You are on page 1of 367

‫هذا الكتاب ُم جاٌز لمتعتك الشخصية فقط‪ .‬ال يمكن إعادة بيعه أو إعطاؤه ألشخاٍص آخرين‪ .

‬إذا كنت مهتّم ًا بمشاركة هذا الكتاب مع‬


‫شخٍص آخر‪ ،‬فالرجاء شراء نسخة إضافّية لكل شخص‪ .‬وإذا كنَت تقرأ هذا الكتاب ولم تشتره‪ ،‬أو إذا لم ُيشتَر الستخدامك الشخصي‪،‬‬
‫فالرجاء شراء نسختك الخاّص ة‪ .‬شكرًا لك الحترامك عمل المؤّلف الشاق‪.‬‬
‫© عبد هللا الثاني ابن الحسين‪2011 ،‬‬
‫جميع الحقوق محفوظة‬
‫الطبعة الورقية األولى‪2011 ،‬‬
‫الطبعة اإللكترونية‪2011 ،‬‬
‫‪ISBN-978-614-425-264-2‬‬
‫دار الساقي‬
‫بناية النور‪ ،‬شارع العويني‪ ،‬فردان‪ ،‬بيروت‪ .‬ص‪.‬ب‪ .5342/113 :.‬الرمز البريدي‪2033 - 6114 :‬‬
‫هاتف‪ ،961 1 866442 :‬فاكس‪961 1 866443 :‬‬
‫‪e-mail: info@daralsaqi.com‬‬
‫يمكنكم شراء كتبنا عبر موقعنا اإللكتروني‬
‫‪www.daralsaqi.com‬‬
‫تمهيد للطبعة العربية‬

‫في هذا الكتاب‪ ،‬الذي ُو ضع أساسًا باللغة اإلنكليزية‪ ،‬ويصدر ‪ -‬باإلضافة إلى اإلنكليزية والعربية ‪-‬‬
‫في ثماني لغاٍت أخرى‪ ،‬تتوجه كلمتي بالدرجة األولى إلى القطاع األوسع من الرأي العام العالمّي ؛‬
‫في محاولٍة لسّد بعض الفراغ الكبير في أوساط هذا الرأي العام‪ ،‬على الصعيدين المعرفّي‬
‫والمعلوماتي‪ ،‬حياَل عالمينا العربّي واإلسالمي‪ .‬وما أسميه فراغًا هنا هو‪ ،‬في واقع األمر‪ ،‬نقٌص ذو‬
‫وجهين‪ :‬ففي حين نتعاطى‪ ،‬نحن المشرقيين عمومًا‪ ،‬باستخفاٍف مع الصورة التي يرانا فيها الرأي‬
‫العام العالمي ‪ -‬والغربُّي على وجه الخصوص ‪ -‬نجد من ناحية أخرى أن هذه الصورة متروكة لوحًة‬
‫بيضاَء فارغة يمألها عنا اآلخرون‪ ،‬من غير العرب والمسلمين‪ ،‬بما شاءت لهم أهواؤهم‪ ،‬وإذا هي‬
‫ليست خاليًة من جوهر تاريخنا‪ ،‬وتراثنا‪ ،‬وثقافتنا‪ ،‬وهوَّيتنا‪ ،‬وقيمنا‪ ،‬وقضايانا العربية واإلسالمية‬
‫فحسب‪ ،‬وإنما مثقلٌة أيضًا بما قد يشّو ه كل هذه القيم وهذا الثراء العربي واإلسالمي‪ ،‬ويقلب حقائقه‪،‬‬
‫ويزرع مكانها في أحيان كثيرة وجهًا من التخلف واإلرهاب رابطًا ما بينهما وبين العرب‬
‫والمسلمين‪.‬‬
‫إنني أعلم علم اليقين أن الرأي العام العالمي‪ ،‬بكثرته الساحقة‪ ،‬إذا كان يرى صورًة مشوهًة للعرب‬
‫والمسلمين فألن العرب والمسلمين غائبون‪ ،‬بينما من يريد بهم شّر ًا يمأل الفراغ بما يخدم أهواءه‬
‫وغاياته‪ .‬ولكن متى استفاق العرب والمسلمون واحتلوا موقعهم على مسرح الحدث‪ ،‬وواكبوا العصر‬
‫بوسيلته العظمى‪ ،‬بالصورة والصوت والكلمة‪ ،‬صَّو بوا نظرة هذا الشطر األكبر من الرأي العام‬
‫العالمي‪ ،‬وقَّو موا االعوجاج‪ ،‬وكشفوا الوجَه الحقيقَّي المشرق لقيم اإلسالم وتراث العرب الحضارّي‬
‫والثقافّي ‪ .‬عندئٍذ‪ ،‬وعندئٍذ فقط‪ ،‬تصبح القلة التي تتعمد تشويه الصورة خدمًة لغاياتها ومصالحها غير‬
‫ذات تأثير فاعل في مجرى األحداث‪.‬‬
‫إن الصراع العربّي ‪ -‬اإلسرائيلي‪ ،‬الذي ما فتئ يتأجج منذ عقود طويلة‪ ،‬هو البركان الذي كلما‬
‫استفاق لم يرسل حممه إلى جواره وحسب‪ ،‬بل إلى خارج حدود المنطقة أيضًا‪ .‬وإن كان عالمنا‬
‫العربي واإلسالمي يعيش مجموعة من المشكالت المعقدة‪ ،‬السياسية واالقتصادية واالجتماعية‬
‫والثقافية والتنموية‪ ،‬فإن أخطر هذه المشكالت‪ ،‬وأشدها تدميرًا للبشر والحجر على السواء‪ ،‬هي دون‬
‫ريب مشكلة الصراع العربي ‪ -‬اإلسرائيلي‪ .‬إن منطقة الشرق األوسط لن تشهد أمنًا وال استقرارًا وال‬
‫سالمًا‪ ،‬وهي بالتالي لن تشهد نمّو ًا حقيقّيًا وال لحاقًا بركب التطور اإلنساني والحضاري‪ ،‬ما لم تشهد‬
‫أوًال الحّل المنشود لهذا الصراع‪ ،‬على أسس تضمن إنصاف الشعب الفلسطيني‪ ،‬وإنهاء االحتالل‪،‬‬
‫وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها القدس الشرقية‪ ،‬وفي‬
‫إطاٍر إقليمي يضمن السالم الشامل‪ ،‬القائم على أساس استعادة جميع الحقوق العربية‪ .‬ولذلك ال بد من‬
‫التأكيد أنه ما من أولويٍة أخرى سوى هذا الحل الشامل يمكن أن تفتح الباب واسعًا للبدء بالتعاطي مع‬
‫ما تواجهه المنطقة من مشكالت أخرى‪ ،‬والمباشرة بمعالجتها واحدًة تلو األخرى‪.‬‬
‫إن المجتمعات العربية‪ ،‬بغالبيتها العظمى‪ ،‬مجتمعاٌت يغلب عليها عنصر الشباب‪ .‬وتمثل هذه‬
‫الحقيقة فرصًة ثمينًة وتحديًا حساسًا في آٍن معًا‪ .‬ال حاجة بنا إلى االسترسال في تعداد اإليجابيات التي‬
‫تتيحها هذه الفرصة؛ فهي زاخرة بالوعود واآلمال الكبرى‪ .‬أما التحدي فيتمثل في الحاجة الماسة إلى‬
‫تعميم التعليم ورفع مستوى مناهجه‪ ،‬وتأهيل القوى العاملة واالرتفاع بقدراتها المهنية والتقنية‪،‬‬
‫وبالتالي توفير فرص العمل وتأمين الخدمات الصحية‪ ،‬وُح سن الربط بين مناهج التعليم وتطوير‬
‫المهارات التقنية من جهة‪ ،‬وحاجات سوق العمل من جهة ثانية‪ ،‬خصوصًا متى أخذنا باالعتبار أن‬
‫هناك حاجًة إليجاد مئتي مليون فرصة عمل على مدى السنوات القليلة اآلتية‪.‬‬
‫بلوغًا إلى هذه األهداف المرتجاة ال بد من العمل الجاد والفورّي على بناء بيئة سياسية‪ ،‬اجتماعية‪،‬‬
‫ثقافية‪ ،‬واقتصادية منفتحة‪ ،‬في مجتمع تسوده العدالة االجتماعية والمساواة واالحترام الكامل لحقوق‬
‫االنسان‪ ،‬وتطبيق مندرجاتها خصوصًا على صعيد الحريات العامة‪ ،‬وذلك وصوًال إلى تطوير الفكر‬
‫النقدي المبدع والمتحرر من القيود‪ .‬كل هذا لن يكون إال بإطالق ورشة إصالحاٍت اجتماعية‬
‫واقتصادية وسياسية كبرى‪ ،‬تؤدي بمسارها المتواصل والمصّم م إلى تطويٍر نحو الديموقراطية‬
‫الحقيقية التي يشعر معها الشباُب العربّي باألمل الواعد‪ ،‬وبالقدرة على تحقيق ذاته والمساهمة الفاعلة‬
‫في صناعة القرار‪ ،‬وفي بناء مستقبله ومستقبل بالده وأمته‪ .‬وتلك مهمة ليست سهلة‪ .‬فقوى الشد‬
‫العكسي كثيرة‪ ،‬وترى في اإلصالح خطرًا على مصالحها الخاصة فتقاومه بال هوادة‪ .‬فلقد كنا في‬
‫األردن أعلنا اإلصالح ضرورة حتمية‪ ،‬ومّه دنا الطريق للمضي به خطوات جادة وملموسة‪ ،‬تثمر‬
‫إصالحات سياسية لن ينجح من دونها اإلصالح االقتصادي‪ ،‬الذي يشكل أولوية النعكاسه المباشر‬
‫على مستوى معيشة المواطنين‪ .‬إال أن المسيرة اإلصالحية‪ ،‬التحديثية‪ ،‬التطويرية تعثرت وتباطأت‪،‬‬
‫فكانت ما إن تسير خطوتين إلى األمام حتى تتراجع خطوة إلى الخلف؛ نتيجة مقاومة القوى‬
‫المتمسكة بالراهن‪ ،‬حرصًا منها على مصالحها الخاصة‪ ،‬حتى لو جاءت على حساب المصلحة‬
‫العامة‪ .‬من هنا تبرز الحاجة لتالقي القوى اإلصالحية على طرح إصالحي برامجي‪ ،‬يحّيد في ثباته‬
‫وتصميمه القوى التي تصر على العيش في الماضي‪ ،‬وترفض أن ترى إلى متطلبات العصر‬
‫وشروط النجاح فيه‪.‬‬
‫ليست الساعُة يومًا‪ ،‬وال اليوُم أسبوعًا‪ ،‬وال الشهُر عامًا وال عقدًا من األعوام‪ .‬لم يعرف التاريخ‬
‫البشرّي حقبًة زمنيًة كان فيها الوقُت أغلى منُه في زمننا هذا‪ .‬وإذا كان لي أن ألقَي بين أيدي شبابنا‬
‫وشاباتنا في العالم العربي تمنيًا هو األغلى واألكثر إلحاحًا ما ترددُت في القول‪ :‬ال تهدروا من‬
‫عمركم المنتج ساعًة وال يومًا وال أسبوعًا‪ .‬إن بالدكم وأمتكم بحاجة إلى عقولكم وسواعدكم تعمل ال‬
‫تكل في مواكبة ركب التطور اإلنساني‪ ،‬ليس فقط للحاق به‪ ،‬بل للمنافسة في كل مجاالت اإلبداع‬
‫والتطور‪ :‬في اإلصالح السياسّي الحقيقي‪ ،‬والعدالة والمساواة‪ ،‬والمشاركة واحترام التعددية‪ ،‬وتعزيز‬
‫العمل المؤسساتي‪ ،‬وإدارة الحاضر بأدواته ال بأدوات الماضي‪ ،‬والثقة بتراثنا الثقافّي وبقيمنا‬
‫اإلسالمية‪ ،‬والتوُّج ه بهذا الثراء وهذه القيم نحو الحداثة الحقيقية متجاوزين أساليَب الرفض والسلبية‪.‬‬
‫فلنطمْح ‪ ،‬وْلنحُلْم ‪ ،‬وْلَنستهدِف األفضل اليوم‪ ،‬واألفضَل منه غدًا‪ ،‬واثقين بعقلنا وبقدرتنا على‬
‫اإلنجاز‪ .‬إن اإليجابية بحّد ذاتها هي ثقافٌة غزيرُة العطاء‪ ،‬فلنجعْل منها ركيزًة ونهجًا في حياتنا‪ .‬أما‬
‫السلبية والخوف من التغيير والتردد أمام الطموحات الكبيرة فهي عوائق تبقينا أسرى آفاق ضيقة‪،‬‬
‫وتحرم مجتمعاتنا من فرص المضي بقدراتها وطاقاتها إلى رحابها الواسعة‪ .‬وإن تجاوز هذه السلبية‬
‫التي تتمترس خلف «ال نستطيع‪ ،‬ال نقدر‪ ،‬وليس ممكنًا» أمام كل طموح كبير أو فكرة رائدة‪ ،‬شرط‬
‫لالنتصار على التحديات وبناء الغد الذي تستحقه شعوبنا‪ .‬بهذه الروح أتوجه إلى قرائي‪ ،‬وأخّص من‬
‫بينهم الجيل الشاب‪ ،‬وأقول لهم‪ :‬ما من مستحيٍل أمام العقل واإلرادة متى اجتمعا!‬
‫أما على الصعيد اإلقليمي والعربي‪ ،‬فاألمل قائم على بناء المزيد من آليات التعاون عبر‬
‫المؤسسات‪ .‬فهذا التعاون هو الذي يحقق التكامَل بين الدول العربية ويوّسع إطار المشاركة في‬
‫المجاالت االقتصادية واالجتماعية والثقافية‪ ،‬ويفتح مجال الربط بين بلدان اإلقليم بشبكات الطاقة‬
‫والمياه والنقل بحيث تكتمل دائرة التعاون وتزداُد العروُة الوثقى وثوقًا‪.‬‬
‫إننا قادرون على بناء المستقبل الذي يستحقه أبناؤنا‪ ،‬وإننا لمصِّم مون على ذلك بإذن العلِّي القدير‬
‫ومشيئته‪.‬‬
‫وإنني إذ أتوجه بكتابي هذا أيضًا إلى أبناء أسرتي األردنية الواحدة‪ ،‬وإلى المواطن العربي حيثما‬
‫كان‪ ،‬وأضع أمامهم ما وضعت أمام القارئ األجنبي من أفكار وطروحات حول قضايانا العربية‬
‫واإلسالمية‪ ،‬وحول تجربتي في خدمة شعبي األردني الذي يمّثل تحقيق األفضل له أسمى ما أسعى‬
‫إليه‪ ،‬آلمل أن أكون قد أسهمت في إبراز الصورة الحقيقية لحضارتنا وإرثنا العربي واإلسالمي‪.‬‬
‫وعلى الرغم من كل التحديات‪ ،‬فإنني لن أكون إاّل متفائًال بمستقبل أمتنا العربية واإلسالمية‪ ،‬وقدرتها‬
‫على بناء المستقبل الذي يليق بتاريخها‪ ،‬ويحقق لها المكانة المتقدمة بين الشعوب‪ .‬وهذا أمل أجده‬
‫يتجدد ويزداد قوة كلما استمعت إلى شاب أردني يتحدث بثقة وحماسة عن طموحات ال تقبل أن‬
‫تحاصرها محِّددات الراهن‪ ،‬وإصرار على النهل من إمكانيات عصر تفوق فرصه كل تحدياته‪.‬‬
‫مقـِّدمـة‬

‫عندما بدأُت ‪ ،‬منذ عامين‪ ،‬تحرير هذا الكتاب كنت آمل أن أروي فيه كيف تمكنت الواليات المتحدة‬
‫وإسرائيل والعالمان العربُّي واإلسالمّي ‪ ،‬وسط تراكم العوائق والمصاعب‪ ،‬من تحقيق السالم في‬
‫الشرق األوسط‪ .‬وفيما أنا أخُّط هذه الكلمات ال َيسُعني سوى القول إن ما أرويه هنا هو قصُة هذا‬
‫السالم المنشود الذي ال ينفُّك ُيراوغنا ونحن ال ننفُّك مصِّم مين على تحقيقه؛ ذلك أننا في هذه المنطقة‬
‫من العالم‪ ،‬حيث منسوُب التفاؤل أكثر انخفاضًا من منسوب المياه‪ ،‬ال َيسُعنا أن نفقد األمل‪.‬‬
‫لماذا‪ ،‬يا ُترى‪ ،‬يمكن أن يختاَر رئيس دولٍة أن يكتَب كتابًا؟ ما أكثَر األسباَب التي قد تجعل أمرًا‬
‫كهذا يفتقر إلى الروية والحكمة‪ ،‬ذلك أن إدارة شؤون الدولة‪ ،‬حتى الدولة الصغيرة‪ ،‬هي عمل ال يبقي‬
‫لصاحبه متسعًا من الوقت‪ ،‬أضف إلى ذلك ضرورة الحفاظ على العالقات الطيبة مع دول في الجوار‬
‫وخارجه‪ ،‬قد يشعر العديد منها باإلساءة جّر اَء عرض الحقائق بصدق كما تراها دولة أخرى‪ .‬وال‬
‫ننسى أولئك الذين يوّدون إما أن تبقى أعماُلهم وتصرفاُتهم طَّي الكتمان‪ ،‬وإما أن ُيكاَل لها من‬
‫اإلطراء والمديح ما ال تستحقه‪.‬‬
‫لقد قررت أن أدَع جانبًا كل هذه االعتبارات وأن أسير على بركة هللا في كتابة هذا الكتاب؛ ألن‬
‫الشرق األوسط‪ ،‬هذه المنطقة ذات المراس الصعب والمعّقد التي أعيش فيها‪ ،‬تواجه أزمة مفصليًة‬
‫دون ريب‪ .‬في اعتقادي أننا ال نزال نمتلك فرصًة أخيرة لتحقيق السالم‪ ،‬لكّن الفسحَة الواعدة بهذا‬
‫السالم تضيق بوتيرة متسارعة‪ .‬وإذا لم نسارع إلى اغتنام هذه الفرصة التي يتيحها اآلن شبه‬
‫اإلجماع الدولي على الحّل ‪ ،‬فإنني على يقين من أننا سنواجه حربًا أخرى في منطقتنا ستكون على‬
‫األرجح أسوأ مما شهدناه من الحروب‪ ،‬وستحمل معها تداعياٍت أشَّد كارثية‪.‬‬
‫إن ذاكرة شعوب المنطقة تمتد بها إلى سنواٍت طويلة‪ ،‬وهي ال تنسى المحاوالت التي ُبذلت لجمع‬
‫أفرقاء الصراع والتي باءت جميعًا بالفشل‪ .‬ال يزال عدٌد كبير من الالعبين أنفسهم يتحرك على‬
‫مسرح األحداث‪ ،‬ويبدو أن منهم من سيبقى في قلب الحدث إلى سنواٍت آتية‪ ،‬وهذا ما قد يكون سببًا‬
‫وجيهًا يحول دون التكّلم علنًا على المسائل الحساسة‪ .‬أما أنا فعلى يقين من أن العالم يجب أن يعرف‬
‫المخاطر التي ينطوي عليها جلوسنا مكتوفي األيدي حياَل هذه المخاطر‪.‬‬
‫لقد عانى جيل والدي صدمَة الحرب بمعدل مرة كل عشر سنوات‪ ،‬فبعد الحرب التي أشعلها إنشاء‬
‫إسرائيل في العام ‪ 1948‬وقعت حرب السويس في العام ‪ ،1956‬لتأتي بعدها الحرب الكارثية في‬
‫العام ‪ 1967‬التي استولت خاللها إسرائيل على الضفة الغربية وسيناء ومرتفعات الجوالن‪ ،‬ثم وقعت‬
‫حرب العام ‪ 1973‬التي حاوَلْت خاللها مصر وسوريا استعادة األراضي التي خسرتاها في العام‬
‫‪ 1967‬ولكن المحاولة فِشلت‪ .‬بعد كل هذه الحروب وقعت الحرب بين إيران والعراق ليتبعها الغزو‬
‫اإلسرائيلي للبنان في أوائل ثمانينيات القرن الماضي‪ ،‬ومن َثَّم حرُب الخليج في العام ‪ .1991‬إن‬
‫الفتراِت الفاصلَة بين حرٍب وأخرى يمكن اعتبارها ُفسحًة للسالم ولكن بالحّد األدنى من مفهوم‬
‫السالم الحقيقي‪ ،‬ففي السنوات اإلحدى عشرة التي مضت منذ أن توليت مسؤوليتي ملكًا للمملكة‬
‫األردنية الهاشمية شهدُت خمسَة نزاعات‪ :‬انتفاضة األقصى في العام ‪ ،2000‬الغزو األميركي‬
‫ألفغانستان في العام ‪ ،2001‬الغزو األميركي للعراق في العام ‪ ،2003‬الحرب اإلسرائيلية على لبنان‬
‫في العام ‪ ،2006‬ومن َثَّم العدوان اإلسرائيلي على غزة في العام ‪ .2009–2008‬وهكذا ال يمّر‬
‫عامان أو ثالثة أعوام على ما يبدو دون أن تعاني منطقتنا المنَه كة بالمتاعب نزاعًا جديدًا‪ ،‬وحين‬
‫أنظر إلى اآلتي القريب أراني في خوٍف كبير من أن نكون مقبلين على حرٍب جديدة بين إسرائيل‬
‫وجيرانها تنطلق شرارتها من إحدى النقاط المشتعلة؛ ومن َثَّم تتسع وتتصّعد بوتيرة مرعبة‪.‬‬
‫يعود الصراع بين اإلسرائيليين والفلسطينيين في الزمن إلى مطلع القرن العشرين‪ ،‬لكَّن هذا‬
‫الصراع أشُّد وطأًة في وقتنا الحاضر منه في أّي وقٍت مضى‪ .‬فمنذ انهيار عملية السالم في العام‬
‫‪ 2000‬سقط ما يقارب ألف قتيل من اإلسرائيليين‪ ،‬فيما سقط على أيدي القوات اإلسرائيلية أكثر من‬
‫ستة آالف وخمسمئة فلسطيني‪ ،‬فضًال عن آالف الجرحى‪ .‬وها هو الشرق األوسط بكل أرجائه يواجه‬
‫اليوم تحّديا خطيرًا وحّساسًا حيال إيجاد الحل لهذا الصراٍع الذي يكاد يختصر التاريخ الحديث‬
‫للمنطقة‪ .‬ولكني أعتقد أننا إذا نجحنا في حل هذا الصراع‪ ،‬فسنكون قد عالجنا أحد أهم جذور العنف‬
‫وعدم االستقرار في الشرق األوسط‪.‬‬
‫حين ينظر الكثيرون من المعنيين في الغرب إلى منطقتنا يرونها أشبَه بسلسلة من التحديات‬
‫المنفصلة واحُدها عن اآلخر‪ :‬فهناك التوسع اإليراني‪ ،‬واإلرهاب الراديكالي المتطرف‪ ،‬والتوترات‬
‫المذهبية في العراق ولبنان‪ ،‬وهناك الصراع المتمادي والمتزايد تعقيدًا بين إسرائيل والفلسطينيين‪.‬‬
‫لكّن الحقيقة الساطعة هي أن كل هذه التحديات يتقاطع بعُض ها مع بعض‪ ،‬وأن الخيط الذي يربط في‬
‫ما بينها هو الصراع الفلسطيني ‪ -‬اإلسرائيلي‪.‬‬
‫بالنسبة إلى المسلمين‪ ،‬يختلف الصراع العربي ‪ -‬اإلسرائيلي نوعًا وتعريفًا عن أّي نزاٍع آخر لهم‬
‫به صلة‪ .‬وخالفًا لما يحلو للبعض أن يقول‪ ،‬ليس هذا الصراع في أساسه صراعًا دينّيًا وإنما هو نزاع‬
‫سياسّي حول الحقوق واألرض‪ .‬في العام ‪ 1900‬كان على أرض فلسطين التاريخية تسعون ألفًا من‬
‫اليهود وخمسمئة وعشرة آالف من العرب‪ .‬وبعد مرور قرٍن من الزمن شهد دفقًا من الهجرة اليهودية‬
‫إلى فلسطين بات عدد اليهود اآلن أكثر من ستة ماليين مقابل خمسة ماليين فقط من العرب‪ .‬جاء‬
‫عدد كبير من المهاجرين اليهود إلى فلسطين خالل فترة االضطهاد النازّي التي انتهت إلى واحدٍة من‬
‫أكبر الفواجع في التاريخ اإلنساني‪ ،‬وهي المحرقة (الهولوكوست)‪ .‬وهناك أعداد كبيرة طبعًا جاءت‬
‫في ما بعد عندما شَّر عت إسرائيل أبوابها أمام اليهود اآلتين من نواحي األرض األربع‪ ،‬وبنتيجة‬
‫حرب العام ‪ُ 1948‬هّج ر مئات اآلالف من الفلسطينيين الذين لم ُيسمح لهم بالعودة إلى ديارهم‪ .‬أما‬
‫حرب العام ‪ 1967‬فقد وضعت عددًا كبيرًا إضافيًا ‪ -‬خصوصًا الذين يعيشون في الضفة الغربية التي‬
‫كانت جزءًا من األردن ‪ -‬تحت االحتالل اإلسرائيلي‪ .‬ونتيجة لذلك‪ ،‬يعيش ماليين الفلسطينيين اليوم‬
‫تحت هذا االحتالل‪ ،‬فيما تشكل الممارسات اإلسرائيلية تهديدًا لُه وّية مدينة القدس‪ .‬وتفّسُر أهمية‬
‫القدس‪ ،‬على األقل جزئيًا‪ ،‬مدى مركزية المسألة الفلسطينية بالنسبة إلى العرب والمسلمين في كل‬
‫أنحاء العالم‪.‬‬
‫من األمور التي ال يدركها الغرب كما يجب‪ ،‬كوُن القضية الفلسطينية مسألًة عالمية‪ .‬حين أذهب‬
‫في زيارة إلى إندونيسيا أو الصين وألتقي المسلمين هناك يبادرونني إلى التحدث عن القدس‪ ،‬وعندما‬
‫ُز رت نيودلهي في العام ‪ 2006‬والتقيت جمعًا من المسلمين الهنود طرحوا علّي السؤال التالي‪ :‬متى‬
‫سيحُّل العرب المشكلة اإلسرائيلية ‪ -‬الفلسطينية؟ وعندما يعّدد الباكستانيون مصادر مظاِلمهم تأتي‬
‫إسرائيل مباشرًة بعد الهند‪ ،‬ومن هنا فإن المسألة الفلسطينية تمّثل قضيًة يترّدد صداها العميق بين‬
‫مليار ونصف المليار من مسلمي األرض‪.‬‬
‫هذه الحقيقة تفّسر (دون أن تبرر طبعًا) كيف تستطيع الجماعات الراديكالية المتطرفة‪ ،‬كتنظيم‬
‫القاعدة مثًال التي تّدعي أنها تريد «تحرير» القدس‪ ،‬التالعب االستغاللي بالقضية واستدراج‬
‫اآلخرين إلى ارتكاب أعمال إرهابية تحت ذريعة الدفاع عن اإلسالم والفلسطينيين‪ .‬كذلك تفِّسر هذه‬
‫الحقيقة سبب لجوء منظمات كحزب هللا وحماس ‪ -‬على الرغم من أنهما مختلفان جذريًا عن القاعدة‬
‫من حيث المهمة واأليديولوجية ‪ -‬إلى التسُّلح بوجه إسرائيل‪ ،‬فضًال عن أسباب استجابة األعداد‬
‫المتزايدة من العرب والمسلمين إلى نداء العمل المقاوم‪ .‬هذا النداء إلى الكفاح المسّلح ضد االحتالل‬
‫يحوز مزيدًا من الصدقية واالستجابة كلما أصيبت جهود بلداٍن عربية‪ ،‬كاألردن ومصر والمملكة‬
‫العربية السعودية‪ ،‬بالفشل في سعيها إلى الوصول إلى السالم من خالل المفاوضات‪.‬‬
‫لكن إذا استطاعت إسرائيل أن تنسَج سالمًا مع الفلسطينيين‪ ،‬فعندئٍذ إلى أّي تبريٍر معنوٍّي ‪ -‬أخالقٍّي‬
‫يمكن أن تلجأ أي حكومة أو جماعة مقاومة بغيَة االستمرار في الصراع؟ إذا كانت القدس مدينة‬
‫مشتركة‪ ،‬والقدس الشرقية عاصمًة لدولة فلسطينية قابلة للحياة‪ ،‬سّيدة ومستقلة‪ ،‬فماذا يبقى من‬
‫األسباب المنطقية لدى حكومة إيران‪ ،‬على سبيل المثال؛ لكي تستمّر في خطابها وأعمالها المضادة‬
‫إلسرائيل؟‬
‫من أمضى األسلحة بوجه دعاة العنف من المتطرفين القضاء على ما يصرخون به من شعارات‬
‫جذابة‪ .‬وسيسهم حّل المشكلة األشد تجُّذرًا عاطفّيًا في وجدان العالم اإلسالمي من خالل إقامة دولة‬
‫فلسطينية على أساس حدود العام ‪ 1967‬وعاصمُتها القدس الشرقية‪ ،‬في إزالة واحٍد من أكبر أسباب‬
‫الصراع في العالم اإلسالمي‪ .‬ما من شك في أن تحقيق السالم العادل والقابل لالستمرار هو أحد‬
‫أنجع السبل ضّد التطرف‪ .‬صحيح أنه لن يردع كل متطِّر ف ومتعّص ب‪ ،‬لكنه سيحّو ل ميدان الحركة‬
‫تحويًال أساسيًا باالتجاه اإليجابي‪ .‬من هنا فإن هذا الحّل يجب أن يكون أولويًة أميركية بَقْدر كونه‬
‫أولويًة عربية‪.‬‬
‫هناك ناحية أخرى من الصراع غالبًا ما ُيساء فهُم ها وهي وطأته الثقيلة على مسيحيي القدس‬
‫وعلى األماكن المقدسة في المدينة‪ .‬قبل حرب العام ‪ 1967‬كانت الضفة الغربية بما فيها القدس‬
‫الشرقية تحت إدارة األردن الذي ال يزال يتحّم ل مسؤولية رعاية األماكن المقدسة في المدينة القديمة‪،‬‬
‫المسيحية منها واإلسالمية على حٍّد سواء‪ .‬من هنا فإن األردن يبقى مدافعًا صلبًا عن حقوق‬
‫المسيحيين والمسلمين عندما يحاول اإلسرائيليون ترسيخ احتاللهم غير القانونّي للقدس الشرقية من‬
‫خالل بناء المزيد من المستوطنات‪ .‬اليوم لم يبَق في القدس سوى ثمانية آالف من المسيحيين‪ ،‬وكان‬
‫عدد هؤالء في العام ‪ 1945‬يقارب ثالثين ألفًا‪ .‬وقد اجتمعت السياسات اإلسرائيلية مع الضغط‬
‫االجتماعي واالقتصادي الناجم عنها لتجبر أكثرية المسيحيين على الهجرة‪ .‬إن األكثرية العظمى من‬
‫مسيحّيي القدس هم من العرب‪ ،‬وفيما ترّح ب إسرائيل باألجانب من المسيحيين الذين يأتون إلى‬
‫القدس زائرين‪ ،‬نراها تثقل حياَة المقدسيين منهم بالمصاعب الجمة‪ .‬وفي هذه السياسة مفارقة غريبة‪،‬‬
‫ذلك أن المسيحيين العرب هم المجتمع المسيحي األعرق في العالم والذي تعود جذوره في القدس إلى‬
‫عهد السيد المسيح عليه السالم‪ .‬لقد تساوى الفلسطينيون‪ ،‬من مسيحيين ومسلمين‪ ،‬في المعاناة من‬
‫وطأة االحتالل‪ ،‬وهم يحملون التطلعات ذاتها إلى ممارسة حقهم في الحرية والدولة المستقلة‪.‬‬
‫في الجهود التي ُبذلت سابقًا لتحقيق السالم كانت المقاربة الغالبة لدى األطراف المعنية جميعًا‬
‫التقدم خطوًة خطوة بحيث يجري تناول المسائل الصغيرة وتأجيل المسائل الصعبة والمعقدة‪،‬‬
‫كالوضع النهائي للقدس‪ ،‬إلى أجٍل آٍت‪ .‬المشكلة في هذه المقاربة هي أننا لن نصل إلى النهاية‬
‫المتوخاة ما دمنا نؤّج ل المشكالت الكبرى‪ ،‬وعلينا أن نجد حًال فورّيًا لقضايا الوضع النهائي الرئيسة‬
‫وهي‪ :‬القدس‪ ،‬والالجئون‪ ،‬والحدود‪ ،‬واألمن‪ ،‬وهذا المسار‪ ،‬في المرحلة الراهنة هو األمل الوحيد‬
‫إلنقاذ الحّل القائم على مبدأ الدولتين‪ .‬ما من ِخ ياٍر آخر‪.‬‬
‫لقد وجهت في عدة مناسبات انتقادات قاسية لتصرف إسرائيل وتعّنتها‪ .‬لكن ال بد من اإلشارة أيضًا‬
‫إلى أن هناك مسؤولية مشتركة إزاء فشل عملية السالم‪ .‬على العرب واإلسرائيليين أن يعترف كل‬
‫طرف منهما بحاجات الطرف اآلخر‪ .‬إن حّل الدولتين مبنّي على اعتراف اإلسرائيليين بحقوق‬
‫الفلسطينيين بالحرية وبدولتهم المستقلة‪ ،‬وعلى اعتراف الفلسطينيين وسائر العالم اإلسالمي بحق‬
‫إسرائيل باألمن‪ .‬ليس لدينا خيار سوى العيش معًا‪ ،‬والمسؤولية المعنوية حياَل السعي إلى السالم تقع‬
‫على الطرفين كليهما؛ ذلك أن البديل هو المزيد من الصراع والعنف‪.‬‬
‫إن الجغرافيا والتاريخ والقانون الدولي تفرض كُّلها على األردن أن ينخرط في عملية البحث عن‬
‫حٍّل للصراع‪ .‬فعدد الالجئين الفلسطينيين الذين يقيمون في األردن هو األكبر إذ يصل إلى مليون‬
‫وتسعمئة ألف الجئ‪ ،‬ولدينا عالقات صداقة مع جيران إسرائيل من البلدان العربية‪ ،‬ومثُلها مع‬
‫الواليات المتحدة األميركية‪ .‬كذلك نحن واحٌد من بلدين اثنين فقط من البلدان العربية تربطهما‬
‫بإسرائيل معاهدة سالم‪.‬‬
‫إن مفتاح تطبيع العالقات بين إسرائيل والعالم اإلسالمّي بكامله هو في حّل صراعها مع‬
‫الفلسطينيين‪ .‬وكان والدي قد صاغ في السنوات األخيرة من عهده اقتراحًا لتحقيق السالم الشامل بين‬
‫إسرائيل والدول العربية االثنتين والعشرين مقابل انسحاب إسرائيل من جميع األراضي العربية‬
‫المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية‪ .‬لكّن مشروَعه هذا لم يجد مساره نحو التحقيق وما لبث أن انتهى‬
‫مع وفاته‪ .‬عندما توّليت مسؤولياتي ملكًا أعدت طرح اقتراح والدي‪ ،‬وكلفت الحكومة بحثه مع مصر‬
‫والمملكة العربية السعودية‪ .‬بعد ذلك طورت السعودية االقتراح ومضت به إلى األمام وذلك عندما‬
‫قدم ولّي العهد السعودي آنذاك األمير عبد هللا بن عبد العزيز آل سعود مبادرته للسالم إلى مؤتمر‬
‫القمة العربية في بيروت في العام ‪ .2002‬وتبَّنت القمة العربية الطرح السعودي الذي ُعرف في ما‬
‫بعد بـ«المبادرة العربية»‪.‬‬
‫َدَعت المبادرة العربية إلى االنسحاب اإلسرائيلي الكامل من كل األراضي العربية المحتلة منذ‬
‫العام ‪ ،1967‬وإلى التفاوض على تسوية لمسألة الالجئين الفلسطينيين‪ ،‬وإلى إقامة الدولة الفلسطينية‬
‫المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية‪ .‬مقابل ذلك قالت الدول العربية االثنتان والعشرون‬
‫إنها ستعتبر «الصراع العربي ‪ -‬اإلسرائيلي منتهيًا‪ ،‬وستدخل في اتفاق سالم بينها وبين إسرائيل‬
‫يحقق األمن لجميع دول المنطقة»‪ .‬باإلضافة إلى ذلك أعلنت الدول العربية أنها ستقيم عالقاٍت‬
‫طبيعيًة مع إسرائيل في إطار هذا السالم الشامل‪ .‬حيال هذا العرض أصابتني الدهشة من رفض‬
‫إسرائيل‪ ،‬وحتى بعِض أعضاء اإلدارة األميركية‪ ،‬هذه المبادرة بالمطلق‪ .‬وتبّين لي من خالل‬
‫مباحثاتي في ما بعد مع العديد من هؤالء أنهم لم يكّلفوا أنفسهم حتى قراءَتها‪ .‬حول مسألة الالجئين‪،‬‬
‫على سبيل المثال‪ ،‬اقترحت المبادرة العربية «التوصل إلى حٍّل عادٍل لمشكلة الالجئين الفلسطينيين‬
‫يتفق عليه وفقًا لقرار الجمعية العمومية لألمم المتحدة رقم ‪ .»194‬والتعبير األساس في هذه الجملة‬
‫هو «يتفق عليه»‪ .‬وعندما ذكرُت هذا األمر لإلسرائيليين أبدوا تعّج بهم حتى إن بعضهم اعترف بأنه‬
‫لم يقرأ المبادرة‪ .‬هذا العرض الذي لم يسبق أن ُطرح مثُله من قبل وافقت عليه الحقًا الدول السبع‬
‫والخمسون األعضاء في منظمة المؤتمر اإلسالمي‪ ،‬لكّن المؤسف أن إسرائيل لم تأخذ المبادرة قط‬
‫على محمل الجد‪ ،‬كما لم تعترف بما َح َم لْته من فرصٍة غير مسبوقة‪ .‬إننا ال نزال عالقين في حبكة‬
‫السبل القديمة ونتفاوض حول المسائل الثانوية بينما نرجئ اتخاذ القرارات الصعبة‪ .‬يبدو أن إسرائيل‬
‫تشعر بأن لديها متسعًا كبيرًا من الوقت‪ ،‬لكن مماطلتها وتراجعاتها ومناوراتها التكتيكية كَّلفت كُّلها‬
‫أثمانًا باهظة‪.‬‬
‫لقد دّم رت األحداث التي شهدتها السنوات اإلحدى عشرة الماضية الثقة بين الجهتين المعنيتين‪ ،‬وها‬
‫نحن اليوم نرى ِص دقية عملية السالم وقد تالشت كلّيًا‪ ،‬وحين تنهار الثقة انهيارًا كامًال بين الطرفين‬
‫قد يصبح من المحال إعادة بنائها مجددًا‪ .‬على أصدقاء إسرائيل جميعًا أن يشجعوها على االنخراط‬
‫الكامل والسريع في عملية صنع السالم‪ ،‬أما الواليات المتحدة‪ ،‬الصديق القديم والمخلص إلسرائيل‪،‬‬
‫فعليها أال تتردد في دفع فريقي الصراع ‪ -‬بشيء من التشدد متى دعت الحاجة ‪ -‬إلى طاولة‬
‫المفاوضات بغية الوصول إلى التسوية النهائية‪.‬‬
‫إن إرادة اإلصغاء ومّد اليد اللذين أبداهما الرئيس األميركي باراك أوباما متوجهًا بهما إلى العالمين‬
‫اإلسالمي والعربي قد فتحا نافذًة لألمل ولو محدودة‪ ،‬غير أن العرب والفلسطينيين ال شك محبطون‬
‫حياَل التقدم المحدود جّدًا الذي تَّم إحرازه‪ .‬وقد واجه الرئيس أوباما االنتقاد عندما ضغط على رئيس‬
‫وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو طالبًا إليه تجميد بناء المستوطنات‪ ،‬وتضررت صورة أميركا‬
‫ومكانتها نتيجة التعنت اإلسرائيلي‪ .‬لكن يبقى من الخطأ الفادح أن يتراجع أوباما عن هذا التوّج ه‪ ،‬فإذا‬
‫تلّكأت أميركا اليوم عن ممارسة قوتها المعنوية والسياسية إليصال الطرفين إلى الحل المبني على‬
‫قيام دولتين‪ ،‬فعندئٍذ قد ال تتاح أمامنا فرصة أخرى كهذه‪ .‬نافذة األمل تميل إلى االنغالق‪ ،‬وإذا نحن‬
‫تقاعسنا عن العمل السريع باتجاه الحل‪ ،‬فإن األجيال المقبلة سوف تدين فشلنا في اغتنام هذه الفرصة‬
‫األخيرة إلنجاز السالم‪.‬‬
‫السالم بحد ذاته نعمٌة ال تقَّدر‪ ،‬لكّن الفوائد التي أراها ناتجًة من تحقيقه تتجاوز بقيمتها حتى هذه‬
‫النعمة الثمينة‪ .‬فال شك في أن المنظمات اإلرهابية تستغل المظالم التي يتسّبب بها استمرار االحتالل‪،‬‬
‫ومن هنا فإن حّل الصراع سيحرم تلك المنظمات من قدرتها على استقطاب الدعم والمؤيدين‪.‬‬
‫كثيرون أولئك الذين يّدعون أن الكراهية والحقد اللذين تبثهما الفئات المتطرفة على ضفتي الصراع‬
‫في األراضي المقدسة ال يمكن التغلب عليهما‪ ،‬لكّن التاريخ قد أظهر أن السالم يمكن أن ينتصر حتى‬
‫بين ألّد األعداء‪ .‬في األمس القريب ربما كان المراقبون يظنون أن التوتر القائم عبر جدار برلين أو‬
‫بين الفئات المتنازعة في أيرلندا الشمالية لن يهدأ ولن يزول‪ ،‬وها نحن اآلن ال نرى في تلك‬
‫الصراعات سوى ذكرياٍت عبرت‪ .‬فِلَم ‪ ،‬والحاُل هذه‪ ،‬ال نطّبق ذلك في الشرق األوسط؟‬
‫ليس اإلتيان بالسالم القضية الوحيدة التي نكافح من أجلها‪ ،‬فمن بين التحديات الكبرى التي نواجهها‬
‫اإلصالحات السياسية وتحسين اقتصاداتنا‪ .‬علينا أن نتعّلم صنع السلع التي يمكن تسويقها في العالم‪،‬‬
‫وكيف نرفع من مستويات العيش لدى شعوبنا عبر توفير التعليم الجيد وُفَر ص العمل المنتج لشبابنا‬
‫وشاباتنا ومن خالل هذا النوع من اإلنجازات نقيُم خَّط الدفاع األصلب في وجه ُص راخ المتطرفين‪.‬‬
‫ليس بمقدورنا أن نتحمل وجود هذا العدد من الشباب العاطل من العمل‪ ،‬وعلينا أن نتيح للنساء أن‬
‫يضطلعن بدور أكبر في دورتنا االقتصادية‪ .‬إن ما يدفعنا إلى الحؤول دون قيام النساء بدورهّن كامًال‬
‫وإبقائهن خارج القوة العاملة‪ ،‬بذرائَع دينيٍة وثقافية‪ ،‬إنما ينبع من الشعور العميق بعدم األمان‬
‫واالطمئنان‪ ،‬ولكن ليس مقبوًال أن ننكر على نصف المجتمع حقوَقه وأن يبقى نصف القوى العاملة‬
‫في المنزل مكتوَف اليدين دون عمل منتج‪.‬‬
‫فلنفّكر في عالٍم تضافرْت فيه بفاعليٍة الخبرة اإلدارية لدى اإلسرائيليين‪ ،‬مع الكفاءة المْه نية لدى‬
‫األردنيين‪ ،‬وريادة اللبنانيين‪ ،‬والمستويات العلمية لدى الفلسطينيين‪ .‬إنني أرى في تضافر القوى بين‬
‫هؤالء الشركاء المحتملين نواَة تجّم ٍع اقتصادّي أشبه ما يكون بتجُّم ع دول «بينيلوكس» بين بلجيكا‬
‫وهولندا ولوكسمبورغ في الشرق األوسط‪ .‬كل هذا يمكن تحقيقه‪ .‬لكن األوضاع على األرض تنزلق‬
‫سريعًا من بين أيدينا وتجعل الوصول إلى هذه الغاية احتماًال ضئيًال‪ .‬وإذا لم تتوقف الممارسات‬
‫الحالية‪ ،‬فلن تبقى هناك أرض لمقايضتها بالسالم‪ ،‬ولن يبقى هناك ما يدعو الفلسطينيين إلى المراهنة‬
‫على القادة المعتدلين دون المتطرفين منهم‪ .‬مستقبُلنا‪ ،‬في هذه الحالة‪ ،‬سوف يصبح لقمًة سائغة في‬
‫أشداق الحروب والنزاعات‪.‬‬
‫هناك ميل في الحياة وفي السياسة إلى الخضوع للواقع الراهن‪ .‬لكن ال يمكن فعل ذلك في ما يتعلق‬
‫بالصراع الفلسطيني اإلسرائيلي؛ ألن االستقرار الظاهر ليس حقيقّيًا‪ .‬فأنا أسمع وأشعر باإلحباط‬
‫والغضب يتزايدان‪ .‬وما أخشاه هو أن يحجبا في وقت قريب كل أحالم السالم والمصالحة‪ .‬ال أحسُب‬
‫أكثرية األميركيين واألوروبيين يدركون مدى خطورة الوضع‪ .‬وهذه الخطورة هي ما دعاني إلى‬
‫وضع هذا الكتاب‪ .‬فلقد شهدُت وتعّلمت الكثير منذ َخ َلفُت والدي إلحدى عشرة سنًة خلت‪ .‬وأنا مصِّم م‬
‫على مشاركة قرائي قصتي بكامل االنفتاح والصدق على أمل أن ُيحدث ذلك الفرَق الذي أتوّخ اه‪.‬‬
‫في المنطقة التي أنتمي إليها نعيش التاريخ بحْلِو ه ومّر ه‪ ،‬وما قد يبدو عن ُبعد أمرًا مجردًا وغير‬
‫ملموس إنما هو جزء من نسيج حياتنا اليومية‪ .‬لقد باَت يقينًا عندي أّن أفضَل السبل لرواية هذه‬
‫القصة وأكثرها إقناعًا هو أن أرويها من خالل قصة حياتي الشخصية ‪ -‬أي بإشراك قارئي في ما‬
‫رأيت وما فعلت ‪ -‬إثباتًا لكون الشخصِّي والسياسّي غالبًا ما يتحابكان وينتجان مزيجًا جديدًا‪.‬‬
‫لم َيُدْر في ذهني يومًا أنني سأشَغل الموقَع الذي ُعِه د به إلّي والذي أشغُله اليوم‪ ،‬وكنت أتوقع أن‬
‫أمضي حياتي في الجيش‪ .‬جزء من قصتي هو عن تلك الخبرة العسكرية وما عّلمتني إياه عن األردن‬
‫وعن شؤون القيادة بصورة عامة‪ .‬لقد حاولت أن أروي قصتي ببساطة‪ ،‬مستخدمًا لغة الرجل‬
‫العسكرّي المباِش رة والتي تسّم ي األمور بأسمائها‪ ،‬بدَل تلك المطّو الت من الجمل والتعابير المحّببة‬
‫إلى قلوب السياسيين‪.‬‬
‫آمل في هذا الكتاب أن أبّدد األفكار الزائفة حول المنطقة التي أعيش فيها‪ .‬ففي غالب األحيان‬
‫عندما يسمع الناس في الغرب كلماٍت مثل «عربي» أو «مسلم» أو «الشرق األوسط» يتبادر إلى‬
‫أذهانهم اإلرهاب واالنتحاريون والمتطِّر فون من ذوي العيون الجاحظة المختبئون في ظلمات‬
‫الكهوف‪ .‬أما أنا فأريدهم‪ ،‬متى ورد ذكُر منطقتنا أمامهم‪ ،‬أن يتبادر إلى ذهنهم ما يشهده األردن اليوم‬
‫من مشاريع بماليين الدوالرات في مجال تكنولوجيا المعلومات‪ ،‬وأن يفكروا بحائزي جوائز نوبل‬
‫األدبية في مصر‪ ،‬وأن ال تغيب عن ذهنهم روائع فنوِن العمارة في ربوع دمشق‪.‬‬
‫لعّل من أخطر األفكار التي برزت في السنوات األخيرة الطرَح القائَل بأّن الغرب والعالم‬
‫اإلسالمّي هما كتلتان منفصلتان تتجهان بصورة حتمية إلى التصادم‪ .‬هذا مفهوم ال يستند إلى معرفة‬
‫صحيحة‪ ،‬وهو خاطئ ومثير للهواجس والغضب‪َ .‬طوال ما يزيد على ألف سنة عاش المسلمون‬
‫واليهود والمسيحيون بسالم جنبًا إلى جنب ُيْغني أحُدهم ثقافَة اآلخر وتراثه‪ .‬ما من شك في أن‬
‫نزاعاٍت قد نشبت بين حين وآخر مثل الحمالت الصليبية أو االستعمار األوروبي للعديد من بلدان‬
‫الشرق األوسط بعد الحرب العالمية األولى‪ .‬لكن هذه كلها كانت نزاعاٍت سياسيًة استمدت جذورها‬
‫من فتراٍت وأُطٍر زمنية معينة ولم تكن مظهرًا من مظاهر العداء الثقافي األبدي‪.‬‬
‫بعد دراستي العسكرية في ساندهرست‪ ،‬خدمُت على مدى سنة في الكتيبة ‪ 13/18‬في قوات‬
‫الهوسار (الخيالة) البريطانية وهي كتيبة ذات تاريخ عسكرّي حافل يعود إلى ما يقارب ستة عقود‬
‫قبل معركة واترلو‪ .‬كذلك شارَكْت هذه الكتيبة في حرِب القرم في أواسط القرن التاسع عشر‪ ،‬وهي‬
‫الحرب التي َشَه رْتها قصيدُة ألفرد تنيسون بعنوان «هجوم كتيبة البرق»‪ ،‬والتي خاضتها بريطانيا‬
‫وفرنسا إلى جانب اإلمبراطورية العثمانية لحمايتها من الغزو الروسي‪ .‬في تلك الحقبة كان أكثر من‬
‫نصف مواطني اإلمبراطورية‪ ،‬البالغ عددهم آنذاك ثالثين مليون نسمة‪ ،‬من المسيحيين‪ ،‬وكان عدد‬
‫كبير منهم يخدم في الجيش العثماني‪ ،‬وقد حارب الجنود المسلمون بشجاعة على طرفي النزاع‬
‫فكانوا في صفوف الجيش الفرنسي كما في صفوف الجيش الروسي‪ .‬إن هذا الطرح الخبيث والمؤذي‬
‫القائل بصدام الثقافات ينساب إلى الساحة السياسية الحديثة فيضّخ القوَة في عروق المتطرفين حيثما‬
‫وجدوا ويشّد من عزيمة أولئك الذين يودون تحريض الرجال والجيوش بعِض هم على بعض اآلخر‪.‬‬
‫إذا حدث أن نفذ جزائرّي أو أفغاني أو أردني هجومًا إرهابّيًا فمن المحتم أن يوصف في الغرب بأنه‬
‫«إرهابي مسلم»‪ ،‬ولكن إذا ارتكب رجٌل أيرلندي أو سريالنكي هجومًا مماثًال فهو نادرًا ما يوصف‬
‫بـ«اإلرهابّي المسيحّي » أو «اإلرهابّي الهندوسّي » وإنما يصَّنف بحسب دوافعه السياسية باعتباره‬
‫«ناشطًا في الجيش الجمهوري األيرلندي» مثًال أو «انفصالّيًا من التاميل»‪.‬‬
‫من الناس َم ن ينظر إلى التاريخ من زاويته الضّيقة فيفترض أن مسار األمور كما نراه اآلن هو‬
‫نفسه كما كان في األزمنة الغابرة‪ .‬لكن علينا أال ننسى أن التقدم االقتصادي والتكنولوجي الذي‬
‫أحرزه الغرب هو تطوٌر حديث نسبيًا جاَء نتيجة الحركة التحديثية المدهشة وما تبعها من ازدهار في‬
‫أوروبا وأميركا خالل القرنين التاسع عشر والعشرين‪ .‬أما من يلقي نظرة أبعَد وأكثر عمقًا فإن‬
‫األمور تبدو له مختلفة إلى حد كبير‪ .‬ففي العصور الوسطى‪ ،‬يوم كانت واشنطن مجرد مستنقع ال‬
‫أكثر‪ ،‬كانت مدن القدس وبغداد ودمشق العظيمة المراكَز الرياديَة العالمية في مجاالت التعُّلم‬
‫والمعرفة‪ .‬لكن مع مرور الزمن اتخذ التاريخ وجهًة أخرى ومال نحو الغرب‪ .‬وبحلول القرن‬
‫العشرين كان العالم العربي قد تراجع إلى الصفوف الخلفية‪.‬‬
‫تنحدر عائلتي‪ ،‬األسرة الهاشمية‪ ،‬من الرسول محمد صّلى هللا عليه وسّلم‪ .‬وقد توّلى أفراٌد منها‬
‫مواقَع القيادة والحكم في هذه المنطقة من العالم طواَل أجياٍل وأجيال‪ .‬في حوالى القرن الخامس كان‬
‫أحُد أسالفي ويدعى ُقَص ّي بن كالب أوَل من تولى حكَم مكة‪ .‬وإرثي قائم على التسامح وقبول‬
‫الثقافات والديانات المختلفة‪ .‬يقول هللا عز وجل في محكم تنزيله‪:‬‬
‫﴿َيا َأُّيَه ا الَّناُس ِإَّنا َخ َلْقَناُكْم ِم ْن َذَكٍر َو ُأْنَثى َو َج َعْلَناُكْم ُشُعوًبا َو َقَباِئَل ِلَتَعاَر ُفوا ِإَّن َأْك َر َم ُكْم ِع ْنَد ِهَّللا َأْتَقاُكْم‬
‫ِإَّن َهَّللا َعِليٌم َخ ِبيٌر ﴾ (الحجرات‪.)13 :‬‬
‫لم أشعر يومًا بأن التفاعل مع الثقافة الغربية يتّم على حساب ُهويتي بوصفى عربّيًا أو مسلمًا‪ ،‬فأنا‬
‫شخص ولد في الشرق وتلقى تعليمه في الغرب أشعر بألفٍة عميقة حيال الثقافتين كلتيهما‪ ،‬ومن هنا‬
‫أملي في أن يشّكَل هذا الكتاب‪ ،‬ولو بطريقة متواضعة‪ ،‬جسَر تواصٍل بين هاتين الثقافتين‪ .‬في معظم‬
‫األحيان يتولى المتطرفون وضع إطار البحث ويهيمنون على النقاش‪ ،‬وفي أغلب األحيان تنحسر‬
‫أصوات العرب المعتدلين وتغرق وسَط صراخ الذين يرفعون الصوت أكثر‪ .‬أما أنا فلن أْلجَأ إلى‬
‫الصراخ‪ ،‬لكنني مصٌّر على إسماع رسالتي أّنى تيّسر لي ذلك‪ .‬أريد أن أخبر العالم بأن منطقتنا تعاني‬
‫مشكالٍت كبرى‪ ،‬هذا صحيح‪ ،‬لكَّن الصحيَح أيضًا هو أّن أمامنا ما يدعو إلى األمل‪.‬‬
‫أل‬
‫ا ول‬

‫م‬
‫س‬
‫ق‬
‫ل‬
‫ا‬
‫الفصل األول‪ :‬بـدايـة الصراع‬

‫ثابٌت واحد لم يغادر حياتي منذ طفولتي وهو الصراع بين اإلسرائيليين والفلسطينيين‪ .‬يميل البعض‬
‫في الغرب وفي إسرائيل إلى تصوير هذا الصراع على أنه استمرار لصراٍع قديم‪ .‬لكن هذا البعض‬
‫مخطئ‪ .‬فهو صراع حديث نسبّيًا‪ ،‬تعود جذوره إلى الهجرة اليهودية إلى فلسطين في مطلع القرن‬
‫العشرين‪ .‬للتاريخ في الشرق األوسط أهمية خاصة‪ ،‬على الرغم من أن كثيرين من الناس يستخدمون‬
‫المظالَم التاريخية ذريعًة يتلَّطْو َن وراءها ليتجنبوا التعامل مع المشكالت الراهنة‪ .‬إذا شئت أن تعرف‬
‫إلى أين أنت ذاهب‪ ،‬فمن المفيد لك أن تعلم من أين أتيت‪ .‬إذًا قبل أن أحاول تبيان الوضع الذي نجد‬
‫أنفسنا فيه اليوم ومن َثَّم أن أقدَم بعض المقترحات حول كيفية الخروج من المأزق الراهن‪ ،‬أوّد أن‬
‫ألفَت االنتباه ببضع كلماٍت موجزة إلى المسافة التي قطعناها على هذا الصعيد‪.‬‬
‫فيما كانت اإلمبراطورية العثمانية‪ ،‬التي امتد سلطاُنها إلى معظم أرجاء الشرق األوسط‪ ،‬تلفظ‬
‫أنفاسها األخيرة مع نهاية الحرب العالمية األولى‪ ،‬بدأ العرب يتبعون قادًة جددًا من ذوي النهج‬
‫القومّي ‪ .‬وكان أحُد هؤالء القادة َج ّدَي األكبر الشريف حسين بن علي‪ ،‬شريف مكة المكرمة‪ .‬كان‬
‫الشريف حسين‪ ،‬ابُن الدوحة الهاشمية التي حكمت مكَة منذ القرن العاشر‪ ،‬مدافعًا صريحًا ومفَّو هًا‬
‫عن القومية العربية‪ .‬وكان سائُر القادة من القوميين العرب يرون أن لديه موقعًا دينّيًا وخبرًة سياسية‬
‫يؤّهالنه لقيادة حركة القومية العربية والثورة المرسومة ضد الحكم العثماني‪ ،‬باإلضافة إلى تمثيل‬
‫شعبه في المفاوضات مع البريطانيين إلقامة الدولة العربية المستقلة‪ .‬وقد اكتسب دوُر ه القيادُّي صفَته‬
‫الرسمية عندما صدر «ميثاق دمشق» في العام ‪ .1915‬انتهت مفاوضات الشريف حسين مع‬
‫المفَّو ض السامي البريطاني في مصر هنري مكماهون بالمراسالت السرية التي جرت بين الرجلين‬
‫بين العامين ‪ 1916-1915‬والتي ُو ِعَد فيها الشريف حسين بأن ينال دعمًا لجهوده الساعية إلنشاء‬
‫المملكة العربية المتحدة والمستقلة التي كان سيتوّلى حكمها‪ .‬هذا االتفاق مع مكماهون كان في ما بعد‬
‫ُعرضًة لتفسيرات متباينة بين البريطانيين والعرب‪.‬‬
‫في شهر حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ 1916‬أطلق الشريف حسين الثورة العربية الكبرى حامًال بذلك‬
‫راية المبادرة الثورية واالنطالق نحو تأسيس الدولة العربية الموحدة والمستقلة‪ ،‬وقد ُأعِلَن الشريف‬
‫حسين آنذاك ملكًا للعرب‪ .‬تمثلت رؤيته يومئذ في إنشاء دولة عربية تمتد من فلسطين إلى اليمن‪.‬‬
‫وكان مؤمنًا بأن الشعوب العربية يمكن أن تبني اتحاَدها على أساس الثقافة والتراث المشتركين‬
‫والُم ُثل والقيم اإلسالمية ومتمسكًا بثقافة التسامح واحترام األقليات‪ .‬كان مرتجاه أن يبعث النهضة‬
‫العربية من ُسباتها‪.‬‬
‫توّلى أبناؤه األربعة األمراء علّي وفيصل وعبد هللا وزيد‪ ،‬قيادة الجيوش العربية ضد قوات‬
‫العثمانيين‪ ،‬وقد انتصروا على تلك القوات وما لبثوا أن أخرجوا األتراك من شبه الجزيرة العربية في‬
‫العام ‪ .1918‬أصبح فيصل ملكًا على سوريا ومن َثَّم على العراق وتوّلى عبد هللا حكَم إمارة شرق‬
‫األردن‪ .‬بعد تنازل الشريف حسين في العام ‪ 1924‬أصبح علّي ملكًا على الحجاز (الذي بات في ما‬
‫بعد جزءًا من المملكة العربية السعودية)‪ .‬أما زيد فعمل إلى جانب فيصل في العراق ثم خدَم سفيرًا‬
‫للعراق إلى تركيا وألمانيا والمملكة المتحدة‪.‬‬
‫رفَعت الثورُة العربية إلى مرتبة الشهرة ضابطًا بريطانّيًا شاّبًا ُعرف باسم «تي إي لورنس» إلى‬
‫أن خَّلده إنتاٌج سينمائي بعنوان «لورنس العرب» مَّثله على الشاشة بيتر أوتول في الفيلم الذي أنتج‬
‫في العام ‪ ،1962‬وقد ُصّو رت بعض مشاهده في األردن‪ .‬أما عّم َي األكبر األمير فيصل فقد جّسد‬
‫دوره على الشاشة الممثل البريطاني َأِلك غينيس‪.‬‬
‫لقد كانت لوالدتي مشاركٌة صغيرة في عملية إنتاج هذا الفيلم لكنها ما لبثت أن غادرت العمل فيه‬
‫لتتزّو ج والدي في صيف العام ‪ .1961‬بعد مرور بضعة أشهر اصطحبْته في زيارة إلى موقع العمل‪.‬‬
‫وكان المخرج يومها يصّو ر المشهد الذي تقصف فيه الطائرات التركية معسكر األمير فيصل في‬
‫الوقت الذي كانت فيه قواُته متجهًة إلى دمشق‪ .‬كان والداي يشاهدان المنظر من تّلٍة مشرفة على‬
‫الموقع‪ ،‬وعندما انتشر خبر وجود والدي في المكان غادر رجال البدو الذين كانوا يمثلون مشهدًا‬
‫جماعيًا‪ ،‬مكاَن التصوير واندفعوا نحو والدي مطلقين صيحات الوالء والتقدير‪ .‬عندما عاد الوضع‬
‫إلى الهدوء عاد فريق العمل إلى اإلعداد لتصوير المشهد مجددًا‪ ،‬وما إن أخذت الطائرات تحّلق فوق‬
‫المكان حتى استدار نحو والدي أحُد المستخدمين‪ ،‬وهو رجل نيجيرٌّي مديُد القامة ومتقدم في السن‪،‬‬
‫وقال له‪« :‬سيدي‪ ،‬ليس هكذا قد وقَع الحدث»‪.‬‬
‫سأله والدي كيف له أن يعرف ذلك فأجاب‪« :‬كنت طفًال في ذلك المعسكر آنذاك وأذكر أن‬
‫الطائرات جاءت من الجهة األخرى»‪ .‬بعد الزيارة طلب فريق العمل إلى والدي بمنتهى التهذيب‬
‫واالحترام أال يزوَر الموقع ثانية‪.‬‬
‫نال الفيلم شهرًة وانتشارًا واسعين في الغرب لم ينل مثلهما في األردن حيث يرى فيه العديد من‬
‫األردنيين روايًة تاريخية منحازة وتفتقر إلى الدقة‪ .‬ومع أن الغرب يرى في لورنس اليوم بطًال‬
‫رومنطيقيًا أّدى دورًا مفصلّيًا في قيادة الشعب العربي إلى الحرية‪ ،‬فإن الرأي الغالب لدى عائلتي‬
‫حول السجل التاريخي ينطوي على تحفٍظ كبير حيال مضمونه‪ .‬كان َج ّدَي األكبر الملك عبد هللا‬
‫األول يرى لورنس «شخصية غريبة» دأبها قولبُة الناس بحيث تناسب غاياِته ومصالَح ه‪ ،‬وقد جاء‬
‫في مذِّك راته‪:‬‬
‫«والحقيقة أنه كان مزهوًا بنفسه غريب الطباع‪ ...‬ولقد دّس إلَّي ما يغريني بالملك على الحجاز؛‬
‫بحجة أن أبي عنيد في فكره‪ ،‬متمسك برأيه‪ .‬فقلت لرسوله ‪ -‬وهو اآلن حي يرزق‪( :‬قل لصاحبك هذا‬
‫إن أبي سيدي وملكي وبعده األخ األكبر وبعده نجله‪ ،‬وسأكتفي أنا بلقبي إلى آخر أيامي‪ .‬أما هو فقد‬
‫خدمني وخدم العرب بقوله إن والدي عنيد متمسك برأيه‪ ،‬فقد دل على أنهم يطلبون من ال رأي له من‬
‫الناس كي يعمل لورنس وأمثاله ما يشاؤون)»‪.‬‬
‫مع نهاية الحرب العالمية األولى لعَب تنافُس القوى العظمى بمصير العرب فزاده تعقيدًا؛ ذلك أن‬
‫بريطانيا لم ُتغِد ْق وعوَدها السرية على شريف مكة المكرمة وحسب بل على فرنسا أيضًا‪ .‬بموجب‬
‫اتفاق «سايكس ‪ -‬بيكو» في العام ‪َ 1916‬تقرر أن تكون سوريا ولبنان ‪ -‬كما ُيعرفان اليوم ‪ -‬تحت‬
‫قوس النفوذ الفرنسي‪ ،‬فيما ُج عل األردن والعراق وفلسطين وما يشكل اليوم غرَب المملكة العربية‬
‫السعودية ضمن قوس النفوذ البريطاني‪ .‬أما مؤتمر «سان ريمو» في العام ‪ 1920‬فقد أعاد تشكيل‬
‫الخريطة اإلقليمية حين تبّنى الفرنسيون والبريطانيون مسؤولية انتداب عصبة األمم على هذه‬
‫البلدان‪ .‬في الثاني من تشرين الثاني‪/‬نوفمبر من العام ‪ ،1917‬وفي الوعد البريطاني الذي نكث للمرة‬
‫الثانية ما كانت بريطانيا قد تعهدت به للعرب أعلَن آرثر َبلفور دعَم حكومِته «إقامَة وطٍن قومّي‬
‫للشعب اليهودي في فلسطين»‪.‬‬
‫شعر الشريف حسين بأن ضميره ال يسمح له بقبول االنتداب البريطاني على فلسطين وال بالموافقة‬
‫على وعد «بلفور»؛ ذلك أن المسألتين كلتيهما هما خيانة للثورة العربية‪ .‬أما مآُل هذه الوعود‬
‫والترتيبات فكان تأجيج فورة القومية العربية على مدى عقوٍد عدة‪.‬‬
‫كان لوزير شؤون المستعمرات البريطاني آنذاك‪ ،‬ونستون تشرشل‪ ،‬دور ولو جزئّيًا في نسج‬
‫النظام اإلقليمي في المنطقة‪ .‬وكان جدي األكبر عبد هللا يكُّن لتشرشل َقْدرًا من االحترام أكبر بكثير‬
‫مما كان يكّنه للورنس؛ إذ كان يصفه بالرجل «الفريد من بين الرجال الذين أطَلَعْتهم بريطانيا‬
‫العظمى في العصر الحديث»‪ .‬في العام ‪ 1921‬أصبح عبد هللا أميرًا على شرق األردن الذي كان‬
‫يضم األراضي الواقعة شرقَّي نهر األردن‪ .‬أما كل األراضي الواقعة غربَّي النهر والتي تشكل أرَض‬
‫إسرائيل كما نعرفها اليوم والضفة الغربية والقدس وقطاع غزة‪ ،‬فبقيت جميعًا تحت السيطرة‬
‫البريطانية باعتبارها انتدابًا بريطانيًا على فلسطين‪.‬‬
‫بدأ آالف المهاجرين اليهود يتدفقون على فلسطين‪ ،‬وكان وعد بلفور مصدَر تشجيع لحركتهم‬
‫وتسهيٍل لها‪ .‬في تلك الفترة كان العرب َيعّدون حوالى تسعين في المئة من سكان فلسطين‪ .‬في العام‬
‫‪ 1897‬حددت الحركة الصهيونية خالل مؤتمرها األول الذي ُعقد في بال (سويسرا) هدفها بأنه‬
‫تأسيس «وطن للشعب اليهودي في فلسطين»‪ ،‬وبحلول العام ‪ 1947‬كان عدد اليهود في فلسطين قد‬
‫ارتفع إلى حوالى ستمئة ألف‪ .‬وكان وراء هذا االرتفاع تشجيع الحركة الصهيونية من جهة‪،‬‬
‫واالضطهاد الذي أصاب اليهود في أوروبا من جهٍة ثانية‪ .‬هذا الدفق الكبير خلق توترًا بين مليون‬
‫ومئتي ألف فلسطيني من المسلمين والمسيحيين وبين الوافدين الجدد‪ .‬وللمرة األولى تقفز أميركا إلى‬
‫الحلبة مصّر ًة على أن تفتح فلسطين أبوابها أمام مئة ألف من المهاجرين اليهود‪.‬‬
‫في مقاٍل صدر في العام ‪ ،1947‬قبل الحرب العربية ‪ -‬اإلسرائيلية األولى بستة أشهر‪ ،‬في المجلة‬
‫األميركية ‪ American Magazine‬المتوقفة عن الصدور‪ ،‬حَّذر جّدي األكبر من مخاطر الهجرة‬
‫الخارجة عن السيطرة‪:‬‬
‫ما من شعٍب من شعوب العالم كان أبعد عن الالسامية من العرب‪ ،‬أما اضطهاد‬
‫اليهود فقد انحصَر كلّيًا ‪ -‬أو كاد ‪ -‬بأمم الغرب المسيحية‪ .‬إن اليهود أنفَسهم يعترفون بأنهم‪ ،‬منذ‬
‫التشّتت الكبير‪ ،‬لم يعرفوا حاًال من التطور والنمو الحّر وصوًال إلى مواقَع مهمٍة كالتي عرفوها في‬
‫إسبانيا عندما كانت تحت الحكم العربي‪ .‬وإذا أخذنا في االعتبار بعض االستثناءات‪ ،‬فقد عاش اليهود‬
‫في الشرق األوسط على مدى قرون طويلة بسالم تام حيث جمعت المودة والصداقة بينهم وبين‬
‫جيرانهم العرب‪.‬‬
‫يساورني الشعور بأن كثرًة من األميركيين تعتبر أن المشكلة في فلسطين بعيدة‬
‫جّدًا عن أبوابهم‪ ،‬وبأن أميركا تكاد ال تكون معنيًة بهذه المشكلة‪ ،‬وبأن همكم الوحيد اآلن هو هّم‬
‫المتفرج عن ُبعد ولكنه معنٌّي إنسانّيًا فقط‪.‬‬
‫في اعتقادي أنكم ال تدركون مدى مسؤوليتكم المباِش رة‪ ،‬بوصفكم أمة ودولة‬
‫عمومًا‪ ،‬عن الحركة الصهيونية برّم تها وبصورة خاصة عن األعمال اإلرهابية الراهنة‪ .‬إنني أْلفت‬
‫انتباهكم إلى ذلك يقينًا مني بأنكم إذا أدركتم مسؤوليتكم فستعترفون بها وتتحملونها إنصافًا وعدًال‪.‬‬
‫إن الكارثة التي أمام أعيننا يمكن إلقاؤها بكّليتها على باب داركم‪ ،‬ذلك أن‬
‫حكومتكم‪ ،‬وحَدها تقريبًا من بين حكومات العالم‪ ،‬تصُّر على إدخال مئة ألف يهودي فورًا إلى‬
‫فلسطين لتعوَد وتتبَعهم أعداٌد إضافية ال تحصى‪ .‬إن هذا الدفق من الهجرة ستكون له عواقُب مرعبة‬
‫ويتسبب بفوضى دموية تتجاوز كل ما ُلِّم ح إليه في فلسطين من قبل‪.‬‬
‫إنني أثق ثقة كاملة ال تتزعزع بحّس العدالة والكرم لدى الشعب األميركي‪،‬‬
‫ونحن العرب ال نطلُب مَّنًة وال معروفًا وال نريد سوى أن تعرفوا الحقيقة كاملًة ال نصَف الحقيقة‪ .‬إننا‬
‫ال نطلب سوى أن تضعوا أنفسكم في مكاننا عندما تحكمون على القضية الفلسطينية‪ .‬ماذا يكون‬
‫جوابكم إذا طلبت منكم وكالة خارجية أن تقبلوا في أميركا بضعة ماليين من الغرباء يأتون فجأة‬
‫لإلقامة بينكم‪ ،‬وبأعداٍد ُتمِّك ُنهم من الهيمنة على بالدكم‪ ،‬ال لسبب إال ألن هؤالء أصّر وا على الذهاب‬
‫إلى أميركا وألن أجدادهم القدماء عاشوا هناك منذ ألفي سنة؟‬
‫أما نحن فجواُبنا على ذلك هو جوابكم نفسه‪.‬‬
‫وماذا يكون رُّد فعلكم إذا أخذْت تلك الوكالة األجنبية‪ ،‬على الرغم من رفضكم‪،‬‬
‫تحشر أولئك الغرباء بين ظهرانيكم رغمًا عن أنوفكم؟‬
‫أما نحن فرُّد فعلنا سيكون كرّد فعلكم تمامًا‪.‬‬
‫منذ البداية كان الصراع في فلسطين صراعًا بين المهاجرين اليهود إليها وبين شعبها العربي‬
‫الفلسطيني‪ ،‬وليس‪ ،‬كما يصَّو ر غالبًا‪ ،‬استمرارًا لألحقاد والكراهية القديمة بين اليهود والعرب‪.‬‬
‫على مدى عقد الثالثينيات ومطلع األربعينيات من القرن الماضي كان البريطانيون يحاولون الحد‬
‫من عدد المهاجرين اليهود الذين يتدفقون إلى فلسطين‪ .‬كانت المنظمات الصهيونية مثل «الهاغانا»‬
‫و«إرغون» و«لوحامي حيروت إسرائيل» (وهذه األخيرة ُعرفت أيضًا بعصابة شتيرن) تقوم‬
‫بعمليات االغتيال وتزرع القنابل وتمارس عمليات اإلرهاب والتخريب تخويفًا للفلسطينيين كي‬
‫يهجروا أرضهم‪ ،‬وإلجبار البريطانيين على مغادرة فلسطين بغية فرض إقامة الدولة اليهودية‪.‬‬
‫في شهر تشرين الثاني‪/‬نوفمبر من العام ‪ 1944‬اغتالت عصابة شتيرن في القاهرة وزير الدولة‬
‫البريطاني لشؤون الشرق األوسط‪ ،‬اللورد موين‪ .‬وبعد سنتين زرع أعضاء في منظمة إرغون قنبلة‬
‫في فندق الملك داوود الذي كان مقّر ًا لسكرتاريا االنتداب البريطاني والمركز الرئيس لالستخبارات‬
‫العسكرية البريطانية‪ ،‬وقد ُقتل في ذلك االنفجار واحد وتسعون شخصًا‪ .‬وفي شهر آب‪/‬أغسطس من‬
‫العام ‪ ،1947‬وانتقامًا إلعدام ثالثة إرهابيين يهود‪ ،‬خطفت إرغون رقيبين من جنود الجيش‬
‫البريطاني وشنقتهما على شجرتي كافور في غابٍة إلى الجنوب من مدينة نتانيا الساحلية‪ ،‬ثم فخخ‬
‫الخاطفون جثتي الرقيبين حتى إذا حاول رفاُقهم من الجنود البريطانيين إنزال الجثتين عن الشجرة‬
‫انفجرت القنبلة وأصابت جنديًا أو ضابطًا بريطانّيًا آخر‪ .‬هذه العملية الوحشية القت أكبر َقْدٍر من‬
‫االستنكار والشجب‪ .‬في ما بعد أسس زعيم إرغون‪ ،‬مناحيم بيغن‪ ،‬المنظمة اليمينية ‪ -‬حركة حيروت‪.‬‬
‫وتولى بيغن بعد ذلك بعقود منصب رئيس وزراء إسرائيل‪.‬‬
‫أعلن البريطانيون في ‪ 23‬أيلول‪/‬سبتمبر من العام ‪ 1947‬أنهم سُينهون فترَة انتدابهم على فلسطين‬
‫في الخامس عشر من أيار‪/‬مايو من العام ‪ ،1948‬وكانوا قد اتخذوا قرارًا بنقل مسؤولية حل مشكلة‬
‫َم ن يحكم فلسطين إلى منظمة األمم المتحدة التي كانت حديثة العهد حيث أنشئت في العام ‪.1945‬‬
‫الالفت أن األمم المتحدة طرحت حًال قائمًا على إنشاء دولتين‪ .‬في ‪ 29‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر من العام‬
‫‪ 1947‬صَّو تت الجمعية العمومية لألمم المتحدة على تقسيم فلسطين إلى دولتين‪ ،‬عربية ويهودية‪ ،‬مع‬
‫ُأ‬
‫تصنيف القدس مدينًة ذات طاَبع دولّي تحت إدارة األمم المتحدة‪ .‬بموجب القرار الرقم ‪ 181‬عِط َي‬
‫اليهود نصَف أراضي فلسطين بما في ذلك الخُّط الساحلُّي ذو القيمة الكبيرة جّدًا‪ .‬وبسبب ذلك بات‬
‫وقوع النزاع أمرًا محتومًا‪.‬‬
‫حتى قبل انطالق المواجهات العسكرية فعليًا في أيار‪/‬مايو من العام ‪ ،1948‬كانت تقع صدامات‬
‫دموية بين اليهود والعرب‪ .‬في التاسع من نيسان‪/‬إبريل من العام ‪ 1948‬هاجم اإلرهابيون اليهود من‬
‫منظمتي شتيرن وإرغون قرية دير ياسين الواقعة على بعد بضعة أميال إلى الغرب من مدينة القدس‬
‫وارتكبوا فيها مجزرًة أودْت بحياة مئتين وخمسين شخصًا كان معظمهم من النساء واألطفال‪ .‬لحماية‬
‫الفلسطينيين من مثل هذه األعمال الوحشية بدأ جّدَي األكبر الملك عبد هللا األول تحريك قوات الجيش‬
‫العربي عبر نهر األردن‪ ،‬وفي الوقت نفسه بدأ القادة اليهود تنظيم قواتهم بما في ذلك جيُشهم الحديث‬
‫النشأة ونواُته من الهاغانا وإرغون وعصابة شتيرن‪.‬‬
‫في الرابع عشر من أيار‪/‬مايو من العام ‪ ،1948‬التاريخ الذي أنهى فيه البريطانيون انتداَبهم‪ ،‬أعلن‬
‫مجلس الشعب اليهودي تأسيس دولة إسرائيل‪ .‬ولم يمِض أكثر من إحدى عشرة دقيقة حتى اعترف‬
‫رئيس الواليات المتحدة هاري ترومن بالكيان الجديد‪ ،‬وما لبث أن تبعه االتحاد السوفياتي‪ .‬بعد هذه‬
‫التطورات لم يطل الوقت حتى أخذ التوتر يتزايد بين اليهود والعرب وصوًال إلى اندالع النزاع‬
‫المسّلح‪ .‬في الليلة التي أعلنت فيها إسرائيل استقاللها دفعت مصر واألردن وسوريا والعراق بقواتها‬
‫إلى فلسطين لحماية حقوق الفلسطينيين العرب‪ .‬لكّن عديد الجيش اإلسرائيلي الحديث النشأة فاق عديد‬
‫القوات العربية مجتمعًة وسرعان ما باتت القوات اإلسرائيلية صاحبة اليد العليا في الميدان‪ ،‬مستفيدًة‬
‫من ضعف التنسيق بين القوات العربية‪.‬‬
‫مدينة القدس‪ ،‬بما لها من موقع دينٍّي مهّم لدى المسلمين واليهود والمسيحيين‪ ،‬ونظرًا إلى أهميتها‬
‫االستراتيجية في وسط فلسطين‪ ،‬كانت محور العمليات القتالية‪ .‬ومن أشرس المعارك التي شهدتها‬
‫الحرب كانت تلك التي وقعت حول قرية اللطرون التي جعلتها خطة التقسيم من نصيب العرب‪.‬‬
‫فهناك اشتبك األردنيون واإلسرائيليون وتواجهت قوات الطرفين في محاولة من كل طرف للسيطرة‬
‫على طريٍق رئيس يؤدي إلى القدس‪ .‬صَّدت القوات األردنية‪ ،‬بقيادة حابس المجالي‪ ،‬عدة هجمات‬
‫شنتها القوات اإلسرائيلية‪ .‬وفي أحد االشتباكات أصيب قائد فصيل إسرائيلي شاب إصابًة خطرة على‬
‫أيدي القوات األردنية‪ ،‬كان اسمه آرييل شارون الذي أصبح في ما بعد قائدًا عسكرّيًا وسياسيا كبيرًا؛‬
‫وزيرًا للدفاع ثم رئيسًا للحكومة‪.‬‬
‫كان الجيش العربّي ‪ ،‬بقيادة جّدَي األكبر‪ ،‬من بين القوات األفضل تجهيزًا وتدريبًا‪ ،‬لكنه في الوقت‬
‫نفسه كان من أصغر الجيوش العربية‪ .‬ومع ذلك تمكن من الحفاظ على الضفة الغربية‪ ،‬بما فيها‬
‫القدس الشرقية‪ ،‬كما استطاع أن يحرز تقدمًا‪ .‬في ربيع العام ‪ ،1949‬وبعد ثمانية أشهر من القتال‬
‫الشرس والمرير الذي َقطعْته فتراٌت عدة من الهدوء‪ ،‬التقى في جزيرة رودس اليونانية ممثلون عن‬
‫إسرائيل والدول العربية‪ .‬ووقعت المملكة األردنية الهاشمية وإسرائيل في الثالث من نيسان‪/‬إبريل‬
‫اتفاق هدنة عامة‪ .‬كانت الضفة الغربية من نصيب العرب بموجب قرار األمم المتحدة‪ ،‬وتقديرًا للدور‬
‫الذي قام به َج ّدَي األكبر في حماية الفلسطينيين والحفاظ على الضفة الغربية‪ ،‬تجّم ع عدد من القادة‬
‫الفلسطينيين وطالبوا بالوحدة مع الضفة الشرقية تحت قيادة جدي األكبر‪ ،‬الذي كان قد أصبح ملكًا‬
‫للمملكة األردنية الهاشمية منذ الخامس والعشرين من أيار‪/‬مايو من العام ‪ ،1946‬حين نادى به‬
‫مجلس النواب ملكًا وغّير اسم البلد من إمارة شرق األردن إلى المملكة األردنية الهاشمية‪ .‬وهكذا ففي‬
‫شهر نيسان‪/‬إبريل من العام ‪ 1950‬أصبحت الضفة الغربية‪ ،‬بموجب قانون صدر عن مجلس‬
‫النواب‪ ،‬جزءًا من المملكة األردنية الهاشمية‪ ،‬وبات لها تمثيل في البرلمان والحكومة األردنيين‪.‬‬
‫منذ ما قبل حرب العام ‪ ،1948‬وخاللها وبعدها‪ ،‬غادر ما ال يقل عن سبعمئة وخمسين ألف‬
‫فلسطيني منازلهم وقراهم؛ بعضهم هربًا من ويالت الحرب والبعض اآلخر ُطرَد بالقوة‪ .‬وقد توَّز ع‬
‫هؤالء المهجرون الجئين إلى الضفة الغربية واألردن وسوريا ولبنان ودول الخليج وبلداٍن أخرى في‬
‫المنطقة وفي أرجاء العالم‪ .‬في العديد من البلدان التي لجأوا إليها بقي وضُعهم على ما كان عليه‪،‬‬
‫الجئين ال بلَد وال دولَة لهم‪ ،‬غير قادرين على العمل‪ ،‬ويعيشون في مخّيمات الالجئين التابعة لألمم‬
‫المتحدة‪ .‬لكن جدَي األكبر رّح ب بالالجئين الفلسطينيين في األردن ومنحهم الجنسية األردنية‪ .‬بعد‬
‫مرور أكثر من ستين عامًا على تهجيرهم من أرضهم ال يزال حق العودة لهؤالء الالجئين ‪-‬‬
‫والمنحدرين منهم ‪ -‬إلى ديارهم في ما يسّم ى اليوم إسرائيل‪ ،‬من أكثر المسائل الشائكة واألشد مثارًا‬
‫للخالف بين إسرائيل والفلسطينيين‪.‬‬
‫كان معروفًا عن جدي األكبر‪ ،‬الملك عبد هللا األول‪ ،‬ما يمتاز به من العاطفة والحنّو األبوّي ‪.‬‬
‫واعتنى جدي األكبر عناية خاصة بوالدي‪ .‬كان جدي األكبر يفهم اإلنكليزية ولكنه لم يكن يتكلمها‪،‬‬
‫وهكذا كان أحيانًا يستدعي والدي إلى مكتبه في القصر للعمل مترجمًا له‪ .‬وفي المساء كان يبحث‬
‫مجريات ذلك النهار على العشاء مع والدي ويشرح له ما انطوت عليه جولة المفاوضات الدبلوماسية‬
‫التي توّلى ترجمَتها خالل النهار من تفاصيل ودالالت‪.‬‬
‫ُأرِسَل والدي إلى المدرسة الداخلية في مصر‪ ،‬حيث التحق بـ«فكتوريا كولدج» في اإلسكندرية‬
‫التي كانت على األرجح أفضل المدارس في المنطقة‪ .‬في صيف العام ‪ 1951‬كان والدي قد عاد إلى‬
‫األردن حين شهد البلد مأساة كبيرة‪.‬‬
‫ففي العشرين من تموز‪ ،‬وخالل زيارة إلى القدس ألداء صالة الجمعة‪ ،‬اغتيل جّدي األكبر على يد‬
‫مسّلح فلسطيني عند مدخل المسجد األقصى‪ .‬أطلق القاتل‪ ،‬الذي كان عضوًا في منظمة الجهاد‬
‫المقدس المتطرفة‪ ،‬النار فأصاب جدَي األكبر إصابًة قاتلة في رأسه‪ .‬كان والدي إلى جانبه‪ ،‬وكان‬
‫آنذاك في الخامسة عشرة من عمره‪ .‬طارد والدي القاتل الذي بدأ بفتح النار عليه‪ ،‬لترتد الرصاصة‬
‫الثانية التي أطلقها‪ ،‬بأعجوبة‪ ،‬عن وسام كان معلقًا على صدره ولينجو والدي من موٍت محتم‪ ،‬بينما‬
‫َم َسحْت الرصاصة الثالثة إحدى أذنيه‪ُ .‬قتل القاتل على أيدي رجال الحرس المرافقين لجدي األكبر‪،‬‬
‫وفي ما بعد أوقف ستة أشخاص حوكموا وصدرت بحقهم أحكام باإلعدام على دورهم في المؤامرة‪.‬‬
‫ُنّفذ الحكم بأربعة منهم‪ ،‬فيما استطاع اثنان اللجوء إلى مصر التي رفضت تسليمهما إلى األردن‪.‬‬
‫نعى عديد من دول المنطقة والعالم جدي األكبر‪ ،‬مستنكرًا اغتياله‪ .‬ووفقًا للدستور الذي ينص على‬
‫أن يخلف الملَك ابُنه األكبر‪ ،‬اعتلى العرش من بعده جدي طالل بن عبد هللا‪ ،‬الذي كان قد تخّر ج في‬
‫األكاديمية الملكية العسكرية في ساندهرست في المملكة المتحدة وخدم في الجيش العربي ضابطًا في‬
‫سالح الفرسان‪ .‬وتبعًا لذلك‪ ،‬أصبح والدي وليًا للعهد‪.‬‬
‫في تلك الحقبة كانت مصر على خصومٍة ُم علنة مع الحكومة األردنية‪ .‬وكان من الخطر جراء ذلك‬
‫أن يكمل والدي دراسته في اإلسكندرية‪ .‬فالتحق بمدرسة «هارو» في إنكلترا‪ .‬صحيح أن والدي كان‬
‫مدركًا في تلك المرحلة أن يومًا سيأتي يتولى فيه مسؤولياٍت رسمية‪ ،‬لكن مع ذلك كانت أمنيته‬
‫الشخصية أن يتمكن من إكمال دراسته وبدء مستقبل مهني وممارسة حياة طبيعية عادية لفترة من‬
‫الوقت‪ .‬لكن جدي‪ ،‬الذي كان يعاني نوعًا من مرض الفصام‪ ،‬لم يكن قادرًا على توّلي مسؤوليات‬
‫الحكم طويًال نظرًا إلى سوء وضعه الصحي‪ .‬ولذلك تنازل عن العرش بعد مرور سنة على توّليه‬
‫الحكم‪ .‬وفي الثاني عشر من آب‪/‬أغسطس من العام ‪ ،1952‬كان والدي مقيمًا في فندق «بوريفاج»‬
‫المطّل على بحيرة جنيف في سويسرا حيث كان يمضي إجازة الصيف بصحبة والدته الملكة زين‬
‫الشرف حين وصلته برقية موجهة إلى «حضرة صاحب الجاللة الملك حسين»‪.‬‬
‫عاد والدي إلى عمان حيث بحث مع خاله الشريف ناصر بن جميل أفضَل ما يمكن أن يمأل به‬
‫وقته خالل األشهر الستة التي سيبلغ بعدها السن القانونية العتالء العرش‪ .‬امتد بهما الحديث إلى‬
‫ساندهرست ذات الشهرة العالمية على صعيد تثقيف القادة في مختِلف شؤون الحياة‪ ،‬فقال خاُله‪« :‬إن‬
‫أباكم قد دخل هذه األكاديمية وإنني أذكر قوله‪ :‬إن ساندهرست أحسن مدرسة حربية في العالم‪ ،‬وخير‬
‫مكان يختاره الرجل ليتعلم مهنته كملك»‪.‬‬
‫عادت الذكرى بوالدي إلى أيام طفولته يوم كان يلهو بالدمى العسكرية‪ ،‬وتذّكر وقتذاك كلماٍت قالها‬
‫له جدي‪« :‬ال يستطيع المرء القيادة وإدارة األمور إال بالنظام‪ .‬وال مكان في العالم يحسن تعليم ذلك‬
‫أفضل من ساندهرست»‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬في التاسع من أيلول‪/‬سبتمبر من العام ‪ 1952‬وصَل إلى ساندهرست التلميُذ المرشح الملك‬
‫حسين وانضَّم إلى «َسِر َّية إنكرمان»‪ُ .‬كّثف البرنامج السنوي النظامي الذي يستغرق عادًة سنًة كاملة‬
‫وُج عَل ستَة أشهر‪ ،‬ومع أن برنامجًا مكثفًا كهذا هو منهٌج دراسٌّي متطلب وينطوي على تدريباٍت‬
‫وتمارين إضافية‪ ،‬فقد كانت تلك الفترة التي أمضاها هناك من أسعد فترات حياته وأغناها تكوينًا‬
‫لشخصيته‪ .‬لقد عاش تلميذًا مرشحًا عادّيًا بين رفاقه وزمالئه اآلخرين‪ ،‬مطيًال بذلك‪ ،‬ولو قليًال‪ ،‬فترَة‬
‫ما قبل تحّم ل المسؤوليات الكبرى‪.‬‬
‫في الثاني من أيار‪/‬مايو من العام ‪ ،1953‬عند بلوغه الثامنة عشرة‪ ،‬تسَّلم والدي مسؤولياته ملكًا‬
‫على األردن وقد شهد عهُده الذي امتد ستًة وأربعين عامًا أربَع حروٍب كبيرة بين إسرائيل والدول‬
‫العربية‪ .‬وفي نهاية مطاٍف طويل توّصَل إلى معاهدة سالم مع إسرائيل‪ ،‬وشهد شريَكه اإلسرائيلَّي في‬
‫عملية السالم ُيقتَل اغتياًال عقابًا له على سلوك سبيل السالم‪ .‬لكنه لم يعش ليرى نهاية الصراع الذي‬
‫بذل من أجل تسويته جهدًا مضنيًا‪.‬‬
‫كانت التجربة األولى التي اختبرها والدي‪ ،‬بعد مرور ثالث سنوات على اعتالئه العرش‪ ،‬انفجار‬
‫أزمة قناة السويس‪ .‬بعد وقوع الثورة المصرية في العام ‪ ،1952‬التي أنهت حكم الملك فاروق وقادت‬
‫إلى بروز زعامة جمال عبد الناصر‪ ،‬ارتفعت وتيرة المشاعر القومية في مصر‪ .‬في العام ‪ 1956‬أَّم م‬
‫عبد الناصر قناة السويس التي كانت ال تزال حتى ذلك الحين تحت اإلدارة المشتركة لبريطانيا‬
‫وفرنسا‪ .‬كان رد فعل الدولتين أن نسجتا خطًة سرية مع إسرائيل تقضي بأن تهاجم إسرائيل مصر‬
‫وبأن ترّد بريطانيا وفرنسا على ذلك بأن ترسال إلى مصر «قواٍت لحفظ السالم» تتولى استعادة‬
‫القناة‪.‬‬
‫نّفذ اإلسرائيليون ما التزموا به من الصفقة‪ ،‬وتقدموا إلى شبه جزيرة سيناء في تشرين األول‪/‬‬
‫أكتوبر من العام ‪ ،1956‬وما لبثت أن انتشرت قوٌة مشتركة بريطانية ‪ -‬فرنسية في منطقة القناة‬
‫واستولت عليها‪ .‬وفيما سّج لت العملية نجاحًا على الصعيد العسكري‪ ،‬تحَّو لت إلى فشل سياسٍّي ُم َدٍّو‬
‫بعد أن تسَّر ب خبر الخطة الثالثية‪.‬‬
‫وسَط ضغٍط ال هوادة فيه من الواليات المتحدة‪ُ ،‬أجِبرت بريطانيا وفرنسا على سحب قواتهما‪ ،‬ثم‬
‫استقال رئيس وزراء بريطانيا أنطوني إيدن‪ .‬وبنتيجة أزمة قناة السويس‪ ،‬ارتفع رصيد عبد الناصر‬
‫على الصعيد القومي وارتفع منسوب التوتر بين إسرائيل والعالم العربي‪ .‬كذلك أظهرت األزمة كيف‬
‫يمكن أن تسَتغّل القوى الغربية األزمات ذريعًة للتدخل‪.‬‬
‫لم ينجّر األردن إلى أزمة السويس‪ .‬لكّن الحّظ جاَنَبنا في المرة التالية التي تواجهت فيها مصر‬
‫وإسرائيل‪ ،‬وذلك في ربيع العام ‪.1967‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬حرب العام ‪1967‬‬

‫من داخل غرفتي تناهى إلّي صوُت انفجاٍر مكتوم‪ ،‬ثم تبعه عدد من االنفجارات‪ .‬تناولُت المنظار‬
‫من بين أغراضي وأسرعت عبر الرواق نحو النافذة‪ .‬رأيت عمودًا أسود من الدخان على مسافة‬
‫بعيدة‪ ،‬ثم سمعت انفجارًا آخر‪ ،‬لكن صوته كان أعلى هذه المرة‪ .‬كانت الطائرات اإلسرائيلية تقصف‬
‫مواقع المقاتلين الفلسطينيين في ضواحي السلط‪ ،‬وهي بلدة تقع على مسافة خمسة عشر ميًال إلى‬
‫الشمال الغربي من عمان‪ .‬اندفع والدي مسرعًا وأخذ المنظار من يدي‪ .‬وما إن حَّر كه وأدرك أنه لعبة‬
‫من ألعابي حتى رماه إلى األرض‪ ،‬فاقدًا صبَر ه‪ ،‬وسارع إلى ارتداء بَّز ته العسكرية‪.‬‬
‫كنت يوَم ها في الخامسة من عمري وكانت المرة األولى التي أعرف فيها شيئًا عن الحرب‪ .‬لم‬
‫يمِض أكثر من أربعين دقيقة حتى بدأت أسمع طلقات المدافع المضادة للطيران‪ ،‬وذلك حين بدأ‬
‫الجيش األردني يطلق النار على الطائرات اإلسرائيلية‪.‬‬
‫عندما عاد والدي تلك الليلة كان على درجة كبيرة من االضطراب واتجه مباشرًة إلى غرفة نومه‪.‬‬
‫مع أنني كنت طفًال شعرت بأن ما يحدث كان أمرًا خطيرًا جّدًا‪ .‬لحقُت به إلى غرفته فوجدته جالسًا‬
‫على حافة السرير ويداه تحضنان وجَه ه‪ .‬وعند دخولي رفع رأسه ملتفتًا صوبي فرأيت عينيه‬
‫مغرورقتين‪ .‬تلك كانت من المرات النادرة جّدًا التي رأيت فيها والدي دامعًا‪ .‬سألته عما كان يجري‬
‫وما المشكلة‪ ،‬وماذا كانت تلك األصوات‪ ،‬ولَم نرى كل تلك الطائرات تحلق فوق رؤوسنا‪.‬‬
‫شرح لي بصبر أن اإلسرائيليين يحاولون قصف المقاتلين الفلسطينيين الذين يعيشون في األردن‪.‬‬
‫لم أكن أدرك في تلك السن المبكرة معنى المقاتلين أو لماذا كان اإلسرائيليون يحاولون قتلهم‪ .‬ولكن‬
‫كل ما فهمته هو أن الوضع سيئ‪ .‬فبدل أن يستهدفوا مواقَع عسكريًة محددة‪ ،‬كان اإلسرائيليون‬
‫يقصفون تجمعاٍت سكنيًة مكتظًة بالعائالت‪ ،‬ويدّم رون الطرقات والمنازل‪.‬‬
‫كثيرًا ما كانوا يطلقون ذخائر ال تنفجر في حينها‪ .‬وقد أخبرني والدي عن فتاة صغيرة كانت قد‬
‫حسبت أن الخطر قد زال فاقتربت من إحدى القنابل التي ما لبثت أن انفجرت بها‪ .‬سارع والدي‬
‫لسحبها من بين الركام‪ ،‬لكّنه حين أخرجها وجد أن إصابتها كانت بالغة جّدًا‪ .‬كانت قد فقدت إحدى‬
‫ساقيها‪ .‬حمَلها بين ذراعيه بلطف وأسرع بها نحو سيارة إسعاف كانت قريبة‪ .‬لكَّن األجل عاجَلها‬
‫وماتت بين يديه‪.‬‬
‫كنا نسكن في مجّم ع صغير تحيط به األشجار في منطقٍة تدعى الُحَّم ر تبعد نحو عشرين دقيقة‬
‫صعودًا نحو التالل في إحدى ضواحي عمان‪ .‬هذه العزلة النسبية منحتنا شيئًا من الحماية من أولئك‬
‫الذين يريدون بنا شّر ًا‪ ،‬لكن ليس من الطائرات اإلسرائيلية‪ .‬لحماية أنفسنا من تلك الطائرات‪ ،‬كان‬
‫علينا أن نعتمد على أربعة مدافع رباعية من عيار خمسين مّليمترًا منصوبة على أبراج في حديقة‬
‫القصر‪ .‬كان الجنود الذين يتولون السهر على تلك المدافع‪ ،‬وتشغيلها عند الحاجة‪ ،‬من اللطف بحيث‬
‫أشعرونا‪ ،‬أنا وشقيقي فيصل الذي كان في الرابعة من عمره‪ ،‬بأننا جزء ال يتجزأ من الجهد الدفاعي‬
‫عن القصر‪ .‬كانت مهمتنا أن نحمل أوعية الزيت لتزييت المدافع إذا ما أطِلقت منها النار‪ .‬كنا نستمتع‬
‫كثيرًا بالقيام بهذا الدور باعتبارنا أصغر األعضاء سّنًا في وحدة الدفاع العسكرية‪ .‬هذه المهمة ُو ِض َع‬
‫لها حٌّد نهائي فجأة بعد أن أطلَع أحُدهم والدتي على صورة أبدو فيها مع شقيقي فيصل في وضٍع‬
‫استعراضّي إلى جانب المدافع والسيجارة تتدّلى من فم كٍّل منا‪ .‬والدتي ال تزال تسكن في ذلك‬
‫المنزل‪ ،‬لكن األرض التي كانت المدافع منصوبًة فيها هي اليوم بستاٌن لزراعة الخضار‪ ،‬والمكان‬
‫الذي كان أحد المدافع منصوبًا فيه هو اليوم كومٌة من األسمدة الزراعية‪.‬‬
‫مع أنني كنت قادرًا‪ ،‬كطفل‪ ،‬على إدراك مدى الوطأة التي تخّلُفها الحروب‪ ،‬لم أكن في تلك الفترة‬
‫أعي كثيرًا معنى الحروب وتداعياتها‪.‬‬
‫في ربيع العام ‪ 1967‬كان من الواضح جلّيًا لكثيرين في المنطقة أّن إسرائيل وجيرانها العرب‬
‫كانوا متجهين حتمًا نحو الصدام‪ .‬في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر من العام ‪ 1966‬شنت القوات اإلسرائيلية‬
‫هجومًا مدمرًا على الَّسُّم وع‪ ،‬وهي قرية قرب الخليل؛ انتقامًا لمقتل ثالثة جنود إسرائيليين بلغم‬
‫أرضّي ‪ .‬وقد أثار هذا الهجوم قلقًا في عمان من النوايا اإلسرائيلية‪ .‬وفي مطلع أيار من السنة نفسها‬
‫نشر الرئيس عبد الناصر قواٍت عسكرية في شبه جزيرة سيناء وطالب األمم المتحدة بإجالء قوات‬
‫حفظ السالم التابعة لها «قوة الطوارئ الدولية» (‪ )UNEF‬من شبه الجزيرة‪ ،‬وكانت تلك القوات‬
‫تتمركز هناك منذ أزمة السويس‪ ،‬أي قبل ذلك بأكثر من أحَد عشَر عامًا‪ .‬لم يمِض وقت طويل على‬
‫ذلك حتى أغلق الرئيس المصري مضائق تيران‪ ،‬معبَر إسرائيل الوحيد إلى البحر األحمر وممر‬
‫سفنها إليه‪.‬‬
‫لم تكن القوات العربية جيشًا واحدًا متراّص ًا ومتماسكًا‪ ،‬بل كانت مجموعة من الجيوش الوطنية‬
‫المنفصلة التي لم يكن قد مضى وقت طويل على انضمامها معًا‪ .‬بعد سلسلة من المحاوالت الفاشلة‬
‫إلقامة وحدة سياسية أكثر وثوقًا بين بعض الدول العربية خالل عقد الستينيات‪ ،‬جمع المصريون‬
‫والسوريون والعراقيون قواتهم العسكرية معًا وشكلوا القيادة العربية الموحدة في العام ‪ ،1964‬ثم‬
‫وّقعت مصر وسوريا معاهدة دفاع مشترك في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر من العام ‪.1966‬‬
‫في أواخر أيار‪/‬مايو من العام ‪ ،1967‬وسط الشعور بأن انفجار النزاع بات قريبًا وشبه محتوم‪،‬‬
‫ووسط هيجان المشاعر القومية العربية آنذاك وانطالقها من عنانها‪ ،‬شعر والدي بأن ال ِخ ياَر له‬
‫سوى إعالن دعمه للقادة العرب بوجه العدوان اإلسرائيلي‪ .‬توّج ه إلى القاهرة‪ ،‬وفي قراٍر مصيرّي ‪،‬‬
‫أْلَز َم األردن بمعاهدة دفاع مشترك مع مصر‪ .‬ومنذئذ باتت القوات المسّلحة األردنية تحت إمرة‬
‫ضابط مصرّي ‪ ،‬هو الفريق أول عبد المنعم رياض‪ .‬قرر اإلسرائيليون أن يبادروا بضربة وقائية‬
‫مَّدعين أن عبد الناصر كان عازمًا على شّن الهجوم لكنهم في الواقع كانوا قد أعدوا للحرب ُعَّدتها‪.‬‬
‫كان الشرق األوسط في تلك اآلونة محورًا للتنافس الشديد بين القوى العظمى التي كانت عالقة في‬
‫ِش باك الحرب الباردة‪ .‬كانت المنطقة منقسمًة إلى ميدانْي نفوٍذ كبيرين؛ المعسكر المناصر لالتحاد‬
‫السوفياتي بقيادة عبد الناصر والمصريين‪ ،‬والمعسكر المؤيد للغرب الذي كان ينتمي إليه والدي‪.‬‬
‫بحسب الوثائق األميركية المصَّنفة سريًة والتي ُأفِر َج عنها في حينه زار الجنرال مئير آِم ْت ‪ ،‬رئيس‬
‫جهاز االستخبارات األجنبية اإلسرائيلي‪ ،‬الموساد‪ ،‬واشنطن في األول من حزيران‪/‬يونيو من العام‬
‫‪ 1967‬والتقى هناك رتشارد هلمز‪ ،‬مدير وكالة االستخبارات المركزية (‪.)CIA‬‬
‫آخذًا من المخاوف األميركية حياَل نزعِة التوّسع السوفياتي ذريعًة‪ ،‬صَّو ر آِم ت مصر وعبد‬
‫الناصر على أنهما يشكالن تهديدًا ال فقط إلسرائيل بل لمنطقة الشرق األوسط برّم تها‪ .‬وبحسب ما‬
‫عّبر هلمز فإن وجهة نظر الجنرال اإلسرائيلي آِم ْت كانت أن الرئيس المصري‪ ،‬إذا ُترك طليق‬
‫اليدين‪ ،‬فسوف يجّر منطقة الشرق األوسط بكاملها إلى نطاق النفوذ السوفياتي‪ .‬ووفقًا لهذا المنطق‬
‫اعُتبر وقوف األردن إلى جانب مصر دليًال على المسار اآلتي لألمور‪ ،‬وهكذا فإن دور المملكة‬
‫العربية السعودية ولبنان سيأتي بعد األردن‪ ،‬وبعدهما يحين دور تركيا وإيران‪ .‬حتى تونس والمغرب‬
‫سوف يسقطان في نهاية المطاف بين يدي عبد الناصر‪ .‬وعندما كان هلمز يوجز للرئيس األميركي‬
‫لندون جونسون مباحثاته مع رئيس االستخبارات اإلسرائيلي‪ ،‬قال‪« :‬آِم ْت يعتقد أن القرار اإلسرائيلي‬
‫هو بتوجيه ضربة»‪.‬‬
‫زيارة الجنرال آِم ْت كانت بمثابة إنذار من إسرائيل ألميركا‪ .‬فإذا لم يقل لهم الرئيس جونسون‪ :‬ال‬
‫تفعلوا ذلك‪ ،‬فإن إسرائيل سوف تهاجم مصر‪.‬‬
‫في الثالث من حزيران‪/‬يونيو كتب الرئيس جونسون إلى رئيس الوزراء اإلسرائيلي ليفي إشكول‬
‫قائًال‪« :‬ال بد لي من التشديد على ضرورة أاّل تجعل إسرائيل من نفسها مسؤولًة عن المبادرة إلى‬
‫إشعال األعمال العدائية»‪ .‬ثم أضاف جونسون يقول‪« :‬لقد تبادلنا وجهات النظر بصورٍة كاملة‬
‫وشاملة مع الجنرال آِم ْت »‪ .‬وفي اليوم التالي عاد آِم ْت إلى إسرائيل وُسّلمت رسالة جونسون إلى‬
‫الحكومة اإلسرائيلية‪.‬‬
‫من المواهب العظمى لدى إسرائيل تلك القدرة على تضخيم التهديد الذي تراه صادرًا عن البلدان‬
‫التي تعتبرها عدّو ًا استراتيجيا لها؛ محاولًة تأبيَد أسطورِة كونها دولًة صغيرة تحيط بها من كل‬
‫صوب القوى المعادية‪ .‬هذه الخرافة أتاحت لإلسرائيليين أن يصّو روا أعماَلهم العدوانية المحسوبة‬
‫على أنها مجرد دفاٍع عن النفس‪ ،‬كما أتاحت لها ‪ -‬في بعض الحاالت ‪ -‬أن تقنع دوًال أخرى بمهاجمة‬
‫أعدائها بدًال منها‪.‬‬
‫في العام ‪ ،1967‬وبالمفهوم العسكرّي الصرف‪ ،‬ال شك في أن إسرائيل كانت على مستوى‬
‫المواجهة مع خصومها العرب‪ .‬فالجيش اإلسرائيلي كان يضّم ثالثمئة ألف جندي وضابط ويمتلك‬
‫‪ 800‬دبابة و‪ 197‬طائرة مقاتلة‪ ،‬فيما لم يتجاوز مجموع الجيوش العربية التي واجهت إسرائيل‬
‫مئتين وأربعين ألفًا وكان لديها تسعمئة دبابة و‪ 385‬طائرة من كل األنواع‪ .‬لكن مجرد المقارنة‬
‫المبّسطة بين القوى القتالية ليس فقط غيَر كاٍف ‪ ،‬بل مضِّلل أيضًا‪ .‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬كان ما يقارب‬
‫ُخ مَس جنود الجيش المصري الذي كان أكبر الجيوش العربية وعديُده مئة ألف جندي وضابط آنذاك‬
‫في اليمن يدعمون القوات الجمهورية في الحرب األهلية التي كانت دائرة هناك‪ .‬من هنا فإن اّدعاء‬
‫إسرائيل لدى األميركيين أّن مصر كانت تمّثل تهديدًا للمنطقة برّم تها كان في أحسن األحوال أمرًا‬
‫مضِّلال‪ ،‬إن لم يكن كذبًا مكشوفًا ومقصودًا على دولٍة كانت وال تزال من أقرب حلفائها‪.‬‬
‫عندما علمت تركيا من استخبارات حلف شمالي األطلسي (‪ )NATO‬بأن النزاع بات قاب قوسين‬
‫أو أدنى أبلَغ سفيُر ها إلى األردن والدي بأن هجومًا إسرائيلّيًا وشيكًا أصبح على األبواب‪ ،‬فسارع‬
‫والدي فورًا إلى عبد الناصر يبلغه باألمر لكّن الرئيس المصري لم ُيِع ر اإلنذار أّي اهتمام‪.‬‬
‫تطبيقًا لمعاهدة الدفاع المشترك التي وَّقعها األردن مع مصر توّلى الفريق أول عبد المنعم رياض‬
‫قيادة قواتنا المسلحة‪ .‬كان القائد المصري في وضع غير مالئم على اإلطالق وفي غير مصلحته‪،‬‬
‫ذلك أنه كان يجهل طبيعة األرض في األردن وفلسطين ولم تكن لديه المعرفة الكافية بقدرات الرجال‬
‫الذين كانوا يقاتلون تحت قيادته‪ .‬أضف إلى ذلك أنه كان يتلقى أوامره من القاهرة ال من عمان‪ .‬فإذا‬
‫هاجمت إسرائيل مصر فإن رياض سيصدر أوامره إلى القوات األردنية بالدخول في المعركة‬
‫وسيدخل بذلك األردن في حرب مع إسرائيل‪.‬‬
‫في الخامس من حزيران‪/‬يونيو انطلقت الطائرات اإلسرائيلية المقاتلة نحو مصر ووّج هت ضربَتها‬
‫إلى الطيران الحربي المصري‪ .‬لكن طائرات سالح الجو المصري لم تكن الهدف الوحيد للطائرات‬
‫الحربية اإلسرائيلية‪ .‬ففي ذلك اليوم هاجمت طائرتان إسرائيليتان من طراز ميستير القصر الملكي‬
‫في عمان مستهدفًة المكتب الخاص لوالدي بالصواريخ والمدافع الرشاشة‪ .‬لم يكن والدي‪ ،‬بحمد هللا‪،‬‬
‫في مكتبه يومئٍذ بل في القيادة المركزية للجيش‪ .‬ولو كان في القصر آنذاك لكان قد ُقِتل تحت وابل‬
‫النيران اإلسرائيلية‪.‬‬
‫عائلُتنا الكبرى بأكملها‪ ،‬بمن فيها عمي األمير محمد وولداه طالل وغازي‪ ،‬كانوا يقيمون معنا في‬
‫منزلنا خالل الحرب‪ ،‬وكانوا ُيمضون ليلهم في أكياس النوم مخِّيمين في الطبقة السفلية‪ .‬أما عمي‬
‫محمد‪ ،‬الذي كان مسؤوًال عن أمن والدي‪ ،‬فكان ينام على األرض عند باب غرفة نوم والدي‬
‫والرشاش إلى جانبه‪ .‬بالنسبة إلى ولد في الخامسة من عمره بدا لي المشهد كُّله أشبه بمغامرة كبرى‪،‬‬
‫فقد كنت أصغر من أن أفَقَه معنى األحداث المأساوية التي كنا نشهدها‪.‬‬
‫بعد ظهر أحد األيام كنا أنا وشقيقي فيصل نختبئ في الطبقة السفلية مع بعض األقارب وأبناء‬
‫العمومة‪ ،‬وإذا بالطائرات اإلسرائيلية تشّن غارًة أخرى كنا نسمع أصوات انفجاراتها في الخارج‪.‬‬
‫تحّداني شقيقي مقترحًا أن نركض عبر المرج األخضر وصوًال إلى السياج فنلمسه ونعود‪ .‬استجابًة‬
‫لحث فيصل لي وتشجيعه انطلقُت فوق البساط األخضر راكضًا بأسرع ما استطاعت ساقاي أن‬
‫تلّبياني‪ ،‬وإذا بنا نسمع انفجارًا هائًال‪ .‬انفجرُت باكيًا وعدُت أدراجي إلى المنزل‪.‬‬
‫على امتداد يوم الخامس من حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ 1967‬دأَب سالح الجو اإلسرائيلي على‬
‫اإلغارة على قواعدنا في عمان والمفرق مدمرًا مطاراتنا العسكرية وأسطول طائراتنا من طراز‬
‫«هوكرهنتر»‪ .‬على مدى اليومين التاليين قاتلت القوات األردنية ببسالة دفاعًا عن الضفة الغربية‬
‫والقدس الشرقية‪ ،‬لكن في ظل التفوق اإلسرائيلي‪ُ ،‬عّدًة وعتادًا‪ ،‬ومن دون أي غطاء جوي‪ ،‬كانت‬
‫الَغَلبة إلسرائيل‪ .‬كذلك قام سالح الجو الملكي األردني بعمٍل مدهٍش وجبار على الرغم من إمكاناته‬
‫وموارده المحدودة وتفّو ق القوة الجوية اإلسرائيلية‪ .‬فقد أسقط األردنيون ثماني طائرات إسرائيلية‬
‫وشّنوا هجومين على مدٍن مركزية في إسرائيل‪ ،‬وبذلك كان سالح الجو العربي الوحيد الذي أسقط‬
‫طائراٍت إسرائيليًة خالل الحرب‪.‬‬
‫استمرت القوات المسلحة اإلسرائيلية في هجومها الضاغط‪ ،‬بقيادة إسحق رابين‪ ،‬محاولًة السيطرة‬
‫الكاملة على الضفة الغربية‪ .‬توّج ه والدي إلى وادي األردن مصممًا على البقاء على خط الدفاع‬
‫األول ليكون إلى جانب رجاله‪ ،‬وما إن وصَل إلى هناك حتى كان في انتظاره مشهد رهيب وصَفه‬
‫في ما بعد كما يلي‪« :‬طرقاٌت تغُّص بالشاحنات وسيارات الجيب وكل أنواع المركبات المحطمة‬
‫والمتناثرة أشالًء والمطرزة بنقش الرصاص وكان الدخان ال يزال ينبعث منها موِّز عًا في الجّو تلك‬
‫الرائحة الكريهة‪ ،‬ومزيجًا من المعدن والدهان المحروقين جّر اء القنابل المنفجرة‪ ،‬ورائحة مقيتة ال‬
‫يمكن أن تصدر إال من ذلك المزيج»‪.‬‬
‫طوال ليلة الخامس من حزيران‪/‬يونيو وصوًال إلى نهاية اليوم التالي أظهر جنودنا وقادة الدبابات‪،‬‬
‫بما في ذلك اللواء المدّر ع األربعون‪ ،‬الذي خدمُت في صفوفه في ما بعد أياَم كنت جنديا شاّبًا‪،‬‬
‫شجاعًة هائلة‪ .‬لكنهم كانوا في وضٍع بائس تحت وابل من قنابل الطائرات اإلسرائيلية التي دّم رت‬
‫معظم دباباتهم‪ .‬في وقٍت الحق وصف والدي المعركة بقوله‪« :‬تلك الليلة كانت جحيمًا‪ ،‬وكانت القنابل‬
‫تضيء الليل فتجعله نهارًا‪ ،‬وكانت السماء واألرض تتوهجان وسَط أضواء الصواريخ وانفجارات‬
‫القنابل المتواصلة المنهمرة من الطائرات اإلسرائيلية»‪.‬‬
‫سقطت الحرب على األردن وعلى دوٍل عربية أخرى سقوط الكارثة‪ .‬وعندما وضعت الحرب‬
‫أوزارها في العاشر من حزيران‪/‬يونيو كانت إسرائيل قد استولت على الضفة الغربية والقدس‬
‫الشرقية من األردن‪ ،‬وعلى شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة من مصر‪ ،‬وعلى مرتفعات الجوالن من‬
‫سوريا‪ .‬وفي يومنا هذا ال تزال إسرائيل تحتل بصورٍة غير قانونية جزءًا كبيرًا من األراضي التي‬
‫استولت عليها في العام ‪ .1967‬وفي أعقاب تلك الحرب انتقل ما بين مئتي ألف وثالثمئة ألف‬
‫فلسطيني إلى الضفة الشرقية من نهر األردن‪ ،‬رافعين عدد الالجئين الفلسطينيين في األردن إلى ما‬
‫يقارب ثالثة أرباع المليون‪ .‬أما الدمار الذي أصاب القوات األردنية المسلحة فكان مذهًال حّقًا‪ ،‬فقد‬
‫اسُتشهد من جنودنا سبعمئة عنصر وُج رح ما يقارب ستة آالف‪ ،‬فضًال عن خسارتنا كل قواتنا‬
‫الجوية ومعظم دباباتنا‪ .‬بعد توقف الحرب خضعت القوات المسّلحة األردنية المنهكة والضعيفة‬
‫لبرنامج نشيط ومكثف إلعادة تركيبها وتدريبها؛ وذلك بمساعدة بعثة استشارية باكستانية بقيادة‬
‫العميد ضياء الحق الذي أصبح في ما بعد رئيسًا لباكستان‪.‬‬
‫االستيالء على الضفة الغربية لم يكن بأّي شكل من األشكال عمًال ضروريًا لو أن إسرائيل أرادت‬
‫فقط أن ترّد على ما اعتبرته تهديدًا جاَء ها من مصر‪ .‬لكّن قادة إسرائيل أرادوا الدفاع في العمق‪،‬‬
‫بحسب تعبيرهم‪ ،‬حتى إذا سنحت لهم الفرصة النتزاع المزيد من األرض لم يترددوا في االستيالء‬
‫عليها‪ .‬أما حين يضعون يدهم على األرض فكانوا حاسمين في التمسك بها‪.‬‬
‫إن تداعيات احتالل إسرائيل الضفَة الغربية والقدس الشرقية ال تزال أصداؤها َتقُّض المضاجَع في‬
‫أرجاء منطقة الشرق األوسط والعالم حتى يومنا هذا‪ .‬خسارة القدس كانت مصدَر ألٍم كبير بالنسبة‬
‫إلى والدي‪ .‬فعائلتي تنتمي إلى فرع النبّي محمد صلى هللا عليه وسلم من قبيلة قريش‪ ،‬وتنحدر‬
‫مباشرة من ِس ْبط النبّي ‪ ،‬أي من الذكور المنحدرين من حفيده الحسن رضي هللا عنه‪«( .‬هاشم» كان‬
‫الجَّد األكبر للنبّي (ص)‪ ،‬ومن هنا جاء اسُم العائلة‪« ،‬الهاشمية»)‪ .‬منذ العام ‪ 965‬للميالد حتى العام‬
‫‪ 1925‬حكَم الهاشميون الحجاز في غرب شبه الجزيرة العربية‪ ،‬وكانوا األوصياَء الُح ماة للمدينتين‬
‫المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة‪ ،‬وبذلك نكون‪ ،‬نحن الهاشميين‪ ،‬الساللَة الحاكمَة األعرق‬
‫في العالم بعد العائلة اإلمبراطورية اليابانية‪ .‬وبوصفه رأس العائلة الهاشمية ومسؤوًال عن رعاية‬
‫األماكن المقدسة في القدس‪ ،‬أصيب والدي بما يشبه الفجيعة عندما حالت الظروف دون أن يتمكن‬
‫من حماية القدس والمسجد األقصى‪ ،‬وهو أحُد األماكن المقدسة الثالثة في اإلسالم‪ ،‬من الجيش‬
‫اإلسرائيلي‪.‬‬
‫ما إن انتهت الحرب حتى بدأت مفاوضات السالم‪ .‬ومع أن مؤتمر القمة العربية في الخرطوم في‬
‫أواخر آب‪/‬أغسطس ُعرف «بالءاته الثالث»‪ :‬ال للسالم‪ ،‬ال لالعتراف بإسرائيل‪ ،‬وال للتفاوض مع‬
‫إسرائيل‪ ،‬إال أنه‪ ،‬في واقع األمر‪ ،‬وضع إطارًا للمسار الدبلوماسي‪ .‬تواصلت المحادثات في تشرين‬
‫الثاني‪/‬نوفمبر في فندق «والدروف أستوريا» في نيويورك‪ ،‬مقر سفير الواليات المتحدة إلى األمم‬
‫المتحدة آرثر غولدبرغ‪ ،‬الذي استضاف اجتماعات خاصًة بين وفود إسرائيلية ومصرية وأردنية‪.‬‬
‫كان السفير غولدبرغ‪ ،‬وهو عضو سابق في المحكمة األميركية العليا‪ ،‬نصيرًا معروفًا إلسرائيل‪.‬‬
‫ومن هنا كان موضع ريبٍة وشك من قبل والدي وكذلك من جهة المصريين‪ .‬وقد تبّين في ما بعد أن‬
‫هذه الريبة كانت مبّر رة‪.‬‬
‫بحسب نقاٍط دّو نها أحد مستشاري والدي المقربين ممن كانوا معنيين بتلك المباحثات‪ ،‬فقد بعث‬
‫غولدبرغ برسالة شفهية إلى والدي فحواها أنه إذا قبَل العرب بقراٍر يصدر عن مجلس األمن الدولّي‬
‫فإن الواليات المتحدة سوف تدفع إسرائيل إلى االنسحاب من األراضي التي احتلتها‪ ،‬وأن أي‬
‫تغييرات تصيب حدودها ما قبل الحرب سوف تكون «تعديالٍت حدوديًة طفيفًة ومتباَدلة»‪ .‬وقد أشار‬
‫غولدبرغ في كالمه إلى أن اإلسرائيليين موافقون على اقتراحه‪ .‬طار والدي إلى القاهرة وبحث‬
‫العرض مع عبد الناصر فكان أن طلب هذا األخير من والدي دعم القرار‪.‬‬
‫في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر عاد والدي إلى نيويورك لالجتماع إلى األمين العام لألمم المتحدة يوثانت‬
‫وإجراء مباحثات مع سائر الموفدين العرب ُقبَيل االجتماع التالي لمجلس األمن الدولي‪ .‬التقى الرئيس‬
‫جونسون في البيت األبيض في الثامن من تشرين الثاني‪/‬نوفمبر ثم غادر الواليات المتحدة إلى‬
‫أوروبا بعد أن مكث هناك عشرة أيام‪ .‬كانت النتيجة النهائية للمفاوضات صدور قرار األمم المتحدة‬
‫الرقم ‪ 242‬الذي تبّناه مجلس األمن الدولي مصِّو تًا عليه باإلجماع في ‪ 22‬تشرين الثاني‪/‬نوفمبر من‬
‫العام ‪ .1967‬دعا القرار األممّي إلى انسحاب إسرائيل من أراٍض (النص العربي دعا إلى االنسحاب‬
‫من «ال ‪ -‬أراضي»‪ ،‬فيما ورَد في النص اإلنكليزي «من أراٍض ») احتلتها وذلك مقابل إحالل‬
‫السالم وبالتالي إطالق صيغة األرض مقابل السالم التي تحولت منذئٍذ أساسًا للسياسة الخارجية‬
‫لألردن‪ .‬شدد القرار في مقدمته على عدم جواز االستيالء على األرض بالقوة‪ ،‬ونَّص على‪:‬‬
‫(إن) تحقيق مبادئ الميثاق يتطلب إقامة سالم عادل ودائم في الشرق األوسط ويستوجب تطبيق‬
‫المبدأين التاليين‪:‬‬
‫( أ ) سحب القوات اإلسرائيلية من األراضي المحتلة في النزاع األخير‪.‬‬
‫(ب) إنهاء جميع ادعاءات الحرب أو حاالتها واحترام السيادة والوحدة ألراضي كل دولة في‬
‫المنطقة واالعتراف بذلك‪ ،‬وكذلك استقاللها السياسي وحقها في العيش بسالم ضمن حدود آمنة‬
‫ومعترف بها وحرة من التهديد أو أعمال القوة…‬
‫كذلك أوضح القرار ضرورة تحقيق تسوية عادلة لمشكلة الالجئين‪ .‬وها نحن‪ ،‬بعد مرور أكثر من‬
‫أربعين عامًا على صدور قرار األمم المتحدة الرقم ‪ 242‬الذي أّدى األردن دورًا رئيسّيًا في صياغته‬
‫واإلعداد له‪ ،‬أماَم قراٍر ال يزال يمّثل المرجعية لتحقيق السالم الدائم بين اإلسرائيليين والفلسطينيين‪.‬‬
‫بالنسبة إلى معظم العرب بدا أن الصراع قد انتهى‪ .‬أما بالنسبة إلينا في األردن‪ ،‬فإّن متاعبنا كانت‬
‫في بدايتها؛ ذلك أن عاصفًة أخرى كانت في طور التكّو ن واالختمار‪ .‬لكن هذه المرة بدل أن تكون‬
‫المواجهة مع عدٍّو خارجي‪ ،‬كانت بين األخ وأخيه‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬غيوم سوداء فوق عمان‬

‫في أعقاب حرب العام ‪ 1967‬تدّفق على األردن ما يقارب ثالثمئة ألف الجئ من الضفة الغربية‪.‬‬
‫ياسر عرفات‪ ،‬الذي عاش في مصر قبل أن ينتقل إلى الكويت في العام ‪ ،1957‬حيث أَّسس مع‬
‫آخرين حركة فتح لينتقل مجددًا إلى سوريا في مطلع عقد الستينيات‪ ،‬جاء أيضًا إلى األردن في‬
‫أعقاب تلك الحرب‪ .‬بدأت فتح‪ ،‬ومعها عدد من الجماعات الفلسطينية المسّلحة الملتقية في التزاٍم واٍه‬
‫وشبه شكلّي تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية‪ ،‬إطالَق الدعوات إلى المقاومة المسلحة ضد‬
‫إسرائيل‪ .‬جّندت فتح وغيرها من منظمات المقاتلين الفلسطينيين‪ ،‬الذين ُعرفوا آنذاك بالفدائيين‪ ،‬شبابًا‬
‫ساخطين من المخيمات الفلسطينية‪ ،‬وبدأت تشن الهجمات على القوات اإلسرائيلية عبر نهر األردن‪.‬‬
‫في السنة التالية قرر الجيش اإلسرائيلي أن يرّد على تلك الهجمات‪ ،‬وفي الساعات األولى من‬
‫الحادي والعشرين من آذار‪/‬مارس ‪ 1968‬أرسلت إسرائيل لواَء ين مدّر عين عبر نهر األردن وهي‬
‫تتوقع تحقيق نصر سهل‪ .‬كانت الخطة اإلسرائيلية تقضي بتوجيه ضربة إلى مخّيم الكرامة على‬
‫مسافة عشرين ميًال إلى الغرب من عمان‪ ،‬حيث يتمركز الفدائيون الفلسطينيون‪ ،‬ومن َثَّم االتجاه نحو‬
‫العاصمة‪ .‬تصّدى الجيش األردني‪ ،‬الذي كان ال يزال يلملُم جراَح ه جّر اَء حرب العام ‪ ،1967‬للقوة‬
‫اإلسرائيلية المهاجمة والتحَم معها في معركة طاحنة كّبد خالَلها المهاجمين ما يكفي من الخسائر‬
‫بحيث بدأوا‪ ،‬بعد بضع ساعات من القتال‪ ،‬يصرخون مطالبين بوقٍف إلطالق النار‪ .‬رفض والدي أَّي‬
‫وقٍف إلطالق النار قبل أن ينسحب آخر جندي إسرائيلي من الكرامة‪ .‬بعد خمَس عشرة ساعًة من َبْدِء‬
‫الهجوم أكملت القوة اإلسرائيلية الغازية انسحابها متالشيًة تجّر أذيال الهزيمة‪ .‬في معركة الكرامة‬
‫تذّو َق اإلسرائيليون هزيمَتهم األولى أمام جيٍش عربّي ‪ .‬ومع أن الفدائيين شاركوا في القتال فالذي‬
‫حقق االنتصار هو الجيش‪ .‬لكن عرفات ومقاتليه لم يتأخروا في ادعاء الفضل في تحقيق ذلك النصر‪،‬‬
‫وما لبثوا أن بدأوا يصّدقون خطاَبهم ومبالغاتهم وراحوا يعرضون عضالتهم متمادين في ذلك حتى‬
‫إن الفدائيين‪ ،‬كحركة مسلحة‪ ،‬بدأوا يشكلون تحديًا لألردن؛ هددوا أمن البالد‪ ،‬خالفوا القوانين‪،‬‬
‫وحاولوا إقامَة دولٍة ضمن الدولة‪.‬‬
‫خالل عقد الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن الماضي كان األردن في وضٍع هش وشديد‬
‫الحساسية حياَل االضطرابات السياسية اإلقليمية‪ .‬تلك كانت حقبة القومية العربية يوم كان الثوريون‬
‫الناصريون في مصر والعلمانيون البعثيون الذين تولوا الحكم في سوريا والعراق في أوج شعبيتهم‪.‬‬
‫كانت أحالُم هم كبيرة بتحقيق الوحدة العربية وأمنياُتهم في الهيمنة الجيوسياسية كانت تمتد لتشمل‬
‫األردن‪ .‬ما بين السنة التي كان فيها والدي في الثامنة عشرة وتولى خاللها مسؤولياته ملكًا على‬
‫األردن والسـنة التـي بلغ فيها الثالثين من عمره وكنُت أنا في الثالثة‪ ،‬بلغ عدد محاوالت االغتيال‬
‫الموَّثقة التي تعَّر ض لها ثماني عشرَة محاولًة بما فيها اثنتان ارتكَبهما خائنان داخَل الديوان الملكي‬
‫كانا عميلين لجمال عبد الناصر والجمهورية العربية المتحدة‪ ،‬وهي االتحاد الذي جمع مصر وسوريا‬
‫ودام ثالث سنوات (‪ .)1961-1958‬كانت الجمهورية العربية المتحدة حليفة االتحاد السوفياتي فيما‬
‫كان والدي حليفًا للغرب‪ ،‬ومن خالل قتله كان عبد الناصر واالتحاد السوفياتي يأمالن زعزعَة‬
‫االستقرار في األردن؛ وبالتالي دفَعه إلى الدخول في مدارهما‪.‬‬
‫المحاولة الداخلية األولى كانت بواسطة األسيد‪ .‬كان والدي آنذاك في أواسط العشرينيات من عمره‬
‫وكان يعاني من التهاٍب في الجيوب األنفية يداويه بتنقيط سائٍل مالح في أنفه بانتظام‪ .‬شخٌص ما‪ ،‬لديه‬
‫صالحيُة الدخول إلى حّم امه الخاص‪ ،‬بَّدل السائل المالح بحامض الهايدروكلوريك‪ ،‬لكن بحركٍة‬
‫خاطئة وقع حنجور يحتوي هذه المادة في المغسلة‪ .‬عندما أخذ البخار يتصاعد من طالء المغسلة وبدأ‬
‫سطحها يتشّقق من قوة األسيد أدرك والدي أنه نجا من ميتة مؤلمة وأن نجاَته كانت بما يشبه‬
‫األعجوبة‪.‬‬
‫محاولة االغتيال األخرى كانت بواسطة السّم ‪ ،‬فقد الحظ والدي أن قططًا ميتة أخذت تلِّو ث المكان‬
‫في محيط القصر‪ .‬وعندما حقق مساعدوه في هذه المسألة الغريبة بعض الشيء تبّين لهم أن أحد‬
‫مساعدي رئيس الطباخين في مطبخ القصر كان مكلفًا قتله مقابل أجر‪ .‬ويبدو أن الطباخ الماهر‪،‬‬
‫الذي لم تمتد مهارته لتشمل تسميَم الطعام‪ ،‬كان يستخدم القطط المسكينة كوسيلة اختبار محاوًال تحديد‬
‫الكمية الكافية من السّم ‪.‬‬
‫بما أن إمكانية نجاح أحد هؤالء القتلة في مهمته كانت ذات أرجحية عالية‪ ،‬وفي واحٍد من‬
‫اإلجراءات اآليلة إلى حماية الملكية‪ ،‬قرر والدي في العام ‪ 1965‬أن ينزع عني لقَب ولّي العهد‪،‬‬
‫وكنت آنذاك في الثالثة من عمري‪ ،‬وسّم ى شقيقه األمير حسن ولّيًا للعهد وكان يوَم ها في الثامنة‬
‫عشرة‪ .‬صحيح أنني لم أكن ألدرك معنى هذا التغيير في تلك اآلونة‪ ،‬لكنه كان من أفضل ما فعَله لي‬
‫والدي على اإلطالق ألنه أتاح لي أن أعيش حياًة عادية نسبّيًا‪ .‬وما بقي من شواهد قليلة جّدًا عن تلك‬
‫الفترة الوجيزة التي كنت فيها وليًا للعهد هو مجموعٌة من الطوابع عليها صورتي وأنا في الثالثة من‬
‫العمر‪ .‬ولكنني لم أكن بحاجة إلى األلقاب الرسمية لكي أتمتع بطفولتي‪.‬‬
‫كان والدي يمتلك سيارة مرسيدس ‪ -‬بنز ‪ Gullwing 300SL‬لها بابان كجناحي النورس‪ ،‬وكان‬
‫يقودها ُم شاركًا في سباقات الجبل في لبنان في خمسينيات القرن الماضي‪ .‬كانت تسحرني الطريقُة‬
‫التي ينفتح بها بابا السيارة فيرتفعان من أسفل إلى أعلى كأنك تشاهد منظرًا سينمائيًا‪ .‬كان شديد‬
‫التعّلق بالسيارات السريعة وكان يحلو له السباق إن لم يكن بالسيارة فعلى الدراجة النارية‪ ،‬وإال‬
‫فبالطائرة المروحية‪ .‬في تلك األيام لم يكن لدينا هذا الخيار الواسع من القنوات التلفزيونية كما هي‬
‫الحال اليوم‪ ،‬والواقع أن ما كان لدينا من برامج تلفزيونية في األردن لم يكن يتجاوز ساعتين في‬
‫اليوم؛ وبذلك كان علينا أن نبتكر بأنفسنا وسائل َلْه ِو نا وتسليتنا‪ .‬في أوقات الهدوء كنا‪ ،‬والدي ووالدتي‬
‫وأنا‪ ،‬نذهب بالسيارة شماًال‪ ،‬وبما أن سيارته الـ«‪ »SL300‬لم تكن تتسع إال لشخصين كان مقعدي‬
‫في حضنه‪ .‬وفيما نحن مسرعون على الطريق الصحراوي كان والدي ينقر منّبه السيارة (الزمور)‬
‫ضابطًا اإليقاع فيما كنا ُننشد معًا أغنية «بوباي البّح ار» وهي األغنية الرئيسة في أحد برامجي‬
‫التلفزيونية المفضلة‪ .‬عند الغسق كنا غالبًا ما نتوقف ونتمتع بنزهة في الطبيعة وسَط أحد حقول‬
‫القمح‪ ،‬وكان حراسنا من الجنود يدخلون إلى الحقل فيقطفون بعض السنابل ويشوون حبوبها‬
‫الخضراء على نار يشعلونها من بعض األغصان اليابسة واألخشاب‪ .‬منذئٍذ وأنا مولع برائحة القمح‬
‫األخضر وهو ُيشوى‪.‬‬
‫لعّل كل ولد في مرحلٍة ما من مراحل نمّو ه َيحسُب والده ملكًا‪ ،‬أما أنا فكنت أدرك أن والدي‬
‫شخصية مميزة‪ ،‬كما كنت أدرك أيضًا أنه قائد مع أنني لم أكن أفهم حقيقًة ماذا كان يفعل طواَل‬
‫نهاره‪ .‬لكنني كنت سعيدًا جّدًا بتلك اللحظات التي كنا نقضيها معًا‪ ،‬وقد بذل والداي أقصى جهدهما‬
‫ليتيحا لي ولشقيقي فيصل أن نعيش حياتنا الطبيعية كطفلين‪ .‬كانا يصطحباننا إلى مزرعة صغيرة في‬
‫وادي األردن أيام الجمعة ويدعوان بعض األصدقاء مع أوالدهم‪ .‬من النشاطات األخرى التي كنا‬
‫نتمتع بها أيضًا التمّر ن على الرماية‪ ،‬فكان لدينا مرمى في أسفل الحديقة حيث كان كٌّل منا‪ ،‬والدي‬
‫ووالدتي وأنا وفيصل‪ ،‬يأخذ دوره في التصويب على الهدف‪.‬‬
‫والدتي نشأت في عائلة عسكرية‪ .‬فوالدها‪ ،‬الضابط البريطاني‪ ،‬قاَتَل في الحرب العالمية الثانية‬
‫ومن بعدها في «ماليا»‪ ،‬وقد عّلمها الرماية وهي فتاٌة يافعة حتى باتت تتقنها بدرجة ممتازة‪ .‬عندما‬
‫كانت في سن المراهقة ُأرِسَل والدها إلى األردن وتّم اللقاء بينها وبين والدي خالل أحد االستقباالت‬
‫الدبلوماسية‪ .‬كانت يومها لم تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها‪ ،‬فيما كان والدي في الخامسة‬
‫والعشرين‪ .‬لفتت انتباَهه بجمالها فأخذ يدعوها إلى القصر بين الحين واآلخر لمشاهدة فيلم سينمائي‬
‫مع والدته والعائلة‪ .‬ردت والدتي بالمثل فكانت تدعوه إلى منزل والديها حيث كان يتناول معهم‬
‫«الكيك» والشاي اإلنكليزي‪ .‬اكتشفا أن لديهما هوايًة مشتركة وهي رياضة السيارات وأخذت‬
‫عالقتهما تتوثق أكثر فأكثر خالل زياراتهما إلى نادي ‪ Go-Kart‬في عمان؛ حيث عّلمها والدي قيادة‬
‫السيارات‪ ،‬وما لبثت أن بدأت تشارك في سباق السيدات‪ .‬ما إن مضت السنة األولى على لقائهما‬
‫األول حتى طلَب والدي يدها فأخذتها الدهشة وعقدت لسانها عن الكالم؛ فأومأت برأسها تعبيرًا عن‬
‫موافقتها‪ .‬اعتنقت والدتي‪ ،‬المولودة أنطوانيت غارِدنر‪ ،‬اإلسالَم قبل الزواج وأصبحت مواطنة أردنية‬
‫وحملت اسم منى الحسين‪.‬‬
‫قبل حفل الزواج بيومين كانا يبحثان الدوَر المستقبلَّي لوالدتي ضمن العائلة المالكة فقالت لوالدي‪:‬‬
‫«هل يبدو كالمي مضحكًا إذا قلت إنني في الحقيقة ال أريد أن أحمَل لقب ملكة؟» شعر والدي‬
‫بالسعادة ألنها أرادت الزواج به بدافع الحّب ال سعيًا وراء لقب‪ ،‬واستجاب لرغبتها مرِّح بًا‪ .‬تّم‬
‫زفافهما في الخامس والعشرين من أيار‪/‬مايو من العام ‪ 1961‬في احتفال بسيط في قصر زهران في‬
‫عمان‪ .‬بعد الزواج أصبحت والدتي األميرة منى وفي السنة التالية كانت والدتي‪.‬‬
‫لم تكن عمان في العام ‪ 1968‬من المدن اآلمنة تمامًا‪ .‬فياسر عرفات ومقاتلوه كانوا يشنون‬
‫هجماتهم على إسرائيل انطالقًا من األراضي األردنية‪ .‬وكان الجيش اإلسرائيلي يرّد على تلك‬
‫الهجمات بين الحين واآلخر موجهًا ضرباته إلى أهداٍف داخل األردن‪ .‬وباإلضافة إلى القنابل‬
‫اإلسرائيلية كان هناك بعض المصريين والسوريين من ذوي النوايا السيئة‪ :‬شيوعيون من دعاة‬
‫الثورة الفوضوية مدعومون من السوفيات‪ ،‬وَقَتلة مأجورون مصممون على زعزعة استقرار‬
‫حكوماٍت كحكومتنا‪ .‬تحولت عمان إلى مكان تتجمع فيه كل ضروب الراديكاليين‪ ،‬من عصابة‬
‫«بادرماينهوف» األلمانية والجيش األحمر الياباني إلى اإلرهابي الفنزويلي كارلوس الثعلب‪ ،‬ومعظم‬
‫هؤالء كان يجذبهم إلى األردن قرُبه من الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل وإمكانية توجيه‬
‫ضرباتهم إليها من أراضينا‪ .‬وبما أن الجيش األردني كان منتشرًا على الحدود يراقبها ويحميها‪،‬‬
‫احتَّل المقاتلون والراديكاليون مواقَع لهم في المدينة فأقاموا الحواجز ووضعوا أحياًء ومناطَق من‬
‫المدينة تحت سيطرتهم‪ .‬ال أزال أتذكر عندما كنا نقصد وسط المدينة في سيارة والدتي المرسيدس‬
‫البيضاء القديمة أنه كان علينا أن نغّطي ضوءي السيارة األماميين لئال يفتح علينا المقاتلون الجّو الون‬
‫النار‪ .‬لم تكن والدتي تغادر المنزل دون أن يكون «الكالشنيكوف» على المقعد إلى جانبها في‬
‫السيارة ومسدس «كولت» صغير في جيب السيارة األمامي‪.‬‬
‫كان الوضع في األردن في تلك الفترة شديَد الكآبة مثبطًا للعزيمة‪ ،‬ذلك أن ياسر عرفات‪ ،‬الذي فتح‬
‫له األردّن ذراعيه بعد حرب العام ‪ 1967‬وأتاح لمنظمة التحرير الفلسطينية الحركة بحرية‪ ،‬لم يقابل‬
‫هذه المعاملة الكريمة بمثلها‪ .‬أخذت قواُته تزعزع أركان الدولة بإقامة الحواجز على الطرقات‬
‫وجباية الضرائب وانتهاك القوانين واألنظمة‪ .‬كان العديد من أفراد الفصائل المقاتلة تحت مظلة‬
‫منظمة التحرير الفلسطينية يتصرفون غير آبهين بقانوٍن أو بعقاب‪ .‬فإذا جاعوا اقتحموا أحد المنازل‬
‫في غياب رّب المنزل وأجبروا زوجته على أن ُتِع َّد لهم طعام الغداء تحت تهديدها بالسالح‪ .‬كانوا‬
‫يخطفون أشخاصًا ليطالبوا ذويهم بدفع فديٍة لإلفراج عنهم‪ ،‬وكانوا يقتلون عشوائيًا ويصادرون‬
‫السيارات ويحتلون المنازل ويهاجمون الفنادق على أمل أن يخطفوا رهائن من األجانب‪.‬‬
‫كنُت آنذاك في السادسة فقرر والداي إرسالي إلى الخارج لتجنيبي العنف المتزايد والفوضى التي‬
‫كانت تعّم األردن‪ .‬وبما أن والدي كان قد درس في «هارو» كان إرسالي إلى إنكلترا خيارًا طبيعّيًا‪.‬‬
‫ال أزال أتذكر وصولي في المساء إلى مدرسة «سانت إدمند»‪ ،‬البناء الريفّي الواسع األرجاء القائم‬
‫ضمَن ساحة كبيرة‪ .‬خالل الرحلة في السيارة من مطار «هيثرو» مرورًا بتلك الحقول ذات‬
‫االخضرار الرائع والمسّيجة بصفوٍف متراصة من الشجيرات‪ ،‬شعرُت بفارٍق هائل بين ما أراه هنا‬
‫وما تركُته ورائي من طرٍق صحراوية يغطيها الغبار في األردن‪.‬‬
‫مع أن المعلمين كانوا ودودين ومرّح بين‪ ،‬لم أكن سعيدًا جّدًا بوجودي في سانت إدمند‪ .‬فمن جهٍة‬
‫أولى كرهُت أن أبتعد عن والدَّي في تلك السن المبِّك رة‪ ،‬ومن جهٍة ثانية كنت أمام إشكال عدم إتقان‬
‫اللغة اإلنكليزية‪ .‬فاللغة العربية كانت لغتي األولى‪ ،‬وبما أن مرّبيتي آنذاك كانت سويسرية‪ ،‬كنُت‬
‫غالبًا ما أتكلم الفرنسية في المنزل‪ .‬ولذلك كانت اللغة اإلنكليزية أضعَف اللغات الثالث التي تكلمتها‬
‫في طفولتي‪ .‬لكن مع ذلك لم يمِض وقت طويل حتى أتقنت اإلنكليزية واكتسبت اللكنة البريطانية التي‬
‫بقيت مالِز مًة لي‪ .‬بعد مرور سنٍة ونصف السنة انضّم إلّي شقيقي فيصل‪ ،‬لكننا لم نبَق طويًال في‬
‫إنكلترا‪.‬‬
‫كان التوتر يشتد ويتزايد بين والدي والفدائيين‪ .‬وفيما رفع عرفات من وتيرة جهوده النتزاع‬
‫السيطرة على األردن‪ ،‬راَح رجاُله يرّكزون اهتمامهم على مليكه‪.‬‬
‫في أيلول من العام ‪ ،1970‬وفيما كان والدي متجهًا إلى عمان يرافقه رجل الدولة خريج جامعة‬
‫هارفرد ورئيس الديوان الملكي زيد الرفاعي‪ ،‬والشريف ناصر بن جميل‪ ،‬ذو الصدر العالي والجسم‬
‫المليء‪ ،‬الذي كان في تلك الفترة رئيس أركان الجيش األردني‪ ،‬أوقَف موكَبه عند أحد التقاطعات‬
‫متراٌس كان قد أقيم هناك‪ .‬عندما خرج أحد رجاله إلزالة المتراس فتح المقاتلون المختبئون وراء‬
‫التالل النار من أسلحة مختلفة بما فيها رشاش ثقيل روسّي الصنع من نوع دوشكا‪ُ .‬قتل الجندي الذي‬
‫كان يحاول إزالة المتراس وشاهد والدي زّخ ات الرصاص تقترب منه منهمرًة على األرض من‬
‫حوله كالَبَر د‪ .‬أخذ الجميع مواقعهم وبدأوا يردون على مصادر النار‪ .‬وكانت ردة فعل والدي األولية‬
‫أن صرخ‪« :‬عيب عليهم»‪ .‬قد تبدو ردة الفعل هذه غريبًة بعض الشيء من شخٍص يتعَّر ض للهجوم‪.‬‬
‫لكّن والدي كان يؤمن بقوة بقيم الشرف والرجولة ولم ير في مهاجميه سوى عصابة من الجبناء‪.‬‬
‫رجاه زيد الرفاعي والشريف ناصر أن يحتمي في حفرٍة قريبة‪ .‬وعندما رأى المهاجمون والدي‬
‫يحاول أن يحتمي في الحفرة أداروا الرشاش باتجاهه بغية استهدافه‪ .‬في تلك اللحظة رمى زيد‬
‫الرفاعي وقائد الحرس الملكي نفسيهما نحوه لحمايته فاصطدم أحدهما باآلخر ووقعا معًا فوقه فشعر‬
‫بظهره يكاد ينكسر تحت وزنيهما‪.‬‬
‫رّد والدي ومرافقوه المهاجمين وعادوا إلى سياراتهم‪ .‬وما إن تحرك الموكب حتى الحظ والدي‬
‫الذي كان قد جلس في المقعد األمامي أن قبعته العسكرية قد وقعت عن رأسه وسقطت على التراب‪.‬‬
‫كان الغضب قد ناَل منه مناَله بسبب تعُّر ضه لهذا الكمين؛ لدرجة أنه عاد فخرج من السيارة‬
‫والرصاص يتطاير في المكان‪ ،‬والتقط قبعته ووضعها بهدوء على رأسه ثم عاد إلى السيارة وانطلق‬
‫الموكب‪ .‬وفيما كانوا عائدين إلى المنزل في الحّم ر استدار والدي نحو زيد الرفاعي وقال له‪« :‬في‬
‫المرة التالية اتركوا لي الفدائيين أتدّبر أمري معهم‪ ،‬أنتما االثنين أوقعتما بي من الضرر أكثر مما‬
‫فعلوا هم!» ومنذ تلك الحادثة بقي يشكو من أوجاٍع في ظهره‪.‬‬
‫عند هذه النقطة‪ ،‬وبعد سقوط وقف إطالق النار مرتين‪ ،‬بات واضحًا أن األردن لم يعد قادرًا على‬
‫التعايش مع مقاتلي عرفات‪ .‬في تلك المرحلة كان عديد العسكريين التابعين لمنظمة التحرير‬
‫الفلسطينية والفصائل التابعة لها مئة ألف رجل من بينهم ‪ 25٬000‬مقاتل نظامي متفّر غ وحوالى‬
‫‪ 75٬000‬من الميليشيات المسلحة‪ .‬وكانوا يزدادون جرأًة وتفُّلتًا‪ .‬ففي السادس من أيلول‪/‬سبتمبر من‬
‫العام ‪ 1970‬خطفت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» ثالث طائرات عالمية كانت قد أقلعت من‬
‫فرانكفورت وزيوريخ وأمستردام متجهًة إلى نيويورك‪ .‬حّو ل الخاطفون اتجاه طائرتين منها إلى‬
‫األردن وأجبروهما على الهبوط في مهبط دوسون (قيعان خنا)‪ ،‬وهو مطار بعيد في منطقة األزرق‬
‫الصحراوية شمال شرق األردن‪ ،‬فيما ُح ّو لت وجهة الطائرة الثالثة إلى القاهرة حيث َعَم َد الخاطفون‬
‫إلى تفجيرها‪ .‬بعد مرور ثالثة أيام على هذه الحادثة ُخ ِط فت طائرة مدنية أخرى إلى المهبط ذاته‪.‬‬
‫طلب الفدائيون إطالق سراح رفاق فلسطينيين لهم معتقلين في سجون أوروبية‪ .‬وعندما ُر فض‬
‫مطلُبهم عمدوا في الثاني عشر من أيلول‪/‬سبتمبر‪ ،‬وتحت أنظار وسائل اإلعالم العالمية‪ ،‬إلى تفجير‬
‫الطائرات الثالث بعد إطالق سراح ركابها‪ .‬بعدئٍذ بيومين دعت منظمة التحرير الفلسطينية إلى إقامة‬
‫«سلطة وطنية» في األردن‪.‬‬
‫بالنسبة إلى والدي كانت هذه الدعوة بمثابة القشة التي قَص مْت ظهر البعير‪ .‬وبعد ذلك بثمانية أيام‬
‫أصدر أوامره إلى الجيش للتحرك بمنتهى الشدة ضد الفدائيين في عمان والمدن األردنية األخرى‪.‬‬
‫من الخطأ اعتبار هذه المواجهة حربًا أهلية بين األردنيين والفلسطينيين؛ ذلك أن العديد من األردنيين‬
‫من أصل فلسطينّي قاتلوا بشجاعة في صفوف الجيش‪ ،‬كما أن بعض األردنيين من الضفة الشرقية‬
‫التحقوا بالفدائيين الفلسطينيين وقاتلوا ضد الجيش‪ .‬قاد الشريف ناصر‪ ،‬باعتباره رئيسًا ألركان‬
‫الجيش‪ ،‬المعركة ضد الفدائيين‪ .‬وكان الشريف ناصر رجًال ذا بنية قوية ومحاربًا شرسًا يبدو كمن‬
‫إذا لَكَم الحصان رماه ميتًا إلى األرض‪ .‬وكانت إحدى هواياته المفضلة أن يأخذ بيده الواحدة بصلًة‬
‫ويسحقها منتزعًا لَّبها لكي يضيفه إلى طعام العشاء إذا كان ينقصه شيٌء من النكهة‪.‬‬
‫كان القتال بين القوات األردنية والفدائيين على َقْدٍر كبير من الشراسة‪ .‬ولم يمِض وقت طويل حتى‬
‫وجدنا أننا لسنا في مواجهة عدو داخلّي فقط‪ ،‬ذلك أن سوريا هاجمت في شتاء ‪ 1970‬شمال األردن‬
‫بواسطة ثالثة ألوية مدرعة ولواء كومندوس ولواء من المقاتلين الفلسطينيين؛ وذلك في محاولة‬
‫لمساعدة ياسر عرفات‪ .‬ومع أن التفوق بالعديد كان كبيرًا لغير مصلحتنا؛ فقد قاتل جنود اللواء‬
‫األربعين األردنيون‪ ،‬الذين كانوا مسؤولين عن حماية الحدود‪ ،‬قتاًال مريرًا وحافظوا على مواقعهم‪.‬‬
‫أما الغزو السوري فقد هّدد بأن يجعل من نزاع داخلي أزمة دولية‪.‬لكن في الثالث والعشرين من‬
‫أيلول‪/‬سبتمبر تّم رّد القوات السورية على أعقابها‪ .‬استطعنا الدفاع عن حدودنا الشمالية‪ ،‬لكن القتال‬
‫بيننا وبين الفدائيين بقي يتأجج‪.‬‬
‫في النهاية استطاعت القوات المسَّلحة األردنية‪ ،‬بمْه نّيتها العالية وتدريبها الجّيد وَعتادها‪ ،‬أن تحسم‬
‫القتال لمصلحتها‪ .‬استمر القتال مع الفدائيين متقطعًا حتى صيف العام ‪ .1971‬لكّن األردن انتصر‪،‬‬
‫واستعاد جيُشه سيطرَة الدولة فكانت الغلبة للشرعية‪ .‬علم والدي والشريف ناصر بعد ذلك بأن‬
‫عرفات كان مختبئًا في السفارة المصرية في عمان التي كانت تستضيف بعثًة من الجامعة العربية‪.‬‬
‫وفيما كان أفراد البعثة يغادرون‪ ،‬بدا أن بينهم عضوًا إضافيًا‪ :‬امرأة بدينة مغطاة بعباءٍة سوداء من‬
‫رأسها إلى أخمصيها وتحت العباءة حجاب للرأس‪ .‬أبلغت دائرة المخابرات والدي بأن من المرجح‬
‫أن المرأَة الّلغز التي انضّم ت إلى الوفد لم تكن سوى عرفات متخفيًا في محاولة للهروب‪.‬‬
‫أراد الشريف ناصر القبض على عرفات وَقْتَله مصّر ًا على أن عرفات ال يستحق الحياة‪ .‬لكّن‬
‫والدي أمر رجاله بأن يتركوا عرفات يغادر األردّن ‪ ،‬يقينًا منه بضرورة ترك المجال دائمًا مفتوحًا‬
‫إلمكانية المصالحة‪.‬‬
‫بعد مرور عشرين عامًا على هذه األحداث عاد والدي فأنقذ حياة عرفات مرًة ثانية‪ .‬ففي نيسان‪/‬‬
‫إبريل من العام ‪ 1992‬سقطت طائرة عرفات في الصحراء الليبية وسط عاصفة رملية وُقِتل ثالثة‬
‫من ركابها‪ .‬في تلك المرحلة كانت العالقة بين الرجلين قد تغَّيرت كثيرًا‪ .‬وعندما رأى والدي‪ ،‬الذي‬
‫كان سيصبح طبيبًا لو لم تؤّد به ظروف الحياة إلى السياسة‪ ،‬عرفات بعد حادث الطائرة بشهرين‪،‬‬
‫الحظ أن الرجل لم يبُد بصحة جيدة فأرسله إلى مدينة الحسين الطبية‪ .‬هناك تبّين أن عرفات مصاب‬
‫بجلطٍة في الدماغ‪ ،‬ونجح األطباء في استئصالها في عمليٍة جراحية طارئة‪.‬‬
‫عندما ُطِر د المقاتلون الفلسطينيون من األردن توَّج ه العديد منهم إلى لبنان الذي تحّو ل بدوره إلى‬
‫الساحة التالية التي مّز قتها حرٌب دموية أشّد عنفًا حتى من التي شهدناها نحن على أرضنا‪ .‬في هذه‬
‫األثناء أنشأت مجموعة من المقاتلين الراديكاليين منظمًة إرهابية على مستوى عاٍل من التطور‪،‬‬
‫مدعومًة بماٍل دولّي ‪ .‬أطلقت المنظمة على نفسها اسم «أيلول األسود» تيّم نًا باسم الشهر الذي بدأت‬
‫فيه الصدامات بين األردن ومنظمة التحرير الفلسطينية‪ .‬وقد تعّه د مؤسسوها بأن يثأروا لهزيمتهم‪.‬‬
‫ومن بين الجرائم األولى التي قاموا بها اغتيال رئيس الحكومة األردنية وصفي التل خالل زيارة له‬
‫إلى القاهرة في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر من العام ‪.1971‬‬
‫في الشهر التالي تلقى زيد الرفاعي‪ ،‬الذي كان قد ُعّين حديثًا سفيرًا إلى المملكة المتحدة‪ ،‬برقيًة‬
‫مستعَج لة من والدي ُيعلمه فيها بأن مجموعَة قتلة من «أيلول األسود» ُأرِس لت إلى لندن على عجل‬
‫للهجوم على هدف أردني‪ .‬رفع السفير درجة اإلجراءات األمنية في السفارة وأعّد قائمًة باألهداف‬
‫المحتملة‪ .‬كنُت أنا وشقيقي فيصل‪ ،‬الذي كان قد انضّم إلّي أخيرًا في المدرسة في إنكلترا‪ ،‬من بين‬
‫تلك األهداف المحتملة‪ .‬مع أنني كنت في العاشرة تقريبًا‪ ،‬سرعان ما شعرُت بأن خطرًا ما يمكن أن‬
‫يكون محيطًا بنا؛ وذلك عندما جاء إلى المدرسة رجال من الشرطة مع كالٍب بوليسية للحراسة ولم‬
‫يغيبوا عني على مدار الساعة‪.‬‬
‫في اليوم التالي غادر زيد الرفاعي منزله في منطقة «ريجنت بارك» في لندن متأخرًا عن موعده‬
‫المعتاد‪َ .‬عَبرت السيارة جمعًا من متسّو قي هدايا الميالد في شارع «كنسنغتون هاي» وما إن خفف‬
‫السائق سرعته لينعطف بالسيارة على منعطٍف حاّد حتى قفز مسّلٌح إلى الشارع وسحب مسدسًا من‬
‫نوع «ستن» وراح يطلق الرصاص‪ .‬أدرك الرفاعي أنه المستهدف فرمى بنفسه على أرض السيارة‬
‫فيما استمر المسّلح يطلق النار على المقعد الخلفي‪ .‬بعد أن توقف إطالق النار صرخ زيد الرفاعي‬
‫بالسائق أن ُيسرع به إلى المستشفى‪ .‬أسرع السائق وبعد بضع دقائق توقف‪« .‬ما المشكلة؟» سأل‬
‫زيد‪ ،‬فرّد السائق اإلنكليزي‪« :‬سعادة السفير‪ ،‬نحن أمام إشارة ضوئية حمراء»‪.‬‬
‫نجا الرفاعي من الموت‪ ،‬لكنه أصيب بجروح بالغة تطلبت معالجُتها إحدى عشرة عمليًة جراحية‬
‫في يده وذراعه‪ .‬كانت منظمة «أيلول األسود» وراء العملية‪ .‬إنكلترا لم تعد آمنًة بالنسبة إلينا‪ ،‬وقرر‬
‫والدي إرسالنا إلى بلٍد أكثر بعدًا‪ :‬إلى أميركا‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬الوصول إلى أميركا‬

