيف مبالغتو في تدليؿ ابنو ياسيف وبيف تعذيبو وظممو‬
‫( ٘)‬
‫ال شؾ في أف توظيؼ الكاتب ليذه الشخصية اتصاؿ بالواقع الذي عايشو في‬ ‫لآلخريف‪.‬‬
‫مصر البوليسية المخابراتية‪ ،‬حيث جعؿ مف شخصية زكريا رم اًز لقوى الظمـ واالستبداد التي‬
‫يمثميا رؤساء أجيزة المخابرات وأركاف الدولة البوليسية حيث الفساد والظمـ والقمع الذي يقود إلى‬
‫اليزيمة‪.‬‬

‫‪ - 6‬نموذج المخبر‪:‬‬

‫مف النماذج الشخصية الجديدة التي تـ توظيفيا في الرواية التاريخية عند جماؿ الغيطاني‪،‬‬
‫وىي ترتبط برؤية الرواية المتمثمة في متابعة الناس ومراقبتيـ كإحدى صور القمع وكبت‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬صٕٖ‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٜٔٗ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٖٗ‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٛٛ‬‬
‫(٘) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٖ‪ٜ‬‬

‫‪193‬‬
‫الحريات‪ ،‬وقد مثَّؿ عمرو بف العدوي شخصية البصاص (المخبر) الذي يمتيف نقؿ أخبار‬
‫الناس ‪ ،‬حيث استغؿ جياز البصاصيف فقره وحاجتو وظروفو الصعبة‪ ،‬واستدرجو لمعمؿ معو‬
‫مقابؿ الحصوؿ عمى الماؿ الذي يقيو ذؿ سؤاؿ الناس وطمب معونتيـ‪ ،‬باإلضافة إلى وعده‬
‫بالحصوؿ عمى وظيفة حاؿ تخرجو‪ .‬وعمى الرغـ مف عممو مع جياز البصاصيف إال أف حياتو‬
‫أصبحت أكثر تعاسة وخوفاً مف ذي قبؿ‪ ،‬فيو يحتقر نفسو‪ ،‬ويخشى مف كشؼ الناس لو‬
‫وافتضاح أمره‪ ،‬ثـ إنو يخاؼ مف التقصير في عممو في نقؿ المعمومات‪ ،‬لعممو أنو ىو نفسو‬
‫مراقب فػ "عمرو يعمـ أنو ليس بمفرده‪ ،‬ىناؾ مف يرقب الخمؽ معو‪ ،‬يرقبو ىو أيضاً‪ ،‬يرفع عنو‬
‫التقارير إلى مقدـ بصاصي القاىرة‪ ،‬عندما أخبره المقدـ نفسو بيذا تقمب عمى جمر‪ ،‬تساءؿ‬
‫كثي ًار‪ ..‬مف ىـ؟؟ حاوؿ االستدالؿ عمى واحد منيـ‪ ،‬ظف الظنوف لـ يستطع فآثر صرؼ الفكرة‪،‬‬
‫لكنيا تغيب‪ ،‬تحوـ دوماً‪ ،‬لو رفع أحدىـ حادثة وقعت عمى مرأى مف عمرو‪ ،‬ولـ يبم عنيا‪ ،‬ىنا‬
‫يتعرض لممساءلة‪ ،‬يتيـ بالغفمة‪ ،‬مجاممتو البعض عمى حساب اآلخر‪ ،‬ليس أميناً فيما ينقمو‪ ،‬ما‬
‫( ٔ)‬
‫إف ىذا الحديث الدائـ مع النفس إنما يعبر عف نفس البصاص اآلثمة المضطربة‬ ‫يسمعو‪"..‬‬
‫والمترددة‪ .‬وشخصية البصاص أو المخبر شخصية دنيئة يكرىيا الناس بشدة ويتمنوف ىبلكيا‪،‬‬
‫فيا ىو سعيد يتساءؿ‪" :‬كيؼ ُيعذب عمرو يوـ القيامة؟؟ ربما أطاح رقبة بكممة‪ ،‬يسفؾ حياة أس ةر‬
‫بوريقة‪ ،‬يقطع األمؿ مف قمب أب عجوز ينتظر عودة ابنو الفقيد ليؤـ المصميف في القرية‪ ،‬آه لو‬
‫( ٕ)‬
‫يمضي سعيد اآلف‪ ،‬يمسكو مف عنقو‪ ،‬ينفذ إلى أعماقو المكنونة"‪.‬‬

‫‪ - 4‬نموذج الشخصية الصوفية‪:‬‬


‫( ٖ)‬
‫يمثؿ ىذا النمط شخصية الشيخ أبو السعود وىو مف الشخصيات التاريخية الحقيقية‬
‫التي وظفيا السارد في الرواية وأضفى عمييا بعداً تخييمياً أخرجيا مف عباءة التاريخ باستدعاء‬
‫ذكرياتيا‪ ،‬وتفسير مواقفيا الحياتية المختمفة‪ ،‬والشيخ أبو السعود في الرواية مثاؿ لمعابد الزاىد‬
‫العالـ العارؼ المتصوؼ‪ ،‬الذي ترؾ الدنيا بشيواتيا وصراعاتيا؛ لينظر إلى اآلخ ةر حيث نياية‬
‫كؿ شيء وبداية الخمود‪ ،‬حيث الحياة الحقيقية اآلمنة بعيداً عف جو الظمـ والفساد الذي يسود‬
‫الحياة الدنيا‪ .‬وشخصية أبي السعود مؤثرة في الرواية‪ ،‬رغـ ثباتيا بشكؿ عاـ‪ ،‬فكممتو مسموعة‪،‬‬
‫يقدره الجميع‪ ،‬ىو مف جاءه التجار في بداية الرواية وطمبوا منو إقناع الزيني بقبوؿ منصب‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬صٔ٘‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٕٚ‬‬
‫(ٖ ) انظر‪ ،‬بدائع الزىور في وقائع الدىور‪ ،‬ج٘‪ ،‬ص‪ٛٙ‬‬

‫‪194‬‬
‫غطاء لممارسة كؿ ما يحمو مف‬
‫ً‬ ‫الحسبة‪ ،‬وقد استجاب الزيني لطمب الشيخ مباشرة واتخذ منو‬
‫أفعاؿ فكاف يقوؿ دائمًا‪" :‬لوال ثقة موالي وامامي الشيخ أبو السعود الجارحي لما قبمت"( ٔ)‪ ،‬ومع‬
‫ذلؾ عندما اكتشؼ الشيخ فساد ومكر وظمـ وخداع الزيني بركات أتى بو وحبسو عنده‪ ،‬وكاف‬
‫ينوي إعدامو لوال مناصبو المتعددة وما لديو مف أسرار ال يعمميا سواه‪.‬‬

‫‪ - 3‬نموذج المثقف‪:‬‬

‫حرصت الرواية التاريخية الجديدة عمى إبراز شخصية المثقؼ‪ ،‬وبياف دوره في عممية‬
‫التطور والتغير االجتماعي والسياسي‪ ،‬ويمثؿ سعيد الجييني في الرواية شخصية المثقؼ الذي‬
‫يعمـ حقيقة األمور إال أنو ال يمتمؾ الجرأة في التعبير عما يتعرض لو الناس مف ظمـ؛ خوفاً مف‬
‫التعذيب الشنيع داخؿ سجوف الشياب زكريا حيث "تغيب عنو لحظة دائماً يتوىميا‪ ،‬لحظة يضع‬
‫فييا أحد المستصنعيف البصاصيف يده فوؽ كتفو‪ ،‬يضحؾ كاشفًا صفيف مف أسناف صفراء‪.‬‬
‫( ٕ)‬
‫وىو ال يجد الراحة إال عند الشيخ الصالح أبي السعود الصوفي العارؼ‬ ‫تسمح معانا"‪.‬‬
‫باألصوؿ والفروع الذي يصرح لو بكؿ ما تنوء بو نفسو مف أفكار وآالـ ترتبط بواقع حياة البؤس‬
‫والشقاء التي يحياىا الناس جميعاً في ظؿ القير والظمـ الذي يمارس عمييما فػ "سعيد يبدو‬
‫ميموماً يسمع بشنؽ عبد‪ ،‬قطع يد سارؽ‪ ،‬إشيار امرأة ضبطت تسرؽ رغيفاً‪ ،‬تقطع يدىا‬
‫اليسرى‪ ،‬أو اليمنى إذا وجدوا اليسرى مقطوعة مف قبؿ‪ ،‬يضطرب قمبو كفرخ صغير ابتؿ ريشو‪،‬‬
‫لماذا يحدث ىذا كمو‪ ،‬لماذا؟؟"‪ )ٖ (.‬ثـ إف سعيد ال ُيخدع بمظاىر التقوى والورع التي يظيرىا‬
‫الزيني بركات ‪ ،‬فسرعاف ما يكشؼ حقيقتو مف خبلؿ سموكو العممي ومدى تطبيقو لما ينادي بو‬
‫مف مبادئ‪ .‬ويرى بعض النقاد أف شخصية سعيد الجييني الروائية يمكف أف تكوف امتداداً‬
‫كؿ مف المؤلؼ‬‫لشخصية جماؿ الغيطاني في الواقع( ٗ)؛ ويؤكد الباحث ىذا الطرح‪ ،‬فقد عانى ّّ‬
‫والشخصية الروائية (سعيد) مف جور وظمـ السمطات الحاكمة‪ ،‬ورفض كؿ منيما نظاـ القمع‬
‫وكبت الحريات‪ ،‬وتعرض اإلثناف لمسجف والتعذيب نتيجة لذلؾ‪ ،‬وبالتالي فقد َع ِمؿ جماؿ‬
‫الغيطاني عمى التماىي في شخصية سعيد الجييني؛ لكي يصؼ لنا كؿ ما تعرض لو مف‬
‫مبلحقات أمنية ومخابراتية‪ ،‬وما تبلىا مف سجف وتعذيب‪ ،‬أدى إلى الحد مف حريتو وحرية غي هر‬
‫مف المثقفيف في فت ةر الستينات مف القرف المنصرـ‪.‬‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬صٕٕٗ‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬صٕ٘‬
‫(ٖ) الزيني بركات‪ ،‬صٕ٘‬
‫(ٗ ) انظر‪ ،‬جماليات التعالؽ النصي في روا ية الزيني بركات لجماؿ الغيطاني(بحث)‪ ،‬صٕٔ‬

‫‪195‬‬
‫‪ - 5‬نموذج العممال المنتفعين الفاسدين‪:‬‬

‫خالؼ جماؿ الغيطاني بنظرتو لمعمماء في الزيني بركات نظرة عمي أحمد باكثير لمعمماء‬
‫في روايتي واإسبلماه والثائر األحمر‪ ،‬حيث عمؿ باكثير عمى إبراز دور العمماء الربانييف في‬
‫صنع التغيرات التاريخية الكبيرة‪ ،‬ولذلؾ كاف صوت عمماء باكثير عالياً ومؤث ًار‪ ،‬وكانوا ال‬
‫يتورعوف عف مواجية الحكاـ والسبلطيف إذا أروا أنيـ عمى الباطؿ‪ .‬أما جماؿ الغيطاني فقد جعؿ‬
‫العمماء والقضاة رم اًز لمنفعية والنفاؽ والفساد؛ وىذا يرجع إلى اختبلؼ ثقافة الكاتبيف‪ ،‬ورؤية كؿ‬
‫منيما لمديف والحياة‪ ،‬فباكثير يحمؿ ثقافة إسبلمية نقية‪ ،‬ورؤية شرعية لمحياة‪ ،‬واآلخر ماركسي‬
‫الثقافة والرؤية‪ .‬وقد ظير ذلؾ مف خبلؿ شخصية قاضي قضاة مصر (عبد البر) والذي أصدر‬
‫فتوى باطمة تتوافؽ مع رغبات أمراء المماليؾ في قضية الفوانيس التي بدأ الزيني بركات بيا‬
‫أولى خطوات مشروعو اإلصبلحي حيث أراد إنارة شوارع وحارات القاىرة ليبلً‪ ،‬وىذا ىدؼ نبيؿ‪،‬‬
‫إال أنو واجو في سبيؿ ذلؾ ىجوماً شرساً‪ ،‬مف طرؼ زكريا بف راضي –رئيس البصاصيف ‪-‬‬
‫وأمراء المماليؾ‪ ،‬الذيف وظفوا كؿ إمكانياتيـ لمقضاء عمى ىذه الفكرة‪ ،‬وقد تـ ليـ ذلؾ بمساعدة‬
‫( ٔ)‬
‫ولـ‬ ‫قاضي القضاة الذي أصدر فتوى يقوؿ فييا‪" :‬الفوانيس تذىب بالبركة مف بيف الناس"‪.‬‬
‫يعترض عمى ىذه الفتوى إال قاضي قضاة الحنفية الذي قاؿ‪" :‬الفوانيس تطرد الشياطيف‪ ،‬وتنير‬
‫المسالؾ في الميؿ لمغرباء‪ ،‬وتمنع مماليؾ األمراء والمنسر مف اليجوـ في الميؿ عمى الخمؽ‬
‫( ٕ)‬
‫ورغـ صحة رأي قاضي الحنفية إال أنو تـ عزلو مف منصبو حيث صدر مرسوـ‬ ‫األبرياء"‬
‫سمطاني يقضي بذلؾ‪ ،‬وىنا يظير نفاؽ قاضي القضاة حيث يقوؿ لمسمطاف‪" :‬حميت الحؽ‪،‬‬
‫( ٖ)‬
‫يتضح مف خبلؿ ىذه‬ ‫وأعميت كممة اإلسبلـ‪ ،‬أقصيت المارقيف‪ ،‬أبقاؾ اهلل حاميًا لمديار"‪.‬‬
‫الشخصية انتشار الفساد عمى كؿ المستويات‪ ،‬فصوت العمماء الفاسديف والمنتفعيف مسموع‬
‫ومؤثر ويشكؿ أغمبية في مقابؿ الصوت الخفيض والمقموع وغير المؤثر لمعمماء الصالحيف‪.‬‬

‫السجان‪:‬‬
‫‪ - 2‬شخصية َّ‬

‫طور الغيطاني مف تعامؿ الرواية التاريخية مع شخصية السَّجاف‪ ،‬بحيث لـ يقتصر‬


‫َّ‬
‫اعتم اد السَّجاف فقط عمى العنؼ والتعذيب الجسدي كوسيمة لمتحقيؽ كما ىو الحاؿ عند نجيب‬
‫الكيبلني في وصفو لمسجاف اإلسرائيمي في رواية (عمر يظير في القدس)‪ ،‬بؿ إنو تخطى ىذه‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬ص٘ٔٔ‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬ص٘ٔٔ ‪ٔٔٙ-‬‬
‫(ٖ) الزيني بركات‪ ،‬صٕٔٔ‬

‫‪196‬‬
‫المرحمة ليحدثنا عف ذلؾ السَّجاف الجديد الذي يتخذ مف التعذيب النفسي وأساليبو الحديثة وسيمة‬
‫لمتحقي ؽ والحصوؿ عمى المعمومات‪ ،‬فػ "السجاف القائـ عمى أمور المحابيس ىنا‪ ،‬شاب مميح‬
‫الوجو‪ ،‬رقيؽ العبارة‪ ،‬جميؿ الصورة‪ ،‬وىذا يخالؼ كؿ ما اتبع مف قبؿ‪ ،‬ابتسـ في وجو "عمي"‬
‫خاطبو بأدب "إذا احتجت أم اًر أطرؽ ىذا الباب بقبضتؾ مرة واحدة" وعندما أقوؿ مف؟ فبل تقؿ‬
‫اسمؾ إنما قؿ "واحد" أنت منذ اآلف واحد‪ ،‬طواؿ حديثو لـ تفارؽ شفتيو االبتسامة‪ ،‬حديثو ظاى هر‬
‫( ٔ)‬
‫وال شؾ في أف ليذه األساليب النفسية الحديثة التي تتمثؿ في‬ ‫رجاء لكنو أمر في جوىره"‪.‬‬
‫االبتسامة‪ ،‬وسمب اسـ السجيف وابدالو برقـ‪ ،‬وطريقة تقديـ الطعاـ والشراب‪ ،‬وتعريض السجيف‬
‫لمشاىد ال يح تمميا ‪ ..‬وقعًا عظيمًا ومدم ًار عمى نفسية السجيف‪ ،‬فعمي بف أبي الجود أصبح‬
‫"يخشى االبتسامة والعينيف اليادئتيف حتى صار يزوغ مف صاحبيما‪ ،‬وربما وجد نفسو محصو ًار‬
‫( ٕ)‬
‫ويرى الباحث أف تعرض الكاتب وذكره لطرؽ‬ ‫بالبوؿ‪ ،‬يكاد يطؽ‪ ،‬لكنو يأبى دؽ الباب"‪.‬‬
‫التعذيب النفسي ال يرتب ط بالتاريخ بقدر ما يرتبط بالواقع الذي يحياه‪ ،‬فيذه الطرؽ واألساليب‬
‫النفسية لـ تمارس ولـ تستخدـ في السجوف إال حديثاً‪ ،‬والكاتب في ذلؾ يزيد مف اتصالنا‬
‫وتوجيينا ناحية واقع الظمـ والقير والقمع النفسي والبدني بداخؿ سجوف ومعتقبلت األنظمة‬
‫العربية التي جمبت اليزيمة‪.‬‬

‫‪ - 1‬شخصية المرأة‪:‬‬

‫اىتمت الرواية التاريخية بشخصية المرأة‪َّ ،‬‬


‫وقدمت نماذج فعالة ليا‪ ،‬وجعمتيا مف‬
‫الشخصيات المشاركة في صنع األحداث والمؤثرة في تطورىا‪ ،‬وقد حظيت المرأة بمكانة كبي ةر‬
‫عند جورجي زيداف‪ ،‬فبل نكاد نجد رواية مف رواياتو التاريخية تخمو مف شخصية المرأة الفاعمة‬
‫والقوية المؤثرة في األحداث‪ ،‬وكذلؾ برز دور المرأة عند محمد فريد أبو حديد‪ ،‬كما ظير أكثر‬
‫مف نموذج فاعؿ لممرأة عند نجيب محفوظ أىميا المرأة الحكيمة القائدة‪ ،‬واألـ والزوجة‬
‫المخمصة‪ ،‬واألنثى الجميمة الفاتنة‪ ،‬وأعطى عمي أحمد باكثير اىتمامًا كبي ًار بالمرأة فأبرز دور‬
‫كؿ مف المرأة القوية الحاكمة‪ ،‬والزوجة الصالحة المجاىدة‪.‬‬

‫وعمى خبلؼ الروايات التاريخية السابقة‪ ،‬حدثت تحوالت كبيرة في تناوؿ الغيطاني‬
‫لشخصية المرأة‪ ،‬فمـ تحظ المرأة بأي تقدير في رواية الزيني بركات‪ ،‬فقد َّ‬
‫غيب الغيطاني صوت‬
‫المرأة‪ ،‬ولـ يمنحيا أي دور يمكف أف يسيـ في تطور األحداث‪ ،‬حيث إنيا اتسمت بالضعؼ‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬صٖٗٔ‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬صٖ٘ٔ‬

‫‪197‬‬
‫واالستكانة‪ ،‬فيي محطمة‪ ،‬وسمبية‪ ،‬ال رأي ليا وال قرار‪ ،‬مجرد سمعة تباع وتشترى‪ ،‬المرأة في‬
‫ىذه الرواية ضائعة ال قيمة ليا في ظؿ مجتمع ذكوري‪ ،‬ال يرى فييا سوى موضوعًا لمشيوة‬
‫وممارسة الجنس‪ ،‬ويظير ذلؾ في أكثر مف موقؼ‪ ،‬منيا قصة الشيخ الذي اشترى الجارية وأساء‬
‫معاممتيا( ٔ) ‪ ،‬إضافة إلى إبراز العبلقة الجنسية بيف زكريا والجارية وسيمة( ٕ)‪ ،‬عبلوة عمى تصوير‬
‫الفتيات في بيوت الخطيئة( ٖ) ‪ ،‬ولـ تظير األـ في الرواية إال كرمز لمفقر والضياع‪ ،‬حتى إف‬
‫عمرو بف العدوي لـ ييتـ كثي اًر بالبحث عف أمو الضائعة‪ ،‬وعاش في صراع نفسي نتيجة‬
‫( ٗ)‬
‫ومف المفارقات المرتبطة بشخصية المرأة في الرواية‪ ،‬اختبلؼ نظ ةر الشخصيات بالنسبة‬ ‫لذلؾ‪.‬‬
‫ليا‪ ،‬فالشياب زكريا ‪-‬رئيس البصاصيف ‪ -‬ال يرى في المرأة إال جسدًا فاتنًا يستحوذ عميو‪،‬‬
‫( ٘)‬
‫أما سعيد الجييني فإنو ال يرى محبوبتو سماح "جسدًا‬ ‫ويتجسد ذلؾ في نظرتو لمجارية وسيمة‪.‬‬
‫ونيديف‪ ،‬ونح اًر وجيداً وعنقاً‪ ،‬ىي إلى الروح أقرب‪ ،‬طيؼ خياؿ‪ ،‬وشوشة ال تمس‪ ،‬سوسنة ال‬
‫( ‪)ٙ‬‬
‫تقطؼ"‪.‬‬

‫ورغـ ىذا التراجع الواضح لشخصية المرأة في الرواية التاريخ ية عند جماؿ الغيطاني‪ ،‬إال‬
‫أننا نبلحظ صعوداً وتطو اًر ممحوظاً لدورىا الروائي خاصة في رواية ثبلثية غرناطة لرضوى‬
‫عاشور ‪ ،‬ورواية القرمطي ألحمد رفيؽ عوض‪ .‬وربما يرجع موقؼ الغيطاني مف المرأة في روايتو‬
‫إلى موضوع الرواية القائـ عمى (القمع والخوؼ)‪ ،‬والى العامؿ الخارجي المتمثؿ في حالة القمع‬
‫واالستبداد المعيش قبؿ ىزيمة ‪ٜٔٙٚ‬ـ‪ ،‬والمسبب ليا‪.‬‬

‫‪ - 8‬شخصيات العامة والبسطال‪:‬‬

‫ُيعد تعبير رواية الزيني بركات عف ىموـ الحياة اليومية التي يعيشيا العامة والبسطاء أحد‬
‫أبرز مبلمح التحوؿ في الرواية التاريخية الجديدة‪ ،‬حيث تعرضت الرواية لمعاناة الكثير مف‬
‫الشخصيات العادية والبسيطة وأبدت ىموميـ وقضاياىـ وما يشغميـ‪ ،‬وشكؿ ذلؾ أرضية تنيض‬
‫عمييا الرواية فنرى العماؿ‪ ،‬والحرفييف‪ ،‬والفبلحيف‪ ،‬والباعة‪ ،‬والمقاىي‪ ،‬والعوائؿ الفقيرة ومعاناة‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٓٔ ‪ٔٔ-‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٗ‪ ،ٙ‬صٗٗٔ‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٖ‪ٔٚ٘- ٔٚ‬‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٓ‪ٔٙ‬‬
‫(٘) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٗ‪ٙ‬‬
‫(‪ )ٙ‬الزيني بركات‪ ،‬ص٘‪ٚ‬‬

‫‪198‬‬
‫النساء واألطفاؿ‪ ،‬والضرائب‪ ،‬وممح الطعاـ الذي عز وجوده‪ ،‬ومشاىد التجريس‪ ،‬وخبلفات‬
‫الفقياء‪ ،‬وشكاوي الناس‪ ،‬وأىؿ التصوؼ‪ ،‬وطبلب األزىر‪ ،‬وأىؿ الطرب والغ ناء‪ ،‬وبيوت األنس‪،‬‬
‫والمومسات‪ ..‬الخ‪ ،‬لقد صورت ىذه الرواية طبيعة الحياة الشعبية بمختمؼ أشكاليا وألوانيا‪،‬‬
‫وكشفت عف ىموـ الناس ومعاناتيـ في ظؿ جو عاـ يسوده االضطراب واالستبداد والقير‪،‬‬
‫بحيث نجد عالماً روائياً خاصاً يعرض صو اًر تفصيمية لحياة الناس اليومية وىموميـ المعيشية‬
‫في الريؼ والمدينة‪ ،‬في األزقة والشوارع‪ ،‬إنيا صور نابضة بالحياة تصدر عف أصحابيا دوف‬
‫خطاب مباشر مف الراوي أو الكاتب‪ ،‬وبما ال يتعارض مع الخمفية التاريخية لؤلحداث‪ .‬ومف‬
‫خبلؿ ذلؾ نبلحظ اختبلؼ نظرة جماؿ الغيطاني لمرواية التاريخية عف نظرة جورجي زيداف‪،‬‬
‫الذي لـ ييتـ بتصوير جوانب الحياة الشعبية في رواياتو التاريخية‪ ،‬حيث كاف محور اىتمامو‬
‫تصوير األحداث السياسية والتغيرات التاريخية الكبيرة دوف االلتفات إلى اليموـ الشعبية‪ .‬وربما‬
‫يظير تأثر الغيطاني في ىذه الناحية بنجيب محفوظ في رواية كفاح طيبة التي َّ‬
‫عبرت عف‬
‫طبيعة الحياة الشعبية وحرصت عمى إظيار دور الشعب في صنع التغيرات التاريخية الكبي ةر مف‬
‫خبلؿ تناوليا لمتاريخ الفرعوني‪ ،‬ولكف كاف نحو الشعب والعامة مخالفًا إذ ييدؼ إلى تصوير‬
‫الحياة الشعبية وىموميا المعيشية في الزيني بركات ؛ ليعمؽ المأساة العامة الناتجة عف القمع‬
‫أثر كبير في اتجاىات ُك ّتاب الرواية‬
‫والخوؼ واستبداد نظاـ الحكـ‪ ،‬وقد كاف لتناولو ىذا ٌ‬
‫التاريخية فيما بعد‪.‬‬

‫خامساً‪ :‬المكان‪:‬‬

‫يسيـ المكاف الروائي عند جماؿ الغيطاني في تطور األحداث‪ ،‬حيث تتجسد خصوصية‬
‫العبلقة بيف المكاف والشخصيات‪ ،‬فبل تكترث نصوص الرواية الجديدة بالبعد الجغرافي لممكاف‪،‬‬
‫( ٔ)‬
‫فقد أصبح المكاف جزءًا‬ ‫"بؿ تنشغؿ بإحاالتو ومرجعياتو وما يمكف أف يثيره في بناء الرواية"‬
‫مف اليوية الثقافية والحضارية لشخصيات الرواية وأنماط تفكيرىـ وصور حياتيـ‪ ،‬وىذا يدؿ عمى‬
‫القيمة الواقعية غير المرئية ليذا المكاف‪.‬‬

‫وقد سيطر فضاء المدينة عمى رواية الزيني بركات‪ ،‬حيث تقع أحداث الرواية في القاى ةر‬
‫فصور السارد حاؿ المدينة تصوي ًار‬
‫َّ‬ ‫الممموكية‪ ،‬القاىرة المقموعة الميزومة داخميًا وخارجيًا‪،‬‬
‫مأساوياً مفجعاً في ظؿ الظمـ والقير واالستبداد والفساد السياسي واإلداري واألخبلقي الذي قادىا‬
‫في النياية إلى الي زيمة النكراء أماـ العثمانييف‪ .‬وتبرز سمات الرواية الجديدة في تناوؿ الكاتب‬

‫(ٔ) الرواية العربية الجديدة وخصوصية المكاف(بحث)‪ ،‬ص‪ٔٔٛ‬‬

‫‪199‬‬
‫لمدينة القاىرة‪ ،‬فقد تجاوز الوصؼ الجغرافي‪َّ ،‬‬
‫ليعبر عف الحالة النفسية والشعورية التي تعـ‬
‫قاطنييا‪ ،‬وىذا أوؿ ما نراه في بداية الرواية حيث يصؼ الرحالة البندقي فياسكونتي جانتي الديار‬
‫بل‪" :‬تضطرب أحواؿ الديار المصرية ىذه األياـ‪ ،‬وجو القاىرة غريب عني‪ ،‬ليس ما‬
‫المصرية قائ ً‬
‫عرفتو في رحبلتي السابقة‪ ،‬أحاديث الناس تغيرت‪ ،‬أعرؼ لغة الببلد وليجاتيا‪ ،‬أرى وجو المدينة‬
‫مريضاً يوشؾ عمى البكاء‪ ،‬امرأة مذعورة تخشى اغتصابيا آخر الميؿ‪ ،‬حتى السماء نحيمة زرقاء‪،‬‬
‫صفاؤىا بو كدر‪ ،‬مغطاه بضباب قادـ مف ببلد بعيدة"‪ )ٔ (.‬ارتبط الوصؼ السابؽ بمدينة القاى ةر‬
‫التي لحقتيا اليزيمة الشنيعة‪ ،‬فأضحت مقيورة تجر ذيوؿ الخيبة‪ ،‬وتعاني الذؿ واالنكسار‪ ،‬وما‬
‫كاف ذلؾ إال نتيجة طبيعية ومنطقية لمظمـ والقمع والفساد الذي سبؽ ىذه اليزيمة وميَّد ليا‪.‬‬

‫لق د تـ توظيؼ المكاف الروائي بشكؿ فاعؿ ومؤثر في إظيار سمة االضطراب الواضحة‬
‫في مدينة القاىرة بحاراتيا وشوارعيا ومساكنيا‪ ،‬وىذا يكشؼ لنا عف مدى وعي الكاتب‪ ،‬ومعرفتو‬
‫بمعالـ القاىرة التاريخية والتراثية‪ ،‬وصمتو العميقة بيا‪ ،‬وخاصة القاىرة في عيد المماليؾ حيث‬
‫حواري الح سينية والباطنية والجمالية وكوـ الجارح وباب الشعرية والجامع األزىر والزوايا الصوفية‬
‫وباب زويمة‪ ،‬كذلؾ تظير سطوة قمعة الجبؿ كرمز لمنظاـ السياسي القائـ‪ ،‬وتبدو سيطرة أمراء‬
‫وفرساف المماليؾ‪ ،‬ويتضح الصراع فيما بينيـ‪ ،‬في حيف يبقى الشعب ساكناً مستسمماً لقدره الذي‬
‫عبر المكاف عف طبيعة الحياة الشعبية ببساطتيا المعيودة‪،‬‬‫فُرض عميو ُعنوة‪ ،‬عبلوة عمى ذلؾ َّ‬
‫إذ يشعر القارئ بدبيب الحياة‪ ،‬ويممس إيقاعيا اليومي في ظؿ فضاء تاريخي يعيد إلى األذىاف‬
‫مصر الممموكية دوف أف ينفصـ عف مصر في الزمف الحاضر بدالالتيا المكانية والزمانية‪.‬‬
‫انظر‪" :‬أوؿ النيار‪ ..‬تغرؽ البيوت في نعاس طري‪ ،‬تتأخر الشمس في الوصوؿ إلى حواري‬
‫الحسينية‪ ،‬الباطنية‪ ،‬الجمالية‪ ،‬والعطوؼ‪ ،‬بينما تُرى واضحة مف فوؽ أسوار وأبراج قمعة الجبؿ‪،‬‬
‫جماعة المماليؾ التي تخترؽ شارع حدرة البقرة لـ يخرجوا مف القمعة‪ ،‬خرجوا مف بيت األمير‬
‫قاني باي الرم اح أمير الخيؿ السمطانية‪ ،‬عبروا الخميج‪ ،‬نزلوا عمى ميؿ إلى باب الموؽ‪ ،‬أشرعوا‬
‫سيوفيـ في وجو النيار المقبؿ‪ ،‬السقاءوف الذيف قابموىـ قرب باب الموؽ‪ ،‬أوؿ مف يستيقظ في‬
‫( ٕ)‬
‫المدينة‪ ،‬يحمموف الماء مف النيؿ إلى البيوت‪ ،‬يجيموف مقصد الفرساف‪."..‬‬

‫كذلؾ وظَّؼ السارد فضاء المد ينة لمتعبير عف الحالة االجتماعية والمفارقة بيف حياة‬
‫الحكاـ المتسمطيف وحياة عامة الشعب المصري مف الفقراء‪ .‬فػ "المماليؾ في بروج وقصور وقبلع‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٚ‬‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٜٔ‬‬

‫‪211‬‬
‫عالية‪ ،‬بينما الرعية في أفضية عارية منبسطة يسيؿ كشؼ أسرارىا بفوانيس البص وجس‬
‫النبض‪ ،‬وبيف العموي والسفمي جياز المخابرات الذي يشكؿ صراطًا لمتعذيب وخندقًا لمموت‪،‬‬
‫( ٔ)‬
‫ومف أمثمة‬ ‫يخدـ العموي تارة ويخونو تارة أخرى‪ ،‬ويقصي السفمي وينيب خيرات مستضعفيو"‪.‬‬
‫ذلؾ وصؼ السارد لبيت الشياب زكريا حيث "ينزؿ زكريا السمـ الطويؿ إلى حوش البيت‪ ،‬ينفذ‬
‫الريحاف إلى صدره‪ ،‬وشيش سعؼ النخيؿ‪ ،‬أشجار غريبة أرسميا إليو كبار البصاصيف في اليند‪،‬‬
‫في اليمف‪ ،‬في الحبشة‪ ،‬في ركف الحديقة األيمف‪ ،‬زىور صفراء قميمة‪ ،‬ال ينسى إحداىا‪ ،‬ىمسة‬
‫تجسدت زىرة‪ ،‬رقيقة صفراء‪ ،‬حوافيا بنفسجية‪ ،‬قمبيا أحمر ٍ‬
‫قاف‪ ،‬بو ثبلث ذرات مف لوف أخضر‬
‫قاتـ‪ ،‬رآىا تتفتح أمامو‪ ،‬شيد إطبلليا عمى العالـ أماـ عينيو‪ ،‬يذكر المنظر متعجبًا‪ ،‬في الحديقة‬
‫( ٕ)‬
‫ويبدو ذلؾ أيضًا‬ ‫أقفاص صغيرة تضـ عصافير غريبة الخمقة‪ ،‬صياح بعضيا غريب‪ ..‬الخ"‪.‬‬
‫في وصؼ غرفة المقاببلت فػالحشايا وثيرة محشوة بريش ناعـ‪ ،‬والسقؼ ٍ‬
‫عاؿ منقوش بالفضة‬
‫( ٖ)‬
‫إف ىذا الوصؼ الدقيؽ لفناء البيت وحديقتو يوحي بحياة البذخ ورغد العيش التي ينعـ‬ ‫والذىب‬
‫بيا زكريا وغيره مف أمراء المماليؾ‪ ،‬في حيف ال يجد الكثير مف الناس مكاناً يأوييـ‪ ،‬فكيؼ‬
‫سيشعر ىذا الظالـ وغي هر بمعاناة الناس وىو ال يعيش حياتيـ؟!‬

‫يدؿ عمى ىيمنة فضاء المدينة عمى السرد المكاني‪ ،‬عدـ ظيور القرية في الرواية إال‬
‫كمكاف نفسي مف خبلؿ تقنية االستذكار‪ ،‬حيث يرى سعيد "أطفاالً صغا اًر في قريتو البعيدة‪،‬‬
‫رؤوسيـ ضخمة‪ ،‬رقابيـ نحيمة كالعيداف‪ ،‬يمضغوف تراب الطريؽ‪ ،‬عيونيـ أوطاف لمذباب‪ ،‬وجد‬
‫نفسو يحمد اهلل ألنو لـ يخمؽ فبلحًا يشقى في الغيط‪ ،‬في رفع الماء مف الترعة إلى القنوات‪،‬‬
‫تفرض عميو األتاوات‪ ،‬يجمده الكشاؼ‪ ،‬يسعى إلى المدينة ليجير بالشكوى‪ ،‬ال يرجع إلى عيالو‬
‫( ٗ)‬
‫فالقرية لـ تعد مكاناً لميدوء وراحة الباؿ‪ ،‬إنما ىي كالمدينة مكاف يمارس فيو الظمـ‬ ‫أبداً"‪.‬‬
‫والقمع والسخرة عمى الفبلحيف البؤساء‪ ،‬الذيف ُيستغموف وال يسمح ليـ بالشكوى أو المطالبة‬
‫بحقوقيـ‪ ،‬ويب دو أف جماؿ الغيطاني قد تأثر في تناولو لمقرية المصرية بنظ ةر عمي أحمد باكثير‬
‫لمقرية في رواية الثائر األحمر‪ ،‬حيث كانت القرية في تمؾ الرواية –كما ذكرنا ‪ -‬مق ًار لمظمـ‬
‫والقمع عمى يد اإلقطاع‪.‬‬

‫(ٔ ) الزيني بركات لجماؿ الغيطاني بيف التخييؿ التاريخي والتأصيؿ التراثي‬
‫‪http://www.arabicnadwah.com/bookreviews/ghitany-hamadaoui.htm‬‬
‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٜٛ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬ص٘‪ٜ‬‬
‫(ٗ) الزيني بركات‪ ،‬صٕٓٔ‬

‫‪211‬‬
‫يظير لنا مما سبؽ اختبلؼ نظرة الغيطاني لمدينة القاىرة عف نظرة عمي أحمد باكثير‬
‫لذات المدينة في رواية (واإسبلماه) عمى الرغـ مف أف االثناف يستميماف عص ًار واحدًا ىو عصر‬
‫المماليؾ‪ ،‬ويختمفاف في الحقبة الزمنية التي ركز عمييا كؿ منيما‪ ،‬فقد اختار باكثير بداية‬
‫العصر الممموكي وىو في أوج انتصاراتو‪ ،‬بينما اختار الغيطاني نياية عصر المماليؾ وما رافقو‬
‫مف ظمـ وفساد وىزائـ مفجعة‪ .‬لذلؾ انعكست رؤية كؿ منيما عمى المكاف الروائي وبالتحديد‬
‫عمى فضاء المدينة بشكؿ عاـ‪ ،‬فبدت القاىرة عند باكثير حيوية ثائرة ومنتصرة‪ ،‬أما عند‬
‫الغيطاني فيي مقموعة ومضطربة وميزومة‪ ،‬كانت قاى ةر باكثير منتص ةر ألنو أراد إعادة األمجاد‬
‫والنظر إلى الفترات المشرقة مف التاريخ العربي اإلسبلمي ليقدـ نموذجًا يمكف االحتذاء بو في‬
‫مجابية االحتبلؿ اإلنجميزي لمصر‪ .‬أما قاىرة الغيطاني فيي مدينة صامتة مستكينة مقموعة‬
‫وفاسدة ألف كاتبنا أراد التعرؼ عمى أسباب اليزيمة لتبلشييا وتجنب تكرارىا خاصة بعد ىزيمة‬
‫مصر النكراء أماـ الكياف الصييوني عاـ ‪.ٜٔٙٚ‬‬

‫يظير حرص السارد عمى إعبلء سمطة المكاف مف خبلؿ نسبة آراء وتوجيات الناس حوؿ‬
‫شخصية الزيني بركات إلى أماكف سكناىـ حيث إف "العامة في الحسينية يؤكدوف‪ ،‬لـ يخفض‬
‫الزيني رأساً‪ ،‬لـ يحف ىامة أماـ السمطاف‪ ،‬لـ يرتجؼ أو ييب‪ ،‬قاؿ أماـ األمراء أجمعيف‪ ،‬ال أقبؿ‬
‫الحسبة ألنني ال أريد رؤية الظمـ وأسكت عنو‪ ،‬أما الناس في الجودرية وحارة الروـ الجوانية‬
‫والباطنية فنفوا طموعو إلى القمعة نفيًا تامًا‪ ،‬قالوا إنو أرسؿ إلى السمطاف مكتوبًا يعتذر فيو بأدب‬
‫وحسـ عف والية الحسبة‪ ،‬ألف الزمف دب فيو الفساد وكثر ظمـ العباد‪ ،‬وصار الخير والعدؿ في‬
‫أبعد واد‪ ...‬وقيؿ في بوالؽ والحمامات العامة‪ ،‬خاصة حمامات النساء‪ ،‬إنو وقؼ أماـ السمطاف‬
‫كزينة الرجاؿ‪ ،‬وأشجع ما يكوف عميو الفرساف‪ ،‬دفعو في صدره دفعاً ىيناً حازماً وىذا لـ يقع مف‬
‫قبؿ‪ ،‬ولـ يفعمو أي إنساف‪ ،‬قاؿ ستأمرني بظمـ الرعية وأنا لف أنفذ ىذا ألني أخاؼ نسبة الظمـ‬
‫( ٔ)‬
‫لقد رسـ السارد باستثماره لممكاف الروائي أبعاد‬ ‫إلى‪ ،‬كيؼ أقابؿ خالقي يوـ الحساب؟؟‪".‬‬
‫شخصية الزيني بركات بشكؿ فني‪ ،‬فكؿ منطقة رسمت صورة خيالية مبتدعة لشخصية الزيني‬
‫تنسجـ وآماؿ الشعب في المحتسب الجديد‪ ،‬وكميا تؤكد ع مى الصفات التي يتحمى بيا الزيني‬
‫مثؿ التقوى والورع و َّ‬
‫التديف‪ ،‬وكراىية الظمـ‪ ،‬والرغبة في نشر العدؿ‪ ،‬وكميا صفات كاف الشعب‬
‫يفتقدىا بشكؿ عاـ في المحتسبيف السابقيف أمثاؿ عمي بف أبي الجود‪ ،‬وبالتالي فقد تمكف الزيني‬
‫مف النفاذ إلى أعماؽ الجماىير والتأثير عمييـ والمع ب بعواطفيـ بفطنة وذكاء‪ ،‬إلى أف أصبح‬
‫مطمبًا جماىيريًا يسعى الجميع إليو‪.‬‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬ص٘ٗ ‪ٗٙ-‬‬

‫‪212‬‬
‫ومف أبرز األماكف التي جرى عمييا بعض التجديد ما يأتي‪:‬‬

‫‪ - 7‬المسجد‪:‬‬

‫وىو مف األماكف اليامة التي أحسف السارد استثمارىا في الرواية‪ ،‬ويتضح اختبلؼ‬
‫توظيؼ الغيطاني لممسجد عف توظيؼ باكثير لو في رواية (واإسبلماه) فالمسجد عند باكثير كاف‬
‫منب ًار لمعمماء الربانييف المخمصيف الذيف يدعوف بكؿ صدؽ إلى الثورة عمى الظمـ والفساد‬
‫ورفضو‪ ،‬أما المسجد عند الغيطاني فأصبح منب ًار يستغمو الفاسدوف والظالموف أمثاؿ الزيني‬
‫بركات والشياب زكريا رئيس البصاصيف في التأثير عمى الناس والمعب بمشاعرىـ وخداعيـ‬
‫حيث يظيروف ليـ العدؿ والورع والتقوى قوالً ويخفوف الفساد والظمـ فعبلً وسموكاً‪ .‬وقد اتخذ‬
‫الزيني بركات ‪-‬عمى مدار الرواية ‪ -‬مف المسجد مكاناً يخاطب فيو الجماىير ويكسب ودىـ‬
‫ويؤثر فييـ‪ ،‬ونعمـ ما في ىذا المكاف مف قدرة عالية عمى التأثير واإلقناع‪ ،‬فاستخدـ لغة الخطابة‬
‫بكثرة‪ ،‬فكاف يعتمي المنبر ويخاطب العامة مباشرة‪ ،‬فأوؿ ما تولى الحسبة بدأ بالجامع األزىر( ٔ)‪،‬‬
‫وأثناء واليتو استمر في استغبلؿ ىذا المكاف لمتأثير عمى الجماىير‪ .‬كذلؾ يتـ اإلعبلف عف توجو‬
‫( ٕ)‬
‫الشياب زكريا –رئيس البصاصيف ‪ -‬إلى جامع شيخوف ليؤـ الصبلة‪ ،‬ويخطب في المؤمنيف‪.‬‬
‫ويظير الحوار اآلتي استخداـ كؿ مف الزيني بركات وزكريا لمصبلة وامامة الناس في المسجد‬ ‫ُ‬
‫كوسيمة لخداع الناس ومكرىـ‪ ،‬حيث يسأؿ الزيني بركات الشياب زكريا قائبلً‪" :‬وأخبار الصبلة؟"‬
‫ابتسـ زكريا‪" ،‬يدي قبمة الشفاه‪ "..‬تزايد ضحؾ الزيني‪ ،‬اسمع يا زكريا البد أف تحتؿ مكانة في‬
‫( ٖ)‬
‫وفي حديث سعيد الجييني مع نفسو تتضح ىذه الحقيقة حيث ييجو الزمف‬ ‫قموبيـ أكبر‪."..‬‬
‫( ٗ)‬
‫قائبلً‪" :‬ما الذي بقي ليحرص عميو؟ زمف إمامو الزيني‪ ،‬وشيخو زكريا‪ ،‬سدنتو البصاصوف‪."..‬‬

‫‪ - 6‬السجن‪:‬‬

‫برز السجف في الرواية كمكاف بشع وبغيض يقترف بالقمع ال نفسي والجسدي ضد الشخص‬
‫المعارض لمسمطة الحاكمة‪ ،‬وفيو يحرـ االنساف مف حقوقو‪ ،‬وتسمب حريتو‪ ،‬وتياف كرامتو‪ ،‬وىو‬
‫لذلؾ مف األماكف المرعبة التي ترتبط بالقيد والتعذيب والعزلة‪ .‬وقد ذكرت الرواية عدداً مف أسماء‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٜٗ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٜٔٙ‬‬
‫(ٖ) الزيني بركات‪ ،‬صٗ‪ٜٔ‬‬
‫(ٗ) الزيني بركات‪ ،‬صٕ٘ٔ‬

‫‪213‬‬
‫المقْ َش ةر( ٔ)‪ ،‬والجديد ىنا أف السجف‬
‫العرقانة‪ ،‬و َ‬
‫الجب‪َ ،‬‬
‫السجوف المشيورة في زمف المماليؾ مثؿ‪ُ :‬‬
‫بشكؿ واضح وعمني‪ ،‬إنما يكوف مخفيًا تحت بيت مف البيوت‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أو المعتقؿ ال يظير جميًا أو‬
‫( ٕ)‬
‫ىذا السجف السري الذي يظير شدة‬ ‫فزكريا ينزؿ "إلى السجف الصغير المدفوف تحت البيت"‬
‫القمع الذي يتعرض لو الناس‪ ،‬حيث "طمب مف مبروؾ إخبلء التجاويؼ مف كافة السجناء‪،‬‬
‫( ٖ)‬
‫إنو سجف غير شرعي‪ ،‬يستيتر‬ ‫أحد بوجودىـ‪ ،‬لـ يصدر مرسوـ بإمساكيـ"‬ ‫جميعيـ ال يدري ٌ‬
‫بكؿ المعاني والقيـ اإلنسانية‪ ،‬األمر الذي يؤكد تفشي حالة الظمـ والقمع‪ .‬كذلؾ يبدو بيت الزيني‬
‫في حمواف جميبلً تحيطو خضرة كثيفة مف الخارج إال أنو "يقع تحتو سجف يضـ أربع عشرة‬
‫زنزانة‪ ،‬ليست زنازيف بالمعنى الدارج‪ ،‬الواحدة منيا حجرة مستطيمة طوليا ثبلث خطوات بقدمي‬
‫رجؿ بال ‪ ،‬ارتفاعيا أزيد مف قامة رجؿ عادية بشبر ونصؼ‪ ،‬عرضيا ال يمكف اإلنساف مف فرد‬
‫( ٗ)‬
‫لقد كشؼ ىذا السجف السري عف شخصية الزيني بركات المخادعة التي ال‬ ‫ذراعيو‪ ..‬الخ"‪.‬‬
‫تختمؼ عف شخصية غيره مف الظالميف‪ ،‬ىذه الشخصية التي ال تتورع عف تعذيب اآلخريف‬
‫والنيؿ منيـ بشتى الطرؽ‪ .‬لقد حرص الزيني بركات عمى إظيار الوجو الحسف لمناس‪ ،‬إال أف‬
‫الممارسات التي قاـ بيا في أثناء تعذيبو لعمي بف أبي الجود –المحتسب السابؽ ‪ -‬ليجب هر عمى‬
‫االعتراؼ باألماكف التي يخبئ فييا أموالو أظيرت حقيقتو البشعة والدموية القاسية‪ ،‬حيث كاف‬
‫يشرؼ عمى تعذيبو بنفسو‪ ،‬واألدىى أف وسيمة إرغامو عمى اإلقرار كانت بتعذيب الفبلحيف أمامو‬
‫عذاباً منك اًر بغية إخافتو وترويعو‪ ،‬ومف ذلؾ تعذيب فبلح أماـ عينيو حيث "أظيروا حدوتيف‬
‫محميتيف لونيما أحمر لشدة سخونتيما‪ ،‬بدأ يدقيما في كعب الفبلح المذعور‪ ،‬نفذ صراخ الفبلح‬
‫( ٘)‬
‫ثـ إنو "ذبح‬ ‫إلى ضموع عمي‪ ،‬وكمما حاوؿ إغبلؽ عينو يصفعو عثماف بقطعة جمد عمى قفاه"‪.‬‬
‫ثبلثة مف الفبلحيف المنسييف‪ ،‬أسندت رقابيـ إلى صدر عمي بف أبي الجود والزيني يدخؿ ويخرج‬
‫( ‪)ٙ‬‬
‫محمومًا مغتاظًا يسأؿ" ألـ يقر بعد؟" ال يجيب أحد‪ ،‬يضرب الحجر بيديو"‪.‬‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٔ‪ٛ‬‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬صٖٔ‬
‫(ٖ) الزيني بركات‪ ،‬صٕٖ‬
‫(ٗ) الزيني بركات‪ ،‬صٖٖٔ ‪ٖٔٗ-‬‬
‫(٘) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٖٔٚ‬‬
‫(‪ )ٙ‬الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٖٔٚ‬‬

‫‪214‬‬
‫‪ - 4‬غرف التَّنكر‪:‬‬

‫مف األماكف الجديدة التي تـ توظيفيا في الرواية‪ ،‬وىي تناسب الجو العاـ لمرواية‪ ،‬جو‬
‫بل‪" :‬دخؿ زكريا إلى قاعة‬
‫المكر والخداع والتنكر‪ ،‬حيث وصؼ السارد غرفة الثياب البديمة قائ ً‬
‫الثياب البديمة‪ ،‬غرفة طويمة ضيقة‪ ،‬تحوي كؿ ما يخطر عمى باؿ مف ثياب‪ ،‬عمائـ سمطانية‪،‬‬
‫وأخرى ال يرتدييا إال مقدـ األلوؼ‪ ،‬سبلريات‪ ،‬معاطؼ فرو‪ ،‬سراويؿ شامية‪ ،‬جبلبيب بدوية‪،‬‬
‫( ٔ)‬
‫فرجيات لمشايخ األزىر‪ ،‬قفاطيف‪ ،‬جبلبيب رخيصة لبائعي حموى‪ ،‬وجزاريف‪ ،‬وتجار فاكية"‪.‬‬
‫ىذه الغرفة التي توفر كؿ وسائؿ التنكر والخداع التي تستخدـ لمراقبة الناس والتمصص عمييـ‬
‫وكشؼ أسرارىـ‪ ،‬لـ يكف ليحتاجيا ذلؾ النظاـ لو أنو كفؿ لمناس الحرية‪ ،‬والحياة الكريمة دوف‬
‫ظمـ أو قير أو فساد‪ ،‬ثـ إف ىذا التنكر يوحي بالخوؼ مف االقتراب مف الناس والتعامؿ معيـ‬
‫مباشرة دوف حماية أو حراسة‪ ،‬فالظالـ يعمـ مدى كره الناس لو ورغبتيـ في القضاء عميو‪ ،‬وقد‬
‫صرح الكاتب بيذا اإليحاء‪ ،‬فعمى الرغـ مف خروج الشياب زكريا مف الباب الخمفي لمبيت متنك اًر‬
‫في ثياب درويش إال أنو "مشى عمى ميؿ يتبعو جبراف األخرس‪ ،‬أحد رجالو األشداء‪ ،‬دائمًا‬
‫يسافر معو‪ ،‬يحميو مف غوائؿ الطريؽ‪ ،‬ما تخبئو النفوس مف حقد‪ ،‬ربما يتجسد في خنجر ينسؿ‬
‫( ٕ)‬
‫ال إيجاد الطريؽ إلى قمبو"‪.‬‬
‫محاو ً‬

‫‪ - 3‬السرداب‪:‬‬

‫وىو مف األماكف الجديدة التي وظفيا السارد لخدمة رؤيتو الفنية والموضوعية‪ ،‬حيث جعؿ‬
‫الشيخ أبو السعود السرداب مكاناً آمناً يبث فيو آالمو وأحزانو دوف مراقبة مف أحد وىا ىو يقوؿ‪:‬‬
‫"مف حيف إلى آخر أحتاج إلى خموة‪ ..‬مف أجميا حفرت ل نفسي ىذا السرداب‪ ،‬حفرتو لجسدي‬
‫( ٗ)‬ ‫( ٖ)‬
‫ىذا‬ ‫وقد تكرر ذكر السرداب في الرواية‬ ‫أودعو فيو كممات حارت الروح وأعجزىا الزماف"‪.‬‬
‫التكرار يوحي بالجو المشحوف بالقمع والظمـ والرقابة الشديدة‪ ،‬بحيث ال يجد اإلنساف مكانًا آمنًا‬
‫يمكنو التخفؼ فيو مف أعباء الدنيا وىموميا إال عف طريؽ االختفاء في مكاف سري تحت‬
‫األرض‪.‬‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬صٓ‪ٙٔ- ٙ‬‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬صٔ‪ٙ‬‬
‫(ٖ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٕٔٙ‬‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٕ‪ ،ٔٛ‬صٕٕٗ‬

‫‪215‬‬
‫‪ - 5‬بيوت األُنس (الدعارة)‪:‬‬

‫ظيرت في الرواية بكثرة‪ ،‬وىي توحي بانتشار الفساد األخبلقي وشيوعو حتى بيف الطبقة‬
‫الواعية المتعممة مف مشايخ وطمبة األزىر الشريؼ‪ ،‬وال شؾ أف ىذا الفساد ىو الذي قاد إلى‬
‫يمحوف‬
‫االستسبلـ واليزيمة في نياية المطاؼ‪ .‬فيا ىـ أصدقاء سعيد الجييني مف طبلب األزىر ّ‬
‫( ٔ)‬
‫ثـ إف سعيد يرغب أحياناً في "معرفة ما يجري‬ ‫عميو في الذىاب إلى بيت أنس إال أنو يرفض‪.‬‬
‫في بيت "أنس" دخوؿ الرجاؿ‪ ،‬انتقاؤىـ ما يريدوف‪ ،‬ال يعرؼ الرجؿ اسـ مف يناـ معيا‪ ،‬قاؿ‬
‫منصور‪ :‬في أوؿ مرة سألت البنت عف اسميا فضحكت مني‪ ،‬قالت‪ :‬راوية‪ ،‬وعرفت أنو ليس‬
‫( ٕ)‬
‫وفي أثناء الحديث عف الشيخ ريحاف‬ ‫اسميا‪ .‬آه لو يذىب إلى بيت أنس‪ ،‬أال يستطيع؟"‪.‬‬
‫( ٖ)‬
‫البيروني يظير تعمقو ببيوت األنس‪.‬‬

‫‪ - 2‬المقاىي‪:‬‬

‫يظير المقيى في الرواية كمكاف يختمي فيو اإلنساف بنفسو‪ ،‬أو يجتمع فيو مع أصدقائو‬
‫لتبادؿ الحوار أو الترفيو عف النفس والترويح عنيا( ٗ)‪ ،‬والمقاىي سمة مف سمات الحياة العامة‬
‫في المجتمع المصري‪ ،‬وىي مف وجية نظر السمطات مكاف لممراقبة والبص ومتابعة الناس‬
‫ويظير ذلؾ في حرص مقدـ البصاصيف عمى متابعة سعيد الجييني في مقيى حمزة بف العيد‬
‫الذي يكثر مف التردد عميو إذ يكمؼ عمرو بف العدوي –أحد البصاصيف ‪ -‬بمراقبتو ويوضح لو‬
‫سبؿ ذلؾ حيث تساءؿ عمرو‪" :‬كيؼ يمكف ىذا والمقيى ضيؽ عمى صاحبو؟ ىنا َفَرَد مقدـ‬
‫البصاصيف بيف يديو ورقاً عريضًا‪ ،‬بو رسـ لممقيى وما احتوى عميو مف أواف‪ ،‬ومقاعد منحوتة‬
‫في الجدار‪ ،‬أشار إلى فجوة في الحائط قريبة مف نصبة الفحـ والحمبة والسحمب‪" ،‬ىنا ستجمس"‬
‫( ٘)‬
‫وسعيد ال يدخؿ إنما يبقى في الخارج‪ ،‬تستطيع رصد حركاتو بدوف أف يراؾ"‪.‬‬

‫ومف مبلمح التجديد المتعمقة بالمكاف الروائي أيضاً تمييز السارد بيف المكاف الظاىر‬
‫(المخادع) والمكاف الخفي (الحقيقي) وذلؾ في أثناء وصفو لبيت الزيني بركات‪ ،‬فقد أظيرت‬
‫الرواية أف لمزيني بركات بيتاف‪ ،‬بيت ظاىر ُيخدع الناس ببساطتو‪ ،‬بوابتو مفتوحة "لـ يزيد الزيني‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٚٙ‬‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬صٖٔٔ‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٖ‪ٔٚٗ- ٔٚ‬‬
‫(ٗ) انظر الزيني بركات‪ ،‬صٔ‪ٔٙ‬‬
‫(٘) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٔ٘ٛ‬‬

‫‪216‬‬
‫( ٔ)‬
‫والحقيقة أف لو بيت‬ ‫في بنائو‪ ،‬مف حقو كناظر لمحسبة االنتقاؿ إلى بيت أكبر‪ ،‬لكنو يبقى ىنا"‬
‫آخر أظيرتو تقارير البصاصيف‪ ،‬لو استخدامات أخرى‪ ،‬تظير الوجو القبيح البشع لمزيني بركات‬
‫حيث "ثبت عدـ وجود سجف في بيت الزيني الكائف ببركة الرطؿ فيذا البيت ضيؽ وال يتسع‬
‫لوج ود سجف بو‪ ،‬وأي صراخ فيو يمكف سماعو مف قريب‪ ،‬لقد نقؿ "عمي" إلى بيت قصي قريب‬
‫مف حمواف‪ ،‬وىذا البناء تحيطو خض ةر كثيفة‪ .‬ال نعرؼ متى انتقؿ إلى ممكية الزيني أو مف شيده‬
‫( ٕ)‬
‫فقد أسيـ المكاف الروائي في الكشؼ عف حقيقة شخصية الزيني بركات‪ ،‬شخصية‬ ‫وبناه"‪.‬‬
‫ماكرة خبيثة‪َّ ،‬‬
‫تد عي التقوى والورع والعدؿ وىي بعيدة كؿ البعد عف أي مف ىذه الصفات‪.‬‬

‫(الحمـ) الذي يحمـ بو عامة‬ ‫كذلؾ َّ‬


‫عبرت الرواية عف المكاف النفسي‪ ،‬ذلؾ المكاف المأموؿ ُ‬
‫الناس في زمف االستبداد والقمع والفساد وذلؾ مف خبلؿ وصؼ المكاف الذي يتمنى سعيد أف‬
‫يرى فيو محبوبتو سماح إذ ي تمنى رؤيتيا في "مدينة لـ تعرؼ الطواعيف‪ ،‬ال يموت اإلنساف فجأة‬
‫في عرض الطريؽ‪ ،‬ال يتوجع امرؤ لخطؼ ابنتو‪ ،‬ال يساؽ الفقراء إلى الجب‪ ،‬إلى المقشرة‪ ،‬ال‬
‫( ٖ)‬
‫تقضي أعمار في سجف العرقانة‪ ،‬ال تنزع يد مف جسـ ألنيا سرقت خيارة‪."..‬‬

‫المكاف النفسي عند الغيطاني يختمؼ عف المكاف النفسي عند محفوظ وباكثير‪ ،‬حيث يعبر‬
‫المكاف عف مشاعر الشخصية عند باكثير ومحفوظ مف خبلؿ ارتباطو بالماضي والذكريات‪ ،‬أما‬
‫عند الغيطاني فيو يعبر عف آماؿ وطموحات الشخصية في صنع واقع جديد تنعـ فيو بالحرية‬
‫واألمف بعيداً عف الظمـ والقمع واالستعباد‪.‬‬

‫في نياية حديثنا عف المكاف الروائي في الزيني بركات‪ ،‬نؤكد عمى القدرة الفنية العالية‬
‫التي يمتمكيا الكاتب في توظيفو لممكاف بتقنياتو الحديثة التي استقاىا مف الرواية الجديدة‪ ،‬مما‬
‫جعؿ المكاف عنص اًر فنياً فاعبلً ومؤث اًر ومنسجماً مع عناصر السرد األخرى المشكمة لمرواية‬
‫التاريخية عند جماؿ الغيطاني‪ ،‬حيث َّ‬
‫عبرت كؿ األماكف الروائية عف رؤية الكاتب‪ ،‬فقد ارتبطت‬
‫جميعيا ببؤرة القير والبص والمراقبة والدولة البوليسية‪ ،‬إنو فضاء تاريخي واقعي بشع‪ ،‬يخضع‬
‫فيو كؿ شيء لممراقبة ‪ ..‬قصور األمراء‪ ،‬البيوت‪ ،‬الشوارع‪ ،‬الحارات‪ ،‬المقاىي‪ ،‬المساجد‪ ..‬الخ‪،‬‬
‫إنو عالـ خانؽ مميء بالظمـ والقير والمتابعة‪ ،‬يسوده الشؾ في كؿ شيء‪ ،‬وينتشر بيف ثناياه‬
‫الخوؼ مف التعرض لمسجف والتعذيب الوحشي في سجوف وزنازيف القمع والبطش‪ ،‬في مثؿ ىذا‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٜٔٔ‬‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬صٖٖٔ‬
‫(ٖ) الزيني بركات‪ ،‬صٔ‪ٛ‬‬

‫‪217‬‬
‫العالـ المرعب ال يجد اإلنساف مكاناً آمناً إال تحت األرض في سرداب بعيد‪ ،‬مما يدفع‬
‫الشخصيات إلى تفضيؿ السكوت والصمت واالنكفاء عمى الذات‪.‬‬

‫إف التحوالت التي طرأت عمى المكاف عند الغيطاني في الزيني بركات تحوالت كبيرة وىامة‪،‬‬
‫تتناسب مع فمسفة الرواية الجديدة وتحوالتيا بشكؿ عاـ‪ ،‬وربما تضاىييا أو تتجاوزىا التحوالت‬
‫التي أصابت الزماف‪.‬‬

‫سادس ًا‪ :‬الزمان‪:‬‬

‫يعد تعامؿ السارد مع الزمف في رواية الزيني بركات مف أبرز التحوالت في الرواية‬
‫التاريخية عمى مستوى األدب العربي‪ ،‬فقد تأثر جماؿ الغيطاني بمبادئ الرواية الجديدة خاصة‬
‫ما يتعمؽ بتقطيع الزمف‪ ،‬فابتعد عف فكرة تعاقبية وانتظاـ الزمف التي سيطرت عمى الرواية‬
‫التاريخية ال تقميدية والفنية الواقعية‪ ،‬واعتمد عمى دائرية الزمف وعدـ انتظامو فػ "نبلحظ تكسير‬
‫البناء الزمني وتقطيع المتف إلى أزمنة متداخمة بطريقة جدلية‪ ،‬حيث تتداخؿ البداية مع النياية‬
‫( ٔ)‬
‫لذلؾ بدأت الرواية مف نياية األحداث‬ ‫والنياية مع البداية‪ ،‬كما يتداخؿ الماضي مع الحاضر"‪.‬‬
‫بذكر مقتطؼ مف مشاىدات الرحالة البندقي فياسكونتي جانتي حوؿ أحواؿ القاىرة خبلؿ شير‬
‫أغسطس ‪ٔ٘ٔٚ‬ـ الموافؽ رجب ٕٕ‪ ٜ‬ىػ ليتعرض لحادثة اختفاء الزيني بركات عند غزو ابف‬
‫عثماف لمديار المصرية‪ ،‬وما يثيره ذلؾ مف تساؤالت عند الناس الذيف اعتادوا عمى رؤيتو في‬
‫القاىرة‪ ،‬ثـ يع ود بعد ذلؾ مباشرة ليتحدث في السرادؽ األوؿ عما جرى لعمي بف أبي الجود‬
‫وبداية ظيور الزيني بركات (شواؿ ٕٔ‪ ٜ‬ىػ) أي قبؿ عشر سنوات مف التاريخ الذي بدأ بو‬
‫الرواية‪ .‬وتستمر أحداث الرواية في جو مف االضطراب وعدـ االنتظاـ الزمني‪ ،‬حتى تكتمؿ‬
‫نياية األحداث التي ابتدأ بيا ا لسارد روايتو‪ ،‬بذكر مقتطؼ أخير مف مذكرات الرحالة البندقي‬
‫فياسكونتي جانتي عاـ ٖٕ‪ ٜ‬ىػ يوضح فيو عدـ تأثر الزيني بركات بما استجد مف أحداث حيث‬
‫أبقاه العثمانيوف عمى منصبو كمحتسب لمقاىرة‪.‬‬

