Professional Documents
Culture Documents
محاور الوحدة:
.0العمم القديم:
.9العمم الحديث:
ىذا ىو برنامج وحدة العمـ الحديث .لقد أرشدت الحاضريف منكـ في محاضرتيف ،قبل أف
يضرب فيروس كورونا ،ضربتو إلى المراجع التي سنعتمد عمييا في دراستنا لمحاور ىذه
الوحدة .لكف ،ونظ ار ليذه الجائحة التي أصابت بمدنا العزيز ،بل والبشرية جمعاء ،عميكـ أف
تدرسوا بتمعف الوثائق اآلتية التي أضعيا رىف إشارتكـ ،في انتظار أف تنجمي الغمة ونعود
إلى لقاءاتنا المباشرة التي ال يحل محميا التعمـ عف بعد ،أو في انتظار أف أمدكـ بدروس
مدونة ،إف طالت الجائحة ال قدر هللا.
ادرسوا الفصل األوؿ مف كتاب المرحوـ سالم يفوت :الفمسفة والعمـ في العصر الكالسيكي،
بيروت ،المركز الثقافي العربي .9191 ،وعنواف ىذا الفصل ىو :النيضة واإلصالح
العممي ،ويبدأ مف الصفحة ،1وينتيي عند الصفحة .54أنبيكـ إلى أف الكتاب قد أعيد
نشره بعنواف آخر ىو :إبستمولوجيا العمـ الحديث ،الدار البيضاء ،دار توبقاؿ ،الطبعة ،2
.2009وقد َح ّممتو وقطعتو ،ثـ وضعت رىف إشارتكـ الفصل المطموب منكـ دراستو.
وعنوانيما:
; Galilée et Platon
.2ادرسوا أيضا وبتمعف تحميالت هايدغر الرائعة لعمـ الطبيعة الرياضي الحديث ،الواردة
في كتابو :السؤاؿ عف الشيء :حوؿ نظرية المبادغ الترنسندنتالية عند كنت ،ترجمة
إسماعيل المصدؽ ،بيروت ،المنظمة العربية لمترجمة.2092 ،
قمت أيضا بتحميل الكتاب ،وقطعت الصفحات التي وردت فييا تحميالت ىايدغر ،ثـ
وضعتيا رىف إشارتكـ.
العمم القديم .0
إف امتالؾ تصور جيد عف األسس اإلبستمولوجية "لمعمـ الحديث" أمر يعسر عمينا إف لـ
نعقد مقارنة نتبيف فييا الفروؽ بينو وبيف "العمـ القديـ" والعمـ الوسيطي .لقد كاف عمـ الفمؾ
(نظرية كوبيرنيكوس) ىو البؤرة التي انطمقت منيا موجات زلزالية أصابت الفيزياء والفمسفة،
وأ دت في نياية المطاؼ إلى إسقاط المبادغ والمعتقدات اإلبستمولوجية التي قاـ عمييا العمـ
القديـ .وما دامت الثورة الكوبيرنيكية قد أفضت إلى تجديد عمـ الفمؾ ،واقتضت فيزياء جديدة
وميتافيزيقا جديدة ،فإف فيـ "العمـ الحديث" الذؼ بدأ في التشكل مع ىذه الثورة يتطمب منا أف
نقارنو بػ"العمـ القديـ" ،وبالضبط بيذه العموـ والصناعت ،أؼ الفمؾ والفيزياء والفمسفة.
ال يمكف الحديث عف عمـ الفمؾ الرياضي وتطوره إلى حدود كوبيرنيكوس دوف استحضار
الفيمسوؼ اليوناني أفالطون ( 754 -524ؽ.ـ) .ذلؾ أنو ىو مف وضع الكثير مف األسس
التي ينبغي ليذا العمـ أف يستند إلييا والمطالب التي ينبغي لو أف يسعى إلى تحقيقيا.