‫كان العام ‪ 1972‬عامًا صعبًا بالنسبة إلى عائلتي‪ ،‬ليس فقط بسبب ما كان يتهّددنا من خطر‬
‫اإلرهابيين‪ .‬ففي تلك السنة قرر والداي االنفصال بالطالق بعد عشر سنوات من الزواج وإنجاب‬
‫أربعة أطفال (ُو ِلدْت شقيقتاي التوأمان عائشة وزين في العام ‪ .)1968‬كنا أنا وشقيقي فيصل بعيَدْين‬
‫في مدرسة داخلية‪ .‬لكن ذلك لم يجعْلنا في منأى عما يواجهه كل األطفال‪ ،‬من القلق وعدم االطمئنان‪،‬‬
‫عندما يقع الطالق بين األبوين‪ .‬مع ذلك كان حُّظنا كبيرًا بأّن عالقًة من الصداقة والمودة بقيت تربط‬
‫بين والدينا‪ ،‬اللذين جمعهما أيضًا حرصهما على رعايتنا والوقوف إلى جانبنا موِّج َه ْين وداعَم ْين‪.‬‬
‫في أيلول‪/‬سبتمبر من العام ‪ 1972‬نّفذت «أيلول األسود» ضربًة جديدة وذلك عندما هاجمت‬
‫مجموعٌة من أفرادها مجّم ع األلعاب األولمبية الصيفية في ميونيخ فأخذت عددًا من الرهائن وقتلت‬
‫أحَد عشر رياضيًا من البعثة اإلسرائيلية‪ .‬وقع الهجوم تحت أضواء وسائل اإلعالم العالمية وأمام‬
‫عدساتها‪ ،‬فشهد العالم كله وحشية هذه المنظمة‪.‬‬
‫في تشرين األول‪/‬أكتوبر ذهبنا أنا وشقيقي فيصل إلى أميركا‪ .‬كنا قبلئٍذ ببضع سنوات قد قمنا‬
‫برحلة إلى الواليات المتحدة زرنا خاللها والية فلوريدا مع والدينا وأختينا الصغيرتين‪ ،‬وهناك زرنا‬
‫«حدائق شجر السرو»(‪ )Cypress Gardens‬و«عالم ديزني» (‪ )Disney World‬الذي كان ال‬
‫يزال حديث العهد‪ .‬هذه الذكريات زّو دتني شيئًا من الحماسة للعودة إلى الواليات المتحدة ‪ -‬التي كانت‬
‫صورُتها الباقية في ذهني أشبه بمدينة مالٍه كبرى‪ .‬لكن منطقة نيو إنغلند في فصل الشتاء كانت شيئًا‬
‫آخر ال يشبه عالم ديزني في شيء‪.‬‬
‫كانت مدرستي الجديدة‪« ،‬إيغلبروك» (‪ ،)Eaglebrook‬مدرسًة إعدادية في غرب والية‬
‫ماساتشوستس وهي تقع على مرَتفٍع من سلسلة بوكومتك (‪ )Pocumtuck‬المشرفة على مدينة‬
‫ديرفيلد (‪ .)Deerfield‬في تلك المدرسة يشعر المرء كأنه في أحد منتجعات سويسرا الجبلية بكل ما‬
‫فيها من الشاليهات ومنحدرات التزّلج وسواها‪َ .‬تشاركنا أنا وفيصل غرفًة في مجّم ع سكن الطلبة‪،‬‬
‫والتحق هو بمدرسة «بيمنت» (‪ )Bement‬على مسافة قصيرة انحدارًا من قمة الجبل‪ .‬من‬
‫التغييرات التي كان ال بد لنا من تعّو دها‪ ،‬الطعام‪ .‬كان الخبز والزيت والزعتر من أحّب الوجبات‬
‫الخفيفة لدّي في األردن‪ ،‬أما هنا فقد اكتشفُت أطايَب أخرى من نوع سندويشات بزبدة الفستق‬
‫والجيلو‪.‬‬
‫صحيح أنني لم أحّب كثيرًا إقامتي في مدرسة «سانت إدمند» (‪ )St. Edmund’s‬في بريطانيا‪،‬‬
‫لكن هناك لم أدخل يومًا في شجار مع أحد‪ .‬أما في إيغلبروك فقد اختلف األمر‪ .‬هنا كنُت الطالَب‬
‫العربَّي األول الذي عرَفْته المدرسة منذ أنشئت‪ ،‬وكان من بين طالبها العديد من اليهود الذين لم‬
‫يتأخر بعُض هم في إشعاري بأنني شخٌص غير مرَّح ب به‪ .‬لم أستطع فهم دوافع هذه المشاعر العدائية‬
‫وكنت في سٍن أصغر من أن أستطيع التعامل مع هذا النوع من الَغَر ضية والتحامل غير العقالني‪.‬‬
‫طبعًا في مراحَل أكثر تقدمًا ونضجًا أصبحُت أكثر فهمًا ألولئك الذين يحكمون على اآلخرين انطالقًا‬
‫من ُهّو ياتهم‪ ،‬لكن بالنسبة إلى طفٍل في عمري آنذاك كان تصرف البعض غير مفهوم‪ .‬كنت أدرك أن‬
‫األردنيين واإلسرائيليين أعداء‪ .‬لكن نحن اآلن هنا في الواليات المتحدة‪ ،‬وهؤالء الطالب أميركيون‪،‬‬
‫هذا فضًال عن أنني لم أكن أرى رابطًا بين اإلسرائيلي واليهودي‪ .‬مع ذلك يبدو أنه ال يمكن االبتعاد‬
‫عن صراعات الشرق األوسط ومشكالته حتى لو كنَت طالبًا في مدرسة في غرب ماساتشوستس‪.‬‬
‫توّر طُت في بعض المواجهات غير السارة‪ .‬صحيح أن بعض الحراس األمنيين كانوا يرافقونني‬
‫حيثما ذهبت‪ .‬لكن تعليماتهم كانت أن يحموني من اإلرهابيين والقتلة‪ ،‬ال من طالب شرسي الطباع‬
‫في العاشرة من عمرهم‪ .‬وأقر بأنني لم أحسن دائمًا التصرف إزاء هذا الوضع‪ .‬أذكر أني تورطت‬
‫مرة في عراك مع أحد الطلبة الذي قال إني أحتاج لجيش لهزيمته فما كان إال أن أجبته «هناك جيش‬
‫والدي!»‪.‬‬
‫بعَد ظهر يوٍم من األيام دخل غرفتي أحد مراقبي التقّيد بالنظام في المدرسة ‪ -‬وهو من طلبة‬
‫الصفوف العليا ‪ -‬فأخرج أخي من الغرفة وجاَء بأحد الفتية األكبر مني سنًا وقال لنا‪« :‬هيا‪َ ،‬فْلنَر َم ن‬
‫منكما األقوى»‪ .‬أخذتني الحماسة للفكرة‪ .‬لكنني لم أكن أعرف كيف أقاتل شخصًا آخر ولم يكن‬
‫خصمي أكثر خبرة مني في ذلك‪ .‬وهكذا أمسَك كل منا باآلخر وراح ينهال ضربًا على ظهره‪ .‬ترَكنا‬
‫المراقب على هذه الحال إلى أن كادت أنفاُسنا تنقطع‪ .‬فصَل بيننا لحظاٍت قليلة ثم عاد فأفلَتنا على‬
‫القتال مجددًا‪ .‬في تلك اللحظة قفزُت إلى السرير ووثبت على الخصم فرميُته مسطحًا على األرض‬
‫فأصيب رأُسه بضربٍة قوية‪ .‬أخَذ منا الخوف مأخَذه من أن تكون إصابُته خطرة‪ ،‬وعندئٍذ سحبه‬
‫المراقبون إلى الخارج‪ .‬كل ذلك حدث بمجرد المصادفة‪ ،‬لكن بما أنني تغّلبت على فتى أكبر مني سنًا‬
‫وقامًة‪ ،‬بدأ اآلخرون ُيظهرون نحوي مزيدًا من االحترام‪.‬‬
‫كنت قد وصلُت لتوّي إلى إيغلبروك عندما تزّو ج والدي علياء طوقان‪ ،‬كريمة أحد الدبلوماسيين‬
‫األردنيين من عائلة مرموقة من أصٍل فلسطيني‪ .‬لكّن الملكة عليا ُقتلت في حادٍث مأساوّي بسقوط‬
‫مروحيتها وتحّطمها في العام ‪ 1977‬وكانت لم تتجاوز الثامنة والعشرين‪ .‬في السنة التالية تزّو ج‬
‫والدي ليزا حلبي‪ ،‬كريمة رجل أعمال أميركي من أصل عربي وكان من كبار مسؤولي وزارة‬
‫الدفاع األميركية‪ ،‬وبعد الزواج حملت اسم الملكة نور‪.‬‬
‫إنني أنتمي إلى عائلة كبيرة‪ ،‬فباإلضافة إلى أختي الكبيرة عالية من زواج والدي األول في‬
‫خمسينيات القرن الماضي بالشريفة دينا عبد الحميد‪ ،‬هناك شقيقي فيصل وشقيقتاي التوأمان عائشة‬
‫وزين‪ .‬ورزق والدي والملكة علياء بأختي هيا وأخي علّي كما تبّنيا فتاًة يتيمة هي عبير‪ .‬وفي ما بعد‪،‬‬
‫عندما تزوج والدي الملكة نور‪ ،‬انضَّم إلينا أخوان اثنان هما حمزة وهاشم‪ ،‬وأختان أخريان هما‬
‫إيمان وراية‪ .‬وبذلك يكون مجموُعنا اثَنْي عشر أخًا وأختًا‪ ،‬خمسة ذكور وسبع إناث‪ ،‬ولكننا جميعًا‬
‫عائلة واحدة بحمد هللا‪ .‬يحلو لنا‪ ،‬أنا وإخواني األربعة‪ ،‬أن نقول إننا كاألصابع الخمس في اليد‬
‫الواحدة‪ ،‬نمّد يَد الصداقة والمودة لكل من ُيضمر الخير والنّيَة الحسنة‪ ،‬أما الغريب الذي يريد بنا أذّيًة‬
‫وشرًا فنتكّتل في وجهه ُح زمًة أشبَه بقبضٍة من فوالذ‪.‬‬
‫في األردن وفي المنطقة برّم تها‪ ،‬كان العام ‪ 1972‬عاَم توّتٍر واضطراب‪ .‬فالواليات المتحدة‬
‫األميركية بقيادة الرئيس نيكسون‪ ،‬وسَط انشغالها بالتقّر ب من الصين‪ ،‬أوقفت معظم تحركاتها‬
‫الدبلوماسية الهادفة إلى التوّسط للخروج بحٍّل للصراع العربي ‪ -‬اإلسرائيلي‪ .‬أما في مصر وسوريا‬
‫فكان خزيُن الصبر العربّي يتضاءل وينخفض منسوبه حيث أعلن أنور السادات‪ ،‬الذي َخ َلَف عبد‬
‫الناصر في العام ‪ ،1970‬في خطاٍب له في كانون الثاني‪/‬يناير أّن «المعركة أمر حتمي»‪ .‬في أيلول‪/‬‬
‫سبتمبر اتفق السادات واألسد على تنسيق هجوم متزامن يقومان به ضد إسرائيل‪ ،‬من أجل استعادة‬
‫األراضي التي خسرها البلدان في حرب العام ‪.1967‬‬
‫في السادس من تشرين األول‪/‬أكتوبر من العام ‪ 1973‬هاجمت القوات المصرية القوات‬
‫اإلسرائيلية التي كانت تحتل شبه جزيرة سيناء‪ ،‬فيما تحركت القوات السورية نحو مرتفعات‬
‫الجوالن‪ .‬بعد أن استفاقت القوات اإلسرائيلية من هول الصدمة التي خّلفها الهجوم المفاجئ‪،‬‬
‫واستوعبت تداعياته‪ ،‬أي بعد اشتعال الحرب بثالثة أسابيع‪ ،‬استعادت هذه القوات زمام المبادرة‬
‫وباتت لها اليد الطولى في الحرب‪ .‬ومع أن السادات واألسد لم ُيطلعا والدي على مخططهما لشّن‬
‫الحرب‪ ،‬فقد انضَّم إليها األردن بحكم الدعم الذي القته من كل العالم العربي‪ .‬كان أمن األردن‬
‫وسالمة األردنيين أولوية والدي األولى‪ ،‬فوضع القوات األردنية في حالة تأهب واستنفار عاليين‪،‬‬
‫ودفَع باللواء المدّر ع األربعين لدعم الجيش السوري في مرتفعات الجوالن‪ ،‬من دون أن يخاطر بفتح‬
‫جبهة ثالثة من خالل اجتياز الحدود إلى الضفة الغربية‪ .‬بعد مرور ثالثة أيام وقع اشتباك لم يطل‬
‫كثيرًا بين القوات األردنية والقوات اإلسرائيلية أصيبت فيه إحدى السرايا األردنية بخسائر فادحة‪.‬‬
‫حين ُأعِلن وقف إطالق النار في الثاني والعشرين من تشرين األول‪/‬أكتوبر لم تكن الحرب قد غَّيرت‬
‫شيئًا من األمر الواقع على األرض‪ ..‬بعد تلك الحرب بين إسرائيل وجيرانها هدأت الساحة على مدى‬
‫عقٍد من السنوات تقريبًا‪ .‬وبعد حرب أكتوبر بأربع سنوات‪ ،‬أي في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر من العام‬
‫‪ ،1977‬بات الرئيس أنور السادات أول زعيم عربي يزور إسرائيل‪ .‬في شهر أيلول‪/‬سبتمبر من العام‬
‫‪ 1978‬وَّقعت مصر وإسرائيل اتفاقات كامب ديفد التاريخية التي كان أحد وسطائها الرئيس‬
‫األميركي جيمي كارتر‪ .‬ولم يمض أكثر من عام على توقيع اتفاقات كامب ديفد حتى وّقع البلدان‬
‫معاهدة السالم بينهما‪ .‬أعادت إسرائيل شبه جزيرة سيناء إلى مصر التي أصبحت أول دولة عربية‬
‫تعترف بإسرائيل‪.‬‬

‫***‬

‫مع أن مجريات الصراع العربي اإلسرائيلي كانت على ُبعد خمسة آالف ميل من حيث كنا‪،‬‬
‫وصلت أصداؤها غرب ماساتشوستس‪ُ .‬بَعْيد بداية حرب أكتوبر‪ ،‬وأثناء وجودي في قاعة الطعام‬
‫أساعد في تقديم الوجبات تمشيًا مع التقاليد التي حاَفظْت عليها إيغلبروك في أن ينخرط الطلبة‬
‫الصغار في مثل هذه األعمال‪ ،‬رماني رئيس الخدم‪ ،‬وهو من طالب الصفوف العليا‪ ،‬بنظرٍة جافة‬
‫وأومأ لي بأن آتي إليه‪ .‬ما إن اتجهت نحوه حتى هاجمني‪ .‬كانت قاعة الطعام تعّج بالطلبة فنظرت‬
‫إليه وأنا ال أصدق ما حدث‪ ،‬عندها قال لي‪« :‬أنت عربّي ‪ ،‬وأنا أكرُهك!» ثم استدار ومشى‪ .‬عندما‬
‫عدت إلى عمان في العطلة كانت والدتي تسألني عن أحوالي في المدرسة‪ ،‬ومع أنني كنت أحيانًا أرّد‬
‫بأنني لست شديد السعادة هناك‪ ،‬فقد تجَّنبُت دائمًا الخوض في التفاصيل‪ .‬لقد ترّبيت على االبتعاد عن‬
‫القيل والقال وعلى ضرورة أن يخوَض كل إنسان معارَكه بنفسه‪.‬‬
‫خالل تلك العطلة آذيُت معصمي بسبب حادث تعّر ضت له خالل رحلٍة بحرية‪ ،‬وبعد أن ضَّم د‬
‫الطبيب جرحي وربَط يدي إلى عنقي ريثما تتحّسن‪ ،‬دخلت إلى المنزل حزينًا‪ ،‬مشفقًا على نفسي مما‬
‫أصابني‪ .‬رأيت والدي وكنت على وْش ك أن أبدأ تالوة قصتي عليه عندما بادرني بنظرٍة واضحة‬
‫الفحوى كأنه يقول‪« :‬عالَم كل هذا النحيب؟» كان والدي من ذلك الجيل الذي يؤمن بأن على اإلنسان‬
‫أن يكون شديَد المراس‪ .‬أما أنا فلكي أظِهَر أنني لست ضعيفًا نزعُت الرباط الذي يعّلق يدي بالعنق‪.‬‬
‫أّدى هذا إلى توّر م شديد في ذراعي‪ .‬فعدت إلى المستشفى بعد ثالثة أيام ألْخ ِذ صورٍة باألشعة‬
‫لذراعي فتبّين أن فيها كسرًا وال بد من وضعها في الجبس‪.‬‬
‫ذلك الحادث الذي أدى إلى إصابتي بكسٍر في معصمي أّدى أيضًا إلى ترسيخ قدمّي في إيغلبروك‪.‬‬
‫فيدي المكسورة حالت دون مشاركتي في صفوف التزلج على الثلج‪ .‬وعندما ُنزع الجبس عن‬
‫معصمي‪ ،‬لم يكن بقي من الفصل الدراسي سوى ثالثة أسابيع‪ُ .‬و ِّج هت للتدرب مع فريق المصارعة‪.‬‬
‫وبدأت التدّر ب‪ ،‬مستفيدًا من تمارين تدعى «كوماندو ‪ »7‬مبنية على برنامج تدريبّي للجيش الكندي‬
‫كان والدي‪ ،‬وهو الممارس الدائم لتمارين اللياقة البدنية‪ ،‬قد عّلمني إياها‪ .‬وتبّين لي أن لدّي القابلية‬
‫لكي أجيد هذه الرياضة‪ .‬في السنة التالية‪ ،‬عندما بدأت أزداد قوًة ولياقًة بدنية‪ ،‬انضممُت إلى فريق‬
‫المصارعة‪ .‬صحيح أن رفاقي الطالب لم تكن تعنيهم األلقاب كثيرًا‪ ،‬لكّن األكيد أن احتراَم هم للقدرات‬
‫والكفاءات الرياضية كان كبيرًا جّدًا‪ .‬باإلضافة إلى المصارعة أخذت أهتم بألعاب القوى‪ .‬وفي تلك‬
‫األيام كنت عّداًء جيدًا خصوصًا في المسافات القصيرة‪ .‬في ما بعد أصبحت قائدًا لفريَقْي المدرسة في‬
‫ألعاب القوى والمصارعة‪ .‬لقد زّو دني النشاط الرياضي سبيًال يجّنبني ما كنت أْلقاه من تحاُمِل بعض‬
‫زمالئي في الصف‪ ،‬كما أتاحت لي الرياضة فرصًة مبِّك رة لفهم المزيد من شؤون القيادة‪.‬‬
‫لقد عانيت بعض األيام الصعبة مع رفاقي من الطالب في مدرسة إيغلبروك‪ ،‬لكّن الحال كانت‬
‫مختلفة مع المعلمين الذين كانوا على درجة عالية من االمتياز وُح سن المعاملة‪ .‬وقد أحرزُت تقدمًا‬
‫كبيرًا بفضل رعايتهم‪ ،‬وال أزال محتفظًا بالكثير من الذكريات المحببة عن العديد منهم‪ ،‬خصوصًا‬
‫مسؤولي القسم الداخلي‪ ،‬ومعلمة اللغة الفرنسية‪ ،‬ومدّر بي المصارعة الذين تدّر بت على أيديهم‪ .‬لقد‬
‫زّو دوني الكثير من المعرفة وساعدوني في التكّيف على الحياة في الواليات المتحدة‪.‬‬
‫عندما حان وقت االنتقال إلى المدرسة الثانوية انحدرُت قليًال من موقع إيغلبروك في أعلى المرَتَفع‬
‫إلى أكاديمية ديرفيلد‪ ،‬فيما بقي فيصل‪ ،‬وهو يصغرني بسنٍة ونصف السنة‪ ،‬في إيغلبروك‪ .‬من حيث‬
‫المسافة لم تكن المدرسة الجديدة تبعد أكثر من ميٍل واحد‪ ،‬لكنها كانت دون ريب عالمًا آخر مختلفًا‬
‫كل االختالف‪ .‬كانت ديرفيلد تختزن تراثًا عمُر ه مئتا سنة من التراكم المعرفّي والثقافّي ‪ ،‬وكانت‬
‫مكَّر سة بكليتها للتمُّيز في المستويات األكاديمية العالية‪ ،‬لكن أيضًا لصقل الشخصية اإلنسانية‬
‫وتطويرها‪ .‬كان جُّو ها العام يوحي بالحرص على االحترام العميق والصادق وعلى فضيلة التسامح‪،‬‬
‫وعلى الحّس القوّي بمفهوم التكامل الجماعي بين الطالب‪ .‬إن بإمكاني القول بمنتهى الصدق إن‬
‫السنوات التي أمضيُتها في ديرفيلد كانت من أسعد سنوات عمري‪.‬‬
‫كنت أمتلك مؤهالٍت ورصيدًا رياضيًا جيدًا بالنسبة إلى فتى جديد‪ ،‬وقد استطعت االنضمام إلى‬
‫فريق المدرسة للمصارعة منذ سنتي الثانية‪ .‬لكن ذلك لم يتم دون كفاٍح حقيقّي ‪ .‬ففي تلك األيام كان‬
‫الوزن من العوامل األساسية في المصارعة‪ ،‬ولذلك قال لي المدّر ب إن علّي خفض وزني إلى‬
‫حوالى ‪ 54‬كيلوغرامًا لكي أستطيع االنضمام إلى الفريق‪ .‬كان وزني آنذاك ‪ 59‬كيلوغرامًا‪ ،‬وكنت‬
‫أتمتع ببنية بدنية جيدة‪ .‬أدركت يومها أن السبيل الوحيد لخفض وزني بهذا الَقْدر هو أن أكّف عن‬
‫األكل‪ ،‬وهكذا أمضيت ثالثة أسابيع كاملة لم أتناول خاللها سوى البسكويت الخفيف والجيلو‪ .‬وأخيرًا‬
‫تأّهلت وانضممت إلى الفريق‪ ،‬وفزُت في كل المباريات التي خضتها‪ .‬وفي المباراة الثالثة انتزعت‬
‫الفوز بتثبيت خصمي في وقٍت قياسٍّي من إحدى عشرة ثانية‪ .‬لكن هذا النجاح لم يدم طويًال‪ .‬فالمبالغة‬
‫في الحّد من تناول الطعام جعلت قدرتي على التركيز في الصف ضعيفًة جّدًا‪ ،‬وكانت النتيجة انعطافًا‬
‫فجائيًا في عالماتي نحو األسوأ‪ .‬كذلك بدأُت أصاب باإلغماء‪ ،‬فاضُطررت إلى التغيب عن المدرسة‬
‫بعض الوقت في إجازٍة مرضية‪ .‬نتيجة لكل ذلك تقرر إخراجي من فريق المصارعة ووضعي في‬
‫صفوف االحتياط‪.‬‬
‫ال شك في أن من الصعب أن يكون المرء بعيدًا عن أهله ووطنه‪ ،‬لكّن اإلقامة في أميركا حيث‬
‫تسود روح المساواة تثير فيك االنتعاش والنَفَس الحّر ‪ .‬عندما أكون في األردن علّي أن أكون دائمًا‬
‫االبن األكبر للملك‪ ،‬ولهذا الموقع وطأُته وتأثيره في كل تواصل يجري بيني وبين المعلمين من جهة‬
‫وزمالئي الطالب من جهة ثانية‪ .‬أما في ديرفيلد فال تفريق على اإلطالق بينك وبين الطالب‬
‫اآلخرين‪ ،‬أكنَت ابن رئيس مجلس إدارة إحدى الشركات الكبرى‪ ،‬أم طالبًا من األحياء الفقيرة‬
‫لشيكاغو جاَء بفضل منحٍة دراسية‪ ،‬أو ابَن عائلة روكفلر‪ ،‬الكل هنا عليه تنفيذ المهمات نفِسها‪ ،‬كما‬
‫ُتتاح له المجاالت والُفرص نفُسها لكي ينجح ويبرز‪ .‬كل يوم‪ ،‬عند تناول الطعام‪ ،‬كان يقف بعض‬
‫الطلبة حول الموائد ليخدموا رفاَقهم وزمالَء هم‪ .‬مرًة كان دوري في الخدمة ويبدو أنني لم أكن ُأحِس ُن‬
‫العمل كما يجب فإذا بي أسمع جيم سميث (‪ ،)Jim Smith‬الذي كان مديرًا لقاعة الطعام‪ ،‬ومدربًا‬
‫لفريق كرة القدم‪ ،‬يصرخ ولكن بنبرة ودودة‪« ،‬عبد هللا‪ ،‬صحيح أن والَدك ملُك األردن‪ ،‬لكن في هذه‬
‫القاعة أنا الملك!» فهمُت الرسالة جيدًا ومن ثّم تحّسَن أدائي في الخدمة‪ .‬كان سميث محبوبًا بين‬
‫الطالب‪ ،‬وكان رب عائلة كبيرة وأبًا لعدد من الفتية وفتاٍة واحدة‪ ،‬أما المدرسة فكان يعتبرها امتدادًا‬
‫لعائلته‪ .‬كثيرًا ما كان يصدح صوُته مغنيًا في قاعة الطعام‪ ،‬ومع أن صوته كان جميًال كان الطالب‬
‫يمّتعون أنفَسهم بممازحته مّدعين أن لديه صوتًا أشبه ما يكون بأزيز األظافر على اللوح األسود‪.‬‬
‫في ديرفيلد التقيت أول أصدقائي األميركيين المقربين‪ ،‬جورج فو (‪ )George Faux‬أو «جيج»‬
‫(‪ ،)Gig‬وهو ابن طيار مقاتل من ضواحي بوسطن‪ ،‬وتشيب سميث (‪ ،)Chip Smith‬من عائالت‬
‫نيو إنغلند المرموقة‪ ،‬وبري فيال (‪ ،)Perry Vella‬الذي جاَء من حي كوينز في نيويورك بفضل‬
‫حصوله على منحة دراسية‪ .‬كان أصدقائي يدركون من أية خلفيٍة أتيت‪ ،‬لكنهم لم يقفوا متأهبين‬
‫ضاربين التحية‪ ،‬فبالنسبة إليهم «كنت فقط عبد هللا»‪ .‬لقد أتاحت لي ديرفيلد أن أعيش طفولًة عادية‬
‫وزّو دتني السبَل والوسائَل التي جعلت مني الرجَل الذي طالما أردت أن أكونه‪ ،‬وحتى يومنا هذا ال‬
‫يزال بعض رفاق صفّي من ديرفيلد من أقرب أصدقائي وأَح ِّبهم‪.‬‬
‫بما أن األردن كان أبعد من أن أعوَد إليه إال في العطل المدرسية الطويلة‪ ،‬كنُت أمضي العديد من‬
‫العطل القصيرة نسبيًا مع «جيج» وعائلته حيث كان يطيب لي أن أستعيد شيئًا من الجو العائلي فيما‬
‫أنا على هذا الُبعد الشاسع من بيتي وعائلتي‪ .‬ففي تلك األيام كان علينا أن نبرمج االتصال الهاتفّي‬
‫الدولّي قبل الحصول عليه بأيام‪ ،‬وهكذا لم أكن أتصل بوالدي إال مرًة أو مرتين خالل الفصل‬
‫الدراسي الكامل‪.‬‬
‫كان رجال الحرس الذين يتولون حمايتي يسكنون في بيٍت قريب من َحَر م المدرسة‪ ،‬وقد اختبرُت‬
‫معهم مبّكرًا معنى «التحركات السرية»‪ :‬كانت متعتي الكبرى البحث عن وسائل جديدة ومبتكرة‬
‫للهروب ليًال من مبنى سكن الطالب دون أن تقع علينا عيُن رقيب‪ .‬صحيح أن النجاح لم يكن دائمًا‬
‫حليفنا‪ ،‬لكن تلك المحاوالت كانت بمثابة العمل التدريبي لي وِلـ«جيج» تمهيدًا لتوّلينا مسؤولية مراقبة‬
‫السكن المدرسي عندما أصبحنا في السنة النهائية‪ .‬في تلك المرحلة كنا قد أصبحنا على علٍم بمعظم‬
‫الحيل المستعملة‪ ،‬وقد خبرنا بعضها بعد دفع الثمن غاليًا أحيانا‪ .‬كان والد «جيج» طيارًا مقاتًال في‬
‫سالح الجو ويبدو أن «جيج» استطاع أن يضع يده‪ ،‬بطريقة أو بأخرى‪ ،‬على طلقة إشارة عسكرية‪.‬‬
‫أخذ منا الفضول مأخذه وأردنا أن نكتشف كيف تعمل هذه الطلقة‪ .‬في إحدى الليالي تسّللنا خارَج ْين‬
‫من السكن المدرسي يصحبنا صديقان آخران وأشعلنا الطلقة وأطلقناها فإذا بالشعلة ترتفع وتضيء‬
‫ليَل نيو إنغلند ناشرًة نوَر ها األحمر الوّهاج فوق َحَر م المدرسة ومبانيها‪ ،‬لتتجه بعد ذلك نحو مدخل‬
‫مبنى صالة الرياضة القديم‪ ،‬وهو بناء فخٌم ثابت األركان ترتفع على مدخله أعمدٌة بيضاء ويضّم‬
‫مالعَب األسكواش وأقسام التدّر ب على المصارعة‪ .‬أصابنا الهلع من أن ُتشِعَل الطلقة مبنى صالة‬
‫الرياضة وتمتد النار منه إلى قاعة الطعام المجاورة‪ ،‬فهَبْبنا مسرعين نحو البناء لالطمئنان‪ .‬ال أزال‬
‫حتى اللحظة أذكر ذلك الشعور باالرتياح عندما تبّين لنا أن الشعلة كانت قد عبرت فوق سطح ذلك‬
‫البناء المهيب ثم سقطت في أرض الملعب‪.‬‬
‫لم يفدني الحرس المكلفون حمايتي كثيرًا عندما احتجُت إليهم لمواجهة بعض الطلبة في إيغلبروك‪،‬‬
‫لكنهم كانوا يمتلكون «فضيلًة» كبرى‪ :‬سيارتهم‪ .‬كنا‪ ،‬أنا و«جيج» نطلب منهم أن يوصلونا إلى منزل‬
‫والديه كلما كانت لدينا عطلة أسبوع طويلة‪ .‬أذكر عندما زرنا العائلة للمرة األولى كيف اعترى‬
‫والَدْي «جيج» شيٌء من التوتر عندما شاهدانا ننعطف نحو المنزل ويحيط بنا في السيارة حّر اٌس‬
‫مسلحون‪ .‬ولكن ما لبث هذا التوتر أن انتهى عندما صّو ب «كريس» (‪ ،)Chris‬األخ األصغر‬
‫ِلـ«جيِج»‪ ،‬مسدَسه الدمية نحوي‪ .‬غرقنا جميعًا في الضحك وانطلقنا على سجّيتنا في جٍو عائلي‬
‫تسوده الفوضى في منزل آل «فو»‪ .‬كانت والدة «جيج»‪ ،‬ماري (‪ ،)Mary‬األميركية من أصل‬
‫إيطالّي ‪ ،‬قد أعّدت لنا طبقًا شهيًا من الالزانيا‪ ،‬التي باتت في ما بعد أكلًة مألوفة لدّي ‪ ،‬ألن ماري كانت‬
‫تزودنا بصينيٍة منها بعد كل زيارة من زياراتنا نأخذها معنا إلى ديرفيلد‪ .‬وأنا‪ ،‬حتى يومنا هذا‪،‬‬
‫أرفض تناوَل الالزانيا إال مطبوخًة بيدها‪.‬‬
‫كان دان هودرمرسكي (‪ ،)Dan Hodermarsky‬ذو اللحية البيضاء والشخصية المرحة الزاخرة‬
‫بالنشاط والحيوية‪ ،‬رئيس دائرة الفنون‪ ،‬من أحّب المعلمين إلّي ‪ .‬شخصية ودودة‪ ،‬اجتماعية وقريبة‬
‫من الناس‪ ،‬ومحبوبة من كثيرين من الطالب‪ .‬كالعديد من معّلمي ديرفيلد‪ ،‬كان هودرمرسكي يرعى‬
‫شؤوننا ويهتم بنا كما لو كنا أوالده‪ .‬كثيرًا ما كان يغض النظر عن تصرفاتنا الصبيانية‪ ،‬لكنه كان‬
‫حريصًا دائمًا على أن يعيدنا إلى المسار الصحيح بمالحظة أبويٍة لطيفة‪.‬‬
‫عندما حان الوقت ليذهب شقيقي فيصل إلى المدرسة الثانوية‪ ،‬وبما أنه لم يشأ أن يبقى معروفًا‬
‫بـ«األخ األصغر لعبد هللا»‪ ،‬فقد قرر عدم السير على خطاي في االلتحاق بديرفيلد‪ .‬حين كنا ال نزال‬
‫أطفاًال كان مصّم مًا على أن يفعل كل شيء على عكس ما أفعله أنا‪ ،‬فإذا ارتديُت تي ‪ -‬شيرت وجينز‪،‬‬
‫ارتدى هو بدلًة رسمية‪ .‬بعقله األكاديمّي وموهبته في الرياضيات‪ ،‬التحق بمدرسة «سانت ألبانز»‬
‫(‪ )St. Albans‬في واشنطن‪ ،‬ثم أكمل دراسته في الهندسة الكهربائية في جامعة «براون»‬
‫(‪ ،)Brown‬في مدينة بروفيدنس في والية رود آيلند‪ .‬بعد دراسته الجامعية في براون رَّسَخ تمُّيَز ه‬
‫عني بالتحاقه بكلية سالح الجو الملكي في كرانويل في إنكلترا‪ ،‬خّر يجًا طليَع دورته وفائزًا بخمٍس‬
‫من أصل سبع جوائز ُتمنح للمتفوقين من التالميذ المرشحين‪ .‬بعدئٍذ التحق طيارًا بسالح الجّو‬
‫األردني‪.‬‬
‫مرت مرحلة دراستي في ديرفيلد مرورًا سريعًا‪ ،‬ورأيُتني فجأًة أقترُب من نهاية السنة األخيرة‪.‬‬
‫كنت مزمعًا على االلتحاق بجامعة «دارتموث» (‪ )Dartmouth‬مع «جيج»‪ ،‬لكّن الحياة كانت قد‬
‫أعّدت لي مسارًا آخر‪ .‬فقبل تخّر جي بفترٍة وجيزة جلسُت مع والدي وسألني خالل الحديث عن‬
‫المدرسة وكيف تسير األمور‪ ،‬ثم سأَل عما كنت أنوي فعَله بعد التخّر ج‪ .‬أخبرته عن نّيتي االلتحاق‬
‫بالجامعة لدراسة القانون والعالقات الدولية‪ .‬بعد أن أصغى إلّي بهدوء حتى أنهيت كالمي قال‪« :‬هل‬
‫سبق أن فكرت في الجندية؟» وبما أن السؤال جاء من والدي فقد اعتبرُته أمرًا أكثر منه سؤاًال أو‬
‫اقتراحًا‪ .‬ومن هنا بدأت أدرُس الخيارات المتاحة‪ .‬ذهبت في زيارٍة إلى «سيتادل» (‪ ،)Citadel‬الكلية‬
‫العسكرية في والية كارولينا الجنوبية‪ ،‬لكن ما إن اّطلعت على برنامجها الدراسّي الصارم ذي النهج‬
‫البروسي‪ ،‬والذي يمتد على أربع سنوات‪ ،‬حتى صرفت النظر عن االلتحاق بها‪ .‬عندما مررت بقاعة‬
‫الطعام بدا لي أن التالميذ المرشحين يرتدون وجوهًا رسمية تعكس صرامًة غير محببة‪ .‬ما أكبَر‬
‫الفارق بين هذا الجو وبين ما خبرُته في ديرفيلد‪.‬‬
‫عدُت إلى عّم ان‪ ،‬وفيما كنت مع والدي وفيصل نشاهد فيلمًا سينمائيًا في إحدى األمسيات‪ ،‬قال‬
‫والدي‪ ،‬وقد شعر بأنني لم أكن متحمسًا لتحصيل العلوم العسكرية في أميركا‪ :‬ما رأيك‬
‫بـ«ساندهرست»‪ ،‬أنا وجُّدك التحقنا بها‪ ،‬فلَم ال تذهب إليها؟‬
‫ي‬
‫ن‬
‫ا‬
‫ث‬
‫ل‬
‫ا‬

‫م‬
‫س‬
‫ق‬
‫ل‬
‫ا‬
‫الفصل الخامس‪ :‬سـانـدهـرسـت‬

‫شعرُت بالحصى ينسحق تحت عجالت السيارة فيما كنت أنعطف بها نحو البوابة‪ .‬خرجت من‬
‫السيارة فتناولت حقيبتي وسرت برفقة المسؤول عن استقبال الطالب الجدد‪ .‬في الواليات المتحدة‪،‬‬
‫في خريف العام ‪ 1980‬كان أصدقائي من ديرفيلد يكتشفون متعة موسيقى البوب‪ ،‬ويرقصون على‬
‫أنغام «فليتوود ماك» (‪ )Fleetwood Mac‬و«بلوز براذرز» (‪ ،)Blues Brothers‬وفي المملكة‬
‫المتحدة كان بعض أبناء جيلي مأخوذين بَثْقِب آذانهم وأماكن أخرى من أجسامهم وبصبغ شعرهم‬
‫باللون األرجواني‪ .‬أما أنا فكنت على وْش ِك الخوض في تجربٍة مختلفٍة تمامًا‪ .‬ففيما كنت أعبر بوابات‬
‫األكاديمية الملكية العسكرية ساندهرست‪ ،‬كانت الصدمة الكبرى في انتظاري‪.‬‬
‫األسابيع الخمسة األولى يمكن وصُفها بالجحيم‪ .‬كنا نسير على مدى ساعات طويلة في ميدان‬
‫االستعراض‪ .‬وكنا ننهض من السرير قبل الفجر لكي نركَض في البرد القارس وتحت المطر‬
‫المنهمر‪ ،‬ولم نكن ننتهي من تلميع أحذيتنا حتى نعود نلّم عها مجددًا‪ ،‬فيما ال يكّف الرقيب عن رفع‬
‫صوته صارخًا بوجوهنا صبَح مساء‪ .‬فّكرت في نفسي‪« :‬إلى أّي منَز لٍق انزلقت؟» كل رفاقي من‬
‫ديرفيلد ُيمضون اآلن سنَتهم األولى في جامعاٍت مثل دارتموث وبراون وكولومبيا حيث ال ينتظرهم‬
‫من المصاعب أكثر من مجرد فصِل شتاٍء بارٍد يحاصرهم فيه الثلج والجليد‪ .‬أما أنا فها إنني أركض‬
‫حول ميدان «باروّسا» (‪ )Barossa‬حامًال بندقيتي والوحل يغطي وجهي‪ .‬إنه حقًا َلمْش هٌد سوريالي‪.‬‬
‫كان هناك طريٌق روماني قديم إلى جانب ميدان التدريب يدعى «طريق الشيطان السريع» (‪The‬‬
‫‪ .)Devil’s Highway‬وبعد أن قضيت هناك حوالى ساعتين في ذلك البرد القارس كَّو نت فكرًة‬
‫بمنتهى الوضوح عن ذلك الطريق وكيف استحق اسمه‪.‬‬
‫في تلك األيام كان معظم التالميذ المرشحين خريجي المدرسة الثانوية‪ ،‬وكانوا كُّلهم في الثامنة‬
‫عشرة‪ .‬وال أحسُب أن معظمنا كانت لديه أدنى فكرة عما كان ينتظره في األكاديمية‪ .‬نصف التالميذ‬
‫المرشحين غادروا الفصيل الذي كنت أنتمي إليه قبل مضّي خمسة أشهر على التحاقهم‪ .‬لقد ُصِّم َم‬
‫برنامج التدريب لكي يكون قاسيًا‪ ،‬والمسؤولون الكبار من العسكريين كانوا يتوقعون‪ ،‬دون شك‪ ،‬أن‬
‫يغادر البعض قبل إتمامه مندرجات البرنامج‪ .‬الواقع أنهم كانوا يختبروننا ليختاروا األفضل من بيننا‪،‬‬
‫أي أولئك الذين ال يستسلمون‪ .‬أذكر أننا كنا نتمرن بعد ظهر أحد األيام بإشراف الرقيب لولي وتحت‬
‫مراقبته اليِقَظة‪ ،‬فجعَلنا نركض وصوًال إلى البوابة الرئيسية حيث كان بوسعنا أن نشاهد من هناك‬
‫كلية األركان في «كامبرلي» (‪ )Camberley‬التي كان كبار الضباط يتابعون فيها علومهم‬
‫العسكرية العالية‪ .‬بدا لنا منظرها من حيث كنا أشبَه بقصٍر صغير‪ .‬طلب منا أن نقوم بتمارين‬
‫الـ«‪( »push-ups‬تمرين رياضي لعضالت الذراعين والكتفين)‪ ،‬وفيما نحن منبطحون‪ ،‬وجوهنا إلى‬
‫األرض في الوحل‪ ،‬قال‪« :‬هذه كلية األركان هناك‪ ،‬وإذا شئُت الحكم عليكم كما تبدون لي اآلن فإن‬
‫أحدًا منكم لن يقترَب يومًا من هذه الكلية أكثر منه اآلن!»‪.‬‬
‫كان الرقيب لولي فيلسوفًا ولكن بقاَلٍب عسكرّي ‪ .‬كنا في وسط تمرين بالذخيرة الحية في منطقة‬
‫ريفية‪ ،‬وكانت األمور تسير معنا من سيٍئ إلى أسوأ‪ .‬كانت مجموعتي على وشك أن تهاجم إحدى‬
‫التالل‪ ،‬وننتظر تلقي األمر بذلك‪ .‬كنا أنا والرقيب جالَسْين على مسافٍة قصيرة من اآلخرين وتحجبنا‬
‫عنهم بضع شجرات‪ .‬قال الرقيب‪« :‬السيد عبد هللا‪ ،‬منذ بعض الوقت وأنا أتحّين الفرصة ألخبرك‬
‫شيئًا»‪ .‬ثم سكَت لحظاٍت إلعطاء كالمه وطأًة شديدة‪ ،‬واستأنف قائًال‪« :‬سوف تبقى دائمًا غارقًا في‬
‫المتاعب‪ ،‬والشيء الوحيد الذي قد يتغّير معك هو حجمها»‪ .‬وقد تبّنيُت هذا القول شعارًا لي وال أزال‬
‫حتى اليوم أفكر في كلماته وأستعيدها عندما أواجه وضعًا شديد الصعوبة‪.‬‬
‫الذين نجحوا من بيننا في تخطي برنامج التدريب األساسي تخرجوا برتبة ضابط‪ .‬أما الذين ينوون‬
‫احتراف العمل العسكري واتخاذه مهنًة لهم فكان عليهم أن يتابعوا برنامَج تدريب إضافيًا يمتد على‬
‫ستة أشهر ويتناول ثالث مواد أساسية هي القيادة‪ ،‬ومبادئ النظام العسكري البريطاني‪ ،‬والعالقات‬
‫الدولية‪ .‬بعد تسّلمي رتبة ضابط في الجيش البريطاني من الملكة إليزابيث كان علّي أن أختار فوجًا‬
‫ألنضم إليه‪ ،‬وقد ُشِّج عت على االلتحاق بفوج مشاة عريق من أقدم األقسام المدرعة في حرس الملكة‬
‫الخاص يدعى فوج «حراس كولدستريم» (‪ .)Coldstream Guards‬فقد ُعَّد فوجًا مناسبًا ألمير‪.‬‬
‫واألهم من ذلك أن الرقيب الذي أشرف على تدريبي كان ينتمي إلى هذا الفوج‪ ،‬وهكذا بدأُت‬
‫االستعداد لاللتحاق به‪.‬‬
‫كان الوجه السلبي في المسألة أن الحياة اليومية لجندي المشاة لم تكن شيئًا يتطلع إليه المرء‪ .‬خالل‬
‫إجازة أسبوعية نادرة من ساندهرست التقيت ولّي عهد البحرين في فندق «دورتشستر»‬
‫(‪ )Dorchester‬في لندن‪ .‬كان الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة من أصدقاء والدي المقربين وكنت‬
‫أعتبره بمثابة عٍم لي‪ .‬بما أنه هو أيضًا من خريجي ساندهرست فقد قابَلني بابتسامة العارف عندما‬
‫أخبرته عن تلك التمارين المرهقة التي كنا نخضع لها‪ .‬حين ودعته قّدم لي هديًة مفاجئة‪ :‬سّلة مليئة‬
‫بالسندويشات من مطابخ فندق دورتشستر‪ .‬وبفضل هذه السلة من األطايب كنت في تلك األمسية‬
‫النجم األكثر شعبيًة بين رفاقي في الفصيل‪ ،‬مع أنني أشك في أنهم صّدقوني عندما أخبرُتهم بأن‬
‫السندويشات كانت هديًة من ولي عهد البحرين‪.‬‬
‫مرت سنواٌت عدة‪ ،‬وخالل زيارٍة لي إلى لندن اشتريت سلة سندويشات من الدورتشستر وأنا على‬
‫يقين من أن حفيد الشيخ حمد ‪ -‬ملك البحرين حاليًا ‪ -‬الذي كان في عداد التالميذ المرشحين في‬
‫ساندهرست سيرّح ب بالهدية كما رّح بُت بها أنا حين أهدانيها جده‪ ،‬وقد استرجعنا معًا العديد من‬
‫الذكريات عّم ا كان يمر به من تجارب‪.‬‬
‫في ربيع العام ‪ ،1981‬قبل أسبوع من الوقت المحدد التخاذي قرارًا نهائيًا بشأن الفوج الذي‬
‫سأنضّم إليه‪ ،‬كنُت مع فصيلي نقوم بالتمارين المقررة في منطقة خاصة بهذه الغاية قرب الحدود مع‬
‫ويلز‪ .‬كان قد مضى علينا هناك أربعة أيام في أحواٍل مناخية رهيبة‪ ،‬وعواصف ثلجية وأمطار‬
‫وصقيع‪ .‬أصيبت قدماي بعّضة الصقيع‪ ،‬وكنا جميعًا في حالٍة يرثى لها‪ .‬في ساعات الليل كان البرد‬
‫من القساوة بحيث جعَل البعض منا يعّبر عن تعاسته بالبكاء‪.‬‬
‫ُبعيد الفجر وبعد أن شنّنا هجومًا معاكسًا ضد موقع لنا كان قد استولى عليه «النيباليون» (‪The‬‬
‫‪ ،)Gurkhas‬اقتربْت من خندقنا دبابة خفيفة من نوع «سكوربيون» (‪ )Scorpion‬وهي من فريق‬
‫االستطالع التابع لفوٍج آخر كان يقوم بتمارينه‪ .‬كانت الشائعات الدائرة بين المشاة توحي بأن ما في‬
‫داخل الدبابات يمكن أن يكون أّي شيء‪ ،‬من جهاز تلفاز إلى ماكينة غسيل وربما إبريق لغلي المياه‬
‫يتيح لقادة الدبابات أن يتناولوا شرابًا ساخنًا‪ .‬أخرَج أحد الضباط الفرسان رأسه من برج الدبابة وكان‬
‫يحمل في يده فنجان شاي ساخن يخرج منه اللهب‪ .‬نظر إلينا نظرًة عابرة ثم اختفى داخَل دبابته‬
‫ليعود ويظهر من جديد وفي يده كأٌس من النبيذ‪ .‬رفع الكأس في ما يشبه التحية لنا ثم أغلق فتحَة‬
‫البرج بحركة عنيفة وسلكت الدبابة طريقها‪.‬‬
‫«ال‪ ،‬ال‪ ..‬انتهى األمر‪ ،‬إلى الجحيم بالمشاة»‪ ،‬فّكرُت في نفسي‪« :‬سوف أنضم إلى سالح‬
‫الفرسان!» في اليوم التالي انتقلت إلى االستطالع وانضممُت إلى الفوج ‪ 13/18‬في قوات‬
‫«الهوسار» الملكية (‪ )Royal Hussars‬الذي اندمج في ما بعد بفوٍج آخر هو الفوج ‪ 15/19‬من‬
‫قوات «الهوسار» الملكية‪ ،‬وقد نشأ من هذا الدمج فوج «ذا اليت دراغونز» (‪.)Light Dragoons‬‬
‫ومنذ بضع سنوات شَّر فتني الملكة إليزابيث الثانية بأن َج علتني العقيَد القائد لهذا الفوج‪.‬‬
‫التحقت برتبة مالزم ثاٍن وبعد شهرين تابعت دورة تدريٍب أساسّي للضباط الشباب وعدت بعدها‬
‫إلى قواعدي في الفوج‪ .‬أكملت َتدُّر بي على المدرعات في «بوفينغتون كامب» (‪Bovington‬‬
‫‪ )Camp‬في «دورست» (‪ )Dorset‬وتدربت ضابطًا على مدى سنة في الجيش البريطاني في كٍل‬
‫من المملكة المتحدة وألمانيا الغربية‪ .‬في تلك الفترة‪ ،‬في ثمانينيات القرن الماضي‪ ،‬كانت الحرب‬
‫الباردة ال تزال في أوج حدتها‪ .‬وباعتبارنا فوجًا مدرعًا كان من المهام الموكلة إلينا أن نصَّد تقدمًا‬
‫روسيًا محَتمال إلى عمق ألمانيا الغربية مرورًا بثغرة «فولدا» (‪.)Fulda‬‬
‫ذات يوم كنت مع فوجي في طريقنا إلى مهمة جديدة غرب لندن على متن ناقالِت جنٍد مدرعة من‬
‫نوع فوكس‪ ،‬وهي تسير على عجالت ال على الجنازير‪ ،‬مع أنها مجهزة ببرج يعلوه مدفع من عيار‬
‫‪ 30‬ملم وقد تبدو للناس العاديين أشبه بالدبابة‪ .‬هذه الناقالت كان معروفًا عنها أنها سريعة‪ ،‬وهكذا‬
‫عندما سلكنا الطريق السريع الرئيسي ‪ M4‬عَّن لي أن ُأخِض َع تلك الناقالت لالمتحان‪ .‬تزايدْت‬
‫سرعتنا حتى تجاوزنا الحدود القصوى المسموح بها بنسبة ملحوظة‪ .‬في تلك اللحظة نظرت من‬
‫البرج إلى الخارج فرأيت سيارًة للشرطة تسير بمحاذاتنا مطلقًة العنان لصفارة اإلنذار واألضواء‬
‫الومضية‪َ .‬أعطيت األوامر بالتوقف فانعطف الموكب إلى جانب الطريق وتوقف‪ .‬خرج الشرطي من‬
‫سيارته واتجه نحونا وهو يهّز برأسه حيرًة وعجبًا‪ ،‬وقال‪« :‬لست أدري كيف لي أن أكتب هذه‬
‫المخالفة»‪ ،‬ثم أردف قائًال‪« :‬لن يصدقني أحد إذا قلت إنني أوقفت خمس دبابات على الطريق‬
‫الرئيسّي بسبب السرعة!» ثم تركنا نذهب في سبيلنا مع إنذاٍر بأن علينا أن نلتزم السرعة المحددة‪.‬‬
‫خالل حرب الـ«فولكالند» (‪ )Falklands‬التي نشبت في نيسان‪/‬إبريل من العام ‪ 1982‬بين‬
‫األرجنتين وبريطانيا حول السيطرة على جزر الفولكالند‪ُ ،‬و ّز عت علينا ألول مرة بطاقات التعريف‬
‫التي يعّلقها الجنود في أعناقهم أثناء القتال وهي تحمل معلومات عن كل منهم حتى إذا ُقتل في‬
‫المعركة كان باإلمكان التعرف عليه‪ .‬اتصلت بوالدي وأخبرته أنهم يوزعون علينا بطاقات التعريف‬
‫ويبدو أن من الممكن أن يرسلونا إلى الجبهة‪ .‬لم يتوقف لحظة‪ ،‬وقال دون تردد‪« :‬إذا ذهبوا تذهب‬
‫معهم»‪ .‬لكن الذي حدث أنه ُأرسلت وحدًة أخرى‪ ،‬أما نحن فقضينا فترة الحرب نتابع دورًة تدريبية‬
‫في «فورت بولك» (‪ ،)Fort Polk‬في والية لويزيانا‪.‬‬
‫في حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ ،1982‬وفيما كانت حرب الفولكالند تقترب من نهايتها‪ ،‬كانت شرارة‬
‫حرٍب أخرى على المقلب اآلخر من العالم تنطلق وذلك عندما غزا الجيش اإلسرائيلي جنوب لبنان‬
‫في السادس من حزيران‪/‬يونيو‪ ،‬أي بعد أربع سنوات فقط على تجاوز هذا الجيش الحدود اللبنانية‬
‫واحتالله جنوب البالد بهدف تدمير منظمة التحرير الفلسطينية وتوسيع الرقعة الفاصلة التي كان قد‬
‫أقامها ووضعها تحت قيادة قوة تشرف ‪ -‬بالوكالة عنه ‪ -‬على ما كان يسّم ى آنذاك الشريط الحدودي‬
‫بقيادة ضابط لبناني منشق‪ .‬بحلول العام ‪ 1978‬كانت القوات اإلسرائيلية قد اسُتبدلت بقوة األمم‬
‫المتحدة المؤقتة في لبنان الـ(‪ )UNIFIL‬والتي أنشئت بموجب قرار مجلس األمن الدولي الرقم‬
‫‪ .425‬كانت مهمة هذه القوات‪ ،‬بموجب مندرجات القرار‪ ،‬تأكيد انسحاب إسرائيل من األراضي‬
‫اللبنانية ومساعدة حكومة لبنان في إعادة تثبيت األمن والسالم في البالد‪.‬‬
‫هذه المرة‪ ،‬وخالفًا لمضمون اتفاق وقف إطالق النار‪ ،‬الذي جاء نتيجة توّسط المبعوث األميركي‬
‫فيليب حبيب في تموز‪/‬يوليو من العام ‪ ،1981‬شّن الجيش اإلسرائيلي بقيادة وزير الدفاع آرييل‬
‫شارون حملًة عسكرية كاسحة أطلقت عليها إسرائيل اسم «عملية سالمة الجليل» وكانت تستهدف‬
‫ياسر عرفات ومقاتليه المنضوين تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية‪ .‬وصل شارون يوَم ها بقواته‬
‫حتى العاصمة بيروت‪ ،‬وكانت هذه الحرب أولى حروب الشرق األوسط التي صّو رتها شاشاُت‬
‫التلفزة وشاهدها ماليين الناس غير مصِّدقين أعيَنهم وهم يرون الدبابات اإلسرائيلية تزحف نحو‬
‫شوارع إحدى العواصم العربية‪ .‬بالنسبة إلّي وإلى كل العرب‪ ،‬كان هذا حدثًا مأساويًا موجعًا لن‬
‫تزول آثاره بسهولة‪ .‬كانت لحظًة مفصلية وتاريخية‪ ،‬وال يزال كثيرون ممن عاشوا أهوال ذلك‬
‫الحدث يذكرون ويروون ماذا كان كل منهم يفعل عندما غزت إسرائيل لبنان‪ .‬شاهدت الحدث على‬
‫الشاشة في قاعة الضباط في ثكنة «كارفر» (‪ )Carver‬في «سافرون والدن» (‪Saffron‬‬
‫‪ )Walden‬إلى الجنوب من كامبريدج‪ .‬كانت إسرائيل في تلك األثناء تقصف العاصمة اللبنانية‬
‫بيروت بمدفعية من عيار ثماني بوصات‪ ،‬وهي مدفعية معروفة بعدم دقة تصويبها‪ .‬من هنا أدركُت‬
‫أن الكثير من الضحايا المدنيين سيسقطون جّر اء ذلك القصف األعمى‪ .‬لكَّن أحدًا منا لم يكن يعلم أن‬
‫مدنيين سوف ُيسَتهدفون عمدًا وبمنتهى الوحشية‪.‬‬
‫بحلول نهاية آب‪/‬أغسطس كانت قوات منظمة التحرير الفلسطينية قد ُأخِر جت من بيروت‪ .‬وفي‬
‫الرابع عشر من أيلول‪/‬سبتمبر اغتيل رئيس جمهورية لبنان المنَتخب بشير الجمّيل‪ .‬بعد مرور يومين‬
‫على حادثة االغتيال دخلت القوات اإلسرائيلية المنطقة الغربية في بيروت وسمح شارون لجماعة‬
‫من مقاتلي الميليشيات المسيحية بالدخول إلى مخّيم صبرا وشاتيال لالجئين الفلسطينيين لتصفية‬
‫بعض الحسابات القديمة‪ .‬سقط في المأساة الفاجعة التي انتهت إليها هذه المجزرة الرهيبة ما ال يقل‬
‫عن ثمانمئة ضحية‪ .‬عندما بدأت الصور تتسّر ب أوًال بأوّل إلى العالم المأخوذ بالذهول والرعب‪،‬‬
‫راحت المشاهد تتكشف عن وحشيٍة من أبشع ما عرفه تاريخ اإلنسانية من إجرام اإلنسان بحق أخيه‬
‫اإلنسان‪ .‬رأينا صور الجثث المتراكمة في الشوارع الواحدة فوق األخرى‪ ،‬نساء وأطفال وقد ُنحروا‬
‫بالسكاكين والفؤوس‪ ،‬ورجال مسّنون ُص ّفوا أمام الحائط وُح ِص دوا بالرصاص‪ .‬وَطوال هذه المشهدّية‬
‫من المجازر الحية كان الجيش اإلسرائيلي يحيط بالمخيَم ْين ويطلق القنابَل المضيئة في ليل بيروت‬
‫المظلم لكي يضيء للقتلة طريقهم ويتيَح لهم إكمال إنجازاتهم اإلجرامية‪ .‬أصاَبني غضٌب ال يوصف‪،‬‬
‫وأمضيت أيامًا حزينًا يجافيني النوم‪ ،‬وما إن ُأغِم َض عينَّي حتى تطارَدني صوُر الجثِث المشَّو هِة‬
‫والمبتورِة أطراُفها‪.‬‬
‫من أقاصي األرض عَّم ت الصدمة والغضب كل َم ن شاهد تلك البشاعات واألعمال المشينة بحق‬
‫اإلنسانية‪ .‬كيف يمكن أن تدعي إسرائيل الديموقراطية وتطبيق القوانين وتسمح بأن يقف جنوُدها‬
‫وضباُطها مكتوفي األيدي متفرجين على جرائَم وحشية كهذه تنحر إنسانية اإلنسان ال في جسده‬
‫فحسب بل في جوهر إنسانيته أيضًا‪ .‬لقد رأى الناس في آرييل شارون‪ ،‬الذي وقف وزيرًا للدفاع‬
‫يراقب مجريات المجزرة‪ ،‬قاتًال ومجرَم حرب بامتياز‪ .‬وفي شباط‪/‬فبراير من العام ‪ 1983‬خرجت‬
‫لجنة كاهان‪ ،‬التي شكلتها الحكومة في أيلول‪/‬سبتمبر من العام ‪ 1982‬للتحقيق في الحادث‪ ،‬بخالصٍة‬
‫مفادها أن شارون يتحّم ل «مسؤوليًة شخصية» عن فشله في منع وقوع المجزرة وأوصت بأن يزاح‬
‫عن منصب وزير الدفاع‪ .‬بالنتيجة استقال شارون كوزير للدفاع ولكنه بقي عضوًا في الحكومة‬
‫ووزيرًا دون حقيبة‪.‬‬
‫كنت أعّلل النفس بأنني سوف ألتحق بالجامعة في الواليات المتحدة بعد ساندهرست‪ .‬لكّن الحياة‬
‫أبت إال أن تأخذ مسارًا آخر‪ .‬بعد إكمال سنٍة في صفوف الجيش البريطاني‪ ،‬انتسبُت إلى كلية‬
‫«بمبروك» (‪ )Pembroke‬في جامعة أوكسفورد حيث أمضيت سنًة أدرس العالقات الدولية‬
‫وسياسات الشرق األوسط وسط تلك المرّبعات الخضراء الواسعة التي تحيط بها األبنية التراثيُة ذاُت‬
‫اللون العسلّي ‪ ،‬في ذلك الصرح العلمّي والثقافّي المهيب‪ .‬قضيت معظم الوقت أدرس بمفردي على‬
‫كبار األساتذة المتمّيزين الذين تعّلمت على أيديهم الكثيَر الكثير حول التحديات التي تواجهها منطقتنا‬
‫وخبايا سياساتها وألعابها السياسية‪ .‬لكن الحقيقة أن هذا النوع من الدراسة الجامعية لم يكن النوع‬
‫الذي كنت أصبو إليه‪ .‬بعد إكمال البرنامج الدراسي في أوكسفورد عدت إلى األردن وإلى مسيرتي‬
‫المهنية في الجيش‪ ،‬وما إن بلغت الحادية والعشرين حتى باتت الجندية عملي شبه الدائم أمارسه‬
‫ضابطًا في الجيش العربي األردني‪.‬‬
‫لعّل من دواعي أسفي القليلة في الحياة أنني ُح رمت من فرصة التمتع بسنواٍت أربع من الدراسة‬
‫الجامعية حتى التخرج على غرار رفاٍق لي في ديرفيلد‪ .‬لقد اسُتْعِج لُت إلى الخوض في ما ُتلقيه‬
‫الرجولُة الكاملة على المرء من مسؤوليات‪ .‬فالتربية والعلوم العسكرية تفرض عليك أن تلَج عالم‬
‫النضج وتحّم ل المسؤولية باكرًا وبسرعة‪ ،‬وتواجهك بتحدي النهوض إلى متطلبات القيادة وتدعوك‬
‫إلى االهتمام بشؤون اآلخرين ورعايتهم‪ .‬عندما كنت أسعى بكل ما أوتيت في تحصيل هذه‬
‫المهارات‪ ،‬لم أكن أدرك آنذاك كم سيكون مردوُدها كبيرًا ومثمرًا في زمني اآلتي‪.‬‬
‫لقد عوملُت في ساندهرست‪ ،‬كما خالل السنة التي أمضيُتها في الجيش البريطاني‪ ،‬تمامًا كما‬
‫عومل كل تلميذ مرشح آخر وكل مالزم ثاٍن دون تمييز‪ .‬هذا األمر كان مهمًا بالنسبة إلّي ألنه عَّلمني‬
‫أن أكتشف بسهولٍة وسرعة‪ ،‬عندما أعود إلى األردن‪ ،‬متى عمَد البعض إلى تمييزي عن اآلخرين في‬
‫معاملتهم‪ .‬كنت مصممًا على أن تكون الجندية مهنتي األساس وأن أنصرَف لها بكلّيتي‪ .‬لم أكن أريد‬
‫ممارسَتها «من فوق» بأن أصَل في سيارة مرسيدس بين الحين واآلخر الستعراض صٍف من‬
‫الجنود بوصفي عقيدًا شرفيًا لفوٍج من األفواج‪ .‬أردُت أن أكون‪ ،‬بقدر استطاعتي‪ ،‬مجّر َد ضابٍط آخر‬
‫يقود رجاَله ويقاتل معهم‪.‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬ليـالـي القطـرانـة‬

‫عندما عدت إلى األردن في العام ‪ 1983‬التحقت باللواء المدّر ع األربعين‪ ،‬وهو من األلوية‬
‫الفخورة بتاريخها‪ .‬فهو ثاني أقدم وحدة مدرعة في القوات المسلحة األردنية‪ .‬شارك هذا اللواء في‬
‫ثالث حروب‪ ،‬وهي حروب األعوام ‪ 1967‬و‪ 1970‬و‪ ،1973‬وقاتل ببسالة حتى آخر رمق‪ .‬كان‬
‫اللواء متمركزًا في بلدة القطرانة‪ ،‬وهي بلدة صغيرة تبعد ستين ميًال إلى الجنوب من عمان‪ .‬في‬
‫مطلع القرن العشرين‪ ،‬كانت القطرانة محطة للقطار على سكة حديد الحجاز التي أنشأها العثمانيون‬
‫لتربط ما بين دمشق في سوريا والمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية‪ .‬ولكن هذه البلدة لم تعد‬
‫تشهد الكثير من الحركة منذ تلك األيام‪ .‬في الليلة األولى التي وصلت فيها‪ ،‬وكنت في المقر الرئيسي‬
‫لّلواء‪ ،‬سمعُت أصواتًا عالية آتية من قاعة الضباط فقصدُت إليها ألستطلع ما كان يجري فإذا بالمقاعد‬
‫كلها مصفوفٌة بانتظام خارج القاعة والضباط يحمل كل منهم كوبًا من الشاي فيما يستعدون للتمتع‬
‫بمنظر مغيب الشمس‪ .‬منزعجًا من أن يكون المجال الوحيد للترويح عن النفس والتسلية لدى‬
‫الضباط‪ ،‬بعد نهار طويل من العمل‪ ،‬هو مجرد الوقوف أمام مغيب الشمس مع كوٍب من الشاي‪،‬‬
‫عدت إلى غرفتي فارتديت مالبسي الرياضية وذهبُت أركض‪.‬‬
‫لم يكن إبعادي إلى موقٍع في عمق الصحراء متعلقًا كثيرًا بكفاءاتي العسكرية‪ .‬كان السبب أن بعضًا‬
‫من كبار الضباط شعروا بأن التحاقي بالجيش يهّدد مواقعهم ومراكزهم‪ .‬طوال عملي في الجيش كنت‬
‫أواجه مشكالٍت كبيرًة مع بعض الضباط من ذوي الرتب العليا الذين كانوا يتخذون قرارات لم أكن‬
‫أرى فيها ما يخدم مصلحة القوات المسلحة كما ينبغي أن يخدمها‪ .‬كنت على يقين من أننا بحاجة إلى‬
‫َطْر ِق أبواب الحداثة واالستفادة مما شهدته التكنولوجيا العسكرية من تطورات وتقنيات حديثة‪ .‬لكّن‬
‫أولئك الضباط‪ ،‬المدافعين بنواجذهم عن الوضع الراهن‪ ،‬لم يروا حاجًة ألّي تغيير أو تطوير‪ ،‬وبدا‬
‫لي أنهم مصّم مون على أن يجعلوا حياتي جحيمًا ال يطاق‪ .‬في تقديري أنهم فكروا أنهم بمراكمة‬
‫الضغط علّي وإغراقي بالمطالب غير المعقولة وغير المنطقية‪ ،‬وبالزيارات التفتيشية المفاجئة‬
‫وبعزلي في مواقَع صحراويٍة بعيدة‪ ،‬يمكنهم أن يقنعوني بالتخّلي خالل بضعة أشهر عن إكمال‬
‫مسيرتي المهنية في الجيش واتخاذ دوٍر رسمّي يكون أكثر احتفاليًة منه دورًا جديًا وفاعًال‪.‬‬
‫كنت مصممًا على إحباط مخططاتهم‪ .‬وشعرت بأن من األفضل لي أال أذكَر شيئًا من هذا أمام‬
‫والدي خشية أن يتدخل سرًا في األمر بغيَة تسهيل أموري‪ .‬وقد تبّين لي في ضوء تطور األحداث أن‬
‫أكبر خدمة ُأْسِد َيت إلّي هي إرسالي إلى حيث كان يوجد الجيش بمعناه العسكرّي الحقيقّي ‪ .‬هناك‪،‬‬
‫وليس في مكان آخر‪ ،‬وجدُتني أقيم على مدى أشهر طويلة ومن دون انقطاع‪ .‬كثيرون هم الضباط‬
‫الشباب الذين ال يرغبون في البقاء وقتًا طويًال في الصحراء‪ ،‬ويفّضلون العودة إلى المقر الرئيسي‬
‫في عمان حيث يجدون الراحة النسبية‪ .‬ال شك في أن َم ن يخدم في المقر الرئيسي يؤدي خدماٍت قِّيمة‬
‫أيضًا‪ ،‬لكن إذا شئت أن تتعلم ما ال بد أن تعرفه عن عملك العسكري فعليك بالنزول إلى الميدان ألنه‬
‫المدرسة الحقيقية والفضلى‪ .‬لكي يكتسب العسكرُّي معرفًة حقيقية عن الجيش الذي يخدم في صفوفه‬
‫يجب أن ُيرَسل إلى المواقع النائية حيث يتعامل مع اإلجراءات الروتينية اليومية وكل المصاعب‬
‫والمشكالت المزعجة التي تطرأ‪ .‬ال شك في أن ذلك يفسد حياتك االجتماعية إلى حد كبير‪ ،‬لكنه من‬
‫ناحية أخرى يعّلمك الكثير من متطلبات القيادة‪.‬‬
‫كمالزٍم ثاٍن في الحادية والعشرين كنت أشعر بمسؤولية كبرى عن رجالي‪ ،‬خصوصًا ونحن‬
‫مجموعون معًا وُم لقًى بنا في موقع بعيد ومعزول‪ .‬كنت مسؤوًال عن تدريبهم‪ ،‬وعن التأكد من أنهم‬
‫يأكلون ويلبسون كما يجب‪ ،‬وإلى حٍد ما كنت مسؤوًال عن أن تكون عائالتهم التي تعتمد عليهم‬
‫موضَع عنايٍة أيضًا‪ .‬في تلك الفترة كان جيشنا مزيجًا من الجنود المحترفين ومن المجندين الذين‬
‫كانوا يؤّدون خدمتهم العسكرية اإللزامية‪ .‬كما في كل الجيوش التي تضم مجندين إلزاميين‪ ،‬كنا‬
‫نواجه بعض اإلشكاالت والتحديات‪ ،‬فكثيرًا ما كان بعض هؤالء المجندين يرتكبون أعماًال حمقاء‬
‫ليتهربوا من التزاماتهم‪ ،‬حتى إن أحدهم حقَن ساقه بالكاز فكان علّي أن أفتح جرحًا في الساق‬
‫الستخراج تلك المادة منها‪.‬‬
‫غالبًا ما تعكس الجيوش النسيَج االجتماعي لبالدها‪ .‬وفي األردن طالما كان الجيش َم عبرًا إلى‬
‫التقدم‪ .‬كان رجالي خليطًا من كل فئات المجتمع‪ ،‬معظُم هم من الشرائح الفقيرة جّدًا‪ ،‬وبعضهم كان‬
‫يعاني مشكالٍت تفوق طاقته‪.‬‬
‫مالزٌم من رفاقي‪ ،‬كان قد ترَّفَع إلى رتبة ضابط تدرجًا عبر الرتب‪ ،‬وجَد نفسه في مواجهة أزمة‬
‫عائلية شبه مستعصية ُبعيد وصولي إلى القاعدة‪ .‬توفي أخوه تاركًا وراءه زوجًة وثمانية أوالد‪ ،‬فيما‬
‫كان لديه هو زوجٌة وثمانية أوالد‪ .‬وهكذا بين ليلة وضحاها وجد الرجل نفسه المعيَل الوحيد لثمانية‬
‫عشر نفرًا عليه تأمين كل حاجاتهم من راتٍب محدود لضابط صغير‪ .‬على مدى السنة التي أمضيُتها‬
‫هناك بقيُت أعطيه كل شهر نصف راتبي‪ .‬وفي تلك الفترة كان الجيش في حالة تأهٍب قصوى‪ ،‬أي إن‬
‫ثلث الوحدات العسكرية كان عليها أن تكون جاهزة للتحرك إلى أية جبهة محتملة خالل خمَس عشرَة‬
‫دقيقًة من إعطائها األمر بذلك‪ .‬هذا يعني أن ضباطنا كان عليهم أن يؤدوا الكثير من المهمات‬
‫اإلضافية‪ .‬في ضوء هذا الوضع كنت أقوم بالواجبات الموكلة إليه كلما أتيح لي المجال بحيث‬
‫يستطيع أن يعود إلى منزله خالل عطلة األسبوع ويهتم بحاجات عائلته‪ .‬وال أزال حتى يومنا هذا‬
‫أفكر في رجالي وعائالتهم كلما تسّنى لي التركيز على ُح سن توزيع مشاريع اإلسكان والصحة‬
‫والتعليم‪ ،‬بحيث تصل إلى أوسع رقعة من البالد وأكبر نسبة من المواطنين‪.‬‬
‫صحيح أن رجالي كانوا بمعظمهم فقراء ماديًا‪ ،‬لكّن الصحيح أيضًا أنهم كانوا يمتلكون ثروًة كبرى‬
‫من الشجاعة وروح القتال العالية‪ .‬كثيرون منهم لم يحّص لوا الكثير من التعليم النظامي‪ ،‬لكنهم‬
‫عّو ضوا عن ذلك بالكثير من الذكاء الفطرّي وُح سن التدبير حياَل الحاالت الطارئة‪ .‬في مرحلة من‬
‫المراحل كانت وحدتي مزودًة دباباٍت من نوع «خالد ‪ ،)Khalid/Shir I( »1‬وهي الجيل السابق‬
‫لدبابة «تشالنجر» (‪ )Challenger‬البريطانية‪ .‬كانت هذه العربات المخيفة التي بنيت بآخر ما‬
‫توصلت إليه التكنولوجيا العسكرية‪ ،‬تتحرك بنظام إلكتروني معقد‪ ،‬ومع ذلك فقد استطاع رجالي‬
‫التعامل معها خالل أقل من شهر واحد كما لو كانوا يقودونها منذ سنين‪.‬‬
‫ال شك في أن أوضاع الجيش البريطاني كانت أمتَن بناًء من جيشنا من حيث األسس التي يقوم‬
‫عليها‪ ،‬لكنني كنت أفّضل الطرق التي نّتبعها نحن‪ .‬في قاعة الضباط للكتيبة ‪ 13/18‬من قوات‬
‫الهوسار الملكية البريطانية‪ ،‬كنا ننزل إلى العشاء مرتدين الجاكيت وربطة العنق‪ ،‬وكنا نتناول الطعام‬
‫عن طاولة كان العسكر البريطاني قد غنمها من نابليون في معركة واترلو‪ .‬أما في قاعة الطعام عندنا‬
‫في األردن فكنا أحيانًا نتناول طعامًا انتهت صالحيته منذ وقت غير قصير‪ ،‬وكانت الطاولة والمقاعد‬
‫من البالستيك‪ .‬لكّن الجوهر الحقيقي للجيش ال يكمن في فخامة مظاهره وال في أسلحته الحديثة‬
‫والمعقدة‪ ،‬بل في قدرة رجاله وشجاعتهم على مواجهة إمكانية الموت دون أن يرّف لهم جفن‪ .‬بهذا‬
‫المقياس كان رجالي من أبناء األردن أشجَع الجنود الذين التقيُتهم في حياتي‪.‬‬
‫يعرف اللواء المدرع األربعون بـ«لواُء هللا»‪ ،‬في إشارة إلى دوره التاريخي في الدفاع عن القدس‬
‫في العام ‪ ،1967‬وما انطوى عليه سجُّله من خوض معاركه ببسالة وحتى آخر رمق‪ .‬المعركة‬
‫األولى كانت في العام ‪ 1967‬عندما كان متجهًا إلى قطع محور جنين ‪ -‬نابلس وواجه لواَء ين‬
‫إسرائيليين يتقدمان من السهل الساحلّي الشمالي‪ .‬في العام ‪ 1970‬استطاع‪ ،‬وسط ظروف صعبة‬
‫وشديدة التعقيد‪ ،‬أن يتغلب على قواٍت سورية أفضل تجهيزًا كانت في طريقها نحو إربد لتقديم الدعم‬
‫للفدائيين الفلسطينيين (وفي نهاية االشتباك لم يكن قد بقي لكتيبة المدرعات الثانية من اللواء ‪ -‬وهي‬
‫الكتيبة التي انتميُت إليها في ما بعد ‪ -‬سوى ثالث دبابات‪ ،‬لكّن هذه الكتيبة استطاعت أن توقف‬
‫الزحف السوري)‪ .‬في العام ‪ 1973‬خاض هذا اللواء الحرب ضد اإلسرائيليين في مرتفعات‬
‫الجوالن‪ ،‬وقد شّن هجوَم ه صعودًا باتجاه َتّل َح َّر ا‪ ،‬وهو جبل بركانّي يرتفع ثالثة آالف قدم عن سطح‬
‫البحر‪ ،‬لكنه وقع في مرمى النيران اإلسرائيلية من الجانبين ولم يبَق أمامه سوى االنسحاب‪ .‬من‬
‫الدوافع التي كانت تشد عزيمة رجالي أن يتاح لهم في يوم من األيام استعادة األراضي التي خسرناها‬
‫في العامين ‪ 1948‬و‪ ،1967‬فنحن نستطيع مشاهدة القدس وقوفًا عند ضفاف البحر الميت‪ .‬ومع أن‬
‫القوات المسلحة اإلسرائيلية أفضُل منا ُعّدًة وتجهيزًا‪ ،‬فإن رجالي لم يخَشْو ا يومًا إمكانيَة مواجهة‬
‫عدّو مدّج ج بالسالح‪.‬‬
‫كنا نجري مناوراتنا وتماريننا في كل أرجاء البالد‪ .‬وفي تلك الفترة بالذات بدأُت أدرك مدى‬
‫الجمال والتنوع االستثنائيين اللذين تتحلى بهما الطبيعة في األردن‪ ،‬وأخذُت أقّدُر هاتين العطّيتين حَّق‬
‫َقْدرهما‪ .‬األردن بلد صغير‪ .‬ويمكن المرَء في يوم واحد أن ينتقل من جبال عجلون وغابات الصنوبر‬
‫في الشمال‪ ،‬نزوًال عبر اآلثار الرومانية في جرش والبحر الميت‪ ،‬وهو أكثر المواقع انخفاضًا تحت‬
‫سطح األرض‪ .‬وحين يكمل المرء جنوبًا عبر طريق الملك السريع يمّر بالقلعتين الصليبيتين في‬
‫الشوبك والكرك‪ ،‬اللتين كانتا مقر الفارس الفرنسي «رينالد دو شاتيون» (‪Raynald de‬‬
‫‪ )Chatillon‬الذي قطع صالح الدين األيوبي رأسه في القرن الثاني عشر‪ .‬بعد التوقف في منطقة‬
‫وادي َر ّم ‪ ،‬وهي من أجمل المواقع الصحراوية في العالم‪ ،‬وبعد وقفٍة أخرى طويلة عند آثار البتراء‬
‫التاريخية‪ ،‬يصل المرء عند المساء إلى المنتجع البحري في العقبة‪.‬‬
‫في فصل الصيف كنا أحيانًا نذهب إلى وادي األردن إلجراء مناورات على طول الضفة الشرقية‬
‫للنهر‪ .‬ولكي نتجنب درجات الحرارة الالهبة ولسعات البعوض الهائل الحجم كنا ننهض في الرابعة‬
‫فجرًا ونحاول أن ننهي كل التمارين المرهقة قبل شروق الشمس‪ .‬التربة هناك معروفة بخصوبتها‬
‫وهي ذات لون بّني على شيء من االحمرار‪ ،‬وفي المساء‪ ،‬عند مغيب الشمس‪ ،‬تنعكس أشعتها على‬
‫الصخور المحيطة بالمكان وإذا نحن أمام تمّو جاٍت من األلوان يغلب عليها األحمر الوّهاج‪ .‬اللون‬
‫األحمر كان دائمًا لونَي المفضل‪ ،‬فهو لون العَلم الهاشمي ولون الكوفية‪ ،‬لباس الرأس التقليدي‬
‫لألردنيين‪ ،‬وطبعًا هو لون القلب‪.‬‬
‫عّن لي في يوٍم من األيام أن أختبر بعض التكتيكات الجديدة التي تعّلمُتها في مدرسة المدّر عات في‬
‫«بوفينغتون»‪ ،‬فخرجنا إلى حيث سنجري المناورة‪ .‬كنت قد تعلمت كيف أقود «معركة االنسحاب»‪،‬‬
‫أي كيف ننفذ انسحابًا تدريجيًا عندما نكون عرضًة لهجوم يشّنه علينا جيٌش متفّو ق‪ ،‬على أن نكّبد‬
‫المهاجمين خسائَر بشريًة خالل انسحابنا‪ .‬بعد أن حّددُت الموقَع األول مع ضباط الصف‪ ،‬عدنا إلى‬
‫االجتماع للبحث في أفضل مقاربة يمكن أن نخوض بها المعركة‪ .‬قلت‪« :‬حسنًا‪ ،‬فلننتقل اآلن إلى‬
‫الموقع الثاني»‪ .‬فنظر إلّي أحد ضباط الصف وقال‪« :‬سيدي‪ ،‬ما من حاجٍة لدينا إلى موقٍع ثاٍن ‪ ،‬فنحن‬
‫سنحارب هنا حتى الموت إذا لزم األمر‪ .‬االنسحاب ليس خيارًا!» تأثرت جّدًا بشجاعته‪ ،‬لكنني ُذِه لت‬
‫أيضًا بهذا التكتيك لديه‪ .‬هو ابُن المدرسة القديمة في التدريب حيث االنسحاب كان يعني مّسًا‬
‫بالكرامة وطعنًا بشرف القتال‪ .‬هذه الروح القتالية ذات النفحة البطولية قّدمت لألردن خدماٍت ُج ّلى‬
‫في العام ‪ 1948‬عندما استطعنا االحتفاظ بالسيطرة العربية على القدس الشرقية والضفة الغربية‪،‬‬
‫وفي العام ‪ 1968‬عندما صددنا اختراقًا إسرائيليًا ورددنا المهاجمين على أعقابهم في معركة‬
‫الكرامة‪ ،‬وفي العام ‪ 1970‬عندما صَّد جيُشنا هجوما سوريًا من الشمال‪ .‬لكن تحت قوة النيران‬
‫المتزايدة من األسلحة الحديثة‪ ،‬وأمام التنسيق الوثيق والمدِّم ر بين الهجمات الجوية وقصف المدفعية‬
‫البعيدة المدى‪ ،‬يصبح الصمود على خط الدفاع األول بمثابة عملية انتحارية‪.‬‬
‫كنت مصممًا على جعل الرجال الذين تحت قيادتي أكثر فاعليًة وإنجازًا‪ ،‬وذلك عن طريق الجمع‬
‫بين شجاعتهم القتالية التي ال تضاهى وبعض الحنكة التكتيكية التي ال غنى عنها‪ .‬قلت لهم إذا نحن‬
‫عدنا إلى الوراء بضعة مواقع‪ ،‬بحسب المبدأ المّتبع لدى قوات حلف شمالي األطلسي (‪،)NATO‬‬
‫يمكننا إسقاط عدد أكبر من قوات العدو في أثناء تراجعنا‪ .‬رماني الرجال بنظرٍة متسائلة مستفهمة‪ ،‬ثم‬
‫تكتلوا يهمسون في ما بينهم‪ .‬ما هي إال دقائق حتى انفرجت أساريرهم وقالوا لي‪ ،‬صحيح‪ ،‬إن قتل‬
‫العدو أهم من الحفاظ على الخط‪ ،‬ثم وافقوا على التراجع موقعًا إلى الخلف‪ .‬هكذا كان لقائي األول مع‬
‫الروح القتالية التي َيعمُر بها صدُر الجندي األردني‪ .‬ما من شيء تعّلمته في ساندهرست أعَّدني نفسيًا‬
‫لهذا االندفاع المستميت إلى القتال حتى النصر أو الموت مقاتًال‪ ،‬وهذه الحمّية لدى رجالي كانت‬
‫تنعكس مزاجًا عامًا في المنطقة الخطرة التي نعيش فيها‪ .‬ففي تلك الفترة كان األردن ال يزال في‬
‫حرب باردة مع إسرائيل‪ .‬ومع أن إطالق النار كان قد توقف‪ ،‬كان علينا أن نبقى مستعدين في كل‬
‫لحظة لمواجهة تهديد جارنا صاحب السالح النووّي ‪.‬‬
‫في آذار‪/‬مارس من العام ‪ 1984‬جاءت الملكة إليزابيث الثانية إلى األردن في زيارة دولة‪ ،‬وكانت‬
‫اإلجراءات األمنية مشددة‪ ،‬خصوصًا ألن إرهابيين كانوا قد فّج روا قنبلة في أحد فنادق عمان قبل‬
‫مجيء الملكة بيومين‪ .‬طلَب إلّي والدي أن أعمل مرافقًا عسكريًا للملكة وزوجها األمير فيليب‪.‬‬
‫شعرت بالحماسة ألداء هذه المهمة‪ ،‬خصوصًا أني كنت قد تخرجت حديثًا في ساندهرست وتدربت‬
‫في الجيش البريطاني‪ .‬ونظرًا للهاجس األمني طلب والدي أن أكون الحارس الشخصي للملكة‪ ،‬ولهذا‬
‫الغرض ذهبت إلى القوات الخاصة للخضوع لمزيد من التدريب‪ .‬مع اقتراب يوم الزيارة‪ ،‬سألت‬
‫والدي‪ :‬إذا أطلق أحد علّي النار فسأرّد بإطالق النار‪ ،‬لكن إلى أي مدى تريدني أن أذهب؟‬
‫«إذا أطلق أحد النار على الملكة»‪ ،‬أجاب والدي‪« :‬ترمي نفسك بينها وبين النار‪ ،‬وإذا كانت حياُتك‬
‫ثمنًا لحماية ضيفتنا فاألفضل لك أال تتردد لحظًة واحدة‪ ،‬ألنك إذا فعلت ألطلقُت عليك النار بنفسي!»‬
‫كنت مدركًا تمامًا أنه اختار تعابيره بدقة ليكون لها الوقُع المطلوب‪ ،‬لكن بالنسبة إلى والدي كان‬
‫الواجُب والشرُف على رأس األولويات وفي مرتبٍة تفوق باألهمية حتى عائلَته‪.‬‬
‫بقيُت إلى جانب الملكة طوال فترة زيارتها التي امتدت خمسة أيام‪ ،‬والحمد هلل أنني لم أضطر لتلقي‬
‫رصاصة من أجلها‪ .‬ال شك في أن والدي كان يلجأ إلى نبرٍة قاسية أحيانًا‪ .‬لكن نحن االثنين كنا نلتقي‬
‫في حبنا للجيش وطالما جمعنا الحديث عن ذلك‪ .‬كنا نتمتع بمشاهدة األفالم القديمة معًا‪ ،‬وغالبًا ما‬
‫تبادلنا معلومًة من هنا ورأيًا من هناك حول آخر ما أنتجته مصانُع العتاد العسكري في مختِلف بلدان‬
‫العالم‪ ،‬وهل يناسبنا هذا العتاد أم ال‪ .‬ويبدو لي أن امتهاني العمَل العسكري أكسَبني ُبعدًا جديدًا من‬
‫االحترام عند والدي‪ ،‬وهكذا‪ ،‬مع مرور الوقت‪ ،‬بدأ يطلب مني توّلي واجباٍت ومسؤولياٍت إضافية‪.‬‬
‫منذ أيام جدَي األكبر الملك عبد هللا األول والجيش العربي‪ ،‬كان الجيُش األردنُّي من أفضل جيوش‬
‫الشرق األوسط تدريبًا‪ ،‬وأكثرها انتظامًا ومهنيًة عسكرية‪ .‬لكنني كنت عازمًا بقوة على أن أجعَل من‬
‫جيشنا واحدًا من أفضل جيوش العالم‪« .‬ال تقارنونا بالجيوش األخرى في منطقتنا»‪ ،‬كنت أقول‪« :‬بل‬
‫بجيوش حلف شمالي األطلسي»‪ .‬ولكي نبلغ هذا اإلنجاز كنت مدركًا تماَم اإلدراك أن علينا أن نسلك‬
‫مساَر الحداثة‪ ،‬فمع أن جنودنا كانوا دائمًا من ذوي الموهبة والشجاعة فقد خذلهم نظام اإلدارة في‬
‫بعض األحيان بعدم تزويدهم عتادًا متطورًا‪ .‬لقد عّو دت نفسي اإلفادَة إلى أقصى الحدود الممكنة مما‬
‫لدينا من العتاد والعدة‪ ،‬وذلك بأن نكون ذوي فكٍر خالق يبحث عن الحلول ويجدها‪ .‬ولم أتردد في‬
‫طرق أي باب لكي أزّو د رجالي بما يحتاجون إليه من تجهيزاٍت وذخيرة ومؤونة‪.‬‬
‫كما كُّل الشباب من أبناء جيلي‪ ،‬كنت متشوقًا لتحقيق التغيير ولم أستطع صبرًا‪ .‬لكّن الخيبة زادت‬
‫وطأًة حين تبّين لي مدى إصرار العديد من كبار الضباط على الدفاع عن األوضاع الراهنة إلبقائها‬
‫على ما هي عليه‪.‬‬
‫الفصل السابع‪ :‬المهّم ـة السـّر يـة‬

‫كنت في إحدى األمسيات مسترخيًا أستريح من عمِل نهاٍر طويل في قاعدتي العسكرية في‬
‫القطرانة عندما رن جرس الهاتف‪ .‬كان والدي على الخط وطلب مني الحضور إلى عّم ان فورًا‬
‫لمقابلته‪ .‬انطلقت في السيارة للقائه متسائًال لَم يا ُترى يريد أن يراني في هذه الساعة المتأخرة من‬
‫الليل‪ .‬وصلُت في العاشرة ليًال‪.‬‬
‫أخذني والدي جانبًا وقال لي إنه ينوي الذهاب إلى العقبة غدًا مساًء ‪ ،‬ومن هناك سيستقّل قاربًا‬
‫لالجتماع باإلسرائيليين للضغط عليهم للموافقة على حٍل ينهي احتالَلهم لألراضي التي استوَلْو ا عليها‬
‫في العام ‪ 1967‬وُيِح ُّل السالم في المنطقة‪ .‬قال لي‪« :‬أريدك سائقي وحارسي الشخصي»‪ .‬صحيح أن‬
‫بين األردن وإسرائيل حدودًا طويلة‪ ،‬لكن مع ذلك كان الداخل اإلسرائيلي أرضًا غريبة علينا‪.‬‬
‫فدخولنا إسرائيل كان أشبَه بدخول برلينٍّي غربّي تسُّلًال عبَر الحائط لزيارة برلين الشرقية عندما‬
‫كانت الحرب الباردة في أشد مراحلها حدة‪ .‬قلت له إنه لشرٌف كبير أن أكون إلى جانبه‪ ،‬فطلب أن‬
‫أالقيه في المطار صباح اليوم التالي‪ .‬في طريقي إلى المنزل شعرت بشيء من الحماسة واإلثارة‪،‬‬
‫لكن انتابني بعُض التوتر‪ .‬كنت ضابطًا في الجيش برتبة نقيب‪ ،‬ومرافقة والدي في مهمٍة سرية إلى‬
‫أرض العدو كانت عبئًا ثقيًال‪ ،‬وألول مرة لن أكون مجرد مراقٍب لتاريخ العالقات العربية ‪-‬‬
‫اإلسرائيلية فقط بل هذه المرة‪ ،‬العبًا فيها ولو بدوٍر صغير‪.‬‬
‫قّر رت أن ُأفرَج هنا عن هذه القصة الشخصية ألنها تعطي‪ ،‬ولو لمحًة سريعة‪ ،‬عن المخاطر‬
‫الكبرى التي كان والدي يقتحمها من أجل إحالل السالم‪ .‬إنني أشعر بأن من األهمية بمكان ‪ -‬بعد‬
‫وفاته ‪ -‬أن نوضح مدى تفانيه في سبيل إحالل السالم في المنطقة بما يضمن انسحاَب إسرائيل من‬
‫كل األراضي العربية المحتلة‪ ،‬خصوصًا القدس‪ ،‬التي كان لها موقٌع خاص في قلبه‪ .‬كان مؤمنًا بأن‬
‫السالم هو حٌق لشعوب المنطقة جميعًا‪ ،‬عربًا وإسرائيليين‪ ،‬وكان يرّدد باستمرار أّن المرء يصنع‬
‫السالم مع أعدائه‪ ،‬ألن السالم مع أصدقائه قائٌم أصًال‪ .‬ال فائدة على اإلطالق من اإلصرار على عدم‬
‫اللقاء بهم‪ ،‬وقد التقى والدي اإلسرائيليين مرارًا لمناقشة المقترحات المطروحة لتحقيق السالم‪ ،‬لكنه‬
‫طالما تمّسك بمطلب االنسحاب اإلسرائيلّي الكامل من الضفة الغربية بما فيها القدُس الشرقية شرطًا‬
‫أساسًا لحل الصراع‪ .‬كان والدي يشعر‪ ،‬في ظل وجود أكثر من ‪ 375‬ميًال من الحدود المشتركة مع‬
‫إسرائيل آنذاك‪ ،‬بأن المباحثات معها كان ال بد منها تجنبًا للحرب‪ .‬وبعد الكارثة التي ابُتلينا بها في‬
‫العام ‪ ،1967‬كان علينا أن نبذل المستحيل لتفادي كارثة أخرى‪ .‬من بين الفضائل الكبرى التي‬
‫أسبَغها هللا على والدي أنه كان موضَع احتراٍم وتقديٍر لدى الجميع‪ ،‬حتى الذين لم يكن على توافق‬
‫معهم‪ .‬كان من الُخ ُلق الكريم والنبل بحيث لم يسمح يومًا لنفسه بأن يشير‪ ،‬ولو تلميحًا‪ ،‬إلى أن العديد‬
‫من القادة العرب الذين كانوا يكيلون له االنتقاد الالذع في العلن على مفاوضته إسرائيل‪ ،‬كانوا‬
‫يطالبونه من وراء الستار بأن يكون الواسطة بينها وبينهم‪.‬‬
‫ركبنا الطائرة أنا ووالدي من عمان إلى العقبة‪ ،‬وكان يرافقنا رئيس الوزراء‪ ،‬زيد الرفاعي‪،‬‬
‫والشريف (األمير الحقًا) زيد بن شاكر‪ ،‬رئيس الديوان الملكي‪ .‬كانت الخطة تقضي بأن نقوم برحلٍة‬
‫سرية في قارب صغير َيعبر بنا خليج العقبة إلى إسرائيل‪ .‬بوصولنا إلى العقبة وجدنا قاربنا الصغير‬
‫وانتظرنا هبوط الليل حتى إذا بلغت الساعة التاسعة مساًء ركبنا نحن األربعة قارب الصيد وأبحرنا‬
‫خروجًا من الميناء باتجاه الحدود ثم دخلنا المياه اإلسرائيلية‪ .‬أخذنا نتقدم بشيء من الحذر ثم أرسلنا‬
‫ضوءًا واِم ضًا من قوس القارب فأجابنا ضوء من الجهة المقابلة وما لبث أن خرج من تلك العتمة‬
‫المظلمة قارب صغير آخر وعلى متنه أفرام هاليفي‪ ،‬أحد مسؤولي الموساد‪( ،‬جهاز االستخبارات‬
‫الخارجية في إسرائيل)‪ .‬هاليفي‪ ،‬المحامي المولود في بريطانيا‪ ،‬والذي أصبح في ما بعد رئيسًا‬
‫للموساد‪ ،‬لم يتحدث كثيرًا‪ .‬أشار لنا بأن نتبعه‪ .‬بدأنا نقترب من الحدود اإلسرائيلية‪ ،‬وكان مكاُن‬
‫االجتماع قد ُح دد‪ ،‬لكّن القارَب اإلسرائيلي غَّير اتجاهه‪ ،‬األمر الذي أثار قلقًا شديدًا لدى الشريف زيد‬
‫الذي قال‪« :‬ليس هذا ما اتفقنا عليه»‪ ،‬عندئذ أشار لي والدي بأن أرافقه إلى أعلى القارب حتى إذا‬
‫ابتعدنا عن مسامع اآلخرين قال لي‪« :‬حسنًا‪ ،‬ما رأيك؟»‪.‬‬
‫من وجهة نظر شاٍب يختبر المهمات السرية للمرة األولى‪ ،‬حثثت والدي على االستمرار في‬
‫المهمة‪ ،‬فنظر إلّي وابتسم ثم عدنا وانضممنا إلى رفيقينا اآلخرْين وقال والدي للشريف زيد‪« :‬ال‬
‫بأس‪ ،‬سنكمل المهمة»‪.‬‬
‫استأنفنا الرحلة وصوًال إلى مدينة إيالت اإلسرائيلية‪ ،‬وهي على مسافة قصيرة من العقبة‪ ،‬وهناك‬
‫أرسينا القارب أمام حظيرة تابعة للبحرية وكنا على مسافة ‪ 297‬مترًا من الشاطئ‪ .‬صعد والدي‬
‫وزيد الرفاعي والشريف زيد إلى متن القارب اإلسرائيلي وقصدوا الشاطئ‪ ،‬وبقيت أنا وحدي أحرس‬
‫قاربنا‪.‬‬
‫أطفأُت كل أنوار القارب ومسحُت الشاطئ مسحًا شامًال بالمنظار بحثًا عن جنود إسرائيليين‪ ،‬فلم‬
‫أَر أحدًا سوى شخصين جالَسين حوَل موقد فيه نار مشتعلة‪ ،‬وكانا يعزفان على الغيتار‪ .‬في لمحة‬
‫سريعة خاطفة رأيُت التماعَة سيجارٍة بيد شخٍص قرب الحظيرة البحرية‪ ،‬فرَّكزت النظر عليها‬
‫بواسطة المنظار ليتبّين لي أنه قناص إسرائيلي يراقبني‪ .‬لم تكن لدّي أية وسيلة لالتصال بوالدي‪ ،‬وقد‬
‫أدركت مدى العزلة التي أنا فيها‪ ،‬أجلس وحيدًا في قارِب صيد على ُبعد أمتار من ميناء إسرائيلي‪.‬‬
‫تناولت القنابَل اليدويَة التي بحوزتي وعّلقتها على جانب القارب رابطًا في ما بينها بحيث إذا سحبُت‬
‫الشريط انفجرت المجموعُة بكاملها‪.‬‬
‫ال بد أنها كانت الساعة العاشرة مساًء عندما وصلنا إلى ذلك الميناء‪ ،‬وها هي ساعاٌت قد مضت‬
‫وأنا أنتظر عودَة والدي واآلخرين‪ .‬في لحظٍة من اللحظات فكرت‪« :‬خالل خمس ساعات سوف‬
‫تشرق الشمس وأنا هنا وحدي في قارٍب راٍس في ميناء إسرائيلي‪ ،‬يعّج بالبنادق والقنابل اليدوية‪ ،‬وال‬
‫أحد يعلم أنني هنا‪ .‬ماذا ُتراني سأفعل إذا لم يعد والدي؟» من حسن الحظ أنني لم أضطر إلى اقتحام‬
‫الشاطئ بمفردي أو أن أعود إلى األردن وأشرَح لمن يعنيهم األمر كيف استطعت أن اصطحب‬
‫الملك في رحلٍة مجهولة االتجاه وأن أفقده‪ُ .‬قَبْيَل شروق الشمس عاد والدي في القارب الصغير نفسه‬
‫وأبحرنا جميعًا عائدين إلى العقبة‪ .‬ومع أن والدي لم يحدثني يومًا عما دار من أحاديث تلك الليلة‪ ،‬فإن‬
‫اجتماعاٍت كهذا قد أرست األسَس التي قامت عليها معاهدة السالم التي ُو ّقعت في النهاية بين األردن‬
‫وإسرائيل‪.‬‬

‫***‬
‫عبر السنين كنت أرتقي في الرتب‪ ،‬وكنت أغادر األردن بين الحين واآلخر في دوراٍت تدريبية‬
‫قصيرة األمد ثم أعود لمزاولة عملي في الجيش‪ .‬من بين هذه الرحالت واحدة ال ُتنسى لمتابعة دورة‬
‫ضباط الدروع المتقدمة في «فورت نوكس» (‪ ،)Fort Knox‬في والية كنتاكي‪ ،‬في الواليات‬
‫المتحدة األميركية في العام ‪ 1985‬وذلك لدراسة استراتيجية المدّر عات وتكتيكها‪ .‬ومع أننا كنا في‬
‫الطريق إلى ردم الهوة الفاصلة بيننا وبين جيوش حلف شمالي األطلسي‪ ،‬كان ال يزال علينا أن ننجز‬
‫الكثير في هذا المجال‪ ،‬خصوصًا على صعيد اقتناء التجهيزات العسكرية األكثر تطورًا‪ .‬في أحد‬
‫األيام كنت أجّر حقيبتي وإذا بضابٍط إسرائيلي برتبة عقيد يسير بجانبي‪ ،‬وعندما رأى الرتبَة على‬
‫كتفي قال‪« :‬اللواء المدرع األربعون‪َ ،‬هه؟ أنتم األردنيين عنيفون فعًال»‪ .‬من الواضح أنه كان يشير‬
‫إلى المعركة الشرسة التي خاضها هذا اللواء ضد الجيش اإلسرائيلي في حرب العام ‪.1967‬‬
‫عندما عدت إلى األردن ُعّينت قائد سرية في اللواء المدرع ‪ 91‬الذي كانت قاعدُته في الزرقاء إلى‬
‫الشمال الشرقي من عمان‪ .‬كانت الزرقاء وهي أكبر المدن األردنية بعد عمان‪ ،‬معروفة بحاميتها‬
‫العسكرية وببعض الصناعات الثقيلة‪ .‬وعلى خالف المدن التي تضم قواعَد عسكريًة كبيرة في‬
‫إنكلترا‪ ،‬مثل أْلِدرشوت (‪ )Aldershot‬حيث يحصل أحيانًا بعض التوتر بين الجنود والسكان‬
‫المحليين‪ ،‬كان الجنود في الزرقاء يشعرون بأنهم جزء ال يتجزأ من المجتمع‪ .‬هناك جنود من كل‬
‫أنحاء األردن يخدمون في الجيش وقد انتقلوا إلى المدينة مع عائالتهم ما جعَل السكان خليطًا متنوعًا‬
‫تربطهم بالعسكر روابُط متينة‪ ،‬عائلية واجتماعية‪.‬‬
‫في القاعدة يتناول الضباط طعامهم في قاعة غير التي يتناول فيها الجنود طعامهم‪ ،‬لكن ما إن‬
‫يخرجون من القاعدة حتى يزول كل هذا التمييز‪ .‬في ذلك الوقت لم يكن هناك العديد من المطاعم في‬
‫الزرقاء‪ ،‬وهكذا كان أصدقائي وزمالئي يدعون ضيوفهم إلى منازلهم ويقدمون لهم الطعام األردني‬
‫التقليدي‪ .‬أهم تلك األطايب كان المنسف‪ ،‬وهو مكّو ن من لحم الضأن الطرّي المطبوخ والموضوع‬
‫على طبقة من األرز المزّينة بحبوب الصنوبر المحّم صة مع شراب اللبن‪ .‬أما كيف نتناول طعام‬
‫المنسف‪ ،‬فعلى الطريقة التقليدية باستعمال األيدي‪.‬‬
‫من مصادر اإلزعاج التي يتحّم لها سكان الزرقاء التلّو ث الصناعي‪ .‬فقد كان هناك مصفاٌة للنفط في‬
‫الجهة الشمالية من المدينة ومدبغة للجلود في جهتها الجنوبية‪ .‬لم ُتِعْر المؤسستان المتطلبات البيئية‬
‫الحديثة ومقاييسها أَّي اهتمام‪ ،‬وعندما كانت الريح تهّب من جهة معينة كان الدخان المنبعث من‬
‫المصنعين يمتزج في الهواء فتنبعث منه رائحة كبريتية كريهة ومؤذية‪ .‬ولكي نتنشق هواًء أقل تلّو ثًا‬
‫كنا نتجه أحيانًا إلى بلدة قريبة معروفة ببساتينها وأشجار الحمضيات فيها‪ ،‬وهي الُّر صيفة‪ ،‬حيث كنا‬
‫نجلس في أحد المطاعم‪ ،‬نتناول طعامنا ونرّو ح عن أنفسنا بعض الشيء فيما نحن نراقُب ما يجري‬
‫من حولنا‪.‬‬
‫شخصيًا كنت سعيدًا بإقامتي هناك‪ ،‬أما مهنيًا فلم يكن األمر كذلك‪ .‬فأنا لم أكن حتى ذلك الوقت قد‬
‫سّو يت خالفاتي مع بعض كبار الضباط الذين كانوا مصّم مين على إفساد مسيرتي المهنية في‬
‫الجيش‪ ،‬والذين كانوا قد أعطوا التعليمات لمرؤوسيهم بأن يضعوا العراقيل والمتاعب في طريقي‪،‬‬
‫حتى إن السنة التي أمضيُتها في الزرقاء كانت خاللها السريُة التي أقودها ُتلقى إليها واجباٌت‬
‫ومسؤولياٌت إضافية وتتعرض أكثر من سواها لحمالٍت تفتيشية مفاجئة‪ .‬كان لي أصدقاء بين‬
‫مجموعة من قادة السرايا الذين كنت ألتقيهم لتمضية بعض الوقت معًا‪ ،‬لكن كنت أيضًا على عالقة‬
‫تتسم بمسحٍة رسمية بعَض الشيء مع قائد َسرية آخر‪ ،‬من خلفيٍة بدوية‪ ،‬كان دائمًا ُيظهر لي احترامًا‬
‫لكن دون أن يزيل المسافَة الرسمية بيننا‪.‬‬
‫كان هناك تفتيش إداري سنوي وكان االستعداد له يتطلب عمًال شاقًا وكبيرًا‪ .‬كان علينا أن نعرض‬
‫كل تجهيزاتنا وآلياتنا لكي يراجَع المفتشون كل السجالت ويتأكدوا من أن شيئًا من تلك التجهيزات‬
‫واآلليات ليس ناقصًا أو مفقودًا‪ .‬إذا وجد المفتشون حتى مفتاَح ربٍط ناقصًا أثاروا مشكلة كبيرة‪،‬‬
‫ولذلك كانت السرايا تتبادل المعلومات والتجهيزات قبل انطالق هذا الحدث الكبير‪ .‬التفتيش السنوي‬
‫كان يشمل في العادة اللواء بكامله‪ ،‬لكن في إحدى األمسيات جاءني قائد السرية البدوي وقال لي‪:‬‬
‫«سُيجرون تفتيشًا مفاجئًا غدًا وسُيقَتَص ر على َسرّيتك وحَدها‪ ،‬يريدون أن يجدوا عليك ممسكًا يمّكنهم‬
‫من إرسال تقرير سيئ عنك إلى القيادة»‪ .‬هذا األمر كان سابقة بالفعل‪.‬‬
‫قادُة السرايا اآلخرون‪ ،‬الذين حسبُتهم أصدقاء‪ ،‬أشاحوا بوجوههم عني وتركوني لمصيري‪ .‬لكن‬
‫القائد الذي كان يحتفظ بمسافٍة بيني وبينه قال‪« :‬أنا مستعد إلعطائك كل ما تحتاج إليه»‪ .‬عملنا معًا‬
‫طوال الليل للتأكد من أن سريتي ستكون جاهزة في صباح اليوم التالي‪ ،‬أما أنا فقد اعتذرت من‬
‫جنودي قائًال إن هذا التشديد مرُّده إلى كوني َم ن أنا‪ ،‬ولكن لسوء الحظ ليس لدينا خيار سوى تنفيذ ما‬
‫علينا تنفيُذه‪.‬‬
‫في صباح اليوم التالي جاء قائد الكتيبة مع فريقه ونفذ عملية التفتيش الفجائي‪ ،‬وكانت النتيجة‬
‫نجاحًا كامًال‪ .‬لكَّن حادثًا وقَع لم أكن قد رأيت له مثيًال من قبل‪ ،‬ومنذئٍذ حتى اليوم ما زلت لم أَر له‬
‫مثيًال‪ .‬اتجه قائد الكتيبة نحو كبار ضباط الصف في َسريتي وكانوا يقفون صفًا واحدًا وقال لهم‪:‬‬
‫«أحذيتكم ليست كما يجب»‪ .‬رجالي كانوا يعملون طوال الليل ولم يذوقوا طعَم النوم ومع ذلك كانت‬
‫أحذيُتهم تلمع‪ .‬حّدق قائد الكتيبة إلى عيَنْي الرقيب أول ودعَس على حذائه دعسًة عنيفًة وَفرَكه فركًا‪.‬‬
‫ضابُط صٍف آخر تأّخ ر في اإلجابة عن سؤال قائد الكتيبة الذي ضرَب عرض الحائط بكل القواعد‬
‫المعمول بها وصَفَع ضابَط الصف على وجهه‪ ،‬وهذا تصرف شديُد اإلهانة في تقاليدنا‪.‬‬
‫عند هذا الحّد نفد مني الصبر‪ ،‬فلحقت بقائد الكتيبة إلى مكتبه وقلت له‪« :‬إذا امتّدْت يُدَك مرًة أخرى‬
‫وَلمَسْت واحدًا من جنودي‪ ،‬أقسم باهلل إنني سأطلق النار عليك»‪ .‬أظن أن هذا الكالم وهذه اللهجة‬
‫استرعيا انتباَهه جيدًا‪ .‬فأنا لست من الذين يفقدون أعصاَبهم وال صبَر هم بسهولة‪ ،‬لكن تصرفه حياَل‬
‫جنودي أثار فّي غضبًا كبيرًا‪ .‬ومع أن فورَة الغضب التي عّبرُت عنها ضمنت حمايًة لسرّيتي‬
‫وجنودي‪ ،‬فإن تلك اللحظات لم تكن موضَع افتخاٍر لدّي على اإلطالق‪.‬‬
‫كان قد بقي لي‪ ،‬قائدًا لتلك السرية‪ ،‬حوالى ستة أشهر لكنني لم أغادر خالَلها غرفتي في المساء‪،‬‬
‫وقد غبت غيابًا كامًال عن قاعة الضباط‪ ،‬ذلك أن زمالئي قادَة السرايا قد خذلوني بالفعل‪ ،‬ولذلك‬
‫اخترت أن أنأى بنفسي عنهم‪ .‬هذه الحادثة كانت أسوأ ما مررُت به في مسيرتي العسكرية‪ ،‬وقد‬
‫دفعتني إلى التفكير جديًا بمغادرة الجيش‪ .‬شعرت بحاجة ماسة إلى التحدث إلى والدي عن هذا األمر‪،‬‬
‫لكنني لم أشأ أن ينتهي بي المطاف بأن ُأعاَم َل معاملًة خاصة‪ .‬من هنا توّج هت إلى عمي األمير حسن‬
‫طالبًا ُنصحه‪ ،‬وبعد أن تداولنا في المشكالت والمصاعب التي كنت أواجهها اقترح علّي االنتظار‬
‫حتى نهاية خدمتي في وحدتي الحالية ومن ثّم مراجعَة األمور في ضوء ما أشعر به حيال التطورات‬
‫في حينه‪.‬‬
‫في العام ‪ 1987‬أخذُت إجازًة طويلة من الجيش وقضيت سنًة في جامعة جورجتاون‬
‫(‪ )Georgetown‬في واشنطن حيث التحقت ضمن برنامج الزمالة للقياديين في وسط مسيرتهم‬
‫المهنية ببرنامج الماجستير في شؤون الخدمة الخارجية‪ .‬درست العالقات الدولية‪ ،‬وفي هذه األثناء‬
‫تعّر فت جيدًا على العاصمة األميركية‪ .‬بعد عودتي من جورجتاون عدت ثانيًة إلى عمي األمير حسن‬
‫وبحثت معه مسألَة استمراري في مسيرتي العسكرية‪ ،‬وقلت له إنني أفكر في اختيار مهنٍة أخرى‪،‬‬
‫فقال األمير حسن‪« :‬ولماذا تكافئ هؤالء السَفَلة بما يرضيهم؟» مع أن تبايناٍت في الرؤية والرأي‬
‫سادت العالقَة بيني وبين عمي في سنواٍت الحقة‪ ،‬فقد كان في تلك المرحلة مصدَر دعٍم لي وُنصٍح‬
‫حكيم‪ ،‬خصوصًا حياَل المشكالت التي كنت أتجّنب بحثها مع والدي‪ .‬بعد مغادرتي الزرقاء بقيت في‬
‫سالح المدرعات وتعّلمت قيادَة المروحيات الهجومية‪.‬‬

‫***‬
‫في أواخر ثمانينيات القرن الماضي تلقيت دعوًة من الجنرال نورمان شوارزكوف‪ ،‬الذي كان قد‬
‫ُعّين حديثًا قائدًا أعلى للقيادة المركزية األميركية‪ ،‬لقضاء أسبوع ضمن برنامج تدريبي مع القوات‬
‫األميركية في الخليج العربي‪ .‬كانت الحرب اإليرانية ‪ -‬العراقية تقترب من نهايتها‪ ،‬لكن ناقالت النفط‬
‫العابرة في مضيق هرمز‪ ،‬ذي األهمية االستراتيجية الكبرى‪ ،‬كانت تتعرض بين الحين واآلخر‬
‫للهجوم‪ ،‬ما دفع البحرية األميركية لمّد حمايتها بحيث تشمل كل السفن المحايدة‪ .‬كان جنود القوات‬
‫الخاصة‪ ،‬على متن قارب سريع‪ ،‬يجوبون الخليج بحثًا عن السفن المعادية وذلك في عملية دعٍم‬
‫إضافية‪.‬‬
‫كان الخليج العربي في تلك الفترة منطقة خطرة‪ .‬ففي أيار‪/‬مايو من العام ‪ 1987‬أطلقت طائرة‬
‫عراقية من طراز «إف ‪ »1‬قذيفتي «إكزوسيت» على البارجة األميركية «يو أس أس ستارك»‬
‫(‪ )USS Stark‬فُقتل سبعٌة وثالثون من بحارتها وكادت السفينة تغرق برمتها‪ ،‬ويومها قال‬
‫العراقيون إن الهجوم كان حادثًا غير مقصود‪ .‬في نيسان‪/‬إبريل من العام ‪ 1988‬أصيبت البارجة «يو‬
‫أس أس صامويل ب‪ .‬روبرتس» (‪ )USS Samuel B. Roberts‬بأضرار كبيرة عندما اصطدمت‬
‫بلغٍم إيراني‪ ،‬وفي رٍد أميركي على الحادث خسر األميركيون طائرة مروحية وقتل طاقمها المؤلف‬
‫من الطيار ومساعده‪ .‬ثم في الثالث من تموز‪/‬يوليو من العام ‪ 1988‬أخطأ الطراد األميركي «يو أس‬
‫أس فينسنس» (‪ )USS Vincennes‬فظّن إحدى الطائرات المدنية اإليرانية طائرًة عسكرية‬
‫مهاِج مة‪ ،‬وكانت الكارثة أن أطِلقت النار على الطائرة فسقطت وقضى في الحادث ركاُبها جميعًا‬
‫الذين بلغ عددهم ‪ 290‬راكبًا‪.‬‬
‫حين وصلُت إلى الخليج كان التوتر في أوجه‪ ،‬وكانت الممرات المائية الضيقة تعّج بالسفن من كل‬
‫حدٍب وصوب‪ ،‬األميركية واإليرانية والعراقية واألطلسية وحتى السوفياتية‪ .‬كانت السيطرة على‬
‫الخليج‪ ،‬على مدى العقود السابقة لتلك الفترة‪ ،‬من المسائل االستراتيجية األساسية في منطقة الشرق‬
‫األوسط‪ .‬كان قد تسّنى لي‪ ،‬خالل إقامتي في جورجتاون‪ ،‬أن أخوض في هذه المسائل ولكن بتعابير‬
‫مجّر دة من خالل مناقشة سياسات الشرق األوسط واعتبار المنطقة‪ ،‬بحسب تحليلنا آنذاك‪ ،‬أشبَه‬
‫برقعِة الشطرنج‪ .‬لكن قطع الشطرنج في هذه الحالة كانت تملك صواريَخ أرض‪-‬جّو وبإمكانها أن‬
‫ترد على إطالق النار بمثله‪ .‬في هذا الجو العابق بالسياسة والحرب معًا كنت أشاهد المسائل السياسية‬
‫الكبرى تتحرك وتتفاعل أمام عينّي ‪ ،‬ما أتاح لي أن أدرك من جهٍة أولى‪ ،‬وبمفهوٍم عملٍّي واقعّي ‪ ،‬ما‬
‫معنى منع اإليرانيين من إغالق الخليج ووقف المالحة فيه‪ ،‬ومن جهٍة ثانية كيف يمكن أن يتفاعَل‬
‫َح َدٌث صغير ويتسبَب بتصعيٍد سريع‪ .‬ال شك في أن للمهنة المدنية حسناِتها ونقاَط قوتها‪ ،‬لكن هناك‬
‫أشياء ال يتعلمها المرء وال يكتشفها إال من خالل الخدمة العسكرية‪ .‬لو أنني كنُت محاميًا في عمان‬
‫لكانت نظرتي إلى هذا النزاع نظرًة مختلفة جّدًا عما هي اآلن‪.‬‬
‫لكن ها أنذا ضابٌط في الجيش يشاهد الطائرات المروحية تقوم بطلعاٍت هدُفها حماية السفن‬
‫المحايدة‪ .‬هذه المشاهدة الحية لما يجري أكسبتني فهمًا شخصيًا لماهية الصراع بين القوى اإلقليمية‪،‬‬
‫وهذا الفهم سوف َتثبُت قيمُته وجدواه عبر السنوات اآلتية‪.‬‬
‫قضيت ثالثة أيام على متن البارجة «يو أس أس إلرود» (‪ ،)USS Elrod‬وعلى الرغم من أنني‬
‫كنت موضَع عناية خاصة‪ ،‬حاضرًا معظم الوقت في مقر قائد السفينة‪ ،‬فإن ذلك لم يثر شهيتي‬
‫لالنضمام إلى سالح البحرية‪ .‬بعد ثالثة أيام انتقلت إلى زورٍق كبير يدعى «هيركوليز»‬
‫(‪ )Hercules‬وكان يعّج بالحركة‪ .‬كان مثيرًا لالهتمام وممتعًا أن أرى فروعًا عسكرية متعددة‬
‫ومتنوعة تعمل معًا دون تمييز أو خطوٍط فاصلة‪ ،‬من مجموعات قوات «دلتا» األميركية (‪US‬‬
‫‪ )Delta Force‬إلى القوات الخاصة البحرية «نايفي سيلز» (‪ ،)Navy Seals‬مرورًا بالجنود‬
‫والبحارة العاديين ورجال سالح الطيران‪ .‬ساعَدني هذا االختبار‪ ،‬عندما أردُت في مرحلٍة الحقة أن‬
‫أنشئ «قيادة العمليات الخاصة» عندنا في األردن‪ ،‬فكان عونًا لي في تنفيذ ما دار في ذهني‬
‫وتطويره‪.‬‬
‫بعد هذه الخبرة بوقٍت قصير عدت في كانون الثاني‪/‬يناير من العام ‪ ،1990‬وبعد أكثر من سنة‬
‫على ترفيعي إلى رتبة رائد في شباط‪/‬فبراير من العام ‪ ،1989‬إلى بريطانيا لتحصيل المزيد من‬
‫التدريب والعلوم العسكرية‪ .‬أمضيت ما يقارب السنة في كلية األركان التي كانت قريبة من‬
‫ساندهرست‪ ،‬وفيما كنت أعبر البوابات الفخمة للكلية عادت بي الذاكرة إلى أيامي تلميذًا مرّشحًا‬
‫وتذّكرت الرقيب أول الذي تنبأ بأن أحدًا منا لن يتسّنى له أن يرى هذه الكلية من الداخل‪ .‬لقد أّدت‬
‫مالحظُته الساخرة مهمتها ودفعت بي إلى هنا‪.‬‬
‫في إطار تقديمنا إلى علوم السياسة الدولية َبرمَج المسؤولون لنا رحلًة إلى برلين الشرقية‪ ،‬ولكّن‬
‫الرحلة ألغيت في اللحظة األخيرة بسبب التغييرات الدراماتيكية التي كانت تشهدها ألمانيا آنذاك‪ .‬في‬
‫تشرين الثاني‪/‬نوفمبر الذي سبق كنا‪ ،‬أنا ورفاقي الطالب‪ ،‬قد شاهدنا بدهشٍة مذهلة سقوط جدار برلين‬
‫وكيف َج رفت األحداث العالَم القديم الذي كنا قد عرفناه من قبل‪ .‬كانت المواجهة بين الغرب واالتحاد‬
‫السوفياتي قد قّسمت الكرة األرضية إلى كتلتين كبريين متنافستين‪ ،‬وها هي الثوابُت القديمة تتبّدل في‬
‫ما يشبه لمَح البصر وتحُّل محَّلها تحالفاٌت جديدة ومتغّيرة‪.‬‬
‫بعض بلدان الشرق األوسط‪ ،‬التي كانت تعتمد على دعم االتحاد السوفياتي وتتأثر بسياسته‪ ،‬كانت‬
‫بطيئة في تعديل سياساتها بحيث تتكيف مع العالم الجديد الذي بات ُيقَتَص ر على قوٍة عظمى وحيدة‪.‬‬
‫أخَذ االنتهازيون والنّه اشون ُيجرون حساباٍت حوَل الحرب والسلم غير تلك التي كانوا ُيجرونها‬
‫عندما كانت المنطقة منقسمًة إلى قطبين‪ ،‬سوفياتي وغربي‪ ،‬ويوم كانت أية شرارة مهما َض ؤلت‬
‫يمكن أن ُتشعل حربًا شاملة‪ .‬لكن ما لم َيعلْم ه أحٌد منا في كلية األركان هو متى سيكون علينا أن‬
‫نواجَه األخطار التي سيأتينا بها العالم الجديد‪.‬‬
‫الفصل الثامن‪ :‬ليتكم تفقهون‪ :‬ال أمل لكم بالنصر‬

‫إثر عودتي من دورة األركان في كلية األركان الملكية البريطانية في تشرين األول‪/‬أكتوبر من‬
‫العام ‪ ،1990‬عدت إلى قواعدي في الجيش األردني وأصبحت ممثًال لسالح الدروع في مكتب‬
‫المفتش العام‪ .‬كانت مهمتي في هذا الموقع التأكد من أننا نطبق المعايير العامة والمحددة في مجالي‬
‫التدريب والتجهيزات وذلك عبر كل القطاعات العسكرية األردنية‪ .‬من المتوقع عادًة‪ ،‬بعد إتمام دورة‬
‫األركان‪ ،‬أن يخدم الضابط في مركٍز لألركان طوال فترة سنة على األقل‪ ،‬ولذلك فقد ُعِّينت في‬
‫عمان‪.‬‬
‫قبلئٍذ بشهرين كنت في األردن حين غزا العراق الكويت جاعًال األوضاَع في البلدان المجاورة‬
‫للعراق في غاية السوء‪ .‬نحن في األردن لدينا حدود طويلة مع العراق من الجهة الشرقية‪ ،‬وكان من‬
‫الطبيعّي أن نتساءل هل كان صدام حسين سيكتفي بالكويت‪ .‬كانت الصدمة كبيرة على والدي جّر اء‬
‫ما قام به صدام وقد شعر بأن تداعيات هذا العمل ُتنبئ بشٍّر مستطير‪ .‬ومع أن الغزو بحد ذاته كان‬
‫عمًال كارثيًا‪ ،‬فقد شعر والدي بأنه يمثل أيضًا بدايًة لما هو أسوأ‪ .‬كنت مع والدي في مكاتب الديوان‬
‫الملكي في اليوم التالي للغزو‪ ،‬وكنا نستمع إلى التقارير األولى عنه‪.‬‬
‫في خريف ذلك العام قفز صدام حسين إلى مرتبة العدو األول في الواليات المتحدة‪ ،‬مع أنه لم يكن‬
‫دائمًا الفتى الشرير في نظر األميركيين الذين كانوا قبلئٍذ ببضع سنوات يرون فيه حليفًا ضد إيران‪.‬‬
‫أما والدي فمع أنه لم يكن على صداقٍة مع صدام‪ ،‬فقد طور معه عالقة وثيقة في ثمانينيات القرن‬
‫الماضي خالل الحرب اإليرانية ‪ -‬العراقية عندما كان األردن نقطة العبور ألسلحة الغرب‬
‫واستخباراته إلى بغداد‪.‬‬
‫بعدما حَم لته الثورة اإليرانية إلى قمة السلطة في العام ‪ ،1979‬راح آية هللا الخميني يدعو إلى قلب‬
‫الحكومات في المنطقة واستبدالها بجمهوريات إسالمية‪ .‬من هنا كان خوف صدام حسين من هذا‬
‫التهديد الراديكالي اإليراني للنظام اإلقليمي واعتقاُده بأن اإليرانيين كانوا ُيعّدون العّدة لمهاجمة‬
‫العراق‪ .‬في العام ‪ ،1980‬ولم يكن قد مضى عليه أكثر من سنة رئيسًا للعراق‪ ،‬شّن صدام هجومًا‬
‫وقائيًا على إيران‪ .‬لكّن الجمهورية اإلسالمية الفتية رّدت على الهجوم ردًا شرسًا‪ ،‬وغرَق البلدان في‬
‫حرب دموية مريرة امتدت على مدى ثمانية أعوام‪.‬‬
‫مهما تكن األسباب والذرائع وراء الحرب فإن الواليات المتحدة األميركية‪ ،‬تحت وطأة القلق من‬
‫تهديد إيران استقراَر المنطقة‪ ،‬وغضبها نتيجة احتالل سفارتها في طهران وأخذ العاملين فيها رهائن‬
‫في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر من العام ‪ ،1979‬اتخذت موقفًا داعمًا لصدام في تلك الحرب‪ .‬وهكذا فإن‬
‫العراق‪ ،‬الذي كان في األصل حائزًا دعم االتحاد السوفياتي‪ ،‬بات اآلن مدعومًا في حربه على إيران‬
‫من القوتين العظميين كلتيهما‪ .‬كانت الواليات المتحدة تزّو د العراق سرًا بصوٍر عن تحركات القوات‬
‫اإليرانية وهذا ما ساعد العمليات العسكرية العراقية وضمَن للعراقيين نجاَح هجومهم الحاسم في‬
‫العام ‪ .1988‬بحلول تموز‪/‬يوليو من العام ‪ 1988‬كانت إيران قد قبلت وقفًا إلطالق النار‪.‬‬
‫رأى والدي أن من المستحسن تقديم بعض أفراد العائلة من الشباب إلى عالم الدبلوماسية الدولية‪،‬‬
‫وفي صباح أحد األيام في أواسط ثمانينيات القرن الماضي أعلن‪ ،‬ونحن نتناول طعام اإلفطار‪ ،‬أنه‬
‫ينوي زيارة العراق ويريد أن يرافقه بعض أفراد العائلة‪ .‬في اليوم التالي التقينا في قصر الندوة‪ ،‬وهو‬
‫بناٌء ذو طبقتين في مجّم ع البالط الملكي‪ ،‬وكنا أنا وشقيقي فيصل وابنا عمي طالل وغازي‪ ،‬وتوجهنا‬
‫إلى بغداد على متن طائرة والدي‪.‬‬
‫حطت طائرتنا عند الَغَسق في مطار بغداد حيث كان في استقبالنا صدام حسين ونجاله ُعَدّي‬
‫وُقَص ّي ‪ .‬وبما أن المسائَل األمنيَة كانت دائمًا من هواجس صدام‪ ،‬فقد جاء بعدة مواكب للتمويه‪ ،‬اتخذ‬
‫كٌل منها وجهًة معينة بينما توجهنا نحن إلى قصر الرضوانية الذي لم يكن بعيدًا من المطار‪ .‬المنزل‬
‫الذي كان يسكنه والدي‪ ،‬والذي يحتوي على عشر غرف تقريبًا‪ ،‬كان من دون أدنى شك شديد‬
‫التواضع بالمقارنة‪ .‬أما الرضوانية فكان مبنيًا على المقاييس الكبرى‪ ،‬حجمًا وفخامًة‪ ،‬وكان يضّم‬
‫مئات الغرف برخامها المزخرف‪ ،‬والحنفيات المذّهبة في كل واحد من حمامات القصر‪،‬‬
‫والمفروشات المقّلدة من طراز لويس الرابع عشر‪ .‬كل هذه األَّبهة المظهرية لم تكن في حقيقة األمر‬
‫ما يتوقعه المرء من قائد بلٍد ينام على تراٍث من األمجاد التاريخية والعز‪ ،‬وقد ترك لنا عجائَب بابل‬
‫القديمة وكان في حقبٍة من حقب التاريخ المشّعة مركَز الخالفة اإلسالمية‪.‬‬
‫بعد تبادل المجامالت االجتماعية العادية‪ ،‬أعلن والدي أننا سنمضي ليلتنا في بغداد‪ ،‬وكان القرار‬
‫ابَن ساعته وبمثابة التفاتة تضامن مع العراق الذي كان غارقًا في حرٍب دموية طويلة‪ .‬في هذه الحالة‬
‫‪ -‬كما أعلن صدام ‪ -‬يزور الشباب غدًا الحّبانية وهي بحيرة كبيرة في محافظة األنبار إلى الغرب من‬
‫بغداد حيث يتصيدون األسماك ويسبحون‪ .‬صدام كان عنيفًا دون رحمة‪ ،‬لكنه في الوقت نفسه كان‬
‫شخصيًة ذات كاريزما الفتة‪ ،‬وكان يعكس نوعًا غريبًا من الطاقة الشخصية‪ .‬جمَع في شخصه‬
‫انفعاالت الرجل القبلّي التقليدي من جهة‪ ،‬ونفحة الذكاء والمعرفة بشؤون الحياة من جهة ثانية‪.‬‬
‫شخصية جديرة بالمراقبة والفهم‪.‬‬
‫صباح اليوم التالي التقينا جميعًا على الموعد في بهو القصر‪ ،‬وقلت لقصّي ‪« :‬كّلنا رغبة في رحلة‬
‫الصيد هذه‪ ،‬لكننا لم نأِت بمالبس السباحة»‪ ،‬فأجابني قصّي ‪« :‬اطمئن‪ ،‬سنزّو دكم بكل ما تحتاجون‬
‫إليه»‪ .‬ركبنا الطائرة من بغداد إلى الحبانية‪ ،‬وذهبنا مباشرًة إلى قصٍر قريب من البحيرة كي نغّير‬
‫مالبسنا‪ .‬في غرفة المالبس وجدنا‪ ،‬أنا وطالل وغازي‪ ،‬أن قمصانًا صبيانيًة زاهيَة األلوان قد‬
‫ُأحضرت لنا فارتديناها‪ .‬صحيح أن العراق واألردن يتكلمان اللغة ذاَتها‪ ،‬لكننا دون ريب لم نكن‬
‫نشارك قصّي وعدّي ذوقهما في المالبس‪ .‬لكن نحن ضيوف وال خيار لنا‪ ،‬أما عندما خرجنا‬
‫بقمصاننا الجديدة الزاهية فقد انفجر أحد أفراد الحرس ضاحكًا عندما شاهدنا‪.‬‬
‫ركبنا نحن الستة زورقًا صغيرًا من النوع الذي يجّر وراءه المتزلجين على الماء واتجهنا نحو‬
‫وسط البحيرة‪ ،‬عندئذ سأل فيصل أين قصب الصيد والصنانير؟ ابتسَم عدّي وسحَب من قعر الزورق‬
‫كيسًا من البالستيك مليئًا بالديناميت‪ .‬تناول إصبعًا من الكيس وهو يمّج سيجاَر ه الكوبّي ثم أخذ‬
‫السكين وبدأ يجرم الفتيل‪ ،‬وكانت الفكرة أن الفتيل عندما يحترق ُيصدر صوتًا أشبه باألزيز وبذلك‬
‫يتيح لك أن تعرف مدى اقترابه من نقطة االنفجار‪ .‬رفع عدي إصبع الديناميت‪ ،‬مبتسمًا ابتسامًة‬
‫عريضة‪ ،‬وأشعل الفتيل من طرف السيجار‪ .‬بدأ الفتيل يرسل شررًا ثم توقف عن ذلك‪ ،‬فتمتَم عدّي ‪:‬‬
‫«ال نفَع منه»‪ ،‬ثم رمى إصبع الديناميت إلى أرض الزورق وتناول إصبعًا أخرى‪.‬‬
‫في هذه األثناء كان فيصل وغازي يتحدثان دون أن يبدو عليهما أّي قلق‪ .‬لكن أنا وطالل كنا قد‬
‫خبرنا المتفجرات كجزء من تدريباتنا العسكرية‪ ،‬وكنا ندرك تمامًا أن ما نشهده كان الخطر بعينه‪ .‬ما‬
‫من جندّي محترف إال يعرف أن الفتيل الذي يبدو‪ ،‬ظاهرًا‪ ،‬أنه انطفأ رّبما ال يزال يحترق‪ .‬دفع بنا‬
‫الخوف رجوعًا إلى مؤخر الزورق وقد ابيّض وجهانا رعبًا ورحنا ندعو هللا أن ال ينفجر الفتيل الذي‬
‫«ال نفع منه»‪.‬‬
‫اإلصبع الثانية من الديناميت كانت أيضًا «ال نفع منها»‪ ،‬إلى أن صّح ت الثالثة وقذَف بها عدّي إلى‬
‫البحيرة‪ .‬ما هي إال ثانية أو اثنتان حتى انطلق انفجار هائل عّكر ذلك المشهد الطبيعّي الهادئ‬
‫والجميل‪« .‬حسنًا‪ ،‬فلنأِت بها»‪ ،‬قال قصّي ‪ ،‬مقترحًا أن نغطس ونجمع األسماك الميتة العائمة على‬
‫سطح الماء‪.‬‬
‫وضع طالل يده على ذراعي وقال هامسًا‪« :‬فلندعهما يغطسان في الماء قبلنا‪ ،‬فنحن من عائلة لم‬
‫يكن الحظ حليفها دائمًا في العراق»‪ .‬كان الملك فيصل الثاني‪ ،‬ملك العراق‪ ،‬ابَن عم والدي‪ ،‬وقد‬
‫ارتادا معًا المدرسة في هارو في بريطانيا‪ ،‬وكانا قريبين جّدًا الواحد من اآلخر‪ .‬في العام ‪ُ 1958‬خ لع‬
‫الملك فيصل عن عرش العراق في انقالب عسكري وأعدم بوحشية مع الوصي على العرش‪ ،‬خاله‬
‫األمير عبد اإلله‪ ،‬كما أعدم معهما كل أفراد العائلة الهاشمية الذين كانوا في العراق آنذاك‪ .‬وعندما‬
‫رمى االنقالبيون جثة ولي العهد من النافذة تلّقفها الحشد الهائج وراح يسحلها في شوارع بغداد‪.‬‬
‫سادت الفوضى وتزعزَع استقرار العراق بنتيجة االنقالب ما أتاح المجال لبروز حزب البعث‪ ،‬وفي‬
‫النهاية وصول صدام حسين إلى السلطة في العام ‪.1979‬‬
‫وأخيرًا قفز قصي إلى الماء وأخذ يلتقط األسماك ويرمي بها إلى الزورق‪ .‬عند عودتنا من رحلة‬
‫«صيد السمك»‪ ،‬كان والدي ينتظرنا في القصر‪ ،‬جاهزًا للعودة إلى عمان‪.‬‬
‫بعد تلك الزيارة إلى بغداد كان عدّي وقصّي يطلبان مني بين الحين واآلخر‪ ،‬عن طريق السفير‬
‫العراقي‪ ،‬أن أرسل إليهما أحدَث ما أنتجته مصانع السالح من البنادق أو الرشاشات‪ ،‬وذلك باعتبار‬
‫أنني قادر كضابط في الجيش األردني على الحصول على السالح الحديث‪ .‬عادًة كنت ألّبي الطلب‪،‬‬
‫أوًال ألن تبادل األسلحة في التقاليد العربية هو من العادات المألوفة‪ ،‬لكن أيضًا ألنه لم يكن من السهل‬
‫علّي أن أرفض طلبًا جاءني من ابن قائٍد عربٍي آخر‪ .‬في إحدى المرات ُطِلَب إلَّي إرسال مسدس مع‬
‫كاتٍم للصوت موصول به‪ .‬رفضُت الطلب بتهذيب‪ ،‬ذلك أنني في تلك المرحلة كنت قد سمعت‬
‫شائعاٍت عن أن عدّي وقصّي يجّر بان مجموعة مسدساتهما في أقبية القصر على عراقيين رمى بهم‬
‫حُّظهم البائس بين أيدي هذين الرجلين‪ .‬في المرة األخيرة التي التقيت فيها عّدي كان قد خرج لتوه‬
‫من السجن الذي ُأدِخ ل إليه بعد أن قتل أحد خدم والده‪ .‬أما المرة التالية التي التقيت فيها قصّي فكانت‬
‫في بغداد في كانون الثاني‪/‬يناير من العام ‪ ،1991‬أي ُقبيل حرب الخليج األولى‪.‬‬
‫في الثاني من آب‪/‬أغسطس من العام ‪ ،1990‬وبعد أسابيع من التوتر المتزايد‪ ،‬غزا صدام حسين‬
‫بجيشه الكويت واجتاحت القوات العراقية مدينة الكويت العاصمة مشعلًة النيران في البيوت‪ ،‬ناهبًة‬
‫البضائع والسلع‪ ،‬ومهاجمًة المدنيين اآلمنين‪ .‬الشقيق الصغير ألمير الكويت‪ ،‬الشيخ فهد األحمد‬
‫الجابر الصباح‪ ،‬قاَتَل ببسالٍة عّز نظيرها دفاعًا عن بلده وأهله قبل أن ُيقتل برصاص الجنود‬
‫العراقيين وترمى جثُته لتمَّر عليها دبابة عراقية‪ .‬علق في الحرب حوالى أربعة آالف مواطن من‬
‫دوٍل غربية‪ ،‬وكان بين هؤالء ألف وثالثمئة مواطن بريطاني وتسعمئة أميركي‪ ،‬وقد اسُتعمل بعض‬
‫البريطانيين واألميركيين «دروعًا بشرية» حجزتهم القوات العراقية في مواقع عسكرية استراتيجية‬
‫منتشرة في كل أرجاء البالد تخوفًا من هجوم معاكس‪ .‬بعد مضّي ستة عشر يومًا على تبني مجلس‬
‫األمن الدولي القرار الرقم ‪ 660‬الذي طالب العراق باالنسحاب من الكويت‪ ،‬أقر المجلس القرار‬
‫الرقم ‪ 664‬في ‪ 18‬آب‪/‬أغسطس الذي دعا العراق إلى اإلفراج عن كل مواطن ينتمي إلى دولة ثالثة‪،‬‬
‫أي غير الدولتين المعنيتين‪ ،‬والسماح لهؤالء بمغادرة الكويت‪ .‬وفي ظل تسارع األحداث بدا واضحًا‬
‫أن الواليات المتحدة األميركية كانت تعّد ردًا عسكريًا إذا ما رفض الجيش العراقي التراجع‬
‫واالنسحاب‪.‬‬
‫أكثر من مليون شخص تدفقوا عبر حدودنا الشرقية هربًا من جحيم النزاع‪ ،‬وهذا دفٌق بشرّي أكبر‬
‫بكثير مما يتحمله بلٌد صغير كاألردن وكان يوازي آنذاك ربع سكان البالد تقريبًا‪ .‬بعض الهاربين‬
‫كانوا ينصبون خيامهم في وسط العاصمة عمان‪ ،‬وقد تصّر ف األردنيون بما يدعوهم إليه ُح سن‬
‫الضيافة والواجُب اإلنساني فخرجوا إلى الشوارع حاملين األطعمة واأللبسة‪ ،‬حتى إن بعضهم‬
‫استضاف في منزله من كان باإلمكان استضافُته‪.‬‬
‫عّبر والدي عن معارضته الحاسمة للغزو العراقي ولضّم العراق الكويت إلى أراضيه‪ ،‬كما كرر‬
‫اعتراف األردن بحكومة األمير‪ ،‬لكنه مع ذلك اعتبر المشكلة شأنًا عربيًا وبالتالي يجب أن تعالج عن‬
‫طريق الدول العربية‪ .‬لم يكَّف طوال فترة األزمة عن بذل ُقصارى جهده بحثًا عن حل دبلوماسّي‬
‫ينتهي إلى خروج العراق من الكويت وإنهاء احتالله‪ .‬وفي آب‪/‬أغسطس من العام ‪ 1991‬أصدرت‬
‫الحكومة األردنية ورقة بيضاء أبرَز ت بوضوح تلك الجهود تحديدًا لموقف األردن الذي أساء‬
‫البعض آنذاك فهمه‪.‬‬
‫بتنسيٍق وثيق مع الملك فهد‪ ،‬ملك المملكة العربية السعودية‪ ،‬والرئيس المصري حسني مبارك‪،‬‬
‫طار والدي إلى بغداد في الثالث من آب‪/‬أغسطس للقاء صدام حسين‪ ،‬وبعد نقاٍش حاٍم استطاع إقناع‬
‫صدام بحضور قمة عربية مصَّغرة في جدة في الخامس من آب‪/‬أغسطس لحّل األزمة ضمن إطار‬
‫التعاون العربي‪ .‬وافق صدام على سحب قواته من الكويت شرط أال تديَن الجامعُة العربية العراق‪،‬‬
‫حتى إنه أعلن بالفعل أن العراق سيبدأ بسحب قواته من الكويت في الخامس من آب‪/‬أغسطس‪ .‬رأى‬
‫والدي أنه كان قاَب قوسين أو أدنى من النجاح في الوصول إلى حٍل عربّي لألزمة خالل ثماٍن‬
‫وأربعين ساعة‪ ،‬وهي المدة التي كان قد اتفق عليها مع الملك فهد والرئيس مبارك‪ .‬لكن الجامعة‬
‫العربية رفضت عرضه‪ ،‬وفي الليلة ذاِتها أصدرت جامعة الدول العربية قرارًا أدانت فيه العدوان‬
‫العراقي داعيًة إلى انسحاب العراق غير المشروط من الكويت‪ .‬وهنا انهارت كل المحاوالت التي قام‬
‫بها والدي لإلتيان بحٍل دبلوماسي‪.‬‬
‫في الوقت الذي كان فيه العرب يتفاوضون بحثًا عن حل‪ ،‬كان الكالم األميركي يزداد عدائيًة‪ ،‬وقد‬
‫بلغ القلق لدى والدي مبلَغه حيال خطورة تدويل األزمة وعبثية سقوط مزيد من الضحايا والدمار في‬
‫حرب جديدة ال طائل فيها‪ .‬كان شديد القلق من وطأة زعزعة االستقرار التي سيتركها غزو أميركا‬
‫وحلفائها بلدًا عربيًا كبيرًا‪ ،‬وكان أشَّد قلقا أيضًا من إمكانية إقامة قواعد عسكرية غربية في شبه‬
‫الجزيرة العربية والخليج‪ .‬لقد رأى مسبقًا‪ ،‬في ما يشبه التنبؤ‪ ،‬أن تداعياٍت كهذه سوف تحرك سلسلًة‬
‫من األحداث ال يمكن وقُفها‪ ،‬وسوف تؤدي إلى أعماٍل ثأرية تقوم بها جماعات راديكالية‪ ،‬وكذلك إلى‬
‫مزيٍد من الحروب ُتبَتلى بها منطقُتنا‪.‬‬
‫بعد لقائه صدام حسين ببضعة أيام سافر والدي إلى الواليات المتحدة للقاء الرئيس جورج بوش‬
‫(األب) في منزله الريفّي في «كينيبانك بورت» (‪ )Kennebunkport‬في والية «ماين»‬
‫(‪ ،)Maine‬وكان والدي على يقين من أن الحائط ليس مسدودًا وأن الحّل من دون اللجوء إلى‬
‫الحرب ليس مستحيًال‪« .‬يمكننا إخراج العراق من الكويت دون عنف» قال والدي‪ .‬حاول شرح ما‬
‫تنطوي عليه حرب جديدة في الشرق األوسط من مخاطر‪ ،‬وأوضح بالتفصيل‪ ،‬وبتعابيَر واضحٍة ال‬
‫لبَس فيها‪ ،‬مدى الدمار والبؤس اللذين ستحملهما حرٌب كهذه إلى المنطقة‪ .‬لكن الرئيس بوش لم يشأ‬
‫اإلصغاء إلى هذا الكالم‪ .‬وبتعابير أقرب ما تكون إلى اليأس قال والدي‪« :‬ذهبت إلى كينيبانك بورت‬
‫كصديق‪ ،‬وقلت للرئيس إن لدّي التزامًا من صدام بأن ينسحَب من الكويت!» لكّن الرئيس بوش كان‬
‫قد اتخذ قراره‪.‬‬
‫أما أنا فكنت معارضًا بشراسة الغزو العراقي للكويت لكن‪ ،‬على غرار موقف والدي‪ ،‬لم أكن أدعم‬
‫حربًا انتقاميًة ثأرية تشّنها الواليات المتحدة األميركية‪ .‬لقد ُدفع والدي إلى موقٍع صعٍب جّدًا ال يحسد‬
‫عليه ما جعَله يدفع ثمنًا باهظًا لقاء محاولته ترتيَب انسحاٍب عراقّي سلمّي من الكويت‪ .‬لقد شعر بأن‬
‫جهود الوساطة التي بذلها قد أساء الغرب فهمها عمدًا حتى إنه اُّتهَم باالصطفاف إلى جانب صدام‬
‫حسين‪ .‬كان يرى أن رئيسَة وزراء بريطانيا مارغريت ثاتشر والرئيس األميركي بوش اتخذا موقفًا‬
‫يّتسم بالتطرف كما لو كانت األمور إما أسود أو أبيض وال حَّل وسطًا‪ .‬معظم أصدقائه وقفوا ضّده‬
‫بمن فيهم كثيرون في الشرق األوسط‪ ،‬لكّن شخصًا واحدًا بقي إلى جانبه داعمًا هو األمير تشارلز‬
‫ولّي العهد البريطاني الذي اتخذ موقفًا مختلفًا عن كل اآلخرين مدركًا‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬أن ما بذَله‬
‫والدي من الجهد للحّد من اإلسراع نحو الحرب لم يكن دليًال على أنه كان يدعم صدام حسين‪.‬‬
‫في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر أصدر مجلس األمن الدولي القرار الرقم ‪ 678‬الذي طالب العراق‬
‫باالنسحاب غير المشروط من الكويت بحلول الخامس عشر من كانون الثاني‪/‬يناير ‪ .1991‬في‬
‫كانون األول‪/‬ديسمبر طلب مني والدي مرافقَته للقيام بمهمٍة في بغداد‪ ،‬وكانت تلك زيارَته الثالثة‬
‫واألخيرة خالل فترة األزمة‪ .‬كان قد رّتب الزيارة بحيث يرافقه فيها ياسر عرفات وعلي سالم البيض‬
‫نائب الرئيس اليمني‪ ،‬وذلك في محاولٍة للتفاوض على إطالق سراح األسرى الغربيين‪ .‬قطعنا‬
‫المسافة البالغة خمسمئة ميل بين عمان وبغداد في طائرة والدي في أقل من ساعتين‪ ،‬أي في أقل مما‬
‫تستغرقه الرحلة بين واشنطن وبوسطن‪ .‬صحيح أن بغداد قريبة جغرافيًا‪ ،‬لكنها من الناحية الفلسفية‬
‫عالٌم آخر‪ .‬فيما كان والدي يتحدث إلى صدام حسين في بهو القصر الجمهوري‪ ،‬كنت أنا منتظرًا مع‬
‫ُقَص ّي وصهره حسين كامل اللذين كانا يدّخ نان ويبدو عليهما االرتياح والمرح‪ .‬في تلك الفترة كنت قد‬
‫أصبحت رائدًا في الجيش‪ .‬قلت لقصّي وحسين كامل إنني أنهيت للتو دورًة في كلية األركان في‬
‫بريطانيا وبات لدّي فهٌم ال بأس به للطريقة التي تعمل بها جيوُش حلف شمالي األطلسي‪ ،‬خصوصًا‬
‫على صعيد القوة الجوية‪ ،‬وأضفت أنني ال أظن أن لدى العراقيين القدرَة على وقف قوات التحالف‬
‫وصّدها‪ ،‬وسألتهما كيف يمكن أن ينجو العراق من هجوٍم على عدِة مراحَل متواصلة وأكثر من‬
‫جبهة‪ .‬في تلك المرحلة من األزمة كان واضحًا أن معظم القادة العرب سوف يشاركون في التحالف‬
‫الدولي الذي كانت الواليات المتحدة وبريطانيا تبنيانه لمهاجمة العراق‪.‬‬
‫كانت القيادة العراقية معزولًة عن العالم الخارجي‪ ،‬وكما هي الحال غالبًا في األنظمة الدكتاتورية‪،‬‬
‫ال أحَد لديه االستعداد أو الجرأة ليقوَل للقائد إن أفكاَر ه وآراَء ه على خطأ‪ .‬ويبدو أن نجَلْي صدام كان‬
‫لديهما تصوٌر خيالٌّي ال يمت إلى الواقع بصلة عن قوة العراق العسكرية‪.‬‬
‫«يمكننا تتبع قاذفات قنابل ستيلث ومالحقتها» قال قصّي بلهجِة َم ن أنجز االنتصار وانتهى‪،‬‬
‫وأضاف «معنوياُتنا في ُذراها‪ ،‬ونحن متلهفون للحرب»‪ .‬وراح الرجالن يخبران عن أنواع المدفعية‬
‫الجديدة التي طّو رها العراق‪ ،‬وعن أنظمة الرادار السرية والقنابل من وزن عشرين ألف باوند‪ ،‬لكَّن‬
‫شيئًا من كل ذلك الكالم لم يحمل في جوهره أي معنى على اإلطالق‪.‬‬
‫«اسمعاني جيدًا»‪ ،‬قلت لهما‪« :‬إن ما تعّلمُته في بريطانيا ُينبُئ بأن ال أمَل لكم في النجاح»‪ .‬لم ُيبِد‬
‫أٌّي منهما رّد فعل‪ ،‬وكان باديًا عليهما مدى الشعور باالعتزاز الوطني والقومي‪ ،‬لكن كان واضحًا‬
‫تمامًا أن إمكانات الخصم وقدراته القتالية كانت في تقديرهما أقّل بكثير مما هي بالفعل‪ .‬إنه ذلك النوع‬
‫من االعتداد بالنفس الذي يمكن أن يودي إلى التهلكة بعشرات اآلالف من الضحايا‪.‬‬
‫ما إن انتهى حديثي معهما حتى خرج والدي من قاعة المؤتمر منفرَج األسارير‪ ،‬ثّم عدنا إلى‬
‫عمان‪ .‬في اليوم التالي‪ ،‬السادس من كانون األول‪/‬ديسمبر‪ ،‬أعلن صدام أنه سوف ُيفرج عن الرهائن‪،‬‬
‫لكن مع ذلك لم تتوقف االستعدادات للحرب‪.‬‬
‫كان قد بات نوعًا من التقليد السنوي لدّي أن ألتقي‪ ،‬مع اقتراب رأس السنة الجديدة‪ ،‬بعَض‬
‫األصدقاء من الواليات المتحدة وبلداٍن أخرى‪ ،‬لكن في تلك السنة‪ ،‬ووسط كل تلك االستعدادات‬
‫لحرٍب بدا أنها باتت وشيكَة االندالع على حدودنا‪ ،‬لم أكن متأكدًا من أن أحدًا من أصدقائي في‬
‫الخارج سيرغب في المجيء إلى األردن‪.‬‬
‫حاولنا في العائلة أن نحافَظ على الحّد المعقول من الهدوء واألعصاب الباردة‪ .‬لكنني كنت أرى‬
‫بوضوح أن والدي كان مرهقًا‪ .‬كان ال يكاد يضع الهاتف من يده طوال النهار‪ ،‬مع األميركيين حينًا‬
‫ومع صدام حينًا آخر ومع الكويتيين وسواهم حينًا ثالثًا‪ ،‬يحاول يائسًا إعادَة الجميع عن شفير الهاوية‬
‫الذي وصلوا إليه‪ .‬في ذلك الجّو القاتم طرَأْت لنا‪ ،‬أنا وبعض األصدقاء‪ ،‬فكرٌة بأن نحاول الترويَح عنه‬
‫قليًال والتخفيف مما ُتلقيه األحداث الجارية من ِعبٍء على كاهله‪ .‬رحنا نبحث في منزل والدي في‬
‫الحَّم ر‪ ،‬فوقعنا في أحد الصناديق على مجموعٍة من الصور َيظهر فيها والدي مع جمال عبد الناصر‬
‫ومع الجنرال البريطاني السير جون غلوب (باشا) وسواهما من الشخصيات التاريخية‪ .‬أخذ والدي‬
‫ينظر إلى الصور وأفراد العائلة يحيطون به‪ ،‬وبدأ يعطينا درسًا مرتجًال في التاريخ‪ ،‬شارحًا ما كان‬
‫يجري في األردن في الوقت الذي الُتِقطت فيه هذه الصورة أو تلك وراويًا لنا بعَض ما كان في‬
‫خزين ذاكرته من أخبار تلك الشخصيات التاريخية والنزاعات التي َشِه َدها أو التي كان له فيها دور‪.‬‬
‫ليلَة رأس السنة من ذلك العام كنت في وادي األردن مع صديقي «جيج»‪ ،‬الذي جاء زائرًا برفقة‬
‫بعض األصدقاء األميركيين اآلخرين على الرغم مما القوه من االحتجاج لدى عائالتهم‪ .‬تحدثنا عن‬
‫عائالتنا وعن أيامنا في ديرفيلد‪ ،‬لكن حديثنا بمعظمه دار حول الحرب مع العراق التي أصبحت على‬
‫األبواب‪ ،‬وما قد تجّر ه على األردن من أضرار‪ ،‬وإذا تطورت األمور بنحو سيئ فهل يصبح األردن‬
‫‪ -‬هو بالذات ‪ -‬العدّو في أعين األميركيين؟ كان السرب ‪ 229‬من الفرقة الجوية ‪ 101‬األميركية‪،‬‬
‫الذي تدّر بُت فيه على قيادة مروحيات الكوبرا‪ ،‬قد تم إعداُده وتجهيُز ه للذهاب إلى العراق‪ ،‬وكان أمرًا‬
‫مذهًال فعًال التفكير بأننا ‪ -‬أنا و«جيج» ‪ -‬قد يصبُح في وقٍت قريب كٌّل منا على طرٍف نقيٍض من‬
‫طرفي النزاع‪ .‬صحيح‪ ،‬أنا أردنّي وهو أميركي‪ ،‬لكن ما بيننا من صداقٍة كان أقوى من السياسة‬
‫وأمتن‪.‬‬
‫بحلول كانون الثاني‪/‬يناير من العام ‪ 1991‬كان التحالف الدولي بقيادة الواليات المتحدة والمملكة‬
‫المتحدة‪ ،‬وبمشاركة ثالثين دولًة أخرى‪ ،‬قد َنَشر حوالى نصف مليون جندي في المملكة العربية‬
‫السعودية ودول أخرى في الخليج العربي‪ .‬مقابَل هذا الحشد العسكري الدولي وقف جيش صدام‬
‫وقواُم ه مليون جندي‪ ،‬وكان األكبر في منطقة الشرق األوسط والرابع من حيث الحجم في العالم‪ .‬كان‬
‫العراق قد استورد أنواعًا من األسلحة من كل أصقاع العالم‪ ،‬وكان جيُشه قد اكتسَب خبرًة وصالبًة‬
‫نتيجة حربه الطويلة مع إيران‪ ،‬من هنا لم يكن أمرًا محسومًا على اإلطالق أن تكون الحرُب المقبلة‬
‫مجرَد نزهٍة بالنسبة إلى األميركيين وتحالفهم الدولي‪.‬‬
‫كان القلق يساورنا من أن يستدرجنا اإلسرائيليون أو العراقيون إلى أتون الحرب‪ ،‬فكان من‬
‫الممكن أن تحاول المقاتالت اإلسرائيلية العبور فوق األردن لمهاجمة العراق باعتبار أن صدام كان‬
‫قد ربط بين هذه التحركات التي يقوم بها وبين دعمه لفلسطين والدفاع عنها‪ ،‬وهو شعار شعبي عام‬
‫ال يزال صداه يتردد في المنطقة حتى يومنا هذا‪ .‬كذلك كان ممكنًا أن تدخل القوات العراقية‬
‫األراضي األردنية لمهاجمة إسرائيل‪ .‬ولكن والدي كان قد أنذر صدام‪« :‬إذا وِط َئ جندٌّي عراقٌّي‬
‫واحد أرَض األردن فنحن في حرب»‪ .‬ووّج ه الرسالة نفسها إلى إسرائيل‪« :‬إذا حّلقت مقاتلة‬
‫إسرائيلية واحدة فوق األراضي األردنية فمعنى ذلك أن الحرب وقعت بيننا»‪.‬‬
‫في ‪ 16‬كانون الثاني‪/‬يناير من العام ‪ ،1991‬اندلعت حرب التحالف الدولّي على العراق‪ ،‬وبما أن‬
‫البالد كانت تواجه حالَة طوارئ عامًة طلب مني والدي أن أبقى في حال الجهوزية الدائمة لنشر‬
‫الكتيبة الثانية من اللواء المدرع األربعين عند الحدود اإلسرائيلية‪ .‬قبل اندالع القتال ببضع لياٍل كنت‬
‫قد تلقيت أمرًا بإجراء تفتيش لدى إحدى الوحدات التي تتولى الحراسة عند الحدود الجنوبية لوادي‬
‫األردن‪ ،‬قرب البحر الميت‪ .‬كان الظالم من النوع الذي ال يعرفه المرء إال في الصحراء‪ ،‬وكان‬
‫شيٌء من شحوب القمر فوَق رؤوسنا يكسُر تلك العتمة الصحراوية قليًال‪ .‬بما أن الصحراء غير‬
‫مضاءة بالمصابيح الكهربائية‪ ،‬يمكننا هناك أن نشاهد عددًا من النجوم أكبر بكثير مما نشاهده في‬
‫المدينة‪ .‬ينتاُبك هناك الشعور بأنك تقف على حافة العالم وتنظر منها إلى داخله‪ .‬فجأًة أضاءت ظلمَة‬
‫الصحراء التماعٌة من الضوء فيما كان صاروٌخ عراقٌي من نوع سكود َيعبر باتجاه إسرائيل‪.‬‬
‫كان طيارونا في حالة تأهب خشية أن تتسلَل القوُة الجوية العراقية إلى األردن هربًا من قوات‬
‫التحالف المهاجمة‪ ،‬لكن تبّين أن الطائرات العراقية لجأت لهذه الغاية إلى إيران‪ ،‬أما اإلسرائيليون فقد‬
‫حجبوا نيرانهم ولم يردوا‪.‬‬
‫لم يكن جيش صدام ليصمَد بوجه قوات التحالف الدولي‪ ،‬ولم تمِض ستة أسابيع على اندالع‬
‫الحرب حتى وضعت أوزارها واستراحت‪ .‬كنت أعلم‪ ،‬في ضوء ما أعرفه عن التكتيك الذي ُتطّبقه‬
‫قوات حلف شمالي األطلسي وعن القوة النارية التي تمتلكها الواليات المتحدة وبريطانيا‪ ،‬أن نتيجة‬
‫الحرب ال يمكن أن تأتي مغايرًة لما انتهت إليه‪ ،‬لكن‪ ،‬مع ذلك فوجئت بالسرعة التي انهار فيها‬
‫الجيُش العراقي وانهزم‪.‬‬
‫لم تكن المودُة والوئام سمَة العالقة بين والدي وصدام حسين‪ ،‬فقد كان والدي مدركًا تمامًا العذابات‬
‫واآلالم التي كَّبدْتها القواُت العراقية شعَب الكويت‪ ،‬لكنه في نفس الوقت أراد أن يجّنَب شعب العراق‬
‫ما كانت الحرب ستحمله إليه من ويالٍت ودمار ال نتيجة منها ُترتجى‪ .‬لم تستطع دوٌل خليجية عديدة‬
‫أن تقبل أن والدي كان يؤّدي دورًا وسيطًا سعيًا في تجّنب الحرب‪ ،‬وقد اّتهمْته تلك الدول بأنه وقف‬
‫إلى جانب صدام‪ .‬آَلمْته هذه التهمة كثيرًا‪ ،‬وشعر بأن حلفاَء األمس كان عليهم أن يثقوا به وأن يثمنوا‬
‫ما كان يحاول القيام به تحقيقًا لمصلحة الجميع‪ .‬بقيت عالقات األردن بالكويت متوترة على مدى‬
‫سنوات‪ ،‬كما تراجعت عالقاتنا مع دوٍل أخرى في الخليج نتيجة الحرب‪ .‬خسارُتنا المساعدات المالية‪،‬‬
‫والنفط من العراق وهو مورُد األردن األساسي‪ ،‬وانخفاض تحويالت األردنيين العاملين في الخليج‬
‫الذين ُأجِبَر العديد منهم على العودة إلى بالدهم‪ ،‬كل هذه العوامل مجتمعًة قد أصابت االقتصاَد‬
‫األردني بأضراٍر فادحة‪.‬‬
‫لقد أحزنتنا جميعًا‪ ،‬وفي كل أرجاء المنطقة‪ ،‬الخسائر في األرواح والدمار الشامل الذي خَّلفته‬
‫حرب الخليج‪ ،‬ولعّل هذا ما دفع البعض إلى البحث بجدية عن السالم مع الجار اآلخر‪ ،‬إسرائيل‪.‬‬
‫إثر انتهاء الحرب الباردة‪ ،‬وبعد خروج العراق من الكويت‪ ،‬دعت الواليات المتحدة واالتحاد‬
‫السوفياتي إلى عقد مؤتمر للسالم في مدريد في تشرين األول‪/‬أكتوبر من العام ‪ .1991‬وقد أطلقت‬
‫تلك المفاوضات‪ ،‬التي ُعِر َفت في ما بعد بمؤتمر مدريد للسالم‪ ،‬فتحًا مفصليًا في مساٍر تاريخّي‬
‫طويل من الجهود التي بذلتها دوُل االعتدال العربّي والمجتمع الدولّي في سبيل حل الصراع العربي‪-‬‬
‫اإلسرائيلي‪ ،‬والتفاوض على تسويٍة بين إسرائيل والفلسطينيين‪ .‬كانت هذه المرة األولى التي التقى‬
‫فيها كل أفرقاء الصراع‪ ،‬بمن فيهم الفلسطينيون‪ ،‬لبحث خالفاتهم في مؤتمر دعا إليه وسطاء دوليون‪.‬‬
‫لقد أعادت عملية مدريد‪ ،‬بما شهدته من مفاوضاٍت ثنائية من جهة‪ ،‬ومتعددة من جهة ثانية‪ ،‬الحيويَة‬
‫والحركة إلى جهود السالم الجامدة آنذاك‪ .‬حين أعلن اإلسرائيليون أنهم ليسوا مستعدين بعد للتفاوض‬
‫مباشرًة مع الفلسطينيين‪ ،‬قّدم األردن للفلسطينيين وسيلًة للتحدث إلى اإلسرائيليين تحت «مظلٍة‬
‫أردنية» وذلك من خالل تشكيل وفٍد أردني ‪ -‬فلسطينّي مشترك‪ .‬كان الهدف من إطالق عملية مدريد‬
‫الوصول إلى سالٍم إقليمّي شامل‪ ،‬وفي مطلع تشرين الثاني‪/‬نوفمبر بدأت إسرائيل إجراء محادثات‬
‫مع جيرانها العرب على أربعة مساراٍت منفصلة‪ ،‬وكانت بين إسرائيل وكٍل من األردن‪،‬‬
‫والفلسطينيين‪ ،‬ولبنان‪ ،‬وسوريا‪.‬‬
‫كان التفاهم الضمني في ما بين الدول العربية هو أن تبقى على موقٍف موحد في جبهٍة واحدة‬
‫للمحافظة على المصالح الفلسطينية‪ ،‬بدَل أن تفاوض كُّل دولة على حدة آخذًة مصالحها الذاتية وحَدها‬
‫بعين االعتبار‪ .‬وللوصول إلى هذه الغاية اتفق المندوبون على تنسيق مواقفهم وإبقاء التواصل في ما‬
‫بينهم وتبادل المعلومات عّم ا يحرزونه من تقدم‪.‬‬
‫لكن إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بدأتا في أوسلو عاصمة النروج محادثاٍت موازية‬
‫لمفاوضات مدريد‪ ،‬وذلك دون أن يكون لدى والدي أية معرفة بهذا المسار التفاوضي السري‪ .‬وقد‬
‫توّص ل الطرفان‪ ،‬بعد ثمانية أشهر من المفاوضات‪ ،‬وبصورة غير متوقعة‪ ،‬إلى اتفاٍق تاريخي في‬
‫عالقاتهما بات ُيعرف باتفاق أوسلو‪ .‬هذا االتفاق‪ ،‬الذي تبادلت فيه إسرائيل ومنظمة التحرير‬
‫الفلسطينية االعتراف‪ ،‬كٌّل منهما باألخرى‪ ،‬واتفقتا على أن يمارس الفلسطينيون حكمًا ذاتّيًا في قطاع‬
‫غزة وأريحا‪ ،‬كان مفصًال تاريخّيًا في العالقات اإلسرائيلية ‪ -‬الفلسطينية‪ .‬لقد أرسى إطارًا لالتفاق‬
‫النهائي وحدد مراحل تطبيقه‪ ،‬وقد وّقع إعالن المبادئ في واشنطن في أيلول‪/‬سبتمبر من العام ‪1993‬‬
‫فتمثلت إسرائيل برئيس وزرائها إسحق رابين ومنظمة التحرير الفلسطينية برئيسها ياسر عرفات‪،‬‬
‫وقد استضاف االحتفال الرئيس بيل كلنتون في البيت األبيض‪.‬‬
‫أخذ الغضب من والدي مأخَذه من إخفاء عرفات مسار أوسلو عنه وتوقيعه اتفاقًا منفصًال مع‬
‫إسرائيل‪« .‬ال أستطيع أن أصّدق أنهم فعلوا ذلك»‪ ،‬على ما قال لي‪ .‬شعر بالقلق الشديد حيال وصول‬
‫السوريين إلى مرحلٍة في محادثاتهم مع اإلسرائيليين أكثر تقدمًا مما أخبرونا به‪ .‬تحت وطأة الخيبة‬
‫الكبيرة من عدم قدرة العرب على المحافظة على جبهتهم الموحدة‪ ،‬قرر والدي التركيز على‬
‫المفاوضات األردنية ‪ -‬اإلسرائيلية لتحقيق السالم‪.‬‬
‫كان األردن في الواقع قد شّج ع المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين منذ العام ‪1988‬‬
‫عندما اتخذ والدي القرار التاريخي بفك االرتباط اإلداري والقانوني مع الضفة الغربية المحتلة‪ .‬كانت‬
‫الضفة الغربية جزءًا من المملكة األردنية الهاشمية قبل أن تحتلها إسرائيل في العام ‪ ،1967‬وكان‬
‫الفلسطينيون المقيمون فيها مواطنين أردنيين‪ ،‬وقد بقيت الحكومة في عمان مسؤولًة عن شؤونهم‬
‫وعن دعم المدارس الفلسطينية والمؤسسات القضائية وسواها من المؤسسات‪ ،‬وذلك خالل كل فترة‬
‫االحتالل‪ .‬الموظفون اإلداريون في الضفة الغربية كانوا تابعين للحكومة األردنية‪ ،‬حتى بعد العام‬
‫‪ ،1967‬كذلك كان نصُف مقاعد البرلمان األردني مخّص صًا لنواٍب من الضفة الغربية‪ .‬قرار فك‬
‫االرتباط عنى أن األردن لم يعد ‪ -‬منذئٍذ ‪ -‬مسؤوًال عن تلك المؤسسات‪ ،‬ولم ُيسَتْثَن من هذا القرار‬
‫سوى مسؤوليِة األردن عن رعاية األماكن المقدسة‪ .‬لقد شعر والدي بأن تخّليه عن مسؤولية رعاية‬
‫هذه األماكن في مدينة القدس سيترك فراغًا تستغّله إسرائيل لتتوّلى هي السيطرة عليها‪ ،‬ومن هنا كان‬
‫تمُّسُكه بمسؤولية األردن عنها‪ ،‬وهذا ما اعترفت به إسرائيل عندما َو َّقعْت معاهدَة السالم مع األردن‬
‫في العام ‪.1994‬‬
‫قرار والدي َقْط َع العالقِة رسميًا مع الضفة الغربية كان معناه أن بإمكان الفلسطينيين أن يتحّم لوا‬
‫هم بأنفسهم مسؤوليَة مستقبلهم السياسي في األراضي المحتلة‪ .‬وفي خطاٍب في ‪ 31‬تموز‪/‬يوليو قال‬
‫إنه على يقين من أن هذا القرار هو الرُّد الطبيعُّي والمنطقي على الموقف الذي صدر عن قمة الرباط‬
‫العربية في العام ‪ 1974‬عندما قررت كل الدول العربية باإلجماع اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية‬
‫الممثَل الشرعَّي والوحيد للشعب الفلسطيني‪ .‬من بين الدوافع التي أدت إلى اتخاذ القرار أيضًا الفشُل‬
‫الذي انتهت إليه المحاوالت العديدة للتنسيق االستراتيجي مع منظمة التحرير‪ .‬كما كان الندالع‬
‫االنتفاضة الشعبية ضد االحتالل اإلسرائيلي في كانون األول‪/‬ديسمبر من العام ‪ 1987‬في الضفة‬
‫الغربية وقطاع غزة‪ ،‬وهي االنتفاضة الفلسطينية األولى‪ ،‬دوُر ه في اتخاذ ذلك القرار‪ .‬كان‬
‫الفلسطينيون قد أعلنوا بوضوح عزَم هم على العمل لتحقيق أهدافهم السياسية متكلين على أنفسهم‬
‫ومستقلين عن األردن‪ .‬ولم يكن والدي ليقف في وجههم‪ .‬من هنا فإن قراره كان مسألًة حيوية بالنسبة‬
‫إلى طموح الفلسطينيين إلى إقامة دولتهم‪ :‬وبهذا تصبح الضفة الغربية هي النواة التي تقوم عليها‬
‫دولة فلسطين‪.‬‬
‫من التداعيات التي خّلفتها أيضًا حرُب الخليج ما شهَده األردن من تدفق العراقيين إلى البالد‪ .‬فقد‬
‫لجأ إلى األردن قبل الحرب وخاللها وبعدها مئات آالف الالجئين‪ ،‬أكان من العراقيين أم من مواطني‬
‫بلدان أخرى كانوا يقيمون في العراق‪ .‬كذلك جاء إلى األردن معظم الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون‬
‫في الكويت‪ ،‬فضًال عن األردنيين الذين غادروا الكويت عائدين إلى بالدهم‪ .‬ومع أنني لم أكن يومئٍذ‬
‫على علٍم بما قد تأتي به تلك الظروف‪ ،‬فإن مصادفَة لقائي بإحدى العائدات من الكويت سوف تغّير‬
‫مسيرَة حياتي قريبًا‪.‬‬
‫الفصل التاسع‪ :‬زفـــاف ملكـــّي‬

