Professional Documents
Culture Documents
هايدغر ناقدًا نيتشه
هايدغر ناقدًا نيتشه
ابتداء من سنة ،1936قدّ م مارتن هايدغر قراءة ُمكثّفة لعمل نيتشه .وبحسب كاتب املقال
املفكر الفرنيس آالن دي بينوا فإن الطريقة التي ُيحلّل بها هايدغر فلسفة نيتشه( )1تُ ثّل مرحلة
حية من الوهلة األوىل .فهو يرى إىل أن الخاص رغم أن استنتاجاته تبدو ُم ّ
ّ أساسية من فكره
االرتجاج النيتيش هو النتيجة البعيدة لالرتجاج األفالطوين ثم الديكاريت .ويشري إىل أن نيتشه
وصفه بأنه
يخص الجزء األسايس من فلسفته» ويذهب إىل حدّ ْ ّ «قريب للغاية من ديكارت يف ما
«أكرث األفالطونيني تفلّتاً».
أما كيف متكّن هايدغر من القيام مبثل هذا التشخيص ،فهذا ما يسعى دي بينوا إىل تبيينه
املحرر ورشحه يف مقالته هذه.
بإعالن «موت الله» ورفْض «العامل فوق املحسوس» لصالح العامل املحسوس الذي أُعلِن
رسمياً أنه وحده الحقيقي ،بدا نيتشه وكأنه يُهاجم مجال األفكار األفالطونية ويُعلن عدم وجود
ْ
عوامل خَفيّة( .حتى لو مل تكن رصخة «مات الله» رصخة ُملحد وإمنا املالحظة الجليّة للموت
الطارئ والقديم ـ وحتى رصخة ُمتّسمة بالندم ،تشجب هؤالء املؤمنني باعتبارهم « ُملحدين»
ب عن إميانهم بطريقة ال ينتج عنها إال موت الله) .يف الواقع ،إن نيتشه ُمعجب بنفسه حقيقيني ُع ِّ َ
َب مصطلحات إشكاليته .لكن رصاح ًة ألنه قام ِﺑ «قلْب» الفكر األفالطوين .وهو يعني بذلك أنه قَل َ
أال يُوازي هذا القلْب ( )umkehrungالتجاوز ()Überwindung؟ أال ميكن تفسريه بشكل ّ
أدق
وصف العامل املحسوس کـ «عامل حقيقي» ،والعامل كاكتامل ()Vollendung؟ بعبارة أخرى ،إن ْ
ما فوق املحسوس كوهم زائف ،أال يكفي هذا للخروج من األفالطونية؟ ويُضيف جان بوفريه
خاص
ّ القلب النيتشوي لألفالطونية بدوره ،يف األفالطونية ،ليشء ما
ُ « Jean Beaufretأال يستجيب
باألفالطونية التي أصبحت أكرث وضوحاً يف ضوء عملية قلْبها؟» [[[.
لقد ش ّدد هايدغر مرارا ً عىل أن ُمعارضة يشء ما تعني حتْامً مشاركة هذا اليشء نفسه يف ما
نُعارضه .سيُؤكّد إذن أن «القلْب» األفالطوين الذي يقوم به نيتشه ميتاز بشكل رئيس بالحفاظ عىل
خاصة مبا يُريد «قلبه» وهذا ما سيقوده إىل التأكيد عىل أن
ّ ترسيامت مفهومية أو إلهامات جوهرية
نيتشه يبقى يف النهاية يف «املوقع امليتافيزيقي األسايس» ،الذي يُع ّرفه هايدغر بأنه «الطريقة التي
يعتمدها ذلك الذي يطرح السؤال امل َبديئ يك يبقى هو نفسه ُمندمجاً بالبنية غري امل ُط ّورة للسؤال
امل َبديئ»[[[.
أما عن كيفية إجراء برهنته؟ فذلك سيكون بشكل أسايس انطالقاً من تفكري نقدي حول مفهوم
القيمة.
يحتل هذا املفهوم عند نيتشه مكانة بالغة األه ّمية .ويُع ّد عنرصا ً أساسياً يف نقده ومرشوعه عىل ّ
السواء .كتب نيتشه :ماذا تعني العدمية؟ ـ أن القيم العليا [ ]die obersten werteتفقد قيمتها» ّ
( La volonté de puissanceالفقرة .)2إن العدمية ناجمة عن التغلّب التدريجي لبعض القيم التي
يعتربها نيتشه األكرث دناء ًة (أو زيْفاً) عىل قيمٍ أخرى كانت األكرث ُس ُم ّوا ً (أو األكرث أصالةً) .بتعبري
الخاص قيامً ُمستعارة
ّ أدق ،يعتقد نيتشه أن اإلنسان يُسقط تدريجياً ثم يُبلور يف مجال وجوده ّ
أصلياً من العامل الخ ِف ّي .arrière-mondeيف التحليل األخري ،ارتكز «تخفيض القيم» عىل العدول
عن قيم العامل املحسوس باسم مثل أعىل ما ورايئ (أو فوق العامل املا ّدي) الذي ليس سوى
AL-ISTIGHRAB
خر يــف 2 0 1 6 االستغراب
حلقات الجدل 330
خدعة وبريق ُمو ِهم للعامل املحسوس ،ما يعني أن العدمية تصدر عن ث َنوية dualismالعاملني
التي ألهمت الفلسفة الغربية منذ أفالطون .وملا كانت العدمية مطروح ًة كحدث أسايس يف التاريخ
الغريب ،يقرأ نيتشه إذن هذا التاريخ بوصفه تاريخ التخفيض البطيء ﻟ «القيم العليا» ،وإن نقطة
النهاية للعدمية هي أنه ال يشء له قيمة وأن ليس هناك يشء ذو قيمة .من ناحية أخرى ،يعترب نيتشه
عب« :بحث يف
أن إرادة القوة هي «مبدأ التأسيس الجديد للقيم» .وإن العنوان الفرعي لكتابه ُم ّ
قلب القيم كافّة» .فانطالقاً من مفهوم القيمة يفهم نيتشه صعود العدمية وإمكانية تجاوزها :ارتكزت
العدمية عىل تخفيض بعض القيم؛ ومن أجل ُمواجهتها يجب تأسيس قيم جديدة.
