Professional Documents
Culture Documents
فرصتنا الأخيرة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين - المكتبة نت
فرصتنا الأخيرة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين - المكتبة نت
في هذا الكتاب ،الذي ُو ضع أساسًا باللغة اإلنكليزية ،ويصدر -باإلضافة إلى اإلنكليزية والعربية -
في ثماني لغاٍت أخرى ،تتوجه كلمتي بالدرجة األولى إلى القطاع األوسع من الرأي العام العالمّي ؛
في محاولٍة لسّد بعض الفراغ الكبير في أوساط هذا الرأي العام ،على الصعيدين المعرفّي
والمعلوماتي ،حياَل عالمينا العربّي واإلسالمي .وما أسميه فراغًا هنا هو ،في واقع األمر ،نقٌص ذو
وجهين :ففي حين نتعاطى ،نحن المشرقيين عمومًا ،باستخفاٍف مع الصورة التي يرانا فيها الرأي
العام العالمي -والغربُّي على وجه الخصوص -نجد من ناحية أخرى أن هذه الصورة متروكة لوحًة
بيضاَء فارغة يمألها عنا اآلخرون ،من غير العرب والمسلمين ،بما شاءت لهم أهواؤهم ،وإذا هي
ليست خاليًة من جوهر تاريخنا ،وتراثنا ،وثقافتنا ،وهوَّيتنا ،وقيمنا ،وقضايانا العربية واإلسالمية
فحسب ،وإنما مثقلٌة أيضًا بما قد يشّو ه كل هذه القيم وهذا الثراء العربي واإلسالمي ،ويقلب حقائقه،
ويزرع مكانها في أحيان كثيرة وجهًا من التخلف واإلرهاب رابطًا ما بينهما وبين العرب
والمسلمين.
إنني أعلم علم اليقين أن الرأي العام العالمي ،بكثرته الساحقة ،إذا كان يرى صورًة مشوهًة للعرب
والمسلمين فألن العرب والمسلمين غائبون ،بينما من يريد بهم شّر ًا يمأل الفراغ بما يخدم أهواءه
وغاياته .ولكن متى استفاق العرب والمسلمون واحتلوا موقعهم على مسرح الحدث ،وواكبوا العصر
بوسيلته العظمى ،بالصورة والصوت والكلمة ،صَّو بوا نظرة هذا الشطر األكبر من الرأي العام
العالمي ،وقَّو موا االعوجاج ،وكشفوا الوجَه الحقيقَّي المشرق لقيم اإلسالم وتراث العرب الحضارّي
والثقافّي .عندئٍذ ،وعندئٍذ فقط ،تصبح القلة التي تتعمد تشويه الصورة خدمًة لغاياتها ومصالحها غير
ذات تأثير فاعل في مجرى األحداث.
إن الصراع العربّي -اإلسرائيلي ،الذي ما فتئ يتأجج منذ عقود طويلة ،هو البركان الذي كلما
استفاق لم يرسل حممه إلى جواره وحسب ،بل إلى خارج حدود المنطقة أيضًا .وإن كان عالمنا
العربي واإلسالمي يعيش مجموعة من المشكالت المعقدة ،السياسية واالقتصادية واالجتماعية
والثقافية والتنموية ،فإن أخطر هذه المشكالت ،وأشدها تدميرًا للبشر والحجر على السواء ،هي دون
ريب مشكلة الصراع العربي -اإلسرائيلي .إن منطقة الشرق األوسط لن تشهد أمنًا وال استقرارًا وال
سالمًا ،وهي بالتالي لن تشهد نمّو ًا حقيقّيًا وال لحاقًا بركب التطور اإلنساني والحضاري ،ما لم تشهد
أوًال الحّل المنشود لهذا الصراع ،على أسس تضمن إنصاف الشعب الفلسطيني ،وإنهاء االحتالل،
وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها القدس الشرقية ،وفي
إطاٍر إقليمي يضمن السالم الشامل ،القائم على أساس استعادة جميع الحقوق العربية .ولذلك ال بد من
التأكيد أنه ما من أولويٍة أخرى سوى هذا الحل الشامل يمكن أن تفتح الباب واسعًا للبدء بالتعاطي مع
ما تواجهه المنطقة من مشكالت أخرى ،والمباشرة بمعالجتها واحدًة تلو األخرى.
إن المجتمعات العربية ،بغالبيتها العظمى ،مجتمعاٌت يغلب عليها عنصر الشباب .وتمثل هذه
الحقيقة فرصًة ثمينًة وتحديًا حساسًا في آٍن معًا .ال حاجة بنا إلى االسترسال في تعداد اإليجابيات التي
تتيحها هذه الفرصة؛ فهي زاخرة بالوعود واآلمال الكبرى .أما التحدي فيتمثل في الحاجة الماسة إلى
تعميم التعليم ورفع مستوى مناهجه ،وتأهيل القوى العاملة واالرتفاع بقدراتها المهنية والتقنية،
وبالتالي توفير فرص العمل وتأمين الخدمات الصحية ،وُح سن الربط بين مناهج التعليم وتطوير
المهارات التقنية من جهة ،وحاجات سوق العمل من جهة ثانية ،خصوصًا متى أخذنا باالعتبار أن
هناك حاجًة إليجاد مئتي مليون فرصة عمل على مدى السنوات القليلة اآلتية.
بلوغًا إلى هذه األهداف المرتجاة ال بد من العمل الجاد والفورّي على بناء بيئة سياسية ،اجتماعية،
ثقافية ،واقتصادية منفتحة ،في مجتمع تسوده العدالة االجتماعية والمساواة واالحترام الكامل لحقوق
االنسان ،وتطبيق مندرجاتها خصوصًا على صعيد الحريات العامة ،وذلك وصوًال إلى تطوير الفكر
النقدي المبدع والمتحرر من القيود .كل هذا لن يكون إال بإطالق ورشة إصالحاٍت اجتماعية
واقتصادية وسياسية كبرى ،تؤدي بمسارها المتواصل والمصّم م إلى تطويٍر نحو الديموقراطية
الحقيقية التي يشعر معها الشباُب العربّي باألمل الواعد ،وبالقدرة على تحقيق ذاته والمساهمة الفاعلة
في صناعة القرار ،وفي بناء مستقبله ومستقبل بالده وأمته .وتلك مهمة ليست سهلة .فقوى الشد
العكسي كثيرة ،وترى في اإلصالح خطرًا على مصالحها الخاصة فتقاومه بال هوادة .فلقد كنا في
األردن أعلنا اإلصالح ضرورة حتمية ،ومّه دنا الطريق للمضي به خطوات جادة وملموسة ،تثمر
إصالحات سياسية لن ينجح من دونها اإلصالح االقتصادي ،الذي يشكل أولوية النعكاسه المباشر
على مستوى معيشة المواطنين .إال أن المسيرة اإلصالحية ،التحديثية ،التطويرية تعثرت وتباطأت،
فكانت ما إن تسير خطوتين إلى األمام حتى تتراجع خطوة إلى الخلف؛ نتيجة مقاومة القوى
المتمسكة بالراهن ،حرصًا منها على مصالحها الخاصة ،حتى لو جاءت على حساب المصلحة
العامة .من هنا تبرز الحاجة لتالقي القوى اإلصالحية على طرح إصالحي برامجي ،يحّيد في ثباته
وتصميمه القوى التي تصر على العيش في الماضي ،وترفض أن ترى إلى متطلبات العصر
وشروط النجاح فيه.
ليست الساعُة يومًا ،وال اليوُم أسبوعًا ،وال الشهُر عامًا وال عقدًا من األعوام .لم يعرف التاريخ
البشرّي حقبًة زمنيًة كان فيها الوقُت أغلى منُه في زمننا هذا .وإذا كان لي أن ألقَي بين أيدي شبابنا
وشاباتنا في العالم العربي تمنيًا هو األغلى واألكثر إلحاحًا ما ترددُت في القول :ال تهدروا من
عمركم المنتج ساعًة وال يومًا وال أسبوعًا .إن بالدكم وأمتكم بحاجة إلى عقولكم وسواعدكم تعمل ال
تكل في مواكبة ركب التطور اإلنساني ،ليس فقط للحاق به ،بل للمنافسة في كل مجاالت اإلبداع
والتطور :في اإلصالح السياسّي الحقيقي ،والعدالة والمساواة ،والمشاركة واحترام التعددية ،وتعزيز
العمل المؤسساتي ،وإدارة الحاضر بأدواته ال بأدوات الماضي ،والثقة بتراثنا الثقافّي وبقيمنا
اإلسالمية ،والتوُّج ه بهذا الثراء وهذه القيم نحو الحداثة الحقيقية متجاوزين أساليَب الرفض والسلبية.
فلنطمْح ،وْلنحُلْم ،وْلَنستهدِف األفضل اليوم ،واألفضَل منه غدًا ،واثقين بعقلنا وبقدرتنا على
اإلنجاز .إن اإليجابية بحّد ذاتها هي ثقافٌة غزيرُة العطاء ،فلنجعْل منها ركيزًة ونهجًا في حياتنا .أما
السلبية والخوف من التغيير والتردد أمام الطموحات الكبيرة فهي عوائق تبقينا أسرى آفاق ضيقة،
وتحرم مجتمعاتنا من فرص المضي بقدراتها وطاقاتها إلى رحابها الواسعة .وإن تجاوز هذه السلبية
التي تتمترس خلف «ال نستطيع ،ال نقدر ،وليس ممكنًا» أمام كل طموح كبير أو فكرة رائدة ،شرط
لالنتصار على التحديات وبناء الغد الذي تستحقه شعوبنا .بهذه الروح أتوجه إلى قرائي ،وأخّص من
بينهم الجيل الشاب ،وأقول لهم :ما من مستحيٍل أمام العقل واإلرادة متى اجتمعا!
أما على الصعيد اإلقليمي والعربي ،فاألمل قائم على بناء المزيد من آليات التعاون عبر
المؤسسات .فهذا التعاون هو الذي يحقق التكامَل بين الدول العربية ويوّسع إطار المشاركة في
المجاالت االقتصادية واالجتماعية والثقافية ،ويفتح مجال الربط بين بلدان اإلقليم بشبكات الطاقة
والمياه والنقل بحيث تكتمل دائرة التعاون وتزداُد العروُة الوثقى وثوقًا.
إننا قادرون على بناء المستقبل الذي يستحقه أبناؤنا ،وإننا لمصِّم مون على ذلك بإذن العلِّي القدير
ومشيئته.
وإنني إذ أتوجه بكتابي هذا أيضًا إلى أبناء أسرتي األردنية الواحدة ،وإلى المواطن العربي حيثما
كان ،وأضع أمامهم ما وضعت أمام القارئ األجنبي من أفكار وطروحات حول قضايانا العربية
واإلسالمية ،وحول تجربتي في خدمة شعبي األردني الذي يمّثل تحقيق األفضل له أسمى ما أسعى
إليه ،آلمل أن أكون قد أسهمت في إبراز الصورة الحقيقية لحضارتنا وإرثنا العربي واإلسالمي.
وعلى الرغم من كل التحديات ،فإنني لن أكون إاّل متفائًال بمستقبل أمتنا العربية واإلسالمية ،وقدرتها
على بناء المستقبل الذي يليق بتاريخها ،ويحقق لها المكانة المتقدمة بين الشعوب .وهذا أمل أجده
يتجدد ويزداد قوة كلما استمعت إلى شاب أردني يتحدث بثقة وحماسة عن طموحات ال تقبل أن
تحاصرها محِّددات الراهن ،وإصرار على النهل من إمكانيات عصر تفوق فرصه كل تحدياته.
مقـِّدمـة
عندما بدأُت ،منذ عامين ،تحرير هذا الكتاب كنت آمل أن أروي فيه كيف تمكنت الواليات المتحدة
وإسرائيل والعالمان العربُّي واإلسالمّي ،وسط تراكم العوائق والمصاعب ،من تحقيق السالم في
الشرق األوسط .وفيما أنا أخُّط هذه الكلمات ال َيسُعني سوى القول إن ما أرويه هنا هو قصُة هذا
السالم المنشود الذي ال ينفُّك ُيراوغنا ونحن ال ننفُّك مصِّم مين على تحقيقه؛ ذلك أننا في هذه المنطقة
من العالم ،حيث منسوُب التفاؤل أكثر انخفاضًا من منسوب المياه ،ال َيسُعنا أن نفقد األمل.
لماذا ،يا ُترى ،يمكن أن يختاَر رئيس دولٍة أن يكتَب كتابًا؟ ما أكثَر األسباَب التي قد تجعل أمرًا
كهذا يفتقر إلى الروية والحكمة ،ذلك أن إدارة شؤون الدولة ،حتى الدولة الصغيرة ،هي عمل ال يبقي
لصاحبه متسعًا من الوقت ،أضف إلى ذلك ضرورة الحفاظ على العالقات الطيبة مع دول في الجوار
وخارجه ،قد يشعر العديد منها باإلساءة جّر اَء عرض الحقائق بصدق كما تراها دولة أخرى .وال
ننسى أولئك الذين يوّدون إما أن تبقى أعماُلهم وتصرفاُتهم طَّي الكتمان ،وإما أن ُيكاَل لها من
اإلطراء والمديح ما ال تستحقه.
لقد قررت أن أدَع جانبًا كل هذه االعتبارات وأن أسير على بركة هللا في كتابة هذا الكتاب؛ ألن
الشرق األوسط ،هذه المنطقة ذات المراس الصعب والمعّقد التي أعيش فيها ،تواجه أزمة مفصليًة
دون ريب .في اعتقادي أننا ال نزال نمتلك فرصًة أخيرة لتحقيق السالم ،لكّن الفسحَة الواعدة بهذا
السالم تضيق بوتيرة متسارعة .وإذا لم نسارع إلى اغتنام هذه الفرصة التي يتيحها اآلن شبه
اإلجماع الدولي على الحّل ،فإنني على يقين من أننا سنواجه حربًا أخرى في منطقتنا ستكون على
األرجح أسوأ مما شهدناه من الحروب ،وستحمل معها تداعياٍت أشَّد كارثية.
إن ذاكرة شعوب المنطقة تمتد بها إلى سنواٍت طويلة ،وهي ال تنسى المحاوالت التي ُبذلت لجمع
أفرقاء الصراع والتي باءت جميعًا بالفشل .ال يزال عدٌد كبير من الالعبين أنفسهم يتحرك على
مسرح األحداث ،ويبدو أن منهم من سيبقى في قلب الحدث إلى سنواٍت آتية ،وهذا ما قد يكون سببًا
وجيهًا يحول دون التكّلم علنًا على المسائل الحساسة .أما أنا فعلى يقين من أن العالم يجب أن يعرف
المخاطر التي ينطوي عليها جلوسنا مكتوفي األيدي حياَل هذه المخاطر.
لقد عانى جيل والدي صدمَة الحرب بمعدل مرة كل عشر سنوات ،فبعد الحرب التي أشعلها إنشاء
إسرائيل في العام 1948وقعت حرب السويس في العام ،1956لتأتي بعدها الحرب الكارثية في
العام 1967التي استولت خاللها إسرائيل على الضفة الغربية وسيناء ومرتفعات الجوالن ،ثم وقعت
حرب العام 1973التي حاوَلْت خاللها مصر وسوريا استعادة األراضي التي خسرتاها في العام
1967ولكن المحاولة فِشلت .بعد كل هذه الحروب وقعت الحرب بين إيران والعراق ليتبعها الغزو
اإلسرائيلي للبنان في أوائل ثمانينيات القرن الماضي ،ومن َثَّم حرُب الخليج في العام .1991إن
الفتراِت الفاصلَة بين حرٍب وأخرى يمكن اعتبارها ُفسحًة للسالم ولكن بالحّد األدنى من مفهوم
السالم الحقيقي ،ففي السنوات اإلحدى عشرة التي مضت منذ أن توليت مسؤوليتي ملكًا للمملكة
األردنية الهاشمية شهدُت خمسَة نزاعات :انتفاضة األقصى في العام ،2000الغزو األميركي
ألفغانستان في العام ،2001الغزو األميركي للعراق في العام ،2003الحرب اإلسرائيلية على لبنان
في العام ،2006ومن َثَّم العدوان اإلسرائيلي على غزة في العام .2009–2008وهكذا ال يمّر
عامان أو ثالثة أعوام على ما يبدو دون أن تعاني منطقتنا المنَه كة بالمتاعب نزاعًا جديدًا ،وحين
أنظر إلى اآلتي القريب أراني في خوٍف كبير من أن نكون مقبلين على حرٍب جديدة بين إسرائيل
وجيرانها تنطلق شرارتها من إحدى النقاط المشتعلة؛ ومن َثَّم تتسع وتتصّعد بوتيرة مرعبة.
يعود الصراع بين اإلسرائيليين والفلسطينيين في الزمن إلى مطلع القرن العشرين ،لكَّن هذا
الصراع أشُّد وطأًة في وقتنا الحاضر منه في أّي وقٍت مضى .فمنذ انهيار عملية السالم في العام
2000سقط ما يقارب ألف قتيل من اإلسرائيليين ،فيما سقط على أيدي القوات اإلسرائيلية أكثر من
ستة آالف وخمسمئة فلسطيني ،فضًال عن آالف الجرحى .وها هو الشرق األوسط بكل أرجائه يواجه
اليوم تحّديا خطيرًا وحّساسًا حيال إيجاد الحل لهذا الصراٍع الذي يكاد يختصر التاريخ الحديث
للمنطقة .ولكني أعتقد أننا إذا نجحنا في حل هذا الصراع ،فسنكون قد عالجنا أحد أهم جذور العنف
وعدم االستقرار في الشرق األوسط.
حين ينظر الكثيرون من المعنيين في الغرب إلى منطقتنا يرونها أشبَه بسلسلة من التحديات
المنفصلة واحُدها عن اآلخر :فهناك التوسع اإليراني ،واإلرهاب الراديكالي المتطرف ،والتوترات
المذهبية في العراق ولبنان ،وهناك الصراع المتمادي والمتزايد تعقيدًا بين إسرائيل والفلسطينيين.
لكّن الحقيقة الساطعة هي أن كل هذه التحديات يتقاطع بعُض ها مع بعض ،وأن الخيط الذي يربط في
ما بينها هو الصراع الفلسطيني -اإلسرائيلي.
بالنسبة إلى المسلمين ،يختلف الصراع العربي -اإلسرائيلي نوعًا وتعريفًا عن أّي نزاٍع آخر لهم
به صلة .وخالفًا لما يحلو للبعض أن يقول ،ليس هذا الصراع في أساسه صراعًا دينّيًا وإنما هو نزاع
سياسّي حول الحقوق واألرض .في العام 1900كان على أرض فلسطين التاريخية تسعون ألفًا من
اليهود وخمسمئة وعشرة آالف من العرب .وبعد مرور قرٍن من الزمن شهد دفقًا من الهجرة اليهودية
إلى فلسطين بات عدد اليهود اآلن أكثر من ستة ماليين مقابل خمسة ماليين فقط من العرب .جاء
عدد كبير من المهاجرين اليهود إلى فلسطين خالل فترة االضطهاد النازّي التي انتهت إلى واحدٍة من
أكبر الفواجع في التاريخ اإلنساني ،وهي المحرقة (الهولوكوست) .وهناك أعداد كبيرة طبعًا جاءت
في ما بعد عندما شَّر عت إسرائيل أبوابها أمام اليهود اآلتين من نواحي األرض األربع ،وبنتيجة
حرب العام ُ 1948هّج ر مئات اآلالف من الفلسطينيين الذين لم ُيسمح لهم بالعودة إلى ديارهم .أما
حرب العام 1967فقد وضعت عددًا كبيرًا إضافيًا -خصوصًا الذين يعيشون في الضفة الغربية التي
كانت جزءًا من األردن -تحت االحتالل اإلسرائيلي .ونتيجة لذلك ،يعيش ماليين الفلسطينيين اليوم
تحت هذا االحتالل ،فيما تشكل الممارسات اإلسرائيلية تهديدًا لُه وّية مدينة القدس .وتفّسُر أهمية
القدس ،على األقل جزئيًا ،مدى مركزية المسألة الفلسطينية بالنسبة إلى العرب والمسلمين في كل
أنحاء العالم.
من األمور التي ال يدركها الغرب كما يجب ،كوُن القضية الفلسطينية مسألًة عالمية .حين أذهب
في زيارة إلى إندونيسيا أو الصين وألتقي المسلمين هناك يبادرونني إلى التحدث عن القدس ،وعندما
ُز رت نيودلهي في العام 2006والتقيت جمعًا من المسلمين الهنود طرحوا علّي السؤال التالي :متى
سيحُّل العرب المشكلة اإلسرائيلية -الفلسطينية؟ وعندما يعّدد الباكستانيون مصادر مظاِلمهم تأتي
إسرائيل مباشرًة بعد الهند ،ومن هنا فإن المسألة الفلسطينية تمّثل قضيًة يترّدد صداها العميق بين
مليار ونصف المليار من مسلمي األرض.
هذه الحقيقة تفّسر (دون أن تبرر طبعًا) كيف تستطيع الجماعات الراديكالية المتطرفة ،كتنظيم
القاعدة مثًال التي تّدعي أنها تريد «تحرير» القدس ،التالعب االستغاللي بالقضية واستدراج
اآلخرين إلى ارتكاب أعمال إرهابية تحت ذريعة الدفاع عن اإلسالم والفلسطينيين .كذلك تفِّسر هذه
الحقيقة سبب لجوء منظمات كحزب هللا وحماس -على الرغم من أنهما مختلفان جذريًا عن القاعدة
من حيث المهمة واأليديولوجية -إلى التسُّلح بوجه إسرائيل ،فضًال عن أسباب استجابة األعداد
المتزايدة من العرب والمسلمين إلى نداء العمل المقاوم .هذا النداء إلى الكفاح المسّلح ضد االحتالل
يحوز مزيدًا من الصدقية واالستجابة كلما أصيبت جهود بلداٍن عربية ،كاألردن ومصر والمملكة
العربية السعودية ،بالفشل في سعيها إلى الوصول إلى السالم من خالل المفاوضات.
لكن إذا استطاعت إسرائيل أن تنسَج سالمًا مع الفلسطينيين ،فعندئٍذ إلى أّي تبريٍر معنوٍّي -أخالقٍّي
يمكن أن تلجأ أي حكومة أو جماعة مقاومة بغيَة االستمرار في الصراع؟ إذا كانت القدس مدينة
مشتركة ،والقدس الشرقية عاصمًة لدولة فلسطينية قابلة للحياة ،سّيدة ومستقلة ،فماذا يبقى من
األسباب المنطقية لدى حكومة إيران ،على سبيل المثال؛ لكي تستمّر في خطابها وأعمالها المضادة
إلسرائيل؟
من أمضى األسلحة بوجه دعاة العنف من المتطرفين القضاء على ما يصرخون به من شعارات
جذابة .وسيسهم حّل المشكلة األشد تجُّذرًا عاطفّيًا في وجدان العالم اإلسالمي من خالل إقامة دولة
فلسطينية على أساس حدود العام 1967وعاصمُتها القدس الشرقية ،في إزالة واحٍد من أكبر أسباب
الصراع في العالم اإلسالمي .ما من شك في أن تحقيق السالم العادل والقابل لالستمرار هو أحد
أنجع السبل ضّد التطرف .صحيح أنه لن يردع كل متطِّر ف ومتعّص ب ،لكنه سيحّو ل ميدان الحركة
تحويًال أساسيًا باالتجاه اإليجابي .من هنا فإن هذا الحّل يجب أن يكون أولويًة أميركية بَقْدر كونه
أولويًة عربية.
هناك ناحية أخرى من الصراع غالبًا ما ُيساء فهُم ها وهي وطأته الثقيلة على مسيحيي القدس
وعلى األماكن المقدسة في المدينة .قبل حرب العام 1967كانت الضفة الغربية بما فيها القدس
الشرقية تحت إدارة األردن الذي ال يزال يتحّم ل مسؤولية رعاية األماكن المقدسة في المدينة القديمة،
المسيحية منها واإلسالمية على حٍّد سواء .من هنا فإن األردن يبقى مدافعًا صلبًا عن حقوق
المسيحيين والمسلمين عندما يحاول اإلسرائيليون ترسيخ احتاللهم غير القانونّي للقدس الشرقية من
خالل بناء المزيد من المستوطنات .اليوم لم يبَق في القدس سوى ثمانية آالف من المسيحيين ،وكان
عدد هؤالء في العام 1945يقارب ثالثين ألفًا .وقد اجتمعت السياسات اإلسرائيلية مع الضغط
االجتماعي واالقتصادي الناجم عنها لتجبر أكثرية المسيحيين على الهجرة .إن األكثرية العظمى من
مسيحّيي القدس هم من العرب ،وفيما ترّح ب إسرائيل باألجانب من المسيحيين الذين يأتون إلى
القدس زائرين ،نراها تثقل حياَة المقدسيين منهم بالمصاعب الجمة .وفي هذه السياسة مفارقة غريبة،
ذلك أن المسيحيين العرب هم المجتمع المسيحي األعرق في العالم والذي تعود جذوره في القدس إلى
عهد السيد المسيح عليه السالم .لقد تساوى الفلسطينيون ،من مسيحيين ومسلمين ،في المعاناة من
وطأة االحتالل ،وهم يحملون التطلعات ذاتها إلى ممارسة حقهم في الحرية والدولة المستقلة.
في الجهود التي ُبذلت سابقًا لتحقيق السالم كانت المقاربة الغالبة لدى األطراف المعنية جميعًا
التقدم خطوًة خطوة بحيث يجري تناول المسائل الصغيرة وتأجيل المسائل الصعبة والمعقدة،
كالوضع النهائي للقدس ،إلى أجٍل آٍت .المشكلة في هذه المقاربة هي أننا لن نصل إلى النهاية
المتوخاة ما دمنا نؤّج ل المشكالت الكبرى ،وعلينا أن نجد حًال فورّيًا لقضايا الوضع النهائي الرئيسة
وهي :القدس ،والالجئون ،والحدود ،واألمن ،وهذا المسار ،في المرحلة الراهنة هو األمل الوحيد
إلنقاذ الحّل القائم على مبدأ الدولتين .ما من ِخ ياٍر آخر.
لقد وجهت في عدة مناسبات انتقادات قاسية لتصرف إسرائيل وتعّنتها .لكن ال بد من اإلشارة أيضًا
إلى أن هناك مسؤولية مشتركة إزاء فشل عملية السالم .على العرب واإلسرائيليين أن يعترف كل
طرف منهما بحاجات الطرف اآلخر .إن حّل الدولتين مبنّي على اعتراف اإلسرائيليين بحقوق
الفلسطينيين بالحرية وبدولتهم المستقلة ،وعلى اعتراف الفلسطينيين وسائر العالم اإلسالمي بحق
إسرائيل باألمن .ليس لدينا خيار سوى العيش معًا ،والمسؤولية المعنوية حياَل السعي إلى السالم تقع
على الطرفين كليهما؛ ذلك أن البديل هو المزيد من الصراع والعنف.
إن الجغرافيا والتاريخ والقانون الدولي تفرض كُّلها على األردن أن ينخرط في عملية البحث عن
حٍّل للصراع .فعدد الالجئين الفلسطينيين الذين يقيمون في األردن هو األكبر إذ يصل إلى مليون
وتسعمئة ألف الجئ ،ولدينا عالقات صداقة مع جيران إسرائيل من البلدان العربية ،ومثُلها مع
الواليات المتحدة األميركية .كذلك نحن واحٌد من بلدين اثنين فقط من البلدان العربية تربطهما
بإسرائيل معاهدة سالم.
إن مفتاح تطبيع العالقات بين إسرائيل والعالم اإلسالمّي بكامله هو في حّل صراعها مع
الفلسطينيين .وكان والدي قد صاغ في السنوات األخيرة من عهده اقتراحًا لتحقيق السالم الشامل بين
إسرائيل والدول العربية االثنتين والعشرين مقابل انسحاب إسرائيل من جميع األراضي العربية
المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية .لكّن مشروَعه هذا لم يجد مساره نحو التحقيق وما لبث أن انتهى
مع وفاته .عندما توّليت مسؤولياتي ملكًا أعدت طرح اقتراح والدي ،وكلفت الحكومة بحثه مع مصر
والمملكة العربية السعودية .بعد ذلك طورت السعودية االقتراح ومضت به إلى األمام وذلك عندما
قدم ولّي العهد السعودي آنذاك األمير عبد هللا بن عبد العزيز آل سعود مبادرته للسالم إلى مؤتمر
القمة العربية في بيروت في العام .2002وتبَّنت القمة العربية الطرح السعودي الذي ُعرف في ما
بعد بـ«المبادرة العربية».
َدَعت المبادرة العربية إلى االنسحاب اإلسرائيلي الكامل من كل األراضي العربية المحتلة منذ
العام ،1967وإلى التفاوض على تسوية لمسألة الالجئين الفلسطينيين ،وإلى إقامة الدولة الفلسطينية
المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية .مقابل ذلك قالت الدول العربية االثنتان والعشرون
إنها ستعتبر «الصراع العربي -اإلسرائيلي منتهيًا ،وستدخل في اتفاق سالم بينها وبين إسرائيل
يحقق األمن لجميع دول المنطقة» .باإلضافة إلى ذلك أعلنت الدول العربية أنها ستقيم عالقاٍت
طبيعيًة مع إسرائيل في إطار هذا السالم الشامل .حيال هذا العرض أصابتني الدهشة من رفض
إسرائيل ،وحتى بعِض أعضاء اإلدارة األميركية ،هذه المبادرة بالمطلق .وتبّين لي من خالل
مباحثاتي في ما بعد مع العديد من هؤالء أنهم لم يكّلفوا أنفسهم حتى قراءَتها .حول مسألة الالجئين،
على سبيل المثال ،اقترحت المبادرة العربية «التوصل إلى حٍّل عادٍل لمشكلة الالجئين الفلسطينيين
يتفق عليه وفقًا لقرار الجمعية العمومية لألمم المتحدة رقم .»194والتعبير األساس في هذه الجملة
هو «يتفق عليه» .وعندما ذكرُت هذا األمر لإلسرائيليين أبدوا تعّج بهم حتى إن بعضهم اعترف بأنه
لم يقرأ المبادرة .هذا العرض الذي لم يسبق أن ُطرح مثُله من قبل وافقت عليه الحقًا الدول السبع
والخمسون األعضاء في منظمة المؤتمر اإلسالمي ،لكّن المؤسف أن إسرائيل لم تأخذ المبادرة قط
على محمل الجد ،كما لم تعترف بما َح َم لْته من فرصٍة غير مسبوقة .إننا ال نزال عالقين في حبكة
السبل القديمة ونتفاوض حول المسائل الثانوية بينما نرجئ اتخاذ القرارات الصعبة .يبدو أن إسرائيل
تشعر بأن لديها متسعًا كبيرًا من الوقت ،لكن مماطلتها وتراجعاتها ومناوراتها التكتيكية كَّلفت كُّلها
أثمانًا باهظة.
لقد دّم رت األحداث التي شهدتها السنوات اإلحدى عشرة الماضية الثقة بين الجهتين المعنيتين ،وها
نحن اليوم نرى ِص دقية عملية السالم وقد تالشت كلّيًا ،وحين تنهار الثقة انهيارًا كامًال بين الطرفين
قد يصبح من المحال إعادة بنائها مجددًا .على أصدقاء إسرائيل جميعًا أن يشجعوها على االنخراط
الكامل والسريع في عملية صنع السالم ،أما الواليات المتحدة ،الصديق القديم والمخلص إلسرائيل،
فعليها أال تتردد في دفع فريقي الصراع -بشيء من التشدد متى دعت الحاجة -إلى طاولة
المفاوضات بغية الوصول إلى التسوية النهائية.
إن إرادة اإلصغاء ومّد اليد اللذين أبداهما الرئيس األميركي باراك أوباما متوجهًا بهما إلى العالمين
اإلسالمي والعربي قد فتحا نافذًة لألمل ولو محدودة ،غير أن العرب والفلسطينيين ال شك محبطون
حياَل التقدم المحدود جّدًا الذي تَّم إحرازه .وقد واجه الرئيس أوباما االنتقاد عندما ضغط على رئيس
وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو طالبًا إليه تجميد بناء المستوطنات ،وتضررت صورة أميركا
ومكانتها نتيجة التعنت اإلسرائيلي .لكن يبقى من الخطأ الفادح أن يتراجع أوباما عن هذا التوّج ه ،فإذا
تلّكأت أميركا اليوم عن ممارسة قوتها المعنوية والسياسية إليصال الطرفين إلى الحل المبني على
قيام دولتين ،فعندئٍذ قد ال تتاح أمامنا فرصة أخرى كهذه .نافذة األمل تميل إلى االنغالق ،وإذا نحن
تقاعسنا عن العمل السريع باتجاه الحل ،فإن األجيال المقبلة سوف تدين فشلنا في اغتنام هذه الفرصة
األخيرة إلنجاز السالم.
السالم بحد ذاته نعمٌة ال تقَّدر ،لكّن الفوائد التي أراها ناتجًة من تحقيقه تتجاوز بقيمتها حتى هذه
النعمة الثمينة .فال شك في أن المنظمات اإلرهابية تستغل المظالم التي يتسّبب بها استمرار االحتالل،
ومن هنا فإن حّل الصراع سيحرم تلك المنظمات من قدرتها على استقطاب الدعم والمؤيدين.
كثيرون أولئك الذين يّدعون أن الكراهية والحقد اللذين تبثهما الفئات المتطرفة على ضفتي الصراع
في األراضي المقدسة ال يمكن التغلب عليهما ،لكّن التاريخ قد أظهر أن السالم يمكن أن ينتصر حتى
بين ألّد األعداء .في األمس القريب ربما كان المراقبون يظنون أن التوتر القائم عبر جدار برلين أو
بين الفئات المتنازعة في أيرلندا الشمالية لن يهدأ ولن يزول ،وها نحن اآلن ال نرى في تلك
الصراعات سوى ذكرياٍت عبرت .فِلَم ،والحاُل هذه ،ال نطّبق ذلك في الشرق األوسط؟
ليس اإلتيان بالسالم القضية الوحيدة التي نكافح من أجلها ،فمن بين التحديات الكبرى التي نواجهها
اإلصالحات السياسية وتحسين اقتصاداتنا .علينا أن نتعّلم صنع السلع التي يمكن تسويقها في العالم،
وكيف نرفع من مستويات العيش لدى شعوبنا عبر توفير التعليم الجيد وُفَر ص العمل المنتج لشبابنا
وشاباتنا ومن خالل هذا النوع من اإلنجازات نقيُم خَّط الدفاع األصلب في وجه ُص راخ المتطرفين.
ليس بمقدورنا أن نتحمل وجود هذا العدد من الشباب العاطل من العمل ،وعلينا أن نتيح للنساء أن
يضطلعن بدور أكبر في دورتنا االقتصادية .إن ما يدفعنا إلى الحؤول دون قيام النساء بدورهّن كامًال
وإبقائهن خارج القوة العاملة ،بذرائَع دينيٍة وثقافية ،إنما ينبع من الشعور العميق بعدم األمان
واالطمئنان ،ولكن ليس مقبوًال أن ننكر على نصف المجتمع حقوَقه وأن يبقى نصف القوى العاملة
في المنزل مكتوَف اليدين دون عمل منتج.
فلنفّكر في عالٍم تضافرْت فيه بفاعليٍة الخبرة اإلدارية لدى اإلسرائيليين ،مع الكفاءة المْه نية لدى
األردنيين ،وريادة اللبنانيين ،والمستويات العلمية لدى الفلسطينيين .إنني أرى في تضافر القوى بين
هؤالء الشركاء المحتملين نواَة تجّم ٍع اقتصادّي أشبه ما يكون بتجُّم ع دول «بينيلوكس» بين بلجيكا
وهولندا ولوكسمبورغ في الشرق األوسط .كل هذا يمكن تحقيقه .لكن األوضاع على األرض تنزلق
سريعًا من بين أيدينا وتجعل الوصول إلى هذه الغاية احتماًال ضئيًال .وإذا لم تتوقف الممارسات
الحالية ،فلن تبقى هناك أرض لمقايضتها بالسالم ،ولن يبقى هناك ما يدعو الفلسطينيين إلى المراهنة
على القادة المعتدلين دون المتطرفين منهم .مستقبُلنا ،في هذه الحالة ،سوف يصبح لقمًة سائغة في
أشداق الحروب والنزاعات.
هناك ميل في الحياة وفي السياسة إلى الخضوع للواقع الراهن .لكن ال يمكن فعل ذلك في ما يتعلق
بالصراع الفلسطيني اإلسرائيلي؛ ألن االستقرار الظاهر ليس حقيقّيًا .فأنا أسمع وأشعر باإلحباط
والغضب يتزايدان .وما أخشاه هو أن يحجبا في وقت قريب كل أحالم السالم والمصالحة .ال أحسُب
أكثرية األميركيين واألوروبيين يدركون مدى خطورة الوضع .وهذه الخطورة هي ما دعاني إلى
وضع هذا الكتاب .فلقد شهدُت وتعّلمت الكثير منذ َخ َلفُت والدي إلحدى عشرة سنًة خلت .وأنا مصِّم م
على مشاركة قرائي قصتي بكامل االنفتاح والصدق على أمل أن ُيحدث ذلك الفرَق الذي أتوّخ اه.
في المنطقة التي أنتمي إليها نعيش التاريخ بحْلِو ه ومّر ه ،وما قد يبدو عن ُبعد أمرًا مجردًا وغير
ملموس إنما هو جزء من نسيج حياتنا اليومية .لقد باَت يقينًا عندي أّن أفضَل السبل لرواية هذه
القصة وأكثرها إقناعًا هو أن أرويها من خالل قصة حياتي الشخصية -أي بإشراك قارئي في ما
رأيت وما فعلت -إثباتًا لكون الشخصِّي والسياسّي غالبًا ما يتحابكان وينتجان مزيجًا جديدًا.
لم َيُدْر في ذهني يومًا أنني سأشَغل الموقَع الذي ُعِه د به إلّي والذي أشغُله اليوم ،وكنت أتوقع أن
أمضي حياتي في الجيش .جزء من قصتي هو عن تلك الخبرة العسكرية وما عّلمتني إياه عن األردن
وعن شؤون القيادة بصورة عامة .لقد حاولت أن أروي قصتي ببساطة ،مستخدمًا لغة الرجل
العسكرّي المباِش رة والتي تسّم ي األمور بأسمائها ،بدَل تلك المطّو الت من الجمل والتعابير المحّببة
إلى قلوب السياسيين.
آمل في هذا الكتاب أن أبّدد األفكار الزائفة حول المنطقة التي أعيش فيها .ففي غالب األحيان
عندما يسمع الناس في الغرب كلماٍت مثل «عربي» أو «مسلم» أو «الشرق األوسط» يتبادر إلى
أذهانهم اإلرهاب واالنتحاريون والمتطِّر فون من ذوي العيون الجاحظة المختبئون في ظلمات
الكهوف .أما أنا فأريدهم ،متى ورد ذكُر منطقتنا أمامهم ،أن يتبادر إلى ذهنهم ما يشهده األردن اليوم
من مشاريع بماليين الدوالرات في مجال تكنولوجيا المعلومات ،وأن يفكروا بحائزي جوائز نوبل
األدبية في مصر ،وأن ال تغيب عن ذهنهم روائع فنوِن العمارة في ربوع دمشق.
لعّل من أخطر األفكار التي برزت في السنوات األخيرة الطرَح القائَل بأّن الغرب والعالم
اإلسالمّي هما كتلتان منفصلتان تتجهان بصورة حتمية إلى التصادم .هذا مفهوم ال يستند إلى معرفة
صحيحة ،وهو خاطئ ومثير للهواجس والغضبَ .طوال ما يزيد على ألف سنة عاش المسلمون
واليهود والمسيحيون بسالم جنبًا إلى جنب ُيْغني أحُدهم ثقافَة اآلخر وتراثه .ما من شك في أن
نزاعاٍت قد نشبت بين حين وآخر مثل الحمالت الصليبية أو االستعمار األوروبي للعديد من بلدان
الشرق األوسط بعد الحرب العالمية األولى .لكن هذه كلها كانت نزاعاٍت سياسيًة استمدت جذورها
من فتراٍت وأُطٍر زمنية معينة ولم تكن مظهرًا من مظاهر العداء الثقافي األبدي.
بعد دراستي العسكرية في ساندهرست ،خدمُت على مدى سنة في الكتيبة 13/18في قوات
الهوسار (الخيالة) البريطانية وهي كتيبة ذات تاريخ عسكرّي حافل يعود إلى ما يقارب ستة عقود
قبل معركة واترلو .كذلك شارَكْت هذه الكتيبة في حرِب القرم في أواسط القرن التاسع عشر ،وهي
الحرب التي َشَه رْتها قصيدُة ألفرد تنيسون بعنوان «هجوم كتيبة البرق» ،والتي خاضتها بريطانيا
وفرنسا إلى جانب اإلمبراطورية العثمانية لحمايتها من الغزو الروسي .في تلك الحقبة كان أكثر من
نصف مواطني اإلمبراطورية ،البالغ عددهم آنذاك ثالثين مليون نسمة ،من المسيحيين ،وكان عدد
كبير منهم يخدم في الجيش العثماني ،وقد حارب الجنود المسلمون بشجاعة على طرفي النزاع
فكانوا في صفوف الجيش الفرنسي كما في صفوف الجيش الروسي .إن هذا الطرح الخبيث والمؤذي
القائل بصدام الثقافات ينساب إلى الساحة السياسية الحديثة فيضّخ القوَة في عروق المتطرفين حيثما
وجدوا ويشّد من عزيمة أولئك الذين يودون تحريض الرجال والجيوش بعِض هم على بعض اآلخر.
إذا حدث أن نفذ جزائرّي أو أفغاني أو أردني هجومًا إرهابّيًا فمن المحتم أن يوصف في الغرب بأنه
«إرهابي مسلم» ،ولكن إذا ارتكب رجٌل أيرلندي أو سريالنكي هجومًا مماثًال فهو نادرًا ما يوصف
بـ«اإلرهابّي المسيحّي » أو «اإلرهابّي الهندوسّي » وإنما يصَّنف بحسب دوافعه السياسية باعتباره
«ناشطًا في الجيش الجمهوري األيرلندي» مثًال أو «انفصالّيًا من التاميل».
من الناس َم ن ينظر إلى التاريخ من زاويته الضّيقة فيفترض أن مسار األمور كما نراه اآلن هو
نفسه كما كان في األزمنة الغابرة .لكن علينا أال ننسى أن التقدم االقتصادي والتكنولوجي الذي
أحرزه الغرب هو تطوٌر حديث نسبيًا جاَء نتيجة الحركة التحديثية المدهشة وما تبعها من ازدهار في
أوروبا وأميركا خالل القرنين التاسع عشر والعشرين .أما من يلقي نظرة أبعَد وأكثر عمقًا فإن
األمور تبدو له مختلفة إلى حد كبير .ففي العصور الوسطى ،يوم كانت واشنطن مجرد مستنقع ال
أكثر ،كانت مدن القدس وبغداد ودمشق العظيمة المراكَز الرياديَة العالمية في مجاالت التعُّلم
والمعرفة .لكن مع مرور الزمن اتخذ التاريخ وجهًة أخرى ومال نحو الغرب .وبحلول القرن
العشرين كان العالم العربي قد تراجع إلى الصفوف الخلفية.
تنحدر عائلتي ،األسرة الهاشمية ،من الرسول محمد صّلى هللا عليه وسّلم .وقد توّلى أفراٌد منها
مواقَع القيادة والحكم في هذه المنطقة من العالم طواَل أجياٍل وأجيال .في حوالى القرن الخامس كان
أحُد أسالفي ويدعى ُقَص ّي بن كالب أوَل من تولى حكَم مكة .وإرثي قائم على التسامح وقبول
الثقافات والديانات المختلفة .يقول هللا عز وجل في محكم تنزيله:
﴿َيا َأُّيَه ا الَّناُس ِإَّنا َخ َلْقَناُكْم ِم ْن َذَكٍر َو ُأْنَثى َو َج َعْلَناُكْم ُشُعوًبا َو َقَباِئَل ِلَتَعاَر ُفوا ِإَّن َأْك َر َم ُكْم ِع ْنَد ِهَّللا َأْتَقاُكْم
ِإَّن َهَّللا َعِليٌم َخ ِبيٌر ﴾ (الحجرات.)13 :
لم أشعر يومًا بأن التفاعل مع الثقافة الغربية يتّم على حساب ُهويتي بوصفى عربّيًا أو مسلمًا ،فأنا
شخص ولد في الشرق وتلقى تعليمه في الغرب أشعر بألفٍة عميقة حيال الثقافتين كلتيهما ،ومن هنا
أملي في أن يشّكَل هذا الكتاب ،ولو بطريقة متواضعة ،جسَر تواصٍل بين هاتين الثقافتين .في معظم
األحيان يتولى المتطرفون وضع إطار البحث ويهيمنون على النقاش ،وفي أغلب األحيان تنحسر
أصوات العرب المعتدلين وتغرق وسَط صراخ الذين يرفعون الصوت أكثر .أما أنا فلن أْلجَأ إلى
الصراخ ،لكنني مصٌّر على إسماع رسالتي أّنى تيّسر لي ذلك .أريد أن أخبر العالم بأن منطقتنا تعاني
مشكالٍت كبرى ،هذا صحيح ،لكَّن الصحيَح أيضًا هو أّن أمامنا ما يدعو إلى األمل.
أل
ا ول
م
س
ق
ل
ا
الفصل األول :بـدايـة الصراع
ثابٌت واحد لم يغادر حياتي منذ طفولتي وهو الصراع بين اإلسرائيليين والفلسطينيين .يميل البعض
في الغرب وفي إسرائيل إلى تصوير هذا الصراع على أنه استمرار لصراٍع قديم .لكن هذا البعض
مخطئ .فهو صراع حديث نسبّيًا ،تعود جذوره إلى الهجرة اليهودية إلى فلسطين في مطلع القرن
العشرين .للتاريخ في الشرق األوسط أهمية خاصة ،على الرغم من أن كثيرين من الناس يستخدمون
المظالَم التاريخية ذريعًة يتلَّطْو َن وراءها ليتجنبوا التعامل مع المشكالت الراهنة .إذا شئت أن تعرف
إلى أين أنت ذاهب ،فمن المفيد لك أن تعلم من أين أتيت .إذًا قبل أن أحاول تبيان الوضع الذي نجد
أنفسنا فيه اليوم ومن َثَّم أن أقدَم بعض المقترحات حول كيفية الخروج من المأزق الراهن ،أوّد أن
ألفَت االنتباه ببضع كلماٍت موجزة إلى المسافة التي قطعناها على هذا الصعيد.
فيما كانت اإلمبراطورية العثمانية ،التي امتد سلطاُنها إلى معظم أرجاء الشرق األوسط ،تلفظ
أنفاسها األخيرة مع نهاية الحرب العالمية األولى ،بدأ العرب يتبعون قادًة جددًا من ذوي النهج
القومّي .وكان أحُد هؤالء القادة َج ّدَي األكبر الشريف حسين بن علي ،شريف مكة المكرمة .كان
الشريف حسين ،ابُن الدوحة الهاشمية التي حكمت مكَة منذ القرن العاشر ،مدافعًا صريحًا ومفَّو هًا
عن القومية العربية .وكان سائُر القادة من القوميين العرب يرون أن لديه موقعًا دينّيًا وخبرًة سياسية
يؤّهالنه لقيادة حركة القومية العربية والثورة المرسومة ضد الحكم العثماني ،باإلضافة إلى تمثيل
شعبه في المفاوضات مع البريطانيين إلقامة الدولة العربية المستقلة .وقد اكتسب دوُر ه القيادُّي صفَته
الرسمية عندما صدر «ميثاق دمشق» في العام .1915انتهت مفاوضات الشريف حسين مع
المفَّو ض السامي البريطاني في مصر هنري مكماهون بالمراسالت السرية التي جرت بين الرجلين
بين العامين 1916-1915والتي ُو ِعَد فيها الشريف حسين بأن ينال دعمًا لجهوده الساعية إلنشاء
المملكة العربية المتحدة والمستقلة التي كان سيتوّلى حكمها .هذا االتفاق مع مكماهون كان في ما بعد
ُعرضًة لتفسيرات متباينة بين البريطانيين والعرب.
في شهر حزيران/يونيو من العام 1916أطلق الشريف حسين الثورة العربية الكبرى حامًال بذلك
راية المبادرة الثورية واالنطالق نحو تأسيس الدولة العربية الموحدة والمستقلة ،وقد ُأعِلَن الشريف
حسين آنذاك ملكًا للعرب .تمثلت رؤيته يومئذ في إنشاء دولة عربية تمتد من فلسطين إلى اليمن.
وكان مؤمنًا بأن الشعوب العربية يمكن أن تبني اتحاَدها على أساس الثقافة والتراث المشتركين
والُم ُثل والقيم اإلسالمية ومتمسكًا بثقافة التسامح واحترام األقليات .كان مرتجاه أن يبعث النهضة
العربية من ُسباتها.
توّلى أبناؤه األربعة األمراء علّي وفيصل وعبد هللا وزيد ،قيادة الجيوش العربية ضد قوات
العثمانيين ،وقد انتصروا على تلك القوات وما لبثوا أن أخرجوا األتراك من شبه الجزيرة العربية في
العام .1918أصبح فيصل ملكًا على سوريا ومن َثَّم على العراق وتوّلى عبد هللا حكَم إمارة شرق
األردن .بعد تنازل الشريف حسين في العام 1924أصبح علّي ملكًا على الحجاز (الذي بات في ما
بعد جزءًا من المملكة العربية السعودية) .أما زيد فعمل إلى جانب فيصل في العراق ثم خدَم سفيرًا
للعراق إلى تركيا وألمانيا والمملكة المتحدة.
رفَعت الثورُة العربية إلى مرتبة الشهرة ضابطًا بريطانّيًا شاّبًا ُعرف باسم «تي إي لورنس» إلى
أن خَّلده إنتاٌج سينمائي بعنوان «لورنس العرب» مَّثله على الشاشة بيتر أوتول في الفيلم الذي أنتج
في العام ،1962وقد ُصّو رت بعض مشاهده في األردن .أما عّم َي األكبر األمير فيصل فقد جّسد
دوره على الشاشة الممثل البريطاني َأِلك غينيس.
لقد كانت لوالدتي مشاركٌة صغيرة في عملية إنتاج هذا الفيلم لكنها ما لبثت أن غادرت العمل فيه
لتتزّو ج والدي في صيف العام .1961بعد مرور بضعة أشهر اصطحبْته في زيارة إلى موقع العمل.
وكان المخرج يومها يصّو ر المشهد الذي تقصف فيه الطائرات التركية معسكر األمير فيصل في
الوقت الذي كانت فيه قواُته متجهًة إلى دمشق .كان والداي يشاهدان المنظر من تّلٍة مشرفة على
الموقع ،وعندما انتشر خبر وجود والدي في المكان غادر رجال البدو الذين كانوا يمثلون مشهدًا
جماعيًا ،مكاَن التصوير واندفعوا نحو والدي مطلقين صيحات الوالء والتقدير .عندما عاد الوضع
إلى الهدوء عاد فريق العمل إلى اإلعداد لتصوير المشهد مجددًا ،وما إن أخذت الطائرات تحّلق فوق
المكان حتى استدار نحو والدي أحُد المستخدمين ،وهو رجل نيجيرٌّي مديُد القامة ومتقدم في السن،
وقال له« :سيدي ،ليس هكذا قد وقَع الحدث».
سأله والدي كيف له أن يعرف ذلك فأجاب« :كنت طفًال في ذلك المعسكر آنذاك وأذكر أن
الطائرات جاءت من الجهة األخرى» .بعد الزيارة طلب فريق العمل إلى والدي بمنتهى التهذيب
واالحترام أال يزوَر الموقع ثانية.
نال الفيلم شهرًة وانتشارًا واسعين في الغرب لم ينل مثلهما في األردن حيث يرى فيه العديد من
األردنيين روايًة تاريخية منحازة وتفتقر إلى الدقة .ومع أن الغرب يرى في لورنس اليوم بطًال
رومنطيقيًا أّدى دورًا مفصلّيًا في قيادة الشعب العربي إلى الحرية ،فإن الرأي الغالب لدى عائلتي
حول السجل التاريخي ينطوي على تحفٍظ كبير حيال مضمونه .كان َج ّدَي األكبر الملك عبد هللا
األول يرى لورنس «شخصية غريبة» دأبها قولبُة الناس بحيث تناسب غاياِته ومصالَح ه ،وقد جاء
في مذِّك راته:
«والحقيقة أنه كان مزهوًا بنفسه غريب الطباع ...ولقد دّس إلَّي ما يغريني بالملك على الحجاز؛
بحجة أن أبي عنيد في فكره ،متمسك برأيه .فقلت لرسوله -وهو اآلن حي يرزق( :قل لصاحبك هذا
إن أبي سيدي وملكي وبعده األخ األكبر وبعده نجله ،وسأكتفي أنا بلقبي إلى آخر أيامي .أما هو فقد
خدمني وخدم العرب بقوله إن والدي عنيد متمسك برأيه ،فقد دل على أنهم يطلبون من ال رأي له من
الناس كي يعمل لورنس وأمثاله ما يشاؤون)».
مع نهاية الحرب العالمية األولى لعَب تنافُس القوى العظمى بمصير العرب فزاده تعقيدًا؛ ذلك أن
بريطانيا لم ُتغِد ْق وعوَدها السرية على شريف مكة المكرمة وحسب بل على فرنسا أيضًا .بموجب
اتفاق «سايكس -بيكو» في العام َ 1916تقرر أن تكون سوريا ولبنان -كما ُيعرفان اليوم -تحت
قوس النفوذ الفرنسي ،فيما ُج عل األردن والعراق وفلسطين وما يشكل اليوم غرَب المملكة العربية
السعودية ضمن قوس النفوذ البريطاني .أما مؤتمر «سان ريمو» في العام 1920فقد أعاد تشكيل
الخريطة اإلقليمية حين تبّنى الفرنسيون والبريطانيون مسؤولية انتداب عصبة األمم على هذه
البلدان .في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر من العام ،1917وفي الوعد البريطاني الذي نكث للمرة
الثانية ما كانت بريطانيا قد تعهدت به للعرب أعلَن آرثر َبلفور دعَم حكومِته «إقامَة وطٍن قومّي
للشعب اليهودي في فلسطين».
شعر الشريف حسين بأن ضميره ال يسمح له بقبول االنتداب البريطاني على فلسطين وال بالموافقة
على وعد «بلفور»؛ ذلك أن المسألتين كلتيهما هما خيانة للثورة العربية .أما مآُل هذه الوعود
والترتيبات فكان تأجيج فورة القومية العربية على مدى عقوٍد عدة.
كان لوزير شؤون المستعمرات البريطاني آنذاك ،ونستون تشرشل ،دور ولو جزئّيًا في نسج
النظام اإلقليمي في المنطقة .وكان جدي األكبر عبد هللا يكُّن لتشرشل َقْدرًا من االحترام أكبر بكثير
مما كان يكّنه للورنس؛ إذ كان يصفه بالرجل «الفريد من بين الرجال الذين أطَلَعْتهم بريطانيا
العظمى في العصر الحديث» .في العام 1921أصبح عبد هللا أميرًا على شرق األردن الذي كان
يضم األراضي الواقعة شرقَّي نهر األردن .أما كل األراضي الواقعة غربَّي النهر والتي تشكل أرَض
إسرائيل كما نعرفها اليوم والضفة الغربية والقدس وقطاع غزة ،فبقيت جميعًا تحت السيطرة
البريطانية باعتبارها انتدابًا بريطانيًا على فلسطين.
بدأ آالف المهاجرين اليهود يتدفقون على فلسطين ،وكان وعد بلفور مصدَر تشجيع لحركتهم
وتسهيٍل لها .في تلك الفترة كان العرب َيعّدون حوالى تسعين في المئة من سكان فلسطين .في العام
1897حددت الحركة الصهيونية خالل مؤتمرها األول الذي ُعقد في بال (سويسرا) هدفها بأنه
تأسيس «وطن للشعب اليهودي في فلسطين» ،وبحلول العام 1947كان عدد اليهود في فلسطين قد
ارتفع إلى حوالى ستمئة ألف .وكان وراء هذا االرتفاع تشجيع الحركة الصهيونية من جهة،
واالضطهاد الذي أصاب اليهود في أوروبا من جهٍة ثانية .هذا الدفق الكبير خلق توترًا بين مليون
ومئتي ألف فلسطيني من المسلمين والمسيحيين وبين الوافدين الجدد .وللمرة األولى تقفز أميركا إلى
الحلبة مصّر ًة على أن تفتح فلسطين أبوابها أمام مئة ألف من المهاجرين اليهود.
في مقاٍل صدر في العام ،1947قبل الحرب العربية -اإلسرائيلية األولى بستة أشهر ،في المجلة
األميركية American Magazineالمتوقفة عن الصدور ،حَّذر جّدي األكبر من مخاطر الهجرة
الخارجة عن السيطرة:
ما من شعٍب من شعوب العالم كان أبعد عن الالسامية من العرب ،أما اضطهاد
اليهود فقد انحصَر كلّيًا -أو كاد -بأمم الغرب المسيحية .إن اليهود أنفَسهم يعترفون بأنهم ،منذ
التشّتت الكبير ،لم يعرفوا حاًال من التطور والنمو الحّر وصوًال إلى مواقَع مهمٍة كالتي عرفوها في
إسبانيا عندما كانت تحت الحكم العربي .وإذا أخذنا في االعتبار بعض االستثناءات ،فقد عاش اليهود
في الشرق األوسط على مدى قرون طويلة بسالم تام حيث جمعت المودة والصداقة بينهم وبين
جيرانهم العرب.
يساورني الشعور بأن كثرًة من األميركيين تعتبر أن المشكلة في فلسطين بعيدة
جّدًا عن أبوابهم ،وبأن أميركا تكاد ال تكون معنيًة بهذه المشكلة ،وبأن همكم الوحيد اآلن هو هّم
المتفرج عن ُبعد ولكنه معنٌّي إنسانّيًا فقط.
في اعتقادي أنكم ال تدركون مدى مسؤوليتكم المباِش رة ،بوصفكم أمة ودولة
عمومًا ،عن الحركة الصهيونية برّم تها وبصورة خاصة عن األعمال اإلرهابية الراهنة .إنني أْلفت
انتباهكم إلى ذلك يقينًا مني بأنكم إذا أدركتم مسؤوليتكم فستعترفون بها وتتحملونها إنصافًا وعدًال.
إن الكارثة التي أمام أعيننا يمكن إلقاؤها بكّليتها على باب داركم ،ذلك أن
حكومتكم ،وحَدها تقريبًا من بين حكومات العالم ،تصُّر على إدخال مئة ألف يهودي فورًا إلى
فلسطين لتعوَد وتتبَعهم أعداٌد إضافية ال تحصى .إن هذا الدفق من الهجرة ستكون له عواقُب مرعبة
ويتسبب بفوضى دموية تتجاوز كل ما ُلِّم ح إليه في فلسطين من قبل.
إنني أثق ثقة كاملة ال تتزعزع بحّس العدالة والكرم لدى الشعب األميركي،
ونحن العرب ال نطلُب مَّنًة وال معروفًا وال نريد سوى أن تعرفوا الحقيقة كاملًة ال نصَف الحقيقة .إننا
ال نطلب سوى أن تضعوا أنفسكم في مكاننا عندما تحكمون على القضية الفلسطينية .ماذا يكون
جوابكم إذا طلبت منكم وكالة خارجية أن تقبلوا في أميركا بضعة ماليين من الغرباء يأتون فجأة
لإلقامة بينكم ،وبأعداٍد ُتمِّك ُنهم من الهيمنة على بالدكم ،ال لسبب إال ألن هؤالء أصّر وا على الذهاب
إلى أميركا وألن أجدادهم القدماء عاشوا هناك منذ ألفي سنة؟
أما نحن فجواُبنا على ذلك هو جوابكم نفسه.
وماذا يكون رُّد فعلكم إذا أخذْت تلك الوكالة األجنبية ،على الرغم من رفضكم،
تحشر أولئك الغرباء بين ظهرانيكم رغمًا عن أنوفكم؟
أما نحن فرُّد فعلنا سيكون كرّد فعلكم تمامًا.
منذ البداية كان الصراع في فلسطين صراعًا بين المهاجرين اليهود إليها وبين شعبها العربي
الفلسطيني ،وليس ،كما يصَّو ر غالبًا ،استمرارًا لألحقاد والكراهية القديمة بين اليهود والعرب.
على مدى عقد الثالثينيات ومطلع األربعينيات من القرن الماضي كان البريطانيون يحاولون الحد
من عدد المهاجرين اليهود الذين يتدفقون إلى فلسطين .كانت المنظمات الصهيونية مثل «الهاغانا»
و«إرغون» و«لوحامي حيروت إسرائيل» (وهذه األخيرة ُعرفت أيضًا بعصابة شتيرن) تقوم
بعمليات االغتيال وتزرع القنابل وتمارس عمليات اإلرهاب والتخريب تخويفًا للفلسطينيين كي
يهجروا أرضهم ،وإلجبار البريطانيين على مغادرة فلسطين بغية فرض إقامة الدولة اليهودية.
في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1944اغتالت عصابة شتيرن في القاهرة وزير الدولة
البريطاني لشؤون الشرق األوسط ،اللورد موين .وبعد سنتين زرع أعضاء في منظمة إرغون قنبلة
في فندق الملك داوود الذي كان مقّر ًا لسكرتاريا االنتداب البريطاني والمركز الرئيس لالستخبارات
العسكرية البريطانية ،وقد ُقتل في ذلك االنفجار واحد وتسعون شخصًا .وفي شهر آب/أغسطس من
العام ،1947وانتقامًا إلعدام ثالثة إرهابيين يهود ،خطفت إرغون رقيبين من جنود الجيش
البريطاني وشنقتهما على شجرتي كافور في غابٍة إلى الجنوب من مدينة نتانيا الساحلية ،ثم فخخ
الخاطفون جثتي الرقيبين حتى إذا حاول رفاُقهم من الجنود البريطانيين إنزال الجثتين عن الشجرة
انفجرت القنبلة وأصابت جنديًا أو ضابطًا بريطانّيًا آخر .هذه العملية الوحشية القت أكبر َقْدٍر من
االستنكار والشجب .في ما بعد أسس زعيم إرغون ،مناحيم بيغن ،المنظمة اليمينية -حركة حيروت.
وتولى بيغن بعد ذلك بعقود منصب رئيس وزراء إسرائيل.
أعلن البريطانيون في 23أيلول/سبتمبر من العام 1947أنهم سُينهون فترَة انتدابهم على فلسطين
في الخامس عشر من أيار/مايو من العام ،1948وكانوا قد اتخذوا قرارًا بنقل مسؤولية حل مشكلة
َم ن يحكم فلسطين إلى منظمة األمم المتحدة التي كانت حديثة العهد حيث أنشئت في العام .1945
الالفت أن األمم المتحدة طرحت حًال قائمًا على إنشاء دولتين .في 29تشرين الثاني/نوفمبر من العام
1947صَّو تت الجمعية العمومية لألمم المتحدة على تقسيم فلسطين إلى دولتين ،عربية ويهودية ،مع
ُأ
تصنيف القدس مدينًة ذات طاَبع دولّي تحت إدارة األمم المتحدة .بموجب القرار الرقم 181عِط َي
اليهود نصَف أراضي فلسطين بما في ذلك الخُّط الساحلُّي ذو القيمة الكبيرة جّدًا .وبسبب ذلك بات
وقوع النزاع أمرًا محتومًا.
حتى قبل انطالق المواجهات العسكرية فعليًا في أيار/مايو من العام ،1948كانت تقع صدامات
دموية بين اليهود والعرب .في التاسع من نيسان/إبريل من العام 1948هاجم اإلرهابيون اليهود من
منظمتي شتيرن وإرغون قرية دير ياسين الواقعة على بعد بضعة أميال إلى الغرب من مدينة القدس
وارتكبوا فيها مجزرًة أودْت بحياة مئتين وخمسين شخصًا كان معظمهم من النساء واألطفال .لحماية
الفلسطينيين من مثل هذه األعمال الوحشية بدأ جّدَي األكبر الملك عبد هللا األول تحريك قوات الجيش
العربي عبر نهر األردن ،وفي الوقت نفسه بدأ القادة اليهود تنظيم قواتهم بما في ذلك جيُشهم الحديث
النشأة ونواُته من الهاغانا وإرغون وعصابة شتيرن.
في الرابع عشر من أيار/مايو من العام ،1948التاريخ الذي أنهى فيه البريطانيون انتداَبهم ،أعلن
مجلس الشعب اليهودي تأسيس دولة إسرائيل .ولم يمِض أكثر من إحدى عشرة دقيقة حتى اعترف
رئيس الواليات المتحدة هاري ترومن بالكيان الجديد ،وما لبث أن تبعه االتحاد السوفياتي .بعد هذه
التطورات لم يطل الوقت حتى أخذ التوتر يتزايد بين اليهود والعرب وصوًال إلى اندالع النزاع
المسّلح .في الليلة التي أعلنت فيها إسرائيل استقاللها دفعت مصر واألردن وسوريا والعراق بقواتها
إلى فلسطين لحماية حقوق الفلسطينيين العرب .لكّن عديد الجيش اإلسرائيلي الحديث النشأة فاق عديد
القوات العربية مجتمعًة وسرعان ما باتت القوات اإلسرائيلية صاحبة اليد العليا في الميدان ،مستفيدًة
من ضعف التنسيق بين القوات العربية.
مدينة القدس ،بما لها من موقع دينٍّي مهّم لدى المسلمين واليهود والمسيحيين ،ونظرًا إلى أهميتها
االستراتيجية في وسط فلسطين ،كانت محور العمليات القتالية .ومن أشرس المعارك التي شهدتها
الحرب كانت تلك التي وقعت حول قرية اللطرون التي جعلتها خطة التقسيم من نصيب العرب.
فهناك اشتبك األردنيون واإلسرائيليون وتواجهت قوات الطرفين في محاولة من كل طرف للسيطرة
على طريٍق رئيس يؤدي إلى القدس .صَّدت القوات األردنية ،بقيادة حابس المجالي ،عدة هجمات
شنتها القوات اإلسرائيلية .وفي أحد االشتباكات أصيب قائد فصيل إسرائيلي شاب إصابًة خطرة على
أيدي القوات األردنية ،كان اسمه آرييل شارون الذي أصبح في ما بعد قائدًا عسكرّيًا وسياسيا كبيرًا؛
وزيرًا للدفاع ثم رئيسًا للحكومة.
كان الجيش العربّي ،بقيادة جّدَي األكبر ،من بين القوات األفضل تجهيزًا وتدريبًا ،لكنه في الوقت
نفسه كان من أصغر الجيوش العربية .ومع ذلك تمكن من الحفاظ على الضفة الغربية ،بما فيها
القدس الشرقية ،كما استطاع أن يحرز تقدمًا .في ربيع العام ،1949وبعد ثمانية أشهر من القتال
الشرس والمرير الذي َقطعْته فتراٌت عدة من الهدوء ،التقى في جزيرة رودس اليونانية ممثلون عن
إسرائيل والدول العربية .ووقعت المملكة األردنية الهاشمية وإسرائيل في الثالث من نيسان/إبريل
اتفاق هدنة عامة .كانت الضفة الغربية من نصيب العرب بموجب قرار األمم المتحدة ،وتقديرًا للدور
الذي قام به َج ّدَي األكبر في حماية الفلسطينيين والحفاظ على الضفة الغربية ،تجّم ع عدد من القادة
الفلسطينيين وطالبوا بالوحدة مع الضفة الشرقية تحت قيادة جدي األكبر ،الذي كان قد أصبح ملكًا
للمملكة األردنية الهاشمية منذ الخامس والعشرين من أيار/مايو من العام ،1946حين نادى به
مجلس النواب ملكًا وغّير اسم البلد من إمارة شرق األردن إلى المملكة األردنية الهاشمية .وهكذا ففي
شهر نيسان/إبريل من العام 1950أصبحت الضفة الغربية ،بموجب قانون صدر عن مجلس
النواب ،جزءًا من المملكة األردنية الهاشمية ،وبات لها تمثيل في البرلمان والحكومة األردنيين.
منذ ما قبل حرب العام ،1948وخاللها وبعدها ،غادر ما ال يقل عن سبعمئة وخمسين ألف
فلسطيني منازلهم وقراهم؛ بعضهم هربًا من ويالت الحرب والبعض اآلخر ُطرَد بالقوة .وقد توَّز ع
هؤالء المهجرون الجئين إلى الضفة الغربية واألردن وسوريا ولبنان ودول الخليج وبلداٍن أخرى في
المنطقة وفي أرجاء العالم .في العديد من البلدان التي لجأوا إليها بقي وضُعهم على ما كان عليه،
الجئين ال بلَد وال دولَة لهم ،غير قادرين على العمل ،ويعيشون في مخّيمات الالجئين التابعة لألمم
المتحدة .لكن جدَي األكبر رّح ب بالالجئين الفلسطينيين في األردن ومنحهم الجنسية األردنية .بعد
مرور أكثر من ستين عامًا على تهجيرهم من أرضهم ال يزال حق العودة لهؤالء الالجئين -
والمنحدرين منهم -إلى ديارهم في ما يسّم ى اليوم إسرائيل ،من أكثر المسائل الشائكة واألشد مثارًا
للخالف بين إسرائيل والفلسطينيين.
كان معروفًا عن جدي األكبر ،الملك عبد هللا األول ،ما يمتاز به من العاطفة والحنّو األبوّي .
واعتنى جدي األكبر عناية خاصة بوالدي .كان جدي األكبر يفهم اإلنكليزية ولكنه لم يكن يتكلمها،
وهكذا كان أحيانًا يستدعي والدي إلى مكتبه في القصر للعمل مترجمًا له .وفي المساء كان يبحث
مجريات ذلك النهار على العشاء مع والدي ويشرح له ما انطوت عليه جولة المفاوضات الدبلوماسية
التي توّلى ترجمَتها خالل النهار من تفاصيل ودالالت.
ُأرِسَل والدي إلى المدرسة الداخلية في مصر ،حيث التحق بـ«فكتوريا كولدج» في اإلسكندرية
التي كانت على األرجح أفضل المدارس في المنطقة .في صيف العام 1951كان والدي قد عاد إلى
األردن حين شهد البلد مأساة كبيرة.
ففي العشرين من تموز ،وخالل زيارة إلى القدس ألداء صالة الجمعة ،اغتيل جّدي األكبر على يد
مسّلح فلسطيني عند مدخل المسجد األقصى .أطلق القاتل ،الذي كان عضوًا في منظمة الجهاد
المقدس المتطرفة ،النار فأصاب جدَي األكبر إصابًة قاتلة في رأسه .كان والدي إلى جانبه ،وكان
آنذاك في الخامسة عشرة من عمره .طارد والدي القاتل الذي بدأ بفتح النار عليه ،لترتد الرصاصة
الثانية التي أطلقها ،بأعجوبة ،عن وسام كان معلقًا على صدره ولينجو والدي من موٍت محتم ،بينما
َم َسحْت الرصاصة الثالثة إحدى أذنيهُ .قتل القاتل على أيدي رجال الحرس المرافقين لجدي األكبر،
وفي ما بعد أوقف ستة أشخاص حوكموا وصدرت بحقهم أحكام باإلعدام على دورهم في المؤامرة.
ُنّفذ الحكم بأربعة منهم ،فيما استطاع اثنان اللجوء إلى مصر التي رفضت تسليمهما إلى األردن.
نعى عديد من دول المنطقة والعالم جدي األكبر ،مستنكرًا اغتياله .ووفقًا للدستور الذي ينص على
أن يخلف الملَك ابُنه األكبر ،اعتلى العرش من بعده جدي طالل بن عبد هللا ،الذي كان قد تخّر ج في
األكاديمية الملكية العسكرية في ساندهرست في المملكة المتحدة وخدم في الجيش العربي ضابطًا في
سالح الفرسان .وتبعًا لذلك ،أصبح والدي وليًا للعهد.
في تلك الحقبة كانت مصر على خصومٍة ُم علنة مع الحكومة األردنية .وكان من الخطر جراء ذلك
أن يكمل والدي دراسته في اإلسكندرية .فالتحق بمدرسة «هارو» في إنكلترا .صحيح أن والدي كان
مدركًا في تلك المرحلة أن يومًا سيأتي يتولى فيه مسؤولياٍت رسمية ،لكن مع ذلك كانت أمنيته
الشخصية أن يتمكن من إكمال دراسته وبدء مستقبل مهني وممارسة حياة طبيعية عادية لفترة من
الوقت .لكن جدي ،الذي كان يعاني نوعًا من مرض الفصام ،لم يكن قادرًا على توّلي مسؤوليات
الحكم طويًال نظرًا إلى سوء وضعه الصحي .ولذلك تنازل عن العرش بعد مرور سنة على توّليه
الحكم .وفي الثاني عشر من آب/أغسطس من العام ،1952كان والدي مقيمًا في فندق «بوريفاج»
المطّل على بحيرة جنيف في سويسرا حيث كان يمضي إجازة الصيف بصحبة والدته الملكة زين
الشرف حين وصلته برقية موجهة إلى «حضرة صاحب الجاللة الملك حسين».
عاد والدي إلى عمان حيث بحث مع خاله الشريف ناصر بن جميل أفضَل ما يمكن أن يمأل به
وقته خالل األشهر الستة التي سيبلغ بعدها السن القانونية العتالء العرش .امتد بهما الحديث إلى
ساندهرست ذات الشهرة العالمية على صعيد تثقيف القادة في مختِلف شؤون الحياة ،فقال خاُله« :إن
أباكم قد دخل هذه األكاديمية وإنني أذكر قوله :إن ساندهرست أحسن مدرسة حربية في العالم ،وخير
مكان يختاره الرجل ليتعلم مهنته كملك».
عادت الذكرى بوالدي إلى أيام طفولته يوم كان يلهو بالدمى العسكرية ،وتذّكر وقتذاك كلماٍت قالها
له جدي« :ال يستطيع المرء القيادة وإدارة األمور إال بالنظام .وال مكان في العالم يحسن تعليم ذلك
أفضل من ساندهرست».
وهكذا ،في التاسع من أيلول/سبتمبر من العام 1952وصَل إلى ساندهرست التلميُذ المرشح الملك
حسين وانضَّم إلى «َسِر َّية إنكرمان»ُ .كّثف البرنامج السنوي النظامي الذي يستغرق عادًة سنًة كاملة
وُج عَل ستَة أشهر ،ومع أن برنامجًا مكثفًا كهذا هو منهٌج دراسٌّي متطلب وينطوي على تدريباٍت
وتمارين إضافية ،فقد كانت تلك الفترة التي أمضاها هناك من أسعد فترات حياته وأغناها تكوينًا
لشخصيته .لقد عاش تلميذًا مرشحًا عادّيًا بين رفاقه وزمالئه اآلخرين ،مطيًال بذلك ،ولو قليًال ،فترَة
ما قبل تحّم ل المسؤوليات الكبرى.
في الثاني من أيار/مايو من العام ،1953عند بلوغه الثامنة عشرة ،تسَّلم والدي مسؤولياته ملكًا
على األردن وقد شهد عهُده الذي امتد ستًة وأربعين عامًا أربَع حروٍب كبيرة بين إسرائيل والدول
العربية .وفي نهاية مطاٍف طويل توّصَل إلى معاهدة سالم مع إسرائيل ،وشهد شريَكه اإلسرائيلَّي في
عملية السالم ُيقتَل اغتياًال عقابًا له على سلوك سبيل السالم .لكنه لم يعش ليرى نهاية الصراع الذي
بذل من أجل تسويته جهدًا مضنيًا.
كانت التجربة األولى التي اختبرها والدي ،بعد مرور ثالث سنوات على اعتالئه العرش ،انفجار
أزمة قناة السويس .بعد وقوع الثورة المصرية في العام ،1952التي أنهت حكم الملك فاروق وقادت
إلى بروز زعامة جمال عبد الناصر ،ارتفعت وتيرة المشاعر القومية في مصر .في العام 1956أَّم م
عبد الناصر قناة السويس التي كانت ال تزال حتى ذلك الحين تحت اإلدارة المشتركة لبريطانيا
وفرنسا .كان رد فعل الدولتين أن نسجتا خطًة سرية مع إسرائيل تقضي بأن تهاجم إسرائيل مصر
وبأن ترّد بريطانيا وفرنسا على ذلك بأن ترسال إلى مصر «قواٍت لحفظ السالم» تتولى استعادة
القناة.
نّفذ اإلسرائيليون ما التزموا به من الصفقة ،وتقدموا إلى شبه جزيرة سيناء في تشرين األول/
أكتوبر من العام ،1956وما لبثت أن انتشرت قوٌة مشتركة بريطانية -فرنسية في منطقة القناة
واستولت عليها .وفيما سّج لت العملية نجاحًا على الصعيد العسكري ،تحَّو لت إلى فشل سياسٍّي ُم َدٍّو
بعد أن تسَّر ب خبر الخطة الثالثية.
وسَط ضغٍط ال هوادة فيه من الواليات المتحدةُ ،أجِبرت بريطانيا وفرنسا على سحب قواتهما ،ثم
استقال رئيس وزراء بريطانيا أنطوني إيدن .وبنتيجة أزمة قناة السويس ،ارتفع رصيد عبد الناصر
على الصعيد القومي وارتفع منسوب التوتر بين إسرائيل والعالم العربي .كذلك أظهرت األزمة كيف
يمكن أن تسَتغّل القوى الغربية األزمات ذريعًة للتدخل.
لم ينجّر األردن إلى أزمة السويس .لكّن الحّظ جاَنَبنا في المرة التالية التي تواجهت فيها مصر
وإسرائيل ،وذلك في ربيع العام .1967
الفصل الثاني :حرب العام 1967
من داخل غرفتي تناهى إلّي صوُت انفجاٍر مكتوم ،ثم تبعه عدد من االنفجارات .تناولُت المنظار
من بين أغراضي وأسرعت عبر الرواق نحو النافذة .رأيت عمودًا أسود من الدخان على مسافة
بعيدة ،ثم سمعت انفجارًا آخر ،لكن صوته كان أعلى هذه المرة .كانت الطائرات اإلسرائيلية تقصف
مواقع المقاتلين الفلسطينيين في ضواحي السلط ،وهي بلدة تقع على مسافة خمسة عشر ميًال إلى
الشمال الغربي من عمان .اندفع والدي مسرعًا وأخذ المنظار من يدي .وما إن حَّر كه وأدرك أنه لعبة
من ألعابي حتى رماه إلى األرض ،فاقدًا صبَر ه ،وسارع إلى ارتداء بَّز ته العسكرية.
كنت يوَم ها في الخامسة من عمري وكانت المرة األولى التي أعرف فيها شيئًا عن الحرب .لم
يمِض أكثر من أربعين دقيقة حتى بدأت أسمع طلقات المدافع المضادة للطيران ،وذلك حين بدأ
الجيش األردني يطلق النار على الطائرات اإلسرائيلية.
عندما عاد والدي تلك الليلة كان على درجة كبيرة من االضطراب واتجه مباشرًة إلى غرفة نومه.
مع أنني كنت طفًال شعرت بأن ما يحدث كان أمرًا خطيرًا جّدًا .لحقُت به إلى غرفته فوجدته جالسًا
على حافة السرير ويداه تحضنان وجَه ه .وعند دخولي رفع رأسه ملتفتًا صوبي فرأيت عينيه
مغرورقتين .تلك كانت من المرات النادرة جّدًا التي رأيت فيها والدي دامعًا .سألته عما كان يجري
وما المشكلة ،وماذا كانت تلك األصوات ،ولَم نرى كل تلك الطائرات تحلق فوق رؤوسنا.
شرح لي بصبر أن اإلسرائيليين يحاولون قصف المقاتلين الفلسطينيين الذين يعيشون في األردن.
لم أكن أدرك في تلك السن المبكرة معنى المقاتلين أو لماذا كان اإلسرائيليون يحاولون قتلهم .ولكن
كل ما فهمته هو أن الوضع سيئ .فبدل أن يستهدفوا مواقَع عسكريًة محددة ،كان اإلسرائيليون
يقصفون تجمعاٍت سكنيًة مكتظًة بالعائالت ،ويدّم رون الطرقات والمنازل.
كثيرًا ما كانوا يطلقون ذخائر ال تنفجر في حينها .وقد أخبرني والدي عن فتاة صغيرة كانت قد
حسبت أن الخطر قد زال فاقتربت من إحدى القنابل التي ما لبثت أن انفجرت بها .سارع والدي
لسحبها من بين الركام ،لكّنه حين أخرجها وجد أن إصابتها كانت بالغة جّدًا .كانت قد فقدت إحدى
ساقيها .حمَلها بين ذراعيه بلطف وأسرع بها نحو سيارة إسعاف كانت قريبة .لكَّن األجل عاجَلها
وماتت بين يديه.
كنا نسكن في مجّم ع صغير تحيط به األشجار في منطقٍة تدعى الُحَّم ر تبعد نحو عشرين دقيقة
صعودًا نحو التالل في إحدى ضواحي عمان .هذه العزلة النسبية منحتنا شيئًا من الحماية من أولئك
الذين يريدون بنا شّر ًا ،لكن ليس من الطائرات اإلسرائيلية .لحماية أنفسنا من تلك الطائرات ،كان
علينا أن نعتمد على أربعة مدافع رباعية من عيار خمسين مّليمترًا منصوبة على أبراج في حديقة
القصر .كان الجنود الذين يتولون السهر على تلك المدافع ،وتشغيلها عند الحاجة ،من اللطف بحيث
أشعرونا ،أنا وشقيقي فيصل الذي كان في الرابعة من عمره ،بأننا جزء ال يتجزأ من الجهد الدفاعي
عن القصر .كانت مهمتنا أن نحمل أوعية الزيت لتزييت المدافع إذا ما أطِلقت منها النار .كنا نستمتع
كثيرًا بالقيام بهذا الدور باعتبارنا أصغر األعضاء سّنًا في وحدة الدفاع العسكرية .هذه المهمة ُو ِض َع
لها حٌّد نهائي فجأة بعد أن أطلَع أحُدهم والدتي على صورة أبدو فيها مع شقيقي فيصل في وضٍع
استعراضّي إلى جانب المدافع والسيجارة تتدّلى من فم كٍّل منا .والدتي ال تزال تسكن في ذلك
المنزل ،لكن األرض التي كانت المدافع منصوبًة فيها هي اليوم بستاٌن لزراعة الخضار ،والمكان
الذي كان أحد المدافع منصوبًا فيه هو اليوم كومٌة من األسمدة الزراعية.
مع أنني كنت قادرًا ،كطفل ،على إدراك مدى الوطأة التي تخّلُفها الحروب ،لم أكن في تلك الفترة
أعي كثيرًا معنى الحروب وتداعياتها.
في ربيع العام 1967كان من الواضح جلّيًا لكثيرين في المنطقة أّن إسرائيل وجيرانها العرب
كانوا متجهين حتمًا نحو الصدام .في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1966شنت القوات اإلسرائيلية
هجومًا مدمرًا على الَّسُّم وع ،وهي قرية قرب الخليل؛ انتقامًا لمقتل ثالثة جنود إسرائيليين بلغم
أرضّي .وقد أثار هذا الهجوم قلقًا في عمان من النوايا اإلسرائيلية .وفي مطلع أيار من السنة نفسها
نشر الرئيس عبد الناصر قواٍت عسكرية في شبه جزيرة سيناء وطالب األمم المتحدة بإجالء قوات
حفظ السالم التابعة لها «قوة الطوارئ الدولية» ( )UNEFمن شبه الجزيرة ،وكانت تلك القوات
تتمركز هناك منذ أزمة السويس ،أي قبل ذلك بأكثر من أحَد عشَر عامًا .لم يمِض وقت طويل على
ذلك حتى أغلق الرئيس المصري مضائق تيران ،معبَر إسرائيل الوحيد إلى البحر األحمر وممر
سفنها إليه.
لم تكن القوات العربية جيشًا واحدًا متراّص ًا ومتماسكًا ،بل كانت مجموعة من الجيوش الوطنية
المنفصلة التي لم يكن قد مضى وقت طويل على انضمامها معًا .بعد سلسلة من المحاوالت الفاشلة
إلقامة وحدة سياسية أكثر وثوقًا بين بعض الدول العربية خالل عقد الستينيات ،جمع المصريون
والسوريون والعراقيون قواتهم العسكرية معًا وشكلوا القيادة العربية الموحدة في العام ،1964ثم
وّقعت مصر وسوريا معاهدة دفاع مشترك في تشرين الثاني/نوفمبر من العام .1966
في أواخر أيار/مايو من العام ،1967وسط الشعور بأن انفجار النزاع بات قريبًا وشبه محتوم،
ووسط هيجان المشاعر القومية العربية آنذاك وانطالقها من عنانها ،شعر والدي بأن ال ِخ ياَر له
سوى إعالن دعمه للقادة العرب بوجه العدوان اإلسرائيلي .توّج ه إلى القاهرة ،وفي قراٍر مصيرّي ،
أْلَز َم األردن بمعاهدة دفاع مشترك مع مصر .ومنذئذ باتت القوات المسّلحة األردنية تحت إمرة
ضابط مصرّي ،هو الفريق أول عبد المنعم رياض .قرر اإلسرائيليون أن يبادروا بضربة وقائية
مَّدعين أن عبد الناصر كان عازمًا على شّن الهجوم لكنهم في الواقع كانوا قد أعدوا للحرب ُعَّدتها.
كان الشرق األوسط في تلك اآلونة محورًا للتنافس الشديد بين القوى العظمى التي كانت عالقة في
ِش باك الحرب الباردة .كانت المنطقة منقسمًة إلى ميدانْي نفوٍذ كبيرين؛ المعسكر المناصر لالتحاد
السوفياتي بقيادة عبد الناصر والمصريين ،والمعسكر المؤيد للغرب الذي كان ينتمي إليه والدي.
بحسب الوثائق األميركية المصَّنفة سريًة والتي ُأفِر َج عنها في حينه زار الجنرال مئير آِم ْت ،رئيس
جهاز االستخبارات األجنبية اإلسرائيلي ،الموساد ،واشنطن في األول من حزيران/يونيو من العام
1967والتقى هناك رتشارد هلمز ،مدير وكالة االستخبارات المركزية (.)CIA
آخذًا من المخاوف األميركية حياَل نزعِة التوّسع السوفياتي ذريعًة ،صَّو ر آِم ت مصر وعبد
الناصر على أنهما يشكالن تهديدًا ال فقط إلسرائيل بل لمنطقة الشرق األوسط برّم تها .وبحسب ما
عّبر هلمز فإن وجهة نظر الجنرال اإلسرائيلي آِم ْت كانت أن الرئيس المصري ،إذا ُترك طليق
اليدين ،فسوف يجّر منطقة الشرق األوسط بكاملها إلى نطاق النفوذ السوفياتي .ووفقًا لهذا المنطق
اعُتبر وقوف األردن إلى جانب مصر دليًال على المسار اآلتي لألمور ،وهكذا فإن دور المملكة
العربية السعودية ولبنان سيأتي بعد األردن ،وبعدهما يحين دور تركيا وإيران .حتى تونس والمغرب
سوف يسقطان في نهاية المطاف بين يدي عبد الناصر .وعندما كان هلمز يوجز للرئيس األميركي
لندون جونسون مباحثاته مع رئيس االستخبارات اإلسرائيلي ،قال« :آِم ْت يعتقد أن القرار اإلسرائيلي
هو بتوجيه ضربة».
زيارة الجنرال آِم ْت كانت بمثابة إنذار من إسرائيل ألميركا .فإذا لم يقل لهم الرئيس جونسون :ال
تفعلوا ذلك ،فإن إسرائيل سوف تهاجم مصر.
في الثالث من حزيران/يونيو كتب الرئيس جونسون إلى رئيس الوزراء اإلسرائيلي ليفي إشكول
قائًال« :ال بد لي من التشديد على ضرورة أاّل تجعل إسرائيل من نفسها مسؤولًة عن المبادرة إلى
إشعال األعمال العدائية» .ثم أضاف جونسون يقول« :لقد تبادلنا وجهات النظر بصورٍة كاملة
وشاملة مع الجنرال آِم ْت » .وفي اليوم التالي عاد آِم ْت إلى إسرائيل وُسّلمت رسالة جونسون إلى
الحكومة اإلسرائيلية.
من المواهب العظمى لدى إسرائيل تلك القدرة على تضخيم التهديد الذي تراه صادرًا عن البلدان
التي تعتبرها عدّو ًا استراتيجيا لها؛ محاولًة تأبيَد أسطورِة كونها دولًة صغيرة تحيط بها من كل
صوب القوى المعادية .هذه الخرافة أتاحت لإلسرائيليين أن يصّو روا أعماَلهم العدوانية المحسوبة
على أنها مجرد دفاٍع عن النفس ،كما أتاحت لها -في بعض الحاالت -أن تقنع دوًال أخرى بمهاجمة
أعدائها بدًال منها.
في العام ،1967وبالمفهوم العسكرّي الصرف ،ال شك في أن إسرائيل كانت على مستوى
المواجهة مع خصومها العرب .فالجيش اإلسرائيلي كان يضّم ثالثمئة ألف جندي وضابط ويمتلك
800دبابة و 197طائرة مقاتلة ،فيما لم يتجاوز مجموع الجيوش العربية التي واجهت إسرائيل
مئتين وأربعين ألفًا وكان لديها تسعمئة دبابة و 385طائرة من كل األنواع .لكن مجرد المقارنة
المبّسطة بين القوى القتالية ليس فقط غيَر كاٍف ،بل مضِّلل أيضًا .فعلى سبيل المثال ،كان ما يقارب
ُخ مَس جنود الجيش المصري الذي كان أكبر الجيوش العربية وعديُده مئة ألف جندي وضابط آنذاك
في اليمن يدعمون القوات الجمهورية في الحرب األهلية التي كانت دائرة هناك .من هنا فإن اّدعاء
إسرائيل لدى األميركيين أّن مصر كانت تمّثل تهديدًا للمنطقة برّم تها كان في أحسن األحوال أمرًا
مضِّلال ،إن لم يكن كذبًا مكشوفًا ومقصودًا على دولٍة كانت وال تزال من أقرب حلفائها.
عندما علمت تركيا من استخبارات حلف شمالي األطلسي ( )NATOبأن النزاع بات قاب قوسين
أو أدنى أبلَغ سفيُر ها إلى األردن والدي بأن هجومًا إسرائيلّيًا وشيكًا أصبح على األبواب ،فسارع
والدي فورًا إلى عبد الناصر يبلغه باألمر لكّن الرئيس المصري لم ُيِع ر اإلنذار أّي اهتمام.
تطبيقًا لمعاهدة الدفاع المشترك التي وَّقعها األردن مع مصر توّلى الفريق أول عبد المنعم رياض
قيادة قواتنا المسلحة .كان القائد المصري في وضع غير مالئم على اإلطالق وفي غير مصلحته،
ذلك أنه كان يجهل طبيعة األرض في األردن وفلسطين ولم تكن لديه المعرفة الكافية بقدرات الرجال
الذين كانوا يقاتلون تحت قيادته .أضف إلى ذلك أنه كان يتلقى أوامره من القاهرة ال من عمان .فإذا
هاجمت إسرائيل مصر فإن رياض سيصدر أوامره إلى القوات األردنية بالدخول في المعركة
وسيدخل بذلك األردن في حرب مع إسرائيل.
في الخامس من حزيران/يونيو انطلقت الطائرات اإلسرائيلية المقاتلة نحو مصر ووّج هت ضربَتها
إلى الطيران الحربي المصري .لكن طائرات سالح الجو المصري لم تكن الهدف الوحيد للطائرات
الحربية اإلسرائيلية .ففي ذلك اليوم هاجمت طائرتان إسرائيليتان من طراز ميستير القصر الملكي
في عمان مستهدفًة المكتب الخاص لوالدي بالصواريخ والمدافع الرشاشة .لم يكن والدي ،بحمد هللا،
في مكتبه يومئٍذ بل في القيادة المركزية للجيش .ولو كان في القصر آنذاك لكان قد ُقِتل تحت وابل
النيران اإلسرائيلية.
عائلُتنا الكبرى بأكملها ،بمن فيها عمي األمير محمد وولداه طالل وغازي ،كانوا يقيمون معنا في
منزلنا خالل الحرب ،وكانوا ُيمضون ليلهم في أكياس النوم مخِّيمين في الطبقة السفلية .أما عمي
محمد ،الذي كان مسؤوًال عن أمن والدي ،فكان ينام على األرض عند باب غرفة نوم والدي
والرشاش إلى جانبه .بالنسبة إلى ولد في الخامسة من عمره بدا لي المشهد كُّله أشبه بمغامرة كبرى،
فقد كنت أصغر من أن أفَقَه معنى األحداث المأساوية التي كنا نشهدها.
بعد ظهر أحد األيام كنا أنا وشقيقي فيصل نختبئ في الطبقة السفلية مع بعض األقارب وأبناء
العمومة ،وإذا بالطائرات اإلسرائيلية تشّن غارًة أخرى كنا نسمع أصوات انفجاراتها في الخارج.
تحّداني شقيقي مقترحًا أن نركض عبر المرج األخضر وصوًال إلى السياج فنلمسه ونعود .استجابًة
لحث فيصل لي وتشجيعه انطلقُت فوق البساط األخضر راكضًا بأسرع ما استطاعت ساقاي أن
تلّبياني ،وإذا بنا نسمع انفجارًا هائًال .انفجرُت باكيًا وعدُت أدراجي إلى المنزل.
على امتداد يوم الخامس من حزيران/يونيو من العام 1967دأَب سالح الجو اإلسرائيلي على
اإلغارة على قواعدنا في عمان والمفرق مدمرًا مطاراتنا العسكرية وأسطول طائراتنا من طراز
«هوكرهنتر» .على مدى اليومين التاليين قاتلت القوات األردنية ببسالة دفاعًا عن الضفة الغربية
والقدس الشرقية ،لكن في ظل التفوق اإلسرائيليُ ،عّدًة وعتادًا ،ومن دون أي غطاء جوي ،كانت
الَغَلبة إلسرائيل .كذلك قام سالح الجو الملكي األردني بعمٍل مدهٍش وجبار على الرغم من إمكاناته
وموارده المحدودة وتفّو ق القوة الجوية اإلسرائيلية .فقد أسقط األردنيون ثماني طائرات إسرائيلية
وشّنوا هجومين على مدٍن مركزية في إسرائيل ،وبذلك كان سالح الجو العربي الوحيد الذي أسقط
طائراٍت إسرائيليًة خالل الحرب.
استمرت القوات المسلحة اإلسرائيلية في هجومها الضاغط ،بقيادة إسحق رابين ،محاولًة السيطرة
الكاملة على الضفة الغربية .توّج ه والدي إلى وادي األردن مصممًا على البقاء على خط الدفاع
األول ليكون إلى جانب رجاله ،وما إن وصَل إلى هناك حتى كان في انتظاره مشهد رهيب وصَفه
في ما بعد كما يلي« :طرقاٌت تغُّص بالشاحنات وسيارات الجيب وكل أنواع المركبات المحطمة
والمتناثرة أشالًء والمطرزة بنقش الرصاص وكان الدخان ال يزال ينبعث منها موِّز عًا في الجّو تلك
الرائحة الكريهة ،ومزيجًا من المعدن والدهان المحروقين جّر اء القنابل المنفجرة ،ورائحة مقيتة ال
يمكن أن تصدر إال من ذلك المزيج».
طوال ليلة الخامس من حزيران/يونيو وصوًال إلى نهاية اليوم التالي أظهر جنودنا وقادة الدبابات،
بما في ذلك اللواء المدّر ع األربعون ،الذي خدمُت في صفوفه في ما بعد أياَم كنت جنديا شاّبًا،
شجاعًة هائلة .لكنهم كانوا في وضٍع بائس تحت وابل من قنابل الطائرات اإلسرائيلية التي دّم رت
معظم دباباتهم .في وقٍت الحق وصف والدي المعركة بقوله« :تلك الليلة كانت جحيمًا ،وكانت القنابل
تضيء الليل فتجعله نهارًا ،وكانت السماء واألرض تتوهجان وسَط أضواء الصواريخ وانفجارات
القنابل المتواصلة المنهمرة من الطائرات اإلسرائيلية».
سقطت الحرب على األردن وعلى دوٍل عربية أخرى سقوط الكارثة .وعندما وضعت الحرب
أوزارها في العاشر من حزيران/يونيو كانت إسرائيل قد استولت على الضفة الغربية والقدس
الشرقية من األردن ،وعلى شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة من مصر ،وعلى مرتفعات الجوالن من
سوريا .وفي يومنا هذا ال تزال إسرائيل تحتل بصورٍة غير قانونية جزءًا كبيرًا من األراضي التي
استولت عليها في العام .1967وفي أعقاب تلك الحرب انتقل ما بين مئتي ألف وثالثمئة ألف
فلسطيني إلى الضفة الشرقية من نهر األردن ،رافعين عدد الالجئين الفلسطينيين في األردن إلى ما
يقارب ثالثة أرباع المليون .أما الدمار الذي أصاب القوات األردنية المسلحة فكان مذهًال حّقًا ،فقد
اسُتشهد من جنودنا سبعمئة عنصر وُج رح ما يقارب ستة آالف ،فضًال عن خسارتنا كل قواتنا
الجوية ومعظم دباباتنا .بعد توقف الحرب خضعت القوات المسّلحة األردنية المنهكة والضعيفة
لبرنامج نشيط ومكثف إلعادة تركيبها وتدريبها؛ وذلك بمساعدة بعثة استشارية باكستانية بقيادة
العميد ضياء الحق الذي أصبح في ما بعد رئيسًا لباكستان.
االستيالء على الضفة الغربية لم يكن بأّي شكل من األشكال عمًال ضروريًا لو أن إسرائيل أرادت
فقط أن ترّد على ما اعتبرته تهديدًا جاَء ها من مصر .لكّن قادة إسرائيل أرادوا الدفاع في العمق،
بحسب تعبيرهم ،حتى إذا سنحت لهم الفرصة النتزاع المزيد من األرض لم يترددوا في االستيالء
عليها .أما حين يضعون يدهم على األرض فكانوا حاسمين في التمسك بها.
إن تداعيات احتالل إسرائيل الضفَة الغربية والقدس الشرقية ال تزال أصداؤها َتقُّض المضاجَع في
أرجاء منطقة الشرق األوسط والعالم حتى يومنا هذا .خسارة القدس كانت مصدَر ألٍم كبير بالنسبة
إلى والدي .فعائلتي تنتمي إلى فرع النبّي محمد صلى هللا عليه وسلم من قبيلة قريش ،وتنحدر
مباشرة من ِس ْبط النبّي ،أي من الذكور المنحدرين من حفيده الحسن رضي هللا عنه«( .هاشم» كان
الجَّد األكبر للنبّي (ص) ،ومن هنا جاء اسُم العائلة« ،الهاشمية») .منذ العام 965للميالد حتى العام
1925حكَم الهاشميون الحجاز في غرب شبه الجزيرة العربية ،وكانوا األوصياَء الُح ماة للمدينتين
المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة ،وبذلك نكون ،نحن الهاشميين ،الساللَة الحاكمَة األعرق
في العالم بعد العائلة اإلمبراطورية اليابانية .وبوصفه رأس العائلة الهاشمية ومسؤوًال عن رعاية
األماكن المقدسة في القدس ،أصيب والدي بما يشبه الفجيعة عندما حالت الظروف دون أن يتمكن
من حماية القدس والمسجد األقصى ،وهو أحُد األماكن المقدسة الثالثة في اإلسالم ،من الجيش
اإلسرائيلي.
ما إن انتهت الحرب حتى بدأت مفاوضات السالم .ومع أن مؤتمر القمة العربية في الخرطوم في
أواخر آب/أغسطس ُعرف «بالءاته الثالث» :ال للسالم ،ال لالعتراف بإسرائيل ،وال للتفاوض مع
إسرائيل ،إال أنه ،في واقع األمر ،وضع إطارًا للمسار الدبلوماسي .تواصلت المحادثات في تشرين
الثاني/نوفمبر في فندق «والدروف أستوريا» في نيويورك ،مقر سفير الواليات المتحدة إلى األمم
المتحدة آرثر غولدبرغ ،الذي استضاف اجتماعات خاصًة بين وفود إسرائيلية ومصرية وأردنية.
كان السفير غولدبرغ ،وهو عضو سابق في المحكمة األميركية العليا ،نصيرًا معروفًا إلسرائيل.
ومن هنا كان موضع ريبٍة وشك من قبل والدي وكذلك من جهة المصريين .وقد تبّين في ما بعد أن
هذه الريبة كانت مبّر رة.
بحسب نقاٍط دّو نها أحد مستشاري والدي المقربين ممن كانوا معنيين بتلك المباحثات ،فقد بعث
غولدبرغ برسالة شفهية إلى والدي فحواها أنه إذا قبَل العرب بقراٍر يصدر عن مجلس األمن الدولّي
فإن الواليات المتحدة سوف تدفع إسرائيل إلى االنسحاب من األراضي التي احتلتها ،وأن أي
تغييرات تصيب حدودها ما قبل الحرب سوف تكون «تعديالٍت حدوديًة طفيفًة ومتباَدلة» .وقد أشار
غولدبرغ في كالمه إلى أن اإلسرائيليين موافقون على اقتراحه .طار والدي إلى القاهرة وبحث
العرض مع عبد الناصر فكان أن طلب هذا األخير من والدي دعم القرار.
في تشرين الثاني/نوفمبر عاد والدي إلى نيويورك لالجتماع إلى األمين العام لألمم المتحدة يوثانت
وإجراء مباحثات مع سائر الموفدين العرب ُقبَيل االجتماع التالي لمجلس األمن الدولي .التقى الرئيس
جونسون في البيت األبيض في الثامن من تشرين الثاني/نوفمبر ثم غادر الواليات المتحدة إلى
أوروبا بعد أن مكث هناك عشرة أيام .كانت النتيجة النهائية للمفاوضات صدور قرار األمم المتحدة
الرقم 242الذي تبّناه مجلس األمن الدولي مصِّو تًا عليه باإلجماع في 22تشرين الثاني/نوفمبر من
العام .1967دعا القرار األممّي إلى انسحاب إسرائيل من أراٍض (النص العربي دعا إلى االنسحاب
من «ال -أراضي» ،فيما ورَد في النص اإلنكليزي «من أراٍض ») احتلتها وذلك مقابل إحالل
السالم وبالتالي إطالق صيغة األرض مقابل السالم التي تحولت منذئٍذ أساسًا للسياسة الخارجية
لألردن .شدد القرار في مقدمته على عدم جواز االستيالء على األرض بالقوة ،ونَّص على:
(إن) تحقيق مبادئ الميثاق يتطلب إقامة سالم عادل ودائم في الشرق األوسط ويستوجب تطبيق
المبدأين التاليين:
( أ ) سحب القوات اإلسرائيلية من األراضي المحتلة في النزاع األخير.
(ب) إنهاء جميع ادعاءات الحرب أو حاالتها واحترام السيادة والوحدة ألراضي كل دولة في
المنطقة واالعتراف بذلك ،وكذلك استقاللها السياسي وحقها في العيش بسالم ضمن حدود آمنة
ومعترف بها وحرة من التهديد أو أعمال القوة…
كذلك أوضح القرار ضرورة تحقيق تسوية عادلة لمشكلة الالجئين .وها نحن ،بعد مرور أكثر من
أربعين عامًا على صدور قرار األمم المتحدة الرقم 242الذي أّدى األردن دورًا رئيسّيًا في صياغته
واإلعداد له ،أماَم قراٍر ال يزال يمّثل المرجعية لتحقيق السالم الدائم بين اإلسرائيليين والفلسطينيين.
بالنسبة إلى معظم العرب بدا أن الصراع قد انتهى .أما بالنسبة إلينا في األردن ،فإّن متاعبنا كانت
في بدايتها؛ ذلك أن عاصفًة أخرى كانت في طور التكّو ن واالختمار .لكن هذه المرة بدل أن تكون
المواجهة مع عدٍّو خارجي ،كانت بين األخ وأخيه.
الفصل الثالث :غيوم سوداء فوق عمان
في أعقاب حرب العام 1967تدّفق على األردن ما يقارب ثالثمئة ألف الجئ من الضفة الغربية.
ياسر عرفات ،الذي عاش في مصر قبل أن ينتقل إلى الكويت في العام ،1957حيث أَّسس مع
آخرين حركة فتح لينتقل مجددًا إلى سوريا في مطلع عقد الستينيات ،جاء أيضًا إلى األردن في
أعقاب تلك الحرب .بدأت فتح ،ومعها عدد من الجماعات الفلسطينية المسّلحة الملتقية في التزاٍم واٍه
وشبه شكلّي تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية ،إطالَق الدعوات إلى المقاومة المسلحة ضد
إسرائيل .جّندت فتح وغيرها من منظمات المقاتلين الفلسطينيين ،الذين ُعرفوا آنذاك بالفدائيين ،شبابًا
ساخطين من المخيمات الفلسطينية ،وبدأت تشن الهجمات على القوات اإلسرائيلية عبر نهر األردن.
في السنة التالية قرر الجيش اإلسرائيلي أن يرّد على تلك الهجمات ،وفي الساعات األولى من
الحادي والعشرين من آذار/مارس 1968أرسلت إسرائيل لواَء ين مدّر عين عبر نهر األردن وهي
تتوقع تحقيق نصر سهل .كانت الخطة اإلسرائيلية تقضي بتوجيه ضربة إلى مخّيم الكرامة على
مسافة عشرين ميًال إلى الغرب من عمان ،حيث يتمركز الفدائيون الفلسطينيون ،ومن َثَّم االتجاه نحو
العاصمة .تصّدى الجيش األردني ،الذي كان ال يزال يلملُم جراَح ه جّر اَء حرب العام ،1967للقوة
اإلسرائيلية المهاجمة والتحَم معها في معركة طاحنة كّبد خالَلها المهاجمين ما يكفي من الخسائر
بحيث بدأوا ،بعد بضع ساعات من القتال ،يصرخون مطالبين بوقٍف إلطالق النار .رفض والدي أَّي
وقٍف إلطالق النار قبل أن ينسحب آخر جندي إسرائيلي من الكرامة .بعد خمَس عشرة ساعًة من َبْدِء
الهجوم أكملت القوة اإلسرائيلية الغازية انسحابها متالشيًة تجّر أذيال الهزيمة .في معركة الكرامة
تذّو َق اإلسرائيليون هزيمَتهم األولى أمام جيٍش عربّي .ومع أن الفدائيين شاركوا في القتال فالذي
حقق االنتصار هو الجيش .لكن عرفات ومقاتليه لم يتأخروا في ادعاء الفضل في تحقيق ذلك النصر،
وما لبثوا أن بدأوا يصّدقون خطاَبهم ومبالغاتهم وراحوا يعرضون عضالتهم متمادين في ذلك حتى
إن الفدائيين ،كحركة مسلحة ،بدأوا يشكلون تحديًا لألردن؛ هددوا أمن البالد ،خالفوا القوانين،
وحاولوا إقامَة دولٍة ضمن الدولة.
خالل عقد الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن الماضي كان األردن في وضٍع هش وشديد
الحساسية حياَل االضطرابات السياسية اإلقليمية .تلك كانت حقبة القومية العربية يوم كان الثوريون
الناصريون في مصر والعلمانيون البعثيون الذين تولوا الحكم في سوريا والعراق في أوج شعبيتهم.
كانت أحالُم هم كبيرة بتحقيق الوحدة العربية وأمنياُتهم في الهيمنة الجيوسياسية كانت تمتد لتشمل
األردن .ما بين السنة التي كان فيها والدي في الثامنة عشرة وتولى خاللها مسؤولياته ملكًا على
األردن والسـنة التـي بلغ فيها الثالثين من عمره وكنُت أنا في الثالثة ،بلغ عدد محاوالت االغتيال
الموَّثقة التي تعَّر ض لها ثماني عشرَة محاولًة بما فيها اثنتان ارتكَبهما خائنان داخَل الديوان الملكي
كانا عميلين لجمال عبد الناصر والجمهورية العربية المتحدة ،وهي االتحاد الذي جمع مصر وسوريا
ودام ثالث سنوات ( .)1961-1958كانت الجمهورية العربية المتحدة حليفة االتحاد السوفياتي فيما
كان والدي حليفًا للغرب ،ومن خالل قتله كان عبد الناصر واالتحاد السوفياتي يأمالن زعزعَة
االستقرار في األردن؛ وبالتالي دفَعه إلى الدخول في مدارهما.
المحاولة الداخلية األولى كانت بواسطة األسيد .كان والدي آنذاك في أواسط العشرينيات من عمره
وكان يعاني من التهاٍب في الجيوب األنفية يداويه بتنقيط سائٍل مالح في أنفه بانتظام .شخٌص ما ،لديه
صالحيُة الدخول إلى حّم امه الخاص ،بَّدل السائل المالح بحامض الهايدروكلوريك ،لكن بحركٍة
خاطئة وقع حنجور يحتوي هذه المادة في المغسلة .عندما أخذ البخار يتصاعد من طالء المغسلة وبدأ
سطحها يتشّقق من قوة األسيد أدرك والدي أنه نجا من ميتة مؤلمة وأن نجاَته كانت بما يشبه
األعجوبة.
محاولة االغتيال األخرى كانت بواسطة السّم ،فقد الحظ والدي أن قططًا ميتة أخذت تلِّو ث المكان
في محيط القصر .وعندما حقق مساعدوه في هذه المسألة الغريبة بعض الشيء تبّين لهم أن أحد
مساعدي رئيس الطباخين في مطبخ القصر كان مكلفًا قتله مقابل أجر .ويبدو أن الطباخ الماهر،
الذي لم تمتد مهارته لتشمل تسميَم الطعام ،كان يستخدم القطط المسكينة كوسيلة اختبار محاوًال تحديد
الكمية الكافية من السّم .
بما أن إمكانية نجاح أحد هؤالء القتلة في مهمته كانت ذات أرجحية عالية ،وفي واحٍد من
اإلجراءات اآليلة إلى حماية الملكية ،قرر والدي في العام 1965أن ينزع عني لقَب ولّي العهد،
وكنت آنذاك في الثالثة من عمري ،وسّم ى شقيقه األمير حسن ولّيًا للعهد وكان يوَم ها في الثامنة
عشرة .صحيح أنني لم أكن ألدرك معنى هذا التغيير في تلك اآلونة ،لكنه كان من أفضل ما فعَله لي
والدي على اإلطالق ألنه أتاح لي أن أعيش حياًة عادية نسبّيًا .وما بقي من شواهد قليلة جّدًا عن تلك
الفترة الوجيزة التي كنت فيها وليًا للعهد هو مجموعٌة من الطوابع عليها صورتي وأنا في الثالثة من
العمر .ولكنني لم أكن بحاجة إلى األلقاب الرسمية لكي أتمتع بطفولتي.
كان والدي يمتلك سيارة مرسيدس -بنز Gullwing 300SLلها بابان كجناحي النورس ،وكان
يقودها ُم شاركًا في سباقات الجبل في لبنان في خمسينيات القرن الماضي .كانت تسحرني الطريقُة
التي ينفتح بها بابا السيارة فيرتفعان من أسفل إلى أعلى كأنك تشاهد منظرًا سينمائيًا .كان شديد
التعّلق بالسيارات السريعة وكان يحلو له السباق إن لم يكن بالسيارة فعلى الدراجة النارية ،وإال
فبالطائرة المروحية .في تلك األيام لم يكن لدينا هذا الخيار الواسع من القنوات التلفزيونية كما هي
الحال اليوم ،والواقع أن ما كان لدينا من برامج تلفزيونية في األردن لم يكن يتجاوز ساعتين في
اليوم؛ وبذلك كان علينا أن نبتكر بأنفسنا وسائل َلْه ِو نا وتسليتنا .في أوقات الهدوء كنا ،والدي ووالدتي
وأنا ،نذهب بالسيارة شماًال ،وبما أن سيارته الـ« »SL300لم تكن تتسع إال لشخصين كان مقعدي
في حضنه .وفيما نحن مسرعون على الطريق الصحراوي كان والدي ينقر منّبه السيارة (الزمور)
ضابطًا اإليقاع فيما كنا ُننشد معًا أغنية «بوباي البّح ار» وهي األغنية الرئيسة في أحد برامجي
التلفزيونية المفضلة .عند الغسق كنا غالبًا ما نتوقف ونتمتع بنزهة في الطبيعة وسَط أحد حقول
القمح ،وكان حراسنا من الجنود يدخلون إلى الحقل فيقطفون بعض السنابل ويشوون حبوبها
الخضراء على نار يشعلونها من بعض األغصان اليابسة واألخشاب .منذئٍذ وأنا مولع برائحة القمح
األخضر وهو ُيشوى.
لعّل كل ولد في مرحلٍة ما من مراحل نمّو ه َيحسُب والده ملكًا ،أما أنا فكنت أدرك أن والدي
شخصية مميزة ،كما كنت أدرك أيضًا أنه قائد مع أنني لم أكن أفهم حقيقًة ماذا كان يفعل طواَل
نهاره .لكنني كنت سعيدًا جّدًا بتلك اللحظات التي كنا نقضيها معًا ،وقد بذل والداي أقصى جهدهما
ليتيحا لي ولشقيقي فيصل أن نعيش حياتنا الطبيعية كطفلين .كانا يصطحباننا إلى مزرعة صغيرة في
وادي األردن أيام الجمعة ويدعوان بعض األصدقاء مع أوالدهم .من النشاطات األخرى التي كنا
نتمتع بها أيضًا التمّر ن على الرماية ،فكان لدينا مرمى في أسفل الحديقة حيث كان كٌّل منا ،والدي
ووالدتي وأنا وفيصل ،يأخذ دوره في التصويب على الهدف.
والدتي نشأت في عائلة عسكرية .فوالدها ،الضابط البريطاني ،قاَتَل في الحرب العالمية الثانية
ومن بعدها في «ماليا» ،وقد عّلمها الرماية وهي فتاٌة يافعة حتى باتت تتقنها بدرجة ممتازة .عندما
كانت في سن المراهقة ُأرِسَل والدها إلى األردن وتّم اللقاء بينها وبين والدي خالل أحد االستقباالت
الدبلوماسية .كانت يومها لم تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها ،فيما كان والدي في الخامسة
والعشرين .لفتت انتباَهه بجمالها فأخذ يدعوها إلى القصر بين الحين واآلخر لمشاهدة فيلم سينمائي
مع والدته والعائلة .ردت والدتي بالمثل فكانت تدعوه إلى منزل والديها حيث كان يتناول معهم
«الكيك» والشاي اإلنكليزي .اكتشفا أن لديهما هوايًة مشتركة وهي رياضة السيارات وأخذت
عالقتهما تتوثق أكثر فأكثر خالل زياراتهما إلى نادي Go-Kartفي عمان؛ حيث عّلمها والدي قيادة
السيارات ،وما لبثت أن بدأت تشارك في سباق السيدات .ما إن مضت السنة األولى على لقائهما
األول حتى طلَب والدي يدها فأخذتها الدهشة وعقدت لسانها عن الكالم؛ فأومأت برأسها تعبيرًا عن
موافقتها .اعتنقت والدتي ،المولودة أنطوانيت غارِدنر ،اإلسالَم قبل الزواج وأصبحت مواطنة أردنية
وحملت اسم منى الحسين.
قبل حفل الزواج بيومين كانا يبحثان الدوَر المستقبلَّي لوالدتي ضمن العائلة المالكة فقالت لوالدي:
«هل يبدو كالمي مضحكًا إذا قلت إنني في الحقيقة ال أريد أن أحمَل لقب ملكة؟» شعر والدي
بالسعادة ألنها أرادت الزواج به بدافع الحّب ال سعيًا وراء لقب ،واستجاب لرغبتها مرِّح بًا .تّم
زفافهما في الخامس والعشرين من أيار/مايو من العام 1961في احتفال بسيط في قصر زهران في
عمان .بعد الزواج أصبحت والدتي األميرة منى وفي السنة التالية كانت والدتي.
لم تكن عمان في العام 1968من المدن اآلمنة تمامًا .فياسر عرفات ومقاتلوه كانوا يشنون
هجماتهم على إسرائيل انطالقًا من األراضي األردنية .وكان الجيش اإلسرائيلي يرّد على تلك
الهجمات بين الحين واآلخر موجهًا ضرباته إلى أهداٍف داخل األردن .وباإلضافة إلى القنابل
اإلسرائيلية كان هناك بعض المصريين والسوريين من ذوي النوايا السيئة :شيوعيون من دعاة
الثورة الفوضوية مدعومون من السوفيات ،وَقَتلة مأجورون مصممون على زعزعة استقرار
حكوماٍت كحكومتنا .تحولت عمان إلى مكان تتجمع فيه كل ضروب الراديكاليين ،من عصابة
«بادرماينهوف» األلمانية والجيش األحمر الياباني إلى اإلرهابي الفنزويلي كارلوس الثعلب ،ومعظم
هؤالء كان يجذبهم إلى األردن قرُبه من الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل وإمكانية توجيه
ضرباتهم إليها من أراضينا .وبما أن الجيش األردني كان منتشرًا على الحدود يراقبها ويحميها،
احتَّل المقاتلون والراديكاليون مواقَع لهم في المدينة فأقاموا الحواجز ووضعوا أحياًء ومناطَق من
المدينة تحت سيطرتهم .ال أزال أتذكر عندما كنا نقصد وسط المدينة في سيارة والدتي المرسيدس
البيضاء القديمة أنه كان علينا أن نغّطي ضوءي السيارة األماميين لئال يفتح علينا المقاتلون الجّو الون
النار .لم تكن والدتي تغادر المنزل دون أن يكون «الكالشنيكوف» على المقعد إلى جانبها في
السيارة ومسدس «كولت» صغير في جيب السيارة األمامي.
كان الوضع في األردن في تلك الفترة شديَد الكآبة مثبطًا للعزيمة ،ذلك أن ياسر عرفات ،الذي فتح
له األردّن ذراعيه بعد حرب العام 1967وأتاح لمنظمة التحرير الفلسطينية الحركة بحرية ،لم يقابل
هذه المعاملة الكريمة بمثلها .أخذت قواُته تزعزع أركان الدولة بإقامة الحواجز على الطرقات
وجباية الضرائب وانتهاك القوانين واألنظمة .كان العديد من أفراد الفصائل المقاتلة تحت مظلة
منظمة التحرير الفلسطينية يتصرفون غير آبهين بقانوٍن أو بعقاب .فإذا جاعوا اقتحموا أحد المنازل
في غياب رّب المنزل وأجبروا زوجته على أن ُتِع َّد لهم طعام الغداء تحت تهديدها بالسالح .كانوا
يخطفون أشخاصًا ليطالبوا ذويهم بدفع فديٍة لإلفراج عنهم ،وكانوا يقتلون عشوائيًا ويصادرون
السيارات ويحتلون المنازل ويهاجمون الفنادق على أمل أن يخطفوا رهائن من األجانب.
كنُت آنذاك في السادسة فقرر والداي إرسالي إلى الخارج لتجنيبي العنف المتزايد والفوضى التي
كانت تعّم األردن .وبما أن والدي كان قد درس في «هارو» كان إرسالي إلى إنكلترا خيارًا طبيعّيًا.
ال أزال أتذكر وصولي في المساء إلى مدرسة «سانت إدمند» ،البناء الريفّي الواسع األرجاء القائم
ضمَن ساحة كبيرة .خالل الرحلة في السيارة من مطار «هيثرو» مرورًا بتلك الحقول ذات
االخضرار الرائع والمسّيجة بصفوٍف متراصة من الشجيرات ،شعرُت بفارٍق هائل بين ما أراه هنا
وما تركُته ورائي من طرٍق صحراوية يغطيها الغبار في األردن.
مع أن المعلمين كانوا ودودين ومرّح بين ،لم أكن سعيدًا جّدًا بوجودي في سانت إدمند .فمن جهٍة
أولى كرهُت أن أبتعد عن والدَّي في تلك السن المبِّك رة ،ومن جهٍة ثانية كنت أمام إشكال عدم إتقان
اللغة اإلنكليزية .فاللغة العربية كانت لغتي األولى ،وبما أن مرّبيتي آنذاك كانت سويسرية ،كنُت
غالبًا ما أتكلم الفرنسية في المنزل .ولذلك كانت اللغة اإلنكليزية أضعَف اللغات الثالث التي تكلمتها
في طفولتي .لكن مع ذلك لم يمِض وقت طويل حتى أتقنت اإلنكليزية واكتسبت اللكنة البريطانية التي
بقيت مالِز مًة لي .بعد مرور سنٍة ونصف السنة انضّم إلّي شقيقي فيصل ،لكننا لم نبَق طويًال في
إنكلترا.
كان التوتر يشتد ويتزايد بين والدي والفدائيين .وفيما رفع عرفات من وتيرة جهوده النتزاع
السيطرة على األردن ،راَح رجاُله يرّكزون اهتمامهم على مليكه.
في أيلول من العام ،1970وفيما كان والدي متجهًا إلى عمان يرافقه رجل الدولة خريج جامعة
هارفرد ورئيس الديوان الملكي زيد الرفاعي ،والشريف ناصر بن جميل ،ذو الصدر العالي والجسم
المليء ،الذي كان في تلك الفترة رئيس أركان الجيش األردني ،أوقَف موكَبه عند أحد التقاطعات
متراٌس كان قد أقيم هناك .عندما خرج أحد رجاله إلزالة المتراس فتح المقاتلون المختبئون وراء
التالل النار من أسلحة مختلفة بما فيها رشاش ثقيل روسّي الصنع من نوع دوشكاُ .قتل الجندي الذي
كان يحاول إزالة المتراس وشاهد والدي زّخ ات الرصاص تقترب منه منهمرًة على األرض من
حوله كالَبَر د .أخذ الجميع مواقعهم وبدأوا يردون على مصادر النار .وكانت ردة فعل والدي األولية
أن صرخ« :عيب عليهم» .قد تبدو ردة الفعل هذه غريبًة بعض الشيء من شخٍص يتعَّر ض للهجوم.
لكّن والدي كان يؤمن بقوة بقيم الشرف والرجولة ولم ير في مهاجميه سوى عصابة من الجبناء.
رجاه زيد الرفاعي والشريف ناصر أن يحتمي في حفرٍة قريبة .وعندما رأى المهاجمون والدي
يحاول أن يحتمي في الحفرة أداروا الرشاش باتجاهه بغية استهدافه .في تلك اللحظة رمى زيد
الرفاعي وقائد الحرس الملكي نفسيهما نحوه لحمايته فاصطدم أحدهما باآلخر ووقعا معًا فوقه فشعر
بظهره يكاد ينكسر تحت وزنيهما.
رّد والدي ومرافقوه المهاجمين وعادوا إلى سياراتهم .وما إن تحرك الموكب حتى الحظ والدي
الذي كان قد جلس في المقعد األمامي أن قبعته العسكرية قد وقعت عن رأسه وسقطت على التراب.
كان الغضب قد ناَل منه مناَله بسبب تعُّر ضه لهذا الكمين؛ لدرجة أنه عاد فخرج من السيارة
والرصاص يتطاير في المكان ،والتقط قبعته ووضعها بهدوء على رأسه ثم عاد إلى السيارة وانطلق
الموكب .وفيما كانوا عائدين إلى المنزل في الحّم ر استدار والدي نحو زيد الرفاعي وقال له« :في
المرة التالية اتركوا لي الفدائيين أتدّبر أمري معهم ،أنتما االثنين أوقعتما بي من الضرر أكثر مما
فعلوا هم!» ومنذ تلك الحادثة بقي يشكو من أوجاٍع في ظهره.
عند هذه النقطة ،وبعد سقوط وقف إطالق النار مرتين ،بات واضحًا أن األردن لم يعد قادرًا على
التعايش مع مقاتلي عرفات .في تلك المرحلة كان عديد العسكريين التابعين لمنظمة التحرير
الفلسطينية والفصائل التابعة لها مئة ألف رجل من بينهم 25٬000مقاتل نظامي متفّر غ وحوالى
75٬000من الميليشيات المسلحة .وكانوا يزدادون جرأًة وتفُّلتًا .ففي السادس من أيلول/سبتمبر من
العام 1970خطفت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» ثالث طائرات عالمية كانت قد أقلعت من
فرانكفورت وزيوريخ وأمستردام متجهًة إلى نيويورك .حّو ل الخاطفون اتجاه طائرتين منها إلى
األردن وأجبروهما على الهبوط في مهبط دوسون (قيعان خنا) ،وهو مطار بعيد في منطقة األزرق
الصحراوية شمال شرق األردن ،فيما ُح ّو لت وجهة الطائرة الثالثة إلى القاهرة حيث َعَم َد الخاطفون
إلى تفجيرها .بعد مرور ثالثة أيام على هذه الحادثة ُخ ِط فت طائرة مدنية أخرى إلى المهبط ذاته.
طلب الفدائيون إطالق سراح رفاق فلسطينيين لهم معتقلين في سجون أوروبية .وعندما ُر فض
مطلُبهم عمدوا في الثاني عشر من أيلول/سبتمبر ،وتحت أنظار وسائل اإلعالم العالمية ،إلى تفجير
الطائرات الثالث بعد إطالق سراح ركابها .بعدئٍذ بيومين دعت منظمة التحرير الفلسطينية إلى إقامة
«سلطة وطنية» في األردن.
بالنسبة إلى والدي كانت هذه الدعوة بمثابة القشة التي قَص مْت ظهر البعير .وبعد ذلك بثمانية أيام
أصدر أوامره إلى الجيش للتحرك بمنتهى الشدة ضد الفدائيين في عمان والمدن األردنية األخرى.
من الخطأ اعتبار هذه المواجهة حربًا أهلية بين األردنيين والفلسطينيين؛ ذلك أن العديد من األردنيين
من أصل فلسطينّي قاتلوا بشجاعة في صفوف الجيش ،كما أن بعض األردنيين من الضفة الشرقية
التحقوا بالفدائيين الفلسطينيين وقاتلوا ضد الجيش .قاد الشريف ناصر ،باعتباره رئيسًا ألركان
الجيش ،المعركة ضد الفدائيين .وكان الشريف ناصر رجًال ذا بنية قوية ومحاربًا شرسًا يبدو كمن
إذا لَكَم الحصان رماه ميتًا إلى األرض .وكانت إحدى هواياته المفضلة أن يأخذ بيده الواحدة بصلًة
ويسحقها منتزعًا لَّبها لكي يضيفه إلى طعام العشاء إذا كان ينقصه شيٌء من النكهة.
كان القتال بين القوات األردنية والفدائيين على َقْدٍر كبير من الشراسة .ولم يمِض وقت طويل حتى
وجدنا أننا لسنا في مواجهة عدو داخلّي فقط ،ذلك أن سوريا هاجمت في شتاء 1970شمال األردن
بواسطة ثالثة ألوية مدرعة ولواء كومندوس ولواء من المقاتلين الفلسطينيين؛ وذلك في محاولة
لمساعدة ياسر عرفات .ومع أن التفوق بالعديد كان كبيرًا لغير مصلحتنا؛ فقد قاتل جنود اللواء
األربعين األردنيون ،الذين كانوا مسؤولين عن حماية الحدود ،قتاًال مريرًا وحافظوا على مواقعهم.
أما الغزو السوري فقد هّدد بأن يجعل من نزاع داخلي أزمة دولية.لكن في الثالث والعشرين من
أيلول/سبتمبر تّم رّد القوات السورية على أعقابها .استطعنا الدفاع عن حدودنا الشمالية ،لكن القتال
بيننا وبين الفدائيين بقي يتأجج.
في النهاية استطاعت القوات المسَّلحة األردنية ،بمْه نّيتها العالية وتدريبها الجّيد وَعتادها ،أن تحسم
القتال لمصلحتها .استمر القتال مع الفدائيين متقطعًا حتى صيف العام .1971لكّن األردن انتصر،
واستعاد جيُشه سيطرَة الدولة فكانت الغلبة للشرعية .علم والدي والشريف ناصر بعد ذلك بأن
عرفات كان مختبئًا في السفارة المصرية في عمان التي كانت تستضيف بعثًة من الجامعة العربية.
وفيما كان أفراد البعثة يغادرون ،بدا أن بينهم عضوًا إضافيًا :امرأة بدينة مغطاة بعباءٍة سوداء من
رأسها إلى أخمصيها وتحت العباءة حجاب للرأس .أبلغت دائرة المخابرات والدي بأن من المرجح
أن المرأَة الّلغز التي انضّم ت إلى الوفد لم تكن سوى عرفات متخفيًا في محاولة للهروب.
أراد الشريف ناصر القبض على عرفات وَقْتَله مصّر ًا على أن عرفات ال يستحق الحياة .لكّن
والدي أمر رجاله بأن يتركوا عرفات يغادر األردّن ،يقينًا منه بضرورة ترك المجال دائمًا مفتوحًا
إلمكانية المصالحة.
بعد مرور عشرين عامًا على هذه األحداث عاد والدي فأنقذ حياة عرفات مرًة ثانية .ففي نيسان/
إبريل من العام 1992سقطت طائرة عرفات في الصحراء الليبية وسط عاصفة رملية وُقِتل ثالثة
من ركابها .في تلك المرحلة كانت العالقة بين الرجلين قد تغَّيرت كثيرًا .وعندما رأى والدي ،الذي
كان سيصبح طبيبًا لو لم تؤّد به ظروف الحياة إلى السياسة ،عرفات بعد حادث الطائرة بشهرين،
الحظ أن الرجل لم يبُد بصحة جيدة فأرسله إلى مدينة الحسين الطبية .هناك تبّين أن عرفات مصاب
بجلطٍة في الدماغ ،ونجح األطباء في استئصالها في عمليٍة جراحية طارئة.
عندما ُطِر د المقاتلون الفلسطينيون من األردن توَّج ه العديد منهم إلى لبنان الذي تحّو ل بدوره إلى
الساحة التالية التي مّز قتها حرٌب دموية أشّد عنفًا حتى من التي شهدناها نحن على أرضنا .في هذه
األثناء أنشأت مجموعة من المقاتلين الراديكاليين منظمًة إرهابية على مستوى عاٍل من التطور،
مدعومًة بماٍل دولّي .أطلقت المنظمة على نفسها اسم «أيلول األسود» تيّم نًا باسم الشهر الذي بدأت
فيه الصدامات بين األردن ومنظمة التحرير الفلسطينية .وقد تعّه د مؤسسوها بأن يثأروا لهزيمتهم.
ومن بين الجرائم األولى التي قاموا بها اغتيال رئيس الحكومة األردنية وصفي التل خالل زيارة له
إلى القاهرة في تشرين الثاني/نوفمبر من العام .1971
في الشهر التالي تلقى زيد الرفاعي ،الذي كان قد ُعّين حديثًا سفيرًا إلى المملكة المتحدة ،برقيًة
مستعَج لة من والدي ُيعلمه فيها بأن مجموعَة قتلة من «أيلول األسود» ُأرِس لت إلى لندن على عجل
للهجوم على هدف أردني .رفع السفير درجة اإلجراءات األمنية في السفارة وأعّد قائمًة باألهداف
المحتملة .كنُت أنا وشقيقي فيصل ،الذي كان قد انضّم إلّي أخيرًا في المدرسة في إنكلترا ،من بين
تلك األهداف المحتملة .مع أنني كنت في العاشرة تقريبًا ،سرعان ما شعرُت بأن خطرًا ما يمكن أن
يكون محيطًا بنا؛ وذلك عندما جاء إلى المدرسة رجال من الشرطة مع كالٍب بوليسية للحراسة ولم
يغيبوا عني على مدار الساعة.
في اليوم التالي غادر زيد الرفاعي منزله في منطقة «ريجنت بارك» في لندن متأخرًا عن موعده
المعتادَ .عَبرت السيارة جمعًا من متسّو قي هدايا الميالد في شارع «كنسنغتون هاي» وما إن خفف
السائق سرعته لينعطف بالسيارة على منعطٍف حاّد حتى قفز مسّلٌح إلى الشارع وسحب مسدسًا من
نوع «ستن» وراح يطلق الرصاص .أدرك الرفاعي أنه المستهدف فرمى بنفسه على أرض السيارة
فيما استمر المسّلح يطلق النار على المقعد الخلفي .بعد أن توقف إطالق النار صرخ زيد الرفاعي
بالسائق أن ُيسرع به إلى المستشفى .أسرع السائق وبعد بضع دقائق توقف« .ما المشكلة؟» سأل
زيد ،فرّد السائق اإلنكليزي« :سعادة السفير ،نحن أمام إشارة ضوئية حمراء».
نجا الرفاعي من الموت ،لكنه أصيب بجروح بالغة تطلبت معالجُتها إحدى عشرة عمليًة جراحية
في يده وذراعه .كانت منظمة «أيلول األسود» وراء العملية .إنكلترا لم تعد آمنًة بالنسبة إلينا ،وقرر
والدي إرسالنا إلى بلٍد أكثر بعدًا :إلى أميركا.
الفصل الرابع :الوصول إلى أميركا
كان العام 1972عامًا صعبًا بالنسبة إلى عائلتي ،ليس فقط بسبب ما كان يتهّددنا من خطر
اإلرهابيين .ففي تلك السنة قرر والداي االنفصال بالطالق بعد عشر سنوات من الزواج وإنجاب
أربعة أطفال (ُو ِلدْت شقيقتاي التوأمان عائشة وزين في العام .)1968كنا أنا وشقيقي فيصل بعيَدْين
في مدرسة داخلية .لكن ذلك لم يجعْلنا في منأى عما يواجهه كل األطفال ،من القلق وعدم االطمئنان،
عندما يقع الطالق بين األبوين .مع ذلك كان حُّظنا كبيرًا بأّن عالقًة من الصداقة والمودة بقيت تربط
بين والدينا ،اللذين جمعهما أيضًا حرصهما على رعايتنا والوقوف إلى جانبنا موِّج َه ْين وداعَم ْين.
في أيلول/سبتمبر من العام 1972نّفذت «أيلول األسود» ضربًة جديدة وذلك عندما هاجمت
مجموعٌة من أفرادها مجّم ع األلعاب األولمبية الصيفية في ميونيخ فأخذت عددًا من الرهائن وقتلت
أحَد عشر رياضيًا من البعثة اإلسرائيلية .وقع الهجوم تحت أضواء وسائل اإلعالم العالمية وأمام
عدساتها ،فشهد العالم كله وحشية هذه المنظمة.
في تشرين األول/أكتوبر ذهبنا أنا وشقيقي فيصل إلى أميركا .كنا قبلئٍذ ببضع سنوات قد قمنا
برحلة إلى الواليات المتحدة زرنا خاللها والية فلوريدا مع والدينا وأختينا الصغيرتين ،وهناك زرنا
«حدائق شجر السرو»( )Cypress Gardensو«عالم ديزني» ( )Disney Worldالذي كان ال
يزال حديث العهد .هذه الذكريات زّو دتني شيئًا من الحماسة للعودة إلى الواليات المتحدة -التي كانت
صورُتها الباقية في ذهني أشبه بمدينة مالٍه كبرى .لكن منطقة نيو إنغلند في فصل الشتاء كانت شيئًا
آخر ال يشبه عالم ديزني في شيء.