كانت أكبر مشكمة تواجو الفمكييف في عصر أفالطوف ىي «تَ َحير الكواكب السيارة» .لـ تكف
«الكواكب أو النجوـ الثابتة» تثير مشكمة :فمواقعيا ال تتغير ،سواء بالنسبة إلى بعضيا
البعض ،أو بالنسبة إلى األرض .وىذا الثبات شكل ضمانة دائمة لمقانوف والنظاـ واالطراد
في الكوف .أما الكواكب أو السيارة ( ،)astres chemineauxفحركتيا تبدو لمعياف غير
خاضعة ألؼ نظاـ أو اطراد .مف بيف ىذه الكواكب ،كانت حركة الشمس والقمر أكثر
انتظاما؛ أما الكواكب الخمسة (عطارد ،الزىرة ،المريخ ،المشترؼ ،زحل) ،ففي تنقميا وحركتيا
شذوذ وانحراؼ .فالكوكب يتابع مساره في وقت ما في االتجاه العاـ لمدوراف :أؼ مف الشرؽ
إلى الغرب؛ لكف سرعتو تصير بطيئة أحيانا ،وأحيانا يتوقف كما لو أنو وصل إلى محطة في
السماء ،فيتراجع إلى الوراء عكس مساره ،ثـ يأخذ مساره مف جديد في االتجاه األوؿ .وفضال
صاد مشكمة تغير المسافة :إذ يبدو أحيانا أف
عف ىذا كمو ،كانت ىذه الكواكب تطرح عمى الر ًّ
الكوكب يقترب مف األرض ،وأحيانا يبتعد عنيا .وىذا حاؿ كوكب الزىرة التي كانت تقمباتيا
ممحوظة ،نظ ار لحجـ لمعانيا .كما أف حركتيا وحركة عطارد بدتا غريبتيف :فأحيانا يجرياف
أماـ الشمس ذات السرعة القارة ،وأحيانا يتخمفاف وراءىا.
لقد كانت ميمة عمـ الفمؾ إذف ىي بناء نسق يفسر حركات القمر والشمس والكواكب الخمسة
األخرػ ،طالما أف الكواكب الثابتة ال تطرح مشكمة.
كاف تأثير أفالطوف في تاريخ عمـ الفمؾ الرياضي كبي ار ،رغـ أنو لـ يساىـ بشيء ىاـ في
ىذا العمـ ،وأف ما كتبو بيذا الخصوص غامض وممتبس .إف تأثيره عمى الفمكييف مف بعده
حتى كوبيرنيكوس راجع إلى تصوره لمعمـ ( :)l’épistémèفالعمـ عنده عمـ بما ىو ثابت
وخفي ،العمـ الحقيقي عمـ بالوجود الحق والالمرئي ()l’être et l’invisible؛ أما
المحسوس ،فميس بأؼ حاؿ مف األحواؿ موضوعا لمعمـ.
توصل مؤّلِف محاورة "طيماوس" مف خالؿ استدالالت ميتافيزيقية صرفة إلى نتائج أثرت في
عمماء الفمؾ مف بعده منذ العصر الكالسيكي إلى بداية العصر الحديث .تتعمق ىذه النتائج
بشكل العالـ وحركات أفالكو وأجرامو ،ومف أىميا:
-ثنائية العالـ :عالـ السماوات مختمف في بنيتو ومادتو عف عالـ ما تحت القمر؛
-شكل العالـ :ال بد أف يكوف العالـ بأكممو عبارة عف كرة تامة ( sphère
)parfaite؛
يتمثل أمر أفالطوف لمرياضييف إذف فيما سمي بػ"إنقاذ المظاىر" .والفمكي ُ"ينقذ" المظاىر إذا
نجح في ابتكار فرضية ترد حركات الكواكب غير المنتظمة عمى مدارات ذات شكل غير
منتظـ ،إلى حركات منتظمة عمى مدارات دائرية .وال أىمية ىنا لمسؤاؿ :ىل الفرضية موافقة
لمواقع أـ ال ،وىل ىي ممكنة فيزيائيا أـ ال؟
« ما ىي الحركات الدائرية المتشاكمة والمنتظمة انتظاما تاما التي يجدر بنا افتراضيا كي
نتمكف مف إنقاذ المظاىر التي تبدييا الكواكب المتحيرة؟»
.1فيمسوؼ أفالطوني محدث ،ومف شراح أرسطي ،عاش في القرف السادس بعد الميالد.