الخاص يقوم عىل التفكري ﺑ «ما له قيمة»،
ّ عىل العكس ،يُنكر هايدغر بقوة فكرة أن دور الفلسفة
واستطرادا ً ،عىل تحديد مقياس للقيم .بالطبع ليست كل القيم متعادلة بنظر هايدغر .هنا أيضاً،
يستوحي باألحرى من الفلسفة اإلغريقية الغريبة أصالً عن مفهوم القيمة كام نفهمها اليوم ،الفلسفة
التي فهمت فكر الكينونة کـ «بزوغ لعامل االختالف» ،ومجال الكينونة كمجال لالختيار بني األفضل
واألسوإ انطالقاً من «الكايف» .وقد كتب جان بوفريه Jean Beaufretأن «االختيار إيثارا ً هو امله ّمة
النقدية أساساً لفكر الكينونة [ ]...إن فكرة االختيار ت ُشكل جوهر اللوغوس Logosالذي ال يقوم
الكل بال تنظيم ،بل عىل عدم االحتفاظ مبا انتخبه يف ُمص ّنفه»[[[.
عىل ج ْمع ّ
إن أولية «القيمة» باملعنى الحديث للكلمة ُمشتقّة من األولية األفالطونية للـ « أغاثون»
( ،)Agathonأي الخري بذاته ،الخري املج ّرد .إن هذا الخري املقطوع من أي تعيني ملموس هو ما
عي نوع ّية الكينونة ونوعية عامل األفكار يف الوقت نفسه .إن القول بأن العامل فوق املحسوس
يُ ّ
محكوم بالخري يعني برأي أفالطون أن عامل األفكار هو نفسه محكوم بفكرة ،فكرة «أغاثون»،
املطروحة بوصفها الفكرة األوىل ،أي القيمة بامتياز .ينتج من ذلك أن حقيقة الكينونة ،الحقيقة
الضعيفة متاماً ،ال ت ُساوي شيئاً بذاتها ـ كام كان الحال عند فالسفة ما قبل سقراط الذين يعتربون أن
الحقيقة الكافية نفسها بنفسها مل تكن بحاجة أبدا ً إىل أن تكون مكفولة مام هو أرفع منها ـ ،وإمنا
ُعب عن اﻟ «أغاثون» الذي ترتبط به« .هكذا يفتتح أفالطون ،تحت اسم
ُجسد أو ت ّ
فقط باعتبارها ت ّ
الفلسفة ،إخضاع الحقيقة»[[[ .إن التاريخ الفلسفي ملفهوم القيمة سيكون تاريخ إخضاع الحقيقة.
كل قيمة تتامهى ُمذ ذاك مع وجهة نظر .وكل قيمة يطرحها هدف ما ،ونظرة عىل ما ق ّررنا أنه ذو
االستغراب AL-ISTIGHRAB
خر يــف 2 0 1 6
331 هايدغر ناقدًا نيتشه
قيمة .إن هذا التعريف الحديث ﻟ «القيمة» يظهر عىل نحو أكمل لدى ديكارت الذي ُيكّن مامرسة
الفلسفة من بلوغ أوجها يف تعيني «القيمة الصحيحة» للخريات التي ال ترتبط إال بنا ،وهذا انطالقاً
من مصدر وحيد للتعيني هو «األنا امل ُفكّر» ( .)Ego cogitansمثة نتيجتان رئيسيتان لذلك.
األوىل هي ظهور صورة جديدة للحقيقة .مع ديكارت ،الحقيقة ليست االنكشاف aléthèia
القديم لدى اإلغريق القدامى ،وال حتى «املطابقة» adaequatioالتي شفى امل ُعلّقون القدماء
ُغلّتهم منها («الحقيقة هي تطابق األشياء والعقل») .من املطابقة البسيطة تتح ّول الحقيقة إىل
نصبة نفسها «بوصفها أمان الوجود»[[[. «يقني» ـ «الحقيقة» verumتتحول إىل «يقني» certumـ ُم ّ
ال يتساءل ديكارت بشأن الكينونة ( ،)Êtreوإمنا فقط بشأن الكائن ( )Etantالذي ميكن أن يعرض
نفسه يف بُعد اليقني .وهذا يعني أنه ال يهت ّم إال باملعرفة القابلة ِلن تطرح نفسها كمعرفة للذات .وال
ميكن أن تحدث من دونها أي معرفة أخرى ،حيث طرح أرسطو ،مثالً ،أن كل معرفة هي أوالً معرفة
يشء آخر ،وأنه عىل هذا النحو ميكن لِامهية الحقيقة االقرتاب .لليقني الذي يُز ّودنا به اإلميان يف
سمها توما األكويني « )»Absentibusيستجيب يقني اﻟ «intuitis يخص األمور الغائبة (التي ّ ّ ما
محل السلطة اإللهية.