‫في شهر آب‪/‬أغسطس من العام ‪ 1992‬كنت قائدًا لكتيبة المدرعات الملكية الثانية‪ ،‬وكنا نجري‬
‫مناوراٍت وتدريباٍت ميدانيًة حيث بقينا أنا ورجالي في معسكٍر صحراوّي ننام في الخيام طواَل‬
‫شهرين متواصلين دون انقطاع‪ .‬على صعيد اإلقامة كنا نكتفي باألساسيات‪ ،‬فلكي أستحَّم مثال َم ددُت‬
‫ما يشبه األنبوب إلى خزاٍن للماء يستمّد حرارَته من أشعة الشمس‪ ،‬وانقضى األمر‪ .‬أنهينا تدريباتنا‬
‫بنجاح فقال لي قائد اللواء إن بإمكاننا‪ ،‬أنا والضباط اآلخرين‪ ،‬أن نذهب في إجازة ليلًة واحدة‪.‬‬
‫خلعُت اللباس العسكري وارتديت قميصًا بسيطًا وحذاًء خفيفًا وقدُت سيارتي إلى عمان‪ .‬ما إن‬
‫وصلت إلى المنزل حتى اتصلت شقيقتي عائشة وقالت «علمُت أنك في المدينة‪ ،‬لَم ال تأتي إلى‬
‫العشاء؟» فقلت لها‪« :‬في الحقيقة أشعر بحاجة إلى حماٍم ساخٍن وسريٍر مريح وال شيء سوى ذلك»‪،‬‬
‫لكنها لم تكن قد رأْتني منذ مدة فوعدتني بأن اللقاء سيكون بسيطًا ولن يطول‪ ،‬وبما أنني كنت قد‬
‫عشُت طواَل شهرين على الفصوليا والسباغيتي المعّلبة‪ ،‬كان من الصعب أن أرفض الدعوة لعشاء‬
‫لذيذ‪.‬‬
‫توّج هت إلى منزل عائشة وكان وجهي أشبه بالرغيف المحّم ص بعد قضاء شهرين تحت شمس‬
‫الصحراء‪ .‬دون أن أتنّبه إلى أن لديها ضيوفًا على العشاء‪ ،‬ذهبت مرتديًا المالبَس ذاَتها التي كنت قد‬
‫استعجلُت ارتداَء ها عند مغادرتي المعسكر‪ .‬أحد أصدقاء شقيقتي كان يعمل في شركة أبل للكمبيوتر‬
‫في عمان‪ ،‬وقد اصطحَب معه إلى العشاء إحدى زميالته‪ ،‬رانيا الياسين‪ .‬ما إن وقَع عليها نظري‬
‫حتى قلت في نفسي‪« :‬ما أجملها»!‬
‫كانت رانيا آنذاك على مشارف الثانية والعشرين‪ ،‬ولم تكن قد أمضت الكثير من حياتها في‬
‫األردن‪ ،‬ذلك أنها نشأت في الكويت التي غادرتها مع عائلتها المنحدرة من أصول فلسطينية إلى‬
‫األردن خالل حرب الخليج‪ .‬كان والدها ينوي‪ ،‬قبلئٍذ بوقت طويل‪ ،‬أن يتقاعد في األردن ولهذه الغاية‬
‫كان قد شَّيد منزًال في عمان‪ ،‬غير أن الحرب سَّر عت في تنفيذ مخطط العائلة‪.‬‬
‫درست رانيا إدارة األعمال في الجامعة األميركية في القاهرة‪ ،‬ثم عملت في مصرف «سيتي‬
‫بانك» (‪ )Citibank‬في عمان‪ ،‬ومن َثَّم في شركة «أبل» (‪ )Apple‬حيث التقت صديَق شقيقتي‪ .‬لم‬
‫نتحدث سوى حديٍث عابٍر حول مائدة العشاء‪ ،‬لكنها انتزعت إعجابي الكبير برصانِتها الواثقة‪،‬‬
‫وأناقِتها الالفتة‪ ،‬وخصوصًا بذكائها‪ .‬لقد أخَذ مني سحُر ها مأخَذه وأدركُت لتّو ي أنني ال بد أن أراها‬
‫ثانيًة‪ .‬انقضى بعض الوقت قبل أن تمكنت من تحديد وسيلة للحديث معها مرة أخرى‪ .‬اتصلت بها في‬
‫مقر عملها‪ .‬قَّدمُت لها نفسي وقلت لها إنني أرغب في لقائها ثانية‪ ،‬فقالت‪« :‬سمعُت عنَك أشياء‪،»...‬‬
‫لم ُتْنِه جملَتها‪ ،‬لكّن اإلشارة كانت واضحة بأن ما سِم عْته لم يكن مديحًا كُّله‪ .‬أجبتها‪« :‬لم أقدْم نفسي‬
‫َكَم الك‪ ،‬لكن نصف ما سمعِت‪ ،‬على أقّل تقدير‪ ،‬هو مجرد أقاويل فارغة»‪ .‬ال يبدو أن كالمي أقنَعها‪،‬‬
‫وقالت إنها سوف تفكر في الموضوع‪.‬‬
‫ال أحسب أنني من الذين يتراجعون بسهولة‪ .‬طلبُت من صديق مشترك‪ ،‬توفيق قعوار‪ ،‬أن يمّر بها‬
‫في مكتبها وأن يؤكد لها طيَب نواياي‪ .‬لكنها مع ذلك لم تقتنع واعتَبرْته متحيزًا‪ .‬عاد توفيق من مهمته‬
‫معتذرًا عن أنه لم يتدّبر لي لقاًء معها‪ ،‬لكنه اكتشف أن رانيا تحب الشوكوال‪ ،‬فعدُت وأرسلُته ثانيًة مع‬
‫علبٍة من الشوكوال البلجيكية‪ .‬في النهاية قِبَلْت دعوتي إلى العشاء في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر حيث‬
‫فاجأتها بأن أعددت لها الطعام بنفسي‪.‬‬
‫في البداية كان الدافع لكي أتعلم الطبخ هو الحاجة الماّسة‪ ،‬وقديمًا قيل الحاجُة أُّم االختراع‪ .‬لكن في‬
‫ما بعد أخذُت أتمتع به ووجدته وسيلًة لالسترخاء والترويح عن النفس‪ .‬كنت قد صنعت محليًا‬
‫األدوات الالزمة إلعداد بعض األطعمة اليابانية التقليدية مع الدجاج والقريدس ولحم البقر‪ .‬مر‬
‫العشاء على نحو جيد‪ ،‬وعدنا والتقينا مرًة أو مرتين قبل نهاية تلك السنة‪ .‬وكنا نتحدث على الهاتف‬
‫مراٍت عديدة‪ .‬كان ال بد أن ُنبقي أموَر نا محصورًة بنا نحن االثنين‪ ،‬فالناس يحبون الثرثرة والقيل‬
‫والقال‪ ،‬ولم نرغب في أن نكون موضوعًا لمثل هذه الثرثرة‪.‬‬
‫ُقَبْيل بداية السنة الجديدة‪ ،‬التقيت «جيج» وكنت حينها قد بدأُت أجد صعوبًة في كتم مشاعري‪،‬‬
‫فأخبرته بأنني التقيت في عمان فتاًة رائعة وأصبحُت مقتنعًا بأنها هي الفتاة المناسبة‪.‬‬
‫دعوت رانيا إلى عشاء لمناسبة عيد ميالدي في الثالثين من كانون الثاني‪/‬يناير‪ .‬جلس والدي إلى‬
‫جانبها‪ ،‬ودار الحديث بينهما دورَته الكاملة لينتهي بوالدي مدهوشًا بما شَّع منها‪ ،‬ذكاًء وسحرًا‬
‫وجماًال‪ .‬ولم َيُطل به الوقت حتى كشَف سَّر نا‪ .‬وبعد أن غادر والدي والضيوف وبينما كنت ال أزال‬
‫جالسًا مع رانيا في المنزل رّن جرس الهاتف وكان والدي على الطرف اآلخر‪ .‬قال‪« :‬ما دمنا اآلن‬
‫قد اكتشفنا السّر ‪ ،‬متى تريدني أن ألتقي والديها؟»‪.‬‬
‫كنت في ما مضى أشارك في مسابقات الرالي‪ ،‬بما فيها أحيانًا مسابقاُت المحترفين‪ ،‬وقد توصلنا أنا‬
‫وسائقي المساعد علي بلبيسي إلى احتالل المرتبة الثالثة في رالي األردن الدولي في العام ‪،1986‬‬
‫وكررنا هذا اإلنجاز في العام ‪ .1988‬من األمكنة األحب إلى قلبي جبٌل عند أطراف عمان هو تّل‬
‫الرمان الذي َأطلَق منه والدي مع بعض أصدقائه اللبنانيين في العام ‪ 1962‬سباق سيارات لتسلق‬
‫الهضبة‪ ،‬وقد أصبحت اليوم من أقدم المناسبات الرياضية في الشرق األوسط‪ .‬سألُت رانيا إذا كانت‬
‫ترغب في مرافقتي في نزهٍة بالسيارة‪ ،‬وانطلقنا نحن االثنين نحو قمة الجبل‪ .‬كان بودي لو أن طلبي‬
‫يَدها كان في مناسبٍة أكثر رومنطيقيًة‪ ،‬لكن فيما نحن واقفان خارج السيارة نتحدث قلت لها إنني أرى‬
‫عالقَتنا تتخذ منحى جدّيًا ويبدو لي أن زواَج نا فكرٌة جيدة‪ .‬نظرت رانيا إلَّي مبتسمة والذت بالصمت‪.‬‬
‫اعتبرُت سكوتها عن الرّد دليَل موافقة وأخبرت والدي عما دار بيننا من حديث‪ ،‬ومنذئٍذ أخذت‬
‫األمور تتسارع‪.‬‬
‫بعد مضّي ما يقارب األسبوعين رّتبنا زيارًة لوالدي إلى منزل والديها‪ .‬كنت يومئٍذ عائدًا من رحلِة‬
‫عمل تتعلق بالجيش‪ ،‬وما إن خطوُت خارجًا من الطائرة في مطار الملكة علياء الدولي حتى لمحُت‬
‫والدي واقفًا أمام البوابة‪ ،‬وكانت المرة األولى ‪ -‬على ما أذكر ‪ -‬يأتي إلى المطار لمالقاتي‪ .‬أظنه شاَء‬
‫أن يتأكد من ثباِت موقفي وعزمي على اإلقدام على الزواج‪ ،‬فوالدي كان قد مضى عليه بضُع‬
‫سنواٍت يحّثني على الزواج واالستقرار‪.‬‬
‫في تقاليدنا االجتماعية‪ ،‬عندما يريد الرجل أن يطلب يَد فتاٍة للزواج‪ ،‬يأتي بأهم أفراد عائلِته أو‬
‫عشيرته وأصدقائهم وأكثرهم نفوذًا على رأس جاهة ليؤكَد ألولياء العروس المرتجاة أن ابنتهم سوف‬
‫تكون في ديار الزوج على الرحب والسعة وموضَع عنايِة بيِت حميها‪ .‬وهل لَك ‪ ،‬في هذه الحال‪ ،‬أن‬
‫تحلَم بناطٍق باسمَك َيطلُب القرب‪ ،‬أعلى شأنًا وأكبر َقْدرًا من ملك األردن؟ في طريقنا إلى منزل‬
‫والَدْي رانيا انعطَف والدي إلى مكتبه حيث كان عليه أن يوّقَع بعض األوراق‪ .‬تركني أنتظر ال أقَّل‬
‫من ثالثة أرباع الساعة‪ ،‬حتى بدأ العرُق يتصّبب مني خشيَة أن نتأخر عن الموعد‪.‬‬
‫بوصولنا إلى المنزل بدا واضحًا أن والَدْي رانيا كانا يتوقعان لقاًء بسيطًا وغير رسمي‪ ،‬ولم يكن‬
‫لديهما أدنى فكرة عن أن والدي كان ينوي طلب يد ابنتهما للزواج بي رسميًا في ذلك اليوم‪ .‬كانا‬
‫مضيافين كريمين‪ ،‬وكانت والدُتها قد أعدت الحلويات والشاي والقهوة‪ ،‬وحين َقّدمْت فنجاَن القهوة‬
‫العربية إلى والدي تناوَله من يدها ووضعه أمامه دون أن يشرب منه‪ .‬لقد جرت العادة في األردن في‬
‫مناسبات طلب يد فتاة للزواج أن تقدم عائلُتها القهوَة العربية لكبير الجاهة‪ ،‬فيأخذ فنجان القهوة بيده‬
‫ويضعه أمامه ولكن يمتنع عن ُشربه إلى أن يتقدم بطلبه من أهل الفتاة حتى إذا وافقوا يشرب هو‬
‫وبقية أفراد الجاهة القهوة‪ ،‬وإذا رفَض األهُل الطلب يكون االمتناع عن شرب القهوة‪ ،‬حسب العادات‬
‫والتقاليد المتعارف عليها‪ ،‬بمثابِة الرد على هذا الرفض‪ .‬وبَقْدِر ما تكون في رفض الطلب إهانٌة‬
‫لطالبي القرب يأتي الرُّد عليها برفض شرب القهوة‪ .‬لكن في أيامنا هذه ُتماَر س هذه التقاليد بحيث‬
‫يكون كٌّل من المعنيين عارفًا دوَر ه مسبقًا‪ .‬يبقى أّن َتساُر َع األحداث َج عَلني أنسى كلّيًا أن أحيط رانيا‪،‬‬
‫وبالتالي والديها‪ ،‬بما عليهم توّقُعه من تفاصيل‪ ،‬مع أنني كنت قد تحدثت مع رانيا عن الزواج منذ أن‬
‫طلبُت يدها من قبل‪.‬‬
‫عندما امتنع والدي عن شرب القهوة بدأْت رانيا تدرك مساَر األمور‪ .‬لكن أمها الطيبة لم تكن لديها‬
‫أدنى فكرة عما يجري‪ ،‬وأخذت ترجو والدي أن يتفّضل بتناول القهوة والحلوى‪ .‬وأخيرًا التفَت والدي‬
‫إلى والد رانيا‪ ،‬وتحدث‪ ،‬وفق التقاليد‪ ،‬عن األسباب التي تجعل من زواِج نا مشروَع عائلٍة ناجحة‪.‬‬
‫كنت في حالٍة من التوتر الشديد حتى إنني لم أعد أذكر الكثير مما قاله والدي‪ ،‬ثم أعلن والد رانيا‬
‫موافقته فعّم الفرح‪ .‬تناوَل والدي القهوة وشرَبها‪ .‬وبعد الزيارة بحوالى أسبوع‪ ،‬في الثاني والعشرين‬
‫من شباط‪/‬فبراير‪ ،‬أعلّنا أنا ورانيا خطوبَتنا رسمّيًا‪.‬‬
‫في ذلك الشهر بالذات انتقلُت من قيادة الكتيبة في اللواء المدّر ع‪ ،‬حيث كنت قد أمضيت معظم‬
‫حياتي العسكرية‪ ،‬ألصبَح نائبًا لقائد القوات الخاصة‪ .‬تمامًا كما في أفواج النخبة العسكرية مثل قوات‬
‫دلتا األميركية والقوات الجوية الخاصة البريطانية‪ ،‬كانت القوات الخاصة األردنية تتولى مسؤولية‬
‫عمليات مكافحة اإلرهاب وكان تدريُبها يشمل العمليات البرية والجوية والبحرية‪ .‬من الفوائد‬
‫الشخصية التي ترّتبت على هذه النقلة كوُنها مهمًة تتطلب وجودي في القيادة العامة‪ ،‬أي إن بإمكاني‬
‫االنتقال من القاعدة العسكرية التي كنت متمركزًا فيها إلى اإلقامة في منزل العائلة في عمان‪ .‬وبما‬
‫أن زواجنا كان يقترب بسرعة‪ ،‬لم يكن لدّي ما يكفي من الوقت لالستقرار‪.‬‬
‫أبدى والدي رغبته في إقامة احتفاٍل كبير‪ ،‬حتى وصَل به األمر إلى أن يستدعي من لندن إحدى‬
‫المؤسسات التي تنظم «الدورة الملكية» وكانت آنذاك من أكبر االحتفاالت العسكرية السنوية في‬
‫العالم‪ .‬أنا ورانيا كنا نرغب في احتفاٍل صغير‪ ،‬ولذلك أخذُت أفاوض والدي على صيغٍة يمكن أن‬
‫تناسَب الجميع‪ ،‬لكنه كان في حالٍة عاطفية يستحيل معها إقناُعه‪ ،‬إلى أن توافقنا أخيرًا على أن يتولى‬
‫هو ترتيَب االحتفال الرسمي الذي يقام خالل النهار‪ ،‬فيما ننظم نحن حفل الزفاف في المساء‪.‬‬
‫العاشر من حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ 1993‬كان يومًا َعّم انيًا مشرقًا وقد احتشدت جماهيُر‬
‫األردنيين على َج َنبات الشوارع تلّو ح بالتحية وتنثر أزهار الفرحة‪ .‬كنت مرتديًا اللباَس العسكرَّي‬
‫األسود‪ ،‬أما رانيا فتأّلقت زاهيًة في ثوٍب أبيض من الساتان مطرزة أطرافه بلون الذهب‪ ،‬وعلى‬
‫رأسها طرحٌة بيضاء‪ُ .‬عقد القران في قصر زهران حيث كان منزل جدتي الملكة زين في وسط‬
‫مدينة عمان‪ ،‬بحضور أفراد العائلة وبعض األصدقاء‪.‬‬
‫بعد االحتفال عبرت بنا سيارٌة مكشوفة من نوع لنكولن طراز ‪ 1961‬مزينة باألزهار البيضاء‬
‫شوارع عمان‪ ،‬وكنا نلّو ح للجماهير المحتشدة فيما كانت السيارة تجوُب بنا أنحاء المدينة بسرعة ال‬
‫تكاد تتجاوز سرعَة السائِر على قدمين‪ ،‬وقد اتجهنا إلى قصر رغدان مقر الديوان الملكي حيث كان‬
‫والدي قد رّتب االستقباَل الرسمي‪ .‬القصر شّيده جّدَي األكبر الملك عبد هللا األول‪ ،‬وهو يقوم على‬
‫مرَتَفٍع مشرٍف على العاصمة عمان ويضّم بين جنباته قاعَة العرش‪ ،‬وغالبًا ما يشهد االحتفاالِت‬
‫الرسميَة الكبرى‪.‬‬
‫ما جرى بعد ظهِر ذلك اليوم يمكن أن نسّم يه ما شئنا إال احتفاًال رسميًا‪ ،‬فقد خرج من القصر ما‬
‫يقارب ألفين من الضيوف المدعّو ين وانتشروا في الحدائق والبساتين المشّج رة والمحيطة بالقصر‪.‬‬
‫وباإلضافة إلى لفيِف العائلة واألصدقاء من األردن‪ ،‬كنا قد دعونا عددًا كبيرًا من األصدقاء في‬
‫الخارج وكان من بينهم أصدقاء وأساتذة من ديرفيلد وأحُد الذين توَّلْو ا حراستي الشخصية خالل فترة‬
‫دراستي هناك‪ .‬كما حضر المناسبة أصدقاء من ساندهرست وآخرون من إنكلترا‪ ،‬وحضر أفراد‬
‫عائلة رانيا وأصدقاؤها من الكويت والقاهرة‪ .‬ولُّي عهد المغرب كان بيننا‪ ،‬ورئيس القيادة المركزية‬
‫األميركية الجنرال جوزف هور (‪ ،)Joseph Hoar‬وملكة إسبانيا الملكة صوفيا‪ ،‬إذ إن والدي كان‬
‫مقربًا جّدًا من العائلة المالكة اإلسبانية (هذه العالقة تطورْت بطريقٍة غير مباِش رة‪ ،‬فأحد رفاق والدي‬
‫في مدرسة «فكتوريا كولدج» في مصر كان ملك بلغاريا المنفي سيميون الثاني‪ ،‬وهو الذي قّدمه إلى‬
‫عائالٍت مالكة أخرى من أوروبا ومنها العائلة المالكة اإلسبانية‪ .‬وفي مصادفٍة مصيريٍة غريبة‪ ،‬عاد‬
‫الملك سيميون إلى بلغاريا بعد انهيار الحكم الشيوعي وأنشأ حزبًا سياسّيًا جديدًا ثم فاز حزُبه بأكثريٍة‬
‫برلمانية في انتخابات العام ‪ 2001‬وأّدى اليميَن رئيسًا للوزراء)‪.‬‬
‫أما ذروُة االحتفال فكانت الوصول المفاجئ لمدربي السابق على القفز بالمظلة‪ ،‬سميح جنكات‪.‬‬
‫فكما يليق بضابٍط في القوات الخاصة وصَل بالمظلة وقفز في محيط القصر ُبَعْيد الغروب حيث‬
‫تمّكَن من تجّنب األشجار واألبنية ونافورة الماء وهبط هبوطًا ممتازًا أمام الضيوف المتجّم عين‪ ،‬وقّدم‬
‫لي ولرانيا سيفًا قطعنا به كعكة الزفاف‪.‬‬
‫بعد االحتفال الرسمي في حدائق القصر‪ ،‬انسحب أفراد العائلة واألصدقاء المقّر بون لتناوِل العشاء‬
‫في منزل والدتي في المرتفعات المشرفة على عمان حيث أكلنا وتحدثنا واحتفلنا حول بركِة السباحة‪.‬‬
‫وأخيرًا‪ ،‬حوالى الثانية فجرًا‪ ،‬تمّنينا أنا ورانيا ليلًة سعيدة للجميع‪ ،‬وفي صباح اليوم التالي ركبنا‬
‫الطائرة إلى أميركا في رحلة شهر العسل ونحن نتطلع بلهفٍة وشوق إلى حياتنا الجديدة معًا‪.‬‬
‫قّدم لنا والدي‪ ،‬كهدية زواج‪ ،‬بطاقتي سفر في الدرجة األولى إلى سان فرانسيسكو عبر لندن‪ ،‬ولكن‬
‫ما إن وصلنا إلى هناك حتى اشترينا بطاقتين من عرٍض موسمّي إلحدى شركات الطيران لزيارة‬
‫الواليات المتحدة يتيح سفرًا داخلّيًا غير محدود في الدرجة السياحية على مدى شهر كامل‪ .‬كانت‬
‫رانيا قد زارت الواليات المتحدة عدة مرات من قبل‪ ،‬لكنني كنت متحمسًا ألريها المزيد‪ .‬طرنا أوًال‬
‫إلى هاواي ثم عدنا إلى تاهيتي وبورا بورا‪ ،‬ومن هناك قصدنا الساحل الشرقي للواليات المتحدة‬
‫فزرنا نيويورك وواشنطن‪ .‬أحيانًا‪ ،‬عندما كان موظفو شركة الطيران يعرفون أننا في شهر العسل‬
‫كانوا يرفعوننا إلى درجة رجال األعمال‪.‬‬
‫بعد عودتنا من أميركا بدأنا نبحث أنا ورانيا عن منزل مناسب لنشتريه معًا‪ ،‬لكن والدي قال إنه‬
‫سيخّص ص لنا منزًال كان قد اشتراه في ضواحي عمان وكان ينوي تجديده‪ .‬عملية التجديد كانت‬
‫واسعة واستغرقت قرابَة السنة‪ ،‬وفي هذه األثناء سكّنا في منزٍل صغير للضيوف كان جزءًا من‬
‫منزل والدي‪ .‬السكن في جوار والدي كان يعني أن نلتقيه كثيرًا‪ ،‬وهذا ما أتاح له ولرانيا أن يعرف‬
‫أحدهما اآلخر معرفًة أعمق وأوثق مما كانت عليه بعد بضعة لقاءاٍت سريعة‪ .‬غالبًا ما كنا نجلس معًا‬
‫على الفطور‪ ،‬أو نشاهُد معًا برنامجًا تلفزيونيًا في المساء‪ .‬هذه الفترة فتحت أيضًا مجاًال لرانيا لكي‬
‫تتعرَف على وجٍه آخر من وجوه الحياة الملكية‪ ،‬فقرُبها الوثيق من الملك رفَع منسوَب الَغْيرِة لدى‬
‫البعض وهذا ما جعَلها بحاجٍة إلى أن تكون على جانٍب كبير من الدبلوماسية‪ .‬كنت أذهب يوميًا من‬
‫عمان إلى مركز قيادة القوات الخاصة في الزرقاء على بعد ساعة تقريبًا من العاصمة‪ ،‬وألول مرة‬
‫منذ سنوات لم أعد مقيمًا في قاعدٍة عسكرية للجيش‪ .‬كان منزلنا أبعد ما يكون عن فخامة القصور‬
‫وحجمها‪ ،‬مجرَد قاعة جلوس وغرفة طعام وغرفتي نوم‪ ،‬لكن كنا في منتهى السعادة‪ ،‬وهي سعادٌة‬
‫ضاعَف منها وجود والدي الدائم في حياتنا‪ ،‬وفي السنوات الالحقة كنا نعود بالذاكرة إلى تلك الفترة‬
‫مدركين كم كانت أياُم ها ال ُتَقَّدر بثمن‪.‬‬
‫كانت رانيا قد تركت وظيفتها في شركة «أبل»‪ ،‬وفي البداية رأينا أنها ستحتاج إلى بعض الوقت‬
‫كي تنظم منزلنا الجديد وترتب أوضاَعه ولكي تعّو د نفسها أن تكون فردًا من أفراد العائلة المالكة‪.‬‬
‫لكن رانيا بطبيعتها امرأٌة عاملة وكان لديها من الطاقِة واالندفاع ما ال تستطيع معه أن تجلَس في‬
‫منزلها مكتوفَة اليدين طوال النهار‪ .‬وهي لم تتصور يومًا أن مستقبَلها سيجعل منها مجرَد سيدة‬
‫منزل‪ .‬لقد كانت عالقتنا باستمرار عالقَة شراكٍة ومساواة‪ ،‬ورغبتها في العودة إلى العمل لم تكن‬
‫خافيًة علّي ‪ ،‬لكن كفرٍد من أفراد العائلة المالكة لم يكن مناسبًا لها أن تعوَد إلى وظيفتها في شركة‬
‫«أبل» أو أن تعمَل في شركة تجارية أخرى‪ .‬وجدنا بعد البحث والنقاش أن الطريقَة المثلى لكي‬
‫تستفيد من ُح سن الرؤيِة لديها‪ ،‬والموهبِة والذكاء‪ ،‬هي أن توظف هذه الطاقات في القطاع العام‪.‬‬
‫قصدُت والدي وسألُته إذا كان لديه اقتراٌح أو رأٌي في ما قد يناسب رانيا من دور‪ .‬في ضوء معرفته‬
‫بخلفّيتها في المجال التجاري اقترح أن تنضم إلى مؤسسة تنمية الصادرات والمراكز التجارية‬
‫األردنية‪ ،‬الحقًا المؤسسة األردنية لتطوير المشاريع االقتصادية‪.‬‬
‫مع أن والدي كان محافظًا حيال بعض األمور‪ ،‬فهو كان على اقتناع بأن على المرأة أن تقوم بدور‬
‫في الحياة العامة‪ ،‬وهذا الموقف لم يكن مألوفًا من رجٍل ينتمي إلى جيله في المنطقة التي نعيش فيها‪.‬‬
‫في سبعينيات القرن الماضي‪ ،‬وفي زمٍن نادرًا جّدًا ما كانت زوجات القادة العرب ُيشاَهْدَن في العلن‪،‬‬
‫كان والدي يصطحُب زوجَته الملكة علياء في مهّم اته العامة ولقاءاته مع رؤساء الدول‪ ،‬أكان في‬
‫منطقتنا أم في دول العالم األخرى‪ .‬كذلك كان داعمًا لشقيقتي عائشة في رغبتها في االنضمام إلى‬
‫الجيش‪.‬‬
‫كانت عائشة دائما ميالًة إلى ألعاب الصبية‪ ،‬وكانت شديدَة المراس على ما تبّين لنا بالملموس‬
‫عندما كنا أطفاًال‪ .‬إذا حدث أن حاول فيصل أو حاولُت أنا مضايقَتها كان ردها ال يقُّل حزمًا وشدًة‬
‫عما أسأنا إليها به‪ .‬غادرت عائشة األردن إلى الواليات المتحدة عندما كانت في الثامنة حيث دخلت‬
‫المدرسة في واشنطن‪ ،‬ثم انتقلت إلى ثانوية «دانا هول» (‪ )Dana Hall High School‬في مدينة‬
‫«ولسلي» في والية ماساتشوستس‪ .‬جاءت مرة إلى عمان في إجازة في فصل الصيف وطلَبْت أن‬
‫آخذها إلى حيث يمكنها أن تقفز بالمظلة‪ ،‬وافقُت ولكن قلت علينا أن نخفي األمر عن والدي الذي لم‬
‫يكن ليرضى كثيرًا عن فكرٍة كهذه‪ .‬لم تكن قد بلغت السادسَة عشرة بعد‪ ،‬وكانت خفيفَة الوزن بحيث‬
‫اضطررنا إلى وضع بعض الحجارة في حزامها‪ .‬هبطُت أنا قبَلها‪ ،‬وبسبب خفة وزنها انحرفت بها‬
‫المظلة بعيدًا من مكان الهبوط وَح ملْتها إلى حقل قريب‪ .‬أسرعُت نحوها عبر أرٍض صخرية وعرة‬
‫وحين اقتربُت منها وجدتها ممّددًة على األرض دون حراك‪ .‬ركضُت إليها مذعورًا فإذا بها ممّددة‬
‫على ظهرها وهي تغني فرحًا‪ .‬في ذلك الصيف عدت فأخذُتها مرارًا حتى أصبحْت أوَل امرأة في‬
‫األردن تكمل خمَس قفزاٍت بالمظلة وتحصُل على شارة المظليين‪.‬‬
‫عند هذه النقطة قررنا أن علينا أن نخبر والدي باألمر‪ ،‬وبما أنه كان مسافرًا اتصلُت به هاتفيًا‬
‫وقلت‪« :‬بالمناسبة‪ ،‬هذه عائشة بجانبي وأريد أن أهنئك‪ ،‬فقد تأهلت ابنتك وفازت بشارِة القفز‬
‫بالمظلة»‪ .‬مرت لحظات من الصمت‪ ،‬كأن ذهوًال أصاَبه‪ ،‬ثم سألني ما هذا الذي تفعُله؟ تظاهَر بأنه‬
‫كان غاضبًا‪ ،‬لكننا كنا على يقين من أنه ما إن يتجاوز صدمَة المفاجأة حتى يغمَر ه االعتزاُز والفخر‬
‫بابنته‪ .‬والدتي أيضًا‪ ،‬اآلتيُة من عائلٍة عسكرية‪ ،‬كانت حاسمًة بدعمها رغبة عائشة في االنخراَط في‬
‫العمل العسكري‪ ،‬وقد تعاظَم اعتزاُز والدَّي بعائشة عندما باتت في العام ‪ 1987‬أوَل امرأة شرق‬
‫أوسطية تتخرج في ساندهرست‪ .‬عائشة اآلن بلغْت رتبَة عميد وهي تخدم اآلن ملحًقا عسكريًا في‬
‫سفارة األردن في واشنطن‪ .‬إنها المرأة األولى التي َتشغُل هذا المنصب‪ ،‬وهي نصيٌر قوّي للمرأِة في‬
‫أن تؤّدي دورًا أكبَر في القواِت المسلحة‪.‬‬
‫إن نساًء مثل عائشة‪ ،‬بما لها من دور رائٍد وفاعٍل في القوات المسلحة‪ ،‬ومثل رانيا بموقعها القيادّي‬
‫في المنظمات اإلنسانية ومؤسسات العمل الخيرّي ‪ُ ،‬يثبْتَن بالعمل الملموس أن للمرأِة األردنية عزيمًة‬
‫وإمكاناٍت وقدرًة ال حدوَد لها‪.‬‬
‫في صيف العام ‪ 2009‬كنت في إجازة في والية أريزونا مع ابني حسين وابن عائشة عون‪ .‬ذهبنا‬
‫إلى مدرسة للطيران حيث سألني الصبّيان إذا كان ممكنًا أن يذهبا لممارسة الهبوط بالمظلة‪« .‬لكن‬
‫أرجوك‪ ،‬ال تخبر والدتي باألمر»‪ ،‬قال لي عون‪ ،‬وأضاف‪« :‬إذا عرَفْت فسوف تقتلك!» كان يحدثني‬
‫عن أختي التي أعرف طباعها! بعد أن قفَز الصبّيان بالمظلة‪ ،‬اتصلُت بعائشة وقلُت لها‪« :‬معي هنا‬
‫إلى جانبي ابُنِك ‪ ،‬وقد أردُت أن أهنئِك ‪ ،‬فقد نجح في قفزته األولى بالمظلة»‪.‬‬
‫لطالما أحببُت القفَز بالمظلة‪ ،‬وعندما كنت أنا ورانيا عريسين جديدين كنت أنهض قبل طلوع‬
‫الفجر مرتين أو ثالثًا في األسبوع لكي أذهب إلى القفز بالمظلة‪ .‬إن المتعة التي تعتريني حين أقفز‬
‫من الطائرة على ارتفاع آالف األقدام في الهواء‪ ،‬وشعوري بالريح تمسُح صفحَة وجهي سريعًة‬
‫باردة‪ ،‬ورؤيتي األرَض من َعل كأنها هي التي ُتسرُع نحوي ُصُعدًا‪ُ ،‬يبقيني في العالء على مدى أيام‬
‫حتى لو كنُت سائرًا على األرض‪ .‬أما رانيا‪ ،‬التي لم تعرف الكثير عن الحياة العسكرية من قبل‪ ،‬فقد‬
‫مَّر عليها بعُض الوقت ريثما تعّو دْت تقّبل ذلك‪ .‬كانت تصر‪ ،‬كلما ذهبُت لممارسة القفز‪ ،‬على أن‬
‫يتصَل أحٌد بها حالما أهبط بسالم‪ .‬مهما كان خروجي باكرًا‪ ،‬كانت تبقى يقظًة وجالسة بقرب الهاتف‬
‫إلى أن تأتيها المخابرة‪ .‬مع تقدمي في الجيش وتزايد مسؤولياتي‪ ،‬من عسكرية وسواها‪ ،‬بدأ ينحسر‬
‫أمامي المجال لممارسة هذه المتعة الكبرى‪ .‬أخَذ والدي يطلب إلّي القيام بمزيد من الرحالت‬
‫الخارجية لتمثيل األردن دولّيًا وتأدية مهمات دبلوماسية غير رسمية‪ ،‬وتقييم التجهيزات العسكرية‬
‫األجنبية‪ .‬لقد قبلت القيام بهذه المهمات مرِّح بًا‪ ،‬رغبًة مني في أن تحصَل قواُتنا الخاصة على أحدث‬
‫التجهيزات وأكثرها تقدمًا وعلى أفضل ما في العالم من تدريباٍت حديثة‪ .‬وكان‪ ،‬في بعض األحيان‪،‬‬
‫يطلُب مني الذهاب إلى أمكنٍة كأنها خارج هذا العالم‪.‬‬
‫الفصل العاشر‪ :‬أمثـوالت في الدبلـومـاسيـة‬

‫في أواخر العام ‪ 1993‬كان والدي مزمعًا القيام بجولة آسيوية يزور خاللها سنغافورة واليابان‬
‫والصين وكوريا الشمالية‪ .‬في تلك الحقبة كانت الواليات المتحدة مشتبكًة في مواجهٍة سياسية مع‬
‫كوريا الشمالية التي كانت قد أجرت حديثًا تجربًة ناجحة بإطالق نموذج من الصاروخ البالستي‬
‫«نادونغ ‪ )Nodong-1( »1‬في بحر اليابان‪ ،‬كما كانت هددت باالنسحاب من معاهدة حظر انتشار‬
‫األسلحة النووية‪ .‬وسط هذه الظروف شعر والدي بأن الواليات المتحدة قد ترى في زيارة يقوم بها‬
‫رئيس دولة لكوريا الشمالية نوعًا من نسف جهودها القائمة على الدبلوماسية المتشددة مع ذلك البلد‪،‬‬
‫فألغى رحلته وطلب إلّي القيام بالزيارة بدًال منه‪ ،‬وبتقديم اعتذاره إلى الرئيس كيم إيل سونغ‪ ،‬الذي‬
‫يسّم يه الكوريون «القائد العظيم»‪ ،‬عن تعّذر مجيئه شخصّيًا‪.‬‬
‫في أواخر تشرين الثاني‪/‬نوفمبر بدأت رحلتي إلى سنغافورة حيث التقيت بعض القادة الكبار‬
‫واشتريت بعض األسلحة الخفيفة‪ .‬انتقلت من هناك إلى اليابان حيث بحثُت مع المسؤولين المعنيين‬
‫مسألة المساعدة اليابانية لقوات الشرطة األردنية‪ ،‬فاليابانيون كانوا يساعدوننا آنذاك في التدريب على‬
‫تفكيك المتفجرات والقنابل‪ .‬بعد طوكيو ذهبت إلى الصين واجتمعُت هناك إلى أعضاء قياديين في‬
‫جيش التحرير الشعبي الصيني‪ .‬كانت اجتماعاتنا ناجحة وبدأُت مع الوفد المرافق ُنعد العدة للسفر إلى‬
‫بيونغ يانغ‪ .‬لكّن الوصول إلى هناك لم يكن بحد ذاته أقّل من مغامرة حقيقية‪.‬‬
‫كان الناقل الجوي الرسمي التابع لدولة كوريا الشمالية (‪ )Air Koryo‬من أقّل شركات الطيران‬
‫حداثًة في العالم‪ ،‬وهي اآلن ممنوعة من الطيران في بلدان االتحاد األوروبي بسبب المستوى المتدني‬
‫جّدًا لسجّل الشركة في مجال السالمة‪َ .‬بدْت لنا الطائرة كأنها نسخة من «البوينغ ‪ ،»727‬وفي داخل‬
‫القسم المخّص ص للدرجة األولى‪ ،‬بدَل أن نجد صفوفًا من المقاعد المألوفة في الطائرات العادية‪،‬‬
‫وجدنا كنبتين‪ .‬أما الوصول إلى المرحاض فيتطّلب المرور بكمية من الصناديق والعلب المحشورة‬
‫حشرًا في مؤخرة الطائرة‪ .‬هبطنا في مطار «سونان» الدولي‪ ،‬في ساعة متأخرة من الليل‪ ،‬وسارت‬
‫بنا الطائرة على المدرج في ظلمٍة حالكة مدًة شعرنا أنها قارَبْت نصَف ساعة‪ .‬كانت األنوار مطفأة‬
‫في المطار‪ ،‬وقد يكون ذلك بسبب تخّو ف سلطات كوريا الشمالية من أن تلجأ الواليات المتحدة إلى‬
‫التصعيد نظرًا للظروف التي كانت قائمة آنذاك‪.‬‬
‫وأخيرًا توقفت بنا الطائرة وخرجنا منها أنا والوفد المرافق نزوًال على الدرج ثم إلى أرض‬
‫المطار‪ .‬استقبَلنا جمٌع من الجنود الذين باَدَر نا أحدهم بكلمات باللغة الكورية أظنها كانت تعني «أهًال‬
‫وسهًال»‪ .‬أخَذنا الجنود إلى أحد جوانب المدّر ج وطلبوا منا أن نصطف مقابل الحائط‪ ،‬وفجأًة ُسِّلَط‬
‫علينا ضوٌء كاشف‪ .‬وفيما كانت عيوننا ترمش وسط توّهج األنوار الكاشفة‪ ،‬قلت في نفسي‪« :‬آمل‬
‫أنهم لن يعدمونا!»‪.‬‬
‫كان مضيفونا يصّو رون وصولنا‪ .‬رافقونا إلى بناء مخّص ص رسميًا للضيوف‪ ،‬وأدخلونا إلى قاعة‬
‫طعام كبرى مصّم مة على طراز سبعينيات القرن الماضي حيث كان بانتظارنا حوالى عشرين‬
‫جنراًال ومارشاًال وضابطًا‪ .‬كان العشاء جاّفًا ورسمّيًا‪ ،‬وُقَبْيل انتهاِئنا من تناول الطعام ماَل أحد‬
‫الضباط على أذني وقال‪« :‬ماذا ستقدمون من هدايا إلى القائد العظيم؟»‪.‬‬
‫قلت‪« :‬جئُت بساعٍة كبيرة‪ ،‬وبخنجر أردني تقليدي‪ ،‬وعلبة هدايا بمناسبة عرسي»‪ .‬هّز الجنرال‬
‫برأسه موافقًا‪ ،‬وحين أنهينا العشاء اتجهنا إلى بيت الضيافة‪.‬‬
‫بعد منتصف الليل بقليل‪ ،‬وكنت على وشك أن أغفو‪ُ ،‬قرع باب غرفتي‪ ،‬نهضت من السرير‬
‫وفتحت الباب ألجد أمامي ضابط التشريفات في وفدنا‪ ،‬فيصل الفايز‪ ،‬الذي قال لي إن الجنراالت في‬
‫الخارج وهم يطلبون تفسيرًا لما ترمز إليه الهدايا المزَم ع تقديمها‪ .‬عدت إلى قاعة الطعام فوجدت‬
‫الضباط العشرين جميعًا بانتظاري‪ ،‬كّلهم في لباسهم العسكرّي الرسمّي وفي يد كٍل منهم دفتر‬
‫لتسجيل المالحظات‪ .‬سألني الجنرال القائد عما تعنيه الهدايا التي أحملها‪ ،‬فأجبته بأنها هدايا ترمز إلى‬
‫الصداقة‪ .‬لم يكتف بهذا التفسير وطالب بمزيد من التفاصيل عن كل هدية تحديدًا‪.‬‬
‫«ما معنى الساعة؟» سأَل الجنرال‪ ،‬شعرُت باالرتباك‪ ،‬ولكن بما أن الساعة كانت قد قاربت‬
‫الواحدة صباحًا‪ ،‬ولم أكن أسمع سوى نداء السرير‪ ،‬تذّكرُت واحدًة من أهم قواعد الدبلوماسية الدولية‬
‫ورحُت أنسُج الجواب بناًء على تلك القاعدة‪.‬‬
‫أجبت الجنرال‪« :‬الساعة ترمز إلى الوقت الثمين الذي قضاه والدي مع القائد العظيم خالل جنازة‬
‫الرئيس تيتو‪ ،‬والوقت الذي مضى منذ ذلك اللقاء»‪ .‬هّز الجنراالت رؤوَسهم في حركٍة موحدة وراح‬
‫كل منهم يدّو ن مالحظته على دفتره‪ .‬عندها وجدُتني أدخل في لعبة االبتكار الدبلوماسي‪ ،‬فأكملت‪:‬‬
‫«أما الخنجر فهديٌة من محارٍب إلى محارب»‪ .‬عندئٍذ سأَل الجنراالت‪« :‬وعلبة هدايا العرس؟» قلت‪:‬‬
‫«إنني أعتبر القائد العظيم بمثابة والٍد لي‪ ،‬ولذلك جئت بهديٍة من عرسي الذي احتفلُت به أخيرًا‪،‬‬
‫وهي تعّبر عن الشكر والعرفان»‪ .‬هّز الجنراالت رؤوسهم وتابعوا الكتابة‪ .‬حين انتهوا‪ ،‬تركناهم أنا‬
‫وفيصل وسارعنا كٌّل إلى سريره‪.‬‬
‫في اليوم التالي اصطحبونا لزيارة القرية التي كان يقيم فيها الرئيس في شبابه‪ ،‬ثم ذهبنا لتناول‬
‫طعام الغداء مع القائد العظيم نفسه‪ .‬كان كيم إيل سونغ يرتدي سفاري من قطعتين وقد رّح ب بنا‬
‫ترحيبًا لطيفًا ومحببًا‪ ،‬وكان في جّو إيجابي ومعنوياٍت عالية‪ ،‬معتبرًا أن األزمة التي تبدو على تفاقٍم‬
‫مع الواليات المتحدة لم تكن بهذه الجدية‪ .‬كما سواه من الحكام الدكتاتوريين المنعزلين عن العالم‪،‬‬
‫كان كيم إيل سونغ يعتقد اعتقادًا ال عالقة له بأّي واقع على األرض بأنه يمتلك قوًة عسكرية متفوقة‪،‬‬
‫ولم يكن يدرك ما في حوزة الغرب من قدراٍت تكنولوجية ومهاراٍت عسكرية متطورة‪« .‬لقد هزمُت‬
‫األميركيين من قبل‪ ،‬وبإمكاني أن أعيد الكّر ة!» كما قال‪ ،‬ويبدو أن في قوله ذاك إشارًة إلى الحرب‬
‫الكورية عندما كان رئيسًا للوزراء‪ .‬هذا الكالم أعاد إلى ذاكرتي اللغَة التي سمعُتها من نجَلْي صدام‪،‬‬
‫ُعدّي وُقصّي ‪ ،‬قبل حرب العام ‪.1991‬‬
‫بعد الغداء أخذنا القائد إلى غرفٍة جانبية حيث كانت هدايانا وهداياه ملقاًة على طاولة‪ ،‬ثم ظهر أحد‬
‫جنراالت الليلة السابقة ممسكًا بيده دفتر مالحظاته وقال‪« :‬اشرح‪ ،‬إذا سمحت‪ ،‬للقائد العظيم رمزيَة‬
‫هداياكم وأهميَتها؟» وبدأ العرق يتصّبب مني ورحُت أستجمع أفكاري وأحُّث الذاكرة استذكارًا لما‬
‫قلُته ليلة البارحة‪.‬‬
‫بحمد هللا‪ ،‬تذكرت فحوى الكالم الذي قلته وبدا كيم إيل سونغ راضيًا عن الشرح الذي قّدمُته‪ .‬ثم‬
‫أشار إلى إناٍء فّضي مليٍء بالحساء وقال‪« :‬أرجو أن يتسنى لك أن تتذوق هذا الطعام التقليدي قبل أن‬
‫تغادرنا»‪ .‬شكرت القائد العظيم على ُح سن الضيافة وذهبت لزيارة قاعدة القوات الخاصة الكورية‬
‫الشمالية حيث شهدُت واحدًا من أهّم ما رأيت من عروٍض عسكرية في حياتي وأشدها تأثيرًا‪ .‬لقد‬
‫نفذوا تمرينًا بالذخيرة الحية‪ ،‬يركض فيه الجنود ثم يقفزون في الهواء وينقلبون رأسًا على عقب‪،‬‬
‫وقبل أن يعود الواحُد منهم إلى األرض ُيطلق النار على الهدف ويصيُبه‪.‬‬
‫ناقشنا عرض كيم إيل سونغ بأن يرسَل بعثًة من قوات كوريا الشمالية الخاصة إلى األردن تتولى‬
‫إنشاء قاعدة عسكرية جديدة وتدّر ب جنودنا‪ ،‬وبعد ذلك وّدعنا الجميع وركبنا السيارة عائدين إلى بيت‬
‫الضيافة‪ .‬في السيارة ماَل على أذني أحد الجنراالت وقال‪« :‬كيف وجدَت قائدنا العظيم»‪ ،‬فأجبته‪:‬‬
‫«يتمتع بكاريزما عالية!»‪ ،‬دّو ن الجنرال في دفتَر مالحظاته التعبير الذي لفظُته‪ ،‬وأعَّد قلمه ليكمَل‬
‫التسجيل‪ ،‬ثم سأل‪« :‬ماذا تعني بكاريزما؟» عندها توجهت إلى فيصل‪ ،‬ضابط التشريفات‪ ،‬وقلت له‬
‫بصوٍت خافت‪« :‬حاول أن تجد لنا طائرًة مبّكرة»‪.‬‬
‫كان فيصل قد حجز لنا على طائرة تغادر في الصباح الباكر من اليوم التالي‪ ،‬وبعد أن كتبُت رسالة‬
‫شكٍر رسمية إلى القائد العظيم على حسن ضيافته‪ ،‬ذهبت فورًا إلى سريري‪ .‬في حوالى الرابعة‬
‫والنصف فجرًا سمعت قرعًا على الباب‪ ،‬وإذا بفيصل يطّل ثانيًة وعلى وجهه مسحُة الدهشة نفسها‪،‬‬
‫وقال‪« :‬لن تصدق ما سترى»‪.‬‬
‫كان بانتظاري في قاعة الضيوف الجنراالت العشرون جميعًا‪ ،‬وأماَم هم على الطاولة إناٌء مليٌء‬
‫بالحساء الكوري الشمالي التقليدي واللهُب يتصاعد منه‪ .‬يبدو أنهم كانوا جادين حين قالوا إن علّي أن‬
‫أتذوقه قبل أن أغادر‪ .‬تناولت ملعقًة وتذّو قت الحساء ثم قلت لهم‪« :‬إنه بالفعل من أشهى ما يكون»‪.‬‬
‫ولم يتأخر أحد الجنراالت في توجيه سؤاله إلّي ‪« :‬ماذا تعني‪ ،‬من أشهى ما يكون؟»‪ ،‬ورفع اآلخرون‬
‫دفاتَر مالحظاتهم لئال يفوتهم تسجيل الجواب‪.‬‬
‫استطعنا الوصول إلى طائرتنا صباح اليوم التالي دون مزيد من التأخير وتوجهنا إلى روسيا‪،‬‬
‫المحطة األخيرة من رحلتنا‪ .‬طرنا على متن طائرة روسية الصنع شبيهة بطائرات «ترايستار»‪،‬‬
‫وبعد اإلقالع بحوالى ساعتين قمُت ألقي نظرًة على مقصورة الطيار فرأيت أفراد الطاقم جالسين‬
‫على األرض يلعبون الورق‪ ،‬فيما كان مساعد الطيار نائمًا ورجاله ممدودتان باتجاه لوحة القيادة‪.‬‬
‫استمروا على هذه الحال طواَل معظم الوقت الذي استغرقته الرحلة وهو أربَع عشرَة ساعة‪ .‬بعد أن‬
‫اختبرنا أفضل ما في ضيافة بيونغ يانغ‪ ،‬شعرت براحة شديدة إذ وصلت موسكو‪ ،‬وقد أسعدني جّدًا‬
‫االلتقاء ببعض األصدقاء من الجيش الروسي الذين جاؤوا إلى المطار الستقبالي‪.‬‬

‫***‬

‫في حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ُ ،1994‬بَعْيد انتقالنا أنا ورانيا إلى منزلنا الجديد‪ ،‬استقبلنا وليَدنا‬
‫الجديد‪ ،‬وقد سّم يناه حسين تيمنًا بوالدي‪ .‬وهكذا بدأ الكثيرون ينادونني أو يشيرون إلّي بأبي حسين‪.‬‬
‫ولو شئُت لعجزُت عن أن أصَف مدى الفخار واالعتزاز اللذين َيعُمُر بهما قلبي عندما أسمع هذا‬
‫النداء‪.‬‬
‫لم يمض وقت طويل حتى تركت رانيا «المؤسسة األردنية لتطوير المشاريع االقتصادية» التي‬
‫عملت فيها منذ العام ‪ 1993‬لتنشئ «مؤسسة نهر األردن» وهي مؤسسة غير ربحية مكرسة للعمل‬
‫االجتماعي‪ .‬لقد قررت التركيز على أن تطرح علنًا مشكالت إساءة معاملة األطفال واستغاللهم‪،‬‬
‫وهي من المشكالت الكبرى المقفل عليها في معظم أرجاء العالم العربي‪ ،‬كما أرادت االهتمام أيضًا‬
‫بتمكين المرأة األردنية من خالل تشجيع إطالق المشاريع التجارية وسواها من مجاالت العمل‪ .‬من‬
‫بين المشاريع األولى والرائدة التي أطلقتها المؤسسة رعايُة برامج التدريب وتمويُلها‪ ،‬تقديُم التمويل‬
‫لمشاريع الصناعاِت الحرفية‪ ،‬والمساعدة في تعليم النساء وتدريبهّن على كيفية إنشاء مشاريع أعمال‬
‫جديدة‪ .‬ما إن تبدأ المرأة في َج ني مدخوٍل لها ولعائلِتها حتى تقوى مكانتها العائلية‪ ،‬ذلك أنها أصبحت‬
‫أحد مصادر الدخل‪ .‬وإذا حاول زوجها قمعها أو التقليل من مكانتها تستطيع أن تطالب بحقها في‬
‫االحترام عبر تذكيره بأنها تسهم في نفقات العائلة وتأمين حاجاتها‪ .‬من هنا فإن فتح المجاالت أمام‬
‫النساء وإتاحة الفرص لهن بأن يصبحن رّبات مشاريع تجارية ولو صغيرة يمكن أن يكون لهما تأثيٌر‬
‫اجتماعٌّي ال ُيستهان به‪.‬‬
‫دعَم والدي بقوة نشاط رانيا وعمَلها‪ ،‬وكان يشجع النساء األردنيات على اقتحام الميادين والمهن‬
‫التي كانت دائمًا ِح ْك رًا على الرجال‪ ،‬حتى إنه شمَل برعايته فريقًا نسائيًا لسباق السيارات‪ .‬وبتوصيٍة‬
‫منه باتت الملكية األردنية أولى شركات الطيران في الشرق األوسط التي قاَدْت طائراِتها نساٌء‬
‫مؤهالٌت لهذا العمل‪.‬‬
‫قبل أن تبدأ رانيا إنشاء مؤسستها ببضعة أشهر كنُت قد أصبحت قائدًا للقوات الخاصة وقد ُر ّقيت‬
‫إلى رتبة عقيد في أواخر كانون الثاني‪/‬يناير من العام ‪ .1993‬أخيرًا تمكنت من إقناع ذوي المراتب‬
‫العليا في الجيش بأنني لست مجرد ضابٍط عابر بل كنت راسَخ القدمين وباقيًا هناك‪ .‬تدربنا بمنتهى‬
‫الشدة واالنضباط إدراكًا منا أن لألردن أعداًء كثيرين يتربصون به بمن فيهم إرهابيون مقاتلون‬
‫عائدون من أفغانستان والبوسنة والشيشان‪ ،‬والمهّر بون والجواسيس‪ .‬اآلن حان الوقت لكي أطّبَق‬
‫على األرض بعض الدروس التي تعّلمُتها في ساندهرست وفي الجيش البريطاني‪ .‬أول القرارات‬
‫التي اتخذُتها كان اإلصرار على أن يمارَس الضباط قيادَتهم من األمام‪ ،‬أي أن يكونوا في طليعة‬
‫جنودهم‪.‬‬
‫في صباح أحد األيام كنت في قاعدة جوية أراقب جنودًا يستعدون للقفز بالمظلة‪ ،‬والعمليات الجوية‬
‫ذات أهمية حاسمة في أعمال القوات الخاصة ومهماتها ألنها تتيح لهذه القوات االختراَق إلى عمق‬
‫أرض العدو وأماكِن وجوده‪ .‬كان الهواُء مثقًال برائحة الوقود العابقة وبضجيج محركات الطائرة‬
‫«سي ‪ .»130‬أخذُت أرتدي لباس القفز مبتسمًا ومتحمسًا ألنها فرصة كانت قد أصبحت نادرة‬
‫بالنسبة إلّي في تلك المرحلة‪ .‬أسرَع نحوي أحد الضباط الشباب مبتسمًا ابتسامًة عريضة‪ ،‬وكان برتبة‬
‫نقيب‪ ،‬وقال‪« :‬إنها المرة األولى نرى فيها ضابطًا فوق رتبة رائد يشاركنا القفز»‪.‬‬
‫أدركُت يومها أن كثيرين من الضباط يكتفون بوضع جناح المظليين على صدورهم دون أن‬
‫يمارسوا هذه العملية بوتيرٍة منتظمة بحيث يحافظون على كفاءتهم في هذا المجال ويواكبون التطور‬
‫الذي يشهده‪ .‬ولذلك قررت أن تطوير هذه الوحدة والنهوض بها إلى المستوى الذي أريده لها يتطلبان‬
‫مني التأكد من أن كبار الضباط يشاركون رجالهم كل أنواع المخاطر والصعوبات التي يمرون بها‪.‬‬
‫في تلك األمسية وقفُت في قاعة الضباط وخاطبت الرجال‪« :‬من اآلن فصاعدًا على كل ضابط يريد‬
‫أن يرتدي جناح المظليين أن يمارَس القفز بوتيرة منتظمة»‪ ،‬وقد َج َعلْت كلمتي هذه بعَض الضباط‬
‫يالزمون الصمت طوال األمسية‪ .‬ثم تابعُت التدُّر ب على دور قائد القفز وهو الذي يشرف على‬
‫المظليين وهم يقفزون من الطائرات‪ ،‬وكنت أتابع إجراء التمارين لرجالي بانتظام‪.‬‬
‫ال ُتقتَص ر فائدة القفز بالمظلة على األعمال الحربية فقط‪ ،‬فهي في بعض الحاالت قد أظهرت أن‬
‫لها دورًا قّيمًا في العالقات الدبلوماسية الدولية‪ .‬خالل الحرب العالمية الثانية كانت السرية «‪ »C‬من‬
‫فوج المظليين ‪ 156‬في الجيش البريطاني متمركزًة في ما كان يسّم ى يومذاك إمارة شرق األردن‪،‬‬
‫وشاءت قيادُة السرية أن تجري مناورًة تعرض فيها قدراتها أمام جّدَي األكبر عبد هللا‪ .‬هبَط المظليون‬
‫البريطانيون في قلعٍة مهجورة في قرية الشونة‪ ،‬على مسافِة ميٍل واحد إلى الشرق من نهر األردن‪،‬‬
‫وانتزعوا القلعة من المدافعين الوهميين عنها واستولوا على العلم الذي كان مرفوعًا فوقها‪ُ .‬أعِج َب‬
‫جّدي األكبر بالمناورة إلى درجة أنه سمح للجنود البريطانيين باالحتفاظ بالعلم ورفعه في مقر‬
‫السرية‪ .‬في مرحلٍة الحقة من الحرب خاضت السرية معارَك عديدًة وشّقت طريقها عبر شمال‬
‫أفريقيا وأوروبا‪ ،‬وتكّبدت خسائَر كبيرًة في معركة «آرنهيم» (‪ )Arnhem‬في هولندا في العام‬
‫‪ 1944‬وذلك حين حاول المظليون البريطانيون انتزاَع السيطرة على أحد الجسور فوق نهر الراين‪.‬‬
‫حملت السرية علَم شرق األردن معها إلى المعركة‪ ،‬لكنها انهزمت أمام القوات األلمانية‪ .‬خّبأ الضابط‬
‫اإلداري للسرية العلَم تحت مالبسه واستطاع إبقاءه مخفّيًا والحفاظ عليه طوال سنوات أسره في أحد‬
‫المعسكرات األلمانية‪ ،‬ليعوَد به سالمًا إلى بريطانيا بعد نهاية الحرب‪ .‬كان تأُّثري كبيرًا عندما‬
‫شاهدت تجسيدًا درامّيًا لتلك المعركة في فيلم «جسر أبعد من المطلوب» (‪)A Bridge Too Far‬‬
‫حيث تذكرت قصة رفع السرية «‪ »C‬العلم فوق مقرها في مدينة أوستربيك الهولندية لتشير بذلك إلى‬
‫موقعها‪.‬‬
‫بعد مضّي خمسة عقود على هذه الواقعة‪ ،‬واحتفاًال بالعالقة التاريخية بين األردن وفوج المظليين‬
‫البريطاني‪ ،‬قفزُت بالمظلة من طائرة «دوغالس داكوتا» في هولندا وذلك كجزٍء من االحتفال‬
‫بالذكرى الخمسين لمعركة «آرنهيم»‪ .‬بعد الهبوط في الموقع المحدد تقدمت من األمير تشارلز‬
‫وقدمت له علمًا أردنيًا جديدًا سّلمه بدوره إلى قائد السرية الَخ َلف للسرية «‪ .»C‬كنا نحتفل بذكرى‬
‫نهاية حرب تاريخية كبرى‪ .‬وبعد فترة غير طويلة الحت أمامنا فرصة االحتفال بسالٍم جديد‪.‬‬
‫في الخامس والعشرين من تموز‪/‬يوليو من العام ‪ ،1994‬وفي يوٍم مشرق في واشنطن‪ ،‬كانت‬
‫الحديقة الجنوبية للبيت األبيض تشهد تجمعًا من ستمئة شخص من الصحافيين العالميين‬
‫والشخصيات األجنبية وكبار المسؤولين في الحكومة األميركية‪ .‬كانوا جميعًا ينتظرون بصبٍر أماَم‬
‫منصٍة كانت قد أقيمت لهذه الغاية‪ .‬وراء المنبر كانت ترتفع أعالم األردن وإسرائيل والواليات‬
‫المتحدة األميركية‪ ،‬وما إن ظهر على المنصة كٌّل من والدي ورابين مصحوَبْين بالرئيس بيل كلنتون‬
‫حتى عال تصفيق الحاضرين‪ ،‬ذلك أنها كانت المرة األولى التي ظهر فيها الرجالن معًا في العلن‪،‬‬
‫علمًا بأن لقاءاٍت سابقة عديدة كانت قد جمعتهما دون إعالن‪ .‬لقد جاءا إلى البيت األبيض ليضعا حّدًا‬
‫لحالة العداء بين األردن وإسرائيل‪ ،‬التي امتدت سّتًا وأربعين سنًة منذ العام ‪.1948‬‬
‫لقد أتاح توقيع اتفاق أوسلو بين إسرائيل والفلسطينيين لألردن أن يرّكز جهوَده على مفاوضاته‬
‫الثنائية مع إسرائيل‪ .‬وكان والدي آنذاك قد أصبح عاقدًا العزم على تحقيق السالم الذي سعى في‬
‫سبيله طويًال‪ .‬كلما كان يجري الحديث بيني وبينه عن المفاوضات مع إسرائيل‪ ،‬كان يتحدث عن‬
‫مدى صعوبة المفاوضات‪ .‬لكنه مع ذلك كان يعتقد أن إمكانيَة التوصل إلى حّل كانت قائمة‪.‬‬
‫في البدايات كان والدي ورابين شديَدي الحذر‪ ،‬أحدهما حياَل اآلخر‪ ،‬لكن مع مرور الوقت زاَد‬
‫التعارف وتوّثقت العالقة بينهما‪ .‬فكالهما رجٌل عسكرّي ومدِّخ ٌن متمّر س‪ .‬وكان كل منهما يمرر‬
‫سيجارًة لآلخر بين فينٍة وأخرى‪ .‬التقيا سّر ًا مراٍت عديدة‪ ،‬في األردن كما في إسرائيل‪ ،‬وما إن وثَق‬
‫كل منهما باآلخر حتى جلسا معًا كصديقين وراح كل منهما يحاول أن يرى األمور من وجهة نظر‬
‫صديقه‪ ،‬جاهدًا في سبيل إيجاد أرٍض مشتركة يلتقيان عليها لتحقيق السالم‪ .‬شعر والدي بأن رابين‬
‫يلتزم كالمه حتى وإن لم يكن وّقع عليه فإذا قال كلمَته بأن االتفاَق آٍت‪ ،‬فمعنى ذلك أن االتفاَق آت‪.‬‬
‫قبل أن يوقع الرجالن الوثيقة التي ُعرفت بإعالن واشنطن‪ ،‬والتي أنهت رسميًا حالة العداء بين‬
‫بلديهما واعترفت بدور األردن الخاص في رعاية األماكن اإلسالمية المقدسة في مدينة القدس‪ ،‬ألقى‬
‫والدي كلمًة جاء فيها‪« :‬على مدى سنواٍت وسنوات‪ ،‬ومع كل صالٍة رفعُتها إلى العلّي القدير‪ ،‬سألُته‬
‫أن ُيسبَغ علّي نعمَة نسج السالم وإطالق مسيرته بين أبناء إبراهيم‪ ...‬وها أنا اآلن‪ ،‬أشعر بأن هذا‬
‫اليوَم ليس كأّي يوٍم آخر في حياتي»‪ .‬ثم أضاَف قائال‪« :‬هذا حُلٌم راود أسالفي الذين َم َضْو ا‪ ،‬جدي‬
‫الذي توفي‪ ،‬واآلن أنا‪ ...‬هذا يوُم االلتزاِم الثابت‪ ،‬وهو يوُم األمل والرؤيا المستقبلية»‪.‬‬
‫كذلك كانت هناك كلمة لرابين‪« :‬إنها ساعُة الغروب اآلن في وطنينا في الشرق األوسط‪ ،‬وبعد‬
‫قليل سوف يعُّم الظالم‪ ،‬لكن األردنيين واإلسرائيليين سيرون نورًا ساطعًا يغمرهم»‪.‬‬
‫بعد االحتفال كان والدي ورابين ضيفي الرئيس كلنتون على العشاء في البيت األبيض‪ ،‬وفي اليوم‬
‫التالي وّج ه كل منهما كلمًة إلى اجتماٍع مشترك للكونغرس األميركي‪ .‬وجاء في كلمة والدي إلى‬
‫الكونغرس أّن «حالة الحرب بين إسرائيل واألردن قد انتهت»‪.‬‬
‫بعد مرور ثالثة أشهر على هذا الحدث عاد والدي ورابين فالتقيا ثانيًة‪ ،‬وكان الرئيس كلنتون‬
‫ثالثهما‪ .‬تّم اللقاء عند تقاطع الحدود في وادي عَر َبة جنوَب األردن‪ ،‬وكان الهدف االحتفال بتوقيع‬
‫معاهدة السالم الرسمية بين األردن وإسرائيل‪ .‬كانت لحظة تاريخية بات فيها األردن البلَد العربَّي‬
‫الثاني‪ ،‬بعد مصر بخمَس عشرَة سنة‪ ،‬الذي يوّقع معاهدة سالم مع إسرائيل‪ .‬كان الرئيس المصري‬
‫أنور السادات قد اغتيل على يد مواطن مصرّي متطرف بعد مرور سنتين على توقيعه المعاهدة مع‬
‫إسرائيل في العام ‪ ،1979‬ولذلك كان رجاؤنا من هللا سبحانه وتعالى أال يدفع والدي الثمن نفسه لقاء‬
‫تحقيقه السالم‪.‬‬
‫لقد عّلق األردنيون واإلسرائيليون آماًال كبيرة على ما سيأتي به السالم من ثمار‪ ،‬فاألردن استعاد‬
‫كل األراضي التي كانت إسرائيل قد احتلتها في الضفة الشرقية‪ ،‬كما حصَل على حصته العادلة من‬
‫حقوقه في المياه‪ .‬أما الحاجة الماسة والسريعة إلى إنهاء احتالل إسرائيل الضفة الغربية بما فيها‬
‫القدس الشرقية وقطاع غزة‪ ،‬فكانت موضوع المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والفلسطينيين‪.‬‬
‫وبفضل معاهدة السالم مع إسرائيل يستطيع األردن اليوم أن يقدم يد المساعدة بغيَة تسريع هذه‬
‫المفاوضات وإنجاحها‪.‬‬
‫للمرة األولى أصبح مسموحًا للطائرات األردنية بأن تحلق فوق إسرائيل واألراضي الفلسطينية‬
‫المحتلة‪ ،‬وبذلك تستطيع الرحالت الجوية بين عمان وأوروبا المرور فوق مدينة القدس‪ .‬مع أنني‬
‫زرت القدس في طفولتي‪ ،‬لم أعد لزيارتها منذ وقعْت تحت االحتالل اإلسرائيلي في العام ‪.1967‬‬
‫على متن هذه الرحالت وعندما أكون جالسًا إلى الجانب األيسر من طائرة ركاب عادية‪ ،‬كان‬
‫بإمكاني أن أرى أشعة الشمس تنعكس على قبة الصخرة الذهبية والمسجد األقصى المبارك‪ ،‬أولى‬
‫القبلتين وثالث الحرمين‪ ،‬ومسرى النبّي محمد‪ ،‬صلى هللا عليه وسّلم‪ ،‬ومعراجه إلى السماء‪.‬‬
‫فتحت المعاهدة األردنية ‪ -‬اإلسرائيلية المجال أمام المزيد من التعاون السياسي واالقتصادي‪ ،‬وأخذ‬
‫السّياح اإلسرائيليون يتدفقون إلى األردن لزيارة العقبة والمواقع السياحية التاريخية مثل البتراء‬
‫ووادي َر ّم ‪ .‬كذلك أخذ عدد من األردنيين يذهب إلى إسرائيل‪ .‬وكان معظم هؤالء يزورون للمرة‬
‫األولى هذا الجار الذي أّدى دورًا كبيرًا في تاريخنا‪ .‬لكن‪ ،‬كما في حاالٍت كثيرة في منطقتنا‪ ،‬ما لبثت‬
‫هذه الفسحة من األمل والتفاؤل أن تضاءلت أمام المأساة‪.‬‬
‫في الرابع من تشرين الثاني‪/‬نوفمبر من العام ‪ 1995‬اغتاَل يهودّي متطرف رئيس الوزراء‬
‫اإلسرائيلي رابين خالل تجّم ع شعبّي في تل أبيب كان يدعو إلى تحقيق السالم‪ .‬كان القاتل من‬
‫معارضي اتفاق أوسلو الذي ُعقد في العام ‪ ،1993‬واالتفاق المكّم ل له‪ ،‬أوسلو ‪ ،2‬الذي وّقع في البيت‬
‫األبيض في أيلول‪/‬سبتمبر من العام ‪ 1995‬والذي أعطى الفلسطينيين حكمًا ذاتيًا جزئيًا على أكثر من‬
‫أربعين في المئة من أراضي الضفة الغربية‪ .‬تمامًا كالعديد من الذين ينتمون إلى اليمين المتطرف في‬
‫إسرائيل‪ ،‬والذين عارضوا االنسحاب من الضفة الغربية انطالقًا من أسباب دينية‪ ،‬وكان قراره أن‬
‫يعّبر عن هذه المعارضة على هواه وأن ينفذه بيديه‪.‬‬
‫كّر س والدي بقية حياته ساعيًا في سبيل التسوية السلمية للصراع اإلسرائيلي الفلسطيني‪ ،‬لكن‬
‫المرة الوحيدة التي زار فيها القدس بعد العام ‪ 1967‬كانت يوَم حضر جنازة رابين‪ ،‬المقاتل الشرس‬
‫في حرب العام ‪ 1967‬الذي تحّو َل في العقود األخيرة جندّيًا من أجل السالم‪ .‬كان والدي مؤمنًا بأن‬
‫رابين لو ُكتبت له الحياة مدًة أطول الستطاعا معًا أن يحققا مزيدًا من التقدم نحو تسويٍة شاملة بين‬
‫العرب وإسرائيل‪ .‬وفي جنازة رابين ألقى كلمًة رثى فيها صديقه وخصمه السابق‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫لم يخطر لي أبدًا أن تكون زيارتي األولى إلى القدس واستجابتي دعوَتكم‪ ،‬دعوة‬
‫رئيس الكنيست ودعوة رئيس دولة إسرائيل‪ ،‬في مناسبة كهذه المناسبة‪...‬‬
‫نحن لسنا خجولين ولسنا خائفين‪ ،‬وال َيعترينا أُّي شعوٍر آخر سوى التصميم على‬
‫تحقيق إرث السالم الذي من أجله سقَط صديقي‪ ،‬والذي سقط من أجله جدي في هذه المدينة بالذات‪،‬‬
‫وكنُت إلى جانبه فتى يافعًا‪.‬‬
‫موت رابين بهذه الطريقة المأساوية أدى إلى خسارتنا شريكًا حقيقّيًا في صنع السالم‪ ،‬وفي‬
‫السنوات التي تلت وفاَته لم َيْخ ُط على طريقه أٌّي من قادة إسرائيل‪ ،‬وال نجَح أحٌد منهم في مواجهة‬
‫التحدي األكبر واألصعب وهو إنجاز السالم الدائم بين إسرائيل والفلسطينيين‪.‬‬
‫في تلك السنة بقَي انتباهنا مرّكزًا على إسرائيل‪ ،‬جارتنا الغربية‪ ،‬لكننا ال نستطيع أن ننسى وال‬
‫لحظة جارنا إلى الشرق‪ .‬في آب من العام ‪ 1995‬انشق حسين كامل‪ ،‬أحد أقوى رجال الحكم‬
‫وأكثرهم نفوذًا في العراق‪ ،‬عن نظام الحكم في بالده نتيجة خالٍف بينه وبين عدي‪ ،‬ولجأ إلى األردن‪.‬‬
‫جاءت معه إلى األردن زوجُته رغد‪ ،‬ابنة صدام حسين‪ ،‬كما جاء معه شقيُقه صدام كامل‪ ،‬أحُد كبار‬
‫ضباط الحرس الجمهوري وزوجُته رنا شقيقة رغد‪ .‬جاءت العائلتان من بغداد إلى عمان بالسيارة‬
‫وقطعتا مسافة خمسمئة ميل‪ ،‬وكان سبب الزيارة ‪ -‬المعلن تمويهًا ‪ -‬هو أن الشقيقين كامل كانا‬
‫سيستقالن الطائرة من عمان إلى بلغاريا في زيارة رسمية‪ .‬كان العراق آنذاك خاضعًا لعقوباٍت دولية‬
‫فرضتها األمم المتحدة‪ ،‬ولذلك لم تكن تغادر مطار بغداد أية رحالت دولية‪ .‬عندما وصلت العائلتان‬
‫إلى عمان اجتمع الشقيقان إلى والدي الذي وافق على منحهما حَّق اللجوء السياسي‪.‬‬
‫كان حسين كامل مكلفًا اإلشراف على برنامج األسلحة الكيماوية والبيولوجية العراقّي ‪ ،‬وعلى‬
‫برنامج العراق النووي‪ .‬وكان أعلى رجال النظام رتبًة الذي ينشق عن صدام‪ .‬بعد أن رّتب له والدي‬
‫موعدًا مع مفتشي السالح التابعين لألمم المتحدة لالستماع إلى إفادته‪ ،‬قرر استضافة األخوين كامل‬
‫وعائلتيهما في قصر الهاشمية‪ ،‬وهو قصر حديث غالبًا ما كان ُيستضاف فيه رؤساء الدول وكبار‬
‫الشخصيات العالمية عند زيارتهم األردن‪.‬‬
‫ليلة وصول األخوين إلى عمان اتصل بي والدي وقال‪« :‬اذهب وسلم عليهما وأكد لهما أن‬
‫سالمتهما في األردن مضمونة‪ ،‬اجَعْلهما يشعران باالطمئنان كأنهما في بلدهما وبين أهلهما»‪ .‬ذهبُت‬
‫إلى األخوين كامل ورّح بت بهما وقدمت نفسي بوصفي قائدًا للقوات الخاصة‪ ،‬وقلت لهما إن إحدى‬
‫الوحدات من هذه القوات هي التي تتولى حمايتهما‪ .‬لقد جاءانا ضيفين مع عائلتيهما‪ ،‬وهذا واجبنا‪.‬‬
‫لكن ما كنُت قد رأيُته خالل زياراتي إلى بغداد جعَلني أعرف أّي نوٍع من الناس كان هذان الرجالن‪،‬‬
‫وبالتالي قررت البقاء على مسافٍة منهما‪ .‬مع أننا كنا متجاورين‪ ،‬فأنا ورانيا كنا نسكن في منزلنا‬
‫الجديد القريب من الهاشمية‪ ،‬لم أقابل حسين كامل وابنتْي صدام حسين سوى ثالث مرات على‬
‫األرجح طواَل المدة التي قضوها في عمان‪ .‬في تقديري أن ما دار في ذهن حسين كامل هو أن‬
‫الغرب سيسارع إلى احتضانه‪ ،‬وأن الواليات المتحدة ستوظف نفوذها وقوتها لتنصيبه قائدًا للعراق‪.‬‬
‫ومن الواضح أنه كان واهمًا‪.‬‬
‫بعد مرور ستة أشهر على مجيئهما إلى عمان‪ ،‬في شباط‪/‬فبراير من العام ‪ ،1996‬بعث صدام إلى‬
‫حسين كامل وشقيقه برسالة يقول فيها إنهما إذا عادا إلى العراق فإن كل ما صدَر عنهما سيكون‬
‫مغفورًا لهما‪ .‬وبما أن الرجلين كانا قد افتقدا الموقع والنفوذ اللذين كانا لهما في بغداد‪ ،‬وفي ضوء ما‬
‫ثبَت لهما من أن األمَل والحلَم اللذين راوداهما كانا وهمًا وحكمًا خاطئًا تمامًا على مجريات‬
‫األحداث‪ ،‬فقد قررا أن يصّدقا حماهما وبالتالي أن يعودا إلى بغداد مع عائلتيهما‪ .‬أعطى والدي األمر‬
‫بأن يصاَر إلى مواكبتهما حتى الحدود‪ ،‬وهكذا توّلى موكٌب عسكري إيصال الرجلين والعائلتين‪،‬‬
‫عبورًا في الصحراء نحو الشرق‪ ،‬وعند الوصول كان فريق من قّناصة قواتنا الخاصة يراقب عمليَة‬
‫التسليم تحسبًا لحصول ما ليس متوقعًا‪.‬‬
‫عند وصول الشقيقين كامل إلى الحدود كان ُعدّي وُقصّي بانتظارهما على الجهة العراقية منها‪ .‬في‬
‫تقرير فريق القناصة أن عدّي صافح الشقيقين ثم أخذهما الجنود العراقيون وما إن ألقى بهما الجنود‬
‫في إحدى السيارات حتى استدار عدي وقصي ورَكعا يصليان‪ .‬عندما سمعُت هذا الكالم اتصلت‬
‫بوالدي وقلت له‪« :‬إن األخوين كامل أصبحا من األموات ال محالة»‪ .‬بعد ثالثة أيام ُقِتل حسين‬
‫وصدام كامل على أيدي رجال صدام حسين‪ ،‬وبذلك فقدت ابنتاه زوَج ْيهما وأحفاُده والَدْيهم‪.‬‬
‫ذلك الخروج عن القواعد واألصول الذي أظهره عدّي وقصي خالل رحلة صيد السمك التي قمنا‬
‫بها معًا في ثمانينيات القرن الماضي‪ ،‬أخذ يتبدى في أعمال عكست تدهورًا إلى ما هو أكثر خطورًة‬
‫وظلمًة‪ .‬زوجة أحد األصدقاء‪ ،‬سيدة عراقية نشأت في بغداد‪ ،‬أخبرتنا أنا ورانيا أنها عندما كانت‬
‫طالبة في الجامعة‪ ،‬كان عدي يفاجئ أحيانًا صّفًا من الصفوف‪ ،‬محاطًا بحراسه المسلحين‪ ،‬ويجول‬
‫بنظره على فتيات الصف‪ ،‬حتى إذا طابت له إحداهن أمر رجاله باإلتيان بها إلى قصره‪ .‬سمعت أنه‬
‫كان يقتني أسودًا وفهودًا في أقبية قصره‪ ،‬وكان لديه مرائب مألى بالسيارات الفخمة بما فيها سيارة‬
‫رولز ‪ -‬رويس زهرية اللون‪ .‬هذا النمط من الحياة المسرفة في الترف والتبذير الذي كانت تعيشه‬
‫عائلة صدام كان نقيضًا مرعبًا للبؤس الذي كان يعيشه الشعب العراقي تحت وطأة العقوبات التي‬
‫فرضها عليه الغرب في أعقاب حرب الخليج في العام ‪.1991‬‬
‫نحن أيضًا كان لنا نصيُبنا من متاعب ُعدّي ‪ ،‬فهو كان مسؤوًال عن منتخب العراق في كرة القدم‬
‫وكان المنتخب األردني يتبارى أحيانًا مع الفريق العراقي‪ .‬حين كنا نتغلب على منتخب العراق كان‬
‫عدي يأمر بضرب العبي فريقه عند عودتهم إلى بغداد‪ .‬مع أن أخاه ُقصّي كان أكثر هدوءًا منه وأقّل‬
‫زهوًا وخيالًء ‪ ،‬فقد كان األذكى بين االثنين‪ ،‬وعلى ما أظن األكثر خطورة‪.‬‬
‫بعد أن غزت الواليات المتحدة العراق سَأَلْت ابنتا صدام إذا كان بإمكانهما المجيء إلى األردن‬
‫والسكن فيه هربًا من الفوضى والخطر السائدين في بغداد‪ .‬وافقنا على طلبهما وجاءتا للسكن في‬
‫عمان للمرة الثانية‪ ،‬لكن إحدى األختين عادت وغادرت عمان لتستقر في قطر‪.‬‬

‫***‬

‫مع مرور الزمن وإحالة بعض كبار الضباط على التقاعد‪ ،‬تبّين لي أن القيادات العليا في الجيش‬
‫باتت أكثر دعمًا لمسيرة التحديث التي كنُت عازمًا على سلوكها‪ ،‬ولذلك اتخذُت قراري بالبقاء في‬
‫الجيش‪ .‬بعد ما يقارب السنة التي قضيُتها نائبًا لقائد القوات الخاصة ُر ّقيت إلى منصب قائد تلك‬
‫القوات‪ .‬وما إن توّليت هذا المنصب حتى بادرت فورًا إلى دفع فكرة إعادة هيكلة قواتنا الخاصة‬
‫لتصبَح على منوال مثيالتها في الدول المتقدمة‪ .‬في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر من العام ‪ 1996‬أنشأُت‬
‫«قيادة العمليات الخاصة» بناًء على النموذج المّتبع من الفرنسيين واألميركيين‪ .‬وارتبطت هذه القيادة‬
‫مباشرًة برئيس هيئة األركان المشتركة المشير عبد الحافظ الكعابنة‪ .‬ضمت قيادة العمليات الخاصة‬
‫القوات الخاصة وعددًا من ألوية النخبة ذات االختصاص في كل وحدات الجيش‪ .‬كان لدينا وحدٌة‬
‫شبيهة بـ«القوة الجوية البريطانية الخاصة» وبقوات «الدلتا» األميركية‪ ،‬المتخصصة بمكافحة‬
‫اإلرهاب والمكَّر سة لهذه الغاية‪ ،‬باإلضافة إلى كتيبتين جويتين شبيهتين بقوات المظليين البريطانية‪.‬‬
‫في تلك السنة وظفنا مهاراِتنا‪ ،‬في مجال الهبوط بالمظالت‪ ،‬في خدمة الدبلوماسية الدولية‪ .‬فقد‬
‫اتصل بي فريق من المظليين الدوليين المتقاعدين وأبدوا رغبتهم في ممارسة القفز في األردن‪،‬‬
‫وانطالقًا من مشاعر األخّو ة العميقة التي طالما ربطت بين جنود القوات الخاصة وافقُت على الطلب‬
‫فورًا‪ .‬وهكذا‪ ،‬في أواسط حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ 1996‬أقلعْت من الزرقاء طائرُة نقٍل من طراز‬
‫«سي ‪ »130‬تعّج بالمظليين المتقاعدين اآلتين من كل حدٍب وصوب والذين خبَر بعُض هم حروبًا‬
‫شتى‪ ،‬وكان من بينهم جنديان ألمانيان في الثمانينيات من العمر كانا قد هبطا بالمظلة في جزيرة‬
‫كريت خالل الحرب العالمية الثانية‪ .‬توليُت أنا قيادة القفز‪ ،‬وكان الرجال قد انتظموا في صفوٍف من‬
‫ثمانية‪ ،‬وكلما وصل أحُدهم إلى باب الطائرة الخلفّي كنت أدفعه بيدي إلى خارج الطائرة‪.‬‬
‫تقّدَم من بين المجموعة الكولونيل شاوول دوري‪ ،‬الضابط المتقاعد في القوات الخاصة‬
‫اإلسرائيلية‪ ،‬وعند وصوله إلى الباب‪ ،‬صرخُت بصوٍت يطغى على هدير المحرك‪« :‬اقفز»‪ ،‬ودفعُته‬
‫إلى الخارج‪ .‬ابتسَم وقفز خارجًا من الطائرة وأصبح أول ضابط إسرائيلي يقفز بالمظلة مع الجيش‬
‫األردني‪ .‬إسرائيلي آخر من الذين شاركونا الهبوط يومذاك قال‪« :‬لو أن أحدًا قال لي في العام‬
‫‪ ،1973‬يوم كنُت أحارب في منطقة قناة السويس‪ ،‬إن يومًا سيأتي ترى فيه مظليين إسرائيليين‬
‫يقفزون مع األردنيين‪ ،‬لقلُت له إن عليه أن يستشير طبيبًا عقليًا»‪ .‬نَج حْت عمليُة القفز نجاحًا كبيرًا‪،‬‬
‫وذَّكرْت كل الذين شاركوا فيها‪ ،‬محاربين أشداَء خاضوا كل أنواع الحروب‪ ،‬كم كانت العوامُل‬
‫المشتركة في ما بينهم كثيرًة ومتعددة‪ .‬صحيح أن العالقات اليوم بين األردن وإسرائيل يشوبها‬
‫التوتر‪ ،‬لكن في تلك الفترة كان هناك شعور بأننا على مشارف بداية جديدة‪ .‬كان يحدونا األمل بأن‬
‫تدفع معاهدُة السالم بين البلدين المنطقة بكاملها إلى سالم إقليمّي شامل‪ ،‬وأننا قد دخلنا مرحلًة جديدة‬
‫من مراحل سياسات الشرق األوسط‪ .‬كان التفاؤل كبيرًا بحيث إنني ال أتذكر تلك السنوات إال بكثيٍر‬
‫من الرضى واالستبشار خيرًا‪ ،‬ولكن أيضًا بشيٍء من المرارة على الُفرص التي ذهبت هدرًا ولم‬
‫نستفد منها‪.‬‬
‫طلبُت من القوات الفرنسية الخاصة ومن فوج المظليين البريطاني أن يرسَل كٌّل منهما فريقًا من‬
‫ضباطه لتدريب رجالنا‪ ،‬وقد أجرينا تغييرات عدة‪ ،‬منها على سبيل المثال إجراء مناوراٍت بالذخيرة‬
‫الحية ومنع استخدام العبوات الخالية من الرصاص‪ .‬تذّكرُت من أيام تدريباتنا في ساندهرست كيف‬
‫أن استعمال الرصاص الحّي يساعد في زيادة التركيز‪ .‬وقد أسَعَفنا الحظ كثيرًا بأن جنديًا واحدًا فقط‬
‫أصيب بجروح خالل هذه التمارين بالذخيرة الحية‪ ،‬منذ بدأنا بإجرائها‪.‬‬
‫في إحدى المناسبات سنحت لنا الفرصة لعرض قدراتنا أمام اإلسرائيليين‪ ،‬وذلك حين زار األردن‬
‫وزير الدفاع اإلسرائيلي إسحق موردخاي في العام ‪ .1997‬طلَب والدي أن نقّدم عرضًا في الزرقاء‪،‬‬
‫وكنا سعداَء بتلبية طلبه‪ .‬بدأنا بالتمارين األساسية التي يصار فيها إلى مهاجمة مواقع محصنة للعدّو ‪،‬‬
‫وقد هجم الجنود نحو خنادق العدو فيما كانوا يطلقون النار‪ ،‬وكانوا يستعملون الذخيرة الحية‪ ،‬ثم‬
‫رَم ْو ا القنابل اليدوية واقتحموا الموقَع المستهدف متخِّط ين الحواجَز العائقة‪ .‬المناورة الثانية كانت‬
‫تقتضي محاكاَة معركٍة في مناطَق عامرة‪ .‬هاجَم جنودنا عددًا من األبنية مستخدمين قاذفاِت اللهب‪،‬‬
‫وطوربيد «بانغالور»‪ ،‬وأنابيَب طويلًة تحتوي مواَّد متفجرًة ُتقطع بواسطتها األشرطة الشائكة‪ .‬أزالوا‬
‫العوائق من طريقهم المؤدي إلى األبنية المستهدفة‪ ،‬ثم رَم ْو ا القنابل اليدوية إلى الداخل عبر النوافذ‬
‫ومن َثَّم اقتحموا المكان‪.‬‬
‫عندما أنهى رجالنا المناورة‪ ،‬التفَت موردخاي نحوي وقال‪« :‬أنا سعيد جّدًا بأن والدك قرر أن‬
‫يصنع السالم بيننا!»‪.‬‬
‫المناورات بالذخيرة الحية لم تكن شيئًا ُيذكر إذا قورنت بالمهمات الحقيقية‪ ،‬ونظرًا لطبيعة‬
‫العمليات الخاصة يبقى العديد من أنشطتنا طَّي الكتمان‪ .‬لكّن مهمًة بعينها تبقى في ذاكرتي وال‬
‫أنساها‪...‬‬
‫الفصل الحادي عشر‪ :‬عملّيات خاصة جّدًا‬

‫في العام ‪ُ 1997‬نشرت قوات قيادة العمليات الخاصة في المناطق الشرقية من األردن لمساعدة‬
‫قوات الشرطة في مكافحة مهّر بي المخِّدرات على الحدود العراقية الذين كانوا يحاولون عبور‬
‫األردن وصوًال إلى األسواق الكبرى المستهَدفة في المملكة العربية السعودية ومصر‪ .‬كان أحد ابَنْي‬
‫صدام‪ُ ،‬قصّي ‪ ،‬يدير عملية تهريب مخدرات من بغداد‪ ،‬لكن المشكلة لم يكن مصدرها خارجّيًا فقط‪،‬‬
‫فهناك أشخاص داخَل األردن كان لهم ضلٌع في العملية‪.‬‬
‫البلدة األردنية األخيرة قبل الحدود العراقية‪ ،‬الرويشد‪ ،‬بلدٌة صغيرة ذات اقتصاد متواضع‪ ،‬فمعظم‬
‫سكانها كانوا يعتمدون في دخلهم على ما يجنونه من المتاجرة عبر الحدود‪ ،‬ملتزمين القانون أحيانًا‬
‫وخارجين عليه أحيانًا أخرى‪ .‬من البلدة إلى الحدود العراقية خمسون ميًال من األرض المنبسطة‬
‫سهًال مديدًا‪ ،‬وكان المهّر بون قد زّو دوا شاحنات جنرال موتورز التي يستخدمونها بعادماٍت موّج هة‬
‫فوهاُتها إلى األرض حتى إذا سارت الشاحنة في أرٍض رملية أثار عادُم ها عاصفًة من الغبار وراَء ها‬
‫تحجُب عنها الرؤية‪ .‬كانوا يمتلكون وسائَل اتصاالٍت آمنة‪ ،‬ومعداٍت تؤّهلهم للرؤية الليلية‪ ،‬ورشاشات‬
‫ثقيلة منصوبة على ظهر شاحناتهم‪.‬‬
‫كان أفراد قوات البادية يراقبون المنطقة في الليل راكبين سيارات الجيب القديمة‪ ،‬ولم تكن لديهم‬
‫أية وسائل للرؤية الليلية‪ .‬أما المهربون فكانوا َيعبرون بأقصى سرعتهم ثم تختفي شاحناُتهم في غابٍة‬
‫من الخيام واألبنية في ضواحي البلدة‪ .‬كان الوضع أشبه بمواجهة جيش غريب مجّه ز جيدًا فيما‬
‫كانت قوات شرطة البادية أقّل تسّلحًا وتجهيزًا‪ .‬وعندما ُقِتل أحد أفراد الشرطة فيما كان يقوم بواجبه‬
‫في التصدي للمهّر بين طلَب والدي من قيادة الجيش إرسالي إلى المنطقة‪ .‬صحيح أن قيادة المهربين‬
‫كانت في مكاتب قصّي في بغداد‪ ،‬لكن يبدو أن َيدهم كانت طائلًة وقادرة على الوصول إلى حيث‬
‫تريد‪ ،‬أما إلى أّي مدى كانت هذه القدرة فهذا ما تكّشف لي قبلئٍذ ببضعة أسابيع وبطريقٍة كانت مدعاة‬
‫للقلق‪.‬‬
‫كنا أنا ورانيا نسكن في منطقة الهاشمية في عمان‪ ،‬وكنت أغادر إلى عملي في الصباح الباكر‪.‬‬
‫الحظُت صباَح أحد األيام أن سيارة «بيك أب» كانت متوقفة إلى جانب الطريق وفي داخلها رجل‬
‫ينتظر‪ .‬عندما عدت من عملي في المساء كانت السيارة ال تزال متوقفة في مكانها والرجل نفسه ال‬
‫يزال ينتظر فيها‪ .‬في اليوم التالي الحظُت أنه ال يزال هناك يراقب المكان متنّبهًا واعيًا‪ .‬اعتراني‬
‫القلق خشيَة أن تكون مهمُته مراقبة المكان تمهيدًا لعمٍل إرهابّي فنَّبهُت حرسي الخاص إلى األمر‪ .‬في‬
‫صباح اليوم التالي‪ ،‬وفيما أنا خارج بسيارتي من مدخل المنزل أدار الرجل محرك سيارته فاندفعت‬
‫السيارة نحوي بسرعة صاروخية‪ .‬ظّنًا منا أنه كمين ينوي بنا شّر ًا سحبنا أسلحتنا استعدادًا إلطالق‬
‫النار‪.‬‬
‫قفز الرجل من سيارته وراح يصرخ‪« :‬ال‪ ،‬ال‪ ،‬ال!» فيما كان يهرول نحوي حامًال بيده حقيبة‪،‬‬
‫حتى إذا وصَل قريبًا مني قال‪« :‬أنا أعلم أنَك ستتلقى أمرًا بالذهاب إلى الحدود… تجد هنا في الحقيبة‬
‫مئة ألف دوالر عَّلها تساعُدك على غّض النظر وااللتفات باتجاٍه آخر»‪ .‬ارتفعْت وتيرُة النْبض عندي‬
‫حتى كدُت أرتجف‪ ،‬وسألت الرجل هل يعلم مع َم ن يتكلم‪ ،‬فأجابني باإليجاب قائًال‪« :‬أنَت قائد‬
‫العمليات الخاصة»‪.‬‬
‫ـ «لكن هل تعلم أنني ابُن الملك؟»‪.‬‬
‫فأجابني الرجل‪ ،‬وهو أردنّي ‪« :‬نعم‪ ،‬أعلم‪ ،‬إليك مئة ألف دوالر»‪.‬‬
‫َص دَم ْتني بالفعل هذه الدرجة من الوقاحة‪ .‬كان معروفًا عن والدي مدى حرِص ه على الشفافية‬
‫والحكم المنفتح‪ ،‬وها أنا أماَم شخص لديه الجرأُة على أن يحسَب أن بإمكانه رشوَة ابن الملك كي‬
‫يغَّض النظر عن عمٍل إجرامّي ‪ .‬أمرُت بتوقيفه على الفور‪ .‬يبدو الجيش أحيانًا في ما يشبه العزلَة عن‬
‫المجتمع عامة‪ ،‬وبالنسبة إلّي كانت هذه الحادثة بمثابة النافذة األولى التي تنفتح أمامي على إرهابيي‬
‫المخدرات ومدى تأثير المبالغ الكبيرة من المال التي ُتدفع رشًى لذوي النفوذ كي يغّضوا أنظاَر هم‪.‬‬
‫إنه أمر واضح طبعًا أن يتصّدى الجيش لحماية الحدود وَص ْو ن أمن األردن ضد أعدائه‪ ،‬لكن هذه‬
‫المسألة كانت أكثر تعقيدًا بكثير‪ ،‬عملية الحدود هذه تحوّلت فجأًة إلى مسألٍة شخصية‪.‬‬
‫كنا قد ذهبنا إلى المنطقة الحدودية قبلئٍذ بسنة تقريبًا‪ ،‬ولكن بآلياتنا وتجهيزاتنا العادية من مسدسات‬
‫وبنادق ورشاشات‪ ،‬ولم نفلح في إنجاز شيٍء ُيذكر‪ .‬عدت إلى والدي وقلت له‪« :‬أرجوك َأطِلْق يدّي »‪.‬‬
‫ثم طلبت إليه أن يسمَح لي بنشر قواٍت من العمليات الخاصة ولكن بأسلحتها الثقيلة‪ .‬وافق والدي‪،‬‬
‫ونشرت القوات في المنطقة الحدودية ولكن مع القوة النارية التي تؤّهلهم لمواجهة المهّر بين وجهًا‬
‫لوجه قبل الموعد بثالثة أيام لئال يكتشَف المهّر بون التوقيت الذي حّددناه للقيام بالعملية‪ .‬كانت القوة‬
‫التي ُنِشرْت مزَّو دًة بالمدفعية وببعض األسلحة المضادة للطيران‪.‬‬
‫اتخذ الجنود في تلك الليلة لهم مواقَع في خنادق قرب الحدود وتمترسوا فيها ينتظرون‪ .‬بقي الوضع‬
‫هادئًا والصمت سائدًا حتى الحادية عشرة ليًال‪ .‬عندئذ رأى الجنود سيارًة عراقية عند الحدود ُتضيُء‬
‫وُتطفُئ مصباَح ْيها األماميين‪ ،‬وعلى مسافة ميلين تقريبًا داخل الحدود األردنية كانت هناك بضُع‬
‫سيارات استجابت لإلضاءة بمثلها‪ ،‬أي إّن المهربين كانوا يستخدمون المصابيح األمامية للتواُص ل‬
‫في ما بينهم‪ .‬سمَع الجنود هدير محرك الشاحنة ثم شاهدوا موكبًا يتحرك عبر الحدود‪ ،‬وما إن فتح‬
‫جنودنا النار حتى انفتحت معها جهنم‪ .‬رد المهّر بون بإطالق النار من أسلحتهم األوتوماتيكية ودارِت‬
‫المعركة بتبادل إطالق النار من الحدود وإليها‪ .‬خالل الليالي األولى من المواجهة أطلَقْت كتيبتي ما‬
‫يقارب عشرة آالف طلقة من الذخيرة‪ ،‬وبما أن المهّر بين لم يشاؤوا أن يتركوا لنا وراَء هم أحدًا من‬
‫قتالهم أو شيئًا من أسلحتهم المدَّم رة‪ ،‬فحين دّم رنا إحدى شاحناتهم جاء فريٌق آخر منهم وسحَب بقايا‬
‫الشاحنة المحترقة إلى داخل الحدود العراقية‪.‬‬
‫بعد مرور بضعة أيام على هذه الحال توّقف المهربون عن تهريب بضاعتهم عبر مواقعنا وأخذوا‬
‫يرّكزون اهتماَم هم على قتل جنودي‪ .‬مع أن محاوالتهم كانت فاشلة‪ ،‬فقد وجدُتني عندئٍذ فاقدًا صبري‬
‫تمامًا‪ .‬انضممُت إلى جنودي وقررت نشر المدافع الثقيلة‪ ،‬فجئُت بمدفع «فولكان م ‪Vulcan( »61‬‬
‫‪ )M61‬من عيار عشرين مليمترًا الذي يرمي ستة آالف طلقة في الدقيقة‪ .‬كانت إحدى سرايانا‪،‬‬
‫األقرب إلى الحدود‪ ،‬مشتبكًة في تبادٍل كثيٍف إلطالق النار مع المهربين‪ ،‬فيما قاَد شقيقي فيصل‪،‬‬
‫الذي كان آنذاك في سـالح الجـّو ‪ ،‬سربًا من المقاتالت دعمًا لعمليتنا‪ .‬وفيما كانت طائـرات «إف ‪»5‬‬
‫تحلق فوقنا ملقيًة القنابَل المضيئَة أعطيُت األمر بإطالق النار‪ .‬فتح رجالي نيران المدفعية والمدافع‬
‫المضادة للطيران من طراز «فولكان»‪ ،‬المصّم مة أصًال للتصدي للطائرات السوفياتية ولكنها كانت‬
‫ذات قدرة تدميرية كبيرة على األرض أيضًا‪ .‬عندما كانت تطلق قذائفها كان يمكن سماع الصوت‬
‫المتواصل «بررررررب‪ ،‬بررررررب» فيما زّخ اُت الرصاص كانت تنهمر واالنفجارات تزرع‬
‫الحدود من طرفيها‪.‬‬
‫بعد هذه العملية لم نعد نعاني مشكالٍت كثيرًة مع المهربين‪ ،‬لكن لم يمِض طويُل وقت حتى تبّين لنا‬
‫أن المهربين لم يكونوا مصدَر التهديد الوحيد بالنسبة إلى األردن‪.‬‬
‫صباح الخامس والعشرين من أيار‪/‬مايو من العام ‪ 1998‬كان صباحًا ربيعيا مشرقًا وجميًال‪ ،‬وبما‬
‫أنه كان ذكرى استقالل األردن ويوَم عطلٍة عامة‪ ،‬كنت في المنزل أجري تماريني الرياضية حين‬
‫رّن جرس الهاتف وكان عمي األمير حسن يتصل بي من مركز إدارة الطوارئ التابع للشرطة‪« :‬ما‬
‫مدى قدرِتكم على القبض على إرهابيين أحياء؟» سأل عمي‪ ،‬فقلت‪« :‬ال نجيد ذلك كثيرًا‪ ،‬فالوحدة‬
‫التي أقوُدها مدّر بة على استهدافهم وقتلهم»‪ .‬قال عمي‪« :‬إن لدينا مشكلًة كبيرة في سحاب»‪ ،‬وهي‬
‫بلدٌة صغيرة قرب عمان‪ ،‬ثم أضاف‪« :‬إما أنت أو الشرطة»‪ .‬ارتديت مالبسي العسكرية وخرجت‪.‬‬
‫في مطلع ذلك العام تعَّر ض األردن لسلسلة مرعبة من جرائم القتل الوحشية التي استهدفِت األحياَء‬
‫التي يقيم فيها بعُض الموسرين واألغنياء في عمان‪ .‬في كانون الثاني‪/‬يناير ُقِتل ثمانية عراقيين في‬
‫فيال في ضاحية الرابية‪ ،‬وفي نيسان‪/‬إبريل ُقِتل ثالثة أردنيين في منطقة الشميساني‪ .‬لقد ُقِتل أحُد‬
‫األطباء المعروفين لمجرد أن حظه السيئ ذهَب به إلى منزٍل كان في تلك اللحظة يشهد إحدى تلك‬
‫الجرائم‪ .‬تعددت الشائعات وتباينت بين أن يكون القتلة من اإلرهابيين أو عصابات المخِّدرات أو‬
‫مجرد مجرمين صغار‪ .‬الحقت الشرطة اثنين من أعضاء العصابة المشكوك في كونها مسؤولًة عن‬
‫تلك الجرائم‪ ،‬وهما أحُد القتلة وشريُكه وأوقعتهما في فخ في أحد منازل سحاب‪ .‬رأى بعض كبار‬
‫المسؤولين أن من الضروري القبض عليهما حّيين‪ ،‬وذلك بغية التيقن مما إذا كانت تلك الجرائم‬
‫موحًى بها من الخارج‪ ،‬ومن جهٍة ثانية لطمأنة الرأي العام‪ ،‬الخائف والمشِّك ك‪ ،‬بأن القتلة باتوا في‬
‫قبضة السلطات‪ .‬كان رجال الشرطة قد قصدوا المنزل المعنَّي عند الواحدة صباحًا من الليلة السابقة‪.‬‬
‫وحين قرعوا الباب فتح المجرمون النار فأصيب أحد أفراد الشرطة بجروح‪ .‬رّد الشرطيون بإطالق‬
‫النار وخالل التبادل الذي جرى بين الجهتين ُقِتل شريك القاتل‪ .‬ومنذ ذلك الوقت والشرطة تحاصره‬
‫في المنزل‪.‬‬
‫حّر كُت الكتيبة ‪ 71‬التي كانت على مستوى عاٍل من التدريب في مجال مكافحة اإلرهاب‪ ،‬وما هي‬
‫إال دقائق حتى كانت الكتيبة جاهزة لتلقي األوامر‪ .‬رافقني مساعدي‪ ،‬ناظم رواشدة‪ ،‬وهو ضابط من‬
‫الكرك التي تبعد حوالى تسعين ميًال إلى الجنوب من عمان‪ .‬بما أن الجنود لم يكن لديهم ما يكفي من‬
‫واقيات الرصاص‪ ،‬مررُت أنا وناظم إلى المكتب لنحمَل بعض الواقيات التي كانت قد وصلت حديثًا‬
‫وهي نماذُج من صنٍع روسّي ‪ ،‬ثم أسرعنا في اللحاق بوحدتنا‪ .‬التقينا بقيَة الكتيبة عند دّو اٍر على‬
‫مشارف البلدة ثم اتجهنا إلى وسط البلدة‪ .‬حين انعطفت بنا سيارة الجيب عند المنعطف األخير‬
‫أصدرت عجالُتها صوتًا قويًا ثَّم توقفنا في ساحة البلدة التي كانت تعّج بالناس‪.‬‬
‫فيما كان الجنود يخرجون من السيارات ويتجمعون مع بنادقهم ومعداتهم‪ ،‬سألُت َمِن المسؤول هنا؟‬
‫فجاءني ضابط شرطة قصير القامة‪ ،‬على شيء من الغضب واللهجة الجافة‪ ،‬وقال لي إّن مسؤولية‬
‫هذه العملية عائدة إليه‪ .‬قلت‪« :‬اسمع‪ ،‬لقد أرسلني األمير حسن مع األوامر بأن أتولى هذه العملية وأَّن‬
‫علينا أن نقبض على اإلرهابّي حّيًا‪ ،‬فالرجاء أن تتنحى جانبًا»‪ .‬بعد نقاٍش اّتسَم بالحدة تنّح ى الرجل‬
‫جانبًا وتوّليت قيادَة العملية‪.‬‬
‫بموجب اإلجراءات السليمة المألوفة كان ُيفَترض برجال الشرطة أن ُيخلوا الساحَة وأن يفرضوا‬
‫طوقًا أمنيًا حولها‪ ،‬حتى لو كنا وسط البلدة ومحاطين بجمٍع من الناس المرعوبين والمتفرجين‬
‫الفضوليين‪ .‬لكن هذه اإلجراءات لم تجد َم ن يقوم بها‪ ،‬وكان خياري الوحيد أن أبذَل ُقصارى الجهد‬
‫في ذلك الوضع الفوضوّي القائم‪.‬‬
‫وأخيرًا سألُت أحد رجال الشرطة‪« :‬كم يبعد المنزل الذي يؤوي هذا الرجل من هنا؟» فأشار‬
‫الشرطي إلى منزٍل ال يبعد أكثر من عشرة أمتار على الجانب اآلخر من الشارع‪ .‬ما كانت من‬
‫موجٍب على اإلطالق أن نقَف مكشوفين على مسافٍة قريبة إلى هذا الحد من قاتٍل موصوف! وفي‬
‫بضع ثواٍن َتجَّم عنا في محٍل للخياطة كان قريبًا منا ولكن المحل كانت فيه نافذة كبيرة تطّل على‬
‫الساحة وتجعُلنا في موقٍع غير آمن‪ .‬أحد رجالي‪ ،‬جمال شوابكة‪ ،‬الذي توّلى الحقًا قيادَة العمليات‬
‫الخاصة‪ ،‬كان يقود فريق الهجوم وكان من سكان سحاب وأول الواصلين إلى الموقع‪ .‬بعد أن أوجز‬
‫لي الوضع على األرض‪ ،‬قال‪« :‬ما دمنا أصبحنا اآلن مسؤولين عن العملية فلنقتحم المنزل وَنقتْله‪.‬‬
‫لن تستغرق العملية أكثر من خمس دقائق»‪ .‬قلت له هذا غير وارد‪ ،‬علينا أن نقبَض عليه حّيًا‪،‬‬
‫وشرحُت له أن األوامر التي تلّقيُتها تقضي بذلك حتى ُيصار إلى محاكمته على الجرائم التي ارتكبها‪.‬‬
‫علينا أن نحاول إلقاء القبض عليه حّيًا حتى لو كان الثمن أن ُيقتل البعض منا‪ .‬إعطاُء أمٍر كهذا كان‬
‫بمنتهى الصعوبة‪ ،‬لكن جمال تلقى األمر دون أن يرَّف له جفن‪ ،‬وقال‪« :‬حسٌن إذًا‪ ،‬سأكون أوَل من‬
‫يقتحم ذلك الباب»‪.‬‬
‫جاءني أحد أفراد الشرطة الذي كان يسمع حديثي مع جمال وقال‪« :‬ال أظن من الحكمة أن‬
‫تستخدموا المتفجرات لتنسفوا الحائط الجانبّي أو النافذة‪ ،‬فهو لديه متفجرات أيضًا»‪ .‬في تلك اللحظة‬
‫نظرت إلى الخارج من نافذة المحل الذي نحن فيه فرأيت أفرادًا من رجال الشرطة منتشرين على‬
‫سطح المنزل‪ .‬أثار هذا المنظر غضبي وقلت‪« :‬إذًا‪ ،‬باهلل عليكم َأْنِز لوا هؤالء الرجال عن السطح!»‪.‬‬
‫استأنفنا رسم خطة الهجوم‪ ،‬وفي هذه األثناء وقف بجانبي رجل متوسط العمر بلباٍس مدني فظننُته‬
‫ضابط مخابرات‪ ،‬لكن عندما نظرُت إليه قال‪« :‬هل َم ن يريد فنجانًا من الشاي؟»‪ ،‬وتبَّين أن الرجل‬
‫بائع فالفل كان قد ترك عربَته في الشارع وجاء يستطلع ما الذي كان يجري‪ ،‬وكانت بالفعل لحظًة‬
‫سيريالية‪ .‬ها نحن في لحظاٍت قد نكون بين الحياة والموت‪ ،‬فيما يحسب بعض الفضوليين األمر كأنه‬
‫مباراة في كرة القدم‪ .‬ولكن مع أن المشهد يبدو فيه شيٌء من الكوميديا‪ ،‬كنا ندرك جيدًا أن الوضع قد‬
‫ينقلب بين لحظة وأختها مأساًة كارثية‪.‬‬
‫لم تعرف الشرطة كيف ُتبقي المنطقة المحيطة بالبناء آمنًة وخالية من الناس‪ ،‬فقلت لناظم‪« :‬نحتاج‬
‫إلى بعض النظام هنا‪ ،‬أبعد هذا الرجل من هناك واضربوا طوقًا يمنع الناس من الدخول إلى هذه‬
‫المنطقة»‪ ،‬لكن مع ذلك بقيت الفوضى سائدة‪.‬‬
‫عندما أنهينا إغالق المنطقة بإحكام‪ ،‬طلبُت من جمال أن يقود الهجوم‪ ،‬فأعّد فريقه من المهاجمين‬
‫بمن فيهم ضابٌط ضخم البنية من ضباط القوات الخاصة اسُم ه أبو خشب وكان ذا شخصيٍة طريفة‬
‫جّدًا‪ ،‬حتى إن بعضًا من زمالئه كان يختبر بعَض أدوات القوات الخاصة وأجهزتها الجديدة عليه‪،‬‬
‫مثل آلة الصدم الكهربائي ورشاش الفلفل الحار‪ ،‬للتأكد من أنها صالحة ألداء مهمتها‪ .‬لم يكن أحد‬
‫قادرًا على الوقوف بوجهه‪ ،‬وبذلك يكون الرجل المثالي لمهاجمة قاتٍل عنيف وشرس‪ .‬حبَس الناس‬
‫المتجمهرون أنفاسهم حين كان جمال يعبر الساحة في طريقه إلى المنزل‪ ،‬دفع الباب بقدمه فانفتح‬
‫ومّد رأسه إلى األمام‪« .‬ال َتْخ ُط إلى الداخل!» صرخ القاتل‪ ،‬وأضاف‪« :‬إذا دخلتم أخذُت معي كل من‬
‫أستطيع أْخ َذه منكم»‪.‬‬
‫«اسمع»‪ ،‬قال جمال بصوٍت خفيض‪« :‬نحن لسنا من الشرطة‪ ،‬نحن القوات الخاصة‪ ،‬وأنت أدرى‬
‫بما يعنيه ذلك‪ ،‬فإما أن تخرَج مستسلمًا أو أن أرمي قنبلًة يدوية إلى داخل الغرفة وينتهي األمر‬
‫وتنتهي أنت معه»‪ .‬ثم طار جمال على قدمين عبر الساحة ليضَعني في الصورة‪« .‬إذا كان ال بد من‬
‫االقتحام فاللحظة المناسبة هي اآلن»‪ ،‬كما قال‪.‬‬
‫أعطيُت جمال األمر بأن يقوَد االقتحام‪ ،‬فعاد إلى الباب األمامي للمنزل وفي اللحظة عينها تسّلل‬
‫فريٌق مهاجم من حول المنزل‪ .‬دخل جمال وواجه اإلرهابَّي رجًال مقابَل رجل‪ ،‬دون أن يسحب‬
‫سالحه وذلك بهدف ضعضعة تركيزه الذهنّي ريثما يكون الفريق المهاجم قد اقتحم المنزل من خالل‬
‫النافذة‪.‬‬
‫بعد سبع دقائق سمعنا ضجيجًا وحركة صاخبة داخل المنزل‪ ،‬ثم خرج جمال وتبَعه أبو خشب الذي‬
‫كان حامًال اإلرهابي القاتل‪ .‬ركضُت صوَبهم وسألت‪« :‬ماذا حدث؟» قال جمال‪« :‬دخلُت من الباب‬
‫على مهل ألتيح له أن يراني بالمالبس المدنية‪ .‬صَّو َب مسدسه بين عينّي ‪ ،‬فقلت له‪« :‬ال تكن أحمق»‪،‬‬
‫ثم قلت‪« :‬إننا ال ننوي قتله وسوف ينال محاكمًة عادلة»‪ .‬أخذ جمال نفسًا عميقًا ثم أكمل‪« :‬وهنا اقتحم‬
‫الفريق الغرف الداخلية‪ ،‬وانقّض الرجال عليه وأمسكوا به»‪ .‬بدا على جمال الذهول والَح رج وقد‬
‫اعتذر عن الدم الذي كان ينزف من وجه الرجل‪ .‬ولكن متى أخذنا باالعتبار أن جمال استطاع بنظرٍة‬
‫حازمة وحاسمة أن يربك هذا القاتَل الشرس ويثّبَط من عزيمته فيستسلم‪ ،‬ال بأس عندئٍذ ببعض‬
‫الخدوش البسيطة‪.‬‬
‫عندما أدرك الجمهور الذي كان متجمعًا وقائَع ما حدث زحف الناس إلى الساحة‪ ،‬من شرطة‬
‫ومدنيين وبائعي فالفل‪ ،‬وأخذوا يهتفون‪« :‬القوات الخاصة! ُهللا أكبر!» وقد حاول كثيرون مهاجمة‬
‫القاتل ولكن سارعنا إلى إدخاله إحدى السيارات وإبعاده عن المكان‪ .‬لم أشأ أن ُيَر َّد الفضُل في هذا‬
‫اإلنجاز إلّي ‪ ،‬وطلبُت إلى المسؤولين هناك أن يعلنوا للجميع أن الشرطة هي التي نفذت العملية وأن‬
‫الشكر والتحية يجب أن يوَّج ها إلى أفرادها‪.‬‬
‫اعتقلت الشرطة الحقًا أربعة من المشاركين في ارتكاب الجرائم‪ ،‬لكّن أحدهم استطاع الفرار‬
‫والهرب إلى أوروبا‪ .‬مجموع أفراد العصابة كان سبعة أشخاص وهم مجموعة مجرمين كانوا‬
‫يستهدفون رجال األعمال األثرياء البتزازهم وإجبارهم على دفع األموال لهم بالقوة‪.‬‬
‫في صباح اليوم التالي كنت داخًال إلى مكتبي فإذا اثنان من رجالي يلتفتان نحوي ويهّز ان برأسيهما‬
‫مبتسَم يْن ‪ .‬لم أتنّبه لألمر في حينه‪ ،‬لكن يبدو أن كاميرات التلفزة قد سّج لت العملية بكاملها‪ ،‬وقد‬
‫احتلت القصة عناوين الصحف صباَح اليوم التالي كما وجدنا أنا وأفراد الفريق أسماَء نا تتصّدر‬
‫الصفحات األولى من صحف الصباح‪ .‬وهكذا ذهَبْت محاوالتي إبقاء المسألة في إطارها الضيق‬
‫أدراَج الرياح‪.‬‬
‫كان والدي قد أحيط علمًا بمجريات العملية‪ ،‬ولكنه لم يطلع على أية تفاصيل‪ ،‬وهكذا فوجئ بأن‬
‫يراني في أخبار صحف الصباح فاستدعاني إلى القصر‪ .‬حين وصلت كان واقفًا إلى جانب مائدة‬
‫اإلفطار مقطب الحاجبين‪ ،‬حامًال الصحيفة بيده وملّو حًا بها في وجهي‪« :‬ماذا كنَت تفعل أمس؟ لقد‬
‫وضعَت حياتك في خطر»‪ .‬فشرحُت له األمر وقلت‪ :‬صحيح أنني كنت قائد العملية‪ ،‬لكن وسائل‬
‫اإلعالم بالغت في وصفها لدوري‪ ،‬جمال وفريُقه هم الذين اقتحموا المنزل‪ ،‬وهم الذين خاطروا‬
‫بحياتهم»‪ ،‬قلت لوالدي‪« .‬ال بأس‪ ،‬لكن ال تدعني أراك تقوم بعمٍل كهذا ثانية!» مع أنه تظاهَر بأن‬
‫المسألة أغضبْته‪ ،‬فقد علمُت في ما بعد من بعض أفراد العائلة أنه كان فخورًا جّدًا بالدور الذي قمُت‬
‫به في العملية‪.‬‬
‫مهنتي العسكرية كانت قد أعَّدتني ألكوَن ُعرضًة إلطالق النار‪ ،‬لكنها لم ُتِع َّدني للحياِة السياسية‪.‬‬
‫عندما يطلق عليَك أحٌد النار تكون أماَم عدٍّو واضٍح ومعروف‪ .‬لكن األمر يختلف تمامًا حين‬
‫يبتسمون لك ويكيلون المديح‪.‬‬
‫ث‬
‫ل‬
‫ا‬
‫ث‬
‫ل‬
‫ا‬

‫م‬
‫س‬
‫ق‬
‫ل‬
‫ا‬
‫الفصل الثاني عشر‪ :‬في خطى القائد األسطورة‬

‫بما أنني االبُن البكُر للملك حسين فقد بدأُت يومَي األول في الحياة ولّيًا للعهد‪ .‬غير أن والدي قرر‬
‫في العام ‪ 1965‬أن ينّح يني‪ ،‬وأنا في الثالثة من عمري‪ ،‬عن هذا الموقع‪ .‬فالمحاوالُت الموَّثقة‬
‫لالعتداء على حياته واغتياله كانت حتى ذلك التاريخ قد بلغت ثماني عشرَة محاولًة وقَع معظُم ها‬
‫خالل سنوات االضطراب في خمسينيات القرن الماضي عندما كانت القومية العربية الراديكالية في‬
‫أوج بروزها‪ .‬وقد بدا له أنه قد ال يعيش ريثما يراني بلغُت أُشّدي‪ .‬وهكذا طلب والدي من مجلس‬
‫األمة تعديل الدستور بما يتيح تعيين شقيقه األمير حسن وليًا للعهد‪.‬‬
‫في فتوتي كنت مؤمنًا بأن رسالتي في الحياة هي أن أكون جندّيًا‪ ،‬وأن أكون درعًا لوالدي وسيفًا‬
‫يمتشُقه متى شاء‪ .‬لكن ما حيلتي إذا ما تسَّلَل إليه خبيٌث ال قدرَة لي على حمايته منه‪ ،‬ففي صيف العام‬
‫‪ 1992‬سافر إلى مايو كلينك في روتشستر ‪ -‬مينيسوتا وتبّيَن في التشخيص الطبي أنه مصاٌب‬
‫بالسرطان‪ .‬خضع لعملية جراحية ناجحة‪ ،‬فتنفست العائلة ومعها الشعب األردني الصعداء واستبشرنا‬
‫خيرًا‪ .‬لكن في تموز‪/‬يوليو من العام ‪ 1998‬عاَد يشعر بأنه على غير ما ُيرام فقصَد الواليات المتحدة‬
‫مجددًا إلجراء فحوص طبية‪.‬‬
‫كنت في تلك الفترة أتابع دورًة قصيرة في إدارة المصادر الدفاعية في كلية العلوم البحرية العالية‬
‫في مونتيري ‪ -‬كاليفورنيا‪ ،‬وكان معي في تلك الدورة قائد كتيبتي عندما ُعِّينُت في مهمتي األولى‬
‫ضابطًا اللواء عبد الرازق إبراهيم‪ .‬كان اللواء عبد الرازق معلمًا كبيرًا بالنسبة إلى مالزٍم ثاٍن ال‬
‫يزال في مرحلة تثبيت خطواِته األولى‪ .‬كان قد سمع عن عودة والدي إلى مايو كلينك‪ ،‬وفي لحظٍة‬
‫من الهدوء بين حصٍة وأخرى‪ ،‬أخذني جانبًا وهمس لي‪« :‬من دون والدك ال حياَة لألردن»‪.‬‬
‫احتفاُل التخرج كان محددًا في اليوم التالي لوصول والدي إلى مايو‪ ،‬وما إن انتهى االحتفال حتى‬
‫غادرت أنا ورانيا واألوالد كاليفورنيا فورًا إلى مينيسوتا لكي نكون إلى جانبه‪ .‬كان ابني حسين قريبًا‬
‫جّدًا من جده‪ ،‬وما كان يجمُع بينهما لم ُيْقَتصر على االسم فقط‪ ،‬فكالهما كان مغرمًا بالطائرات‪ .‬غالبًا‬
‫ما كان والدي يمّر بنا في المنزل ويسألني وهو في السيارة إذا كان حسين موجودًا‪ ،‬فإن لم يكن في‬
‫المنزل كان يمتنع عن الدخول ويكمل طريقه مسرعًا إلى حيث كان ذاهبًا‪ .‬منذ كان في الثانية من‬
‫عمره بدأ حسين يحفظ عن ظهر قلب أسماء الطائرات بمختِلف أنواعها‪ ،‬وكان الفرح يغمر والدي‬
‫حين كان يريه تلك النماذج الصغيرة من الطائرات ويسمع صوَته الطفولّي يصرخ «ستوكا»‬
‫(‪ )Stuka‬أو «جمبو» (‪ .)Jumbo‬كنا مرًة مسافرين إلى لندن وكان والدي يقود طائرته‬
‫الـ«ترايستار» بنفسه‪ ،‬فأجلس حسين في مقصورة القيادة وهو يهبط بالطائرة في مطار هيثرو‪ ،‬وكان‬
‫حسين آنذاك في الثانية والنصف من عمره‪ .‬اندهش أفراد طاقم الطائرة وفرَح والدي كعادته حين دَّل‬
‫حفيُده على طائرة الكونكورد الجاثمة على أرض المطار وسّم اها باسمها ثم استدار إلى البوينغ‬
‫وسّم اها باسمها‪.‬‬
‫فرحنا جميعًا للقاء والدي في مينيسوتا‪ .‬وبعد أن أمضى بعض الوقت مع العائلة‪ ،‬طلَب والدي أن‬
‫يتحدث إلَّي على انفراد‪ .‬وضع يده على ذراعي وقال‪« :‬لقد عاد السرطان»‪ .‬لم أكن قد فّكرُت جديًا‬
‫من قبل في أن والدي قد ُيتوفى نتيجة مرضه‪ ،‬وكنت أحسب أنه سيتغّلب على السرطان كما فعَل من‬
‫قبل‪ .‬لكَّن نبرًة في صوته هذه المرة أنبأْتني أن األمر يختلف عما سبق‪.‬‬
‫أمضينا إلى جانبه يومين آخرين‪ ،‬ثم طلب مني العودة إلى األردن الستئناف عملي في الجيش‬
‫والقيام بواجباتي‪ .‬في العام ‪ 1996‬كنُت قد ُر ّقيت من قيادة القوات الخاصة ألصبَح على رأس قيادة‬
‫العمليات الخاصة‪ ،‬وقد رّكزت اهتمامي على تحديٍث شامٍل لتكتيكنا ومرافقنا وتجهيزاتنا‪ .‬لكن ما كان‬
‫بانتظاري آنذاك كان أكثر بكثير من أن ُيحَصَر بشؤون الجيش والتدريبات العسكرية‪.‬‬
‫في أواخر تموز‪/‬يوليو من العام ‪ 1998‬أصدر والدي بيانًا متلفزًا من مايو كلينك أعلَن فيه أن‬
‫مرض السرطان قد عاَده وأنه يخضع للعالج الكيميائي‪ .‬ذلك الصيف كان حاّر ًا ومفعمًا بالتشنج‪،‬‬
‫وكان الجو عابقًا بالشائعات والنميمة‪.‬‬
‫شملت تلك الشائعات خبرًا مفاده أن والدي بات في حال حرجة ولم يعد أمامه من الحياة سوى‬
‫وقٍت قليل‪ .‬وصلتني تلك الشائعة فيما كنت في مقر قيادة اللواء جالسًا إلى طاولة من السنديان مع‬
‫بعض الضباط‪ ،‬نناقش معًا برنامج التدريب األسبوعي‪ .‬صعقني الخبر‪ .‬فليس أصعب من أن يسمع‬
‫ابن أنه قد يفقد والده في بضعة أيام أو أسابيع‪ .‬ما سمعته هو أنني سأفقد والدي‪ ،‬وكجندي‪ ،‬سأفقد‬
‫مليكي وقائدي‪ ،‬فكانت اللحظة وقت حزن وقلق وتفُّكر في آن معًا‪ .‬مئات األفكار عصَفْت بذهني حول‬
‫ما سمعته للتّو ‪ ،‬وما قد يعنيه هذا الخبر الفظيع إذا صّح ‪ ،‬بالنسبة إلى بالدي وعائلتي‪.‬‬
‫تبادلنا أنا والضباُط اآلخرون نظرات التعجب والحيرة والقلق دون أن ندري بالتأكيد ما إذا كان‬
‫الخبر صحيحًا أم ال‪ .‬لكن إذا كان الخبر صحيحًا فهذا معناه أنه سيكون لدينا ملٌك جديد مع إمكانية أن‬
‫يقوم الملك الجديد بحركة تشكيالٍت واسعة في قيادة الجيش‪ .‬وفيما كنت ال أزال أجهد في تجاوز‬
‫الصدمة التي خّلفها هذا الخبر‪ ،‬اتجهُت لحضور مأدبة غداء كانت مقررًة من قبل في عمان‪ ،‬وكان‬
‫من بين الحضور الفريق سميح البطيخي‪ ،‬مدير دائرة المخابرات العامة‪ ،‬والمشير عبد الحافظ مرعي‬
‫الكعابنة‪ ،‬رئيس هيئة األركان المشتركة‪ ،‬وكان كالهما قد سمع أيضًا كالمًا عن أن والدي قد أصبح‬
‫في المراحل األخيرة من مرضه وأنه لن يعيش طويًال‪ ،‬وقد بدا عليهما الشحوب والشعور بالقلق على‬
‫والدي من جهة‪ ،‬ومن جهٍة ثانية على ما قد تؤول إليه األحداث وانعكاساتها على األردن‪ .‬قلت لهما‬
‫إنني سأتصل بوالدي في مايو كلينيك في أقرب وقت ممكن لكي أعرف الحقيقة منه هو‪.‬‬
‫بعد الغداء اتصلت بمساعد والدي العقيد حسين المجالي الذي كان معه في مايو كلينك وسألُته إذا‬
‫كان الخبر صحيحًا‪ .‬لم يشأ أن يجيب عن سؤالي مباشرًة‪ ،‬لكنه قال إنه سيطلب إلى والدي االتصال‬
‫بي‪ .‬وبعد ساعتين بدا لي أنهما أطوُل من الدهر‪ ،‬اتصل والدي وسألني بغضٍب واضٍح عن تلك‬
‫الشائعات‪ .‬ثم قال لي‪:‬‬
‫ـ «اسمع‪ ،‬هذا كالٌم غير صحيح على اإلطالق‪ ،‬وأنا لدّي هنا أموٌر أهّم بكثير من هذه التفاهات كي‬
‫أهتم بها‪ .‬لكن شكرًا على أنك أخبرتني باألمر»‪.‬‬
‫حديثي مع والدي جعلني أطمئن‪ ،‬فقد شعرُت بأن نبرَته كانت تحمل نبَض المقاتل الذي طالما‬
‫عرفُته في والدي‪ ،‬لكّن الشائعات والتكهنات لم تكَّف عن التكاثر واالنتشار‪ ،‬وكانت تتغّذى بفعل‬
‫الكالم الذي كان قد قيل عن وضع والدي الصحي‪.‬‬
‫كان األمير حسن قد خدم مخلصًا ولّيًا للعهد على مدى أكثر من ثالثة عقود‪ ،‬وبات الكثيرون ممن‬
‫يحيطون به واثقين بأنه سيصبح ملكًا‪ .‬لكن بعض المراقبين في البلد كانوا قد بدأوا يعتقدون أن والدي‬
‫سوف َيعمد في أيامه األخيرة إلى تسمية شخٍص آخر ولّيًا للعهد‪ .‬كذلك فإن بعضًا آخر كان يدور في‬
‫ذهنه مرشح معَّين لهذا الموقع‪ .‬هناك مجموعة‪ ،‬تضّم قائد حرس والدي‪ ،‬ورئيس التشريفات‪ ،‬ومدير‬
‫دائرة المخابرات العامة‪ ،‬كانت تدفع باتجاه جعل األمير حمزة ولّيًا للعهد‪ .‬كان حمزة آنذاك لم يتجاوز‬
‫بعد الثامنة عشرة‪ ،‬وال يزال تلميذًا مرشحًا في األكاديمية الملكية العسكرية في ساندهرست‪ ،‬وكان‬
‫بريئًا تمامًا مما يحاك حوَله من مخططات‪ .‬كنت وإياه قريبين جّدًا أحُدنا من اآلخر‪ ،‬تمامًا كما كانت‬
‫الحال بيني وبين إخوتي األربعة‪ .‬شعرت المجموعتان بأن الفرصة سانحة فراحت كل منهما تنافس‬
‫األخرى من وراء الستار للترويج لمرشحها وزرع الشكوك وعدم الثقة بالمرشح اآلخر‪ .‬غرقت‬
‫عمان بالشائعات‪.‬‬
‫من العوامل التي أّج جت حّم ى األقاويل والنميمة عدم قيام ولي العهد األمير حسن بزيارة والدي‬
‫في أميركا‪ .‬كان موقف مؤيديه هو أنه كان يقوم بواجبه نائبًا للملك‪ ،‬ويوفر بوجوده االستقرار الذي‬
‫كانت تحتاج إليه البالد حاجًة ماسة في تلك المرحلة الحرجة التي تمر بها‪.‬‬
‫في مطلع تشرين األول‪/‬أكتوبر أخذُت إجازًة قصيرة وذهبت إلى مايو كلينك لزيارة والدي‪ ،‬وبما‬
‫أنه كان يحّب الطعام الياباني طلبُت إرسال شرائح طازجة من لحم البقر الياباني إلى مايو كلينيك‪.‬‬
‫وصلُت إلى المستشفى في المساء والتقيت شقيقتَّي عائشة وزين اللتين جاءتا أيضًا لزيارته‪ .‬عندما‬
‫دخلنا عليه وجدناه يشاهد فيلمًا عن الجنرال األميركي «باتون» (‪ )Patton‬وهو من األفالم المفّضلة‬
‫لديه (كان يحب األفالم السينمائية كثيرًا‪ ،‬وال مانع لديه في أن يشاهد فيلمًا كل مساء إذا سمح وقته‬
‫ومشاغله بذلك)‪ .‬كان المشهد الذي ُيفتتح به الفيلم يثير لديه شعورًا مؤثرًا‪ ،‬وذلك حين يتوّج ه باتون‬
‫إلى رجاله وهو يدفع بهم إلى المعركة قائًال‪« :‬واآلن أريدكم أن تتذكروا أن ما من أحد في التاريخ‬
‫ربَح الحرب ألنه مات من أجل وطنه‪ ،‬بل هو ربَح ها ألنه جعَل العدو يموت من أجل وطنه»‪.‬‬
‫فيما كان والدي وشقيقتاي وبقية أفراد العائلة يشاهدون الفيلم‪ ،‬كنت أِع ُّد شرائح اللحم اليابانية‪ ،‬التي‬
‫كانت من أحّب األكالت لديه‪ .‬دار الحديث حول األوضاع في األردن‪ ،‬وراَح بعض أفراد العائلة‬
‫يرددون بضع شائعاٍت مما كانت تضّج به عمان‪ .‬عند هذه النقطة فقدُت صبري وطلبُت أن أتحدث‬
‫إليهم في الخارج‪« .‬اسمعوا»‪ ،‬قلت لهم‪« :‬نحن لسنا هنا لنرّدَد على مسمعه األقاويل واألخبار التي‬
‫تثير غضبه‪ ،‬لقد جئنا ليفرح بنا وإلبقاء معنوياته عالية»‪ .‬ثم عدنا إلى الداخل وتناولنا الطعام معًا‬
‫وشاهدنا ما بقي من الفيلم قبل أن يذهب كٌّل منا إلى سريره‪.‬‬
‫في الصباح التالي جئت مبِّك رًا لكي أعتذر لوالدي عما بدَر مني من انفعال‪ ،‬فطلب مني أن أجلس‬
‫ودار بيننا حديث شخصّي استمّر حوالى ثالث ساعات‪ .‬غالبًا ما كنا نتحدث معًا‪ ،‬لكن في معظم‬
‫األحيان كنا نتناول شؤون الدولة‪ ،‬والمسائل العسكرية‪ ،‬والعائلة‪ ،‬والسيارات‪ ،‬والدراجات النارية‪.‬‬
‫غير أنه نادرًا ما دار الحديث بيننا حول مشاعرنا الشخصية‪ .‬بفعل األجواء التي عاشها كفتى والتعليم‬
‫الذي حَّص له في مدارس داخلية في مصر وإنكلترا‪ ،‬كان ذا َم ْيٍل محافظ في التعبير عن مشاعره‪ ،‬وقد‬
‫شجع أوالَده أيضًا على سلوك هذا النهج نفسه‪ .‬لكن هذا الحديث بيننا كان مختلفًا تمامًا‪.‬‬
‫قال لي إنه كان حقيقًة فخورًا بالعمل الذي قمُت به خالل خدمتي العسكرية‪ ،‬وقال إنه فخور بأن‬
‫أكون ابَنه‪ .‬قال لي إنه ربما شعرُت أحيانًا بأنه كان ُيهملني‪ ،‬لكن في الواقع العكس هو الصحيح‪ ،‬فهو‬
‫كان يراقب عملي المهنَّي بعنايٍة ودون انقطاع‪ ،‬وكان حريصًا على أن أشَّق طريقي بنفسي في‬
‫الجيش‪ .‬لذلك امتنع مرارًا عن تقديم الدعم لي آمًال أن أتمكن من تجاوز كل ما َيعترُض ني من‬
‫المصاعب والتحديات من دون اللجوء إلى مساعدة أحد‪ .‬لكنه قال إنه قد يكون باَلَغ بعض الشيء في‬
‫نهجه هذا‪ ،‬وأوضح‪« :‬أشعُر بأنني خّيبُت أمَلَك بي كأٍب أحيانًا‪ .‬كنُت أعلم في بعض األحيان خالل‬
‫خدمتك في الجيش أن تجاوزاٍت كانت تحصل معك ولم أتدخل لتصويب األمور‪ .‬ال بد أن غضبًا‬
‫انتابَك ألنك ُح ِر مَت دعَم والدك»‪.‬‬
‫ابتسمُت بمحبٍة وقلت له إنني مررُت خالل السنوات العشرين الماضية بحادثٍة أو اثنتين وددُت‬
‫آنذاك لو أن يده امتدت إلّي بالعون‪ .‬لكن حين أفكر في األمر اآلن أجدني عاجزًا عن شكره بما يكفي‪،‬‬
‫ألن أثمن ما تعّلمُته من دروس الحياة كان خالل أصعب األوقات التي مررُت بها‪ .‬ثم أكمَل حديثه‬
‫قائًال إنه ينتظر مني الكثير وإنه حين يعود إلى األردن لديه تغييرات كبيرة سوف يجريها‪ .‬ظننت أنه‬
‫يقصد تغييراٍت في الحكومة‪ ،‬أو مقاربًة جديدة في تحفيز االقتصاد الذي أصيب بشيء من الركود‬
‫كان تراجُع صحة الملك من بين مسّبباته‪ .‬كنت آمل وأدعو هللا أنه ال تزال أماَم ه سنواٌت عديدة‬
‫يعيشها‪ .‬لكن هل كان والدي يشير بكالمه لي إلى أنه في حال احتضار؟ إذا صَّح أن هذا ما كان‬
‫يقصده فال شك في أنني لم أكن مستعّدًا لمواجهة هذا االحتمال‪.‬‬
‫قبل تلك الفترة بسنتين‪ ،‬في أيار‪/‬مايو من العام ‪ ،1996‬تسَّلم السلطة في إسرائيل رئيس حزب‬
‫الليكود بنيامين نتنياهو‪ ،‬الذي لم يكن من مؤيدي اتفاقات أوسلو التي وّقعها الفلسطينيون مع سَلَفْيه من‬
‫حزب العمل شمعون بيريز وإسحق رابين‪ .‬لم يمّر على تسّلم نتنياهو الحكَم أكثر من بضعة أشهر‬
‫حتى تسبب فتح نفق في جوار الحرم الشريف في القدس‪ ،‬بفورِة غضٍب واحتجاجات عنيفة في‬
‫الضفة الغربية‪ .‬كذلك كان عمل إسرائيل هذا مناقضًا لمعاهدة السالم التي وّقعتها إسرائيل مع األردن‬
‫في العام ‪ 1994‬والتي ورد فيها بنٌد يعترف بدوٍر خاص لألردن في اإلشراف على األماكن المقدسة‬
‫في مدينة القدس‪ .‬تدهورت العالقات الفلسطينية ‪ -‬اإلسرائيلية بدرجة كبيرة بعد هذا الحدث‪ ،‬وحيال‬
‫هذا التوتر المستجّد دعا الرئيس األميركي كلنتون رئيس الوزراء اإلسرائيلي نتنياهو والرئيس‬
‫الفلسطيني ياسر عرفات في الخامس عشر من تشرين األول‪/‬أكتوبر إلى لقائه في «واي ريفر‬
‫بالنتيشن»‪ ،‬وهو مجَّم ع يقع على الشاطئ الشرقي لوالية ماريالند‪ .‬كانت المفاوضات تسير نحو‬
‫الفشل‪ ،‬ما دفع كلنتون في اليوم الرابع من القمة إلى دعوة والدي لالنضمام إلى اللقاء وبذل جهوده‬
‫لمحاولة بث الحيوية في المحادثات بين الطرفين‪ .‬لم يتواَن والدي في النهوض من فراش المرض‬
‫لمحاولة إنعاش عملية السالم‪ .‬وحين ظهر في المؤتمر بعد يومين شاحَب الوجه أصلَع الرأس‪ ،‬يمشي‬
‫متثاقًال تحت وطأِة المرض‪ .‬كان لمجيئه ما ُيشبه فعَل اإللهام للطرفين كي يجدا حلوًال لخالفاتهما‪ .‬بعد‬
‫مناقشاٍت استغرقت أيامًا وافق الوفدان على اتفاق وفق معادلة األرض مقابَل السالم تنسحب بموجبه‬
‫إسرائيل من ‪ 13‬في المئة من الضفة الغربية إضافًة إلى ما كانت قد انسحبت منه سابقًا‪ .‬شعوران‬
‫نقيضان تقاذفا األردنيين عند رؤية مليكهم على شاشات التلفزة في تلك المناسبة‪ ،‬شعوُر العزِة‬
‫والَفخار بقائِد مسيرتهم ينهض من سرير المرض‪ ،‬شاحبًا متثاقًال‪ ،‬ولكن شامخًا كالطود‪ ،‬لكي يدفَع‬
‫بعملية السالم ما قَّدره هللا على ذلك‪ ،‬وشعوُر الصدمة الموِج عة أمام التغُّير الذي عكَسه المرُض على‬
‫صورة الملك وحالته الصحية‪ .‬قبل ذلك التاريخ بشهرين كان ال يزال أكثر قوة وأفضل صحة‪ ،‬واآلن‬
‫يبدو عليه هبوُط وزنه والضعف العام في بنيته‪ .‬هذا التراجُع السريع في وضعه الصحي أثار مزيدًا‬
‫من التكهنات في عمان بأن حالة والدي الصحية كانت أسوأ مما يظنه الناس‪ ،‬وأن البالد قد يكون‬
‫عليها االستعداد لرؤية ملٍك جديد يتولى السلطة‪.‬‬
‫أعاد اتفاق «واي ريفر» الذي وّقعه الطرفان في البيت األبيض في ‪ 23‬تشرين األول‪/‬أكتوبر‬
‫‪ ،1998‬الحياَة إلى العملية السلمية بين إسرائيل والفلسطينيين بعد توقٍف استمر سنًة ونصَف السنة‪.‬‬
‫فمقابل إعطاء الفلسطينيين السيطرة على مزيد من األرض في الضفة الغربية‪ ،‬وافق الفلسطينيون‬
‫على منع «األعمال اإلرهابية والجرائم واألعمال العدائية» ضد إسرائيل‪ ،‬وعلى تعديل الميثاق‬
‫الوطني الفلسطيني بحيث ُتلغى منه المواُّد التي تدعو إلى إزالة دولة إسرائيل‪ .‬كذلك وافقت إسرائيل‬
‫في المقابل على اإلفراج عن مئات األسرى الفلسطينيين وعلى فتح مطار غزة وتوفير معبٍر آمٍن‬
‫يسلكه الفلسطينيون بين غزَة والضفِة الغربية‪ .‬في ضوء هذه التطورات بدا أن الطرفين أخذا أخيرًا‬
‫يتجهان نحو معالجة المسائل الصعبة المتعلقة بالوضع النهائي‪ ،‬بما في ذلك السيادُة على مدينة‬
‫القدس‪ ،‬وعودُة الالجئين الذين هّج رتهم حرُب العام ‪ 1948‬وحرُب العام ‪ ،1967‬ثم الحدود النهائية‬
‫للدولة الفلسطينية‪.‬‬
‫اتصل بي والدي طالبًا مني الحضور إلى أميركا‪ ،‬فاتجهت من األردن إلى واشنطن في ‪ 22‬تشرين‬
‫األول‪/‬أكتوبر‪ ،‬قبل االحتفال بتوقيع االتفاق بيوم واحد‪ .‬وصلت واشنطن في المساء وبَلَغني عند‬
‫وصولي أن والدي يريد حضوري إليه فورًا‪ ،‬فركبت سيارًة كانت في انتظاري وفي الطريق إلى‬
‫منزل والدي في ماريالند‪ ،‬فيما كنت أراقب مشهد أشعة الشمس تلمع على صفحِة مياه نهر‬
‫«البوتوماك»‪ ،‬كنت أفكر في ما سيحمله المستقبل من تطورات‪ .‬ما إن وصلت حتى طلب والدي أن‬
‫أنضم إليه في مكتبه‪ ،‬دخلُت ووقفُت متأهبًا ريثما أشار لي بالجلوس‪ ،‬فأنا لم َيُفْتني لحظًة في حياتي‬
‫أنه‪ ،‬وإن كان والدي‪ ،‬فهـو أيضًا ملكي‪َ .‬ص َدمني ما شـهدُته مـن ضعٍف في جسـمه عمومًا‪ ،‬لكنني‬
‫رأيت الصالبَة والقوَة اللتين عرفُتهما دومًا في نظرِة الثبات واليقين في عينيه‪.‬‬
‫قال إنه اشتاَقني كثيرًا وإنه سمع عني أخبارًا جيدة ومفرحة منذ التقينا آخَر مرة‪ .‬كان واضحًا أنه‬
‫سمع كثيرًا من أخبار المكائِد المتنقلة هنا وهناك في األردن وعلَم أنني لم أكن معنّيًا بكل ذلك‪ .‬سألني‬
‫عن األوضاع في األردن وعن الجيش تحديدًا‪ .‬قلت له إن الجيش مخلٌص لقائده األعلى‪ ،‬كما كان‬
‫دومًا‪ ،‬ويدين له بالوالء الكامل‪.‬‬
‫واصل والدي الحديث عن األوضاع في األردن ‪ .‬قال لي إنه فّكر في األمر ملّيًا‪ ،‬ثم أضاف‪« :‬لقد‬
‫قررُت أن أغّير ولي العهد»‪ .‬هززت برأسي‪ ،‬فيما توقَف هو لحظًة ثم تابع‪« :‬أرجو أن تدرَك أن هذا‬
‫األمر سيكون وقُعه صعبًا على الكثيرين في عمان‪ .‬ومن هنا أتوقع منك أمورًا‪ ،‬وأنا على يقين من‬
‫أنك ستكون على قدر المسؤولية في ذلك»‪ .‬ال هو حَّدد على َم ن وقَع خياُر ه وال أنا طلبُت إليه ذلك‪،‬‬
‫فوالدي كان منهكًا من العالج الذي كان يخضع له وهذا الموضوع كان دون ريب في منتهى‬
‫الصعوبة بالنسبة إليه‪ .‬أنهى حديثه هنا وقال لي‪ِ« :‬لَم ال تخرج وترّو ح عن نفسك قليًال»‪.‬‬
‫وراحت األفكار تعِص ف بذهني وأنا في الطريق إلى مطعم «مورتنز» في حي جورجتاون في‬
‫واشنطن لتناول الطعام مع أحد أصدقاء العائلة‪ .‬قلت في نفسي ربما تكون تنبؤات عمي في طريقها‬
‫إلى أن تصبَح واقعًا‪ .‬وإذا كان والدي ينوي إجراء تغيير في والية العهد‪ ،‬فمن الواضح أن عمي لن‬
‫يصبَح ملكًا‪ ،‬لكن يبقى السؤال‪ ،‬إذًا َم ن؟ إذا كان ينوي أن يعّين حمزة ولّيًا للعهد فِلَم لم يخبرني بذلك؟‬
‫أنا لم أكن مستعّدًا بعد لقبول فكرة أّن والدي على وشك أن يفارق الحياة‪ ،‬فكيف بي إذا كان ينوي‬
‫اختياري خلفًا له؟‬
‫كان احتفال التوقيع بين رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات‬
‫محددًا بعد ظهر اليوم التالي في البيت األبيض‪ .‬وقد أدلى والدي ببضع كلمات خالل االحتفال‪ ،‬قال‪:‬‬
‫«نتنازع‪ ،‬نتوافق‪ ،‬نتصادق‪ ،‬نتخاصم‪ .‬لكن ليس لنا الحق في أن نفرَض على أوالِدنا وعلى أوالِدهم‬
‫مستقبًال يكون نتيجَة أعماِلنا الالمسؤولة وضيِق األفق‪ .‬يكفي ما شهدناه من الدمار والموت وهدِر‬
‫الطاقاِت والثروات‪ .‬لقد حاَن الوقت لكي نشبك أيدينا معًا ونحتَّل مكانًا تحت الشمس يتجاوز‬
‫أشخاَص نا‪ ،‬مكانًا جديرًا بشعوِبنا‪ ...‬وهم جميعًا أبناُء إبراهيم»‪.‬‬
‫بعد االحتفال انتظرُت والدي في سفارتنا في واشنطن حيث كان يعتزم استقبال مسؤولين كبار في‬
‫الحكومة األردنية كانوا قد جاؤوا إلى الواليات المتحدة لزيارته‪ .‬في الظروف العادية كان يستقبل‬
‫وفودًا كهذه في منزله‪ ،‬لكنه عقَد تلك االجتماعات في السفارة لكي يبعَث برسالٍة عاّم ة ال ينقُص ها‬
‫الوضوح‪ .‬عقَد بضعَة اجتماعات على حدة مع عدد من الشخصيات ذات المواقع الرفيعة‪ ،‬من بينهم‬
‫رئيس هيئة أركان القوات المسلحة‪ ،‬ووفٌد من مكتِب ولي العهد األمير حسن‪ ،‬ورئيسان سابقان‬
‫للحكومة‪ .‬كان الزوار جميعًا جالسين في قاعة االنتظار في السفارة عندما دخَل والدي إلى القاعة‬
‫وتقدم‪ ،‬أمام جميع الحاضرين‪ ،‬وعانَق رئيَس الوزراء السابق عبد الكريم الكباريتي الذي كان معروفًا‬
‫بمعارضِته لألمير حسن‪ .‬بعدئٍذ اجتمع والدي في مكتب السفير إلى كل وفٍد من الوفود على حدة‪ ،‬وقد‬
‫علمُت في ما بعد أنه كان يكرر القوَل في كل اجتماع إنه سوف ُيجري «تغييراٍت رئيسة» عند‬
‫عودته إلى األردن‪ ،‬وهي الرسالة التي عاد وأدلى بها علنًا في أواخر شهر تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪.‬‬