apparences présentées par les planètes
مضموف األمر األفالطوني ىو إذف :البحث عف نظاـ معقوؿ وراء االختالالت .خمف
االختالالت الظاىرة ينبغي افتراض نظاـ .خمف الظواىر الممحوظة بالعيف ،والمدموغة
باالختالؿ والفوضى (تحير الكواكب :البطء والسرعة والتوقف والتقيقر والقرب والبعد
واختالؼ الممعاف) ،ينبغي افتراض حركات دائرية متشاكمة ومنتظمة .وراء االختالؿ الظاىر
ىناؾ دائما نظاـ معقوؿ خفي؛ وعمى العمـ أف يتجاوز الظواىر المرئية لمعرفة الحقيقة غير
المرئية .ىذه ىي الميمة التي سوؼ تشغل الرياضييف مدة تضاىي ألفي سنة .سوؼ يرىف
أفالطوف عمـ الفمؾ إلى بداية القرف ،94حينما برىف كبمر عمى أف الكواكب ليا مدارات
إىميميجية (.)orbites ovales
كاف مف ضمف المسممات ،أو لربما المعتقدات ،الفمكية التي تتـ المصادرة عمييا في النماذج
مثبت عمى فمؾ أو كرة القائمة بمركزية األرض ،فكرة الفمؾ :وفق ىذه الفكرة ،كل كوكب ّ
شفافة تحممو ،والفمؾ ىو مف يدور حوؿ األرض وليس الكوكب .ولكي ُي َعّمِػل أودوكسوس
( 2)Eudoxeاختالؿ حركات الكواكب المتحيرة ،افترض أف الكوكب الواحد لو أفالؾ عديدة
تدور حوؿ مركز واحد ،وليس فمكا واحدا .وبما أف االختالؿ في حركتي الشمس والقمر قميل،
ٍ
لكل منيما؛ بينما احتاج إلى أربعة أفالؾ لتعميل
فقد احتاج أودوكسوس إلى ثالثة أفالؾ ّ
االختالالت الكثيرة الظاىرة في حركات باقي الكواكب المتحيرة .وىكذا وصل عدد األفالؾ في
نظاـ أودوكسوس ،فضال عف فمؾ النجوـ الثابتة ،إلى 24فمكا .ما يبدو لنا مف اختالالت،
وراءه إذف حركات منتظمة ألفالؾ كثيرة.
تعزز اتجاه الفمؾ الرياضي كثي ار في العصر الييمينستي .لقد كاف الفمكيوف اإلسكندرانيوف
صادا بارعيف ،إذ امتمكوا آالت لمرصد بالغة الدقة؛ واىتموا بمواقع النجوـ وتصنيفيا وتحديد
ُر ّ
حركاتيا .ولقد كاف ِس ِجل النجوـ المنسوب إلى هيبارخوس ( ،4)Hipparqueوكانت أزياج
بطمميوس 5الخاصة بحساب حركات الكواكب ،دقيقيف بحيث إف كولومبوس وفاسكودؼ غاما
استخدماىا في رحالتيما البحرية مع تعديالت طفيفة .وفضال عف ذلؾ كاف ىؤالء رياضييف
بارعيف .لقد أصبح عمـ الفمؾ معيـ ىندسة سماوية ( )géométrie célesteمجردة
مفصولة عف الواقع الفيزيائي .إنو مجرد منيج مفيد في حساب حركات ومواقع الكواكب
المتحيرة ،ولكنو ال يقوؿ شيئا عف طبيعة الكوف .ال ييتـ عمـ الفمؾ الرياضي إذف ال
باألسباب والعمل ،وال بطبيعة األجراـ السماوية أو ماىيتيا ،بل يسعى فقط إلى رد الظواىر
إلى نظاـ معقوؿ بأكثر مف طريقة.
يقوؿ بطمميوس « :إننا نرػ أف ىدؼ عمـ الفمؾ ىو االجتياد في البرىنة عمى أف جميع
ظواىر السماء تحدث عف حركات دائرية ومتشاكمة» .كما يقوؿ أيضا ،إف ميمة عالـ الفمؾ
تتمثل في البرىنة عمى أف االختالالت الظاىرة الخاصة بالكواكب الخمسة والشمس والقمر،
« يمكف ردىا إلى حركات دائرية متشاكمة ،ألف ىذه الحركات ىي الوحيدة التي تالئـ طبيعتيا
إف أبرز أعالـ المدرسة اإلسكندرانية ىو بطمميوس .عمـ بطمميوس ،في سعيو لتعميل اختالؿ
حركات الكواكب ،الفرضية التي قدميا أبولونيوس ( )Apollonius de Pergaلتعميل تحير
كوكب كوكب واحد ،وىي فرضية فمؾ التدوير .تتميز فرضية حركة التدوير عف فرضية تعدد
األفالؾ بقدرتيا عمى تقديـ تعميل معقوؿ الختالؼ الممعاف والحجـ وتغير المسافة ،فضال عف
قدرتيا عمى تعميل التحير .استعاد بطمميوس كوصمولوجيا أرسطو مع تخميو عف فيزيائو.