سيحل ّ
ّ »mentisالذي
يتأت من وجود الذات امل ُفكِّرة التي متتحن نفسها .لكن هايدغر
يؤكّد ديكارت أن تأويل الحقيقة كيقني ّ
بي يف الواقع عكس ذلك :إن طرح وجود الذات كحقيقة أوىل أكيدة يقود إىل ف ْهم كل حقيقة كيقني. يُ ّ
النتيجة الثانية للتأكيد الحديث ألولية القيمة هي انبجاس ما يُس ّميه هايدغر «ميتافيزيقا الذات».
ﻓ «األنا» le moiتتح ّول مع ديكارت إىل «ذات» ـ أو لِنقل ذلك بلغة هايدغر ،إن اإلنسان «بوصفه
موضوعاً subjectumيتنظّم ويُوفّر األمان لنفسه ُمراعياً استقراره يف جملة الكائن[[[ ( .)Etantمع
ديكارت ،الذات هي التي يصبح علمها التفكّري ،أي العلم بذاتها ،معيار الحقيقة .هذا يعني بتعبري
خ ِفيّة ألي عملية استحضار للكائن وحقيقته [ ]...مام يعني أن كل هايدغر أن «اإلنسان هو العلّة ال َ
كائن غري إنساين يصبح موضوعاً لهذه الذات[[[.
لكن هذا االنزياح الذي نراه يتسلّل بات ّجاه تص ّور ذايت محض للحقيقة يعني أن مثة دورا ً أساسياً
جديعود إىل القرار وبالتايل إىل اإلرادة .ويُفيد الكوجيتو الديكاريت «أنا أُفكّر إذا ً أنا موجود» أنني أو َ
ت أُفكّر ،وأن كينونتي يُع ّينها هذا التمثيل الذي أُك ّونه لذايت ،لكنه يُفيد أيضاً أن طريقتي يف ما ُد ْم ُ
[1]- Martin Heidegger،Nietzsche،op. cit.،vol. 2،p. 20.
[2]- Ibid.،p. 23.
[3]- Ibid.،p. 136.
AL-ISTIGHRAB
خر يــف 2 0 1 6 االستغراب
حلقات الجدل 332
تبت أيضاً يف حضورها أو حضور ما تَحويه يف ذاتها .إذا اعتُرب يف بادئ األمر أكيدا ً
متثيل األشياء ّ
ما تعتربه الذات بطريقة ُمدرِكة كام هو ،فإن الذات تُق ّرر طرحه من حيث هو والذي س ُينظر إليه عىل
أنه أكيدُ .مذ ذاك ،لن تعود الحقيقة ت ُد َرك أو تُراد .إن اليقني الديكاريت هو إذن قبل كل يشء مسألة
ب جان بوفريه أن «املعرفة إرادة :إن الحكم نفسه يُؤ ّول ضمن أفق اإلرادة وكتصديق لإلرادة .كَتَ َ
نفسها للحقيقة كام يتطلّبها التثمني الصحيح لل ِقيم ت ُصبح بدورها موضوع تقويم يعتمد من ناحيته،
بشكل أسايس ،عىل قابلية اإلرادة ملواجهة املواقف التي تتو ّرط فيها»[[[.
بعد ذلك يُلقي هايدغر نظر ًة عىل امل ُك ّونني األساسيني لفلسفة نيتشه :إرادة القوة والعودة األبدية.
إن هايدغر ،وهو يُواجه التأويل الذي اقرتحه ألفريد بوملري[[[ ( )Alfred Bäumlerسنة ،1931والذي
تبعاً له يبلغ الفكر النيتشوي أوجه يف موضوع إرادة القوة ،يف حني تُصبح عقيدة العودة األبدية عنده
«بدون نتائج كربى» ،يجتهد يف إظهار أن هاتني املضمونيتني thematiquesهام يف الحقيقة غري
قابلتني لالنفصال.
جل ّياً عند نيتشه .فعىل سبيل املثال ،عندما يكتب هذه ثم إن كونهام غري قابلتني لالنفصال يَظهر َ
رسخ يف الصريورة طابع الكينونة ـ هذه هي إرادة القوة العليا» .أو كذلك الجملة امل ُوحية« :أن يُ ّ
عندما يُعلن أن إرادة القوة هي قوة محدودة ليس بوسع تطورها إال أن يكون ال ُمتناهياً ،لكن هذا
ب
التطور «ال ميكن أن يُف ّك َر فيه إال عىل نحو دوري»[[[ .يف كتاب (هكذت تكلّم زرادشت) يُع ّ
موضوع إرادة القوة بالطبع عن صورة «اإلنسان األعىل» ( .)surhommeإن اإلنسان األعىل والعودة
األبدية هام أُ ّسا تعليم زرادشت .يُش ّدد هايدغر عىل أن هاتني العقيدتني ال ميكن أن تنفصال ألن
كالً منهام «يدعو اآلخر يك يستجيب له»[[[ .إن العودة األبدية تعني اإلنسان األعىل ،كام أن اإلنسان
األعىل يتض ّمن عقيدة العودة« :يحدث التعليامن ويُشكّالن دائرة .يستجيب التعليم من خالل حركته
جد يف الدائرة التي ،من حيث هي عودة أبدية لل ُمتطابق ،تُشكّل كينونة الكائن ،أي ما الدائرية لِام يو َ
هو يف الصريورة دائم»[[[.