‫***‬

‫في خريف ذلك العام تكّثفت التكهنات وتزايدت حول مسألة الخالفة‪ ،‬ولم تعد األقاويُل حكرًا على‬
‫عمان وحَدها‪ ،‬فقد أعلنت صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية في عنواٍن رئيس على صفحتها‬
‫األولى‪« :‬ملكاُت األردُن المتناحرات يتناَز ْعَن على الخالفة»‪ ،‬وقالت «نيويورك تايمز»‪« :‬الملك‬
‫حسين مريض وشقيُقه ينتظر»‪ .‬وقد شارك في هذه التكهنات العديد من صحف العالم‪ .‬ففي كندا‬
‫نشرت صحيفة «كالغري هيرالد» مقالًة تحت عنوان «األمراء يتدافعون لوراثة تاج الحسين»‪ .‬وقد‬
‫ادعى كاتب هذه المقالة أن نزاعًا كان قائمًا بين الملكة نور وزوجة األمير حسن‪ ،‬األميرة ثروت‪،‬‬
‫متهمًا كلتيهما بالقيام بمناوراٍت تتعلق بالخالفة‪ .‬كان مؤلمًا بالفعل أن نقرأ كل هذه األخبار والتفاصيل‬
‫المتعلقة بمرض والدي وبشؤوننا العائلية على صفحات الصحف‪ .‬لقد آلمني أن أرى حزننا الشخصّي‬
‫والعائلي منشورًا على الصفحات األولى من الصحف العالمية‪.‬‬
‫أواخر تشرين الثاني‪/‬نوفمبر حملت إلينا األخبار نبًأ فيه شيٌء من الفرحة اآلنية وهو أن اسَم والدي‬
‫ورَد بين األسماء المرشحة لنيل جائزة نوبل للسالم‪ .‬في مفارقٍة غريبة‪ ،‬كان الرئيس المصري أنور‬
‫السادات ورئيس الوزراء اإلسرائيلي مناحيم بيغن قد ناال جائزة نوبل للسالم في العام ‪ 1978‬تقديرًا‬
‫لدورهما في إنهاء حالة الحرب بين مصر وإسرائيل‪ .‬وفي العام ‪ 1994‬تشارَك الجائزَة الرئيُس‬
‫الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل إسحق رابين ووزير خارجية إسرائيل شمعون‬
‫بيريز‪ ،‬تقديرًا لجهدهم المشترك في السعي إلى السالم‪ .‬لكن هذا التكريم لم يحصل عليه والدي‬
‫وإسحق رابين بعد أن وّقعا معاهدة السالم بين إسرائيل واألردن في تلك السنة بالذات‪.‬‬
‫في أوائل كانون الثاني‪/‬يناير من العام ‪ 1999‬غادر والدي الواليات المتحدة إلى لندن‪ ،‬وفي السابع‬
‫من الشهر ذاته حطت بي الطائرة في مطار هيثرو وقدُت السيارة في طقٍس جليدّي عاصف إلى‬
‫منزله قرب منطقة «آسكوت»‪ ،‬على بعد خمسة عشر ميًال إلى الجنوب الغربي من المطار‪ .‬كان‬
‫المنزل يعّج بأفراد العائلة وقد ظهر لي واضحًا أنه أراد التحدث إلّي على حدة‪ ،‬لكن لم يكن سهًال‬
‫إيجاد لحظٍة هادئة‪ .‬كنت كلما ذهبت لزيارته أجُد أحَد أفراد العائلة لديه‪ ،‬لكن هذا ال يمنع أننا كنا‬
‫نرتاُح دائمًا لذلك الشعور الذي ينتاب األبناَء وآباَء هم عندما يكونون معًا حتى إن لم يكن لديهم الكثير‬
‫مما يقولونه‪ .‬في اليوم األخير لي في لندن كان أملي أن أتمكن من التكّلم معه ولو بضَع دقائق على‬
‫انفراد‪ ،‬لكن عمي‪ ،‬ولي العهد األمير حسن الذي كان قد تعّر ض للكثير من االنتقاد لعدم زيارة والدي‬
‫في مايو كلينك‪ ،‬جاء في زيارٍة مفاجئة‪.‬‬
‫أخيرًا نجحُت في اقتناص بضِع دقائق معه على انفراد‪« .‬ابَق هنا يومين آخرين»‪ ،‬قال لي‪ ،‬فأجبته‪:‬‬
‫«سيدنا» ‪ -‬لم أناِده يومًا بغير سيدنا ‪« -‬ال بد لي من العودة إلى األردن»‪ .‬ثم قلت له إنني مسؤول عن‬
‫ناحيٍة أمنيٍة أساسية تتعلق بوصوله إلى عمان‪ .‬تنّه د عميقًا ثم قال سوف نكمل الحديث في عمان‪.‬‬
‫عدت إلى عمان وبدأت اإلعداد لعودة والدي الذي كان قد مضى على غيابه عنها حوالى ستة‬
‫أشهر‪ ،‬وكان متوقعًا أن يخرج مئات آالف األردنيين للترحيب به عائدًا إلى الوطن بعد عالٍج من‬
‫مرض السرطان كان األردنيون يحسبون أنه انتهى إلى نجاح‪ .‬كانت الخطة أن ينتقل بالسيارة من‬
‫المطار مخترقًا شوارع عمان وصوًال إلى منزله في منطقة الحَّم ر‪ ،‬شمال غرب العاصمة‪ .‬كان ُيطلق‬
‫على منزله اسم باب السالم‪ ،‬وذلك تيمنًا بأحد مداخِل المسجِد الحرام في مكة المكرمة التي حكَم ها‬
‫أسالفي من الهاشميين إلى أن سيطر عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود على الحجاز في العام‬
‫‪ ،1924‬ومن َثّم أّسس المملكة العربية السعودية‪.‬‬
‫على مدى األيام العشرة التالية لم تتوقف التكهنات بأن والدي قرر إجراء تبديل في موقع والية‬
‫العهد‪ .‬جاءني عدة أشخاص ولّم حوا بلهجٍة تآمرية إلى أن المرشح لتولي المنصب هو أنا‪ .‬في الحقيقة‬
‫كان شعوري أن المسألة ال تعنيهم من قريب وال من بعيد‪ .‬كنت على مدى السنين الماضية أتجّنب‬
‫الغوص في القرارات السياسية وأرّكز اهتمامي على مهنتي في الجيش‪ .‬ولم أكن على استعداٍد اآلن‬
‫لكي أغّيَر هذا النهج‪.‬‬
‫في التاسع من كانون الثاني‪/‬يناير ‪ 1999‬حّط والدي بطائرته من طراز «غلف ستريم ‪»4‬‬
‫(‪ )Gulfstream IV‬التي قادها بنفسه من لندن‪ ،‬في مطار ماركا قرب عمان‪ .‬خرج من الطائرة‬
‫وكان مرتديًا بدلًة دكناَء اللون والكوفية‪ .‬كان المشهد في المطار زاخرًا بالعواطف الجّياشة حيث‬
‫تجّم ع مئات الناس الستقباله والترحيب به‪ ،‬فيما غّص ت شوارع عمان بآالف المواطنين‪ .‬في تلك‬
‫الليلة من تموز‪/‬يوليو حين أخبرني أن مرض السرطان عاوده‪ ،‬راوَدني حلٌم بأن والدي عاد إلى‬
‫األردن وأن شعبنا خرج باآلالف‪ ،‬كما فعلوا بعد شفائه من مرضه األول في العام ‪ ،1992‬للترحيب‬
‫به واإلعراب عن فرحتهم بعودته‪ .‬لقد صَّح الحلم‪ ،‬ولكن في الحياة الحقيقية لن نكون أمام نهايٍة‬
‫سعيدة‪.‬‬
‫انهمرت الدموع من عينْي رانيا‪ .‬أما أنا فكنت أبذل طاقتي من الجهد للسيطرة على عواطفي‪ .‬لكن‬
‫لم تكن كل العواطف التي ظهرت على الوجوه يومذاك صادقة‪ .‬توافَد أفراُد العائلة والسياسيون‬
‫ورسميو الديوان الملكي للترحيب بمليكهم العائد‪ .‬وكان السلوك الذي نهَج ه والدي مع المرحبين به‬
‫درسًا عميقًا في إدارة شؤوِن الدولِة والحكم‪ .‬كأنه بنظرٍة سريعٍة جاَل على المرحبين‪ ،‬فقّبل بعَض هم‪،‬‬
‫وحضَن البعض‪ ،‬وصافح بعضًا ثالثًا‪ ،‬أما البعُض الرابع فمَّر به متجاوزًا ولم ُيِعْر ه حتى التفاتَة‬
‫اعتراٍف بأنه رآه‪ .‬كان يعرف تمامًا َم ن هُم الذين حفظوا الوالَء في غيابه وَم ن الذين سقطوا‪ .‬أحد‬
‫أفراد العائلة حاوَل أن يقّبله حين كان يصافحه فدفَعه والدي بعيدًا عنه‪ .‬وإدراكًا منه أن والدي كان‬
‫يعرف ِنفاَقه‪ ،‬انفجَر الرجُل باكيًا‪.‬‬
‫عندما وصَل إلّي ‪ ،‬تجاهَلني والدي تجاهًال تاّم ًا‪ ،‬حتى إنه لم ينظر في عينّي ‪ ،‬اكتفى بأن صافحني‬
‫وقبلني بسرعة فائقة وأكمَل دورته‪ .‬هنا تنَّبهُت تمامًا لما يرمي إليه‪ ،‬فهو تجّنَب التركيز علّي ألنه كان‬
‫ينوي تسميتي ولّيًا للعهد‪ ،‬ولو أنه أظهر اهتمامًا عاطفّيًا خاّص ًا بي العتبَر المراقبون من الرسميين‬
‫أنني أصبحُت من المفّضلين لديه وبالتالي بدأوا يتدافعون نحوي طلبًا لمواقع نفوذ‪ .‬أما ذوو النيات‬
‫السيئة فكانوا سيبدأون نسج المكائد ضدي‪.‬‬
‫في اليوم التالي جاء إلى عمان ولّي عهد دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم‪ ،‬وولي عهد أبو ظبي‬
‫الشيخ محمد بن زايد آل نهيان للسالم على والدي‪ .‬أمرني والدي بأن أذهب إلى المطار الستقبال‬
‫الزائرين‪ .‬المألوف بروتوكولّيًا أن يستقبلهما ولّي العهد‪ ،‬لكن والدي قال‪« :‬أريدك أنت أن تستقبل‬
‫الضيفين‪ ،‬فهما صديقان لك وأنت الذي يجب أن يأتي بهما إلى هنا»‪ .‬استقبلُت الضيفين ورافقُتهما‬
‫لمقابلة والدي ثم رافقُتهما في العودة إلى المطار‪.‬‬
‫بعد بضعة أيام‪ ،‬في ‪ 22‬كانون الثاني‪/‬يناير اتصل والدي بي في المنزل وقال‪« :‬أريد أن أراك»‪.‬‬
‫ركبت السيارة واتجهت فورًا إلى الحّم ر‪ ،‬عابرًا تلك المنعطفات ُص عدًا نحو المرتَفع المشرف على‬
‫عّم ان‪ .‬كان والدي ينتظر في غرفة الطعام فدخلت وأغلقت الباب ورائي‪ .‬بدا لي منظره أسوأ بكثير‬
‫منه عندما كان في لندن‪ .‬سمعت من الحرس أنه ُأعِط َي جرعاٍت من الدم عدَة مرات وانتاَبني خوٌف‬
‫كبير عليه‪.‬‬
‫أخذني من يدي وقال‪« :‬أريد أن أعّينك ولّيًا للعهد‪ ،‬فذلك حقك‪ .‬وأنت أيضًا األكثر كفاءًة‪ ،‬وأنت‬
‫الذي يستطيع‪ ،‬من دون اآلخرين جميعًا‪ ،‬أن َيقوَد البالد»‪ .‬جلسُت في صمٍت وذهول‪ ،‬وأخيرًا قلت له‪:‬‬
‫«ماذا عن عمي األمير حسن؟»‪.‬‬
‫قال إن أحد األسباب التي جعلته يختارني هو أنني كنت دائمًا أفّكر في اآلخرين‪ ،‬وإنه يعرف أن‬
‫لدّي القدرَة على قيادة البالد والحفاظ على وحدة العائلة في هذه الظروف العصيبة‪ .‬في نهاية‬
‫المطاف‪ ،‬حسن هو أخوه ويبقى أخاه‪ ،‬وهو عمي ويبقى كذلك‪ .‬اغرورقت عيناي بالدمع إذ أدركت أن‬
‫والدي يحاول أن يقول لي إنه بات قريبًا من النهاية‪ .‬كان ينوي العودة إلى الواليات المتحدة خالل‬
‫بضعة أيام‪ ،‬كما قال‪ ،‬للخضوع لعملية زراعة النخاع العظمي (‪)Bone Marrow Transplant‬‬
‫وهي األمُل األخير وآِخ ُر الدواء‪ .‬الحظت أن القوة في عينيه أخذت في الذبول بعَض الشيء‪ ،‬أما أنا‬
‫فشعرُت بنفحٍة باردة تجتاحني‪ ،‬وأحسُب أنها المرُة األولى التي شعرُت فيها بأنني واحٌد وحيد‪ .‬ال بل‬
‫شعرت بدافٍٍع إلى البكاء بين يديه وبرغبٍة جامحة في أن أعّبر له عما يعنيه لي والدًا وملكًا‪ ،‬ولكن‬
‫كنت مدركًا أنه بطبيعته ال يألف هذه الطريقة في التعبير‪ ،‬وأن أفضَل السبل لكي أظهَر له حبي‬
‫وعاطفتي حياَله هو أن أركّز اهتمامي على التداعيات المترتبة على قراره وأن أمسَك بزمام‬
‫مسؤوليتي بالجدية المطلوبة والمتوقعة مني‪ .‬وبالرغم من صعوبة اللحظة ومن ثقل العواطف‪،‬‬
‫مضينا في الحديث عن المستقبل‪.‬‬
‫كانت المسألة األكثر إْلحاحًا هي َم ن أسّم ي ولّيًا للعهد؟ فبحسب الدستور يجب أن تنتقل واليُة العهد‬
‫إلى ابني حسين‪ ،‬لكن حسين لم يكن تجاوَز الخامسة من عمره‪ .‬سألُت والدي نصيحَته فقال‪« :‬اختياُر‬
‫ولي عهدك هو قرار عائد إليك»‪ .‬وتحت وطأِة دفٍق من العاطفة فّكر لحظات‪ ،‬وهنا تغّيرْت نبرُة‬
‫صوته وقال‪« :‬من أجل سالمِتك الشخصية‪ ،‬أنصحك بأن تعّين حمزة ولّيًا للعهد»‪ ،‬قالها بصوٍت‬
‫خفيض‪ ،‬وأضاف‪« :‬لكن في نهاية المطاف‪ ،‬األمر لك‪ .‬وعليك بالحَذر الشديد»‪ .‬من هذا الكالم بالذات‬
‫تيقنت إلى أّي مدى كان والدي مَّطِلعًا على ما كانت تشهده عمان آنذاك من المكائد السياسية وواعيًا‬
‫لها‪.‬‬
‫بعد الحديث مع والدي عدت إلى المنزل جاهدًا في محاولة احتواء مشاعر الحزن والغّص ة‪ ،‬وحين‬
‫تجاوزت الباب األمامي داخًال رأيت رانيا جالسة على األرض في غرفة الجلوس وتحيط بها أكواٌم‬
‫من الصور‪.‬‬
‫كانت لدينا خزانٌة مألى بالصور العائلية التي كانت رانيا ترّدد منذ سنوات أنها بحاجة إلى ترتيب‪،‬‬
‫وها هي قررت أن تفتح هذه الورشة‪ .‬التفُّت إلى زوجتي‪ ،‬محاطًة بصوٍر تحمُل لحظاٍت سعيدًة من‬
‫حياة عائلتنا‪ ،‬وقلت لها إن والدي قرر أن يجعَلني ولّيًا لعهده‪ ،‬وقلت‪« :‬صحُته تدهورت إلى درجة‬
‫سيئة جّدًا‪ ،‬وال أحسُب أن أياَم ه الباقية ستكون طويلة»‪ .‬نظرْت إلّي رانيا نظرَة مزيٍج من الخوف‬
‫والحزن وكأنها تعّبر عن توّجٍس مما سيأتي‪ .‬لن يمضي وقٌت طويل إال ونحن في بحٍر من األضواء‬
‫وهو ما لم يكن في يوٍم من األيام في حسبان أٍّي منا على اإلطالق‪ .‬أما الذئاب الفاغرة أفواَهها‬
‫تنتظرنا عند أول منعطف وأول عثرة‪ ،‬فحّدث وال حرج‪.‬‬
‫صباح الخامس والعشرين من كانون الثاني‪/‬يناير‪ ،‬فيما كنت جالسًا في المنزل‪ ،‬رّن جرس الهاتف‬
‫وكان على الخط رئيس التشريفات الذي أراد إبالغي أن والدي يريد مني ومن عمي األمير حسن‬
‫المجيء إلى القصر في الرابعة من بعد ظهر ذلك اليوم‪ .‬إذًا‪ ،‬هي ساعُة التغيير‪ ،‬على ما ظننت‪ .‬كان‬
‫الوقت ال يزال مبكرًا على الموعد‪ ،‬فقررت الذهاب إلى منزل والدتي على المرتفعات المطلة على‬
‫عمان لتمضية الوقت هناك ريثما يحين الموعد‪ .‬دخلُت عبر الممر األخضر المسَّيج حيث كنت ألعب‬
‫صغيرًا‪ ،‬وحيث كنت أشاهد المقاتالت اإلسرائيلية تحّلق فوق رؤوسنا في حرب العام ‪ .1967‬في‬
‫المنزل وجدُت العائلة بانتظاري وقد اجتمع أفرادها لكي نكون معًا يدعم بعُض نا بعضًا‪ .‬شقيقي فيصل‬
‫كان هناك‪ ،‬وأختي األكبر مني عالية‪ ،‬وشقيقتاي الصغريان زين وعائشة‪ ،‬وابنا عمي طالل وغازي‪،‬‬
‫ووالدتي‪ .‬تحدثنا عن األيام الجميلة والسعيدة التي مرت بنا وعن ذكرياتنا مع والدنا‪ .‬انتظرُت حتى‬
‫الرابعة من بعد الظهر‪ ،‬لكن ما إن هممُت بالخروج حتى بَلغني أن تأخيرًا طرأ على الموعد‪ ،‬وقد‬
‫علمُت في ما بعد أن والدي كان يبذل جهدًا مضنيًا لوضع اللمسات األخيرة على رسالٍة يوّج هها إلى‬
‫األمير حسن تتعلق بقراره بشأن والية العهد‪ .‬في ساعٍة متقدمة من المساء رّن الهاتف وأبلغني رئيس‬
‫التشريفات رغبة والدي في الحضور فورًا‪.‬‬
‫فور وصولي إلى منزل والدي‪ ،‬باب السالم‪ُ ،‬أشيَر لي بالتوجه إلى مكتبه حيث كان والدي واألمير‬
‫حسن ينتظران‪ .‬قال والدي لألمير حسن إنه قرر إجراء تبديل في والية العهد بحيث أتولى أنا هذه‬
‫المسؤولية‪ .‬تلقى األمير حسن قرار والدي برفعٍة وُنبٍل ‪ ،‬وتقدم مني يسّلمني َعَلَم ه الخاص‪ ،‬علم ولّي‬
‫العهد‪ .‬أَعدُت العلَم إليه قائًال‪« :‬عمي أرجوك‪ ،‬احتفظ به‪ ،‬إنه علُم ك»‪ .‬عندئٍذ خرجنا من مكتب والدي‬
‫إلى البهو ووقفنا أمام عدسات الكاميرات التي كانت تنتظر اللحظة‪ ،‬وكنا نحن الثالثة نتصافح‪ ،‬ثم‬
‫أعلَن والدي الخبَر إلى األمة‪.‬‬
‫في ذلك اليوم كشَف والدي للعلن رسالًة شديدَة اللهجة موّج هة إلى األمير حسن‪ ،‬وقد تضّم نت‬
‫انتقادًا حاّدًا لشقيقه‪ ،‬مرِّك زًا خاصة على المناكفات السياسية داخَل األردن‪ ،‬وقد جاَء في الرسالة‪:‬‬
‫«‪ ...‬وقد عشت تجارب كثيرة والحظت منذ سٍّن مبكرة كيف تتسلق بعض الطحالب الساق لتفسد‬
‫بين األخ وأخيه واالبن وأبيه‪ ،‬وهو ما آليت على نفسي أّال يقع هنا‪ ،‬وفي حياتي‪ ،‬ويقينًا أن هذا قد‬
‫أصبح اآلن الهدف لكل عدو سافر أو مقّنع‪ ،‬وأن من أهم مصادره من هو سادر في غّيه‪ ،‬وقد جربوا‬
‫كل سالح لخلخلة الثقة بين القيادة والشعب‪ ،‬الذي ما اعتبرته يومًا إّال الرفيق األقرب والشريك األمثل‬
‫فلم ينجحوا‪ .‬أما خطتهم في هذه المرحلة هم والطامعين في القضاء على األردن فتأتي من خالل‬
‫ضرب القيادة ببعضها بعد أن عجزوا عن تفكيك القاعدة‪ ،‬وهم يجدون في بقائي على قيد الحياة عائقًا‬
‫ومعيقًا‪ ،‬لكل ما يبّيتون متناسين أن الحسين ما عاش إّال لنيل رضى ربه وراحة ضميره‪ ،‬وعلو شأن‬
‫كل عشيرته من شتى األصول والمنابت‪ ،‬وتعاونها بقناعة في إعالء راية الوطن وحمل رسالته‬
‫مرفوعة وهامات ال تنحني لغير هللا تعالى»‪.‬‬
‫ثم أشار والدي بتحديٍد الفٍت إلى محاوالت التدخل في شؤون الجيش‪ ،‬وفي هذا اإلطار قال‪« :‬وقد‬
‫تدخلت من فراش المرض لمنع التدخل في شؤون الجيش العربي بالتغيير الذي بدا لي كأنه استهدف‬
‫تصفية حسابات‪ ،‬وإجراء إحاالت على التقاعد ألكفاء مشهود لهم بالوالء‪ ،‬وتاريخهم ناصع بالبذل‬
‫والعطاء»‪.‬‬
‫كثيرون من األردنيين أصابهم الذهول حياَل هذه النبرة في رسالة الملك‪ ،‬لكّن ثقَتهم بمليكهم كانت‬
‫مقدودًة من صخر‪ ،‬وكانوا َيرْو ن فيه حاكمًا حكيمًا‪ ،‬ذا بصيرٍة ونظرٍة ثاقبة‪ .‬وإذا كان الملك حسين قد‬
‫اتخذ قرارًا بتبديل ولّي عهده‪ ،‬فإن األردنيين ال يشّكون في أن لديه أسبابًا وجيهًة التخاذ هذه الخطوة‪.‬‬
‫أما األمير حسن‪ ،‬من جهته‪ ،‬فقد كتَب في ‪ 28‬كانون الثاني‪/‬يناير رسالًة ردْت على بعِض ما جاء في‬
‫رسالة الملك‪ ،‬وقد أكد فيها والَء ه الراسَخ لشقيقه وملِك ه‪ ،‬كما أكد دعَم ه وتأييَده لي ولّيًا جديدًا للعهد‪.‬‬
‫في اليوم التالي أخذنا‪ ،‬أنا ورانيا‪ ،‬والدي إلى المطار حيث كان عائدًا إلى مايو كلينك لمزيد من‬
‫العالج‪ .‬جلسُت مع والدي في المقعدين األماميين‪ ،‬وجلست الملكة نور ورانيا في المقعد الخلفي‪ .‬كان‬
‫والدي يعاني من الحازوقة نتيجَة المرض‪ ،‬كما َتفّشى فيه اليرقان حتى إن اإلصفرار بلَغ عينيه‪.‬‬
‫حاولُت أن أفتح حديثًا عادّيًا خفيفًا‪ ،‬لكن دون جدوى‪ ،‬وفيما نحن خارجون من عمان راح ينظر بتأمل‬
‫إلى المناطق التي نمر بها ويقيني أنه كان يشعر بأنها نظرُته األخيرة إلى تراب األردن‪ .‬وضعت يدي‬
‫على يده ومضينا على طريقنا في صمت‪.‬‬
‫في المطار وجدنا جمعًا من األقارب في انتظارنا وقد جاؤوا لوداعه‪ .‬ال أذكر أنني شعرت بهذا‬
‫الَقْدر من التعاسة والوحدة من قبل‪ .‬حاولُت جاهدًا الحفاظ على رباطة الجأش‪ ،‬ولكنني فقدت السيطرة‬
‫لبضع لحظاٍت يسيرة‪ ،‬وهنا شعرُت بيٍد على زندي‪ ،‬وإذا بإحدى قريباتي تهمُس لي‪« :‬حاول أن‬
‫تضبَط نفسك‪ ،‬األنظاُر ستتجه نحوك»‪ .‬كانت مالحظتها تذكيرًا شديَد الوطأة بما سيطرأ على حياتي‬
‫من تغيير‪ .‬األردنيون ال يحبون أن يروا رجاًال دامعين‪ ،‬وهكذا حرصت منذ تلك اللحظة على أن‬
‫أسيطر على مشاعري‪ .‬دخلت الطائرة مع والدي‪ ،‬باذًال أقصى الجهد للحفاظ‪ ،‬ولو ظاهرًا‪ ،‬على‬
‫االنضباط العسكري‪ ،‬وحين استدار التقت أعيننا وبدا لي جلّيًا كم كان يبذل‪ ،‬هو أيضًا‪ ،‬من الجهد‬
‫لضبط عواطفه والبقاء متماسكًا‪ .‬وقبل أن أستطيع معانقَته مودعًا أرسَل إيماءًة من رأسه‪ ،‬ثم استدار‬
‫وأكمَل َخ ْط َو ه إلى داخل الطائرة‪ .‬تلك كانت المرة األخيرة التي رأيُته فيها واعيًا‪.‬‬
‫كان األسبوع الذي تلى سفر والدي مثقًال بالتوتر‪ ،‬فقد وجدُتني غارقًا‪ ،‬دون أّي استعداٍد مسبق‪ ،‬في‬
‫معمعِة السياسة األردنية‪ ،‬وكان علّي أن أبدأ ممارسة دوري الجديد‪ .‬قليلًة‪ ،‬بل نادرًة كانت عالقاتي‬
‫بكبار السياسيين ورجال القطاع الخاص‪ ،‬وبذلك كنت أخطو نحو أرٍض مجهولٍة تمامًا‪ .‬بعض‬
‫المسؤولين في المراكز العليا‪ ،‬بمن فيهم رئيُس الحكومة ورئيُس الديوان الملكي‪ ،‬كان قد عّينهم‬
‫األمير حسن‪ ،‬والبعُض اآلخر‪ ،‬بمن فيهم رئيُس التشريفات وقائد الحرس‪ ،‬كانوا شديدي القرب من‬
‫الملكة نور‪ .‬كثيرون جّدًا الذين كانوا ينتظرون مني عثرًة أو كبوًة‪ ،‬ولذلك عدت إلى األقربين مني‪،‬‬
‫رفاقي وزمالئي في الجيش وفي العمليات الخاصة‪.‬‬
‫في تلك األثناء‪ ،‬وصلتني أنباء أن األمير حسن كان قد وّسع نطاق اتصاالته بالذين يؤيدونه‪ ،‬ودعا‬
‫العديد من كبار السياسيين وشيوخ العشائر إلى منزله‪ .‬ولكي أكّو ن صورًة واضحة عن الوضع طلبت‬
‫من محمد ماجد العيطان‪ ،‬الذي كان نائبي في العمليات الخاصة‪ ،‬أن يجمَع بعض ضباطي األساسيين‬
‫ويدعوهم إلى لقاء في منزلي في تلك األمسية‪ .‬هؤالء الضباط كانوا موضَع ثقتي الكاملة‪ ،‬وعندما‬
‫حضرت المجموعة بكاملها عند حوالى السابعة مساًء ‪ ،‬قلت لهم إنني سمعت أن األمير حسن يمارس‬
‫نشاطًا كبيرًا ومتواصًال‪ ،‬وال أريد أن يفاجئني أحٌد من هذا الجانب أو ذاك مهما تكن هذه اإلمكانية‬
‫ضئيلَة الوقوع‪ .‬لقد عّلمتني خبرتي في الجيش أن أكون حريصًا في حماية جوانبي‪ .‬ثم قلُت لهم‪ :‬لعَّل‬
‫من الحكمة أن يوضَع بعُض الوحدات في حالة استنفار حتى ال يفاجئنا شيء‪ .‬فيما كنت أتحدث‬
‫الحظت أن بعَض الحاضرين يحاولون كتم ضحكاتهم‪ ،‬وبما أنني كنت منزعجًا ومتعبًا قلت لهم إن‬
‫هذا األمر في غاية الجدية ثم سألُتهم‪ :‬لماذا تضحكون؟ قالوا إنهم وضعوا العمليات الخاصة في حالة‬
‫تأهب منذ أيام وإنهم قد اتصلوا بالفرقة الثالثة وُو ضع اللواءان األربعون والستون بقيادتهما‬
‫ووحداتهما جميعًا في حال التأهب واالستعداد‪ .‬حين نظرُت في تلك اللحظة إلى وجوه قادة الوحدات‬
‫العسكرية شعرت‪ ،‬ألول مرة منذ أسبوع‪ ،‬بأن األمور سوف تأخُذ مسارًا جيدًا بإذن هللا‪.‬‬
‫بعد ُم ضّي أسبوع بالتمام َبلَغنا أن عالج والدي لم ينجح‪ ،‬وأنه عائد ليموت في األرض التي وهَبها‬
‫عمَر ه وأحَّبها حتى النفس األخير‪ .‬حطت به الطائرة في الخامس من شباط‪/‬فبراير من العام ‪،1999‬‬
‫وقد ُأخِر َج من الطائرة على حّم الٍة فاقدًا وعَيه وهو ُينَعش بواسطة األجهزة الطبية‪ .‬الَقْته العائلة في‬
‫المطار ورافَقته إلى مدينة الحسين الطبية‪ .‬آالف من أبناء األردن جاؤوا من كل أنحاء البالد وتجمعوا‬
‫خارج المستشفى‪ ،‬منهم من كان يصلي‪ ،‬ومنهم من راح ينتحب‪ ،‬وبعُض هم أخذ ُيضيء الشموع‪.‬‬
‫قضوا ليَلهم في الشارع يوّدعون مليكهم‪ .‬رسميون أردنيون كبار ومحاربون قدماء كانوا يذرفون‬
‫الدمع‪ ،‬وكان العديد منهم ينظرون إلّي ليروا كيف سأتعامل مع الوضع وأّي سلوٍك سأسلك‪« .‬كنا‬
‫دائمًا نعتبره أكبر من األردن»‪ ،‬قال لي أحُدهم‪ ،‬وأضاف‪« :‬لم نفكر أنه سيغادرنا أبدًا»‪ .‬في المستشفى‬
‫أمضينا الليل بطوله نتداور الوقوَف بجانب سريره‪ .‬لم يكن هناك سوى عائلِته المباشرة‪ :‬نور‪،‬‬
‫والدتي‪ ،‬زوجتي‪ ،‬إخوتي وأخواتي‪ ،‬وبعُض أبناء عمي‪.‬‬
‫في ساعة متأخرة من الليلة التالية‪ ،‬والعائلة كانت ال تزال متجّم عًة حوَله‪ ،‬طلب أحد األطباء أن‬
‫يكلمني على حدة‪ .‬قال لي إن السرطان انتشر في كل أنحاء جسمه بأسرَع مما كان أحٌد يتوقع‪ ،‬ولم‬
‫يعد هناك ما يستطيع الطب أن يفعله‪ .‬غلبني الحزن ومررُت لبضع ثواٍن في ما يشبه االنهيار‪ ،‬ثم‬
‫عدُت إلى غرفته وأخبرت العائلة بما قيل لي‪ .‬ومعًا وَّدْعنا رجًال شجاعًا يعجز الكالم عن وصف قوة‬
‫إرادته‪ ،‬رجًال أحببناه‪ ،‬أحببناه كثيرًا‪.‬‬
‫قال األطباء إنهم يتوقعون أن ينتقل إلى رحمته تعالى تلك الليلة‪ .‬لكنه بقي على قيد الحياة حتى‬
‫وقت متأخر من صباح اليوم التالي‪ .‬طالما عرف عن والدي قوة قلبه‪ .‬وظل هذا القلب الكبير ينبض‬
‫لم يتوقف إال بعد أن استسلمت بقية أعضاء جسمه‪.‬‬
‫ُح ِّدد يوم الجنازة في اليوم التالي‪ ،‬الثامن من شباط‪/‬فبراير من العام ‪ .1999‬كان يومًا غائمًا وقد بدأ‬
‫الرذاذ يتساقُط خفيفًا‪ .‬قال بعض األردنيين إنه «حتى السماء تبكي الملك الحسين»‪ .‬لم يعرف أكثر‬
‫األردنيين ملكًا غير الحسين‪ ،‬ومن هنا كانت وفاُته حزنًا وأسًى شخصّيين للمواطنين الذين شعَر كٌّل‬
‫منهم بأنه فقَد فردًا من أفراد عائلته ال فقط رأَس الدولة‪ .‬مئات آالف المشّيعين الذين أذهَلهم غياُبه‬
‫غَّص ت بهم شوارُع العاصمة فيما كانت سيارٌة مدرعة تحمل الجثمان المجَّلل بالعَلم األردني والمحاَط‬
‫بأكاليل الزهر‪ ،‬إلى قصر رغدان حيث مثواه األخير‪ .‬كان المشّيعون‪ ،‬على طول الطريق‪ ،‬ما إن‬
‫يرون الجثمان يقترُب منهم‪ ،‬حتى يندفعوا نحوه منتحبين ومولولين‪ ،‬ومحاولين التقاَط لمحٍة من‬
‫النعِش أو لمسه‪ .‬وراء النعش كان يسير حرُس الشرف‪ ،‬ورجٌل يقوُد وراَء ه حصاَن والدي األبيض‪،‬‬
‫المفضل لديه من بين أحصنته‪ .‬واحترامًا لذكرى والدي فإن أحدًا لن يركَب الحصان (واسمه عمرو)‬
‫بعد وفاِته‪.‬‬
‫في باحة القصر كان جمٌع استثنائٌّي من قادِة العالم ينتظر لتقديم التعازي والتعبير عن االحترام‬
‫والتقدير‪ .‬لقد جمعت الجنازة‪ ،‬التي َأطلَق عليها أحُدهم «جنازُة القرن»‪ ،‬خليطًا من القادة العالميين‬
‫الذين ال يجمع بينهم جامع‪ ،‬والذين لم يحدث أن التقوا معًا من قبل في أية مناسبة عالمية‪ .‬بعض القادة‬
‫المعِّز ين كانوا يخوضون حربًا‪ ،‬الواحُد ضد اآلخر‪ ،‬ومنهم َم ن حاوَل قتَل خصمه‪ .‬لكن تقديرهم‬
‫واحترامهم لوالدي جمعاهم في جنازته‪ .‬حضر مراسم التشييع الرئيس المصري حسني مبارك‪ ،‬ولي‬
‫العهد السعودي األمير عبد هللا بن عبد العزيز‪ ،‬الرئيس السوري حافظ األسد‪ ،‬ولّي العهد المغربي‬
‫األمير محمد‪ ،‬الرئيس ياسر عرفات‪ ،‬وسيف اإلسالم القذافي ابن القائد الليبي معمر القذافي‪ .‬كان‬
‫هناك أيضًا الرئيس األميركي كلنتون مصحوبًا بالرؤساء السابقين جورج بوش األب وجيمي كارتر‬
‫وجيرالد فورد‪ ،‬والرئيس الروسي بوريس يلتسن‪ ،‬واألمير تشارلز ورئيس الوزراء البريطاني طوني‬
‫بلير‪ .‬وكان هناك أيضًا رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو وخالد مشعل‪ ،‬الذي حاول نتنياهو‬
‫اغتياله قبلئٍذ بأكثر من عام‪ .‬في المجموع جاء إلى عمان لتقديم التعازي بوالدي والتعبير عن احترام‬
‫بالدهم وتقديرها له‪ ،‬قائدًا ورجَل سالم‪ ،‬ممثلو خمٍس وسبعين دولًة من نواحي األرض األربع‪ .‬داخَل‬
‫القصر كان جثمان والدي مسّج ى يحيط به الحرُس الملكي‪ .‬وقف إلى جانب الجثمان حرس الشرف‬
‫من الشراكسة‪ ،‬الشعب المسلم الذي هاجَر قسٌم منه إلى األردن من القوقاز في القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫أخلص هؤالء لوالدي على مدى عقود من الزمن‪ ،‬وها هُم اآلن يحرسون جثماَنه في رحلته األخيرة‪.‬‬
‫حملنا‪ ،‬أنا وإخوتي‪ ،‬نعَش والدي من مسجد الحرس الملكي حتى مثواه األخير في مقبرة القصر‪،‬‬
‫إلى جانب قبِر واِلده الملك طالل‪ ،‬وقبر جده الملك عبد هللا األول‪ .‬وقفنا أنا وإخوتي متأهبين فيما‬
‫عزف الصداحون لحن الرجوع األخير‪ .‬وفيما كان الجثماُن ينحدر إلى مثواه األخير كان الحرُس‬
‫الملكُّي ُيطلق خمَس عشرَة طلقَة تحيٍة للملك الراحل‪.‬‬
‫كان يومًا مثقًال بالحزن واألسى‪ .‬لكن مع كل هذا الحزن شعر األردنيون بالفخر حين رأوا قادَة‬
‫العالم يتوافدون من خمٍس وسبعين دولًة للتعبير عن احترام بلدانهم وشعوبهم لملكهم‪ .‬كذلك برَز لدى‬
‫المواطنين شعوٌر بالعزيمة والثبات‪ ،‬إدراكًا من الكثيرين منهم بحتميِة أن يكونوا أقوياَء لكي يحافظوا‬
‫على وحدة البلد وتماسكه‪ .‬كان األردنيون ينادون والدي «أبو عبد هللا»‪ .‬وكم مرة كنُت أشعر‬
‫بالسعادة‪ ،‬وأستفيُد في آٍن معًا‪ ،‬من الحّب الكبير الذي كان يكّنه األردنيون لوالدي‪ ،‬ومن تصميمهم‬
‫وثباتهم على مساعدة ابنه لكي ينجح في قيادِة البالد‪.‬‬
‫كنت قد أديت القسم الدستوري في مجلس األمة ملكًا على األردن في اليوم السابق لتشييع جثمان‬
‫والدي إلى مثواه األخير بعد إعالن الوفاة‪ .‬وقبل أن أتوجه إلى مجلس األمة‪ ،‬طلبت من رئيس‬
‫التشريفات أن يأتي بصورٍة كبيرة لوالدي إلى المجلس خالَل مراسم أداء القسم‪ .‬حين دخلت رأيت‬
‫صورًة عمالقة لوالدي جالسًة على المنصة‪ ،‬وكانت هالُته تهيمن على القاعة بكاملها‪ .‬وقفت أماَم ها‬
‫متأهبًا وشعرت بأنه يرسُل إلّي نظرة عطٍف ومحبة فاغرورقْت عيناي‪ ،‬ولكي أستعيَد السيطرة على‬
‫نفسي وقفُت جامدًا بضَع ثواٍن محّييًا الصورة‪ .‬ثم َخ َطْو ت إلى حيث أؤّدي القَسَم الدستورّي ‪« :‬أقسم‬
‫باهلل العظيم أن أحافظ على الدستور وأن أخلص لألمة»‪.‬‬
‫وأجاب رئيس مجلس األعيان‪« :‬حفظ هللا صاحب الجاللة الهاشمية الملك عبد هللا بن الحسين‪،‬‬
‫ووفقه ورعاه‪ ،‬وعاش األردن كما أراده الحسين‪ ،‬حّر ًا عزيزًا منيعًا في ظل الراية الهاشمية الخالدة»‪.‬‬
‫بعد االنتهاء من أداء القسم الدستوري اتجه نحوي أحُد المساعدين وقال‪« :‬صاحَب الجاللة‪ ،‬تفّضل‬
‫من هنا»‪ ،‬فالتفُّت من حولي‪ ،‬بحكم العادة‪ ،‬أبحُث عن والدي‪ ،‬ورأيُته في الصورة العمالقة‪ ،‬المالئة‬
‫الدنيا من حولي‪ ،‬يرسُل إلّي تلك النظرَة العطوفة‪ .‬على مدى نصف قرٍن ‪ ،‬أو يكاد‪ ،‬حكَم والدي‬
‫األردن‪ ،‬فكان يخوض الحروَب أحيانًا ويفاوض على السالم أحيانًا أخرى‪ ،‬ويشجّع اآلخرين دومًا‬
‫وأبدًا على إلقاِء السالح ورفع األمل فوق اعتباراِت الخوف‪ .‬واآلن ستكون مهمتي أن أتدّبَر هذه‬
‫الصراعات واألفرقاء المتصارعين على حدود األردن‪ ،‬وأن أحافظ على إرث والدي عبَر إكمال‬
‫مسيرِته في السعي إلى السالم‪.‬‬
‫الفصل الثالث عشر‪ ... :‬وأصبحـت ملكـًا‬

‫عَّم الحزن واألسى أرجاَء األردن على مدى األيام واألسابيع التي تلت وفاَة والدي‪ ،‬وقد حَّد‬
‫األردنيون على ملٍك لم يكن معظُم هم قد عرَف قائدًا سواه‪ .‬أما أنا فكنت أمام صراٍع ذاتّي في مواجهة‬
‫الخسارة التي أصابتني بفقدان والدي الذي طالما كان ذا حضوٍر حازٍم وموِّج ٍه في حياتي‪ .‬لكن الوقت‬
‫كان أضيَق من أن يتسَع كثيرًا لحزني الشخصّي ‪ ،‬ففي الليلة السابقة لجنازته نمُت وأنا رُّب عائلٍة من‬
‫أربعة أفراد ألستفيَق صباَح اليوم التالي وقد أصَبحْت عائلتي خمسة ماليين نسمة‪ .‬وإذا شئُت أن أذكَر‬
‫درسًا بعينه تلّقنُته من والدي ومعّلمي فهو أن على الملك أن يكون راعيًا لشعبه أكثر منه حاكمًا لهم‪.‬‬
‫بعد أدائي القسم الدستوري كان من بين أعمالي األولى ملكًا أن أصدرت مرسومًا سميُت بموجبه‬
‫وليًا للعهد أخي حمزة‪ ،‬الذي أعفيته من هذه المسؤولية بعد ذلك بخمس سنوات‪ .‬مع أن األشهر التي‬
‫سبقت وفاة والدي اتسمت بالتوتر‪ ،‬فقد تعاضدت عائلُتنا وتعاونت وتبادل أفراُدها الدعَم والمؤازرة‪.‬‬
‫وال شك في أن حزَننا المشترك زاَد من التفافنا بعضنا حوَل بعض‪ .‬لقد شعرت بالعرفان لما أبداه‬
‫أفراُد العائلة من محبٍة ودعم‪ ،‬لكنني كنت على علٍم بأن الكثيرين في الخارج‪ ،‬والبعَض في الداخل‪،‬‬
‫كانوا ُيتابعون الوضَع وينتظرون أن َيرْو ني عثرُت ‪ .‬وفيما استمرت الشائعات تتكاثر وَتطغى على‬
‫أحاديث الصالونات في غرب عمان‪ ،‬تناهى إلّي أن البعض ممن كنت أعتبرهم من األصدقاء‬
‫المقّر بين‪ ،‬كانوا يقولون‪« :‬لن َيصمَد أكثَر من ثالثة أشهر»‪.‬‬
‫فيما كنت أتهَّيُب المهمَة التي ُأْلِقيت على كاهلي‪ ،‬فقد أخذ ينجلي لي شيئًا فشيئًا أن والدي كان ُيعّدني‬
‫لهذه المهمة منذ زمٍن بعيد‪ .‬فمع أنني لم أكن وليًا للعهد معظَم سنّي حياتي‪ ،‬كان والدي يصطحُبني‬
‫معه في العديد من زياراته الرسمية ومهّم اته الدبلوماسية المهمة‪ ،‬كما في رحالته الداخلية إلى كل‬
‫ناحية من نواحي األردن وزواياه‪ .‬ومن دون أن يحّم لني عبَء مراقبة الرأي العام‪ ،‬التي ُترافق وريَث‬
‫العرش‪ ،‬منَح ني الفرصَة الذهبيَة بأن أتعَّلم أسرار تلك الحنكِة الفريدِة التي كان يمارُسها وسط‬
‫األمواج الهائجة في محيطات الدبلوماسية الدولية‪ .‬عندما كنُت أنسلُخ عن مهماتي العسكرية وموقعي‬
‫في الجيش ألرافَق والدي في رحلٍة قصيرة‪ ،‬كنت أشعر أحيانًا بأّن بعضًا من التاريخ كان ُيصنع أمام‬
‫عينَّي وعلى مسمعي‪.‬‬
‫بعد جنازة والدي بثالثة أسابيع استقبلت أحَد زائرَّي الرسميين األوائل‪ ،‬رئيس وزراء إسرائيل‬
‫بنيامين نتنياهو يرافُقه وزير خارجيته آرييل شارون‪ .‬كانت العالقات بين بلدينا آنذاك متوترة‪،‬‬
‫ورئيس الوزراء هذا تحديدًا كان قد وّتر العالقات وصوًال بها إلى شفير االنقطاع‪.‬‬
‫في العام ‪ ،1996‬بعد اغتيال إسحق رابين بسنة‪ ،‬انُتخب بنيامين نتنياهو رئيسًا لوزراء إسرائيل في‬
‫أعقاب موجة من التفجيرات االنتحارية التي اعُتبرت حماس مسؤولًة عنها آنذاك وقتل خاللها ُقرابة‬
‫ستين إسرائيلّيًا‪ .‬في الخامس والعشرين من أيلول من السنة التالية َض رَب نتنياهو ضربَته الثأرية‬
‫مستهدفًا أحد قادة حركة حماس الذي كان مقيمًا في األردن‪.‬‬
‫فيما كان خالد مشعل‪ ،‬أحُد كبار المسؤولين في الجناح السياسي لحماس‪ ،‬يتجه نحو مكتبه صباح‬
‫أحد األيام قفَز بعُض عمالء االستخبارات اإلسرائيلية من سيارتهم وَبّخ وا في أذنه مادًة غريبًة ما لبث‬
‫بعدها أن وقََع ال حوَل له وال قوة وباَت على حافة الموت‪ .‬الحَق أحد رجال الحرس المكلفين حماية‬
‫مشعل عمالء الموساد وانتهى األمر بأن اعتقلت الشرطة اثنين من أولئك العمالء‪ ،‬فيما هرب أربعة‬
‫منهم إلى السفارة اإلسرائيلية واختبأ اثنان في فندق اإلنتركونتننتال‪.‬‬
‫عند هذه النقطة اتصل نتنياهو بوالدي وقال له‪« :‬لدينا مشكلة»‪ .‬ثم أرسَل رئيس استخباراته‪ ،‬داني‬
‫ياتوم‪ ،‬ليشرح ما حدث ويطلب إطالق سراح عمالء الموساد‪ .‬مع أن ياتوم لم يخبرنا بذلك‪ ،‬علمنا في‬
‫ما بعد أن محاولة االغتيال قد وافق عليها نتنياهو شخصّيًا‪( .‬في عملية مشابهة ذكرتنا بمحاولة‬
‫اغتيال خالد مشعل‪ ،‬اغتيل أحُد قادة حماس في دبي في كانون الثاني‪/‬يناير من العام ‪ 2010‬في ما‬
‫ُيعتقد أنه عمٌل وراَء ه الموساد ارتكَبه عمالء يحملون جوازات سفر مزورة‪ .‬وتمت عملية االغتيال‬
‫هذه ونتنياهو رئيس لوزراء إسرائيل)‪.‬‬
‫بلغ الغضب بوالدي ذروته‪ .‬فهو في تلك الفترة كان يعمل ليَل نهار لدفع قضية السالم في المنطقة‬
‫إلى األمام‪ ،‬وكان في كانون الثاني‪/‬يناير الذي سبَق العملية قد أّدى دورًا مهّم ًا في تسهيل الوصول‬
‫إلى اتفاق الخليل الذي وافقت بموجبه إسرائيل على إعادة نشر جنودها خارَج مدينة الخليل تنفيذًا‬
‫لمندرجاِت اتفاقات أوسلو‪ .‬قبل محاولة االغتيال ببضعة أيام كان قد بعث سّر ًا إلى اإلسرائيليين‬
‫عرضًا من حماس يقضي بوقف إطالق النار بين الجانبين على مدى ثالثين سنة‪ ،‬وها هو نتنياهو‬
‫يرّد بمحاولة اغتيال أحد قيادات حماس في أحد شوارع عاصمتنا!‬
‫بذل األطباء األردنيون كل الجهود الممكنة إلنقاذ حياة مشعل‪ ،‬لكن معركتهم كانت تسير نحو‬
‫الفشل ألنهم لم يتمكنوا من تحديد نوع السّم الذي اسُتخدم‪ .‬طالب والدي اإلسرائيليين بتحديد نوع السّم‬
‫الذي استخدموه فورًا وأن يرسلوا الترياق المضاد‪.‬‬
‫قال ياتوم إن مشعل ُحِقن بمزيٍج كيماوي معّقد وإنه سيموت خالل أربع وعشرين ساعة‪ .‬عندئٍذ قال‬
‫والدي إذا مات مشعل فهو سيلغي معاهدة السالم وسيقطع العالقات الدبلوماسية مع إسرائيل‪ .‬وأخيرًا‪،‬‬
‫بعد أن خرج من االجتماع لالتصال بنتنياهو‪ ،‬قال ياتوم لوالدي إن من بين أفراد فريق الموساد طبيبًة‬
‫موجودة في فندق اإلنتركونتننتال ولديها الترياق المضاد‪.‬‬
‫ُج ّن جنون األردنيين والفلسطينيين أمام هذه الوقاحة اإلسرائيلية المتمادية‪ .‬كان الوضع متأزما جّدًا‪.‬‬
‫فحتى إذا استطعنا إنقاذ حياة مشعل‪ ،‬فكيف نحّل معضلة عميَلي الموساد المعتقَلْين فضًال عن‬
‫المختبئين في السفارة اإلسرائيلية في عمان؟ كل هؤالء دخلوا بلَدنا بجوازاٍت كندية مزّو رة ونفذوا‬
‫محاولَة اغتيال‪ .‬ال أحد من العمالء يتمتع بحصانة دبلوماسية‪ ،‬لكّن اإلسرائيليين رفضوا تسليم‬
‫الشركاء في جريمة االغتيال الذين لجأوا إلى السفارة‪ .‬طّو قت القوات األردنية السفارة للتأكد من أن‬
‫العمالء لن يتسللوا إلى الخارج ويهربوا‪ ،‬وكنُت آنذاك قائدًا للعمليات الخاصة وأذكر جيدًا أنها كانت‬
‫فترًة عصيبًة جّدًا‪.‬‬
‫في ذلك المساء ُنقل مشعل‪ ،‬في حالٍة طبية حرجة ومتراجعة‪ ،‬إلى مدينة الحسين الطبية وُأدِخ َل إلى‬
‫مركز الملكة علياء ألمراض وجراحة القلب‪ ،‬وهو من أهم المؤسسات الطبية في األردن‪ .‬كانت‬
‫الطبيبة اإلسرائيلية العضو في فريق االغتيال الذي أرسَله الموساد قد انتقلت إلى فندٍق آخر فُعثر‬
‫عليها وجيَء بها إلى المستشفى حاملًة أنبوبًا صغيرًا يحتوي على الترياق المضاد‪ .‬لكن المسؤولين‬
‫في حماس شّكوا في صدق اإلسرائيليين ورفضوا أن يسمحوا ألحد بأن يحقَن مشعل بأي شيء دون‬
‫أن يعرفوا ما هي المادة المنوي حقُنه بها‪ ،‬وقد طلبوا معرفَة التركيب الكيميائي للترياق المضاد‪.‬‬
‫اتصل والدي بالرئيس كلنتون طالبًا مساعدَته الفورية وطلب منه أن تتدخل أميركا وتضغط على‬
‫حليفتها المقّر بة لرفع الضرر الذي تسببت به‪ .‬فاستجاب كلنتون للطلب وأخيرًا تراجع نتنياهو وكشَف‬
‫لنا أن الترياق المضاد هو «نالوكسون» (‪ )Naloxone‬وهو عقار مضاد لجرعٍة قوية من األفيون‪.‬‬
‫علمنا في وقت الحق أن السّم المستخدم هو تركيبٌة مطَّو رة من الـ«فنتانيل» الدواء المخِّفف لآلالم‪،‬‬
‫وهو ُسّم مميت يقتل ضحيته خالل ثماٍن وأربعين ساعة دون أن يترك أَّي أثر‪ .‬أخِفَي السم في كاميرا‬
‫ُعّدلت بحيث يمكن وضُع السائل السام فيها وزّو دت بإبرة تخرُج وتعود إلى مكانها بكبسة زّر وقد‬
‫ُر ّكبت اإلبرة مكان عدسة الكاميرا‪ .‬أدخَل أحُد القتلة اإلبرَة في أذن مشعل وحقنه بالسم‪ .‬حالما ُعرف‬
‫التركيب الكيميائي للترياق المضاد استطاع فريق األطباء األردنيين حقَنه به وإنقاذ حياته‪.‬‬
‫ُأنقذت حياة خالد مشعل‪ ،‬لكن العالقات بين األردن وإسرائيل تدهورت إلى درجة كبيرة‪ .‬أصّر‬
‫والدي على أن يدفع اإلسرائيليون ثمنًا سياسّيًا باهظًا لقاء هذا العمل‪ ،‬وأن يفرجوا عن الشيخ أحمد‬
‫ياسين‪ ،‬أحد مؤسسي حركة حماس وقائدها الروحي الذي كان يعاني من أمراض في حواسه جميعًا‬
‫والمقعد على كرسٍّي نقال‪ .‬كان الشيخ أحمد ياسين محكومًا بالسجن مدى الحياة بتهمة التآمر بخطف‬
‫جنود إسرائيليين‪ ،‬وقد أمضى ثماني سنوات في سجون إسرائيل‪ .‬وأخيرًا أدت المفاوضات إلى‬
‫الوصول إلى حل‪ُ :‬سمح لعمالء الموساد بمغادرة األردن مقابل اإلفراج عن أعداٍد كبيرة من‬
‫الفلسطينيين األسرى في السجون اإلسرائيلية‪ ،‬وكان الشيخ أحمد ياسين من بين المفَر ج عنهم‪ .‬في‬
‫الواحدة والنصف فجرًا من التاسع والعشرين من أيلول‪/‬سبتمبر ‪ ،1997‬وكجزٍء من االتفاق‪ ،‬طار‬
‫رئيس الوزراء اإلسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى عمان ليقّدم اعتذارًا رسمّيًا وعلنّيًا‪.‬‬
‫فلنسِّر ع الزمن سنتين‪ .‬ها أنذا أجُد نفسي خلفًا لوالدي‪ ،‬ملكًا على األردن‪ ،‬وبنيامين نتنياهو رئيسًا‬
‫للوزراء في إسرائيل‪ ،‬وخالد مشعل‪ ،‬الذي ُشفَي تمامًا‪ ،‬قد خالَف تعهده بأن ُيقَتصَر نشاُط حماس في‬
‫األردن على التواُص ل اإلعالمّي ‪ .‬كانت حماس قد وافقت على أال تقوَم بأّي نشاٍط سياسّي أو عسكري‬
‫انطالقًا من األردن‪ ،‬واالكتفاء بإقامة مكتب لالتصال اإلعالمي فقط‪ .‬لكنها مع مرور الوقت أخّلت‬
‫بهذا االلتزام‪.‬‬
‫في السنة األخيرة من عمره قال لي والدي إنه لم يكن راضيًا على اإلطالق عن استمرار مشعل‬
‫في القيام بنشاطه السياسّي في األردن‪ ،‬حيث يحاول تهريب السالح عبر الحدود إلى الضفة الغربية‬
‫ويتدخل في السياسة الداخلية للبلد‪ .‬وكان يشعر بأن مشعل‪ ،‬وسائر قادة حماس في عمان‪ ،‬كانوا‬
‫يستغلون ُح سَن الضيافة لدى األردن‪.‬‬
‫في عدٍد ال ُيحصى من االجتماعات وجلسات التفاوض ُطِلَب إلى مشعل وسواه من قادة حماس‬
‫المقيمين في األردن مرارًا وتكرارًا وقُف نشاطهم الذي ينتهك ما وافقوا عليه من شروٍط للسماح لهم‬
‫باإلقامة في البلد‪ .‬لكن كل تلك المناشدات ذهبت أدراَج الرياح‪ .‬استمروا على عنادهم‪ ،‬يتصرفون‬
‫كمن ال يخشى رادعًا‪ .‬وهكذا طلبت الحكومة من مشعل مغادرَة األردن في آب‪/‬أغسطس من العام‬
‫‪ .1999‬دخلت الحكومة القطرية على الخط في هذه المسألة وأبدت رغبًة وترحيبًا باستضافته‪ ،‬فغادر‬
‫مشعل وقادة آخرون من حماس عمان إلى الدوحة‪.‬‬
‫قبل اجتماعي المقرر ببنيامين نتنياهو ببضعة أيام اختار أن يلقي خطابًا ملتهبًا في جامعة بار ‪-‬‬
‫إيالن قرب تل أبيب اتهم فيه والدي بالوقوف إلى جانب النظام العراقي في حرب الخليج في العام‬
‫‪ ،1991‬ولّم ح إلى أن األردن قد يتحالف مع صدام حسين في المستقبل‪ ،‬وأن العراق سيهدد إسرائيل‬
‫عبر الحدود األردنية‪.‬‬
‫هذا الخطاب قوبَل بانتقاٍد واسع في المنطقة‪ ،‬وحتى داخل إسرائيل‪ .‬إيهود باراك‪ ،‬قائد المعارضة‬
‫اإلسرائيلية قال‪« :‬لم يترك رئيس الوزراء حفرًة إال وقع فيها‪ ،‬والمشكلة الكبرى تكمن في أنه ال‬
‫يسقط في الحفرة وحَده لكنه يأخذ البلد برمته معه‪ .‬حتى خالل فترة الحداد على الملك حسين لم يجد‬
‫نتنياهو حرجًا في تعريض اإلنجازات القليلة على طريق السالم للخطر»‪.‬‬
‫لم يكن لقاؤنا إيجابّيًا‪ .‬ففي جلسة على الغداء استمرت ساعتين بحثنا مآل عملية السالم وحقوق‬
‫المياه‪ ،‬لكن تشويه نتنياهو دور والدي في حرب الخليج‪ ،‬لمجرد تسجيل بعض النقاط السياسية‪ ،‬كان‬
‫قد ترك في حلقي مرارًة ليس من السهل غسُلها‪ .‬والدي لم يقف منحازًا إلى صدام‪ ،‬وإنما حاول أن‬
‫يحوَل دون اشتعال حرٍب رأى أنها لن تخدَم مصالح أحد‪ .‬تركُت االجتماع وكان يغلب علّي شعوٌر‬
‫بأن إعادة العملية السلمية إلى مسارها الواعد سيكون دوَنها مصاعُب جمة‪.‬‬
‫في بلٍد كاألردن تضعك الضغوط الخارجية أمام حتمية التركيز على السياسة الخارجية‪ ،‬لكن ال بد‬
‫من االعتراف بأن شؤونًا داخليًة ذات شأن كانت تنتظر أن أوليها اهتمامي‪ .‬فمن بين القرارات‬
‫األولى التي كان علّي اتخاُذها قرار تعيين رئيس جديد للوزراء أو إبقاء الحكومة القائمة‪.‬‬
‫نظام الحكم في األردن نيابي ملكي وراثي‪ .‬وبموجب الدستور يعّين الملك أعضاء مجلس األعيان‪،‬‬
‫الذي يجب أن يتكون من شخصياٍت تميزت بما قدمته للبالد من خدمات ُج ّلى كرؤساء الحكومات‬
‫السابقين والسفراء وكبار الضباط العسكريين‪ .‬أما مجلس النواب فينتخب أعضاؤه كل أربع سنوات‪.‬‬
‫يعّين الملك‪ ،‬بوصفه رئيسًا للدولة‪ ،‬رئيَس الوزراء الذي يختار بدوره الوزراء الذين تتشكل منهم‬
‫الحكومة‪ ،‬ويمكن اختيار الوزراء من بين أعضاء البرلمان أو من خارجه‪ .‬وعلى الحكومة أن تحصَل‬
‫على ثقة مجلس النواب‪.‬‬
‫إضافة إلى الحكومة ومجلس األمة‪ ،‬هناك الديوان الملكي الهاشمي‪ ،‬الذي يسّم يه الناس «بيت‬
‫األردنيين»‪ .‬لكل مواطن أردني الحق بأن يلتمَس أمرًا ما من الملك مباشرة أو أن يتقدم منه بعريضٍة‬
‫أو مطلب‪ ،‬وهذا االلتماس أو المطلب يقَّدم إلى الديوان الملكي‪.‬‬
‫التماس المواطن يمكن أن يتناول أَّي موضوع‪ ،‬من القول «إنني مفلس» أو «علّي قرٌض ال‬
‫أستطيع تسديده» إلى الشكوى من أنه «ال يستطيع تعليم أوالده» أو أّن لديه «مشكلة صحية» أو «ال‬
‫يمكنني أن أجد عمًال»‪ .‬ومن ضمن المسؤوليات المترتبة على رئيس الديوان الملكي أن يلتقي كل َم ن‬
‫لديه التماس وأن يستمع إلى شكواه ثم أن ينقَل االلتماس أو الشكوى إلى الملك‪ .‬هذا النظام قائم على‬
‫تقليد مَّتبع منذ كان األردن بلدًا أصغر منه اآلن بكثير‪ ،‬أما اآلن‪ ،‬وتعداُد األردنيين يقارب ستَة ماليين‬
‫مواطن‪ ،‬فقد أصبح مستحيًال على رئيس الديوان أن يلتقي كل صاحب التماس أو شكوى بمفرده‪،‬‬
‫ومن هنا أنشئت عدة دوائر في الديوان بحيث يحال كل موضوع على الدائرة المختصة به‪ .‬طبعًا ال‬
‫يزال رئيَس الديوان الملكي يلتقي الكثيرين من الشخصيات العامة‪ .‬وحين أزور المناطق الريفية‬
‫النائية غالبًا ما يأتي إلّي بعض المواطنين ويقّدمون لي ورقًة تحمل طلبًا أو التماسًا معينًا‪.‬‬
‫مع أن الدستور ال يرُد فيه نٌّص بهذا المعنى‪ ،‬فقد جرت العادة في األردن أن تستقيل الحكومة‬
‫القائمة إثر اإلعالن رسمّيًا عن اعتالء الملك الجديد العرش‪ .‬بديهّي أن هذا التقليد لم يمارس منذ‬
‫زمن‪ ،‬إذ إّن والدي حكَم األردن على مدى نصف قرن تقريبًا‪.‬‬
‫في بدايات تعاملي مع كبار المسؤولين في الحكومة كان بعُض هم يقول لي إن لديه مشاريَع كبرى‬
‫لتحسين العمل الحكومي واألوضاع عمومًا‪ ،‬لكن حين كنت أسأل «متى؟»‪ ،‬قّلما جاءني الجواُب‬
‫ُم رضيًا أو شافيًا‪ .‬من هنا تلقيُت اإلشارة األولى بأن الحكومات ال تعمل كما تعمُل الجيوش‪.‬‬
‫غالبًا ما يحسب األردنيون أن ما يستجُّد من تغييرات في المواقع الرسمية العليا يندرج في خانة‬
‫األمور الشخصّية وأن المسؤول الذي جرى تبديله دخَل بصورٍة أو بأخرى في سجالتي السوداء‪.‬‬
‫لكن هذا أبعُد ما يكون عن الواقع‪ ،‬ذلك أن ما أبحث عنه لدى كل مستشارَّي هو الكفاءة والقدرة على‬
‫تطبيق ما أرسمه من البرامج والخطط‪ ،‬وسرعُة التنفيذ وفاعلّيُته‪ .‬إذا لم يأتني المستشارون بالنتائج‬
‫المتوخاة عمدُت إلى استبدالهم‪ ،‬ففي نهاية المطاف كُّلنا نعمل من أجل األردنيين‪ ،‬وهم يستحقون‬
‫األفضل‪.‬‬
‫في مطلع آذار‪/‬مارس من العام ‪ 1999‬طلبت من الحكومة القائمة آنذاك تقديم استقالتها َففعَلْت‬
‫وكّلفُت عبد الرؤوف الروابدة‪ ،‬البرلماني المتمرس الذي شغل العديد من المواقع العامة‪ ،‬أن يتولى‬
‫رئاسة الحكومة‪ ،‬وطلبُت من عبد الكريم الكباريتي‪ ،‬أحد الموثوقين المخلصين واألوفياء لوالدي‪،‬‬
‫والذي كان رئيسًا للحكومة بين العامين ‪ 1996‬و‪ ،1997‬بأن يتولى رئاسة الديوان الملكي‪ .‬كان‬
‫قراري األول‪ ،‬أي تغيير الحكومة‪ ،‬من أكثر القرارات التي اتخذُتها إجهادًا لي ومصدرًا لقلٍق كبير‪،‬‬
‫ومع أن قرارًا كهذا ال يصبح أكثَر سهولًة مع مرور الوقت‪ ،‬فإن ذلك القرار بالذات كان فائَق‬
‫الصعوبة‪ .‬أذكر جيدًا حين كنت في قصر بسمان‪ُ ،‬أِع ُّد الستقالة الحكومة القديمة واستقبال الجديدة‪،‬‬
‫وكيف كنت شديَد القلق مما إذا كان قراري في مكانه أم ال‪ .‬لم يكن الكثيرون يتوقعون أن أعين عبد‬
‫الرؤوف الروابدة رئيسًا للوزراء‪ .‬وكنت مدركًا أن أي قرار سأتخذه في هذا اإلطار سيقابل بالكثير‬
‫من النقد‪.‬‬
‫كنت واقفًا في إحدى القاعات الجانبية في الديوان‪ ،‬مأخوذًا بلحظٍة من التفكير العميق‪ ،‬وحانت مني‬
‫التفاتة إلى أعلى فرأيُت صورًة لوالدي بلباسه العسكرّي وكان كمن ينظر إلّي مبتسمًا‪ ،‬ففّسرُت ما بدا‬
‫لي نظرة رضًى منه بأنني في صدد اتخاذ القرار السليم‪ .‬لقد وثق والدي بي إلى حد أن حملني‬
‫مسؤولية الملك‪ ،‬واآلن علَّي أن أثق بقدرتي الذاتية وقراراتي‪ .‬أعلنُت التغييرات التي قررُت‬
‫إجراءها‪ ،‬وحبسُت أنفاسي منتظرًا‪.‬‬
‫مرت بضعة أسابيع‪ ،‬وبعد انتهاء فترة األربعين يومًا حدادًا على والدي‪ ،‬كان علّي أن أتخذ قرارًا‬
‫آخر يَّتسم بالحساسية‪ .‬كنت على يقين من أن األردن يمكُنه أن ُيفيَد مما تتمتع به زوجتي من الطاقة‬
‫على العمل والذكاء والرغبة الشديدة في مساعدة اآلخرين‪ ،‬ولذلك قررُت أن أمنحها لقب ملكة‪ .‬لكن‬
‫هنا أيضًا كنت حذرًا حياَل ما قد يتركه هذا القرار من وطأٍة على نور‪ ،‬أرملة والدي‪ ،‬التي كان قد‬
‫مضى عليها عقدان من الزمن وهي تحمل هذا اللقب‪ .‬قصدُت إليها لعقد لقاء ُيقَتصر علينا نحن‬
‫االثنين‪ ،‬فأبدت تفهمًا لألمر وقالت إن الوقت حان لكي يتولى األمور جيل جديد‪ .‬كذلك قالت إن‬
‫والدي‪ ،‬على ما كان يبدي من التحفظ أحيانًا‪ ،‬كان دائمًا يعّبر لها عن مدى حبه لي وعن افتخاره‬
‫الكبير بإنجازاتي خالل خدمتي في الجيش‪ ،‬وخصوصًا عن اعتقاده بأنني أفضُل َم ن يقود األردن بعد‬
‫رحيله‪ .‬شكرُتها على هذا الكالم الطيب واللطيف‪ ،‬وعّبرت لها عن تقديري لموقفها الداعم‪.‬‬
‫في الحادي والعشرين من آذار‪/‬مارس من العام ‪ُ 1999‬أعلنت رانيا ملكة‪ ،‬وقد بعثُت إليها برسالٍة‬
‫مفتوحة أعلن فيها هذا القرار‪ ،‬وأقول‪« :‬ولقد نعمت معي خالل السنين الماضية برعاية األب الكبير‪،‬‬
‫أبي‪ ،‬وأبي األردنيين جميعًا… ولما كانت إرادة هللا جل جالله أن أحمل المسؤولية األولى في أردننا‬
‫العزيز‪ ،‬فقد رأيت‪ ،‬وأنت رفيقة الدرب‪ ،‬وأم الحسين‪ ،‬أن تكوني منذ اليوم صاحبة الجاللة الملكة‬
‫رانيا العبدهللا المعظمة»‪.‬‬
‫وبما أننا كنا ال نزال في حداٍد على والدي قررنا تأجيل مراسم التتويج‪ ،‬الذي أقمناه بعد مرور‬
‫بضعة أشهر‪ .‬في اليوم التالي كانت الملكة نور مغادرًة إلى الواليات المتحدة مع إخوتي هاشم وإيمان‬
‫وراية للعودة إلى المدرسة هناك‪ ،‬فاقترحنا أنا ورانيا أن نوِص َلها إلى المطار‪ .‬ومع أن عالقتنا في‬
‫األيام التي أعقبت وفاة والدي كانت أقوى منها في أّي وقٍت مضى‪ ،‬شعرُت ونحن في الطريق إلى‬
‫المطار بأن شيئًا ما قد تغّير‪ ،‬كانت نور الئقًة جّدًا ولكن اّتسَم تصرُفها بمسحٍة رسمية ومتحفظة ما‬
‫جعَل رحلَتنا معها إلى المطار غير مريحة‪ .‬وظلت عالقُتنا فاترة منذئٍذ‪.‬‬
‫من األهداف التي وضعُتها في رأس أولوياتي تطبيق برنامج موَّسع من اإلصالحات االجتماعية‬
‫على أن يتضّم ن بصورٍة خاصة تقديم المزيد من الدعم إلى الضعفاء وغير الميسورين من أبناء‬
‫مجتمعنا‪ .‬بدأنا نبحث‪ ،‬أنا وحكومتي الجديدة‪ ،‬عن أفضل السُبل لحماية النساء واألطفال‪ ،‬وأخذنا نتكلم‬
‫علنًا عن مسائل كانت في السابق ُتعّد من المحّر مات‪ ،‬مثل العنف المنزلي وإساءة معاملة األطفال‪.‬‬
‫لعّل من المحرمات الكبرى وأبعِدها عن التناول مسألة ما يسّم ى «جرائم الشرف»‪ ،‬وهي ما‬
‫واجهت ألول مرة عندما كنت ضابطًا شاّبًا في الجيش‪ .‬أحيانا ُتقتل المرأة على يد أحد أفراد عائلتها‬
‫الذكور ‪ -‬غالبًا األب أو األخ ‪ -‬عندما َيشعر هؤالء الرجال‪ ،‬وأحيانًا كثيرة تحت ضغط الشائعات‪ ،‬بأن‬
‫المرأة المعنية لّطخت شرَف العائلة من خالل إقامة عالقة عاطفية‪.‬‬
‫حدث مرًة أن قتَل أحُد رجالي من العسكريين ابنَة عٍم له ذبحًا بالسكين وجاءني مسّلمًا نفَسه إلّي‬
‫باعتباري الضابَط األعلى رتبًة في وحدته‪ .‬كانت عائلته قد اجتمعت وناقشت المسألة فوقع عليه‬
‫االختيار لتنفيذ الجريمة‪ .‬كان هذا الجندي واحدًا من أفضل قادة الدبابات لدّي ‪ ،‬وقد مورس عليه‬
‫ضغٌط عائلي الرتكاب عملية قتل «غسًال للعار» بحسب مفهوٍم مشَّو ه «للشرف» فَح رمت هذه‬
‫الجريمة امرأًة شابًة حياَتها‪ .‬سّلمُته إلى الشرطة العسكرية آسفًا لهذه الخسارة التي ذهبت بحياة‬
‫شخصين شابين‪ ،‬وقد حوكم الرجل وناَل حكمًا بالسجن‪.‬‬
‫في الوقت الذي وقعت فيه هذه الجريمة شعرُت بأنها خسارة بشرية دون مبرر وال معنى لها‪ .‬أما‬
‫اآلن‪ ،‬وأنا في موقٍع يمكنني منه التأثير في السياسة العامة‪ ،‬فقد عقدُت العزَم على اتخاذ خطواٍت‬
‫عملية‪ .‬صحيح أنني ال أستطيع تغيير عقول الناس بين ليلة وضحاها‪ ،‬لكن بإمكاني إدخال التعديالت‬
‫والتغييرات الالزمة على السُبل المتبعة في التحقيق بهذه الجرائم وبالتالي المحاكمات التي تلي‬
‫التحقيق‪ ،‬هذا فضًال عن محاولة تقويم النظرة االجتماعية العامة حياَل هذه األعمال‪.‬‬
‫َعمدُت في هذه المعركة إلى شّن الهجوم على أكثر من جبهٍة واحدة‪ ،‬فبدأنا بإطالق حملة توعية‬
‫عامة مشّددين على أن عمليات القتل هذه خطيئة أخالقية‪ ،‬فضًال عن كونها تخالف تعاليَم اإلسالم‪ ،‬ثم‬
‫أْلحقنا هذه الحملة بمعالجة قانون العقوبات‪ ،‬وصوًال إلى المجال القضائي نفسه‪ .‬رانيا رفعت الصوت‬
‫عاليًا ضد ما يسّم ى «جرائم الشرف» وشاركْت في تظاهرة اعتراض على هذه الجرائم اتجَه فيها‬
‫المتظاهرون إلى البرلمان‪ .‬كذلك بدأنا نقّدم الدعم‪ ،‬عن طريق المؤسسات المتخصصة‪ ،‬لضحايا‬
‫العنف المنزلي من النساء وأنشأنا لهّن دور رعاية يلجأن إليها عند الحاجة‪.‬‬
‫المشكلة الكبرى التي واجهناها في هذا المجال هي أنه في معظم األحيان يمتنع أهل الضحية عن‬
‫التقدم من القضاء بشكوى ويسقطون حقوقهم القانونية‪ .‬أضف إلى ذلك أن عددًا كبيرًا من القضاة كان‬
‫يعتبر «جرائم الشرف» جرائم غضب تستحق تخفيف العقوبات‪ .‬ومن هنا كانت العقوبات التي‬
‫يصدرها القضاة تراوح ما بين ستة أشهر وسنتين‪ .‬أما اآلن فُتعّد الجرائم الواقعة ضمن هذا النوع‬
‫جرائَم قتل‪ ،‬وقد أنشئت غرف محاكم متخصصة للنظر في هذه الدعاوى‪ .‬وبدأت هذه الغرف تصدر‬
‫أحكامًا أشّد من السابق‪ .‬أما بالنسبة إلى قانون العقوبات فقد ُعّدل بحيث ينال المرتكبون أقصى‬
‫العقوبات‪.‬‬
‫مع مرور الوقت بدأت جهوُدنا تؤتي ثماَر ها‪ ،‬فأصبحت األحكام أكثر شدًة وحزمًا وتراجع عدد هذا‬
‫النوع من الجرائم وبالتالي الدعاوى المتعلقة بها‪ .‬هبط عدد «جرائم الشرف» من ثالث عشرة جريمًة‬
‫في العام ‪ 2008‬إلى عشر جرائم في العام ‪ ،2009‬أما القتلة الذين ارتكبوا جرائمهم بعد النجاح في‬
‫تعديل القانون في العام ‪ 2010‬فيواجهون أحكامًا بالسجن مدُتها عشر سنوات مقارنًة باألحكام التي‬
‫كانت تراوح بين ستة أشهر وسنتين في الماضي‪ .‬في قناعتي‪ ،‬لو اقُتِص َر األمر على جريمة قتٍل‬
‫واحدة فقط من هذا النوع فإنها تبقى وصمًة على جبيننا نحن األردنيين جميعًا‪ .‬ولن أستريح إلى أن‬
‫تزوَل هذه النظرة المتخّلفة إلى العدالة وال يبقى لها أثٌر في بالدنا‪.‬‬
‫من المفاهيم الغربية الواهية التي تدعو إلى الخيبة‪ ،‬ال بل أحيانًا إلى السخرية‪ ،‬اعتباُر النساء‬
‫العربيات جميعًا نساًء مقموعاٍت‪ ،‬أّم ياٍت‪ ،‬سجيناِت بيوِتهن‪ ،‬ال عمَل لهّن سوى رعاية األطفال‪،‬‬
‫ُم جَبراٍت على ارتداء الحجاب كلما غامرَن بالخروج من منازلهّن ‪ .‬إن أعدادًا ال تكاد ُتحصى من‬
‫النساء في األردن والعالم العربّي األوسع‪ ،‬كزوجتي مثًال‪ ،‬يرتدن الجامعات ويخرجن إلى الحياة‬
‫حيث يرتقين في مهِنهّن إلى درجاٍت متميزة‪ُ .‬تظهر اإلحصاءات المدرسية في األردن أن فتياِتنا‬
‫ينتزعن في نهاية كل سنٍة مدرسية أعلى العالمات في االمتحانات الثانوية‪ .‬إن نساَء نا المتعّلمات‪،‬‬
‫المثقفات‪ ،‬اللواتي سلكَن نهَج الحداثِة وسّجلَن نجاحًا في مجالهّن الِم ْه نّي ‪ ،‬يتشاركن في هذه الميزات‬
‫العالية مع المتفوقات من النساء في لندن ونيويورك وباريس أكثَر منهّن مع سجيناِت الوهِم الغربِّي‬
‫من ضحايا القمع‪ .‬بعُض هؤالء النساء يخترن لبس الحجاب‪ ،‬بينما تختاُر بعُض هن‪ ،‬كرانيا مثًال‪ ،‬أال‬
‫يرتدين حجابًا‪ .‬لكن ال عالقَة لهذا بكفاءاِت المرأة وقدراتها وال بإنجازاتها المهنية‪ .‬إن المرأَة األردنية‬
‫التي ترتدي مالبَس تقليديًة وتغطي رأَسها قد تكون من حامالت شهادة الدكتوراه من جامعة هارفرد‬
‫أو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا‪ .‬وكما تقول رانيا «علينا الحكم على المرأة بحسب ما يدور‬
‫في داخل رأِس ها‪ ،‬ال بحسب الغطاء الذي تضُعه عليه»‪.‬‬
‫لكن المحزن بالفعل هو أن ما سّم يناه مفهومًا غربّيًا واهيًا‪ ،‬أو وهمًا‪ ،‬إنما ينطوي على شيٍء من‬
‫الحقيقة‪ ،‬فالكثيرون من الرجال العرب يكّنون تحّيزًا متطرفًا حياَل المرأة ويعتقدون أن عليها إما‬
‫البقاء في المنزل وتربية األطفال والعناية بهم‪ ،‬أو أن ُتحَّدد لها ِم َه ٌن معينٌة ال تتعاطى سواها‪ .‬حتى في‬
‫عائلتي نفِسها كان بعُض إخوتي وأبناء عمي ضد فكرة دخول شقيقتي عائشة وأختي إيمان‬
‫ساندهرست‪ ،‬مع أن أحدًا لم يتجّر أ طبعًا على منعهما من ذلك‪ .‬إننا‪ ،‬من دون ريب‪ ،‬في أمّس الحاجة‬
‫إلى مزيٍد من النساء الالتي يتخذن موقفًا حازمًا وَيُقلن‪« :‬دعوني أقرر‪ ،‬أنا‪ ،‬نهج الحياة التي أريد‬
‫وأديرها كما أشاء!»‪.‬‬
‫لقد بذلت رانيا جهودًا كبيرة في مجال التصدي للمفاهيم الخاطئة حياَل المرأة في المجتمعات‬
‫العربية‪ ،‬وقد رفعت الصوت عاليًا مناديًة بحقوق النساء‪ ،‬وتبّنت في السنوات األخيرة أكثَر وسائِل‬
‫االتصال حداثًة ورواجًا ‪ -‬مثل يوتيوب‪ ،‬وفايسبوك وتويتر ‪ -‬إليصال رسالتها إلى أوسِع جمهوٍر‬
‫يمكن الوصول إليه‪ .‬لقد أدركْت بسرعة أن اإلنترنت‪ ،‬في هذا العالم الذي بات على سلٍك من‬
‫التواصل الشامل والدائم‪ ،‬يتيح لنا نحن األردنيين أن نرسَل صوَتنا وكلمَتنا إلى أبعد من حدودنا‬
‫بكثير‪ ،‬وأن نجعَل من حجمنا الصغير نسبّيًا ومن موارِدنا المحدودة مسألًة غير ذات بال‪ .‬استطاعت‬
‫رانيا عبر اإلنترنت أن ُتسِم َع العالَم صوَتها وُتنهَي إليه رسالتها‪.‬‬
‫إنني أرى في التكنولوجيا الحديثة‪ ،‬من نواٍح متعددة‪ ،‬عنصَر مساواٍة عادلة بين الناس‪ ،‬وهي بذلك‬
‫تتيح للسيدة األولى حتى في بلٍد صغير كاألردن‪ ،‬أن يكون لها صوٌت مسموع على المسرح الدولّي ‪.‬‬
‫لكن السؤال الذي يواجهنا هنا هو كيف يمكننا التأكد من أن الرسالَة التي نبعث بها تهّم المتلقي وتثير‬
‫فضوَله؟ كيف التأكُد من أننا ُنحسن استخداَم هذه الوسيلة بالطريقة الخالقة واألكثر فاعليًة من جهة‪،‬‬
‫والقادرة على التسلية والترويح عن النفس من جهٍة ثانية‪ ،‬بحيث تستحوذ على اهتمام المتلقي وُتبقيه‬
‫راغبًا بمتابعِة ما َتوُّد إطالَعه عليه؟ هنا بالضبط استطاعت رانيا أن تنجز عمًال رائعًا بالفعل‪ ،‬فقد‬
‫سَّخ رت التكنولوجيا إليصال رسالِتها حول أهمية التعليم‪ ،‬كما وقفت تتحدى المفاهيَم المشَّو هة حول‬
‫اإلسالم والعالم العربي‪ .‬وفي هذا السياق كان عملها األهم النهوض بالمستويات التعليمية لألطفال في‬
‫كل أرجاء األردن‪.‬‬
‫في نيسان‪/‬إبريل من العام ‪ 2008‬أطلقت رانيا مبادرة «مدرستي»‪ ،‬وهي برنامج تحديثّي جذرّي‬
‫يرمي إلى النهوض بنوعية التعليم في خمسمئة مدرسة حكومية في كل أنحاء األردن تفتقر إلى‬
‫الكثير من مقّو مات التعليم الحديث‪ .‬في صلب هذه المبادرة يكمُن مفهوٌم مبدئي واضح وبسيط‪ :‬كُّلنا‪،‬‬
‫دون استثناء‪ ،‬نتحمل مسؤوليَة تعليم أبنائنا وبناتنا‪ .‬تجمع مبادرُة «مدرستي» تحت مظلتها القطاع‬
‫الخاص‪ ،‬والمنظمات غير الحكومية‪ ،‬والمجتمعات المحلية‪ ،‬ووزارة التربية والتعليم‪ ،‬لتشبَك أيديها‬
‫بأيدي ذوي الطلبة والمعلمين والطلبة أنفِسهم بحيث يندفع الجميع إلى تحقيق هدٍف واحٍد‪ :‬إنعاش‬
‫المدارس وتحديثها لمواكبِة مسيرة التعليم الحديث في البلدان المتقدمة‪ .‬منذ إطالقها في العام ‪2008‬‬
‫نهضت المبادرة بالمستوى التعليمي في أكثر من ثالثمئة مدرسة حكومية‪ ،‬وأثرت في حياِة مئٍة‬
‫وعشرِة آالف طالب‪ .‬لقد أدخلت هذه المبادرة تحسنًا ملموسًا على الُبنى التحتية لتلك المدارس‪،‬‬
‫وأطلقت سلسلًة من البرامج التي رفعت من مستوى الخبرة التعليمية والوعي الصحي وتدريب‬
‫المعلمين‪ ،‬باإلضافة إلى توفير ما أمكن من وسائل التكنولوجيا الحديثة‪.‬‬
‫عندما تكّشَف لرانيا مدى التقهقر الذي تعانيه مدارس القدس الشرقية‪ ،‬والدالالت الخطيرة لنسبة‬
‫التسُّر ب من المدرسة لدى شعٍب ليس مدركًا قيمَة التعليم فحسب‪ ،‬بل يحتاج إليه الستمراريته‪ ،‬أطلقْت‬
‫رانيا مشروَع «مدرستي‪/‬فلسطين» في العام ‪ .2010‬هذه المبادرة تبني على ما تكَّو ن من خبرٍة نتيجَة‬
‫التطبيق العملّي في األردن وتستهدف تلبية احتياجات أربعٍة وتسعين ألفًا من األطفال الفلسطينيين في‬
‫القدس الشرقية‪ .‬كذلك يأمل القّيمون على المشروع أن يتمكنوا من إعادة استيعاب عشرة آالف طفل‬
‫من أطفال المدينة الذين في عمر الدراسة لكنهم ال يذهبون إلى المدارس‪ ،‬ومن تحسين معدالت‬
‫التخرج‪ ،‬خصوصًا بين الصبية الذين تتجاوز نسبُة التسّر ب في صفوفهم في الوقت الحاضر خمسين‬
‫في المئة‪.‬‬
‫في مطلع شهر آذار‪/‬مارس من العام ‪ 1999‬أعيد فتح السفارة األردنية في الكويت‪ ،‬التي كانت قد‬
‫أغلقت خالل االجتياح العراقي‪ ،‬لتعود عالقاتنا مع الكويت إلى المستويات التي سبقت حرب الخليج‬
‫األولى‪ .‬كانت هذه العالقات قد تراجعت كثيرًا نتيجة لشعور الكويتيين باالستياء بعدما أساء كثيرون‬
‫فهَم موقف والدي واعتبار محاوالِته منَع وقوع الحرب وقوفًا إلى جانب صدام‪ .‬كون رانيا نشأت‬
‫وترعرعت في الكويت ساعدنا كثيرًا في وضع كل هذه االعتبارات السلبية وراءنا‪.‬‬
‫التقيت في وقٍت الحق من ذلك الشهر ياسر عرفات‪ ،‬الذي زارني في عمان ألول مرة منذ اعتالئي‬
‫العرش‪ .‬ناقشنا جمود عملية السالم وعدم إحرازها أّي تقدم وتناولنا بالبحث زيارَة عرفات المقبلة إلى‬
‫واشنطن‪ .‬ومع أن عالقات عرفات بوالدي لم تخُل من المناوشات على مدى سنواٍت طويلة‪ ،‬فقد‬
‫شعرُت بأنه كان يكّن له احترامًا حقيقّيًا‪ .‬لقد عّبر عن عاطفٍة حقيقية وأصيلة عندما انحنى أمام جثمانه‬
‫خالل الجنازة‪ ،‬وأثناء اجتماعي به كنت مستعّدًا لإلصغاء إلى ما لديه وللمساعدة حيثما أمكنني ذلك‪.‬‬
‫بعد أسبوعين‪ ،‬ولمناسبة انتهاء فترة األربعين يومًا حدادًا على والدي‪ ،‬جاءني بعُض مستشارَّي‬
‫باقتراٍح يقضي بالعفو عن بعض المساجين كما كان دائمًا التقليد المَّتبع عند تولي حاكٍم جديد مقاليد‬
‫الحكم‪ .‬وافقت من حيث المبدأ مشترطًا عدم اإلفراج عن أّي سجين ارتكَب جريمًة كبرى كالقتل أو‬
‫االغتصاب‪ .‬عاد إلّي المستشارون بقائمٍة من سبعمئة اسم قالوا إنهم اختيروا بعد تدقيٍق كامل‪ .‬وبعد‬
‫أن وافق مجلس األمة على مشروع قانون العفو العام‪ ،‬وقعت مشروع القانون ونفذ العفو‪ .‬كان من‬
‫بين السجناء الذين أفرج عنهم رجٌل اسُم ه أحمد فضيل الخاليلة‪ُ ،‬عرف في ما بعد بأبي مصعب‬
‫الزرقاوي‪ .‬وكان يجب أال يخطَو هذا الرجل خطوًة واحدة خارَج السجن‪ ،‬وقد ندمُت في ما بعد ندمًا‬
‫مريرًا على أن اسمه كان من بين األسماء في تلك القائمة‪.‬‬
‫بعض القادة من الخارج‪ ،‬مثل نتنياهو وعرفات‪ ،‬جاؤوا لزيارتي‪ ،‬وهناك آخرون كانوا ينتظرون‬
‫زيارتي لهم‪ .‬كانت المرحلة حساسة‪ .‬الحكام العرب بأجمعهم كانوا يعرفون والدي وعمي‪ ،‬وبعُض هم‬
‫امتدت معرفُته بهما عقودًا‪ .‬بعضهم خاَض حربًا مع والدي‪ ،‬حتى إنه حاول قتَله‪ ،‬وبعضهم ربطته به‬
‫عالقات صداقة وثيقة‪ .‬وإذا شئُت الفوَز باحترامهم كواحٍد منهم فعلّي أن أعمَل جاهدًا في سبيل ذلك‪.‬‬
‫كملك جديد لألردن‪ ،‬ثمة فرصة لبداية جديدة‪.‬‬
‫الفصل الرابع عشر‪ :‬أصـدقـاء وجيـران‬

‫من بين الخصائص التي ال يفهمها الغرب فهمًا صحيحًا عن الشرق األوسط تنّو ُعه الحضارُّي‬
‫واالجتماعّي ‪ .‬فعلى الرغم من أن البلدان األوروبية تدين بالغالب بديٍن مشترك وبتركيٍب سياسّي‬
‫متشابه‪ ،‬تبقى هناك اختالفاٌت هائلة‪ ،‬ثقافية واجتماعية بين سويدٍّي ويونانّي ‪ ،‬وبين ألمانٍّي وإسبانّي ‪.‬‬
‫حتى البلدان األوروبية التي تربُط بينها لغٌة واحدة‪ ،‬مثل إنكلترا وسكوتلندا وأيرلندا وويلز‪ ،‬قد دأَبْت‬
‫على الدفاع المستميت عن ُهويتها الثقافية والتاريخية‪ .‬من هنا ثمة تحفظ مشروع على تعريف‬
‫شخٍص ما بـ«األوروبي»‪ ،‬ذلك أن معظم المواطنين األوروبيين ُيعِّر فون أنفَسهم بُه ويتهم الوطنية‪.‬‬
‫الشرق األوسط أيضًا فيه هذا المستوى من التنّو ع‪ .‬فالمغربُّي يختلف عن األردني أو اليمنّي ‪ .‬ومع‬
‫أن معظم البلدان العربية تدين بديٍن واحٍد هو اإلسالم‪ ،‬وتتكلم لغًة واحدة هي العربية‪ ،‬تبقى بين بلٍد‬
‫منها واآلخر اختالفاٌت ثقافية وتاريخية ال ُيستهان بها‪ ،‬كما أن بعض هذه البلدان أوطاٌن ألقلياٍت دينية‬
‫تشكل مكونا رئيسّيًا من نسيجها االجتماعّي التاريخي‪ .‬يعود المصريون بتاريخهم إلى عهوِد‬
‫الحضارة الفرعونية القديمة‪ ،‬بينما لدول الخليج خلفية صحراوية بدوية‪ .‬األتراك واإليرانيون‬
‫يتكلمون لغتين مختلفتين ولكٍّل من الشعبين تاريُخ ه وحضارُته‪ .‬من هنا أيضًا‪ ،‬ال أرى أّي معنى لهذا‬
‫التعميم الجارف الذي يتحدث عن كل «العرب» دونما تمييز‪.‬‬
‫صحيح أنني كنُت قد التقيت قادَة دول المنطقة عندما كنت أرافق والدي في زياراته لهم‪ ،‬لكن هذا‬
‫ال يعني أن أحدًا كان سيبني عالقاته معي استنادًا إلى حقيقة أنني ابن الحسين فقط‪ .‬إنني أعيش في‬
‫جواٍر مليء بالصعوبات والمشاكل والتحديات‪ .‬وتبدت صعوبة األوضاع في منطقتنا جلية منذ‬
‫اللحظة األولى لتحملي مسؤوليتي ملكًا على األردن‪.‬‬
‫حقائق الجغرافيا وضعت األردن في قلب هذه الصعوبات‪ .‬فعلى حدودنا الغربية تقع فلسطين‬
‫وإسرائيل‪ ،‬وهذه األخيرة هي القوة النووية الوحيدة في المنطقة‪ .‬إلى الشرق يجاورنا العراُق الذي‬
‫كان تحت حكم البعث بقيادة صدام حسين الذي خاض حربين مع بلدين جارين له‪ ،‬وكان يمتلك جيشًا‬
‫من مليون رجل‪ .‬أما شماًال فجارتنا سوريا وكان على رأس الحكم فيها حافظ األسد‪ ،‬القائد المحّنك‬
‫الذي كان قد مضى عليه في الحكم ثالثة عقود‪ .‬أما جارنا الجنوبّي فالمملكة العربية السعودية حيث‬
‫الحَر مان الشريفان‪ ،‬مكة والمدينة‪ ،‬وحيث كان ولّي العهد سمو األمير عبد هللا بن عبد العزيز يتولى‬
‫مسؤولياٍت واسعًة بسبب المرض الذي كان يعانيه أخوه الملك فهد‪ .‬وبالقرب منا مصر التي يقودها‬
‫الرئيس حسني مبارك‪ ،‬وهو قائٌد ذو تجربة واسعة وكان والدي قد بنى معه صداقًة راسخة وقوية‪.‬‬
‫وعلى مسافٍة أبعد هناك ليبيا ودول الخليج ‪ -‬البحرين‪ ،‬الكويت‪ ،‬قطر‪ ،‬اإلمارات العربية المتحدة‪،‬‬
‫وُعمان ‪ -‬وعبر الخليج العربي هناك إيران‪ .‬كثيرون من بين قادة هذه البلدان كان قد مضى عليهم في‬
‫الحكم بضعة عقود واألرجح أن يستمر بعضهم فيه سنواٍت أخرى‪ ،‬ذلك أن الرؤساء في هذه المنطقة‬
‫غالبًا ما استمروا في الحكم زمنًا أطول من الملوك‪.‬‬
‫كان والدي قد عرف كل هؤالء القادة‪ ،‬وبما أنه أحد أطول رؤساء الدول زمنًا في الحكم‪ ،‬فقد عرف‬
‫عددًا من أسالفهم أيضًا‪ .‬عّلمني أّن على األردن أن يحافظ على توازٍن دقيق في موقفه حياَل السياسة‬
‫اإلقليمية‪ .‬وقد شهدت عالقاتنا مع الدول المجاورة بين الحين واآلخر مراحَل من االضطراب‪ .‬في‬
‫بعض تلك المراحل‪ ،‬خالل خمسينيات القرن الماضي وستينياته يوم كانت القومية العربية في أوج‬
‫تأّلقها وامتدادها‪ ،‬حاول بعض جيراننا القيام بتحركاٍت انقالبية على والدي أو االعتداء على حياته‪.‬‬
‫لكن هذا لم يمنع مجيئهم جميعًا بعد وفاته لتقديم واجب العزاء والتعبير عن االحترام والحزن لغيابه‪.‬‬
‫واآلن علّي أن أبني عالقاتي الشخصية معهم‪ ،‬وبقدر ما تعّلمُت وما أذكر من خبرة والدي أعلم أن‬
‫من الصعب التكهَن متى أتوقع منهم الدعم والمساعدة ومتى علّي أال أعِّو ل على ذلك‪.‬‬
‫من بين هؤالء القادة واحٌد كنُت مدركًا أنني لن أختار أن أكون قريبًا منه‪ ،‬هو صدام حسين‪ .‬فحين‬
‫أصبحت ملكًا لم يجِر بيننا تواصٌل مباِش ر إال في ما ندر‪ ،‬وقد قررت أال أزور بغداد‪ .‬لكّن العراق ال‬
‫يمكن تجاهُله بسهولة‪ .‬بقي هذا األمر مصدرًا للقلق‪ ،‬فهناك العديد من بلدان المجتمع الدولي التي‬
‫كانت تخشى أن يعاود العراق مهاجمة أحد جيرانه‪ ،‬كما كانت لديها شكوك في أن صدام قد استأنف‬
‫برامجه لتطوير سالحه البيولوجي والنووي‪ .‬كان التوتر بين بغداد والواليات المتحدة يشهد تزايدًا‬
‫متواصًال خالل السنة األخيرة من حياة والدي‪ ،‬وفي أيلول‪/‬سبتمبر من العام ‪ُ 1998‬طِر َح أمام‬
‫الكونغرس األميركي مشروع قانون تحرير العراق الذي نص على أنه «يجب أن تتبنى الواليات‬
‫المتحدة سياسَة دعم الجهود اآليلة إلى إزاحة النظام الذي يرأسه صدام حسين من السلطة في العراق‬
‫وتشجيع بروز حكم ديموقراطي يحُّل محّل هذا النظام»‪ .‬وّقع الرئيس كلنتون مشروع القانون‬
‫وأصبح قانونًا نافذًا في ‪ 31‬تشرين األول‪/‬أكتوبر من العام ‪ ،1998‬وعندئٍذ بات «تغيير النظام»‬
‫سياسًة خارجية رسمية للواليات المتحدة األميركية‪ .‬في اليوم التالي طرد صدام حسين مفتشي‬
‫السالح الدوليين إلى خارج العراق‪ ،‬وبعد ستة أسابيع أمر كلنتون بشن سلسلة من الغارات الجوية‬
‫استهدفت مرافق السالح العراقية واستمرت أربعة أيام متواصلة كانت خاللها القاذفات األميركية‬
‫تنطلق من حامالت الطائرات الراسية في الخليج العربي‪ ،‬وقد شاركت في هذه الهجمات القوات‬
‫البريطانية‪.‬‬
‫في تلك الفترة كان الرئيس كلنتون يمّر في أزمٍة داخلية شديدة الوطأة عليه شخصّيًا‪ .‬فعالقته‬
‫بإحدى موظفات البيت األبيض كانت موضَع تحقيق خالل العام ‪ 1998‬بطوله‪ ،‬وقد أجبر الرئيس‬
‫على اإلدالء بإفادته أمام هيئة عليا من المحَّلفين‪ .‬في اليوم األخير من الهجمات الجوية‪ ،‬التاسَع عشر‬
‫من كانون األول‪/‬ديسمبر بدأ مجلس النواب مداوالت لعزله‪ ،‬وفي شهر شباط‪/‬فبراير‪ ،‬أي بعد حوالى‬
‫شهرين أنهى مجلس الشيوخ هذه المداوالت لمصلحته‪ .‬لكن ذلك لم يضع حّدًا لمعاناته‪.‬‬
‫شعر والدي باشمئزاز وغضب كبيرين نتيجة ذلك الهجوم القانوني الضاغط على الرئيس‬
‫األميركي‪ ،‬فمهما تكن عثراُت كلنتون الشخصية يبَق أّن والدي عرف فيه صديقًا صادقًا لألردن‪،‬‬
‫فضًال عن كونه داعمًا قوّيًا للعملية السلمية‪ .‬ومن طبيعة والدي أن يهَّب دائما للدفاع عن أصدقائه‪.‬‬
‫كان والدي شديد اإلعجاب بالتقاليد الديموقراطية األميركية‪ ،‬لكنه اعتقد بوجود مبالغات غير مقبولة‬
‫في بعض األحيان‪ .‬وقد رأى أن التحقيقات في عالقة كلنتون الشخصية كانت أشبه بمسلسٍل درامي‬
‫فاشل‪ .‬أزعَج ه بالفعل أن يهاجم الناس الرئيس بهذه الطريقة الشرسة‪ .‬أذكر يوَم كنت أشاهد التلفزيون‬
‫معه في مايو كلينك‪ ،‬وقد ظهَر على الشاشة خالل نشرة األخبار «كن ستار» (‪ ،)Ken Starr‬الذي‬
‫كان يقود عملية التحقيق مع الرئيس‪ .‬غضب والدي وعَّبر بمنتهى القوة عن عدم رضاه عن الطريقة‬
‫التي يدير بها «ستار» مجريات التحقيق‪ ،‬وقال بحّدٍة‪« :‬إذا أتاحت لي الظروف أن ألتقي هذا الرجل‬
‫في يوٍم من األيام‪ ،‬فسوف يسمع مني كالمًا ال يعجبه»‪ .‬تركُت مايو تلك الليلة على شيٍء من‬
‫االطمئنان إلى ارتفاع معنوياته واحتفاظه بحيويته وروح المواجهة‪.‬‬
‫من بين األمور التي تختلف فيها السياسة في الشرق األوسط عنها في أوروبا والواليات المتحدة‬
‫كوُنها ذات طبيعة شخصية إلى أبعد الحدود‪ .‬في الغرب يديرون شؤونهم الدولية من خالل‬
‫المؤسسات ومن خالل الموظفين الدائمين الذين يوّفرون لسياسة دولهم االستمراريَة بقطع النظر عن‬
‫دخول هذا القائد السياسّي إلى مسرح الحدث أو خروجه منه‪ .‬ومن الواضح أن العالقات الشخصية ال‬
‫يمكن أن ترتفع بأهميتها إلى مستوى نقاط البحث المحَّددة والدقيقة‪.‬‬
‫لكن في منطقتنا يفضلون أن يلتقي أحُدهم اآلخر وجهًا لوجه‪ ،‬ونحن نفاخر بما في ثقافتنا وتراثنا‬
‫من تقاليد حسن الضيافة‪ .‬هذه التقاليد غالبًا ما تعني الكثير من تناول الطعام وتمضية الوقت في‬
‫التفاعل االجتماعي‪ .‬وفيما يجدون في الغرب أمرًا طبيعّيًا أن يلتقي رئيسان أو مسؤوالن كبيران على‬
‫مدى عشرين دقيقة يبحثان خاللها شؤونًا تطّلبت لقاَء هما ثم يعود كٌّل منهما إلى عمله‪ ،‬يرى الناس في‬
‫العالم العربّي أن من غير الالئق القيام بزيارة قصيرة‪ .‬فاللياقة تقضي‪ ،‬عندما يزورك ضيف كبير‪،‬‬
‫أن تلتزم تقاليد ضيافة من بينها أن تولم على شرف الضيف‪ .‬وُتبحث شؤون العمل الجدي في أحاديَث‬
‫جانبيٍة وغير رسمية خالل العشاء وبعده ال في اجتماعات رسمية فحسب‪.‬‬
‫كنت مدركًا طبعًا أن من الضرورّي بناء عالقات شخصية مع نظرائي من قادة العالم العربي‪،‬‬
‫علمًا بأن مراكز القوى األساسية في الشرق األوسط هي مصر والمملكة العربية السعودية وسوريا‬
‫والعراق‪ ،‬وذلك بسبب أحجام هذه البلدان وأهميتها التاريخية‪ ،‬إضافة إلى بلدان الخليج التي تتمتع‬
‫بثروات كبيرة ونفوذ‪ .‬كان علّي أن ألتقي قادَة هذه البلدان جميعًا إلقامة عالقات جيدة معهم ومع‬
‫بلدانهم‪ ،‬ولذلك بدأت في أواخر آذار‪/‬مارس من العام ‪ 1999‬جولًة من الزيارات المتالحقة على دول‬
‫المنطقة‪.‬‬
‫زرت مصر أوًال واجتمعت إلى الرئيس حسني مبارك‪ .‬تمثل مصر قوة إقليمية رئيسة ومارست‬
‫على مدى العقود دورًا قيادّيًا في المنطقة في ضوء حجمها وتاريخها ومؤسساتها الدينية‪ .‬فالقاهرة‬
‫تحتضن جامعَة األزهر التي تجاوَز عمُر ها ألف سنة وهي من أقدم المؤسسات التعليمية والدينية في‬
‫العالم‪ .‬ويفتخر المصريون بوطنهم ويعتبرونه «أُّم الدنيا»‪.‬‬
‫منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي تقوم صداقة عائلية بيننا وبين عائلة الرئيس مبارك الذي‬
‫ربطتني به وبنجله جمال عالقة معرفة وطيدة‪ .‬استقبلني الرئيس مبارك بحرارة وعّبر عن عاطفٍة‬
‫حقيقية وصادقة‪ .‬وتحدثنا في شتى المواضيع‪ ،‬خصوصًا ما يواجهه بلدانا من التحديات‪ ،‬وتحديدًا‬
‫صعوبة توفير فرص العمل وإتاحة فرص التقدم أمام أجيال الشباب الذين تنوُء أكثريُتهم تحت أعباء‬
‫الفقر والبطالة‪ .‬ذكَر مبارك خالل اللقاء كم كانت خسارة المنطقة كبيرة باغتيال رابين قبلئٍذ ببضع‬
‫سنوات‪ ،‬ذلك أنه كان مستعّدًا لتقديم تضحيات كبيرة من أجل الوصول إلى السالم‪ ،‬وقد عّبر كالنا‬
‫عما كانت ستجنيه منطقة الشرق األوسط بكاملها من الفائدة بفعل التصميم القوّي لديه على الوصول‬
‫إلى اتفاٍق مع الفلسطينيين‪ .‬وعندما يرسُل أٌّي منا نظره عبر الحدود إلى إسرائيل‪ ،‬ال الرئيس مبارك‬
‫وال أنا يمكننا أن نعثر على قائٍد هناك يمتلك القوة والعزم المطلوبين اللذين تمّيز بهما رابين لإلتيان‬
‫بمواطنيه معه في المسيرة الصعبة نحو السالم‪ .‬وهكذا فإن إنعاش عملية السالم المتعثرة‪ ،‬وأحيانًا‬
‫المجمدة‪ ،‬كان وسيبقى البنَد األساس على جدول أعمال أّي اجتماع بيني وبين الرئيس مبارك‪ .‬تحدثنا‬
‫أيضًا عن الحاجة إلى انفراج يضُع المنطقة على المسار الصحيح باتجاه تحقيق السالم الفلسطيني‬
‫اإلسرائيلي على أساس حل الدولتين‪.‬‬
‫بعد فترة قصيرة من هذا اللقاء قمت بزيارة لجّدة التقيت خاللها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد‬
‫بن عبد العزيز آل سعود وأخاه سمو األمير عبد هللا بن عبد العزيز‪ ،‬ولي العهد‪ ،‬الذي كان يتولى‬
‫الجزء األكبر من مسؤوليات الحكم في المملكة نظرًا للحالة الصحية الحرجة التي كان يمّر فيها‬
‫الملك فهد‪ .‬كنت قد التقيت األمير عبد هللا للمرة األولى في أواخر سبعينيات القرن الماضي يوم كنت‬
‫في إجازة من ديرفيلد وذهبُت مع والدي وأخي فيصل إلى الطائف‪ ،‬المدينة الجبلية والمقر الصيفي‬
‫للبالط الملكي السعودي‪ .‬جلسُت إلى جانبه على العشاء‪ ،‬وأذكر أن ما دار في ذهني يومذاك هو أنني‬
‫جالٌس إلى جانب مسؤول كبير وهو يكبرني بأربعين سنًة تقريبًا‪ ،‬ونحمل كالنا االسم نفَسه‪ .‬كان‬
‫سمّو ه راميًا ماهرًا وفارسًا متمرسًا وأخبرني خالل حوارنا كيف كان يصيب السيجارة بمسدسه‪،‬‬
‫وحدثني عن الجياد التي كان يقتنيها‪ .‬تطرقنا إلى أمور كثيرة وكان حوارنا مشّو قًا‪.‬‬
‫عالقتي الشخصية باألمير عبد هللا كانت وديًة وجيدة‪ .‬لكن العالقة بين األردن والمملكة العربية‬
‫السعودية كانت تاريخّيًا عالقًة دقيقة وحساسة‪ .‬العائلة الهاشمية تعود بجذورها إلى الحجاز‪ ،‬وقد‬
‫حكمت المدينتين المقدستين طواَل ما يربو على سبعمئة سنة وصوًال إلى العام ‪ 1925‬حين خسَر‬
‫الهاشميون تلك المنطقة أمام ابن سعود الذي أّسس المملكة العربية السعودية‪ .‬كان والدي يحافظ على‬
‫عالقة متينة مع السعوديين‪ ،‬لكن هذه العالقة شاَبها شيٌء من الخلل نتيجة موقفه من حرب الخليج في‬
‫العام ‪ .1991‬لكن سمو األمير عبد هللا‪ ،‬الذي ال يقبل أن ُتفِسَد السياسة المودَة والعالقة الشخصية‪،‬‬
‫زار والدي في منزله في واشنطن في األشهر األخيرة من حياته وحمَل إليه ماء زمزم‪ .‬صَّب األمير‬
‫عبد هللا ماء زمزم بيده لوالدي كما أهداه نسخة من القرآن الكريم‪ ،‬وكان للفتته أثُر ها العميق لدى‬
‫والدي الذي عاد وذكرها تكرارًا بتقدير وعرفاٍن كبيرين خالل األيام التالية‪.‬‬
‫سبَق أن زرت السعودية عدة مرات خالل الفترة التي أمضيُتها في قيادة القوات الخاصة وتعّر فت‬
‫على بعض أبناء الجيل الجديد من العائلة المالكة بمن فيهم نجال ولّي العهد األمير متعب واألمير عبد‬
‫العزيز‪ .‬دار الحديث أحيانًا عن الصدامات التي شهدتها عالقات العائلتين‪ ،‬وعن ضرورة وضع‬
‫التاريخ جانبًا وتركيز الجهد على تقوية العالقات اآلنية والمستقبلية‪.‬‬
‫توّلى األمير عبد هللا الحكم ملكًا على المملكة العربية السعودية خَلفًا للملك فهد في العام ‪،2005‬‬
‫وهو شخصيٌة تنطوي على مزيٍج نادٍر من مفاهيم القيادة التقليدية والحديثة في آٍن معًا‪ .‬يمتلك فهمًا‬
‫فطرّيًا للعوامل التي تجعُل جليَسه ُيخرج أفضَل ما لديه من األفكار واآلراء‪ ،‬ويعرف جيدًا أهل‬
‫منطقته‪ .‬يحرص خادم الحرمين الشريفين على قيم بالده الضاربة جذورها في التاريخ وتراثها‬
‫الثقافّي ‪ ،‬ويحمل رؤية سديدة بعيدَة المدى لبناء مستقبل شعبه‪ .‬في المملكة العربية السعودية مجتمع‬
‫محافظ دأَب على الفصل بين الرجال والنساء‪ ،‬لكن في الخامس من أيلول‪/‬سبتمبر من العام ‪2009‬‬
‫افُتتحت جامعة الملك عبد هللا للعلوم والتكنولوجيا الواقعة على البحر األحمر قرب مدينة جدة‪ ،‬وهي‬
‫الجامعة السعودية األولى التي تعتمد التعليم المختَلط‪ .‬وعندما عارَض أحد رجال الدين السعوديين‬
‫فكرَة التعليم المختَلط في هذه الجامعة عمَد الملك عبد هللا إلى عزله من منصبه‪ .‬لقد شهدت السعودية‬
‫في عهده تطورًا هائًال في مجاالت التعليم واالتصال والبنى التحتية‪ ،‬وقد أدت السياسات التي انتهجها‬
‫إلى تنّو ٍع كبير في حركة االقتصاد وسّه لت بدرجة كبيرة نمَّو القطاع الخاص‪ .‬لقد أطلق الملك عبد‬
‫هللا إصالحاٍت كبرى في النظام القضائي عبر إعادة تأهيل المحاكم وإنشاء محكمة العدل العليا بغية‬
‫توحيد نوعية األحكام سعيًا إلى أفضل مستويات العدالة‪ .‬وألول مرة في تاريخ المملكة ُعِّينت امرأة‬
‫نائبًة للوزير‪.‬‬
‫ليس الملك عبد هللا من الرجال الذين يمكن المرء أن يحيط بصفاتهم في وقت قصير‪ ،‬لكن حين‬
‫يتسّنى لك أن تبني عالقتك به‪ ،‬فهذه العالقة تكون وثيقًة وقوية‪ .‬يحّب مشاهدة التلفزيون خالل تناوله‬
‫الطعام‪ ،‬ومما يشير إلى كونَك ضيفًا مكَّر مًا لديه أن يشعر بارتياٍح واضح في حضورك بحيث‬
‫يستقبلك في قاعٍة تغيب عنها الرسميات‪ ،‬يشغل فيها التلفزيون لتشاهداه معًا‪ .‬مضيٌف َيفيض الكرُم‬
‫على يديه‪ ،‬وخالل حفالت العشاء الرسمية عندما كنت أزوره‪ ،‬كان أحيانًا يمّر بجانبي يتفّح ص أنواَع‬
‫الطعام التقليدية من األرز ولحم الضأن والمعّج نات‪ ،‬وعند وصوله إلى أحد األنواع المشّه ية بصورٍة‬
‫خاصة كان يتذوق شيئًا منه ثم يضع قليًال منه في الصحن أمامي‪ .‬إنه صديق مقَّر ٌب وعزيز‪ ،‬وهو‬
‫داعٌم كبير لألردن‪.‬‬
‫في أواخر ذلك الشهر ذهبت إلى ُعمان والتقيت جاللة السلطان قابوس بن سعيد آل سعيد في‬
‫الصحراء قرب ِنزوة‪ ،‬وهي بلدة تبعد مئًة وعشرين ميًال إلى الجنوب الغربي من العاصمة مسقط‪.‬‬
‫كل سنة يقوم السلطان بجولة تستمر ثالثة أشهر يزور خاللها مختِلف مناطق عمان ويرافقه فيها‬
‫وزراء حكومته‪ .‬هو أيضًا من خريجي ساندهرست‪ ،‬متواضٌع لكنه شديد الحرص على كل تفصيٍل‬
‫من التفاصيل‪ .‬يالحق الشأن العام ويولي إدارة البالد أهميًة ومتابعًة دائمتين‪ ،‬وقد نقل ُعمان من‬
‫القرن الثاني عشر إلى القرن الحادي والعشرين دون أن ُيغفَل تراَثها الغنَّي كبلٍد ركَب أبناؤه البحَر‬
‫منذ قروٍن طويلة‪ ،‬وتقول الحكايات إن سندباد البّح ار ُو لد في قريٍة سكاُنها من الصيادين في شمال‬
‫غرب مسقط‪.‬‬
‫يحظى السلطان قابوس باحترام كبير في منطقتنا المتوترة ويكاد ال يكون له أي أعداء فيها‪ .‬ومما‬
‫يؤكد دقَة التوازن في تعامله ومهاراته في عالم الدبلوماسية قدرُته الفائقة على إبقاء عالقات الصداقة‬
‫قائمًة بينه وبين اإليرانيين من جهة‪ ،‬وبينه وبين األميركيين من جهة ثانية‪ .‬كانت تربُطه عالقة قوية‬
‫جّدًا بوالدي‪ ،‬وتعود هذه العالقة المتينة في جزٍء منها إلى أن والدي أرسَل قواٍت لدعم السلطان ضد‬
‫الثوار الذين قادوا تمردًا عليه في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته‪ .‬ثورُة ُظفار بدأت احتجاجًا‬
‫على حكم والده سعيد بن تيمور‪ ،‬لكن بحلول العام ‪ 1970‬ومع تسّلم جاللة السلطان قابوس الحكم‪،‬‬
‫كان الثوار قد تبّنوا نهجًا ماركسّيًا وأخذوا يتلقون الدعم من الصين واالتحاد السوفياتي‪ .‬انهزم الثوار‬
‫في النهاية في العام ‪ 1975‬وانطلق السلطان قابوس في ورشة تحديث بلده والنهوض به إلى العصر‬
‫الحديث‪.‬‬
‫رّكز اهتمامه على التعليم‪ ،‬وعلى تفعيل دور المرأة‪ ،‬وعلى االستقرار السياسي‪ ،‬وبذَل جهودًا‬
‫مضنية ساعيًا في تطوير مؤسسات الدولة وتفعيل عملها وجعِلها ذات نهج تحديثي ينظر إلى‬
‫المستقبل ويستشرف حاجات البالد ومتطلبات العصرنة والحداثة‪ .‬تضع حكومُته دائمًا خطة عمل‬
‫للسنوات الخمس المقبلة‪ ،‬وتضع ُعمان جانبًا صناديق من مداخيل النفط تحّسبًا للزمن اآلتي يوم يجّف‬
‫هذا المصدُر الطبيعي‪ .‬يؤّدي سلطان عمان دورًا حصيفًا على المسرح الدولي‪ ،‬وله موقع رفيع جّدًا‬
‫في المنطقة‪ ،‬والذين يعرفونه من قادة الغرب جيدًا ينصتون باهتمام لكالمه ويقّدرون آراءه‪ .‬عندما‬
‫غاَب والدي كان السلطان قابوس واحدًا من الذين وقفوا إلى جانبي داعمين ومساعدين بكل ما أوتي‬
‫من القدرة‪ .‬كثيرًا ما يقدم السلطان قابوس النصائح الحكيمة‪ ،‬ويتمتع بثاقب النظر‪ .‬لقد استفدُت ‪ ،‬إلى‬
‫أبعد الحدود‪ ،‬وخصوصًا في بداية تحّم لي مسؤولية الملك‪ ،‬من حكمته ونصحه‪.‬‬
‫استكملُت جولتي العربية ووصلت إلى اإلمارات العربية المتحدة حيث التقيت سمو الشيخ زايد بن‬
‫سلطان آل نهيان‪ ،‬حاكم أبو ظبي ورئيس دولة اإلمارات العربية المتحدة‪ .‬في تلك الحقبة الزمنية كان‬
‫الشيخ زايد‪ ،‬وهو حاكٌم عربّي ذو نهٍج تقليدي‪ ،‬في مطلع الثمانينيات من العمر‪ ،‬وكان ذا شخصية‬
‫جذابة تستميُلَك بسهولة وتبُّث فيك شعورًا باالرتياح الفورّي ما إن تجلس وتبدأ حديثك معه‪ .‬قاَد‬
‫مسيرة أبو ظبي وسائر اإلمارات في تحّو لها المذهل إلى واحٍد من أكثر البلدان العربية حداثًة‬
‫وتطورًا‪ ،‬حيث المراكز التجارية والثقافية والتعليمية التي تمأل بنشاطها البالَد حركًة إنمائيًة ال‬
‫تتوقف‪ .‬بوفاته في العام ‪ 2004‬خسرت المنطقة العربية قائدًا عظيمًا عرفت فيه الحكمة والنظرة‬
‫البعيدة والرأي الثاقب‪ ،‬فضًال عن عاطفته اإلنسانية‪ .‬لقد تابَع َخ َلُفه سمو الشيخ خليفة بن زايد آل‬
‫نهيان‪ ،‬نهَج والده في ممارسة الحكم بصدر واسٍع وتسامح وحكمة‪ .‬لقد وقف الشيخ زايد رحمه هللا‬
‫دائمًا إلى جانب األردن داعمًا ونصيرًا‪ ،‬ولم يتواَن في المساعدة كلما قصدُت إليه في مهمٍة أو في‬
‫طلب‪ ،‬وتربُطني صداقٌة متينة بنجله سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان‪.‬‬
‫محطتي التالية كانت في سرت‪ ،‬المدينة الساحلية على الشاطئ الليبي والتي تبعد مسافة ‪ 250‬ميًال‬
‫إلى الشرق من طرابلس‪ ،‬لالجتماع إلى العقيد معّم ر القذافي‪ .‬عندما تولى السلطة إثر انقالٍب‬
‫عسكرّي في العام ‪ 1969‬ارتبَط القذافي بتحالفاٍت مع العديد من المجموعات الراديكالية في كل‬
‫أرجاء الشرق األوسط‪ .‬في العام ‪ 1982‬خطط لتهريب صواريخ أرض ‪ -‬جّو إلى األردن ووضعها‬
‫في مواقع معينة في مطاري عمان والعقبة الستهداف طائرة والدي‪ .‬الرجل الذي ائتمَنه القذافي لتنفيذ‬
‫الخطة‪ ،‬السفير الليبي إلى األردن‪ ،‬أصاَبه الهلع من مجرد فكرٍة كهذه‪ ،‬لكن بما أنه كان يعلم علَم‬
‫اليقين أن مصيره السجن أو العقاب األسوأ إذا رفض‪ ،‬تظاهَر بأنه َقِبَل المهمَة إلى أن اقترب وقت‬
‫تنفيذ الخطة‪ ،‬فلجأ إلى األردن وأخبر والدي بما لديه‪.‬‬
‫في السنة التالية أصابت الدهشة العديد من الساسة الغربيين عندما دعا والدي العقيد القذافي إلى‬
‫عمان لعقد مصالحة علنية بينهما‪ .‬في العاشر من حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ 1983‬هبطت طائرة‬
‫القذافي في مطار عمان العسكري ونزل منها الزعيم الليبي محاطًا بحرسه الشخصي المؤلف من‬
‫مجموعٍة من الشابات المسّلحات يرتدين سراويَل قصيرًة على الطريقة الكوبية وفوَقها سترات‬
‫سفاري‪ ،‬وعلى رؤوسهن قبعات تغطي شعرهن المسَّر ح على الطريقة األفريقية‪ .‬بعد ساعتين من‬
‫المحادثات دعا والدي العقيد القذافي إلى قضاء ليلته في األردن قبل أن يكمل طريَقه إلى سوريا‪.‬‬
‫بالنسبة إلى شخص غريب قد تبدو هذه الطريقة في معاملة شخص حاول أن يقتلك قبلئٍذ بعاٍم واحد‬
‫مستغربًة ومحِّيرة‪ ،‬لكن والدي كان يؤمن دائمًا بأن على المرء أن ُيبقي أصدقاَء ه قريبين منه وأن‬
‫ُيبقي أعداَء ه أكثر قربًا‪.‬‬
‫كان مدركًا‪ ،‬بالخبرة وُبعد النظر‪ ،‬أن منطقة الشرق األوسط تعّج بكل أنواع القيادات والمشارب‬
‫السياسية‪ ،‬وقد عّلمته عقوُده الثالثة في الحكم‪ ،‬ملكًا وقائدًا‪ ،‬أن عدّو ك اليوم قد يكون صديقك غدًا‪ ،‬وما‬
‫من حكمٍة أو فائدة في تخزين مشاعر الحقد والضغينة‪ .‬وكما أفراُد العائلة الواحدة‪ ،‬هكذا على قادِة‬
‫البلدان العربية االثنين والعشرين أن يتعاملوا بعُض هم مع بعض على مدى سنواٍت وسنوات‪ .‬مع‬
‫مرور الوقت باتت العالقة بين والدي والقذافي أكثر وثوقًا ومتانًة حتى إنه كان يرسلني إلى ليبيا حين‬
‫كنت قائدًا للعمليات الخاصة ألبحث هناك مسائَل تتعلق بالتعاون العسكري‪ .‬وتعرفت خالل تلك‬
‫الزيارات على نجَلي القذافي‪.‬‬
‫لم تكن مقاربُة والدي حيال خصومه الداخليين أقَّل انفتاحًا ورحابَة صدر‪ ،‬فاألردن بلد صغير‬
‫ووالدي كان مدركًا تمامًا أن ال بّد له من التعايش مع الذين سبق أن «ساعدهم» على تقويم‬
‫اعوجاجهم‪ ،‬ومع عائالتهم أيضًا‪ .‬المألوف في الشرق األوسط أن يكون اإلعدام مصيَر الذين‬
‫يتآمرون لقلب نظام الحكم‪ ،‬لكن والدي كان يعمد إلى نفي َم ن يتآمر ضده إلى خارج المملكة بضَع‬
‫سنوات ثم يعود فيرّح ب به في األردن‪ .‬وفي بعض األحيان كان يذهب أبعَد من ذلك فيعطي المتآمر‬
‫العائد موقعًا في الحكومة‪ .‬هذه كانت طريقته في إظهار غفرانه وفي بث روح الوالء في الشخص‬
‫المعني‪ .‬نتيجة لتلك المعاملة سوف يفكر ذلك الشخص ملّيًا في المرة التالية قبل أن يخون َم ن أحاطه‬
‫بهذا القْدر من النبل والتسامح‪ .‬لقد َنهلُت كثيرًا من أمثوالته ودروسه‪ ،‬ومن حكمته في قيادة البالد‪،‬‬
‫لكنني عرفُت أنه سيكون علّي أن أجَد مقاربتي الخاصة في معالجة األمور بعد غيابه‪.‬‬
‫في نيسان‪/‬إبريل زرت سوريا‪ ،‬وكانت العالقات بينها وبين األردن متشنجة منذ وَّقع األردن‬
‫معاهدة السالم مع إسرائيل في العام ‪ .1994‬أخذ الغضب من الرئيس حافظ األسد مأخَذه ألن األردن‬
‫لم ينتظره ريثما ُينهي مفاوضاته مع إسرائيل حول مرتفعات الجوالن السورية التي احتلتها إسرائيل‬
‫خالل حرب العام ‪ .1967‬ومنذ توقيع معاهدة السالم لم يعد األسد يزور األردن إلى أن توفي والدي‬
‫فجاء مشاركًا في الجنازة ومقدمًا واجب العزاء‪ .‬وهكذا كانت زيارتي دمشق ترمي إلى إعادة بناء‬
‫العالقة بين البلدين‪.‬‬
‫لم أكن أعرف الكثير عن الرئيس األسد وعن شخصيته رجًال وقائدًا‪ .‬في ثمانينيات القرن الماضي‬
‫عندما كان التوتر بينه وبين صدام حسين في أعلى درجاته‪ .‬كان صدام في خضم حرٍب طاحنة مع‬
‫إيران‪ ،‬وكان األسد يقف إلى جانبها‪ .‬استطاع والدي آنذاك أن يقنع الرجلين باللقاء متوسًال قنواٍت‬
‫غير معلنة ومستنيرًا بنظرية ونستون تشرشل بأن «تبادل الكالم‪ ،‬ولو ثرثرًة‪ ،‬أفضل من تبادل‬
‫النار»‪ .‬اختار والدي الجفر مكانًا للقاء‪ ،‬وهي قرية صحراوية صغيرة تبعد حوالى ‪ 140‬ميًال إلى‬
‫الجنوب من عمان‪ .‬في تلك الفترة كنت ضابطًا في الجيش أقود مروحياٍت من نوع كوبرا وكانت‬
‫وحدتي العسكرية جزءًا من األمن الجوي‪ .‬ضرَب الحرُس الملكي طوقًا حول موقع االجتماع ونشَر‬
‫قواٍت مسلحة على كل جوانبه وحوَل موقع هبوط الطائرات‪ .‬فصلنا المجَّم ع إلى نصفين‪ ،‬واحد‬
‫للسوريين واآلخر للعراقيين وأعددنا أمكنًة إلقامة كٍّل من الوفدين الرئاسيين‪.‬‬
‫ما إن أنهينا إعداد المكان حتى أومأ لي والدي وقال‪« :‬ابَق إلى جانبي وراقب جيدًا ما يجري»‪.‬‬
‫اليوم وحين ألتفُت قليًال إلى الوراء وأستذكر تلك اللحظات أدرك أن والدي أراد لي أن أطَّل قليًال‬
‫على مسرح الدبلوماسية الدولية وهي عالٌم أبعد ما يكون عن واجباتي ومسؤوليتي ضابطًا في‬
‫الجيش‪.‬‬
‫في تلك المرحلة كان حزُب البعث هو الحزب الحاكم في كٍّل من سوريا والعراق‪ ،‬وكان يطّبق‬
‫نوعًا من العلمانية االشتراكية العربية‪ .‬في أواخر عقد الستينيات من القرن الماضي انقسَم حزُب‬
‫البعث الذي كان قد ُأنشئ في سوريا‪ ،‬وُدفع بمؤسسيه إلى المنفى فاتجهوا إلى العراق حيث ما لبثوا‬
‫أن جمعوا من حولهم قوًة كافيًة واستطاعوا االستيالء على الحكم في العام ‪ .1968‬تأرجحت عالقات‬
‫البعَثْين السوري والعراقي عبر السنين‪ ،‬فجنحْت إلى التوتر العالي حينًا وإلى التعاون حينًا آخر‪ .‬أما‬
‫حين تمكن والدي من جمع رأسي النظامين في أواسط ثمانينيات القرن الماضي فكان كل منهما‬
‫يحاول‪ ،‬بما يمتلك من قوٍة عسكرية ال ُيستهان بها‪ ،‬أن يحتل هو موقَع القوِة اإلقليمية األولى‪.‬‬
‫في الساعات األخيرة من بعد ظهر اليوم المحدد للقاء سمعنا هدير الطائرات يقترب عبر سماء‬
‫الصحراء‪ ،‬وما لبثت بضُع طائرات‪ ،‬يرفرف عليها العلم السوري‪ ،‬أن هبطت وَدَر جت حتى توقفت‬
‫عند رأس المدرج الذي أنشئ خصوصًا لهذه المناسبة‪ .‬خرج حافظ األسد من طائرته مصحوبًا‬
‫بحوالى خمسين جندّيًا يحمل كل منهم بندقيًة من نوع كالشنيكوف‪ ،‬فالقاه والدي مستقبًال ومرحبًا به‬
‫وبالوفد المرافق واتجها معًا إلى النصف المخصص للوفد السوري من المجّم ع‪.‬‬
‫ما هي إال نصف ساعة حتى هبطت بضُع طائراٍت أخرى يرفرف عليها العلم العراقّي هذه المرة‪.‬‬
‫خرج صدام حسين من طائرِته يحيط به حوالى خمسين عسكرّيًا مدّج جين بالسالح‪ .‬استقبَل والدي‬
‫صدام مرحبًا ورافَقه إلى مقّر الوفد العراقي‪.‬‬
‫تابعُت مجريات ذلك الحدث مع الدكتور سمير فراج‪ ،‬الطبيب الخاص لوالدي‪ ،‬وما إن هبط الليُل‬
‫حتى أضاء جنوُدنا مصابيَح عمالقًة َج علْت عتمَة الليل الصحراوّي أشبَه بشمِس الظهيرة‪ ،‬فقد كنا‬
‫حريصين في اجتماٍع كهذا على أال يتسّبَب خياٌل من هنا أو ظٌّل من هناك وسط العتمة بسوِء فهٍم‬
‫يؤدي إلى ما ال يعلم إال هللا‪.‬‬
‫دخل صدام واألسد إلى قاعة االجتماع التي أعّدها والدي لهذه الغاية‪ ،‬وانتظر والدي ونحن إلى‬
‫جانبه في الخارج‪ .‬مرت ساعاٌت عدة لم يكَّف والدي خاللها عن إرسال المزيد من القهوة والطعام‬
‫إلى قاعة االجتماع‪ .‬وأخيرًا‪ ،‬في ساعات الفجر األولى‪ ،‬انتهى االجتماع‪ ،‬فأخذ والدي صدام جانبًا‬
‫وسأله كيف سارت األمور فأجابه صدام‪ ،‬والتعُب باٍد على وجهه‪ ،‬أنه لم يتكلم خالَل ساعاِت‬
‫االجتماع الطويلة سوى ربع ساعة فقط‪ .‬لم يكن سهًال أو فكرة مقبولة عند رجل هائل االعتداد بنفسه‬
‫وبمكانِته‪ ،‬كصدام حسين‪ ،‬أن يجلس لساعاٍت طويلة مكتفيًا باإلصغاء‪ .‬وهكذا‪ ،‬على الرغم من كل‬
‫الجهود التي بذَلها والدي‪ ،‬لم يتمكن من إقناع الرجلين بالوصول إلى تفاهٍم ومصالحة بينهما‪ ،‬وقد‬
‫غادرا االجتماع والعداُء ال يزاُل مستحكمًا والخالُف قائمًا‪ .‬لكّن القائدين كليهما أبديا احترامًا وتقديرًا‬
‫كبيرْين لما بذله والدي من جهٍد في سبيل السالم بينهما‪ .‬أما أنا فخرجت بأمثولٍة على َقْدٍر كبير من‬
‫األهمية عن الحاجة الدائمة إلى الصبر في الشؤون الدبلوماسية‪.‬‬
‫كنت قد تلقيت دعوًة لزيارة الرئيس كلنتون في شهر أيار‪/‬مايو‪ ،‬وحين التقيت الرئيس األسد في‬
‫دمشق طلَب إلّي أن أحمل رسالًة إلى الرئيس األميركي فحواها أنه مستعد للتحدث إلى األميركيين‪،‬‬
‫فوعدُته بإبالغ الرئيس األميركي رسالَته‪ .‬ثم بحثنا أمورًا متعلقة بعملية السالم وبحقوق األطراف‬
‫المعنية بمصادر المياه المشتركة‪ ،‬كذلك تحدثنا عن نجله بشار الذي التقيُته خالل زيارتي‪ .‬كان لقاؤنا‬
‫جيدًا وبدت العالقة على الطريق الصحيح‪ .‬كان الرئيس حافظ األسد يقترب من السبعين من عمره‪،‬‬
‫وبدا لي آنذاك أنه كان متحمسًا إلمكانية نشوء صداقة بيني وبين ابنه‪.‬‬
‫توفي الرئيس حافظ األسد رحمه هللا وفاًة غير متوقعة بعد زيارتي دمشق بسنٍة أو أكثر بقليل‪،‬‬
‫وَخ َلفه ابُنه في منصب رئاسة الجمهورية‪ .‬ومع أنني والرئيس بشار ال نتشارك وجهَة النظر ذاَتها‬
‫حياَل المسائل السياسية اإلقليمية‪ ،‬فإن التعاون بين بلدينا هو اليوم أفضُل منه في أّي يوٍم مضى‪.‬‬
‫نتشاور حول تطور العملية السلمية‪ ،‬ونحن في صدد توسيع التعاون بيننا في العديد من المجاالت بما‬
‫فيها مشاريع الطاقة اإلقليمية‪ ،‬كما نشجع مؤسسات القطاع الخاص في البلدين على توثيق عالقات‬
‫التعاون في ما بينها‪ .‬حتى أوالُدنا أقاموا عالقات تعارف وصداقة بينهم‪ .‬عند زيارتنا األولى كان‬
‫األطفال خجولين لكن لم يطْل بهم الوقت حتى اكتشفوا اهتماَم هم المشترك بلعبة الفيديو «سوبر ماريو‬
‫براذرز» (‪ )Super Mario Brothers‬وها هم اآلن أصدقاء‪.‬‬
‫محطتي األخيرة في جولتي على الجوار العربي كانت في غزة حيث عقدت أول اجتماٍع لي مع‬
‫عرفات بوصفي ملك األردن‪ .‬كان عرفات قد جاء إلى عمان للمشاركة في جنازة والدي‪ ،‬لكننا لم‬
‫نعقد أية محادثات آنذاك‪.‬‬
‫نمت العالقات بين والدي وعرفات وأصبحا أكثر تقاربًا في السنوات األخيرة من حياتهما‪ .‬وعندما‬
‫كنت أحضر اجتماعاتهما أحيانًا‪ ،‬كان والدي يقف ضاحكًا ومتفرجًا وهو يراني واقفًا وال حيلَة لي‬
‫فيما الرئيس ياسر عرفات ينهاُل علَّي بالقبالت‪ .‬أصبح عرفات في تلك المرحلة المتقدمة من حياته‪،‬‬
‫بعد أن نال جائزة نوبل للسالم باالشتراك مع إسحق رابين وشمعون بيريز في العام ‪ ،1994‬رجل‬
‫دولة وقورًا‪.‬‬
‫عندما اجتمعنا لتناول الغداء‪ ،‬يحيط بكٍّل منا أعضاء وفده المرافق‪ ،‬قال عرفات‪« :‬إن الشعب‬
‫الفلسطيني في الضفة الغربية‪ ،‬كما في الضفة الشرقية‪ ،‬يرحب بكم في غزة!»‪ .‬حانت التفاتُة انزعاج‬
‫أقرب إلى الغضب من أعضاء الوفد المرافق لي احتجاجًا على إشارة عرفات إلى أنه ال يزال يمتلك‬
‫شيئًا من النفوذ السياسي في األردن‪ ،‬فذكُر ه للضفِة الشرقية أعاَد إلى األذهان ذكريات محاولته‬
‫الفاشلة إلطاحة والدي في العام ‪.1970‬‬
‫كذلك كان عرفات يشير إلى وجود عدد كبير من األردنيين من أصل فلسطينّي ‪ ،‬فهو لم يتنازل‬
‫يومًا عن تمّسكه بتمثيل كل الفلسطينيين الذين ُهّج روا من منازلهم في فلسطين‪ ،‬أو الذين أجبرتهم‬
‫الحروُب المتتالية على الهرب من جحيمها‪ .‬خالل حرب العام ‪ 1948‬اجتازت نهر األردن موجٌة من‬
‫الالجئين الفلسطينيين فَر فعْت عدَد سكان األردن الذي لم يكن يتجاوز آنذاك ‪ 433000‬نسمة بنسبة‬
‫كبيرة جّدًا‪ ،‬وقد أعِط َي هؤالء الالجئون الجنسيَة األردنية‪ .‬الموجة الثانية من الالجئين الفلسطينيين‬
‫اجتازت النهر بعد حرب العام ‪ ،1967‬وكان هؤالء يحملون الجنسية األردنية من قبل ألنهم كانوا‬
‫مواطنين في الضفة الغربية التي كانت جزءًا من األردن‪ .‬في العام ‪ 1999‬كانت نسبة األردنيين من‬
‫أصٍل فلسطيني تبلغ ثالثًة وأربعين في المئة من مجموع السكان‪.‬‬
‫لم أعلق على مالحظته أمام أعضاء الوفدين‪ .‬لكن في اجتماٍع ثنائي بيني وبينه في ما بعد أسمعُته‬
‫شيئًا مما عندي‪ .‬قلت له‪« :‬إن الشعب الفلسطيني لن يكون له مني أقّل من مئة وعشرة في المئة من‬
‫الدعم في سعيه إلقامة الدولة الفلسطينية‪ .‬وحين يحصل الفلسطينيون على حقهم بإنشاء دولتهم‪ ،‬سوف‬
‫يكون لألردنيين من أصٍل فلسطيني الحق‪ ،‬باالختيار أين يريدون العيش‪ .‬فالذين يختارون أن يكونوا‬
‫مواطنين فلسطينيين وأن ينتقلوا للعيش في فلسطين سيكونون أحرارًا في خيارهم‪ ،‬أما مواطنونا‬
‫الذين يختارون البقاء في األردن‪ ،‬أّيًا كانت أصوُلهم ومنابتهم‪ ،‬فسوف يبقون جميعًا مواطنين‬
‫أردنيين‪ ،‬وسوف يكون والؤهم للعَلم األردني ال للعلم الفلسطيني‪ ،‬وهذه ليست الحال بالنسبة إلى‬
‫البعض اليوم»‪.‬‬
‫َلمعْت ابتسامٌة عابرة على شفتي المناضل العتيق من أجل الحرية‪ ،‬الذي يبدو أنه كان يحاوُل‬
‫اختبار صالبتي عندما رمى بإشارته حول «الضفة الشرقية»‪ ،‬ويقيني أن رَّد فعلَي الحاسم قد فاجأه‬
‫بالفعل‪.‬‬
‫انتقلنا من بحث السياسات العربية ‪ -‬العربية إلى محاوالت إحياء اتفاقات واي ريفر وما يمكن أن‬
‫يكون لفوز إيهود باراك برئاسة الحكومة اإلسرائيلية من دالالت أو نتائج‪ .‬اتفقت مع عرفات على‬
‫أهمية الموقف العربّي الموّح د في أية مفاوضات مع إسرائيل‪ ،‬وناقشنا إمكانية لجوء رئيس الوزراء‬
‫اإلسرائيلي الجديد إلى محاولة شق الصف العربي من خالل فتح باب المفاوضات مع سوريا‪ .‬كان‬
‫عرفات متشوقًا لمعرفة شيء عن مضمون محادثاتي مع األسد‪ ،‬وأبدى قلقًا من أن يستجيب الرئيس‬
‫السوري بصورٍة إيجابية ألية مقاربة تبدر من اإلسرائيليين على حساب الفلسطينيين‪ .‬قلُت له إنني ال‬
‫أظن أن األسد يمكن أن يقبَل إجراء صفقٍة كهذه‪ .‬ثم عدت إلى األردن متشوقًا لمعرفة هل سيكون‬
‫باراك عند حسن ظننا وتوقعاتنا‪.‬‬
‫الفصل الخامس عشر‪ :‬على طريق اإلصالح والتحديث‬