فاألرض في نظامو الفمكي ذات شكل يكاد يكوف كرويا ،ويقع في وسط السماء ،أؼ قرب
مركز العالـ؛ والكواكب تدور حوليا محمولة عمى أفالؾ تدوير ( )épicyclesترسـ مراكزىا
دوائر خارجة المركز ،أؼ أنيا ترسـ في دورانيا دوائر صغرػ مركزىا ىو األفالؾ الحاممة
( .)les déférentsانظر األشكاؿ اآلتية أسفمو.
وىكذا فإف األفالؾ المتعددة ذات المركز الواحد أو األفالؾ الخارجة المركز أو أفالؾ التدوير
ما ىي إال ِحَي ٌل ىندسية يتـ افتراضيا إلنقاذ الحركات الظاىرة لمكواكب .إف اليدؼ منيا ليس
ىو وصف واقع حقيقي ،أو تحديد ماىية األجراـ السماوية وتحديد حركاتيا الحقيية ،وانما بناء
نموذج ىندسي يقدـ صورة تقريبية عنيا ،صورة تتوافق مع األرصاد فقط.
كاف أرسطو يعرؼ جيدا نظرية أودوكسوس ،كما كاف صديقا لكاليب الذؼ تمـ عمل أستاذه
أودوكسوس؛ األمر الذؼ يترتب عنو أنو كاف يعرؼ جيدا منيج عالـ الفمؾ كما حدده
أفالطوف .غير أف المعمـ األوؿ طالب النظرية الفمكية بأف ال تقتصر عمى "إنقاذ المظاىر"،
بل عمييا أيضا أف تستند إلى فرضيات مطابقة لطبيعة األشياء ،أؼ تطابق الواقع .وىكذا
طالب الفمكييف بتقديـ فرضيات تستجيب لشروط فيزيائية ىي:
الكوف كروؼ؛
إف ىذه االعتبارات كميا ىي اعتبارات فيزيائية تتعمق بطبيعة األجساـ :فاألرض ثقيمة،
ومكانيا الطبيعي ىو مركز العالـ؛ أما األجراـ السماوية ،فيي كاممة وشريفة ،وال يميق بيا إال
أكمل الحركات ،وىي الحركة المستديرة .عبر ابن رشد عف ىذا المطمب الفيزيائي عندما
طالب عمـ الفمؾ بأف يستمد مبادئو مف عمـ الطبيعة األرسطي الذؼ اعتبره عمما حقا ،ورفض
فمؾ بطميموس ،ألف «القوؿ بفمؾ التدوير والخارج المركز أمر خارج عف الطبع» .ىكذا حكـ
ابف رشد عمى فمؾ عصره الذؼ كاف يستند إلى نظرية بطمميوس:
«إف عمـ الييئة [=عمـ الفمؾ] في وقتنا ىذا ليس منو شيء موجود ،وانما الييئة الموجودة في
وقتنا ىذا ىي ىيئة موافقة لمحساب ال لموجود».
وحتى نأخذ فكرة وافية عف ىذه الشروط ِّ
المقيدة لعمل عمماء الفمؾ ،البد مف تقديـ تصور
مجمل عف طبيعيات (فيزياء) أرسطو.
تستند فيزياء المعمـ األوؿ إلى معطيات ووقائع بسيطة نقبميا جميعا .فسقوط جسـ ثقيل أمر
يبدو لنا "طبيعيا"؛ أما صعوده إلى أعمى بحرية –إف حصل -فيو الذؼ سيثير دىشتنا
ليب ش ٍ
عمة نحو "األعمى" يبدو لنا أم ار "طبيعيا" ،ولذلؾ باعتباره أم ار مضاد لمطبيعة .واتجاه ِ ُ
نضع الطناجر "فوؽ" النار؛ أما اتجاىو نحو "األسفل" –إف حصل -فيو الذؼ سيثير دىشتنا
ويدعونا إلى البحث عف تفسير..