كانت مدرستي الجديدة« ،إيغلبروك» ( ،)Eaglebrookمدرسًة إعدادية في غرب والية
ماساتشوستس وهي تقع على مرَتفٍع من سلسلة بوكومتك ( )Pocumtuckالمشرفة على مدينة
ديرفيلد ( .)Deerfieldفي تلك المدرسة يشعر المرء كأنه في أحد منتجعات سويسرا الجبلية بكل ما
فيها من الشاليهات ومنحدرات التزّلج وسواهاَ .تشاركنا أنا وفيصل غرفًة في مجّم ع سكن الطلبة،
والتحق هو بمدرسة «بيمنت» ( )Bementعلى مسافة قصيرة انحدارًا من قمة الجبل .من
التغييرات التي كان ال بد لنا من تعّو دها ،الطعام .كان الخبز والزيت والزعتر من أحّب الوجبات
الخفيفة لدّي في األردن ،أما هنا فقد اكتشفُت أطايَب أخرى من نوع سندويشات بزبدة الفستق
والجيلو.
صحيح أنني لم أحّب كثيرًا إقامتي في مدرسة «سانت إدمند» ( )St. Edmund’sفي بريطانيا،
لكن هناك لم أدخل يومًا في شجار مع أحد .أما في إيغلبروك فقد اختلف األمر .هنا كنُت الطالَب
العربَّي األول الذي عرَفْته المدرسة منذ أنشئت ،وكان من بين طالبها العديد من اليهود الذين لم
يتأخر بعُض هم في إشعاري بأنني شخٌص غير مرَّح ب به .لم أستطع فهم دوافع هذه المشاعر العدائية
وكنت في سٍن أصغر من أن أستطيع التعامل مع هذا النوع من الَغَر ضية والتحامل غير العقالني.
طبعًا في مراحَل أكثر تقدمًا ونضجًا أصبحُت أكثر فهمًا ألولئك الذين يحكمون على اآلخرين انطالقًا
من ُهّو ياتهم ،لكن بالنسبة إلى طفٍل في عمري آنذاك كان تصرف البعض غير مفهوم .كنت أدرك أن
األردنيين واإلسرائيليين أعداء .لكن نحن اآلن هنا في الواليات المتحدة ،وهؤالء الطالب أميركيون،
هذا فضًال عن أنني لم أكن أرى رابطًا بين اإلسرائيلي واليهودي .مع ذلك يبدو أنه ال يمكن االبتعاد
عن صراعات الشرق األوسط ومشكالته حتى لو كنَت طالبًا في مدرسة في غرب ماساتشوستس.
توّر طُت في بعض المواجهات غير السارة .صحيح أن بعض الحراس األمنيين كانوا يرافقونني
حيثما ذهبت .لكن تعليماتهم كانت أن يحموني من اإلرهابيين والقتلة ،ال من طالب شرسي الطباع
في العاشرة من عمرهم .وأقر بأنني لم أحسن دائمًا التصرف إزاء هذا الوضع .أذكر أني تورطت
مرة في عراك مع أحد الطلبة الذي قال إني أحتاج لجيش لهزيمته فما كان إال أن أجبته «هناك جيش
والدي!».
بعَد ظهر يوٍم من األيام دخل غرفتي أحد مراقبي التقّيد بالنظام في المدرسة -وهو من طلبة
الصفوف العليا -فأخرج أخي من الغرفة وجاَء بأحد الفتية األكبر مني سنًا وقال لنا« :هياَ ،فْلنَر َم ن
منكما األقوى» .أخذتني الحماسة للفكرة .لكنني لم أكن أعرف كيف أقاتل شخصًا آخر ولم يكن
خصمي أكثر خبرة مني في ذلك .وهكذا أمسَك كل منا باآلخر وراح ينهال ضربًا على ظهره .ترَكنا
المراقب على هذه الحال إلى أن كادت أنفاُسنا تنقطع .فصَل بيننا لحظاٍت قليلة ثم عاد فأفلَتنا على
القتال مجددًا .في تلك اللحظة قفزُت إلى السرير ووثبت على الخصم فرميُته مسطحًا على األرض
فأصيب رأُسه بضربٍة قوية .أخَذ منا الخوف مأخَذه من أن تكون إصابُته خطرة ،وعندئٍذ سحبه
المراقبون إلى الخارج .كل ذلك حدث بمجرد المصادفة ،لكن بما أنني تغّلبت على فتى أكبر مني سنًا
وقامًة ،بدأ اآلخرون ُيظهرون نحوي مزيدًا من االحترام.
كنت قد وصلُت لتوّي إلى إيغلبروك عندما تزّو ج والدي علياء طوقان ،كريمة أحد الدبلوماسيين
األردنيين من عائلة مرموقة من أصٍل فلسطيني .لكّن الملكة عليا ُقتلت في حادٍث مأساوّي بسقوط
مروحيتها وتحّطمها في العام 1977وكانت لم تتجاوز الثامنة والعشرين .في السنة التالية تزّو ج
والدي ليزا حلبي ،كريمة رجل أعمال أميركي من أصل عربي وكان من كبار مسؤولي وزارة
الدفاع األميركية ،وبعد الزواج حملت اسم الملكة نور.
إنني أنتمي إلى عائلة كبيرة ،فباإلضافة إلى أختي الكبيرة عالية من زواج والدي األول في
خمسينيات القرن الماضي بالشريفة دينا عبد الحميد ،هناك شقيقي فيصل وشقيقتاي التوأمان عائشة
وزين .ورزق والدي والملكة علياء بأختي هيا وأخي علّي كما تبّنيا فتاًة يتيمة هي عبير .وفي ما بعد،
عندما تزوج والدي الملكة نور ،انضَّم إلينا أخوان اثنان هما حمزة وهاشم ،وأختان أخريان هما
إيمان وراية .وبذلك يكون مجموُعنا اثَنْي عشر أخًا وأختًا ،خمسة ذكور وسبع إناث ،ولكننا جميعًا
عائلة واحدة بحمد هللا .يحلو لنا ،أنا وإخواني األربعة ،أن نقول إننا كاألصابع الخمس في اليد
الواحدة ،نمّد يَد الصداقة والمودة لكل من ُيضمر الخير والنّيَة الحسنة ،أما الغريب الذي يريد بنا أذّيًة
وشرًا فنتكّتل في وجهه ُح زمًة أشبَه بقبضٍة من فوالذ.
في األردن وفي المنطقة برّم تها ،كان العام 1972عاَم توّتٍر واضطراب .فالواليات المتحدة
األميركية بقيادة الرئيس نيكسون ،وسَط انشغالها بالتقّر ب من الصين ،أوقفت معظم تحركاتها
الدبلوماسية الهادفة إلى التوّسط للخروج بحٍّل للصراع العربي -اإلسرائيلي .أما في مصر وسوريا
فكان خزيُن الصبر العربّي يتضاءل وينخفض منسوبه حيث أعلن أنور السادات ،الذي َخ َلَف عبد
الناصر في العام ،1970في خطاٍب له في كانون الثاني/يناير أّن «المعركة أمر حتمي» .في أيلول/
سبتمبر اتفق السادات واألسد على تنسيق هجوم متزامن يقومان به ضد إسرائيل ،من أجل استعادة
األراضي التي خسرها البلدان في حرب العام .1967
في السادس من تشرين األول/أكتوبر من العام 1973هاجمت القوات المصرية القوات
اإلسرائيلية التي كانت تحتل شبه جزيرة سيناء ،فيما تحركت القوات السورية نحو مرتفعات
الجوالن .بعد أن استفاقت القوات اإلسرائيلية من هول الصدمة التي خّلفها الهجوم المفاجئ،
واستوعبت تداعياته ،أي بعد اشتعال الحرب بثالثة أسابيع ،استعادت هذه القوات زمام المبادرة
وباتت لها اليد الطولى في الحرب .ومع أن السادات واألسد لم ُيطلعا والدي على مخططهما لشّن
الحرب ،فقد انضَّم إليها األردن بحكم الدعم الذي القته من كل العالم العربي .كان أمن األردن
وسالمة األردنيين أولوية والدي األولى ،فوضع القوات األردنية في حالة تأهب واستنفار عاليين،
ودفَع باللواء المدّر ع األربعين لدعم الجيش السوري في مرتفعات الجوالن ،من دون أن يخاطر بفتح
جبهة ثالثة من خالل اجتياز الحدود إلى الضفة الغربية .بعد مرور ثالثة أيام وقع اشتباك لم يطل
كثيرًا بين القوات األردنية والقوات اإلسرائيلية أصيبت فيه إحدى السرايا األردنية بخسائر فادحة.
حين ُأعِلن وقف إطالق النار في الثاني والعشرين من تشرين األول/أكتوبر لم تكن الحرب قد غَّيرت
شيئًا من األمر الواقع على األرض ..بعد تلك الحرب بين إسرائيل وجيرانها هدأت الساحة على مدى
عقٍد من السنوات تقريبًا .وبعد حرب أكتوبر بأربع سنوات ،أي في تشرين الثاني/نوفمبر من العام
،1977بات الرئيس أنور السادات أول زعيم عربي يزور إسرائيل .في شهر أيلول/سبتمبر من العام
1978وَّقعت مصر وإسرائيل اتفاقات كامب ديفد التاريخية التي كان أحد وسطائها الرئيس
األميركي جيمي كارتر .ولم يمض أكثر من عام على توقيع اتفاقات كامب ديفد حتى وّقع البلدان
معاهدة السالم بينهما .أعادت إسرائيل شبه جزيرة سيناء إلى مصر التي أصبحت أول دولة عربية
تعترف بإسرائيل.
***
مع أن مجريات الصراع العربي اإلسرائيلي كانت على ُبعد خمسة آالف ميل من حيث كنا،
وصلت أصداؤها غرب ماساتشوستسُ .بَعْيد بداية حرب أكتوبر ،وأثناء وجودي في قاعة الطعام
أساعد في تقديم الوجبات تمشيًا مع التقاليد التي حاَفظْت عليها إيغلبروك في أن ينخرط الطلبة
الصغار في مثل هذه األعمال ،رماني رئيس الخدم ،وهو من طالب الصفوف العليا ،بنظرٍة جافة
وأومأ لي بأن آتي إليه .ما إن اتجهت نحوه حتى هاجمني .كانت قاعة الطعام تعّج بالطلبة فنظرت
إليه وأنا ال أصدق ما حدث ،عندها قال لي« :أنت عربّي ،وأنا أكرُهك!» ثم استدار ومشى .عندما
عدت إلى عمان في العطلة كانت والدتي تسألني عن أحوالي في المدرسة ،ومع أنني كنت أحيانًا أرّد
بأنني لست شديد السعادة هناك ،فقد تجَّنبُت دائمًا الخوض في التفاصيل .لقد ترّبيت على االبتعاد عن
القيل والقال وعلى ضرورة أن يخوَض كل إنسان معارَكه بنفسه.
خالل تلك العطلة آذيُت معصمي بسبب حادث تعّر ضت له خالل رحلٍة بحرية ،وبعد أن ضَّم د
الطبيب جرحي وربَط يدي إلى عنقي ريثما تتحّسن ،دخلت إلى المنزل حزينًا ،مشفقًا على نفسي مما
أصابني .رأيت والدي وكنت على وْش ك أن أبدأ تالوة قصتي عليه عندما بادرني بنظرٍة واضحة
الفحوى كأنه يقول« :عالَم كل هذا النحيب؟» كان والدي من ذلك الجيل الذي يؤمن بأن على اإلنسان
أن يكون شديَد المراس .أما أنا فلكي أظِهَر أنني لست ضعيفًا نزعُت الرباط الذي يعّلق يدي بالعنق.
أّدى هذا إلى توّر م شديد في ذراعي .فعدت إلى المستشفى بعد ثالثة أيام ألْخ ِذ صورٍة باألشعة
لذراعي فتبّين أن فيها كسرًا وال بد من وضعها في الجبس.
ذلك الحادث الذي أدى إلى إصابتي بكسٍر في معصمي أّدى أيضًا إلى ترسيخ قدمّي في إيغلبروك.
فيدي المكسورة حالت دون مشاركتي في صفوف التزلج على الثلج .وعندما ُنزع الجبس عن
معصمي ،لم يكن بقي من الفصل الدراسي سوى ثالثة أسابيعُ .و ِّج هت للتدرب مع فريق المصارعة.
وبدأت التدّر ب ،مستفيدًا من تمارين تدعى «كوماندو »7مبنية على برنامج تدريبّي للجيش الكندي
كان والدي ،وهو الممارس الدائم لتمارين اللياقة البدنية ،قد عّلمني إياها .وتبّين لي أن لدّي القابلية
لكي أجيد هذه الرياضة .في السنة التالية ،عندما بدأت أزداد قوًة ولياقًة بدنية ،انضممُت إلى فريق
المصارعة .صحيح أن رفاقي الطالب لم تكن تعنيهم األلقاب كثيرًا ،لكّن األكيد أن احتراَم هم للقدرات
والكفاءات الرياضية كان كبيرًا جّدًا .باإلضافة إلى المصارعة أخذت أهتم بألعاب القوى .وفي تلك
األيام كنت عّداًء جيدًا خصوصًا في المسافات القصيرة .في ما بعد أصبحت قائدًا لفريَقْي المدرسة في
ألعاب القوى والمصارعة .لقد زّو دني النشاط الرياضي سبيًال يجّنبني ما كنت أْلقاه من تحاُمِل بعض
زمالئي في الصف ،كما أتاحت لي الرياضة فرصًة مبِّك رة لفهم المزيد من شؤون القيادة.
لقد عانيت بعض األيام الصعبة مع رفاقي من الطالب في مدرسة إيغلبروك ،لكّن الحال كانت
مختلفة مع المعلمين الذين كانوا على درجة عالية من االمتياز وُح سن المعاملة .وقد أحرزُت تقدمًا
كبيرًا بفضل رعايتهم ،وال أزال محتفظًا بالكثير من الذكريات المحببة عن العديد منهم ،خصوصًا
مسؤولي القسم الداخلي ،ومعلمة اللغة الفرنسية ،ومدّر بي المصارعة الذين تدّر بت على أيديهم .لقد
زّو دوني الكثير من المعرفة وساعدوني في التكّيف على الحياة في الواليات المتحدة.
عندما حان وقت االنتقال إلى المدرسة الثانوية انحدرُت قليًال من موقع إيغلبروك في أعلى المرَتَفع
إلى أكاديمية ديرفيلد ،فيما بقي فيصل ،وهو يصغرني بسنٍة ونصف السنة ،في إيغلبروك .من حيث
المسافة لم تكن المدرسة الجديدة تبعد أكثر من ميٍل واحد ،لكنها كانت دون ريب عالمًا آخر مختلفًا
كل االختالف .كانت ديرفيلد تختزن تراثًا عمُر ه مئتا سنة من التراكم المعرفّي والثقافّي ،وكانت
مكَّر سة بكليتها للتمُّيز في المستويات األكاديمية العالية ،لكن أيضًا لصقل الشخصية اإلنسانية
وتطويرها .كان جُّو ها العام يوحي بالحرص على االحترام العميق والصادق وعلى فضيلة التسامح،
وعلى الحّس القوّي بمفهوم التكامل الجماعي بين الطالب .إن بإمكاني القول بمنتهى الصدق إن
السنوات التي أمضيُتها في ديرفيلد كانت من أسعد سنوات عمري.
كنت أمتلك مؤهالٍت ورصيدًا رياضيًا جيدًا بالنسبة إلى فتى جديد ،وقد استطعت االنضمام إلى
فريق المدرسة للمصارعة منذ سنتي الثانية .لكن ذلك لم يتم دون كفاٍح حقيقّي .ففي تلك األيام كان
الوزن من العوامل األساسية في المصارعة ،ولذلك قال لي المدّر ب إن علّي خفض وزني إلى
حوالى 54كيلوغرامًا لكي أستطيع االنضمام إلى الفريق .كان وزني آنذاك 59كيلوغرامًا ،وكنت
أتمتع ببنية بدنية جيدة .أدركت يومها أن السبيل الوحيد لخفض وزني بهذا الَقْدر هو أن أكّف عن
األكل ،وهكذا أمضيت ثالثة أسابيع كاملة لم أتناول خاللها سوى البسكويت الخفيف والجيلو .وأخيرًا
تأّهلت وانضممت إلى الفريق ،وفزُت في كل المباريات التي خضتها .وفي المباراة الثالثة انتزعت
الفوز بتثبيت خصمي في وقٍت قياسٍّي من إحدى عشرة ثانية .لكن هذا النجاح لم يدم طويًال .فالمبالغة
في الحّد من تناول الطعام جعلت قدرتي على التركيز في الصف ضعيفًة جّدًا ،وكانت النتيجة انعطافًا
فجائيًا في عالماتي نحو األسوأ .كذلك بدأُت أصاب باإلغماء ،فاضُطررت إلى التغيب عن المدرسة
بعض الوقت في إجازٍة مرضية .نتيجة لكل ذلك تقرر إخراجي من فريق المصارعة ووضعي في
صفوف االحتياط.
ال شك في أن من الصعب أن يكون المرء بعيدًا عن أهله ووطنه ،لكّن اإلقامة في أميركا حيث
تسود روح المساواة تثير فيك االنتعاش والنَفَس الحّر .عندما أكون في األردن علّي أن أكون دائمًا
االبن األكبر للملك ،ولهذا الموقع وطأُته وتأثيره في كل تواصل يجري بيني وبين المعلمين من جهة
وزمالئي الطالب من جهة ثانية .أما في ديرفيلد فال تفريق على اإلطالق بينك وبين الطالب
اآلخرين ،أكنَت ابن رئيس مجلس إدارة إحدى الشركات الكبرى ،أم طالبًا من األحياء الفقيرة
لشيكاغو جاَء بفضل منحٍة دراسية ،أو ابَن عائلة روكفلر ،الكل هنا عليه تنفيذ المهمات نفِسها ،كما
ُتتاح له المجاالت والُفرص نفُسها لكي ينجح ويبرز .كل يوم ،عند تناول الطعام ،كان يقف بعض
الطلبة حول الموائد ليخدموا رفاَقهم وزمالَء هم .مرًة كان دوري في الخدمة ويبدو أنني لم أكن ُأحِس ُن
العمل كما يجب فإذا بي أسمع جيم سميث ( ،)Jim Smithالذي كان مديرًا لقاعة الطعام ،ومدربًا
لفريق كرة القدم ،يصرخ ولكن بنبرة ودودة« ،عبد هللا ،صحيح أن والَدك ملُك األردن ،لكن في هذه
القاعة أنا الملك!» فهمُت الرسالة جيدًا ومن ثّم تحّسَن أدائي في الخدمة .كان سميث محبوبًا بين
الطالب ،وكان رب عائلة كبيرة وأبًا لعدد من الفتية وفتاٍة واحدة ،أما المدرسة فكان يعتبرها امتدادًا
لعائلته .كثيرًا ما كان يصدح صوُته مغنيًا في قاعة الطعام ،ومع أن صوته كان جميًال كان الطالب
يمّتعون أنفَسهم بممازحته مّدعين أن لديه صوتًا أشبه ما يكون بأزيز األظافر على اللوح األسود.
في ديرفيلد التقيت أول أصدقائي األميركيين المقربين ،جورج فو ( )George Fauxأو «جيج»
( ،)Gigوهو ابن طيار مقاتل من ضواحي بوسطن ،وتشيب سميث ( ،)Chip Smithمن عائالت
نيو إنغلند المرموقة ،وبري فيال ( ،)Perry Vellaالذي جاَء من حي كوينز في نيويورك بفضل
حصوله على منحة دراسية .كان أصدقائي يدركون من أية خلفيٍة أتيت ،لكنهم لم يقفوا متأهبين
ضاربين التحية ،فبالنسبة إليهم «كنت فقط عبد هللا» .لقد أتاحت لي ديرفيلد أن أعيش طفولًة عادية
وزّو دتني السبَل والوسائَل التي جعلت مني الرجَل الذي طالما أردت أن أكونه ،وحتى يومنا هذا ال
يزال بعض رفاق صفّي من ديرفيلد من أقرب أصدقائي وأَح ِّبهم.
بما أن األردن كان أبعد من أن أعوَد إليه إال في العطل المدرسية الطويلة ،كنُت أمضي العديد من
العطل القصيرة نسبيًا مع «جيج» وعائلته حيث كان يطيب لي أن أستعيد شيئًا من الجو العائلي فيما
أنا على هذا الُبعد الشاسع من بيتي وعائلتي .ففي تلك األيام كان علينا أن نبرمج االتصال الهاتفّي
الدولّي قبل الحصول عليه بأيام ،وهكذا لم أكن أتصل بوالدي إال مرًة أو مرتين خالل الفصل
الدراسي الكامل.
كان رجال الحرس الذين يتولون حمايتي يسكنون في بيٍت قريب من َحَر م المدرسة ،وقد اختبرُت
معهم مبّكرًا معنى «التحركات السرية» :كانت متعتي الكبرى البحث عن وسائل جديدة ومبتكرة
للهروب ليًال من مبنى سكن الطالب دون أن تقع علينا عيُن رقيب .صحيح أن النجاح لم يكن دائمًا
حليفنا ،لكن تلك المحاوالت كانت بمثابة العمل التدريبي لي وِلـ«جيج» تمهيدًا لتوّلينا مسؤولية مراقبة
السكن المدرسي عندما أصبحنا في السنة النهائية .في تلك المرحلة كنا قد أصبحنا على علٍم بمعظم
الحيل المستعملة ،وقد خبرنا بعضها بعد دفع الثمن غاليًا أحيانا .كان والد «جيج» طيارًا مقاتًال في
سالح الجو ويبدو أن «جيج» استطاع أن يضع يده ،بطريقة أو بأخرى ،على طلقة إشارة عسكرية.
أخذ منا الفضول مأخذه وأردنا أن نكتشف كيف تعمل هذه الطلقة .في إحدى الليالي تسّللنا خارَج ْين
من السكن المدرسي يصحبنا صديقان آخران وأشعلنا الطلقة وأطلقناها فإذا بالشعلة ترتفع وتضيء
ليَل نيو إنغلند ناشرًة نوَر ها األحمر الوّهاج فوق َحَر م المدرسة ومبانيها ،لتتجه بعد ذلك نحو مدخل
مبنى صالة الرياضة القديم ،وهو بناء فخٌم ثابت األركان ترتفع على مدخله أعمدٌة بيضاء ويضّم
مالعَب األسكواش وأقسام التدّر ب على المصارعة .أصابنا الهلع من أن ُتشِعَل الطلقة مبنى صالة
الرياضة وتمتد النار منه إلى قاعة الطعام المجاورة ،فهَبْبنا مسرعين نحو البناء لالطمئنان .ال أزال
حتى اللحظة أذكر ذلك الشعور باالرتياح عندما تبّين لنا أن الشعلة كانت قد عبرت فوق سطح ذلك
البناء المهيب ثم سقطت في أرض الملعب.
لم يفدني الحرس المكلفون حمايتي كثيرًا عندما احتجُت إليهم لمواجهة بعض الطلبة في إيغلبروك،
لكنهم كانوا يمتلكون «فضيلًة» كبرى :سيارتهم .كنا ،أنا و«جيج» نطلب منهم أن يوصلونا إلى منزل
والديه كلما كانت لدينا عطلة أسبوع طويلة .أذكر عندما زرنا العائلة للمرة األولى كيف اعترى
والَدْي «جيج» شيٌء من التوتر عندما شاهدانا ننعطف نحو المنزل ويحيط بنا في السيارة حّر اٌس
مسلحون .ولكن ما لبث هذا التوتر أن انتهى عندما صّو ب «كريس» ( ،)Chrisاألخ األصغر
ِلـ«جيِج» ،مسدَسه الدمية نحوي .غرقنا جميعًا في الضحك وانطلقنا على سجّيتنا في جٍو عائلي
تسوده الفوضى في منزل آل «فو» .كانت والدة «جيج» ،ماري ( ،)Maryاألميركية من أصل
إيطالّي ،قد أعّدت لنا طبقًا شهيًا من الالزانيا ،التي باتت في ما بعد أكلًة مألوفة لدّي ،ألن ماري كانت
تزودنا بصينيٍة منها بعد كل زيارة من زياراتنا نأخذها معنا إلى ديرفيلد .وأنا ،حتى يومنا هذا،
أرفض تناوَل الالزانيا إال مطبوخًة بيدها.
كان دان هودرمرسكي ( ،)Dan Hodermarskyذو اللحية البيضاء والشخصية المرحة الزاخرة
بالنشاط والحيوية ،رئيس دائرة الفنون ،من أحّب المعلمين إلّي .شخصية ودودة ،اجتماعية وقريبة
من الناس ،ومحبوبة من كثيرين من الطالب .كالعديد من معّلمي ديرفيلد ،كان هودرمرسكي يرعى
شؤوننا ويهتم بنا كما لو كنا أوالده .كثيرًا ما كان يغض النظر عن تصرفاتنا الصبيانية ،لكنه كان
حريصًا دائمًا على أن يعيدنا إلى المسار الصحيح بمالحظة أبويٍة لطيفة.
عندما حان الوقت ليذهب شقيقي فيصل إلى المدرسة الثانوية ،وبما أنه لم يشأ أن يبقى معروفًا
بـ«األخ األصغر لعبد هللا» ،فقد قرر عدم السير على خطاي في االلتحاق بديرفيلد .حين كنا ال نزال
أطفاًال كان مصّم مًا على أن يفعل كل شيء على عكس ما أفعله أنا ،فإذا ارتديُت تي -شيرت وجينز،
ارتدى هو بدلًة رسمية .بعقله األكاديمّي وموهبته في الرياضيات ،التحق بمدرسة «سانت ألبانز»
( )St. Albansفي واشنطن ،ثم أكمل دراسته في الهندسة الكهربائية في جامعة «براون»
( ،)Brownفي مدينة بروفيدنس في والية رود آيلند .بعد دراسته الجامعية في براون رَّسَخ تمُّيَز ه
عني بالتحاقه بكلية سالح الجو الملكي في كرانويل في إنكلترا ،خّر يجًا طليَع دورته وفائزًا بخمٍس
من أصل سبع جوائز ُتمنح للمتفوقين من التالميذ المرشحين .بعدئٍذ التحق طيارًا بسالح الجّو
األردني.
مرت مرحلة دراستي في ديرفيلد مرورًا سريعًا ،ورأيُتني فجأًة أقترُب من نهاية السنة األخيرة.
كنت مزمعًا على االلتحاق بجامعة «دارتموث» ( )Dartmouthمع «جيج» ،لكّن الحياة كانت قد
أعّدت لي مسارًا آخر .فقبل تخّر جي بفترٍة وجيزة جلسُت مع والدي وسألني خالل الحديث عن
المدرسة وكيف تسير األمور ،ثم سأَل عما كنت أنوي فعَله بعد التخّر ج .أخبرته عن نّيتي االلتحاق
بالجامعة لدراسة القانون والعالقات الدولية .بعد أن أصغى إلّي بهدوء حتى أنهيت كالمي قال« :هل
سبق أن فكرت في الجندية؟» وبما أن السؤال جاء من والدي فقد اعتبرُته أمرًا أكثر منه سؤاًال أو
اقتراحًا .ومن هنا بدأت أدرُس الخيارات المتاحة .ذهبت في زيارٍة إلى «سيتادل» ( ،)Citadelالكلية
العسكرية في والية كارولينا الجنوبية ،لكن ما إن اّطلعت على برنامجها الدراسّي الصارم ذي النهج
البروسي ،والذي يمتد على أربع سنوات ،حتى صرفت النظر عن االلتحاق بها .عندما مررت بقاعة
الطعام بدا لي أن التالميذ المرشحين يرتدون وجوهًا رسمية تعكس صرامًة غير محببة .ما أكبَر
الفارق بين هذا الجو وبين ما خبرُته في ديرفيلد.
عدُت إلى عّم ان ،وفيما كنت مع والدي وفيصل نشاهد فيلمًا سينمائيًا في إحدى األمسيات ،قال
والدي ،وقد شعر بأنني لم أكن متحمسًا لتحصيل العلوم العسكرية في أميركا :ما رأيك
بـ«ساندهرست» ،أنا وجُّدك التحقنا بها ،فلَم ال تذهب إليها؟
ي
ن
ا
ث
ل
ا
م
س
ق
ل
ا
الفصل الخامس :سـانـدهـرسـت
شعرُت بالحصى ينسحق تحت عجالت السيارة فيما كنت أنعطف بها نحو البوابة .خرجت من
السيارة فتناولت حقيبتي وسرت برفقة المسؤول عن استقبال الطالب الجدد .في الواليات المتحدة،
في خريف العام 1980كان أصدقائي من ديرفيلد يكتشفون متعة موسيقى البوب ،ويرقصون على
أنغام «فليتوود ماك» ( )Fleetwood Macو«بلوز براذرز» ( ،)Blues Brothersوفي المملكة
المتحدة كان بعض أبناء جيلي مأخوذين بَثْقِب آذانهم وأماكن أخرى من أجسامهم وبصبغ شعرهم
باللون األرجواني .أما أنا فكنت على وْش ِك الخوض في تجربٍة مختلفٍة تمامًا .ففيما كنت أعبر بوابات
األكاديمية الملكية العسكرية ساندهرست ،كانت الصدمة الكبرى في انتظاري.
األسابيع الخمسة األولى يمكن وصُفها بالجحيم .كنا نسير على مدى ساعات طويلة في ميدان
االستعراض .وكنا ننهض من السرير قبل الفجر لكي نركَض في البرد القارس وتحت المطر
المنهمر ،ولم نكن ننتهي من تلميع أحذيتنا حتى نعود نلّم عها مجددًا ،فيما ال يكّف الرقيب عن رفع
صوته صارخًا بوجوهنا صبَح مساء .فّكرت في نفسي« :إلى أّي منَز لٍق انزلقت؟» كل رفاقي من
ديرفيلد ُيمضون اآلن سنَتهم األولى في جامعاٍت مثل دارتموث وبراون وكولومبيا حيث ال ينتظرهم
من المصاعب أكثر من مجرد فصِل شتاٍء بارٍد يحاصرهم فيه الثلج والجليد .أما أنا فها إنني أركض
حول ميدان «باروّسا» ( )Barossaحامًال بندقيتي والوحل يغطي وجهي .إنه حقًا َلمْش هٌد سوريالي.
كان هناك طريٌق روماني قديم إلى جانب ميدان التدريب يدعى «طريق الشيطان السريع» (The
.)Devil’s Highwayوبعد أن قضيت هناك حوالى ساعتين في ذلك البرد القارس كَّو نت فكرًة
بمنتهى الوضوح عن ذلك الطريق وكيف استحق اسمه.
في تلك األيام كان معظم التالميذ المرشحين خريجي المدرسة الثانوية ،وكانوا كُّلهم في الثامنة
عشرة .وال أحسُب أن معظمنا كانت لديه أدنى فكرة عما كان ينتظره في األكاديمية .نصف التالميذ
المرشحين غادروا الفصيل الذي كنت أنتمي إليه قبل مضّي خمسة أشهر على التحاقهم .لقد ُصِّم َم
برنامج التدريب لكي يكون قاسيًا ،والمسؤولون الكبار من العسكريين كانوا يتوقعون ،دون شك ،أن
يغادر البعض قبل إتمامه مندرجات البرنامج .الواقع أنهم كانوا يختبروننا ليختاروا األفضل من بيننا،
أي أولئك الذين ال يستسلمون .أذكر أننا كنا نتمرن بعد ظهر أحد األيام بإشراف الرقيب لولي وتحت
مراقبته اليِقَظة ،فجعَلنا نركض وصوًال إلى البوابة الرئيسية حيث كان بوسعنا أن نشاهد من هناك
كلية األركان في «كامبرلي» ( )Camberleyالتي كان كبار الضباط يتابعون فيها علومهم
العسكرية العالية .بدا لنا منظرها من حيث كنا أشبَه بقصٍر صغير .طلب منا أن نقوم بتمارين
الـ«( »push-upsتمرين رياضي لعضالت الذراعين والكتفين) ،وفيما نحن منبطحون ،وجوهنا إلى
األرض في الوحل ،قال« :هذه كلية األركان هناك ،وإذا شئُت الحكم عليكم كما تبدون لي اآلن فإن
أحدًا منكم لن يقترَب يومًا من هذه الكلية أكثر منه اآلن!».
كان الرقيب لولي فيلسوفًا ولكن بقاَلٍب عسكرّي .كنا في وسط تمرين بالذخيرة الحية في منطقة
ريفية ،وكانت األمور تسير معنا من سيٍئ إلى أسوأ .كانت مجموعتي على وشك أن تهاجم إحدى
التالل ،وننتظر تلقي األمر بذلك .كنا أنا والرقيب جالَسْين على مسافٍة قصيرة من اآلخرين وتحجبنا
عنهم بضع شجرات .قال الرقيب« :السيد عبد هللا ،منذ بعض الوقت وأنا أتحّين الفرصة ألخبرك
شيئًا» .ثم سكَت لحظاٍت إلعطاء كالمه وطأًة شديدة ،واستأنف قائًال« :سوف تبقى دائمًا غارقًا في
المتاعب ،والشيء الوحيد الذي قد يتغّير معك هو حجمها» .وقد تبّنيُت هذا القول شعارًا لي وال أزال
حتى اليوم أفكر في كلماته وأستعيدها عندما أواجه وضعًا شديد الصعوبة.
الذين نجحوا من بيننا في تخطي برنامج التدريب األساسي تخرجوا برتبة ضابط .أما الذين ينوون
احتراف العمل العسكري واتخاذه مهنًة لهم فكان عليهم أن يتابعوا برنامَج تدريب إضافيًا يمتد على
ستة أشهر ويتناول ثالث مواد أساسية هي القيادة ،ومبادئ النظام العسكري البريطاني ،والعالقات
الدولية .بعد تسّلمي رتبة ضابط في الجيش البريطاني من الملكة إليزابيث كان علّي أن أختار فوجًا
ألنضم إليه ،وقد ُشِّج عت على االلتحاق بفوج مشاة عريق من أقدم األقسام المدرعة في حرس الملكة
الخاص يدعى فوج «حراس كولدستريم» ( .)Coldstream Guardsفقد ُعَّد فوجًا مناسبًا ألمير.
واألهم من ذلك أن الرقيب الذي أشرف على تدريبي كان ينتمي إلى هذا الفوج ،وهكذا بدأُت
االستعداد لاللتحاق به.
كان الوجه السلبي في المسألة أن الحياة اليومية لجندي المشاة لم تكن شيئًا يتطلع إليه المرء .خالل
إجازة أسبوعية نادرة من ساندهرست التقيت ولّي عهد البحرين في فندق «دورتشستر»
( )Dorchesterفي لندن .كان الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة من أصدقاء والدي المقربين وكنت
أعتبره بمثابة عٍم لي .بما أنه هو أيضًا من خريجي ساندهرست فقد قابَلني بابتسامة العارف عندما
أخبرته عن تلك التمارين المرهقة التي كنا نخضع لها .حين ودعته قّدم لي هديًة مفاجئة :سّلة مليئة
بالسندويشات من مطابخ فندق دورتشستر .وبفضل هذه السلة من األطايب كنت في تلك األمسية
النجم األكثر شعبيًة بين رفاقي في الفصيل ،مع أنني أشك في أنهم صّدقوني عندما أخبرُتهم بأن
السندويشات كانت هديًة من ولي عهد البحرين.
مرت سنواٌت عدة ،وخالل زيارٍة لي إلى لندن اشتريت سلة سندويشات من الدورتشستر وأنا على
يقين من أن حفيد الشيخ حمد -ملك البحرين حاليًا -الذي كان في عداد التالميذ المرشحين في
ساندهرست سيرّح ب بالهدية كما رّح بُت بها أنا حين أهدانيها جده ،وقد استرجعنا معًا العديد من
الذكريات عّم ا كان يمر به من تجارب.
في ربيع العام ،1981قبل أسبوع من الوقت المحدد التخاذي قرارًا نهائيًا بشأن الفوج الذي
سأنضّم إليه ،كنُت مع فصيلي نقوم بالتمارين المقررة في منطقة خاصة بهذه الغاية قرب الحدود مع
ويلز .كان قد مضى علينا هناك أربعة أيام في أحواٍل مناخية رهيبة ،وعواصف ثلجية وأمطار
وصقيع .أصيبت قدماي بعّضة الصقيع ،وكنا جميعًا في حالٍة يرثى لها .في ساعات الليل كان البرد
من القساوة بحيث جعَل البعض منا يعّبر عن تعاسته بالبكاء.
ُبعيد الفجر وبعد أن شنّنا هجومًا معاكسًا ضد موقع لنا كان قد استولى عليه «النيباليون» (The
،)Gurkhasاقتربْت من خندقنا دبابة خفيفة من نوع «سكوربيون» ( )Scorpionوهي من فريق
االستطالع التابع لفوٍج آخر كان يقوم بتمارينه .كانت الشائعات الدائرة بين المشاة توحي بأن ما في
داخل الدبابات يمكن أن يكون أّي شيء ،من جهاز تلفاز إلى ماكينة غسيل وربما إبريق لغلي المياه
يتيح لقادة الدبابات أن يتناولوا شرابًا ساخنًا .أخرَج أحد الضباط الفرسان رأسه من برج الدبابة وكان
يحمل في يده فنجان شاي ساخن يخرج منه اللهب .نظر إلينا نظرًة عابرة ثم اختفى داخَل دبابته
ليعود ويظهر من جديد وفي يده كأٌس من النبيذ .رفع الكأس في ما يشبه التحية لنا ثم أغلق فتحَة
البرج بحركة عنيفة وسلكت الدبابة طريقها.
«ال ،ال ..انتهى األمر ،إلى الجحيم بالمشاة» ،فّكرُت في نفسي« :سوف أنضم إلى سالح
الفرسان!» في اليوم التالي انتقلت إلى االستطالع وانضممُت إلى الفوج 13/18في قوات
«الهوسار» الملكية ( )Royal Hussarsالذي اندمج في ما بعد بفوٍج آخر هو الفوج 15/19من
قوات «الهوسار» الملكية ،وقد نشأ من هذا الدمج فوج «ذا اليت دراغونز» (.)Light Dragoons
ومنذ بضع سنوات شَّر فتني الملكة إليزابيث الثانية بأن َج علتني العقيَد القائد لهذا الفوج.
التحقت برتبة مالزم ثاٍن وبعد شهرين تابعت دورة تدريٍب أساسّي للضباط الشباب وعدت بعدها
إلى قواعدي في الفوج .أكملت َتدُّر بي على المدرعات في «بوفينغتون كامب» (Bovington
)Campفي «دورست» ( )Dorsetوتدربت ضابطًا على مدى سنة في الجيش البريطاني في كٍل
من المملكة المتحدة وألمانيا الغربية .في تلك الفترة ،في ثمانينيات القرن الماضي ،كانت الحرب
الباردة ال تزال في أوج حدتها .وباعتبارنا فوجًا مدرعًا كان من المهام الموكلة إلينا أن نصَّد تقدمًا
روسيًا محَتمال إلى عمق ألمانيا الغربية مرورًا بثغرة «فولدا» (.)Fulda
ذات يوم كنت مع فوجي في طريقنا إلى مهمة جديدة غرب لندن على متن ناقالِت جنٍد مدرعة من
نوع فوكس ،وهي تسير على عجالت ال على الجنازير ،مع أنها مجهزة ببرج يعلوه مدفع من عيار
30ملم وقد تبدو للناس العاديين أشبه بالدبابة .هذه الناقالت كان معروفًا عنها أنها سريعة ،وهكذا
عندما سلكنا الطريق السريع الرئيسي M4عَّن لي أن ُأخِض َع تلك الناقالت لالمتحان .تزايدْت
سرعتنا حتى تجاوزنا الحدود القصوى المسموح بها بنسبة ملحوظة .في تلك اللحظة نظرت من
البرج إلى الخارج فرأيت سيارًة للشرطة تسير بمحاذاتنا مطلقًة العنان لصفارة اإلنذار واألضواء
الومضيةَ .أعطيت األوامر بالتوقف فانعطف الموكب إلى جانب الطريق وتوقف .خرج الشرطي من
سيارته واتجه نحونا وهو يهّز برأسه حيرًة وعجبًا ،وقال« :لست أدري كيف لي أن أكتب هذه
المخالفة» ،ثم أردف قائًال« :لن يصدقني أحد إذا قلت إنني أوقفت خمس دبابات على الطريق
الرئيسّي بسبب السرعة!» ثم تركنا نذهب في سبيلنا مع إنذاٍر بأن علينا أن نلتزم السرعة المحددة.
خالل حرب الـ«فولكالند» ( )Falklandsالتي نشبت في نيسان/إبريل من العام 1982بين
األرجنتين وبريطانيا حول السيطرة على جزر الفولكالندُ ،و ّز عت علينا ألول مرة بطاقات التعريف
التي يعّلقها الجنود في أعناقهم أثناء القتال وهي تحمل معلومات عن كل منهم حتى إذا ُقتل في
المعركة كان باإلمكان التعرف عليه .اتصلت بوالدي وأخبرته أنهم يوزعون علينا بطاقات التعريف
ويبدو أن من الممكن أن يرسلونا إلى الجبهة .لم يتوقف لحظة ،وقال دون تردد« :إذا ذهبوا تذهب
معهم» .لكن الذي حدث أنه ُأرسلت وحدًة أخرى ،أما نحن فقضينا فترة الحرب نتابع دورًة تدريبية
في «فورت بولك» ( ،)Fort Polkفي والية لويزيانا.
في حزيران/يونيو من العام ،1982وفيما كانت حرب الفولكالند تقترب من نهايتها ،كانت شرارة
حرٍب أخرى على المقلب اآلخر من العالم تنطلق وذلك عندما غزا الجيش اإلسرائيلي جنوب لبنان
في السادس من حزيران/يونيو ،أي بعد أربع سنوات فقط على تجاوز هذا الجيش الحدود اللبنانية
واحتالله جنوب البالد بهدف تدمير منظمة التحرير الفلسطينية وتوسيع الرقعة الفاصلة التي كان قد
أقامها ووضعها تحت قيادة قوة تشرف -بالوكالة عنه -على ما كان يسّم ى آنذاك الشريط الحدودي
بقيادة ضابط لبناني منشق .بحلول العام 1978كانت القوات اإلسرائيلية قد اسُتبدلت بقوة األمم
المتحدة المؤقتة في لبنان الـ( )UNIFILوالتي أنشئت بموجب قرار مجلس األمن الدولي الرقم
.425كانت مهمة هذه القوات ،بموجب مندرجات القرار ،تأكيد انسحاب إسرائيل من األراضي
اللبنانية ومساعدة حكومة لبنان في إعادة تثبيت األمن والسالم في البالد.
هذه المرة ،وخالفًا لمضمون اتفاق وقف إطالق النار ،الذي جاء نتيجة توّسط المبعوث األميركي
فيليب حبيب في تموز/يوليو من العام ،1981شّن الجيش اإلسرائيلي بقيادة وزير الدفاع آرييل
شارون حملًة عسكرية كاسحة أطلقت عليها إسرائيل اسم «عملية سالمة الجليل» وكانت تستهدف
ياسر عرفات ومقاتليه المنضوين تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية .وصل شارون يوَم ها بقواته
حتى العاصمة بيروت ،وكانت هذه الحرب أولى حروب الشرق األوسط التي صّو رتها شاشاُت
التلفزة وشاهدها ماليين الناس غير مصِّدقين أعيَنهم وهم يرون الدبابات اإلسرائيلية تزحف نحو
شوارع إحدى العواصم العربية .بالنسبة إلّي وإلى كل العرب ،كان هذا حدثًا مأساويًا موجعًا لن
تزول آثاره بسهولة .كانت لحظًة مفصلية وتاريخية ،وال يزال كثيرون ممن عاشوا أهوال ذلك
الحدث يذكرون ويروون ماذا كان كل منهم يفعل عندما غزت إسرائيل لبنان .شاهدت الحدث على
الشاشة في قاعة الضباط في ثكنة «كارفر» ( )Carverفي «سافرون والدن» (Saffron
)Waldenإلى الجنوب من كامبريدج .كانت إسرائيل في تلك األثناء تقصف العاصمة اللبنانية
بيروت بمدفعية من عيار ثماني بوصات ،وهي مدفعية معروفة بعدم دقة تصويبها .من هنا أدركُت
أن الكثير من الضحايا المدنيين سيسقطون جّر اء ذلك القصف األعمى .لكَّن أحدًا منا لم يكن يعلم أن
مدنيين سوف ُيسَتهدفون عمدًا وبمنتهى الوحشية.
بحلول نهاية آب/أغسطس كانت قوات منظمة التحرير الفلسطينية قد ُأخِر جت من بيروت .وفي
الرابع عشر من أيلول/سبتمبر اغتيل رئيس جمهورية لبنان المنَتخب بشير الجمّيل .بعد مرور يومين
على حادثة االغتيال دخلت القوات اإلسرائيلية المنطقة الغربية في بيروت وسمح شارون لجماعة
من مقاتلي الميليشيات المسيحية بالدخول إلى مخّيم صبرا وشاتيال لالجئين الفلسطينيين لتصفية
بعض الحسابات القديمة .سقط في المأساة الفاجعة التي انتهت إليها هذه المجزرة الرهيبة ما ال يقل
عن ثمانمئة ضحية .عندما بدأت الصور تتسّر ب أوًال بأوّل إلى العالم المأخوذ بالذهول والرعب،
راحت المشاهد تتكشف عن وحشيٍة من أبشع ما عرفه تاريخ اإلنسانية من إجرام اإلنسان بحق أخيه
اإلنسان .رأينا صور الجثث المتراكمة في الشوارع الواحدة فوق األخرى ،نساء وأطفال وقد ُنحروا
بالسكاكين والفؤوس ،ورجال مسّنون ُص ّفوا أمام الحائط وُح ِص دوا بالرصاص .وَطوال هذه المشهدّية
من المجازر الحية كان الجيش اإلسرائيلي يحيط بالمخيَم ْين ويطلق القنابَل المضيئة في ليل بيروت
المظلم لكي يضيء للقتلة طريقهم ويتيَح لهم إكمال إنجازاتهم اإلجرامية .أصاَبني غضٌب ال يوصف،
وأمضيت أيامًا حزينًا يجافيني النوم ،وما إن ُأغِم َض عينَّي حتى تطارَدني صوُر الجثِث المشَّو هِة
والمبتورِة أطراُفها.
من أقاصي األرض عَّم ت الصدمة والغضب كل َم ن شاهد تلك البشاعات واألعمال المشينة بحق
اإلنسانية .كيف يمكن أن تدعي إسرائيل الديموقراطية وتطبيق القوانين وتسمح بأن يقف جنوُدها
وضباُطها مكتوفي األيدي متفرجين على جرائَم وحشية كهذه تنحر إنسانية اإلنسان ال في جسده
فحسب بل في جوهر إنسانيته أيضًا .لقد رأى الناس في آرييل شارون ،الذي وقف وزيرًا للدفاع
يراقب مجريات المجزرة ،قاتًال ومجرَم حرب بامتياز .وفي شباط/فبراير من العام 1983خرجت
لجنة كاهان ،التي شكلتها الحكومة في أيلول/سبتمبر من العام 1982للتحقيق في الحادث ،بخالصٍة
مفادها أن شارون يتحّم ل «مسؤوليًة شخصية» عن فشله في منع وقوع المجزرة وأوصت بأن يزاح
عن منصب وزير الدفاع .بالنتيجة استقال شارون كوزير للدفاع ولكنه بقي عضوًا في الحكومة
ووزيرًا دون حقيبة.
كنت أعّلل النفس بأنني سوف ألتحق بالجامعة في الواليات المتحدة بعد ساندهرست .لكّن الحياة
أبت إال أن تأخذ مسارًا آخر .بعد إكمال سنٍة في صفوف الجيش البريطاني ،انتسبُت إلى كلية
«بمبروك» ( )Pembrokeفي جامعة أوكسفورد حيث أمضيت سنًة أدرس العالقات الدولية
وسياسات الشرق األوسط وسط تلك المرّبعات الخضراء الواسعة التي تحيط بها األبنية التراثيُة ذاُت
اللون العسلّي ،في ذلك الصرح العلمّي والثقافّي المهيب .قضيت معظم الوقت أدرس بمفردي على
كبار األساتذة المتمّيزين الذين تعّلمت على أيديهم الكثيَر الكثير حول التحديات التي تواجهها منطقتنا
وخبايا سياساتها وألعابها السياسية .لكن الحقيقة أن هذا النوع من الدراسة الجامعية لم يكن النوع
الذي كنت أصبو إليه .بعد إكمال البرنامج الدراسي في أوكسفورد عدت إلى األردن وإلى مسيرتي
المهنية في الجيش ،وما إن بلغت الحادية والعشرين حتى باتت الجندية عملي شبه الدائم أمارسه
ضابطًا في الجيش العربي األردني.
لعّل من دواعي أسفي القليلة في الحياة أنني ُح رمت من فرصة التمتع بسنواٍت أربع من الدراسة
الجامعية حتى التخرج على غرار رفاٍق لي في ديرفيلد .لقد اسُتْعِج لُت إلى الخوض في ما ُتلقيه
الرجولُة الكاملة على المرء من مسؤوليات .فالتربية والعلوم العسكرية تفرض عليك أن تلَج عالم
النضج وتحّم ل المسؤولية باكرًا وبسرعة ،وتواجهك بتحدي النهوض إلى متطلبات القيادة وتدعوك
إلى االهتمام بشؤون اآلخرين ورعايتهم .عندما كنت أسعى بكل ما أوتيت في تحصيل هذه
المهارات ،لم أكن أدرك آنذاك كم سيكون مردوُدها كبيرًا ومثمرًا في زمني اآلتي.
لقد عوملُت في ساندهرست ،كما خالل السنة التي أمضيُتها في الجيش البريطاني ،تمامًا كما
عومل كل تلميذ مرشح آخر وكل مالزم ثاٍن دون تمييز .هذا األمر كان مهمًا بالنسبة إلّي ألنه عَّلمني
أن أكتشف بسهولٍة وسرعة ،عندما أعود إلى األردن ،متى عمَد البعض إلى تمييزي عن اآلخرين في
معاملتهم .كنت مصممًا على أن تكون الجندية مهنتي األساس وأن أنصرَف لها بكلّيتي .لم أكن أريد
ممارسَتها «من فوق» بأن أصَل في سيارة مرسيدس بين الحين واآلخر الستعراض صٍف من
الجنود بوصفي عقيدًا شرفيًا لفوٍج من األفواج .أردُت أن أكون ،بقدر استطاعتي ،مجّر َد ضابٍط آخر
يقود رجاَله ويقاتل معهم.
الفصل السادس :ليـالـي القطـرانـة
عندما عدت إلى األردن في العام 1983التحقت باللواء المدّر ع األربعين ،وهو من األلوية
الفخورة بتاريخها .فهو ثاني أقدم وحدة مدرعة في القوات المسلحة األردنية .شارك هذا اللواء في
ثالث حروب ،وهي حروب األعوام 1967و 1970و ،1973وقاتل ببسالة حتى آخر رمق .كان
اللواء متمركزًا في بلدة القطرانة ،وهي بلدة صغيرة تبعد ستين ميًال إلى الجنوب من عمان .في
مطلع القرن العشرين ،كانت القطرانة محطة للقطار على سكة حديد الحجاز التي أنشأها العثمانيون
لتربط ما بين دمشق في سوريا والمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية .ولكن هذه البلدة لم تعد
تشهد الكثير من الحركة منذ تلك األيام .في الليلة األولى التي وصلت فيها ،وكنت في المقر الرئيسي
لّلواء ،سمعُت أصواتًا عالية آتية من قاعة الضباط فقصدُت إليها ألستطلع ما كان يجري فإذا بالمقاعد
كلها مصفوفٌة بانتظام خارج القاعة والضباط يحمل كل منهم كوبًا من الشاي فيما يستعدون للتمتع
بمنظر مغيب الشمس .منزعجًا من أن يكون المجال الوحيد للترويح عن النفس والتسلية لدى
الضباط ،بعد نهار طويل من العمل ،هو مجرد الوقوف أمام مغيب الشمس مع كوٍب من الشاي،
عدت إلى غرفتي فارتديت مالبسي الرياضية وذهبُت أركض.
لم يكن إبعادي إلى موقٍع في عمق الصحراء متعلقًا كثيرًا بكفاءاتي العسكرية .كان السبب أن بعضًا
من كبار الضباط شعروا بأن التحاقي بالجيش يهّدد مواقعهم ومراكزهم .طوال عملي في الجيش كنت
أواجه مشكالٍت كبيرًة مع بعض الضباط من ذوي الرتب العليا الذين كانوا يتخذون قرارات لم أكن
أرى فيها ما يخدم مصلحة القوات المسلحة كما ينبغي أن يخدمها .كنت على يقين من أننا بحاجة إلى
َطْر ِق أبواب الحداثة واالستفادة مما شهدته التكنولوجيا العسكرية من تطورات وتقنيات حديثة .لكّن
أولئك الضباط ،المدافعين بنواجذهم عن الوضع الراهن ،لم يروا حاجًة ألّي تغيير أو تطوير ،وبدا
لي أنهم مصّم مون على أن يجعلوا حياتي جحيمًا ال يطاق .في تقديري أنهم فكروا أنهم بمراكمة
الضغط علّي وإغراقي بالمطالب غير المعقولة وغير المنطقية ،وبالزيارات التفتيشية المفاجئة
وبعزلي في مواقَع صحراويٍة بعيدة ،يمكنهم أن يقنعوني بالتخّلي خالل بضعة أشهر عن إكمال
مسيرتي المهنية في الجيش واتخاذ دوٍر رسمّي يكون أكثر احتفاليًة منه دورًا جديًا وفاعًال.
كنت مصممًا على إحباط مخططاتهم .وشعرت بأن من األفضل لي أال أذكَر شيئًا من هذا أمام
والدي خشية أن يتدخل سرًا في األمر بغيَة تسهيل أموري .وقد تبّين لي في ضوء تطور األحداث أن
أكبر خدمة ُأْسِد َيت إلّي هي إرسالي إلى حيث كان يوجد الجيش بمعناه العسكرّي الحقيقّي .هناك،
وليس في مكان آخر ،وجدُتني أقيم على مدى أشهر طويلة ومن دون انقطاع .كثيرون هم الضباط
الشباب الذين ال يرغبون في البقاء وقتًا طويًال في الصحراء ،ويفّضلون العودة إلى المقر الرئيسي
في عمان حيث يجدون الراحة النسبية .ال شك في أن َم ن يخدم في المقر الرئيسي يؤدي خدماٍت قِّيمة
أيضًا ،لكن إذا شئت أن تتعلم ما ال بد أن تعرفه عن عملك العسكري فعليك بالنزول إلى الميدان ألنه
المدرسة الحقيقية والفضلى .لكي يكتسب العسكرُّي معرفًة حقيقية عن الجيش الذي يخدم في صفوفه
يجب أن ُيرَسل إلى المواقع النائية حيث يتعامل مع اإلجراءات الروتينية اليومية وكل المصاعب
والمشكالت المزعجة التي تطرأ .ال شك في أن ذلك يفسد حياتك االجتماعية إلى حد كبير ،لكنه من
ناحية أخرى يعّلمك الكثير من متطلبات القيادة.
كمالزٍم ثاٍن في الحادية والعشرين كنت أشعر بمسؤولية كبرى عن رجالي ،خصوصًا ونحن
مجموعون معًا وُم لقًى بنا في موقع بعيد ومعزول .كنت مسؤوًال عن تدريبهم ،وعن التأكد من أنهم
يأكلون ويلبسون كما يجب ،وإلى حٍد ما كنت مسؤوًال عن أن تكون عائالتهم التي تعتمد عليهم
موضَع عنايٍة أيضًا .في تلك الفترة كان جيشنا مزيجًا من الجنود المحترفين ومن المجندين الذين
كانوا يؤّدون خدمتهم العسكرية اإللزامية .كما في كل الجيوش التي تضم مجندين إلزاميين ،كنا
نواجه بعض اإلشكاالت والتحديات ،فكثيرًا ما كان بعض هؤالء المجندين يرتكبون أعماًال حمقاء
ليتهربوا من التزاماتهم ،حتى إن أحدهم حقَن ساقه بالكاز فكان علّي أن أفتح جرحًا في الساق
الستخراج تلك المادة منها.
غالبًا ما تعكس الجيوش النسيَج االجتماعي لبالدها .وفي األردن طالما كان الجيش َم عبرًا إلى
التقدم .كان رجالي خليطًا من كل فئات المجتمع ،معظُم هم من الشرائح الفقيرة جّدًا ،وبعضهم كان
يعاني مشكالٍت تفوق طاقته.
مالزٌم من رفاقي ،كان قد ترَّفَع إلى رتبة ضابط تدرجًا عبر الرتب ،وجَد نفسه في مواجهة أزمة
عائلية شبه مستعصية ُبعيد وصولي إلى القاعدة .توفي أخوه تاركًا وراءه زوجًة وثمانية أوالد ،فيما
كان لديه هو زوجٌة وثمانية أوالد .وهكذا بين ليلة وضحاها وجد الرجل نفسه المعيَل الوحيد لثمانية
عشر نفرًا عليه تأمين كل حاجاتهم من راتٍب محدود لضابط صغير .على مدى السنة التي أمضيُتها
هناك بقيُت أعطيه كل شهر نصف راتبي .وفي تلك الفترة كان الجيش في حالة تأهٍب قصوى ،أي إن
ثلث الوحدات العسكرية كان عليها أن تكون جاهزة للتحرك إلى أية جبهة محتملة خالل خمَس عشرَة
دقيقًة من إعطائها األمر بذلك .هذا يعني أن ضباطنا كان عليهم أن يؤدوا الكثير من المهمات
اإلضافية .في ضوء هذا الوضع كنت أقوم بالواجبات الموكلة إليه كلما أتيح لي المجال بحيث
يستطيع أن يعود إلى منزله خالل عطلة األسبوع ويهتم بحاجات عائلته .وال أزال حتى يومنا هذا
أفكر في رجالي وعائالتهم كلما تسّنى لي التركيز على ُح سن توزيع مشاريع اإلسكان والصحة
والتعليم ،بحيث تصل إلى أوسع رقعة من البالد وأكبر نسبة من المواطنين.
صحيح أن رجالي كانوا بمعظمهم فقراء ماديًا ،لكّن الصحيح أيضًا أنهم كانوا يمتلكون ثروًة كبرى
من الشجاعة وروح القتال العالية .كثيرون منهم لم يحّص لوا الكثير من التعليم النظامي ،لكنهم
عّو ضوا عن ذلك بالكثير من الذكاء الفطرّي وُح سن التدبير حياَل الحاالت الطارئة .في مرحلة من
المراحل كانت وحدتي مزودًة دباباٍت من نوع «خالد ،)Khalid/Shir I( »1وهي الجيل السابق
لدبابة «تشالنجر» ( )Challengerالبريطانية .كانت هذه العربات المخيفة التي بنيت بآخر ما
توصلت إليه التكنولوجيا العسكرية ،تتحرك بنظام إلكتروني معقد ،ومع ذلك فقد استطاع رجالي
التعامل معها خالل أقل من شهر واحد كما لو كانوا يقودونها منذ سنين.
ال شك في أن أوضاع الجيش البريطاني كانت أمتَن بناًء من جيشنا من حيث األسس التي يقوم
عليها ،لكنني كنت أفّضل الطرق التي نّتبعها نحن .في قاعة الضباط للكتيبة 13/18من قوات
الهوسار الملكية البريطانية ،كنا ننزل إلى العشاء مرتدين الجاكيت وربطة العنق ،وكنا نتناول الطعام
عن طاولة كان العسكر البريطاني قد غنمها من نابليون في معركة واترلو .أما في قاعة الطعام عندنا
في األردن فكنا أحيانًا نتناول طعامًا انتهت صالحيته منذ وقت غير قصير ،وكانت الطاولة والمقاعد
من البالستيك .لكّن الجوهر الحقيقي للجيش ال يكمن في فخامة مظاهره وال في أسلحته الحديثة
والمعقدة ،بل في قدرة رجاله وشجاعتهم على مواجهة إمكانية الموت دون أن يرّف لهم جفن .بهذا
المقياس كان رجالي من أبناء األردن أشجَع الجنود الذين التقيُتهم في حياتي.
يعرف اللواء المدرع األربعون بـ«لواُء هللا» ،في إشارة إلى دوره التاريخي في الدفاع عن القدس
في العام ،1967وما انطوى عليه سجُّله من خوض معاركه ببسالة وحتى آخر رمق .المعركة
األولى كانت في العام 1967عندما كان متجهًا إلى قطع محور جنين -نابلس وواجه لواَء ين
إسرائيليين يتقدمان من السهل الساحلّي الشمالي .في العام 1970استطاع ،وسط ظروف صعبة
وشديدة التعقيد ،أن يتغلب على قواٍت سورية أفضل تجهيزًا كانت في طريقها نحو إربد لتقديم الدعم
للفدائيين الفلسطينيين (وفي نهاية االشتباك لم يكن قد بقي لكتيبة المدرعات الثانية من اللواء -وهي
الكتيبة التي انتميُت إليها في ما بعد -سوى ثالث دبابات ،لكّن هذه الكتيبة استطاعت أن توقف
الزحف السوري) .في العام 1973خاض هذا اللواء الحرب ضد اإلسرائيليين في مرتفعات
الجوالن ،وقد شّن هجوَم ه صعودًا باتجاه َتّل َح َّر ا ،وهو جبل بركانّي يرتفع ثالثة آالف قدم عن سطح
البحر ،لكنه وقع في مرمى النيران اإلسرائيلية من الجانبين ولم يبَق أمامه سوى االنسحاب .من
الدوافع التي كانت تشد عزيمة رجالي أن يتاح لهم في يوم من األيام استعادة األراضي التي خسرناها
في العامين 1948و ،1967فنحن نستطيع مشاهدة القدس وقوفًا عند ضفاف البحر الميت .ومع أن
القوات المسلحة اإلسرائيلية أفضُل منا ُعّدًة وتجهيزًا ،فإن رجالي لم يخَشْو ا يومًا إمكانيَة مواجهة
عدّو مدّج ج بالسالح.
كنا نجري مناوراتنا وتماريننا في كل أرجاء البالد .وفي تلك الفترة بالذات بدأُت أدرك مدى
الجمال والتنوع االستثنائيين اللذين تتحلى بهما الطبيعة في األردن ،وأخذُت أقّدُر هاتين العطّيتين حَّق
َقْدرهما .األردن بلد صغير .ويمكن المرَء في يوم واحد أن ينتقل من جبال عجلون وغابات الصنوبر
في الشمال ،نزوًال عبر اآلثار الرومانية في جرش والبحر الميت ،وهو أكثر المواقع انخفاضًا تحت
سطح األرض .وحين يكمل المرء جنوبًا عبر طريق الملك السريع يمّر بالقلعتين الصليبيتين في
الشوبك والكرك ،اللتين كانتا مقر الفارس الفرنسي «رينالد دو شاتيون» (Raynald de
)Chatillonالذي قطع صالح الدين األيوبي رأسه في القرن الثاني عشر .بعد التوقف في منطقة
وادي َر ّم ،وهي من أجمل المواقع الصحراوية في العالم ،وبعد وقفٍة أخرى طويلة عند آثار البتراء
التاريخية ،يصل المرء عند المساء إلى المنتجع البحري في العقبة.
في فصل الصيف كنا أحيانًا نذهب إلى وادي األردن إلجراء مناورات على طول الضفة الشرقية
للنهر .ولكي نتجنب درجات الحرارة الالهبة ولسعات البعوض الهائل الحجم كنا ننهض في الرابعة
فجرًا ونحاول أن ننهي كل التمارين المرهقة قبل شروق الشمس .التربة هناك معروفة بخصوبتها
وهي ذات لون بّني على شيء من االحمرار ،وفي المساء ،عند مغيب الشمس ،تنعكس أشعتها على
الصخور المحيطة بالمكان وإذا نحن أمام تمّو جاٍت من األلوان يغلب عليها األحمر الوّهاج .اللون
األحمر كان دائمًا لونَي المفضل ،فهو لون العَلم الهاشمي ولون الكوفية ،لباس الرأس التقليدي
لألردنيين ،وطبعًا هو لون القلب.
عّن لي في يوٍم من األيام أن أختبر بعض التكتيكات الجديدة التي تعّلمُتها في مدرسة المدّر عات في
«بوفينغتون» ،فخرجنا إلى حيث سنجري المناورة .كنت قد تعلمت كيف أقود «معركة االنسحاب»،
أي كيف ننفذ انسحابًا تدريجيًا عندما نكون عرضًة لهجوم يشّنه علينا جيٌش متفّو ق ،على أن نكّبد
المهاجمين خسائَر بشريًة خالل انسحابنا .بعد أن حّددُت الموقَع األول مع ضباط الصف ،عدنا إلى
االجتماع للبحث في أفضل مقاربة يمكن أن نخوض بها المعركة .قلت« :حسنًا ،فلننتقل اآلن إلى
الموقع الثاني» .فنظر إلّي أحد ضباط الصف وقال« :سيدي ،ما من حاجٍة لدينا إلى موقٍع ثاٍن ،فنحن
سنحارب هنا حتى الموت إذا لزم األمر .االنسحاب ليس خيارًا!» تأثرت جّدًا بشجاعته ،لكنني ُذِه لت
أيضًا بهذا التكتيك لديه .هو ابُن المدرسة القديمة في التدريب حيث االنسحاب كان يعني مّسًا
بالكرامة وطعنًا بشرف القتال .هذه الروح القتالية ذات النفحة البطولية قّدمت لألردن خدماٍت ُج ّلى
في العام 1948عندما استطعنا االحتفاظ بالسيطرة العربية على القدس الشرقية والضفة الغربية،
وفي العام 1968عندما صددنا اختراقًا إسرائيليًا ورددنا المهاجمين على أعقابهم في معركة
الكرامة ،وفي العام 1970عندما صَّد جيُشنا هجوما سوريًا من الشمال .لكن تحت قوة النيران
المتزايدة من األسلحة الحديثة ،وأمام التنسيق الوثيق والمدِّم ر بين الهجمات الجوية وقصف المدفعية
البعيدة المدى ،يصبح الصمود على خط الدفاع األول بمثابة عملية انتحارية.
كنت مصممًا على جعل الرجال الذين تحت قيادتي أكثر فاعليًة وإنجازًا ،وذلك عن طريق الجمع
بين شجاعتهم القتالية التي ال تضاهى وبعض الحنكة التكتيكية التي ال غنى عنها .قلت لهم إذا نحن
عدنا إلى الوراء بضعة مواقع ،بحسب المبدأ المّتبع لدى قوات حلف شمالي األطلسي (،)NATO
يمكننا إسقاط عدد أكبر من قوات العدو في أثناء تراجعنا .رماني الرجال بنظرٍة متسائلة مستفهمة ،ثم
تكتلوا يهمسون في ما بينهم .ما هي إال دقائق حتى انفرجت أساريرهم وقالوا لي ،صحيح ،إن قتل
العدو أهم من الحفاظ على الخط ،ثم وافقوا على التراجع موقعًا إلى الخلف .هكذا كان لقائي األول مع
الروح القتالية التي َيعمُر بها صدُر الجندي األردني .ما من شيء تعّلمته في ساندهرست أعَّدني نفسيًا
لهذا االندفاع المستميت إلى القتال حتى النصر أو الموت مقاتًال ،وهذه الحمّية لدى رجالي كانت
تنعكس مزاجًا عامًا في المنطقة الخطرة التي نعيش فيها .ففي تلك الفترة كان األردن ال يزال في
حرب باردة مع إسرائيل .ومع أن إطالق النار كان قد توقف ،كان علينا أن نبقى مستعدين في كل
لحظة لمواجهة تهديد جارنا صاحب السالح النووّي .
في آذار/مارس من العام 1984جاءت الملكة إليزابيث الثانية إلى األردن في زيارة دولة ،وكانت
اإلجراءات األمنية مشددة ،خصوصًا ألن إرهابيين كانوا قد فّج روا قنبلة في أحد فنادق عمان قبل
مجيء الملكة بيومين .طلَب إلّي والدي أن أعمل مرافقًا عسكريًا للملكة وزوجها األمير فيليب.
شعرت بالحماسة ألداء هذه المهمة ،خصوصًا أني كنت قد تخرجت حديثًا في ساندهرست وتدربت
في الجيش البريطاني .ونظرًا للهاجس األمني طلب والدي أن أكون الحارس الشخصي للملكة ،ولهذا
الغرض ذهبت إلى القوات الخاصة للخضوع لمزيد من التدريب .مع اقتراب يوم الزيارة ،سألت
والدي :إذا أطلق أحد علّي النار فسأرّد بإطالق النار ،لكن إلى أي مدى تريدني أن أذهب؟
«إذا أطلق أحد النار على الملكة» ،أجاب والدي« :ترمي نفسك بينها وبين النار ،وإذا كانت حياُتك
ثمنًا لحماية ضيفتنا فاألفضل لك أال تتردد لحظًة واحدة ،ألنك إذا فعلت ألطلقُت عليك النار بنفسي!»
كنت مدركًا تمامًا أنه اختار تعابيره بدقة ليكون لها الوقُع المطلوب ،لكن بالنسبة إلى والدي كان
الواجُب والشرُف على رأس األولويات وفي مرتبٍة تفوق باألهمية حتى عائلَته.
بقيُت إلى جانب الملكة طوال فترة زيارتها التي امتدت خمسة أيام ،والحمد هلل أنني لم أضطر لتلقي
رصاصة من أجلها .ال شك في أن والدي كان يلجأ إلى نبرٍة قاسية أحيانًا .لكن نحن االثنين كنا نلتقي
في حبنا للجيش وطالما جمعنا الحديث عن ذلك .كنا نتمتع بمشاهدة األفالم القديمة معًا ،وغالبًا ما
تبادلنا معلومًة من هنا ورأيًا من هناك حول آخر ما أنتجته مصانُع العتاد العسكري في مختِلف بلدان
العالم ،وهل يناسبنا هذا العتاد أم ال .ويبدو لي أن امتهاني العمَل العسكري أكسَبني ُبعدًا جديدًا من
االحترام عند والدي ،وهكذا ،مع مرور الوقت ،بدأ يطلب مني توّلي واجباٍت ومسؤولياٍت إضافية.
منذ أيام جدَي األكبر الملك عبد هللا األول والجيش العربي ،كان الجيُش األردنُّي من أفضل جيوش
الشرق األوسط تدريبًا ،وأكثرها انتظامًا ومهنيًة عسكرية .لكنني كنت عازمًا بقوة على أن أجعَل من
جيشنا واحدًا من أفضل جيوش العالم« .ال تقارنونا بالجيوش األخرى في منطقتنا» ،كنت أقول« :بل
بجيوش حلف شمالي األطلسي» .ولكي نبلغ هذا اإلنجاز كنت مدركًا تماَم اإلدراك أن علينا أن نسلك
مساَر الحداثة ،فمع أن جنودنا كانوا دائمًا من ذوي الموهبة والشجاعة فقد خذلهم نظام اإلدارة في
بعض األحيان بعدم تزويدهم عتادًا متطورًا .لقد عّو دت نفسي اإلفادَة إلى أقصى الحدود الممكنة مما
لدينا من العتاد والعدة ،وذلك بأن نكون ذوي فكٍر خالق يبحث عن الحلول ويجدها .ولم أتردد في
طرق أي باب لكي أزّو د رجالي بما يحتاجون إليه من تجهيزاٍت وذخيرة ومؤونة.
كما كُّل الشباب من أبناء جيلي ،كنت متشوقًا لتحقيق التغيير ولم أستطع صبرًا .لكّن الخيبة زادت
وطأًة حين تبّين لي مدى إصرار العديد من كبار الضباط على الدفاع عن األوضاع الراهنة إلبقائها
على ما هي عليه.
الفصل السابع :المهّم ـة السـّر يـة
كنت في إحدى األمسيات مسترخيًا أستريح من عمِل نهاٍر طويل في قاعدتي العسكرية في
القطرانة عندما رن جرس الهاتف .كان والدي على الخط وطلب مني الحضور إلى عّم ان فورًا
لمقابلته .انطلقت في السيارة للقائه متسائًال لَم يا ُترى يريد أن يراني في هذه الساعة المتأخرة من
الليل .وصلُت في العاشرة ليًال.
أخذني والدي جانبًا وقال لي إنه ينوي الذهاب إلى العقبة غدًا مساًء ،ومن هناك سيستقّل قاربًا
لالجتماع باإلسرائيليين للضغط عليهم للموافقة على حٍل ينهي احتالَلهم لألراضي التي استوَلْو ا عليها
في العام 1967وُيِح ُّل السالم في المنطقة .قال لي« :أريدك سائقي وحارسي الشخصي» .صحيح أن
بين األردن وإسرائيل حدودًا طويلة ،لكن مع ذلك كان الداخل اإلسرائيلي أرضًا غريبة علينا.
فدخولنا إسرائيل كان أشبَه بدخول برلينٍّي غربّي تسُّلًال عبَر الحائط لزيارة برلين الشرقية عندما
كانت الحرب الباردة في أشد مراحلها حدة .قلت له إنه لشرٌف كبير أن أكون إلى جانبه ،فطلب أن
أالقيه في المطار صباح اليوم التالي .في طريقي إلى المنزل شعرت بشيء من الحماسة واإلثارة،
لكن انتابني بعُض التوتر .كنت ضابطًا في الجيش برتبة نقيب ،ومرافقة والدي في مهمٍة سرية إلى
أرض العدو كانت عبئًا ثقيًال ،وألول مرة لن أكون مجرد مراقٍب لتاريخ العالقات العربية -
اإلسرائيلية فقط بل هذه المرة ،العبًا فيها ولو بدوٍر صغير.
قّر رت أن ُأفرَج هنا عن هذه القصة الشخصية ألنها تعطي ،ولو لمحًة سريعة ،عن المخاطر
الكبرى التي كان والدي يقتحمها من أجل إحالل السالم .إنني أشعر بأن من األهمية بمكان -بعد
وفاته -أن نوضح مدى تفانيه في سبيل إحالل السالم في المنطقة بما يضمن انسحاَب إسرائيل من
كل األراضي العربية المحتلة ،خصوصًا القدس ،التي كان لها موقٌع خاص في قلبه .كان مؤمنًا بأن
السالم هو حٌق لشعوب المنطقة جميعًا ،عربًا وإسرائيليين ،وكان يرّدد باستمرار أّن المرء يصنع
السالم مع أعدائه ،ألن السالم مع أصدقائه قائٌم أصًال .ال فائدة على اإلطالق من اإلصرار على عدم
اللقاء بهم ،وقد التقى والدي اإلسرائيليين مرارًا لمناقشة المقترحات المطروحة لتحقيق السالم ،لكنه
طالما تمّسك بمطلب االنسحاب اإلسرائيلّي الكامل من الضفة الغربية بما فيها القدُس الشرقية شرطًا
أساسًا لحل الصراع .كان والدي يشعر ،في ظل وجود أكثر من 375ميًال من الحدود المشتركة مع
إسرائيل آنذاك ،بأن المباحثات معها كان ال بد منها تجنبًا للحرب .وبعد الكارثة التي ابُتلينا بها في
العام ،1967كان علينا أن نبذل المستحيل لتفادي كارثة أخرى .من بين الفضائل الكبرى التي
أسبَغها هللا على والدي أنه كان موضَع احتراٍم وتقديٍر لدى الجميع ،حتى الذين لم يكن على توافق
معهم .كان من الُخ ُلق الكريم والنبل بحيث لم يسمح يومًا لنفسه بأن يشير ،ولو تلميحًا ،إلى أن العديد
من القادة العرب الذين كانوا يكيلون له االنتقاد الالذع في العلن على مفاوضته إسرائيل ،كانوا
يطالبونه من وراء الستار بأن يكون الواسطة بينها وبينهم.
ركبنا الطائرة أنا ووالدي من عمان إلى العقبة ،وكان يرافقنا رئيس الوزراء ،زيد الرفاعي،
والشريف (األمير الحقًا) زيد بن شاكر ،رئيس الديوان الملكي .كانت الخطة تقضي بأن نقوم برحلٍة
سرية في قارب صغير َيعبر بنا خليج العقبة إلى إسرائيل .بوصولنا إلى العقبة وجدنا قاربنا الصغير
وانتظرنا هبوط الليل حتى إذا بلغت الساعة التاسعة مساًء ركبنا نحن األربعة قارب الصيد وأبحرنا
خروجًا من الميناء باتجاه الحدود ثم دخلنا المياه اإلسرائيلية .أخذنا نتقدم بشيء من الحذر ثم أرسلنا
ضوءًا واِم ضًا من قوس القارب فأجابنا ضوء من الجهة المقابلة وما لبث أن خرج من تلك العتمة
المظلمة قارب صغير آخر وعلى متنه أفرام هاليفي ،أحد مسؤولي الموساد( ،جهاز االستخبارات
الخارجية في إسرائيل) .هاليفي ،المحامي المولود في بريطانيا ،والذي أصبح في ما بعد رئيسًا
للموساد ،لم يتحدث كثيرًا .أشار لنا بأن نتبعه .بدأنا نقترب من الحدود اإلسرائيلية ،وكان مكاُن
االجتماع قد ُح دد ،لكّن القارَب اإلسرائيلي غَّير اتجاهه ،األمر الذي أثار قلقًا شديدًا لدى الشريف زيد
الذي قال« :ليس هذا ما اتفقنا عليه» ،عندئذ أشار لي والدي بأن أرافقه إلى أعلى القارب حتى إذا
ابتعدنا عن مسامع اآلخرين قال لي« :حسنًا ،ما رأيك؟».
من وجهة نظر شاٍب يختبر المهمات السرية للمرة األولى ،حثثت والدي على االستمرار في
المهمة ،فنظر إلّي وابتسم ثم عدنا وانضممنا إلى رفيقينا اآلخرْين وقال والدي للشريف زيد« :ال
بأس ،سنكمل المهمة».
استأنفنا الرحلة وصوًال إلى مدينة إيالت اإلسرائيلية ،وهي على مسافة قصيرة من العقبة ،وهناك
أرسينا القارب أمام حظيرة تابعة للبحرية وكنا على مسافة 297مترًا من الشاطئ .صعد والدي
وزيد الرفاعي والشريف زيد إلى متن القارب اإلسرائيلي وقصدوا الشاطئ ،وبقيت أنا وحدي أحرس
قاربنا.
أطفأُت كل أنوار القارب ومسحُت الشاطئ مسحًا شامًال بالمنظار بحثًا عن جنود إسرائيليين ،فلم
أَر أحدًا سوى شخصين جالَسين حوَل موقد فيه نار مشتعلة ،وكانا يعزفان على الغيتار .في لمحة
سريعة خاطفة رأيُت التماعَة سيجارٍة بيد شخٍص قرب الحظيرة البحرية ،فرَّكزت النظر عليها
بواسطة المنظار ليتبّين لي أنه قناص إسرائيلي يراقبني .لم تكن لدّي أية وسيلة لالتصال بوالدي ،وقد
أدركت مدى العزلة التي أنا فيها ،أجلس وحيدًا في قارِب صيد على ُبعد أمتار من ميناء إسرائيلي.
تناولت القنابَل اليدويَة التي بحوزتي وعّلقتها على جانب القارب رابطًا في ما بينها بحيث إذا سحبُت
الشريط انفجرت المجموعُة بكاملها.
ال بد أنها كانت الساعة العاشرة مساًء عندما وصلنا إلى ذلك الميناء ،وها هي ساعاٌت قد مضت
وأنا أنتظر عودَة والدي واآلخرين .في لحظٍة من اللحظات فكرت« :خالل خمس ساعات سوف
تشرق الشمس وأنا هنا وحدي في قارٍب راٍس في ميناء إسرائيلي ،يعّج بالبنادق والقنابل اليدوية ،وال
أحد يعلم أنني هنا .ماذا ُتراني سأفعل إذا لم يعد والدي؟» من حسن الحظ أنني لم أضطر إلى اقتحام
الشاطئ بمفردي أو أن أعود إلى األردن وأشرَح لمن يعنيهم األمر كيف استطعت أن اصطحب
الملك في رحلٍة مجهولة االتجاه وأن أفقدهُ .قَبْيَل شروق الشمس عاد والدي في القارب الصغير نفسه
وأبحرنا جميعًا عائدين إلى العقبة .ومع أن والدي لم يحدثني يومًا عما دار من أحاديث تلك الليلة ،فإن
اجتماعاٍت كهذا قد أرست األسَس التي قامت عليها معاهدة السالم التي ُو ّقعت في النهاية بين األردن
وإسرائيل.
***
عبر السنين كنت أرتقي في الرتب ،وكنت أغادر األردن بين الحين واآلخر في دوراٍت تدريبية
قصيرة األمد ثم أعود لمزاولة عملي في الجيش .من بين هذه الرحالت واحدة ال ُتنسى لمتابعة دورة
ضباط الدروع المتقدمة في «فورت نوكس» ( ،)Fort Knoxفي والية كنتاكي ،في الواليات
المتحدة األميركية في العام 1985وذلك لدراسة استراتيجية المدّر عات وتكتيكها .ومع أننا كنا في
الطريق إلى ردم الهوة الفاصلة بيننا وبين جيوش حلف شمالي األطلسي ،كان ال يزال علينا أن ننجز
الكثير في هذا المجال ،خصوصًا على صعيد اقتناء التجهيزات العسكرية األكثر تطورًا .في أحد
األيام كنت أجّر حقيبتي وإذا بضابٍط إسرائيلي برتبة عقيد يسير بجانبي ،وعندما رأى الرتبَة على
كتفي قال« :اللواء المدرع األربعونَ ،هه؟ أنتم األردنيين عنيفون فعًال» .من الواضح أنه كان يشير
إلى المعركة الشرسة التي خاضها هذا اللواء ضد الجيش اإلسرائيلي في حرب العام .1967
عندما عدت إلى األردن ُعّينت قائد سرية في اللواء المدرع 91الذي كانت قاعدُته في الزرقاء إلى
الشمال الشرقي من عمان .كانت الزرقاء وهي أكبر المدن األردنية بعد عمان ،معروفة بحاميتها
العسكرية وببعض الصناعات الثقيلة .وعلى خالف المدن التي تضم قواعَد عسكريًة كبيرة في
إنكلترا ،مثل أْلِدرشوت ( )Aldershotحيث يحصل أحيانًا بعض التوتر بين الجنود والسكان
المحليين ،كان الجنود في الزرقاء يشعرون بأنهم جزء ال يتجزأ من المجتمع .هناك جنود من كل
أنحاء األردن يخدمون في الجيش وقد انتقلوا إلى المدينة مع عائالتهم ما جعَل السكان خليطًا متنوعًا
تربطهم بالعسكر روابُط متينة ،عائلية واجتماعية.
في القاعدة يتناول الضباط طعامهم في قاعة غير التي يتناول فيها الجنود طعامهم ،لكن ما إن
يخرجون من القاعدة حتى يزول كل هذا التمييز .في ذلك الوقت لم يكن هناك العديد من المطاعم في
الزرقاء ،وهكذا كان أصدقائي وزمالئي يدعون ضيوفهم إلى منازلهم ويقدمون لهم الطعام األردني
التقليدي .أهم تلك األطايب كان المنسف ،وهو مكّو ن من لحم الضأن الطرّي المطبوخ والموضوع
على طبقة من األرز المزّينة بحبوب الصنوبر المحّم صة مع شراب اللبن .أما كيف نتناول طعام
المنسف ،فعلى الطريقة التقليدية باستعمال األيدي.
من مصادر اإلزعاج التي يتحّم لها سكان الزرقاء التلّو ث الصناعي .فقد كان هناك مصفاٌة للنفط في
الجهة الشمالية من المدينة ومدبغة للجلود في جهتها الجنوبية .لم ُتِعْر المؤسستان المتطلبات البيئية
الحديثة ومقاييسها أَّي اهتمام ،وعندما كانت الريح تهّب من جهة معينة كان الدخان المنبعث من
المصنعين يمتزج في الهواء فتنبعث منه رائحة كبريتية كريهة ومؤذية .ولكي نتنشق هواًء أقل تلّو ثًا
كنا نتجه أحيانًا إلى بلدة قريبة معروفة ببساتينها وأشجار الحمضيات فيها ،وهي الُّر صيفة ،حيث كنا
نجلس في أحد المطاعم ،نتناول طعامنا ونرّو ح عن أنفسنا بعض الشيء فيما نحن نراقُب ما يجري
من حولنا.
شخصيًا كنت سعيدًا بإقامتي هناك ،أما مهنيًا فلم يكن األمر كذلك .فأنا لم أكن حتى ذلك الوقت قد
سّو يت خالفاتي مع بعض كبار الضباط الذين كانوا مصّم مين على إفساد مسيرتي المهنية في
الجيش ،والذين كانوا قد أعطوا التعليمات لمرؤوسيهم بأن يضعوا العراقيل والمتاعب في طريقي،
حتى إن السنة التي أمضيُتها في الزرقاء كانت خاللها السريُة التي أقودها ُتلقى إليها واجباٌت
ومسؤولياٌت إضافية وتتعرض أكثر من سواها لحمالٍت تفتيشية مفاجئة .كان لي أصدقاء بين
مجموعة من قادة السرايا الذين كنت ألتقيهم لتمضية بعض الوقت معًا ،لكن كنت أيضًا على عالقة
تتسم بمسحٍة رسمية بعَض الشيء مع قائد َسرية آخر ،من خلفيٍة بدوية ،كان دائمًا ُيظهر لي احترامًا
لكن دون أن يزيل المسافَة الرسمية بيننا.
كان هناك تفتيش إداري سنوي وكان االستعداد له يتطلب عمًال شاقًا وكبيرًا .كان علينا أن نعرض
كل تجهيزاتنا وآلياتنا لكي يراجَع المفتشون كل السجالت ويتأكدوا من أن شيئًا من تلك التجهيزات
واآلليات ليس ناقصًا أو مفقودًا .إذا وجد المفتشون حتى مفتاَح ربٍط ناقصًا أثاروا مشكلة كبيرة،
ولذلك كانت السرايا تتبادل المعلومات والتجهيزات قبل انطالق هذا الحدث الكبير .التفتيش السنوي
كان يشمل في العادة اللواء بكامله ،لكن في إحدى األمسيات جاءني قائد السرية البدوي وقال لي:
«سُيجرون تفتيشًا مفاجئًا غدًا وسُيقَتَص ر على َسرّيتك وحَدها ،يريدون أن يجدوا عليك ممسكًا يمّكنهم
من إرسال تقرير سيئ عنك إلى القيادة» .هذا األمر كان سابقة بالفعل.
قادُة السرايا اآلخرون ،الذين حسبُتهم أصدقاء ،أشاحوا بوجوههم عني وتركوني لمصيري .لكن
القائد الذي كان يحتفظ بمسافٍة بيني وبينه قال« :أنا مستعد إلعطائك كل ما تحتاج إليه» .عملنا معًا
طوال الليل للتأكد من أن سريتي ستكون جاهزة في صباح اليوم التالي ،أما أنا فقد اعتذرت من
جنودي قائًال إن هذا التشديد مرُّده إلى كوني َم ن أنا ،ولكن لسوء الحظ ليس لدينا خيار سوى تنفيذ ما
علينا تنفيُذه.
في صباح اليوم التالي جاء قائد الكتيبة مع فريقه ونفذ عملية التفتيش الفجائي ،وكانت النتيجة
نجاحًا كامًال .لكَّن حادثًا وقَع لم أكن قد رأيت له مثيًال من قبل ،ومنذئٍذ حتى اليوم ما زلت لم أَر له
مثيًال .اتجه قائد الكتيبة نحو كبار ضباط الصف في َسريتي وكانوا يقفون صفًا واحدًا وقال لهم:
«أحذيتكم ليست كما يجب» .رجالي كانوا يعملون طوال الليل ولم يذوقوا طعَم النوم ومع ذلك كانت
أحذيُتهم تلمع .حّدق قائد الكتيبة إلى عيَنْي الرقيب أول ودعَس على حذائه دعسًة عنيفًة وَفرَكه فركًا.
ضابُط صٍف آخر تأّخ ر في اإلجابة عن سؤال قائد الكتيبة الذي ضرَب عرض الحائط بكل القواعد
المعمول بها وصَفَع ضابَط الصف على وجهه ،وهذا تصرف شديُد اإلهانة في تقاليدنا.
عند هذا الحّد نفد مني الصبر ،فلحقت بقائد الكتيبة إلى مكتبه وقلت له« :إذا امتّدْت يُدَك مرًة أخرى
وَلمَسْت واحدًا من جنودي ،أقسم باهلل إنني سأطلق النار عليك» .أظن أن هذا الكالم وهذه اللهجة
استرعيا انتباَهه جيدًا .فأنا لست من الذين يفقدون أعصاَبهم وال صبَر هم بسهولة ،لكن تصرفه حياَل
جنودي أثار فّي غضبًا كبيرًا .ومع أن فورَة الغضب التي عّبرُت عنها ضمنت حمايًة لسرّيتي
وجنودي ،فإن تلك اللحظات لم تكن موضَع افتخاٍر لدّي على اإلطالق.
كان قد بقي لي ،قائدًا لتلك السرية ،حوالى ستة أشهر لكنني لم أغادر خالَلها غرفتي في المساء،
وقد غبت غيابًا كامًال عن قاعة الضباط ،ذلك أن زمالئي قادَة السرايا قد خذلوني بالفعل ،ولذلك
اخترت أن أنأى بنفسي عنهم .هذه الحادثة كانت أسوأ ما مررُت به في مسيرتي العسكرية ،وقد
دفعتني إلى التفكير جديًا بمغادرة الجيش .شعرت بحاجة ماسة إلى التحدث إلى والدي عن هذا األمر،
لكنني لم أشأ أن ينتهي بي المطاف بأن ُأعاَم َل معاملًة خاصة .من هنا توّج هت إلى عمي األمير حسن
طالبًا ُنصحه ،وبعد أن تداولنا في المشكالت والمصاعب التي كنت أواجهها اقترح علّي االنتظار
حتى نهاية خدمتي في وحدتي الحالية ومن ثّم مراجعَة األمور في ضوء ما أشعر به حيال التطورات
في حينه.
في العام 1987أخذُت إجازًة طويلة من الجيش وقضيت سنًة في جامعة جورجتاون
( )Georgetownفي واشنطن حيث التحقت ضمن برنامج الزمالة للقياديين في وسط مسيرتهم
المهنية ببرنامج الماجستير في شؤون الخدمة الخارجية .درست العالقات الدولية ،وفي هذه األثناء
تعّر فت جيدًا على العاصمة األميركية .بعد عودتي من جورجتاون عدت ثانيًة إلى عمي األمير حسن
وبحثت معه مسألَة استمراري في مسيرتي العسكرية ،وقلت له إنني أفكر في اختيار مهنٍة أخرى،
فقال األمير حسن« :ولماذا تكافئ هؤالء السَفَلة بما يرضيهم؟» مع أن تبايناٍت في الرؤية والرأي
سادت العالقَة بيني وبين عمي في سنواٍت الحقة ،فقد كان في تلك المرحلة مصدَر دعٍم لي وُنصٍح
حكيم ،خصوصًا حياَل المشكالت التي كنت أتجّنب بحثها مع والدي .بعد مغادرتي الزرقاء بقيت في
سالح المدرعات وتعّلمت قيادَة المروحيات الهجومية.
***
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي تلقيت دعوًة من الجنرال نورمان شوارزكوف ،الذي كان قد
ُعّين حديثًا قائدًا أعلى للقيادة المركزية األميركية ،لقضاء أسبوع ضمن برنامج تدريبي مع القوات
األميركية في الخليج العربي .كانت الحرب اإليرانية -العراقية تقترب من نهايتها ،لكن ناقالت النفط
العابرة في مضيق هرمز ،ذي األهمية االستراتيجية الكبرى ،كانت تتعرض بين الحين واآلخر
للهجوم ،ما دفع البحرية األميركية لمّد حمايتها بحيث تشمل كل السفن المحايدة .كان جنود القوات
الخاصة ،على متن قارب سريع ،يجوبون الخليج بحثًا عن السفن المعادية وذلك في عملية دعٍم
إضافية.
كان الخليج العربي في تلك الفترة منطقة خطرة .ففي أيار/مايو من العام 1987أطلقت طائرة
عراقية من طراز «إف »1قذيفتي «إكزوسيت» على البارجة األميركية «يو أس أس ستارك»
( )USS Starkفُقتل سبعٌة وثالثون من بحارتها وكادت السفينة تغرق برمتها ،ويومها قال
العراقيون إن الهجوم كان حادثًا غير مقصود .في نيسان/إبريل من العام 1988أصيبت البارجة «يو
أس أس صامويل ب .روبرتس» ( )USS Samuel B. Robertsبأضرار كبيرة عندما اصطدمت
بلغٍم إيراني ،وفي رٍد أميركي على الحادث خسر األميركيون طائرة مروحية وقتل طاقمها المؤلف
من الطيار ومساعده .ثم في الثالث من تموز/يوليو من العام 1988أخطأ الطراد األميركي «يو أس
أس فينسنس» ( )USS Vincennesفظّن إحدى الطائرات المدنية اإليرانية طائرًة عسكرية
مهاِج مة ،وكانت الكارثة أن أطِلقت النار على الطائرة فسقطت وقضى في الحادث ركاُبها جميعًا
الذين بلغ عددهم 290راكبًا.
حين وصلُت إلى الخليج كان التوتر في أوجه ،وكانت الممرات المائية الضيقة تعّج بالسفن من كل
حدٍب وصوب ،األميركية واإليرانية والعراقية واألطلسية وحتى السوفياتية .كانت السيطرة على
الخليج ،على مدى العقود السابقة لتلك الفترة ،من المسائل االستراتيجية األساسية في منطقة الشرق
األوسط .كان قد تسّنى لي ،خالل إقامتي في جورجتاون ،أن أخوض في هذه المسائل ولكن بتعابير
مجّر دة من خالل مناقشة سياسات الشرق األوسط واعتبار المنطقة ،بحسب تحليلنا آنذاك ،أشبَه
برقعِة الشطرنج .لكن قطع الشطرنج في هذه الحالة كانت تملك صواريَخ أرض-جّو وبإمكانها أن
ترد على إطالق النار بمثله .في هذا الجو العابق بالسياسة والحرب معًا كنت أشاهد المسائل السياسية
الكبرى تتحرك وتتفاعل أمام عينّي ،ما أتاح لي أن أدرك من جهٍة أولى ،وبمفهوٍم عملٍّي واقعّي ،ما
معنى منع اإليرانيين من إغالق الخليج ووقف المالحة فيه ،ومن جهٍة ثانية كيف يمكن أن يتفاعَل
َح َدٌث صغير ويتسبَب بتصعيٍد سريع .ال شك في أن للمهنة المدنية حسناِتها ونقاَط قوتها ،لكن هناك
أشياء ال يتعلمها المرء وال يكتشفها إال من خالل الخدمة العسكرية .لو أنني كنُت محاميًا في عمان
لكانت نظرتي إلى هذا النزاع نظرًة مختلفة جّدًا عما هي اآلن.
لكن ها أنذا ضابٌط في الجيش يشاهد الطائرات المروحية تقوم بطلعاٍت هدُفها حماية السفن
المحايدة .هذه المشاهدة الحية لما يجري أكسبتني فهمًا شخصيًا لماهية الصراع بين القوى اإلقليمية،
وهذا الفهم سوف َتثبُت قيمُته وجدواه عبر السنوات اآلتية.
قضيت ثالثة أيام على متن البارجة «يو أس أس إلرود» ( ،)USS Elrodوعلى الرغم من أنني
كنت موضَع عناية خاصة ،حاضرًا معظم الوقت في مقر قائد السفينة ،فإن ذلك لم يثر شهيتي
لالنضمام إلى سالح البحرية .بعد ثالثة أيام انتقلت إلى زورٍق كبير يدعى «هيركوليز»
( )Herculesوكان يعّج بالحركة .كان مثيرًا لالهتمام وممتعًا أن أرى فروعًا عسكرية متعددة
ومتنوعة تعمل معًا دون تمييز أو خطوٍط فاصلة ،من مجموعات قوات «دلتا» األميركية (US
)Delta Forceإلى القوات الخاصة البحرية «نايفي سيلز» ( ،)Navy Sealsمرورًا بالجنود
والبحارة العاديين ورجال سالح الطيران .ساعَدني هذا االختبار ،عندما أردُت في مرحلٍة الحقة أن
أنشئ «قيادة العمليات الخاصة» عندنا في األردن ،فكان عونًا لي في تنفيذ ما دار في ذهني
وتطويره.
بعد هذه الخبرة بوقٍت قصير عدت في كانون الثاني/يناير من العام ،1990وبعد أكثر من سنة
على ترفيعي إلى رتبة رائد في شباط/فبراير من العام ،1989إلى بريطانيا لتحصيل المزيد من
التدريب والعلوم العسكرية .أمضيت ما يقارب السنة في كلية األركان التي كانت قريبة من
ساندهرست ،وفيما كنت أعبر البوابات الفخمة للكلية عادت بي الذاكرة إلى أيامي تلميذًا مرّشحًا
وتذّكرت الرقيب أول الذي تنبأ بأن أحدًا منا لن يتسّنى له أن يرى هذه الكلية من الداخل .لقد أّدت
مالحظُته الساخرة مهمتها ودفعت بي إلى هنا.
في إطار تقديمنا إلى علوم السياسة الدولية َبرمَج المسؤولون لنا رحلًة إلى برلين الشرقية ،ولكّن
الرحلة ألغيت في اللحظة األخيرة بسبب التغييرات الدراماتيكية التي كانت تشهدها ألمانيا آنذاك .في
تشرين الثاني/نوفمبر الذي سبق كنا ،أنا ورفاقي الطالب ،قد شاهدنا بدهشٍة مذهلة سقوط جدار برلين
وكيف َج رفت األحداث العالَم القديم الذي كنا قد عرفناه من قبل .كانت المواجهة بين الغرب واالتحاد
السوفياتي قد قّسمت الكرة األرضية إلى كتلتين كبريين متنافستين ،وها هي الثوابُت القديمة تتبّدل في
ما يشبه لمَح البصر وتحُّل محَّلها تحالفاٌت جديدة ومتغّيرة.
بعض بلدان الشرق األوسط ،التي كانت تعتمد على دعم االتحاد السوفياتي وتتأثر بسياسته ،كانت
بطيئة في تعديل سياساتها بحيث تتكيف مع العالم الجديد الذي بات ُيقَتَص ر على قوٍة عظمى وحيدة.
أخَذ االنتهازيون والنّه اشون ُيجرون حساباٍت حوَل الحرب والسلم غير تلك التي كانوا ُيجرونها
عندما كانت المنطقة منقسمًة إلى قطبين ،سوفياتي وغربي ،ويوم كانت أية شرارة مهما َض ؤلت
يمكن أن ُتشعل حربًا شاملة .لكن ما لم َيعلْم ه أحٌد منا في كلية األركان هو متى سيكون علينا أن
نواجَه األخطار التي سيأتينا بها العالم الجديد.
الفصل الثامن :ليتكم تفقهون :ال أمل لكم بالنصر
إثر عودتي من دورة األركان في كلية األركان الملكية البريطانية في تشرين األول/أكتوبر من
العام ،1990عدت إلى قواعدي في الجيش األردني وأصبحت ممثًال لسالح الدروع في مكتب
المفتش العام .كانت مهمتي في هذا الموقع التأكد من أننا نطبق المعايير العامة والمحددة في مجالي
التدريب والتجهيزات وذلك عبر كل القطاعات العسكرية األردنية .من المتوقع عادًة ،بعد إتمام دورة
األركان ،أن يخدم الضابط في مركٍز لألركان طوال فترة سنة على األقل ،ولذلك فقد ُعِّينت في
عمان.
قبلئٍذ بشهرين كنت في األردن حين غزا العراق الكويت جاعًال األوضاَع في البلدان المجاورة
للعراق في غاية السوء .نحن في األردن لدينا حدود طويلة مع العراق من الجهة الشرقية ،وكان من
الطبيعّي أن نتساءل هل كان صدام حسين سيكتفي بالكويت .كانت الصدمة كبيرة على والدي جّر اء
ما قام به صدام وقد شعر بأن تداعيات هذا العمل ُتنبئ بشٍّر مستطير .ومع أن الغزو بحد ذاته كان
عمًال كارثيًا ،فقد شعر والدي بأنه يمثل أيضًا بدايًة لما هو أسوأ .كنت مع والدي في مكاتب الديوان
الملكي في اليوم التالي للغزو ،وكنا نستمع إلى التقارير األولى عنه.
في خريف ذلك العام قفز صدام حسين إلى مرتبة العدو األول في الواليات المتحدة ،مع أنه لم يكن
دائمًا الفتى الشرير في نظر األميركيين الذين كانوا قبلئٍذ ببضع سنوات يرون فيه حليفًا ضد إيران.
أما والدي فمع أنه لم يكن على صداقٍة مع صدام ،فقد طور معه عالقة وثيقة في ثمانينيات القرن
الماضي خالل الحرب اإليرانية -العراقية عندما كان األردن نقطة العبور ألسلحة الغرب
واستخباراته إلى بغداد.
بعدما حَم لته الثورة اإليرانية إلى قمة السلطة في العام ،1979راح آية هللا الخميني يدعو إلى قلب
الحكومات في المنطقة واستبدالها بجمهوريات إسالمية .من هنا كان خوف صدام حسين من هذا
التهديد الراديكالي اإليراني للنظام اإلقليمي واعتقاُده بأن اإليرانيين كانوا ُيعّدون العّدة لمهاجمة
العراق .في العام ،1980ولم يكن قد مضى عليه أكثر من سنة رئيسًا للعراق ،شّن صدام هجومًا
وقائيًا على إيران .لكّن الجمهورية اإلسالمية الفتية رّدت على الهجوم ردًا شرسًا ،وغرَق البلدان في
حرب دموية مريرة امتدت على مدى ثمانية أعوام.
مهما تكن األسباب والذرائع وراء الحرب فإن الواليات المتحدة األميركية ،تحت وطأة القلق من
تهديد إيران استقراَر المنطقة ،وغضبها نتيجة احتالل سفارتها في طهران وأخذ العاملين فيها رهائن
في تشرين الثاني/نوفمبر من العام ،1979اتخذت موقفًا داعمًا لصدام في تلك الحرب .وهكذا فإن
العراق ،الذي كان في األصل حائزًا دعم االتحاد السوفياتي ،بات اآلن مدعومًا في حربه على إيران
من القوتين العظميين كلتيهما .كانت الواليات المتحدة تزّو د العراق سرًا بصوٍر عن تحركات القوات
اإليرانية وهذا ما ساعد العمليات العسكرية العراقية وضمَن للعراقيين نجاَح هجومهم الحاسم في
العام .1988بحلول تموز/يوليو من العام 1988كانت إيران قد قبلت وقفًا إلطالق النار.
رأى والدي أن من المستحسن تقديم بعض أفراد العائلة من الشباب إلى عالم الدبلوماسية الدولية،
وفي صباح أحد األيام في أواسط ثمانينيات القرن الماضي أعلن ،ونحن نتناول طعام اإلفطار ،أنه
ينوي زيارة العراق ويريد أن يرافقه بعض أفراد العائلة .في اليوم التالي التقينا في قصر الندوة ،وهو
بناٌء ذو طبقتين في مجّم ع البالط الملكي ،وكنا أنا وشقيقي فيصل وابنا عمي طالل وغازي ،وتوجهنا
إلى بغداد على متن طائرة والدي.
حطت طائرتنا عند الَغَسق في مطار بغداد حيث كان في استقبالنا صدام حسين ونجاله ُعَدّي
وُقَص ّي .وبما أن المسائَل األمنيَة كانت دائمًا من هواجس صدام ،فقد جاء بعدة مواكب للتمويه ،اتخذ
كٌل منها وجهًة معينة بينما توجهنا نحن إلى قصر الرضوانية الذي لم يكن بعيدًا من المطار .المنزل
الذي كان يسكنه والدي ،والذي يحتوي على عشر غرف تقريبًا ،كان من دون أدنى شك شديد
التواضع بالمقارنة .أما الرضوانية فكان مبنيًا على المقاييس الكبرى ،حجمًا وفخامًة ،وكان يضّم
مئات الغرف برخامها المزخرف ،والحنفيات المذّهبة في كل واحد من حمامات القصر،
والمفروشات المقّلدة من طراز لويس الرابع عشر .كل هذه األَّبهة المظهرية لم تكن في حقيقة األمر
ما يتوقعه المرء من قائد بلٍد ينام على تراٍث من األمجاد التاريخية والعز ،وقد ترك لنا عجائَب بابل
القديمة وكان في حقبٍة من حقب التاريخ المشّعة مركَز الخالفة اإلسالمية.
بعد تبادل المجامالت االجتماعية العادية ،أعلن والدي أننا سنمضي ليلتنا في بغداد ،وكان القرار
ابَن ساعته وبمثابة التفاتة تضامن مع العراق الذي كان غارقًا في حرٍب دموية طويلة .في هذه الحالة
-كما أعلن صدام -يزور الشباب غدًا الحّبانية وهي بحيرة كبيرة في محافظة األنبار إلى الغرب من
بغداد حيث يتصيدون األسماك ويسبحون .صدام كان عنيفًا دون رحمة ،لكنه في الوقت نفسه كان
شخصيًة ذات كاريزما الفتة ،وكان يعكس نوعًا غريبًا من الطاقة الشخصية .جمَع في شخصه
انفعاالت الرجل القبلّي التقليدي من جهة ،ونفحة الذكاء والمعرفة بشؤون الحياة من جهة ثانية.
شخصية جديرة بالمراقبة والفهم.
صباح اليوم التالي التقينا جميعًا على الموعد في بهو القصر ،وقلت لقصّي « :كّلنا رغبة في رحلة
الصيد هذه ،لكننا لم نأِت بمالبس السباحة» ،فأجابني قصّي « :اطمئن ،سنزّو دكم بكل ما تحتاجون
إليه» .ركبنا الطائرة من بغداد إلى الحبانية ،وذهبنا مباشرًة إلى قصٍر قريب من البحيرة كي نغّير
مالبسنا .في غرفة المالبس وجدنا ،أنا وطالل وغازي ،أن قمصانًا صبيانيًة زاهيَة األلوان قد
ُأحضرت لنا فارتديناها .صحيح أن العراق واألردن يتكلمان اللغة ذاَتها ،لكننا دون ريب لم نكن
نشارك قصّي وعدّي ذوقهما في المالبس .لكن نحن ضيوف وال خيار لنا ،أما عندما خرجنا
بقمصاننا الجديدة الزاهية فقد انفجر أحد أفراد الحرس ضاحكًا عندما شاهدنا.
ركبنا نحن الستة زورقًا صغيرًا من النوع الذي يجّر وراءه المتزلجين على الماء واتجهنا نحو
وسط البحيرة ،عندئذ سأل فيصل أين قصب الصيد والصنانير؟ ابتسَم عدّي وسحَب من قعر الزورق
كيسًا من البالستيك مليئًا بالديناميت .تناول إصبعًا من الكيس وهو يمّج سيجاَر ه الكوبّي ثم أخذ
السكين وبدأ يجرم الفتيل ،وكانت الفكرة أن الفتيل عندما يحترق ُيصدر صوتًا أشبه باألزيز وبذلك
يتيح لك أن تعرف مدى اقترابه من نقطة االنفجار .رفع عدي إصبع الديناميت ،مبتسمًا ابتسامًة
عريضة ،وأشعل الفتيل من طرف السيجار .بدأ الفتيل يرسل شررًا ثم توقف عن ذلك ،فتمتَم عدّي :
«ال نفَع منه» ،ثم رمى إصبع الديناميت إلى أرض الزورق وتناول إصبعًا أخرى.
في هذه األثناء كان فيصل وغازي يتحدثان دون أن يبدو عليهما أّي قلق .لكن أنا وطالل كنا قد
خبرنا المتفجرات كجزء من تدريباتنا العسكرية ،وكنا ندرك تمامًا أن ما نشهده كان الخطر بعينه .ما
من جندّي محترف إال يعرف أن الفتيل الذي يبدو ،ظاهرًا ،أنه انطفأ رّبما ال يزال يحترق .دفع بنا
الخوف رجوعًا إلى مؤخر الزورق وقد ابيّض وجهانا رعبًا ورحنا ندعو هللا أن ال ينفجر الفتيل الذي
«ال نفع منه».
اإلصبع الثانية من الديناميت كانت أيضًا «ال نفع منها» ،إلى أن صّح ت الثالثة وقذَف بها عدّي إلى
البحيرة .ما هي إال ثانية أو اثنتان حتى انطلق انفجار هائل عّكر ذلك المشهد الطبيعّي الهادئ
والجميل« .حسنًا ،فلنأِت بها» ،قال قصّي ،مقترحًا أن نغطس ونجمع األسماك الميتة العائمة على
سطح الماء.
وضع طالل يده على ذراعي وقال هامسًا« :فلندعهما يغطسان في الماء قبلنا ،فنحن من عائلة لم
يكن الحظ حليفها دائمًا في العراق» .كان الملك فيصل الثاني ،ملك العراق ،ابَن عم والدي ،وقد
ارتادا معًا المدرسة في هارو في بريطانيا ،وكانا قريبين جّدًا الواحد من اآلخر .في العام ُ 1958خ لع
الملك فيصل عن عرش العراق في انقالب عسكري وأعدم بوحشية مع الوصي على العرش ،خاله
األمير عبد اإلله ،كما أعدم معهما كل أفراد العائلة الهاشمية الذين كانوا في العراق آنذاك .وعندما
رمى االنقالبيون جثة ولي العهد من النافذة تلّقفها الحشد الهائج وراح يسحلها في شوارع بغداد.
سادت الفوضى وتزعزَع استقرار العراق بنتيجة االنقالب ما أتاح المجال لبروز حزب البعث ،وفي
النهاية وصول صدام حسين إلى السلطة في العام .1979
وأخيرًا قفز قصي إلى الماء وأخذ يلتقط األسماك ويرمي بها إلى الزورق .عند عودتنا من رحلة
«صيد السمك» ،كان والدي ينتظرنا في القصر ،جاهزًا للعودة إلى عمان.
بعد تلك الزيارة إلى بغداد كان عدّي وقصّي يطلبان مني بين الحين واآلخر ،عن طريق السفير
العراقي ،أن أرسل إليهما أحدَث ما أنتجته مصانع السالح من البنادق أو الرشاشات ،وذلك باعتبار
أنني قادر كضابط في الجيش األردني على الحصول على السالح الحديث .عادًة كنت ألّبي الطلب،
أوًال ألن تبادل األسلحة في التقاليد العربية هو من العادات المألوفة ،لكن أيضًا ألنه لم يكن من السهل
علّي أن أرفض طلبًا جاءني من ابن قائٍد عربٍي آخر .في إحدى المرات ُطِلَب إلَّي إرسال مسدس مع
كاتٍم للصوت موصول به .رفضُت الطلب بتهذيب ،ذلك أنني في تلك المرحلة كنت قد سمعت
شائعاٍت عن أن عدّي وقصّي يجّر بان مجموعة مسدساتهما في أقبية القصر على عراقيين رمى بهم
حُّظهم البائس بين أيدي هذين الرجلين .في المرة األخيرة التي التقيت فيها عّدي كان قد خرج لتوه
من السجن الذي ُأدِخ ل إليه بعد أن قتل أحد خدم والده .أما المرة التالية التي التقيت فيها قصّي فكانت
في بغداد في كانون الثاني/يناير من العام ،1991أي ُقبيل حرب الخليج األولى.
في الثاني من آب/أغسطس من العام ،1990وبعد أسابيع من التوتر المتزايد ،غزا صدام حسين
بجيشه الكويت واجتاحت القوات العراقية مدينة الكويت العاصمة مشعلًة النيران في البيوت ،ناهبًة
البضائع والسلع ،ومهاجمًة المدنيين اآلمنين .الشقيق الصغير ألمير الكويت ،الشيخ فهد األحمد
الجابر الصباح ،قاَتَل ببسالٍة عّز نظيرها دفاعًا عن بلده وأهله قبل أن ُيقتل برصاص الجنود
العراقيين وترمى جثُته لتمَّر عليها دبابة عراقية .علق في الحرب حوالى أربعة آالف مواطن من
دوٍل غربية ،وكان بين هؤالء ألف وثالثمئة مواطن بريطاني وتسعمئة أميركي ،وقد اسُتعمل بعض
البريطانيين واألميركيين «دروعًا بشرية» حجزتهم القوات العراقية في مواقع عسكرية استراتيجية
منتشرة في كل أرجاء البالد تخوفًا من هجوم معاكس .بعد مضّي ستة عشر يومًا على تبني مجلس
األمن الدولي القرار الرقم 660الذي طالب العراق باالنسحاب من الكويت ،أقر المجلس القرار
الرقم 664في 18آب/أغسطس الذي دعا العراق إلى اإلفراج عن كل مواطن ينتمي إلى دولة ثالثة،
أي غير الدولتين المعنيتين ،والسماح لهؤالء بمغادرة الكويت .وفي ظل تسارع األحداث بدا واضحًا
أن الواليات المتحدة األميركية كانت تعّد ردًا عسكريًا إذا ما رفض الجيش العراقي التراجع
واالنسحاب.
أكثر من مليون شخص تدفقوا عبر حدودنا الشرقية هربًا من جحيم النزاع ،وهذا دفٌق بشرّي أكبر
بكثير مما يتحمله بلٌد صغير كاألردن وكان يوازي آنذاك ربع سكان البالد تقريبًا .بعض الهاربين
كانوا ينصبون خيامهم في وسط العاصمة عمان ،وقد تصّر ف األردنيون بما يدعوهم إليه ُح سن
الضيافة والواجُب اإلنساني فخرجوا إلى الشوارع حاملين األطعمة واأللبسة ،حتى إن بعضهم
استضاف في منزله من كان باإلمكان استضافُته.
عّبر والدي عن معارضته الحاسمة للغزو العراقي ولضّم العراق الكويت إلى أراضيه ،كما كرر
اعتراف األردن بحكومة األمير ،لكنه مع ذلك اعتبر المشكلة شأنًا عربيًا وبالتالي يجب أن تعالج عن
طريق الدول العربية .لم يكَّف طوال فترة األزمة عن بذل ُقصارى جهده بحثًا عن حل دبلوماسّي
ينتهي إلى خروج العراق من الكويت وإنهاء احتالله .وفي آب/أغسطس من العام 1991أصدرت
الحكومة األردنية ورقة بيضاء أبرَز ت بوضوح تلك الجهود تحديدًا لموقف األردن الذي أساء
البعض آنذاك فهمه.
بتنسيٍق وثيق مع الملك فهد ،ملك المملكة العربية السعودية ،والرئيس المصري حسني مبارك،
طار والدي إلى بغداد في الثالث من آب/أغسطس للقاء صدام حسين ،وبعد نقاٍش حاٍم استطاع إقناع
صدام بحضور قمة عربية مصَّغرة في جدة في الخامس من آب/أغسطس لحّل األزمة ضمن إطار
التعاون العربي .وافق صدام على سحب قواته من الكويت شرط أال تديَن الجامعُة العربية العراق،
حتى إنه أعلن بالفعل أن العراق سيبدأ بسحب قواته من الكويت في الخامس من آب/أغسطس .رأى
والدي أنه كان قاَب قوسين أو أدنى من النجاح في الوصول إلى حٍل عربّي لألزمة خالل ثماٍن
وأربعين ساعة ،وهي المدة التي كان قد اتفق عليها مع الملك فهد والرئيس مبارك .لكن الجامعة
العربية رفضت عرضه ،وفي الليلة ذاِتها أصدرت جامعة الدول العربية قرارًا أدانت فيه العدوان
العراقي داعيًة إلى انسحاب العراق غير المشروط من الكويت .وهنا انهارت كل المحاوالت التي قام
بها والدي لإلتيان بحٍل دبلوماسي.
في الوقت الذي كان فيه العرب يتفاوضون بحثًا عن حل ،كان الكالم األميركي يزداد عدائيًة ،وقد
بلغ القلق لدى والدي مبلَغه حيال خطورة تدويل األزمة وعبثية سقوط مزيد من الضحايا والدمار في
حرب جديدة ال طائل فيها .كان شديد القلق من وطأة زعزعة االستقرار التي سيتركها غزو أميركا
وحلفائها بلدًا عربيًا كبيرًا ،وكان أشَّد قلقا أيضًا من إمكانية إقامة قواعد عسكرية غربية في شبه
الجزيرة العربية والخليج .لقد رأى مسبقًا ،في ما يشبه التنبؤ ،أن تداعياٍت كهذه سوف تحرك سلسلًة
من األحداث ال يمكن وقُفها ،وسوف تؤدي إلى أعماٍل ثأرية تقوم بها جماعات راديكالية ،وكذلك إلى
مزيٍد من الحروب ُتبَتلى بها منطقُتنا.
بعد لقائه صدام حسين ببضعة أيام سافر والدي إلى الواليات المتحدة للقاء الرئيس جورج بوش
(األب) في منزله الريفّي في «كينيبانك بورت» ( )Kennebunkportفي والية «ماين»
( ،)Maineوكان والدي على يقين من أن الحائط ليس مسدودًا وأن الحّل من دون اللجوء إلى
الحرب ليس مستحيًال« .يمكننا إخراج العراق من الكويت دون عنف» قال والدي .حاول شرح ما
تنطوي عليه حرب جديدة في الشرق األوسط من مخاطر ،وأوضح بالتفصيل ،وبتعابيَر واضحٍة ال
لبَس فيها ،مدى الدمار والبؤس اللذين ستحملهما حرٌب كهذه إلى المنطقة .لكن الرئيس بوش لم يشأ
اإلصغاء إلى هذا الكالم .وبتعابير أقرب ما تكون إلى اليأس قال والدي« :ذهبت إلى كينيبانك بورت
كصديق ،وقلت للرئيس إن لدّي التزامًا من صدام بأن ينسحَب من الكويت!» لكّن الرئيس بوش كان
قد اتخذ قراره.
أما أنا فكنت معارضًا بشراسة الغزو العراقي للكويت لكن ،على غرار موقف والدي ،لم أكن أدعم
حربًا انتقاميًة ثأرية تشّنها الواليات المتحدة األميركية .لقد ُدفع والدي إلى موقٍع صعٍب جّدًا ال يحسد
عليه ما جعَله يدفع ثمنًا باهظًا لقاء محاولته ترتيَب انسحاٍب عراقّي سلمّي من الكويت .لقد شعر بأن
جهود الوساطة التي بذلها قد أساء الغرب فهمها عمدًا حتى إنه اُّتهَم باالصطفاف إلى جانب صدام
حسين .كان يرى أن رئيسَة وزراء بريطانيا مارغريت ثاتشر والرئيس األميركي بوش اتخذا موقفًا
يّتسم بالتطرف كما لو كانت األمور إما أسود أو أبيض وال حَّل وسطًا .معظم أصدقائه وقفوا ضّده
بمن فيهم كثيرون في الشرق األوسط ،لكّن شخصًا واحدًا بقي إلى جانبه داعمًا هو األمير تشارلز
ولّي العهد البريطاني الذي اتخذ موقفًا مختلفًا عن كل اآلخرين مدركًا ،على ما يبدو ،أن ما بذَله
والدي من الجهد للحّد من اإلسراع نحو الحرب لم يكن دليًال على أنه كان يدعم صدام حسين.
في تشرين الثاني/نوفمبر أصدر مجلس األمن الدولي القرار الرقم 678الذي طالب العراق
باالنسحاب غير المشروط من الكويت بحلول الخامس عشر من كانون الثاني/يناير .1991في
كانون األول/ديسمبر طلب مني والدي مرافقَته للقيام بمهمٍة في بغداد ،وكانت تلك زيارَته الثالثة
واألخيرة خالل فترة األزمة .كان قد رّتب الزيارة بحيث يرافقه فيها ياسر عرفات وعلي سالم البيض
نائب الرئيس اليمني ،وذلك في محاولٍة للتفاوض على إطالق سراح األسرى الغربيين .قطعنا
المسافة البالغة خمسمئة ميل بين عمان وبغداد في طائرة والدي في أقل من ساعتين ،أي في أقل مما
تستغرقه الرحلة بين واشنطن وبوسطن .صحيح أن بغداد قريبة جغرافيًا ،لكنها من الناحية الفلسفية
عالٌم آخر .فيما كان والدي يتحدث إلى صدام حسين في بهو القصر الجمهوري ،كنت أنا منتظرًا مع
ُقَص ّي وصهره حسين كامل اللذين كانا يدّخ نان ويبدو عليهما االرتياح والمرح .في تلك الفترة كنت قد
أصبحت رائدًا في الجيش .قلت لقصّي وحسين كامل إنني أنهيت للتو دورًة في كلية األركان في
بريطانيا وبات لدّي فهٌم ال بأس به للطريقة التي تعمل بها جيوُش حلف شمالي األطلسي ،خصوصًا
على صعيد القوة الجوية ،وأضفت أنني ال أظن أن لدى العراقيين القدرَة على وقف قوات التحالف
وصّدها ،وسألتهما كيف يمكن أن ينجو العراق من هجوٍم على عدِة مراحَل متواصلة وأكثر من
جبهة .في تلك المرحلة من األزمة كان واضحًا أن معظم القادة العرب سوف يشاركون في التحالف
الدولي الذي كانت الواليات المتحدة وبريطانيا تبنيانه لمهاجمة العراق.
كانت القيادة العراقية معزولًة عن العالم الخارجي ،وكما هي الحال غالبًا في األنظمة الدكتاتورية،
ال أحَد لديه االستعداد أو الجرأة ليقوَل للقائد إن أفكاَر ه وآراَء ه على خطأ .ويبدو أن نجَلْي صدام كان
لديهما تصوٌر خيالٌّي ال يمت إلى الواقع بصلة عن قوة العراق العسكرية.
«يمكننا تتبع قاذفات قنابل ستيلث ومالحقتها» قال قصّي بلهجِة َم ن أنجز االنتصار وانتهى،
وأضاف «معنوياُتنا في ُذراها ،ونحن متلهفون للحرب» .وراح الرجالن يخبران عن أنواع المدفعية
الجديدة التي طّو رها العراق ،وعن أنظمة الرادار السرية والقنابل من وزن عشرين ألف باوند ،لكَّن
شيئًا من كل ذلك الكالم لم يحمل في جوهره أي معنى على اإلطالق.
«اسمعاني جيدًا» ،قلت لهما« :إن ما تعّلمُته في بريطانيا ُينبُئ بأن ال أمَل لكم في النجاح» .لم ُيبِد
أٌّي منهما رّد فعل ،وكان باديًا عليهما مدى الشعور باالعتزاز الوطني والقومي ،لكن كان واضحًا
تمامًا أن إمكانات الخصم وقدراته القتالية كانت في تقديرهما أقّل بكثير مما هي بالفعل .إنه ذلك النوع
من االعتداد بالنفس الذي يمكن أن يودي إلى التهلكة بعشرات اآلالف من الضحايا.
ما إن انتهى حديثي معهما حتى خرج والدي من قاعة المؤتمر منفرَج األسارير ،ثّم عدنا إلى
عمان .في اليوم التالي ،السادس من كانون األول/ديسمبر ،أعلن صدام أنه سوف ُيفرج عن الرهائن،
لكن مع ذلك لم تتوقف االستعدادات للحرب.
كان قد بات نوعًا من التقليد السنوي لدّي أن ألتقي ،مع اقتراب رأس السنة الجديدة ،بعَض
األصدقاء من الواليات المتحدة وبلداٍن أخرى ،لكن في تلك السنة ،ووسط كل تلك االستعدادات
لحرٍب بدا أنها باتت وشيكَة االندالع على حدودنا ،لم أكن متأكدًا من أن أحدًا من أصدقائي في
الخارج سيرغب في المجيء إلى األردن.
حاولنا في العائلة أن نحافَظ على الحّد المعقول من الهدوء واألعصاب الباردة .لكنني كنت أرى
بوضوح أن والدي كان مرهقًا .كان ال يكاد يضع الهاتف من يده طوال النهار ،مع األميركيين حينًا
ومع صدام حينًا آخر ومع الكويتيين وسواهم حينًا ثالثًا ،يحاول يائسًا إعادَة الجميع عن شفير الهاوية
الذي وصلوا إليه .في ذلك الجّو القاتم طرَأْت لنا ،أنا وبعض األصدقاء ،فكرٌة بأن نحاول الترويَح عنه
قليًال والتخفيف مما ُتلقيه األحداث الجارية من ِعبٍء على كاهله .رحنا نبحث في منزل والدي في
الحَّم ر ،فوقعنا في أحد الصناديق على مجموعٍة من الصور َيظهر فيها والدي مع جمال عبد الناصر
ومع الجنرال البريطاني السير جون غلوب (باشا) وسواهما من الشخصيات التاريخية .أخذ والدي
ينظر إلى الصور وأفراد العائلة يحيطون به ،وبدأ يعطينا درسًا مرتجًال في التاريخ ،شارحًا ما كان
يجري في األردن في الوقت الذي الُتِقطت فيه هذه الصورة أو تلك وراويًا لنا بعَض ما كان في
خزين ذاكرته من أخبار تلك الشخصيات التاريخية والنزاعات التي َشِه َدها أو التي كان له فيها دور.
ليلَة رأس السنة من ذلك العام كنت في وادي األردن مع صديقي «جيج» ،الذي جاء زائرًا برفقة
بعض األصدقاء األميركيين اآلخرين على الرغم مما القوه من االحتجاج لدى عائالتهم .تحدثنا عن
عائالتنا وعن أيامنا في ديرفيلد ،لكن حديثنا بمعظمه دار حول الحرب مع العراق التي أصبحت على
األبواب ،وما قد تجّر ه على األردن من أضرار ،وإذا تطورت األمور بنحو سيئ فهل يصبح األردن
-هو بالذات -العدّو في أعين األميركيين؟ كان السرب 229من الفرقة الجوية 101األميركية،
الذي تدّر بُت فيه على قيادة مروحيات الكوبرا ،قد تم إعداُده وتجهيُز ه للذهاب إلى العراق ،وكان أمرًا
مذهًال فعًال التفكير بأننا -أنا و«جيج» -قد يصبُح في وقٍت قريب كٌّل منا على طرٍف نقيٍض من
طرفي النزاع .صحيح ،أنا أردنّي وهو أميركي ،لكن ما بيننا من صداقٍة كان أقوى من السياسة
وأمتن.
بحلول كانون الثاني/يناير من العام 1991كان التحالف الدولي بقيادة الواليات المتحدة والمملكة
المتحدة ،وبمشاركة ثالثين دولًة أخرى ،قد َنَشر حوالى نصف مليون جندي في المملكة العربية
السعودية ودول أخرى في الخليج العربي .مقابَل هذا الحشد العسكري الدولي وقف جيش صدام
وقواُم ه مليون جندي ،وكان األكبر في منطقة الشرق األوسط والرابع من حيث الحجم في العالم .كان
العراق قد استورد أنواعًا من األسلحة من كل أصقاع العالم ،وكان جيُشه قد اكتسَب خبرًة وصالبًة
نتيجة حربه الطويلة مع إيران ،من هنا لم يكن أمرًا محسومًا على اإلطالق أن تكون الحرُب المقبلة
مجرَد نزهٍة بالنسبة إلى األميركيين وتحالفهم الدولي.
كان القلق يساورنا من أن يستدرجنا اإلسرائيليون أو العراقيون إلى أتون الحرب ،فكان من
الممكن أن تحاول المقاتالت اإلسرائيلية العبور فوق األردن لمهاجمة العراق باعتبار أن صدام كان
قد ربط بين هذه التحركات التي يقوم بها وبين دعمه لفلسطين والدفاع عنها ،وهو شعار شعبي عام
ال يزال صداه يتردد في المنطقة حتى يومنا هذا .كذلك كان ممكنًا أن تدخل القوات العراقية
األراضي األردنية لمهاجمة إسرائيل .ولكن والدي كان قد أنذر صدام« :إذا وِط َئ جندٌّي عراقٌّي
واحد أرَض األردن فنحن في حرب» .ووّج ه الرسالة نفسها إلى إسرائيل« :إذا حّلقت مقاتلة
إسرائيلية واحدة فوق األراضي األردنية فمعنى ذلك أن الحرب وقعت بيننا».
في 16كانون الثاني/يناير من العام ،1991اندلعت حرب التحالف الدولّي على العراق ،وبما أن
البالد كانت تواجه حالَة طوارئ عامًة طلب مني والدي أن أبقى في حال الجهوزية الدائمة لنشر
الكتيبة الثانية من اللواء المدرع األربعين عند الحدود اإلسرائيلية .قبل اندالع القتال ببضع لياٍل كنت
قد تلقيت أمرًا بإجراء تفتيش لدى إحدى الوحدات التي تتولى الحراسة عند الحدود الجنوبية لوادي
األردن ،قرب البحر الميت .كان الظالم من النوع الذي ال يعرفه المرء إال في الصحراء ،وكان
شيٌء من شحوب القمر فوَق رؤوسنا يكسُر تلك العتمة الصحراوية قليًال .بما أن الصحراء غير
مضاءة بالمصابيح الكهربائية ،يمكننا هناك أن نشاهد عددًا من النجوم أكبر بكثير مما نشاهده في
المدينة .ينتاُبك هناك الشعور بأنك تقف على حافة العالم وتنظر منها إلى داخله .فجأًة أضاءت ظلمَة
الصحراء التماعٌة من الضوء فيما كان صاروٌخ عراقٌي من نوع سكود َيعبر باتجاه إسرائيل.
كان طيارونا في حالة تأهب خشية أن تتسلَل القوُة الجوية العراقية إلى األردن هربًا من قوات
التحالف المهاجمة ،لكن تبّين أن الطائرات العراقية لجأت لهذه الغاية إلى إيران ،أما اإلسرائيليون فقد
حجبوا نيرانهم ولم يردوا.
لم يكن جيش صدام ليصمَد بوجه قوات التحالف الدولي ،ولم تمِض ستة أسابيع على اندالع
الحرب حتى وضعت أوزارها واستراحت .كنت أعلم ،في ضوء ما أعرفه عن التكتيك الذي ُتطّبقه
قوات حلف شمالي األطلسي وعن القوة النارية التي تمتلكها الواليات المتحدة وبريطانيا ،أن نتيجة
الحرب ال يمكن أن تأتي مغايرًة لما انتهت إليه ،لكن ،مع ذلك فوجئت بالسرعة التي انهار فيها
الجيُش العراقي وانهزم.
لم تكن المودُة والوئام سمَة العالقة بين والدي وصدام حسين ،فقد كان والدي مدركًا تمامًا العذابات
واآلالم التي كَّبدْتها القواُت العراقية شعَب الكويت ،لكنه في نفس الوقت أراد أن يجّنَب شعب العراق
ما كانت الحرب ستحمله إليه من ويالٍت ودمار ال نتيجة منها ُترتجى .لم تستطع دوٌل خليجية عديدة
أن تقبل أن والدي كان يؤّدي دورًا وسيطًا سعيًا في تجّنب الحرب ،وقد اّتهمْته تلك الدول بأنه وقف
إلى جانب صدام .آَلمْته هذه التهمة كثيرًا ،وشعر بأن حلفاَء األمس كان عليهم أن يثقوا به وأن يثمنوا
ما كان يحاول القيام به تحقيقًا لمصلحة الجميع .بقيت عالقات األردن بالكويت متوترة على مدى
سنوات ،كما تراجعت عالقاتنا مع دوٍل أخرى في الخليج نتيجة الحرب .خسارُتنا المساعدات المالية،
والنفط من العراق وهو مورُد األردن األساسي ،وانخفاض تحويالت األردنيين العاملين في الخليج
الذين ُأجِبَر العديد منهم على العودة إلى بالدهم ،كل هذه العوامل مجتمعًة قد أصابت االقتصاَد
األردني بأضراٍر فادحة.
لقد أحزنتنا جميعًا ،وفي كل أرجاء المنطقة ،الخسائر في األرواح والدمار الشامل الذي خَّلفته
حرب الخليج ،ولعّل هذا ما دفع البعض إلى البحث بجدية عن السالم مع الجار اآلخر ،إسرائيل.
إثر انتهاء الحرب الباردة ،وبعد خروج العراق من الكويت ،دعت الواليات المتحدة واالتحاد
السوفياتي إلى عقد مؤتمر للسالم في مدريد في تشرين األول/أكتوبر من العام .1991وقد أطلقت
تلك المفاوضات ،التي ُعِر َفت في ما بعد بمؤتمر مدريد للسالم ،فتحًا مفصليًا في مساٍر تاريخّي
طويل من الجهود التي بذلتها دوُل االعتدال العربّي والمجتمع الدولّي في سبيل حل الصراع العربي-
اإلسرائيلي ،والتفاوض على تسويٍة بين إسرائيل والفلسطينيين .كانت هذه المرة األولى التي التقى
فيها كل أفرقاء الصراع ،بمن فيهم الفلسطينيون ،لبحث خالفاتهم في مؤتمر دعا إليه وسطاء دوليون.
لقد أعادت عملية مدريد ،بما شهدته من مفاوضاٍت ثنائية من جهة ،ومتعددة من جهة ثانية ،الحيويَة
والحركة إلى جهود السالم الجامدة آنذاك .حين أعلن اإلسرائيليون أنهم ليسوا مستعدين بعد للتفاوض
مباشرًة مع الفلسطينيين ،قّدم األردن للفلسطينيين وسيلًة للتحدث إلى اإلسرائيليين تحت «مظلٍة
أردنية» وذلك من خالل تشكيل وفٍد أردني -فلسطينّي مشترك .كان الهدف من إطالق عملية مدريد
الوصول إلى سالٍم إقليمّي شامل ،وفي مطلع تشرين الثاني/نوفمبر بدأت إسرائيل إجراء محادثات
مع جيرانها العرب على أربعة مساراٍت منفصلة ،وكانت بين إسرائيل وكٍل من األردن،
والفلسطينيين ،ولبنان ،وسوريا.
كان التفاهم الضمني في ما بين الدول العربية هو أن تبقى على موقٍف موحد في جبهٍة واحدة
للمحافظة على المصالح الفلسطينية ،بدَل أن تفاوض كُّل دولة على حدة آخذًة مصالحها الذاتية وحَدها
بعين االعتبار .وللوصول إلى هذه الغاية اتفق المندوبون على تنسيق مواقفهم وإبقاء التواصل في ما
بينهم وتبادل المعلومات عّم ا يحرزونه من تقدم.