‫عندما اعتليُت عرَش األردن في شباط‪/‬فبراير من العام ‪ 1999‬لم أشعر بأن التحدي األول الذي‬
‫سيقف في وجهي سيكون حربًا يخوُض ها األردن‪ ،‬أو عمًال إرهابّيًا يهدد استقرارًا ينعُم به‪ .‬كان هّم ي‬
‫األكثر إلحاحًا هو كيف أنهُض باقتصاد األردن من أزمٍة شبه عابرة كان يمر بها وأضعه على مساٍر‬
‫من النمّو القوّي الثابت والمتكِّيف مع الحركة االقتصادية العالمية‪.‬‬
‫لقد ترك والدي لألردن إرثًا عظيمًا من السالم واالستقرار السياسي‪ ،‬وتركه في موقٍع دولي‬
‫مرموٍق وقوّي ‪ ،‬لكن على الصعيد االقتصادي كان األردن في حالة صراع‪ .‬خالل عقد التسعينيات‬
‫من القرن الماضي بأكمله عانى البلد من تداعياِت غزو العراق الكويت‪ ،‬وقد اعتبرْت بلدان الخليج‬
‫بمعظمها أن محاوالِت والدي الحؤوَل دون اندالع الحرب‪ ،‬أو محاولة وقفها إنما هي تحُّيز إلى جانب‬
‫صدام‪ .‬وكانت النتيجة أن قطعت تلك البلدان بصورٍة حادة وفورية كل مساعداتها وقروضها لألردن‬
‫واستثماراتها فيه‪ .‬أضف إلى ذلك أن عودة أعداٍد كبيرة من األردنيين الذين كانوا يعملون في تلك‬
‫البلدان‪ ،‬وخصوصًا منها الكويت والمملكة العربية السعودية‪ ،‬أدت إلى خسارة األردن كَّل التحويالت‬
‫المالية التي كان هؤالء يرسلونها إلى ذويهم‪ .‬أما العقوبات التي ُفرضت على العراق فقد مّثلت ضربًة‬
‫قاسية أصابتنا في الصميم‪ ،‬ذلك أن العراق كان شريَكنا التجارَّي الرئيسّي وأهَّم مصادر النفط الذي‬
‫كان يأتينا بشروٍط وأسعاٍر تفضيلية‪.‬‬
‫أصيَب نمُّو نا االقتصادي بتباطٍؤ كبير‪ ،‬وكان ال بد للحكومة من االعتماد على االقتراض من‬
‫الخارج لدعم قدرتها على اإلنفاق‪ .‬وبنهاية العام ‪ 1998‬كان الدين الخارجي قد ارتفع حتى بلغ نسبَة‬
‫مئٍة في المئة من الناتج المحلي اإلجمالي وبذلك اقتربنا من نقطة العجز عن خدمة الدين العام‪ .‬اتجه‬
‫األردن إلى صندوق النقد الدولي على غرار ما فعَل خالل أزمة مديونيِته السابقة في العام ‪.1989‬‬
‫في الشهر الذي أعقَب اعتالئي العرش حصل األردن على دعٍم مالي جديد من صندوق النقد الدولي‪،‬‬
‫ومن ثم أعيدت جدولُة ديوننا عبر نادي باريس للدائنين الدوليين‪.‬‬
‫تّم حل المشكلة اآلنّية‪ ،‬لكن كان علينا أن نسِّر َع الخطى في إيجاد حلوٍل طويلة األمد‪ .‬منذ أيام‬
‫خدمتي في الجيش‪ ،‬وبنتيجة تواصلي الدائم مع الجنود من خالل التحدث معهم وزيارة قراهم‬
‫وااللتقاء بعائالتهم‪ ،‬كنت أعلم علَم اليقين أن شعبنا يكافح كفاحًا مريرًا من أجل تحصيل لقمِة عيشه‬
‫وعيش أبنائه‪ .‬إن همي األول كان وسيبقى توفيَر العيش الكريم للمواطن األردني‪ .‬من هنا فقد حددت‬
‫لحكومتي هدفًا وهو إرساء األسس المتينة لنمو اقتصادي قوي ومستقر يضمن هذا العيش لألردنيين‪.‬‬
‫ليس هذا هدفًا سهل التحقيق بالنسبة إلى اقتصاٍد صغير وهّش ‪ .‬فاألردن ليس بلدًا نفطّيًا وموارُده‬
‫الطبيعية األخرى محدودة‪ .‬األرُض الصالحة للزراعة قليلة والمياه غير متوافرة بما يكفي‪ .‬أما قاعدُته‬
‫الصناعية فلم تكن يومًا مصدرًا قوّيًا لإلنتاج‪ .‬إن بلدًا مثَل األردن الذي لم يكن يزيد عدُد سكانه في‬
‫العام ‪ 1999‬على أربعة ماليين ونصف مليون نسمة ال يمكن أن يبنَي اقتصادًا قوّيًا بسهولة‪ .‬علينا أن‬
‫نتعلم كيف ندخل سوَق المنافسة الَكُفؤة في هذه الحقبة الجديدة من االقتصاد المعولم التي تفككت فيها‬
‫الحواجُز أمام التجارة واالستثماراِت الحرة ما جعَل بلدانًا كثيرة تتعّر ض ألقسى أنواع المنافسة على‬
‫اقتحام األسواق واجتذاب رؤوس األموال واالستثمارات‪.‬‬
‫جمعُت فريقًا من المستشارين االقتصاديين ذوي الموهبة والكفاءة العاليتين‪ ،‬من بينهم باسم عوض‬
‫هللا‪ ،‬حامل درجة دكتوراه في االقتصاد من كلية لندن لالقتصاد (‪ ،)LSE‬ومصرفٌّي سابق كان يعمل‬
‫في مجال المصارف االستثمارية‪ ،‬وسمير الرفاعي‪ ،‬خريج هارفرد وكامبريدج‪ ،‬ونجل السياسي‬
‫المخضرم زيد الرفاعي‪ ،‬مستشار والدي الموثوق والمقّر ب‪ ،‬وطلبُت من الفريق أن يأتيني باقتراحاٍت‬
‫وأفكار جريئة ذات نزعٍة تحديثية لتحفيز االقتصاد األردني ودفِع ه على مسار النمّو والنهوض من‬
‫كبوِته‪ .‬قلت لهم‪« :‬إن وقَتنا ال يتسع للنظريات المعَّقدة والنقاشات العقيمة‪ ،‬ما أريده ببساطة متناهية‬
‫هو أن نعرَف ما علينا أن نفعله»‪ .‬عادوا إلّي بسَّلٍة من االقتراحات مبنيٍة بمجملها على اإلجراءات‬
‫التي تضَّم نها برنامُج التعديالت البنيوية الذي تقدم به صندوق النقد الدولي في نهاية ثمانينيات القرن‬
‫الماضي‪ :‬اعتمدوا الخصخصة‪ ،‬خّفضوا عن كاهل الدولة العبَء الزائَد من البيروقراطية وموظفي‬
‫القطاع العام‪ ،‬أوقفوا كل أنواع الدعم‪ ،‬حِّسنوا قطاَع التعليم وارفعوا مستواه‪ ،‬شجعوا الصناعاِت‬
‫المبتكرَة والمتجددة‪ ،‬أزيلوا العوائَق التجارية‪ ،‬واجمعوا بين القطاعين العام والخاص بحيث يتعاونان‬
‫ويعمالن معًا في تشجيع الصناعِة في مجال تكنولوجيا المعلومات واألدوية واإلعالم الجديد‪.‬‬
‫حياَل هذه األفكار واالقتراحات كنا أمام مشكلٍة أساسية‪ ،‬فالكثير مما كان علينا أن نقوم به في ضوء‬
‫هذه المقترحات سوف يكون له وقُعه المؤلم على المدى القصير‪ ،‬ومعظُم الفوائد المتوَّقعة من هذه‬
‫اإلجراءات لن تؤتي ثماَر ها عاجًال ولن يشعَر بها الناس قبل مرور سنوات‪ .‬كذلك كنا نعلم يقينًا أن‬
‫إجراءات التعديل البنيوّي السابقة كانت سببًا في اندالع تظاهرات االحتجاج‪ .‬معظم الناس الذين‬
‫يرتاحون إلى السُبل القديمة المتبعة سيعارضون التغيير‪ ،‬أو سيّدعون أنه غير قابل للتحقيق‪.‬‬
‫أجمع فريق المستشارين على أن في رأس األولويات أن يتمكن األردن من االنضمام إلى منظمة‬
‫التجارة العالمية‪ ،‬وهي منظمة دولية أنشئت في العام ‪ 1995‬لتشجيع التجارة الحرة بين بلدان العالم‬
‫من خالل خفض التعرفات الجمركية على تصدير البضائع واستيرادها‪ .‬إن انضمام األردن إلى هذه‬
‫المنظمة يؤّهله للتصدير إلى أكثر من مئة بلد في العالم واإلفادة من تعرفاٍت جمركية منخفضة بنسبة‬
‫كبيرة جّدًا‪ ،‬وبالمقابل يصبح بإمكان البلدان األعضاء في المنظمة أن تصّدر بضائَعها إلى األردن‬
‫وفق الشروط والتعرفات نفسها‪ .‬كان األردن قد بدأ العمل على االنضمام إلى المنظمة في العام‬
‫‪ ،1995‬لكن هذه العملية عادت وتوقفت‪ .‬لقد َأعطيُت موافقتي على أن نفعل كل ما نستطيع للعودة‬
‫إلى التحرك بهذا االتجاه‪.‬‬
‫في أواسط أيار‪/‬مايو من العام ‪ ،1999‬قمت بزيارتي الرسمية األولى للواليات المتحدة ملكًا على‬
‫األردن وذلك بعد مضي ثالثة أشهر على تحملي مسؤولياتي الجديدة‪ .‬كان والدي على عالقٍة وثيقة‬
‫بالرئيس كلنتون‪ ،‬وقبل أن أتجه إلى واشنطن كتبت رسالة إلى الرئيس ذَّكرُته فيها بما كان يكّنه له‬
‫والدي من االحترام‪ ،‬وكم كان يثِّم ُن عالقَة الصداقة بينهما‪ .‬ال أدري إذا كان وقُع الرسالة قد فعَل ِفعَله‬
‫أم هي مشاعُر الرئيس الصادقة حيال والدي‪ ،‬لكن حين التقينا في البيت األبيض وجدت كلنتون‬
‫يفيض بالروح اإليجابية المرِّح بة واالستعداد لمد يد المساعدة‪« :‬قْل لي كيف بإمكاني أن أساعَد‬
‫األردن؟»‪ ،‬قاَلها واالبتسامُة العريضة ُتعِّبر أكثَر من الكلمات‪.‬‬
‫«ساعدونا على االنضمام إلى منظمة التجارة العالمية»‪ ،‬كان جوابي السريع‪ .‬ال أحسُبه كان يتوقع‬
‫هذا النوع من الطلب على اإلطالق‪ .‬فالبلدان التي تعاني ضيقًا مالّيًا شديدًا ُتسارُع عادًة إلى طلب‬
‫المساعدة المالية المباِش رة‪ ،‬أما أنا فلم أكن أريد صدقات‪ ،‬بل رميُت إلى فتح المجال أمامنا لكي نساعَد‬
‫أنفَسنا وننهَض ببلدنا‪ .‬سّج ل كلنتون مالحظًة بشأن طلبي دون أن يعطيني جوابًا فورّيًا‪ .‬تابعنا‬
‫مباحثاتنا حول الموضوع مع المسؤولين المعنيين في الحكومة األميركية التي انتهى بها األمر داعمًة‬
‫لطلب انضماِم نا إلى المنظمة‪ ،‬ولم يمِض أحَد عشَر شهرًا حتى كان األردن عضوًا في منظمة‬
‫التجارة العالمية في شهر نيسان‪/‬إبريل من العام ‪.2000‬‬
‫باالنتقال من االقتصاد إلى السياسة اإلقليمية تحدثت إلى الرئيس عن زيارتي أخيرًا لدمشق وعن‬
‫رغبة الرئيس األسد في لقائه‪ .‬ابتسم كلنتون وشكرني على نقل الرسالة إليه‪ ،‬وقال إنه سيرى ما يمكن‬
‫فعله في هذا المجال‪ .‬وقد التقى الرئيسان بالفعل‪ ،‬ألول مرة‪ ،‬في جنيف في السنة التالية‪ .‬تمحور اللقاء‬
‫حول السالم بين سوريا وإسرائيل‪ ،‬ولكنه انتهى دون إنجاز أي تقدم على هذا الصعيد‪ .‬فقد أصّر‬
‫األسد على انسحاٍب إسرائيلٍّي كامل من مرتفعات الجوالن حتى حدود الرابع من حزيران ‪،1967‬‬
‫فيما كانت إسرائيل قد طلبت خالل محادثاٍت سابقة مع السوريين إجراَء تعديٍل على تلك الحدود‪ .‬فشل‬
‫كلنتون في تغيير موقف األسد وبقَي الجمود سّيَد الموقف‪.‬‬
‫كانت الحكومة األميركية مضيفًا في منتهى الكرم وُح سن اإلحاطة‪ ،‬لكّن الفارَق بين زيارتي‬
‫الرسمية هذه وزياراتي السابقة كان الفتًا جّدًا‪ .‬فكيف لي اآلن أن أتسّلَل خارجًا لمشاهدة فيلم سينمائي‬
‫مع بعض األصدقاء‪ .‬فكما تبّين لي عندما خرجُت لمشاهدة فيلم «ذا ماتريكس» (‪)The Matrix‬‬
‫رافقني موكب من ست سيارات لألمن السري كانت صّفاراُتها تزعق في شوارع واشنطن‪ .‬إذا شئت‬
‫أن أمضي سهرًة هادئة أشاهُد خاللها فيلمًا سينمائّيًا كان علّي أن أتخّلص من الحرس وأخرَج سّر ًا‬
‫دون علم أحد‪.‬‬
‫يحسب بعُض القادِة في الشرق األوسط أن التعامَل مع الواليات المتحدة األميركية يتمحور حول‬
‫العالقة مع الرئيس فقط‪ .‬ففي منطقتنا من المهم جّدًا أن تكون على معرفٍة شخصية برئيس الدولة‪،‬‬
‫ذلك أن السلطة في هذه المنطقة تترّكز لدى الموقع القيادّي ‪ .‬فإذا أراد رأس الدولة شيئًا يتم تنفيذه‪ .‬أما‬
‫في الواليات المتحدة فالسلطات أكثر توّز عًا وامتدادًا بكثير‪ .‬وقد تسّنى لي‪ ،‬أيام ديرفيلد وجورجتاون‪،‬‬
‫أن أتعّلَم الكثير عن تعقيدات النظام السياسي األميركي واتساِع قنواِته‪.‬‬
‫كنت في الواليات المتحدة أتابع دورًة عسكرية في العام ‪ 1985‬عندما اجتمع والدي بالرئيس‬
‫رونالد ريغن‪ .‬رأيته بعد االجتماع سعيدًا جّدًا ومعنوياُته في ذروِتها ألن ريغن وافق على تقديم الدعم‬
‫إلى األردن بتزويده حاجَته من األسلحة الدفاعية‪ .‬أشرت إلى والدي أن طلبًا كهذا قد ال يسلك طريَقه‬
‫عبر الكونغرس‪ ،‬لكنه بدا واثقًا من أن االلتزاَم الشخصَّي الذي عّبر عنه الرئيس كان كافيًا‪ ،‬وقال لي‪:‬‬
‫«لقد أخذت وعدًا من رئيس الواليات المتحدة!»‪ ،‬لكن الحقيقة هي أن وعَد الرئيس وحَده‪ ،‬من دون‬
‫موافقة الكونغرس‪ ،‬ليس كافيًا لجعِل أمٍر ما نافذًا‪.‬‬
‫لكي تكون الزيارة إلى الواليات المتحدة مثمرة أو على األقل واعدة‪ ،‬ال بد من أن تستمر أسبوعًا‬
‫على األقل‪ .‬فعليك أوًال أن تجتمع إلى الرئيس ثم إلى نائب الرئيس‪ ،‬ومن بعدهما إلى وزيري‬
‫الخارجية والدفاع‪ ،‬ولكي تكتمل اجتماعاُتك بأركان السلطة التنفيذية من المفيد جّدًا االجتماُع إلى‬
‫مستشار الرئيس لشؤون األمن القومي‪ .‬بعد كل هؤالء يأتي كبار مسؤولي االستخبارات والقيادات‬
‫العسكرية‪ .‬وأخيرًا‪ ،‬على الصعيد السياسي‪ ،‬من الضروري لقاء القيادات السياسية في مجلسي‬
‫الشيوخ والنواب‪ .‬عندما أزور الواليات المتحدة أخّص ص عادًة يومين كاملين لالجتماعات في‬
‫الكونغرس حيث ألتقي أعضاًء في عشر لجاٍن على األقل من لجان المجلسين‪ ،‬وأحاول أن أجعَل‬
‫لقاءاتي متوازنًة بين الجمهوريين والديموقراطيين‪ .‬في أميركا ال يمكن أحدًا أن يتجاهَل لعبَة النظاِم‬
‫السياسّي بدورِته الكاملة‪ ،‬فليس كافيًا أن تحصَل على الضوء األخضر من البيت األبيض‪ ،‬وإنما‬
‫التحدي األكبر يكمن في الحصول على دعم البيت األبيض والكونغرس معًا‪.‬‬
‫عدت إلى األردن حيث كان العديُد من المشكالت الداخلية ينتظر المعالجة وإيجاد الحلول‪ ،‬ومع أن‬
‫همي األكبر هو النهوض بمستوى عيش األردنيين فإن عملية الخصخصة‪ ،‬وتفعيل المساَء لة بالنسبة‬
‫إلى موظفي القطاع العام‪ ،‬وتطبيق اإلجراءات الالزمة لذلك لن يكوَن لها الوقُع اإليجابي لدى الجميع‪.‬‬
‫من هنا كان ال بد لي من القيام بتحسينات ملموسة في البداية يمكن أن يراها الجميع ويشعروا بها‪.‬‬
‫أحد األمثلة الواضحة على حجم التحديات التي كانت تواجهنا مستشفى البشير الحكومي في عمان‪،‬‬
‫وهو أكبر المستشفيات الحكومية في العاصمة‪ ،‬وكان مقصَد عدٍد كبير جّدًا من المواطنين‪ .‬ولكن‬
‫عندما زرُت المستشفى في شهر نيسان‪/‬إبريل وجدُته في حالٍة بائسة ُيرثى لها‪ .‬أجنحُته مكتظٌة‬
‫بالمرضى والقذارُة منتشرة‪ ،‬وكل المصاعد معطلة وخارج العمل‪ .‬صفوٌف طويلة من المرضى‬
‫ينتظرون دوَر هم لدى األطباء الذين كانوا يمارسون عمَلهم دون مساعدة وال دعٍم كاٍف ‪ .‬صعَقني‬
‫المنظر وطلبت من وزير الصحة أن يتولى األمر فورًا ويسارَع إلى تصحيح الوضع‪.‬‬
‫في الجيش عندما ُتصدر أمرًا يصار إلى تنفيذه‪ .‬لكنني أخذت أكتشف أن األمور تختلف تمامًا عند‬
‫التعامل مع الوزارات الحكومية ومسؤوليها المدنيين‪ .‬أوًال‪ ،‬الجيوش تتحرك في أوقات محددة‪ ،‬وهكذا‬
‫فلكل مهمٍة برنامٌج وتوقيت‪ :‬الهجوم ُيَشّن في وقٍت معّين‪ ،‬الجنود ينهضون في وقٍت معّين‪ ،‬وبالتالي‬
‫تتوقع أن يتم كل شيء في الوقت الذي ُح ِّدد له‪ .‬أما الحكومات فليست حاُلها على هذا المنوال‪ ،‬أو‬
‫فلنقل ليست دائمًا على هذا المنوال‪.‬‬
‫قمُت بزيارة متابعة للمستشفى بعد مرور بضعة أسابيع فوجدُت األوضاع على حالها ولم يتغّير‬
‫شيء‪ ،‬المصاعد كانت ال تزال معّطلة والنظافة كانت غائبة إلى درجة مخيفة‪ .‬قلت لوزير الصحة‬
‫إنني في غاية الجدية وال بد من تحسين أوضاع المستشفى‪ ،‬ثم عدُت في زيارة ثالثة بعد رجوعي من‬
‫زيارة الواليات المتحدة‪.‬‬
‫في زيارتي الثالثة كانت إدارُة المستشفى قد بدأت تدرك المطلوب منها وبدأ الوضع يميل إلى‬
‫التحسن‪ .‬لكن النقص الفادح في الكفاءة لدى القائمين على الخدمات العامة كان تحديًا كبيرًا في طول‬
‫البالد وعرضها‪ ،‬ال في عّم ان فقط‪ .‬بدأ الديوان الملكي يتلقى دفقًا من المعلومات عن المزيد من‬
‫المشكالت‪ ،‬وما زادني إحباطًا وخيبًة أن بعَض الوزراء المعنيين كلما أثرُت معهم هذه المشكالت‬
‫كانوا يرّدون بأن التقارير عنها مبالٌغ فيها وأن األمور تسير على خير ما يرام‪ .‬أدركُت فورًا أن علّي‬
‫أن أرى ما يحدث بأّم العين‪.‬‬
‫كان والدي يخبرني أنه حين كان يريد جَّس النبض العام في البلد‪ ،‬كان يلّف على رأسه كوفيًة‬
‫ويجعُلها تغطي معظَم وجهه‪ ،‬ويروح يتجول في شوارع عمان في سيارة تاكسي قديمة أكَل الدهُر‬
‫عليها وشرب‪ .‬كان يتوقف ألخِذ راكٍب من هنا وإنزاِل راكٍب هناك‪ ،‬وبين شخٍص وآخر كان يطرُح‬
‫أسئلَته على هؤالء‪« :‬كيف ترى االقتصاد في البلد؟ ما رأيك في الوضع بين إسرائيل والفلسطينيين؟‬
‫هل أنت راٍض عن السياسة الجديدة التي ينتهجها الملك؟»‪ .‬عَّن في باله مرًة أن يستفَّز الراكَب‬
‫المرافق ليستدرَج ه إلى الكالم‪ ،‬فقال له‪« :‬هل تريد رأيي‪ ،‬هذا الملك سّيئ»‪ ،‬فما كان من الرجل إال‬
‫أن سحَب من جيبه سكينًا وقال‪« :‬اسمع‪ ،‬إذا قلَت كلمة سوء واحدة بحّق الملك فسأقتلك في هذه‬
‫اللحظة!» ولم يستطع أن يهّدئ من أعصاب الرجل إال عندما نزَع الكوفية عن وجهه وعرف الرجل‬
‫أنه يحدث الملك‪.‬‬
‫قررت أن أجد طريقًة لزيارة المؤسسات الحكومية تحت غطاٍء ممَّو ه لعّلي أتبّين األموَر على‬
‫طبيعتها وأعرف ماذا يجري حقيقًة على األرض‪ .‬رّتبُت عدة وسائل للتمويه ال أحسُبني سأفصح عنها‬
‫اآلن ألنني ال أزال أستخدمها عند الحاجة‪ ،‬لكن يكفي القول إن أحدًا ممن التَقْو ني مرتديًا غطاَء‬
‫التمويه ال يمكن أن يحسَب َم ن يحّدُثه ملكًا‪.‬‬
‫تجّو لُت ‪ ،‬مجهوًال‪ ،‬في مكاتب اإلدارات العامة والمرافق الحكومية على اختالفها‪ ،‬من أقصى‬
‫الشمال إلى جنوب الجنوب‪ ،‬مستفيضًا‪ ،‬سائًال‪ ،‬مستفسرًا‪ .‬برفقِة حارٍس شخصّي متخٍّف وضعيف‬
‫البنية‪ ،‬بهدِف التضليل‪ .‬زرُت المستشفيات‪ ،‬والدوائَر الضريبية‪ ،‬ومخافَر الشرطة‪ ،‬وسواها العديد من‬
‫دوائر الحكومة واإلدارات العامة‪ .‬أحيانًا كان الناس يكتشفون زياراتي السرية‪ ،‬لكن في أكثر األحيان‬
‫كانت تبقى طّي الكتمان‪ .‬إذا تبّين لي أن بعَض المواطنين ُتساُء معاملُتهم كنت ُأثيُر المسألة مع الوزير‬
‫المختص في عمان‪ ،‬وهكذا بدأُت أعرف الحقيقة عندما كانوا يحجبون عني بعَض ها أو أحيانًا الجزَء‬
‫األكبر منها‪.‬‬
‫زرُت مرًة إحدى الدوائر الضريبية فرأيُت العَج ب‪ ،‬سجالُت الناس والمؤسسات التجارية‬
‫موضوعٌة في صناديَق وموزعٌة على زوايا الغرفة هنا وهناك‪ .‬إشباعًا لفضولي‪ ،‬ولكي أعرَف مدى‬
‫اإلهمال لمصالح الناس‪ ،‬اتجهُت إلى أحد تلك الصناديق على األرض وأخذت بيدي بضعَة ملفات‬
‫واتجهُت بها نحو الباب‪َ .‬م ْن يصّدُق أن أحدًا لم يسأْلني ماذا أفعُل وإلى أين كنُت ذاهبًا بتلك الملفات‪.‬‬
‫حتى إّن أّيًا من الموظفين لم ينتبه إلى ما حدث‪.‬‬
‫في اليوم التالي اتصلُت بالوزارة المعنية وسألُتهم لماذا يتعاملون بهذا االستهتار السافر بشؤون‬
‫المواطنين التي من المفترض أن تحتوي على معلوماٍت سرية‪ .‬قال لي أحد المسؤولين إنني ُز ِّو دُت‬
‫معلوماٍت غير صحيحة‪ ،‬لكن حين سحبُت الملفات التي كانت ال تزال بحوزتي شحَب وجُه ه وُأسِقَط‬
‫في يده ولم يعد َيفوه بكلمة‪ .‬رأيت أن أعلَن عن تلك الزيارة لسببين على األقل‪ ،‬األول أنه كان علّي أن‬
‫أعيد الملفات إلى حيث يجب أن تعاد‪ ،‬والثاني أنني أردت أن يفهَم المعنيون جميعًا أن دفَع عملية‬
‫التغيير واإلصالح هو مسألٌة جدية ولن أسمَح بالتساهل فيها‪ .‬موظفو الدولة عمومًا‪ ،‬وإداريو القطاع‬
‫العام‪َ ،‬يطمئنون أحيانًا إلى أوضاعهم وال يبالون متى شعروا بأنّه ما من رقيٍب وال حسيب‪ ،‬لقد‬
‫عّلمتني الجندية أنك متى توقعَت الكثير من مرؤوسيك نلَت أفضل النتائج‪.‬‬
‫مع الوقت راحت زياراتي السرية تتضاعُف دون جهٍد مني‪ ،‬ومقابَل كل زيارة كنت أقوم بها فعًال‬
‫كان الناس يروون قصصًا عن ثالثين أو أربعين زيارًة من نسج الخيال ويَّدعون أنهم رَأْو ني فيها‬
‫أفاجئ هذه الدائرة أو تلك المؤسسة‪ .‬سمعنا أن إحدى هذه الزيارات المتخَّيلة كانت إلى أحد معامل‬
‫تعبئة البندورة في شمال األردن‪ .‬كان المزارعون ينتظرون في صٍّف طويل من الشاحنات وكٌّل منهم‬
‫يستعجُل االنتهاء من توضيب بضاعته قبل أن ُتفِسَدها حرارُة الشمس الحارقة‪ .‬أحد المزارعين‬
‫الظرفاء حين وصَل بشاحنته إلى البوابة وكان على وشك الدخول قال إنه رأى شخصًا متخفيًا‪ ،‬يبدو‬
‫كأنه الملك‪ ،‬ينتظُر في إحدى الشاحنات‪ .‬هل حّقًا رأى شخصًا ظنه أنا‪ ،‬أم تراه مارَس لعبًة ذكية‪ ،‬يعلُم‬
‫هللا‪ .‬المهم أن النتيجة كانت إياها في الحالتين‪ :‬دقائق معدودات وبدأت الشاحنات تتحرك بأسرع ما‬
‫شهَده المكان منذ زمٍن بعيد‪.‬‬
‫بدأ موظفو القطاع العام واإلداريون في كل أنحاء األردن يصابون بالهلع‪ ،‬فإذا كان المواطن‬
‫التالي‪ ،‬الذي ينتظُر دوَر ه إلنهاء معاملِته‪ ،‬يمكن أن يكون الملك بالذات يصبح من األفضل أن َيلقى‬
‫الجميع معاملًة ملكية‪ .‬كانت الرسالة المطلوب إيصاُلها إلى البيروقراطيين واإلداريين في الدولة هي‬
‫أنه جيء بهم إلى وظائِفهم لكي يخدموا الناس وليس العكس‪ ،‬وقد نشرت إحدى الصحف رسمًا‬
‫كاريكاتورّيًا يظهرني مرتديًا مالبَس عماِل التنظيفات‪ ،‬ومالبَس السجناء‪ ،‬وفي رسٍم آخر ظهرُت‬
‫مستعطيًا على قارعة الطريق وهكذا دواليك‪ .‬رّح ب األردنيون بمعظمهم بفكرة الزيارات السرية‬
‫المموهة‪ ،‬لكنني كنت مدركًا تمام اإلدراك أنني لن أستطيع بمفردي أن أضع حّدًا لكل أنواع التقصير‬
‫وعدم الكفاءة في العمل‪ ،‬وتحقيق ما يحتاُج إليه األردن من التغيير واإلصالح‪ .‬إن على القطاعين‬
‫الخاص والعام أن ُيطلقا ورشَة التعاون في ما بينهما‪.‬‬
‫في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر من العام ‪ 1999‬عقدنا الندوَة االقتصادية الوطنية األولى‪ ،‬وهي مؤتمٌر‬
‫استمَّر يومين‪ ،‬وقد اخترنا فندق موفنبيك مكانًا لالجتماع‪ ،‬وكان قد افُتتح حديثًا على شاطئ البحر‬
‫الميت ويحتوي على منتجٍع ومرافَق صحية حديثة‪ .‬لكن أعضاء الوفود لم يكن وقُتهم يتسع‬
‫لالسترخاء والتمتع بكل ذلك‪ ،‬فالمناقشات وتبادل اآلراء كانت شغَلهم الشاغل‪ .‬دعونا إلى الندوة نحو‬
‫مئٍة وستين مندوبًا يمثلون معظم المؤسسات الحكومية وكل فروع القطاع الخاص في األردن‪:‬‬
‫المزارعين‪ ،‬الصناعيين‪ ،‬شركات تكنولوجيا المعلومات‪ ،‬شركات الصناعة الدوائية‪ ،‬وسواها من‬
‫المؤسسات‪ .‬مع أن ما طالب به رجال األعمال وممثلو القطاع الخاص بدا معقوًال ومبررًا من حيث‬
‫منطُق األمور‪ ،‬ما إن توَّسع االجتماع ليضّم إداريين من القطاع العام حتى راح الفريقان يتبادالن‬
‫الصراخ ودَّب شيٌء من الفوضى‪.‬‬
‫بمرور صباح اليوم التالي من المؤتمر بدا جلّيًا أن المقاربة التي اعتمدناها لم تكن الطريقَة‬
‫الفضلى‪ ،‬فلجأت إلى مقاربٍة مختلفة وأبلغت جميَع الحاضرين أن أحدًا منهم لن يغادَر المؤتمر ما لم‬
‫يتفقوا ويخرجوا بحلوٍل للمسائل المطروحة‪ .‬قلت لهم إنني سأقفل الباب وأرمي المفتاح في البئر‪..‬‬
‫ولن ُيفتَح الباب إال والحلوُل بين أيديهم‪ .‬عندما أدرك الجميع مدى جدية ما أقول‪ ،‬وأنهم سيبقون‬
‫مسَّم رين في أماكنهم طوال اليومين المقبلين إلى أن يتفقوا‪ ،‬وضعوا خالفاتهم جانبًا وبدأوا َيصوغون‬
‫معًا خطًة لخدمة األردن بأجمعه‪ .‬لم تكن وسائل اإلعالم موجودًة وبذلك استطاع كل شخص أن يتكلم‬
‫دون حرج‪.‬‬
‫راوحت األفكار المطروحة بين البسيط والَّطموح‪ .‬من بين األفكار والمقترحات البسيطة جّدًا أن‬
‫نجعَل عطلَة األسبوع يومين‪ .‬ففي تلك األيام كان األردنيون يعملون ستَة أيام ويعطلون يومًا واحدًا‬
‫هو يوم الجمعة‪ .‬لكّن النقاش دار حول اليوم الثاني من عطلة األسبوع‪ ،‬فما دام يوُم الجمعة هو يوم‬
‫العطلة اإلسالمي‪ ،‬كانت مطالبُة الكثيرين من الحاضرين بأن تكون عطلُة األسبوع يومي الخميس‬
‫والجمعة‪ .‬ولكن بما أن عددًا كبيرًا من الشركات ورجال األعمال كانت تربُطهم عالقاُت عمل مع‬
‫شركاٍت في الغرب فقد طالبوا بعطلٍة أسبوعية يومي الجمعة والسبت‪ .‬بعد نقاٍش عقالنّي سليم تم‬
‫االتفاق على يومي الجمعة والسبت‪.‬‬
‫لم نكن وحَدنا المعنيين بجعل اقتصاِدنا أكثر انسجامًا مع األسواِق العالمية‪ ،‬فبعدنا بأربع سنوات‪،‬‬
‫وتحديدًا في تموز‪/‬يوليو من العام ‪ 2003‬لحقت بنا قطر وجعلت عطلَتها األسبوعية يومي الجمعة‬
‫والسبت‪ ،‬ثم تبعتها اإلمارات العربية المتحدة‪ ،‬ثم البحرين في العام ‪ 2006‬ومن بعدها الكويت في‬
‫العام ‪.2007‬‬
‫كذلك ناقش المؤتمرون كيفيَة البناء على النجاح الذي أحرزْته «المناطُق الصناعيُة المؤَّهلة»‬
‫(‪ .)QIZs‬ففي العام ‪ ،1996‬بعد مرور سنتين على توقيع األردن وإسرائيل معاهدَة السالم بينهما‪،‬‬
‫أطلقت الواليات المتحدة فكرة ما ُسّم ي «المناطَق الصناعيَة المؤَّهلة» وهي مناطُق يمكن أن تدخَل‬
‫منتجاُتها األسواَق األميركية من دون تعرفة جمركية شرَط أن يكون عشرون في المئة من مدخالت‬
‫اإلنتاج أردنيًا أو إسرائيليًا‪ .‬هذه المناطق كانت ُتصِّدر منتجاِتها إلى شركاٍت أميركية مثل «جاب»‪،‬‬
‫«ج س بني» و«ليفي ستراوس» (‪ .)GAP) ،(JC Penney) ،(Levi Strauss‬ارتفعت صادرات‬
‫األردن من ال شيء تقريبًا إلى ‪ 18‬مليون دوالر في العام ‪ ،1998‬وقد طرح المؤتمرون بعض‬
‫األفكار حول إمكانية رفع هذا الرقم في السنوات المقبلة‪.‬‬
‫بنهاية المؤتمر توصل المندوبون إلى اتفاٍق حول خطٍة طموحة لتطوير االقتصاد األردني تشمُل‬
‫تعديالٍت قانونيًة تسّه ل العمل بالنسبة إلى الشركات والمؤسسات الخاصة‪ ،‬وتشجع االستثمار‬
‫والخصخصة‪ ،‬وإصالح قطاع التعليم‪ .‬كذلك وافق المؤتمرون على إنشاء المجلس االستشاري‬
‫االقتصادي الذي سيضم ممثلين عن الحكومة والقطاع الخاص‪ ،‬وذلك بغية إكمال المناقشات وتطبيق‬
‫المقررات المتعلقة باإلصالح‪ .‬خالفًا لبلدان عديدٍة أخرى في الشرق األوسط‪ ،‬ال يملك األردن النفط‪،‬‬
‫وموارُده الطبيعية محدودٌة جّدًا‪ .‬من هنا كان إدراك المؤتمرين أن خيارنا األفضل الذي ال بد لنا من‬
‫سلوكه هو تطوير ثروِة األردن الحقيقية وهي شعُبه وتحديدًا عنصُر الشباب فيه‪ ،‬هذا إذا شئنا أن‬
‫ُنصيَب ازدهارًا في هذا االقتصاد التنافسّي المعولم‪.‬‬
‫بعد انتهاء المؤتمر بيومين عقدت منظمة التجارة العالمية مؤتمرها السنوّي في سياتل‪ ،‬وفيما كان‬
‫المتظاهرون يحتجون غاضبين في الخارج ويرمون شرطة مكافحة الشغب باإلهانات والحجارة‪،‬‬
‫كان أعضاء الوفد األردني داخَل قاعات المؤتمر َيجهدون في إقناع مسؤولي المنظمة بقبول األردن‬
‫عضوًا فيها‪ .‬وفيما كان البعض في أميركا يرفُض العولمة‪ ،‬كنا نحن نسارع إلى االنخراط فيها‪ .‬في‬
‫الشهر التالي صّو َت أعضاُء المنظمة على طلبنا وأصبح األردن عضوًا في شهر نيسان‪/‬إبريل من‬
‫العام ‪ .2000‬لقد بدأْت جهوُدنا في سبيل تحديث اقتصادنا تؤتي ثماَر ها وبدأنا نشهد تقدمًا‪.‬‬
‫في كانون الثاني‪/‬يناير من العام ‪ 2000‬ذهبت إلى دافوس لحضور اجتماع المنتدى االقتصادي‬
‫العالمي‪ ،‬وهو اللقاء السنوي الذي يجمع قادًة كبارًا من رجاالت أعمال وسياسيين وأكاديميين‬
‫ومسؤولين في مجال األعمال الخيرية وإداريين وبيروقراطيين‪ .‬كانت المرة األولى التي شاركُت‬
‫فيها في أعمال المؤتمر وقد دعوت بعض الشباب من رجال وسيدات أعمال أردنيين لالنضمام إلى‬
‫الوفد المرافق على أمل أن يستفيدوا من العالقات التي كان ال بد لهم من إقامتها مع بعض المؤتمرين‬
‫الذين بلغ عدُدهم حوالى ثالثة آالف موفد‪.‬‬
‫قائمة الضيوف كانت عامرة بشخصيات العالم القيادية‪ ،‬الرئيس كلنتون ورئيس وزراء بريطانيا‬
‫طوني بلير كانا هناك‪ ،‬ورئيس جمهورية جنوب أفريقيا تابو مبيكي‪ ،‬فضًال عن قادٍة آخرين جاؤوا‬
‫من ثالثين بلدًا‪ .‬كذلك حضر رجاالٌت كبار من عالم األعمال مثل رئيس مجلس إدارة‬
‫«مايكروسوفت» بيل غيتس وجون تشيمبرز‪ ،‬رئيس مجلس إدارة «سيسكو سيستمز»‪ ،‬ورئيس‬
‫مجلس إدارة «أميركا أون الين» ستيف كيس‪.‬‬
‫استضفُت لقاًء إلى مائدة الفطور صباَح الثالثين من كانون الثاني‪/‬يناير حضره عدد من كبار‬
‫مديري شركات تكنولوجيا المعلومات العالمية‪ ،‬ثم عدُت والتقيت بيل غيتس على ِح دة وقدمت له‬
‫دعوًة لزيارة األردن‪ .‬وفي اجتماع عقد بعد ظهر ذلك اليوم ألقيت كلمة تناولُت فيها التحديات التي‬
‫يواجهها الشرق األوسط‪ ،‬خصوصًا وطأة الضغوط الناتجة من المستويات العالية للبطالة‪ ،‬متسائًال‬
‫كيف يمكن للتكنولوجيا الحديثة أن تساعَد في هذا اإلطار‪ .‬ومع أن المؤتمر كان ُيعقد في أجواء جبال‬
‫األلب السويسرية‪ ،‬فقد الَح َقْتنا سياسُة المنطقة إلى هناك‪ .‬كان ياسر عرفات من بين القادة الحاضرين‬
‫وكان يوَم ها يعقد اجتماعًا مع الرئيس كلنتون‪ ،‬ومن جهٍة أخرى كانت الشرطة قد أوقفت إيرانيين‬
‫منفيين هاجما وزير خارجية إيران بعبواٍت من الدهان‪ .‬في العام ‪ 2003‬استضاف األردن المنتدى‬
‫االقتصادي العالمي الذي خّص َص مؤتمره عامذاك للشرق األوسط‪ ،‬وهو مؤتمٌر إقليمي دأبنا على‬
‫استضافِته منذ ذلك العام مرًة كل عامين خالَل فصل الصيف‪ .‬في تلك السنة ُدِع َيْت رانيا لالنضمام‬
‫إلى عضوية مجلس إدارة المنتدى االقتصادي العالمي‪ ،‬وباتت العضَو الوحيد من العالم العربي‪.‬‬
‫هل هناك أجمل من دافوس مكاٌن يالحق فيه المرء كباَر قادِة االقتصاد في العالم محاوًال إقناَعهم‬
‫باالستثمار في األردن؟ لكن هذه األجواء الطبيعية والحضارية الرائعة لم تكن دائمًا األجواء التي‬
‫أحاطْت بي خالَل تلك السنة األولى من تولي الحكم‪ ،‬فبعد بضعة أشهر قمُت بزيارة للسودان وكان‬
‫التناقُض الفتًا بالفعل‪.‬‬
‫مع اقترابنا من لحظة الهبوط في مطار الخرطوم ألقيُت نظرًة من نافذة الطائرة ولم أَر لجنَة‬
‫االستقبال على أرض المطار‪ ،‬لكن بلمحٍة سريعة رأيت دبابًة من طراز «تي ‪ »55 -‬تتجه نحونا‬
‫والجنود متعّلقون بها على الجانبين‪ .‬أخَذني القلق للحظات إلى أن هبَطْت بنا الطائرة وعلمت أن‬
‫هؤالء كانوا من الحرس الرئاسي جاؤوا يراقبون الموقع ويطمئنون إلى الوضع األمني‪ .‬دعانا‬
‫الرئيس عمر البشير إلى سيارته المرسيدس القديمة‪ ،‬فجلسُت أنا إلى جانب الرئيس في المقعد الخلفي‬
‫الذي ُغّطَي جلُده المتآكل ِبُر َقٍع خشبيٍة لّم اعة‪ ،‬أما أخي علي الذي كان آنذاك قائَد حرسي الشخصّي ‪،‬‬
‫فجلس إلى جانب السائق‪ .‬عندما اتجه بنا الموكب إلى وسط الخرطوم أشار علي إلى ثقبين خّلفتهما‬
‫رصاصتان في زجاج المقعد األمامي وسأل السائق عنهما‪ ،‬أجاَبه السائق‪« :‬آه‪ ،‬هذا من بقايا آخر‬
‫محاولة اغتيال»‪ ،‬ولم ُيِض ف إلى ذلك شيئًا‪.‬‬
‫أحسَن السودانيون ضيافَتنا‪ ،‬وعند عودتي أرسلُت إليهم هديًة رسمية‪ ،‬سيارًة جديدة مصّفحة‪ .‬ولم‬
‫تمض بضعة أيام حتى أبلَغني مسؤولو التشريفات الملكية أن السودانيين أرسلوا إلينا بدورهم هديًة‬
‫رسمية‪ ،‬فقد هبطت في مطار عمان طائرة ‪ C-130‬سودانية تحمُل شبلي أسد يرافُقهما قِّيٌم مختص‬
‫جاَء يشرح كيفية االعتناء بهما‪ ،‬ثم عاد إلى الخرطوم‪.‬‬
‫لم َيُفتني إدراُك القيمة الرمزية للهدية‪ ،‬لكن حّيرني أمُر الشبلين ولم أعرف ماذا علّي أن أفعل بهما‬
‫فطلبت أن يوضعا في ملعب التنس بجانب منزلي‪ .‬عندما الحَظْت رانيا أن الشبلين أخذا ُيظهران‬
‫اهتمامًا خاّص ًا بولدينا حسين وإيمان (التي ولدت في أيلول‪/‬سبتمبر ‪ ،)1996‬وكان حسين يوَم ها في‬
‫الخامسة وإيمان في الثانية‪ ،‬أصرت على إرسال األسدين إلى مكان آخر‪ .‬عندها أعدُت إهداَء هما إلى‬
‫أحد األصدقاء وكان يهوى جمَع هذا النوع من الحيوانات‪.‬‬
‫عندما عدت إلى عمان كان أحد كبار المشاركين في مؤتمر دافوس‪ ،‬جون تشيمبرز‪ ،‬قد أعلن أنه‬
‫ُأعجب باإلمكانات المتاحة في األردن وقرر أن تستثمر مؤسسُته «سيسكو» مليون دوالر عندنا‬
‫بمثابة صندوق لتمويل شركات التكنولوجيا‪ .‬ومن هنا أصبحت «سيسكو»‪ ،‬وهي الشركة المصِّنعة‬
‫لكل أنواع البنى التحتية التي تحتاج إليها شبكة اإلنترنت‪ ،‬شريكًا أساسّيًا يساعدنا في توسيع نطاِق‬
‫استخدام اإلنترنت في كل أرجاء األردن‪ .‬لقد أصبح تشيمبرز صديقًا كبيرًا لألردن‪ ،‬يتبّر ع بأجهزة‬
‫الكمبيوتر حيثما دعت الحاجة‪ ،‬وقد افتتح مكتبًا لمؤسسته في عمان ورفَع صوَته عاليًا في الترويج‬
‫لألردن وتشجيع رجال األعمال والمؤسسات األخرى على اإلفادة من الُفرص التي يتيحها األردن‬
‫في مجاالت االستثمار‪.‬‬
‫لكن علينا أال نعتمد على الخارج في تطوير صناعة تكنولوجيا المعلومات لدينا‪ ،‬وفي مدى زمنٍّي‬
‫غير طويل بدأ أصحاُب المشاريع والمستثمرون المحليون ينزلون إلى الميدان‪ .‬في العام ‪1994‬‬
‫أنشأت رندا األيوبي «روبيكون» وهي شركة مختصة بإنتاج برامج الكمبيوتر التعليمية‪ .‬باإلفادة من‬
‫التمويل الذي وفره أحد صناديق رأس المال المغامر توَّسعت األيوبي في مجاالت اإلنتاج إلى‬
‫الصور المتحركة وطّو رت مؤسسَتها فأصبحت تعمُل برأس ماٍل من ماليين الدوالرات‪ .‬فتحْت لها‬
‫مكاتَب في عمان ولوس أنجلس ودبي ومانيال‪ .‬أنتجت روبيكون سلسلًة من برامج الصور المتحركة‬
‫بعنوان «ِبن وِع زي» (‪ )Ben & Izzy‬تدور حلقاُتها حوَل صبّيين‪ ،‬أميركي وأردني‪ ،‬يخوضان معًا‬
‫مغامراٍت عبَر التاريخ‪ ،‬ثم وّقعت اتفاقًا مع شركة (‪ )MGM‬لترويج مسلسل النمر الوردي الكرتوني‬
‫(‪ )Pink Panther‬في الشرق األوسط‪ ،‬ثم استثمرت شركة خليجية ماليين الدوالرات في شركتها‪.‬‬
‫في العام ‪ 1997‬أنشأ شابان أردنيان‪ ،‬سميح طوقان وحسام خوري‪ ،‬برنامج خدمة البريد‬
‫اإللكتروني باللغة العربية وأطلقا عليه اسم «مكتوب» (‪ ،)Maktoob‬وما لبثت الشركة أن تطورت‬
‫إلى أن باتت أكبر بّو ابة ِو ْب في المنطقة ويستخدمها أكثر من ستة عشر مليون شخص‪ ،‬فضًال عن‬
‫اجتذابها استثمارات بماليين الدوالرات‪ .‬في آب‪/‬أغسطس من العام ‪ 2009‬استحوذت شركة اإلنترنت‬
‫العمالقة «ياهوو» (‪ )Yahoo‬شركة مكتوب‪ .‬ليست صفقًة غير مألوفة في سيليكون فالي أن تعمد‬
‫شركٌة عمالقة إلى شراء شركة حديثِة العهد في مجال التكنولوجيا المتقدمة‪ ،‬لكن في األردن لم‬
‫نعرف حدثًا تجارّيًا من هذا النوع من قبل وكذلك األمر في العالم العربي‪ .‬من هنا شعرُت بفخٍر كبير‬
‫بالمؤِّس َسْين الشابين وبإنجازهما المتميز الذي أظهَر للعالم أن بإمكاننا دخوَل ميدان المنافسة على‬
‫المستوى العالمي األوسع‪.‬‬
‫من بين الفوائد الكبرى لتكنولوجيا المعلومات دوُر ها اإليجابي الفّعال على المستويات االجتماعية‬
‫كافًة‪ ،‬فقد عّلمتني خبرتي ضابطًا في الجيش كم كان جنودي يتعلمون قيادَة الدبابة «تشالنجر»‬
‫بسرعٍة الفتة مع أن نظاَم إطالق النار فيها كان كُّله مبنّيًا على الكمبيوتر‪ .‬كنت سعيدًا وفخورًا جّدًا‬
‫بذكائهم وسرعة تكّيفهم‪ ،‬وكنت على يقين من كفاءتهم وقدرتهم على النجاح حيثما كانوا‪ ،‬شرط أن‬
‫ُتتاح لهم الفرص المناسبة‪ .‬لقد دخل العدد األكبر من هؤالء الرجال إلى الجيش ألن ذلك كان المجاَل‬
‫الوحيد أماَم هم للتقدم‪ ،‬ومع أن كثيرين منهم كان يمكن أن يرتادوا الجامعات غير أن أوضاَعهم المالية‬
‫لم تكن تسمح لهم بذلك‪.‬‬
‫ترك العديد من هؤالء الرجال الموهوبين الجيش في سٍّن مبكرة‪ ،‬ربما في أواخر الثالثينيات‬
‫وأوائل األربعينيات من عمرهم وكانوا ال يزالون قادرين على العطاء‪ ،‬وقد وّفرنا لهم من خالل‬
‫الديوان الملكي مَنحًا دراسية تمّكن الراغبين منهم من تعُّلم مهاراِت الكمبيوتر‪ .‬أنهى معظمهم دورات‬
‫تعلم الكمبيوتر بنجاح وكثيرون منهم عملوا خبراَء تقنيين في المدارس يدّر بون المعلمين على آخر ما‬
‫بلغته تكنولوجيا الكمبيوتر‪.‬‬
‫كذلك أطلقنا برنامج إصالٍح تربوّي وتعليمي شامل‪ ،‬فجعلنا تعليم اللغة اإلنكليزية ومهارات‬
‫الكمبيوتر مادتين إلزاميتين في كل مدارس األردن منذ الصف األول صعدًا‪ ،‬ورفعنا مستويات تعليم‬
‫الرياضيات والعلوم‪ .‬وما لبثت جهوُدنا حتى بدأت تؤتي ثماَر ها‪ .‬كل أربع سنوات ُيجري االتحاد‬
‫الدولي لتقييم اإلنجازات التعليمية‪ ،‬وهو مؤسسة غير ربحية تكِّر ُس عمَلها لهدف تحسين التعليم‪،‬‬
‫عمليَة تقييٍم دوليًة تتناول تعليم العلوم والرياضيات‪ .‬في العام ‪ 2007‬احتل تالميذ الصف الثامن في‬
‫األردن المرتبَة األولى في العالم العربي‪ ،‬وقد تفوقوا في مواد العلوم على ماليزيا وتايالند وإسرائيل‪.‬‬
‫ُأِّس سْت جامعُتنا الحكومية األولى‪ ،‬الجامعة األردنية‪ ،‬في العام ‪ ،1962‬والجامعة الخاصة األولى‪،‬‬
‫جامعة عمان األهلية‪ ،‬في العام ‪ ،1990‬أما اآلن ففي األردن عشرون جامعة خاصة وعشر جامعات‬
‫حكومية أخرى يرتادها ‪ 243000‬طالب وطالبة في كل أنحاء األردن‪ .‬يتخرج عدٌد كبير من طلبة‬
‫الجامعات‪ ،‬الخاصة والحكومية‪ ،‬حاملين شهاداٍت في الهندسة وسائر فروع التكنولوجيا وهؤالء‬
‫الخّر يجون يرفدون الشركات األجنبية التي تأتي باستثماراتها إلى األردن بالمهارات العالية‪ ،‬كما‬
‫يتوزعون على الشركات المنشأة حديثًا ومؤسسات التكنولوجيا العالية في كل أرجاء المنطقة‪ .‬بدأنا‬
‫أيضًا بإقامة مراكز كمبيوتر في المناطق النائية يقصُدها ذوو الحاجِة من السكان المحليين لتعُّلم‬
‫استخدام الكمبيوتر ومهاراِته دون أن يكّلَفهم ذلك أَّي مقابل‪.‬‬
‫ال شك في أن تكنولوجيا المعلومات والتعليم هما من العوامل األساسية في النهوض باالقتصاد‬
‫وتحسينه‪ ،‬لكّن التقدم أشواطًا أخرى على هذا الطريق يفرض علينا أن نزيد من انفتاحنا على العالم‬
‫الخارجي‪ ،‬وما االنضماُم إلى منظمة التجارة العالمية سوى الخطوة األولى‪.‬‬
‫في حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ 2000‬عدت في زيارٍة أخرى إلى الواليات المتحدة والتقيت الرئيس‬
‫كلنتون الذي هنأني على انضمام األردن إلى منظمة التجارة العالمية‪ ،‬وعاد وسألني مرًة أخرى ماذا‬
‫يمكنه أن يفعل لمساعدة األردن‪ ،‬وهذه المرة أيضًا أظنه توقَع مني أن أطالب بزيادِة المساعدات‪ .‬قلت‬
‫للرئيس‪« :‬أريد اتفاق تجارة حرة مع الواليات المتحدة»‪ .‬إن اتفاقًا كهذا يذهُب أبعَد بكثير مما تتيحه‬
‫شروُط العضوية في منظمة التجارة العالمية‪ ،‬فهو يخفض الرسوم على التبادل التجاري بين البلدين‬
‫إلى أدنى المستويات الممكنة‪ ،‬وُيعّد ذا أهميٍة كبيرة جّدًا ومصدرًا لفوائَد جمة نظرًا لألقنية التي يفتحها‬
‫أمام صادراِت البلد الشريك للدخول إلى السوق األميركية‪ .‬في تلك الحقبة الزمنية لم تكن الواليات‬
‫المتحدة قد منحت اتفاقًا من هذا النوع إال لدوٍل ثالث‪ :‬كندا والمكسيك وإسرائيل‪.‬‬
‫فوجئ الرئيس بهذا الطلب لكن مع ذلك وعد بأن يدعمه بكل قوته‪ ،‬وقد بدأنا المفاوضات في‬
‫السادس من حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ ،2000‬وفي الرابع والعشرين من أيلول‪/‬سبتمبر من العام‬
‫‪ 2001‬وافق مجلس الشيوخ على اتفاق التجارة الحرة بين األردن والواليات المتحدة وأصبح األردن‬
‫البلد العربي األول الذي يوقع اتفاقًا من هذا النوع مع الواليات المتحدة‪ .‬وهكذا استفادت الصادرات‬
‫األردنية إلى الواليات المتحدة من الخفض االستثنائي للرسوم بموجب هذا االتفاق فقفزت من ‪18‬‬
‫مليون دوالر في العام ‪ 1998‬إلى ما يقارب مليار دوالر في العام ‪ ،2009‬وهو رقم يتجاوز ما كان‬
‫مجموع صادراتنا العالمية حين توليُت الحكم‪.‬‬
‫بالعودة إلى محادثاتنا في العام السابق‪ ،‬قال لي الرئيس كلنتون إنه اجتمع إلى الرئيس السوري‬
‫حافظ األسد في جنيف قبل بضعة أشهر‪ ،‬لكّن االجتماع كان مخّيبًا لآلمال التي ُعقدت عليه‪ .‬لم يتم‬
‫إحراز أّي تقدم‪ ،‬وال يبدو أن المفاوضات السورية ‪ -‬اإلسرائيلية سوف ُتستأنف في أمٍد منظور‪.‬‬
‫على الصعيد المحلي تابعنا بذل الجهد لجعل األردن بلدًا جاذبًا لالستثمار وذلك من خالل إقامة‬
‫منطقة اقتصادية خاصة في مدينة العقبة المطلة على البحر األحمر في أيار‪/‬مايو من العام ‪.2001‬‬
‫جعلنا المنطقة االقتصادية غير خاضعة ألية رسوم جمركية‪ ،‬وخفضنا الضرائب فيها بنسبة كبيرة‪،‬‬
‫وكان الهدف الذي رمينا إلى تحقيقه َطموحًا جّدًا وهو اجتذاب ستة مليارات دوالر من االستثمارات‬
‫بحلول العام ‪ .2020‬لكن يبدو أن المحفزات كانت أكثر استقطابًا الهتمام المستثمرين مما توقعنا‪،‬‬
‫وبحلول العام ‪ 2008‬كانت المنطقة االقتصادية في العقبة قد اجتذبت أكثر من عشرين مليار دوالر‬
‫من االستثمارات شملت رؤوَس أمواٍل من اإلمارات العربية المتحدة وقطر والكويت ولبنان‪.‬‬
‫كان الكويتيون‪ ،‬وخاّص ًة أمير البالد الشيخ صباح األحمد الجابر الصباح‪ ،‬من أكبر الداعمين‬
‫لألردن ومن أهم المستثمرين في اقتصاده‪ .‬رانيا ُو لدت في الكويت‪ ،‬واألمير يشير إليها دائمًا كإحدى‬
‫بناته‪ ،‬ولم أْلتِق به مرًة إال وكانت معاملُته لي كأحد أفراد العائلة ويبادر إلى سؤالي‪« :‬كيف حاُل‬
‫ابنِتنا؟»‪.‬‬
‫بناًء على ما أصبناه من نجاٍح في العقبة‪ ،‬أقمنا مناطَق اقتصاديًة مماثلة في المفرق ومعان وإربد‬
‫والبحر الميت وعجلون‪ ،‬وفي كل هذه المناطق خفضنا الضرائَب والرسوَم الجمركية وما لبثت أن‬
‫بدأت تستقطُب استثماراٍت أجنبيًة كبرى من بلدان عديدة بما فيها المملكة العربية السعودية واليابان‬
‫ولبنان‪.‬‬
‫بدأت شركاتنا تتحرك على الساحة العالمية‪ ،‬فبعض مؤسساتنا الكبرى‪ ،‬مثل «أرامكس» الناقل‬
‫العالمي للبريد و«حكمة» الشركة المنتجة لألدوية‪ ،‬أخذت تخوض سوَق المنافسة العالمية خصوصًا‬
‫بعد أن فتحت لها عضويُتنا في منظمة التجارة العالمية أسواقًا جديدة‪ .‬لكن بقي العديد من الشركات‬
‫الصغيرة يكافُح للبقاء وللمنافسة‪ .‬كان علينا االستفادة من البناء على العوامل اإليجابية لدينا في‬
‫الداخل‪ ،‬وبدأنا نبتكر آلياٍت للمساعدة‪ ،‬فهناك صندوق الملك عبد هللا الثاني للتنمية الذي يقدم رأس‬
‫المال والبنى التحتية لذوي المشاريع الواعدة من األردنيين‪ ،‬ولم يطْل بنا الوقت حتى وجدنا ما كنا‬
‫نبحث عنه تمامًا من المشاريع المطلوبة‪.‬‬
‫في جبال عجلون‪ ،‬شمال األردن‪ ،‬يوجد من شجر الزيتون أكبُر ه وأقدُم ه في العالم‪ ،‬لكن العديد من‬
‫المزارعين هناك كانوا ال يزالون يستخدمون وسائَل عمُر ها خمسون سنًة أو أكثر في إنتاج زيت‬
‫الزيتون‪ .‬حتى إن بعَض هم لم يغّير سُبَل العمل التي كانت تطَّبق منذ آالف السنين‪ ،‬مستخدمًا معاصَر‬
‫صغيرًة وبائعًا ما ينتجه محلّيًا في زجاجاٍت قديمة‪ .‬أما بقيُة إنتاج الموسم فكانت تباع من شركاٍت‬
‫أجنبية‪ ،‬إيطالية وإسبانية وسواها‪ ،‬كانت َتستخدم أفضَل اآلليات الحديثة لتعصر زيتوَننا وتحّو َله زيتًا‬
‫ثمينًا وتبيَعه بأسعار مرتفعة وَتجني منه أرباحًا طائلة‪.‬‬
‫استثمَر الصندوق في أدواٍت حديثة ومتطورة لعصر الزيتون وتعبئِته وتوضيبه‪ ،‬وأنشَأ شركة‬
‫متخصصة تتولى توصيَف أنواِع الزيت وتسويَقه وترويَج ه‪ .‬وها نحن اآلن نبيع الزيَت األردنَّي‬
‫العالي الجودة في بعض المخازن الكبرى في لندن‪.‬‬
‫كنت دائمًا أرى من أهم أولوياتي تقوية قاعدة اإلنتاج الصناعي في األردن‪ ،‬خصوصًا في مجال‬
‫التكنولوجيا العسكرية‪ ،‬ومن أهم ركائز هذه االستراتيجية «مركز الملك عبد هللا الثاني للتصميم‬
‫والتطوير» الذي أنشئ في العام ‪ .1999‬ومن خالله جرى تحديث الدبابات والعربات المدرعة‬
‫األردنية‪ ،‬كما أطِلقت مشاريع جديدة في هذا اإلطار (معظمها مصّنف سرّيًا)‪ .‬لقد وّسعنا تعاوننا مع‬
‫القوات المسلحة في دول أخرى بما فيها الواليات المتحدة األميركية وبروناي وأذربيجان‪ ،‬كما وَّقعنا‬
‫عقودًا مع شركاٍت دفاعية أوروبية لصيانة طائراِتنا من طراز «إف ‪ »١٦‬وتطوير العربات‬
‫العسكرية وتصنيع طائرات من دون طيار‪ .‬وبالتعاون مع شريك روسّي طّو ر مركز الملك عبد هللا‬
‫الثاني للتصميم والتطوير صاروخًا مضاّدًا للدبابات في غاية الفاعلية ُيطلق عن الكتف وهو‬
‫الصاروخ «آر بي جي ‪ .»32‬هذه المنتجات بيعت من اليمن وليبيا وُعمان وبلداٍن أخرى‪.‬‬
‫من المشاريع الجديدة ذات المردود الكبير مشروع تطوير المخزون األردني غير المستثمر من‬
‫اليورانيوم‪ .‬فمع علمنا منذ زمٍن طويل بأن في أرض األردن مخزونًا كبيرًا من اليورانيوم‪ ،‬بقينا‬
‫مكتوفي األيدي ولم نستكشف مدى حجم هذا المخزون وكمياِته التجارية‪ .‬في العام ‪ 2008‬أنشأنا‬
‫الشركة األردنية ‪ -‬الفرنسية لتعدين اليورانيوم وهي مشروع مشترك مع الشركة الفرنسية للطاقة‬
‫«أريفا» (‪ .)AREVA‬وبعد أن أظهرت المسوحاُت األولية وجوَد كمياٍت كبيرة من اليورانيوم في‬
‫الصحراء الوسطى ُقِّدرت بما بين أربعة وستة في المئة من المخزون العالمي‪ ،‬بدأنا العمل في افتتاح‬
‫أول منجم أردني لليورانيوم‪ .‬ثم وّقعنا اتفاقاٍت إضافيًة لالستكشاف مع المؤسسة الصينية «سينو‬
‫يورانيوم» (‪ ،)Sino Uranium‬ومع الشركة األنجلو ‪ -‬أوسترالية «ريو تنتو» (‪،)Rio Tinto‬‬
‫وبتوجيٍه وإشراٍف من هيئة الطاقة النووية األردنية نحن اآلن بصدد تطوير برنامٍج للطاقة النووية‬
‫من شأنه أن يخفف اعتماَدنا على استيراد النفط والغاز وتحُّم ل كلفتيِه ما العالية‪ .‬إن بإمكان ُم فاعٍل‬
‫نووّي محلي‪ُ ،‬و ِض عت خطة مبدئية إلنشائه في الجنوب‪ ،‬أن يوفر ما قد يصُل إلى ثلث كمية الطاقة‬
‫التي يحتاج إليها األردن‪ .‬لكن ليست هذه سوى الخطوِة األولى‪ ،‬فالكمية الكبيرة من الطاقة الكهربائية‬
‫المتوقع أن ينتجها هذا المفاعل سوف تمّكننا من تشغيل معامل تحلية المياه التي ستوفر لنا مياهًا ذات‬
‫كلفة معقولة ونكون بذلك قد حققنا هدفين في آٍن معًا‪.‬‬
‫األردن من البلدان الموقعة على معاهدة الحّد من انتشار األسلحة النووية‪ ،‬وهو عضو في الوكالة‬
‫الدولية للطاقة الذرية‪ ،‬ولكن نحن في األردن لسنا مجرد موقعين على معاهدة أو مجرد أعضاء في‬
‫وكالٍة دولية‪ ،‬لقد التزمنا بالتعاوِن الكامل مع هذه المنظمات ونريد تعاوَننا أن يكون شفافًا تمامًا‪ ،‬كذلك‬
‫نحن حريصون على أن يكون األردن أنموذجًا في تطوير برنامجه النووي‪.‬‬
‫في العام ‪ 2009‬أخَذْت مني صحيفُة «هآرتس» اإلسرائيلية حديثًا قلُت فيه إن األردن ينوي تطوير‬
‫برنامج إلنتاِج الطاقة النووية إلغراٍض سلمية‪ ،‬ثم أضفُت قائًال‪« :‬أنا شخصّيًا أعتقد أن أَّي بلٍد يمتلك‬
‫برنامجًا نووّيًا يجب أن يلتزَم بالقواعد الدولية وأن يخضَع لتفتيش الهيئات الدولية المعنية للتأكد من‬
‫أن أّي برنامج نووي يسير في الطريق القويم»‪.‬‬
‫إن المسألة المتعلقة بالطاقة النووية مسألة شديدة الحساسية في الشرق األوسط‪ ،‬فإسرائيل‪ ،‬وهي‬
‫الدولة النووية الوحيدة في المنطقة‪ ،‬ال تزال ترفض التوقيع على معاهدة الحد من انتشار األسلحة‬
‫النووية‪ ،‬كما ترفض أن تفتح مرافَقها للتفتيش‪ .‬لم يحرك المجتمع الدولي ساكنًا للضغط على إسرائيل‬
‫لالنضمام لمعاهدة الحد من انتشار األسلحة النووية أو لفتح مرافقها النووية للمفتشين الدوليين‪ .‬في‬
‫المدة األخيرة تحَّو َل الخالف على برنامج إيران النووي مصدَر قلٍق دولي‪ ،‬إذ إن المجتمع الدولي‬
‫يصر على منع إيران من تطوير قدرتها على تخصيب اليورانيوم تخوفًا من أن يكون هدُفها الحقيقي‬
‫تطويَر برنامٍج نووي ألهداٍف عسكرية‪ .‬من هنا فإن هامَش «االمتياز» المعطى إلسرائيل حياَل‬
‫موقِع ها النووي جعَل الرأي العام في المنطقة يشير إلى الكيل بمكيالين وإلى ازدواجيِة المعايير في‬
‫تطبيق مندرجاِت القانون الدولي‪.‬‬
‫أما برنامُج نا النووي هنا في األردن فال يقُع ضمن هذا اإلطار الخالفّي على اإلطالق‪ ،‬ذلك أن‬
‫ِص ْدقيَة األردن كقوٍة من أجل السالم في المنطقة‪ ،‬ومقاربَته الشفافة لتطوير الطاقة النووية السلمية‬
‫بالتعاون مع المنظمات الدولية وعبر االلتزام بالمعايير الدولية‪ ،‬كل هذا قد أكسب برنامَج نا النووَّي‬
‫موافقَة المجتمع الدولي ودعمه األكيدين‪.‬‬
‫إن إصالح نظامنا التعليمي‪ ،‬والنهوض بصناعِتنا المحلية‪ ،‬والحد من اعتمادنا على الطاقة‪ ،‬هذه‬
‫العوامل األساسية لم تكن أقَّل أهميًة من التفاوض على االتفاقات التجارية الدولية بالنسبة إلى‬
‫النهوض باألردن ووضعه على سكِة النمو االقتصادي المستدام‪ ،‬وقد شهَد اقتصاُدنا أحيانًا وثباٍت إلى‬
‫األمام بطرٍق لم تكن متوقعة‪.‬‬
‫في العام ‪ 1988‬جاء إلى األردن ستيفن سبيلبيرغ وجورج لوكاس لتصوير مشاهد من فيلم إنديانا‬
‫جونز (‪ ،)Indiana Jones and the Last Crusade‬وكان يرافُقهما نجما الفيلم هاريسون فورد‬
‫وشون كونري‪ .‬طلَب مني والدي أن أستقبلهم في العقبة ومن ثم أرافَقهم إلى البتراء على مسافة‬
‫ثمانين ميًال شماًال حيث كان ُيفترض أن يبدأ التصوير‪ُ .‬تعّد آثاُر البتراء‪ ،‬التي بناها األنباُط منذ أكثَر‬
‫من ألفي سنة‪ ،‬من أروِع المعالم التاريخية وأكثِر ها َم هابًة في العالم‪ ،‬وقد رأى سبيلبيرغ أن تلك‬
‫الهياكَل العمالقَة بهالِتها المؤِّثرة والمحفورة في ُص لب الصخر الطبيعّي تشكل موقعًا مثاليًا لـ«وادي‬
‫الهالل» (‪ )Canyon of the Crescent Moon‬حيث تقُع أحداُث المشهِد األخير من الفيلم‪.‬‬
‫عرض والدي أن يوصَل سبيلبيرغ ولوكاس وكونري وفورد إلى البتراء بالمروحية لتمكينهم من‬
‫رؤيِة تلك المشاهد الرائعة من الجو‪ .‬قدت أنا الطائرة‪ ،‬وفيما كنا نأخُذ مقاعَدنا في المروحية ونربط‬
‫أحزمَتنا‪ ،‬سألني مساعُد الطيار وهو ينحني على أُذني‪َ« :‬م ن هذا الرجل؟ وجُه ه ليس غريبًا علّي »‪.‬‬
‫فقلُت له‪« :‬هذا شون كونري الذي مّثَل جيمس بوند»‪« .‬صحيح»‪ ،‬قال مساعدي وهو يكتم ضحكته‬
‫فيما كنا ُنقلع بالطائرة‪ ،‬ثم أضاف‪« :‬سوف ُنريه اآلن َم ن هو جيمس بوند الحقيقي»‪.‬‬
‫طرنا على ارتفاع منخفض خروجًا من المطار حتى كدنا نالمُس السياَج المحيط بحرم المطار عند‬
‫نهاية المدَّر ج‪ ،‬ثم اتجهنا شماًال فوق الوادي في طريقنا إلى البتراء دون أن نرتفع عن األرض إال‬
‫بقدر ما تتطلب سالمُة الطيران‪ .‬بعد حوالى عشرين دقيقة‪ ،‬مال سبيلبيرغ نحوي‪ ،‬ومفاصُل يديه‬
‫مبيّضة من شدة تمسكه بالمقعد‪ ،‬وهمَس في أذني سائًال هل من الضروري أن نطيَر على هذا القدر‬
‫من االنخفاض!‬
‫عندئذ قررت أن أجاري مساعدي في النكتة التي أطلَقها‪ ،‬فأجبُت سبيلبيرغ‪« :‬سيدي‪ ،‬ال مانَع من‬
‫أن نطير على ارتفاٍع أعلى‪ ،‬لكن نحن نطير بموازاة الحدود اإلسرائيلية وال يمكننا التكّه ن بما قد‬
‫َيصدُر من الجانب اآلخر‪ ...‬طبعًا‪ ،‬إذا شئَت أن نخاطَر في األمر فال مشكلة لدينا»‪ .‬هَّز برأسه موافقًا‪،‬‬
‫فارتفعنا قليًال ثم أكملنا رحلَتنا نحو البتراء‪.‬‬
‫هبطنا على مقربٍة من مجَّم ع اآلثار‪ ،‬وما لبث الممثلون والفنيون أن بدأوا العمل محّو لين الشَّق‬
‫الضِّيق المتعّر ج‪ ،‬والمؤدي إلى «الخزنة»‪ ،‬الهيكِل المحفور في الجدار الصخرّي للوادي‪ ،‬وصوًال‬
‫إلى هيكِل الشمس الذي اختاَر ه سبيلبيرغ مخبًأ للكأِس المقدسة‪.‬‬
‫لم تسنح لي الفرصة لحضور حفل افتتاح الفيلم في العام التالي‪ ،‬لكن شقيقي فيصل كان حاضرًا‪،‬‬
‫وحين التقى هاريسون فورد وقدم نفَسه قائًال‪« :‬شقيقي كان قائد المروحية التي أوصلتكم إلى‬
‫البتراء»‪ .‬فرّد عليه فورد قائًال‪« :‬هذا الرجل جعَل فرائَص نا ترتعد خالل تلك الرحلة»‪ .‬عدُت والتقيت‬
‫سبيلبيرغ بعد بضع سنوات‪ ،‬وكان والدي قد توفي‪ ،‬وكان سبيلبيرغ ال يزال يذكر تلك الرحلة‬
‫بالمروحية‪ ،‬فسألني‪« :‬لماذا فعلَت ذلك بنا؟»‪ .‬قلت‪« :‬ال بد أنك في يوٍم من األيام ستنتج فيلمًا عن‬
‫طياري المروحيات‪ ،‬ولن يفوَتك حينذاك أن تتذكر الطيارين المجانين في األردن»‪ .‬عديدٌة األفالم‬
‫التي صِّو رت أجزاء منها في األردن بعد فيلم سبيلبيرغ‪ ،‬منها «ترانسفورمرز» (‪Transformers:‬‬
‫‪ ،)Revenge of the Fallen‬و«ذا هيرت لوكر» (‪ ،)The Hurt Locker‬و«ذا مامي ريترنز»‬
‫(‪.)The Mummy Returns‬‬
‫بقيُت على تواصل مع سبيلبيرغ‪ ،‬وحين توّليت منصبي ملكًا اتصلُت به طالبًا مساعدَته في إنشاء‬
‫صناعة سينمائية في األردن‪ .‬قَّدرُت له تغاضيه عن تصّر في أياَم الشباب‪ ،‬فقد َج َمَعنا بعميد كلية‬
‫الفنون السينمائية في جامعة جنوب كاليفورنيا‪ ،‬وهي أعرُق كليات الفن السينمائي في أميركا‪ .‬أّسسنا‪،‬‬
‫بمساعدة هذه الجامعة‪ ،‬معهد البحر األحمر للفنون السينمائية في العقبة‪ ،‬وهو كلية متخصصة في‬
‫تعليم فن اإلنتاج السينمائي‪ .‬افُتتح المعهد في أيلول‪/‬سبتمبر من العام ‪ 2008‬وقد َج مَع الصف األول‬
‫من الطالب عشرين طالبًا‪.‬‬
‫إن الصناعات اإلبداعية والخّالقة‪ ،‬كاإلنتاج السينمائي وصناعة اإلعالم الجديد وصناعة تكنولوجيا‬
‫المعلومات‪ُ ،‬تمِس ُك بمفاتيح مستقبل األردن االقتصادي وتطوره‪ ،‬حتى لو كان الطريق إلى تطويرها‬
‫والتقدم في مجاالتها يستغرق من الوقت أكثر من المتوقع‪.‬‬
‫لقد أصبح بإمكاننا اآلن أن نلقي نظرة إلى ما تمكّنا من إنجازه خالل عشر سنوات على طريق‬
‫التقدم‪ ،‬فقد أتاح لنا االنفتاُح االقتصادي على أسواق التجارة العالمية أن نرفع حجَم صادراتنا ستة‬
‫أضعاف بين العامين ‪ 1998‬و‪ ،2008‬وأن نخفض نسبة البطالة من ‪ 15.3‬في المئة إلى ‪ 12‬في‬
‫المئة‪ ،‬كما ضاعفنا نصيب الفرد من الناتج المحلّي اإلجمالي‪ .‬في مسٍح أجرته األمم المتحدة في العام‬
‫‪ 2007‬جاء األردن في المرتبة السادسة عالمّيًا من حيث اجتذاُبه رؤوس األموال االستثمارية نسبًة‬
‫إلى حجم اقتصاده‪ ،‬بعدما كان في المرتبة ‪ 132‬في العام ‪ .1995‬أما المسح الذي أجراه المنتدى‬
‫االقتصادي العالمي في العام ‪ 2008‬فقد وضع األردن في المرتبة ‪ 48‬من حيث القدرة على المنافسة‬
‫االقتصادية عالمّيًا‪ ،‬وهذا يجعُله في مرتبٍة أعلى من إيطاليا وروسيا والبرازيل والهند‪.‬‬
‫لم ُتعِف األزمة االقتصادية العالمية األردن من بعض أوزارها‪ ،‬فقد تباطأ النمو بنسبة عالية‪ ،‬وبلغ‬
‫عجز الموازنة العامة ‪ 8.5‬في المئة من إجمالي الناتج المحلي‪ ،‬وهذه سابقة في تاريخ المملكة‪.‬‬
‫كالعديد من بلدان العالم اضطر األردن إلى اتخاذ إجراءات قاسية لخفض إنفاقه في العام ‪ .2009‬لكن‬
‫بخالف بلداٍن أخرى لم نملك اإلمكانات لكي نقدم حوافز مالية من شأنها إعادة تحريك االقتصاد‪،‬‬
‫وإنما كان علينا أن نعيد النظر بسياستنا‪ ،‬وأن نحّسن بيئتنا االستثمارية‪ ،‬كما كان ال بد من التأكد من‬
‫أن اقتصاَدنا بين أيٍد إداريٍة كفؤة وذات فاعليٍة أكيدة‪.‬‬
‫ال شك في أن األزمة االقتصادية العالمية كانت تحديًا كبيرًا‪ ،‬لكنها في اآلن عيِنه َح ملْت إلينا فرصًا‬
‫جديدة‪ ،‬ذلك أن العديد من الشركات العالمية‪ ،‬خصوصًا تلك التي تّتخذ مقّر ًا لها في بلدان الخليج‬
‫الغنية‪ ،‬كانت تبحث عن سبٍل لخفض أعباِئها التشغيلية ورفِع مستوى التنافسية لديها‪ .‬وفي هذا اإلطار‬
‫كنُت مصممًا على أن أضيَء اسَم األردن على شاشات الرادار لديها بحيث تأخُذه بحسباِنها كبديٍل‬
‫محتمل‪ .‬كنت مدركًا‪ ،‬في هذا السياق‪ ،‬أن عوامَل عديدًة تجعلنا في موقٍع تنافسٍّي قوي على هذا‬
‫الصعيد‪ ،‬ليس أقَّلها المهنيون األردنيون من ذوي المستويات العلمية العالية‪ ،‬والبنى التحتية الجيدة‪،‬‬
‫وموقع األردن االستراتيجي في قلب هذه المنطقة‪ ،‬وبيئة اقتصادية منفتحة‪ ،‬هذا فضًال عن األسواق‬
‫العالمية الكبرى المفتوحة أمام األردن في ضوء اتفاقاِتنا الدولية‪ .‬من هنا بدأنا تحديد مجاالٍت وفرٍص‬
‫بعينها مما يمكن أن يجذَب المستثمرين‪ ،‬وأخذنا بتحديث تشريعاتنا االقتصادية‪ .‬في الماضي كنت‬
‫عندما ألتقي بعَض المستثمرين أقول لهم إن األردن بلد عظيم لالستثمار‪ ،‬أما اآلن فبات بوسعي‬
‫اإلشارة إلى مشاريَع محددٍة وأن أتحدث تحديدًا عما يقدمه األردن من امتيازاٍت واضحة من شأنها‬
‫تشجيع الشركات على العمل انطالقًا منه‪.‬‬
‫بدأنا بالعمل على عدد من «المشاريع الكبرى» لتلبية احتياجاتنا الغذائية والمائية‪ ،‬ولتطوير ُبنانا‬
‫التحتية وموقِع نا كمركٍز إقليمّي للطاقِة والنقل‪ .‬لقد أعطيت الحكومَة التوجيهات الالزمة لكي تدير هذه‬
‫الموارَد الحيوية على أفضل ما يمكن أن تدار‪ .‬لكن‪ ،‬لسوء الحظ‪ ،‬كان من شأن األحداث السياسية‬
‫أحيانًا أن تختطَف نجاحنا االقتصادي‪ .‬فالشيء الوحيد الذي يمكن أن يأتي باالزدهار الدائم إلى‬
‫منطقتنا‪ ،‬والذي يستبدل القنبلَة والرصاصَة بالسائح وصاحِب المشروع التجاري والمستثمر‪ ،‬هو‬
‫إيجاد تسوية نهائية للصراع اإلسرائيلي ‪ -‬الفلسطيني الذي هو أساس الصراع وعدم االستقرار‬
‫والعنف في المنطقة‪.‬‬
‫آمل أن نتمكن يومًا من أن نربط ما بين اقتصاد كٍّل من إسرائيل وفلسطين واألردن في سوٍق‬
‫مشتركة على غرار النموذج الذي يجّسده «البينيلوكس» في أوروبا الغربية‪ .‬إن بإمكاننا اإلفادة من‬
‫المعرفة الفنية والقدرات التجارية واالستثمارية في األردن وإسرائيل وفلسطين بحيث نبني مركزًا‬
‫اقتصادّيًا وتجارّيًا هائل القدرات في هذا المشرق‪ .‬إن الدفَق السياحَّي المحتمل‪ ،‬كما تدُّفُق رؤوس‬
‫األموال األجنبية بهدف االستثمار‪ ،‬سيكونان بأحجاٍم مذهلة‪ ،‬أما إمكانيُة التعاون فكبيرة جّدًا‪ .‬إن‬
‫اإلسرائيليين رّو اٌد عالميون في المجاالت الزراعية‪ ،‬لكنهم ال يملكون أرضًا زراعية كافية لهذه‬
‫الغاية‪ ،‬وليس لديهم ما يكفي من العمال‪ .‬إن بإمكاننا أن نعمَل معًا لنجعَل من الصحراء جنًة خضراء‪.‬‬
‫لكن هذه الرؤى الحالمة بالتعاون االقتصادي تبقى أشبَه بالسراب إن لم ُيكتب لها قادٌة سياسيون‬
‫يمتلكون جرأَة صنع السالم‪ .‬من أجل مصلحتنا ومستقبلنا جميعًا في هذه المنطقة‪ ،‬يجب أن ندعو‬
‫العلي القدير لكي يعيَننا على تجاوز أحقادنا وشكوكنا التي أبقتنا منقسمين طواَل هذه السنين‪.‬‬
‫ال شك في أننا أنجزنا الكثير خالل السنوات اإلحدى عشرة الماضية‪ ،‬لكنني أوُل من يعترف بأن‬
‫أمامنا الكثير مما ال يزال بحاجة إلى إنجاز‪ .‬اإلصالح السياسي كان يمكن أن يسجل مزيدًا من التقدم‬
‫وبأسرع مما شهدناه‪ ،‬كما كان علينا أن نشرَح للرأي العام‪ ،‬أكثر مما فعلنا‪ ،‬األسباَب الكامنة وراء‬
‫الخطوات واإلجراءات التي نتخذها‪ .‬لطالما كان اإلصالح االقتصادي من بين األولويات لدّي نظرًا‬
‫للتأثير المباِش ر للسياسات االقتصادية السليمة في مستوى معيشة المواطنين‪ ،‬لكن كان يقيني دائمًا أن‬
‫هذا اإلصالح لن يؤتي ثماَر ه كاملًة ما لم يكن جزءًا من برنامٍج إصالحي أوسع وأشمل في جميع‬
‫المجاالت السياسية واالجتماعية واإلدارية‪ .‬من سوء الحظ أن عملية اإلصالح السياسي كانت أحيانًا‬
‫كثيرة َتخطو خطوًة إلى الوراء مقابَل كل خطوتين إلى األمام‪ ،‬وكانت مقاومُة التغيير تأتي من جهاٍت‬
‫مختلفة وألسباب متعددة‪ .‬عارض البعض نهَج التغيير خوفًا على امتيازاٍت طالما تمتع بها‪ ،‬فيما‬
‫البعض اآلخر كانت معارضُته تعكُس نقصًا في الرؤية الصحيحة‪ ،‬وهؤالء فضلوا بقاَء األوضاع‬
‫على حالها ما داموا قد عرفوها وقبلوا بها‪ .‬في مناسباٍت عديدة كنت أكتشف أن هناك مسؤولين ال‬
‫يملكون الشجاعَة للسير بالتغييرات الصعبة‪ ،‬أو أن اهتمامهم كان محصورًا بمصالحهم الخاصة أكثَر‬
‫منه بمصالح الناس الذين ُعّيَن هؤالء المسؤولون لخدمِتهم ورعايِة شؤونهم‪ .‬عنصٌر آخر كان له دور‬
‫كبير في تأخير عملية التطوير والتحديث هو الوضُع اإلقليمُّي البالُغ السوء والذي غالبًا ما يوّلد‬
‫تحدياٍت صعبًة تجعل العامَل األمنّي أولويًة على كل العوامل واالعتبارات األخرى‪ .‬لكن نحن‬
‫مصرون على معالجة كل هذه العثرات والنواقص‪ ،‬وأنا أعرف حق المعرفة أن مستقبل األردن‬
‫يلزمنا بالسير قدمًا في مسيرتنا الديموقراطية لكي يمارس جميع األردنيين دورًا أكبر في صناعة‬
‫القرار وفي بناء مستقبل بالدهم‪.‬‬
‫في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر من العام ‪ 2009‬دعوت إلى إجراء انتخاباٍت برلمانية جديدة‪ ،‬وبعد بضعة‬
‫أيام كّلفت رئيسًا جديدًا للوزراء تأليف حكومة جديدة‪ .‬كان كثيرون من األردنيين يعّبرون عن عدم‬
‫رضاهم عن أداء مجلس النواب‪ ،‬إذ إن نوابًا كثيرين كانوا يعوقون إجراء اإلصالحات االقتصادية‬
‫واالجتماعية والتشريعية الضرورية‪ ،‬هذا فضًال عن أن الجدل السياسي في ما بينهم‪ ،‬وما كان‬
‫يمارسه بعُض هم من ضغوط النتزاع المزيد من االمتيازات‪ ،‬كل ذلك أدى إلى عالقٍة غير منتجة بين‬
‫السلطتين التشريعية والتنفيذية وبالتالي عرقل الجهود الرامية إلى معالجة المسائل االقتصادية‬
‫واالجتماعية األوسع واألكثر أهمية‪ .‬بلغت نسبُة التأييد الشعبي لمجلس النواب من االنخفاض بحيث‬
‫رّح ب أكثر من ثمانين في المئة من المواطنين بحّله وفقًا الستطالعات تلك الفترة‪ .‬كان وقت التغيير‬
‫قد حان‪ ،‬ال بالنسبة إلى األشخاص فحسب بل على صعيد المقاربة الصحيحة لألمور‪ .‬في كتاب‬
‫التكليف الذي وّج هُته إلى رئيس الحكومة الجديد سمير الرفاعي‪ ،‬خريج هارفرد الذي عمل معي في‬
‫ورشة اإلصالحات االقتصادية عندما توليت مسؤولياتي‪ ،‬وضعت قائمًة باألهداف اإلصالحية التي‬
‫نرمي إلى تحقيقها على الُّص عد االقتصادية واالجتماعية واإلدارية والسياسية‪ ،‬وقلت إن على‬
‫الحكومة أن تضَع ُنصَب أعينها العمَل البرامجي الجدي لتحقيق تلك األهداف ضمن فتراٍت زمنية‬
‫محددة‪ .‬أوضحُت أن من الضرورّي إجراء انتخابات نيابية جديدة تكون أنموذجًا في النزاهة‬
‫والحيادية والشفافية في أسرع وقت ممكن‪ .‬أعطيُت توجيهاتي إلى الحكومة الجديدة أن يكون في‬
‫مقدمة ُم هّم اتها تعديل قانون االنتخاب وتحسين جميع إجراءات العملية االنتخابية بحيث يتمكن كل‬
‫األردنيين من ممارسة حقهم في االنتخاب والترشح وتأدية واجبهم في انتخاب مجلس نيابي قادر‬
‫على ممارسة دوره الدستوري في الرقابة والتشريع واإلسهام بفاعلية في استكمال مسيرة البناء وفي‬
‫تكريس الديموقراطية ثقافة وممارسة في وطننا الحبيب‪ .‬كما وّج هت الحكومة أن تسهل مهمة‬
‫منظمات المجتمع المدني في مراقبة العملية االنتخابية‪.‬‬
‫كذلك طلبت من الحكومة أن تنفذ برنامج الالمركزية الذي يمّكن المواطنين من انتخاب مجالِسهم‬
‫المحلية من أجل تحقيق تطور نوعي في آليات اتخاذ القرار وضمان أعلى درجات المشاركة الشعبية‬
‫في صناعة السياسات الوطنية وفي تحديد أولوياتهم التنموية في المحافظات‪.‬‬
‫بعد مرور ستين يومًا على أدائها اليمين‪ ،‬قدمْت لي الحكومة الجديدة خطة عمل مفصلة لّخ صت‬
‫فيها كل وزارة من الوزارات األهداف والمشاريع التي تنوي تنفيَذها خالل فترة زمنية محددة‪ .‬أما‬
‫أداء الحكومة فسيصار إلى تقييمه على أساس معايير قياس أداء واضحة وفقًا للتقدم الذي تحرزه في‬
‫تنفيذ هذه األهداف ضمن المواعيد المحددة والتي يجب أن توضع على مواقع الوزارات اإللكترونية‪.‬‬
‫كذلك التزمت الحكومة بمدّو نة سلوك تستوحي أفضَل الممارسات الدولية‪ ،‬وحددت إصالحات‬
‫أساسية بما فيها إجراءاُت مكافحِة الفساد‪ ،‬ورفع مستوى الشفافية‪ ،‬وحماية حقوق المرأة والطفل‪،‬‬
‫وإزالة كل العوائق التي تحول دون تطور صناعة اإلعالم المهني المحترف المستقل‪.‬‬
‫لقد ُو ضعت الخطط الحكومية وُنّظمت بهدف إحراز تقدم ملموس في سبعة محاور عمل تكّو ن‬
‫بكليتها برنامجًا متكامًال للتطوير واإلصالح هي‪ :‬زيادة كفاءة الحكومة وتفعيل المساءلة وقياس‬
‫األداء الحكومي‪ ،‬تشجيع المشاركة السياسية والمدنية‪ ،‬تحفيز بيئة األعمال واالستثمار‪ ،‬تمكين ودعم‬
‫كفاءة المواطن من خالل تزويده بالمهارات الالزمة لدخول سوق العمل‪ ،‬تحفيز النمو االقتصادي‬
‫والمضي قدمًا بمشاريع البنية التحتية الكبرى‪ ،‬توسيع قاعدة الطبقة الوسطى ودعم وتمكين الطبقة‬
‫الفقيرة‪ ،‬تحسين مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين ونوعيتها‪.‬‬
‫إنني على اقتناع راسخ بأن وجود طبقة وسطى قوية ومستقرة هو من أهم روافع التنمية‬
‫االجتماعية‪ ،‬وإذا رّكزنا على البرامج االقتصادية التي تؤدي إلى توسعة الطبقة الوسطى استطعنا‬
‫بذلك تقوية األسس التي تدفع إلى بروز منظمات مجتمع مدني يمكنها مراقبة الحكومات وتقويم أدائها‬
‫ومحاسبِتها وبالتالي وضعها تحت ضغط الرأي العام لجعلها أكثَر شفافية‪.‬‬
‫فيما كان هذا الكتاب في طريقه إلى المطبعة كان األردنيون ُيعدون أنفَسهم للذهاب إلى مراكز‬
‫االقتراع النتخاب ممثليهم الجدد في مجلس النواب بموجب قانون جديد لالنتخاب‪ُ .‬أدِخ َلْت تعديالٌت‬
‫رئيسية على قانون العقوبات َترفع من مستوى حمايِة النساء واألطفال‪ ،‬ويحاكم البعض اآلن بتهم‬
‫الفساد‪ .‬لقد انخفَض عجُز الموازنة العامة‪ ،‬وها هي الصحف تنشر بعض األخبار اإليجابية عن‬
‫تحسن الوضع االقتصادي‪ .‬إنني أعتقد أننا على الطريق الصحيح في مسيرة إصالح طويلة المدى‬
‫سيتطلب استكمالها الكثير من الجهد والعمل المضني وسيكون لها نجاحاتها وإخفاقاتها‪ .‬منذ البداية‬
‫كنت مدركًا أن أفضل ما يمكننا االستثمار فيه هو تنمية المهارات لدى ثروة األردن الحقيقية وهي‬
‫شعُبه وشباُبه‪ ،‬الذي هو وسيلة التنمية وغايتها‪ ،‬وهذا يعني تقديَم أفضل مستويات التعليم ألبنائنا‬
‫وبناتنا‪ .‬لقد فكرت ملّيًا وطويًال في هذه المسألة‪ ،‬وبما أنني تلقيت تعليمي‪ ،‬على كل مستوياته‪ ،‬في‬
‫األردن وإنكلترا والواليات المتحدة فقد جئُت ببعض األفكار غير التقليدية حياَل هذا الموضوع‪.‬‬
‫الفصل السادس عشر‪ :‬ديرفيلد تنبت في الصحراء‬

‫في أيار‪/‬مايو من العام ‪ ،2000‬بعد مرور عشرين عامًا على تخرجي في ديرفيلد‪ ،‬عدت إلى هناك‬
‫مدعّو ًا إللقاِء خطاب التخرج‪ .‬استقبلني مدير األكاديمية إريك ويدمر‪ ،‬المديُد القامة‪ ،‬البهُّي الطلعِة‬
‫ومن خريجي المدرسة المتميزين‪ ،‬وقد عَّلم تاريخ الصين في جامعة «براون» قبل أن يعود إلى‬
‫ديرفيلد مديرًا للمدرسة‪ .‬فاضْت علينا موجة ممتعة من الذكريات ونحن نعبر أماَم مبنى «إفرايم‬
‫ويليامز» (‪ )Ephraim Williams House‬بجدراِنه الخشبية البيضاء وسقِفه المغطى بصفائح‬
‫أردوازية دكناء اللون‪ ،‬وفيه كان يسكن الطالب الداخليون‪ .‬دارت في ذهني أفكاٌر كثيرة تمحورت‬
‫حول نوعيِة التعليم الذي نهلُته في ديرفيلد‪ .‬فقد علمتني هذه المؤسسة التربوية الرائدة أن أكوَن محّبًا‬
‫لالستطالع‪ ،‬وأن أناقَش ما يقال لي‪ ،‬وأن أبتكَر الحلول لما يواجهني من مشكالت‪ .‬لقد عّلمتني كيف‬
‫أفكر ال ماذا أفكر‪ ،‬وشّج عتني على التفكير النقدي والبحث عن الحلول‪ ،‬ونَّم ْت لدَّي رغبة اإلبداع‬
‫والعمِل الخاّل ق‪ ،‬وهكذا ترّسَخ اعتقادي بأن مدرسًة على غرار ديرفيلد ونهِج ها التربوّي سوف تكون‬
‫ذات أثر إيجابي كبير في األردن وفي المنطقة العربية على امتدادها‪ .‬لقد رأيت رفاقًا لي من ذلك‬
‫الصرح التربوّي يكبرون على دروب الحياة ويحتلون المواقَع الرياديَة في عالم األعمال كما في‬
‫المجاالت العلمية وعلى الساحة السياسية‪ .‬لماذا‪ ،‬يا ترى‪ ،‬لم َيشهد األردن منهَل علٍم ومعرفٍة كهذا‬
‫المنهل؟ لماذا ُكتب على صبٍّي أو فتاٍة من األردن أو فلسطين‪ ،‬أو من مصر‪ ،‬أو دوِل الخليج‪ ،‬أن َيعبَر‬
‫نصَف الكرِة األرضية إلى أميركا لكي يحصَل على تعليٍم متميز!‬
‫في اليوم التالي التقى جمٌع كبير ضم الطلبة وذويهم والمعلمين في ديرفيلد وغيرهم لالحتفال‬
‫بمناسبة التخرج‪ ،‬وراح األصدقاء وأفراٌد من عائالت الطلبة والهيئتين التعليمية واإلدارية يصفقون‬
‫فيما كان عازفان على القرب يقودان صَّف الخريجين للعام ‪ 2000‬في شارع «ألباني» (‪Albany‬‬
‫‪ )Road‬الذي يخترق وسَط القرية وصوًال إلى ُسرادٍق واسِع األرجاء تزّينه خطوط باللونين‬
‫األخضر واألبيض‪.‬‬
‫في الكلمة التي ألقيُتها بالمناسبة عرضُت بعضًا من القيم العالية التي يزرعها النهُج التعليمّي الذي‬
‫تسلكه ديرفيلد‪ ،‬الصدُق مهما كّلف‪ ،‬االستقالُل الفكرّي ‪ ،‬الكرامُة وعلُّو النفس‪ ،‬والصداقة‪ ،‬وقلت إن‬
‫هذه القيَم حاجٌة ماسة لشباب اليوم‪ ،‬خصوصًا وهم يواجهون وتيرًة غير مسبوقة من التغُّير في عالٍم‬
‫يتزايد حداثًة ساعًة بعد ساعة‪ .‬لقد تذكرُت كل ما عّلمتني إياه ديرفيلد‪ :‬حكمَة المعلمين وصبَر هم‬
‫واتساَع صدِر هم‪ ،‬روَح المساواِة الشاملة‪ ،‬أن يكون لكٍل منا دوُر ه في تنظيِف موائِد الطعام بعد تناول‬
‫الطالب وجباِتهم‪ ،‬اإلفساَح في المجال أمام كٍل منا للقاء أشخاٍص جدد وعقد الصداقات مع َم ن نشاء‬
‫من هؤالء األشخاص اآلتين من خلفياٍت متعددة‪ .‬أضف إلى ذلك ما أكسَبْتنا إياه من روح الفضول‬
‫والبحث عن الجديد واإلثارة التي تدفعَك إلى مزيٍد من التعّلم ومراكمِة المعرفة‪ .‬وفيما كنت أوّز ع‬
‫النظَر بين تلك الوجوه الشابة والواعدة‪ ،‬وتلك العيون المتوهجة أمًال بغدها وشوقًا إلى خوِض غمار‬
‫الحياة‪ ،‬غدوُت على يقيٍن من أنني سأنقل هذه التجربَة التربويَة ‪ -‬التعليمية الثمينة إلى منطقِة الشرق‬
‫األوسط‪.‬‬
‫بعد االحتفال قلت للدكتور ويدمر إنني أنوي أن أنشَئ مدرسًة نموذجيًة تكون على نهج ديرفيلد‪،‬‬
‫وسوف تكون المدرسة الداخلية األولى في الشرق األوسط على غرار مدارس نيو أنغلند‪ .‬كان رُّده‬
‫إنها فكرٌة عظيمة ووعَد بأن يمَّد يَد المساعدة وأن يزودنا بكل ما استطاَع من المشورة ومما لديه من‬
‫الخبرة في هذا المجال‪ ،‬وهكذا ُز رعت البذرة التي نبتت في ما بعد لتصبَح مدرسة «كينغز أكاديمي»‪.‬‬
‫تنتشُر في كل أرجاء الشرق األوسط المدارُس الخاصة التي يرتادها أبناُء النخبة الذين تأتي بهم‬
‫إلى المدرسة سياراٌت فارهة يقودها سائقون‪ ،‬وكل منهم (التالميذ) يحمُل هاتَفه النقال‪ .‬لكن ليس هناك‬
‫مدارُس على منوال ديرفيلد تفتح أبواَبها أماَم كل الموهوبين وتقّدم لهم المنَح الدراسية حين يكون‬
‫أولياؤهم غير قادرين على تحّم ل أعباء هذا النوع من التعليم‪ .‬لقد عزمُت على زرع قبيلٍة جديدة في‬
‫منطقٍة غالبًا ما مّز قتها النزاعاُت العرقية والمذهبية‪ :‬إنها قبيلُة «المريتوقراطية» حيث تكون الكفاءة‬
‫والقدرة السبيل إلى التقدم واإلنجاز‪.‬‬
‫ما إن عدُت إلى األردن حتى بدأت فورًا بالعمل على تحويل هذه الرؤيا إلى واقع ملموس‪ ،‬وبادرت‬
‫إلى دعوة صفوان مصري‪ ،‬األردني المقيم في أميركا أستاذًا في جامعة كولومبيا في نيويورك‪ ،‬لقيادِة‬
‫المشروع‪ .‬كذلك استطعت إقناَع صديقي «جيج»‪ ،‬الذي كان آنذاك من كبار مسؤولي المجموعة‬
‫المصرفية «سيتيكورب»‪ ،‬للمساعدة في تأمين مصادر التمويل‪ .‬على مدى بضع سنوات انشغَل‬
‫صفوان و«جيج» مع فريق صغير من مساعديهما بجمع األموال‪ ،‬واختيار موقع المشروع‪ ،‬والعثور‬
‫على مهندٍس معمار يعرف كيف يحيُل فكرَة المشروع صرحًا ينبُض بالحياة‪.‬‬
‫عثرنا على موقٍع رائٍع على بعد خمسة عشر ميًال جنوبَّي عمان قرب مدينة مادبا‪ ،‬موطن خريطة‬
‫«فسيفساء مادبا»‪ ،‬إحدى أقدم خرائط األرض المقدسة من القرن السادس الميالدي والتي تغطي‬
‫كنيسة القديس جورج للروم األرثوذكس‪ .‬ويتميز الموقع أيضًا بقربه من الطريق التاريخي المسّم ى‬
‫«طريق الملوك» وهو طريق تجاري قديم كان يربط ما بين هيليوبوليس في مصر والعقبة عبر‬
‫صحراء سيناء‪ ،‬ثم ينعطف شماًال عبر األردن ويكمُل نحو دمشق لينتهي في الرصافة على ضفاِف‬
‫الفرات‪.‬‬
‫بدأنا إنشاء المباني في ‪ 22‬تموز‪/‬يوليو من العام ‪ ،2004‬لكنني كنت واعيًا تمامًا أنني إذا شئت حّقًا‬
‫أن أنشَئ مؤسسًة تربوية تتخذ من روح ديرفيلد ونهجها أساسًا لعملها‪ ،‬فسوف نكون حتمًا بحاجة إلى‬
‫أكثر من مجرد مباٍن حديثة وتجهيزاٍت متطورة‪ .‬كان إريك ويدمر‪ ،‬المدير الرابع لديرفيلد منذ العام‬
‫‪ ،1902‬سيتقاعد من إدارة المدرسة في العام ‪ 2006‬وقد اعتبرُت هذه المصاَدفة الزمنية فرصتي‬
‫الذهبية واستطعت إقناَعه بأن يكون هو المدير المؤسس لـ«كينغز أكاديمي»‪.‬‬
‫عندما عدت إلى ديرفيلد في العام ‪ 2005‬لحضور اللقاء السنوي الخامس والعشرين لخريجي‬
‫دورتي المدرسية أثاَر خبُر تأسيس «كينغز أكاديمي» حماسة رفاق صفي وإعجاَبهم فدعوُتهم جميعًا‬
‫لزيارة األردن‪.‬‬
‫وبالفعل شهَد شهر آب‪/‬أغسطس من ذلك الصيف زيارَة حوالى مئة شخص من خريجي صفي‬
‫وأفراد عائالتهم الذين جاؤوا إلى مادبا ليروا المدرسة الجديدة ومن ثم ليدوروا زائرين في أرجاء‬
‫األردن‪ .‬معظمهم يزوُر الشرق األوسط ألول مرة‪ ،‬وقد عّبر الجميع عن تقديرهم لما قابَلهم به‬
‫األردنيون من الكرم وُح سن االستقبال‪ .‬إثباتًا لكون روح التآلف والتضامن ال تزال قويًة وراسخة‬
‫لدى خريجي العام ‪ ،1980‬استطاعوا أن يجمعوا أكثر من مليون دوالر من الدعم المالي لكينغز‬
‫أكاديمي‪ ،‬وهم ال يزالون حتى يومنا هذا يقّدمون ما في وسِع هم من الدعم للمدرسة ويخّص ونها بما‬
‫أمكن من وقِتهم ومالهم‪.‬‬
‫في السنة التالية ُدعيت أيضًا أللقي كلمَة االحتفال بالتخرج وقبلُت الدعوَة بكل سرور‪ ،‬وفي الثامن‬
‫والعشرين من أيار‪/‬مايو من العام ‪ 2006‬وقفت مرًة ثانية في ذلك السرادق ذي الخطوِط الخضراء‬
‫والبيضاء ورحُت أجول بنظري على أولئك الشباب والشابات الذين َتغمرهم الفرحُة بنهاية مرحلٍة‬
‫وبدء ما بعَدها‪ .‬كان إريك ويدمر يترأُس احتفاَل التخرج األخير بوصِفه مديرًا للمدرسة‪ ،‬وخالَل‬
‫إلقائه كلمَة االفتتاح استداَر نحوي وقال‪« :‬تراوُدني رغبٌة شديدة في أن أقِّد َم َك بوصِفك رئيسي‬
‫الجديد‪ ،‬ثم تلُّح علّي رغبٌة أخرى في القول بأن ال مهرَب لَك من أن تكوَن لطيفًا معي‪ ،‬وإن كنَت‬
‫رئيسي‪ ،‬ألنه يبدو من األرجح أنني سأكون مشرفًا على تعليم أوالدك»‪ .‬صدقَت ‪ ،‬يا دكتور ويدمر‪،‬‬
‫إنه الحلُم الذي َأنتظُر لحظَة تجسيِده‪ ،‬يوَم أرى أوالدي وسواهم من أبناء األردن والجوار بدأوا‬
‫ينهلون في كينغز أكاديمي من معين المعرفِة وحريِة الفكر الذي نهلُت أنا منه في ديرفيلد‪.‬‬
‫في المالحظات والنقاط التي تطرقُت إليها في خطابي شددت على أهمية إقامة روابط متينة كهذه‬
‫بين الشرق األوسط وأميركا‪ ،‬وتحدثت عما أحلم به بالنسبة إلى كينغز أكاديمي‪« :‬إننا عازمون على‬
‫حمل النموذج الذي تمثله ديرفيلد وزرِع جوهِر ه وُم ُثِله في منطقتنا»‪ ،‬ثم أضفت شارحًا‪« :‬هذا‬
‫الجوهُر المتمثل بمدرسٍة داخليٍة مختلطة يكون التواصُل فيها بين المعلم والطالب صحّيًا ومستمّر ًا‪،‬‬
‫والدروُس األكاديمية موضَع تشجيٍع واهتماٍم دائمين‪ ،‬والحياُة الطالبية يغّذيها التنافُس في مجاالِت‬
‫الرياضة والفنون الحية والخدمات االجتماعية الحقيقية»‪ .‬ولكي نوّفر لطالبنا أفضل مستويات‬
‫المنافسة في اقتصاٍد حديٍث ومعولم قررنا اتباَع منهج تعليم أميركي متقدم‪ ،‬كما قررنا أن يكون تعليم‬
‫المواد جميعًا باللغة اإلنكليزية‪ ،‬إضافة إلى دروس في اللغة العربية وقواعِدها وآداِبها ودروس في‬
‫سياسات الشرق األوسط وفي األديان وعلِم االجتماع‪ .‬كذلك أردُت أن تكون المدرسة مخَتَلطًة بين‬
‫فتيٍة وفتيات‪ ،‬صحيح أن ديرفيلد كانت ُتقَتصر على الصبية عندما كنُت أنا هناك‪ ،‬لكن بدَأْت تقبُل‬
‫الطالبات بعد مرحلتي ببضِع سنوات وذلك في العام ‪ .1989‬كنُت أعي تمامًا أن البعض في األردن‬
‫والمنطقة سيعترض على فكرة التعليم المختَلط‪ ،‬لكن هذا لم يزحزحني قيَد أنملة عن اعتقادَي الراسخ‬
‫بأن فتياِتنا يجب أن َيحصلن على الُفرِص والمجاالِت نفسها التي تتاح لفتياِننا‪.‬‬
‫في تموز‪/‬يوليو من العام ‪ 2006‬رسمُت الدكتور ويدمر مديرًا للمدرسة في احتفاٍل صغير‪ ،‬تناولنا‬
‫من بعده العشاَء معًا في قاعة الطعام في كينغز أكاديمي وجلسنا حوَل موائَد مستديرة تسهيًال للنقاش‬
‫والتواصل بحسب التقليد المتبع في ديرفيلد‪ .‬فريق التصميم والبناء كان قد أنجَز عمًال رائعًا بالفعل‪،‬‬
‫فقد اشتمَل الموقع‪ ،‬الذي بلَغْت مساحُته ما يزيد على ‪ 607‬دونمات‪ ،‬على أكثر من عشرين مبنى‪،‬‬
‫باإلضافة إلى المالعب الرياضية المتعددة والواسعة‪ .‬من بين المنشآت أيضًا مسرٌح للعروض الفنية‬
‫والتمثيلية‪ ،‬وقاعُة طعام‪ ،‬وقاعة للرياضة‪ ،‬ومكتبة‪ ،‬وبناٌء لإلقامة والنوم للفتيات وبناء آخر للفتيان‪،‬‬
‫ومركز روحي‪ .‬اكتملت األبنية‪ ،‬ولم يبَق أماَم نا سوى أن نمَألها بمن َيشغُلها ويبُّث فيها الحياَة والعمَل‬
‫المجدي‪.‬‬
‫على مدى السنة التالية عمَل إريك ويدمر وفريُقه دون كلٍل وال ملل بحثًا عن معلمين من ذوي‬
‫الكفاءات العالية‪ ،‬وجاؤوا بعدٍد منهم من الواليات المتحدة‪ ،‬يمتلكون خبرًة واسعة في مجال المدارس‬
‫الداخلية‪ .‬كما كان عليه وفريقه أن ينظموا إجراءاِت الَقبول وتسّلم طلبات االنتساب من طالِب الصف‬
‫األول من صفوف المدرسة‪ .‬جال ويدمر ومساعده في معظم بلدان الشرق األوسط واصفين‬
‫وشارحين فكرَة المدرسة الداخلية المختَلطة التي ُتعطي دروَسها في كل المواد باإلنكليزية‪ ،‬موّج هين‬
‫شرَح هم إلى األمهاِت القلقات واآلباء المتهّيبين الفكرة‪ .‬وبما أن فكرَة المدرسة الداخلية‪ ،‬وزْد عليها‬
‫المختَلطة‪ ،‬كانت فكرًة جديدة وغير مألوفة على اإلطالق‪ ،‬أبدى بعض ذوي الطلبة المحَتَم لين تخوفًا‬
‫وحذرًا‪ ،‬ولكْن كثيرون رَأْو ا في المشروع ومنهجيته التربوية مصلحًة وفائدًة لمستقبِل أوالدهم‪.‬‬
‫ليس باألمر السهل إطالُق مؤسسٍة تعليمية جديدة بهذه المواصفات العالمية المتمِّيزة وبهذا الحجم‬
‫انطالقًا من الصفر‪ ،‬لكن إريك ويدمر وفريقه أنجزوا ما ُيشبه األعجوبة‪ .‬لقد جالوا زوايا األرِض‬
‫األربع بحثًا وتدقيقًا ليعودوا بفريٍق من المعلمين على أعلى درجاِت الكفاءة والخبرة والمهنية‬
‫المتمّيزة‪ .‬كذلك استطاعوا َص ْو َغ المنهج التعليمِّي واألسِس التي يقوم عليها‪ ،‬وضَّم نوه بعَض العناصر‬
‫غير الملموسة‪ :‬مجموعة القيم والمبادئ التي تقوم عليها المؤسسة‪ .‬وإذا كانت ديرفيلد قد َعَبرْت‬
‫عشرين عقدًا من الزمن لكي ُتراكَم ما بات ُيعرف بـ«تراث ديرفيلد» أو «طريقة ديرفيلد» فقد راَح‬
‫إريك ويدمر ُينِبُت التراَث والتقاليد في كينغز فيما كانت الحجارُة ال تزال ُترَفع جدرانًا والمناهج ال‬
‫تزال ُتدرُس وُتصاغ‪.‬‬
‫افتتحت كينغز أبواَبها في آب‪/‬أغسطس من العام ‪ ،2007‬وفيما عازفا القرب َيعزفان لحَنهما‬
‫المألوف اجتمَع أفراُد الهيئة التعليمية وأعضاُء مجلس األمناء في إحدى باحات الحرم المدرسّي‬
‫وألقى بعُض هم كلماٍت افتتاحيًة قصيرة شَّكلت إشارَة االنطالق في الفصل الدراسي األول‪ .‬ضَّم صف‬
‫الدخول األول مئًة وستَة طالب من األردن ومصر وفلسطين وبعِض دول الخليج العربي‪ .‬كذلك كان‬
‫من بينهم طالٌب من الواليات المتحدة ومن بلداٍن أخرى بعيدة كتايوان‪ .‬انقسَم الستُة والستون صبّيًا‬
‫واألربعون فتاًة على الصفين التاسع والعاشر‪ ،‬كما انقسموا بين طالب داخليين بالكامل وآخرين‬
‫نهاريين كان معظُم هم يأتي من عمان ويعود إليها يوميًا‪ .‬في السنة التالية انضَّم إلى المدرسة أكثر من‬
‫مئٍة وخمسين طالبًا وطالبة جددًا التحقوا بصفوِفهم في بدايِة السنة الدراسية في آب‪/‬أغسطس رافعين‬
‫مجموَع عدد الطالب إلى مئتين وخمسين طالبًا وبقيْت نسبُة توّز عهم بين إناٍث وذكور على ما كانت‬
‫في السنة األولى‪ ،‬أربعين في المئة لإلناث وستين في المئة للذكور‪ .‬اشتملت المجموعُة الجديدة على‬
‫ممثلين لجنسياٍت بلغ مجموُعها إحدى وعشرين جنسيًة بما فيها العراقيُة واألفغانية‪ .‬أما في آب‪/‬‬
‫أغسطس من العام ‪ 2009‬فقد افَتتحت كينغز عاَم ها الدراسَّي بأربعمئة طالب وطالبة من أربعة‬
‫وعشرين بلدًا‪.‬‬
‫كان من بين الطالِب الجدد ابني حسين‪ .‬فرانيا وأنا‪ ،‬ككِّل أبوين‪ ،‬نريد ألوالِدنا أفضَل مستوياِت‬
‫التعليم والتربية‪ ،‬ولذلك كنت قد فكرُت في إرساله إلى الخارج لتلقي تعليِم ه على غرار ما حدث لي‪.‬‬
‫لكن ليس سهًال على األبوين إرساُل ولِدهما ليتلقى تعليَم ه على ُبعد آالف األميال‪ .‬والحمد هلل أنه‬
‫أصبح لدينا اآلن مدرسٌة محلية يستطيُع أن ينهَل منها تعليمًا ال يقُّل مستوى‪ ،‬ال بل يناِفُس ‪ ،‬المستوى‬
‫الراقي الذي أتيَح لي في أميركا‪.‬‬
‫أفراُد العائلة المالكة في األردن‬ ‫الواقع الذي يبدو أْن ال مهرَب منه هو شبُه االستحالة في أن يتمكَن‬
‫حسين أن يرّتب سريَر ه‪ ،‬وأن‬ ‫من العيش حياًة عاديًة وطبيعيًة بصورٍة كاملة‪ .‬مع ذلك فقد تعّلَم‬
‫يتشارَك الحماَم مع طالٍب آخر‪ ،‬وأن يخدَم طالبًا آخرين على موائِد الطعام‪ .‬عندما عاَد إلى المنزل في‬
‫عطلِة األسبوع األولى‪ ،‬كنا أنا ورانيا وسائر أفراد العائلة قد افتقدنا وجوَده الدائَم بيننا‪ ،‬وما إن دخَل‬
‫حتى قال‪« :‬مرحبا‪ ،‬لدَّي فروٌض ودروٌس كثيرة‪ ،‬سأراكم الحقًا»‪ .‬حسين مستعجل إلتمام فروِض ه‬
‫المدرسية؟‪ ..‬إنها حقًا مفاجأة‪ ..‬لكن ساّر ة دوَن ريب‪.‬‬
‫من األهداف التي أوُّد للمدرسة أن تحقَقها توسيُع دائرِة التنّو ع فيها‪ ،‬ليس فقط من حيث تعّدُد‬
‫جنسياِت طالبها وإنما أيضًا من حيث الخلفياُت االقتصاديُة واالجتماعية لهؤالء الطالب‪ .‬بعض‬
‫أصدقائي المقربين من ديرفيلد جاؤوا المدرسَة بمنٍح مدرسية‪ ،‬وقد أدركُت بفرٍح كبير القيمَة الكبرى‬
‫التي تكتسُبها المدرسة والمجتمع الذي تنتمي إليه جراَء مساعدِة الموهوبين من فتياٍت وفتيان في‬
‫تسّلق سَّلِم اإلنجازات والعطاء بقدر ما تسمُح لهم مواهُبهم‪ .‬أما نحن فقد استطعنا أن نوّفر لنصف‬
‫الطلبة تقريبًا مساعداٍت ماليًة مبنيًة على عنصِر الحاجة الحقيقية‪ ،‬وبذلك تمكنت المدرسة من‬
‫استقطاِب ‪ -‬وبالتالي قبول ‪ -‬أكثر الطالب موهبًة وتفوقًا دونما النظر إلى خلفياِتهم وقدرات ذويهم‬
‫االقتصادية‪ .‬اتخذنا قرارًا بأن ُيعطى الطالُب ‪/‬الطالبة األول‪/‬األولى في كل محافظٍة من المحافظات‬
‫األردنية االثنتي عشرة‪ ،‬باإلضافة إلى الطالب أو الطالبة األول‪/‬األولى في مخّيماِت الالجئين‬
‫الفلسطينيين‪ ،‬منحًة دراسية‪ .‬لقد توليُت شخصّيًا تأميَن ثالثين منحًة دراسية لثالثين طالبًة وطالبًا‬
‫ضمن برنامج منح يعرف ببرنامج «طلبة منحة الملك» وبقيُت متاِبعًا مسيرة هؤالء الطالب الدراسية‬
‫وتطوَر ها‪ .‬ومما يثبُت مرًة جديدة ومتكررة أن الفقَر المادَّي شيٌء والغنى العقلَّي والفكرَّي شيٌء آخر‪،‬‬
‫أن سبعين في المئة من الطلبة الذين احتلوا قائمَة الشرف في العام ‪ 2008‬كانوا من الذين يتلَّقْو َن مَنحًا‬
‫دراسية‪ .‬هؤالء هم فتياُننا وفتياُتنا الذين يبلغون‪ ،‬متى أتيحْت لهم الفرص‪ ،‬أقصى ما ترَفُعهم إليه‬
‫مواهُبهم وقدراُتهم العقلية المتفوقة‪.‬‬
‫داخل المدرسة َيلقى الطالُب جميعًا المعاملَة ذاَتها وُتساوي بينهم أنظمُة المدرسة مساواًة كاملة‪:‬‬
‫كما تقضي تقاليُد ديرفيلد وعاداُتها النبيلة‪ ،‬لكِل طالب وطالبة دوُر ه في الخدمة على موائد الطعام‪،‬‬
‫والكُّل يرتدي الزَّي المدرسَّي نفَسه‪ ،‬السترة التي تحمُل شعاَر المدرسة وربطَة العنق والسروال‪ .‬لكن‬
‫خارَج حرم المدرسة كان كثيرون من الطلبة يتمتعون بمباهَج وامتيازاٍت اجتماعية لم تكن متوافرة‬
‫للذين يدرسون بمنٍح دراسية‪ .‬هذا ما أوحى لي أن أنِّظ م للطلبة الثالثين الذين أرعى شخصّيًا دراسَتهم‬
‫رحلًة ينصبون خاللها خياَم هم ويتمتعون بالطبيعة‪ .‬أخذُتهم إلى وادي َر ّم ؛ وهو من أروع معالِم‬
‫األردن الطبيعيِة وأكثِر ها شهرًة‪ ،‬وقد وصَف تي إي لورنس وادي َر ّم بأنه «امتداٌد طبيعٌي فسيُح‬
‫األرجاء‪ ،‬ذو أصداء ال متناهية»‪ .‬يرتفُع بعُض الُكَتِل الصخرية في الوادي ما يقارُب ‪ 300‬متر فوق‬
‫رمال الصحراء‪ ،‬وفوق هذه الصخور العمالقة يقع جبُل َر ّم الذي يبلغ ارتفاُعه ‪ 1524‬مترًا وهو‬
‫الجبل الثاني من حيث االرتفاع في األردن‪ .‬طرنا على ارتفاٍع منخفض فوَق هذه التكويناِت‬
‫الصخرية ثم اتجهنا إلى الموقِع الذي اعتزمنا نصَب خياِم نا فيه وهو في العمِق من قلب الوادي‬
‫الكبير‪.‬‬
‫كنا قد نصبنا خيامنا على مّتَسٍع من األرض‪ ،‬وجئنا بسيارات ال تعوقها وعورٌة وال رمال‪ ،‬كما‬
‫حملنا مجموعًة من األلعاب وبعَض األسلحة للتمرن على الرماية‪ .‬بعد مغيب الشمس تحّلق الطالُب‬
‫حوَل بضعة مواقد ُأشِع لت فيها النار وبدأت حفلُة شواء اللحم على الطريقة التقليدية‪ ،‬بأن ُيلَّف اللحُم‬
‫ويغَّلف جيدًا‪ ،‬وُيطمر تحت الرمال ويصاَر إلى إشعاِل النار فوَقه وترِك ه ينضُج على مهل‪ .‬بعد‬
‫العشاء جلسُت متربعًا على الرمل وأحاَط بي الطالُب الثالثون جميعًا ومواقُد النار في الوسط‪ .‬كان‬
‫بينهم فتاٌة كردية من العراق‪ ،‬وفتاٌة يتيمٌة من أفغانستان‪ ،‬وفتاة باكستانية‪ ،‬وطلبة وطالبات من كل‬
‫أنحاء األردن‪ .‬جلسنا حول مواقِد النار وامتدت بنا األحاديُث ثالث ساعات متأرجحين بين اللغتين‬
‫العربية واإلنكليزية‪ ،‬وقد أمطَر ني الطالُب بكل ما خطَر في بالهم من األسئلة ابتداًء من كيف لك أن‬
‫تصَف مهمَة الملك‪ ،‬وصوًال إلى التساؤِل عن سياساِت الشرق األوسط‪ .‬قلت لكل واحد منهم إنني‬
‫سوف أساعُده في الدخول إلى الجامعة حتى التخرج‪ ،‬أما الطلبُة من غير األردنيين فقلُت لهم إنني‬
‫آمُل أن َيستخدموا المعارَف التي يكتسبوَنها في مساعدِة بالِدهم واإلسهاِم في تنميتها‪ ،‬وما كان منهم‬
‫إال أن وعدوا بقلوب مفعمة باإلرادة والعزم بأنهم لن يتوانوا في ذلك‪ .‬لقد َم َأل أولئك الفتيُة والفتيات‬
‫ساعاتي الثالث باألسئلة والنقاش حتى كدت ال أجُد اللحظَة الكافية لتناول لقمٍة من ذلك العشاِء‬
‫الشهّي ‪ ،‬لكّن الحديَث المشّو ق بمستواه الرفيع وتركيِز ه على الشؤون الجدية مع فتيٍة وفتياٍت في هذه‬
‫المرحلة من الحياة‪ ،‬حمَل إلَّي ِغ ذاًء روحّيًا كافيًا وافيًا‪ .‬التفُّت إلى «جيج»‪ ،‬الذي رافَقني في تلك‬
‫الرحلة‪ ،‬وقلُت له‪« :‬عليَك أن تجَد لي مزيدًا من هذه النوعية من الطالب مهما كلف األمر‪ .‬إن‬
‫االستثمار في هؤالء الطالب سيعود على األردن والمنطقة‪ ،‬دون أدنى ريب‪ ،‬بحصاد وفير وخير ال‬
‫يوصفان»‪.‬‬
‫وأخيرًا َأوى كٌل منا إلى مضجِع ه‪ ،‬لنعوَد في الصباح التالي وننهَض مع طلوِع الفجر‪ ،‬وألعوَد إلى‬
‫تمضيِة ساعاٍت أخرى من األحاديث والنقاش مع الطلبة‪ .‬لقد أظهروا من االندفاع والحماسة‬
‫والتعاطف مع اآلخرين ما يكُبُر به قلُب أّي إنسان‪ .‬في إطار قيامي بواجباتي ملكًا ومسؤوًال ألتقي‬
‫العديد من األفراد وقادة الرأي من ذوي العقل الراجح الذين يوحون بالثقة واألمل الكبيرين‪ ،‬لكن تلك‬
‫الرحلة إلى أحضان الطبيعة مع طالب كينغز أكاديمي كانت قمَة الفرح الذي َح ملْته إلّي تلك السنة‪.‬‬
‫في حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ 2010‬غمرني الفخر واالعتزاز فيما كنت أسِّلم شهاداِت التخرج إلى‬
‫أربعٍة وثمانين خريجًا وخريجًة‪ ،‬وهُم الفوُج األول من خريجي كينغز أكاديمي‪ ،‬وكل هؤالء كانوا في‬
‫طريقهم للدخول إلى الجامعة‪ .‬أربعَة عشَر طالبًا وطالبًة منهم كانوا سيكملون تعليَم هم الجامعَّي في‬
‫عدد من أفضل جامعاِت الشرق األوسط‪ ،‬وعشرة منهم كانوا ينوون الدراسَة في بريطانيا‪ ،‬فيما اختار‬
‫تسعة منهم كندا لدراسِتهم الجامعية‪ .‬أما نخبُة الجامعاِت األميركية‪ ،‬هارفرد وستانفورد وييل وبراون‬
‫وكولومبيا وكورنيل وبرنستون وجونز هوبكنز وجورجتاون‪ ،‬فقد كان نصيُبها مجتمعًة أربعًة‬
‫وأربعين من خّر يجينا‪.‬‬
‫إنني على يقين من أن كًال منهم سيكون مسلحًا بخزيٍن وافٍر من المعرفِة وروِح العمل والعطاء ما‬
‫يكفيه مؤونًة للخروِج إلى العالم واجتراِح اإلنجازات الكبرى‪ .‬أملي الكبير أن يكوَن كٌّل منهم قد حاَك‬
‫تلك الُعرى الوثيقة من الصداقات التي أتيح لي بناؤها في ديرفيلد‪ ،‬وأن ُتزهَر وتؤتي ثماَر ها تلك‬
‫البذور التي ُز رعت هناك‪ ،‬في الصحراء‪ ،‬فُتنبَت لنا جيال جديدًا من القادة الذين سينشرون في أرجاِء‬
‫منطقتنا‪ ،‬شرِقها والغرب‪ ،‬جنوِبها والشمال‪ ،‬رسالَة العمِل الجاد‪ ،‬والفضول الفكرّي والعلمّي ‪ ،‬وعلى‬
‫األخص التسامح والتآلف‪.‬‬
‫لقد أحزَنني حزنًا عميقا أن أحَد الطلبِة الثالثين الذين رَعْيُت شخصّيًا مسيرَتهم المدرسية لم يكن‬
‫بين الخريجين‪ .‬أحمد الطراونة‪ ،‬وهو شاٌب من الكرك لم يكن قد درَس باللغة اإلنكليزية من قبل‪ ،‬كان‬
‫واحدًا من أفضِل الطالب في صفه‪ ،‬وكان ينوي تقديَم طلٍب لالنتساب إلى إحدى الجامعات في الغرب‬
‫لدراسِة الهندسة‪ ،‬لكَّن القدَر خطَفه من بيننا في حادِث سيارٍة ُم فجع قبَل تخّر جه بشهرين فقط‪ .‬لقد‬
‫شعرُت بأنني فقدُت واحدًا من أوالدي‪.‬‬
‫كّلنا تذكرنا أحمد خالل احتفال التخرج‪ ،‬وكان رفاُق صفي في ديرفيلد قد تبرعوا لكينغز بجائزٍة‬
‫ُتقَّدم باسِم الملك عبد هللا الثاني إلى الطالب أو الطالبة الذي‪/‬التي تجّسُد في شخصيِتها وتصرفها‬
‫جوهَر المبادئ التي تعتمدها كينغز من االحترام‪ ،‬وحِّب التعُّلم‪ ،‬والمسؤولية‪ ،‬والحياة المتكاملة‪،‬‬
‫والمواطنِة العالمية‪ .‬لقد ُقدمت هذه الجائزة إلى أحمد رحمه هللا‪.‬‬
‫سوف تبقى هذه المدرسة‪ ،‬بل هذا الصرُح التربوّي ‪ ،‬من أحب إنجازاتي إلى قلبي وأكثِر ها مدعاًة‬
‫للفخر واالعتزاز‪ .‬سوف تمتلك كينغز أكاديمي كامَل حقوق النشر للنسخة اإلنكليزية من هذا الكتاب‪،‬‬
‫وسوف تغذي عائداُته المالية صندوَق المنح المدرسية للطالب المحتاجين‪.‬‬
‫ع‬
‫ب‬
‫ر‬
‫ل‬
‫ا ا‬

‫م‬
‫س‬
‫ق‬
‫ل‬
‫ا‬
‫الفصل السابع عشر‪ :‬القـدس جوهر الصـراع‬

‫في السابع عشر من أيار‪/‬مايو من العام ‪ ،1999‬وفيما أنا ُأعّد للقيام بزيارتي األولى للواليات‬
‫المتحدة ملكًا لألردن‪ ،‬توّج ه اإلسرائيليون إلى مراكز االقتراع بعد أن كانت العملية السلمية قد‬
‫أصيبت بالشلل مع توّلي بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة‪ .‬بدأنا جميعا نستبشُر بأن تأتينا االنتخابات‬
‫بقائٍد جديد يحمل معه دفعًا جديدًا لتلك العملية‪ .‬كان نتنياهو وعرفات قد وّقعا في السنة السابقة تفاهمًا‬
‫أراداه إطارًا للسير ُقُدمًا بعملية السالم‪ ،‬وهو التفاهم الذي ُسّم ي مذّكرة واي ريفر‪ .‬هذا التفاهم الذي‬
‫ناَل دعمًا الفتًا من والدي وهو في األشهر األخيرة من حياته‪ ،‬والذي نّص على مزيد من االنسحابات‬
‫المرحلية من الضفة الغربية‪ ،‬بدا مخرجًا واعدًا‪ .‬لكن ما إن مضت بضعة أشهر‪ ،‬وبعد تنفيذ المرحلة‬
‫األولى فقط من مراحل االنسحاب الثالث‪ ،‬حتى أخذ نتنياهو يضع العوائق في سبيل تنفيذ ما تَّم‬
‫التفاهم عليه‪ ،‬وراح يماطل حتى باتت مذِّك رة واي ريفر بحكم الميتة‪ .‬في ظل االنتخابات الجديدة كان‬
‫أمُلنا‪ ،‬في األردن وفي العالم العربي‪ ،‬أن يأتي رئيس جديد للحكومة قادر على إنعاش عملية السالم‬
‫والسير بها إلى األمام‪.‬‬
‫أظهرت االستطالعات أن إيهود باراك‪ ،‬رئيس أركان الجيش اإلسرائيلي سابقًا والضابط األكثر‬
‫أوسمًة في هذا الجيش‪ ،‬كان في طليعة المرشحين‪ .‬كان في صفوف القوات الخاصة‪ ،‬وحين غادر‬
‫الجيش وخاض غمار العمل السياسي قرر رفَع لواء صنع السالم‪ .‬اكتسَح باراك االنتخابات وكان‬
‫فوزه كبيرًا‪ ،‬وقد ُأعِلنت النتائج فيما كنُت في واشنطن ألتقي الرئيس كلنتون في البيت األبيض‪.‬‬
‫استبشر كالنا خيرًا بأنه سوف ينجح حيث َفِشَل نتنياهو‪ ،‬وسوف يتخذ الخطوات الجريئة الضرورية‬
‫لتحقيق السالم بين إسرائيل والفلسطينيين‪.‬‬
‫كانت زيارتي الرسمية األولى إلسرائيل في نيسان ‪/‬إبريل من العام ‪ ،2000‬بعد أن أّج لُت زيارة‬
‫كانت محددة قبلئٍذ بشهرين ألن إسرائيل هاجمت عشوائيًا أهدافًا في جنوب لبنان‪ .‬غادرت العقبة مع‬
‫الوفد المرافق باتجاه إيالت حيث استقبَلنا باراك ورافَقنا في جولٍة على أحد مرافق صيد األسماك‪ ،‬ثم‬
‫أخَذنا إلى أحد الفنادق حيث دعانا إلى غداء عمل‪ .‬بحثنا في ما كانت محادثاُت الوضع النهائي قد‬
‫تناَو لْته من نقاشاٍت في شرم الشيخ في أيلول‪/‬سبتمبر من العام ‪ 1999‬والتي كان من المفترض أن‬
‫تؤدي إلى اتفاٍق شامل‪ .‬قلت لباراك‪ ،‬بكالٍم واضٍح وصريح‪ ،‬إنه إذا شاء للعالقات أن تتحسن بين‬
‫األردن وإسرائيل فعليه أن يحقق تقدمًا حقيقّيًا وملموسًا مع الفلسطينيين‪.‬‬
‫فيما كانت والية كلنتون على وشك أن تنتهي كان رئيس الحكومة اإلسرائيلية يبذل جهودًا جدية‬
‫لخلق ُم ناخ سياسّي يتيح لإلسرائيليين والفلسطينيين أن يتوصلوا إلى اتفاق سالم دائم‪ .‬شهد صيف‬
‫العام ‪ 2000‬نشاطًا دبلوماسّيًا كبيرًا ومتواصًال دار كله حول عملية السالم‪ .‬في شهر أيار‪/‬مايو سحَب‬
‫إيهود باراك القوات اإلسرائيلية من جنوب لبنان بعد احتالل دام عقدين تقريبًا‪ .‬لكن االنسحاب لم يكن‬
‫كامًال فقد أبقت إسرائيل قبضَتها على مزارع شبعا وبعض المواقع اللبنانية األخرى‪ .‬لو أن القوات‬
‫اإلسرائيلية أكملت انسحابها من جنوب لبنان لما كنا شاهدنا نزاعاٍت أخرى بعدئذ‪ ،‬ومن هنا فإن قرار‬
‫وقف االنسحاب قبل إكماله كان عائقًا مؤسفًا وكانت تداعياُته باهظَة الثمن‪.‬‬
‫في إقرار بجدوى المفاوضات التي جرت بين أنور السادات ومناحم بيغن في كامب ديفد في العام‬
‫‪ ،1978‬دعا الرئيس كلنتون باراك وعرفات إلى قمٍة بينهما في كامب ديفد في شهر تموز‪/‬يوليو‬
‫وكان الهدف منها تسريع التقدم في محادثات السالم التي كانت متعثرة‪ ،‬وبالتالي لبذل أقصى الجهود‬
‫الممكنة لبلوغ اتفاٍق نهائي‪ُ .‬قبيل مغادرة القائدين إلى الواليات المتحدة التقيت كًاّل منهما على حدة‪.‬‬
‫ذّكرُت كًال من الرجلين بالجهود المضنية التي بذلها والدي مع الرئيس كلنتون‪ ،‬وبالتضحيات التي‬
‫قّدمها لدفع عملية السالم نحو نهاياتها السعيدة‪ ،‬وها هو ذا الرئيس كلنتون قد قرر أن يجهد من أجل‬
‫الوصول إلى التسوية النهائية‪ .‬لقد أراد أن يزيل من طريق االتفاق الخطوات الباقية من االنسحابات‬
‫المرحلية من الضفة الغربية‪ ،‬ومن َثَّم أن يضع الشروط المقبولة من الطرفين اإلسرائيلي والفلسطيني‬
‫إلقامة الدولة الفلسطينية‪ .‬قلُت لهما إن علينا أن نحرَص على عدم إضاعة هذه الفرصة‪.‬‬
‫اتجه عرفات وباراك إلى كامب ديفد في الحادي عشر من تموز‪/‬يوليو حاملين معهما آمال شعوب‬
‫المنطقة وتمنياتها بأن يحققا تسويًة سلمية للصراع الذي يكاد يختصر تاريخ الشرق األوسط على‬
‫مدى ستين عامًا‪ .‬لكن المؤسف أن هذه اآلمال ذهبت كلها أدراج الرياح ولم تؤِت ثمارًا‪ .‬على مدى‬
‫أكثر من أربعَة عشَر يومًا من المفاوضات في كامب ديفد بلَغ الفريقان خالَلها أقرَب ما بلغاه في أّي‬
‫يوٍم مضى من إنجاز االتفاق‪ .‬لكّنهما وقفا عاجَز ْين عن اتخاذ الخطوة األخيرة‪ .‬من بين المسائل‬
‫األربع المتعلقة بالوضع النهائي والتي تناولتها المفاوضات‪ ،‬بقيت القدس ومسألة الالجئين‬
‫الفلسطينيين النقطتين األكثر وعورًة واألعمق خالفًا‪.‬‬
‫قدم باراك عرضًا تجاوَز فيه كل ما سبَقه من عروض إسرائيلية‪ ،‬لكن بالنسبة إلى المفاوضين‬
‫الفلسطينيين لم يكن العرض مقبوًال‪ُ .‬تبقي إسرائيل‪ ،‬بموجب عرض باراك‪ ،‬عشرة في المئة من‬
‫أراضي الضفة الغربية تابعًة لها نهائيًا‪ ،‬كما ُتبقي عشرة في المئة إضافية تحت سيطرتها لمدة‬
‫عشرين سنة‪ .‬أما عودة الالجئين فجرى التعامل معها في إطار َلِّم الشمل العائلي‪ ،‬فيما اسُتبعد حق‬
‫العودة كلّيًا‪ .‬أما في ما يتعلق بالقدس‪ ،‬فلم ُيعرض على الفلسطينيين سوى سلطٍة إدارية على األماكن‬
‫المقدسة في المدينة القديمة‪ ،‬وهو أقل بكثير من السيادة الكاملة على القدس الشرقية التي يطالبون بها‪.‬‬
‫ال شك في أن الفلسطينيين كانوا راغبين في فتح ثغرٍة في الحائط المسدود‪ ،‬لكن عرفات شعر بأنه‬
‫ال يستطيع أن يوقع اتفاقًا يضّح ي فيه بحقوق أكثر من خمسة ماليين فلسطيني‪ ،‬ويعطي إسرائيل‬
‫السلطة الكاملة على القدس الشرقية‪.‬‬
‫على الرغم من أن عرفات وباراك أظهرا شجاعًة كبيرة في مفاوضاتهما‪ ،‬فقد بدأت االتهامات‬
‫والتراشق بأسباب الفشل فور انتهاء االجتماع‪ ،‬يرميها كٌّل من الفريقين على اآلخر‪ .‬وأخيرًا توقفت‬
‫المفاوضات وانتهى اللقاء بالفشل في ‪ 25‬تموز‪/‬يوليو‪ .‬في األشهر التالية تزايدت مشاعر الخيبة لدى‬
‫الفلسطينيين في ضوء تالشي الرغبة اإلسرائيلية في الوصول إلى اتفاٍق معهم‪ .‬أما إيهود باراك فكان‬
‫على مشارِف انتخاباٍت نيابية جديدة‪ ،‬وبدا واضحًا أن استعداَده للتنازِل عن مزيٍد من األراضي في‬
‫الضفة الغربية لم يكن مقبوًال عند الرأي العام اإلسرائيلي‪ .‬هنا قفَز إلى مسرِح الحدث آرييل شارون‬
‫ورمى شرارَته التي أشعلت المنطقَة برّم تها‪ .‬كان متوقعًا في ضوء تصرف شارون أن تكون القدس‬
‫الشرارَة التي تنطلق منها االنتفاضُة الفلسطينية الثانية وأن تنتهي اآلمال المعَّلقة على الوصول إلى‬
‫السالم‪.‬‬
‫َم هوى أفئدِة العرب وُقّر ُة عيوِنهم هي القدس‪ ،‬هكذا كانت وهكذا ستكون‪ ..‬إنها المدينُة التي يقدُسها‬
‫أبناء الديانات التوحيدية الثالث‪ ،‬ولعّل هذا واحٌد من األسباب التي َج عَلْتها في غالِب األحيان منطلقًا‬
‫للنزاع‪ .‬لقد شهدت القدس غزواٍت عديدًة في تاريخها‪ .‬بعض الغزاة أغرقوها بالدماء‪ .‬أما اإلسالُم فقد‬
‫أطَّلْت عليها رايُته بكرامٍة وسالم‪.‬‬
‫في القرن السابع للميالد ضربْت قواُت خليفِة المسلمين‪ ،‬وكان مقُّر ه آنذاك في مكة المكرمة‪،‬‬
‫حصارًا على القدس التي كانت تحت سيطرة اإلمبراطورية البيزنطية‪ .‬عندما انتهى األمُر إلى‬
‫استسالم المدينة دخَلها الخليفُة عمر بن الخطاب رضي هللا عنه سيرًا على القدمين‪ ،‬يرافقه رجٌل من‬
‫َخدِم ه يجُّر جمًال واحدًا وذلك تعبيرًا من الخليفِة عن احتراِم ه لوضع القدس واعتراِفه بكونها مدينَة‬
‫السالم‪ .‬بادر بطريرك القدس األرثوذكسي‪ ،‬صفرونيوس‪ ،‬إلى دعوة الخليفة للصالة في كنيسِة القيامِة‬
‫المقدسة‪ ،‬لكّن الخليفَة استنكَف عن قبوِل الدعوة مخافة أن ُيحيَل المسلمون الكنيسَة مسجدًا بدعوى أن‬
‫الخليفَة ركَع وصّلى فيها‪ .‬وبدًال من الصالة هناك‪ ،‬ذهَب الخليفة عمر لزيارة األقصى‪ ،‬الذي كان‬
‫آنذاك أثرًا بعد عين‪ ،‬والذي منه عرج النبُّي العربّي محمد (ص) إلى السماء ليلَة اإلسراء والمعراج‪.‬‬
‫أمر عمر ببناء مسجٍد في ذلك الموقع‪ ،‬ومن َثّم وّقع عهدًا يضمن للمسيحيين الحمايَة والحق بممارسة‬
‫شعائرهم الدينية‪ .‬لقد جاَء في العهدة العمرية‪:‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫هذا ما أعطى عبُد هللا عمُر أميُر المؤمنين‪ ،‬أهَل إيلياء من األمان‪ ،‬أعطاهم أمانًا‬
‫ألنفسهم وأموالهم‪ ،‬ولكنائسهم وصلبانهم‪ ،‬وسقيمها وبريئها وسائر ملتها‪ ،‬أنه ال ُتسكن كنائسهم وال‬
‫ُتهدم‪ ،‬وال ُينتقص منها وال من حّيزها‪ ،‬وال من صليبهم وال من شيء من أموالهم‪ ،‬وال ُيكرهون على‬
‫دينهم‪ ،‬وال يضار أحد منهم‪.‬‬
‫لم تكن القدس على هذا القدر من الحظ مع جميع الحكام الذين عرَفْتهم عبر تاريخها‪ ،‬ففي أواخر‬
‫القرن الحادي عشر نادى البابا أورباُنس الثاني باستعادة القدس‪ ،‬فتجّم ع الفرسان وأتباُعهم من كل‬
‫أنحاء القارة األوروبية وزحفوا نحو األراضي المقدسة في ما بات ُيعرف بالحملِة الصليبية األولى‪.‬‬
‫وأخيرًا‪ ،‬عندما سقطت القدس في العام ‪ 1099‬دخل الصليبيون القدس وذبحوا آالف اليهود‬
‫والمسلمين والمسيحيين األرثوذكس من المدافعين عن المدينة‪ ،‬بمن فيهم كثيرون من المسلمين الذين‬
‫لجأوا إلى المسجد األقصى‪.‬‬
‫لم يصمد الصليبيون طويًال‪ ،‬فقد اقُتلعوا من القدس بعد مرور أقل من قرٍن واحد لتعود المدينة إلى‬
‫أيدي المسلمين وتبقى في ُعهدتهم أكثر من سبعمئة سنة‪ .‬وعندما ُأخِر َج األتراك العثمانيون من بالد‬
‫العرب ُبعيد الحرب العالمية األولى وقع عبُء المسؤولية عن المدينة على كاهل عائلتي الهاشمية‪،‬‬
‫وأعلَن أهُل بيت المقدس الوالء لوالد جدي األكبر الحسين بن علي‪ .‬في العام ‪ 1948‬استطاعت‬
‫القوات األردنية بقيادة جدي األكبر الملك عبد هللا األول أن تحمي الضفة الغربية بما فيها القدُس‬
‫الشرقية من قوات دولِة إسرائيل الجديدة‪ .‬بعدئٍذ بسنتين أصبحت الضفة الغربية جزءًا من المملكة‬
‫األردنية الهاشمية بموجب قرار وحدة الضفتين وذلك في ضوء اإلعالن الصادر عن مؤتمر أريحا‪.‬‬
‫لم تكد تمضي سنة واحدة حتى اغتيل جدي األكبر خالل زيارِته القدس‪ ،‬وكان والدي واقفًا إلى‬
‫جانبه‪ .‬وعندما أصبح والدي ملكًا ورَث مسؤوليَة العائلة الهاشمية في رعايِة شؤون المدينة المقدسة‬
‫ورعاية الوحدة بين الضفتين‪ .‬كان والدي شديد التعّلق بالقدس من الناحيتين الدينية والعائلية‪ ،‬ولم‬
‫يترك جهدًا إال بذَله قيامًا بمسؤوليته حاميًا للمدينة وراعيًا لشؤون المواقع المقدسة فيها‪ .‬وحتى بعد أن‬
‫استولى اإلسرائيليون على القدس الشرقية في العام ‪ 1967‬وافق موشي دايان‪ ،‬وزير دفاع إسرائيل‪،‬‬
‫على أن تبقى األماكن المقدسة تحت إدارة الحكومة األردنية‪.‬‬
‫مهما قيل في أهمية القدس لدى مسلمي العالم يبَق الوصف أقَّل من حقيقة مشاعِر هم حياَلها‪ .‬يصف‬
‫القرآن الكريم في السورة السابعَة عشرَة معجزة اإلسراء والمعراج حيث اصطحَب المالُك جبرائيل‬
‫عليه السالم النبي محمدًا (ص) من مكة المكرمة إلى القدس‪ .‬ويشير الحجر األساس‪ ،‬الموضوع‬
‫تحت قبِة الصخرة‪ ،‬إلى المكان الذي عرج منه النبي إلى السماء في تلك الليلة‪ ،‬وهناك اجتمع حوَله‬
‫األنبياء فأَّم هم في الصالة ومن ثم أعيَد إلى مكة المكرمة‪.‬‬
‫في أيام اإلسالم األولى كان المسلمون يوّلون وجوههم نحو القدس عند الصالة‪ ،‬لكن مع الوقت أمَر‬
‫هللا عز وجل النبي (ص) أن يجعَل مكَة قبلَة المسلمين‪ ،‬كما أعلن النبّي (ص) أنه ال ُتشد الرحال إال‬
‫إلى ثالثة مساجد‪ ،‬المسجد الحرام في مكَة والمسجد النبوي في المدينة المنورة والمسجد األقصى‪،‬‬
‫الذي تعادل الصالة فيه خمسمئة صالة في غيره‪.‬‬
‫اسُم القدس يحمُل معناه في ُص لِبه‪ ،‬إنها بيُت المقدس‪ .‬واستيالُء إسرائيل على القدس في العام‬
‫‪ 1967‬هَّز ضمائَر العرب والمسلمين في أرجاِء المعمورة‪ ،‬وقد جرى التعبير عن مشاعر الغضب‬
‫والحزن على خسارة القدس في المظاهرات والمسيرات كما في الشعر واألدب‪ .‬لقد أَسَر ْت فيروز‪،‬‬
‫التي رَّنمِت القدَس ومكَة كما لم يرّنمهما أحد‪ ،‬قلوَب ماليين العرب عندما َص َدحْْت بصوتها الساحر‬
‫معلنة الحزن على «زهرة المدائن»‪ ،‬رائعتها التي ال تزاُل َتهُّز منا المشاعَر والقلوَب كلما ارتفع‬
‫صوتها يذّكُر العالم بأن «عيوننا إليك َترحُل كَّل يوم»‪ ،‬و«ألجلِك يا مدينَة الصالة أصّلي»‪ .‬وال ينسى‬
‫العرُب أن القدس هي أيضًا رمٌز من رموز الثورة العربية الكبرى التي حمَل رايَتها جُّد جدي‬
‫الشريف حسين‪.‬‬
‫المكانُة التي كانت للقدس في قلِب والدي لم تكن لسواها‪ .‬لقد باع منزله في لندن في أوائل‬
‫تسعينيات القرن الماضي ليتمكن من إصالح الغطاء الذهبّي لقبِة الصخرة‪ .‬كما أنني فخوٌر أيضًا‬
‫بالعمل الذي قاَم به المهندسون والحرفيون األردنيون في إعادة بناء منبر صالح الدين الذي كانت قد‬
‫دّم رته قنبلٌة حارقة ألقاها في المسجد صهيوني متطرف في العام ‪.1969‬‬
‫إنني أولي مسؤوليتي في الحفاظ على الُه وّية العربية للقدس ورعاية األماكن المقدسة فيها أعلى‬
‫درجات الجدية‪ .‬وتتعرض ُهوية القدس لخطر وتهديد كبيرين من اإلجراءات اإلسرائيلية األحادية‬
‫المستهدفة تهجير المسلمين والمسيحيين من المدينة‪ .‬ال َينسيّن أحٌد أن القدَس أشبُه ما تكون ببرميٍل‬
‫من البارود يمكنه تفجير المنطقة برّم تها وإشعال مشاعر الغضب في كل أرجاء المعمورة‪ .‬نحن لم‬
‫نأُل جهدًا في تحذير اإلسرائيليين‪ ،‬مرًة ِتْلَو مرة‪ ،‬من العواقب الكارثية إلجراءاتهم األحادية في‬
‫القدس‪ ،‬خصوصًا الحفريات التي تهدد سالمَة األماكن المقدسة اإلسالمية والمسيحية‪ ،‬وبناء‬
‫المستوطنات‪ ،‬وتدمير منازل الفلسطينيين‪ ،‬فضًال عن محاولة تفريغ المدينة من أهلها المسلمين‬
‫والمسيحيين‪ .‬في كل اجتماع أعقده مع المسؤولين اإلسرائيليين أحّذرهم بأن للقدس مكانة خاصة في‬
‫العالم اإلسالمي تجعل من العبث بها لعبًا بالنار‪ .‬ولن تؤدي اإلجراءات اإلسرائيلية األحادية في‬
‫القدس إال إلى تأجيج الصراع وتفجير العنف الذي سيعاني منه الفلسطينيون واإلسرائيليون على حد‬
‫سواء‪ .‬لكن الحكوماِت اإلسرائيلية مستمرة في هذه الممارسات التي تهدد العالقاِت األردنية ‪-‬‬
‫اإلسرائيلية وتحمل خطر تدمير كل جهود تحقيق السالم الدائم في المنطقة‪.‬‬
‫هذا بالضبط ما فعَله شارون‪ ،‬زعيم حزب الليكود‪ ،‬عندما أعلن في أيلول‪/‬سبتمبر من العام ‪2000‬‬
‫عزَم ه على زيارِة الحرم الشريف الذي يسّم يه اليهود «جبل الهيكل»‪ .‬هم يؤمنون بأن الهيكلين األول‬
‫والثاني كانا مبنيين في هذا الموقع‪ ،‬كما يعتقد بعُض هم أن «جبَل الهيكل» سوف يكون الموقَع الذي‬
‫ُيشاُد عليه الهيكُل الثالث الذي سيكون بناؤه إشارًة إلى مجيء المسيح عليه السالم‪ .‬لكن يبدو أن بعَض‬
‫المتطّر فين من اإلسرائيليين لم يعودوا يريدون أن ينتظروا وقتًا أطول لمجيء المسيح‪ ،‬ومن هنا‬
‫دعوُة إحدى المجموعات المتطرفة التي تسّم ي نفَسها «أمناء جبل الهيكل» بقيادة الضابط غيرشون‬
‫ساالمون‪ ،‬إلى إزالِة المسجد األقصى وقبِة الصخرة ونقِلهما إلى مكَة حتى يصبَح باإلمكان تشييُد‬
‫الهيكل الثالث مكانهما‪.‬‬
‫رأى كثيرون من المسلمين في خطوة شارون‪ ،‬التي جاءت ضمَن خطٍة مسبقة‪ ،‬دليًال واضحًا على‬
‫أن مبادئ «أمناء جبل الهيكل» وأفكاَر هم باتت في ُص لب السياسة اإلسرائيلية وجزءًا منها‪ .‬أصر‬
‫عرفات على أن شارون يجب أن ُيمنع من دخول الحرم‪ ،‬لكن شارون تجاهَل المحتجين‪ ،‬بشرًا‬
‫وأصواتًا صارخة‪ ،‬ودخَل في ‪ 28‬أيلول‪/‬سبتمبر من العام ‪ 2000‬مجَّم َع الحرم الشريف يرافُقه فريٌق‬
‫من أعضاء حزب الليكود‪ .‬سار شارون متجاهًال دقَة الحساسية اإلسالمية في كل أرجاِء العالم حياَل‬
‫هذه المسألة‪ ،‬محاطًا بحمايِة ما ال يقُّل عن ألف عنصر من قوات الشرطة‪ ،‬في أرجاء الحرم وسط‬
‫االحتجاج والغضب اللذين عّبرت عنهما مجموعة من المتظاهرين الفلسطينيين الذين صدَم هم وصدَم‬
‫ماليين المسلمين في العالم هذا االنتهاك لواحٍد من أكثِر المواقع اإلسالمية قداسًة‪.‬‬
‫في اليوم التالي امتدت ردوُد الفعل الفلسطينية الغاضبة على االنتهاك االستفزازي الذي قاَم به‬
‫شارون‪ ،‬وفي سلسلة من االشتباكاِت العنيفة ُقتل على األقل أربعُة فلسطينيين وُج رح أكثر من مئتين‬
‫برصاِص القوات اإلسرائيلية‪ .‬بعد هذه االشتباكات راحِت األحداُث تتوالُد وتمتد دون أي إمكانية‬
‫للسيطرة عليها حتى شملت التظاهرات العنيفة القدَس الشرقيَة وأرجاَء الضفة الغربية وغزة‪ .‬في‬
‫الثالثين من أيلول‪/‬سبتمبر شهد تقاطُع نتزاريم في غزة حادثًا أثاَر رعَب العالم واشمئزازه‪ .‬وسط‬
‫الصداماِت الدامية بين قواِت الجيش اإلسرائيلي والمتظاهرين الفلسطينيين‪ ،‬وجَد النجاُر الفلسطيني‬
‫جمال الدرة نفَسه عالقًا‪ ،‬مع ابنه محمد ذي االثني عشر ربيعًا في وسِط ساحِة الصدام‪ .‬وفيما كانا‬
‫يحاوالن االحتماَء وراَء أحد الجدران إذا بزخاِت الرصاص تنهمر عليهما‪ .‬التقطت الكاميرات هذا‬
‫المشهد المرِّو ع وبّثته الشاشات لماليين الناس عبر العالم حيث بدا جمال يبذل الممكَن والمستحيل‬
‫إلنقاذ فلذة كبِده الذي َتالشى ولفَظ أنفاَسه بين يدي والده‪ .‬لقد جّسدت هذه الصورُة لمسلمي العالم من‬
‫أقصاه إلى أدناه مدى الوحشيِة التي يمارُسها االحتالل اإلسرائيلي في فلسطين‪ .‬استمرت هذه الموجُة‬
‫من العنف خمسَة أياٍم أخرى وَحَص دْت خمسين ضحيًة من الفلسطينيين ومئات الجرحى‪ ،‬فيما ُقتل‬
‫ثالثُة إسرائيليين في الصدامات‪.‬‬
‫الزيارُة ‪ -‬االنتهاك للحرم الشريف التي قاَم بها شارون كانت الشرارة لما باَت ُيعرف في ما بعد‬
‫بانتفاضِة األقصى‪ .‬استنكرُت العمل االستفزازي الذي قاَم به شارون وأدنته‪ ،‬وقلت ليس أماَم نا سوى‬
‫طريٍق واحد لوقِف العنف وهو العودة إلى طاولِة المفاوضات والوصول إلى اتفاٍق يلبي حقوق‬
‫الشعب الفلسطيني المشروعة‪ ،‬وخصوصًا حقه بإقامة دولِته المستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها‬
‫القدُس الشرقية‪ .‬لكن شارون سار على طريق آخر‪.‬‬
‫أجرى الفلسطينيون واإلسرائيليون مفاوضات على مستوى متدٍّن طوال فصل الخريف لكن لم‬
‫يعتقد أحد بجدوى هذه المفاوضات‪ .‬قبل أن يغادر البيت األبيض في كانون األول‪/‬ديسمبر من العام‬
‫‪ ،2000‬قّدم كلنتون بعض المبادئ العريضة التي ُعرفت في ما بعد بـ«مقترحات كلنتون» التي مّثلت‬
‫إطارًا لمعالجة قضايا من بينها المستوطناُت والقدُس والالجئون‪.‬‬
‫طرح كلنتون إنهاء النزاع على أساس تبني حٍّل يعطي الفلسطينيين ما بين ‪ 94‬و‪ 96‬في المئة من‬
‫الضفة الغربية‪ ،‬ويقترح تبادل ما نسبته من واحٍد إلى ثالثٍة في المئة من األراضي‪ ،‬وبذلك يمكن أن‬
‫يبقى أربعُة أخماٍس من المستوطنين اإلسرائيليين في األرض التي تحتفظ بها إسرائيل‪ .‬كذلك اقترَح‬
‫كلنتون أن يتضّم َن االتفاُق ترتيبات تتعلق بضمان ممر آمن ودائم للفلسطينيين بين غزَة والضفِة‬
‫الغربية‪ .‬وقد نّص ت النقاط المقترحة على أن يتم االنسحاُب اإلسرائيلي من الضفة الغربية على مدى‬
‫ثالث سنوات ُيصار خالَلها إلى اإلتيان بقواٍت دولية‪.‬‬
‫بالنسبة إلى الالجئين اقترَح كلنتون أن تكوَن الدولُة الفلسطينية هي المحوَر األساسَّي للفلسطينيين‬
‫الراغبين في العودة إلى فلسطين‪ ،‬ولكن دون أن َيستبعد إمكانيَة قبول إسرائيل عودَة بعِض هم إلى‬
‫فلسطين ما قبَل العام ‪ .1948‬أما المبدأ األساسي الذي اقترَح ه كلنتون حياَل موضوع القدس فهو أن‬
‫تكون المناطُق العربية في المدينة فلسطينيَة الُه وّية‪ ،‬والمناطُق اليهوديُة إسرائيليًة‪ ،‬على أن يكوَن‬
‫الحرم الشريف تحت السيادِة الفلسطينية وحائُط المبكى تحت سيادِة إسرائيل‪ .‬واقترح كلنتون أن يعني‬
‫اتفاق وفق هذه المبادئ اإلطاَر إلنهاء النزاع وأن يضع تنفيذه حّدًا لكل المطالبات المرتبطة به‪.‬‬
‫بين ‪ 21‬كانون الثاني‪/‬يناير و‪ 27‬منه حاوَل باراك وعرفات مرًة أخيرة الوصول إلى أرضيٍة‬
‫مشتركة وذلك عندما التقيا في طابا في مصر‪ .‬لكَّن استطالعاِت الرأي في إسرائيل كانت تظهر‬
‫تراجَع شعبّية باراك يومًا بعد يوم‪ ،‬وبعد انتخابات رئاسية في أميركا شاَبها الكثير من المشكالت‬
‫والخالفات‪ ،‬كان رئيٌس جديد للواليات المتحدة قد توّلى الحكَم ولم يكن قد ُعرف بعد المنحى الذي‬
‫ستأخذه سياسُته الشرق أوسطية‪ .‬انتهت المباحثات بعد وقٍت قصير وتصاعد العنف‪ ،‬وأخذ المعلقون‬
‫اإلسرائيليون يكتبون أوراَق النعي للعمليِة السلمية في أوسلو ويعتبروَنها ميتة‪.‬‬
‫في األشهر التي أعقبت هذه التطورات عصفِت الخالفاُت وتبادُل االتهامات حول َم ن المسؤول عن‬
‫انهياِر مفاوضاِت السالم‪ .‬في هذه المعمعِة من الجدال راحت نقاُط الخالف التي أوقفت المفاوضات‬
‫والفشل الذي انتهت إليه تتفاعُل مع تداعياِت زيارة شارون االستفزازية للحرم الشريف‪ .‬البعُض الم‬
‫عرفات على فشل المفاوضات وعلى العنف الذي أعقَبها‪ ،‬ورأى هذا البعض أن عرفات هو الذي‬
‫فبرَك تلك التحركات العنيفة راميًا إلى انتزاع مزيٍد من التنازالت اإلسرائيلية‪ .‬رأى آخرون أن‬
‫األميركيين انحازوا إلى باراك ولم يمارسوا عليه ضغطًا كافيًا لتقديم التنازالت المطلوبة‪ .‬هناك‬
‫بعٌض ثالث استنتج أن اإلعداد لمؤتمر كامب ديفد لم يكن على المستوى المطلوب لبلوغ النتيجة‬
‫المرتجاة‪ ،‬وأن ما ُعرض على الفلسطينيين جاَء أقَّل مما يستحقون أو يطالبون به‪ .‬لكن تبقى الحقيقة‬
‫الواضحة أن وعودًا والتزاماٍت كثيرًة قد ُض ِر َب بها ُعرض الحائط خالَل السنوات السبع الطويلة‬
‫التي كانت قد مضت على اتفاقات أوسلو‪ ،‬األمر الذي أطاَح الثقَة بين األطراف المعنية‪ .‬أدرَك‬
‫الفلسطينيون أن إيهود باراك سوف يخسُر االنتخابات ويخرج من الحكم‪ ،‬وبالتالي اعتبروه غيَر قادٍر‬
‫على تنفيذ ما يوافق عليه نظرًا للضعف الذي باتت ُتعانيه حكومُته‪ .‬وهكذا شهدنا فشًال مؤسفًا جّدًا‬
‫وباهَظ الثمن‪.‬‬
‫الفصل الثامن عشر‪ :‬نطلب السالم فتأتينا الحرب‬

‫خالل والية الرئيس كلنتون تبادَل العراق والواليات المتحدة بيانات وتصاريَح شديدة اللهجة كما‬
‫تبادال عددًا من القذائف‪ ،‬لكن هذه التبادالت لم تصل حَّد إعالن الحرب بينهما‪ .‬في كانون الثاني‪/‬يناير‬
‫من العام ‪ ،2001‬ومع دخول جورج دبليو بوش البيت األبيض‪ ،‬أخذت هذه الدينامّية تتغّير بوتيرٍة‬
‫متسارعة‪ ،‬ذلك أن بول وولفوفيتز (‪ ،)Paul Wolfowitz‬ودوغالس فيث (‪،)Douglas Feith‬‬
‫وإليوت أبرامز (‪ ،)Elliott Abrams‬ورتشارد بيرل (‪ )Richard Perle‬وسواهم من المحافظين‬
‫الجدد كانوا يطمحون منذ زمن غير قصير إلى إطاحة صدام حسين وإكمال المهمة التي كان بوش‬
‫األب‪ ،‬بحسب وجهِة نظرهم‪ ،‬قد بدأها‪ .‬أخَذ عديد من هؤالء المحافظين الجدد يتولى مواقَع‬
‫استراتيجية رفيعَة المستوى في البنتاغون ومجلس األمن القومي ووزارة الخارجية‪ ،‬وهكذا بات‬
‫لديهم كل ما يحتاجون إليه من المراكز ومواقع صنع القرار ولم يبَق سوى اقتناص الفرصة‪ .‬وما هي‬
‫إال فترٌة وجيزة حتى أطلت الفرصة التي انتظروها‪.‬‬
‫لم ُتبِد إدارة بوش االبن الجديدة اهتمامًا ذا شأن بالبناء على ما كانت إدارة كلنتون قد أنجزته من‬
‫عمل لدفع عملية السالم إلى األمام‪ .‬ففي اليوم التالي لتسّلم بوش الحكم‪ ،‬في ‪ 21‬كانون الثاني‪/‬يناير‬
‫من العام ‪ ،2001‬اجتمع اإلسرائيليون والفلسطينيون في طابا في مصر محاولين استئناف‬
‫المفاوضات التي كانوا قد عقدوها في كامب ديفد والبناء على مقترحات ومبادئ كلنتون في سبيل‬
‫ردم هوة الخالفات األخيرة بينهم‪ .‬لكن المحادثات ما لبثت أن تالشت وتوقفت‪ ،‬وبعد طابا عاد الباب‬
‫السياسي اإلسرائيلي الدّو ار إلى دورانه السريع مجددًا‪.‬‬
‫انهزَم إيهود باراك في االنتخابات اإلسرائيلية أماَم حزب الليكود بزعامة آرييل شارون‪ ،‬وبهذا‬
‫التوّج ه االنتخابي كان الرأي العام اإلسرائيلي يرسُل إشارًة واضحة‪ ،‬عّبرت عنها مواقف شارون‬
‫التي أظهرت أنه لم يكن معنيًا بعملية السالم‪.‬‬
‫بعد هبوط الليل‪ ،‬مساء ‪ 18‬أيار‪/‬مايو من العام ‪ ،2001‬انطلقت المقاتالت اإلسرائيلية من طراز‬
‫«إف ‪ »١٦‬من قواعدها باتجاه الضفة الغربية وغزة‪ ،‬فأسقطت بعض قنابلها على مقر قوى األمن‬
‫الفلسطينية في نابلس فدّم رته تدميرًا كامًال وقتلت ثمانية أشخاص‪ ،‬أما القنابل األخرى فألقيت في رام‬
‫هللا حيث ذهب ضحيتها أحَد عشَر شخصًا وُج رح عدد أكبر بكثير‪ .‬كانت هذه المرة األولى منذ حرب‬
‫العام ‪ 1967‬التي تهاجم فيها الطائرات المقاتلة اإلسرائيلية الفلسطينيين‪ .‬وقد قوبلت هذه الهجمات‬
‫باستنكار دولي واسع‪ .‬لكن فليستنكِر المجتمُع الدولُّي إلى ما شاء هللا‪ ،‬فها هو ذا آرييل شارون غيُر‬
‫نادٍم على ما اقترفت يداه‪ ،‬يصّر ح لصحيفٍة إسرائيلية بقوله‪« :‬سوف نقوم بكل ما يلزم ونستخدُم كل‬
‫ما نملك من إمكانات لكي نحمي المواطنين اإلسرائيليين»‪.‬‬
‫مّثل الهجوم اإلسرائيلي تصعيدًا خطيرًا بعد أسبوع من العنف المتنامي‪ .‬وفي الرابع عشر من أيار‪/‬‬
‫مايو سقَط خمسُة عناصر من أفراد الشرطة الفلسطينية برصاص الجنود اإلسرائيليين‪ ،‬وبعد هذه‬
‫الحادثة بأربعة أيام‪ ،‬في ‪ 18‬أيار‪/‬مايو أرسلت حماس انتحارّيًا فّج ر نفَسه في مجّم ٍع للتسّو ق في‬
‫منتجع ناتانيا الساحلي فُقتل في االنفجار خمسٌة من رواد السوق وُج رح حوالى مئة شخص‪ .‬وفي‬
‫ساعٍة متأخرة من ذلك المساء حّر ك اإلسرائيليون طائراتهم الحربية وأطلقوا قنابَلهم‪ ،‬وهكذا استمر‬
‫العنف يتصاعد بين الطرفين اللذين لم يتوانيا في تأجيج الموقف‪ .‬إن حياة كل إنسان يجب أن تكون‬
‫َم صونًة ومقدسة‪ ،‬وفي اعتقادي أن من الخطأ الجسيم استهداف المدنيين‪ ،‬سواء أكانت وسيلُة القتل‬
‫انتحارّيًا يفّج ُر نفَسه‪ ،‬أم مقاتلة «إف ‪ »١٦‬تزرُع قنابَلها وتحصُد أرواحًا بشرية‪.‬‬
‫ناشَد نائب الرئيس األميركي ديك تشيني الطرفين العودة إلى الهدوء بعد مرور بضعة أيام على‬
‫األحداث‪ ،‬وقال في مقابلة تلفزيونية‪« :‬أظن أن على الطرفين كليهما الكَّف عن هذا العنف والتفكير‬
‫إلى أين سيؤدي بهما هذا المسار‪ ،‬وعليهما أن يدركا أن هذا المسلك لن يؤدي إال إلى الكارثة»‪ .‬لكّن‬
‫اآلذان كانت صّم اء وال أحد يسمع‪.‬‬
‫في الثامن من أيلول‪/‬سبتمبر من العام ‪ 2001‬كتبُت إلى الرئيس جورج دبليو بوش أحُّثه على رفع‬
‫صوِته والتحدث عن المشكلة الفلسطينية‪ ،‬وما لبث الرئيس أن وّج ه إلّي دعوًة لزيارة الواليات‬
‫المتحدة ومناقشة مقترحاتي معه‪ .‬في الحادي عشر من أيلول‪/‬سبتمبر من العام ‪ 2001‬كنت في‬
‫الطائرة فوق األطلسي متجهًا إلى «معهد بيكر» في تكساس إللقاء خطاب هناك‪ ،‬على أن أتجَه بعدئٍذ‬
‫إلى واشنطن للقاء الرئيس بوش‪ .‬كنُت قد تناولُت حبًة منِّو مة‪ ،‬وحين جاء أخي علي وهّز ني لكي‬
‫أستفيَق شعرُت كمن ضّيَع توازنه عندما قال‪« :‬لدينا مشكلة كبيرة‪ ،‬لقد وقَع حادث كبير في الواليات‬
‫المتحدة»‪ .‬كنا قد تلقينا تقارير من الـ«بي بي سي» تقول إن طائرًة قد اصطدمت بالبرجين التوأمين‬
‫في نيويورك‪ ،‬لكن بما أنه لم يكن لدينا وصول إلى شاشات التلفزة لم نستطع أن ندرك تمامًا مدى‬
‫الدمار والرعب اللذين خّلفهما الهجوم‪.‬‬
‫في عّم ان كانت رانيا مسّم رة إلى شاشة الـ«سي إن إن» تشاهد األحداث تتوالى حيًة أماَم عينيها‬
‫كما أماَم عيون العالم دقيقًة تلو دقيقة‪ .‬استطاعت أن تتصل بي على خط الطائرة الهاتفي وحَّثتني على‬
‫عكس اتجاه الطائرة والعودة إلى لندن‪ .‬لكن أنا ترّبيت على الوقوف إلى جانب الحلفاء ودعمهم متى‬
‫دعا الداعي وقلت لها إنني سوف أبقي برنامجي كما كان‪« :‬سنكمل رحلَتنا إلى الواليات المتحدة»‪،‬‬
‫قلُت لرانيا‪« :‬أريد أن أعّبر عن تضامني وتعاطفي مع أصدقائي»‪ .‬لكن رانيا عادت تصّر على‬
‫توضيح وجهة نظرها‪« :‬عبد هللا‪ ،‬أنَت لم تَر ماذا حدث وال حجم الكارثة»‪ .‬ثم أضافت قبل أن أجيَبها‪:‬‬
‫«لن يكوَن لديهم الوقت وال األعصاب لالهتمام بك»‪.‬‬
‫فيما كنا نتكلم كان قائد الطائرة قد اتصل ببرج المراقبة األميركي وحصل على إذٍن بالهبوط‪ ،‬لكن‬
‫عندما أصبحنا على مقربة من منطقة «البرادور» في كندا اتخذُت قرارًا بالعودة‪ .‬في غرفة القيادة‬
‫استطعنا التقاط موجة الـ«بي بي سي» التي كانت تنقل أخبار الهجوم‪ ،‬وعندها بدأُت أدرك حجم‬
‫الحدث الكارثي‪ .‬بعد بضع ساعات هبطت بنا الطائرة في قاعدة «برايز نورتون» (‪Brize‬‬
‫‪ )Norton‬الجوية في «أوكسفوردشير» (‪ )Oxfordshire‬على مسافة حوالى خمسة وستين ميًال‬
‫إلى الغرب من لندن‪ .‬فيما كان طاقم الطائرة يتزّو د بالوقود مشيُت في ظلمٍة حالكة نحو قاعة‬
‫المسافرين‪ ،‬وما إن دخلت من الباب حتى رأيت على الشاشة الصور المرعبة للطائرتين تخترقان‬
‫البرجين التوأمين‪ُ .‬ذِه لُت لهذا االعتداء السافر على المدنيين األبرياء‪ ،‬ثم فكرُت في نفسي‪« :‬نِّج نا يا‬
‫رّب ‪ ،‬إن أبواَب جهنم سُتفتح إذا تبّين أن مجموعًة إسالمية وراء الحدث المزلزل»‪.‬‬
‫تساَء لُت في تلك اللحظة‪« :‬كيف لألردن أن يمّد يد المساعدة؟»‪ .‬بدأُت أحاول االتصال بالمسؤولين‬
‫األميركيين على خٍّط هاتفي آمن‪ .‬كان الرئيس بوش مذهوًال بما حدث ومشغوًال بطبيعة الحال‪ ،‬لكن‬
‫استطعت االتصال بجورج تينت (‪ ،)George Tenet‬مدير وكالة االستخبارات المركزية‪ ،‬قلت له‪:‬‬
‫«جورج‪ ،‬إن األردن إلى جانبكم‪ ،‬ونحن على استعداد لعمل كل ما نستطيع لمساعدتكم»‪ .‬أَّكد لي تينت‬
‫مخاوفي من أن القاعدة هي وراء الهجوم وذكر لي أن من الممكن القيام بعمليات عسكرية في‬
‫أفغانستان‪.‬‬
‫ثم اتصلت بالجنرال تومي فرانكس (‪ ،)Tommy Franks‬الذي كان على رأس القيادة المركزية‬
‫األميركية‪ ،‬وسيكون هو المسؤول عن أي عمليات عسكرية في الشرق األوسط‪ .‬كنت قد عرفت‬
‫تومي منذ سنواٍت عدة‪ ،‬يوم كنُت قائدًا للعمليات الخاصة‪ .‬قلت له‪« :‬نحن ملتزمون مساعدتكم حيثما‬
‫استطعنا ذلك»‪.‬‬
‫عندما عدت إلى األردن جمعت كبار ضباط الجيش وقلت لهم إنني مصّم م على المساعدة على‬
‫محاربة هؤالء المجانين‪ ،‬وقد أبدى الضباط استعداد األردن للمشاركة في الحرب على اإلرهاب‪ ،‬فهم‬
‫كانوا يكافحون اإلرهابيين طوال سنوات ومدركين تمامًا مدى األذى الذي يمكن أن يتسببوا به‪.‬‬
‫عندما قررت الواليات المتحدة وحلفاؤها شّن الحرب على هؤالء في أفغانستان‪ ،‬أرسلنا مستشفى‬
‫ميدانّيًا ومفرزة من القوات الخاصة لحمايته إلى مزار شريف في الشمال‪ .‬بعد الحادي عشر من‬
‫أيلول‪/‬سبتمبر وضعت الواليات المتحدة على رأس أولوياتها محاربة أعدائها‪.‬‬
‫منذ تلك اللحظة ركَب اإلسرائيليون الموجَة ولم يوفروا جهدًا إال بذلوه للربط بين محاربِتهم ياسر‬
‫عرفات والفلسطينيين وبين ما بدأ األميركيون اآلن يسّم ونه «الحرَب العالميَة على اإلرهاب»‪ .‬لقد‬
‫الحظُت هذا المنحى منذ البداية وبدأُت أتخوف من إمكانية نجاح هذه الخطة وما يمكن أن تكون‬
‫تداعياُتها‪.‬‬