‫وقد أبدع الكاتب في تناولو لممفاصؿ الزمنية في الرواية‪ ،‬فاستخدـ نظاـ الحوليات‪،‬‬
‫واستخدـ الوحدات الزمنية الكبرى المتمثمة في األعواـ التي وردت في الرواية‪ ،‬والوحدات الزمنية‬

‫(ٔ ) الزيني بركات لجماؿ الغيطاني بيف التخييؿ التاريخي والتأصيؿ التراثي‬
‫‪http://www.arabicnadwah.com/bookreviews/ghitany-hamadaoui.htm‬‬

‫‪218‬‬
‫الصغرى‪ ،‬المتمثمة في األياـ وأجزائيا كأوؿ النيار‪ ،‬وآخره‪ ،‬ومف خبلؿ ىذه الوحدات‪ ،‬دارت‬
‫أحداث الرواية‪ ،‬ووقائعيا‪ ،‬لتشكؿ بنية العمؿ الروائي‪.‬‬

‫عمى الرغـ مف أف زمف أحداث الروا ية يبم اثني عشر عاماً تبدأ ما بيف (ٕٔ‪ٜ‬ىػ ‪-‬‬
‫ٖٕ‪ ٜ‬ىػ) إال أنيا لـ تقؼ كثي اًر خبلؿ السبع سرادقات عند كؿ السنوات التي مرت بيا‪ ،‬إذ تـ‬
‫حذؼ العديد مف السنوات‪ ،‬فمـ تقؼ الرواية في السرادؽ األوؿ ومعظـ السرادؽ الثاني إال عند‬
‫عاـ ٕٔ‪ ٜ‬ىػ حيث تعرضت الرواية لؤلحداث التي تم ت بيف شيري شواؿ وذي الحجة مف خبلؿ‬
‫التركيز عمى عدد مف التواريخ التي ارتبطت بأحداث ىامة مثؿ‪ :‬الثامف مف شواؿ حيث صدر‬
‫قرار السمطاف الغوري بتعييف بركات بف موسى والياً لحسبة القاىرة م ِ‬
‫نعماً عميو بمقب الزيني بعد‬ ‫ُ‬
‫عزؿ عمي بف أبي الجود‪ ،‬والعاشر مف شواؿ الذي رفض فيو بركات منصب الحسبة مظي اًر‬
‫التقوى والورع والخوؼ مف ظمـ الناس‪ ،‬فاجتذب قموب العامة ورجاؿ الديف والمثقفيف‪ ،‬الذيف‬
‫ضغطوا عميو لقبوؿ المنصب‪ ،‬ليبدأ بعد ذلؾ الصراع الناعـ عمى التفرد بالسمطات بينو وبيف‬
‫الشياب زكريا بف راضي رئيس البصاصيف‪ .‬ويأتي صباح الثبلثاء سابع ذي القعدة ٕٔ‪ٜ‬ىػ الذي‬
‫يصور حرص زكريا عمى مراقبة الزيني وازاحتو‪ ،‬كذلؾ في مساء الثبلثاء سابع ذي القعدة تظير‬
‫مجموعة مف النداءات الخاصة بالزيني بركات التي تُعمف عف بدء ممارستو الفعمية لؤلمر‬
‫بالمعروؼ والنيي عف المنكر‪ ،‬أما في يوـ الجمعة عاشر ذو الحجة ٕٔ‪ ٜ‬ىػ تبرز أحداث الفتنة‬
‫التي أثارىا زكريا بيف األمراء‪ ،‬ومف الجدير بالذكر أف سنة ٕٔ‪ ٜ‬ىػ استغرقت حجـ كبير مف‬
‫الرواية قارب المئة صفحة أي ما يعادؿ ثمث الرواية تقريبًا‪.‬‬

‫وقد تعرض السارد لعاـ ٖٔ‪ ٜ‬ىػ في نياية السرادؽ الثاني عندما ذكر اختبلؼ العمماء في‬
‫مسألة الفوانيس التي أمر الزي ني بتعميقيا في الشوارع‪ .‬كما ذكر شير رجب ٗٔ‪ ٜ‬ىػ في السرادؽ‬
‫الثالث مرتبطاً بمقتطفات مف مشاىدات الرحالة البندقي فياسكونتي جانتي الذي كاف يعبر القاىرة‬
‫يومئذ ألوؿ مرة حيث يصؼ فييا الطريقة البشعة إلعداـ عمي بف أبي الجود ضرباً باألكؼ‪.‬‬

‫ينتقؿ بعد ذلؾ السارد مرة واحدة إلى شير ذي القعدة مف عاـ ٕٓ‪ ٜ‬ىػ في السرادؽ الرابع‬
‫ليتركنا مرة أخرى مع مشاىدات الرحالة البندقي فياسكونتي جانتي ليصؼ القاىرة تحت سيط ةر‬
‫الزيني في أثناء زيارتو الثانية ليا‪.‬‬

‫ويعطي السارد عاـ ٕٕ‪ ٜ‬ىػ حي اًز كبي اًر مف الرواية حيث يبم ما يقارب ستيف صفحة فنراه‬
‫في نياية السرادؽ الرابع يرتبط بذكر خروج السمطاف الغوري إلى الشاـ لمتصدي لمعثمانييف‬
‫ضمف مذكرات الرحالة البندقي‪ ،‬ويمتد ليشمؿ السرادؽ الخامس والسادس والسابع فنجد ىذا العاـ‬

‫‪219‬‬
‫في الرسالة المتعمقة بانعقاد مؤتمر البصاصيف في القاى ةر (جمادي األوؿ ٕٕ‪ٜ‬ىػ)‪ ،‬ونجده أيضاً‬
‫في بعض الذيوؿ التي تصؼ عمؿ البصاصيف‪ ،‬ونرى ىذا العاـ في الحديث عف مصير الزيني‬
‫بركات عند الشيخ أبي السعود (الجمعة ٘ٔ شعباف ٕٕ‪ ٜ‬ىػ)‪ ،‬ويتكرر نفس التاريخ في ذكر‬
‫ىزيمة السمطاف الغوري أماـ العثمانييف‪.‬‬

‫وكما بدأت الرواية بذكر مقتطؼ مف مشاىدات الرحالة البندقي فياسكونتي جانتي التي‬
‫وصفت حاؿ القاىرة وقت اليزيمة مف أغسطس إلى سبتمبر ‪ٔ٘ٔٚ‬ـ الموافؽ رجب ٕٕ‪ٜ‬ىػ‪،‬‬
‫تنتيي بذكر مقتطؼ أخير مف مذكراتو عاـ ٖٕ‪ ٜ‬ىػ التي تصؼ دخوؿ العثمانييف لمصر‬
‫وسيطرتيـ عمييا‪.‬‬

‫وبناء عمى ذلؾ‪ ،‬يحرص السارد عمى التوثيؽ الزمني مف خبلؿ ذكر السنوات‪ ،‬إال أنو في‬
‫ً‬
‫توث يقو يختمؼ عف المؤرخيف‪ ،‬فيو ال يعتمد عمى تعاقبية الزمف‪ ،‬بؿ ينتقي األحداث التاريخية‬
‫اليامة التي تخدـ روايتو ورؤيتو الفنية‪ ،‬وما دوف ذلؾ فإنو يعمؿ عمى حذفو وتبلشيو أو القفز‬
‫عنو‪ ،‬فإذا نظرنا إلى السنوات التي ذكرىا حسب ترتيب ورودىا في الرواية (ٕٕ‪ٜ‬ىػ ‪ٜٕٔ -‬ىػ ‪-‬‬
‫ٖٔ‪ٜ‬ىػ ‪ٜٔٗ -‬ىػ ‪ٜٕٓ -‬ىػ ‪ٜٕٕ -‬ىػ ‪ ٜٕٖ -‬ىػ) نجد أنو عمؿ عمى قطع تعاقبية الزمف‪ ،‬وقفز‬
‫عف ست سنوات ىي‪ٜٔ٘( :‬ىػ ‪ٜٔٙ -‬ىػ ‪ٜٔٚ -‬ىػ ‪ٜٔٛ -‬ىػ ‪ٜٜٔ -‬ىػ ‪ ٜٕٔ -‬ىػ)‪ ،‬ثـ إنو توقؼ‬
‫عند بعض السنوات‪ ،‬وأعطاىا حي اًز كبي اًر مف السرد باستخداـ التقنيات التي تسيـ في تبطئة‬
‫السرد مف وصؼ المشاىد والشخصيات والتذكر والعودة إلى الوراء مثؿ سنة ٕٔ‪ٜ‬ىػ وسنة‬
‫ٕٕ‪ٜ‬ىػ‪.‬‬

‫يرى د‪ .‬خيري دومة أف جماؿ الغيطاني تعامؿ مع الزمف الروائي في الزيني بركات بميا ةر‬
‫وحرفية عالية‪ ،‬وىو يربط الزمف بأكثر مف عنصر "فيو أمر يتعمؽ بطبيعة مف يحكي (أو‬
‫يحكوف) في النص مف ناحية‪ ،‬وبطبيعة المغات المتعددة المصادر التي تتداخؿ في نسيج البناء‬
‫الروائي بمستوياتو المختمفة مف ناحية ثانية‪ ،‬وبطبيعة المضموف النيائي لمرواية وعبلقتيا‬
‫( ٔ)‬
‫بحاضرىا مف ناحية ثالثة"‪.‬‬

‫يتفؽ الباحث مع د‪ .‬خيري دومة‪ ،‬فقد عمؿ السارد عمى توظيؼ عدد مف التقنيات‬
‫والمفارقات الزمنية التي ترتبط بتعدد ية األصوات داخؿ الرواية‪ ،‬فتكشؼ عف الخصائص النفسية‬
‫لمشخصيات الروائية مف خبلؿ عمميات االسترجاع واالستباؽ الواردة بكثرة في الرواية‪ ،‬والتي‬

‫(ٔ) ىموـ المعيشة كما تصورىا الرواية التاريخية‪ ،‬ص٘‪ٜ‬‬

‫‪211‬‬
‫تأخذ بأيدينا إلى الزمف النفسي الذي يفسر مواقؼ الشخصيات‪ ،‬ويبيف وجيات نظرىا في‬
‫األحداث‪ ،‬باإلضافة إلى أىميتو في بناء الخطاب الروائي وتطويره‪ .‬كذلؾ حرص السارد عمى‬
‫ربط مضموف الرواية بواقعو الثقافي والسياسي واالجتماعي الذي يرتبط بزمف كتابة النص‬
‫الروائي‪.‬‬

‫ويعد استعماؿ السارد لممفارقات الزمانية وخاصة تقنيتي االسترجاع واالستباؽ في رواية‬
‫ال بار ًاز في مسيرة الرواية التاريخية‪ ،‬لقد ظيرت ىاتاف التقنيتاف بشكؿ بسيط‬
‫(الزيني بركات) تحو ً‬
‫وعابر عند كتاب الرواية التاريخية السابقيف أمثاؿ جورجي زيداف ونجيب محفوظ‪ ،‬وزاد عمي‬
‫أحمد باكثير مف استخداميما‪ ،‬إال أف جماؿ الغيطاني اعتمد بشكؿ كبير عمى ىاتيف التقنيتيف‪،‬‬
‫فسارت أحداث الرواية وشخصياتيا عبر عدة أزمنة متداخمة ومتشابكة أسيمت في تجسيد دائرية‬
‫الزمف الروائي بيف الماضي والحاضر والمستقبؿ‪.‬‬

‫ُيبلحظ الباحث أف السارد استعمؿ شكميف مف أشكاؿ االسترجاع والعودة إلى الوراء‪ ،‬يتمثؿ‬
‫الشكؿ األوؿ في االسترجاع الداخمي الذي يرتبط بزمف الخطاب الروائي‪ ،‬الزمف الذي يدور حولو‬
‫بينما‬ ‫( ٔ)‬
‫ٍ‬
‫ماض الحؽ لبداية الرواية قد تأخر تقديمو في النص"‪.‬‬ ‫موضوع الرواية‪ ،‬وىو "يعود إلى‬
‫يتمثؿ الشكؿ الثاني في االسترجاع الخارجي حيث يتـ استرجاع أحداث ترتبط بالماضي البعيد‪،‬‬
‫الذي يسبؽ زمف الخطاب الروائي فػ "يعود إلى ما قبؿ بداية الرواية"( ٕ) وىو بذلؾ يكوف خارج‬
‫الحقؿ الزمني لؤلحداث الحاضرة في الرواية‪" .‬وفي الحاالت كميا يظؿ لمماضي –بأشكالو‬
‫( ٖ)‬
‫فمعظـ الشخصيات الرئيسة‬ ‫وأطيافو كافة ‪ -‬تأثيره البارز في حاضر الشخصية ومستقبميا"‪.‬‬
‫والفاعمة في الرواية تتعمؽ بالماضي وترتبط بو‪ ،‬فتسترجع الشخصيات ذكرياتيا بشكؿ دائـ‪ ،‬حيث‬
‫يظير األثر الع ظيـ لمماضي في بناء وتشكيؿ الشخصيات الروائية‪ ،‬وفيـ طبيعتيا النفسية‬
‫والشعورية‪.‬‬

‫ومف أبرز أشكاؿ االسترجاعات الداخمية في الرواية ما يأتي‪:‬‬

‫‪ -‬تذكر الشياب زكريا ألوؿ لقاء جمعو بالزيني بركات وبياف أثر ىذا المقاء عمى نفسو‬
‫فيو "أبداً لف ينسى أياـ العزلة التي فرضيا عمى نفسو في اليوـ التالي لزيارة الزيني‪،‬‬

‫(ٔ) بناء الرواية‪ ،‬صٓٗ‬


‫(ٕ) بناء الرواية‪ ،‬صٓٗ‬
‫(ٖ ) إيقاع الزمف في الرواية العربية المعاصرة‪ ،‬صٖ٘‬

‫‪211‬‬
‫أمر بأال تدخؿ إليو تقارير‪ ،‬طمب مف مبروؾ أال يريو مبلمح أي إنساف‪ ،‬الطعاـ مضغو‬
‫( ٔ)‬
‫بضيؽ عندما اضطر إلى تناولو ‪."..‬‬
‫‪ -‬تذكر عمرو بف العدوي دائمًا أنو ُمراقب فػ "عمرو يعمـ أنو ليس بمفرده‪ ،‬ىناؾ مف يرقب‬
‫الخمؽ معو‪ ،‬يرقبو ىو أيضاً‪ ،‬يرفع عنو التقارير إلى مقدـ بصاصي القاىرة‪ ،‬عندما أخب هر‬
‫( ٕ)‬
‫المقدـ نفسو بيذا تقمب عمى جمر"‪.‬‬
‫‪ -‬استرجاع سعيد الجييني ألوؿ لقاء لو مع الزيني فػ "عندما اقترب إلببلغو طمب الشيخ‬
‫أبو السعود‪ ،‬كاف الوقت ليبلً‪ ،‬خرج إليو الزيني ممثماً‪ .‬عمامتو صغيرة‪ .‬ثيابو عادية شأف‬
‫( ٖ)‬
‫فقراء المتصوفة"‪.‬‬
‫‪ -‬تذكر سعيد لخروجو مع أسرة محبوبتو سماح حيث "تذكر يد سماح‪ ،‬يدىا الصغيرة‪،‬‬
‫رقيقة كيمسة‪ ،‬كبيت ِشعر أتقنت صياغتو‪ ،‬احتواىا في يومو اليتيـ الناسؾ‪ ،‬عند خروجو‬
‫( ٗ)‬
‫معيـ لمنزىة‪ ،‬شـ النسيـ"‪.‬‬
‫‪ -‬استرجاع سعيد الجييني لمظمـ والعذاب الذي تعرض لو في السجف عندما أرى تغير‬
‫الظروؼ واألحواؿ مع انتشار خبر ىزيمة السمطاف وبدء دخوؿ العثمانييف لمصر حيث‬
‫( ٘)‬
‫قاؿ‪" :‬لو أف ما يجري اآلف جرى منذ عاميف فقط‪ ،‬عاميف؟ كأنيما عشرات السنيف"‪.‬‬
‫وىنا يظير أثر الزمف وثقمو عمى نفس سعيد‪.‬‬

‫ومف أبرز أشكاؿ االسترجاعات الخارجية في الرواية ما يأتي‪:‬‬

‫‪ -‬استرجاع الشياب زكريا لبداية عممو في عالـ البصاصيف إذ "يرتد إلى زمف بعيد تعقب‬
‫فيو الخمؽ بنفسو‪ ،‬كاف يتخفى في ثياب أرباب الميف والطوائؼ‪ ،‬وقتيا استحدث طريقة‬
‫جديدة في اقتفاء األثر‪ ،‬تعقب اإلنساف بالسير أمامو وىذا ال يقوـ بو إال عتاة‬
‫( ‪)ٙ‬‬
‫أحد في ىذا"‪.‬‬
‫البصاصيف‪ ،‬زكريا ابتدأ العمؿ بصاصاً مف أصغر الدرجات لـ يسبقو ٌ‬
‫‪ -‬استرجاع الشياب زكريا الدائـ لتاريخ وتجارب البصاصيف السابقيف لو‪ ،‬فيو غالباً ما‬
‫يربط مواقفو وق ارراتو بتاريخ البصاصيف‪ ،‬محاوال االستفادة مف ذلؾ التاريخ‪ ،‬وتجنب‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٔٗٙ‬‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬صٔ٘‬
‫(ٖ) الزيني بركات‪ ،‬صٖ‪ٛ‬‬
‫(ٗ) الزيني بركات‪ ،‬صٕٕٔ‬
‫(٘) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٕ٘ٚ‬‬
‫(‪ )ٙ‬الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٔٗٛ‬‬

‫‪212‬‬
‫األخطاء التي وقع فييا غيره مف البصاصيف‪ .‬ومف ذلؾ استرجاعو وىو يكتب رسالة‬
‫مستخدمًا الحبر الذي يجؼ بعد مدة بعينيا ِلما "حدث في زمف السمطاف فرج بف برقوؽ‪،‬‬
‫أف أطاحت رسالة برأس كبير البصاصيف‪ ،‬اآلف ال يمكف لمناد أف يواجو زكريا بكممة‬
‫مدونة"‪ )ٔ (.‬ومف ذلؾ أيضاً عودتو إلى الوراء مئتي عاـ؛ ليذكر سبب ابتعاده عف‬
‫واحدة َّ‬
‫شرب الخمر‪ ،‬فقد "أضاعت الخمر واحداً مف أعظـ البصاصيف الذيف عرفتيـ مصر‪،‬‬
‫في زمف الظاىر بيبرس‪ ،‬أدمف ابف الكازاروني الخمر‪ ،‬صار يقوؿ في مجالسو الخاصة‬
‫والعامة كؿ ما يعرفو عف أحواؿ الناس والدولة‪ ،‬تسبب ىذا في فضيحتو ثـ قطع‬
‫( ٖ)‬ ‫( ٕ)‬
‫وغير ذلؾ الكثير مف المواقؼ التي يعود فييا لمماضي البعيد‪.‬‬ ‫رقبتو"‪.‬‬
‫‪ -‬تذكر عمرو بف العدوي لنشأتو في القرية حيث "يرى أيامًا نائيات يمسؾ فييا بجمباب‬
‫أمو‪ ،‬خرجا إلى الحقوؿ لينتزعا البطاطا‪ ،‬رائحة الضباب لـ تفارؽ أنفو‪ ،‬رائحة الخبيز‬
‫( ٗ)‬
‫ساعة الظييرة‪ ،‬البوص‪ ،‬وىج األفراف‪ ،‬جريو مع األوالد"‪.‬‬
‫‪ -‬استرجاع عمرو لبداية عبلقتو مع جياز البصاصيف والحوار الذي دار بينو وبيف مقدـ‬
‫( ٘)‬
‫كذلؾ تذكره لفق هر الشديد وم ار ةر عيشو قبؿ‬ ‫البصاصيف وكيؼ أقنعو في االنضماـ ليـ‪.‬‬
‫( ‪)ٙ‬‬
‫قبؿ انضمامو لجياز البصاصيف‪.‬‬
‫‪ -‬استرجاع سعيد الجييني لصورة األطفاؿ في قريتو البعيدة حيث "رأى سعيد أطفاالً‬
‫صغا اًر في قريتو ال بعيدة‪ ،‬رؤوسيـ ضخمة‪ ،‬رقابيـ نحيمة كالعيداف‪ ،‬يمضغوف تراب‬
‫( ‪)ٚ‬‬
‫الطريؽ‪ ،‬عيونيـ أوطاف لمذباب"‪.‬‬
‫‪ -‬تذكر الشيخ أبي السعود نشأتو في الزمف البعيد فػ "في أوؿ خطى الحؽ تزوج في‬
‫خوارزـ‪ ،‬لـ يكمؿ العاـ‪ ،‬وانما رحؿ في وجو الجبؿ مخمفًا وراءه أث ًار‪ ،‬ال يدري ىؿ جاء‬
‫الدنيا أو ال؟ ف ي مدينة بشرؽ الصيف‪ ،‬في قرية فوؽ جبؿ شاىؽ العمو في اليند‪ ،‬في‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬صٗ‪ٙ٘- ٙ‬‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬صٖٗٔ ‪ٔٗٗ-‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٕٖ‪ ،‬ص‪ ،ٜٛ- ٜٚ‬صٓ٘ٔ‪ ،‬صٔ‪ ،ٜٔ‬صٕ‪ٜٔ‬‬
‫(ٗ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٔ٘ٚ‬‬
‫(٘) انظر‪ ،‬الزيني بركات‪ ،‬صٖ٘ ‪٘ٗ-‬‬
‫(‪ )ٙ‬الزيني بركات‪ ،‬ص٘٘‬
‫(‪ )ٚ‬الزيني بركات‪ ،‬صٕٓٔ‬

‫‪213‬‬
‫جزيرة صغيرة في المحيط الشرقي الكبير‪ ،‬كؿ ساكنيو أربعوف نفساً ذك اًر وأنثى‪ ،‬لـ يضـ‬
‫( ٔ)‬
‫واحداً مف بنيو إلى صدره‪ ،‬ال يعرؼ تعدادىـ لكف قمبو خفؽ بحبيـ ‪."..‬‬

‫طور الغيطاني مف نظرة كتاب الرواية‬


‫أما بالنسبة لتعامؿ الكاتب مع تقنية االستباؽ‪ ،‬فقد َّ‬
‫التاريخية ليذه التقنية‪ ،‬حيث سعى كتاب الرواية التاريخية قبمو إلى تحقيؽ معظـ استباقاتيـ‬
‫وتوقعاتيـ في نيايات الرواية‪ ،‬ومف ذلؾ تحقيؽ عمي أحمد باكثير لجميع استباقاتو وتوقعاتو‬
‫لؤلحداث في رواية (واإسبلماه) كما ُذكر سابقًا‪ ،‬بينما تجمع رواية (الزيني بركات) بيف‬
‫االستباقات المتحققة واالستباقات غير المتحققة حيث لـ تتحقؽ جميع االستباقات والتوقعات في‬
‫الرواية‪.‬‬

‫ومف االستباقات المتحققة‪:‬‬

‫‪ -‬توقع سعيد بتعرضو لمسجف واالعتقاؿ والتعذيب في أي لحظة حيث يقوؿ مخاطبا الشيخ‬
‫أبي السعود‪" :‬أخاؼ عندما أرى عمرو بف العدوي‪ ،‬أتساءؿ عما سيكتبو في أوراقو عني‪،‬‬
‫( ٕ)‬
‫وقد تحقؽ ذلؾ في‬ ‫ما يجعميـ يمقوف بي يومًا في المقشرة‪ ،‬في العرقانة‪ ،‬أو الجب"‬
‫آخر الرواية عندما وسـ الزيني بركات بالكذب في خطبة الجمعة وعمى مرأى مف‬
‫الجميع‪.‬‬
‫‪ -‬ما ورد عمى لساف الزيني بركات في أثناء حوا هر مع الشياب زكريا حيث قاؿ‪" :‬أنت تعمـ‬
‫( ٖ)‬
‫وقد تحقؽ ىذا‬ ‫ما ينويو ابف عثماف وميما طاؿ الزمف فالحرب واقعة ال محالة"‪.‬‬
‫التوقع في نياية الرواية حيث ىزـ السمطاف الغوري أماـ العثمانييف في معركة مرج‬
‫دابؽ‪ ،‬ودخؿ العثمانيوف مصر وسيطروا عمييا‪.‬‬

‫ومف االستباقات غير المتحققة‪:‬‬

‫‪ -‬حمـ سعيد بالزواج مف سماح في قولو‪" :‬سماح خبلصة نساء األرض أجمعيف‪ ،‬منيا‬
‫( ٗ)‬
‫ىذا الحمـ‬ ‫تفرعف‪ ،‬عنيا أخذف‪ ،‬إلييا يعدف‪ ،‬في المستقبؿ البعيد ال يراىا إال معو"‪.‬‬
‫الشريؼ لـ يتحقؽ‪ ،‬فقد تزوجت سماح مف ابف أحد األمراء األغنياء‪.‬‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬صٕ‪ٖٔٛ- ٔٛ‬‬


‫(ٕ) الزيني بركات‪ ،‬صٕ٘ٔ‬
‫(ٖ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٔٗٚ‬‬
‫(ٗ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٚٚ‬‬

‫‪214‬‬
‫‪ -‬نية زكريا قتؿ الزيني خاصة بعد أوؿ لقاء جمع بينيما حيث "لـ تبرد ح ار ةر ما قر هر زكريا‬
‫بعد انصراؼ الزيني‪ ،‬ربما امتد الزمف سنيف طويمة‪ ،‬لكف ما قرره البد أف يتـ‪ ،‬يتحقؽ‬
‫( ٔ)‬
‫والمفارقة ىنا ليست في عدـ تحقؽ ىذا االستباؽ فقط‪ ،‬بؿ في سعي زكريا‬ ‫يومًا"‪.‬‬
‫إلنقاذ الزيني بركات مف الموت وحمايتو مف األمراء الذيف خططوا لقتمو‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫س ِجف عند الشيخ أبي السعود في نياية الرواية‪.‬‬
‫إنقاذه لو مف اإلعداـ عندما ُ‬
‫يتضح مما سبؽ اعتماد الروائي عمى تقنية االسترجاع والعودة إلى الوراء أكثر مف‬
‫اعتماده عمى تقنية االستباؽ واستشراؼ المستقبؿ‪ ،‬وىذا أمر طبيعي ويمكف تبري هر "بأف الماضي‬
‫أكثر وضوحاً مف الحاضر والمستقبؿ‪ ،‬فالماضي والحاضر مرتبطاف بحقائؽ حدثت بالفعؿ أو‬
‫تحدث اآلف‪ ،‬أما المستقبؿ فما مف شيء يضمف لنا أف يأتي عمى النحو الذي نريده أو‬
‫( ٕ)‬
‫نتوقعو"‪.‬‬

‫لقد أجاد السارد في توظيؼ ىاتيف المفارقتيف الزمانيتيف (االسترجاع واالستباؽ) إلبراز‬
‫رؤيتو الفكرية الت ي تؤكد استمرار حالة الفساد والظمـ والقمع بيف الماضي والحاضر‪ ،‬حيث تتجمى‬
‫دائرية الزمف الروائي‪ ،‬فحالة الفساد والظمـ والقمع ال ترتبط فقط بزمف الخطاب الروائي‪ ،‬بؿ ىي‬
‫حالة ممتدة مف زمف سابؽ بعيد إلى زمف حاضر يتصؿ بأحداث الرواية‪ ،‬ويتصؿ كذلؾ بواقع‬
‫القمع والظمـ في ا لعصر الحديث‪ ،‬وما تدويف السارد لزمف كتابة الرواية (ٓ‪ )ٜٔٚٔ- ٜٔٚ‬إال‬
‫عممية ترىيف زمني‪ ،‬تدعو إلى قراءة الحاضر مف خبلؿ العودة إلى التاريخ‪ .‬حيث يستميـ الكاتب‬
‫الحدث التاريخي ويتماىى فيو؛ ليعرض رؤيتو الحضارية المعاصرة‪ ،‬فالزمف التاريخي يوفر لو‬
‫اتساعا وعم ًقا في تعرية الحاضر‪ ،‬وكشؼ زيفو‪ ،‬ومعالجتو‪ .‬وقد أبدع الكاتب في‬
‫ً‬ ‫مساحة أكثر‬
‫استخداـ الزمف الدائري‪ ،‬ليعبر عف واقع ميزوـ‪ ،‬فأحداث الرواية التي ترتبط بالماضي التاريخي‬
‫ال تختمؼ عف أحداث الحاضر‪ ،‬بؿ تكاد تتماثؿ معيا‪ ،‬وواقع الظمـ والقير والفساد الذي أدى إلى‬
‫ىزيمة مصر الممموكية أماـ الغزو العثماني‪ ،‬ىو نفسو الواقع الذي أدى إلى ىزيمة مصر‬
‫الناصرية أماـ الكياف الصييوني عاـ ‪ٜٔٙٚ‬ـ‪.‬‬

‫وفي الختاـ‪ ،‬نؤكد عمى الدور الكبير الذي لعبو جماؿ الغيطاني في تطور الرواية‬
‫التاريخية في األدب العربي الحديث‪ ،‬حيث ظير األثر الواضح الذي تركو عمى ُكتَّاب الرواية‬
‫التاريخية الذيف جاءوا بعده‪ ،‬فقد وجييـ نحو توظيؼ مجموعة مف التقنيات السردية الحديثة في‬

‫(ٔ) الزيني بركات‪ ،‬ص‪ٔٗٙ‬‬


‫(ٕ ) إيقاع الزمف في الرواية العربية المعاصرة‪ ،‬ص‪ٖٜ‬‬

‫‪215‬‬
‫عالـ الرواية التاريخية الجديدة؛ لمتعبير عف رؤيتيـ المعاصرة‪ .‬ويمكف إيجاز أبرز التحوالت التي‬
‫ارتبطت بالرواية التاريخية عنده فيما يأتي‪:‬‬

‫طور مف نظرة ُك ّتاب الرواية التاريخية إلى التاريخ‪ ،‬فمـ يمتزـ بو التزاماً حرفياً‪ ،‬إنما‬
‫ٔ ‪َّ -‬‬
‫عم ُؿ فييا الخياؿ ويعيد تشكيميا بما يخدـ رؤيتو الفنية‬‫تعامؿ معو عمى أنو مادة خاـ‪ ،‬ي ِ‬
‫ُ‬
‫والموضوعية التي ترتبط بالحاضر أكثر مف ارتباطيا بالتاريخ‪.‬‬
‫الك ّتاب األوائؿ ا لذيف وظفوا الرواية التاريخية لمتنديد بسياسة األنظمة العربية‬ ‫ٕ ‪ُّ -‬‬
‫يعد مف ُ‬
‫الدكتاتورية القمعية الظالمة التي كانت سبباً في اليزيمة الفاضحة عاـ ‪ ،ٜٔٙٚ‬حيث‬
‫فضح مف خبلؿ اعتماده عمى المادة التاريخية وسائؿ القمع البدني والنفسي واالجتماعي‬
‫واإلعبلمي التي تعتمد عمييا ىذه األنظمة‪ ،‬وتتخذىا وسيمة لضماف بقائيا واستمرارىا‬
‫عمى سدة الحكـ‪.‬‬
‫ٖ ‪َّ -‬‬
‫جدد في البناء الفني الشكمي لمرواية التاريخية‪ ،‬حيث عمؿ عمى تقسيـ روايتو إلى مقدمة‬
‫أحد قبمو‪.‬‬
‫وسبعة سرادقات وخاتمة‪ ،‬وىذا تقسيـ جديد لـ يستخدمو ٌ‬
‫ٗ ‪ -‬اعتمد في بنائو لمرواية التاريخية عمى التفكؾ والتشظي وعدـ الترابط بيف أجزائيا‪ ،‬األمر‬
‫الذي لـ يتوفر عند غي هر ممف سبقو في كتابة الرواية التاريخية‪.‬‬
‫٘ ‪ -‬اتكأ عمى الحبكة الروائية المركبة التي القت انتشا اًر كبي اًر فيما بعد عند معظـ كتاب‬
‫الرواية التاريخية المحدثيف مثؿ رضوى عاشور وأحمد رفيؽ عوض‪ ،‬في مقابؿ الحبكة‬
‫التقميدية البسيطة الي سار عمييا كتاب الرواية التاريخية السابقوف أمثاؿ جورجي زيداف‬
‫ونجيب محفوظ وعمي أحمد باكثير‪.‬‬
‫‪ - ٙ‬أَكثََر مف االعتماد عمى تقنية المفارقات‪ ،‬وجعؿ ليا دو اًر رئيسياً في بناء الرواية‪ ،‬وقد‬
‫اتبعو في ذلؾ معظـ كتاب الرواية التاريخية الجديدة‪.‬‬
‫‪ - ٚ‬لـ تعرض الرواية التاريخية عند الغيطاني صوتًا واحدًا كحاؿ الروايات التاريخية‬
‫السابقة‪ ،‬بؿ اعتمدت عمى تعددية األصوات والرؤى السردية داخؿ الرواية‪ ،‬وقد ظير‬
‫أثر ذلؾ بشكؿ واضح وجمي في الروايات التاريخية البلحقة خاصة روايتي ثبلثية‬
‫غرناطة وعكا والمموؾ‪.‬‬
‫‪ - ٛ‬قمة لغة الحوار‪ ،‬وىيمنة السرد وا لوصؼ والمونولوج الداخمي عمى أسموب الرواية‬
‫الك ّتاب السابقيف خاصة عمي أحمد باكثير الذي كاف‬
‫التاريخية‪ ،‬وىو يختمؼ في ذلؾ مع ُ‬
‫يكثر مف الحوار في روايتو التاريخية‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫ص عمى االستعانة بالتقنيات السينمائية الحديثة التي توظؼ كؿ مف عناصر‬ ‫‪َ - ٜ‬ح ِر َ‬
‫الصوت والموف والصورة في اال نتقاؿ بيف المشاىد الروائية المختمفة‪ ،‬وقد ظير أثر ذلؾ‬
‫بشكؿ ممحوظ في الروايات التاريخية البلحقة‪.‬‬
‫ِ‬
‫يكتؼ بالمغة التقريرية أو‬ ‫ٓٔ‪ -‬تعدد أشكاؿ ومستويات المغة في الرواية التاريخية‪ ،‬فمـ‬
‫الوصفية البسيطة كما في الرواية التاريخية التقميدية‪ ،‬ولـ يقتصر عمى الفصحى‪ ،‬إنما‬
‫استع اف لتحقيؽ رؤيتو الفنية بعدد مف المستويات المغوية مثؿ‪ :‬الميجة العامية‪ ،‬ولغة‬
‫التقارير‪ ،‬والمراسيـ‪ ،‬والنداءات‪ ،‬والخطابات‪ ،‬والفتاوي‪ ،‬والمؤتمرات‪ ،‬والذيوؿ‪ ،‬باإلضافة‬
‫إلى المغة الصوفية‪ ،‬ولغة اإلشاعة‪ ،‬والمغة الجنسية‪ ،‬وقد كاف ليذا التنوع المغوي أثر‬
‫كبير عمى الروايات التاريخية البلحقة‪.‬‬
‫ٔٔ‪َ -‬ف َت َح مجاالً واسعاً لتوظيؼ تقنية التناص في الرواية التاريخية الجديدة‪ ،‬فقد استخدـ‬
‫معظـ أشكاؿ التناص التي أستخدميا أسبلفو في كتابة الرواية التاريخية مثؿ التناص‬
‫مع القرآف الكريـ‪ ،‬والحديث النبوي الشريؼ‪ ،‬وقصص األنبياء‪ ،‬عبلوة عمى أنو استخدـ‬
‫ال جديدة لمتناص مثؿ التناص مع األمثاؿ الشعبية‪ ،‬والتناص مع الحكـ واألقواؿ‬
‫أشكا ً‬
‫المأثورة‪ ،‬والتناص مع األساطير الشعبية‪ ،‬باإلضافة إلى التناص التاريخي‪ ،‬والتناص مع‬
‫التراث اإلنساني‪ ،‬والتناص األدبي مع الروايات العربية واألجنبية‪.‬‬
‫طور مف طريقة عرض وتشكيؿ الشخصية في الرواية التاريخية‪ ،‬باالعتماد عمى‬
‫ٕٔ‪َّ -‬‬
‫التحميؿ النفسي‪ ،‬والتقديـ المتقطع لمشخصية‪ ،‬فبل تُ َّ‬
‫قدـ الشخصيات دفعة واحدة‪،‬‬
‫باإلضافة إلى أنو اعتمد عمى تقنيتيف جديدتيف في تقديـ الشخصية ىما تقنية الغموض‬
‫وتقنية المفارقة‪ ،‬مما جعؿ الرواية التاريخية أكثر إثارة وتشويقًا مف ذي قبؿ‪.‬‬
‫حمؿ الشخصيات الروائية التاريخية رمو اًز سياسية واقعية‪ ،‬فقد جعؿ مف شخصية‬
‫ٖٔ‪َّ -‬‬
‫الزيني بركات رم اًز لشخصية الرئيس المصري جماؿ عبد الناصر‪ ،‬وجعؿ مف شخصية‬
‫الشياب زكريا رم اًز لرؤساء أجيزة القمع المخابراتية في الببلد العربية‪ ،‬مما فتح مجاالً‬
‫واسعًا لتوظيؼ تقنية الرمز في الرواية التاريخية الجديدة‪.‬‬
‫(المخبِر)‪،‬‬
‫ٗٔ‪ -‬تناوؿ بعض النماذج الشخصية الجديدة‪ ،‬مثؿ شخصية البصاص ُ‬
‫والشخصية الصوفية‪ ،‬وشخصية المثقؼ المقموع‪ ،‬وشخصية عمماء الديف مف المنتفعيف‬
‫والفاسديف (عمماء السبلطيف)‪ ،‬باإلضافة إلى تصوير حياة ومعاناة أفراد الشعب مف‬
‫العامة والبسطاء‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫٘ٔ‪ -‬حرص عمى إعبلء سمطة المكاف الروائي‪ ،‬وقد تجاوز الوصؼ الجغرافي؛ ليعبر عف‬
‫الحالة النفسية والشعورية السائدة في المكاف‪ ،‬باإلضافة إلى التعبير عف عدد مف‬
‫المفارقات المرتبطة باألماكف الروائية مثؿ المفارقات االجتماعية بيف قصور األمراء‬
‫والحكاـ ومساكف عامة الشعب م ف الفقراء‪ ،‬والمفارقة بيف المكاف الظاىر المخادع‬
‫والمكاف الخفي‪ ،‬والمفارقة بيف المكاف الواقعي الحقيقي والمكاف النفسي المأموؿ‪.‬‬
‫أحدث تطو ار كبي اًر في تعامؿ كتاب الرواية مع الزماف الروائي‪ ،‬حيث ابتعد عف فكرة‬
‫َ‬ ‫‪-ٔٙ‬‬
‫خطَّّْية وتعاقبية الزمف‪ ،‬واعتمد عمى دائريتو وعدـ انتظامو‪ ،‬فعمؿ عمى تكسير البناء‬
‫الزمني لمرواية‪ ،‬وقطَّع المتف الروائي إلى أزمنة متداخمة بطريقة جدلية‪ ،‬وتبلعب بالزمف‬
‫باستخداـ عدد مف التقنيات الزمنية الحديثة مثؿ االسترجاع واالستباؽ والتداعي‪..‬‬
‫وغيرىا‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫المبحث الثاني‬

‫التحوالت الموضوع ية والفنية في (ثالثية غرناطة) لرضوى عاشور‬

‫أسيمت رضوى عاشور بشكؿ فعمي في تطوير الرواية التاريخية في األدب العربي‬
‫الحديث شكبلً ومضمونًا مف خبلؿ إبداعيا لمجموعة مف الروايات التاريخية‪ ،‬لعؿ أشيرىا رواية‬
‫(ثبلثية غرناطة) التي َّ‬
‫تميزت عف غيرىا مف الروايات التاريخية السابقة‪ .‬فإذا استدعى جورجي‬
‫زيداف التاريخ اإلسبلمي بغرض تعميمو وفؽ بنية تقميدية بسيطة‪ ،‬واذا عاد أبو حديد إلى التاريخ‬
‫العربي في العصر الجاىمي‪ ،‬وأحيا نجيب محفوظ التاريخ الفرعوني‪ ،‬ورجع عمي أحمد باكثير‬
‫إلى التاريخ اإلسبلمي في فتراتو المشرقة‪ ،‬فإف رضوى عاشور تستميـ في ثبلثية غرناطة التاريخ‬
‫اإلسبلمي في ببلد األندلس في أقسى فترات السقوط واالنحدار واليزيمة برؤية فنية جديدة‪،‬‬
‫جعمت منو رم اًز وقناعاً فنياً؛ لمتعبير عف القضايا العربية المعاصرة‪ ،‬وفؽ مبادئ الرواية الجديدة‬
‫ذات الرؤى السردية الم تعددة‪ ،‬والتقنيات الفنية الحديثة‪ .‬ويبدو أف الكاتبة استفادت مف تجربة‬
‫جماؿ الغيطاني الفنية في رواية (الزيني بركات)‪ ،‬حيث تناقش الروايتاف (الزيني بركات وثبلثية‬
‫غرناطة) أسباب اليزيمة وتداعياتيا بطرؽ فنية جديدة في عممية ترىيف لمحاضر مف خبلؿ‬
‫الماضي التاريخي‪.‬‬

‫تعامل رضوى عاشور مع التاريخ‪:‬‬

‫َّ‬
‫شكمت طريقة تعامؿ رضوى عاشور مع التاريخ في رواية ثبلثية غرناطة‪ ،‬نقمة نوعية‬
‫كبيرة في تعامؿ الروائي مع المادة التاريخية‪ ،‬وتوظيفيا بما يخدـ رؤيتو الفنية‪ ،‬فإذا كاف معظـ‬
‫(الح ّكاـ)‪ ،‬فإف‬
‫كُتّاب الرواية التاريخية قديماً وحديثاً يركزوف عمى الشخصيات التاريخية الكبيرة ُ‬
‫الح َّكاـ واألمراء‬
‫رضوى عاشور لـ تبرز أي دور ليذا النوع مف الشخصيات‪ ،‬فمـ تتعرض لحياة ُ‬
‫ومواقفيـ مف ضياع األندلس‪ ،‬بؿ أشارت إلييـ إشارة سريعة وخاطفة ال تكاد تُذكر‪ ،‬ثـ اعتمدت‬
‫عمى الخياؿ الفني واإلبداعي فاستخدمت التاريخ كإطار عاـ وكمادة خاـ في تصوير معاناة‬
‫الشعب المسمـ بمكوناتو البسيطة في ظؿ حكـ القشتالييف‪ ،‬حيث َّ‬
‫ركزت اىتماميا عمى‬
‫َّ‬
‫المنسية تاريخياً التي ال تذكرىا كتب التاريخ‪ ،‬حتى عندما يأتي ذكر بعض‬ ‫الشخصيات‬
‫الشخصيات الكبيرة التي كاف ليا دور مؤثر في األحداث التاريخية‪ ،‬فبل تتعرض ليا إال عمى‬
‫الم َّ‬
‫تخيميف‪ ،‬دوف ذكر أي تفاصيؿ تبرزىـ أو تميزىـ( ٔ)‪ ،‬وقد أكدت الكاتبة‬ ‫ألسنة أبطا ؿ العمؿ ُ‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬ثبلثية غرناطة (رواية)‪ ،‬صٓٔ ‪ٕٔ -‬‬

‫‪219‬‬
‫ذلؾ بقوليا‪" :‬لـ يكف شاغمي الكبراء أو األمراء والبارز مف الشخصيات التي َّ‬
‫سجؿ التاريخ‬
‫وراقوف ونساجوف ومعالجوف باألعشاب‪،‬‬‫حكايتيا‪ ،‬بؿ شغمني العاديوف مف البشر‪ :‬رجاؿ ونساء‪ّ ،‬‬
‫وعامموف في الحمامات واألسواؽ‪ ،‬وانتاج األطفاؿ في البيوت‪ ،‬بشر لـ يتخذوا ق اررات بحرب أو‬
‫سبلـ‪ ،‬واف وقعت عمييـ مقصمة زمانيـ في الحرب والسبلـ‪ ..‬باختصار سعيت إلى قمب اليامش‬
‫إلى المتف‪ ،‬ودفع المتف المتسمط إلى الزاوية‪ ،‬وحاولت استنفاذ حكاية بشر لـ يمتفت ليـ التاريخ‬
‫العربي والكتابة األدبية"‪ )ٔ (.‬وىي تُ َّ‬
‫ميز بيذا التناوؿ أيضاً عف جماؿ الغيطاني في الزيني بركات‪.‬‬

‫لذلؾ حرصت الكاتبة عمى إبراز معاناة الشخصيات الشعبية البسيطة‪ ،‬وتصوير آالميا‬
‫النفسية‪ ،‬والتغيرات التي تط أر عمييا‪ ،‬ومدى قبوليا ليذه التغيرات مف عدمو في ظؿ االحتبلؿ مف‬
‫خبلؿ قراءتيا المعاصرة لمتاريخ القديـ التي تمكنت فييا مف نقؿ صورة إنسانية واقعية لمعاناة‬
‫العرب والمسمميف في التاريخ األندلسي القديـ مف ناحية‪ ،‬وفي الواقع المعاصر مف ناحية أخرى‬
‫مف خبلؿ ترىيف الحدث وتخطيب الكبلـ‪ ،‬دوف أف تمتزـ بحرفية التاريخ‪ ،‬أو طريقة المؤرخيف في‬
‫سرد األحداث كما كاف يفعؿ كتاب الرواية التاريخية التقميدية‪ ،‬الذيف لـ يتمكنوا مف التخمص مف‬
‫سيطرة التاريخ عمى الفف الروائي سواء عمى صعيد تصوير الشخصيات الكبيرة‪ ،‬أو االلتزاـ‬
‫باألحداث التاريخية‪ ،‬أو محاولة تصوير معاناة اإلنساف في واقعو المعاصر‪.‬‬

‫فكرة الرواية ورسالتيا وتحوالتيا الموضوعية‪:‬‬

‫تتمثؿ أىـ التحوالت الموضوعية عند رضوى عاشور في أنيا استدعت التاريخ األندلسي‬
‫في أشد فترات السقوط واالنييار العربي واإلسبلمي؛ لتعبر عف الواقع الذي يعيشو العرب‬
‫والمسمموف في الزمف الحاضر‪ .‬فقد فرض الواقع العربي نفسو عمى الكاتبة‪ ،‬وشكؿ دافعًا قويًا‬
‫لمحديث عف مأساة األندلس في مقاربة واستعماؿ لمتاريخ؛ لمقاربة الواقع العربي في عصرنا فنيًا‬
‫وروائياً‪ .‬إف فت ةر سقوط األندلس‪ ،‬وغرناطة بالذات‪ ،‬تمقي بظبلؿ مف التشابو واالمتداد في عصرنا‬
‫الحديث يقابميا‪ ،‬حيث يعاني عالمنا العربي مف اليزيمة والذؿ والضعؼ واليواف‪ ،‬ويشمؿ ىذا كؿ‬
‫أقطار الوطف العربي واإلسبلمي‪ ،‬مما ينذر بعواقب وخيمة في المستقبؿ‪ ،‬قد ال تقؿ عف مأساة‬
‫ضياع األندلس وانتياء وجود العرب والمسمميف فييا‪ .‬وتكشؼ رضوى عاشور رؤيتيا مف بداية‬
‫كتابتيا لمرواية إذ تقوؿ‪" :‬رأيت صورة المرأة العارية التي تبدأ الرواية بيا ذات مساء شتائي‪ ،‬وأنا‬
‫أتابع عمى شاشة التمفزيوف قصؼ الطائرة لبغداد‪ ،‬األرجح أف المشيد فتح باباً لمذاكرة‪ ،‬فالتقت‬
‫بالمشيد مشاىد مثيمة‪ :‬قصؼ الطائرات اإلسرائيمية لسيناء عاـ ‪ ٜٔ٘ٙ‬و‪ ،ٜٔٙٚ‬قصؼ لبناف‬

‫(ٔ) صيادو الذاكرة‪ ،‬صٕٕٗ‬

‫‪221‬‬
‫( ٔ)‬
‫عاـ ‪ ٜٔٚٛ‬وٕ‪ ، ٜٔٛ‬والقصؼ المتصؿ لممخيمات الفمسطينية ومدف وقرى الجنوب المبناني"‪.‬‬
‫مر بيا الوطف العربي‪ ،‬وما زاؿ يعاني مف آثارىا حتى يومنا‬
‫فبل شؾ أف األحداث األليمة التي َّ‬
‫ىذا قد أثارت مشاعر الكاتبة وآالميا المكبوتة‪ ،‬فعادت إلى التاريخ األندلسي ال لتعيد كتابتو‬
‫وعرضو مف جديد‪ ،‬بؿ لتقدـ مف خبللو نموذجاً صادقاً لبلنيزاـ والسقوط والضياع تحاكي بو‬
‫الواقع‪ ،‬محذرة مف المستقبؿ القادـ إذا ما بقي الحاؿ عمى ما ىو عميو‪.‬‬

‫والرواية إذ تقدـ نموذج السقوط واالستسبلـ الذي أدى إلى انتياء الوجود اإلسبلمي في‬
‫األندلس‪ ،‬وانتياؾ كرامة العرب والمسمميف فييا‪ ،‬فإنيا تؤكد عمى أىمية تبني مشروع المقاومة‬
‫كعنصر أساسي لمواجية التحديات الخطيرة التي تيدد األمة العربية واإلسبلمية في عصرنا‬
‫الحالي‪ ،‬فالمقاومة تصوف كرامة األمة‪ ،‬وتحفظ دماءىا ومقدساتيا‪ ،‬في حيف أف االستسبلـ‪،‬‬
‫ومجاراة األعداء والخضوع لرغباتيـ‪ ،‬ومحاولة التعا يش واالندماج معيـ ىو أسيؿ الطرؽ لمتشرد‬
‫والضياع والذوباف ومف ثـ التبلشي‪ ..‬وىذا ما أرادت الكاتبة التحذير منو‪.‬‬

‫تتكوف رواية (ثبلثية غرناطة) مف ثبلثة أقساـ رئيسة‪ ،‬لـ تصدر دفعة واحدة‪ ،‬صدر القسـ‬
‫األوؿ الذي يحمؿ عنواف (غرناطة) بشكؿ مستقؿ عاـ ٗ‪ ،ٜٜٔ‬وحاز عمى جائزة أفضؿ رواية‬
‫لنفس العاـ مف معرض القاىرة الدولي لمكتاب‪ ،‬ثـ صدر القسـ الثاني بعنواف (مريمة)‪ ،‬والقسـ‬
‫الثالث بعنواف (الرحيؿ) في طبعة واحدة عاـ ٘‪ ،ٜٜٔ‬وقد حصمت الرواية بأقساميا الثبلثة عمى‬
‫الجائ ةز األولى لممعرض األوؿ لكتاب المرأة العربية بالقاى ةر في نوفمبر مف نفس العاـ‪.‬‬

‫جسَّدت الرواية بصدؽ معاناة المقيوريف والبؤساء مف العرب والمسمميف الذيف قُّْدر ليـ‬
‫البقاء في األندلس بعد سقوط الحكـ اإلسبلمي فييا‪ ،‬مما عرضيـ لمكثير مف الظمـ والقير‬
‫والتمييز العنصري‪ ،‬باإلضافة إلى التطيير العرقي وعمميات التذويب الممنيجة في المجتمع‬
‫الجديد الذي فُِرض عمييـ عنوة وغصباً‪ ،‬مف خبلؿ تسميط الضوء عمى معاناة أسرة أبي جعفر‬
‫الوراؽ كنموذج لؤلسر العربية‪ ،‬الذيف فضموا البقاء في األندلس بعد أف عاشوا السقوط العربي‬
‫فييا عاـ ٕ‪ ٜٔٗ‬ـ‪ ،‬فتذكر الرواية حياة ىذه األسرة بأجياليا المتعاقبة (األجداد‪ ،‬واألبناء‪،‬‬
‫واألحفاد ) في ظؿ الحكـ اإلسباني الذي تعرض فيو مسممو األندلس لمكثير مف الويبلت‬
‫والمآسي‪ ،‬فقد أجادت الرواية تصوير معاناة المقموعيف مف أبناء العرب والمسمميف الذيف بقوا في‬
‫األندلس وأُجبِروا في النياية عمى الخروج منيا عاـ ‪ٜٔٙٓ‬ـ‪ ،‬وأسقطت التجربة التاريخية المري ةر‬
‫عمى ىذه ا ألسرة النموذج التي تساقطت الواحد تمو اآلخر بعد حياة امتؤلت بالقير والظمـ‬

‫(ٔ) صيادو الذاكرة‪ ،‬صٕٓٗ ‪ٕٗٔ-‬‬

‫‪221‬‬
‫والمعاناة‪ .‬فكانت ىذه األسرة مثاالً لمتشتت والضياع والذوباف في المجتمع الجديد الذي فرض‬
‫نفسو عمى الجميع‪ ،‬دوف أي مراعاة لمحقوؽ المدنية أو الحريات الشخصية‪.‬‬

‫إف التحوؿ إلى (التاريخ األندلسي) مف ناحية‪ ،‬والى مقاربة التاريخ والمأساة مف خبلؿ‬
‫الشعب‪ ،‬أو قؿ أسرة فقيرة مف الشعب‪ ،‬ال مف خبلؿ القادة السياسييف والحكاـ‪ ،‬يعداف مف أىـ‬
‫التحوالت عمى مستوى الموضوع‪ ،‬وطريقة استعماؿ التاريخ‪.‬‬

‫التحوالت الفنية‪:‬‬

‫تخطت رواية ثبلثية غرناطة بميارة فنية عالية حدود الزماف والمكاف‪ ،‬فجسَّدت بعباراتيا‬
‫الحيوية الجميمة‪ ،‬وشخصياتيا الخيالية‪ ،‬ومشاىدىا المؤثرة النابضة بالحياة فترة تاريخية شديدة‬
‫األىمية مف تاريخ المسمميف في األندلس‪ ،‬وعرضتيا في ثوب جديد‪ ،‬بشكؿ مشوؽ وجذاب لـ‬
‫يتوفر في غيرىا مف الروايات‪ ،‬ال لتقؼ عند الماضي والتاريخ لذاتو‪ ،‬بؿ لتقارب مف خبللو‬
‫الحاضر والواقع المعيش وتيزه ى اًز عنيفاً؛ ليستيقظ مف غفمتو‪.‬‬

‫أو ًال‪ :‬البنال الفني العام‪:‬‬

‫يمثؿ العنواف أوؿ مظير مف مظاىر التجديد في البناء الفني لمرواية التاريخية عند رضوى‬
‫عاشور‪ ،‬فالعنواف عندىا لـ يقتصر عمى الشخصية التاريخية‪ ،‬بؿ إنيا َّ‬
‫قدمت نموذجاً جديداً‬
‫لعناويف الروايات التاريخية التي تربط بيف العناصر األساسية المكونة لمعمؿ الروائي (الحدث‪،‬‬
‫والشخصيات‪ ،‬والزماف‪ ،‬والمكاف) مف خبلؿ عنواف (ثبلثية غرناطة) الذي ال ُيخفي تأثرىا بثبلثية‬
‫قسمت الكاتبة روايتيا –كما‬‫نجيب محفوظ التي كانت خير مثاؿ لرواية األجياؿ المتعاقبة‪ ،‬فقد َّ‬
‫ذكرنا ‪ -‬إلى ثبلثة أقساـ وقد تميزت في اختيار العناويف الرئيسة لؤلقساـ الثبلث (غرناطة –‬
‫مريمة – الرحيؿ) مما يدؿ عمى قدرة فنية عالية جمعت بيف عناصر العمؿ الروائي التي مثَّميا‬
‫المكاف في القسـ األوؿ‪ ،‬والشخصية اإلنسانية في القسـ الثاني‪ ،‬والحدث في القسـ الثالث‪ ،‬ولـ‬
‫بل جامعًا لؤلقساـ الثبلثة‪ ،‬فيي لـ تعمؿ في‬
‫بل ومسمس ً‬
‫تنس عنصر الزماف الذي نراه متص ً‬
‫اختيارىا لمعناويف عمى إبراز عنصر دوف اآلخر‪ ،‬بؿ حرصت عمى تشكيؿ رؤية فنية شاممة‬
‫تبرز جميع عناصر العمؿ الروائي‪.‬‬

‫ومف أىـ مظاىر التحوالت في البناء الفني لمرواية التاريخية عند رضوى عاشور ىو‬
‫اعتمادىا عمى الحبكة الروائية المركبة التي تختمؼ عف الحبكة البسيطة التي ظيرت عند‬
‫جورجي زيداف ومحمد فريد أبو حديد في الرواية التاريخية التقميدية‪ ،‬وال شؾ أف الكاتبة في ذلؾ‬

‫‪222‬‬
‫تعرضت الرواية لمجموعة مف األحداث والحكايات التي‬
‫متأثرة بتقنيات الرواية الجديدة‪ ،‬حيث َّ‬
‫تداخمت واندمجت مع بعضيا؛ لتؤكد حالة الذىوؿ والتشرد والضياع الناتجة عف الحدث الدرامي‬
‫الرئيس لمرواية‪ ،‬والذي يتمثؿ في سقوط غرناطة آخر معاقؿ المسمميف في ببلد األندلس‪ .‬وقد‬
‫ابتعدت عف جو المصادفات‪ ،‬والتزمت التسمسؿ المنطقي لؤلحدا ث‪ ،‬ولـ يرتبط بناؤىا الفني‬
‫بالقصة الغرامية‪ ،‬وتوفر فييا عنصر الجاذبية والتشويؽ بشكؿ كبير‪.‬‬

‫وقد بدأت الكاتبة في عرض أحداث الرواية باستخداـ وتيرة متسارعة بحيث "يكاد القارئ‬
‫أف يسمع‪ ،‬ويشعر ح اررة أنفاسيا البلىثة المتسارعة‪ ،‬وىي تستحث الخطى‪ ،‬وتمضي قدماً نحو‬
‫األحداث‪ ،‬وكأنيا متعجمة تريد أف تفصح عف أمر ما جمؿ‪ ،‬وغاية في األىمية ألعزاء غفموا عف‬
‫االعتبار مف الماضي‪ ،‬قاصدة التركيز‪ ،‬ثـ ما لبثت أف لجمت أنفاسيا‪ ،‬واستجمعتيا ثانية‪ ،‬منشدة‬
‫مف ذلؾ إدراؾ التفاصيؿ‪ ،‬لتحصؿ عمى المزيد مف التأثير‪ ،‬فاستخدمت َن َفس الثبلثية الطويؿ‬
‫( ٔ)‬
‫الحافؿ بالتفاصيؿ"‪.‬‬

‫كذلؾ ُيعد استخداـ الكاتبة ل متقنيات السينمائية الحديثة مف أبرز تحوالت البناء الفني‪،‬‬
‫حيث اتكأت عمى تقنية عرض المشاىد والمرايا المتقابمة‪ ،‬خاصة في عرض مشاىد الرحيؿ‪ ،‬أو‬
‫مشاىدة مواكب القشتاؿ‪ ،‬وبياف األثر النفسي ليذه المشاىد‪ ،‬بربطيا بأحداث الماضي أو محاولة‬
‫استقراء المستقبؿ مف خبلليا‪ ،‬فقد كشؼ الرحيؿ عما يدور داخؿ النفس البشرية‪ ،‬وما يعتمؿ في‬
‫شكؿ وسيمة لمتعبير وفرصة لممواجية ومحطة لمتدبر والتأمؿ‪،‬‬‫أعماؽ الشخصيات‪ ،‬حيث َّ‬
‫ومحاسبة النفس‪" ..‬لكؿ شيء ثمف‪ ،‬وكمما عز المراد ارتفع ثمنو يا عمي‪ .‬فما الثمف المطموب يا‬
‫مريمة؟ قصرنا فغضب اهلل عمينا‪ ،‬أـ أنو كتب في لوحو المحفوظ سي ةر عذابنا قبؿ أف نخمؽ أو‬
‫( ٕ)‬
‫ثـ إف مسممي األندلس كانوا يروف في مواكب األسرى أىميـ المظموميف‪" ..‬وكاف سعد‬ ‫نكوف؟"‪.‬‬
‫سعد ّْ‬
‫يحدؽ في موكب األسرى الذي ذىب‪ .‬ترى ىؿ حاصروىـ مف البر والبحر كما حاصروا‬
‫مالقة؟ ىؿ جوعوىـ حتى أكؿ مف جرؤ منيـ لحـ حصانو؟ ىؿ قصفوا بيوتيـ واقتحموىا عمييـ‬
‫( ٖ)‬
‫ومثمما كانت ىذه المشاىد عرضاً لمصير المسمميف في غرناطة‪ ،‬كانت في‬ ‫واقتادوىـ أسرى؟"‬
‫الوقت نفسو عرضاً لممصير العربي المعاصر‪.‬‬

‫(ٔ) تطور البناء الدرامي التاريخي في روايات رضوى عاشور (رسالة ماجستير)‪ ،‬ص‪ٜٚ‬‬
‫(ٕ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٔ‪ٜٗ‬‬
‫(ٖ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص‪ٖٚ‬‬

‫‪223‬‬
‫َّ‬
‫شكؿ تطور عنصر الصراع في الرواية التاريخية الجديدة تحوالً ممحوظاً‪ ،‬حيث انتقؿ مف‬
‫اع‬
‫حد ما ‪ -‬برز عند زيداف وأبي حديد وباكثير إلى صر ٍ‬ ‫صراع أفقي ‪-‬بيف أطراؼ متكافئة إلى ٍ‬
‫رأسي برز عند رضوى عاشور وىو صراع عمودي موجو مف الطرؼ المنتصر األقوى المتمثؿ‬
‫في حكاـ قشتالة وجنودىا المحتميف‪ ،‬إلى الطرؼ الميزوـ الضعيؼ المتمثؿ في عامة العرب‬
‫والمسمميف الذيف يقطنوف غرناطة‪ ،‬وقد برز عنصر الصراع في الرواية بشكؿ واضح خاصة‬
‫الصراع الديني والحضاري بيف الفكر اإلسبلمي السمح والفكر الصميبي الغربي المتطرؼ‪ ،‬الذي‬
‫كاف ييدؼ إلى اجتثاث جذور اإلسبلـ مف غرناطة‪ ،‬وكؿ ما يمكف أف يدؿ عميو مف طقوس‬
‫وعبادات‪ ،‬ولذلؾ مورست س ياسة التطيير العرقي والتذويب الفكري التي استخدمت شتى وسائؿ‬
‫ابتداء بالسجف ونيب الممتمكات واألمواؿ‬
‫ً‬ ‫القير والتعذيب النفسي والبدني ضد المسمميف‬
‫انتياء بالحرؽ والقتؿ عمى يد محاكـ التفتيش‪.‬‬
‫والتنصير اإلجباري والتيديد بالتيجير القسري‪ ،‬و ً‬
‫وال شؾ أف رضوى عاشور قد است فادت مف الصراع الرأسي الذي نسجو جماؿ الغيطاني في‬
‫رواية الزيني بركات‪ ،‬والذي جعمو موجياً مف الحكاـ الظالميف المستبديف تجاه بني جمدتيـ مف‬
‫أفراد الشعب الضعفاء والمقموعيف‪ ،‬أما الصراع في ثبلثية غرناطة فكاف موجيًا مف قوى‬
‫االحتبلؿ إلى أفراد الشعب العربي المسمـ الذي عانى الكثير مف الويبلت في ببلد األندلس‪.‬‬

‫ومف أبرز تحوالت البناء الفني في الرواية التاريخية عند رضوى عاشور اإلكثار مف‬
‫تفرغ فييا الشخصيات الروائية المختمفة شحناتيا العاطفية‪،‬‬
‫الحمـ أو الرؤية التي ّْ‬
‫استخداـ تقنية ُ‬
‫وما تأمؿ بو في ظؿ ىذا الواقع المأساوي الذي يعمو القير واالغتراب‪ ،‬فمـ نبلحظ مثؿ ىذه‬
‫الكثرة عند ُكتاب الرواية التاريخية السابقيف أمثاؿ جورجي زيداف‪ ،‬أو نجيب محفوظ‪ ،‬أو حتى‬
‫جماؿ الغيطاني‪ .‬وقد ذكرت الرواية بعض الرؤى التي تبشر بالخير رغـ المعاناة المستمرة‪ ،‬وىي‬
‫عمى قمتيا تشكؿ بذو اًر لؤلمؿ‪ ،‬تخفؼ مف معاناة الشخصيات‪ ،‬وتطمئنيا ولو بالنذر اليسير‪ ،‬وىي‬
‫تحاكي آماؿ وطموحات الشخصيات مف التبشير بمـ الشمؿ‪ ،‬والحض عمى التجمد والصبر‪ .‬مف‬
‫أمثمة ذلؾ ما نجده في ُحمـ (نعيـ) حيف "رأى سعد صاحبو في المناـ‪ .‬كانا معًا ومعيما سميمة‬
‫وحسف يحيطوف بأبي جعفر الذي كاف منزرعاً بطولو المديد في المكاف َّ‬
‫وضاء الوجو يبتسـ‪،‬‬
‫( ٔ)‬
‫ثـ يتساءؿ ىؿ يفتقدىـ إلى حد استحضارىـ في‬ ‫يوجييـ فيما يقوموف بو مف عمؿ‪ ..‬الخ"‪.‬‬
‫المناـ أـ أف حممو رؤيا وبشارة بمـ الشمؿ؟‪ .‬ومف أمثمة ذلؾ أيضاً ما روتو (مريمة) مف أنيا رأت‬
‫في المناـ قم ًار نحاسيًا كبي ًار ومتوىجًا ومشرفًا عمى جبؿ‪ ،‬وعمى الجبؿ وع ٌؿ عظيـ تعمو رأسو‬
‫قروف شجرية ممتفة‪ .‬وكاف الوعؿ ساكنًا كأنما قَُّد مف صخور الجبؿ الذي يقؼ عمى قمتو‪ .‬وقد‬