لكن إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بدأتا في أوسلو عاصمة النروج محادثاٍت موازية
لمفاوضات مدريد ،وذلك دون أن يكون لدى والدي أية معرفة بهذا المسار التفاوضي السري .وقد
توّص ل الطرفان ،بعد ثمانية أشهر من المفاوضات ،وبصورة غير متوقعة ،إلى اتفاٍق تاريخي في
عالقاتهما بات ُيعرف باتفاق أوسلو .هذا االتفاق ،الذي تبادلت فيه إسرائيل ومنظمة التحرير
الفلسطينية االعتراف ،كٌّل منهما باألخرى ،واتفقتا على أن يمارس الفلسطينيون حكمًا ذاتّيًا في قطاع
غزة وأريحا ،كان مفصًال تاريخّيًا في العالقات اإلسرائيلية -الفلسطينية .لقد أرسى إطارًا لالتفاق
النهائي وحدد مراحل تطبيقه ،وقد وّقع إعالن المبادئ في واشنطن في أيلول/سبتمبر من العام 1993
فتمثلت إسرائيل برئيس وزرائها إسحق رابين ومنظمة التحرير الفلسطينية برئيسها ياسر عرفات،
وقد استضاف االحتفال الرئيس بيل كلنتون في البيت األبيض.
أخذ الغضب من والدي مأخَذه من إخفاء عرفات مسار أوسلو عنه وتوقيعه اتفاقًا منفصًال مع
إسرائيل« .ال أستطيع أن أصّدق أنهم فعلوا ذلك» ،على ما قال لي .شعر بالقلق الشديد حيال وصول
السوريين إلى مرحلٍة في محادثاتهم مع اإلسرائيليين أكثر تقدمًا مما أخبرونا به .تحت وطأة الخيبة
الكبيرة من عدم قدرة العرب على المحافظة على جبهتهم الموحدة ،قرر والدي التركيز على
المفاوضات األردنية -اإلسرائيلية لتحقيق السالم.
كان األردن في الواقع قد شّج ع المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين منذ العام 1988
عندما اتخذ والدي القرار التاريخي بفك االرتباط اإلداري والقانوني مع الضفة الغربية المحتلة .كانت
الضفة الغربية جزءًا من المملكة األردنية الهاشمية قبل أن تحتلها إسرائيل في العام ،1967وكان
الفلسطينيون المقيمون فيها مواطنين أردنيين ،وقد بقيت الحكومة في عمان مسؤولًة عن شؤونهم
وعن دعم المدارس الفلسطينية والمؤسسات القضائية وسواها من المؤسسات ،وذلك خالل كل فترة
االحتالل .الموظفون اإلداريون في الضفة الغربية كانوا تابعين للحكومة األردنية ،حتى بعد العام
،1967كذلك كان نصُف مقاعد البرلمان األردني مخّص صًا لنواٍب من الضفة الغربية .قرار فك
االرتباط عنى أن األردن لم يعد -منذئٍذ -مسؤوًال عن تلك المؤسسات ،ولم ُيسَتْثَن من هذا القرار
سوى مسؤوليِة األردن عن رعاية األماكن المقدسة .لقد شعر والدي بأن تخّليه عن مسؤولية رعاية
هذه األماكن في مدينة القدس سيترك فراغًا تستغّله إسرائيل لتتوّلى هي السيطرة عليها ،ومن هنا كان
تمُّسُكه بمسؤولية األردن عنها ،وهذا ما اعترفت به إسرائيل عندما َو َّقعْت معاهدَة السالم مع األردن
في العام .1994
قرار والدي َقْط َع العالقِة رسميًا مع الضفة الغربية كان معناه أن بإمكان الفلسطينيين أن يتحّم لوا
هم بأنفسهم مسؤوليَة مستقبلهم السياسي في األراضي المحتلة .وفي خطاٍب في 31تموز/يوليو قال
إنه على يقين من أن هذا القرار هو الرُّد الطبيعُّي والمنطقي على الموقف الذي صدر عن قمة الرباط
العربية في العام 1974عندما قررت كل الدول العربية باإلجماع اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية
الممثَل الشرعَّي والوحيد للشعب الفلسطيني .من بين الدوافع التي أدت إلى اتخاذ القرار أيضًا الفشُل
الذي انتهت إليه المحاوالت العديدة للتنسيق االستراتيجي مع منظمة التحرير .كما كان الندالع
االنتفاضة الشعبية ضد االحتالل اإلسرائيلي في كانون األول/ديسمبر من العام 1987في الضفة
الغربية وقطاع غزة ،وهي االنتفاضة الفلسطينية األولى ،دوُر ه في اتخاذ ذلك القرار .كان
الفلسطينيون قد أعلنوا بوضوح عزَم هم على العمل لتحقيق أهدافهم السياسية متكلين على أنفسهم
ومستقلين عن األردن .ولم يكن والدي ليقف في وجههم .من هنا فإن قراره كان مسألًة حيوية بالنسبة
إلى طموح الفلسطينيين إلى إقامة دولتهم :وبهذا تصبح الضفة الغربية هي النواة التي تقوم عليها
دولة فلسطين.
من التداعيات التي خّلفتها أيضًا حرُب الخليج ما شهَده األردن من تدفق العراقيين إلى البالد .فقد
لجأ إلى األردن قبل الحرب وخاللها وبعدها مئات آالف الالجئين ،أكان من العراقيين أم من مواطني
بلدان أخرى كانوا يقيمون في العراق .كذلك جاء إلى األردن معظم الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون
في الكويت ،فضًال عن األردنيين الذين غادروا الكويت عائدين إلى بالدهم .ومع أنني لم أكن يومئٍذ
على علٍم بما قد تأتي به تلك الظروف ،فإن مصادفَة لقائي بإحدى العائدات من الكويت سوف تغّير
مسيرَة حياتي قريبًا.
الفصل التاسع :زفـــاف ملكـــّي
في شهر آب/أغسطس من العام 1992كنت قائدًا لكتيبة المدرعات الملكية الثانية ،وكنا نجري
مناوراٍت وتدريباٍت ميدانيًة حيث بقينا أنا ورجالي في معسكٍر صحراوّي ننام في الخيام طواَل
شهرين متواصلين دون انقطاع .على صعيد اإلقامة كنا نكتفي باألساسيات ،فلكي أستحَّم مثال َم ددُت
ما يشبه األنبوب إلى خزاٍن للماء يستمّد حرارَته من أشعة الشمس ،وانقضى األمر .أنهينا تدريباتنا
بنجاح فقال لي قائد اللواء إن بإمكاننا ،أنا والضباط اآلخرين ،أن نذهب في إجازة ليلًة واحدة.
خلعُت اللباس العسكري وارتديت قميصًا بسيطًا وحذاًء خفيفًا وقدُت سيارتي إلى عمان .ما إن
وصلت إلى المنزل حتى اتصلت شقيقتي عائشة وقالت «علمُت أنك في المدينة ،لَم ال تأتي إلى
العشاء؟» فقلت لها« :في الحقيقة أشعر بحاجة إلى حماٍم ساخٍن وسريٍر مريح وال شيء سوى ذلك»،
لكنها لم تكن قد رأْتني منذ مدة فوعدتني بأن اللقاء سيكون بسيطًا ولن يطول ،وبما أنني كنت قد
عشُت طواَل شهرين على الفصوليا والسباغيتي المعّلبة ،كان من الصعب أن أرفض الدعوة لعشاء
لذيذ.
توّج هت إلى منزل عائشة وكان وجهي أشبه بالرغيف المحّم ص بعد قضاء شهرين تحت شمس
الصحراء .دون أن أتنّبه إلى أن لديها ضيوفًا على العشاء ،ذهبت مرتديًا المالبَس ذاَتها التي كنت قد
استعجلُت ارتداَء ها عند مغادرتي المعسكر .أحد أصدقاء شقيقتي كان يعمل في شركة أبل للكمبيوتر
في عمان ،وقد اصطحَب معه إلى العشاء إحدى زميالته ،رانيا الياسين .ما إن وقَع عليها نظري
حتى قلت في نفسي« :ما أجملها»!
كانت رانيا آنذاك على مشارف الثانية والعشرين ،ولم تكن قد أمضت الكثير من حياتها في
األردن ،ذلك أنها نشأت في الكويت التي غادرتها مع عائلتها المنحدرة من أصول فلسطينية إلى
األردن خالل حرب الخليج .كان والدها ينوي ،قبلئٍذ بوقت طويل ،أن يتقاعد في األردن ولهذه الغاية
كان قد شَّيد منزًال في عمان ،غير أن الحرب سَّر عت في تنفيذ مخطط العائلة.
درست رانيا إدارة األعمال في الجامعة األميركية في القاهرة ،ثم عملت في مصرف «سيتي
بانك» ( )Citibankفي عمان ،ومن َثَّم في شركة «أبل» ( )Appleحيث التقت صديَق شقيقتي .لم
نتحدث سوى حديٍث عابٍر حول مائدة العشاء ،لكنها انتزعت إعجابي الكبير برصانِتها الواثقة،
وأناقِتها الالفتة ،وخصوصًا بذكائها .لقد أخَذ مني سحُر ها مأخَذه وأدركُت لتّو ي أنني ال بد أن أراها
ثانيًة .انقضى بعض الوقت قبل أن تمكنت من تحديد وسيلة للحديث معها مرة أخرى .اتصلت بها في
مقر عملها .قَّدمُت لها نفسي وقلت لها إنني أرغب في لقائها ثانية ،فقالت« :سمعُت عنَك أشياء،»...
لم ُتْنِه جملَتها ،لكّن اإلشارة كانت واضحة بأن ما سِم عْته لم يكن مديحًا كُّله .أجبتها« :لم أقدْم نفسي
َكَم الك ،لكن نصف ما سمعِت ،على أقّل تقدير ،هو مجرد أقاويل فارغة» .ال يبدو أن كالمي أقنَعها،
وقالت إنها سوف تفكر في الموضوع.
ال أحسب أنني من الذين يتراجعون بسهولة .طلبُت من صديق مشترك ،توفيق قعوار ،أن يمّر بها
في مكتبها وأن يؤكد لها طيَب نواياي .لكنها مع ذلك لم تقتنع واعتَبرْته متحيزًا .عاد توفيق من مهمته
معتذرًا عن أنه لم يتدّبر لي لقاًء معها ،لكنه اكتشف أن رانيا تحب الشوكوال ،فعدُت وأرسلُته ثانيًة مع
علبٍة من الشوكوال البلجيكية .في النهاية قِبَلْت دعوتي إلى العشاء في تشرين الثاني/نوفمبر حيث
فاجأتها بأن أعددت لها الطعام بنفسي.
في البداية كان الدافع لكي أتعلم الطبخ هو الحاجة الماّسة ،وقديمًا قيل الحاجُة أُّم االختراع .لكن في
ما بعد أخذُت أتمتع به ووجدته وسيلًة لالسترخاء والترويح عن النفس .كنت قد صنعت محليًا
األدوات الالزمة إلعداد بعض األطعمة اليابانية التقليدية مع الدجاج والقريدس ولحم البقر .مر
العشاء على نحو جيد ،وعدنا والتقينا مرًة أو مرتين قبل نهاية تلك السنة .وكنا نتحدث على الهاتف
مراٍت عديدة .كان ال بد أن ُنبقي أموَر نا محصورًة بنا نحن االثنين ،فالناس يحبون الثرثرة والقيل
والقال ،ولم نرغب في أن نكون موضوعًا لمثل هذه الثرثرة.
ُقَبْيل بداية السنة الجديدة ،التقيت «جيج» وكنت حينها قد بدأُت أجد صعوبًة في كتم مشاعري،
فأخبرته بأنني التقيت في عمان فتاًة رائعة وأصبحُت مقتنعًا بأنها هي الفتاة المناسبة.
دعوت رانيا إلى عشاء لمناسبة عيد ميالدي في الثالثين من كانون الثاني/يناير .جلس والدي إلى
جانبها ،ودار الحديث بينهما دورَته الكاملة لينتهي بوالدي مدهوشًا بما شَّع منها ،ذكاًء وسحرًا
وجماًال .ولم َيُطل به الوقت حتى كشَف سَّر نا .وبعد أن غادر والدي والضيوف وبينما كنت ال أزال
جالسًا مع رانيا في المنزل رّن جرس الهاتف وكان والدي على الطرف اآلخر .قال« :ما دمنا اآلن
قد اكتشفنا السّر ،متى تريدني أن ألتقي والديها؟».
كنت في ما مضى أشارك في مسابقات الرالي ،بما فيها أحيانًا مسابقاُت المحترفين ،وقد توصلنا أنا
وسائقي المساعد علي بلبيسي إلى احتالل المرتبة الثالثة في رالي األردن الدولي في العام ،1986
وكررنا هذا اإلنجاز في العام .1988من األمكنة األحب إلى قلبي جبٌل عند أطراف عمان هو تّل
الرمان الذي َأطلَق منه والدي مع بعض أصدقائه اللبنانيين في العام 1962سباق سيارات لتسلق
الهضبة ،وقد أصبحت اليوم من أقدم المناسبات الرياضية في الشرق األوسط .سألُت رانيا إذا كانت
ترغب في مرافقتي في نزهٍة بالسيارة ،وانطلقنا نحن االثنين نحو قمة الجبل .كان بودي لو أن طلبي
يَدها كان في مناسبٍة أكثر رومنطيقيًة ،لكن فيما نحن واقفان خارج السيارة نتحدث قلت لها إنني أرى
عالقَتنا تتخذ منحى جدّيًا ويبدو لي أن زواَج نا فكرٌة جيدة .نظرت رانيا إلَّي مبتسمة والذت بالصمت.
اعتبرُت سكوتها عن الرّد دليَل موافقة وأخبرت والدي عما دار بيننا من حديث ،ومنذئٍذ أخذت
األمور تتسارع.
بعد مضّي ما يقارب األسبوعين رّتبنا زيارًة لوالدي إلى منزل والديها .كنت يومئٍذ عائدًا من رحلِة
عمل تتعلق بالجيش ،وما إن خطوُت خارجًا من الطائرة في مطار الملكة علياء الدولي حتى لمحُت
والدي واقفًا أمام البوابة ،وكانت المرة األولى -على ما أذكر -يأتي إلى المطار لمالقاتي .أظنه شاَء
أن يتأكد من ثباِت موقفي وعزمي على اإلقدام على الزواج ،فوالدي كان قد مضى عليه بضُع
سنواٍت يحّثني على الزواج واالستقرار.
في تقاليدنا االجتماعية ،عندما يريد الرجل أن يطلب يَد فتاٍة للزواج ،يأتي بأهم أفراد عائلِته أو
عشيرته وأصدقائهم وأكثرهم نفوذًا على رأس جاهة ليؤكَد ألولياء العروس المرتجاة أن ابنتهم سوف
تكون في ديار الزوج على الرحب والسعة وموضَع عنايِة بيِت حميها .وهل لَك ،في هذه الحال ،أن
تحلَم بناطٍق باسمَك َيطلُب القرب ،أعلى شأنًا وأكبر َقْدرًا من ملك األردن؟ في طريقنا إلى منزل
والَدْي رانيا انعطَف والدي إلى مكتبه حيث كان عليه أن يوّقَع بعض األوراق .تركني أنتظر ال أقَّل
من ثالثة أرباع الساعة ،حتى بدأ العرُق يتصّبب مني خشيَة أن نتأخر عن الموعد.
بوصولنا إلى المنزل بدا واضحًا أن والَدْي رانيا كانا يتوقعان لقاًء بسيطًا وغير رسمي ،ولم يكن
لديهما أدنى فكرة عن أن والدي كان ينوي طلب يد ابنتهما للزواج بي رسميًا في ذلك اليوم .كانا
مضيافين كريمين ،وكانت والدُتها قد أعدت الحلويات والشاي والقهوة ،وحين َقّدمْت فنجاَن القهوة
العربية إلى والدي تناوَله من يدها ووضعه أمامه دون أن يشرب منه .لقد جرت العادة في األردن في
مناسبات طلب يد فتاة للزواج أن تقدم عائلُتها القهوَة العربية لكبير الجاهة ،فيأخذ فنجان القهوة بيده
ويضعه أمامه ولكن يمتنع عن ُشربه إلى أن يتقدم بطلبه من أهل الفتاة حتى إذا وافقوا يشرب هو
وبقية أفراد الجاهة القهوة ،وإذا رفَض األهُل الطلب يكون االمتناع عن شرب القهوة ،حسب العادات
والتقاليد المتعارف عليها ،بمثابِة الرد على هذا الرفض .وبَقْدِر ما تكون في رفض الطلب إهانٌة
لطالبي القرب يأتي الرُّد عليها برفض شرب القهوة .لكن في أيامنا هذه ُتماَر س هذه التقاليد بحيث
يكون كٌّل من المعنيين عارفًا دوَر ه مسبقًا .يبقى أّن َتساُر َع األحداث َج عَلني أنسى كلّيًا أن أحيط رانيا،
وبالتالي والديها ،بما عليهم توّقُعه من تفاصيل ،مع أنني كنت قد تحدثت مع رانيا عن الزواج منذ أن
طلبُت يدها من قبل.
عندما امتنع والدي عن شرب القهوة بدأْت رانيا تدرك مساَر األمور .لكن أمها الطيبة لم تكن لديها
أدنى فكرة عما يجري ،وأخذت ترجو والدي أن يتفّضل بتناول القهوة والحلوى .وأخيرًا التفَت والدي
إلى والد رانيا ،وتحدث ،وفق التقاليد ،عن األسباب التي تجعل من زواِج نا مشروَع عائلٍة ناجحة.
كنت في حالٍة من التوتر الشديد حتى إنني لم أعد أذكر الكثير مما قاله والدي ،ثم أعلن والد رانيا
موافقته فعّم الفرح .تناوَل والدي القهوة وشرَبها .وبعد الزيارة بحوالى أسبوع ،في الثاني والعشرين
من شباط/فبراير ،أعلّنا أنا ورانيا خطوبَتنا رسمّيًا.
في ذلك الشهر بالذات انتقلُت من قيادة الكتيبة في اللواء المدّر ع ،حيث كنت قد أمضيت معظم
حياتي العسكرية ،ألصبَح نائبًا لقائد القوات الخاصة .تمامًا كما في أفواج النخبة العسكرية مثل قوات
دلتا األميركية والقوات الجوية الخاصة البريطانية ،كانت القوات الخاصة األردنية تتولى مسؤولية
عمليات مكافحة اإلرهاب وكان تدريُبها يشمل العمليات البرية والجوية والبحرية .من الفوائد
الشخصية التي ترّتبت على هذه النقلة كوُنها مهمًة تتطلب وجودي في القيادة العامة ،أي إن بإمكاني
االنتقال من القاعدة العسكرية التي كنت متمركزًا فيها إلى اإلقامة في منزل العائلة في عمان .وبما
أن زواجنا كان يقترب بسرعة ،لم يكن لدّي ما يكفي من الوقت لالستقرار.
أبدى والدي رغبته في إقامة احتفاٍل كبير ،حتى وصَل به األمر إلى أن يستدعي من لندن إحدى
المؤسسات التي تنظم «الدورة الملكية» وكانت آنذاك من أكبر االحتفاالت العسكرية السنوية في
العالم .أنا ورانيا كنا نرغب في احتفاٍل صغير ،ولذلك أخذُت أفاوض والدي على صيغٍة يمكن أن
تناسَب الجميع ،لكنه كان في حالٍة عاطفية يستحيل معها إقناُعه ،إلى أن توافقنا أخيرًا على أن يتولى
هو ترتيَب االحتفال الرسمي الذي يقام خالل النهار ،فيما ننظم نحن حفل الزفاف في المساء.
العاشر من حزيران/يونيو من العام 1993كان يومًا َعّم انيًا مشرقًا وقد احتشدت جماهيُر
األردنيين على َج َنبات الشوارع تلّو ح بالتحية وتنثر أزهار الفرحة .كنت مرتديًا اللباَس العسكرَّي
األسود ،أما رانيا فتأّلقت زاهيًة في ثوٍب أبيض من الساتان مطرزة أطرافه بلون الذهب ،وعلى
رأسها طرحٌة بيضاءُ .عقد القران في قصر زهران حيث كان منزل جدتي الملكة زين في وسط
مدينة عمان ،بحضور أفراد العائلة وبعض األصدقاء.
بعد االحتفال عبرت بنا سيارٌة مكشوفة من نوع لنكولن طراز 1961مزينة باألزهار البيضاء
شوارع عمان ،وكنا نلّو ح للجماهير المحتشدة فيما كانت السيارة تجوُب بنا أنحاء المدينة بسرعة ال
تكاد تتجاوز سرعَة السائِر على قدمين ،وقد اتجهنا إلى قصر رغدان مقر الديوان الملكي حيث كان
والدي قد رّتب االستقباَل الرسمي .القصر شّيده جّدَي األكبر الملك عبد هللا األول ،وهو يقوم على
مرَتَفٍع مشرٍف على العاصمة عمان ويضّم بين جنباته قاعَة العرش ،وغالبًا ما يشهد االحتفاالِت
الرسميَة الكبرى.
ما جرى بعد ظهِر ذلك اليوم يمكن أن نسّم يه ما شئنا إال احتفاًال رسميًا ،فقد خرج من القصر ما
يقارب ألفين من الضيوف المدعّو ين وانتشروا في الحدائق والبساتين المشّج رة والمحيطة بالقصر.
وباإلضافة إلى لفيِف العائلة واألصدقاء من األردن ،كنا قد دعونا عددًا كبيرًا من األصدقاء في
الخارج وكان من بينهم أصدقاء وأساتذة من ديرفيلد وأحُد الذين توَّلْو ا حراستي الشخصية خالل فترة
دراستي هناك .كما حضر المناسبة أصدقاء من ساندهرست وآخرون من إنكلترا ،وحضر أفراد
عائلة رانيا وأصدقاؤها من الكويت والقاهرة .ولُّي عهد المغرب كان بيننا ،ورئيس القيادة المركزية
األميركية الجنرال جوزف هور ( ،)Joseph Hoarوملكة إسبانيا الملكة صوفيا ،إذ إن والدي كان
مقربًا جّدًا من العائلة المالكة اإلسبانية (هذه العالقة تطورْت بطريقٍة غير مباِش رة ،فأحد رفاق والدي
في مدرسة «فكتوريا كولدج» في مصر كان ملك بلغاريا المنفي سيميون الثاني ،وهو الذي قّدمه إلى
عائالٍت مالكة أخرى من أوروبا ومنها العائلة المالكة اإلسبانية .وفي مصادفٍة مصيريٍة غريبة ،عاد
الملك سيميون إلى بلغاريا بعد انهيار الحكم الشيوعي وأنشأ حزبًا سياسّيًا جديدًا ثم فاز حزُبه بأكثريٍة
برلمانية في انتخابات العام 2001وأّدى اليميَن رئيسًا للوزراء).
أما ذروُة االحتفال فكانت الوصول المفاجئ لمدربي السابق على القفز بالمظلة ،سميح جنكات.
فكما يليق بضابٍط في القوات الخاصة وصَل بالمظلة وقفز في محيط القصر ُبَعْيد الغروب حيث
تمّكَن من تجّنب األشجار واألبنية ونافورة الماء وهبط هبوطًا ممتازًا أمام الضيوف المتجّم عين ،وقّدم
لي ولرانيا سيفًا قطعنا به كعكة الزفاف.
بعد االحتفال الرسمي في حدائق القصر ،انسحب أفراد العائلة واألصدقاء المقّر بون لتناوِل العشاء
في منزل والدتي في المرتفعات المشرفة على عمان حيث أكلنا وتحدثنا واحتفلنا حول بركِة السباحة.
وأخيرًا ،حوالى الثانية فجرًا ،تمّنينا أنا ورانيا ليلًة سعيدة للجميع ،وفي صباح اليوم التالي ركبنا
الطائرة إلى أميركا في رحلة شهر العسل ونحن نتطلع بلهفٍة وشوق إلى حياتنا الجديدة معًا.
قّدم لنا والدي ،كهدية زواج ،بطاقتي سفر في الدرجة األولى إلى سان فرانسيسكو عبر لندن ،ولكن
ما إن وصلنا إلى هناك حتى اشترينا بطاقتين من عرٍض موسمّي إلحدى شركات الطيران لزيارة
الواليات المتحدة يتيح سفرًا داخلّيًا غير محدود في الدرجة السياحية على مدى شهر كامل .كانت
رانيا قد زارت الواليات المتحدة عدة مرات من قبل ،لكنني كنت متحمسًا ألريها المزيد .طرنا أوًال
إلى هاواي ثم عدنا إلى تاهيتي وبورا بورا ،ومن هناك قصدنا الساحل الشرقي للواليات المتحدة
فزرنا نيويورك وواشنطن .أحيانًا ،عندما كان موظفو شركة الطيران يعرفون أننا في شهر العسل
كانوا يرفعوننا إلى درجة رجال األعمال.
بعد عودتنا من أميركا بدأنا نبحث أنا ورانيا عن منزل مناسب لنشتريه معًا ،لكن والدي قال إنه
سيخّص ص لنا منزًال كان قد اشتراه في ضواحي عمان وكان ينوي تجديده .عملية التجديد كانت
واسعة واستغرقت قرابَة السنة ،وفي هذه األثناء سكّنا في منزٍل صغير للضيوف كان جزءًا من
منزل والدي .السكن في جوار والدي كان يعني أن نلتقيه كثيرًا ،وهذا ما أتاح له ولرانيا أن يعرف
أحدهما اآلخر معرفًة أعمق وأوثق مما كانت عليه بعد بضعة لقاءاٍت سريعة .غالبًا ما كنا نجلس معًا
على الفطور ،أو نشاهُد معًا برنامجًا تلفزيونيًا في المساء .هذه الفترة فتحت أيضًا مجاًال لرانيا لكي
تتعرَف على وجٍه آخر من وجوه الحياة الملكية ،فقرُبها الوثيق من الملك رفَع منسوَب الَغْيرِة لدى
البعض وهذا ما جعَلها بحاجٍة إلى أن تكون على جانٍب كبير من الدبلوماسية .كنت أذهب يوميًا من
عمان إلى مركز قيادة القوات الخاصة في الزرقاء على بعد ساعة تقريبًا من العاصمة ،وألول مرة
منذ سنوات لم أعد مقيمًا في قاعدٍة عسكرية للجيش .كان منزلنا أبعد ما يكون عن فخامة القصور
وحجمها ،مجرَد قاعة جلوس وغرفة طعام وغرفتي نوم ،لكن كنا في منتهى السعادة ،وهي سعادٌة
ضاعَف منها وجود والدي الدائم في حياتنا ،وفي السنوات الالحقة كنا نعود بالذاكرة إلى تلك الفترة
مدركين كم كانت أياُم ها ال ُتَقَّدر بثمن.
كانت رانيا قد تركت وظيفتها في شركة «أبل» ،وفي البداية رأينا أنها ستحتاج إلى بعض الوقت
كي تنظم منزلنا الجديد وترتب أوضاَعه ولكي تعّو د نفسها أن تكون فردًا من أفراد العائلة المالكة.
لكن رانيا بطبيعتها امرأٌة عاملة وكان لديها من الطاقِة واالندفاع ما ال تستطيع معه أن تجلَس في
منزلها مكتوفَة اليدين طوال النهار .وهي لم تتصور يومًا أن مستقبَلها سيجعل منها مجرَد سيدة
منزل .لقد كانت عالقتنا باستمرار عالقَة شراكٍة ومساواة ،ورغبتها في العودة إلى العمل لم تكن
خافيًة علّي ،لكن كفرٍد من أفراد العائلة المالكة لم يكن مناسبًا لها أن تعوَد إلى وظيفتها في شركة
«أبل» أو أن تعمَل في شركة تجارية أخرى .وجدنا بعد البحث والنقاش أن الطريقَة المثلى لكي
تستفيد من ُح سن الرؤيِة لديها ،والموهبِة والذكاء ،هي أن توظف هذه الطاقات في القطاع العام.
قصدُت والدي وسألُته إذا كان لديه اقتراٌح أو رأٌي في ما قد يناسب رانيا من دور .في ضوء معرفته
بخلفّيتها في المجال التجاري اقترح أن تنضم إلى مؤسسة تنمية الصادرات والمراكز التجارية
األردنية ،الحقًا المؤسسة األردنية لتطوير المشاريع االقتصادية.
مع أن والدي كان محافظًا حيال بعض األمور ،فهو كان على اقتناع بأن على المرأة أن تقوم بدور
في الحياة العامة ،وهذا الموقف لم يكن مألوفًا من رجٍل ينتمي إلى جيله في المنطقة التي نعيش فيها.
في سبعينيات القرن الماضي ،وفي زمٍن نادرًا جّدًا ما كانت زوجات القادة العرب ُيشاَهْدَن في العلن،
كان والدي يصطحُب زوجَته الملكة علياء في مهّم اته العامة ولقاءاته مع رؤساء الدول ،أكان في
منطقتنا أم في دول العالم األخرى .كذلك كان داعمًا لشقيقتي عائشة في رغبتها في االنضمام إلى
الجيش.
كانت عائشة دائما ميالًة إلى ألعاب الصبية ،وكانت شديدَة المراس على ما تبّين لنا بالملموس
عندما كنا أطفاًال .إذا حدث أن حاول فيصل أو حاولُت أنا مضايقَتها كان ردها ال يقُّل حزمًا وشدًة
عما أسأنا إليها به .غادرت عائشة األردن إلى الواليات المتحدة عندما كانت في الثامنة حيث دخلت
المدرسة في واشنطن ،ثم انتقلت إلى ثانوية «دانا هول» ( )Dana Hall High Schoolفي مدينة
«ولسلي» في والية ماساتشوستس .جاءت مرة إلى عمان في إجازة في فصل الصيف وطلَبْت أن
آخذها إلى حيث يمكنها أن تقفز بالمظلة ،وافقُت ولكن قلت علينا أن نخفي األمر عن والدي الذي لم
يكن ليرضى كثيرًا عن فكرٍة كهذه .لم تكن قد بلغت السادسَة عشرة بعد ،وكانت خفيفَة الوزن بحيث
اضطررنا إلى وضع بعض الحجارة في حزامها .هبطُت أنا قبَلها ،وبسبب خفة وزنها انحرفت بها
المظلة بعيدًا من مكان الهبوط وَح ملْتها إلى حقل قريب .أسرعُت نحوها عبر أرٍض صخرية وعرة
وحين اقتربُت منها وجدتها ممّددًة على األرض دون حراك .ركضُت إليها مذعورًا فإذا بها ممّددة
على ظهرها وهي تغني فرحًا .في ذلك الصيف عدت فأخذُتها مرارًا حتى أصبحْت أوَل امرأة في
األردن تكمل خمَس قفزاٍت بالمظلة وتحصُل على شارة المظليين.
عند هذه النقطة قررنا أن علينا أن نخبر والدي باألمر ،وبما أنه كان مسافرًا اتصلُت به هاتفيًا
وقلت« :بالمناسبة ،هذه عائشة بجانبي وأريد أن أهنئك ،فقد تأهلت ابنتك وفازت بشارِة القفز
بالمظلة» .مرت لحظات من الصمت ،كأن ذهوًال أصاَبه ،ثم سألني ما هذا الذي تفعُله؟ تظاهَر بأنه
كان غاضبًا ،لكننا كنا على يقين من أنه ما إن يتجاوز صدمَة المفاجأة حتى يغمَر ه االعتزاُز والفخر
بابنته .والدتي أيضًا ،اآلتيُة من عائلٍة عسكرية ،كانت حاسمًة بدعمها رغبة عائشة في االنخراَط في
العمل العسكري ،وقد تعاظَم اعتزاُز والدَّي بعائشة عندما باتت في العام 1987أوَل امرأة شرق
أوسطية تتخرج في ساندهرست .عائشة اآلن بلغْت رتبَة عميد وهي تخدم اآلن ملحًقا عسكريًا في
سفارة األردن في واشنطن .إنها المرأة األولى التي َتشغُل هذا المنصب ،وهي نصيٌر قوّي للمرأِة في
أن تؤّدي دورًا أكبَر في القواِت المسلحة.
إن نساًء مثل عائشة ،بما لها من دور رائٍد وفاعٍل في القوات المسلحة ،ومثل رانيا بموقعها القيادّي
في المنظمات اإلنسانية ومؤسسات العمل الخيرّي ُ ،يثبْتَن بالعمل الملموس أن للمرأِة األردنية عزيمًة
وإمكاناٍت وقدرًة ال حدوَد لها.
في صيف العام 2009كنت في إجازة في والية أريزونا مع ابني حسين وابن عائشة عون .ذهبنا
إلى مدرسة للطيران حيث سألني الصبّيان إذا كان ممكنًا أن يذهبا لممارسة الهبوط بالمظلة« .لكن
أرجوك ،ال تخبر والدتي باألمر» ،قال لي عون ،وأضاف« :إذا عرَفْت فسوف تقتلك!» كان يحدثني
عن أختي التي أعرف طباعها! بعد أن قفَز الصبّيان بالمظلة ،اتصلُت بعائشة وقلُت لها« :معي هنا
إلى جانبي ابُنِك ،وقد أردُت أن أهنئِك ،فقد نجح في قفزته األولى بالمظلة».
لطالما أحببُت القفَز بالمظلة ،وعندما كنت أنا ورانيا عريسين جديدين كنت أنهض قبل طلوع
الفجر مرتين أو ثالثًا في األسبوع لكي أذهب إلى القفز بالمظلة .إن المتعة التي تعتريني حين أقفز
من الطائرة على ارتفاع آالف األقدام في الهواء ،وشعوري بالريح تمسُح صفحَة وجهي سريعًة
باردة ،ورؤيتي األرَض من َعل كأنها هي التي ُتسرُع نحوي ُصُعدًاُ ،يبقيني في العالء على مدى أيام
حتى لو كنُت سائرًا على األرض .أما رانيا ،التي لم تعرف الكثير عن الحياة العسكرية من قبل ،فقد
مَّر عليها بعُض الوقت ريثما تعّو دْت تقّبل ذلك .كانت تصر ،كلما ذهبُت لممارسة القفز ،على أن
يتصَل أحٌد بها حالما أهبط بسالم .مهما كان خروجي باكرًا ،كانت تبقى يقظًة وجالسة بقرب الهاتف
إلى أن تأتيها المخابرة .مع تقدمي في الجيش وتزايد مسؤولياتي ،من عسكرية وسواها ،بدأ ينحسر
أمامي المجال لممارسة هذه المتعة الكبرى .أخَذ والدي يطلب إلّي القيام بمزيد من الرحالت
الخارجية لتمثيل األردن دولّيًا وتأدية مهمات دبلوماسية غير رسمية ،وتقييم التجهيزات العسكرية
األجنبية .لقد قبلت القيام بهذه المهمات مرِّح بًا ،رغبًة مني في أن تحصَل قواُتنا الخاصة على أحدث
التجهيزات وأكثرها تقدمًا وعلى أفضل ما في العالم من تدريباٍت حديثة .وكان ،في بعض األحيان،
يطلُب مني الذهاب إلى أمكنٍة كأنها خارج هذا العالم.
الفصل العاشر :أمثـوالت في الدبلـومـاسيـة
في أواخر العام 1993كان والدي مزمعًا القيام بجولة آسيوية يزور خاللها سنغافورة واليابان
والصين وكوريا الشمالية .في تلك الحقبة كانت الواليات المتحدة مشتبكًة في مواجهٍة سياسية مع
كوريا الشمالية التي كانت قد أجرت حديثًا تجربًة ناجحة بإطالق نموذج من الصاروخ البالستي
«نادونغ )Nodong-1( »1في بحر اليابان ،كما كانت هددت باالنسحاب من معاهدة حظر انتشار
األسلحة النووية .وسط هذه الظروف شعر والدي بأن الواليات المتحدة قد ترى في زيارة يقوم بها
رئيس دولة لكوريا الشمالية نوعًا من نسف جهودها القائمة على الدبلوماسية المتشددة مع ذلك البلد،
فألغى رحلته وطلب إلّي القيام بالزيارة بدًال منه ،وبتقديم اعتذاره إلى الرئيس كيم إيل سونغ ،الذي
يسّم يه الكوريون «القائد العظيم» ،عن تعّذر مجيئه شخصّيًا.
في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر بدأت رحلتي إلى سنغافورة حيث التقيت بعض القادة الكبار
واشتريت بعض األسلحة الخفيفة .انتقلت من هناك إلى اليابان حيث بحثُت مع المسؤولين المعنيين
مسألة المساعدة اليابانية لقوات الشرطة األردنية ،فاليابانيون كانوا يساعدوننا آنذاك في التدريب على
تفكيك المتفجرات والقنابل .بعد طوكيو ذهبت إلى الصين واجتمعُت هناك إلى أعضاء قياديين في
جيش التحرير الشعبي الصيني .كانت اجتماعاتنا ناجحة وبدأُت مع الوفد المرافق ُنعد العدة للسفر إلى
بيونغ يانغ .لكّن الوصول إلى هناك لم يكن بحد ذاته أقّل من مغامرة حقيقية.
كان الناقل الجوي الرسمي التابع لدولة كوريا الشمالية ( )Air Koryoمن أقّل شركات الطيران
حداثًة في العالم ،وهي اآلن ممنوعة من الطيران في بلدان االتحاد األوروبي بسبب المستوى المتدني
جّدًا لسجّل الشركة في مجال السالمةَ .بدْت لنا الطائرة كأنها نسخة من «البوينغ ،»727وفي داخل
القسم المخّص ص للدرجة األولى ،بدَل أن نجد صفوفًا من المقاعد المألوفة في الطائرات العادية،
وجدنا كنبتين .أما الوصول إلى المرحاض فيتطّلب المرور بكمية من الصناديق والعلب المحشورة
حشرًا في مؤخرة الطائرة .هبطنا في مطار «سونان» الدولي ،في ساعة متأخرة من الليل ،وسارت
بنا الطائرة على المدرج في ظلمٍة حالكة مدًة شعرنا أنها قارَبْت نصَف ساعة .كانت األنوار مطفأة
في المطار ،وقد يكون ذلك بسبب تخّو ف سلطات كوريا الشمالية من أن تلجأ الواليات المتحدة إلى
التصعيد نظرًا للظروف التي كانت قائمة آنذاك.
وأخيرًا توقفت بنا الطائرة وخرجنا منها أنا والوفد المرافق نزوًال على الدرج ثم إلى أرض
المطار .استقبَلنا جمٌع من الجنود الذين باَدَر نا أحدهم بكلمات باللغة الكورية أظنها كانت تعني «أهًال
وسهًال» .أخَذنا الجنود إلى أحد جوانب المدّر ج وطلبوا منا أن نصطف مقابل الحائط ،وفجأًة ُسِّلَط
علينا ضوٌء كاشف .وفيما كانت عيوننا ترمش وسط توّهج األنوار الكاشفة ،قلت في نفسي« :آمل
أنهم لن يعدمونا!».
كان مضيفونا يصّو رون وصولنا .رافقونا إلى بناء مخّص ص رسميًا للضيوف ،وأدخلونا إلى قاعة
طعام كبرى مصّم مة على طراز سبعينيات القرن الماضي حيث كان بانتظارنا حوالى عشرين
جنراًال ومارشاًال وضابطًا .كان العشاء جاّفًا ورسمّيًا ،وُقَبْيل انتهاِئنا من تناول الطعام ماَل أحد
الضباط على أذني وقال« :ماذا ستقدمون من هدايا إلى القائد العظيم؟».
قلت« :جئُت بساعٍة كبيرة ،وبخنجر أردني تقليدي ،وعلبة هدايا بمناسبة عرسي» .هّز الجنرال
برأسه موافقًا ،وحين أنهينا العشاء اتجهنا إلى بيت الضيافة.
بعد منتصف الليل بقليل ،وكنت على وشك أن أغفوُ ،قرع باب غرفتي ،نهضت من السرير
وفتحت الباب ألجد أمامي ضابط التشريفات في وفدنا ،فيصل الفايز ،الذي قال لي إن الجنراالت في
الخارج وهم يطلبون تفسيرًا لما ترمز إليه الهدايا المزَم ع تقديمها .عدت إلى قاعة الطعام فوجدت
الضباط العشرين جميعًا بانتظاري ،كّلهم في لباسهم العسكرّي الرسمّي وفي يد كٍل منهم دفتر
لتسجيل المالحظات .سألني الجنرال القائد عما تعنيه الهدايا التي أحملها ،فأجبته بأنها هدايا ترمز إلى
الصداقة .لم يكتف بهذا التفسير وطالب بمزيد من التفاصيل عن كل هدية تحديدًا.
«ما معنى الساعة؟» سأَل الجنرال ،شعرُت باالرتباك ،ولكن بما أن الساعة كانت قد قاربت
الواحدة صباحًا ،ولم أكن أسمع سوى نداء السرير ،تذّكرُت واحدًة من أهم قواعد الدبلوماسية الدولية
ورحُت أنسُج الجواب بناًء على تلك القاعدة.
أجبت الجنرال« :الساعة ترمز إلى الوقت الثمين الذي قضاه والدي مع القائد العظيم خالل جنازة
الرئيس تيتو ،والوقت الذي مضى منذ ذلك اللقاء» .هّز الجنراالت رؤوَسهم في حركٍة موحدة وراح
كل منهم يدّو ن مالحظته على دفتره .عندها وجدُتني أدخل في لعبة االبتكار الدبلوماسي ،فأكملت:
«أما الخنجر فهديٌة من محارٍب إلى محارب» .عندئٍذ سأَل الجنراالت« :وعلبة هدايا العرس؟» قلت:
«إنني أعتبر القائد العظيم بمثابة والٍد لي ،ولذلك جئت بهديٍة من عرسي الذي احتفلُت به أخيرًا،
وهي تعّبر عن الشكر والعرفان» .هّز الجنراالت رؤوسهم وتابعوا الكتابة .حين انتهوا ،تركناهم أنا
وفيصل وسارعنا كٌّل إلى سريره.
في اليوم التالي اصطحبونا لزيارة القرية التي كان يقيم فيها الرئيس في شبابه ،ثم ذهبنا لتناول
طعام الغداء مع القائد العظيم نفسه .كان كيم إيل سونغ يرتدي سفاري من قطعتين وقد رّح ب بنا
ترحيبًا لطيفًا ومحببًا ،وكان في جّو إيجابي ومعنوياٍت عالية ،معتبرًا أن األزمة التي تبدو على تفاقٍم
مع الواليات المتحدة لم تكن بهذه الجدية .كما سواه من الحكام الدكتاتوريين المنعزلين عن العالم،
كان كيم إيل سونغ يعتقد اعتقادًا ال عالقة له بأّي واقع على األرض بأنه يمتلك قوًة عسكرية متفوقة،
ولم يكن يدرك ما في حوزة الغرب من قدراٍت تكنولوجية ومهاراٍت عسكرية متطورة« .لقد هزمُت
األميركيين من قبل ،وبإمكاني أن أعيد الكّر ة!» كما قال ،ويبدو أن في قوله ذاك إشارًة إلى الحرب
الكورية عندما كان رئيسًا للوزراء .هذا الكالم أعاد إلى ذاكرتي اللغَة التي سمعُتها من نجَلْي صدام،
ُعدّي وُقصّي ،قبل حرب العام .1991
بعد الغداء أخذنا القائد إلى غرفٍة جانبية حيث كانت هدايانا وهداياه ملقاًة على طاولة ،ثم ظهر أحد
جنراالت الليلة السابقة ممسكًا بيده دفتر مالحظاته وقال« :اشرح ،إذا سمحت ،للقائد العظيم رمزيَة
هداياكم وأهميَتها؟» وبدأ العرق يتصّبب مني ورحُت أستجمع أفكاري وأحُّث الذاكرة استذكارًا لما
قلُته ليلة البارحة.
بحمد هللا ،تذكرت فحوى الكالم الذي قلته وبدا كيم إيل سونغ راضيًا عن الشرح الذي قّدمُته .ثم
أشار إلى إناٍء فّضي مليٍء بالحساء وقال« :أرجو أن يتسنى لك أن تتذوق هذا الطعام التقليدي قبل أن
تغادرنا» .شكرت القائد العظيم على ُح سن الضيافة وذهبت لزيارة قاعدة القوات الخاصة الكورية
الشمالية حيث شهدُت واحدًا من أهّم ما رأيت من عروٍض عسكرية في حياتي وأشدها تأثيرًا .لقد
نفذوا تمرينًا بالذخيرة الحية ،يركض فيه الجنود ثم يقفزون في الهواء وينقلبون رأسًا على عقب،
وقبل أن يعود الواحُد منهم إلى األرض ُيطلق النار على الهدف ويصيُبه.
ناقشنا عرض كيم إيل سونغ بأن يرسَل بعثًة من قوات كوريا الشمالية الخاصة إلى األردن تتولى
إنشاء قاعدة عسكرية جديدة وتدّر ب جنودنا ،وبعد ذلك وّدعنا الجميع وركبنا السيارة عائدين إلى بيت
الضيافة .في السيارة ماَل على أذني أحد الجنراالت وقال« :كيف وجدَت قائدنا العظيم» ،فأجبته:
«يتمتع بكاريزما عالية!» ،دّو ن الجنرال في دفتَر مالحظاته التعبير الذي لفظُته ،وأعَّد قلمه ليكمَل
التسجيل ،ثم سأل« :ماذا تعني بكاريزما؟» عندها توجهت إلى فيصل ،ضابط التشريفات ،وقلت له
بصوٍت خافت« :حاول أن تجد لنا طائرًة مبّكرة».
كان فيصل قد حجز لنا على طائرة تغادر في الصباح الباكر من اليوم التالي ،وبعد أن كتبُت رسالة
شكٍر رسمية إلى القائد العظيم على حسن ضيافته ،ذهبت فورًا إلى سريري .في حوالى الرابعة
والنصف فجرًا سمعت قرعًا على الباب ،وإذا بفيصل يطّل ثانيًة وعلى وجهه مسحُة الدهشة نفسها،
وقال« :لن تصدق ما سترى».
كان بانتظاري في قاعة الضيوف الجنراالت العشرون جميعًا ،وأماَم هم على الطاولة إناٌء مليٌء
بالحساء الكوري الشمالي التقليدي واللهُب يتصاعد منه .يبدو أنهم كانوا جادين حين قالوا إن علّي أن
أتذوقه قبل أن أغادر .تناولت ملعقًة وتذّو قت الحساء ثم قلت لهم« :إنه بالفعل من أشهى ما يكون».
ولم يتأخر أحد الجنراالت في توجيه سؤاله إلّي « :ماذا تعني ،من أشهى ما يكون؟» ،ورفع اآلخرون
دفاتَر مالحظاتهم لئال يفوتهم تسجيل الجواب.
استطعنا الوصول إلى طائرتنا صباح اليوم التالي دون مزيد من التأخير وتوجهنا إلى روسيا،
المحطة األخيرة من رحلتنا .طرنا على متن طائرة روسية الصنع شبيهة بطائرات «ترايستار»،
وبعد اإلقالع بحوالى ساعتين قمُت ألقي نظرًة على مقصورة الطيار فرأيت أفراد الطاقم جالسين
على األرض يلعبون الورق ،فيما كان مساعد الطيار نائمًا ورجاله ممدودتان باتجاه لوحة القيادة.
استمروا على هذه الحال طواَل معظم الوقت الذي استغرقته الرحلة وهو أربَع عشرَة ساعة .بعد أن
اختبرنا أفضل ما في ضيافة بيونغ يانغ ،شعرت براحة شديدة إذ وصلت موسكو ،وقد أسعدني جّدًا
االلتقاء ببعض األصدقاء من الجيش الروسي الذين جاؤوا إلى المطار الستقبالي.
***
في حزيران/يونيو من العام ُ ،1994بَعْيد انتقالنا أنا ورانيا إلى منزلنا الجديد ،استقبلنا وليَدنا
الجديد ،وقد سّم يناه حسين تيمنًا بوالدي .وهكذا بدأ الكثيرون ينادونني أو يشيرون إلّي بأبي حسين.
ولو شئُت لعجزُت عن أن أصَف مدى الفخار واالعتزاز اللذين َيعُمُر بهما قلبي عندما أسمع هذا
النداء.
لم يمض وقت طويل حتى تركت رانيا «المؤسسة األردنية لتطوير المشاريع االقتصادية» التي
عملت فيها منذ العام 1993لتنشئ «مؤسسة نهر األردن» وهي مؤسسة غير ربحية مكرسة للعمل
االجتماعي .لقد قررت التركيز على أن تطرح علنًا مشكالت إساءة معاملة األطفال واستغاللهم،
وهي من المشكالت الكبرى المقفل عليها في معظم أرجاء العالم العربي ،كما أرادت االهتمام أيضًا
بتمكين المرأة األردنية من خالل تشجيع إطالق المشاريع التجارية وسواها من مجاالت العمل .من
بين المشاريع األولى والرائدة التي أطلقتها المؤسسة رعايُة برامج التدريب وتمويُلها ،تقديُم التمويل
لمشاريع الصناعاِت الحرفية ،والمساعدة في تعليم النساء وتدريبهّن على كيفية إنشاء مشاريع أعمال
جديدة .ما إن تبدأ المرأة في َج ني مدخوٍل لها ولعائلِتها حتى تقوى مكانتها العائلية ،ذلك أنها أصبحت
أحد مصادر الدخل .وإذا حاول زوجها قمعها أو التقليل من مكانتها تستطيع أن تطالب بحقها في
االحترام عبر تذكيره بأنها تسهم في نفقات العائلة وتأمين حاجاتها .من هنا فإن فتح المجاالت أمام
النساء وإتاحة الفرص لهن بأن يصبحن رّبات مشاريع تجارية ولو صغيرة يمكن أن يكون لهما تأثيٌر
اجتماعٌّي ال ُيستهان به.
دعَم والدي بقوة نشاط رانيا وعمَلها ،وكان يشجع النساء األردنيات على اقتحام الميادين والمهن
التي كانت دائمًا ِح ْك رًا على الرجال ،حتى إنه شمَل برعايته فريقًا نسائيًا لسباق السيارات .وبتوصيٍة
منه باتت الملكية األردنية أولى شركات الطيران في الشرق األوسط التي قاَدْت طائراِتها نساٌء
مؤهالٌت لهذا العمل.
قبل أن تبدأ رانيا إنشاء مؤسستها ببضعة أشهر كنُت قد أصبحت قائدًا للقوات الخاصة وقد ُر ّقيت
إلى رتبة عقيد في أواخر كانون الثاني/يناير من العام .1993أخيرًا تمكنت من إقناع ذوي المراتب
العليا في الجيش بأنني لست مجرد ضابٍط عابر بل كنت راسَخ القدمين وباقيًا هناك .تدربنا بمنتهى
الشدة واالنضباط إدراكًا منا أن لألردن أعداًء كثيرين يتربصون به بمن فيهم إرهابيون مقاتلون
عائدون من أفغانستان والبوسنة والشيشان ،والمهّر بون والجواسيس .اآلن حان الوقت لكي أطّبَق
على األرض بعض الدروس التي تعّلمُتها في ساندهرست وفي الجيش البريطاني .أول القرارات
التي اتخذُتها كان اإلصرار على أن يمارَس الضباط قيادَتهم من األمام ،أي أن يكونوا في طليعة
جنودهم.
في صباح أحد األيام كنت في قاعدة جوية أراقب جنودًا يستعدون للقفز بالمظلة ،والعمليات الجوية
ذات أهمية حاسمة في أعمال القوات الخاصة ومهماتها ألنها تتيح لهذه القوات االختراَق إلى عمق
أرض العدو وأماكِن وجوده .كان الهواُء مثقًال برائحة الوقود العابقة وبضجيج محركات الطائرة
«سي .»130أخذُت أرتدي لباس القفز مبتسمًا ومتحمسًا ألنها فرصة كانت قد أصبحت نادرة
بالنسبة إلّي في تلك المرحلة .أسرَع نحوي أحد الضباط الشباب مبتسمًا ابتسامًة عريضة ،وكان برتبة
نقيب ،وقال« :إنها المرة األولى نرى فيها ضابطًا فوق رتبة رائد يشاركنا القفز».
أدركُت يومها أن كثيرين من الضباط يكتفون بوضع جناح المظليين على صدورهم دون أن
يمارسوا هذه العملية بوتيرٍة منتظمة بحيث يحافظون على كفاءتهم في هذا المجال ويواكبون التطور
الذي يشهده .ولذلك قررت أن تطوير هذه الوحدة والنهوض بها إلى المستوى الذي أريده لها يتطلبان
مني التأكد من أن كبار الضباط يشاركون رجالهم كل أنواع المخاطر والصعوبات التي يمرون بها.
في تلك األمسية وقفُت في قاعة الضباط وخاطبت الرجال« :من اآلن فصاعدًا على كل ضابط يريد
أن يرتدي جناح المظليين أن يمارَس القفز بوتيرة منتظمة» ،وقد َج َعلْت كلمتي هذه بعَض الضباط
يالزمون الصمت طوال األمسية .ثم تابعُت التدُّر ب على دور قائد القفز وهو الذي يشرف على
المظليين وهم يقفزون من الطائرات ،وكنت أتابع إجراء التمارين لرجالي بانتظام.
ال ُتقتَص ر فائدة القفز بالمظلة على األعمال الحربية فقط ،فهي في بعض الحاالت قد أظهرت أن
لها دورًا قّيمًا في العالقات الدبلوماسية الدولية .خالل الحرب العالمية الثانية كانت السرية « »Cمن
فوج المظليين 156في الجيش البريطاني متمركزًة في ما كان يسّم ى يومذاك إمارة شرق األردن،
وشاءت قيادُة السرية أن تجري مناورًة تعرض فيها قدراتها أمام جّدَي األكبر عبد هللا .هبَط المظليون
البريطانيون في قلعٍة مهجورة في قرية الشونة ،على مسافِة ميٍل واحد إلى الشرق من نهر األردن،
وانتزعوا القلعة من المدافعين الوهميين عنها واستولوا على العلم الذي كان مرفوعًا فوقهاُ .أعِج َب
جّدي األكبر بالمناورة إلى درجة أنه سمح للجنود البريطانيين باالحتفاظ بالعلم ورفعه في مقر
السرية .في مرحلٍة الحقة من الحرب خاضت السرية معارَك عديدًة وشّقت طريقها عبر شمال
أفريقيا وأوروبا ،وتكّبدت خسائَر كبيرًة في معركة «آرنهيم» ( )Arnhemفي هولندا في العام
1944وذلك حين حاول المظليون البريطانيون انتزاَع السيطرة على أحد الجسور فوق نهر الراين.
حملت السرية علَم شرق األردن معها إلى المعركة ،لكنها انهزمت أمام القوات األلمانية .خّبأ الضابط
اإلداري للسرية العلَم تحت مالبسه واستطاع إبقاءه مخفّيًا والحفاظ عليه طوال سنوات أسره في أحد
المعسكرات األلمانية ،ليعوَد به سالمًا إلى بريطانيا بعد نهاية الحرب .كان تأُّثري كبيرًا عندما
شاهدت تجسيدًا درامّيًا لتلك المعركة في فيلم «جسر أبعد من المطلوب» ()A Bridge Too Far
حيث تذكرت قصة رفع السرية « »Cالعلم فوق مقرها في مدينة أوستربيك الهولندية لتشير بذلك إلى
موقعها.
بعد مضّي خمسة عقود على هذه الواقعة ،واحتفاًال بالعالقة التاريخية بين األردن وفوج المظليين
البريطاني ،قفزُت بالمظلة من طائرة «دوغالس داكوتا» في هولندا وذلك كجزٍء من االحتفال
بالذكرى الخمسين لمعركة «آرنهيم» .بعد الهبوط في الموقع المحدد تقدمت من األمير تشارلز
وقدمت له علمًا أردنيًا جديدًا سّلمه بدوره إلى قائد السرية الَخ َلف للسرية « .»Cكنا نحتفل بذكرى
نهاية حرب تاريخية كبرى .وبعد فترة غير طويلة الحت أمامنا فرصة االحتفال بسالٍم جديد.
في الخامس والعشرين من تموز/يوليو من العام ،1994وفي يوٍم مشرق في واشنطن ،كانت
الحديقة الجنوبية للبيت األبيض تشهد تجمعًا من ستمئة شخص من الصحافيين العالميين
والشخصيات األجنبية وكبار المسؤولين في الحكومة األميركية .كانوا جميعًا ينتظرون بصبٍر أماَم
منصٍة كانت قد أقيمت لهذه الغاية .وراء المنبر كانت ترتفع أعالم األردن وإسرائيل والواليات
المتحدة األميركية ،وما إن ظهر على المنصة كٌّل من والدي ورابين مصحوَبْين بالرئيس بيل كلنتون
حتى عال تصفيق الحاضرين ،ذلك أنها كانت المرة األولى التي ظهر فيها الرجالن معًا في العلن،
علمًا بأن لقاءاٍت سابقة عديدة كانت قد جمعتهما دون إعالن .لقد جاءا إلى البيت األبيض ليضعا حّدًا
لحالة العداء بين األردن وإسرائيل ،التي امتدت سّتًا وأربعين سنًة منذ العام .1948
لقد أتاح توقيع اتفاق أوسلو بين إسرائيل والفلسطينيين لألردن أن يرّكز جهوَده على مفاوضاته
الثنائية مع إسرائيل .وكان والدي آنذاك قد أصبح عاقدًا العزم على تحقيق السالم الذي سعى في
سبيله طويًال .كلما كان يجري الحديث بيني وبينه عن المفاوضات مع إسرائيل ،كان يتحدث عن
مدى صعوبة المفاوضات .لكنه مع ذلك كان يعتقد أن إمكانيَة التوصل إلى حّل كانت قائمة.
في البدايات كان والدي ورابين شديَدي الحذر ،أحدهما حياَل اآلخر ،لكن مع مرور الوقت زاَد
التعارف وتوّثقت العالقة بينهما .فكالهما رجٌل عسكرّي ومدِّخ ٌن متمّر س .وكان كل منهما يمرر
سيجارًة لآلخر بين فينٍة وأخرى .التقيا سّر ًا مراٍت عديدة ،في األردن كما في إسرائيل ،وما إن وثَق
كل منهما باآلخر حتى جلسا معًا كصديقين وراح كل منهما يحاول أن يرى األمور من وجهة نظر
صديقه ،جاهدًا في سبيل إيجاد أرٍض مشتركة يلتقيان عليها لتحقيق السالم .شعر والدي بأن رابين
يلتزم كالمه حتى وإن لم يكن وّقع عليه فإذا قال كلمَته بأن االتفاَق آٍت ،فمعنى ذلك أن االتفاَق آت.
قبل أن يوقع الرجالن الوثيقة التي ُعرفت بإعالن واشنطن ،والتي أنهت رسميًا حالة العداء بين
بلديهما واعترفت بدور األردن الخاص في رعاية األماكن اإلسالمية المقدسة في مدينة القدس ،ألقى
والدي كلمًة جاء فيها« :على مدى سنواٍت وسنوات ،ومع كل صالٍة رفعُتها إلى العلّي القدير ،سألُته
أن ُيسبَغ علّي نعمَة نسج السالم وإطالق مسيرته بين أبناء إبراهيم ...وها أنا اآلن ،أشعر بأن هذا
اليوَم ليس كأّي يوٍم آخر في حياتي» .ثم أضاَف قائال« :هذا حُلٌم راود أسالفي الذين َم َضْو ا ،جدي
الذي توفي ،واآلن أنا ...هذا يوُم االلتزاِم الثابت ،وهو يوُم األمل والرؤيا المستقبلية».
كذلك كانت هناك كلمة لرابين« :إنها ساعُة الغروب اآلن في وطنينا في الشرق األوسط ،وبعد
قليل سوف يعُّم الظالم ،لكن األردنيين واإلسرائيليين سيرون نورًا ساطعًا يغمرهم».
بعد االحتفال كان والدي ورابين ضيفي الرئيس كلنتون على العشاء في البيت األبيض ،وفي اليوم
التالي وّج ه كل منهما كلمًة إلى اجتماٍع مشترك للكونغرس األميركي .وجاء في كلمة والدي إلى
الكونغرس أّن «حالة الحرب بين إسرائيل واألردن قد انتهت».
بعد مرور ثالثة أشهر على هذا الحدث عاد والدي ورابين فالتقيا ثانيًة ،وكان الرئيس كلنتون
ثالثهما .تّم اللقاء عند تقاطع الحدود في وادي عَر َبة جنوَب األردن ،وكان الهدف االحتفال بتوقيع
معاهدة السالم الرسمية بين األردن وإسرائيل .كانت لحظة تاريخية بات فيها األردن البلَد العربَّي
الثاني ،بعد مصر بخمَس عشرَة سنة ،الذي يوّقع معاهدة سالم مع إسرائيل .كان الرئيس المصري
أنور السادات قد اغتيل على يد مواطن مصرّي متطرف بعد مرور سنتين على توقيعه المعاهدة مع
إسرائيل في العام ،1979ولذلك كان رجاؤنا من هللا سبحانه وتعالى أال يدفع والدي الثمن نفسه لقاء
تحقيقه السالم.
لقد عّلق األردنيون واإلسرائيليون آماًال كبيرة على ما سيأتي به السالم من ثمار ،فاألردن استعاد
كل األراضي التي كانت إسرائيل قد احتلتها في الضفة الشرقية ،كما حصَل على حصته العادلة من
حقوقه في المياه .أما الحاجة الماسة والسريعة إلى إنهاء احتالل إسرائيل الضفة الغربية بما فيها
القدس الشرقية وقطاع غزة ،فكانت موضوع المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين.
وبفضل معاهدة السالم مع إسرائيل يستطيع األردن اليوم أن يقدم يد المساعدة بغيَة تسريع هذه
المفاوضات وإنجاحها.
للمرة األولى أصبح مسموحًا للطائرات األردنية بأن تحلق فوق إسرائيل واألراضي الفلسطينية
المحتلة ،وبذلك تستطيع الرحالت الجوية بين عمان وأوروبا المرور فوق مدينة القدس .مع أنني
زرت القدس في طفولتي ،لم أعد لزيارتها منذ وقعْت تحت االحتالل اإلسرائيلي في العام .1967
على متن هذه الرحالت وعندما أكون جالسًا إلى الجانب األيسر من طائرة ركاب عادية ،كان
بإمكاني أن أرى أشعة الشمس تنعكس على قبة الصخرة الذهبية والمسجد األقصى المبارك ،أولى
القبلتين وثالث الحرمين ،ومسرى النبّي محمد ،صلى هللا عليه وسّلم ،ومعراجه إلى السماء.
فتحت المعاهدة األردنية -اإلسرائيلية المجال أمام المزيد من التعاون السياسي واالقتصادي ،وأخذ
السّياح اإلسرائيليون يتدفقون إلى األردن لزيارة العقبة والمواقع السياحية التاريخية مثل البتراء
ووادي َر ّم .كذلك أخذ عدد من األردنيين يذهب إلى إسرائيل .وكان معظم هؤالء يزورون للمرة
األولى هذا الجار الذي أّدى دورًا كبيرًا في تاريخنا .لكن ،كما في حاالٍت كثيرة في منطقتنا ،ما لبثت
هذه الفسحة من األمل والتفاؤل أن تضاءلت أمام المأساة.
في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1995اغتاَل يهودّي متطرف رئيس الوزراء
اإلسرائيلي رابين خالل تجّم ع شعبّي في تل أبيب كان يدعو إلى تحقيق السالم .كان القاتل من
معارضي اتفاق أوسلو الذي ُعقد في العام ،1993واالتفاق المكّم ل له ،أوسلو ،2الذي وّقع في البيت
األبيض في أيلول/سبتمبر من العام 1995والذي أعطى الفلسطينيين حكمًا ذاتيًا جزئيًا على أكثر من
أربعين في المئة من أراضي الضفة الغربية .تمامًا كالعديد من الذين ينتمون إلى اليمين المتطرف في
إسرائيل ،والذين عارضوا االنسحاب من الضفة الغربية انطالقًا من أسباب دينية ،وكان قراره أن
يعّبر عن هذه المعارضة على هواه وأن ينفذه بيديه.
كّر س والدي بقية حياته ساعيًا في سبيل التسوية السلمية للصراع اإلسرائيلي الفلسطيني ،لكن
المرة الوحيدة التي زار فيها القدس بعد العام 1967كانت يوَم حضر جنازة رابين ،المقاتل الشرس
في حرب العام 1967الذي تحّو َل في العقود األخيرة جندّيًا من أجل السالم .كان والدي مؤمنًا بأن
رابين لو ُكتبت له الحياة مدًة أطول الستطاعا معًا أن يحققا مزيدًا من التقدم نحو تسويٍة شاملة بين
العرب وإسرائيل .وفي جنازة رابين ألقى كلمًة رثى فيها صديقه وخصمه السابق ،فقال:
لم يخطر لي أبدًا أن تكون زيارتي األولى إلى القدس واستجابتي دعوَتكم ،دعوة
رئيس الكنيست ودعوة رئيس دولة إسرائيل ،في مناسبة كهذه المناسبة...
نحن لسنا خجولين ولسنا خائفين ،وال َيعترينا أُّي شعوٍر آخر سوى التصميم على
تحقيق إرث السالم الذي من أجله سقَط صديقي ،والذي سقط من أجله جدي في هذه المدينة بالذات،
وكنُت إلى جانبه فتى يافعًا.
موت رابين بهذه الطريقة المأساوية أدى إلى خسارتنا شريكًا حقيقّيًا في صنع السالم ،وفي
السنوات التي تلت وفاَته لم َيْخ ُط على طريقه أٌّي من قادة إسرائيل ،وال نجَح أحٌد منهم في مواجهة
التحدي األكبر واألصعب وهو إنجاز السالم الدائم بين إسرائيل والفلسطينيين.
في تلك السنة بقَي انتباهنا مرّكزًا على إسرائيل ،جارتنا الغربية ،لكننا ال نستطيع أن ننسى وال
لحظة جارنا إلى الشرق .في آب من العام 1995انشق حسين كامل ،أحد أقوى رجال الحكم
وأكثرهم نفوذًا في العراق ،عن نظام الحكم في بالده نتيجة خالٍف بينه وبين عدي ،ولجأ إلى األردن.
جاءت معه إلى األردن زوجُته رغد ،ابنة صدام حسين ،كما جاء معه شقيُقه صدام كامل ،أحُد كبار
ضباط الحرس الجمهوري وزوجُته رنا شقيقة رغد .جاءت العائلتان من بغداد إلى عمان بالسيارة
وقطعتا مسافة خمسمئة ميل ،وكان سبب الزيارة -المعلن تمويهًا -هو أن الشقيقين كامل كانا
سيستقالن الطائرة من عمان إلى بلغاريا في زيارة رسمية .كان العراق آنذاك خاضعًا لعقوباٍت دولية
فرضتها األمم المتحدة ،ولذلك لم تكن تغادر مطار بغداد أية رحالت دولية .عندما وصلت العائلتان
إلى عمان اجتمع الشقيقان إلى والدي الذي وافق على منحهما حَّق اللجوء السياسي.
كان حسين كامل مكلفًا اإلشراف على برنامج األسلحة الكيماوية والبيولوجية العراقّي ،وعلى
برنامج العراق النووي .وكان أعلى رجال النظام رتبًة الذي ينشق عن صدام .بعد أن رّتب له والدي
موعدًا مع مفتشي السالح التابعين لألمم المتحدة لالستماع إلى إفادته ،قرر استضافة األخوين كامل
وعائلتيهما في قصر الهاشمية ،وهو قصر حديث غالبًا ما كان ُيستضاف فيه رؤساء الدول وكبار
الشخصيات العالمية عند زيارتهم األردن.
ليلة وصول األخوين إلى عمان اتصل بي والدي وقال« :اذهب وسلم عليهما وأكد لهما أن
سالمتهما في األردن مضمونة ،اجَعْلهما يشعران باالطمئنان كأنهما في بلدهما وبين أهلهما» .ذهبُت
إلى األخوين كامل ورّح بت بهما وقدمت نفسي بوصفي قائدًا للقوات الخاصة ،وقلت لهما إن إحدى
الوحدات من هذه القوات هي التي تتولى حمايتهما .لقد جاءانا ضيفين مع عائلتيهما ،وهذا واجبنا.
لكن ما كنُت قد رأيُته خالل زياراتي إلى بغداد جعَلني أعرف أّي نوٍع من الناس كان هذان الرجالن،
وبالتالي قررت البقاء على مسافٍة منهما .مع أننا كنا متجاورين ،فأنا ورانيا كنا نسكن في منزلنا
الجديد القريب من الهاشمية ،لم أقابل حسين كامل وابنتْي صدام حسين سوى ثالث مرات على
األرجح طواَل المدة التي قضوها في عمان .في تقديري أن ما دار في ذهن حسين كامل هو أن
الغرب سيسارع إلى احتضانه ،وأن الواليات المتحدة ستوظف نفوذها وقوتها لتنصيبه قائدًا للعراق.
ومن الواضح أنه كان واهمًا.
بعد مرور ستة أشهر على مجيئهما إلى عمان ،في شباط/فبراير من العام ،1996بعث صدام إلى
حسين كامل وشقيقه برسالة يقول فيها إنهما إذا عادا إلى العراق فإن كل ما صدَر عنهما سيكون
مغفورًا لهما .وبما أن الرجلين كانا قد افتقدا الموقع والنفوذ اللذين كانا لهما في بغداد ،وفي ضوء ما
ثبَت لهما من أن األمَل والحلَم اللذين راوداهما كانا وهمًا وحكمًا خاطئًا تمامًا على مجريات
األحداث ،فقد قررا أن يصّدقا حماهما وبالتالي أن يعودا إلى بغداد مع عائلتيهما .أعطى والدي األمر
بأن يصاَر إلى مواكبتهما حتى الحدود ،وهكذا توّلى موكٌب عسكري إيصال الرجلين والعائلتين،
عبورًا في الصحراء نحو الشرق ،وعند الوصول كان فريق من قّناصة قواتنا الخاصة يراقب عمليَة
التسليم تحسبًا لحصول ما ليس متوقعًا.
عند وصول الشقيقين كامل إلى الحدود كان ُعدّي وُقصّي بانتظارهما على الجهة العراقية منها .في
تقرير فريق القناصة أن عدّي صافح الشقيقين ثم أخذهما الجنود العراقيون وما إن ألقى بهما الجنود
في إحدى السيارات حتى استدار عدي وقصي ورَكعا يصليان .عندما سمعُت هذا الكالم اتصلت
بوالدي وقلت له« :إن األخوين كامل أصبحا من األموات ال محالة» .بعد ثالثة أيام ُقِتل حسين
وصدام كامل على أيدي رجال صدام حسين ،وبذلك فقدت ابنتاه زوَج ْيهما وأحفاُده والَدْيهم.
ذلك الخروج عن القواعد واألصول الذي أظهره عدّي وقصي خالل رحلة صيد السمك التي قمنا
بها معًا في ثمانينيات القرن الماضي ،أخذ يتبدى في أعمال عكست تدهورًا إلى ما هو أكثر خطورًة
وظلمًة .زوجة أحد األصدقاء ،سيدة عراقية نشأت في بغداد ،أخبرتنا أنا ورانيا أنها عندما كانت
طالبة في الجامعة ،كان عدي يفاجئ أحيانًا صّفًا من الصفوف ،محاطًا بحراسه المسلحين ،ويجول
بنظره على فتيات الصف ،حتى إذا طابت له إحداهن أمر رجاله باإلتيان بها إلى قصره .سمعت أنه
كان يقتني أسودًا وفهودًا في أقبية قصره ،وكان لديه مرائب مألى بالسيارات الفخمة بما فيها سيارة
رولز -رويس زهرية اللون .هذا النمط من الحياة المسرفة في الترف والتبذير الذي كانت تعيشه
عائلة صدام كان نقيضًا مرعبًا للبؤس الذي كان يعيشه الشعب العراقي تحت وطأة العقوبات التي
فرضها عليه الغرب في أعقاب حرب الخليج في العام .1991
نحن أيضًا كان لنا نصيُبنا من متاعب ُعدّي ،فهو كان مسؤوًال عن منتخب العراق في كرة القدم
وكان المنتخب األردني يتبارى أحيانًا مع الفريق العراقي .حين كنا نتغلب على منتخب العراق كان
عدي يأمر بضرب العبي فريقه عند عودتهم إلى بغداد .مع أن أخاه ُقصّي كان أكثر هدوءًا منه وأقّل
زهوًا وخيالًء ،فقد كان األذكى بين االثنين ،وعلى ما أظن األكثر خطورة.
بعد أن غزت الواليات المتحدة العراق سَأَلْت ابنتا صدام إذا كان بإمكانهما المجيء إلى األردن
والسكن فيه هربًا من الفوضى والخطر السائدين في بغداد .وافقنا على طلبهما وجاءتا للسكن في
عمان للمرة الثانية ،لكن إحدى األختين عادت وغادرت عمان لتستقر في قطر.
***
مع مرور الزمن وإحالة بعض كبار الضباط على التقاعد ،تبّين لي أن القيادات العليا في الجيش
باتت أكثر دعمًا لمسيرة التحديث التي كنُت عازمًا على سلوكها ،ولذلك اتخذُت قراري بالبقاء في
الجيش .بعد ما يقارب السنة التي قضيُتها نائبًا لقائد القوات الخاصة ُر ّقيت إلى منصب قائد تلك
القوات .وما إن توّليت هذا المنصب حتى بادرت فورًا إلى دفع فكرة إعادة هيكلة قواتنا الخاصة
لتصبَح على منوال مثيالتها في الدول المتقدمة .في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1996أنشأُت
«قيادة العمليات الخاصة» بناًء على النموذج المّتبع من الفرنسيين واألميركيين .وارتبطت هذه القيادة
مباشرًة برئيس هيئة األركان المشتركة المشير عبد الحافظ الكعابنة .ضمت قيادة العمليات الخاصة
القوات الخاصة وعددًا من ألوية النخبة ذات االختصاص في كل وحدات الجيش .كان لدينا وحدٌة
شبيهة بـ«القوة الجوية البريطانية الخاصة» وبقوات «الدلتا» األميركية ،المتخصصة بمكافحة
اإلرهاب والمكَّر سة لهذه الغاية ،باإلضافة إلى كتيبتين جويتين شبيهتين بقوات المظليين البريطانية.
في تلك السنة وظفنا مهاراِتنا ،في مجال الهبوط بالمظالت ،في خدمة الدبلوماسية الدولية .فقد
اتصل بي فريق من المظليين الدوليين المتقاعدين وأبدوا رغبتهم في ممارسة القفز في األردن،
وانطالقًا من مشاعر األخّو ة العميقة التي طالما ربطت بين جنود القوات الخاصة وافقُت على الطلب
فورًا .وهكذا ،في أواسط حزيران/يونيو من العام 1996أقلعْت من الزرقاء طائرُة نقٍل من طراز
«سي »130تعّج بالمظليين المتقاعدين اآلتين من كل حدٍب وصوب والذين خبَر بعُض هم حروبًا
شتى ،وكان من بينهم جنديان ألمانيان في الثمانينيات من العمر كانا قد هبطا بالمظلة في جزيرة
كريت خالل الحرب العالمية الثانية .توليُت أنا قيادة القفز ،وكان الرجال قد انتظموا في صفوٍف من
ثمانية ،وكلما وصل أحُدهم إلى باب الطائرة الخلفّي كنت أدفعه بيدي إلى خارج الطائرة.
تقّدَم من بين المجموعة الكولونيل شاوول دوري ،الضابط المتقاعد في القوات الخاصة
اإلسرائيلية ،وعند وصوله إلى الباب ،صرخُت بصوٍت يطغى على هدير المحرك« :اقفز» ،ودفعُته
إلى الخارج .ابتسَم وقفز خارجًا من الطائرة وأصبح أول ضابط إسرائيلي يقفز بالمظلة مع الجيش
األردني .إسرائيلي آخر من الذين شاركونا الهبوط يومذاك قال« :لو أن أحدًا قال لي في العام
،1973يوم كنُت أحارب في منطقة قناة السويس ،إن يومًا سيأتي ترى فيه مظليين إسرائيليين
يقفزون مع األردنيين ،لقلُت له إن عليه أن يستشير طبيبًا عقليًا» .نَج حْت عمليُة القفز نجاحًا كبيرًا،
وذَّكرْت كل الذين شاركوا فيها ،محاربين أشداَء خاضوا كل أنواع الحروب ،كم كانت العوامُل
المشتركة في ما بينهم كثيرًة ومتعددة .صحيح أن العالقات اليوم بين األردن وإسرائيل يشوبها
التوتر ،لكن في تلك الفترة كان هناك شعور بأننا على مشارف بداية جديدة .كان يحدونا األمل بأن
تدفع معاهدُة السالم بين البلدين المنطقة بكاملها إلى سالم إقليمّي شامل ،وأننا قد دخلنا مرحلًة جديدة
من مراحل سياسات الشرق األوسط .كان التفاؤل كبيرًا بحيث إنني ال أتذكر تلك السنوات إال بكثيٍر
من الرضى واالستبشار خيرًا ،ولكن أيضًا بشيٍء من المرارة على الُفرص التي ذهبت هدرًا ولم
نستفد منها.
طلبُت من القوات الفرنسية الخاصة ومن فوج المظليين البريطاني أن يرسَل كٌّل منهما فريقًا من
ضباطه لتدريب رجالنا ،وقد أجرينا تغييرات عدة ،منها على سبيل المثال إجراء مناوراٍت بالذخيرة
الحية ومنع استخدام العبوات الخالية من الرصاص .تذّكرُت من أيام تدريباتنا في ساندهرست كيف
أن استعمال الرصاص الحّي يساعد في زيادة التركيز .وقد أسَعَفنا الحظ كثيرًا بأن جنديًا واحدًا فقط
أصيب بجروح خالل هذه التمارين بالذخيرة الحية ،منذ بدأنا بإجرائها.
في إحدى المناسبات سنحت لنا الفرصة لعرض قدراتنا أمام اإلسرائيليين ،وذلك حين زار األردن
وزير الدفاع اإلسرائيلي إسحق موردخاي في العام .1997طلَب والدي أن نقّدم عرضًا في الزرقاء،
وكنا سعداَء بتلبية طلبه .بدأنا بالتمارين األساسية التي يصار فيها إلى مهاجمة مواقع محصنة للعدّو ،
وقد هجم الجنود نحو خنادق العدو فيما كانوا يطلقون النار ،وكانوا يستعملون الذخيرة الحية ،ثم
رَم ْو ا القنابل اليدوية واقتحموا الموقَع المستهدف متخِّط ين الحواجَز العائقة .المناورة الثانية كانت
تقتضي محاكاَة معركٍة في مناطَق عامرة .هاجَم جنودنا عددًا من األبنية مستخدمين قاذفاِت اللهب،
وطوربيد «بانغالور» ،وأنابيَب طويلًة تحتوي مواَّد متفجرًة ُتقطع بواسطتها األشرطة الشائكة .أزالوا
العوائق من طريقهم المؤدي إلى األبنية المستهدفة ،ثم رَم ْو ا القنابل اليدوية إلى الداخل عبر النوافذ
ومن َثَّم اقتحموا المكان.
عندما أنهى رجالنا المناورة ،التفَت موردخاي نحوي وقال« :أنا سعيد جّدًا بأن والدك قرر أن
يصنع السالم بيننا!».
المناورات بالذخيرة الحية لم تكن شيئًا ُيذكر إذا قورنت بالمهمات الحقيقية ،ونظرًا لطبيعة
العمليات الخاصة يبقى العديد من أنشطتنا طَّي الكتمان .لكّن مهمًة بعينها تبقى في ذاكرتي وال
أنساها...
الفصل الحادي عشر :عملّيات خاصة جّدًا
في العام ُ 1997نشرت قوات قيادة العمليات الخاصة في المناطق الشرقية من األردن لمساعدة
قوات الشرطة في مكافحة مهّر بي المخِّدرات على الحدود العراقية الذين كانوا يحاولون عبور
األردن وصوًال إلى األسواق الكبرى المستهَدفة في المملكة العربية السعودية ومصر .كان أحد ابَنْي
صدامُ ،قصّي ،يدير عملية تهريب مخدرات من بغداد ،لكن المشكلة لم يكن مصدرها خارجّيًا فقط،
فهناك أشخاص داخَل األردن كان لهم ضلٌع في العملية.
البلدة األردنية األخيرة قبل الحدود العراقية ،الرويشد ،بلدٌة صغيرة ذات اقتصاد متواضع ،فمعظم
سكانها كانوا يعتمدون في دخلهم على ما يجنونه من المتاجرة عبر الحدود ،ملتزمين القانون أحيانًا
وخارجين عليه أحيانًا أخرى .من البلدة إلى الحدود العراقية خمسون ميًال من األرض المنبسطة
سهًال مديدًا ،وكان المهّر بون قد زّو دوا شاحنات جنرال موتورز التي يستخدمونها بعادماٍت موّج هة
فوهاُتها إلى األرض حتى إذا سارت الشاحنة في أرٍض رملية أثار عادُم ها عاصفًة من الغبار وراَء ها
تحجُب عنها الرؤية .كانوا يمتلكون وسائَل اتصاالٍت آمنة ،ومعداٍت تؤّهلهم للرؤية الليلية ،ورشاشات
ثقيلة منصوبة على ظهر شاحناتهم.
كان أفراد قوات البادية يراقبون المنطقة في الليل راكبين سيارات الجيب القديمة ،ولم تكن لديهم
أية وسائل للرؤية الليلية .أما المهربون فكانوا َيعبرون بأقصى سرعتهم ثم تختفي شاحناُتهم في غابٍة
من الخيام واألبنية في ضواحي البلدة .كان الوضع أشبه بمواجهة جيش غريب مجّه ز جيدًا فيما
كانت قوات شرطة البادية أقّل تسّلحًا وتجهيزًا .وعندما ُقِتل أحد أفراد الشرطة فيما كان يقوم بواجبه
في التصدي للمهّر بين طلَب والدي من قيادة الجيش إرسالي إلى المنطقة .صحيح أن قيادة المهربين
كانت في مكاتب قصّي في بغداد ،لكن يبدو أن َيدهم كانت طائلًة وقادرة على الوصول إلى حيث
تريد ،أما إلى أّي مدى كانت هذه القدرة فهذا ما تكّشف لي قبلئٍذ ببضعة أسابيع وبطريقٍة كانت مدعاة
للقلق.
كنا أنا ورانيا نسكن في منطقة الهاشمية في عمان ،وكنت أغادر إلى عملي في الصباح الباكر.
الحظُت صباَح أحد األيام أن سيارة «بيك أب» كانت متوقفة إلى جانب الطريق وفي داخلها رجل
ينتظر .عندما عدت من عملي في المساء كانت السيارة ال تزال متوقفة في مكانها والرجل نفسه ال
يزال ينتظر فيها .في اليوم التالي الحظُت أنه ال يزال هناك يراقب المكان متنّبهًا واعيًا .اعتراني
القلق خشيَة أن تكون مهمُته مراقبة المكان تمهيدًا لعمٍل إرهابّي فنَّبهُت حرسي الخاص إلى األمر .في
صباح اليوم التالي ،وفيما أنا خارج بسيارتي من مدخل المنزل أدار الرجل محرك سيارته فاندفعت
السيارة نحوي بسرعة صاروخية .ظّنًا منا أنه كمين ينوي بنا شّر ًا سحبنا أسلحتنا استعدادًا إلطالق
النار.
قفز الرجل من سيارته وراح يصرخ« :ال ،ال ،ال!» فيما كان يهرول نحوي حامًال بيده حقيبة،
حتى إذا وصَل قريبًا مني قال« :أنا أعلم أنَك ستتلقى أمرًا بالذهاب إلى الحدود… تجد هنا في الحقيبة
مئة ألف دوالر عَّلها تساعُدك على غّض النظر وااللتفات باتجاٍه آخر» .ارتفعْت وتيرُة النْبض عندي
حتى كدُت أرتجف ،وسألت الرجل هل يعلم مع َم ن يتكلم ،فأجابني باإليجاب قائًال« :أنَت قائد
العمليات الخاصة».
ـ «لكن هل تعلم أنني ابُن الملك؟».
فأجابني الرجل ،وهو أردنّي « :نعم ،أعلم ،إليك مئة ألف دوالر».
َص دَم ْتني بالفعل هذه الدرجة من الوقاحة .كان معروفًا عن والدي مدى حرِص ه على الشفافية
والحكم المنفتح ،وها أنا أماَم شخص لديه الجرأُة على أن يحسَب أن بإمكانه رشوَة ابن الملك كي
يغَّض النظر عن عمٍل إجرامّي .أمرُت بتوقيفه على الفور .يبدو الجيش أحيانًا في ما يشبه العزلَة عن
المجتمع عامة ،وبالنسبة إلّي كانت هذه الحادثة بمثابة النافذة األولى التي تنفتح أمامي على إرهابيي
المخدرات ومدى تأثير المبالغ الكبيرة من المال التي ُتدفع رشًى لذوي النفوذ كي يغّضوا أنظاَر هم.
إنه أمر واضح طبعًا أن يتصّدى الجيش لحماية الحدود وَص ْو ن أمن األردن ضد أعدائه ،لكن هذه
المسألة كانت أكثر تعقيدًا بكثير ،عملية الحدود هذه تحوّلت فجأًة إلى مسألٍة شخصية.
كنا قد ذهبنا إلى المنطقة الحدودية قبلئٍذ بسنة تقريبًا ،ولكن بآلياتنا وتجهيزاتنا العادية من مسدسات
وبنادق ورشاشات ،ولم نفلح في إنجاز شيٍء ُيذكر .عدت إلى والدي وقلت له« :أرجوك َأطِلْق يدّي ».
ثم طلبت إليه أن يسمَح لي بنشر قواٍت من العمليات الخاصة ولكن بأسلحتها الثقيلة .وافق والدي،
ونشرت القوات في المنطقة الحدودية ولكن مع القوة النارية التي تؤّهلهم لمواجهة المهّر بين وجهًا
لوجه قبل الموعد بثالثة أيام لئال يكتشَف المهّر بون التوقيت الذي حّددناه للقيام بالعملية .كانت القوة
التي ُنِشرْت مزَّو دًة بالمدفعية وببعض األسلحة المضادة للطيران.
اتخذ الجنود في تلك الليلة لهم مواقَع في خنادق قرب الحدود وتمترسوا فيها ينتظرون .بقي الوضع
هادئًا والصمت سائدًا حتى الحادية عشرة ليًال .عندئذ رأى الجنود سيارًة عراقية عند الحدود ُتضيُء
وُتطفُئ مصباَح ْيها األماميين ،وعلى مسافة ميلين تقريبًا داخل الحدود األردنية كانت هناك بضُع
سيارات استجابت لإلضاءة بمثلها ،أي إّن المهربين كانوا يستخدمون المصابيح األمامية للتواُص ل
في ما بينهم .سمَع الجنود هدير محرك الشاحنة ثم شاهدوا موكبًا يتحرك عبر الحدود ،وما إن فتح
جنودنا النار حتى انفتحت معها جهنم .رد المهّر بون بإطالق النار من أسلحتهم األوتوماتيكية ودارِت
المعركة بتبادل إطالق النار من الحدود وإليها .خالل الليالي األولى من المواجهة أطلَقْت كتيبتي ما
يقارب عشرة آالف طلقة من الذخيرة ،وبما أن المهّر بين لم يشاؤوا أن يتركوا لنا وراَء هم أحدًا من
قتالهم أو شيئًا من أسلحتهم المدَّم رة ،فحين دّم رنا إحدى شاحناتهم جاء فريٌق آخر منهم وسحَب بقايا
الشاحنة المحترقة إلى داخل الحدود العراقية.
بعد مرور بضعة أيام على هذه الحال توّقف المهربون عن تهريب بضاعتهم عبر مواقعنا وأخذوا
يرّكزون اهتماَم هم على قتل جنودي .مع أن محاوالتهم كانت فاشلة ،فقد وجدُتني عندئٍذ فاقدًا صبري
تمامًا .انضممُت إلى جنودي وقررت نشر المدافع الثقيلة ،فجئُت بمدفع «فولكان م Vulcan( »61
)M61من عيار عشرين مليمترًا الذي يرمي ستة آالف طلقة في الدقيقة .كانت إحدى سرايانا،
األقرب إلى الحدود ،مشتبكًة في تبادٍل كثيٍف إلطالق النار مع المهربين ،فيما قاَد شقيقي فيصل،
الذي كان آنذاك في سـالح الجـّو ،سربًا من المقاتالت دعمًا لعمليتنا .وفيما كانت طائـرات «إف »5
تحلق فوقنا ملقيًة القنابَل المضيئَة أعطيُت األمر بإطالق النار .فتح رجالي نيران المدفعية والمدافع
المضادة للطيران من طراز «فولكان» ،المصّم مة أصًال للتصدي للطائرات السوفياتية ولكنها كانت
ذات قدرة تدميرية كبيرة على األرض أيضًا .عندما كانت تطلق قذائفها كان يمكن سماع الصوت
المتواصل «بررررررب ،بررررررب» فيما زّخ اُت الرصاص كانت تنهمر واالنفجارات تزرع
الحدود من طرفيها.
بعد هذه العملية لم نعد نعاني مشكالٍت كثيرًة مع المهربين ،لكن لم يمِض طويُل وقت حتى تبّين لنا
أن المهربين لم يكونوا مصدَر التهديد الوحيد بالنسبة إلى األردن.
صباح الخامس والعشرين من أيار/مايو من العام 1998كان صباحًا ربيعيا مشرقًا وجميًال ،وبما
أنه كان ذكرى استقالل األردن ويوَم عطلٍة عامة ،كنت في المنزل أجري تماريني الرياضية حين
رّن جرس الهاتف وكان عمي األمير حسن يتصل بي من مركز إدارة الطوارئ التابع للشرطة« :ما
مدى قدرِتكم على القبض على إرهابيين أحياء؟» سأل عمي ،فقلت« :ال نجيد ذلك كثيرًا ،فالوحدة
التي أقوُدها مدّر بة على استهدافهم وقتلهم» .قال عمي« :إن لدينا مشكلًة كبيرة في سحاب» ،وهي
بلدٌة صغيرة قرب عمان ،ثم أضاف« :إما أنت أو الشرطة» .ارتديت مالبسي العسكرية وخرجت.
في مطلع ذلك العام تعَّر ض األردن لسلسلة مرعبة من جرائم القتل الوحشية التي استهدفِت األحياَء
التي يقيم فيها بعُض الموسرين واألغنياء في عمان .في كانون الثاني/يناير ُقِتل ثمانية عراقيين في
فيال في ضاحية الرابية ،وفي نيسان/إبريل ُقِتل ثالثة أردنيين في منطقة الشميساني .لقد ُقِتل أحُد
األطباء المعروفين لمجرد أن حظه السيئ ذهَب به إلى منزٍل كان في تلك اللحظة يشهد إحدى تلك
الجرائم .تعددت الشائعات وتباينت بين أن يكون القتلة من اإلرهابيين أو عصابات المخِّدرات أو
مجرد مجرمين صغار .الحقت الشرطة اثنين من أعضاء العصابة المشكوك في كونها مسؤولًة عن
تلك الجرائم ،وهما أحُد القتلة وشريُكه وأوقعتهما في فخ في أحد منازل سحاب .رأى بعض كبار
المسؤولين أن من الضروري القبض عليهما حّيين ،وذلك بغية التيقن مما إذا كانت تلك الجرائم
موحًى بها من الخارج ،ومن جهٍة ثانية لطمأنة الرأي العام ،الخائف والمشِّك ك ،بأن القتلة باتوا في
قبضة السلطات .كان رجال الشرطة قد قصدوا المنزل المعنَّي عند الواحدة صباحًا من الليلة السابقة.
وحين قرعوا الباب فتح المجرمون النار فأصيب أحد أفراد الشرطة بجروح .رّد الشرطيون بإطالق
النار وخالل التبادل الذي جرى بين الجهتين ُقِتل شريك القاتل .ومنذ ذلك الوقت والشرطة تحاصره
في المنزل.
حّر كُت الكتيبة 71التي كانت على مستوى عاٍل من التدريب في مجال مكافحة اإلرهاب ،وما هي
إال دقائق حتى كانت الكتيبة جاهزة لتلقي األوامر .رافقني مساعدي ،ناظم رواشدة ،وهو ضابط من
الكرك التي تبعد حوالى تسعين ميًال إلى الجنوب من عمان .بما أن الجنود لم يكن لديهم ما يكفي من
واقيات الرصاص ،مررُت أنا وناظم إلى المكتب لنحمَل بعض الواقيات التي كانت قد وصلت حديثًا
وهي نماذُج من صنٍع روسّي ،ثم أسرعنا في اللحاق بوحدتنا .التقينا بقيَة الكتيبة عند دّو اٍر على
مشارف البلدة ثم اتجهنا إلى وسط البلدة .حين انعطفت بنا سيارة الجيب عند المنعطف األخير
أصدرت عجالُتها صوتًا قويًا ثَّم توقفنا في ساحة البلدة التي كانت تعّج بالناس.
فيما كان الجنود يخرجون من السيارات ويتجمعون مع بنادقهم ومعداتهم ،سألُت َمِن المسؤول هنا؟
فجاءني ضابط شرطة قصير القامة ،على شيء من الغضب واللهجة الجافة ،وقال لي إّن مسؤولية
هذه العملية عائدة إليه .قلت« :اسمع ،لقد أرسلني األمير حسن مع األوامر بأن أتولى هذه العملية وأَّن
علينا أن نقبض على اإلرهابّي حّيًا ،فالرجاء أن تتنحى جانبًا» .بعد نقاٍش اّتسَم بالحدة تنّح ى الرجل
جانبًا وتوّليت قيادَة العملية.
بموجب اإلجراءات السليمة المألوفة كان ُيفَترض برجال الشرطة أن ُيخلوا الساحَة وأن يفرضوا
طوقًا أمنيًا حولها ،حتى لو كنا وسط البلدة ومحاطين بجمٍع من الناس المرعوبين والمتفرجين
الفضوليين .لكن هذه اإلجراءات لم تجد َم ن يقوم بها ،وكان خياري الوحيد أن أبذَل ُقصارى الجهد
في ذلك الوضع الفوضوّي القائم.
وأخيرًا سألُت أحد رجال الشرطة« :كم يبعد المنزل الذي يؤوي هذا الرجل من هنا؟» فأشار
الشرطي إلى منزٍل ال يبعد أكثر من عشرة أمتار على الجانب اآلخر من الشارع .ما كانت من
موجٍب على اإلطالق أن نقَف مكشوفين على مسافٍة قريبة إلى هذا الحد من قاتٍل موصوف! وفي
بضع ثواٍن َتجَّم عنا في محٍل للخياطة كان قريبًا منا ولكن المحل كانت فيه نافذة كبيرة تطّل على
الساحة وتجعُلنا في موقٍع غير آمن .أحد رجالي ،جمال شوابكة ،الذي توّلى الحقًا قيادَة العمليات
الخاصة ،كان يقود فريق الهجوم وكان من سكان سحاب وأول الواصلين إلى الموقع .بعد أن أوجز
لي الوضع على األرض ،قال« :ما دمنا أصبحنا اآلن مسؤولين عن العملية فلنقتحم المنزل وَنقتْله.
لن تستغرق العملية أكثر من خمس دقائق» .قلت له هذا غير وارد ،علينا أن نقبَض عليه حّيًا،
وشرحُت له أن األوامر التي تلّقيُتها تقضي بذلك حتى ُيصار إلى محاكمته على الجرائم التي ارتكبها.
علينا أن نحاول إلقاء القبض عليه حّيًا حتى لو كان الثمن أن ُيقتل البعض منا .إعطاُء أمٍر كهذا كان
بمنتهى الصعوبة ،لكن جمال تلقى األمر دون أن يرَّف له جفن ،وقال« :حسٌن إذًا ،سأكون أوَل من
يقتحم ذلك الباب».
جاءني أحد أفراد الشرطة الذي كان يسمع حديثي مع جمال وقال« :ال أظن من الحكمة أن
تستخدموا المتفجرات لتنسفوا الحائط الجانبّي أو النافذة ،فهو لديه متفجرات أيضًا» .في تلك اللحظة
نظرت إلى الخارج من نافذة المحل الذي نحن فيه فرأيت أفرادًا من رجال الشرطة منتشرين على
سطح المنزل .أثار هذا المنظر غضبي وقلت« :إذًا ،باهلل عليكم َأْنِز لوا هؤالء الرجال عن السطح!».
استأنفنا رسم خطة الهجوم ،وفي هذه األثناء وقف بجانبي رجل متوسط العمر بلباٍس مدني فظننُته
ضابط مخابرات ،لكن عندما نظرُت إليه قال« :هل َم ن يريد فنجانًا من الشاي؟» ،وتبَّين أن الرجل
بائع فالفل كان قد ترك عربَته في الشارع وجاء يستطلع ما الذي كان يجري ،وكانت بالفعل لحظًة
سيريالية .ها نحن في لحظاٍت قد نكون بين الحياة والموت ،فيما يحسب بعض الفضوليين األمر كأنه
مباراة في كرة القدم .ولكن مع أن المشهد يبدو فيه شيٌء من الكوميديا ،كنا ندرك جيدًا أن الوضع قد
ينقلب بين لحظة وأختها مأساًة كارثية.
لم تعرف الشرطة كيف ُتبقي المنطقة المحيطة بالبناء آمنًة وخالية من الناس ،فقلت لناظم« :نحتاج
إلى بعض النظام هنا ،أبعد هذا الرجل من هناك واضربوا طوقًا يمنع الناس من الدخول إلى هذه
المنطقة» ،لكن مع ذلك بقيت الفوضى سائدة.
عندما أنهينا إغالق المنطقة بإحكام ،طلبُت من جمال أن يقود الهجوم ،فأعّد فريقه من المهاجمين
بمن فيهم ضابٌط ضخم البنية من ضباط القوات الخاصة اسُم ه أبو خشب وكان ذا شخصيٍة طريفة
جّدًا ،حتى إن بعضًا من زمالئه كان يختبر بعَض أدوات القوات الخاصة وأجهزتها الجديدة عليه،
مثل آلة الصدم الكهربائي ورشاش الفلفل الحار ،للتأكد من أنها صالحة ألداء مهمتها .لم يكن أحد
قادرًا على الوقوف بوجهه ،وبذلك يكون الرجل المثالي لمهاجمة قاتٍل عنيف وشرس .حبَس الناس
المتجمهرون أنفاسهم حين كان جمال يعبر الساحة في طريقه إلى المنزل ،دفع الباب بقدمه فانفتح
ومّد رأسه إلى األمام« .ال َتْخ ُط إلى الداخل!» صرخ القاتل ،وأضاف« :إذا دخلتم أخذُت معي كل من
أستطيع أْخ َذه منكم».
«اسمع» ،قال جمال بصوٍت خفيض« :نحن لسنا من الشرطة ،نحن القوات الخاصة ،وأنت أدرى
بما يعنيه ذلك ،فإما أن تخرَج مستسلمًا أو أن أرمي قنبلًة يدوية إلى داخل الغرفة وينتهي األمر
وتنتهي أنت معه» .ثم طار جمال على قدمين عبر الساحة ليضَعني في الصورة« .إذا كان ال بد من
االقتحام فاللحظة المناسبة هي اآلن» ،كما قال.
أعطيُت جمال األمر بأن يقوَد االقتحام ،فعاد إلى الباب األمامي للمنزل وفي اللحظة عينها تسّلل
فريٌق مهاجم من حول المنزل .دخل جمال وواجه اإلرهابَّي رجًال مقابَل رجل ،دون أن يسحب
سالحه وذلك بهدف ضعضعة تركيزه الذهنّي ريثما يكون الفريق المهاجم قد اقتحم المنزل من خالل
النافذة.
بعد سبع دقائق سمعنا ضجيجًا وحركة صاخبة داخل المنزل ،ثم خرج جمال وتبَعه أبو خشب الذي
كان حامًال اإلرهابي القاتل .ركضُت صوَبهم وسألت« :ماذا حدث؟» قال جمال« :دخلُت من الباب
على مهل ألتيح له أن يراني بالمالبس المدنية .صَّو َب مسدسه بين عينّي ،فقلت له« :ال تكن أحمق»،
ثم قلت« :إننا ال ننوي قتله وسوف ينال محاكمًة عادلة» .أخذ جمال نفسًا عميقًا ثم أكمل« :وهنا اقتحم
الفريق الغرف الداخلية ،وانقّض الرجال عليه وأمسكوا به» .بدا على جمال الذهول والَح رج وقد
اعتذر عن الدم الذي كان ينزف من وجه الرجل .ولكن متى أخذنا باالعتبار أن جمال استطاع بنظرٍة
حازمة وحاسمة أن يربك هذا القاتَل الشرس ويثّبَط من عزيمته فيستسلم ،ال بأس عندئٍذ ببعض
الخدوش البسيطة.
عندما أدرك الجمهور الذي كان متجمعًا وقائَع ما حدث زحف الناس إلى الساحة ،من شرطة
ومدنيين وبائعي فالفل ،وأخذوا يهتفون« :القوات الخاصة! ُهللا أكبر!» وقد حاول كثيرون مهاجمة
القاتل ولكن سارعنا إلى إدخاله إحدى السيارات وإبعاده عن المكان .لم أشأ أن ُيَر َّد الفضُل في هذا
اإلنجاز إلّي ،وطلبُت إلى المسؤولين هناك أن يعلنوا للجميع أن الشرطة هي التي نفذت العملية وأن
الشكر والتحية يجب أن يوَّج ها إلى أفرادها.
اعتقلت الشرطة الحقًا أربعة من المشاركين في ارتكاب الجرائم ،لكّن أحدهم استطاع الفرار
والهرب إلى أوروبا .مجموع أفراد العصابة كان سبعة أشخاص وهم مجموعة مجرمين كانوا
يستهدفون رجال األعمال األثرياء البتزازهم وإجبارهم على دفع األموال لهم بالقوة.
في صباح اليوم التالي كنت داخًال إلى مكتبي فإذا اثنان من رجالي يلتفتان نحوي ويهّز ان برأسيهما
مبتسَم يْن .لم أتنّبه لألمر في حينه ،لكن يبدو أن كاميرات التلفزة قد سّج لت العملية بكاملها ،وقد
احتلت القصة عناوين الصحف صباَح اليوم التالي كما وجدنا أنا وأفراد الفريق أسماَء نا تتصّدر
الصفحات األولى من صحف الصباح .وهكذا ذهَبْت محاوالتي إبقاء المسألة في إطارها الضيق
أدراَج الرياح.
كان والدي قد أحيط علمًا بمجريات العملية ،ولكنه لم يطلع على أية تفاصيل ،وهكذا فوجئ بأن
يراني في أخبار صحف الصباح فاستدعاني إلى القصر .حين وصلت كان واقفًا إلى جانب مائدة
اإلفطار مقطب الحاجبين ،حامًال الصحيفة بيده وملّو حًا بها في وجهي« :ماذا كنَت تفعل أمس؟ لقد
وضعَت حياتك في خطر» .فشرحُت له األمر وقلت :صحيح أنني كنت قائد العملية ،لكن وسائل
اإلعالم بالغت في وصفها لدوري ،جمال وفريُقه هم الذين اقتحموا المنزل ،وهم الذين خاطروا
بحياتهم» ،قلت لوالدي« .ال بأس ،لكن ال تدعني أراك تقوم بعمٍل كهذا ثانية!» مع أنه تظاهَر بأن
المسألة أغضبْته ،فقد علمُت في ما بعد من بعض أفراد العائلة أنه كان فخورًا جّدًا بالدور الذي قمُت
به في العملية.
مهنتي العسكرية كانت قد أعَّدتني ألكوَن ُعرضًة إلطالق النار ،لكنها لم ُتِع َّدني للحياِة السياسية.
عندما يطلق عليَك أحٌد النار تكون أماَم عدٍّو واضٍح ومعروف .لكن األمر يختلف تمامًا حين
يبتسمون لك ويكيلون المديح.
ث
ل
ا
ث
ل
ا
م
س
ق
ل
ا
الفصل الثاني عشر :في خطى القائد األسطورة
بما أنني االبُن البكُر للملك حسين فقد بدأُت يومَي األول في الحياة ولّيًا للعهد .غير أن والدي قرر
في العام 1965أن ينّح يني ،وأنا في الثالثة من عمري ،عن هذا الموقع .فالمحاوالُت الموَّثقة
لالعتداء على حياته واغتياله كانت حتى ذلك التاريخ قد بلغت ثماني عشرَة محاولًة وقَع معظُم ها
خالل سنوات االضطراب في خمسينيات القرن الماضي عندما كانت القومية العربية الراديكالية في
أوج بروزها .وقد بدا له أنه قد ال يعيش ريثما يراني بلغُت أُشّدي .وهكذا طلب والدي من مجلس
األمة تعديل الدستور بما يتيح تعيين شقيقه األمير حسن وليًا للعهد.
في فتوتي كنت مؤمنًا بأن رسالتي في الحياة هي أن أكون جندّيًا ،وأن أكون درعًا لوالدي وسيفًا
يمتشُقه متى شاء .لكن ما حيلتي إذا ما تسَّلَل إليه خبيٌث ال قدرَة لي على حمايته منه ،ففي صيف العام
1992سافر إلى مايو كلينك في روتشستر -مينيسوتا وتبّيَن في التشخيص الطبي أنه مصاٌب
بالسرطان .خضع لعملية جراحية ناجحة ،فتنفست العائلة ومعها الشعب األردني الصعداء واستبشرنا
خيرًا .لكن في تموز/يوليو من العام 1998عاَد يشعر بأنه على غير ما ُيرام فقصَد الواليات المتحدة
مجددًا إلجراء فحوص طبية.
كنت في تلك الفترة أتابع دورًة قصيرة في إدارة المصادر الدفاعية في كلية العلوم البحرية العالية
في مونتيري -كاليفورنيا ،وكان معي في تلك الدورة قائد كتيبتي عندما ُعِّينُت في مهمتي األولى
ضابطًا اللواء عبد الرازق إبراهيم .كان اللواء عبد الرازق معلمًا كبيرًا بالنسبة إلى مالزٍم ثاٍن ال
يزال في مرحلة تثبيت خطواِته األولى .كان قد سمع عن عودة والدي إلى مايو كلينك ،وفي لحظٍة
من الهدوء بين حصٍة وأخرى ،أخذني جانبًا وهمس لي« :من دون والدك ال حياَة لألردن».
احتفاُل التخرج كان محددًا في اليوم التالي لوصول والدي إلى مايو ،وما إن انتهى االحتفال حتى
غادرت أنا ورانيا واألوالد كاليفورنيا فورًا إلى مينيسوتا لكي نكون إلى جانبه .كان ابني حسين قريبًا
جّدًا من جده ،وما كان يجمُع بينهما لم ُيْقَتصر على االسم فقط ،فكالهما كان مغرمًا بالطائرات .غالبًا
ما كان والدي يمّر بنا في المنزل ويسألني وهو في السيارة إذا كان حسين موجودًا ،فإن لم يكن في
المنزل كان يمتنع عن الدخول ويكمل طريقه مسرعًا إلى حيث كان ذاهبًا .منذ كان في الثانية من
عمره بدأ حسين يحفظ عن ظهر قلب أسماء الطائرات بمختِلف أنواعها ،وكان الفرح يغمر والدي
حين كان يريه تلك النماذج الصغيرة من الطائرات ويسمع صوَته الطفولّي يصرخ «ستوكا»
( )Stukaأو «جمبو» ( .)Jumboكنا مرًة مسافرين إلى لندن وكان والدي يقود طائرته
الـ«ترايستار» بنفسه ،فأجلس حسين في مقصورة القيادة وهو يهبط بالطائرة في مطار هيثرو ،وكان
حسين آنذاك في الثانية والنصف من عمره .اندهش أفراد طاقم الطائرة وفرَح والدي كعادته حين دَّل
حفيُده على طائرة الكونكورد الجاثمة على أرض المطار وسّم اها باسمها ثم استدار إلى البوينغ
وسّم اها باسمها.
فرحنا جميعًا للقاء والدي في مينيسوتا .وبعد أن أمضى بعض الوقت مع العائلة ،طلَب والدي أن
يتحدث إلَّي على انفراد .وضع يده على ذراعي وقال« :لقد عاد السرطان» .لم أكن قد فّكرُت جديًا
من قبل في أن والدي قد ُيتوفى نتيجة مرضه ،وكنت أحسب أنه سيتغّلب على السرطان كما فعَل من
قبل .لكَّن نبرًة في صوته هذه المرة أنبأْتني أن األمر يختلف عما سبق.
أمضينا إلى جانبه يومين آخرين ،ثم طلب مني العودة إلى األردن الستئناف عملي في الجيش
والقيام بواجباتي .في العام 1996كنُت قد ُر ّقيت من قيادة القوات الخاصة ألصبَح على رأس قيادة
العمليات الخاصة ،وقد رّكزت اهتمامي على تحديٍث شامٍل لتكتيكنا ومرافقنا وتجهيزاتنا .لكن ما كان
بانتظاري آنذاك كان أكثر بكثير من أن ُيحَصَر بشؤون الجيش والتدريبات العسكرية.
في أواخر تموز/يوليو من العام 1998أصدر والدي بيانًا متلفزًا من مايو كلينك أعلَن فيه أن
مرض السرطان قد عاَده وأنه يخضع للعالج الكيميائي .ذلك الصيف كان حاّر ًا ومفعمًا بالتشنج،
وكان الجو عابقًا بالشائعات والنميمة.
شملت تلك الشائعات خبرًا مفاده أن والدي بات في حال حرجة ولم يعد أمامه من الحياة سوى
وقٍت قليل .وصلتني تلك الشائعة فيما كنت في مقر قيادة اللواء جالسًا إلى طاولة من السنديان مع
بعض الضباط ،نناقش معًا برنامج التدريب األسبوعي .صعقني الخبر .فليس أصعب من أن يسمع
ابن أنه قد يفقد والده في بضعة أيام أو أسابيع .ما سمعته هو أنني سأفقد والدي ،وكجندي ،سأفقد
مليكي وقائدي ،فكانت اللحظة وقت حزن وقلق وتفُّكر في آن معًا .مئات األفكار عصَفْت بذهني حول
ما سمعته للتّو ،وما قد يعنيه هذا الخبر الفظيع إذا صّح ،بالنسبة إلى بالدي وعائلتي.
تبادلنا أنا والضباُط اآلخرون نظرات التعجب والحيرة والقلق دون أن ندري بالتأكيد ما إذا كان
الخبر صحيحًا أم ال .لكن إذا كان الخبر صحيحًا فهذا معناه أنه سيكون لدينا ملٌك جديد مع إمكانية أن
يقوم الملك الجديد بحركة تشكيالٍت واسعة في قيادة الجيش .وفيما كنت ال أزال أجهد في تجاوز
الصدمة التي خّلفها هذا الخبر ،اتجهُت لحضور مأدبة غداء كانت مقررًة من قبل في عمان ،وكان
من بين الحضور الفريق سميح البطيخي ،مدير دائرة المخابرات العامة ،والمشير عبد الحافظ مرعي
الكعابنة ،رئيس هيئة األركان المشتركة ،وكان كالهما قد سمع أيضًا كالمًا عن أن والدي قد أصبح
في المراحل األخيرة من مرضه وأنه لن يعيش طويًال ،وقد بدا عليهما الشحوب والشعور بالقلق على
والدي من جهة ،ومن جهٍة ثانية على ما قد تؤول إليه األحداث وانعكاساتها على األردن .قلت لهما
إنني سأتصل بوالدي في مايو كلينيك في أقرب وقت ممكن لكي أعرف الحقيقة منه هو.
بعد الغداء اتصلت بمساعد والدي العقيد حسين المجالي الذي كان معه في مايو كلينك وسألُته إذا
كان الخبر صحيحًا .لم يشأ أن يجيب عن سؤالي مباشرًة ،لكنه قال إنه سيطلب إلى والدي االتصال
بي .وبعد ساعتين بدا لي أنهما أطوُل من الدهر ،اتصل والدي وسألني بغضٍب واضٍح عن تلك
الشائعات .ثم قال لي:
ـ «اسمع ،هذا كالٌم غير صحيح على اإلطالق ،وأنا لدّي هنا أموٌر أهّم بكثير من هذه التفاهات كي
أهتم بها .لكن شكرًا على أنك أخبرتني باألمر».
حديثي مع والدي جعلني أطمئن ،فقد شعرُت بأن نبرَته كانت تحمل نبَض المقاتل الذي طالما
عرفُته في والدي ،لكّن الشائعات والتكهنات لم تكَّف عن التكاثر واالنتشار ،وكانت تتغّذى بفعل
الكالم الذي كان قد قيل عن وضع والدي الصحي.
كان األمير حسن قد خدم مخلصًا ولّيًا للعهد على مدى أكثر من ثالثة عقود ،وبات الكثيرون ممن
يحيطون به واثقين بأنه سيصبح ملكًا .لكن بعض المراقبين في البلد كانوا قد بدأوا يعتقدون أن والدي
سوف َيعمد في أيامه األخيرة إلى تسمية شخٍص آخر ولّيًا للعهد .كذلك فإن بعضًا آخر كان يدور في
ذهنه مرشح معَّين لهذا الموقع .هناك مجموعة ،تضّم قائد حرس والدي ،ورئيس التشريفات ،ومدير
دائرة المخابرات العامة ،كانت تدفع باتجاه جعل األمير حمزة ولّيًا للعهد .كان حمزة آنذاك لم يتجاوز
بعد الثامنة عشرة ،وال يزال تلميذًا مرشحًا في األكاديمية الملكية العسكرية في ساندهرست ،وكان
بريئًا تمامًا مما يحاك حوَله من مخططات .كنت وإياه قريبين جّدًا أحُدنا من اآلخر ،تمامًا كما كانت
الحال بيني وبين إخوتي األربعة .شعرت المجموعتان بأن الفرصة سانحة فراحت كل منهما تنافس
األخرى من وراء الستار للترويج لمرشحها وزرع الشكوك وعدم الثقة بالمرشح اآلخر .غرقت
عمان بالشائعات.
من العوامل التي أّج جت حّم ى األقاويل والنميمة عدم قيام ولي العهد األمير حسن بزيارة والدي
في أميركا .كان موقف مؤيديه هو أنه كان يقوم بواجبه نائبًا للملك ،ويوفر بوجوده االستقرار الذي
كانت تحتاج إليه البالد حاجًة ماسة في تلك المرحلة الحرجة التي تمر بها.
في مطلع تشرين األول/أكتوبر أخذُت إجازًة قصيرة وذهبت إلى مايو كلينك لزيارة والدي ،وبما
أنه كان يحّب الطعام الياباني طلبُت إرسال شرائح طازجة من لحم البقر الياباني إلى مايو كلينيك.
وصلُت إلى المستشفى في المساء والتقيت شقيقتَّي عائشة وزين اللتين جاءتا أيضًا لزيارته .عندما
دخلنا عليه وجدناه يشاهد فيلمًا عن الجنرال األميركي «باتون» ( )Pattonوهو من األفالم المفّضلة
لديه (كان يحب األفالم السينمائية كثيرًا ،وال مانع لديه في أن يشاهد فيلمًا كل مساء إذا سمح وقته
ومشاغله بذلك) .كان المشهد الذي ُيفتتح به الفيلم يثير لديه شعورًا مؤثرًا ،وذلك حين يتوّج ه باتون
إلى رجاله وهو يدفع بهم إلى المعركة قائًال« :واآلن أريدكم أن تتذكروا أن ما من أحد في التاريخ
ربَح الحرب ألنه مات من أجل وطنه ،بل هو ربَح ها ألنه جعَل العدو يموت من أجل وطنه».
فيما كان والدي وشقيقتاي وبقية أفراد العائلة يشاهدون الفيلم ،كنت أِع ُّد شرائح اللحم اليابانية ،التي
كانت من أحّب األكالت لديه .دار الحديث حول األوضاع في األردن ،وراَح بعض أفراد العائلة
يرددون بضع شائعاٍت مما كانت تضّج به عمان .عند هذه النقطة فقدُت صبري وطلبُت أن أتحدث
إليهم في الخارج« .اسمعوا» ،قلت لهم« :نحن لسنا هنا لنرّدَد على مسمعه األقاويل واألخبار التي
تثير غضبه ،لقد جئنا ليفرح بنا وإلبقاء معنوياته عالية» .ثم عدنا إلى الداخل وتناولنا الطعام معًا
وشاهدنا ما بقي من الفيلم قبل أن يذهب كٌّل منا إلى سريره.
في الصباح التالي جئت مبِّك رًا لكي أعتذر لوالدي عما بدَر مني من انفعال ،فطلب مني أن أجلس
ودار بيننا حديث شخصّي استمّر حوالى ثالث ساعات .غالبًا ما كنا نتحدث معًا ،لكن في معظم
األحيان كنا نتناول شؤون الدولة ،والمسائل العسكرية ،والعائلة ،والسيارات ،والدراجات النارية.
غير أنه نادرًا ما دار الحديث بيننا حول مشاعرنا الشخصية .بفعل األجواء التي عاشها كفتى والتعليم
الذي حَّص له في مدارس داخلية في مصر وإنكلترا ،كان ذا َم ْيٍل محافظ في التعبير عن مشاعره ،وقد
شجع أوالَده أيضًا على سلوك هذا النهج نفسه .لكن هذا الحديث بيننا كان مختلفًا تمامًا.
قال لي إنه كان حقيقًة فخورًا بالعمل الذي قمُت به خالل خدمتي العسكرية ،وقال إنه فخور بأن
أكون ابَنه .قال لي إنه ربما شعرُت أحيانًا بأنه كان ُيهملني ،لكن في الواقع العكس هو الصحيح ،فهو
كان يراقب عملي المهنَّي بعنايٍة ودون انقطاع ،وكان حريصًا على أن أشَّق طريقي بنفسي في
الجيش .لذلك امتنع مرارًا عن تقديم الدعم لي آمًال أن أتمكن من تجاوز كل ما َيعترُض ني من
المصاعب والتحديات من دون اللجوء إلى مساعدة أحد .لكنه قال إنه قد يكون باَلَغ بعض الشيء في
نهجه هذا ،وأوضح« :أشعُر بأنني خّيبُت أمَلَك بي كأٍب أحيانًا .كنُت أعلم في بعض األحيان خالل
خدمتك في الجيش أن تجاوزاٍت كانت تحصل معك ولم أتدخل لتصويب األمور .ال بد أن غضبًا
انتابَك ألنك ُح ِر مَت دعَم والدك».
ابتسمُت بمحبٍة وقلت له إنني مررُت خالل السنوات العشرين الماضية بحادثٍة أو اثنتين وددُت
آنذاك لو أن يده امتدت إلّي بالعون .لكن حين أفكر في األمر اآلن أجدني عاجزًا عن شكره بما يكفي،
ألن أثمن ما تعّلمُته من دروس الحياة كان خالل أصعب األوقات التي مررُت بها .ثم أكمَل حديثه
قائًال إنه ينتظر مني الكثير وإنه حين يعود إلى األردن لديه تغييرات كبيرة سوف يجريها .ظننت أنه
يقصد تغييراٍت في الحكومة ،أو مقاربًة جديدة في تحفيز االقتصاد الذي أصيب بشيء من الركود
كان تراجُع صحة الملك من بين مسّبباته .كنت آمل وأدعو هللا أنه ال تزال أماَم ه سنواٌت عديدة
يعيشها .لكن هل كان والدي يشير بكالمه لي إلى أنه في حال احتضار؟ إذا صَّح أن هذا ما كان
يقصده فال شك في أنني لم أكن مستعّدًا لمواجهة هذا االحتمال.
قبل تلك الفترة بسنتين ،في أيار/مايو من العام ،1996تسَّلم السلطة في إسرائيل رئيس حزب
الليكود بنيامين نتنياهو ،الذي لم يكن من مؤيدي اتفاقات أوسلو التي وّقعها الفلسطينيون مع سَلَفْيه من
حزب العمل شمعون بيريز وإسحق رابين .لم يمّر على تسّلم نتنياهو الحكَم أكثر من بضعة أشهر
حتى تسبب فتح نفق في جوار الحرم الشريف في القدس ،بفورِة غضٍب واحتجاجات عنيفة في
الضفة الغربية .كذلك كان عمل إسرائيل هذا مناقضًا لمعاهدة السالم التي وّقعتها إسرائيل مع األردن
في العام 1994والتي ورد فيها بنٌد يعترف بدوٍر خاص لألردن في اإلشراف على األماكن المقدسة
في مدينة القدس .تدهورت العالقات الفلسطينية -اإلسرائيلية بدرجة كبيرة بعد هذا الحدث ،وحيال
هذا التوتر المستجّد دعا الرئيس األميركي كلنتون رئيس الوزراء اإلسرائيلي نتنياهو والرئيس
الفلسطيني ياسر عرفات في الخامس عشر من تشرين األول/أكتوبر إلى لقائه في «واي ريفر
بالنتيشن» ،وهو مجَّم ع يقع على الشاطئ الشرقي لوالية ماريالند .كانت المفاوضات تسير نحو
الفشل ،ما دفع كلنتون في اليوم الرابع من القمة إلى دعوة والدي لالنضمام إلى اللقاء وبذل جهوده
لمحاولة بث الحيوية في المحادثات بين الطرفين .لم يتواَن والدي في النهوض من فراش المرض
لمحاولة إنعاش عملية السالم .وحين ظهر في المؤتمر بعد يومين شاحَب الوجه أصلَع الرأس ،يمشي
متثاقًال تحت وطأِة المرض .كان لمجيئه ما ُيشبه فعَل اإللهام للطرفين كي يجدا حلوًال لخالفاتهما .بعد
مناقشاٍت استغرقت أيامًا وافق الوفدان على اتفاق وفق معادلة األرض مقابَل السالم تنسحب بموجبه
إسرائيل من 13في المئة من الضفة الغربية إضافًة إلى ما كانت قد انسحبت منه سابقًا .شعوران
نقيضان تقاذفا األردنيين عند رؤية مليكهم على شاشات التلفزة في تلك المناسبة ،شعوُر العزِة
والَفخار بقائِد مسيرتهم ينهض من سرير المرض ،شاحبًا متثاقًال ،ولكن شامخًا كالطود ،لكي يدفَع
بعملية السالم ما قَّدره هللا على ذلك ،وشعوُر الصدمة الموِج عة أمام التغُّير الذي عكَسه المرُض على
صورة الملك وحالته الصحية .قبل ذلك التاريخ بشهرين كان ال يزال أكثر قوة وأفضل صحة ،واآلن
يبدو عليه هبوُط وزنه والضعف العام في بنيته .هذا التراجُع السريع في وضعه الصحي أثار مزيدًا
من التكهنات في عمان بأن حالة والدي الصحية كانت أسوأ مما يظنه الناس ،وأن البالد قد يكون
عليها االستعداد لرؤية ملٍك جديد يتولى السلطة.
أعاد اتفاق «واي ريفر» الذي وّقعه الطرفان في البيت األبيض في 23تشرين األول/أكتوبر
،1998الحياَة إلى العملية السلمية بين إسرائيل والفلسطينيين بعد توقٍف استمر سنًة ونصَف السنة.
فمقابل إعطاء الفلسطينيين السيطرة على مزيد من األرض في الضفة الغربية ،وافق الفلسطينيون
على منع «األعمال اإلرهابية والجرائم واألعمال العدائية» ضد إسرائيل ،وعلى تعديل الميثاق
الوطني الفلسطيني بحيث ُتلغى منه المواُّد التي تدعو إلى إزالة دولة إسرائيل .كذلك وافقت إسرائيل
في المقابل على اإلفراج عن مئات األسرى الفلسطينيين وعلى فتح مطار غزة وتوفير معبٍر آمٍن
يسلكه الفلسطينيون بين غزَة والضفِة الغربية .في ضوء هذه التطورات بدا أن الطرفين أخذا أخيرًا
يتجهان نحو معالجة المسائل الصعبة المتعلقة بالوضع النهائي ،بما في ذلك السيادُة على مدينة
القدس ،وعودُة الالجئين الذين هّج رتهم حرُب العام 1948وحرُب العام ،1967ثم الحدود النهائية
للدولة الفلسطينية.
اتصل بي والدي طالبًا مني الحضور إلى أميركا ،فاتجهت من األردن إلى واشنطن في 22تشرين
األول/أكتوبر ،قبل االحتفال بتوقيع االتفاق بيوم واحد .وصلت واشنطن في المساء وبَلَغني عند
وصولي أن والدي يريد حضوري إليه فورًا ،فركبت سيارًة كانت في انتظاري وفي الطريق إلى
منزل والدي في ماريالند ،فيما كنت أراقب مشهد أشعة الشمس تلمع على صفحِة مياه نهر
«البوتوماك» ،كنت أفكر في ما سيحمله المستقبل من تطورات .ما إن وصلت حتى طلب والدي أن
أنضم إليه في مكتبه ،دخلُت ووقفُت متأهبًا ريثما أشار لي بالجلوس ،فأنا لم َيُفْتني لحظًة في حياتي
أنه ،وإن كان والدي ،فهـو أيضًا ملكيَ .ص َدمني ما شـهدُته مـن ضعٍف في جسـمه عمومًا ،لكنني
رأيت الصالبَة والقوَة اللتين عرفُتهما دومًا في نظرِة الثبات واليقين في عينيه.
قال إنه اشتاَقني كثيرًا وإنه سمع عني أخبارًا جيدة ومفرحة منذ التقينا آخَر مرة .كان واضحًا أنه
سمع كثيرًا من أخبار المكائِد المتنقلة هنا وهناك في األردن وعلَم أنني لم أكن معنّيًا بكل ذلك .سألني
عن األوضاع في األردن وعن الجيش تحديدًا .قلت له إن الجيش مخلٌص لقائده األعلى ،كما كان
دومًا ،ويدين له بالوالء الكامل.
واصل والدي الحديث عن األوضاع في األردن .قال لي إنه فّكر في األمر ملّيًا ،ثم أضاف« :لقد
قررُت أن أغّير ولي العهد» .هززت برأسي ،فيما توقَف هو لحظًة ثم تابع« :أرجو أن تدرَك أن هذا
األمر سيكون وقُعه صعبًا على الكثيرين في عمان .ومن هنا أتوقع منك أمورًا ،وأنا على يقين من
أنك ستكون على قدر المسؤولية في ذلك» .ال هو حَّدد على َم ن وقَع خياُر ه وال أنا طلبُت إليه ذلك،
فوالدي كان منهكًا من العالج الذي كان يخضع له وهذا الموضوع كان دون ريب في منتهى
الصعوبة بالنسبة إليه .أنهى حديثه هنا وقال ليِ« :لَم ال تخرج وترّو ح عن نفسك قليًال».
وراحت األفكار تعِص ف بذهني وأنا في الطريق إلى مطعم «مورتنز» في حي جورجتاون في
واشنطن لتناول الطعام مع أحد أصدقاء العائلة .قلت في نفسي ربما تكون تنبؤات عمي في طريقها
إلى أن تصبَح واقعًا .وإذا كان والدي ينوي إجراء تغيير في والية العهد ،فمن الواضح أن عمي لن
يصبَح ملكًا ،لكن يبقى السؤال ،إذًا َم ن؟ إذا كان ينوي أن يعّين حمزة ولّيًا للعهد فِلَم لم يخبرني بذلك؟
أنا لم أكن مستعّدًا بعد لقبول فكرة أّن والدي على وشك أن يفارق الحياة ،فكيف بي إذا كان ينوي
اختياري خلفًا له؟
كان احتفال التوقيع بين رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات
محددًا بعد ظهر اليوم التالي في البيت األبيض .وقد أدلى والدي ببضع كلمات خالل االحتفال ،قال:
«نتنازع ،نتوافق ،نتصادق ،نتخاصم .لكن ليس لنا الحق في أن نفرَض على أوالِدنا وعلى أوالِدهم
مستقبًال يكون نتيجَة أعماِلنا الالمسؤولة وضيِق األفق .يكفي ما شهدناه من الدمار والموت وهدِر
الطاقاِت والثروات .لقد حاَن الوقت لكي نشبك أيدينا معًا ونحتَّل مكانًا تحت الشمس يتجاوز
أشخاَص نا ،مكانًا جديرًا بشعوِبنا ...وهم جميعًا أبناُء إبراهيم».
بعد االحتفال انتظرُت والدي في سفارتنا في واشنطن حيث كان يعتزم استقبال مسؤولين كبار في
الحكومة األردنية كانوا قد جاؤوا إلى الواليات المتحدة لزيارته .في الظروف العادية كان يستقبل
وفودًا كهذه في منزله ،لكنه عقَد تلك االجتماعات في السفارة لكي يبعَث برسالٍة عاّم ة ال ينقُص ها
الوضوح .عقَد بضعَة اجتماعات على حدة مع عدد من الشخصيات ذات المواقع الرفيعة ،من بينهم
رئيس هيئة أركان القوات المسلحة ،ووفٌد من مكتِب ولي العهد األمير حسن ،ورئيسان سابقان
للحكومة .كان الزوار جميعًا جالسين في قاعة االنتظار في السفارة عندما دخَل والدي إلى القاعة
وتقدم ،أمام جميع الحاضرين ،وعانَق رئيَس الوزراء السابق عبد الكريم الكباريتي الذي كان معروفًا
بمعارضِته لألمير حسن .بعدئٍذ اجتمع والدي في مكتب السفير إلى كل وفٍد من الوفود على حدة ،وقد
علمُت في ما بعد أنه كان يكرر القوَل في كل اجتماع إنه سوف ُيجري «تغييراٍت رئيسة» عند
عودته إلى األردن ،وهي الرسالة التي عاد وأدلى بها علنًا في أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر.
***
في خريف ذلك العام تكّثفت التكهنات وتزايدت حول مسألة الخالفة ،ولم تعد األقاويُل حكرًا على
عمان وحَدها ،فقد أعلنت صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية في عنواٍن رئيس على صفحتها
األولى« :ملكاُت األردُن المتناحرات يتناَز ْعَن على الخالفة» ،وقالت «نيويورك تايمز»« :الملك
حسين مريض وشقيُقه ينتظر» .وقد شارك في هذه التكهنات العديد من صحف العالم .ففي كندا
نشرت صحيفة «كالغري هيرالد» مقالًة تحت عنوان «األمراء يتدافعون لوراثة تاج الحسين» .وقد
ادعى كاتب هذه المقالة أن نزاعًا كان قائمًا بين الملكة نور وزوجة األمير حسن ،األميرة ثروت،
متهمًا كلتيهما بالقيام بمناوراٍت تتعلق بالخالفة .كان مؤلمًا بالفعل أن نقرأ كل هذه األخبار والتفاصيل
المتعلقة بمرض والدي وبشؤوننا العائلية على صفحات الصحف .لقد آلمني أن أرى حزننا الشخصّي
والعائلي منشورًا على الصفحات األولى من الصحف العالمية.
أواخر تشرين الثاني/نوفمبر حملت إلينا األخبار نبًأ فيه شيٌء من الفرحة اآلنية وهو أن اسَم والدي
ورَد بين األسماء المرشحة لنيل جائزة نوبل للسالم .في مفارقٍة غريبة ،كان الرئيس المصري أنور
السادات ورئيس الوزراء اإلسرائيلي مناحيم بيغن قد ناال جائزة نوبل للسالم في العام 1978تقديرًا
لدورهما في إنهاء حالة الحرب بين مصر وإسرائيل .وفي العام 1994تشارَك الجائزَة الرئيُس
الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل إسحق رابين ووزير خارجية إسرائيل شمعون
بيريز ،تقديرًا لجهدهم المشترك في السعي إلى السالم .لكن هذا التكريم لم يحصل عليه والدي
وإسحق رابين بعد أن وّقعا معاهدة السالم بين إسرائيل واألردن في تلك السنة بالذات.
في أوائل كانون الثاني/يناير من العام 1999غادر والدي الواليات المتحدة إلى لندن ،وفي السابع
من الشهر ذاته حطت بي الطائرة في مطار هيثرو وقدُت السيارة في طقٍس جليدّي عاصف إلى
منزله قرب منطقة «آسكوت» ،على بعد خمسة عشر ميًال إلى الجنوب الغربي من المطار .كان
المنزل يعّج بأفراد العائلة وقد ظهر لي واضحًا أنه أراد التحدث إلّي على حدة ،لكن لم يكن سهًال
إيجاد لحظٍة هادئة .كنت كلما ذهبت لزيارته أجُد أحَد أفراد العائلة لديه ،لكن هذا ال يمنع أننا كنا
نرتاُح دائمًا لذلك الشعور الذي ينتاب األبناَء وآباَء هم عندما يكونون معًا حتى إن لم يكن لديهم الكثير
مما يقولونه .في اليوم األخير لي في لندن كان أملي أن أتمكن من التكّلم معه ولو بضَع دقائق على
انفراد ،لكن عمي ،ولي العهد األمير حسن الذي كان قد تعّر ض للكثير من االنتقاد لعدم زيارة والدي
في مايو كلينك ،جاء في زيارٍة مفاجئة.
أخيرًا نجحُت في اقتناص بضِع دقائق معه على انفراد« .ابَق هنا يومين آخرين» ،قال لي ،فأجبته:
«سيدنا» -لم أناِده يومًا بغير سيدنا « -ال بد لي من العودة إلى األردن» .ثم قلت له إنني مسؤول عن
ناحيٍة أمنيٍة أساسية تتعلق بوصوله إلى عمان .تنّه د عميقًا ثم قال سوف نكمل الحديث في عمان.
عدت إلى عمان وبدأت اإلعداد لعودة والدي الذي كان قد مضى على غيابه عنها حوالى ستة
أشهر ،وكان متوقعًا أن يخرج مئات آالف األردنيين للترحيب به عائدًا إلى الوطن بعد عالٍج من
مرض السرطان كان األردنيون يحسبون أنه انتهى إلى نجاح .كانت الخطة أن ينتقل بالسيارة من
المطار مخترقًا شوارع عمان وصوًال إلى منزله في منطقة الحَّم ر ،شمال غرب العاصمة .كان ُيطلق
على منزله اسم باب السالم ،وذلك تيمنًا بأحد مداخِل المسجِد الحرام في مكة المكرمة التي حكَم ها
أسالفي من الهاشميين إلى أن سيطر عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود على الحجاز في العام
،1924ومن َثّم أّسس المملكة العربية السعودية.
على مدى األيام العشرة التالية لم تتوقف التكهنات بأن والدي قرر إجراء تبديل في موقع والية
العهد .جاءني عدة أشخاص ولّم حوا بلهجٍة تآمرية إلى أن المرشح لتولي المنصب هو أنا .في الحقيقة
كان شعوري أن المسألة ال تعنيهم من قريب وال من بعيد .كنت على مدى السنين الماضية أتجّنب
الغوص في القرارات السياسية وأرّكز اهتمامي على مهنتي في الجيش .ولم أكن على استعداٍد اآلن
لكي أغّيَر هذا النهج.
في التاسع من كانون الثاني/يناير 1999حّط والدي بطائرته من طراز «غلف ستريم »4
( )Gulfstream IVالتي قادها بنفسه من لندن ،في مطار ماركا قرب عمان .خرج من الطائرة
وكان مرتديًا بدلًة دكناَء اللون والكوفية .كان المشهد في المطار زاخرًا بالعواطف الجّياشة حيث
تجّم ع مئات الناس الستقباله والترحيب به ،فيما غّص ت شوارع عمان بآالف المواطنين .في تلك
الليلة من تموز/يوليو حين أخبرني أن مرض السرطان عاوده ،راوَدني حلٌم بأن والدي عاد إلى
األردن وأن شعبنا خرج باآلالف ،كما فعلوا بعد شفائه من مرضه األول في العام ،1992للترحيب
به واإلعراب عن فرحتهم بعودته .لقد صَّح الحلم ،ولكن في الحياة الحقيقية لن نكون أمام نهايٍة
سعيدة.