‫***‬

‫عند الفجر من الثالث من كانون الثاني‪/‬يناير من العام ‪ ،2000‬كانت سفينٌة زرقاء‪ ،‬أكَل الدهُر‬
‫عليها وشرب‪ ،‬تمخُر عباَب البحر األحمر‪ ،‬ثم استدارت حوَل القرن األفريقي واتجهت شماًال بموازاة‬
‫الساحل السعودي‪ .‬رست سفينُة الشحن «كارن أ» (‪ ،)Karine-A‬وحمولُتها تصُل إلى أربعة آالف‬
‫طن‪ ،‬في أحد مرافئ دبي لتحّم ل بضاعًة من الُفُر ش والنظارات الشمسية والنعال‪ .‬كان قبطان‬
‫السفينة‪ ،‬وهو ضابٌط كبير سابق في الشرطة الفلسطينية البحرية‪ ،‬قد توقف من قبل في جزيرة قرب‬
‫الساحل اإليراني‪ .‬مع بزوغ الفجر اخترَق سكينَة البحر الهادئ هديُر المروحيات العسكرية‬
‫اإلسرائيلية المتجهة نحو السفينة‪ ،‬ترافقها في البحر زوارُق البحرية اإلسرائيلية‪ .‬استولى أفراٌد من‬
‫الكوماندوس اإلسرائيلي على السفينة وأخضعوا طاقمها ثم قادوها إلى ميناء إيالت في الجنوب‪ .‬وجد‬
‫اإلسرائيليون في زوايا السفينة‪ ،‬تحت تمويهاٍت لم تكن موفقة‪ ،‬صناديق من بنادق الكالشنيكوف‬
‫وصواريخ الكاتيوشا والمتفجرات البالستيكية‪.‬‬
‫جاء االستيالء على هذه السفينة ليزيَد العملية السلمية موتًا على موت‪ .‬فياسر عرفات كان تحت‬
‫الحصار في مقره في رام هللا منذ شهر تقريبًا‪ ،‬وقد قّيدت القبضة الحديدية اإلسرائيلية سلطته‪ .‬هذا‬
‫فضًال عن أوامر شارون لحكومِته باغتيال عدٍد من قادة حماس‪ .‬أما االنتفاضة فكانت تزداد عنفًا يومًا‬
‫بعد يوم تحت وطأة مشاعر اليأس التي كانت تعتري الفلسطينيين‪ .‬فثماني سنوات مضت على توقيع‬
‫اتفاقات أوسلو والفلسطينيون لم يروا أو يشعروا خاللها بأي تغيير‪ ،‬فيما كان رؤساء الحكومات‬
‫اإلسرائيلية يماطلون في تنفيذ مندرجات االتفاق ويتهربون من التزاماتهم‪َ .‬دَر َج شارون على إغالق‬
‫المعابر بوجه الفلسطينيين‪ ،‬ومحاصرة غزة وأجزاء كبيرة من الضفة الغربية بحيث يستحيل على‬
‫الفلسطينيين الذين يعملون في إسرائيل االلتحاق بأعمالهم‪.‬‬
‫في السابع من كانون الثاني‪/‬يناير عقد شارون مؤتمرًا صحافيًا في إيالت بالقرب من السفينة‬
‫المصادرة‪ .‬عرَض األسلحة التي وجدت في السفينة ووصَف عرفات بـ«العدّو اللئيم» مدعيًا أنه‬
‫اشترى األسلحة الفتاكة من إيران بنّيِة تهريبها إلى الضفة الغربية وغزة لشّن الهجمات ضد إسرائيل‪.‬‬
‫كان بإمكان الرئيس بوش توظيف نفوذه لتهدئة األوضاع‪ ،‬لكن اهتمامه كان مرّكزًا على أمور أخرى‬
‫ولم يكن يرغب‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬في كبح جماح شارون‪ ،‬ال بل إن إدارته ظهرْت وكأنها تنفذ قرارًا‬
‫بالوقوف جانبًا والتفّر ج على العملية السلمية ُتحتضر حتى الموت‪.‬‬
‫بعد أن وّج ه الرئيس بوش خطابه السنوّي إلى الكونغرس عن «حال االتحاد» ووصَف فيه إيران‬
‫والعراق وكوريا الشمالية بأنها تمّثل «محور الشر»‪ ،‬توجهُت إلى وزارة الخارجية األميركية في ‪31‬‬
‫كانون الثاني‪/‬يناير لالجتماع إلى وزير الخارجية كولن باول (‪ ،)Colin Powell‬وكنت أنوي‬
‫التشديد على ضرورة إعادة عملية السالم إلى مسارها الطبيعي واألهمية التي تعلقها على ذلك‬
‫المنطقة برّم تها‪ .‬كذلك أردُت أن َأفهَم بوضوح ماهيَة تركيز اإلدارة األميركية على العراق وأسباب‬
‫هذا التركيز‪ .‬كان باول قد زار األردن في شباط‪/‬فبراير من العام السابق ضمن جولة قام بها على‬
‫بلدان الشرق األوسط وقد جئت إلى المطار الستقباله آنذاك‪ ،‬مع أن االستقبال في المطار ُيَخ ّص به‬
‫رؤساُء الدول دون سواهم‪ ،‬لكن معرفتي به كانت قديمة وكنُت أعتبره صديقًا مقربًا وعزيزًا‪ .‬تحدثنا‬
‫يومها عن العراق وعن الجمود في عملية السالم‪ ،‬خالل لقاء طويل في قصر رغدان‪ .‬فيما كنُت‬
‫أستعّد لمرافقته إلى المطار‪ ،‬وحين رأى سيارتي الجديدة المرسيدس ‪ S500‬أعجب بها وطلب أن‬
‫يقودها إلى المطار‪ .‬جلسُت إلى جانبه وقاد السيارة إلى المطار ملتزمًا حدود السرعة القانونية‬
‫بصورٍة الفتة وعلى طول الطريق حتى المطار‪ .‬كان متجهًا إلى الضفة الغربية للقاء الرئيس‬
‫عرفات‪ ،‬وحين خرجنا من السيارة أشار إلى أحد أفراد حرسه بالقول‪« :‬طلبُت أن أقودها إلى رام‬
‫هللا‪ ،‬لكنهم رفضوا»‪.‬‬
‫عندما قابلُت باول بعد ذلك في واشنطن في كانون الثاني‪/‬يناير أثار مسألة الباخرة «كارن أ»‪ .‬قال‬
‫إّن من المؤسف أن يكون هذا الحادث قد وقع ألن الوضع قبله كان قد شهَد بعَض التحّسن‪ ،‬وإن‬
‫شارون قد قال كالمًا من هذا النوع‪ .‬لكن القبض على السفينة والعثور فيها على األسلحة نسَف‬
‫الجهود األميركية التي شملت جهودًا كان يبذلها مبعوث باول الجنرال أنتوني زيني (‪Anthony‬‬
‫‪ )Zinni‬مع اإلسرائيليين والفلسطينيين لوقف إطالق النار‪ .‬أصّر باول على أن على الفلسطينيين أن‬
‫يهدئوا األوضاع‪ ،‬وأن على عرفات أن يقول شيئًا بشأن السفينة يرضي الرأي العام األميركي‪.‬‬
‫أما أنا فقلت لباول إن على الواليات المتحدة أن تعمل على إعادة األمل إلى الفلسطينيين وعلى‬
‫تعزيز إيمانهم بأن المفاوضات السلمية سوف توصُلهم إلى إقامِة دولتهم‪ .‬قلت إن على الواليات‬
‫المتحدة أن تمَّد يدها لمساعدة الفلسطينيين الذين طالهم األذى جراء االنتفاضة وخسروا وظائَفهم‬
‫بسبب سياسة اإلغالق والحصار‪ .‬كذلك قلت إن على الواليات المتحدة أن تكون أكثر شفافيًة حيال ما‬
‫هو مطلوب بالضبط من عرفات لتسهيل األمور‪ ،‬واقترحُت أن ُيصار إلى وضع خطة ُتدرج‬
‫بالتفصيل ما على كٍل من الطرفين أن يفعَله وصوًال إلى هذه النتيجة‪ .‬ثم انتقلنا إلى مناقشة الموضوع‬
‫الوحيد الذي كان كل شخص في واشنطن يريد الحديث عنه آنذاك‪ :‬العراق‪ .‬حاوَل باول‪ ،‬الدبلوماسي‬
‫بامتياز‪ ،‬أن يخفف من وطأة خطاب الرئيس بوش في الكونغرس عن «حال االتحاد»‪ ،‬وقال إذا‬
‫أوقَف العراق دعمه لإلرهاب وكَّف عن متابعة برنامجه إلنتاج أسلحة الدمار الشامل فإن الواليات‬
‫المتحدة سوف تغّير موقفها منه‪.‬‬
‫في اليوم التالي التقيت الرئيس بوش في المكتب البيضاوي في البيت األبيض وأثرُت معه‬
‫الموضوع الذي كان‪ ،‬وال يزال‪ ،‬في رأيي‪ ،‬المسألة األكثر أهميًة في منطقِتنا بالنسبة لمصالح‬
‫األميركيين وهو عمليُة السالم‪ .‬قلت له إن هذه العملية غالبًا ما ُتركت جانبًا مع أنها القضية المركزية‬
‫في المنطقة‪ ،‬وأضفت أن حّل الصراع اإلسرائيلي ‪ -‬الفلسطيني سوف يحرم منظمات مثل القاعدة من‬
‫سالحها الفّعال في حشد المؤيدين ويمّكن القادة العرب من اتخاذ موقف أكثر دعمًا لألهداف‬
‫األميركية في المنطقة‪.‬‬
‫لكن بوش لم يكن في مزاٍج ليتحدث عن عملية السالم‪ ،‬وما لبَث أن كشَف عن خيبته حياَل‬
‫التطورات األخيرة‪ ،‬وقال إن عرفات «أخَذنا في مساٍر معّين ليتركنا ويتراجع»‪ .‬وأصّر بوش على‬
‫ضرورة أن يقوم عرفات بدوٍر أكثر فاعليًة في السيطرة على المتطرفين‪ ،‬وإال فإن الواليات المتحدة‬
‫لن تهدَر رصيَدها السياسي في محاولة حل الصراع‪ .‬ثم أضاف‪« :‬ال يمكننا أن نكون منافقين حياَل‬
‫اإلرهاب»‪ .‬وهنا عّبر بوضوح عن شعوره بأن عرفات يقف إلى جانب المنظمات اإلرهابية‪ .‬كما‬
‫كنُت أخشى ها هو ذا يربط بين حربه على «القاعدة» وبين الصراع الفلسطيني ‪ -‬اإلسرائيلي‪.‬‬
‫دافعت عن عرفات وقلت إنه يمثل رمزًا وطنّيًا للشعب الفلسطيني‪ ،‬وحذرُت بوش من أن عرفات‬
‫إذا شعر بأنه يمكن أن ُيحَشر في الزاوية فسوف يدير ظهَر ه وينسحب‪ .‬ثم شّبهُت الوضع القائم في‬
‫المنطقة بمحارَبْين كبيرين يتواجهان فيما تصيُب اآلالم والكوارث شعبيهما‪ ،‬وقلت إن على الواليات‬
‫المتحدة أن تصوَغ مطالَبها من عرفات بحيث تكون هذه المطالب مقبولًة من الفلسطينيين ومفهومًة‬
‫لديهم‪ .‬ذَّكرُت بوش بأن ما أعاقنا وبقَي شغَلنا الشاغل هو مشكالت شخصية تتعلق بالقادة على طرفي‬
‫النزاع‪ ،‬بينما اإلسرائيليون والفلسطينيون ال يطلبون سوى تحسين األوضاع والوصول إلى الحل‪.‬‬
‫قال الرئيس إنه سيفكر في المسألة وسيبحثها مع شارون‪ ،‬وشّدد على أنه سيقول لشارون خالل‬
‫زياِر ته المقبلة إلى واشنطن بإنه إذا بالغ في المواقف التي يتخذها فإنه سينسف القدرة األميركية على‬
‫محاربة اإلرهاب‪ .‬كذلك أشار بوش إلى أنه كان قد أخبر شارون بأنه ستكون عنده مشكلة كبيرة جّدًا‬
‫معه إذا حاول أن يقتَل عرفات‪.‬‬
‫طلبت من بوش المساعدة في إقناع اإلسرائيليين بترك عرفات يغادر مقَّر ه في رام هللا‪ ،‬حيث‬
‫وضعه الجيش اإلسرائيلي تحت اإلقامة الجبرية منذ كانون األول‪/‬ديسمبر من العام ‪ ،2001‬حتى‬
‫يتمكن من حضور القمة العربية في بيروت في شهر آذار‪/‬مارس‪ ،‬وَلفُّت نظره إلى أن منع عرفات‬
‫من حضور المؤتمر لن يؤّدي إال إلى تفعيل عمل المتطرفين‪ .‬وعَد بوش بطرح هذه المسألة مع‬
‫شارون‪ ،‬ثم انتقلنا إلى مناقشة دور عرفات في العملية السلمية األوسع‪ .‬عاد بوش إلى جملِته السابقة‪:‬‬
‫«ال يمكننا أن نكوَن منافقين حياَل مسألة اإلرهاب»‪ ،‬ثم كرر االدعاء أن عرفات يقف إلى جانب‬
‫المنظمات اإلرهابية‪ ،‬وأضاف‪« :‬ربما هنالك من هو أفضل من عرفات؟»‪ ،‬قال إنه ال يقصد إطاحة‬
‫عرفات‪ ،‬وإنما يشير فقط إلى الحاجة إلى التفكير الجّدي في من يمكن أن يحَّل محَّل عرفات ويقوَد‬
‫الفلسطينيين إلى مستقبل أفضل‪.‬‬
‫انتاَبني شعوٌر بالرهبة والقلق حين اتخذ الحديث هذا المنعطف‪ ،‬وقلت ال بديل لعرفات فالرجل بات‬
‫رمزًا للشعب الفلسطيني‪ ،‬وكلما زادت إسرائيل الضغط عليه زاد الشعب الفلسطيني تعّلقًا به ودعمًا‬
‫له‪ .‬كذلك فإن إسرائيل وّز عت الفلسطينيين على ما يشبه الكانتونات‪ ،‬وهذا ما أدى إلى شرذمِة السلطة‬
‫السياسية في كٍل من الضفة الغربية وغزة‪ .‬ثم أضفُت أن شارون يعتمد آراًء قصيرة النظر‪ .‬ومع أن‬
‫ذلك ال يعني استحالة التفاهم معه حول عمليِة السالم‪ ،‬فنحن بالتأكيد ال نوافُق على وسائله وأساليبه‬
‫في مقاربة األمور‪.‬‬
‫عند هذه النقطة وّج ه بوش النقاش نحو العراق واتخذ موقفًا أشَّد صرامًة من موقف وزير خارجيته‬
‫كولن باول‪ ،‬منتقدًا النظام العراقي‪ ،‬وقال‪« :‬إن صدام يجب أن يحاسب على ما ارتكبه من السوء»‪.‬‬
‫«سوف تخلقون مشكلًة كبيرة في الشرق األوسط»‪ ،‬قلُت كلماتي هذه بتأٍن ولكن بحزم‪ ،‬ثم أضفت‪:‬‬
‫المشكلة ليست مسألة صدام حسين وقيام الواليات المتحدة بخلعه من موقع السلطة‪ ،‬المشكلة هي إلى‬
‫ماذا سيؤدي ذلك؟ لكن بوش لم يتزحزْح عن موقِفه‪.‬‬
‫عدت إلى األردن في اليوم التالي‪ ،‬وفي أحاديَث الحقة مع بعض القادِة العرب‪ ،‬بمن فيهم الرئيُس‬
‫المصري حسني مبارك وولُّي العهد السعودي األمير عبد هللا بن عبد العزيز‪ ،‬علمت أنهم سمعوا‬
‫كالمًا مشابهًا لما سمعُته من بعض أعضاء الحكومة في إدارة بوش‪« .‬ماذا يحدث في اليوم التالي‬
‫إلزاحة صدام عن الحكم؟»‪ .‬الكل طرح هذا السؤال‪ ،‬لكن عدم قدرة اإلدارة األميركية على اإلتيان‬
‫بجواٍب جّدي وملموس ترَكنا جميعًا غير مرتاحين وغير مطمئنين على اإلطالق‪.‬‬
‫ما بات واضحًا تمامًا هو أن أميركا لم تعد مهتمة بقيادة العملية السلمية وإيجاد حل للصراع‬
‫الفلسطيني اإلسرائيلي‪ .‬لكن من شبه األكيد أن تنّح ي األميركيين عن قيادة عملية السالم سوف يقضي‬
‫على كل أمل بالتقدم في هذه العملية‪ .‬من هنا قررنا االستمرار في الضغط من أجل استئناف‬
‫المفاوضات‪ ،‬ولكن هذه المرة بمبادرة سالم عربية جماعية رأينا أنها ستشّج ع األميركيين على القيام‬
‫بدور أكثر فاعليًة في السعي إلى السالم‪.‬‬
‫في السنوات األخيرة من عهده صاَغ والدي مقاربًة جديدة للمشكلة اإلسرائيلية ‪ -‬الفلسطينية‪،‬‬
‫مقاربًة تشمل كل الدول العربية في التزام بسالٍم جماعّي مع إسرائيل مقابَل انسحابها الكامل من كل‬
‫األراضي العربية المحتلة‪ .‬بموجب مقاربة كهذه ‪ -‬األوسع نطاقًا من مبادئ مؤتمر مدريد والمستهدفة‬
‫الحصول على مساندة دولية ‪ -‬تقترح الدول االثنتان والعشرون األعضاء في جامعة الدول العربية‬
‫على إسرائيل سالمًا جماعّيًا مدعومًا بضماناٍت أمنية شرَط أن توافق إسرائيل على متطلباٍت محددة‬
‫وأساسية‪ ،‬من بينها إقامُة الدولة الفلسطينية‪ ،‬اتفاق على وضع القدس وعلى حقوق الالجئين‬
‫الفلسطينيين‪ ،‬وإعادُة مرتفعات الجوالن إلى سوريا‪ ،‬وإنهاُء احتالِلها لألراضي اللبنانية‪ .‬لقد أراد‬
‫والدي من هذا الطرح أن يوضح عملّيًا معنى مفهوم مبدأ «األرض مقابل السالم»‪ ،‬ورمى إلى وضِع‬
‫حٍّد لبعض المناورات السياسية التي كانت تجري بين هذه الدولة العربية وتلك‪ .‬لسوء الحظ لم يحقق‬
‫طرحه زخمًا ثم تالشى مع وفاته‪ .‬حين تسّلمُت سلطاتي الدستورية بادرُت إلى إحياء خطة والدي‪،‬‬
‫وبالتوافق مع مصر طلبُت من حكومتنا أن تبحث األمر مع المملكة العربية السعودية‪ .‬طّو رت‬
‫السعودية الفكرة إلى مبادرة ولي العهد السعودي األمير عبد هللا بن عبد العزيز‪ ،‬التي أصبحت في ما‬
‫بعد مبادرة السالم العربية بعد أن قّدمتها المملكة العربية السعودية إلى جامعة الدول العربية فتبّناها‬
‫مجلُس الجامعة في مؤتمر القمة العربية في بيروت في العام ‪.2002‬‬
‫فيما كنُت أعّد للسفر إلى لبنان لحضور مؤتمر القمة العربية في بيروت في آذار‪/‬مارس من العام‬
‫‪ ،2002‬علمْت دائرة المخابرات بخطة الغتيالي أنا والرئيس حسني مبارك عند وصولنا إلى‬
‫بيروت‪ .‬اتصلُت بالرئيس مبارك وأحطُته علمًا باألمر فوافَق على أن المخاطَر األمنية كانت جديًة‪،‬‬
‫وقررنا أن من األفضل أن نمتنع أنا والرئيس مبارك عن السفر إلى بيروت‪ .‬ولئال يشعَر المسؤولون‬
‫في البلد المضيف بأي إساءة غير مقصودة أعلنُت أنني أِص بُت بزكاٍم شديد ولن أتمكن من حضور‬
‫المؤتمر‪.‬‬
‫ياسر عرفات أيضًا لم يحضر‪ .‬كان الرئيس بوش قد نّفَذ ما وعَد به وأرسل نائَب الرئيس ديك‬
‫تشيني إلى إسرائيل ليقنع رئيس الوزراء شارون بأن يسمَح لعرفات بحضور المؤتمر‪ .‬هذه هي القمة‬
‫التي سيطلق فيها القادُة العرب مبادرَتهم للسالم وهذا ما جعَل حضور عرفات أمرًا في غاية األهمية‪.‬‬
‫لكن شارون لم يحّر ْك ساكنًا‪ ،‬قاَل ‪ :‬إذا ذهَب عرفات إلى لبنان فلن ُيسمح له بالعودة إلى مقره في رام‬
‫هللا‪ .‬وهكذا بقي عرفات في مقره وحاول إلقاء مداخلِته من خالل االتصال عبر الفيديو‪ .‬لكن في‬
‫تصرف مشين أظهرت عبره قصر نظرها شّو شت حكومة شارون على االتصال وانتهى األمر بأن‬
‫خاطَب عرفات المؤتمر عبر رسالٍة صوتية مسجلة‪.‬‬
‫في ‪ 28‬آذار‪/‬مارس من العام ‪ 2002‬أقرت الدول العربية االثنتان والعشرون رسمّيًا مبادرة السالم‬
‫العربية‪ .‬وفق هذه المبادرة‪ ،‬تعتبر الدول العربية النزاع العربي اإلسرائيلي منتهيًا وتدخل في اتفاق‬
‫سالم شامل مع إسرائيل وتنشئ عالقات طبيعية معها في إطاره مقابل انسحاب إسرائيل من كل‬
‫األراضي العربية المحتلة حتى حدود العام ‪ ،1967‬والتوصل إلى حل عادل و«متفق عليه» لمشكلِة‬
‫الالجئين‪ ،‬وقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على األراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع‬
‫من يونيو‪ /‬حزيران ‪ 1967‬في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدُس الشرقية‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬وألول مرة منذ بدء النزاع العربي اإلسرائيلي‪ ،‬أجمعت الدول العربية رسميًا على التقدم‬
‫إلسرائيل بعرض يشتمل إقامة «عالقات طبيعية» معها في إطار حل شامل للصراع‪ .‬وجاء الرد‬
‫اإلسرائيلي سريعًا وقاطعًا‪ .‬في ‪ 29‬آذار‪/‬مارس من العام ‪ ،2002‬أمَر شارون القواِت اإلسرائيليَة‬
‫باقتحام مدن الضفة الغربية في عمليٍة ُعرفت بـ «السور الواقي» وكانت أكبَر عمليٍة عسكرية تقوُم‬
‫بها إسرائيل منذ اجتياِح ها لبنان في العام ‪ .1982‬أعادْت القوات اإلسرائيلية احتالل معظم المناطق‬
‫الفلسطينية الخاضعة للحكم الذاتي التي كانت قد أخَلْتها بموجب اتفاق أوسلو‪ .‬عادت رام هللا وبيت‬
‫لحم وجنين ونابلس مدنًا محتلة‪ .‬وتعّر ض مخّيم جنين للعدوان اإلسرائيلي األقسى حين حاَص رته‬
‫القوات اإلسرائيلية لمدة أسبوعين وأمطرْته بنيران مدافِع ها ودباباتها‪.‬‬
‫في اليوم التالي هاجم الجيش اإلسرائيلي بأسلحِته ودباباِته مجّم َع السلطة الفلسطينية حيث مقر‬
‫ياسر عرفات في رام هللا‪ ،‬مدمرًا جدراَن المجّم ع‪ ،‬قاطعًا عنه التيار الكهربائي‪ ،‬وعازًال القائد‬
‫الفلسطيني في مكتبه في الطبقة الثانية حيث كان يتابُع عمَله مستنيرًا بضوِء الشموع‪ .‬هذان القساوُة‬
‫والعنُف اللذان عامَلْت بهما إسرائيل ياسر عرفات َج عال قلوَب ألِّد أعداِئه َتِر ُّق له‪ .‬حوصَر عرفات‬
‫وُسجن في مكتبه ولم تسمح إسرائيل بخروجه إال قبَل وفاِته رحمه هللا ‪ -‬في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر من‬
‫العام ‪ - 2004‬ببضعِة أسابيع فقط‪ .‬رأى الفلسطينيون والجماهير العربية في عرفات بطًال قوميًا‪.‬‬
‫استمرت موجُة العنف تتصاعد مع دخول امرأة انتحارية إلى متجر في القدس وتفجير نفِسها وسط‬
‫المتسّو قين حيث قتل في الحادث شخصان‪ .‬في نيسان‪/‬إبريل من العام ‪ 2002‬لجأ بعض المقاتلين‬
‫الفلسطينيين الذين كانت القوات اإلسرائيلية تطارُدهم إلى كنيسة المهد في بيت لحم‪ ،‬وما هي إال‬
‫دقائق حتى ضرب الجيش اإلسرائيلي طوقًا حول الكنيسة وحاصَر الفلسطينيين الهاربين في الداخل‬
‫وشمَل بحصاره مئتين وخمسين شخصًا من رهباٍن وراهبات ومدنيين كانوا يؤدون الصالة‪ .‬حملت‬
‫الشاشات هذه الصورة إلى كل أرجاء العالم‪ ،‬بيٌت مقدٌس من بيوت هللا تزّنره اآلليات العسكرية‬
‫اإلسرائيلية المدّر عة وينتشر القناصون على السطوح من حوله وبنادُقهم مصّو بٌة إلى الكنيسة متأهبة‬
‫لصيِد أّي رأٍس يتحرك‪.‬‬
‫أنهت إسرائيل عملياِتها العسكريَة وسحبْت آلياتها وجنوَدها من المناطق الفلسطينية في الحادي‬
‫والعشرين من نيسان‪/‬إبريل‪ ،‬ولكن أبقت كنيسَة المهد تحت الحصار‪ ،‬وكذلك مجّم ع السلطة‬
‫الفلسطينية ومقر عرفات في رام هللا‪ .‬عقدت الجمعية العمومية لألمم المتحدة اجتماعًا طارئًا في‬
‫السابع من أيار وأصدرْت قرارًا عّبرت فيه عن قلِقها الشديد حيال تدهور الوضع في األراضي‬
‫الفلسطينية‪ ،‬وطالبت إسرائيل باعتبارها القوَة المحتلة‪ ،‬بأن تلتزم مسؤولياِتها بموجب اتفاق جنيف‬
‫الرابع‪ .‬كذلك أدانت الجمعية العمومية الهجمات اإلسرائيلية على المواقع الدينية ورفض إسرائيل‬
‫التعاوَن مع فريق األمم المتحدة لتقّص ي الحقائق الذي شكله مجلُس األمن الدولي بموجب قراره‬
‫الصادر في ‪ 19‬نيسان‪/‬إبريل للتحقيق في الهجمات التي شنتها إسرائيل على مخيم الالجئين في‬
‫جنين‪.‬‬
‫استمر الحصار على كنيسة المهد أكثَر من شهر‪ ،‬والصدمُة الكبرى كانت في أن الحكومة‬
‫اإلسرائيلية لم تشعر بأّي خجٍل حياَل السماح لجنودها بفتح النار على موقٍع له هذه الهالة المقدسة لدى‬
‫ماليين البشر‪ .‬وقد حدَث ‪ ،‬في لحظٍة ما‪ ،‬أن دخَل سائحان يابانيان‪ ،‬عن طريق الخطأ‪ ،‬إلى الموقع‬
‫المحاَص ر فأنقَذهما من هذا الخطر المحدق بعُض الصحافيين الذين أشاروا لهما باالبتعاد عن المكان‪.‬‬
‫مع الوقت جرى التفاوُض على حٍّل سلمّي للعقدة‪ ،‬ولكن هذا الحل الجزئي لم يمتد ليشمل النواحي‬
‫األخرى للنزاع األوسع‪ .‬كان واضحا أن شارون لم تكن لديه أي نوايا للوصول إلى السالم‪ ،‬وبالتالي‬
‫كان ال بد للصراع الذي طاَل عقودًا من الزمن أن ينتظَر بروز قادٍة جدد يمتلكون الرؤيا والشجاعة‬
‫لصنع السالم‪.‬‬
‫عقَد مجلس وزراء خارجية الدول األعضاء في منظمة المؤتمر اإلسالمي مؤتمَر ه الدورَّي في‬
‫حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ 2002‬وأصدر قرارًا أّيد فيه مبادرَة السالم العربية‪ ،‬كما قرَر وزراء‬
‫خارجية الدول األعضاء بذَل كل الجهود الممكنة لحشِد الدعم الدولي على أوسع نطاٍق ممكن بغيَة‬
‫تطبيق بنود هذه المبادرة‪ .‬إن منظمة المؤتمر اإلسالمي التي أنشئت في العام ‪ 1969‬خالل مؤتمر‬
‫قمة إسالمية تاريخّي عقد في الرباط‪ ،‬وضَّم ت سبعًا وخمسين دولة‪ ،‬هي أكبر منظمٍة دولية في العالم‬
‫بعد منظمة األمم المتحدة‪ .‬وبتأييدها مبادرَة السالم العربية أعلنت منظمُة المؤتمر اإلسالمي أن‬
‫مقترحاِت السالم العربية تستنُد إلى الدعِم المطلق والواضح من دوِل العالم اإلسالمي قاطبة‪.‬‬
‫وبموافقتها من ناحية المبدأ على إقامة عالقاٍت طبيعية بين جميع الدول األعضاء فيها وبين إسرائيل‪،‬‬
‫فقد وضَعْت المنظمة حًاّل على طاولِة المفاوضات وراَء ه سبٌع وخمسون دولًة إسالمية‪.‬‬
‫عادت المنظمة وأكدْت تأييَدها المبادرَة العربية للسالم في السنة التالية خالل مؤتمر وزراء‬
‫خارجية الدول األعضاء في طهران الذي عقد في حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ ،2003‬ثم خالل مؤتمر‬
‫القمة اإلسالمية الذي عقد على مستوى قادة الدول في ماليزيا في شهر تشرين األول‪/‬أكتوبر من العام‬
‫ذاِته‪ .‬لكّن اإلسرائيليين لم يبالوا بهذه الفرصِة التاريخية غير المسبوقة‪.‬‬
‫أما القرار األكثر مدعاًة للخالف واألشد تسببًا بالتوتر فجاء عندما أعلنت إسرائيل في نيسان‪/‬إبريل‬
‫من العام ‪ 2002‬أن شارون وافق على إنشاء جداٍر فاصٍل بين إسرائيل والضفة الغربية يرتفع حوالى‬
‫ثمانية أمتار‪ .‬أعلنت إسرائيل أن الهدف من بناء الجدار هو منع «اإلرهابيين» من دخول إسرائيل‬
‫ومهاجمتها‪ .‬لكّن أجزاًء منه ُبنيت على أراضي الضفة الغربية التي احتلتها إسرائيل في العام ‪،1967‬‬
‫ال على حدود الهدنة التي ُأعِلنت في العام ‪ .1948‬لقد بلَغ اختراق الجدار أراضي الضفة الغربية اثني‬
‫عشر ميًال في بعض المواقع‪ ،‬وكان هدف إسرائيل من هذا االختراق أن تتيح لثمانين في المئة من‬
‫مستوطني الضفة الغربية البقاء ضمن األراضي اإلسرائيلية حتى لو أّدى التفاُف هذا الجدار وتعُّر ُج ه‬
‫إلى المرور وسط بعض القرى الفلسطينية وتقطيع أوصالها‪ ،‬وفي حاالٍت أخرى إلى قضم قرى‬
‫فلسطينية كاملة التَّف عليها الجدار ووضَعها في المقلب اإلسرائيلي‪.‬‬
‫لكننا والعالم العربي كله ساورنا الشك والقلق من أن هدَف إسرائيل الحقيقي من بناء الجدار هو أن‬
‫تفرض حدوَد األمر الواقع وأن تستولي استيالًء دائمًا‪ ،‬بخالف كل القوانين الدولية‪ ،‬على أراٍض‬
‫احتلتها خالل الحرب وتكون بذلك قد فرضت أمرًا واقعًا وألغت مسبقًا مفعول المفاوضات حوَل‬
‫الوضع النهائي‪ .‬في شهر كانون األول‪/‬ديسمبر من العام ‪ 2003‬طلبت الجمعية العمومية لألمم‬
‫المتحدة من محكمة العدل الدولية أن تصدر حكمًا حول قانونية الجدار‪.‬‬
‫بدأ الفلسطينيون دراسة القضية وإعداَد مطالعتهم بشأنها‪ ،‬وفي ضوء مسؤولية األردن التاريخية‬
‫والقانونية بالنسبة إلى القدس‪ ،‬عرضنا عليهم المساعدة‪ .‬تحل األمم المتحضرة خالفاتها من خالل‬
‫القانون‪ ،‬وكنا مصّم مين على تقديم قضيتنا في أفضِل مطالعٍة قانونية ممكنة‪ .‬اقترحنا على‬
‫الفلسطينيين توكيَل البروفسور جيمس كروفورد (‪ )James Crawford‬من جامعة كامبريدج‪ ،‬وهو‬
‫من كبار خبراء القانون الدولي‪ ،‬أما الفريق األردني فقد وَّكَل السير آرثر واطس (‪Arthur‬‬
‫‪ ،)Watts‬المحامي البريطاني المعروف والمستشار القانوني السابق لوزارة الخارجية البريطانية‪.‬‬
‫في شباط‪/‬فبراير من العام ‪ 2004‬قَّدم الفريقان الفلسطيني واألردني‪ ،‬بمساعدة ممثل األردن في‬
‫األمم المتحدة األمير زيد بن رعد‪ ،‬مطالعَتهما أمام محكمة العدل الدولية ورَّكزا كالمهما على أن‬
‫إسرائيل ال يحق لها أن تبنَي جدارًا‪ ،‬أو أَّي شيء آخر‪ ،‬على أراٍض احتّلتها بصورة غير قانونية‬
‫خالل حرب العام ‪ .1967‬في التاسع من تموز‪/‬يوليو من العام ‪ 2004‬أصدرت المحكمُة الدولية‬
‫قراَر ها بأكثريِة أربعَة عشَر صوتًا مقابَل صوٍت واحٍد هو صوت القاضي األميركي توماس‬
‫بورغنثال ‪ )Thomas Buergenthal(.‬وقد نّص القرار على أن الجداَر ينتهك القانون الدولي‪،‬‬
‫وجاء فيه‪« :‬إن إنشاَء الجدار الذي تبنيه إسرائيل‪ ،‬السلطة المحتلة‪ ،‬في األراضي الفلسطينية المحتلة‪،‬‬
‫بما فيها أماكُن داخَل القدس الشرقية وحوَلها‪ ،‬وتوابعها‪ ،‬هو عمٌل مخالٌف للقانون الدولي»‪ .‬كذلك‬
‫نَّص القرار على أن على إسرائيل وقَف انتهاِك القانون الدولي وعليها إزالة الجدار القائم وتعويض‬
‫الفلسطينيين عن كل األضرار التي تسّبب بها بناء الجدار‪ .‬تجاهلت الحكومة اإلسرائيلية الحكَم‬
‫الصادر عن المحكمة الدولية‪ ،‬وأمَر رئيسها شارون باالستمرار في بناء الجدار‪.‬‬
‫ما من مرٍة في التاريخ‪ ،‬منذ «الغيتو» في وارسو وصوًال إلى جدار برلين‪ ،‬استطاعت الجدران‬
‫التي بنيت للفصل بين الناس أو لسجنهم ولتقييد حرياِتهم‪ ،‬الصمود أماَم مّد الرجاء واألمل اإلنسانيين‪.‬‬
‫وهكذا فإّن إسرائيل في نهاية المطاف لن تستطيع توفير األمن لشعبها من خالل حشر الفلسطينيين‬
‫في غيتو تبنيه حوَلهم أو العودة إلى إقامة جدار برلين ولكن في القدس الشرقية هذه المرة‪ .‬إن األمن‬
‫الذي يتمناه اإلسرائيليون كما يتمناه الفلسطينيون‪ ،‬وهو أن يعيشوا حياًة طبيعية‪ ،‬ال يمكن الحصول‬
‫عليه إال بإزالِة كل العوائق التي تفصل في ما بينهم‪ ،‬وبأن يتعلموا العيش معًا بسالم‪.‬‬

‫***‬
‫بقيت طبول الحرب ُتقرع طوال ربيع العام ‪ 2002‬وصيِفه‪ .‬وقد عدُت إلى الواليات المتحدة في‬
‫الربيع والتقيت الرئيس بوش مرًة أخرى في الثامن من أيار‪ /‬مايو في البيت األبيض‪ .‬كررُت التشديد‬
‫على ضرورة استئناف العملية السلمية‪ .‬كنت في الشهر السابق قد بعثت إليه برسالة أشرُت فيها إلى‬
‫أننا «قمنا بدوٍر أساسّي في بناء توافٍق عربي على المبادرة السعودية التي تحولت إلى التزاٍم جماعّي‬
‫عربّي بوضِع حٍّد للصراع مع إسرائيل وضمان أمِنها وإقامِة عالقاٍت طبيعية بينها وبين كل الدول‬
‫العربية»‪ .‬هذا الجهُد الكبير الذي جمَع العالَم العربي وراَء خطٍة لتحقيق السالم ها هو ذا اآلن‬
‫يتعّر ض لالنهيار بفعِل األعمال اإلسرائيلية‪ .‬حَثْثُت بوش على السعي إلى سحب إسرائيل قواتها‬
‫العسكرية من المدن الفلسطينية التي كانت قد أكملت سيطرتها عليها سيطرًة تامة تقريبًا‪ ،‬والضغط‬
‫من أجل استئناف المفاوضات‪.‬‬
‫لكن الرئيس األميركي بدا كمن َيعتبر عرفات قائدًا فاشًال‪ ،‬ولم يكّف عن التشديد على عجز عرفات‬
‫عن الوفاء بالتزاماته‪ .‬كذلك شكا بوش من تصرف شارون معتبرًا أن مهاجمَة قواِته مقَّر عرفات في‬
‫رام هللا وإبقاَء ه سجينًا في مكتبه جعال شعبيَته الفلسطينية تتزايد‪« .‬لسُت أدري َم ن يمكن أن َيبرَز‬
‫بديًال منه»‪ ،‬قال بوش‪ ،‬وأضاَف أن شارون جعَل من عرفات بطًال وهذا سيبقيه سّيَد المسرح‪ .‬لكنه‬
‫مع ذلك أشار إلى الحاجة إلى أفكاٍر تتيح للقادة الشباب أن َيبرزوا على الساحة‪.‬‬
‫حّذرُت الرئيس األميركي من أن االنطباع السائد بأن هناك وضعًا هادئًا في المنطقة هو انطباٌع‬
‫خاطئ‪ ،‬ألن غضبًا كبيرًا يتفاعُل تحت السطح‪ .‬قلت له إن فترة الهدوء المؤقت عائدة إلى ما ترَكْته‬
‫زيارة باول األخيرة من أمٍل مضافًا إليها الجهود األميركية التي أعقبتها بغية استئناف عملية السالم‪،‬‬
‫لكن كل هذا ال يعني أن العنف ال يمكن أن ينفجر من جديد إذا لم يحصل أّي تحرك خالل األشهر‬
‫المقبلة‪ .‬ثم عدت إلى التأكيد أن أَّي تغييٍر سياسّي في ظروف المنطقة سيتوقف على تحقيق تسوية‬
‫سياسية ذات مواقيت زمنية معينة تكون نتيجُتها إقامَة الدولِة الفلسطينية‪.‬‬
‫كان الرئيس يصغي إلّي ‪ ،‬لكنه عاد يشدد على رغبته في تجّنب ما اعتبره أخطاَء إدارة الرئيس‬
‫كلنتون في التركيز أكثر من الالزم على تفاصيل البحث عن حٍّل بشأن مدينة القدس فيما ُتِر َك أمن‬
‫إسرائيل مهمًال ومنسّيًا‪ .‬ثم قال‪« :‬بإمكاني أن أتصوَر مشاعر شارون حين يبدأ اجتماَعه بي وسط‬
‫األخبار عن تفجير انتحاري»‪ .‬ال شك في أن أحداث أيلول‪/‬سبتمبر المأساوية قد جعلت قادة البلدان‬
‫األخرى التي عانت من الهجمات االنتحارية يتعاطفون بدرجٍة كبيرة مع الرئيس األميركي‪ .‬لكن هذه‬
‫األحداث قد نالت كثيرًا من قدرة اإلدارة األميركية على تفّه م مدى المعاناة الفلسطينية‪ .‬وهنا أخبرني‬
‫الرئيس أن عينه ال تزال على العراق‪.‬‬
‫لم يكَّف الرئيس بوش عن توجيه االنتقاد إلى عرفات‪ ،‬وخصوصًا في خطاٍب ألقاه في ‪24‬‬
‫حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ 2002‬وحدد فيه سياسته بالنسبة إلى إسرائيل والفلسطينيين‪ .‬بدأ بالقول إنه‬
‫ملتزٌم بالوصول إلى حٍّل قائم على مبدأ الدولتين‪ ،‬وقال‪« :‬رؤيتي هي أن تكون هناك دولتان تعيشان‬
‫بسالم وأمن جنبًا إلى جنب‪ .‬ولنقل ببساطة إن سبيًال واحدًا فقط يمكن أن يوصلنا إلى هذا السالم وهو‬
‫أن تحارب كل األطراف اإلرهاب‪ .‬وفي هذه األيام العصيبة‪ ،‬إذا ُقّدر للجميع أن ينزعوا من ذهِنهم‬
‫أحداَث الماضي ويسلكوا نهجًا جديدًا‪ ،‬فسيصبح بإمكاننا الخروج من الظلمة حاملين مشعَل األمل‬
‫المضيء»‪ .‬ثم استدرك قائًال‪« :‬لكّن السالم يتطلب قيادًة فلسطينية جديدة ذات تطلعات مختلفة حتى‬
‫يصبح باإلمكان أن تولَد دولٌة فلسطينية‪ .‬إنني أدعو الشعب الفلسطيني إلى انتخاب قيادات جديدة‪،‬‬
‫قيادات لم تتورط في اإلرهاب»‪ .‬ومقابل ذلك‪ ،‬وعَد بوش‪ ،‬سوف تدعم الواليات المتحدة دولًة‬
‫فلسطينيًة مؤقتة بانتظار أن يتفاوَض الفلسطينيون واإلسرائيليون على الحدود النهائية بين دولتيهم‪،‬‬
‫وعلى النقاط األخرى العالقة‪ ،‬وفي هذا اإلطار يمكننا أن نتوقَع الوصوَل إلى التسوية خالل ثالث‬
‫سنوات‪.‬‬
‫إن فكرَة اإلتيان بقادٍة «لم يتورطوا في اإلرهاب» حسب رؤية بوش هي فكرٌة يصعُب تطبيُقها‪.‬‬
‫فاألميركيون يعتبرون ياسر عرفات «متورطًا في اإلرهاب»‪ ،‬فيما يعتبر الفلسطينيون رئيَس‬
‫الوزراء اإلسرائيلي أرييل شارون «متورطًا في اإلرهاب»‪ ،‬استنادًا إلى دوره في مجازر مخيم‬
‫صبرا وشاتيال لالجئين الفلسطينيين في لبنان في العام ‪ .1982‬لقد أذهلت مالحظات بوش كل َم ن‬
‫قرأها أو سمَعها في الشرق األوسط‪ .‬فياسر عرفات مّثَل الشعب الفلسطيني‪ ،‬أحببناه أو كرهناه‪ ،‬منذ‬
‫سبعينيات القرن الماضي‪ ،‬وقد ناَل جائزة نوبل للسالم باالشتراك مع رابين وبيريز‪ ،‬فكيف يمكن‬
‫اإلدارة األميركية أن تحسَب أن بوسعها إزاحَته من موقعه بهذه البساطة؟ لقد حمَل شارون حقدًا دفينًا‬
‫على عرفات وقرر أن يحاصره في مقره في رام هللا‪ ،‬ولكن ما كنُت أريد أال يحصل هو أن تسلَك‬
‫اإلدارُة األميركية المسلك ذاته‪.‬‬
‫في محاولٍة إلحياء عملية السالم‪ ،‬أطلقنا في شهر نيسان‪/‬إبريل فكرة «خريطة الطريق»‪ ،‬وهي‬
‫مجموعة من اإلجراءات المحددة مرفقٌة بجدوٍل زمني يمكن االستدالل به لمعرفِة مدى التقدم الذي‬
‫أحرزه الطرفان‪ .‬في أوائل حزيران‪/‬يونيو زاَر األردن وليم بيرنز‪ ،‬مساعُد وزير الخارجية األميركي‬
‫لشؤون الشرق األوسط‪ ،‬وقال إنه يرى أن خطة عمٍل مفّص لًة وذات مراحل محددة زمنّيًا ومعايير‬
‫لقياس التقدم هي فكرٌة جيدة ووعَد بأن يمّه َد لها سُبَل الَقبول داخَل الدوائر الحكومية األميركية‪.‬‬
‫لكّن عديدين من أركان إدارة بوش لم تبارْح هم مسألُة العراق‪ ،‬وهذا ما دفَع بالوضع المأساوي‬
‫لمفاوضات السالم إلى رفوِف االنتظار وبالتالي إلى العواقب الوخيمة‪.‬‬
‫اتخذت إسرائيل موقفًا داعمًا للحرب التي كان واضحًا أنها تقترُب بخطى حثيثة‪ ،‬وذلك باختالقها‬
‫وترويجها عند الرأي العام لتهديداٍت خطيرة مصدُر ها العراق‪ .‬وقد نجح السياسيون في إسرائيل بأن‬
‫يجعلوا مواطنيهم في حالِة ُر عٍب دائمة‪ ،‬وهذه مقاربة لها مخاطُر ها نظرًا لكوِنها قابلًة الستثمار‬
‫الطامعين بمكاسَب سياسيٍة سريعة‪ .‬هذا ال يعني أن إسرائيل ال تواجُه أي تهديدات‪ ،‬ولكن أفضل‬
‫الطرق لجعل هذه التهديدات غيَر ذاِت فعل وال قيمَة لها هو أن تقوَم بالعمِل الوحيد الصحيح‪:‬‬
‫التفاوض مع الفلسطينيين على سالٍم دائم‪ .‬وإذا أقدمت إسرائيل على عمٍل كهذا نالت اعتراَف‬
‫المجتمع الدولي برّم ته وربحْت قبوَل العالم اإلسالمي لها‪ .‬لكن المؤسف أن كثيرين من صانعي‬
‫القرار في إسرائيل يعارضون هذا التوّج ه من منطلق أيديولوجي أصولّي ‪ ،‬بينما آخرون من هؤالء‬
‫عاجزون عن تقدير األمور في حقيقِتها وبالتالي عن إدراك ما يمكن أن يأتي به السالم على المدى‬
‫الطويل‪.‬‬
‫منذ ستينيات القرن الماضي وإسرائيل تحاول تحريض الواليات المتحدة على دوٍل في الشرق‬
‫األوسط تعتبُر ها مصدَر التهديد األكبر لها‪ .‬ففي العام ‪ 1967‬أقنعْت إسرائيل الواليات المتحدة بأن‬
‫عليها أن توجَه هي (أي إسرائيل) الضربَة األولى إلى مصر على أساس أن مصر ُتِع ُّد العدة‬
‫لمهاجمِتها‪ .‬كذلك في فترة التمهيد لحرب العام ‪ 2003‬شجع اإلسرائيليون األميركيين على شن‬
‫الحرب على العراق‪ ،‬وفي هذا اإلطار عمل السياسيون اإلسرائيليون على تصوير صدام حسين على‬
‫أنه يشكل تهديدًا استراتيجّيًا لوجود إسرائيل‪ .‬في هذا الوقت بالذات كان بعُض المحافظين الجدد في‬
‫الواليات المتحدة من ذوي العالقات الوثيقة مع إدارة الرئيس بوش يضخمون الخطر العراقي‬
‫المفترض وينفخون بنار الحرب ويحّر ضون عليها‪ .‬هنا لم يتردد بعُض العراقيين في الخارج‪ ،‬من‬
‫ذوي المصالح الخاصة والغايات الشخصية‪ ،‬في االنضمام إلى جوقِة المطّبلين للحرب من خالل‬
‫إغراق المسؤولين في الواليات المتحدة بدفٍق من المعلومات الخاطئة والمباَلغ فيها‪.‬‬
‫انطالقًا من القلق الكبير الذي شعرُت به وأنا أرى اإلعداد للحرب على العراق سائرًا على قدٍم‬
‫وساق‪ ،‬أدليُت في التاسع والعشرين من تموز‪/‬يوليو من العام ‪ 2002‬بحديٍث صحافّي لصحيفة‬
‫«التايمز» اللندنية‪ ،‬قلت‪« :‬اسألوا أصدقاَء نا في الصين وموسكو وإنكلترا وفرنسا‪ ،‬فإن الجميع‬
‫سيخبرونكم أن لدينا مخاوف من العمل العسكري ضد العراق‪ ،‬والعالم بأسره مجمٌع على هذا‪ .‬إن أي‬
‫عمل عسكري ضد العراق سيؤدي إلى عواقب وخيمة ال حصر لها»‪ .‬ووّج هُت انتقادًا شديدًا إلى‬
‫أعضاء إدارة بوش من المحافظين الجدد‪ ،‬وقلت في هذا اإلطار إنهم «يعانون من هوس حيال‬
‫العراق‪ ...‬يمكنك أن تشرَح لهم حقائَق األمور وتتكلم حتى يجَّف حلُقك‪ ،‬ولكن ليس َم ن يسمع وال من‬
‫يدرك أو يريُد أن يدرك فحوى الكالم»‪ .‬في هذه المرحلة كانت الواليات المتحدة تتجه إلى حرٍب‬
‫حتميٍة ال رجوَع عنها‪.‬‬
‫نأى العديُد من القادِة في الشرق األوسط بأنفِسهم عن واشنطن في تلك الفترة تعبيرًا عن استيائهم‬
‫من سياسات الرئيس بوش وحكومِته‪ .‬لكني أنا رأيُت من المهم أن أزوَر العاصمة األميركية بين‬
‫الحين واآلخر ألحاوَل التأثير ما أمكن في مجرى المناقشاِت الدائرة وتذكير اإلدارة األميركية بأهمية‬
‫التحرك إلى األمام نحو إقامة الدولة الفلسطينية‪ .‬وهكذا عدُت إلى واشنطن في نهاية تموز‪/‬يوليو‬
‫مرورًا ببعِض العواصم األوروبية حيث تداولُت مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك في باريس ومع‬
‫رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في لندن بالتوتر المتزايد بين الواليات المتحدة والعراق‪ .‬كنت‬
‫على إدراٍك تام بأن كالمي الصريح لن يعجَب البعض في واشنطن ولن يقع على آذاٍن صاغية‪ .‬لكن‬
‫األردن صديق قديم ألميركا وأنا على يقين من أننا ال نخدم أصدقاَء نا األميركيين في شيء إذا نحن‬
‫حجبنا عنهم مخاوفنا وأسباَب قلقنا في تلك اللحظات الحرجة‪.‬‬
‫استعدادًا لزيارتي لواشنطن طلبت إلى وزير خارجيتنا‪ ،‬مروان المعشر‪ ،‬إعداَد مسَّو دٍة لصيغٍة‬
‫مقترحة من خريطة الطريق نحَو السالم التي يمكن طرُح ها للنقاش مع الرئيس بوش‪ .‬عاَد إلّي مروان‬
‫وقال إنه ووليم بيرنز َقطعا شوطًا كبيرًا من التقدم‪ ،‬لكن كوندوليزا رايس‪ ،‬التي كانت آنذاك مستشارَة‬
‫الرئيس لشؤون األمن القومي‪ ،‬كانت تعارض هذه الفكرة معارضة حاسمة وهي تعتقد أنها «ستوَلُد‬
‫ميتة»‪ .‬والالفت أن رايس لم تشرح المنطَق وراَء موقِفها هذا‪.‬‬
‫قلت لمروان إننا سنطرُح اقتراَح نا هذا مع الرئيس بصرف النظر عن موقف رايس‪ .‬عندما وصلنا‬
‫إلى الواليات المتحدة تبّيَن لي أن صراحتي الصادقة مع الصحافة األوروبية أثارت رد فعٍل غاضبًا‬
‫في أوساط اإلدارة األميركية‪ .‬وكان أفضَل تعبيٍر عن هذا الغضب االتصاُل الذي أجرْته معي‬
‫كوندوليزا رايس لحظة وصولي إلى الواليات المتحدة‪ ،‬حين قالت‪« :‬إن الرئيس منزعج جّدًا من‬
‫تصريحك»‪ .‬فقلُت لها على الفور‪« :‬أنا أقول في العلن ما سمعُته من شيراك وبلير‪ ،‬فإذا كانت الرسالُة‬
‫تزعجكم‪ ،‬فال ُتطلِقوا النار على حامِلها»‪.‬‬
‫صباَح األول من آب‪/‬أغسطس التقيُت الرئيس بوش في البيت األبيض وكان البنُد األساسي على‬
‫جدول اللقاء البحث في عملية السالم‪ ،‬خصوصًا مبدأ خريطة الطريق ومفهوم هذه الفكرة بهدف‬
‫تحريك العملية والسير بها قدمًا نحو حل الدولتين‪ .‬كان من عادِة الرئيس بوش أن يستقبَلني بحرارة‬
‫ُم ظِه رًا مودًة وصداقة‪ ،‬لكن هذه المرة كان جاّفًا وماَل استقباُله إلى الرسمية‪ .‬فيما كنا في طريقنا إلى‬
‫المكتب البيضاوي‪ ،‬كان يحمُل بيده كوبًا فيه كوكاكوال وكثير من مكَّعبات الثلج التي كان يطحُنها بين‬
‫أسنانه كلما أخذ جرعًة من الكوب‪ .‬في هذه األثناء قال إنه انزعج كثيرًا من تصريحي الصحافي‬
‫األخير الذي عَّددُت فيه ما تنطوي عليه الحرب من المخاطر‪ .‬لكن العالقة الشخصية بيني وبين‬
‫الرئيس بوش كانت جيدة وقد تغَّير جّو اللقاء إلى األفضل فيما كنا نتبادُل أطراَف الحديث‪.‬‬
‫شرح الرئيس وجهة نظره حول العراق‪ ،‬وقال إن هناك دفقًا جارفًا من الكالم حول صدام‪ .‬ثم‬
‫انعطف بحديثه ليقول نحن اآلن أمام لحظٍة تاريخية وال أريد أن يقوَل الناس بعد ثالثين سنًة من اليوم‬
‫إن الرئيس بوش والملك عبد هللا قد سنحْت لهما فرصٌة إلحالل السالم الدائم ولكنهما لم يغتنماها‪.‬‬
‫وأضاف‪« :‬يجب أاّل نكون تحت تهديد األشقياء»‪.‬‬
‫بدأُت حديثي بتكرار توضيح موقفي الرافض للحرب‪ ،‬ثم قلت‪« :‬السيد الرئيس‪ ،‬إذا كنَت قد اتخذَت‬
‫قرارًا بشّن الحرب على العراق‪ ،‬فلَم ال تكون صريحًا وواضحًا وتخبر أصدقاَء ك بذلك؟»‪.‬‬
‫كان جواُبه حاسمًا‪« :‬لم أتخذ هذا القرار بعد‪ ،‬وحين أتخُذه سوف َتعلم بذلك»‪ .‬ثم انتقَل إلى القول إن‬
‫عليه أن يتعامَل مع األوروبيين الذين لم يدركوا بعد أن ما يحدث في العراق هو جريمة ضد‬
‫اإلنسانية وهو غيُر مستعد للسماح بأن يستمر‪.‬‬
‫هنا انتقلنا إلى البحث في عمليِة السالم في المنطقة فطلبُت من مروان أن يشرح للرئيس مفهوم‬
‫خريطة الطريق الذي كنا قد توصلنا إليه في عمان‪« .‬علينا أن نؤكد للناس أننا جديون في ما نسعى‬
‫إليه»‪ ،‬قال مروان‪ ،‬وأضاف‪« :‬نحتاُج إلى خريطة طريٍق تنطلُق من موضوِع األمن والمؤسسات‪،‬‬
‫وتعالج األوضاَع اإلنسانيَة في األراضي الفلسطينية‪ ،‬ولكن في الوقت عيِنه ُتدرُج بوضوٍح الخطوات‬
‫األخرى الباقية التي علينا تحقيُقها تدريجًا وصوًال إلى أواسط العام ‪ ،2005‬وبذلك يتمكن‬
‫الفلسطينيون من معرفِة ما يحصلون عليه بالضبط بموجب هذه الخطة‪ ،‬وكذلك يكتسُب المجتمُع‬
‫الدولُّي مزيدًا من الدعم حياَل سعيه لتحقيق األمن»‪.‬‬
‫«ظننُت أنني أوضحُت هذه األمور في خطابي»‪ ،‬قال الرئيس بوش‪ ،‬في إشارٍة إلى مالحظاِته التي‬
‫أدلى بها في ‪ 24‬حزيران‪/‬يونيو وأثارت الكثير من البلبلة والخالف حول مضمونها‪ .‬ثم قال‪« :‬إذا لم‬
‫تكن هذه النقاط واضحة فنحن مستعدون للعمل معكم لتوضيحها»‪ .‬ثم أضاف أن ال مشكلة لديه في ما‬
‫يتعلق بالطرح الذي قدمناه‪ ،‬وأن المسائل المتعلقة باالحتالل والمستوطنات والقدس يمكن العودة إليها‬
‫بعد تحقيق تقدٍم واضح على صعيد تحسين الوضِع األمني وبناِء المؤسسات‪.‬‬
‫هنا تدخَل وليم بيرنز‪ ،‬الذي كان حاضرًا االجتماع‪ ،‬فقال‪« :‬يمكننا أن نأخَذ الخطاب ونترجَم‬
‫مضموَنه إلى نقاٍط واضحة ومحددة»‪ .‬وافق الرئيس على اقتراح بيرنز ثم اختتم اللقاء‪ .‬بعد اجتماِع نا‬
‫بالرئيس اتصلْت كوندوليزا رايس بمروان وَقلَبْت موقَفها السابق من فكرة خريطة الطريق مئًة‬
‫وثمانين درجة قائلًة إن الواليات المتحدة يمكُنها أن تعمَل مع األردن لوضع صيغٍة مقبولة لهذه‬
‫الفكرة‪ .‬بحلول كانون األول‪/‬ديسمبر باتت مسَّو دُة خريطة الطريق كاملًة بين أيدينا‪ ،‬وقد ُأطلقت هذه‬
‫المبادرة الجديدة في أواسط العام ‪.2003‬‬
‫مّه د االجتماع الموّسع الجتماٍع ثنائي بيني وبين الرئيس بوش في غرفٍة جانبية قرب المكتب‬
‫البيضاوي‪ .‬لكن قبل ذلك كان الحديث بيننا قد عاد إلى العراق‪ ،‬وفي هذا السياق قال الرئيس بوش‪:‬‬
‫«أنا وأنت ابنان ألبوين عظيمين‪ ،‬وكالنا مؤمٌن باهلل ولدى كٍّل منا فرصٌة سانحة للقيام بعمٍل صالح»‪.‬‬
‫لقد تحدَث الرئيس بلهجٍة ومضموٍن يشيران إلى اعتقاِده بأن الحرب على العراق إنما هي واجٌب‬
‫دينّي ‪.‬‬
‫كان أخي علي معي في هذا اللقاء‪ ،‬وقد أَخ َذْتنا الدهشُة بالفعل من أن نسمَع الرئيس األميركي‬
‫يستحضر الدين كعامٍل مؤِّثٍر في اتخاِذه قراَر ه‪ .‬هذه الجملة التي قاَلها بوش تركْت لدينا انطباعًا‬
‫واضحًا بأنه قد وصَل إلى قراٍر نهائي بشأن الحرب‪ ،‬على الرغم مما أسمَعنا من تأكيداٍت سابقة‪.‬‬
‫عندما التقيُت بعَض كبار المسؤولين‪ ،‬لدى عودتي إلى عّم ان‪ ،‬لوضِع هم في أجواء الزيارة قلُت لهم‪:‬‬
‫«علينا أن ُنِع َّد أنفَسنا‪ ،‬فهذه الحرب واقعٌة ال محالة»‪.‬‬
‫الفصل التاسع عشر‪ :‬حرب في الصحراء‬

‫الثاني عشر من كانون الثاني‪/‬يناير من العام ‪ 2003‬كان يومًا مشمسًا في بورتسموث‬


‫(‪ )Portsmouth‬حيث تجّم ع حشٌد من عشرة آالف شخص في شوارع هذه المدينة البحرية‬
‫التاريخية البريطانية على أرصفة مينائها وهم يلّو حون موّدعين حاملَة الطائرات «آرك رويال»‬
‫(‪ )Ark Royal‬التي يبلغ وزنها عشرين ألف طن‪ .‬وفيما كانت السفينة تأخذ مسارها خارجًة من‬
‫الميناء‪ ،‬كان ّبحارُتها يقفون متأهبين يستمعون إلى صيحات جمهور المودعين وهتافات التشجيع‬
‫والدعم‪ .‬كانت «آرك رويال» على رأس قوٍة بحرية من ست عشرة سفينًة حربية تحمل ثالثة آالف‬
‫بّح ار من قوات البحرية الملكية‪ .‬ومع أن السبب المعلن رسميًا لخروج األسطول هو القيام‬
‫بـ«مناورات» في آسيا‪ ،‬فإن مساَر ه سيأخذه باتجاه الخليج العربي‪ ،‬وكان معروفًا أن هذا المسار‬
‫سينتهي به في العراق‪ .‬ما إن سمعُت أن البحرية الملكية البريطانية قد خرجت إلى ُعرض البحر‬
‫حتى تيقنُت من أن الحرب باتت على األبواب‪ .‬منذ متابعتي دورًة في كلية األركان في بريطانيا‬
‫وتدّر بي في الجيش البريطاني‪ ،‬كنت أعلُم يقينًا أن الخزينة البريطانية ال يمكن أن تجيز إنفاَق أمواٍل‬
‫بهذا الحجم ما لم تكن الحرب أصبحت ال مفَّر منها‪.‬‬
‫أنا كنت ضد تلك الحرب‪ ،‬مع أن تعاطفي مع الشعب العراقي في معاناته القاسية كان تعاطفًا كبيرًا‪.‬‬
‫كانت الحرب في نظري خطًأ كبيرًا ارتَكَبْته الواليات المتحدة‪ .‬هكذا اعتبرُتها آنذاك‪ ،‬وهكذا ال أزال‬
‫أراها اليوم‪ .‬لقد أرعَبني أن أرى حربًا أخرى تنشب على حدودنا‪ ،‬لكن ما حيلتي إذا كانت قدرتي‬
‫على وقفها منعدمة؟! إّن بعضًا من مسؤوليتي على رأس الدولة هو أن أتوقع ما قد تأتي به األحداث‬
‫وكيف ستدور الدوائر‪ ،‬وأنا كنت مقتنعًا بأن الواليات المتحدة سوف تربح الحرب‪ .‬كنت حريصًا على‬
‫أن يسلَم األردن من أّي أذى يطاُله إذا بدا كأنه انحاَز بموقفه إلى جانب صدام‪ ،‬فقد تعّلمُت من خبرة‬
‫والدي في حرب الخليج األولى‪ ،‬وكيف دفع األردن ثمنًا باهظًا عندما وقعنا في دائرة الظن بأننا أخذنا‬
‫جانب النظام العراقي‪ .‬يوَم ها ُأقصينا عن مسرح الحدث والقدرة على التأثير في أّي تحرك‪ ،‬عزلنا‬
‫األميركيون والبريطانيون كما بعُض دول الخليج‪ .‬كنُت مصّم مًا على إبقاء األردن خارَج هذه‬
‫الحرب‪ ،‬ولكن مع حرصي الشديد على أال نعاَقَب بسبب موقفنا هذا‪.‬‬
‫أرّج ح أن تلك الفترة كانت أصعَب المراحل التي واجهُتها خالل السنوات اإلحدى عشرة األخيرة‪.‬‬
‫فالبعض كان يريدني أن أقف إلى جانب صدام حسين‪ ،‬ولكنني لم أر في ذلك موقفًا سليمًا‪ .‬صّم مت‬
‫على اتخاذ الموقف الذي يحمي األردن ومصالحه مهما كان هذا الموقف موقفًا غير شعبي‪ .‬شعرُت‬
‫بأن هذا ما توقعه مني والدي عندما قرر أن يلقي هذه المسؤولية على كاهلي‪.‬‬
‫لم أكن مستعّدًا للمساومة على مبدأ الحرص على مصلحة األردن العليا‪ ،‬وهذه مسؤولية لم أكن‬
‫ألفِّر َط بها‪ ،‬متحّم ًال تبعاتها ما قَّدرني هللا على ذلك‪ .‬ولكي يستطيع المرء في موقع القيادة أن يحسَن‬
‫القيام بمهمته عليه أن يتقّبل حقيقًة‪ ،‬وإن غير مستحبة‪ ،‬وهي أن القرار الصحيح والذي يخدم‬
‫المصلحة العامة ليس بالضرورة قرارًا يحظى بالشعبية‪ .‬وغالبًا ما تتطلب الظروف من القائد أن يقف‬
‫حازمًا حياَل المصالح العليا ويقاوَم إغراء االنجراف مع المشاعر العاطفية العامة‪ .‬إن المنطق السليم‬
‫وُح سن التقدير اللذين يقودان إلى تحقيق مصلحة البالد العليا على المدى الطويل هما‪ ،‬دون سواهما‪،‬‬
‫األساُس الذي َيبني عليه القائد قراره‪.‬‬
‫كان قطار الحرب مسرعًا وعلى مساٍر منحدر‪ ،‬ولم أكن قادرًا على تخفيف اندفاعه‪ .‬ومن هنا‬
‫رأيت أّن أفضَل ما يمكنني القيام به هو حماية األردن من تداعيات هذه الحرب‪.‬‬
‫حاولُت أن أسير حذرًا‪ ،‬معارضًا الحرب ومبقيًا األردن خارج ويالتها ما استطعت إلى ذلك سبيًال‪.‬‬
‫لكن ما كنت متيقنًا منه هو أن الحرب كلما طالت زادت ويالُتها هوًال وتدميرًا‪ ،‬وزاَد بالتالي الضغُط‬
‫على األردن‪ .‬ولزيادة الطين ِبّلة فقد وقعُت في تلك الفترة تحت ضغٍط شديد الوطأة من اإلدارة‬
‫األميركية التي أرادت إقامة قواعَد عسكريٍة لقواتها في األردن‪ .‬وفي األشهر السابقة للحرب بدأْت‬
‫محاوالُت جّر األردن إلى الدخول في النقاش الدائر حول القواعد العسكرية البرية‪ ،‬ذلك أن حدودنا‬
‫البّر ية الطويلة مع العراق كانت مغرية جّدًا بالنسبة إلى واضعي الخطط العسكرية األميركية الذين‬
‫رَأْو ا فيها موقعًا استراتيجّيًا مثاليًا لمهاجمة غرب العراق‪.‬‬
‫النزاع الذي بدا أنه آٍت حتمًا كان موضوَع نقاش مثقٍل بالعواطف الجّياشة‪ ،‬سواء أكان في األردن‬
‫أم في أرجاء الشرق األوسط على مداه الواسع‪ .‬وقد شهد كانون الثاني‪/‬يناير من ذلك العام دفقًا من‬
‫التظاهرات التي مشى فيها عشرات آالف من الناس‪ ،‬من أنقرة إلى بيروت‪ ،‬يعّبرون عن سخطهم‬
‫وغضبهم حياَل حرٍب لم يروا لها سببًا يبررها‪ .‬في األول من شباط‪/‬فبراير خرجت في شوارع عمان‬
‫تظاهرة ضّم ت حوالى خمسة آالف شخص نظمتها أحزاب المعارضة‪ ،‬وقد هتف المتظاهرون ضد‬
‫الحرب وحملوا صور صدام حسين وأنشدوا األناشيد الحماسية‪ ،‬ورّددوا «بوش اإلرهابي‪ ،‬اخرْج من‬
‫أرضنا»‪.‬‬
‫كنا مصممين على الحفاظ على سيادة حدودنا الوطنية وعدم السماح ألٍّي من أطراف النزاع‬
‫بتجاوز الحدود إلى داخل األردن‪ .‬خالل تلك الفترة عبرت في ليلة من الليالي األجواَء األردنية‬
‫طائرٌة مجهولة الهوية دون إذٍن بدخول أجوائنا‪ ،‬ولكي تتجنب المراقبة حّلقت سريعة وعلى ارتفاع‬
‫منخفض‪ .‬لكن راداراتنا كشفتها وأرسلنا طائرتي ميراج العتراضها‪ .‬كانت تتجه إلى العراق وقد‬
‫اعترضتها طائرتانا فيما كانت تقترب من الحدود األردنية ‪ -‬السعودية واقتربتا منها بما يكفي لمعرفة‬
‫أنها طائرة نقل عسكرية من طراز «سي ‪ »130‬كانت تطير من دون أي أضواء‪ ،‬ورفضت أن‬
‫تستجيب للنداءات المتكررة باإلعالن عن ُهّو يتها‪.‬‬
‫نظرًا لضخامة الحشد العسكري الذي زّج ه التحالُف الدولّي في المعركة‪ ،‬كانت أجواء المنطقة‬
‫بالقرب من حدودنا تعّج بطائرات النقل العسكرية من «سي ‪ »130‬وسواها‪ ،‬وما أردنا معرفته هو‬
‫ماهيُة تلك الطائرة وسبب دخولها أجواءنا سّر ًا من دون إذننا‪ .‬اتصلنا بمقر القيادة المركزية للتحالف‬
‫وكذلك بالجهات العسكرية المعنية في إسرائيل‪ ،‬ولكن ال هؤالء وال أولئك اعترفوا بأن الطائرة تابعة‬
‫لهم‪ .‬اتصل الطياران األردنيان بشقيقي فيصل‪ ،‬الذي كان قائد سالح الجّو ‪ ،‬وسأاله إذا كان عليهما‬
‫إسقاط الطائرة‪ .‬لو نحن أطلقنا النار على طائرة للتحالف الدولي وأسقطناها لوقعنا في مشكلٍة دولية ال‬
‫ندري إلى أين كانت ستوصلنا‪ .‬مع وصول الطائرة إلى الحدود السعودية أمر فيصل طياريه بعدم‬
‫فتح النار عليها‪.‬‬
‫في اليوم التالي حاوَل فيصل متابعة المسألة مع العسكريين األميركيين الذين أكدوا له أن الطائرة‬
‫لم تكن تابعة للتحالف الدولي‪ ،‬ولكن األميركيين وافقوا على محاولة معرفة وجهة الطائرة بعد‬
‫مغادرتها األجواء األردنية‪ ،‬وفي ما بعد علمنا أنها بعد أن تجاوزت حدودنا إلى المجال الجوي‬
‫السعودي استدارت واتجهت للهبوط في إسرائيل‪.‬‬
‫عاَد دان حالوتس‪ ،‬قائد سالح الجو اإلسرائيلي آنذاك‪ ،‬واتصل بفيصل ليؤكد له أن الطائرة لم تكن‬
‫إسرائيلية‪ ،‬وقال‪ :‬قد يكون ما رآه الطياران غيمًة من رقائق التشويش على الرادار‪ .‬زار األردن بعد‬
‫بضعة أيام ضابٌط إسرائيلي كبير‪ .‬طلبُت من فيصل أن يقابله وأن يضع له النقاط على حروفها حيال‬
‫السياسة األردنية بالنسبة إلى الحرب الدائرة‪ .‬ذهَب فيصل لمقابلة الضابط وكان واضحًا وحاسمًا‪:‬‬
‫«نعرف أنها كانت طائرَة شحن «سي ‪ »130‬وأنها من طائراتكم»‪ ،‬قال فيصل‪ ،‬ثم أضاف‪« :‬أريد أن‬
‫يكون كالمي واضحًا تمامًا بأننا سنتعامل مع الوضع‪ ،‬في حال تكرار هذا الحدث‪ ،‬بمنتهى الشدة‪ .‬لن‬
‫نسمَح ألحد بأن ينتهَك مجاَلنا الجوّي ‪ ،‬وكل ما َيعبر الحدود سوف نطلق عليه النار»‪.‬‬
‫في تلك المرحلة كان الجنرال تومي فرانكس مسؤوًال عن مخططات الحرب‪ ،‬وكنت قد عرفت‬
‫الجنرال فرانكس منذ تولى مسؤولية القيادة المركزية في العام ‪ .2000‬واحٌد من نخبة العسكريين‬
‫الذين التقيُتهم في حياتي‪ ،‬رجل رصين وموضوعي وأبعُد ما يكون عن الُه راء‪ .‬انسجمنا جيدًا منذ‬
‫لقائنا األول‪ .‬عندما كنت قائدًا للعمليات الخاصة خرجنا معًا في مناورات مشتركة‪ ،‬وعلمُت أنه‬
‫يشاركني هواية ركوب الدراجات النارية‪ .‬خالل زيارتي األخيرة إلى مدينة «تامبا» في والية‬
‫فلوريدا‪ ،‬حيث مقر القيادة المركزية‪ ،‬قَّدَم لي قطعَة لحم شهية من صدر العجل‪ .‬صحيح أن مدرستي‬
‫كانت في «نيو إنغلند»‪ ،‬لكنني كنت أعرف عن تكساس ما يكفي‪ ،‬ومما عرفُته أن من الصعوبة‬
‫بمكان أن تنتزَع من ابن تكساس وصفَته الخاصة بإعداد الشواء‪ .‬لكن بعد أخذ ورّد طويلين كشَف لي‬
‫السّر ‪ ،‬وأصبحُت اليوم أقّدم لحم العجل على طريقة تومي فرانكس لضيوف األردن الرسميين‪.‬‬
‫كان معروفًا عن الجنرال فرانكس قدرُته على ابتكار التعابير والجمل ليوضَح موقفه‪ ،‬ولعَّل من‬
‫الممتع أن نرى كتابًا ُتجمع فيه كل تلك التعابير المبتكرة‪ ،‬وإذا لم يكن الكالم موجهًا إلى السامع فإنه‬
‫من دون شك سيكون في غاية االستمتاع‪.‬‬
‫زار الجنرال فرانكس عّم ان ليضعني في أجواء االستعدادات للحرب‪ ،‬آمًال أن يتمكن من الحصول‬
‫على موافقتي على نشر قوات أميركية في األردن‪ .‬سحَب لوحًة كبيرة وقال‪« :‬أريد أن أنشر خمسًة‬
‫وعشرين ألفًا من قواتنا في األردن»‪ .‬ثم استطرد شارحًا بالتفصيل خطَته لنشر تلك القوات‪ ،‬وكان‬
‫يحمل قائمًة بالوحدات العسكرية التي يريد نشرها عندنا‪ ،‬ومنها قيادة مشتركة للقوات الخاصة‪،‬‬
‫وحدات لوجستية‪ ،‬بطاريات باتريوت‪ ،‬وسوى ذلك من الوحدات القتالية‪.‬‬
‫أكّن للجنرال فرانكس احترامًا وتقديرًا كبيرين‪ ،‬لكن في هذه الحالة لم أكن أللبي طلبه‪ .‬ناقشنا‬
‫القائمة التي بين يديه بندًا بندًا‪ ،‬وأشرُت إلى الوحدة اللوجستية وسألته‪« :‬ما هذه المجموعة؟»‪ .‬قال‪:‬‬
‫«هؤالء نحتاج إليهم لكي يأخذوا الشاحنات والمعدات األخرى من العقبة إلى العراق عندما تنتهي‬
‫الحرب‪ ،‬المقصود إرسال المؤن واالحتياجات حين نبدأ بالتوّج ه إلى بغداد‪ .‬سوف تأتي فرُق النقل‬
‫ومعها أعداٌد كبيرة من الشاحنات والسائقين»‪.‬‬
‫قاطعُته قائًال‪« :‬في هذه الحال يبدو لي أن الجيش األردني يمكنه القيام بهذه المهمة‪ ،‬ما أقصده هو‬
‫أننا إذا كنا سنعمُل معًا فعليكم أن تثقوا بنا‪ ،‬وال أظن أنكم بحاجة إلى اإلتيان بهؤالء الرجال‪ .‬بإمكاننا‬
‫نحن أن نشحن المواد حتى الحدود»‪.‬‬
‫تابع فرانكس شرحه واصفًا كيف يريد أن يقيم مركزًا قيادّيًا للعمليات الخاصة ومهبطًا مركزّيًا‬
‫لمروحيات النقل داخل األردن‪.‬‬
‫قلت له‪« :‬اسمع‪ ،‬المركز القيادي يمكن أن تقيمه في أّي مكاٍن آخر‪ ،‬في غير األردن‪ ،‬ثم إنني ال‬
‫أريد أن تنطلق المروحيات أو تدخل إلى العراق من حدودنا‪ .‬ال أريد أن ُيشن هجوم من األردن على‬
‫العراق»‪.‬‬
‫تم االتفاق على جعل مقر القيادة خارج األردن وكذلك األمر بالنسبة إلى مروحيات «تشينوك»‬
‫وسواها من وسائل النقل الجوي التي يمكن أن تكون في أمكنة أخرى مثل قطر‪ .‬وبعد نقاٍش طويل‬
‫بين رجلين عسكرّيين اتفقنا على أن يكتفي األميركيون بنصب بضع بطاريات باتريوت للدفاع‬
‫الجوي في األردن لكي تعترض صورايَخ سكود إذا ما أطلقت من العراق عبر مجالنا الجوي‪.‬‬
‫مع هذا االتفاق غادَر نا الجنرال فرانكس‪ ،‬وتابعُت أنا اإلشراف على استعداداتنا لمواجهة تداعيات‬
‫النزاع اآلتي‪ .‬لكن في رمال السياسة الشرق أوسطية المتحركة‪ ،‬ما من خطٍة عسكرية يمكن أن‬
‫تصمد طويًال دون أن يمَّسها تغيير‪ ،‬فقد أرادت الواليات المتحدة أن تحرك فرقَة مشاة عبر األراضي‬
‫التركية تمهيدًا لضربٍة توّج هها إلى شمال العراق‪ .‬لكن في األول من آذار‪/‬مارس صّو َت البرلمان‬
‫التركي رافضًا مرور القوات األميركية في األراضي التركية‪ ،‬وقد أْح دَث الموقف التركي عرقلًة‬
‫وضعضعًة للخطط الحربية األميركية‪ .‬لم يمِض وقت طويل حتى جاءني اتصال هاتفي من نائب‬
‫الرئيس األميركي ديك تشيني الذي طلب مني االستجابَة لما سيطلبه تومي فرانكس خالل االجتماع‬
‫الذي كان قد ُح ِّدد بيننا في اليوم التالي‪.‬‬
‫السيد نائب الرئيس‪ ،‬أجبُته‪« :‬أنا وتومي فرانكس تربُطنا عالقة جيدة‪ ،‬والثقة بيننا كبيرة‪ ،‬دعنا‬
‫كرجلين عسكريين نحاول التفاهم في ما بيننا على ما يمكن أن ُيعمل»‪ .‬وافق تشيني‪ ،‬وأنهينا‬
‫االتصال‪ .‬كنت كلما زرت واشنطن أحرص على تناول الفطور مع نائب الرئيس تشيني‪ ،‬أحيانًا نكون‬
‫وحدنا وأحيانًا أخرى ينضم إلينا أحد معاونيه أو ابنُته ليز التي كانت آنذاك من مسؤولي وزارة‬
‫الخارجية‪ .‬كان تشيني شخصيًة قوية وصعبة‪ ،‬متشبثًا بمواقفه إلى أبعد الحدود‪ ،‬لكنه كان داعمًا‬
‫لألردن باستمرار ومتفهمًا لمصاعبنا المالية‪ .‬وبما أنه كان ذا نفوٍذ كبير في إدارة بوش كنت في‬
‫غالب األحيان أبحث معه النقاط التي أريد إيصالها إلى حيث يجب‪ ،‬مثل عملية السالم والعراق‬
‫وسوى ذلك‪ ،‬قبل اجتماعي بالرئيس بيوم أو يومين‪ ،‬وبذلك كنُت أستنير بردة فعله على تلك النقاط‬
‫وأرى فيها إشارًة إلى ما يمكن أن أسمعه في المكتب البيضاوي من آراء أو ردود‪.‬‬
‫في اليوم التالي عاد الجنرال فرانكس إلى عمان‪« .‬ال نرى حاجًة إلى المجيء بقواتنا إلى األردن‬
‫في هذه المرحلة»‪ ،‬قال فرانكس‪ ،‬ثم أضاف‪« :‬لكن نريد أن نضع بعَض عتادنا خارج البحر‬
‫المتوسط‪ ،‬وهذا يعني إطالق صواريخ «توماهوك» وشّن غاراٍت جوية من حامالت طائراتنا عبر‬
‫المجال الجوي األردني باتجاه العراق»‪.‬‬
‫قلت له‪« :‬تومي‪ ،‬لماذا تريدون أن تعبثوا مع صديٍق لكم بهذه الطريقة؟ إذا كنتم مضطرين إلى‬
‫االنطالق عبَر أجواء بلٍد ما‪ ،‬فعليكم أن تختاروا بلدًا آخر‪ .‬لماذا تحشروننا في ُص لب خط النار؟ ثم هل‬
‫بإمكانكم أن تضمنوا عدم تسّلل إسرائيل عبر أجوائنا لضرب العراق؟»‪.‬‬
‫في النهاية تفّه م الجنرال فرانكس موقفي ووافق على نقل كل نشاطهم العسكري إلى مواقع خارج‬
‫األردن‪ .‬إنني مدين له حتى هذه الساعة بالشكر الكبير‪ .‬لعّل الصداقة الشخصية الصادقة التي بنيُتها‬
‫معه عبر السنوات قد أّدت دوَر ها عند الحاجة الحقيقية‪ ،‬فقد أعطاني أذنين صاغيتين‪ ،‬وتفّه م‬
‫اعتراضي وأسباَب قلقي فغّير خطَطه العسكرية مراعاًة لهذه األسباب‪ .‬ولو أن الواليات المتحدة‬
‫ضغطت أكثر مما فعلت لتمرير طائراتها فوق أجوائنا ألصررُت على رفض طلبها‪ ،‬وَلكان هذا‬
‫الرفض سيضع األردن في موقف شديد الصعوبة‪.‬‬
‫بدأت الحرب بعد ذلك بفترة قصيرة‪ ،‬وما كاد الفجر يبزغ على بغداد في العشرين من آذار‪/‬مارس‬
‫من العام ‪ 2003‬حتى انهالت صواريخ «توماهوك» األميركية على ملجأ حصين كان ُيَظن أن صدام‬
‫كان مختبئًا فيه‪ .‬وفي وقٍت الحق من ذلك اليوم‪ ،‬حوالى الثامنة مساًء ‪ ،‬انطلق الهجوم البرّي وزحفت‬
‫الدبابات األميركية والبريطانية انطالقًا من الكويت باتجاه البصرة وبغداد‪.‬‬
‫كانت شاشات التلفزة تغطي عملية الغزو عبر األقمار الصناعية تغطيًة حية عند حدوثها‪،‬‬
‫وكالكثيرين من العرب كنت أشاهد هذه الصور ويغمرني شعور هو مزيٌج من الحزن والقلق‬
‫المخيف‪ .‬لم أكن يومًا صديقًا لصدام حسين‪ ،‬الذي قاَد نظامًا سياسّيًا ديكتاتوريًا‪ ،‬لكّن حزنًا كبيرًا‬
‫أصابني لرؤية تلك اآلالم والكوارث تنزل باألبرياء من العراقيين الذين دفعوا ثمن طموحه‬
‫وعنجهّيته‪ .‬العراقيون شعب عظيم‪ ،‬وبغداد حاضنُة التاريخ الكبرى بثراء تراثها الثقافي‪ ،‬وقد‬
‫اشُتهرت بمواقعها وإنجازاتها الفكرية ومنها «بيُت الحكمة» المؤسسة التي حفظت أعمال عديد من‬
‫فالسفة اليونان وقامت بترجمتها‪ .‬لقد أغنى العراُق خزانَة الفكر العربّي واإلنسانّي بالعديد من كبار‬
‫العلماء والموسيقيين والكّتاب والشعراء‪ ،‬وما المتنبي‪ ،‬شاعُر العرب الكبير الذي َقهَر الزمَن ولم‬
‫ينزل عن عرش الشعر منذ ألٍف ونّيف من السنين‪ ،‬إال واحٌد من هؤالء‪ .‬تقطعت قلوبنا لرؤية هذه‬
‫المدينة التاريخية ُتدَّم ر تحت وابٍل من الصواريخ األميركية! كثيرون هُم العرب الذين أغضبهم‬
‫وأحزنهم مشهُد القوات األميركية تغزو وتدّم ر بلدًا عربّيًا شقيقًا‪ .‬شعرنا جميعًا في الشرق األوسط‬
‫بالغضب والصدمة‪.‬‬
‫كنت أعلم أن األردنيين بأكثريتهم الساحقة‪ ،‬تثقل عليهم مشاعُر القلق‪ ،‬وتحدثت إليهم عما بذلُته من‬
‫الجهد الحثيث للحؤول دون وقوع الحرب‪ ،‬وفي هذا اإلطار قلُت خالل مقابلٍة مع الصحافة األردنية‪:‬‬
‫«لقد استخدمنا كل عالقاتنا بالدول المؤثرة في العالم من أجل تجّنب هذا اليوم الذي نرى فيه‬
‫العراق الشقيق يتعرض للغزو بما يحمله من آالم يعانيها األبرياء كما تعانيها المنطقة بأسرها‪...‬‬
‫شعبنا األردني وأنا واحد منهم ندين بشدة قتل األطفال والنساء‪ ...‬وأنا كأب أشعر بألم كل أسرة‬
‫عراقية وكل طفل وأب عراقي»‪.‬‬
‫أعربُت عن مشاعري الحقيقية‪ ،‬لكّن الحرب قد اندلعت وكانت يداي مقّيدتين وال حيلة لي في وقف‬
‫تلك العاصفة المجنونة‪ ،‬ولم يعد أمامي سوى االعتماد على الحّس السليم لدّي بأّن ما أفعُله هو‬
‫األفضل بالنسبة إلى األردن واألردنيين‪.‬‬
‫مع أن النزاع العسكري كان يبعد مئات األميال عن األردن‪ ،‬لم يمِض وقت طويل حتى شعرنا‬
‫بارتجاجاته داخَل البلد‪ .‬ففيما كنت في منزلي أشاهد األخبار على شاشة التلفزة‪ ،‬رّن الهاتف وكان‬
‫على الخط سعد خير‪ ،‬رئيس دائرة المخابرات العامة (الذي انتقل إلى رحمته تعالى في العام ‪.)2009‬‬
‫«لقد كشفنا خطًة عراقية لتسميم مخازن المياه في الزرقاء ومواقع أخرى»‪ ،‬قال‪ ،‬ثم أضاف‪« :‬الرأس‬
‫المنفذ هو الملحق العسكري في السفارة العراقية‪ ،‬وهو ينوي التنفيذ قريبًا‪ .‬ماذا تريدنا أن نفعل؟»‪.‬‬
‫تسميم الخزين المائي لو تَّم لسقَط نتيجَته مئات الضحايا من األردنيين األبرياء‪ ،‬وربما آالف‪ ،‬ولكن‬
‫التعامل مع مؤامرٍة كهذه ليس عمليًة سهلة‪ .‬رجال صدام الذين ينتمون إلى البعثة الدبلوماسية في‬
‫عمان هم دبلوماسيون يتمتعون بالحصانة‪ ،‬وتوقيُفهم قد يؤدي إلى مشكلة دولية‪ .‬تفَّح صُت الدالئل‬
‫الحّسية المتوافرة فتبّين لي أن صدقيتها ال تسمح بأن نقَف متفرجين دون اتخاذ اإلجراءات الالزمة‬
‫لحماية مواطنينا‪.‬‬
‫قلت لسعد‪« :‬إذا كنا أمام خطٍر يهدد حياة األردنيين‪َ ،‬فْلننَس الحصانَة الدبلوماسية اآلن‪ .‬اذهبوا‬
‫وأوقفوهم في الحال»‪ .‬اقتحم رجال المخابرات منازل الدبلوماسيين العراقيين وقبضوا على الملحق‬
‫العسكري واثنين من معاونيه‪ ..‬وما إن ذاع الخبر حتى ارتفعت صرخة احتجاج من الرأي العام الذي‬
‫كان يجهل ما اكتشفناه من أدّلة على ما كان النظام العراقي يخطط للقيام به‪ ،‬وخرجت انتقادات كثيرة‬
‫وقال أصحاُبها‪« :‬كيف لكم أن تقتحموا أمالك السفارة وتعتقلوا دبلوماسيين عراقيين؟»‪ .‬كان جوابي‬
‫لهؤالء‪ ،‬ثقوا بما أقول لكم‪ ،‬وبأن ما فعلناه مبنّي على معلومات صحيحة‪ ،‬وأن أرواحًا أردنية كانت‬
‫مهددة‪.‬‬
‫صباح اليوم التالي جاء السفير العراقي لمقابلتي وكان يستشيط غضبًا‪ .‬قال‪« :‬لدّي رسالة من‬
‫صدام‪ ،‬إنه في غاية الغضب نتيجَة عملكم هذا»‪.‬‬
‫أجبُت السفير‪« :‬أنا على كامل االستعداد ألن أخرَج إلى العلن وأقول إنني أوقفت هؤالء الرجال‬
‫الثالثة ألنهم كانوا يتآمرون لقتل مئات األردنيين وربما اآلالف منهم‪ .‬لكنني أتطلع إلى ما بعد‬
‫الحرب‪ ،‬سعادة السفير‪ ،‬وال أريد أن أقول كالمًا من شأنه تدمير العالقة األخوية بين الشعبين العراقي‬
‫واألردني‪ .‬ولذلك أرجو أن تنقل هذه الرسالة إلى صدام‪ :‬إذا كانت هذه هي الطريقة التي تريدونها‬
‫للتعامل مع الموضوع‪ ،‬فإنني سأكشف للعلن كيف يحاول نظاُم ك أن يقتَل المدنيين األردنيين»‪ .‬عاَد‬
‫إلّي السفير ‪ -‬وهذه شهادة له ‪ -‬وأكد لي أنه أبلغ صدام برسالتي‪ ،‬وأن «المشكلة باتت منتهية»‪ .‬كان‬
‫السفير قد أبلغ وزارة الخارجية في بالده أنهم قاموا بعمٍل أخرق‪ ،‬وأننا في األردن مستعدون لنشر‬
‫الخبر علنًا مما سيسّبب إشكاًال على الصعيد الدولّي إذا هم اختاروا االستمرار في إثارة المسألة‪.‬‬
‫وهكذا انطفأ الموضوع‪ ،‬فطردنا الرجال الثالثة‪ ،‬وتوقف سيُل االتهامات العراقية باتجاهنا‪ .‬في هذه‬
‫المرحلة كانت لديهم مشاغُل أخرى أكثر إلحاحًا‪.‬‬
‫في الثامن والعشرين من آذار‪/‬مارس‪ ،‬خرج آالف األردنيين بعد صالة الجمعة إلى الشوارع في‬
‫كل أنحاء البالد احتجاجًا على الحرب ضد العراق‪ .‬وفي عمان تجَّم ع حوالى ثمانمئة متظاهر بالقرب‬
‫من السفارة اإلسرائيلية‪ ،‬وراحوا يهتفون‪« :‬يا صدام يا حبيب‪ ،‬كيماوي على تل أبيب!» ثم حاول‬
‫المتظاهرون الزحف نحو السفارة التي كانت على مسافٍة قصيرة من تجمعهم‪ ،‬لكن الشرطة فّر قتهم‬
‫مطلقًة الرصاص في الهواء‪.‬‬
‫لقد رأى المتظاهرون أن الحرب على العراق هي هجوم يشُّنه الغرب على العالمين العربي‬
‫واإلسالمي‪ ،‬وهي استمرار لتاريخ طويل من التعامل العنفّي الذي اعتاده الغرب مع منطقتنا‪ .‬هذه‬
‫النظرة وجدت ما يعّز زها ويدعم آراء أصحابها عندما أشار الرئيس بوش ُبعيد هجمات الحادي عشر‬
‫من أيلول‪/‬سبتمبر إلى الحملة على اإلرهاب مستخدمًا تعبير «الصليبية»‪ .‬هذا االختيار غير الموفق‬
‫للتعابير الحساسة أشعَل في أذهان العرب الذكريات البشعة لتلك الغزوات الوحشية التي شهدتها‬
‫القرون الوسطى‪ ،‬واحتالل الصليبيين الدموّي للقدس‪ .‬وها نحن أوالء نشهد‪ ،‬بعد مئات السنين‪ ،‬جيشًا‬
‫غريبًا يعود ليغزو أرضًا عربية‪ .‬كذلك اعتقد البعض أن الواليات المتحدة إنما كانت تنفذ مشيئًة‬
‫إسرائيلية تريد تدمير بلٍد عربي قوي‪ ،‬كما رأى آخرون أن األميركيين أرادوا من وراء الحرب‬
‫استبدال الرئيس العراقي بآخر يكون أكثر خضوعًا لمشيئة شركات النفط األميركية‪.‬‬
‫بعد ثالثة أيام حاول جمٌع ضم ‪ 99‬شخصًا من الشخصيات األردنية المرموقة‪ ،‬من بينهم أربعُة‬
‫رؤساء حكومات سابقين‪ ،‬ركوَب هذه الموجة الشعبية المعارضة للحرب‪ ،‬فطالبوا بوقوف األردن‬
‫إلى جانب صدام في الحرب وقيامه بأعماٍل كنُت مدركًا ‪ -‬كما كانوا هم مدركين ‪ -‬أنها ال تخدم‬
‫المصلحة الوطنية‪ .‬مهما تكن تلك المواقف الخطابية الحماسية ذاَت وقٍع شعبّي يدغدغ مشاعر الرأي‬
‫العام ويستجيب لرغبات الجماهير‪ .‬فإن األردن لم يكن‪ ،‬وسَط تلك الظروف القاسية‪ ،‬في وضٍع يتيح‬
‫له اتخاذ قراراٍت مبنيٍة على العواطف المتأججة‪ .‬كان علّي أن أنظر إلى األمام‪ ،‬يوم تتوقف الحرب‪،‬‬
‫وأرى في ضوء المعطيات الواقعية ما هي المصلحُة الوطنية العليا وكيف نجعل مواقَفنا في خدمة‬
‫هذه المصلحة‪ .‬بناًء على معرفتي بما لدى الفريقين من القوة العسكرية‪ ،‬كنت أرى أنها ستكون حربًا‬
‫غير متكافئة يطلق فيها األميركيون وابل نيرانهم على العراقيين الذين ال يملكون قوة مساوية للرد‪،‬‬
‫وأنها سوف تنتهي في أجٍل قصير لمصلحة الفريق األول‪ .‬لكّن البعض في األردن كانوا أقّل يقينًا‬
‫بصحة هذا الرأي‪.‬‬
‫سّج لت القوات األميركية والبريطانية نجاحاٍت سريعًة فاحتلت مدينة البصرة الجنوبية بعد أيام قليلة‬
‫من بدء الهجوم‪ .‬لكن وسائل اإلعالم‪ ،‬خصوصًا قنوات األقمار الصناعية العربية‪ ،‬بدأت تبث أخبارًا‬
‫عن الصعوبات التي كانت تواجهها تلك القوات‪ .‬كانت التحليالت التي بّثتها بعض تلك القنوات والتي‬
‫جاءت بجنراالت متقاعدين إلعطائها الطابع التقني الجدي‪ ،‬مقنعًة إلى درجة جعلت كثيرين‪ ،‬بمن‬
‫فيهم سياسيون‪ ،‬يعتقدون أن الحرب سوف تطول كثيرًا‪ ،‬حتى إنهم حِسبوا أن العراق كان صاحَب‬
‫اليد العليا‪ .‬بعد مرور أسبوع على بداية الحرب أعاقت عاصفٌة رملية هوجاء تقدَم القوات األميركية‬
‫نحو بغداد‪ .‬كانت زوجتي تتابع األخبار على شاشات التلفزة التي كانت تقاريرها تقول إن مسار‬
‫الحرب ليس في صالح األميركيين‪ .‬لكني أنا كنت أعلم أن المرء ال يعرف خفايا الحرب وكل حقائقها‬
‫عبر مشاهدة شاشات التلفزة‪ .‬عندما زرُت بغداد برفقة والدي قبل حرب الخليج األولى سمعُت من‬
‫العراقيين مباشرًة ما يقوله النظام العراقي عن قوته العسكرية واتضح لي ميُله الشديد إلى المبالغة في‬
‫تقييم هذه القوة‪ .‬كنت على يقين من أن الجيش العراقّي لم يكن قادرًا على الوقوف بوجه الواليات‬
‫المتحدة وحلفائها‪ ،‬بما لديهم من تفوٍق في المصادر والقدرات العسكرية تقنيًا وبشرّيًا‪.‬‬
‫في التاسع من نيسان‪/‬إبريل احتلت القوات األميركية بغداد‪ ،‬وشاهَد العالم أولئك العراقيين‬
‫المبتهجين يحطمون تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس‪ .‬شعرت بالحزن العميق على الموت‬
‫المجاني وإزهاق األرواح البريئة في حرٍب عبثية‪ ،‬كما شعرت باألمل الذي عكسْته حركُة أولئك‬
‫العراقيين الذين بدأوا يرحبون بغٍد أفضل لهم وألبنائهم‪ .‬عندما سقط تمثال صدام حسين راحت‬
‫صورُة السقوط تتردد على تلك الشاشات من الخليج العربي إلى المغرب األقصى عبورًا إلى سائر‬
‫أرجاء العالم‪ .‬حتى قبل أن يلمس رأُس التمثال األرض بدأ هاتفي يرّن ‪ .‬من بين المتصلين كان عدد‬
‫من الشخصيات األردنية التسع والتسعين الذين كانوا قد انتقدوا الموقف الذي اتخذناه من مجريات‬
‫الحرب‪ .‬اتصلوا ليهنئوني على «حكمتي وشجاعتي» في إبقاء األردن خارج النزاع‪ .‬قالوا‪« :‬كنا نعلم‬
‫أن صدام لن يصمد»‪ .‬وقال بعُض هم‪« :‬نحن كنا إلى جانبك منذ البداية»‪ .‬لقد أذهَلني أن أرى مدى‬
‫السهولة لدى بعض النخب في تغيير مواقفهم لمجرد اكتساِب الرضى وخدمة مصالحهم الخاصة‪.‬‬
‫لم يساورني الشك في أن الواليات المتحدة وحلفاَء ها سوف يربحون الحرب‪ ،‬لكن لم أتصور أنهم‬
‫سيتعاملون مع نتائجها وتداعياتها بالسوء والفشل الذي ما لبث أن بدأ يتبدى بعد انتهاء الحرب بفترة‬
‫قصيرة‪.‬‬
‫الفصل العشرون‪« :‬سيهتف العراقيون‪ ،‬أهًال بالمحِّر رين»‬

‫لقد اعتبَر الرأي السائد في واشنطن أن خلع صدام حسين عن الحكم وتنصيب حكومة عراقية‬
‫جديدة ليس أصعب من تبديل مصباح كهربائي‪ .‬ففي مقابلٍة صحافية قبيل اندالع الحرب على‬
‫العراق‪ ،‬قال نائب الرئيس ديك تشيني‪:‬‬
‫في تقديري أن األوضاَع داخَل العراق باتت من الترّدي والسوء بالنسبة إلى الشعب العراقي بحيث‬
‫بدأُت أعتقد أن الناس هناك سيرّح بون بنا كأننا جئناهم محِّر رين‪ ...‬إن ما يصلنا من أخبار الناس في‬
‫العراق هو أن هَّم هم األكبر التخّلُص من صدام حسين‪ ،‬وحين تأتي الواليات المتحدة لتحقق لهم ذلك‬
‫سيرحبون بها كحاملٍة لمشعل الحرية‪.‬‬
‫ما كادت الحرب تنتهي حتى أخذ هذا الحلم الزهرُّي يخبو ويتالشى ويتضح أنه كان مضِّلًال‪« .‬لن‬
‫تكون النتيجة سوى حمام دم»‪ ،‬قلُت ألصدقائي في أميركا‪ .‬أما في المحادثات التي عقدُتها مع بعض‬
‫األصدقاء في المنطقة‪ ،‬فقد كنا مجمعين تقريبًا على أن ما سنراه بعد توقف الحرب على العراق‬
‫سيكون كارثيًا‪ .‬أذكُر جيدًا محادثاٍت متعددة أجريُتها مع الرئيس المصري حسني مبارك عّبر كالنا‬
‫خاللها عن القلق من أن غزو العراق سيأتي بنتائَج سلبيٍة غير متوقعة سنبقى نعاني تبعاتها على مدى‬
‫عقود‪.‬‬
‫استضاف األردن في حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ ،2003‬أي بعد سقوط بغداد بشهرين فقط‪ ،‬اجتماعًا‬
‫للمنتدى االقتصادي العالمي‪ ،‬وقد التقيُت خالل المؤتمر بول بريمر (‪ )L. Paul Bremer‬الرئيس‬
‫المعَّين حديثًا لسلطة التحالف المؤقتة (‪ ،)CPA‬وهي الحكومة العراقية المؤقتة التي أقامتها الواليات‬
‫المتحدة األميركية‪ .‬كان بريمر‪ ،‬فور وصوله إلى بغداد قبلئٍذ بشهر واحد‪ ،‬قد أصدَر أمرين ‪ -‬من‬
‫المسَّلم به أنهما من أسوأ ما قام به الحاكم األميركي ‪ -‬وهما تطبيق سياسة استئصال البعثيين كليًا من‬
‫كل دوائر الحكم ومؤسسات الدولة‪ ،‬والحّل الكامل للجيش العراقي‪.‬‬
‫أكدت على بريمر أال يحَّل الجيش وحذرته من أن هذا العمل سيكون أشبه بقنبلٍة ستنفجر في‬
‫وجوهنا جميعًا‪ .‬ثم قلت له إنني أتفهم المنطق وراء عملية استئصال البعثيين‪ ،‬لكن يجب أن ُتقَتصر‬
‫هذه العملية على كبار المسؤولين والذين تلطخت أيديهم بالدماء‪ .‬فلكي تكون سائَق تاكسي أو معلمًا‬
‫في مدرسة في عراق صدام حسين كان يجب أن تكون عضوًا في حزب البعث‪ .‬قلت له أرجو أن‬
‫تكون مدركًا أنك إذا شئت استئصال البعثيين أينما كانوا ومهما كانت مستوياُتهم ومسؤولياُتهم فسوف‬
‫تضع نفسك أمام مقاومٍة كبيرة جّدًا وسوف توِج ُد فراغًا في السلطة ال بد ألحٍد من أن يمأله‪.‬‬
‫كان الجيش إحدى المؤسسات القليلة جّدًا التي كانت ال تزال فاعلة في العراق‪ ،‬وهو الذي ضمَن‬
‫بقاء نظام صدام حسين‪ ،‬إلى جانب أجهزٍة ومؤسسات أمنية أخرى‪ .‬لكن الجيش كان أيضًا مصدرًا‬
‫رئيسًا لالستقرار االجتماعي‪ .‬حُّل الجيش كان عمًال جنونيًا ِص رفًا ‪ -‬كأن يقرر أحُدهم طرَد كل رجال‬
‫الشرطة ورجال اإلطفاء وسائقي سيارات اإلسعاف مرًة واحدة في مدينة نيويورك‪ ،‬ال لسبب إال ألنه‬
‫يكره محافظ المدينة‪ .‬حُّل الجيش يعني أن مئات آالف الرجال المدَّر بين عسكريًا والذين يمتلكون‬
‫أسلحًة صغيرة ولهم وصول إلى المواد المتفجرة سوف يجلسون في منازلهم يائسين دون عمٍل وال‬
‫مصدر دخل في بلٍد فقيٍر ومدّم ر وخارٍج لتّو ه من حرٍب مجنونة‪ .‬إن البعثيين‪ ،‬الذين سيشعرون‬
‫بالتهميش والعزل‪ ،‬سينظمون صفوَفهم ويردون الضربة‪ .‬كيف تريد لهؤالء الناس أن يطعموا‬
‫عائالتهم؟ إن هذا العمل وصفٌة ناجحة النتشار حالٍة من الضياع والفوضى‪.‬‬
‫«أعرُف تمامًا ماذا أفعل»‪ ،‬قال بريمر بلهجة جافة ومختصرة‪ ،‬ثم أكمل‪« :‬سيكون هناك بعُض‬
‫التعويض‪ .‬إنني ممسٌك جيدًا باألوضاع‪ ،‬على كل حال أشكرك كثيرًا على مالحظاتك»‪.‬‬
‫لكن على الرغم من عنجهية بريمر وثقِته المفرطة بنفسه‪ ،‬أخذ التمّز ُق واالنهيار ينتشران في‬
‫أرجاء العراق كما الناُر في الهشيم‪ .‬شعَر السَّنُة بأنهم باتوا معزولين ومهّددين اعتقادًا منهم بأنهم‬
‫ُأخرجوا من الحكم الجديد في العراق‪ ،‬وهكذا بدأوا ينظمون عملياٍت عسكريًة ضد قوات التحالف‪.‬‬
‫وفي الوقت نفسه فتح اإلسالميون العراقيون الناشطون الباب واسعًا أمام الجهاديين العرب اآلتين من‬
‫الخارج‪ .‬وإذا كان من فرحٍة كبرى َعَم رت القلوَب نتيجَة الفوضى التي نشرها في أرجاء العراق‬
‫الغزو األميركي‪ ،‬فهي الفرحُة التي َعَم رْت قلوَب رجال القاعدة‪ ،‬قياداٍت وأفرادًا‪ ،‬فقد أدرك هؤالء‬
‫بسرعة أن بإمكانهم اآلن نقَل عملياتهم من أفغانستان إلى قلب العالم العربي‪.‬‬
‫قد ال يكون من السهل أن نعرف َم ن كان بالفعل وراء هاتين السياستين‪ ،‬استئصال البعث‬
‫والبعثيين‪ ،‬وحّل الجيش العراقي‪ ،‬ففي مذكراته أنكر بريمر مسؤوليَته عنهما وقال إن مصدرهما هو‬
‫البيت األبيض‪ .‬أما أنا ففي اعتقادي أن الفكرتين جاءتا من السياسّي المهاجر آنذاك أحمد الجلبي ومن‬
‫أتباعه‪ .‬عندما كان مقيمًا في األردن خالل السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي كان الجلبي‬
‫ناشطًا في مجال األعمال‪ ،‬وكان من األصدقاء المقَّر بين لولّي العهد‪ .‬كان بين أشهر مشاريعه‬
‫مخاطرُته المالية عندما أنشأ بنك البتراء في األردن في العام ‪ ،1977‬الذي وقع في أواخر ثمانينيات‬
‫القرن الماضي في مشكالٍت مالية دفعت الحكومة إلى مباشرة التحقيق في عمليات تزوير واختالس‬
‫مفترضة‪ .‬فقد رأى المحققون‪ ،‬بناًء على استقصاءاتهم‪ ،‬أن الجلبي كان يسحب األموال من البنك‬
‫بطرٍق غير قانونية‪ .‬عندما بدأ المحققون يبنون أدلة كافية على ممارساته غير القانونية في العام‬
‫‪ ،1989‬خرج من البالد خلسًة إلى سوريا‪ .‬حوكَم الجلبي غيابيًا‪ ،‬وفي العام ‪ 1992‬دانته المحكمة‬
‫باختالس سبعين مليون دوالر وُحِك َم عليه بالسجن اثنتين وعشرين سنة‪ ،‬وال تزال مذِّك رة التوقيف‬
‫الصادرة بحقه ساريَة المفعول في األردن‪ .‬بعد مغادرته األردن ارتبط اسُم ه بالنزاع المتعلق بانهيار‬
‫أحد المصارف اللبنانية وكذلك إحدى المؤسسات المالية في سويسرا‪.‬‬
‫بعد خوضه الفاشل في ميدان األعمال حاول الجلبي أن يجرب حظه في السياسة‪ .‬خالل تسعينيات‬
‫القرن الماضي كان واحدًا من قادة المؤتمر الوطني العراقي‪ ،‬أهم المجموعات العراقية المعارضة‬
‫التي كّر ست نشاطها لقلب نظام صدام حسين‪ ،‬وكان مدعومًا من إدارة كلنتون وفي الوقت عينه مقربًا‬
‫من المحافظين الجدد وال سيما رتشارد بيرل وبول وولفوفيتز‪ .‬وحين جاء جورج بوش إلى البيت‬
‫األبيض في العام ‪ ،2001‬تزايد نشاط الجلبي دافعًا بأفكاره الساعية إلى النفوذ والمال‪ .‬وُيقال في هذا‬
‫اإلطار إنه جمع ما يكفي من االثنين معًا من وزارتي الخارجية والدفاع األميركيتين‪.‬‬
‫عندما التقيت الرئيس بوش في العام ‪ 2002‬حذرُته من الجلبي‪ ،‬وقلت له إنه أسوأ َم ن يمكن أن‬
‫يسدَي النصح للواليات المتحدة‪ ،‬ومع أن بوش قال إنه «سيتوّلى أمَر الجلبي»‪ ،‬فإن نجمه بقي على‬
‫صعود‪.‬‬
‫ربما َبدت مشاريع الجلبي وخطُطه السياسية البّر اقة مرَّح بًا بها في واشنطن‪ ،‬لكن على أرض‬
‫الواقع في بغداد كانت حقيقُة األمور أقَّل بريقًا وأكثر غمًا مما بدا للمقيمين في العاصمة األميركية‪.‬‬
‫كان األردن بين أوائل الدول العربية التي أعادت فتح سفارتها في بغداد‪ ،‬ولكنه ما لبث أن وقع في‬
‫معمعِة الفوضى الضاربة أطنابها هناك‪ .‬في السابع من آب‪/‬أغسطس من العام ‪ 2003‬تقدمت إحدى‬
‫الشاحنات إلى باحة السفارة األردنية في بغداد‪ ،‬وفيما نزل منها سائُقها انفجرت الشاحنة مخِّلفًة سبعَة‬
‫عشَر قتيًال من المدنيين العراقيين‪ .‬نجا كل موظفي السفارة‪ .‬أظهرت التحقيقات أن اإلرهابي أبو‬
‫مصعب الزرقاوي كان وراء التفجير‪ ،‬وهو الذي أصبح في ما بعد قائد الجماعة التي ُعرفت بتنظيم‬
‫«القاعدة في بالد الرافدين»‪ .‬سعيًا وراء هدٍف أوسع نطاقًا عمَل الزرقاوي على ركوب موجة العنف‬
‫الوحشّي من خالل توجيه ضربة إلى األردن بغية ردع اآلخرين عن مساعدة الحكم العراقي الجديد‪.‬‬
‫كان من شأن الفوضى التي ضربت العراق بعد الغزو األميركي أن تستدعي تعاون جيرانه‬
‫وتنسيَق مقاربِتهم حياَله‪ ،‬فيما كان جاٌر بعينه يتهيأ لكي يقوم بدور مهيمن في مستقبل العراق‪ .‬في‬
‫مطلع العام ‪ 2003‬قمت بزيارة إيران للقاء المسؤولين فيها‪ ،‬وكانت أول زيارة يقوم بها رأُس الدولة‬
‫األردنية إليران منذ الثورة اإليرانية في العام ‪ .1979‬كان والدي مقربًا من الشاه محمد رضا بهلوي‪،‬‬
‫وأنا أذكُر زيارتي لطهران عندما كنت في سن المراهقة حين زرنا شاطئ بحر قزوين واستكشفنا‬
‫منتجع جزيرة كيش على الخليج العربي‪.‬‬
‫أتذكر طهران من أيام الطفولة‪ ،‬مدينًة إمبراطورية مهمة تحيط بها الجبال على غرار عّم ان‪ ،‬لكن‬
‫عندما عبرُت المدينة في السيارة في العام ‪ 2003‬وجدتها على شيء من التأخر وكأن شيئًا لم يتغّير‬
‫منذ نشوب الثورة‪ .‬التقيت الرئيس اإليراني محمد خاتمي في قصر ساداباد شمال شرق العاصمة‪.‬‬
‫وبعد االنتهاء من استعراض حرس الشرف وسائر مراسم االستقبال بدأنا محادثاتنا الرسمية‪ .‬بدا‬
‫خاتمي مرتاحًا وجذًال‪ ،‬خصوصًا عندما أشار إلى وزير دفاعه وهو من أصٍل عربّي وقال مازحًا‪:‬‬
‫«هذا الرجل عربّي ‪ ،‬ما يفرض علينا أن نراقبه بحذر»‪ .‬بحثنا مجاالت التعاون االقتصادي والثقافي‬
‫بين بلدينا‪ .‬وبعد االجتماع صحَبني في جولٍة على الصناعات العسكرية اإليرانية‪.‬‬
‫رأيت أن لدى اإليرانيين أمورًا جدية يهتمون بها‪ ،‬فبعض كبار مسؤوليهم أبدوا رغبًة في فتح‬
‫قنوات التواصل مع األميركيين وكانوا على علم بأن لدّي زيارة محددة لواشنطن‪ ،‬ولذلك طلبوا مني‬
‫أن أتوسط بين الطرفين‪ .‬قالوا إنهم يريدون بحث التعاون الممكن حول مستقبل العراق‪ ،‬كما قالوا إن‬
‫لديهم ما بين ستين وسبعين رجًال من رجال القاعدة تحت اإلقامة الجبرية أو قيد التوقيف بعد أن‬
‫لجأوا إلى إيران هربًا من أفغانستان‪ ،‬وطلبوا أن أخبر األميركيين بأنهم مستعدون للبحث في تسليم‬
‫هؤالء األفراد إلى القوات األميركية في أفغانستان‪ .‬كذلك أبدوا استعدادًا لمناقشة برنامجهم النووي‬
‫ومسألتي أفغانستان والعراق‪ .‬وقد وعدت بإبالغ الرسالة إلى الرئيس بوش‪.‬‬
‫بعد لقائي الرئيس خاتمي‪ ،‬التقيت صباح اليوم ذاته المرشد األعلى آية هللا خامنئي‪ ،‬الرجل األقوى‬
‫في إيران‪ .‬عندما اقتربنا من المجَّم ع المسّيج توّلى أمرنا الحرس الخاص للمرشد األعلى‪ .‬كان أفراد‬
‫الحرس مقَّطبي أسارير الوجه‪ ،‬ذوي مسحٍة جدية‪ ،‬حفاًة عندما يكونون داخل المجّم ع‪ ،‬وقد‬
‫اصطحبونا إلى القاعة حيث سيستقبلنا خامنئي‪ .‬خالفًا للعظمة والفخامة اللتين يتسم بهما قصر‬
‫ساداباد‪ ،‬كان مقر المرشد األعلى بسيطًا ومتواضعًا‪ ،‬طاولة عادية بسيطة وبضعة كراٍس وبضع‬
‫سجادات إيرانية‪.‬‬
‫فيما كان الرئيس خاتمي منفتحًا وودودًا‪ ،‬أبدى خامنئي تحفظًا وجدية‪« :‬أهًال بك في إيران»‪ ،‬قالها‬
‫فيما كنا نتصافح‪ ،‬ثم قال‪« :‬كهاشمٍّي‪ ،‬إّن لك مكانًة كبيرًة في مذهبنا من اإلسالم»‪.‬‬
‫بحثنا ما يواجهه المسلمون من تحديات‪ ،‬وضرورة التعاون وتنسيق الجهود في ما بيننا في هذا‬
‫اإلطار‪ ،‬باعتبار أن لكٍّل منا دورًا قياديًا في الساحة اإلسالمية‪ .‬تحدثنا عن التكفيريين الذين َيعتبرون‬
‫َم ن ال يتبع تفسيرهم المتطرف لإلسالم بأنه من الكفار‪ .‬صحيح أن العالقة بين بلدينا لم تكن وثيقة‪،‬‬
‫لكن هذا ال يمنع وجود بعض المصالح المشتركة التي نتفق عليها ومنها محاربة التكفيريين الذين‬
‫ينشرون النزاع المذهبّي في كل أرجاء العالم اإلسالمي‪.‬‬
‫بعد لقائي مع خامنئي عدت إلى عمان آمًال أن تؤدي هذه الزيارة إلى تحسين العالقة بين األردن‬
‫وإيران‪ ،‬وخصوصًا في الوصول إلى مقاربٍة مشتركة حول الوضع المتزايد تأزمًا وتعقيدًا في‬
‫العراق‪ .‬لكن العالقات لم تتحسن‪ ،‬وقد حاَل دون ذلك اختالف مواقفنا حيال السياسات اإلقليمية‬
‫وعملية السالم في المنطقة‪ ،‬فضًال عن التدخل اإليراني في شؤون الدول العربية‪.‬‬
‫منذ انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسًا إليران في آب‪/‬أغسطس من العام ‪ 2005‬وإيران على‬
‫رأس االهتمامات في العواصم الغربية‪ ،‬والبند األول على جدول أعمالها في ما يتعلق بالشرق‬
‫األوسط‪ .‬لكن من السهل أن ُيالم الشعب على أعمال حكومته فيما أن الشّقة بينهما ال ُيستهان بها‪ .‬إن‬
‫إيران أمٌة عظيمة تنام على تراٍث حضارّي كبير‪ ،‬وفيها شعٌب ذو مرتبٍة رفيعة على صعيد العلوم‬
‫والثقافة‪ .‬معظم اإليرانيين ال يكّنون مشاعر البغضاء ألميركا والغرب وهم يتمّنون أن يروا حًال‬
‫سلميًا للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين‪.‬‬
‫من المألوف في الغرب أن ُتصَّو ر الحكومة اإليرانية على أنها نسيٌج واحد متجانس‪ ،‬تتجه كل‬
‫عناصره اتجاهًا واحدًا ولديها الدوافُع ذاُتها وراء ما تقوم به من تحركات‪ .‬لكن حقيقة األمر أن‬
‫النسيج السياسَّي في إيران تركيب معقد‪ ،‬حتى بالنسبة إلينا نحن أهل المنطقة‪ .‬ولعَّل الحقيقة الوحيدة‬
‫الثابتة بالنسبة إلى الحكومة اإليرانية هي أن كل َم ن يحاول اختصاَر ها بتفسيٍر مبّسط هو على خطأ ال‬
‫ريب فيه‪.‬‬
‫ليست إيران وحدًة متماسكة‪ ،‬بل هي «موزاييك» متنّو ع مكّو ن من عناصر سياسية متعددة‬
‫ومتشابكة‪ .‬فيها المتدينون الذين يتعلقون بالقضايا اإلسالمية‪ ،‬كتحرير القدس من االحتالل اإلسرائيلي‬
‫على سبيل المثال‪ ،‬بكل صدٍق وإيماٍن عميقين‪ .‬لكن هناك أيضًا أصحاُب الدوافع السياسية الذين‬
‫يرفعون راية القدس ذريعًة توصُلهم إلى غاياتهم الشخصية غير الشرعية‪ ،‬وهم بذلك يستغلون‬
‫المعاناة المشروعة للشباب العرب بسبب استمرار االحتالل‪ .‬كثيرون في إيران‪ ،‬كما في سائر أنحاء‬
‫المنطقة‪ ،‬ضاقوا ذرعًا بكل هذا االستغالل‪.‬‬
‫بعد زيارتي طهران ببضعة أيام التقيت الرئيس بوش في كامب ديفد‪ ،‬ومن هناك قصدنا منتجع‬
‫الرئيس الشهير في أعالي جبال ماريالند‪ ،‬وكان ذلك في ‪ 18‬أيلول‪/‬سبتمبر من العام ‪ .2003‬من نافذة‬
‫ذلك المبنى الخشبّي َبدِت السماء ظلمًة دكناء فيما كان اإلعصار «إيزابيل» يعصُف برياحه الهوجاء‬
‫اآلتية من فوق المحيط مجتاحًة أرجاَء اليابسة‪ .‬سألُت الرئيس لماذا‪ ،‬على الرغم من الوعود المتكررة‬
‫بوقف الدفع‪ ،‬ال يزال الجلبي يقبض من وزارة الدفاع األميركية ‪ 350000‬دوالر شهريًا‪.‬‬
‫كان بوش يرتدي مالبس غير رسمية‪ ،‬سترًة رمادية وقميصًا أزرق دون ربطة عنق‪ ،‬وقد أثار‬
‫سؤالي غضبه‪ ،‬فانحنى على الطاولة الخشبية وقال‪« :‬يمكنك أن تعتبر الجلبي من الماضي»‪ .‬أعضاء‬
‫الوفد المرافق لي لم يتأكدوا تمامًا مما قصده الرئيس بهذا التعبير‪ ،‬لكنهم سجلوا مالحظته في مدّو نتهم‬
‫كما يقتضي واجُبهم‪ .‬أما مستشارو الرئيس فغمرهم صمت غير مريح حياَل مزاجه الذي كان أشبه‬
‫بحالة الجّو العاصف في الخارج‪.‬‬
‫ثم بدأنا نبحث النزاع الفلسطيني ‪ -‬اإلسرائيلي‪ ،‬ومع أننا كنا في الموقع نفسه الذي كان باراك‬
‫وعرفات قد اجتمعا فيه قبلئٍذ بثالث سنوات ووصال إلى أقرب ما يمكن من بلوغ االتفاق‪ ،‬فقد بدا‬
‫السالم خالل اجتماعنا أشبه بالسراب الذي يستحيل تلّم سه‪ .‬أما خريطة الطريق‪ ،‬المفهوم الذي كان‬
‫األردن قد حبَكه في السنة السابقة والذي انطوى على مجموعٍة من الخطوات المحددة المؤدية إلى‬
‫السالم‪ ،‬فقد بدا أنها باتت هباًء منثورًا‪.‬‬
‫لكن بوش لم يكَّف عن توجيه اللوم إلى عرفات على انسداد أفق عملية السالم‪« .‬خريطة الطريق‬
‫واضحة ومحددة»‪ ،‬قال بوش بصوٍت مرتفع‪ ،‬ثم أردف قائًال‪« :‬لقد سقط الفلسطينيون في االمتحان‬
‫األول‪ ،‬وعرفات ال يريد السالم»‪.‬‬
‫ُم ظهرًا بوضوح أن حملة شارون للربط بين صراع إسرائيل والفلسطينيين من جهة وما أعلنته‬
‫أميركا من «حرٍب على اإلرهاب» من جهٍة ثانية قد نجحت إلى حٍد كبير‪ ،‬قال الرئيس‪« :‬إن فكره ال‬
‫يزال في إطار الحرب‪ ،‬وإن جزءًا من هذه الحرب هو في األراضي الفلسطينية»‪ .‬وتشديدًا على‬
‫وجهة نظره بأن عرفات غير قادر على صنع السالم أو ال يريد ذلك‪ ،‬أوضح الرئيس حاسمًا أن‬
‫عرفات قائد فاشل وبالتالي فهو لن يتعامل معه بعد اآلن‪ .‬قال إنه لن ينفَق رصيدًا سياسيًا على‬
‫الخاسرين بل فقط على الرابحين‪ .‬ثم عّبر عن غضبه حيال عجز عرفات عن السيطرة على العنف‬
‫الفلسطيني‪ ،‬وقال‪« :‬ما طلبناه منه ليس مستحيًال‪ ،‬لكنه لم يفعل شيئًا»‪.‬‬
‫كان موقف اإلدارة األميركية واضحًا بتحّيزه إلى طرٍف من الطرفين دون اآلخر‪ .‬كان بوش‬
‫صريحًا في مواقفه التي تعكس حقيقة قناعاته ولكنه دون شك لم يكن يتلقى أفضل النصح أو أكثره‬
‫موضوعيًة من مستشاريه‪ .‬حاولت أن أعرَض له الوضع بصورته الشاملة‪ .‬دافعُت عن عرفات وقلت‬
‫للرئيس إن عرفات هو قائد الشعب الفلسطيني‪ .‬أحببَته أو لم تحَّبه‪ ،‬فهذا ال يغّير حقيقة أن الشعب‬
‫الفلسطيني يؤمن به ممثًال وقائدًا شرعيًا له‪.‬‬
‫منتقًال من موضوع إلى آخر‪ ،‬سألني بوش عن زيارتي األخيرة إليران‪ ،‬فأخبرته أنها كانت إيجابية‬
‫وأبلغته العرض اإليراني بتسليمهم أفراد القاعدة الموجودين هناك وبالدخول في مباحثاٍت شاملة‬
‫وموسعة تتناول البرنامج النووي اإليراني ومسألة التعاون حول الوضع في كٍل من العراق‬
‫وأفغانستان‪ .‬قال الرئيس إن مساعديه سوف يتابعون هذه المسألة‪ .‬بعد ذلك لم أعد أسمع شيئًا عن هذا‬
‫الموضوع‪ ،‬لكنني أعلم أن أعضاء القاعدة في إيران لم يسَّلموا إلى األميركيين‪ .‬مع أننا أحرزنا تقدمًا‬
‫في محادثاتنا بالنسبة إلى عدة مسائل‪ ،‬فقد خرجت من االجتماع في كامب ديفد مقتنعًا بأن العملية‬
‫السلمية لن تشهد أي تقدم في المدى المنظور‪.‬‬
‫بعد مرور بضعة أشهر تبّلغ اإليرانيون أخبارًا سارة بشأن عدوهم القديم صدام حسين‪ ،‬ففي الثالث‬
‫عشر من كانون األول‪/‬ديسمبر من العام ‪ 2003‬قبضت القوات األميركية على صدام حسين في‬
‫مزرعة قرب تكريت على بعد مئة ميل تقريبًا شمالَّي بغداد‪ ،‬وفي اليوم التالي عرضت محطات‬
‫التلفزة العالمية صورًا يظهر فيها صدام حسين ملتحيًا‪ ،‬رَّث المالبس‪ ،‬كما ظهرت في تلك الصور‬
‫الحفرة أو الخندق العميق الذي كان مختبئًا فيه‪ .‬كانت لحظًة سريالية بالفعل‪ ،‬شعر معها الكثيرون من‬
‫العرب بشيء من الخيبة واألسف بلغا عند البعض درجَة اإلهانة أماَم منظر صدام حسين المستسلم‬
‫تحت وطأٍة من الذل‪ ،‬ال حوَل له وال قوة‪ .‬حتى الذين امتألت قلوُبهم حقدًا عليه وبغضًا له كانوا‬
‫يتوقعون منه أن يواجه أعداَء ه بشجاعة وعناد وأن يخرج إليهم مقاتًال كما فعل ولداه ُعدّي وُقصّي‬
‫اللذان ُقتال في تموز‪/‬يوليو من العام ‪ 2003‬في تبادٍل إلطالق النار مع الجنود األميركيين في‬
‫الموصل شمال العراق‪ .‬لكن حين ألقي القبض عليه دون أية مقاومة تلطخت صورة الرجل الشجاع‬
‫التي ُعرف بها‪.‬‬
‫أذكُر جيدًا أنني تحدثت يوَم ها هاتفيًا إلى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز‪ ،‬وقد‬
‫عّبر كالنا عن شعوره بالصدمة لرؤية هذا الرجل‪ ،‬الذي كان واحدًا من أقوى زعماء الشرق‬
‫األوسط‪ ،‬مختبئًا في حفرة تحت األرض‪ .‬كان منظرًا داًال على تقلبات الحياة‪ .‬صدام حسين كان قائدًا‬
‫سنيًا ذا مهابٍة وقوة‪ ،‬وقَف عنيدًا بوجه الواليات المتحدة وإسرائيل‪ ،‬وهو الموقف الذي اكتسَب بنتيجته‬
‫شعبيًة امتدت في كل أرجاء المنطقة العربية‪ .‬كنُت قد التقيُته بصحبة والدي يوم كان في قمة سلطانه‬
‫وقوته‪.‬وكانت رؤيته بهذا الوضع‪ ،‬ملتحيًا‪ ،‬بشعره الطويل األشعث‪ ،‬ينظر بعينين زائغتين أمام‬
‫عدسات الكاميرات‪ ،‬صدمة غير متوقعة‪ .‬وكبيرة كانت خيبة أولئك الذين رأوا في صدام صالح الدين‬
‫هذا العصر‪.‬‬
‫لكن القبض على صدام لم يحمل معه أَّي حٍل لمعاناة العراق ومشكالته‪ .‬فقد استمّر الوضع‬
‫بالتدهور وزادت المشكالت تعقيدًا‪ .‬بعض النزاعات كان متأتيًا من توتراٍت تاريخية وأحقاد يتحّم ل‬
‫مسؤولية تفاقمها نظام صدام وقمعه وعنفه‪ .‬لكن بعض المشكالت التي دفعت إلى التمرد والعصيان‬
‫كانت من صنع يد األميركيين‪.‬‬
‫في أواخر نيسان‪/‬إبريل من العام ‪ 2004‬كشَف البرنامج اإلخباري األميركي «ستون دقيقة» أن‬
‫القوات األميركية مارست التعذيب ضد السجناء العراقيين في سجن أبو غريب العسكري‪ .‬وعندما‬
‫ُعرضت تلك الصور للسجناء المغطاة رؤوُسهم والمقّيدة أرجُلهم بأصفاد الحديد‪ ،‬ارتفعت صرخاُت‬
‫االستهجان واالستنكار داخَل العراق وفي أرجاء المنطقة‪ .‬في الخامس من أيار‪/‬مايو أدلى الرئيس‬
‫األميركي جورج بوش‪ ،‬في مقابلٍة مع قناة «العربية»‪ ،‬بحديث أراد من ورائه التخفيف من وطأة‬
‫الضرر الذي أصاب بالده جراء هذه الممارسات‪ ،‬قال‪« :‬أريد أن أقول لشعوب الشرق األوسط إن‬
‫الممارسات التي شهدها ذلك السجن تثير االشمئزاز والسخط‪ ،‬وإنها ال تمثل أميركا»‪.‬‬
‫في اليوم التالي‪ ،‬السادس من أيار‪/‬مايو‪ ،‬وصلت إلى الواليات المتحدة في زيارة للبيت األبيض‬
‫كانت مقررة سابقًا‪ ،‬وكانت مسألة أبو غريب قد زادت تأججًا‪ .‬ومع أن الرئيس كان قد عّبر عن‬
‫استنكاره ما حدث في السجن‪ ،‬فقد استغرَب العالم العربي أنه توقف دون االعتذار عن التصرف‬
‫المشين لعسكره‪ .‬افتتح بوش االجتماع‪ ،‬وكان مصحوبًا بكوندوليزا رايس ودونالد رامسفيلد‪ ،‬وزير‬
‫دفاعه‪ .‬بعد تبادل المجامالت التفت نحوي وقال‪« :‬إنني بالفعل شديد الغضب بسبب ما حدث في أبو‬
‫غريب‪ .‬ما رأُيك أنت؟»‪.‬‬
‫ال شك في أن وجهات النظر السياسية بيني وبين الرئيس بوش كثيرًا ما كانت تتباين‪ ،‬لكن في تلك‬
‫المرحلة من عالقتنا كنت قد بنيُت معه نهجًا من التواصل الشخصّي يسمح لي بأن أتكلم معه بانفتاح‬
‫وصدق عندما تدعو الحاجة‪ ،‬مهما تكن المحاذير‪ .‬قد يستغرب البعض في الشرق الوسط أو يفاجأ‬
‫بكالمي هذا‪ ،‬لكن الرئيس بوش كشخص يختلف عن الصورة الكاريكاتورية التي رَسَم ْتها له وسائُل‬
‫اإلعالم‪ ،‬فهو رجٌل صادق من حيث إيمانه الحقيقي بأن ما يفعله هو الصواب بعينه‪ .‬في رأيي أن‬
‫بعض مستشاريه أساؤوا نصَح ه إلى حد بعيد وضّللوه كثيرًا‪ ،‬وقد كنت متيقنًا من أنه كان يريد سماع‬
‫الحقيقة مني حتى لو أغضبت بعض مساعديه‪.‬‬
‫«السيد الرئيس‪ ،‬إنك قائد أقوى دولة في العالم‪ ،‬وأنا على يقين من أنه لن يضيرك في شيء‪ ،‬ومن‬
‫موقع هذه القوة‪ ،‬أن تقدم اعتذارًا‪ ،‬وفي رأيي إن اعتذارًا منك كرئيس للواليات المتحدة سيكون له‬
‫وقٌع إيجابٌي كبير»‪.‬‬
‫رماني الرئيس بنظرٍة عابسة على شيٍء من الحَذر لم تدم سوى لحظاٍت عابرة‪ ،‬ثم قال‪« :‬أنت على‬
‫حق»‪ .‬أدار وجهه نحو كوندوليزا رايس ورامسفيلد وقال‪« :‬سأقبل نصيحة صديقي هذه»‪ .‬كان‬
‫تقديري أن بعض كبار مساعديه نصحوه بعدم تقديم اعتذار علني خشية أن يظهره ذلك في وضٍع‬
‫ضعيف‪ .‬لكن فاَتهم أن في التواضع قوًة من نوٍع آخر‪.‬‬
‫بعد االجتماع خرجنا إلى حديقة الورود لعقد مؤتمر صحافي مشترك‪ .‬وقفنا جنبًا إلى جنب تحت‬
‫شمس الظهيرة الدافئة‪ ،‬وقال الرئيس‪:‬‬
‫كذلك تحدثنا عن المشاهد التي رأيناها على شاشات التلفزة أخيرًا‪ ،‬ليس فقط في‬
‫بالدنا بل في بلدان العالم أجمع‪ ،‬تلك الصور التي تعكس الوحشية واحتقار اإلنسان‪ .‬لقد قلت لجاللته‪،‬‬
‫بأصرح العبارات التي ال تقبل اإلبهام‪ ،‬إن المرتكبين سوف يساقون إلى العدالة وإن األعمال التي قام‬
‫بها هؤالء ال تمثل قيَم الواليات المتحدة األميركية‪.‬‬
‫قلُت له إنني شديُد األسف حيال ما عاناه السجناء العراقيون وما لحَق بعائالتهم‬
‫من المعاناة‪ ،‬كذلك قلت له إن األسف نفسه ينتابني ألن الناس الذين شاهدوا هذه الصور لم يكونوا‬
‫مدركين للحقيقة التي َتعمُر طبيعَة الشعب األميركي وقلوَب أبنائه‪ .‬لقد أّكدت له أن األميركيين‪ ،‬مثلي‬
‫أنا‪ ،‬لم يرَضْو ا عما شاهدوه‪ ،‬وقد شعروا باالشمئزاز والقرف‪.‬‬
‫بعد المؤتمر الصحافي ذهبت إلى وزارة الخارجية لالجتماع إلى وزير الخارجية كولن باول‪،‬‬
‫وحين تطرقنا إلى موضوع أبو غريب قال باول إن المشاهَد التي ُعرضت شّو هت صورة الواليات‬
‫المتحدة في كل أرجاء العالم وحتى داخل البالد‪ .‬كما قال إن تلك الصور تسببت بمشكلٍة كبيرة وإن‬
‫الرئيس مدرك تمامًا أن عليه معالجَة هذه المشكلة بما يتجاوز مجرد الظهور على الشاشات العربية‪.‬‬
‫هذا النقد الضمني كان اإلشارة األكثر وضوحًا إلى الخالفات التي أخذت تظهر للعلن بين بعض‬
‫المسؤولين في اإلدارة األميركية‪.‬‬
‫من جهة كان هناك المحافظون الجدد ‪ -‬بول وولفوفيتز‪ ،‬دوغالس فيث‪ ،‬إليوت أبرامز ‪ -‬ومن جهٍة‬
‫ثانية فريُق االعتدال الذي يقوده كولن باول ونائبه رتشارد أرميتاج (‪ .)Richard Armitage‬أنا لم‬
‫أكن أجتمع بوولفوفيتز وسائر أفراد هذه المجموعة‪ ،‬لكن كبار مساعدَّي في واشنطن الذين كانوا‬
‫يلتقون بهم كانوا يقولون لي إنهم من ذوي الفكر األيديولوجي المتصّلب وال يعرفون المرونة في‬
‫نظرتهم إلى األمور‪ ،‬وهم ككل السياسيين الذين تقف األيديولوجيا وراء عملهم السياسي‪ ،‬ال وقت‬
‫لديهم لألخذ والعطاء وصوًال إلى التسويات‪ .‬حين يتعامل المرء مع السياسّي النافذ أو صانع القرار‬
‫الذي يمتلك مقاربًة براغماتية لألمور يكون المجال مفتوحًا ليدلي كل طرف برأيه وصوًال إلى‬
‫الحلول الوسط‪ ،‬أما السياسُّي األيديولوجّي فالبحث معه عن نقاط التفاهم أو األرضية المشتركة من‬
‫الصعوبِة بمكان‪.‬‬
‫بعض مساعدَّي قالوا إن التعامل مع فيث وأبرامز من المستحيالت‪ .‬فمنذ اللحظة التي يدخالن فيها‬
‫قاعة االجتماع ينتاُبك الشعور بأن ما ينتظرك هو اجتماع بشع وغير منتج‪ .‬يتصرف الرجالن كأنهما‬
‫في موقع يعلو على جميع الناس‪ ،‬ومتى كانت لديهما خطٌة معينة فعلى الكل أن يمتثَل ويطّبَق هذه‬
‫الخطة مهمًا كانت الظروف والعوائق‪.‬‬
‫في الشهر التالي عمَد األميركيون إلى حّل «سلطة التحالف المؤقتة» التي كان الكل يكرُهها‪ ،‬وذلك‬
‫بعد مرور سنة كاملة على إنشائها‪ ،‬وسّلم بريمر سلطة الحكم إلى حكومة عراقية برئاسة إياد‬
‫عالوي‪ ،‬من ساسة العراق الشيعة المرموقين‪ ،‬تمهيدًا إلجراء االنتخابات الوطنية العامة التي كانت‬
‫مواعيدها محددة في كانون الثاني‪/‬يناير من العام ‪ .2005‬كان عالوي من القادة األقوياء الذين لديهم‬
‫حظوظ كبيرة بالنجاح في حكم العراق‪ .‬رفيُع الثقافة‪ ،‬عالمُّي المعرفة‪ ،‬ذو خبرٍة واسعة ومتنوعة على‬
‫الصعيد األوسع‪ ،‬مؤمٌن بالعراق الموّح د‪ ،‬لكن بما أن بعض النافذين في واشنطن كانوا ال يزالون‬
‫يدعمون أحمد الجلبي لم يتسَّن لعالوي أن ينال دعمًا غير مشوب باالنقسام من الحكومة األميركية‪.‬‬
‫خالل زيارة قمت بها إلى واشنطن في أيلول‪/‬سبتمبر من السنة التالية‪ ،‬اتضح لي بالممارسة الحية‬
‫كيف أن البعض يعتبرون أنفَسهم كمن ختَم المعرفَة والعلم من األلف إلى الياء‪ .‬عندما كنت في‬
‫نيويورك لحضور االجتماع السنوي للجمعية العمومية لألمم المتحدة ُدعيت إلى عشاء أقامته اللي‬
‫ويموث (‪ ،)Lally Weymouth‬من كبار محرري مجلة «نيوزويك»‪ ،‬وابنة الراحلة كاثرين‬
‫غراهام (‪ )Katharine Graham‬ناشرة «الواشنطن بوست»‪.‬‬
‫إحدى المدعوات‪ ،‬وهي على ما أذكر مذيعُة أخبار في إحدى محطات التلفزة‪ ،‬سَأَلْتني عما إذا‬
‫كانت حقوق النساء قد تحسنت أو زادت سوءًا في العراق بعد الحرب‪« .‬لقد ساءت عشرَة أضعاف‬
‫عما كانت»‪ ،‬كان جوابي‪ ،‬ثم قلت‪« :‬عندما كان النظام علمانيًا تحت قيادة صدام حسين كانت‬
‫المساواة بين الرجل والمرأة شبه كاملة»‪ .‬ليز تشيني (‪ ،)Liz Cheney‬ابنة نائب الرئيس‪ ،‬كانت من‬
‫بين المدعوين‪ .‬مالت ليز على أذن باسم عوض هللا‪ ،‬رئيس الديوان الملكي‪ ،‬وقالت له إن هذا الكالم‬
‫يجب أال يصدَر عني في العَلن‪ ،‬وبما أنها أرفقت مالحظتها بابتسامة بقَي باسم غير متأكد من مدى‬
‫جديتها في هذه المالحظة‪.‬‬
‫في اليوم التالي تلقى باسم مخابرًة غير متوقعة من ليز تشيني متابعًة لمالحظتها أمس‪ ،‬وقالت له‬
‫إنها بحثت مالحظتي مع بول وولفوفيتز‪ ،‬الذي كان قد ُعِّين رئيسًا للبنك الدولي‪ ،‬وقد التقيا في الرأي‬
‫على أن علَّي أال أعِّبر عن آراء كهذه في العَلن‪ .‬عندما أخبرني باسم بمضمون هذه المكالمة‪ ،‬اقترحت‬
‫عليه أن يتصل بوولفوفتز ويقول له أن يذهب إلى الجحيم‪ .‬ما قلُته خالل العشاء كان صحيحًا تمامًا‪،‬‬
‫وقد صدَم ني بالفعل أن يكون بين مسؤولي اإلدارة األميركية وداعميهم َم ن يشعر بأن من غير‬
‫الممكن أن يكون هناك خالٌف في الرأي حول العراق‪ ،‬وبأن البعض في أميركا‪ ،‬البالد التي تفاخر‬
‫العالم بأنها تصون حرية الرأي والتعبير‪ ،‬يحاول كَّم األفواه حين ال يكون الرأُي المعَّبر عنه في خدمة‬
‫توجههم‪.‬‬
‫لقد حّذرني البعض في واشنطن‪ ،‬بمن في ذلك أحُد الصحافيين المعروفين الذي غطى أخباَر‬
‫الشرق األوسط على مدى سنوات‪ ،‬بأن من األفضل أن أبقى متيقظًا وحذرًا‪« :‬عليك أن تكون شديد‬
‫الحذر بالفعل مع بعض أعضاء هذه اإلدارة‪ ،‬ألنهم ميالون كثيرًا إلى االنتقام»‪ ،‬كما قال‪.‬‬
‫من حسن الحظ أن واشنطن لم َتعدم مسؤولين تهّم هم النتائُج اإليجابية أكثر من األيديولوجيا‬
‫وسياسة الصغائر‪ ،‬ومن هؤالء وليام بيرنز‪ ،‬مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق األوسط الذي‬
‫يتحدث العربية بطالقة‪ .‬وكان بيرنز قد شغَل في السابق منصب سفير الواليات المتحدة إلى األردن‬
‫حين كنُت ال أزال في الجيش‪ ،‬وقد دعوناه أنا ورانيا إلى العشاء في منزلنا ووجدناه طّيب المعشر‪،‬‬
‫لطيف الكلمة‪ ،‬فضًال عن كل الصفات التي يتمنى المرء أن يجدها لدى الدبلوماسي‪ :‬واقعّي ‪ ،‬شديُد‬
‫المالحظة‪ ،‬واٍع لكل شاردة وواردة‪ .‬منذئٍذ تجمعنا صداقٌة جيدة‪ .‬الشخص اآلخر الذي توثقت عالقتي‬
‫به هو جورج تينت‪ ،‬مدير وكالة االستخبارات المركزية‪ .‬لقد عمل تينت بدأٍب ومتابعة وثيقة في‬
‫السعي لدفع عملية السالم ُقدمًا‪ .‬وفي مرحلٍة الحقة وضَع خطة لوقف إطالق النار بين إسرائيل‬
‫والفلسطينيين‪ .‬وفي ظرٍف كان مؤاتيًا إلخفاء فشل البعض تمت التضحية به كبَش فداٍء إنقاذًا لبعض‬
‫الرؤوس‪ ،‬لكن بالنسبة إلينا كنُت دائمًا أجده مقِّدرًا وجهات نظرنا ومكّر سًا وقتًا ثمينًا إليجاد حل‬
‫للقضية الفلسطينية ‪ -‬اإلسرائيلية‪.‬‬
‫لقد وجدُت من تينت وبيرنز كل مساعدة عندما كنت أحتاج إلى اإلبحار في مياه واشنطن السياسية‬
‫الهائجة‪ ،‬وقد كان لرأيهما فضٌل كبير في التقاطي اإلشارات الداخلية التي من شأنها أن تنير الدرب‬
‫أمامي لكي أقرر متى يمكنني الدفع باتجاه سياسة معينة ومتى كان من األفضل االنتظار‪.‬‬
‫س‬
‫م‬
‫ا‬
‫خ‬
‫ل‬
‫ا‬

‫م‬
‫س‬
‫ق‬
‫ل‬
‫ا‬
‫الفصل الحادي والعشرون‪ :‬اإلسـالم كمـا أؤمـن بـه‬

‫كما باألمس تمامًا‪ ،‬أذكُر المرَة األولى التي زرُت فيها مكة المكرمة وكنت يوَم ها في الخامسَة‬
‫عشرَة أرافق والدي ألداء مناسِك العمرة‪ ،‬وبعد سنواٍت ذهبُت إلى مكَة حاجًا‪ .‬بلغ الحجيُج عامذاك‬
‫أكثر من مليون حاج‪ ،‬ال يكسو أجساَدهم سوى مالءٍة بيضاء َتشُّدها إلى الجسم قطعٌة من حبل‪ .‬شعور‬
‫يهّز منك عمَقك اإلنساني أمام هذا البحر من األخّو ة بين البشر فيما كنت واقفًا بين تلك الجموع من‬
‫الحجاج اآلتين من جهاِت األرض األربع‪ ،‬مكتسين كساًء واحدًا يجِّسُد الوحدَة والمساواَة أمام وجه‬
‫هللا‪ ،‬رِّب العالمين‪.‬‬
‫طفنا حول الكعبة‪ ،‬وهي الموقُع األقدس في اإلسالم الذي تنحو إليه وجوه المسلمين وأفئدُتهم عندما‬
‫يركعون مصّلين‪ .‬كان والدي قد حدثني كثيرًا عن أسالفنا من الهاشميين ودورهم التاريخي في‬
‫الوقوف على رعايِة مكة المكرمة‪ .‬لكن أن تكوَن هناك‪ ،‬جسدًا وروحًا‪ ،‬وأن تالمَس الكعبَة َلْه َو تجربة‬
‫روحيّة تترُك المرَء عاجزًا عن أّي تعبير‪ .‬جلسُت هناك خاشعًا ومأخوذًا بشعوٍر عَّز علّي وصُفه‪،‬‬
‫بانتظار بدء الصالة‪ .‬سمعت شيئًا من الرنيم الخافت وغمرني الخشوع هلل عز وجل‪.‬‬
‫يساورني قلق كبير من الصورة التي يرى فيها الكثيرون اإلسالم في أيامنا هذه‪ ،‬باعتباره نظامًا‬
‫من القواعد الجامدة والمتشددة‪ ،‬بدَل الذهاِب بأفكارنا إلى المعاني العميقة التي ينطوي عليها إيماُننا‪.‬‬
‫يجب على المسلم أن يؤدي فرائض هللا كاملة‪ .‬وعلينا أن نلتزم تعاليم ديننا السمحة وأن نطبق أيضًا‬
‫القيم اإلسالمية المتمثلة في مساعدة جاٍر لنا وقع في مشكلة‪ ،‬أو زميل في العمل يحتاج إلى نصيحة‪،‬‬
‫أو فرد في عائلتنا ينقصه الدعم‪ .‬أشعر بالطمأنينة والسالم الداخلي عندما أؤدي فريضَة الصالة‪.‬‬
‫وأشعر أيضًا بالرضى عندما أمّد يد العون إلى اآلخرين وأعّبر عن تعاطفي معهم‪ .‬إن اإلسالم دين‬
‫العدالة‪ ،‬والمساواة‪ ،‬والحق بأن يعيش اإلنسان حياة كريمًة زاخرة بالمعاني اإلنسانية‪ .‬وأدى التفسير‬
‫المتطرف لتعاليم ديننا إلى إعطاء صورة مشوهة عن هذه الفضائل اإلسالمية الكبرى‪.‬‬
‫عندما أرفُع الدعاء إلى هللا عز وجل أسأُله الرحمَة والحمايَة ألحَّبتي وأفراد عائلتي‪ ،‬ولجنودي‪،‬‬
‫ولوطني الحبيب‪ ،‬ولحكومتي‪ ،‬من موقعي على رأس الدولة أدعو لشعبي‪ ،‬لتحّسن مستوى عيشه‬
‫وصحته‪ .‬وأحيانًا أضرُع إلى هللا في صالتي أن يحقَق أمورًا بعيِنها كالمزيد من الوظائف لشبابنا‬
‫وشاباتنا‪ ،‬وأصلّي أحيانًا كي يهطَل المطُر غيثًا على األرض وزارعيها‪.‬‬
‫من األمور التي أحزنتني كثيرًا في العقدين األخيرين ما أصاب اإلسالم العظيم من سوء التفسير‬
‫نتيجة األعمال التي اقترَفْتها قلٌة مضَّللة‪ ،‬ومن األمثلة على ذلك المعنى الذي ألبسوه لكلمة «الجهاد»‬
‫التي ربَطها الكثيرون بالعنف والحرب‪ ،‬مع أن فحوى الكلمة هو الكفاُح الداخلي الذي يحاول اإلنسان‬
‫من خالله تحسين نفسه وأحواله‪ .‬إنه الكفاح من أجل التقدم ولكن أيضًا من أجل تحسين حياة اآلخرين‬
‫المحيطين به‪ .‬ما من نصٍر يأتي نتيجَة معركٍة واحدة‪ ،‬ولكن نتيجَة انتصاراٍت صغيرة يحققها اإلنسان‬
‫على مدى يومه أو أسبوِع ه ويكون بعضها متواضعًا وصغيرًا لدرجة قد ال يراه أحد‪.‬‬
‫يؤلمني جّدًا أن أرى قلًة قليلة من المتعصبين المضَّللين يشّو هون ديننا العظيم بتفسيرات ملتوية‪،‬‬
‫هؤالء يعتنقون إسالمًا محّر فًا‪ ،‬وإذ يَّدعون العمَل باسمه فهم في حقيقة األمر ليسوا سوى َقَتلٍة‬
‫مجرمين‪ .‬إنهم أقلية ال تمثل حجمًا ُيذكر من مليار وخمسمئة وسبعين مليون مسلم منتشرين في أقطار‬
‫األرض‪ ،‬لكنهم استطاعوا أن يتركوا أثرًا أكبر بكثير من حجمهم في الصورِة التي ينظر فيها‬
‫الكثيرون في العالم إلى الدين اإلسالمي الحنيف‪ .‬هؤالء التكفيريون ال تقوم أعماُلهم وتفسيراُتهم إال‬
‫على الجهل‪ ،‬والبغضاء‪ ،‬والفهم الخاطئ لمفهوم الشهادة النبيل لكي ينشروا عقيدَتهم ضاربين عرَض‬
‫الحائط بأكثر من ألف سنة من العلوم والفقه اإلسالمي القويم‪ ،‬وذلك بذريعة ما يظنون مخطئين أنه‬
‫النهج األصيل الذي كان متبعًا في القرن السابع في الجزيرة العربية‪.‬‬
‫ُيعّد التكفيريون جزءًا صغيرًا من جماعٍة من األصوليين أكثر انتشارًا هم «السلفيون» الذين‬
‫يطرحون ضرورَة العودة إلى الجذور‪ .‬لكّن األكثرية الساحقة من السلفيين ال تجيز األعمال اإلرهابيَة‬
‫وال قتَل المدنيين األبرياء‪ .‬بالنسبة إلى هؤالء التكفيريين ُتعّد الحرب ضد من يعتبرونهم أعداًء حربًا‬
‫مفتوحًة ال ضوابط فيها‪ ،‬وهم ال يأبهون بالتعاليم اإلسالمية التي نص عليها القرآن الكريم والحديث‬
‫الشريف‪ .‬ال يكاد يكون هناك مسلم إال ويعرف مجموعَة المحرمات التي أمَر بها خليفُة المسلمين أبو‬
‫بكر الصديق ‪ -‬رضي هللا عنه ‪ -‬جيوشه في القرن السابع‪ ،‬والتي يمكن اعتبارها سابقة إسالمية‬
‫التفاقات جنيف‪ .‬كانت وصية الخليفة أبي بكر الصديق التي سبقت اتفاقات جنيف بأربعة عشر قرنًا‬
‫أن‪:‬‬
‫ال تخونوا‪ ،‬وال تغلوا‪ ،‬وال تغدروا‪ ،‬وال تمثلوا‪ ،‬وال تقتلوا طفًال صغيرًا‪ ،‬وال شيخًا‬
‫كبيرًا‪ ،‬وال امرأة‪ ،‬وال تعقروا نخًال وال تحرقوه‪ ،‬وال تقطعوا شجرة مثمرة‪ ،‬وال تذبحوا شاة وال بقرة‬
‫وال بعيرًا إال لمأكلة‪ .‬وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفَسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفَسهم‬
‫له‪.‬‬
‫إن األعمال التي يقوم بها التكفيريون ال تمُّت إلى اإلسالم بصلة‪ ،‬وليس فيها من رسالة اإلسالم‬
‫شيء‪ ،‬فإذ يحترم اإلسالُم الحياة اإلنسانية ويصونها‪ ،‬ال يتردد التكفيريون في تدميرها والقضاء‬
‫عليها‪ .‬لقد رمى التكفيريون وراَء ظهورهم تراَث التراحم والتعاطف اإلنساني الذي هو أحد منابع‬
‫الثراء الروحي في اإلسالم‪ ،‬وهم يهدفون إلى قلب الحكومات في طول العالم العربي وعرِض ه‬
‫بوسائل العنف والتدمير لكي يعلنوا الخالفة «اإلسالمية»‪ .‬ومن أجل ما تصّو ره لهم عقوُلهم أنه‬
‫اإلسالُم «الصحيح» تراهم َيقتلون المسلمين ويهّدمون قيَم اإلسالم وركائَز ه األخالقية‪ ،‬ويسعون إلى‬
‫تهديم العالم الذي يتفاعل معه ‪ 99.99‬في المئة من المسلمين‪.‬‬
‫تعود الحركة التكفيرية بجذورها إلى ما شهدته مصر في سبعينيات القرن الماضي من إحياٍء‬
‫لمفهوم عقيدِة الجهاد‪ ،‬وكان لهذه الحركة صلٌة بحادثة العصيان والتمرد التي وقعت في مكَة المكرمة‬
‫في العام ‪ ،1979‬ثم تفّر َع منها العديد من الجماعات اإلرهابية بما فيها تنظيُم القاعدة‪ .‬ينجرف‬
‫التكفيريون إلى الحروب التي ُتَشن على المسلمين‪ ،‬ومن هنا َدفُقهم على أفغانستان بأعداٍد كبيرة‪.‬‬
‫كثيرون منهم‪ ،‬كأسامة بن الدن‪ ،‬تعلموا أساليب الحرب واالستراتيجية والقتل واإلرهاب خالل‬
‫المعارك التي خاضوها ضد قوات االحتالل السوفياتي ألفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي‪.‬‬
‫وعندما انتهى ذلك النزاع في مطلع التسعينيات عادت مجموعات كبيرة من هؤالء المقاتلين إلى‬
‫بلدانهم وكانت تلك الحروب قد أكسبتهم مهاراٍت «عسكرية» جديدة‪.‬‬
‫نحن في األردن الحقنا هؤالء التكفيريين بمختلف أنشطتهم على مدى سنوات طويلة‪ ،‬وقد ذهب‬
‫عدد كبير منهم إلى أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي‪ ،‬وإلى البوسنة والشيشان في التسعينيات‪.‬‬
‫لقد كان األردن المساهَم الثالث في قوات األمم المتحدة التي أرسلت إلى يوغوسالفيا السابقة‪ ،‬بعد‬
‫فرنسا والمملكة المتحدة‪ .‬وقد أرسلنا ثالث كتائب‪ ،‬أي ما يزيد على ثالثة آالف جندي وضابط‬
‫استمرت إقامتهم هناك من العام ‪ 1993‬حتى العام ‪ ،1996‬حتى إن ضابطًا أردنيًا كان على رأس قوة‬
‫األمم المتحدة التي تمركزت في كرواتيا‪ .‬لقد رأينا التكفيريين يحاولون انتزاع دوٍر لهم في الحرب‪،‬‬
‫وسرعان ما أدركنا أننا نواجه مزيجًا قاتًال من القومية والتطرف الديني والعنف‪.‬‬
‫باإلضافة إلى المقاتلين القدماء العائدين من أفغانستان إلى األردن والذين كانوا على ارتباٍط‬
‫بالتنظيم الذي يسمي نفسه «جيش محمد»‪ ،‬كان علينا أيضًا أن نتعامل مع مجموعة من المقاتلين‬
‫العائدين من الشيشان‪ ،‬ذلك أن بعض المواطنين األردنيين من أصوٍل شيشانية وأردنيين آخرين كانوا‬
‫قد ذهبوا إلى الشيشان للمشاركة في ما اعتبروه جهادًا ضد الروس‪ .‬وهكذا كان على األردن أن‬
‫يواجه في تسعينيات القرن الماضي مشكلًة جديدة تمثلت بمجموعة من المجاهدين المقاتلين ذوي‬
‫التدريب العالي الذين عادوا إلى األردن من أفغانستان والشيشان‪ .‬لسوء الحظ فإن بعض هذه‬
‫المجموعات كانت تعرف جيدًا كيف تستخدم المهارات التي تعلمتها وهكذا بدأ أفراُدها العائدون إلى‬
‫مناطق إقليمية أخرى ينظمون الهجمات اإلرهابية‪.‬‬
‫عندما بدأ اإلرهابيون ينظمون حمالٍت إرهابيًة على نطاٍق واسع ابتداًء من مطلع القرن الحالي‪،‬‬
‫أدركنا تمامًا َم ن هم هؤالء وماهية األخطار التي ُتخفيها أهداُفهم‪ .‬لقد صدمت الوحشية التي اتسمت‬
‫بها أعماُلهم الكثيرين في الغرب‪ ،‬وجعلت البعض َيعتبر المسلمين في أربعة أقطار األرض من هذا‬
‫الصنف من البشر‪ ،‬وراحوا يستخدمون تعابيَر من نوع «الفاشية اإلسالمية» أو «المتطرفين‬
‫المسلمين»‪ .‬لكن على مستخدمي هذه التعابير أن يدركوا أنها تمّثل إهانًة لثالثٍة وعشرين في المئة من‬
‫سكان األرض‪ ،‬وأنا ال أكُّف عن تحذير أصدقائي في الغرب قائًال‪« :‬ال تنخدعوا بما يّدعيه‬
‫اإلرهابيون من انتماٍء إلى اإلسالم‪ ،‬فليس هؤالء‪ ،‬بمنتهى البساطة‪ ،‬سوى مجرمين وقتلة‪ .‬احذروا أن‬
‫تنفخوا بصورة أقوالهم وأفعالهم حتى لكأنكم تشملون بهذه الصورة العالَم اإلسالمَّي بأكمله»‪.‬‬

‫***‬

‫كانت المرة األولى التي تلقيت فيها تهديدًا شخصيًا من القاعدة في صيف ‪ .2000‬قررُت يوَم ها أن‬
‫أقضي عطلًة قصيرة مع عائلتي ووقَع اختياُر نا على الجزر اليونانية‪ .‬في ‪ 22‬حزيران‪/‬يونيو من‬
‫العام ‪ 2000‬سافرت من عمان إلى رودس وكان معي ابني حسين الذي كان في الخامسة وابنتي‬
‫إيمان التي كانت في الثالثة‪ .‬أما رانيا‪ ،‬التي كانت حامًال بسلمى‪ ،‬فكان برنامُج ها أن تنضّم إلينا في‬
‫اليونان في اليوم التالي‪ .‬كذلك كان معي أخي علي‪ ،‬الذي كان مسؤوًال عن أمني الشخصي‪ ،‬واثنتان‬
‫من أخواتي‪.‬‬
‫فيما كنا نقترب من مطار دياغوراس في جزيرة رودوس‪ ،‬ألقيت نظرة من الطائرة على تلك‬
‫الجبال الصخرية واألبنية القديمة‪ .‬من المشهور عن رودس أنها تضم الموقع الذي أقيم فيه التمثاُل‬
‫العمالق الذي ُعرف بكونه إحدى عجائب الدنيا السبع وكان ينتصُب شاهقًا على مشارف الميناء‪ .‬هذه‬
‫الجزيرة التاريخية كان لها‪ ،‬هي أيضًا‪ ،‬نصيٌب من نزاعات الشرق األوسط‪ ،‬فقد غزاها القائد المسلم‬
‫معاوية األول في القرن السابع للميالد‪ ،‬وكانت عهدذاك جزءًا من اإلمبراطورية البيزنطية‪ ،‬ثم‬
‫استعادتها للبيزنطيين الحملُة الصليبية األولى بعد مرور أربعة قرون على سقوطها‪ .‬بعد ذلك انتقَل‬
‫حكُم الجزيرة إلى مجموعٍة من المحاربين الفرسان الذين القوا نهايَتهم على يدي السلطان العثماني‬
‫سليمان القانوني‪ .‬في القرن العشرين شهدت الجزيرة مفاوضات السالم بين جدَي األكبر‪ ،‬الملك عبد‬
‫هللا األول‪ ،‬وقادة كٍل من مصر ولبنان وسوريا من جهة‪ ،‬والقادة اإلسرائيليين من جهٍة ثانية‪ .‬وقد‬
‫انتهت تلك المفاوضات بتوقيع اتفاقات الهدنة في العام ‪ 1949‬التي أدت إلى وقٍف إلطالق النار بين‬
‫دولة إسرائيل المنشأة حديثًا وجيرانها العرب‪.‬‬
‫انتقلنا بالسيارة من المطار إلى الميناء وكنُت قد استعرُت يختًا من أحد األصدقاء السعوديين‪.‬‬
‫أبحرنا بعد ظهر ذلك اليوم وقد تهادى بنا اليخت على صفحة مياه المتوسط الهادئة‪ ،‬وكان يتبعنا على‬
‫مسافة زورٌق تابٌع لحرِس السواحل اليوناني‪ .‬وبما أننا كنا على موعٍد في اليوم التالي للقاء رانيا في‬
‫الموقع نفسه الذي انطلقنا منه‪ ،‬قررنا أن نبقى على مسافٍة قريبة من شاطئ مدينة لندوس‪.‬‬
‫مع اقترابنا من الميناء رأيُت مجموعًة من البيوت البيضاء تحيط بقاعدِة تكويٍن صخرّي عمالق‬
‫تعلو قمَته قلعٌة يونانيٌة قديمة‪ .‬عندما اقترَب يخُتنا من رصيف الميناء تجّم ع بالقرب من الرصيف‬
‫بعُض األشخاص الذين كانوا في الجوار‪ .‬أمضينا أمسيًة هادئة ومريحة في تلك المدينة الصغيرة‪،‬‬
‫وفي الصباح عدنا لمالقاة رانيا‪.‬‬
‫كان علينا أن ننتظر بضَع ساعات‪ ،‬تركنا الولدين مع عمتيهما واستأجرنا أنا وعلي دراجتين‬
‫ناريتين ورحنا نستكشف الجزيرة‪ .‬تجولنا على تلك الطرق التي يغطيها الغبار ومررنا ببعض القرى‬
‫الصغيرة وعدنا لنجد رانيا قد وصلت‪ .‬لم نتأخر في اإلبحار باتجاه «هالكي»‪ ،‬الجزيرة الصغيرة التي‬
‫ال يتجاوز عدد سكانها ثالثمئة نسمة‪ .‬كنا قد نوينا اإلبحار على مدى يومين بين الجزر اليونانية‬
‫بحيث نتوقف في «سيمي» (‪ )Symi‬و«تيلوس» (‪ )Tilos‬و«نيسيروس» (‪ ،)Nisyros‬وصوًال إلى‬
‫«سانتوريني» (‪ )Santorini‬المشهورة بشطآنها البركانية وبيوتها البيضاء الرائعة‪.‬‬
‫حوالى الخامسة من بعد الظهر‪ ،‬فيما كنت مستريحًا مع زوجتي والولدين على ظهر اليخت نتمتع‬
‫بتلك الطبيعة الرائعة‪ ،‬جاءني اتصال من عمان‪ .‬نزلت إلى مركز االتصاالت وتناولت الهاتف فكان‬
‫على الخط مدير المخابرات‪ ،‬قال‪« :‬جاءتنا تقارير تقول إن جماعًة من القاعدة تنوي مهاجمة يختك‬
‫عند وصولك إلى سانتوريني‪ .‬يجب أن تغّير اتجاهك فورًا»‪.‬‬
‫قال لي إن اإلرهابيين كانوا ينوون قصف اليخت بصواريخ تطلق عن الكتف‪ ،‬وربما كانوا‬
‫سيقومون بعملية انتحارية بحيث يقتربون من اليخت بقارٍب صغير ويفجرون أنفَسهم لتدمير اليخت‬
‫بي وبالعائلة‪( .‬هذه التقنية استخدَم ها اإلرهابيون بعد أربعة أشهر‪ ،‬في ‪ 12‬تشرين األول‪/‬أكتوبر‪،‬‬
‫عندما هاجم انتحاريون المدِّم رة األميركية «يو أس أس كول» (‪ )USS Cole‬في ميناء عدن في‬
‫اليمن وُقتل في العملية ‪ 17‬بحارًا أميركيًا)‪.‬‬
‫بوصفي زوجًا وأبًا شعرُت بغضٍب ال يوصف وأنا أسمُع أن إرهابيين يهددون حياتي وحياة‬
‫عائلتي‪ .‬ومع أن رد فعلي األول كان أن نتصدى لهم‪ ،‬فقد وافقُت أخي علي الذي رأى من الحكمِة‬
‫تغيير وجهتنا فورًا ومغادرَة المكان‪.‬‬
‫لم نشأ أن نخلق جوًا من الرعب على متن اليخت وكان ال بد من أن نبتكَر سببًا يبرر قرارنا بتغيير‬
‫برنامجنا‪ .‬وبما أن رانيا كانت حامًال قلنا لطاقم اليخت إنها تواجه بعض التعقيدات وعلينا أن نلغي‬
‫جولتنا البحرية ونعود إلى رودس‪ .‬أحطنا المطار علمًا وحين وصلنا إلى الميناء كانت طائرتنا‬
‫جاهزة على المدرج‪ .‬ما إن أصبحت الطائرة في الجو حتى اتصلُت بمدير المخابرات العامة وطلبت‬
‫إليه أن يبلغ مسؤولي األمن اليوناني بما لديه من معلومات‪ .‬ومع أننا لم نعرف كيف اكتشفت القاعدة‬
‫وجودي في اليونان‪ ،‬فإن أفضل ما خرجنا به من استنتاج هو أن مخبرًا محليًا قد نقل إليهم المعلومة‪.‬‬
‫بسب سياسة االعتدال التي يعتمدها األردن نهجًا ثابتًا‪ ،‬ودوره الفاعل في العمل على تحقيق السالم‬
‫في المنطقة‪ ،‬وجهده المستمر لتعزيز ثقافة التسامح بين أتباع الحضارات واألديان المختلفة‪ ،‬فقد رأت‬
‫القاعدة أنني مصدُر تهديد لنهجها‪.‬‬
‫كان قد مضى علينا أعوام ونحن نحارب القاعدة ونتعاون مع حلفائنا لقطع الطريق على‬
‫مخططاتها في المنطقة‪ ،‬ولعّل موقفنا هذا هو الذي دفعهم للتآمر على حياتي‪ .‬لم تكن المسألة عائدة‬
‫إلى أسباب شخصية‪ ،‬فهدفهم كان أوسع بكثير‪ .‬لقد َنِع َم ْت الساللُة الهاشمية والحمد هلل باالحترام في‬
‫العالمين العربي واإلسالمي‪ ،‬غير أن ما ُعرفنا به تاريخيًا من اعتداٍل مصحوٍب بانفتاحنا على الغرب‬
‫طالما جعَلنا هدفًا للمتطرفين‪ .‬لقد ظنوا أنهم بقتلي سوف يقتلون تسعين عامًا من الحكم الهاشمي في‬
‫األردن‪ ،‬وإرَث ألفيٍة كاملٍة بل يزيد من القيادة الهاشمية في الجزيرة العربية‪ .‬إن من بين أهداف‬
‫القاعدة قلَب األنظمة العربية برّم تها لكي تنّص َب مكاَنها حكَم ها المتطّر ف الذي ال يمُّت إلى اإلسالم‬
‫بصلة‪.‬‬
‫إن البذور األولى لراديكالية العنف التي تجّسد عقيدَة القاعدة قد ُز رعت خالل العام ‪ 1979‬الزاخر‬
‫باألحداث الكبرى‪ ،‬وكان لثالثة من هذه األحداث َر ْج ُع صدى كبير على مدى عقود ثالثة على األقل‪.‬‬
‫في كانون الثاني‪/‬يناير هرَب شاه إيران من درب ثورٍة كانت في طور النمو واالمتداد‪ ،‬وحّل محَّله‬
‫آيُة هللا الخميني على رأس الجمهورية اإلسالمية اإليرانية‪ .‬وقد كانت الثورة اإلسالمية في إيران‬
‫مصدَر وْح ٍي ودافعًا مشجعًا للمتطرفين في كل أنحاء المنطقة‪ .‬ثم‪ ،‬في العشرين من تشرين الثاني‪/‬‬
‫نوفمبر‪ ،‬استولى بضُع مئات من هؤالء على المسجد الحرام في مكة المكرمة‪ .‬وقد أغضب هذا‬
‫االعتداء على أحد أقدِس المواقع اإلسالمية من قبل متطرفين مسلحين العالم اإلسالمي وصدمه‪ .‬لقد‬
‫اّدعى قائُد العملية‪ ،‬السعودي جهيمان العتيبي‪ ،‬أن الحكَم السعودي حكٌم فاسد وغير إسالمّي ‪ ،‬وأن‬
‫المهدي المنتظر قد عاد ليتوّلى الحكم‪ .‬لكّن المتمردين ما لبثوا أن اقتيدوا إلى خارج الحرم بعد‬
‫وقوعهم في قبضة السلطات األمنية‪ ،‬وكان مصير جهيمان والعديد من المتآمرين معه أن ُقِط عت‬
‫رؤوُسهم في الساحات العامة‪ .‬صحيح أن التمرد قد ُو ِض َع له حد‪ ،‬غير أن تداعياِته لم تنتِه بانتهائه‪.‬‬
‫من بين اإلسالميين المتطرفين الذين تأثروا بما قام به جهيمان في مكة عصام محمود طاهر‬
‫البرقاوي‪ ،‬الذي عرف بأبي محمد المقدسي‪ .‬ولد المقدسي في الضفة الغربية وقضى وقتًا طويًال في‬
‫أفغانستان خالل ثمانينيات القرن الماضي‪ ،‬وانطالقًا من كونه منّظرًا قياديًا احتل موقعًا طليعيًا في‬
‫الحركة الجهادية السلفية في األردن وأصبح معّلما ومرشدًا ألبي مصعب الزرقاوي يرسم له مسالكه‬
‫نحو استخدام العنف الوحشي باسم اإلسالم‪ .‬وقد رّدد المقدسي الكثير من شعارات جهيمان وانتقاداته‬
‫للحكم السعودي وسواه من الحكومات العربية‪.‬‬
‫مع انتهاء االعتداء على المسجد الحرام في مكة المكرمة في كانون األول‪/‬ديسمبر من العام‬
‫‪ ،1979‬انفجر الحدث الثالث‪ :‬زحفت الدبابات السوفياتية إلى أفغانستان‪ ،‬وما كان من هذا الهجوم‬
‫على بلٍد مسلم إال أن حّر َك حمّيَة المقاتلين في كل أنحاء العالم اإلسالمي‪ .‬وفي هذا اإلطار جاء‬
‫البعض يطالب األردن بالقيام بدوٍر ما‪ .‬صديٌق أميركي كان قد تقاعد حديثًا من القوات المسلحة‬
‫جاءني وقال لي إنه عائد لتّو ه من أفغانستان وطلب مني أن يتولى األردن تدريب مجموعة من‬
‫المقاتلين المجاهدين‪ .‬قلت له إن هذا القرار ال يعود إلّي ‪ ،‬فأنا لسُت سوى ضابٍط صغير‪ ،‬لكن وعدُت‬
‫بأن أنقَل طلبه إلى والدي‪.‬‬
‫كان جواب والدي حاسمًا وقاطعًا‪« :‬هذا أمٌر غير وارد على اإلطالق»‪ .‬لقد رأى أن المزَج بين‬
‫التعصب الديني ومعطياِت السياسة الباردة هو تصرف خطير وخاٍل من الحكمة‪ ،‬فضًال عن كون‬
‫تصرف من هذا النوع يثير الروس ضدنا وهذا ال يخدم مصلحة األردن‪.‬‬
‫في طليعة المقاتلين المسلمين في أفغانستان كانت حركة السلفيين‪ .‬إن الكثرة الساحقة من المسلمين‪،‬‬
‫سّنًة وشيعة‪َ ،‬تبني فهَم ها وتفسيَر ها لإلسالم على تراكٍم تاريخٍي ضارٍب في عمق الزمن من العلوم‬
‫القرآنية والفقه اإلسالمي‪ ،‬وعلى ثراٍء تراثي هائٍل من االجتهاد والفقه والتفسير وعلوم اللغة الشاملة‪.‬‬
‫أمام هذا الثراء المعرفّي المتراكم عبر السنين‪ُ ،‬يمضي المفكرون اإلسالميون وكباُر األئمة سنواٍت‬
‫وأحيانًا عقودًا في دراسة تراٍث فقهّي عمُر ه فوَق ألٍف من السنين‪ .‬وعندما ُيصدر هؤالء فتاواهم‬
‫الدينية أو وجهاِت نظرهم في شؤون الدين إنما يقّدمون تفسيرًا مبنيًا على حكمِة العلماء والفقهاء‬
‫الذين سبقوهم وكان لهم في هذا المجال الباع الطويل‪ .‬أما التكفيريون‪ ،‬أو القادُة من بينهم‪ ،‬فهم ال‬
‫يأبهون لهذا التراث من الفقه وعلوم الدين وال يقبلون تعدَد مسارات الفكر الديني‪ .‬وهم يعتبرون في‬
‫المقابل أنهم يمتلكون الفهَم الصحيح لإلسالم‪ ،‬الفهَم المبنَّي على تفسيرهم هم لنصوص القرآن الكريم‪.‬‬
‫من بين المآخذ على هذه المقاربة أنها ال تقبُل وجهات نظر العلماء والفقهاء اآلخرين‪ .‬حين تقع‬
‫مسؤولية التفسير واإلفتاء في هذه الحالة بين أيٍد ال تؤتمن عليها‪ ،‬نكون أمام أخطار محدقة‪.‬‬
‫يذهب التكفيريون بعيدًا بهذا الحق الحصرّي لتفسير الدين‪ ،‬ويستخدمونه لتبرير الصيغة المشّو هة‬
‫التي يعتمدونها لإلسالم‪ .‬إنهم يعتقدون أن من حقهم قتَل الهراطقة‪ ،‬علمًا بأن كل َم ن ال يرى رأَيهم في‬
‫تفسير الدين هو من هؤالء‪ ،‬وهذا ما يبرر لهم أن يقتلوا َم ن شاؤوا ومتى شاؤوا‪.‬‬
‫صباح الثامن والعشرين من تشرين األول‪/‬أكتوبر من العام ‪ ،2002‬خرج لورنس فولي‬
‫(‪ ،)Laurence Foley‬أحد كبار مسؤولي وكالة التنمية الدولية األميركية‪ ،‬من منزله في إحدى‬
‫ضواحي عمان متجهًا نحو مقر عمله‪ .‬ما إن خطا بضَع خطوات نحو سيارته حتى قفز مسّلح من‬
‫وراء السيارة وأطلَق عليه ثماني رصاصات من مسدس عيار ‪ 7‬مليمتر وأسرع هاربًا في سيارة‬
‫كانت بانتظاره‪ ،‬تاركًا لزوجِة فولي أن تكتشف جثَة زوجها تسبُح في دمائها‪.‬‬
‫اتصل بي مدير المخابرات العامة وقال‪« :‬منذ قليل وقعت جريمة اغتيال وُقِتل فيها دبلوماسي‬
‫أميركي»‪ .‬كان غضبي كبيرًا جّدًا أن أرى ضيفًا من ضيوف األردن يسقط قتيًال في بلدنا بيد حفنٍة‬
‫من المجرمين‪ ،‬وقد أمرُت بالتحرك الفورّي والسريع للعثور على القتلة‪.‬‬
‫في اليوم التالي زرُت السفارة األميركية لتقديم التعازي لزوجة فولي‪ ،‬فيرجينيا (‪،)Virginia‬‬
‫وقلت لها إننا سنجد قاتل زوجها‪ .‬بعد مرور شهرين‪ ،‬في كانون األول‪/‬ديسمبر من العام ‪،2002‬‬
‫اعتقلت قواُت األمن األردنية القاتل وهو مواطن ليبي‪ ،‬وسائق السيارة التي هرَب فيها وهو أردني‪.‬‬
‫بعد التوسع في التحقيق الذي تابعته القوى األمنية تبّين لنا أن المؤامرة أديرت من خارج األردن‬
‫وكان وراَء ها أبو مصعب الزرقاوي‪ .‬بعد تحقيٍق موّسع ومحاكمٍة طويلة‪ ،‬أصدرت المحكمة في ربيع‬
‫العام ‪ 2004‬حكَم ها على ثمانية أشخاص بجريمة قتل لورنس فولي‪ ،‬ستة منهم حوكموا وُح كموا‬
‫غيابيًا بمن فيهم الزرقاوي‪ .‬أما الرجالن اللذان كانا في قبضِة العدالة األردنية‪ ،‬القاتل وسائق السيارة‪،‬‬
‫فقد ُنّفذ فيهما حكم اإلعدام‪.‬‬
‫على الرغم من بشاعة هذه الجريمة‪ ،‬فهي لم تكن سوى المقدمة لموجة كبيرة من أعمال العنف‬
‫التي اجتاحت الشرق األوسط‪ .‬في أوائل نيسان‪/‬إبريل من العام ‪ 2004‬اعترضت قوى األمن األردنية‬
‫ثالث شاحنات مألى بالمتفجرات في مدينة إربد القريبة من الحدود السورية‪ .‬تحركت أجهزة‬
‫المخابرات لمعرفة الجهة التي كانت وراء هذه الشحنة وما هي أهدافها‪ ،‬ومن حسن الحظ أن أحد‬
‫المتورطين كان ال يزال في األردن مختبئًا في شقة في حي ماركا وسط عمان‪ ،‬وهو أردني يدعى‬
‫عزمي الجيوسي وكان معه عدد من الشركاء‪ .‬أمرُت فريقًا من القوات الخاصة بإلقاء القبض على‬
‫الجيوسي واإلتيان به حيًا إذا أمكن‪ .‬كان علينا أن نعرف إذا كان يعمل منفردًا أو أن هناك آخرين‬
‫ينتظرون اللحظة المناسبة لشن هجومهم‪.‬‬
‫تبّين أن الجيوسي كان مختبئًا في منطقٍة سكنية بالقرب من إحدى المدارس‪ .‬وتجنبًا لتعريض‬
‫المدنيين ألي خطر قرر الفريق أن يتحرك ليًال‪ .‬في الثانية من فجر العشرين من نيسان‪/‬إبريل من‬
‫العام ‪ 2004‬تجّم ع فريق من الكتيبة ‪ 71‬في الشارع تحت الشقة المستهدفة‪ ،‬وكان الفريق يضم‬
‫تشكيًال من الرجال المدربين تدريبًا عاليًا على مكافحة اإلرهاب ويرافقهم أفراد من الشرطة‪.‬‬
‫قرَع أحد رجال الشرطة الباب فاسُتقبَل برَشٍق من بندقية أوتوماتيكية‪ ،‬في تلك اللحظة اقتحم الشقة‬
‫ستة من رجال مكافحة اإلرهاب مطلقين النار على اإلرهابي الذي بادَر هم بإطالق النار فسقط قتيًال‪.‬‬
‫بعد لحظات اقتحم الشقَة فريٌق آخر وقبَض على الجيوسي حيًا ومعه زوجُته وأطفاُله الثالثة‪ ،‬وكان‬
‫مسّلحًا بكل أنواع األسلحة‪ .‬وجدوا لديه متفجرات وآالف الدوالرات والدنانير وبضعة جوازات‬
‫مزورة‪.‬‬
‫خالل التحقيق معه كشف الجيوسي أن زعيم العصابة هو أبو مصعب الزرقاوي‪ ،‬الذي تعّر ف‬
‫عليه عندما كانا يحاربان في أفغانستان‪ .‬كذلك اعترف بأن هناك خليتين أخريين في عمان تخططان‬
‫لشن هجماٍت أخرى‪ .‬قال الجيوسي إنه ال يعرف مكان الخلية الثانية‪ ،‬لكن قائد فريق العمليات‬
‫الخاصة كان سريع البديهة‪ ،‬فطلَب منه االتصال بقائد الخلية الثانية وتحديد موعد للقائه‪ .‬انطلق‬
‫الفريق العتراض قائد الخلية الثانية الذي استطاعوا إلقاء القبض عليه في وضح النهار وقاَدهم إلى‬
‫«البيت اآلمن» الذي كان يختبئ فيه حيث ألقوا القبض على قائد الخلية الثالثة‪.‬‬
‫بعد بضعة أيام ُذِه ل األردنيون ولم يصدقوا ما كانوا يشاهدوَنه ويسمعونه من اعترافاٍت متلفزة‬
‫كشَف فيها اإلرهابيون ما كانوا يخططون له‪ .‬فقد كانوا يزمعون خلط المتفجرات التقليدية مع مواد‬
‫كيماوية قاتلة ومهاجمة السفارة األميركية ومبنى رئاسة الوزراء ومقر دائرة المخابرات العامة‪ .‬كان‬
‫الجيوسي قد تلقى تدريبه في مجال المتفجرات في أحد معسكرات بن الدن في أفغانستان‪ ،‬وقد طّو ر‬
‫تقنيًة يمزج فيها األوكسجين المرّكز مع حبوب الكمون األسود المطحون لصنع مادة أشد تفجيرًا من‬
‫الـ«تي‪ .‬إن‪ .‬تي»‪ ،‬وكان يأمل أن يتمكن من قتل آالف الناس بهذه الطريقة‪.‬‬
‫بعد مرور أيام معدودة‪ ،‬في ‪ 29‬نيسان‪/‬إبريل‪ ،‬زحَف في شوارع عمان ما يقارب مئة ألف مواطن‬
‫ومواطنة من األردنيين‪ ،‬بمن فيهم زوجتي رانيا‪ ،‬للتعبير عن غضبهم واالحتجاج على اإلرهاب‬
‫واإلرهابيين‪ .‬كانوا يهتفون ضد اإلرهاب ويضربون الطبول وهم في طريقهم إلى مبنى مجلس األمة‬
‫حيث أحرقوا صور بن الدن والزرقاوي والجيوسي ورفاق السوء لكل هؤالء‪.‬‬
‫وقعت عملية المحاكمة لهؤالء اإلرهابيين في فوضى عارمة حيث عمدوا إلى التشويش على‬
‫اإلجراءات القانونية ورفضوا االعتراف بسلطة المحكمة‪ .‬وفي مرحلة من مراحل جلسة المحاكمة‬
‫خلَع الجيوسي حذاءه ورمى به القاضي صارخًا بوجهه أن الزرقاوي سوف يقطع رأسه‪ ،‬وأن كل‬
‫الحاضرين هم من «أعداء هللا»‪.‬‬
‫انتهت المحاكمة بالحكم على الجيوسي ورفاِقه باإلعدام‪ ،‬وبحكٍم آخر باإلعدام على الزرقاوي‬
‫غيابيًا‪ .‬عندما كان الحكم ُيتلى بصوٍت عاٍل صرَخ أحُد اإلرهابيين أن منظمَة بن الدن تكبر وأن‬
‫«جيش أبو مصعب وأسامة سوف يعود»‪.‬‬
‫الفصل الثاني والعشرون‪ :‬معًا ضد اإلرهاب‬