‫(ٔ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٗ‪ٔٙ‬‬

‫‪224‬‬
‫فسَّرت العرافة أـ يوسؼ ىذه الرؤية بأنيا تنبئ بزواؿ ممؾ الظالميف وىبلكيـ الوشيؾ‪ ،‬وأف اهلل قد‬
‫اختار مريمة ّْ‬
‫لتبشر خمقو بكشؼ الغمة وزواؿ الكرب‪ )ٔ (.‬وقد أوجد ىذا التفسير الفرحة والسرور‬
‫في نفس مريمة‪ ،‬إذ حاكى آماليا وآماؿ غيرىا مف البؤساء والمقموعيف‪ .‬وقد كثرت بعد ذلؾ‬
‫الرؤى التي تجمب التفاؤؿ وتبشر بالخير‪ ،‬ومنيا أف "فقيياً ذا كرامات رأى في المناـ الفاطمي‬
‫يعتمي حصانو األخضر‪ ،‬ويشير سيفو‪ ،‬ويذيع في الناس أنو لـ يمت بؿ كاف حبيساً وراء صخرة‬
‫تحت الجبؿ‪ ،‬وأنو بعد اإلفبلت قادـ إلنقاذ أىمو"‪ )ٕ (.‬ثـ ما نقمتو صبية عف ّْ‬
‫جدىا مف أف "العرب‬
‫سيستعيدوف وىراف وسبتة مف اإلسباف‪ ،‬ثـ يصموف إلى مضيؽ جبؿ طارؽ فيمتد أماميـ جسر‬
‫( ٖ)‬
‫لقد وجد ت الشخصيات في عالـ الحمـ ما‬ ‫مف العنبر يعبروف عميو ويسترجعوف األندلس كميا"‪.‬‬
‫بل ىامًا في تقوية عزيمتيا وصبرىا وتجمدىا رغـ‬
‫لـ تجده في عالـ الواقع‪ ،‬ولعؿ ذلؾ كاف عام ً‬
‫كؿ المآسي التي مرت بيا‪.‬‬

‫كذلؾ يعد اعتماد الكاتبة عمى تقنية الكوابيس مف أبرز مبلمح التجديد في البناء الفني‬
‫لمرواية التاريخية لدييا‪ ،‬وىذه الكوابيس تُ ّْ‬
‫عبر عف حالة الرعب والخوؼ التي تعيشيا الشخصية‬
‫في عالـ الواقع‪ ،‬الخوؼ مف المجيوؿ‪ ،‬الخوؼ مف التعرض لظمـ االحتبلؿ‪ ،‬الخوؼ مف الموت‬
‫حرقاً‪ ،‬الخوؼ مف استمرار حياة البؤس والشقاء‪ .‬إف االعتماد عمى مثؿ ىذه التقنية ُّ‬
‫يعد تطو اًر‬
‫ممحوظاً لـ نجده عند غيرىا مف كتاب الرواية التاريخية‪ ،‬حتى إننا لـ نجده عند جماؿ الغيطاني‬
‫الذي امتؤلت روايتو (الزيني بركات) بالكثير مف أشكاؿ الخوؼ والرعب مف ممارسات النظاـ‬
‫القمعية‪ .‬لقد كاف الواقع الروائي قاسيًا بدرجة كبيرة‪ ،‬وىو في حد ذاتو كابوس مستمر‪ ،‬بؿ إف‬
‫"الواقع أقسى مف الكابوس‪ ،‬وقد ترددت ا لشخصيات بيف عالميف مرعبيف‪ ،‬كابوس الواقع‪،‬‬
‫( ٗ)‬
‫وقد‬ ‫وكابوس المناـ‪ ،‬فعانت رعباً في يقظتيا وفي نوميا‪ ،‬وانيدمت المسافة بيف اليقظة والحمـ"‪.‬‬
‫داىمت الكوابيس القس وخادمو نعيـ في أثناء زيارتيما (العالـ الجديد) مف ىوؿ ما شاىدا فيو‪،‬‬
‫عمى غير ما كانا يتوقعاف مف احتراـ لئل نسانية‪ ،‬والمفارقة أنيما وجدا أف ىذا العالـ الجديد ىو‬
‫امتداد لآلخر القائـ‪ ،‬وأنو ليس جديدًا‪ ،‬بؿ يختمؼ في طرائؽ إلغاء اآلخر‪ ،‬لقد أدركا أف الواقع‬
‫أقسى مف الكابوس‪.‬‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص‪ٕٜٗ- ٕٗٛ‬‬


‫(ٕ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٕٓ٘‬
‫(ٖ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٕٔ٘‬
‫(ٗ) ثبلثية غرناطة مقاربة الحاضر(بحث)‪ ،‬ص‪ٜ٘ٚ‬‬

‫‪225‬‬
‫إف المشترؾ في الكوابيس ىو وجود عناصر الخوؼ فييا السيما النار الحارقة‪ ،‬والثعابيف‪،‬‬
‫ُبم أف الشاطبي يحتضر إذ "رأى نفسو‬ ‫ومشاىد اإلعداـ حرقًا كالكابوس الذي داىـ عميًا عندما أ ِ‬
‫في المناـ يحاصره الميب‪ .‬ىرب ومف معو إلى جب‪ ،‬ولكف لحقت بيـ النيراف‪ ،‬ثـ رأى ثعبانًا‬
‫ىائبلً يطؿ عمييـ مف أعمى الجب‪ ،‬وينفث دخاناً أسوداً كثيفاً‪ ،‬ويصدر صوتاً كالدوي‪ ،‬كاف‬
‫( ٔ)‬
‫الدخاف يعمي عيونيـ‪ ،‬ويحوؿ بينيـ وبيف التنفس‪ .‬كاف يختنؽ ويرتعد ىمعاً"‪.‬‬

‫و َّ‬
‫شكؿ اعتماد الكاتبة عمى تقنية الرمز أحد أىـ تحوالت البناء الفني لمرواية التاريخية‪ ،‬فقد‬
‫وفّْ َقت في استخداـ الرموز واألقنعة والمشاىد كوسائؿ تعبيرية ذات دالالت مختمفة‪ ،‬ولـ تظير‬
‫تقنية الرمز بيذه الكثرة ع ند غيرىا مف كتاب الرواية التاريخية سواء التقميدية أو الواقعية أو‬
‫الجديدة‪ ،‬بحيث يجد القارئ في ثبلثية غرناطة رم اًز عاماً يجسّْد معاناة الشعب الفمسطيني في‬
‫العصر الحديث‪ ،‬فمف خبلؿ تتبع أحداث الرواية نصؿ إلى أف الكاتبة لـ تستميـ تاريخ األندلس‬
‫وتعرضو بشكؿ فني إال لتعبر عف قضايا الواقع العربي وبالتحديد قضية فمسطيف‪ ،‬لقد وضعت‬
‫رضوى عاشور قضية فمسطيف أماـ عينييا‪ ،‬بحيث نرى معاناة الشعب الفمسطيني ونممحيا في‬
‫معظـ أحداث الرواية‪ ،‬فتظير فمسطيف بوضوح في عمميات الترحيؿ والتيجير القسري الذي‬
‫فُرض عمى مسممي األندلس قديماً‪ ،‬وفُرض عمى عرب ومسممي فمسطيف حديثاً في النكبة عاـ‬
‫‪ ، ٜٔٗٛ‬ونرى كذلؾ فمسطيف في االستيبلء عمى األماكف العربية واإلسبلمية وتغيير معالميا‪،‬‬
‫فقد َّ‬
‫غير القشتاؿ معالـ غرناطة قديمًا‪ ،‬وال يخفى ما يقوـ بو االحتبلؿ اإلسرائيمي حديثًا مف‬
‫استيطاف وتيويد مستمر لممدف والقرى الفمسطي نية‪ ،‬ونممح فمسطيف أيضًا في التصاريح التي‬
‫يستخدميا االحتبلؿ كوسيمة قذرة لمحد مف حرية تحرؾ العرب والمسمميف وانتقاليـ مف مكاف‬
‫آلخر‪ ،‬وتبدو فمسطيف في مفاتيح البيوت والصناديؽ التي حرص مسممو األندلس عمى االحتفاظ‬
‫بيا كرمز لمعودة وكذلؾ فعؿ الجئو فمسطيف في العصر الحديث‪ ،‬كما نجد فمسطيف في‬
‫ممارسات القشتاؿ باستغبلؿ األيدي العاممة العربية وىذا ما فعمو االحتبلؿ اإلسرائيمي مع عرب‬
‫فمسطيف‪ ،‬ونممح فمسطيف في عمميات االغتياؿ والقتؿ واالعتقاؿ والتعذيب التي يتعرض ليا قادة‬
‫المقاومة وأصحاب الفكر الحر الذيف يطالبوف بحقوقيـ الشرعية‪ ،‬وفي النياية نمحظ فمسطيف في‬
‫مفاوضات الذؿ والعار واالستسبلـ التي تنازؿ فييا عبد اهلل الصغير ‪-‬آخر مموؾ المسمميف في‬
‫األندلس ‪ -‬عف مدينة غرناطة‪ ،‬ىذه المفاوضات تحاكي اتفاقية أوسمو عاـ ٖ‪ ٜٜٔ‬التي أعطت‬
‫الكياف الصييوني شرع ية البقاء في فمسطيف‪ ،‬وتنازلت عف ‪ %ٚٛ‬مف أرض فمسطيف التاريخية‪.‬‬
‫لقد جعمت الكاتبة مف غرناطة قديمًا رم ًاز لفمسطيف في العصر الحديث‪ ،‬وجعمت مف أفعاؿ‬

‫(ٔ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص‪ٗٚٚ‬‬

‫‪226‬‬
‫القشتاؿ واإلسباف رم اًز لبلحتبلؿ اإلسرائيمي بكؿ ممارساتو القمعية في حؽ الشعب الفمسطيني‬
‫حديثاً‪.‬‬

‫ثاني ًا‪ :‬المغة وأساليب السرد‪:‬‬

‫استعممت رضوى عاشور في رواية (ثبلثية غرناطة) لغة عربية فصيحة تتسـ بالسبلسة‬
‫ال ومتانة وجاذبية وقوة في التأثير‪.‬‬
‫والبساطة التي ال يشوبيا ضعؼ أو ركاكة بؿ يزيدىا جما ً‬
‫وىي لغة إنسانية شاعرية في مجمميا تعبر عف معاناة اإلنساف وآمالو وطموحاتو التي ال تنقطع‬
‫رغـ كؿ الم نغصات واآلالـ التي يتعرض ليا‪ ،‬لقد جاءت ىذه المغة مبلءمة لطبيعة الحياة‬
‫الشعبية بكافة أشكاليا‪ ،‬إال أنو غمبت عمييا سمة الحزف والحسرة واأللـ ألنيا ارتبطت بتصوير‬
‫مأساة مسممي األندلس في ظؿ االحتبلؿ الذي قمب حياتيـ إلى جحيـ ال يطاؽ‪.‬‬

‫تتمثؿ أبرز مظاىر التحوالت المغوية واألسموبية لمرواية التاريخية عند رضوى عاشور في‬
‫حرصيا عمى التنوع في أساليب السرد‪ ،‬فالرواية عندىا ال تعتمد فقط عمى الراوي العميـ كمي‬
‫المعرفة –رغـ سيطرتو عمى معظـ أجزاء الرواية ‪ -‬بؿ تخطت ذلؾ وخرجت عف رتابة الصوت‬
‫ويعرؼ بالشخوص‪،‬‬
‫الواحد الذي يعتمد عمى سرد األحداث بضمير الغائب فيصؼ األماكف‪ّْ ،‬‬
‫( ٔ)‬
‫بأسموب تقميدي فػ "لجأت إلى إشراؾ الشخصيات نفسيا في سرد األحداث أو استدعائيا"‬
‫َّ‬
‫فعبرت عف رؤية الشخصيات الروائية لما تتعرض لو مف مواقؼ إما بالعودة إلى الذكريات‬
‫الخاصة‪ ،‬أو باستخداـ ضمير المتكمـ في أثناء الحوار‪ ،‬مما يؤدي إلى التعمؽ في الشخصيات‪،‬‬
‫والكشؼ عف أبعادىا النفسية‪ ،‬وتقريبيا مف القارئ بشكؿ مباشر ودوف وسيط‪ .‬كذلؾ ظير السرد‬
‫بأسموب المخاطب الذي يشعر القارئ بالمشاركة في العمؿ الروائي‪ ،‬ويجعمو أكثر فعالية مع‬
‫األحداث وىو مف األساليب السردية الحديثة التي تـ توظيفيا في الرواية الجديدة‪ .‬ومف أمثمة‬
‫استخداـ أسموب المخاطب في السرد قوؿ سعد يصؼ حالو في السجف‪" :‬يحاصرؾ المحققوف‬
‫المتسربموف باألسود‪ ،‬تنفذ نظراتيـ إلى روح روحؾ‪ ،‬ويطمقوف عميؾ أسئمتيـ وآالت التعذيب‪،‬‬
‫يشدوف وثاقؾ إلى ذلؾ السمـ الخشبي‪ ،‬ويضخوف الماء في جوفؾ‪ ..‬يحدقوف بؾ‪ .‬العيوف‬
‫مصمتة ‪ ،‬والوجوه مصمتة‪ ،‬وقموبيـ مدرعة بالثياب السوداء‪ .‬األسياخ المحماة تحرؽ باطف‬
‫قدميؾ‪ ،‬والحجارة الساخنة تميب ظيرؾ وبطنؾ وعجزؾ‪ ،‬واآللة الخشبية تختزؿ جينـ في دوالبيا‬
‫الضاغط الذي يسحؽ عظامؾ‪ ،‬فتخور كثور ذبيح‪ .‬والقمب في بيت القمب يعتصر كأنما تقبضو‬
‫يد الموت ويموت‪ .‬يحد قوف فيؾ وال يرؼ ليـ جفف‪ .‬يمقوف بؾ في قبو وحدؾ ال تقدر حتى عمى‬

‫(ٔ ) التجميات الممحمية في رواية األجياؿ العربية‪ ،‬صٓ‪ٜ‬‬

‫‪227‬‬
‫البكاء‪ ،‬وعندما تقدر تذرؼ الدمع الغزير‪ ،‬ليس ألف البدف يوجع‪ ،‬ولكنؾ تبكي عمى تمؾ المزؽ‬
‫( ٔ)‬
‫اآلدمية التي تعرؼ أنيا أنت"‪.‬‬

‫كاف لمحوار حضو اًر بار اًز في الرواية‪ ،‬والكاتبة في ذلؾ تختمؼ عف جماؿ الغيطاني في‬
‫رواية الزيني بركات الذي قمؿ مف االعتماد عمى الحوار الخارجي؛ ليؤكد حالة الظمـ والقير التي‬
‫تعـ روايتو‪ ،‬أما ثبلثية غرناطة‪ ،‬وعمى الرغـ مف أنيا تعبر أيضًا عف شدة الخوؼ والرعب مف‬
‫بطش قوى الظمـ المتمثمة في االحتبلؿ إال أنيا أكثرت مف توظيؼ لغة الحوار؛ وذلؾ ألنيا‬
‫طرحت العديد مف القضايا الكبرى‪ ،‬ومف أىميا‪ :‬سقوط غرناطة‪ ،‬التنصير اإلجباري‪ ،‬المحاكمات‬
‫الظالمة‪ ،‬والترحيؿ القسري‪ ،‬وكاف الحوار ‪-‬بشقيو الداخمي والخارجي ‪ -‬حيوياً وفعاالً معب اًر عف‬
‫طبيعة الشخصيات واختبلفاتيا الفكرية والثقافية‪ .‬ومف أىـ الحوارات في الرواية ذلؾ الذي تـ في‬
‫حماـ أبي منصور في بداية الرواية يبيف موقؼ الشخصيات مف تسميـ غرناطة‪ ..‬انظر‪:‬‬

‫قاؿ أحدىـ‪:‬‬

‫‪ -‬يا أبا جعفر‪ ...‬يا أبا جعفر اهلل يرضى عميؾ‪ ،‬نحف ال نختار بيف بديميف بؿ ىو قدر‬
‫مكتوب‪ .‬نحف ميزوموف فمف أيف االختيار؟!‬

‫قاطعو آخر‪:‬‬

‫‪ -‬أنا معؾ االتفاقية شر البد منو‪ .‬كاف موالنا في مأزؽ والمواجية التي كاف يريدىا ابف‬
‫أبي الغساف محكوـ عمييا سمفًا‪ ،‬فما الذي يممكو أو نممكو نحف أماـ جيوشيـ الج اررة‬
‫واألنفاط الممباردية الجديدة؟!‬

‫قاؿ أبو جعفر‪:‬‬


‫( ٕ)‬
‫‪ ..‬ويستمر الحوار‬ ‫بإمكاننا محاربتيـ‪ ،‬أقسـ برب الكعبة أنو بإمكاننا محاربتيـ‪.‬‬

‫وقد استخدمت الشخصيات الحوارات الداخمية بكثرة‪ ،‬وذلؾ ألف الكاتبة أرادت تحميؿ‬
‫شخصياتيا والتعمؽ فييا‪ .‬ومف صوره في الرواية ما ظير في نفس أبي جعفر‪ ،‬الذي تأثر كثي اًر‬
‫بحدث سقوط الحكـ العربي اإلسبلمي في غرناطة‪ ،‬فنراه يحاوؿ تيدئة نفسو الميزوزة‪ ،‬التي‬
‫شبييا بالحمامة المطوقة الوا قعة في شرؾ الصياد‪ ،‬حيث‪" :‬كاف يجتيد في تيدئة نفسو المطوقة‪،‬‬

‫(ٔ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص ٕ‪ٜٔ‬‬


‫(ٕ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص٘ٔ ‪ٔٙ-‬‬

‫‪228‬‬
‫وىي تضرب بجناحييا مستريعة عمى حد السكيف‪ .‬يكرر ليا غرناطة محروسة وباقية‪ ،‬يشاغميا‬
‫بالكبلـ‪ ،‬يمد ليا عبر الشباؾ يده‪ ،‬يبلمس ريشيا المبتؿ‪ ،‬وبدنيا الراجؼ‪ ،‬يحنو‪ ،‬ويعطؼ‪،‬‬
‫( ٔ)‬
‫ويربت‪ ،‬ويغني ليا ىمسًا أغنية أليفة تطيب ليا"‪.‬‬

‫يكثر في الرواية استخداـ أساليب االستفياـ االستنكاري عمى ذلؾ الواقع المأساوي‪ ،‬ومف‬
‫ذلؾ قوؿ أبي جعفر‪" :‬ىؿ يعقؿ أف يتخمى اهلل عف عباده! واف تخمى فيؿ يمكف أف يترؾ كتابو‬
‫( ٕ)‬
‫ومنو قوؿ حسف‪ :‬ما الخطأ في أف يتعمؽ الغريؽ بموح خشب أو عود أو قشة؟ ما‬ ‫يحترؽ؟!"‬
‫الجرـ في أف يصنع لنفسو قنديبلً مزججاً ومموناً لكي يتحمؿ عتمة أيامو؟ ما الخطيئة في أف‬
‫( ٖ)‬
‫ونرى ذلؾ أيضاً عمى لساف عمي وقت الرحيؿ إذ‬ ‫يتطمع إلى يوـ جديد آمبلً ومستبش اًر؟‬
‫( ٗ)‬
‫ويظير‬ ‫يتساءؿ‪" :‬ما الذي يتبقى مف العمر بعد االقتبلع‪ ،‬وأي نفع في بيع أو شراء؟"‬
‫االستفياـ عمى لساف بعض الناس‪" :‬ىؿ ما نحف فيو يطاؽ؟!"( ٘)‪" ..‬أيف ذىب العرب‬
‫( ‪)ٙ‬‬
‫والمسمموف؟!"‪.‬‬

‫تتميز رواية (ثبلثية غرناطة) بتعدد األشكاؿ المغوية التي تـ توظيفيا بداخميا‪ ،‬فتظير لغة‬
‫( ٔٔ)‬
‫المناداة أو التعميمات( ‪ ،)ٚ‬ولغة الفتاوى( ‪ ،)ٛ‬ولغة الرسائؿ( ‪ ،)ٜ‬ولغة العقود( ٓٔ)‪ ،‬ولغة التحقيؽ‬
‫عبلوة عمى وجود صنفيف ىاميف يتوجب الوقوؼ عندىما وىما‪:‬‬

‫‪ - 7‬لغة الصمت‪:‬‬

‫وىي في الرواية ترتبط بالخوؼ والقمع‪ ،‬بحيث ال تستطيع الشخصيات التعبير عف مواقفيا‬
‫ورؤاىا بشكؿ صريح فتمجأ إلى الصمت الذي ىو حاجة ضرورية الستمرار حياة المقيوريف مف‬

‫(ٔ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٖٔ‬


‫(ٕ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٔ٘‬
‫(ٖ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص‪ٜٔٚ‬‬
‫(ٗ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٓ‪ٜٗ‬‬
‫(٘) ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص ‪ٜٗٙ‬‬
‫(‪ )ٙ‬ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص ‪ٜٗٚ‬‬
‫(‪ )ٚ‬انظر‪ ،‬ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٕٕٔ ‪ٕٖٔ-‬‬
‫(‪ )ٛ‬انظر‪ ،‬ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص٘ٗٔ‬
‫(‪ )ٜ‬انظر‪ ،‬ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص‪ٖٜٚ- ٖٜٙ‬‬
‫(ٓٔ) انظر‪ ،‬ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٕ‪ٜٖ- ٜ‬‬
‫(ٔٔ) انظر‪ ،‬ثبلثية غرناطة‪ٕٖٗ- ٕٕٛ ،‬‬

‫‪229‬‬
‫العرب والمسمميف‪ .‬وقد حرص النص ا لروائي عمى إظيار ضعؼ المسمميف مف خبلؿ صمتيـ‪،‬‬
‫ومما يؤكد ذلؾ تكرار بعض األفعاؿ التي تعمؽ حالة الصمت مثؿ‪َّ :‬‬
‫(حدؽ‪ ،‬أصغى) وربطيا‬
‫بالشخصيات العربية المسممة‪ ،‬حيث ارتبط الصوت بالقشتاؿ والصمت بالمسمميف‪ ،‬وما ظير لدى‬
‫المسمميف مف أصوات ال تكاد تتجاوز أصوات األلـ والنجدة والصراخ الدالة عمى الفجيعة والحزف‬
‫( ٔ)‬
‫والمعاناة‪ ،‬في مقابؿ "قرع الطبوؿ ونفخ األبواؽ ورنيف المثمثات واألجراس" عند القشتاؿ فرحاً‬
‫بالنصر‪ .‬لذلؾ احتفى النص كثي اًر بصورة المنادي وصوتو وىو يبم أوامر القشتاؿ وتعميماتيـ‬
‫التي توضح األمور التي يمنع عمى المسمميف ممارستيا‪ ،‬فتزداد حدة صمت المسمميف تعبي اًر عف‬
‫عجزىـ‪ .‬ولعؿ استخداـ الكاتبة لمغة وتقنية الصمت كاف محاكاة لمصمت العربي المعاصر‪ ،‬الذي‬
‫انتياء‬
‫ابتداء بقضية فمسطيف و ً‬
‫ً‬ ‫يرافؽ كؿ القضايا اليامة والحساسة التي تعيشيا المنطقة العربية‪،‬‬
‫بقضية العراؽ وغيرىا مف القضايا العربية الراىنة‪ ،‬والرواية إذ ذاؾ تحذر مف ىذا الصمت‬
‫المريب الذي يمكف أف يوصؿ إلى نفس المصير الذي وصؿ إليو مسممو األندلس في ظؿ‬
‫احتبلؿ القشتاؿ‪.‬‬

‫‪ - 6‬لغة السخرية‪:‬‬

‫تظير لغة السخرية المقترنة بالفجيعة عمى أولئؾ األمراء الذيف تنصَّروا فتركوا دينيـ‬
‫ابتغاء َعَر ٍ‬
‫ض زائؿ مف الدنيا‪ ،‬ولوثوا سمعة وشرؼ آبائيـ وألحقوا بيـ العار‪ ..‬أروا األمراء‬
‫يتنصروف‪ .‬سعد ونصر ولدا السمطاف أبي الحسف سميا نفسييما الدوؽ فرناندو دي غرانادا‬
‫والدوؽ خواف دي غرانادا‪ ،‬وزاد سعد عمى أخيو درجة‪ ،‬فالتحؽ بجيش قشتالة مقاتبلً في صفوفو‪.‬‬
‫"استرح في قبرؾ يا أبا الحسف‪ ..‬نـ قرير العيف حتى تيب عميؾ رياح الجنة ‪ ..‬تاجرت ذريتؾ‬
‫( ٕ)‬
‫ببلء حسنًا يا أبا الحسف!"‪.‬‬
‫في تجارة نادرة فأوفت وأبمت ً‬
‫ثالثاً‪ :‬التناص‪:‬‬

‫فتحت رضوى عاشور مجاالً واسعاً لتوظيؼ التناص في الرواية التاريخية في األدب‬
‫العربي‪ ،‬فباإلضافة إلى تميزىا في التناص مع القرآف الكريـ والشعر العربي القديـ‪ ،‬فقد ظيرت‬
‫عندىا أشكاؿ جديدة لمتناص نذكر منيا‪:‬‬

‫(ٔ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٖٖ‬


‫(ٕ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص‪ٕٚ‬‬

‫‪231‬‬
‫‪ - 7‬التناص األدبي مع قصة حي بن يقظان البن طفيل‪:‬‬

‫يظير ذلؾ عند اصطداـ (سميمة) بحادثة موت جدتيا وتفكيرىا في أسباب الموت‪" ..‬لـ‬
‫تكف تممؾ أف تفعؿ ما فعمو في القصة حي بالظبية‪ ،‬أمو التي أرضعتو‪ ،‬عندما شؽ صدرىا‬
‫باحثاً عف الشيء المصرؼ لمجسد بعد أف ناداىا بالصوت فمـ تجبو‪ ،‬ونظر إلى عينييا وأذنييا‬
‫( ٔ)‬
‫وجميع أعضائيا‪ ،‬فمـ َير عمة وال آفة‪ ،‬ووجدىا رغـ ذلؾ عاطمة مف كؿ حركة"‪.‬‬

‫‪ - 6‬التناص مع األمثال الشعبية‪:‬‬

‫فقد وظفت الساردة األمثاؿ الشعبية في روايتيا التاريخية ألنيا تركز عمى الحياة الشعبية‬
‫بأشكاليا المختمفة‪ ،‬والتي يعد المثؿ أحد أبرز أنماطيا‪ .‬فالمثؿ الشعبي يصور الشخصيات‬
‫( ٕ)‬
‫ومف‬ ‫خاصة الن سائية بدقة وصدؽ‪ ،‬ويكشؼ عف مبلمحيا االجتماعية والعقمية بصو ةر عفوية‪.‬‬
‫( ٗ)‬ ‫( ٖ)‬
‫و"البنت لعمتيا"‪.‬‬ ‫األمثاؿ الشعبية الواردة في الرواية‪" :‬لف تسمـ الج ةر في كؿ م ةر يا مريمة"‬

‫‪ - 4‬التناص مع الحكاية الشعبية‪:‬‬

‫ويظير ذلؾ في الرواية عندما بدأ أبو ابراىيـ ينشد حكاية الممؾ الميميؿ بف الفياض مع‬
‫( ٘)‬
‫وقد اعتمدت الكاتبة في سرد ىذه‬ ‫خالد بف الوليد في ليمة عرس حسف عمى ابنتو مريمة‬
‫الحكاية الشعبية عمى كتاب المغازي الموريسكية وىو "عبارة عف مجموعة مف الحكايات‬
‫الممحمية المجيولة المؤلؼ‪ ،‬والتي تروي أحداث بعض غزوات العيد اإلسبلمي األوؿ‪ ،‬والتي‬
‫تتخذ ليا كبطؿ رئيسي عميًا بف أبي طالب‪ ،‬وقد كتبت ىذه المغازي في القرف السادس عشر‬
‫وىذا ال ينفي وجودىا سمفا كحكايات شفيية‪ .‬وقد لجأ المورسكيوف( ‪ )ٙ‬إلى ىذا النوع مف الكتابة‬
‫لمحاولة إنماء الروح الدينية في الوقت الذي كانوا يعانوف مف االضطياد والقمع الممارس عمييـ‬
‫مف طرؼ محاكـ التفتيش؛ وىذه الحكايات تذكير بالماضي اإلسبلمي وبإنجازات الفتوحات‪،‬‬

‫(ٔ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص‪ٔٗٛ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬في ضفاؼ السرد‪ ،‬ص‪ٙٙ‬‬
‫(ٖ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص٘٘ٔ‬
‫(ٗ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص‪ٔٛٚ‬‬
‫(٘) انظر‪ ،‬ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص‪ٔٓٔ- ٜٚ‬‬
‫(‪ ) ٙ‬المورسكيوف‪ :‬اسـ يطمؽ عمى المسمميف الذيف بقوا في غرناطة بعد سقوط الحكـ اإلسبلمي فييا‪ ،‬وقد أجبرىـ‬
‫اإلسباف عمى التنصر باإلكراه‪ ،‬فتظاىروا بالنصرانية وأخفوا إسبلميـ ما يقارب قرنيف مف الزماف إلى أف تـ‬
‫ترحيميـ نيائي ًا مف ببلد األندلس‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫( ٔ)‬
‫وىذا يدؿ عمى سعة معرفة‬ ‫وتذكير كذلؾ بإمكانية وقوع المعجزات بالصمود واإليماف باهلل"‪.‬‬
‫الكاتبة بالثقافة الشعبية األندلسية‪.‬‬

‫‪ - 3‬التناص مع أدب الرحالت‪:‬‬

‫يتجمى ذلؾ في الرواية بوضوح مف خبلؿ حادثتيف‪ ،‬األولى ذىاب نعيـ مع القس‬
‫الستكشاؼ العالـ الجديد (أمريكا)( ٕ) ‪ ،‬والثانية تتمثؿ في وصؼ الحاج دييجو العطار الدقيؽ‬
‫( ٖ)‬
‫لرحمتو إلى ببلد الحجاز ومصر والشاـ بما فييا مدينة القدس‪.‬‬

‫رابع ًا‪ :‬الشخصيات‪:‬‬

‫كانت شخصيات الرواية في معظميا نامية ومتطورة‪ ،‬تتميز بقدر كبير مف الحرية‪،‬‬
‫جعمتيا أكثر قرباً مف واق ع الحياة وأكثر قد ةر عمى اإلقناع عمى خبلؼ الرواية التاريخية التقميدية‬
‫عند جورجي زيداف وغيره‪ ،‬وقد حرصت الكاتبة عمى تييئة شخصياتيا الروائية جسدياً ونفسيا‬
‫واجتماعيًا‪ ،‬فتحركت الشخصيات بتمقائية وعفوية مما منحيا مزيدًا مف االستقبلؿ الذاتي الذي‬
‫أسيـ بشكؿ إيجابي في تطور األحداث وتقدميا‪ ،‬وقد اختمفت الشخصيات في طرؽ تعامميا مع‬
‫الواقع الجديد فظيرت عدة نماذج يمكف رصدىا فيما يأتي‪:‬‬

‫‪ -‬شخصيات رافضة لمواقع الجديد غير منسجمة معو‪ ،‬كشخصية الجد أبي جعفر الوراؽ‬
‫الذي مات متأث اًر بحادث إحراؽ الكتب‪ ،‬وشخصية الحفيدة سميمة التي رفضت التعميد‬
‫والتردد عمى الكنيسة‪ ،‬وعاشت بشكؿ أحادي بيف كتبيا وتجاربيا‪ ،‬وكانت نيايتيا بشعة‪.‬‬
‫‪ -‬شخصيات مستكينة تجاوبت مع حكـ القشتاؿ واستسممت لؤلمر الواقع‪ ،‬ويمثؿ ىذا النمط‬
‫شخصية الحفيد حسف وزوجتو مريمة‪ ،‬وقد كانا حريصيف عمى الحفاظ عمى سبلمة‬
‫أسرتيما ورعايتيا‪ ،‬وقد أظي ار التنصر وأخفيا اإلسبلـ‪ ،‬وحرصا عمى تعميـ أبنائيما المغة‬
‫العربية وتعاليـ اإلسبلـ‪.‬‬
‫‪ -‬شخصيات ثائرة متمردة حاولت تغيير الواقع بشكؿ عممي‪ ،‬فاتجيت إلى مقاومة القشتاؿ‬
‫ويمثؿ ىذا النمط كؿ مف سعد الذي ترؾ زوجتو سميمة وذىب لمساندة المقاوميف‪،‬‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬كتاب المغازي الموريسكية استمياـ الممحمة وا ضفاء طابع البطولة عمى الحكايات‬
‫‪http://www.alquds.co.uk/?p=77364‬‬
‫(ٕ) انظر‪ ،‬ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٕ‪ٖٔٙ- ٔٙ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص‪ٕٗٚ- ٗٙٚ‬‬

‫‪232‬‬
‫وىشاـ الذي ترؾ ابنو عمي في رعاية جده حسف وجدتو مريمة واتخذ مف الجباؿ مق اًر‬
‫لميجوـ عمى القشتاؿ‪.‬‬
‫‪ -‬شخصيات انصيرت وذابت في المجتمع الجديد دوف أي شعور باالنتماء العربي‬
‫اإلسبلمي ويمثميا شخصية خوسيو الذي أبدى رغبة جامحة لبلندماج في المجتمع‬
‫اإلسباني‪ ،‬وشخصية حفيد األحفاد عمي الذي لـ يبد رغبة في االندماج في المجتمع‬
‫الجديد إال أنو في النياية يستسمـ لقدره ويقرر عدـ الرحيؿ مف غرناطة ميما كانت‬
‫النتائج‪.‬‬

‫كاف أكثر ما يميز تناوؿ الساردة لمشخصيات ىو سعييا إلى التحميؿ النفسي‪ ،‬والتعمؽ‬
‫ببواطف الشخصيات‪ ،‬والرغبة في الكشؼ عف نوازعيا ودوافعيا الخاصة وعوالميا الداخمية‪ ،‬وقد‬
‫استفادت بدرجة كبيرة مف التجربة الروائية لكؿ مف عمي أحمد باكثير وجماؿ الغيطاني في ىذا‬
‫المجاؿ‪ ،‬لكنيا طورت مف استخداـ التقنيات الفنية التي تظير الحالة النفسية لمشخصية الروائية‬
‫وتتعمؽ فييا‪ ،‬ويتضح ذلؾ مف خبلؿ اإلك ثار مف االعتماد عمى تقنية الرؤى واألحبلـ والكوابيس‪،‬‬
‫وكثرة الرجوع إلى ماضي الشخصيات مف خبلؿ تقنية االستذكار والعودة إلى الوراء التي تفرض‬
‫نفسيا عمى معظـ الشخصيات‪.‬‬

‫لعؿ أبرز مظاىر التجديد في تناوؿ الشخصية عند رضوى عاشور ىو تركيزىا عمى‬
‫عنصر الشخصية النسائية ومحاولة إبرازىا عمى أنيا العنصر األقوى في المجتمع‪ ،‬ىذه‬
‫الشخصية (المرأة) التي لـ تحظ بأي دور كبير أو تقدير عند جماؿ الغيطاني في الزيني بركات‪،‬‬
‫( ٔ)‬
‫مما يعكس لونًا‬ ‫إال أف الكاتبة قدمت المرأة "بوصفيا مستودع القيـ وحارسة الثقافة األولى"‬
‫خاصًا مف استراتيجية كتابة المرأة لمرواية العربية‪ .‬ويظير ذلؾ بوضوح في رسـ شخصية كؿ‬
‫وم ْرَيمة‪.‬‬
‫سميمة َ‬
‫مف ُ‬
‫سميمة‪:‬‬
‫‪ -‬شخصية ُ‬
‫جسَّدت سميمة في الرواية دور المرأة المثقفة الواعية‪ ،‬التي تتسـ بقوة اإلرادة‪ ،‬والذكاء‬
‫الحاد‪ ،‬ورفض التعامؿ مع الوجود القشتالي واالرتباط بالثقافة العربية في مقابؿ أخييا حسف‬
‫الميادف والمستكيف الذي يبرر التظاىر بالتنصر وارتياد الكنيسة بالحفاظ عمى وجود األس ةر‬
‫ورع ايتيا‪ .‬وتظير النياية المأساوية لػ سميمة التي قررت مف البداية عدـ التعامؿ مع ىذا المجتمع‬

‫(ٔ) التجميات الممحمية في رواية األجياؿ العربية‪ ،‬صٕ‪ٚ‬‬

‫‪233‬‬
‫الجديد‪ ،‬ورفضت كؿ مظاىر التنصير والتغريب‪ ،‬فػحسمت أمرىا بعدـ الذىاب إلى الكنيسة "حيف‬
‫( ٔ)‬
‫وقد انزوت‬ ‫أعمنت بشكؿ قاطع ونيائي أنيا لف تذىب إال لو قيدوىا بالحباؿ وجروىا كالدواب"‪.‬‬
‫في ركنيا المظمـ مع كتبيا وقواريرىا‪ ،‬تحرص عمى طمب العمـ‪ّْ ،‬‬
‫وتقدـ العبلج لمكثير مف‬
‫المرضى‪ ،‬ومع ذلؾ انتزعتيا محاكـ التفتيش مف خموتيا‪ ،‬وبالغت في تعذيبيا نفسياً ومادياً‪،‬‬
‫( ٕ)‬
‫وحكمت عمييا باإلعداـ حرقاً حتى الموت إلدانتيا بممارسة السحر ومعاشرة الشيطاف‪.‬‬

‫‪ -‬شخصية مريمة‪:‬‬

‫مف أكثر الشخصيات النسائية حضو اًر في الرواية‪ ،‬كاف اسميا عنوانًا لمقسـ الثاني مف‬
‫الثبلثية‪ ،‬ورغـ ذلؾ فقد كاف ليا حضور في القسـ األوؿ مف الرواية‪ ،‬خاصة بعد أف ُخّْير العرب‬
‫بيف التنصير القسري أو الرحيؿ عف غرناطة‪ ،‬وبينما أىؿ بيت أبي جعفر في حي ةر مف أمرىـ‪،‬‬
‫ب رز الحؿ عمى لساف مريمة حيث قالت‪" :‬ال نرحؿ‪ ،‬اهلل أعمـ بما في القموب‪ ،‬والقمب ال يسكف‬
‫يحممني حكاـ‬
‫إال جسده‪ ،‬أعرؼ نفسي مريمة وىذه ابنتي رقية‪ ،‬فيؿ يغير مف األمر كثي اًر أف ّ‬
‫البمد ورقة تشيد أف اسمي ماريا وأف اسميا َأنا‪ .‬لف أرحؿ ألف المساف ال ينكر لغتو وال الوجو‬
‫مبلمحو‪ .‬تطمعوا إلييا في دىشة‪ ،‬فمف أيف أتت مريمة الصغيرة بيذه الحكمة؟ وكأنيا طاقة‬
‫( ٖ)‬
‫كذلؾ اتسمت مريمة بصفات‬ ‫أشرعتيا فتدفؽ الضوء جبلء في الحج ةر المظممة‪ ،‬قرروا البقاء"‪.‬‬
‫أخرى‪ ،‬وصارت صاحبة حيؿ وطرائؼ يتداوليا الجميع‪ :‬إذ "اشتيرت بيف الجيراف ونساء الحي‬
‫بمفػاجآتيا المدىشة‪ ،‬يسعفيا عقميا بحسف التصرؼ السريع الذي يحوؿ م اررة حكـ القوي عمى‬
‫الضعيؼ إلى ضحكات عفوية ساعػة تنقمب اآلية فيصبح القوي ضعيفاً والضعيؼ قاد اًر ومزىواً"‪.‬‬

‫ويظير دور مريمة في تربية الصغار وتنشئتيـ‪ ،‬وىي تعمؿ عمى إلياء األطفاؿ والتسرية‬
‫عف نفوسيـ بقصصيا وحكاياتيا المتعددة‪ ،‬وقد قامت بذلؾ مع عائشة ابنة سميمة‪ ،‬خصوصاً في‬
‫المحظات نفسيا التي تُحرؽ ف ييا األـ‪ ،‬وكذلؾ مع الحفيد عمي الذي بقي معيا‪ ،‬بعد زواج بناتيا‬
‫الخمس بعيدًا عنيا‪ .‬ثـ إنيا امرأة عاممة ونشيطة‪ ،‬فيي تصنع الكعؾ وتبيعو في السوؽ‪ ،‬وترعى‬
‫البستاف الموجود بالدار‪ ،‬وتستقبؿ نعيـ العائد بعد غيبة طويمة‪ ،‬وىي المؤتمنة عمى األسرار‪ ،‬فقد‬
‫حفظت مخطوطات الجد أبي جعفر الناد ةر في صندوؽ عرسيا ودفنتو في منزؿ خاص‪.‬‬

‫(ٔ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٓ‪ٔٙ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٕٗٗ ‪ٕٗ٘-‬‬
‫(ٖ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٕٕٔ‬

‫‪234‬‬
‫كانت شخصية مريمة قوية ومتماسكة رغـ كؿ المحف واآلالـ التي مرت بيا‪ ،‬وقد َّ‬
‫عبرت‬
‫نيايتيا عف استمرار حالة المأساة والتشرد والضياع‪ ،‬حيث فارقت الحياة وىي محمولة عمى ظير‬
‫حفيدىا عمي ‪-‬الذي لـ يكف يعمـ بموتيا ‪ -‬في أثنا ء الرحيؿ الجماعي القسري الذي فرضو حكاـ‬
‫غرناطة عمى كؿ العرب والمسمميف الذيف يقطنوف المدينة‪ ،‬وقد ُدِفنت في العراء‪.‬‬

‫ومف مظاىر التجديد الفني في تناوؿ الكاتبة لمشخصية الروائية ما يبدو في توظيفيا‬
‫لشخصية الحيوان‪ ،‬ىذه الشخصية التي ال تكاد تذكر في الروايات التاريخية السابقة‪ ،‬حيث‬
‫برزت شخصية الحيواف في رواية ثبلثية غرناطة في أكثر مف موقؼ‪ ،‬فعندما احتار (سعد) في‬
‫اليدية التي يرغب في تقديميا لػ (سميمة) بمناسبة خطوبتيما في أوؿ الرواية‪ ،‬قرر في النياية‬
‫شراء ظبية لفتت انتباىو في السوؽ‪" ..‬ىؿ استوقفو خدر العينيف أـ رجفة الجفنيف؟ أـ أنيا النظ ةر‬
‫الموزعة بيف الخوؼ والدعة؟ كاف جمدىا رقيقًا يضرب بياضو إلى صفرة محمرة‪ .‬جسميا صغير‬
‫تحممو قوائـ دقيقة"‪ )ٔ (.‬وقد أعجبت (سميمة) بالظبية أيما إعجاب‪ ،‬وارتبطت بيا لدرجة أنيا كانت‬
‫( ٕ)‬
‫ثـ إنيا تود دائماً "لو كانت مع ظبيتيا تتحسس‬ ‫تريد أف تبقي الظبية معيا في غرفة نوميا‬
‫( ٖ)‬
‫لقد وجدت (سميمة) في الظبية‬ ‫رأسيا أو تتابعيا وىي تتحرؾ في ألفة الدار بخفة ورشاقة"‪.‬‬
‫السموى التي تخفؼ وتُسري عنيا‪ ،‬كذلؾ أضحت ىذه الظبية رم اًز لمحياة واألمؿ والتفاؤؿ بتكويف‬
‫أسرة سعيدة فقد تسممت الظبية "إلى قمبيا واستقرت فيو‪ ،‬كأنما ىو بيتيا الذي سكنتو دائماً‪ ،‬كانت‬
‫في الميؿ تقيدىا في الرواؽ الشرقي‪ ،‬وما أف يطمع النيار حتى تطمقيا وتبدأ يوميا مع سعد‬
‫( ٗ)‬
‫بإطعاميا ومبلعبتيا وتبادؿ حمميا"‪.‬‬

‫كذلؾ وجد (عمي) في الحصاف الذي استولى عميو مف أحد الجنود القشتالييف‪ ،‬واتخذه‬
‫وسيمة لمفرار واليرب مف سطوة الترحيؿ شخصية األنيس الذي يرتاح في الحوار معو‪ ،‬ويبث‬
‫ىمومو لو حيث يخاطب الحصاف قائبلً‪" :‬لقد قتمت نفساً يا حصاف"‪ ،‬ترقرقت في عينيو الدموع‪،‬‬
‫وثقؿ عميو الكبلـ‪ ،‬ولكنو واصؿ الحديث مع صاحبو‪" :‬لـ أقصد قتمو يا حجاب –اسـ الحصاف ‪.-‬‬
‫كنت أريد اليرب‪ ،‬وكنت خائفاً‪ ،‬وجدتي ماتت في العراء"‪ .‬قاـ وخطا مقترباً مف الحصاف‪ .‬ربت‬
‫عمى عرفو المسترسؿ‪ ،‬ثـ أسند رأسو إلى عنقو‪ ،‬ثـ ىمس‪" :‬ربما لـ يمت صاحبؾ يا حجاب‪.‬‬

‫(ٔ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص٘‪ٚ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص٘‪ٚ‬‬
‫(ٖ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٓ‪ٛ‬‬
‫(ٗ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص٘‪ٛٙ- ٛ‬‬

‫‪235‬‬
‫( ٔ)‬
‫يظير مف خبلؿ الحوار السابؽ‬ ‫ربما لـ أتسبب إال في جرحو‪ .‬ربما يكوف عمى قيد الحياة"‪.‬‬
‫المعدف الطيب لشخصية (عمي) الذي يشعر بالندـ وتأنيب الضمير عمى قتؿ الجندي القشتالي‬
‫حيث يرى في قتمو خطًأ يحاوؿ تبريره‪ ،‬عمى الرغـ مف أف ذلؾ الجندي كاف وسيمة لحصا هر وقي هر‬
‫وابعاده عف وطنو الذي يحب‪.‬‬

‫خامساً‪ :‬المكان‪:‬‬

‫لممكاف الروائي في (ثبلثية غرناطة) دور بارز وحيوي في تحريؾ األحداث وتطويرىا‪،‬‬
‫واثارة الشخصيات وتشكيؿ اتجاىاتيا الفكرية والنفسية واالجتماعية‪ ،‬فقد كاف بحؽ محور‬
‫األحداث‪ ،‬ولذلؾ أولتو الساردة اىتماماً كبي ًار‪.‬‬

‫جسدت رواية ثبلثية غرناطة فضاء المدينة الواسع‪ ،‬فعممت عمى إحياء مدينة غرناطة‬
‫القديمة في زمف السقوط العربي واإلسبلمي في ببلد األندلس‪ ،‬بما تحتوي مف عمائر وجوامع‬
‫وأسواؽ وشوارع وحدائؽ وأنيار‪ ،‬بحيث "تعتبر بطمة الحكاية ببل منازع‪ ،‬فما زاؿ جرح سقوطيا‪،‬‬
‫وما لقيو العرب والمسمموف مف إذالؿ وميانة بفعؿ محاكـ التفتيش محفو اًر في الذاكرة‪ ،‬يأبى‬
‫( ٕ)‬
‫وقد رسمت رضوى عاشور المكاف الروائي بدقة متناىية‪،‬‬ ‫الرحيؿ إلى غياىب النسياف"‪.‬‬
‫ونجحت في حفره في ذىف القارئ‪ ،‬حتي يكاد يتنسـ عبؽ األندلس‪ ،‬ورحيقيا الخاص‪ ،‬وجماليا‬
‫األخاذ‪ ،‬وحضارتيا المنيرة‪ ،‬فأبقى أث اًر كبي اًر في نفس القارئ الذي يشعر وكأنو يعيش في ذات‬
‫المكاف‪ ،‬ويشارؾ الشخصيات في حبو والتعمؽ بو‪ ،‬ويتألـ لرؤية مشاىد الترحيؿ القسري حيث‬
‫االغتراب والضياع‪.‬‬

‫رغـ كثرة األماكف التي تعرضت ليا الرواية مف أحياء وشوارع وأنيار وبيوت ومساجد‬
‫وسجوف‪ ،‬إال أنو لفت انتباىنا مكاف جديد قمما يتـ التعرض لو في الرواية التاريخية‪ ،‬ىذا المكاف‬
‫(الح َّماـ) الذي أولتو الكاتبة أىمية كبيرة في ثبلثيتيا‪ ،‬وىو مف األماكف العامة الجديدة‪ ،‬ال‬
‫ىو َ‬
‫تكمف أىميتو في كونو مجرد مكاف لبلستحماـ‪ ،‬بؿ إف لو قيمة فنية وتراثية كبي ةر ترتبط بالتاريخ‬
‫العربي واإلسبلمي‪ ،‬ولذلؾ حرصت الكاتبة عمى تصوير تفاصيمو الداخمية بدقة‪ ،‬مصطبة‬
‫الجواني والوسطاني والبركة ذات الحجر الوردي يتوسطيا كأس مرمر عمى شكؿ زىرة‪ ،‬يتدفؽ‬
‫الماء مف أجراف الماء‪ ،‬فالحماـ وسيمة لنقؿ القارئ أو المتمقي إلى زمف تاريخي قديـ‪ ،‬وعبلوة‬

‫(ٔ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص‪ٖ٘ٓ- ٖٜٗ‬‬


‫(ٕ ) تطور البناء الدرامي في روايات رضوى عاشور (رسالة ماجستير)‪ ،‬صٓٔٔ‬

‫‪236‬‬
‫عمى ذلؾ فقد ركزت الرواية عمى إبراز الدور االجتماعي والسياسي ليذا المكاف الروائي‪ ،‬إذ‬
‫الحماـ ساحة يتـ فييا تبادؿ اآلراء واألفكار السياسية اليامة التي تتصؿ بحياة الناس‬
‫جعمت مف ّ‬
‫اليومية ومصيرىـ المستقبمي‪ ،‬ومف ذلؾ اختبلؼ اآلراء داخؿ الحماـ حوؿ اتفاقية تسميـ غرناطة‬
‫لمقشتالييف‪ .‬وألىمية الحماـ َع ِمؿ القشتاليوف عمى إغبلقو‪.‬‬

‫تُظ ِير الرواية شدة ارتباط الشخصيات بالمكاف‪ ،‬حيث يتضح األثر النفسي ليذا المكاف‬
‫عمى شخصية صاحبو‪ ،‬ومف ذلؾ حرص أبو جعفر عمى تفقد مدينة غرناطة بكؿ ما فييا خاصة‬
‫بعد احتبلؿ القشتاؿ ليا‪" ..‬كاف أبو جعفر يتفقد عمائر المدينة‪ ،‬مدارسيا وجوامعيا وروابطيا‬
‫( ٔ)‬
‫كاف أبو جعفر‬ ‫وزواياىا وأرباضيا وحدائقيا‪ ،‬كأنما يتعيف عميو أف يرسـ تفاصيميا ويحيط"‪.‬‬
‫يريد أف يمؤل عينيو بمعالـ المدينة قبؿ أف ُيجري عمييا القشتاليوف تغييراتيـ‪ ،‬وكأنو كاف يتوقع‬
‫تغير المعالـ اإلسبلمية لممدينة بالتدريج وىذا ما حدث بالفعؿ‪ .‬ويبدو ُّ‬
‫تعمؽ الشخصية بالمكاف‬ ‫ُّ‬
‫الذي تحب أيضًا في ذىاب أبي منصور إلى حمامو الذي أجبره القشتاليوف عمى إغبلقو‪ ،‬فيتفقد‬
‫( ٕ)‬
‫المكاف بدقة‪ ،‬ويستعيد الذكريات حتى يغمبو النوـ فيو‪.‬‬

‫ويظير أثر ُّ‬


‫تغير المكاف عمى الشخصية الروائية التي ال يعجبيا ىذه التغيرات وال تنسجـ‬
‫معيا‪ ،‬يبدو ذلؾ في وصؼ الراوي لعودة نعيـ إلى غرناطة حيث قاؿ‪" :‬بدا لنعيـ أف العودة تداوي‬
‫ألمو فعاد‪ ،‬ولكنو لـ يجد في غرناطة غرناطة وال البيازيف في البيازيف‪ ،‬وصؿ المدينة بعد عسر‪،‬‬
‫ومشى حذاء حدره‪ ،‬يعرؼ مجراه وماءه وقناطره‪ ،‬والحمراء المشرفة عميو‪ ،‬وال يعرؼ ىذه القصور‬
‫الجديدة وال تمؾ الكنائس المشيدة عمى ضفتو‪ .‬ىؿ َّ‬
‫ضيع الطريؽ؟ سأؿ‪ .‬لـ يكف ضيعو بؿ حفظ‬
‫ذاكرة مكاف َّ‬
‫تبدؿ‪ .‬حتى الدار غاب مف فييا سوى حسف الذي كاف بميدًا فصار أكثر ببلدة‪،‬‬
‫( ٖ)‬
‫ومريمة عجوز مجعدة فقدت فطنتيا وذكاءىا"‪.‬‬

‫تتضح أبرز مبلمح التجديد المكاني عند رضوى عاشور في حرصيا عمى تصوير انتياؾ‬
‫شخصية األماكف أو اغتياليا واالستيبلء عمييا‪ ،‬ومف أشكاؿ ذلؾ في الرواية‪:‬‬
‫( ٗ)‬
‫‪ -‬تحويؿ مسجد البيازيف الكبير إلى كنيسة‪ ،‬أطمؽ عمييا كنيسة ساف سمفادور‪.‬‬

‫(ٔ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص‪ٕٛ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٖٔٔ ‪ٔٔٚ-‬‬
‫(ٖ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٓ‪ٕٙ‬‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص٘ٗ‬

‫‪237‬‬
‫( ٔ)‬
‫‪ -‬إغبلؽ حماـ أبي منصور بحجة أنو ضار بالصحة‪ ،‬وأنو عادة عربية سيئة‪.‬‬
‫‪ -‬إلزاـ المسمميف بإبقاء أبواب منازليـ مشرعة ومفتوحة‪ ،‬حتى يسيؿ مراقبتيـ ومعرفة مدى‬
‫التزاميـ بمبادئ الكنيسة‪ ،‬وعدـ تطبيقيـ لمشعائر اإلسبلمية مف صبلة أو صياـ‪.‬‬
‫( ٕ)‬
‫‪ -‬إجبار العرب والمسمميف عمى ترؾ بيوتيـ والرحيؿ منيا ونتيجة لذلؾ يفقدوف ممكيتيا‪.‬‬

‫إف ممارسة مثؿ ىذه االعتداءات بحؽ أماكف الغير‪ ،‬إنما يؤكد سياسة إلغاء اآلخر‪ ،‬وعدـ‬
‫قبولو‪ ،‬والسعي إلى استئصالو نيائيًا‪ ،‬وىذا يظير الجانب األسود مف الفكر الغربي في ذلؾ‬
‫يسع أبداً ‪-‬عمى مدار تاريخو الطويؿ ‪ -‬إلى‬
‫الوقت‪ ،‬والذي يختمؼ مع الفكر اإلسبلمي الذي لـ َ‬
‫إلغاء اآلخر أو تقزيمو والنيؿ منو‪.‬‬

‫وتظير قدرة الكاتبة الفنية في توظيؼ بعض األماكف السرية التي تنسجـ مع مشاعر‬
‫الخوؼ والقير وكبت الحريات المنتشرة في الرواية‪ .‬ومف ذلؾ تصوير سرداب بيت عيف الدمع‬
‫جعمو حسف مخبأً لحفظ الكتب التي يمنع القشتاؿ تداوليا‪ ،‬ويعاقبوف مف يقتنييا أشد العقاب‬ ‫الذي‬
‫قد يصؿ إلى الموت‪ .‬ويبلحظ الطريقة السرية لموصوؿ إلى المخبأ حيف ُيعمِـ حسف حفيده‬ ‫الذي‬
‫بل‪" :‬ىذا مفتاح القبو تفتحو وترى ما فيو‪ ..‬اذىب اآلف إلى غرفة الخزيف‪ ،‬وأزح‬ ‫بيا قائ ً‬
‫عمي‬
‫ّ‬
‫الخزانة الخشبية الصغيرة‪ ،‬تجد وراءىا بابًا يفضي إلى دىميز يفضي إلى باب آخر‪ ،‬ىذا مفتاحو‪.‬‬
‫افتحو‪ .‬خذ معؾ قنديبلً‪ ،‬واىبط الدرج‪ ،‬تجد نفسؾ في السرداب‪ .‬أوقد القناديؿ التي تجدىا فيو‪،‬‬
‫( ٖ)‬
‫وافتح الخزائف ثـ عد إلي وقؿ لي ماذا وجدت"‪.‬‬

‫سادساً‪ :‬الزمان‪:‬‬

‫اتخذت الرواية مف حدث سقوط غرناطة زمناً محورياً يؤرخ لبقية األحداث التي تمتد ألكثر‬
‫مف قرف مف الزماف‪ ،‬فالزمف الروائي طويؿ وىو يسرد حياة أربعة أجياؿ متعاقبة‪ ،‬وبالتالي برزت‬
‫شخصيات كثيرة‪ ،‬وتغيرت أخرى بتقدـ الزمف‪ .‬وقد اعتمدت الكاتبة عمى التسمسؿ الزمني‬
‫حرصا منيا عمى تحري المصداقية التاريخية‪ ،‬مع العمـ أنيا‬
‫ً‬ ‫المنطقي والمنتظـ ألحداث الرواية‬
‫استخدمت تقنيات الزمف المختمفة مثؿ تقنية الوصؼ التي تسيـ في تبطئة السرد‪ ،‬وتقنية‬
‫االختزاؿ التي تسيـ في تسريع السرد‪ ،‬باإلضافة إلى تقنيات االستباؽ واالستذكار‪ .‬وقد صاحب‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص٘ٓٔ‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٕٖٗ ‪ٖٗ٘-‬‬
‫(ٖ) ثبلثية غرناطة‪ ،‬ص‪ٕٚٙ‬‬

‫‪238‬‬
‫ذلؾ التطور الزمني تطور عمى مستوى الحدث الدرامي المرافؽ لحركة الشخوص الذيف عاشوا‬
‫تمؾ األحداث التاريخية‪.‬‬

‫وقد اختمؼ تعامؿ الرواية مع الزمف عف تعامؿ التاريخ معو‪ ،‬فالزمف التاريخي ال ييتـ إال‬
‫برصد الحوادث السياسية اليامة وتواريخيا وما يرتبط بيا مف شخصيات كبيرة‪ ،‬وال يمتفت إلى‬
‫معاناة الناس العادييف‪ ،‬بخبلؼ الزمف الروائي الذي جعؿ كؿ اىتمامو في تصوير حياة الناس‪،‬‬
‫ووصؼ آالميـ ومعاناتيـ بعد انتياء الحكـ اإلسبلمي لببلد األندلس‪.‬‬

‫مف أبرز مظاىر التجديد في الزمف الروائي سيطرة الزمف النفسي عمى الرواية‪ ،‬ويتضح‬
‫الحمـ والرؤية باإلضافة إلى الكوابيس وىذه التقنيات‬
‫ذلؾ مف خبلؿ اإلكثار مف استخداـ تقنية ُ‬
‫ليا عبلقة كبيرة بكشؼ الجانب النفسي لمشخصيات الروائية المختمفة‪ ،‬يضاؼ إلى ذلؾ اإلكثار‬
‫مف االعتماد عمى تقنية االستذكار‪ ،‬التي تظير ضغط الذكريات عمى نفسية الشخصية التي‬
‫تتعمؽ بالماضي لتعاود استذكارىا كمما أتيحت الفرصة لذلؾ‪ ،‬فكمما زادت معاناة اإلنساف الواقعية‬
‫زاد تعمقو بالزمف الماضي‪ ،‬فالذاكرة تعبر عف مأساة الواقع الذي تعيشو الشخصية‪ .‬لذلؾ امتؤلت‬
‫الرواية بالذكريات‪ ،‬ألف الكاتبة عممت عمى التعمؽ في ذوات شخصياتيا الروائية وتحميميا نفسيًا‬
‫لمعرفة أثر ىذه الحياة الصعبة عمييا‪ .‬فيحدثنا سعد عف ذكرياتو التي يتعرض فييا لذكر معاناة‬
‫أىمو في مالقة‪ ،‬ويحدثنا أبو منصور عف تاريخ عائمتو عندما يغمؽ القشتاؿ حمامو‪ ،‬كذلؾ‬
‫تمخص ذكريات عمي –آخر أفراد عائمة أبي جعفر ‪ -‬أثر مأساة الترحيؿ التي عايشيا مرتيف عمى‬
‫النفس‪ ،‬فيي توضح عمؽ الوجع ومقدار األلـ الذي أصاب روحو ومشاعره ومكنوناتو‬
‫( ٔ)‬
‫الداخمية‪.‬‬

‫ومف أشكاؿ التجديد في تناوؿ الكاتبة لمزمف الروائي تركيزىا عمى عنصر الصراع الزمني‪،‬‬
‫فقد أظيرت مف خبلال تناوليا لموضوع سقوط غرناطة صراعاً زمنياً قاـ بيف زمنيف متناقضيف‪،‬‬
‫ُيمثؿ الزمف األوؿ الزمف العربي المنيار في آخر عيد الدولة اإلسبلمية باألندلس‪ ،‬والذي اختار‬
‫حياة مسالمة يدثرىا الضعؼ والوىف وتشوبيا الغفمة‪ ،‬أما الزمف الثاني فيو الزمف القشتالي الذي‬
‫جسد الزمف التاريخي المتربص‪ ،‬الذي يفرض سياستو اليمجية عمى الزمف العربي( ٕ) مع العمـ أف‬
‫كبل الزمنيف متواجد عمى نفس المكاف (غرناطة) وىنا يظير أثر الزماف عمى المكاف الروائي‪،‬‬
‫لتبدو عبلقة التبلزـ التي تجمع بينيما فيما يعرؼ نقدياً بمصطمح (الزمكاف) فاألندلس كأرض‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬ثبلثية غرناطة‪ ،‬صٓ‪ٜٗٔ- ٜٗ‬‬


‫(ٕ ) انظر‪ ،‬تطور البناء الدرامي في روايات رضوى عاشور (رسالة ماجستير)‪ ،‬ص٘ٔٔ‬

‫‪239‬‬
‫ومكاف واقعي ونفسي تفرض نفسيا عبر زمف روائي طويؿ يؤثر في مختمؼ العناصر الروائية‬
‫األخرى‪.‬‬

‫مف جماليات الزماف الروائي عند رضوى عاشور أنو يمزج بيف الزمف التاريخي الحقيقي‬
‫والزمف التاريخي التخيمي‪ ،‬يتمثؿ الزمف التاريخي الحقيقي في ذكر األحداث الجساـ والوقائع‬
‫التاريخية الكبرى مثؿ سقوط غرناطة وتسميميا‪ ،‬ثـ ترحيؿ اإلسباف لمف تبقى فييا مف العرب‬
‫والم سمميف‪ ،‬ويبدو الزمف التاريخي الذي يعتمد عمى الخياؿ في التركيز عمى أثر سقوط غرناطة‬
‫عمى نفسيات الشخصيات الروائية في ذلؾ الوقت‪ ،‬باإلضافة إلى االىتماـ بذكر تفاصيؿ الحياة‬
‫اليومية لمشخصيات وجزئياتيا البسيطة بدرجة عالية‪ ،‬األمر الذي يجعؿ كتابة التاريخ روائياً أكثر‬
‫جاذبية وتشويقاً لمقارئ مف عرضو بطريقة عممية جافة‪.‬‬

‫حرصت الكاتبة عمى الرمز الزمني‪ ،‬بأف جعمت مف تناوليا لمزمف التاريخي المتعمؽ‬
‫بسقوط غرناطة وضياعيا رم اًز لزمف الضعؼ واليواف العربي في عصرنا الحالي‪ ،‬فقد تشابيت‬
‫الظروؼ واألحواؿ‪ .‬والكاتبة بذلؾ تتمتع بنظرة مستقبمية استشرافية تحذر فييا مف المستقبؿ‬
‫المجيوؿ لؤلمة العربية في ظؿ استمرار حالة الضعؼ العربي واإلسبلمي‪ ،‬فمثاؿ األندلس ليس‬
‫ببعيد‪.‬‬

‫وفي النياية‪ ،‬يمكف تحديد أىـ تحوالت الرواية التاريخية عند رضوى عاشور في النقاط‬
‫اآلتية‪:‬‬