انهمرت الدموع من عينْي رانيا .أما أنا فكنت أبذل طاقتي من الجهد للسيطرة على عواطفي .لكن
لم تكن كل العواطف التي ظهرت على الوجوه يومذاك صادقة .توافَد أفراُد العائلة والسياسيون
ورسميو الديوان الملكي للترحيب بمليكهم العائد .وكان السلوك الذي نهَج ه والدي مع المرحبين به
درسًا عميقًا في إدارة شؤوِن الدولِة والحكم .كأنه بنظرٍة سريعٍة جاَل على المرحبين ،فقّبل بعَض هم،
وحضَن البعض ،وصافح بعضًا ثالثًا ،أما البعُض الرابع فمَّر به متجاوزًا ولم ُيِعْر ه حتى التفاتَة
اعتراٍف بأنه رآه .كان يعرف تمامًا َم ن هُم الذين حفظوا الوالَء في غيابه وَم ن الذين سقطوا .أحد
أفراد العائلة حاوَل أن يقّبله حين كان يصافحه فدفَعه والدي بعيدًا عنه .وإدراكًا منه أن والدي كان
يعرف ِنفاَقه ،انفجَر الرجُل باكيًا.
عندما وصَل إلّي ،تجاهَلني والدي تجاهًال تاّم ًا ،حتى إنه لم ينظر في عينّي ،اكتفى بأن صافحني
وقبلني بسرعة فائقة وأكمَل دورته .هنا تنَّبهُت تمامًا لما يرمي إليه ،فهو تجّنَب التركيز علّي ألنه كان
ينوي تسميتي ولّيًا للعهد ،ولو أنه أظهر اهتمامًا عاطفّيًا خاّص ًا بي العتبَر المراقبون من الرسميين
أنني أصبحُت من المفّضلين لديه وبالتالي بدأوا يتدافعون نحوي طلبًا لمواقع نفوذ .أما ذوو النيات
السيئة فكانوا سيبدأون نسج المكائد ضدي.
في اليوم التالي جاء إلى عمان ولّي عهد دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ،وولي عهد أبو ظبي
الشيخ محمد بن زايد آل نهيان للسالم على والدي .أمرني والدي بأن أذهب إلى المطار الستقبال
الزائرين .المألوف بروتوكولّيًا أن يستقبلهما ولّي العهد ،لكن والدي قال« :أريدك أنت أن تستقبل
الضيفين ،فهما صديقان لك وأنت الذي يجب أن يأتي بهما إلى هنا» .استقبلُت الضيفين ورافقُتهما
لمقابلة والدي ثم رافقُتهما في العودة إلى المطار.
بعد بضعة أيام ،في 22كانون الثاني/يناير اتصل والدي بي في المنزل وقال« :أريد أن أراك».
ركبت السيارة واتجهت فورًا إلى الحّم ر ،عابرًا تلك المنعطفات ُص عدًا نحو المرتَفع المشرف على
عّم ان .كان والدي ينتظر في غرفة الطعام فدخلت وأغلقت الباب ورائي .بدا لي منظره أسوأ بكثير
منه عندما كان في لندن .سمعت من الحرس أنه ُأعِط َي جرعاٍت من الدم عدَة مرات وانتاَبني خوٌف
كبير عليه.
أخذني من يدي وقال« :أريد أن أعّينك ولّيًا للعهد ،فذلك حقك .وأنت أيضًا األكثر كفاءًة ،وأنت
الذي يستطيع ،من دون اآلخرين جميعًا ،أن َيقوَد البالد» .جلسُت في صمٍت وذهول ،وأخيرًا قلت له:
«ماذا عن عمي األمير حسن؟».
قال إن أحد األسباب التي جعلته يختارني هو أنني كنت دائمًا أفّكر في اآلخرين ،وإنه يعرف أن
لدّي القدرَة على قيادة البالد والحفاظ على وحدة العائلة في هذه الظروف العصيبة .في نهاية
المطاف ،حسن هو أخوه ويبقى أخاه ،وهو عمي ويبقى كذلك .اغرورقت عيناي بالدمع إذ أدركت أن
والدي يحاول أن يقول لي إنه بات قريبًا من النهاية .كان ينوي العودة إلى الواليات المتحدة خالل
بضعة أيام ،كما قال ،للخضوع لعملية زراعة النخاع العظمي ()Bone Marrow Transplant
وهي األمُل األخير وآِخ ُر الدواء .الحظت أن القوة في عينيه أخذت في الذبول بعَض الشيء ،أما أنا
فشعرُت بنفحٍة باردة تجتاحني ،وأحسُب أنها المرُة األولى التي شعرُت فيها بأنني واحٌد وحيد .ال بل
شعرت بدافٍٍع إلى البكاء بين يديه وبرغبٍة جامحة في أن أعّبر له عما يعنيه لي والدًا وملكًا ،ولكن
كنت مدركًا أنه بطبيعته ال يألف هذه الطريقة في التعبير ،وأن أفضَل السبل لكي أظهَر له حبي
وعاطفتي حياَله هو أن أركّز اهتمامي على التداعيات المترتبة على قراره وأن أمسَك بزمام
مسؤوليتي بالجدية المطلوبة والمتوقعة مني .وبالرغم من صعوبة اللحظة ومن ثقل العواطف،
مضينا في الحديث عن المستقبل.
كانت المسألة األكثر إْلحاحًا هي َم ن أسّم ي ولّيًا للعهد؟ فبحسب الدستور يجب أن تنتقل واليُة العهد
إلى ابني حسين ،لكن حسين لم يكن تجاوَز الخامسة من عمره .سألُت والدي نصيحَته فقال« :اختياُر
ولي عهدك هو قرار عائد إليك» .وتحت وطأِة دفٍق من العاطفة فّكر لحظات ،وهنا تغّيرْت نبرُة
صوته وقال« :من أجل سالمِتك الشخصية ،أنصحك بأن تعّين حمزة ولّيًا للعهد» ،قالها بصوٍت
خفيض ،وأضاف« :لكن في نهاية المطاف ،األمر لك .وعليك بالحَذر الشديد» .من هذا الكالم بالذات
تيقنت إلى أّي مدى كان والدي مَّطِلعًا على ما كانت تشهده عمان آنذاك من المكائد السياسية وواعيًا
لها.
بعد الحديث مع والدي عدت إلى المنزل جاهدًا في محاولة احتواء مشاعر الحزن والغّص ة ،وحين
تجاوزت الباب األمامي داخًال رأيت رانيا جالسة على األرض في غرفة الجلوس وتحيط بها أكواٌم
من الصور.
كانت لدينا خزانٌة مألى بالصور العائلية التي كانت رانيا ترّدد منذ سنوات أنها بحاجة إلى ترتيب،
وها هي قررت أن تفتح هذه الورشة .التفُّت إلى زوجتي ،محاطًة بصوٍر تحمُل لحظاٍت سعيدًة من
حياة عائلتنا ،وقلت لها إن والدي قرر أن يجعَلني ولّيًا لعهده ،وقلت« :صحُته تدهورت إلى درجة
سيئة جّدًا ،وال أحسُب أن أياَم ه الباقية ستكون طويلة» .نظرْت إلّي رانيا نظرَة مزيٍج من الخوف
والحزن وكأنها تعّبر عن توّجٍس مما سيأتي .لن يمضي وقٌت طويل إال ونحن في بحٍر من األضواء
وهو ما لم يكن في يوٍم من األيام في حسبان أٍّي منا على اإلطالق .أما الذئاب الفاغرة أفواَهها
تنتظرنا عند أول منعطف وأول عثرة ،فحّدث وال حرج.
صباح الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير ،فيما كنت جالسًا في المنزل ،رّن جرس الهاتف
وكان على الخط رئيس التشريفات الذي أراد إبالغي أن والدي يريد مني ومن عمي األمير حسن
المجيء إلى القصر في الرابعة من بعد ظهر ذلك اليوم .إذًا ،هي ساعُة التغيير ،على ما ظننت .كان
الوقت ال يزال مبكرًا على الموعد ،فقررت الذهاب إلى منزل والدتي على المرتفعات المطلة على
عمان لتمضية الوقت هناك ريثما يحين الموعد .دخلُت عبر الممر األخضر المسَّيج حيث كنت ألعب
صغيرًا ،وحيث كنت أشاهد المقاتالت اإلسرائيلية تحّلق فوق رؤوسنا في حرب العام .1967في
المنزل وجدُت العائلة بانتظاري وقد اجتمع أفرادها لكي نكون معًا يدعم بعُض نا بعضًا .شقيقي فيصل
كان هناك ،وأختي األكبر مني عالية ،وشقيقتاي الصغريان زين وعائشة ،وابنا عمي طالل وغازي،
ووالدتي .تحدثنا عن األيام الجميلة والسعيدة التي مرت بنا وعن ذكرياتنا مع والدنا .انتظرُت حتى
الرابعة من بعد الظهر ،لكن ما إن هممُت بالخروج حتى بَلغني أن تأخيرًا طرأ على الموعد ،وقد
علمُت في ما بعد أن والدي كان يبذل جهدًا مضنيًا لوضع اللمسات األخيرة على رسالٍة يوّج هها إلى
األمير حسن تتعلق بقراره بشأن والية العهد .في ساعٍة متقدمة من المساء رّن الهاتف وأبلغني رئيس
التشريفات رغبة والدي في الحضور فورًا.
فور وصولي إلى منزل والدي ،باب السالمُ ،أشيَر لي بالتوجه إلى مكتبه حيث كان والدي واألمير
حسن ينتظران .قال والدي لألمير حسن إنه قرر إجراء تبديل في والية العهد بحيث أتولى أنا هذه
المسؤولية .تلقى األمير حسن قرار والدي برفعٍة وُنبٍل ،وتقدم مني يسّلمني َعَلَم ه الخاص ،علم ولّي
العهد .أَعدُت العلَم إليه قائًال« :عمي أرجوك ،احتفظ به ،إنه علُم ك» .عندئٍذ خرجنا من مكتب والدي
إلى البهو ووقفنا أمام عدسات الكاميرات التي كانت تنتظر اللحظة ،وكنا نحن الثالثة نتصافح ،ثم
أعلَن والدي الخبَر إلى األمة.
في ذلك اليوم كشَف والدي للعلن رسالًة شديدَة اللهجة موّج هة إلى األمير حسن ،وقد تضّم نت
انتقادًا حاّدًا لشقيقه ،مرِّك زًا خاصة على المناكفات السياسية داخَل األردن ،وقد جاَء في الرسالة:
« ...وقد عشت تجارب كثيرة والحظت منذ سٍّن مبكرة كيف تتسلق بعض الطحالب الساق لتفسد
بين األخ وأخيه واالبن وأبيه ،وهو ما آليت على نفسي أّال يقع هنا ،وفي حياتي ،ويقينًا أن هذا قد
أصبح اآلن الهدف لكل عدو سافر أو مقّنع ،وأن من أهم مصادره من هو سادر في غّيه ،وقد جربوا
كل سالح لخلخلة الثقة بين القيادة والشعب ،الذي ما اعتبرته يومًا إّال الرفيق األقرب والشريك األمثل
فلم ينجحوا .أما خطتهم في هذه المرحلة هم والطامعين في القضاء على األردن فتأتي من خالل
ضرب القيادة ببعضها بعد أن عجزوا عن تفكيك القاعدة ،وهم يجدون في بقائي على قيد الحياة عائقًا
ومعيقًا ،لكل ما يبّيتون متناسين أن الحسين ما عاش إّال لنيل رضى ربه وراحة ضميره ،وعلو شأن
كل عشيرته من شتى األصول والمنابت ،وتعاونها بقناعة في إعالء راية الوطن وحمل رسالته
مرفوعة وهامات ال تنحني لغير هللا تعالى».
ثم أشار والدي بتحديٍد الفٍت إلى محاوالت التدخل في شؤون الجيش ،وفي هذا اإلطار قال« :وقد
تدخلت من فراش المرض لمنع التدخل في شؤون الجيش العربي بالتغيير الذي بدا لي كأنه استهدف
تصفية حسابات ،وإجراء إحاالت على التقاعد ألكفاء مشهود لهم بالوالء ،وتاريخهم ناصع بالبذل
والعطاء».
كثيرون من األردنيين أصابهم الذهول حياَل هذه النبرة في رسالة الملك ،لكّن ثقَتهم بمليكهم كانت
مقدودًة من صخر ،وكانوا َيرْو ن فيه حاكمًا حكيمًا ،ذا بصيرٍة ونظرٍة ثاقبة .وإذا كان الملك حسين قد
اتخذ قرارًا بتبديل ولّي عهده ،فإن األردنيين ال يشّكون في أن لديه أسبابًا وجيهًة التخاذ هذه الخطوة.
أما األمير حسن ،من جهته ،فقد كتَب في 28كانون الثاني/يناير رسالًة ردْت على بعِض ما جاء في
رسالة الملك ،وقد أكد فيها والَء ه الراسَخ لشقيقه وملِك ه ،كما أكد دعَم ه وتأييَده لي ولّيًا جديدًا للعهد.
في اليوم التالي أخذنا ،أنا ورانيا ،والدي إلى المطار حيث كان عائدًا إلى مايو كلينك لمزيد من
العالج .جلسُت مع والدي في المقعدين األماميين ،وجلست الملكة نور ورانيا في المقعد الخلفي .كان
والدي يعاني من الحازوقة نتيجَة المرض ،كما َتفّشى فيه اليرقان حتى إن اإلصفرار بلَغ عينيه.
حاولُت أن أفتح حديثًا عادّيًا خفيفًا ،لكن دون جدوى ،وفيما نحن خارجون من عمان راح ينظر بتأمل
إلى المناطق التي نمر بها ويقيني أنه كان يشعر بأنها نظرُته األخيرة إلى تراب األردن .وضعت يدي
على يده ومضينا على طريقنا في صمت.
في المطار وجدنا جمعًا من األقارب في انتظارنا وقد جاؤوا لوداعه .ال أذكر أنني شعرت بهذا
الَقْدر من التعاسة والوحدة من قبل .حاولُت جاهدًا الحفاظ على رباطة الجأش ،ولكنني فقدت السيطرة
لبضع لحظاٍت يسيرة ،وهنا شعرُت بيٍد على زندي ،وإذا بإحدى قريباتي تهمُس لي« :حاول أن
تضبَط نفسك ،األنظاُر ستتجه نحوك» .كانت مالحظتها تذكيرًا شديَد الوطأة بما سيطرأ على حياتي
من تغيير .األردنيون ال يحبون أن يروا رجاًال دامعين ،وهكذا حرصت منذ تلك اللحظة على أن
أسيطر على مشاعري .دخلت الطائرة مع والدي ،باذًال أقصى الجهد للحفاظ ،ولو ظاهرًا ،على
االنضباط العسكري ،وحين استدار التقت أعيننا وبدا لي جلّيًا كم كان يبذل ،هو أيضًا ،من الجهد
لضبط عواطفه والبقاء متماسكًا .وقبل أن أستطيع معانقَته مودعًا أرسَل إيماءًة من رأسه ،ثم استدار
وأكمَل َخ ْط َو ه إلى داخل الطائرة .تلك كانت المرة األخيرة التي رأيُته فيها واعيًا.
كان األسبوع الذي تلى سفر والدي مثقًال بالتوتر ،فقد وجدُتني غارقًا ،دون أّي استعداٍد مسبق ،في
معمعِة السياسة األردنية ،وكان علّي أن أبدأ ممارسة دوري الجديد .قليلًة ،بل نادرًة كانت عالقاتي
بكبار السياسيين ورجال القطاع الخاص ،وبذلك كنت أخطو نحو أرٍض مجهولٍة تمامًا .بعض
المسؤولين في المراكز العليا ،بمن فيهم رئيُس الحكومة ورئيُس الديوان الملكي ،كان قد عّينهم
األمير حسن ،والبعُض اآلخر ،بمن فيهم رئيُس التشريفات وقائد الحرس ،كانوا شديدي القرب من
الملكة نور .كثيرون جّدًا الذين كانوا ينتظرون مني عثرًة أو كبوًة ،ولذلك عدت إلى األقربين مني،
رفاقي وزمالئي في الجيش وفي العمليات الخاصة.
في تلك األثناء ،وصلتني أنباء أن األمير حسن كان قد وّسع نطاق اتصاالته بالذين يؤيدونه ،ودعا
العديد من كبار السياسيين وشيوخ العشائر إلى منزله .ولكي أكّو ن صورًة واضحة عن الوضع طلبت
من محمد ماجد العيطان ،الذي كان نائبي في العمليات الخاصة ،أن يجمَع بعض ضباطي األساسيين
ويدعوهم إلى لقاء في منزلي في تلك األمسية .هؤالء الضباط كانوا موضَع ثقتي الكاملة ،وعندما
حضرت المجموعة بكاملها عند حوالى السابعة مساًء ،قلت لهم إنني سمعت أن األمير حسن يمارس
نشاطًا كبيرًا ومتواصًال ،وال أريد أن يفاجئني أحٌد من هذا الجانب أو ذاك مهما تكن هذه اإلمكانية
ضئيلَة الوقوع .لقد عّلمتني خبرتي في الجيش أن أكون حريصًا في حماية جوانبي .ثم قلُت لهم :لعَّل
من الحكمة أن يوضَع بعُض الوحدات في حالة استنفار حتى ال يفاجئنا شيء .فيما كنت أتحدث
الحظت أن بعَض الحاضرين يحاولون كتم ضحكاتهم ،وبما أنني كنت منزعجًا ومتعبًا قلت لهم إن
هذا األمر في غاية الجدية ثم سألُتهم :لماذا تضحكون؟ قالوا إنهم وضعوا العمليات الخاصة في حالة
تأهب منذ أيام وإنهم قد اتصلوا بالفرقة الثالثة وُو ضع اللواءان األربعون والستون بقيادتهما
ووحداتهما جميعًا في حال التأهب واالستعداد .حين نظرُت في تلك اللحظة إلى وجوه قادة الوحدات
العسكرية شعرت ،ألول مرة منذ أسبوع ،بأن األمور سوف تأخُذ مسارًا جيدًا بإذن هللا.
بعد ُم ضّي أسبوع بالتمام َبلَغنا أن عالج والدي لم ينجح ،وأنه عائد ليموت في األرض التي وهَبها
عمَر ه وأحَّبها حتى النفس األخير .حطت به الطائرة في الخامس من شباط/فبراير من العام ،1999
وقد ُأخِر َج من الطائرة على حّم الٍة فاقدًا وعَيه وهو ُينَعش بواسطة األجهزة الطبية .الَقْته العائلة في
المطار ورافَقته إلى مدينة الحسين الطبية .آالف من أبناء األردن جاؤوا من كل أنحاء البالد وتجمعوا
خارج المستشفى ،منهم من كان يصلي ،ومنهم من راح ينتحب ،وبعُض هم أخذ ُيضيء الشموع.
قضوا ليَلهم في الشارع يوّدعون مليكهم .رسميون أردنيون كبار ومحاربون قدماء كانوا يذرفون
الدمع ،وكان العديد منهم ينظرون إلّي ليروا كيف سأتعامل مع الوضع وأّي سلوٍك سأسلك« .كنا
دائمًا نعتبره أكبر من األردن» ،قال لي أحُدهم ،وأضاف« :لم نفكر أنه سيغادرنا أبدًا» .في المستشفى
أمضينا الليل بطوله نتداور الوقوَف بجانب سريره .لم يكن هناك سوى عائلِته المباشرة :نور،
والدتي ،زوجتي ،إخوتي وأخواتي ،وبعُض أبناء عمي.
في ساعة متأخرة من الليلة التالية ،والعائلة كانت ال تزال متجّم عًة حوَله ،طلب أحد األطباء أن
يكلمني على حدة .قال لي إن السرطان انتشر في كل أنحاء جسمه بأسرَع مما كان أحٌد يتوقع ،ولم
يعد هناك ما يستطيع الطب أن يفعله .غلبني الحزن ومررُت لبضع ثواٍن في ما يشبه االنهيار ،ثم
عدُت إلى غرفته وأخبرت العائلة بما قيل لي .ومعًا وَّدْعنا رجًال شجاعًا يعجز الكالم عن وصف قوة
إرادته ،رجًال أحببناه ،أحببناه كثيرًا.
قال األطباء إنهم يتوقعون أن ينتقل إلى رحمته تعالى تلك الليلة .لكنه بقي على قيد الحياة حتى
وقت متأخر من صباح اليوم التالي .طالما عرف عن والدي قوة قلبه .وظل هذا القلب الكبير ينبض
لم يتوقف إال بعد أن استسلمت بقية أعضاء جسمه.
ُح ِّدد يوم الجنازة في اليوم التالي ،الثامن من شباط/فبراير من العام .1999كان يومًا غائمًا وقد بدأ
الرذاذ يتساقُط خفيفًا .قال بعض األردنيين إنه «حتى السماء تبكي الملك الحسين» .لم يعرف أكثر
األردنيين ملكًا غير الحسين ،ومن هنا كانت وفاُته حزنًا وأسًى شخصّيين للمواطنين الذين شعَر كٌّل
منهم بأنه فقَد فردًا من أفراد عائلته ال فقط رأَس الدولة .مئات آالف المشّيعين الذين أذهَلهم غياُبه
غَّص ت بهم شوارُع العاصمة فيما كانت سيارٌة مدرعة تحمل الجثمان المجَّلل بالعَلم األردني والمحاَط
بأكاليل الزهر ،إلى قصر رغدان حيث مثواه األخير .كان المشّيعون ،على طول الطريق ،ما إن
يرون الجثمان يقترُب منهم ،حتى يندفعوا نحوه منتحبين ومولولين ،ومحاولين التقاَط لمحٍة من
النعِش أو لمسه .وراء النعش كان يسير حرُس الشرف ،ورجٌل يقوُد وراَء ه حصاَن والدي األبيض،
المفضل لديه من بين أحصنته .واحترامًا لذكرى والدي فإن أحدًا لن يركَب الحصان (واسمه عمرو)
بعد وفاِته.
في باحة القصر كان جمٌع استثنائٌّي من قادِة العالم ينتظر لتقديم التعازي والتعبير عن االحترام
والتقدير .لقد جمعت الجنازة ،التي َأطلَق عليها أحُدهم «جنازُة القرن» ،خليطًا من القادة العالميين
الذين ال يجمع بينهم جامع ،والذين لم يحدث أن التقوا معًا من قبل في أية مناسبة عالمية .بعض القادة
المعِّز ين كانوا يخوضون حربًا ،الواحُد ضد اآلخر ،ومنهم َم ن حاوَل قتَل خصمه .لكن تقديرهم
واحترامهم لوالدي جمعاهم في جنازته .حضر مراسم التشييع الرئيس المصري حسني مبارك ،ولي
العهد السعودي األمير عبد هللا بن عبد العزيز ،الرئيس السوري حافظ األسد ،ولّي العهد المغربي
األمير محمد ،الرئيس ياسر عرفات ،وسيف اإلسالم القذافي ابن القائد الليبي معمر القذافي .كان
هناك أيضًا الرئيس األميركي كلنتون مصحوبًا بالرؤساء السابقين جورج بوش األب وجيمي كارتر
وجيرالد فورد ،والرئيس الروسي بوريس يلتسن ،واألمير تشارلز ورئيس الوزراء البريطاني طوني
بلير .وكان هناك أيضًا رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو وخالد مشعل ،الذي حاول نتنياهو
اغتياله قبلئٍذ بأكثر من عام .في المجموع جاء إلى عمان لتقديم التعازي بوالدي والتعبير عن احترام
بالدهم وتقديرها له ،قائدًا ورجَل سالم ،ممثلو خمٍس وسبعين دولًة من نواحي األرض األربع .داخَل
القصر كان جثمان والدي مسّج ى يحيط به الحرُس الملكي .وقف إلى جانب الجثمان حرس الشرف
من الشراكسة ،الشعب المسلم الذي هاجَر قسٌم منه إلى األردن من القوقاز في القرن التاسع عشر.
أخلص هؤالء لوالدي على مدى عقود من الزمن ،وها هُم اآلن يحرسون جثماَنه في رحلته األخيرة.
حملنا ،أنا وإخوتي ،نعَش والدي من مسجد الحرس الملكي حتى مثواه األخير في مقبرة القصر،
إلى جانب قبِر واِلده الملك طالل ،وقبر جده الملك عبد هللا األول .وقفنا أنا وإخوتي متأهبين فيما
عزف الصداحون لحن الرجوع األخير .وفيما كان الجثماُن ينحدر إلى مثواه األخير كان الحرُس
الملكُّي ُيطلق خمَس عشرَة طلقَة تحيٍة للملك الراحل.
كان يومًا مثقًال بالحزن واألسى .لكن مع كل هذا الحزن شعر األردنيون بالفخر حين رأوا قادَة
العالم يتوافدون من خمٍس وسبعين دولًة للتعبير عن احترام بلدانهم وشعوبهم لملكهم .كذلك برَز لدى
المواطنين شعوٌر بالعزيمة والثبات ،إدراكًا من الكثيرين منهم بحتميِة أن يكونوا أقوياَء لكي يحافظوا
على وحدة البلد وتماسكه .كان األردنيون ينادون والدي «أبو عبد هللا» .وكم مرة كنُت أشعر
بالسعادة ،وأستفيُد في آٍن معًا ،من الحّب الكبير الذي كان يكّنه األردنيون لوالدي ،ومن تصميمهم
وثباتهم على مساعدة ابنه لكي ينجح في قيادِة البالد.
كنت قد أديت القسم الدستوري في مجلس األمة ملكًا على األردن في اليوم السابق لتشييع جثمان
والدي إلى مثواه األخير بعد إعالن الوفاة .وقبل أن أتوجه إلى مجلس األمة ،طلبت من رئيس
التشريفات أن يأتي بصورٍة كبيرة لوالدي إلى المجلس خالَل مراسم أداء القسم .حين دخلت رأيت
صورًة عمالقة لوالدي جالسًة على المنصة ،وكانت هالُته تهيمن على القاعة بكاملها .وقفت أماَم ها
متأهبًا وشعرت بأنه يرسُل إلّي نظرة عطٍف ومحبة فاغرورقْت عيناي ،ولكي أستعيَد السيطرة على
نفسي وقفُت جامدًا بضَع ثواٍن محّييًا الصورة .ثم َخ َطْو ت إلى حيث أؤّدي القَسَم الدستورّي « :أقسم
باهلل العظيم أن أحافظ على الدستور وأن أخلص لألمة».
وأجاب رئيس مجلس األعيان« :حفظ هللا صاحب الجاللة الهاشمية الملك عبد هللا بن الحسين،
ووفقه ورعاه ،وعاش األردن كما أراده الحسين ،حّر ًا عزيزًا منيعًا في ظل الراية الهاشمية الخالدة».
بعد االنتهاء من أداء القسم الدستوري اتجه نحوي أحُد المساعدين وقال« :صاحَب الجاللة ،تفّضل
من هنا» ،فالتفُّت من حولي ،بحكم العادة ،أبحُث عن والدي ،ورأيُته في الصورة العمالقة ،المالئة
الدنيا من حولي ،يرسُل إلّي تلك النظرَة العطوفة .على مدى نصف قرٍن ،أو يكاد ،حكَم والدي
األردن ،فكان يخوض الحروَب أحيانًا ويفاوض على السالم أحيانًا أخرى ،ويشجّع اآلخرين دومًا
وأبدًا على إلقاِء السالح ورفع األمل فوق اعتباراِت الخوف .واآلن ستكون مهمتي أن أتدّبَر هذه
الصراعات واألفرقاء المتصارعين على حدود األردن ،وأن أحافظ على إرث والدي عبَر إكمال
مسيرِته في السعي إلى السالم.
الفصل الثالث عشر ... :وأصبحـت ملكـًا
عَّم الحزن واألسى أرجاَء األردن على مدى األيام واألسابيع التي تلت وفاَة والدي ،وقد حَّد
األردنيون على ملٍك لم يكن معظُم هم قد عرَف قائدًا سواه .أما أنا فكنت أمام صراٍع ذاتّي في مواجهة
الخسارة التي أصابتني بفقدان والدي الذي طالما كان ذا حضوٍر حازٍم وموِّج ٍه في حياتي .لكن الوقت
كان أضيَق من أن يتسَع كثيرًا لحزني الشخصّي ،ففي الليلة السابقة لجنازته نمُت وأنا رُّب عائلٍة من
أربعة أفراد ألستفيَق صباَح اليوم التالي وقد أصَبحْت عائلتي خمسة ماليين نسمة .وإذا شئُت أن أذكَر
درسًا بعينه تلّقنُته من والدي ومعّلمي فهو أن على الملك أن يكون راعيًا لشعبه أكثر منه حاكمًا لهم.
بعد أدائي القسم الدستوري كان من بين أعمالي األولى ملكًا أن أصدرت مرسومًا سميُت بموجبه
وليًا للعهد أخي حمزة ،الذي أعفيته من هذه المسؤولية بعد ذلك بخمس سنوات .مع أن األشهر التي
سبقت وفاة والدي اتسمت بالتوتر ،فقد تعاضدت عائلُتنا وتعاونت وتبادل أفراُدها الدعَم والمؤازرة.
وال شك في أن حزَننا المشترك زاَد من التفافنا بعضنا حوَل بعض .لقد شعرت بالعرفان لما أبداه
أفراُد العائلة من محبٍة ودعم ،لكنني كنت على علٍم بأن الكثيرين في الخارج ،والبعَض في الداخل،
كانوا ُيتابعون الوضَع وينتظرون أن َيرْو ني عثرُت .وفيما استمرت الشائعات تتكاثر وَتطغى على
أحاديث الصالونات في غرب عمان ،تناهى إلّي أن البعض ممن كنت أعتبرهم من األصدقاء
المقّر بين ،كانوا يقولون« :لن َيصمَد أكثَر من ثالثة أشهر».
فيما كنت أتهَّيُب المهمَة التي ُأْلِقيت على كاهلي ،فقد أخذ ينجلي لي شيئًا فشيئًا أن والدي كان ُيعّدني
لهذه المهمة منذ زمٍن بعيد .فمع أنني لم أكن وليًا للعهد معظَم سنّي حياتي ،كان والدي يصطحُبني
معه في العديد من زياراته الرسمية ومهّم اته الدبلوماسية المهمة ،كما في رحالته الداخلية إلى كل
ناحية من نواحي األردن وزواياه .ومن دون أن يحّم لني عبَء مراقبة الرأي العام ،التي ُترافق وريَث
العرش ،منَح ني الفرصَة الذهبيَة بأن أتعَّلم أسرار تلك الحنكِة الفريدِة التي كان يمارُسها وسط
األمواج الهائجة في محيطات الدبلوماسية الدولية .عندما كنُت أنسلُخ عن مهماتي العسكرية وموقعي
في الجيش ألرافَق والدي في رحلٍة قصيرة ،كنت أشعر أحيانًا بأّن بعضًا من التاريخ كان ُيصنع أمام
عينَّي وعلى مسمعي.
بعد جنازة والدي بثالثة أسابيع استقبلت أحَد زائرَّي الرسميين األوائل ،رئيس وزراء إسرائيل
بنيامين نتنياهو يرافُقه وزير خارجيته آرييل شارون .كانت العالقات بين بلدينا آنذاك متوترة،
ورئيس الوزراء هذا تحديدًا كان قد وّتر العالقات وصوًال بها إلى شفير االنقطاع.
في العام ،1996بعد اغتيال إسحق رابين بسنة ،انُتخب بنيامين نتنياهو رئيسًا لوزراء إسرائيل في
أعقاب موجة من التفجيرات االنتحارية التي اعُتبرت حماس مسؤولًة عنها آنذاك وقتل خاللها ُقرابة
ستين إسرائيلّيًا .في الخامس والعشرين من أيلول من السنة التالية َض رَب نتنياهو ضربَته الثأرية
مستهدفًا أحد قادة حركة حماس الذي كان مقيمًا في األردن.
فيما كان خالد مشعل ،أحُد كبار المسؤولين في الجناح السياسي لحماس ،يتجه نحو مكتبه صباح
أحد األيام قفَز بعُض عمالء االستخبارات اإلسرائيلية من سيارتهم وَبّخ وا في أذنه مادًة غريبًة ما لبث
بعدها أن وقََع ال حوَل له وال قوة وباَت على حافة الموت .الحَق أحد رجال الحرس المكلفين حماية
مشعل عمالء الموساد وانتهى األمر بأن اعتقلت الشرطة اثنين من أولئك العمالء ،فيما هرب أربعة
منهم إلى السفارة اإلسرائيلية واختبأ اثنان في فندق اإلنتركونتننتال.
عند هذه النقطة اتصل نتنياهو بوالدي وقال له« :لدينا مشكلة» .ثم أرسَل رئيس استخباراته ،داني
ياتوم ،ليشرح ما حدث ويطلب إطالق سراح عمالء الموساد .مع أن ياتوم لم يخبرنا بذلك ،علمنا في
ما بعد أن محاولة االغتيال قد وافق عليها نتنياهو شخصّيًا( .في عملية مشابهة ذكرتنا بمحاولة
اغتيال خالد مشعل ،اغتيل أحُد قادة حماس في دبي في كانون الثاني/يناير من العام 2010في ما
ُيعتقد أنه عمٌل وراَء ه الموساد ارتكَبه عمالء يحملون جوازات سفر مزورة .وتمت عملية االغتيال
هذه ونتنياهو رئيس لوزراء إسرائيل).
بلغ الغضب بوالدي ذروته .فهو في تلك الفترة كان يعمل ليَل نهار لدفع قضية السالم في المنطقة
إلى األمام ،وكان في كانون الثاني/يناير الذي سبَق العملية قد أّدى دورًا مهّم ًا في تسهيل الوصول
إلى اتفاق الخليل الذي وافقت بموجبه إسرائيل على إعادة نشر جنودها خارَج مدينة الخليل تنفيذًا
لمندرجاِت اتفاقات أوسلو .قبل محاولة االغتيال ببضعة أيام كان قد بعث سّر ًا إلى اإلسرائيليين
عرضًا من حماس يقضي بوقف إطالق النار بين الجانبين على مدى ثالثين سنة ،وها هو نتنياهو
يرّد بمحاولة اغتيال أحد قيادات حماس في أحد شوارع عاصمتنا!
بذل األطباء األردنيون كل الجهود الممكنة إلنقاذ حياة مشعل ،لكن معركتهم كانت تسير نحو
الفشل ألنهم لم يتمكنوا من تحديد نوع السّم الذي اسُتخدم .طالب والدي اإلسرائيليين بتحديد نوع السّم
الذي استخدموه فورًا وأن يرسلوا الترياق المضاد.
قال ياتوم إن مشعل ُحِقن بمزيٍج كيماوي معّقد وإنه سيموت خالل أربع وعشرين ساعة .عندئٍذ قال
والدي إذا مات مشعل فهو سيلغي معاهدة السالم وسيقطع العالقات الدبلوماسية مع إسرائيل .وأخيرًا،
بعد أن خرج من االجتماع لالتصال بنتنياهو ،قال ياتوم لوالدي إن من بين أفراد فريق الموساد طبيبًة
موجودة في فندق اإلنتركونتننتال ولديها الترياق المضاد.
ُج ّن جنون األردنيين والفلسطينيين أمام هذه الوقاحة اإلسرائيلية المتمادية .كان الوضع متأزما جّدًا.
فحتى إذا استطعنا إنقاذ حياة مشعل ،فكيف نحّل معضلة عميَلي الموساد المعتقَلْين فضًال عن
المختبئين في السفارة اإلسرائيلية في عمان؟ كل هؤالء دخلوا بلَدنا بجوازاٍت كندية مزّو رة ونفذوا
محاولَة اغتيال .ال أحد من العمالء يتمتع بحصانة دبلوماسية ،لكّن اإلسرائيليين رفضوا تسليم
الشركاء في جريمة االغتيال الذين لجأوا إلى السفارة .طّو قت القوات األردنية السفارة للتأكد من أن
العمالء لن يتسللوا إلى الخارج ويهربوا ،وكنُت آنذاك قائدًا للعمليات الخاصة وأذكر جيدًا أنها كانت
فترًة عصيبًة جّدًا.
في ذلك المساء ُنقل مشعل ،في حالٍة طبية حرجة ومتراجعة ،إلى مدينة الحسين الطبية وُأدِخ َل إلى
مركز الملكة علياء ألمراض وجراحة القلب ،وهو من أهم المؤسسات الطبية في األردن .كانت
الطبيبة اإلسرائيلية العضو في فريق االغتيال الذي أرسَله الموساد قد انتقلت إلى فندٍق آخر فُعثر
عليها وجيَء بها إلى المستشفى حاملًة أنبوبًا صغيرًا يحتوي على الترياق المضاد .لكن المسؤولين
في حماس شّكوا في صدق اإلسرائيليين ورفضوا أن يسمحوا ألحد بأن يحقَن مشعل بأي شيء دون
أن يعرفوا ما هي المادة المنوي حقُنه بها ،وقد طلبوا معرفَة التركيب الكيميائي للترياق المضاد.
اتصل والدي بالرئيس كلنتون طالبًا مساعدَته الفورية وطلب منه أن تتدخل أميركا وتضغط على
حليفتها المقّر بة لرفع الضرر الذي تسببت به .فاستجاب كلنتون للطلب وأخيرًا تراجع نتنياهو وكشَف
لنا أن الترياق المضاد هو «نالوكسون» ( )Naloxoneوهو عقار مضاد لجرعٍة قوية من األفيون.
علمنا في وقت الحق أن السّم المستخدم هو تركيبٌة مطَّو رة من الـ«فنتانيل» الدواء المخِّفف لآلالم،
وهو ُسّم مميت يقتل ضحيته خالل ثماٍن وأربعين ساعة دون أن يترك أَّي أثر .أخِفَي السم في كاميرا
ُعّدلت بحيث يمكن وضُع السائل السام فيها وزّو دت بإبرة تخرُج وتعود إلى مكانها بكبسة زّر وقد
ُر ّكبت اإلبرة مكان عدسة الكاميرا .أدخَل أحُد القتلة اإلبرَة في أذن مشعل وحقنه بالسم .حالما ُعرف
التركيب الكيميائي للترياق المضاد استطاع فريق األطباء األردنيين حقَنه به وإنقاذ حياته.
ُأنقذت حياة خالد مشعل ،لكن العالقات بين األردن وإسرائيل تدهورت إلى درجة كبيرة .أصّر
والدي على أن يدفع اإلسرائيليون ثمنًا سياسّيًا باهظًا لقاء هذا العمل ،وأن يفرجوا عن الشيخ أحمد
ياسين ،أحد مؤسسي حركة حماس وقائدها الروحي الذي كان يعاني من أمراض في حواسه جميعًا
والمقعد على كرسٍّي نقال .كان الشيخ أحمد ياسين محكومًا بالسجن مدى الحياة بتهمة التآمر بخطف
جنود إسرائيليين ،وقد أمضى ثماني سنوات في سجون إسرائيل .وأخيرًا أدت المفاوضات إلى
الوصول إلى حلُ :سمح لعمالء الموساد بمغادرة األردن مقابل اإلفراج عن أعداٍد كبيرة من
الفلسطينيين األسرى في السجون اإلسرائيلية ،وكان الشيخ أحمد ياسين من بين المفَر ج عنهم .في
الواحدة والنصف فجرًا من التاسع والعشرين من أيلول/سبتمبر ،1997وكجزٍء من االتفاق ،طار
رئيس الوزراء اإلسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى عمان ليقّدم اعتذارًا رسمّيًا وعلنّيًا.
فلنسِّر ع الزمن سنتين .ها أنذا أجُد نفسي خلفًا لوالدي ،ملكًا على األردن ،وبنيامين نتنياهو رئيسًا
للوزراء في إسرائيل ،وخالد مشعل ،الذي ُشفَي تمامًا ،قد خالَف تعهده بأن ُيقَتصَر نشاُط حماس في
األردن على التواُص ل اإلعالمّي .كانت حماس قد وافقت على أال تقوَم بأّي نشاٍط سياسّي أو عسكري
انطالقًا من األردن ،واالكتفاء بإقامة مكتب لالتصال اإلعالمي فقط .لكنها مع مرور الوقت أخّلت
بهذا االلتزام.
في السنة األخيرة من عمره قال لي والدي إنه لم يكن راضيًا على اإلطالق عن استمرار مشعل
في القيام بنشاطه السياسّي في األردن ،حيث يحاول تهريب السالح عبر الحدود إلى الضفة الغربية
ويتدخل في السياسة الداخلية للبلد .وكان يشعر بأن مشعل ،وسائر قادة حماس في عمان ،كانوا
يستغلون ُح سَن الضيافة لدى األردن.
في عدٍد ال ُيحصى من االجتماعات وجلسات التفاوض ُطِلَب إلى مشعل وسواه من قادة حماس
المقيمين في األردن مرارًا وتكرارًا وقُف نشاطهم الذي ينتهك ما وافقوا عليه من شروٍط للسماح لهم
باإلقامة في البلد .لكن كل تلك المناشدات ذهبت أدراَج الرياح .استمروا على عنادهم ،يتصرفون
كمن ال يخشى رادعًا .وهكذا طلبت الحكومة من مشعل مغادرَة األردن في آب/أغسطس من العام
.1999دخلت الحكومة القطرية على الخط في هذه المسألة وأبدت رغبًة وترحيبًا باستضافته ،فغادر
مشعل وقادة آخرون من حماس عمان إلى الدوحة.
قبل اجتماعي المقرر ببنيامين نتنياهو ببضعة أيام اختار أن يلقي خطابًا ملتهبًا في جامعة بار -
إيالن قرب تل أبيب اتهم فيه والدي بالوقوف إلى جانب النظام العراقي في حرب الخليج في العام
،1991ولّم ح إلى أن األردن قد يتحالف مع صدام حسين في المستقبل ،وأن العراق سيهدد إسرائيل
عبر الحدود األردنية.
هذا الخطاب قوبَل بانتقاٍد واسع في المنطقة ،وحتى داخل إسرائيل .إيهود باراك ،قائد المعارضة
اإلسرائيلية قال« :لم يترك رئيس الوزراء حفرًة إال وقع فيها ،والمشكلة الكبرى تكمن في أنه ال
يسقط في الحفرة وحَده لكنه يأخذ البلد برمته معه .حتى خالل فترة الحداد على الملك حسين لم يجد
نتنياهو حرجًا في تعريض اإلنجازات القليلة على طريق السالم للخطر».
لم يكن لقاؤنا إيجابّيًا .ففي جلسة على الغداء استمرت ساعتين بحثنا مآل عملية السالم وحقوق
المياه ،لكن تشويه نتنياهو دور والدي في حرب الخليج ،لمجرد تسجيل بعض النقاط السياسية ،كان
قد ترك في حلقي مرارًة ليس من السهل غسُلها .والدي لم يقف منحازًا إلى صدام ،وإنما حاول أن
يحوَل دون اشتعال حرٍب رأى أنها لن تخدَم مصالح أحد .تركُت االجتماع وكان يغلب علّي شعوٌر
بأن إعادة العملية السلمية إلى مسارها الواعد سيكون دوَنها مصاعُب جمة.
في بلٍد كاألردن تضعك الضغوط الخارجية أمام حتمية التركيز على السياسة الخارجية ،لكن ال بد
من االعتراف بأن شؤونًا داخليًة ذات شأن كانت تنتظر أن أوليها اهتمامي .فمن بين القرارات
األولى التي كان علّي اتخاُذها قرار تعيين رئيس جديد للوزراء أو إبقاء الحكومة القائمة.
نظام الحكم في األردن نيابي ملكي وراثي .وبموجب الدستور يعّين الملك أعضاء مجلس األعيان،
الذي يجب أن يتكون من شخصياٍت تميزت بما قدمته للبالد من خدمات ُج ّلى كرؤساء الحكومات
السابقين والسفراء وكبار الضباط العسكريين .أما مجلس النواب فينتخب أعضاؤه كل أربع سنوات.
يعّين الملك ،بوصفه رئيسًا للدولة ،رئيَس الوزراء الذي يختار بدوره الوزراء الذين تتشكل منهم
الحكومة ،ويمكن اختيار الوزراء من بين أعضاء البرلمان أو من خارجه .وعلى الحكومة أن تحصَل
على ثقة مجلس النواب.
إضافة إلى الحكومة ومجلس األمة ،هناك الديوان الملكي الهاشمي ،الذي يسّم يه الناس «بيت
األردنيين» .لكل مواطن أردني الحق بأن يلتمَس أمرًا ما من الملك مباشرة أو أن يتقدم منه بعريضٍة
أو مطلب ،وهذا االلتماس أو المطلب يقَّدم إلى الديوان الملكي.
التماس المواطن يمكن أن يتناول أَّي موضوع ،من القول «إنني مفلس» أو «علّي قرٌض ال
أستطيع تسديده» إلى الشكوى من أنه «ال يستطيع تعليم أوالده» أو أّن لديه «مشكلة صحية» أو «ال
يمكنني أن أجد عمًال» .ومن ضمن المسؤوليات المترتبة على رئيس الديوان الملكي أن يلتقي كل َم ن
لديه التماس وأن يستمع إلى شكواه ثم أن ينقَل االلتماس أو الشكوى إلى الملك .هذا النظام قائم على
تقليد مَّتبع منذ كان األردن بلدًا أصغر منه اآلن بكثير ،أما اآلن ،وتعداُد األردنيين يقارب ستَة ماليين
مواطن ،فقد أصبح مستحيًال على رئيس الديوان أن يلتقي كل صاحب التماس أو شكوى بمفرده،
ومن هنا أنشئت عدة دوائر في الديوان بحيث يحال كل موضوع على الدائرة المختصة به .طبعًا ال
يزال رئيَس الديوان الملكي يلتقي الكثيرين من الشخصيات العامة .وحين أزور المناطق الريفية
النائية غالبًا ما يأتي إلّي بعض المواطنين ويقّدمون لي ورقًة تحمل طلبًا أو التماسًا معينًا.
مع أن الدستور ال يرُد فيه نٌّص بهذا المعنى ،فقد جرت العادة في األردن أن تستقيل الحكومة
القائمة إثر اإلعالن رسمّيًا عن اعتالء الملك الجديد العرش .بديهّي أن هذا التقليد لم يمارس منذ
زمن ،إذ إّن والدي حكَم األردن على مدى نصف قرن تقريبًا.
في بدايات تعاملي مع كبار المسؤولين في الحكومة كان بعُض هم يقول لي إن لديه مشاريَع كبرى
لتحسين العمل الحكومي واألوضاع عمومًا ،لكن حين كنت أسأل «متى؟» ،قّلما جاءني الجواُب
ُم رضيًا أو شافيًا .من هنا تلقيُت اإلشارة األولى بأن الحكومات ال تعمل كما تعمُل الجيوش.
غالبًا ما يحسب األردنيون أن ما يستجُّد من تغييرات في المواقع الرسمية العليا يندرج في خانة
األمور الشخصّية وأن المسؤول الذي جرى تبديله دخَل بصورٍة أو بأخرى في سجالتي السوداء.
لكن هذا أبعُد ما يكون عن الواقع ،ذلك أن ما أبحث عنه لدى كل مستشارَّي هو الكفاءة والقدرة على
تطبيق ما أرسمه من البرامج والخطط ،وسرعُة التنفيذ وفاعلّيُته .إذا لم يأتني المستشارون بالنتائج
المتوخاة عمدُت إلى استبدالهم ،ففي نهاية المطاف كُّلنا نعمل من أجل األردنيين ،وهم يستحقون
األفضل.
في مطلع آذار/مارس من العام 1999طلبت من الحكومة القائمة آنذاك تقديم استقالتها َففعَلْت
وكّلفُت عبد الرؤوف الروابدة ،البرلماني المتمرس الذي شغل العديد من المواقع العامة ،أن يتولى
رئاسة الحكومة ،وطلبُت من عبد الكريم الكباريتي ،أحد الموثوقين المخلصين واألوفياء لوالدي،
والذي كان رئيسًا للحكومة بين العامين 1996و ،1997بأن يتولى رئاسة الديوان الملكي .كان
قراري األول ،أي تغيير الحكومة ،من أكثر القرارات التي اتخذُتها إجهادًا لي ومصدرًا لقلٍق كبير،
ومع أن قرارًا كهذا ال يصبح أكثَر سهولًة مع مرور الوقت ،فإن ذلك القرار بالذات كان فائَق
الصعوبة .أذكر جيدًا حين كنت في قصر بسمانُ ،أِع ُّد الستقالة الحكومة القديمة واستقبال الجديدة،
وكيف كنت شديَد القلق مما إذا كان قراري في مكانه أم ال .لم يكن الكثيرون يتوقعون أن أعين عبد
الرؤوف الروابدة رئيسًا للوزراء .وكنت مدركًا أن أي قرار سأتخذه في هذا اإلطار سيقابل بالكثير
من النقد.
كنت واقفًا في إحدى القاعات الجانبية في الديوان ،مأخوذًا بلحظٍة من التفكير العميق ،وحانت مني
التفاتة إلى أعلى فرأيُت صورًة لوالدي بلباسه العسكرّي وكان كمن ينظر إلّي مبتسمًا ،ففّسرُت ما بدا
لي نظرة رضًى منه بأنني في صدد اتخاذ القرار السليم .لقد وثق والدي بي إلى حد أن حملني
مسؤولية الملك ،واآلن علَّي أن أثق بقدرتي الذاتية وقراراتي .أعلنُت التغييرات التي قررُت
إجراءها ،وحبسُت أنفاسي منتظرًا.
مرت بضعة أسابيع ،وبعد انتهاء فترة األربعين يومًا حدادًا على والدي ،كان علّي أن أتخذ قرارًا
آخر يَّتسم بالحساسية .كنت على يقين من أن األردن يمكُنه أن ُيفيَد مما تتمتع به زوجتي من الطاقة
على العمل والذكاء والرغبة الشديدة في مساعدة اآلخرين ،ولذلك قررُت أن أمنحها لقب ملكة .لكن
هنا أيضًا كنت حذرًا حياَل ما قد يتركه هذا القرار من وطأٍة على نور ،أرملة والدي ،التي كان قد
مضى عليها عقدان من الزمن وهي تحمل هذا اللقب .قصدُت إليها لعقد لقاء ُيقَتصر علينا نحن
االثنين ،فأبدت تفهمًا لألمر وقالت إن الوقت حان لكي يتولى األمور جيل جديد .كذلك قالت إن
والدي ،على ما كان يبدي من التحفظ أحيانًا ،كان دائمًا يعّبر لها عن مدى حبه لي وعن افتخاره
الكبير بإنجازاتي خالل خدمتي في الجيش ،وخصوصًا عن اعتقاده بأنني أفضُل َم ن يقود األردن بعد
رحيله .شكرُتها على هذا الكالم الطيب واللطيف ،وعّبرت لها عن تقديري لموقفها الداعم.
في الحادي والعشرين من آذار/مارس من العام ُ 1999أعلنت رانيا ملكة ،وقد بعثُت إليها برسالٍة
مفتوحة أعلن فيها هذا القرار ،وأقول« :ولقد نعمت معي خالل السنين الماضية برعاية األب الكبير،
أبي ،وأبي األردنيين جميعًا… ولما كانت إرادة هللا جل جالله أن أحمل المسؤولية األولى في أردننا
العزيز ،فقد رأيت ،وأنت رفيقة الدرب ،وأم الحسين ،أن تكوني منذ اليوم صاحبة الجاللة الملكة
رانيا العبدهللا المعظمة».
وبما أننا كنا ال نزال في حداٍد على والدي قررنا تأجيل مراسم التتويج ،الذي أقمناه بعد مرور
بضعة أشهر .في اليوم التالي كانت الملكة نور مغادرًة إلى الواليات المتحدة مع إخوتي هاشم وإيمان
وراية للعودة إلى المدرسة هناك ،فاقترحنا أنا ورانيا أن نوِص َلها إلى المطار .ومع أن عالقتنا في
األيام التي أعقبت وفاة والدي كانت أقوى منها في أّي وقٍت مضى ،شعرُت ونحن في الطريق إلى
المطار بأن شيئًا ما قد تغّير ،كانت نور الئقًة جّدًا ولكن اّتسَم تصرُفها بمسحٍة رسمية ومتحفظة ما
جعَل رحلَتنا معها إلى المطار غير مريحة .وظلت عالقُتنا فاترة منذئٍذ.
من األهداف التي وضعُتها في رأس أولوياتي تطبيق برنامج موَّسع من اإلصالحات االجتماعية
على أن يتضّم ن بصورٍة خاصة تقديم المزيد من الدعم إلى الضعفاء وغير الميسورين من أبناء
مجتمعنا .بدأنا نبحث ،أنا وحكومتي الجديدة ،عن أفضل السُبل لحماية النساء واألطفال ،وأخذنا نتكلم
علنًا عن مسائل كانت في السابق ُتعّد من المحّر مات ،مثل العنف المنزلي وإساءة معاملة األطفال.
لعّل من المحرمات الكبرى وأبعِدها عن التناول مسألة ما يسّم ى «جرائم الشرف» ،وهي ما
واجهت ألول مرة عندما كنت ضابطًا شاّبًا في الجيش .أحيانا ُتقتل المرأة على يد أحد أفراد عائلتها
الذكور -غالبًا األب أو األخ -عندما َيشعر هؤالء الرجال ،وأحيانًا كثيرة تحت ضغط الشائعات ،بأن
المرأة المعنية لّطخت شرَف العائلة من خالل إقامة عالقة عاطفية.
حدث مرًة أن قتَل أحُد رجالي من العسكريين ابنَة عٍم له ذبحًا بالسكين وجاءني مسّلمًا نفَسه إلّي
باعتباري الضابَط األعلى رتبًة في وحدته .كانت عائلته قد اجتمعت وناقشت المسألة فوقع عليه
االختيار لتنفيذ الجريمة .كان هذا الجندي واحدًا من أفضل قادة الدبابات لدّي ،وقد مورس عليه
ضغٌط عائلي الرتكاب عملية قتل «غسًال للعار» بحسب مفهوٍم مشَّو ه «للشرف» فَح رمت هذه
الجريمة امرأًة شابًة حياَتها .سّلمُته إلى الشرطة العسكرية آسفًا لهذه الخسارة التي ذهبت بحياة
شخصين شابين ،وقد حوكم الرجل وناَل حكمًا بالسجن.
في الوقت الذي وقعت فيه هذه الجريمة شعرُت بأنها خسارة بشرية دون مبرر وال معنى لها .أما
اآلن ،وأنا في موقٍع يمكنني منه التأثير في السياسة العامة ،فقد عقدُت العزَم على اتخاذ خطواٍت
عملية .صحيح أنني ال أستطيع تغيير عقول الناس بين ليلة وضحاها ،لكن بإمكاني إدخال التعديالت
والتغييرات الالزمة على السُبل المتبعة في التحقيق بهذه الجرائم وبالتالي المحاكمات التي تلي
التحقيق ،هذا فضًال عن محاولة تقويم النظرة االجتماعية العامة حياَل هذه األعمال.
َعمدُت في هذه المعركة إلى شّن الهجوم على أكثر من جبهٍة واحدة ،فبدأنا بإطالق حملة توعية
عامة مشّددين على أن عمليات القتل هذه خطيئة أخالقية ،فضًال عن كونها تخالف تعاليَم اإلسالم ،ثم
أْلحقنا هذه الحملة بمعالجة قانون العقوبات ،وصوًال إلى المجال القضائي نفسه .رانيا رفعت الصوت
عاليًا ضد ما يسّم ى «جرائم الشرف» وشاركْت في تظاهرة اعتراض على هذه الجرائم اتجَه فيها
المتظاهرون إلى البرلمان .كذلك بدأنا نقّدم الدعم ،عن طريق المؤسسات المتخصصة ،لضحايا
العنف المنزلي من النساء وأنشأنا لهّن دور رعاية يلجأن إليها عند الحاجة.
المشكلة الكبرى التي واجهناها في هذا المجال هي أنه في معظم األحيان يمتنع أهل الضحية عن
التقدم من القضاء بشكوى ويسقطون حقوقهم القانونية .أضف إلى ذلك أن عددًا كبيرًا من القضاة كان
يعتبر «جرائم الشرف» جرائم غضب تستحق تخفيف العقوبات .ومن هنا كانت العقوبات التي
يصدرها القضاة تراوح ما بين ستة أشهر وسنتين .أما اآلن فُتعّد الجرائم الواقعة ضمن هذا النوع
جرائَم قتل ،وقد أنشئت غرف محاكم متخصصة للنظر في هذه الدعاوى .وبدأت هذه الغرف تصدر
أحكامًا أشّد من السابق .أما بالنسبة إلى قانون العقوبات فقد ُعّدل بحيث ينال المرتكبون أقصى
العقوبات.
مع مرور الوقت بدأت جهوُدنا تؤتي ثماَر ها ،فأصبحت األحكام أكثر شدًة وحزمًا وتراجع عدد هذا
النوع من الجرائم وبالتالي الدعاوى المتعلقة بها .هبط عدد «جرائم الشرف» من ثالث عشرة جريمًة
في العام 2008إلى عشر جرائم في العام ،2009أما القتلة الذين ارتكبوا جرائمهم بعد النجاح في
تعديل القانون في العام 2010فيواجهون أحكامًا بالسجن مدُتها عشر سنوات مقارنًة باألحكام التي
كانت تراوح بين ستة أشهر وسنتين في الماضي .في قناعتي ،لو اقُتِص َر األمر على جريمة قتٍل
واحدة فقط من هذا النوع فإنها تبقى وصمًة على جبيننا نحن األردنيين جميعًا .ولن أستريح إلى أن
تزوَل هذه النظرة المتخّلفة إلى العدالة وال يبقى لها أثٌر في بالدنا.
من المفاهيم الغربية الواهية التي تدعو إلى الخيبة ،ال بل أحيانًا إلى السخرية ،اعتباُر النساء
العربيات جميعًا نساًء مقموعاٍت ،أّم ياٍت ،سجيناِت بيوِتهن ،ال عمَل لهّن سوى رعاية األطفال،
ُم جَبراٍت على ارتداء الحجاب كلما غامرَن بالخروج من منازلهّن .إن أعدادًا ال تكاد ُتحصى من
النساء في األردن والعالم العربّي األوسع ،كزوجتي مثًال ،يرتدن الجامعات ويخرجن إلى الحياة
حيث يرتقين في مهِنهّن إلى درجاٍت متميزةُ .تظهر اإلحصاءات المدرسية في األردن أن فتياِتنا
ينتزعن في نهاية كل سنٍة مدرسية أعلى العالمات في االمتحانات الثانوية .إن نساَء نا المتعّلمات،
المثقفات ،اللواتي سلكَن نهَج الحداثِة وسّجلَن نجاحًا في مجالهّن الِم ْه نّي ،يتشاركن في هذه الميزات
العالية مع المتفوقات من النساء في لندن ونيويورك وباريس أكثَر منهّن مع سجيناِت الوهِم الغربِّي
من ضحايا القمع .بعُض هؤالء النساء يخترن لبس الحجاب ،بينما تختاُر بعُض هن ،كرانيا مثًال ،أال
يرتدين حجابًا .لكن ال عالقَة لهذا بكفاءاِت المرأة وقدراتها وال بإنجازاتها المهنية .إن المرأَة األردنية
التي ترتدي مالبَس تقليديًة وتغطي رأَسها قد تكون من حامالت شهادة الدكتوراه من جامعة هارفرد
أو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا .وكما تقول رانيا «علينا الحكم على المرأة بحسب ما يدور
في داخل رأِس ها ،ال بحسب الغطاء الذي تضُعه عليه».
لكن المحزن بالفعل هو أن ما سّم يناه مفهومًا غربّيًا واهيًا ،أو وهمًا ،إنما ينطوي على شيٍء من
الحقيقة ،فالكثيرون من الرجال العرب يكّنون تحّيزًا متطرفًا حياَل المرأة ويعتقدون أن عليها إما
البقاء في المنزل وتربية األطفال والعناية بهم ،أو أن ُتحَّدد لها ِم َه ٌن معينٌة ال تتعاطى سواها .حتى في
عائلتي نفِسها كان بعُض إخوتي وأبناء عمي ضد فكرة دخول شقيقتي عائشة وأختي إيمان
ساندهرست ،مع أن أحدًا لم يتجّر أ طبعًا على منعهما من ذلك .إننا ،من دون ريب ،في أمّس الحاجة
إلى مزيٍد من النساء الالتي يتخذن موقفًا حازمًا وَيُقلن« :دعوني أقرر ،أنا ،نهج الحياة التي أريد
وأديرها كما أشاء!».
لقد بذلت رانيا جهودًا كبيرة في مجال التصدي للمفاهيم الخاطئة حياَل المرأة في المجتمعات
العربية ،وقد رفعت الصوت عاليًا مناديًة بحقوق النساء ،وتبّنت في السنوات األخيرة أكثَر وسائِل
االتصال حداثًة ورواجًا -مثل يوتيوب ،وفايسبوك وتويتر -إليصال رسالتها إلى أوسِع جمهوٍر
يمكن الوصول إليه .لقد أدركْت بسرعة أن اإلنترنت ،في هذا العالم الذي بات على سلٍك من
التواصل الشامل والدائم ،يتيح لنا نحن األردنيين أن نرسَل صوَتنا وكلمَتنا إلى أبعد من حدودنا
بكثير ،وأن نجعَل من حجمنا الصغير نسبّيًا ومن موارِدنا المحدودة مسألًة غير ذات بال .استطاعت
رانيا عبر اإلنترنت أن ُتسِم َع العالَم صوَتها وُتنهَي إليه رسالتها.
إنني أرى في التكنولوجيا الحديثة ،من نواٍح متعددة ،عنصَر مساواٍة عادلة بين الناس ،وهي بذلك
تتيح للسيدة األولى حتى في بلٍد صغير كاألردن ،أن يكون لها صوٌت مسموع على المسرح الدولّي .
لكن السؤال الذي يواجهنا هنا هو كيف يمكننا التأكد من أن الرسالَة التي نبعث بها تهّم المتلقي وتثير
فضوَله؟ كيف التأكُد من أننا ُنحسن استخداَم هذه الوسيلة بالطريقة الخالقة واألكثر فاعليًة من جهة،
والقادرة على التسلية والترويح عن النفس من جهٍة ثانية ،بحيث تستحوذ على اهتمام المتلقي وُتبقيه
راغبًا بمتابعِة ما َتوُّد إطالَعه عليه؟ هنا بالضبط استطاعت رانيا أن تنجز عمًال رائعًا بالفعل ،فقد
سَّخ رت التكنولوجيا إليصال رسالِتها حول أهمية التعليم ،كما وقفت تتحدى المفاهيَم المشَّو هة حول
اإلسالم والعالم العربي .وفي هذا السياق كان عملها األهم النهوض بالمستويات التعليمية لألطفال في
كل أرجاء األردن.
في نيسان/إبريل من العام 2008أطلقت رانيا مبادرة «مدرستي» ،وهي برنامج تحديثّي جذرّي
يرمي إلى النهوض بنوعية التعليم في خمسمئة مدرسة حكومية في كل أنحاء األردن تفتقر إلى
الكثير من مقّو مات التعليم الحديث .في صلب هذه المبادرة يكمُن مفهوٌم مبدئي واضح وبسيط :كُّلنا،
دون استثناء ،نتحمل مسؤوليَة تعليم أبنائنا وبناتنا .تجمع مبادرُة «مدرستي» تحت مظلتها القطاع
الخاص ،والمنظمات غير الحكومية ،والمجتمعات المحلية ،ووزارة التربية والتعليم ،لتشبَك أيديها
بأيدي ذوي الطلبة والمعلمين والطلبة أنفِسهم بحيث يندفع الجميع إلى تحقيق هدٍف واحٍد :إنعاش
المدارس وتحديثها لمواكبِة مسيرة التعليم الحديث في البلدان المتقدمة .منذ إطالقها في العام 2008
نهضت المبادرة بالمستوى التعليمي في أكثر من ثالثمئة مدرسة حكومية ،وأثرت في حياِة مئٍة
وعشرِة آالف طالب .لقد أدخلت هذه المبادرة تحسنًا ملموسًا على الُبنى التحتية لتلك المدارس،
وأطلقت سلسلًة من البرامج التي رفعت من مستوى الخبرة التعليمية والوعي الصحي وتدريب
المعلمين ،باإلضافة إلى توفير ما أمكن من وسائل التكنولوجيا الحديثة.
عندما تكّشَف لرانيا مدى التقهقر الذي تعانيه مدارس القدس الشرقية ،والدالالت الخطيرة لنسبة
التسُّر ب من المدرسة لدى شعٍب ليس مدركًا قيمَة التعليم فحسب ،بل يحتاج إليه الستمراريته ،أطلقْت
رانيا مشروَع «مدرستي/فلسطين» في العام .2010هذه المبادرة تبني على ما تكَّو ن من خبرٍة نتيجَة
التطبيق العملّي في األردن وتستهدف تلبية احتياجات أربعٍة وتسعين ألفًا من األطفال الفلسطينيين في
القدس الشرقية .كذلك يأمل القّيمون على المشروع أن يتمكنوا من إعادة استيعاب عشرة آالف طفل
من أطفال المدينة الذين في عمر الدراسة لكنهم ال يذهبون إلى المدارس ،ومن تحسين معدالت
التخرج ،خصوصًا بين الصبية الذين تتجاوز نسبُة التسّر ب في صفوفهم في الوقت الحاضر خمسين
في المئة.
في مطلع شهر آذار/مارس من العام 1999أعيد فتح السفارة األردنية في الكويت ،التي كانت قد
أغلقت خالل االجتياح العراقي ،لتعود عالقاتنا مع الكويت إلى المستويات التي سبقت حرب الخليج
األولى .كانت هذه العالقات قد تراجعت كثيرًا نتيجة لشعور الكويتيين باالستياء بعدما أساء كثيرون
فهَم موقف والدي واعتبار محاوالِته منَع وقوع الحرب وقوفًا إلى جانب صدام .كون رانيا نشأت
وترعرعت في الكويت ساعدنا كثيرًا في وضع كل هذه االعتبارات السلبية وراءنا.
التقيت في وقٍت الحق من ذلك الشهر ياسر عرفات ،الذي زارني في عمان ألول مرة منذ اعتالئي
العرش .ناقشنا جمود عملية السالم وعدم إحرازها أّي تقدم وتناولنا بالبحث زيارَة عرفات المقبلة إلى
واشنطن .ومع أن عالقات عرفات بوالدي لم تخُل من المناوشات على مدى سنواٍت طويلة ،فقد
شعرُت بأنه كان يكّن له احترامًا حقيقّيًا .لقد عّبر عن عاطفٍة حقيقية وأصيلة عندما انحنى أمام جثمانه
خالل الجنازة ،وأثناء اجتماعي به كنت مستعّدًا لإلصغاء إلى ما لديه وللمساعدة حيثما أمكنني ذلك.
بعد أسبوعين ،ولمناسبة انتهاء فترة األربعين يومًا حدادًا على والدي ،جاءني بعُض مستشارَّي
باقتراٍح يقضي بالعفو عن بعض المساجين كما كان دائمًا التقليد المَّتبع عند تولي حاكٍم جديد مقاليد
الحكم .وافقت من حيث المبدأ مشترطًا عدم اإلفراج عن أّي سجين ارتكَب جريمًة كبرى كالقتل أو
االغتصاب .عاد إلّي المستشارون بقائمٍة من سبعمئة اسم قالوا إنهم اختيروا بعد تدقيٍق كامل .وبعد
أن وافق مجلس األمة على مشروع قانون العفو العام ،وقعت مشروع القانون ونفذ العفو .كان من
بين السجناء الذين أفرج عنهم رجٌل اسُم ه أحمد فضيل الخاليلةُ ،عرف في ما بعد بأبي مصعب
الزرقاوي .وكان يجب أال يخطَو هذا الرجل خطوًة واحدة خارَج السجن ،وقد ندمُت في ما بعد ندمًا
مريرًا على أن اسمه كان من بين األسماء في تلك القائمة.
بعض القادة من الخارج ،مثل نتنياهو وعرفات ،جاؤوا لزيارتي ،وهناك آخرون كانوا ينتظرون
زيارتي لهم .كانت المرحلة حساسة .الحكام العرب بأجمعهم كانوا يعرفون والدي وعمي ،وبعُض هم
امتدت معرفُته بهما عقودًا .بعضهم خاَض حربًا مع والدي ،حتى إنه حاول قتَله ،وبعضهم ربطته به
عالقات صداقة وثيقة .وإذا شئُت الفوَز باحترامهم كواحٍد منهم فعلّي أن أعمَل جاهدًا في سبيل ذلك.
كملك جديد لألردن ،ثمة فرصة لبداية جديدة.
الفصل الرابع عشر :أصـدقـاء وجيـران
من بين الخصائص التي ال يفهمها الغرب فهمًا صحيحًا عن الشرق األوسط تنّو ُعه الحضارُّي
واالجتماعّي .فعلى الرغم من أن البلدان األوروبية تدين بالغالب بديٍن مشترك وبتركيٍب سياسّي
متشابه ،تبقى هناك اختالفاٌت هائلة ،ثقافية واجتماعية بين سويدٍّي ويونانّي ،وبين ألمانٍّي وإسبانّي .
حتى البلدان األوروبية التي تربُط بينها لغٌة واحدة ،مثل إنكلترا وسكوتلندا وأيرلندا وويلز ،قد دأَبْت
على الدفاع المستميت عن ُهويتها الثقافية والتاريخية .من هنا ثمة تحفظ مشروع على تعريف
شخٍص ما بـ«األوروبي» ،ذلك أن معظم المواطنين األوروبيين ُيعِّر فون أنفَسهم بُه ويتهم الوطنية.
الشرق األوسط أيضًا فيه هذا المستوى من التنّو ع .فالمغربُّي يختلف عن األردني أو اليمنّي .ومع
أن معظم البلدان العربية تدين بديٍن واحٍد هو اإلسالم ،وتتكلم لغًة واحدة هي العربية ،تبقى بين بلٍد
منها واآلخر اختالفاٌت ثقافية وتاريخية ال ُيستهان بها ،كما أن بعض هذه البلدان أوطاٌن ألقلياٍت دينية
تشكل مكونا رئيسّيًا من نسيجها االجتماعّي التاريخي .يعود المصريون بتاريخهم إلى عهوِد
الحضارة الفرعونية القديمة ،بينما لدول الخليج خلفية صحراوية بدوية .األتراك واإليرانيون
يتكلمون لغتين مختلفتين ولكٍّل من الشعبين تاريُخ ه وحضارُته .من هنا أيضًا ،ال أرى أّي معنى لهذا
التعميم الجارف الذي يتحدث عن كل «العرب» دونما تمييز.
صحيح أنني كنُت قد التقيت قادَة دول المنطقة عندما كنت أرافق والدي في زياراته لهم ،لكن هذا
ال يعني أن أحدًا كان سيبني عالقاته معي استنادًا إلى حقيقة أنني ابن الحسين فقط .إنني أعيش في
جواٍر مليء بالصعوبات والمشاكل والتحديات .وتبدت صعوبة األوضاع في منطقتنا جلية منذ
اللحظة األولى لتحملي مسؤوليتي ملكًا على األردن.
حقائق الجغرافيا وضعت األردن في قلب هذه الصعوبات .فعلى حدودنا الغربية تقع فلسطين
وإسرائيل ،وهذه األخيرة هي القوة النووية الوحيدة في المنطقة .إلى الشرق يجاورنا العراُق الذي
كان تحت حكم البعث بقيادة صدام حسين الذي خاض حربين مع بلدين جارين له ،وكان يمتلك جيشًا
من مليون رجل .أما شماًال فجارتنا سوريا وكان على رأس الحكم فيها حافظ األسد ،القائد المحّنك
الذي كان قد مضى عليه في الحكم ثالثة عقود .أما جارنا الجنوبّي فالمملكة العربية السعودية حيث
الحَر مان الشريفان ،مكة والمدينة ،وحيث كان ولّي العهد سمو األمير عبد هللا بن عبد العزيز يتولى
مسؤولياٍت واسعًة بسبب المرض الذي كان يعانيه أخوه الملك فهد .وبالقرب منا مصر التي يقودها
الرئيس حسني مبارك ،وهو قائٌد ذو تجربة واسعة وكان والدي قد بنى معه صداقًة راسخة وقوية.
وعلى مسافٍة أبعد هناك ليبيا ودول الخليج -البحرين ،الكويت ،قطر ،اإلمارات العربية المتحدة،
وُعمان -وعبر الخليج العربي هناك إيران .كثيرون من بين قادة هذه البلدان كان قد مضى عليهم في
الحكم بضعة عقود واألرجح أن يستمر بعضهم فيه سنواٍت أخرى ،ذلك أن الرؤساء في هذه المنطقة
غالبًا ما استمروا في الحكم زمنًا أطول من الملوك.
كان والدي قد عرف كل هؤالء القادة ،وبما أنه أحد أطول رؤساء الدول زمنًا في الحكم ،فقد عرف
عددًا من أسالفهم أيضًا .عّلمني أّن على األردن أن يحافظ على توازٍن دقيق في موقفه حياَل السياسة
اإلقليمية .وقد شهدت عالقاتنا مع الدول المجاورة بين الحين واآلخر مراحَل من االضطراب .في
بعض تلك المراحل ،خالل خمسينيات القرن الماضي وستينياته يوم كانت القومية العربية في أوج
تأّلقها وامتدادها ،حاول بعض جيراننا القيام بتحركاٍت انقالبية على والدي أو االعتداء على حياته.
لكن هذا لم يمنع مجيئهم جميعًا بعد وفاته لتقديم واجب العزاء والتعبير عن االحترام والحزن لغيابه.
واآلن علّي أن أبني عالقاتي الشخصية معهم ،وبقدر ما تعّلمُت وما أذكر من خبرة والدي أعلم أن
من الصعب التكهَن متى أتوقع منهم الدعم والمساعدة ومتى علّي أال أعِّو ل على ذلك.
من بين هؤالء القادة واحٌد كنُت مدركًا أنني لن أختار أن أكون قريبًا منه ،هو صدام حسين .فحين
أصبحت ملكًا لم يجِر بيننا تواصٌل مباِش ر إال في ما ندر ،وقد قررت أال أزور بغداد .لكّن العراق ال
يمكن تجاهُله بسهولة .بقي هذا األمر مصدرًا للقلق ،فهناك العديد من بلدان المجتمع الدولي التي
كانت تخشى أن يعاود العراق مهاجمة أحد جيرانه ،كما كانت لديها شكوك في أن صدام قد استأنف
برامجه لتطوير سالحه البيولوجي والنووي .كان التوتر بين بغداد والواليات المتحدة يشهد تزايدًا
متواصًال خالل السنة األخيرة من حياة والدي ،وفي أيلول/سبتمبر من العام ُ 1998طِر َح أمام
الكونغرس األميركي مشروع قانون تحرير العراق الذي نص على أنه «يجب أن تتبنى الواليات
المتحدة سياسَة دعم الجهود اآليلة إلى إزاحة النظام الذي يرأسه صدام حسين من السلطة في العراق
وتشجيع بروز حكم ديموقراطي يحُّل محّل هذا النظام» .وّقع الرئيس كلنتون مشروع القانون
وأصبح قانونًا نافذًا في 31تشرين األول/أكتوبر من العام ،1998وعندئٍذ بات «تغيير النظام»
سياسًة خارجية رسمية للواليات المتحدة األميركية .في اليوم التالي طرد صدام حسين مفتشي
السالح الدوليين إلى خارج العراق ،وبعد ستة أسابيع أمر كلنتون بشن سلسلة من الغارات الجوية
استهدفت مرافق السالح العراقية واستمرت أربعة أيام متواصلة كانت خاللها القاذفات األميركية
تنطلق من حامالت الطائرات الراسية في الخليج العربي ،وقد شاركت في هذه الهجمات القوات
البريطانية.
في تلك الفترة كان الرئيس كلنتون يمّر في أزمٍة داخلية شديدة الوطأة عليه شخصّيًا .فعالقته
بإحدى موظفات البيت األبيض كانت موضَع تحقيق خالل العام 1998بطوله ،وقد أجبر الرئيس
على اإلدالء بإفادته أمام هيئة عليا من المحَّلفين .في اليوم األخير من الهجمات الجوية ،التاسَع عشر
من كانون األول/ديسمبر بدأ مجلس النواب مداوالت لعزله ،وفي شهر شباط/فبراير ،أي بعد حوالى
شهرين أنهى مجلس الشيوخ هذه المداوالت لمصلحته .لكن ذلك لم يضع حّدًا لمعاناته.
شعر والدي باشمئزاز وغضب كبيرين نتيجة ذلك الهجوم القانوني الضاغط على الرئيس
األميركي ،فمهما تكن عثراُت كلنتون الشخصية يبَق أّن والدي عرف فيه صديقًا صادقًا لألردن،
فضًال عن كونه داعمًا قوّيًا للعملية السلمية .ومن طبيعة والدي أن يهَّب دائما للدفاع عن أصدقائه.
كان والدي شديد اإلعجاب بالتقاليد الديموقراطية األميركية ،لكنه اعتقد بوجود مبالغات غير مقبولة
في بعض األحيان .وقد رأى أن التحقيقات في عالقة كلنتون الشخصية كانت أشبه بمسلسٍل درامي
فاشل .أزعَج ه بالفعل أن يهاجم الناس الرئيس بهذه الطريقة الشرسة .أذكر يوَم كنت أشاهد التلفزيون
معه في مايو كلينك ،وقد ظهَر على الشاشة خالل نشرة األخبار «كن ستار» ( ،)Ken Starrالذي
كان يقود عملية التحقيق مع الرئيس .غضب والدي وعَّبر بمنتهى القوة عن عدم رضاه عن الطريقة
التي يدير بها «ستار» مجريات التحقيق ،وقال بحّدٍة« :إذا أتاحت لي الظروف أن ألتقي هذا الرجل
في يوٍم من األيام ،فسوف يسمع مني كالمًا ال يعجبه» .تركُت مايو تلك الليلة على شيٍء من
االطمئنان إلى ارتفاع معنوياته واحتفاظه بحيويته وروح المواجهة.
من بين األمور التي تختلف فيها السياسة في الشرق األوسط عنها في أوروبا والواليات المتحدة
كوُنها ذات طبيعة شخصية إلى أبعد الحدود .في الغرب يديرون شؤونهم الدولية من خالل
المؤسسات ومن خالل الموظفين الدائمين الذين يوّفرون لسياسة دولهم االستمراريَة بقطع النظر عن
دخول هذا القائد السياسّي إلى مسرح الحدث أو خروجه منه .ومن الواضح أن العالقات الشخصية ال
يمكن أن ترتفع بأهميتها إلى مستوى نقاط البحث المحَّددة والدقيقة.
لكن في منطقتنا يفضلون أن يلتقي أحُدهم اآلخر وجهًا لوجه ،ونحن نفاخر بما في ثقافتنا وتراثنا
من تقاليد حسن الضيافة .هذه التقاليد غالبًا ما تعني الكثير من تناول الطعام وتمضية الوقت في
التفاعل االجتماعي .وفيما يجدون في الغرب أمرًا طبيعّيًا أن يلتقي رئيسان أو مسؤوالن كبيران على
مدى عشرين دقيقة يبحثان خاللها شؤونًا تطّلبت لقاَء هما ثم يعود كٌّل منهما إلى عمله ،يرى الناس في
العالم العربّي أن من غير الالئق القيام بزيارة قصيرة .فاللياقة تقضي ،عندما يزورك ضيف كبير،
أن تلتزم تقاليد ضيافة من بينها أن تولم على شرف الضيف .وُتبحث شؤون العمل الجدي في أحاديَث
جانبيٍة وغير رسمية خالل العشاء وبعده ال في اجتماعات رسمية فحسب.
كنت مدركًا طبعًا أن من الضرورّي بناء عالقات شخصية مع نظرائي من قادة العالم العربي،
علمًا بأن مراكز القوى األساسية في الشرق األوسط هي مصر والمملكة العربية السعودية وسوريا
والعراق ،وذلك بسبب أحجام هذه البلدان وأهميتها التاريخية ،إضافة إلى بلدان الخليج التي تتمتع
بثروات كبيرة ونفوذ .كان علّي أن ألتقي قادَة هذه البلدان جميعًا إلقامة عالقات جيدة معهم ومع
بلدانهم ،ولذلك بدأت في أواخر آذار/مارس من العام 1999جولًة من الزيارات المتالحقة على دول
المنطقة.
زرت مصر أوًال واجتمعت إلى الرئيس حسني مبارك .تمثل مصر قوة إقليمية رئيسة ومارست
على مدى العقود دورًا قيادّيًا في المنطقة في ضوء حجمها وتاريخها ومؤسساتها الدينية .فالقاهرة
تحتضن جامعَة األزهر التي تجاوَز عمُر ها ألف سنة وهي من أقدم المؤسسات التعليمية والدينية في
العالم .ويفتخر المصريون بوطنهم ويعتبرونه «أُّم الدنيا».
منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي تقوم صداقة عائلية بيننا وبين عائلة الرئيس مبارك الذي
ربطتني به وبنجله جمال عالقة معرفة وطيدة .استقبلني الرئيس مبارك بحرارة وعّبر عن عاطفٍة
حقيقية وصادقة .وتحدثنا في شتى المواضيع ،خصوصًا ما يواجهه بلدانا من التحديات ،وتحديدًا
صعوبة توفير فرص العمل وإتاحة فرص التقدم أمام أجيال الشباب الذين تنوُء أكثريُتهم تحت أعباء
الفقر والبطالة .ذكَر مبارك خالل اللقاء كم كانت خسارة المنطقة كبيرة باغتيال رابين قبلئٍذ ببضع
سنوات ،ذلك أنه كان مستعّدًا لتقديم تضحيات كبيرة من أجل الوصول إلى السالم ،وقد عّبر كالنا
عما كانت ستجنيه منطقة الشرق األوسط بكاملها من الفائدة بفعل التصميم القوّي لديه على الوصول
إلى اتفاٍق مع الفلسطينيين .وعندما يرسُل أٌّي منا نظره عبر الحدود إلى إسرائيل ،ال الرئيس مبارك
وال أنا يمكننا أن نعثر على قائٍد هناك يمتلك القوة والعزم المطلوبين اللذين تمّيز بهما رابين لإلتيان
بمواطنيه معه في المسيرة الصعبة نحو السالم .وهكذا فإن إنعاش عملية السالم المتعثرة ،وأحيانًا
المجمدة ،كان وسيبقى البنَد األساس على جدول أعمال أّي اجتماع بيني وبين الرئيس مبارك .تحدثنا
أيضًا عن الحاجة إلى انفراج يضُع المنطقة على المسار الصحيح باتجاه تحقيق السالم الفلسطيني
اإلسرائيلي على أساس حل الدولتين.
بعد فترة قصيرة من هذا اللقاء قمت بزيارة لجّدة التقيت خاللها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد
بن عبد العزيز آل سعود وأخاه سمو األمير عبد هللا بن عبد العزيز ،ولي العهد ،الذي كان يتولى
الجزء األكبر من مسؤوليات الحكم في المملكة نظرًا للحالة الصحية الحرجة التي كان يمّر فيها
الملك فهد .كنت قد التقيت األمير عبد هللا للمرة األولى في أواخر سبعينيات القرن الماضي يوم كنت
في إجازة من ديرفيلد وذهبُت مع والدي وأخي فيصل إلى الطائف ،المدينة الجبلية والمقر الصيفي
للبالط الملكي السعودي .جلسُت إلى جانبه على العشاء ،وأذكر أن ما دار في ذهني يومذاك هو أنني
جالٌس إلى جانب مسؤول كبير وهو يكبرني بأربعين سنًة تقريبًا ،ونحمل كالنا االسم نفَسه .كان
سمّو ه راميًا ماهرًا وفارسًا متمرسًا وأخبرني خالل حوارنا كيف كان يصيب السيجارة بمسدسه،
وحدثني عن الجياد التي كان يقتنيها .تطرقنا إلى أمور كثيرة وكان حوارنا مشّو قًا.
عالقتي الشخصية باألمير عبد هللا كانت وديًة وجيدة .لكن العالقة بين األردن والمملكة العربية
السعودية كانت تاريخّيًا عالقًة دقيقة وحساسة .العائلة الهاشمية تعود بجذورها إلى الحجاز ،وقد
حكمت المدينتين المقدستين طواَل ما يربو على سبعمئة سنة وصوًال إلى العام 1925حين خسَر
الهاشميون تلك المنطقة أمام ابن سعود الذي أّسس المملكة العربية السعودية .كان والدي يحافظ على
عالقة متينة مع السعوديين ،لكن هذه العالقة شاَبها شيٌء من الخلل نتيجة موقفه من حرب الخليج في
العام .1991لكن سمو األمير عبد هللا ،الذي ال يقبل أن ُتفِسَد السياسة المودَة والعالقة الشخصية،
زار والدي في منزله في واشنطن في األشهر األخيرة من حياته وحمَل إليه ماء زمزم .صَّب األمير
عبد هللا ماء زمزم بيده لوالدي كما أهداه نسخة من القرآن الكريم ،وكان للفتته أثُر ها العميق لدى
والدي الذي عاد وذكرها تكرارًا بتقدير وعرفاٍن كبيرين خالل األيام التالية.
سبَق أن زرت السعودية عدة مرات خالل الفترة التي أمضيُتها في قيادة القوات الخاصة وتعّر فت
على بعض أبناء الجيل الجديد من العائلة المالكة بمن فيهم نجال ولّي العهد األمير متعب واألمير عبد
العزيز .دار الحديث أحيانًا عن الصدامات التي شهدتها عالقات العائلتين ،وعن ضرورة وضع
التاريخ جانبًا وتركيز الجهد على تقوية العالقات اآلنية والمستقبلية.
توّلى األمير عبد هللا الحكم ملكًا على المملكة العربية السعودية خَلفًا للملك فهد في العام ،2005
وهو شخصيٌة تنطوي على مزيٍج نادٍر من مفاهيم القيادة التقليدية والحديثة في آٍن معًا .يمتلك فهمًا
فطرّيًا للعوامل التي تجعُل جليَسه ُيخرج أفضَل ما لديه من األفكار واآلراء ،ويعرف جيدًا أهل
منطقته .يحرص خادم الحرمين الشريفين على قيم بالده الضاربة جذورها في التاريخ وتراثها
الثقافّي ،ويحمل رؤية سديدة بعيدَة المدى لبناء مستقبل شعبه .في المملكة العربية السعودية مجتمع
محافظ دأَب على الفصل بين الرجال والنساء ،لكن في الخامس من أيلول/سبتمبر من العام 2009
افُتتحت جامعة الملك عبد هللا للعلوم والتكنولوجيا الواقعة على البحر األحمر قرب مدينة جدة ،وهي
الجامعة السعودية األولى التي تعتمد التعليم المختَلط .وعندما عارَض أحد رجال الدين السعوديين
فكرَة التعليم المختَلط في هذه الجامعة عمَد الملك عبد هللا إلى عزله من منصبه .لقد شهدت السعودية
في عهده تطورًا هائًال في مجاالت التعليم واالتصال والبنى التحتية ،وقد أدت السياسات التي انتهجها
إلى تنّو ٍع كبير في حركة االقتصاد وسّه لت بدرجة كبيرة نمَّو القطاع الخاص .لقد أطلق الملك عبد
هللا إصالحاٍت كبرى في النظام القضائي عبر إعادة تأهيل المحاكم وإنشاء محكمة العدل العليا بغية
توحيد نوعية األحكام سعيًا إلى أفضل مستويات العدالة .وألول مرة في تاريخ المملكة ُعِّينت امرأة
نائبًة للوزير.
ليس الملك عبد هللا من الرجال الذين يمكن المرء أن يحيط بصفاتهم في وقت قصير ،لكن حين
يتسّنى لك أن تبني عالقتك به ،فهذه العالقة تكون وثيقًة وقوية .يحّب مشاهدة التلفزيون خالل تناوله
الطعام ،ومما يشير إلى كونَك ضيفًا مكَّر مًا لديه أن يشعر بارتياٍح واضح في حضورك بحيث
يستقبلك في قاعٍة تغيب عنها الرسميات ،يشغل فيها التلفزيون لتشاهداه معًا .مضيٌف َيفيض الكرُم
على يديه ،وخالل حفالت العشاء الرسمية عندما كنت أزوره ،كان أحيانًا يمّر بجانبي يتفّح ص أنواَع
الطعام التقليدية من األرز ولحم الضأن والمعّج نات ،وعند وصوله إلى أحد األنواع المشّه ية بصورٍة
خاصة كان يتذوق شيئًا منه ثم يضع قليًال منه في الصحن أمامي .إنه صديق مقَّر ٌب وعزيز ،وهو
داعٌم كبير لألردن.
في أواخر ذلك الشهر ذهبت إلى ُعمان والتقيت جاللة السلطان قابوس بن سعيد آل سعيد في
الصحراء قرب ِنزوة ،وهي بلدة تبعد مئًة وعشرين ميًال إلى الجنوب الغربي من العاصمة مسقط.
كل سنة يقوم السلطان بجولة تستمر ثالثة أشهر يزور خاللها مختِلف مناطق عمان ويرافقه فيها
وزراء حكومته .هو أيضًا من خريجي ساندهرست ،متواضٌع لكنه شديد الحرص على كل تفصيٍل
من التفاصيل .يالحق الشأن العام ويولي إدارة البالد أهميًة ومتابعًة دائمتين ،وقد نقل ُعمان من
القرن الثاني عشر إلى القرن الحادي والعشرين دون أن ُيغفَل تراَثها الغنَّي كبلٍد ركَب أبناؤه البحَر
منذ قروٍن طويلة ،وتقول الحكايات إن سندباد البّح ار ُو لد في قريٍة سكاُنها من الصيادين في شمال
غرب مسقط.
يحظى السلطان قابوس باحترام كبير في منطقتنا المتوترة ويكاد ال يكون له أي أعداء فيها .ومما
يؤكد دقَة التوازن في تعامله ومهاراته في عالم الدبلوماسية قدرُته الفائقة على إبقاء عالقات الصداقة
قائمًة بينه وبين اإليرانيين من جهة ،وبينه وبين األميركيين من جهة ثانية .كانت تربُطه عالقة قوية
جّدًا بوالدي ،وتعود هذه العالقة المتينة في جزٍء منها إلى أن والدي أرسَل قواٍت لدعم السلطان ضد
الثوار الذين قادوا تمردًا عليه في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته .ثورُة ُظفار بدأت احتجاجًا
على حكم والده سعيد بن تيمور ،لكن بحلول العام 1970ومع تسّلم جاللة السلطان قابوس الحكم،
كان الثوار قد تبّنوا نهجًا ماركسّيًا وأخذوا يتلقون الدعم من الصين واالتحاد السوفياتي .انهزم الثوار
في النهاية في العام 1975وانطلق السلطان قابوس في ورشة تحديث بلده والنهوض به إلى العصر
الحديث.
رّكز اهتمامه على التعليم ،وعلى تفعيل دور المرأة ،وعلى االستقرار السياسي ،وبذَل جهودًا
مضنية ساعيًا في تطوير مؤسسات الدولة وتفعيل عملها وجعِلها ذات نهج تحديثي ينظر إلى
المستقبل ويستشرف حاجات البالد ومتطلبات العصرنة والحداثة .تضع حكومُته دائمًا خطة عمل
للسنوات الخمس المقبلة ،وتضع ُعمان جانبًا صناديق من مداخيل النفط تحّسبًا للزمن اآلتي يوم يجّف
هذا المصدُر الطبيعي .يؤّدي سلطان عمان دورًا حصيفًا على المسرح الدولي ،وله موقع رفيع جّدًا
في المنطقة ،والذين يعرفونه من قادة الغرب جيدًا ينصتون باهتمام لكالمه ويقّدرون آراءه .عندما
غاَب والدي كان السلطان قابوس واحدًا من الذين وقفوا إلى جانبي داعمين ومساعدين بكل ما أوتي
من القدرة .كثيرًا ما يقدم السلطان قابوس النصائح الحكيمة ،ويتمتع بثاقب النظر .لقد استفدُت ،إلى
أبعد الحدود ،وخصوصًا في بداية تحّم لي مسؤولية الملك ،من حكمته ونصحه.
استكملُت جولتي العربية ووصلت إلى اإلمارات العربية المتحدة حيث التقيت سمو الشيخ زايد بن
سلطان آل نهيان ،حاكم أبو ظبي ورئيس دولة اإلمارات العربية المتحدة .في تلك الحقبة الزمنية كان
الشيخ زايد ،وهو حاكٌم عربّي ذو نهٍج تقليدي ،في مطلع الثمانينيات من العمر ،وكان ذا شخصية
جذابة تستميُلَك بسهولة وتبُّث فيك شعورًا باالرتياح الفورّي ما إن تجلس وتبدأ حديثك معه .قاَد
مسيرة أبو ظبي وسائر اإلمارات في تحّو لها المذهل إلى واحٍد من أكثر البلدان العربية حداثًة
وتطورًا ،حيث المراكز التجارية والثقافية والتعليمية التي تمأل بنشاطها البالَد حركًة إنمائيًة ال
تتوقف .بوفاته في العام 2004خسرت المنطقة العربية قائدًا عظيمًا عرفت فيه الحكمة والنظرة
البعيدة والرأي الثاقب ،فضًال عن عاطفته اإلنسانية .لقد تابَع َخ َلُفه سمو الشيخ خليفة بن زايد آل
نهيان ،نهَج والده في ممارسة الحكم بصدر واسٍع وتسامح وحكمة .لقد وقف الشيخ زايد رحمه هللا
دائمًا إلى جانب األردن داعمًا ونصيرًا ،ولم يتواَن في المساعدة كلما قصدُت إليه في مهمٍة أو في
طلب ،وتربُطني صداقٌة متينة بنجله سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان.
محطتي التالية كانت في سرت ،المدينة الساحلية على الشاطئ الليبي والتي تبعد مسافة 250ميًال
إلى الشرق من طرابلس ،لالجتماع إلى العقيد معّم ر القذافي .عندما تولى السلطة إثر انقالٍب
عسكرّي في العام 1969ارتبَط القذافي بتحالفاٍت مع العديد من المجموعات الراديكالية في كل
أرجاء الشرق األوسط .في العام 1982خطط لتهريب صواريخ أرض -جّو إلى األردن ووضعها
في مواقع معينة في مطاري عمان والعقبة الستهداف طائرة والدي .الرجل الذي ائتمَنه القذافي لتنفيذ
الخطة ،السفير الليبي إلى األردن ،أصاَبه الهلع من مجرد فكرٍة كهذه ،لكن بما أنه كان يعلم علَم
اليقين أن مصيره السجن أو العقاب األسوأ إذا رفض ،تظاهَر بأنه َقِبَل المهمَة إلى أن اقترب وقت
تنفيذ الخطة ،فلجأ إلى األردن وأخبر والدي بما لديه.
في السنة التالية أصابت الدهشة العديد من الساسة الغربيين عندما دعا والدي العقيد القذافي إلى
عمان لعقد مصالحة علنية بينهما .في العاشر من حزيران/يونيو من العام 1983هبطت طائرة
القذافي في مطار عمان العسكري ونزل منها الزعيم الليبي محاطًا بحرسه الشخصي المؤلف من
مجموعٍة من الشابات المسّلحات يرتدين سراويَل قصيرًة على الطريقة الكوبية وفوَقها سترات
سفاري ،وعلى رؤوسهن قبعات تغطي شعرهن المسَّر ح على الطريقة األفريقية .بعد ساعتين من
المحادثات دعا والدي العقيد القذافي إلى قضاء ليلته في األردن قبل أن يكمل طريَقه إلى سوريا.
بالنسبة إلى شخص غريب قد تبدو هذه الطريقة في معاملة شخص حاول أن يقتلك قبلئٍذ بعاٍم واحد
مستغربًة ومحِّيرة ،لكن والدي كان يؤمن دائمًا بأن على المرء أن ُيبقي أصدقاَء ه قريبين منه وأن
ُيبقي أعداَء ه أكثر قربًا.
كان مدركًا ،بالخبرة وُبعد النظر ،أن منطقة الشرق األوسط تعّج بكل أنواع القيادات والمشارب
السياسية ،وقد عّلمته عقوُده الثالثة في الحكم ،ملكًا وقائدًا ،أن عدّو ك اليوم قد يكون صديقك غدًا ،وما
من حكمٍة أو فائدة في تخزين مشاعر الحقد والضغينة .وكما أفراُد العائلة الواحدة ،هكذا على قادِة
البلدان العربية االثنين والعشرين أن يتعاملوا بعُض هم مع بعض على مدى سنواٍت وسنوات .مع
مرور الوقت باتت العالقة بين والدي والقذافي أكثر وثوقًا ومتانًة حتى إنه كان يرسلني إلى ليبيا حين
كنت قائدًا للعمليات الخاصة ألبحث هناك مسائَل تتعلق بالتعاون العسكري .وتعرفت خالل تلك
الزيارات على نجَلي القذافي.
لم تكن مقاربُة والدي حيال خصومه الداخليين أقَّل انفتاحًا ورحابَة صدر ،فاألردن بلد صغير
ووالدي كان مدركًا تمامًا أن ال بّد له من التعايش مع الذين سبق أن «ساعدهم» على تقويم
اعوجاجهم ،ومع عائالتهم أيضًا .المألوف في الشرق األوسط أن يكون اإلعدام مصيَر الذين
يتآمرون لقلب نظام الحكم ،لكن والدي كان يعمد إلى نفي َم ن يتآمر ضده إلى خارج المملكة بضَع
سنوات ثم يعود فيرّح ب به في األردن .وفي بعض األحيان كان يذهب أبعَد من ذلك فيعطي المتآمر
العائد موقعًا في الحكومة .هذه كانت طريقته في إظهار غفرانه وفي بث روح الوالء في الشخص
المعني .نتيجة لتلك المعاملة سوف يفكر ذلك الشخص ملّيًا في المرة التالية قبل أن يخون َم ن أحاطه
بهذا القْدر من النبل والتسامح .لقد َنهلُت كثيرًا من أمثوالته ودروسه ،ومن حكمته في قيادة البالد،
لكنني عرفُت أنه سيكون علّي أن أجَد مقاربتي الخاصة في معالجة األمور بعد غيابه.
في نيسان/إبريل زرت سوريا ،وكانت العالقات بينها وبين األردن متشنجة منذ وَّقع األردن
معاهدة السالم مع إسرائيل في العام .1994أخذ الغضب من الرئيس حافظ األسد مأخَذه ألن األردن
لم ينتظره ريثما ُينهي مفاوضاته مع إسرائيل حول مرتفعات الجوالن السورية التي احتلتها إسرائيل
خالل حرب العام .1967ومنذ توقيع معاهدة السالم لم يعد األسد يزور األردن إلى أن توفي والدي
فجاء مشاركًا في الجنازة ومقدمًا واجب العزاء .وهكذا كانت زيارتي دمشق ترمي إلى إعادة بناء
العالقة بين البلدين.
لم أكن أعرف الكثير عن الرئيس األسد وعن شخصيته رجًال وقائدًا .في ثمانينيات القرن الماضي
عندما كان التوتر بينه وبين صدام حسين في أعلى درجاته .كان صدام في خضم حرٍب طاحنة مع
إيران ،وكان األسد يقف إلى جانبها .استطاع والدي آنذاك أن يقنع الرجلين باللقاء متوسًال قنواٍت
غير معلنة ومستنيرًا بنظرية ونستون تشرشل بأن «تبادل الكالم ،ولو ثرثرًة ،أفضل من تبادل
النار» .اختار والدي الجفر مكانًا للقاء ،وهي قرية صحراوية صغيرة تبعد حوالى 140ميًال إلى
الجنوب من عمان .في تلك الفترة كنت ضابطًا في الجيش أقود مروحياٍت من نوع كوبرا وكانت
وحدتي العسكرية جزءًا من األمن الجوي .ضرَب الحرُس الملكي طوقًا حول موقع االجتماع ونشَر
قواٍت مسلحة على كل جوانبه وحوَل موقع هبوط الطائرات .فصلنا المجَّم ع إلى نصفين ،واحد
للسوريين واآلخر للعراقيين وأعددنا أمكنًة إلقامة كٍّل من الوفدين الرئاسيين.
ما إن أنهينا إعداد المكان حتى أومأ لي والدي وقال« :ابَق إلى جانبي وراقب جيدًا ما يجري».
اليوم وحين ألتفُت قليًال إلى الوراء وأستذكر تلك اللحظات أدرك أن والدي أراد لي أن أطَّل قليًال
على مسرح الدبلوماسية الدولية وهي عالٌم أبعد ما يكون عن واجباتي ومسؤوليتي ضابطًا في
الجيش.
في تلك المرحلة كان حزُب البعث هو الحزب الحاكم في كٍّل من سوريا والعراق ،وكان يطّبق
نوعًا من العلمانية االشتراكية العربية .في أواخر عقد الستينيات من القرن الماضي انقسَم حزُب
البعث الذي كان قد ُأنشئ في سوريا ،وُدفع بمؤسسيه إلى المنفى فاتجهوا إلى العراق حيث ما لبثوا
أن جمعوا من حولهم قوًة كافيًة واستطاعوا االستيالء على الحكم في العام .1968تأرجحت عالقات
البعَثْين السوري والعراقي عبر السنين ،فجنحْت إلى التوتر العالي حينًا وإلى التعاون حينًا آخر .أما
حين تمكن والدي من جمع رأسي النظامين في أواسط ثمانينيات القرن الماضي فكان كل منهما
يحاول ،بما يمتلك من قوٍة عسكرية ال ُيستهان بها ،أن يحتل هو موقَع القوِة اإلقليمية األولى.
في الساعات األخيرة من بعد ظهر اليوم المحدد للقاء سمعنا هدير الطائرات يقترب عبر سماء
الصحراء ،وما لبثت بضُع طائرات ،يرفرف عليها العلم السوري ،أن هبطت وَدَر جت حتى توقفت
عند رأس المدرج الذي أنشئ خصوصًا لهذه المناسبة .خرج حافظ األسد من طائرته مصحوبًا
بحوالى خمسين جندّيًا يحمل كل منهم بندقيًة من نوع كالشنيكوف ،فالقاه والدي مستقبًال ومرحبًا به
وبالوفد المرافق واتجها معًا إلى النصف المخصص للوفد السوري من المجّم ع.
ما هي إال نصف ساعة حتى هبطت بضُع طائراٍت أخرى يرفرف عليها العلم العراقّي هذه المرة.
خرج صدام حسين من طائرِته يحيط به حوالى خمسين عسكرّيًا مدّج جين بالسالح .استقبَل والدي
صدام مرحبًا ورافَقه إلى مقّر الوفد العراقي.
تابعُت مجريات ذلك الحدث مع الدكتور سمير فراج ،الطبيب الخاص لوالدي ،وما إن هبط الليُل
حتى أضاء جنوُدنا مصابيَح عمالقًة َج علْت عتمَة الليل الصحراوّي أشبَه بشمِس الظهيرة ،فقد كنا
حريصين في اجتماٍع كهذا على أال يتسّبَب خياٌل من هنا أو ظٌّل من هناك وسط العتمة بسوِء فهٍم
يؤدي إلى ما ال يعلم إال هللا.
دخل صدام واألسد إلى قاعة االجتماع التي أعّدها والدي لهذه الغاية ،وانتظر والدي ونحن إلى
جانبه في الخارج .مرت ساعاٌت عدة لم يكَّف والدي خاللها عن إرسال المزيد من القهوة والطعام
إلى قاعة االجتماع .وأخيرًا ،في ساعات الفجر األولى ،انتهى االجتماع ،فأخذ والدي صدام جانبًا
وسأله كيف سارت األمور فأجابه صدام ،والتعُب باٍد على وجهه ،أنه لم يتكلم خالَل ساعاِت
االجتماع الطويلة سوى ربع ساعة فقط .لم يكن سهًال أو فكرة مقبولة عند رجل هائل االعتداد بنفسه
وبمكانِته ،كصدام حسين ،أن يجلس لساعاٍت طويلة مكتفيًا باإلصغاء .وهكذا ،على الرغم من كل
الجهود التي بذَلها والدي ،لم يتمكن من إقناع الرجلين بالوصول إلى تفاهٍم ومصالحة بينهما ،وقد
غادرا االجتماع والعداُء ال يزاُل مستحكمًا والخالُف قائمًا .لكّن القائدين كليهما أبديا احترامًا وتقديرًا
كبيرْين لما بذله والدي من جهٍد في سبيل السالم بينهما .أما أنا فخرجت بأمثولٍة على َقْدٍر كبير من
األهمية عن الحاجة الدائمة إلى الصبر في الشؤون الدبلوماسية.
كنت قد تلقيت دعوًة لزيارة الرئيس كلنتون في شهر أيار/مايو ،وحين التقيت الرئيس األسد في
دمشق طلَب إلّي أن أحمل رسالًة إلى الرئيس األميركي فحواها أنه مستعد للتحدث إلى األميركيين،
فوعدُته بإبالغ الرئيس األميركي رسالَته .ثم بحثنا أمورًا متعلقة بعملية السالم وبحقوق األطراف
المعنية بمصادر المياه المشتركة ،كذلك تحدثنا عن نجله بشار الذي التقيُته خالل زيارتي .كان لقاؤنا
جيدًا وبدت العالقة على الطريق الصحيح .كان الرئيس حافظ األسد يقترب من السبعين من عمره،
وبدا لي آنذاك أنه كان متحمسًا إلمكانية نشوء صداقة بيني وبين ابنه.
توفي الرئيس حافظ األسد رحمه هللا وفاًة غير متوقعة بعد زيارتي دمشق بسنٍة أو أكثر بقليل،
وَخ َلفه ابُنه في منصب رئاسة الجمهورية .ومع أنني والرئيس بشار ال نتشارك وجهَة النظر ذاَتها
حياَل المسائل السياسية اإلقليمية ،فإن التعاون بين بلدينا هو اليوم أفضُل منه في أّي يوٍم مضى.
نتشاور حول تطور العملية السلمية ،ونحن في صدد توسيع التعاون بيننا في العديد من المجاالت بما
فيها مشاريع الطاقة اإلقليمية ،كما نشجع مؤسسات القطاع الخاص في البلدين على توثيق عالقات
التعاون في ما بينها .حتى أوالُدنا أقاموا عالقات تعارف وصداقة بينهم .عند زيارتنا األولى كان
األطفال خجولين لكن لم يطْل بهم الوقت حتى اكتشفوا اهتماَم هم المشترك بلعبة الفيديو «سوبر ماريو
براذرز» ( )Super Mario Brothersوها هم اآلن أصدقاء.
محطتي األخيرة في جولتي على الجوار العربي كانت في غزة حيث عقدت أول اجتماٍع لي مع
عرفات بوصفي ملك األردن .كان عرفات قد جاء إلى عمان للمشاركة في جنازة والدي ،لكننا لم
نعقد أية محادثات آنذاك.
نمت العالقات بين والدي وعرفات وأصبحا أكثر تقاربًا في السنوات األخيرة من حياتهما .وعندما
كنت أحضر اجتماعاتهما أحيانًا ،كان والدي يقف ضاحكًا ومتفرجًا وهو يراني واقفًا وال حيلَة لي
فيما الرئيس ياسر عرفات ينهاُل علَّي بالقبالت .أصبح عرفات في تلك المرحلة المتقدمة من حياته،
بعد أن نال جائزة نوبل للسالم باالشتراك مع إسحق رابين وشمعون بيريز في العام ،1994رجل
دولة وقورًا.
عندما اجتمعنا لتناول الغداء ،يحيط بكٍّل منا أعضاء وفده المرافق ،قال عرفات« :إن الشعب
الفلسطيني في الضفة الغربية ،كما في الضفة الشرقية ،يرحب بكم في غزة!» .حانت التفاتُة انزعاج
أقرب إلى الغضب من أعضاء الوفد المرافق لي احتجاجًا على إشارة عرفات إلى أنه ال يزال يمتلك
شيئًا من النفوذ السياسي في األردن ،فذكُر ه للضفِة الشرقية أعاَد إلى األذهان ذكريات محاولته
الفاشلة إلطاحة والدي في العام .1970
كذلك كان عرفات يشير إلى وجود عدد كبير من األردنيين من أصل فلسطينّي ،فهو لم يتنازل
يومًا عن تمّسكه بتمثيل كل الفلسطينيين الذين ُهّج روا من منازلهم في فلسطين ،أو الذين أجبرتهم
الحروُب المتتالية على الهرب من جحيمها .خالل حرب العام 1948اجتازت نهر األردن موجٌة من
الالجئين الفلسطينيين فَر فعْت عدَد سكان األردن الذي لم يكن يتجاوز آنذاك 433000نسمة بنسبة
كبيرة جّدًا ،وقد أعِط َي هؤالء الالجئون الجنسيَة األردنية .الموجة الثانية من الالجئين الفلسطينيين
اجتازت النهر بعد حرب العام ،1967وكان هؤالء يحملون الجنسية األردنية من قبل ألنهم كانوا
مواطنين في الضفة الغربية التي كانت جزءًا من األردن .في العام 1999كانت نسبة األردنيين من
أصٍل فلسطيني تبلغ ثالثًة وأربعين في المئة من مجموع السكان.
لم أعلق على مالحظته أمام أعضاء الوفدين .لكن في اجتماٍع ثنائي بيني وبينه في ما بعد أسمعُته
شيئًا مما عندي .قلت له« :إن الشعب الفلسطيني لن يكون له مني أقّل من مئة وعشرة في المئة من
الدعم في سعيه إلقامة الدولة الفلسطينية .وحين يحصل الفلسطينيون على حقهم بإنشاء دولتهم ،سوف
يكون لألردنيين من أصٍل فلسطيني الحق ،باالختيار أين يريدون العيش .فالذين يختارون أن يكونوا
مواطنين فلسطينيين وأن ينتقلوا للعيش في فلسطين سيكونون أحرارًا في خيارهم ،أما مواطنونا
الذين يختارون البقاء في األردن ،أّيًا كانت أصوُلهم ومنابتهم ،فسوف يبقون جميعًا مواطنين
أردنيين ،وسوف يكون والؤهم للعَلم األردني ال للعلم الفلسطيني ،وهذه ليست الحال بالنسبة إلى
البعض اليوم».
َلمعْت ابتسامٌة عابرة على شفتي المناضل العتيق من أجل الحرية ،الذي يبدو أنه كان يحاوُل
اختبار صالبتي عندما رمى بإشارته حول «الضفة الشرقية» ،ويقيني أن رَّد فعلَي الحاسم قد فاجأه
بالفعل.
انتقلنا من بحث السياسات العربية -العربية إلى محاوالت إحياء اتفاقات واي ريفر وما يمكن أن
يكون لفوز إيهود باراك برئاسة الحكومة اإلسرائيلية من دالالت أو نتائج .اتفقت مع عرفات على
أهمية الموقف العربّي الموّح د في أية مفاوضات مع إسرائيل ،وناقشنا إمكانية لجوء رئيس الوزراء
اإلسرائيلي الجديد إلى محاولة شق الصف العربي من خالل فتح باب المفاوضات مع سوريا .كان
عرفات متشوقًا لمعرفة شيء عن مضمون محادثاتي مع األسد ،وأبدى قلقًا من أن يستجيب الرئيس
السوري بصورٍة إيجابية ألية مقاربة تبدر من اإلسرائيليين على حساب الفلسطينيين .قلُت له إنني ال
أظن أن األسد يمكن أن يقبَل إجراء صفقٍة كهذه .ثم عدت إلى األردن متشوقًا لمعرفة هل سيكون
باراك عند حسن ظننا وتوقعاتنا.
الفصل الخامس عشر :على طريق اإلصالح والتحديث
عندما اعتليُت عرَش األردن في شباط/فبراير من العام 1999لم أشعر بأن التحدي األول الذي
سيقف في وجهي سيكون حربًا يخوُض ها األردن ،أو عمًال إرهابّيًا يهدد استقرارًا ينعُم به .كان هّم ي
األكثر إلحاحًا هو كيف أنهُض باقتصاد األردن من أزمٍة شبه عابرة كان يمر بها وأضعه على مساٍر
من النمّو القوّي الثابت والمتكِّيف مع الحركة االقتصادية العالمية.
لقد ترك والدي لألردن إرثًا عظيمًا من السالم واالستقرار السياسي ،وتركه في موقٍع دولي
مرموٍق وقوّي ،لكن على الصعيد االقتصادي كان األردن في حالة صراع .خالل عقد التسعينيات
من القرن الماضي بأكمله عانى البلد من تداعياِت غزو العراق الكويت ،وقد اعتبرْت بلدان الخليج
بمعظمها أن محاوالِت والدي الحؤوَل دون اندالع الحرب ،أو محاولة وقفها إنما هي تحُّيز إلى جانب
صدام .وكانت النتيجة أن قطعت تلك البلدان بصورٍة حادة وفورية كل مساعداتها وقروضها لألردن
واستثماراتها فيه .أضف إلى ذلك أن عودة أعداٍد كبيرة من األردنيين الذين كانوا يعملون في تلك
البلدان ،وخصوصًا منها الكويت والمملكة العربية السعودية ،أدت إلى خسارة األردن كَّل التحويالت
المالية التي كان هؤالء يرسلونها إلى ذويهم .أما العقوبات التي ُفرضت على العراق فقد مّثلت ضربًة
قاسية أصابتنا في الصميم ،ذلك أن العراق كان شريَكنا التجارَّي الرئيسّي وأهَّم مصادر النفط الذي
كان يأتينا بشروٍط وأسعاٍر تفضيلية.
أصيَب نمُّو نا االقتصادي بتباطٍؤ كبير ،وكان ال بد للحكومة من االعتماد على االقتراض من
الخارج لدعم قدرتها على اإلنفاق .وبنهاية العام 1998كان الدين الخارجي قد ارتفع حتى بلغ نسبَة
مئٍة في المئة من الناتج المحلي اإلجمالي وبذلك اقتربنا من نقطة العجز عن خدمة الدين العام .اتجه
األردن إلى صندوق النقد الدولي على غرار ما فعَل خالل أزمة مديونيِته السابقة في العام .1989
في الشهر الذي أعقَب اعتالئي العرش حصل األردن على دعٍم مالي جديد من صندوق النقد الدولي،
ومن ثم أعيدت جدولُة ديوننا عبر نادي باريس للدائنين الدوليين.
تّم حل المشكلة اآلنّية ،لكن كان علينا أن نسِّر َع الخطى في إيجاد حلوٍل طويلة األمد .منذ أيام
خدمتي في الجيش ،وبنتيجة تواصلي الدائم مع الجنود من خالل التحدث معهم وزيارة قراهم
وااللتقاء بعائالتهم ،كنت أعلم علَم اليقين أن شعبنا يكافح كفاحًا مريرًا من أجل تحصيل لقمِة عيشه
وعيش أبنائه .إن همي األول كان وسيبقى توفيَر العيش الكريم للمواطن األردني .من هنا فقد حددت
لحكومتي هدفًا وهو إرساء األسس المتينة لنمو اقتصادي قوي ومستقر يضمن هذا العيش لألردنيين.
ليس هذا هدفًا سهل التحقيق بالنسبة إلى اقتصاٍد صغير وهّش .فاألردن ليس بلدًا نفطّيًا وموارُده
الطبيعية األخرى محدودة .األرُض الصالحة للزراعة قليلة والمياه غير متوافرة بما يكفي .أما قاعدُته
الصناعية فلم تكن يومًا مصدرًا قوّيًا لإلنتاج .إن بلدًا مثَل األردن الذي لم يكن يزيد عدُد سكانه في
العام 1999على أربعة ماليين ونصف مليون نسمة ال يمكن أن يبنَي اقتصادًا قوّيًا بسهولة .علينا أن
نتعلم كيف ندخل سوَق المنافسة الَكُفؤة في هذه الحقبة الجديدة من االقتصاد المعولم التي تفككت فيها
الحواجُز أمام التجارة واالستثماراِت الحرة ما جعَل بلدانًا كثيرة تتعّر ض ألقسى أنواع المنافسة على
اقتحام األسواق واجتذاب رؤوس األموال واالستثمارات.
جمعُت فريقًا من المستشارين االقتصاديين ذوي الموهبة والكفاءة العاليتين ،من بينهم باسم عوض
هللا ،حامل درجة دكتوراه في االقتصاد من كلية لندن لالقتصاد ( ،)LSEومصرفٌّي سابق كان يعمل
في مجال المصارف االستثمارية ،وسمير الرفاعي ،خريج هارفرد وكامبريدج ،ونجل السياسي
المخضرم زيد الرفاعي ،مستشار والدي الموثوق والمقّر ب ،وطلبُت من الفريق أن يأتيني باقتراحاٍت
وأفكار جريئة ذات نزعٍة تحديثية لتحفيز االقتصاد األردني ودفِع ه على مسار النمّو والنهوض من
كبوِته .قلت لهم« :إن وقَتنا ال يتسع للنظريات المعَّقدة والنقاشات العقيمة ،ما أريده ببساطة متناهية
هو أن نعرَف ما علينا أن نفعله» .عادوا إلّي بسَّلٍة من االقتراحات مبنيٍة بمجملها على اإلجراءات
التي تضَّم نها برنامُج التعديالت البنيوية الذي تقدم به صندوق النقد الدولي في نهاية ثمانينيات القرن
الماضي :اعتمدوا الخصخصة ،خّفضوا عن كاهل الدولة العبَء الزائَد من البيروقراطية وموظفي
القطاع العام ،أوقفوا كل أنواع الدعم ،حِّسنوا قطاَع التعليم وارفعوا مستواه ،شجعوا الصناعاِت
المبتكرَة والمتجددة ،أزيلوا العوائَق التجارية ،واجمعوا بين القطاعين العام والخاص بحيث يتعاونان
ويعمالن معًا في تشجيع الصناعِة في مجال تكنولوجيا المعلومات واألدوية واإلعالم الجديد.
حياَل هذه األفكار واالقتراحات كنا أمام مشكلٍة أساسية ،فالكثير مما كان علينا أن نقوم به في ضوء
هذه المقترحات سوف يكون له وقُعه المؤلم على المدى القصير ،ومعظُم الفوائد المتوَّقعة من هذه
اإلجراءات لن تؤتي ثماَر ها عاجًال ولن يشعَر بها الناس قبل مرور سنوات .كذلك كنا نعلم يقينًا أن
إجراءات التعديل البنيوّي السابقة كانت سببًا في اندالع تظاهرات االحتجاج .معظم الناس الذين
يرتاحون إلى السُبل القديمة المتبعة سيعارضون التغيير ،أو سيّدعون أنه غير قابل للتحقيق.
أجمع فريق المستشارين على أن في رأس األولويات أن يتمكن األردن من االنضمام إلى منظمة
التجارة العالمية ،وهي منظمة دولية أنشئت في العام 1995لتشجيع التجارة الحرة بين بلدان العالم
من خالل خفض التعرفات الجمركية على تصدير البضائع واستيرادها .إن انضمام األردن إلى هذه
المنظمة يؤّهله للتصدير إلى أكثر من مئة بلد في العالم واإلفادة من تعرفاٍت جمركية منخفضة بنسبة
كبيرة جّدًا ،وبالمقابل يصبح بإمكان البلدان األعضاء في المنظمة أن تصّدر بضائَعها إلى األردن
وفق الشروط والتعرفات نفسها .كان األردن قد بدأ العمل على االنضمام إلى المنظمة في العام
،1995لكن هذه العملية عادت وتوقفت .لقد َأعطيُت موافقتي على أن نفعل كل ما نستطيع للعودة
إلى التحرك بهذا االتجاه.
في أواسط أيار/مايو من العام ،1999قمت بزيارتي الرسمية األولى للواليات المتحدة ملكًا على
األردن وذلك بعد مضي ثالثة أشهر على تحملي مسؤولياتي الجديدة .كان والدي على عالقٍة وثيقة
بالرئيس كلنتون ،وقبل أن أتجه إلى واشنطن كتبت رسالة إلى الرئيس ذَّكرُته فيها بما كان يكّنه له
والدي من االحترام ،وكم كان يثِّم ُن عالقَة الصداقة بينهما .ال أدري إذا كان وقُع الرسالة قد فعَل ِفعَله
أم هي مشاعُر الرئيس الصادقة حيال والدي ،لكن حين التقينا في البيت األبيض وجدت كلنتون
يفيض بالروح اإليجابية المرِّح بة واالستعداد لمد يد المساعدة« :قْل لي كيف بإمكاني أن أساعَد
األردن؟» ،قاَلها واالبتسامُة العريضة ُتعِّبر أكثَر من الكلمات.
«ساعدونا على االنضمام إلى منظمة التجارة العالمية» ،كان جوابي السريع .ال أحسُبه كان يتوقع
هذا النوع من الطلب على اإلطالق .فالبلدان التي تعاني ضيقًا مالّيًا شديدًا ُتسارُع عادًة إلى طلب
المساعدة المالية المباِش رة ،أما أنا فلم أكن أريد صدقات ،بل رميُت إلى فتح المجال أمامنا لكي نساعَد
أنفَسنا وننهَض ببلدنا .سّج ل كلنتون مالحظًة بشأن طلبي دون أن يعطيني جوابًا فورّيًا .تابعنا
مباحثاتنا حول الموضوع مع المسؤولين المعنيين في الحكومة األميركية التي انتهى بها األمر داعمًة
لطلب انضماِم نا إلى المنظمة ،ولم يمِض أحَد عشَر شهرًا حتى كان األردن عضوًا في منظمة
التجارة العالمية في شهر نيسان/إبريل من العام .2000
باالنتقال من االقتصاد إلى السياسة اإلقليمية تحدثت إلى الرئيس عن زيارتي أخيرًا لدمشق وعن
رغبة الرئيس األسد في لقائه .ابتسم كلنتون وشكرني على نقل الرسالة إليه ،وقال إنه سيرى ما يمكن
فعله في هذا المجال .وقد التقى الرئيسان بالفعل ،ألول مرة ،في جنيف في السنة التالية .تمحور اللقاء
حول السالم بين سوريا وإسرائيل ،ولكنه انتهى دون إنجاز أي تقدم على هذا الصعيد .فقد أصّر
األسد على انسحاٍب إسرائيلٍّي كامل من مرتفعات الجوالن حتى حدود الرابع من حزيران ،1967
فيما كانت إسرائيل قد طلبت خالل محادثاٍت سابقة مع السوريين إجراَء تعديٍل على تلك الحدود .فشل
كلنتون في تغيير موقف األسد وبقَي الجمود سّيَد الموقف.
كانت الحكومة األميركية مضيفًا في منتهى الكرم وُح سن اإلحاطة ،لكّن الفارَق بين زيارتي
الرسمية هذه وزياراتي السابقة كان الفتًا جّدًا .فكيف لي اآلن أن أتسّلَل خارجًا لمشاهدة فيلم سينمائي
مع بعض األصدقاء .فكما تبّين لي عندما خرجُت لمشاهدة فيلم «ذا ماتريكس» ()The Matrix
رافقني موكب من ست سيارات لألمن السري كانت صّفاراُتها تزعق في شوارع واشنطن .إذا شئت
أن أمضي سهرًة هادئة أشاهُد خاللها فيلمًا سينمائّيًا كان علّي أن أتخّلص من الحرس وأخرَج سّر ًا
دون علم أحد.
يحسب بعُض القادِة في الشرق األوسط أن التعامَل مع الواليات المتحدة األميركية يتمحور حول
العالقة مع الرئيس فقط .ففي منطقتنا من المهم جّدًا أن تكون على معرفٍة شخصية برئيس الدولة،
ذلك أن السلطة في هذه المنطقة تترّكز لدى الموقع القيادّي .فإذا أراد رأس الدولة شيئًا يتم تنفيذه .أما
في الواليات المتحدة فالسلطات أكثر توّز عًا وامتدادًا بكثير .وقد تسّنى لي ،أيام ديرفيلد وجورجتاون،
أن أتعّلَم الكثير عن تعقيدات النظام السياسي األميركي واتساِع قنواِته.
كنت في الواليات المتحدة أتابع دورًة عسكرية في العام 1985عندما اجتمع والدي بالرئيس
رونالد ريغن .رأيته بعد االجتماع سعيدًا جّدًا ومعنوياُته في ذروِتها ألن ريغن وافق على تقديم الدعم
إلى األردن بتزويده حاجَته من األسلحة الدفاعية .أشرت إلى والدي أن طلبًا كهذا قد ال يسلك طريَقه
عبر الكونغرس ،لكنه بدا واثقًا من أن االلتزاَم الشخصَّي الذي عّبر عنه الرئيس كان كافيًا ،وقال لي:
«لقد أخذت وعدًا من رئيس الواليات المتحدة!» ،لكن الحقيقة هي أن وعَد الرئيس وحَده ،من دون
موافقة الكونغرس ،ليس كافيًا لجعِل أمٍر ما نافذًا.
لكي تكون الزيارة إلى الواليات المتحدة مثمرة أو على األقل واعدة ،ال بد من أن تستمر أسبوعًا
على األقل .فعليك أوًال أن تجتمع إلى الرئيس ثم إلى نائب الرئيس ،ومن بعدهما إلى وزيري
الخارجية والدفاع ،ولكي تكتمل اجتماعاُتك بأركان السلطة التنفيذية من المفيد جّدًا االجتماُع إلى
مستشار الرئيس لشؤون األمن القومي .بعد كل هؤالء يأتي كبار مسؤولي االستخبارات والقيادات
العسكرية .وأخيرًا ،على الصعيد السياسي ،من الضروري لقاء القيادات السياسية في مجلسي
الشيوخ والنواب .عندما أزور الواليات المتحدة أخّص ص عادًة يومين كاملين لالجتماعات في
الكونغرس حيث ألتقي أعضاًء في عشر لجاٍن على األقل من لجان المجلسين ،وأحاول أن أجعَل
لقاءاتي متوازنًة بين الجمهوريين والديموقراطيين .في أميركا ال يمكن أحدًا أن يتجاهَل لعبَة النظاِم
السياسّي بدورِته الكاملة ،فليس كافيًا أن تحصَل على الضوء األخضر من البيت األبيض ،وإنما
التحدي األكبر يكمن في الحصول على دعم البيت األبيض والكونغرس معًا.
عدت إلى األردن حيث كان العديُد من المشكالت الداخلية ينتظر المعالجة وإيجاد الحلول ،ومع أن
همي األكبر هو النهوض بمستوى عيش األردنيين فإن عملية الخصخصة ،وتفعيل المساَء لة بالنسبة
إلى موظفي القطاع العام ،وتطبيق اإلجراءات الالزمة لذلك لن يكوَن لها الوقُع اإليجابي لدى الجميع.
من هنا كان ال بد لي من القيام بتحسينات ملموسة في البداية يمكن أن يراها الجميع ويشعروا بها.
أحد األمثلة الواضحة على حجم التحديات التي كانت تواجهنا مستشفى البشير الحكومي في عمان،
وهو أكبر المستشفيات الحكومية في العاصمة ،وكان مقصَد عدٍد كبير جّدًا من المواطنين .ولكن
عندما زرُت المستشفى في شهر نيسان/إبريل وجدُته في حالٍة بائسة ُيرثى لها .أجنحُته مكتظٌة
بالمرضى والقذارُة منتشرة ،وكل المصاعد معطلة وخارج العمل .صفوٌف طويلة من المرضى
ينتظرون دوَر هم لدى األطباء الذين كانوا يمارسون عمَلهم دون مساعدة وال دعٍم كاٍف .صعَقني
المنظر وطلبت من وزير الصحة أن يتولى األمر فورًا ويسارَع إلى تصحيح الوضع.
في الجيش عندما ُتصدر أمرًا يصار إلى تنفيذه .لكنني أخذت أكتشف أن األمور تختلف تمامًا عند
التعامل مع الوزارات الحكومية ومسؤوليها المدنيين .أوًال ،الجيوش تتحرك في أوقات محددة ،وهكذا
فلكل مهمٍة برنامٌج وتوقيت :الهجوم ُيَشّن في وقٍت معّين ،الجنود ينهضون في وقٍت معّين ،وبالتالي
تتوقع أن يتم كل شيء في الوقت الذي ُح ِّدد له .أما الحكومات فليست حاُلها على هذا المنوال ،أو
فلنقل ليست دائمًا على هذا المنوال.
قمُت بزيارة متابعة للمستشفى بعد مرور بضعة أسابيع فوجدُت األوضاع على حالها ولم يتغّير
شيء ،المصاعد كانت ال تزال معّطلة والنظافة كانت غائبة إلى درجة مخيفة .قلت لوزير الصحة
إنني في غاية الجدية وال بد من تحسين أوضاع المستشفى ،ثم عدُت في زيارة ثالثة بعد رجوعي من
زيارة الواليات المتحدة.
في زيارتي الثالثة كانت إدارُة المستشفى قد بدأت تدرك المطلوب منها وبدأ الوضع يميل إلى
التحسن .لكن النقص الفادح في الكفاءة لدى القائمين على الخدمات العامة كان تحديًا كبيرًا في طول
البالد وعرضها ،ال في عّم ان فقط .بدأ الديوان الملكي يتلقى دفقًا من المعلومات عن المزيد من
المشكالت ،وما زادني إحباطًا وخيبًة أن بعَض الوزراء المعنيين كلما أثرُت معهم هذه المشكالت
كانوا يرّدون بأن التقارير عنها مبالٌغ فيها وأن األمور تسير على خير ما يرام .أدركُت فورًا أن علّي
أن أرى ما يحدث بأّم العين.
كان والدي يخبرني أنه حين كان يريد جَّس النبض العام في البلد ،كان يلّف على رأسه كوفيًة
ويجعُلها تغطي معظَم وجهه ،ويروح يتجول في شوارع عمان في سيارة تاكسي قديمة أكَل الدهُر
عليها وشرب .كان يتوقف ألخِذ راكٍب من هنا وإنزاِل راكٍب هناك ،وبين شخٍص وآخر كان يطرُح
أسئلَته على هؤالء« :كيف ترى االقتصاد في البلد؟ ما رأيك في الوضع بين إسرائيل والفلسطينيين؟
هل أنت راٍض عن السياسة الجديدة التي ينتهجها الملك؟» .عَّن في باله مرًة أن يستفَّز الراكَب
المرافق ليستدرَج ه إلى الكالم ،فقال له« :هل تريد رأيي ،هذا الملك سّيئ» ،فما كان من الرجل إال
أن سحَب من جيبه سكينًا وقال« :اسمع ،إذا قلَت كلمة سوء واحدة بحّق الملك فسأقتلك في هذه
اللحظة!» ولم يستطع أن يهّدئ من أعصاب الرجل إال عندما نزَع الكوفية عن وجهه وعرف الرجل
أنه يحدث الملك.
قررت أن أجد طريقًة لزيارة المؤسسات الحكومية تحت غطاٍء ممَّو ه لعّلي أتبّين األموَر على
طبيعتها وأعرف ماذا يجري حقيقًة على األرض .رّتبُت عدة وسائل للتمويه ال أحسُبني سأفصح عنها
اآلن ألنني ال أزال أستخدمها عند الحاجة ،لكن يكفي القول إن أحدًا ممن التَقْو ني مرتديًا غطاَء
التمويه ال يمكن أن يحسَب َم ن يحّدُثه ملكًا.
تجّو لُت ،مجهوًال ،في مكاتب اإلدارات العامة والمرافق الحكومية على اختالفها ،من أقصى
الشمال إلى جنوب الجنوب ،مستفيضًا ،سائًال ،مستفسرًا .برفقِة حارٍس شخصّي متخٍّف وضعيف
البنية ،بهدِف التضليل .زرُت المستشفيات ،والدوائَر الضريبية ،ومخافَر الشرطة ،وسواها العديد من
دوائر الحكومة واإلدارات العامة .أحيانًا كان الناس يكتشفون زياراتي السرية ،لكن في أكثر األحيان
كانت تبقى طّي الكتمان .إذا تبّين لي أن بعَض المواطنين ُتساُء معاملُتهم كنت ُأثيُر المسألة مع الوزير
المختص في عمان ،وهكذا بدأُت أعرف الحقيقة عندما كانوا يحجبون عني بعَض ها أو أحيانًا الجزَء
األكبر منها.
زرُت مرًة إحدى الدوائر الضريبية فرأيُت العَج ب ،سجالُت الناس والمؤسسات التجارية
موضوعٌة في صناديَق وموزعٌة على زوايا الغرفة هنا وهناك .إشباعًا لفضولي ،ولكي أعرَف مدى
اإلهمال لمصالح الناس ،اتجهُت إلى أحد تلك الصناديق على األرض وأخذت بيدي بضعَة ملفات
واتجهُت بها نحو البابَ .م ْن يصّدُق أن أحدًا لم يسأْلني ماذا أفعُل وإلى أين كنُت ذاهبًا بتلك الملفات.
حتى إّن أّيًا من الموظفين لم ينتبه إلى ما حدث.
في اليوم التالي اتصلُت بالوزارة المعنية وسألُتهم لماذا يتعاملون بهذا االستهتار السافر بشؤون
المواطنين التي من المفترض أن تحتوي على معلوماٍت سرية .قال لي أحد المسؤولين إنني ُز ِّو دُت
معلوماٍت غير صحيحة ،لكن حين سحبُت الملفات التي كانت ال تزال بحوزتي شحَب وجُه ه وُأسِقَط
في يده ولم يعد َيفوه بكلمة .رأيت أن أعلَن عن تلك الزيارة لسببين على األقل ،األول أنه كان علّي أن
أعيد الملفات إلى حيث يجب أن تعاد ،والثاني أنني أردت أن يفهَم المعنيون جميعًا أن دفَع عملية
التغيير واإلصالح هو مسألٌة جدية ولن أسمَح بالتساهل فيها .موظفو الدولة عمومًا ،وإداريو القطاع
العامَ ،يطمئنون أحيانًا إلى أوضاعهم وال يبالون متى شعروا بأنّه ما من رقيٍب وال حسيب ،لقد
عّلمتني الجندية أنك متى توقعَت الكثير من مرؤوسيك نلَت أفضل النتائج.
مع الوقت راحت زياراتي السرية تتضاعُف دون جهٍد مني ،ومقابَل كل زيارة كنت أقوم بها فعًال
كان الناس يروون قصصًا عن ثالثين أو أربعين زيارًة من نسج الخيال ويَّدعون أنهم رَأْو ني فيها
أفاجئ هذه الدائرة أو تلك المؤسسة .سمعنا أن إحدى هذه الزيارات المتخَّيلة كانت إلى أحد معامل
تعبئة البندورة في شمال األردن .كان المزارعون ينتظرون في صٍّف طويل من الشاحنات وكٌّل منهم
يستعجُل االنتهاء من توضيب بضاعته قبل أن ُتفِسَدها حرارُة الشمس الحارقة .أحد المزارعين
الظرفاء حين وصَل بشاحنته إلى البوابة وكان على وشك الدخول قال إنه رأى شخصًا متخفيًا ،يبدو
كأنه الملك ،ينتظُر في إحدى الشاحنات .هل حّقًا رأى شخصًا ظنه أنا ،أم تراه مارَس لعبًة ذكية ،يعلُم
هللا .المهم أن النتيجة كانت إياها في الحالتين :دقائق معدودات وبدأت الشاحنات تتحرك بأسرع ما
شهَده المكان منذ زمٍن بعيد.