لكن ما هي إرادة القوة؟ يُعلن نيتشه« :حيث وجدتُ الحياة ،وجدتُ إرادة القوة» .وأيضاً« :إن
االستغراب AL-ISTIGHRAB
خر يــف 2 0 1 6
333 هايدغر ناقدًا نيتشه
الحي ،إمنا هو مزيد من قوة»[[[ .بالتايل،ّ ما يُريده اإلنسان ،ما يُريده أي جزء صغري من الجسم
خاصية للحياة ـ بل إن ِميزتها أمر بالغ الخطورة .لكن هايدغر يُقاوم بقوة كل تأويل ّ تبدو إرادة القوة
«بيولوجاين» ( )biologisanteلوجهات نظر نيتشه .بالتأكيد يُش ّدد نيتشه عىل «الحياة» لكن ال يف
منظور «بيولوجي» ،إذ يكتب هايدغر «عندما يفهم نيتشه الكائن يف جملته وقبل كل يشء الكينونة
ؤسس ميتافيزيقاً هذه الصورة من حيث هي «حياة» ]...[ ،فهو ال يُفكّر بيولوجياً البتة ،وإمنا يُ ّ
البيولوجية يف الظاهر للعامل»[[[ .طارحاً إرادة القوة كامهية الحياة ،يريد نيتشه القول أن إرادة القوة
ت ُشكّل املِيزة األساس لكل كائن ،وأنها ماهية كل كائن .ويُضيف نيتشه أن إرادة القوة هي «املاهية
األكرث حميمي ًة للكينونة»[[[ .يف نهاية املطاف ،الكينونة عينها تُصبح إرادة القوة.
تتعي به»[[[ .لذلك من املرشوع لكن هايدغر يُالحظ أنه «مل يعد هناك من يشء ميكن لإلرادة أن ّ
نفسه عن اإلرادة أنها «ت ُريد
تأويل اإلرادة كإرادة ت ُؤكّد نفسها ،أي إرادة اإلرادة .أال يقول نيتشه ُ
باألحرى متلّك العدم بدالً من ال يشء»[[[ ؟ ومن ناحية أخرى ،تتقابل الكلمتان ـ «إرادة» و«قوة» ـ
يف عبارة (إرادة القوة) إىل ح ّد تطابق مدلوليهام ،فبالنسبة لنيتشه ليست القوة إال ماهية اإلرادة ،بينام
ت َؤول كل إرادة إىل إرادة ـ كينونة ـ أكرث .يقول هايدغر «إن إرادة القوة هي ماهية القوة .إن ماهية القوة
تظل هدف اإلرادة ،يف هذا املعنى ـ وال البتّة مج ّرد ك ّم ( )quantumمن القوة ـ هي بالطبع التي ّ
الخاص ليس مبقدور اإلرادة أن تكون إرادة إال يف ماهية القوة نفسها»[[[ .إن إرادة القوة ليست يف
األخري إال هذه اإلرادة التي تريد أن ت ُؤكّد ذاتها يف رغبة الغزو ،أي توطيد هيمنة اإلنسان بشكل أكرب
ويثّل اإلنسان األعىل اللحظة التي يُصبح فيها اإلنسان «سيد املامرسة ودائم عىل مجمل الكائنُ ،
غري املرشوطة للقوة بوسائل القوة امل ُتاحة كلها له عىل هذه األرض»[[[ .
لكن عقيدة العودة األبدية ،أي الصيغة النيتشوية لألبدية ـ التي تتجاوز التص ّور املسيحي لألبدية
كثبات ﻟ «اآلن» ( )maintenantالحارضة لتجعل من األبدية العودة الدامئة للمتطابق ـ ت ُشكّل هي
أيضاً «إعالناً حول الكائن يف مجمله» (هايدغر) .إن الكائن يف مجمله هو ،يف آنٍ واحد ،إرادة
القوة والعودة األبدية...إن ما ت ُ ُف ِّك َر فيه انطالقاً من (ويف منظور) العودة األبدية هو ما يجعل من
[1]- Friedrich Nietzsche،La Volonté de puissance،§ 702.
[2]- Martin Heidegger،Nietzsche،op. cit.،vol. 1،p. 409.
[3]- Friedrich Nietzsche،La volonté de puissance،§ 693.
[4]- Nietzsche،op. cit.،vol. 1،p. 42.
[5]- Friedrich Nietzsche،La généalogie de la morale،3،1.
[6]- Nietzsche،op. cit.،vol. 2،p. 215.
[7]- Ibid.،p. 102.
AL-ISTIGHRAB
خر يــف 2 0 1 6 االستغراب
حلقات الجدل 334
جهة دامئاً وفقط نحو ما هو أكرث منها« .إن إرادة اإلرادة ترتكز
إرادة القوة إرادة بال موضوع ،إرادة ُمو ّ
عىل حقيقة إرادة القوة يف النسيان الجذري للكينونة لصالح الفعل ،وهذا بدوره ليس له معنى آخر
الخاص لألفق الذي يُع ّبئ يف كل مكان عاملاً فاتحاً فيه
ّ سوى إعادة الفعل أيضاً ودامئاً يف االنشغال
فضا ًء جديدا ً»[[[ .لذلك يقول هايدغر عن العودة األبدية أنها «أعظم انتصار مليتافيزيقا اإلرادة من
الخاصة» .ويُضيف هايدغر «إليكم ما يه ّم :إن الكائن ،من حيث هو
ّ حيث إن اإلرادة تريد إرادتها
كائن ولديه امليزة األساس إلرادة القوة ،ليس مبقدوره أن يكون يف مجمله غري عودة أبدية ﻟ «لذات
النفس» ( )Mêmeوبالعكس :يجب عىل الكائن ،الذي هو يف مجمله عودة أبدية ﻟ «ذات النفس»،
أن يتوفّر من حيث هو كائن عىل املِيزة األساسية إلرادة القوة»[[[.