‫ٔ ‪َّ -‬‬
‫وجيت رضوى عاشور الرواية التاريخية الجديدة نحو التاريخ األندلسي‪ ،‬فاستميمت‬
‫فترة مف أكثر فتراتو التاريخية سقوطًا وانحدا ًار وضياعًا‪ ،‬وىي فترة انتياء الحكـ‬
‫اإلسبلمي في غرناطة آخر معاقؿ المسمميف في ببلد األندلس؛ لتتماىى مع عصر‬
‫الضعؼ والذؿ واليواف الذي يعيشو العرب والمسمموف في ىذا الزماف‪.‬‬
‫ٕ ‪َّ -‬‬
‫قدمت نموذجاً جديداً لعنواف الرواية التاريخية الذي يربط بيف العناصر األساسية‬
‫لمعمؿ الروائي (المكاف‪ ،‬والزماف‪ ،‬والشخصيات‪ ،‬والحدث) مف خبلؿ االتجاه نحو‬
‫الثبلثية‪ ،‬مخالفة بذلؾ عناويف الروايات التاريخية السابقة التي كانت ترتبط بعنصر‬
‫واحد فقط كالشخصية‪ ،‬أو المكاف‪ ،‬أو الحدث التاريخي‪ ،‬أو الفك ةر العامة‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬لـ تيتـ الرواية بتصوير الشخصيات التاريخية الكبيرة مثؿ المموؾ واألمراء والقادة‬
‫عمى غرار الروايات التاريخية السابقة‪ ،‬بؿ اىتمت بتصوير معاناة الناس وحياتيـ‬
‫العادية في ظؿ االحتبلؿ األجنبي‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫ٗ ‪ -‬أكثر الخطاب الروائي مف االعتماد عمى تقنية الحمـ أو الرؤية التي تُ ّْ‬
‫عبر عف آماؿ‬
‫وطموحات الشخصيات الروائية في عالـ أفضؿ‪ ،‬كما استخدمت تقنية الكوابيس في‬
‫التعبير عف حالة الخوؼ والرعب التي تعيشيا الشخصيات الروائية‪ ،‬وقد نجحت‬
‫باستثمار ىاتيف التقنيتيف في الولوج إلى األعماؽ النفسية لمشخصيات المختمفة‬
‫والتعرؼ عمى معاناتيا اليومية‪.‬‬
‫٘ ‪ -‬اعتمدت الرواية عمى الرمز الفني بشكؿ كبير‪ ،‬وجعمت لو دو اًر رئيساً في بناء‬
‫الرواية‪ ،‬مما فتح المجاؿ واسعاً لتوظيؼ ىذه التقنية بشكؿ كبير في الرواية‬
‫التاريخية‪.‬‬
‫تحوؿ الصراع في الرواية عند رضوى عاشور مف صراع أفقي في الرواية التقميدية‬
‫‪َّ - ٙ‬‬
‫إلى صراع عمودي رأسي موجو مف الطرؼ المنتصر األقوى (األسباف) إلى الطرؼ‬
‫الميزوـ الضعيؼ (مسممو األندلس) الذي مورست بحقو كؿ أشكاؿ القمع والقير‬
‫واإللغاء حتى أُجبر عمى ترؾ ببلده والرحيؿ منيا بشكؿ كامؿ‪.‬‬
‫‪ - ٚ‬تعدد الرؤى السردية داخؿ الرواية‪ ،‬فيي ال تعتمد عمى الصوت الواحد كحاؿ الرواية‬
‫التاريخية التقميدية‪ ،‬كما أنيا تتميز بتنوع أساليب وطرؽ السرد (الغائب‪ ،‬والمتكمـ‪،‬‬
‫والمخاطب)‪ ،‬وىذا تطور ىاـ ميزىا عف الروايات التاريخية التقميدية التي كانت‬
‫تعتمد فقط عمى السرد بضمير الغائب‪.‬‬
‫‪ - ٛ‬أعادت لمحوار الخارجي حضوره البارز في الرواية التاريخية بعد أف كاف وجوده‬
‫بل في الزيني بركات‪ ،‬فرغـ حالة القمع والصمت‪ ،‬إال أف الحوار الخارجي‬
‫ناد ًار وقمي ً‬
‫بل وحيويًا في تقديـ األحداث والكشؼ عف طبائع الشخصيات‪.‬‬
‫كاف فاع ً‬
‫‪ - ٜ‬أضافت أشكاالً لغوية جديدة‪ ،‬أدت إلى تعدد المستويات المغوية التي يمكف توظيفيا‬
‫في عالـ الرواية ال تاريخية الجديدة مثؿ لغة العقود‪ ،‬ولغة التحقيؽ‪ ،‬ولغة الصمت‪،‬‬
‫باإلضافة إلى المغة الساخرة‪.‬‬
‫ٓٔ‪ -‬فتحت آفاقًا جديدة لتوظيؼ تقنية التناص في الرواية التاريخية الجديدة‪ ،‬منيا‬
‫التناص مع التراث األدبي (قصة حي بف يقظاف)‪ ،‬والتناص مع الحكايات‬
‫الشعبية‪ ،‬وأدب الرحبلت‪.‬‬
‫طورت الرواية مف نظرة ُك ّتاب الرواية التاريخية إلى المرأة خاصة بعد أف غيب‬
‫ٔٔ‪َّ -‬‬
‫جماؿ الغيطاني شخصيتيا‪ ،‬فأظيرتيا عمى أنيا العنصر األقوى في المجتمع‪،‬‬
‫فالمرأة عندىا قوية‪ ،‬وحكيمة‪ ،‬ومثقفة‪ ،‬ومحافظة عمى القيـ والعادات والتقاليد‪،‬‬

‫‪241‬‬
‫ورافضة لوجود المحتؿ‪ ،‬حتى إنيا تفوقت عمى الرجؿ في كثير مف المواقؼ‬
‫الروائية‪.‬‬
‫ٕٔ‪ -‬اىتمت بتصوير شخصية الحيواف في الرواية التاريخية‪ ،‬فأظيرت مدى ارتباط‬
‫اإلنساف ببعض الحيوانات األليفة (ظبية سميمة‪ ،‬وحصاف عمي)‪ .‬ىذا االىتماـ‬
‫بإبراز شخصية الحيواف لـ نجده في الروايات التاريخية السابقة التي تـ دراستيا‪.‬‬
‫ٖٔ‪ -‬فعَّمت رضوى عاشور دور المكاف الروائي في تحريؾ األحداث وتطويرىا‪ ،‬واثارة‬
‫الشخصيات وتشكيؿ اتجاىاتيا الفكرية والنفسية واالجتماعية‪ ،‬ومف أبرز األماكف‬
‫الحماـ العاـ والسرداب‪ ،‬كما أف الكاتبة حرصت‬ ‫الجديدة التي تـ التعرض ليا ّ‬
‫عمى تصوير انتياؾ شخصية األماكف أو اغتياليا‪ ،‬وقد ُع َّد ذلؾ مف أبرز مبلمح‬
‫التجديد في الرواية التاريخية عند رضوى عاشور‪.‬‬
‫ٗٔ‪ -‬ىيمنة الزمف النفسي عمى الرواية‪ ،‬وىذا يدؿ عمى كث ةر استخداـ التقنيات النفسية‬
‫الحمـ والكوابيس‪ ،‬باإلضافة إلى االسترجاع الدائـ لمذكريات‪،‬‬ ‫مثؿ تقنية الرؤية أو ُ‬
‫ويعد ذلؾ تطو ًار كبي ًار عما كاف سائدًا في ا لرواية التاريخية التقميدية والفنية الواقعية‪.‬‬
‫٘ٔ‪ -‬المزج بيف الزمف التاريخي الحقيقي والزمف التاريخي التخيمي‪ ،‬باإلضافة إلى تفعيؿ‬
‫الرمز الزمني‪ ،‬فزمف سقوط غرناطة ُي َع ُد رم اًز لزمف الضعؼ واليواف العربي‬
‫واإلسبلمي في عصرنا الحاضر‪.‬‬

‫شكمت ىذه النقاط أىـ تحوالت الرواية ا لجديدة في مقاربة رضوى عاشور لمتاريخ‪ ،‬مف‬
‫خبلؿ تجربة خاصة جمعت بيف (التاريخي ‪ -‬والمتخيؿ) ربطت مأساة األندلس التاريخية بمأساة‬
‫فمسطيف المعيشة‪ ،‬وبالواقع العربي مف خبلؿ الخطاب الروائي ال مف خبلؿ سرد التاريخ أو‬
‫تعميمو‪ .‬لقد التقت تجربة عاشور مع تجربة الغيطاني في المسائؿ الفنية وتقنيات السرد أحياناً‪،‬‬
‫وفارقتو في أخرى أضافتيا مف تجربتيا وثقافتيا‪ ،‬إضافة إلى تعمقيا التاريخ األندلسي‪ ،‬بينما وقؼ‬
‫الغيطاني عند تاريخ بمده مصر‪ ،‬ولكنيما اجتمعا معًا في استخداـ التاريخ لبناء الفكرة ومقاربة‬
‫القضية‪ ،‬فكانت عند الغيطاني (القمع والخوؼ واالستبداد)‪ ،‬وعند عاشور (الضعؼ والتشرذـ‬
‫والسقوط واليزيمة وتداعياتيا)‪ .‬لقد أفضى القمع واالستبداد إلى اليزيمة عند الغيطاني‪ ،‬كما‬
‫أفضى الضعؼ والتمزؽ إلى اليزيمة بتداعياتيا المؤلمة لمشعب‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫المبحث الثالث‬

‫تحوالت الرواية التاريخية الجديدة عند أحمد رفيق عوض‬

‫في روايتي القرمطي‪ ،‬وعكا والمموك‬

‫ُيمثّْؿ أحمد رفيؽ عوض نموذجًا فمسطينيًا بار ًاز ومتفردًا في استعماؿ المادة التاريخية‪،‬‬
‫ليس عمى مستوى الشكؿ فقط‪ ،‬بؿ عمى مستوى المضموف أيضاً‪ ،‬فيو واف أبدى تأث اًر كبي اًر‬
‫بك ّتاب الرواية التاريخية الجديدة أمثاؿ جماؿ الغيطاني في (الزي ني بركات) ورضوى عاشور في‬
‫ُ‬
‫(ثبلثية غرناطة)‪ ،‬إال أنو حافظ عمى شخصيتو وتميزه أيضاً فأبدع أكثر مف رواية تستميـ فترات‬
‫تاريخية لـ يتطرؽ ليا أحد مف قبؿ بطرؽ فنية جديدة موحية وجذابة ومؤثرة‪ ،‬ويظير ذلؾ بكؿ‬
‫وضوح في روايتيف مف أشير رواياتو‪ ،‬ىما رواية (القرمطي) الصاد ةر عاـٕٔٓٓـ‪ ،‬ورواية (عكا‬
‫والمموؾ) الصادرة عاـ ٖٕٓٓـ‪.‬‬

‫وتشترؾ الروايتاف (القرمطي‪ ،‬وعكا والمموؾ) في مقاربة فك ةر اليزيمة‪ ،‬وأسبابيا في التاريخ‬


‫اإلسبلمي‪ ،‬وأىمية دور القيادة‪ ،‬مع ترىيف الخطاب السردي وتخطيب السرد؛ لتعرية أسباب‬
‫الفشؿ والعجز واليزيمة التي تسود العالـ العربي في العصر الحالي‪ .‬ومع ذلؾ فبيف الروايتيف‬
‫اختبلؼ في الفكرة والرسالة‪ ،‬فرواية القرمطي‪ :‬تصور فساد القصر والحكـ مف خبلؿ ضعؼ‬
‫الخميفة المقتدر وفساده‪ ،‬وسيطرة النساء والجيش وما يتولد عف ىذا مف فتف وصراعات‪ ،‬بينما‬
‫تصور األخرى طريقة تعامؿ القائد القوي (صبلح الديف) مع اليزيمة‪.‬‬

‫ويرى الباحث أف في الروايتيف ما يمثؿ امتداداً طبيعياً لػ (الزيني بركات) و(ثبلثية‬


‫غرناطة) المتاف تركزاف عمى اليزيمة وتبيناف عوامؿ ظيورىا وتكونيا‪ ،‬مع اختبلؼ المادة‬
‫التاريخية المستعممة في الروايات وزاوية الرؤية‪ ،‬حيث َّبيف جماؿ الغيطاني أسباب اليزيمة مف‬
‫خبلؿ تصوير حالة الظمـ والقمع والفساد التي تعرض ليا الناس في أواخر حكـ المماليؾ‪ ،‬بينما‬
‫رصدت رضوى عاشور أقسى لحظات اليزيمة مف خبلؿ تصوير معاناة المسمميف الذيف ظموا‬
‫في األندلس بعد انتياء الحكـ اإلسبلمي فييا‪ .‬وقارب أحمد رفيؽ عوض اليزيمة وأسبابيا‬
‫باستمياـ التاريخ العباسي في لحظة ضعؼ الخميفة المقتدر في رواية القرمطي‪ .‬وقارب في رواية‬
‫عكا والمموؾ احتبلؿ الصميبييف لمدينة عكا‪ ،‬وىزيمة جيش صبلح الديف فييا‪ ،‬واليزيمة في‬
‫تاريخ صبلح الديف تكاد تكوف صفحة منسية أماـ االنتصار العظيـ في تحرير القدس واألقصى‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫تعامل أحمد رفيق عوض مع التاريخ‪:‬‬

‫تجاوزت الروايات التاريخية عند أحمد رفيؽ عوض النص التاريخي‪ ،‬فقدمت بنية روائية‬
‫متخيمة ذات سمات أدبية ال تاريخية‪ ،‬وعمى الرغـ مف اإلطار التاريخي لروايتي القرمطي وعكا‬
‫والمموؾ‪ ،‬إال أنيما ليستا تاريخي تيف بالمعنى الدارج في الرواية التقميدية التي تمتزـ بالتاريخ التزاماً‬
‫كامبلً‪ ،‬بؿ إنيما تستعمبلف التاريخ كمادة خاـ كحاؿ الرواية التاريخية الجديدة عند جماؿ‬
‫الغيطاني ورضوى عاشور‪ ،‬األمر الذي يعني أف الكاتب يستخدـ التاريخ كإطار عاـ لؤلحداث‪،‬‬
‫أما المعاني واألفكار والدالالت فإنيا ترتبط بحاضر الخطاب الروائي أكثر مف ارتباطيا‬
‫بالماضي التاريخي‪ ،‬ونستدؿ عمى ذلؾ مف خبلؿ الكثير مف القرائف والعبلمات التي تتصؿ بزمف‬
‫النشر‪ ،‬واإلىداء الذي تُ َّ‬
‫صدر بو كؿ رواية‪ ،‬عبلوة عمى ما يرد في كؿ رواية مف أساليب‬
‫وتراكيب لغوية تشير إلى العصر الحديث والزمف الحاضر (زمف النص) والحديث في ذلؾ‬
‫سيكوف مفصبلً في أثناء التعرض لمتحوالت التي أصابت زمف الخطاب الروائي عند السارد‪.‬‬

‫يرى الباحث أف استعما ؿ السارد لمنص التاريخي في كمتا الروايتيف يقوـ عمى عبلقة‬
‫المشابية‪ ،‬حيث يوجد تشابو كبير بيف مجريات القرف الرابع اليجري والزمف العربي الراىف‪،‬‬
‫فشخصية الخميفة المقتدر في ضعفيا‪ ،‬وقمة حيمتيا‪ ،‬وعدـ اىتماميا بشؤوف الحكـ وميامو تشبو‬
‫إلى حد كبير حاؿ حكاـ العرب في ىذا الزماف الذيف ضيعوا الببلد والعباد‪ ،‬وتياونوا في تحرير‬
‫المقدسات ّْ‬
‫ورد األعداء‪ .‬كذلؾ توجد حالة مف التبلزـ والتشابو الكبير بيف عصر الحروب‬
‫الصميبية وعصرنا الحالي‪ ،‬إذ إف الدوؿ الغربية تسيطر عمى المنطقة العربية مف خبلؿ‬
‫اعتداءاتيا المستمرة والمتواصمة عمييا‪ ،‬التي بدأت منذ أف تـ القضاء عمى الخبلفة العثمانية‪،‬‬
‫وتقسيـ الوطف العربي‪ ،‬ثـ زرع الكياف الصييوني الذي عمؿ عمى اغتصاب فمسطيف واحتبلؿ‬
‫مدينة القدس الشريؼ‪ ،‬عبلوة عمى احتبلؿ العراؽ‪ ،‬وفرض الييمنة السياسية واالقتصادية‬
‫والعسكرية عمى معظـ الدوؿ العربية واإلسبلمية‪ ،‬فالصراع بيف الشرؽ والغرب ما زاؿ قائمًا‬
‫ومستم ًار‪ ،‬وال أمؿ في انتيائو عما قريب طالما بقيت مسبباتو ودوافعو‪ .‬وعمى ذلؾ‪ ،‬فالسارد ال‬
‫يسترجع التاريخ أو يستميمو رغبة في تعميمو أو بعثو مف جديد‪ ،‬بؿ ليستعممو ويعيد صياغتو‪،‬‬
‫ليقارب فكرتو المجردة وقضيتو عف فساد القصر واليزيمة في القرمطي‪ ،‬وعف دور القائد الصالح‬
‫والفذ في التعامؿ مع اليزيمة ومواجية األعداء في عكا والمموؾ مف خبلؿ عمؿ روائي ثري يقوـ‬
‫عمى الترىيف والتخطيب‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫أما عف مدى التزاـ السارد بالمادة التاريخية مف عدمو‪ ،‬فإنو يمكننا التأكد مف خبلؿ النظر‬
‫إلى بعض المراجع التاريخية عمى عدـ التزامو ‪ ،‬بؿ إنو يخرج عف النص التاريخي في معظـ‬
‫األحياف؛ ليعيد صياغتو وتشكيمو‪ ،‬ويقدـ نموذجًا أكثر درامية وحيوية وتأثي ًار في القارئ‪ ،‬األمر‬
‫الذي يسيـ في تغميب الناحية األدبية عمى التاريخية وليس العكس‪ ،‬ومف مظاىر ذلؾ ما يأتي‪:‬‬

‫‪ -‬اختبلؼ زماف حدوث القصة التاريخية بيف النص الروائي والمرجع التاريخي‪ ،‬حيث‬
‫ذكرت رواية القرمطي َّ‬
‫أف حصار الخميفة المقتدر وخمعو ثـ عودتو إلى الخبلفة م ةر‬
‫أخرى كاف في األياـ الثبلثة األولى مف شير ذي القعدة لعاـ ‪ٖٔٙ‬ىػ( ٔ)‪ ،‬أما المرجع‬
‫التاريخي فإنو يربط ىذه األحداث باألياـ الثاني عشر والخامس عشر والسابع عشر مف‬
‫( ٕ)‬
‫شير محرـ لعاـ ‪ٖٔٚ‬ىػ‪.‬‬
‫‪ -‬أسيبت رواية القرمطي في تصوير ىروب الخميفة وآؿ بيتو عبر نفؽ سري مف القصر‬
‫العامر بعد محاصرة الجند لو‪ ،‬ووصولو إلى بيت ابف دريد واختبائو فيو مدة يوميف( ٖ)‪،‬‬
‫وعمى الرغـ مف أىمية ىذا الحدث روائياً في إظيار الحالة النفسية لمخميفة‪ ،‬إال أف ذلؾ‬
‫يختمؼ مع القصة التاريخية التي تقوؿ‪" :‬دخؿ مؤنس والجيش دار الخميفة‪ ،‬وأخرج‬
‫المقتدر ووالدتو وخالتو وخواص جواريو‪ ،‬وأوالده مف دار الخبلفة‪ ،‬وحمموا إلى دار مؤنس‬
‫( ٗ)‬
‫فاعتقموا بيا‪."..‬‬
‫‪ -‬ذكرت رواية القرمطي كيؼ تـ استدراج نازوؾ –أمير الشرطة ‪-‬؛ ليقتؿ بيف أحضاف‬
‫الجارية ثمؿ( ٘) ‪ ،‬بينما ذكرت القصة التاريخية حادثة مختمفة إذ‪" :‬خرج إلييـ نازوؾ وىو‬
‫مخمور قد شرب طوؿ ليمتو‪ ،‬فمما رآه الرجالة تقدموا إليو ليشكوا حاليـ إليو في معنى‬
‫أرزاقيـ‪ ،‬فمما رآىـ بأيدييـ السيوؼ يقصدونو‪ ،‬خافيـ عمى نفسو فيرب فطمعوا فيو‬
‫فتبعوه‪ .‬فانتيى بو اليرب إلى باب كاف ىو سده أمس‪ ،‬فأدركوه عنده فقتموه عند ذلؾ‬
‫( ‪)ٙ‬‬
‫الباب"‪.‬‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬القرمطي (رواية)‪ ،‬صٓ٘‬


‫(ٕ ) انظر‪ ،‬الكامؿ في التاريخ‪ ،‬المجمد السابع‪ ،‬ص‪٘ٔ- ٜٗ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬ص‪ٙٔ- ٘ٚ‬‬
‫(ٗ) الكامؿ في التاريخ‪ ،‬ابف ا ألثير‪ ،‬المجمد السابع‪ ،‬صٓ٘‬
‫(٘) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬ص‪ٔٓٚ‬‬
‫(‪ )ٙ‬الكامؿ في التاريخ‪ ،‬المجمد السابع‪ ،‬صٔ٘‬

‫‪245‬‬
‫‪ -‬تختمؼ نياية رواية عكا والمموؾ عف المرجع التاريخي‪ ،‬حيث تذكر الرواية أف صبلح‬
‫الديف َّ‬
‫سمـ أسرى الصميبييف‪ ،‬وأعاد صميب الصمبوت إلى الفرنجة تطبيقًا لبنود الصمح‬
‫إال أف الصميبييف غدروا بو بقتميـ ألسرى المسمميف( ٔ)‪ ،‬ومع أف الخطاب الروائي بيذه‬
‫الصورة يؤكد عمى سماحة المسمميف‪ ،‬وسعييـ لمصمح والحوار‪ ،‬والتزاميـ بتطبيؽ‬
‫المعاىدات‪ ،‬إال أف الحقيقة التاريخية غير ذلؾ‪ ،‬فصبلح الديف لـ يسمّْـ الصميبييف ال‬
‫( ٕ)‬
‫ماالً وال أسرى؛ ألنو اكتشؼ نيتيـ المبيتة بالغدر‪.‬‬
‫‪ -‬تذكر رواية عكا والمموؾ أف القضاء عمى أبراج الصميبييف المحاصرة لعكا كاف عف‬
‫طريؽ عممية استشيادية قاـ بيا أحد الشباف المتطوعيف حيث‪" :‬أخذ إبراىيـ زيوتًا مختمفة‬
‫ودىف نفسو بيا‪ ،‬ثـ َّ‬
‫لؼ عمى جسده الكتاف والقطف‪ ،‬وبؿ ذلؾ بالنفط‪ ،‬ثـ ربط قموعًا‬
‫محشوة بثمج الصيف عمى خصره‪ ...‬صاح مف قحفو‪ :‬اهلل أكبر! أشعؿ النار في نفسو‬
‫( ٖ)‬
‫وال شؾ في أف‬ ‫دفعة واحدة‪ ،‬واندفع باتجاه البرج الخشبي‪ ...‬فإذا االنفجارات تتوالى"‬
‫الكاتب أراد اإلشارة إلى تضحيات المسمميف‪ ،‬والى ربط ذلؾ بالواقع الفمسطيني عبر‬
‫ترىيف زمني واضح‪ ،‬فالعمميات االستشيادية بيذه الصورة لـ يكف متعارفًا عمييا في ذلؾ‬
‫الوقت‪ ،‬خصوصًا وأف المرجع التاريخي لـ يأت عمى ذكرىا مطمقًا‪ ،‬بؿ إنو ذكر قصة‬
‫( ٗ)‬
‫أخرى لعممية إحراؽ أبراج الصميبييف‪.‬‬
‫‪ -‬يظير اختبلؼ الخطاب الروائي عف النص التاريخي بشكؿ واضح مف خبلؿ النظر إلى‬
‫تعامؿ السارد مع عنصر الزمف‪ ،‬حيث إف طبيعة زمف الخطاب الروائي في كبل‬
‫الروايتيف تختمؼ تمامًا عف طبيعة تعامؿ المؤرخ مع الزمف الحقيقي لمقصة التاريخية‪،‬‬
‫فالزمف التاريخي زمف خطي تسمسمي منتظـ‪ ،‬بينما يتسـ الزمف الروائي بالدائرية وعدـ‬
‫االنتظاـ‪ ،‬فيعمؿ الروائي عمى التبلعب بالزمف وتكسيره‪ ،‬ويعتمد بشكؿ كبير عمى الزمف‬
‫النفسي الذي يوظؼ العديد مف التقنيات الحديثة‪ ،‬مثؿ االسترجاع واالستباؽ والمونولوج‬
‫الحمـ مما ال نقع عميو في الخطاب التاريخي‪.‬‬
‫الداخمي و ُ‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ (رواية)‪ ،‬ص‪ٕٜٔ- ٕٛٙ‬‬


‫(ٕ ) انظر‪ ،‬الكامؿ في التاريخ‪ ،‬المجمد العاشر‪ ،‬ص‪ٕٓٚ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٜ٘- ٘ٛ‬‬
‫(ٗ ) انظر‪ ،‬الكامؿ في التاريخ‪ ،‬المجمد العاشر‪ ،‬صٔ‪ٜٖٔ- ٜٔ‬‬

‫‪246‬‬
‫وىكذا يمكف القوؿ بكؿ ثقة بأف روايات أحمد رفيؽ عوض ليست روايات تاريخية‪ ،‬بؿ ىي‬
‫روايات تستعمؿ التاريخ‪ ،‬وتوظفو بشكؿ فني وخيالي بارع‪ ،‬لمتعبير عف رؤية الكاتب لمحياة‬
‫المعاصرة وما يكتنفيا مف آالـ‪.‬‬

‫التحوالت الموضوعية‪:‬‬

‫إذا كاف عمي أحمد باكثير تعرض لفساد مذىب القرامطة في رواية (الثائر األحمر) حيف‬
‫وازف بيف سموؾ القرامطة الفاسد وسموؾ الدولة اإلسبلمية الصالح‪ ،‬فإف تناوؿ أحمد رفيؽ عوض‬
‫لمقرمطي ومذىبو َّ‬
‫شكؿ تطو اًر كبي اًر عمى رؤية باكثير الموضوعية‪ ،‬إذ إنو أداف الطرفيف (الخميفة‬
‫والقرمطي)‪َّ ،‬‬
‫وبيف مواضع الفساد والخمؿ عندىما بجرأة ومكاشفة دوف انحياز ألي طرؼ‪ ،‬حيث‬
‫استدعى في رواية القرمطي فترة تاريخية حرجة وبالغة الصعوبة مف العصر العباسي‪ ،‬عاد فييا‬
‫إلى بدايات القرف الرابع اليجري‪ ،‬ليصور لنا فساد القصر وشدة ضعؼ خميفة المؤمنيف (المقتدر‬
‫باهلل) الذي ال يممؾ مف أمره شيئا‪ ،‬فقادة الجيش ىـ الحكاـ المتنفذوف‪ ،‬باإلضافة إلى سيط ةر‬
‫النساء والجواري عمى شؤوف الحكـ والسياسة‪ ،‬عبلوة عمى انشغاؿ العمماء بقضايا عقدية وفكرية‬
‫وفمسفية في زمف الفتنة مما أبعدىـ عف دورىـ الريادي في إصبلح المجتمع‪ .‬كؿ ذلؾ في مقابؿ‬
‫شخصية أبي طاىر القرمطي وجيشو وعممائو الذيف يعيثوف خراباً وفساداً في الببلد والعباد دوف‬
‫أي وازع أو مانع ديني أو أخبلقي‪ .‬إنيا رواية ال تعكس التاريخ بقدر ما تناقش أىمية الحاكـ‬
‫ونظاـ الحكـ‪ ،‬فتحاوؿ التعرؼ عمى عوامؿ الضعؼ ومظاىر الفساد واالنحراؼ التي تؤدي إلى‬
‫اليزيمة‪ ،‬ليس في العصر العباسي فقط‪ ،‬بؿ في كؿ العصور‪ ،‬فيي رواية ذات زمف ممتد يتـ فيو‬
‫مزج التاريخي الواقعي بالمتخيؿ الروائي‪ ،‬الذي يشدنا نحو الحاضر ويدفعنا إلى استشراؼ‬
‫المستقبؿ‪.‬‬

‫أما رواية (عكا والمموؾ) فقد َّ‬


‫شكمت تحوالً موضوعياً بار اًز لمرواية التاريخية‪ ،‬حيث إنيا‬
‫ركزت عمى الفترة التي قامت فييا جيوش الفرنجة بمحاصرة مدينة عكا مدة عاميف كامميف في‬
‫نياية القرف السادس اليجري حتى تـ تسميميا عاـ ‪ ٘ٛٚ‬ىػ إلى الصميبييف‪ ،‬وقد اختار الكاتب‬
‫شخصية بارزة ليا مكانتيا الكبيرة في التاريخ العربي واإلسبلمي‪ ،‬وىي شخصية صبلح الديف‬
‫األيوبي الذي يرتبط ذكره لدى الوجداف العربي واإلسبلمي بعصر االنتصارات الكبيرة عمى‬
‫الصميبييف‪ ،‬وبمعركة حطيف‪ ،‬وتحرير بيت المقدس‪ ،‬إال أنو في الرواية يظير في لحظة انكسار‬
‫تمثمت في اليزيم ة الساحقة أماـ الصميبييف‪ ،‬التي أجبرتو عمى مفاوضتيـ واالتفاؽ معيـ‪ ،‬ليكوف‬
‫الخطاب الروائي صادماً وفاجعاً‪ ،‬خاصة أنو ينتيي بقتؿ الصميبييف لثبلثة آالؼ أسير مسمـ‪،‬‬

‫‪247‬‬
‫األمر الذي القى قبوالً ورضاً لدى الممؾ ريتشارد الذي قاؿ‪" :‬اآلف أستطيع القوؿ إننا‬
‫( ٔ)‬
‫مع الع مـ أف جوىر الرواية ومركزىا ييتـ بموقؼ القائد الكبير مف اليزيمة‬ ‫انتصرنا"‪.‬‬
‫وتداعياتيا ال مجرد عرضيا؛ ليحقؽ مف خبلؿ الترىيف قراءة معاصرة لموقؼ القيادات العربية‬
‫أماـ ييود‪ ،‬بحيث تتضح المفارقة الحارقة بينيـ وبيف صبلح الديف‪ ،‬ومف ثمة تعريتيـ روائيًا‪.‬‬

‫لقد خالؼ أحمد رفيؽ عوض معظـ الكُتّاب العرب والمسمميف الذيف يؤكدوف في أثناء‬
‫تعرضيـ لشخصية صبلح الديف عمى لحظات النصر والقوة‪ .‬ويرى الباحث أف تعرض السارد‬
‫لصبلح الديف في لحظات الضعؼ واليزيمة كاف نتيجة لمواقع العربي المتردي والميزوـ دائماً‪،‬‬
‫فمف غير المنطقي أف يستعيد الكاتب تاريخ صبلح الديف كشخصية منتص ةر في ظؿ واقع عربي‬
‫واسبلمي ىش وضعيؼ‪ ،‬وال شؾ في أف تسميط الضوء عمى الشخصية التاريخية في مثؿ ىذا‬
‫الموقؼ الصعب ال ييدؼ إلى التقميؿ مف قيمتيا‪ ،‬بقدر ما فيو مف محاولة لمتعرؼ عمى كيفية‬
‫تعامؿ ذلؾ القائد الفذ مع اليزيمة‪ .‬كما "أف الكشؼ عف بعض الخفايا والثغرات التي غطت‬
‫عمييا كثير مف انتصارات القائد األيوبي‪ ،‬يدلؿ عمى ذكاء السارد وقدرتو عمى التقاط المدىش‬
‫والمفارؽ‪ ،‬ليعطي تجربتو الروائية زخماً يستطيع مف خبلليا القارئ ربط رموزه بمعطيات الواقع‬
‫( ٕ)‬
‫العربي‪ ،‬والفمسطيني واإلسبلمي الراىف"‪.‬‬

‫تتمثؿ أىـ مبلمح التجديد الموضوعية في رواية عكا والمموؾ في أنيا أظيرت المفارقة‬
‫بيف وقع اليزيمة عمى القيادة المسممة ممثمة بصبلح الديف األيوبي‪ ،‬ووقع اليزيمة عمى األنظمة‬
‫العربية في العصر الحديث‪ ،‬فصبلح الديف لـ يجد طعماً لمحياة بعد استسبلـ عكا وىزيمتيا رغـ‬
‫ما ف ي رصيده التاريخي مف انتصارات عظيمة أبرزىا معركة حطيف التي مكنتو مف استعادة‬
‫مدينة القدس بعد احتبلؿ قارب عمى المئة عاـ‪ ،‬يبدو ذلؾ في أكثر مف موقؼ منيا وصؼ‬
‫القاضي الفاضؿ لشخصية صبلح الديف بعد اليزيمة في عكا حيث يقوؿ‪" :‬موالي العظيـ ال‬
‫يعرؼ إال العمؿ مف أجؿ النصر‪ ،‬واليزيمة ال يفيميا وال يعرفيا‪ ،‬وليذا‪ ،‬فيو يرغب في‬
‫( ٖ)‬
‫أما القيادات العربية الحديثة فقد استمرأت اليزيمة واعتادت عمييا‪ ،‬وأخذت تبحث ليا‬ ‫الموت"‪.‬‬
‫عف مبررات لمبقاء في ظؿ اليزائـ العربية المتتالية منذ سقوط الخبلفة العثمانية حتى يومنا ىذا‪،‬‬
‫وكأف ىذه الرواية التي تستميـ اليزيمة التاريخية‪ ،‬تريد أف تقوؿ إف ىذه اليزائـ قديمة ومتأصمة‪،‬‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٔ‪ٕٜ‬‬


‫(ٕ ) انظر‪ ،‬توظيؼ التاريخ في روايات أحمد رفيؽ عوض (رسالة ماجستير)‪ ،‬ص‪ٖٙ‬‬
‫(ٖ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص٘‪ٕٙ‬‬

‫‪248‬‬
‫وىي ليست وليدة اليوـ أو الزمف الحاضر‪ ،‬واف الموقؼ مف اليزيمة ال يكوف باالستسبلـ ليا‪ ،‬بؿ‬
‫بالنيضة واعادة البناء‪ ،‬فيكذا تعامؿ قادتنا مع اليزيمة في الماضي‪ ،‬فكيؼ سنتعامؿ معيا اليوـ؟‬
‫إف ىذ ه الروايات ال تقدـ لنا التاريخ بقدر ما تدعونا إلى التفكر في أسباب اليزيمة‪ ،‬وطرؽ‬
‫التعامؿ معيا‪ ،‬وكيفية الحفاظ عمى البمداف وصيانتيا خاصة أف رسالة النص "تدور حوؿ القيادية‬
‫الحيوية"( ٔ)‪ ،‬ولذلؾ ّْ‬
‫تقدـ الرواية رؤية فنية شاممة ال ترتبط بالماضي التاريخي فحسب‪ ،‬بؿ إنيا‬
‫تنظر لمحاضر والمستقبؿ أيضاً وفؽ تجربة إنسانية عامة وممتدة تاريخياً وحضارياً‪ ،‬مما أكسب‬
‫التجربة الروائية قوة تعبيرية ىائمة تمتمئ بالكثير مف الدالالت والرموز التي تستند عمى التراث‬
‫التاريخي العربي واإلسبلمي‪.‬‬

‫لعؿ أبرز مبلمح التطور الموضوعية المرتبطة برواية عكا والمموؾ ىو أنيا عممت عمى‬
‫تعرية الفكر الغربي الصميبي وفضحو مف داخمو‪ ،‬حيث َّبينت األىداؼ والدوافع االستعمارية‬
‫واالقتصادية الحقيقية لمحمبلت الصميبية ‪ ،‬التي تظير بوضوح في أحاديث ممثمي تجار‬
‫( ٕ)‬
‫وال شؾ في أف ذلؾ ي تعارض مع أىدافيـ الدينية المعمنة‪ ،‬مما يوضح كذب شعاراتيـ‬ ‫الفرنجة‬
‫الرنانة المتمثمة في استرداد القبر المقدس‪ ،‬وتحرير مسيحيي الشرؽ مف ظمـ المسمميف‪،‬‬
‫وباإلضافة إلى ذلؾ فقد كشفت الرواية عف الصراع الذي كاف دائ اًر بيف المموؾ واألمراء‬
‫الصميبييف عمى القيادة والسيطرة وحب التممؾ وخير ما يمثؿ ذلؾ الصراع إظيار حالة التنافس‬
‫والكراىية المتبادلة بيف الممؾ ريتشارد ممؾ إنجمت ار والممؾ فيميب أغسطس ممؾ فرنسا( ٖ)‪،‬‬
‫وتصوير رغبة األمير كونراد دي مونتفرات في االستئثار بتاج مممكة القدس والتنافس بينو وبيف‬
‫الممؾ جي عمى ذلؾ( ٗ)‪ ،‬عبلوة عمى ذلؾ‪ ،‬فقد فضحت الرواية االنحراؼ الفكري واألخبلقي لدى‬
‫الرىباف ورجاؿ الديف المسيحي‪ ،‬األمر الذي سنتعرض لو بالتفصيؿ في أثناء التعرض‬
‫لمشخصيات األجنبية في الرواية‪ .‬كما أوضحت المفارقة بيف التفوؽ العممي والمعرفي الذي رافؽ‬
‫الحضارة اإلسبلمية وحالة التخمؼ الغربي في العصور الوسطى‪ ،‬مف خبلؿ بياف حرص عمماء‬
‫ورىباف الغرب عمى ترجمة الكتب العربية واإلسبلمية واالستفادة منيا عبلوة عمى سرقتيا بادعاء‬
‫نس بتيا إلى غير أصحابيا األصمييف( ٘)‪ ،‬وأىـ ما في الخطاب الروائي أنو يكشؼ عف دموية‬

‫(ٔ ) انظر‪ ،‬الرؤية وتعدد األصوات في عكا والمموؾ (بحث)‪ ،‬صٓ‪ٕٔٚ - ٔٚ‬‬
‫(ٕ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٕٖٜ- ٕٖٛ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ ،ٕٕٛ- ٕٕٚ‬صٖٕٗ‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬صٕٓ٘ ‪ٕٖ٘-‬‬
‫(٘) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٜٔٛ‬‬

‫‪249‬‬
‫وقسوة وبشاعة الشخصية الصميبية التي ترتكب الكثير مف الجرائـ‪ ،‬وال تمتزـ بأي عيد أو ميثاؽ‪،‬‬
‫فتتمثؿ فييا صفة الغدر‪ ،‬ويظير ذلؾ بوضوح في ارتكاب ريتشارد لجريمة قتؿ ثبلثة آالؼ مسمـ‬
‫بعد إبراـ شروط االستسبلـ في نياية الرواية‪ .‬وجؿ ىذه األمور ال يقوليا المرجع التاريخي؛ ألنيا‬
‫ال تقع في اختصاصو‪.‬‬

‫التحوالت الفنية‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬البنال الفني العام‪:‬‬

‫يتمثؿ أوؿ مظير لمتجديد في بناء الرواية التاريخية عند أحمد رفيؽ عوض في دقة‬
‫اختياره لعناوينو الروائية‪ ،‬ويتضح ذلؾ مف خبلؿ النظر إلى عنواني روايتيو (القرمطي) و (عكا‬
‫والمموؾ)‪ ،‬فالنظرة السريعة إلى العنواف األوؿ (القرمطي) قد توحي لمبعض بمحاكاة الكاتب‬
‫لعناويف الروايات التاريخية التقميدية التي كانت تركز عمى الشخصية التاريخية وتسمط الضوء‬
‫عمييا كروايتي (صبلح الديف األيوبي) لجورجي زيداف‪ ،‬و(الميميؿ سيد ربيعة) لمحمد فريد أبو‬
‫حديد‪ ،‬حيث إف كؿ منيما كانت تحيمنا إلى الشخصية التاريخية بشكؿ مباشر‪ ،‬دوف تعمية أو‬
‫مواربة‪ ،‬إذ ال يحتمؿ العنواف أي تأويؿ‪ ،‬وىذا رأي خاطئ‪ ،‬فعنواف (القرمطي) ال تقتصر داللتو‬
‫عمى الشخصية التاريخية فقط‪ ،‬بؿ إنو يحمؿ الكثير مف التأويبلت والدالالت التاريخية‬
‫والمعاصرة في آف واحد‪ ،‬فػ "اختيار داؿ (القرمطي) معرفاً بأؿ التعريؼ‪ ،‬واختياره مفردة تسد مسد‬
‫تركيب متكامؿ‪ ،‬قائـ عمى أساس أف ىذه المفردة تكتنز بكـ وافر مف الدالالت المصاحبة لمداؿ‪،‬‬
‫بحكـ تاريخيتو‪ ،‬واعبلمو عف مذىب بعينو‪ ،‬وتحققاتو التراثية‪ ،‬وما جرى حولو مف جدؿ عمى‬
‫( ٔ)‬
‫لذلؾ يفتح العنواف النص الروائي لمكثير مف القراءات‬ ‫مستوى الديف والسياسة والكبلـ والفرؽ"‪.‬‬
‫غير المحددة‪ ،‬فبعض القراء قد يربط العنواف بشخصية حمداف قرمط مؤسس حركة القرامطة‪ ،‬أو‬
‫يحيمو إلى شخصية أبي طاىر الجنابي الذي يمثؿ الفكر القرمطي في الرواية‪ ،‬وبعضيـ قد‬
‫يذىب إلى الطبيعة الفاسدة لممعتقد القرمطي في إطا هر التاريخي‪ ،‬وقد يخطر لدى آخريف مف أف‬
‫السارد يستعمؿ العنواف لدالالت رمزية تقارب بيف ممارسات القرامطة في الماضي وممارسات‬
‫( ٕ)‬
‫قوى الظمـ والطغياف في العالـ الحاضر‪.‬‬

‫(ٔ ) مقاربات نقدية‪( ،‬بحث بنية الخطاب والنص في رواية القرمطي)‪ ،‬ص‪ٔٙٙ‬‬
‫(ٕ ) انظر‪ ،‬مقاربات نقدية‪( ،‬بحث بنية الخطاب والنص في رواية القرمطي)‪ ،‬ص٘‪ٔٙٚ- ٔٙ‬‬

‫‪251‬‬
‫أما بالنسبة لعنواف (عكا والمموؾ) فإنو شكؿ تطو اًر ممحوظاً في الجمع بيف المكاف‬
‫التاريخي الذي ما زاؿ قائماً‪ ،‬والشخصيات التاريخية المرتبطة بذات المكاف‪ ،‬ويبلحظ أف طبيعة‬
‫ىذا العنواف تختمؼ عف طبيعة عناويف الروايات التاريخية السابقة التي كانت تقتصر عمى‬
‫عنصر واحد فقط مف عناصر العمؿ الروائي‪ .‬فالعنواف ىنا مركب مف كممتيف‪ ،‬األولى (عكا)‬
‫التي تدؿ عمى الحيز المكاني المفرد الذي تدور فيو الرواية أو يدور حولو الصراع‪ ،‬والثانية‬
‫(المموؾ) وىي اسـ جمع يدؿ عمى مموؾ الغرب الذيف شاركوا في حصار عكا وىزيمتيا‪،‬‬
‫فالعنواف يجمع بيف المكاف الروائي والشخصيات المناوئة لو‪ ،‬ثـ إف العنواف يحمؿ مفارقة بيف‬
‫حالة اإلفراد (عكا) وحالة الجمع (المموؾ) األمر الذي يعكس صراعاً غير متكافئ بيف الجمع‬
‫الكثير والمكاف المنفرد الذي وقؼ شامخًا ووحيدًا أماـ ىذا الحشد العدواني الكبير‪ )ٔ (.‬فقد َّ‬
‫شكؿ‬
‫العنواف إيجا ًاز مكثفًا لمضموف الرواية الذي يتحدث عف حصار مموؾ أوروبا لمدينة عكا‪ ،‬حيث‬
‫ُوّْف َؽ الكاتب في اختيار ىذا العنواف الذي ينفتح عمى الكثير مف الدالالت والتأويبلت‪ ،‬وفي ذلؾ‬
‫يرى الدكتور يوسؼ رزقة "إف اجتماع عكا بالمموؾ في عنواف الرواية يحمؿ إعبلناً متقدماً عف‬
‫( ٕ)‬
‫حالة مف حاالت اإلفساد يود العنواف أف ُيعمـ بيا المتمقي ليتييأ األخير الستقباؿ اآلتي"‬
‫َىمِ َيا أَِذلَّةً َو َك َٰذلِ َؾ‬ ‫وؾ إِ َذا َد َخمُوا قَريةً أَفْسدُوىا وجعمُوا أ ِ‬
‫َعَّةَز أ ْ‬ ‫َ َ َ ََ‬ ‫َْ‬ ‫معتمداً عمى قولو تعالى‪" :‬إِ َّف الْ ُممُ َ‬
‫وف"‪ )ٖ (.‬كما أف العنواف ينسجـ مع سيادة اإلحساس بالغربة عف الذات والمكاف‪ ،‬خاصة أنو‬ ‫َي ْف َعمُ َ‬
‫( ٗ)‬
‫وباإلضافة إلى ذلؾ فإف ىذا‬ ‫يصور عكا المحاصرة عمى مدار الرواية والميزومة في نيايتيا‪.‬‬
‫العنواف يحمؿ بعداً رمزياً واضحاً‪ ،‬فػ (عكا) جزء م ف فمسطيف التاريخية الواقعة تحت االحتبلؿ‬
‫الصييوني حتى يومنا ىذا‪ ،‬وىذا يحممنا إلى القوؿ إف عكا رمز لفمسطيف التي تعرضت‬
‫لبلحتبلؿ الصييوني ووقفت وحيدة في مواجيتو دوف أف يمتفت ليا أي مف الدوؿ العربية‬
‫واإلسبلمية‪ ،‬كما أف (المموؾ) رمز لقوى االستعمار واالحتبلؿ الغربي الصميبي والصييوني‪ ،‬وىذا‬
‫الحاؿ ينطبؽ عمى العراؽ الذي تعرض ليجمة غربية شرسة دوف أف يحرؾ العرب والمسمموف‬
‫ساكناً‪ ،‬عبلوة عمى ذلؾ فإف العنواف يأخذنا إلى أكثر مف الرمز‪ ،‬إنو يعمؿ عمى ترىيف المحظة‬
‫التاريخية مع الواقع العربي واإلسبلمي المفكؾ الضعيؼ والميزوـ في وقتنا الحالي‪.‬‬

‫(ٔ ) انظر‪ ،‬الرؤية وتعدد األصوات في عكا والمموؾ (بحث)‪ ،‬صٖ‪ٔٙ‬‬


‫(ٕ ) الرؤية وتعدد األصوات في عكا والمموؾ (بحث)‪ ،‬صٖ‪ٔٙ‬‬
‫(ٖ) القرآف الكريـ‪ ،‬سورة النمؿ‪ٖٗ :‬‬
‫(ٗ) انظر‪ّْ ،‬‬
‫مشك بلت السرد في رواية عكا والمموؾ ألحمد رفيؽ عوض (بحث)‪ ،‬ص٘‪ٔٛ‬‬

‫‪251‬‬
‫طور أحمد رفيؽ عوض مف طريقة عرض وبناء الرواية التي تستعمؿ التاريخ‪ ،‬فقد قسَّـ‬
‫َّ‬
‫صدرىا بعناويف خاصة‪ ،‬بؿ رتَّبيا رقميًا‬
‫بل دوف أف ُي ّْ‬
‫رواية (القرمطي) إلى أربعة عشر فص ً‬
‫تصاعديًا (ٔ‪ ).. ٖ ،ٕ ،‬وىي بذلؾ تختمؼ عف رواية الزيني بركات التي قسَّميا السارد إلى‬
‫المعنونة‪ ،‬كما تختمؼ عف رواية الثائر األحمر التي قسميا‬
‫مجموعة مف السرادقات ذات الفصوؿ ُ‬
‫باكثير إلى عدد مف األسفار التي يحتوي كؿ منيا عمى مجموعة مف الفصوؿ‪ .‬وقد وضع‬
‫ختص اًر ألحداثيا‪ ،‬ثـ أعاد توزيع الفصوؿ حسب‬
‫وم َ‬
‫الدكتور يوسؼ رزقة تصو اًر لعناويف الفصوؿ ُ‬
‫المضاميف إلى أربع وحدات رئيسة تتوافؽ مع عدد األياـ األربعة التي تمثؿ زمف الرواية‪ .‬حيث‬
‫يشمؿ اليوـ األوؿ الفصوؿ األربعة األولى التي ّْ‬
‫تعبر عف حالة الرعب والحصار والخمع واقتحاـ‬
‫ا لقصر‪ ،‬ويشمؿ اليوـ الثاني الفصميف الخامس والسادس ويصور بيعة القاىر‪ ،‬ويكشؼ عف‬
‫صفاتو وآراء الناس فيو‪ ،‬أما اليوـ الثالث فيظير في الفصميف السابع والثامف والذي يوضح فشؿ‬
‫بيعة القاىر وعودة المقتدر إلى الخبلفة بعد نجاح تدبير أمو شغب‪ ،‬بينما يشمؿ اليوـ الرابع (يوـ‬
‫ال تروية) بقية فصوؿ الرواية‪ ،‬والتي َّتـ فييا الكشؼ عف معتقدات القرامطة‪ ،‬وسموكيـ الفاسد‪،‬‬
‫( ٔ)‬
‫كما تقوـ بنية الرواية بشكؿ عاـ "عمى‬ ‫ومياجمتيـ وقتميـ لمحجيج‪ ،‬وسرقتيـ لمحجر األسود‪.‬‬
‫لوحتيف شبو متقاربتيف في الحجـ‪ ،‬األولى تمثؿ (المقتدر والقصر) وتستغرؽ الفصوؿ مف (ٔ ‪)ٜ-‬‬
‫تقريباً‪ .‬واألخرى تحكي دعوة أبي طاىر القرمطي وأفعالو وتستغرؽ الفصوؿ مف (‪ .)ٔٗ- ٜ‬وأثناء‬
‫عرض ىاتيف الموحتيف يقدـ الخطاب رصداً دقيقاً وحيوياً لبنية المجتمع اإلسبلمي في بغداد‬
‫وغيرىا مف األحياز الوارد ذكرىا في الرواية‪ ،‬ويركز عمى طبقة المثقفيف ممثمة في الصولي‪ ،‬وابف‬
‫( ٕ)‬
‫المعَمف لمبناء الروائي يكشؼ مدى إبداع‬
‫دريد‪ ،‬واألشاعرة والمعتزلة"‪ .‬إف ىذا التوزيع غير ُ‬
‫الكاتب في استثمار عنصر الزمف الروائي‪ ،‬وقدرتو عمى توزيع األحداث عميو‪ ،‬كما يكشؼ عف‬
‫تقدير الكاتب لمقارئ أو المتمقي‪ ،‬إذ إنو ال يغفؿ دور القارئ في التعمؽ بالنص‪ ،‬بؿ يريد قارئاً‬
‫حاذقاً مشاركاً في عممية اإلبداع الفني‪ ،‬وىذا مف أبرز عناصر التجديد في الرواية التاريخية‬
‫المعاصرة‪.‬‬

‫قسميا السارد‬ ‫أما بالنسبة لرواية (عكا والمموؾ) فقد َّ‬


‫شكؿ بناؤىا الفني تطو اًر ممحوظاً‪ ،‬إذ َّ‬
‫إلى تسعة فصوؿ‪ ،‬وجعؿ عنواف كؿ منيا اسـ إلحدى الشخصيات المكونة لمحدث الروائي‪،‬‬
‫فجاءت عمى النحو اآلتي‪( :‬ابف جبير‪ ،‬قراقوش‪ ،‬ابف شداد‪ ،‬جوانا‪ ،‬سيؼ الديف عمي بف أحمد‬
‫المشطوب‪ ،‬عمر الزيف‪ ،‬راشد الديف سناف‪ ،‬الممؾ ريتشارد‪ ،‬متجددات القاضي الفاضؿ)‪ .‬يظير‬

‫(ٔ ) انظر‪ ،‬مقاربات نقدية (بحث بنية الخطاب والنص في رواية القرمطي)‪ ،‬ص ‪ٕٔ٘- ٜٔٗ‬‬
‫(ٕ) مقاربات نقدية (بحث بنية الخطاب والنص في رواية القرمطي)‪ ،‬صٕ٘ٔ‬

‫‪252‬‬
‫مف خبلؿ ذلؾ اعتماد البناء العاـ لمرواية عمى تعدد الرواة المشاركيف في الحدث الروائي‪ ،‬والذيف‬
‫يستخدموف ضمير المتكمـ في التعبير عف ذواتيـ ومواقفيـ تجاه األحداث التي يشاىدونيا أو‬
‫يشاركوف فييا‪ ،‬وىذا مف أىـ سمات الرواية الجديدة التي تعتمد عمى تعدد الرؤى واألصوات‪،‬‬
‫وتختمؼ عف طبيعة الرواية التقميدية التي يسيطر عمييا صوت الراوي الواحد‪ ،‬باإلضافة إلى ذلؾ‬
‫يتضح مدى تأثر الكاتب بتقنية السيرة الذاتية‪ ،‬حيث إنو يمنح كؿ شخصية فرصتيا الكاممة‬
‫لمتعبير عف نفسيا بكؿ حرية‪ .‬ويعد ذلؾ تطو اًر واضحاً في بناء الرواية التاريخية التي تجعؿ‬
‫القارئ قريباً جداً مف الشخصية الروائية التاريخية‪ ،‬فيو يستمع إلى أفكارىا‪ ،‬ويبلمس أحاسيسيا‬
‫ومشاعرىا‪ ،‬ويحكـ عمى تصرفاتيا‪ ،‬وىذا الشيء لـ نجده في الروايات التاريخية التقميدية التي‬
‫يمثؿ فييا الراوي العميـ عنص ًار رئيسًا في السرد‪ ،‬ويشكؿ وسيطًا بيف الشخصيات الروائية ذات‬
‫المرجعية التاريخية والقارئ‪.‬‬

‫لعؿ أبرز مبلمح التجديد في البناء الفني لمرواية التاريخية عند أحمد رفيؽ عوض‪ ،‬اعتماد‬
‫الرواية عمى تقنية المفارقة بشكؿ كبير‪ ،‬وال شؾ أف السارد ىنا متأثر برواية الزيني بركات لجماؿ‬
‫الغيطاني التي وظفت ىذه التقنية بكثرة‪ ،‬إال أف المفارقة في القرمطي أخذت حي اًز كبي اًر في بناء‬
‫( ٔ)‬
‫لكنيما متقابمتاف‬ ‫الحدث الروائي‪ ،‬فػ "بنية الرواية تتوزع عمى لوحتيف شبو متقاربتيف في الحجـ"‬
‫صور الخميفة‬
‫في الفكر والمضموف‪ ،‬حيث تمثؿ الموحة األولى الفصوؿ مف (ٔ ‪ )ٛ-‬والتي تُ ّْ‬
‫المقتدر‪ ،‬الشرعي المقترف بالفساد والضعؼ بسبب الصراعات التي تمؤل قصره وسدنة حكمو‪،‬‬
‫بينما تعرض الموحة الثانية في الفصوؿ مف (‪ )ٔٗ- ٜ‬طبيعة أبي طاىر القرمطي‪ ،‬المتمرد‬
‫شرع لو ارتكاب الكثير مف األفعاؿ‬
‫صاحب الشخصية القوية المقرونة بالعقيدة الفاسدة‪ ،‬والتي تُ ّْ‬
‫الشنيعة‪ .‬الموحتاف السابقتاف تؤكداف حالة المفارقة العامة في النص الروائي‪ ،‬والتي تستمر في‬
‫التطور في جو درامي مشحوف مميء بالصراعات الداخمية والخارجية‪.‬‬

‫كذلؾ اعتمد البناء الروائي في رواية (عكا والمموؾ) عمى المفارقة بدرجة كبيرة‪ ،‬ومف ذلؾ‪:‬‬

‫‪ -‬المفارقة بيف حرص صبلح الديف عمى استعادة ببلد المسمميف مف يد الفرنجة‪ ،‬وبيف‬
‫غيره مف األمراء الذيف كانوا عمى استعداد لمصانعة الفرنجة واىدار كرامة األمة؛ مف‬
‫أجؿ أ ََمة أو َبدرة ماؿ أو قصر منيؼ‪.‬‬
‫‪ -‬المفارقة بيف دمامة الشكؿ وقبحو وبيف رفعة المكانة والدور في خدمة اإلسبلـ‬
‫والمسمميف عند كؿ مف القاضي الفاضؿ والمشطوب‪.‬‬

‫(ٔ) مقاربات نقدية (بحث بنية الخطاب والنص في رواية القرمطي)‪ ،‬صٕ٘ٔ‬

‫‪253‬‬
‫‪ -‬المفارقة بيف المكانة الرفيعة واالحتراـ الكبير لشخصية قراقوش العسكرية المحاربة في‬
‫عكا‪ ،‬وبيف صورتو اليزلية المضحكة عند الشعب المصري‪.‬‬
‫‪ -‬المفارقة بيف اتحاد الفرنجة رغـ أنيـ عمى الباطؿ‪ ،‬وفرقة المسمميف مع أنيـ عمى الحؽ‪.‬‬
‫‪ -‬المفارقة بيف اتحاد الفرنجة في محاربة وقتاؿ المسمميف‪ ،‬واختبلفيـ وتفرقيـ عند توزيع‬
‫الغنائـ‪.‬‬
‫‪ -‬المفارقة بيف المبادئ والمثؿ والغايات النبيمة التي يرفعيا الفرنجة شعا ًار‪ ،‬وبيف سموكيـ‬
‫العممي السيئ والفاسد والمخالؼ لكؿ ىذه الشعارات الرنانة‪.‬‬

‫إف وجود ىذا الكـ اليائؿ مف المفارقات أكسب الخطاب الروائي التاريخي روحاً درامية‬
‫مؤثرة‪ ،‬جعمتو أكثر حيوية واثارة وتساوقاً مع الواقع الذي يحمؿ الكثير مف المخالفات‬
‫والتناقضات‪.‬‬

‫َّ‬
‫شكؿ عنصر الصراع أحد مبلمح تطور الرواية التاريخية عند أحمد رفيؽ عوض‪ ،‬حيث‬
‫اعتمد عمى إبراز الصراع المركب‪ ،‬الذي يرتبط بتعدد الرؤى واألصوات‪ ،‬والتي تنظر لممواقؼ‬
‫مف زوايا م ختمفة‪ ،‬وال شؾ أف كاتبنا تأثر في ذلؾ برواية الزيني بركات لجماؿ الغيطاني التي‬
‫تجاوز فييا أشكاؿ الصراع البسيطة في الرواية التاريخية التقميدية والواقعية‪ .‬إف ما ّْ‬
‫يميز أحمد‬
‫رفيؽ عوض أنو جعؿ الصراع ممتداً في الزمف الحالي‪ ،‬ولـ يقصره عمى الزمف التاريخي (زمف‬
‫القصة التاريخية) وىذا ناتج عف حالة الترىيف الزمني التي سيطرت عمى رواياتو التاريخية‪،‬‬
‫وعمى ذلؾ فالصراع عند السارد ال ينتيي بنياية أحداث الرواية‪ ،‬بؿ إنو يبقى قائماً؛ ألف أسبابو‬
‫ركزت رواية القرمطي عمى الصراع الداخمي بيف أقطاب‬ ‫ودوافعو ما زالت قائمة ومستمرة‪ .‬وقد َّ‬
‫الح كـ‪ ،‬ىذا الصراع الذي يطيح بالدولة ويضعفيا‪ ،‬ويشجع الكثير مف الحركات المتمردة والفاسدة‬
‫مف الثورة عمييا وىزيمتيا‪ ،‬فالعدو في رواية القرمطي عدو داخمي‪ ،‬استغؿ ضعؼ الدولة وفسادىا‬
‫فاعتدى عمييا وسمبيا ىيبتيا وعزتيا وكرامتيا‪ ،‬وقد رأينا مثؿ ىذا الصراع الداخمي في رواية‬
‫الثائر األحمر لعمي أحمد باكثير والتي تتناوؿ ذات الموضوع (فساد مذىب القرامطة) إال أنو‬
‫كاف صراعاً تقميدياً بسيطاً انتيى مع نياية أحداث الرواية‪ .‬وقد تطور الصراع في رواية عكا‬
‫والمموؾ إذ يعرض فيو الكاتب صراعًا خارجيًا بيف العالـ العربي واإلسبلمي مف ناحية وبيف قوى‬
‫الغزو واالستعمار الصميبي مف ناحية أخرى‪ ،‬ىذا النوع مف الصراع الخارجي ليس جديدًا في حد‬
‫وتعرض لو‬
‫تعرض لو باكثير قبؿ ذلؾ في رواية (واإسبلماه)‪َّ ،‬‬
‫ذاتو عمى الرواية التاريخية‪ ،‬فقد َّ‬
‫نجيب محفوظ في رواية (كفاح طيبة)‪ ،‬إنما الجديد في طريقة تعامؿ السارد مع ىذا الصراع‪،‬‬
‫حيث اىتـ كؿ مف باكثير ومحفوظ بتصوير لحظات االنتصار ودحر االحتبلؿ‪ ،‬بينما حرص‬

‫‪254‬‬
‫أحمد رفيؽ عوض عمى تصوير أقسى لحظات اليزيمة وبياف أسبابيا‪ ،‬حيث انتيت روايتو‬
‫باستسبلـ عكا ووقوعيا في يد الصميبييف‪ .‬إف مثؿ ىذا الصراع الممتد يظير ضعؼ األنظمة‬
‫العربية وفسادىا في الماضي والحاضر‪ ،‬ورغـ اختبلؼ نمط الصراع بيف الروايتيف إال أنيما‬
‫تتفقاف في نتيجتو المتمثمة في اليزيمة البشعة‪.‬‬

‫ومف التحوالت البارزة في الرواية التاريخية عند أحمد رفيؽ عوض اعتماده عمى النيايات‬
‫المفتوحة‪ ،‬التي تترؾ الباب مشرعًا لمكثير مف األفكار والتخيبلت‪ ،‬وىو في ذلؾ َّ‬
‫يتفؽ مع ُك ّتاب‬
‫الرواية التاريخية الجديدة أمثاؿ جماؿ الغيطاني في الزيني بركات‪ ،‬ويختمؼ مع كتاب الرواية‬
‫نشط ذىف‬ ‫التاريخية التقميدية والواقعية الذيف كانوا يعتمدوف عمى النيايات المغمقة‪ ،‬التي ال تُ ّْ‬
‫القارئ وال تترؾ لو مجاالً لمتفكر أو التخيؿ‪ .‬وقد كانت النياية مفتوحة في رواية (القرمطي)‪ ،‬فإذا‬
‫انتيت رواية الثائر األحمر بتوبة حمداف قرمط وعودتو إلى الحكـ اإلسبلمي في إشارة واضحة‬
‫إلى انتصار الفكر اإلسبلمي عمى المذاىب الباطمة‪ ،‬فإف النياية في القرمطي كانت مفتوحة‬
‫( ٔ)‬
‫وكأف أحداث الرواية ما زالت ممتدة حتى الزمف‬ ‫حيث انتيت بقوؿ السارد‪" :‬الرواية مستمرة‪"...‬‬
‫الحالي‪ .‬كذلؾ تجسدت النياية المفتوحة في رواية (عكا والمموؾ) فرغـ استسبلـ عكا ودخوؿ‬
‫الصميبييف فييا‪ ،‬إال أنيـ لـ يحكموا سيطرتيـ عمى المدينة‪ ،‬وصبلح الديف والممؾ العادؿ ما زاال‬
‫( ٕ)‬
‫التي تنغص حياة الصميبييف وال تشعرىـ‬ ‫يرفضاف اليزيمة‪ ،‬ويحثاف عمى العمميات الفدائية‬
‫باالستقرار في عكا‪ ،‬وىا ىو القاضي الفاضؿ يرى أف الميداف ما زاؿ منصوبًا وأف الحرب لـ‬
‫( ٖ)‬
‫فيذه اليزيمة ال تمثؿ نياية المطاؼ‪ ،‬بؿ ىي جولة ستأتي بعدىا جوالت أخرى‪ ،‬يكوف‬ ‫تنتو بعد‬
‫يكوف فييا النصر حميفاً لممسمميف بإذف اهلل‪ .‬ال شؾ في أف ىذه النيايات المفتوحة تؤكد عمى‬
‫حالة الترىيف والتخطيب الزمني‪ ،‬حيث تثير في نفس القارئ الكثير مف األفكار والتخيبلت التي‬
‫تربطو بالزمف الحاضر‪ ،‬سواء في نياية رواية القرمطي التي ُّ‬
‫تدؿ عمى استمرار حالة القمع‬
‫والفساد واليزيمة‪ ،‬أو نياية رواية عكا والمموؾ التي تحث عمى رفض اليزيمة‪ ،‬وتدعو إلى العمؿ‬
‫الجاد لمخروج منيا‪ ،‬فسيطرة الصميبييف عمى عكا لـ تستمر تاريخيًا‪ ،‬وكذلؾ الحاؿ اآلف‪ ،‬فميما‬
‫طاؿ الزمف فبلبد مف زواؿ االحتبلؿ‪.‬‬

‫(ٔ) القرمطي‪ ،‬صٕٕٓ‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬صٔ‪ٕٙ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٕ٘ٙ‬‬