بدأ موظفو القطاع العام واإلداريون في كل أنحاء األردن يصابون بالهلع ،فإذا كان المواطن
التالي ،الذي ينتظُر دوَر ه إلنهاء معاملِته ،يمكن أن يكون الملك بالذات يصبح من األفضل أن َيلقى
الجميع معاملًة ملكية .كانت الرسالة المطلوب إيصاُلها إلى البيروقراطيين واإلداريين في الدولة هي
أنه جيء بهم إلى وظائِفهم لكي يخدموا الناس وليس العكس ،وقد نشرت إحدى الصحف رسمًا
كاريكاتورّيًا يظهرني مرتديًا مالبَس عماِل التنظيفات ،ومالبَس السجناء ،وفي رسٍم آخر ظهرُت
مستعطيًا على قارعة الطريق وهكذا دواليك .رّح ب األردنيون بمعظمهم بفكرة الزيارات السرية
المموهة ،لكنني كنت مدركًا تمام اإلدراك أنني لن أستطيع بمفردي أن أضع حّدًا لكل أنواع التقصير
وعدم الكفاءة في العمل ،وتحقيق ما يحتاُج إليه األردن من التغيير واإلصالح .إن على القطاعين
الخاص والعام أن ُيطلقا ورشَة التعاون في ما بينهما.
في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1999عقدنا الندوَة االقتصادية الوطنية األولى ،وهي مؤتمٌر
استمَّر يومين ،وقد اخترنا فندق موفنبيك مكانًا لالجتماع ،وكان قد افُتتح حديثًا على شاطئ البحر
الميت ويحتوي على منتجٍع ومرافَق صحية حديثة .لكن أعضاء الوفود لم يكن وقُتهم يتسع
لالسترخاء والتمتع بكل ذلك ،فالمناقشات وتبادل اآلراء كانت شغَلهم الشاغل .دعونا إلى الندوة نحو
مئٍة وستين مندوبًا يمثلون معظم المؤسسات الحكومية وكل فروع القطاع الخاص في األردن:
المزارعين ،الصناعيين ،شركات تكنولوجيا المعلومات ،شركات الصناعة الدوائية ،وسواها من
المؤسسات .مع أن ما طالب به رجال األعمال وممثلو القطاع الخاص بدا معقوًال ومبررًا من حيث
منطُق األمور ،ما إن توَّسع االجتماع ليضّم إداريين من القطاع العام حتى راح الفريقان يتبادالن
الصراخ ودَّب شيٌء من الفوضى.
بمرور صباح اليوم التالي من المؤتمر بدا جلّيًا أن المقاربة التي اعتمدناها لم تكن الطريقَة
الفضلى ،فلجأت إلى مقاربٍة مختلفة وأبلغت جميَع الحاضرين أن أحدًا منهم لن يغادَر المؤتمر ما لم
يتفقوا ويخرجوا بحلوٍل للمسائل المطروحة .قلت لهم إنني سأقفل الباب وأرمي المفتاح في البئر..
ولن ُيفتَح الباب إال والحلوُل بين أيديهم .عندما أدرك الجميع مدى جدية ما أقول ،وأنهم سيبقون
مسَّم رين في أماكنهم طوال اليومين المقبلين إلى أن يتفقوا ،وضعوا خالفاتهم جانبًا وبدأوا َيصوغون
معًا خطًة لخدمة األردن بأجمعه .لم تكن وسائل اإلعالم موجودًة وبذلك استطاع كل شخص أن يتكلم
دون حرج.
راوحت األفكار المطروحة بين البسيط والَّطموح .من بين األفكار والمقترحات البسيطة جّدًا أن
نجعَل عطلَة األسبوع يومين .ففي تلك األيام كان األردنيون يعملون ستَة أيام ويعطلون يومًا واحدًا
هو يوم الجمعة .لكّن النقاش دار حول اليوم الثاني من عطلة األسبوع ،فما دام يوُم الجمعة هو يوم
العطلة اإلسالمي ،كانت مطالبُة الكثيرين من الحاضرين بأن تكون عطلُة األسبوع يومي الخميس
والجمعة .ولكن بما أن عددًا كبيرًا من الشركات ورجال األعمال كانت تربُطهم عالقاُت عمل مع
شركاٍت في الغرب فقد طالبوا بعطلٍة أسبوعية يومي الجمعة والسبت .بعد نقاٍش عقالنّي سليم تم
االتفاق على يومي الجمعة والسبت.
لم نكن وحَدنا المعنيين بجعل اقتصاِدنا أكثر انسجامًا مع األسواِق العالمية ،فبعدنا بأربع سنوات،
وتحديدًا في تموز/يوليو من العام 2003لحقت بنا قطر وجعلت عطلَتها األسبوعية يومي الجمعة
والسبت ،ثم تبعتها اإلمارات العربية المتحدة ،ثم البحرين في العام 2006ومن بعدها الكويت في
العام .2007
كذلك ناقش المؤتمرون كيفيَة البناء على النجاح الذي أحرزْته «المناطُق الصناعيُة المؤَّهلة»
( .)QIZsففي العام ،1996بعد مرور سنتين على توقيع األردن وإسرائيل معاهدَة السالم بينهما،
أطلقت الواليات المتحدة فكرة ما ُسّم ي «المناطَق الصناعيَة المؤَّهلة» وهي مناطُق يمكن أن تدخَل
منتجاُتها األسواَق األميركية من دون تعرفة جمركية شرَط أن يكون عشرون في المئة من مدخالت
اإلنتاج أردنيًا أو إسرائيليًا .هذه المناطق كانت ُتصِّدر منتجاِتها إلى شركاٍت أميركية مثل «جاب»،
«ج س بني» و«ليفي ستراوس» ( .)GAP) ،(JC Penney) ،(Levi Straussارتفعت صادرات
األردن من ال شيء تقريبًا إلى 18مليون دوالر في العام ،1998وقد طرح المؤتمرون بعض
األفكار حول إمكانية رفع هذا الرقم في السنوات المقبلة.
بنهاية المؤتمر توصل المندوبون إلى اتفاٍق حول خطٍة طموحة لتطوير االقتصاد األردني تشمُل
تعديالٍت قانونيًة تسّه ل العمل بالنسبة إلى الشركات والمؤسسات الخاصة ،وتشجع االستثمار
والخصخصة ،وإصالح قطاع التعليم .كذلك وافق المؤتمرون على إنشاء المجلس االستشاري
االقتصادي الذي سيضم ممثلين عن الحكومة والقطاع الخاص ،وذلك بغية إكمال المناقشات وتطبيق
المقررات المتعلقة باإلصالح .خالفًا لبلدان عديدٍة أخرى في الشرق األوسط ،ال يملك األردن النفط،
وموارُده الطبيعية محدودٌة جّدًا .من هنا كان إدراك المؤتمرين أن خيارنا األفضل الذي ال بد لنا من
سلوكه هو تطوير ثروِة األردن الحقيقية وهي شعُبه وتحديدًا عنصُر الشباب فيه ،هذا إذا شئنا أن
ُنصيَب ازدهارًا في هذا االقتصاد التنافسّي المعولم.
بعد انتهاء المؤتمر بيومين عقدت منظمة التجارة العالمية مؤتمرها السنوّي في سياتل ،وفيما كان
المتظاهرون يحتجون غاضبين في الخارج ويرمون شرطة مكافحة الشغب باإلهانات والحجارة،
كان أعضاء الوفد األردني داخَل قاعات المؤتمر َيجهدون في إقناع مسؤولي المنظمة بقبول األردن
عضوًا فيها .وفيما كان البعض في أميركا يرفُض العولمة ،كنا نحن نسارع إلى االنخراط فيها .في
الشهر التالي صّو َت أعضاُء المنظمة على طلبنا وأصبح األردن عضوًا في شهر نيسان/إبريل من
العام .2000لقد بدأْت جهوُدنا في سبيل تحديث اقتصادنا تؤتي ثماَر ها وبدأنا نشهد تقدمًا.
في كانون الثاني/يناير من العام 2000ذهبت إلى دافوس لحضور اجتماع المنتدى االقتصادي
العالمي ،وهو اللقاء السنوي الذي يجمع قادًة كبارًا من رجاالت أعمال وسياسيين وأكاديميين
ومسؤولين في مجال األعمال الخيرية وإداريين وبيروقراطيين .كانت المرة األولى التي شاركُت
فيها في أعمال المؤتمر وقد دعوت بعض الشباب من رجال وسيدات أعمال أردنيين لالنضمام إلى
الوفد المرافق على أمل أن يستفيدوا من العالقات التي كان ال بد لهم من إقامتها مع بعض المؤتمرين
الذين بلغ عدُدهم حوالى ثالثة آالف موفد.
قائمة الضيوف كانت عامرة بشخصيات العالم القيادية ،الرئيس كلنتون ورئيس وزراء بريطانيا
طوني بلير كانا هناك ،ورئيس جمهورية جنوب أفريقيا تابو مبيكي ،فضًال عن قادٍة آخرين جاؤوا
من ثالثين بلدًا .كذلك حضر رجاالٌت كبار من عالم األعمال مثل رئيس مجلس إدارة
«مايكروسوفت» بيل غيتس وجون تشيمبرز ،رئيس مجلس إدارة «سيسكو سيستمز» ،ورئيس
مجلس إدارة «أميركا أون الين» ستيف كيس.
استضفُت لقاًء إلى مائدة الفطور صباَح الثالثين من كانون الثاني/يناير حضره عدد من كبار
مديري شركات تكنولوجيا المعلومات العالمية ،ثم عدُت والتقيت بيل غيتس على ِح دة وقدمت له
دعوًة لزيارة األردن .وفي اجتماع عقد بعد ظهر ذلك اليوم ألقيت كلمة تناولُت فيها التحديات التي
يواجهها الشرق األوسط ،خصوصًا وطأة الضغوط الناتجة من المستويات العالية للبطالة ،متسائًال
كيف يمكن للتكنولوجيا الحديثة أن تساعَد في هذا اإلطار .ومع أن المؤتمر كان ُيعقد في أجواء جبال
األلب السويسرية ،فقد الَح َقْتنا سياسُة المنطقة إلى هناك .كان ياسر عرفات من بين القادة الحاضرين
وكان يوَم ها يعقد اجتماعًا مع الرئيس كلنتون ،ومن جهٍة أخرى كانت الشرطة قد أوقفت إيرانيين
منفيين هاجما وزير خارجية إيران بعبواٍت من الدهان .في العام 2003استضاف األردن المنتدى
االقتصادي العالمي الذي خّص َص مؤتمره عامذاك للشرق األوسط ،وهو مؤتمٌر إقليمي دأبنا على
استضافِته منذ ذلك العام مرًة كل عامين خالَل فصل الصيف .في تلك السنة ُدِع َيْت رانيا لالنضمام
إلى عضوية مجلس إدارة المنتدى االقتصادي العالمي ،وباتت العضَو الوحيد من العالم العربي.
هل هناك أجمل من دافوس مكاٌن يالحق فيه المرء كباَر قادِة االقتصاد في العالم محاوًال إقناَعهم
باالستثمار في األردن؟ لكن هذه األجواء الطبيعية والحضارية الرائعة لم تكن دائمًا األجواء التي
أحاطْت بي خالَل تلك السنة األولى من تولي الحكم ،فبعد بضعة أشهر قمُت بزيارة للسودان وكان
التناقُض الفتًا بالفعل.
مع اقترابنا من لحظة الهبوط في مطار الخرطوم ألقيُت نظرًة من نافذة الطائرة ولم أَر لجنَة
االستقبال على أرض المطار ،لكن بلمحٍة سريعة رأيت دبابًة من طراز «تي »55 -تتجه نحونا
والجنود متعّلقون بها على الجانبين .أخَذني القلق للحظات إلى أن هبَطْت بنا الطائرة وعلمت أن
هؤالء كانوا من الحرس الرئاسي جاؤوا يراقبون الموقع ويطمئنون إلى الوضع األمني .دعانا
الرئيس عمر البشير إلى سيارته المرسيدس القديمة ،فجلسُت أنا إلى جانب الرئيس في المقعد الخلفي
الذي ُغّطَي جلُده المتآكل ِبُر َقٍع خشبيٍة لّم اعة ،أما أخي علي الذي كان آنذاك قائَد حرسي الشخصّي ،
فجلس إلى جانب السائق .عندما اتجه بنا الموكب إلى وسط الخرطوم أشار علي إلى ثقبين خّلفتهما
رصاصتان في زجاج المقعد األمامي وسأل السائق عنهما ،أجاَبه السائق« :آه ،هذا من بقايا آخر
محاولة اغتيال» ،ولم ُيِض ف إلى ذلك شيئًا.
أحسَن السودانيون ضيافَتنا ،وعند عودتي أرسلُت إليهم هديًة رسمية ،سيارًة جديدة مصّفحة .ولم
تمض بضعة أيام حتى أبلَغني مسؤولو التشريفات الملكية أن السودانيين أرسلوا إلينا بدورهم هديًة
رسمية ،فقد هبطت في مطار عمان طائرة C-130سودانية تحمُل شبلي أسد يرافُقهما قِّيٌم مختص
جاَء يشرح كيفية االعتناء بهما ،ثم عاد إلى الخرطوم.
لم َيُفتني إدراُك القيمة الرمزية للهدية ،لكن حّيرني أمُر الشبلين ولم أعرف ماذا علّي أن أفعل بهما
فطلبت أن يوضعا في ملعب التنس بجانب منزلي .عندما الحَظْت رانيا أن الشبلين أخذا ُيظهران
اهتمامًا خاّص ًا بولدينا حسين وإيمان (التي ولدت في أيلول/سبتمبر ،)1996وكان حسين يوَم ها في
الخامسة وإيمان في الثانية ،أصرت على إرسال األسدين إلى مكان آخر .عندها أعدُت إهداَء هما إلى
أحد األصدقاء وكان يهوى جمَع هذا النوع من الحيوانات.
عندما عدت إلى عمان كان أحد كبار المشاركين في مؤتمر دافوس ،جون تشيمبرز ،قد أعلن أنه
ُأعجب باإلمكانات المتاحة في األردن وقرر أن تستثمر مؤسسُته «سيسكو» مليون دوالر عندنا
بمثابة صندوق لتمويل شركات التكنولوجيا .ومن هنا أصبحت «سيسكو» ،وهي الشركة المصِّنعة
لكل أنواع البنى التحتية التي تحتاج إليها شبكة اإلنترنت ،شريكًا أساسّيًا يساعدنا في توسيع نطاِق
استخدام اإلنترنت في كل أرجاء األردن .لقد أصبح تشيمبرز صديقًا كبيرًا لألردن ،يتبّر ع بأجهزة
الكمبيوتر حيثما دعت الحاجة ،وقد افتتح مكتبًا لمؤسسته في عمان ورفَع صوَته عاليًا في الترويج
لألردن وتشجيع رجال األعمال والمؤسسات األخرى على اإلفادة من الُفرص التي يتيحها األردن
في مجاالت االستثمار.
لكن علينا أال نعتمد على الخارج في تطوير صناعة تكنولوجيا المعلومات لدينا ،وفي مدى زمنٍّي
غير طويل بدأ أصحاُب المشاريع والمستثمرون المحليون ينزلون إلى الميدان .في العام 1994
أنشأت رندا األيوبي «روبيكون» وهي شركة مختصة بإنتاج برامج الكمبيوتر التعليمية .باإلفادة من
التمويل الذي وفره أحد صناديق رأس المال المغامر توَّسعت األيوبي في مجاالت اإلنتاج إلى
الصور المتحركة وطّو رت مؤسسَتها فأصبحت تعمُل برأس ماٍل من ماليين الدوالرات .فتحْت لها
مكاتَب في عمان ولوس أنجلس ودبي ومانيال .أنتجت روبيكون سلسلًة من برامج الصور المتحركة
بعنوان «ِبن وِع زي» ( )Ben & Izzyتدور حلقاُتها حوَل صبّيين ،أميركي وأردني ،يخوضان معًا
مغامراٍت عبَر التاريخ ،ثم وّقعت اتفاقًا مع شركة ( )MGMلترويج مسلسل النمر الوردي الكرتوني
( )Pink Pantherفي الشرق األوسط ،ثم استثمرت شركة خليجية ماليين الدوالرات في شركتها.
في العام 1997أنشأ شابان أردنيان ،سميح طوقان وحسام خوري ،برنامج خدمة البريد
اإللكتروني باللغة العربية وأطلقا عليه اسم «مكتوب» ( ،)Maktoobوما لبثت الشركة أن تطورت
إلى أن باتت أكبر بّو ابة ِو ْب في المنطقة ويستخدمها أكثر من ستة عشر مليون شخص ،فضًال عن
اجتذابها استثمارات بماليين الدوالرات .في آب/أغسطس من العام 2009استحوذت شركة اإلنترنت
العمالقة «ياهوو» ( )Yahooشركة مكتوب .ليست صفقًة غير مألوفة في سيليكون فالي أن تعمد
شركٌة عمالقة إلى شراء شركة حديثِة العهد في مجال التكنولوجيا المتقدمة ،لكن في األردن لم
نعرف حدثًا تجارّيًا من هذا النوع من قبل وكذلك األمر في العالم العربي .من هنا شعرُت بفخٍر كبير
بالمؤِّس َسْين الشابين وبإنجازهما المتميز الذي أظهَر للعالم أن بإمكاننا دخوَل ميدان المنافسة على
المستوى العالمي األوسع.
من بين الفوائد الكبرى لتكنولوجيا المعلومات دوُر ها اإليجابي الفّعال على المستويات االجتماعية
كافًة ،فقد عّلمتني خبرتي ضابطًا في الجيش كم كان جنودي يتعلمون قيادَة الدبابة «تشالنجر»
بسرعٍة الفتة مع أن نظاَم إطالق النار فيها كان كُّله مبنّيًا على الكمبيوتر .كنت سعيدًا وفخورًا جّدًا
بذكائهم وسرعة تكّيفهم ،وكنت على يقين من كفاءتهم وقدرتهم على النجاح حيثما كانوا ،شرط أن
ُتتاح لهم الفرص المناسبة .لقد دخل العدد األكبر من هؤالء الرجال إلى الجيش ألن ذلك كان المجاَل
الوحيد أماَم هم للتقدم ،ومع أن كثيرين منهم كان يمكن أن يرتادوا الجامعات غير أن أوضاَعهم المالية
لم تكن تسمح لهم بذلك.
ترك العديد من هؤالء الرجال الموهوبين الجيش في سٍّن مبكرة ،ربما في أواخر الثالثينيات
وأوائل األربعينيات من عمرهم وكانوا ال يزالون قادرين على العطاء ،وقد وّفرنا لهم من خالل
الديوان الملكي مَنحًا دراسية تمّكن الراغبين منهم من تعُّلم مهاراِت الكمبيوتر .أنهى معظمهم دورات
تعلم الكمبيوتر بنجاح وكثيرون منهم عملوا خبراَء تقنيين في المدارس يدّر بون المعلمين على آخر ما
بلغته تكنولوجيا الكمبيوتر.
كذلك أطلقنا برنامج إصالٍح تربوّي وتعليمي شامل ،فجعلنا تعليم اللغة اإلنكليزية ومهارات
الكمبيوتر مادتين إلزاميتين في كل مدارس األردن منذ الصف األول صعدًا ،ورفعنا مستويات تعليم
الرياضيات والعلوم .وما لبثت جهوُدنا حتى بدأت تؤتي ثماَر ها .كل أربع سنوات ُيجري االتحاد
الدولي لتقييم اإلنجازات التعليمية ،وهو مؤسسة غير ربحية تكِّر ُس عمَلها لهدف تحسين التعليم،
عمليَة تقييٍم دوليًة تتناول تعليم العلوم والرياضيات .في العام 2007احتل تالميذ الصف الثامن في
األردن المرتبَة األولى في العالم العربي ،وقد تفوقوا في مواد العلوم على ماليزيا وتايالند وإسرائيل.
ُأِّس سْت جامعُتنا الحكومية األولى ،الجامعة األردنية ،في العام ،1962والجامعة الخاصة األولى،
جامعة عمان األهلية ،في العام ،1990أما اآلن ففي األردن عشرون جامعة خاصة وعشر جامعات
حكومية أخرى يرتادها 243000طالب وطالبة في كل أنحاء األردن .يتخرج عدٌد كبير من طلبة
الجامعات ،الخاصة والحكومية ،حاملين شهاداٍت في الهندسة وسائر فروع التكنولوجيا وهؤالء
الخّر يجون يرفدون الشركات األجنبية التي تأتي باستثماراتها إلى األردن بالمهارات العالية ،كما
يتوزعون على الشركات المنشأة حديثًا ومؤسسات التكنولوجيا العالية في كل أرجاء المنطقة .بدأنا
أيضًا بإقامة مراكز كمبيوتر في المناطق النائية يقصُدها ذوو الحاجِة من السكان المحليين لتعُّلم
استخدام الكمبيوتر ومهاراِته دون أن يكّلَفهم ذلك أَّي مقابل.
ال شك في أن تكنولوجيا المعلومات والتعليم هما من العوامل األساسية في النهوض باالقتصاد
وتحسينه ،لكّن التقدم أشواطًا أخرى على هذا الطريق يفرض علينا أن نزيد من انفتاحنا على العالم
الخارجي ،وما االنضماُم إلى منظمة التجارة العالمية سوى الخطوة األولى.
في حزيران/يونيو من العام 2000عدت في زيارٍة أخرى إلى الواليات المتحدة والتقيت الرئيس
كلنتون الذي هنأني على انضمام األردن إلى منظمة التجارة العالمية ،وعاد وسألني مرًة أخرى ماذا
يمكنه أن يفعل لمساعدة األردن ،وهذه المرة أيضًا أظنه توقَع مني أن أطالب بزيادِة المساعدات .قلت
للرئيس« :أريد اتفاق تجارة حرة مع الواليات المتحدة» .إن اتفاقًا كهذا يذهُب أبعَد بكثير مما تتيحه
شروُط العضوية في منظمة التجارة العالمية ،فهو يخفض الرسوم على التبادل التجاري بين البلدين
إلى أدنى المستويات الممكنة ،وُيعّد ذا أهميٍة كبيرة جّدًا ومصدرًا لفوائَد جمة نظرًا لألقنية التي يفتحها
أمام صادراِت البلد الشريك للدخول إلى السوق األميركية .في تلك الحقبة الزمنية لم تكن الواليات
المتحدة قد منحت اتفاقًا من هذا النوع إال لدوٍل ثالث :كندا والمكسيك وإسرائيل.
فوجئ الرئيس بهذا الطلب لكن مع ذلك وعد بأن يدعمه بكل قوته ،وقد بدأنا المفاوضات في
السادس من حزيران/يونيو من العام ،2000وفي الرابع والعشرين من أيلول/سبتمبر من العام
2001وافق مجلس الشيوخ على اتفاق التجارة الحرة بين األردن والواليات المتحدة وأصبح األردن
البلد العربي األول الذي يوقع اتفاقًا من هذا النوع مع الواليات المتحدة .وهكذا استفادت الصادرات
األردنية إلى الواليات المتحدة من الخفض االستثنائي للرسوم بموجب هذا االتفاق فقفزت من 18
مليون دوالر في العام 1998إلى ما يقارب مليار دوالر في العام ،2009وهو رقم يتجاوز ما كان
مجموع صادراتنا العالمية حين توليُت الحكم.
بالعودة إلى محادثاتنا في العام السابق ،قال لي الرئيس كلنتون إنه اجتمع إلى الرئيس السوري
حافظ األسد في جنيف قبل بضعة أشهر ،لكّن االجتماع كان مخّيبًا لآلمال التي ُعقدت عليه .لم يتم
إحراز أّي تقدم ،وال يبدو أن المفاوضات السورية -اإلسرائيلية سوف ُتستأنف في أمٍد منظور.
على الصعيد المحلي تابعنا بذل الجهد لجعل األردن بلدًا جاذبًا لالستثمار وذلك من خالل إقامة
منطقة اقتصادية خاصة في مدينة العقبة المطلة على البحر األحمر في أيار/مايو من العام .2001
جعلنا المنطقة االقتصادية غير خاضعة ألية رسوم جمركية ،وخفضنا الضرائب فيها بنسبة كبيرة،
وكان الهدف الذي رمينا إلى تحقيقه َطموحًا جّدًا وهو اجتذاب ستة مليارات دوالر من االستثمارات
بحلول العام .2020لكن يبدو أن المحفزات كانت أكثر استقطابًا الهتمام المستثمرين مما توقعنا،
وبحلول العام 2008كانت المنطقة االقتصادية في العقبة قد اجتذبت أكثر من عشرين مليار دوالر
من االستثمارات شملت رؤوَس أمواٍل من اإلمارات العربية المتحدة وقطر والكويت ولبنان.
كان الكويتيون ،وخاّص ًة أمير البالد الشيخ صباح األحمد الجابر الصباح ،من أكبر الداعمين
لألردن ومن أهم المستثمرين في اقتصاده .رانيا ُو لدت في الكويت ،واألمير يشير إليها دائمًا كإحدى
بناته ،ولم أْلتِق به مرًة إال وكانت معاملُته لي كأحد أفراد العائلة ويبادر إلى سؤالي« :كيف حاُل
ابنِتنا؟».
بناًء على ما أصبناه من نجاٍح في العقبة ،أقمنا مناطَق اقتصاديًة مماثلة في المفرق ومعان وإربد
والبحر الميت وعجلون ،وفي كل هذه المناطق خفضنا الضرائَب والرسوَم الجمركية وما لبثت أن
بدأت تستقطُب استثماراٍت أجنبيًة كبرى من بلدان عديدة بما فيها المملكة العربية السعودية واليابان
ولبنان.
بدأت شركاتنا تتحرك على الساحة العالمية ،فبعض مؤسساتنا الكبرى ،مثل «أرامكس» الناقل
العالمي للبريد و«حكمة» الشركة المنتجة لألدوية ،أخذت تخوض سوَق المنافسة العالمية خصوصًا
بعد أن فتحت لها عضويُتنا في منظمة التجارة العالمية أسواقًا جديدة .لكن بقي العديد من الشركات
الصغيرة يكافُح للبقاء وللمنافسة .كان علينا االستفادة من البناء على العوامل اإليجابية لدينا في
الداخل ،وبدأنا نبتكر آلياٍت للمساعدة ،فهناك صندوق الملك عبد هللا الثاني للتنمية الذي يقدم رأس
المال والبنى التحتية لذوي المشاريع الواعدة من األردنيين ،ولم يطْل بنا الوقت حتى وجدنا ما كنا
نبحث عنه تمامًا من المشاريع المطلوبة.
في جبال عجلون ،شمال األردن ،يوجد من شجر الزيتون أكبُر ه وأقدُم ه في العالم ،لكن العديد من
المزارعين هناك كانوا ال يزالون يستخدمون وسائَل عمُر ها خمسون سنًة أو أكثر في إنتاج زيت
الزيتون .حتى إن بعَض هم لم يغّير سُبَل العمل التي كانت تطَّبق منذ آالف السنين ،مستخدمًا معاصَر
صغيرًة وبائعًا ما ينتجه محلّيًا في زجاجاٍت قديمة .أما بقيُة إنتاج الموسم فكانت تباع من شركاٍت
أجنبية ،إيطالية وإسبانية وسواها ،كانت َتستخدم أفضَل اآلليات الحديثة لتعصر زيتوَننا وتحّو َله زيتًا
ثمينًا وتبيَعه بأسعار مرتفعة وَتجني منه أرباحًا طائلة.
استثمَر الصندوق في أدواٍت حديثة ومتطورة لعصر الزيتون وتعبئِته وتوضيبه ،وأنشَأ شركة
متخصصة تتولى توصيَف أنواِع الزيت وتسويَقه وترويَج ه .وها نحن اآلن نبيع الزيَت األردنَّي
العالي الجودة في بعض المخازن الكبرى في لندن.
كنت دائمًا أرى من أهم أولوياتي تقوية قاعدة اإلنتاج الصناعي في األردن ،خصوصًا في مجال
التكنولوجيا العسكرية ،ومن أهم ركائز هذه االستراتيجية «مركز الملك عبد هللا الثاني للتصميم
والتطوير» الذي أنشئ في العام .1999ومن خالله جرى تحديث الدبابات والعربات المدرعة
األردنية ،كما أطِلقت مشاريع جديدة في هذا اإلطار (معظمها مصّنف سرّيًا) .لقد وّسعنا تعاوننا مع
القوات المسلحة في دول أخرى بما فيها الواليات المتحدة األميركية وبروناي وأذربيجان ،كما وَّقعنا
عقودًا مع شركاٍت دفاعية أوروبية لصيانة طائراِتنا من طراز «إف »١٦وتطوير العربات
العسكرية وتصنيع طائرات من دون طيار .وبالتعاون مع شريك روسّي طّو ر مركز الملك عبد هللا
الثاني للتصميم والتطوير صاروخًا مضاّدًا للدبابات في غاية الفاعلية ُيطلق عن الكتف وهو
الصاروخ «آر بي جي .»32هذه المنتجات بيعت من اليمن وليبيا وُعمان وبلداٍن أخرى.
من المشاريع الجديدة ذات المردود الكبير مشروع تطوير المخزون األردني غير المستثمر من
اليورانيوم .فمع علمنا منذ زمٍن طويل بأن في أرض األردن مخزونًا كبيرًا من اليورانيوم ،بقينا
مكتوفي األيدي ولم نستكشف مدى حجم هذا المخزون وكمياِته التجارية .في العام 2008أنشأنا
الشركة األردنية -الفرنسية لتعدين اليورانيوم وهي مشروع مشترك مع الشركة الفرنسية للطاقة
«أريفا» ( .)AREVAوبعد أن أظهرت المسوحاُت األولية وجوَد كمياٍت كبيرة من اليورانيوم في
الصحراء الوسطى ُقِّدرت بما بين أربعة وستة في المئة من المخزون العالمي ،بدأنا العمل في افتتاح
أول منجم أردني لليورانيوم .ثم وّقعنا اتفاقاٍت إضافيًة لالستكشاف مع المؤسسة الصينية «سينو
يورانيوم» ( ،)Sino Uraniumومع الشركة األنجلو -أوسترالية «ريو تنتو» (،)Rio Tinto
وبتوجيٍه وإشراٍف من هيئة الطاقة النووية األردنية نحن اآلن بصدد تطوير برنامٍج للطاقة النووية
من شأنه أن يخفف اعتماَدنا على استيراد النفط والغاز وتحُّم ل كلفتيِه ما العالية .إن بإمكان ُم فاعٍل
نووّي محليُ ،و ِض عت خطة مبدئية إلنشائه في الجنوب ،أن يوفر ما قد يصُل إلى ثلث كمية الطاقة
التي يحتاج إليها األردن .لكن ليست هذه سوى الخطوِة األولى ،فالكمية الكبيرة من الطاقة الكهربائية
المتوقع أن ينتجها هذا المفاعل سوف تمّكننا من تشغيل معامل تحلية المياه التي ستوفر لنا مياهًا ذات
كلفة معقولة ونكون بذلك قد حققنا هدفين في آٍن معًا.
األردن من البلدان الموقعة على معاهدة الحّد من انتشار األسلحة النووية ،وهو عضو في الوكالة
الدولية للطاقة الذرية ،ولكن نحن في األردن لسنا مجرد موقعين على معاهدة أو مجرد أعضاء في
وكالٍة دولية ،لقد التزمنا بالتعاوِن الكامل مع هذه المنظمات ونريد تعاوَننا أن يكون شفافًا تمامًا ،كذلك
نحن حريصون على أن يكون األردن أنموذجًا في تطوير برنامجه النووي.
في العام 2009أخَذْت مني صحيفُة «هآرتس» اإلسرائيلية حديثًا قلُت فيه إن األردن ينوي تطوير
برنامج إلنتاِج الطاقة النووية إلغراٍض سلمية ،ثم أضفُت قائًال« :أنا شخصّيًا أعتقد أن أَّي بلٍد يمتلك
برنامجًا نووّيًا يجب أن يلتزَم بالقواعد الدولية وأن يخضَع لتفتيش الهيئات الدولية المعنية للتأكد من
أن أّي برنامج نووي يسير في الطريق القويم».
إن المسألة المتعلقة بالطاقة النووية مسألة شديدة الحساسية في الشرق األوسط ،فإسرائيل ،وهي
الدولة النووية الوحيدة في المنطقة ،ال تزال ترفض التوقيع على معاهدة الحد من انتشار األسلحة
النووية ،كما ترفض أن تفتح مرافَقها للتفتيش .لم يحرك المجتمع الدولي ساكنًا للضغط على إسرائيل
لالنضمام لمعاهدة الحد من انتشار األسلحة النووية أو لفتح مرافقها النووية للمفتشين الدوليين .في
المدة األخيرة تحَّو َل الخالف على برنامج إيران النووي مصدَر قلٍق دولي ،إذ إن المجتمع الدولي
يصر على منع إيران من تطوير قدرتها على تخصيب اليورانيوم تخوفًا من أن يكون هدُفها الحقيقي
تطويَر برنامٍج نووي ألهداٍف عسكرية .من هنا فإن هامَش «االمتياز» المعطى إلسرائيل حياَل
موقِع ها النووي جعَل الرأي العام في المنطقة يشير إلى الكيل بمكيالين وإلى ازدواجيِة المعايير في
تطبيق مندرجاِت القانون الدولي.
أما برنامُج نا النووي هنا في األردن فال يقُع ضمن هذا اإلطار الخالفّي على اإلطالق ،ذلك أن
ِص ْدقيَة األردن كقوٍة من أجل السالم في المنطقة ،ومقاربَته الشفافة لتطوير الطاقة النووية السلمية
بالتعاون مع المنظمات الدولية وعبر االلتزام بالمعايير الدولية ،كل هذا قد أكسب برنامَج نا النووَّي
موافقَة المجتمع الدولي ودعمه األكيدين.
إن إصالح نظامنا التعليمي ،والنهوض بصناعِتنا المحلية ،والحد من اعتمادنا على الطاقة ،هذه
العوامل األساسية لم تكن أقَّل أهميًة من التفاوض على االتفاقات التجارية الدولية بالنسبة إلى
النهوض باألردن ووضعه على سكِة النمو االقتصادي المستدام ،وقد شهَد اقتصاُدنا أحيانًا وثباٍت إلى
األمام بطرٍق لم تكن متوقعة.
في العام 1988جاء إلى األردن ستيفن سبيلبيرغ وجورج لوكاس لتصوير مشاهد من فيلم إنديانا
جونز ( ،)Indiana Jones and the Last Crusadeوكان يرافُقهما نجما الفيلم هاريسون فورد
وشون كونري .طلَب مني والدي أن أستقبلهم في العقبة ومن ثم أرافَقهم إلى البتراء على مسافة
ثمانين ميًال شماًال حيث كان ُيفترض أن يبدأ التصويرُ .تعّد آثاُر البتراء ،التي بناها األنباُط منذ أكثَر
من ألفي سنة ،من أروِع المعالم التاريخية وأكثِر ها َم هابًة في العالم ،وقد رأى سبيلبيرغ أن تلك
الهياكَل العمالقَة بهالِتها المؤِّثرة والمحفورة في ُص لب الصخر الطبيعّي تشكل موقعًا مثاليًا لـ«وادي
الهالل» ( )Canyon of the Crescent Moonحيث تقُع أحداُث المشهِد األخير من الفيلم.
عرض والدي أن يوصَل سبيلبيرغ ولوكاس وكونري وفورد إلى البتراء بالمروحية لتمكينهم من
رؤيِة تلك المشاهد الرائعة من الجو .قدت أنا الطائرة ،وفيما كنا نأخُذ مقاعَدنا في المروحية ونربط
أحزمَتنا ،سألني مساعُد الطيار وهو ينحني على أُذنيَ« :م ن هذا الرجل؟ وجُه ه ليس غريبًا علّي ».
فقلُت له« :هذا شون كونري الذي مّثَل جيمس بوند»« .صحيح» ،قال مساعدي وهو يكتم ضحكته
فيما كنا ُنقلع بالطائرة ،ثم أضاف« :سوف ُنريه اآلن َم ن هو جيمس بوند الحقيقي».
طرنا على ارتفاع منخفض خروجًا من المطار حتى كدنا نالمُس السياَج المحيط بحرم المطار عند
نهاية المدَّر ج ،ثم اتجهنا شماًال فوق الوادي في طريقنا إلى البتراء دون أن نرتفع عن األرض إال
بقدر ما تتطلب سالمُة الطيران .بعد حوالى عشرين دقيقة ،مال سبيلبيرغ نحوي ،ومفاصُل يديه
مبيّضة من شدة تمسكه بالمقعد ،وهمَس في أذني سائًال هل من الضروري أن نطيَر على هذا القدر
من االنخفاض!
عندئذ قررت أن أجاري مساعدي في النكتة التي أطلَقها ،فأجبُت سبيلبيرغ« :سيدي ،ال مانَع من
أن نطير على ارتفاٍع أعلى ،لكن نحن نطير بموازاة الحدود اإلسرائيلية وال يمكننا التكّه ن بما قد
َيصدُر من الجانب اآلخر ...طبعًا ،إذا شئَت أن نخاطَر في األمر فال مشكلة لدينا» .هَّز برأسه موافقًا،
فارتفعنا قليًال ثم أكملنا رحلَتنا نحو البتراء.
هبطنا على مقربٍة من مجَّم ع اآلثار ،وما لبث الممثلون والفنيون أن بدأوا العمل محّو لين الشَّق
الضِّيق المتعّر ج ،والمؤدي إلى «الخزنة» ،الهيكِل المحفور في الجدار الصخرّي للوادي ،وصوًال
إلى هيكِل الشمس الذي اختاَر ه سبيلبيرغ مخبًأ للكأِس المقدسة.
لم تسنح لي الفرصة لحضور حفل افتتاح الفيلم في العام التالي ،لكن شقيقي فيصل كان حاضرًا،
وحين التقى هاريسون فورد وقدم نفَسه قائًال« :شقيقي كان قائد المروحية التي أوصلتكم إلى
البتراء» .فرّد عليه فورد قائًال« :هذا الرجل جعَل فرائَص نا ترتعد خالل تلك الرحلة» .عدُت والتقيت
سبيلبيرغ بعد بضع سنوات ،وكان والدي قد توفي ،وكان سبيلبيرغ ال يزال يذكر تلك الرحلة
بالمروحية ،فسألني« :لماذا فعلَت ذلك بنا؟» .قلت« :ال بد أنك في يوٍم من األيام ستنتج فيلمًا عن
طياري المروحيات ،ولن يفوَتك حينذاك أن تتذكر الطيارين المجانين في األردن» .عديدٌة األفالم
التي صِّو رت أجزاء منها في األردن بعد فيلم سبيلبيرغ ،منها «ترانسفورمرز» (Transformers:
،)Revenge of the Fallenو«ذا هيرت لوكر» ( ،)The Hurt Lockerو«ذا مامي ريترنز»
(.)The Mummy Returns
بقيُت على تواصل مع سبيلبيرغ ،وحين توّليت منصبي ملكًا اتصلُت به طالبًا مساعدَته في إنشاء
صناعة سينمائية في األردن .قَّدرُت له تغاضيه عن تصّر في أياَم الشباب ،فقد َج َمَعنا بعميد كلية
الفنون السينمائية في جامعة جنوب كاليفورنيا ،وهي أعرُق كليات الفن السينمائي في أميركا .أّسسنا،
بمساعدة هذه الجامعة ،معهد البحر األحمر للفنون السينمائية في العقبة ،وهو كلية متخصصة في
تعليم فن اإلنتاج السينمائي .افُتتح المعهد في أيلول/سبتمبر من العام 2008وقد َج مَع الصف األول
من الطالب عشرين طالبًا.
إن الصناعات اإلبداعية والخّالقة ،كاإلنتاج السينمائي وصناعة اإلعالم الجديد وصناعة تكنولوجيا
المعلوماتُ ،تمِس ُك بمفاتيح مستقبل األردن االقتصادي وتطوره ،حتى لو كان الطريق إلى تطويرها
والتقدم في مجاالتها يستغرق من الوقت أكثر من المتوقع.
لقد أصبح بإمكاننا اآلن أن نلقي نظرة إلى ما تمكّنا من إنجازه خالل عشر سنوات على طريق
التقدم ،فقد أتاح لنا االنفتاُح االقتصادي على أسواق التجارة العالمية أن نرفع حجَم صادراتنا ستة
أضعاف بين العامين 1998و ،2008وأن نخفض نسبة البطالة من 15.3في المئة إلى 12في
المئة ،كما ضاعفنا نصيب الفرد من الناتج المحلّي اإلجمالي .في مسٍح أجرته األمم المتحدة في العام
2007جاء األردن في المرتبة السادسة عالمّيًا من حيث اجتذاُبه رؤوس األموال االستثمارية نسبًة
إلى حجم اقتصاده ،بعدما كان في المرتبة 132في العام .1995أما المسح الذي أجراه المنتدى
االقتصادي العالمي في العام 2008فقد وضع األردن في المرتبة 48من حيث القدرة على المنافسة
االقتصادية عالمّيًا ،وهذا يجعُله في مرتبٍة أعلى من إيطاليا وروسيا والبرازيل والهند.
لم ُتعِف األزمة االقتصادية العالمية األردن من بعض أوزارها ،فقد تباطأ النمو بنسبة عالية ،وبلغ
عجز الموازنة العامة 8.5في المئة من إجمالي الناتج المحلي ،وهذه سابقة في تاريخ المملكة.
كالعديد من بلدان العالم اضطر األردن إلى اتخاذ إجراءات قاسية لخفض إنفاقه في العام .2009لكن
بخالف بلداٍن أخرى لم نملك اإلمكانات لكي نقدم حوافز مالية من شأنها إعادة تحريك االقتصاد،
وإنما كان علينا أن نعيد النظر بسياستنا ،وأن نحّسن بيئتنا االستثمارية ،كما كان ال بد من التأكد من
أن اقتصاَدنا بين أيٍد إداريٍة كفؤة وذات فاعليٍة أكيدة.
ال شك في أن األزمة االقتصادية العالمية كانت تحديًا كبيرًا ،لكنها في اآلن عيِنه َح ملْت إلينا فرصًا
جديدة ،ذلك أن العديد من الشركات العالمية ،خصوصًا تلك التي تّتخذ مقّر ًا لها في بلدان الخليج
الغنية ،كانت تبحث عن سبٍل لخفض أعباِئها التشغيلية ورفِع مستوى التنافسية لديها .وفي هذا اإلطار
كنُت مصممًا على أن أضيَء اسَم األردن على شاشات الرادار لديها بحيث تأخُذه بحسباِنها كبديٍل
محتمل .كنت مدركًا ،في هذا السياق ،أن عوامَل عديدًة تجعلنا في موقٍع تنافسٍّي قوي على هذا
الصعيد ،ليس أقَّلها المهنيون األردنيون من ذوي المستويات العلمية العالية ،والبنى التحتية الجيدة،
وموقع األردن االستراتيجي في قلب هذه المنطقة ،وبيئة اقتصادية منفتحة ،هذا فضًال عن األسواق
العالمية الكبرى المفتوحة أمام األردن في ضوء اتفاقاِتنا الدولية .من هنا بدأنا تحديد مجاالٍت وفرٍص
بعينها مما يمكن أن يجذَب المستثمرين ،وأخذنا بتحديث تشريعاتنا االقتصادية .في الماضي كنت
عندما ألتقي بعَض المستثمرين أقول لهم إن األردن بلد عظيم لالستثمار ،أما اآلن فبات بوسعي
اإلشارة إلى مشاريَع محددٍة وأن أتحدث تحديدًا عما يقدمه األردن من امتيازاٍت واضحة من شأنها
تشجيع الشركات على العمل انطالقًا منه.
بدأنا بالعمل على عدد من «المشاريع الكبرى» لتلبية احتياجاتنا الغذائية والمائية ،ولتطوير ُبنانا
التحتية وموقِع نا كمركٍز إقليمّي للطاقِة والنقل .لقد أعطيت الحكومَة التوجيهات الالزمة لكي تدير هذه
الموارَد الحيوية على أفضل ما يمكن أن تدار .لكن ،لسوء الحظ ،كان من شأن األحداث السياسية
أحيانًا أن تختطَف نجاحنا االقتصادي .فالشيء الوحيد الذي يمكن أن يأتي باالزدهار الدائم إلى
منطقتنا ،والذي يستبدل القنبلَة والرصاصَة بالسائح وصاحِب المشروع التجاري والمستثمر ،هو
إيجاد تسوية نهائية للصراع اإلسرائيلي -الفلسطيني الذي هو أساس الصراع وعدم االستقرار
والعنف في المنطقة.
آمل أن نتمكن يومًا من أن نربط ما بين اقتصاد كٍّل من إسرائيل وفلسطين واألردن في سوٍق
مشتركة على غرار النموذج الذي يجّسده «البينيلوكس» في أوروبا الغربية .إن بإمكاننا اإلفادة من
المعرفة الفنية والقدرات التجارية واالستثمارية في األردن وإسرائيل وفلسطين بحيث نبني مركزًا
اقتصادّيًا وتجارّيًا هائل القدرات في هذا المشرق .إن الدفَق السياحَّي المحتمل ،كما تدُّفُق رؤوس
األموال األجنبية بهدف االستثمار ،سيكونان بأحجاٍم مذهلة ،أما إمكانيُة التعاون فكبيرة جّدًا .إن
اإلسرائيليين رّو اٌد عالميون في المجاالت الزراعية ،لكنهم ال يملكون أرضًا زراعية كافية لهذه
الغاية ،وليس لديهم ما يكفي من العمال .إن بإمكاننا أن نعمَل معًا لنجعَل من الصحراء جنًة خضراء.
لكن هذه الرؤى الحالمة بالتعاون االقتصادي تبقى أشبَه بالسراب إن لم ُيكتب لها قادٌة سياسيون
يمتلكون جرأَة صنع السالم .من أجل مصلحتنا ومستقبلنا جميعًا في هذه المنطقة ،يجب أن ندعو
العلي القدير لكي يعيَننا على تجاوز أحقادنا وشكوكنا التي أبقتنا منقسمين طواَل هذه السنين.
ال شك في أننا أنجزنا الكثير خالل السنوات اإلحدى عشرة الماضية ،لكنني أوُل من يعترف بأن
أمامنا الكثير مما ال يزال بحاجة إلى إنجاز .اإلصالح السياسي كان يمكن أن يسجل مزيدًا من التقدم
وبأسرع مما شهدناه ،كما كان علينا أن نشرَح للرأي العام ،أكثر مما فعلنا ،األسباَب الكامنة وراء
الخطوات واإلجراءات التي نتخذها .لطالما كان اإلصالح االقتصادي من بين األولويات لدّي نظرًا
للتأثير المباِش ر للسياسات االقتصادية السليمة في مستوى معيشة المواطنين ،لكن كان يقيني دائمًا أن
هذا اإلصالح لن يؤتي ثماَر ه كاملًة ما لم يكن جزءًا من برنامٍج إصالحي أوسع وأشمل في جميع
المجاالت السياسية واالجتماعية واإلدارية .من سوء الحظ أن عملية اإلصالح السياسي كانت أحيانًا
كثيرة َتخطو خطوًة إلى الوراء مقابَل كل خطوتين إلى األمام ،وكانت مقاومُة التغيير تأتي من جهاٍت
مختلفة وألسباب متعددة .عارض البعض نهَج التغيير خوفًا على امتيازاٍت طالما تمتع بها ،فيما
البعض اآلخر كانت معارضُته تعكُس نقصًا في الرؤية الصحيحة ،وهؤالء فضلوا بقاَء األوضاع
على حالها ما داموا قد عرفوها وقبلوا بها .في مناسباٍت عديدة كنت أكتشف أن هناك مسؤولين ال
يملكون الشجاعَة للسير بالتغييرات الصعبة ،أو أن اهتمامهم كان محصورًا بمصالحهم الخاصة أكثَر
منه بمصالح الناس الذين ُعّيَن هؤالء المسؤولون لخدمِتهم ورعايِة شؤونهم .عنصٌر آخر كان له دور
كبير في تأخير عملية التطوير والتحديث هو الوضُع اإلقليمُّي البالُغ السوء والذي غالبًا ما يوّلد
تحدياٍت صعبًة تجعل العامَل األمنّي أولويًة على كل العوامل واالعتبارات األخرى .لكن نحن
مصرون على معالجة كل هذه العثرات والنواقص ،وأنا أعرف حق المعرفة أن مستقبل األردن
يلزمنا بالسير قدمًا في مسيرتنا الديموقراطية لكي يمارس جميع األردنيين دورًا أكبر في صناعة
القرار وفي بناء مستقبل بالدهم.
في تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2009دعوت إلى إجراء انتخاباٍت برلمانية جديدة ،وبعد بضعة
أيام كّلفت رئيسًا جديدًا للوزراء تأليف حكومة جديدة .كان كثيرون من األردنيين يعّبرون عن عدم
رضاهم عن أداء مجلس النواب ،إذ إن نوابًا كثيرين كانوا يعوقون إجراء اإلصالحات االقتصادية
واالجتماعية والتشريعية الضرورية ،هذا فضًال عن أن الجدل السياسي في ما بينهم ،وما كان
يمارسه بعُض هم من ضغوط النتزاع المزيد من االمتيازات ،كل ذلك أدى إلى عالقٍة غير منتجة بين
السلطتين التشريعية والتنفيذية وبالتالي عرقل الجهود الرامية إلى معالجة المسائل االقتصادية
واالجتماعية األوسع واألكثر أهمية .بلغت نسبُة التأييد الشعبي لمجلس النواب من االنخفاض بحيث
رّح ب أكثر من ثمانين في المئة من المواطنين بحّله وفقًا الستطالعات تلك الفترة .كان وقت التغيير
قد حان ،ال بالنسبة إلى األشخاص فحسب بل على صعيد المقاربة الصحيحة لألمور .في كتاب
التكليف الذي وّج هُته إلى رئيس الحكومة الجديد سمير الرفاعي ،خريج هارفرد الذي عمل معي في
ورشة اإلصالحات االقتصادية عندما توليت مسؤولياتي ،وضعت قائمًة باألهداف اإلصالحية التي
نرمي إلى تحقيقها على الُّص عد االقتصادية واالجتماعية واإلدارية والسياسية ،وقلت إن على
الحكومة أن تضَع ُنصَب أعينها العمَل البرامجي الجدي لتحقيق تلك األهداف ضمن فتراٍت زمنية
محددة .أوضحُت أن من الضرورّي إجراء انتخابات نيابية جديدة تكون أنموذجًا في النزاهة
والحيادية والشفافية في أسرع وقت ممكن .أعطيُت توجيهاتي إلى الحكومة الجديدة أن يكون في
مقدمة ُم هّم اتها تعديل قانون االنتخاب وتحسين جميع إجراءات العملية االنتخابية بحيث يتمكن كل
األردنيين من ممارسة حقهم في االنتخاب والترشح وتأدية واجبهم في انتخاب مجلس نيابي قادر
على ممارسة دوره الدستوري في الرقابة والتشريع واإلسهام بفاعلية في استكمال مسيرة البناء وفي
تكريس الديموقراطية ثقافة وممارسة في وطننا الحبيب .كما وّج هت الحكومة أن تسهل مهمة
منظمات المجتمع المدني في مراقبة العملية االنتخابية.
كذلك طلبت من الحكومة أن تنفذ برنامج الالمركزية الذي يمّكن المواطنين من انتخاب مجالِسهم
المحلية من أجل تحقيق تطور نوعي في آليات اتخاذ القرار وضمان أعلى درجات المشاركة الشعبية
في صناعة السياسات الوطنية وفي تحديد أولوياتهم التنموية في المحافظات.
بعد مرور ستين يومًا على أدائها اليمين ،قدمْت لي الحكومة الجديدة خطة عمل مفصلة لّخ صت
فيها كل وزارة من الوزارات األهداف والمشاريع التي تنوي تنفيَذها خالل فترة زمنية محددة .أما
أداء الحكومة فسيصار إلى تقييمه على أساس معايير قياس أداء واضحة وفقًا للتقدم الذي تحرزه في
تنفيذ هذه األهداف ضمن المواعيد المحددة والتي يجب أن توضع على مواقع الوزارات اإللكترونية.
كذلك التزمت الحكومة بمدّو نة سلوك تستوحي أفضَل الممارسات الدولية ،وحددت إصالحات
أساسية بما فيها إجراءاُت مكافحِة الفساد ،ورفع مستوى الشفافية ،وحماية حقوق المرأة والطفل،
وإزالة كل العوائق التي تحول دون تطور صناعة اإلعالم المهني المحترف المستقل.
لقد ُو ضعت الخطط الحكومية وُنّظمت بهدف إحراز تقدم ملموس في سبعة محاور عمل تكّو ن
بكليتها برنامجًا متكامًال للتطوير واإلصالح هي :زيادة كفاءة الحكومة وتفعيل المساءلة وقياس
األداء الحكومي ،تشجيع المشاركة السياسية والمدنية ،تحفيز بيئة األعمال واالستثمار ،تمكين ودعم
كفاءة المواطن من خالل تزويده بالمهارات الالزمة لدخول سوق العمل ،تحفيز النمو االقتصادي
والمضي قدمًا بمشاريع البنية التحتية الكبرى ،توسيع قاعدة الطبقة الوسطى ودعم وتمكين الطبقة
الفقيرة ،تحسين مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين ونوعيتها.
إنني على اقتناع راسخ بأن وجود طبقة وسطى قوية ومستقرة هو من أهم روافع التنمية
االجتماعية ،وإذا رّكزنا على البرامج االقتصادية التي تؤدي إلى توسعة الطبقة الوسطى استطعنا
بذلك تقوية األسس التي تدفع إلى بروز منظمات مجتمع مدني يمكنها مراقبة الحكومات وتقويم أدائها
ومحاسبِتها وبالتالي وضعها تحت ضغط الرأي العام لجعلها أكثَر شفافية.
فيما كان هذا الكتاب في طريقه إلى المطبعة كان األردنيون ُيعدون أنفَسهم للذهاب إلى مراكز
االقتراع النتخاب ممثليهم الجدد في مجلس النواب بموجب قانون جديد لالنتخابُ .أدِخ َلْت تعديالٌت
رئيسية على قانون العقوبات َترفع من مستوى حمايِة النساء واألطفال ،ويحاكم البعض اآلن بتهم
الفساد .لقد انخفَض عجُز الموازنة العامة ،وها هي الصحف تنشر بعض األخبار اإليجابية عن
تحسن الوضع االقتصادي .إنني أعتقد أننا على الطريق الصحيح في مسيرة إصالح طويلة المدى
سيتطلب استكمالها الكثير من الجهد والعمل المضني وسيكون لها نجاحاتها وإخفاقاتها .منذ البداية
كنت مدركًا أن أفضل ما يمكننا االستثمار فيه هو تنمية المهارات لدى ثروة األردن الحقيقية وهي
شعُبه وشباُبه ،الذي هو وسيلة التنمية وغايتها ،وهذا يعني تقديَم أفضل مستويات التعليم ألبنائنا
وبناتنا .لقد فكرت ملّيًا وطويًال في هذه المسألة ،وبما أنني تلقيت تعليمي ،على كل مستوياته ،في
األردن وإنكلترا والواليات المتحدة فقد جئُت ببعض األفكار غير التقليدية حياَل هذا الموضوع.
الفصل السادس عشر :ديرفيلد تنبت في الصحراء
في أيار/مايو من العام ،2000بعد مرور عشرين عامًا على تخرجي في ديرفيلد ،عدت إلى هناك
مدعّو ًا إللقاِء خطاب التخرج .استقبلني مدير األكاديمية إريك ويدمر ،المديُد القامة ،البهُّي الطلعِة
ومن خريجي المدرسة المتميزين ،وقد عَّلم تاريخ الصين في جامعة «براون» قبل أن يعود إلى
ديرفيلد مديرًا للمدرسة .فاضْت علينا موجة ممتعة من الذكريات ونحن نعبر أماَم مبنى «إفرايم
ويليامز» ( )Ephraim Williams Houseبجدراِنه الخشبية البيضاء وسقِفه المغطى بصفائح
أردوازية دكناء اللون ،وفيه كان يسكن الطالب الداخليون .دارت في ذهني أفكاٌر كثيرة تمحورت
حول نوعيِة التعليم الذي نهلُته في ديرفيلد .فقد علمتني هذه المؤسسة التربوية الرائدة أن أكوَن محّبًا
لالستطالع ،وأن أناقَش ما يقال لي ،وأن أبتكَر الحلول لما يواجهني من مشكالت .لقد عّلمتني كيف
أفكر ال ماذا أفكر ،وشّج عتني على التفكير النقدي والبحث عن الحلول ،ونَّم ْت لدَّي رغبة اإلبداع
والعمِل الخاّل ق ،وهكذا ترّسَخ اعتقادي بأن مدرسًة على غرار ديرفيلد ونهِج ها التربوّي سوف تكون
ذات أثر إيجابي كبير في األردن وفي المنطقة العربية على امتدادها .لقد رأيت رفاقًا لي من ذلك
الصرح التربوّي يكبرون على دروب الحياة ويحتلون المواقَع الرياديَة في عالم األعمال كما في
المجاالت العلمية وعلى الساحة السياسية .لماذا ،يا ترى ،لم َيشهد األردن منهَل علٍم ومعرفٍة كهذا
المنهل؟ لماذا ُكتب على صبٍّي أو فتاٍة من األردن أو فلسطين ،أو من مصر ،أو دوِل الخليج ،أن َيعبَر
نصَف الكرِة األرضية إلى أميركا لكي يحصَل على تعليٍم متميز!
في اليوم التالي التقى جمٌع كبير ضم الطلبة وذويهم والمعلمين في ديرفيلد وغيرهم لالحتفال
بمناسبة التخرج ،وراح األصدقاء وأفراٌد من عائالت الطلبة والهيئتين التعليمية واإلدارية يصفقون
فيما كان عازفان على القرب يقودان صَّف الخريجين للعام 2000في شارع «ألباني» (Albany
)Roadالذي يخترق وسَط القرية وصوًال إلى ُسرادٍق واسِع األرجاء تزّينه خطوط باللونين
األخضر واألبيض.
في الكلمة التي ألقيُتها بالمناسبة عرضُت بعضًا من القيم العالية التي يزرعها النهُج التعليمّي الذي
تسلكه ديرفيلد ،الصدُق مهما كّلف ،االستقالُل الفكرّي ،الكرامُة وعلُّو النفس ،والصداقة ،وقلت إن
هذه القيَم حاجٌة ماسة لشباب اليوم ،خصوصًا وهم يواجهون وتيرًة غير مسبوقة من التغُّير في عالٍم
يتزايد حداثًة ساعًة بعد ساعة .لقد تذكرُت كل ما عّلمتني إياه ديرفيلد :حكمَة المعلمين وصبَر هم
واتساَع صدِر هم ،روَح المساواِة الشاملة ،أن يكون لكٍل منا دوُر ه في تنظيِف موائِد الطعام بعد تناول
الطالب وجباِتهم ،اإلفساَح في المجال أمام كٍل منا للقاء أشخاٍص جدد وعقد الصداقات مع َم ن نشاء
من هؤالء األشخاص اآلتين من خلفياٍت متعددة .أضف إلى ذلك ما أكسَبْتنا إياه من روح الفضول
والبحث عن الجديد واإلثارة التي تدفعَك إلى مزيٍد من التعّلم ومراكمِة المعرفة .وفيما كنت أوّز ع
النظَر بين تلك الوجوه الشابة والواعدة ،وتلك العيون المتوهجة أمًال بغدها وشوقًا إلى خوِض غمار
الحياة ،غدوُت على يقيٍن من أنني سأنقل هذه التجربَة التربويَة -التعليمية الثمينة إلى منطقِة الشرق
األوسط.
بعد االحتفال قلت للدكتور ويدمر إنني أنوي أن أنشَئ مدرسًة نموذجيًة تكون على نهج ديرفيلد،
وسوف تكون المدرسة الداخلية األولى في الشرق األوسط على غرار مدارس نيو أنغلند .كان رُّده
إنها فكرٌة عظيمة ووعَد بأن يمَّد يَد المساعدة وأن يزودنا بكل ما استطاَع من المشورة ومما لديه من
الخبرة في هذا المجال ،وهكذا ُز رعت البذرة التي نبتت في ما بعد لتصبَح مدرسة «كينغز أكاديمي».
تنتشُر في كل أرجاء الشرق األوسط المدارُس الخاصة التي يرتادها أبناُء النخبة الذين تأتي بهم
إلى المدرسة سياراٌت فارهة يقودها سائقون ،وكل منهم (التالميذ) يحمُل هاتَفه النقال .لكن ليس هناك
مدارُس على منوال ديرفيلد تفتح أبواَبها أماَم كل الموهوبين وتقّدم لهم المنَح الدراسية حين يكون
أولياؤهم غير قادرين على تحّم ل أعباء هذا النوع من التعليم .لقد عزمُت على زرع قبيلٍة جديدة في
منطقٍة غالبًا ما مّز قتها النزاعاُت العرقية والمذهبية :إنها قبيلُة «المريتوقراطية» حيث تكون الكفاءة
والقدرة السبيل إلى التقدم واإلنجاز.
ما إن عدُت إلى األردن حتى بدأت فورًا بالعمل على تحويل هذه الرؤيا إلى واقع ملموس ،وبادرت
إلى دعوة صفوان مصري ،األردني المقيم في أميركا أستاذًا في جامعة كولومبيا في نيويورك ،لقيادِة
المشروع .كذلك استطعت إقناَع صديقي «جيج» ،الذي كان آنذاك من كبار مسؤولي المجموعة
المصرفية «سيتيكورب» ،للمساعدة في تأمين مصادر التمويل .على مدى بضع سنوات انشغَل
صفوان و«جيج» مع فريق صغير من مساعديهما بجمع األموال ،واختيار موقع المشروع ،والعثور
على مهندٍس معمار يعرف كيف يحيُل فكرَة المشروع صرحًا ينبُض بالحياة.
عثرنا على موقٍع رائٍع على بعد خمسة عشر ميًال جنوبَّي عمان قرب مدينة مادبا ،موطن خريطة
«فسيفساء مادبا» ،إحدى أقدم خرائط األرض المقدسة من القرن السادس الميالدي والتي تغطي
كنيسة القديس جورج للروم األرثوذكس .ويتميز الموقع أيضًا بقربه من الطريق التاريخي المسّم ى
«طريق الملوك» وهو طريق تجاري قديم كان يربط ما بين هيليوبوليس في مصر والعقبة عبر
صحراء سيناء ،ثم ينعطف شماًال عبر األردن ويكمُل نحو دمشق لينتهي في الرصافة على ضفاِف
الفرات.
بدأنا إنشاء المباني في 22تموز/يوليو من العام ،2004لكنني كنت واعيًا تمامًا أنني إذا شئت حّقًا
أن أنشَئ مؤسسًة تربوية تتخذ من روح ديرفيلد ونهجها أساسًا لعملها ،فسوف نكون حتمًا بحاجة إلى
أكثر من مجرد مباٍن حديثة وتجهيزاٍت متطورة .كان إريك ويدمر ،المدير الرابع لديرفيلد منذ العام
،1902سيتقاعد من إدارة المدرسة في العام 2006وقد اعتبرُت هذه المصاَدفة الزمنية فرصتي
الذهبية واستطعت إقناَعه بأن يكون هو المدير المؤسس لـ«كينغز أكاديمي».
عندما عدت إلى ديرفيلد في العام 2005لحضور اللقاء السنوي الخامس والعشرين لخريجي
دورتي المدرسية أثاَر خبُر تأسيس «كينغز أكاديمي» حماسة رفاق صفي وإعجاَبهم فدعوُتهم جميعًا
لزيارة األردن.
وبالفعل شهَد شهر آب/أغسطس من ذلك الصيف زيارَة حوالى مئة شخص من خريجي صفي
وأفراد عائالتهم الذين جاؤوا إلى مادبا ليروا المدرسة الجديدة ومن ثم ليدوروا زائرين في أرجاء
األردن .معظمهم يزوُر الشرق األوسط ألول مرة ،وقد عّبر الجميع عن تقديرهم لما قابَلهم به
األردنيون من الكرم وُح سن االستقبال .إثباتًا لكون روح التآلف والتضامن ال تزال قويًة وراسخة
لدى خريجي العام ،1980استطاعوا أن يجمعوا أكثر من مليون دوالر من الدعم المالي لكينغز
أكاديمي ،وهم ال يزالون حتى يومنا هذا يقّدمون ما في وسِع هم من الدعم للمدرسة ويخّص ونها بما
أمكن من وقِتهم ومالهم.
في السنة التالية ُدعيت أيضًا أللقي كلمَة االحتفال بالتخرج وقبلُت الدعوَة بكل سرور ،وفي الثامن
والعشرين من أيار/مايو من العام 2006وقفت مرًة ثانية في ذلك السرادق ذي الخطوِط الخضراء
والبيضاء ورحُت أجول بنظري على أولئك الشباب والشابات الذين َتغمرهم الفرحُة بنهاية مرحلٍة
وبدء ما بعَدها .كان إريك ويدمر يترأُس احتفاَل التخرج األخير بوصِفه مديرًا للمدرسة ،وخالَل
إلقائه كلمَة االفتتاح استداَر نحوي وقال« :تراوُدني رغبٌة شديدة في أن أقِّد َم َك بوصِفك رئيسي
الجديد ،ثم تلُّح علّي رغبٌة أخرى في القول بأن ال مهرَب لَك من أن تكوَن لطيفًا معي ،وإن كنَت
رئيسي ،ألنه يبدو من األرجح أنني سأكون مشرفًا على تعليم أوالدك» .صدقَت ،يا دكتور ويدمر،
إنه الحلُم الذي َأنتظُر لحظَة تجسيِده ،يوَم أرى أوالدي وسواهم من أبناء األردن والجوار بدأوا
ينهلون في كينغز أكاديمي من معين المعرفِة وحريِة الفكر الذي نهلُت أنا منه في ديرفيلد.
في المالحظات والنقاط التي تطرقُت إليها في خطابي شددت على أهمية إقامة روابط متينة كهذه
بين الشرق األوسط وأميركا ،وتحدثت عما أحلم به بالنسبة إلى كينغز أكاديمي« :إننا عازمون على
حمل النموذج الذي تمثله ديرفيلد وزرِع جوهِر ه وُم ُثِله في منطقتنا» ،ثم أضفت شارحًا« :هذا
الجوهُر المتمثل بمدرسٍة داخليٍة مختلطة يكون التواصُل فيها بين المعلم والطالب صحّيًا ومستمّر ًا،
والدروُس األكاديمية موضَع تشجيٍع واهتماٍم دائمين ،والحياُة الطالبية يغّذيها التنافُس في مجاالِت
الرياضة والفنون الحية والخدمات االجتماعية الحقيقية» .ولكي نوّفر لطالبنا أفضل مستويات
المنافسة في اقتصاٍد حديٍث ومعولم قررنا اتباَع منهج تعليم أميركي متقدم ،كما قررنا أن يكون تعليم
المواد جميعًا باللغة اإلنكليزية ،إضافة إلى دروس في اللغة العربية وقواعِدها وآداِبها ودروس في
سياسات الشرق األوسط وفي األديان وعلِم االجتماع .كذلك أردُت أن تكون المدرسة مخَتَلطًة بين
فتيٍة وفتيات ،صحيح أن ديرفيلد كانت ُتقَتصر على الصبية عندما كنُت أنا هناك ،لكن بدَأْت تقبُل
الطالبات بعد مرحلتي ببضِع سنوات وذلك في العام .1989كنُت أعي تمامًا أن البعض في األردن
والمنطقة سيعترض على فكرة التعليم المختَلط ،لكن هذا لم يزحزحني قيَد أنملة عن اعتقادَي الراسخ
بأن فتياِتنا يجب أن َيحصلن على الُفرِص والمجاالِت نفسها التي تتاح لفتياِننا.
في تموز/يوليو من العام 2006رسمُت الدكتور ويدمر مديرًا للمدرسة في احتفاٍل صغير ،تناولنا
من بعده العشاَء معًا في قاعة الطعام في كينغز أكاديمي وجلسنا حوَل موائَد مستديرة تسهيًال للنقاش
والتواصل بحسب التقليد المتبع في ديرفيلد .فريق التصميم والبناء كان قد أنجَز عمًال رائعًا بالفعل،
فقد اشتمَل الموقع ،الذي بلَغْت مساحُته ما يزيد على 607دونمات ،على أكثر من عشرين مبنى،
باإلضافة إلى المالعب الرياضية المتعددة والواسعة .من بين المنشآت أيضًا مسرٌح للعروض الفنية
والتمثيلية ،وقاعُة طعام ،وقاعة للرياضة ،ومكتبة ،وبناٌء لإلقامة والنوم للفتيات وبناء آخر للفتيان،
ومركز روحي .اكتملت األبنية ،ولم يبَق أماَم نا سوى أن نمَألها بمن َيشغُلها ويبُّث فيها الحياَة والعمَل
المجدي.
على مدى السنة التالية عمَل إريك ويدمر وفريُقه دون كلٍل وال ملل بحثًا عن معلمين من ذوي
الكفاءات العالية ،وجاؤوا بعدٍد منهم من الواليات المتحدة ،يمتلكون خبرًة واسعة في مجال المدارس
الداخلية .كما كان عليه وفريقه أن ينظموا إجراءاِت الَقبول وتسّلم طلبات االنتساب من طالِب الصف
األول من صفوف المدرسة .جال ويدمر ومساعده في معظم بلدان الشرق األوسط واصفين
وشارحين فكرَة المدرسة الداخلية المختَلطة التي ُتعطي دروَسها في كل المواد باإلنكليزية ،موّج هين
شرَح هم إلى األمهاِت القلقات واآلباء المتهّيبين الفكرة .وبما أن فكرَة المدرسة الداخلية ،وزْد عليها
المختَلطة ،كانت فكرًة جديدة وغير مألوفة على اإلطالق ،أبدى بعض ذوي الطلبة المحَتَم لين تخوفًا
وحذرًا ،ولكْن كثيرون رَأْو ا في المشروع ومنهجيته التربوية مصلحًة وفائدًة لمستقبِل أوالدهم.
ليس باألمر السهل إطالُق مؤسسٍة تعليمية جديدة بهذه المواصفات العالمية المتمِّيزة وبهذا الحجم
انطالقًا من الصفر ،لكن إريك ويدمر وفريقه أنجزوا ما ُيشبه األعجوبة .لقد جالوا زوايا األرِض
األربع بحثًا وتدقيقًا ليعودوا بفريٍق من المعلمين على أعلى درجاِت الكفاءة والخبرة والمهنية
المتمّيزة .كذلك استطاعوا َص ْو َغ المنهج التعليمِّي واألسِس التي يقوم عليها ،وضَّم نوه بعَض العناصر
غير الملموسة :مجموعة القيم والمبادئ التي تقوم عليها المؤسسة .وإذا كانت ديرفيلد قد َعَبرْت
عشرين عقدًا من الزمن لكي ُتراكَم ما بات ُيعرف بـ«تراث ديرفيلد» أو «طريقة ديرفيلد» فقد راَح
إريك ويدمر ُينِبُت التراَث والتقاليد في كينغز فيما كانت الحجارُة ال تزال ُترَفع جدرانًا والمناهج ال
تزال ُتدرُس وُتصاغ.
افتتحت كينغز أبواَبها في آب/أغسطس من العام ،2007وفيما عازفا القرب َيعزفان لحَنهما
المألوف اجتمَع أفراُد الهيئة التعليمية وأعضاُء مجلس األمناء في إحدى باحات الحرم المدرسّي
وألقى بعُض هم كلماٍت افتتاحيًة قصيرة شَّكلت إشارَة االنطالق في الفصل الدراسي األول .ضَّم صف
الدخول األول مئًة وستَة طالب من األردن ومصر وفلسطين وبعِض دول الخليج العربي .كذلك كان
من بينهم طالٌب من الواليات المتحدة ومن بلداٍن أخرى بعيدة كتايوان .انقسَم الستُة والستون صبّيًا
واألربعون فتاًة على الصفين التاسع والعاشر ،كما انقسموا بين طالب داخليين بالكامل وآخرين
نهاريين كان معظُم هم يأتي من عمان ويعود إليها يوميًا .في السنة التالية انضَّم إلى المدرسة أكثر من
مئٍة وخمسين طالبًا وطالبة جددًا التحقوا بصفوِفهم في بدايِة السنة الدراسية في آب/أغسطس رافعين
مجموَع عدد الطالب إلى مئتين وخمسين طالبًا وبقيْت نسبُة توّز عهم بين إناٍث وذكور على ما كانت
في السنة األولى ،أربعين في المئة لإلناث وستين في المئة للذكور .اشتملت المجموعُة الجديدة على
ممثلين لجنسياٍت بلغ مجموُعها إحدى وعشرين جنسيًة بما فيها العراقيُة واألفغانية .أما في آب/
أغسطس من العام 2009فقد افَتتحت كينغز عاَم ها الدراسَّي بأربعمئة طالب وطالبة من أربعة
وعشرين بلدًا.
كان من بين الطالِب الجدد ابني حسين .فرانيا وأنا ،ككِّل أبوين ،نريد ألوالِدنا أفضَل مستوياِت
التعليم والتربية ،ولذلك كنت قد فكرُت في إرساله إلى الخارج لتلقي تعليِم ه على غرار ما حدث لي.
لكن ليس سهًال على األبوين إرساُل ولِدهما ليتلقى تعليَم ه على ُبعد آالف األميال .والحمد هلل أنه
أصبح لدينا اآلن مدرسٌة محلية يستطيُع أن ينهَل منها تعليمًا ال يقُّل مستوى ،ال بل يناِفُس ،المستوى
الراقي الذي أتيَح لي في أميركا.
أفراُد العائلة المالكة في األردن الواقع الذي يبدو أْن ال مهرَب منه هو شبُه االستحالة في أن يتمكَن
حسين أن يرّتب سريَر ه ،وأن من العيش حياًة عاديًة وطبيعيًة بصورٍة كاملة .مع ذلك فقد تعّلَم
يتشارَك الحماَم مع طالٍب آخر ،وأن يخدَم طالبًا آخرين على موائِد الطعام .عندما عاَد إلى المنزل في
عطلِة األسبوع األولى ،كنا أنا ورانيا وسائر أفراد العائلة قد افتقدنا وجوَده الدائَم بيننا ،وما إن دخَل
حتى قال« :مرحبا ،لدَّي فروٌض ودروٌس كثيرة ،سأراكم الحقًا» .حسين مستعجل إلتمام فروِض ه
المدرسية؟ ..إنها حقًا مفاجأة ..لكن ساّر ة دوَن ريب.
من األهداف التي أوُّد للمدرسة أن تحقَقها توسيُع دائرِة التنّو ع فيها ،ليس فقط من حيث تعّدُد
جنسياِت طالبها وإنما أيضًا من حيث الخلفياُت االقتصاديُة واالجتماعية لهؤالء الطالب .بعض
أصدقائي المقربين من ديرفيلد جاؤوا المدرسَة بمنٍح مدرسية ،وقد أدركُت بفرٍح كبير القيمَة الكبرى
التي تكتسُبها المدرسة والمجتمع الذي تنتمي إليه جراَء مساعدِة الموهوبين من فتياٍت وفتيان في
تسّلق سَّلِم اإلنجازات والعطاء بقدر ما تسمُح لهم مواهُبهم .أما نحن فقد استطعنا أن نوّفر لنصف
الطلبة تقريبًا مساعداٍت ماليًة مبنيًة على عنصِر الحاجة الحقيقية ،وبذلك تمكنت المدرسة من
استقطاِب -وبالتالي قبول -أكثر الطالب موهبًة وتفوقًا دونما النظر إلى خلفياِتهم وقدرات ذويهم
االقتصادية .اتخذنا قرارًا بأن ُيعطى الطالُب /الطالبة األول/األولى في كل محافظٍة من المحافظات
األردنية االثنتي عشرة ،باإلضافة إلى الطالب أو الطالبة األول/األولى في مخّيماِت الالجئين
الفلسطينيين ،منحًة دراسية .لقد توليُت شخصّيًا تأميَن ثالثين منحًة دراسية لثالثين طالبًة وطالبًا
ضمن برنامج منح يعرف ببرنامج «طلبة منحة الملك» وبقيُت متاِبعًا مسيرة هؤالء الطالب الدراسية
وتطوَر ها .ومما يثبُت مرًة جديدة ومتكررة أن الفقَر المادَّي شيٌء والغنى العقلَّي والفكرَّي شيٌء آخر،
أن سبعين في المئة من الطلبة الذين احتلوا قائمَة الشرف في العام 2008كانوا من الذين يتلَّقْو َن مَنحًا
دراسية .هؤالء هم فتياُننا وفتياُتنا الذين يبلغون ،متى أتيحْت لهم الفرص ،أقصى ما ترَفُعهم إليه
مواهُبهم وقدراُتهم العقلية المتفوقة.
داخل المدرسة َيلقى الطالُب جميعًا المعاملَة ذاَتها وُتساوي بينهم أنظمُة المدرسة مساواًة كاملة:
كما تقضي تقاليُد ديرفيلد وعاداُتها النبيلة ،لكِل طالب وطالبة دوُر ه في الخدمة على موائد الطعام،
والكُّل يرتدي الزَّي المدرسَّي نفَسه ،السترة التي تحمُل شعاَر المدرسة وربطَة العنق والسروال .لكن
خارَج حرم المدرسة كان كثيرون من الطلبة يتمتعون بمباهَج وامتيازاٍت اجتماعية لم تكن متوافرة
للذين يدرسون بمنٍح دراسية .هذا ما أوحى لي أن أنِّظ م للطلبة الثالثين الذين أرعى شخصّيًا دراسَتهم
رحلًة ينصبون خاللها خياَم هم ويتمتعون بالطبيعة .أخذُتهم إلى وادي َر ّم ؛ وهو من أروع معالِم
األردن الطبيعيِة وأكثِر ها شهرًة ،وقد وصَف تي إي لورنس وادي َر ّم بأنه «امتداٌد طبيعٌي فسيُح
األرجاء ،ذو أصداء ال متناهية» .يرتفُع بعُض الُكَتِل الصخرية في الوادي ما يقارُب 300متر فوق
رمال الصحراء ،وفوق هذه الصخور العمالقة يقع جبُل َر ّم الذي يبلغ ارتفاُعه 1524مترًا وهو
الجبل الثاني من حيث االرتفاع في األردن .طرنا على ارتفاٍع منخفض فوَق هذه التكويناِت
الصخرية ثم اتجهنا إلى الموقِع الذي اعتزمنا نصَب خياِم نا فيه وهو في العمِق من قلب الوادي
الكبير.
كنا قد نصبنا خيامنا على مّتَسٍع من األرض ،وجئنا بسيارات ال تعوقها وعورٌة وال رمال ،كما
حملنا مجموعًة من األلعاب وبعَض األسلحة للتمرن على الرماية .بعد مغيب الشمس تحّلق الطالُب
حوَل بضعة مواقد ُأشِع لت فيها النار وبدأت حفلُة شواء اللحم على الطريقة التقليدية ،بأن ُيلَّف اللحُم
ويغَّلف جيدًا ،وُيطمر تحت الرمال ويصاَر إلى إشعاِل النار فوَقه وترِك ه ينضُج على مهل .بعد
العشاء جلسُت متربعًا على الرمل وأحاَط بي الطالُب الثالثون جميعًا ومواقُد النار في الوسط .كان
بينهم فتاٌة كردية من العراق ،وفتاٌة يتيمٌة من أفغانستان ،وفتاة باكستانية ،وطلبة وطالبات من كل
أنحاء األردن .جلسنا حول مواقِد النار وامتدت بنا األحاديُث ثالث ساعات متأرجحين بين اللغتين
العربية واإلنكليزية ،وقد أمطَر ني الطالُب بكل ما خطَر في بالهم من األسئلة ابتداًء من كيف لك أن
تصَف مهمَة الملك ،وصوًال إلى التساؤِل عن سياساِت الشرق األوسط .قلت لكل واحد منهم إنني
سوف أساعُده في الدخول إلى الجامعة حتى التخرج ،أما الطلبُة من غير األردنيين فقلُت لهم إنني
آمُل أن َيستخدموا المعارَف التي يكتسبوَنها في مساعدِة بالِدهم واإلسهاِم في تنميتها ،وما كان منهم
إال أن وعدوا بقلوب مفعمة باإلرادة والعزم بأنهم لن يتوانوا في ذلك .لقد َم َأل أولئك الفتيُة والفتيات
ساعاتي الثالث باألسئلة والنقاش حتى كدت ال أجُد اللحظَة الكافية لتناول لقمٍة من ذلك العشاِء
الشهّي ،لكّن الحديَث المشّو ق بمستواه الرفيع وتركيِز ه على الشؤون الجدية مع فتيٍة وفتياٍت في هذه
المرحلة من الحياة ،حمَل إلَّي ِغ ذاًء روحّيًا كافيًا وافيًا .التفُّت إلى «جيج» ،الذي رافَقني في تلك
الرحلة ،وقلُت له« :عليَك أن تجَد لي مزيدًا من هذه النوعية من الطالب مهما كلف األمر .إن
االستثمار في هؤالء الطالب سيعود على األردن والمنطقة ،دون أدنى ريب ،بحصاد وفير وخير ال
يوصفان».
وأخيرًا َأوى كٌل منا إلى مضجِع ه ،لنعوَد في الصباح التالي وننهَض مع طلوِع الفجر ،وألعوَد إلى
تمضيِة ساعاٍت أخرى من األحاديث والنقاش مع الطلبة .لقد أظهروا من االندفاع والحماسة
والتعاطف مع اآلخرين ما يكُبُر به قلُب أّي إنسان .في إطار قيامي بواجباتي ملكًا ومسؤوًال ألتقي
العديد من األفراد وقادة الرأي من ذوي العقل الراجح الذين يوحون بالثقة واألمل الكبيرين ،لكن تلك
الرحلة إلى أحضان الطبيعة مع طالب كينغز أكاديمي كانت قمَة الفرح الذي َح ملْته إلّي تلك السنة.
في حزيران/يونيو من العام 2010غمرني الفخر واالعتزاز فيما كنت أسِّلم شهاداِت التخرج إلى
أربعٍة وثمانين خريجًا وخريجًة ،وهُم الفوُج األول من خريجي كينغز أكاديمي ،وكل هؤالء كانوا في
طريقهم للدخول إلى الجامعة .أربعَة عشَر طالبًا وطالبًة منهم كانوا سيكملون تعليَم هم الجامعَّي في
عدد من أفضل جامعاِت الشرق األوسط ،وعشرة منهم كانوا ينوون الدراسَة في بريطانيا ،فيما اختار
تسعة منهم كندا لدراسِتهم الجامعية .أما نخبُة الجامعاِت األميركية ،هارفرد وستانفورد وييل وبراون
وكولومبيا وكورنيل وبرنستون وجونز هوبكنز وجورجتاون ،فقد كان نصيُبها مجتمعًة أربعًة
وأربعين من خّر يجينا.
إنني على يقين من أن كًال منهم سيكون مسلحًا بخزيٍن وافٍر من المعرفِة وروِح العمل والعطاء ما
يكفيه مؤونًة للخروِج إلى العالم واجتراِح اإلنجازات الكبرى .أملي الكبير أن يكوَن كٌّل منهم قد حاَك
تلك الُعرى الوثيقة من الصداقات التي أتيح لي بناؤها في ديرفيلد ،وأن ُتزهَر وتؤتي ثماَر ها تلك
البذور التي ُز رعت هناك ،في الصحراء ،فُتنبَت لنا جيال جديدًا من القادة الذين سينشرون في أرجاِء
منطقتنا ،شرِقها والغرب ،جنوِبها والشمال ،رسالَة العمِل الجاد ،والفضول الفكرّي والعلمّي ،وعلى
األخص التسامح والتآلف.
لقد أحزَنني حزنًا عميقا أن أحَد الطلبِة الثالثين الذين رَعْيُت شخصّيًا مسيرَتهم المدرسية لم يكن
بين الخريجين .أحمد الطراونة ،وهو شاٌب من الكرك لم يكن قد درَس باللغة اإلنكليزية من قبل ،كان
واحدًا من أفضِل الطالب في صفه ،وكان ينوي تقديَم طلٍب لالنتساب إلى إحدى الجامعات في الغرب
لدراسِة الهندسة ،لكَّن القدَر خطَفه من بيننا في حادِث سيارٍة ُم فجع قبَل تخّر جه بشهرين فقط .لقد
شعرُت بأنني فقدُت واحدًا من أوالدي.
كّلنا تذكرنا أحمد خالل احتفال التخرج ،وكان رفاُق صفي في ديرفيلد قد تبرعوا لكينغز بجائزٍة
ُتقَّدم باسِم الملك عبد هللا الثاني إلى الطالب أو الطالبة الذي/التي تجّسُد في شخصيِتها وتصرفها
جوهَر المبادئ التي تعتمدها كينغز من االحترام ،وحِّب التعُّلم ،والمسؤولية ،والحياة المتكاملة،
والمواطنِة العالمية .لقد ُقدمت هذه الجائزة إلى أحمد رحمه هللا.
سوف تبقى هذه المدرسة ،بل هذا الصرُح التربوّي ،من أحب إنجازاتي إلى قلبي وأكثِر ها مدعاًة
للفخر واالعتزاز .سوف تمتلك كينغز أكاديمي كامَل حقوق النشر للنسخة اإلنكليزية من هذا الكتاب،
وسوف تغذي عائداُته المالية صندوَق المنح المدرسية للطالب المحتاجين.
ع
ب
ر
ل
ا ا
م
س
ق
ل
ا
الفصل السابع عشر :القـدس جوهر الصـراع
في السابع عشر من أيار/مايو من العام ،1999وفيما أنا ُأعّد للقيام بزيارتي األولى للواليات
المتحدة ملكًا لألردن ،توّج ه اإلسرائيليون إلى مراكز االقتراع بعد أن كانت العملية السلمية قد
أصيبت بالشلل مع توّلي بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة .بدأنا جميعا نستبشُر بأن تأتينا االنتخابات
بقائٍد جديد يحمل معه دفعًا جديدًا لتلك العملية .كان نتنياهو وعرفات قد وّقعا في السنة السابقة تفاهمًا
أراداه إطارًا للسير ُقُدمًا بعملية السالم ،وهو التفاهم الذي ُسّم ي مذّكرة واي ريفر .هذا التفاهم الذي
ناَل دعمًا الفتًا من والدي وهو في األشهر األخيرة من حياته ،والذي نّص على مزيد من االنسحابات
المرحلية من الضفة الغربية ،بدا مخرجًا واعدًا .لكن ما إن مضت بضعة أشهر ،وبعد تنفيذ المرحلة
األولى فقط من مراحل االنسحاب الثالث ،حتى أخذ نتنياهو يضع العوائق في سبيل تنفيذ ما تَّم
التفاهم عليه ،وراح يماطل حتى باتت مذِّك رة واي ريفر بحكم الميتة .في ظل االنتخابات الجديدة كان
أمُلنا ،في األردن وفي العالم العربي ،أن يأتي رئيس جديد للحكومة قادر على إنعاش عملية السالم
والسير بها إلى األمام.
أظهرت االستطالعات أن إيهود باراك ،رئيس أركان الجيش اإلسرائيلي سابقًا والضابط األكثر
أوسمًة في هذا الجيش ،كان في طليعة المرشحين .كان في صفوف القوات الخاصة ،وحين غادر
الجيش وخاض غمار العمل السياسي قرر رفَع لواء صنع السالم .اكتسَح باراك االنتخابات وكان
فوزه كبيرًا ،وقد ُأعِلنت النتائج فيما كنُت في واشنطن ألتقي الرئيس كلنتون في البيت األبيض.
استبشر كالنا خيرًا بأنه سوف ينجح حيث َفِشَل نتنياهو ،وسوف يتخذ الخطوات الجريئة الضرورية
لتحقيق السالم بين إسرائيل والفلسطينيين.
كانت زيارتي الرسمية األولى إلسرائيل في نيسان /إبريل من العام ،2000بعد أن أّج لُت زيارة
كانت محددة قبلئٍذ بشهرين ألن إسرائيل هاجمت عشوائيًا أهدافًا في جنوب لبنان .غادرت العقبة مع
الوفد المرافق باتجاه إيالت حيث استقبَلنا باراك ورافَقنا في جولٍة على أحد مرافق صيد األسماك ،ثم
أخَذنا إلى أحد الفنادق حيث دعانا إلى غداء عمل .بحثنا في ما كانت محادثاُت الوضع النهائي قد
تناَو لْته من نقاشاٍت في شرم الشيخ في أيلول/سبتمبر من العام 1999والتي كان من المفترض أن
تؤدي إلى اتفاٍق شامل .قلت لباراك ،بكالٍم واضٍح وصريح ،إنه إذا شاء للعالقات أن تتحسن بين
األردن وإسرائيل فعليه أن يحقق تقدمًا حقيقّيًا وملموسًا مع الفلسطينيين.
فيما كانت والية كلنتون على وشك أن تنتهي كان رئيس الحكومة اإلسرائيلية يبذل جهودًا جدية
لخلق ُم ناخ سياسّي يتيح لإلسرائيليين والفلسطينيين أن يتوصلوا إلى اتفاق سالم دائم .شهد صيف
العام 2000نشاطًا دبلوماسّيًا كبيرًا ومتواصًال دار كله حول عملية السالم .في شهر أيار/مايو سحَب
إيهود باراك القوات اإلسرائيلية من جنوب لبنان بعد احتالل دام عقدين تقريبًا .لكن االنسحاب لم يكن
كامًال فقد أبقت إسرائيل قبضَتها على مزارع شبعا وبعض المواقع اللبنانية األخرى .لو أن القوات
اإلسرائيلية أكملت انسحابها من جنوب لبنان لما كنا شاهدنا نزاعاٍت أخرى بعدئذ ،ومن هنا فإن قرار
وقف االنسحاب قبل إكماله كان عائقًا مؤسفًا وكانت تداعياُته باهظَة الثمن.
في إقرار بجدوى المفاوضات التي جرت بين أنور السادات ومناحم بيغن في كامب ديفد في العام
،1978دعا الرئيس كلنتون باراك وعرفات إلى قمٍة بينهما في كامب ديفد في شهر تموز/يوليو
وكان الهدف منها تسريع التقدم في محادثات السالم التي كانت متعثرة ،وبالتالي لبذل أقصى الجهود
الممكنة لبلوغ اتفاٍق نهائيُ .قبيل مغادرة القائدين إلى الواليات المتحدة التقيت كًاّل منهما على حدة.
ذّكرُت كًال من الرجلين بالجهود المضنية التي بذلها والدي مع الرئيس كلنتون ،وبالتضحيات التي
قّدمها لدفع عملية السالم نحو نهاياتها السعيدة ،وها هو ذا الرئيس كلنتون قد قرر أن يجهد من أجل
الوصول إلى التسوية النهائية .لقد أراد أن يزيل من طريق االتفاق الخطوات الباقية من االنسحابات
المرحلية من الضفة الغربية ،ومن َثَّم أن يضع الشروط المقبولة من الطرفين اإلسرائيلي والفلسطيني
إلقامة الدولة الفلسطينية .قلُت لهما إن علينا أن نحرَص على عدم إضاعة هذه الفرصة.
اتجه عرفات وباراك إلى كامب ديفد في الحادي عشر من تموز/يوليو حاملين معهما آمال شعوب
المنطقة وتمنياتها بأن يحققا تسويًة سلمية للصراع الذي يكاد يختصر تاريخ الشرق األوسط على
مدى ستين عامًا .لكن المؤسف أن هذه اآلمال ذهبت كلها أدراج الرياح ولم تؤِت ثمارًا .على مدى
أكثر من أربعَة عشَر يومًا من المفاوضات في كامب ديفد بلَغ الفريقان خالَلها أقرَب ما بلغاه في أّي
يوٍم مضى من إنجاز االتفاق .لكّنهما وقفا عاجَز ْين عن اتخاذ الخطوة األخيرة .من بين المسائل
األربع المتعلقة بالوضع النهائي والتي تناولتها المفاوضات ،بقيت القدس ومسألة الالجئين
الفلسطينيين النقطتين األكثر وعورًة واألعمق خالفًا.
قدم باراك عرضًا تجاوَز فيه كل ما سبَقه من عروض إسرائيلية ،لكن بالنسبة إلى المفاوضين
الفلسطينيين لم يكن العرض مقبوًالُ .تبقي إسرائيل ،بموجب عرض باراك ،عشرة في المئة من
أراضي الضفة الغربية تابعًة لها نهائيًا ،كما ُتبقي عشرة في المئة إضافية تحت سيطرتها لمدة
عشرين سنة .أما عودة الالجئين فجرى التعامل معها في إطار َلِّم الشمل العائلي ،فيما اسُتبعد حق
العودة كلّيًا .أما في ما يتعلق بالقدس ،فلم ُيعرض على الفلسطينيين سوى سلطٍة إدارية على األماكن
المقدسة في المدينة القديمة ،وهو أقل بكثير من السيادة الكاملة على القدس الشرقية التي يطالبون بها.
ال شك في أن الفلسطينيين كانوا راغبين في فتح ثغرٍة في الحائط المسدود ،لكن عرفات شعر بأنه
ال يستطيع أن يوقع اتفاقًا يضّح ي فيه بحقوق أكثر من خمسة ماليين فلسطيني ،ويعطي إسرائيل
السلطة الكاملة على القدس الشرقية.
على الرغم من أن عرفات وباراك أظهرا شجاعًة كبيرة في مفاوضاتهما ،فقد بدأت االتهامات
والتراشق بأسباب الفشل فور انتهاء االجتماع ،يرميها كٌّل من الفريقين على اآلخر .وأخيرًا توقفت
المفاوضات وانتهى اللقاء بالفشل في 25تموز/يوليو .في األشهر التالية تزايدت مشاعر الخيبة لدى
الفلسطينيين في ضوء تالشي الرغبة اإلسرائيلية في الوصول إلى اتفاٍق معهم .أما إيهود باراك فكان
على مشارِف انتخاباٍت نيابية جديدة ،وبدا واضحًا أن استعداَده للتنازِل عن مزيٍد من األراضي في
الضفة الغربية لم يكن مقبوًال عند الرأي العام اإلسرائيلي .هنا قفَز إلى مسرِح الحدث آرييل شارون
ورمى شرارَته التي أشعلت المنطقَة برّم تها .كان متوقعًا في ضوء تصرف شارون أن تكون القدس
الشرارَة التي تنطلق منها االنتفاضُة الفلسطينية الثانية وأن تنتهي اآلمال المعَّلقة على الوصول إلى
السالم.
َم هوى أفئدِة العرب وُقّر ُة عيوِنهم هي القدس ،هكذا كانت وهكذا ستكون ..إنها المدينُة التي يقدُسها
أبناء الديانات التوحيدية الثالث ،ولعّل هذا واحٌد من األسباب التي َج عَلْتها في غالِب األحيان منطلقًا
للنزاع .لقد شهدت القدس غزواٍت عديدًة في تاريخها .بعض الغزاة أغرقوها بالدماء .أما اإلسالُم فقد
أطَّلْت عليها رايُته بكرامٍة وسالم.
في القرن السابع للميالد ضربْت قواُت خليفِة المسلمين ،وكان مقُّر ه آنذاك في مكة المكرمة،
حصارًا على القدس التي كانت تحت سيطرة اإلمبراطورية البيزنطية .عندما انتهى األمُر إلى
استسالم المدينة دخَلها الخليفُة عمر بن الخطاب رضي هللا عنه سيرًا على القدمين ،يرافقه رجٌل من
َخدِم ه يجُّر جمًال واحدًا وذلك تعبيرًا من الخليفِة عن احتراِم ه لوضع القدس واعتراِفه بكونها مدينَة
السالم .بادر بطريرك القدس األرثوذكسي ،صفرونيوس ،إلى دعوة الخليفة للصالة في كنيسِة القيامِة
المقدسة ،لكّن الخليفَة استنكَف عن قبوِل الدعوة مخافة أن ُيحيَل المسلمون الكنيسَة مسجدًا بدعوى أن
الخليفَة ركَع وصّلى فيها .وبدًال من الصالة هناك ،ذهَب الخليفة عمر لزيارة األقصى ،الذي كان
آنذاك أثرًا بعد عين ،والذي منه عرج النبُّي العربّي محمد (ص) إلى السماء ليلَة اإلسراء والمعراج.
أمر عمر ببناء مسجٍد في ذلك الموقع ،ومن َثّم وّقع عهدًا يضمن للمسيحيين الحمايَة والحق بممارسة
شعائرهم الدينية .لقد جاَء في العهدة العمرية:
بسم هللا الرحمن الرحيم
هذا ما أعطى عبُد هللا عمُر أميُر المؤمنين ،أهَل إيلياء من األمان ،أعطاهم أمانًا
ألنفسهم وأموالهم ،ولكنائسهم وصلبانهم ،وسقيمها وبريئها وسائر ملتها ،أنه ال ُتسكن كنائسهم وال
ُتهدم ،وال ُينتقص منها وال من حّيزها ،وال من صليبهم وال من شيء من أموالهم ،وال ُيكرهون على
دينهم ،وال يضار أحد منهم.
لم تكن القدس على هذا القدر من الحظ مع جميع الحكام الذين عرَفْتهم عبر تاريخها ،ففي أواخر
القرن الحادي عشر نادى البابا أورباُنس الثاني باستعادة القدس ،فتجّم ع الفرسان وأتباُعهم من كل
أنحاء القارة األوروبية وزحفوا نحو األراضي المقدسة في ما بات ُيعرف بالحملِة الصليبية األولى.
وأخيرًا ،عندما سقطت القدس في العام 1099دخل الصليبيون القدس وذبحوا آالف اليهود
والمسلمين والمسيحيين األرثوذكس من المدافعين عن المدينة ،بمن فيهم كثيرون من المسلمين الذين
لجأوا إلى المسجد األقصى.
لم يصمد الصليبيون طويًال ،فقد اقُتلعوا من القدس بعد مرور أقل من قرٍن واحد لتعود المدينة إلى
أيدي المسلمين وتبقى في ُعهدتهم أكثر من سبعمئة سنة .وعندما ُأخِر َج األتراك العثمانيون من بالد
العرب ُبعيد الحرب العالمية األولى وقع عبُء المسؤولية عن المدينة على كاهل عائلتي الهاشمية،
وأعلَن أهُل بيت المقدس الوالء لوالد جدي األكبر الحسين بن علي .في العام 1948استطاعت
القوات األردنية بقيادة جدي األكبر الملك عبد هللا األول أن تحمي الضفة الغربية بما فيها القدُس
الشرقية من قوات دولِة إسرائيل الجديدة .بعدئٍذ بسنتين أصبحت الضفة الغربية جزءًا من المملكة
األردنية الهاشمية بموجب قرار وحدة الضفتين وذلك في ضوء اإلعالن الصادر عن مؤتمر أريحا.
لم تكد تمضي سنة واحدة حتى اغتيل جدي األكبر خالل زيارِته القدس ،وكان والدي واقفًا إلى
جانبه .وعندما أصبح والدي ملكًا ورَث مسؤوليَة العائلة الهاشمية في رعايِة شؤون المدينة المقدسة
ورعاية الوحدة بين الضفتين .كان والدي شديد التعّلق بالقدس من الناحيتين الدينية والعائلية ،ولم
يترك جهدًا إال بذَله قيامًا بمسؤوليته حاميًا للمدينة وراعيًا لشؤون المواقع المقدسة فيها .وحتى بعد أن
استولى اإلسرائيليون على القدس الشرقية في العام 1967وافق موشي دايان ،وزير دفاع إسرائيل،
على أن تبقى األماكن المقدسة تحت إدارة الحكومة األردنية.
مهما قيل في أهمية القدس لدى مسلمي العالم يبَق الوصف أقَّل من حقيقة مشاعِر هم حياَلها .يصف
القرآن الكريم في السورة السابعَة عشرَة معجزة اإلسراء والمعراج حيث اصطحَب المالُك جبرائيل
عليه السالم النبي محمدًا (ص) من مكة المكرمة إلى القدس .ويشير الحجر األساس ،الموضوع
تحت قبِة الصخرة ،إلى المكان الذي عرج منه النبي إلى السماء في تلك الليلة ،وهناك اجتمع حوَله
األنبياء فأَّم هم في الصالة ومن ثم أعيَد إلى مكة المكرمة.
في أيام اإلسالم األولى كان المسلمون يوّلون وجوههم نحو القدس عند الصالة ،لكن مع الوقت أمَر
هللا عز وجل النبي (ص) أن يجعَل مكَة قبلَة المسلمين ،كما أعلن النبّي (ص) أنه ال ُتشد الرحال إال
إلى ثالثة مساجد ،المسجد الحرام في مكَة والمسجد النبوي في المدينة المنورة والمسجد األقصى،
الذي تعادل الصالة فيه خمسمئة صالة في غيره.
اسُم القدس يحمُل معناه في ُص لِبه ،إنها بيُت المقدس .واستيالُء إسرائيل على القدس في العام
1967هَّز ضمائَر العرب والمسلمين في أرجاِء المعمورة ،وقد جرى التعبير عن مشاعر الغضب
والحزن على خسارة القدس في المظاهرات والمسيرات كما في الشعر واألدب .لقد أَسَر ْت فيروز،
التي رَّنمِت القدَس ومكَة كما لم يرّنمهما أحد ،قلوَب ماليين العرب عندما َص َدحْْت بصوتها الساحر
معلنة الحزن على «زهرة المدائن» ،رائعتها التي ال تزاُل َتهُّز منا المشاعَر والقلوَب كلما ارتفع
صوتها يذّكُر العالم بأن «عيوننا إليك َترحُل كَّل يوم» ،و«ألجلِك يا مدينَة الصالة أصّلي» .وال ينسى
العرُب أن القدس هي أيضًا رمٌز من رموز الثورة العربية الكبرى التي حمَل رايَتها جُّد جدي
الشريف حسين.
المكانُة التي كانت للقدس في قلِب والدي لم تكن لسواها .لقد باع منزله في لندن في أوائل
تسعينيات القرن الماضي ليتمكن من إصالح الغطاء الذهبّي لقبِة الصخرة .كما أنني فخوٌر أيضًا
بالعمل الذي قاَم به المهندسون والحرفيون األردنيون في إعادة بناء منبر صالح الدين الذي كانت قد
دّم رته قنبلٌة حارقة ألقاها في المسجد صهيوني متطرف في العام .1969
إنني أولي مسؤوليتي في الحفاظ على الُه وّية العربية للقدس ورعاية األماكن المقدسة فيها أعلى
درجات الجدية .وتتعرض ُهوية القدس لخطر وتهديد كبيرين من اإلجراءات اإلسرائيلية األحادية
المستهدفة تهجير المسلمين والمسيحيين من المدينة .ال َينسيّن أحٌد أن القدَس أشبُه ما تكون ببرميٍل
من البارود يمكنه تفجير المنطقة برّم تها وإشعال مشاعر الغضب في كل أرجاء المعمورة .نحن لم
نأُل جهدًا في تحذير اإلسرائيليين ،مرًة ِتْلَو مرة ،من العواقب الكارثية إلجراءاتهم األحادية في
القدس ،خصوصًا الحفريات التي تهدد سالمَة األماكن المقدسة اإلسالمية والمسيحية ،وبناء
المستوطنات ،وتدمير منازل الفلسطينيين ،فضًال عن محاولة تفريغ المدينة من أهلها المسلمين
والمسيحيين .في كل اجتماع أعقده مع المسؤولين اإلسرائيليين أحّذرهم بأن للقدس مكانة خاصة في
العالم اإلسالمي تجعل من العبث بها لعبًا بالنار .ولن تؤدي اإلجراءات اإلسرائيلية األحادية في
القدس إال إلى تأجيج الصراع وتفجير العنف الذي سيعاني منه الفلسطينيون واإلسرائيليون على حد
سواء .لكن الحكوماِت اإلسرائيلية مستمرة في هذه الممارسات التي تهدد العالقاِت األردنية -
اإلسرائيلية وتحمل خطر تدمير كل جهود تحقيق السالم الدائم في المنطقة.
هذا بالضبط ما فعَله شارون ،زعيم حزب الليكود ،عندما أعلن في أيلول/سبتمبر من العام 2000
عزَم ه على زيارِة الحرم الشريف الذي يسّم يه اليهود «جبل الهيكل» .هم يؤمنون بأن الهيكلين األول
والثاني كانا مبنيين في هذا الموقع ،كما يعتقد بعُض هم أن «جبَل الهيكل» سوف يكون الموقَع الذي
ُيشاُد عليه الهيكُل الثالث الذي سيكون بناؤه إشارًة إلى مجيء المسيح عليه السالم .لكن يبدو أن بعَض
المتطّر فين من اإلسرائيليين لم يعودوا يريدون أن ينتظروا وقتًا أطول لمجيء المسيح ،ومن هنا
دعوُة إحدى المجموعات المتطرفة التي تسّم ي نفَسها «أمناء جبل الهيكل» بقيادة الضابط غيرشون
ساالمون ،إلى إزالِة المسجد األقصى وقبِة الصخرة ونقِلهما إلى مكَة حتى يصبَح باإلمكان تشييُد
الهيكل الثالث مكانهما.
رأى كثيرون من المسلمين في خطوة شارون ،التي جاءت ضمَن خطٍة مسبقة ،دليًال واضحًا على
أن مبادئ «أمناء جبل الهيكل» وأفكاَر هم باتت في ُص لب السياسة اإلسرائيلية وجزءًا منها .أصر
عرفات على أن شارون يجب أن ُيمنع من دخول الحرم ،لكن شارون تجاهَل المحتجين ،بشرًا
وأصواتًا صارخة ،ودخَل في 28أيلول/سبتمبر من العام 2000مجَّم َع الحرم الشريف يرافُقه فريٌق
من أعضاء حزب الليكود .سار شارون متجاهًال دقَة الحساسية اإلسالمية في كل أرجاِء العالم حياَل
هذه المسألة ،محاطًا بحمايِة ما ال يقُّل عن ألف عنصر من قوات الشرطة ،في أرجاء الحرم وسط
االحتجاج والغضب اللذين عّبرت عنهما مجموعة من المتظاهرين الفلسطينيين الذين صدَم هم وصدَم
ماليين المسلمين في العالم هذا االنتهاك لواحٍد من أكثِر المواقع اإلسالمية قداسًة.
في اليوم التالي امتدت ردوُد الفعل الفلسطينية الغاضبة على االنتهاك االستفزازي الذي قاَم به
شارون ،وفي سلسلة من االشتباكاِت العنيفة ُقتل على األقل أربعُة فلسطينيين وُج رح أكثر من مئتين
برصاِص القوات اإلسرائيلية .بعد هذه االشتباكات راحِت األحداُث تتوالُد وتمتد دون أي إمكانية
للسيطرة عليها حتى شملت التظاهرات العنيفة القدَس الشرقيَة وأرجاَء الضفة الغربية وغزة .في
الثالثين من أيلول/سبتمبر شهد تقاطُع نتزاريم في غزة حادثًا أثاَر رعَب العالم واشمئزازه .وسط
الصداماِت الدامية بين قواِت الجيش اإلسرائيلي والمتظاهرين الفلسطينيين ،وجَد النجاُر الفلسطيني
جمال الدرة نفَسه عالقًا ،مع ابنه محمد ذي االثني عشر ربيعًا في وسِط ساحِة الصدام .وفيما كانا
يحاوالن االحتماَء وراَء أحد الجدران إذا بزخاِت الرصاص تنهمر عليهما .التقطت الكاميرات هذا
المشهد المرِّو ع وبّثته الشاشات لماليين الناس عبر العالم حيث بدا جمال يبذل الممكَن والمستحيل
إلنقاذ فلذة كبِده الذي َتالشى ولفَظ أنفاَسه بين يدي والده .لقد جّسدت هذه الصورُة لمسلمي العالم من
أقصاه إلى أدناه مدى الوحشيِة التي يمارُسها االحتالل اإلسرائيلي في فلسطين .استمرت هذه الموجُة
من العنف خمسَة أياٍم أخرى وَحَص دْت خمسين ضحيًة من الفلسطينيين ومئات الجرحى ،فيما ُقتل
ثالثُة إسرائيليين في الصدامات.
الزيارُة -االنتهاك للحرم الشريف التي قاَم بها شارون كانت الشرارة لما باَت ُيعرف في ما بعد
بانتفاضِة األقصى .استنكرُت العمل االستفزازي الذي قاَم به شارون وأدنته ،وقلت ليس أماَم نا سوى
طريٍق واحد لوقِف العنف وهو العودة إلى طاولِة المفاوضات والوصول إلى اتفاٍق يلبي حقوق
الشعب الفلسطيني المشروعة ،وخصوصًا حقه بإقامة دولِته المستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها
القدُس الشرقية .لكن شارون سار على طريق آخر.
أجرى الفلسطينيون واإلسرائيليون مفاوضات على مستوى متدٍّن طوال فصل الخريف لكن لم
يعتقد أحد بجدوى هذه المفاوضات .قبل أن يغادر البيت األبيض في كانون األول/ديسمبر من العام
،2000قّدم كلنتون بعض المبادئ العريضة التي ُعرفت في ما بعد بـ«مقترحات كلنتون» التي مّثلت
إطارًا لمعالجة قضايا من بينها المستوطناُت والقدُس والالجئون.
طرح كلنتون إنهاء النزاع على أساس تبني حٍّل يعطي الفلسطينيين ما بين 94و 96في المئة من
الضفة الغربية ،ويقترح تبادل ما نسبته من واحٍد إلى ثالثٍة في المئة من األراضي ،وبذلك يمكن أن
يبقى أربعُة أخماٍس من المستوطنين اإلسرائيليين في األرض التي تحتفظ بها إسرائيل .كذلك اقترَح
كلنتون أن يتضّم َن االتفاُق ترتيبات تتعلق بضمان ممر آمن ودائم للفلسطينيين بين غزَة والضفِة
الغربية .وقد نّص ت النقاط المقترحة على أن يتم االنسحاُب اإلسرائيلي من الضفة الغربية على مدى
ثالث سنوات ُيصار خالَلها إلى اإلتيان بقواٍت دولية.
بالنسبة إلى الالجئين اقترَح كلنتون أن تكوَن الدولُة الفلسطينية هي المحوَر األساسَّي للفلسطينيين
الراغبين في العودة إلى فلسطين ،ولكن دون أن َيستبعد إمكانيَة قبول إسرائيل عودَة بعِض هم إلى
فلسطين ما قبَل العام .1948أما المبدأ األساسي الذي اقترَح ه كلنتون حياَل موضوع القدس فهو أن
تكون المناطُق العربية في المدينة فلسطينيَة الُه وّية ،والمناطُق اليهوديُة إسرائيليًة ،على أن يكوَن
الحرم الشريف تحت السيادِة الفلسطينية وحائُط المبكى تحت سيادِة إسرائيل .واقترح كلنتون أن يعني
اتفاق وفق هذه المبادئ اإلطاَر إلنهاء النزاع وأن يضع تنفيذه حّدًا لكل المطالبات المرتبطة به.
بين 21كانون الثاني/يناير و 27منه حاوَل باراك وعرفات مرًة أخيرة الوصول إلى أرضيٍة
مشتركة وذلك عندما التقيا في طابا في مصر .لكَّن استطالعاِت الرأي في إسرائيل كانت تظهر
تراجَع شعبّية باراك يومًا بعد يوم ،وبعد انتخابات رئاسية في أميركا شاَبها الكثير من المشكالت
والخالفات ،كان رئيٌس جديد للواليات المتحدة قد توّلى الحكَم ولم يكن قد ُعرف بعد المنحى الذي
ستأخذه سياسُته الشرق أوسطية .انتهت المباحثات بعد وقٍت قصير وتصاعد العنف ،وأخذ المعلقون
اإلسرائيليون يكتبون أوراَق النعي للعمليِة السلمية في أوسلو ويعتبروَنها ميتة.
في األشهر التي أعقبت هذه التطورات عصفِت الخالفاُت وتبادُل االتهامات حول َم ن المسؤول عن
انهياِر مفاوضاِت السالم .في هذه المعمعِة من الجدال راحت نقاُط الخالف التي أوقفت المفاوضات
والفشل الذي انتهت إليه تتفاعُل مع تداعياِت زيارة شارون االستفزازية للحرم الشريف .البعُض الم
عرفات على فشل المفاوضات وعلى العنف الذي أعقَبها ،ورأى هذا البعض أن عرفات هو الذي
فبرَك تلك التحركات العنيفة راميًا إلى انتزاع مزيٍد من التنازالت اإلسرائيلية .رأى آخرون أن
األميركيين انحازوا إلى باراك ولم يمارسوا عليه ضغطًا كافيًا لتقديم التنازالت المطلوبة .هناك
بعٌض ثالث استنتج أن اإلعداد لمؤتمر كامب ديفد لم يكن على المستوى المطلوب لبلوغ النتيجة
المرتجاة ،وأن ما ُعرض على الفلسطينيين جاَء أقَّل مما يستحقون أو يطالبون به .لكن تبقى الحقيقة
الواضحة أن وعودًا والتزاماٍت كثيرًة قد ُض ِر َب بها ُعرض الحائط خالَل السنوات السبع الطويلة
التي كانت قد مضت على اتفاقات أوسلو ،األمر الذي أطاَح الثقَة بين األطراف المعنية .أدرَك
الفلسطينيون أن إيهود باراك سوف يخسُر االنتخابات ويخرج من الحكم ،وبالتالي اعتبروه غيَر قادٍر
على تنفيذ ما يوافق عليه نظرًا للضعف الذي باتت ُتعانيه حكومُته .وهكذا شهدنا فشًال مؤسفًا جّدًا
وباهَظ الثمن.
الفصل الثامن عشر :نطلب السالم فتأتينا الحرب
خالل والية الرئيس كلنتون تبادَل العراق والواليات المتحدة بيانات وتصاريَح شديدة اللهجة كما
تبادال عددًا من القذائف ،لكن هذه التبادالت لم تصل حَّد إعالن الحرب بينهما .في كانون الثاني/يناير
من العام ،2001ومع دخول جورج دبليو بوش البيت األبيض ،أخذت هذه الدينامّية تتغّير بوتيرٍة
متسارعة ،ذلك أن بول وولفوفيتز ( ،)Paul Wolfowitzودوغالس فيث (،)Douglas Feith
وإليوت أبرامز ( ،)Elliott Abramsورتشارد بيرل ( )Richard Perleوسواهم من المحافظين
الجدد كانوا يطمحون منذ زمن غير قصير إلى إطاحة صدام حسين وإكمال المهمة التي كان بوش
األب ،بحسب وجهِة نظرهم ،قد بدأها .أخَذ عديد من هؤالء المحافظين الجدد يتولى مواقَع
استراتيجية رفيعَة المستوى في البنتاغون ومجلس األمن القومي ووزارة الخارجية ،وهكذا بات
لديهم كل ما يحتاجون إليه من المراكز ومواقع صنع القرار ولم يبَق سوى اقتناص الفرصة .وما هي
إال فترٌة وجيزة حتى أطلت الفرصة التي انتظروها.
لم ُتبِد إدارة بوش االبن الجديدة اهتمامًا ذا شأن بالبناء على ما كانت إدارة كلنتون قد أنجزته من
عمل لدفع عملية السالم إلى األمام .ففي اليوم التالي لتسّلم بوش الحكم ،في 21كانون الثاني/يناير
من العام ،2001اجتمع اإلسرائيليون والفلسطينيون في طابا في مصر محاولين استئناف
المفاوضات التي كانوا قد عقدوها في كامب ديفد والبناء على مقترحات ومبادئ كلنتون في سبيل
ردم هوة الخالفات األخيرة بينهم .لكن المحادثات ما لبثت أن تالشت وتوقفت ،وبعد طابا عاد الباب
السياسي اإلسرائيلي الدّو ار إلى دورانه السريع مجددًا.
انهزَم إيهود باراك في االنتخابات اإلسرائيلية أماَم حزب الليكود بزعامة آرييل شارون ،وبهذا
التوّج ه االنتخابي كان الرأي العام اإلسرائيلي يرسُل إشارًة واضحة ،عّبرت عنها مواقف شارون
التي أظهرت أنه لم يكن معنيًا بعملية السالم.
بعد هبوط الليل ،مساء 18أيار/مايو من العام ،2001انطلقت المقاتالت اإلسرائيلية من طراز
«إف »١٦من قواعدها باتجاه الضفة الغربية وغزة ،فأسقطت بعض قنابلها على مقر قوى األمن
الفلسطينية في نابلس فدّم رته تدميرًا كامًال وقتلت ثمانية أشخاص ،أما القنابل األخرى فألقيت في رام
هللا حيث ذهب ضحيتها أحَد عشَر شخصًا وُج رح عدد أكبر بكثير .كانت هذه المرة األولى منذ حرب
العام 1967التي تهاجم فيها الطائرات المقاتلة اإلسرائيلية الفلسطينيين .وقد قوبلت هذه الهجمات
باستنكار دولي واسع .لكن فليستنكِر المجتمُع الدولُّي إلى ما شاء هللا ،فها هو ذا آرييل شارون غيُر
نادٍم على ما اقترفت يداه ،يصّر ح لصحيفٍة إسرائيلية بقوله« :سوف نقوم بكل ما يلزم ونستخدُم كل
ما نملك من إمكانات لكي نحمي المواطنين اإلسرائيليين».
مّثل الهجوم اإلسرائيلي تصعيدًا خطيرًا بعد أسبوع من العنف المتنامي .وفي الرابع عشر من أيار/
مايو سقَط خمسُة عناصر من أفراد الشرطة الفلسطينية برصاص الجنود اإلسرائيليين ،وبعد هذه
الحادثة بأربعة أيام ،في 18أيار/مايو أرسلت حماس انتحارّيًا فّج ر نفَسه في مجّم ٍع للتسّو ق في
منتجع ناتانيا الساحلي فُقتل في االنفجار خمسٌة من رواد السوق وُج رح حوالى مئة شخص .وفي
ساعٍة متأخرة من ذلك المساء حّر ك اإلسرائيليون طائراتهم الحربية وأطلقوا قنابَلهم ،وهكذا استمر
العنف يتصاعد بين الطرفين اللذين لم يتوانيا في تأجيج الموقف .إن حياة كل إنسان يجب أن تكون
َم صونًة ومقدسة ،وفي اعتقادي أن من الخطأ الجسيم استهداف المدنيين ،سواء أكانت وسيلُة القتل
انتحارّيًا يفّج ُر نفَسه ،أم مقاتلة «إف »١٦تزرُع قنابَلها وتحصُد أرواحًا بشرية.
ناشَد نائب الرئيس األميركي ديك تشيني الطرفين العودة إلى الهدوء بعد مرور بضعة أيام على
األحداث ،وقال في مقابلة تلفزيونية« :أظن أن على الطرفين كليهما الكَّف عن هذا العنف والتفكير
إلى أين سيؤدي بهما هذا المسار ،وعليهما أن يدركا أن هذا المسلك لن يؤدي إال إلى الكارثة» .لكّن
اآلذان كانت صّم اء وال أحد يسمع.
في الثامن من أيلول/سبتمبر من العام 2001كتبُت إلى الرئيس جورج دبليو بوش أحُّثه على رفع
صوِته والتحدث عن المشكلة الفلسطينية ،وما لبث الرئيس أن وّج ه إلّي دعوًة لزيارة الواليات
المتحدة ومناقشة مقترحاتي معه .في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر من العام 2001كنت في
الطائرة فوق األطلسي متجهًا إلى «معهد بيكر» في تكساس إللقاء خطاب هناك ،على أن أتجَه بعدئٍذ
إلى واشنطن للقاء الرئيس بوش .كنُت قد تناولُت حبًة منِّو مة ،وحين جاء أخي علي وهّز ني لكي
أستفيَق شعرُت كمن ضّيَع توازنه عندما قال« :لدينا مشكلة كبيرة ،لقد وقَع حادث كبير في الواليات
المتحدة» .كنا قد تلقينا تقارير من الـ«بي بي سي» تقول إن طائرًة قد اصطدمت بالبرجين التوأمين
في نيويورك ،لكن بما أنه لم يكن لدينا وصول إلى شاشات التلفزة لم نستطع أن ندرك تمامًا مدى
الدمار والرعب اللذين خّلفهما الهجوم.
في عّم ان كانت رانيا مسّم رة إلى شاشة الـ«سي إن إن» تشاهد األحداث تتوالى حيًة أماَم عينيها
كما أماَم عيون العالم دقيقًة تلو دقيقة .استطاعت أن تتصل بي على خط الطائرة الهاتفي وحَّثتني على
عكس اتجاه الطائرة والعودة إلى لندن .لكن أنا ترّبيت على الوقوف إلى جانب الحلفاء ودعمهم متى
دعا الداعي وقلت لها إنني سوف أبقي برنامجي كما كان« :سنكمل رحلَتنا إلى الواليات المتحدة»،
قلُت لرانيا« :أريد أن أعّبر عن تضامني وتعاطفي مع أصدقائي» .لكن رانيا عادت تصّر على
توضيح وجهة نظرها« :عبد هللا ،أنَت لم تَر ماذا حدث وال حجم الكارثة» .ثم أضافت قبل أن أجيَبها:
«لن يكوَن لديهم الوقت وال األعصاب لالهتمام بك».
فيما كنا نتكلم كان قائد الطائرة قد اتصل ببرج المراقبة األميركي وحصل على إذٍن بالهبوط ،لكن
عندما أصبحنا على مقربة من منطقة «البرادور» في كندا اتخذُت قرارًا بالعودة .في غرفة القيادة
استطعنا التقاط موجة الـ«بي بي سي» التي كانت تنقل أخبار الهجوم ،وعندها بدأُت أدرك حجم
الحدث الكارثي .بعد بضع ساعات هبطت بنا الطائرة في قاعدة «برايز نورتون» (Brize
)Nortonالجوية في «أوكسفوردشير» ( )Oxfordshireعلى مسافة حوالى خمسة وستين ميًال
إلى الغرب من لندن .فيما كان طاقم الطائرة يتزّو د بالوقود مشيُت في ظلمٍة حالكة نحو قاعة
المسافرين ،وما إن دخلت من الباب حتى رأيت على الشاشة الصور المرعبة للطائرتين تخترقان
البرجين التوأمينُ .ذِه لُت لهذا االعتداء السافر على المدنيين األبرياء ،ثم فكرُت في نفسي« :نِّج نا يا
رّب ،إن أبواَب جهنم سُتفتح إذا تبّين أن مجموعًة إسالمية وراء الحدث المزلزل».
تساَء لُت في تلك اللحظة« :كيف لألردن أن يمّد يد المساعدة؟» .بدأُت أحاول االتصال بالمسؤولين
األميركيين على خٍّط هاتفي آمن .كان الرئيس بوش مذهوًال بما حدث ومشغوًال بطبيعة الحال ،لكن
استطعت االتصال بجورج تينت ( ،)George Tenetمدير وكالة االستخبارات المركزية ،قلت له:
«جورج ،إن األردن إلى جانبكم ،ونحن على استعداد لعمل كل ما نستطيع لمساعدتكم» .أَّكد لي تينت
مخاوفي من أن القاعدة هي وراء الهجوم وذكر لي أن من الممكن القيام بعمليات عسكرية في
أفغانستان.
ثم اتصلت بالجنرال تومي فرانكس ( ،)Tommy Franksالذي كان على رأس القيادة المركزية
األميركية ،وسيكون هو المسؤول عن أي عمليات عسكرية في الشرق األوسط .كنت قد عرفت
تومي منذ سنواٍت عدة ،يوم كنُت قائدًا للعمليات الخاصة .قلت له« :نحن ملتزمون مساعدتكم حيثما
استطعنا ذلك».
عندما عدت إلى األردن جمعت كبار ضباط الجيش وقلت لهم إنني مصّم م على المساعدة على
محاربة هؤالء المجانين ،وقد أبدى الضباط استعداد األردن للمشاركة في الحرب على اإلرهاب ،فهم
كانوا يكافحون اإلرهابيين طوال سنوات ومدركين تمامًا مدى األذى الذي يمكن أن يتسببوا به.
عندما قررت الواليات المتحدة وحلفاؤها شّن الحرب على هؤالء في أفغانستان ،أرسلنا مستشفى
ميدانّيًا ومفرزة من القوات الخاصة لحمايته إلى مزار شريف في الشمال .بعد الحادي عشر من
أيلول/سبتمبر وضعت الواليات المتحدة على رأس أولوياتها محاربة أعدائها.
منذ تلك اللحظة ركَب اإلسرائيليون الموجَة ولم يوفروا جهدًا إال بذلوه للربط بين محاربِتهم ياسر
عرفات والفلسطينيين وبين ما بدأ األميركيون اآلن يسّم ونه «الحرَب العالميَة على اإلرهاب» .لقد
الحظُت هذا المنحى منذ البداية وبدأُت أتخوف من إمكانية نجاح هذه الخطة وما يمكن أن تكون
تداعياُتها.
***
عند الفجر من الثالث من كانون الثاني/يناير من العام ،2000كانت سفينٌة زرقاء ،أكَل الدهُر
عليها وشرب ،تمخُر عباَب البحر األحمر ،ثم استدارت حوَل القرن األفريقي واتجهت شماًال بموازاة
الساحل السعودي .رست سفينُة الشحن «كارن أ» ( ،)Karine-Aوحمولُتها تصُل إلى أربعة آالف
طن ،في أحد مرافئ دبي لتحّم ل بضاعًة من الُفُر ش والنظارات الشمسية والنعال .كان قبطان
السفينة ،وهو ضابٌط كبير سابق في الشرطة الفلسطينية البحرية ،قد توقف من قبل في جزيرة قرب
الساحل اإليراني .مع بزوغ الفجر اخترَق سكينَة البحر الهادئ هديُر المروحيات العسكرية
اإلسرائيلية المتجهة نحو السفينة ،ترافقها في البحر زوارُق البحرية اإلسرائيلية .استولى أفراٌد من
الكوماندوس اإلسرائيلي على السفينة وأخضعوا طاقمها ثم قادوها إلى ميناء إيالت في الجنوب .وجد
اإلسرائيليون في زوايا السفينة ،تحت تمويهاٍت لم تكن موفقة ،صناديق من بنادق الكالشنيكوف
وصواريخ الكاتيوشا والمتفجرات البالستيكية.
جاء االستيالء على هذه السفينة ليزيَد العملية السلمية موتًا على موت .فياسر عرفات كان تحت
الحصار في مقره في رام هللا منذ شهر تقريبًا ،وقد قّيدت القبضة الحديدية اإلسرائيلية سلطته .هذا
فضًال عن أوامر شارون لحكومِته باغتيال عدٍد من قادة حماس .أما االنتفاضة فكانت تزداد عنفًا يومًا
بعد يوم تحت وطأة مشاعر اليأس التي كانت تعتري الفلسطينيين .فثماني سنوات مضت على توقيع
اتفاقات أوسلو والفلسطينيون لم يروا أو يشعروا خاللها بأي تغيير ،فيما كان رؤساء الحكومات
اإلسرائيلية يماطلون في تنفيذ مندرجات االتفاق ويتهربون من التزاماتهمَ .دَر َج شارون على إغالق
المعابر بوجه الفلسطينيين ،ومحاصرة غزة وأجزاء كبيرة من الضفة الغربية بحيث يستحيل على
الفلسطينيين الذين يعملون في إسرائيل االلتحاق بأعمالهم.
في السابع من كانون الثاني/يناير عقد شارون مؤتمرًا صحافيًا في إيالت بالقرب من السفينة
المصادرة .عرَض األسلحة التي وجدت في السفينة ووصَف عرفات بـ«العدّو اللئيم» مدعيًا أنه
اشترى األسلحة الفتاكة من إيران بنّيِة تهريبها إلى الضفة الغربية وغزة لشّن الهجمات ضد إسرائيل.
كان بإمكان الرئيس بوش توظيف نفوذه لتهدئة األوضاع ،لكن اهتمامه كان مرّكزًا على أمور أخرى
ولم يكن يرغب ،على ما يبدو ،في كبح جماح شارون ،ال بل إن إدارته ظهرْت وكأنها تنفذ قرارًا
بالوقوف جانبًا والتفّر ج على العملية السلمية ُتحتضر حتى الموت.
بعد أن وّج ه الرئيس بوش خطابه السنوّي إلى الكونغرس عن «حال االتحاد» ووصَف فيه إيران
والعراق وكوريا الشمالية بأنها تمّثل «محور الشر» ،توجهُت إلى وزارة الخارجية األميركية في 31
كانون الثاني/يناير لالجتماع إلى وزير الخارجية كولن باول ( ،)Colin Powellوكنت أنوي
التشديد على ضرورة إعادة عملية السالم إلى مسارها الطبيعي واألهمية التي تعلقها على ذلك
المنطقة برّم تها .كذلك أردُت أن َأفهَم بوضوح ماهيَة تركيز اإلدارة األميركية على العراق وأسباب
هذا التركيز .كان باول قد زار األردن في شباط/فبراير من العام السابق ضمن جولة قام بها على
بلدان الشرق األوسط وقد جئت إلى المطار الستقباله آنذاك ،مع أن االستقبال في المطار ُيَخ ّص به
رؤساُء الدول دون سواهم ،لكن معرفتي به كانت قديمة وكنُت أعتبره صديقًا مقربًا وعزيزًا .تحدثنا
يومها عن العراق وعن الجمود في عملية السالم ،خالل لقاء طويل في قصر رغدان .فيما كنُت
أستعّد لمرافقته إلى المطار ،وحين رأى سيارتي الجديدة المرسيدس S500أعجب بها وطلب أن
يقودها إلى المطار .جلسُت إلى جانبه وقاد السيارة إلى المطار ملتزمًا حدود السرعة القانونية
بصورٍة الفتة وعلى طول الطريق حتى المطار .كان متجهًا إلى الضفة الغربية للقاء الرئيس
عرفات ،وحين خرجنا من السيارة أشار إلى أحد أفراد حرسه بالقول« :طلبُت أن أقودها إلى رام
هللا ،لكنهم رفضوا».
عندما قابلُت باول بعد ذلك في واشنطن في كانون الثاني/يناير أثار مسألة الباخرة «كارن أ» .قال
إّن من المؤسف أن يكون هذا الحادث قد وقع ألن الوضع قبله كان قد شهَد بعَض التحّسن ،وإن
شارون قد قال كالمًا من هذا النوع .لكن القبض على السفينة والعثور فيها على األسلحة نسَف
الجهود األميركية التي شملت جهودًا كان يبذلها مبعوث باول الجنرال أنتوني زيني (Anthony
)Zinniمع اإلسرائيليين والفلسطينيين لوقف إطالق النار .أصّر باول على أن على الفلسطينيين أن
يهدئوا األوضاع ،وأن على عرفات أن يقول شيئًا بشأن السفينة يرضي الرأي العام األميركي.
أما أنا فقلت لباول إن على الواليات المتحدة أن تعمل على إعادة األمل إلى الفلسطينيين وعلى
تعزيز إيمانهم بأن المفاوضات السلمية سوف توصُلهم إلى إقامِة دولتهم .قلت إن على الواليات
المتحدة أن تمَّد يدها لمساعدة الفلسطينيين الذين طالهم األذى جراء االنتفاضة وخسروا وظائَفهم
بسبب سياسة اإلغالق والحصار .كذلك قلت إن على الواليات المتحدة أن تكون أكثر شفافيًة حيال ما
هو مطلوب بالضبط من عرفات لتسهيل األمور ،واقترحُت أن ُيصار إلى وضع خطة ُتدرج
بالتفصيل ما على كٍل من الطرفين أن يفعَله وصوًال إلى هذه النتيجة .ثم انتقلنا إلى مناقشة الموضوع
الوحيد الذي كان كل شخص في واشنطن يريد الحديث عنه آنذاك :العراق .حاوَل باول ،الدبلوماسي
بامتياز ،أن يخفف من وطأة خطاب الرئيس بوش في الكونغرس عن «حال االتحاد» ،وقال إذا
أوقَف العراق دعمه لإلرهاب وكَّف عن متابعة برنامجه إلنتاج أسلحة الدمار الشامل فإن الواليات
المتحدة سوف تغّير موقفها منه.
في اليوم التالي التقيت الرئيس بوش في المكتب البيضاوي في البيت األبيض وأثرُت معه
الموضوع الذي كان ،وال يزال ،في رأيي ،المسألة األكثر أهميًة في منطقِتنا بالنسبة لمصالح
األميركيين وهو عمليُة السالم .قلت له إن هذه العملية غالبًا ما ُتركت جانبًا مع أنها القضية المركزية
في المنطقة ،وأضفت أن حّل الصراع اإلسرائيلي -الفلسطيني سوف يحرم منظمات مثل القاعدة من
سالحها الفّعال في حشد المؤيدين ويمّكن القادة العرب من اتخاذ موقف أكثر دعمًا لألهداف
األميركية في المنطقة.
لكن بوش لم يكن في مزاٍج ليتحدث عن عملية السالم ،وما لبَث أن كشَف عن خيبته حياَل
التطورات األخيرة ،وقال إن عرفات «أخَذنا في مساٍر معّين ليتركنا ويتراجع» .وأصّر بوش على
ضرورة أن يقوم عرفات بدوٍر أكثر فاعليًة في السيطرة على المتطرفين ،وإال فإن الواليات المتحدة
لن تهدَر رصيَدها السياسي في محاولة حل الصراع .ثم أضاف« :ال يمكننا أن نكون منافقين حياَل
اإلرهاب» .وهنا عّبر بوضوح عن شعوره بأن عرفات يقف إلى جانب المنظمات اإلرهابية .كما
كنُت أخشى ها هو ذا يربط بين حربه على «القاعدة» وبين الصراع الفلسطيني -اإلسرائيلي.
دافعت عن عرفات وقلت إنه يمثل رمزًا وطنّيًا للشعب الفلسطيني ،وحذرُت بوش من أن عرفات
إذا شعر بأنه يمكن أن ُيحَشر في الزاوية فسوف يدير ظهَر ه وينسحب .ثم شّبهُت الوضع القائم في
المنطقة بمحارَبْين كبيرين يتواجهان فيما تصيُب اآلالم والكوارث شعبيهما ،وقلت إن على الواليات
المتحدة أن تصوَغ مطالَبها من عرفات بحيث تكون هذه المطالب مقبولًة من الفلسطينيين ومفهومًة
لديهم .ذَّكرُت بوش بأن ما أعاقنا وبقَي شغَلنا الشاغل هو مشكالت شخصية تتعلق بالقادة على طرفي
النزاع ،بينما اإلسرائيليون والفلسطينيون ال يطلبون سوى تحسين األوضاع والوصول إلى الحل.