إن هايدغر وهو يذهب بعيدا ً بتفكريه حول العالقة بني إرادة القوة والعودة األبدية يُالحظ أن هذه
العالقة ت ُق ّدم من النظرة األوىل متييزا ً ميتافيزيقاً ،أي التمييز بني املاهية والوجود .إن إرادة القوة هي
عند نيتشه ماهية مجمل الكائن ،كينونة الكائن يف مجمله ،بينام املظهر «الحيايت» له طابع العودة،
فالعودة األبدية ت ُشبه تغيري وجه [أو هيئة] الوجود .كتب هايدغر« :ت ُشري إرادة القوة إىل كينونة الكائن
ُعب عن الطريقة
من حيث هو كائن ،ماهية essentiaالكائن [ ]...إن «العودة األبدية لذات النفس» ت ّ
التي يكون بها الكائن يف مجمله وجود existentiaالكائن»[[[ .أما بالنسبة ﻟِ «اإلنسان األعىل» فهو
«االسم امل ُعطى لكينونة اإلنسان التي ت ُطابق كينونة الكائن»[[[.
عي الكائن يف مجمله من خالل إرادة
يرى هايدغر أن نيتشه يُربهن بالرضورة بلغة الق َيم ألنه يُ ّ
القوة .إن مفهوم القيمة هو «جزء ُمك ّمل رضوري من ميتافيزيقا إرادة القوة»[[[« .إرادة القوة وتأسيس
القيَم هام اليشء نفسه خصوصا وأن إرادة القوة تفحص بتدقيق ونظام وجهات النظر امل ُتعلّقة بالحفظ
والنم ّو»[[[ .لكن ،أي معنى للقيمة عند نيتشه؟ إنه بشكل أسايس معنى «املنظور» ،perspectiveأي
ُعي «بشكل منظوري» [ ]...املاهية األساسية املنظورية للحياة»[[[ .إن
وجهة نظر« :تُح ّدد القيمة وت ّ
تأسيس ق َيم جديدة يعني إذن تعيني املنظور ورشوطه «التي تُوجب أن تكون الحياة حياة ،أي تضمن
االستغراب AL-ISTIGHRAB
خر يــف 2 0 1 6
335 هايدغر ناقدًا نيتشه
تقوية ماهيتها»[[[ .ملا كانت ماهية الحياة هي إرادة القوة ،فاملسألة ُمرتبطة بأن يُج َع َل من هذه اإلرادة
املنظور املفتوح قطعاً عىل ُمجمل الكائن .بالتايل كام الحظ هايدغر« :تنكشف إرادة القوة من
حيث هي الذاتية القصوى التي ت ُفكّر من منظور القيم»[[[.
يَؤول تعيني ماهية الحقيقة عند نيتشه إذن إىل تثمني القيم ( .)...لكن ،وبشكل بالغ الدقة ،نجد
إخضاع الحقيقة بواسطة القيمة عند أفالطون .إن استبدال قيمة بأخرى ،كتلك امل ُمثّلة بالقوة أو
باﻟ «حياة» ،بالقيمة امل ُمثّلة ﺑ «أغاثون» ،إن هذا االستبدال ال يعني القطيعة مع األفالطونية .عىل
ني ما بواسطة القيمة،
العكس ،إنه يعني البقاء بداخل األفالطونية التي تقوم عىل إخضاع الحقيقة لتعي ٍ
تتغي القيمة ،لكن تص ّور
محل قيمة ت ُعترب أدىن أو ضا ّرةّ .
ّ ُمكتفي ًة بإحالل قيمة أخرى ت ُعترب أعظم
الحقيقة يبقى هو نفسه.
لكن نيتشه يذهب أبعد من أفالطون .ففي حني اكتفى األخري بوضع الحقيقة يف وضعية خضوع
محل الحقيقة .إن الحقيقة عند أفالطون خاضعة فقط للخري
ّ للقيمة ،قام نيتشه بإحالل القيمة
(أغاثون) .أما عند نيتشه ،فهي ليست فقط خاضعة للحياة والقوة وإرادة القوة ،وإمنا تُختَزل يف ذاتها
وتتطابق معها .ليست الحقيقة هي ما له قيمة (ألنها «صالحة») ،بل إن ما له قيمة أو نعتربه ذا قيمة
فوق كل يشء هو الحقيقة .إن مفهوم القيمة يتمكّن أخريا ً من اخرتاق مفهوم الحقيقة .فالقيمة ت ُفتّش
الخاصة بانقالب الحقيقة إىل
ّ الحقيقة ،بحيث تجنح الحقيقة نفسها لتُصبح قيمة .هذه هي العملية
قيمة والتي ،بحسب هايدغر ،قد أنجزها نيتشه.