يبدأ العمـ حسب أرسطو عندما نسعى إلى تفسير األشياء التي تبدو طبيعية .وتمييزه بيف
الحركات "الطبيعية" والحركات "القسرية" يقع داخل تصور شامل لمواقع الفيزيائي .وأىـ مبادغ
ىذا التصور الشامل ىي:
لقد كاف "الطبيعي" ،في التصور األرسطي الذؼ ظل مييمنا حتى مشارؼ األزمنة الحديثة،
يدؿ عمى نمط وجود مقابل "لممصنوع" .ليس لمشيء المصنوع طبيعة مخصوصة؛ فمبدأ
حركتو (أؼ انتقالو مف القوة إلى الفعل مثال) يوجد في الصانع .أما الطبيعي ،فمو طبيعة
تخصو .وطبيعتو ىذه ىي مبدأ حركاتو (أؼ أف نموه أو نقصانو ،وتغير حالو ،وتنقمو في
ِ
محددا لحركة
المكاف ،أمور تحدث لو وفيو مف تمقاء ذاتو) .ولذلؾ اعتُبرت الطبيعة مبدأ ّ
األجساـ الطبيعية ،أؼ مبدأ يفسر سكوف األجساـ الطبيعية وحركاتيا المختمفة (التغيرات التي
وموضع ُو َنْقم ًة).
َ وكيف ُو استحال ًة،
يادة ونقصاناَ ،
تمس كـ الجسـ ز ً
يتألف مجموع الواقع الفيزيائي [=العالـ] ،بحسب ىذا التصور ،مف كائنات ليا "طبائع"
ِ
حركة ىذه الكائنات ومواضعيا التي تسكف فييا وتجد ع
مختمفة نوعيا .وتمؾ الطبائع تحدد نو َ
فييا كماليا.
تحتل األرض ،مركز العالـ؛ األمر الذؼ يجعميا تصمح نقطة مرجعية لتحديد حركات باقي
كائنات الطبيعة:
-فيي مرجع لتقدير حركات األجسام األرضية المركبة مف العناصر األربعة (التراب
والماء واليواء والنار) .وبما أف ىذه األجساـ بسيطة ،فإف حركاتيا ال بد وأف تكوف
بسيطة .إف حركاتيا جميعا تختمف باختالؼ ثقميا وخفتيا .ولما كاف التراب هو
العنصر الثقيل بإطالق ،فإف حركته الطبيعية تكون من أعمى إلى أسفل (=إلى
المركز) .ولما كانت النار هي العنصر الخفيف بإطالق ،فإف حركتها الطبيعية تكون
من أسفل إلى أعمى (=مف المركز) .ولما كاف الماء أثقل من الهواء وأخف من
التراب ،وكاف الهواء أخف من الماء وأثقل من الهواء ،فإف موضعيما كائف بيف
فمكي التراب والنار ،بحيث يكوف الهواء تحت النار وفوق الماء؛ وكل منيما يتحرؾ
إلى موضعو عمى نحو طبيعي .وىكذا فإف جميع حركات ىذه األجراـ البسيطة ىي
حركات مستقيمة تتجو إما إلى فوؽ واما إلى تحت ،أؼ إما مف المركز واما إلى
المركز.
-وىي أيضا مرجع لتحديد حركات األجرام السماوية .وبما أف ىذه أجساـ شريفة مكونة
مف مادة خامسة (=األثير) ال تتوارد عمييا األضداد ،فإف أليق الحركات بيا ىي
الحركة المستديرة حوؿ المركز.
فػ"الطبيعة" إذف ،مبدأ في الجسـ الطبيعي يحدد نوع حركتو ،واتجاىيا ،وغايتيا ،وتسارعيا أو
تباطؤىا ،وتوقفيا .وىكذا ،لألجراـ السماوية البسيطة طبيعة خاصة ىي السبب في حركاتيا
المستديرة الدائمة حوؿ المركز؛ ولألجساـ األرضية طبيعة مخصوصة ىي السبب في
حركاتيا المستقيمة المؤقتة مف المركز (إلى فوؽ) أو نحو المركز (إلى تحت) ،وفي ما يط أر
عمييا مف تغيرات كمية وكيفية.