‫‪255‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬المغة وأساليب السرد‪:‬‬

‫تتمثؿ أبرز التحوالت المغوية عند أحمد رفيؽ عوض في طريقة استخدامو ألساليب السرد‬
‫بأنواعيا المختمفة‪ ،‬حيث إنو اعتمد عمى تعددية الرؤى واألصوات الروائية‪ ،‬ورغـ أف بعض ُك ّتاب‬
‫الرواية التاريخية الجديدة اعتمد عمى األصوات المتعددة في الرواية مثؿ جماؿ الغيطاني في‬
‫طور مف رؤيتيـ الفنية في‬
‫الزيني بركات‪ ،‬ورضوى عاشور في ثبلثية غرناطة إال أف كاتبنا قد َّ‬
‫تناوؿ المغة واالستعانة بأساليب السرد خاصة في رواية (عكا والمموؾ)‪.‬‬

‫اعتمد السارد في رواية (القرمطي) عمى الراوي التقميدي العالـ العارؼ‪ ،‬لكنو ليس مثؿ‬
‫الراوي في الرواية التاريخية التقميدية عند جورجي زيداف ومحمد فريد أبو حديد‪ ،‬إذ إنو لـ يصادر‬
‫حؽ أي شخصية مف الشخصيات في التعبير عف نفسيا والمشاركة في السرد‪ ،‬باستخداـ ضمير‬
‫المتكمـ و "يمكف القوؿ ىنا إف أحمد رفيؽ عوض مف كتابنا القبلئؿ الذيف يوازنوف بيف السارد‬
‫العميـ وبيف صوت الشخصية الروائ ية‪ ،‬بحيث يمكف لمقارئ أف يشاىد مف الخارج ومف الداخؿ‪،‬‬
‫( ٔ)‬
‫مما يحوؿ الشخصيات الورقية إلى شخصيات حقيقية نابضة"‪.‬‬

‫يمكف مبلحظة التطور الكبير الذي لحؽ بأساليب السرد عند أحمد رفيؽ عوض في رواية‬
‫(عكا والمموؾ) حيث إنو لـ يسيطر عمييا الراوي العميـ كحاؿ الروايات التاريخية السابقة كما‬
‫ذكرنا‪ ،‬بؿ ىيمف عمييا الراوي المشارؾ الذي يجعؿ لمشخصيات الروائية دو اًر فاعبلً ورئيساً في‬
‫عممية السرد‪ ،‬تعبر مف خبللو عف وجيات نظرىا الخاصة في األحداث باستخداـ ضمير‬
‫المتكمـ‪ ،‬وقد ظير ذلؾ في ستة فصوؿ مف الرواية ىي (ابف جبير‪ ،‬وابف شداد‪ ،‬وجوانا‪ ،‬وعمر‬
‫الزيف‪ ،‬وراشد الديف سناف‪ ،‬ومتجددات القاضي الفاضؿ) حيث منح السارد شخصياتو الروائية‬
‫الحرية الكاممة واالستقبلؿ الذاتي؛ لمتعبير عف مواقفيا المتباينة مف األحداث أو الشخصيات‬
‫تدخؿ منو‪ ،‬حتى إنو في الفصوؿ الثبلثة المتبقية (قراقوش‪ ،‬وسيؼ الديف‬ ‫ٍ‬ ‫األخرى بغير‬
‫المشطوب‪ ،‬وريتشارد) والتي سيطر عمييا الراوي العميـ الذي يستخدـ ضمير الغائب‪ ،‬ظيرت‬
‫أصوات الشخصيات بشكؿ جزئي‪ .‬وبالتالي فإف رواية عكا والمموؾ شكمت تطو اًر ممحوظًا في‬
‫طريقة عرض الرواية التاريخية الجديدة‪ ،‬إذ إنيا تجاوزت سيطرة الراوي العميـ‪ ،‬ومنحت الدور‬
‫الكبير لمشخصيات الروائية في سرد األحداث‪ .‬جمعت الرواية بيف أساليب السرد الثبلثة‬
‫(المتكمـ‪ ،‬والغائب‪ ،‬والمخاطب) مخالف ًة في ذلؾ ما اتبع قبميا مف أساليب سردية سواء عمى‬
‫"صور أحمد رفيؽ عوض‬
‫َّ‬ ‫مستوى الرواية التاريخية ذات االتجاه التقميدي أو الواقعي‪ ،‬وقد‬

‫(ٔ) مقاربات نقدية ( بحث كتابة التاريخ تأريخ لمتغيي ر في روايتي القرمطي وعكا والمموؾ)‪ ،‬ص‪ٚٛ‬‬

‫‪256‬‬
‫المعتدي كما صور المعتدى عميو بال تساوي‪ ،‬بمعنى أف المعتدي يممؾ مبررات لمعدواف كافية‪،‬‬
‫( ٔ)‬
‫مما يؤكد حرص الكاتب عمى الحيادية‬ ‫كما يممؾ المعتدى عميو مبررات لمدفاع كافية"‬
‫والموضوعية وعدـ التحيز لرؤية واحدة أو صوت معيف‪ ،‬بؿ إنو يعرض جميع الرؤى واألصوات‬
‫كما ىي مف أصحابيا‪ ،‬ويترؾ القرار والحكـ النيائي لمقارئ أو المتمقي‪ .‬وال شؾ في أف تعدد‬
‫األصوات داخؿ رواية عكا والمموؾ لو عبلقة برسالتيا التي تناقش أسباب اليزيمة والصراع‬
‫الحضاري ودور القيادة الفاعمة‪ ،‬وىذه مسائؿ يختمؼ حوليا الناس‪ ،‬وتتعدد فييا وجيات نظرىـ‪،‬‬
‫وبناء عمى ذلؾ فقد انسجـ تعدد الرؤى واألصوات كأسموب فني حديث مع مضموف الرواية‬
‫ً‬
‫وفكرتيا‪.‬‬

‫رغـ التحوؿ الذي لحؽ بأساليب السرد في الرواية التاريخية عند أحمد رفيؽ عوض‪ ،‬إال‬
‫أنو ال يخفى عمينا تأثره بأساليب جماؿ الغيطاني في سرد أحداث روايتو (الزيني بركات)‪،‬‬
‫ويظير ذلؾ بشكؿ واضح في رواية (عكا والمموؾ)‪ ،‬ويتمثؿ في االعتماد عمى الراوي الخارجي‪،‬‬
‫إذ يمثّْؿ ابف جبير في عكا والمموؾ شخصية الراوي الخارجي‪ ،‬وىو يشبو شخصية الرحالة‬
‫البندقي فياسكونتي جانتي في رواية الزيني بركات إلى حد كبير‪ ،‬فكبلىما رحالة تجوؿ في كثير‬
‫مف البمداف‪ ،‬وكبلىما يبدي وجية نظره في األحداث‪ ،‬وكبل النصيف الروائييف بدءا بأحاديثيما‬
‫وانتييا بيا‪ ،‬فقد انحصر ظيور ابف جبير في الفصميف األوؿ واألخير مف الرواية‪ ،‬كما أنو أسيـ‬
‫في بناء خاتمة مفتوحة ومرىنة لمحدث زمانيًا ومكانيًا‪ ،‬إذ يقوؿ عندما قرر العودة إلى ببلده‬
‫األصمية ‪-‬المغرب – مخاطبًا ومودعًا القاضي الفاضؿ ابف فمسطيف‪" :‬ببلدكـ ال تشبو الببلد‬
‫( ٕ)‬
‫األخرى‪ ،‬أعانكـ اهلل وقواكـ وثبتكـ"‪.‬‬

‫ومف مظاىر التحوؿ المغوي في الروايتيف قمة اعتماد السارد عمى لغة الحوار في مقابؿ‬
‫ىيمنة السرد عمى أسموبو‪ ،‬والكاتب في ذلؾ يختمؼ مع عمي أحمد باكثير الذي كاف يعتمد عمى‬
‫الحوار بشكؿ كبير في رواياتو التاريخية‪ ،‬ورغـ قمة الحوار عند أحمد رفيؽ عوض إال أنو كاف لو‬
‫ىاـ في إبراز صفات الشخصيات والتعبير عف نفسيا بشكؿ درامي مؤثر‪ ،‬وىو في معظمو‬‫دور ٌ‬
‫ٌ‬
‫يعتمد عمى الجمؿ القصيرة المكثفة ذات البعد اإلنساني‪ ،‬والتي تحمؿ الكثير مف الدالالت‬
‫والمعاني‪ .‬ولعؿ النظر إلى الحوار الذي كاف يدور بيف الخميفة المقتدر والجيشياري يبيف ذلؾ‪،‬‬
‫إذ إنو يدؿ عمى ضعؼ أمر الخميفة وخواء عزمو‪ ،‬فيو ال يممؾ أف يدفع عف نفسو شيئًا‪ ،‬وينتظر‬

‫(ٔ) مقاربات نقدية ( بحث كتابة ا لتاريخ تأريخ لمتغيير في روايتي القرمطي وعكا والمموؾ)‪ ،‬صٖ‪ٛ‬‬
‫(ٕ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٖ‪ٕٙ‬‬

‫‪257‬‬
‫موتو بكؿ ىدوء‪ ،‬حيث "سارع الجيشياري إلى وض ع يديو تحت إبط الخميفة ليسنده‪ ،‬لكف الخميفة‬
‫كاف ثقيبلً جداً‪ ،‬كاف الموت يتخمؿ جسده‪.‬‬

‫‪ -‬أنا مقتوؿ ال محالة!!‬


‫‪ -‬يا موالي تجمد أرجوؾ أف تتجمد‪.‬‬
‫‪ -‬أكاد ألمس الموت يا أبا عبد اهلل‪ ،‬أكاد ألمس الموت‪ ..‬إني أرى وجوه مف‬
‫( ٔ)‬
‫قتمتيـ‪"...‬‬
‫كما ُيظ ِي ُر المشيد الحواري الذي تـ بيف العالِميف ابف جبير واإلدريسي مدى األلـ الذي‬
‫يشعر بو اإلدريسي في غربتو‪ ،‬وشدة شوقو إلى وطنو وأىمو‪ ،‬حيث يذكر ابف جبير ىذا الحوار‬
‫بقولو‪:‬‬

‫"سألني ‪ :‬كيؼ سبتة؟!‬

‫قمت‪ :‬بخير‪ ،‬ىي سوؽ مزدحـ بيف بحر الروـ مف جية وبحر الظممات مف جية أخرى‪.‬‬

‫قاؿ وىو يخفي عينيو عني‪ :‬كـ اشتقت إلييا! إنيا تعذبني‪ ،‬أصحو في الميؿ‪ ،‬فأجد نفسي‬
‫ألعب في ساحاتيا ‪ ..‬أ نظر إلى بحرىا ‪ ..‬ىؿ ‪..‬‬

‫شرؽ صوتو بالدمع‪ ،‬قمت‪ :‬عد إذف!!‬


‫( ٕ)‬
‫قاؿ ‪ :‬ظمـ ذوي القربى يمنعني ‪." ...‬‬

‫اعتمد أحمد رفيؽ عوض في كتابة رواياتو التاريخية عمى المغة الفصحى وتجنب العامية‬
‫التي استعمؿ جماؿ الغيطاني بعضيا في الزيني بركات‪ ،‬وكاتبنا في ذلؾ مثمو مثؿ معظـ ُكتاب‬
‫الرواية التاريخية خاصة محمد فريد أبو حديد ونجيب محفوظ وعمي أحمد باكثير الذيف كانوا‬
‫يحرصوف عمى استخداـ المغة العربية الفصحى ‪ ،‬كما ارتبطت رواياتو التاريخية بمغة العصر‬
‫التاريخي‪ ،‬حيث وظَّؼ "طاقات المغة الستحضار البيئة الزمانية والمكانية واالجتماعية والسياسية‬
‫والدينية لمعصر"( ٖ) الذي يتناولو ويتعرض إليو‪ ،‬ولذلؾ وجدنا في رواية القرمطي عدد كبير مف‬
‫األلفاظ والمفردات التي تنتم ي إلى العصر العباسي سواء عمى مستوى األسماء واأللقاب‬

‫(ٔ) القرمطي‪ ،‬صٗ٘‬


‫(ٕ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٖٓ ‪ٖٔ-‬‬
‫(ٖ ) مقاربات نقدية (بحث بنية الخطاب والنص في رواية القرمطي)‪ ،‬صٖ٘ٔ‬

‫‪258‬‬
‫واألماكف مثؿ‪( :‬الخميفة المقتدر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬أبو بكر الصولي‪ ،‬الجيشياري‪ ،‬ابف العبلؼ‪ ،‬مؤنس‪،‬‬
‫الرقة‪ ،‬القصر‬
‫نازوؾ‪ ،‬شغب‪ ،‬الكيرمانة ثََم ْؿ‪ ،‬خصياف‪ ،‬جواري‪ُ ،‬مغنيات‪ ،‬بغداد‪ ،‬الكوفة‪ ،‬البصرة‪َّ ،‬‬
‫العامر بالشماسية‪ ،‬حانة بيراـ المجوسي‪ ،)..‬أو عمى مستوى الفرؽ اإلسبلمية مثؿ‪( :‬المعتزلة‪،‬‬
‫ض ْيرة‪ ،‬اليريسة‪ ،‬رائحة الكزبرة‪ ،‬رائحة‬
‫(الم َ‬
‫واألشاعرة‪ ،)..‬أو عمى مستوى األطعمة والروائح مثؿ‪ُ :‬‬
‫الزعفراف والعصفر‪ ،)..‬أو عمى مستوى األدوات والمبلبس مثؿ‪( :‬الكاغد المصري والعراقي‪،‬‬
‫طنافس‪ِ ،‬د ٌف زجاجي‪ ،‬غبللة حريرية‪ ،‬إبريسيـ‪ ،)..‬يضاؼ إلى ذلؾ ما يتعمؽ بمغة السياسة‬
‫والحكـ واإلدارة في ذلؾ العصر مثؿ خمع الخمفاء وتنصيبيـ‪ ،‬واستوزار الوزراء وعزليـ ومصاد ةر‬
‫أمواليـ وحبسيـ‪ ،‬كؿ ما سبؽ جعؿ لغة ىذه الرواية عباسية بامتياز وذات نكية خاصة‪ ،‬حيث‬
‫استطاع الكاتب أف يوظؼ طاقات المغة التاريخية بحرفية عالية كما رأينا‪.‬‬

‫كذلؾ ظيرت في لغة رواية (عكا والمموؾ) الكثير مف مفردات وتراكيب العصر األيوبي‬
‫وما تخممو مف حروب صميبية‪ ،‬تمثمت بعض أشكاؿ ىذه المغة في استدعاء أسماء الشخصيات‬
‫والمدف واألماكف التاريخية مثؿ‪( :‬صبلح الديف‪ ،‬والقاضي الفاضؿ‪ ،‬وبياء الديف قراقوش‪ ،‬وراشد‬
‫الديف سناف‪ ،‬والمركيز كونراد دي مونتفرات‪ ،‬والممؾ ريتشارد‪ ،‬والممؾ فيميب أغسطس‪ ،‬والبابا‬
‫كميستين وس الثالث‪ ،‬واألميرة جوانا‪ ،‬ومدينة القدس‪ ،‬وعكا‪ ،‬وصور‪ ،‬وجنوه‪ ،‬وبيزه‪ ،‬وبحر الروـ‪..‬‬
‫الخ)‪ .‬وقد َّ‬
‫عبر السارد مف خبلؿ المغة عف طبيعة الحياة االجتماعية‪ ،‬كما استخدـ بعض‬
‫المفردات التي تعكس الحياة العسكرية في ذلؾ الوقت مثؿ‪( :‬ممنجاتو‪ ،‬كزاغنده‪ ،‬الميرة‪ ،‬اليزؾ‪،‬‬
‫والجفنة‪ ،‬والقياسر‪ ،‬والزنبورؾ‪ ،‬و َّ‬
‫الزراقة‪ ،‬و َّ‬
‫النفاطة‪ ،‬والطيمساف‪ ،‬والشانيات‪ ،‬وطنافس‪ ،)..‬وتبدو‬
‫المغة األيوبية أيضاً في شعارات المسمميف مثؿ‪( :‬يا لئلسبلـ‪ ..‬يا لئلسبلـ)‪ ،‬وىتافات الصميبييف‬
‫مثؿ‪( :‬ليتبارؾ الرب‪ ..‬ليتبارؾ الرب!)‪ ،‬وتبرز لغة الصميبييف عمى ألسنة بعض قاداتيـ مثؿ‪:‬‬
‫(المحمدييف والبرابرة واألتراؾ الكفار في وصؼ المسمميف‪ ،‬والقبر المقدس‪ ،‬وصميب الصمبوت‪،‬‬
‫وليباركنا الرب‪ ،)..‬وال شؾ في أف استعماؿ الكاتب ليذه المغة التاريخية في كبل الروايتيف يظير‬
‫مدى تمكنو وسعة اطبلعو وثقافتو بما يرتبط بيذيف العصريف (العباسي واأليوبي)‪.‬‬

‫ولعؿ أجمؿ ما يميز لغة أحمد رفيؽ عوض ىو "فصاحتيا وشاعريتيا وسبلستيا ووضوح‬
‫( ٔ)‬
‫فيي رغـ تاريخيتيا لغة عادية‬ ‫دالالتيا وامتبلئيا بالعواطؼ المبلئمة لمشخصيات واألحداث"‬
‫وبسيطة سيمة الفيـ تخاطب معظـ القراء‪ ،‬فالقارئ البد أف يعيش ويرى ما كاف يجري في كبل‬
‫العصريف حتى يتمثؿ الخطاب الروائي ويفيـ مبتغاه بشكؿ واضح‪.‬‬

‫(ٔ) مقاربات نقدية (بحث بنية الخطاب والنص في رواية القرمطي)‪ ،‬ص‪ٖٔٛ- ٖٔٚ‬‬

‫‪259‬‬
‫تميز بالتنوع المغوي‪ ،‬وتعدد مستويات‬‫ولـ تقتصر لغة السارد عمى المغة التاريخية‪ ،‬بؿ إنو َّ‬
‫وأشكاؿ المغة التي يستخدميا‪ ،‬حيث إنو وظَّؼ عدداً مف األشكاؿ والتقنيات المغوية الحديثة التي‬
‫استعاف بيا غي هر مف كتاب الرواية التاريخية السابقيف‪ ،‬مثؿ تقنية المونولوج الداخمي والحديث مع‬
‫( ٕ)‬ ‫( ٔ)‬
‫التي استخدميا كؿ مف نجيب محفوظ في‬ ‫الحمـ أو لغة المنامات واألحبلـ‬
‫النفس ‪ ،‬وتقنية ُ‬
‫وكثُر استخداميا عند رضوى عاشور في‬ ‫(كفاح طيبة) وعمي أحمد باكثير في (واإسبلماه) َ‬
‫(ثبلثية غرناطة)‪ ،‬باإلضافة إلى المغة الصوفية( ٖ)‪ ،‬ولغة الرسائؿ( ٗ)‪ ،‬ولغة الخطابة( ٘)‪ ،‬ولغة‬
‫( ‪)ٙ‬‬
‫التي ظيرت عند جماؿ الغيطاني بكثرة في (الزيني بركات)‪ ،‬واستخدميا كاتبنا‬ ‫النداءات‬
‫لمتعبير عف كذب السمطة الحاكمة وفضح قمعيا وفسادىا‪ ،‬كما استعمؿ السارد المغة الساخ ةر‬
‫التي وقفنا عمييا عند نجيب الكيبلني في (عمر يظير في القدس)‪ ،‬وعند رضوى عاشور في‬
‫(ثبلثية غرناطة)‪ ،‬وقد ظيرت ىذه المغة عند كاتبنا في رواية (القرمطي) بوضوح عمى لساف أبي‬
‫طاىر القرمطي وىو يسخر مف الخميفة المقتدر بقولو‪" :‬الخميفة المقتدر‪ ..‬يقضي نيا هر في السكر‬
‫( ‪)ٚ‬‬
‫كما قاؿ أبو العباس –أحد‬ ‫ومطاردة غممانو وجواريو‪ ،‬وفي الميؿ يستمع إلى ضراط أناس عنده"‬
‫( ‪)ٛ‬‬
‫كذلؾ برزت‬ ‫القرامطة ‪" :-‬ممف تنتظر الخطر‪ ،‬الخميفة المقتدر ال يحكـ حتى عمى جواريو"‪.‬‬
‫لغة السخرية في رواية (عكا والمموؾ) في وصؼ القاضي الفاضؿ لفساد بعض القادة الذيف‬
‫ارتبطت أسماؤىـ باليزيمة‪ ،‬إذ نجده يقوؿ‪" :‬ركف الديف‪ ،‬المظفر‪ ،‬أبو المنصور عباس بف تميـ ‪-‬‬
‫يا ليذا االسـ الفخـ ‪ -‬أعجبو التد بير‪ ،‬فأمر ابنو ناصر الديف –اسـ فخـ آخر ‪ -‬أف يدبر ذلؾ مع‬
‫( ‪)ٜ‬‬
‫ىنا يسخر القاضي الفاضي مف المفارقة‬ ‫الخميفة الظافر‪ ،‬الذي أدمف الغمماف والندماف معاً"‪.‬‬
‫التي تجمع بيف داللة االسـ الفخمة القوية وبيف السموؾ الفعمي لمشخصية المقترف باليزيمة‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬صٗ٘‪ ،‬وعكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ ،ٗٛ‬صٖ‪ ،ٙ‬صٗٗٔ‪ ،‬ص‪ٕ٘ٚ‬‬
‫(ٕ) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬صٗ‪ ،ٛ‬وعكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ ،ٕٙ‬صٖٕٔ‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ ،ٜٔ‬صٕٔ‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬صٖ٘‪ ،‬وعكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٕٔٛ‬‬
‫(٘) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬صٔ‪ ،ٚ‬وعكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٕٜ٘- ٕ٘ٛ‬‬
‫(‪ )ٙ‬انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬ص‪ ،ٜٗ‬وعكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٕٙٚ‬‬
‫(‪ )ٚ‬القرمطي‪ ،‬ص‪ٔ٘ٚ‬‬
‫(‪ )ٛ‬القرمطي‪ ،‬ص‪ٔ٘ٛ‬‬
‫(‪ )ٜ‬عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٕٙٚ‬‬

‫‪261‬‬
‫والعبث وااللتفات إلى الشيوات والممذات‪ ،‬ىذه المغة الساخ ةر تحمؿ الكثير مف م ار ةر الوجع واأللـ‬
‫المقروف بمشاعر الحزف واألسى عمى حاؿ ىذه األمة في الماضي والحاضر‪.‬‬

‫تمكف الباحث مف الوقوؼ عمى عدد مف األشكاؿ والتقنيات المغوية الجديدة التي‬
‫استخدميا أحمد رفيؽ عوض في كتابة رواياتو التاريخية‪ ،‬والتي شكمت تطو اًر واضحاً في أسموب‬
‫الكاتب‪َّ ،‬‬
‫وميزتو عف غيره مف الروائييف‪ ،‬ومف أبرزىا ىذه األشكاؿ ما يأتي‪:‬‬

‫‪ - 7‬المغة األسطورية‪:‬‬

‫ظيرت ىذه المغة في رواية (القرمطي) في أثناء التعرض لشخص ية أبي طاىر القرمطي‬
‫الذي يحاوؿ إ قناع أتباعو بمذىبو الفاسد وبألوىيتو عف طريؽ عدد مف العجائب الباطمة‬
‫والمكذوبة التي ينشرىا بيف جنوده حيث يقوؿ أبو حفص –أحد عمماء القرمطي ‪ -‬مخاطباً الجند‪:‬‬
‫"إف عاصفة الصحراء ما ىي إال عمؿ الشيطاف واألرواح الرديئة التي ترغب في رد الجند عف‬
‫واجبيـ وقدرىـ‪ ..‬ولكف أبا طاىر صارع تمؾ األرواح وانتصر عمييا‪ ..‬ىؿ شاىدتـ أبا طاىر وىو‬
‫( ٔ)‬
‫في كامؿ زينتو‪ ..‬ىؿ رأيتـ أنو قد تأثر أو اىتز‪."..‬‬

‫كما وردت ىذه المغة األسطورية في رواية (عكا والمموؾ) في وصؼ قدرات قراقوش‬
‫الخارقة لمعادة‪ ،‬التي رأى المصريوف فييا تجاو ًاز لقدرات البشر‪ ،‬حتى وصؿ بيـ األمر إلى ربطو‬
‫بالجف؛ لنشاطو ومثابرتو في العمؿ‪ ،‬وسرعة تحقيقو لؤلىداؼ العمرانية المتمثمة في بناء األسوار‬
‫والقبلع‪ ،‬ثـ إنيـ نفوا عنو الطبيعة اإلنسانية والغرائز اآلدمية ‪" ..‬فقد قيؿ عنو إنو عمى صمة‬
‫بالجف الذي بنى لسميماف ممكو؛ ذلؾ أف ىذا الرومي استطاع في فترة وجي ةز أف يبني بأمر مف‬
‫صبلح الديف قمعة ميولة ظاىر القاىرة عمى جبؿ المقطـ‪ ،‬وأف يبني أسوار المدينة في غمضة‬
‫عيف‪ ،‬وقذؼ بو صبلح الديف إلى االسكندرية ليمنع عنيا أساطيؿ الروـ والفرنجة عمومًا‪ ،‬ففعؿ‬
‫قراقوش الفعؿ ذاتو وفي الوقت ذاتو‪ ..‬إنو يحكـ الجف‪ ،‬فيو ال يناـ الميؿ‪ ،‬وال يأكؿ وال يشرب‪ ،‬وال‬
‫( ٕ)‬
‫كذلؾ استخدـ السارد ىذه المغة في وصفو لشخصية (سيؼ الديف‬ ‫يضحؾ‪ ،‬ولـ يتزوج"‪.‬‬
‫المشطوب) حيث يقوؿ‪" :‬المشطوب رجؿ مخيؼ لو وجياف يبدواف كأنيما ممتصقاف ببعضيما‬
‫دوف تنسيؽ أو انطباؽ تاـ بيف الجزئيف‪ ،‬وىو رجؿ ضخـ الجثة يأكؿ األطفاؿ الصغار‪ ،‬ولو‬
‫سيطرة عمى الجف والشياطيف‪ ،‬ويقاؿ إف أمو تزوجت شيطانًا في إحدى جباؿ العراؽ البعيدة‪،‬‬

‫(ٔ) القرمطي‪ ،‬ص‪ٜٔٛ‬‬


‫(ٕ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٜٗ- ٗٛ‬‬

‫‪261‬‬
‫( ٔ)‬
‫وترد ىذه المغة أيضاً في وصؼ أتباع‬ ‫وليذا؛ أتت بو ىكذا‪ :‬وجو شيطاف‪ ،‬وجسـ إنساف"‪.‬‬
‫(راشد الديف سناف) لقدراتو العجيبة‪ ،‬مما يدؿ عمى فساد معتقدىـ الباطني ويظير ذلؾ عمى‬
‫لساف عمر الزيف في قولو‪" :‬قيؿ لي إف موالنا يمشي في الميؿ عمى أسوار القمعة‪ ،‬يق أر النجوـ‬
‫ويحدث أرواحاً يعرفيا‪ ،‬وانو –في بعض األحياف ‪ -‬يفرد جناح يو‪ ،‬ويقفز عف السور‪ ،‬ويغيب في‬
‫( ٕ)‬
‫الظبلـ‪ ،‬ويتحوؿ إلى نقطة ضوء تتوغؿ في العتمة‪"..‬‬

‫ويرى الباحث أف الكاتب قد وفؽ في استخداـ ىذه المغة في جانبيف‪ ،‬يتمثؿ الجانب األوؿ‬
‫في أنو نجح في التعبير عف كذب وضبلؿ المذاىب الفاسدة مثؿ القرامطة والباطنية اإلسماعيمية‬
‫الذيف يعمموف عمى خداع الناس مف خبلؿ نشر وترويج عدد مف الخرافات والعجائب األسطورية‬
‫المرتبطة بزعمائيـ؛ لتضفي عمييـ ىالة مف القدسية التي تسيـ في إقناع الناس والتأثير عمييـ‪،‬‬
‫أما الجانب اآلخر فيرتبط في التعبير عف بساطة وسطحية التفكير عند عامة الناس في تمؾ‬
‫العصور‪ ،‬حيث إنيـ يربطوف بيف تحقيؽ األىداؼ الكبي ةر وبيف العوالـ األسطورية العجيبة‪ ،‬كما‬
‫حدث في وصؼ المصرييف لجيود قراقوش العمرانية‪ .‬وال يخفى أف استخداـ السارد لمفعؿ (قيؿ)‬
‫وىو إحدى الصي التراثية يكشؼ عف رفضو لمثؿ ىذه األفكار التي رددىا الناس في الماضي‬
‫وقد يرددىا البعض في الحاضر‪.‬‬

‫‪ - 6‬المغة المخادعة أو لغة المفاوضات‪:‬‬

‫مف األشكاؿ المغوية الجديدة التي تـ توظيفيا في الرواية التاريخية عند أحمد رفيؽ‬
‫عوض‪ ،‬وقد ظيرت ىذه المغة المخادعة في رواية القرمطي بشكؿ واضح في المشيد الحواري‬
‫الذي جمع بيف أبي بكر الصولي –أحد رجاؿ الخميفة المقتدر ‪ -‬وأبي طاىر القرمطي في الفصؿ‬
‫األخير مف الرواية‪ ،‬حيث يفتقد ىذا الحوار لمغة المنطؽ‪ ،‬ويحمؿ الكثير مف أكاذيب القرامطة‪،‬‬
‫كما أنو يدؿ عمى االستيزاء بالحج والحجيج‪ ،‬ويظير ذلؾ فيما يأتي‪:‬‬

‫"قاؿ الصولي بما يشبو الغضب‪ ،‬واف بقي في حدود المياقة‪:‬‬

‫‪ -‬قمت إف اسمي أبو بكر‪ ،‬أما ما جئت مف أجمو فيو ما أريد أف أعرفو منكـ‪ ..‬فماذا‬
‫تريدوف أنتـ؟!‬

‫‪ -‬قاؿ أبو حفص‪ :‬جئنا لمحج‪.‬‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٓ‪ٔٙ‬‬


‫(ٕ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص٘‪ٔٙ‬‬

‫‪262‬‬
‫‪ -‬قاؿ أبو بكر‪ :‬ولكف شعائر الحج ال تبدأ مف ىنا‪ .‬ىذه المزدلفة‪ ،‬وكاف يجدر بكـ أف‬
‫تأتوا مكة مف جية الشرؽ‪.‬‬

‫قاؿ أبو حفص‪ :‬لقد أخطأنا الطريؽ‪.‬‬

‫قاؿ أبو بكر‪ :‬فما لكـ غير محرميف‪.‬‬

‫قاؿ أبو حفص‪ :‬فاتنا الوقت‪.‬‬

‫‪ -‬قاؿ أبو بكر وقد شعر أف الحوار مجرد ميزلة‪ :‬فماذا تريدوف؟!‬

‫‪ -‬قاؿ أبو طاىر‪ :‬الحج‪ .‬ال شيء غير الحج‪.‬‬

‫‪ -‬قاؿ أبو بكر بغضب حقيقي‪ :‬ال تستطيعوف الحج اآلف‪.‬‬

‫‪ -‬قاؿ أبو طاىر‪ :‬فما الذي يمنعنا؟!‬

‫قاؿ أبو بكر‪ :‬ورائي ليس أقؿ مف ثبلثيف ألؼ رجؿ‪ ،‬كميـ يرجوف الشيادة‪.‬‬

‫تدخؿ أبو حفص بمطؼ‪ :‬قد ال نستطيع الحج‪ ،‬ولكننا نستطيع المرور‪ ..‬كؿ ما نطمبو‬
‫( ٔ)‬
‫المرور مف مكة فقط"‪.‬‬

‫يتضح مف الحوار السابؽ أف لغة أبي حفص ‪-‬وىو أحد رجاؿ القرمطي ‪ -‬تحمؿ بيف‬
‫بل في نياية الرواية‬
‫طياتيا االستيانة بالمحاور اآلخر واضمار الغدر واالنتقاـ‪ ،‬وىذا ما حصؿ فع ً‬
‫عندما أريقت دماء الحجاج بكؿ برود‪.‬‬

‫كذلؾ ترد ىذه المغة في رواية عكا والمموؾ بيف الممؾ العادؿ ووفد الصميبييف الذي جاء‬
‫إلتماـ اتفاقية الصمح بعد سقوط عكا‪ ،‬حيث يظير مف خبلؿ ىذه المغة حالة انعداـ الثقة بيف‬
‫الطرفيف‪ ،‬باإلض افة إلى إضمار الصميبييف لمغدر‪" .‬قاؿ ليـ‪ :‬نحف نفي بوعودنا واتفاقاتنا‪ ،‬كممتنا‬
‫ىي كممتنا‪ ،‬وليذا نطمب إليكـ أف تسممونا أسرانا ىذا اليوـ لنسممكـ ما ُعّْي َف لكـ ىذا الشير‪.‬‬

‫قاؿ مقدميـ وكاف يدعى "جيرار"‪ :‬فإذا رفضنا!‬

‫(ٔ) القرمطي‪ ،‬صٕٓٔ ‪ٕٔٔ-‬‬

‫‪263‬‬
‫قاؿ العادؿ بيدوء‪ :‬تعطوننا رىائف مف عندكـ لنطمئف إلى أف أسرانا سيطمقوف في نياية‬
‫الشير الثالث‪.‬‬

‫قاؿ جيرار وىو كريو المنظر فظ الوجو‪ :‬فإذا رفضنا!‬

‫قاؿ العادؿ بابتسامة‪ :‬ال تتسمموف باقي الماؿ‪.‬‬

‫قاؿ جيرار بجرمو الكريو‪ :‬ال نوافؽ عمى ىذا‪ ،‬عميكـ أف تسممونا مالنا ليذا الشير‪ ،‬وتقنعوا‬
‫بكممتنا‪ :‬إننا سنسممكـ أسراكـ في نياية الشير الثالث‪.‬‬

‫قاؿ العادؿ‪ :‬أي‪ ،‬إنكـ تطالبوف بكؿ شيء حتى تسممونا أسرانا‪ ...‬ما الذي يضمف؟‬

‫قاؿ جيرار بصوتو المنكر‪ :‬كممتنا ىي كممتنا‪.‬‬

‫قاؿ العادؿ‪ :‬ال نوافؽ‪ .‬أعطونا رىائف لنصدؽ‪.‬‬

‫قاؿ جيرار‪ :‬ال نعطيكـ‪ ،‬وىذا كبلـ المموؾ األخير‪.‬‬

‫قاؿ العادؿ‪ :‬إذاً في نيتكـ الغدر!‬


‫( ٔ)‬
‫قاؿ جيرار‪ :‬وأنتـ في نيتكـ الغدر وسأنقؿ ذلؾ إلى المموؾ واألمراء الذيف ينتظرونني"‪.‬‬

‫ويبلحظ الباحث أف ورود ىذه المغة الماك ةر والمخادعة في آخر الروايتيف‪ ،‬وما تبلىما مف‬
‫تقتيؿ لممسمميف‪ ،‬إنما ىو تأكيد عمى استمرار حالة الصراع بيف الحؽ والباطؿ‪ ،‬وبيف الشرؽ‬
‫والغرب حتى زمننا الحاضر‪ ،‬فيذا الصراع لـ ِ‬
‫ينتو بعد‪ ،‬كذلؾ فإف ىزيمة المسمميف وانحدارىـ‬
‫وتراجعيـ لـ ِ‬
‫ينتو أيضاً‪ ،‬لذلؾ كاف ليذا النمط المغوي دور فاعؿ توضيح فكرة الرواية وايصاؿ‬
‫رسالتيا إلى جميور القراء‪.‬‬

‫‪ - 4‬لغة العممال والمثقفين‪:‬‬

‫لغة راقية فاىمة واعية‪ ،‬بعيدة عف الفظاظة‪ ،‬ىي لغة عقبلنية إلى درجة كبي ةر تعبر عف المستوى‬
‫الفكري والثقافي العالي الذي وصمت إليو ىذه الشخصيات‪ ،‬وقد اختمفت عف لغة العمماء في‬
‫الروايات التاريخية السابقة خاصة عند عمي أحمد باكثير في رواية (واإسبلماه) حيث كاف يييمف‬
‫عمييا الخطابية والمباشرة والصوت المرتفع عالي النبرات‪ ،‬أما لغة العمماء عند أحمد رفيؽ‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٕٜٓ- ٕٜٛ‬‬

‫‪264‬‬
‫عوض فقد أصبحت أكثر عمقاً وتحميبلً لشتى األمور‪ ،‬ثـ إنيا كانت ذات بعد فمسفي ىادئ‬
‫وقور بعيد عف الخطابية‪ .‬وتظير ىذه المغة بشكؿ واضح في رواية القرمطي عند ٍّ‬
‫كؿ مف‬
‫( ٔ)‬
‫ومف أمثمة ذلؾ ما ورد عمى لساف الصولي‬ ‫(الصولي‪ ،‬وابف دريد‪ ،‬وابف العبلؼ والجيشياري)‬
‫في أثناء حوا هر مع الخميفة المقتدر حوؿ األشاع ةر والمعتزلة حيث‪:‬‬

‫"كاف الصولي يقوؿ‪ :‬المعتزلة يعتقدوف بأف أفعاؿ اإلنساف مخموقة لو وما تولد عنيا مخموؽ لو‪،‬‬
‫حر فيما يفعؿ وفيما يترؾ‪ .‬وكذلؾ ما يتولد عف فعمو مف خواص في األشياء‬
‫أيضًا‪ ..‬اإلنساف ّّ‬
‫مف فعمو‪ ،‬أيضًا‪.‬‬

‫قاؿ المقتدر‪ :‬ولكف اإلنساف ليس ح اًر تماماً‪..‬‬

‫قاؿ الصولي‪ :‬وىذا ما جعؿ األشعري يعمف عمى الناس رفضو لممعتزلة‪.‬‬

‫قاؿ المقتدر‪ :‬وماذا قاؿ األشعري في ذلؾ؟!‬

‫قاؿ الصولي مستجمعًا ذاكرتو‪ :‬قاؿ األشعري بما معناه‪ :‬إف أفعاؿ العباد كميا بإرادة اهلل ومشيئتو‪،‬‬
‫وفعؿ العبد بتقدير اهلل‪ ،‬وىو تحديد كؿ مخموؽ بحده الذي يوجد مف حسف وقبح وضر وما يحويو‬
‫( ٕ)‬
‫مف زماف ومكاف وما يترتب عميو مف ثواب وعقاب"‪.‬‬

‫كما تظير ىذه المغة أيضًا عند ثبلث شخصيات روائية في رواية (عكا والمموؾ) ىي‬
‫سئؿ عف‬ ‫شخصية ابف جبير‪ ،‬وابف شداد‪ ،‬والقاضي الفاضؿ‪ ،‬ومف أمثمتيا قوؿ ابف جبير عندما ُ‬
‫موقفو مما يحدث في األندلس قاؿ‪" :‬أقوؿ بما جاء في كتاب اهلل‪" :‬وتمؾ األياـ ندواليا بيف‬
‫الناس"‪ ..‬الدوؿ ال تقوـ عمى الغمبة فقط‪ ،‬كما أنيا ال تنيزـ بالغمبة فقط‪ ،‬ىناؾ ما ىو أكثر مف‬
‫ىذا‪ ..‬أىؿ األندلس مختمفوف فيما بينيـ‪ ،‬أما المرابطوف فقد تيتكوا في أواخر أياميـ‪ ،‬أما دولة‬
‫موالنا المنصور‪ ..‬فيي دولة تطمح إلى ذلؾ الذي يجعؿ مف الدوؿ باقية‪ ،‬وأقصد بذلؾ اإليماف‬
‫( ٖ)‬
‫ونممس في المغة السابقة الحكمة‪ ،‬وحسف التحميؿ‪ ،‬وشمولية الفكر‪ ،‬وعدـ االندفاع‪.‬‬ ‫والعمؿ بو"‬
‫ويمكننا الوقوؼ أيضاً عند لغة ابف شداد –قاضي عسكر صبلح الديف وقاضي القدس ‪ -‬في‬
‫وصفو لمفرنجة حيث يقوؿ‪" :‬قد رأيت الفرنجة عف قرب‪ ،‬فوجدتيـ ال يوقروف أحداً‪ ،‬ويميموف إلى‬
‫الشقاؽ أكثر مف ميميـ إلى االتفاؽ‪ ،‬وفييـ غمظة وجبلفة‪ .‬أجسادىـ جميمة ولكف أخبلقيـ قبيحة‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬صٖٔٔ ‪ٔٔٛ-‬‬


‫(ٕ) القرمطي‪ ،‬صٗٔٔ‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬صٕ٘‬

‫‪265‬‬
‫غاية الق بح‪ ،‬ونعوذ باهلل مف قوؿ أكثر مف ذلؾ‪ ،‬وكفى بالتمميح عف التصريح"‪ )ٔ (.‬مف خبلؿ ىذه‬
‫المغة نرى قمة الرقي األخبلقي‪ ،‬فابف شداد يتحرز مف الوقوع في الخطأ أو فحش القوؿ حتى في‬
‫وصؼ أعدائو‪ .‬وتظير المغة التي يستخدميا العمماء في رواية عكا والمموؾ اىتماميـ بشأف‬
‫المسمميف‪ ،‬ومرافقتيـ لصبلح الديف‪ ،‬وحثيـ عمى الجياد ومشاركتيـ فيو‪.‬‬

‫‪ - 3‬لغة الفظاظة‪:‬‬

‫ىي لغة قاسية وحادة وجارحة أحياناً‪ ،‬فييا الك ثير مف الشدة والخشونة والتجيـ‪ ،‬وقد‬
‫استخدميا الكاتب في رواياتو التاريخية‪ ،‬فنجدىا في رواية القرمطي‪ ،‬ومف أمثمتيا قوؿ السارد في‬
‫صور اقتحاـ الجند لو‪" :‬القصر العامر امرأة فاجرة‪ ،‬وخصياف غير‬
‫وصؼ القصر العامر حيف َّ‬
‫( ٕ)‬
‫كذلؾ تظير ىذه المغة الفجة في الحوار بيف الخميفة القاىر ونازوؾ –‬ ‫قادريف عمى شيء"‪.‬‬
‫رئيس الشرطة ‪ -‬حيث "استرسؿ الخميفة بالضحؾ كما أراد تماماً‪ ،‬قاؿ مف بيف لياثو‪ :‬ألست تدفع‬
‫لمنساء لِ ينشرف بيف الناس أنؾ فحؿ ال بغؿ!! ‪ ..‬مف قمة يأسو وغضبو صاح نازوؾ‪ :‬أييا‬
‫( ٖ)‬
‫إف اس تخداـ ىذه المغة‬ ‫الس ّك ير‪ ،‬ليينأ المسمموف بؾ‪ ..‬واهلل لوال مؤنس لقتمتؾ اآلف"‬
‫المجرـ‪ّْ ،‬‬
‫يظير مدى اإلسفاؼ الذي أصاب أعمى قمة الدولة العباسية مما أدى إلى ضعفيا وىوانيا‪ .‬وفي‬
‫رواية عكا والمموؾ نرى الكثير مف النماذج المغوية الفظة‪ ،‬والفرؽ ىنا أف ىذه الفظاظة والقسوة‬
‫كانت في معظميا موجية إلى الصميبييف في مواقؼ الصراع المختمفة‪ ،‬وكانت تصدر عف‬
‫شخصيات عسكرية شديدة تناسبيا وتنسجـ مع طبيعتيا وطبيعة الموقؼ الذي تُقاؿ فيو‪ ،‬ومف‬
‫ذلؾ ُّ‬
‫رد البحار المصري يعقوب أبو الراضي ع مى الصميبييف عندما طالبوه باالستسبلـ بقولو‪:‬‬
‫"أنتـ يا أوالد القحبة‪ ،‬مف أي ببلد كنتـ‪ ،‬ومف أي أرحاـ فاسقة جئتـ‪ ،‬واهلل لف نستسمـ لكـ ولو‬
‫( ٗ)‬
‫وتصدر مثؿ ىذه المغة بكثرة عف شخصية المشطوب وىو أحد القادة البارزيف‬ ‫متنا جميعًا!"‬
‫في جيش صبلح الديف‪ ،‬ومف ذلؾ قولو‪" :‬المعنة! لـ يعد العواموف بعد مف معسكر السمطاف‬
‫( ٘)‬
‫وىو‬ ‫بالرد‪ ،‬والحماـ لـ يعد يصؿ بسبب سياـ أوالد الفاج ةر الذيف حوطوا عكا مف البر والبحر"‬
‫يصؼ الكندىري –أحد مموؾ الصميبييف ‪ -‬بقولو‪" :‬المعيف ابف المعيف‪ ،‬لو قمب سمحفاة منتنة‪ ،‬وجمد‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٗ‪ٚ‬‬


‫(ٕ) القرمطي‪ ،‬صٔ‪ٙ‬‬
‫(ٖ) القرمطي‪ ،‬صٓ‪ٚ‬‬
‫(ٗ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٜٔٔ‬‬
‫(٘) عكا والمموؾ‪ ،‬صٖٔٔ‬

‫‪266‬‬
‫( ٔ)‬
‫كما تظير ىذه المغة أيضاً عمى ألسنة الصميبييف في‬ ‫نممة سوداء‪ ،‬وعمى صرصار الخراء"‪.‬‬
‫السخرية مف المسمميف والحط مف شأنيـ‪ ،‬ومف ذلؾ وصؼ الكندىري لممسمميف بقولو‪" :‬أنيـ‬
‫يغسموف مؤخراتيـ بالماء بأيدييـ‪ ،‬وأنيـ يرفعوف مؤخراتيـ في اليواء عند صبلتيـ‪ ،‬وأف ىناؾ‬
‫عبلقة بيف األمريف‪ ،‬وأف المسمميف ال يشربوف الخمر خوفاً مف الضراط الذي يمنعيـ مف‬
‫( ٕ)‬
‫ال شؾ في أف استخداـ السارد ليذا النمط المغوي يوحي بواقعية األحداث وما يرتبط‬ ‫الصبلة"‪.‬‬
‫بيا مف حوارات‪ ،‬كما أنو يظير مصداقية الكاتب وحياديتو في آف واحد‪.‬‬

‫‪ - 5‬المغة الجنسية‪:‬‬

‫يمثّْؿ ابتعاد السارد عف لغة اإلثارة الجنسية أحد التحوالت المحمودة التي تحسب لو‪ ،‬وىو‬
‫في ذلؾ يختمؼ عف جماؿ الغيطاني الذي كاف يكثر مف التفصيؿ في تصوير المواقؼ الجنسية‬
‫في الزيني بركات‪ ،‬ولعؿ كاتبنا في ذلؾ كاف متأث اًر بمغة عمي أحمد باكثير الذي كاف يتجنب‬
‫تصوير ال مشاىد الجنسية الفاضحة في رواية الثائر األحمر‪ ،‬حيث آثر أحمد رفيؽ عوض‬
‫التصوير العاـ ليذه المواقؼ دوف تفصيؿ مثير أو جارح وخادش لمحياء‪ ،‬ونجد ذلؾ في رواية‬
‫القرمطي عندما أراد الكاتب تصوير المقاء الجنسي الذي َّتـ بيف "نازوؾ" –صاحب الشرطة ‪-‬‬
‫فعبر عف ذلؾ بقولو‪" :‬في العتمة‪،‬‬ ‫والجارية "ثََم ْؿ"‪ ،‬والذي كاف ثمنًا إلعادة المقتدر إلى الخبلفة‪َّ ،‬‬
‫جاء نازوؾ مف باب زيزؾ‪ ،‬جاء متخفياً بزي الخدـ‪ ،‬قاده غبلـ صغير إلى حجرة ثََم ْؿ القريبة مف‬
‫ب‪ ،‬وما إف دخؿ نازوؾ بجرمو الضخـ حتى دىمتو رائحة الزعفراف والعصفر‪،‬‬ ‫حجرة سيدتيا َش َغ ْ‬
‫شعر فيو‪ ،‬انتشر‬
‫نازوؾ يعرؼ معاني ىذه الروائح في بغداد‪ ،‬ىبت غرائزه كميا‪ ،‬استفزت كؿ ة‬
‫طيبة‪ ،‬فوجد وجو ثََم ْؿ بيف شمعتيف طويمتيف ليما قاعدة فضية تممع‪..‬‬ ‫كسارية تعانؽ ريحًا‬
‫يمد يده المشعرة إلى يد ثََم ْؿ البيضاء‪ ،‬كانت المرأة ترتجؼ ىي األخرى‪،‬‬ ‫ارتجؼ الرجؿ وىو‬
‫تفعمو لو ثمف كبير"‪ )ٖ (.‬كما وردت ىذه المغة في رواية عكا والمموؾ مف‬ ‫كانت تعرؼ أف ما‬
‫( ٗ)‬
‫خبلؿ وصؼ عمر الزيف لعبلقاتو مع النساء والراىبات الصميبيات في أكثر مف موقؼ‬
‫وظيرت أيضاً في أحاديث األميرة جوانا التي تصؼ فييا مدى الفساد واالنحبلؿ األخبلقي الذي‬
‫وصمت إليو وخير مثاؿ عمى ذلؾ قوليا‪" :‬أنا استمتع بأيامي وجسدي‪ ،‬ووجدت لنفسي عمبلً أقوـ‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٖٔٚ‬‬


‫(ٕ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٔٗٔ‬
‫(ٖ) القرمطي‪ ،‬ص‪ٔٓٚ- ٔٓٙ‬‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬صٕ‪ ،ٔٚ‬صٔ‪ ،ٔٛ‬ص٘‪ ،ٔٛ‬صٓ‪ٜٔ‬‬

‫‪267‬‬
‫بو كؿ يوـ؛ البحث عف المتعة‪ ،‬ىذا ىو عممي"‪ )ٔ (.‬ويرى الباحث أف الكاتب قد وفؽ في استخداـ‬
‫ىذه المغة الراقية والموحية غير المبتذلة‪ ،‬والتي تُقدر القارئ وتوصؿ الفكرة إليو دوف أف تخدش‬
‫تمكف السارد مف فضح وتعرية بؤر الفساد في رواية القرمطي‪ ،‬كما أنو كشؼ عف‬ ‫حياءه‪ ،‬حيث َّ‬
‫الرىبنة في رواية عكا‬ ‫االنحراؼ األخبلقي واليوس الجنسي عند الصميبييف حتى بيف مف َّ‬
‫يدعوف َّ‬
‫والمموؾ دوف أف يقوـ بتفصيؿ مثؿ ىذه المشاىد كما فعؿ جماؿ الغيطاني‪.‬‬

‫ثالثًا‪ :‬التناص‪:‬‬

‫برزت في روايتي (القرمطي) و(عكا والمموؾ) أشكاؿ متعددة مف التناص‪ ،‬التي استخدميا‬
‫كتاب الرواية التاريخية السابقوف‪ ،‬مف أبرزىا التناص مع القرآف الكريـ( ٕ)‪ ،‬والتناص مع الشعر‬
‫العربي‪ ،‬ومف الجدير بالذكر أف جماؿ الغيطاني لـ يستخدـ التناص الشعري مطمقًا في رواية‬
‫(الزيني بركات) في حيف استخدمو معظـ كتاب الرواية التاريخية‪ ،‬وقد استعاف أحمد رفيؽ عوض‬
‫بأسموب ولغة الشعر في التعبير عف طبيعة العصر والمواقؼ اإلنسانية المختمفة عمى خبلؼ‬
‫الغيطاني الذي لـ يستخدـ ىذا النوع مف التناص عمى الرغـ مف أف الروايتيف (الزيني بركات‬
‫والقرمطي) تركزاف عمى الفساد واالنحراؼ‪ ،‬وكاف لمشعر ظيور بارز في روايات عوض التاريخية‪،‬‬
‫وقد جعميا أكثر حيوية‪ ،‬حيث جاءت النصوص الشعرية متناغمة مع الفضاء الروائي‪ ،‬فقد أحسف‬
‫( ٖ)‬
‫السارد في توظيؼ األبيات الشعرية التي عكست حياة الميو والعبث والمجوف في رواية القرمطي‬
‫التي تتعرض لمعصر العباسي‪ ،‬كما وفؽ في توظيؼ األشعار التي تعبر عف حياة الفُرقة والتناحر‬
‫( ٗ)‬
‫التي تتناوؿ عصر الحروب الصميبية‪ .‬ومف‬ ‫واالختبلؼ بيف المسمميف في رواية عكا والمموؾ‬
‫أبرز أشكاؿ التناص الجديدة التي وظفيا السارد في رواياتو التاريخية ما يأتي‪:‬‬

‫‪ - 7‬التناص مع الصورة الكاريكاتورية‪:‬‬

‫ومف ذلؾ تعرض السارد في رواية (عكا والمموؾ) إلى الصورة اليزلية الساخرة التي‬
‫أشاعيا المصريوف عف أحكاـ وق اررات بياء الديف قراقوش‪ ،‬فقد أخذوا يتندروف بيا ويسخروف‬
‫منيا‪ ،‬حيث "رأى المصريوف ما لـ يروه مف قبؿ‪ ،‬وألنيـ أصحاب نكتة‪ ،‬وأرواحيـ مرحة‪ ،‬ويميموف‬
‫إلى الصبر‪ ،‬فقد حولوا ىذا الرومي إلى ضحكة طويمة‪ ،‬ساخ ةر وحادة ومؤلمة‪ ،‬وقد وصؿ صدى‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٔٓٙ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬صٕٕٓ‪ ،‬ص‪ ،ٕٜٓ‬وعكا والمموؾ‪ ،‬صٕ٘‪ ،‬ص‪ ،ٕٔٛ‬صٕٕٓ‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬صٕٓٔ ‪ ،ٕٔٔ-‬صٕ٘ٔ‪ ،‬ص‪ ،ٕٔٚ‬ص‪ٜٔٛ‬‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬صٓ‪ٕٚٔ- ٕٚ‬‬

‫‪268‬‬
‫تبرع أحد‬
‫ىذه الضحكة إلى كؿ ببلد اإلسبلـ‪ ،‬حتى مجمس الخميفة العباسي المستضيء‪ ،‬إذ َّ‬
‫( ٔ)‬
‫ندماء الخم يفة بسرد نوادر قراقوش وحكاياتو‪ ،‬فضحؾ الخميفة حتى بانت نواجذه"‪.‬‬

‫وتبرز الصورة الكاريكاتورية الساخرة المقترنة بالفجيعة أيضاً في رواية (القرمطي) متمثمة‬
‫( ٕ)‬
‫في حديث السارد عف شخصية الخميفة محمد بف المعتضد "أبو حربة‪ ،‬كما تسميو عامة بغداد"‬
‫ووصفو ألفعالو وتصرفات و التي تثير الذىوؿ والضحؾ والسخرية‪ ،‬ومنيا خروجو مف قصر‬
‫الخبلفة مخموعًا بعد أقؿ مف ساعة مف تنصيبو خميفة؛ بسبب رفضو إعطاء الجند نفقاتيـ التي‬
‫يستحقونيا قائبلً‪" :‬تطالبونني بدفع النفقة واألرزاؽ‪ ..‬قمت لكـ‪ :‬إنني أقبؿ ىذا األمر شرط أف ال‬
‫تسألونني عف شيء أبداً‪ ..‬ما ىذه األرزاؽ؟ وما دخمي بيا‪..‬؟ ‪ ..‬بيت الجميع‪ ،‬لـ يتوقع أحد ىذا‬
‫( ٖ)‬
‫الذي قيؿ‪ ،‬كاف أم اًر فوؽ الخياؿ"‪.‬‬

‫‪ - 6‬التناص مع أدب الرحالت‪:‬‬

‫ظير أدب الرحبلت في رواية (القرمطي) عندما انتقؿ السارد إلى دار اليجرة معقؿ القرامطة‬
‫فعمؿ عمى وصفيا بدقة وحيادية متأث ًار في ذلؾ بأسموب الرحالة في الكتابة( ٗ)‪ ،‬ثـ إنو عمؿ عمى‬
‫( ٘)‬
‫عندما ذىب لمحج بصحبة الصولي ومف معو‪ ،‬لكنو وصفيا ىذه المرة‬ ‫وصؼ الكعبة المشرفة‬
‫يتخؿ عف عاطفتو الدينية وانتمائو اإلسبلمي‪ .‬وقد برز أسموب أدب‬
‫َ‬ ‫بأسموب الرحالة المسمـ الذي لـ‬
‫الرحبلت بشكؿ أكثر وضوحاً في رواية (عكا والمموؾ) مع شخصية العالـ والرحالة العربي‬
‫والمسمـ الشيير (ابف جبير) الذي سجؿ بصماتو كرحالة في أكثر مف موضع‪ ،‬فكاف يعرض‬
‫"مشاىد مف أدب الرحبلت تضع المتمقي في زاوية سردية يشاىد منيا لقطات مف فيمـ وثائقي‬
‫ألنماط عمرانية ومعيشية موغمة في القدـ‪ ،‬ولكف السارد يبعث الحياة فييا‪ ،‬فإذا بيا تتجمى أماـ‬
‫( ‪)ٙ‬‬
‫وفي الرواية إشارات واضحة ألدب الرحبلت منيا‬ ‫المتمقي مشبعة بالحياة والصوت والنكية"‪.‬‬
‫ما ورد في بعض الحوارات التي دارت بيف ابف جبير والغرناطي الذي سأؿ‪ " :‬يا أبا الحسف‪،‬‬
‫لماذا لـ تذكر م ف الببلد التي زرتيا في المشرؽ إال المساجد والزوايا والرباطات والمدارس‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص٘ٗ‬


‫(ٕ) القرمطي‪ ،‬ص‪ٙٙ‬‬
‫(ٖ) القرمطي‪ ،‬ص‪ٜٛ‬‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬ص٘‪ٔٙ‬‬
‫(٘) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬ص‪ٕٓٓ- ٜٔٚ‬‬
‫(‪ )ٙ‬تداخؿ األنواع األدبية في رواية عك ا والمموؾ لمروائي أحمد رفيؽ عوض (بحث)‪ ،‬صٔٔ‬

‫‪269‬‬
‫( ٔ)‬
‫ونحوىا؟ ألـ تشاىد شيئاً آخر؟" وفي موضع آخر يسأؿ أحد ركاب المركب‪" :‬ىؿ ستضع كتاباً‬
‫( ٕ)‬
‫وتظير تقنيات أدب الرحبلت في أكثر مف مشيد وصفي‪،‬‬ ‫عف رحمتؾ ىذه يا أبا الحسف؟!"‪.‬‬
‫منيا وصؼ الرحالة لمحماـ العمومي في صقمية حيث يعمؿ عمى المقارنة بينو وبيف غيره مف‬
‫حمامات في القاىرة ودمشؽ‪ ،‬مبيناً ضيقو وسخطو مما شاىد‪ ،‬فنجده يقوؿ‪ " :‬ثـ توجيت إلى‬
‫الحماـ العمومي‪ ،‬وىو حماـ يختمؼ عف حمامات القاى ةر أو دمشؽ؛ فميس فيو غرؼ حا ةر وباردة‬
‫وقاعات لمراحة والميو‪ ،‬وانما غرؼ متبلصقة صغيرة تكفي لرجؿ واحد فقط‪ ،‬ودلو ماء خشبي‬
‫كبير‪ ،‬وال شيء غير ذلؾ‪ ،‬احتممت الصراخ والعرى المجاني"( ٖ)‪ ،‬وليجة الضيؽ السخط التي‬
‫تظير في آخر المقطع‪ ،‬نابعة مف أف الحماـ العمومي في صقمية ال يراعي الخصوصية لزواره‪.‬‬
‫كما أظير السارد‪ /‬الرحالة إعجابو ورضاه عف أزياء النساء في صقمية‪ ،‬إذ إنو وجدىا ال تختمؼ‬
‫عف طبيعة أزياء نساء األندلس‪ ،‬فكاف يقوؿ‪" :‬الحظت أف نساء الببلد يمبسف مبلبس محتشمة‬
‫أقرب ما تكوف لمبلبس نساء إشبيمية أو قرطبة؛ إكثار في األناقة‪ ،‬وفي الزينة‪ ،‬واحتشاـ‬
‫الفت"‪ )ٗ (.‬كذلؾ أبدع ابف جبير في تصوير قصر الممؾ غميوـ في صقمية‪ ،‬فنجح في الجمع بيف‬
‫إظيار مدى تأثير الحضارة العربية اإلسبلمية في بناء القصر وبيف حرص الممؾ عمى إبراز‬
‫المعالـ المسيحية مف خبلؿ صور المسيح عميو السبلـ والعذراء والبتوؿ وغير ذلؾ مف الصور‬
‫( ٘)‬
‫وال شؾ في أف استعانة السارد بأسموب الرحالة‪ ،‬يسيـ توضيح‬ ‫والرسوـ المنقوشة والمنحوتة‪.‬‬
‫اإلطار العاـ الذي تدور فيو األحداث وتتحرؾ فيو الشخصيات‪ ،‬كما أنو يجعؿ الشخصية الروائية‬
‫أكثر حيوية وتأثي اًر في القارئ‪.‬‬

‫‪ - 4‬التناص مع أدب الحرب‪:‬‬

‫رغـ أف معظـ الروايات التاريخية بيا مواقؼ حربية تتعمؽ بذكر بعض المعارؾ الفاصمة‬
‫في تاريخ األمـ‪ ،‬إال أف رواية عكا والمموؾ تكاد تكوف رواية حربية بالدرجة األولى‪ ،‬فقد امتؤلت‬
‫بكؿ ما لو عبلقة بالحرب مف وصؼ أسبابيا ودواعييا‪ ،‬وآالتيا الحربية‪ ،‬ومشاعر أبطاليا‪،‬‬
‫وتضحياتيـ‪ ،‬ووجيات النظر المختمفة فييا‪ ،‬ونتائجيا في حالتي النصر واليزيمة‪.‬‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٖٔ‬


‫(ٕ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص٘ٔ‬
‫(ٖ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٕٜ‬‬
‫(ٗ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٕٜ‬‬
‫(٘) عكا والمموؾ‪ ،‬صٖٗ ‪ٖ٘-‬‬

‫‪271‬‬
‫يتعرض السارد لمحديث عف فكرة الحرب وأثرىا في اإلنساف كثي اًر في الرواية‪ ،‬ومف ذلؾ‬
‫قولو في إطار حديثو عف قراقوش ‪" :‬في الحرب يقسو اإلنساف عمى نفسو وعمى اآلخريف‪ ،‬ينسى‬
‫أشياء كثيرة جميمة ولطيفة‪ ..‬في الحرب نبحث عف النصر ال عف العواطؼ‪ ..‬في الحرب ال‬
‫يجدر الضعؼ أبداً‪ ،‬وال تجدر الثقة بأحد أبداً‪ ،‬الحرب تعممنا األسوأ فينا‪ ،‬وترغمنا عمى األسوأ‬
‫( ٔ)‬
‫فينا‪ ،‬واذا كانت الحرب استثنائية فإنيا معيار حياتنا العادية أيضاً"‪.‬‬

‫وحوؿ نتائج الحرب مف نصر أو ىزيمة يكثر الحديث في الرواية‪ ،‬فنجد ابف شداد يتحدث‬
‫عف سبؿ النصر فيقوؿ‪" :‬يبدو أف ا لنصر مسألة معقدة ال تتحصؿ بالقوة فقط؛ النصر يحتاج‬
‫( ٕ)‬
‫كما ال ينسى القاضي الفاضؿ التعميؽ‬ ‫القوة‪ ،‬ولكنو يحتاج النية بالدرجة ذاتيا مف األىمية"‪.‬‬
‫( ٖ)‬
‫عمى سقوط عكا بوصفو لميزيمة بقولو‪" :‬ما أبشع اليزيمة! اليزيمة سوءة كريية منف ةر وقبيحة"‪.‬‬

‫وتنتشر في ثنايا النص الكثير مف المشاىد الحربية ذات التقنيات السينمائية المميئة‬
‫بالحركة واإلثارة‪ ،‬والتي تصؼ المعارؾ التي خاضيا المسمموف ضد الصميبييف ومف ذلؾ‪" :‬أما‬
‫برج الذباف في البحر أماـ ميناء عكا‪ ،‬حيث حاصرتو أربع شانيات إفرنجية‪ ،‬فقد عمد عساكر‬
‫اإلفرنج إلى صنع برج مف الخشب والحديد والنحاس يكاد يصؿ إلى باشو ةر البرج الضارب في‬
‫السماء‪ ،‬وكمف عساكر اإلفرنج داخمو‪ ،‬وأخذت الشانية تقترب والبرج عمى ظيرىا‪ ،‬واآلخروف‬
‫يشاغموف مقاتمة البرج بالنشاب والزنبورؾ‪ ،‬وما إف اقترب البرج الخشبي حتى انقض عميو المقاتمة‬
‫( ٗ)‬
‫بالزراقات التي تقذؼ النار بإرعاد ودخاف شديديف‪"..‬‬