يظل يف الظاهر ضمن املنظور الديكاريت حيث ت ُحتّم
إن نيتشه وهو يقرتح تأسيس قيم جديدة ّ
الذات العارفة بواسطة اإلدراك نفسه أن تكون لديه حقيقة اليشء املعروف .بعد أن يرفع نيتشه
ُعب عن عامل قيد التح ّول ،ال يستطيع إال االعتامد عىل تأويل الحقيقة
األقنعة عن الفكرة التي ت ّ
كيقني ـ وباألحرى كيقني ذايت ألن «ماهية الذاتية تجنح بالرضورة إىل الذاتية غري املرشوطة»[[[.
ويُعلن هايدغر قائالً «ينبغي علينا ف ْهم فلسفة نيتشه من حيث هي ميتافيزيقا الذاتية»[[[ .وإذا كانت
ُ
املدلول نفسه الذي ﻟ «الحقيقة ـ التي ـ صارت ـ قيمة» ،فإن الحقيقة مل ت َ ُعد القيمة وجهة نظر ولها
سوى مسألة وجهة نظر .لكن يف الوقت عينه ،إن القيمة من حيث هي وجهة نظر «هي يف كل م ّرة
AL-ISTIGHRAB
خر يــف 2 0 1 6 االستغراب
حلقات الجدل 336
ُمح ّددة من خالل طريقة النظر [ ]...بالتايل ،ليست القيم شيئاً ما موجودا ً بذاته بادئ ذي بَدء ،بحيث
ُيكنها عند الحاجة أن ت ُصبح وجهات نظر»[[[ .إن إرادة القوة ،من حيث هي ع ْرض غري مرشوط
ُعب عن املاهية نفسها للذاتية التي ال يشء قادرا ً عىل تعطيلها« :الكائن إلحدى وجهات النظر ،ت ّ
ُمبتلَع كهدف يف ُمثولية الذاتية»[[[.
حص فإن قلْب ال ِقيم ( )tranvaluationالذي أنجزه ويكتب هايدغر« :مبا أن كل خري قد ت ُ ُف ِّ
محل قيم ُمتف ّوقة إىل اآلن ،بل تقوم عىل ما يفهمه منذ اآلن ّ نيتشه ال يقوم عىل إحالل قيم جديدة
كَ ِقيَم «الكينونة» «النهاية» «الحقيقة» ،وال يشء إال من حيث هو قيم .يعود قلب القيم النيتشوي يف
العمق إىل تحويل كل رضوب تعيني الكائن إىل قيم»[[[ .يجعل نيتشه الكينونة ُمتالزمة مع الذات.
وال ميكن للكينونة أن تظهر إال من خالل القيم التي هي رشوط اإلرادة التي تطرحها اإلرادة .ويقول
هايدغر «إن الفكر الذي يُفكّر بلغة القيم مينع يف الحال الكينونة من الحدوث يف الحقيقة»[[[.
يف ما يتعلّق بالعدمية ،يظهر فكر هايدغر وفكر نيتشه متناقضني .طبعاً ،ينسب هايدغر إىل
نيتشه الفضل يف كونه أول من تع ّرف يف العدمية ،ال فقط إىل أنها إحدى السامت امل ُم ّيزة لألزمان
الحديثة ،بل أيضاً أنها «الواقعة األصلية األساسية ملغامرة التاريخ الغريب» .ويُكمل هايدغر ُ
نفسه
يف الطريق ذاتها عندما يكتب أن «العدمية هي تاريخ» ،وأنها «تُشكّل ماهية التاريخ الغريب ألنها
تُساعد يف تعيني قانون املواقف امليتافيزيقية األساسية وعالقة كل موقف باآلخر»ُ ،مضيفاً أنه يجب
بالتايل ،وقبل أي يشءُ ،محاولة معرفة العدمية من حيث هي «قانون التاريخ»[[[ .لكن بنظر هايدغر،
ليست القضية األساسية للعدمية هي تخفيض بعض القيم لصالح قيم أخرى ،وإمنا نسيان الكينونة
التي ُيثّل التفكري بها بلغة القيم طريق ًة مبقدار ما تُساوي الكينونة بذاتها خلف كل قيمة .كتب
هايدغر «إن ميتافيزيقا نيتشه ،ومن الوهلة نفسها أساس ماهية «العدمية الكالسيكية» ال يستطيعان
تعيني حدودهام من حيث ميتافيزيقا الذاتية امل ُطلقة إلرادة القوة»[[[ .إذن ،ليس مبقدور التفكري بلغة
القيم أن يتعارض مع العدمية ألنه تعبري عنها وينبثق عنها.
إن نيتشه ال يعود إىل «البدء األسايس» الذي يتم ّناه ،فهو ،برأي هايدغر ،مل «يُن ِه» إذن امليتافيزيقا
االستغراب AL-ISTIGHRAB
خر يــف 2 0 1 6
337 هايدغر ناقدًا نيتشه
توصل إىل
إال مبعنى اكتاملها ( .)vollrndungإذ يكتب هايدغر «ال نيتشه وال أي ُمفكّر آخر قبله ّ
البدء؛ كلهم ،وألول وهلة ،مل يروا البدء إال من وجهة نظر ما مل يكن سوى هروب من البدء ،طريقة
بحق قلْب األفالطونية« .لكنملقاطعة البدء :من وجهة نظر الفلسفة األفالطونية»[[[ .لقد ا ّدعى نيتشه ّ
عملية القلْب هذه ال تُلغي املوقف األفالطوين األسايس ،بل عىل العكس ،إنها تدعمه من خالل
املظهر الذي تُولّده إللغائه»[[[ .إن فكر نيتشه ينتمي إىل امليتافيزيقا التي يُثّل انتهاءها واكتاملها.