قال الرئيس إنه سيفكر في المسألة وسيبحثها مع شارون ،وشّدد على أنه سيقول لشارون خالل
زياِر ته المقبلة إلى واشنطن بإنه إذا بالغ في المواقف التي يتخذها فإنه سينسف القدرة األميركية على
محاربة اإلرهاب .كذلك أشار بوش إلى أنه كان قد أخبر شارون بأنه ستكون عنده مشكلة كبيرة جّدًا
معه إذا حاول أن يقتَل عرفات.
طلبت من بوش المساعدة في إقناع اإلسرائيليين بترك عرفات يغادر مقَّر ه في رام هللا ،حيث
وضعه الجيش اإلسرائيلي تحت اإلقامة الجبرية منذ كانون األول/ديسمبر من العام ،2001حتى
يتمكن من حضور القمة العربية في بيروت في شهر آذار/مارس ،وَلفُّت نظره إلى أن منع عرفات
من حضور المؤتمر لن يؤّدي إال إلى تفعيل عمل المتطرفين .وعَد بوش بطرح هذه المسألة مع
شارون ،ثم انتقلنا إلى مناقشة دور عرفات في العملية السلمية األوسع .عاد بوش إلى جملِته السابقة:
«ال يمكننا أن نكوَن منافقين حياَل مسألة اإلرهاب» ،ثم كرر االدعاء أن عرفات يقف إلى جانب
المنظمات اإلرهابية ،وأضاف« :ربما هنالك من هو أفضل من عرفات؟» ،قال إنه ال يقصد إطاحة
عرفات ،وإنما يشير فقط إلى الحاجة إلى التفكير الجّدي في من يمكن أن يحَّل محَّل عرفات ويقوَد
الفلسطينيين إلى مستقبل أفضل.
انتاَبني شعوٌر بالرهبة والقلق حين اتخذ الحديث هذا المنعطف ،وقلت ال بديل لعرفات فالرجل بات
رمزًا للشعب الفلسطيني ،وكلما زادت إسرائيل الضغط عليه زاد الشعب الفلسطيني تعّلقًا به ودعمًا
له .كذلك فإن إسرائيل وّز عت الفلسطينيين على ما يشبه الكانتونات ،وهذا ما أدى إلى شرذمِة السلطة
السياسية في كٍل من الضفة الغربية وغزة .ثم أضفُت أن شارون يعتمد آراًء قصيرة النظر .ومع أن
ذلك ال يعني استحالة التفاهم معه حول عمليِة السالم ،فنحن بالتأكيد ال نوافُق على وسائله وأساليبه
في مقاربة األمور.
عند هذه النقطة وّج ه بوش النقاش نحو العراق واتخذ موقفًا أشَّد صرامًة من موقف وزير خارجيته
كولن باول ،منتقدًا النظام العراقي ،وقال« :إن صدام يجب أن يحاسب على ما ارتكبه من السوء».
«سوف تخلقون مشكلًة كبيرة في الشرق األوسط» ،قلُت كلماتي هذه بتأٍن ولكن بحزم ،ثم أضفت:
المشكلة ليست مسألة صدام حسين وقيام الواليات المتحدة بخلعه من موقع السلطة ،المشكلة هي إلى
ماذا سيؤدي ذلك؟ لكن بوش لم يتزحزْح عن موقِفه.
عدت إلى األردن في اليوم التالي ،وفي أحاديَث الحقة مع بعض القادِة العرب ،بمن فيهم الرئيُس
المصري حسني مبارك وولُّي العهد السعودي األمير عبد هللا بن عبد العزيز ،علمت أنهم سمعوا
كالمًا مشابهًا لما سمعُته من بعض أعضاء الحكومة في إدارة بوش« .ماذا يحدث في اليوم التالي
إلزاحة صدام عن الحكم؟» .الكل طرح هذا السؤال ،لكن عدم قدرة اإلدارة األميركية على اإلتيان
بجواٍب جّدي وملموس ترَكنا جميعًا غير مرتاحين وغير مطمئنين على اإلطالق.
ما بات واضحًا تمامًا هو أن أميركا لم تعد مهتمة بقيادة العملية السلمية وإيجاد حل للصراع
الفلسطيني اإلسرائيلي .لكن من شبه األكيد أن تنّح ي األميركيين عن قيادة عملية السالم سوف يقضي
على كل أمل بالتقدم في هذه العملية .من هنا قررنا االستمرار في الضغط من أجل استئناف
المفاوضات ،ولكن هذه المرة بمبادرة سالم عربية جماعية رأينا أنها ستشّج ع األميركيين على القيام
بدور أكثر فاعليًة في السعي إلى السالم.
في السنوات األخيرة من عهده صاَغ والدي مقاربًة جديدة للمشكلة اإلسرائيلية -الفلسطينية،
مقاربًة تشمل كل الدول العربية في التزام بسالٍم جماعّي مع إسرائيل مقابَل انسحابها الكامل من كل
األراضي العربية المحتلة .بموجب مقاربة كهذه -األوسع نطاقًا من مبادئ مؤتمر مدريد والمستهدفة
الحصول على مساندة دولية -تقترح الدول االثنتان والعشرون األعضاء في جامعة الدول العربية
على إسرائيل سالمًا جماعّيًا مدعومًا بضماناٍت أمنية شرَط أن توافق إسرائيل على متطلباٍت محددة
وأساسية ،من بينها إقامُة الدولة الفلسطينية ،اتفاق على وضع القدس وعلى حقوق الالجئين
الفلسطينيين ،وإعادُة مرتفعات الجوالن إلى سوريا ،وإنهاُء احتالِلها لألراضي اللبنانية .لقد أراد
والدي من هذا الطرح أن يوضح عملّيًا معنى مفهوم مبدأ «األرض مقابل السالم» ،ورمى إلى وضِع
حٍّد لبعض المناورات السياسية التي كانت تجري بين هذه الدولة العربية وتلك .لسوء الحظ لم يحقق
طرحه زخمًا ثم تالشى مع وفاته .حين تسّلمُت سلطاتي الدستورية بادرُت إلى إحياء خطة والدي،
وبالتوافق مع مصر طلبُت من حكومتنا أن تبحث األمر مع المملكة العربية السعودية .طّو رت
السعودية الفكرة إلى مبادرة ولي العهد السعودي األمير عبد هللا بن عبد العزيز ،التي أصبحت في ما
بعد مبادرة السالم العربية بعد أن قّدمتها المملكة العربية السعودية إلى جامعة الدول العربية فتبّناها
مجلُس الجامعة في مؤتمر القمة العربية في بيروت في العام .2002
فيما كنُت أعّد للسفر إلى لبنان لحضور مؤتمر القمة العربية في بيروت في آذار/مارس من العام
،2002علمْت دائرة المخابرات بخطة الغتيالي أنا والرئيس حسني مبارك عند وصولنا إلى
بيروت .اتصلُت بالرئيس مبارك وأحطُته علمًا باألمر فوافَق على أن المخاطَر األمنية كانت جديًة،
وقررنا أن من األفضل أن نمتنع أنا والرئيس مبارك عن السفر إلى بيروت .ولئال يشعَر المسؤولون
في البلد المضيف بأي إساءة غير مقصودة أعلنُت أنني أِص بُت بزكاٍم شديد ولن أتمكن من حضور
المؤتمر.
ياسر عرفات أيضًا لم يحضر .كان الرئيس بوش قد نّفَذ ما وعَد به وأرسل نائَب الرئيس ديك
تشيني إلى إسرائيل ليقنع رئيس الوزراء شارون بأن يسمَح لعرفات بحضور المؤتمر .هذه هي القمة
التي سيطلق فيها القادُة العرب مبادرَتهم للسالم وهذا ما جعَل حضور عرفات أمرًا في غاية األهمية.
لكن شارون لم يحّر ْك ساكنًا ،قاَل :إذا ذهَب عرفات إلى لبنان فلن ُيسمح له بالعودة إلى مقره في رام
هللا .وهكذا بقي عرفات في مقره وحاول إلقاء مداخلِته من خالل االتصال عبر الفيديو .لكن في
تصرف مشين أظهرت عبره قصر نظرها شّو شت حكومة شارون على االتصال وانتهى األمر بأن
خاطَب عرفات المؤتمر عبر رسالٍة صوتية مسجلة.
في 28آذار/مارس من العام 2002أقرت الدول العربية االثنتان والعشرون رسمّيًا مبادرة السالم
العربية .وفق هذه المبادرة ،تعتبر الدول العربية النزاع العربي اإلسرائيلي منتهيًا وتدخل في اتفاق
سالم شامل مع إسرائيل وتنشئ عالقات طبيعية معها في إطاره مقابل انسحاب إسرائيل من كل
األراضي العربية المحتلة حتى حدود العام ،1967والتوصل إلى حل عادل و«متفق عليه» لمشكلِة
الالجئين ،وقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على األراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع
من يونيو /حزيران 1967في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدُس الشرقية.
وهكذا ،وألول مرة منذ بدء النزاع العربي اإلسرائيلي ،أجمعت الدول العربية رسميًا على التقدم
إلسرائيل بعرض يشتمل إقامة «عالقات طبيعية» معها في إطار حل شامل للصراع .وجاء الرد
اإلسرائيلي سريعًا وقاطعًا .في 29آذار/مارس من العام ،2002أمَر شارون القواِت اإلسرائيليَة
باقتحام مدن الضفة الغربية في عمليٍة ُعرفت بـ «السور الواقي» وكانت أكبَر عمليٍة عسكرية تقوُم
بها إسرائيل منذ اجتياِح ها لبنان في العام .1982أعادْت القوات اإلسرائيلية احتالل معظم المناطق
الفلسطينية الخاضعة للحكم الذاتي التي كانت قد أخَلْتها بموجب اتفاق أوسلو .عادت رام هللا وبيت
لحم وجنين ونابلس مدنًا محتلة .وتعّر ض مخّيم جنين للعدوان اإلسرائيلي األقسى حين حاَص رته
القوات اإلسرائيلية لمدة أسبوعين وأمطرْته بنيران مدافِع ها ودباباتها.
في اليوم التالي هاجم الجيش اإلسرائيلي بأسلحِته ودباباِته مجّم َع السلطة الفلسطينية حيث مقر
ياسر عرفات في رام هللا ،مدمرًا جدراَن المجّم ع ،قاطعًا عنه التيار الكهربائي ،وعازًال القائد
الفلسطيني في مكتبه في الطبقة الثانية حيث كان يتابُع عمَله مستنيرًا بضوِء الشموع .هذان القساوُة
والعنُف اللذان عامَلْت بهما إسرائيل ياسر عرفات َج عال قلوَب ألِّد أعداِئه َتِر ُّق له .حوصَر عرفات
وُسجن في مكتبه ولم تسمح إسرائيل بخروجه إال قبَل وفاِته رحمه هللا -في تشرين الثاني/نوفمبر من
العام - 2004ببضعِة أسابيع فقط .رأى الفلسطينيون والجماهير العربية في عرفات بطًال قوميًا.
استمرت موجُة العنف تتصاعد مع دخول امرأة انتحارية إلى متجر في القدس وتفجير نفِسها وسط
المتسّو قين حيث قتل في الحادث شخصان .في نيسان/إبريل من العام 2002لجأ بعض المقاتلين
الفلسطينيين الذين كانت القوات اإلسرائيلية تطارُدهم إلى كنيسة المهد في بيت لحم ،وما هي إال
دقائق حتى ضرب الجيش اإلسرائيلي طوقًا حول الكنيسة وحاصَر الفلسطينيين الهاربين في الداخل
وشمَل بحصاره مئتين وخمسين شخصًا من رهباٍن وراهبات ومدنيين كانوا يؤدون الصالة .حملت
الشاشات هذه الصورة إلى كل أرجاء العالم ،بيٌت مقدٌس من بيوت هللا تزّنره اآلليات العسكرية
اإلسرائيلية المدّر عة وينتشر القناصون على السطوح من حوله وبنادُقهم مصّو بٌة إلى الكنيسة متأهبة
لصيِد أّي رأٍس يتحرك.
أنهت إسرائيل عملياِتها العسكريَة وسحبْت آلياتها وجنوَدها من المناطق الفلسطينية في الحادي
والعشرين من نيسان/إبريل ،ولكن أبقت كنيسَة المهد تحت الحصار ،وكذلك مجّم ع السلطة
الفلسطينية ومقر عرفات في رام هللا .عقدت الجمعية العمومية لألمم المتحدة اجتماعًا طارئًا في
السابع من أيار وأصدرْت قرارًا عّبرت فيه عن قلِقها الشديد حيال تدهور الوضع في األراضي
الفلسطينية ،وطالبت إسرائيل باعتبارها القوَة المحتلة ،بأن تلتزم مسؤولياِتها بموجب اتفاق جنيف
الرابع .كذلك أدانت الجمعية العمومية الهجمات اإلسرائيلية على المواقع الدينية ورفض إسرائيل
التعاوَن مع فريق األمم المتحدة لتقّص ي الحقائق الذي شكله مجلُس األمن الدولي بموجب قراره
الصادر في 19نيسان/إبريل للتحقيق في الهجمات التي شنتها إسرائيل على مخيم الالجئين في
جنين.
استمر الحصار على كنيسة المهد أكثَر من شهر ،والصدمُة الكبرى كانت في أن الحكومة
اإلسرائيلية لم تشعر بأّي خجٍل حياَل السماح لجنودها بفتح النار على موقٍع له هذه الهالة المقدسة لدى
ماليين البشر .وقد حدَث ،في لحظٍة ما ،أن دخَل سائحان يابانيان ،عن طريق الخطأ ،إلى الموقع
المحاَص ر فأنقَذهما من هذا الخطر المحدق بعُض الصحافيين الذين أشاروا لهما باالبتعاد عن المكان.
مع الوقت جرى التفاوُض على حٍّل سلمّي للعقدة ،ولكن هذا الحل الجزئي لم يمتد ليشمل النواحي
األخرى للنزاع األوسع .كان واضحا أن شارون لم تكن لديه أي نوايا للوصول إلى السالم ،وبالتالي
كان ال بد للصراع الذي طاَل عقودًا من الزمن أن ينتظَر بروز قادٍة جدد يمتلكون الرؤيا والشجاعة
لصنع السالم.
عقَد مجلس وزراء خارجية الدول األعضاء في منظمة المؤتمر اإلسالمي مؤتمَر ه الدورَّي في
حزيران/يونيو من العام 2002وأصدر قرارًا أّيد فيه مبادرَة السالم العربية ،كما قرَر وزراء
خارجية الدول األعضاء بذَل كل الجهود الممكنة لحشِد الدعم الدولي على أوسع نطاٍق ممكن بغيَة
تطبيق بنود هذه المبادرة .إن منظمة المؤتمر اإلسالمي التي أنشئت في العام 1969خالل مؤتمر
قمة إسالمية تاريخّي عقد في الرباط ،وضَّم ت سبعًا وخمسين دولة ،هي أكبر منظمٍة دولية في العالم
بعد منظمة األمم المتحدة .وبتأييدها مبادرَة السالم العربية أعلنت منظمُة المؤتمر اإلسالمي أن
مقترحاِت السالم العربية تستنُد إلى الدعِم المطلق والواضح من دوِل العالم اإلسالمي قاطبة.
وبموافقتها من ناحية المبدأ على إقامة عالقاٍت طبيعية بين جميع الدول األعضاء فيها وبين إسرائيل،
فقد وضَعْت المنظمة حًاّل على طاولِة المفاوضات وراَء ه سبٌع وخمسون دولًة إسالمية.
عادت المنظمة وأكدْت تأييَدها المبادرَة العربية للسالم في السنة التالية خالل مؤتمر وزراء
خارجية الدول األعضاء في طهران الذي عقد في حزيران/يونيو من العام ،2003ثم خالل مؤتمر
القمة اإلسالمية الذي عقد على مستوى قادة الدول في ماليزيا في شهر تشرين األول/أكتوبر من العام
ذاِته .لكّن اإلسرائيليين لم يبالوا بهذه الفرصِة التاريخية غير المسبوقة.
أما القرار األكثر مدعاًة للخالف واألشد تسببًا بالتوتر فجاء عندما أعلنت إسرائيل في نيسان/إبريل
من العام 2002أن شارون وافق على إنشاء جداٍر فاصٍل بين إسرائيل والضفة الغربية يرتفع حوالى
ثمانية أمتار .أعلنت إسرائيل أن الهدف من بناء الجدار هو منع «اإلرهابيين» من دخول إسرائيل
ومهاجمتها .لكّن أجزاًء منه ُبنيت على أراضي الضفة الغربية التي احتلتها إسرائيل في العام ،1967
ال على حدود الهدنة التي ُأعِلنت في العام .1948لقد بلَغ اختراق الجدار أراضي الضفة الغربية اثني
عشر ميًال في بعض المواقع ،وكان هدف إسرائيل من هذا االختراق أن تتيح لثمانين في المئة من
مستوطني الضفة الغربية البقاء ضمن األراضي اإلسرائيلية حتى لو أّدى التفاُف هذا الجدار وتعُّر ُج ه
إلى المرور وسط بعض القرى الفلسطينية وتقطيع أوصالها ،وفي حاالٍت أخرى إلى قضم قرى
فلسطينية كاملة التَّف عليها الجدار ووضَعها في المقلب اإلسرائيلي.
لكننا والعالم العربي كله ساورنا الشك والقلق من أن هدَف إسرائيل الحقيقي من بناء الجدار هو أن
تفرض حدوَد األمر الواقع وأن تستولي استيالًء دائمًا ،بخالف كل القوانين الدولية ،على أراٍض
احتلتها خالل الحرب وتكون بذلك قد فرضت أمرًا واقعًا وألغت مسبقًا مفعول المفاوضات حوَل
الوضع النهائي .في شهر كانون األول/ديسمبر من العام 2003طلبت الجمعية العمومية لألمم
المتحدة من محكمة العدل الدولية أن تصدر حكمًا حول قانونية الجدار.
بدأ الفلسطينيون دراسة القضية وإعداَد مطالعتهم بشأنها ،وفي ضوء مسؤولية األردن التاريخية
والقانونية بالنسبة إلى القدس ،عرضنا عليهم المساعدة .تحل األمم المتحضرة خالفاتها من خالل
القانون ،وكنا مصّم مين على تقديم قضيتنا في أفضِل مطالعٍة قانونية ممكنة .اقترحنا على
الفلسطينيين توكيَل البروفسور جيمس كروفورد ( )James Crawfordمن جامعة كامبريدج ،وهو
من كبار خبراء القانون الدولي ،أما الفريق األردني فقد وَّكَل السير آرثر واطس (Arthur
،)Wattsالمحامي البريطاني المعروف والمستشار القانوني السابق لوزارة الخارجية البريطانية.
في شباط/فبراير من العام 2004قَّدم الفريقان الفلسطيني واألردني ،بمساعدة ممثل األردن في
األمم المتحدة األمير زيد بن رعد ،مطالعَتهما أمام محكمة العدل الدولية ورَّكزا كالمهما على أن
إسرائيل ال يحق لها أن تبنَي جدارًا ،أو أَّي شيء آخر ،على أراٍض احتّلتها بصورة غير قانونية
خالل حرب العام .1967في التاسع من تموز/يوليو من العام 2004أصدرت المحكمُة الدولية
قراَر ها بأكثريِة أربعَة عشَر صوتًا مقابَل صوٍت واحٍد هو صوت القاضي األميركي توماس
بورغنثال )Thomas Buergenthal(.وقد نّص القرار على أن الجداَر ينتهك القانون الدولي،
وجاء فيه« :إن إنشاَء الجدار الذي تبنيه إسرائيل ،السلطة المحتلة ،في األراضي الفلسطينية المحتلة،
بما فيها أماكُن داخَل القدس الشرقية وحوَلها ،وتوابعها ،هو عمٌل مخالٌف للقانون الدولي» .كذلك
نَّص القرار على أن على إسرائيل وقَف انتهاِك القانون الدولي وعليها إزالة الجدار القائم وتعويض
الفلسطينيين عن كل األضرار التي تسّبب بها بناء الجدار .تجاهلت الحكومة اإلسرائيلية الحكَم
الصادر عن المحكمة الدولية ،وأمَر رئيسها شارون باالستمرار في بناء الجدار.
ما من مرٍة في التاريخ ،منذ «الغيتو» في وارسو وصوًال إلى جدار برلين ،استطاعت الجدران
التي بنيت للفصل بين الناس أو لسجنهم ولتقييد حرياِتهم ،الصمود أماَم مّد الرجاء واألمل اإلنسانيين.
وهكذا فإّن إسرائيل في نهاية المطاف لن تستطيع توفير األمن لشعبها من خالل حشر الفلسطينيين
في غيتو تبنيه حوَلهم أو العودة إلى إقامة جدار برلين ولكن في القدس الشرقية هذه المرة .إن األمن
الذي يتمناه اإلسرائيليون كما يتمناه الفلسطينيون ،وهو أن يعيشوا حياًة طبيعية ،ال يمكن الحصول
عليه إال بإزالِة كل العوائق التي تفصل في ما بينهم ،وبأن يتعلموا العيش معًا بسالم.
***
بقيت طبول الحرب ُتقرع طوال ربيع العام 2002وصيِفه .وقد عدُت إلى الواليات المتحدة في
الربيع والتقيت الرئيس بوش مرًة أخرى في الثامن من أيار /مايو في البيت األبيض .كررُت التشديد
على ضرورة استئناف العملية السلمية .كنت في الشهر السابق قد بعثت إليه برسالة أشرُت فيها إلى
أننا «قمنا بدوٍر أساسّي في بناء توافٍق عربي على المبادرة السعودية التي تحولت إلى التزاٍم جماعّي
عربّي بوضِع حٍّد للصراع مع إسرائيل وضمان أمِنها وإقامِة عالقاٍت طبيعية بينها وبين كل الدول
العربية» .هذا الجهُد الكبير الذي جمَع العالَم العربي وراَء خطٍة لتحقيق السالم ها هو ذا اآلن
يتعّر ض لالنهيار بفعِل األعمال اإلسرائيلية .حَثْثُت بوش على السعي إلى سحب إسرائيل قواتها
العسكرية من المدن الفلسطينية التي كانت قد أكملت سيطرتها عليها سيطرًة تامة تقريبًا ،والضغط
من أجل استئناف المفاوضات.
لكن الرئيس األميركي بدا كمن َيعتبر عرفات قائدًا فاشًال ،ولم يكّف عن التشديد على عجز عرفات
عن الوفاء بالتزاماته .كذلك شكا بوش من تصرف شارون معتبرًا أن مهاجمَة قواِته مقَّر عرفات في
رام هللا وإبقاَء ه سجينًا في مكتبه جعال شعبيَته الفلسطينية تتزايد« .لسُت أدري َم ن يمكن أن َيبرَز
بديًال منه» ،قال بوش ،وأضاَف أن شارون جعَل من عرفات بطًال وهذا سيبقيه سّيَد المسرح .لكنه
مع ذلك أشار إلى الحاجة إلى أفكاٍر تتيح للقادة الشباب أن َيبرزوا على الساحة.
حّذرُت الرئيس األميركي من أن االنطباع السائد بأن هناك وضعًا هادئًا في المنطقة هو انطباٌع
خاطئ ،ألن غضبًا كبيرًا يتفاعُل تحت السطح .قلت له إن فترة الهدوء المؤقت عائدة إلى ما ترَكْته
زيارة باول األخيرة من أمٍل مضافًا إليها الجهود األميركية التي أعقبتها بغية استئناف عملية السالم،
لكن كل هذا ال يعني أن العنف ال يمكن أن ينفجر من جديد إذا لم يحصل أّي تحرك خالل األشهر
المقبلة .ثم عدت إلى التأكيد أن أَّي تغييٍر سياسّي في ظروف المنطقة سيتوقف على تحقيق تسوية
سياسية ذات مواقيت زمنية معينة تكون نتيجُتها إقامَة الدولِة الفلسطينية.
كان الرئيس يصغي إلّي ،لكنه عاد يشدد على رغبته في تجّنب ما اعتبره أخطاَء إدارة الرئيس
كلنتون في التركيز أكثر من الالزم على تفاصيل البحث عن حٍّل بشأن مدينة القدس فيما ُتِر َك أمن
إسرائيل مهمًال ومنسّيًا .ثم قال« :بإمكاني أن أتصوَر مشاعر شارون حين يبدأ اجتماَعه بي وسط
األخبار عن تفجير انتحاري» .ال شك في أن أحداث أيلول/سبتمبر المأساوية قد جعلت قادة البلدان
األخرى التي عانت من الهجمات االنتحارية يتعاطفون بدرجٍة كبيرة مع الرئيس األميركي .لكن هذه
األحداث قد نالت كثيرًا من قدرة اإلدارة األميركية على تفّه م مدى المعاناة الفلسطينية .وهنا أخبرني
الرئيس أن عينه ال تزال على العراق.
لم يكَّف الرئيس بوش عن توجيه االنتقاد إلى عرفات ،وخصوصًا في خطاٍب ألقاه في 24
حزيران/يونيو من العام 2002وحدد فيه سياسته بالنسبة إلى إسرائيل والفلسطينيين .بدأ بالقول إنه
ملتزٌم بالوصول إلى حٍّل قائم على مبدأ الدولتين ،وقال« :رؤيتي هي أن تكون هناك دولتان تعيشان
بسالم وأمن جنبًا إلى جنب .ولنقل ببساطة إن سبيًال واحدًا فقط يمكن أن يوصلنا إلى هذا السالم وهو
أن تحارب كل األطراف اإلرهاب .وفي هذه األيام العصيبة ،إذا ُقّدر للجميع أن ينزعوا من ذهِنهم
أحداَث الماضي ويسلكوا نهجًا جديدًا ،فسيصبح بإمكاننا الخروج من الظلمة حاملين مشعَل األمل
المضيء» .ثم استدرك قائًال« :لكّن السالم يتطلب قيادًة فلسطينية جديدة ذات تطلعات مختلفة حتى
يصبح باإلمكان أن تولَد دولٌة فلسطينية .إنني أدعو الشعب الفلسطيني إلى انتخاب قيادات جديدة،
قيادات لم تتورط في اإلرهاب» .ومقابل ذلك ،وعَد بوش ،سوف تدعم الواليات المتحدة دولًة
فلسطينيًة مؤقتة بانتظار أن يتفاوَض الفلسطينيون واإلسرائيليون على الحدود النهائية بين دولتيهم،
وعلى النقاط األخرى العالقة ،وفي هذا اإلطار يمكننا أن نتوقَع الوصوَل إلى التسوية خالل ثالث
سنوات.
إن فكرَة اإلتيان بقادٍة «لم يتورطوا في اإلرهاب» حسب رؤية بوش هي فكرٌة يصعُب تطبيُقها.
فاألميركيون يعتبرون ياسر عرفات «متورطًا في اإلرهاب» ،فيما يعتبر الفلسطينيون رئيَس
الوزراء اإلسرائيلي أرييل شارون «متورطًا في اإلرهاب» ،استنادًا إلى دوره في مجازر مخيم
صبرا وشاتيال لالجئين الفلسطينيين في لبنان في العام .1982لقد أذهلت مالحظات بوش كل َم ن
قرأها أو سمَعها في الشرق األوسط .فياسر عرفات مّثَل الشعب الفلسطيني ،أحببناه أو كرهناه ،منذ
سبعينيات القرن الماضي ،وقد ناَل جائزة نوبل للسالم باالشتراك مع رابين وبيريز ،فكيف يمكن
اإلدارة األميركية أن تحسَب أن بوسعها إزاحَته من موقعه بهذه البساطة؟ لقد حمَل شارون حقدًا دفينًا
على عرفات وقرر أن يحاصره في مقره في رام هللا ،ولكن ما كنُت أريد أال يحصل هو أن تسلَك
اإلدارُة األميركية المسلك ذاته.
في محاولٍة إلحياء عملية السالم ،أطلقنا في شهر نيسان/إبريل فكرة «خريطة الطريق» ،وهي
مجموعة من اإلجراءات المحددة مرفقٌة بجدوٍل زمني يمكن االستدالل به لمعرفِة مدى التقدم الذي
أحرزه الطرفان .في أوائل حزيران/يونيو زاَر األردن وليم بيرنز ،مساعُد وزير الخارجية األميركي
لشؤون الشرق األوسط ،وقال إنه يرى أن خطة عمٍل مفّص لًة وذات مراحل محددة زمنّيًا ومعايير
لقياس التقدم هي فكرٌة جيدة ووعَد بأن يمّه َد لها سُبَل الَقبول داخَل الدوائر الحكومية األميركية.
لكّن عديدين من أركان إدارة بوش لم تبارْح هم مسألُة العراق ،وهذا ما دفَع بالوضع المأساوي
لمفاوضات السالم إلى رفوِف االنتظار وبالتالي إلى العواقب الوخيمة.
اتخذت إسرائيل موقفًا داعمًا للحرب التي كان واضحًا أنها تقترُب بخطى حثيثة ،وذلك باختالقها
وترويجها عند الرأي العام لتهديداٍت خطيرة مصدُر ها العراق .وقد نجح السياسيون في إسرائيل بأن
يجعلوا مواطنيهم في حالِة ُر عٍب دائمة ،وهذه مقاربة لها مخاطُر ها نظرًا لكوِنها قابلًة الستثمار
الطامعين بمكاسَب سياسيٍة سريعة .هذا ال يعني أن إسرائيل ال تواجُه أي تهديدات ،ولكن أفضل
الطرق لجعل هذه التهديدات غيَر ذاِت فعل وال قيمَة لها هو أن تقوَم بالعمِل الوحيد الصحيح:
التفاوض مع الفلسطينيين على سالٍم دائم .وإذا أقدمت إسرائيل على عمٍل كهذا نالت اعتراَف
المجتمع الدولي برّم ته وربحْت قبوَل العالم اإلسالمي لها .لكن المؤسف أن كثيرين من صانعي
القرار في إسرائيل يعارضون هذا التوّج ه من منطلق أيديولوجي أصولّي ،بينما آخرون من هؤالء
عاجزون عن تقدير األمور في حقيقِتها وبالتالي عن إدراك ما يمكن أن يأتي به السالم على المدى
الطويل.
منذ ستينيات القرن الماضي وإسرائيل تحاول تحريض الواليات المتحدة على دوٍل في الشرق
األوسط تعتبُر ها مصدَر التهديد األكبر لها .ففي العام 1967أقنعْت إسرائيل الواليات المتحدة بأن
عليها أن توجَه هي (أي إسرائيل) الضربَة األولى إلى مصر على أساس أن مصر ُتِع ُّد العدة
لمهاجمِتها .كذلك في فترة التمهيد لحرب العام 2003شجع اإلسرائيليون األميركيين على شن
الحرب على العراق ،وفي هذا اإلطار عمل السياسيون اإلسرائيليون على تصوير صدام حسين على
أنه يشكل تهديدًا استراتيجّيًا لوجود إسرائيل .في هذا الوقت بالذات كان بعُض المحافظين الجدد في
الواليات المتحدة من ذوي العالقات الوثيقة مع إدارة الرئيس بوش يضخمون الخطر العراقي
المفترض وينفخون بنار الحرب ويحّر ضون عليها .هنا لم يتردد بعُض العراقيين في الخارج ،من
ذوي المصالح الخاصة والغايات الشخصية ،في االنضمام إلى جوقِة المطّبلين للحرب من خالل
إغراق المسؤولين في الواليات المتحدة بدفٍق من المعلومات الخاطئة والمباَلغ فيها.
انطالقًا من القلق الكبير الذي شعرُت به وأنا أرى اإلعداد للحرب على العراق سائرًا على قدٍم
وساق ،أدليُت في التاسع والعشرين من تموز/يوليو من العام 2002بحديٍث صحافّي لصحيفة
«التايمز» اللندنية ،قلت« :اسألوا أصدقاَء نا في الصين وموسكو وإنكلترا وفرنسا ،فإن الجميع
سيخبرونكم أن لدينا مخاوف من العمل العسكري ضد العراق ،والعالم بأسره مجمٌع على هذا .إن أي
عمل عسكري ضد العراق سيؤدي إلى عواقب وخيمة ال حصر لها» .ووّج هُت انتقادًا شديدًا إلى
أعضاء إدارة بوش من المحافظين الجدد ،وقلت في هذا اإلطار إنهم «يعانون من هوس حيال
العراق ...يمكنك أن تشرَح لهم حقائَق األمور وتتكلم حتى يجَّف حلُقك ،ولكن ليس َم ن يسمع وال من
يدرك أو يريُد أن يدرك فحوى الكالم» .في هذه المرحلة كانت الواليات المتحدة تتجه إلى حرٍب
حتميٍة ال رجوَع عنها.
نأى العديُد من القادِة في الشرق األوسط بأنفِسهم عن واشنطن في تلك الفترة تعبيرًا عن استيائهم
من سياسات الرئيس بوش وحكومِته .لكني أنا رأيُت من المهم أن أزوَر العاصمة األميركية بين
الحين واآلخر ألحاوَل التأثير ما أمكن في مجرى المناقشاِت الدائرة وتذكير اإلدارة األميركية بأهمية
التحرك إلى األمام نحو إقامة الدولة الفلسطينية .وهكذا عدُت إلى واشنطن في نهاية تموز/يوليو
مرورًا ببعِض العواصم األوروبية حيث تداولُت مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك في باريس ومع
رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في لندن بالتوتر المتزايد بين الواليات المتحدة والعراق .كنت
على إدراٍك تام بأن كالمي الصريح لن يعجَب البعض في واشنطن ولن يقع على آذاٍن صاغية .لكن
األردن صديق قديم ألميركا وأنا على يقين من أننا ال نخدم أصدقاَء نا األميركيين في شيء إذا نحن
حجبنا عنهم مخاوفنا وأسباَب قلقنا في تلك اللحظات الحرجة.
استعدادًا لزيارتي لواشنطن طلبت إلى وزير خارجيتنا ،مروان المعشر ،إعداَد مسَّو دٍة لصيغٍة
مقترحة من خريطة الطريق نحَو السالم التي يمكن طرُح ها للنقاش مع الرئيس بوش .عاَد إلّي مروان
وقال إنه ووليم بيرنز َقطعا شوطًا كبيرًا من التقدم ،لكن كوندوليزا رايس ،التي كانت آنذاك مستشارَة
الرئيس لشؤون األمن القومي ،كانت تعارض هذه الفكرة معارضة حاسمة وهي تعتقد أنها «ستوَلُد
ميتة» .والالفت أن رايس لم تشرح المنطَق وراَء موقِفها هذا.
قلت لمروان إننا سنطرُح اقتراَح نا هذا مع الرئيس بصرف النظر عن موقف رايس .عندما وصلنا
إلى الواليات المتحدة تبّيَن لي أن صراحتي الصادقة مع الصحافة األوروبية أثارت رد فعٍل غاضبًا
في أوساط اإلدارة األميركية .وكان أفضَل تعبيٍر عن هذا الغضب االتصاُل الذي أجرْته معي
كوندوليزا رايس لحظة وصولي إلى الواليات المتحدة ،حين قالت« :إن الرئيس منزعج جّدًا من
تصريحك» .فقلُت لها على الفور« :أنا أقول في العلن ما سمعُته من شيراك وبلير ،فإذا كانت الرسالُة
تزعجكم ،فال ُتطلِقوا النار على حامِلها».
صباَح األول من آب/أغسطس التقيُت الرئيس بوش في البيت األبيض وكان البنُد األساسي على
جدول اللقاء البحث في عملية السالم ،خصوصًا مبدأ خريطة الطريق ومفهوم هذه الفكرة بهدف
تحريك العملية والسير بها قدمًا نحو حل الدولتين .كان من عادِة الرئيس بوش أن يستقبَلني بحرارة
ُم ظِه رًا مودًة وصداقة ،لكن هذه المرة كان جاّفًا وماَل استقباُله إلى الرسمية .فيما كنا في طريقنا إلى
المكتب البيضاوي ،كان يحمُل بيده كوبًا فيه كوكاكوال وكثير من مكَّعبات الثلج التي كان يطحُنها بين
أسنانه كلما أخذ جرعًة من الكوب .في هذه األثناء قال إنه انزعج كثيرًا من تصريحي الصحافي
األخير الذي عَّددُت فيه ما تنطوي عليه الحرب من المخاطر .لكن العالقة الشخصية بيني وبين
الرئيس بوش كانت جيدة وقد تغَّير جّو اللقاء إلى األفضل فيما كنا نتبادُل أطراَف الحديث.
شرح الرئيس وجهة نظره حول العراق ،وقال إن هناك دفقًا جارفًا من الكالم حول صدام .ثم
انعطف بحديثه ليقول نحن اآلن أمام لحظٍة تاريخية وال أريد أن يقوَل الناس بعد ثالثين سنًة من اليوم
إن الرئيس بوش والملك عبد هللا قد سنحْت لهما فرصٌة إلحالل السالم الدائم ولكنهما لم يغتنماها.
وأضاف« :يجب أاّل نكون تحت تهديد األشقياء».
بدأُت حديثي بتكرار توضيح موقفي الرافض للحرب ،ثم قلت« :السيد الرئيس ،إذا كنَت قد اتخذَت
قرارًا بشّن الحرب على العراق ،فلَم ال تكون صريحًا وواضحًا وتخبر أصدقاَء ك بذلك؟».
كان جواُبه حاسمًا« :لم أتخذ هذا القرار بعد ،وحين أتخُذه سوف َتعلم بذلك» .ثم انتقَل إلى القول إن
عليه أن يتعامَل مع األوروبيين الذين لم يدركوا بعد أن ما يحدث في العراق هو جريمة ضد
اإلنسانية وهو غيُر مستعد للسماح بأن يستمر.
هنا انتقلنا إلى البحث في عمليِة السالم في المنطقة فطلبُت من مروان أن يشرح للرئيس مفهوم
خريطة الطريق الذي كنا قد توصلنا إليه في عمان« .علينا أن نؤكد للناس أننا جديون في ما نسعى
إليه» ،قال مروان ،وأضاف« :نحتاُج إلى خريطة طريٍق تنطلُق من موضوِع األمن والمؤسسات،
وتعالج األوضاَع اإلنسانيَة في األراضي الفلسطينية ،ولكن في الوقت عيِنه ُتدرُج بوضوٍح الخطوات
األخرى الباقية التي علينا تحقيُقها تدريجًا وصوًال إلى أواسط العام ،2005وبذلك يتمكن
الفلسطينيون من معرفِة ما يحصلون عليه بالضبط بموجب هذه الخطة ،وكذلك يكتسُب المجتمُع
الدولُّي مزيدًا من الدعم حياَل سعيه لتحقيق األمن».
«ظننُت أنني أوضحُت هذه األمور في خطابي» ،قال الرئيس بوش ،في إشارٍة إلى مالحظاِته التي
أدلى بها في 24حزيران/يونيو وأثارت الكثير من البلبلة والخالف حول مضمونها .ثم قال« :إذا لم
تكن هذه النقاط واضحة فنحن مستعدون للعمل معكم لتوضيحها» .ثم أضاف أن ال مشكلة لديه في ما
يتعلق بالطرح الذي قدمناه ،وأن المسائل المتعلقة باالحتالل والمستوطنات والقدس يمكن العودة إليها
بعد تحقيق تقدٍم واضح على صعيد تحسين الوضِع األمني وبناِء المؤسسات.
هنا تدخَل وليم بيرنز ،الذي كان حاضرًا االجتماع ،فقال« :يمكننا أن نأخَذ الخطاب ونترجَم
مضموَنه إلى نقاٍط واضحة ومحددة» .وافق الرئيس على اقتراح بيرنز ثم اختتم اللقاء .بعد اجتماِع نا
بالرئيس اتصلْت كوندوليزا رايس بمروان وَقلَبْت موقَفها السابق من فكرة خريطة الطريق مئًة
وثمانين درجة قائلًة إن الواليات المتحدة يمكُنها أن تعمَل مع األردن لوضع صيغٍة مقبولة لهذه
الفكرة .بحلول كانون األول/ديسمبر باتت مسَّو دُة خريطة الطريق كاملًة بين أيدينا ،وقد ُأطلقت هذه
المبادرة الجديدة في أواسط العام .2003
مّه د االجتماع الموّسع الجتماٍع ثنائي بيني وبين الرئيس بوش في غرفٍة جانبية قرب المكتب
البيضاوي .لكن قبل ذلك كان الحديث بيننا قد عاد إلى العراق ،وفي هذا السياق قال الرئيس بوش:
«أنا وأنت ابنان ألبوين عظيمين ،وكالنا مؤمٌن باهلل ولدى كٍّل منا فرصٌة سانحة للقيام بعمٍل صالح».
لقد تحدَث الرئيس بلهجٍة ومضموٍن يشيران إلى اعتقاِده بأن الحرب على العراق إنما هي واجٌب
دينّي .
كان أخي علي معي في هذا اللقاء ،وقد أَخ َذْتنا الدهشُة بالفعل من أن نسمَع الرئيس األميركي
يستحضر الدين كعامٍل مؤِّثٍر في اتخاِذه قراَر ه .هذه الجملة التي قاَلها بوش تركْت لدينا انطباعًا
واضحًا بأنه قد وصَل إلى قراٍر نهائي بشأن الحرب ،على الرغم مما أسمَعنا من تأكيداٍت سابقة.
عندما التقيُت بعَض كبار المسؤولين ،لدى عودتي إلى عّم ان ،لوضِع هم في أجواء الزيارة قلُت لهم:
«علينا أن ُنِع َّد أنفَسنا ،فهذه الحرب واقعٌة ال محالة».
الفصل التاسع عشر :حرب في الصحراء
لقد اعتبَر الرأي السائد في واشنطن أن خلع صدام حسين عن الحكم وتنصيب حكومة عراقية
جديدة ليس أصعب من تبديل مصباح كهربائي .ففي مقابلٍة صحافية قبيل اندالع الحرب على
العراق ،قال نائب الرئيس ديك تشيني:
في تقديري أن األوضاَع داخَل العراق باتت من الترّدي والسوء بالنسبة إلى الشعب العراقي بحيث
بدأُت أعتقد أن الناس هناك سيرّح بون بنا كأننا جئناهم محِّر رين ...إن ما يصلنا من أخبار الناس في
العراق هو أن هَّم هم األكبر التخّلُص من صدام حسين ،وحين تأتي الواليات المتحدة لتحقق لهم ذلك
سيرحبون بها كحاملٍة لمشعل الحرية.
ما كادت الحرب تنتهي حتى أخذ هذا الحلم الزهرُّي يخبو ويتالشى ويتضح أنه كان مضِّلًال« .لن
تكون النتيجة سوى حمام دم» ،قلُت ألصدقائي في أميركا .أما في المحادثات التي عقدُتها مع بعض
األصدقاء في المنطقة ،فقد كنا مجمعين تقريبًا على أن ما سنراه بعد توقف الحرب على العراق
سيكون كارثيًا .أذكُر جيدًا محادثاٍت متعددة أجريُتها مع الرئيس المصري حسني مبارك عّبر كالنا
خاللها عن القلق من أن غزو العراق سيأتي بنتائَج سلبيٍة غير متوقعة سنبقى نعاني تبعاتها على مدى
عقود.
استضاف األردن في حزيران/يونيو من العام ،2003أي بعد سقوط بغداد بشهرين فقط ،اجتماعًا
للمنتدى االقتصادي العالمي ،وقد التقيُت خالل المؤتمر بول بريمر ( )L. Paul Bremerالرئيس
المعَّين حديثًا لسلطة التحالف المؤقتة ( ،)CPAوهي الحكومة العراقية المؤقتة التي أقامتها الواليات
المتحدة األميركية .كان بريمر ،فور وصوله إلى بغداد قبلئٍذ بشهر واحد ،قد أصدَر أمرين -من
المسَّلم به أنهما من أسوأ ما قام به الحاكم األميركي -وهما تطبيق سياسة استئصال البعثيين كليًا من
كل دوائر الحكم ومؤسسات الدولة ،والحّل الكامل للجيش العراقي.
أكدت على بريمر أال يحَّل الجيش وحذرته من أن هذا العمل سيكون أشبه بقنبلٍة ستنفجر في
وجوهنا جميعًا .ثم قلت له إنني أتفهم المنطق وراء عملية استئصال البعثيين ،لكن يجب أن ُتقَتصر
هذه العملية على كبار المسؤولين والذين تلطخت أيديهم بالدماء .فلكي تكون سائَق تاكسي أو معلمًا
في مدرسة في عراق صدام حسين كان يجب أن تكون عضوًا في حزب البعث .قلت له أرجو أن
تكون مدركًا أنك إذا شئت استئصال البعثيين أينما كانوا ومهما كانت مستوياُتهم ومسؤولياُتهم فسوف
تضع نفسك أمام مقاومٍة كبيرة جّدًا وسوف توِج ُد فراغًا في السلطة ال بد ألحٍد من أن يمأله.
كان الجيش إحدى المؤسسات القليلة جّدًا التي كانت ال تزال فاعلة في العراق ،وهو الذي ضمَن
بقاء نظام صدام حسين ،إلى جانب أجهزٍة ومؤسسات أمنية أخرى .لكن الجيش كان أيضًا مصدرًا
رئيسًا لالستقرار االجتماعي .حُّل الجيش كان عمًال جنونيًا ِص رفًا -كأن يقرر أحُدهم طرَد كل رجال
الشرطة ورجال اإلطفاء وسائقي سيارات اإلسعاف مرًة واحدة في مدينة نيويورك ،ال لسبب إال ألنه
يكره محافظ المدينة .حُّل الجيش يعني أن مئات آالف الرجال المدَّر بين عسكريًا والذين يمتلكون
أسلحًة صغيرة ولهم وصول إلى المواد المتفجرة سوف يجلسون في منازلهم يائسين دون عمٍل وال
مصدر دخل في بلٍد فقيٍر ومدّم ر وخارٍج لتّو ه من حرٍب مجنونة .إن البعثيين ،الذين سيشعرون
بالتهميش والعزل ،سينظمون صفوَفهم ويردون الضربة .كيف تريد لهؤالء الناس أن يطعموا
عائالتهم؟ إن هذا العمل وصفٌة ناجحة النتشار حالٍة من الضياع والفوضى.
«أعرُف تمامًا ماذا أفعل» ،قال بريمر بلهجة جافة ومختصرة ،ثم أكمل« :سيكون هناك بعُض
التعويض .إنني ممسٌك جيدًا باألوضاع ،على كل حال أشكرك كثيرًا على مالحظاتك».
لكن على الرغم من عنجهية بريمر وثقِته المفرطة بنفسه ،أخذ التمّز ُق واالنهيار ينتشران في
أرجاء العراق كما الناُر في الهشيم .شعَر السَّنُة بأنهم باتوا معزولين ومهّددين اعتقادًا منهم بأنهم
ُأخرجوا من الحكم الجديد في العراق ،وهكذا بدأوا ينظمون عملياٍت عسكريًة ضد قوات التحالف.
وفي الوقت نفسه فتح اإلسالميون العراقيون الناشطون الباب واسعًا أمام الجهاديين العرب اآلتين من
الخارج .وإذا كان من فرحٍة كبرى َعَم رت القلوَب نتيجَة الفوضى التي نشرها في أرجاء العراق
الغزو األميركي ،فهي الفرحُة التي َعَم رْت قلوَب رجال القاعدة ،قياداٍت وأفرادًا ،فقد أدرك هؤالء
بسرعة أن بإمكانهم اآلن نقَل عملياتهم من أفغانستان إلى قلب العالم العربي.
قد ال يكون من السهل أن نعرف َم ن كان بالفعل وراء هاتين السياستين ،استئصال البعث
والبعثيين ،وحّل الجيش العراقي ،ففي مذكراته أنكر بريمر مسؤوليَته عنهما وقال إن مصدرهما هو
البيت األبيض .أما أنا ففي اعتقادي أن الفكرتين جاءتا من السياسّي المهاجر آنذاك أحمد الجلبي ومن
أتباعه .عندما كان مقيمًا في األردن خالل السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي كان الجلبي
ناشطًا في مجال األعمال ،وكان من األصدقاء المقَّر بين لولّي العهد .كان بين أشهر مشاريعه
مخاطرُته المالية عندما أنشأ بنك البتراء في األردن في العام ،1977الذي وقع في أواخر ثمانينيات
القرن الماضي في مشكالٍت مالية دفعت الحكومة إلى مباشرة التحقيق في عمليات تزوير واختالس
مفترضة .فقد رأى المحققون ،بناًء على استقصاءاتهم ،أن الجلبي كان يسحب األموال من البنك
بطرٍق غير قانونية .عندما بدأ المحققون يبنون أدلة كافية على ممارساته غير القانونية في العام
،1989خرج من البالد خلسًة إلى سوريا .حوكَم الجلبي غيابيًا ،وفي العام 1992دانته المحكمة
باختالس سبعين مليون دوالر وُحِك َم عليه بالسجن اثنتين وعشرين سنة ،وال تزال مذِّك رة التوقيف
الصادرة بحقه ساريَة المفعول في األردن .بعد مغادرته األردن ارتبط اسُم ه بالنزاع المتعلق بانهيار
أحد المصارف اللبنانية وكذلك إحدى المؤسسات المالية في سويسرا.
بعد خوضه الفاشل في ميدان األعمال حاول الجلبي أن يجرب حظه في السياسة .خالل تسعينيات
القرن الماضي كان واحدًا من قادة المؤتمر الوطني العراقي ،أهم المجموعات العراقية المعارضة
التي كّر ست نشاطها لقلب نظام صدام حسين ،وكان مدعومًا من إدارة كلنتون وفي الوقت عينه مقربًا
من المحافظين الجدد وال سيما رتشارد بيرل وبول وولفوفيتز .وحين جاء جورج بوش إلى البيت
األبيض في العام ،2001تزايد نشاط الجلبي دافعًا بأفكاره الساعية إلى النفوذ والمال .وُيقال في هذا
اإلطار إنه جمع ما يكفي من االثنين معًا من وزارتي الخارجية والدفاع األميركيتين.
عندما التقيت الرئيس بوش في العام 2002حذرُته من الجلبي ،وقلت له إنه أسوأ َم ن يمكن أن
يسدَي النصح للواليات المتحدة ،ومع أن بوش قال إنه «سيتوّلى أمَر الجلبي» ،فإن نجمه بقي على
صعود.
ربما َبدت مشاريع الجلبي وخطُطه السياسية البّر اقة مرَّح بًا بها في واشنطن ،لكن على أرض
الواقع في بغداد كانت حقيقُة األمور أقَّل بريقًا وأكثر غمًا مما بدا للمقيمين في العاصمة األميركية.
كان األردن بين أوائل الدول العربية التي أعادت فتح سفارتها في بغداد ،ولكنه ما لبث أن وقع في
معمعِة الفوضى الضاربة أطنابها هناك .في السابع من آب/أغسطس من العام 2003تقدمت إحدى
الشاحنات إلى باحة السفارة األردنية في بغداد ،وفيما نزل منها سائُقها انفجرت الشاحنة مخِّلفًة سبعَة
عشَر قتيًال من المدنيين العراقيين .نجا كل موظفي السفارة .أظهرت التحقيقات أن اإلرهابي أبو
مصعب الزرقاوي كان وراء التفجير ،وهو الذي أصبح في ما بعد قائد الجماعة التي ُعرفت بتنظيم
«القاعدة في بالد الرافدين» .سعيًا وراء هدٍف أوسع نطاقًا عمَل الزرقاوي على ركوب موجة العنف
الوحشّي من خالل توجيه ضربة إلى األردن بغية ردع اآلخرين عن مساعدة الحكم العراقي الجديد.
كان من شأن الفوضى التي ضربت العراق بعد الغزو األميركي أن تستدعي تعاون جيرانه
وتنسيَق مقاربِتهم حياَله ،فيما كان جاٌر بعينه يتهيأ لكي يقوم بدور مهيمن في مستقبل العراق .في
مطلع العام 2003قمت بزيارة إيران للقاء المسؤولين فيها ،وكانت أول زيارة يقوم بها رأُس الدولة
األردنية إليران منذ الثورة اإليرانية في العام .1979كان والدي مقربًا من الشاه محمد رضا بهلوي،
وأنا أذكُر زيارتي لطهران عندما كنت في سن المراهقة حين زرنا شاطئ بحر قزوين واستكشفنا
منتجع جزيرة كيش على الخليج العربي.
أتذكر طهران من أيام الطفولة ،مدينًة إمبراطورية مهمة تحيط بها الجبال على غرار عّم ان ،لكن
عندما عبرُت المدينة في السيارة في العام 2003وجدتها على شيء من التأخر وكأن شيئًا لم يتغّير
منذ نشوب الثورة .التقيت الرئيس اإليراني محمد خاتمي في قصر ساداباد شمال شرق العاصمة.
وبعد االنتهاء من استعراض حرس الشرف وسائر مراسم االستقبال بدأنا محادثاتنا الرسمية .بدا
خاتمي مرتاحًا وجذًال ،خصوصًا عندما أشار إلى وزير دفاعه وهو من أصٍل عربّي وقال مازحًا:
«هذا الرجل عربّي ،ما يفرض علينا أن نراقبه بحذر» .بحثنا مجاالت التعاون االقتصادي والثقافي
بين بلدينا .وبعد االجتماع صحَبني في جولٍة على الصناعات العسكرية اإليرانية.
رأيت أن لدى اإليرانيين أمورًا جدية يهتمون بها ،فبعض كبار مسؤوليهم أبدوا رغبًة في فتح
قنوات التواصل مع األميركيين وكانوا على علم بأن لدّي زيارة محددة لواشنطن ،ولذلك طلبوا مني
أن أتوسط بين الطرفين .قالوا إنهم يريدون بحث التعاون الممكن حول مستقبل العراق ،كما قالوا إن
لديهم ما بين ستين وسبعين رجًال من رجال القاعدة تحت اإلقامة الجبرية أو قيد التوقيف بعد أن
لجأوا إلى إيران هربًا من أفغانستان ،وطلبوا أن أخبر األميركيين بأنهم مستعدون للبحث في تسليم
هؤالء األفراد إلى القوات األميركية في أفغانستان .كذلك أبدوا استعدادًا لمناقشة برنامجهم النووي
ومسألتي أفغانستان والعراق .وقد وعدت بإبالغ الرسالة إلى الرئيس بوش.
بعد لقائي الرئيس خاتمي ،التقيت صباح اليوم ذاته المرشد األعلى آية هللا خامنئي ،الرجل األقوى
في إيران .عندما اقتربنا من المجَّم ع المسّيج توّلى أمرنا الحرس الخاص للمرشد األعلى .كان أفراد
الحرس مقَّطبي أسارير الوجه ،ذوي مسحٍة جدية ،حفاًة عندما يكونون داخل المجّم ع ،وقد
اصطحبونا إلى القاعة حيث سيستقبلنا خامنئي .خالفًا للعظمة والفخامة اللتين يتسم بهما قصر
ساداباد ،كان مقر المرشد األعلى بسيطًا ومتواضعًا ،طاولة عادية بسيطة وبضعة كراٍس وبضع
سجادات إيرانية.
فيما كان الرئيس خاتمي منفتحًا وودودًا ،أبدى خامنئي تحفظًا وجدية« :أهًال بك في إيران» ،قالها
فيما كنا نتصافح ،ثم قال« :كهاشمٍّي ،إّن لك مكانًة كبيرًة في مذهبنا من اإلسالم».
بحثنا ما يواجهه المسلمون من تحديات ،وضرورة التعاون وتنسيق الجهود في ما بيننا في هذا
اإلطار ،باعتبار أن لكٍّل منا دورًا قياديًا في الساحة اإلسالمية .تحدثنا عن التكفيريين الذين َيعتبرون
َم ن ال يتبع تفسيرهم المتطرف لإلسالم بأنه من الكفار .صحيح أن العالقة بين بلدينا لم تكن وثيقة،
لكن هذا ال يمنع وجود بعض المصالح المشتركة التي نتفق عليها ومنها محاربة التكفيريين الذين
ينشرون النزاع المذهبّي في كل أرجاء العالم اإلسالمي.
بعد لقائي مع خامنئي عدت إلى عمان آمًال أن تؤدي هذه الزيارة إلى تحسين العالقة بين األردن
وإيران ،وخصوصًا في الوصول إلى مقاربٍة مشتركة حول الوضع المتزايد تأزمًا وتعقيدًا في
العراق .لكن العالقات لم تتحسن ،وقد حاَل دون ذلك اختالف مواقفنا حيال السياسات اإلقليمية
وعملية السالم في المنطقة ،فضًال عن التدخل اإليراني في شؤون الدول العربية.
منذ انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسًا إليران في آب/أغسطس من العام 2005وإيران على
رأس االهتمامات في العواصم الغربية ،والبند األول على جدول أعمالها في ما يتعلق بالشرق
األوسط .لكن من السهل أن ُيالم الشعب على أعمال حكومته فيما أن الشّقة بينهما ال ُيستهان بها .إن
إيران أمٌة عظيمة تنام على تراٍث حضارّي كبير ،وفيها شعٌب ذو مرتبٍة رفيعة على صعيد العلوم
والثقافة .معظم اإليرانيين ال يكّنون مشاعر البغضاء ألميركا والغرب وهم يتمّنون أن يروا حًال
سلميًا للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين.
من المألوف في الغرب أن ُتصَّو ر الحكومة اإليرانية على أنها نسيٌج واحد متجانس ،تتجه كل
عناصره اتجاهًا واحدًا ولديها الدوافُع ذاُتها وراء ما تقوم به من تحركات .لكن حقيقة األمر أن
النسيج السياسَّي في إيران تركيب معقد ،حتى بالنسبة إلينا نحن أهل المنطقة .ولعَّل الحقيقة الوحيدة
الثابتة بالنسبة إلى الحكومة اإليرانية هي أن كل َم ن يحاول اختصاَر ها بتفسيٍر مبّسط هو على خطأ ال
ريب فيه.
ليست إيران وحدًة متماسكة ،بل هي «موزاييك» متنّو ع مكّو ن من عناصر سياسية متعددة
ومتشابكة .فيها المتدينون الذين يتعلقون بالقضايا اإلسالمية ،كتحرير القدس من االحتالل اإلسرائيلي
على سبيل المثال ،بكل صدٍق وإيماٍن عميقين .لكن هناك أيضًا أصحاُب الدوافع السياسية الذين
يرفعون راية القدس ذريعًة توصُلهم إلى غاياتهم الشخصية غير الشرعية ،وهم بذلك يستغلون
المعاناة المشروعة للشباب العرب بسبب استمرار االحتالل .كثيرون في إيران ،كما في سائر أنحاء
المنطقة ،ضاقوا ذرعًا بكل هذا االستغالل.
بعد زيارتي طهران ببضعة أيام التقيت الرئيس بوش في كامب ديفد ،ومن هناك قصدنا منتجع
الرئيس الشهير في أعالي جبال ماريالند ،وكان ذلك في 18أيلول/سبتمبر من العام .2003من نافذة
ذلك المبنى الخشبّي َبدِت السماء ظلمًة دكناء فيما كان اإلعصار «إيزابيل» يعصُف برياحه الهوجاء
اآلتية من فوق المحيط مجتاحًة أرجاَء اليابسة .سألُت الرئيس لماذا ،على الرغم من الوعود المتكررة
بوقف الدفع ،ال يزال الجلبي يقبض من وزارة الدفاع األميركية 350000دوالر شهريًا.
كان بوش يرتدي مالبس غير رسمية ،سترًة رمادية وقميصًا أزرق دون ربطة عنق ،وقد أثار
سؤالي غضبه ،فانحنى على الطاولة الخشبية وقال« :يمكنك أن تعتبر الجلبي من الماضي» .أعضاء
الوفد المرافق لي لم يتأكدوا تمامًا مما قصده الرئيس بهذا التعبير ،لكنهم سجلوا مالحظته في مدّو نتهم
كما يقتضي واجُبهم .أما مستشارو الرئيس فغمرهم صمت غير مريح حياَل مزاجه الذي كان أشبه
بحالة الجّو العاصف في الخارج.
ثم بدأنا نبحث النزاع الفلسطيني -اإلسرائيلي ،ومع أننا كنا في الموقع نفسه الذي كان باراك
وعرفات قد اجتمعا فيه قبلئٍذ بثالث سنوات ووصال إلى أقرب ما يمكن من بلوغ االتفاق ،فقد بدا
السالم خالل اجتماعنا أشبه بالسراب الذي يستحيل تلّم سه .أما خريطة الطريق ،المفهوم الذي كان
األردن قد حبَكه في السنة السابقة والذي انطوى على مجموعٍة من الخطوات المحددة المؤدية إلى
السالم ،فقد بدا أنها باتت هباًء منثورًا.
لكن بوش لم يكَّف عن توجيه اللوم إلى عرفات على انسداد أفق عملية السالم« .خريطة الطريق
واضحة ومحددة» ،قال بوش بصوٍت مرتفع ،ثم أردف قائًال« :لقد سقط الفلسطينيون في االمتحان
األول ،وعرفات ال يريد السالم».
ُم ظهرًا بوضوح أن حملة شارون للربط بين صراع إسرائيل والفلسطينيين من جهة وما أعلنته
أميركا من «حرٍب على اإلرهاب» من جهٍة ثانية قد نجحت إلى حٍد كبير ،قال الرئيس« :إن فكره ال
يزال في إطار الحرب ،وإن جزءًا من هذه الحرب هو في األراضي الفلسطينية» .وتشديدًا على
وجهة نظره بأن عرفات غير قادر على صنع السالم أو ال يريد ذلك ،أوضح الرئيس حاسمًا أن
عرفات قائد فاشل وبالتالي فهو لن يتعامل معه بعد اآلن .قال إنه لن ينفَق رصيدًا سياسيًا على
الخاسرين بل فقط على الرابحين .ثم عّبر عن غضبه حيال عجز عرفات عن السيطرة على العنف
الفلسطيني ،وقال« :ما طلبناه منه ليس مستحيًال ،لكنه لم يفعل شيئًا».
كان موقف اإلدارة األميركية واضحًا بتحّيزه إلى طرٍف من الطرفين دون اآلخر .كان بوش
صريحًا في مواقفه التي تعكس حقيقة قناعاته ولكنه دون شك لم يكن يتلقى أفضل النصح أو أكثره
موضوعيًة من مستشاريه .حاولت أن أعرَض له الوضع بصورته الشاملة .دافعُت عن عرفات وقلت
للرئيس إن عرفات هو قائد الشعب الفلسطيني .أحببَته أو لم تحَّبه ،فهذا ال يغّير حقيقة أن الشعب
الفلسطيني يؤمن به ممثًال وقائدًا شرعيًا له.
منتقًال من موضوع إلى آخر ،سألني بوش عن زيارتي األخيرة إليران ،فأخبرته أنها كانت إيجابية
وأبلغته العرض اإليراني بتسليمهم أفراد القاعدة الموجودين هناك وبالدخول في مباحثاٍت شاملة
وموسعة تتناول البرنامج النووي اإليراني ومسألة التعاون حول الوضع في كٍل من العراق
وأفغانستان .قال الرئيس إن مساعديه سوف يتابعون هذه المسألة .بعد ذلك لم أعد أسمع شيئًا عن هذا
الموضوع ،لكنني أعلم أن أعضاء القاعدة في إيران لم يسَّلموا إلى األميركيين .مع أننا أحرزنا تقدمًا
في محادثاتنا بالنسبة إلى عدة مسائل ،فقد خرجت من االجتماع في كامب ديفد مقتنعًا بأن العملية
السلمية لن تشهد أي تقدم في المدى المنظور.
بعد مرور بضعة أشهر تبّلغ اإليرانيون أخبارًا سارة بشأن عدوهم القديم صدام حسين ،ففي الثالث
عشر من كانون األول/ديسمبر من العام 2003قبضت القوات األميركية على صدام حسين في
مزرعة قرب تكريت على بعد مئة ميل تقريبًا شمالَّي بغداد ،وفي اليوم التالي عرضت محطات
التلفزة العالمية صورًا يظهر فيها صدام حسين ملتحيًا ،رَّث المالبس ،كما ظهرت في تلك الصور
الحفرة أو الخندق العميق الذي كان مختبئًا فيه .كانت لحظًة سريالية بالفعل ،شعر معها الكثيرون من
العرب بشيء من الخيبة واألسف بلغا عند البعض درجَة اإلهانة أماَم منظر صدام حسين المستسلم
تحت وطأٍة من الذل ،ال حوَل له وال قوة .حتى الذين امتألت قلوُبهم حقدًا عليه وبغضًا له كانوا
يتوقعون منه أن يواجه أعداَء ه بشجاعة وعناد وأن يخرج إليهم مقاتًال كما فعل ولداه ُعدّي وُقصّي
اللذان ُقتال في تموز/يوليو من العام 2003في تبادٍل إلطالق النار مع الجنود األميركيين في
الموصل شمال العراق .لكن حين ألقي القبض عليه دون أية مقاومة تلطخت صورة الرجل الشجاع
التي ُعرف بها.
أذكُر جيدًا أنني تحدثت يوَم ها هاتفيًا إلى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز ،وقد
عّبر كالنا عن شعوره بالصدمة لرؤية هذا الرجل ،الذي كان واحدًا من أقوى زعماء الشرق
األوسط ،مختبئًا في حفرة تحت األرض .كان منظرًا داًال على تقلبات الحياة .صدام حسين كان قائدًا
سنيًا ذا مهابٍة وقوة ،وقَف عنيدًا بوجه الواليات المتحدة وإسرائيل ،وهو الموقف الذي اكتسَب بنتيجته
شعبيًة امتدت في كل أرجاء المنطقة العربية .كنُت قد التقيُته بصحبة والدي يوم كان في قمة سلطانه
وقوته.وكانت رؤيته بهذا الوضع ،ملتحيًا ،بشعره الطويل األشعث ،ينظر بعينين زائغتين أمام
عدسات الكاميرات ،صدمة غير متوقعة .وكبيرة كانت خيبة أولئك الذين رأوا في صدام صالح الدين
هذا العصر.
لكن القبض على صدام لم يحمل معه أَّي حٍل لمعاناة العراق ومشكالته .فقد استمّر الوضع
بالتدهور وزادت المشكالت تعقيدًا .بعض النزاعات كان متأتيًا من توتراٍت تاريخية وأحقاد يتحّم ل
مسؤولية تفاقمها نظام صدام وقمعه وعنفه .لكن بعض المشكالت التي دفعت إلى التمرد والعصيان
كانت من صنع يد األميركيين.
في أواخر نيسان/إبريل من العام 2004كشَف البرنامج اإلخباري األميركي «ستون دقيقة» أن
القوات األميركية مارست التعذيب ضد السجناء العراقيين في سجن أبو غريب العسكري .وعندما
ُعرضت تلك الصور للسجناء المغطاة رؤوُسهم والمقّيدة أرجُلهم بأصفاد الحديد ،ارتفعت صرخاُت
االستهجان واالستنكار داخَل العراق وفي أرجاء المنطقة .في الخامس من أيار/مايو أدلى الرئيس
األميركي جورج بوش ،في مقابلٍة مع قناة «العربية» ،بحديث أراد من ورائه التخفيف من وطأة
الضرر الذي أصاب بالده جراء هذه الممارسات ،قال« :أريد أن أقول لشعوب الشرق األوسط إن
الممارسات التي شهدها ذلك السجن تثير االشمئزاز والسخط ،وإنها ال تمثل أميركا».
في اليوم التالي ،السادس من أيار/مايو ،وصلت إلى الواليات المتحدة في زيارة للبيت األبيض
كانت مقررة سابقًا ،وكانت مسألة أبو غريب قد زادت تأججًا .ومع أن الرئيس كان قد عّبر عن
استنكاره ما حدث في السجن ،فقد استغرَب العالم العربي أنه توقف دون االعتذار عن التصرف
المشين لعسكره .افتتح بوش االجتماع ،وكان مصحوبًا بكوندوليزا رايس ودونالد رامسفيلد ،وزير
دفاعه .بعد تبادل المجامالت التفت نحوي وقال« :إنني بالفعل شديد الغضب بسبب ما حدث في أبو
غريب .ما رأُيك أنت؟».
ال شك في أن وجهات النظر السياسية بيني وبين الرئيس بوش كثيرًا ما كانت تتباين ،لكن في تلك
المرحلة من عالقتنا كنت قد بنيُت معه نهجًا من التواصل الشخصّي يسمح لي بأن أتكلم معه بانفتاح
وصدق عندما تدعو الحاجة ،مهما تكن المحاذير .قد يستغرب البعض في الشرق الوسط أو يفاجأ
بكالمي هذا ،لكن الرئيس بوش كشخص يختلف عن الصورة الكاريكاتورية التي رَسَم ْتها له وسائُل
اإلعالم ،فهو رجٌل صادق من حيث إيمانه الحقيقي بأن ما يفعله هو الصواب بعينه .في رأيي أن
بعض مستشاريه أساؤوا نصَح ه إلى حد بعيد وضّللوه كثيرًا ،وقد كنت متيقنًا من أنه كان يريد سماع
الحقيقة مني حتى لو أغضبت بعض مساعديه.
«السيد الرئيس ،إنك قائد أقوى دولة في العالم ،وأنا على يقين من أنه لن يضيرك في شيء ،ومن
موقع هذه القوة ،أن تقدم اعتذارًا ،وفي رأيي إن اعتذارًا منك كرئيس للواليات المتحدة سيكون له
وقٌع إيجابٌي كبير».
رماني الرئيس بنظرٍة عابسة على شيٍء من الحَذر لم تدم سوى لحظاٍت عابرة ،ثم قال« :أنت على
حق» .أدار وجهه نحو كوندوليزا رايس ورامسفيلد وقال« :سأقبل نصيحة صديقي هذه» .كان
تقديري أن بعض كبار مساعديه نصحوه بعدم تقديم اعتذار علني خشية أن يظهره ذلك في وضٍع
ضعيف .لكن فاَتهم أن في التواضع قوًة من نوٍع آخر.
بعد االجتماع خرجنا إلى حديقة الورود لعقد مؤتمر صحافي مشترك .وقفنا جنبًا إلى جنب تحت
شمس الظهيرة الدافئة ،وقال الرئيس:
كذلك تحدثنا عن المشاهد التي رأيناها على شاشات التلفزة أخيرًا ،ليس فقط في
بالدنا بل في بلدان العالم أجمع ،تلك الصور التي تعكس الوحشية واحتقار اإلنسان .لقد قلت لجاللته،
بأصرح العبارات التي ال تقبل اإلبهام ،إن المرتكبين سوف يساقون إلى العدالة وإن األعمال التي قام
بها هؤالء ال تمثل قيَم الواليات المتحدة األميركية.
قلُت له إنني شديُد األسف حيال ما عاناه السجناء العراقيون وما لحَق بعائالتهم
من المعاناة ،كذلك قلت له إن األسف نفسه ينتابني ألن الناس الذين شاهدوا هذه الصور لم يكونوا
مدركين للحقيقة التي َتعمُر طبيعَة الشعب األميركي وقلوَب أبنائه .لقد أّكدت له أن األميركيين ،مثلي
أنا ،لم يرَضْو ا عما شاهدوه ،وقد شعروا باالشمئزاز والقرف.
بعد المؤتمر الصحافي ذهبت إلى وزارة الخارجية لالجتماع إلى وزير الخارجية كولن باول،
وحين تطرقنا إلى موضوع أبو غريب قال باول إن المشاهَد التي ُعرضت شّو هت صورة الواليات
المتحدة في كل أرجاء العالم وحتى داخل البالد .كما قال إن تلك الصور تسببت بمشكلٍة كبيرة وإن
الرئيس مدرك تمامًا أن عليه معالجَة هذه المشكلة بما يتجاوز مجرد الظهور على الشاشات العربية.
هذا النقد الضمني كان اإلشارة األكثر وضوحًا إلى الخالفات التي أخذت تظهر للعلن بين بعض
المسؤولين في اإلدارة األميركية.
من جهة كان هناك المحافظون الجدد -بول وولفوفيتز ،دوغالس فيث ،إليوت أبرامز -ومن جهٍة
ثانية فريُق االعتدال الذي يقوده كولن باول ونائبه رتشارد أرميتاج ( .)Richard Armitageأنا لم
أكن أجتمع بوولفوفيتز وسائر أفراد هذه المجموعة ،لكن كبار مساعدَّي في واشنطن الذين كانوا
يلتقون بهم كانوا يقولون لي إنهم من ذوي الفكر األيديولوجي المتصّلب وال يعرفون المرونة في
نظرتهم إلى األمور ،وهم ككل السياسيين الذين تقف األيديولوجيا وراء عملهم السياسي ،ال وقت
لديهم لألخذ والعطاء وصوًال إلى التسويات .حين يتعامل المرء مع السياسّي النافذ أو صانع القرار
الذي يمتلك مقاربًة براغماتية لألمور يكون المجال مفتوحًا ليدلي كل طرف برأيه وصوًال إلى
الحلول الوسط ،أما السياسُّي األيديولوجّي فالبحث معه عن نقاط التفاهم أو األرضية المشتركة من
الصعوبِة بمكان.
بعض مساعدَّي قالوا إن التعامل مع فيث وأبرامز من المستحيالت .فمنذ اللحظة التي يدخالن فيها
قاعة االجتماع ينتاُبك الشعور بأن ما ينتظرك هو اجتماع بشع وغير منتج .يتصرف الرجالن كأنهما
في موقع يعلو على جميع الناس ،ومتى كانت لديهما خطٌة معينة فعلى الكل أن يمتثَل ويطّبَق هذه
الخطة مهمًا كانت الظروف والعوائق.
في الشهر التالي عمَد األميركيون إلى حّل «سلطة التحالف المؤقتة» التي كان الكل يكرُهها ،وذلك
بعد مرور سنة كاملة على إنشائها ،وسّلم بريمر سلطة الحكم إلى حكومة عراقية برئاسة إياد
عالوي ،من ساسة العراق الشيعة المرموقين ،تمهيدًا إلجراء االنتخابات الوطنية العامة التي كانت
مواعيدها محددة في كانون الثاني/يناير من العام .2005كان عالوي من القادة األقوياء الذين لديهم
حظوظ كبيرة بالنجاح في حكم العراق .رفيُع الثقافة ،عالمُّي المعرفة ،ذو خبرٍة واسعة ومتنوعة على
الصعيد األوسع ،مؤمٌن بالعراق الموّح د ،لكن بما أن بعض النافذين في واشنطن كانوا ال يزالون
يدعمون أحمد الجلبي لم يتسَّن لعالوي أن ينال دعمًا غير مشوب باالنقسام من الحكومة األميركية.
خالل زيارة قمت بها إلى واشنطن في أيلول/سبتمبر من السنة التالية ،اتضح لي بالممارسة الحية
كيف أن البعض يعتبرون أنفَسهم كمن ختَم المعرفَة والعلم من األلف إلى الياء .عندما كنت في
نيويورك لحضور االجتماع السنوي للجمعية العمومية لألمم المتحدة ُدعيت إلى عشاء أقامته اللي
ويموث ( ،)Lally Weymouthمن كبار محرري مجلة «نيوزويك» ،وابنة الراحلة كاثرين
غراهام ( )Katharine Grahamناشرة «الواشنطن بوست».
إحدى المدعوات ،وهي على ما أذكر مذيعُة أخبار في إحدى محطات التلفزة ،سَأَلْتني عما إذا
كانت حقوق النساء قد تحسنت أو زادت سوءًا في العراق بعد الحرب« .لقد ساءت عشرَة أضعاف
عما كانت» ،كان جوابي ،ثم قلت« :عندما كان النظام علمانيًا تحت قيادة صدام حسين كانت
المساواة بين الرجل والمرأة شبه كاملة» .ليز تشيني ( ،)Liz Cheneyابنة نائب الرئيس ،كانت من
بين المدعوين .مالت ليز على أذن باسم عوض هللا ،رئيس الديوان الملكي ،وقالت له إن هذا الكالم
يجب أال يصدَر عني في العَلن ،وبما أنها أرفقت مالحظتها بابتسامة بقَي باسم غير متأكد من مدى
جديتها في هذه المالحظة.
في اليوم التالي تلقى باسم مخابرًة غير متوقعة من ليز تشيني متابعًة لمالحظتها أمس ،وقالت له
إنها بحثت مالحظتي مع بول وولفوفيتز ،الذي كان قد ُعِّين رئيسًا للبنك الدولي ،وقد التقيا في الرأي
على أن علَّي أال أعِّبر عن آراء كهذه في العَلن .عندما أخبرني باسم بمضمون هذه المكالمة ،اقترحت
عليه أن يتصل بوولفوفتز ويقول له أن يذهب إلى الجحيم .ما قلُته خالل العشاء كان صحيحًا تمامًا،
وقد صدَم ني بالفعل أن يكون بين مسؤولي اإلدارة األميركية وداعميهم َم ن يشعر بأن من غير
الممكن أن يكون هناك خالٌف في الرأي حول العراق ،وبأن البعض في أميركا ،البالد التي تفاخر
العالم بأنها تصون حرية الرأي والتعبير ،يحاول كَّم األفواه حين ال يكون الرأُي المعَّبر عنه في خدمة
توجههم.
لقد حّذرني البعض في واشنطن ،بمن في ذلك أحُد الصحافيين المعروفين الذي غطى أخباَر
الشرق األوسط على مدى سنوات ،بأن من األفضل أن أبقى متيقظًا وحذرًا« :عليك أن تكون شديد
الحذر بالفعل مع بعض أعضاء هذه اإلدارة ،ألنهم ميالون كثيرًا إلى االنتقام» ،كما قال.
من حسن الحظ أن واشنطن لم َتعدم مسؤولين تهّم هم النتائُج اإليجابية أكثر من األيديولوجيا
وسياسة الصغائر ،ومن هؤالء وليام بيرنز ،مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق األوسط الذي
يتحدث العربية بطالقة .وكان بيرنز قد شغَل في السابق منصب سفير الواليات المتحدة إلى األردن
حين كنُت ال أزال في الجيش ،وقد دعوناه أنا ورانيا إلى العشاء في منزلنا ووجدناه طّيب المعشر،
لطيف الكلمة ،فضًال عن كل الصفات التي يتمنى المرء أن يجدها لدى الدبلوماسي :واقعّي ،شديُد
المالحظة ،واٍع لكل شاردة وواردة .منذئٍذ تجمعنا صداقٌة جيدة .الشخص اآلخر الذي توثقت عالقتي
به هو جورج تينت ،مدير وكالة االستخبارات المركزية .لقد عمل تينت بدأٍب ومتابعة وثيقة في
السعي لدفع عملية السالم ُقدمًا .وفي مرحلٍة الحقة وضَع خطة لوقف إطالق النار بين إسرائيل
والفلسطينيين .وفي ظرٍف كان مؤاتيًا إلخفاء فشل البعض تمت التضحية به كبَش فداٍء إنقاذًا لبعض
الرؤوس ،لكن بالنسبة إلينا كنُت دائمًا أجده مقِّدرًا وجهات نظرنا ومكّر سًا وقتًا ثمينًا إليجاد حل
للقضية الفلسطينية -اإلسرائيلية.
لقد وجدُت من تينت وبيرنز كل مساعدة عندما كنت أحتاج إلى اإلبحار في مياه واشنطن السياسية
الهائجة ،وقد كان لرأيهما فضٌل كبير في التقاطي اإلشارات الداخلية التي من شأنها أن تنير الدرب
أمامي لكي أقرر متى يمكنني الدفع باتجاه سياسة معينة ومتى كان من األفضل االنتظار.
س
م
ا
خ
ل
ا
م
س
ق
ل
ا
الفصل الحادي والعشرون :اإلسـالم كمـا أؤمـن بـه
كما باألمس تمامًا ،أذكُر المرَة األولى التي زرُت فيها مكة المكرمة وكنت يوَم ها في الخامسَة
عشرَة أرافق والدي ألداء مناسِك العمرة ،وبعد سنواٍت ذهبُت إلى مكَة حاجًا .بلغ الحجيُج عامذاك
أكثر من مليون حاج ،ال يكسو أجساَدهم سوى مالءٍة بيضاء َتشُّدها إلى الجسم قطعٌة من حبل .شعور
يهّز منك عمَقك اإلنساني أمام هذا البحر من األخّو ة بين البشر فيما كنت واقفًا بين تلك الجموع من
الحجاج اآلتين من جهاِت األرض األربع ،مكتسين كساًء واحدًا يجِّسُد الوحدَة والمساواَة أمام وجه
هللا ،رِّب العالمين.
طفنا حول الكعبة ،وهي الموقُع األقدس في اإلسالم الذي تنحو إليه وجوه المسلمين وأفئدُتهم عندما
يركعون مصّلين .كان والدي قد حدثني كثيرًا عن أسالفنا من الهاشميين ودورهم التاريخي في
الوقوف على رعايِة مكة المكرمة .لكن أن تكوَن هناك ،جسدًا وروحًا ،وأن تالمَس الكعبَة َلْه َو تجربة
روحيّة تترُك المرَء عاجزًا عن أّي تعبير .جلسُت هناك خاشعًا ومأخوذًا بشعوٍر عَّز علّي وصُفه،
بانتظار بدء الصالة .سمعت شيئًا من الرنيم الخافت وغمرني الخشوع هلل عز وجل.
يساورني قلق كبير من الصورة التي يرى فيها الكثيرون اإلسالم في أيامنا هذه ،باعتباره نظامًا
من القواعد الجامدة والمتشددة ،بدَل الذهاِب بأفكارنا إلى المعاني العميقة التي ينطوي عليها إيماُننا.
يجب على المسلم أن يؤدي فرائض هللا كاملة .وعلينا أن نلتزم تعاليم ديننا السمحة وأن نطبق أيضًا
القيم اإلسالمية المتمثلة في مساعدة جاٍر لنا وقع في مشكلة ،أو زميل في العمل يحتاج إلى نصيحة،
أو فرد في عائلتنا ينقصه الدعم .أشعر بالطمأنينة والسالم الداخلي عندما أؤدي فريضَة الصالة.
وأشعر أيضًا بالرضى عندما أمّد يد العون إلى اآلخرين وأعّبر عن تعاطفي معهم .إن اإلسالم دين
العدالة ،والمساواة ،والحق بأن يعيش اإلنسان حياة كريمًة زاخرة بالمعاني اإلنسانية .وأدى التفسير
المتطرف لتعاليم ديننا إلى إعطاء صورة مشوهة عن هذه الفضائل اإلسالمية الكبرى.
عندما أرفُع الدعاء إلى هللا عز وجل أسأُله الرحمَة والحمايَة ألحَّبتي وأفراد عائلتي ،ولجنودي،
ولوطني الحبيب ،ولحكومتي ،من موقعي على رأس الدولة أدعو لشعبي ،لتحّسن مستوى عيشه
وصحته .وأحيانًا أضرُع إلى هللا في صالتي أن يحقَق أمورًا بعيِنها كالمزيد من الوظائف لشبابنا
وشاباتنا ،وأصلّي أحيانًا كي يهطَل المطُر غيثًا على األرض وزارعيها.
من األمور التي أحزنتني كثيرًا في العقدين األخيرين ما أصاب اإلسالم العظيم من سوء التفسير
نتيجة األعمال التي اقترَفْتها قلٌة مضَّللة ،ومن األمثلة على ذلك المعنى الذي ألبسوه لكلمة «الجهاد»
التي ربَطها الكثيرون بالعنف والحرب ،مع أن فحوى الكلمة هو الكفاُح الداخلي الذي يحاول اإلنسان
من خالله تحسين نفسه وأحواله .إنه الكفاح من أجل التقدم ولكن أيضًا من أجل تحسين حياة اآلخرين
المحيطين به .ما من نصٍر يأتي نتيجَة معركٍة واحدة ،ولكن نتيجَة انتصاراٍت صغيرة يحققها اإلنسان
على مدى يومه أو أسبوِع ه ويكون بعضها متواضعًا وصغيرًا لدرجة قد ال يراه أحد.
يؤلمني جّدًا أن أرى قلًة قليلة من المتعصبين المضَّللين يشّو هون ديننا العظيم بتفسيرات ملتوية،
هؤالء يعتنقون إسالمًا محّر فًا ،وإذ يَّدعون العمَل باسمه فهم في حقيقة األمر ليسوا سوى َقَتلٍة
مجرمين .إنهم أقلية ال تمثل حجمًا ُيذكر من مليار وخمسمئة وسبعين مليون مسلم منتشرين في أقطار
األرض ،لكنهم استطاعوا أن يتركوا أثرًا أكبر بكثير من حجمهم في الصورِة التي ينظر فيها
الكثيرون في العالم إلى الدين اإلسالمي الحنيف .هؤالء التكفيريون ال تقوم أعماُلهم وتفسيراُتهم إال
على الجهل ،والبغضاء ،والفهم الخاطئ لمفهوم الشهادة النبيل لكي ينشروا عقيدَتهم ضاربين عرَض
الحائط بأكثر من ألف سنة من العلوم والفقه اإلسالمي القويم ،وذلك بذريعة ما يظنون مخطئين أنه
النهج األصيل الذي كان متبعًا في القرن السابع في الجزيرة العربية.
ُيعّد التكفيريون جزءًا صغيرًا من جماعٍة من األصوليين أكثر انتشارًا هم «السلفيون» الذين
يطرحون ضرورَة العودة إلى الجذور .لكّن األكثرية الساحقة من السلفيين ال تجيز األعمال اإلرهابيَة
وال قتَل المدنيين األبرياء .بالنسبة إلى هؤالء التكفيريين ُتعّد الحرب ضد من يعتبرونهم أعداًء حربًا
مفتوحًة ال ضوابط فيها ،وهم ال يأبهون بالتعاليم اإلسالمية التي نص عليها القرآن الكريم والحديث
الشريف .ال يكاد يكون هناك مسلم إال ويعرف مجموعَة المحرمات التي أمَر بها خليفُة المسلمين أبو
بكر الصديق -رضي هللا عنه -جيوشه في القرن السابع ،والتي يمكن اعتبارها سابقة إسالمية
التفاقات جنيف .كانت وصية الخليفة أبي بكر الصديق التي سبقت اتفاقات جنيف بأربعة عشر قرنًا
أن:
ال تخونوا ،وال تغلوا ،وال تغدروا ،وال تمثلوا ،وال تقتلوا طفًال صغيرًا ،وال شيخًا
كبيرًا ،وال امرأة ،وال تعقروا نخًال وال تحرقوه ،وال تقطعوا شجرة مثمرة ،وال تذبحوا شاة وال بقرة
وال بعيرًا إال لمأكلة .وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفَسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفَسهم
له.
إن األعمال التي يقوم بها التكفيريون ال تمُّت إلى اإلسالم بصلة ،وليس فيها من رسالة اإلسالم
شيء ،فإذ يحترم اإلسالُم الحياة اإلنسانية ويصونها ،ال يتردد التكفيريون في تدميرها والقضاء
عليها .لقد رمى التكفيريون وراَء ظهورهم تراَث التراحم والتعاطف اإلنساني الذي هو أحد منابع
الثراء الروحي في اإلسالم ،وهم يهدفون إلى قلب الحكومات في طول العالم العربي وعرِض ه
بوسائل العنف والتدمير لكي يعلنوا الخالفة «اإلسالمية» .ومن أجل ما تصّو ره لهم عقوُلهم أنه
اإلسالُم «الصحيح» تراهم َيقتلون المسلمين ويهّدمون قيَم اإلسالم وركائَز ه األخالقية ،ويسعون إلى
تهديم العالم الذي يتفاعل معه 99.99في المئة من المسلمين.
تعود الحركة التكفيرية بجذورها إلى ما شهدته مصر في سبعينيات القرن الماضي من إحياٍء
لمفهوم عقيدِة الجهاد ،وكان لهذه الحركة صلٌة بحادثة العصيان والتمرد التي وقعت في مكَة المكرمة
في العام ،1979ثم تفّر َع منها العديد من الجماعات اإلرهابية بما فيها تنظيُم القاعدة .ينجرف
التكفيريون إلى الحروب التي ُتَشن على المسلمين ،ومن هنا َدفُقهم على أفغانستان بأعداٍد كبيرة.
كثيرون منهم ،كأسامة بن الدن ،تعلموا أساليب الحرب واالستراتيجية والقتل واإلرهاب خالل
المعارك التي خاضوها ضد قوات االحتالل السوفياتي ألفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي.
وعندما انتهى ذلك النزاع في مطلع التسعينيات عادت مجموعات كبيرة من هؤالء المقاتلين إلى
بلدانهم وكانت تلك الحروب قد أكسبتهم مهاراٍت «عسكرية» جديدة.
نحن في األردن الحقنا هؤالء التكفيريين بمختلف أنشطتهم على مدى سنوات طويلة ،وقد ذهب
عدد كبير منهم إلى أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي ،وإلى البوسنة والشيشان في التسعينيات.
لقد كان األردن المساهَم الثالث في قوات األمم المتحدة التي أرسلت إلى يوغوسالفيا السابقة ،بعد
فرنسا والمملكة المتحدة .وقد أرسلنا ثالث كتائب ،أي ما يزيد على ثالثة آالف جندي وضابط
استمرت إقامتهم هناك من العام 1993حتى العام ،1996حتى إن ضابطًا أردنيًا كان على رأس قوة
األمم المتحدة التي تمركزت في كرواتيا .لقد رأينا التكفيريين يحاولون انتزاع دوٍر لهم في الحرب،
وسرعان ما أدركنا أننا نواجه مزيجًا قاتًال من القومية والتطرف الديني والعنف.
باإلضافة إلى المقاتلين القدماء العائدين من أفغانستان إلى األردن والذين كانوا على ارتباٍط
بالتنظيم الذي يسمي نفسه «جيش محمد» ،كان علينا أيضًا أن نتعامل مع مجموعة من المقاتلين
العائدين من الشيشان ،ذلك أن بعض المواطنين األردنيين من أصوٍل شيشانية وأردنيين آخرين كانوا
قد ذهبوا إلى الشيشان للمشاركة في ما اعتبروه جهادًا ضد الروس .وهكذا كان على األردن أن
يواجه في تسعينيات القرن الماضي مشكلًة جديدة تمثلت بمجموعة من المجاهدين المقاتلين ذوي
التدريب العالي الذين عادوا إلى األردن من أفغانستان والشيشان .لسوء الحظ فإن بعض هذه
المجموعات كانت تعرف جيدًا كيف تستخدم المهارات التي تعلمتها وهكذا بدأ أفراُدها العائدون إلى
مناطق إقليمية أخرى ينظمون الهجمات اإلرهابية.
عندما بدأ اإلرهابيون ينظمون حمالٍت إرهابيًة على نطاٍق واسع ابتداًء من مطلع القرن الحالي،
أدركنا تمامًا َم ن هم هؤالء وماهية األخطار التي ُتخفيها أهداُفهم .لقد صدمت الوحشية التي اتسمت
بها أعماُلهم الكثيرين في الغرب ،وجعلت البعض َيعتبر المسلمين في أربعة أقطار األرض من هذا
الصنف من البشر ،وراحوا يستخدمون تعابيَر من نوع «الفاشية اإلسالمية» أو «المتطرفين
المسلمين» .لكن على مستخدمي هذه التعابير أن يدركوا أنها تمّثل إهانًة لثالثٍة وعشرين في المئة من
سكان األرض ،وأنا ال أكُّف عن تحذير أصدقائي في الغرب قائًال« :ال تنخدعوا بما يّدعيه
اإلرهابيون من انتماٍء إلى اإلسالم ،فليس هؤالء ،بمنتهى البساطة ،سوى مجرمين وقتلة .احذروا أن
تنفخوا بصورة أقوالهم وأفعالهم حتى لكأنكم تشملون بهذه الصورة العالَم اإلسالمَّي بأكمله».
***
كانت المرة األولى التي تلقيت فيها تهديدًا شخصيًا من القاعدة في صيف .2000قررُت يوَم ها أن
أقضي عطلًة قصيرة مع عائلتي ووقَع اختياُر نا على الجزر اليونانية .في 22حزيران/يونيو من
العام 2000سافرت من عمان إلى رودس وكان معي ابني حسين الذي كان في الخامسة وابنتي
إيمان التي كانت في الثالثة .أما رانيا ،التي كانت حامًال بسلمى ،فكان برنامُج ها أن تنضّم إلينا في
اليونان في اليوم التالي .كذلك كان معي أخي علي ،الذي كان مسؤوًال عن أمني الشخصي ،واثنتان
من أخواتي.
فيما كنا نقترب من مطار دياغوراس في جزيرة رودوس ،ألقيت نظرة من الطائرة على تلك
الجبال الصخرية واألبنية القديمة .من المشهور عن رودس أنها تضم الموقع الذي أقيم فيه التمثاُل
العمالق الذي ُعرف بكونه إحدى عجائب الدنيا السبع وكان ينتصُب شاهقًا على مشارف الميناء .هذه
الجزيرة التاريخية كان لها ،هي أيضًا ،نصيٌب من نزاعات الشرق األوسط ،فقد غزاها القائد المسلم
معاوية األول في القرن السابع للميالد ،وكانت عهدذاك جزءًا من اإلمبراطورية البيزنطية ،ثم
استعادتها للبيزنطيين الحملُة الصليبية األولى بعد مرور أربعة قرون على سقوطها .بعد ذلك انتقَل
حكُم الجزيرة إلى مجموعٍة من المحاربين الفرسان الذين القوا نهايَتهم على يدي السلطان العثماني
سليمان القانوني .في القرن العشرين شهدت الجزيرة مفاوضات السالم بين جدَي األكبر ،الملك عبد
هللا األول ،وقادة كٍل من مصر ولبنان وسوريا من جهة ،والقادة اإلسرائيليين من جهٍة ثانية .وقد
انتهت تلك المفاوضات بتوقيع اتفاقات الهدنة في العام 1949التي أدت إلى وقٍف إلطالق النار بين
دولة إسرائيل المنشأة حديثًا وجيرانها العرب.
انتقلنا بالسيارة من المطار إلى الميناء وكنُت قد استعرُت يختًا من أحد األصدقاء السعوديين.
أبحرنا بعد ظهر ذلك اليوم وقد تهادى بنا اليخت على صفحة مياه المتوسط الهادئة ،وكان يتبعنا على
مسافة زورٌق تابٌع لحرِس السواحل اليوناني .وبما أننا كنا على موعٍد في اليوم التالي للقاء رانيا في
الموقع نفسه الذي انطلقنا منه ،قررنا أن نبقى على مسافٍة قريبة من شاطئ مدينة لندوس.
مع اقترابنا من الميناء رأيُت مجموعًة من البيوت البيضاء تحيط بقاعدِة تكويٍن صخرّي عمالق
تعلو قمَته قلعٌة يونانيٌة قديمة .عندما اقترَب يخُتنا من رصيف الميناء تجّم ع بالقرب من الرصيف
بعُض األشخاص الذين كانوا في الجوار .أمضينا أمسيًة هادئة ومريحة في تلك المدينة الصغيرة،
وفي الصباح عدنا لمالقاة رانيا.
كان علينا أن ننتظر بضَع ساعات ،تركنا الولدين مع عمتيهما واستأجرنا أنا وعلي دراجتين
ناريتين ورحنا نستكشف الجزيرة .تجولنا على تلك الطرق التي يغطيها الغبار ومررنا ببعض القرى
الصغيرة وعدنا لنجد رانيا قد وصلت .لم نتأخر في اإلبحار باتجاه «هالكي» ،الجزيرة الصغيرة التي
ال يتجاوز عدد سكانها ثالثمئة نسمة .كنا قد نوينا اإلبحار على مدى يومين بين الجزر اليونانية
بحيث نتوقف في «سيمي» ( )Symiو«تيلوس» ( )Tilosو«نيسيروس» ( ،)Nisyrosوصوًال إلى
«سانتوريني» ( )Santoriniالمشهورة بشطآنها البركانية وبيوتها البيضاء الرائعة.
حوالى الخامسة من بعد الظهر ،فيما كنت مستريحًا مع زوجتي والولدين على ظهر اليخت نتمتع
بتلك الطبيعة الرائعة ،جاءني اتصال من عمان .نزلت إلى مركز االتصاالت وتناولت الهاتف فكان
على الخط مدير المخابرات ،قال« :جاءتنا تقارير تقول إن جماعًة من القاعدة تنوي مهاجمة يختك
عند وصولك إلى سانتوريني .يجب أن تغّير اتجاهك فورًا».
قال لي إن اإلرهابيين كانوا ينوون قصف اليخت بصواريخ تطلق عن الكتف ،وربما كانوا
سيقومون بعملية انتحارية بحيث يقتربون من اليخت بقارٍب صغير ويفجرون أنفَسهم لتدمير اليخت
بي وبالعائلة( .هذه التقنية استخدَم ها اإلرهابيون بعد أربعة أشهر ،في 12تشرين األول/أكتوبر،
عندما هاجم انتحاريون المدِّم رة األميركية «يو أس أس كول» ( )USS Coleفي ميناء عدن في
اليمن وُقتل في العملية 17بحارًا أميركيًا).
بوصفي زوجًا وأبًا شعرُت بغضٍب ال يوصف وأنا أسمُع أن إرهابيين يهددون حياتي وحياة
عائلتي .ومع أن رد فعلي األول كان أن نتصدى لهم ،فقد وافقُت أخي علي الذي رأى من الحكمِة
تغيير وجهتنا فورًا ومغادرَة المكان.
لم نشأ أن نخلق جوًا من الرعب على متن اليخت وكان ال بد من أن نبتكَر سببًا يبرر قرارنا بتغيير
برنامجنا .وبما أن رانيا كانت حامًال قلنا لطاقم اليخت إنها تواجه بعض التعقيدات وعلينا أن نلغي
جولتنا البحرية ونعود إلى رودس .أحطنا المطار علمًا وحين وصلنا إلى الميناء كانت طائرتنا
جاهزة على المدرج .ما إن أصبحت الطائرة في الجو حتى اتصلُت بمدير المخابرات العامة وطلبت
إليه أن يبلغ مسؤولي األمن اليوناني بما لديه من معلومات .ومع أننا لم نعرف كيف اكتشفت القاعدة
وجودي في اليونان ،فإن أفضل ما خرجنا به من استنتاج هو أن مخبرًا محليًا قد نقل إليهم المعلومة.
بسب سياسة االعتدال التي يعتمدها األردن نهجًا ثابتًا ،ودوره الفاعل في العمل على تحقيق السالم
في المنطقة ،وجهده المستمر لتعزيز ثقافة التسامح بين أتباع الحضارات واألديان المختلفة ،فقد رأت
القاعدة أنني مصدُر تهديد لنهجها.
كان قد مضى علينا أعوام ونحن نحارب القاعدة ونتعاون مع حلفائنا لقطع الطريق على
مخططاتها في المنطقة ،ولعّل موقفنا هذا هو الذي دفعهم للتآمر على حياتي .لم تكن المسألة عائدة
إلى أسباب شخصية ،فهدفهم كان أوسع بكثير .لقد َنِع َم ْت الساللُة الهاشمية والحمد هلل باالحترام في
العالمين العربي واإلسالمي ،غير أن ما ُعرفنا به تاريخيًا من اعتداٍل مصحوٍب بانفتاحنا على الغرب
طالما جعَلنا هدفًا للمتطرفين .لقد ظنوا أنهم بقتلي سوف يقتلون تسعين عامًا من الحكم الهاشمي في
األردن ،وإرَث ألفيٍة كاملٍة بل يزيد من القيادة الهاشمية في الجزيرة العربية .إن من بين أهداف
القاعدة قلَب األنظمة العربية برّم تها لكي تنّص َب مكاَنها حكَم ها المتطّر ف الذي ال يمُّت إلى اإلسالم
بصلة.
إن البذور األولى لراديكالية العنف التي تجّسد عقيدَة القاعدة قد ُز رعت خالل العام 1979الزاخر
باألحداث الكبرى ،وكان لثالثة من هذه األحداث َر ْج ُع صدى كبير على مدى عقود ثالثة على األقل.
في كانون الثاني/يناير هرَب شاه إيران من درب ثورٍة كانت في طور النمو واالمتداد ،وحّل محَّله
آيُة هللا الخميني على رأس الجمهورية اإلسالمية اإليرانية .وقد كانت الثورة اإلسالمية في إيران
مصدَر وْح ٍي ودافعًا مشجعًا للمتطرفين في كل أنحاء المنطقة .ثم ،في العشرين من تشرين الثاني/
نوفمبر ،استولى بضُع مئات من هؤالء على المسجد الحرام في مكة المكرمة .وقد أغضب هذا
االعتداء على أحد أقدِس المواقع اإلسالمية من قبل متطرفين مسلحين العالم اإلسالمي وصدمه .لقد
اّدعى قائُد العملية ،السعودي جهيمان العتيبي ،أن الحكَم السعودي حكٌم فاسد وغير إسالمّي ،وأن
المهدي المنتظر قد عاد ليتوّلى الحكم .لكّن المتمردين ما لبثوا أن اقتيدوا إلى خارج الحرم بعد
وقوعهم في قبضة السلطات األمنية ،وكان مصير جهيمان والعديد من المتآمرين معه أن ُقِط عت
رؤوُسهم في الساحات العامة .صحيح أن التمرد قد ُو ِض َع له حد ،غير أن تداعياِته لم تنتِه بانتهائه.
من بين اإلسالميين المتطرفين الذين تأثروا بما قام به جهيمان في مكة عصام محمود طاهر
البرقاوي ،الذي عرف بأبي محمد المقدسي .ولد المقدسي في الضفة الغربية وقضى وقتًا طويًال في
أفغانستان خالل ثمانينيات القرن الماضي ،وانطالقًا من كونه منّظرًا قياديًا احتل موقعًا طليعيًا في
الحركة الجهادية السلفية في األردن وأصبح معّلما ومرشدًا ألبي مصعب الزرقاوي يرسم له مسالكه
نحو استخدام العنف الوحشي باسم اإلسالم .وقد رّدد المقدسي الكثير من شعارات جهيمان وانتقاداته
للحكم السعودي وسواه من الحكومات العربية.
مع انتهاء االعتداء على المسجد الحرام في مكة المكرمة في كانون األول/ديسمبر من العام
،1979انفجر الحدث الثالث :زحفت الدبابات السوفياتية إلى أفغانستان ،وما كان من هذا الهجوم
على بلٍد مسلم إال أن حّر َك حمّيَة المقاتلين في كل أنحاء العالم اإلسالمي .وفي هذا اإلطار جاء
البعض يطالب األردن بالقيام بدوٍر ما .صديٌق أميركي كان قد تقاعد حديثًا من القوات المسلحة
جاءني وقال لي إنه عائد لتّو ه من أفغانستان وطلب مني أن يتولى األردن تدريب مجموعة من
المقاتلين المجاهدين .قلت له إن هذا القرار ال يعود إلّي ،فأنا لسُت سوى ضابٍط صغير ،لكن وعدُت
بأن أنقَل طلبه إلى والدي.
كان جواب والدي حاسمًا وقاطعًا« :هذا أمٌر غير وارد على اإلطالق» .لقد رأى أن المزَج بين
التعصب الديني ومعطياِت السياسة الباردة هو تصرف خطير وخاٍل من الحكمة ،فضًال عن كون
تصرف من هذا النوع يثير الروس ضدنا وهذا ال يخدم مصلحة األردن.
في طليعة المقاتلين المسلمين في أفغانستان كانت حركة السلفيين .إن الكثرة الساحقة من المسلمين،
سّنًة وشيعةَ ،تبني فهَم ها وتفسيَر ها لإلسالم على تراكٍم تاريخٍي ضارٍب في عمق الزمن من العلوم
القرآنية والفقه اإلسالمي ،وعلى ثراٍء تراثي هائٍل من االجتهاد والفقه والتفسير وعلوم اللغة الشاملة.
أمام هذا الثراء المعرفّي المتراكم عبر السنينُ ،يمضي المفكرون اإلسالميون وكباُر األئمة سنواٍت
وأحيانًا عقودًا في دراسة تراٍث فقهّي عمُر ه فوَق ألٍف من السنين .وعندما ُيصدر هؤالء فتاواهم
الدينية أو وجهاِت نظرهم في شؤون الدين إنما يقّدمون تفسيرًا مبنيًا على حكمِة العلماء والفقهاء
الذين سبقوهم وكان لهم في هذا المجال الباع الطويل .أما التكفيريون ،أو القادُة من بينهم ،فهم ال
يأبهون لهذا التراث من الفقه وعلوم الدين وال يقبلون تعدَد مسارات الفكر الديني .وهم يعتبرون في
المقابل أنهم يمتلكون الفهَم الصحيح لإلسالم ،الفهَم المبنَّي على تفسيرهم هم لنصوص القرآن الكريم.
من بين المآخذ على هذه المقاربة أنها ال تقبُل وجهات نظر العلماء والفقهاء اآلخرين .حين تقع
مسؤولية التفسير واإلفتاء في هذه الحالة بين أيٍد ال تؤتمن عليها ،نكون أمام أخطار محدقة.
يذهب التكفيريون بعيدًا بهذا الحق الحصرّي لتفسير الدين ،ويستخدمونه لتبرير الصيغة المشّو هة
التي يعتمدونها لإلسالم .إنهم يعتقدون أن من حقهم قتَل الهراطقة ،علمًا بأن كل َم ن ال يرى رأَيهم في
تفسير الدين هو من هؤالء ،وهذا ما يبرر لهم أن يقتلوا َم ن شاؤوا ومتى شاؤوا.
صباح الثامن والعشرين من تشرين األول/أكتوبر من العام ،2002خرج لورنس فولي
( ،)Laurence Foleyأحد كبار مسؤولي وكالة التنمية الدولية األميركية ،من منزله في إحدى
ضواحي عمان متجهًا نحو مقر عمله .ما إن خطا بضَع خطوات نحو سيارته حتى قفز مسّلح من
وراء السيارة وأطلَق عليه ثماني رصاصات من مسدس عيار 7مليمتر وأسرع هاربًا في سيارة
كانت بانتظاره ،تاركًا لزوجِة فولي أن تكتشف جثَة زوجها تسبُح في دمائها.
اتصل بي مدير المخابرات العامة وقال« :منذ قليل وقعت جريمة اغتيال وُقِتل فيها دبلوماسي
أميركي» .كان غضبي كبيرًا جّدًا أن أرى ضيفًا من ضيوف األردن يسقط قتيًال في بلدنا بيد حفنٍة
من المجرمين ،وقد أمرُت بالتحرك الفورّي والسريع للعثور على القتلة.
في اليوم التالي زرُت السفارة األميركية لتقديم التعازي لزوجة فولي ،فيرجينيا (،)Virginia
وقلت لها إننا سنجد قاتل زوجها .بعد مرور شهرين ،في كانون األول/ديسمبر من العام ،2002
اعتقلت قواُت األمن األردنية القاتل وهو مواطن ليبي ،وسائق السيارة التي هرَب فيها وهو أردني.
بعد التوسع في التحقيق الذي تابعته القوى األمنية تبّين لنا أن المؤامرة أديرت من خارج األردن
وكان وراَء ها أبو مصعب الزرقاوي .بعد تحقيٍق موّسع ومحاكمٍة طويلة ،أصدرت المحكمة في ربيع
العام 2004حكَم ها على ثمانية أشخاص بجريمة قتل لورنس فولي ،ستة منهم حوكموا وُح كموا
غيابيًا بمن فيهم الزرقاوي .أما الرجالن اللذان كانا في قبضِة العدالة األردنية ،القاتل وسائق السيارة،
فقد ُنّفذ فيهما حكم اإلعدام.
على الرغم من بشاعة هذه الجريمة ،فهي لم تكن سوى المقدمة لموجة كبيرة من أعمال العنف
التي اجتاحت الشرق األوسط .في أوائل نيسان/إبريل من العام 2004اعترضت قوى األمن األردنية
ثالث شاحنات مألى بالمتفجرات في مدينة إربد القريبة من الحدود السورية .تحركت أجهزة
المخابرات لمعرفة الجهة التي كانت وراء هذه الشحنة وما هي أهدافها ،ومن حسن الحظ أن أحد
المتورطين كان ال يزال في األردن مختبئًا في شقة في حي ماركا وسط عمان ،وهو أردني يدعى
عزمي الجيوسي وكان معه عدد من الشركاء .أمرُت فريقًا من القوات الخاصة بإلقاء القبض على
الجيوسي واإلتيان به حيًا إذا أمكن .كان علينا أن نعرف إذا كان يعمل منفردًا أو أن هناك آخرين
ينتظرون اللحظة المناسبة لشن هجومهم.
تبّين أن الجيوسي كان مختبئًا في منطقٍة سكنية بالقرب من إحدى المدارس .وتجنبًا لتعريض
المدنيين ألي خطر قرر الفريق أن يتحرك ليًال .في الثانية من فجر العشرين من نيسان/إبريل من
العام 2004تجّم ع فريق من الكتيبة 71في الشارع تحت الشقة المستهدفة ،وكان الفريق يضم
تشكيًال من الرجال المدربين تدريبًا عاليًا على مكافحة اإلرهاب ويرافقهم أفراد من الشرطة.
قرَع أحد رجال الشرطة الباب فاسُتقبَل برَشٍق من بندقية أوتوماتيكية ،في تلك اللحظة اقتحم الشقة
ستة من رجال مكافحة اإلرهاب مطلقين النار على اإلرهابي الذي بادَر هم بإطالق النار فسقط قتيًال.
بعد لحظات اقتحم الشقَة فريٌق آخر وقبَض على الجيوسي حيًا ومعه زوجُته وأطفاُله الثالثة ،وكان
مسّلحًا بكل أنواع األسلحة .وجدوا لديه متفجرات وآالف الدوالرات والدنانير وبضعة جوازات
مزورة.
خالل التحقيق معه كشف الجيوسي أن زعيم العصابة هو أبو مصعب الزرقاوي ،الذي تعّر ف
عليه عندما كانا يحاربان في أفغانستان .كذلك اعترف بأن هناك خليتين أخريين في عمان تخططان
لشن هجماٍت أخرى .قال الجيوسي إنه ال يعرف مكان الخلية الثانية ،لكن قائد فريق العمليات
الخاصة كان سريع البديهة ،فطلَب منه االتصال بقائد الخلية الثانية وتحديد موعد للقائه .انطلق
الفريق العتراض قائد الخلية الثانية الذي استطاعوا إلقاء القبض عليه في وضح النهار وقاَدهم إلى
«البيت اآلمن» الذي كان يختبئ فيه حيث ألقوا القبض على قائد الخلية الثالثة.
بعد بضعة أيام ُذِه ل األردنيون ولم يصدقوا ما كانوا يشاهدوَنه ويسمعونه من اعترافاٍت متلفزة
كشَف فيها اإلرهابيون ما كانوا يخططون له .فقد كانوا يزمعون خلط المتفجرات التقليدية مع مواد
كيماوية قاتلة ومهاجمة السفارة األميركية ومبنى رئاسة الوزراء ومقر دائرة المخابرات العامة .كان
الجيوسي قد تلقى تدريبه في مجال المتفجرات في أحد معسكرات بن الدن في أفغانستان ،وقد طّو ر
تقنيًة يمزج فيها األوكسجين المرّكز مع حبوب الكمون األسود المطحون لصنع مادة أشد تفجيرًا من
الـ«تي .إن .تي» ،وكان يأمل أن يتمكن من قتل آالف الناس بهذه الطريقة.
بعد مرور أيام معدودة ،في 29نيسان/إبريل ،زحَف في شوارع عمان ما يقارب مئة ألف مواطن
ومواطنة من األردنيين ،بمن فيهم زوجتي رانيا ،للتعبير عن غضبهم واالحتجاج على اإلرهاب
واإلرهابيين .كانوا يهتفون ضد اإلرهاب ويضربون الطبول وهم في طريقهم إلى مبنى مجلس األمة
حيث أحرقوا صور بن الدن والزرقاوي والجيوسي ورفاق السوء لكل هؤالء.
وقعت عملية المحاكمة لهؤالء اإلرهابيين في فوضى عارمة حيث عمدوا إلى التشويش على
اإلجراءات القانونية ورفضوا االعتراف بسلطة المحكمة .وفي مرحلة من مراحل جلسة المحاكمة
خلَع الجيوسي حذاءه ورمى به القاضي صارخًا بوجهه أن الزرقاوي سوف يقطع رأسه ،وأن كل
الحاضرين هم من «أعداء هللا».
انتهت المحاكمة بالحكم على الجيوسي ورفاِقه باإلعدام ،وبحكٍم آخر باإلعدام على الزرقاوي
غيابيًا .عندما كان الحكم ُيتلى بصوٍت عاٍل صرَخ أحُد اإلرهابيين أن منظمَة بن الدن تكبر وأن
«جيش أبو مصعب وأسامة سوف يعود».
الفصل الثاني والعشرون :معًا ضد اإلرهاب
كل البشائر كانت توحي لنادية العلمي بأن التاسع من تشرين الثاني /نوفمبر من العام 2005هو
يوُم فرحتها الكبرى .ففي أمسية ذلك اليوم كانت سُتزف إلى خطيبها أشرف دعاس في فندق
«راديسون ساس» في عمان .كان العروسان قد التقيا قبل ثالث سنوات حين كانا يعمالن في أحد
المستشفيات المحلية ،وسرعان ما جمَعهما الحب وقررا الزواج .جاَء المحبون ،من أقارب
وأصدقاء ،من كل أنحاء االغتراب وتجمعوا في الفندق لمشاركة العريسين وذويهما فرَح هم .في
حوالى التاسعة دخل العروسان بهَو الفندق يزفهم المدعوون الذين َعلْت أهازيجهم وتصفيُقهم فرحًا
بالعروس الرافلة بثوبها األبيض الجميل وطرحتها المتهدلة والعريس ببدلته ذات اللون األدكن
وربطة العنق الحمراء.
ساعٌة مضت ،أو أقّل ،على كتب كتاب العريسين وكانا يهّم ان باالحتفال ببدء حياتهما معًا؛ زوجين
يتطلعان إلى غٍد سيبنيانه معًا .لكن أبا مصعب الزرقاوي كانت لديه مشاريُع أخرى.
تسَّلل إلى مكان االحتفال ثنائٌّي من االنتحاريين ،زوٌج وزوجُته ،عراقيان ،لَّف كل منهما حوَل
جسمه حزامًا ناسفًا مثقًال بالمتفجرات والُكرات الحديدية ،وأخذا يتنقالن بين المدعوين حريَص ْين
على أن يبتعَد أحُدهما عن اآلخر ليضمنا أكبَر َقْدٍر من الدمار والقتل .حين وَلجت ناديا وعريُسها باَب
القاعة صدحت الموسيقى بلحن الفرح .عند هذه اللحظة فَّج ر الرجل حزاَم ه فتطايرت الكرات
الحديدية في كل االتجاهات بزخٍم مميتُ .قتل والد العروس فورًا وأصيب والد العريس إصابًة قاتلة.
وحاولت زوجُة االنتحاري تفجيَر حزامها فلم ينفجر ووَّلْت هاربة.
كانت الحصيلة سبعًا وعشرين ضحية من بينهم والدا العروسين وستَة عشَر شخصًا من أقرباء
أشرف.
في الوقت نفسه تمامًا فّج ر انتحاريان نفسيهما في فندقين آخرين« :غراند حياة» (Grand
)Hyattو«دايز إن» ( )Days Innوُقتل في هذين التفجيرين ثالثة وثالثون شخصًا لتصبَح
الحصيلة ستين ضحية بينهم ستة وثالثون من األردنيين .من بين الذين َفقدوا حياتهم في تلك
التفجيرات المخرُج السينمائي العالمي ،السوري -األميركي مصطفى العقاد ،الذي أنتج وأخرج فيلم
«الرسالة» وقد تناوَل فيه مجريات األيام األولى لإلسالم ،علمًا بأن شهرَته لدى جمهور السينما
األميركية جاءت من أفالم الرعب التي أنتجها حول عيد التخّفي «الهالوين».
يوم وقعْت هذه التفجيرات كنت في زيارة رسمية إلى كازاخستان ،وُبَعيد انتهاء العشاء الرسمي
جاَء ْتني من عمان مخابرة هاتفية تحيطني علمًا بما حدث .ما إن سمعُت الخبر حتى شعرت بغضب
ال يوصف وحزن قبض قلبي .ومع أن معركَتنا مع التكفيريين كانت دائمًا مصدر تخوٍف لدّي من أن
نتعّر ض لعمٍل من أعمالهم الوحشية ،فإنني لم أهيئ نفسي يومًا لشيٍء بهذه الفظاعة والبشاعة.
اعتذرُت من المضيفين وطلبُت إعداد الطائرة فورًا للعودة إلى عمان .وصلنا في الخامسة من
صباح اليوم التالي واتجهُت مباشرًة إلى مواقع االنفجارات .ما إن وقع نظري على ما خّلفه العمُل
اإلجرامّي من الدمار وسفك الدماء حتى ازداد غضبي اشتعاًال« .كيف لهؤالء المجرمين أن يفعلوا
هذا بنا؟» فكرُت في نفسي ،وكاد الغيُظ يسيُل دمعًا من عينّي َ .قَتلٌة مجرمون يزهقون أرواحًا بريئًة
في حفِل زفاف ،وأنا ،رأُس الدولة ومن َأْو لى واجباتي أن أحمي هؤالء األبرياء وأصوَن حياَتهم
ومصالحهم .عقدُت العزم على العثور على المجرمين .قَّدمُت واجَب العزاء إلى أفراد العائالت
المفجوعة ،وقمت بجولة في المستشفيات لزيارة المصابين وتمّني الشفاء العاجل لهم ،وكان من بينهم
ابُن أحِد األصدقاء المقّر بين.
بالنسبة إلى بلٍد بحجم الواليات المتحدة قد ال يبدو عدد الضحايا ( 60شخصًا) كبيرًا على الصعيد
النسبي .لكن بالنسبة إلى األردن كانت الضربة كبيرة جّدًا ،ال بل كارثية وال تقُل عن فقدان ثالثة
آالف شخص في هجوم واحد على أميركا .كانت الوطأُة النفسية على المواطن األردني العادي عبئًا
مذهًال ،وقد جعلت السواَد األعظم من الرأي العام في األردن يناصُب تنظيَم القاعدة العداَء السافر.
أذاَع زعيم القاعدة في العراق ،أبو مصعب الزرقاوي ،بيانًا أعلن فيه مسؤوليَته عن التفجيرات،
وقال في بيانه إنه «بعد دراسة ومتابعة األهداف ،فإن أماكن تنفيذ العملية اختيرت لتكون فنادق اتخذ
منها الطاغية في األردن ساحات خلفية ألعداء اإلسالم مثل اليهود والصليبيين» .لكّن اإلرهابيين
الذين كانوا أبعَد ما يمكن عن استهداف «أعداء اإلسالم» ،حصدوا بتفجيراتهم عشرات األردنيين
األبرياء وعشرات سواهم من جنسياٍت أخرى.
رفَض األردنيون اعتداءات الزرقاوي الحاقدة ،وقد تجمع بعد ظهر ذلك اليوم أمام فندق راديسون
عدد كبير من المستنكرين الغاضبين يلّو حون باألعالم األردنية ويرّددون الهتافات المنّددة
بالزرقاوي« :الموت للزرقاوي» ،وعلى مدى لياٍل متواصلة بقَي األردنيون الشباب يحيون ساعات
الليل بالصالة والدعاء.
لقد عّبرُت عن الغضب الكبير الذي انتاَبني في رسالٍة وجهُتها إلى األردنيين في العاشر من تشرين
الثاني/نوفمبر قلت فيها« :ونؤكد هنا للجميع أننا سنالحق هؤالء المجرمين ومن يقف وراَء هم،
وسنصُل إليهم أينما كانوا وُنخرُج هم من جحورهم ونقدمهم للعدالة» .سياستنا في األردن أن ال نتدخل
في الشؤون الداخلية ألي بلد آخر .لكن هذه السياسة كانت على وشك أن تتغّير بعد الذي حدث .لقد
قررُت أننا من اآلن فصاعدًا ،إذا تبّين لنا أن جماعًة إرهابية تخّطط الستهدافنا وهي مختبئة في بلٍد
آخر ،فسوف نضرُبها قبل أن تتمكن منا .استدعيت المسؤولين األمنيين والمدنيين ،وقلت لهم« :اآلن
سنبادر نحن بالهجوم ،فالذي فعَله الزرقاوي عمٌل إجرامي وقد حان الوقت لخلع القفازات وتحريك
يدنا الحديدية ،عليكم أن تأتوا به حيثما كان» .تحركنا نحو القبائل العراقية في مسعى للحصول على
مزيد من المعلومات ،أما الحكومة العراقية فإذا شاءت أن تساعدنا ،فهي مشكورة ،وإذا تمّنعت عن
ذلك فإننا على استعداٍد للعمل بمفردنا.
أيام صدام حسين كان العراق مقفًال ولم يكن من السهل على رجال مخابراتنا التحرك داخَل البلد.
لكن في ضوء الغزو األميركي وانتشار حالة الفوضى لم يمِض وقت طويل حتى تمكن رجالنا من
التسلل إلى العراق .كنا نعلم أن الزرقاوي هناك ،لكن لم تكن لدينا اإلمكانية في البداية لمطاردته
والقبض عليه .أما اآلن فقد بدأنا نتحرك بفاعلية داخل العراق وأخذنا ُنلِح ق ضباطًا أردنيين بوحداٍت
من القوات الخاصة األميركية .األردنيون أدرى من األميركيين بتصرفات التكفيريين ونمط
تفكيرهم ،وبالتالي كانوا أقدَر على اكتشاف المشبوهين من بينهم .وقد ساعدنا األميركيين في التعّر ف
إلى التكفيريين.
قال الزرقاوي إن هجوَم ه كان يستهدف النظام األردني ،لكن هذا ليس صحيحًا .وقد اتضح للشعب
األردني أن قتَل عدٍد كبير من الضيوف المدعوين إلى حفل زفاف لم يكن سوى عمٍل إجرامّي
وحشي ،وهو أبعد ما يكون عن العمل السياسي .هجوم الزرقاوي كان ،بمنتهى البساطة ،إعالن
حرٍب على األردن ،وها نحن آتون لنرّد الصاَع صاعين.
ولَد الزرقاوي باسم أحمد فضيل نّز ال خاليلة ،ونشأ في مدينة الزرقاء الواقعة على بعد سبعة عشر
ميًال شرقَّي عّم ان .كان شاّبًا عنيفًا بطبيعته ،ومجرمًا صغيرًا ،وبقي منجرفًا على هذه الدروب
المنحرفة حتى أصبَح في أوائل عشرينياته فتوّج ه إلى أفغانستان لينضَّم إلى المقاتلين ضد القوات
السوفياتية هناك .بوصوله إلى أفغانستان ،مع بداية الخروج السوفياتي منها في العام ،1989أطلَق
على نفسه االسَم الحركّي «الزرقاوي» تيمنًا بالبلدة التي نشأ فيها ،وهناك التقى أسامة بن الدن
وسواه من جماعة المتطّر فين .عند عودته إلى األردن في أوائل تسعينيات القرن الماضي أنشأ تنظيمًا
إرهابّيًا محليًا تحت اسم «بيعة اإلمام» ،لكن قبل أن يقوم بأي هجمات إجرامية اعُتقل وحكم عليه
بالسجن مدى الحياة.
التقى الزرقاوي في سجنه منّظر التكفيريين أبا محمد المقدسي الذي شّج ع لديه ميَله إلى أعمال
العنف .لكن المقدسي دأَب في ما بعد على انتقاد الزرقاوي ووقع التباعد بين االثنين .وفي ما ثبَت أنه
خطٌأ جسيم ترّتبت عليه أثماٌن باهظةُ ،أفرج عن الزرقاوي في العام 1999ضمن عفٍو عام ُبَعْيد
تحملي مسؤولياتي ملكًا على األردن .ما هي إال فترة قصيرة حتى عاد الزرقاوي وتوجه إلى
أفغانستان حيث زّو ده ابن الدن بالمزيد من المال والتشجيع .بعد الغزو األميركي ألفغانستان في
تشرين األول/أكتوبر من العام 2001عاد إلى الشرق األوسط الستئناف عملياته اإلرهابية.
استقر الزرقاوي في المناطق الكردية شماَل العراق ،وهناك أقام ِص الٍت قويًة مع أحد التنظيمات
اإلرهابية المحلية« :أنصار اإلسالم» ،وهو تنظيم على عالقة وثيقة بالقاعدة .بالتعاون مع هذا
التنظيم ،ومع عصابة من المقاتلين المنتمين إلى القاعدة والذين جاؤوا معه من أفغانستان ،بدأ مع
رجاله ُيجرون اختباراٍت في مجال السموم ،بما فيه الـ«سيانيد» و«الريسين» ،وكانوا يجّر بون
سموَم هم على الحيوانات ليعرفوا مدى فاعليتها .ثم بدأ يرسل اإلرهابيين الذين دّر بهم في معسكره في
مهماٍت إجرامية إلى البلدان األوروبية بما فيها إيطاليا وألمانيا والمملكة المتحدة ،وقد اعُتقل العديد
من هؤالء واعترفوا بعالقتهم بالزرقاوي .كانت أمنية الزرقاوي توسيع ميدان نشاطه ورفع مستوى
النفوذ الذي يمارُسه ،ولم َيُدْر في َخ َلده أّن أبوابًا واسعًة كانت على وشك أن تنفتح أمامه وأمام أمثاله
من اإلرهابيين.
عندما غزا األميركيون العراق في العام 2003نفضت القاعدة عنها كل أثقالها .غمَر الفرُح قلَب
أسامة بن الدن ألنه أدرك أن الفوضى وعدم االستقرار اللذين سيعّم ان البالد سيفتحان أمام أنصاره
قلَب العالم العربي وعمَقه وسيتيحان لهم تثبيت قواعدهم في بلدان المنطقة .لكن َم ن قال إن أسامة بن
الدن وحَده يحتكر هذا الميدان ،فها هو الزرقاوي ،الباحُث عن مدخٍل يلُج منه إلى هذا الفراغ الكبير
الذي خلَقه الغزو األميركي ،يطأ الساحَة لتوسيع مدى نشاطه ونفوذه .لقد ارتفعت نسبُة الشّر والعنف
في ما يقوم به من أعماٍل إجرامية ،وراح يتجاوز كل الحدود وصوًال إلى النفوذ السياسّي عن طريق
العنف المتطرف.
في الثالث من أيار/مايو من العام ُ 2003عرض على أحد المواقع اإللكترونية التابعة لتنظيم
القاعدة شريُط فيديو ظهر فيه رجل أعمال أميركي شاب يدعى نيكوالس بيرغ ،يرتدي مالبَس
رياضيًة بلوٍن برتقالي وكان راكعًا أمام خمسة رجال بلباسهم األسود وكانوا مقّنعي الوجوه .قرأ
أحُدهم ،الزرقاوي حسب ما أعلن عنوان الشريط ،بيانًا ثم سحب سكينًا وذبَح بيرغ من الوريد إلى
الوريد وهو يصرخُ« :هللا أكبر».
تلك هي اللحظة التي تحّو َل فيها الزرقاوي ورجاُله من مجرمين إلى حيواناٍت مفترسة .لقد قاموا
بعمٍل ال تتسع الكلمات لوصِف بشاعته ،وأنا ال أفهم كيف يمكن هؤالء أن يّدعوا الدفاع عن أي قيمٍة
إنسانية ،وكيف بهم يتبّج حون بالدفاع عن اإلسالم ،ديِن التراُح م والُه دى؟ أمعن الزرقاوي في ارتكاب
كل أنواع البشاعات؛ فّج ر أماكَن العبادة الشيعية في محاولٍة إلشعال نار الفتنة المذهبية ،وقطَع
رؤوَس العديد من سّيئي الطالع من المدنيين األبرياء.
في الرابع من تشرين األول/أكتوبر أعلن الزرقاوي ،في بيان ُنشر على أحد مواقع اإلنترنت ،أنه
قد ضَّم منظمته إلى تنظيم القاعدة ،وجاء في البيان أن جماعة التوحيد والجهاد تبايع أسامة بن الدن
أميرًا عليها .وبعد التحاقه بالقاعدة عاَد الزرقاوي يمعُن باستهداف األردن .ففي العامين 2004
و 2005أحبطت أجهزُتنا األمنية ما يزيد على مئٍة وخمسين محاولَة هجوم على أهداٍف في األردن
قامت بها جماعُة القاعدة بقيادة الزرقاوي ،وسواها من التنظيمات التكفيرية .لكن هذا ال يعني أننا
استطعنا إحباَط كل المحاوالت .في آب/أغسطس من العام 2005تسّلل إلى األردن أفراد من تنظيم
القاعدة في العراق وأطلقوا ،من ميناء العقبة في الجنوب ،قذيفًة على سفينٍة حربية أميركية ،وفي
تشرين الثاني/نوفمبر هاجم انتحاريو الزرقاوي الفنادَق الثالثة في عمان .لكن هذه العملية لم تكن
عمًال إجرامّيًا وحشّيًا فحسب ،بل كانت أيضًا خطًأ تكتيكّيًا كبيرًا.
في العديد من عواصم الشرق األوسط غالبًا ما يكون نزالء الفنادق الفخمة من الزوار األجانب،
رجال أعمال ومسؤولين حكوميين وسوى ذلك ،ومن هنا فإن هدف الزرقاوي من تفجير فندق كان
يستهدف ،على األرجح ،قتل األميركيين أو اإلسرائيليين .لكن فنادق الخمس نجوم في األردن غالبًا
ما يكون روادها من األردنيين أكثر منهم من األجانب ،وحتى النادلون في المطاعم هم في أغلبهم من
األردنيين وليسوا من العمال األجانب.
كانت تلك الهجمات نوعًا من اإلنذار لنا جميعًا .أما الزرقاوي ،الذي َص دَم ْته موجُة الغضب
الشعبّي الذي قوبل به عمُله اإلجرامّي ،فقد قرر أن يغّير من تكتيكه .وفي شريٍط ُو ِّز ع في األسبوع
التالي وجه الزرقاوي تهديدًا مباشرًا إلَّي ،قائًال إنه سيصل إلَّي وسيقطع رأسي.
في ذلك الشتاء وفي الربيع الذي تاله انتشر عناصُر مخابراتنا والمتعاونون معهم في كل أرجاء
العراق بحثًا عن أي معلومة يمكن أن ُترشدنا إلى الجحر الذي يختبئ فيه الزرقاوي .وما لبثوا أن
نسجوا شبكًة من المخبرين على امتداد خريطة البلد .وفي إطار البحث عن أّي دليٍل يقودنا إليه تبادلنا
المعلومات مع إحدى القبائل السنية ذات العالقة بتنظيمات المتمردين ،وفي نيسان/إبريل من العام
2006نشر الزرقاوي شريطًا استطاع خبراؤنا تحليَل عناصره وتقدير مكان وجوِده نتيجَة قراءٍة
للصور والمشاهد التي تضّم نها الشريط .كذلك استطعنا تجنيد ُم خبٍر من الدائرة الضيقة التي تحيط
بالزرقاوي ،وقد كشف لنا هذا المخبر ،بعد فترة ،معلومًة تفصيلية على جانب من األهمية .هذا
المخبر كان على اتصاٍل بثالثة من رُسل الزرقاوي الموثوقين جّدًا لديه ،والذين يلتقونه شخصّيًا
إلتيانه بالرسائل وَح ْم ِل رسائِله إلى اآلخرين.
بالتعاون الوثيق مع األميركيين استطعنا في أكثر من مناسبة االقتراَب منه كثيرًا وفي إحدى هذه
المرات تنّبَه عندما سمع صوت اآلليات المدرعة ،وعند وصول القوة العسكرية األميركية كان قد
هرب على دراجٍة نارية صغيرة .وفي مرٍة ثانية قفز من النافذة وهرب .لكننا كنا نزيُد اقترابًا منه
مرًة بعد مرة.
في أيار/مايو من العام 2006علمنا من األميركيين أن الزرقاوي كان ُيعّد لالجتماع بمرشده
الروحي الشيخ عبد الرحمن ،فبدأنا نراقُب تحركات الشيخ لعّله يرشدنا إلى مخبئه .وفي السابع من
حزيران/يونيو الحَق األميركيون الشيخ إلى منزٍل في ضواحي بعقوبة التي تبعد ثالثين ميًال شمالّي
شرقّي بغداد ،ورّكزوا فريقًا مراقبًا من قوات الدلتا الخاصة وسَط غابٍة من الشجيرات بالقرب من
المنزل .أما نحن فطلبنا من أحد مخبرينا أن ُيبقي عينًا ساهرة ،وقد بعث إلينا برسالة يقول فيها إن
الزرقاوي وأحَد رجاله في الداخل.
كان الليل على وشك الهبوط وخوفًا من أن يعود ويهرب مرًة أخرى طلَب قائُد مجموعة قوة الدلتا
األميركية من الطيران أن يقصف المنزل .لم يكد يمضي وقٌت قصير حتى كانت طائرتان من طراز
«إف »16تلقيان على المنزل قنبلتين تزن كل منهما حوالى 230كلغ .سحَب الجنود األميركيون
والعراقيون الزرقاوي من بين الركام وكان ال يزال يتنفس ،لكنه ما لبث أن فارق الحياة.
وأخيرًا نالت منه العدالُة وأنصفْت أولئك الحزانى من أقارب ضحاياه وعائالتهم؛ فالزرقاوي لم
يعد قادرًا على نشر الموت واألذى بين المدنيين األبرياء .في حزيران/يونيو من العام ُ 2009قِبَض
على زوجته تجتاز الحدود من سوريا إلى األردن مع أوالدها .وظهر الفارق واضحًا بين المتطرفين
الَقتَلة وبين العالم المتحّضر حين سمحنا لهم بأن يدخلوا وأطلقناهم أحرارًا.
لم يتواَن األردن ،منذ وقت طويل ،في التعاون مع الدول الصديقة على حماية المدنيين واألبرياء
من المنظمات اإلرهابية .لكن التعاون الدولي ضد تنظيم القاعدة أصبح أقوى في السنوات األخيرة
وأكثر تنظيمًا ومنهجية؛ وذلك استجابًة للتهديدات اإلرهابية المتزايدة .لقد كانت أجهزة مخابراتنا أوَل
من استطاع اختراق صفوف القاعدة وذلك قبل أن يتنبه لها المجتمع الدولي بكثير؛ ومن هنا معرفُتنا
العميقة والواسعة بأساليبهم وتقنياتهم .لقد وضعنا هذه الخبرة والمعلومات في خدمة حلفائنا بغيَة
التعاون في مكافحة اإلرهاب .وأنا أشعر باالعتزاز حياَل الدور الكبير الذي قمنا به في حماية أرواح
األبرياء في المنطقة وفي العالم .إننا مستمرون في التعاون والمشاركة بالمعلومات مع أجهزة
المخابرات األخرى في عملية تعاوٍن تزداُد اتساعًا وفاعليًة نحمي من خاللها شعبنا ومصالحنا من
المنظمات اإلرهابية.