فمنالحع ىنا أف مفيوـ الحركة عند أرسطو ال يقتصر عمى الحركة الموضعية أو النقمة في
المكاف ،بل يشمل أيضا التغيرات التي تط أر عمى األجساـ مف قبيل التغير في كـ الشيء
زيادة أو نقصانا ،والتغير الكيفي الذؼ سماه قدماؤنا بػ"االستحالة" .وىكذا فإف نمو الشجرة،
وتحوؿ لوف أوراقيا مف األخضر إلى البني مثالُ ،يعتبر عند أرسطو حركة تحتاج إلى تفسير
فيزيائي .والحركة ،بيذا المعنى الواسع ،محصورة دائما بيف َحديفَ :حد أولي وحد نيائي؛ فإذا
ما تحققت اإلمكانات التي ينطوؼ عمييا الحد األوؿ بالقوة ،انتيت الحركة إلى السكوف الذؼ
إمكاف أف يصير راشدا؛ فإذا تحقق ىذا
ُ ىو الحد الثاني :ينمو الطفل مثال مف جية أف فيو
اإلمكاف توقف النمو .وبعبارة أخرػ إف كل حركة تحدث بيف ضديف (أبيض↔ أسود،
صغير↔ كبير ،أسفل ↔ أعمى .)...ثـ إف الحركة ىي تغير يصيب حاؿ الجسـ المتحرؾ
أو بنيتو الداخمية ،أو لنقل إنيا سيرورة تغير تؤدؼ إلى التأثير في بنية ىذا الجسـ (كونا أو
فسادا ،نموا أو نقصانا ،استحالة .)...وىذا التغير في حالة الجسـ المتحرؾ ال يمكف أف
يحدث مف دوف سبب داخمي أو محرؾ خارجي .إذا كانت الحركة طبيعية ،فإف المحرؾ
عندئذ ىو طبيعة الجسـ ذاتيا التي تعيده إلى موضعو الطبيعي .أما إذا كانت حركة تخالف
طبيعة الجسـ المتحرؾ ،أؼ حركة قسرية ،فإف المحرؾ عندئذ يكوف خارجيا ،وىو يؤثر في
ىذا الجسـ إما بالدفع واما بالجر.
إف مجموع الواقع الفيزيائي ،الذؼ سماه اليونانيوف بالػ"كوصموص" ،ليس مجرد نظاـ ىندسي
تتوزع فيو األجراـ وفقا لطبائعيا الكيفية ،بل ىو كذلؾ نسق تتحدد فيو المكانة األنطولوجية
لمكائف بحسب طبيعتو التي تؤىمو ألف يحتل أحد المواضع المعمومة داخل ىذا المجموع
المحكـ الترتيب .لمكوصموص شكل كروؼ ،وىو يحوؼ أفالكا عديدة تدور كميا حوؿ
األرض؛ وكل فمؾ يفوؽ في الشرؼ الفمؾ الذؼ دونو ،وصوال إلى أعالىا شرفا ،وىو الفمؾ
المحيط أو فمؾ النجوـ الثوابت .ينقسـ ىذا الكوصموص إلى عالميف متمايزيف من حيث
المكان (ما فوؽ القمر ،وما تحت القمر) ،ومن حيث المادة (األثير ألجراـ العالـ العموؼ،
والعناصر األربعة ألجساـ ما دوف فمؾ القمر) ،ومن حيث الصورة (الحركة المستديرةلألجراـ
السماوية ،والحركة المستقيمة لألجساـ األرضية)؛ وبيف العالميف فارؽ أنطولوجي وقيمي
راجح طبعا لصالح السماء.