‫أولى السارد لآلالت الحربية ووسائميا عناية فائقة أكثر مف غيرىا‪ ،‬يبدو ذلؾ في ذكر‬
‫الكثير مف أدوات ومعدات القتاؿ‪ ،‬ومف ذلؾ وصفو لمعدات الفرنجة بقولو‪" :‬كاف يبدو لمعياف –‬
‫بشكؿ جمي ‪ -‬ما فعمو الفرنجة مف فنوف حرب لـ تشاىد مف قبؿ‪ ،‬كيذا السمـ الذي يتحرؾ عمى‬
‫عجبلت‪ ،‬ويصعد إلى أعمى‪ ،‬وىذا البرج المؤلؼ مف حديد ونحاس وخشب وجمود‪ ،‬ويخفي تحتو‬
‫الرجاؿ والمقاتمة‪ ،‬وىذا القضيب الضخـ المركب عمى دبابة مف حديد‪ ،‬ويدور عمى نفسو‪ ،‬فيحفر‬
‫( ٘)‬
‫ثـ إنو السارد يعقد مقارنة بيف وسائؿ ومعدات‬ ‫في السور كأنو يحفر قطعة مف الجبف"‪.‬‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬صٖ‪ٙٗ- ٙ‬‬


‫(ٕ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٛٙ‬‬
‫(ٖ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٕ٘٘‬
‫(ٗ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص ‪٘ٚ‬‬
‫(٘) عكا والمموؾ‪ ،‬صٖٗٔ‬

‫‪271‬‬
‫المسمميف القتالية ووسائؿ ومعدات الصميبييف‪ ،‬كما أنو يوازف بيف الفارس اإلفرنجي والفارس‬
‫اإلسبلمي ويظير مف خبلؿ ذلؾ تفوؽ الصميبييف فػ "الفرنجة المبلعيف عندىـ فنوف متقدمة في‬
‫صناعة السبلح أكثر منا‪ ،‬فنحف نعتمد عمى الشجاعة‪ ،‬والصبر‪ ،‬والتضحية‪ ،‬وخفة الحركة‪،‬‬
‫وفارسنا يغطي نفسو بالجمد‪ ،‬وقميؿ مف الزرد‪ ،‬وخوذة تغطي رأسو وليس وجيو‪ ،‬أما محارب‬
‫الفرنجة فيتقدـ ثقيبلً بطيء الحركة‪ ،‬يحمؿ عمى جسده عدة أرطاؿ مف الحديد‪ ،‬ويحمؿ أسمحة‬
‫( ٔ)‬
‫ومف المبلحظ إسياب السارد في وصؼ تفوؽ‬ ‫طويمة تجعؿ بينو وبيف فارسنا مسافة كبيرة"‪.‬‬
‫آالت الصميبييف الحربية عمى مثيبلتيا لدى المسمميف‪ ،‬ويرى الباحث أف في ذلؾ تمييداً يعمؿ‬
‫عمى تييئة القارئ لتقبؿ خبر سقوط مدينة عكا فيما بعد‪ .‬كما أف الوصؼ التفصيمي لممشاىد‬
‫واآلالت الحربية يسيـ في تحويؿ السرد التاريخي الجاؼ إلى متعة فنية خيالية تضع القارئ في‬
‫صمب النص الروائي‪ ،‬وتجعمو يعيش المحظة التاريخية وكأنو يراىا أماـ عينية‪.‬‬

‫رابعًا‪ :‬الشخصيات‪:‬‬

‫اىتـ أحمد رفيؽ عوض بتطوير تعامؿ كتاب الرواية التاريخية مع الشخصيات الروائية‪،‬‬
‫فيو يتعامؿ مع شخصيات رواياتو التاريخية وفؽ مبادئ وتقنيا ت الرواية الجديدة‪ ،‬التي تختمؼ‬
‫عف الرواية التاريخية التقميدية في تعامميا مع الشخصية ‪ ،‬فإذا كانت الرواية التقميدية تعطينا‬
‫شخصية متكاممة بدنياً ومعنوياً عمى لساف الراوي العارؼ‪ ،‬وفي ذلؾ تقدير واعبلء وتعظيـ لمنزلة‬
‫ىذه الشخصية‪ ،‬ييدؼ إلى إقناع القارئ بواقعيتيا ووجودىا الفعمي كما حدث في تصوير كؿ مف‬
‫جورجي زيداف ومحمد فريد أبو حديد ونجيب محفوظ‪ ..‬وغيرىـ لشخصياتيـ الروائية‪ ،‬فإف الرواية‬
‫الجديدة تعطينا معمومات مج أزة ومقسطة عف الشخصية الروائية‪ ،‬فبل تقدـ المعمومات حوؿ‬
‫الشخصية الروائية بشكؿ كامؿ‪ ،‬بؿ إنيا تعمؿ عمى تمزيؽ وتدمير ىذه الشخصية بتقديـ‬
‫المعمومات المتعمقة بيا بشكؿ مج أز بما يخدـ تطور أحداث الرواية‪ ،‬وىذا ما فعمو أحمد رفيؽ‬
‫كمؿ طريؽ‬‫عوض في بناء شخصياتو الروائية في روايتي القرمطي وعكا والمموؾ وىو في ذلؾ ُي ّْ‬
‫كتاب الرواية التاريخية الجديدة أمثاؿ جماؿ الغيطاني‪ ،‬ورضوى عاشور‪ .‬واذا كانت الرواية‬
‫التاريخية التقميدية تيتـ بإبراز عنصر البطولة الفردية وأثرىا في اآلخريف مف خبلؿ التركيز عمى‬
‫شخصية رئيسة واحدة وابراز دورىا الفعَّاؿ في تطور األحداث كما رأينا في بناء نجيب محفوظ‬
‫لشخصية البطؿ (أحمس) في رواية كفاح طيبة‪ ،‬واظيار عمي أحمد باك ثير دور (قطز) في‬
‫رواية واإسبلماه‪ ،‬فإف الرواية الجديدة ال تحفؿ بالبطولة الفردية وال تيتـ بإبرازىا‪ ،‬وقد رأينا ذلؾ‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٛٚ‬‬

‫‪272‬‬
‫في روايتيف تاريخيتيف يمثبلف ىذا النموذج (الرواية الجديدة) ىما الزيني بركات وثبلثية غرناطة‪،‬‬
‫حيث لـ تظير البطولة الفردية في أي منيما‪ ،‬ومثؿ ذلؾ فعؿ أحمد رفيؽ عوض في روايتيو‬
‫بل في رواية‬
‫التاريخيتيف‪ ،‬حيث لـ نقع عمى شخصية بطؿ متفرد بالبطولة‪ ،‬فبل يعد المقتدر بط ً‬
‫القرمطي‪ ،‬كذلؾ ال يجسد أبو طاىر القرمطي دور البطولة في الرواية ذاتيا‪ ،‬ونفس الشيء نجده‬
‫في رواية عكا والمموؾ حيث ال تتمثؿ البطولة في شخصية محددة‪ ،‬ال شخصية صبلح الديف‪،‬‬
‫وال القاضي الفاضؿ‪ ،‬وال بياء الديف قراقوش‪ ،‬وال المشطوب‪ ،‬إننا نجد البطولة موزعة بيف‬
‫الشخصيات المختمفة المكونة لمعمؿ الروائي في كبل الروايتيف‪.‬‬

‫إف مف أىـ تطورات بناء الشخصية الروائية عند أحمد رفيؽ عوض ىو اعتماده عمى‬
‫االمتزاج والتماىي بيف البعد التاريخي والبعد األدبي الخيالي‪ ،‬حيث تنازع بناءه الفني لشخصياتو‬
‫التاريخية موقفاف "األوؿ‪ :‬يوىـ بواقعية الشخصيات واألحداث وتاريخيتيا‪ ،‬واآلخر‪ :‬يتضمف‬
‫توجيات حثيثة نحو تجاوز الواقع والتاريخ‪ ،‬واالحتفاؿ بالتخيؿ واألدبية‪ ،‬ولكف الموقفاف جاءا‬
‫( ٔ)‬
‫وأسموب كاتبنا في ذلؾ يختمؼ عف أسموب تعامؿ جورجي زيداف مع‬ ‫متمازجيف ال منفصميف"‪.‬‬
‫الشخصية التاريخية الذي كاف يمتزـ أو َّ‬
‫يدعي االلتزاـ بتاريخية الشخصية وال تظير الناحية‬
‫األدبية عنده إال مف خبلؿ القصة الغرامية المبتدعة‪ ،‬وكذلؾ يختمؼ مع عمي أحمد باكثير الذي‬
‫التزـ بالحقيقة التاريخي ة في تقديـ شخصية كؿ مف قطز وبيبرس ومف سبقيما مف حكاـ المماليؾ‬
‫في رواية (واإسبلماه) ولـ يحتفؿ كثي ًار بالناحية األدبية إال مف خبلؿ القصة الغرامية وما يتعمؽ‬
‫بيا مف مشاعر الشخصية كحاؿ زيداف‪ ،‬وقد َق َّدـ كؿ منيما شخصياتيـ الروائية بشكؿ كامؿ‬
‫متأثريف بطريقة المراج ع التاريخية التي كانوا يعتمدوف عمييا‪ .‬بينما اعتمد أحمد رفيؽ عوض‬
‫عمى عدد مف التقنيات التي عممت عمى التماىي واالندماج عبلوة عمى التمايز بيف النصيف‬
‫التاريخي (المرجع) والروائي (المتخيؿ)؛ في سبيؿ تحويؿ الشخصيات التاريخية إلى شخصيات‬
‫ورقية روائية ذات صيغة أدبية خيالية عف طريؽ الخروج مف سيط ةر المرجع التاريخي‪.‬‬

‫إف ذكر الشخصيات التاريخية الحقيقية مثؿ الخميفة المقتدر‪ ،‬وأمو شغب‪ ،‬والكيرمانة ثمؿ‪،‬‬
‫ومؤنس الخادـ قائد الجيش‪ ،‬ونازوؾ رئيس الشرطة‪ ،‬ومحمد القاىر‪ ،‬ومنصور الديممي‪ ،‬وعمي بف‬
‫مقمة‪ ،‬وأبو طاىر القرمطي‪ ..‬وغيرىـ في رواية (القرمطي)‪ ،‬باإلضافة إلى أف ذكر صبلح الديف‪،‬‬
‫وقراقوش‪ ،‬والمشطوب‪ ،‬والقاضي الفاضؿ‪ ،‬وابف شداد‪ ،‬وابف جبير‪ ،‬وريتشارد‪ ..‬وغيرىـ في رواية‬
‫(عكا والمموؾ) وما ارتبط بكؿ ىذه الشخصيات مف أحداث وأحياز حقيقية يقودنا ويحيمنا إلى‬

‫(ٔ) مقاربات نقدية (بحث بنية الخطاب والنص في رواية القرمطي)‪ ،‬ص‪ٜٔٓ‬‬

‫‪273‬‬
‫الوثيقة التاريخية التي تمثميا كتب التاريخ العربي واإلسبلمي مثؿ الكامؿ في التاريخ البف األثير‪،‬‬
‫والبداية والنياية البف كثير‪ .‬والمفارقة ىنا أنو إذا اتفقت الروايتاف مع المرجع التاريخي في‬
‫األحداث العامة والشخصيات المكونة ليا‪ ،‬فإنيما تختمفاف معو في بعض التفصيبلت التي تُ ّْ‬
‫جمي‬
‫الجانب الخيالي وتوضحو‪ ،‬واذا كانت المراجع التاريخية تظير نتائج األحداث فقط دوف الخوض‬
‫في كيفية حدوثيا‪ ،‬فإف الروايتيف تكشفاف كيفية حدوث ىذه األحداث مف خبلؿ التعمؽ في‬
‫نفسيات الشخصيات التاريخية وتحميميا وبياف دوافعيا‪ ،‬مما يؤكد الجانب التخييمي اإلبداعي في‬
‫كبل الروايتيف‪.‬‬

‫إف مف أىـ مظاىر التجديد المرتبطة بطريقة بناء وتقديـ الشخصيات الروائية عند كاتبنا‪،‬‬
‫ىو اعتماده عمى عدد مف التقنيات الفنية الجديدة‪ ،‬التي نقمت وحولت الشخصية التاريخية مف‬
‫طبيعتيا الوثائقية المجردة إلى طبيعة أدبية خيالية جديدة‪ ،‬محممة بالعديد مف الرموز واإليحاءات‬
‫الحضارية التي ترتبط بما يعانيو العالـ العربي واإلسبلمي في وقتنا الحاضر‪ ،‬ومف أىـ ىذه‬
‫التقنيات ما يأتي‪:‬‬

‫‪ - 7‬تقنية السيرة الذاتية‪:‬‬

‫ىي مف أىـ التقنيات السردية التي اعتمد عمييا الكاتب في عرض وتقديـ شخصياتو‬
‫الروائية‪ ،‬وىذه التقنية لـ تستخدـ بكثرة في الروايات التاريخية السابقة‪ ،‬فمـ نجدىا مثبلً عند‬
‫جورجي زيداف أو محمد فريد أبو حديد أو نجيب محفوظ‪ ،‬فكؿ منيـ كاف يعتمد عمى الراوي‬
‫العارؼ الذي يسرد األحداث‪ ،‬دوف أف يمنح الشخصيات الروائية فرصة لمتعبير عف نفسيا‪ ،‬وقد‬
‫أحسف الكاتب في توظيؼ ىذه التقنية؛ لمتعبير عف طبيعة شخصياتو الروائية‪ ،‬والتعريؼ بظروؼ‬
‫نشأتيا والعوامؿ المؤثرة فييا‪ .‬ومف ذلؾ ما ورد في رواية القرمطي عمى لساف الخميفة المقتدر‪:‬‬
‫"عندما كنت في الثالثة عشرة مف عمري‪ ،‬صرت خميفة بعد موت أخي المكتفي‪ ،‬كاف وزي هر‬
‫يومذاؾ العباس بف الحسف‪ ،‬رغب ىذا الوزير الذي ال قمب لو أف يستبد بي‪ ،‬قاؿ ىذا صبي‬
‫أ لعب بو كما أشاء‪ ،‬يوميا قاـ خصوـ ىذا الوزير بقتمو‪ ،‬ومف ثـ خمعي عف الخبلفة‪ ،‬لـ أكف أفيـ‬
‫ما يجري كثي ًار‪ ..‬وعدت إلى كرسي الخبلفة بعد ليمة واحدة مف خمعي‪ ،‬مف يتصور ىذا؟! ىأنذا‬
‫أخمع لممرة الثانية‪ ،‬ومؤنس الجاحد ىو الذي يحاصرني ويريد خمعي‪ ،‬نسي سيده‪ ،‬نسي والدي‬
‫( ٔ)‬
‫المعتضد‪ ،‬نسي كؿ شيء"‪.‬‬

‫(ٔ) القرمطي‪ ،‬ص‪ٖٚ‬‬

‫‪274‬‬
‫شكمت معظـ فصوليا ِسَي اًر ذاتية‬
‫وقد وردت ىذه التقنية بكثرة في رواية عكا والمموؾ‪ ،‬إذ َّ‬
‫لمشخصيات المختمفة‪ ،‬ومف ذلؾ حديث عمر الزيف عف نفسو‪" :‬أما أنا‪ ،‬عمر الزيف‪ ،‬مف قرية‬
‫بيت فوريؾ شرقي نابمس العامرة‪ ،‬المحتمة مف اإلفرنجي منذ ما يزيد عمى ثمانيف عامًا‪ ،‬فقد‬
‫ولدت ألبويف أجبلىما اإلفرنجي مف قريتيما كفر مالؾ القريبة مف قمعة اإلفرنجي ريموف‬
‫السنجيمي‪ ،)ٔ ("..‬ومف ذلؾ أيضاً تذكر القاضي الفاضؿ لحياتو السابقة بقولو‪" :‬عندما أتأمؿ في‬
‫حياتي السابقة‪ ،‬فأشاىد نفسي طالباً فقي اًر وحيداً في مدينة عامرة وضخمة مثؿ القاىرة‪ ،‬فييا‬
‫العرب واألرمف والسوداف‪ ،‬واألتراؾ يتقاتموف عمى كؿ شيء‪ ،‬وليس لي مف األمر شيء‪ ،‬ثـ أحكـ‬
‫المدينة التي كنت ال أجد فييا طعامًا في بعض األحياف‪ ،‬فإنني أعيد الفضؿ لصاحبو‪ ،‬اهلل‬
‫( ٕ)‬
‫كذلؾ‬ ‫سبحانو وتعالى‪ ،‬الذي أراد ليذا القصير‪ ،‬الدميـ‪ ،‬األحدب‪ ،‬أف يحكـ مدينة كيذه‪"..‬‬
‫تظير تقنية السيرة الذاتية في حديث األميرة جوانا عف حياتيا السابقة والحالية( ٖ)‪ ،‬وحديث ابف‬
‫( ٗ)‬
‫شداد عف ماضيو وعممو مع صبلح الديف‪.‬‬

‫إف في أسموب السيرة الذاتية حيف تتحدث الشخصية عف نفسيا بشكؿ مباشر ما يوىـ‬
‫بواقعية وتاريخية ما يقاؿ‪ ،‬ومف ثمة يكوف الخطاب أكثر قرباً ومصداقية وتأثي اًر في القارئ‪ ،‬ثـ‬
‫إنو يفسح المجاؿ لمشخصية التاريخية أف تقدـ نفسيا بشكؿ جديد ربما يختمؼ عما كانت عميو‬
‫في كتب التاريخ‪ ،‬باإلضافة إلى أنو يمنح السرد الكثير مف الحيوية والدرامية‪.‬‬

‫الوصية‪:‬‬
‫َّ‬ ‫‪ - 6‬تقنية‬

‫مف التقنيات السردية الجديدة التي استعاف بيا السارد؛ لمكشؼ عف نوازع الشخصيات‬
‫ودوافعيا واتجاىاتيا‪ ،‬ولـ تظير ىذه التقنية بشكؿ واضح في الروايات التاريخية السابقة‪ ،‬وظيرت‬
‫بشكؿ جمي في رواية القرمطي‪ ،‬ولذلؾ يمكف القوؿ بأف اعتماد السارد عمييا يمثؿ شكبلً مف‬
‫أشكاؿ التجديد والتحوالت الفنية في الرواية التاريخية‪ .‬لقد برزت تقنية الوصية في رواية القرمطي‬
‫في أثناء التعريؼ بشخصية أبي طاىر القرمطي‪ ،‬وبمنيجو وعقيدتو الفاسدة‪ ،‬حيث تـ ذكر ما‬
‫( ٘)‬
‫وقد ظيرت تقنية الوصية‬ ‫يقارب سبع وصايا أخذىا أبو طاىر عف أبيو –أبي سعيد الجنابي‪.‬‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٔٙٙ‬‬


‫(ٕ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٕ‪ٕٚ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬صٔٓٔ‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬ص٘‪ٚٙ- ٚ‬‬
‫(٘) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬صٖٗٔ ‪ٔٗ٘-‬‬

‫‪275‬‬
‫بشكؿ أقؿ في رواية عكا والمموؾ منيا وصية أبو ُع َمر الزيف لولده ُع َمر عندما عمـ بذىابو‬
‫بل دائمًا‪ .‬حافظ عمى دينؾ‬‫بل‪" :‬كف رج ً‬
‫لمعمؿ مع الصميبييف في مدينة نابمس‪ ،‬حيث أوصاه قائ ً‬
‫( ٔ)‬
‫ولقد كاف ليذه الوصية أثر كبير عمى شخصية االبف‪ ،‬حيث إنيا شكمت دافعًا حقيقيًا‬ ‫دائمًا"‬
‫لمثبات والحفاظ عمى الديف‪.‬‬

‫‪ - 4‬تقنية الشيادة‪:‬‬

‫ىي إحدى تقنيات تقديـ الشخصية في الرواية الجديدة‪ ،‬يعتمد فييا السارد عمى ذكر أقواؿ‬
‫ومواقؼ بعض الشخصيات المشاركة في األحداث‪ ،‬أو المراقبة ليا التي تقوـ بميمة الراوي( ٕ)‪،‬‬
‫ىذه التقنية لـ يستخدميا كتاب الرواية التاريخية التقميدية أو الواقعية أمثاؿ زيداف وأبي حديد‬
‫وعمي أحمد باكثير‪ ،‬ألف أولئؾ الكتاب كانوا يعتمدوف عمى الصوت السردي الواحد‪ ،‬الذي ال يدع‬
‫الفرصة ألي صوت آخر في التعبير عف نفسو‪ ،‬بينما الرواية الجديدة كانت تيتـ بتعدد الرؤى‬
‫واألصوات التي أنتجت مثؿ ىذه التقنية‪ ،‬والتي ال شؾ في أف ليا عبلقة وطيدة بتقنية تقسيط‬
‫المعمومات المتعمقة بالشخصية الروائية وتقديميا عبر عدة مراحؿ حسب مساىمتيا في تطور‬
‫أحداث الرواية‪.‬‬

‫ففي رواية القرمطي يعتمد السارد بشكؿ كبير عمى ىذه التقنية في تقديـ شخصية الخميفة‬
‫المقتدر‪ ،‬ونممس ذلؾ في أكثر مف موقؼ منيا‪:‬‬

‫‪ -‬يقوؿ الجيشياري في وصؼ الخم يفة المقتدر‪" :‬ىذا الخميفة رجؿ مف جبمة أخرى‪ ،‬ففي‬
‫لحظة يكوف أحكـ الحكماء‪ ،‬وفي أخرى تراه مجرد شاب غر ال ييمو سوى بطنو‬
‫وفرجو‪ ..‬أشعر بالشفقة عمى ىذا الخميفة الذي ال يممؾ مف دنياه سوى معدة قوية وفرج‬
‫( ٖ)‬
‫ناشط‪ ،‬حكيـ في غير أوانو‪ ،‬حكيـ ينقصو الحزـ‪ ،‬وطالب لذة ال يطاوعو الزماف"‪.‬‬
‫‪ -‬يعمّْؽ ابف العبلؼ عمى حصار الخميفة بقولو‪" :‬ىذا ىو القصر‪ ..‬أصارحكـ القوؿ‪ ،‬بقدر‬
‫خوفي عمى الخميفة المقتدر‪ ،‬فيو شاب عاقؿ وسمح‪ ،‬فإف ما يحدث اآلف ال‬
‫( ٗ)‬
‫ييمني‪."..‬‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٜٔٙ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬مقاربات نقدية (بحث بنية الخطاب والنص في رواية القرمطي)‪ ،‬صٔٔٔ‬
‫(ٖ) القرمطي‪ ،‬ص‪ٕٙ‬‬
‫(ٗ) القرمطي‪ ،‬صٕٕ‬

‫‪276‬‬
‫‪ -‬يتحدث الخميفة عف نفسو في أثناء حواره مع الجيشياري فيقوؿ‪" :‬أنا خميفة كؿ‬
‫المسمميف‪ ..‬ولكني ال استطيع أف أخيؼ الكيرمانة ثمؿ‪ ..‬امرأتاف تحكماف القصر‪،‬‬
‫( ٔ)‬
‫ورجؿ تركي أحمؽ يحكـ بغداد"‪.‬‬
‫‪ -‬يقوؿ مؤنس في وصؼ المقتدر‪" :‬الخميفة ال أىمية لو لمحكـ سوى انحداره مف سبللة‬
‫( ٕ)‬
‫النبي عميو الصبلة والسبلـ"‪.‬‬
‫‪ -‬يعقّْب الراوي عمى عفو المقتدر عف مؤنس وتوزيعو الجديد لممناصب بقولو‪" :‬لكف‬
‫الحاضريف عرفوا أف الخميفة المقتدر يمعب كعادتو تمؾ المعبة التي تحفظ التوازف‬
‫( ٖ)‬
‫والتعادؿ بيف األشخاص المحيطيف بو"‪.‬‬

‫يبلحظ الباحث أف األقواؿ السابقة تحمؿ الكثير مف المفارقات المتعمقة بشخصية المقتدر‬
‫مف وجية نظر الشخصيات األخرى‪ ،‬ومف وجية نظره الشخصية‪ ،‬فيي واف كانت تؤكد عمى‬
‫ضعؼ الخميفة‪ ،‬وانشغالو بشيواتو وممذاتو‪ ،‬وعدـ تمكنو مف الحكـ بسبب سيط ةر النساء والخدـ‪،‬‬
‫فإنيا تظير حكمتو‪ ،‬وسداد رأيو‪ ،‬ومعرفتو بأمور السياسة وأساليبيا الممتوية‪ .‬ومف ىنا يظير‬
‫البعد الدرامي اإلنساني ليذه الشخصية الحيوية‪ ،‬ىذا البعد الذي ال تظيره كتب التاريخ‪ ،‬بؿ‬
‫تظيره الرواية بأساليبيا الفنية الجديدة‪.‬‬

‫وقد برزت ىذه التقنية بشكؿ كبير في أثناء تناوؿ السارد لشخصية صبلح الديف في رواية‬
‫(عكا والمموؾ)‪ ،‬وأىـ ما يبلحظ مف تطورات في بناء الكاتب ليذه الشخصية ىو حرصو عمى‬
‫الموضوعية والحيادية‪ ،‬خاصة أ ف الشخصية التي يتـ التعرض ليا ىي شخصية ذات وزف‬
‫يسع السارد إلى إصدار ُحكمًا مباش ًار‬
‫ومكانة عظيمة في التاريخ العربي اإلسبلمي‪ ،‬ورغـ ذلؾ لـ َ‬
‫أو جاى ًاز ليذا الشخصية‪ ،‬بؿ إنو عرض آراء ومواقؼ الشخصيات المتباينة في شخصية صبلح‬
‫الديف دوف أف يظير تحي اًز ألي منيا‪ ،‬تاركاً في النياية القرار لمحكـ عمى ىذه الشخصية بيد‬
‫القارئ‪ ،‬وىذا األمر لـ نجده في رواية جورجي زيداف التي جعمت مف صبلح الديف األيوبي‬
‫عنوانًا ليا‪ ،‬فعمى الرغـ مف ادعاء جورجي زيداف الصدؽ التاريخي إال أنو عمؿ عمى تشويو‬
‫شخصية صبلح الديف –كما َّبينا سابقاً ‪ -‬فارضاً رؤي تو الخاصة حوؿ ىذه الشخصية‪ ،‬وىذا ما لـ‬
‫يسع إليو‪ ،‬فمـ يكف التاريخ‬ ‫َّ‬
‫يفعمو أحمد رفيؽ عوض مع العمـ أنو لـ يد ِع الصدؽ التاريخي‪ ،‬ولـ َ‬

‫(ٔ) القرمطي‪ ،‬صٖٓ‬


‫(ٕ) القرمطي‪ ،‬ص‪ٚٙ‬‬
‫(ٖ) القرمطي‪ ،‬ص٘ٓٔ‬

‫‪277‬‬
‫ىدفو كما كاف عند زيداف‪ .‬ولذلؾ ترد في الرواية الكثير مف المواقؼ المتباينة التي تعبر عف‬
‫رؤية أصحابيا‪ ،‬ومف أمثمتيا‪:‬‬

‫‪ -‬ينقؿ ابف جبير بعض ما يقاؿ عف صبلح الديف‪ ،‬ومف ذلؾ‪" :‬قيؿ إنو يصانع الفرنجة‬
‫سني متعصب‪ ،‬وقيؿ إنو يميؿ إلى التصوؼ‪،‬‬ ‫وخاصة نساءىـ البيضاوات‪ ،‬وقيؿ إنو ُ‬
‫وقيؿ إنو يحب الدنيا‪ ،‬ولكف خواصو جعمت منو ناسكاً وزاىداً أماـ العامة‪ ،‬وقيؿ إنو‬
‫اغتصب ممؾ ولي نعمتو نور الديف‪ ،‬وانو تزوج أرممتو حتى يرثو بالتماـ والكماؿ‪..‬‬
‫( ٔ)‬
‫الخ"‪.‬‬
‫‪ -‬يرى ابف شداد أف صبلح الديف‪" :‬لـ يكف كغيره ممف حولنا مف األمراء‪ ،‬أو ممف‬
‫عرفناىـ‪ ،‬أو سمعنا عنيـ‪ ،‬حتى أنو لـ يكف مثؿ الخميفة العباسي نفسو‪ ..‬فإنو لـ ييف‬
‫في محاربة الفرنجة أو طمبيـ‪ ،‬ولـ يتفؽ معيـ عمى شر لؤلمة أو فساد أمرىا‪ ،‬ولـ‬
‫يصانعيـ‪ ،‬ولـ يتفؽ معيـ عمى سر يخجؿ أف تطمع عميو األمة‪ ،‬وانتيز كؿ فرصة كاف‬
‫( ٕ)‬
‫فييا خذالف ليـ"‪.‬‬
‫‪ -‬يكشؼ المشطوب‪" :‬أف غموض صبلح الديف أكثر مف وضوحو‪ ،‬وأف صمتو أكثر مف‬
‫كبلمو‪ ،‬وأف ذكره اهلل أكثر مف ذكره الناس‪ ،‬وأف جياده أكثر مف قعوده‪ ،‬وأف أكثر‬
‫خمصائو مف العمماء ‪ ،‬وأف أكثر وقتو يقضيو في قراءة كتب الجياد‪ ،‬أو في ارتياد‬
‫األراضي والمواقع المبلئمة لمعساكر‪ ،‬وأنو ال يممؾ مف الدنيا أكثر مف حصانو وسبلحو‬
‫( ٖ)‬
‫عمى سعة ممكو وثراء مربعو"‪.‬‬
‫‪ُ -‬يكثر أتباع راشد الديف سناف مف الحديث عف صبلح الديف ومف أقواليـ‪" :‬صبلح الديف‬
‫جاء إلى ببلد ا لشاـ لييدـ البيت الزنكي ويرثو‪ ،‬ولـ يأت لمواجية الفرنجة‪ ،‬فيو يعقد‬
‫معيـ المعاىدة تمو المعاىدة‪ ،‬وليذا فإف ورثة نور الديف يدافعوف عف ممؾ أبييـ‪ ،‬واف‬
‫( ٗ)‬
‫عمى المسمميف كافة أف يقفوا معيـ في وجو ىذا الطامع"‪.‬‬
‫ؼ أحد أمراء الصميبييف صبلح الديف بقولو‪" :‬كاف صادقًا في كؿ اتفاقاتو معنا‪،‬‬ ‫وص َ‬
‫َ‬ ‫‪-‬‬
‫وكاف يمكف لو أف ينتقـ مما فعؿ أولئؾ المسيحيوف األوائؿ الذيف دخموا القدس قبؿ أكثر‬
‫مف ثمانيف عاماً‪ ..‬الرجؿ لـ يفعؿ بنا شيئاً‪ ،‬بؿ عمى العكس مف ذلؾ‪ ،‬اعترؼ لكـ أييا‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٜ‬‬


‫(ٕ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٜٚ‬‬
‫(ٖ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٔٗٛ‬‬
‫(ٗ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٕٗٔ‬

‫‪278‬‬
‫السادة‪ ،‬أف ما فعمو عندما دخؿ القدس ال يمكف تصديقو‪ ،‬وال يمكف فيمو بسيولة‪ .‬إنو‬
‫أكثر مف الكرـ وأكثر مف الرجولة‪ .‬يجب أف اعترؼ لكـ بذلؾ‪ .‬أنا مف رأى ذلؾ‪ ،‬وأنا‬
‫( ٔ)‬
‫مف فاوض الرجؿ‪ ،‬وأنا مف رأى كيؼ يدفع مف مالو ليفدي فقراء المسيحييف"‪.‬‬

‫يتضح مما سبؽ أف أحمد رفيؽ عوض قد َع ِمؿ عمى نزع صفة المثالية واليالة القدسية‬
‫عف شخصية صبلح الديف‪ ،‬مما يؤكد حالة التماىي والتمازج مع التاريخ‪ ،‬باإلضافة إلى اإليياـ‬
‫بواقعية الشخصية التاريخية‪ ،‬وتنحية الجانب األسطوري وابعاده عنيا‪ ،‬مف خبلؿ اعتماده عمى‬
‫عممية تقسيط واضحة في بياف صفات الشخصية‪ ،‬فشخصية صبلح الديف شخصية إنسانية‬
‫طبيعية ليا الكثير مف المؤيديف‪ ،‬وليا كذلؾ الكثير مف األعداء والمعارضيف‪ ،‬ولـ يكف مصادفة‬
‫تصوير صبلح الديف في موقؼ اليزيمة‪ ،‬فتصوير حالة اليزيمة يستوجب تصوي اًر واقعياً صادقاً‬
‫لمظروؼ واألحواؿ التي أدت إلى ىذه اليزيمة‪ ،‬ومف أىـ ىذه الدواعي الفرقة والتناحر وعدـ‬
‫اجتماع كممة األمة؛ لذلؾ كاف يجب إبراز الرؤى المتعددة مف ىذه الشخصية‪.‬‬

‫رغـ حرص السارد عمى الحيادية‪ ،‬إال أنو اىتـ بإبراز الوجو الحقيقي لشخصية صبلح‬
‫الديف‪ ،‬وتعامؿ بحذر مع الروايات التاريخية المتعمقة بيذه الشخصية الكبيرة‪ ،‬حيث إنو في أثناء‬
‫عرضو لآلراء السيئة أو المخالفة والمعارضة لصبلح الديف يستخدـ الفعؿ (قيؿ) الذي يوحي‬
‫بعدـ التسميـ بيذا الكبلـ فقد يكوف مدسوساً أو مبتدعاً‪ ،‬ثـ إنو أكد عمى عدؿ وسماحة صبلح‬
‫الديف باالستعانة بأقواؿ بعض األمراء الصميبييف الذيف شيدوا لو بالخمؽ الكريـ‪ ،‬وااللتزاـ‬
‫بالمواثيؽ‪ ،‬وحسف المعاممة‪ ،‬والبعد اإلنساني حتى في التعامؿ مع األعداء‪ ،‬وال شؾ في أف شيادة‬
‫األعداء أفضؿ وأكثر إقناعًا مف شيادة غيرىـ مف المقربيف ألي شخصية‪ ،‬ومف ىنا يظير إبداع‬
‫السارد في توظيؼ معظـ التقنيات الفنية الحديثة لتأكيد رؤيتو الفنية دوف أف يشعر القارئ بأنو‬
‫يفرض عميو رأيًا أو ُيممي عميو فكرة‪.‬‬

‫ومف أىـ أشكاؿ الشخصيات الروائية ال تي جرى عمييا عدد مف التحوالت ما يأتي‪:‬‬

‫‪ -‬شخصية العممال والمثقفين‪:‬‬

‫برزت شخصيات العمماء والمثقفيف في روايتي الكاتب‪ ،‬إال أنيا في رواية (القرمطي)‬
‫كانت مختمفة عف الصورة العامة التي رسميا معظـ ُكتاب الرواية التاريخية السابقيف ليذا النمط‬
‫مف الشخصيات‪ ،‬فشخصية العز بف عبد السبلـ مثبلً في رواية (واإسبلماه) لعمي أحمد باكثير‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٕٗٗ‬

‫‪279‬‬
‫كانت شخصية بارزة ومؤث ةر في تطور األحداث وتشجيع الناس عمى الثو ةر عمى الحكاـ الظالميف‬
‫والخونة المتآمريف‪ ،‬باإلضافة إلى دعوتو الصريحة لمقاومة الصميبييف ومواجية التتار‪ ،‬أما‬
‫شخصيات العمماء والمثقفيف في رواية (القرمطي) فإنيا تظير حالة مف التبايف واالختبلؼ‬
‫والفرقة وعدـ االىتماـ بالقضايا اليامة‪ ،‬واالنشغاؿ بأمور فكرية‪ ،‬ومناقشات جدلية ال فائدة منيا‪،‬‬
‫فشخصيات العمماء والمثقفيف في ىذه الرواية –خاصة عمماء الخميفة المقتدر ‪ -‬شخصيات سمبية‬
‫وضعيفة ال أثر ليا في تقدـ األحداث أو تغييرىا‪ ،‬في مقابؿ شخصيات عمماء القرمطي الذيف‬
‫كانوا يعمموف عمى نشر الدعوة القرمطية واقناع الناس بيا‪ ،‬ومف الجدير بالذكر أف رواية (الثائر‬
‫األحمر) التي ناقشت ذات الموضوع‪ ،‬وصورت الصراع بيف الدولة العباسية والمذىب القرمطي‬
‫قد فعَّمت دور العمماء في التصدي لفكر القرامطة‪ ،‬والفرؽ ىنا أف عمي أحمد باكثير كاف يريد‬
‫إظيار قوة وعدالة الفكر اإلسبلمي في مواجية التيارات المعادية لو‪ ،‬أما أحمد رفيؽ عوض فكاف‬
‫ييدؼ إلى الكشؼ عف مظاىر الضعؼ واليزيمة ومسبباتيا حالو في ذلؾ كحاؿ جماؿ الغيطاني‬
‫في (الزيني بركات)‪ ،‬حيث تتمثؿ أىمية توظيؼ السارد ليذه الشخصيات بصورتيا السمبية في‬
‫التعبير عف حالة التشظي وااللتباس والترؼ الفكري التي كانت سائدة في المجتمع العباسي‪..‬‬
‫انظر إلى الحوار اآلتي‪:‬‬

‫" تنحنح الصولي وقاؿ‪ :‬أقوؿ يا موالي إف العقؿ ال يكفي لممعرفة وأقوؿ يا موالي‪ :‬إف عمى‬
‫العبد أف يمزـ حدوده في التأدب مع اهلل‪.‬‬

‫قاؿ ابف دريد‪ :‬أحسنت يا صولي‪.‬‬

‫أكمؿ الصولي وكأنو ال يسمع‪ :‬الفبلسفة اإلغريؽ حاولوا التقريب بيف اهلل واإلنساف‪ ،‬وىذا‬
‫ال يفيد وال ينفع في حالتنا‪ ،‬الفمسفة غير الديف‪.‬‬

‫قاؿ الجيشياري‪ :‬عمـ الكبلـ ىذا‪ ،‬رفضو الفقياء‪ ،‬ألنو ال يصدر عف القرآف والسنة‪،‬‬
‫ورفضو الفبلسفة‪ ،‬ألنو ال يعتمد النظر الفمسفي‪.‬‬
‫( ٔ)‬
‫قاؿ ابف العبلؼ‪ :‬فمماذا تتكمموف في شيء رفضو العقبلء"‪.‬‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬ص‪ٔٔٚ - ٔٔٙ‬‬

‫‪281‬‬
‫ويستمر الحوار بيذه الطريقة ويمتد إلى عدة صفحات‪ ،‬بحيث يظير فيو مدى ابتعاد‬
‫العمماء وأىؿ الفكر والثقافة عف الواقع والظروؼ السياسية واالجتماعية الخطي ةر المحيطة بيـ ف ي‬
‫ذلؾ الوقت‪ ،‬وانشغاليـ عف كؿ ذلؾ بقضايا ثانوية وسطحية ال عائد منيا‪.‬‬

‫ومف مظاىر التجديد المرتبطة بشخصيات العمماء في رواية (عكا والمموؾ) تصوير‬
‫شخصية العمماء العرب المغتربيف الذيف يعيشوف في ببلد الغرب‪ ،‬وخير مف يمثؿ ىذه الشخصية‬
‫العالـ المسمـ (الشريؼ اإلدريسي) ا لذي يعيش في كنؼ الممؾ غميوـ بف راجار ممؾ صقمية‪،‬‬
‫حيث يظير مف خبلؿ الحوار الذي دار بيف العالميف ابف جبير واإلدريسي سخط األخير عمى‬
‫حكاـ ومموؾ العرب والمسمميف الذيف ال يقدروف العمماء‪ ،‬إذ إنو يعمؿ تسمية كتابو حوؿ األرض‬
‫بػ (الكتاب الراجاري) الذي أىداه إلى ممؾ نصراني بقولو‪" :‬ىو الممؾ الذي رعاني وأعطاني‬
‫ومنحني الوقت والدعـ‪ ،‬وىو ما لـ أجده عند مموؾ ممتي وديني‪ .‬لست نادمًا‪ .‬لست نادمًا‪ ،‬لقد‬
‫( ٔ)‬
‫ال شؾ أف جمب ىذا النموذج مف العمماء المغتربيف‬ ‫أعطيت ما عندي كمو لممؾ يستحؽ"‪.‬‬
‫الذيـ لـ يحصموا عمى حقيـ مف االحتراـ والتقدير في ببلدىـ يعزز مشاعر اليزيمة‪ ،‬ويقوي‬
‫نصر بدوف العمـ‪ ،‬وال جداؿ في أف توظيؼ السارد لمثؿ ىذه‬ ‫ٌ‬ ‫احتماالت حدوثيا‪ ،‬فبل يتحقؽ‬
‫الشخصية المغتربة تعريض بالواقع الذي يعيشو الكث ير مف عمماء العالـ العربي واإلسبلمي اليوـ‪،‬‬
‫الذيف يعيشوف في ببلد الغرب ويسيموف في تطورىا وتقدميا‪ ،‬وفيو أيضاً إشارة واضحة إلى‬
‫تقصير األنظمة العربية في العمـ والعمماء‪ ،‬وتشكيميا عوامؿ طاردة لمعمماء مف الببلد العربية‪،‬‬
‫في حيف يشكؿ الغرب عوامؿ الجذب واالستقطاب ليذه العقوؿ المبدعة‪.‬‬

‫‪ -‬شخصية المرأة‪:‬‬

‫يشكؿ تعامؿ الكاتب مع شخصية المرأة أحد أىـ مبلمح التحوؿ في الرواية التاريخية‬
‫إلب ارزه لموجو السمبي منيا‪ ،‬فيو لـ يمنحيا التقدير الذي منحو إياىا كتاب الرواية التاريخية‪ ،‬فإذا‬
‫ال لمحكمة والشرؼ والجماؿ باإلضافة إلى الوطنية في (كفاح‬
‫كانت المرأة عند نجيب محفوظ مثا ً‬
‫طيبة)‪ ،‬واذا كانت عند باكثير رم ًاز لمرومانسية حينًا ولمجياد والتضحية حينًا آخر في‬
‫(واإسبلماه)‪ ،‬واذا وظَّفيا نجيب الكيبلني كداعية في (عمر يظير في القدس)‪ ،‬واذا اتسمت‬
‫بالثقافة والوعي وقوة اإلرادة عند رضوى عاشور في (ثبلثية غرناطة)‪ ،‬فإنيا لـ تظير بصو ةر‬
‫إيجابية عند أحمد رفيؽ عوض‪ ،‬بؿ ظيرت في صو ةر سمبية سيئة ونفعية ُمنفّْرة‪.‬‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٕٖ‬

‫‪281‬‬
‫فالمرأة في رواية (القرمطي) فاسدة‪ ،‬ال ييميا سوى تحقيؽ رغباتيا‪ ،‬وىي في نفس الوقت‬
‫متسمطة ومتحكمة‪ ،‬وتتمثؿ صورة المرأة في الرواية في شخصية كؿ مف الجارية (ثمؿ)‪ ،‬وأـ‬
‫الخميفة المقتدر (شغب)‪ ،‬وكبلىما ال تتورعاف عف فعؿ أي شيء لمحفاظ عمى مصالحيما‪ ،‬فيما‬
‫مف اتفقتا مع نازوؾ –رئيس الشرطة ‪ -‬عمى إعادة المقتدر إلى الخبلفة( ٔ)‪ ،‬ثـ تآمرتا عمى قتمو‬
‫( ٕ)‬
‫مف خبلؿ استدراجو إلى غرفة (ثمؿ) التي لـ تمانع في منحو جسدىا؛ ُليقتؿ في حضنيا‪.‬‬

‫وتظير سيطرة النساء عمى القصر في عدة أقواؿ‪ ،‬منيا قوؿ الراوي‪" :‬ثمؿ امرأة ليست‬
‫كالنساء‪ ،‬ثمؿ ليست كيرمانة‪ ،‬بؿ حاكمة بغداد"( ٖ)‪ ،‬وقولو‪" :‬شغب امرأة أخرى تحكـ بغداد‪ ،‬بغداد‬
‫تحكميا النساء"( ٗ)‪ ،‬ومف ذلؾ حديث رواد حانة بيراـ‪" :‬ثمؿ‪ ..‬مدبرة القصر‪ ،‬ومدبرة الخبلفة‪..‬‬
‫ثمؿ تستطيع أف تصدر مراسيـ مثميا في ذلؾ مثؿ الوزير عمي بف عيسى‪ ..‬ثمؿ الكيرمانة‬
‫تجمس في دار العدؿ تقضي وتحكـ!! ىؿ سمعتـ بيذا مف قبؿ!!؟"( ٘)‪ ،‬ويضاؼ إلى ذلؾ‪:‬‬
‫"الخميفة المقتدر‪ ..‬لوال أمو لكاف خميفة مقتد ًار بحؽ‪ ،‬ولكف أمو تحيطو برعاية أشبو برعاية‬
‫( ‪)ٙ‬‬
‫وال شؾ أف في كؿ ىذه األوصاؼ والتعميقات المتعمقة بشخصيتي (ثمؿ)‬ ‫اإلنساف لحيواناتو"‪.‬‬
‫و (شغب) دليؿ واضح عمى ضعؼ وعجز الخميفة‪ ،‬وفساد أمره‪ ،‬وسمب إرادتو‪ ،‬وعدـ قدرتو عمى‬
‫تحمؿ مياـ الحكـ ومسؤولياتو؛ النشغالو وتعمقو بالشيوات والممذات‪ ،‬فقد وفؽ السارد في توظيؼ‬
‫العنصر النسائي‪ ،‬خاصة وأنو استوحى شخصيات نسائية حقيقية ذكرتيا كتب التاريخ العربي‬
‫واإلسبلمي‪ ،‬فالكاتب لـ يخترع ىذه الشخصيات مف محض الخياؿ‪ ،‬بؿ إنو جمبيا مف أكثر‬
‫فترات العصر العباسي ضعفًا وانحطاطًا‪ ،‬والتي ال تختمؼ كثي ًار عما يجري في وقتنا الحالي؛‬
‫ليؤكد رؤيتو الفنية التي ترسـ صورة منفرة لمحاكـ تثير القارئ نحو التفكير في واقعو أكثر مما‬
‫تحيمو إلى التاريخ‪.‬‬

‫إذا عممت المرأة عمى تعرية وكشؼ ضعؼ الخميفة المقتدر في رواية القرمطي‪ ،‬فإنيا في‬
‫رواية عكا والمموؾ تفضح االنحراؼ الديني واألخبلقي عند الصميبييف‪ ،‬وتكشؼ زيؼ دعوتيـ‪،‬‬
‫ومف أىـ األشكاؿ الجديدة التي وظفيا السارد لممرأة في عكا والمموؾ شخصية األميرة الفاسدة‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬صٖٓٔ‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬ص‪ٔٓٚ‬‬
‫(ٖ) القرمطي‪ ،‬ص‪ٕٙ‬‬
‫(ٗ) القرمطي‪ ،‬ص‪ٕٛ‬‬
‫(٘) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬ص‪ٗٛ- ٗٚ‬‬
‫(‪ )ٙ‬القرمطي‪ ،‬صٕ‪ٛ‬‬

‫‪282‬‬
‫(جوانا) التي ال ىـ ليا سوى إشباع رغباتيا الجنسية( ٔ)‪ ،‬باإلضافة إلى شخصية زوجة‬
‫الفيسكونت (فاليريا) الساقطة في أوحاؿ الرذيمة( ٕ)‪ ،‬وشخصيات الراىبات المنحرفات (فيرونيكا‪،‬‬
‫بل فقط‪ ،‬لكنيف في الحقيقة غير ذلؾ‪ ،‬إذ يمارسف‬
‫وفرانشيسكا) المواتي يتخذف مف الديف ستا ًار وشك ً‬
‫( ٖ)‬
‫والجديد ىنا أف السارد لـ يكشؼ عف طبيعة ىذه‬ ‫كؿ ما يحمو ليف مف محرمات في الخفاء‪.‬‬
‫الشخصيات بأسموب السارد العارؼ العميـ الذي كاف سائداً في الرواية التاريخية التقميدية‪ ،‬إنما‬
‫كشؼ عنيا عف طريؽ توظيؼ تقنية السيرة الذاتية في حالة األميرة جوانا‪ ،‬وعف طريؽ الراوي‬
‫المشارؾ (عمر الزيف) الذي كاف يستخدـ ضمير المتكمـ‪ ،‬والذي ينقؿ لنا تجربتو الشخصية مع‬
‫النساء الصميبيات‪ ،‬حيث كشؼ السارد عف عوالـ الديف المسيحي وخاصة ما كاف يدور في سمؾ‬
‫الرىبنة في ذلؾ الوقت بكؿ تجرد وحيادية‪ ،‬وىذا مما يحسب لمكاتب‪ ،‬فاعتماد شخصية كانت في‬
‫قمب األحداث‪ ،‬أفضؿ بكثير مف االتكاء عمى السارد العميـ؛ ألف الشخصية في ىذه الحالة تكوف‬
‫أكثر إقناعاً وتأثي ًار‪ ،‬إذ ال يكوف ىناؾ حاجز بيف الشخصية الروا ئية والقارئ‪ ،‬مما يشعر األخير‬
‫بصدؽ ما يقرأ‪ ،‬ويجعمو أكثر تفاعبلً مع أحداث الرواية‪.‬‬

‫‪ -‬الشخصيات الصميبية‪:‬‬

‫لعؿ مف أىـ مبلمح التجديد في رواية (عكا والمموؾ) ىو ذكر السارد لمكثير مف‬
‫الشخصيات الغربية الصميبية‪ ،‬حيث لـ تتعرض الروايات التاريخية السابقة لمثؿ ىذه‬
‫الشخصيات‪ ،‬واف تعرضت ليا‪ ،‬فإنيا تذكرىا في ُعجالة دوف بياف آراء ىذه الشخصيات في‬
‫المسمميف‪ ،‬أو إظيار مواقفيـ الم ختمفة تجاىيـ‪ ،‬وقد تمتع أحمد رفيؽ عوض بالموضوعية‬
‫والحيادية فمنح الشخصيات الصميبية الحرية الكاممة في التعبير عف آرائيا المختمفة تجاه‬
‫المسمميف مف خبلؿ حواراتيا المختمفة‪ ،‬ولـ يصادر حؽ أي منيا في ذلؾ‪ ،‬ومف أىـ الشخصيات‬
‫الصميبية الواردة في الرواية شخصية الممؾ غميوـ ممؾ صقمية‪ ،‬والممؾ ريتشارد ممؾ إنجمترا‪،‬‬
‫والممؾ فيميب أغسطس ممؾ فرنسا‪ ،‬والمركيز كونراد دي مونتفرات (الكندىري)‪ ..‬وغيرىـ مف قادة‬
‫الصميبييف البارزيف‪ ،‬وقد جمع بيف كؿ ىذه الشخصيات الصميبية الحقد والعداء لئلسبلـ‬
‫والمسمميف‪ ،‬حيث اتخذوا مف استرداد قبر المسيح‪ ،‬والحفاظ عمى األماكف المقدسة‪ ،‬وتخميص‬
‫المسيحييف مف حكـ العرب والمسمميف الذيف كانوا يسمونوىـ بػ (البرابرة‪ ،‬والمحمدييف‪ ،‬والمبلحدة‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬صٔٓٔ ‪ٔٓٚ-‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬صٕ‪ٔٚ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬صٓ‪ٔٛ٘- ٔٛ‬‬

‫‪283‬‬
‫الكفرة) شعا اًر عاماً وىدفاً نبيبلً يسعوف لتحقيقو‪ ،‬لكف سرعاف ما ينكشؼ اليدؼ االستعماري‬
‫الحقيقي مف جراء ىذه الحروب‪ ،‬والذي يتمثؿ في رغبة الصميبييف في زيادة السيطرة والنفوذ‬
‫السياسي‪ ،‬باإلضافة إلى توسيع نطاؽ التجا ةر الصميبية لخدمة أغراضيـ االقتصادية‪ ،‬ومما يؤكد‬
‫ذلؾ اختبلؼ الصميبييف فيما بينيـ عمى قيادة ىذه الحرب‪ ،‬عبلوة عمى اختبلفيـ عمى تقسيـ عكا‬
‫( ٔ)‬
‫قبؿ دخوليا‪.‬‬

‫ومف أبرز مظاىر التجديد التي تميز بيا الكاتب ىو تعرضو لشخصيات رجاؿ الديف‬
‫المسيحي التي وردت بكثرة في (عكا والمموؾ) مثؿ‪ :‬األب كمود‪ ،‬واألب ميشيؿ‪ ،‬واألخت‬
‫فرانشيسكا‪ ،‬واألخت فيرونيكا‪ ،‬وممثؿ البابا كميستينوس الثالث‪ ،‬حيث أكد عمى الدور الخطير‬
‫الذي لعبتو ىذه الشخصيات في الترويج لمحروب الصميبية والدعوة إلى القضاء عمى العرب‬
‫والمسمميف‪ ،‬وانقاذ قبر المسيح كما كانوا َّ‬
‫يدعوف ‪ ،‬ومف الجدير بالذكر أف ىذا النوع مف‬
‫الشخصيات (الرىباف والقساوسة) لـ يتعرض ليا كتاب الرواية التاريخية العرب بكثرة‪ ،‬وقد وردت‬
‫ىذه الشخصيات في روايات جورجي زيداف التاريخية‪ ،‬والذي كاف يضفي عمييـ ىالة مف‬
‫السماحة والقداسة والمثالية مف منطمؽ عقائدي مسيحي‪ ،‬كما أنو جعؿ لمرىباف والقساوسة مكانة‬
‫عالية وتأثير كبير في توجيو الناس ونصحيـ وارشادىـ‪ ،‬عبلوة عمى ما يمنحوه لغيرىـ مف‬
‫مشاعر األمف واألماف والطمأنينة‪ )ٕ (.‬وقد اختمفت نظرة أحمد رفيؽ عوض لمرىباف المسيحيف عف‬
‫نظرة جورجي زيداف فنيًا وموضوعيًا‪ ،‬فيو مف الناحية الفنية لـ يعرض شخصياتيـ مف خبلؿ‬
‫أسموب السرد التقميدي الذي يعتمد عمى الراوي العارؼ العميـ كما فعؿ زيداف‪ ،‬بؿ اتكأ عمى تقنية‬
‫(عمر الزيف) الذي عايش الفرنجة‪ ،‬وتعامؿ مع الرىباف والراىبات عف‬
‫الشيادة التي يدلي بيا ُ‬
‫وتعمؽ في حياتيـ وكشؼ أسرارىـ‪ ،‬مما جعؿ شخصياتيـ نابضة بالحياة والحركة ومميئة‬
‫قرب‪َّ ،‬‬
‫بالتفاصيؿ الخاصة‪ ،‬وال شؾ في أف االعتماد عمى تقنية الشيادة يكوف أكثر إقناعاً وتأثي اًر في‬
‫يضؼ عمييـ صفة القداسة‬ ‫ِ‬ ‫المتمقي مف أسموب السرد التقريري‪ .‬وىو مف ناحية الموضوع لـ‬
‫والمثالية كما فعؿ زيداف‪ ،‬إنما كشؼ حقيقتيـ‪ ،‬وفضح االنحراؼ والفساد المستشري في المؤسسة‬
‫الدينية عند الصميبييف عمى كؿ المستويات (سياسياً‪ ،‬واعبلمياً‪ ،‬وأخبلقياً)‪ ،‬فالراىبات –كما ذكرنا‬
‫سابقاً ‪ -‬يمارسف الدعا ةر بطريقة سرية وعمنية وفي ذلؾ تقوؿ فرانشيسكا مخاطبة ُعمر الزيف‪" :‬ىؿ‬
‫تعتقد أف األب ميشيؿ يناـ حقاً عندما أدخؿ حجرتو؟‪ ..‬ويصؼ ُعمر بعد ذلؾ حالتو قائبلً‪:‬‬
‫"صعقتني المفاجأة‪ ،‬لـ تحممني ركبتاي‪ ،‬أحسست بالعري والخجؿ وقمة الحيمة‪ ،‬إذف؛ كؿ ما جرى‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٕٕٗ- ٕٖٛ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬جرجي زيداف في الميزاف‪ ،‬ص‪ٖٔٓ- ٖٜٓ‬‬

‫‪284‬‬
‫( ٔ)‬
‫كما أف الرىباف ينشروف‬ ‫قد تـ بتدبير محكـ‪ ،‬حتى األخت فيرون يكا كانت عمى عمـ بو"‪.‬‬
‫( ٕ)‬
‫واألخطر مف ذلؾ‬ ‫قدرتيـ الخارقة عمى شفاء المرضى بالصبلة أو بالممس‪.‬‬
‫األكاذيب حوؿ ا‬
‫كمو ىو التعصب األعمى الذي يتفؽ عميو جميع الرىباف خاصة في موقفيـ مف العرب‬
‫والمسمميف‪ ،‬ومف أمثمتو َفَزع ُعمر الزيف مف شدة تعصب األب كمود وحقده عمى المسمميف إذ‬
‫يقوؿ‪" :‬استغرب أف األب كمود ال يشاركني إيماني‪ ،‬وانو ال يستطيع أف ينظر إلى ديف الناس‬
‫الذي يحاربيـ‪ ،‬وأنو –إذا كاف يؤمف باهلل الخالؽ المبدع ‪ -‬فمماذا ينكر ىذا اإليماف عمى غي هر مف‬
‫الناس؟!‪ ..‬لقد وصمت إلى أف التعصب لما نحف فيو‪ ،‬ولما نحف عميو‪ ،‬ىو ما يجعمنا نحف‪ ..‬وقد‬
‫أقنعني األب كمود بتصرفو‪ ،‬ال بكبلمو أ ننا بحاجة إلى تعصب ما حتى نميز أنفسنا مف اآلخريف‪،‬‬
‫( ٖ)‬
‫ويضيؼ عمر الزيف‪:‬‬ ‫وال حاجة بنا إلى البحث عف براىيف لتأكيد أو تبرير ىذا التعصب"‪.‬‬
‫" التعصب ال يحتاج إلى براىيف‪ ،‬بؿ يحتاج إلى كثير مف األنانية والغضب‪ ،‬وىذا ما وجدتو لدى‬
‫كمود بطريقة كرىتو فييا إلى أبعد حدود‪ ،‬فقد تعرض إلى سيدنا محمد بكبلـ ال يميؽ واتيمو بكؿ‬
‫شائنة‪ ،‬وكاف –أثناء الحديث عميو ‪ -‬يدعوه (ماىوند)‪ ،‬واتيـ أصحابو بالشذوذ والدموية‪ ..‬وقاؿ إ ف‬
‫القرآف الكريـ مأخوذ عف التوراة في كبلمو عف الحقوؽ‪ ،‬ومأخوذ عف اإلنجيؿ في كبلمو عف‬
‫( ٗ)‬
‫ويرى الباحث أف السارد كاف صادقًا‬ ‫التسامح والحب‪ ،‬ولكنو تقاصر عف الكتابيف المقدسيف"‪.‬‬
‫وموضوعياً في تقديمو لمثؿ ىذه الشخصيات خاصة في فترة الحروب الصميبية‪ ،‬فيو لـ يخالؼ‬
‫حمؿ شخصيات الرىباف كؿ ىذا الكـ مف الحقد‬
‫التاريخ‪ ،‬ولـ يكف متعسفاً أو ىجومياً عندما َّ‬
‫والكراىية والعنصرية الموجية ضد العرب والمسمميف في ذلؾ الوقت‪ ،‬وال ننسى أف ىؤالء الرىباف‬
‫ىـ الذيف دعوا مف البداية إلى تأجيج ىذه الحروب التي كانوا يصفونيا بالمقدسة‪.‬‬

‫لعؿ أىـ مبلمح التطور في بناء الشخصيات الروائية عند أحمد رفيؽ عوض ىو‬
‫اعتمادىا بشكؿ كبير عمى البعد الترميزي الذي يرتبط بعمميات الترىيف والتخطيب الزمني‪ ،‬حيث‬
‫"إف التركيب الدرامي لشخصيات الرواية‪ ،‬وبنائيا العاـ‪ ،‬ال ينفي البعد الترميزي الذي تشكمو كؿ‬
‫( ٘)‬
‫ففي رواية القرمطي نجد الكثير مف الرموز الشخصية التي تعمؿ عمى‬ ‫شخصية عمى حدة"‬
‫ترىينيا زمنياً مثؿ‪ :‬الخميفة المقتدر الذي يمثؿ الحاكـ الضعيؼ المستسمـ لشيواتو وممذاتو الذي‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص٘‪ٔٛ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬صٕ‪ٔٛ‬‬
‫(ٖ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٔٚٛ‬‬
‫(ٗ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٔٚٛ‬‬
‫(٘ ) مقاربات نقدية (بحث بنية الخطاب والنص في رواية القرمطي)‪ ،‬صٕٗٔ‬

‫‪285‬‬
‫يقود إلى اليزيمة إذ ّْ‬
‫تقدـ ىذه الشخصية "صورة بغيضة ومنفرة لمحاكـ العربي"( ٔ)‪ ،‬ومؤنس الخادـ‬
‫ونازوؾ المذاف يمثبلف القيادة العسكرية الفاسدة والقمعية التي تسعى لتحقيؽ مصالحيا الخاصة‪،‬‬
‫ويعد أبو طاىر القرمطي وأتباعو رم ًاز لممذاىب الفاسدة المنحرفة في كؿ زماف ومكاف‪ ،‬باإلضافة‬
‫إلى شخصيات العمماء أمثاؿ الصولي وابف دريد وابف العبلؼ والجيشياري وغيرىـ مف المعتزلة‬
‫واألشاعرة يرمزوف جميعاً إلى المثقفيف غير الفاعميف ممف ال ييتموف بشؤوف الببلد وينشغموف‬
‫بأمور ثانوية ال عائد منيا‪ ،‬كذلؾ فإف الشخصيات النسائية (شغب وثمؿ) تمثبلف المرأة‬
‫المتسمطة‪ ،‬الحاكمة الفعمية في قصور الحكاـ في الماضي والحاضر‪ .‬ونجد ذلؾ البعد الترميزي‬
‫أيضًا في رواية عكا والمموؾ‪ ،‬فصبلح الديف رمز لمقائد المسمـ المجاىد الذي ُيصدـ بواقع األمة‬
‫ويحزف لتخاذؿ بعض الحكاـ أو تآمر البعض اآلخر عمى المسمميف‪ ،‬والقاضي الفاضؿ‪ ،‬وابف‬
‫شداد‪ ،‬وابف جبير رمز لعمماء األمة المخمصيف الفاعميف الذيف يحرصوف عمى مصالحيا‪ ،‬كما أف‬
‫اإلدريسي رمز لمعمماء الميجريف في ببلد الغرب‪ ،‬وكؿ مف قراقوش والمشطوب مثاؿ لمقادة‬
‫العسكرييف الثابتيف عمى الحؽ في ظؿ تخاذؿ الكثيريف‪ ،‬عبلوة عمى أف شخصيات المموؾ‬
‫الصميبييف ومف يتبعيـ رمز لمقوى االستعمارية المعادية لمعرب والمسمميف في الزمف الحاضر‪.‬‬

‫خامساً‪ :‬المكان‪:‬‬

‫اىتـ أحمد رفيؽ عوض بتطوير نظرة كتاب الرواية التاريخية لممكاف الروائي‪ ،‬وىو في‬
‫بكتاب الرواية التاريخية الجديدة خاصة جماؿ الغيطاني ورضوى عاشور‪،‬‬
‫ذلؾ يبدي تأث اًر كبي اًر ّ‬
‫إذ اختمؼ تصويره ووصفو لممكاف الروائي عف ذلؾ الوصؼ التقميدي الذي رأيناه في روايات‬
‫جورجي زيداف التاريخية‪ ،‬التي كانت تيتـ بالوصؼ الجغرافي التفصيمي‪ ،‬وقد ارتبط توظيؼ‬
‫ال ومشاركًا في العمؿ‬
‫السارد لممكاف بخصائص الرواية الجديدة التي تجعؿ لو دو ًار رئيسًا وفعا ً‬
‫مشكبلت السرد األخرى‪ ،‬حيث اتسعت دالالت المكاف لتشمؿ الحالة‬ ‫الروائي‪ ،‬ال يقؿ أىمية عف ّْ‬
‫النفسية لمشخصيات الروائية مف ناحية‪ ،‬واألحداث والزمف مف ناحية أخرى‪ ،‬فالمكاف أو ّْ‬
‫الحيز‬
‫حمؿ بو‬
‫في الرواية التاريخية الجديدة ال يأخذ أىميتو مف كثرة وصفو جغرافياً‪ ،‬إنما يأخذىا مما ُي َّ‬
‫مف دالالت وايحاءات تخدـ المعنى العاـ لمرواية‪ ،‬فالوصؼ في الرواية الجديدة يعتمد عمى‬
‫"اإلشارات الخاطفة والسريعة لمحيز الروائي‪ ،‬وينيض عمى التمميح واإليحاء وجمالية التعبير‬
‫( ٕ)‬
‫المعتمد عمى قد ةر القارئ في التوصؿ إلى أبعاده"‪.‬‬