ويكتب جان بوفريه« :نيتشه أقرب ما يكون إىل ديكارت مبقدار ما ت ُفيض زعزعة الحقيقة
لصالح اإلرادة التي يُشغّلها ديكارت إىل تأويل نيتيش للحقيقة ک ( )wertschâtzungيف منظور
رسا ً أيضاً ،أقرب إىل أفالطون مبقدار ما تظهر الحقيقة اإلرادة نفسها امل ُجذّرة يف إرادة القوة .لكنهّ ،
مع أفالطون ألول مرة خاضعة ملا هو أعظم منها ،حيث يُشكّل إخضاع الحقيقة حالة أفالطونية
حص األفالطونية من جميع للميتافيزيقا الغربية التي يَصدر نيتشه عنها بقدر ما يزداد ُغلُ ّوا ً يف تف ّ
النواحي»[[[.
ص َف هايدغر ِمرارا ً العامل الحديث بأنه «زمن الغياب الكامل للمعنى» ،غياب يربطه هايدغر ﺑ َو َ
«غياب الحقيقة» الناجم عن نسيان الكينونة وصعود ميتافيزيقا الذاتية .نفهم بشكل أفضل منذ ذلك
«تتوصل عربه األزمنة الحديثة إىل هيئتها
ّ الوقت أن باستطاعة هايدغر النظر إىل فكر نيتشه كفكر
ل األنطولوجي الذي ينتج من النسيان الخاصة» ،إكامل امليتافيزيقا التي ت ُقيم الكائن يف التخ ّ
[[[
ّ
وأيضاً من ترك الكينونة.
لسنا هنا بوارد النقاش حول صحة أو صوابية نقد هايدغر لفكر نيتشه .ويجب باملقابل التشديد
عىل الطابع الفريد ج ّدا ً لفكره .لطاملا كان ﻟ نيتشه أعداء كُرث سواء يف حياته أو بعد مامته .وهؤالء
أخذوا عليه عموماً ال عقالنيته وعداوته للمسيحية و«نزعته البيولوجية» Biologismeامل َ
ُفتضة،
أو انتابهم القلق من النتائج التي قد تنجم عن «تطبيق» عقيدته .وال نجد شيئاً من هذا القبيل عند
هايدغر الذي يُعارضه برباهني ُمختلفة متاماً .يعرتف هايدغر بفضل نيتشه الكبري يف أنه كان أول من
تناول وجهاً لوجه مسألة العدمية و َع َر َف أنه من خاللها إمنا ت ُط َرح كل إشكالية التاريخ الغريب .لكن
يرق إىل مستوى هذه اإلشكالية التي ح ّددها هو نفسه .ليس هايدغر يعتقد عىل نح ٍو ما أن نيتشه مل َ
[1]- Ibid.،vol. 1,p. 363.
[2]- Ibid.،pp. 363- 364.
[3]- Nietzsche،op. cit.،vol. 2،p.11.
[4]- Silvio Vietta،Heidegger،critique du national-socialisme et de la technique،Pardès،Puiseaux 1993،p. 102.
AL-ISTIGHRAB
خر يــف 2 0 1 6 االستغراب
حلقات الجدل 338
مرشوع نيتشه هو ما يطرحه هايدغر للمناقشة بل عىل العكس يأخذ هايدغر عىل نيتشه عدم ذهابه
ظل أسريا ً لدى ميتافيزيقا اعتقد خطأً أنه تجاوزها.
بعيدا ً يف تناول األمور وأنه ّ
لكن هناك أيضاً جانب ظريف ينبغي تقدميه .طبعاً ليس صدفة أنه سنة 1939ويف عهد الرايخ
الثالث ق ّدم هايدغر هذا العمل الذي يتض ّمن مواجهة قوية مع فكر نيتشه .من خالل قراءة نيتشه،
اعرتف هايدغر بالعدمية معتربا ً أنها ،اليوم ،هي الظاهرة األش ّد ضغطاً يف عرصنا الراهن .لكنه
تحقّق يف الوقت نفسه من كون االشرتاكية القومية nationalـ socialismeهي الشكل الحديث
للعدمية الحارض أمامه .يف عرص (الكينونة والزمان)َ ،عك ََف هايدغر فقط عىل إظهار الطابع الزمني
والتاريخي بشكل أسايس ﻟ «الدازاين» « »Daseinاإلنساين يف منظور منهجي ال صلة له بالتاريخ.
فمن خالل االشرتاكية القومية فقط ،وعرب قراءة نيتشه التي ُد ِف َع هايدغر إليها ،لجأ إىل التساؤل حول
التاريخ الحقيقي ،وليس فقط التاريخ بوصفه فئة ُمجردة .كتب سيلفيو فييتّا « »Silvio Viettaإىل
أي درجة يف الحقيقة كانت االشرتاكية ـ القومية تعبريا ً عن العدمية ،مل يكتشف هايدغر ذلك إال يف
ضوء التط ّور التاريخي الحقيقي وعرب دراسة هذا امل ُفكّر الذي هو أول َمن حلّل يف العمق املظاهر
التاريخية للعدمية الحديثة ،الذي هو نيتشه»[[[.