تستطيع الرياضيات تحديد حركات األجراـ السماوية ،وتبرير "تحيرِاتيا" ،ولكف دوف ادعاء أؼ
شيء عف طبائعيا؛ ألف عالـ السماوات وحده ينطوؼ عمى انتظاـ وثبات ال نجد ليما نظي ار
تحت فمؾ القمر .وبعبارة أخرػ ،يمكف التعويل عمى الرياضيات لػ"إنقاذ المظاىر" السماوية،
مف خالؿ بناء نماذج رياضية (ىندسية) ُترد االختالالت الممحوظة في حركات األجراـ
السماوية (التوقف والتراجع واإلسراع واإلبطاء) إلى نظاـ وانتظاـ غير ممحوظيف .وباختصار،
إف عمم الفمك الرياضي أمر ممكن .أما عالـ ما دوف فمؾ القمر ،فيو عالـ التقمب :فأشياؤه
تتكوف ،وتصير ،وتفسد .وحركة ىذه األشياء ذات طابع كيفي ،إذ ىي ليست حالة ،بل
سيرورة تغي ٍر ليا بداية ،وليا غاية تقف عندىا .كما أف ليا تأثي ار عمى الجسـ المتحرؾ ،وال
يمكف أف تستمر تمقائيا وآليا في غياب الفعل المستمر لمحرؾ خارجي .ال تستطيع
ِ
أشيائو طبائع الرياضيات المجردة أف تقوؿ شيئا عف ىذا العالـ الحسي الذؼ تتبايف
ُ
ف وال حركة في مممكة األشكاؿ واألعداد ،التي ال
اضعيا وحركاتُيا تباينا كيفيا ،إذ «ال َك ْي َ
ومو ُ
زماف» .ليس ثمة تجانس بيف المكان الفيزيائي والفضاء الهندسي ،إذ توجد في يجرؼ عمييا ٌ
األوؿ اتجاىات ومواضع متباينة كيفيا ومتراتبة قيميا ،وىو اإلطار األنسب الذؼ فيو يمكف
لألجساـ المختمفة في الطبيعة أف تتوجو وتيتدؼ إلى مواطنيا حيث تسكف .أما الثاني ،فإطار
كيف فيو وال حركة وال مواضع مخصوصة وال اتجاىات معمومة .وبالتالي فإف
مجرد ال َ
الجسـ ،إذا ما ُوجد في ىذا الفضاء ،لف يكوف لديو سبب يدفعو أف يذىب نحو اتجاه معيف،
ال بل ليس لديو سبب ألف يتحرؾ عمى اإلطالؽ؛ واذا تـ تحريكو ،فمف يكوف ىناؾ سبب ألف
يتوقف ىنا وليس ىناؾ ،ال بل ليس ىناؾ سبب ألف يتوقف عمى اإلطالؽ.
لقد أدرؾ المعمـ األوؿ أف الفراغ أو الخالء ( ،)le videأؼ الفضاء اليندسي ،يحطـ تماما
نظاـ الكوصموص .ففي الفراغ ال توجد مواضع طبيعية ،ال بل ال توجد مواضع بتاتا؛ ألف
الفضاء اليندسي متجانس تماما .إف فكرة الفراغ تتعارض تماما مع مفيوـ الحركة باعتبارىا
سيرورة تغير .إنو فضاء ال يصمح إال لألجساـ اليندسية المجردة مف الطبائع والخصائص
الكيفية .ولذلؾ أكد أرسطو أف الخمط بيف اليندسة والفيزياء ،وتطبيق المنيج واالستدالؿ
اليندسييف في دراسة الواقع الطبيعي ،أمراف غير مقبوليف.
غير أف الديناميكا األرسطية ،ورغـ قوتيا واتساقيا النظرييف ،تضمنت نقطة ضعف انتبو
إلييا الكثيروف منذ أواخر العصر القديـ .يتعمق األمر بتجربة يومية ،ممحوظة مف َقبل
الجميع ،عجزت ىذه الديناميكا عف تقديـ تفسير معقوؿ ليا :إنيا تجربة الرمي ( la
) projection؛ والرمي حسب مبادغ الديناميكا األرسطية حركة قسرية .عندما نرمي أو
نقذؼ جسما يظل ىذا األخير يتحرؾ حتى بعد انفصالو عف محركو األصمي (حركة السيـ
بعد انفصالو عف القوس ،حركة الحجر المقذوؼ ،الدوراف المستمر لمعجمة .)...تتعارض ىذه
الظاىرة مع المبدأ القائل إف استمرار الحركة القسرية يقتضي قوة خارجية مماسة لمجسـ
المتحرؾ ؛ ذلؾ أف الجسـ المتحرؾ ىنا ينفصل عف المحرؾ (الرامي) ،ومع ذلؾ يواصل
حركتو في اتجاه مخالف التجاىو الطبيعي.