ال شك في أننا ربحنا معركًة مهمة ضد اإلرهاب ،لكّن االنتصار الحاسم في هذه الحرب ال يكمن
في ربح المعارك التكتيكية الصغيرة ،وال في استخدام قواِتنا العسكرية وأجهزة مخابراتنا للقضاء
على خاليا اإلرهاب واكتشاف مؤامراتها فقط .لن نهزَم اإلرهابيين إال بوضع حٍّد للذرائع التي
يستخدمونها للترويج ألفكارهم ،وبمحاربة الجهل واليأس اللذين تنمو عليهما تلك األفكار .ليست
الحرب على اإلرهاب حربًا عسكرية ،إنها حرب عقٍل وتفكيٍر سليم ،ونحن بدأنا نخوُض ها منذ بعض
الوقت.
الفصل الثالث والعشرون :رسـالـة عّم ـان
في أواخر العام 2004دعوُت جمعًا من العلماء المسلمين إلى األردن ،وطرحُت عليهم سؤاًال
حول ما َيقترحونه من سُبٍل لمكافحة التكفيريين وما يطرحونه من آراء وأفكار هدامة ،وطلبُت من
ابن عمي األمير غازي بن محمد ،العاِلِم اإلسالمّي ذي المكانِة المرموقة ،وهو يحمل شهادة دكتوراه
من جامعة كامبريدج ،أن يقود عمَل المجموعة وُينّسَق بين أفرادها .توّص ل هؤالء العلماء األجالء
إلى وضع وثيقٍة بعنوان «رسالة عمان» أوضحوا فيها حقيقة اإلسالم وما هو اإلسالم الحقيقي ،وما
علق باإلسالم مما ليس فيه ،واألعمال التي تمّثله وتلك التي ال تمّثلهُ .نشرت الرسالة في التاسع من
تشرين الثاني/نوفمبر ،عشيَة شهر رمضان المبارك ،وجاء فيها:
إن رسالة اإلسالم السمحة تتعّر ض اليوم لهجمة شرسة ممن يحاولون أن يصوروها عدّو ًا لهم
بالتشويه واالفتراء ،ومن بعض الذين يّدعون االنتساب إلى اإلسالم ويقومون بأفعال غير مسؤولة
باسمه ...وهذا الدين ما كان يومًا إال حربًا على نزعات الغلّو والتطّر ف والتشّدد ،ذلك أنها حجب
العقل عن تقدير سوء العواقب واالندفاع األعمى خارج الضوابط البشرّية دينًا وفكرًا وخلقًا ،وهي
ليست من طباع المسلم الحقيقي المتسامح المنشرح الصدر ،واإلسالم يرفضها -مثلما ترفضها
الديانات الّسماوية السمحة جميعها -باعتبارها حاالت ناشزة وضروبًا من البغي ،كما أنها ليست من
خواص أّم ة بعينها وإنما هي ظاهرة عرفتها كّل األمم واألجناس وأصحاب األديان إذا تجمعت لهم
أسبابها ،ونحن نستنكرها وندينها اليوم كما استنكرها وتصّدى لها أجدادنا عبر التاريخ اإلسالمي
دون هوادة...
وإننا نستنكر ،دينّيًا وأخالقّيًا ،المفهوَم المعاصَر لإلرهاب ،الذي ُيراد به الممارساُت الخاطئة ،أّيًا
كان مصدُر ها وشكُلها ،والمتمثلُة في التعدي على الحياة اإلنسانية بصورٍة باغية متجاوزة ألحكام هللا.
كنُت مدركًا ،طبعًا ،أن رسالًة أو بيانًا أو وثيقًة مصدُر ها األردن وحده لن تكون كافيًة لصد
التكفيريين والوقوف بوجههم بعد أن بثوا سموَم هم في أرجاء العالم اإلسالمّي .ولذلك توّلى األمير
غازي استخالَص المحاور الثالثة الرئيسة للرسالة فكانت هذه األسئلة المحورية الثالثة الكفيلُة بنسف
كل التحريفات والتشويهات التي أْلحَقها التكفيريون باإلسالم وَكْش ِف زيفها تبعًا للمعايير اإلسالمية
الثابتة .والنقاُط المحوريُة الثالث هي:
تعريف من هو المسلم؟
وهل يجوز التكفير؟
ومن له الحق في أن يتصّدى لإلفتاء؟
أرسلنا هذه األسئلة إلى أربعٍة وعشرين عالمًا من كبار علماء المسلمين من ذوي المكانة المرموقة
من جميع أنحاء العالم ،يمثلون جميع المذاهب والمدارس الفكرية في اإلسالم .وفي تموز/يوليو من
العام 2005عقدنا مؤتمرًا في عمان دعونا إليه مئتين من كبار العلماء المسلمين في أكثَر من خمسين
بلدًا بما فيها المملكُة العربية السعودية وإيران وتركيا ومصر .أصدرت هذه النخبُة من العلماء فتوى
بشأن المسائل األساسية الثالث التي ُطرحت في المؤتمر ،وقد ُعرفت النتائُج التي خرجوا بها
بمحاور رسالة عمان الثالثة:
( )1إّن كل من يّتبع أحد المذاهب األربعة من أهل السّنة والجماعة (الحنفي ،والمالكي ،والشافعي،
والحنبلي) والمذهب الجعفري ،والمذهب الزيدي ،والمذهب اإلباضي ،والمذهب الظاهري ،فهو
مسلم ،وال يجوز تكفيره؛ ويحرم دمه وعرضه وماله .وأيضًا ،ووفقًا لما جاء في فتوى فضيلة شيخ
األزهر :ال يجوز تكفير أصحاب العقيدة األشعرّية ،ومن يمارس التصّو ف الحقيقي .وكذلك ال يجوز
تكفير أصحاب الفكر السلفي الصحيح.
كما ال يجوز تكفير أّي فئة أخرى من المسلمين تؤمن باهلل سبحانه وتعالى وبرسوله صلى هللا عليه
وسلم وأركان اإليمان ،وتحترم أركان اإلسالم ،وال تنكر معلومًا من الدين بالضرورة.
( )2إّن ما يجمع بين المذاهب أكثر بكثير مّم ا بينها من االختالف .فأصحاب المذاهب الثمانية
متفقون على المبادئ األساسّية لإلسالم .فكّلهم يؤمنون باهلل سبحانه وتعالى ،واحدًا أحدًا ،وبأّن القرآن
الكريم كالم هللا المنَّز ل ،وبسيدنا محمد عليه الصالة والسالم نبّيًا ورسوًال للبشرية كاّفة .وكلهم
متفقون على أركان اإلسالم الخمسة :الشهادتين ،والصالة ،والزكاة ،وصوم رمضان ،وحّج البيت،
وعلى أركان اإليمان :اإليمان باهلل ،ومالئكته ،وكتبه ،ورسله ،واليوم اآلخر ،وبالقدر خيره وشّر ه.
واختالف العلماء من أتباع المذاهب هو اختالف في الفروع ال في األصول ،وهو رحمة .وقديمًا
قيل :إّن اختالف العلماء في الرأي أمٌر جّيد.
( )3إّن االعتراف بالمذاهب في اإلسالم يعني االلتزام بمنهجية معينة في الفتاوى :فال يجوز ألحد
أن يتصّدى لإلفتاء دون مؤّهالت شخصية معينة يحددها كل مذهب ،وال يجوز اإلفتاء دون التقّيد
بمنهجية المذاهب ،وال يجوز ألحد أن يّدعي االجتهاد ويستحدث مذهبًا جديدًا أو يقّدم فتاوى
مرفوضة تخرج المسلمين عن قواعد الشريعة وثوابتها وما استقَّر من مذاهبها.
على مدى العامين 2005و 2006حملنا هذه المحاوَر الثالثة إلى كل المؤتمرات والمعاهد
اإلسالمية الكبرى بحيث صَّدَق عليها أكثر من خمسمئة عاِلم وفقيه من كبار العلماء في العالم
اإلسالمي؛ ما مثل إجماعًا دينيًا تاريخيًا .وكانت تلك المّر ة األولى منذ ما يزيد على ألف عام تتوصل
فيها األمة رسمّيًا إلى مثل هذا االعتراف المتبادل بين المذاهب المتعددة .وإن هذا االعتراف ملزم
قانونّيًا للمسلمين؛ ألن الرسول صلى هللا عليه وسلم قال« :إن أمتي ال تجتمع على ضاللة» (ابن
ماجة ،السنن ،كتاب الفتن ،الحديث رقم .)3950وبذلك أجمعت األمة أيضًا على «أن األسَس التي
تنطلُق منها الحركة التكفيرية غيُر مقبولة وغيُر شرعية وغيُر إسالمية».
قد يبدو هذا البحث ،لغير ذوي المعرفة ،حوارًا مبهمًا ال جدوى منه ،لكن في الحقيقة ،فإن هؤالء
الحكماء من أهل المعرفة والفقه اإلسالميين قد هاجموا جوهَر األفكار التي ينشُر ها المتطرفون في
أرجاء عالمنا اإلسالمّي .وذلك عمل بالغ األهمية؛ ذلك أن األفكار هي أمضى األسلحة في مواجهة
اإلرهاب .صحيح أنني رجٌل عسكرّي بحكِم الخبرة والممارسة ،لكن هذه الخبرة بالذات قد عَّلمْتني
أنه ال يمكن االنتصار على اإلرهابيين من خالل العمل العسكري وحده مهما اشتدت الحرب على
اإلرهاب .علينا أن ُنقنع الناس بعبثية األيديولوجيا التكفيرية وإفالسها ،ويجب أن نهزَم التكفيريين
فكريًا أمام الشباب والشابات من مسلمي األجيال الطالعة ونحّص نهم ضد الفكر الظالمي للتكفيريين.
لعّل أمضى األسلحة التي يمكن أن نمتشَقها بوجه التكفيريين اثنان ،التعليُم وفتُح مجاالِت اإلنجاز
أماَم األجيال الطالعة ،وهذا ال يعني فتح المزيد من المدارس والجامعات فحسب ،ولكن أيضًا تحسيَن
نوعيِة التعليم الديني .إذا شئنا التأكد من أن رسالَة اإلسالم الصحيح تستطيع أن تصَل إلى الشباب،
فعلينا أن نشجَع الواعين والمتعلمين من أفراِد مجتمعاتنا على أن يمتهنوا العمَل في شؤون الدين
والتوعيِة الدينية.
ما من شك طبعًا ،في أن هذا النقاَش حول التطرف واالعتدال ال يقَتصر على اإلسالم ،ففي كل
األديان هناك اعتداٌل ومعتدلون ،كما أن هناك تطرفًا ومتطرفين .إّن قدرَة المتطرفين على التأثير في
المفاهيم الدينية من خالل أعمالهم الوحشية ُتلقي مزيدًا من المسؤولية على أهل االعتدال من كل
األديان لرفع الصوت المعتدل عاليًا ومؤثرًا .إذا َلِز مت األكثرية الصمَت تغَّلبْت سطوُة المتطرفين
على مجرياِت النقاش الدائر.
بعد إنجاز رسالة عمان ،التي هدفت إلى القضاء على كل ِص ْدقيٍة يمكن أن يكون قد بناها
التكفيريون في العالم اإلسالمّي ،وإلى جمع المسلمين معًا بغيَة حماية إيمانهم من أفكارهم المشوهة،
بدأنا نبذل ما في وسعنا من جهٍد لنجمَع ما بين المسلمين والمسيحيين واليهود بهدف تحقيق السالم في
ما بين األديان الثالثة .أطلقنا على مبادرتنا هذه «رسالة عمان للسالم بين األديان» .خالل أسفاري
إلى الخارج أخذنا نعقد لقاءاٍت مع الكهنة والواعظين والحاخامات واألئمة ،واعتمدنا طرَح المبدأ
القائل :إن أدياَننا ال تطالبنا بالقتال في ما بيننا ،وإذا وقَع النزاُع بيننا ألسباٍب سياسية يجب أال نربَط
هذا النزاع بتفسيراٍت وتبريرات دينية .لكن في الثاني عشر من أيلول/سبتمبر من العام ،2006وفي
محاضرٍة أكاديمية في جامعة «ريغنزبرغ» ( )Regensburgفي ألمانيا ،رّدد البابا بنديكتوس
السادس عشر تلك المالحظات السلبية عن اإلسالم التي وردْت على لسان أحد األباطرة البيزنطيين
في القرن الرابع عشر .أشعلت مالحظاُته جدًال خالفيًا عالمّيًا .بعد فترة قصيرة عّبر الفاتيكان عن
أسفه واجتمَع البابا بنديكتوس شخصّيًا بسفراء البالد اإلسالمية لمعالجة تداعيات كالمه .لكّن الوضَع
بقَي متوترًا ،فطلبُت من ابن عمي األمير غازي بذَل كل ما استطاع من جهد لتنفيس هذا االحتقان.
بعد مرور شهر واحد على إدالء البابا بمالحظاته ،في 13تشرين األول/أكتوبر من العام ،2006
وّجَه األمير غازي ومعه سبعٌة وثالثون من كبار الشخصيات اإلسالمية العالمية «رسالة مفتوحة إلى
البابا» أشاروا فيها بكثير من اللياقة إلى بعض األخطاء التي وردت في محاضرته في
«ريغنزبرغ» ،وَدَعْو ا إلى المزيد من التفاهم والحوار بين األديان .لم تأِت هذه الرسالُة المفتوحة
بنتيجٍة ُتذكر ،فما كان من موّقعي الرسالة األولى إال أن صاغوا رسالًة مفتوحًة ثانية في 13تشرين
األول/أكتوبر من العام ،2007أي بعد مرور سنة كاملة على رسالتهم األولى ،وكانت بعنوان «كلمة
سواء بيننا وبينكم» .وقد ُنشرت بتوقيع مئٍة وثمانيٍة وثالثين عالمًا إسالمّيًا من حول العالم ،وكان
الهدُف األساس منها إثباَت إرادة المسلمين ورغبتهم بمواصلِة الحوار والتواصل .انطالقًا من جوهر
الفحوى العام بأن اإلسالم والمسيحية ،على الرغم من بعض الخالفات غيِر القابلة للتسوية،
يتشاركان وصّيَتْين عظيمَتي الشأن ،ذهبّيتين - ،حب هللا ،وحب الجار -فقد أصبحت رسالة «كلمة
سواء» أنجَح المبادراِت التي ُأطِلَقت في زمننا هذا على صعيد التواصِل بين المسلمين والمسيحيين.
من هذه الرسالة -المبادرة انبثَق المنتدى الكاثوليكي -اإلسالمي الذي َعقد اجتماَعه األول في
الفاتيكان برعاية البابا بنديكتوس السادس عشر في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام .2008أما
االجتماُع الثاني فسيعقد بإذن هللا في األردن في العام ،2011وسيكون انعقاُده في موقع المغطس،
مكان معمودية السيد المسيح عليه السالم.
في تلك األثناء دعونا البابا لزيارة األردن وَقِبَل دعوَتنا ولّباها في شهر أيار/مايو من العام .2009
ففي الثامن منه طرنا أنا ورانيا إلى مطار الملكة علياء الدولي بالمروحية الستقبال البابا ضيفًا عزيزًا
على األردن ،وفيما كنا نحّلُق فوق عمان رأينا شوارَعها مزينًة بالعلمين ،الفاتيكاني بلونيه األصفر
واألبيض ،واألردني .هبطنا قبَل طائرِة البابا ببضع دقائق واتجهنا نحو السجادة الحمراء .كان حرُس
الشرف ،بلباسه الكاكي وكوفّيته الحمراء ،يقف متأهبًا فيما كان البابا ينزل سَّلم الطائرة .رّح بُت
بقداسته في األردن ،وشددُت على يده داعمًا التزاَم ه تبديَد المفاهيم الخاطئة واالنقساماِت التي أساءت
إلى العالقات بين المسيحيين والمسلمين ،وعّبرُت له عن أمِلنا الكبير بأننا ،معًا ،سنتمكن من توسيع
حلقِة الحوار الذي بادَر إلى فتحه .لقي البابا استقباال حاّر ًا من األردنيين الذين مألوا شوارَع العاصمة
باآلالف ،مسلمين ومسيحيين على السواء؛ ترحيبًا به وأمًال بإلقاء نظرة على موكبه.
عدنا أنا ورانيا إلى المنزل استعدادًا الستقبال قداسته مع الوفد المرافق في المساءَ .ج مَعْت رانيا
األوالد وبدأت ُتِع ّدهم للسالم على الضيف .سلمى وإيمان أحسنتا التصرف وسَّه لتا مهمَة والدتهما ،أما
حسين وابننا األصغر هاشم فكان األمر معهما مختلفًا بعض الشيء .نحن كنا دائمًا نحرُص على أن
ينشأ أوالُدنا نشأًة طبيعيًة أقرَب ما يمكن أن تكون من نشأِة األوالد العاديين ،لكن هذه المناسبة بالذات
كانت تتطلُب مسحًة من التصّر ف الرسمي .استطعنا إقناَع حسين بأن يرتدي بذلًة رسمية ،لكن
هاشمًا ،الذي كان في الرابعة ،رفَض الفكرة من أساِس ها ولم يِلْن له عود .وبما أن ُح ْسَن اختيار
التوقيت لخوض معركتَك مع أوالِدَك هو جزٌء مهم من دورَك بوصفك والدًا ،أو دورِك بوصفِك
والدة ،فقد سَّيرنا األموَر بالتي هي أحسن وأْلبسنا هاشمًا قميصًا أزرق وأبيض وسرواًال أقرَب إلى
الكاكي ،ثم اتجهنا إلى االستقبال.
في محادثاتنا مع البابا ذلك المساء شرحُت له أن األردن ،على الرغم من فك االرتباط القانوني
واإلداري مع الضفة الغربية منذ العام ،1988لم يتنازل يومًا عن مسؤوليته في رعاية األماكن
المقدسة اإلسالمية والمسيحية في القدس ،بما فيها كنيسُة القيامة والمسجُد األقصى .وفي واقع األمر
ال يزال الموظفون القائمون على خدمة هذه المواقع يعتبرون موظفين في الحكومة األردنية.
قلت له« :صاحَب القداسة ،نحن جميعًا نصّلي من أجل السالم ،وإذا كان هناك من مكاٍن على وجه
األرض نرجو أن يحَّل فيه السالم قبل سواه فهو القدس ،المدينُة المقدسة في األديان الثالثة».
بعد يومين ،األحد في العاشر من أيار/مايو ذهبُت مع رانيا إلى بيت عنيا عبَر األردن حيث موقُع
المغطس .وهناك التقينا البابا بعد انتهائه من ترؤس القداس الذي حضره قرابة خمسين ألفًا من
المسيحيين الذين تجمعوا داخَل ستاد عمان الدولي وعلى جوانبه ،آتين من األردن ومن بلدان الشرق
األوسط بما فيها سوريا ولبنان والعراق والضفة الغربية .مع أن األحد هو يوُم العمل األول في
األسبوع في األردن ،فقد أعطَي كُّل المسيحيين إجازة .قد ال يكون معروفًا على نطاٍق واسع في
الغرب أن نسبة من المواطنين األردنيين مسيحيون ،وأن الطوائف المسيحية األردنية ربما كانت أقدَم
الجماعاِت المسيحية في العالم .والروم األرثوذكس هم أكبُر الطوائف المسيحية في األردن ،وعلى
رأس كنيستهم بطريرُك القدس ،وهي كنيسٌة رسولية أي إن تاريخها يعود إلى فجر المسيحية أياَم
الرُسل األَّو لينُ .يعّد البطريرك األرثوذكسي السليَل الروحَّي المباِش ر للقديس يعقوب الكبير ،بطريرك
القدس األول أياَم السيد المسيح .يشكل المسيحيون قرابَة ثالثٍة في المئة من مجموع الشعب األردني،
وهم شركاُء في كل نواحي الحياة األردنية ،والواقع أن القانون ُيعطي المسيحيين حوالى ثمانية في
المئة من مقاعِد المجلس النيابي.
موقُع المغطس هو أهُّم المواقع المسيحية في األردن؛ فهنا ،على الضفِة الشرقية لنهر األردن
(«عبَر األردن» ،كما جاَء في إنجيل يوحنا ،)26:3ناَل السيد المسيح عليه السالم معموديَته على يد
يوحنا المعمدان ،ومن هنا انطلق يبّشر العالم برسالته .و«جرى ذلك في بيت عنيا ،عبر األردن،
حيث كان يوحنا يعّم د» (يوحنا )1:28وهي من أهم المواقع المسيحية المقدسة في العالم ،باإلضافة
إلى كنيسة القيامة المقدسة في القدس ،وكنيسة المهد في بيت لحم .لقد حافظنا على الموقع بحالِته
الطبيعية إلى أقصى الحدود الممكنة ،وقَّدمنا مساحاٍت من األرض في جواره لكي يبني عليها
المسيحيون كنائَسهم .يستقطب الموقع مئات آالف الحجاج كل عام ،وقد زاره البابا يوحنا بولس
الثاني في العام .2000يرتبط موقُع المعمودية مباشرًة بأحداِث العهدين القديم والجديد ،وكذلك
بأحداِث التاريخ المسيحّي الالحقة .لقد عثر علماُء اآلثار في رحاب ،شمال األردن ،على بقايا كنيسة
يعتقدون أنها من أقدم كنائِس العالم ،ويعود تاريخها إلى القرن األول بعد المسيح عليه السالم .كذلك
هناك كنيسة مادبا التي تحتوي خريطة فسيفساء لألراضي المقدسة تعود إلى القرن السادس
الميالدي .أما جبل نيبو شمال مادبا ،الذي تعود أهميُته التاريخية إلى ثالثة آالف سنة ،فهو الجبُل
الذي نظر موسى من قمِته فرأى أرَض الميعاد وفيه ُدفن جثماُنه.
في حوالى الخامسة والنصف ذهبنا ،أنا ورانيا وبعُض المستشارين ،برفقة البابا بنديكتوس ،إلى
موقع المعمودية حيث بارَك الحبُر األعظم الحجَر ين األساسين لكنيستين جديدتين؛ واحدة لمطرانية
الالتين والثانية لمطرانية الروم الكاثوليك.
يفاجئ تسامح األردن وتنوعه الكثيرين في الغرب .تعوُد بي الذاكرة إلى تموز/يوليو من العام
2005عندما زار األردن رئيس األكثرية الجمهورية في الكونغرس األميركي توم ديالي (Tom
)DeLay؛ العضو في حركة ُتدعى «المسيحية الصهيونية» ،وهي من الجماعات التي َتدعم
إسرائيل دعمًا مطلقًا وتعارض إقامَة دولٍة فلسطينية .زيارته لألردن كانت جزءًا من جولٍة في بلدان
الشرق األوسط ،وقد التقيُته في منزل والدي القديم في عمان .لم يترّدْد ديالي لحظًة في إخباري بما
كان يجول في خاطره من أفكار« :إنني شديُد القلق حياَل ما َيلقاه المسيحيون من معاملٍة في
األردن» .وصادَف أن بعض األردنيين الذين كانوا إلى جانبي خالَل االجتماع كانوا من المسيحيين،
فارتسمْت على شفاِه هم ابتساماٌت ،لكَّن ابتساماِتهم لم تلفت نظَر ديالي الذي أمسَك بيدي وقال« :هل
تؤمن بيسوع؟» وكان يتكلم محّدقًا إلى عينَّي مباشرة« .إنني أؤمن بيسوع المسيح» ،أجبُته ،وسحبُت
يدي من قبضِته .والواقع أن المسلمين جميعًا يؤمنون بيسوع المسيح ويجلونه باعتباره نفحًة من روِح
هللا ورسوًال من رسل هللا وأنبيائه عليهم السالم .ثم قلُت له« :اسمع ،إذا كنَت قِلقًا على المسيحيين في
األردن ،فما عليك إال أن تسأَل الذين يحيطوَن بنا في هذه الغرفة؛ فبعُض هم من المسيحيين» .ثم
أوضحُت له مدى جدية األردن في تحّم ل مسؤولياِته في حماية حقوق المسيحيين ،أكان في األردن
نفِسه أم في مدينة القدس .لسُت على يقين من أن ديالي أدرك ما قلته له ،لكنني أعلم أن الوفَد الذي
كان يرافقه لم يكن يضّم أَّي عضٍو مسلم .لم تكد تمضي بضعُة أشهر على زيارِته األردن حتى
حكمت عليه هيئة محَّلفين عليا في تكساس بتهمِة تبييض األموال وانتهاك قوانين تمويل الحملة
االنتخابية .بعد هذا المسار االنحداري استقاَل من رئاسة األكثرية في مجلس النواب ،ثم ما لبث أن
تخّلى عن مقعده في الكونغرس.
لكن البابا كان على بِّينٍة كاملة مما يتمتع به األردن من تنّو ع .كانت زيارُته مناسبًة سعيدة واحتفاًال
بميزة التسامح الديني في بلدنا ،وجاءت في الوقت المناسب حيث شَّكلْت رسالُة البابا حياَل السالم
والمصالحِة الروحية بين المسيحيين والمسلمين واليهود تكملًة لجهودنا على الصعيد السياسّي لتحقيق
السالم بين اإلسرائيليين والفلسطينيين .ما كان ألحد أن تفوَته األهميُة الكبرى لزيارة الحّج التي قام
بها البابا مبتدئًا في األردن ،وُم نهيًا في القدس ،عن طريق الضفة الغربية .لقد كانت زيارُته مصدَر
وحٍي وتشجيع لنا جميعًا ،نحن الباحثين دومًا عن السالم بين األمم .وكنا بحاجٍة إلى ذلك التشجيع
وسَط المطباِت والمنعطفاِت الخِط رة التي يمتلئ بها الطريُق إلى السالم.
ا
س
ل
ا دس
م
س
ق
ل
ا
الفصل الرابع والعشرون :نهـايـة حقبـة
عندما التقيُت آرييل شارون للمرة األولى كان قد مضى عليه ثالثة أعوام رئيسًا للحكومة
اإلسرائيلية ،وكانت سياسته في الضفة الغربية وغزة قد رفعت منسوَب التوتر في المنطقة بحيث
جعلت لقاَء نا قبلئٍذ أمرًا شبه مستحيل .لكن في مطلع العام 2004دعوت شارون إلى األردن في
محاولٍة لفتح ثغرة في جدار العملية السلمية المسدود .طار إلى عمان في مروحيٍة هبطت به في باحة
مقر دائرة المخابرات العامة.
رجٌل ذو سمعٍة مرعبة ،عمَل في صفوف عصابة الهاغانا؛ الحركة اليهودية السرية التي قاتلت
الفلسطينيين ثم أصبحت جزءًا من الحركة اليهودية التي قاومت البريطانيين .قاد وحدة القوات
الخاصة 101اإلسرائيلية ،وشّن غاراٍت سريًة على أهداف عربية بما فيها الهجوم على قرية قبيا في
العام 1953الذي أدى إلى مجزرة قبيا التي سقط فيه عدد كبير من الضحايا الفلسطينيين المدنيين.
وقد تلّطخ جبين شارون بالعار ودانته شعوُب المنطقة بأسرها بعد المذابح التي حصدت أكثر من
ثمانمئة فلسطيني في مخّيم صبرا وشاتيال لالجئين في بيروت خالل غزو إسرائيل لبنان في العام
.1982ما من عربّي يمكن أن يمحو من ذاكرته تلك الصور الجارحة لكِّل األحاسيس البشرية؛
صور الهمجية التي تناثرت على أيديها المجرمة جثُث األمهات واألطفال في صبرا وشاتيال.
لطالما وّج ه إلّي المتطرفون النقَد بسبب لقاءاتي مع القادة اإلسرائيليين ،خصوصًا أولئك الذين
يحملون على كواهلهم تاريخًا حافًال بأعمال العنف ،مثل شارون الذي قّلما ُو ِج د عربٌي ال يعتبره قاتًال
جماعّيًا ومجرَم حرب .لكن القادة ال يتمتعون بميزة اختيار ُنظرائهم ،وأنا ال أملك أن أختار رئيس
الوزراء اإلسرائيلي ،الشعب اإلسرائيلي هو الذي يختاره .لكن ما يعود إلّي اختياُر ه هو سلوُك األردن
وتصرُفه حيال جيرانه ،واتخاذ القرار بالبناء على تراث السالم الذي راكمه والدي وتركه إرثًا لنا
جميعًا .رفُض االجتماع بشارون قد يوّلد بعَض الرضى العاطفي ،لكنه رضى مؤقت وال يحقق
النتائج التي نريدها.
دعونا شارون إلى األردن ألننا رأينا أن من الضرورّي إعادة إطالق العملية السلمية الميتة .طالما
أعلنت أني أرفض الكثير من سياساته وأفعاله رفضًا قاطعًا .وأملت أن أتمكن من إقناعه بأن السبيل
الوحيد إلى توفير األمن الدائم إلسرائيل ،هو من خالل الوصول إلى السالم مع جيرانها العرب .كان
والدي قد تعامل مع شارون عندما كان هذا األخير وزيرًا في حكومة نتنياهو في أواخر تسعينيات
القرن الماضي ،وقد مّر ر لي انطباعًا عن شخصيته ،قال :إن شارون إذا التزَم معك في أمٍر معّين نّفَذ
ما يعد به.
مع أنني لم أكن قد عرفت شارون شخصّيًا ،فقد حاولت االستفادة من االحترام الذي كان يكّنه
لوالدي ولألردن .وحين كنت جالسًا معه وجهًا لوجه في قاعة االجتماعات في مقر المخابرات العامة
قلت له :إن والدي أخبرني أنه رجل يحترم التزاَم ه ويفي بوعده ،وأضفت إنني أريد أن أبدأ العالقَة
معه على هذا األساس.
بدا شارون خجوًال وعلى شيء من التحفظ ،وبقَي ينظر إلى األرض فيما كان يتحدث .قال« :إنني
معنٌّي بأمن إسرائيل ،لكنني معنّي أيضًا بأمن األردن وسالمته».
كنت مدركًا إدراَك اليقين أن المصلحة الوطنية العليا لألردن ،وكذلك إلسرائيل ،لن يحميها
ويخدَم ها شيٌء أفضل من تحقيق السالم بين إسرائيل والفلسطينيين .حاولُت أن أقنعه بهذه المعادلة،
لكن في نهاية لقائنا وبعد نقاش طويل حول اإلجراءات واألعمال اإلسرائيلية في األراضي المحتلة
والحاجة إلى اتخاذ خطواٍت فاعلة تخلق جّو ًا مؤاتيًا الستئناف المفاوضات السلمية الجدية ،خرجُت
متأكدًا من أن شارون لم يكن يشاركني وجهَة نظري.
لقاؤنا التالي كان اجتماعًا سرّيًا في مزرعته في صحراء النقب ،وقد ُعقد في التاسع عشر من آذار/
مارس .وبدعوتي إلى مزرعته الخاصة ،حيث ُدِفنْت زوجُته ،أراد شارون أن يوحي بأنه يعتبر نفسه
صديقًا لألردن ،وأنه يرجو أن نضع العداوات الماضية وراء ظهورنا .تلك الفترة كانت مثقلة
بالتوتر ،وكانت إسرائيل قد بدأت إنشاء الجدار العازل الذي يفصل بين أجزاء الضفة الغربية .كان
االعتقاد السائد في المنطقة هو أن إدارة بوش تهدف إلى «تغيير النظام» في السلطة الفلسطينية ،ولم
تكن مهتمًة بإعادة الطرفين إلى طاولة المفاوضات .وطوال تلك الفترة لم تتوقف إسرائيل عن بناء
المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية وال عن ترسيخ قدمها في األراضي المحتلة .ففيما كان
عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس الشرقية أيام اتفاق أوسلو في العام 1993بحدود
،265000ارتفع عددهم في العام 2000إلى ،365000ليعوَد ويتجاوز أربعمئة ألف مستوطن في
العام .2003هذا التنامي السريع والالفت في عدد المستوطنين كان انعكاسًا واضحًا ألمٍر واقع ،وهو
أن إسرائيل لم تتوقف عن بناء المستوطنات الجديدة في الضفة الغربية والقدس الشرقية .وهذه مسألة
ُتبقي النار مشتعلًة .إن الخطر الذي يعكسه اإلمعان في بناء المستوطنات الجديدة ال يكمن فقط في
التهام إسرائيل ما استطاعت من أراضي الدولة الفلسطينية المستقبلية ،بل في داللِته الواضحة على
أن إسرائيل ليست ملتزمًة بحل الدولتين.
ذهبنا إلى مزرعة شارون للبحث في ما عرَض ه من َسْح ب القوات اإلسرائيلية من قطاع غزة
وبعض مناطق الضفة الغربية .قلت له إن أّي خطوة من هذا القبيل يجب أن تتم بالتنسيق مع القيادة
الفلسطينية والمصريين ،ويجب أن تكون بدايًة النسحاٍب إسرائيلي شامل من األراضي العربية
المحتلة ،ال أن تكون مجرد انسحاٍب أحادّي الجانب تنفذه القوات اإلسرائيلية بهدف نقل المستوطنين
اإلسرائيليين من غزة إلى مواقع أخرى في الضفة الغربية .شعرت بأننا كنا على وْش ِك أن نحرز
بعَض التقدم في بناء عالقة عمل في ما بيننا يمكن أن تساعد على دفع عملية السالم ُقدمًا.
لكن المظاهر قد تكون خادعة ،وخصوصًا في منطقتنا.
إحدى المشكالت مع الحكومات اإلسرائيلية هي أن كل شيء ،مهما كان سرّيًا ،ينتهي مسّر بًا لهذه
الجهِة أو تلك .فمع أن اجتماعنا كان ُيفترض أنه لقاء سّر ي ،والهدف منه بناء جسر الثقة بيننا لعلنا
نتمكن من بحث السُبل المؤدية إلى التقدم نحو إنجاز التسوية مع الفلسطينيين ،فما إن انتهى االجتماع
حتى كانت الصحافة اإلسرائيلية قد كشفت خبره .فترٌة قصيرة مضت على اللقاء عمدت بعدها
إسرائيل إلى اغتيال الشيخ أحمد ياسين ،قائد حركة حماس؛ وذلك بقصف موكبه من مروحية كوبرا
فيما كان يغادر أحد مساجد غزة ،وقد أزهقت إسرائيل بعملها هذا أرواَح تسعٍة من المدنيين األبرياء،
باإلضافة إلى الشيخ المريض والمقعد في كرسِّيه النقال .إن اغتيال رجل تجاوز السبعين من عمره،
كسيح ،مشلول اليدين ،مقعد عن كل حركة ،لهو عمٌل يخلو من أّي أثٍر لإلنسانية ويتجاوز كل مفاهيم
الوحشية حتى بالمعايير اإلسرائيلية .أثار االغتيال غضبًا كبيرًا لدّي وكنت على يقين من أنه سيحّر ك
دورًة جديدة من العنف ،لكن ما أضاف غضبًا على غضبي هو أن االغتيال وقَع بعد زيارتي بقليل.
لم يمِض شهر واحد حتى اغتال اإلسرائيليون خليفة ياسين عبد العزيز الرنتيسي؛ وأشعلوا بذلك
عاصفًة من العنف في كٍل من غزة والضفة الغربية .لم يكتِف األميركيون بالوقوف متفرجين دون
استنكار االغتيالين ،بل ذهبوا أبعَد من ذلك بأن استخدموا حق الفيتو في مجلس األمن الدولي للحؤول
دون أن ُيصدر المجلس قرارًا يستنكُر فيه هذين االغتيالين.
غالبًا ما يمارُس اإلسرائيليون عادًة مشبوهًة ،أكانت مقصودة أم لم تكن ،وهي أن يبرمجوا
اجتماعاٍت دبلوماسيًة رفيعَة المستوى لمسؤوليهم مع مسؤولين آخرين ُقبيل قياِم هم بعملياٍت عسكريٍة
مثيرٍة لالستنكار .من هذه االجتماعات على سبيل المثال ال الحصر ،اللقاُء بين رئيس الحكومة
التركية رجب طّيب أردوغان ورئيس الحكومة اإلسرائيلية إيهود أولمرت في كانون األول/ديسمبر
من العام ،2008أي قبل أن تشَّن إسرائيل حرَبها على غزة ببضعة أيام .هذه الخطوة المريبة رفعت
منسوَب الغضب عند أردوغان إلى درجة عالية ،فقد شعَر المسؤول التركي بأن الحكومة اإلسرائيلية
كانت بعملها هذا تحاول بث االنطباع بأنه زّو َدها بموافقته على مهاجمة غزة.
كان اغتيال الشيخ ياسين النموذَج المثال لما تشهُده حالُة الصراع في الشرق األوسط :أحُد
الطرفين ،أو األطراف ،يقوم بعمٍل فيرد عليه الطرُف اآلخر بعمٍل مماثٍل ؛ وبذلك يصبح السبيل إلى
السالم مليئا بعوامل التفجير .وهكذا فإن المسار المتبع يؤدي إلى النتائج التي ال يريدها أحد.
بعد أن اغتالت إسرائيل الرنتيسي كان ال بد لحماس من أن تجد قيادّيًا بديًال .اختارت ضيف
األردن السابق خالد مشعل.
***
في نيسان/إبريل من العام 2004كنُت على موعٍد للقاء الرئيس بوش في البيت األبيض ،وكنت
مزمعًا الدفع نحو العودة إلى استئناف المفاوضات إحياًء لعملية السالم؛ آمًال ،هذه المرة ،أن يتخذ
الرئيس األميركي موقفا أكثر استيعابًا للتحديات التي كانت تواجهها منطقتنا .قبل وصولي إلى
واشنطن كان بوش قد استقبل ضيفًا آخر ،رئيس الحكومة اإلسرائيلية آرييل شارون ،وقد تبادل
الطرفان خالل تلك الزيارة في 14نيسان/إبريل الرسائل وأعلنا مضموَنها .كان شارونُ ،قبيل
زيارته ،قد مارس ضغطًا على الرئيس بوش لكشف الموقف األميركي من عدد من المسائل ،ولدعم
انسحابه األحادّي الجانب من َغزة .لقد مّثلت تأكيدات بوش السرية لشارون تغييرًا كبيرًا وأساسّيًا في
السياسة األميركية .وفي رسالته الرسمية إلى شارون وعَد بوش بأن تدعم الواليات المتحدة إسرائيل
في احتفاظها بعدٍد من المستوطنات في الضفة الغربية ،واستبعَد كلّيًا حق عودَة الالجئين الفلسطينيين
إلى ديارهم ،معلنًا أن عليهم االستقرار في الدولة الفلسطينية المستقبلية .بهذا الموقف استبقت
الواليات المتحدة الحكم على إحدى أكثر المسائل حساسية وأهمية في المفاوضات .قال بوش:
إن الواليات المتحدة ملتزمة كل االلتزام بأمن إسرائيل ورفاهيتها كدولٍة يهودية.
ومن الواضح ضرورة إيجاد إطار عادل ،ومنصف وواقعي ومتفق عليه ،لحل قضية الالجئين
الفلسطينيين كجزٍء من أي اتفاق حول الوضع الدائم ،من خالل إنشاء الدولة الفلسطينية وتوطين
الالجئين الفلسطينيين هناك ،ال في إسرائيل.
استشاط العالم العربُّي غضبًا من هذا الكالم ،أما أنا فقد بدا لي واضحًا أن إدارة بوش كانت عازمًة
على دعم إسرائيل أكاَن في الحق أم في الباطل ،ولذلك أعلمُت البيت األبيض بأنني ألغيت اجتماعي؛
فكان لقراري وقُع الصاعقة على المسؤولين هناك .نادرًا جّدًا ما تجد مسؤوًال يرفض االجتماع
بالرئيس األميركي ،فكيف بك تجُد َم ن ُيلغي اجتماعًا محددًا مع الرئيس؟ لكن كان علّي أن أوضَح
موقفي بطريقة حاسمة؛ إذ من المستحيل أن أقبل هذه النقلة في السياسة األميركية التي عّبر عنها
بوش في رسالته إلى شارون .العملية السلمية مجمدة ال َح راَك فيها ،أما الجهوُد العربيُة لدفع عجلة
السالم إلى األمام فلم ُتقاَبل إال بالمواقف الداعمة إلسرائيل ،وبمزيٍد من العنف.
عدُت ،بعد شهر ،وزرُت واشنطن محاوًال العودَة بالسياسة األميركية إلى ما قبل التغيير األخير
الذي شهدْته ،وقد القيُت بعض النجاح .ففي المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقدناه ،والذي أكدنا
فيه مضموَن رسائل كنا قد تبادلناها قبل زيارتي ،عاد بوش وأّكد أنه لن يستبَق الحكم على محادثات
الوضع النهائي .أما أنا فقد شّددت على موقف األردن بأن أّي انسحاب إسرائيلي يجب أن يعتمد
اإلطار الذي حّددْته خريطة الطريق ،وأن يؤدي إلى إقامة الدولة الفلسطينية على أساس الحدود التي
كانت قائمًة في العام .1967
***
في تشرين األول/أكتوبر ُنقل ياسر عرفات إلى باريس للمعالجة ِإْثَر تدهور وضعه الصحي بوتيرٍة
متسارعة ،وما لبث أن دخل في غيبوبة وانتقل إلى رحمته تعالى في الشهر التاليُ .نِقل جثماُنه إلى
القاهرة حيث أقيمت له جنازة عسكرية رسمية َح ملْت بعدها طائرٌة مصرية الجثمان إلى سيناء ،لتنقَله
من هناك مروحيات عسكرية أردنية إلى رام هللا حيث ُدفن .هبطت المروحية بين الجماهير المذهولة
والحزينة التي كانت تحاول ،يائسًة ،لمَس النعش أو إلقاَء النظرة األخيرة على قائِدها المحبوب .مهما
يكن رأُي العالم بياسر عرفات رحمه هللا ،يبَق الرجل بطًال في أعين الشعب الفلسطيني ،وما من شك
في أن غياَبه مّثل نهايَة حقبٍة من تاريخ هذا الشعب.
في كانون الثاني/يناير من العام التالي انُتخب محمود عباس ،أبو مازن ،رئيسًا للسلطة الفلسطينية.
وبما أن إسرائيل كانت ،على مدى عقود من الزمنَ ،تعتبر ياسر عرفات عقبًة في سبيل السالم ،فها
هي اآلن تخسُر ذريعًة كبرى من الذرائع التي تستخدمها للهروب من اإليفاء بوعودها .توّلى عباس
رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية عند منعطٍف كانت فيه العملية السلمية أقرَب ما تكون إلى التالشي
الكامل ،وبذلك كانت مسالُكه إلى السالم مليئًة بالتحديات والمصاعب .كان عليه أن يمأل ما خّلَفه
عرفات من فراغ ،وأن يعيد بناَء المؤسسات الفلسطينية التي كانت إسرائيل قد دأبت على تدميرها
عمدًا وبانتظام طواَل السنوات الماضية .كذلك كان على القائد الفلسطيني الجديد أن يبذَل جهده إلعادة
العملية السلمية إلى مسارها .وقد سعى عباس منذ اليوم األول الذي توّلى فيه السلطة إلى تحقيق
التسوية السياسية السلمية مع إسرائيل على أساس حل الدولتين .لكنه لم يحصْد سوى الخيبة.
في شهر آب/أغسطس من العام 2005نفذت إسرائيل ،قبل الموعد المحدد بثالثة أيام ،انسحابًا من
جانٍب واحد من قطاع غزة ،وذلك من دون التنسيق المطلوب مع مصر ،كما لم تنّسق انسحاَبها مع
السلطة الوطنية الفلسطينية .كانت الحكومة اإلسرائيلية منذ شباط/فبراير قد صّو تت بشبه إجماع على
دعم هذه الخطوة .كان شارون ،الذي طالما قدم الدعم المطلق للمستوطنين ،قد أعطى أوامره بجرف
منازِلهم وإخالِء ساكنيها بالقوة إذا لزم األمر .صحيح أن االنسحاب كان موضَع ترحيب ،غير أن
الطريقة التي تّم بها لم تكن كذلك بل استحقت اإلدانة واالستنكار.
أغلقت إسرائيل كل المعابر من غزة وإليها؛ وبذلك حّو لت القطاع إلى سجن كبير .وبانسحابها دون
تنسيٍق كاٍف خلقت فراغًا أمنيًا كبيرًا ما لبثت حماس أن سارعت إلى َم ْلِئه مع حركة الجهاد
اإلسالمي .كان المشهد في غزة مليئًا بالمسّلحين وسط األشرطة الشائكة واألبنية المهدمة .لم تكن
هناك إدارة لعملية انتقال السلطة وال تسُّلم وتسليم للمسؤوليات ،من أمنيٍة وسواها ،بالتنسيق مع
المؤسسات الفلسطينية.
بعد بضعة أشهر ،في تشرين الثاني/نوفمبر ،انفصل شارون عن حزب الليكود وأّسس حزبًا جديدًا
سّم اه كاديما .وقد جاء قراُر ه هذا بعد أشهٍر من النزاعات السياسية بينه وبين أعضاء من الليكود؛
بسبب خطته لالنسحاب من غزة واالنفصال عن الضفة الغربية وتفكيك أربع مستوطنات في شمالها.
وقد انضّم إلى شارون عدٌد من األعضاء الكبار في حزب الليكود بمن فيهم تسيبي ليفني ،التي
أصبحت في ما بعد وزيرة للخارجية ،وإيهود أولمرت ،الرئيس السابق لبلدية القدس ،والذي كان نائبًا
لرئيس الوزراء في حكومة شارون.
في مطلع كانون الثاني/يناير من العام 2006أصيب شارون بجلطة دماغية دخَل إثَر ها في
غيبوبة؛ وبذلك انتقلت صالحياُُته إلى أولمرت .بعد فترٍة قصيرة اتضَح أن الجندي القديم لن ُيشفى،
فتوّلى أولمرت رئاسَة الحكومة اإلسرائيلية رسمّيًا في نيسان/إبريل.
في الوقت الذي شهَد انتقاًال للقيادة لدى طرفي الصراع إلى مسؤوَلْين جديَدْين ،ارتفع منسوُب
األمل في المنطقة بأن يؤدي ذلك إلى اعتماد منهج جديد لحل الصراع .كما زاد األمل عند أولئك
الذين كانوا يستعدون لخوض االنتخابات التشريعية الفلسطينية األولى منذ عشر سنوات ،والتي كانت
محددًة في الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير .من بين األحزاب التي قررت خوَض المعركة
حركة حماس ،التي كانت قد أحجمْت عن خوضها في انتخابات العام .1996وبسبب قرار حماس
المشاركة في االنتخابات حاولت الحكومة اإلسرائيلية منَع سكان القدس الشرقية الفلسطينيين من
ممارسة حقهم في اإلدالء بأصواتهم (ألنها تعتبر القدس الشرقية جزءًا من إسرائيل) .لكن في النهاية
ُسمح لهم بالمشاركة.
لقد رأى كثيرون من الفلسطينيين وسواهم في المنطقة أن الظروف لم تكن مالئمة إلجراء
انتخابات تشريعية وطالبوا بإلحاح بتأجيلها ،لكن اإلدارة األميركية لم توافق على ذلك .وفي حواٍر مع
جمعية الصحافيين الذين يغطون نشاطات وزارة الخارجية األميركية في الخامس والعشرين من
كانون الثاني/يناير ،قالت كوندوليزا رايس:
ال أظن أن بإمكاننا دعَم فكرة تأجيل االنتخابات لمجرد كوننا نخشى نتائَج ها...
إن موقَفنا بالنسبة إلى حماس لم يتغّير؛ فهي مصّنفة منظمًة إرهابية .نحن نعلم طبعًا أن هناك
انتقاًال للسلطة وبالتالي نقلًة سياسية لدى الفلسطينيين ،وهذا يعني أن المسألة داخلية تخص
الفلسطينيين وحَدهم ،ونحن نعتبر أن الجميع يجب أن تتاَح له فرصُة اإلدالء بصوته.
لكن يبقى السؤال مطروحًا :ماذا ستفعل إدارة بوش إذا كان الفوز من نصيب حماس؟
عّبر الكثيرون عن األمل بأن تفوز فتح في االنتخابات ،كانت فتح قد وعدت الشعب الفلسطيني بأن
تحقق له دولَته المستقلة وحريَته وسيادَته من خالل مسيرة أوسلو والمفاوضات السلمية ،لكن هذه
الدولة التي مضى زمٌن طويل على الوعد بتحقيقها كانت ال تزال سرابًا َبعيد المنال ،فيما كانت
االتهامات بالفساد والرشى تالحُق العديد من مسؤولي السلطة الوطنية الفلسطينية .كان الشعور
منتشرًا بأن فتح لم تحقق وعودها والتزاماتها ،وهكذا عندما سنحت الفرصة للشعب الفلسطيني بأن
يعّبر عن رأيه في صناديق االقتراع منَح «حماس» انتصارًا حاسمًا .ولكن هذا االنتصار خلَق مشكلة
كبيرة ،ذلك أن الواليات المتحدة اعتبرت «حماس» منظمًة إرهابية ،وأعلنت أنها لن تتعامَل معها .لم
يقَتصر األمر على الواليات المتحدة ،فقد َح ذْت حذَو ها دوٌل أوروبية متعددة ،وهذا بدوره سمح
إلسرائيل بأن تجّم َد تحويَل األموال الضريبية إلى السلطة الفلسطينية ،وأن تعلَن بالتالي أنه ليس لديها
«شريك» في عملية السالم.
ال شك في أن األميركيين على حق عندما ُيشيدون بمحاسن الديموقراطية وفوائِدها .لكّن
الديموقراطية تعّبر عن نفِسها بطرٍق مختلفة في العالم .ومتى كانت الظروُف غيَر مناسبة يمكن أن
ترّسخ الديموقراطية االنقسامات وتزيَد من اشتعاِل األحقاد .ولعّل أحَد وجوه المشكلة مع إدارة بوش
نظرُتها شبُه اآللية إلى مسألة تصدير الديموقراطية والتي ُتخَتصر بمجرد إجراء انتخابات عامة .أما
أنا فأرى أن الديموقراطية رحلٌة طويلة .إن االنتخاب في غياب التقبل الواسع للمفاهيم والقيم
الديموقراطية ،وفي غياب سلطٍة قضائية مستقلة تمامًا ،يمكن أن يكون ذا نتائج كارثية .تستمد
المؤسسات الديموقراطية قوَتها من وجود طبقٍة وسطى قوية وفاعلة ،ومن أجهزٍة حكومية وإدارية
قادرة وذات صدقية .وما من شك في أن العملية الديموقراطية من الصعب جّدًا تطويرها في ظل
سلطة احتالٍل قادرة على تدمير المؤسسات ،وهي بالفعل ال تتردد في القيام بذلك.
في تقديري أن إدارة بوش لم تكن مدركًة تمامًا أوضاَع منطقتنا وظروَفها ،ومن هنا فقد توّلت الدفَع
شبَه األعمى إلى إجراء انتخاباٍت تشريعية حيثما استطاعت إلى ذلك سبيًال ،دون تفكيٍر كاٍف ال
بالظروف وال بالنتائج .وفي هذا السياق بدا أحيانًا أن اإلدارة األميركية لم يكن هّم ها سوى تسجيل
االنتصاراِت السهلة والسريعة؛ لعّلها بذلك تستطيُع االستمراَر في تزويد اآللِة اإلعالمية ،التي ال
تكُّف عن التهام األخبار أربعًا وعشرين ساعًة متواصلة ،بما ُيشبع بعضًا من نَه مها .لكن ما كانت
تواجُه ه الضفة الغربية وغزة من المشكالت لم يكن ليجَد حلوًال من خالل صندوِق االقتراع إال بعد
زوال االحتالل اإلسرائيلي .وفي يقيني أنه إذا لم تكن أسس االستقرار في المجتمع قد ترّسخت ،يمكن
أن تستغل الفئاُت المتطرفة مشاعر اإلحباط وخيبات األمل الشعبية لكي تصَل إلى السلطة .وحين
يقبض هؤالء على زمام الحكم يصبُح تخّليهم عنه من الصعوبة بمكان.
بعد أن فازت حماس بأكثرية مقاعد مجلس النواب ،أّلفت حكومًة من بين صفوف أعضائها ،فيما
احتفظت فتح بموقع رئاسة السلطة وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية .أقسمت حكومة حماس الجديدة
اليمين في آذار/مارس من العام ،2006وامتنعت الواليات المتحدة وبلدان االتحاد األوروبي عن
االعتراف بها وعّلقت كل مساعداتها لها .بنتيجة هذه التطورات شهدت األوضاع ترّديًا سريعًا،
خصوصًا بعد أن َقتَل قريبون من حماس جنديين إسرائيليين وأسروا جندّيًا ثالثًا ،جلعاد شاليط ،خالل
غارٍة على إسرائيل ُشَّنْت من غزة ورّدت عليها إسرائيل بغزو القطاع في حزيران/يونيو.
قبل الغزو اإلسرائيلي لقطاع غزة بثالثة أسابيع ،في السابع من حزيران ،عّبرُت علنًا عن تخّو في
الكبير من تطورات األمور في المنطقة في كلمة ألقيتها في حفل تخريج في جامعة مؤتة .قلت:
األوضاع المتفجرة في الضفة الغربية وفي العراق ،والخالف بين إيران والواليات المتحدة ،كلها
تهدد األمن واالستقرار .ومن الواضح أن هناك جهاٍت ودوًال تسعى لالستفادة من هذه األوضاع.
منها من يسعى لتسوية مشاكله على حساب دول الجوار ،ومنها من يسعى إلى تفجير الوضع ونشر
الفوضى والدمار في أكثر من مكان؛ لتعزيز نفوذه وسيطرته على هذه المنطقة بكاملها .لذلك يجب
أن نكون على أعلى درجات الوعي واالستعداد لمواجهة أسوأ االحتماالت والدفاع عن بلدنا
ومصالحنا الوطنية.
غالبًا ما أتطرق في مثل هذه الخطابات إلى مسائَل داخلية ،لكن حجم التهديدات التي كانت تلوح
في األفق آنذاك دفعني إلى التشديد على هذه المخاوف ولفت النظر إليها.
في الثاني عشر من تموز/يوليو اجتاز مقاتلو حزب هللا الحدود إلى إسرائيل؛ فقتلوا ثمانيَة جنود
إسرائيليين وأسروا جنديين .ردت إسرائيل بهجوٍٍم شامل على لبنان وقابَلها حزُب هللا بإطالق
الصواريخ على البلدات اإلسرائيلية الحدودية .تابعُت مجرياِت األحداث على شاشات التلفزة فيما
الجيُش اإلسرائيلي يهاجم المدَن والقرى في جنوب لبنان ،ويقصف محطات توليد الطاقة الكهربائية
في كل أرجاء البالد ،وال يستثني حتى مطار بيروت الدولي المدني متسببًا بوقِف مجرى الحياة في
تلك العاصمة العربية ،وقاطعًا شرياَن التواصل بينها وبين العالم الخارجي .مقاتلو حزب هللا كانوا
في الجنوب ،فال هم كانوا سيهربون عبر مطار بيروت وال كانوا سيستخدمونه لنقل المقاتلين
واألعتدة الحربية إلى إسرائيل .إغالُق المطار لم يؤِذ سوى المدنيين الذين ال ناقَة لهم في القتال وال
جمل.
أعلنت إدانتي واستنكاري للحرب .فقد شهدُت ما يكفي من اآلالم في منطقتنا؛ لكي أدرَك أن
الحرب ال تأتي بغير الدمار والمآسي .إن أمن إسرائيل لن يتحقق إال بوصولها إلى التفاهم مع
جيرانها ،ال من خالل الحروب.
لم تكتِف الطائرات الحربية اإلسرائيلية باستهداف معامل الطاقة الكهربائية ،بل راحت تدّك كَّل ما
وقَع في مرمى نيرانها من البنى التحتية ،من محطات تكرير المياه إلى الطرق الرئيسة والجسور
وسواها من المرافق المدنية .كان المغتربون اللبنانيون ،على اختالف مشاربهم وانتماءاتهم ،قد أخذوا
يعودون إلى بلدهم في السنوات القليلة الماضية ،وبدأ االقتصاُد يستعيد حيويته ونمّو ه .وها هم
اإلسرائيليون يدمرون تدميرًا منهجيًا اقتصاد لبنان وبنيته التحتية .كان العدوان اإلسرائيلي عدوانًا
غاشمًا مّثل عقابًا جماعّيًا ألحق األلم والمعاناة بشعب كامل انتقامًا من جماعٍة بعيِنها.
صحيح أن التاريخ ال يخلو من أمثلٍة عن دوٍل َتستهدف قواتها العسكرية المدنيين العَّز ل بغيَة كسر
إرادة الشعوب .لكن هذه األفعال تبقى أفعاًال شائنة تعيب من يقوم بها .ليس أسهل وال أخطر من نزع
إنسانية العدو وتقديمه شّر ًا مطلقًا خالل الحرب يبرر قتل المدنيين ،نساًء وأطفاًال ،بأعداد كبيرة .لكن
أّي قائد ،أكان قائد فصيٍل عسكرّي ،أم قائَد لواء ،أم رئيس دولة ،يبقى عليه واجٌب أخالقّي بأن يمّيز
بين المدنيين والمقاتلين .أما أولمرت فقد اختاَر أن يضرَب عشوائّيًا ،ويتغاضى عن هذا الواجِب
األخالقي.
امتألت شاشاُت الفضائيات العربية بصوِر الكوارث التي خّلَفها القصُف اإلسرائيلي بين المدنيين
في لبنان ،وقد شجب الرأي العام العربي الهجوَم اإلسرائيلي ،وطالب كثيرون في األردن والمنطقة
العربية بالمسارعة إلى مساعدة مئات آالف اللبنانيين األبرياء الذين وجدوا أنفَسهم في مرمى النيران
اإلسرائيلية.
وظفنا اتصاالتنا التي أتاحتها معاهدة السالم مع إسرائيل التي كانت تسيطر على األجواء اللبنانية
للسماح لطائراتنا بنقل المساعدات اإلنسانية إلى لبنان ،وكانت طائرُة النقل األردنية «سي »130
الطائرَة األولى التي هبطت في مطار بيروت الدولي بعد أن تسّبَب القصُف اإلسرائيلي بإيقاع
أضراٍر فادحة بمدرجه .وقد ساعَد مهندسو الجيش األردني على إعادة فتح المطار؛ ليتمكَن من
تزويد الطائرات بالوقود وسوى ذلك من حاجاتها .ثم تابعنا إرسال الطائرات المحملة بمواد اإلغاثة
إلى مطار بيروت ،وكانت طائراُتنا ُتجلي في طريق العودة بعض اللبنانيين ،فضًال عن بعض
األجانب الذين وجدوا أنفَسهم محاَص رين بحكم األوضاع المأساوية.
عقد مجلُس الجامعة العربية جلسًة طارئة في القاهرة في 17تموز/يوليو ،وأدان باإلجماع
االعتداَء اإلسرائيلي على لبنان .كذلك انتقد بعُض الدول العربية ،بما فيها مصر والمملكة العربية
السعودية واألردن ،حزب هللا على ما قام به من تصرفات غير مسؤولة وغير مقبولة .وفي هذا
اإلطار قال وزير الخارجية السعودي األمير سعود الفيصل إن تصرفات حزب هللا سوف تعيد
المنطقة برّم تها سنواٍت إلى الوراء «وال يمكننا أن نقبل ذلك» .وبما أن الشكوك ساورتنا بأن تكون
إيران وراء خطوة حزب هللا ،فقد اعتبرنا أن هجماِت الحزب الصاروخيَة كانت تدخًال إيرانيًا مباِش رًا
في الشؤون السياسية العربية .كنا مدركين التبعات السلبية لإلمعان اإليراني المتزايد في التدخل في
الشؤون العربية .وتعرض موقُفنا هذا النتقادات واسعة في كل أرجاء العالم العربي.
امتدت الحرب أربعًة وثالثين يومًا .سقط ضحيتها أكثر من ألف ومئة من اللبنانيين ،كما قتل فيها
مئة وستون إسرائيلّيًا .وقد عَّم الدمار أرجاء كثيرًة من لبنان قبل أن يتوقف القتال في 14آب/
أغسطس ،أي بعد صدور قرار مجلس األمن الدولي الرقم 1701بيومين .أعلن حزُب هللا االنتصار
بعد أن وقَف بقوة في وجه الجيش اإلسرائيلي ،واستطاع أن ُيطلق صواريَخه إلى قلب إسرائيل دون
توقف حتى اللحظة األخيرة من الحرب .لقد احتفلت أكثرية الرأي العام العربي بحزِب هللا وفاخرت
بقدرِته على صّد العدوان والوقوف بوجه الجيش اإلسرائيلي .ارتفعت أسهُم قيادِة حزب هللا متمثلًة
بحسن نصر هللا الذي أصبح ،ولو لفترٍة وجيزة ،بطل الشرق األوسط .مّثل اعتبار صمود حزب هللا
في وجِه إسرائيل انتصاراً ،إشارًة إلى تحول كبير في العالمين العربي واإلسالمي .فاالنتصار اليوم
أصبَح يعني الصمود بدَل أن يعني هزيمة إسرائيل وجيشها .إن لهذه الديناميكية الجديدة دالئَل
خطيرة ،بمعنى أنه إذا استمر الصراع ،فإن الناس لن يتوانوا عن دعم المواجهة المسلحة مهما تكن
كلفُتها ما دام باإلمكان الصمود وإلحاق الضرر بإسرائيل .هذه الحقيقة الجديدة تضفي مزيدًا من
الصدقية على االقتناع بأن السالم وحَده ،وليس التفوق العسكري اإلسرائيلي ،هو الذي يضمن األمن
والسالم لإلسرائيليين وكذلك للشعوب األخرى في المنطقة.
أما في األراضي الفلسطينية المحتلة ،فكانت األوضاع تزداد تعقيدًا ،وكان التوتر يشتّد ويحتد بين
السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة فتح ،والحكومة الجديدة بقيادة حماس .لقد انتهت فترة التعايش غير
المريح بين الفريقين إلى مواجهٍة عنيفة في 14حزيران/يونيو من العام 2007عندما سيطرت
حماس على قطاع غزة بعد مواجهٍة دموية مع مناصري فتح والقوى األمنية.
بعد بضعة أشهر ،في تشرين الثاني/نوفمبر ،اتخذت إدارة بوش خطوًة رئيسة أخيرة إلحياء العملية
السلمية؛ وذلك بالدعوة إلى مؤتمٍر دولّي في األكاديمية البحرية األميركية في أنابوليس .لم تكن
خريطة الطريق قد أدت إلى أّي تقدم يذكر .فمع أنها حّددت الخطوات التي ُيفترض بكٍّل من الطرفين
الفلسطيني واإلسرائيلي اتخاذها ،فقد بقيت دون تطبيق ،وبقي الطرفان يتبادالن االتهامات بعدم
االلتزام بما تعهدا به.
دعت الواليات المتحدة إلى مؤتمر أنابوليس تسعًا وأربعين دولًة ومنظمًة دولية ،وكان الهدف
إطالق مفاوضات متواصلة تنتهي إلى إقامة الدولة الفلسطينية .كان من بين الحضور رئيس الوزراء
اإلسرائيلي إيهود أولمرت والرئيس الفلسطيني محمود عباس ،باإلضافة إلى األمين العام لألمم
المتحدة ووزراء خارجية الدول األعضاء في لجنة المتابعة للمبادرة العربية للسالم التي كان األردن
من بين أعضائها .كذلك حضر ممثلون عن اللجنة الرباعية التي تضم الواليات المتحدة واالتحاد
األوروبي وروسيا واألمم المتحدة ،وهذه اللجنة كانت قد ُشكلت في مدريد في العام 2002للمساعدة
على التغّلب على العقبات التي تواجه العملية السلمية.
في كلمٍة وّج هها الرئيس بوش إلى المؤتمرين ،قال« :نجتمع اليوم لُنرسي األسَس التي ستقوم عليها
دولٌة جديدة ،الدولة الفلسطينية الديموقراطية التي ستعيش جنبًا إلى جنب مع إسرائيل بسالٍم وأمٍن .
نجتمع أيضًا للمساعدة على وضع حٍّد ألعمال العنف التي كانت وال تزال العدّو الحقيقّي للتطلعات
التي يصبو إليها الشعبان اإلسرائيلي والفلسطيني» .وأضاف :إن على اإلسرائيليين والفلسطينيين،
على حٍّد سواء ،أن يتخذوا خياراٍت صعبًة لتحقيق السالم ،وقال إنه يعتقد أن القادَة على طرفي
الخالف هم على استعداد لمعالجة المسائل األساسية والتوجه نحو السالم.
انتهى مؤتمر أنابوليس بإعالن اتفاٍق رفَع مستوى اآلمال المعقودة على إمكانية تحقيق التسوية ،فقد
وافق عباس وأولمرت على المبادرة إلى التطبيق الفوري اللتزامات كٍّل من الطرفين بموجب
خريطة الطريق ،ووضع آلية تديرها الواليات المتحدة لمراقبة عملية التطبيق .لقد التزم الجانبان
بمباشرة مفاوضاٍت جدية ،ناشطة ومتواصلة ،وببذل كل الجهود المستطاعة للخروج باتفاٍق متكامٍل
قبل نهاية العام .2008
انطلقت في أعقاب المؤتمر المفاوضاُت المباِش رة بين الفلسطينيين واإلسرائيليين ،وقد ناقش
الجانبان قضايا الوضع النهائي ،أي الحدود والقدس والالجئين واألمن؛ بهدف الخروج باتفاٍق نهائي.
تبّين أن المفاوضات التي انطلقت على أساس «ال شيء متفقًا عليه حتى يتم االتفاق على كل
شيء» كانت تسجل تقدمًا ملحوظًا ،خصوصًا حياَل مسألة الحدود الجوهرية .كانت المباحثات تتناول
النقاَط المطروحة بعمق وبالتفصيل ،وقد تبادل الطرفان الخرائط وبحثا نسبَة األراضي التي سيتم
تبادُلها في إطار اتفاق نهائي .لكّن المفاوضات فقدْت زخمها في شهر تموز/يوليو عندما تزعزعت
سلطُة أولمرت؛ نتيجَة توجيه التهم إليه بالفساد المالي مما دفَع به إلى تقديم استقالته.
سلطة عباس بدورها فقدْت جزءًا كبيرًا من فاعليتها؛ نتيجَة االنتصار االنتخابي الذي سّج َلْته
حماس والذي فتح جبهًة جديدًة أخرى .فقد شّقت االنتخابات في العام 2006القيادة الفلسطينية بحيث
باتت غزة تحت السيطرة الكاملة لحماس ،والضفة الغربية تحت سيطرة فتح .بقيت غزة في مواجهٍة
مستمرة مع إسرائيل إلى أن نجحت مصر في التوسط بين الجانبين وإقامة هدنة بينهما في حزيران/
يونيو .2008وعلى الرغم من الضغط الشعبي الذي طالب بالمصالحة بين حماس وفتح ،فقد بقي
تحقيق هذا الهدف أمرًا في غاية الصعوبة.
في نظرٍة إلى الوراء ،فإن االنتخابات الفلسطينية التي شاركت فيها حماس َخلقت من المشاكل أكثر
مما حلت .وكما شهدنا في االنتخابات العراقية في السنة السابقة ،فإن من شأن العملية الديموقراطية
أحيانًا أن تفضي إلى مفاجآٍت.
الفصل الخامس والعشرون ... :وسقـط القنـاع
أجريت االنتخابات التشريعية العراقية قبل االنتخابات الفلسطينية بسنة ،أي في الثالثين من كانون
الثاني/يناير من العام .2005وكانت األحزاب تتنافس على مقاعد الجمعية الوطنية االنتقالية التي
كان سُيعهد إليها وضُع مسَّو دة الدستور الجديد الذي كان سُيعرض على االستفتاء الشعبي .كانت
الدالئل تشير إلى أرجحية انتصار األحزاب الشيعية المدعومة من إيران؛ األمر الذي أطلَق الكالم
على توّسع النفوذ اإليراني في المنطقة .ساد اعتقاد بأن إيران تمّو ل وتدعم واحدًا أو أكثر من تلك
األحزاب؛ وهذا ما أدى إلى تخوٍف من أن يكون وراء هذا الدعم أهداف إيرانية مبّيتة للهيمنة على
السياسة العراقية .لم يشعر أهُل السنة في العراق بأن العملية االنتخابية جديرة بالثقة اعتقادًا منهم
بأنها سوف تزَّو ر بغيَة تهميش دورهم؛ وبناًء على ذلك قرروا مقاطعَتها .هذه الخطوة كانت خطًأ
كبيرًا.
قبل موعد االنتخابات بشهر واحد أخذ مني كريس ماثيوز ( )Chris Matthewsمقابلًة لبرنامجه
«هارد بول» ( )Hardballعلى محطة «إم أس إن بي سي» ()MSNBCاألميركية ،وسألني رأيي
في االنتخابات العراقية المقبلة ،وخصوصًا حياَل التداعيات التي قد تترتب على انتصار األحزاب
الراديكالية الشيعية .قلت:
أسوأ ما يمكن أن تتمخض عنه االنتخابات هو أن تنشأ دولة دينية .وبتعبيٍر آخر أن تكون الحكومة
مكّو نة بنسبة كبيرة من أشخاص مدعومين من إيران .نحن نأمل أال يكون األمر كذلك.
كما تعلم ،هناك مسألة السّنة ،ونحن نريدهم أن يشاركوا في االنتخابات ،وأن يكونوا جزءًا من
العملية الديموقراطية .إذا لم يشاركوا فسيكون هناك المزيد من المصاعب والمشكالت.
غالبًا ما كنُت أعّبر في تلك الفترة عن القلق حياَل منطقة بالد الشام والهالل الخصيب .خالل تلك
المقابلة مع كريس ماثيوز عادت إلى ذهني صورُة الهالل باعتبارها رمزًا معّبرًا عن االمتداد
الجغرافي الذي قد يشمُله النفوذ اإليراني المحتمل .يوَم ها قلت لكريس« :إذا أصبح العراق تحت
سيطرة الشيعة وكان على عالقٍة خاصة مع إيران ،وحين تنظر إلى تلك العالقة التي ستربطه
بسوريا وبحزب هللا في لبنان ،عندئٍذ يبرز عندنا هذا الهالل الجديد الذي سيكون من شأنه زعزعُة
االستقرار في بلدان الخليج وفي كل أرجاء المنطقة».
بعد تلك المقابلة انفتحت أبواب جهنم واسعًة مشّر عة ،وانصّبْت علَّي االنتقادات من أناس كثيرين
تتهمني بأنني ضد الشيعة .رئيس «المجلس األعلى للثورة اإلسالمية في العراق» عبد العزيز
الحكيم ،الذي أمضى سنواٍت عديدة منفيًا في إيران ،اعتبر فكرة النفوذ اإليراني في السياسة العراقية
فكرًة «تثير السخرية» .لكن في تلك المرحلة لم يبَق من شك لدى أحد في أن إيران كانت تتدخل في
السياسة العراقية ،كي ال نقول كانت توّج ه مساَر ها.
هذه اإلشكالية تكشف بعَض الصعوبات التي تواجهنا عندما نتحدث عن اإلعالم ،فأنا كنت أتحدث
في الشأن السياسي ال في شؤون الدين .لكن جاَء من يتعّم د تشويَه المالحظات التي أبديتها أو َح ْر َفها
عن مقصِدها الحقيقي .إن ما كان موضَع قلٍق لدّي هو أن بعَض اإليرانيين كانوا يحاولون إثارة
المشاعر المذهبية خدمًة ألهدافهم السياسية الخاصة ،وبذلك يمّه دون السبيل الذي يمكن أن يؤدي إلى
مواجهاٍت سنية -شيعية في كل أرجاء العالم اإلسالمي .إنني أحترم الشيعة الذين هم جزء من األمة
اإلسالمية ،وأؤمُن إيمانًا راسخًا بأن من غير المقبول الحكم على أي إنسان انطالقًا من دينه أو
مذهبه .لقد كان للشيعة دوٌر عظيم في إثراء التراث العربي واإلسالمي ،وفي الدفاع عن القضايا
القومية العربية ،وكانوا مخلصين لبلدانهم ،أكان في العراق أم في لبنان .ما من كلمٍة قلُتها كان القصُد
من ورائها أن الشيعة ،بحكم انتمائهم الطائفي ،يقفون تلقائيًا إلى جانب إيران ،وإنما كنت أقصد أن
الحكومة اإليرانية يمكن أن تستغَّل الوضع وتوظَفه لمصلحتها وتشعَل بذلك نار االنقسامات .ونحن ال
ننسى واقعًا تاريخيًا حديَث العهد وهو أن العراقيين الشيعة حاربوا ببسالة دفاعًا عن بلدهم في حربه
ضد إيران في ثمانينيات القرن الفائت.
إن الفكر الشيعَّي المعاصر غنّي بامتداداته الواسعِة والمتعددة .فهناك من جهة جمٌع من المفكرين
ذوي النهج األكثر محافظة ،وهناك ،من جهٍة ثانية ،مفكرون وعلماُء من األكثر انفتاحًا في العالم
اإلسالمي .في إيران علماُء دينيون ذوو بصيرٍة يمتلكون رؤًى مستنيرة ويمّثلون طليعًة رائدة على
صعيد التصدي للمسائل االجتماعية في الشرق األوسط .عندما كنا في األردن نبحث عن السبل
الناجعة في مجال الحد من النسل ،تطلعنا نحو إيران لنعرف السبل التي اعتمدتها السلطات الدينية
هناك لدعم استخدام وسائل منع الحمل .العّالمُة اللبنانُّي الراحل ،المرجع محمد حسين فضل هللا
(رحمه هللا) كان َيعتقد بأن النساء يجب أن يتمتعن بالمساواة مع الرجال في كل الحقوق ،وأن يؤّدين
دورًا مساويًا لدور الرجال في المجتمع .وهذا يشير بوضوح إلى أن بعَض علماء الدين يمكن أن
يكونوا قوَة دفٍع إيجابية في مجتمعاتهم ،لكنهم يمكن أن يكونوا أيضًا رجعيين.
كنت أخشى أن بعضًا مّم ن في النظام اإليراني كان يمهد ألجواء تقود إلى نزاعاٍت طائفية مدِّم رة
يمكن أن تمتد وتنتشر من بيروت إلى بومباي .إن بعضًا من أشد مراحل التاريخ اإلنساني عنفًا ،عبر
قروٍن طويلة ،جاءت مسبوقًة بتعّم د بعض السياسيين استخداَم الدين ذريعًة يبّر رون بها شَّن حروبهم
أو كسبًا لمصلحٍة سياسية .من الحمالت الصليبية إلى محاكم التفتيش اإلسبانية ،كم وكم ُفِر َض من
اآلالم والمعاناة على األبرياء بسبب أولئك الذين يعتقدون قطعًا أنهم يحتكرون الحقيقة.
إن التحدث باسم هللا سبحانه يمكن ،بسهولٍة متناهية ،أن يكون مبررًا لقمع الحوار والرأي الحر.
فمتى َو ضَع شخٌص ما نفَسه في موقٍع أخالقٍّي وروحّي فوق موقع غيره يصبح كأنه مخّو ٌل بأن يديَن
من يقف بوجهه ويعتبَر ه شخصًا مفلسًا من الناحية األخالقية .هذه النظرة المطلقة والحاسمة تتخذ
منحى شديَد الخطورة عندما ترتبط بالمسائل السياسية ،وفجأًة بدل أن يكون الخصوم أشخاصًا لديهم
قيٌم وأفكار مختلفة حيال تنظيم شؤون الحكم والمجتمع ،يصبحون أعداء هللا والدين.
كل ما قصدُت إليه هو أن أشير إلى خطر اشتعال هذا النزاع الطائفّي المحتَم ل .ولكن لسوء الحظ
فقد تسّبب الجدُل حول مقابلتي التلفزيونية بما هو أخطر من مجرد تصريحاٍت وأقواٍل عدائية.
ليلَة الميالد من العام 2004اتجهْت شاحنُة صهريج محشّو ة بالمتفجرات نحو السفارة األردنية في
بغداد وانفجرت مدِّم رًة منزًال قريبًا منها وُم سقطًة تسعَة قتلى .أظهرت التحقيقات التي أعقبت الحادث
أن وراء الهجوم تنظيمًا سياسيًا شيعيًا معروفًا يدعمه الحرُس الثورُّي اإليراني .وهكذا ذهَبْت نيراُن
هذا االنفجار بكِّل اآلمال التي بنيُتها على تحّسن العالقات بين األردن وإيران نتيجَة الزيارة التي قمُت
بها قبل االنفجار بعاٍم واحد .كان هذا االنفجاَر الثاني الذي استهدَف سفارتنا في بغداد ،بعد االنفجار
الذي استهدَفها في آب/أغسطس من العام .2003كان وراء االنفجار األول متطرفون من السّنة على
صلة بتنظيم القاعدة ،بينما كان الذين هاجمونا في المرة الثانية من المتطرفين الشيعة المرتبطين
بالحكومة اإليرانية .في الشرق األوسط ،ال يشكو المعتدلون من قلة األعداء!
مع بداية السنة الجديدة بدأ الناخبون في كل أرجاء العراق ُيعّدون أنفَسهم لالنتخابات .وفي هذه
المناسبة طلبُت من بعض المسؤولين أن ُيعدوا تحليًال مبنيًا على ما نراه ونسمعه للوضع السياسي في
العراق ،لتقديمه إلى الرئيس بوش الذي كان قد أعيد انتخاُبه لفترٍة رئاسية ثانية .وإلبقائه في إطاٍر
بسيط ودون تعقيد طلبُت إليهم استخدام فكرِة اإلشارات الضوئية .على جدول مقّسم إلى ثالثة أقسام
بثالثة ألوان ،وزع المسؤولون صورًا لثالثين سياسيًا عراقيًا على األقسام الثالثة حسب انتمائهم
السياسّي والحزبي .في القسم األخضر كانت صورة رئيس الحكومة االنتقالية إياد عالوي وأنصاره،
ومعهم األكراد ،وهم من المعتدلين الذين نشاركهم القيم ذاَتها .في القسم األحمر برزت صور
السياسيين والحزبيين المتحالفين مع إيران والذين َيعملون لزيادة النفوذ اإليراني في العراق،
ويضاف إلى هؤالء المتطرفون من السياسيين السّنة .أما القسُم األصفر فضم صور السياسيين الذين
يتخذون مواقف مرنة ويستطيع المجتمُع الدولُّي التعامَل معهم ،مثل نوري المالكي من حزب الدعوة،
والتكنوقراط ،ورجال األعمال ،وشيوخ العشائر من السّنة المحافظين.
كذلك قدمنا إلى الرئيس األميركي ومساعديه خطًة مفّص لة إلعادة إعمار المنطقة الغربية من
العراق ،تشجيعًا للسّنة على العودة إلى المشاركة في العملية السياسية .كان من األهمية بمكاٍن كبير
أن ال يرِّسَخ شيوُخ القبائل أقداَم هم في ميادين المعارضة ،فالعراق ال يمكن أن يعيش كدولٍة موَّح دة
من دون أن يكون مواطنوه من السّنة جزءًا من العملية السياسية .كانت خشيُتنا كبيرة من أن تستفيق
الغريزُة القبلية التقليدية المعروفة في منطقتنا بحيث تقف كل مجموعة بوجِه مجموعٍة أخرى ويبدأ
الصراع على السلطة والنفوذ .كان هدُفنا الرئيس أن ُنفهم األميركيين أن األمَل الوحيد في استقرار
العراق يكمن في وجود حكومٍة تضم جميَع فئات المجتمع العراقي دون استثناء .لكنني ال أخفي
صدمتي من أن بعض المسؤولين األميركيين لم يكونوا موافقين على هذا الطرح .أحُد كبار
الجنراالت األميركيين لم يتردد في ضرب عرِض الحائط بطرحنا حوَل أهمية المشاركة السنية في
العملية السياسية حفاظًا على استقرار العراق .كان حاسمًا بأن السّنة هم أعداُء األميركيين في هذه
الحرب ،وقال إذا لم ُيحسن السّنة التصرف فإن الواليات المتحدة سوف تتوّلى سحَقهم عسكريًا .هذه
النظرُة التبسيطية المرعبة إلى األوضاع كانت مصدَر قلٍق لدينا.
أوضحنا في خطتنا المقترحة للرئيس األميركي كيف يمكن االستفادُة من المساعدات االجتماعية
واالقتصادية لدعم زعماء القبائل في غرب العراق وتقوية موقِفهم السياسي .ونحن ،بحكم الحدود
البرية المشتركة بيننا وبين هذه المنطقة من العراق ،كنا على بّينة من أوضاِع ها وميوِلها السياسية.
بعُض القبائل الكبيرة كانت مقسومًة بين غرب العراق والمنطقة الشرقية من األردن .كان في
المنطقِة الغربية من العراق ،مصنٌع مهَّدم للفوسفات ،اقترحنا أن تتولى الواليات المتحدة ترميَم هذا
المصنع وتشغيَله مجددًا ،وبذلك يجد بعض سكان المنطقة فرَص عمٍل جديدة وهذا بدوره يخلُق حالًة
من االستقرار تساعُد رجاَل القبائل هناك على التصدي للقاعدة في العراق.
اختار وزيُر الدفاع األميركي رامسفيلد جزءًا من هنا وجزءًا من هناك من خطتنا المقترحة،
مرِّك زًا على النواحي األمنية من خالل تشكيل المجموعات القبلية المقاتلة ،لكَّن اإلدارة لم توِل
اقتراحاِتنا االقتصاديَة والسياسية أهميًة ُتذكر ،معتبرًة احتالَل العراق وإدارة شؤونه مهمًة عسكرية
بالدرجة األولى .رّح ب األميركيون بفكرة المجموعات القبلية المقاتلة التي يمكن أن تحارب القاعدة،
لكنهم لم يبالوا كثيرًا بتقديم الدعم االقتصادي الذي يساعدها في أن تصبح ممثلة للحكومة المركزية
في مناطِق العراق النائية.
في هذه المرحلة لم يعد األميركيون وحَدهم يواجهون المتاعَب في العراق .فالبريطانيون أيضًا
كانوا في وضٍع حرج في الجنوب .من المعلوم أن وزارة الخارجية البريطانية تمتلك خبرًة تاريخية
واسعة وعميقة في الشرق األوسط ،ودبلوماسيوها معروفون بما يختزنون من المعرفة بشؤون
المنطقة ،وبما لديهم من حنكٍة وخبرة في التعامل مع مشكالتها المعقدة والمتشابكة .لكّن األمَر
المفاجئ أن البريطانيين حين ذهبوا إلى جنوب العراق يبدو أنه قد فاَتهم تمامًا ما يمكن أن تحمَل إليهم
الرياُح اإليرانية من المتاعب المحتملة .عملت وحدات الحرس الثورّي التي كانت ُترَسل عبر الحدود
والعمالء اإليرانيون على زعزعِة االستقرار وإثارة االضطرابات ،فوجد البريطانيون أنفسهم في
مواجهة وضع متفجر .في بعض األماكن من الجنوب كنَت تسمع الفارسيَة محكيًة أكثَر من العربية.
كان حريًا بالبريطانيين أن يستعينوا بعدد أقل من البيروقراطيين القليلي الخبرة وأن يعتمدوا على
أشخاٍص أكثر معرفًة بالخلفية الثقافية والتاريخية للمنطقة التي دخلوها ،خصوصًا أن اإليرانيين بدأوا
يبذلون مزيدًا من الجهد لكسِب النفوذ السياسّي في الجنوب.
في األيام القليلة السابقة لالنتخابات أظهَر عمالُء إيران تصميمًا على التأثير في النتائج ،فرفعوا
وتيرَة دعمهم لألحزاب الشيعية المتحالفة مع إيران بالمال والموارد األخرى .كان واضحًا أن اتساع
رقعة النفوذ اإليراني في العراق ،حيث تنتشر القوات األميركية في كل أنحاء البالد ،يمكن أن يخدَم
مصلحة إيران إلى أبعد الحدود في أية مواجهة يمكن أن تقع بين هذه األخيرة والواليات المتحدة في
المستقبل.
في انتخابات كانون الثاني/يناير فاز االئتالف العراقي الموحد ،وهو ائتالف بين األحزاب الشيعية،
بأكثرية المقاعد في الجمعية الوطنية االنتقالية ،وقد اختير أحُد قياديي هذا التحالف ،إبراهيم
الجعفري ،رئيسًا للوزراء خلفًا إلياد عالوي .أما حزب أحمد الجلبي فقد فِشَل في الحصول على أي
مقعد .أدت الجمعية االنتقالية مهمَتها ووضعْت مسَّو دَة الدستور الجديد ثم عاد العراقيون وانتخبوا
مجلسًا نيابيًا جديدًا في كانون األول/ديسمبر لواليٍة من أربع سنوات .مرًة ثانية فاز االئتالف العراقُّي
الموحد بأغلبية المقاعد ،واختير الجعفري مجددًا رئيسًا للحكومة ،لكن ما لبث أن ُأجبر على االستقالة
وسط انتقادات طاولْت عدَم كفاءِته القيادية ،وقد خلَفه نوري المالكي في نيسان/إبريل من العام
.2006
عندما تولى المالكي رئاسة الحكومة كان الوضع األمني في العراق يتدهور على نحو خطير جّدًا،
والعنُف الطائفُّي كان نارًا متأججة .ورَد في تقارير األمم المتحدة آنذاك أن معدَل ما كانت تحصُده
أعماُل العنف يوميًا من القتلى بلغ مئَة قتيل في مواجهاٍت سّنية شيعية بدأت تأخذ منحى تصاعديًا بعد
هجوٍم على مزاٍر شيعّي مهّم هو مقام اإلمام العسكري في مدينة سامّر اء في شباط/فبراير من العام
.2006في تلك اآلونة بدأ الناس يتكلمون عن إمكانية اندالع حرٍب أهلية على امتداد العراق.
في محاولٍة إلعادة األمن إلى البالد أعلن المالكي في حزيران/يونيو خطًة للمصالحة الوطنية كانت
تنطوي على خطواٍت من شأنها السيطرُة على الميليشيات وفتح حواٍر مع المسلحين ،لكن العنف لم
يتوقْف رافعًا بذلك منسوَب القلق والتخّو ف من كون خطة المصالحة الوطنية لم تحقق أهدافها .وقالت
«مجموعة الدراسات العراقية» التي شَّكلها الكونغرس األميركي في آذار/مارس من العام 2002
لتقييم الوضع العراقي ،في تقرير صدَر في كانون األول/ديسمبر ،إن األوضاَع في العراق «خطيرة
وتتزايد تدهورًا».
كانت األخبار الواردة من شيوخ القبائل السَّنة والشيعة تتحدث بإيجابية عن المالكي ،وتشير
بالتقدير إلى تصديه للميليشيات التي كانت مدعومًة من إيران .لكن األخبار أخذت الحقًا تأتي متغايرة
في مضمونها ،وقد بدأ البعض في العراق والمنطقة يتهم المالكي بتبني انحيازات مذهبية بحيث يدعُم
المجتمعات الشيعيَة على حساب السّنة ،وبعدم إنفاق المال في المناطق السنية .لكن الحقيقة أن
المالكي تسّلم السلطة في مرحلٍة صعبة من التدهور األمني والسياسي كان فيها العراق يتمزق تحت
موجٍة من الشقاق المذهبي والعنف واإلرهاب .ويسجل للمالكي أن العراق بدأ يستقر خالل فترة توليه
رئاسة الحكومة.
مع التحسن الذي بدأت تشهده األوضاع في العراق وتراجع وتيرة العنف ،أخذ العديد من العراقيين
يسألون لماذا ال يأتي العرُب إلى العراق للتحدث إليهم ،ولماذا ُيحجم القادُة العرب عن زيارة بغداد.
لكن حقيقة األمر أن زيارة بغداد لم تكن مسألًة سهلة .بعُض القادِة العرب كانوا يريدون التواصَل مع
العراق ،غير أنهم أرادوا أيضًا أن يتجنبوا الظهوَر أمام شعوبهم بمظهر من يتعامل ويتفق مع
األميركيين من وراء الستار .حتى في هذه األيام ،التي يدير فيها العراقيون شؤوَن بلدهم بأنفسهم ،ال
يزال البعض يرى إلى الحكومة وكأنها تحت السيطرة األميركية .ويستخدم الكثيرون هذه الذريعة
كي يهاجموا القادة العرب الذين ُيعّدون قريبين من العراق.
في كانون األول ُ 2006نّفذ حكُم االعدام بصدام حسين .وفي شريط فيديو ،صّو ره أحد الهواة وبثته
عدة قنواتَ ،تظهر جمهرٌة من الرجال حوَل المشنقة يهتفون« :مقتدى! مقتدى! مقتدى!» وذلك في
اللحظِة التي التَّف فيها الحبُل حوَل رقبة صدام .كان هؤالء يشيرون إلى مقتدى الصدر قائد جيش
المهدي الذي ُيلِه ُب مشاعَر أنصاره والذي ُيعتقد بأنه حليٌف إليران وحزب هللا .صورة واحدة على
الشاشة الصغيرة يمكن أن تكوَن لها وطأٌة قوية على المنطقة العربية برّم تها ،وهكذا رأينا العالَم
العربّي قد تغّير مزاُج ه بين لمحٍة وأخرى .لم يعتبر إعدام صدام حسين عمًال موحًى به من الغرب
ضد دكتاتور عربي فقط ،بل رأى فيه كثيرون من السّنة على امتداد المنطقة عمًال ثأريًا قامت به
إيران والجماعاُت المتحالفة معها .كانت تداعيات ذلك خطيرة .فبعد موت صدام ارتفَع منسوُب موجِة
العنف في العراق واتخذت منحى جديدًا فتحولت إلى اغتياالٍت متباَدلة بين السّنة والشيعة .انتشرت
الميليشيات في الشوارع وعَّم الشعور بأن االنقسام الخطير بين السّنة والشيعة كان يهّدد باالمتداد إلى
كل أرجاء المنطقة .وتضاءلت بالنتيجة الشعبية التي كان يتمتع بها األمين العام لحزب هللا حسن
نصر هللا ،وآخرون ممن يرتبطون بإيران .وباَت الكثيرون يرون فيهم مجرَد أدواٍت يعملون لمصلحة
إيران ضد المصالح العربية .لقد بدأت الصورة تتضح.
حاولُت أن أوضَح إلدارة بوش ،وبالتحديد لوزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ،أن المزاج العام في
المنطقة قد تغّير وأن ذوي االعتدال عادوا إلى طليعِة المسار .بإمكان القادة العرب المعتدلين أن
يعملوا اآلن معًا وأن يعززوا صوت االعتدال .فمنذ انتهاء حرب لبنان في الصيف (تموز/يوليو
)2006وحتى تنفيذ اإلعدام بصدام حسين تراجع صوتنا ولم يعد لطروحاتنا صدًى .
قلت لألميركيين ،ما دمنا اآلن قد استعدنا بعض الزخم أعطونا ما يكفي من الدعم لكي ندفَع بعمليِة
السالم إلى األمام .لكن ال أظن أنهم فهموا الرسالة أو قبلوا فحواها .فاألولوية الجديدة لدى اإلدارة
األميركية كانت ترويج الديموقراطية ،هذا فضًال عن انشغاِلها شبه التام بوقف موجِة العنف في
العراق.
فقَد اإليرانيون بعَض النفوذ الذي مارسوه من قبل بعد أن واَج ه المالكي الميليشيات المدعومة من
إيران وشّن عليها حمالِت اعتقال انتهت إلى إجبار مقتدى الصدر على مغادرة البالد في شباط/
فبراير من العام .2007أخذ الوضع األمني في التحسن بعدئٍذ نتيجة زيادة القوات األميركية في
العراق من جهة ،وما بذلته من جهٍة ثانية «مجالُس الصحوة» التي أطلقتها القبائل السنية من جهود
حين تصدت لقوات القاعدة في مناطقها .لكن مع مرور الوقت أعادت الجماعاُت المدعومة من إيران
بناَء قوتها .وفي تقديري أن جيران العراق العرب يتحملون بعَض المسؤولية في ذلك .فإن أفضَل
السُبل للوقوف بوجه المزيد من التدخل اإليراني في العراق هو أن تمّد البلدان العربية يد العون
والدعم للحكومة العراقية .بغير ذلك سيكون هنالك فراغ سيمأله اإليرانيون وسيتمكنون من إعادة
بناء النفوذ الذي فقدوه لفترٍة وجيزة .إن إيران تقدم مبالغ كبيرة من المال إلى عدة جماعات مذهبية
الطرح داخَل العراق ،كما تنظم مجيء األطفال ،من سّنٍة وشيعة على السواء ،الذين يحتاجون إلى
العناية الطبية أو إلى مستوى أفضل من التعليم ،إلى البالد حيث توّفر لهم هذه الحاجات األساسية .لقد
فتح اإليرانيون كَّل حدوِدهم وهم يحاولون وضَع العراق في إطار نفوذهم .صحيح أن الوضع األمنَّي
المضطرب حال دون أن تقيم البلدان العربية سفاراٍت لها في بغداد وتقّو َي عالقاتها مع العراق ،لكّن
الحقيقَة تبقى أّن تواصل البلدان العربية مع العراق هو ضرورٌة أساسية لشّد أزِر ه ضَّد نزعِة التوسع
التي تمارسها الحكومة اإليرانية والوقوف بوجه طموِح ها إلى الهيمنة.
في العام 2008رأيت أّن من الضروري إبراز حقيقة أن العراق كان يسير في االتجاه الصحيح
وأن األوضاع السياسية كانت تتجه نحو االستقرار .شعرت بأن زيارتي للعراق ستبعث إشارًة
رمزيًة إلى أن األوضاع بدأت تعود إلى طبيعتها ،وسأكون بذلك أيضًا ،أوَل القادِة العرب زائرًا في
بغداد منذ الغزو األميركي .لكن العائق الحقيقي في سبيل هذه الزيارة كان العامل األمني :فال
اإليرانيون وال تنظيم القاعدة يرغبون في رؤيتي هناك.
وجَد خبُر زيارتي المرتقبة َم ن يسّر به فأعدت القاعدة زمرًة من القَتَلة للترحيب بي .وقد بلَغنا أنهم
هَّر بوا إلى العراق قذائَف أرض -جّو الغتيالي .أّج لُت الرحلَة ،واتخذُت إجراءاٍت ُتظِه ر لإلرهابيين
أنهم يزاولون لعبًة خطرة .وبالتعاون مع الجهات العراقية المعنية ،توصلنا إلى التأكد من أن هذه
الخلية بالذات لم تعد مصدَر قلق .ما إن اطمأَّن باُلنا حيال العامِل األمني حتى استأنفُت االستعداد
للزيارة.
في 13آب/أغسطس من العام 2008اتجهنا من عمان إلى بغداد أنا وأخي علي ،يصحُبنا وفٌد
أردني صغير ،في طائرِة نقٍل عسكرية من نوع «سي »17حّلقت بنا فوق الصحراء األردنية ثم
عبر الحدود إلى العراق ،وهي الرحلُة التي قمت بها آخر مرة مع والدي .مع اقترابنا من بغداد بدأ
أفراُد الطاَقم يرتدون السترات الواقية وكانوا يجولون بأنظارهم خارَج النافذة بحثًا عن أية دالئل
تشير إلى إمكانية وجود قذائف .لم ُيعِط نا أفراُد الطاقم ستراٍت واقية ،وجلست أنا في غرفة القيادة.
بوصولنا إلى المطار هبطت الطائرة هبوطًا عموديًا حادًا تجنبًا للقذائف ،وكان ذلك من اإلجراءات
المعتادة للهبوط في مطار بغداد .انحنت الطائرة كالنفاثِة المقاِتلة وهي تئّن مع اقترابها من مدرج
المطار .ما إن هبطنا حتى عادت بي الذكرى إلى زيارتي السابقة إلى بغداد .ها أنا أعود إليها اآلن
وقد تغَّير فيها الشيء الكثير بما في ذلك حكومُتها ونظاُم الحكم فيها.
ُبعيد هبوط طائرتنا ركبنا مروحيًة أقلعت بنا وحّلقت على ارتفاع منخفض فوق شوارع بغداد
وأبنيتها .رأيت ما يشبه السحابة البيضاء ،وأدركُت أنها آتية من المروحية المرافقة بعد أن شَّغلْت
جهازًا ينفث رقائق التضليل التي َتحول دون عثوِر الصاروخ على هدفه .انحرفنا قليًال إلى اليسار ثم
أكملنا طريقنا .فيما كنت أنظر من النافذة رأيت أشعَة الشمس تنعكس على ما ُيشبه البحيرات
الصغيرة وسط المدينة ،وبما أنني لم أذكر أنني رأيُت شيئًا من هذا القبيل في زياراتي السابقة ،ظننت
أنها من معالم المدينة الجديدة .لكن عندما اقتربنا أكثر رأيُت أنها مستنقعاٌت من المجاري الصحية
منتشرة في شوارع المدينةُ .ح زني على بغداد ...التي كانت ،في حقٍب عديدٍة من التاريخ ،جوهرَة
الشرق األوسط ،ومنها خرجْت نخبٌة من أفضل العلماء والمهندسين وكبار المرّبين في منطقتنا
العربية .أمٌة عظيمة من أهل الكرامة والعنفوان والعّز ة ،ها هي تشهُد الدماَر الذي يصيُب منها
الصميم ،إنه لمشهٌد محزن أن يرى المرُء ما أصاَب هذه الحاضرة العظيمة من دمار .كل أربعين أو
خمسين مترًا هناك ملجٌأ ُيهَر ع إليه المشاُة في الشوارع هربًا من قذائف المورتر أو القصف
العشوائي المفاجئ.
بوصولنا إلى المجّم ع الذي كنُت سألتقي فيه رئيس الوزراء نوري المالكي اسُتقبلنا وسط بعض
االضطراب ألننا لم نتمكن من اإلعالن عن الزيارة قبل موعدها المحدد ألسباٍب أمنية .استقبَلني
المالكي وكان التفاهم بيننا جيدًا .والصحيح أن حدوث الزيارة كان أكثر أهمية من مضمون
المباحثات التي أجريناها نظرًا لرمزية اللقاء في بغداد آنذاك.
عندما انتشر خبر وجودي في بغداد توافَد المزيد من العراقيين إلى المجّم ع .حاولنا االجتماع بعدد
آخر من المسؤولين العراقيين إال أنه تبّين أن الترتيبات اللوجستية كانت تنطوي على الكثير من
التعقيدات ،ذلك أن المسؤولين المعنيين لم يكونوا على علٍم بزيارتي ،ولذلك فقد وَص لْتهم الدعوات
متأخرة للقاء «ضيف رفيع المستوى» .واجهت الصعوبات الكثير منهم وهم يحاولون الوصول إلى
حيث هذا الضيف المجهول بسبب التأخر عند حواجز التفتيش .انتظرنا ،وانتظرنا طوياًل ،أحد كبار
المسؤولين البرلمانيين ،لكنه لم يصل .شعر قائد حرسي بعدم االرتياح لوجودنا في موقٍع واحٍد مدًة
طويلة .وأخيرًا قال« :انتهى األمر ،فلنتحرك» ،وتوَّج هنا إلى المطار .أقلعت بنا الطائرة بطريقة
حادة ،وكانت محركاُتها تزعُق هديرًا حتى إذا عادت إلى االستواء عادت معها أجسامنا ترتطُم بظهر
المقعد .عندما ابتعدنا عن مرمى الصواريخ ألقيُت نظرًة من النافذة.
استعدُت في ذاكرتي بغداد التي كنُت قد زرتها قبلئٍذ بعشرين عامًا ،وصدمت إذ رأيتها على هذه
الحال الموجعة .قال لي أخي علي إن الزيارة تركْته مثقًال بالكآبة والحزن ،فأجبته« :وأنَت أيضًا؟».
مع مرور الوقت تغّيرت السياسة األميركية وبدأت القوات األميركية المقاتلة تغادر العراق ،وقد
صّدق البرلمان العراقي على اتفاق وضع القوات األميركية في العراق في تشرين الثاني/نوفمبر من
العام .2009وبموجب هذا االتفاق تغادُر القوات األميركية العراق بنهاية العام .2011وهذا هدف
معقول وجيد ،ذلك أنني أوُل القائلين بأن كل القوات األجنبية يجب أن تخرج ،لكن ال أحد يريد
انسحابًا متسرعًا يترك وراءه فراغًا يتطلب أن يأتي بعد بضع سنوات َم ن ُيصلح ما خّلَفه من
المشكالت .إذا كان تأليف حكومة عراقية قوية يتطلب انسحابًا أقَّل سرعًة بقليل ،فإن هذا المسار قد
يكون هو األفضل .وكثيرون من المسؤولين العراقيون أشاروا إلى اقتناعهم بذلك في األحاديث
معهم .فهم ال يريدون فراغًا ينتج عن انسحاب غير مخطط له تخطيطًا جيدًا لضمان عدم تعريض
أمن العراق للخطر.
أكملت القوات األميركية المقاتلة انسحابها من العراق في 31آب/أغسطس من العام ،2010
وأعلَن الرئيس أوباما انتهاَء العمليات القتالية للقوات األميركية في العراق .لم يمِض وقٌت طويل
على االنسحاب حتى تدهور الوضُع األمنُّي بينما تحركت قوات األمن العراقية ِلَم ْل ِء الفراغ .سيبقى
في العراق حوالى خمسين ألف جندي أميركي حتى نهاية العام 2011لتدريب الجيش العراقي
ومساعدته في توّلي مسؤولياته األمنية .نأمل أن يستقَّر العراق بحلول هذا االستحقاق الزمني ،وأن
يكون الجيُش العراقي قد حصل على ما يحتاج إليه من تجهيزات وتدريب ليحفظ أمن البلد.
الفصل السادس والعشرون :صوت جديد من أميركا
في آذار/مارس من العام ،2007وفي تكريٍم نادٍر لرئيس دولة أجنبيةُ ،دعيُت إللقاء خطاب في
جلسٍة مشتركة لمجلسي الشيوخ والنواب في أميركا .وبعد تفكيٍر متأٍن في الموضوع تيقنت أن ثمة
موضوعًا واحدًا علَّي أن أطرحه :الحاجة الماّسة والملّح ة إلى تحقيق السالم في الشرق األوسط.
قلت في كلمتي أمام ممثلي األمة األميركية إن شعوب الشرق األوسط في كل أرجائه تبحث عن
بدايٍة جديدة وتتطلع إلى مستقبل زاهٍر يعّم ه السالم والرفاه .لقد شهدنا الخطر والدمار اللذين يخّلفهما
العنف والكراهية والظلم .لكننا شهدنا أيضًا ما يمكن أن تنجزه الشعوب متى تسّنت لها اإلمكانات،
وأسقطت الجدران ،ومتى تعهدْت مستقبلها والتزمت بناَء ه .إننا نعلم علَم اليقين أن السالم بين
اإلسرائيليين والفلسطينيين سوف يتيح لمنطقتنا وللعالم بأسره إمكاناٍت وُفرصًا جديدة .يجب أال يشعر
أي أٍب فلسطيني بأنه غير قادر على توفير الطعام لعائلته وبناء مستقبل الئق ألبنائه وبناته .ويجب
أال تشعر أي أم إسرائيلية بالخوف متى صعَد ولُدها إلى الحافلة في طريقه إلى المدرسة .ويجب أال
يكبر جيل جديد آخر معتقدًا أن العنف والنزاع هما سمة الحياة الطبيعية.
بعد انتهائي من إلقاء خطابي جاءني العديد من األصدقاء يسألونني ماذا بإمكانهم أن يفعلوا
للمساعدة في ما دعوُت إليه ،لكن بعضهم كان أكثر شكًا أو تحفظًا .بعُض هم قاَل لي« :ما دخُلنا نحن
في هذا الصراع؟ لماذا علينا أن نتورط في نزاٍع محّلي قائم بين طرفين على المقلب اآلخر من الكرة
األرضية؟».
بوّدي أن أقول هنا بمنتهى الوضوح ما كان جوابي عن هذه التساؤالت :إن إيجاد الحل للصراع
العربي -اإلسرائيلي هو في صميم المصلحة القومية للواليات المتحدة األميركية وأوروبا وسائر
بلدان المجتمع الدولي .إن القضية الفلسطينية تحتّل مكانًة في غاية األهمية لدى مليار ونصف مليار
من المسلمين في نواحي األرض األربع ،وهي بذلك مسألٌة عالميٌة بامتياز .كم وكم من ممتهني
العنف يستخدمون االحتالل اإلسرائيلي لألراضي العربية ،وخصوصًا منها القدس الشرقية ،ذريعًة
لما يقومون به من أعمال .إنهم يصّو رون الغرب ،والواليات المتحدة تحديدًا ،داعمًا أعمى إلسرائيل،
وبالتالي يحّم لون «أميركا الشيطانية» وحلفاَء ها مسؤولية المظالم المتأتية من االحتالل اإلسرائيلي.
المنظمات اإلرهابية تستغل مشاعر اإلحباط المشروعة لدى المسلمين حيال الفشل في إنهاء االحتالل
اإلسرائيلي لألراضي الفلسطينية لخدمة أهدافهم الالمشروعة وتبريرها ،والستدراج الدعم ألعمالهم
المناوئة ألميركا وخطابهم المعادي لها .إن من الضرورّي والملّح إيجاَد الحل للصراع الفلسطيني
اإلسرائيلي لكي نحرَم هؤالء المتطرفين من إحدى أقوى الذرائع التي يستخدمونها وأكثرها استقطابًا
المؤيدين.
يستغل تنظيم القاعدة استمرار الصراع مصدر قوة له ويوظفه في حشد التابعين .وسوف يؤدي
قيام الدولة الفلسطينية إلى إضعاف حجة القاعدة ويحد من قدرتها على االنتشار عالميًا ،فيستحيل هذا
التنظيم اإلرهابي خطرًا محليًا في بعض مناطق النزاع .على مدى أكثر من عشر سنوات توّر طت
الواليات المتحدة وبريطانيا وحلفاؤهما في حربين في العالم اإلسالمي .وسوف نشهُد مزيدًا من
النزاعات المسلحة التي ستستغلها القاعدة لتزيد من نفوذها وتوّسع انتشارها إّال إذا تحقق السالم بين
الفلسطينيين واإلسرائيليين .قد ال يبدو الترابُط بين هذين األمرين واضحًا بالنسبة إلى األميركيين،
لكن ما من مسلٍم في العالم إال يؤكد أن المعاناة والظلم اللذين يلحقان بالشعب الفلسطيني يبقيان جرحًا
داميًا يدفع الشباب إلى التشدد ويستنفرهم في كل أرجاء العالم اإلسالمي .لن تختفي القاعدة من
الوجود لحظَة إنشاء الدولة الفلسطينية ،لكنها ستواجه رفضًا أكبر وصعوبات متزايدة في سعيها إلى
تجنيد األتباع وحشد الدعم لما تطرح من أفكار ولما ترتكب من أعماٍل إجرامية.
من أهّم األدوار التي تستطيع الواليات المتحدة األميركية القيام بها إقناع أصدقائها بكبح العواطف
سعيًا وراء المصالح االستراتيجية .نحن في هذه المنطقة غالبًا ما نجد أنفَسنا ُم نَه كين ومستهَلكين في
التعامل مع َم ظِلمٍة من هنا أو حادِث عنٍف من هناك فنفقد القدرة على رؤية المشهد األوسع والمسألِة
األساس .نحتاج في كثير من األحيان إلى َم ن يساعدنا على النظر إلى المستقبل وتحديد إلى أين نريد
أن نصل بعد عشر سنواٍت من اآلن ،أو عشرين سنًة أو ثالثين ،لكي نجعل من أعمالنا سبيًال إلى
تحويل هذه الرؤيا حقيقًة ملموسة.
ال وقت نضّيعه في جهودنا لحل الصراع اإلسرائيلي -الفلسطيني .ذلك أن كل المماطالت،
واالنتظار على غير طائل ،والوعود المؤجلة أو المنسية ،قد أّدت إلى أن يفقد الناس ثقَتهم حتى بأن
يكوَن السالم إمكانيًة واردة .هذا الواقع يضعف المعتدلين ،ويصّب مباشرًة في مصلحة المتطرفين.
علينا أن ندرك أن فشَلنا في التحرك اآلن نحو الحّل يعني أننا وضعنا الشرق األوسط على مسار
مستقبلي تسوده الحروب التي لن تقف عند حدود المنطقة ،مستقبٍل يقوده اإلرهابيون والمتطرفون،
بعد أن يكوَن المعتدلون فقدوا كَّل صدقّيتهم.
إن شروط السالم ومتطلباته واضحة .فالمجتمع الدولي برّم ته يجمع على حل الدولتين سبيًال
لتحقيق السالم .لكننا نحتاج إلى المساعدة لبلوغ هذا الحل بعد ما شهدته عملية السالم خالل السنوات
األخيرة من تعثر جعل من الكالم غير المجدي والعنف والخيبة حصادها الوحيد.
وعندما ُأعِلن في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر فوز باراك أوباما بالرئاسة األميركية ،تنّفس
الكثيرون في األردن والشرق األوسط الصعداء .أمل الناس أن تعتمد الواليات المتحدة نهجًا جديدًا
في سياستها نحو المنطقة ،وأن يكون الرئيس األميركي الجديد وسيطًا عادًال ونزيهًا ومتوازنًا وهو
يتصدى لتحدي تحقيق السالم في المنطقة.
قد يبدو للبعض أن المفاوضات وتعقيداتها مسألة يجب أن تترك للفلسطينيين واإلسرائيليين
يديرونها وحَدهم .بيد أن الحقيقة هي أن للواليات المتحدة دورًا مركزيًا فيها .ولقد رأى الناس في
الواليات المتحدة على مدى السنوات حليفًا يقدم الدعم غير مشروط إلسرائيل .وعلى الرغم من ذلك،
ليس في المنطقة من ال يعتقد أن الواليات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تصغي إليها إسرائيل ،مع
أن األخيرة تختار أحيانًا أن تتجاهل طلبات أميركا.
في تموز/يوليو من العام 2008أخذ السناتور أوباما إجازًة من متابعة حملِته االنتخابية للقيام
بجولٍة في أوروبا والشرق األوسط .بعد زيارته العراق وأفغانستان ،وصَل في الثاني والعشرين من
تموز/يوليو إلى عّم ان يرافقه السناتور جاك ريد ( )Jack Reedوالسناتور تشاك هاغل (Chuck
.)Hagelعّم ان بنيت في األساس عند ملتقى سبعِة جبال ،وقد اختار أوباما القلعة التاريخية القائمة
على قمة أحد هذه الجبال لعقد مؤتمره الصحافي .لقد شِه دْت عّم ان ،إحدى أقدم مدن العالم ،غزواٍت
عديدًة عبر تاريخها الطويل ،من اليونانيين إلى الرومان واألمويين ،وقد ترك كٌل من هؤالء بصماِته
وآثاَر ه فيها .وقف أوباما قرب بقايا معبٍد يوناني ،وآثار كنيسة بيزنطية ،وحجارِة قصٍر أموّي ،
وتحدث عن زيارتيه إلى أفغانستان والعراق ،ثم تلقى أسئلة الصحافيين .شّدد في كالمه على العملية
السلمية قائًال« :إن هدفي هو التأكد من أننا سوف نعمل منذ اللحظة التي أقسم فيها اليمين الدستورية
على البحث عن ثغرٍة تفتح أمامنا باب السالم».
بعد المؤتمر الصحافي التقيُت أوباما في بيت األردن ،مقر إقامتي في ضواحي عمان ،وقد رّكزت
في اللقاء على أهمية الوصول إلى سالم عادٍل ودائم بين إسرائيل والفلسطينيين ،ال من أجل السالم
فقط ،بل أيضًا من أجل االستقرار الذي يأتي به السالم إلى المنطقة ودْفِع األخطار التي قد تأتيها من
مناطَق أخرى ساخنة في العالم .من وجهة نظري ،قلُت له :من المهم جّدًا أن تكون السياسة الخارجية
األميركية على درجة عالية من التنسيق .ففي عهد الرئيس كلنتون كنا نستقبل في المنطقة عددًا من
المبعوثين ،واحدًا تلو اآلخر ،من دنيس روس ( )Dennis Rossإلى مارتن إنديك (Martin
)Indykإلى مادلين أولبرايت ( ،)Madeleine Albrightوفي جعبة كل منهم رسالٌة مختلفة .كما
شرحُت له أن المشكلة ذاَتها انتقلت إلى إدارة الرئيس بوش الذي قال لي« :الرجُل الذي يحمل
رسالتي هو كولن باول ،وهو الوحيد الذي سيعّبر عن سياستنا الخارجية .إنه مخّو ٌل بذلك مني
شخصيًا» .لكن باول كان يقول كالمًا ويأتي بعده مسؤولون آخرون يحملون رسالًة مناقضة.
نصحُت أوباما بأن يكون له مستشار رئيسي حول عملية السالم يعتمد عليه دومًا .وعندما أوجَز لي
ما ينوي اتخاَذه من الخطوات للسير قدمًا في عملية السالم ،اتضح لي أنه مدرك تمامًا جوهَر المشكلة
وترك لدّي انطباعًا قويًا بأنه رجٌل ُيحسن التحدث بلغة السالم .أنهينا محادثاتنا ثم انضّم إلينا الوفُد
المرافق لتناول العشاء.
بعد العشاء عرضُت أن أوصَل أوباما إلى المطار حيث كان متوجهًا إلى إسرائيل محطته التالية.
(أنا اعتدت أن أوصَل كبار الزائرين إلى المطار في أحيان كثيرة) .لم يرتح مسؤول أمنه الشخصّي
لعرضي لكن األمر كان محسومًا .فوجئ أوباما عندما رآني أتجه إلى مقعد السائق ثم أدعوه إلى
الجلوس بجانبي .اتجهنا إلى المطار تلحق بنا قافلة من السيارات .وفي نصف الساعة الذي استغرَقْته
الرحلة تحدثنا عن عائلتينا وتطرّقنا إلى بعض األمور الشخصية ،وكانت فرصة ليتعّر ف واحُدنا على
اآلخر بصورٍة أفضل.
بعد االنتخابات األميركية بأسبوع واحد سافرُت إلى نيويورك لحضور اجتماع الجمعية العمومية
لألمم المتحدة المخّص ص للحوار بين األديان ،والذي كان برعاية الملك السعودي عبد هللا بن عبد
العزيز .خالل وجودي هناك التقيت الرئيس األميركي السابق بيل كلنتون الذي حَّثني على عدم
إضاعة الوقت باالنتظار شهرين ونصف الشهر ريثما يتسلم أوباما رسميًا منصبه رئيسًا للواليات
المتحدة .وقال إن من األفضل أن نبدأ فورًا بالتواُص ل مع فريق الرئيس أوباما الذي يتولى إدارَة
عملية انتقال السلطة .كان ذلك قبل تعيين زوجة كلنتون ،هيالري ،وزيرًة للخارجية بوقٍت طويل.
«عليكم أن تبدأوا التحرك فورًا» ،قال لي الرئيس السابق ،الذي كان قد اقترب أكثر من أي رئيس
أميركي آخر من الوصول بالفلسطينيين واإلسرائيليين إلى اتفاق سالم .أخذت بنصيحة كلنتون وبدأُت
أتخذ خطواٍت غير رسمية لالتصال بأعضاء إدارة أوباما الجديدة.
في الثاني عشر من تشرين الثاني/نوفمبر ،خالل وجودي في الواليات المتحدة ،تحدثت إلى
الرئيس أوباما هاتفيًا ،هنأُته على فوزه في االنتخابات وقلت له إنني أتطلع إلى التعاون معه في
مسائل الشرق األوسط.
قلت إنني مدرك تمامًا أن انشغاالٍت كبرى ُتثِقُل برنامَج عمله خصوصًا في مرحلة إطالق حكومته
الجديدة ،تلك االنشغاالت التي ُتراوح ما بين األزمة االقتصادية العالمية ومشكالت الموازنة
األميركية ،فضًال عن النزاعات في العراق وأفغانستان .لكنني أبلغته أنني بالرغم من ذلك آمل أن
يسرع إلى دعم المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين والدفع بها إلى األمام.
بنهاية حديثنا الهاتفي شعرُت بأمٍل كبير ،وبأن الرئيس األميركي المنتَخب يعي تمامًا أن الصراع
اإلسرائيلي -الفلسطيني هو أساس التوتر وعدم االستقرار في المنطقة ،وأن الوصول إلى سالم
عادٍل وشامٍل ودائم هو في مصلحة أميركا القومية .إنه الموقف النقيض تمامًا للسنوات الثماني
الماضية التي كانت فيها السياسة األميركية في أغلب األحيان داعمًة إلسرائيل في الحق والباطل.
لكن قبل أن يتسّلم أوباما صالحياته في كانون الثاني/يناير من العام 2009تدهورت األوضاع
تدهورًا خطيرًا.
انتهت في كانون األول/ديسمبر المدة المحددة التفاق وقف إطالق النار الذي رَعْته مصر بين
حماس وإسرائيل ،وعاد الطرفان لالشتباك .كان وقف إطالق النار قد تعّر ض للخطر منذ تشرين
الثاني/نوفمبر عندما قتلت إسرائيل ستَة ناشطين من حماس وعادت حماس فأطلقت بعض الصواريخ
إلى داخل إسرائيل .كذلك كانت غزة تحت الحصار االقتصادي التام منذ العام ،2007وحتى المواد
الطبية كان السماح بإدخالها محدودًا جّدًا .كانت غزة أشبَه بقنبلة موقوتة تنتظر االنفجار.
استغّل رئيس وزراء إسرائيل إيهود أولمرت المرحلة االنتقالية في الواليات المتحدة ،وفترة أعياد
الميالد ورأس السنة التي يغيب فيها معظم رؤساء الدول في إجازاتهم ،وقرر أن يشَّن هجومًا على
غزة في 27كانون األول/ديسمبر .قصفت الطائرات اإلسرائيلية غزة مدة أسبوع كامل قبل أن يشن
الجيش اإلسرائيلي حربًا شاملة عليها ويغزوها في أوائل كانون الثاني/يناير.
بحسب تقرير اللجنة التي شكلتها األمم المتحدة لتقّص ي الحقائق في نيسان/إبريل من العام 2009
برئاسة القاضي الجنوب أفريقي ذي السمعة الدولية الرفيعة ريتشارد غولدستون (Richard
،)Goldstoneذهب ألف وأربعمئة فلسطيني ضحيَة ثالثة أسابيع من القتال الشرس ،منهم ما بين
تسعمئة وألف شخص من المدنيين ،بينهم أكثر من ستمئة من النساء واألطفال .أما الجيش اإلسرائيلي
فقتل منه عشرة جنود بينهم أربعة سقطوا بـ«نيراٍن صديقة» ،وقد قتلت صواريخ حماس ثالثة
مدنيين إسرائيليين.
باإلضافة إلى ذلك قصفت الطائرات الحربية اإلسرائيلية السجن المركزي ومبنى المجلس
التشريعي ،فضًال عن مبنى المدرسة التابعة لألنروا في مدينة غزة .هذا العمل وَص فْته لجنُة األمم
المتحدة بأنه انتهاك للقانون الدولي واتفاقات جنيف .وقد َخلَص تقرير غولدستون ،الذي ُنشر في
أيلول/سبتمبر من العام 2009إلى أن القوات اإلسرائيلية المسلحة قد خرقت قواعَد السلوك العسكري
الدولية من خالل هجومها على أحد مستشفيات مدينة غزة بقذائف تحتوي على الفوسفور األبيض،
ومن خالل الهجمات التي شّنتها على المدنيين في غزة بما في ذلك هجوُم ها على أحد المساجد خالل
الصالة حيث قتلت خمسَة عشَر شخصًا.
عندما عرضت شبكات التلفزة العالمية المآسي اإلنسانية التي تعّر ض لها سكان غزة أثارت موجًة
عارمة من الغضب ،وخرج الناس في طول العالم العربي وعرضه يطالبون برٍد قاٍس على األعمال
اإلسرائيلية .وألول مرة حاولت مجموعة من الدول العربية إلغاء مبادرة السالم العربية التي ُطرحت
في العام ،2002وقد وقفت تلك المجموعة ،في خطوتها هذه ،ضد دول االعتدال العربية وحاولت
الدفَع باتجاه رفض السالم مع إسرائيل .أما الدول العربية المعتدلة ،بما فيها األردن ومصر والمملكة
العربية السعودية واإلمارات العربية المتحدة وسواها ،فقد أخذت تتساءل عما إذا كانت إسرائيل قد
دّم رت عمليَة السالم نهائيًا.
دعت قطر إلى مؤتمر قمة للدول األعضاء في جامعة الدول العربية ُيعقد في الدوحة في 16
كانون الثاني/يناير ،لكّن الخشيَة من أن تكون وراَء هذه الدعوة أهداٌف سياسية غير معلنة تخّلفت
مصر والمملكة العربية السعودية واألردن ودوٌل أخرى تنحو منحى سياسيًا مماثًال عن الحضور،
ولم ُيلِّب الدعوَة سوى ثالث عشرة دولة أي أقل بدولتين من النصاب المطلوب لجعل االجتماع
مؤتمرًا رسميًا للقمة العربية .في النهاية وّسعت قطر قائمَة المدعّو ين بحيث شملت الرئيس اإليراني
محمود أحمدي نجاد ورئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل الذي سافر إلى الدوحة من مقره
في دمشق.
أعلن بعض القادة العرب أن المبادرة العربية للسالم «ماتت وُدفنت» ،ودعوا إلى قطع كل عالقة
عربية مع إسرائيل بما في ذلك إغالق السفارتين المصرية واألردنية فيها ،لكن بما أن المؤتمر لم
يكن اجتماعًا رسميًا للدول األعضاء في جامعة الدول العربية ،لم يكن ممكنًا إلغاء المبادرة العربية
للسالم رسميًا.
لو أننا شعرنا بأن قطع العالقات مع إسرائيل يمكن أن يأتي بالعدالة والحقوق المشروعة
للفلسطينيين ،أو بالسالم إلى المنطقة ،لما ترددنا لحظًة في القيام بذلك .لكّن العكس هو الصحيح،
فالمعاهدة بيننا وبين إسرائيل شكلت في مناسباٍت عديدة مخرجًا أتاح للفلسطينيين أن يعتمدوا علينا
لتمرير وجهات نظرهم ورسائلهم .واآلن ،عندما كان سكان غزة بأمّس الحاجة إلى المساعدة
والدعم ،ما كنا لنستطيع مساعدَتهم لو لم يكن لدى األردن عالقاٌت دبلوماسية مع إسرائيل.
وقفنا ضد الحرب على غزة وعارضناها ،لكن لم نستطع أن نفعل شيئًا لوقفها .طالبنا إسرائيل بأن
توقف كل عملياتها العسكرية ضد غزة ،وأن تكف خصوصًا عن استهداف المدنيين .أرسلنا
المساعدات ووّفرنا قناة إليصال مواد اإلغاثة وصلت عبرها معظم المواد التي أرسلتها الدول
العربية واألوروبية وسواها من دول المجتمع الدولي .مئات األطنان من المساعدات اإلنسانية
والطبية دخلت غزة عن طريق األردن ،كذلك أرسلنا مستشفى ميدانيًا عسكريًا -ال يزال عامًال في
غزة -كان يعالج أكثر من ألف مصاب يوميًا منذ اللحظة التي افتتح فيها .بحلول تشرين األول/
أكتوبر من العام 2010كان 340٬000شخص قد تلقوا العالج في هذا المستشفى.
في 19كانون الثاني/يناير من العام 2009اجتمع قادة الدول العربية في الكويت في ما كان
ُيفَترض أنه قمٌة اقتصادية ترمي إلى َص ْو ِغ موقٍف َيستجيب لتداعيات األزمة المالية العالمية ،غير
أننا لم نكن لنتجاهَل األزمة التي كانت ال تزال متواصلة في غزة .وفي هذا السياق عّبر الملك
السعودي عبد هللا بن عبد العزيز عن القلق الذي ينتاب العديدين عندما قال« :إن المبادرة العربية لن
تبقى على الطاولة إلى األبد».
وقَف أمير الكويت الشيخ صباح األحمد الجابر الصباح في وجه الضغوط التي مارَسها بعض
الدول إللغاء مبادرة السالم العربية ،واكتفى البيان النهائي المشترك بالدعوة إلى وقف إطالق النار
في غزة ،واالنسحاب اإلسرائيلي الفوري منها ،وإلى التحقيق في ما ارتكبه الجيش اإلسرائيلي من
جرائم حرب.
في اليوم التالي ،بينما انسحبت القوات اإلسرائيلية من غزة ،كانت واشنطن تشهد حشدًا من حوالى
مليون إنسان جاؤوا من كل أنحاء البالد ليشهدوا باراك أوباما يؤدي اليمين الدستورية باعتباره
الرئيَس الرابَع واألربعين للواليات المتحدة األميركية .وفى الرئيس أوباما بالوعد الذي أطلَقه خالل
حملته االنتخابية وكانت اتصاالُته الهاتفية األولى صباح اليوم التالي إلى قادة األردن ومصر
وإسرائيل والسلطة الفلسطينية.
في العادة ،كان كل الرؤساء األميركيين الجدد ينتظرون حتى منتصف واليتهم الثانية قبل أن يبدأوا
بمعالجة الصراع اإلسرائيلي -الفلسطيني .كانوا ينظرون بعين إلى الوضع الراهن وبأخرى إلى ما
سيتركون من إرث تاريخي وراءهم .لكن الرئيس أوباما ،بتصديه لهذه المسألة منذ يومه األول ،بدا
كمن يقدم إلى المنطقة فرصًة نادرة للتقدم نحو حل إحدى أكثر مشكالتها تعقيدًا وصعوبة .هنا دارت
التساؤالت في رؤوسنا جميعًا :هل ،يا ُترى ،سيتمكن قادُة المنطقة من االستفادة من هذه الفرصة
الثمينة؟
بيد أن تطورات السياسة اإلسرائيلية لم تكن مشجعة .فالتفاؤل الذي انتهى إليه مؤتمر أنابوليس كان
قد تبّخ ر منذ وقت طويل ،ذلك أن المفاوضات التي انطلقت في ذلك المؤتمر في أواخر العام 2007
توقفت في تموز/يوليو 2008عندما أعلن أولمرت ،بعد اتهامات الفساد التي طاولته ،أنه لن يرشح
نفسه لواليٍة ثانية في رئاسة حزب كاديما وأنه سيستقيل من رئاسة الحكومة حالما ينتخب الحزب
قائدًا جديدًا .في أيلول/سبتمبر فازت وزيرة خارجيته تسيبي ليفني برئاسة حزب كاديما .لكن ليفني لم
تتمكن من تشكيل ائتالف حكومي ،فبقي أولمرت رئيسًا للحكومة بموجب القانون الذي ينص على
بقاء رئيس الحكومة الراهن في منصبه ريثما ُيقسم الرئيس الجديد اليمين ويتسلم الحكم.
في العاشر من شباط/فبراير من العام 2009ذهب اإلسرائيليون إلى صناديق االقتراع .ومع أن
كاديما عاد ففاز بأكثرية مقاعد الكنيست ،لم تتمكن ليفني مرة أخرى من تشكيل ائتالٍف حكومّي .
كّلف الرئيس اإلسرائيلي شيمون بيريز زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو تشكيل حكومة ائتالفية.
في السادس عشر من آذار/مارس وّقع نتنياهو اتفاَق االئتالف الحكومي مع الحزب اإلسرائيلي
الثالث من حيث عدُد المقاعد النيابية« ،إسرائيل بيتنا» ،وهو حزٌب على أقصى اليمين بقيادة أفيغدور
ليبرمان الذي أعطَي حقيبة وزارة الخارجية .وفي إشارٍة واضحة إلى التغّير الذي طرأ على توُّج ه
الرأي العام اإلسرائيلي ،فإن حزب العمل ،الحزب التاريخّي الذي كان على رأسه إسحق رابين،
شريك والدي في عملية بناء السالم ،ومن بعده إيهود باراك -والذي هيمَن على السياسة اإلسرائيلية
من العام 1948حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي -باَت اآلن في المرتبة الرابعة فقط أي وراء
كاديما والليكود وإسرائيل بيُتنا .بدت الصورة قاتمة .فعودة نتنياهو الذي كان قد فعل كل ما في وسعه
لنسف اتفاقات أوسلو بعد غياب دام عقدًا وضّم ه اليميَن اإلسرائيلَّي المتطرف إلى حكومته ،كانا نذير
خطر على العملية السلمية.
فيما كان نتنياهو يضع اللمسات األخيرة على ائتالفه الحكومي ،كان األعضاُء االثنان والعشرون
في جامعة الدول العربية يستعدون لحضور مؤتمر القمة العربية في الدوحة .وفي ضوء محاوالت
بعض الدول العربية في السابق لسحب مبادرة السالم العربية واعتبارها ملغاة ،ذهبُت إلى الدوحة
مدركًا تمامًا أن علينا نحن الحريصين على السالم أن نتخذ موقفًا ثابتًا وحاسمًا إذا كان لعملية السالم
أن تبقى على قيد الحياة.
من المعروف أن كل مؤتمرات القمة العربية تلتئم بعد أن يكون وزراء خارجية الدول األعضاء قد
اجتمعوا قبل القمة ببضعة أيام لإلعداد الجتماع رؤساء دولهم .ولذلك أعطيُت تعليماتي لوزير
خارجيتنا ،ناصر جودة ،بأن يحيط كل وزراء الخارجية علمًا بأن من األهمية بمكاٍن كبير أن َيلقى
الرئيس األميركي الجديد كَّل الدعم الممكن في التزامه المبّكر بعملية السالم في المنطقة .يجب أال
نسمح ألنفسنا بأن تحكمنا العواطف على الرغم من كل البشاعِة المرعبة للحرب اإلسرائيلية على
غزة .عليَك أن تتأكد ،قلت لوزير الخارجية ،من أن مؤتمر القمة سوف يخرج ببيان عملٍّي واقعّي
يدفع باتجاه أن نبذل مجتمعين جهدًا متكامًال إلحياء محادثات السالم.
كان المزاج العام في الدوحة شديد السلبية ،وكان موقف بعض وزراء الخارجية أن ال فائدة من
البحث عن السالم مع حكومة إسرائيلية ُتظهر هذا الَقْدر من التعّنت وتمعن في مخالفاتها مندرجات
القانون الدولّي .وبعضهم قال إن مبادرة السالم العربية يجب أن ُتسحب عن الطاولة ،فاالنتخابات
جاءت بنتنياهو رئيسًا للحكومة وهذا يعني أن إسرائيل سرعان ما سيزيُد توّج ُه ها يمينًا ومواقُفها
تعنتًا .لكن وزير خارجيتنا وعددًا آخر من الوزراء العرب أصروا على أنه برغم األجواء التشاؤمية
عمومًا ،علينا أن نستفيد من أية فرصة سانحة.
خالل المؤتمر كان هدفي أن أفكر ونظرائي من القادة العرب استراتيجّيًا وأن يكون لنا موقف
موَّح د لكي نثبَت للعالم مرًة نهائية َم ن هو الذي يسُّد المنافَذ على محاوالت السالم .كُّلنا عّبرنا عن
الغضب حيال الحرب اإلسرائيلية على غزة وشجبناها .لكن على الرغم من غضبنا دعوت إخواني
رؤساء الدول إلى البحث عن شعاِع األمل وسط هذه الظلمة الرهيبة .قلُت لهم ال بد لنا من أن نعطي
أوباما الفرصة لمساعدتنا ،فالرجل قام ببعض الجهود الجيدة ولم يمِض عليه في الحكم أكثر من ستة
أسابيع .لقد عّين جورج ميتشل ،السناتور السابق صاحب السجل الحافل بالنجاح في أيرلندا الشمالية
والمعرفة العميقة بشؤون الشرق األوسط ،مبعوثًا خاّص ًا له في عملية السالم وأرسله فورًا إلى
المنطقة .كذلك أعلن الرئيس األميركي أن المستوطنات اإلسرائيلية غير قانونية ويجب وقُف إنشائها،
أما وزيرة خارجيته هيالري كلنتون فهي على معرفة جيدة بالمنطقة وقضاياها منذ كانت عضوًا في
مجلس الشيوخ ،وقبلئٍذ بوصِفها السيدة األميركية األولى السابقةَ .م ن منا ال يذكر إلى أّي مدى اقترَب
الرئيس كلنتون من تحقيق السالم! يجب أن نتجنب القيام بما يتوقعه الكثيرون من العرب وهو أن
نرفَض المبادرات الجديدة قبل أن تصلنا .تحدثت عن ضرورة أن نتصرف بحكمة وأن نعيد تأكيَد
التزامنا بمبادرتنا العربية للسالم ثم نرى إلى أين ستذهب بنا هذه المبادرة.
في النهاية ساد هذا المنطق وأكدنا التزامنا بالمبادرة العربية للسالم .لكن ما شهدته منطقة الشرق
األوسط برّم تها من ردود الفعل الغاضبة حياَل سلوك إسرائيل في حربها على غزة عنى أن أَّي
هجوٍم إسرائيلي مماثل سيقضي على المبادرة نهائيًا.
قلُت إلخواني القادة العرب إن الرئيس أوباما اتصل بي قبل بضعة أيام ودعاني إلى زيارة
واشنطن ،وسألُتهم كيف يمكن أن نستفيد من هذه الزيارة لدفع قضية السالم ُقدمًا ما أمكن؟
جاءني ،خالل المؤتمر ،األمير سعود الفيصل ،وزير الخارجية السعودي ،ذو الحكمِة وُبعد النظر
وصاحُب الباع الطويل في الشؤون الدولية ،واقترَح علّي أن أحمَل إلى الرئيس األميركي رسالًة
موجهة إليه من مؤتمر القمة .بعد انتهاء المؤتمر بفترة وجيزة دعونا وزراَء خارجية لبنان وقطر
وفلسطين والمملكة العربية السعودية وسوريا ومصر إلى األردن ،ومعهم األمين العام لجامعة الدول
العربية ،للعمل على َص ْو ِغ موقٍف عربّي مشترك .بعض هؤالء الوزراء كانوا على تواصٍل مع
وزير الخارجية البريطاني ديفد ميليباند ( ،)David Milibandالذي كان يبذل جهودًا كبيرة
الستئناف عملية السالم.
التقى الوزراء المدعوون (ما عدا وزير خارجية سوريا الذي تعَّذر عليه الحضور) في عمان في
الحادي عشر من نيسان/إبريل ،وبحثوا إمكانية التحدث إلى الواليات المتحدة حول عدد من
اإلجراءات التي من شأنها بناء الثقة بين إسرائيل والدول العربية .كان الموقف أنه يمكن تفعيل هذه
اإلجراءات إذا َجّم دْت إسرائيل بناَء المستوطنات تمهيدًا الستئناف المفاوضات ،وأعادت األوضاع
إلى ما كانت عليه قبل اندالع االنتفاضة الثانية في العام .2000وكانت هذه اإلجراءات ستشمل
استئناف بعض العالقات التي كانت قد نشأت في العام 1994بعد توقيع معاهدة السالم بيننا وبين
إسرائيل .ففي تلك المرحلة افُتتحت مكاتب تجارية إسرائيلية في بعض البلدان العربية ،وقد تزايدت
حركُة الناس والبضائع التجارية ،وُسمح لإلسرائيليين بزيارة بعض البلدان العربية التي لم تكن بينها
وبين إسرائيل عالقات دبلوماسية .لكن معظم ذلك توقَف في العام 2000بعد انهيار مفاوضات كامب
ديفد واندالع االنتفاضة الثانية .أقِفلت المكاتب التجارية ولم يعد هناك أّي تواصل بين إسرائيل
والبلدان العربية ،باستثناء مصر واألردن ،على الرغم من أن عالقاتنا مع إسرائيل هي أيضًا
تراجعت .لم نكن بصدد أن نعرض على إسرائيل تطبيع العالقات ،بل إجراءات تسهم في إيجاد بيئة
إيجابية تسّه ل استئناف المفاوضات.