‫(ٔ) دراسات في الرواية الفمسطينية‪ ،‬صٕٗٔ‬


‫(ٕ) انظر‪ّْ ،‬‬
‫مشكبلت السرد في رواية عكا والمموؾ (بحث)‪ ،‬ص‪ٜٔٙ‬‬

‫‪286‬‬
‫تتمثؿ أىـ مظاىر التجديد عند أحمد رفيؽ عوض في طغياف المكاف‪/‬الحيز وسيطرتو‬
‫عمى ّْ‬
‫مشكبلت السرد األخرى واسيامو في تشكيميا وتطورىا‪ ،‬باإلضافة إلى انحيازه التاـ نحو‬
‫( ٔ)‬
‫وليذا‬ ‫"الدائرة األدبية في التعامؿ مع الحيز عمى حساب الدائرة الجغرافية الواقعية والتاريخية"‬
‫برزت جماليات السرد المرتبطة باألماكف مف خبلؿ عمميات اإليجاز والتكثيؼ متعددة اإليحاءات‬
‫والدالالت‪ ،‬التي تتجاوز اإلطناب والتفصيؿ الم ِمؿ الذي ّْ‬
‫يشكؿ عبئاً عمى الرواية وثِقبلً عمى‬ ‫ُ‬
‫القارئ في الوقت نفسو‪ .‬وقد سيطر ف ضاء المدينة عمى روايات الكاتب التاريخية‪ ،‬حيث تبرز‬
‫(بغداد) كمدينة يسودىا الخوؼ والرعب واالضطراب في رواية القرمطي‪ ،‬فقد ابتدأ السارد الرواية‬
‫بعدد مف األقواؿ تؤكد ذلؾ مثؿ‪" :‬كاف كؿ شيء صامتًا‪ ،‬ينذر بعاصفة‪ ،‬جند الساجية والحجرية‬
‫يحاصروف كؿ الزوايا واألشجار والمسارب والطرقات‪ ..‬اعتصر األلـ قمب الصولي‪ ..‬بغداد عمى‬
‫مشارؼ ىاوية ال يعمـ غورىا إال اهلل‪ ..‬لـ يستغرب الرجؿ خمو الشوارع مف الناس رغـ الوقت‬
‫المبكر‪ ،‬الناس ينتظروف كارثة ستحؿ بمدينتيـ‪ ..‬األمر صائر إلى خراب‪ .‬لمخراب رائحة ال‬
‫يخطئيا المرء‪ ..‬بغداد‪ ..‬القصر محاصر‪ ..‬والناس خائفوف"( ٕ) ُيبلحظ الباحث أف السارد عمؿ‬
‫عمى المزج بيف األماكف واألحداث واألشخاص ليؤكد فكرة الخوؼ والرعب السائدة في المدينة‪،‬‬
‫والتي ال يطمبيا السارد لذاتيا‪ ،‬بؿ لكونيا أحد مظاىر اليزيمة الداخمية المقترنة بضعؼ الخميفة‬
‫وفساده‪ ،‬األمر الذي أرخى بظبللو عمى المكاف (المدينة) بشكؿ عاـ‪ .‬ولـ يقتصر جو الرعب في‬
‫( ٖ)‬
‫التي تعاني مف الرعب والقتؿ‬ ‫الرواية عمى مدينة بغداد‪ ،‬بؿ إنو يبدأ ببغداد لينتقؿ إلى الكوفة‬
‫الذي يسببو القرمطي وجيشو‪ ،‬لتنتيي الرواية بجو آخر مف الرعب الصادـ في مكة حيث يقوـ‬
‫القرمطي بقتؿ وذبح اآلالؼ مف حجاج بيت اهلل الحراـ في جو مأساوي تقشعر لو األبداف وتيتز‬
‫لو النفوس( ٗ) ‪ ،‬فجو الرعب والخوؼ يأخذ في الرواية حركة دائرية غير منتيية ترتبط بأىـ مدف‬
‫العالـ اإلسبلمي عمى المستوييف السياسي والديني‪ ،‬وال شؾ في أف السارد أراد مف خبلؿ إثا ةر‬
‫ىذه الحركة الدائرية المستمرة مف الخوؼ والرعب في العالـ العربي واإلسبلمي ترىيف الواقع‬
‫مكانياً وزمانياً‪ ،‬فبل زاؿ العالـ العربي واإلسبلمي يعاني الكثير مف المشاكؿ واالضطرابات‬
‫السياسية والدينية خاصة إذا ربطنا ذلؾ بما حدث ويحدث في فمسطيف والعراؽ‪.‬‬

‫(ٔ ) مقاربات نقدية (بحث بنية الخطاب والنص في رواية القرمطي)‪ ،‬صٖٔٔ‬
‫(ٕ) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬ص‪ٔٓ- ٚ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬صٖٗٔ ‪ٖٔٚ-‬‬
‫(ٗ) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬ص‪ٕٔٚ- ٕٔٙ‬‬

‫‪287‬‬
‫وفي رواية عكا والمموؾ تظير مدينة (عكا) كمنتج لؤلحداث‪ ،‬ومحرؾ لمشخصيات‪،‬‬
‫ومحور لمصراع الحضاري بيف الشرؽ العربي اإلسبلمي والغرب الصميبي‪ ،‬حيث كانت مدينة‬
‫(عكا) بمثابة شخصية فاعمة ورئيسة في الرواية‪ ،‬وقد أرخت بظبلليا وأثرىا الكبير عمى كؿ‬
‫مشكبلت السرد مف أحداث‪ ،‬وشخصيات‪ ،‬وزماف ونمحظ ذلؾ في عدد مف األقواؿ منيا قوؿ‬ ‫ّْ‬
‫السارد‪" :‬ىبط الميؿ عمى عكا المحاصرة‪ ،‬وعمى بحرىا‪ ،‬وعمى ما جاورىا مف أرض فمسطيف"( ٔ)‪،‬‬
‫وقوؿ ابف شداد واصفاً حالو وحاؿ صبلح الديف‪" :‬ثمانية عشر شي اًر وأنا معو حوؿ عكا‪،‬‬
‫( ٕ)‬
‫حيث تظير حالة التمازج بيف المكاف والزماف‬ ‫نحاصر مف يحاصرىا مف الفرنجة المخذوليف"‬
‫والحدث‪ .‬ويظير الوصؼ اآلتي موقع كؿ مف المسمميف والصميبييف مف مدينة عكا‪ ،‬حيث تقوؿ‬
‫جوانا‪" :‬لـ أجد سوى النيراف اليائمة التي تشتعؿ عمى التؿ الذي نتواجد عميو‪ ،‬وىو تؿ عريض‬
‫مقوس يمتد مف الجنوب إلى الشماؿ‪ ،‬ويحيط بمدينة عكا المحاصرة‪ ،‬التي بدت في تمؾ الميمة‬
‫مجرد كتمة ىائمة سوداء‪ ،‬ال يشاىد منيا سوى ذبالة ضوء ىنا أو ىناؾ‪ ،‬وعمى التؿ المقابؿ‪ ،‬فقد‬
‫امتدت خياـ معسكر صبلح الديف‪ ،‬حيث المشاعؿ ا لكثيرة المتحركة‪ ،‬التي تخيؿ إليؾ أنيـ ال‬
‫( ٖ)‬
‫يتضح مف الفقرة السابقة احتداـ حالة الصراع بيف المسمميف والصميبييف عمى‬ ‫يناموف أبدًا"‬
‫المكاف (عكا) الذي يشكؿ ىدفًا لكؿ منيما‪ ،‬فكبلىما يحيط بالمدينة‪ ،‬ويسعى لمسيطرة عمييا‪ ،‬كما‬
‫أف الفريقيف يظيراف حالة مف الصحو والتيقظ الدائـ والمستمر‪ .‬ومما يدؿ عمى شدة الخراب‬
‫والدمار الذي لحؽ بالمدينة قوؿ السارد‪" :‬دخؿ المشطوب المدينة وفوجئ بما يجري داخميا؛ كاف‬
‫التدمير عنوانيا‪ ،‬وكانت أحجار المنجنيؽ والدواب النافقة والجثث تغمؽ شوارعيا‪ ،‬وكاف الجرحى‬
‫والمرضى الذيف ال يجدوف عبلجًا البيمارستاف‪ ،‬وكاف سبلحيا مف السياـ والسيوؼ والنفط‬
‫( ٗ)‬
‫وكأف السارد يريد مف خبلؿ وصفو لشدة الدمار الذي أصاب المكاف‬ ‫يشارؼ عمى النفاذ"‬
‫التمييد لمقارئ بحتمية سقوط المدينة في القريب العاجؿ‪ ،‬فالمكاف ليس عنص اًر جمالياً فقط‪ ،‬بؿ‬
‫إنو يسيـ في تطور األحداث‪ ،‬ثـ إف ذلؾ يوحي بالتمسؾ بالمكاف واالستماتة في الدفاع عنو‬
‫وشدة االرتباط والتعمؽ بو‪ ،‬وىذا أكبر دليؿ عمى أف المكاف يسكف في نفوس أصحابو‪.‬‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص٘ٗ‬


‫(ٕ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٓ‪ٛ‬‬
‫(ٖ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٕٗٔ‬
‫(ٗ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٖٔٔ‬

‫‪288‬‬
‫ومما يظير شدة حزف صبلح الديف وألمو عمى سقوط عكا بيد الصميبييف قوؿ القاضي‬
‫( ٔ)‬
‫وصبلح الديف يتعمؽ بعكا وال‬ ‫الفاضؿ‪" :‬موالي السمطاف صبلح الديف صار يبكي كالثكمى"‬
‫يريد االبتعاد عنيا حتى بعد سقوطيا في يد الصميبييف‪ ،‬ثـ إنو يعمؿ عمى تشخيص المكاف‬
‫ومخاطبتو قائبلً‪" :‬يشيد اهلل يا عكا‪ ،‬أني فعمت ما بوسعي‪ ،‬وأرجو مف اهلل أف ييبني القدرة والقوة‬
‫الستعادتؾ‪ ،‬فإف لـ أكف أنا‪ ،‬فمييسر لؾ اهلل رجبلً مف رجالو الثقات‪ ،‬وسيفاً مف سيوفو‬
‫( ٕ)‬
‫األمر الذي يظير شدة تعمؽ القيادة المسممة‬ ‫المصقوالت يعيدؾ إلى حوزة اإلسبلـ والمسمميف"‬
‫بالمكاف‪ ،‬فالمكاف اإلسبلمي ليس جغرافيا فقط‪ ،‬وال يساويو أي مكاف في العالـ‪ ،‬بؿ إف سقوطو‬
‫مف وجية نظر القائد المسمـ يعني أف المسمميف والديف اإلسبلمي في خطر‪ ،‬ولذلؾ توجع صبلح‬
‫الديف كثي ًار مف عدـ قدرتو عمى المحافظة عمى عكا أو الدفاع عنيا‪ ،‬وكأف السارد يوجو رسالة‬
‫شديدة الميجة إلى حكامنا في ىذا الزماف‪ ،‬أف ىذا ىو موقؼ القائد المسمـ مف اليزيمة‪ ،‬إنو‬
‫يرفضيا وال يقبميا‪ ،‬ويسعى إلى تغييرىا فماذا عنكـ أنتـ؟ يا مف ضيعتـ فمسطيف‪ ،‬وقصرتـ وما‬
‫زلتـ تقصروف في العمؿ مف أجؿ تحريرىا خاصة إذا قمنا أنو يجعؿ مف مدينة عكا رم اًز‬
‫لفمسطيف بشكؿ عاـ‪.‬‬

‫لعؿ مف أىـ التحوالت في تعامؿ السارد مع المكاف تأكيده عمى فكرة اغتياؿ األماكف‬
‫متأثر بأسموب رضوى عاشور في‬ ‫ٌ‬ ‫واستباحتيا وانتياؾ خصوصيتيا‪ ،‬ويبدو أف كاتبنا في ذلؾ‬
‫(ثبلثية غرناطة) التي استخدمت ىذه الطريقة في تصوير أماكنيا الروائية‪ ،‬إال أف أحمد رفيؽ‬
‫عوض كاف أكثر ق سوة وجرأة في تصوير انتياؾ األماكف‪ ،‬ويظير ذلؾ بوضوح في رواية‬
‫(القرمطي) مف خبلؿ وصؼ السارد القتحاـ جنود مؤنس الخادـ لقصر الخميفة المقتدر حيث‬
‫يقوؿ‪" :‬انطمؽ ىؤالء كالذئاب الجريحة‪ ،‬تسوروا القصر بسبللـ وكبلليب‪ ،‬تسمقوا بميارة القطط‬
‫البرية‪ ،‬دقوا الباب الكبير بالمضراب الحديدي‪ ،‬وما ىي إال ىنييات معدودة حتى كانوا داخؿ‬
‫القصر‪ ..‬استباح جند الحجرية والساجية قصر الخميفة المقتدر‪ ،‬فعموا ما أرادوا‪ ،‬وارتكبوا ما حمموا‬
‫بو طيمة حياتيـ‪ ..‬تصايحوا في جنبات القصر‪ ،‬تنادوا بأسمائيـ األعجمية‪ ،‬عاشوا لحظات فريدة‬
‫في حياتيـ‪ ..‬ضحكوا‪ ،‬شربوا مما وجدوا‪ ،‬تبولوا في الزوايا‪ ،‬جمسوا في مقعد الخميفة‪ ،‬سرقوا ثيابو‪،‬‬
‫( ٖ)‬
‫ومف‬ ‫أخذوا نعالو الجمدية والحريرية والقطنية‪ ،‬فتحوا خزانتو‪ ،‬أخرجوا المراسيـ وبالوا عمييا‪."..‬‬
‫المبلحظ أف ىذا الوصؼ لـ يركز عمى الناحية الجغرافية لمقصر‪ ،‬إنما ركز عمى إىانة القصر‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٕ٘٘‬


‫(ٕ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٕٚٙ‬‬
‫(ٖ) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬صٔ‪ٕٙ- ٙ‬‬

‫‪289‬‬
‫الذي ىو رمز لمق ر الخبلفة العباسية‪ ،‬مما يدؿ عمى شدة الضعؼ الذي وصؿ إليو الخميفة في‬
‫تبؽ قيمة لشيء‪ ،‬فأي خميفة ذلؾ الذي يفر مف القصر ويتركو عرضة لمنيب‬ ‫ذلؾ الزماف‪ ،‬فمـ َ‬
‫والسمب واإلىانة‪ ،‬فاقتحاـ الجنود لمقصر لو معاني كبيرة‪ ،‬تتمثؿ في انعداـ سيط ةر الخميفة عمى‬
‫الدولة‪ ،‬وأنو مجرد ص ورة وأف المتحكميف الحقيقييف في الخبلفة ىـ الخدـ وقادة الجيش‪ .‬وترد في‬
‫تصور اقتحاـ‬
‫ّْ‬ ‫ذات الرواية صورة أكثر قسوة وبشاعة‪ ،‬وىي تمؾ التي ترد في نيايتيا‪ ،‬والتي‬
‫جيش القرمطي لبيت اهلل الحراـ والكعبو المشرفة بمكة‪ ،‬حيث قاـ ىو وجنوده بارتكاب الكثير مف‬
‫الجرائـ والفظائع بحؽ المسمميف‪ ،‬وبحؽ المكاف المقدس الذي استباحوه وانتيكوا حرمتو بكؿ قسوة‬
‫وبشاعة‪ )ٔ (.‬كما يظير انتياؾ األماكف في فرض الصميبييف لحصار طويؿ لمدينة عكا في رواية‬
‫(عكا والمموؾ)‪ ،‬ومحاوالتيـ المستمرة القتحاميا ودخوليا عنوة‪ ،‬وتمكنيـ في النياية مف دخوليا‬
‫( ٕ)‬
‫والسيط ةر عمييا بعد استسبلميا‪.‬‬

‫ومف أىـ مظاىر التجديد في تعامؿ السارد مع المكاف أو الحيز الروائي اعتماده عمى‬
‫تقنية المقابمة أو المفارقة‪ ،‬تتمثؿ المفارقة األولى في المقابمة بيف قداسة المكاف الدينية التي‬
‫تضفي عمى النفس مشاعر الراحة والسكينة‪ ،‬في مقابؿ البيئة الجغرافية المخيفة المحيطة بنفس‬
‫المكاف‪ ،‬يظير ذلؾ في وصؼ السارد لذىوؿ الجيشياري مف رؤيتو لمكة المكرمة‪ ،‬فقد تعجب‬
‫مف طبيعتيا الصعبة المخيفة حيث‪" :‬فوجئ بالمشيد‪ ،‬بمدة قميمة البيوت‪ ،‬تسور الكعبة المشرفة‪،‬‬
‫بيف جباؿ فظة تكاد تشبو السكاكيف في حدتيا وانطبلقيا نحو األعمى‪ ،‬البمدة التي تيواىا األفئدة‪،‬‬
‫بمدة ترتجؼ في واد عار مف كؿ شيء إال الشمس الساطعة والصخور السوداء والجباؿ الحادة‬
‫( ٖ)‬
‫أما المفارقة األخرى فتظير في بياف اختبلؼ تأثر الشخصيات باألماكف‬ ‫المنفمتة الصاعدة"‪.‬‬
‫ذاتيا ‪ ،‬ومف ذلؾ بياف السارد لموقؼ منصور الديممي –أمير الحج ‪ -‬والصولي وسائر حجاج‬
‫المسمميف مف رؤية الكعبة المشرفة وبيت اهلل الحراـ بمكة‪ ،‬حيث تممكتيـ مشاعر إيمانية عظيمة‬
‫ارتبطت بيذه األماكف المقدسة‪ ،‬ومقابمة ذلؾ بعدـ تأثر القرمطي وجيشو بيذا المكاف المقدس‪،‬‬
‫حيث عمؿ عمى إىانتو والتقميؿ مف قيمتو‪ ،‬مف خبلؿ قتمو وذبحو آلالؼ المسمميف عند الكعبة‬
‫المشرفة‪ ،‬عبلوة عمى سرقتو لمحجر األسود‪ ،‬واعبلنو لمكفر واإللحاد الصريح‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫ادعائو لؤللوىية في ذات المكاف‪.‬‬

‫(ٔ) انظر‪ ،‬القرمطي‪ ،‬ص‪ٕٔٚ- ٕٔٙ‬‬


‫(ٕ) انظر‪ ،‬عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ ،ٕٜٗ- ٕٗٚ‬صٕ٘٘‬
‫(ٖ) القرمطي‪ ،‬ص‪ٜٔٙ‬‬

‫‪291‬‬
‫والحظ الباحث توظيؼ السارد لعدد مف األماكف الروائية الجديدة‪ ،‬ومف أىميا ما يأتي‪:‬‬

‫‪ - 7‬البحر‪:‬‬

‫يبرز البحر كأحد األماكف الجديدة التي تـ توظيفيا في الرواية التاريخية عند أحمد رفيؽ‬
‫عوض‪ ،‬حيث لـ يظير البحر بشكؿ مؤثر في الروايات التاريخية السابقة‪ ،‬فمـ نجده عند جماؿ‬
‫الغيطاني في (الزيني بركات)‪ ،‬ولـ نجده عند رضوى عاشور في (ثبلثية غرناطة)‪ ،‬وقد تعددت‬
‫اإلشارة إلى البحر كمكاف روائي فعاؿ ومشارؾ في الحدث في رواية (عكا والمموؾ) وكانت ىذه‬
‫ومحممة بالدالالت النفسية والرمزية‪ ،‬وال شؾ في أف لموقع مدينة عكا عمى‬
‫َّ‬ ‫اإلشارات مشحونة‬
‫ساحؿ البحر أثر كبير في ذلؾ‪ .‬وقد ارتبطت الرواية بالبحر مف بدايتيا‪ ،‬فالرحالة ابف جبير‬
‫تسمـ راية السرد في أوؿ فصوؿ الرواية يصعد إلى مركب مصري ويسير في عرض البحر‬ ‫الذي َّ‬
‫قاصداً صقمية‪ ،‬ومف الواضح اف توظيؼ السارد لمبحر جاء متبلئماً مع نفسية ابف جبير في‬
‫مواقفو المختمفة‪ ،‬فقد كاف البحر بالنسبة إليو مصدر قمؽ وخوؼ وسحر في بداية الرحمة‪ ،‬وىذا‬
‫يناسب حالة الحزف واألسى التي تتممؾ نفس الشاعر نتيجة لضعؼ المسمميف وتفرقيـ حيث‬
‫يقوؿ في وصفو‪" :‬البحر الكبير‪ ،‬الرجراج‪ ،‬المخيؼ‪ ،‬ذو المجة الغميظة‪ ،‬يبدو ‪-‬في بعض‬
‫األحياف ‪ -‬كأنو بساط ناعـ مف الزمرد األخضر أو العسجد األزرؽ‪ .‬البحر ساحر حقًا‪ ،‬وقد رأيت‬
‫منو األىواؿ حقاً‪ .‬وفيو يشعر المرء بوحدتو وضعفو وقمة حيمتو‪ ،‬ليس ىناؾ أكثر مف البحر َم ْف‬
‫يعممنا التواضع‪ ،‬يعممنا أكثر مف الصحراء‪ ،‬وأكثر مف الجباؿ العالية وأكثر مف كؿ شيء‬
‫آخر"‪ )ٔ (.‬في حيف يظير إحساس جديد يمؤل نفس ابف جبير بالسعادة؛ لمغادرتو صقمية التي رأى‬
‫فييا اضطياد النصارى إلخوانو المسمميف‪ ،‬ووصولو إلى مدينة اإلسكندرية التي يحب‪ ،‬وقد‬
‫انعكس ىذا اإلحساس عمى وصفو لمبحر إذ نجده يقوؿ‪" :‬كاف البحر رضيًا ووديعًا بشكؿ سمح‬
‫( ٕ)‬
‫كما إف ابف جبير يظير حالة مف التوحد والتأثير‬ ‫لي أف أنيمؾ في صبلتي فوؽ الماء"‪.‬‬
‫المتبادؿ مع البحر حيف يقوؿ‪" :‬أشعر أف جسدي يفيـ األجساد األخرى مف الناس والماء وحيتاف‬
‫البحر وغيوـ السماء‪ ،‬والريح التي تدفع القموع دفعاً"( ٖ)‪ ،‬ثـ إنو يعمؿ عمى تشخيص البحر في‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص٘ٔ‬


‫(ٕ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٖٜ‬‬
‫(ٖ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٜٔ‬‬

‫‪291‬‬
‫أثناء دخولو إلى عكا متخطياً حصار الصميبييف ليا فيخاطبو قائبلً‪" :‬أنت أييا البحر‪ ،‬أنت عبد‬
‫( ٔ)‬
‫مف عبيد اهلل ليس إال‪ ،‬تأتمر بأم هر كبقية خمقو‪ .‬اىدأ أييا البحر"‪.‬‬

‫ومف ناحية أخرى يوضح السارد أثر البحر السيء والسم بي عمى أىؿ عكا‪ ،‬فالبحر ال‬
‫يجمب الخير والرخاء فقط‪ ،‬بؿ إنو –أحياناً ‪ -‬يكوف مصد اًر لمشر والظمـ واالحتبلؿ والحصار‬
‫وذلؾ باعتباره مم اًر لمغزاة والطامعيف وىذا ما حدث مع أىؿ عكا عمى مر التاريخ حيث إف‪:‬‬
‫ال"( ٕ) كما "اعتاد البحر أف ينفتح ويقذؼ إلى سواحؿ‬
‫"مموؾ الغرب سيممؤوف البحر سفنًا ورجا ً‬
‫الشاـ أجناساً مف الفرنج ة يحتاجوف إلى عدة ترجمانات ليتفاىموا فيما بينيـ‪ .‬وبقدوـ ممؾ‬
‫( ٖ)‬
‫وقد كاف البحر‬ ‫الفرنسيس بدا أمر عكا المحاصرة منذ ثمانية عشر شي اًر أكثر تعقيداً وخطورة"‪.‬‬
‫ميدانا وساحة لمبطولة والتضحية والفداء‪ ،‬وذلؾ عندما ىدـ رجاؿ المسمميف سفينتيـ المحممة‬
‫بالسبلح والطعاـ‪ ،‬حيف وقعوا في حصار بيف مراكب الفرنجة وىـ في طريقيـ إلى عكا‪ ،‬مفضميف‬
‫( ٗ)‬
‫الغرؽ والشيادة في سبيؿ اهلل عمى االستسبلـ لمصميبييف‪.‬‬

‫‪ - 6‬الكنيسة‪:‬‬

‫مف األماكف الجديدة التي وظفيا السارد في رواياتو التاريخية‪ ،‬والتي لـ تظير بكثرة لدى‬
‫كتاب الرواية التاريخية السابقيف‪ ،‬وقد وردت الك نيسة كمكاف في رواية (عكا والمموؾ) عمى لساف‬
‫األميرة جوانا إذ تقوؿ‪" :‬كاف ذىابي إلى الكنيسة جزءاً مف الواجب ليس إال‪ ،‬وفرصة لمشاىدة‬
‫الناس والوجوه الجديدة‪ ،‬وسماع األخبار المتواترة عف سقوط القدس في يد صبلح الديف‪ ،‬وجنوف‬
‫الممؾ وليـ أو مرضو جراء سماعو ذلؾ الخبر‪ )٘ ("..‬وظيرت أيضًا عمى لساف ُعمر الزيف في‬
‫وصفو الدعائو التنصر‪" :‬في ساحة الكنيسة‪ ،‬تباىت بي فاليريا أماـ الجميع‪ ،‬وقالت إنيا تمنحني‬
‫( ‪)ٙ‬‬
‫حيث يبيف‬ ‫لمخدمة في البيمارستاف‪ ،‬وانيا بسموكيا المسيحي الصالح قد جعمتني أترؾ ديني"‪.‬‬
‫السارد مف خبلؿ ذكر ىدؼ األميرة جوانا مف الذىا ب إلى الكنيسة حالة الفراغ الروحي لدى‬
‫شخصيات الصميبييف‪ ،‬إذ تحولت الكنيسة مف مكاف لمعبادة يضفي عمى النفس الراحة والطمأنينة‬

‫(ٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٜٙ‬‬


‫(ٕ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٕ٘‬
‫(ٖ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٖ‪ٚ‬‬
‫(ٗ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٕٓٔ‬
‫(٘) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٔٓٚ‬‬
‫(‪ )ٙ‬عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٔٚٙ‬‬

‫‪292‬‬
‫إلى مكاف لمقاءات االجتماعية وتناقؿ األخبار الجديدة‪ ،‬كما أنو أظير في المقطع الثاني أف‬
‫الكنيسة أصبحت مكانًا لمنفاؽ والكذب االجتماعي‪ ،‬فالس يدة فاليريا تصؼ سموكيا بالمسيحي‬
‫الصالح مع أف الجميع يعمـ مدى فسادىا وانحبلليا‪ .‬ومف الواضح عدـ تطرؽ السارد لموصؼ‬
‫الجغرافي لممكاف‪ ،‬بؿ إنو أظير عبلقة الشخصية وانطباعاتيا الخاصة عنو‪.‬‬

‫سادساً‪ :‬الزمان‪:‬‬

‫تُظ ِي ُر روايات أحمد رفيؽ عوض تحو ً‬


‫ال كبي ًار في تعامؿ السارد م ع الزمف الروائي‪ ،‬ىذ‬
‫التحوؿ ال ينفصؿ عف التحوالت التي ظيرت عند ُك ّتاب الرواية التاريخية الجديدة في األدب‬
‫العربي‪ ،‬فقد تعامؿ كاتبنا مع الزمف الروائي في رواياتو التاريخية وفؽ مبدأ تكسير الزمف‬
‫وتقطيعو وعدـ انتظامو‪ ،‬فالزمف الروائي عنده ليس تعاقبياً أو خطياً كحاؿ الزمف في الرواية‬
‫التاريخية التقميدية والواقعية‪.‬‬

‫إننا إذا نظرنا إلى الزمف الصرفي التاريخي الذي ّْ‬


‫يشكؿ المادة الحكائية الخاـ لروايات‬
‫الكاتب التاريخية‪ ،‬فإننا نجده زمف كبير يتسع لمكثير مف األحداث والشخصيات واألماكف‬
‫والمواقؼ المختمفة‪ ،‬فيو في رواية (القرمطي) يبدأ بعاـ ٘‪ٕٜ‬ىػ ‪-‬بداية خبلفة المقتدر باهلل في‬
‫العصر العباسي ‪ -‬وينتيي عاـ ٕٖٖ ىػ بيبلؾ أبي طاىر القرمطي‪ ،‬ما يقدر بسبعة وثبلثيف‬
‫عاماً‪ .‬كما أف زمف القصة في رواية (عكا والمموؾ) يبدأ مف عاـ ٘‪ ٘ٛ‬ىػ الذي يمثؿ بداية‬
‫حصار الصميبييف لمدينة عكا‪ ،‬وينتيي عاـ ‪٘ٛٚ‬ىػ بسقوط عكا في يد الصميبييف ومقتؿ ثبلثة‬
‫آالؼ أسير مسمـ عمى يد ريتشارد قمب األسد ‪ ،‬والزمف في كبل الحالتيف زمف خطي تتابعي‬
‫متسمسؿ يعتمد عمى الترتيب المنطقي السببي لؤلحداث‪ ،‬وىو زمف كبلسيكي لـ يتقيد بو السارد‬
‫في بناء زمف الخطاب الروائي لرواياتو التاريخية‪ ،‬حيث عمؿ عمى الخروج مف سيطرة الزمف‬
‫التاريخي الصرفي‪ ،‬واالنتماء إلى زمف الخطاب الروائي متجنباً طبيعة السرد التاريخي الخاـ؛‬
‫ليكوف أكثر التصاقاً بطبيعة السرد األدبي‪ ،‬الذي يتمتع فيو الكاتب بالحرية الكاممة في التبلعب‬
‫بالزمف الروائي وتكسي هر مف خبلؿ عمميات االنتقاء والترك يب والحذؼ والتقديـ والتأخير والتوسيع‪،‬‬
‫مما يؤكد حضور الزمف النفسي الذي ينتمي إلى الروائي المبدع‪ ،‬والذي يسعى مف خبللو إلى‬
‫تخطيب الزمف وترىينو‪.‬‬

‫تتمثؿ أبرز التحوالت الزمنية عند السارد في أنو جعؿ مف األياـ وما تحتويو مف إشارات‬
‫ومواقيت مفاصؿ زمنية لخطابو الروائي‪ ،‬ويظير ذلؾ بوضوح في رواية القرمطي التي اعتمد‬
‫الكاتب في بنائيا الزمني عمى أربعة أياـ َّ‬
‫شك مت مفاصؿ الرواية األساسية‪ ،‬وما عدا ىذه األياـ‬

‫‪293‬‬
‫فمحذوؼ ضمناً مف المدة الزمنية الكبيرة المرتبطة بالزمف الحقيقي لمقصة التاريخية‪ .‬وقد َّ‬
‫شكمت‬
‫األياـ الثبلثة األولى (السبت واألحد واالثنيف التي توافؽ األوؿ والثاني والثالث مف ذي القعدة‬
‫لسنة ‪ ٖٔٙ‬ىػ) األحداث الرئيسة والمفصمية لمخطاب الروائي الذي يتحدث عف ضعؼ الخميفة‬
‫المقتدر‪ ،‬وعدـ سيطرتو عمى الحكـ‪ ،‬حيث تـ التعرض في اليوـ األوؿ لحصار الجنود بقيادة‬
‫مؤنس الخادـ –قائد الجيش ‪ -‬لمقصر العامر بالشماسية‪ ،‬ثـ ىروب الخميفة وأمو وحاشيتو حامميف‬
‫أمواليـ وىموميـ إلى بيت ابف دريد‪ ،‬وفي اليوـ الثاني تـ خمع المقتدر مف الخبلفة‪ ،‬ثـ تعييف‬
‫أخيو محمد القاىر مكانو‪ ،‬بينما يظير في اليوـ الثالث فشؿ تدبير قائد الجيش‪ ،‬إذ ينسحب‬
‫محمد القاىر مف الخبلفة‪ ،‬ويعود المقتدر إلى سدة الحكـ‪ ،‬وتتـ المصالحة بيف الخميفة ومؤنس‪،‬‬
‫ويعزؿ نازوؾ ‪-‬رئيس الشرطة ‪ -‬ليتـ بعدىا قتمو في أحضاف الجارية ثمؿ‪ .‬أما اليوـ الرابع الذي‬
‫ُ‬
‫يوافؽ يوـ التروية الثامف مف ذي الحجة لسنة ‪ ٖٔٙ‬ىػ فإنو يعرض الصورة المقابمة لشخصية‬
‫الخميفة المقتدر‪ ،‬وىي شخصية أبي طاىر القرمطي‪ ،‬الذي أعمف عصيانو لمدولة العباسية وتمرد‬
‫عمييا وسعى في خرابيا‪ ،‬وتمادى في غيو وفساده لدرجة أنو اقتحـ بيت اهلل الحراـ؛ ليمحد ويدعي‬
‫األلوىية‪ ،‬ويرتكب الكثير مف الجرائـ مثؿ تقتيؿ وذبح الحجيج المسمميف‪ ،‬وسرقة الحجر األسود‬
‫مف الكعبة المشرفة‪ ،‬ونقمو إلى دار اليج ةر بيجر‪.‬‬

‫لقد مارس السارد في كبل الروايتيف عممية انتقاء دقيقة لؤلحداث التي تخدـ رؤيتو الفنية‪،‬‬
‫كما حذؼ وأسقط واختصر الكثير مف األحداث التي لـ َير لوجودىا أىمية في خطابو الروائي‬
‫مما أسيـ في تسريع السرد‪ ،‬كذلؾ عمؿ عمى تبطئة السرد مف خبلؿ الوقوؼ عند الكثير مف‬
‫ال مشاىد الوصفية أو الحوارية متعددة الدالالت واإليحاءات‪ ،‬فكاف تعاممو مع زمف الخطاب‬
‫انتقاء وحذفاً وتركيباً وتبطيئاً وتسريعاً‪.‬‬
‫ً‬ ‫الروائي بحرفية عالية‬

‫لعؿ أكثر التحوالت المرتبطة ببناء الزمف في روايات الكاتب التاريخية خاصة رواية (عكا‬
‫والمموؾ) ىو اعتمادىا بشكؿ كبير عمى الزمف النفسي‪ ،‬حيث إنيا تقوـ عمى مجموعة مف‬
‫المشاىد المتقابمة والمتوازية المرتبطة بالتقنيات السينمائية الحديثة التي تيتـ ببياف أثر األحداث‬
‫عمى نفسيات الشخصيات الروائية‪ ،‬فكؿ شخصية تعرض األحداث مف وجية نظرىا الخاصة‪ ،‬ثـ‬
‫تُ ّْبيف موقفيا مف األحداث التي مرت بيا‪ ،‬مف خبلؿ الحديث عف النفس بشكؿ مباشر‪ ،‬أو‬
‫استرجاع الذكريات‪ ،‬أو محاولة توقع واستشراؼ المستقبؿ‪ ،‬فالزمف الروائي واحد‪ ،‬إال أنو ُيعرض‬
‫برؤى مختمفة‪ ،‬وكؿ رؤية ليا زمنيا النفسي الخاص‪ ،‬وطريقة تفكير مميزة‪ ،‬وىذا ما رأيناه في‬
‫أحاديث معظـ شخصيات الرواية عف أنفسيـ واسترجاعيـ لذكرياتيـ وبياف مواقفيـ مف النصر‬

‫‪294‬‬
‫واليزيمة‪ ،‬مثؿ شخصية كؿ مف ابف جبير‪ ،‬وابف شداد‪ ،‬وعمر الزيف‪ ،‬واألميرة جوانا‪ ،‬والقاضي‬
‫الفاضؿ ‪ ..‬وغيرىـ‪.‬‬

‫ومف أىـ التطورات التي َّ‬


‫ميزت الرواية التاريخية عند أحمد رفيؽ عوض أنو أكثر مف‬
‫التركيز عمى زمف النص واإلشا ةر إليو بشكؿ كبير وممحوظ‪ ،‬فحرص عمى ترىيف خطابو الروائي‬
‫زمنيًا مف خبلؿ ربط القارئ بأحداث العصر الذي يعيش فيو‪ ،‬ويمكف مبلحظة ذلؾ بوضوح مف‬
‫خبلؿ النظر إلى اإلشارات التي ترد في بداية الرواية ونيايتيا‪ ،‬والتي تتمثؿ في اإلىداء‬
‫والخاتمة‪ ،‬وقد ورد اإلىداء في رواية القرمطي بيذا الشكؿ‪" :‬إلى الذيف يواجيوف القرامطة‪ ..‬حتى‬
‫وختمت الرواية بقوؿ السارد‪" :‬الرواية مستمرة"( ٕ)‪ ،‬كذلؾ جاء اإلىداء في رواية عكا‬ ‫( ٔ)‬
‫المحظة"‬
‫والمموؾ إذ يقوؿ المؤلؼ‪" :‬إلى أحبتي الذيف ىـ ذىبوا‪ ،‬إلى أحبتي الذيف ىـ حولي‪ ،‬إلى أحبتي‬
‫( ٖ)‬
‫وال شؾ أف ىذه المناصات الدالة تعمؿ عمى "ترىيف الزمف‪ ،‬وتخطيب‬ ‫الذيف ىـ سيأتوف‪"..‬‬
‫( ٗ)‬
‫فيي تشد القارئ‬ ‫الحكاية‪ ،‬وفتح النص عمى دالالت تتجاوز القصة التاريخية والمادة الحكائية"‬
‫إلى زمف القراءة‪ ،‬وتبعث في نفسو الكثير مف التساؤالت التي تتعمؽ بالواقع‪ ،‬فمف ىـ قرامطة‬
‫الواقع الذيف يقصدىـ الكاتب؟ ومف ىـ الذيف يواجيونيـ اآلف؟ ثـ َم ْف ىـ أحبتو المتواجدوف في‬
‫الماضي والحاضر والمستقبؿ والذيف يوجو إلييـ الخطاب في رواية عكا والمموؾ؟‪ ..‬إف مثؿ ىذا‬
‫الترىيف الواضح والجمي ‪ ،‬والذي يفتح النص الروائي أماـ الكثير مف القراءات والدالالت‪ ،‬لـ نقع‬
‫عميو في رواية الزيني بركات أو رواية ثبلثية غرناطة؛ ولذلؾ كاف مف الضروري اإلشارة إليو‬
‫كأحد مظاىر التجديد التي َّ‬
‫ميزت الخطاب الروائي عند أحمد رفيؽ عوض‪.‬‬

‫ولـ تقتصر عممية الترىيف الزمني عمى المناصات واإلشارات الروائية الدالة التي تتمثؿ‬
‫في اإلىدا ء والخاتمة فقط‪ ،‬بؿ َّ‬
‫تعدت ذلؾ لتشمؿ النص الروائي نفسو‪ ،‬حيث استخدـ الكاتب‬
‫الكثير مف األشكاؿ المغوية العصرية التي تحيؿ إلى الواقع المعاصر‪ ،‬والى زمف القراءة والتمقي‪،‬‬
‫طور السارد‬
‫والتي تظير في عمميات الترىيف والتخطيب الزمني‪ ،‬والتعميؽ عمى األحداث‪ ،‬وقد َّ‬
‫مف استخد امو ليذه المغة عف غيره مف كتاب الرواية التاريخية‪ ،‬فيي واف ظيرت عند جماؿ‬
‫الغيطاني في الزيني بركات‪ ،‬وعند رضوى عاشور في ثبلثية غرناطة‪ ،‬إال أنيا ظيرت بشكؿ‬
‫كبير في روايات أحمد رفيؽ عوض‪ ،‬ففي رواية (القرمطي) نجد بعض العبارات التي تؤشر عمى‬

‫(ٔ) القرمطي‪ ،‬صٗ‬


‫(ٕ) القرمطي‪ ،‬صٕٕٓ‬
‫(ٖ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٖ‬
‫(ٗ) مقاربات نقدية (بحث بنية الخطاب والنص في رواية القرمطي)‪ ،‬ص‪ٔٙٛ‬‬

‫‪295‬‬
‫واقع سياسي معاصر منيا قوؿ السارد‪" :‬ثََم ْؿ امرأة ليست كالنساء‪ ،‬ثََم ْؿ ليست كيرمانة‪ ،‬بؿ‬
‫حاكمة بغداد"( ٔ)‪ ،‬وقولو‪" :‬ىؿ كاف مقتؿ نازوؾ ثمنًا لمصمح بيف المقتدر ومؤنس؟! كعادة الصمح‬
‫بيف الكبار؟!"( ٕ) ‪ ،‬وقولو‪" :‬الخميفة المقتدر يمعب كعادتو تمؾ المعبة التي تحفظ التوازف والتعادؿ‬
‫( ٖ)‬
‫كما ظيرت ىذه المغة في رواية (عكا والمموؾ) بكث ةر ممحوظة‪،‬‬ ‫بيف األشخاص المحيطيف بو"‪.‬‬
‫ومف ذلؾ قوؿ ابف جبير تعقيباً عمى ضياع األندلس‪" :‬العز ال يصاف إال بالحمية والدـ"( ٗ)‪ ،‬وقوؿ‬
‫أىؿ عكا لقراقوش‪" :‬إف أكثر األشياء رعباً في الدنيا ىو أف تكوف تحت رحمة عدوؾ الذي ال‬
‫يرقب فيؾ إالً وال ذمة"( ٘)‪ ،‬وقوؿ ابف شداد‪" :‬يمكف لمضعيؼ أف ينتصر إذا أراد واذا أصر‪،‬‬
‫النصر غير مرتبط بالكثرة أبدًا"( ‪ ، )ٙ‬وقولو‪" :‬ىا قد مضت أكثر مف ثمانيف سنة والفرنجة بيف‬
‫ظيرانينا‪ ،‬فمـ ينفع معيـ التفاوض‪ ،‬ولـ ينفع معيـ الحوار‪ ،‬وال حتى المصانعة"( ‪ ،)ٚ‬كذلؾ قوؿ‬
‫القاضي الفاضؿ إلى ُعمر الزيف‪" :‬أورأيت السور الواقي الذي بنتو الفرنجة لتصؿ بيف غزة‬
‫وعسقبلف؟"( ‪ ،)ٛ‬وقولو أيضاً‪" :‬المدف ال تسقط مف خارجيا‪ ،‬المدف تسقط مف داخميا‪ .‬المدف‬
‫( ‪)ٜ‬‬
‫كالثمار‪ ،‬إذا لـ تغذى الجذور‪ ،‬فإنيا تجؼ وتسقط" ‪ ،‬ومف ذلؾ أيضاً قوؿ صبلح الديف مخاطباً‬
‫مخاطبًا القاضي الفاضؿ‪" :‬قؿ لي كيؼ يكوف الحاكـ حاكمًا إذا احتمت بمده وأىيف أىمو؟! أتبقى‬
‫( ٓٔ)‬
‫إف ىذه األقواؿ وأمثاليا المنتشرة في ثنايا الرواية تشدنا إلى عالـ الواقع‬ ‫لو مف كرامة؟!"‬
‫المعاصر‪ ،‬فيي ترتبط بعالـ الكاتب‪ ،‬وتبدي وجية نظره فيما يدور حولو مف أحداث مف خبلؿ‬
‫توظيفو لشخصيات التاريخ بشكؿ خيالي‪ ،‬وكأف الكاتب ينطؽ بمساف حاؿ أىؿ فمسطيف خاصة‬
‫وبمساف العرب عامة في ىذا الواقع األليـ والمخزي الذي عانى فيو الشعب الفمسطيني الكثير مف‬
‫ويبلت االحتبلؿ الصييوني وما زاؿ يعاني‪ ،‬كما أف العالـ العربي واإلسبلمي يعاني بشكؿ عاـ‬
‫مف الفرقة والتناحر والفساد وتكالب الدوؿ الغربية واعتداءاتيا المستم ةر عميو‪.‬‬

‫(ٔ) القرمطي‪ ،‬ص‪ٕٙ‬‬


‫(ٕ) القرمطي‪ ،‬ص‪ٔٓٛ‬‬
‫(ٖ) القرمطي‪ ،‬ص٘ٓٔ‬
‫(ٗ) عكا والمموؾ‪ ،‬صٕٕ‬
‫(٘) عكا والمموؾ‪ ،‬صٓ٘‬
‫(‪ )ٙ‬عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٛٙ‬‬
‫(‪ )ٚ‬عكا والمموؾ‪ ،‬صٔ‪ٜ‬‬
‫(‪ )ٛ‬عكا والمموؾ‪ ،‬صٕ‪ٕٙ‬‬
‫(‪ )ٜ‬عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٕٙٙ‬‬
‫(ٓٔ) عكا والمموؾ‪ ،‬ص‪ٕٛٚ‬‬

‫‪296‬‬
‫وفي الختاـ‪ ،‬يمكف تمخيص أىـ تحوالت الرواية التاريخية عند أحمد رفيؽ عوض فيما‬
‫يأتي‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬تعرض لفترات تاريخية عصيبة لـ يتعرض ليا أحد مف ُكتاب الرواية التاريخية السابقيف‪،‬‬
‫فا ستميـ التاريخ العباسي في أشد لحظات ضعفو في رواية (القرمطي) التي تعرض فييا‬
‫صور في رواية‬
‫العتداء القرامطة عمى الكعبة المشرفة وسرقتيـ لمحجر األسود‪ ،‬كما َّ‬
‫(عكا والمموؾ) ىزيمة صبلح الديف األيوبي أماـ الصميبييف في مدينة عكا‪.‬‬

‫ٕ ‪ -‬أظير مف خبلؿ رواية (عكا والمموؾ) المفارقة بيف وقع اليزيمة عمى القيادة المسممة‬
‫ممثمة بصبلح الديف األيوبي‪ ،‬ووقع اليزيمة عمى األنظمة العربية في العصر الحديث‪،‬‬
‫كما أنو عمؿ عمى تعرية الفكر الغربي الصميبي وفضحو مف داخمو‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬تطوير رؤيتو لمتاريخ‪ ،‬واستعمالو مف خبلؿ رؤية حداثية جديدة تجمع بيف التاريخي‬
‫والمتخيؿ في عممية سرد روائية كاممة‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬االعتماد عمى التقنيات السردية الحديثة مثؿ‪ :‬تعددية الرؤى واألصوات الروائية‪ ،‬والعبث‬
‫ب الزمف‪ ،‬وتقنية المفارقة‪ ،‬والتقنيات السينمائية الحديثة‪ ،‬والصراعات المركبة الممتدة إلى‬
‫الزمف الحالي‪ ،‬والنيايات المفتوحة التي تفعؿ دور القارئ وتشركو في عممية السرد‪.‬‬
‫٘ ‪ -‬التنوع والتعدد المغوي‪ ،‬بما يتناسب مع الفكرة والعصر‪ ،‬ومف األشكاؿ المغوية الجديدة‬
‫التي استخدميا‪ :‬المغة األسطورية‪ ،‬والمغة المخادعة أو لغة المفاوضات‪ ،‬ولغة العمماء‬
‫والمثقفيف‪ ،‬ولغة الفظاظة‪.‬‬
‫‪ - ٙ‬االنفتاح عمى النصوص واألجناس األدبية األخرى مف خبلؿ توظيؼ تقنية التناص بشكؿ‬
‫كبير‪ ،‬ومف أبرز أشكاؿ التناص الجديدة التي استثمرىا في رواياتو التاريخية‪ :‬التناص مع‬
‫الصورة الكاريكاتورية‪ ،‬والتناص مع أدب الرحبلت‪ ،‬والتناص مع أدب الحرب‪.‬‬
‫‪ - ٚ‬اعتمد عمى عدد مف التقنيات الفنية الجديدة التي نقمت وحولت الشخصية التاريخية مف‬
‫طبيعتيا الوثائقية المجردة إلى طبيعة أدبية خيالية جديدة‪ ،‬محممة بالعديد مف الرموز‬
‫َّ‬
‫الوصية‪ ،‬وتقنية الشيادة‪.‬‬ ‫واإليحاءات مثؿ‪ :‬تقنية السي ةر الذاتية‪ ،‬وتقنية‬
‫شكؿ تعاممو مع شخصية المرأة أحد أىـ مبلمح التحوؿ في الرواية التاريخية حيف‬ ‫‪َّ - ٛ‬‬
‫عرض الوجو السمبي لممرأة‪.‬‬
‫‪ - ٜ‬الموضوعية والحيادية‪ ،‬فمنح الشخصيات الصميبية الحرية الكاممة في التعبير عف آرائيا‬
‫المختمفة تجاه المسمميف مف خبلؿ حواراتيا المخ تمفة‪ ،‬ولـ يصادر حؽ أي منيا في ذلؾ‪.‬‬

‫‪297‬‬
‫ٓٔ‪ -‬تفعيؿ دور المكاف أو الحيز الروائي في إنتاج الحدث‪ ،‬والتعاوف الموجب مع ّْ‬
‫مشكبلت‬
‫السرد األخرى في تشكيؿ الرواية وتطويرىا‪ ،‬وقد وظؼ السارد عددًا مف األماكف الروائية‬
‫ال ميمًا في باب الرواية التي‬
‫الجديدة مثؿ‪ :‬البحر‪ ،‬والكنيسة‪ ،‬وقد مثمت رؤيتو لممكاف تحو ً‬
‫تستعمؿ التاريخ‪.‬‬
‫ٔٔ‪ -‬االعتماد عمى الزمف النفسي‪ ،‬مع التركيز عمى زمف النص‪ ،‬مف خبلؿ ترىيف خطابو‬
‫الروائي وربط القارئ بأحداث العصر الذي يعيش فيو‪.‬‬

‫‪298‬‬
‫اخلامتة‬

‫‪299‬‬
‫ال يسعني في ختاـ بحثي ىذا إال أف أحمد اهلل ‪-‬عز وجؿ ‪ -‬الذي غمرني بفضمو وكرمو‬
‫ونعمتو‪ ،‬فمكنني مف إتماـ رسالتي التي بذلت في سبيؿ تحقيقيا وخروجيا عمى الوجو المطموب‬
‫شرفني بإشرافو عمى‬
‫قصارى جيدي‪ ،‬كما ال أنسى فضؿ األستاذ الدكتور يوسؼ رزقة الذي َّ‬
‫رسالتي العممية‪ ،‬ومنحني الكثير مف الوقت والجيد‪ ،‬ولـ يبخؿ عمي بأي توجيو أو إرشاد‪ .‬وفي‬
‫النياية أتمنى أف أكوف قد وفقت فيما قصدت‪ ،‬وكمي أمؿ في أف تساىـ رسالتي ىذه ولو بالنذر‬
‫القميؿ في خدمة الدراسات األدبية والنقدية في األدب العربي‪.‬‬

‫نتائج الدراسة‪:‬‬

‫توصمت الدراسة إلى مجموعة مف النتائج يمكف إجماليا فيما يأتي‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬كشفت الدراسة عف موقؼ الرواية الجديدة مف التاريخ‪ ،‬وأف ما نسميو (رواية تاريخية)‬
‫مف حيث التصنيؼ يعتمد عمى المجاز واالختصار في التسمية‪ ،‬ألف الرواية جنس‪،‬‬
‫والتاريخ جنس آخر‪ ،‬واألوؿ يقوـ عمى التخييؿ‪ ،‬والثاني عمى رصد الحقيقة‪ ،‬ومف ثـ فإف‬
‫البحث َيعني بالرواية التاريخية ىنا‪ ،‬الرواية التي تستعمؿ التاريخ‪ ،‬وتتعامؿ مع مكوناتو‬
‫كمادة خاـ لصناعة رواية‪ ،‬ورواية فقط‪ ،‬وربما كاف ىذا ىو أىـ تحوالت الرواية الجديدة‬
‫عمى ما قدمو جورجي زيداف‪ ،‬وباكثير‪ ،‬ونجيب محفوظ‪.‬‬
‫ٕ ‪َّ -‬‬
‫جمت الدراسة بدايات ظيور الرواية التاريخية في وطننا العربي مف خبلؿ عمؿ الرواد‬
‫كجورجي زيداف‪ ،‬وبياف خصا ئصيا وسماتيا ووظيفتيا التعميمية والترفييية‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬جمَّت التحوالت الموضوعية والفنية التي أصابت الرواية التاريخية في المرحمة الوسطى‬
‫عمى يد كتابيا مف أمثاؿ نجيب محفوظ‪ ،‬وعمي أحمد باكثير‪ ،‬وبياف كيفية تعامميـ مع‬
‫المادة التاريخية الخاـ‪ ،‬وما أحدثوه مف تطور عمى جورجي زيداف‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬كشفت المتابعة أف معظـ الروايات التاريخية الجديدة بعد حرب ‪ ٜٔٙٚ‬تناولت فك ةر‬
‫اليزيمة وأسبابيا المتمثمة في الحكـ االستبدادي التسمطي‪ ،‬والفساد فاستدعت المحظات‬
‫األكثر مأساوية وقتامة مف التاريخ العربي واإلسبلمي‪ ،‬في محاولة لترىيف الخطاب‬
‫الروائي‪ .‬ومثَّؿ ىذا التوجو عدد كبير مف ُك ّتاب الرواية التاريخية كاف مف أبرزىـ جماؿ‬
‫الغيطاني‪ ،‬ورضوى عاشور‪ ،‬وأحمد رفيؽ عوض‪.‬‬
‫٘ ‪ -‬كشػفت الد ارسػة طريقػة تعامػؿ الػػروائييف العػرب مػع التػاريخ ومػػا طػ أر عمييػا مػف تح ػوالت‪،‬‬
‫فكتػػاب مرحمػػة النشػػأة كػػانوا يتعػػامموف مػػع التػػاريخ كمػػا ىػػو دوف تغييػػر أو تبػػديؿ‪ ،‬وكػػانوا‬
‫يقدموف الجانب التػاريخي عمػى الجانػب الفنػي‪ ،‬وال شػؾ أف غػايتيـ التعميميػة كانػت سػبباً‬

‫‪311‬‬
‫في ذلؾ‪ ،‬ثـ تطورت ىذه النظ ةر عند كتاب الرواية التاريخية ذات االتجاه الواقعي‪ ،‬حيث‬
‫تغم ػػب الجانػ ػػب الفن ػ ػي عم ػػى الجانػ ػػب التػ ػػاريخي‪ ،‬وصػ ػػارت الرواي ػػة التاريخيػ ػػة أكثػ ػػر قرب ػ ػًا‬
‫ومحاك ػػاة لمواقػ ػػع السياس ػػي واالجتمػ ػػاعي‪ ،‬فػ ػػي محاول ػػة إلسػ ػػقاط الماض ػػي التػ ػػاريخي عمػ ػػى‬
‫الحاضر المعاصر‪ ،‬ثـ لحؽ الرواية التاريخية تطو اًر كبي اًر حيف تعاممت مع التاريخ كمادة‬
‫خاـ صرفة يمكف تحويرىا واالنحراؼ عنيػا‪ ،‬بتغميػ ب عنصػر الخيػاؿ الروائػي‪ ،‬الػذي يشػد‬
‫الرواي ػػة إلػ ػػى عػ ػػالـ الحاض ػػر‪ ،‬ليعمػ ػػؿ عمػ ػػى ت ػػرىيف أحػ ػػداثيا‪ ،‬ويؤكػ ػػد فكػ ػ ةر وحػ ػػدة التجربػ ػػة‬
‫اإلنسػػانية ويكش ػػؼ ع ػػف حقيقػػة ال ػػذات اإلنس ػػانية ومعاناتي ػػا عبػػر العص ػػور المختمف ػػة ف ػػي‬
‫صورة أدبية متقنة‪.‬‬
‫‪ - ٙ‬كشفت الدراسة عف تنوع المادة التاريخية التي استمد منيا الروائيوف عوالميـ الروائية‪،‬‬
‫فمنيـ مف عاد إلى التاريخ اإلسبلمي بعصوره المختمفة كجورجي زيداف‪ ،‬ومنيـ مف‬
‫استرجع التاريخ العربي في العصر الجاىمي كمحمد فريد أبو حديد‪ ،‬ومنيـ مف استميـ‬
‫تاريخ الحضارات القديمة مثؿ نجيب محفوظ الذي استدعى التاريخ الفرعوني‪ ،‬وىناؾ مف‬
‫ركز عم ى الفترات المشرقة والمشرفة مف التاريخ اإلسبلمي مثؿ عمي أحمد باكثير‪ ،‬ومف‬
‫الكتاب مف استعمؿ لحظات السقوط واالنييار واليزيمة في العصر الممموكي‪ ،‬وفي‬
‫األندلس‪ ،‬وفي العصر العباسي ووظفيا في بناء روائي رائع يتحدث مع العصر ال مع‬
‫الماضي‪.‬‬
‫‪ - ٚ‬جمَّت الدراسة دور الرواية التاريخية في توثيؽ العبلقة بيف أركاف الزمف الثبلث (الماضي‬
‫والحاضر والمستقبؿ)‪ ،‬فالزمف الحاضر ما ىو إال امتداد لمزمف الماضي‪ ،‬ولبنة في بناء‬
‫المستقبؿ‪ ،‬والمستقبؿ ىو نتيجة طبيعية لما في الماضي ولما في الحاضر‪ ،‬وبالتالي فإف‬
‫ىذا النوع الروائي الذي يبعث التاريخ العربي واإلسبلمي‪ ،‬ويعيد قراءتو‪ ،‬واالستفادة منو‬
‫يساعدنا في فيـ الحاضر واستكناه المستقبؿ‪.‬‬
‫‪ - ٛ‬كشفت الدراسة عف حرص كتاب الرواية التاريخية الواقعية والجديدة عمى تنمية وعي‬
‫األمة فكريًا وسياسيًا واجتماعيًا‪ ،‬مف خبلؿ استمياـ التاريخ النتقاد عدد مف الظواىر‬
‫السمبية التي تقود إلى الضعؼ واليزيمة مثؿ‪ :‬الفرقة والصراع عمى السمطة‪ ،‬وانتشار‬
‫الظمـ والفساد‪ ،‬وكبت الحريات‪ ،‬واالنحراؼ الديني واألخبلقي‪ ،‬كما عممت عمى تثبيت‬
‫مجموعة مف القيـ اإليجابية التي تحقؽ النيضة والتطور والنصر مثؿ‪ :‬الوحدة الوطنية‪،‬‬
‫ونشر العدؿ‪ ،‬وكفالة الحريات العامة‪ ،‬والتمسؾ بالديف القويـ واألخبلؽ الفاضمة‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫‪ - ٜ‬كشفت الدراسة عف تطور لغة الرواية التاريخية وأساليبيا السردية في الرواية التاريخية‬
‫التقميدية التي كانت تسيطر عمييا المغة التقريرية البسيطة التي تُقاؿ عمى لساف الراوي‬
‫العميـ كمي المعرفة‪ ،‬والرواية التاريخية الجديدة التي ظيرت فييا أشكاؿ متنوعة مف‬
‫األنماط والتقنيات المغوية الحديثة مثؿ‪ :‬لغة المناجاة‪ ،‬والمغة األسطورية‪ ،‬والمغة‬
‫الكاريكا تورية الساخرة‪ ،‬ولغة األحبلـ والكوابيس‪ ،‬والمغة الصوفية‪ ،‬ولغة الفظاظة‪ ،‬ولغة‬
‫الرمز‪ ،‬ولغة التناص بأشكاليا المتعددة‪ ..‬إلخ‪ ،‬باإلضافة إلى تعدد الرواة بيف الراوي‬
‫العارؼ‪ ،‬والراوي المحايد‪ ،‬والراوي المشارؾ‪ ،‬عبلوة عمى تنوع أساليب السرد في المراوحة‬
‫بيف استخداـ ضمير الغائب والمتكمـ والمخاطب‪ ،‬مما أدى إلى تعدد الرؤى السردية في‬
‫الرواية الواحدة‪.‬‬
‫ٓٔ‪ -‬جمَّت الدراسة تقنية الرمز في الرواية التاريخية الواقعية والجديدة في مستويات السرد‬
‫الروائي مف أحداث وشخصيات وزماف ومكاف‪ .‬وكيؼ وظفو الخطاب الروائي لخدمة‬
‫الرسالة التي تقدميا الرواية‪ ،‬ويمكف القوؿ إف ورود الرموز في الروايات التاريخية نابع‬
‫مف خبلؿ الترىيف واإلسقاطات التاريخية التي أسقطيا الروائيوف عمى الواقع المعاصر‪،‬‬
‫وىو ما يكشؼ مدى ثراء المعطى التاريخي إف أحسف الروائي استعمالو وتوظيفو‪.‬‬
‫ٔٔ‪ -‬كشفت الدراسة عف تحوالت الرواية التاريخية الجديدة ل تقنية التناص بشكؿ كبير‪ ،‬مما‬
‫أدى إلى انفتاح النصوص الروائية عمى األجناس األدبية األخرى‪ ،‬وقد أسيـ ذلؾ في‬
‫تعدد الرؤى والقراءات التي ال تنتيي عند حد معيف‪ ،‬ىذا األمر الذي نفتقده في الروايات‬
‫التاريخية التقميدية التي كانت تنغمؽ عمى رؤية الكاتب الشخصية‪.‬‬
‫ٕٔ‪ -‬كشفت الد ارسة عف التحوالت الفنية الكبيرة التي أحدثتيا الرواية الجديدة في تقديميا‬
‫لمشخصية الروائية‪ ،‬فإذا كانت الرواية التقميدية ّْ‬
‫تقد س شخصياتيا وتمنحيا أىمية كبي ةر‬
‫وتعرض المعمومات المتعمقة بيا (بدنياً ونفسياً ومعرفياً) بشكؿ كامؿ‪ ،‬فإف الرواية‬
‫الجديدة عممت عمى تفكيؾ الشخصية الروائية وتفتيتيا‪ ،‬وقدمتيا لمقارئ عف طريؽ عدد‬
‫مف التقنيات السردية الحديثة مثؿ تقنية تقسيط المعمومات وتجزئتيا التي تعرض صفات‬
‫الشخصية عمى مراحؿ متعددة‪ ،‬وتقنية المفارقات‪ ،‬وتقنية السيرة الذاتية‪ ،‬وتقنية‬
‫الغموض‪ ..‬وغير ذلؾ مف التقنيات‪.‬‬
‫ٖٔ‪ -‬كشفت الدراسة عف تحوؿ الرواية التاريخية الجديدة في تجاوزىا لمشخصيات الحاكمة‬
‫والقيادية في التاريخ‪ ،‬فإف تناوليا لشخصيات شعبية إلظيار معاناة الناس العادييف‪،‬‬

‫‪312‬‬
‫وتسميط الضوء عمييـ‪ ،‬وىي شخصيات لـ تذكرىا كتب التاريخ‪ ،‬وذلؾ في محاولة‬
‫لترىيف الخطاب الروائي‪ ،‬فمعاناة الناس وحاجاتيـ واحدة في مختمؼ العصور واألزماف‪.‬‬
‫ٗٔ‪َّ -‬‬
‫جمت الدراسة مظاىر اىتماـ الرواية التاريخية بالمرأة كشخصية روائية‪ ،‬ببياف كيفية‬
‫تعامميـ معيا‪ ،‬فأغمب كتاب الرواية التاريخية استعانوا بشخصية المرأة في التعبير عف‬
‫رؤاىـ الفكرية‪ ،‬غير أنيـ اختمفوا في طبيعة الدور الذي أولوه لممرأة‪ ،‬فمنيـ مف يظيرىا‬
‫عمى أنيا مثا ٌؿ لمشرؼ والعفة‪ ،‬ومنيـ مف يذكرىا كرمز لمجماؿ‪ ،‬ومنيـ مف يوظفيا‬
‫كمثاؿ لمتضحية والجياد‪ ،‬أو كأداة ووسيمة لممتعة‪ ،‬ومنيـ مف يصور المرأة الساقطة‬
‫المنحرفة‪ ،‬وىناؾ مف أبرز دور المرأة الحاكمة المتسمطة‪ ،‬أو المرأة المثقفة الواعية‪.‬‬
‫ّْ‬
‫كمشكؿ مف‬ ‫٘ٔ‪ -‬كشفت الدراسة عف حجـ التحوالت الروائية في التعامؿ مع الزمف‬
‫ّْ‬
‫مشكبلت السرد‪ ،‬ومدى مفارقة الرواية الجديدة لمرواية القديمة في ىذا المجاؿ‪ ،‬فإذا كاف‬
‫الزماف في الرواية التاريخية التقميدية والواقعية خطّْياً ومنتظماً وتراتبياً‪ ،‬فإنو في الرواية‬
‫التاريخية الجديدة زماف دائري غير منتظـ‪ ،‬يوظؼ عدد كبير مف التقنيات الفنية الحديثة‬
‫مثؿ االسترجاع واالستباؽ والتداعي والمونولوج الداخمي‪ ..‬وغير ذلؾ مف التقنيات التي‬
‫تبرز الزمف النفسي ّْ‬
‫وتبيف أثره في الشخصية الروائية وفي سير األحداث بشكؿ عاـ‪.‬‬
‫‪ -ٔٙ‬كشفت الدراسة عف مجموع التحوالت‪ ،‬والتطورات التي قدمتيا الرواية التاريخية الجديدة‬
‫مشكبلت السرد وكيؼ وظفو الروائيوف الجدد‪ ،‬وأولوه‬ ‫كمشكؿ مف ّْ‬‫ّْ‬ ‫عمى (المكاف الروائي)‬
‫أىمية كبيرة‪ ،‬وجعموه يشارؾ بقوة وفعالية في تطور األحداث‪ ،‬ورسـ مبلمح الشخصيات‪،‬‬
‫والتفاعؿ مع رؤية السارد‪ ،‬بحيث لـ يعد مظي ًار جغرافيًا وحسب‪.‬‬

‫‪313‬‬
‫توصيات الدراسة‪:‬‬

‫كانت رحمتي مع تحوالت الرواية التاريخية طويمة‪ ،‬ولكنيا مفيدة وممتعة‪ ،‬وتحتاج إلى‬
‫أبحاث إضافية لمكشؼ عف كنوزىا وأساليبيا في تناوؿ واستعمالو؛ لتجمية المحظة الراىنة‬
‫ومعالجتيا‪ ،‬وتوصي الدراسة الباحثيف‪:‬‬