فسر المعمـ األوؿ ىذه الظاىرة برد فعل اليواء .فاليواء ىو الوسط الذؼ يخترقو الجسـ
المرمي ،وبما أف دفعو أسيل وأسرع ،فإنو يجر معو المرمي .ىكذا منح أرسطو لميواء ما
امتنع عف نسبتو إلى الرامي .تعرض ىذا التفسير منذ يوحنا النحوي (القرف 6ـ) لنقد مفاده
أف اليواء ليس محركا بل مقاوما لمحركة .فكيف يمكف لميواء أف يكوف في اآلف نفسو محركا
ومقاوما لمحركة؟ لِ َـ ال نفترض أف المحرؾ َي ُمد الجسـ المتحرؾ بقوة غير مادية ()dynamis
تجعمو يواصل حركتو إلى أف تضعف ىذه القوة المطبوعة ،فيرتد إلى موضعو الطبيعي؟
قدـ يوحنا النحوؼ المالمح األولى ليذه النظرية التي سميت بفيزياء الدفع أو الميل ( la
،)physique de l’impetusوقد تعرؼ عمييا الفالسفة والعمماء في العالـ اإلسالمي،
فناصرىا ابن سينا وابن باجة والبطروجي ،وأدركت شكميا األكثر تنسيقا وتعميما مع جون
بوريدان ( )Jean Buridanفي القرف .95إف ىذه النظرية محاولة لتطوير فيزياء أرسطو
وس ِّد إحدػ ثغراتيا .ومبدأىا األساسي ىو أف «العمة المحركة المسؤولة عف تواصل حركة
َ
القذيفة[ ...عبارة] عف قوة منطبعة قائمة كخاصية بحتة في المتحرؾ ،يتمقاىا مف القاذؼ
األوؿ ويحتفع بيا ويستعمميا لمحفاظ عمى حركتو حتى نفادىا» .وبعبارة أخرػ ،إف القاذؼ
ص ِّرفيا وىو يتحرؾ؛ وعندما تضعف ىذه القوة
يطبع في المقذوؼ قوة يختزنيا ىذا ،ثـ ُي َ
وتصير مساوية لمصفر ،يعود المقذوؼ إلى موضعو الطبيعي.
تتوافق ديناميكا الدفع أو الميل أكثر مف ديناميكا أرسطو مع الوقائع ،وخصوصا مع تمؾ التي
مفادىا أف كل قذيفة تبدأ بتنامي سرعتيا ،وتحصل عمى أقصى سرعة في زمف يسير بعد
انفصاليا عف المحرؾ .إف الميـ في ديناميكا الميل ىو أنيا لـ تعد تعتبر الحركة سيرورة
تحقق ( ،)processus d’actualisationولكنيا مع ذلؾ بقيت تغيرا؛ والتغير يحتاج إلى
تفسير .والتفسير الذؼ قدمتو ىذه النظرية يقوؿ إف القوة المطبوعة في المتحرؾ ىي السبب
المحايث الذؼ ُيحدث الحركة (رغـ أنو ليس داخميا مثل "الطبيعة") .ودورىا ال يقتصر عمى
التحريؾ ،بل يشمل أيضا تخطي المقاومة التي يواجو بيا الوسط الحركة.
يقوؿ بوريدان بعد نقد التفسير األرسطي لتواصل حركة القذيفة« :يبدو لي أف ما يجب قولو
ىو أنو عندما يحرؾ المحرؾ جسما ما ،فإنو يطبع فيو ميال أو قوة قادرة عمى تحريؾ
المتحرؾ في االتجاه نفسو الذؼ يدفعو إليو المحرؾ سواء أكان هذا نحو األعمى أو نحو
األسفل ،إلى هذا الجانب أوذاك أو دائريا ...فيذا الميل ىو الذؼ يجعل حركة المقذوفة
تتواصل بعد انفصاليا عف المحرؾ .وبفعل مقاومة اليواء وتأثير الثقالة أيضا التي تدفع
بالحجر المتحرؾ في اتجاه مخالف التجاه المحرؾ ،يتناقص تأثير المحرؾ ويضعف إلى
درجة تتغمب فييا عميو الثقالة ،فيتجو المتحرؾ نحو مكانو الطبيعي».
يبيف لنا نص بوريدان أف الميل أصبح مبدأ تفسيريا ال لمحركة القسرية فقط ،بل حتى لمحركة
الطبيعية ،مستقيمة كانت أو دائرية .وليذا يخالف بوريداف أرسطو حتى في تفسير حركات
األفالؾ السماوية .إف دواـ ىذه الحركات وانتظاميا ال يعود إلى كونيا ُمكونة مف عنصر
أزلي وبسيط (=األثير) ،بل إلى ميل طبعو هللا فييا عندما خمق العالـ .وبما أف العالـ
السماوؼ خاؿ مف اليواء ومف أؼ وسط مقاوـ ،فإف حركات األفالؾ فيو دائمة.
تكمف أىمية نظرية الميل في أنيا ىيأت األرضية الميتافيزيقية المالئمة لمقبوؿ بفكرة وحدة
العالـ مف جية قوانيف حركات أجسامو أرضية كانت أو سماوية.