‫كل البشائر كانت توحي لنادية العلمي بأن التاسع من تشرين الثاني‪ /‬نوفمبر من العام ‪ 2005‬هو‬
‫يوُم فرحتها الكبرى‪ .‬ففي أمسية ذلك اليوم كانت سُتزف إلى خطيبها أشرف دعاس في فندق‬
‫«راديسون ساس» في عمان‪ .‬كان العروسان قد التقيا قبل ثالث سنوات حين كانا يعمالن في أحد‬
‫المستشفيات المحلية‪ ،‬وسرعان ما جمَعهما الحب وقررا الزواج‪ .‬جاَء المحبون‪ ،‬من أقارب‬
‫وأصدقاء‪ ،‬من كل أنحاء االغتراب وتجمعوا في الفندق لمشاركة العريسين وذويهما فرَح هم‪ .‬في‬
‫حوالى التاسعة دخل العروسان بهَو الفندق يزفهم المدعوون الذين َعلْت أهازيجهم وتصفيُقهم فرحًا‬
‫بالعروس الرافلة بثوبها األبيض الجميل وطرحتها المتهدلة والعريس ببدلته ذات اللون األدكن‬
‫وربطة العنق الحمراء‪.‬‬
‫ساعٌة مضت‪ ،‬أو أقّل ‪ ،‬على كتب كتاب العريسين وكانا يهّم ان باالحتفال ببدء حياتهما معًا؛ زوجين‬
‫يتطلعان إلى غٍد سيبنيانه معًا‪ .‬لكن أبا مصعب الزرقاوي كانت لديه مشاريُع أخرى‪.‬‬
‫تسَّلل إلى مكان االحتفال ثنائٌّي من االنتحاريين‪ ،‬زوٌج وزوجُته‪ ،‬عراقيان‪ ،‬لَّف كل منهما حوَل‬
‫جسمه حزامًا ناسفًا مثقًال بالمتفجرات والُكرات الحديدية‪ ،‬وأخذا يتنقالن بين المدعوين حريَص ْين‬
‫على أن يبتعَد أحُدهما عن اآلخر ليضمنا أكبَر َقْدٍر من الدمار والقتل‪ .‬حين وَلجت ناديا وعريُسها باَب‬
‫القاعة صدحت الموسيقى بلحن الفرح‪ .‬عند هذه اللحظة فَّج ر الرجل حزاَم ه فتطايرت الكرات‬
‫الحديدية في كل االتجاهات بزخٍم مميت‪ُ .‬قتل والد العروس فورًا وأصيب والد العريس إصابًة قاتلة‪.‬‬
‫وحاولت زوجُة االنتحاري تفجيَر حزامها فلم ينفجر ووَّلْت هاربة‪.‬‬
‫كانت الحصيلة سبعًا وعشرين ضحية من بينهم والدا العروسين وستَة عشَر شخصًا من أقرباء‬
‫أشرف‪.‬‬
‫في الوقت نفسه تمامًا فّج ر انتحاريان نفسيهما في فندقين آخرين‪« :‬غراند حياة» (‪Grand‬‬
‫‪ )Hyatt‬و«دايز إن» (‪ )Days Inn‬وُقتل في هذين التفجيرين ثالثة وثالثون شخصًا لتصبَح‬
‫الحصيلة ستين ضحية بينهم ستة وثالثون من األردنيين‪ .‬من بين الذين َفقدوا حياتهم في تلك‬
‫التفجيرات المخرُج السينمائي العالمي‪ ،‬السوري ‪ -‬األميركي مصطفى العقاد‪ ،‬الذي أنتج وأخرج فيلم‬
‫«الرسالة» وقد تناوَل فيه مجريات األيام األولى لإلسالم‪ ،‬علمًا بأن شهرَته لدى جمهور السينما‬
‫األميركية جاءت من أفالم الرعب التي أنتجها حول عيد التخّفي «الهالوين»‪.‬‬
‫يوم وقعْت هذه التفجيرات كنت في زيارة رسمية إلى كازاخستان‪ ،‬وُبَعيد انتهاء العشاء الرسمي‬
‫جاَء ْتني من عمان مخابرة هاتفية تحيطني علمًا بما حدث‪ .‬ما إن سمعُت الخبر حتى شعرت بغضب‬
‫ال يوصف وحزن قبض قلبي‪ .‬ومع أن معركَتنا مع التكفيريين كانت دائمًا مصدر تخوٍف لدّي من أن‬
‫نتعّر ض لعمٍل من أعمالهم الوحشية‪ ،‬فإنني لم أهيئ نفسي يومًا لشيٍء بهذه الفظاعة والبشاعة‪.‬‬
‫اعتذرُت من المضيفين وطلبُت إعداد الطائرة فورًا للعودة إلى عمان‪ .‬وصلنا في الخامسة من‬
‫صباح اليوم التالي واتجهُت مباشرًة إلى مواقع االنفجارات‪ .‬ما إن وقع نظري على ما خّلفه العمُل‬
‫اإلجرامّي من الدمار وسفك الدماء حتى ازداد غضبي اشتعاًال‪« .‬كيف لهؤالء المجرمين أن يفعلوا‬
‫هذا بنا؟» فكرُت في نفسي‪ ،‬وكاد الغيُظ يسيُل دمعًا من عينّي ‪َ .‬قَتلٌة مجرمون يزهقون أرواحًا بريئًة‬
‫في حفِل زفاف‪ ،‬وأنا‪ ،‬رأُس الدولة ومن َأْو لى واجباتي أن أحمي هؤالء األبرياء وأصوَن حياَتهم‬
‫ومصالحهم‪ .‬عقدُت العزم على العثور على المجرمين‪ .‬قَّدمُت واجَب العزاء إلى أفراد العائالت‬
‫المفجوعة‪ ،‬وقمت بجولة في المستشفيات لزيارة المصابين وتمّني الشفاء العاجل لهم‪ ،‬وكان من بينهم‬
‫ابُن أحِد األصدقاء المقّر بين‪.‬‬
‫بالنسبة إلى بلٍد بحجم الواليات المتحدة قد ال يبدو عدد الضحايا (‪ 60‬شخصًا) كبيرًا على الصعيد‬
‫النسبي‪ .‬لكن بالنسبة إلى األردن كانت الضربة كبيرة جّدًا‪ ،‬ال بل كارثية وال تقُل عن فقدان ثالثة‬
‫آالف شخص في هجوم واحد على أميركا‪ .‬كانت الوطأُة النفسية على المواطن األردني العادي عبئًا‬
‫مذهًال‪ ،‬وقد جعلت السواَد األعظم من الرأي العام في األردن يناصُب تنظيَم القاعدة العداَء السافر‪.‬‬
‫أذاَع زعيم القاعدة في العراق‪ ،‬أبو مصعب الزرقاوي‪ ،‬بيانًا أعلن فيه مسؤوليَته عن التفجيرات‪،‬‬
‫وقال في بيانه إنه «بعد دراسة ومتابعة األهداف‪ ،‬فإن أماكن تنفيذ العملية اختيرت لتكون فنادق اتخذ‬
‫منها الطاغية في األردن ساحات خلفية ألعداء اإلسالم مثل اليهود والصليبيين»‪ .‬لكّن اإلرهابيين‬
‫الذين كانوا أبعَد ما يمكن عن استهداف «أعداء اإلسالم»‪ ،‬حصدوا بتفجيراتهم عشرات األردنيين‬
‫األبرياء وعشرات سواهم من جنسياٍت أخرى‪.‬‬
‫رفَض األردنيون اعتداءات الزرقاوي الحاقدة‪ ،‬وقد تجمع بعد ظهر ذلك اليوم أمام فندق راديسون‬
‫عدد كبير من المستنكرين الغاضبين يلّو حون باألعالم األردنية ويرّددون الهتافات المنّددة‬
‫بالزرقاوي‪« :‬الموت للزرقاوي»‪ ،‬وعلى مدى لياٍل متواصلة بقَي األردنيون الشباب يحيون ساعات‬
‫الليل بالصالة والدعاء‪.‬‬
‫لقد عّبرُت عن الغضب الكبير الذي انتاَبني في رسالٍة وجهُتها إلى األردنيين في العاشر من تشرين‬
‫الثاني‪/‬نوفمبر قلت فيها‪« :‬ونؤكد هنا للجميع أننا سنالحق هؤالء المجرمين ومن يقف وراَء هم‪،‬‬
‫وسنصُل إليهم أينما كانوا وُنخرُج هم من جحورهم ونقدمهم للعدالة»‪ .‬سياستنا في األردن أن ال نتدخل‬
‫في الشؤون الداخلية ألي بلد آخر‪ .‬لكن هذه السياسة كانت على وشك أن تتغّير بعد الذي حدث‪ .‬لقد‬
‫قررُت أننا من اآلن فصاعدًا‪ ،‬إذا تبّين لنا أن جماعًة إرهابية تخّطط الستهدافنا وهي مختبئة في بلٍد‬
‫آخر‪ ،‬فسوف نضرُبها قبل أن تتمكن منا‪ .‬استدعيت المسؤولين األمنيين والمدنيين‪ ،‬وقلت لهم‪« :‬اآلن‬
‫سنبادر نحن بالهجوم‪ ،‬فالذي فعَله الزرقاوي عمٌل إجرامي وقد حان الوقت لخلع القفازات وتحريك‬
‫يدنا الحديدية‪ ،‬عليكم أن تأتوا به حيثما كان»‪ .‬تحركنا نحو القبائل العراقية في مسعى للحصول على‬
‫مزيد من المعلومات‪ ،‬أما الحكومة العراقية فإذا شاءت أن تساعدنا‪ ،‬فهي مشكورة‪ ،‬وإذا تمّنعت عن‬
‫ذلك فإننا على استعداٍد للعمل بمفردنا‪.‬‬
‫أيام صدام حسين كان العراق مقفًال ولم يكن من السهل على رجال مخابراتنا التحرك داخَل البلد‪.‬‬
‫لكن في ضوء الغزو األميركي وانتشار حالة الفوضى لم يمِض وقت طويل حتى تمكن رجالنا من‬
‫التسلل إلى العراق‪ .‬كنا نعلم أن الزرقاوي هناك‪ ،‬لكن لم تكن لدينا اإلمكانية في البداية لمطاردته‬
‫والقبض عليه‪ .‬أما اآلن فقد بدأنا نتحرك بفاعلية داخل العراق وأخذنا ُنلِح ق ضباطًا أردنيين بوحداٍت‬
‫من القوات الخاصة األميركية‪ .‬األردنيون أدرى من األميركيين بتصرفات التكفيريين ونمط‬
‫تفكيرهم‪ ،‬وبالتالي كانوا أقدَر على اكتشاف المشبوهين من بينهم‪ .‬وقد ساعدنا األميركيين في التعّر ف‬
‫إلى التكفيريين‪.‬‬
‫قال الزرقاوي إن هجوَم ه كان يستهدف النظام األردني‪ ،‬لكن هذا ليس صحيحًا‪ .‬وقد اتضح للشعب‬
‫األردني أن قتَل عدٍد كبير من الضيوف المدعوين إلى حفل زفاف لم يكن سوى عمٍل إجرامّي‬
‫وحشي‪ ،‬وهو أبعد ما يكون عن العمل السياسي‪ .‬هجوم الزرقاوي كان‪ ،‬بمنتهى البساطة‪ ،‬إعالن‬
‫حرٍب على األردن‪ ،‬وها نحن آتون لنرّد الصاَع صاعين‪.‬‬
‫ولَد الزرقاوي باسم أحمد فضيل نّز ال خاليلة‪ ،‬ونشأ في مدينة الزرقاء الواقعة على بعد سبعة عشر‬
‫ميًال شرقَّي عّم ان‪ .‬كان شاّبًا عنيفًا بطبيعته‪ ،‬ومجرمًا صغيرًا‪ ،‬وبقي منجرفًا على هذه الدروب‬
‫المنحرفة حتى أصبَح في أوائل عشرينياته فتوّج ه إلى أفغانستان لينضَّم إلى المقاتلين ضد القوات‬
‫السوفياتية هناك‪ .‬بوصوله إلى أفغانستان‪ ،‬مع بداية الخروج السوفياتي منها في العام ‪ ،1989‬أطلَق‬
‫على نفسه االسَم الحركّي «الزرقاوي» تيمنًا بالبلدة التي نشأ فيها‪ ،‬وهناك التقى أسامة بن الدن‬
‫وسواه من جماعة المتطّر فين‪ .‬عند عودته إلى األردن في أوائل تسعينيات القرن الماضي أنشأ تنظيمًا‬
‫إرهابّيًا محليًا تحت اسم «بيعة اإلمام»‪ ،‬لكن قبل أن يقوم بأي هجمات إجرامية اعُتقل وحكم عليه‬
‫بالسجن مدى الحياة‪.‬‬
‫التقى الزرقاوي في سجنه منّظر التكفيريين أبا محمد المقدسي الذي شّج ع لديه ميَله إلى أعمال‬
‫العنف‪ .‬لكن المقدسي دأَب في ما بعد على انتقاد الزرقاوي ووقع التباعد بين االثنين‪ .‬وفي ما ثبَت أنه‬
‫خطٌأ جسيم ترّتبت عليه أثماٌن باهظة‪ُ ،‬أفرج عن الزرقاوي في العام ‪ 1999‬ضمن عفٍو عام ُبَعْيد‬
‫تحملي مسؤولياتي ملكًا على األردن‪ .‬ما هي إال فترة قصيرة حتى عاد الزرقاوي وتوجه إلى‬
‫أفغانستان حيث زّو ده ابن الدن بالمزيد من المال والتشجيع‪ .‬بعد الغزو األميركي ألفغانستان في‬
‫تشرين األول‪/‬أكتوبر من العام ‪ 2001‬عاد إلى الشرق األوسط الستئناف عملياته اإلرهابية‪.‬‬
‫استقر الزرقاوي في المناطق الكردية شماَل العراق‪ ،‬وهناك أقام ِص الٍت قويًة مع أحد التنظيمات‬
‫اإلرهابية المحلية‪« :‬أنصار اإلسالم»‪ ،‬وهو تنظيم على عالقة وثيقة بالقاعدة‪ .‬بالتعاون مع هذا‬
‫التنظيم‪ ،‬ومع عصابة من المقاتلين المنتمين إلى القاعدة والذين جاؤوا معه من أفغانستان‪ ،‬بدأ مع‬
‫رجاله ُيجرون اختباراٍت في مجال السموم‪ ،‬بما فيه الـ«سيانيد» و«الريسين»‪ ،‬وكانوا يجّر بون‬
‫سموَم هم على الحيوانات ليعرفوا مدى فاعليتها‪ .‬ثم بدأ يرسل اإلرهابيين الذين دّر بهم في معسكره في‬
‫مهماٍت إجرامية إلى البلدان األوروبية بما فيها إيطاليا وألمانيا والمملكة المتحدة‪ ،‬وقد اعُتقل العديد‬
‫من هؤالء واعترفوا بعالقتهم بالزرقاوي‪ .‬كانت أمنية الزرقاوي توسيع ميدان نشاطه ورفع مستوى‬
‫النفوذ الذي يمارُسه‪ ،‬ولم َيُدْر في َخ َلده أّن أبوابًا واسعًة كانت على وشك أن تنفتح أمامه وأمام أمثاله‬
‫من اإلرهابيين‪.‬‬
‫عندما غزا األميركيون العراق في العام ‪ 2003‬نفضت القاعدة عنها كل أثقالها‪ .‬غمَر الفرُح قلَب‬
‫أسامة بن الدن ألنه أدرك أن الفوضى وعدم االستقرار اللذين سيعّم ان البالد سيفتحان أمام أنصاره‬
‫قلَب العالم العربي وعمَقه وسيتيحان لهم تثبيت قواعدهم في بلدان المنطقة‪ .‬لكن َم ن قال إن أسامة بن‬
‫الدن وحَده يحتكر هذا الميدان‪ ،‬فها هو الزرقاوي‪ ،‬الباحُث عن مدخٍل يلُج منه إلى هذا الفراغ الكبير‬
‫الذي خلَقه الغزو األميركي‪ ،‬يطأ الساحَة لتوسيع مدى نشاطه ونفوذه‪ .‬لقد ارتفعت نسبُة الشّر والعنف‬
‫في ما يقوم به من أعماٍل إجرامية‪ ،‬وراح يتجاوز كل الحدود وصوًال إلى النفوذ السياسّي عن طريق‬
‫العنف المتطرف‪.‬‬
‫في الثالث من أيار‪/‬مايو من العام ‪ُ 2003‬عرض على أحد المواقع اإللكترونية التابعة لتنظيم‬
‫القاعدة شريُط فيديو ظهر فيه رجل أعمال أميركي شاب يدعى نيكوالس بيرغ‪ ،‬يرتدي مالبَس‬
‫رياضيًة بلوٍن برتقالي وكان راكعًا أمام خمسة رجال بلباسهم األسود وكانوا مقّنعي الوجوه‪ .‬قرأ‬
‫أحُدهم‪ ،‬الزرقاوي حسب ما أعلن عنوان الشريط‪ ،‬بيانًا ثم سحب سكينًا وذبَح بيرغ من الوريد إلى‬
‫الوريد وهو يصرخ‪ُ« :‬هللا أكبر»‪.‬‬
‫تلك هي اللحظة التي تحّو َل فيها الزرقاوي ورجاُله من مجرمين إلى حيواناٍت مفترسة‪ .‬لقد قاموا‬
‫بعمٍل ال تتسع الكلمات لوصِف بشاعته‪ ،‬وأنا ال أفهم كيف يمكن هؤالء أن يّدعوا الدفاع عن أي قيمٍة‬
‫إنسانية‪ ،‬وكيف بهم يتبّج حون بالدفاع عن اإلسالم‪ ،‬ديِن التراُح م والُه دى؟ أمعن الزرقاوي في ارتكاب‬
‫كل أنواع البشاعات؛ فّج ر أماكَن العبادة الشيعية في محاولٍة إلشعال نار الفتنة المذهبية‪ ،‬وقطَع‬
‫رؤوَس العديد من سّيئي الطالع من المدنيين األبرياء‪.‬‬
‫في الرابع من تشرين األول‪/‬أكتوبر أعلن الزرقاوي‪ ،‬في بيان ُنشر على أحد مواقع اإلنترنت‪ ،‬أنه‬
‫قد ضَّم منظمته إلى تنظيم القاعدة‪ ،‬وجاء في البيان أن جماعة التوحيد والجهاد تبايع أسامة بن الدن‬
‫أميرًا عليها‪ .‬وبعد التحاقه بالقاعدة عاَد الزرقاوي يمعُن باستهداف األردن‪ .‬ففي العامين ‪2004‬‬
‫و‪ 2005‬أحبطت أجهزُتنا األمنية ما يزيد على مئٍة وخمسين محاولَة هجوم على أهداٍف في األردن‬
‫قامت بها جماعُة القاعدة بقيادة الزرقاوي‪ ،‬وسواها من التنظيمات التكفيرية‪ .‬لكن هذا ال يعني أننا‬
‫استطعنا إحباَط كل المحاوالت‪ .‬في آب‪/‬أغسطس من العام ‪ 2005‬تسّلل إلى األردن أفراد من تنظيم‬
‫القاعدة في العراق وأطلقوا‪ ،‬من ميناء العقبة في الجنوب‪ ،‬قذيفًة على سفينٍة حربية أميركية‪ ،‬وفي‬
‫تشرين الثاني‪/‬نوفمبر هاجم انتحاريو الزرقاوي الفنادَق الثالثة في عمان‪ .‬لكن هذه العملية لم تكن‬
‫عمًال إجرامّيًا وحشّيًا فحسب‪ ،‬بل كانت أيضًا خطًأ تكتيكّيًا كبيرًا‪.‬‬
‫في العديد من عواصم الشرق األوسط غالبًا ما يكون نزالء الفنادق الفخمة من الزوار األجانب‪،‬‬
‫رجال أعمال ومسؤولين حكوميين وسوى ذلك‪ ،‬ومن هنا فإن هدف الزرقاوي من تفجير فندق كان‬
‫يستهدف‪ ،‬على األرجح‪ ،‬قتل األميركيين أو اإلسرائيليين‪ .‬لكن فنادق الخمس نجوم في األردن غالبًا‬
‫ما يكون روادها من األردنيين أكثر منهم من األجانب‪ ،‬وحتى النادلون في المطاعم هم في أغلبهم من‬
‫األردنيين وليسوا من العمال األجانب‪.‬‬
‫كانت تلك الهجمات نوعًا من اإلنذار لنا جميعًا‪ .‬أما الزرقاوي‪ ،‬الذي َص دَم ْته موجُة الغضب‬
‫الشعبّي الذي قوبل به عمُله اإلجرامّي ‪ ،‬فقد قرر أن يغّير من تكتيكه‪ .‬وفي شريٍط ُو ِّز ع في األسبوع‬
‫التالي وجه الزرقاوي تهديدًا مباشرًا إلَّي ‪ ،‬قائًال إنه سيصل إلَّي وسيقطع رأسي‪.‬‬
‫في ذلك الشتاء وفي الربيع الذي تاله انتشر عناصُر مخابراتنا والمتعاونون معهم في كل أرجاء‬
‫العراق بحثًا عن أي معلومة يمكن أن ُترشدنا إلى الجحر الذي يختبئ فيه الزرقاوي‪ .‬وما لبثوا أن‬
‫نسجوا شبكًة من المخبرين على امتداد خريطة البلد‪ .‬وفي إطار البحث عن أّي دليٍل يقودنا إليه تبادلنا‬
‫المعلومات مع إحدى القبائل السنية ذات العالقة بتنظيمات المتمردين‪ ،‬وفي نيسان‪/‬إبريل من العام‬
‫‪ 2006‬نشر الزرقاوي شريطًا استطاع خبراؤنا تحليَل عناصره وتقدير مكان وجوِده نتيجَة قراءٍة‬
‫للصور والمشاهد التي تضّم نها الشريط‪ .‬كذلك استطعنا تجنيد ُم خبٍر من الدائرة الضيقة التي تحيط‬
‫بالزرقاوي‪ ،‬وقد كشف لنا هذا المخبر‪ ،‬بعد فترة‪ ،‬معلومًة تفصيلية على جانب من األهمية‪ .‬هذا‬
‫المخبر كان على اتصاٍل بثالثة من رُسل الزرقاوي الموثوقين جّدًا لديه‪ ،‬والذين يلتقونه شخصّيًا‬
‫إلتيانه بالرسائل وَح ْم ِل رسائِله إلى اآلخرين‪.‬‬
‫بالتعاون الوثيق مع األميركيين استطعنا في أكثر من مناسبة االقتراَب منه كثيرًا وفي إحدى هذه‬
‫المرات تنّبَه عندما سمع صوت اآلليات المدرعة‪ ،‬وعند وصول القوة العسكرية األميركية كان قد‬
‫هرب على دراجٍة نارية صغيرة‪ .‬وفي مرٍة ثانية قفز من النافذة وهرب‪ .‬لكننا كنا نزيُد اقترابًا منه‬
‫مرًة بعد مرة‪.‬‬
‫في أيار‪/‬مايو من العام ‪ 2006‬علمنا من األميركيين أن الزرقاوي كان ُيعّد لالجتماع بمرشده‬
‫الروحي الشيخ عبد الرحمن‪ ،‬فبدأنا نراقُب تحركات الشيخ لعّله يرشدنا إلى مخبئه‪ .‬وفي السابع من‬
‫حزيران‪/‬يونيو الحَق األميركيون الشيخ إلى منزٍل في ضواحي بعقوبة التي تبعد ثالثين ميًال شمالّي‬
‫شرقّي بغداد‪ ،‬ورّكزوا فريقًا مراقبًا من قوات الدلتا الخاصة وسَط غابٍة من الشجيرات بالقرب من‬
‫المنزل‪ .‬أما نحن فطلبنا من أحد مخبرينا أن ُيبقي عينًا ساهرة‪ ،‬وقد بعث إلينا برسالة يقول فيها إن‬
‫الزرقاوي وأحَد رجاله في الداخل‪.‬‬
‫كان الليل على وشك الهبوط وخوفًا من أن يعود ويهرب مرًة أخرى طلَب قائُد مجموعة قوة الدلتا‬
‫األميركية من الطيران أن يقصف المنزل‪ .‬لم يكد يمضي وقٌت قصير حتى كانت طائرتان من طراز‬
‫«إف ‪ »16‬تلقيان على المنزل قنبلتين تزن كل منهما حوالى ‪ 230‬كلغ‪ .‬سحَب الجنود األميركيون‬
‫والعراقيون الزرقاوي من بين الركام وكان ال يزال يتنفس‪ ،‬لكنه ما لبث أن فارق الحياة‪.‬‬
‫وأخيرًا نالت منه العدالُة وأنصفْت أولئك الحزانى من أقارب ضحاياه وعائالتهم؛ فالزرقاوي لم‬
‫يعد قادرًا على نشر الموت واألذى بين المدنيين األبرياء‪ .‬في حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ُ 2009‬قِبَض‬
‫على زوجته تجتاز الحدود من سوريا إلى األردن مع أوالدها‪ .‬وظهر الفارق واضحًا بين المتطرفين‬
‫الَقتَلة وبين العالم المتحّضر حين سمحنا لهم بأن يدخلوا وأطلقناهم أحرارًا‪.‬‬
‫لم يتواَن األردن‪ ،‬منذ وقت طويل‪ ،‬في التعاون مع الدول الصديقة على حماية المدنيين واألبرياء‬
‫من المنظمات اإلرهابية‪ .‬لكن التعاون الدولي ضد تنظيم القاعدة أصبح أقوى في السنوات األخيرة‬
‫وأكثر تنظيمًا ومنهجية؛ وذلك استجابًة للتهديدات اإلرهابية المتزايدة‪ .‬لقد كانت أجهزة مخابراتنا أوَل‬
‫من استطاع اختراق صفوف القاعدة وذلك قبل أن يتنبه لها المجتمع الدولي بكثير؛ ومن هنا معرفُتنا‬
‫العميقة والواسعة بأساليبهم وتقنياتهم‪ .‬لقد وضعنا هذه الخبرة والمعلومات في خدمة حلفائنا بغيَة‬
‫التعاون في مكافحة اإلرهاب‪ .‬وأنا أشعر باالعتزاز حياَل الدور الكبير الذي قمنا به في حماية أرواح‬
‫األبرياء في المنطقة وفي العالم‪ .‬إننا مستمرون في التعاون والمشاركة بالمعلومات مع أجهزة‬
‫المخابرات األخرى في عملية تعاوٍن تزداُد اتساعًا وفاعليًة نحمي من خاللها شعبنا ومصالحنا من‬
‫المنظمات اإلرهابية‪.‬‬
‫ال شك في أننا ربحنا معركًة مهمة ضد اإلرهاب‪ ،‬لكّن االنتصار الحاسم في هذه الحرب ال يكمن‬
‫في ربح المعارك التكتيكية الصغيرة‪ ،‬وال في استخدام قواِتنا العسكرية وأجهزة مخابراتنا للقضاء‬
‫على خاليا اإلرهاب واكتشاف مؤامراتها فقط‪ .‬لن نهزَم اإلرهابيين إال بوضع حٍّد للذرائع التي‬
‫يستخدمونها للترويج ألفكارهم‪ ،‬وبمحاربة الجهل واليأس اللذين تنمو عليهما تلك األفكار‪ .‬ليست‬
‫الحرب على اإلرهاب حربًا عسكرية‪ ،‬إنها حرب عقٍل وتفكيٍر سليم‪ ،‬ونحن بدأنا نخوُض ها منذ بعض‬
‫الوقت‪.‬‬
‫الفصل الثالث والعشرون‪ :‬رسـالـة عّم ـان‬

‫في أواخر العام ‪ 2004‬دعوُت جمعًا من العلماء المسلمين إلى األردن‪ ،‬وطرحُت عليهم سؤاًال‬
‫حول ما َيقترحونه من سُبٍل لمكافحة التكفيريين وما يطرحونه من آراء وأفكار هدامة‪ ،‬وطلبُت من‬
‫ابن عمي األمير غازي بن محمد‪ ،‬العاِلِم اإلسالمّي ذي المكانِة المرموقة‪ ،‬وهو يحمل شهادة دكتوراه‬
‫من جامعة كامبريدج‪ ،‬أن يقود عمَل المجموعة وُينّسَق بين أفرادها‪ .‬توّص ل هؤالء العلماء األجالء‬
‫إلى وضع وثيقٍة بعنوان «رسالة عمان» أوضحوا فيها حقيقة اإلسالم وما هو اإلسالم الحقيقي‪ ،‬وما‬
‫علق باإلسالم مما ليس فيه‪ ،‬واألعمال التي تمّثله وتلك التي ال تمّثله‪ُ .‬نشرت الرسالة في التاسع من‬
‫تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪ ،‬عشيَة شهر رمضان المبارك‪ ،‬وجاء فيها‪:‬‬
‫إن رسالة اإلسالم السمحة تتعّر ض اليوم لهجمة شرسة ممن يحاولون أن يصوروها عدّو ًا لهم‬
‫بالتشويه واالفتراء‪ ،‬ومن بعض الذين يّدعون االنتساب إلى اإلسالم ويقومون بأفعال غير مسؤولة‬
‫باسمه‪ ...‬وهذا الدين ما كان يومًا إال حربًا على نزعات الغلّو والتطّر ف والتشّدد‪ ،‬ذلك أنها حجب‬
‫العقل عن تقدير سوء العواقب واالندفاع األعمى خارج الضوابط البشرّية دينًا وفكرًا وخلقًا‪ ،‬وهي‬
‫ليست من طباع المسلم الحقيقي المتسامح المنشرح الصدر‪ ،‬واإلسالم يرفضها ‪ -‬مثلما ترفضها‬
‫الديانات الّسماوية السمحة جميعها ‪ -‬باعتبارها حاالت ناشزة وضروبًا من البغي‪ ،‬كما أنها ليست من‬
‫خواص أّم ة بعينها وإنما هي ظاهرة عرفتها كّل األمم واألجناس وأصحاب األديان إذا تجمعت لهم‬
‫أسبابها‪ ،‬ونحن نستنكرها وندينها اليوم كما استنكرها وتصّدى لها أجدادنا عبر التاريخ اإلسالمي‬
‫دون هوادة‪...‬‬
‫وإننا نستنكر‪ ،‬دينّيًا وأخالقّيًا‪ ،‬المفهوَم المعاصَر لإلرهاب‪ ،‬الذي ُيراد به الممارساُت الخاطئة‪ ،‬أّيًا‬
‫كان مصدُر ها وشكُلها‪ ،‬والمتمثلُة في التعدي على الحياة اإلنسانية بصورٍة باغية متجاوزة ألحكام هللا‪.‬‬
‫كنُت مدركًا‪ ،‬طبعًا‪ ،‬أن رسالًة أو بيانًا أو وثيقًة مصدُر ها األردن وحده لن تكون كافيًة لصد‬
‫التكفيريين والوقوف بوجههم بعد أن بثوا سموَم هم في أرجاء العالم اإلسالمّي ‪ .‬ولذلك توّلى األمير‬
‫غازي استخالَص المحاور الثالثة الرئيسة للرسالة فكانت هذه األسئلة المحورية الثالثة الكفيلُة بنسف‬
‫كل التحريفات والتشويهات التي أْلحَقها التكفيريون باإلسالم وَكْش ِف زيفها تبعًا للمعايير اإلسالمية‬
‫الثابتة‪ .‬والنقاُط المحوريُة الثالث هي‪:‬‬
‫تعريف من هو المسلم؟‬
‫وهل يجوز التكفير؟‬
‫ومن له الحق في أن يتصّدى لإلفتاء؟‬
‫أرسلنا هذه األسئلة إلى أربعٍة وعشرين عالمًا من كبار علماء المسلمين من ذوي المكانة المرموقة‬
‫من جميع أنحاء العالم‪ ،‬يمثلون جميع المذاهب والمدارس الفكرية في اإلسالم‪ .‬وفي تموز‪/‬يوليو من‬
‫العام ‪ 2005‬عقدنا مؤتمرًا في عمان دعونا إليه مئتين من كبار العلماء المسلمين في أكثَر من خمسين‬
‫بلدًا بما فيها المملكُة العربية السعودية وإيران وتركيا ومصر‪ .‬أصدرت هذه النخبُة من العلماء فتوى‬
‫بشأن المسائل األساسية الثالث التي ُطرحت في المؤتمر‪ ،‬وقد ُعرفت النتائُج التي خرجوا بها‬
‫بمحاور رسالة عمان الثالثة‪:‬‬
‫(‪ )1‬إّن كل من يّتبع أحد المذاهب األربعة من أهل السّنة والجماعة (الحنفي‪ ،‬والمالكي‪ ،‬والشافعي‪،‬‬
‫والحنبلي) والمذهب الجعفري‪ ،‬والمذهب الزيدي‪ ،‬والمذهب اإلباضي‪ ،‬والمذهب الظاهري‪ ،‬فهو‬
‫مسلم‪ ،‬وال يجوز تكفيره؛ ويحرم دمه وعرضه وماله‪ .‬وأيضًا‪ ،‬ووفقًا لما جاء في فتوى فضيلة شيخ‬
‫األزهر‪ :‬ال يجوز تكفير أصحاب العقيدة األشعرّية‪ ،‬ومن يمارس التصّو ف الحقيقي‪ .‬وكذلك ال يجوز‬
‫تكفير أصحاب الفكر السلفي الصحيح‪.‬‬
‫كما ال يجوز تكفير أّي فئة أخرى من المسلمين تؤمن باهلل سبحانه وتعالى وبرسوله صلى هللا عليه‬
‫وسلم وأركان اإليمان‪ ،‬وتحترم أركان اإلسالم‪ ،‬وال تنكر معلومًا من الدين بالضرورة‪.‬‬
‫(‪ )2‬إّن ما يجمع بين المذاهب أكثر بكثير مّم ا بينها من االختالف‪ .‬فأصحاب المذاهب الثمانية‬
‫متفقون على المبادئ األساسّية لإلسالم‪ .‬فكّلهم يؤمنون باهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬واحدًا أحدًا‪ ،‬وبأّن القرآن‬
‫الكريم كالم هللا المنَّز ل‪ ،‬وبسيدنا محمد عليه الصالة والسالم نبّيًا ورسوًال للبشرية كاّفة‪ .‬وكلهم‬
‫متفقون على أركان اإلسالم الخمسة‪ :‬الشهادتين‪ ،‬والصالة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬وصوم رمضان‪ ،‬وحّج البيت‪،‬‬
‫وعلى أركان اإليمان‪ :‬اإليمان باهلل‪ ،‬ومالئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم اآلخر‪ ،‬وبالقدر خيره وشّر ه‪.‬‬
‫واختالف العلماء من أتباع المذاهب هو اختالف في الفروع ال في األصول‪ ،‬وهو رحمة‪ .‬وقديمًا‬
‫قيل‪ :‬إّن اختالف العلماء في الرأي أمٌر جّيد‪.‬‬
‫(‪ )3‬إّن االعتراف بالمذاهب في اإلسالم يعني االلتزام بمنهجية معينة في الفتاوى‪ :‬فال يجوز ألحد‬
‫أن يتصّدى لإلفتاء دون مؤّهالت شخصية معينة يحددها كل مذهب‪ ،‬وال يجوز اإلفتاء دون التقّيد‬
‫بمنهجية المذاهب‪ ،‬وال يجوز ألحد أن يّدعي االجتهاد ويستحدث مذهبًا جديدًا أو يقّدم فتاوى‬
‫مرفوضة تخرج المسلمين عن قواعد الشريعة وثوابتها وما استقَّر من مذاهبها‪.‬‬
‫على مدى العامين ‪ 2005‬و‪ 2006‬حملنا هذه المحاوَر الثالثة إلى كل المؤتمرات والمعاهد‬
‫اإلسالمية الكبرى بحيث صَّدَق عليها أكثر من خمسمئة عاِلم وفقيه من كبار العلماء في العالم‬
‫اإلسالمي؛ ما مثل إجماعًا دينيًا تاريخيًا‪ .‬وكانت تلك المّر ة األولى منذ ما يزيد على ألف عام تتوصل‬
‫فيها األمة رسمّيًا إلى مثل هذا االعتراف المتبادل بين المذاهب المتعددة‪ .‬وإن هذا االعتراف ملزم‬
‫قانونّيًا للمسلمين؛ ألن الرسول صلى هللا عليه وسلم قال‪« :‬إن أمتي ال تجتمع على ضاللة» (ابن‬
‫ماجة‪ ،‬السنن‪ ،‬كتاب الفتن‪ ،‬الحديث رقم ‪ .)3950‬وبذلك أجمعت األمة أيضًا على «أن األسَس التي‬
‫تنطلُق منها الحركة التكفيرية غيُر مقبولة وغيُر شرعية وغيُر إسالمية»‪.‬‬
‫قد يبدو هذا البحث‪ ،‬لغير ذوي المعرفة‪ ،‬حوارًا مبهمًا ال جدوى منه‪ ،‬لكن في الحقيقة‪ ،‬فإن هؤالء‬
‫الحكماء من أهل المعرفة والفقه اإلسالميين قد هاجموا جوهَر األفكار التي ينشُر ها المتطرفون في‬
‫أرجاء عالمنا اإلسالمّي ‪ .‬وذلك عمل بالغ األهمية؛ ذلك أن األفكار هي أمضى األسلحة في مواجهة‬
‫اإلرهاب‪ .‬صحيح أنني رجٌل عسكرّي بحكِم الخبرة والممارسة‪ ،‬لكن هذه الخبرة بالذات قد عَّلمْتني‬
‫أنه ال يمكن االنتصار على اإلرهابيين من خالل العمل العسكري وحده مهما اشتدت الحرب على‬
‫اإلرهاب‪ .‬علينا أن ُنقنع الناس بعبثية األيديولوجيا التكفيرية وإفالسها‪ ،‬ويجب أن نهزَم التكفيريين‬
‫فكريًا أمام الشباب والشابات من مسلمي األجيال الطالعة ونحّص نهم ضد الفكر الظالمي للتكفيريين‪.‬‬
‫لعّل أمضى األسلحة التي يمكن أن نمتشَقها بوجه التكفيريين اثنان‪ ،‬التعليُم وفتُح مجاالِت اإلنجاز‬
‫أماَم األجيال الطالعة‪ ،‬وهذا ال يعني فتح المزيد من المدارس والجامعات فحسب‪ ،‬ولكن أيضًا تحسيَن‬
‫نوعيِة التعليم الديني‪ .‬إذا شئنا التأكد من أن رسالَة اإلسالم الصحيح تستطيع أن تصَل إلى الشباب‪،‬‬
‫فعلينا أن نشجَع الواعين والمتعلمين من أفراِد مجتمعاتنا على أن يمتهنوا العمَل في شؤون الدين‬
‫والتوعيِة الدينية‪.‬‬
‫ما من شك طبعًا‪ ،‬في أن هذا النقاَش حول التطرف واالعتدال ال يقَتصر على اإلسالم‪ ،‬ففي كل‬
‫األديان هناك اعتداٌل ومعتدلون‪ ،‬كما أن هناك تطرفًا ومتطرفين‪ .‬إّن قدرَة المتطرفين على التأثير في‬
‫المفاهيم الدينية من خالل أعمالهم الوحشية ُتلقي مزيدًا من المسؤولية على أهل االعتدال من كل‬
‫األديان لرفع الصوت المعتدل عاليًا ومؤثرًا‪ .‬إذا َلِز مت األكثرية الصمَت تغَّلبْت سطوُة المتطرفين‬
‫على مجرياِت النقاش الدائر‪.‬‬
‫بعد إنجاز رسالة عمان‪ ،‬التي هدفت إلى القضاء على كل ِص ْدقيٍة يمكن أن يكون قد بناها‬
‫التكفيريون في العالم اإلسالمّي ‪ ،‬وإلى جمع المسلمين معًا بغيَة حماية إيمانهم من أفكارهم المشوهة‪،‬‬
‫بدأنا نبذل ما في وسعنا من جهٍد لنجمَع ما بين المسلمين والمسيحيين واليهود بهدف تحقيق السالم في‬
‫ما بين األديان الثالثة‪ .‬أطلقنا على مبادرتنا هذه «رسالة عمان للسالم بين األديان»‪ .‬خالل أسفاري‬
‫إلى الخارج أخذنا نعقد لقاءاٍت مع الكهنة والواعظين والحاخامات واألئمة‪ ،‬واعتمدنا طرَح المبدأ‬
‫القائل‪ :‬إن أدياَننا ال تطالبنا بالقتال في ما بيننا‪ ،‬وإذا وقَع النزاُع بيننا ألسباٍب سياسية يجب أال نربَط‬
‫هذا النزاع بتفسيراٍت وتبريرات دينية‪ .‬لكن في الثاني عشر من أيلول‪/‬سبتمبر من العام ‪ ،2006‬وفي‬
‫محاضرٍة أكاديمية في جامعة «ريغنزبرغ» (‪ )Regensburg‬في ألمانيا‪ ،‬رّدد البابا بنديكتوس‬
‫السادس عشر تلك المالحظات السلبية عن اإلسالم التي وردْت على لسان أحد األباطرة البيزنطيين‬
‫في القرن الرابع عشر‪ .‬أشعلت مالحظاُته جدًال خالفيًا عالمّيًا‪ .‬بعد فترة قصيرة عّبر الفاتيكان عن‬
‫أسفه واجتمَع البابا بنديكتوس شخصّيًا بسفراء البالد اإلسالمية لمعالجة تداعيات كالمه‪ .‬لكّن الوضَع‬
‫بقَي متوترًا‪ ،‬فطلبُت من ابن عمي األمير غازي بذَل كل ما استطاع من جهد لتنفيس هذا االحتقان‪.‬‬
‫بعد مرور شهر واحد على إدالء البابا بمالحظاته‪ ،‬في ‪ 13‬تشرين األول‪/‬أكتوبر من العام ‪،2006‬‬
‫وّجَه األمير غازي ومعه سبعٌة وثالثون من كبار الشخصيات اإلسالمية العالمية «رسالة مفتوحة إلى‬
‫البابا» أشاروا فيها بكثير من اللياقة إلى بعض األخطاء التي وردت في محاضرته في‬
‫«ريغنزبرغ»‪ ،‬وَدَعْو ا إلى المزيد من التفاهم والحوار بين األديان‪ .‬لم تأِت هذه الرسالُة المفتوحة‬
‫بنتيجٍة ُتذكر‪ ،‬فما كان من موّقعي الرسالة األولى إال أن صاغوا رسالًة مفتوحًة ثانية في ‪ 13‬تشرين‬
‫األول‪/‬أكتوبر من العام ‪ ،2007‬أي بعد مرور سنة كاملة على رسالتهم األولى‪ ،‬وكانت بعنوان «كلمة‬
‫سواء بيننا وبينكم»‪ .‬وقد ُنشرت بتوقيع مئٍة وثمانيٍة وثالثين عالمًا إسالمّيًا من حول العالم‪ ،‬وكان‬
‫الهدُف األساس منها إثباَت إرادة المسلمين ورغبتهم بمواصلِة الحوار والتواصل‪ .‬انطالقًا من جوهر‬
‫الفحوى العام بأن اإلسالم والمسيحية‪ ،‬على الرغم من بعض الخالفات غيِر القابلة للتسوية‪،‬‬
‫يتشاركان وصّيَتْين عظيمَتي الشأن‪ ،‬ذهبّيتين‪ - ،‬حب هللا‪ ،‬وحب الجار ‪ -‬فقد أصبحت رسالة «كلمة‬
‫سواء» أنجَح المبادراِت التي ُأطِلَقت في زمننا هذا على صعيد التواصِل بين المسلمين والمسيحيين‪.‬‬
‫من هذه الرسالة ‪ -‬المبادرة انبثَق المنتدى الكاثوليكي ‪ -‬اإلسالمي الذي َعقد اجتماَعه األول في‬
‫الفاتيكان برعاية البابا بنديكتوس السادس عشر في شهر تشرين الثاني‪/‬نوفمبر من العام ‪ .2008‬أما‬
‫االجتماُع الثاني فسيعقد بإذن هللا في األردن في العام ‪ ،2011‬وسيكون انعقاُده في موقع المغطس‪،‬‬
‫مكان معمودية السيد المسيح عليه السالم‪.‬‬
‫في تلك األثناء دعونا البابا لزيارة األردن وَقِبَل دعوَتنا ولّباها في شهر أيار‪/‬مايو من العام ‪.2009‬‬
‫ففي الثامن منه طرنا أنا ورانيا إلى مطار الملكة علياء الدولي بالمروحية الستقبال البابا ضيفًا عزيزًا‬
‫على األردن‪ ،‬وفيما كنا نحّلُق فوق عمان رأينا شوارَعها مزينًة بالعلمين‪ ،‬الفاتيكاني بلونيه األصفر‬
‫واألبيض‪ ،‬واألردني‪ .‬هبطنا قبَل طائرِة البابا ببضع دقائق واتجهنا نحو السجادة الحمراء‪ .‬كان حرُس‬
‫الشرف‪ ،‬بلباسه الكاكي وكوفّيته الحمراء‪ ،‬يقف متأهبًا فيما كان البابا ينزل سَّلم الطائرة‪ .‬رّح بُت‬
‫بقداسته في األردن‪ ،‬وشددُت على يده داعمًا التزاَم ه تبديَد المفاهيم الخاطئة واالنقساماِت التي أساءت‬
‫إلى العالقات بين المسيحيين والمسلمين‪ ،‬وعّبرُت له عن أمِلنا الكبير بأننا‪ ،‬معًا‪ ،‬سنتمكن من توسيع‬
‫حلقِة الحوار الذي بادَر إلى فتحه‪ .‬لقي البابا استقباال حاّر ًا من األردنيين الذين مألوا شوارَع العاصمة‬
‫باآلالف‪ ،‬مسلمين ومسيحيين على السواء؛ ترحيبًا به وأمًال بإلقاء نظرة على موكبه‪.‬‬
‫عدنا أنا ورانيا إلى المنزل استعدادًا الستقبال قداسته مع الوفد المرافق في المساء‪َ .‬ج مَعْت رانيا‬
‫األوالد وبدأت ُتِع ّدهم للسالم على الضيف‪ .‬سلمى وإيمان أحسنتا التصرف وسَّه لتا مهمَة والدتهما‪ ،‬أما‬
‫حسين وابننا األصغر هاشم فكان األمر معهما مختلفًا بعض الشيء‪ .‬نحن كنا دائمًا نحرُص على أن‬
‫ينشأ أوالُدنا نشأًة طبيعيًة أقرَب ما يمكن أن تكون من نشأِة األوالد العاديين‪ ،‬لكن هذه المناسبة بالذات‬
‫كانت تتطلُب مسحًة من التصّر ف الرسمي‪ .‬استطعنا إقناَع حسين بأن يرتدي بذلًة رسمية‪ ،‬لكن‬
‫هاشمًا‪ ،‬الذي كان في الرابعة‪ ،‬رفَض الفكرة من أساِس ها ولم يِلْن له عود‪ .‬وبما أن ُح ْسَن اختيار‬
‫التوقيت لخوض معركتَك مع أوالِدَك هو جزٌء مهم من دورَك بوصفك والدًا‪ ،‬أو دورِك بوصفِك‬
‫والدة‪ ،‬فقد سَّيرنا األموَر بالتي هي أحسن وأْلبسنا هاشمًا قميصًا أزرق وأبيض وسرواًال أقرَب إلى‬
‫الكاكي‪ ،‬ثم اتجهنا إلى االستقبال‪.‬‬
‫في محادثاتنا مع البابا ذلك المساء شرحُت له أن األردن‪ ،‬على الرغم من فك االرتباط القانوني‬
‫واإلداري مع الضفة الغربية منذ العام ‪ ،1988‬لم يتنازل يومًا عن مسؤوليته في رعاية األماكن‬
‫المقدسة اإلسالمية والمسيحية في القدس‪ ،‬بما فيها كنيسُة القيامة والمسجُد األقصى‪ .‬وفي واقع األمر‬
‫ال يزال الموظفون القائمون على خدمة هذه المواقع يعتبرون موظفين في الحكومة األردنية‪.‬‬
‫قلت له‪« :‬صاحَب القداسة‪ ،‬نحن جميعًا نصّلي من أجل السالم‪ ،‬وإذا كان هناك من مكاٍن على وجه‬
‫األرض نرجو أن يحَّل فيه السالم قبل سواه فهو القدس‪ ،‬المدينُة المقدسة في األديان الثالثة»‪.‬‬
‫بعد يومين‪ ،‬األحد في العاشر من أيار‪/‬مايو ذهبُت مع رانيا إلى بيت عنيا عبَر األردن حيث موقُع‬
‫المغطس‪ .‬وهناك التقينا البابا بعد انتهائه من ترؤس القداس الذي حضره قرابة خمسين ألفًا من‬
‫المسيحيين الذين تجمعوا داخَل ستاد عمان الدولي وعلى جوانبه‪ ،‬آتين من األردن ومن بلدان الشرق‬
‫األوسط بما فيها سوريا ولبنان والعراق والضفة الغربية‪ .‬مع أن األحد هو يوُم العمل األول في‬
‫األسبوع في األردن‪ ،‬فقد أعطَي كُّل المسيحيين إجازة‪ .‬قد ال يكون معروفًا على نطاٍق واسع في‬
‫الغرب أن نسبة من المواطنين األردنيين مسيحيون‪ ،‬وأن الطوائف المسيحية األردنية ربما كانت أقدَم‬
‫الجماعاِت المسيحية في العالم‪ .‬والروم األرثوذكس هم أكبُر الطوائف المسيحية في األردن‪ ،‬وعلى‬
‫رأس كنيستهم بطريرُك القدس‪ ،‬وهي كنيسٌة رسولية أي إن تاريخها يعود إلى فجر المسيحية أياَم‬
‫الرُسل األَّو لين‪ُ .‬يعّد البطريرك األرثوذكسي السليَل الروحَّي المباِش ر للقديس يعقوب الكبير‪ ،‬بطريرك‬
‫القدس األول أياَم السيد المسيح‪ .‬يشكل المسيحيون قرابَة ثالثٍة في المئة من مجموع الشعب األردني‪،‬‬
‫وهم شركاُء في كل نواحي الحياة األردنية‪ ،‬والواقع أن القانون ُيعطي المسيحيين حوالى ثمانية في‬
‫المئة من مقاعِد المجلس النيابي‪.‬‬
‫موقُع المغطس هو أهُّم المواقع المسيحية في األردن؛ فهنا‪ ،‬على الضفِة الشرقية لنهر األردن‬
‫(«عبَر األردن»‪ ،‬كما جاَء في إنجيل يوحنا ‪ ،)26:3‬ناَل السيد المسيح عليه السالم معموديَته على يد‬
‫يوحنا المعمدان‪ ،‬ومن هنا انطلق يبّشر العالم برسالته‪ .‬و«جرى ذلك في بيت عنيا‪ ،‬عبر األردن‪،‬‬
‫حيث كان يوحنا يعّم د» (يوحنا ‪ )1:28‬وهي من أهم المواقع المسيحية المقدسة في العالم‪ ،‬باإلضافة‬
‫إلى كنيسة القيامة المقدسة في القدس‪ ،‬وكنيسة المهد في بيت لحم‪ .‬لقد حافظنا على الموقع بحالِته‬
‫الطبيعية إلى أقصى الحدود الممكنة‪ ،‬وقَّدمنا مساحاٍت من األرض في جواره لكي يبني عليها‬
‫المسيحيون كنائَسهم‪ .‬يستقطب الموقع مئات آالف الحجاج كل عام‪ ،‬وقد زاره البابا يوحنا بولس‬
‫الثاني في العام ‪ .2000‬يرتبط موقُع المعمودية مباشرًة بأحداِث العهدين القديم والجديد‪ ،‬وكذلك‬
‫بأحداِث التاريخ المسيحّي الالحقة‪ .‬لقد عثر علماُء اآلثار في رحاب‪ ،‬شمال األردن‪ ،‬على بقايا كنيسة‬
‫يعتقدون أنها من أقدم كنائِس العالم‪ ،‬ويعود تاريخها إلى القرن األول بعد المسيح عليه السالم‪ .‬كذلك‬
‫هناك كنيسة مادبا التي تحتوي خريطة فسيفساء لألراضي المقدسة تعود إلى القرن السادس‬
‫الميالدي‪ .‬أما جبل نيبو شمال مادبا‪ ،‬الذي تعود أهميُته التاريخية إلى ثالثة آالف سنة‪ ،‬فهو الجبُل‬
‫الذي نظر موسى من قمِته فرأى أرَض الميعاد وفيه ُدفن جثماُنه‪.‬‬
‫في حوالى الخامسة والنصف ذهبنا‪ ،‬أنا ورانيا وبعُض المستشارين‪ ،‬برفقة البابا بنديكتوس‪ ،‬إلى‬
‫موقع المعمودية حيث بارَك الحبُر األعظم الحجَر ين األساسين لكنيستين جديدتين؛ واحدة لمطرانية‬
‫الالتين والثانية لمطرانية الروم الكاثوليك‪.‬‬
‫يفاجئ تسامح األردن وتنوعه الكثيرين في الغرب‪ .‬تعوُد بي الذاكرة إلى تموز‪/‬يوليو من العام‬
‫‪ 2005‬عندما زار األردن رئيس األكثرية الجمهورية في الكونغرس األميركي توم ديالي (‪Tom‬‬
‫‪)DeLay‬؛ العضو في حركة ُتدعى «المسيحية الصهيونية»‪ ،‬وهي من الجماعات التي َتدعم‬
‫إسرائيل دعمًا مطلقًا وتعارض إقامَة دولٍة فلسطينية‪ .‬زيارته لألردن كانت جزءًا من جولٍة في بلدان‬
‫الشرق األوسط‪ ،‬وقد التقيُته في منزل والدي القديم في عمان‪ .‬لم يترّدْد ديالي لحظًة في إخباري بما‬
‫كان يجول في خاطره من أفكار‪« :‬إنني شديُد القلق حياَل ما َيلقاه المسيحيون من معاملٍة في‬
‫األردن»‪ .‬وصادَف أن بعض األردنيين الذين كانوا إلى جانبي خالَل االجتماع كانوا من المسيحيين‪،‬‬
‫فارتسمْت على شفاِه هم ابتساماٌت ‪ ،‬لكَّن ابتساماِتهم لم تلفت نظَر ديالي الذي أمسَك بيدي وقال‪« :‬هل‬
‫تؤمن بيسوع؟» وكان يتكلم محّدقًا إلى عينَّي مباشرة‪« .‬إنني أؤمن بيسوع المسيح»‪ ،‬أجبُته‪ ،‬وسحبُت‬
‫يدي من قبضِته‪ .‬والواقع أن المسلمين جميعًا يؤمنون بيسوع المسيح ويجلونه باعتباره نفحًة من روِح‬
‫هللا ورسوًال من رسل هللا وأنبيائه عليهم السالم‪ .‬ثم قلُت له‪« :‬اسمع‪ ،‬إذا كنَت قِلقًا على المسيحيين في‬
‫األردن‪ ،‬فما عليك إال أن تسأَل الذين يحيطوَن بنا في هذه الغرفة؛ فبعُض هم من المسيحيين»‪ .‬ثم‬
‫أوضحُت له مدى جدية األردن في تحّم ل مسؤولياِته في حماية حقوق المسيحيين‪ ،‬أكان في األردن‬
‫نفِسه أم في مدينة القدس‪ .‬لسُت على يقين من أن ديالي أدرك ما قلته له‪ ،‬لكنني أعلم أن الوفَد الذي‬
‫كان يرافقه لم يكن يضّم أَّي عضٍو مسلم‪ .‬لم تكد تمضي بضعُة أشهر على زيارِته األردن حتى‬
‫حكمت عليه هيئة محَّلفين عليا في تكساس بتهمِة تبييض األموال وانتهاك قوانين تمويل الحملة‬
‫االنتخابية‪ .‬بعد هذا المسار االنحداري استقاَل من رئاسة األكثرية في مجلس النواب‪ ،‬ثم ما لبث أن‬
‫تخّلى عن مقعده في الكونغرس‪.‬‬
‫لكن البابا كان على بِّينٍة كاملة مما يتمتع به األردن من تنّو ع‪ .‬كانت زيارُته مناسبًة سعيدة واحتفاًال‬
‫بميزة التسامح الديني في بلدنا‪ ،‬وجاءت في الوقت المناسب حيث شَّكلْت رسالُة البابا حياَل السالم‬
‫والمصالحِة الروحية بين المسيحيين والمسلمين واليهود تكملًة لجهودنا على الصعيد السياسّي لتحقيق‬
‫السالم بين اإلسرائيليين والفلسطينيين‪ .‬ما كان ألحد أن تفوَته األهميُة الكبرى لزيارة الحّج التي قام‬
‫بها البابا مبتدئًا في األردن‪ ،‬وُم نهيًا في القدس‪ ،‬عن طريق الضفة الغربية‪ .‬لقد كانت زيارُته مصدَر‬
‫وحٍي وتشجيع لنا جميعًا‪ ،‬نحن الباحثين دومًا عن السالم بين األمم‪ .‬وكنا بحاجٍة إلى ذلك التشجيع‬
‫وسَط المطباِت والمنعطفاِت الخِط رة التي يمتلئ بها الطريُق إلى السالم‪.‬‬
‫ا‬
‫س‬
‫ل‬
‫ا دس‬

‫م‬
‫س‬
‫ق‬
‫ل‬
‫ا‬
‫الفصل الرابع والعشرون‪ :‬نهـايـة حقبـة‬

‫عندما التقيُت آرييل شارون للمرة األولى كان قد مضى عليه ثالثة أعوام رئيسًا للحكومة‬
‫اإلسرائيلية‪ ،‬وكانت سياسته في الضفة الغربية وغزة قد رفعت منسوَب التوتر في المنطقة بحيث‬
‫جعلت لقاَء نا قبلئٍذ أمرًا شبه مستحيل‪ .‬لكن في مطلع العام ‪ 2004‬دعوت شارون إلى األردن في‬
‫محاولٍة لفتح ثغرة في جدار العملية السلمية المسدود‪ .‬طار إلى عمان في مروحيٍة هبطت به في باحة‬
‫مقر دائرة المخابرات العامة‪.‬‬
‫رجٌل ذو سمعٍة مرعبة‪ ،‬عمَل في صفوف عصابة الهاغانا؛ الحركة اليهودية السرية التي قاتلت‬
‫الفلسطينيين ثم أصبحت جزءًا من الحركة اليهودية التي قاومت البريطانيين‪ .‬قاد وحدة القوات‬
‫الخاصة ‪ 101‬اإلسرائيلية‪ ،‬وشّن غاراٍت سريًة على أهداف عربية بما فيها الهجوم على قرية قبيا في‬
‫العام ‪ 1953‬الذي أدى إلى مجزرة قبيا التي سقط فيه عدد كبير من الضحايا الفلسطينيين المدنيين‪.‬‬
‫وقد تلّطخ جبين شارون بالعار ودانته شعوُب المنطقة بأسرها بعد المذابح التي حصدت أكثر من‬
‫ثمانمئة فلسطيني في مخّيم صبرا وشاتيال لالجئين في بيروت خالل غزو إسرائيل لبنان في العام‬
‫‪ .1982‬ما من عربّي يمكن أن يمحو من ذاكرته تلك الصور الجارحة لكِّل األحاسيس البشرية؛‬
‫صور الهمجية التي تناثرت على أيديها المجرمة جثُث األمهات واألطفال في صبرا وشاتيال‪.‬‬
‫لطالما وّج ه إلّي المتطرفون النقَد بسبب لقاءاتي مع القادة اإلسرائيليين‪ ،‬خصوصًا أولئك الذين‬
‫يحملون على كواهلهم تاريخًا حافًال بأعمال العنف‪ ،‬مثل شارون الذي قّلما ُو ِج د عربٌي ال يعتبره قاتًال‬
‫جماعّيًا ومجرَم حرب‪ .‬لكن القادة ال يتمتعون بميزة اختيار ُنظرائهم‪ ،‬وأنا ال أملك أن أختار رئيس‬
‫الوزراء اإلسرائيلي‪ ،‬الشعب اإلسرائيلي هو الذي يختاره‪ .‬لكن ما يعود إلّي اختياُر ه هو سلوُك األردن‬
‫وتصرُفه حيال جيرانه‪ ،‬واتخاذ القرار بالبناء على تراث السالم الذي راكمه والدي وتركه إرثًا لنا‬
‫جميعًا‪ .‬رفُض االجتماع بشارون قد يوّلد بعَض الرضى العاطفي‪ ،‬لكنه رضى مؤقت وال يحقق‬
‫النتائج التي نريدها‪.‬‬
‫دعونا شارون إلى األردن ألننا رأينا أن من الضرورّي إعادة إطالق العملية السلمية الميتة‪ .‬طالما‬
‫أعلنت أني أرفض الكثير من سياساته وأفعاله رفضًا قاطعًا‪ .‬وأملت أن أتمكن من إقناعه بأن السبيل‬
‫الوحيد إلى توفير األمن الدائم إلسرائيل‪ ،‬هو من خالل الوصول إلى السالم مع جيرانها العرب‪ .‬كان‬
‫والدي قد تعامل مع شارون عندما كان هذا األخير وزيرًا في حكومة نتنياهو في أواخر تسعينيات‬
‫القرن الماضي‪ ،‬وقد مّر ر لي انطباعًا عن شخصيته‪ ،‬قال‪ :‬إن شارون إذا التزَم معك في أمٍر معّين نّفَذ‬
‫ما يعد به‪.‬‬
‫مع أنني لم أكن قد عرفت شارون شخصّيًا‪ ،‬فقد حاولت االستفادة من االحترام الذي كان يكّنه‬
‫لوالدي ولألردن‪ .‬وحين كنت جالسًا معه وجهًا لوجه في قاعة االجتماعات في مقر المخابرات العامة‬
‫قلت له‪ :‬إن والدي أخبرني أنه رجل يحترم التزاَم ه ويفي بوعده‪ ،‬وأضفت إنني أريد أن أبدأ العالقَة‬
‫معه على هذا األساس‪.‬‬
‫بدا شارون خجوًال وعلى شيء من التحفظ‪ ،‬وبقَي ينظر إلى األرض فيما كان يتحدث‪ .‬قال‪« :‬إنني‬
‫معنٌّي بأمن إسرائيل‪ ،‬لكنني معنّي أيضًا بأمن األردن وسالمته»‪.‬‬
‫كنت مدركًا إدراَك اليقين أن المصلحة الوطنية العليا لألردن‪ ،‬وكذلك إلسرائيل‪ ،‬لن يحميها‬
‫ويخدَم ها شيٌء أفضل من تحقيق السالم بين إسرائيل والفلسطينيين‪ .‬حاولُت أن أقنعه بهذه المعادلة‪،‬‬
‫لكن في نهاية لقائنا وبعد نقاش طويل حول اإلجراءات واألعمال اإلسرائيلية في األراضي المحتلة‬
‫والحاجة إلى اتخاذ خطواٍت فاعلة تخلق جّو ًا مؤاتيًا الستئناف المفاوضات السلمية الجدية‪ ،‬خرجُت‬
‫متأكدًا من أن شارون لم يكن يشاركني وجهَة نظري‪.‬‬
‫لقاؤنا التالي كان اجتماعًا سرّيًا في مزرعته في صحراء النقب‪ ،‬وقد ُعقد في التاسع عشر من آذار‪/‬‬
‫مارس‪ .‬وبدعوتي إلى مزرعته الخاصة‪ ،‬حيث ُدِفنْت زوجُته‪ ،‬أراد شارون أن يوحي بأنه يعتبر نفسه‬
‫صديقًا لألردن‪ ،‬وأنه يرجو أن نضع العداوات الماضية وراء ظهورنا‪ .‬تلك الفترة كانت مثقلة‬
‫بالتوتر‪ ،‬وكانت إسرائيل قد بدأت إنشاء الجدار العازل الذي يفصل بين أجزاء الضفة الغربية‪ .‬كان‬
‫االعتقاد السائد في المنطقة هو أن إدارة بوش تهدف إلى «تغيير النظام» في السلطة الفلسطينية‪ ،‬ولم‬
‫تكن مهتمًة بإعادة الطرفين إلى طاولة المفاوضات‪ .‬وطوال تلك الفترة لم تتوقف إسرائيل عن بناء‬
‫المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية وال عن ترسيخ قدمها في األراضي المحتلة‪ .‬ففيما كان‬
‫عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس الشرقية أيام اتفاق أوسلو في العام ‪ 1993‬بحدود‬
‫‪ ،265000‬ارتفع عددهم في العام ‪ 2000‬إلى ‪ ،365000‬ليعوَد ويتجاوز أربعمئة ألف مستوطن في‬
‫العام ‪ .2003‬هذا التنامي السريع والالفت في عدد المستوطنين كان انعكاسًا واضحًا ألمٍر واقع‪ ،‬وهو‬
‫أن إسرائيل لم تتوقف عن بناء المستوطنات الجديدة في الضفة الغربية والقدس الشرقية‪ .‬وهذه مسألة‬
‫ُتبقي النار مشتعلًة‪ .‬إن الخطر الذي يعكسه اإلمعان في بناء المستوطنات الجديدة ال يكمن فقط في‬
‫التهام إسرائيل ما استطاعت من أراضي الدولة الفلسطينية المستقبلية‪ ،‬بل في داللِته الواضحة على‬
‫أن إسرائيل ليست ملتزمًة بحل الدولتين‪.‬‬
‫ذهبنا إلى مزرعة شارون للبحث في ما عرَض ه من َسْح ب القوات اإلسرائيلية من قطاع غزة‬
‫وبعض مناطق الضفة الغربية‪ .‬قلت له إن أّي خطوة من هذا القبيل يجب أن تتم بالتنسيق مع القيادة‬
‫الفلسطينية والمصريين‪ ،‬ويجب أن تكون بدايًة النسحاٍب إسرائيلي شامل من األراضي العربية‬
‫المحتلة‪ ،‬ال أن تكون مجرد انسحاٍب أحادّي الجانب تنفذه القوات اإلسرائيلية بهدف نقل المستوطنين‬
‫اإلسرائيليين من غزة إلى مواقع أخرى في الضفة الغربية‪ .‬شعرت بأننا كنا على وْش ِك أن نحرز‬
‫بعَض التقدم في بناء عالقة عمل في ما بيننا يمكن أن تساعد على دفع عملية السالم ُقدمًا‪.‬‬
‫لكن المظاهر قد تكون خادعة‪ ،‬وخصوصًا في منطقتنا‪.‬‬
‫إحدى المشكالت مع الحكومات اإلسرائيلية هي أن كل شيء‪ ،‬مهما كان سرّيًا‪ ،‬ينتهي مسّر بًا لهذه‬
‫الجهِة أو تلك‪ .‬فمع أن اجتماعنا كان ُيفترض أنه لقاء سّر ي‪ ،‬والهدف منه بناء جسر الثقة بيننا لعلنا‬
‫نتمكن من بحث السُبل المؤدية إلى التقدم نحو إنجاز التسوية مع الفلسطينيين‪ ،‬فما إن انتهى االجتماع‬
‫حتى كانت الصحافة اإلسرائيلية قد كشفت خبره‪ .‬فترٌة قصيرة مضت على اللقاء عمدت بعدها‬
‫إسرائيل إلى اغتيال الشيخ أحمد ياسين‪ ،‬قائد حركة حماس؛ وذلك بقصف موكبه من مروحية كوبرا‬
‫فيما كان يغادر أحد مساجد غزة‪ ،‬وقد أزهقت إسرائيل بعملها هذا أرواَح تسعٍة من المدنيين األبرياء‪،‬‬
‫باإلضافة إلى الشيخ المريض والمقعد في كرسِّيه النقال‪ .‬إن اغتيال رجل تجاوز السبعين من عمره‪،‬‬
‫كسيح‪ ،‬مشلول اليدين‪ ،‬مقعد عن كل حركة‪ ،‬لهو عمٌل يخلو من أّي أثٍر لإلنسانية ويتجاوز كل مفاهيم‬
‫الوحشية حتى بالمعايير اإلسرائيلية‪ .‬أثار االغتيال غضبًا كبيرًا لدّي وكنت على يقين من أنه سيحّر ك‬
‫دورًة جديدة من العنف‪ ،‬لكن ما أضاف غضبًا على غضبي هو أن االغتيال وقَع بعد زيارتي بقليل‪.‬‬
‫لم يمِض شهر واحد حتى اغتال اإلسرائيليون خليفة ياسين عبد العزيز الرنتيسي؛ وأشعلوا بذلك‬
‫عاصفًة من العنف في كٍل من غزة والضفة الغربية‪ .‬لم يكتِف األميركيون بالوقوف متفرجين دون‬
‫استنكار االغتيالين‪ ،‬بل ذهبوا أبعَد من ذلك بأن استخدموا حق الفيتو في مجلس األمن الدولي للحؤول‬
‫دون أن ُيصدر المجلس قرارًا يستنكُر فيه هذين االغتيالين‪.‬‬
‫غالبًا ما يمارُس اإلسرائيليون عادًة مشبوهًة‪ ،‬أكانت مقصودة أم لم تكن‪ ،‬وهي أن يبرمجوا‬
‫اجتماعاٍت دبلوماسيًة رفيعَة المستوى لمسؤوليهم مع مسؤولين آخرين ُقبيل قياِم هم بعملياٍت عسكريٍة‬
‫مثيرٍة لالستنكار‪ .‬من هذه االجتماعات على سبيل المثال ال الحصر‪ ،‬اللقاُء بين رئيس الحكومة‬
‫التركية رجب طّيب أردوغان ورئيس الحكومة اإلسرائيلية إيهود أولمرت في كانون األول‪/‬ديسمبر‬
‫من العام ‪ ،2008‬أي قبل أن تشَّن إسرائيل حرَبها على غزة ببضعة أيام‪ .‬هذه الخطوة المريبة رفعت‬
‫منسوَب الغضب عند أردوغان إلى درجة عالية‪ ،‬فقد شعَر المسؤول التركي بأن الحكومة اإلسرائيلية‬
‫كانت بعملها هذا تحاول بث االنطباع بأنه زّو َدها بموافقته على مهاجمة غزة‪.‬‬
‫كان اغتيال الشيخ ياسين النموذَج المثال لما تشهُده حالُة الصراع في الشرق األوسط‪ :‬أحُد‬
‫الطرفين‪ ،‬أو األطراف‪ ،‬يقوم بعمٍل فيرد عليه الطرُف اآلخر بعمٍل مماثٍل ؛ وبذلك يصبح السبيل إلى‬
‫السالم مليئا بعوامل التفجير‪ .‬وهكذا فإن المسار المتبع يؤدي إلى النتائج التي ال يريدها أحد‪.‬‬
‫بعد أن اغتالت إسرائيل الرنتيسي كان ال بد لحماس من أن تجد قيادّيًا بديًال‪ .‬اختارت ضيف‬
‫األردن السابق خالد مشعل‪.‬‬

‫***‬
‫في نيسان‪/‬إبريل من العام ‪ 2004‬كنُت على موعٍد للقاء الرئيس بوش في البيت األبيض‪ ،‬وكنت‬
‫مزمعًا الدفع نحو العودة إلى استئناف المفاوضات إحياًء لعملية السالم؛ آمًال‪ ،‬هذه المرة‪ ،‬أن يتخذ‬
‫الرئيس األميركي موقفا أكثر استيعابًا للتحديات التي كانت تواجهها منطقتنا‪ .‬قبل وصولي إلى‬
‫واشنطن كان بوش قد استقبل ضيفًا آخر‪ ،‬رئيس الحكومة اإلسرائيلية آرييل شارون‪ ،‬وقد تبادل‬
‫الطرفان خالل تلك الزيارة في ‪ 14‬نيسان‪/‬إبريل الرسائل وأعلنا مضموَنها‪ .‬كان شارون‪ُ ،‬قبيل‬
‫زيارته‪ ،‬قد مارس ضغطًا على الرئيس بوش لكشف الموقف األميركي من عدد من المسائل‪ ،‬ولدعم‬
‫انسحابه األحادّي الجانب من َغزة‪ .‬لقد مّثلت تأكيدات بوش السرية لشارون تغييرًا كبيرًا وأساسّيًا في‬
‫السياسة األميركية‪ .‬وفي رسالته الرسمية إلى شارون وعَد بوش بأن تدعم الواليات المتحدة إسرائيل‬
‫في احتفاظها بعدٍد من المستوطنات في الضفة الغربية‪ ،‬واستبعَد كلّيًا حق عودَة الالجئين الفلسطينيين‬
‫إلى ديارهم‪ ،‬معلنًا أن عليهم االستقرار في الدولة الفلسطينية المستقبلية‪ .‬بهذا الموقف استبقت‬
‫الواليات المتحدة الحكم على إحدى أكثر المسائل حساسية وأهمية في المفاوضات‪ .‬قال بوش‪:‬‬
‫إن الواليات المتحدة ملتزمة كل االلتزام بأمن إسرائيل ورفاهيتها كدولٍة يهودية‪.‬‬
‫ومن الواضح ضرورة إيجاد إطار عادل‪ ،‬ومنصف وواقعي ومتفق عليه‪ ،‬لحل قضية الالجئين‬
‫الفلسطينيين كجزٍء من أي اتفاق حول الوضع الدائم‪ ،‬من خالل إنشاء الدولة الفلسطينية وتوطين‬
‫الالجئين الفلسطينيين هناك‪ ،‬ال في إسرائيل‪.‬‬
‫استشاط العالم العربُّي غضبًا من هذا الكالم‪ ،‬أما أنا فقد بدا لي واضحًا أن إدارة بوش كانت عازمًة‬
‫على دعم إسرائيل أكاَن في الحق أم في الباطل‪ ،‬ولذلك أعلمُت البيت األبيض بأنني ألغيت اجتماعي؛‬
‫فكان لقراري وقُع الصاعقة على المسؤولين هناك‪ .‬نادرًا جّدًا ما تجد مسؤوًال يرفض االجتماع‬
‫بالرئيس األميركي‪ ،‬فكيف بك تجُد َم ن ُيلغي اجتماعًا محددًا مع الرئيس؟ لكن كان علّي أن أوضَح‬
‫موقفي بطريقة حاسمة؛ إذ من المستحيل أن أقبل هذه النقلة في السياسة األميركية التي عّبر عنها‬
‫بوش في رسالته إلى شارون‪ .‬العملية السلمية مجمدة ال َح راَك فيها‪ ،‬أما الجهوُد العربيُة لدفع عجلة‬
‫السالم إلى األمام فلم ُتقاَبل إال بالمواقف الداعمة إلسرائيل‪ ،‬وبمزيٍد من العنف‪.‬‬
‫عدُت ‪ ،‬بعد شهر‪ ،‬وزرُت واشنطن محاوًال العودَة بالسياسة األميركية إلى ما قبل التغيير األخير‬
‫الذي شهدْته‪ ،‬وقد القيُت بعض النجاح‪ .‬ففي المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقدناه‪ ،‬والذي أكدنا‬
‫فيه مضموَن رسائل كنا قد تبادلناها قبل زيارتي‪ ،‬عاد بوش وأّكد أنه لن يستبَق الحكم على محادثات‬
‫الوضع النهائي‪ .‬أما أنا فقد شّددت على موقف األردن بأن أّي انسحاب إسرائيلي يجب أن يعتمد‬
‫اإلطار الذي حّددْته خريطة الطريق‪ ،‬وأن يؤدي إلى إقامة الدولة الفلسطينية على أساس الحدود التي‬
‫كانت قائمًة في العام ‪.1967‬‬

‫***‬

‫في تشرين األول‪/‬أكتوبر ُنقل ياسر عرفات إلى باريس للمعالجة ِإْثَر تدهور وضعه الصحي بوتيرٍة‬
‫متسارعة‪ ،‬وما لبث أن دخل في غيبوبة وانتقل إلى رحمته تعالى في الشهر التالي‪ُ .‬نِقل جثماُنه إلى‬
‫القاهرة حيث أقيمت له جنازة عسكرية رسمية َح ملْت بعدها طائرٌة مصرية الجثمان إلى سيناء‪ ،‬لتنقَله‬
‫من هناك مروحيات عسكرية أردنية إلى رام هللا حيث ُدفن‪ .‬هبطت المروحية بين الجماهير المذهولة‬
‫والحزينة التي كانت تحاول‪ ،‬يائسًة‪ ،‬لمَس النعش أو إلقاَء النظرة األخيرة على قائِدها المحبوب‪ .‬مهما‬
‫يكن رأُي العالم بياسر عرفات رحمه هللا‪ ،‬يبَق الرجل بطًال في أعين الشعب الفلسطيني‪ ،‬وما من شك‬
‫في أن غياَبه مّثل نهايَة حقبٍة من تاريخ هذا الشعب‪.‬‬
‫في كانون الثاني‪/‬يناير من العام التالي انُتخب محمود عباس‪ ،‬أبو مازن‪ ،‬رئيسًا للسلطة الفلسطينية‪.‬‬
‫وبما أن إسرائيل كانت‪ ،‬على مدى عقود من الزمن‪َ ،‬تعتبر ياسر عرفات عقبًة في سبيل السالم‪ ،‬فها‬
‫هي اآلن تخسُر ذريعًة كبرى من الذرائع التي تستخدمها للهروب من اإليفاء بوعودها‪ .‬توّلى عباس‬
‫رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية عند منعطٍف كانت فيه العملية السلمية أقرَب ما تكون إلى التالشي‬
‫الكامل‪ ،‬وبذلك كانت مسالُكه إلى السالم مليئًة بالتحديات والمصاعب‪ .‬كان عليه أن يمأل ما خّلَفه‬
‫عرفات من فراغ‪ ،‬وأن يعيد بناَء المؤسسات الفلسطينية التي كانت إسرائيل قد دأبت على تدميرها‬
‫عمدًا وبانتظام طواَل السنوات الماضية‪ .‬كذلك كان على القائد الفلسطيني الجديد أن يبذَل جهده إلعادة‬
‫العملية السلمية إلى مسارها‪ .‬وقد سعى عباس منذ اليوم األول الذي توّلى فيه السلطة إلى تحقيق‬
‫التسوية السياسية السلمية مع إسرائيل على أساس حل الدولتين‪ .‬لكنه لم يحصْد سوى الخيبة‪.‬‬
‫في شهر آب‪/‬أغسطس من العام ‪ 2005‬نفذت إسرائيل‪ ،‬قبل الموعد المحدد بثالثة أيام‪ ،‬انسحابًا من‬
‫جانٍب واحد من قطاع غزة‪ ،‬وذلك من دون التنسيق المطلوب مع مصر‪ ،‬كما لم تنّسق انسحاَبها مع‬
‫السلطة الوطنية الفلسطينية‪ .‬كانت الحكومة اإلسرائيلية منذ شباط‪/‬فبراير قد صّو تت بشبه إجماع على‬
‫دعم هذه الخطوة‪ .‬كان شارون‪ ،‬الذي طالما قدم الدعم المطلق للمستوطنين‪ ،‬قد أعطى أوامره بجرف‬
‫منازِلهم وإخالِء ساكنيها بالقوة إذا لزم األمر‪ .‬صحيح أن االنسحاب كان موضَع ترحيب‪ ،‬غير أن‬
‫الطريقة التي تّم بها لم تكن كذلك بل استحقت اإلدانة واالستنكار‪.‬‬
‫أغلقت إسرائيل كل المعابر من غزة وإليها؛ وبذلك حّو لت القطاع إلى سجن كبير‪ .‬وبانسحابها دون‬
‫تنسيٍق كاٍف خلقت فراغًا أمنيًا كبيرًا ما لبثت حماس أن سارعت إلى َم ْلِئه مع حركة الجهاد‬
‫اإلسالمي‪ .‬كان المشهد في غزة مليئًا بالمسّلحين وسط األشرطة الشائكة واألبنية المهدمة‪ .‬لم تكن‬
‫هناك إدارة لعملية انتقال السلطة وال تسُّلم وتسليم للمسؤوليات‪ ،‬من أمنيٍة وسواها‪ ،‬بالتنسيق مع‬
‫المؤسسات الفلسطينية‪.‬‬
‫بعد بضعة أشهر‪ ،‬في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪ ،‬انفصل شارون عن حزب الليكود وأّسس حزبًا جديدًا‬
‫سّم اه كاديما‪ .‬وقد جاء قراُر ه هذا بعد أشهٍر من النزاعات السياسية بينه وبين أعضاء من الليكود؛‬
‫بسبب خطته لالنسحاب من غزة واالنفصال عن الضفة الغربية وتفكيك أربع مستوطنات في شمالها‪.‬‬
‫وقد انضّم إلى شارون عدٌد من األعضاء الكبار في حزب الليكود بمن فيهم تسيبي ليفني‪ ،‬التي‬
‫أصبحت في ما بعد وزيرة للخارجية‪ ،‬وإيهود أولمرت‪ ،‬الرئيس السابق لبلدية القدس‪ ،‬والذي كان نائبًا‬
‫لرئيس الوزراء في حكومة شارون‪.‬‬
‫في مطلع كانون الثاني‪/‬يناير من العام ‪ 2006‬أصيب شارون بجلطة دماغية دخَل إثَر ها في‬
‫غيبوبة؛ وبذلك انتقلت صالحياُُته إلى أولمرت‪ .‬بعد فترٍة قصيرة اتضَح أن الجندي القديم لن ُيشفى‪،‬‬
‫فتوّلى أولمرت رئاسَة الحكومة اإلسرائيلية رسمّيًا في نيسان‪/‬إبريل‪.‬‬
‫في الوقت الذي شهَد انتقاًال للقيادة لدى طرفي الصراع إلى مسؤوَلْين جديَدْين‪ ،‬ارتفع منسوُب‬
‫األمل في المنطقة بأن يؤدي ذلك إلى اعتماد منهج جديد لحل الصراع‪ .‬كما زاد األمل عند أولئك‬
‫الذين كانوا يستعدون لخوض االنتخابات التشريعية الفلسطينية األولى منذ عشر سنوات‪ ،‬والتي كانت‬
‫محددًة في الخامس والعشرين من كانون الثاني‪/‬يناير‪ .‬من بين األحزاب التي قررت خوَض المعركة‬
‫حركة حماس‪ ،‬التي كانت قد أحجمْت عن خوضها في انتخابات العام ‪ .1996‬وبسبب قرار حماس‬
‫المشاركة في االنتخابات حاولت الحكومة اإلسرائيلية منَع سكان القدس الشرقية الفلسطينيين من‬
‫ممارسة حقهم في اإلدالء بأصواتهم (ألنها تعتبر القدس الشرقية جزءًا من إسرائيل)‪ .‬لكن في النهاية‬
‫ُسمح لهم بالمشاركة‪.‬‬
‫لقد رأى كثيرون من الفلسطينيين وسواهم في المنطقة أن الظروف لم تكن مالئمة إلجراء‬
‫انتخابات تشريعية وطالبوا بإلحاح بتأجيلها‪ ،‬لكن اإلدارة األميركية لم توافق على ذلك‪ .‬وفي حواٍر مع‬
‫جمعية الصحافيين الذين يغطون نشاطات وزارة الخارجية األميركية في الخامس والعشرين من‬
‫كانون الثاني‪/‬يناير‪ ،‬قالت كوندوليزا رايس‪:‬‬
‫ال أظن أن بإمكاننا دعَم فكرة تأجيل االنتخابات لمجرد كوننا نخشى نتائَج ها‪...‬‬
‫إن موقَفنا بالنسبة إلى حماس لم يتغّير؛ فهي مصّنفة منظمًة إرهابية‪ .‬نحن نعلم طبعًا أن هناك‬
‫انتقاًال للسلطة وبالتالي نقلًة سياسية لدى الفلسطينيين‪ ،‬وهذا يعني أن المسألة داخلية تخص‬
‫الفلسطينيين وحَدهم‪ ،‬ونحن نعتبر أن الجميع يجب أن تتاَح له فرصُة اإلدالء بصوته‪.‬‬
‫لكن يبقى السؤال مطروحًا‪ :‬ماذا ستفعل إدارة بوش إذا كان الفوز من نصيب حماس؟‬
‫عّبر الكثيرون عن األمل بأن تفوز فتح في االنتخابات‪ ،‬كانت فتح قد وعدت الشعب الفلسطيني بأن‬
‫تحقق له دولَته المستقلة وحريَته وسيادَته من خالل مسيرة أوسلو والمفاوضات السلمية‪ ،‬لكن هذه‬
‫الدولة التي مضى زمٌن طويل على الوعد بتحقيقها كانت ال تزال سرابًا َبعيد المنال‪ ،‬فيما كانت‬
‫االتهامات بالفساد والرشى تالحُق العديد من مسؤولي السلطة الوطنية الفلسطينية‪ .‬كان الشعور‬
‫منتشرًا بأن فتح لم تحقق وعودها والتزاماتها‪ ،‬وهكذا عندما سنحت الفرصة للشعب الفلسطيني بأن‬
‫يعّبر عن رأيه في صناديق االقتراع منَح «حماس» انتصارًا حاسمًا‪ .‬ولكن هذا االنتصار خلَق مشكلة‬
‫كبيرة‪ ،‬ذلك أن الواليات المتحدة اعتبرت «حماس» منظمًة إرهابية‪ ،‬وأعلنت أنها لن تتعامَل معها‪ .‬لم‬
‫يقَتصر األمر على الواليات المتحدة‪ ،‬فقد َح ذْت حذَو ها دوٌل أوروبية متعددة‪ ،‬وهذا بدوره سمح‬
‫إلسرائيل بأن تجّم َد تحويَل األموال الضريبية إلى السلطة الفلسطينية‪ ،‬وأن تعلَن بالتالي أنه ليس لديها‬
‫«شريك» في عملية السالم‪.‬‬
‫ال شك في أن األميركيين على حق عندما ُيشيدون بمحاسن الديموقراطية وفوائِدها‪ .‬لكّن‬
‫الديموقراطية تعّبر عن نفِسها بطرٍق مختلفة في العالم‪ .‬ومتى كانت الظروُف غيَر مناسبة يمكن أن‬
‫ترّسخ الديموقراطية االنقسامات وتزيَد من اشتعاِل األحقاد‪ .‬ولعّل أحَد وجوه المشكلة مع إدارة بوش‬
‫نظرُتها شبُه اآللية إلى مسألة تصدير الديموقراطية والتي ُتخَتصر بمجرد إجراء انتخابات عامة‪ .‬أما‬
‫أنا فأرى أن الديموقراطية رحلٌة طويلة‪ .‬إن االنتخاب في غياب التقبل الواسع للمفاهيم والقيم‬
‫الديموقراطية‪ ،‬وفي غياب سلطٍة قضائية مستقلة تمامًا‪ ،‬يمكن أن يكون ذا نتائج كارثية‪ .‬تستمد‬
‫المؤسسات الديموقراطية قوَتها من وجود طبقٍة وسطى قوية وفاعلة‪ ،‬ومن أجهزٍة حكومية وإدارية‬
‫قادرة وذات صدقية‪ .‬وما من شك في أن العملية الديموقراطية من الصعب جّدًا تطويرها في ظل‬
‫سلطة احتالٍل قادرة على تدمير المؤسسات‪ ،‬وهي بالفعل ال تتردد في القيام بذلك‪.‬‬
‫في تقديري أن إدارة بوش لم تكن مدركًة تمامًا أوضاَع منطقتنا وظروَفها‪ ،‬ومن هنا فقد توّلت الدفَع‬
‫شبَه األعمى إلى إجراء انتخاباٍت تشريعية حيثما استطاعت إلى ذلك سبيًال‪ ،‬دون تفكيٍر كاٍف ال‬
‫بالظروف وال بالنتائج‪ .‬وفي هذا السياق بدا أحيانًا أن اإلدارة األميركية لم يكن هّم ها سوى تسجيل‬
‫االنتصاراِت السهلة والسريعة؛ لعّلها بذلك تستطيُع االستمراَر في تزويد اآللِة اإلعالمية‪ ،‬التي ال‬
‫تكُّف عن التهام األخبار أربعًا وعشرين ساعًة متواصلة‪ ،‬بما ُيشبع بعضًا من نَه مها‪ .‬لكن ما كانت‬
‫تواجُه ه الضفة الغربية وغزة من المشكالت لم يكن ليجَد حلوًال من خالل صندوِق االقتراع إال بعد‬
‫زوال االحتالل اإلسرائيلي‪ .‬وفي يقيني أنه إذا لم تكن أسس االستقرار في المجتمع قد ترّسخت‪ ،‬يمكن‬
‫أن تستغل الفئاُت المتطرفة مشاعر اإلحباط وخيبات األمل الشعبية لكي تصَل إلى السلطة‪ .‬وحين‬
‫يقبض هؤالء على زمام الحكم يصبُح تخّليهم عنه من الصعوبة بمكان‪.‬‬
‫بعد أن فازت حماس بأكثرية مقاعد مجلس النواب‪ ،‬أّلفت حكومًة من بين صفوف أعضائها‪ ،‬فيما‬
‫احتفظت فتح بموقع رئاسة السلطة وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية‪ .‬أقسمت حكومة حماس الجديدة‬
‫اليمين في آذار‪/‬مارس من العام ‪ ،2006‬وامتنعت الواليات المتحدة وبلدان االتحاد األوروبي عن‬
‫االعتراف بها وعّلقت كل مساعداتها لها‪ .‬بنتيجة هذه التطورات شهدت األوضاع ترّديًا سريعًا‪،‬‬
‫خصوصًا بعد أن َقتَل قريبون من حماس جنديين إسرائيليين وأسروا جندّيًا ثالثًا‪ ،‬جلعاد شاليط‪ ،‬خالل‬
‫غارٍة على إسرائيل ُشَّنْت من غزة ورّدت عليها إسرائيل بغزو القطاع في حزيران‪/‬يونيو‪.‬‬
‫قبل الغزو اإلسرائيلي لقطاع غزة بثالثة أسابيع‪ ،‬في السابع من حزيران‪ ،‬عّبرُت علنًا عن تخّو في‬
‫الكبير من تطورات األمور في المنطقة في كلمة ألقيتها في حفل تخريج في جامعة مؤتة‪ .‬قلت‪:‬‬
‫األوضاع المتفجرة في الضفة الغربية وفي العراق‪ ،‬والخالف بين إيران والواليات المتحدة‪ ،‬كلها‬
‫تهدد األمن واالستقرار‪ .‬ومن الواضح أن هناك جهاٍت ودوًال تسعى لالستفادة من هذه األوضاع‪.‬‬
‫منها من يسعى لتسوية مشاكله على حساب دول الجوار‪ ،‬ومنها من يسعى إلى تفجير الوضع ونشر‬
‫الفوضى والدمار في أكثر من مكان؛ لتعزيز نفوذه وسيطرته على هذه المنطقة بكاملها‪ .‬لذلك يجب‬
‫أن نكون على أعلى درجات الوعي واالستعداد لمواجهة أسوأ االحتماالت والدفاع عن بلدنا‬
‫ومصالحنا الوطنية‪.‬‬
‫غالبًا ما أتطرق في مثل هذه الخطابات إلى مسائَل داخلية‪ ،‬لكن حجم التهديدات التي كانت تلوح‬
‫في األفق آنذاك دفعني إلى التشديد على هذه المخاوف ولفت النظر إليها‪.‬‬
‫في الثاني عشر من تموز‪/‬يوليو اجتاز مقاتلو حزب هللا الحدود إلى إسرائيل؛ فقتلوا ثمانيَة جنود‬
‫إسرائيليين وأسروا جنديين‪ .‬ردت إسرائيل بهجوٍٍم شامل على لبنان وقابَلها حزُب هللا بإطالق‬
‫الصواريخ على البلدات اإلسرائيلية الحدودية‪ .‬تابعُت مجرياِت األحداث على شاشات التلفزة فيما‬
‫الجيُش اإلسرائيلي يهاجم المدَن والقرى في جنوب لبنان‪ ،‬ويقصف محطات توليد الطاقة الكهربائية‬
‫في كل أرجاء البالد‪ ،‬وال يستثني حتى مطار بيروت الدولي المدني متسببًا بوقِف مجرى الحياة في‬
‫تلك العاصمة العربية‪ ،‬وقاطعًا شرياَن التواصل بينها وبين العالم الخارجي‪ .‬مقاتلو حزب هللا كانوا‬
‫في الجنوب‪ ،‬فال هم كانوا سيهربون عبر مطار بيروت وال كانوا سيستخدمونه لنقل المقاتلين‬
‫واألعتدة الحربية إلى إسرائيل‪ .‬إغالُق المطار لم يؤِذ سوى المدنيين الذين ال ناقَة لهم في القتال وال‬
‫جمل‪.‬‬
‫أعلنت إدانتي واستنكاري للحرب‪ .‬فقد شهدُت ما يكفي من اآلالم في منطقتنا؛ لكي أدرَك أن‬
‫الحرب ال تأتي بغير الدمار والمآسي‪ .‬إن أمن إسرائيل لن يتحقق إال بوصولها إلى التفاهم مع‬
‫جيرانها‪ ،‬ال من خالل الحروب‪.‬‬
‫لم تكتِف الطائرات الحربية اإلسرائيلية باستهداف معامل الطاقة الكهربائية‪ ،‬بل راحت تدّك كَّل ما‬
‫وقَع في مرمى نيرانها من البنى التحتية‪ ،‬من محطات تكرير المياه إلى الطرق الرئيسة والجسور‬
‫وسواها من المرافق المدنية‪ .‬كان المغتربون اللبنانيون‪ ،‬على اختالف مشاربهم وانتماءاتهم‪ ،‬قد أخذوا‬
‫يعودون إلى بلدهم في السنوات القليلة الماضية‪ ،‬وبدأ االقتصاُد يستعيد حيويته ونمّو ه‪ .‬وها هم‬
‫اإلسرائيليون يدمرون تدميرًا منهجيًا اقتصاد لبنان وبنيته التحتية‪ .‬كان العدوان اإلسرائيلي عدوانًا‬
‫غاشمًا مّثل عقابًا جماعّيًا ألحق األلم والمعاناة بشعب كامل انتقامًا من جماعٍة بعيِنها‪.‬‬
‫صحيح أن التاريخ ال يخلو من أمثلٍة عن دوٍل َتستهدف قواتها العسكرية المدنيين العَّز ل بغيَة كسر‬
‫إرادة الشعوب‪ .‬لكن هذه األفعال تبقى أفعاًال شائنة تعيب من يقوم بها‪ .‬ليس أسهل وال أخطر من نزع‬
‫إنسانية العدو وتقديمه شّر ًا مطلقًا خالل الحرب يبرر قتل المدنيين‪ ،‬نساًء وأطفاًال‪ ،‬بأعداد كبيرة‪ .‬لكن‬
‫أّي قائد‪ ،‬أكان قائد فصيٍل عسكرّي ‪ ،‬أم قائَد لواء‪ ،‬أم رئيس دولة‪ ،‬يبقى عليه واجٌب أخالقّي بأن يمّيز‬
‫بين المدنيين والمقاتلين‪ .‬أما أولمرت فقد اختاَر أن يضرَب عشوائّيًا‪ ،‬ويتغاضى عن هذا الواجِب‬
‫األخالقي‪.‬‬
‫امتألت شاشاُت الفضائيات العربية بصوِر الكوارث التي خّلَفها القصُف اإلسرائيلي بين المدنيين‬
‫في لبنان‪ ،‬وقد شجب الرأي العام العربي الهجوَم اإلسرائيلي‪ ،‬وطالب كثيرون في األردن والمنطقة‬
‫العربية بالمسارعة إلى مساعدة مئات آالف اللبنانيين األبرياء الذين وجدوا أنفَسهم في مرمى النيران‬
‫اإلسرائيلية‪.‬‬
‫وظفنا اتصاالتنا التي أتاحتها معاهدة السالم مع إسرائيل التي كانت تسيطر على األجواء اللبنانية‬
‫للسماح لطائراتنا بنقل المساعدات اإلنسانية إلى لبنان‪ ،‬وكانت طائرُة النقل األردنية «سي ‪»130‬‬
‫الطائرَة األولى التي هبطت في مطار بيروت الدولي بعد أن تسّبَب القصُف اإلسرائيلي بإيقاع‬
‫أضراٍر فادحة بمدرجه‪ .‬وقد ساعَد مهندسو الجيش األردني على إعادة فتح المطار؛ ليتمكَن من‬
‫تزويد الطائرات بالوقود وسوى ذلك من حاجاتها‪ .‬ثم تابعنا إرسال الطائرات المحملة بمواد اإلغاثة‬
‫إلى مطار بيروت‪ ،‬وكانت طائراُتنا ُتجلي في طريق العودة بعض اللبنانيين‪ ،‬فضًال عن بعض‬
‫األجانب الذين وجدوا أنفَسهم محاَص رين بحكم األوضاع المأساوية‪.‬‬
‫عقد مجلُس الجامعة العربية جلسًة طارئة في القاهرة في ‪ 17‬تموز‪/‬يوليو‪ ،‬وأدان باإلجماع‬
‫االعتداَء اإلسرائيلي على لبنان‪ .‬كذلك انتقد بعُض الدول العربية‪ ،‬بما فيها مصر والمملكة العربية‬
‫السعودية واألردن‪ ،‬حزب هللا على ما قام به من تصرفات غير مسؤولة وغير مقبولة‪ .‬وفي هذا‬
‫اإلطار قال وزير الخارجية السعودي األمير سعود الفيصل إن تصرفات حزب هللا سوف تعيد‬
‫المنطقة برّم تها سنواٍت إلى الوراء «وال يمكننا أن نقبل ذلك»‪ .‬وبما أن الشكوك ساورتنا بأن تكون‬
‫إيران وراء خطوة حزب هللا‪ ،‬فقد اعتبرنا أن هجماِت الحزب الصاروخيَة كانت تدخًال إيرانيًا مباِش رًا‬
‫في الشؤون السياسية العربية‪ .‬كنا مدركين التبعات السلبية لإلمعان اإليراني المتزايد في التدخل في‬
‫الشؤون العربية‪ .‬وتعرض موقُفنا هذا النتقادات واسعة في كل أرجاء العالم العربي‪.‬‬
‫امتدت الحرب أربعًة وثالثين يومًا‪ .‬سقط ضحيتها أكثر من ألف ومئة من اللبنانيين‪ ،‬كما قتل فيها‬
‫مئة وستون إسرائيلّيًا‪ .‬وقد عَّم الدمار أرجاء كثيرًة من لبنان قبل أن يتوقف القتال في ‪ 14‬آب‪/‬‬
‫أغسطس‪ ،‬أي بعد صدور قرار مجلس األمن الدولي الرقم ‪ 1701‬بيومين‪ .‬أعلن حزُب هللا االنتصار‬
‫بعد أن وقَف بقوة في وجه الجيش اإلسرائيلي‪ ،‬واستطاع أن ُيطلق صواريَخه إلى قلب إسرائيل دون‬
‫توقف حتى اللحظة األخيرة من الحرب‪ .‬لقد احتفلت أكثرية الرأي العام العربي بحزِب هللا وفاخرت‬
‫بقدرِته على صّد العدوان والوقوف بوجه الجيش اإلسرائيلي‪ .‬ارتفعت أسهُم قيادِة حزب هللا متمثلًة‬
‫بحسن نصر هللا الذي أصبح‪ ،‬ولو لفترٍة وجيزة‪ ،‬بطل الشرق األوسط‪ .‬مّثل اعتبار صمود حزب هللا‬
‫في وجِه إسرائيل انتصاراً‪ ،‬إشارًة إلى تحول كبير في العالمين العربي واإلسالمي‪ .‬فاالنتصار اليوم‬
‫أصبَح يعني الصمود بدَل أن يعني هزيمة إسرائيل وجيشها‪ .‬إن لهذه الديناميكية الجديدة دالئَل‬
‫خطيرة‪ ،‬بمعنى أنه إذا استمر الصراع‪ ،‬فإن الناس لن يتوانوا عن دعم المواجهة المسلحة مهما تكن‬
‫كلفُتها ما دام باإلمكان الصمود وإلحاق الضرر بإسرائيل‪ .‬هذه الحقيقة الجديدة تضفي مزيدًا من‬
‫الصدقية على االقتناع بأن السالم وحَده‪ ،‬وليس التفوق العسكري اإلسرائيلي‪ ،‬هو الذي يضمن األمن‬
‫والسالم لإلسرائيليين وكذلك للشعوب األخرى في المنطقة‪.‬‬
‫أما في األراضي الفلسطينية المحتلة‪ ،‬فكانت األوضاع تزداد تعقيدًا‪ ،‬وكان التوتر يشتّد ويحتد بين‬
‫السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة فتح‪ ،‬والحكومة الجديدة بقيادة حماس‪ .‬لقد انتهت فترة التعايش غير‬
‫المريح بين الفريقين إلى مواجهٍة عنيفة في ‪ 14‬حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ 2007‬عندما سيطرت‬
‫حماس على قطاع غزة بعد مواجهٍة دموية مع مناصري فتح والقوى األمنية‪.‬‬
‫بعد بضعة أشهر‪ ،‬في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪ ،‬اتخذت إدارة بوش خطوًة رئيسة أخيرة إلحياء العملية‬
‫السلمية؛ وذلك بالدعوة إلى مؤتمٍر دولّي في األكاديمية البحرية األميركية في أنابوليس‪ .‬لم تكن‬
‫خريطة الطريق قد أدت إلى أّي تقدم يذكر‪ .‬فمع أنها حّددت الخطوات التي ُيفترض بكٍّل من الطرفين‬
‫الفلسطيني واإلسرائيلي اتخاذها‪ ،‬فقد بقيت دون تطبيق‪ ،‬وبقي الطرفان يتبادالن االتهامات بعدم‬
‫االلتزام بما تعهدا به‪.‬‬
‫دعت الواليات المتحدة إلى مؤتمر أنابوليس تسعًا وأربعين دولًة ومنظمًة دولية‪ ،‬وكان الهدف‬
‫إطالق مفاوضات متواصلة تنتهي إلى إقامة الدولة الفلسطينية‪ .‬كان من بين الحضور رئيس الوزراء‬
‫اإلسرائيلي إيهود أولمرت والرئيس الفلسطيني محمود عباس‪ ،‬باإلضافة إلى األمين العام لألمم‬
‫المتحدة ووزراء خارجية الدول األعضاء في لجنة المتابعة للمبادرة العربية للسالم التي كان األردن‬
‫من بين أعضائها‪ .‬كذلك حضر ممثلون عن اللجنة الرباعية التي تضم الواليات المتحدة واالتحاد‬
‫األوروبي وروسيا واألمم المتحدة‪ ،‬وهذه اللجنة كانت قد ُشكلت في مدريد في العام ‪ 2002‬للمساعدة‬
‫على التغّلب على العقبات التي تواجه العملية السلمية‪.‬‬
‫في كلمٍة وّج هها الرئيس بوش إلى المؤتمرين‪ ،‬قال‪« :‬نجتمع اليوم لُنرسي األسَس التي ستقوم عليها‬
‫دولٌة جديدة‪ ،‬الدولة الفلسطينية الديموقراطية التي ستعيش جنبًا إلى جنب مع إسرائيل بسالٍم وأمٍن ‪.‬‬
‫نجتمع أيضًا للمساعدة على وضع حٍّد ألعمال العنف التي كانت وال تزال العدّو الحقيقّي للتطلعات‬
‫التي يصبو إليها الشعبان اإلسرائيلي والفلسطيني»‪ .‬وأضاف‪ :‬إن على اإلسرائيليين والفلسطينيين‪،‬‬
‫على حٍّد سواء‪ ،‬أن يتخذوا خياراٍت صعبًة لتحقيق السالم‪ ،‬وقال إنه يعتقد أن القادَة على طرفي‬
‫الخالف هم على استعداد لمعالجة المسائل األساسية والتوجه نحو السالم‪.‬‬
‫انتهى مؤتمر أنابوليس بإعالن اتفاٍق رفَع مستوى اآلمال المعقودة على إمكانية تحقيق التسوية‪ ،‬فقد‬
‫وافق عباس وأولمرت على المبادرة إلى التطبيق الفوري اللتزامات كٍّل من الطرفين بموجب‬
‫خريطة الطريق‪ ،‬ووضع آلية تديرها الواليات المتحدة لمراقبة عملية التطبيق‪ .‬لقد التزم الجانبان‬
‫بمباشرة مفاوضاٍت جدية‪ ،‬ناشطة ومتواصلة‪ ،‬وببذل كل الجهود المستطاعة للخروج باتفاٍق متكامٍل‬
‫قبل نهاية العام ‪.2008‬‬
‫انطلقت في أعقاب المؤتمر المفاوضاُت المباِش رة بين الفلسطينيين واإلسرائيليين‪ ،‬وقد ناقش‬
‫الجانبان قضايا الوضع النهائي‪ ،‬أي الحدود والقدس والالجئين واألمن؛ بهدف الخروج باتفاٍق نهائي‪.‬‬
‫تبّين أن المفاوضات التي انطلقت على أساس «ال شيء متفقًا عليه حتى يتم االتفاق على كل‬
‫شيء» كانت تسجل تقدمًا ملحوظًا‪ ،‬خصوصًا حياَل مسألة الحدود الجوهرية‪ .‬كانت المباحثات تتناول‬
‫النقاَط المطروحة بعمق وبالتفصيل‪ ،‬وقد تبادل الطرفان الخرائط وبحثا نسبَة األراضي التي سيتم‬
‫تبادُلها في إطار اتفاق نهائي‪ .‬لكّن المفاوضات فقدْت زخمها في شهر تموز‪/‬يوليو عندما تزعزعت‬
‫سلطُة أولمرت؛ نتيجَة توجيه التهم إليه بالفساد المالي مما دفَع به إلى تقديم استقالته‪.‬‬
‫سلطة عباس بدورها فقدْت جزءًا كبيرًا من فاعليتها؛ نتيجَة االنتصار االنتخابي الذي سّج َلْته‬
‫حماس والذي فتح جبهًة جديدًة أخرى‪ .‬فقد شّقت االنتخابات في العام ‪ 2006‬القيادة الفلسطينية بحيث‬
‫باتت غزة تحت السيطرة الكاملة لحماس‪ ،‬والضفة الغربية تحت سيطرة فتح‪ .‬بقيت غزة في مواجهٍة‬
‫مستمرة مع إسرائيل إلى أن نجحت مصر في التوسط بين الجانبين وإقامة هدنة بينهما في حزيران‪/‬‬
‫يونيو ‪ .2008‬وعلى الرغم من الضغط الشعبي الذي طالب بالمصالحة بين حماس وفتح‪ ،‬فقد بقي‬
‫تحقيق هذا الهدف أمرًا في غاية الصعوبة‪.‬‬
‫في نظرٍة إلى الوراء‪ ،‬فإن االنتخابات الفلسطينية التي شاركت فيها حماس َخلقت من المشاكل أكثر‬
‫مما حلت‪ .‬وكما شهدنا في االنتخابات العراقية في السنة السابقة‪ ،‬فإن من شأن العملية الديموقراطية‬
‫أحيانًا أن تفضي إلى مفاجآٍت‪.‬‬
‫الفصل الخامس والعشرون‪ ... :‬وسقـط القنـاع‬

‫أجريت االنتخابات التشريعية العراقية قبل االنتخابات الفلسطينية بسنة‪ ،‬أي في الثالثين من كانون‬
‫الثاني‪/‬يناير من العام ‪ .2005‬وكانت األحزاب تتنافس على مقاعد الجمعية الوطنية االنتقالية التي‬
‫كان سُيعهد إليها وضُع مسَّو دة الدستور الجديد الذي كان سُيعرض على االستفتاء الشعبي‪ .‬كانت‬
‫الدالئل تشير إلى أرجحية انتصار األحزاب الشيعية المدعومة من إيران؛ األمر الذي أطلَق الكالم‬
‫على توّسع النفوذ اإليراني في المنطقة‪ .‬ساد اعتقاد بأن إيران تمّو ل وتدعم واحدًا أو أكثر من تلك‬
‫األحزاب؛ وهذا ما أدى إلى تخوٍف من أن يكون وراء هذا الدعم أهداف إيرانية مبّيتة للهيمنة على‬
‫السياسة العراقية‪ .‬لم يشعر أهُل السنة في العراق بأن العملية االنتخابية جديرة بالثقة اعتقادًا منهم‬
‫بأنها سوف تزَّو ر بغيَة تهميش دورهم؛ وبناًء على ذلك قرروا مقاطعَتها‪ .‬هذه الخطوة كانت خطًأ‬
‫كبيرًا‪.‬‬
‫قبل موعد االنتخابات بشهر واحد أخذ مني كريس ماثيوز (‪ )Chris Matthews‬مقابلًة لبرنامجه‬
‫«هارد بول» (‪ )Hardball‬على محطة «إم أس إن بي سي» (‪)MSNBC‬األميركية‪ ،‬وسألني رأيي‬
‫في االنتخابات العراقية المقبلة‪ ،‬وخصوصًا حياَل التداعيات التي قد تترتب على انتصار األحزاب‬
‫الراديكالية الشيعية‪ .‬قلت‪:‬‬
‫أسوأ ما يمكن أن تتمخض عنه االنتخابات هو أن تنشأ دولة دينية‪ .‬وبتعبيٍر آخر أن تكون الحكومة‬
‫مكّو نة بنسبة كبيرة من أشخاص مدعومين من إيران‪ .‬نحن نأمل أال يكون األمر كذلك‪.‬‬
‫كما تعلم‪ ،‬هناك مسألة السّنة‪ ،‬ونحن نريدهم أن يشاركوا في االنتخابات‪ ،‬وأن يكونوا جزءًا من‬
‫العملية الديموقراطية‪ .‬إذا لم يشاركوا فسيكون هناك المزيد من المصاعب والمشكالت‪.‬‬
‫غالبًا ما كنُت أعّبر في تلك الفترة عن القلق حياَل منطقة بالد الشام والهالل الخصيب‪ .‬خالل تلك‬
‫المقابلة مع كريس ماثيوز عادت إلى ذهني صورُة الهالل باعتبارها رمزًا معّبرًا عن االمتداد‬
‫الجغرافي الذي قد يشمُله النفوذ اإليراني المحتمل‪ .‬يوَم ها قلت لكريس‪« :‬إذا أصبح العراق تحت‬
‫سيطرة الشيعة وكان على عالقٍة خاصة مع إيران‪ ،‬وحين تنظر إلى تلك العالقة التي ستربطه‬
‫بسوريا وبحزب هللا في لبنان‪ ،‬عندئٍذ يبرز عندنا هذا الهالل الجديد الذي سيكون من شأنه زعزعُة‬
‫االستقرار في بلدان الخليج وفي كل أرجاء المنطقة»‪.‬‬
‫بعد تلك المقابلة انفتحت أبواب جهنم واسعًة مشّر عة‪ ،‬وانصّبْت علَّي االنتقادات من أناس كثيرين‬
‫تتهمني بأنني ضد الشيعة‪ .‬رئيس «المجلس األعلى للثورة اإلسالمية في العراق» عبد العزيز‬
‫الحكيم‪ ،‬الذي أمضى سنواٍت عديدة منفيًا في إيران‪ ،‬اعتبر فكرة النفوذ اإليراني في السياسة العراقية‬
‫فكرًة «تثير السخرية»‪ .‬لكن في تلك المرحلة لم يبَق من شك لدى أحد في أن إيران كانت تتدخل في‬
‫السياسة العراقية‪ ،‬كي ال نقول كانت توّج ه مساَر ها‪.‬‬
‫هذه اإلشكالية تكشف بعَض الصعوبات التي تواجهنا عندما نتحدث عن اإلعالم‪ ،‬فأنا كنت أتحدث‬
‫في الشأن السياسي ال في شؤون الدين‪ .‬لكن جاَء من يتعّم د تشويَه المالحظات التي أبديتها أو َح ْر َفها‬
‫عن مقصِدها الحقيقي‪ .‬إن ما كان موضَع قلٍق لدّي هو أن بعَض اإليرانيين كانوا يحاولون إثارة‬
‫المشاعر المذهبية خدمًة ألهدافهم السياسية الخاصة‪ ،‬وبذلك يمّه دون السبيل الذي يمكن أن يؤدي إلى‬
‫مواجهاٍت سنية ‪ -‬شيعية في كل أرجاء العالم اإلسالمي‪ .‬إنني أحترم الشيعة الذين هم جزء من األمة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وأؤمُن إيمانًا راسخًا بأن من غير المقبول الحكم على أي إنسان انطالقًا من دينه أو‬
‫مذهبه‪ .‬لقد كان للشيعة دوٌر عظيم في إثراء التراث العربي واإلسالمي‪ ،‬وفي الدفاع عن القضايا‬
‫القومية العربية‪ ،‬وكانوا مخلصين لبلدانهم‪ ،‬أكان في العراق أم في لبنان‪ .‬ما من كلمٍة قلُتها كان القصُد‬
‫من ورائها أن الشيعة‪ ،‬بحكم انتمائهم الطائفي‪ ،‬يقفون تلقائيًا إلى جانب إيران‪ ،‬وإنما كنت أقصد أن‬
‫الحكومة اإليرانية يمكن أن تستغَّل الوضع وتوظَفه لمصلحتها وتشعَل بذلك نار االنقسامات‪ .‬ونحن ال‬
‫ننسى واقعًا تاريخيًا حديَث العهد وهو أن العراقيين الشيعة حاربوا ببسالة دفاعًا عن بلدهم في حربه‬
‫ضد إيران في ثمانينيات القرن الفائت‪.‬‬
‫إن الفكر الشيعَّي المعاصر غنّي بامتداداته الواسعِة والمتعددة‪ .‬فهناك من جهة جمٌع من المفكرين‬
‫ذوي النهج األكثر محافظة‪ ،‬وهناك‪ ،‬من جهٍة ثانية‪ ،‬مفكرون وعلماُء من األكثر انفتاحًا في العالم‬
‫اإلسالمي‪ .‬في إيران علماُء دينيون ذوو بصيرٍة يمتلكون رؤًى مستنيرة ويمّثلون طليعًة رائدة على‬
‫صعيد التصدي للمسائل االجتماعية في الشرق األوسط‪ .‬عندما كنا في األردن نبحث عن السبل‬
‫الناجعة في مجال الحد من النسل‪ ،‬تطلعنا نحو إيران لنعرف السبل التي اعتمدتها السلطات الدينية‬
‫هناك لدعم استخدام وسائل منع الحمل‪ .‬العّالمُة اللبنانُّي الراحل‪ ،‬المرجع محمد حسين فضل هللا‬
‫(رحمه هللا) كان َيعتقد بأن النساء يجب أن يتمتعن بالمساواة مع الرجال في كل الحقوق‪ ،‬وأن يؤّدين‬
‫دورًا مساويًا لدور الرجال في المجتمع‪ .‬وهذا يشير بوضوح إلى أن بعَض علماء الدين يمكن أن‬
‫يكونوا قوَة دفٍع إيجابية في مجتمعاتهم‪ ،‬لكنهم يمكن أن يكونوا أيضًا رجعيين‪.‬‬
‫كنت أخشى أن بعضًا مّم ن في النظام اإليراني كان يمهد ألجواء تقود إلى نزاعاٍت طائفية مدِّم رة‬
‫يمكن أن تمتد وتنتشر من بيروت إلى بومباي‪ .‬إن بعضًا من أشد مراحل التاريخ اإلنساني عنفًا‪ ،‬عبر‬
‫قروٍن طويلة‪ ،‬جاءت مسبوقًة بتعّم د بعض السياسيين استخداَم الدين ذريعًة يبّر رون بها شَّن حروبهم‬
‫أو كسبًا لمصلحٍة سياسية‪ .‬من الحمالت الصليبية إلى محاكم التفتيش اإلسبانية‪ ،‬كم وكم ُفِر َض من‬
‫اآلالم والمعاناة على األبرياء بسبب أولئك الذين يعتقدون قطعًا أنهم يحتكرون الحقيقة‪.‬‬
‫إن التحدث باسم هللا سبحانه يمكن‪ ،‬بسهولٍة متناهية‪ ،‬أن يكون مبررًا لقمع الحوار والرأي الحر‪.‬‬
‫فمتى َو ضَع شخٌص ما نفَسه في موقٍع أخالقٍّي وروحّي فوق موقع غيره يصبح كأنه مخّو ٌل بأن يديَن‬
‫من يقف بوجهه ويعتبَر ه شخصًا مفلسًا من الناحية األخالقية‪ .‬هذه النظرة المطلقة والحاسمة تتخذ‬
‫منحى شديَد الخطورة عندما ترتبط بالمسائل السياسية‪ ،‬وفجأًة بدل أن يكون الخصوم أشخاصًا لديهم‬
‫قيٌم وأفكار مختلفة حيال تنظيم شؤون الحكم والمجتمع‪ ،‬يصبحون أعداء هللا والدين‪.‬‬
‫كل ما قصدُت إليه هو أن أشير إلى خطر اشتعال هذا النزاع الطائفّي المحتَم ل‪ .‬ولكن لسوء الحظ‬
‫فقد تسّبب الجدُل حول مقابلتي التلفزيونية بما هو أخطر من مجرد تصريحاٍت وأقواٍل عدائية‪.‬‬
‫ليلَة الميالد من العام ‪ 2004‬اتجهْت شاحنُة صهريج محشّو ة بالمتفجرات نحو السفارة األردنية في‬
‫بغداد وانفجرت مدِّم رًة منزًال قريبًا منها وُم سقطًة تسعَة قتلى‪ .‬أظهرت التحقيقات التي أعقبت الحادث‬
‫أن وراء الهجوم تنظيمًا سياسيًا شيعيًا معروفًا يدعمه الحرُس الثورُّي اإليراني‪ .‬وهكذا ذهَبْت نيراُن‬
‫هذا االنفجار بكِّل اآلمال التي بنيُتها على تحّسن العالقات بين األردن وإيران نتيجَة الزيارة التي قمُت‬
‫بها قبل االنفجار بعاٍم واحد‪ .‬كان هذا االنفجاَر الثاني الذي استهدَف سفارتنا في بغداد‪ ،‬بعد االنفجار‬
‫الذي استهدَفها في آب‪/‬أغسطس من العام ‪ .2003‬كان وراء االنفجار األول متطرفون من السّنة على‬
‫صلة بتنظيم القاعدة‪ ،‬بينما كان الذين هاجمونا في المرة الثانية من المتطرفين الشيعة المرتبطين‬
‫بالحكومة اإليرانية‪ .‬في الشرق األوسط‪ ،‬ال يشكو المعتدلون من قلة األعداء!‬
‫مع بداية السنة الجديدة بدأ الناخبون في كل أرجاء العراق ُيعّدون أنفَسهم لالنتخابات‪ .‬وفي هذه‬
‫المناسبة طلبُت من بعض المسؤولين أن ُيعدوا تحليًال مبنيًا على ما نراه ونسمعه للوضع السياسي في‬
‫العراق‪ ،‬لتقديمه إلى الرئيس بوش الذي كان قد أعيد انتخاُبه لفترٍة رئاسية ثانية‪ .‬وإلبقائه في إطاٍر‬
‫بسيط ودون تعقيد طلبُت إليهم استخدام فكرِة اإلشارات الضوئية‪ .‬على جدول مقّسم إلى ثالثة أقسام‬
‫بثالثة ألوان‪ ،‬وزع المسؤولون صورًا لثالثين سياسيًا عراقيًا على األقسام الثالثة حسب انتمائهم‬
‫السياسّي والحزبي‪ .‬في القسم األخضر كانت صورة رئيس الحكومة االنتقالية إياد عالوي وأنصاره‪،‬‬
‫ومعهم األكراد‪ ،‬وهم من المعتدلين الذين نشاركهم القيم ذاَتها‪ .‬في القسم األحمر برزت صور‬
‫السياسيين والحزبيين المتحالفين مع إيران والذين َيعملون لزيادة النفوذ اإليراني في العراق‪،‬‬
‫ويضاف إلى هؤالء المتطرفون من السياسيين السّنة‪ .‬أما القسُم األصفر فضم صور السياسيين الذين‬
‫يتخذون مواقف مرنة ويستطيع المجتمُع الدولُّي التعامَل معهم‪ ،‬مثل نوري المالكي من حزب الدعوة‪،‬‬
‫والتكنوقراط‪ ،‬ورجال األعمال‪ ،‬وشيوخ العشائر من السّنة المحافظين‪.‬‬
‫كذلك قدمنا إلى الرئيس األميركي ومساعديه خطًة مفّص لة إلعادة إعمار المنطقة الغربية من‬
‫العراق‪ ،‬تشجيعًا للسّنة على العودة إلى المشاركة في العملية السياسية‪ .‬كان من األهمية بمكاٍن كبير‬
‫أن ال يرِّسَخ شيوُخ القبائل أقداَم هم في ميادين المعارضة‪ ،‬فالعراق ال يمكن أن يعيش كدولٍة موَّح دة‬
‫من دون أن يكون مواطنوه من السّنة جزءًا من العملية السياسية‪ .‬كانت خشيُتنا كبيرة من أن تستفيق‬
‫الغريزُة القبلية التقليدية المعروفة في منطقتنا بحيث تقف كل مجموعة بوجِه مجموعٍة أخرى ويبدأ‬
‫الصراع على السلطة والنفوذ‪ .‬كان هدُفنا الرئيس أن ُنفهم األميركيين أن األمَل الوحيد في استقرار‬
‫العراق يكمن في وجود حكومٍة تضم جميَع فئات المجتمع العراقي دون استثناء‪ .‬لكنني ال أخفي‬
‫صدمتي من أن بعض المسؤولين األميركيين لم يكونوا موافقين على هذا الطرح‪ .‬أحُد كبار‬
‫الجنراالت األميركيين لم يتردد في ضرب عرِض الحائط بطرحنا حوَل أهمية المشاركة السنية في‬
‫العملية السياسية حفاظًا على استقرار العراق‪ .‬كان حاسمًا بأن السّنة هم أعداُء األميركيين في هذه‬
‫الحرب‪ ،‬وقال إذا لم ُيحسن السّنة التصرف فإن الواليات المتحدة سوف تتوّلى سحَقهم عسكريًا‪ .‬هذه‬
‫النظرُة التبسيطية المرعبة إلى األوضاع كانت مصدَر قلٍق لدينا‪.‬‬
‫أوضحنا في خطتنا المقترحة للرئيس األميركي كيف يمكن االستفادُة من المساعدات االجتماعية‬
‫واالقتصادية لدعم زعماء القبائل في غرب العراق وتقوية موقِفهم السياسي‪ .‬ونحن‪ ،‬بحكم الحدود‬
‫البرية المشتركة بيننا وبين هذه المنطقة من العراق‪ ،‬كنا على بّينة من أوضاِع ها وميوِلها السياسية‪.‬‬
‫بعُض القبائل الكبيرة كانت مقسومًة بين غرب العراق والمنطقة الشرقية من األردن‪ .‬كان في‬
‫المنطقِة الغربية من العراق‪ ،‬مصنٌع مهَّدم للفوسفات‪ ،‬اقترحنا أن تتولى الواليات المتحدة ترميَم هذا‬
‫المصنع وتشغيَله مجددًا‪ ،‬وبذلك يجد بعض سكان المنطقة فرَص عمٍل جديدة وهذا بدوره يخلُق حالًة‬
‫من االستقرار تساعُد رجاَل القبائل هناك على التصدي للقاعدة في العراق‪.‬‬
‫اختار وزيُر الدفاع األميركي رامسفيلد جزءًا من هنا وجزءًا من هناك من خطتنا المقترحة‪،‬‬
‫مرِّك زًا على النواحي األمنية من خالل تشكيل المجموعات القبلية المقاتلة‪ ،‬لكَّن اإلدارة لم توِل‬
‫اقتراحاِتنا االقتصاديَة والسياسية أهميًة ُتذكر‪ ،‬معتبرًة احتالَل العراق وإدارة شؤونه مهمًة عسكرية‬
‫بالدرجة األولى‪ .‬رّح ب األميركيون بفكرة المجموعات القبلية المقاتلة التي يمكن أن تحارب القاعدة‪،‬‬
‫لكنهم لم يبالوا كثيرًا بتقديم الدعم االقتصادي الذي يساعدها في أن تصبح ممثلة للحكومة المركزية‬
‫في مناطِق العراق النائية‪.‬‬
‫في هذه المرحلة لم يعد األميركيون وحَدهم يواجهون المتاعَب في العراق‪ .‬فالبريطانيون أيضًا‬
‫كانوا في وضٍع حرج في الجنوب‪ .‬من المعلوم أن وزارة الخارجية البريطانية تمتلك خبرًة تاريخية‬
‫واسعة وعميقة في الشرق األوسط‪ ،‬ودبلوماسيوها معروفون بما يختزنون من المعرفة بشؤون‬
‫المنطقة‪ ،‬وبما لديهم من حنكٍة وخبرة في التعامل مع مشكالتها المعقدة والمتشابكة‪ .‬لكّن األمَر‬
‫المفاجئ أن البريطانيين حين ذهبوا إلى جنوب العراق يبدو أنه قد فاَتهم تمامًا ما يمكن أن تحمَل إليهم‬
‫الرياُح اإليرانية من المتاعب المحتملة‪ .‬عملت وحدات الحرس الثورّي التي كانت ُترَسل عبر الحدود‬
‫والعمالء اإليرانيون على زعزعِة االستقرار وإثارة االضطرابات‪ ،‬فوجد البريطانيون أنفسهم في‬
‫مواجهة وضع متفجر‪ .‬في بعض األماكن من الجنوب كنَت تسمع الفارسيَة محكيًة أكثَر من العربية‪.‬‬
‫كان حريًا بالبريطانيين أن يستعينوا بعدد أقل من البيروقراطيين القليلي الخبرة وأن يعتمدوا على‬
‫أشخاٍص أكثر معرفًة بالخلفية الثقافية والتاريخية للمنطقة التي دخلوها‪ ،‬خصوصًا أن اإليرانيين بدأوا‬
‫يبذلون مزيدًا من الجهد لكسِب النفوذ السياسّي في الجنوب‪.‬‬
‫في األيام القليلة السابقة لالنتخابات أظهَر عمالُء إيران تصميمًا على التأثير في النتائج‪ ،‬فرفعوا‬
‫وتيرَة دعمهم لألحزاب الشيعية المتحالفة مع إيران بالمال والموارد األخرى‪ .‬كان واضحًا أن اتساع‬
‫رقعة النفوذ اإليراني في العراق‪ ،‬حيث تنتشر القوات األميركية في كل أنحاء البالد‪ ،‬يمكن أن يخدَم‬
‫مصلحة إيران إلى أبعد الحدود في أية مواجهة يمكن أن تقع بين هذه األخيرة والواليات المتحدة في‬
‫المستقبل‪.‬‬
‫في انتخابات كانون الثاني‪/‬يناير فاز االئتالف العراقي الموحد‪ ،‬وهو ائتالف بين األحزاب الشيعية‪،‬‬
‫بأكثرية المقاعد في الجمعية الوطنية االنتقالية‪ ،‬وقد اختير أحُد قياديي هذا التحالف‪ ،‬إبراهيم‬
‫الجعفري‪ ،‬رئيسًا للوزراء خلفًا إلياد عالوي‪ .‬أما حزب أحمد الجلبي فقد فِشَل في الحصول على أي‬
‫مقعد‪ .‬أدت الجمعية االنتقالية مهمَتها ووضعْت مسَّو دَة الدستور الجديد ثم عاد العراقيون وانتخبوا‬
‫مجلسًا نيابيًا جديدًا في كانون األول‪/‬ديسمبر لواليٍة من أربع سنوات‪ .‬مرًة ثانية فاز االئتالف العراقُّي‬
‫الموحد بأغلبية المقاعد‪ ،‬واختير الجعفري مجددًا رئيسًا للحكومة‪ ،‬لكن ما لبث أن ُأجبر على االستقالة‬
‫وسط انتقادات طاولْت عدَم كفاءِته القيادية‪ ،‬وقد خلَفه نوري المالكي في نيسان‪/‬إبريل من العام‬
‫‪.2006‬‬
‫عندما تولى المالكي رئاسة الحكومة كان الوضع األمني في العراق يتدهور على نحو خطير جّدًا‪،‬‬
‫والعنُف الطائفُّي كان نارًا متأججة‪ .‬ورَد في تقارير األمم المتحدة آنذاك أن معدَل ما كانت تحصُده‬
‫أعماُل العنف يوميًا من القتلى بلغ مئَة قتيل في مواجهاٍت سّنية شيعية بدأت تأخذ منحى تصاعديًا بعد‬
‫هجوٍم على مزاٍر شيعّي مهّم هو مقام اإلمام العسكري في مدينة سامّر اء في شباط‪/‬فبراير من العام‬
‫‪ .2006‬في تلك اآلونة بدأ الناس يتكلمون عن إمكانية اندالع حرٍب أهلية على امتداد العراق‪.‬‬
‫في محاولٍة إلعادة األمن إلى البالد أعلن المالكي في حزيران‪/‬يونيو خطًة للمصالحة الوطنية كانت‬
‫تنطوي على خطواٍت من شأنها السيطرُة على الميليشيات وفتح حواٍر مع المسلحين‪ ،‬لكن العنف لم‬
‫يتوقْف رافعًا بذلك منسوَب القلق والتخّو ف من كون خطة المصالحة الوطنية لم تحقق أهدافها‪ .‬وقالت‬
‫«مجموعة الدراسات العراقية» التي شَّكلها الكونغرس األميركي في آذار‪/‬مارس من العام ‪2002‬‬
‫لتقييم الوضع العراقي‪ ،‬في تقرير صدَر في كانون األول‪/‬ديسمبر‪ ،‬إن األوضاَع في العراق «خطيرة‬
‫وتتزايد تدهورًا»‪.‬‬
‫كانت األخبار الواردة من شيوخ القبائل السَّنة والشيعة تتحدث بإيجابية عن المالكي‪ ،‬وتشير‬
‫بالتقدير إلى تصديه للميليشيات التي كانت مدعومًة من إيران‪ .‬لكن األخبار أخذت الحقًا تأتي متغايرة‬
‫في مضمونها‪ ،‬وقد بدأ البعض في العراق والمنطقة يتهم المالكي بتبني انحيازات مذهبية بحيث يدعُم‬
‫المجتمعات الشيعيَة على حساب السّنة‪ ،‬وبعدم إنفاق المال في المناطق السنية‪ .‬لكن الحقيقة أن‬
‫المالكي تسّلم السلطة في مرحلٍة صعبة من التدهور األمني والسياسي كان فيها العراق يتمزق تحت‬
‫موجٍة من الشقاق المذهبي والعنف واإلرهاب‪ .‬ويسجل للمالكي أن العراق بدأ يستقر خالل فترة توليه‬
‫رئاسة الحكومة‪.‬‬
‫مع التحسن الذي بدأت تشهده األوضاع في العراق وتراجع وتيرة العنف‪ ،‬أخذ العديد من العراقيين‬
‫يسألون لماذا ال يأتي العرُب إلى العراق للتحدث إليهم‪ ،‬ولماذا ُيحجم القادُة العرب عن زيارة بغداد‪.‬‬
‫لكن حقيقة األمر أن زيارة بغداد لم تكن مسألًة سهلة‪ .‬بعُض القادِة العرب كانوا يريدون التواصَل مع‬
‫العراق‪ ،‬غير أنهم أرادوا أيضًا أن يتجنبوا الظهوَر أمام شعوبهم بمظهر من يتعامل ويتفق مع‬
‫األميركيين من وراء الستار‪ .‬حتى في هذه األيام‪ ،‬التي يدير فيها العراقيون شؤوَن بلدهم بأنفسهم‪ ،‬ال‬
‫يزال البعض يرى إلى الحكومة وكأنها تحت السيطرة األميركية‪ .‬ويستخدم الكثيرون هذه الذريعة‬
‫كي يهاجموا القادة العرب الذين ُيعّدون قريبين من العراق‪.‬‬
‫في كانون األول ‪ُ 2006‬نّفذ حكُم االعدام بصدام حسين‪ .‬وفي شريط فيديو‪ ،‬صّو ره أحد الهواة وبثته‬
‫عدة قنوات‪َ ،‬تظهر جمهرٌة من الرجال حوَل المشنقة يهتفون‪« :‬مقتدى! مقتدى! مقتدى!» وذلك في‬
‫اللحظِة التي التَّف فيها الحبُل حوَل رقبة صدام‪ .‬كان هؤالء يشيرون إلى مقتدى الصدر قائد جيش‬
‫المهدي الذي ُيلِه ُب مشاعَر أنصاره والذي ُيعتقد بأنه حليٌف إليران وحزب هللا‪ .‬صورة واحدة على‬
‫الشاشة الصغيرة يمكن أن تكوَن لها وطأٌة قوية على المنطقة العربية برّم تها‪ ،‬وهكذا رأينا العالَم‬
‫العربّي قد تغّير مزاُج ه بين لمحٍة وأخرى‪ .‬لم يعتبر إعدام صدام حسين عمًال موحًى به من الغرب‬
‫ضد دكتاتور عربي فقط‪ ،‬بل رأى فيه كثيرون من السّنة على امتداد المنطقة عمًال ثأريًا قامت به‬
‫إيران والجماعاُت المتحالفة معها‪ .‬كانت تداعيات ذلك خطيرة‪ .‬فبعد موت صدام ارتفَع منسوُب موجِة‬
‫العنف في العراق واتخذت منحى جديدًا فتحولت إلى اغتياالٍت متباَدلة بين السّنة والشيعة‪ .‬انتشرت‬
‫الميليشيات في الشوارع وعَّم الشعور بأن االنقسام الخطير بين السّنة والشيعة كان يهّدد باالمتداد إلى‬
‫كل أرجاء المنطقة‪ .‬وتضاءلت بالنتيجة الشعبية التي كان يتمتع بها األمين العام لحزب هللا حسن‬
‫نصر هللا‪ ،‬وآخرون ممن يرتبطون بإيران‪ .‬وباَت الكثيرون يرون فيهم مجرَد أدواٍت يعملون لمصلحة‬
‫إيران ضد المصالح العربية‪ .‬لقد بدأت الصورة تتضح‪.‬‬
‫حاولُت أن أوضَح إلدارة بوش‪ ،‬وبالتحديد لوزيرة الخارجية كوندوليزا رايس‪ ،‬أن المزاج العام في‬
‫المنطقة قد تغّير وأن ذوي االعتدال عادوا إلى طليعِة المسار‪ .‬بإمكان القادة العرب المعتدلين أن‬
‫يعملوا اآلن معًا وأن يعززوا صوت االعتدال‪ .‬فمنذ انتهاء حرب لبنان في الصيف (تموز‪/‬يوليو‬
‫‪ )2006‬وحتى تنفيذ اإلعدام بصدام حسين تراجع صوتنا ولم يعد لطروحاتنا صدًى ‪.‬‬
‫قلت لألميركيين‪ ،‬ما دمنا اآلن قد استعدنا بعض الزخم أعطونا ما يكفي من الدعم لكي ندفَع بعمليِة‬
‫السالم إلى األمام‪ .‬لكن ال أظن أنهم فهموا الرسالة أو قبلوا فحواها‪ .‬فاألولوية الجديدة لدى اإلدارة‬
‫األميركية كانت ترويج الديموقراطية‪ ،‬هذا فضًال عن انشغاِلها شبه التام بوقف موجِة العنف في‬
‫العراق‪.‬‬
‫فقَد اإليرانيون بعَض النفوذ الذي مارسوه من قبل بعد أن واَج ه المالكي الميليشيات المدعومة من‬
‫إيران وشّن عليها حمالِت اعتقال انتهت إلى إجبار مقتدى الصدر على مغادرة البالد في شباط‪/‬‬
‫فبراير من العام ‪ .2007‬أخذ الوضع األمني في التحسن بعدئٍذ نتيجة زيادة القوات األميركية في‬
‫العراق من جهة‪ ،‬وما بذلته من جهٍة ثانية «مجالُس الصحوة» التي أطلقتها القبائل السنية من جهود‬
‫حين تصدت لقوات القاعدة في مناطقها‪ .‬لكن مع مرور الوقت أعادت الجماعاُت المدعومة من إيران‬
‫بناَء قوتها‪ .‬وفي تقديري أن جيران العراق العرب يتحملون بعَض المسؤولية في ذلك‪ .‬فإن أفضَل‬
‫السُبل للوقوف بوجه المزيد من التدخل اإليراني في العراق هو أن تمّد البلدان العربية يد العون‬
‫والدعم للحكومة العراقية‪ .‬بغير ذلك سيكون هنالك فراغ سيمأله اإليرانيون وسيتمكنون من إعادة‬
‫بناء النفوذ الذي فقدوه لفترٍة وجيزة‪ .‬إن إيران تقدم مبالغ كبيرة من المال إلى عدة جماعات مذهبية‬
‫الطرح داخَل العراق‪ ،‬كما تنظم مجيء األطفال‪ ،‬من سّنٍة وشيعة على السواء‪ ،‬الذين يحتاجون إلى‬
‫العناية الطبية أو إلى مستوى أفضل من التعليم‪ ،‬إلى البالد حيث توّفر لهم هذه الحاجات األساسية‪ .‬لقد‬
‫فتح اإليرانيون كَّل حدوِدهم وهم يحاولون وضَع العراق في إطار نفوذهم‪ .‬صحيح أن الوضع األمنَّي‬
‫المضطرب حال دون أن تقيم البلدان العربية سفاراٍت لها في بغداد وتقّو َي عالقاتها مع العراق‪ ،‬لكّن‬
‫الحقيقَة تبقى أّن تواصل البلدان العربية مع العراق هو ضرورٌة أساسية لشّد أزِر ه ضَّد نزعِة التوسع‬
‫التي تمارسها الحكومة اإليرانية والوقوف بوجه طموِح ها إلى الهيمنة‪.‬‬
‫في العام ‪ 2008‬رأيت أّن من الضروري إبراز حقيقة أن العراق كان يسير في االتجاه الصحيح‬
‫وأن األوضاع السياسية كانت تتجه نحو االستقرار‪ .‬شعرت بأن زيارتي للعراق ستبعث إشارًة‬
‫رمزيًة إلى أن األوضاع بدأت تعود إلى طبيعتها‪ ،‬وسأكون بذلك أيضًا‪ ،‬أوَل القادِة العرب زائرًا في‬
‫بغداد منذ الغزو األميركي‪ .‬لكن العائق الحقيقي في سبيل هذه الزيارة كان العامل األمني‪ :‬فال‬
‫اإليرانيون وال تنظيم القاعدة يرغبون في رؤيتي هناك‪.‬‬
‫وجَد خبُر زيارتي المرتقبة َم ن يسّر به فأعدت القاعدة زمرًة من القَتَلة للترحيب بي‪ .‬وقد بلَغنا أنهم‬
‫هَّر بوا إلى العراق قذائَف أرض ‪ -‬جّو الغتيالي‪ .‬أّج لُت الرحلَة‪ ،‬واتخذُت إجراءاٍت ُتظِه ر لإلرهابيين‬
‫أنهم يزاولون لعبًة خطرة‪ .‬وبالتعاون مع الجهات العراقية المعنية‪ ،‬توصلنا إلى التأكد من أن هذه‬
‫الخلية بالذات لم تعد مصدَر قلق‪ .‬ما إن اطمأَّن باُلنا حيال العامِل األمني حتى استأنفُت االستعداد‬
‫للزيارة‪.‬‬
‫في ‪ 13‬آب‪/‬أغسطس من العام ‪ 2008‬اتجهنا من عمان إلى بغداد أنا وأخي علي‪ ،‬يصحُبنا وفٌد‬
‫أردني صغير‪ ،‬في طائرِة نقٍل عسكرية من نوع «سي ‪ »17‬حّلقت بنا فوق الصحراء األردنية ثم‬
‫عبر الحدود إلى العراق‪ ،‬وهي الرحلُة التي قمت بها آخر مرة مع والدي‪ .‬مع اقترابنا من بغداد بدأ‬
‫أفراُد الطاَقم يرتدون السترات الواقية وكانوا يجولون بأنظارهم خارَج النافذة بحثًا عن أية دالئل‬
‫تشير إلى إمكانية وجود قذائف‪ .‬لم ُيعِط نا أفراُد الطاقم ستراٍت واقية‪ ،‬وجلست أنا في غرفة القيادة‪.‬‬
‫بوصولنا إلى المطار هبطت الطائرة هبوطًا عموديًا حادًا تجنبًا للقذائف‪ ،‬وكان ذلك من اإلجراءات‬
‫المعتادة للهبوط في مطار بغداد‪ .‬انحنت الطائرة كالنفاثِة المقاِتلة وهي تئّن مع اقترابها من مدرج‬
‫المطار‪ .‬ما إن هبطنا حتى عادت بي الذكرى إلى زيارتي السابقة إلى بغداد‪ .‬ها أنا أعود إليها اآلن‬
‫وقد تغَّير فيها الشيء الكثير بما في ذلك حكومُتها ونظاُم الحكم فيها‪.‬‬
‫ُبعيد هبوط طائرتنا ركبنا مروحيًة أقلعت بنا وحّلقت على ارتفاع منخفض فوق شوارع بغداد‬
‫وأبنيتها‪ .‬رأيت ما يشبه السحابة البيضاء‪ ،‬وأدركُت أنها آتية من المروحية المرافقة بعد أن شَّغلْت‬
‫جهازًا ينفث رقائق التضليل التي َتحول دون عثوِر الصاروخ على هدفه‪ .‬انحرفنا قليًال إلى اليسار ثم‬
‫أكملنا طريقنا‪ .‬فيما كنت أنظر من النافذة رأيت أشعَة الشمس تنعكس على ما ُيشبه البحيرات‬
‫الصغيرة وسط المدينة‪ ،‬وبما أنني لم أذكر أنني رأيُت شيئًا من هذا القبيل في زياراتي السابقة‪ ،‬ظننت‬
‫أنها من معالم المدينة الجديدة‪ .‬لكن عندما اقتربنا أكثر رأيُت أنها مستنقعاٌت من المجاري الصحية‬
‫منتشرة في شوارع المدينة‪ُ .‬ح زني على بغداد‪ ...‬التي كانت‪ ،‬في حقٍب عديدٍة من التاريخ‪ ،‬جوهرَة‬
‫الشرق األوسط‪ ،‬ومنها خرجْت نخبٌة من أفضل العلماء والمهندسين وكبار المرّبين في منطقتنا‬
‫العربية‪ .‬أمٌة عظيمة من أهل الكرامة والعنفوان والعّز ة‪ ،‬ها هي تشهُد الدماَر الذي يصيُب منها‬
‫الصميم‪ ،‬إنه لمشهٌد محزن أن يرى المرُء ما أصاَب هذه الحاضرة العظيمة من دمار‪ .‬كل أربعين أو‬
‫خمسين مترًا هناك ملجٌأ ُيهَر ع إليه المشاُة في الشوارع هربًا من قذائف المورتر أو القصف‬
‫العشوائي المفاجئ‪.‬‬
‫بوصولنا إلى المجّم ع الذي كنُت سألتقي فيه رئيس الوزراء نوري المالكي اسُتقبلنا وسط بعض‬
‫االضطراب ألننا لم نتمكن من اإلعالن عن الزيارة قبل موعدها المحدد ألسباٍب أمنية‪ .‬استقبَلني‬
‫المالكي وكان التفاهم بيننا جيدًا‪ .‬والصحيح أن حدوث الزيارة كان أكثر أهمية من مضمون‬
‫المباحثات التي أجريناها نظرًا لرمزية اللقاء في بغداد آنذاك‪.‬‬
‫عندما انتشر خبر وجودي في بغداد توافَد المزيد من العراقيين إلى المجّم ع‪ .‬حاولنا االجتماع بعدد‬
‫آخر من المسؤولين العراقيين إال أنه تبّين أن الترتيبات اللوجستية كانت تنطوي على الكثير من‬
‫التعقيدات‪ ،‬ذلك أن المسؤولين المعنيين لم يكونوا على علٍم بزيارتي‪ ،‬ولذلك فقد وَص لْتهم الدعوات‬
‫متأخرة للقاء «ضيف رفيع المستوى»‪ .‬واجهت الصعوبات الكثير منهم وهم يحاولون الوصول إلى‬
‫حيث هذا الضيف المجهول بسبب التأخر عند حواجز التفتيش‪ .‬انتظرنا‪ ،‬وانتظرنا طوياًل ‪ ،‬أحد كبار‬
‫المسؤولين البرلمانيين‪ ،‬لكنه لم يصل‪ .‬شعر قائد حرسي بعدم االرتياح لوجودنا في موقٍع واحٍد مدًة‬
‫طويلة‪ .‬وأخيرًا قال‪« :‬انتهى األمر‪ ،‬فلنتحرك»‪ ،‬وتوَّج هنا إلى المطار‪ .‬أقلعت بنا الطائرة بطريقة‬
‫حادة‪ ،‬وكانت محركاُتها تزعُق هديرًا حتى إذا عادت إلى االستواء عادت معها أجسامنا ترتطُم بظهر‬
‫المقعد‪ .‬عندما ابتعدنا عن مرمى الصواريخ ألقيُت نظرًة من النافذة‪.‬‬
‫استعدُت في ذاكرتي بغداد التي كنُت قد زرتها قبلئٍذ بعشرين عامًا‪ ،‬وصدمت إذ رأيتها على هذه‬
‫الحال الموجعة‪ .‬قال لي أخي علي إن الزيارة تركْته مثقًال بالكآبة والحزن‪ ،‬فأجبته‪« :‬وأنَت أيضًا؟»‪.‬‬
‫مع مرور الوقت تغّيرت السياسة األميركية وبدأت القوات األميركية المقاتلة تغادر العراق‪ ،‬وقد‬
‫صّدق البرلمان العراقي على اتفاق وضع القوات األميركية في العراق في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر من‬
‫العام ‪ .2009‬وبموجب هذا االتفاق تغادُر القوات األميركية العراق بنهاية العام ‪ .2011‬وهذا هدف‬
‫معقول وجيد‪ ،‬ذلك أنني أوُل القائلين بأن كل القوات األجنبية يجب أن تخرج‪ ،‬لكن ال أحد يريد‬
‫انسحابًا متسرعًا يترك وراءه فراغًا يتطلب أن يأتي بعد بضع سنوات َم ن ُيصلح ما خّلَفه من‬
‫المشكالت‪ .‬إذا كان تأليف حكومة عراقية قوية يتطلب انسحابًا أقَّل سرعًة بقليل‪ ،‬فإن هذا المسار قد‬
‫يكون هو األفضل‪ .‬وكثيرون من المسؤولين العراقيون أشاروا إلى اقتناعهم بذلك في األحاديث‬
‫معهم‪ .‬فهم ال يريدون فراغًا ينتج عن انسحاب غير مخطط له تخطيطًا جيدًا لضمان عدم تعريض‬
‫أمن العراق للخطر‪.‬‬
‫أكملت القوات األميركية المقاتلة انسحابها من العراق في ‪ 31‬آب‪/‬أغسطس من العام ‪،2010‬‬
‫وأعلَن الرئيس أوباما انتهاَء العمليات القتالية للقوات األميركية في العراق‪ .‬لم يمِض وقٌت طويل‬
‫على االنسحاب حتى تدهور الوضُع األمنُّي بينما تحركت قوات األمن العراقية ِلَم ْل ِء الفراغ‪ .‬سيبقى‬
‫في العراق حوالى خمسين ألف جندي أميركي حتى نهاية العام ‪ 2011‬لتدريب الجيش العراقي‬
‫ومساعدته في توّلي مسؤولياته األمنية‪ .‬نأمل أن يستقَّر العراق بحلول هذا االستحقاق الزمني‪ ،‬وأن‬
‫يكون الجيُش العراقي قد حصل على ما يحتاج إليه من تجهيزات وتدريب ليحفظ أمن البلد‪.‬‬
‫الفصل السادس والعشرون‪ :‬صوت جديد من أميركا‬