‫ٔ ‪ -‬بدراسة سمسمة روايات (الممياة الفمسطينية) لمكاتب األردني إبراىيـ نصر اهلل التي‬
‫تتعرض ل تاريخ فمسطيف الحديث‪.‬‬
‫ٕ ‪ -‬بدراسة الروايات التاريخية المرتبطة بالبعد األسطوري القديـ‪ ،‬مثؿ رواية (قصة‬
‫عشؽ كنعانية) لمكاتب األردني صبحي فحماوي‪.‬‬
‫ٖ ‪ -‬بدراسة العبلقات النصية (التناص) في الرواية التاريخية الجديدة‪.‬‬
‫ٗ ‪ -‬بدراسة جماليات (المكاف والزماف) في الرواية الجديدة التي استعممت التاريخ‬
‫موضوعاً ليا‪ ،‬وقد سبؽ أف كشؼ مرتاض عف قمة ىذه الدراسات في األدب‬
‫العربي‪.‬‬

‫‌‬
‫‌‬
‫‌‬
‫‌‬
‫‌‬

‫‪314‬‬
‫املصادر واملراجع‬

‫‪315‬‬
‫المصادر والمراجع‬

‫القرآف الكريـ‪.‬‬ ‫ٔ‪.‬‬


‫االتجاه اإلسبلمي في أعماؿ نجيب الكيبلني القصصية‪ ،‬عبد اهلل بف صالح العريني‪ ،‬كنوز‬ ‫ٕ‪.‬‬
‫اشبيميا لمنشر والتوزيع ‪ -‬السعودية‪ ،‬طٕ‪.ٕٓٓ٘ ،‬‬
‫األدب العربي المعاصر في سورية (ٓ٘‪ ،)ٜٔ٘ٓ- ٔٛ‬سامي الكيالي‪ ،‬دار المعارؼ ‪-‬‬ ‫ٖ‪.‬‬
‫مصر‪ ،‬ط ٕ‪ ،‬بدوف تاريخ‪.‬‬
‫األدب العربي المعاصر في مصر‪ ،‬شوقي ضيؼ‪ ،‬دار المعارؼ – القاىرة‪ ،‬ط ٗٔ‪،‬‬ ‫ٗ‪.‬‬
‫‪ٕٓٓٛ‬ـ‪.‬‬
‫األدب القصصي والمسرحي في مصر‪ ،‬أحمد ىيكؿ‪ ،‬دار المعارؼ – مصر ‪ ،‬ط ٖ ‪،‬‬ ‫٘‪.‬‬
‫‪ٜٜٔٚ‬ـ‪.‬‬
‫األدب المقارف‪ ،‬كمود بيشو وأدريو روسو‪ ،‬ترجمة أحمد عبد العزيز‪ ،‬مكتبة األنجمو‬ ‫‪.ٙ‬‬
‫المصرية – القاىرة‪ ،‬ط ٖ‪ٕٓٓٔ ،‬ـ‪.‬‬
‫األدب المقارف‪ ،‬ماريوس فرنسوا غويار‪ ،‬ترجمة ىنري زغيب‪ ،‬منشورات عويدات –‬ ‫‪.ٚ‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط ٕ‪ٜٔٛٛ ،‬ـ‪.‬‬
‫األدب واألنواع األدبية‪ ،‬مؤلفوف‪ ،‬ترجمة طاىر حجار‪ ،‬طبلس – دمشؽ‪ ،‬طٔ‪ٜٔٛ٘ ،‬ـ‪.‬‬ ‫‪.ٛ‬‬
‫أدباء ومواقؼ‪ ،‬رجاء النقاش‪ ،‬المكتبة العصرية ‪ -‬بيروت‪ ،‬دوف طبعة أو تاريخ‪.‬‬ ‫‪.ٜ‬‬
‫أساتذتي لنجيب محفوظ‪ ،‬إبراىيـ عبد العزيز‪ ،‬ميريث لمنشر والمعمومات ‪ -‬القاىرة‪ ،‬طٔ‪،‬‬ ‫ٓٔ‪.‬‬
‫ٕٕٓٓـ‪.‬‬
‫اإلسبلمية والمذاىب األدبية‪ ،‬نجيب الكيبلني‪ ،‬مؤسسة الرسالة ‪ -‬بيروت‪ٜٔٛٚ ،‬ـ‪.‬‬ ‫ٔٔ‪.‬‬
‫أعبلـ األدب العربي في العصر الحديث‪ ،‬محمد واضح الندوي‪ ،‬دار الرشيد ‪ -‬اليند‪ ،‬طٔ‪،‬‬ ‫ٕٔ‪.‬‬
‫‪ٕٜٓٓ‬ـ‪.‬‬
‫آفاؽ األدب العربي في فمسطيف‪ ،‬محمد بكر البوجي‪ ،‬مكتبة القدس ‪ -‬غزة‪ ،‬طٔ‪ٕٖٓٔ ،‬ـ‪.‬‬ ‫ٖٔ‪.‬‬
‫أنا نجيب محفوظ‪ ،‬إبراىيـ عبد العزيز‪ ،‬نفرو لمنشر والتوزيع‪ ،‬طٔ‪ٕٓٓٙ ،‬ـ‪.‬‬ ‫ٗٔ‪.‬‬
‫أنماط الرواية العربية الجديدة‪ ،‬شكري عزيز الماضي‪ ،‬سمسمة عالـ المعرفة‪ ،‬عٖ٘٘‪،‬‬ ‫٘ٔ‪.‬‬
‫المجمس الوطني لمثقافة والفنوف واآلداب ‪ -‬الكويت‪ٕٓٓٛ ،‬ـ‪.‬‬
‫أياـ العرب في الجاىمية‪ ،‬محمد أحمد جاد المولى وآخروف‪ ،‬منشورات المكتبة العصرية –‬ ‫‪.ٔٙ‬‬
‫بيروت‪ ،‬بدوف طبعة‪.‬‬
‫إيقاع الزمف في الرواية العربية المعاصرة‪ ،‬أحمد حمد النعيمي‪ ،‬المؤسسة العربية لمدراسات‬ ‫‪.ٔٚ‬‬

‫‪316‬‬
‫والنشر ‪ -‬بيروت‪ ،‬طٔ‪ٕٓٓٗ ،‬ـ‪.‬‬
‫بانوراما الرواية العربية الحديثة‪ ،‬سيد النساج‪ ،‬دار المعارؼ – مصر‪ ،‬ط ‪ٜٔٛٓ ،‬ـ‪.‬‬ ‫‪.ٔٛ‬‬
‫البداية والنياية‪ ،‬ابف كثير‪ ،‬تحقيؽ عبد اهلل بف عبد المحسف التركي‪ ،‬ج ٘ٔ‪ ،‬ىجر‬ ‫‪.ٜٔ‬‬
‫لمطباعة والنشر والتوزيع ‪ -‬مصر‪ ،‬ط ٔ‪ٜٜٔٛ ،‬ـ‪.‬‬
‫بدائع الزىور في وقائع الدىور‪ ،‬محمد بف أحمد بف إياس الحنفي‪ ،‬تحقيؽ محمد مصطفى‪،‬‬ ‫ٕٓ‪.‬‬
‫الجزآف األوؿ والرابع‪ ،‬الييئة المصرية العامة لمكتاب ‪ -‬القاىرة‪ ،‬طٖ‪ٜٔٛٗ ،‬ـ‪.‬‬
‫بناء الرواية العربية السورية‪ ،‬سمر روحي الفيصؿ‪ ،‬اتحاد الكتاب العرب‪ ،‬بدوف‪ٜٜٔ٘ ،‬ـ‪.‬‬ ‫ٕٔ‪.‬‬
‫بناء الرواية في األدب المصري الحديث‪ ،‬عبد الحميد القط‪ ،‬دار المعارؼ – مصر‪ ،‬طٔ‪.‬‬ ‫ٕٕ‪.‬‬
‫بناء الرواية‪ ،‬سي از قاسـ‪ ،‬الييئة المصرية العامة لمكتاب ‪ -‬مصر‪ٜٔٛٗ ،‬ـ‪.‬‬ ‫ٖٕ‪.‬‬
‫بنية الشكؿ الروائى‪ ،‬حسف بحراوي‪ ،‬المركز الثقافى العربى‪ ،‬بيروت‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬‬ ‫ٕٗ‪.‬‬
‫ٓ‪ٜٜٔ‬ـ‪.‬‬
‫البنية والداللة في القصة والرواية العربية المعاصرة‪ ،‬محمود أميف العالـ‪ ،‬دار المستقبؿ‬ ‫ٕ٘‪.‬‬
‫العربي – مصر‪ٜٜٔٗ ،‬ـ‪.‬‬
‫تاريخ مصر القديمة‪ ،‬رمضاف السيد‪ ،‬جٕ‪ ،‬ىيئة اآلثار المصرية‪ ،‬بدوف سنة نشر‪.‬‬ ‫‪.ٕٙ‬‬
‫التجمي ػ ػ ػ ػػات الممحميػ ػ ػ ػ ػػة فػ ػ ػ ػ ػػي روايػ ػ ػ ػ ػػة األجيػ ػ ػ ػ ػػاؿ العربيػ ػ ػ ػ ػػة‪ ،‬مػ ػ ػ ػ ػػريـ فريحػ ػ ػ ػ ػػات‪ ،‬و از ةر الثقافػ ػ ػ ػ ػػة –‬ ‫‪.ٕٚ‬‬
‫األردف‪ ،‬ط ٔ‪ٕٓٓ٘ ،‬ـ‪.‬‬
‫تحوالت السرد‪ ،‬إبراىيـ السعافيف‪ ،‬دار الشروؽ – األردف‪ ،‬ط ٔ‪ٜٜٔٙ ،‬ـ‪.‬‬ ‫‪.ٕٛ‬‬
‫تداخؿ األجناس األدبية في الرواية العربية (الرواية الدرامية أنموذجًا)‪ ،‬صبحة أحمد عمقـ‪،‬‬ ‫‪.ٕٜ‬‬
‫و ازرة الثقافة‪ ،‬المؤسسة العربية لمدراسات والنشر ‪ -‬األردف‪ ،‬ط ٔ‪.ٕٓٓٙ ،‬‬
‫تػداخؿ األنػواع األدبيػػة فػي روايػػة عكػا والممػػوؾ لمروائػي أحمػػد رفيػؽ عػػوض (بحػث)‪ ،‬عمػػر‬ ‫ٖٓ‪.‬‬
‫عب ػ ػ ػ ػ ػػد اليػ ػ ػ ػ ػ ػػادي عتي ػ ػ ػ ػ ػػؽ‪ ،‬مػ ػ ػ ػ ػ ػػؤتمر النق ػ ػ ػ ػ ػػد الثػ ػ ػ ػ ػ ػػاني عش ػ ػ ػ ػ ػػر فػ ػ ػ ػ ػ ػػي كمي ػ ػ ػ ػ ػػة اآلداب ‪ -‬جامعػ ػ ػ ػ ػ ػػة‬
‫اليرموؾ ٕٕ ‪ٕٓٓٛ /ٚ /ٕٗ-‬ـ‪.‬‬
‫تطور األدب الحديث في مصر‪ ،‬أحمد ىيكؿ‪ ،‬دار المعارؼ – مصر ‪ ،‬ط ‪ٜٜٔٗ ،ٙ‬ـ‪.‬‬ ‫ٖٔ‪.‬‬
‫تطور البناء الدرامي التاريخي في روايات رضوى عاشور (مخطوط)‪ ،‬خمود إبراىيـ جراد‪،‬‬ ‫ٕٖ‪.‬‬
‫رسالة ماجستير‪ ،‬جامعة الشرؽ األوسط‪ٕٓٔٗ/ٕٖٓٔ ،‬ـ‪.‬‬
‫تط ػ ػ ػػور الروايػ ػ ػ ػػة العربيػ ػ ػ ػػة الحديثػ ػ ػ ػػة فػ ػ ػ ػػي بػ ػ ػ ػػبلد الشػ ػ ػ ػػاـ‪ ،‬إب ػ ػ ػ ػراىيـ السػ ػ ػ ػػعافيف‪ ،‬دار الرشػ ػ ػ ػػيد –‬ ‫ٖٖ‪.‬‬
‫بغداد‪ٜٔٛٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫تطور الرواية العربية الحديثة في مصر (ٓ‪ ،)ٜٖٔٛ– ٔٛٚ‬عبد المحسف طو بدر‪ ،‬دار‬ ‫ٖٗ‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫المعارؼ – مصر‪ ،‬ط ٖ‪.‬‬
‫توظيؼ التاريخ في روايات أحمد رفيؽ عوض (مخطوط)‪ ،‬حسف ماجد قطوسة‪ ،‬رسالة‬ ‫ٖ٘‪.‬‬
‫ماجستير‪ ،‬جامعة القدس كمية الدراسات العميا‪ ،‬دائ ةر المغة العربية وآدابيا‪ٕٖٓٔ ،‬ـ‪.‬‬
‫توظيؼ التراث في الرواية العربية المعاصرة‪ ،‬محمد رياض وتار‪ ،‬اتحاد الكتاب العرب ‪-‬‬ ‫‪.ٖٙ‬‬
‫دمشؽ‪ٕٕٓٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫تيار الوعي في الرواية الحديثة‪ ،‬روبرت ىمفري‪ ،‬ترجمة محمود الربيعي‪ ،‬دار غريب‬ ‫‪.ٖٚ‬‬
‫لمطباعة والنشر ‪ -‬القاىرة‪ٕٓٓٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫تيػ ػ ػ ػ ػ ػ ػػار الػ ػ ػ ػ ػ ػ ػػوعي ف ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػػي الروايػ ػ ػ ػ ػ ػ ػػة العربي ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػػة الحديثػ ػ ػ ػ ػ ػ ػػة‪ ،‬محم ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػػود غنػ ػ ػ ػ ػ ػ ػػايـ‪ ،‬دار الجي ػ ػ ػ ػ ػ ػ ػػؿ ‪-‬‬ ‫‪.ٖٛ‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط ٔ‪ٜٜٕٔ ،‬ـ‪.‬‬
‫الثائر األحمر (رواية)‪ ،‬عمي أحمد باكثير‪ ،‬مكتبة مصر ‪ -‬القاىرة‪ ،‬بدوف تاريخ‪.‬‬ ‫‪.ٖٜ‬‬
‫ثبلثية غرناطة (رواية)‪ ،‬رضوى عاشور‪ ،‬دار الشروؽ ‪ -‬القاىرة‪ ،‬طٖ‪ٕٓٓٔ ،‬ـ‪.‬‬ ‫ٓٗ‪.‬‬
‫ثبلثية غرناطة مقاربة الحاضر (بحث)‪ ،‬زىير محمود عبيدات‪ ،‬مجمة دراسات العموـ‬ ‫ٔٗ‪.‬‬
‫اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬الجامعة األردنية‪ ،‬مج ٖٖ‪ ،‬ع ٖ‪ٕٓٓٙ ،‬ـ‪.‬‬
‫الج ػ ػ ػػامع فػ ػ ػ ػػي ت ػ ػ ػػاريخ األدب العربػ ػ ػ ػػي الح ػ ػ ػػديث‪ ،‬حنػ ػ ػ ػػا الف ػ ػ ػػاخوري‪ ،‬دار الجيػ ػ ػ ػػؿ – بيػ ػ ػ ػػروت‪،‬‬ ‫ٕٗ‪.‬‬
‫طٔ‪ٜٔٛٙ ،‬ـ‪.‬‬
‫جرجي زيداف في الميزاف‪ ،‬شوقي أبو خميؿ‪ ،‬دار الفكر – دمشؽ‪ ،‬طٕ‪ٜٔٛٔ ،‬ـ‪.‬‬ ‫ٖٗ‪.‬‬
‫جماؿ الغيطاني والتراث‪ ،‬مأموف الصمادي‪ ،‬مكتبة مدبولي ‪ -‬القاىرة‪ٜٜٕٔ ،‬ـ‪.‬‬ ‫ٗٗ‪.‬‬
‫جماليػ ػػات التعػ ػػالؽ النص ػ ػػي فػ ػػي رواي ػ ػػة الزينػ ػػي برك ػ ػػات لجمػ ػػاؿ الغيط ػ ػػاني (بحػ ػػث)‪ ،‬متق ػ ػػدـ‬ ‫٘ٗ‪.‬‬
‫الجػ ػػابري‪ ،‬مجمػ ػػة كميػ ػػة اآلداب والمغػ ػػات‪ ،‬ع‪ ،ٛ‬جامع ػ ػػة محمػ ػػد خيضػ ػػر ‪ -‬بسػ ػػكرة ‪ -‬الج ازئ ػ ػػر‪،‬‬
‫يناير ٕٔٔٓـ‪.‬‬
‫جماليات الكتابة الروائية عند واسيني األعرج (بحث)‪ ،‬فيصؿ غازي النعيمي‪ ،‬مجمة العموـ‬ ‫‪.ٗٙ‬‬
‫اإلنسانية (عدد خاص بالمؤتمر العممي الرابع لكمية التربية)‪ ،‬جامعة الموصؿ‪.‬‬
‫جماليات المكاف في النقد األدبي العربي المعاصر (بحث)‪ ،‬عبد اهلل أبو ىيؼ‪ ،‬مجمة‬ ‫‪.ٗٚ‬‬
‫جامعة تشريف لمدراسات والبحوث العممية‪ ،‬سمسمة اآلداب والعموـ اإلنسانية‪ ،‬المجمد ‪،ٕٚ‬‬
‫العدد ٔ‪ٕٓٓ٘ ،‬ـ‪.‬‬
‫جماليات المكاف في قصص سعيد حورانية‪ ،‬محبوبة آبادي‪ ،‬الييئة العامة السورية‬ ‫‪.ٗٛ‬‬
‫لمكتاب ‪ -‬دمشؽ‪ٕٓٔٔ ،‬ـ‪.‬‬
‫جماليات المكاف‪ ،‬غاستوف باشبلر‪ ،‬ترجمة غالب ىمسا‪ ،‬المؤسسة الجامعية لمدراسات‬ ‫‪.ٜٗ‬‬

‫‪318‬‬
‫والنشر والتوزيع ‪ -‬لبناف‪ ،‬طٕ‪ٜٔٛٗ ،‬ـ‪.‬‬
‫الجيود الروائية مف سميـ البستاني إلى نجيب محفوظ‪ ،‬عبد الرحمف ياغي‪ ،‬دار العودة –‬ ‫ٓ٘‪.‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط ٔ‪ٜٕٔٚ ،‬ـ‪.‬‬
‫جورجي زيداف والتاريخ (مقاؿ)‪ ،‬حامد أبو طير‪ ،‬مجمة ىدى اإلسبلـ‪ ،‬ع‪ ،ٚ‬فمسطيف –‬ ‫ٔ٘‪.‬‬
‫القدس‪ٔٗٓٚ ،‬ىػ‪.‬‬
‫حركة التجريب في الرواية الفمسطينية مف الستينيات حتى عاـ ٘‪ٜٜٔ‬ـ‪ ،‬عدناف عثماف‬ ‫ٕ٘‪.‬‬
‫الجواريش‪ ،‬جمعية العنقاء الثقافية ‪ -‬الخميؿ‪ ،‬ط ٔ‪ٕٖٓٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫خزانة األدب ولب لباب لساف العرب‪ ،‬عبد القادر البغدادي‪ ،‬تحقيؽ عبد السبلـ ىاروف‪،‬‬ ‫ٖ٘‪.‬‬
‫جٕ‪ ،‬مكتبة الخانجي بالقاىرة‪ ،‬طٗ‪ٜٜٔٚ ،‬ـ‪.‬‬
‫خصائص األدب العربي في مواجية نظريات النقد األدبي الحديث‪ ،‬أنور الجندي‪ ،‬دار‬ ‫ٗ٘‪.‬‬
‫الكتاب المبناني‪ ،‬ط ٕ‪ٜٔٛ٘ ،‬ـ‪.‬‬
‫خصائص الرواية الجديدة ومبلمحيا (بحث)‪ ،‬ىويدا صالح‪ ،‬مجمة الجوبة‪ ،‬مؤسسة عبد‬ ‫٘٘‪.‬‬
‫الرحمف الدسيري ‪ -‬الجوؼ ‪ -‬السعودية‪ ،‬ع ٕٕ‪ٕٜٓٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫خصائص الفعؿ السردي في الرواية العربية الجديدة (بحث)‪ ،‬بعيطيش يحيى‪ ،‬مجمة كمية‬ ‫‪.٘ٙ‬‬
‫اآلداب‪ ،‬جامعة محمد خيضر ‪ -‬بسكرة‪ ،‬ع‪ٕٓٔٔ ،ٛ‬ـ‬
‫‪ .٘ٚ‬د ارس ػ ػ ػ ػ ػػات ف ػ ػ ػ ػ ػػي الرواي ػ ػ ػ ػ ػػة الفمسػ ػ ػ ػ ػ ػػطينية‪ ،‬عم ػ ػ ػ ػ ػػي محم ػ ػ ػ ػ ػػد عػ ػ ػ ػ ػ ػػودة‪ ،‬مكتب ػ ػ ػ ػ ػػة جزيػ ػ ػ ػ ػ ػ ةر الػ ػ ػ ػ ػ ػػورد ‪-‬‬
‫القاىرة‪ ،‬طٔ‪ٕٓٔٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫دراسات في الواقعية‪ ،‬جورج لوكاتش‪ ،‬ترجمة نايؼ بّموز‪ ،‬المؤسسة الجامعية لمدراسات –‬ ‫‪.٘ٛ‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط ٖ‪ٜٔٛ٘ ،‬ـ‪.‬‬
‫‪ .ٜ٘‬ديواف جميؿ بثينة‪ ،‬بطرس البستاني‪ ،‬دار صادر ‪ -‬بيروت‪ ،‬بدوف تاريخ‪.‬‬
‫الراوي الموقع والشكؿ‪ ،‬يمنى العيد‪ ،‬مؤسسة األبحاث العربية ‪ -‬بيروت‪ ،‬طٔ‪ٜٔٛٙ ،‬ـ‪.‬‬ ‫ٓ‪.ٙ‬‬
‫روايات عمي أحمد باكثير قراءة في الرؤية والتشكيؿ‪ ،‬عبد اهلل الخطيب‪ ،‬دار المأموف‬ ‫ٔ‪.ٙ‬‬
‫لمطباعة والنشر ‪ -‬عماف (األردف)‪ٕٜٓٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫روايات نجيب محفوظ التاريخية (بحث)‪ ،‬محمد بكر البوجي‪ ،‬مجمة جامعة األزىر بغزة‪،‬‬ ‫ٕ‪.ٙ‬‬
‫سمسمة العموـ اإلنسانية ‪ ،‬مجمد ٔٔ‪ ،‬ع ٕ‪ٕٜٓٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫الرواية التاريخية أوىاـ الحقيقة (بحث)‪ ،‬واسيني األعرج‪ ،‬ميرجاف الدوحة الثقافي الرابع‪،‬‬ ‫ٖ‪.ٙ‬‬
‫المجمس الوطني لمثقافة والفنوف والتراث – الدوحة‪ ،‬ندوة الرواية التاريخية ٖٕ ‪ٕٗ-‬‬
‫آذارٕ٘ٓٓـ‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫الرواية التاريخية عند باكثير (بحث)‪ ،‬أحمد عبد اهلل السومحي‪ ،‬بحث ضمف محاضرات‬ ‫ٗ‪.ٙ‬‬
‫النادي األدبي الثقافي بجدة‪ ،‬المجموعة الثانية‪ ،‬طٔ‪ٜٔٛ٘ ،‬ـ‪.‬‬
‫الرواية التاريخية‪ ،‬جورج لوكاش‪ ،‬ترجمة صالح الكاظـ‪ ،‬و ازرة الثقافة واإلعبلـ – العراؽ‪،‬‬ ‫٘‪.ٙ‬‬
‫طٕ‪ٜٔٛٙ ،‬ـ‪.‬‬
‫الرواية العربية (عصر التجميع)‪ ،‬فاروؽ خورشيد‪ ،‬دار الشروؽ – مصر‪ ،‬ط ٖ‪ٜٕٔٛ ،‬ـ‪.‬‬ ‫‪.ٙٙ‬‬
‫الرواية العربية الجديدة وخصوصية المكاف(بحث)‪ ،‬أحمد جاسـ الحسيف‪ ،‬مجمة جامعة‬ ‫‪.ٙٚ‬‬
‫دمشؽ‪ ،‬مجمد ٕ٘‪ ،‬العدد األوؿ والثاني‪ٕٜٓٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫الرواية العربية في فمسطيف واألردف في القرف العشريف‪ ،‬شكري عزيز الماضي‪ ،‬دار‬ ‫‪.ٙٛ‬‬
‫الشروة ‪ -‬عماف‪ ،‬ط ٔ‪ٕٖٓٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫الروايػػة العربي ػػة ورىػػاف التجدي ػػد‪ ،‬محم ػػد ب ػرادة‪ ،‬الص ػػدى لمص ػػحافة والنشػػر والتوزي ػػع ‪ -‬دب ػػي‪،‬‬ ‫‪.ٜٙ‬‬
‫ط ٔ‪ٕٓٔٔ ،‬ـ‪.‬‬
‫الرواية العربية‪ ،‬روجر آلف‪ ،‬ترجمة حصة المنيؼ‪ ،‬المجمس األعمى لمثقافة‪ٜٜٔٚ ،‬ـ‪.‬‬ ‫ٓ‪.ٚ‬‬
‫الرواية والتاريخ (بحث في مستويات الخطاب في الرواية التاريخية العربية)‪ ،‬نضاؿ‬ ‫ٔ‪.ٚ‬‬
‫الشمالي‪ ،‬عالـ الكتب الحديث لمنشر والتوزيع‪ ،‬األردف‪ ،‬طٔ‪ٕٓٓٙ ،‬ـ‪.‬‬
‫الرواية والتاريخ (دراسة في مدارات الشرؽ)‪ ،‬عبد الرزاؽ عيد ومحمد جماؿ باروت‪ ،‬دار‬ ‫ٕ‪.ٚ‬‬
‫الحوار لمنشر والتوزيع ‪ -‬سورية‪ ،‬بدوف تاريخ‪.‬‬
‫الرواية والتجريب (بحث)‪ ،‬حسف عمياف‪ ،‬مجمة جامعة دمشؽ‪ ،‬المجمدٖٕ‪ ،‬عٕ‪ٕٓٓٚ ،‬ـ‪.‬‬ ‫ٖ‪.ٚ‬‬
‫الرواية والتراث السردي‪ ،‬سعيد يقطيف‪ ،‬رؤية لمنشر والتوزيع ‪ -‬القاىرة‪ٕٓٓٙ ،‬ـ‪.‬‬ ‫ٗ‪.ٚ‬‬
‫الرواية والروائي‪ ،‬حنا مينا‪ ،‬بدوف‪.‬‬ ‫٘‪.ٚ‬‬
‫رؤى الحداثة وآفاؽ التحوالت في الخطاب األدبي األردني الحداثي‪ ،‬محمود جابر عباس‪،‬‬ ‫‪.ٚٙ‬‬
‫أمانة عماف‪ٕٓٓٗ ،‬ـ‪.‬‬
‫الرؤية وتعدد األصوات في "عكا والمموؾ" لمروائي أحمد رفيؽ عوض (بحث)‪ ،‬يوسؼ‬ ‫‪.ٚٚ‬‬
‫موسى رزقة‪ ،‬مجمة جامعة األقصى ‪ -‬غزة‪ ،‬عٔ‪ ،‬يونيو ‪ٕٓٓٙ‬ـ‪.‬‬
‫الزمف والرواية‪ ،‬مندالو‪ ،‬ترجمة بكر عباس‪ ،‬دار صادر ‪ -‬بيروت‪ ،‬طٔ‪ٜٜٔٚ ،‬ـ‪.‬‬ ‫‪.ٚٛ‬‬
‫الزيني بركات (رواية)‪ ،‬جماؿ الغيطاني‪ ،‬دار الشروؽ ‪ -‬مصر‪ ،‬ط ٘‪ٕٓٔٔ ،‬ـ‪.‬‬ ‫‪.ٜٚ‬‬
‫الزيني بركات لجماؿ الغيطاني‪ ،‬رضوى عاشور(بحث)‪ ،‬مجمة الطريؽ ‪ -‬بيروت‪،‬‬ ‫ٓ‪.ٛ‬‬
‫عددٖٕٗ‪ٜٔٛٔ ،‬ـ‪.‬‬
‫السموؾ لمعرفة دوؿ المموؾ‪ ،‬تقي الديف المقريزي‪ ،‬تحقيؽ‪ :‬محمد عبد القادر عطا‪ ،‬جٔ‪،‬‬ ‫ٔ‪.ٛ‬‬

‫‪311‬‬
‫دار الكتب العممية ‪ -‬بيروت‪ ،‬طٔ‪.ٜٜٔٚ ،‬‬
‫شعرية الخطاب السردي‪ ،‬محمد عزاـ‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العرب ‪ -‬دمشؽ‪ٕٓٓ٘ ،‬ـ‪.‬‬ ‫ٕ‪.ٛ‬‬
‫شػ ػ ػ ػػعرية المك ػ ػ ػ ػػاف فػ ػ ػ ػػي الرواي ػ ػ ػ ػػة الجدي ػ ػ ػ ػػدة‪ ،‬خالػ ػ ػ ػػد حس ػ ػ ػ ػػيف‪ ،‬مؤسسػ ػ ػ ػػة اليمام ػ ػ ػ ػػة ‪ -‬الري ػ ػ ػ ػػاض‪،‬‬ ‫ٖ‪.ٛ‬‬
‫طٔ‪ٕٓٓٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫صبلح الديف األيوبي (رواية)‪ ،‬جرجي زيداف‪ ،‬منشورات المكتبة الشعبية – بيروت‪ ،‬بدوف‬ ‫ٗ‪.ٛ‬‬
‫تاريخ‪.‬‬
‫صنعة الرواية‪ ،‬بيرسي لوبوؾ‪ ،‬ترجمة عبد الستار جواد‪ ،‬دار الرشيد – العراؽ‪ٜٔٛٔ ،‬ـ‪.‬‬ ‫٘‪.ٛ‬‬
‫الصورة الفنية في التراث النقدي والببلغي عند العرب‪ ،‬جابر عصفور‪ ،‬المركز الثقافي‬ ‫‪.ٛٙ‬‬
‫العربي ‪ -‬بيروت‪ٜٜٕٔ ،‬ـ‪.‬‬
‫صػ ػػيادو الػ ػػذاكرة‪ ،‬رضػ ػػوى عاشػ ػػور‪ ،‬المركػ ػػز الثقػ ػػافي العربػ ػػي ‪ -‬الػ ػػدار البيضػ ػػاء (المغ ػ ػػرب)‪،‬‬ ‫‪.ٛٚ‬‬
‫طٔ‪ٕٓٓٔ ،‬ـ‪.‬‬
‫عػ ػ ػػالـ الرواي ػ ػ ػػة ‪ ،‬روالف بورن ػ ػ ػػوؼ‪ ،‬ترجمػ ػ ػػة ني ػ ػ ػػاد التكرل ػ ػ ػػي‪ ،‬دار الشػ ػ ػػؤوف الثقافي ػ ػ ػػة العام ػ ػ ػػة‪،‬‬ ‫‪.ٛٛ‬‬
‫بغداد‪ٜٜٔٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫عشرة أدباء يتحدثوف‪ ،‬فؤاد دوارة‪ ،‬الييئة المصرية العامة لمكتاب‪ ،‬ط ٖ‪ٜٜٔٙ ،‬ـ‪.‬‬ ‫‪.ٜٛ‬‬
‫عكا والمموؾ (رواية)‪ ،‬أحمد رفيؽ عوض‪ ،‬بيت المقدس لمنشر والتوزيع ‪ -‬راـ اهلل ‪-‬‬ ‫ٓ‪.ٜ‬‬
‫فمسطيف‪ ،‬بدوف تاريخ‪.‬‬
‫عمي أحمد باكثير في مرآة عصره‪ ،‬محمد أبو بكر حميد‪ ،‬دار مصر لمطباعة‪ ،‬بدوف‬ ‫ٔ‪.ٜ‬‬
‫تاريخ‪.‬‬
‫فضاء النص الروائي‪ ،‬محمد عزاـ‪ ،‬دار الحوار لمنشر والتوزيع ‪ -‬البلذقية‪ ،‬طٔ‪ٜٜٔٙ ،‬ـ‪.‬‬ ‫ٕ‪.ٜ‬‬
‫فف الرواية عند جورجي زيداف (بحث)‪ ،‬حممي بدير‪ ،‬مجمة كمية اآلداب‪ ،‬جامعة المنصورة‪،‬‬ ‫ٖ‪.ٜ‬‬
‫ع٘‪ ،‬مايو ٗ‪ٜٔٛ‬ـ‪.‬‬
‫فف القصة‪ ،‬محمد يوسؼ نجـ‪ ،‬دار الثقافة – بيروت‪ ،‬ط ‪ٜٜٔٚ ،ٚ‬ـ‪.‬‬ ‫ٗ‪.ٜ‬‬
‫الفف القصصي في األدب المصري الحديث‪ ،‬محمود حامد شوكت‪ ،‬دار الفكر ‪ -‬مصر‪،‬‬ ‫٘‪.ٜ‬‬
‫‪ٜٔ٘ٙ‬ـ‪.‬‬
‫في تاريخ مصر القديمة‪ ،‬محمد عمي سعد اهلل‪ ،‬مركز اإلسكندرية لمكتاب ‪ -‬مصر‪،‬‬ ‫‪.ٜٙ‬‬
‫ٕٔٓٓـ‪.‬‬
‫في ضفاؼ السرد‪ ،‬زكي العيمة‪ ،‬دار الماجد لمطباعة والنشر ‪ -‬راـ اهلل‪ ،‬ط ٔ‪.ٕٓٓٙ ،‬‬ ‫‪.ٜٚ‬‬
‫في نظرية األدب (مف قضايا الشعر والنثر في النقد العربي الحديث)‪ ،‬الجزء الثاني‪،‬‬ ‫‪.ٜٛ‬‬

‫‪311‬‬
‫عثماف موافي‪ ،‬دار المعرفة الجامعية ‪ -‬مصر‪ ،‬طٕ‪ٕٓٓٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫في نظرية الرواية‪ ،‬عبد الممؾ مرتاض‪ ،‬سمسمة عالـ المعرفة‪ ،‬عٕٓٗ‪ ،‬المجمس الوطني‬ ‫‪.ٜٜ‬‬
‫لمثقافة والفنوف واآلداب – الكويت‪ٜٜٔٛ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٓٓٔ‪ .‬قراءات في األدب والنقد‪ ،‬شجاع مسمـ العاني‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العرب ‪ -‬دمشؽ‪،‬‬
‫‪ٜٜٜٔ‬ـ‪.‬‬
‫ٔٓٔ‪ .‬القرمطي (رواية)‪ ،‬أحمد رفيؽ عوض‪ ،‬الرعاة لمدراسات والنشر ‪ -‬راـ اهلل ‪ -‬فمسطيف‪ ،‬طٗ‪،‬‬
‫ٕٔٔٓـ‪.‬‬
‫ٕٓٔ‪ .‬القصة والرواية والمؤلؼ‪ ،‬تودوروؼ كنت وآخروف‪ ،‬ترجمة خيري دومة‪ ،‬دار شرقيات‬
‫لمنشر والتوزيع ‪ -‬القاىرة‪ ،‬طٔ‪ٜٜٔٚ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٖٓٔ‪ .‬قيـ جديدة لؤلدب العربي القديـ والمعاصر‪ ،‬عائشة عبد الرحمف‪ ،‬دار المعارؼ – مصر‪،‬‬
‫طٕ‪ ،‬بدوف تاريخ‪.‬‬
‫ٗٓٔ‪ .‬الكامؿ في التاريخ‪ ،‬ابف األثير‪ ،‬تحقيؽ‪ :‬د‪.‬محمد يوسؼ الدقاؽ‪ ،‬المجمداف السابع والعاشر‪،‬‬
‫دار الكتب العممية ‪ -‬بيروت‪ ،‬طٔ‪ٜٔٛٚ ،‬ـ‪.‬‬
‫٘ٓٔ‪ .‬كتاب العيف‪ ،‬الخميؿ بف أحمد الفراىيدي‪ ،‬تحقيؽ‪ :‬عبد الحميد ىنداوي‪ ،‬جٕ‪ ،‬دار الكتب‬
‫العممية ‪ -‬بيروت‪ ،‬طٔ‪ٕٖٓٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫‪ .ٔٓٙ‬كتابات جورجي زيداف (دراسة تحميمية في ضوء اإلسبلـ)‪ ،‬محمود الصاوي‪ ،‬دار اليداية‪،‬‬
‫طٔ‪ٕٓٓٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫‪ .ٔٓٚ‬كفاح طيبة (رواية)‪ ،‬نجيب محفوظ‪ ،‬ضمف مجموعة المؤلفات الكاممة لمكاتب‪ ،‬المجمد‬
‫األوؿ‪ ،‬مكتبة لبناف ‪ -‬بيروت‪ ،‬طٔ‪ٜٜٔٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫‪ .ٔٓٛ‬محمد فريد أبو حديد وذكرى رائد منسي (بحث)‪ ،‬جابر عصفور‪ ،‬مجمة العربي‪ ،‬عدد ‪ٗٙٙ‬‬
‫‪ ،‬سبتمبر – ‪ٜٜٔٚ‬ـ‪.‬‬
‫‪ .ٜٔٓ‬المدخؿ إلى اآلداب األوروبية‪ ،‬فؤاد المرغي‪ ،‬منشورات جامعة حمب – سوريا‪ ،‬طٕ‪،‬‬
‫ٔ‪ٜٔٛ‬ـ‪.‬‬
‫ٓٔٔ‪ .‬المذاىب األدبية الكبرى في فرنسا‪ ،‬فيميب فاف تيغيـ‪ ،‬ترجمة فريد أنطونيوس‪ ،‬منشورات‬
‫عويدات ‪ -‬بيروت‪ ،‬طٖ‪ٜٖٔٛ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٔٔٔ‪ .‬المذاىب األدبية لدى الغرب‪ ،‬عبد الرزاؽ األصفر‪ ،‬مف منشورات اتحاد الكتاب العرب‪،‬‬
‫‪ٜٜٜٔ‬ـ‪.‬‬
‫ٕٔٔ‪ .‬مراجعات في األدب المصري المعاصر‪ ،‬عبد الرحمف أبو عوؼ‪ ،‬الييئة المصرية العامة‬

‫‪312‬‬
‫لمكتاب‪ٜٜٔٚ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٖٔٔ‪ .‬المرايا المحدبة (مف البنيوية إلى التفكيؾ)‪ ،‬عبد العزيز حمودة‪ ،‬عالـ المعرفة‪ ،‬عٕٖٕ‪،‬‬
‫الكويت‪ٜٜٔٛ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٗٔٔ‪ .‬المسرحية والرواية والقصة القصيرة‪ ،‬فوزي الحاج‪ ،‬جامعة األزىر – غزة‪ ،‬ط ٔ‪ٜٜٔٚ ،‬ـ‪.‬‬
‫مشكبلت السرد في رواية عكا والمموؾ ألحمد رفيؽ عوض (بحث)‪ ،‬كماؿ وحناف غنيـ‪،‬‬ ‫ّْ‬ ‫٘ٔٔ‪.‬‬
‫مجمة الزيتونة‪ ،‬كمية الزيتونة لمعموـ والتنمية ‪ -‬فمسطيف‪ ،‬عٕ‪ ،‬يوليو ٕٔٔٓـ‪.‬‬
‫‪ .ٔٔٙ‬مصر الفرعونية‪ ،‬أحمد فخري‪ ،‬الييئة المصرية العامة لمكتاب ‪ -‬القاىرة‪ٕٕٓٔ ،‬ـ‪.‬‬
‫‪ .ٔٔٚ‬مصر القديمة‪ ،‬جاف فيركوتير‪ ،‬ترجمة ماىر جويجاتي‪ ،‬دار الفكر ‪ -‬القاىرة‪،‬‬
‫طٔ‪ٜٜٖٔ ،‬ـ‪.‬‬
‫‪ .ٔٔٛ‬معالـ الحياة األدبية في فمسطيف واألردف (ٓ٘‪ ،)ٕٓٓٓ - ٜٔ‬إبراىيـ خميؿ وآخروف‪،‬‬
‫مؤسسة عبد الحميد شوماف ‪ -‬األردف‪ٕٜٓٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫‪ .ٜٔٔ‬معجـ أعبلـ المورد‪ ،‬منير بعمبكي‪ ،‬دار العمـ لممبلييف ‪ -‬بيروت‪ ،‬طٔ‪ٜٜٕٔ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٕٓٔ‪ .‬معجـ المصطمحات األدبية المعاصرة‪ ،‬سعيد عموش‪ ،‬دارالكتاب المبناني – بيروت‪ ،‬طٔ‪،‬‬
‫٘‪ٜٔٛ‬ـ‪.‬‬
‫ٕٔٔ‪ .‬معجـ المصطمحات األدبية‪ ،‬إبراىيـ فتحي‪ ،‬المؤسسة العربية لمناشريف المتحديف – تونس‪،‬‬
‫طٔ‪ٜٔٛٙ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٕٕٔ‪ .‬معجـ المصطمحات العربية في المغة واألدب‪ ،‬مجدي وىبة وكامؿ الميندس‪ ،‬مكتبة لبناف –‬
‫بيروت‪ ،‬طٕ‪ٜٔٛٗ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٖٕٔ‪ .‬المعجـ الوسيط‪ ،‬مجمع المغة العربية‪ ،‬مكتبة الشروؽ الدولية ‪ -‬مصر‪ ،‬طٗ‪ٕٓٓٗ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٕٗٔ‪ .‬معج ػ ػ ػػـ مصػ ػ ػ ػػطمحات نقػ ػ ػ ػػد الروايػ ػ ػ ػػة‪ ،‬لطيػ ػ ػ ػػؼ زيتػ ػ ػ ػػوني‪ ،‬مكتبػ ػ ػ ػػة لبنػ ػ ػ ػػاف ناشػ ػ ػ ػػروف – لبنػ ػ ػ ػػاف‪،‬‬
‫طٔ‪ٕٕٓٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٕ٘ٔ‪ .‬معن ػ ػ ػ ػ ػ ػػى المأسػ ػ ػ ػ ػ ػ ػػاة فػ ػ ػ ػ ػ ػ ػػي الرواي ػ ػ ػ ػ ػ ػػة العربيػ ػ ػ ػ ػ ػ ػػة‪ ،‬غػ ػ ػ ػ ػ ػ ػػالي ش ػ ػ ػ ػ ػ ػػكري‪ ،‬دار اآلفػ ػ ػ ػ ػ ػ ػػاؽ الجديػ ػ ػ ػ ػ ػ ػػدة ‪-‬‬
‫بيروت‪ ،‬طٕ‪ٜٔٛٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫‪ .ٕٔٙ‬مفيوـ الرواية التاريخية في النقد الروائي في سورية (مخطوط)‪ ،‬غدير يوسؼ‪ ،‬رسالة‬
‫ماجستير‪ ،‬جامعة حمب‪ٕٜٓٓ،‬ـ‪.‬‬
‫‪ .ٕٔٚ‬مقاربػات نقديػة (د ارسػػات فػي روايػات أحمػػد رفيػؽ عػوض)‪ ،‬مجموعػػة مػف البػاحثيف‪ ،‬جمعيػػا‬
‫وأعدىا عمي خواجة‪ ،‬دار الماجد لمنشر والتوزيع ‪ -‬فمسطيف‪ ،‬طٔ‪ٕٓٓٗ ،‬ـ‪.‬‬
‫‪ .ٕٔٛ‬مقومػػات القصػػة العربي ػػة الحديثػػة فػػي مص ػػر‪ ،‬محمػػود حامػػد ش ػػوكت‪ ،‬دار الجيػػؿ – مص ػػر‪،‬‬

‫‪313‬‬
‫بدوف تاريخ‪.‬‬
‫‪ .ٕٜٔ‬مف األدب المقارف‪ ،‬نجيب العقيقي‪ ،‬مكتبة األنجمو المصرية‪ ،‬جٖ‪ ،‬طٖ‪ٜٔٚٙ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٖٓٔ‪ .‬الميميؿ سيد ربيعة (رواية)‪ ،‬محمد فريد أبو حديد‪ ،‬مطبعة لجنة التأليؼ والترجمة والنشر ‪-‬‬
‫مصر‪ٜٔٗٗ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٖٔٔ‪ .‬النجػوـ ال ازىػ ةر فػػي ممػوؾ مصػر والقػػاىرة‪ ،‬تغػري بػػردي‪ ،‬تقػديـ‪ :‬محمػد حسػػيف شػمس الػػديف‪،‬‬
‫ج‪ ،ٚ‬دار الكتب العممية ‪ -‬بيروت‪ ،‬ط ٔ‪ٜٜٕٔ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٕٖٔ‪ .‬نجيب محفوظ في مجيولو المعموـ‪ ،‬عمي شمؽ‪ ،‬دار المسيرة ‪ -‬بيروت‪ ،‬ط ٔ‪ٜٜٔٚ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٖٖٔ‪ .‬نجيب محفوظ يتذكر‪ ،‬جماؿ الغيطاني‪ ،‬دار المسي ةر ‪ -‬بيروت‪ٜٔٛٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٖٗٔ‪ .‬نحو ممحمة روائيػة عربيػة (د ارسػة فػي مػدارات الشػرؽ)‪ ،‬محسػف يوسػؼ‪ ،‬دار الحػوار لمنشػر‬
‫والتوزيع ‪ -‬سورية‪ ،‬ط ٔ‪.ٜٜٔٔ ،‬‬
‫ٖ٘ٔ‪ .‬النزعة اإلنسانية في الرواية العربية وبنات جنسيا‪ ،‬بيػاء الػديف محمػد مزيػد‪ ،‬العمػـ واإليمػاف‬
‫– مصر‪ ،‬طٔ‪ٕٓٓٚ ،‬ـ‪.‬‬
‫‪ .ٖٔٙ‬نظريات السرد الحديثة‪ ،‬واالس مارتف‪ ،‬ترجمة حياة جاسـ محمد‪ ،‬المجمس األعمى لمثقافة ‪-‬‬
‫مصر‪ٜٜٔٛ ،‬ـ‪.‬‬
‫‪ .ٖٔٚ‬نظري ػػة األدب فػ ػػي ضػ ػػوء اإلسػ ػػبلـ (القسػ ػػميف األوؿ والثالػ ػػث)‪ ،‬عبػ ػػد الحميػ ػػد بوزوينػ ػػة‪ ،‬دار‬
‫البشير ‪ -‬األردف‪ ،‬طٔ‪ٜٜٔٓ ،‬ـ‪.‬‬
‫‪ .ٖٔٛ‬نقد الرواية في األدب العربي الحديث في مصر‪ ،‬أحمد اليواري‪ ،‬دار المعارؼ ‪ -‬القاىرة‪،‬‬
‫طٕ‪.ٜٖٔٛ ،‬‬
‫‪ .ٖٜٔ‬نير يستحـ في البحي ةر (رواية)‪ ،‬يحيى يخمؼ‪ ،‬دار الشروؽ ‪ -‬راـ اهلل‪ ،‬طٔ‪ٜٜٔٚ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٓٗٔ‪ .‬ىمػوـ المعيشػػة كمػػا تصػورىا الروايػػة التاريخيػػة (بحػث)‪ ،‬خيػػري دومػػة‪ ،‬مجمػة ثقافػػات‪ ،‬كميػػة‬
‫اآلداب بجامعة البحريف‪ٕٓٔٔ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٔٗٔ‪ .‬واإسبلماه (رواية)‪ ،‬عمي أحمد باكثير‪ ،‬مكتبة مصر ‪ -‬القاىرة‪ ،‬بدوف طبعة أو سنة نشر‪.‬‬
‫ٕٗٔ‪ .‬الواقعيػػة اإلسػػبلمية فػػي رواي ػػات نجيػػب الكيبلنػػي‪ ،‬حممػػي محم ػػد القػػاعود‪ ،‬مكتبػػة العبيك ػػاف‪،‬‬
‫بدوف طبعة أو سنة نشر‪.‬‬
‫ٖٗٔ‪ .‬الواقعيػ ػػة فػ ػػي الروايػ ػػة العربيػ ػػة‪ ،‬محمػ ػػد حسػ ػػف عبػ ػػد اهلل‪ ،‬الييئػ ػػة المصػ ػػرية العامػ ػػة لمكت ػ ػػاب –‬
‫مصر‪ٕٓٓ٘ ،‬ـ‪.‬‬
‫ٗٗٔ‪ .‬وقفة مع جورجي زيداف‪ ،‬عبد الرحمف العشماوي‪ ،‬مكتبة العبيكاف – الرياض‪ ،‬طٔ‪ٜٜٖٔ ،‬ـ‪.‬‬

‫‪314‬‬
‫المواقع اإللكترونية‪:‬‬

‫ٔ‪ .‬أىمية المكاف في النص الروائي‪ ،‬آسية البو عمي (أكاديمية مف سمطنة عماف)‪ ،‬موقع‬
‫مجمة نزوى‪ ،‬الثبلثاء ‪ٕٓٔ٘/ٕٔ/ٛ‬ـ‪/http://www.nizwa.com .‬‬
‫ٕ‪ .‬االتجاه اإلسبلمي في روايات عمي أحمد باكثير التاريخية (بحث)‪ ،‬حسف سرباز‪ ،‬موقع‬
‫األلوكة األدبية والمغوية‪ ،‬الخميس ‪ٕٓٔ٘/ٛ/ٙ‬ـ‪.‬‬
‫‪http://www.alukah.net/literature_language/0/36231‬‬
‫ٖ‪ .‬باكثير وريادة التصور اإلسبلمي في الرواية التاريخية (بحث)‪ ،‬أحمد رشاد حسانيف موقع‬
‫األلوكة األدبية والمغوية‪ ،‬الخميس ‪ٕٓٔ٘/ٛ/ٙ‬ـ‪.‬‬
‫‪http://www.alukah.net/literature_language/0/32775‬‬
‫ٗ ‪ .‬جماليات المكاف في الرواية (بحث)‪ ،‬أحمد زياد محبؾ‪ ،‬موقع ديواف العرب‪ ،‬الثبلثاء‬
‫‪ٕٓٔ٘/ٕٔ/ٛ‬ـ‪.‬‬
‫‪http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=2220‬‬
‫٘‪ .‬روايات جورجي زيداف بيف التاريخ والتشويؽ الفني‪ ،‬جميؿ حمداوي‪ ،‬موقع ديواف العرب‪،‬‬
‫السبت ٔ‪ٕٓٔ٘/ٛ/‬ـ‪http://www.diwanalarab.com/spip.php?article7989 .‬‬
‫‪ .ٙ‬الرواية التاريخية العربية زمف االزدىار‪ ،‬قاسـ عبده قاسـ‪ ،‬موقع كتاب العربي الصغير‬
‫(ممحؽ ربع سنوي لمجمة العربي الكويتية)‪،‬ع‪ ،ٚٚ‬يوليو‪ ،ٕٜٓٓ‬األحد ٘‪ٕٓٔ٘/ٚ/‬ـ‪.‬‬
‫‪http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=394&ID=17‬‬

‫‪ . ٚ‬الرواية التاريخية وقضايا النوع األدبي (بحث)‪ ،‬سعيد يقطيف‪ ،‬موقع مجمة نزوى‪ ،‬اإلثنيف‬
‫‪http://www.nizwa.com/articles.php?id=246‬‬ ‫‪ٕٓٔ٘/ٚ/ٙ‬ـ‪.‬‬

‫‪ .ٛ‬الرواية التاريخية وتمثؿ الواقع (بحث)‪ ،‬عبد المطيؼ محفوظ‪ ،‬الخميس ‪ٕٓٔ٘/ٚ/ٔٙ‬ـ‪.‬‬
‫‪http://www.aljabriabed.net/n85_04mahfoud.htm‬‬
‫‪ .ٜ‬رواية التوثيؽ التاريخي‪ ،‬جميؿ حمداوي‪ ،‬الحوار المتمدف‪ ،‬الخميس ‪ٕٓٔ٘/ٚ/ٔٙ‬ـ‪.‬‬
‫‪http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=87110‬‬
‫ٓٔ‪ .‬الزيني بركات بيف القمع الممموكي والقير البوليسي في الستينات‪ ،‬ماىر حسف‪ ،‬موقع‬
‫المصري اليوـ‪ ،‬السبت ٘‪ٕٓٔ٘/ٜ/‬ـ‪.‬‬
‫‪http://www.almasryalyoum.com/news/details/829206‬‬

‫‪315‬‬
‫ٔٔ‪ .‬الزيني بركات لجماؿ الغيطاني بيف التخييؿ التاريخي والتأصيؿ التراثي‪ ،‬جميؿ‬
‫حمداوي‪ ،‬موقع ندوة‪ ،‬السبت ٘‪ٕٓٔ٘/ٜ/‬ـ‪.‬‬
‫‪http://www.arabicnadwah.com/bookreviews/ghitany-hamadaoui.htm‬‬
‫ٕٔ‪ .‬الصوفي في الروائي‪ ،‬محمد أدادا‪ ،‬الجمعة ٕ‪ٕٓٔ٘/ٔٓ/‬ـ‪.‬‬
‫‪http://www.aljabriabed.net/n40_06adada%29.htm‬‬
‫ٖٔ‪ .‬عمي أحمد باكثير النشأة األدبية في حضرموت‪ ،‬محمد أبو بكر حميد‪ ،‬موقع إسبلـ‬
‫ويب‪ ،‬الخميس ‪ٕٓٔ٘/ٛ/ٙ‬ـ‪.‬‬
‫‪http://www.islamweb.net/ramadan/index.php?page=article&id=10342‬‬
‫ٗٔ‪ .‬عمي أحمد باكثير رائد الرواية التاريخية اإلسبلمية في األدب العربي (بحث)‪ ،‬محمد‬
‫عمي غبلـ نبي غوري ‪ ،‬موقع األلوكة األدبية والمغوية‪ ،‬الخميس ‪ٕٓٔ٘/ٛ/ٙ‬ـ‪.‬‬
‫‪http://www.alukah.net/literature_language/0/37552‬‬
‫٘ٔ‪ .‬الفضاء التاريخي في الرواية التاريخية بيف عمي أحمد باكثير وجورجي زيداف (بحث)‪،‬‬
‫عبد اهلل الخطيب‪ ،‬موقع األديب عمي أحمد باكثير‪ ،‬الخميس ‪ٕٓٔ٘/ٛ/ٙ‬ـ‪.‬‬
‫‪http://www.bakatheer.com/upload/al-fada_al-rewaiy_dr_al-khateeb.pdf‬‬

‫‪ .ٔٙ‬كتاب المغازي الموريسكية استمياـ الممحمة واضفاء طابع البطولة عمى الحكايات‪ ،‬عبد‬
‫ٕٔ‪ٕٓٔ٘/ٛ/‬ـ‪.‬‬ ‫الجمعة‬ ‫العربي‪،‬‬ ‫القدس‬ ‫صحيفة‬ ‫موقع‬ ‫بروكي‪،‬‬ ‫العالي‬
‫‪http://www.alquds.co.uk/?p=77364‬‬

‫‪ .ٔٚ‬مدخؿ إلى الرواية التاريخية (بحث) ‪ ،‬عبد اهلل الخطيب‪ ،‬موقع رابطة أدباء الشاـ‪،‬‬
‫السبت ٗ‪ٕٓٔ٘/ٚ/‬ـ‪.‬‬
‫‪http://odabasha.ipower.com/show.php?sid=2373‬‬
‫مف مبلمح الرواية التاريخية عند باكثير الثائر األحمر وفشؿ المشروع القرمطي(بحث)‪،‬‬ ‫‪.18‬‬

‫حممي محمد القاعود‪ ،‬موقع األلوكة األدبية والمغوية‪ ،‬الخميس ‪ٕٓٔ٘/ٛ/ٙ‬ـ‪.‬‬


‫‪http://www.alukah.net/culture/0/418‬‬

‫‌‬
‫‌‬
‫‌‬
‫‌‬

‫‪316‬‬
‫المحتويات‬

‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬
‫أ‬ ‫اإلىداء‬
‫ب‬ ‫الشكر والتقدير‬
‫ت‬ ‫الممخص بالمغة العربية‬
‫ث‬ ‫الممخص بالمغة اإلنجميزية‬
‫ج‬ ‫المقدمة‬
‫ٔ ‪ٜ-‬‬ ‫تمييد‪ :‬الرواية التاريخية (تعريفاتيا وسماتيا وأىدافيا)‬
‫ٓٔ ‪٘ٛ-‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬الرواية التاريخية العربية في مرحمة النشأة‬
‫ٔٔ‬ ‫المبحث األول‪ :‬بواكير نشأة الرواية التاريخية في األدب العربي‬
‫ٔٔ‬ ‫نشأة الرواية التاريخية وتطورىا في ببلد الغرب‬
‫٘ٔ‬ ‫نشأة الرواية التاريخية في األدب العربي‬
‫‪ٔٛ‬‬ ‫أعبلـ الرواية التاريخية العربية في مرحمة النشأة‬
‫ٖٕ‬ ‫المبحث الثاني‪ :‬جورجي زيدان والرواية التاريخية‬
‫‪ٕٙ‬‬ ‫الخصائص الفنية لمرواية التاريخية عند جورجي زيداف‬
‫ٕٖ‬ ‫مآخذ النقاد عمى روايات جورجي زيداف مف الناحية الفنية‬
‫ٖٖ‬ ‫مظاىر انحراؼ جورجي زيداف في تناوؿ موضوعات التاريخ اإلسبلمي‬
‫‪ٖٙ‬‬ ‫رواية (صبلح الديف األيوبي) نموذجاً‬
‫ٗٗ‬ ‫المبحث الثالث‪ :‬تحوالت الرواية التاريخية عند محمد فريد أبو حديد‬
‫‪ٗٚ‬‬ ‫التحوالت الموضوعية‬
‫ٕ٘‬ ‫التحوالت الفنية‬
‫‪ٕٔٙ- ٜ٘‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬تحوالت الرواية التاريخية في ظل الرواية الواقعية‬
‫ٓ‪ٙ‬‬ ‫المبحث األول‪ :‬أثر الرواية الواقعية في الرواية التاريخية‬
‫ٖ‪ٙ‬‬ ‫الواقعية سماتيا وتحوالتيا‬
‫٘‪ٙ‬‬ ‫تحوالت الرواية التاريخية نحو الواقع‬
‫‪ٙٛ‬‬ ‫المبحث الثاني‪ :‬االتجاه نحو التاريخ الفرعوني عند نجيب محفوظ‬
‫‪ٙٛ‬‬ ‫عوامؿ اتجاه نجيب محفوظ نحو التاريخ الفرعوني‬

‫‪317‬‬
‫ٓ‪ٚ‬‬ ‫روايات محفوظ التاريخية وعبلقتيا بالواقع‬
‫ٕ‪ٚ‬‬ ‫تعامؿ نجيب محفوظ مع التاريخ‬
‫ٖ‪ٚ‬‬ ‫التحوالت الفنية في ضوء رواية كفاح طيبة‬
‫ٖ‪ٚ‬‬ ‫أوالً‪ :‬البناء الفني العاـ‬
‫٘‪ٚ‬‬ ‫ثانياً‪ :‬المغة وأساليب السرد‬
‫‪ٜٚ‬‬ ‫ثالثًا‪ :‬الشخصيات‬
‫ٕ‪ٛ‬‬ ‫رابعًا‪ :‬المكاف والزماف‬
‫‪ٛٛ‬‬ ‫المبحث الثالث‪ :‬باكثير وريادة التوجو اإلسالمي لمرواية التاريخية‬
‫‪ٜٛ‬‬ ‫عوامؿ اتجاه باكثير نحو التاريخ اإلسبلمي‬
‫ٓ‪ٜ‬‬ ‫روايات باكثير التاريخية وعبلقتيا الواقع‬
‫ٖ‪ٜ‬‬ ‫تعامؿ باكثير مع التاريخ‬
‫٘‪ٜ‬‬ ‫التحوالت الفنية عند باكثير‬
‫٘‪ٜ‬‬ ‫أوالً‪ :‬البناء الفني العاـ‬
‫‪ٜٜ‬‬ ‫ثانياً‪ :‬المغة وأساليب السرد‬
‫ٗٓٔ‬ ‫ثالثاً‪ :‬التناص‬
‫‪ٔٓٛ‬‬ ‫رابعاً‪ :‬الشخصيات‬
‫‪ٔٔٚ‬‬ ‫خامساً‪ :‬المكاف والزماف‬
‫‪ٔ٘ٙ- ٕٔٚ‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬تحوالت الرواية الجديدة (مقاربة نظرية)‬
‫‪ٕٜٔ‬‬ ‫عوامؿ ظيور الرواية الجديدة‬
‫ٖٓٔ‬ ‫عبلقة الرواية الجديدة بالواقع المعاصر‬
‫ٖٔٔ‬ ‫الرواية الجديدة والمتمقي‬
‫ٕٖٔ‬ ‫التحوالت عمى مستوى المغة وأساليب السرد‬
‫‪ٖٔٙ‬‬ ‫التحوالت عمى مستوى الحدث‬
‫‪ٖٔٛ‬‬ ‫التحوالت عمى مستوى الشخصية وتقنيات السرد‬
‫ٗٗٔ‬ ‫التحوالت عمى مستوى ّْ‬
‫الحيز أو المكاف‬
‫ٔ٘ٔ‬ ‫التحوالت عمى مستوى الزماف‬
‫‪ٕٜٛ- ٔ٘ٚ‬‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬تحوالت الرواية التاريخية في ظل الرواية الجديدة‬
‫ٖ‪ٔٙ‬‬ ‫المبحث األول‪ :‬الغيطاني والرواية التاريخية الجديدة في الزيني بركات‬

‫‪318‬‬
‫ٖ‪ٔٙ‬‬ ‫التحوالت الموضوعية‬
‫‪ٜٔٙ‬‬ ‫التحوالت الفنية‬
‫‪ٜٔٙ‬‬ ‫أوالً‪ :‬البناء الفني العاـ‬
‫ٗ‪ٔٚ‬‬ ‫ثانياً‪ :‬المغة وأساليب السرد‬
‫ٔ‪ٔٛ‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬التناص‬
‫‪ٜٔٛ‬‬ ‫رابعًا‪ :‬الشخصيات‬
‫‪ٜٜٔ‬‬ ‫خامسًا‪ :‬المكاف‬
‫‪ٕٓٛ‬‬ ‫سادسًا‪ :‬الزماف‬
‫‪ٕٜٔ‬‬ ‫المبحث الثاني‪ :‬التحوالت الموضوعية والفنية في (ثالثية غرناطة) لرضوى عاشور‬
‫‪ٕٜٔ‬‬ ‫تعامؿ رضوى عاشور مع التاريخ‬
‫ٕٕٓ‬ ‫فكرة الرواية ورسالتيا وتحوالتيا الموضوعية‬
‫ٕٕٕ‬ ‫التحوالت الفنية‬
‫ٕٕٕ‬ ‫أوالً‪ :‬البناء الفني العاـ‬
‫‪ٕٕٚ‬‬ ‫ثانياً‪ :‬المغة وأساليب السرد‬
‫ٖٕٓ‬ ‫ثالثاً‪ :‬التناص‬
‫ٕٖٕ‬ ‫رابعاً‪ :‬الشخصيات‬
‫‪ٕٖٙ‬‬ ‫خامساً‪ :‬المكاف‬
‫‪ٕٖٛ‬‬ ‫سادساً‪ :‬الزماف‬
‫ٖٕٗ‬ ‫المبحث الثالث‪ :‬تحوالت الرواية التاريخية الجديدة عند أحمد رفيق عوض في‬
‫روايتي القرمطي‪ ،‬وعكا والمموك‬
‫ٕٗٗ‬ ‫تعامؿ أحمد رفيؽ عوض مع التاريخ‬
‫‪ٕٗٚ‬‬ ‫التحوالت الموضوعية‬
‫ٕٓ٘‬ ‫التحوالت الفنية‬
‫ٕٓ٘‬ ‫ال‪ :‬البناء الفني العاـ‬
‫أو ً‬
‫‪ٕ٘ٙ‬‬ ‫ثانيًا‪ :‬المغة وأساليب السرد‬
‫‪ٕٙٛ‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬التناص‬
‫ٕ‪ٕٚ‬‬ ‫رابعاً‪ :‬الشخصيات‬
‫‪ٕٛٙ‬‬ ‫خامساً‪ :‬المكاف‬

‫‪319‬‬
‫ٖ‪ٕٜ‬‬ ‫سادساً‪ :‬الزماف‬
‫‪ٖٓٗ- ٕٜٜ‬‬ ‫الخاتمة‬
‫ٖٓٓ‬ ‫نتائج الدراسة‬
‫ٖٗٓ‬ ‫توصيات الدراسة‬
‫ٖ٘ٓ ‪ٖٔٙ-‬‬ ‫المصادر والمراجع‬
‫‪ٖٔٚ‬‬ ‫المحتويات‬

‫مت حبمد اهلل‬

‫‪321‬‬

You might also like