يخص تجربة الرايخ ّ لِنقل ذلك بوضوح :إن هايدغر الذي أخذنا عليه ظلامً «سكوته» يف ما
جح جدا ً أنه أه ّم الثالث التي هي تجربته ،يُط ّور عن طريق نقده لنيتشه نقدا ً أساسياً للنازية ( ِمن امل ُر ّ
ص َد َر عىل اإلطالق) .ويتض ّمن هذا النقد جانبني يَرجع كل واحد منهام إىل اآلخر كام يف لعبة نقد َ
حثَي إرادة التعسفية لعمل نيتشه (خصوصا من خالل َم ْب َ ّ املرايا :فمن ناحية ،يوجد نقد القراءة النازية
القوة واإلنسان األعىل)؛ ومن ناحية أخرى هناك نقد األفكار التي وردت يف عمل نيتشه والتي قد
التعسفي الذي يشجبه نيتشه .بعبارة أخرى ،يبذل هايدغر قصاراه يك يُظ ِه َر أوالً ّ ت ُع ّرضه لالنحراف
أن نيتشه ال يقول ما أردنا أن يقوله ومن ثم كيف أَم َك َن ،انطالقاً مام قاله ،جعله يقول شيئاً آخر غري
الذي قاله .ويُظهر للوهلة نفسها العنرص التن ّبؤي يف رؤية نيتشه.
نص الدرس حول نيتشه ،نقرأ مثالً الجمل التالية« :إن إرادة القوة بوصفها املاهية نفسها يف ّ
للقوة هي القيمة الوحيدة األساس التي نق ّدر عىل أساسها كل ما يجب أن تكون له قيمة أو ما ليس
باإلمكان املطالبة بغريها [ ]...أما بالنسبة لألمر الذي نُكافح من أجلهُ ،متص َّورا ً أو مرغوباً به بوصفه
هدفاً جوهرياً ،إليكم ما هو ذو فائدة ثانوية .إن األهداف والشعارات مهام تكن ليست شيئاً آخر سوى
االستغراب AL-ISTIGHRAB
خر يــف 2 0 1 6
339 هايدغر ناقدًا نيتشه
وسائل للكفاح .إن ما نكافح من أجله ُمق ّرر قبل األوان :إنه القوة نفسها التي ال تحتاج إىل أي هدف.
وهي بال هدف مبقدار ما تكون كل ّية الكائن بال قيمة .إن غياب الهدف ُمرتبط باملاهية امليتافيزيقية
خاص عىل االشرتاكية ـ القومية امل ُؤ ّولة هنا بوضوح ،ال ّ للقوة» ( .)43تنطبق هذه الكلامت بشكل
ك َن َسق ُمج ّهز بأيديولوجيا حقيقية ،وإمنا كحركة ُمستم ّرة تبتغي دامئاً املزيد من القوة والهيمنة ويُشكّل
النجاح والنرص بالنسبة لها ـ كام يف الليربالية ذات اإللهام «الدارويني»ـ ِمعيارا ً للحقيقة.
بحق« :إن تحليل القوة الذي قام به هايدغر سنة ُ 1940مم ّيز خصوصاً
لقد كَتَب سيلفيو فييتّا ّ
لناحية ما يُظهره من جرعة شجاعة شخصية بعيدة عن أن تكون أمرا ً ال يُذكر .ويرشح التحليل يف
نص واضح سياسياً أن كل الواجهة األيديولوجية لالشرتاكية القومية ليست سوى تعبري عن القوة ّ
املحض« ،بال هدف» يف ذاتها ،وال يشء غري ذلك [ ]...يرى هايدغر ويقول برصاحة ،يف سنة
،1940أن فكر الهيمنة والقوة بوصفه «كفاحاً» ( )kampfـ ينىس امل ُستمع بصعوبة هنا ربط املسألة
بكتاب (كفاحي) Mein kampfـ ليس [ ]...يف حقيقته أي يشء آخر سوى هذه العدمية التي ال
ميكنها االستيالء عىل فئة الحقيقة إال بصفة أداة يف خدمة القوة والكفاح»[[[.
بفضل قراءة نيتشه إذن متكّن هايدغر من وضع أسس نقد أسايس لفكر القوة املحض ،فكر
الكل الذي تبدو االشرتاكية القومية ،برأي هايدغر ،وكأنها ُممثّل منوذجي له، ّ الهيمنة والتفتيش
لكنه يرى أن ذلك الفكر ،بعيدا ً عن الرايخ الثالث نفسهُ ،ي ّيز كل الحداثة بوصفها سبباً لقيام إنسانية
ُمطابقة للامهية األساسية للتقنية الحديثة وحقيقتها امليتافيزيقية ،أي قيام إنسانية ال يش َء كافياً
ُؤسس عىل شك يف أن االندفاع الالإرادي الكلّياين ،امل ّأي مجا ٍل كان .بنظر هايدغر ،ال ّبنظرها يف ّ
جسدة يف االشرتاكية القومية ،يرتبط مبيتافيزيقا الذاتية ،ميتافيزيقا
هيجان إرادة القوة كام نجدها ُم ّ
التفتيش البعيدة عن االختفاء مع الرايخ الثالث ،لكنها عىل العكس ُمك ّرسة لتدوم ما دامت العدمية
الناتجة عن نسيان الكينونة .يف هذا املعنى ُيثّل درس نيتشه انتقاالً بني نقد االشرتاكية القومية ونقد
التقنية الذي ليس مبقدور األول إال أن يكون مرحلة من مراحله.
AL-ISTIGHRAB
خر يــف 2 0 1 6 االستغراب