وافقُت على نقل هذا العرض إلى الرئيس األميركي الجديد.
في أواخر نيسان/إبريل من العام 2009وصلُت إلى واشنطن ،كأول قائد عربي يزور البيت
األبيض منذ االنتخابات الرئاسية .اجتمعت إلى الرئيس على حدة في غرفة طعامه الصغيرة الخاصة
بجانب المكتب البيضاوي .وقد ُعقد اللقاء في جٍّو من االرتياح التام .يتمتع الرئيس أوباما بثقاقٍة
ومعرفٍة بالعالم خارج الحدود األميركية ،ولديه مقاربٌة متوازنة حياَل األمور التي يتطرق إليها .رجل
دمث ،يعطي أوباما االنطباع وهو يحدثك كأنَك صديٌق قديم .قال لي إن التحديات التي يواجهها
بالنسبة إلى الشرق األوسط كثيرٌة جّدًا ،لكن قبل أن يبحَثها معي يريد أن يسمع ما لدّي أوًال.
قلت له إنني أرى أن من الضرورة الحتمية استئناَف المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين في
أقرب وقت ممكن ،وإن علينا أن نتقدم بسرعة نحو تحقيق حل الدولتين ،ألن العداء المتنامي بين
إسرائيل والفلسطينيين من شأنه أن ُيلقي مبدأ االتفاق من خالل التفاوض في غياهب المجهول .أما
العامل الكفيل بزيادة األوضاع تفجيرًا وتوترًا فهو سرطان االستيطان اآلخذ في االنتشار في
األراضي الفلسطينية المحتلة.
كذلك قلت للرئيس إن التشاؤم يغلب على أجواء القادة العرب بالنسبة إلى التوصل إلى السالم،
لدرجة أن البعض طالب في أعقاب حرب غزة بسحب المبادرة العربية للسالم ،لكن األمل ال يزال
يحدو بعضًا منا نتيجة ما أبداه هو من اهتمام بالسالم وتفاعله المبكر مع المشكلة .ثم أضفت قائًال :إذا
بادرت الحكومة اإلسرائيلية إلى اتخاذ خطوٍة شجاعة كتجميد بناء المستوطنات ،المطلب الذي أجمَع
عليه منذ زمٍن بعيد الفلسطينيون والعرب والعديد من أعضاء المجتمع الدولي ،عندئٍذ سنكون
مستعدين للعودة إلى األجواء التي كانت سائدة قبل اندالع االنتفاضة الثانية ،وسنقترح خطوات
ملموسة لبناء الثقة من شأنها أن تحسن ظروف استئناف مفاوضات السالم.
بعد ذلك تحدثت إلى الرئيس بصراحٍة وصدق عن رئيس الحكومة اإلسرائيلية الجديد الذي كان
على موعٍد لزيارة واشنطن بعد بضعة أسابيع استنادًا إلى خبرتي السابقة في التعامل معه .قلُت له:
«السيد الرئيس ،نتنياهو سوف يزورك قريبًا وسوف يتحدث عن أربعة أمور :إيران ،ثم إيران ،ثم
إيران ،ثم سيشكو إليك أن ال شريك فلسطينيًا له لتحقيق السالم معه» .قلت له من الخطأ تركيز
الحديث بينكما على إيران .إن السبيل األمثل ،في تقديري ،لمعالجة المسائل الرئيسية في الشرق
األوسط يكمن في حل الصراع اإلسرائيلي -الفلسطيني .أما بالنسبة إلى الشريك الفلسطيني ،فإن هذا
الشريك سوف يصبُح قوّيًا وقادرًا إذا ما اتجه اإلسرائيليون ولو مرًة واحدة بجديٍة وصدق نحو تحقيق
السالم .وفي واقع األمر يمكننا القول ،ونحن مرتاحو الضمير ،إن الفلسطينيين لم يكن لديهم شريٌك
في عملية السالم منذ انتخاب شارون في العام .2001
قال الرئيس إنه لن يقفز إلى االستنتاجات قبل أن يتحدث إلى نتنياهو ،وهو يريد أن يتيَح له مجاًال
لتفسير موقفه ،لكنه أضاف إنه لن يتساهل حياَل مسألة المستوطنات .وهنا ذكرُت الرئيس بما لدّي
من خبرٍة مع نتنياهو ،وتمنيُت عليه أال يأخَذ كل ما يفيض به رئيس الوزراء اإلسرائيلي من الوعود
كأنه باَت في حّيز التنفيذ ،ذلك أنه تراجَع في السابق عن العديد من االلتزامات .هنا قال لي الرئيس
إنه سيسعى بتصميم إلى تحقيق حل الدولتين.
انتهى اجتماعنا الثنائي بعد هذا الحوار ببضع دقائق ،ثم انضَّم إلينا أعضاء الوفدين في اجتماع
موسع انتقلنا بعده إلى عقد مؤتمٍر صحافي مشترك حيث قال الرئيس:
أنا داعم ومؤّيد لحل الدولتين ...ما نريد أن نقوم به هو أن نخرج من الهاوية لكي
نقول مهما كانت الصعوبات التي قد تعترضنا ،فإن إمكانات السالم ال تزال قائمة ،لكنها تتطلب
خياراٍت صعبة ،وتصميمًا من جميع األطراف المعنية .كما تتطلب أن نتفق على خطواٍت ملموسًة
تتخذها جميع األطراف إثباتًا لتصميمها على الوصول إلى السالم .والواليات المتحدة سوف تنخرط
بجدية في هذه العملية سعيًا إلى تحقيق تقدم فيها.
تشجعت وقلُت في نفسي إن هناك أمًال في العودة قريبًا إلى طاولة المفاوضات ،وجدّيًا هذه المرة.
قلت إن المهمة التي علينا القيام بها هي توزيع الخطوات على مدى الشهرين المقبلين لنتيح
للفلسطينيين واإلسرائيليين من جهة ،والفلسطينيين والعرب من جهٍة ثانية ،أن يجلسوا إلى الطاولة
طرفًا مقابَل طرف ويدفعوا هذه العملية إلى األمام.
بعد ذلك اتجهُت إلى وزارة الخارجية لمقابلة الوزيرة كلنتون .كنت قد التقيُتها قبل سنوات عديدة
وسط ظروٍف مختلفة تمامًا ،وقد سَّر ني اللقاء بصديقٍة قديمة فيما كنت أقوم بزيارة رسمية .تحدثنا
عن سُبل تحسين أوضاع الفلسطينيين وكيفية خلق األجواء المناسبة والضرورية للوصول إلى اتفاٍق
ناجح .قلت لها إنني أعتقد أن السلطة الوطنية الفلسطينية شريٌك ذو صدقية في الجهود التي ُتبذل من
أجل السالم ،وإننا سنعمل مع بعض الدول العربية األخرى لتوفير الدعم الالزم لرئيس الحكومة
الفلسطينية سالم فياض الذي قّدم استقالته إلى الرئيس محمود عباس كي يتيح تأليف حكومة وحدة
وطنية مع حماس .لكّن المحادثات مع حماس لم تؤِّد إلى أية نتيجة .بعد عودتنا من الواليات المتحدة
ببضعة أسابيع تحرك عباس لتأليف الحكومة من دون حماس ،وقد أقسم فياض اليمين القانونية في
التاسع عشر من أيار/مايو .كانت حكومته ،التي حازت الدعَم من معظم الدول العربية ،مستعدًة
وقادرة على أن تكون شريكًا في العملية السلمية .فياض ملتزم بالمفاوضات السلمية سبيًال إلى حل
الصراع مع إسرائيل على أساس قيام دولتين متجاورتين .في واليته األولى رئيسًا للوزراء ،التي
بدأت في حزيران/يونيو من العام ،2007بعد أن سيطرت حماس على غزة ،حاز فياض احترام
الحكومات العربية والغربية عندما نجح في بناء المؤسسات الفلسطينية ووَّفر الحكَم الصالح .صحيح
أن المنطقة عانت من حرٍب وحشية في غزة في كانون الثاني/يناير ،لكّن الصحيح أيضًا أن ُفرص
تحقيق السالم كانت في تلك المرحلة أفضَل منها طواَل العقد الذي مضى .كان لدينا رئيس أميركي
جديد ما إن تسّلم سلطاته حتى بدأ يشارك في جهود السالم مشاركًة جدية ،كما عّبر عن نيته
الواضحة بأن يقاِر َب العالَم اإلسالمّي على أساس االحترام المتباَدل والمصالح المشتركة .كذلك كانت
لدينا قيادٌة فلسطينية داعمة لمسيرة السالم ومستعدة للتضحية من أجل الوصول إليه .وال ننَس أننا كنا
نتمتع بالدعم القوي من القسم األكبر من العالم العربي الذي أبدى رغبَته في تطبيع عالقاته مع
إسرائيل ودمجها كلّيًا في نسيج المنطقة على أساس مندرجات المبادرة العربية للسالم.
العقدة الوحيدة في كل هذا المشهد تتمثل برئيس الوزراء اإلسرائيلي الجديد بنيامين نتنياهو .إذا
نظرنا إلى رئاسته األولى للحكومة تعوُد بنا الذاكرة إلى رجٍل هجومٍّي متشدد يرفض المساومة.
وفيما كنُت في طريق العودة إلى عمان كنت أتساءل عما إذا كانت السنوات العشر الماضية قد
غَّيرت فيه شيئًا .ال بد من االنتظار لمعرفة الجواب.
في الرابع عشر من أيار/مايو طار نتنياهو إلى عمان ،ولم أكن متفائًال بما سُيفضي إليه االجتماع،
ذلك أن تعامالتنا في السابق لم تكن مجدية .بدأنا المحادثات في لقاء ثنائي ،وبدا نتنياهو على شيء
من عدم االرتياح ،لعّله أيضًا تذّكر اللقاء األخير بيننا.
في محاولٍة لكسر الجليد بيني وبينه ،قلت« :السيد رئيس الوزراء ،تهانينا على فوزك في
االنتخابات» .أجاب بابتسامة ،فقررُت أن أدخل في صلب الموضوع مباشرة« :أنا أعلم أنه بالنسبة
إليك ُتعتبر حياُة كل مواطٍن إسرائيلي مقدسة .لكنني أعتقد يقينًا أن أفضل السبل لحماية مواطنيك هو
أن تتوصل مع الفلسطينيين إلى سالم عادل ودائم مبنّي على أساس إقامة الدولة الفلسطينية» .قلت له
إن هدفي هو المساعدة في إقامة السالم بين إسرائيل والعرب ،وإن الدول العربية ملتزمة بالسالم
الشامل الذي سيتيح إلسرائيل أن تقيم عالقاٍت كاملة وطبيعية مع البلدان العربية واإلسالمية ،ال
مجرد تبادل سفارات .قلت إنني أؤمن بقوة بأن العالقات السلمية بين إسرائيل وجيرانها العرب سوف
تضمن أمَننا الجماعّي ،كما أنها ستأتي بمنافع اقتصادية جمة لجميع األطراف .تحدثت عما سيجنيه
االقتصاُد اإلسرائيلي من االستثمارات العربية ،وعن احتماالت االستثمار اإلسرائيلي في العالم
العربي.
عندما أدرك نتنياهو أنني ،على الرغم من الخالفات بيننا ،أحاوُل جاهدًا أن أجَد أرضيًة مشتركة
بيني وبينه ،شعر بشيء من االرتياح .قال لي إنه في التاسعة والخمسين ،أي إن عمره من عمر دولة
إسرائيل تقريبًا ،وإنه للمرة األولى في ستين سنة يرى أن إسرائيل والعرب يواجهان تهديدًا من
مصدٍر واحد .كنُت قد حّذرت الرئيس أوباما من أن نتنياهو عندما يجتمُع به سوف يرّكز بحَثه معه
على إيران ،وها هو يفعل الشيء نفسه معي أنا!
«إذا شئَت أن نشعَر بأن إيران تهديٌد مشترك لنا ولكم» ،قلُت له« :فإن علينا في البداية أن نجد حًاّل
للمشكلة األساس التي تعاني منها منطقُتنا وهي الصراع العربي -اإلسرائيلي .هي ذي بالضبط
المشكلة التي تعنينا بالدرجة األولى ،وهي المشكلة التي تستطيعون أكثر من سواكم العمل على
حلها» .ثم حثثُته على اتخاذ خطواٍت جدية باتجاه تحقيق السالم مع الفلسطينيين ،وقلت له ال بد من
وقف بناء المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية ،فهذه المستوطنات تقضُم األراضي
المفترض أن تكون جزءًا من الدولة الفلسطينية ،كما تهدد جوهَر حل الدولتين .كذلك شّددُت على
ضرورة أن يفهم المكانة المقدسة لمدينة القدس لدى كل مسلمي العالم وأن يوقف كل األعمال
األحادية الجانب في المدينة المقدسة.
قال لي نتنياهو إن هناك أمورًا ال يمكنه التحدث عنها علنًا بسبب الضغوط السياسية الداخلية ،ومن
هنا فإن الحديث عن الحل المبني على أساس قيام دولتين ،والكالم على وقف بناء المستوطنات ليس
أمرًا سهًال بالنسبة إليه .لكنه أعرَب عن الرغبة في إحراز تقدم نحو السالم قائًال إنه مدرك تمامًا
مدى أهميته .أجبته« :إذا كنَت تريد السالم حّقًا ،فإن هناك إشاراٍت مهمة يمكنك إرسالها إلى العالم
العربي .عليك أن تقنَعنا بأنك ملتزم بتحقيق شيٍء ما خالل األشهر المقبلة ،وإال فإن دعَم الدول
العربية ،بما فيها المملكة العربية السعودية ،لمبادرة السالم العربية سوف يتالشى وينتهي».
كان اجتماعنا أفضل بكثير مما توقعت .بدا نتنياهو رجًال مختلفًا عن الرجل الذي عرفُته قبل عشر
سنوات .لم يرفض كل ما قلته له رفضًا قاطعًا ،وبدا راغبًا في إحراز شيء من التقدم ،لكنني كنت
مدركًا أن ما ُيثبت نواياه هو األعمال وليس الكالم.
بعد أربعين دقيقة من الحديث المغلق بيني وبينه انتقلنا إلى لقاء موّسع مع أعضاء فريقينا ،وما إن
بدأنا ندخل في بعض التفاصيل المتعلقة بالعملية السلمية حتى قال نتنياهو إنه يريد التركيز على
المسار االقتصادي.
في الرد عليه قلت إن اإلمكانات والفرص االقتصادية ال يمكن أن تكون بديًال من االستقالل
السياسي للشعب الفلسطيني ،ثم قلت له مشددًا« :ماذا عن المسار السياسي؟ في ضوء ما يعرفه
العرب عن تاريخك ،ال شك في أنهم يتوقعون منك التركيز على المسائل االقتصادية واألمنية على
حساب مفاوضات السالم».
أوحى نتنياهو بأنه تقبل مالحظاتي وقال ربما من األفضل البدء بمناقشة المسار السياسي ،لكنه مع
ذلك لم يعط أي إشارة عما يمكن أن يكون مستعّدًا للقيام به في هذا المجال.
«هذا هو الصواب والحكمُة بعينها» ،قلُت له ،آمًال أن تصَل الرسالُة واضحة.
غادر نتنياهو ،وأخذُت أفكر في النقطة التي وصلنا إليها .نتنياهو رجُل اليمين بامتياز ،لكن مع ذلك
لم أفقد األمل في أن نتمكن من العمل معًا لعّلنا نأتي بالسالم إلى منطقتنا .لدينا المبادرة العربية
للسالم ،ولدينا رئيس أميركي ملتزم قضية السالم .هل من المبالغة في التفاؤل أن يكون لدينا رئيس
حكومة إسرائيلي ذو نظرة براغماتية إلى األمور قد يريد أن يترك وراءه إرثًا من السالم؟
الفصل السابع والعشرون :إسرائيل القلعة أم السالم مع سبع وخمسين دولة؟
طوال الربيع وأوائل الصيف من العام 2009كنت متفائًال بأننا على وشك أن نفتح ثغرًة في
الحائط المسدود ونستأنف منها المسار نحو السالم .فقد كان هناك ما يدعو إلى االعتقاد أن
األميركيين سوف يطرحون خطتهم للسالم قريبًا .في الرابع من حزيران/يونيو ،بعد زيارة نتنياهو
إلى األردن بثالثة أسابيع ،سافر الرئيس أوباما إلى القاهرة حيث ألقى خطابًا على درجة كبيرة من
األهمية وّج هه إلى العالمين العربّي واإلسالمي .في كالمه عن الحاجة الماسة والملّح ة إلى إحالل
السالم بين إسرائيل والفلسطينيين ،قال:
ولكننا إذا نظرنا إلى هذا الصراع من هذا الجانب أو من الجانب اآلخر فإننا لن نتمكن من رؤية
الحقيقة ألن السبيل الوحيد للتوصل إلى تحقيق طموحات الطرفين يكون من خالل دولتين يستطيع
فيهما اإلسرائيليون والفلسطينيون أن يعيشوا في سالم وأمن .إن هذا السبيل يخدم مصلحة إسرائيل
ومصلحة فلسطين ومصلحة أميركا ولذلك سوف أسعى شخصيًا للوصول إلى هذه النتيجة متحليًا
بالقدر الالزم من الصبر الذي تقتضيه هذه المهمة.
لكّن حزيران/يونيو أفَل وجاء بعده تموز/يوليو وهذا انتهى وأطّل بعده آب/أغسطس ،ومع مرور
األيام بات التقدم الذي كنا أملنا تحقيقه قبل بضعة أشهر يبتعد كما السراب .رفض اإلسرائيليون
االلتزام بوقٍف كامل لبناء المستوطنات ،وهو الشرط األساسّي في نظر العالم العربي إليجاد البيئة
المناسبة إلطالق مفاوضات جدية .هذا الموقف اإلسرائيلي جاء بمثابة التحدي للمطالب المباشرة
التي عّبر عنها الرئيس أوباما واالتحاد األوروبي وبقية بلدان المجتمع الدولي .لكن هذا المطلب الذي
جاء بشبه إجماع دولي لم يكن كافيًا لتغيير موقف نتنياهو الذي اكتفى بأن يعلن في 25تشرين الثاني/
نوفمبر من العام ،2009بعد الكثير من الضغط األميركي والمواجهات العلنية ،وقفًا جزئّيًا لبناء
مستوطنات جديدة في الضفة الغربية وعلى مدى عشرة أشهر فقط ،يستثني القدس الشرقية وال
ينطبق على 2900بناء كانت قيد اإلنشاء.
بدا واضحًا أن جهود صنع السالم كانت أمام سٍّد مغلق واألمل بأي انفراج كان يتضاءل .وقد سّدد
هذا المآل ضربة موجعة لصدقية الرئيس أوباما وقادة االعتدال في العالم العربي .نحن لم نكن نعمل
في الفراغ ،والمتشددون في المنطقة الذين ال يؤيدون مفاوضات السالم لم يضّيعوا أّي دقيقة في
مهاجمة العملية السلمية باعتبارها مقاربًة خاطئة ثبَت أنها غير فّعالة في إنهاء االحتالل.
ظهرت في مرحلٍة معينة من تلك الفترة إشارات إلى أن خطة سالٍم أميركية سوف ُتعلن في أيلول/
سبتمبر عندما يلتقي زعماء العالم ،بمن فيهم رئيس الحكومة اإلسرائيلية نتنياهو والرئيس الفلسطيني
محمود عباس ،في نيويورك لحضور اجتماع الجمعية العمومية لألمم المتحدة .بطلب من أوباما ،عقد
عباس ونتنياهو أول اجتماٍع لهما منذ انتخاب األخير قبلئٍذ بستة أشهر .لكّن االجتماع انتهى دون أية
نتيجة .فقد رفضت الحكومة اإلسرائيلية القيام بالخطوات الالزمة الستئناف مفاوضات السالم.
باإلضافة إلى وقف المستوطنات ،طالَب الفلسطينيون الحكومة اإلسرائيلية بتأكيد اعترافها والتزامها
بكل االتفاقات السابقة ،كذلك طالبوا بالتزاٍم إسرائيلي واضح بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على
األراضي التي احُتَّلت في العام ،1967مع تبادٍل متفٍق عليه لبعض األراضي .أما نتنياهو فكان
حاسمًا بأنه لن يغير موقفه من المستوطنات ،ولن يلتزم بأية اتفاقات سابقة وال بأٍّي من المرجعيات
المعتمدة للمفاوضات.
***
منذ أن احتلت إسرائيل الضفة الغربية والقدس الشرقية في العام 1967والحكومات اإلسرائيلية
المتعاقبة تسمح بإنشاء المستوطنات في األراضي الفلسطينية المحتلة .هناك في الوقت الراهن حوالى
مئة وعشرين مستوطنة مرّخ صة من الحكومة ٍاإلسرائيلية ،باإلضافة إلى حوالى مئة «بؤرة
استيطانية» أنشئت على أيدي المستوطنين اإلسرائيليين من دون ترخيص رسمي من الحكومة ،هذا
فضًال عن أكثر من عشرين مستوطنة في مدينة القدس .هذه المستوطنات تؤوي أكثر من نصف
مليون مستوطن ،يعيش أكثر من مئتي ألف منهم في مدينة القدس .كل هذه المستوطنات هي إنشاءاٌت
غير قانونية بموجب القانون الدولي ،ذلك أنها أقيمت على أراٍض ما فتئت األمم المتحدة تدعو
إسرائيل لالنسحاب منها .إن تجميد إنشاء المستوطنات كان جزءًا جوهرّيًا من مضمون خريطة
الطريق التي ُو ِض عت في العام ،2003ولطالما كان موقف الفلسطينيين مطالبًا بوقف بناء
المستوطنات وتمّددها شرطًا ضروريًّا مسبقًا لنجاح أية مفاوضات .المشكلة هنا هي أن المستوطنات
تقّو ض فرص قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة .وفيما توّد إسرائيل أن ُتظهر تجميد بناء
المستوطنات على أنه تنازل كبير من جانبها (وهو تنازل رفضت حتى اآلن تقديمه) ،فإن حقيقة
األمر هي أن وقف بناء المستوطنات ما هو إال التزام بمندرجات القانون الدولي.
في األسابيع التي سبقت اجتماع الجمعية العمومية لألمم المتحدة في أيلول/سبتمبر من العام
،2009وعلى الرغم من الضغط األميركي الشديد ،رفض نتنياهو الموافقة على التجميد الكامل لبناء
المستوطنات ،ولم يكتِف بذلك بل إن مستوطناٍت جديدة ُم نحت الترخيص ببنائها .المشكلة التي تثيرها
هذه المستوطنات بوجه الفلسطينيين والعرب الذين يقفون وراءهم واضحة وجلية :كيف يستطيع
محمود عباس الجلوس إلى طاولة مفاوضات بحثًا عن اتفاق سالم وأمامه مفاوٌض يعمل يومّيًا على
خلق وقائع على األرض تغّير الديموغرافيا والجغرافيا لألرض التي من المفترض أن ُتنشأ عليها
الدولة الفلسطينية؟ إذا صدقت الحكومة اإلسرائيلية في التزامها بحٍّل قائم على مبدأ الدولتين ،فلماذا
تستمر ببناء المستوطنات على األرض التي ستصبح تابعة للدولة الفلسطنية؟ هل تبني الحكومة
اإلسرائيلية منازل ومساكن مجانية للفلسطينيين؟ األمر ال يبدو كذلك .من هنا فإن رفضها وقف
النشاط االستيطاني قد أثار شكوكًا مشروعة حول التزامها بإقامة الدولة الفلسطينية.
في 23أيلول/سبتمبر ألقى الرئيس أوباما خطابًا على جانٍب من األهمية ،وفي هذا الخطاب الموَّج ه
إلى الجمعية العمومية لألمم المتحدة ،أعلن الرئيس األميركي:
إننا نواصل دعوة الفلسطينيين إلى إنهاء التحريض ضد إسرائيل ،كما نواصل التأكيد أن أميركا ال
تقبل مشروعية استمرار االستيطان اإلسرائيلي.
لقد آن األوان -لقد آن األوان إلعادة انطالق المفاوضات دون أي شروٍط مسبقة
تتعلق بقضايا الوضع النهائي :األمن لكٍّل من اإلسرائيليين والفلسطينيين ،والحدود ،والالجئين،
والقدس .أما الهدف فواضح :دولتان تعيشان جنبًا إلى جنب بسالم وأمن -دولة يهودية إلسرائيل مع
توفر األمن الحقيقّي لإلسرائيليين ،ودولة فلسطينية مستقلة ،قابلة للحياة ،ذات أراٍض متجاورة ُتنهي
االحتالل الذي بدأ في العام ،1967وتحقق للشعب الفلسطيني إمكاناته وطموَح ه.
في هذا الخطاب وفي خطابه اآلخر في حزيران/يونيو من العام 2009حدد أوباما السياسة
األميركية بتعابير واضحة وجلية ،ونحن في األردن نصُف هذا الموقف السياسي األميركي بأنه
«شروط أوباما المرجعية» للمفاوضات حول السالم العادل والدائم الذي يخدم المصالح اإلسرائيلية
والفلسطينية واألميركية والعالمية.
فيما تحّو ل أمُل الربيع خيبًة خريفية ،انشغلت اإلدارة األميركية بتراكم القضايا والمشكالت الملّح ة،
أفغانستان وباكستان من جهة ،تطورات جديدة في مسألة البرنامج النووي اإليراني ،إصالح نظام
الرعاية الصحية ،وهذه المسألة األخيرة وضعها أوباما في رأس أولوياته الداخلية .هذا فضًال عن
استمرار تداعيات األزمة المالية العالمية .هذه القضايا بقيت تشكل نقاط االهتمام الرئيسية بالنسبة إلى
الواليات المتحدة األميركية طوال األشهر األولى من العام ،2010األمر الذي حاَل دون أن تتمكن
اإلدارة من إيالء العملية السلمية اهتمامها الكامل .في هذه الفترة بالذات رحنا نواجه أزمة كبرى،
فعلى الرغم من الكالم المشجع الذي صدر عن الرئيس أوباما لم يكن لهذا الكالم دوٌر يذكر في تغيير
الحقائق على األرض ،وهكذا حّلت الخيبة محَّل األمل.
فيما ندفع بهذا الكتاب إلى المطبعة نكون قد أصبحنا على مشارف الذكرى العشرين للعملية
السلمية التي انطلقت من مدريد في تشرين األول/أكتوبر من العام .1991لكن التناقض بين اليوم
وذلك األمس أكبر بكثير مما نتصور ونحن اآلن في موقع تفوق فيه الظلمة كل ما عرفناه منذ
عشرين سنة .آنذاك التقى الفلسطينيون واإلسرائيليون وجهًا لوجه ليبدأوا التفاوض حول مستقبٍل
مشترك كان كل منهما ينظر إليه بأمٍل ورجاء .لقد تراجعنا بكل المقاييس عندما أصبحنا ال نتكلم عن
المفاوضات المباشرة بل عن «محادثات تقريبية» يتحرك فيها الوسيط (الواليات المتحدة) بين
اإلسرائيليين والفلسطينيين.
المحادثات التقريبية انبثقت في مطلع العام 2010بعد جهود استمرت ما يقارب سنًة كاملة بذلها
المبعوث األميركي الخاص إلى الشرق األوسط جورج ميتشل في محاولة إلطالق المفاوضات
المباشرة .لكن جهوده لم تحرز حتى اآلن التقدم المطلوَب ،ذلك أن نتنياهو بقي متمسكًا بموقفه غير
المساوم من بناء المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية ،وهو ال يزال يرفض استئناف
المفاوضات على أساس االتفاقات التي عقدها الفلسطينيون مع حكوماٍت إسرائيلية سابقة بعد توقيع
اتفاقات أوسلو.
لقد دعمت الدول العربية جميعًا مشاركة القيادة الفلسطينية في المحادثات غير المباشرة باعتبارها
بديًال من وقف التواصل بصورٍة تامة ،ألن هذه المحادثات تبقي األمل قائمًا بتحّو لها مفاوضاٍت
مباِش رة وجدية .لكننا كنا مدركين أننا كمن يحاول القبض على الريح ،فقد دعمنا المحادثات التقريبية
اعتقادًا منا بأن تالشي جهود السالم أو توقفها لن يفيد إال أصحاب المواقف المتصلبة الذين
سيستغلون فشل إحياء المفاوضات لدفع برنامجهم المتطرف إلى الواجهة .أما نتنياهو فسيكون
المستفيد األكبر من قرار فلسطيني بعدم المشاركة في المحادثات التقريبية .وما إن أخذ يتعرض
للمزيد من الضغط األميركي والدولي حيال استمراره في بناء المستوطنات وبالتالي عرقلة استئناف
المفاوضات ،حتى اشتدت به الرغبة الستفزاز الفلسطينيين والدول العربية ودفعهم إلى االنسحاب من
متابعة جهود السالم بما يتيح له االّدعاء مرًة جديدة أنه يفتقد الشريك في مفاوضات السالم.
في نيسان/إبريل من العام 2010سافرت إلى الواليات المتحدة واجتمعت إلى الرئيس أوباما في
واشنطن ،ومرًة جديدة كان الصراع الفلسطيني اإلسرائيلي محور محادثاتنا .كان كالنا يشعر بالخيبة
والقلق بسبب عدم إحراز أي تقدم خالل السنة الفائتة ،ولكننا لم نفقد األمل في أن تؤتي المحادثات
التقريبية ثماَر ها قريبًا وتمهد الطريق إلى المفاوضات المباِش رة .بعد االجتماع كان واضحًا بالنسبة
إلّي أن الواليات المتحدة لم تكن مستعدًة بعد لطرح خطتها لدفع الفريقين نحو التسوية النهائية .كانت
اإلدارة ترغب في أن يبدأ الطرفان المحادثات التقريبية أوًال بحيث تتمكن بنتيجتها من تقييم الوضع
قبل أن تدلي بما لديها من أفكار ومقترحات.
خرجت من االجتماع ولدّي اليقين من أن الرئيس مستمر في التزامه بذَل الجهد لحّل الصراع
الفلسطيني -اإلسرائيلي .لكنني أيقنت أيضًا أننا لن نحرز تقدمًا حقيقّيًا قبل مضّي بعض الوقت ،وذلك
بسبب تعنت نتنياهو وتصلبه .من هنا كان شعوري بأن مهمتنا األساسية في هذه المرحلة هي الحؤول
دون انطفاء شعلة األمل ريثما تصبح الواليات المتحدة مستعدة لوضع ثقلها ونفوذها وراء الفريقين
دفعًا بهما إلى استئناف المفاوضات الجدية بنّية التقدم نحو تحقيق التسوية .ال قدرة لمنطقة الشرق
األوسط على أن تفقد األمل مرًة أخرى بتحقيق السالم ،فالنتيجة الحتمية لذلك هي الحرب.
في آذار/مارس الماضي ،وفي اللحظة التي كان نائب الرئيس األميركي جو بايدن يزور فيها
إسرائيل أعلن اإلسرائيليون خططًا لبناء ألف وستمئة وحدة سكنية استيطانية في القدس الشرقية
المحتلة.
أحرجت هذه الخطوة نائب الرئيس األميركي وأغضبته ،وشكلت تحديًا لسلطة الواليات المتحدة.
ألغى جورج ميتشل زيارته التالية للمنطقة ،وأجرت هيالري كلنتون مكالمة هاتفية بنتنياهو لتسجيل
احتجاج أميركي رسمي على الخطوة اإلسرائيلية .بنتيجة هذه التطورات تبادلت واشنطن وتل أبيب
بعض الكلمات القاسية ،وقد جاء هذا التراشق الدبلوماسي الساخن في أعقاب خالف علني بين
اإلدارة األميركية وإسرائيل خالل الخريف السابق وكان أيضًا حول تجميد بناء المستوطنات وسط
تزايد االنتقادات الدولية إلسرائيل بسبب عرقلتها عملية السالم .أما االتحاد األوروبي فكان ذا صوٍت
مرتفع في التنديد بسياسة إسرائيل االستيطانية ووطأتها السلبية على مساعي السالم .في الثامن من
كانون األول/ديسمبر من العام ،2009خالل تولي السويد رئاسة االتحاد األوروبي ،عّبر مجلس
الشؤون الخارجية فيها عن قلقه العميق حيال غياب أّي تقدم ،ودعا إلى استئناٍف سريع للمفاوضات
التي تؤدي« ،في إطاٍر زمني متفٍق عليه ،إلى حٍّل مبنّي على قيام دولتين ،الدولة اإلسرائيلية ،والدولة
الفلسطينية المستقلة الديموقراطية المترابطة جغرافيًا والقابلة للحياة ،بحيث تعيش الدولتان جنبًا إلى
جنب بسالم وأمن».
وأضاف المجلس قوَله« :إن المستوطنات والجدار العازل قد ُأنشئت على أراٍض محتلة ،وإن هدم
المنازل وطرد سكانها ،هي أعمال غير قانونية بموجب القانون الدولي ،وتشكل عائقًا في سبيل
السالم وتهدد بجعل الحّل القائم على أساس الدولتين حًاّل مستحيل التحقيق» .وتابع المجلس كالمه
فحّث الحكومة اإلسرائيلية على أن «توقف فورًا كل النشاطات االستيطانية في القدس الشرقية وسائر
أرجاء الضفة الغربية بما فيها النمو الطبيعي ،وأن تفكك التجمعات االستيطانية النائية التي ُأنشئت
منذ آذار/مارس من العام ،»2001وهذا ما نّص ت عليه المرحلة األولى من خريطة الطريق التي
اعُتمدت في العام .2003
كذلك أشار المجلس في بيانه إلى أنه لم يعترف يومًا بضم إسرائيل القدس الشرقية ،مشددًا على أنه
«إذا كان للسالم الحقيقي أن يستتب ،فال بد من إيجاد طريقة من خالل المفاوضات لحّل مسألة
الوضع النهائي للقدس على أساس كونها العاصمة المستقبلية لدولتين» .وفي بياناٍت الحقة أدان
االتحاد األوروبي بقوة إعالن إسرائيل بناء مستوطناٍت جديدة.
في نيسان/إبريل من العام 2010أعربت وزيرة خارجية إسرائيل سابقًا ،تسيبي ليفني ،عن خيبتها
حيال ما يصيُب موقع إسرائيل في المجتمع الدولي من تراجع ،وكتبت في هذا الصدد« :إن العالم
اليوم يجهل ،في أحسن األحوال ،ماهيَة السياسة اإلسرائيلية ،أما في أسوأ األحوال فإن العالم ال يثق
بالنوايا اإلسرائيلية».
قبيل زيارتي واشنطن حضرُت مؤتمرًا للقمة العربية في سرت في ليبيا .وقد أعاد المؤتمر تأكيد
دعمه المبادرة العربية للسالم .لكن مع مرور كل يوم دون أن يشهد شيئًا من التقدم ،يتزايد الضغط
على الجميع للتخلي عن المفاوضات وسيلًة لحل المشكلة .إن منسوب التوتر في المنطقة يرتفع
باستمرار وعلى أكثر من جبهة .فقطاع غزة ال يزال أشبه ما يكون بالسجن الكبير الذي يعيش فيه
أكثر من مليون ونصف المليون من البشر في حالٍة من البؤس المتناهي .أما القدس فهي قنبلة موقوتة
وال شك في أن إسرائيل تلعب بالنار وهي تحاول تغيير ُهّو يتها وتفريغها من سكانها المسيحيين
والمسلمين من خالل تدمير المنازل وإخالئها من السكان األصليين وبرفضها السماح بالبناء في
المدينة .وإذا التفتنا إلى الجبهة اللبنانية -اإلسرائيلية يبدوا لنا أننا على وْش ِك أن نشهد مواجهًة جديدة
حيث ال تزال إسرائيل تحتل بعض األراضي في جنوب لبنان وال يزال حزُب هللا يبني ترسانَته من
السالح ويطّو ر قدراته العسكرية .وفي خلفية كل هذه العوامل المتفجرة هناك األزمة مع إيران
وتداعياتها على أمن المنطقة.
***
انطلقت المحادثات التقريبية في أيار/مايو بعد عدة زيارات قام بها ميتشل للمنطقة .وقد ذهب
عباس إلى تلك المحادثات مدعومًا من جامعة الدول العربية التي اجتمعت لجنتها الوزارية لمتابعة
المبادرة العربية للسالم في األول من أيار/مايو ،وأعلنت أنها سوف تعود إلى االجتماع بعد أربعة
أشهر لتقييم النتائج .كان األمل معقودًا على أن تؤدي هذه المحادثات إلى االتفاق على مرجعية
لمفاوضات الوضع النهائي.
لقد دعمنا هذه المحادثات بديًال من توقف العملية السلمية ،وهذا ما كان سيشكل ضربًة خطيرة
لجهودنا في السعي نحو السالم التي مضت عليها عشرات السنين .كان أملنا أن تقّر ب المحادثات ما
بين طرفي الصراع بحيث يتمكنان من استئناف المفاوضات المباشرة .لكن حّل شهر تموز/يوليو
دون أن يتوصال إلى اتفاٍق على مرجعية المفاوضات المباشرة .موقف األردن ،مع ذلك ،كان أن
الفشل ليس خيارًا ،وهكذا استمرت محاوالتنا مع كل األفرقاء المعنيين لضمان إحراز التقدم الالزم
إلعادة الفلسطينيين واإلسرائيليين إلى طاولة المفاوضات.
عمَل السناتور ميتشل مع الفلسطينيين واإلسرائيليين على الوصول إلى اتفاق على شروط استئناف
المفاوضات المباشرة .لكن جهوده وصلت إلى طريق مسدود .فالفلسطينيون أرادوا المحادثات
التقريبية أن تتطرق إلى مسائل الحدود ،واألمن ،والالجئين ،والقدس وسواها من قضايا الوضع
النهائي .قّدم عباس إلى ميتشل مواقف فلسطينية مكتملة وشاملة حول كل هذه القضايا ،وقال له إنه
يريد الخوض أوًال في مسألتي الحدود واألمن ألن االتفاق على حدود الدولة الفلسطينية المستقبلية
سوف يسّه ل حل مشكلة المستوطنات ،بينما االتفاق على الترتيبات األمنية يعالج موضع القلق
اإلسرائيلي األهم.
لكن نتنياهو لم يكن مستعّدًا للدخول في أية مباحثات جدية .استمر يتحدث بالعموميات حول التزامه
السالم ،لكنه لم يضع أية أفكار محددة على الطاولة ،مصّر ًا على أن بحثًا من هذا النوع ال بد أن
يكون جزءًا من المفاوضات المباِش رة.
كانت الخيبة تتزايد لدى الفلسطينيين وسواهم في المنطقة يومًا بعد يوم أمام عبثية الوصول ولو
إلى بعض التقدم .أما األمل بأن تنقذ الواليات المتحدة الموقف بأن تضع اقتراحاتها على الطاولة لدفع
العملية إلى األمام فقد تالشى وذلك حين أوضح ميتشل وسواه من المسؤولين األميركيين أن واشنطن
ال يمكن أن تخاطر بوضع اقتراحاتها على الطاولة إذا كانت هناك إمكانية بأن يرفَض ها أحُد الطرفين
منذ البداية.
ما إن الح الوقت المحدد للتسوية في أيلول/سبتمبر ،وفي خطوٍة رأى فيها الكثيرون في المنطقة
نقلة أساسية في موقف الواليات المتحدة ،كّفت واشنطن عن المطالبة بالتجميد الكامل لبناء
المستوطنات شرطًا الستئناف المفاوضات المباشرة .بدأت إدارة أوباما بممارسة الضغط الستئناف
المحادثات المباشرة حتى ولو بغياب وقف بناء المستوطنات ،كما بدأت الضغط على عباس للموافقة
على الشروط الجديدة .هنا قال الفلسطينيون إنهم ال يستطيعون التفاوض المباشر مع اإلسرائيليين
دون وقف حركة االستيطان ،أو على األقل اإلعالن عن مرجعيات واضحة للجولة المقبلة من
المباحثات.
نحن الذين دعمنا المحادثات غير المباشرة تعَّر ضنا جميعًا للنقد الالذع من أولئك الذين كانوا
يعتقدون بعبثية هذه المحاولة .وقد اُّتهم عباس خاصًة بالخضوع للضغط األميركي وبالمساومة على
مصالح الشعب الفلسطيني .شعر عباس بأن دخوله في مفاوضاٍت مباشرة سيمثل انتحارًا سياسّيًا إذا
لم يحدد هدف المفاوضات في إقامة الدولة الفلسطينية على أساس حدود العام 1967مع تبادالت
طفيفة في األراضي .عادت الصورة قاتمة ال تحمل في طياتها أّي أمل لكن لم يكن بإمكاننا إال أن
نبقي بصيصًا منه لعّلنا نجد مخرجًا من هذا النفق المظلم ،ذلك أن التخّلي عن عملية السالم دون أن
نستنفد كل اإلمكانات المتاحة كان أمرًا غير وارد .إن موقفًا كهذا معناه أننا نترك المنطقة نهبًا لحالٍة
من اليأس تضعها مرًة أخرى في حلقٍة جهنمية من النزاعات والحروب.
في 23تموز/يوليو اتصل بي الرئيس أوباما هاتفّيًا ،وفي تلك الفترة كان قد أصبح مصممًا على أن
المفاوضات المباشرة هي السبيل الوحيد لكسر الحلقة المفرغة التي كنا ندور فيها .أعاد تأكيد التزامه
بحل الصراع اإلسرائيلي -الفلسطيني مشددًا على أنه سوف يذهب بالمسألة إلى نهايتها وصوًال إلى
الحل المنشود .لكن ما لم يوافق الفلسطينيون على التحدث إلى اإلسرائيليين مباشرًة فإن إدارته سوف
تكّف عن أّي تدخل في هذه القضية .أوباما كان واضحًا :إما أن يضع الفلسطينيون يدهم بيده ويعملوا
معًا لحل هذه المسألة من خالل المفاوضات المباشرة معتمدين على التزامه الكامل ،أو أن يسلكوا
الطريق الذي يختارونه ويتولوا إيجاد الحّل بأنفسهم .هذه الرسالة نفُسها أبلغها الرئيس إلى قادٍة
آخرين في المنطقة.
كان ال بد من االختيار .بعد ثالثة أيام ،في 26تموز/يوليو استقبلت محمود عباس في عمان ،وقد
اتفقنا على أن الظروف واألوضاع غير مناسبة لالنتقال إلى المفاوضات المباشرة .موقف نتنياهو
الرافض لمرجعيات المفاوضات المعتمدة سابقًا ولوقف بناء المستوطنات لم يكن مشجعًا ،وكذلك
األمر بالنسبة إلى عدم رغبة الواليات المتحدة في أن تطرح اقتراحاتها إلنقاذ الموقف خشية أن
تصطدم بحائط مسدود .لكن أن يرفض الفلسطينيون طلب واشنطن فذلك قد يكّلف الشعب الفلسطيني
غاليًا ،كما قد تكون تداعياُته سلبيًة على آمالهم حياَل إنشاء دولتهم المستقلة .إن التخلي عن العملية
السلمية ليس قرارًا يؤخذ بخفٍة والمباالة ،فالرابح الكبير من قرار كهذا ليس سوى نتنياهو الذي
سيسارع إلى صّب اللوم على الفلسطينيين متهمًا إياهم بإجهاض الجهود السلمية وممعنًا ،من جهة
ثانية ،بخلق وقائع جديدة على األرض تجعل إقامة الدولة الفلسطينية أمرًا مستحيًال .وفي الوقت ذاته
فإن الفلسطينيين ال يمكنهم تبرير الخوض في مفاوضاٍت مباشرة تبدأ من المربع األول متجاهلًة ما تم
إحرازه من تقدم في جوالٍت سابقة من المحادثات على مدى العقدين الماضيين منذ مدريد .من هنا
فقد اتفقنا على النظر ملّيًا في كل الخيارات المتاحة والتشاور مع قادة عرب آخرين حول الخطوات
التالية التي يمكن اتخاذها .كذلك اتفقنا على ضرورة استمرار المباحثات الجارية مع اإلدارة
األميركية بحثًا عن مخرج مقبول.
في اليوم التالي استقبلت نتنياهو في عمان بعد مرور سنة كاملة على زيارته األخيرة ،وقد رأيت
أن الوقت مناسب الجتماع آخر وجهًا لوجه خصوصًا أن الوضع الراهن يمّثل حالًة طارئة ال بد من
مناقشتها .قبل االجتماع الموسع حول الغداء مع أعضاء فريقينا ،قلت لرئيس الحكومة اإلسرائيلية في
لقاء ثنائي على حدة إن أمامنا فرصة ثمينة وفريدة إلعطاء شعبينا السالم الذي يحلمان به .إذا أهدرنا
هذه الفرصة ،فإن اإلسرائيليين والفلسطينيين -وشعوب المنطقة جميعًا -سوف يكونون محكومين
بالعيش وسط التداعيات والنتائج المرعبة للحروب المدمرة .عاد نتنياهو إلى الحديث بكلمات عامة
ومطاطة عن التزام حكومته بالوصول إلى اتفاق سالم مع الفلسطينيين .لكنه قال إن إسرائيل يجب
أن تضمن أمنها أوًال .قلت له إن أفضل ضمان ألمن إسرائيل هو الوصول إلى اتفاق سالم مع
الفلسطينيين ضمن إطار شامل يضمن العالقات الطبيعية مع كل البلدان العربية واإلسالمية .ثم
حثثت رئيس الوزراء على وقف بناء المستوطنات لكي يصبح ممكنًا إطالق المباحثات الجدية حول
الحدود والمسائل األساسية األخرى.
على الغداء بحثنا في ما تمتلكه المنطقة من إمكاناٍت وقدراٍت اقتصادية إذا ما تّم التوصل إلى اتفاق
سالم ،وتحدث نتنياهو عن خططه إلنشاء سكك حديد تصل حتى الحدود مع األردن وسوريا .أنا
أيضًا ذكرت أن األردن هو في صدد إنشاء خط للسكة الحديد يتصل بخٍّط سعودي جديد إلى الجنوب
الشرقي ومع سوريا شماًال .إسرائيل سيصبح في إمكانها ،متى حققنا السالم في المنطقة ،أن تربط
بين خطنا وخطها وبذلك يصبح خطها موصوًال بالبلدان العربية في الخليج وبأوروبا من خالل
سوريا .أما في الظروف الراهنة فإن شبكة الخطوط الحديدية اإلسرائيلية لن تتجاوز حدود إسرائيل.
تحدثنا عن مشاريع إقليمية أخرى على صعيد البنى التحتية التي يمكن أن تكون إسرائيل شريكة فيها
إذا نحن استطعنا تحقيق السالم الشامل .كان هدفي من التشديد على استعداد البلدان العربية
واإلسالمية لبناء عالقات طبيعية مع إسرائيل ،ومن التركيز على اإلمكانات الكبرى التي سيتيحها
التعاون اإلقليمي ،أن أشجع رئيس الحكومة اإلسرائيلية على اتخاذ الخطوات الضرورية لدفع عملية
السالم إلى األمام .انتهى اجتماعنا في أجواء إيجابية فيما تناول نقاشنا احتماالت النمو في مجال
التعاون االقتصادي الثنائي بين القطاعين العام والخاص في كل من البلدين .لكن الخروج من العقدة
التي كنا عالقين فيها كان يتطلب أكثر من مجرد الحديث عن رؤى تتعلق بالتعاون االقتصادي
المستقبلي ،وال ننَس أن الكالم المعسول لم ُيترجم في السابق إلى أعمال ملموسة .لكن نحن اآلن أمام
أخطار تفترض بنا أال نترك مسارًا يمكن أن يؤدي بنا إلى التقدم نحو السالم إال سلكناه.
في هذه األثناء كان عباس يتعرض لمزيد من الضغط .قبل اجتماٍع عقدته لجنة المتابعة للمبادرة
العربية للسالم في القاهرة في 29تموز/يوليو ،تحدث عباس عن الخيارات الصعبة التي يواجهها،
والضغوط التي تمارسها عليه الواليات المتحدة واالتحاد األوروبي الستئناف المفاوضات« :أتعرض
لضغوط لم أتعرض لها طوال حياتي السياسية لخوض المفاوضات المباشرة مع إسرائيل» .كان
ظرفًا حرجًا للغاية وهذا ما أدركه تمامًا وزراء الخارجية العرب خالل اجتماعهم في القاهرة .فبعد
مناقشات طويلة وعمٍل مضٍن قام به األردن ومصر والمملكة العربية السعودية والفلسطينيون،
وبلدان عربية معتدلة أخرى ،توافق وزراء الخارجية على مبدأ استئناف المفاوضات المباشرة ،لكنهم
تركوا لعباس أن يقرر تحديد الوقت الذي يراه مناسبًا لذلك .صاغ الوزراء رسالًة قرروا توجيهها إلى
أوباما يدرجون فيها الشروط التي رأوا ضرورة توافرها قبل استئناف المحادثات ،ومن بينها تحديد
مرجعيات واضحة للمفاوضات ،باإلضافة إلى وقف بناء المستوطنات .بهذا الموقف مَّكنت الجامعة
العربية عباس من تقييم الوضع واتخاذ قراره في ضوء هذا التقييم حول استئناف التفاوض مع
اإلسرائيليين أو االمتناع عن ذلك.
في 12آب/أغسطس التقيت الرئيس مبارك في القاهرة وبحثنا الوضع المتحرك بسرعة .كان
ميتشل ومسؤولون أميركيون آخرون قد طرحوا للبحث فكرة استضافة مصر أو األردن إعادة
إطالق المفاوضات المباشرة ودعوة وزيرة الخارجية هيالري كلنتون لحضور المناسبة .شعرنا،
كالنا ،بأن هذا غير مجٍد .واتفقنا على أن المفاوضات إذا كانت سُتستأنف فإن العملية يجب أن تكون
في عهدة الواليات المتحدة كلّيًا ،وأن المفاوضات لن تحظى بأي فرصة للنجاح إذا لم يبِد الرئيس
أوباما دعمه الكامل لها .هذا يعني أن على الرئيس األميركي إما أن يستضيف هو عملية استئناف
المفاوضات في واشنطن ،وإما أن يحضَر المناسبة سواء أكانت مصر ستستضيفها أم األردن .كذلك
اتفقُت مع الرئيس مبارك على ضرورة إيجاد صيغة تعطي الفلسطينيين بعض الضمانات حول
مرجعيات التفاوض .بعد اجتماعي مع مبارك التقيت أيضًا مع عباس الذي كان في مصر للقاء
الرئيس المصري.
نحن الثالثة ،مبارك وعباس وأنا ،كنا نرى أن استمرار انخراط الواليات المتحدة في العملية أمر
في غاية األهمية ،ولم نشأ أن يقع اللوم على الفلسطينيين في حال انهيار جهود السالم .كان ال بد من
بعض األفكار الخالقة التي تحول دون أن تغرق المفاوضات في دائرة من المناقشات العبثية التي
ُتدخل الطرفين في عمليٍة أخرى ال نهاية لها وبذلك تعِّر ض المصالح الفلسطينية للخطر.
في األيام التي تلت ،وبعد مباحثات مكثفة شملت عددًا من البلدان العربية والفلسطينيين
واألوروبيين واألميركيين ،تم االتفاق على أن ُتستأنف المفاوضات في واشنطن في الثاني من أيلول/
سبتمبر وذلك بعد احتفاٍل بإعادة إطالقها يستضيفه أوباما قبل بدئها بيوم واحد ،وقد تقرر أن يحضر
االحتفال مبارك وعباس ونتنياهو وطوني بلير ممثًال اللجنة الرباعية وأنا .كذلك تقرر أن تصدر
اللجنة الرباعية ،قبل استئناف التفاوض ،بيانًا تمهيدّيًا تعلن فيه أن الهدف من استئناف هذه
المفاوضات هو تحقيق التسوية النهائية المبنية على حل الدولتين.
في العشرين من آب/أغسطس أصدرت الرباعية بيانًا أعادت فيه تأكيد أعضائها دعَم هم
«المفاوضات المباشرة بين اإلسرائيليين والفلسطينيين لحل جميع قضايا الوضع النهائي» .كذلك
ذَّكرت الرباعية بالمواقف التي كانت قد عّبرت عنها في بياناتها السابقة ،وخاصة تلك التي أعِلنت في
موسكو في التاسع عشر من آذار/مارس من العام .2010شّددت تلك البيانات على أن المفاوضات
يجب أن تؤدي إلى «تسوية تأتي نتيجة التفاوض بين الطرفين ،وتنهي االحتالل الذي بدأ في العام
1967وتكون نتيجُتها قيام دولة فلسطينية مستقلة ديمقراطية قابلة للحياة ،تعيش بأمن وسالم جنبًا إلى
جنب مع إسرائيل وجيرانها اآلخرين».
دعت الرباعية الفلسطينيين واإلسرائيليين إلى اللقاء وَبدء مفاوضات مباِش رة في الثاني من أيلول/
سبتمبر في واشنطن ،وقد عّبرت عن «تصميمها على دعم الطرفين طوال فترة المفاوضات ،التي
يمكن أن تستكمل خالل سنة» ،وحثت الطرفين على االبتعاد عن أي أعمال استفزازية أو بياناٍت أو
تصريحاٍت نارية .الفلسطينيون من جهتهم اعتبروا بيان الرباعية مرجعية المفاوضات.
أصدرت وزيرة الخارجية هيالري كلنتون الدعوات إلى المفاوضات في اليوم ذاته .وفي رسالتيها
إلى كٍّل من اإلسرائيليين والفلسطينيين شددت كلنتون على التزام اإلدارة األميركية مبدأ السالم
الشامل في الشرق األوسط ،وقالت في هذا الصدد« :وفيما نحن نسير ُقُدمًا من المهم أن تأتي أعمال
كل الفرقاء المعنيين مساِع دًة على دفع جهودنا إلى األمام ،ال عرقلتها أو إعاقتها .صحيح أننا واجهنا
صعوباٍت في الماضي ،وال تزال أمامنا صعوباٌت أيضًا ،وال شك في أننا سنصطدم بالمزيد من
العقبات ،ولم يكَّف أعداء السالم عن محاوالتهم إْلحاق الهزيمة بنا وإفشال هذه المفاوضات ،لكنني
أتمنى على كل األطراف المعنية أن يصمدوا ويثبتوا على مواقفهم وأن يستمروا في التقدم على
الرغم من المصاعب التي قد تواجههم ويعملوا على تحقيق السالم العادل والدائم في المنطقة».
اتصلت بي كلنتون بعد ظهر ذلك اليوم لتضعني في صورة االستعدادات القائمة ولتوجيه الدعوة
إلّي .أمضيت األيام التالية أبحث مع بعض القادة العرب الخطوات التي يمكننا اتخاذها ضمانًا
إلحراز التقدم المرجو من هذه المفاوضات .التقيت خادم الحرمين الشريفين الملك عبد هللا بن عبد
العزيز والملك حمد آل خليفة ،والشيخ صباح األحمد الصباح .كذلك تشاورت هاتفّيًا مع جاللة الملك
محمد السادس ،والرئيس السوري بشار األسد .ال أحد منا كان مأخوذًا بالوهم حول مدى الصعوبة
المحيطة بالوضع .لكن معظمنا كان يرى أن المحادثات تمثل فرصًة ال بد من دعمها ومحاولة اإلفادة
منها ،على الرغم مما يبدو من تنازالت يقدمها الفلسطينيون باستئنافهم المفاوضات دون تجميد لبناء
المستوطنات ،ودون مرجعيات ترتكز عليها المفاوضات أو حتى جدول أعمال تلتزم به.
غادرت إلى واشنطن في 29آب/أغسطس ،ولكن قبل مغادرتي شعرت بضرورة توجيه كلمة إلى
الرأي العام اإلسرائيلي مباشرًة محاوًال أن أشرح مدى األهمية بالنسبة إلى اإلسرائيليين في أن
يدعموا القرارات الجريئة والشجاعة .وفي مقابلة مع التلفزيون اإلسرائيلي ُبَّثت في 28آب/أغسطس
قلت إننا بحاجة اليوم ،أكثر من أّي يوٍم مضى ،إلى سياسيين من ذوي التصميم الصلب والمواقف
الشجاعة ،مستعدين التخاذ القرارات الصعبة التي ال بد منها لتحقيق السالم .وبما أن السياسيين
يأخذهم التوتر الممزوج بالخوف عندما يواجهون المسائل الكبرى أو الخالفية ،فهم بحاجة إلى أن
يطمئنوا إلى دعم الرأي العام لهم كي يستجمعوا شجاعتهم ويخطوا إلى األمام.
من سوء الحظ أن الناس على ضفتي الصراع كانوا قد فقدوا كل أمل في العملية السلمية ،وقد أدى
الفشل الذي انتهت إليه كل الجوالت السابقة من المفاوضات إلى التآكل شبه التام ألي دعم شعبّي
للمفاوضات .منذ توقيع اتفاقات أوسلو انجرفت إسرائيل شيئًا فشيئًا نحو اليمين ،تاركًة حزب العمل
لمصلحة األحزاب القومية والدينية .كثيرون ممن دعموا العملية السلمية بعد اغتيال رابين فقدوا
األمل أو غادروا البالد .أما العالم العربي فقد خّضته من جذوره عقود طويلة من الوعود والتراجع
عنها .لقد كان للجدار العازل ،واالعتقاالت العشوائية والظالمة ،والحرب التي ُشّنت على غزة،
والغزو الذي تعّر ض له لبنان ،وطأتها الثقيلة على األوضاع ،كما زادت الظروف التي برزت جراء
الحرب على العراق الطين ِبَّلًة ورفعت من وتيرة الشكوك والبغضاء بين أطراف النزاع .كان الشك
وعدم الثقة في هذه المرحلة أقوى منهما في أّي مرحلة أخرى بسبب ما عرف عن نتنياهو من تعّنٍت
وتصّلب في مواقفه ،وكذلك بسبب ما اعُتبر تنازالٍت أساسيًة قدمها الفلسطينيون حين قبلوا باستئناف
المفاوضات قبل أن يصار إلى تجميد بناء المستوطنات.
كنُت مدركًا أن دعم المفاوضات المباِش رة في ظل هذه المعارضة من الرأي العام ستؤدي بنا ،أنا
ومبارك وعباس ،إلى الخسارة من رصيدنا السياسي ،خصوصًا أن الرأي العام في بلداننا لم يكن
متوقعًا نتائج ذات قيمة من المفاوضات .لكننا شعرنا بأن التخلي عن هذه الفرصة سيكون ثمنه باهظًا
جّدًا .فنحن لن نتحمل فترًة جديدة من تخّلي الواليات المتحدة عن دورها في عملية السالم .ها نحن
أوالء لدينا رئيس أميركي يضع كل نفوذه الشخصي وراء العملية ،فكيف لنا أن نهمل فرصة كهذه؟
إن عدم استغالل هذه السانحة لن يفيد إال الذين يريدون إفساد مسيرة السالم .عندما قابلت أوباما في
واشنطن في نيسان/إبريل من العام 2009كنت قد أكدت له أن العرب لن يتركوه هذه المرة يحمل
العبء وحده وهم يتفرجون .إننا على منعطٍف مصيرّي ،وال بد لنا من التأكد من أننا على المسار
الصحيح.
كانت األنظار كلها شاخصة إلينا عندما دخلنا ،أوباما ومبارك وعباس ونتنياهو وأنا ،إلى قاعة في
البيت األبيض تعّج بالمصورين مساَء األول من أيلول/سبتمبر .حضرنا جميعًا إلى هناك لكي نبعث
برسالة أمل ونثبت أن هناك عمًال جدّيًا قائمًا إلنهاء صراع مضى عليه عقود وبقي عصّيًا على الحل
على الرغم من محاوالت صادقة بذلها رجال من ذوي اإلرادة الحسنة .هذه الرسالة ليست باألمر
السهل في ظل ما كان سائدًا من خيبة أمل عارمة وانعدام لكل صدقية في أذهان الناس المعنيين في
المنطقة .هؤالء الناس فقدوا الثقة بالكالم وباتوا يطلبون أعماًال ملموسة وإنجازات حقيقية ،وهذا ما
عقدنا عليه األمل في الجوالت المكثفة من المحادثات اآلتية .تحدث الرئيس أوباما عن التزامه الذي
لن يهون بالوصول إلى الحل النهائي ،فيما كان مبارك واضحًا في التشديد على دعم العرب للحل،
أما أنا فبعد أن أشرت إلى ما قد يعترضنا من العقبات والمصاعب حّذرت من العواقب الوخيمة ،ال
بل الكارثية ،التي ستترتب على الفشل .عندما حان دور نتنياهو ذهب إلى أقصى ما يمكن في إبراز
صورته كرجل سالم ،وتوّج ه إلى عباس مباشرًة قائًال إنه جاء إلى واشنطن لكي يعمل على تحقيق
سالٍم تاريخّي .أما عباس فقد أبدى رفعًة الفتة عندما قال إنه يطلب الكرامَة والحرية والعدالة واألمن
لشعبه ولإلسرائيليين على حٍد سواء.
أعقَب هذه الكلمات المتلفزة مأدبة إفطار بضيافة الرئيس أوباما ،حيث جلَس عباس ونتنياهو جنبًا
إلى جنب .شدد أوباما على الحاجة إلى أن يساعد القائدان أحُدهما اآلخر ،وقال إننا جميعًا سنكون إلى
جانبهما فيما هما يعبران المضائق والمسالك الصعبة نحو السالم .كان الحديث بين عباس ونتنياهو
جاّدًا ومكثفًا طوال فترة العشاء .هل سيتمكن هذان الرجالن من تحقيق اتفاق سالم يحرر منطقتنا
أخيرًا من شبح الحرب الذي يهددها؟ إّن علينا أن ننتظر ونرى ،فاالمتحان التالي ال يبعد أكثر من
ثالثة وعشرين يومًا ،ففي السادس والعشرين من أيلول/سبتمبر سوف تنتهي المدة التي كان نتنياهو
قد حّددها في تشرين الثاني/نوفمبر السابق كفترة مؤقتة لتجميد بناء المستوطنات .إن مستقبل
المفاوضات سيكون وقفًا على قراره بأن يمدد تلك الفترة أو بأن ُيستأنف بناء المستوطنات بنهايتها.
صباح اليوم التالي اجتمع نتنياهو وعباس في وزارة الخارجية في جولٍة أولى من المفاوضات،
وبعد اجتماع طويل ضم أعضاء الوفود الفلسطيني واإلسرائيلي واألميركي ،عقد نتنياهو وعباس
وكلنتون وميتشل اجتماعًا مصغرًا تاله اجتماٌع ثنائي بين عباس ونتنياهو .اتفق جميع الفرقاء على
االمتناع عن اإلدالء بأي بيانات أو تصريحات علنية تجنبًا ألّي كالم يمكن أن ُيعّد استفزازّيًا ويشكل
بالتالي خطرًا على مجرى المفاوضات .وحَده السناتور ميتشل كان مخوًال التحدث إلى الصحافة.
وصف ميتشل المفاوضات بأنها «طويلة وبّناءة» ،وأعاد تأكيد اعتقاده بأن المفاوضات يمكن أن
تنتهي خالل سنة ،وقال إن عباس ونتنياهو ملتزمان بأن يقاربا التفاوض بإيجابية وحسن نية ،وجدد
التأكيد بأنهما ملتزمان بأن «الهدف هو الوصول إلى حل على أساس دولتين لشعبين ،كما يلتزمان
بحٍّل للصراع ينهي كل المسائل المعلقة ويستجيب لكل المطالب ،ويقيم دولة فلسطينية قابلة للحياة إلى
جانب دولة إسرائيلية تنعم باألمن».
وافق الطرفان على بدء العمل إلعداد اتفاق إطاري حول الوضع النهائي .اتفق عباس ونتنياهو
على االجتماع مرة كل أسبوعين ،وقد حددا اجتماعهما المقبل في 14و 15أيلول/سبتمبر .تمت
الجولة التالية من المفاوضات في شرم الشيخ في 14أيلول/سبتمبر بحضور كلنتون ،واستكمل
االجتماع في اليوم التالي في القدس في ظل اقتراب موعد الفترة المحددة لتجميد بناء المستوطنات.
هنا أيضًا كان ميتشل الوحيد المخول التحدث إلى اإلعالم ،وهذه المرة قال إن عباس ونتنياهو أكدا
التزامهما ما اُّتفق عليه في واشنطن وباشرا معالجة المسائل الصعبة .أضاف أن الواليات المتحدة
ستبقى ملتزمة بأن تكون شريكًا جدّيًا .ومع أن ميتشل حاول أن يعطي االنطباع بأنه متفائل ،فإن
الجميع في المنطقة كانوا على قْدٍر كبير من القلق شعورًا منهم بأن المفاوضات كانت على شفير
االنهيار ،ذلك أن كل الدالئل اآلتية من إسرائيل كانت تشير إلى أن بناء المستوطنات كان سُيستأنف
في 26أيلول/سبتمبر.
ما إن بدأ رئيس الوزراء اإلسرائيلي والرئيس الفلسطيني يتطرقان إلى التفاصيل حتى بدأت
الصعوبات تبدو أكثر وضوحًا .قال عباس لنتنياهو إنه يريد بحث قضايا الوضع النهائي وقدم له
أوراقًا تحتوي المواقف الفلسطينية حول تلك القضايا .مرًة أخرى اقترح عباس أن يبدأ البحث
بمسألتي الحدود واألمن .لكن المباحثات انتهت إلى نتيجة سلبية ألن نتنياهو أصّر على أن تتضمن
أي اتفاقات حول األمن بقاء الوجود اإلسرائيلي على الحدود الفلسطينية المستقبلية الشرقية والغربية
لحماية إسرائيل من تهديدات محتملة .أما عباس فقال إنه يوافق على أي آلية أمنية بما في ذلك
حضور قوات دولية ،لكن ال يمكن أن يوافق على بقاء جندي إسرائيلي واحد على األرض
الفلسطينية.
في األيام التالية تزايد الوضع تدهورًا وسط تصريحاٍت نارية وعلنية أدلى بها سياسيون
إسرائيليون قائلين إن بناء المستوطنات سُيستأنف فورًا بعد نهاية الفترة المحددة .أعلن الفلسطينيون
بوضوح وتصميم أنهم سيوقفون التفاوض إذا لم يمدد اإلسرائيليون تجميد بناء المستوطنات .هنا بدا
أن األزمة واقعة ال محالة.
انتاب القلق الرئيس أوباما ،كما انتابنا جميعًا ،خشية أن تذهب كل الجهود المضنية التي ُبذلت
لإلتيان بطرفي الصراع إلى طاولة المفاوضات هباًء منثورًا ما لم نجد حًاّل لمسألة تجميد بناء
المستوطنات .استغّل الرئيس فرصة انعقاد الجمعية العمومية لألمم المتحدة في نيويورك ليبعث
برسالة قوية النبرة حول الحاجة الملحة للسير ُقدمًا بالمفاوضات« :نحن نعتقد أن تجميد بناء
المستوطنات يجب أن يمّدد» ،قال الرئيس ،وأضاف« :كما نعتقد أن المباحثات بين الطرفين يجب أن
تستمر حتى استكمالها» .ثم تابع مخاطبًا كل رؤساء الدول والدبلوماسيين المشاركين« :في هذا
الوقت بالذات علينا أن نبحث عن أنبل ما فينا من الصفات ،فإذا فعلنا ذلك بصدق ،عدنا في السنة
المقبلة وفي حوزتنا اتفاق يتيح لنا أن نستقبل عضوًا جديدًا في األمم المتحدة -دولة فلسطينية مستقلة،
ذات سيادة ،تعيش بسالم جنبًا إلى جنب مع إسرائيل».
لكن لسوء الحظ فإن الحكومة اإلسرائيلية لم تأبه لنداء الرئيس األميركي وال لدعوات المجتمع
الدولي وال لدعواتنا جميعًا في المنطقة .ما إن انتهت المهلة المحددة حتى ُأعلن عن أن 840وحدة
سكنية جديدة سوف ُتبنى في الضفة الغربية والقدس الشرقية .سارع الفلسطينيون إلى تعليق
المفاوضات ،لكنهم تريثوا في اتخاذ قرار رسمي بالتخلي عنها مفسحين في المجال أمام الجهود
المبذولة لكسر الحلقة المفرغة.
التقيت محمود عباس في الثالث من تشرين األول/أكتوبرُ ،قبيل مؤتمر القمة العربية في ليبيا الذي
كان مقررًا عقُده في التاسع من الشهر ذاته .كان شديد الخيبة حيال فشل إسرائيل في تمديد فترة
التجميد ولو شهرين أو ثالثة أشهر ،كان يأمل خاللها أن يتمكن من معالجة مسألة الحدود .عرضنا
معًا بعض األفكار الخالقة التي يمكن أن تتيح للدبلوماسية مجاًال آخر ،ذلك أن التحدي األكبر عند
هذا المنعطف هو إبقاء األمل حّيًا .لكن الكرة كانت في الملعب اإلسرائيلي .قبل لقائي عباس في ذلك
اليوم استقبلت السناتور ميتشل الذي كان قد أنهى لتّو ه جوالٍت من المباحثات مع القادة في إسرائيل
وكان مقررًا أن يلتقي عباس في عمان بعد لقائي أنا به .كنا جميعًا ملتزمين البحث عن مخرٍج من
الطريق المسدود والعثور على هذا المخرج .قلت له إن من المستحيل على عباس أن يستمر في
المفاوضات إذا استمرت مشكلة المستوطنات دون حل ،فقال ميتشل إنه سيستمر ببذل جهوده.
في الثامن من تشرين األول/أكتوبر أحاط عباس لجنة المتابعة العربية علمًا بأنه سينسحب من
المفاوضات إذا لم تجدد إسرائيل تجميد بناء المستوطنات .قال عباس إذا لم يتم التجميد فإن
الفلسطينيين سوف يطرحون للبحث خياراٍت أخرى ابتداًء من المطالبة بأن تعترف الواليات المتحدة
من جانب واحد بالدولة الفلسطينية .أما إذا رفضت الواليات المتحدة هذا الطلب فإن الفلسطينيين
سيطلبون من الدول األعضاء في جامعة الدول العربية أن يقدموا طلبًا جماعّيًا إلى مجلس األمن
الدولي التخاذ قرار باالعتراف بالدولة الفلسطينية ،كما سيطلبون من الجمعية العمومية لألمم المتحدة
اتخاذ قرار بوضع األراضي الفلسطينية المحتلة تحت الوصاية الدولية لألمم المتحدة إذا استخدمت
الواليات المتحدة حق الفيتو ضد القرار المطلوب من مجلس األمن الدولي« .لقد استنفدنا كل
الخيارات» ،قال عباس .دعمت الجامعة العربية عباس في قراره ،لكنها اتخذت قرارًا بإعطاء
الواليات المتحدة فرصة شهر واحد لتحاول إنقاذ المفاوضات قبل أن تباشر بتنفيذ الخيارات التي
طرحها عباس.
فيما يذهب هذا الكتاب إلى المطبعة تبدو المفاوضات المباشرة على شفير االنهيار .فترة الشهر
التي أعطتها جامعة الدول العربية للواليات المتحدة لتحاول إعادة المفاوضات إلى مسارها لم يبَق
منها سوى أسبوعين ،وال يزال نتنياهو عند موقفه ال ُيظهر أَّي استعداد للمساومة .أما تبريره لهذا
الموقف فهو أن شركاَء ه في االئتالف الحكومي لن يدعموا قرارًا بتمديد التجميد وبالتالي فإن
إصراره على اتخاذ قرار كهذا سيسّبب انهيار الحكومة .ولكي يقنع شركاءه في االئتالف بتمديد
التجميد يحتاج إلى أن يقدم لهم األميركيون حوافز كافية لذلك ،تشمل رزمة جديدة من المساعدات
المالية والعسكرية .في جوالٍت من المفاوضات المكثفة وغير المعلنة قّدمت الواليات المتحدة
مساعداٍت كبرى ومغرية إلسرائيل كي تمدد تجميد بناء المستوطنات ولو لفترٍة وجيزة ال تتجاوز
ثالثة أشهر .لكن إسرائيل ال تنفك تستخف بكل هذه العروض.
ال تزال الواليات المتحدة تبذل جهودًا دبلوماسيًة مكثفة لفتح ثغرة في الطريق المسدود ،لكن فرص
النجاح في هذه المساعي تضيق مساحُتها يومًا وراء يوم .هناك قلق لدى عديد من المعنيين في العالم
العربي من أن تؤدي التغييرات المرتقبة في المواقع اإلدارية بعد االنتخابات النصفية في الواليات
المتحدة إلى إعطاء دنيس روس دورًا أكبر في إدارة عملية السالم ،وهو اآلن المساعد الخاص
ألوباما في هذه العملية .وبما أن مواقفه المتصلبة لم تكن عامًال مساعدًا على تقدم عملية السالم في
السابقُ ،يخشى أن يؤدي تزايد نفوذه في هذا المجال إلى أن نشهَد مزيدًا من التعقيدات بدَل العكس.
إنه فعًال ألمر مدهش أن يكون اتفاق السالم الذي يفتح أمام إسرائيل مجاًال لعالقاٍت طبيعية مع
جيرانها غير كاٍف كمحّفٍز للحكومة اإلسرائيلية كي تعطي مفاوضات السالم فرصة من خالل تجميد
بناء المستوطنات ولو فترًة محدودة .إنها إشارة بالغة السلبية ترسلها إسرائيل إلى العالم العربي،
وكذلك إلى كل أعضاء المجتمع الدولي الذي يريد السالم في الشرق األوسط ركنًا من أركان
االستقرار العالمي .إنها رسالة ستكون مصدر قوة ألولئك الذين طالما راهنوا على فشلنا في
مساعينا ،كما أنها ضربة موجعة تصيب كل قوى االعتدال في المنطقة ،خصوصًا محمود عباس .إذا
انهارت الحكومة اإلسرائيلية ،فلن يعجز اإلسرائيليون عن انتخاب حكومة جديدة ،لكن إذا خسر
عباس صدقيته لدى الشعب الفلسطيني ،أو إذا أصابه من اإلحباط ما دفعه إلى االستقالة فإن العالم
بأسره سوف يخسر شريكًا صادقًا في عملية السالم لن يكون من السهل العثور على بديٍل له.
لقد أخبرني عباس شخصيًا ،كما صّر ح بذلك علنًا ،بأنه سوف يقدم كل التضحيات الممكنة من أجل
السالم ،لكّن اليد الواحدة ال تصفق .إن ادعاءات البعض في إسرائيل بأنه ال يستطيع تنفيذ ما يريد
بسبب التحدي الذي تفرضه حماس حياَل سلطته ليست سوى ذرائع واهية يبررون بها انعدام اإلرادة
لديهم للسير قدمًا نحو السالم .إن ما يحتاج إليه عباس هو اتفاق يضمن قيام الدولة الفلسطينية يقدمه
إلى شعبه .ولو أنه حصَل على اتفاٍق كهذا لطرَح ه على استفتاٍء شعبّي تعود فيه الكلمة إلى
الفلسطينيين .عندئذ ال يمكن أحدًا أن يحول بين الشعب الفلسطيني وحقه بحريته ودولته .ولكن في
غياب وجود أّي اتفاق ال مناص لنا من االعتراف بوجود احتمال حقيقي بأن نواجه انهيارًا كامًال
لدعم الرأي العام لنا في متابعة العملية السلمية ،باإلضافة إلى اإلفالس التام لسياسات االعتدال،
وبذلك تخلو الساحة كلّيًا للمتطرفين.
عندما بدأت وضع هذا الكتاب كنت آمل أن نكون اآلن في صدد االحتفال بإنجاز حل الصراع
الفلسطيني -اإلسرائيلي وافتتاح حقبة جديدة من السالم الشامل في الشرق األوسط .لكن يبدو أن
الجميع في المنطقة يعتريهم التخّو ف من أن نكون مقبلين على حرٍب جديدة مدمرة.
من هنا أقول للشعب اإلسرائيلي :ال تسمحوا لسياسييكم بأن يضعوا أمنكم في أشداق الخطر من
خالل الخيارات العمياء الخالية من التفكير السليم والتي تمعن في عزلكم .إن إسرائيل تفتقر إلى
العالقات الطبيعية مع ما يقارب ثلث بلدان العالم ،وعلى هذا الصعيد حتى كوريا الشمالية تبدو في
وضٍع أفضل من وضع إسرائيل وسط المجتمع الدولي .إن حل الدولتين مع الفلسطينيين يعني في
جوهره حًاّل مع سبٍع وخمسين دولة يضمن إلسرائيل عالقات طبيعية مع كل الدول العربية
واإلسالمية التي تدعم جميُعها المبادرة العربية للسالم .إذا أمعن قادتكم في اختيار طريق الصراع
والحرب ،يمكن كَّل واحٍد منكم أن يقرر اختيار طريق السالم ،ففي نهاية المطاف لن يضمن
إلسرائيل األمن واألمان اللذين تصبو إليهما إال السالم العادل مع جيرانها.
لسنا بحاجة إلى استشراف المستقبل البعيد لكي نرى ما يبدو واضحًا في األفق اإلسرائيلي من
المشكالت .فالديموغرافيا سوف تغّير تركيبة المجتمع اإلسرائيلي خالل السنوات العشر المقبلة.
يشكل العرب اإلسرائيليون اليوم ما يزيد على عشرين في المئة من المجتمع اإلسرائيلي ،فإذا لم يحَّل
السالم واستمرت إسرائيل تسيطر على الضفة الغربية فإن العرب سوف يصبحون أكثريًة عندئذ.
كيف يا ترى ،ستعالج الحكومة اإلسرائيلية هذا الوضع؟ إذا فشلنا في الوصول إلى تفاهٍم يؤدي بنا
إلى حٍّل الدولتين ،وهو الحل الذي يوفر السالم واألمن للجميع ،سوف يكون الحل الحتمي الوحيد هو
حل الدولة الواحدة الثنائية القومية .هذا يعني أن على الحكومة اإلسرائيلية أن تعطي الفلسطينيين
حقوقهم السياسية الكاملة كمواطنين وبذلك يخبو أو يزول الطابع اليهودي للدولة .أما الخيار اآلخر
فهو أن تستمر إسرائيل في حرمان قسم كبير من السكان حقوقهم المشروعة ،مبقيًة الفلسطينيين تحت
االحتالل العسكري ومنكرًة عليهم المساواة في الحقوق كمواطنين ،وبالتالي تكون قد أقامت دولَة
تمييٍز عنصري -أبارتهايد -وجعلت المنطقة بأكملها رهينة الحرب أو التهديد الدائم بها.
ليس هناك من بدائل .ارتفعت أصوات في إسرائيل تحدثت عما سّم ته «الخيار األردني» الذي
يصبح بموجبه األردن وطنًا للفلسطينيين .هذا ببساطة ،لن يحدث .نحن لن نسمح به ،والفلسطينيون
ال يريدونه ،وإسرائيل لن تستطيع أن تفرضه .وأي محاولة من هذا القبيل سيكون معناها الحرب
وتوسعة رقعة النزاع .كذلك فإن األردن لن يقوم بأِّي دور أمني في الضفة الغربية ،ولن تحّل
الدبابات األردنية محل الدبابات اإلسرائيلية .إن الدور الوحيد الذي انتدبنا أنفسنا له وسنستمر في
القيام به ،هو السعي إلى تحقيق سالٍم إقليمي من خالل مساعدة الفلسطينيين على ما يبذلون من جهد
إلقامة دولتهم المستقلة القابلة للحياة والتي ستعيش جنبًا إلى جنب مع إسرائيل بأمٍن وسالم.
إن أمام إسرائيل خيارًا واضحًا ،هل تريد أن تبقى «قلعًة» معزولة تطّل بحذٍر وخوف من وراء
الحصون على جيران ال يزيدهم الزمن إال عدائيًة وعدوانية ،أم هي مستعدة لقبول يد السالم الممتدة
إليها من كل الدول اإلسالمية السبع والخمسين بحيث تندمح نهائّيًا بمنطقتها وجوارها ،مقبولًة وقابلة؟
لقد أمضى والدي نّيفًا وأربعين سنة ساعيًا وراء سالٍم دائم بين إسرائيل والفلسطينيين ،وكذلك
وراء سالم إقليمي شامل .لكن على الرغم من عمله الدؤوب لتحقيق هذا السالم وعدم استسالمه حتى
اليوم األخير من حياته ،فقد وافاه األجل قبل أن يراه حقيقًة واقعة .أما جدي األكبر ،عبد هللا األول،
فقد اغتيل في القدس ،دافعًا الثمن األغلى وهو حياته؛ سعيًا وراء السالم في مناٍخ عابٍق بالحرب .إن
األمل يحدونا جميعًا أن ال يسقط مزيد من القادة الشجعان ضحايا هذا الصراع وأن ال يستمّر عبر
أجياٍل آتية.
في العام 2009سّم يُت ابنَي البكر ،حسين ،ولّيًا لعهد المملكة األردنية الهاشمية بموجب الدستور
الذي ينص على أنه «تنتقل والية الملك من صاحب العرش إلى أكبر أبنائه سّنًا».
لم يكن هذا قرارًا سهًال ،فأنا كنت أفّضل أن ينعم حسين في صباه وشبابه ،كما نعمت أنا ،بحياة
حرة من الضغوط التي يفرضها موقع ولّي للعهد .لكن في النهاية رأيُت أن من األفضل للبالد،
وكذلك البني ،أن يكون واضحًا للجميع كيف يبدو لي مستقبل المملكة األردنية الهاشمية .حسين اليوم
في السادسة عشرة من عمره ،وأملي األكبر هو أنه حين تقضي مشيئة هللا أن يتسّلم مسؤولياته ،لن
يجد نفسه في مواجهة الصراع ذاته الذي قضى فيه جد جده.
منذ نّيٍف وعقٍد من السنين ،وفي األشهر األخيرة من حياته ،نهض والدي من فراش المرض ليوّج ه
كلمًة إلى ياسر عرفات وبنيامين نتنياهو عند توقيعهما اتفاق واي ريفر .كان مدركًا كل اإلدراك مدى
هشاشة حلم السالم ولم تكن لديه أي أوهام حيال الصعوبات التي ال تزال تعترض سبيل تحقيقه.
يوَم ها قال« :في تقديري إن هذه الخطوة التي تحققت اليوم سوف تحّر ك ،من دون ريب ،غريزة
أولئك الذين يريدون تدمير الحياة ،وتدميَر األمل ،وزرَع الرعب في قلوب الناس وعقولهم ،ال بل
ستثير لديهم أسوأ غرائزهم .في ظاهر األمر سوف يعّبرون عن شكوكهم ،لكن إذا ُقِّد َر لهم
واستطاعوا فسوف ُيلحقون الضرر حيثما حّلوا وأينما تمكنت أيديهم».
يوم قال والدي هذه الكلمات كانت الثقة بين اإلسرائيليين والفلسطينيين كبيرة نسبّيًا ،وكان كثيرون
يعقدون األمل على أن يتمكن قادُة الطرفين من البناء على هذا األساس لتحقيق السالم الدائم .أما العقد
األخير من اإلهمال والتجاهل فقد شهد انهيار األمل إلى أدنى درجاته وبعث القوة في أيدي أولئك
العازمين على الدمار.
ما من عائلة في القدس الشرقية كما في تل أبيب ،في رام هللا كما في يافا ،إال تسعى في نهاية
المطاف إلى األهداف نفِسها :حياة يتمتع فيها المرء بالسالم والكرامة ،القدرة على تحقيق الذات
وعلى تأمين مستقبٍل أفضل ألبنائها .إن طبيعتنا اإلنسانية تدفعنا إلى توجيه نظرنا دائمًا نحو النور،
ويقيني أن الشعبين اإلسرائيلي والفلسطيني ال يريدان أن تبقى حياتهما قاتًال أو مقتوًال .من هنا علينا
جميعًا أن نضرَع إلى العلّي القدير أن يلهَم قادَتهما أن يضعوا نصَب أعينهم أن خيَر ما يقدمونه
لشعبيهم هو فرصُة العيش بسالٍم وكرامة.
ما لم نشهد انفراجًا خالل السنة المقبلة ،أخشى أن تفوتنا فرصُتنا األخيرة لتحقيق السالم طواَل جيٍل
يمضي؛ وبذلك نضع منطقتنا على طريق المزيد من العنف والحروب والموت .أخشى أننا على
وشك أن نغرق في الظالم .لكن ذلك ليس قَدر منطقتنا المحتوم .شعوبنا تريد السالم .مسؤوليتنا
بوصفنا قادة هي أن نحقق لها هذا الحلم المتآكل.
شكـر وتنـويـه
منذ مدٍة غير طويلة كنت أتحدث إلى بعض األصدقاء وذكرُت أن عشر سنوات مّر ت منذ أن
تسلمت مسؤولياتي ملكًا على األردن .تحدثنا عن مسلسل األحداث االستثنائية التي شهدها األردن
والشرق األوسط والعالم خالل هذا العقد من السنين ،وقد عّبرت عن األمل في أن تشهد السنوات
العشر المقبلة مزيدًا من السالم واألمن والرخاء وفرص اإلنجاز .لكننا تحدثنا خاصة عن اقتناعي
بأن العالم اليوم يقف على مفترٍق مفصلّي .في مطلع العام 2009بدا لي أّن الظروف مؤاتية
والفرصة متاحة لحل الصراع الفلسطيني -اإلسرائيلي وتحقيق السالم اإلقليمي الذي ما انفك
يراوغنا وُيفلت من بين أيدينا منذ أجيال .قلت إنني لن أكَّف عن بذل كل ما يمكن من جهد حتى
تحقيق هذا الهدف.
خالل هذا الحديث اقترح أحد األصدقاء أنها فترة مناسبة لكي أكتب فيها كتابًا عما شهدُت ،وعما
قمت به من عمل ،وما أحلم به للمستقبل.
لم يسبق لي أن فكرت كثيرًا في أن أكتب كتابًا .فقد دّر بتني الحياُة العسكرية على النهج العملي
الذي يعطي نتائجه في وقتها المحدد ،هذا فضًال عن كوني ال أزال شاّبًا وأنني ،بمشيئة هللا ،في
مستهّل عهدي ملكًا على األردن .لكن أحدهم أشار بأن والدي كان قد نشر سيرة ذاتية بعنوان «ليس
سهًال أن تكون ملكًا» ( )Uneasy Lies the Headفي العام ،1962أي في السنة التي ولدُت فيها،
وقد تحدث فيه عن سنواته العشر األولى ملكًا على األردن .وبما أن المسير على خطى والدي كان
دومًا نهجَي األمثل واألكثر حكمًة ،فقد بدأُت أولي الفكرَة اهتمامًا جدّيًا.
كانت الخطوة األولى البحث عن ناشر قادر على إيصال قصتي إلى أوسع عدد من القراء .أندرو
وايلي ( )Andrew Wylieوسكوت مويرز ( )Scott Moyersمن شركة وايلي وشركاؤه
( )Wylie & Companyإحدى أهم الوكاالت األدبية في أميركا وأكثرها احترامًا ،ساعداني على
اختيار دار نشر عالمية ،خصوصًا أنني أردت أن أوصل الرؤية والمواقف العربية حول قضايانا إلى
العالم الغربي .من خاللهما تعّر فت إلى كلير فيرارو ( )Clare Ferraroوجوي دي مينيل (Joy de
)Menilمن مؤسسة «فايكنغ بنغوين» ( .)Viking Penguinكلير لم تتردد لحظة ،وقد أدركت
فورًا أن لدّي قصة تستحق النشر وفيها من المضمون ما يهم جمهور القراء ،وما لبثنا أن بدأنا العمل
معًا إلعداد الكتابُ .كّلفت جوي بتحرير النص ،وقد أفدُت منذ البداية وحتى النهاية من ذكائها الحاد
وثقافتها السياسية والتاريخية الواسعة ،فضًال عن حّسها السليم ومعرفتها بتقديم الوقائع بطريقة
واضحة وبسيطة .لقد ساعدتني على لملمة الخيوط الموزعة هنا وهناك لحياٍة زاخرة بالتنّو ع
ووضِع ها في سياِقها الروائّي المنَّسق والمتماسك .مساعُدها كريس راسل ( )Chris Russellكان
أيضًا مصدر عوٍن كبير.
إن االعتماد على الذاكرة وحَدها لوضع كتاب مذكرات خطأ كبير .وفي ضوء ذلك فقد استعنت
بعدد ال يحصى من األشخاص للتأكد من صحة ما بقي في ذاكرتي وللتدقيق في معلوماتي وفي
حكمي على األمور .كذلك عدت إلى عدد كبير من الوثائق والسجالت من أرشيفنا تثبيتًا لسياق
األحداث ووضوحها حيثما يمكن أن تخون الذاكرة .لقد بذلُت قصارى الجهد لكي يخرج هذا الكتاب
في أدّق مضموٍن ممكن وفي أوضح صورة .لكنني مدرك تمامًا أنه متى اجتمع عدة أشخاص،
وخصوصًا عندما تكون هناك محاولة الستعادة نقاشاٍت مهمة ودقيقة حول مواضيَع كالسالم في
الشرق األوسط ،ال بد أن تتباين مضامين الكالم المستعاد بين شخٍص وآخر .كل ما يمكنني قوُله إن
هذا الكتاب هو نتاج أفضل ما بذلت من جهد ألشارككم ذكرياتي وانطباعاتي ووجهات نظري.
كثيرون قاموا بأدوار مهمة في إنجاز هذا المشروع ،ولكن هذه الفسحة المحدودة لن تسمَح لي إال
بتسمية عدد ضئيل منهم ،بينما يذهب ُشكري وتقديري العميقان إلى آخرين ُكثر كانت إسهاماتهم
كبيرة ومهمة ،ولكن لن تتاح لي تسميُتهم.
بدايًة يجب أن أخّص عددًا من مساعدَّي في الديوان الملكي الهاشمي ممن كانت لهم مساهمات
استثنائية .أيمن الصفدي ،مستشاري ،تولى اإلدارة العامة للمشروع ،وكان لعمله المضني والمثابر،
وُج هده المتفاني ،وحرصه على كل تفصيل ،ومتابعته المتواصلة لالرتفاع بهذا الكتاب إلى أعلى
مستوى ،كان له دور حاسم في جعل هذا المشروع ممكنًا .لوال الجهوُد التي بذَلها لما وصل الكتاب
إلى المطبعة .محمد أبو طالب ،ناظر الخاصة الملكية ،كان في منتهى الحيوية والتفاؤل والحماسة
فيما كان يرعى هذا المشروع الدقيق والمتطلب ،رعايًة متأنية وصوًال به إلى تمامه .ما كنُت ألتمنى
شخصًا أكفَأ منه في مالحقة كل صاحب مهمة لضمان إنجاز مهمته في أواِنها واستمراره مرّكزًا
على عمله .ندين خميس ،مديرة المشاريع في الخاصة الملكية ،قامت بجهٍد ال يثّم ن في التدقيق
المتأني في التفاصيل القانونية المعقدة حيال نشر كتاٍب في بلداٍن ولغاٍت متعددة .مساعدتي الخاصة،
شيرين شويحات ،أنجزت عمًال رائعًا في تفريغ ساعاٍت وساعات من المحادثات والحوارات التي
شكلت المادة األساسية مما جاَء في الكتاب ونقلها .كذلك ساعدتني على العثور على العديد من
الوثائق ،كما صّنفت وحفظت مسَّو داٍت عديدة لفصوٍل من الكتاب فيما كنت مشغوًال بكتابتها للتأكد
من أنني كنت دقيقًا في التعبير عن أفكاري.
رئيس التشريفات الملكية ،عامر الفايز ،ومساعدوه ،خصوصًا صيتة التلهوني ميرزا ،كان لهم
دور أساسّي في تنسيق العديد من المقابالت مع مسؤولين أردنيين حاليين وسابقين للتأكد من أن
الكتاب عَكَس بدقة وجهات نظر أولئك األشخاص من ذوي المعرفة الموثوقة باألحداث التي
وصفُتها .وداد ماريا صالح وشذى المغربي ،من إدارة اإلعالم واالتصال في الديوان الملكي
الهاشمي ،أنجزتا مهمًة ممتازة ودقيقة في البحث والمراجعة لمواد تضمنها الكتاب .أوّج ه الشكر
أيضًا إلى الدكتور جعفر حسان ،المدير السابق إلدارة الشؤون الدولية في الديوان الملكي ،ووزير
التخطيط والتعاون الدولي منذ 14كانون األول/ديسمبر من العام ،2009الذي ساعد على البحث
عن العديد من الوثائق المهمة في األرشيفات الملكية .كذلك يستحق الشكر هارون حسان ،الذي ساعد
على تصميم موقع إلكتروني للكتاب.
عدد كبير من األصدقاء وأفراد العائلة ،والمسؤولين األردنيين الحاليين والسابقين ،شاركوني كثيرًا
من ذكرياتهم إلضافة بعض المعلومات والتفاصيل إلى ما اختزَنْته ذاكرتي من األحداث الماضية.
أورُد هنا بعض األسماء لتعُّذر إيرادها جميعًا :جاللة الملكة رانيا ،صاحبة السمّو الملكي األميرة
منى ،صاحب السمو الملكي األمير فيصل ،صاحب السمو الملكي األمير علي ،صاحب السمو
الملكي األمير غازي ،سمو األمير زيد ،زيد الرفاعي ،المشير عبد الحافظ الكعابنة ،الدكتور سمير
مطاوع ،اللواء أحمد سرحان ،الدكتور مروان المعشر ،ناصر جودة ،سمير الرفاعي ،كريم قعوار،
الدكتور باسم عوض هللا ،العميد علي جرادات ،المقدم ناظم الرواشدة ،الدكتور متَّيم العوران،
الدكتور إريك ويدمر ( )Eric Widmerوروبرت ريتشر (.)Robert Richer
شكر خاص أبعُثه إلى دروستن فيشر ( )Drosten Fisherلمساعدته القّيمة على إنجاز النسخة
اإلنكليزية من هذا الكتاب .دروستن درس في جامعتي أوكسفورد وجورجتاون ،يتحدث العربية وهو
من المتعمقين في دراسة شؤون الشرق األوسط .أخذ إجازة من عمله في إحدى المؤسسات
االستشارية لكي يساعدني على إنجاز هذا المشروع ،وقد قام بدور كبير في مساعدتي على تجميع
أفكاري وقولبتها ووضعها في صيغتها األخيرة على الورق.
تولى األستاذ شكري رحّيم ،الذي أغنى المكتبة العربية بترجماته المتقنة ،فضًال عن دوره الرائد
في تعميم الوسائل التربوية في المنطقة على مدى ثالثة عقود ،مهمة تحرير هذا الكتاب باللغة
العربية .وقد بذل جهودّا مضنية لتخرج الطبعة العربية منه نصًا سلسًا متماسكًا ،ونثرًا عكس استيعابًا
كامًال لمضمونه .وإنني إذ أسجل شكري العميق لألستاذ رحّيم ،ألشير إلى أنه كان خير من يقوم بهذه
المهمة بأعلى درجات الحرفية واإلتقان.
كما في كل األمور األخرى ،إنني شاكٌر لعائلتي .إن قراء هذا الكتاب سوف يعلمون أن أخواتي
السبع ،وإخوتي األربعة ،وأبناء عمومتي وأقاربي جميعًا ،قد أّدوا دورًا في جعلي َم ن أنا ،وفي
مساعدتي على إنجاز كل ما أنجزُته من خير في حياتي .والدي الراحل جاللة الملك حسين ،ووالدتي
صاحبة السمو الملكي األميرة منى ،أعطياني أن أعيش حياًة استثنائية ،وأن أرى ما لم يتسَّن للكثيرين
أن يروا مثله ،وأن أبذَل كل ما في قدرتي لخدمة الشعب األردني.
لقد أسبغ هللا سبحانه علَّي ِنَعمًا كثيرة ،وأشكره جَّل وعال أن جمعني برانيا ،وجعلني أبًا لحسين
وإيمان وسلمى وهاشم .إنهم النور الذي أرى الحياة من خالله.
ق
ح
ال
م
ل
ا
خطاب العرش السامي في افتتاح الدورة العادية األولى لمجلس األمة السادس
عشر
،حضرات األعيان
،حضرات النواب
فباسم هللا ،وعلى بركة هللا ،نفتتح الدورة األولى لمجلس األمة السادس عشر ،تأكيدًا على التزامنا
باالستحقاق الدستوري لمسيرتنا الديموقراطية ،وحرصنا على المشاركة الشعبية في صناعة القرار،
وبناء المستقبل المنشود ،الذي يليق بطموحات شعبنا وتضحياته الكبيرة ،وحقه في الحياة الحرة
.الكريمة ،والوطن النموذج في القوة والتقدم واالزدهار
أما بعد ،فإنني أتوجه بالتهنئة والمباركة لإلخوة النواب الكرام ،على فوزهم بثقة أبناء وبنات شعبنا
العزيز في االنتخابات النيابية األخيرة ،التي حرصنا على إجرائها بمنتهى الشفافية والنزاهة ،لتكون
.هـي وهـذا المجلس الكريم إضافة نوعية إلى مسيرتنا الديموقراطية
،حضرات األعيان
،حضرات النواب
لقد عملنا خالل السنوات الماضية ،ضمن رؤية إصالحية تحديثية واضحة لمعالجة السلبيات
وتحقيق التنمية الشاملة ،وأنجزنا الكثير والحمد هلل ،ولكن المسيرة دائمًا بحاجة إلى المراجعة
.والتقييم لتعظيم اإلنجاز ،ومعالجة مظاهر الخطأ أو التقصير
وعملية التقييم هذه ،والتقدم في مسيرة اإلصالح ليست مسؤولية سلطـة دون أخرى ،وإنما هي
مسؤولية جماعية ،ال يمكن النهوض بها من دون التعاون المؤسسي ،الذي يرتكز على الدستور،
.وعلى احترام مركزية دور جميع السلطات في بناء المستقبل المشرق الذي يستحقه شعبنا األبي
ًا
وعلى ذلك ،فال بد من االستفادة من دروس الماضي وتجاوز أخطائه ،واالعتراف أيضًا بأن عالقة
السلطتين التنفيذية والتشريعية قد شابها الكثير من األخطاء ،التي أعاقت مسيرتنا اإلصالحية،
.وألحقت الضرر بمصالح شعبنا ،وتلك أخطاء يجب أن يعمل الجميع على إزالتها
فللسلطة التشريعية دور محوري كفلـه الدستور ،وال نقبل أن يتراجع دور مجلس النواب ،أو أن
تهتز صورته عند المواطنيـن .فالتحديات جسام ،والطموحات أكبر .وترجمة رؤيتنا التي تستهدف
تقديم األفضل لشعبنا العزيز تستدعي وجود مجلس نواب قوي وقادر ،يمارس دوره في الرقابة
والتشريع ،في إطار عمل دستوري مؤسسي ،وعلى أساس شراكة حقيقية مع السلطة التنفيذية ،مما
.يعزز ثقة الناس بهذه المؤسسات
و كنت قد وجهت الحكومة إلى أن تعيد تقييم آليات تعاملها مع مجلس النواب لتصحيح عالقة
السلطتين ،بحيث تقوم على التعاون والتكامل ،وبحيث تمارس كل منهما صالحياتها ،من دون تغّو ل
سلطة على أخرى ،أو اللجوء إلى تفاهمات مصلحية ،تجعل من تحقيق المكتسبات الشخصية شرطًا
.الستقرار هذه العالقة
ولضمان تالفي أخطاء الماضي ،ال بد من التوافق بين السلطتين على آلية عمل ملزمة ،توضح
األسس التي تحكم تعامل الحكومة مع أعضاء مجلس النواب ،وفـق الدستـور والقانون ،بحيث
يطمئـن شعبنا العزيز إلى أن العالقة بين السلطتين عالقة شراكة مبنية على المعايير التي تحقق
.المصلحة العامة
،حضرات األعيان
،حضرات النواب
لقد كانت توجيهاتنا للحكومة أن تعمل وفق منهجية مؤسسية ،تضع أهدافًا واضحة ،وتحدد مواعيد
إلنجازها .وأكدنا على ضرورة العمل بثقة وشفافية ومن دون تردد ،أو خوف من اتخاذ القرار ،أو
سياسـات االسترضاء ،التي شكلت أحد أكبر العوائق أمام التغيير اإليجابي ،الذي يمكننا من مواكبة
روح العصر ومتطلباته .والحكومة ملتزمة بالعمل وفق هذه المنهجية ،وضمن سبعة محاور رئيسية
.للتقدم في مسيرة التنمية الشاملة وتحسين األداء
وألن اإلصالح منظومة سياسيـة اقتصادية ،وإدارية اجتماعية متكاملة ،فقد أكدنا على ضرورة أن
يواكب اإلصالح االقتصادي إصالح سياسي ،يزيد من المشاركة الشعبية في صناعة القرار .ومن
.أجل ذلك ،ستعمل حكومتي على إيجاد الظروف الكفيلـة بتطوير الحياة السياسية في شتى مظاهرها
وفي هذا السياق ،سترسل حكومتي قانون االنتخاب المؤقت إلى مجلس النواب ،وبصفة االستعجال،
لدراسته وإدخال التعديالت الالزمة عليه ،بما يخدم مسيرتنا الديموقراطية ،واعتماده قانونًا دائمًا،
.حتى يستقر هذا التشريع الرئيسي في الحياة السياسية
ًا
وستقدم الحكومة إليكم أيضًا مشروع قانـون الالمركزية ،الذي نسعى من خالله إلى زيادة دور
المواطنين في صناعة مستقبلهم ،وبناء القدرات المحلية في المحافظات ،وتعظيم إسهامهم في تحديد
.األولويات التنموية
وستعمل الحكومة مع مجلسكم الكريم على تعديل التشريعات الناظمة للعمل السياسي ،والمتعلقة
.بحقوق المواطنين وحرياتهم ،إليجاد البيئة الكفيلـة بتحقيق التنمية السياسية الشاملة
والتنمية السياسية ال تتحقق من دون مؤسسات المجتمع المدني واألحزاب الوطنية ،التي تعتمد
العمل البرامجي ،وتبني المصداقية والحضور الشعبي ،عبر إقـناع المواطنين بجدوى طروحاتها،
وقدرتها على اإلسهام في مسيرة الوطن .وستواصل الحكومة العمل من أجل تشجيع العمل الحزبي
.الوطني الملتزم بالقوانين والدستور ،وإزالة كل العوائق أمام تطّو ر دور األحزاب
وستستمر الحكومة في تطويـر عالقتها مع اإلعالم ،بحيث تقوم هذه العالقة على احترام حق
اإلعالم في العمل بحرية واستقاللية ،وفي الحصول على المعلومة ونشرها .وإذ تشكل القوانين
النافذة ومدونة السلوك ،التي وضعتها الحكومة ،إطارًا لهذه العالقة ،فال بد من إدخال أي تعديالت
الزمة على التشريعات لضمان تطّو ر صناعة إعالم مهنية مستقلة ،وحماية المواطنين وحقوقهم من
.ممارسات إعالمية غير مهنية تزّو ر الحقائق ،وتشّو ه صورة الوطن
وألهمية دور الشباب ،تعمل الحكومة على تنفيذ خطة شاملة لتطوير دور قطاع الشباب ،الذي تقع
عليه مسؤولية بناء المستقبل ،وتسليحه بالعلم والمعرفة .وستستمر الحكومة بالعمل على تعزيز دور
.المرأة في مسيرة البناء ،واتخاذ الخطوات الالزمة لحماية حقوقها كاملة
،حضرات األعيان
،حضرات النواب
إن تحسين أداء مؤسساتنا العامـة ضروري لمواجهة التحديات التي تواجه األردن ،ومن هنا ركزت
الحكومة على وضع أدوات لقياس األداء ،وتطوير العمل الرقابي لتعزيز الشفافية ،ومحاربة كل
.أشكال الترهل والفساد
وفي هذا المجال ،استحدثت الحكومة وحدة لمتابعة الخطط التنفيذية ،ووضعت ميثاق شرف لقواعد
سلوك الوزراء ،وأعدت برنامجًا لتطوير القطاع العام واإلدارة الحكومية .وعملت الحكومة أيضًا
على رفع مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين ،وخاصة في قطاعات الصحة واإلسكان والتعليـم،
لتوفير السكن المالئم ،ومواصلة تطوير وبناء المراكز الصحية والمدارس ،باإلضافة إلى تطوير
.الخدمات البلدية ،ودعم الحركة الثقافية
وألن العدل أساس الُم لك ،فنحن ملتزمون بتعزيز استقالل القضاء ونزاهته ،وستوفر الحكومة كل
المتطلبات ،التي تحتاجها السلطة القضائية لتطوير أدائها ،وتحقيق العدالة بين الناس .وال بد من
التأكيد هنا على ضرورة مواكبة تحديات العصر من خالل تطوير التشريعات ،واستقطاب أفضل
.الكفاءات ،وتدريبها وتأهيلها ،حتى يظل الجهاز القضائي مثاًال في الكفاءة والنزاهة
،حضرات األعيان
،حضرات النواب
يواجه األردن تحديـات اقتصادية كبيـرة تستدعي اعتماد سياسات اقتصادية ناجعة ،تحقق طموحاتنا
في توفير العيش األفضل لمواطنينا ،فتحسين حياة المواطن األردني ،وفتح آفاق اإلنجاز أمامه هدفنا
األول .وسيظل تحسين األداء االقتصادي أولوية رئيسيـة النعكاسه المباشر على مستوى معيشة
.المواطن
وبالرغم من األوضاع االقتصادية العالمية الصعبة ،وانعكاسها على أوضاعنا المحلية ،تمكنت
الحكومة من تحقيق مؤشرات اقتصادية إيجابية ،منها :النمو اإليجابي في الناتج المحلي اإلجمالي،
.وتقليص عجز الموازنة
وستواصل الحكومة اعتماد سياسة مالية للسيطرة على عجز الموازنة ،وتعزيز االستقرار المالي،
والمساهمة في تحسين البيئة االستثمارية ،واالعتماد على الذات ،وحفز النمو في النشاط
.االقتصادي
وقد وجهنا الحكومة إلى توفير العناية الالزمة للقطاعات الحيوية ،وفي مقدمتها قطاع التعليم ،مع
التأكيد على ضرورة تحسين مستوى معيشة المعلمين ،والحفاظ على مكانتهم ،بما ينسجم مع دورهم
المحوري في المجتمع .وأكدنا على االهتمام بقطاع الزراعة ،ورعاية العاملين فيه ،إضافة إلى
زيادة االستثمارات في القطاع السياحي ،واالهتمام بقطاع االتصاالت وتكنولوجيا المعلومات ،الذي
يقوم بدور رئيسي في تحسين أداء مختلف مؤسسات الدولة ،وليبقى األردن رائدًا إقليميًا في هذا
.المجال
،حضرات األعيان
،حضرات النواب
إن اإلنسان األردني هو ثروتنا األولى ،وهو غاية التنمية وهو وسيلتها ،ولذلك يجب أن تضمن
الدولة تحقيق العدالة والمساواة االقتصادية واالجتماعية ،وتكافؤ الفرص ،وتوسيع قاعدة الطبقة
الوسطى ،وحماية الطبقة الفقيرة .والفقر والبطالة شر سنحاربه بكل الوسائل والسبل .وستعمل
الحكومة على تحسين آلية مساعدة المستفيدين من برامجها لمحاربة الفقر ،وتعزيـز دور مؤسسات
.المجتمع المدني والقطاع الخاص في توفير برامج رديفة
،حضرات األعيان
،حضرات النواب
يمثل عمل الحكومة ،في المحاور السبعة التي اعتمدتها ،برنامجًا تنمويًا شامًال لتحسين األداء ،في
جميع مسارات التنمية .وينطوي هذا البرنامج على خطوات عملية ،ومشاريع محددة ،ستعرضها
الحكومة عليكم ،من أجل التشاور حولها وتطويرها ،والتعاون على الوصول إلى أهدافها في تطوير
.أداء األردن ،والحفاظ عليه نموذجًا في اإلنجاز والعطاء
،حضرات األعيان
،حضرات النواب
ما كان لألردن أن يصل إلى ما حقق من إنجاز ونجاح لوال نعمة األمن واالستقرار ،التي يسهر
على حمايتها رفاق السالح ،نشامى قواتنا المسلحة ،وأجهزتنا األمنية الباسلة ،فهم مصدر فخر
واعتزاز لكل األردنيين .وسنواصل توفير كل الدعم لجيشنا العربي المصطفوي واألجهزة األمنية،
رعاية وتسليحًا وتدريبًا ،وعمًال فاعًال لتحسين مستوى معيشة منتسبيها ،الذين يضحون بالغالي
.والنفيس من أجل حماية وطنهم ومسيرته المباركة
وسيظل األردن المنيع اآلمن المستقر سندًا ألشقائه العرب في الدفاع عن قضايانا العربـية
واإلسالمية ،وفي مقدمة كل ذلك القضية الفلسطينية .فقد كان األردن ،وسيبقى بعون هللا ،السند
األقوى ألشقائنا الفلسطينيين ،وسيواصل القيام بكل ما يستطيع لرفع الظلم عنهم ،وإنهاء االحتالل،
وقيام دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني ،وعاصمتها القدس الشرقية ،وفق مبادرة السالم العربية،
.وقرارات الشرعية الدولية ،وفي سياق إقليمي يضمن تحقيق السالم الشامل
ولن يدخر األردن جهدًا في إسناد العراق الشقيق ،والحفاظ على أمنه واستقراره ،من أجل استعادة
.دوره الحيوي في المنطقة والعالم
،حضرات األعيان
،حضرات النواب
كثيرة هي التحديات التي نواجهها ،لكن الفرص أكبر ،وتاريخنا هو سجـل انتصار على التحديات،
صنعته إرادة األردنيين ،وعلمهم وتماسكهـم .وكذلك بإذن هللا سيكون المستقبل ،محطات جديدة من
اإلنجـاز والبناء ،نبنيها من خالل العمل الجاد ،المرتكز على اإليمان بقدراتـنا والثقة بأنفسنا .فال
وقت نضّيعه ،وليعمل الجميع فريقًا واحدًا يقدم الصالح العام على كل ما سواه ،يحترم القانون،
ويكّر س ثقافة الديموقراطية ،يبني المؤسسات الفاعلة ،يتسلح بالعلم والمعرفة والوعي ،يحمي
الوحدة الوطنية ،ويتصدى لكل أصوات الفرقة واالنقسام ،والسلبية الُم حبطة ،ويمضي بمسيرتنا
اإلصالحية التطويرية التحديثية نحو آفاق جديدة من اإلنجاز ،التي تبني على إنجازات اآلبـاء
.واألجـداد ،وتحافـظ على األردن ،وطنًا عزيزًا شامخًا
ًا
.وفقنا هللا جميعًا إلى ما فيه خير األردن واألردنيين ،وأمتنا العربية واإلسالمية
أما وقد قبلنا استقالة حكومة دولة األخ نادر الذهبي ،فإننا نعهد إليك بتشكيل حكومة جديدة تبني على
ما حققه وطننا الغالي من إنجاز وتقدم ،وتعالج ما اعترى المسيرة من ثغرات واختالالت ،من
خالل عمل برامجي مؤسسي ،ينطلق وفق خطة عمل واضحة ومعايير إنجاز وأداء تضمن التقدم
نحو ترجمة رؤيتنا اإلصالحية التحديثية إلى واقع ملموس ،تنعكس آثاره اإليجابية على كل مناحي
الحياة في وطننا الغالي ،ويوفر لشعبنا األبي ما يستحق من حياة آمنة كريمة مفتوحة على أوسع
آفاق اإلنجاز والتمّيز .ولقد بدأنا منذ سنوات مسيرة اإلصالح والتحديث ،ونحن عازمون على
مواصلة هذه المسيرة بما يبني على الخطط والبرامج واألهداف التي تضمنتها األجندة الوطنية
.ويحقق الخير والرخاء واالزدهار لوطننا الغالي
ويتطلب تحقيق هذا الهدف أن تنطلقوا في تشكيل حكومتكم وفق منهجية عمل محكمة تضع أهدافًا
محددة لإلنجاز في جميع المجاالت ،وتحدد برامج زمنية لتنفيذها ،ليكون مدى التقدم في تنفيذ هذه
البرامج المعيار الواضح لتقييم األداء واتخاذ القرارات المستقبلية بشأنها وحول من تناط به
مسؤولية تنفيذها .ويستوجب ذلك أن يتم اختيار الوزراء وفق معايير القدرة والكفاءة ،وعلى أساس
االلتزام بالرؤية العامة ألولويات المرحلة المقبلة وشروط التصدي لها ووضع الخطط العملية
لتنفيذها .وفي ضوء ذلك ،فإننا نوجهك ألخذ ما يلزم من الوقت لمناقشة المرشحين لالنضمام إلى
الفريق الوزاري حول األهداف والبرامج وآليات التنفيذ بحيث يعرف كل وزير األهداف المتوقع
.منه تحقيقها ،والمعايير التي سيقّيم أداؤه على أساسها
وحتى تحقق هذه المنهجية ما نأمل من نتائج ،فإننا نتوقع منكم أن ترفعوا لنا بعد ما ال يزيد عن
شهرين من تشكيل الحكومة خطة عمل كل وزارة بعد مناقشتها وتبّنيها في مجلس الوزراء ،لضمان
عمل الجميع فريقًا واحدًا منسجمًا واضح الرؤية يعرف ما هو متوقع منه ،ويعرف شعبنا العزيز
.األسس التي يعمل عليها واألهداف الموكل إليه تحقيقها بوضوح وشفافية
فنحن نريد حكومة تعمل بثقة وشفافية وبروح الفريق لخدمة الصالح العام ،من دون تراٍخ أو تباطؤ
تحت وطأة الخوف من اتخاذ القرار أو حسابات الشعبية اآلنية ،أو سياسات االسترضاء التي
أضاعت على وطننا في الماضي الكثير من فرص التمّيز والتطّو ر والتغيير اإليجابي الذي يمكننا
.من مواكبة روح العصر ومتطلباته
ونحن إذ نؤكد على ضرورة االلتزام بالقوانين في كل ما تقوم به الحكومة ،فإننا نوجهك إلى إصدار
ميثاق شرف مرتكز على الدستور والقوانين يوضح كل المعايير األخالقية والقانونية التي يجب
على الوزراء االلتزام بها طوال فترة خدمتهم العامة ،بحيث تكون هذه الوثيقة المعلنة مرجعية
إضافية يعتمدها األردنيون في الحكم على أداء الفريق الوزاري .ويجب أيضًا أن تصدر عن
الحكومة وثيقة شبيهة ملزمة لكل العاملين في القطاع الحكومي وعلى جميع مستويات الخدمة
.العامة
فشعبنا الوفي مستعد لتحمل كل الصعاب ومواجهة كل التحديات إذا ما اقتنع بأن القائمين على
خدمته في مؤسسات الدولة يقومون بواجباتهم في أطر مؤسسية خاضعة للرقابة القانونية ،ومحصنة
.ضد جميع أشكال الفساد واستغالل الوظيفة والتحايل على القانون
ونحن نريد يا دولة األخ أن تتقدم حكومتكم خطوات نوعية في مسيرتنا اإلصالحية التحديثية
التطويرية التي نتمسك بها ضرورة حتمية لبناء أردن المستقبل اآلمن المستقر المزدهر .واإلصالح
منظومة سياسية اقتصادية إدارية اجتماعية متكاملة ال تصل مداها إال إذا تقدمت بشكل متواٍز في
جميع المجاالت .ونحن إذ نعتبر اإلصالح االقتصادي أولوية لما له من أثر مباشر على حياة
مواطنينا الذين يشكل تحقيق األفضل لهم هدفنا األساس ،فإننا نؤمن أن هذا اإلصالح لن يحقق
أهدافه إذا لم يقترن بإصالح سياسي يضمن أعلى درجة من المشاركة الشعبية في صناعة القرار،
عبر مؤسسات قادرة فاعلة تعمل بشفافية وموضوعية على تعظيم اإلنجاز والتصدي للقصور
.والتقصير والخلل وفقًا للدستور والقانون
وبعد أن صدرت إرادتنا بحل مجلس النواب تمهيدًا إلجراء انتخابات نيابية جديدة تكون أنموذجًا في
النزاهة والحيادية والشفافية ،فسيكون في مقدمة مهام حكومتكم اتخاذ جميع الخطوات الالزمة ،بما
في ذلك تعديل قانون االنتخاب وتحسين جميع إجراءات العملية االنتخابية ،لضمان أن تكون
االنتخابات القادمة نقلة نوعية في مسيرتنا التطويرية التحديثية ،وبحيث يتمكن كل األردنيين من
ممارسة حقهم في االنتخاب والترشح وتأدية واجبهم في انتخاب مجلس نيابي قادر على ممارسة
دوره الدستوري في الرقابة والتشريع واإلسهام بفاعلية في استكمال مسيرة البناء ،وفي تكريس
.الديموقراطية ثقافة وممارسة في وطننا الحبيب
وعلى الحكومة أن تعيد تقييم آليات تعاملها مع مجلس النواب بما يضمن إعادة تصحيح هذه العالقة
لتقوم على التعاون والتكامل في خدمة المصلحة العامة ،وبحيث تمارس السلطتان صالحيتهما
الدستورية من دون تغّو ل سلطة على أخرى ،أو اللجوء إلى تفاهمات مصلحية تجعل من تحقيق
المكتسبات الشخصية شرطًا الستقرار عالقة السلطتين .ولضمان عدم تكرار أخطاء الماضي ،فإننا
نطلب منكم إعداد ميثاق شرف ملزم يوضح األسس التي تحكم كل تعامالت الحكومة مع أعضاء
مجلس النواب وفق الدستور والقانون .ونأمل أن يبادر مجلس النواب الجديد أيضًا إلى إصدار وثيقة
مماثلة تطمئن األردنيين إلى أن العالقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية محكومة بمعايير تحقق
المصلحة العامة والتكامل الدستوري والقانوني والسياسي المطلوب لخدمة الوطن ،وليست مرتهنة
.لالعتبارات والمكتسبات الشخصية الضيقة
وإذ تشكل االنتخابات القادمة ،التي يجب أن ال يتأخر إجراؤها عن الربع األخير من العام المقبل،
خطوة رئيسية في تطوير أدائنا الديموقراطي وتعزيز المشاركة الشعبية في عملية التنمية السياسية،
فإننا نريدها جزءًا من برنامج تنمية سياسية شامل يعالج كل المعيقات أمام تحقيق هذه التنمية،
ويسهم في تطور العمل السياسي الحزبي البرامجي ،ويفتح المجال أمام جميع أبناء الوطن
للمشاركة في مسيرة البناء .ونحن ننتظر في هذا السياق قراراتكم حول سبل تنفيذ مشروع
الالمركزية من أجل تحقيق تطور نوعي في آليات اتخاذ القرار وضمان أعلى درجات المشاركة
.الشعبية في صناعة السياسات الوطنية
ويتطلب نجاح هذا البرنامج اتخاذ جميع الخطوات الالزمة لضمان حرية التعبير وفسح المجال أمام
اإلعالم المهني الحر المستقل لممارسة دوره ركيزة أساسية في مسيرة التنمية الوطنية .وعلى ذلك
فال بد من إجراء التعديالت التشريعية الالزمة وتبني السياسات الكفيلة بإيجاد البيئة المناسبة لتطّو ر
صناعة اإلعالم المحترف وضمان حق وسائل اإلعالم في الوصول إلى المعلومة والتعامل معها
من دون أي قيود أو عوائق .ويجب أيضًا تعديل القوانين وتحديثها لحماية المجتمع من الممارسات
.الالمهنية والالأخالقية التي تقوم بها بعض وسائل اإلعالم
وبالنسبة للسياسة االقتصادية ،فلقد كان لألوضاع اإلقليمية والدولية آثارها السلبية على أوضاعنا
االقتصادية .وعلى الحكومة بذل أقصى جهودها لتطوير األداء االقتصادي وضمان اإلدارة المثلى
للموارد ،والعمل ضمن خطط واضحة تحمي اقتصادنا من تداعيات األزمة االقتصادية العالمية
وتمكنه من تحقيق أعلى مستويات النمو .وال بد من بلورة السياسات االقتصادية والمالية الكفيلة
بزيادة تنافسية االقتصاد الوطني .ويجب أن يشمل برنامج الحكومة االقتصادي خطوات وإجراءات
تحقق التوازن بين اإلمكانات المالية والطلب على اإلنفاق الحكومي ،والمحافظة على االستقرار
المالي والنقدي ،وتعزيز االعتماد على الموارد الذاتية ،وتطوير التشريعات االقتصادية ،وتحقيق
أعلى درجات التوازن التنموي بين المحافظات بما يؤدي إلى تحسين المستوى المعيشي للمواطنين
كافة ومحاربة الفقر والبطالة .وال بد أيضًا من العمل على حماية الطبقات الفقيرة ،وتقوية أدوات
.العمل المؤسسي لرعاية المحتاجين
وألن االستثمار يشكل أحد أهم مقّو مات النجاح االقتصادي ويسهم في توفير فرص العمل وجذب
التكنولوجيا الحديثة وتطوير قدرات قوانا العاملة ،يجب تطوير البيئة االستثمارية والعمل بشكل
.مكثف على جذب االستثمار األجنبي
وفي ذات السياق ،فإن الحكومة مدعوة لتسهيل عمل المستثمر األردني ودعم رجال األعمال
األردنيين بكل فئاتهم ،بما في ذلك معالجة المعيقات البيروقراطية وتطوير آليات تمويل المشاريع
وتحديث إجراءات طرح العطاءات ،بما يضمن مشاركة جميع المستثمرين فيها بشفافية وعدالة .وال
بد أيضًا من القيام بكل ما يلزم من إجراءات تشريعية وتنظيمية لضمان سالمة الجهاز المصرفي
وحيويته ،وتحصينه ضد تداعيات األزمة االقتصادية والمالية العالمية .وعلى الحكومة االستمرار
في تطبيق السياسات المستهدفة تطوير الشراكة مع القطاع الخاص ،بحيث يقوم بدوره كامًال في
.مسيرتنا التنموية
ويجب أن تركز السياسة االقتصادية الحكومية على تحقيق األمن الغذائي والمائي وتلبية احتياجات
المملكة من مصادر الطاقة ،عبر التخطيط البعيد المدى وإقامة المشاريع الكبيرة القادرة على تلبية
احتياجاتنا المتنامية .ولتحقيق أفضل النتائج الممكنة ،وفي ضوء تداخل مشاريع الماء والغذاء
والطاقة ،على الحكومة أن تضع األطر المؤسسية التي تضمن أعلى درجات التنسيق في إدارة
المشاريع في هذه القطاعات واالستثمار فيها ،وخصوصًا في مشاريع الطاقة البديلة ،والتنقيب عن
الغاز والصخر الزيتي ،والطاقة النووية ،وجر مياه الديسي ،ومشروع ناقل البحرين .ويحتاج قطاع
الزراعة ،الذي يشكل إحدى أهم ركائز األمن الغذائي ،إلى المزيد من الرعاية واالهتمام ،وذلك من
خالل إيجاد المشاريع الداعمة للمزارعين ،وإعفاء مستلزمات القطاع الزراعي من الضرائب،
.وتقديم القروض الميسرة للمزارعين ،وإيجاد األسواق الجديدة لمحاصيلهم
وال بد أن يواكب االستثمار في هذه المشاريع الكبرى عمٌل مواٍز لتطوير البنية التحتية ،وخصوصًا
قطاع االتصاالت وشبكات الطرق ،واستكمال اإلجراءات المتعلقة بإنشاء سكة الحديد الوطنية،
ليكون األردن مركزًا إقليميًا للنقل ،ولتطوير إمكانيات التكامل والتعاون مع الدول العربية
.المجاورة
ولما كان اإلنسان محور العملية التنموية برمّتها ،وهو وسيلتها وغايتها ،فقد بنينا رؤيتنا ألردن
المستقبل على االستثمار في اإلنسان األردني المبدع المتميز بعطائه .فهو ثروة وطننا الحقيقية.
وعلى الحكومة المضّي قدمًا في تطوير العملية التربوية والتعليمية ،عبر تنفيذ مشروع التطوير
التربوي على مدار السنوات الخمس القادمة ،وتطوير التعليم الجامعي مع الحفاظ على استقاللية
الجامعات ،والتوسع في مجاالت التعليم المهني بما يتالءم مع متطلبات سوق العمل .ونؤكد في هذا
السياق على ضرورة وضع البرامج العملية إلطالق طاقات الشباب وإمكانياتهم ،وتسليحهم بالعلم
.والمعرفة حتى يتمكنوا من مواكبة متطلبات العصر ومن اإلسهام في بناء وطنهم بكفاءة واقتدار
أما في مجال الرعاية الصحية ،فالمطلوب هو توسيع مظلة التأمين الصحي ليشمل جميع
المواطنين ،وتنفيذ العديد من المشاريع الصحية الكبرى مثل حوسبة القطاع الصحي ،ومشاريع
تطوير مستشفيات البشير والزرقاء الجديد ،والبادية الشمالية ،وتحسين مستوى الخدمات الصحية
المقدمة للمواطن ،في المستشفيات والمراكز الصحية ،مع مراعاة التنسيق بين المستشفيات لضمان
.االستخدام األمثل للموارد
وإيمانًا منا بحق اإلنسان في الحيـاة اآلمنة الكريمة ،فإننا نؤكد على أهمية برامج حماية األسرة
والمرأة والطفل ،وتقديم الحماية والرعاية للفئات المعرضة للعنف وتطوير التشريعات الكفيلة
.بتحقيق هذا الهدف النبيل
وال بد من التأكيد هنا على أن يكون توفير السكن الكريم للمواطنين في مقدمة أولويات الحكومة.
وقد أطلقنا مبادرة «سكن كريم لعيش كريم» في العام 2008من أجل توفير أكبر عدد ممكن من
المساكن للمواطنين بأسعار معقولة وآليات تمويل تتيح فرص اإلفادة منها ألصحاب الدخل المحدود.
ورغم تحقيق بعض النجاحات في تنفيذ تلك المبادرة ،إال أن اإلنجاز كان دون الطموح .وعلى ذلك
فإن المطلوب اآلن هو المباشرة بدراسة جميع جوانب المبادرة ووضع الخطة الالزمة لمعالجة
ًا
الثغرات وإزالة المعيقات التي تواجه إتمامها ،وتحديدًا في ما يتعلق بآليات التمويل ،من أجل
.تطويرها وتنفيذها ضمن جدول زمني محدد
وال بد أيضًا من االستمرار في تحسين مستوى الخدمات المقدمة للمواطن ،ووضع خطة شاملة
.إلحداث نقلة نوعية في مستوى هذه الخدمات وضمان تقديمها بسهولة وفاعلية
وإن التنمية الشاملة التي نسعى إلى تحقيقها تستدعي المزيد من االهتمام ببرامج تطوير القطاع
العام ،وإعادة هيكلة الجهاز الحكومي وزيادة تأهيله ،وتخليصه من مظاهر الترهل ،واعتماد مبدأ
تكافؤ الفرص والشفافية في التعيين والترقية ،وتفعيل آليات المحاسبة والمساءلة ،ومحاربة كل
.أشكال الفساد والواسطة والمحسوبية بمنتهى الحزم والشعور بالمسؤولية
فالتنمية ال تتحقق إال في ظل العدالة والمساواة وسيادة القانون على الجميع .والضمانة لكل ذلك هو
الجهاز القضائي ،الذي نحرص على استقالليته ونزاهته وكفاءته وسمعته الطيبة ،من خالل العمل
على تنفيذ الخطط والبرامج الالزمة لتطوير هذا الجهاز ،وعلى رأسها برنامج قضاة المستقبل،
.وتيسير إجراءات التقاضي وتحسين أداء المرافق واألجهزة التابعة لهذا الجهاز
وإن حق المواطن وكرامته خط أحمر ،وكرامة األردنيين عندي أسمى وأقدس من أن يمّسها أحد
بسوء .وقد ساء األردنيين جميعًا بعض مظاهر العنف واالعتداء على المواطن والمعلم والموظف
والطبيب .وهذا أمر مرفوض في كل األحوال .ولذلك يجب تفعيل القوانين وتطبيقها على الجميع
.بمنتهى العدالة والحزم .فاألردنيون سواسية أمام القانون ،ومتساوون في الحقوق والواجبات
وما كان إلنجازاتنا الوطنية أن تتحقق من دون نعمة األمن واالستقرار .وقواتنا المسلحة وأجهزتنا
األمنية هي الضمانة لسيادة الوطن وأمنه واستقراره ،وهي موضع فخر األردنيين واعتزازهم .وإن
من أهم واجباتنا جميعًا أن نوليها كل الدعم والرعاية واالهتمام من حيث اإلعداد والتدريب
.والتسليح ،حتى تظل كما كانت على الدوام مثاًال في الكفاءة واالقتدار
وفي ما يتعلق بعالقاتنا العربية ،فقد كان األردن منذ أن تأسس وإلى يومنا هذا في طليعة أمته
العربية من حيث االلتزام بانتمائه لهذه األمة والعمل على تعزيز التضامن والتكامل ضمن
مؤسسات العمل العربي المشترك .ونحن مستمرون في القيام بواجبنا في الدفاع عن حقوق األمة
.وقضاياها العادلة ،وفي مقدمة ذلك القضية الفلسطينية
وسنستمر في تقديم كل أشكال الدعم واإلسناد ألشقائنا الفلسطينيين في نضالهم للحصول على
حقوقهم المشروعة ،خصوصًا حقهم في قيام دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني ،وعاصمتها
القدس الشرقية .ونؤكد هنا أن القدس بالنسبة لنا ولكل العرب والمسلمين خط أحمر ال نقبل
.بتجاوزه
وسنواصل عملنا وسنوظف كل عالقاتنا من أجل تحقيق السالم على أساس حل الدولتين وفي سياق
إقليمي شامل ،يعيد جميع الحقوق العربية ،ووفق المرجعيات المعتمدة ،خصوصًا مبادرة السالم
العربـية ،من أجل أن تنعم المنطقة باألمن واالستقرار وتتحرر من ويالت الصراع والظلم
واالحتالل .وعلى الحكومة االستمرار في الوقوف بكل طاقاتها إلى جانب األشقاء الفلسطينيين
.وتزويدهم بكل أشكال الدعم والمساعدة التي يحتاجونها
إن ثقتنا بك يا دولة األخ كبيرة ،وقد عرفتك شابًا أردنيًا مخلصًا متحمسًا للعمل والعطاء وحققت
نجاحات كثيرة في كل المهمات التي كلفتك بها .ونحن على يقين بأنك ستعمل وفريقك الوزاري
ضمن أقصى طاقاتكم .وستجدون مني كل الدعم والمؤازرة .ونحن إذ ننتظر موافاتنا بأسماء
الوزراء الذين يقع عليهم اختيارك ،ليتحملوا معك أمانة المسؤولية ،فإننا نسأل المولى عز وجل أن
.يوفقنا جميعًا لخدمة األردن العزيز وتحقيق طموحات شعبنا األبي المعطاء
نبذة عن الكتاب
يكاد يكون حدًثا غير مسبوق أن يعمَد ملٌك إلى كتابِة مذِّك راِته ،متصدًيا ،مباِش رة ،لما يواجُه ه من
مسائَل حساّسٍة ودقيقة في منطقة الشرق األوسط .هذا ما قّر ر القياَم به جاللُة الملك عبد هللا الثاني ابُن
الحسين ،إدراكا منه لما تنطوي عليه المرحلُة من حاجٍة ملّحٍة إلى التحرك في االتجاه الصحيح على
طريق اإلصالح السياسي واالجتماعي واالقتصادي ،ويقيًنا منه أن ُفسحَة تحقيِق السالم العربي-
اإلسرائيلي َتضيُق بوتيرٍة متسارعة حتى تكاد تنحسُر تماًم ا .منذ ما يزيد على عقد ُيديُر دفَة الحكم في
األردن ،البلد المركزّي في كل ما ُيطرح أو يدور من نقاشاٍت حوَل الصراع العربي-اإلسرائيلي،
والعراق ،وإيران ،ومستقبِل العالقات بين أميركا والعالم اإلسالمّي .يقوم الملك عبد هللا الثاني بدور
محوري في كل هذه المسائل .لكَّن نشأَته وتربيَته قد جاءتا خاليتين تماًم ا مما قد ُيشير إلى أن هذا
الدور ،من موقع رأس الدولة بالذات ،كان بانتظاره.
قيل في الكتاب
«في فرصتنا األخيرة يقص علينا الملك عبد هللا الثاني ابن الحسين ،بأسلوبه السهل الممتنع،
الملكّي النكهة ،مساَر سنواته العشر األولى في الحكم ،راويًا عمق رؤيته اآلسرة حيال ما نواجهه من
تحديات كبرى ،ونظرته المشبعة بالحس اإلنساني بالنسبة إلى السالم في عالمنا المضطرب .من
طينة الرجال الطيبين ومن القادة الطليعيين ،كّر س جهده وعمله الدؤوب ليأتي بالسالم واالزدهار
والرخاء إلى بلده ومنطقته .في هذه المذكرات ُيعِم ل الفكر والتأمل عميقا في المعطيات التي تتيح لنا
اليوم ،على الرغم من كل العوائق ،أن نحقق سالمًا غاليًا ،ويشرح األسباب التي تضعنا أمام
«فرصتنا األخيرة» التي ال يمكننا التفريط بها» .الرئيس بيل كلينتون
«قصة العمق الؤيوي ،والحنكة القيادية ،والبطولة نقرأها جلية صادقة في «فرصتنا األخيرة».
الجنرال تومي فرانكس
«لقد كان ألفكار الملك عبد هللا الثاني ابن الحسين ،كما ألعماله ،دور حاسم في النهوض بمستوى
معيشة الشعب األردني ورفاهه» .ووِر ن بافت
نبذة عن المؤلف
الملك عبد هللا الثاني ابن الحسين ولد جاللة الملك عبد هللا الثاني في عمان في الثالثين من كانون
الثاني /يناير .1962تلقى علومه االبتدائية في الكلية العلمية اإلسالمية في عمان عام 1966م ،بداية،
لينتقل بعدها إلى مدرسة سانت إْدمند في ساري بإنجلترا ،ومن ثم إلى مدرسة إيغلبروك وأكاديمية
ديرفيلد في الواليات المتحدة األمريكية إلكمال دراسته الثانوية .ومن َثّم التحق باألكاديمية الملكية
البريطانية في ساندهرست .تدرج في الخدمة في القوات المسلحة األردنية حتى توّلى قيادَة العمليات
الخاصة.
ينتمي جاللة الملك عبد هللا الثاني إلى الجيل الثالث واألربعين من أحفاد النبي محمد صلى هّللا عليه
وسّلم .وهو عميد األسرة الهاشمية .وقد حمل جّده األكبر راية ثورة االستقالل العربية التي انتهت
بالتحرر من الحكم العثماني.