‫في آذار‪/‬مارس من العام ‪ ،2007‬وفي تكريٍم نادٍر لرئيس دولة أجنبية‪ُ ،‬دعيُت إللقاء خطاب في‬
‫جلسٍة مشتركة لمجلسي الشيوخ والنواب في أميركا‪ .‬وبعد تفكيٍر متأٍن في الموضوع تيقنت أن ثمة‬
‫موضوعًا واحدًا علَّي أن أطرحه‪ :‬الحاجة الماّسة والملّح ة إلى تحقيق السالم في الشرق األوسط‪.‬‬
‫قلت في كلمتي أمام ممثلي األمة األميركية إن شعوب الشرق األوسط في كل أرجائه تبحث عن‬
‫بدايٍة جديدة وتتطلع إلى مستقبل زاهٍر يعّم ه السالم والرفاه‪ .‬لقد شهدنا الخطر والدمار اللذين يخّلفهما‬
‫العنف والكراهية والظلم‪ .‬لكننا شهدنا أيضًا ما يمكن أن تنجزه الشعوب متى تسّنت لها اإلمكانات‪،‬‬
‫وأسقطت الجدران‪ ،‬ومتى تعهدْت مستقبلها والتزمت بناَء ه‪ .‬إننا نعلم علَم اليقين أن السالم بين‬
‫اإلسرائيليين والفلسطينيين سوف يتيح لمنطقتنا وللعالم بأسره إمكاناٍت وُفرصًا جديدة‪ .‬يجب أال يشعر‬
‫أي أٍب فلسطيني بأنه غير قادر على توفير الطعام لعائلته وبناء مستقبل الئق ألبنائه وبناته‪ .‬ويجب‬
‫أال تشعر أي أم إسرائيلية بالخوف متى صعَد ولُدها إلى الحافلة في طريقه إلى المدرسة‪ .‬ويجب أال‬
‫يكبر جيل جديد آخر معتقدًا أن العنف والنزاع هما سمة الحياة الطبيعية‪.‬‬
‫بعد انتهائي من إلقاء خطابي جاءني العديد من األصدقاء يسألونني ماذا بإمكانهم أن يفعلوا‬
‫للمساعدة في ما دعوُت إليه‪ ،‬لكن بعضهم كان أكثر شكًا أو تحفظًا‪ .‬بعُض هم قاَل لي‪« :‬ما دخُلنا نحن‬
‫في هذا الصراع؟ لماذا علينا أن نتورط في نزاٍع محّلي قائم بين طرفين على المقلب اآلخر من الكرة‬
‫األرضية؟»‪.‬‬
‫بوّدي أن أقول هنا بمنتهى الوضوح ما كان جوابي عن هذه التساؤالت‪ :‬إن إيجاد الحل للصراع‬
‫العربي ‪ -‬اإلسرائيلي هو في صميم المصلحة القومية للواليات المتحدة األميركية وأوروبا وسائر‬
‫بلدان المجتمع الدولي‪ .‬إن القضية الفلسطينية تحتّل مكانًة في غاية األهمية لدى مليار ونصف مليار‬
‫من المسلمين في نواحي األرض األربع‪ ،‬وهي بذلك مسألٌة عالميٌة بامتياز‪ .‬كم وكم من ممتهني‬
‫العنف يستخدمون االحتالل اإلسرائيلي لألراضي العربية‪ ،‬وخصوصًا منها القدس الشرقية‪ ،‬ذريعًة‬
‫لما يقومون به من أعمال‪ .‬إنهم يصّو رون الغرب‪ ،‬والواليات المتحدة تحديدًا‪ ،‬داعمًا أعمى إلسرائيل‪،‬‬
‫وبالتالي يحّم لون «أميركا الشيطانية» وحلفاَء ها مسؤولية المظالم المتأتية من االحتالل اإلسرائيلي‪.‬‬
‫المنظمات اإلرهابية تستغل مشاعر اإلحباط المشروعة لدى المسلمين حيال الفشل في إنهاء االحتالل‬
‫اإلسرائيلي لألراضي الفلسطينية لخدمة أهدافهم الالمشروعة وتبريرها‪ ،‬والستدراج الدعم ألعمالهم‬
‫المناوئة ألميركا وخطابهم المعادي لها‪ .‬إن من الضرورّي والملّح إيجاَد الحل للصراع الفلسطيني‬
‫اإلسرائيلي لكي نحرَم هؤالء المتطرفين من إحدى أقوى الذرائع التي يستخدمونها وأكثرها استقطابًا‬
‫المؤيدين‪.‬‬
‫يستغل تنظيم القاعدة استمرار الصراع مصدر قوة له ويوظفه في حشد التابعين‪ .‬وسوف يؤدي‬
‫قيام الدولة الفلسطينية إلى إضعاف حجة القاعدة ويحد من قدرتها على االنتشار عالميًا‪ ،‬فيستحيل هذا‬
‫التنظيم اإلرهابي خطرًا محليًا في بعض مناطق النزاع‪ .‬على مدى أكثر من عشر سنوات توّر طت‬
‫الواليات المتحدة وبريطانيا وحلفاؤهما في حربين في العالم اإلسالمي‪ .‬وسوف نشهُد مزيدًا من‬
‫النزاعات المسلحة التي ستستغلها القاعدة لتزيد من نفوذها وتوّسع انتشارها إّال إذا تحقق السالم بين‬
‫الفلسطينيين واإلسرائيليين‪ .‬قد ال يبدو الترابُط بين هذين األمرين واضحًا بالنسبة إلى األميركيين‪،‬‬
‫لكن ما من مسلٍم في العالم إال يؤكد أن المعاناة والظلم اللذين يلحقان بالشعب الفلسطيني يبقيان جرحًا‬
‫داميًا يدفع الشباب إلى التشدد ويستنفرهم في كل أرجاء العالم اإلسالمي‪ .‬لن تختفي القاعدة من‬
‫الوجود لحظَة إنشاء الدولة الفلسطينية‪ ،‬لكنها ستواجه رفضًا أكبر وصعوبات متزايدة في سعيها إلى‬
‫تجنيد األتباع وحشد الدعم لما تطرح من أفكار ولما ترتكب من أعماٍل إجرامية‪.‬‬
‫من أهّم األدوار التي تستطيع الواليات المتحدة األميركية القيام بها إقناع أصدقائها بكبح العواطف‬
‫سعيًا وراء المصالح االستراتيجية‪ .‬نحن في هذه المنطقة غالبًا ما نجد أنفَسنا ُم نَه كين ومستهَلكين في‬
‫التعامل مع َم ظِلمٍة من هنا أو حادِث عنٍف من هناك فنفقد القدرة على رؤية المشهد األوسع والمسألِة‬
‫األساس‪ .‬نحتاج في كثير من األحيان إلى َم ن يساعدنا على النظر إلى المستقبل وتحديد إلى أين نريد‬
‫أن نصل بعد عشر سنواٍت من اآلن‪ ،‬أو عشرين سنًة أو ثالثين‪ ،‬لكي نجعل من أعمالنا سبيًال إلى‬
‫تحويل هذه الرؤيا حقيقًة ملموسة‪.‬‬
‫ال وقت نضّيعه في جهودنا لحل الصراع اإلسرائيلي ‪ -‬الفلسطيني‪ .‬ذلك أن كل المماطالت‪،‬‬
‫واالنتظار على غير طائل‪ ،‬والوعود المؤجلة أو المنسية‪ ،‬قد أّدت إلى أن يفقد الناس ثقَتهم حتى بأن‬
‫يكوَن السالم إمكانيًة واردة‪ .‬هذا الواقع يضعف المعتدلين‪ ،‬ويصّب مباشرًة في مصلحة المتطرفين‪.‬‬
‫علينا أن ندرك أن فشَلنا في التحرك اآلن نحو الحّل يعني أننا وضعنا الشرق األوسط على مسار‬
‫مستقبلي تسوده الحروب التي لن تقف عند حدود المنطقة‪ ،‬مستقبٍل يقوده اإلرهابيون والمتطرفون‪،‬‬
‫بعد أن يكوَن المعتدلون فقدوا كَّل صدقّيتهم‪.‬‬
‫إن شروط السالم ومتطلباته واضحة‪ .‬فالمجتمع الدولي برّم ته يجمع على حل الدولتين سبيًال‬
‫لتحقيق السالم‪ .‬لكننا نحتاج إلى المساعدة لبلوغ هذا الحل بعد ما شهدته عملية السالم خالل السنوات‬
‫األخيرة من تعثر جعل من الكالم غير المجدي والعنف والخيبة حصادها الوحيد‪.‬‬
‫وعندما ُأعِلن في الخامس من تشرين الثاني‪/‬نوفمبر فوز باراك أوباما بالرئاسة األميركية‪ ،‬تنّفس‬
‫الكثيرون في األردن والشرق األوسط الصعداء‪ .‬أمل الناس أن تعتمد الواليات المتحدة نهجًا جديدًا‬
‫في سياستها نحو المنطقة‪ ،‬وأن يكون الرئيس األميركي الجديد وسيطًا عادًال ونزيهًا ومتوازنًا وهو‬
‫يتصدى لتحدي تحقيق السالم في المنطقة‪.‬‬
‫قد يبدو للبعض أن المفاوضات وتعقيداتها مسألة يجب أن تترك للفلسطينيين واإلسرائيليين‬
‫يديرونها وحَدهم‪ .‬بيد أن الحقيقة هي أن للواليات المتحدة دورًا مركزيًا فيها‪ .‬ولقد رأى الناس في‬
‫الواليات المتحدة على مدى السنوات حليفًا يقدم الدعم غير مشروط إلسرائيل‪ .‬وعلى الرغم من ذلك‪،‬‬
‫ليس في المنطقة من ال يعتقد أن الواليات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تصغي إليها إسرائيل‪ ،‬مع‬
‫أن األخيرة تختار أحيانًا أن تتجاهل طلبات أميركا‪.‬‬
‫في تموز‪/‬يوليو من العام ‪ 2008‬أخذ السناتور أوباما إجازًة من متابعة حملِته االنتخابية للقيام‬
‫بجولٍة في أوروبا والشرق األوسط‪ .‬بعد زيارته العراق وأفغانستان‪ ،‬وصَل في الثاني والعشرين من‬
‫تموز‪/‬يوليو إلى عّم ان يرافقه السناتور جاك ريد (‪ )Jack Reed‬والسناتور تشاك هاغل (‪Chuck‬‬
‫‪ .)Hagel‬عّم ان بنيت في األساس عند ملتقى سبعِة جبال‪ ،‬وقد اختار أوباما القلعة التاريخية القائمة‬
‫على قمة أحد هذه الجبال لعقد مؤتمره الصحافي‪ .‬لقد شِه دْت عّم ان‪ ،‬إحدى أقدم مدن العالم‪ ،‬غزواٍت‬
‫عديدًة عبر تاريخها الطويل‪ ،‬من اليونانيين إلى الرومان واألمويين‪ ،‬وقد ترك كٌل من هؤالء بصماِته‬
‫وآثاَر ه فيها‪ .‬وقف أوباما قرب بقايا معبٍد يوناني‪ ،‬وآثار كنيسة بيزنطية‪ ،‬وحجارِة قصٍر أموّي ‪،‬‬
‫وتحدث عن زيارتيه إلى أفغانستان والعراق‪ ،‬ثم تلقى أسئلة الصحافيين‪ .‬شّدد في كالمه على العملية‬
‫السلمية قائًال‪« :‬إن هدفي هو التأكد من أننا سوف نعمل منذ اللحظة التي أقسم فيها اليمين الدستورية‬
‫على البحث عن ثغرٍة تفتح أمامنا باب السالم»‪.‬‬
‫بعد المؤتمر الصحافي التقيُت أوباما في بيت األردن‪ ،‬مقر إقامتي في ضواحي عمان‪ ،‬وقد رّكزت‬
‫في اللقاء على أهمية الوصول إلى سالم عادٍل ودائم بين إسرائيل والفلسطينيين‪ ،‬ال من أجل السالم‬
‫فقط‪ ،‬بل أيضًا من أجل االستقرار الذي يأتي به السالم إلى المنطقة ودْفِع األخطار التي قد تأتيها من‬
‫مناطَق أخرى ساخنة في العالم‪ .‬من وجهة نظري‪ ،‬قلُت له‪ :‬من المهم جّدًا أن تكون السياسة الخارجية‬
‫األميركية على درجة عالية من التنسيق‪ .‬ففي عهد الرئيس كلنتون كنا نستقبل في المنطقة عددًا من‬
‫المبعوثين‪ ،‬واحدًا تلو اآلخر‪ ،‬من دنيس روس (‪ )Dennis Ross‬إلى مارتن إنديك (‪Martin‬‬
‫‪ )Indyk‬إلى مادلين أولبرايت (‪ ،)Madeleine Albright‬وفي جعبة كل منهم رسالٌة مختلفة‪ .‬كما‬
‫شرحُت له أن المشكلة ذاَتها انتقلت إلى إدارة الرئيس بوش الذي قال لي‪« :‬الرجُل الذي يحمل‬
‫رسالتي هو كولن باول‪ ،‬وهو الوحيد الذي سيعّبر عن سياستنا الخارجية‪ .‬إنه مخّو ٌل بذلك مني‬
‫شخصيًا»‪ .‬لكن باول كان يقول كالمًا ويأتي بعده مسؤولون آخرون يحملون رسالًة مناقضة‪.‬‬
‫نصحُت أوباما بأن يكون له مستشار رئيسي حول عملية السالم يعتمد عليه دومًا‪ .‬وعندما أوجَز لي‬
‫ما ينوي اتخاَذه من الخطوات للسير قدمًا في عملية السالم‪ ،‬اتضح لي أنه مدرك تمامًا جوهَر المشكلة‬
‫وترك لدّي انطباعًا قويًا بأنه رجٌل ُيحسن التحدث بلغة السالم‪ .‬أنهينا محادثاتنا ثم انضّم إلينا الوفُد‬
‫المرافق لتناول العشاء‪.‬‬
‫بعد العشاء عرضُت أن أوصَل أوباما إلى المطار حيث كان متوجهًا إلى إسرائيل محطته التالية‪.‬‬
‫(أنا اعتدت أن أوصَل كبار الزائرين إلى المطار في أحيان كثيرة)‪ .‬لم يرتح مسؤول أمنه الشخصّي‬
‫لعرضي لكن األمر كان محسومًا‪ .‬فوجئ أوباما عندما رآني أتجه إلى مقعد السائق ثم أدعوه إلى‬
‫الجلوس بجانبي‪ .‬اتجهنا إلى المطار تلحق بنا قافلة من السيارات‪ .‬وفي نصف الساعة الذي استغرَقْته‬
‫الرحلة تحدثنا عن عائلتينا وتطرّقنا إلى بعض األمور الشخصية‪ ،‬وكانت فرصة ليتعّر ف واحُدنا على‬
‫اآلخر بصورٍة أفضل‪.‬‬
‫بعد االنتخابات األميركية بأسبوع واحد سافرُت إلى نيويورك لحضور اجتماع الجمعية العمومية‬
‫لألمم المتحدة المخّص ص للحوار بين األديان‪ ،‬والذي كان برعاية الملك السعودي عبد هللا بن عبد‬
‫العزيز‪ .‬خالل وجودي هناك التقيت الرئيس األميركي السابق بيل كلنتون الذي حَّثني على عدم‬
‫إضاعة الوقت باالنتظار شهرين ونصف الشهر ريثما يتسلم أوباما رسميًا منصبه رئيسًا للواليات‬
‫المتحدة‪ .‬وقال إن من األفضل أن نبدأ فورًا بالتواُص ل مع فريق الرئيس أوباما الذي يتولى إدارَة‬
‫عملية انتقال السلطة‪ .‬كان ذلك قبل تعيين زوجة كلنتون‪ ،‬هيالري‪ ،‬وزيرًة للخارجية بوقٍت طويل‪.‬‬
‫«عليكم أن تبدأوا التحرك فورًا»‪ ،‬قال لي الرئيس السابق‪ ،‬الذي كان قد اقترب أكثر من أي رئيس‬
‫أميركي آخر من الوصول بالفلسطينيين واإلسرائيليين إلى اتفاق سالم‪ .‬أخذت بنصيحة كلنتون وبدأُت‬
‫أتخذ خطواٍت غير رسمية لالتصال بأعضاء إدارة أوباما الجديدة‪.‬‬
‫في الثاني عشر من تشرين الثاني‪/‬نوفمبر‪ ،‬خالل وجودي في الواليات المتحدة‪ ،‬تحدثت إلى‬
‫الرئيس أوباما هاتفيًا‪ ،‬هنأُته على فوزه في االنتخابات وقلت له إنني أتطلع إلى التعاون معه في‬
‫مسائل الشرق األوسط‪.‬‬
‫قلت إنني مدرك تمامًا أن انشغاالٍت كبرى ُتثِقُل برنامَج عمله خصوصًا في مرحلة إطالق حكومته‬
‫الجديدة‪ ،‬تلك االنشغاالت التي ُتراوح ما بين األزمة االقتصادية العالمية ومشكالت الموازنة‬
‫األميركية‪ ،‬فضًال عن النزاعات في العراق وأفغانستان‪ .‬لكنني أبلغته أنني بالرغم من ذلك آمل أن‬
‫يسرع إلى دعم المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين والدفع بها إلى األمام‪.‬‬
‫بنهاية حديثنا الهاتفي شعرُت بأمٍل كبير‪ ،‬وبأن الرئيس األميركي المنتَخب يعي تمامًا أن الصراع‬
‫اإلسرائيلي ‪ -‬الفلسطيني هو أساس التوتر وعدم االستقرار في المنطقة‪ ،‬وأن الوصول إلى سالم‬
‫عادٍل وشامٍل ودائم هو في مصلحة أميركا القومية‪ .‬إنه الموقف النقيض تمامًا للسنوات الثماني‬
‫الماضية التي كانت فيها السياسة األميركية في أغلب األحيان داعمًة إلسرائيل في الحق والباطل‪.‬‬
‫لكن قبل أن يتسّلم أوباما صالحياته في كانون الثاني‪/‬يناير من العام ‪ 2009‬تدهورت األوضاع‬
‫تدهورًا خطيرًا‪.‬‬
‫انتهت في كانون األول‪/‬ديسمبر المدة المحددة التفاق وقف إطالق النار الذي رَعْته مصر بين‬
‫حماس وإسرائيل‪ ،‬وعاد الطرفان لالشتباك‪ .‬كان وقف إطالق النار قد تعّر ض للخطر منذ تشرين‬
‫الثاني‪/‬نوفمبر عندما قتلت إسرائيل ستَة ناشطين من حماس وعادت حماس فأطلقت بعض الصواريخ‬
‫إلى داخل إسرائيل‪ .‬كذلك كانت غزة تحت الحصار االقتصادي التام منذ العام ‪ ،2007‬وحتى المواد‬
‫الطبية كان السماح بإدخالها محدودًا جّدًا‪ .‬كانت غزة أشبَه بقنبلة موقوتة تنتظر االنفجار‪.‬‬
‫استغّل رئيس وزراء إسرائيل إيهود أولمرت المرحلة االنتقالية في الواليات المتحدة‪ ،‬وفترة أعياد‬
‫الميالد ورأس السنة التي يغيب فيها معظم رؤساء الدول في إجازاتهم‪ ،‬وقرر أن يشَّن هجومًا على‬
‫غزة في ‪ 27‬كانون األول‪/‬ديسمبر‪ .‬قصفت الطائرات اإلسرائيلية غزة مدة أسبوع كامل قبل أن يشن‬
‫الجيش اإلسرائيلي حربًا شاملة عليها ويغزوها في أوائل كانون الثاني‪/‬يناير‪.‬‬
‫بحسب تقرير اللجنة التي شكلتها األمم المتحدة لتقّص ي الحقائق في نيسان‪/‬إبريل من العام ‪2009‬‬
‫برئاسة القاضي الجنوب أفريقي ذي السمعة الدولية الرفيعة ريتشارد غولدستون (‪Richard‬‬
‫‪ ،)Goldstone‬ذهب ألف وأربعمئة فلسطيني ضحيَة ثالثة أسابيع من القتال الشرس‪ ،‬منهم ما بين‬
‫تسعمئة وألف شخص من المدنيين‪ ،‬بينهم أكثر من ستمئة من النساء واألطفال‪ .‬أما الجيش اإلسرائيلي‬
‫فقتل منه عشرة جنود بينهم أربعة سقطوا بـ«نيراٍن صديقة»‪ ،‬وقد قتلت صواريخ حماس ثالثة‬
‫مدنيين إسرائيليين‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ذلك قصفت الطائرات الحربية اإلسرائيلية السجن المركزي ومبنى المجلس‬
‫التشريعي‪ ،‬فضًال عن مبنى المدرسة التابعة لألنروا في مدينة غزة‪ .‬هذا العمل وَص فْته لجنُة األمم‬
‫المتحدة بأنه انتهاك للقانون الدولي واتفاقات جنيف‪ .‬وقد َخلَص تقرير غولدستون‪ ،‬الذي ُنشر في‬
‫أيلول‪/‬سبتمبر من العام ‪ 2009‬إلى أن القوات اإلسرائيلية المسلحة قد خرقت قواعَد السلوك العسكري‬
‫الدولية من خالل هجومها على أحد مستشفيات مدينة غزة بقذائف تحتوي على الفوسفور األبيض‪،‬‬
‫ومن خالل الهجمات التي شّنتها على المدنيين في غزة بما في ذلك هجوُم ها على أحد المساجد خالل‬
‫الصالة حيث قتلت خمسَة عشَر شخصًا‪.‬‬
‫عندما عرضت شبكات التلفزة العالمية المآسي اإلنسانية التي تعّر ض لها سكان غزة أثارت موجًة‬
‫عارمة من الغضب‪ ،‬وخرج الناس في طول العالم العربي وعرضه يطالبون برٍد قاٍس على األعمال‬
‫اإلسرائيلية‪ .‬وألول مرة حاولت مجموعة من الدول العربية إلغاء مبادرة السالم العربية التي ُطرحت‬
‫في العام ‪ ،2002‬وقد وقفت تلك المجموعة‪ ،‬في خطوتها هذه‪ ،‬ضد دول االعتدال العربية وحاولت‬
‫الدفَع باتجاه رفض السالم مع إسرائيل‪ .‬أما الدول العربية المعتدلة‪ ،‬بما فيها األردن ومصر والمملكة‬
‫العربية السعودية واإلمارات العربية المتحدة وسواها‪ ،‬فقد أخذت تتساءل عما إذا كانت إسرائيل قد‬
‫دّم رت عمليَة السالم نهائيًا‪.‬‬
‫دعت قطر إلى مؤتمر قمة للدول األعضاء في جامعة الدول العربية ُيعقد في الدوحة في ‪16‬‬
‫كانون الثاني‪/‬يناير‪ ،‬لكّن الخشيَة من أن تكون وراَء هذه الدعوة أهداٌف سياسية غير معلنة تخّلفت‬
‫مصر والمملكة العربية السعودية واألردن ودوٌل أخرى تنحو منحى سياسيًا مماثًال عن الحضور‪،‬‬
‫ولم ُيلِّب الدعوَة سوى ثالث عشرة دولة أي أقل بدولتين من النصاب المطلوب لجعل االجتماع‬
‫مؤتمرًا رسميًا للقمة العربية‪ .‬في النهاية وّسعت قطر قائمَة المدعّو ين بحيث شملت الرئيس اإليراني‬
‫محمود أحمدي نجاد ورئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل الذي سافر إلى الدوحة من مقره‬
‫في دمشق‪.‬‬
‫أعلن بعض القادة العرب أن المبادرة العربية للسالم «ماتت وُدفنت»‪ ،‬ودعوا إلى قطع كل عالقة‬
‫عربية مع إسرائيل بما في ذلك إغالق السفارتين المصرية واألردنية فيها‪ ،‬لكن بما أن المؤتمر لم‬
‫يكن اجتماعًا رسميًا للدول األعضاء في جامعة الدول العربية‪ ،‬لم يكن ممكنًا إلغاء المبادرة العربية‬
‫للسالم رسميًا‪.‬‬
‫لو أننا شعرنا بأن قطع العالقات مع إسرائيل يمكن أن يأتي بالعدالة والحقوق المشروعة‬
‫للفلسطينيين‪ ،‬أو بالسالم إلى المنطقة‪ ،‬لما ترددنا لحظًة في القيام بذلك‪ .‬لكّن العكس هو الصحيح‪،‬‬
‫فالمعاهدة بيننا وبين إسرائيل شكلت في مناسباٍت عديدة مخرجًا أتاح للفلسطينيين أن يعتمدوا علينا‬
‫لتمرير وجهات نظرهم ورسائلهم‪ .‬واآلن‪ ،‬عندما كان سكان غزة بأمّس الحاجة إلى المساعدة‬
‫والدعم‪ ،‬ما كنا لنستطيع مساعدَتهم لو لم يكن لدى األردن عالقاٌت دبلوماسية مع إسرائيل‪.‬‬
‫وقفنا ضد الحرب على غزة وعارضناها‪ ،‬لكن لم نستطع أن نفعل شيئًا لوقفها‪ .‬طالبنا إسرائيل بأن‬
‫توقف كل عملياتها العسكرية ضد غزة‪ ،‬وأن تكف خصوصًا عن استهداف المدنيين‪ .‬أرسلنا‬
‫المساعدات ووّفرنا قناة إليصال مواد اإلغاثة وصلت عبرها معظم المواد التي أرسلتها الدول‬
‫العربية واألوروبية وسواها من دول المجتمع الدولي‪ .‬مئات األطنان من المساعدات اإلنسانية‬
‫والطبية دخلت غزة عن طريق األردن‪ ،‬كذلك أرسلنا مستشفى ميدانيًا عسكريًا ‪ -‬ال يزال عامًال في‬
‫غزة ‪ -‬كان يعالج أكثر من ألف مصاب يوميًا منذ اللحظة التي افتتح فيها‪ .‬بحلول تشرين األول‪/‬‬
‫أكتوبر من العام ‪ 2010‬كان ‪ 340٬000‬شخص قد تلقوا العالج في هذا المستشفى‪.‬‬
‫في ‪ 19‬كانون الثاني‪/‬يناير من العام ‪ 2009‬اجتمع قادة الدول العربية في الكويت في ما كان‬
‫ُيفَترض أنه قمٌة اقتصادية ترمي إلى َص ْو ِغ موقٍف َيستجيب لتداعيات األزمة المالية العالمية‪ ،‬غير‬
‫أننا لم نكن لنتجاهَل األزمة التي كانت ال تزال متواصلة في غزة‪ .‬وفي هذا السياق عّبر الملك‬
‫السعودي عبد هللا بن عبد العزيز عن القلق الذي ينتاب العديدين عندما قال‪« :‬إن المبادرة العربية لن‬
‫تبقى على الطاولة إلى األبد»‪.‬‬
‫وقَف أمير الكويت الشيخ صباح األحمد الجابر الصباح في وجه الضغوط التي مارَسها بعض‬
‫الدول إللغاء مبادرة السالم العربية‪ ،‬واكتفى البيان النهائي المشترك بالدعوة إلى وقف إطالق النار‬
‫في غزة‪ ،‬واالنسحاب اإلسرائيلي الفوري منها‪ ،‬وإلى التحقيق في ما ارتكبه الجيش اإلسرائيلي من‬
‫جرائم حرب‪.‬‬
‫في اليوم التالي‪ ،‬بينما انسحبت القوات اإلسرائيلية من غزة‪ ،‬كانت واشنطن تشهد حشدًا من حوالى‬
‫مليون إنسان جاؤوا من كل أنحاء البالد ليشهدوا باراك أوباما يؤدي اليمين الدستورية باعتباره‬
‫الرئيَس الرابَع واألربعين للواليات المتحدة األميركية‪ .‬وفى الرئيس أوباما بالوعد الذي أطلَقه خالل‬
‫حملته االنتخابية وكانت اتصاالُته الهاتفية األولى صباح اليوم التالي إلى قادة األردن ومصر‬
‫وإسرائيل والسلطة الفلسطينية‪.‬‬
‫في العادة‪ ،‬كان كل الرؤساء األميركيين الجدد ينتظرون حتى منتصف واليتهم الثانية قبل أن يبدأوا‬
‫بمعالجة الصراع اإلسرائيلي ‪ -‬الفلسطيني‪ .‬كانوا ينظرون بعين إلى الوضع الراهن وبأخرى إلى ما‬
‫سيتركون من إرث تاريخي وراءهم‪ .‬لكن الرئيس أوباما‪ ،‬بتصديه لهذه المسألة منذ يومه األول‪ ،‬بدا‬
‫كمن يقدم إلى المنطقة فرصًة نادرة للتقدم نحو حل إحدى أكثر مشكالتها تعقيدًا وصعوبة‪ .‬هنا دارت‬
‫التساؤالت في رؤوسنا جميعًا‪ :‬هل‪ ،‬يا ُترى‪ ،‬سيتمكن قادُة المنطقة من االستفادة من هذه الفرصة‬
‫الثمينة؟‬
‫بيد أن تطورات السياسة اإلسرائيلية لم تكن مشجعة‪ .‬فالتفاؤل الذي انتهى إليه مؤتمر أنابوليس كان‬
‫قد تبّخ ر منذ وقت طويل‪ ،‬ذلك أن المفاوضات التي انطلقت في ذلك المؤتمر في أواخر العام ‪2007‬‬
‫توقفت في تموز‪/‬يوليو ‪ 2008‬عندما أعلن أولمرت‪ ،‬بعد اتهامات الفساد التي طاولته‪ ،‬أنه لن يرشح‬
‫نفسه لواليٍة ثانية في رئاسة حزب كاديما وأنه سيستقيل من رئاسة الحكومة حالما ينتخب الحزب‬
‫قائدًا جديدًا‪ .‬في أيلول‪/‬سبتمبر فازت وزيرة خارجيته تسيبي ليفني برئاسة حزب كاديما‪ .‬لكن ليفني لم‬
‫تتمكن من تشكيل ائتالف حكومي‪ ،‬فبقي أولمرت رئيسًا للحكومة بموجب القانون الذي ينص على‬
‫بقاء رئيس الحكومة الراهن في منصبه ريثما ُيقسم الرئيس الجديد اليمين ويتسلم الحكم‪.‬‬
‫في العاشر من شباط‪/‬فبراير من العام ‪ 2009‬ذهب اإلسرائيليون إلى صناديق االقتراع‪ .‬ومع أن‬
‫كاديما عاد ففاز بأكثرية مقاعد الكنيست‪ ،‬لم تتمكن ليفني مرة أخرى من تشكيل ائتالٍف حكومّي ‪.‬‬
‫كّلف الرئيس اإلسرائيلي شيمون بيريز زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو تشكيل حكومة ائتالفية‪.‬‬
‫في السادس عشر من آذار‪/‬مارس وّقع نتنياهو اتفاَق االئتالف الحكومي مع الحزب اإلسرائيلي‬
‫الثالث من حيث عدُد المقاعد النيابية‪« ،‬إسرائيل بيتنا»‪ ،‬وهو حزٌب على أقصى اليمين بقيادة أفيغدور‬
‫ليبرمان الذي أعطَي حقيبة وزارة الخارجية‪ .‬وفي إشارٍة واضحة إلى التغّير الذي طرأ على توُّج ه‬
‫الرأي العام اإلسرائيلي‪ ،‬فإن حزب العمل‪ ،‬الحزب التاريخّي الذي كان على رأسه إسحق رابين‪،‬‬
‫شريك والدي في عملية بناء السالم‪ ،‬ومن بعده إيهود باراك ‪ -‬والذي هيمَن على السياسة اإلسرائيلية‬
‫من العام ‪ 1948‬حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي ‪ -‬باَت اآلن في المرتبة الرابعة فقط أي وراء‬
‫كاديما والليكود وإسرائيل بيُتنا‪ .‬بدت الصورة قاتمة‪ .‬فعودة نتنياهو الذي كان قد فعل كل ما في وسعه‬
‫لنسف اتفاقات أوسلو بعد غياب دام عقدًا وضّم ه اليميَن اإلسرائيلَّي المتطرف إلى حكومته‪ ،‬كانا نذير‬
‫خطر على العملية السلمية‪.‬‬
‫فيما كان نتنياهو يضع اللمسات األخيرة على ائتالفه الحكومي‪ ،‬كان األعضاُء االثنان والعشرون‬
‫في جامعة الدول العربية يستعدون لحضور مؤتمر القمة العربية في الدوحة‪ .‬وفي ضوء محاوالت‬
‫بعض الدول العربية في السابق لسحب مبادرة السالم العربية واعتبارها ملغاة‪ ،‬ذهبُت إلى الدوحة‬
‫مدركًا تمامًا أن علينا نحن الحريصين على السالم أن نتخذ موقفًا ثابتًا وحاسمًا إذا كان لعملية السالم‬
‫أن تبقى على قيد الحياة‪.‬‬
‫من المعروف أن كل مؤتمرات القمة العربية تلتئم بعد أن يكون وزراء خارجية الدول األعضاء قد‬
‫اجتمعوا قبل القمة ببضعة أيام لإلعداد الجتماع رؤساء دولهم‪ .‬ولذلك أعطيُت تعليماتي لوزير‬
‫خارجيتنا‪ ،‬ناصر جودة‪ ،‬بأن يحيط كل وزراء الخارجية علمًا بأن من األهمية بمكاٍن كبير أن َيلقى‬
‫الرئيس األميركي الجديد كَّل الدعم الممكن في التزامه المبّكر بعملية السالم في المنطقة‪ .‬يجب أال‬
‫نسمح ألنفسنا بأن تحكمنا العواطف على الرغم من كل البشاعِة المرعبة للحرب اإلسرائيلية على‬
‫غزة‪ .‬عليَك أن تتأكد‪ ،‬قلت لوزير الخارجية‪ ،‬من أن مؤتمر القمة سوف يخرج ببيان عملٍّي واقعّي‬
‫يدفع باتجاه أن نبذل مجتمعين جهدًا متكامًال إلحياء محادثات السالم‪.‬‬
‫كان المزاج العام في الدوحة شديد السلبية‪ ،‬وكان موقف بعض وزراء الخارجية أن ال فائدة من‬
‫البحث عن السالم مع حكومة إسرائيلية ُتظهر هذا الَقْدر من التعّنت وتمعن في مخالفاتها مندرجات‬
‫القانون الدولّي ‪ .‬وبعضهم قال إن مبادرة السالم العربية يجب أن ُتسحب عن الطاولة‪ ،‬فاالنتخابات‬
‫جاءت بنتنياهو رئيسًا للحكومة وهذا يعني أن إسرائيل سرعان ما سيزيُد توّج ُه ها يمينًا ومواقُفها‬
‫تعنتًا‪ .‬لكن وزير خارجيتنا وعددًا آخر من الوزراء العرب أصروا على أنه برغم األجواء التشاؤمية‬
‫عمومًا‪ ،‬علينا أن نستفيد من أية فرصة سانحة‪.‬‬
‫خالل المؤتمر كان هدفي أن أفكر ونظرائي من القادة العرب استراتيجّيًا وأن يكون لنا موقف‬
‫موَّح د لكي نثبَت للعالم مرًة نهائية َم ن هو الذي يسُّد المنافَذ على محاوالت السالم‪ .‬كُّلنا عّبرنا عن‬
‫الغضب حيال الحرب اإلسرائيلية على غزة وشجبناها‪ .‬لكن على الرغم من غضبنا دعوت إخواني‬
‫رؤساء الدول إلى البحث عن شعاِع األمل وسط هذه الظلمة الرهيبة‪ .‬قلُت لهم ال بد لنا من أن نعطي‬
‫أوباما الفرصة لمساعدتنا‪ ،‬فالرجل قام ببعض الجهود الجيدة ولم يمِض عليه في الحكم أكثر من ستة‬
‫أسابيع‪ .‬لقد عّين جورج ميتشل‪ ،‬السناتور السابق صاحب السجل الحافل بالنجاح في أيرلندا الشمالية‬
‫والمعرفة العميقة بشؤون الشرق األوسط‪ ،‬مبعوثًا خاّص ًا له في عملية السالم وأرسله فورًا إلى‬
‫المنطقة‪ .‬كذلك أعلن الرئيس األميركي أن المستوطنات اإلسرائيلية غير قانونية ويجب وقُف إنشائها‪،‬‬
‫أما وزيرة خارجيته هيالري كلنتون فهي على معرفة جيدة بالمنطقة وقضاياها منذ كانت عضوًا في‬
‫مجلس الشيوخ‪ ،‬وقبلئٍذ بوصِفها السيدة األميركية األولى السابقة‪َ .‬م ن منا ال يذكر إلى أّي مدى اقترَب‬
‫الرئيس كلنتون من تحقيق السالم! يجب أن نتجنب القيام بما يتوقعه الكثيرون من العرب وهو أن‬
‫نرفَض المبادرات الجديدة قبل أن تصلنا‪ .‬تحدثت عن ضرورة أن نتصرف بحكمة وأن نعيد تأكيَد‬
‫التزامنا بمبادرتنا العربية للسالم ثم نرى إلى أين ستذهب بنا هذه المبادرة‪.‬‬
‫في النهاية ساد هذا المنطق وأكدنا التزامنا بالمبادرة العربية للسالم‪ .‬لكن ما شهدته منطقة الشرق‬
‫األوسط برّم تها من ردود الفعل الغاضبة حياَل سلوك إسرائيل في حربها على غزة عنى أن أَّي‬
‫هجوٍم إسرائيلي مماثل سيقضي على المبادرة نهائيًا‪.‬‬
‫قلُت إلخواني القادة العرب إن الرئيس أوباما اتصل بي قبل بضعة أيام ودعاني إلى زيارة‬
‫واشنطن‪ ،‬وسألُتهم كيف يمكن أن نستفيد من هذه الزيارة لدفع قضية السالم ُقدمًا ما أمكن؟‬
‫جاءني‪ ،‬خالل المؤتمر‪ ،‬األمير سعود الفيصل‪ ،‬وزير الخارجية السعودي‪ ،‬ذو الحكمِة وُبعد النظر‬
‫وصاحُب الباع الطويل في الشؤون الدولية‪ ،‬واقترَح علّي أن أحمَل إلى الرئيس األميركي رسالًة‬
‫موجهة إليه من مؤتمر القمة‪ .‬بعد انتهاء المؤتمر بفترة وجيزة دعونا وزراَء خارجية لبنان وقطر‬
‫وفلسطين والمملكة العربية السعودية وسوريا ومصر إلى األردن‪ ،‬ومعهم األمين العام لجامعة الدول‬
‫العربية‪ ،‬للعمل على َص ْو ِغ موقٍف عربّي مشترك‪ .‬بعض هؤالء الوزراء كانوا على تواصٍل مع‬
‫وزير الخارجية البريطاني ديفد ميليباند (‪ ،)David Miliband‬الذي كان يبذل جهودًا كبيرة‬
‫الستئناف عملية السالم‪.‬‬
‫التقى الوزراء المدعوون (ما عدا وزير خارجية سوريا الذي تعَّذر عليه الحضور) في عمان في‬
‫الحادي عشر من نيسان‪/‬إبريل‪ ،‬وبحثوا إمكانية التحدث إلى الواليات المتحدة حول عدد من‬
‫اإلجراءات التي من شأنها بناء الثقة بين إسرائيل والدول العربية‪ .‬كان الموقف أنه يمكن تفعيل هذه‬
‫اإلجراءات إذا َجّم دْت إسرائيل بناَء المستوطنات تمهيدًا الستئناف المفاوضات‪ ،‬وأعادت األوضاع‬
‫إلى ما كانت عليه قبل اندالع االنتفاضة الثانية في العام ‪ .2000‬وكانت هذه اإلجراءات ستشمل‬
‫استئناف بعض العالقات التي كانت قد نشأت في العام ‪ 1994‬بعد توقيع معاهدة السالم بيننا وبين‬
‫إسرائيل‪ .‬ففي تلك المرحلة افُتتحت مكاتب تجارية إسرائيلية في بعض البلدان العربية‪ ،‬وقد تزايدت‬
‫حركُة الناس والبضائع التجارية‪ ،‬وُسمح لإلسرائيليين بزيارة بعض البلدان العربية التي لم تكن بينها‬
‫وبين إسرائيل عالقات دبلوماسية‪ .‬لكن معظم ذلك توقَف في العام ‪ 2000‬بعد انهيار مفاوضات كامب‬
‫ديفد واندالع االنتفاضة الثانية‪ .‬أقِفلت المكاتب التجارية ولم يعد هناك أّي تواصل بين إسرائيل‬
‫والبلدان العربية‪ ،‬باستثناء مصر واألردن‪ ،‬على الرغم من أن عالقاتنا مع إسرائيل هي أيضًا‬
‫تراجعت‪ .‬لم نكن بصدد أن نعرض على إسرائيل تطبيع العالقات‪ ،‬بل إجراءات تسهم في إيجاد بيئة‬
‫إيجابية تسّه ل استئناف المفاوضات‪.‬‬
‫وافقُت على نقل هذا العرض إلى الرئيس األميركي الجديد‪.‬‬
‫في أواخر نيسان‪/‬إبريل من العام ‪ 2009‬وصلُت إلى واشنطن‪ ،‬كأول قائد عربي يزور البيت‬
‫األبيض منذ االنتخابات الرئاسية‪ .‬اجتمعت إلى الرئيس على حدة في غرفة طعامه الصغيرة الخاصة‬
‫بجانب المكتب البيضاوي‪ .‬وقد ُعقد اللقاء في جٍّو من االرتياح التام‪ .‬يتمتع الرئيس أوباما بثقاقٍة‬
‫ومعرفٍة بالعالم خارج الحدود األميركية‪ ،‬ولديه مقاربٌة متوازنة حياَل األمور التي يتطرق إليها‪ .‬رجل‬
‫دمث‪ ،‬يعطي أوباما االنطباع وهو يحدثك كأنَك صديٌق قديم‪ .‬قال لي إن التحديات التي يواجهها‬
‫بالنسبة إلى الشرق األوسط كثيرٌة جّدًا‪ ،‬لكن قبل أن يبحَثها معي يريد أن يسمع ما لدّي أوًال‪.‬‬
‫قلت له إنني أرى أن من الضرورة الحتمية استئناَف المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين في‬
‫أقرب وقت ممكن‪ ،‬وإن علينا أن نتقدم بسرعة نحو تحقيق حل الدولتين‪ ،‬ألن العداء المتنامي بين‬
‫إسرائيل والفلسطينيين من شأنه أن ُيلقي مبدأ االتفاق من خالل التفاوض في غياهب المجهول‪ .‬أما‬
‫العامل الكفيل بزيادة األوضاع تفجيرًا وتوترًا فهو سرطان االستيطان اآلخذ في االنتشار في‬
‫األراضي الفلسطينية المحتلة‪.‬‬
‫كذلك قلت للرئيس إن التشاؤم يغلب على أجواء القادة العرب بالنسبة إلى التوصل إلى السالم‪،‬‬
‫لدرجة أن البعض طالب في أعقاب حرب غزة بسحب المبادرة العربية للسالم‪ ،‬لكن األمل ال يزال‬
‫يحدو بعضًا منا نتيجة ما أبداه هو من اهتمام بالسالم وتفاعله المبكر مع المشكلة‪ .‬ثم أضفت قائًال‪ :‬إذا‬
‫بادرت الحكومة اإلسرائيلية إلى اتخاذ خطوٍة شجاعة كتجميد بناء المستوطنات‪ ،‬المطلب الذي أجمَع‬
‫عليه منذ زمٍن بعيد الفلسطينيون والعرب والعديد من أعضاء المجتمع الدولي‪ ،‬عندئٍذ سنكون‬
‫مستعدين للعودة إلى األجواء التي كانت سائدة قبل اندالع االنتفاضة الثانية‪ ،‬وسنقترح خطوات‬
‫ملموسة لبناء الثقة من شأنها أن تحسن ظروف استئناف مفاوضات السالم‪.‬‬
‫بعد ذلك تحدثت إلى الرئيس بصراحٍة وصدق عن رئيس الحكومة اإلسرائيلية الجديد الذي كان‬
‫على موعٍد لزيارة واشنطن بعد بضعة أسابيع استنادًا إلى خبرتي السابقة في التعامل معه‪ .‬قلُت له‪:‬‬
‫«السيد الرئيس‪ ،‬نتنياهو سوف يزورك قريبًا وسوف يتحدث عن أربعة أمور‪ :‬إيران‪ ،‬ثم إيران‪ ،‬ثم‬
‫إيران‪ ،‬ثم سيشكو إليك أن ال شريك فلسطينيًا له لتحقيق السالم معه»‪ .‬قلت له من الخطأ تركيز‬
‫الحديث بينكما على إيران‪ .‬إن السبيل األمثل‪ ،‬في تقديري‪ ،‬لمعالجة المسائل الرئيسية في الشرق‬
‫األوسط يكمن في حل الصراع اإلسرائيلي ‪ -‬الفلسطيني‪ .‬أما بالنسبة إلى الشريك الفلسطيني‪ ،‬فإن هذا‬
‫الشريك سوف يصبُح قوّيًا وقادرًا إذا ما اتجه اإلسرائيليون ولو مرًة واحدة بجديٍة وصدق نحو تحقيق‬
‫السالم‪ .‬وفي واقع األمر يمكننا القول‪ ،‬ونحن مرتاحو الضمير‪ ،‬إن الفلسطينيين لم يكن لديهم شريٌك‬
‫في عملية السالم منذ انتخاب شارون في العام ‪.2001‬‬
‫قال الرئيس إنه لن يقفز إلى االستنتاجات قبل أن يتحدث إلى نتنياهو‪ ،‬وهو يريد أن يتيَح له مجاًال‬
‫لتفسير موقفه‪ ،‬لكنه أضاف إنه لن يتساهل حياَل مسألة المستوطنات‪ .‬وهنا ذكرُت الرئيس بما لدّي‬
‫من خبرٍة مع نتنياهو‪ ،‬وتمنيُت عليه أال يأخَذ كل ما يفيض به رئيس الوزراء اإلسرائيلي من الوعود‬
‫كأنه باَت في حّيز التنفيذ‪ ،‬ذلك أنه تراجَع في السابق عن العديد من االلتزامات‪ .‬هنا قال لي الرئيس‬
‫إنه سيسعى بتصميم إلى تحقيق حل الدولتين‪.‬‬
‫انتهى اجتماعنا الثنائي بعد هذا الحوار ببضع دقائق‪ ،‬ثم انضَّم إلينا أعضاء الوفدين في اجتماع‬
‫موسع انتقلنا بعده إلى عقد مؤتمٍر صحافي مشترك حيث قال الرئيس‪:‬‬
‫أنا داعم ومؤّيد لحل الدولتين‪ ...‬ما نريد أن نقوم به هو أن نخرج من الهاوية لكي‬
‫نقول مهما كانت الصعوبات التي قد تعترضنا‪ ،‬فإن إمكانات السالم ال تزال قائمة‪ ،‬لكنها تتطلب‬
‫خياراٍت صعبة‪ ،‬وتصميمًا من جميع األطراف المعنية‪ .‬كما تتطلب أن نتفق على خطواٍت ملموسًة‬
‫تتخذها جميع األطراف إثباتًا لتصميمها على الوصول إلى السالم‪ .‬والواليات المتحدة سوف تنخرط‬
‫بجدية في هذه العملية سعيًا إلى تحقيق تقدم فيها‪.‬‬
‫تشجعت وقلُت في نفسي إن هناك أمًال في العودة قريبًا إلى طاولة المفاوضات‪ ،‬وجدّيًا هذه المرة‪.‬‬
‫قلت إن المهمة التي علينا القيام بها هي توزيع الخطوات على مدى الشهرين المقبلين لنتيح‬
‫للفلسطينيين واإلسرائيليين من جهة‪ ،‬والفلسطينيين والعرب من جهٍة ثانية‪ ،‬أن يجلسوا إلى الطاولة‬
‫طرفًا مقابَل طرف ويدفعوا هذه العملية إلى األمام‪.‬‬
‫بعد ذلك اتجهُت إلى وزارة الخارجية لمقابلة الوزيرة كلنتون‪ .‬كنت قد التقيُتها قبل سنوات عديدة‬
‫وسط ظروٍف مختلفة تمامًا‪ ،‬وقد سَّر ني اللقاء بصديقٍة قديمة فيما كنت أقوم بزيارة رسمية‪ .‬تحدثنا‬
‫عن سُبل تحسين أوضاع الفلسطينيين وكيفية خلق األجواء المناسبة والضرورية للوصول إلى اتفاٍق‬
‫ناجح‪ .‬قلت لها إنني أعتقد أن السلطة الوطنية الفلسطينية شريٌك ذو صدقية في الجهود التي ُتبذل من‬
‫أجل السالم‪ ،‬وإننا سنعمل مع بعض الدول العربية األخرى لتوفير الدعم الالزم لرئيس الحكومة‬
‫الفلسطينية سالم فياض الذي قّدم استقالته إلى الرئيس محمود عباس كي يتيح تأليف حكومة وحدة‬
‫وطنية مع حماس‪ .‬لكّن المحادثات مع حماس لم تؤِّد إلى أية نتيجة‪ .‬بعد عودتنا من الواليات المتحدة‬
‫ببضعة أسابيع تحرك عباس لتأليف الحكومة من دون حماس‪ ،‬وقد أقسم فياض اليمين القانونية في‬
‫التاسع عشر من أيار‪/‬مايو‪ .‬كانت حكومته‪ ،‬التي حازت الدعَم من معظم الدول العربية‪ ،‬مستعدًة‬
‫وقادرة على أن تكون شريكًا في العملية السلمية‪ .‬فياض ملتزم بالمفاوضات السلمية سبيًال إلى حل‬
‫الصراع مع إسرائيل على أساس قيام دولتين متجاورتين‪ .‬في واليته األولى رئيسًا للوزراء‪ ،‬التي‬
‫بدأت في حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ ،2007‬بعد أن سيطرت حماس على غزة‪ ،‬حاز فياض احترام‬
‫الحكومات العربية والغربية عندما نجح في بناء المؤسسات الفلسطينية ووَّفر الحكَم الصالح‪ .‬صحيح‬
‫أن المنطقة عانت من حرٍب وحشية في غزة في كانون الثاني‪/‬يناير‪ ،‬لكّن الصحيح أيضًا أن ُفرص‬
‫تحقيق السالم كانت في تلك المرحلة أفضَل منها طواَل العقد الذي مضى‪ .‬كان لدينا رئيس أميركي‬
‫جديد ما إن تسّلم سلطاته حتى بدأ يشارك في جهود السالم مشاركًة جدية‪ ،‬كما عّبر عن نيته‬
‫الواضحة بأن يقاِر َب العالَم اإلسالمّي على أساس االحترام المتباَدل والمصالح المشتركة‪ .‬كذلك كانت‬
‫لدينا قيادٌة فلسطينية داعمة لمسيرة السالم ومستعدة للتضحية من أجل الوصول إليه‪ .‬وال ننَس أننا كنا‬
‫نتمتع بالدعم القوي من القسم األكبر من العالم العربي الذي أبدى رغبَته في تطبيع عالقاته مع‬
‫إسرائيل ودمجها كلّيًا في نسيج المنطقة على أساس مندرجات المبادرة العربية للسالم‪.‬‬
‫العقدة الوحيدة في كل هذا المشهد تتمثل برئيس الوزراء اإلسرائيلي الجديد بنيامين نتنياهو‪ .‬إذا‬
‫نظرنا إلى رئاسته األولى للحكومة تعوُد بنا الذاكرة إلى رجٍل هجومٍّي متشدد يرفض المساومة‪.‬‬
‫وفيما كنُت في طريق العودة إلى عمان كنت أتساءل عما إذا كانت السنوات العشر الماضية قد‬
‫غَّيرت فيه شيئًا‪ .‬ال بد من االنتظار لمعرفة الجواب‪.‬‬
‫في الرابع عشر من أيار‪/‬مايو طار نتنياهو إلى عمان‪ ،‬ولم أكن متفائًال بما سُيفضي إليه االجتماع‪،‬‬
‫ذلك أن تعامالتنا في السابق لم تكن مجدية‪ .‬بدأنا المحادثات في لقاء ثنائي‪ ،‬وبدا نتنياهو على شيء‬
‫من عدم االرتياح‪ ،‬لعّله أيضًا تذّكر اللقاء األخير بيننا‪.‬‬
‫في محاولٍة لكسر الجليد بيني وبينه‪ ،‬قلت‪« :‬السيد رئيس الوزراء‪ ،‬تهانينا على فوزك في‬
‫االنتخابات»‪ .‬أجاب بابتسامة‪ ،‬فقررُت أن أدخل في صلب الموضوع مباشرة‪« :‬أنا أعلم أنه بالنسبة‬
‫إليك ُتعتبر حياُة كل مواطٍن إسرائيلي مقدسة‪ .‬لكنني أعتقد يقينًا أن أفضل السبل لحماية مواطنيك هو‬
‫أن تتوصل مع الفلسطينيين إلى سالم عادل ودائم مبنّي على أساس إقامة الدولة الفلسطينية»‪ .‬قلت له‬
‫إن هدفي هو المساعدة في إقامة السالم بين إسرائيل والعرب‪ ،‬وإن الدول العربية ملتزمة بالسالم‬
‫الشامل الذي سيتيح إلسرائيل أن تقيم عالقاٍت كاملة وطبيعية مع البلدان العربية واإلسالمية‪ ،‬ال‬
‫مجرد تبادل سفارات‪ .‬قلت إنني أؤمن بقوة بأن العالقات السلمية بين إسرائيل وجيرانها العرب سوف‬
‫تضمن أمَننا الجماعّي ‪ ،‬كما أنها ستأتي بمنافع اقتصادية جمة لجميع األطراف‪ .‬تحدثت عما سيجنيه‬
‫االقتصاُد اإلسرائيلي من االستثمارات العربية‪ ،‬وعن احتماالت االستثمار اإلسرائيلي في العالم‬
‫العربي‪.‬‬
‫عندما أدرك نتنياهو أنني‪ ،‬على الرغم من الخالفات بيننا‪ ،‬أحاوُل جاهدًا أن أجَد أرضيًة مشتركة‬
‫بيني وبينه‪ ،‬شعر بشيء من االرتياح‪ .‬قال لي إنه في التاسعة والخمسين‪ ،‬أي إن عمره من عمر دولة‬
‫إسرائيل تقريبًا‪ ،‬وإنه للمرة األولى في ستين سنة يرى أن إسرائيل والعرب يواجهان تهديدًا من‬
‫مصدٍر واحد‪ .‬كنُت قد حّذرت الرئيس أوباما من أن نتنياهو عندما يجتمُع به سوف يرّكز بحَثه معه‬
‫على إيران‪ ،‬وها هو يفعل الشيء نفسه معي أنا!‬
‫«إذا شئَت أن نشعَر بأن إيران تهديٌد مشترك لنا ولكم»‪ ،‬قلُت له‪« :‬فإن علينا في البداية أن نجد حًاّل‬
‫للمشكلة األساس التي تعاني منها منطقُتنا وهي الصراع العربي ‪ -‬اإلسرائيلي‪ .‬هي ذي بالضبط‬
‫المشكلة التي تعنينا بالدرجة األولى‪ ،‬وهي المشكلة التي تستطيعون أكثر من سواكم العمل على‬
‫حلها»‪ .‬ثم حثثُته على اتخاذ خطواٍت جدية باتجاه تحقيق السالم مع الفلسطينيين‪ ،‬وقلت له ال بد من‬
‫وقف بناء المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية‪ ،‬فهذه المستوطنات تقضُم األراضي‬
‫المفترض أن تكون جزءًا من الدولة الفلسطينية‪ ،‬كما تهدد جوهَر حل الدولتين‪ .‬كذلك شّددُت على‬
‫ضرورة أن يفهم المكانة المقدسة لمدينة القدس لدى كل مسلمي العالم وأن يوقف كل األعمال‬
‫األحادية الجانب في المدينة المقدسة‪.‬‬
‫قال لي نتنياهو إن هناك أمورًا ال يمكنه التحدث عنها علنًا بسبب الضغوط السياسية الداخلية‪ ،‬ومن‬
‫هنا فإن الحديث عن الحل المبني على أساس قيام دولتين‪ ،‬والكالم على وقف بناء المستوطنات ليس‬
‫أمرًا سهًال بالنسبة إليه‪ .‬لكنه أعرَب عن الرغبة في إحراز تقدم نحو السالم قائًال إنه مدرك تمامًا‬
‫مدى أهميته‪ .‬أجبته‪« :‬إذا كنَت تريد السالم حّقًا‪ ،‬فإن هناك إشاراٍت مهمة يمكنك إرسالها إلى العالم‬
‫العربي‪ .‬عليك أن تقنَعنا بأنك ملتزم بتحقيق شيٍء ما خالل األشهر المقبلة‪ ،‬وإال فإن دعَم الدول‬
‫العربية‪ ،‬بما فيها المملكة العربية السعودية‪ ،‬لمبادرة السالم العربية سوف يتالشى وينتهي»‪.‬‬
‫كان اجتماعنا أفضل بكثير مما توقعت‪ .‬بدا نتنياهو رجًال مختلفًا عن الرجل الذي عرفُته قبل عشر‬
‫سنوات‪ .‬لم يرفض كل ما قلته له رفضًا قاطعًا‪ ،‬وبدا راغبًا في إحراز شيء من التقدم‪ ،‬لكنني كنت‬
‫مدركًا أن ما ُيثبت نواياه هو األعمال وليس الكالم‪.‬‬
‫بعد أربعين دقيقة من الحديث المغلق بيني وبينه انتقلنا إلى لقاء موّسع مع أعضاء فريقينا‪ ،‬وما إن‬
‫بدأنا ندخل في بعض التفاصيل المتعلقة بالعملية السلمية حتى قال نتنياهو إنه يريد التركيز على‬
‫المسار االقتصادي‪.‬‬
‫في الرد عليه قلت إن اإلمكانات والفرص االقتصادية ال يمكن أن تكون بديًال من االستقالل‬
‫السياسي للشعب الفلسطيني‪ ،‬ثم قلت له مشددًا‪« :‬ماذا عن المسار السياسي؟ في ضوء ما يعرفه‬
‫العرب عن تاريخك‪ ،‬ال شك في أنهم يتوقعون منك التركيز على المسائل االقتصادية واألمنية على‬
‫حساب مفاوضات السالم»‪.‬‬
‫أوحى نتنياهو بأنه تقبل مالحظاتي وقال ربما من األفضل البدء بمناقشة المسار السياسي‪ ،‬لكنه مع‬
‫ذلك لم يعط أي إشارة عما يمكن أن يكون مستعّدًا للقيام به في هذا المجال‪.‬‬
‫«هذا هو الصواب والحكمُة بعينها»‪ ،‬قلُت له‪ ،‬آمًال أن تصَل الرسالُة واضحة‪.‬‬
‫غادر نتنياهو‪ ،‬وأخذُت أفكر في النقطة التي وصلنا إليها‪ .‬نتنياهو رجُل اليمين بامتياز‪ ،‬لكن مع ذلك‬
‫لم أفقد األمل في أن نتمكن من العمل معًا لعّلنا نأتي بالسالم إلى منطقتنا‪ .‬لدينا المبادرة العربية‬
‫للسالم‪ ،‬ولدينا رئيس أميركي ملتزم قضية السالم‪ .‬هل من المبالغة في التفاؤل أن يكون لدينا رئيس‬
‫حكومة إسرائيلي ذو نظرة براغماتية إلى األمور قد يريد أن يترك وراءه إرثًا من السالم؟‬
‫الفصل السابع والعشرون‪ :‬إسرائيل القلعة أم السالم مع سبع وخمسين دولة؟‬

‫طوال الربيع وأوائل الصيف من العام ‪ 2009‬كنت متفائًال بأننا على وشك أن نفتح ثغرًة في‬
‫الحائط المسدود ونستأنف منها المسار نحو السالم‪ .‬فقد كان هناك ما يدعو إلى االعتقاد أن‬
‫األميركيين سوف يطرحون خطتهم للسالم قريبًا‪ .‬في الرابع من حزيران‪/‬يونيو‪ ،‬بعد زيارة نتنياهو‬
‫إلى األردن بثالثة أسابيع‪ ،‬سافر الرئيس أوباما إلى القاهرة حيث ألقى خطابًا على درجة كبيرة من‬
‫األهمية وّج هه إلى العالمين العربّي واإلسالمي‪ .‬في كالمه عن الحاجة الماسة والملّح ة إلى إحالل‬
‫السالم بين إسرائيل والفلسطينيين‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ولكننا إذا نظرنا إلى هذا الصراع من هذا الجانب أو من الجانب اآلخر فإننا لن نتمكن من رؤية‬
‫الحقيقة ألن السبيل الوحيد للتوصل إلى تحقيق طموحات الطرفين يكون من خالل دولتين يستطيع‬
‫فيهما اإلسرائيليون والفلسطينيون أن يعيشوا في سالم وأمن‪ .‬إن هذا السبيل يخدم مصلحة إسرائيل‬
‫ومصلحة فلسطين ومصلحة أميركا ولذلك سوف أسعى شخصيًا للوصول إلى هذه النتيجة متحليًا‬
‫بالقدر الالزم من الصبر الذي تقتضيه هذه المهمة‪.‬‬
‫لكّن حزيران‪/‬يونيو أفَل وجاء بعده تموز‪/‬يوليو وهذا انتهى وأطّل بعده آب‪/‬أغسطس‪ ،‬ومع مرور‬
‫األيام بات التقدم الذي كنا أملنا تحقيقه قبل بضعة أشهر يبتعد كما السراب‪ .‬رفض اإلسرائيليون‬
‫االلتزام بوقٍف كامل لبناء المستوطنات‪ ،‬وهو الشرط األساسّي في نظر العالم العربي إليجاد البيئة‬
‫المناسبة إلطالق مفاوضات جدية‪ .‬هذا الموقف اإلسرائيلي جاء بمثابة التحدي للمطالب المباشرة‬
‫التي عّبر عنها الرئيس أوباما واالتحاد األوروبي وبقية بلدان المجتمع الدولي‪ .‬لكن هذا المطلب الذي‬
‫جاء بشبه إجماع دولي لم يكن كافيًا لتغيير موقف نتنياهو الذي اكتفى بأن يعلن في ‪ 25‬تشرين الثاني‪/‬‬
‫نوفمبر من العام ‪ ،2009‬بعد الكثير من الضغط األميركي والمواجهات العلنية‪ ،‬وقفًا جزئّيًا لبناء‬
‫مستوطنات جديدة في الضفة الغربية وعلى مدى عشرة أشهر فقط‪ ،‬يستثني القدس الشرقية وال‬
‫ينطبق على ‪ 2900‬بناء كانت قيد اإلنشاء‪.‬‬
‫بدا واضحًا أن جهود صنع السالم كانت أمام سٍّد مغلق واألمل بأي انفراج كان يتضاءل‪ .‬وقد سّدد‬
‫هذا المآل ضربة موجعة لصدقية الرئيس أوباما وقادة االعتدال في العالم العربي‪ .‬نحن لم نكن نعمل‬
‫في الفراغ‪ ،‬والمتشددون في المنطقة الذين ال يؤيدون مفاوضات السالم لم يضّيعوا أّي دقيقة في‬
‫مهاجمة العملية السلمية باعتبارها مقاربًة خاطئة ثبَت أنها غير فّعالة في إنهاء االحتالل‪.‬‬
‫ظهرت في مرحلٍة معينة من تلك الفترة إشارات إلى أن خطة سالٍم أميركية سوف ُتعلن في أيلول‪/‬‬
‫سبتمبر عندما يلتقي زعماء العالم‪ ،‬بمن فيهم رئيس الحكومة اإلسرائيلية نتنياهو والرئيس الفلسطيني‬
‫محمود عباس‪ ،‬في نيويورك لحضور اجتماع الجمعية العمومية لألمم المتحدة‪ .‬بطلب من أوباما‪ ،‬عقد‬
‫عباس ونتنياهو أول اجتماٍع لهما منذ انتخاب األخير قبلئٍذ بستة أشهر‪ .‬لكّن االجتماع انتهى دون أية‬
‫نتيجة‪ .‬فقد رفضت الحكومة اإلسرائيلية القيام بالخطوات الالزمة الستئناف مفاوضات السالم‪.‬‬
‫باإلضافة إلى وقف المستوطنات‪ ،‬طالَب الفلسطينيون الحكومة اإلسرائيلية بتأكيد اعترافها والتزامها‬
‫بكل االتفاقات السابقة‪ ،‬كذلك طالبوا بالتزاٍم إسرائيلي واضح بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على‬
‫األراضي التي احُتَّلت في العام ‪ ،1967‬مع تبادٍل متفٍق عليه لبعض األراضي‪ .‬أما نتنياهو فكان‬
‫حاسمًا بأنه لن يغير موقفه من المستوطنات‪ ،‬ولن يلتزم بأية اتفاقات سابقة وال بأٍّي من المرجعيات‬
‫المعتمدة للمفاوضات‪.‬‬

‫***‬
‫منذ أن احتلت إسرائيل الضفة الغربية والقدس الشرقية في العام ‪ 1967‬والحكومات اإلسرائيلية‬
‫المتعاقبة تسمح بإنشاء المستوطنات في األراضي الفلسطينية المحتلة‪ .‬هناك في الوقت الراهن حوالى‬
‫مئة وعشرين مستوطنة مرّخ صة من الحكومة ٍاإلسرائيلية‪ ،‬باإلضافة إلى حوالى مئة «بؤرة‬
‫استيطانية» أنشئت على أيدي المستوطنين اإلسرائيليين من دون ترخيص رسمي من الحكومة‪ ،‬هذا‬
‫فضًال عن أكثر من عشرين مستوطنة في مدينة القدس‪ .‬هذه المستوطنات تؤوي أكثر من نصف‬
‫مليون مستوطن‪ ،‬يعيش أكثر من مئتي ألف منهم في مدينة القدس‪ .‬كل هذه المستوطنات هي إنشاءاٌت‬
‫غير قانونية بموجب القانون الدولي‪ ،‬ذلك أنها أقيمت على أراٍض ما فتئت األمم المتحدة تدعو‬
‫إسرائيل لالنسحاب منها‪ .‬إن تجميد إنشاء المستوطنات كان جزءًا جوهرّيًا من مضمون خريطة‬
‫الطريق التي ُو ِض عت في العام ‪ ،2003‬ولطالما كان موقف الفلسطينيين مطالبًا بوقف بناء‬
‫المستوطنات وتمّددها شرطًا ضروريًّا مسبقًا لنجاح أية مفاوضات‪ .‬المشكلة هنا هي أن المستوطنات‬
‫تقّو ض فرص قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة‪ .‬وفيما توّد إسرائيل أن ُتظهر تجميد بناء‬
‫المستوطنات على أنه تنازل كبير من جانبها (وهو تنازل رفضت حتى اآلن تقديمه)‪ ،‬فإن حقيقة‬
‫األمر هي أن وقف بناء المستوطنات ما هو إال التزام بمندرجات القانون الدولي‪.‬‬
‫في األسابيع التي سبقت اجتماع الجمعية العمومية لألمم المتحدة في أيلول‪/‬سبتمبر من العام‬
‫‪ ،2009‬وعلى الرغم من الضغط األميركي الشديد‪ ،‬رفض نتنياهو الموافقة على التجميد الكامل لبناء‬
‫المستوطنات‪ ،‬ولم يكتِف بذلك بل إن مستوطناٍت جديدة ُم نحت الترخيص ببنائها‪ .‬المشكلة التي تثيرها‬
‫هذه المستوطنات بوجه الفلسطينيين والعرب الذين يقفون وراءهم واضحة وجلية‪ :‬كيف يستطيع‬
‫محمود عباس الجلوس إلى طاولة مفاوضات بحثًا عن اتفاق سالم وأمامه مفاوٌض يعمل يومّيًا على‬
‫خلق وقائع على األرض تغّير الديموغرافيا والجغرافيا لألرض التي من المفترض أن ُتنشأ عليها‬
‫الدولة الفلسطينية؟ إذا صدقت الحكومة اإلسرائيلية في التزامها بحٍّل قائم على مبدأ الدولتين‪ ،‬فلماذا‬
‫تستمر ببناء المستوطنات على األرض التي ستصبح تابعة للدولة الفلسطنية؟ هل تبني الحكومة‬
‫اإلسرائيلية منازل ومساكن مجانية للفلسطينيين؟ األمر ال يبدو كذلك‪ .‬من هنا فإن رفضها وقف‬
‫النشاط االستيطاني قد أثار شكوكًا مشروعة حول التزامها بإقامة الدولة الفلسطينية‪.‬‬
‫في ‪ 23‬أيلول‪/‬سبتمبر ألقى الرئيس أوباما خطابًا على جانٍب من األهمية‪ ،‬وفي هذا الخطاب الموَّج ه‬
‫إلى الجمعية العمومية لألمم المتحدة‪ ،‬أعلن الرئيس األميركي‪:‬‬
‫إننا نواصل دعوة الفلسطينيين إلى إنهاء التحريض ضد إسرائيل‪ ،‬كما نواصل التأكيد أن أميركا ال‬
‫تقبل مشروعية استمرار االستيطان اإلسرائيلي‪.‬‬
‫لقد آن األوان ‪ -‬لقد آن األوان إلعادة انطالق المفاوضات دون أي شروٍط مسبقة‬
‫تتعلق بقضايا الوضع النهائي‪ :‬األمن لكٍّل من اإلسرائيليين والفلسطينيين‪ ،‬والحدود‪ ،‬والالجئين‪،‬‬
‫والقدس‪ .‬أما الهدف فواضح‪ :‬دولتان تعيشان جنبًا إلى جنب بسالم وأمن ‪ -‬دولة يهودية إلسرائيل مع‬
‫توفر األمن الحقيقّي لإلسرائيليين‪ ،‬ودولة فلسطينية مستقلة‪ ،‬قابلة للحياة‪ ،‬ذات أراٍض متجاورة ُتنهي‬
‫االحتالل الذي بدأ في العام ‪ ،1967‬وتحقق للشعب الفلسطيني إمكاناته وطموَح ه‪.‬‬
‫في هذا الخطاب وفي خطابه اآلخر في حزيران‪/‬يونيو من العام ‪ 2009‬حدد أوباما السياسة‬
‫األميركية بتعابير واضحة وجلية‪ ،‬ونحن في األردن نصُف هذا الموقف السياسي األميركي بأنه‬
‫«شروط أوباما المرجعية» للمفاوضات حول السالم العادل والدائم الذي يخدم المصالح اإلسرائيلية‬
‫والفلسطينية واألميركية والعالمية‪.‬‬
‫فيما تحّو ل أمُل الربيع خيبًة خريفية‪ ،‬انشغلت اإلدارة األميركية بتراكم القضايا والمشكالت الملّح ة‪،‬‬
‫أفغانستان وباكستان من جهة‪ ،‬تطورات جديدة في مسألة البرنامج النووي اإليراني‪ ،‬إصالح نظام‬
‫الرعاية الصحية‪ ،‬وهذه المسألة األخيرة وضعها أوباما في رأس أولوياته الداخلية‪ .‬هذا فضًال عن‬
‫استمرار تداعيات األزمة المالية العالمية‪ .‬هذه القضايا بقيت تشكل نقاط االهتمام الرئيسية بالنسبة إلى‬
‫الواليات المتحدة األميركية طوال األشهر األولى من العام ‪ ،2010‬األمر الذي حاَل دون أن تتمكن‬
‫اإلدارة من إيالء العملية السلمية اهتمامها الكامل‪ .‬في هذه الفترة بالذات رحنا نواجه أزمة كبرى‪،‬‬
‫فعلى الرغم من الكالم المشجع الذي صدر عن الرئيس أوباما لم يكن لهذا الكالم دوٌر يذكر في تغيير‬
‫الحقائق على األرض‪ ،‬وهكذا حّلت الخيبة محَّل األمل‪.‬‬
‫فيما ندفع بهذا الكتاب إلى المطبعة نكون قد أصبحنا على مشارف الذكرى العشرين للعملية‬
‫السلمية التي انطلقت من مدريد في تشرين األول‪/‬أكتوبر من العام ‪ .1991‬لكن التناقض بين اليوم‬
‫وذلك األمس أكبر بكثير مما نتصور ونحن اآلن في موقع تفوق فيه الظلمة كل ما عرفناه منذ‬
‫عشرين سنة‪ .‬آنذاك التقى الفلسطينيون واإلسرائيليون وجهًا لوجه ليبدأوا التفاوض حول مستقبٍل‬
‫مشترك كان كل منهما ينظر إليه بأمٍل ورجاء‪ .‬لقد تراجعنا بكل المقاييس عندما أصبحنا ال نتكلم عن‬
‫المفاوضات المباشرة بل عن «محادثات تقريبية» يتحرك فيها الوسيط (الواليات المتحدة) بين‬
‫اإلسرائيليين والفلسطينيين‪.‬‬
‫المحادثات التقريبية انبثقت في مطلع العام ‪ 2010‬بعد جهود استمرت ما يقارب سنًة كاملة بذلها‬
‫المبعوث األميركي الخاص إلى الشرق األوسط جورج ميتشل في محاولة إلطالق المفاوضات‬
‫المباشرة‪ .‬لكن جهوده لم تحرز حتى اآلن التقدم المطلوَب ‪ ،‬ذلك أن نتنياهو بقي متمسكًا بموقفه غير‬
‫المساوم من بناء المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية‪ ،‬وهو ال يزال يرفض استئناف‬
‫المفاوضات على أساس االتفاقات التي عقدها الفلسطينيون مع حكوماٍت إسرائيلية سابقة بعد توقيع‬
‫اتفاقات أوسلو‪.‬‬
‫لقد دعمت الدول العربية جميعًا مشاركة القيادة الفلسطينية في المحادثات غير المباشرة باعتبارها‬
‫بديًال من وقف التواصل بصورٍة تامة‪ ،‬ألن هذه المحادثات تبقي األمل قائمًا بتحّو لها مفاوضاٍت‬
‫مباِش رة وجدية‪ .‬لكننا كنا مدركين أننا كمن يحاول القبض على الريح‪ ،‬فقد دعمنا المحادثات التقريبية‬
‫اعتقادًا منا بأن تالشي جهود السالم أو توقفها لن يفيد إال أصحاب المواقف المتصلبة الذين‬
‫سيستغلون فشل إحياء المفاوضات لدفع برنامجهم المتطرف إلى الواجهة‪ .‬أما نتنياهو فسيكون‬
‫المستفيد األكبر من قرار فلسطيني بعدم المشاركة في المحادثات التقريبية‪ .‬وما إن أخذ يتعرض‬
‫للمزيد من الضغط األميركي والدولي حيال استمراره في بناء المستوطنات وبالتالي عرقلة استئناف‬
‫المفاوضات‪ ،‬حتى اشتدت به الرغبة الستفزاز الفلسطينيين والدول العربية ودفعهم إلى االنسحاب من‬
‫متابعة جهود السالم بما يتيح له االّدعاء مرًة جديدة أنه يفتقد الشريك في مفاوضات السالم‪.‬‬
‫في نيسان‪/‬إبريل من العام ‪ 2010‬سافرت إلى الواليات المتحدة واجتمعت إلى الرئيس أوباما في‬
‫واشنطن‪ ،‬ومرًة جديدة كان الصراع الفلسطيني اإلسرائيلي محور محادثاتنا‪ .‬كان كالنا يشعر بالخيبة‬
‫والقلق بسبب عدم إحراز أي تقدم خالل السنة الفائتة‪ ،‬ولكننا لم نفقد األمل في أن تؤتي المحادثات‬
‫التقريبية ثماَر ها قريبًا وتمهد الطريق إلى المفاوضات المباِش رة‪ .‬بعد االجتماع كان واضحًا بالنسبة‬
‫إلّي أن الواليات المتحدة لم تكن مستعدًة بعد لطرح خطتها لدفع الفريقين نحو التسوية النهائية‪ .‬كانت‬
‫اإلدارة ترغب في أن يبدأ الطرفان المحادثات التقريبية أوًال بحيث تتمكن بنتيجتها من تقييم الوضع‬
‫قبل أن تدلي بما لديها من أفكار ومقترحات‪.‬‬
‫خرجت من االجتماع ولدّي اليقين من أن الرئيس مستمر في التزامه بذَل الجهد لحّل الصراع‬
‫الفلسطيني ‪ -‬اإلسرائيلي‪ .‬لكنني أيقنت أيضًا أننا لن نحرز تقدمًا حقيقّيًا قبل مضّي بعض الوقت‪ ،‬وذلك‬
‫بسبب تعنت نتنياهو وتصلبه‪ .‬من هنا كان شعوري بأن مهمتنا األساسية في هذه المرحلة هي الحؤول‬
‫دون انطفاء شعلة األمل ريثما تصبح الواليات المتحدة مستعدة لوضع ثقلها ونفوذها وراء الفريقين‬
‫دفعًا بهما إلى استئناف المفاوضات الجدية بنّية التقدم نحو تحقيق التسوية‪ .‬ال قدرة لمنطقة الشرق‬
‫األوسط على أن تفقد األمل مرًة أخرى بتحقيق السالم‪ ،‬فالنتيجة الحتمية لذلك هي الحرب‪.‬‬
‫في آذار‪/‬مارس الماضي‪ ،‬وفي اللحظة التي كان نائب الرئيس األميركي جو بايدن يزور فيها‬
‫إسرائيل أعلن اإلسرائيليون خططًا لبناء ألف وستمئة وحدة سكنية استيطانية في القدس الشرقية‬
‫المحتلة‪.‬‬
‫أحرجت هذه الخطوة نائب الرئيس األميركي وأغضبته‪ ،‬وشكلت تحديًا لسلطة الواليات المتحدة‪.‬‬
‫ألغى جورج ميتشل زيارته التالية للمنطقة‪ ،‬وأجرت هيالري كلنتون مكالمة هاتفية بنتنياهو لتسجيل‬
‫احتجاج أميركي رسمي على الخطوة اإلسرائيلية‪ .‬بنتيجة هذه التطورات تبادلت واشنطن وتل أبيب‬
‫بعض الكلمات القاسية‪ ،‬وقد جاء هذا التراشق الدبلوماسي الساخن في أعقاب خالف علني بين‬
‫اإلدارة األميركية وإسرائيل خالل الخريف السابق وكان أيضًا حول تجميد بناء المستوطنات وسط‬
‫تزايد االنتقادات الدولية إلسرائيل بسبب عرقلتها عملية السالم‪ .‬أما االتحاد األوروبي فكان ذا صوٍت‬
‫مرتفع في التنديد بسياسة إسرائيل االستيطانية ووطأتها السلبية على مساعي السالم‪ .‬في الثامن من‬
‫كانون األول‪/‬ديسمبر من العام ‪ ،2009‬خالل تولي السويد رئاسة االتحاد األوروبي‪ ،‬عّبر مجلس‬
‫الشؤون الخارجية فيها عن قلقه العميق حيال غياب أّي تقدم‪ ،‬ودعا إلى استئناٍف سريع للمفاوضات‬
‫التي تؤدي‪« ،‬في إطاٍر زمني متفٍق عليه‪ ،‬إلى حٍّل مبنّي على قيام دولتين‪ ،‬الدولة اإلسرائيلية‪ ،‬والدولة‬
‫الفلسطينية المستقلة الديموقراطية المترابطة جغرافيًا والقابلة للحياة‪ ،‬بحيث تعيش الدولتان جنبًا إلى‬
‫جنب بسالم وأمن»‪.‬‬
‫وأضاف المجلس قوَله‪« :‬إن المستوطنات والجدار العازل قد ُأنشئت على أراٍض محتلة‪ ،‬وإن هدم‬
‫المنازل وطرد سكانها‪ ،‬هي أعمال غير قانونية بموجب القانون الدولي‪ ،‬وتشكل عائقًا في سبيل‬
‫السالم وتهدد بجعل الحّل القائم على أساس الدولتين حًاّل مستحيل التحقيق»‪ .‬وتابع المجلس كالمه‬
‫فحّث الحكومة اإلسرائيلية على أن «توقف فورًا كل النشاطات االستيطانية في القدس الشرقية وسائر‬
‫أرجاء الضفة الغربية بما فيها النمو الطبيعي‪ ،‬وأن تفكك التجمعات االستيطانية النائية التي ُأنشئت‬
‫منذ آذار‪/‬مارس من العام ‪ ،»2001‬وهذا ما نّص ت عليه المرحلة األولى من خريطة الطريق التي‬
‫اعُتمدت في العام ‪.2003‬‬
‫كذلك أشار المجلس في بيانه إلى أنه لم يعترف يومًا بضم إسرائيل القدس الشرقية‪ ،‬مشددًا على أنه‬
‫«إذا كان للسالم الحقيقي أن يستتب‪ ،‬فال بد من إيجاد طريقة من خالل المفاوضات لحّل مسألة‬
‫الوضع النهائي للقدس على أساس كونها العاصمة المستقبلية لدولتين»‪ .‬وفي بياناٍت الحقة أدان‬
‫االتحاد األوروبي بقوة إعالن إسرائيل بناء مستوطناٍت جديدة‪.‬‬
‫في نيسان‪/‬إبريل من العام ‪ 2010‬أعربت وزيرة خارجية إسرائيل سابقًا‪ ،‬تسيبي ليفني‪ ،‬عن خيبتها‬
‫حيال ما يصيُب موقع إسرائيل في المجتمع الدولي من تراجع‪ ،‬وكتبت في هذا الصدد‪« :‬إن العالم‬
‫اليوم يجهل‪ ،‬في أحسن األحوال‪ ،‬ماهيَة السياسة اإلسرائيلية‪ ،‬أما في أسوأ األحوال فإن العالم ال يثق‬
‫بالنوايا اإلسرائيلية»‪.‬‬
‫قبيل زيارتي واشنطن حضرُت مؤتمرًا للقمة العربية في سرت في ليبيا‪ .‬وقد أعاد المؤتمر تأكيد‬
‫دعمه المبادرة العربية للسالم‪ .‬لكن مع مرور كل يوم دون أن يشهد شيئًا من التقدم‪ ،‬يتزايد الضغط‬
‫على الجميع للتخلي عن المفاوضات وسيلًة لحل المشكلة‪ .‬إن منسوب التوتر في المنطقة يرتفع‬
‫باستمرار وعلى أكثر من جبهة‪ .‬فقطاع غزة ال يزال أشبه ما يكون بالسجن الكبير الذي يعيش فيه‬
‫أكثر من مليون ونصف المليون من البشر في حالٍة من البؤس المتناهي‪ .‬أما القدس فهي قنبلة موقوتة‬
‫وال شك في أن إسرائيل تلعب بالنار وهي تحاول تغيير ُهّو يتها وتفريغها من سكانها المسيحيين‬
‫والمسلمين من خالل تدمير المنازل وإخالئها من السكان األصليين وبرفضها السماح بالبناء في‬
‫المدينة‪ .‬وإذا التفتنا إلى الجبهة اللبنانية ‪ -‬اإلسرائيلية يبدوا لنا أننا على وْش ِك أن نشهد مواجهًة جديدة‬
‫حيث ال تزال إسرائيل تحتل بعض األراضي في جنوب لبنان وال يزال حزُب هللا يبني ترسانَته من‬
‫السالح ويطّو ر قدراته العسكرية‪ .‬وفي خلفية كل هذه العوامل المتفجرة هناك األزمة مع إيران‬
‫وتداعياتها على أمن المنطقة‪.‬‬

‫***‬
‫انطلقت المحادثات التقريبية في أيار‪/‬مايو بعد عدة زيارات قام بها ميتشل للمنطقة‪ .‬وقد ذهب‬
‫عباس إلى تلك المحادثات مدعومًا من جامعة الدول العربية التي اجتمعت لجنتها الوزارية لمتابعة‬
‫المبادرة العربية للسالم في األول من أيار‪/‬مايو‪ ،‬وأعلنت أنها سوف تعود إلى االجتماع بعد أربعة‬
‫أشهر لتقييم النتائج‪ .‬كان األمل معقودًا على أن تؤدي هذه المحادثات إلى االتفاق على مرجعية‬
‫لمفاوضات الوضع النهائي‪.‬‬
‫لقد دعمنا هذه المحادثات بديًال من توقف العملية السلمية‪ ،‬وهذا ما كان سيشكل ضربًة خطيرة‬
‫لجهودنا في السعي نحو السالم التي مضت عليها عشرات السنين‪ .‬كان أملنا أن تقّر ب المحادثات ما‬
‫بين طرفي الصراع بحيث يتمكنان من استئناف المفاوضات المباشرة‪ .‬لكن حّل شهر تموز‪/‬يوليو‬
‫دون أن يتوصال إلى اتفاٍق على مرجعية المفاوضات المباشرة‪ .‬موقف األردن‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬كان أن‬
‫الفشل ليس خيارًا‪ ،‬وهكذا استمرت محاوالتنا مع كل األفرقاء المعنيين لضمان إحراز التقدم الالزم‬
‫إلعادة الفلسطينيين واإلسرائيليين إلى طاولة المفاوضات‪.‬‬
‫عمَل السناتور ميتشل مع الفلسطينيين واإلسرائيليين على الوصول إلى اتفاق على شروط استئناف‬
‫المفاوضات المباشرة‪ .‬لكن جهوده وصلت إلى طريق مسدود‪ .‬فالفلسطينيون أرادوا المحادثات‬
‫التقريبية أن تتطرق إلى مسائل الحدود‪ ،‬واألمن‪ ،‬والالجئين‪ ،‬والقدس وسواها من قضايا الوضع‬
‫النهائي‪ .‬قّدم عباس إلى ميتشل مواقف فلسطينية مكتملة وشاملة حول كل هذه القضايا‪ ،‬وقال له إنه‬
‫يريد الخوض أوًال في مسألتي الحدود واألمن ألن االتفاق على حدود الدولة الفلسطينية المستقبلية‬
‫سوف يسّه ل حل مشكلة المستوطنات‪ ،‬بينما االتفاق على الترتيبات األمنية يعالج موضع القلق‬
‫اإلسرائيلي األهم‪.‬‬
‫لكن نتنياهو لم يكن مستعّدًا للدخول في أية مباحثات جدية‪ .‬استمر يتحدث بالعموميات حول التزامه‬
‫السالم‪ ،‬لكنه لم يضع أية أفكار محددة على الطاولة‪ ،‬مصّر ًا على أن بحثًا من هذا النوع ال بد أن‬
‫يكون جزءًا من المفاوضات المباِش رة‪.‬‬
‫كانت الخيبة تتزايد لدى الفلسطينيين وسواهم في المنطقة يومًا بعد يوم أمام عبثية الوصول ولو‬
‫إلى بعض التقدم‪ .‬أما األمل بأن تنقذ الواليات المتحدة الموقف بأن تضع اقتراحاتها على الطاولة لدفع‬
‫العملية إلى األمام فقد تالشى وذلك حين أوضح ميتشل وسواه من المسؤولين األميركيين أن واشنطن‬
‫ال يمكن أن تخاطر بوضع اقتراحاتها على الطاولة إذا كانت هناك إمكانية بأن يرفَض ها أحُد الطرفين‬
‫منذ البداية‪.‬‬
‫ما إن الح الوقت المحدد للتسوية في أيلول‪/‬سبتمبر‪ ،‬وفي خطوٍة رأى فيها الكثيرون في المنطقة‬
‫نقلة أساسية في موقف الواليات المتحدة‪ ،‬كّفت واشنطن عن المطالبة بالتجميد الكامل لبناء‬
‫المستوطنات شرطًا الستئناف المفاوضات المباشرة‪ .‬بدأت إدارة أوباما بممارسة الضغط الستئناف‬
‫المحادثات المباشرة حتى ولو بغياب وقف بناء المستوطنات‪ ،‬كما بدأت الضغط على عباس للموافقة‬
‫على الشروط الجديدة‪ .‬هنا قال الفلسطينيون إنهم ال يستطيعون التفاوض المباشر مع اإلسرائيليين‬
‫دون وقف حركة االستيطان‪ ،‬أو على األقل اإلعالن عن مرجعيات واضحة للجولة المقبلة من‬
‫المباحثات‪.‬‬
‫نحن الذين دعمنا المحادثات غير المباشرة تعَّر ضنا جميعًا للنقد الالذع من أولئك الذين كانوا‬
‫يعتقدون بعبثية هذه المحاولة‪ .‬وقد اُّتهم عباس خاصًة بالخضوع للضغط األميركي وبالمساومة على‬
‫مصالح الشعب الفلسطيني‪ .‬شعر عباس بأن دخوله في مفاوضاٍت مباشرة سيمثل انتحارًا سياسّيًا إذا‬
‫لم يحدد هدف المفاوضات في إقامة الدولة الفلسطينية على أساس حدود العام ‪ 1967‬مع تبادالت‬
‫طفيفة في األراضي‪ .‬عادت الصورة قاتمة ال تحمل في طياتها أّي أمل لكن لم يكن بإمكاننا إال أن‬
‫نبقي بصيصًا منه لعّلنا نجد مخرجًا من هذا النفق المظلم‪ ،‬ذلك أن التخّلي عن عملية السالم دون أن‬
‫نستنفد كل اإلمكانات المتاحة كان أمرًا غير وارد‪ .‬إن موقفًا كهذا معناه أننا نترك المنطقة نهبًا لحالٍة‬
‫من اليأس تضعها مرًة أخرى في حلقٍة جهنمية من النزاعات والحروب‪.‬‬
‫في ‪ 23‬تموز‪/‬يوليو اتصل بي الرئيس أوباما هاتفّيًا‪ ،‬وفي تلك الفترة كان قد أصبح مصممًا على أن‬
‫المفاوضات المباشرة هي السبيل الوحيد لكسر الحلقة المفرغة التي كنا ندور فيها‪ .‬أعاد تأكيد التزامه‬
‫بحل الصراع اإلسرائيلي ‪ -‬الفلسطيني مشددًا على أنه سوف يذهب بالمسألة إلى نهايتها وصوًال إلى‬
‫الحل المنشود‪ .‬لكن ما لم يوافق الفلسطينيون على التحدث إلى اإلسرائيليين مباشرًة فإن إدارته سوف‬
‫تكّف عن أّي تدخل في هذه القضية‪ .‬أوباما كان واضحًا‪ :‬إما أن يضع الفلسطينيون يدهم بيده ويعملوا‬
‫معًا لحل هذه المسألة من خالل المفاوضات المباشرة معتمدين على التزامه الكامل‪ ،‬أو أن يسلكوا‬
‫الطريق الذي يختارونه ويتولوا إيجاد الحّل بأنفسهم‪ .‬هذه الرسالة نفُسها أبلغها الرئيس إلى قادٍة‬
‫آخرين في المنطقة‪.‬‬
‫كان ال بد من االختيار‪ .‬بعد ثالثة أيام‪ ،‬في ‪ 26‬تموز‪/‬يوليو استقبلت محمود عباس في عمان‪ ،‬وقد‬
‫اتفقنا على أن الظروف واألوضاع غير مناسبة لالنتقال إلى المفاوضات المباشرة‪ .‬موقف نتنياهو‬
‫الرافض لمرجعيات المفاوضات المعتمدة سابقًا ولوقف بناء المستوطنات لم يكن مشجعًا‪ ،‬وكذلك‬
‫األمر بالنسبة إلى عدم رغبة الواليات المتحدة في أن تطرح اقتراحاتها إلنقاذ الموقف خشية أن‬
‫تصطدم بحائط مسدود‪ .‬لكن أن يرفض الفلسطينيون طلب واشنطن فذلك قد يكّلف الشعب الفلسطيني‬
‫غاليًا‪ ،‬كما قد تكون تداعياُته سلبيًة على آمالهم حياَل إنشاء دولتهم المستقلة‪ .‬إن التخلي عن العملية‬
‫السلمية ليس قرارًا يؤخذ بخفٍة والمباالة‪ ،‬فالرابح الكبير من قرار كهذا ليس سوى نتنياهو الذي‬
‫سيسارع إلى صّب اللوم على الفلسطينيين متهمًا إياهم بإجهاض الجهود السلمية وممعنًا‪ ،‬من جهة‬
‫ثانية‪ ،‬بخلق وقائع جديدة على األرض تجعل إقامة الدولة الفلسطينية أمرًا مستحيًال‪ .‬وفي الوقت ذاته‬
‫فإن الفلسطينيين ال يمكنهم تبرير الخوض في مفاوضاٍت مباشرة تبدأ من المربع األول متجاهلًة ما تم‬
‫إحرازه من تقدم في جوالٍت سابقة من المحادثات على مدى العقدين الماضيين منذ مدريد‪ .‬من هنا‬
‫فقد اتفقنا على النظر ملّيًا في كل الخيارات المتاحة والتشاور مع قادة عرب آخرين حول الخطوات‬
‫التالية التي يمكن اتخاذها‪ .‬كذلك اتفقنا على ضرورة استمرار المباحثات الجارية مع اإلدارة‬
‫األميركية بحثًا عن مخرج مقبول‪.‬‬
‫في اليوم التالي استقبلت نتنياهو في عمان بعد مرور سنة كاملة على زيارته األخيرة‪ ،‬وقد رأيت‬
‫أن الوقت مناسب الجتماع آخر وجهًا لوجه خصوصًا أن الوضع الراهن يمّثل حالًة طارئة ال بد من‬
‫مناقشتها‪ .‬قبل االجتماع الموسع حول الغداء مع أعضاء فريقينا‪ ،‬قلت لرئيس الحكومة اإلسرائيلية في‬
‫لقاء ثنائي على حدة إن أمامنا فرصة ثمينة وفريدة إلعطاء شعبينا السالم الذي يحلمان به‪ .‬إذا أهدرنا‬
‫هذه الفرصة‪ ،‬فإن اإلسرائيليين والفلسطينيين ‪ -‬وشعوب المنطقة جميعًا ‪ -‬سوف يكونون محكومين‬
‫بالعيش وسط التداعيات والنتائج المرعبة للحروب المدمرة‪ .‬عاد نتنياهو إلى الحديث بكلمات عامة‬
‫ومطاطة عن التزام حكومته بالوصول إلى اتفاق سالم مع الفلسطينيين‪ .‬لكنه قال إن إسرائيل يجب‬
‫أن تضمن أمنها أوًال‪ .‬قلت له إن أفضل ضمان ألمن إسرائيل هو الوصول إلى اتفاق سالم مع‬
‫الفلسطينيين ضمن إطار شامل يضمن العالقات الطبيعية مع كل البلدان العربية واإلسالمية‪ .‬ثم‬
‫حثثت رئيس الوزراء على وقف بناء المستوطنات لكي يصبح ممكنًا إطالق المباحثات الجدية حول‬
‫الحدود والمسائل األساسية األخرى‪.‬‬
‫على الغداء بحثنا في ما تمتلكه المنطقة من إمكاناٍت وقدراٍت اقتصادية إذا ما تّم التوصل إلى اتفاق‬
‫سالم‪ ،‬وتحدث نتنياهو عن خططه إلنشاء سكك حديد تصل حتى الحدود مع األردن وسوريا‪ .‬أنا‬
‫أيضًا ذكرت أن األردن هو في صدد إنشاء خط للسكة الحديد يتصل بخٍّط سعودي جديد إلى الجنوب‬
‫الشرقي ومع سوريا شماًال‪ .‬إسرائيل سيصبح في إمكانها‪ ،‬متى حققنا السالم في المنطقة‪ ،‬أن تربط‬
‫بين خطنا وخطها وبذلك يصبح خطها موصوًال بالبلدان العربية في الخليج وبأوروبا من خالل‬
‫سوريا‪ .‬أما في الظروف الراهنة فإن شبكة الخطوط الحديدية اإلسرائيلية لن تتجاوز حدود إسرائيل‪.‬‬
‫تحدثنا عن مشاريع إقليمية أخرى على صعيد البنى التحتية التي يمكن أن تكون إسرائيل شريكة فيها‬
‫إذا نحن استطعنا تحقيق السالم الشامل‪ .‬كان هدفي من التشديد على استعداد البلدان العربية‬
‫واإلسالمية لبناء عالقات طبيعية مع إسرائيل‪ ،‬ومن التركيز على اإلمكانات الكبرى التي سيتيحها‬
‫التعاون اإلقليمي‪ ،‬أن أشجع رئيس الحكومة اإلسرائيلية على اتخاذ الخطوات الضرورية لدفع عملية‬
‫السالم إلى األمام‪ .‬انتهى اجتماعنا في أجواء إيجابية فيما تناول نقاشنا احتماالت النمو في مجال‬
‫التعاون االقتصادي الثنائي بين القطاعين العام والخاص في كل من البلدين‪ .‬لكن الخروج من العقدة‬
‫التي كنا عالقين فيها كان يتطلب أكثر من مجرد الحديث عن رؤى تتعلق بالتعاون االقتصادي‬
‫المستقبلي‪ ،‬وال ننَس أن الكالم المعسول لم ُيترجم في السابق إلى أعمال ملموسة‪ .‬لكن نحن اآلن أمام‬
‫أخطار تفترض بنا أال نترك مسارًا يمكن أن يؤدي بنا إلى التقدم نحو السالم إال سلكناه‪.‬‬
‫في هذه األثناء كان عباس يتعرض لمزيد من الضغط‪ .‬قبل اجتماٍع عقدته لجنة المتابعة للمبادرة‬
‫العربية للسالم في القاهرة في ‪ 29‬تموز‪/‬يوليو‪ ،‬تحدث عباس عن الخيارات الصعبة التي يواجهها‪،‬‬
‫والضغوط التي تمارسها عليه الواليات المتحدة واالتحاد األوروبي الستئناف المفاوضات‪« :‬أتعرض‬
‫لضغوط لم أتعرض لها طوال حياتي السياسية لخوض المفاوضات المباشرة مع إسرائيل»‪ .‬كان‬
‫ظرفًا حرجًا للغاية وهذا ما أدركه تمامًا وزراء الخارجية العرب خالل اجتماعهم في القاهرة‪ .‬فبعد‬
‫مناقشات طويلة وعمٍل مضٍن قام به األردن ومصر والمملكة العربية السعودية والفلسطينيون‪،‬‬
‫وبلدان عربية معتدلة أخرى‪ ،‬توافق وزراء الخارجية على مبدأ استئناف المفاوضات المباشرة‪ ،‬لكنهم‬
‫تركوا لعباس أن يقرر تحديد الوقت الذي يراه مناسبًا لذلك‪ .‬صاغ الوزراء رسالًة قرروا توجيهها إلى‬
‫أوباما يدرجون فيها الشروط التي رأوا ضرورة توافرها قبل استئناف المحادثات‪ ،‬ومن بينها تحديد‬
‫مرجعيات واضحة للمفاوضات‪ ،‬باإلضافة إلى وقف بناء المستوطنات‪ .‬بهذا الموقف مَّكنت الجامعة‬
‫العربية عباس من تقييم الوضع واتخاذ قراره في ضوء هذا التقييم حول استئناف التفاوض مع‬
‫اإلسرائيليين أو االمتناع عن ذلك‪.‬‬
‫في ‪ 12‬آب‪/‬أغسطس التقيت الرئيس مبارك في القاهرة وبحثنا الوضع المتحرك بسرعة‪ .‬كان‬
‫ميتشل ومسؤولون أميركيون آخرون قد طرحوا للبحث فكرة استضافة مصر أو األردن إعادة‬
‫إطالق المفاوضات المباشرة ودعوة وزيرة الخارجية هيالري كلنتون لحضور المناسبة‪ .‬شعرنا‪،‬‬
‫كالنا‪ ،‬بأن هذا غير مجٍد‪ .‬واتفقنا على أن المفاوضات إذا كانت سُتستأنف فإن العملية يجب أن تكون‬
‫في عهدة الواليات المتحدة كلّيًا‪ ،‬وأن المفاوضات لن تحظى بأي فرصة للنجاح إذا لم يبِد الرئيس‬
‫أوباما دعمه الكامل لها‪ .‬هذا يعني أن على الرئيس األميركي إما أن يستضيف هو عملية استئناف‬
‫المفاوضات في واشنطن‪ ،‬وإما أن يحضَر المناسبة سواء أكانت مصر ستستضيفها أم األردن‪ .‬كذلك‬
‫اتفقُت مع الرئيس مبارك على ضرورة إيجاد صيغة تعطي الفلسطينيين بعض الضمانات حول‬
‫مرجعيات التفاوض‪ .‬بعد اجتماعي مع مبارك التقيت أيضًا مع عباس الذي كان في مصر للقاء‬
‫الرئيس المصري‪.‬‬
‫نحن الثالثة‪ ،‬مبارك وعباس وأنا‪ ،‬كنا نرى أن استمرار انخراط الواليات المتحدة في العملية أمر‬
‫في غاية األهمية‪ ،‬ولم نشأ أن يقع اللوم على الفلسطينيين في حال انهيار جهود السالم‪ .‬كان ال بد من‬
‫بعض األفكار الخالقة التي تحول دون أن تغرق المفاوضات في دائرة من المناقشات العبثية التي‬
‫ُتدخل الطرفين في عمليٍة أخرى ال نهاية لها وبذلك تعِّر ض المصالح الفلسطينية للخطر‪.‬‬
‫في األيام التي تلت‪ ،‬وبعد مباحثات مكثفة شملت عددًا من البلدان العربية والفلسطينيين‬
‫واألوروبيين واألميركيين‪ ،‬تم االتفاق على أن ُتستأنف المفاوضات في واشنطن في الثاني من أيلول‪/‬‬
‫سبتمبر وذلك بعد احتفاٍل بإعادة إطالقها يستضيفه أوباما قبل بدئها بيوم واحد‪ ،‬وقد تقرر أن يحضر‬
‫االحتفال مبارك وعباس ونتنياهو وطوني بلير ممثًال اللجنة الرباعية وأنا‪ .‬كذلك تقرر أن تصدر‬
‫اللجنة الرباعية‪ ،‬قبل استئناف التفاوض‪ ،‬بيانًا تمهيدّيًا تعلن فيه أن الهدف من استئناف هذه‬
‫المفاوضات هو تحقيق التسوية النهائية المبنية على حل الدولتين‪.‬‬
‫في العشرين من آب‪/‬أغسطس أصدرت الرباعية بيانًا أعادت فيه تأكيد أعضائها دعَم هم‬
‫«المفاوضات المباشرة بين اإلسرائيليين والفلسطينيين لحل جميع قضايا الوضع النهائي»‪ .‬كذلك‬
‫ذَّكرت الرباعية بالمواقف التي كانت قد عّبرت عنها في بياناتها السابقة‪ ،‬وخاصة تلك التي أعِلنت في‬
‫موسكو في التاسع عشر من آذار‪/‬مارس من العام ‪ .2010‬شّددت تلك البيانات على أن المفاوضات‬
‫يجب أن تؤدي إلى «تسوية تأتي نتيجة التفاوض بين الطرفين‪ ،‬وتنهي االحتالل الذي بدأ في العام‬
‫‪ 1967‬وتكون نتيجُتها قيام دولة فلسطينية مستقلة ديمقراطية قابلة للحياة‪ ،‬تعيش بأمن وسالم جنبًا إلى‬
‫جنب مع إسرائيل وجيرانها اآلخرين»‪.‬‬
‫دعت الرباعية الفلسطينيين واإلسرائيليين إلى اللقاء وَبدء مفاوضات مباِش رة في الثاني من أيلول‪/‬‬
‫سبتمبر في واشنطن‪ ،‬وقد عّبرت عن «تصميمها على دعم الطرفين طوال فترة المفاوضات‪ ،‬التي‬
‫يمكن أن تستكمل خالل سنة»‪ ،‬وحثت الطرفين على االبتعاد عن أي أعمال استفزازية أو بياناٍت أو‬
‫تصريحاٍت نارية‪ .‬الفلسطينيون من جهتهم اعتبروا بيان الرباعية مرجعية المفاوضات‪.‬‬
‫أصدرت وزيرة الخارجية هيالري كلنتون الدعوات إلى المفاوضات في اليوم ذاته‪ .‬وفي رسالتيها‬
‫إلى كٍّل من اإلسرائيليين والفلسطينيين شددت كلنتون على التزام اإلدارة األميركية مبدأ السالم‬
‫الشامل في الشرق األوسط‪ ،‬وقالت في هذا الصدد‪« :‬وفيما نحن نسير ُقُدمًا من المهم أن تأتي أعمال‬
‫كل الفرقاء المعنيين مساِع دًة على دفع جهودنا إلى األمام‪ ،‬ال عرقلتها أو إعاقتها‪ .‬صحيح أننا واجهنا‬
‫صعوباٍت في الماضي‪ ،‬وال تزال أمامنا صعوباٌت أيضًا‪ ،‬وال شك في أننا سنصطدم بالمزيد من‬
‫العقبات‪ ،‬ولم يكَّف أعداء السالم عن محاوالتهم إْلحاق الهزيمة بنا وإفشال هذه المفاوضات‪ ،‬لكنني‬
‫أتمنى على كل األطراف المعنية أن يصمدوا ويثبتوا على مواقفهم وأن يستمروا في التقدم على‬
‫الرغم من المصاعب التي قد تواجههم ويعملوا على تحقيق السالم العادل والدائم في المنطقة»‪.‬‬
‫اتصلت بي كلنتون بعد ظهر ذلك اليوم لتضعني في صورة االستعدادات القائمة ولتوجيه الدعوة‬
‫إلّي ‪ .‬أمضيت األيام التالية أبحث مع بعض القادة العرب الخطوات التي يمكننا اتخاذها ضمانًا‬
‫إلحراز التقدم المرجو من هذه المفاوضات‪ .‬التقيت خادم الحرمين الشريفين الملك عبد هللا بن عبد‬
‫العزيز والملك حمد آل خليفة‪ ،‬والشيخ صباح األحمد الصباح‪ .‬كذلك تشاورت هاتفّيًا مع جاللة الملك‬
‫محمد السادس‪ ،‬والرئيس السوري بشار األسد‪ .‬ال أحد منا كان مأخوذًا بالوهم حول مدى الصعوبة‬
‫المحيطة بالوضع‪ .‬لكن معظمنا كان يرى أن المحادثات تمثل فرصًة ال بد من دعمها ومحاولة اإلفادة‬
‫منها‪ ،‬على الرغم مما يبدو من تنازالت يقدمها الفلسطينيون باستئنافهم المفاوضات دون تجميد لبناء‬
‫المستوطنات‪ ،‬ودون مرجعيات ترتكز عليها المفاوضات أو حتى جدول أعمال تلتزم به‪.‬‬
‫غادرت إلى واشنطن في ‪ 29‬آب‪/‬أغسطس‪ ،‬ولكن قبل مغادرتي شعرت بضرورة توجيه كلمة إلى‬
‫الرأي العام اإلسرائيلي مباشرًة محاوًال أن أشرح مدى األهمية بالنسبة إلى اإلسرائيليين في أن‬
‫يدعموا القرارات الجريئة والشجاعة‪ .‬وفي مقابلة مع التلفزيون اإلسرائيلي ُبَّثت في ‪ 28‬آب‪/‬أغسطس‬
‫قلت إننا بحاجة اليوم‪ ،‬أكثر من أّي يوٍم مضى‪ ،‬إلى سياسيين من ذوي التصميم الصلب والمواقف‬
‫الشجاعة‪ ،‬مستعدين التخاذ القرارات الصعبة التي ال بد منها لتحقيق السالم‪ .‬وبما أن السياسيين‬
‫يأخذهم التوتر الممزوج بالخوف عندما يواجهون المسائل الكبرى أو الخالفية‪ ،‬فهم بحاجة إلى أن‬
‫يطمئنوا إلى دعم الرأي العام لهم كي يستجمعوا شجاعتهم ويخطوا إلى األمام‪.‬‬
‫من سوء الحظ أن الناس على ضفتي الصراع كانوا قد فقدوا كل أمل في العملية السلمية‪ ،‬وقد أدى‬
‫الفشل الذي انتهت إليه كل الجوالت السابقة من المفاوضات إلى التآكل شبه التام ألي دعم شعبّي‬
‫للمفاوضات‪ .‬منذ توقيع اتفاقات أوسلو انجرفت إسرائيل شيئًا فشيئًا نحو اليمين‪ ،‬تاركًة حزب العمل‬
‫لمصلحة األحزاب القومية والدينية‪ .‬كثيرون ممن دعموا العملية السلمية بعد اغتيال رابين فقدوا‬
‫األمل أو غادروا البالد‪ .‬أما العالم العربي فقد خّضته من جذوره عقود طويلة من الوعود والتراجع‬
‫عنها‪ .‬لقد كان للجدار العازل‪ ،‬واالعتقاالت العشوائية والظالمة‪ ،‬والحرب التي ُشّنت على غزة‪،‬‬
‫والغزو الذي تعّر ض له لبنان‪ ،‬وطأتها الثقيلة على األوضاع‪ ،‬كما زادت الظروف التي برزت جراء‬
‫الحرب على العراق الطين ِبَّلًة ورفعت من وتيرة الشكوك والبغضاء بين أطراف النزاع‪ .‬كان الشك‬
‫وعدم الثقة في هذه المرحلة أقوى منهما في أّي مرحلة أخرى بسبب ما عرف عن نتنياهو من تعّنٍت‬
‫وتصّلب في مواقفه‪ ،‬وكذلك بسبب ما اعُتبر تنازالٍت أساسيًة قدمها الفلسطينيون حين قبلوا باستئناف‬
‫المفاوضات قبل أن يصار إلى تجميد بناء المستوطنات‪.‬‬
‫كنُت مدركًا أن دعم المفاوضات المباِش رة في ظل هذه المعارضة من الرأي العام ستؤدي بنا‪ ،‬أنا‬
‫ومبارك وعباس‪ ،‬إلى الخسارة من رصيدنا السياسي‪ ،‬خصوصًا أن الرأي العام في بلداننا لم يكن‬
‫متوقعًا نتائج ذات قيمة من المفاوضات‪ .‬لكننا شعرنا بأن التخلي عن هذه الفرصة سيكون ثمنه باهظًا‬
‫جّدًا‪ .‬فنحن لن نتحمل فترًة جديدة من تخّلي الواليات المتحدة عن دورها في عملية السالم‪ .‬ها نحن‬
‫أوالء لدينا رئيس أميركي يضع كل نفوذه الشخصي وراء العملية‪ ،‬فكيف لنا أن نهمل فرصة كهذه؟‬
‫إن عدم استغالل هذه السانحة لن يفيد إال الذين يريدون إفساد مسيرة السالم‪ .‬عندما قابلت أوباما في‬
‫واشنطن في نيسان‪/‬إبريل من العام ‪ 2009‬كنت قد أكدت له أن العرب لن يتركوه هذه المرة يحمل‬
‫العبء وحده وهم يتفرجون‪ .‬إننا على منعطٍف مصيرّي ‪ ،‬وال بد لنا من التأكد من أننا على المسار‬
‫الصحيح‪.‬‬
‫كانت األنظار كلها شاخصة إلينا عندما دخلنا‪ ،‬أوباما ومبارك وعباس ونتنياهو وأنا‪ ،‬إلى قاعة في‬
‫البيت األبيض تعّج بالمصورين مساَء األول من أيلول‪/‬سبتمبر‪ .‬حضرنا جميعًا إلى هناك لكي نبعث‬
‫برسالة أمل ونثبت أن هناك عمًال جدّيًا قائمًا إلنهاء صراع مضى عليه عقود وبقي عصّيًا على الحل‬
‫على الرغم من محاوالت صادقة بذلها رجال من ذوي اإلرادة الحسنة‪ .‬هذه الرسالة ليست باألمر‬
‫السهل في ظل ما كان سائدًا من خيبة أمل عارمة وانعدام لكل صدقية في أذهان الناس المعنيين في‬
‫المنطقة‪ .‬هؤالء الناس فقدوا الثقة بالكالم وباتوا يطلبون أعماًال ملموسة وإنجازات حقيقية‪ ،‬وهذا ما‬
‫عقدنا عليه األمل في الجوالت المكثفة من المحادثات اآلتية‪ .‬تحدث الرئيس أوباما عن التزامه الذي‬
‫لن يهون بالوصول إلى الحل النهائي‪ ،‬فيما كان مبارك واضحًا في التشديد على دعم العرب للحل‪،‬‬
‫أما أنا فبعد أن أشرت إلى ما قد يعترضنا من العقبات والمصاعب حّذرت من العواقب الوخيمة‪ ،‬ال‬
‫بل الكارثية‪ ،‬التي ستترتب على الفشل‪ .‬عندما حان دور نتنياهو ذهب إلى أقصى ما يمكن في إبراز‬
‫صورته كرجل سالم‪ ،‬وتوّج ه إلى عباس مباشرًة قائًال إنه جاء إلى واشنطن لكي يعمل على تحقيق‬
‫سالٍم تاريخّي ‪ .‬أما عباس فقد أبدى رفعًة الفتة عندما قال إنه يطلب الكرامَة والحرية والعدالة واألمن‬
‫لشعبه ولإلسرائيليين على حٍد سواء‪.‬‬
‫أعقَب هذه الكلمات المتلفزة مأدبة إفطار بضيافة الرئيس أوباما‪ ،‬حيث جلَس عباس ونتنياهو جنبًا‬
‫إلى جنب‪ .‬شدد أوباما على الحاجة إلى أن يساعد القائدان أحُدهما اآلخر‪ ،‬وقال إننا جميعًا سنكون إلى‬
‫جانبهما فيما هما يعبران المضائق والمسالك الصعبة نحو السالم‪ .‬كان الحديث بين عباس ونتنياهو‬
‫جاّدًا ومكثفًا طوال فترة العشاء‪ .‬هل سيتمكن هذان الرجالن من تحقيق اتفاق سالم يحرر منطقتنا‬
‫أخيرًا من شبح الحرب الذي يهددها؟ إّن علينا أن ننتظر ونرى‪ ،‬فاالمتحان التالي ال يبعد أكثر من‬
‫ثالثة وعشرين يومًا‪ ،‬ففي السادس والعشرين من أيلول‪/‬سبتمبر سوف تنتهي المدة التي كان نتنياهو‬
‫قد حّددها في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر السابق كفترة مؤقتة لتجميد بناء المستوطنات‪ .‬إن مستقبل‬
‫المفاوضات سيكون وقفًا على قراره بأن يمدد تلك الفترة أو بأن ُيستأنف بناء المستوطنات بنهايتها‪.‬‬
‫صباح اليوم التالي اجتمع نتنياهو وعباس في وزارة الخارجية في جولٍة أولى من المفاوضات‪،‬‬
‫وبعد اجتماع طويل ضم أعضاء الوفود الفلسطيني واإلسرائيلي واألميركي‪ ،‬عقد نتنياهو وعباس‬
‫وكلنتون وميتشل اجتماعًا مصغرًا تاله اجتماٌع ثنائي بين عباس ونتنياهو‪ .‬اتفق جميع الفرقاء على‬
‫االمتناع عن اإلدالء بأي بيانات أو تصريحات علنية تجنبًا ألّي كالم يمكن أن ُيعّد استفزازّيًا ويشكل‬
‫بالتالي خطرًا على مجرى المفاوضات‪ .‬وحَده السناتور ميتشل كان مخوًال التحدث إلى الصحافة‪.‬‬
‫وصف ميتشل المفاوضات بأنها «طويلة وبّناءة»‪ ،‬وأعاد تأكيد اعتقاده بأن المفاوضات يمكن أن‬
‫تنتهي خالل سنة‪ ،‬وقال إن عباس ونتنياهو ملتزمان بأن يقاربا التفاوض بإيجابية وحسن نية‪ ،‬وجدد‬
‫التأكيد بأنهما ملتزمان بأن «الهدف هو الوصول إلى حل على أساس دولتين لشعبين‪ ،‬كما يلتزمان‬
‫بحٍّل للصراع ينهي كل المسائل المعلقة ويستجيب لكل المطالب‪ ،‬ويقيم دولة فلسطينية قابلة للحياة إلى‬
‫جانب دولة إسرائيلية تنعم باألمن»‪.‬‬
‫وافق الطرفان على بدء العمل إلعداد اتفاق إطاري حول الوضع النهائي‪ .‬اتفق عباس ونتنياهو‬
‫على االجتماع مرة كل أسبوعين‪ ،‬وقد حددا اجتماعهما المقبل في ‪ 14‬و‪ 15‬أيلول‪/‬سبتمبر‪ .‬تمت‬
‫الجولة التالية من المفاوضات في شرم الشيخ في ‪ 14‬أيلول‪/‬سبتمبر بحضور كلنتون‪ ،‬واستكمل‬
‫االجتماع في اليوم التالي في القدس في ظل اقتراب موعد الفترة المحددة لتجميد بناء المستوطنات‪.‬‬
‫هنا أيضًا كان ميتشل الوحيد المخول التحدث إلى اإلعالم‪ ،‬وهذه المرة قال إن عباس ونتنياهو أكدا‬
‫التزامهما ما اُّتفق عليه في واشنطن وباشرا معالجة المسائل الصعبة‪ .‬أضاف أن الواليات المتحدة‬
‫ستبقى ملتزمة بأن تكون شريكًا جدّيًا‪ .‬ومع أن ميتشل حاول أن يعطي االنطباع بأنه متفائل‪ ،‬فإن‬
‫الجميع في المنطقة كانوا على قْدٍر كبير من القلق شعورًا منهم بأن المفاوضات كانت على شفير‬
‫االنهيار‪ ،‬ذلك أن كل الدالئل اآلتية من إسرائيل كانت تشير إلى أن بناء المستوطنات كان سُيستأنف‬
‫في ‪ 26‬أيلول‪/‬سبتمبر‪.‬‬
‫ما إن بدأ رئيس الوزراء اإلسرائيلي والرئيس الفلسطيني يتطرقان إلى التفاصيل حتى بدأت‬
‫الصعوبات تبدو أكثر وضوحًا‪ .‬قال عباس لنتنياهو إنه يريد بحث قضايا الوضع النهائي وقدم له‬
‫أوراقًا تحتوي المواقف الفلسطينية حول تلك القضايا‪ .‬مرًة أخرى اقترح عباس أن يبدأ البحث‬
‫بمسألتي الحدود واألمن‪ .‬لكن المباحثات انتهت إلى نتيجة سلبية ألن نتنياهو أصّر على أن تتضمن‬
‫أي اتفاقات حول األمن بقاء الوجود اإلسرائيلي على الحدود الفلسطينية المستقبلية الشرقية والغربية‬
‫لحماية إسرائيل من تهديدات محتملة‪ .‬أما عباس فقال إنه يوافق على أي آلية أمنية بما في ذلك‬
‫حضور قوات دولية‪ ،‬لكن ال يمكن أن يوافق على بقاء جندي إسرائيلي واحد على األرض‬
‫الفلسطينية‪.‬‬
‫في األيام التالية تزايد الوضع تدهورًا وسط تصريحاٍت نارية وعلنية أدلى بها سياسيون‬
‫إسرائيليون قائلين إن بناء المستوطنات سُيستأنف فورًا بعد نهاية الفترة المحددة‪ .‬أعلن الفلسطينيون‬
‫بوضوح وتصميم أنهم سيوقفون التفاوض إذا لم يمدد اإلسرائيليون تجميد بناء المستوطنات‪ .‬هنا بدا‬
‫أن األزمة واقعة ال محالة‪.‬‬
‫انتاب القلق الرئيس أوباما‪ ،‬كما انتابنا جميعًا‪ ،‬خشية أن تذهب كل الجهود المضنية التي ُبذلت‬
‫لإلتيان بطرفي الصراع إلى طاولة المفاوضات هباًء منثورًا ما لم نجد حًاّل لمسألة تجميد بناء‬
‫المستوطنات‪ .‬استغّل الرئيس فرصة انعقاد الجمعية العمومية لألمم المتحدة في نيويورك ليبعث‬
‫برسالة قوية النبرة حول الحاجة الملحة للسير ُقدمًا بالمفاوضات‪« :‬نحن نعتقد أن تجميد بناء‬
‫المستوطنات يجب أن يمّدد»‪ ،‬قال الرئيس‪ ،‬وأضاف‪« :‬كما نعتقد أن المباحثات بين الطرفين يجب أن‬
‫تستمر حتى استكمالها»‪ .‬ثم تابع مخاطبًا كل رؤساء الدول والدبلوماسيين المشاركين‪« :‬في هذا‬
‫الوقت بالذات علينا أن نبحث عن أنبل ما فينا من الصفات‪ ،‬فإذا فعلنا ذلك بصدق‪ ،‬عدنا في السنة‬
‫المقبلة وفي حوزتنا اتفاق يتيح لنا أن نستقبل عضوًا جديدًا في األمم المتحدة ‪ -‬دولة فلسطينية مستقلة‪،‬‬
‫ذات سيادة‪ ،‬تعيش بسالم جنبًا إلى جنب مع إسرائيل»‪.‬‬
‫لكن لسوء الحظ فإن الحكومة اإلسرائيلية لم تأبه لنداء الرئيس األميركي وال لدعوات المجتمع‬
‫الدولي وال لدعواتنا جميعًا في المنطقة‪ .‬ما إن انتهت المهلة المحددة حتى ُأعلن عن أن ‪ 840‬وحدة‬
‫سكنية جديدة سوف ُتبنى في الضفة الغربية والقدس الشرقية‪ .‬سارع الفلسطينيون إلى تعليق‬
‫المفاوضات‪ ،‬لكنهم تريثوا في اتخاذ قرار رسمي بالتخلي عنها مفسحين في المجال أمام الجهود‬
‫المبذولة لكسر الحلقة المفرغة‪.‬‬
‫التقيت محمود عباس في الثالث من تشرين األول‪/‬أكتوبر‪ُ ،‬قبيل مؤتمر القمة العربية في ليبيا الذي‬
‫كان مقررًا عقُده في التاسع من الشهر ذاته‪ .‬كان شديد الخيبة حيال فشل إسرائيل في تمديد فترة‬
‫التجميد ولو شهرين أو ثالثة أشهر‪ ،‬كان يأمل خاللها أن يتمكن من معالجة مسألة الحدود‪ .‬عرضنا‬
‫معًا بعض األفكار الخالقة التي يمكن أن تتيح للدبلوماسية مجاًال آخر‪ ،‬ذلك أن التحدي األكبر عند‬
‫هذا المنعطف هو إبقاء األمل حّيًا‪ .‬لكن الكرة كانت في الملعب اإلسرائيلي‪ .‬قبل لقائي عباس في ذلك‬
‫اليوم استقبلت السناتور ميتشل الذي كان قد أنهى لتّو ه جوالٍت من المباحثات مع القادة في إسرائيل‬
‫وكان مقررًا أن يلتقي عباس في عمان بعد لقائي أنا به‪ .‬كنا جميعًا ملتزمين البحث عن مخرٍج من‬
‫الطريق المسدود والعثور على هذا المخرج‪ .‬قلت له إن من المستحيل على عباس أن يستمر في‬
‫المفاوضات إذا استمرت مشكلة المستوطنات دون حل‪ ،‬فقال ميتشل إنه سيستمر ببذل جهوده‪.‬‬
‫في الثامن من تشرين األول‪/‬أكتوبر أحاط عباس لجنة المتابعة العربية علمًا بأنه سينسحب من‬
‫المفاوضات إذا لم تجدد إسرائيل تجميد بناء المستوطنات‪ .‬قال عباس إذا لم يتم التجميد فإن‬
‫الفلسطينيين سوف يطرحون للبحث خياراٍت أخرى ابتداًء من المطالبة بأن تعترف الواليات المتحدة‬
‫من جانب واحد بالدولة الفلسطينية‪ .‬أما إذا رفضت الواليات المتحدة هذا الطلب فإن الفلسطينيين‬
‫سيطلبون من الدول األعضاء في جامعة الدول العربية أن يقدموا طلبًا جماعّيًا إلى مجلس األمن‬
‫الدولي التخاذ قرار باالعتراف بالدولة الفلسطينية‪ ،‬كما سيطلبون من الجمعية العمومية لألمم المتحدة‬
‫اتخاذ قرار بوضع األراضي الفلسطينية المحتلة تحت الوصاية الدولية لألمم المتحدة إذا استخدمت‬
‫الواليات المتحدة حق الفيتو ضد القرار المطلوب من مجلس األمن الدولي‪« .‬لقد استنفدنا كل‬
‫الخيارات»‪ ،‬قال عباس‪ .‬دعمت الجامعة العربية عباس في قراره‪ ،‬لكنها اتخذت قرارًا بإعطاء‬
‫الواليات المتحدة فرصة شهر واحد لتحاول إنقاذ المفاوضات قبل أن تباشر بتنفيذ الخيارات التي‬
‫طرحها عباس‪.‬‬
‫فيما يذهب هذا الكتاب إلى المطبعة تبدو المفاوضات المباشرة على شفير االنهيار‪ .‬فترة الشهر‬
‫التي أعطتها جامعة الدول العربية للواليات المتحدة لتحاول إعادة المفاوضات إلى مسارها لم يبَق‬
‫منها سوى أسبوعين‪ ،‬وال يزال نتنياهو عند موقفه ال ُيظهر أَّي استعداد للمساومة‪ .‬أما تبريره لهذا‬
‫الموقف فهو أن شركاَء ه في االئتالف الحكومي لن يدعموا قرارًا بتمديد التجميد وبالتالي فإن‬
‫إصراره على اتخاذ قرار كهذا سيسّبب انهيار الحكومة‪ .‬ولكي يقنع شركاءه في االئتالف بتمديد‬
‫التجميد يحتاج إلى أن يقدم لهم األميركيون حوافز كافية لذلك‪ ،‬تشمل رزمة جديدة من المساعدات‬
‫المالية والعسكرية‪ .‬في جوالٍت من المفاوضات المكثفة وغير المعلنة قّدمت الواليات المتحدة‬
‫مساعداٍت كبرى ومغرية إلسرائيل كي تمدد تجميد بناء المستوطنات ولو لفترٍة وجيزة ال تتجاوز‬
‫ثالثة أشهر‪ .‬لكن إسرائيل ال تنفك تستخف بكل هذه العروض‪.‬‬
‫ال تزال الواليات المتحدة تبذل جهودًا دبلوماسيًة مكثفة لفتح ثغرة في الطريق المسدود‪ ،‬لكن فرص‬
‫النجاح في هذه المساعي تضيق مساحُتها يومًا وراء يوم‪ .‬هناك قلق لدى عديد من المعنيين في العالم‬
‫العربي من أن تؤدي التغييرات المرتقبة في المواقع اإلدارية بعد االنتخابات النصفية في الواليات‬
‫المتحدة إلى إعطاء دنيس روس دورًا أكبر في إدارة عملية السالم‪ ،‬وهو اآلن المساعد الخاص‬
‫ألوباما في هذه العملية‪ .‬وبما أن مواقفه المتصلبة لم تكن عامًال مساعدًا على تقدم عملية السالم في‬
‫السابق‪ُ ،‬يخشى أن يؤدي تزايد نفوذه في هذا المجال إلى أن نشهَد مزيدًا من التعقيدات بدَل العكس‪.‬‬
‫إنه فعًال ألمر مدهش أن يكون اتفاق السالم الذي يفتح أمام إسرائيل مجاًال لعالقاٍت طبيعية مع‬
‫جيرانها غير كاٍف كمحّفٍز للحكومة اإلسرائيلية كي تعطي مفاوضات السالم فرصة من خالل تجميد‬
‫بناء المستوطنات ولو فترًة محدودة‪ .‬إنها إشارة بالغة السلبية ترسلها إسرائيل إلى العالم العربي‪،‬‬
‫وكذلك إلى كل أعضاء المجتمع الدولي الذي يريد السالم في الشرق األوسط ركنًا من أركان‬
‫االستقرار العالمي‪ .‬إنها رسالة ستكون مصدر قوة ألولئك الذين طالما راهنوا على فشلنا في‬
‫مساعينا‪ ،‬كما أنها ضربة موجعة تصيب كل قوى االعتدال في المنطقة‪ ،‬خصوصًا محمود عباس‪ .‬إذا‬
‫انهارت الحكومة اإلسرائيلية‪ ،‬فلن يعجز اإلسرائيليون عن انتخاب حكومة جديدة‪ ،‬لكن إذا خسر‬
‫عباس صدقيته لدى الشعب الفلسطيني‪ ،‬أو إذا أصابه من اإلحباط ما دفعه إلى االستقالة فإن العالم‬
‫بأسره سوف يخسر شريكًا صادقًا في عملية السالم لن يكون من السهل العثور على بديٍل له‪.‬‬
‫لقد أخبرني عباس شخصيًا‪ ،‬كما صّر ح بذلك علنًا‪ ،‬بأنه سوف يقدم كل التضحيات الممكنة من أجل‬
‫السالم‪ ،‬لكّن اليد الواحدة ال تصفق‪ .‬إن ادعاءات البعض في إسرائيل بأنه ال يستطيع تنفيذ ما يريد‬
‫بسبب التحدي الذي تفرضه حماس حياَل سلطته ليست سوى ذرائع واهية يبررون بها انعدام اإلرادة‬
‫لديهم للسير قدمًا نحو السالم‪ .‬إن ما يحتاج إليه عباس هو اتفاق يضمن قيام الدولة الفلسطينية يقدمه‬
‫إلى شعبه‪ .‬ولو أنه حصَل على اتفاٍق كهذا لطرَح ه على استفتاٍء شعبّي تعود فيه الكلمة إلى‬
‫الفلسطينيين‪ .‬عندئذ ال يمكن أحدًا أن يحول بين الشعب الفلسطيني وحقه بحريته ودولته‪ .‬ولكن في‬
‫غياب وجود أّي اتفاق ال مناص لنا من االعتراف بوجود احتمال حقيقي بأن نواجه انهيارًا كامًال‬
‫لدعم الرأي العام لنا في متابعة العملية السلمية‪ ،‬باإلضافة إلى اإلفالس التام لسياسات االعتدال‪،‬‬
‫وبذلك تخلو الساحة كلّيًا للمتطرفين‪.‬‬
‫عندما بدأت وضع هذا الكتاب كنت آمل أن نكون اآلن في صدد االحتفال بإنجاز حل الصراع‬
‫الفلسطيني ‪ -‬اإلسرائيلي وافتتاح حقبة جديدة من السالم الشامل في الشرق األوسط‪ .‬لكن يبدو أن‬
‫الجميع في المنطقة يعتريهم التخّو ف من أن نكون مقبلين على حرٍب جديدة مدمرة‪.‬‬
‫من هنا أقول للشعب اإلسرائيلي‪ :‬ال تسمحوا لسياسييكم بأن يضعوا أمنكم في أشداق الخطر من‬
‫خالل الخيارات العمياء الخالية من التفكير السليم والتي تمعن في عزلكم‪ .‬إن إسرائيل تفتقر إلى‬
‫العالقات الطبيعية مع ما يقارب ثلث بلدان العالم‪ ،‬وعلى هذا الصعيد حتى كوريا الشمالية تبدو في‬
‫وضٍع أفضل من وضع إسرائيل وسط المجتمع الدولي‪ .‬إن حل الدولتين مع الفلسطينيين يعني في‬
‫جوهره حًاّل مع سبٍع وخمسين دولة يضمن إلسرائيل عالقات طبيعية مع كل الدول العربية‬
‫واإلسالمية التي تدعم جميُعها المبادرة العربية للسالم‪ .‬إذا أمعن قادتكم في اختيار طريق الصراع‬
‫والحرب‪ ،‬يمكن كَّل واحٍد منكم أن يقرر اختيار طريق السالم‪ ،‬ففي نهاية المطاف لن يضمن‬
‫إلسرائيل األمن واألمان اللذين تصبو إليهما إال السالم العادل مع جيرانها‪.‬‬
‫لسنا بحاجة إلى استشراف المستقبل البعيد لكي نرى ما يبدو واضحًا في األفق اإلسرائيلي من‬
‫المشكالت‪ .‬فالديموغرافيا سوف تغّير تركيبة المجتمع اإلسرائيلي خالل السنوات العشر المقبلة‪.‬‬
‫يشكل العرب اإلسرائيليون اليوم ما يزيد على عشرين في المئة من المجتمع اإلسرائيلي‪ ،‬فإذا لم يحَّل‬
‫السالم واستمرت إسرائيل تسيطر على الضفة الغربية فإن العرب سوف يصبحون أكثريًة عندئذ‪.‬‬
‫كيف يا ترى‪ ،‬ستعالج الحكومة اإلسرائيلية هذا الوضع؟ إذا فشلنا في الوصول إلى تفاهٍم يؤدي بنا‬
‫إلى حٍّل الدولتين‪ ،‬وهو الحل الذي يوفر السالم واألمن للجميع‪ ،‬سوف يكون الحل الحتمي الوحيد هو‬
‫حل الدولة الواحدة الثنائية القومية‪ .‬هذا يعني أن على الحكومة اإلسرائيلية أن تعطي الفلسطينيين‬
‫حقوقهم السياسية الكاملة كمواطنين وبذلك يخبو أو يزول الطابع اليهودي للدولة‪ .‬أما الخيار اآلخر‬
‫فهو أن تستمر إسرائيل في حرمان قسم كبير من السكان حقوقهم المشروعة‪ ،‬مبقيًة الفلسطينيين تحت‬
‫االحتالل العسكري ومنكرًة عليهم المساواة في الحقوق كمواطنين‪ ،‬وبالتالي تكون قد أقامت دولَة‬
‫تمييٍز عنصري ‪ -‬أبارتهايد ‪ -‬وجعلت المنطقة بأكملها رهينة الحرب أو التهديد الدائم بها‪.‬‬
‫ليس هناك من بدائل‪ .‬ارتفعت أصوات في إسرائيل تحدثت عما سّم ته «الخيار األردني» الذي‬
‫يصبح بموجبه األردن وطنًا للفلسطينيين‪ .‬هذا ببساطة‪ ،‬لن يحدث‪ .‬نحن لن نسمح به‪ ،‬والفلسطينيون‬
‫ال يريدونه‪ ،‬وإسرائيل لن تستطيع أن تفرضه‪ .‬وأي محاولة من هذا القبيل سيكون معناها الحرب‬
‫وتوسعة رقعة النزاع‪ .‬كذلك فإن األردن لن يقوم بأِّي دور أمني في الضفة الغربية‪ ،‬ولن تحّل‬
‫الدبابات األردنية محل الدبابات اإلسرائيلية‪ .‬إن الدور الوحيد الذي انتدبنا أنفسنا له وسنستمر في‬
‫القيام به‪ ،‬هو السعي إلى تحقيق سالٍم إقليمي من خالل مساعدة الفلسطينيين على ما يبذلون من جهد‬
‫إلقامة دولتهم المستقلة القابلة للحياة والتي ستعيش جنبًا إلى جنب مع إسرائيل بأمٍن وسالم‪.‬‬
‫إن أمام إسرائيل خيارًا واضحًا‪ ،‬هل تريد أن تبقى «قلعًة» معزولة تطّل بحذٍر وخوف من وراء‬
‫الحصون على جيران ال يزيدهم الزمن إال عدائيًة وعدوانية‪ ،‬أم هي مستعدة لقبول يد السالم الممتدة‬
‫إليها من كل الدول اإلسالمية السبع والخمسين بحيث تندمح نهائّيًا بمنطقتها وجوارها‪ ،‬مقبولًة وقابلة؟‬
‫لقد أمضى والدي نّيفًا وأربعين سنة ساعيًا وراء سالٍم دائم بين إسرائيل والفلسطينيين‪ ،‬وكذلك‬
‫وراء سالم إقليمي شامل‪ .‬لكن على الرغم من عمله الدؤوب لتحقيق هذا السالم وعدم استسالمه حتى‬
‫اليوم األخير من حياته‪ ،‬فقد وافاه األجل قبل أن يراه حقيقًة واقعة‪ .‬أما جدي األكبر‪ ،‬عبد هللا األول‪،‬‬
‫فقد اغتيل في القدس‪ ،‬دافعًا الثمن األغلى وهو حياته؛ سعيًا وراء السالم في مناٍخ عابٍق بالحرب‪ .‬إن‬
‫األمل يحدونا جميعًا أن ال يسقط مزيد من القادة الشجعان ضحايا هذا الصراع وأن ال يستمّر عبر‬
‫أجياٍل آتية‪.‬‬
‫في العام ‪ 2009‬سّم يُت ابنَي البكر‪ ،‬حسين‪ ،‬ولّيًا لعهد المملكة األردنية الهاشمية بموجب الدستور‬
‫الذي ينص على أنه «تنتقل والية الملك من صاحب العرش إلى أكبر أبنائه سّنًا»‪.‬‬
‫لم يكن هذا قرارًا سهًال‪ ،‬فأنا كنت أفّضل أن ينعم حسين في صباه وشبابه‪ ،‬كما نعمت أنا‪ ،‬بحياة‬
‫حرة من الضغوط التي يفرضها موقع ولّي للعهد‪ .‬لكن في النهاية رأيُت أن من األفضل للبالد‪،‬‬
‫وكذلك البني‪ ،‬أن يكون واضحًا للجميع كيف يبدو لي مستقبل المملكة األردنية الهاشمية‪ .‬حسين اليوم‬
‫في السادسة عشرة من عمره‪ ،‬وأملي األكبر هو أنه حين تقضي مشيئة هللا أن يتسّلم مسؤولياته‪ ،‬لن‬
‫يجد نفسه في مواجهة الصراع ذاته الذي قضى فيه جد جده‪.‬‬
‫منذ نّيٍف وعقٍد من السنين‪ ،‬وفي األشهر األخيرة من حياته‪ ،‬نهض والدي من فراش المرض ليوّج ه‬
‫كلمًة إلى ياسر عرفات وبنيامين نتنياهو عند توقيعهما اتفاق واي ريفر‪ .‬كان مدركًا كل اإلدراك مدى‬
‫هشاشة حلم السالم ولم تكن لديه أي أوهام حيال الصعوبات التي ال تزال تعترض سبيل تحقيقه‪.‬‬
‫يوَم ها قال‪« :‬في تقديري إن هذه الخطوة التي تحققت اليوم سوف تحّر ك‪ ،‬من دون ريب‪ ،‬غريزة‬
‫أولئك الذين يريدون تدمير الحياة‪ ،‬وتدميَر األمل‪ ،‬وزرَع الرعب في قلوب الناس وعقولهم‪ ،‬ال بل‬
‫ستثير لديهم أسوأ غرائزهم‪ .‬في ظاهر األمر سوف يعّبرون عن شكوكهم‪ ،‬لكن إذا ُقِّد َر لهم‬
‫واستطاعوا فسوف ُيلحقون الضرر حيثما حّلوا وأينما تمكنت أيديهم»‪.‬‬
‫يوم قال والدي هذه الكلمات كانت الثقة بين اإلسرائيليين والفلسطينيين كبيرة نسبّيًا‪ ،‬وكان كثيرون‬
‫يعقدون األمل على أن يتمكن قادُة الطرفين من البناء على هذا األساس لتحقيق السالم الدائم‪ .‬أما العقد‬
‫األخير من اإلهمال والتجاهل فقد شهد انهيار األمل إلى أدنى درجاته وبعث القوة في أيدي أولئك‬
‫العازمين على الدمار‪.‬‬
‫ما من عائلة في القدس الشرقية كما في تل أبيب‪ ،‬في رام هللا كما في يافا‪ ،‬إال تسعى في نهاية‬
‫المطاف إلى األهداف نفِسها‪ :‬حياة يتمتع فيها المرء بالسالم والكرامة‪ ،‬القدرة على تحقيق الذات‬
‫وعلى تأمين مستقبٍل أفضل ألبنائها‪ .‬إن طبيعتنا اإلنسانية تدفعنا إلى توجيه نظرنا دائمًا نحو النور‪،‬‬
‫ويقيني أن الشعبين اإلسرائيلي والفلسطيني ال يريدان أن تبقى حياتهما قاتًال أو مقتوًال‪ .‬من هنا علينا‬
‫جميعًا أن نضرَع إلى العلّي القدير أن يلهَم قادَتهما أن يضعوا نصَب أعينهم أن خيَر ما يقدمونه‬
‫لشعبيهم هو فرصُة العيش بسالٍم وكرامة‪.‬‬
‫ما لم نشهد انفراجًا خالل السنة المقبلة‪ ،‬أخشى أن تفوتنا فرصُتنا األخيرة لتحقيق السالم طواَل جيٍل‬
‫يمضي؛ وبذلك نضع منطقتنا على طريق المزيد من العنف والحروب والموت‪ .‬أخشى أننا على‬
‫وشك أن نغرق في الظالم‪ .‬لكن ذلك ليس قَدر منطقتنا المحتوم‪ .‬شعوبنا تريد السالم‪ .‬مسؤوليتنا‬
‫بوصفنا قادة هي أن نحقق لها هذا الحلم المتآكل‪.‬‬
‫شكـر وتنـويـه‬

‫منذ مدٍة غير طويلة كنت أتحدث إلى بعض األصدقاء وذكرُت أن عشر سنوات مّر ت منذ أن‬
‫تسلمت مسؤولياتي ملكًا على األردن‪ .‬تحدثنا عن مسلسل األحداث االستثنائية التي شهدها األردن‬
‫والشرق األوسط والعالم خالل هذا العقد من السنين‪ ،‬وقد عّبرت عن األمل في أن تشهد السنوات‬
‫العشر المقبلة مزيدًا من السالم واألمن والرخاء وفرص اإلنجاز‪ .‬لكننا تحدثنا خاصة عن اقتناعي‬
‫بأن العالم اليوم يقف على مفترٍق مفصلّي ‪ .‬في مطلع العام ‪ 2009‬بدا لي أّن الظروف مؤاتية‬
‫والفرصة متاحة لحل الصراع الفلسطيني ‪ -‬اإلسرائيلي وتحقيق السالم اإلقليمي الذي ما انفك‬
‫يراوغنا وُيفلت من بين أيدينا منذ أجيال‪ .‬قلت إنني لن أكَّف عن بذل كل ما يمكن من جهد حتى‬
‫تحقيق هذا الهدف‪.‬‬
‫خالل هذا الحديث اقترح أحد األصدقاء أنها فترة مناسبة لكي أكتب فيها كتابًا عما شهدُت ‪ ،‬وعما‬
‫قمت به من عمل‪ ،‬وما أحلم به للمستقبل‪.‬‬
‫لم يسبق لي أن فكرت كثيرًا في أن أكتب كتابًا‪ .‬فقد دّر بتني الحياُة العسكرية على النهج العملي‬
‫الذي يعطي نتائجه في وقتها المحدد‪ ،‬هذا فضًال عن كوني ال أزال شاّبًا وأنني‪ ،‬بمشيئة هللا‪ ،‬في‬
‫مستهّل عهدي ملكًا على األردن‪ .‬لكن أحدهم أشار بأن والدي كان قد نشر سيرة ذاتية بعنوان «ليس‬
‫سهًال أن تكون ملكًا» (‪ )Uneasy Lies the Head‬في العام ‪ ،1962‬أي في السنة التي ولدُت فيها‪،‬‬
‫وقد تحدث فيه عن سنواته العشر األولى ملكًا على األردن‪ .‬وبما أن المسير على خطى والدي كان‬
‫دومًا نهجَي األمثل واألكثر حكمًة‪ ،‬فقد بدأُت أولي الفكرَة اهتمامًا جدّيًا‪.‬‬
‫كانت الخطوة األولى البحث عن ناشر قادر على إيصال قصتي إلى أوسع عدد من القراء‪ .‬أندرو‬
‫وايلي (‪ )Andrew Wylie‬وسكوت مويرز (‪ )Scott Moyers‬من شركة وايلي وشركاؤه‬
‫(‪ )Wylie & Company‬إحدى أهم الوكاالت األدبية في أميركا وأكثرها احترامًا‪ ،‬ساعداني على‬
‫اختيار دار نشر عالمية‪ ،‬خصوصًا أنني أردت أن أوصل الرؤية والمواقف العربية حول قضايانا إلى‬
‫العالم الغربي‪ .‬من خاللهما تعّر فت إلى كلير فيرارو (‪ )Clare Ferraro‬وجوي دي مينيل (‪Joy de‬‬
‫‪ )Menil‬من مؤسسة «فايكنغ بنغوين» (‪ .)Viking Penguin‬كلير لم تتردد لحظة‪ ،‬وقد أدركت‬
‫فورًا أن لدّي قصة تستحق النشر وفيها من المضمون ما يهم جمهور القراء‪ ،‬وما لبثنا أن بدأنا العمل‬
‫معًا إلعداد الكتاب‪ُ .‬كّلفت جوي بتحرير النص‪ ،‬وقد أفدُت منذ البداية وحتى النهاية من ذكائها الحاد‬
‫وثقافتها السياسية والتاريخية الواسعة‪ ،‬فضًال عن حّسها السليم ومعرفتها بتقديم الوقائع بطريقة‬
‫واضحة وبسيطة‪ .‬لقد ساعدتني على لملمة الخيوط الموزعة هنا وهناك لحياٍة زاخرة بالتنّو ع‬
‫ووضِع ها في سياِقها الروائّي المنَّسق والمتماسك‪ .‬مساعُدها كريس راسل (‪ )Chris Russell‬كان‬
‫أيضًا مصدر عوٍن كبير‪.‬‬
‫إن االعتماد على الذاكرة وحَدها لوضع كتاب مذكرات خطأ كبير‪ .‬وفي ضوء ذلك فقد استعنت‬
‫بعدد ال يحصى من األشخاص للتأكد من صحة ما بقي في ذاكرتي وللتدقيق في معلوماتي وفي‬
‫حكمي على األمور‪ .‬كذلك عدت إلى عدد كبير من الوثائق والسجالت من أرشيفنا تثبيتًا لسياق‬
‫األحداث ووضوحها حيثما يمكن أن تخون الذاكرة‪ .‬لقد بذلُت قصارى الجهد لكي يخرج هذا الكتاب‬
‫في أدّق مضموٍن ممكن وفي أوضح صورة‪ .‬لكنني مدرك تمامًا أنه متى اجتمع عدة أشخاص‪،‬‬
‫وخصوصًا عندما تكون هناك محاولة الستعادة نقاشاٍت مهمة ودقيقة حول مواضيَع كالسالم في‬
‫الشرق األوسط‪ ،‬ال بد أن تتباين مضامين الكالم المستعاد بين شخٍص وآخر‪ .‬كل ما يمكنني قوُله إن‬
‫هذا الكتاب هو نتاج أفضل ما بذلت من جهد ألشارككم ذكرياتي وانطباعاتي ووجهات نظري‪.‬‬
‫كثيرون قاموا بأدوار مهمة في إنجاز هذا المشروع‪ ،‬ولكن هذه الفسحة المحدودة لن تسمَح لي إال‬
‫بتسمية عدد ضئيل منهم‪ ،‬بينما يذهب ُشكري وتقديري العميقان إلى آخرين ُكثر كانت إسهاماتهم‬
‫كبيرة ومهمة‪ ،‬ولكن لن تتاح لي تسميُتهم‪.‬‬
‫بدايًة يجب أن أخّص عددًا من مساعدَّي في الديوان الملكي الهاشمي ممن كانت لهم مساهمات‬
‫استثنائية‪ .‬أيمن الصفدي‪ ،‬مستشاري‪ ،‬تولى اإلدارة العامة للمشروع‪ ،‬وكان لعمله المضني والمثابر‪،‬‬
‫وُج هده المتفاني‪ ،‬وحرصه على كل تفصيل‪ ،‬ومتابعته المتواصلة لالرتفاع بهذا الكتاب إلى أعلى‬
‫مستوى‪ ،‬كان له دور حاسم في جعل هذا المشروع ممكنًا‪ .‬لوال الجهوُد التي بذَلها لما وصل الكتاب‬
‫إلى المطبعة‪ .‬محمد أبو طالب‪ ،‬ناظر الخاصة الملكية‪ ،‬كان في منتهى الحيوية والتفاؤل والحماسة‬
‫فيما كان يرعى هذا المشروع الدقيق والمتطلب‪ ،‬رعايًة متأنية وصوًال به إلى تمامه‪ .‬ما كنُت ألتمنى‬
‫شخصًا أكفَأ منه في مالحقة كل صاحب مهمة لضمان إنجاز مهمته في أواِنها واستمراره مرّكزًا‬
‫على عمله‪ .‬ندين خميس‪ ،‬مديرة المشاريع في الخاصة الملكية‪ ،‬قامت بجهٍد ال يثّم ن في التدقيق‬
‫المتأني في التفاصيل القانونية المعقدة حيال نشر كتاٍب في بلداٍن ولغاٍت متعددة‪ .‬مساعدتي الخاصة‪،‬‬
‫شيرين شويحات‪ ،‬أنجزت عمًال رائعًا في تفريغ ساعاٍت وساعات من المحادثات والحوارات التي‬
‫شكلت المادة األساسية مما جاَء في الكتاب ونقلها‪ .‬كذلك ساعدتني على العثور على العديد من‬
‫الوثائق‪ ،‬كما صّنفت وحفظت مسَّو داٍت عديدة لفصوٍل من الكتاب فيما كنت مشغوًال بكتابتها للتأكد‬
‫من أنني كنت دقيقًا في التعبير عن أفكاري‪.‬‬
‫رئيس التشريفات الملكية‪ ،‬عامر الفايز‪ ،‬ومساعدوه‪ ،‬خصوصًا صيتة التلهوني ميرزا‪ ،‬كان لهم‬
‫دور أساسّي في تنسيق العديد من المقابالت مع مسؤولين أردنيين حاليين وسابقين للتأكد من أن‬
‫الكتاب عَكَس بدقة وجهات نظر أولئك األشخاص من ذوي المعرفة الموثوقة باألحداث التي‬
‫وصفُتها‪ .‬وداد ماريا صالح وشذى المغربي‪ ،‬من إدارة اإلعالم واالتصال في الديوان الملكي‬
‫الهاشمي‪ ،‬أنجزتا مهمًة ممتازة ودقيقة في البحث والمراجعة لمواد تضمنها الكتاب‪ .‬أوّج ه الشكر‬
‫أيضًا إلى الدكتور جعفر حسان‪ ،‬المدير السابق إلدارة الشؤون الدولية في الديوان الملكي‪ ،‬ووزير‬
‫التخطيط والتعاون الدولي منذ ‪ 14‬كانون األول‪/‬ديسمبر من العام ‪ ،2009‬الذي ساعد على البحث‬
‫عن العديد من الوثائق المهمة في األرشيفات الملكية‪ .‬كذلك يستحق الشكر هارون حسان‪ ،‬الذي ساعد‬
‫على تصميم موقع إلكتروني للكتاب‪.‬‬
‫عدد كبير من األصدقاء وأفراد العائلة‪ ،‬والمسؤولين األردنيين الحاليين والسابقين‪ ،‬شاركوني كثيرًا‬
‫من ذكرياتهم إلضافة بعض المعلومات والتفاصيل إلى ما اختزَنْته ذاكرتي من األحداث الماضية‪.‬‬
‫أورُد هنا بعض األسماء لتعُّذر إيرادها جميعًا‪ :‬جاللة الملكة رانيا‪ ،‬صاحبة السمّو الملكي األميرة‬
‫منى‪ ،‬صاحب السمو الملكي األمير فيصل‪ ،‬صاحب السمو الملكي األمير علي‪ ،‬صاحب السمو‬
‫الملكي األمير غازي‪ ،‬سمو األمير زيد‪ ،‬زيد الرفاعي‪ ،‬المشير عبد الحافظ الكعابنة‪ ،‬الدكتور سمير‬
‫مطاوع‪ ،‬اللواء أحمد سرحان‪ ،‬الدكتور مروان المعشر‪ ،‬ناصر جودة‪ ،‬سمير الرفاعي‪ ،‬كريم قعوار‪،‬‬
‫الدكتور باسم عوض هللا‪ ،‬العميد علي جرادات‪ ،‬المقدم ناظم الرواشدة‪ ،‬الدكتور متَّيم العوران‪،‬‬
‫الدكتور إريك ويدمر (‪ )Eric Widmer‬وروبرت ريتشر (‪.)Robert Richer‬‬
‫شكر خاص أبعُثه إلى دروستن فيشر (‪ )Drosten Fisher‬لمساعدته القّيمة على إنجاز النسخة‬
‫اإلنكليزية من هذا الكتاب‪ .‬دروستن درس في جامعتي أوكسفورد وجورجتاون‪ ،‬يتحدث العربية وهو‬
‫من المتعمقين في دراسة شؤون الشرق األوسط‪ .‬أخذ إجازة من عمله في إحدى المؤسسات‬
‫االستشارية لكي يساعدني على إنجاز هذا المشروع‪ ،‬وقد قام بدور كبير في مساعدتي على تجميع‬
‫أفكاري وقولبتها ووضعها في صيغتها األخيرة على الورق‪.‬‬
‫تولى األستاذ شكري رحّيم‪ ،‬الذي أغنى المكتبة العربية بترجماته المتقنة‪ ،‬فضًال عن دوره الرائد‬
‫في تعميم الوسائل التربوية في المنطقة على مدى ثالثة عقود‪ ،‬مهمة تحرير هذا الكتاب باللغة‬
‫العربية‪ .‬وقد بذل جهودّا مضنية لتخرج الطبعة العربية منه نصًا سلسًا متماسكًا‪ ،‬ونثرًا عكس استيعابًا‬
‫كامًال لمضمونه‪ .‬وإنني إذ أسجل شكري العميق لألستاذ رحّيم‪ ،‬ألشير إلى أنه كان خير من يقوم بهذه‬
‫المهمة بأعلى درجات الحرفية واإلتقان‪.‬‬
‫كما في كل األمور األخرى‪ ،‬إنني شاكٌر لعائلتي‪ .‬إن قراء هذا الكتاب سوف يعلمون أن أخواتي‬
‫السبع‪ ،‬وإخوتي األربعة‪ ،‬وأبناء عمومتي وأقاربي جميعًا‪ ،‬قد أّدوا دورًا في جعلي َم ن أنا‪ ،‬وفي‬
‫مساعدتي على إنجاز كل ما أنجزُته من خير في حياتي‪ .‬والدي الراحل جاللة الملك حسين‪ ،‬ووالدتي‬
‫صاحبة السمو الملكي األميرة منى‪ ،‬أعطياني أن أعيش حياًة استثنائية‪ ،‬وأن أرى ما لم يتسَّن للكثيرين‬
‫أن يروا مثله‪ ،‬وأن أبذَل كل ما في قدرتي لخدمة الشعب األردني‪.‬‬
‫لقد أسبغ هللا سبحانه علَّي ِنَعمًا كثيرة‪ ،‬وأشكره جَّل وعال أن جمعني برانيا‪ ،‬وجعلني أبًا لحسين‬
‫وإيمان وسلمى وهاشم‪ .‬إنهم النور الذي أرى الحياة من خالله‪.‬‬
‫ق‬
‫ح‬
‫ال‬
‫م‬
‫ل‬
‫ا‬
‫خطاب العرش السامي في افتتاح الدورة العادية األولى لمجلس األمة السادس‬
‫عشر‬

‫التاريخ‪ 28 :‬تشرين الثاني ‪2010‬‬


‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫‪.‬والصالة والسالم على سيدنا محمد‪ ،‬النبي العربي الهاشمي األمين‬

‫‪،‬حضرات األعيان‬

‫‪،‬حضرات النواب‬

‫‪،‬السالم عليكم ورحمة هللا وبركاته وبعد‬

‫فباسم هللا‪ ،‬وعلى بركة هللا‪ ،‬نفتتح الدورة األولى لمجلس األمة السادس عشر‪ ،‬تأكيدًا على التزامنا‬
‫باالستحقاق الدستوري لمسيرتنا الديموقراطية‪ ،‬وحرصنا على المشاركة الشعبية في صناعة القرار‪،‬‬
‫وبناء المستقبل المنشود‪ ،‬الذي يليق بطموحات شعبنا وتضحياته الكبيرة‪ ،‬وحقه في الحياة الحرة‬
‫‪.‬الكريمة‪ ،‬والوطن النموذج في القوة والتقدم واالزدهار‬

‫أما بعد‪ ،‬فإنني أتوجه بالتهنئة والمباركة لإلخوة النواب الكرام‪ ،‬على فوزهم بثقة أبناء وبنات شعبنا‬
‫العزيز في االنتخابات النيابية األخيرة‪ ،‬التي حرصنا على إجرائها بمنتهى الشفافية والنزاهة‪ ،‬لتكون‬
‫‪.‬هـي وهـذا المجلس الكريم إضافة نوعية إلى مسيرتنا الديموقراطية‬

‫‪،‬حضرات األعيان‬

‫‪،‬حضرات النواب‬

‫لقد عملنا خالل السنوات الماضية‪ ،‬ضمن رؤية إصالحية تحديثية واضحة لمعالجة السلبيات‬
‫وتحقيق التنمية الشاملة‪ ،‬وأنجزنا الكثير والحمد هلل‪ ،‬ولكن المسيرة دائمًا بحاجة إلى المراجعة‬
‫‪.‬والتقييم لتعظيم اإلنجاز‪ ،‬ومعالجة مظاهر الخطأ أو التقصير‬

‫وعملية التقييم هذه‪ ،‬والتقدم في مسيرة اإلصالح ليست مسؤولية سلطـة دون أخرى‪ ،‬وإنما هي‬
‫مسؤولية جماعية‪ ،‬ال يمكن النهوض بها من دون التعاون المؤسسي‪ ،‬الذي يرتكز على الدستور‪،‬‬
‫‪.‬وعلى احترام مركزية دور جميع السلطات في بناء المستقبل المشرق الذي يستحقه شعبنا األبي‬

‫ًا‬
‫وعلى ذلك‪ ،‬فال بد من االستفادة من دروس الماضي وتجاوز أخطائه‪ ،‬واالعتراف أيضًا بأن عالقة‬
‫السلطتين التنفيذية والتشريعية قد شابها الكثير من األخطاء‪ ،‬التي أعاقت مسيرتنا اإلصالحية‪،‬‬
‫‪.‬وألحقت الضرر بمصالح شعبنا‪ ،‬وتلك أخطاء يجب أن يعمل الجميع على إزالتها‬

‫فللسلطة التشريعية دور محوري كفلـه الدستور‪ ،‬وال نقبل أن يتراجع دور مجلس النواب‪ ،‬أو أن‬
‫تهتز صورته عند المواطنيـن‪ .‬فالتحديات جسام‪ ،‬والطموحات أكبر‪ .‬وترجمة رؤيتنا التي تستهدف‬
‫تقديم األفضل لشعبنا العزيز تستدعي وجود مجلس نواب قوي وقادر‪ ،‬يمارس دوره في الرقابة‬
‫والتشريع‪ ،‬في إطار عمل دستوري مؤسسي‪ ،‬وعلى أساس شراكة حقيقية مع السلطة التنفيذية‪ ،‬مما‬
‫‪.‬يعزز ثقة الناس بهذه المؤسسات‬

‫و كنت قد وجهت الحكومة إلى أن تعيد تقييم آليات تعاملها مع مجلس النواب لتصحيح عالقة‬
‫السلطتين‪ ،‬بحيث تقوم على التعاون والتكامل‪ ،‬وبحيث تمارس كل منهما صالحياتها‪ ،‬من دون تغّو ل‬
‫سلطة على أخرى‪ ،‬أو اللجوء إلى تفاهمات مصلحية‪ ،‬تجعل من تحقيق المكتسبات الشخصية شرطًا‬
‫‪.‬الستقرار هذه العالقة‬

‫ولضمان تالفي أخطاء الماضي‪ ،‬ال بد من التوافق بين السلطتين على آلية عمل ملزمة‪ ،‬توضح‬
‫األسس التي تحكم تعامل الحكومة مع أعضاء مجلس النواب‪ ،‬وفـق الدستـور والقانون‪ ،‬بحيث‬
‫يطمئـن شعبنا العزيز إلى أن العالقة بين السلطتين عالقة شراكة مبنية على المعايير التي تحقق‬
‫‪.‬المصلحة العامة‬

‫‪،‬حضرات األعيان‬

‫‪،‬حضرات النواب‬

‫لقد كانت توجيهاتنا للحكومة أن تعمل وفق منهجية مؤسسية‪ ،‬تضع أهدافًا واضحة‪ ،‬وتحدد مواعيد‬
‫إلنجازها‪ .‬وأكدنا على ضرورة العمل بثقة وشفافية ومن دون تردد‪ ،‬أو خوف من اتخاذ القرار‪ ،‬أو‬
‫سياسـات االسترضاء‪ ،‬التي شكلت أحد أكبر العوائق أمام التغيير اإليجابي‪ ،‬الذي يمكننا من مواكبة‬
‫روح العصر ومتطلباته‪ .‬والحكومة ملتزمة بالعمل وفق هذه المنهجية‪ ،‬وضمن سبعة محاور رئيسية‬
‫‪.‬للتقدم في مسيرة التنمية الشاملة وتحسين األداء‬

‫وألن اإلصالح منظومة سياسيـة اقتصادية‪ ،‬وإدارية اجتماعية متكاملة‪ ،‬فقد أكدنا على ضرورة أن‬
‫يواكب اإلصالح االقتصادي إصالح سياسي‪ ،‬يزيد من المشاركة الشعبية في صناعة القرار‪ .‬ومن‬
‫‪.‬أجل ذلك‪ ،‬ستعمل حكومتي على إيجاد الظروف الكفيلـة بتطوير الحياة السياسية في شتى مظاهرها‬

‫وفي هذا السياق‪ ،‬سترسل حكومتي قانون االنتخاب المؤقت إلى مجلس النواب‪ ،‬وبصفة االستعجال‪،‬‬
‫لدراسته وإدخال التعديالت الالزمة عليه‪ ،‬بما يخدم مسيرتنا الديموقراطية‪ ،‬واعتماده قانونًا دائمًا‪،‬‬
‫‪.‬حتى يستقر هذا التشريع الرئيسي في الحياة السياسية‬

‫ًا‬
‫وستقدم الحكومة إليكم أيضًا مشروع قانـون الالمركزية‪ ،‬الذي نسعى من خالله إلى زيادة دور‬
‫المواطنين في صناعة مستقبلهم‪ ،‬وبناء القدرات المحلية في المحافظات‪ ،‬وتعظيم إسهامهم في تحديد‬
‫‪.‬األولويات التنموية‬

‫وستعمل الحكومة مع مجلسكم الكريم على تعديل التشريعات الناظمة للعمل السياسي‪ ،‬والمتعلقة‬
‫‪.‬بحقوق المواطنين وحرياتهم‪ ،‬إليجاد البيئة الكفيلـة بتحقيق التنمية السياسية الشاملة‬

‫والتنمية السياسية ال تتحقق من دون مؤسسات المجتمع المدني واألحزاب الوطنية‪ ،‬التي تعتمد‬
‫العمل البرامجي‪ ،‬وتبني المصداقية والحضور الشعبي‪ ،‬عبر إقـناع المواطنين بجدوى طروحاتها‪،‬‬
‫وقدرتها على اإلسهام في مسيرة الوطن‪ .‬وستواصل الحكومة العمل من أجل تشجيع العمل الحزبي‬
‫‪.‬الوطني الملتزم بالقوانين والدستور‪ ،‬وإزالة كل العوائق أمام تطّو ر دور األحزاب‬

‫وستستمر الحكومة في تطويـر عالقتها مع اإلعالم‪ ،‬بحيث تقوم هذه العالقة على احترام حق‬
‫اإلعالم في العمل بحرية واستقاللية‪ ،‬وفي الحصول على المعلومة ونشرها‪ .‬وإذ تشكل القوانين‬
‫النافذة ومدونة السلوك‪ ،‬التي وضعتها الحكومة‪ ،‬إطارًا لهذه العالقة‪ ،‬فال بد من إدخال أي تعديالت‬
‫الزمة على التشريعات لضمان تطّو ر صناعة إعالم مهنية مستقلة‪ ،‬وحماية المواطنين وحقوقهم من‬
‫‪.‬ممارسات إعالمية غير مهنية تزّو ر الحقائق‪ ،‬وتشّو ه صورة الوطن‬

‫وألهمية دور الشباب‪ ،‬تعمل الحكومة على تنفيذ خطة شاملة لتطوير دور قطاع الشباب‪ ،‬الذي تقع‬
‫عليه مسؤولية بناء المستقبل‪ ،‬وتسليحه بالعلم والمعرفة‪ .‬وستستمر الحكومة بالعمل على تعزيز دور‬
‫‪.‬المرأة في مسيرة البناء‪ ،‬واتخاذ الخطوات الالزمة لحماية حقوقها كاملة‬

‫‪،‬حضرات األعيان‬

‫‪،‬حضرات النواب‬

‫إن تحسين أداء مؤسساتنا العامـة ضروري لمواجهة التحديات التي تواجه األردن‪ ،‬ومن هنا ركزت‬
‫الحكومة على وضع أدوات لقياس األداء‪ ،‬وتطوير العمل الرقابي لتعزيز الشفافية‪ ،‬ومحاربة كل‬
‫‪.‬أشكال الترهل والفساد‬

‫وفي هذا المجال‪ ،‬استحدثت الحكومة وحدة لمتابعة الخطط التنفيذية‪ ،‬ووضعت ميثاق شرف لقواعد‬
‫سلوك الوزراء‪ ،‬وأعدت برنامجًا لتطوير القطاع العام واإلدارة الحكومية‪ .‬وعملت الحكومة أيضًا‬
‫على رفع مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين‪ ،‬وخاصة في قطاعات الصحة واإلسكان والتعليـم‪،‬‬
‫لتوفير السكن المالئم‪ ،‬ومواصلة تطوير وبناء المراكز الصحية والمدارس‪ ،‬باإلضافة إلى تطوير‬
‫‪.‬الخدمات البلدية‪ ،‬ودعم الحركة الثقافية‬

‫وألن العدل أساس الُم لك‪ ،‬فنحن ملتزمون بتعزيز استقالل القضاء ونزاهته‪ ،‬وستوفر الحكومة كل‬
‫المتطلبات‪ ،‬التي تحتاجها السلطة القضائية لتطوير أدائها‪ ،‬وتحقيق العدالة بين الناس‪ .‬وال بد من‬
‫التأكيد هنا على ضرورة مواكبة تحديات العصر من خالل تطوير التشريعات‪ ،‬واستقطاب أفضل‬
‫‪.‬الكفاءات‪ ،‬وتدريبها وتأهيلها‪ ،‬حتى يظل الجهاز القضائي مثاًال في الكفاءة والنزاهة‬

‫‪،‬حضرات األعيان‬

‫‪،‬حضرات النواب‬

‫يواجه األردن تحديـات اقتصادية كبيـرة تستدعي اعتماد سياسات اقتصادية ناجعة‪ ،‬تحقق طموحاتنا‬
‫في توفير العيش األفضل لمواطنينا‪ ،‬فتحسين حياة المواطن األردني‪ ،‬وفتح آفاق اإلنجاز أمامه هدفنا‬
‫األول‪ .‬وسيظل تحسين األداء االقتصادي أولوية رئيسيـة النعكاسه المباشر على مستوى معيشة‬
‫‪.‬المواطن‬

‫وبالرغم من األوضاع االقتصادية العالمية الصعبة‪ ،‬وانعكاسها على أوضاعنا المحلية‪ ،‬تمكنت‬
‫الحكومة من تحقيق مؤشرات اقتصادية إيجابية‪ ،‬منها‪ :‬النمو اإليجابي في الناتج المحلي اإلجمالي‪،‬‬
‫‪.‬وتقليص عجز الموازنة‬

‫وستواصل الحكومة اعتماد سياسة مالية للسيطرة على عجز الموازنة‪ ،‬وتعزيز االستقرار المالي‪،‬‬
‫والمساهمة في تحسين البيئة االستثمارية‪ ،‬واالعتماد على الذات‪ ،‬وحفز النمو في النشاط‬
‫‪.‬االقتصادي‬

‫وقد وجهنا الحكومة إلى توفير العناية الالزمة للقطاعات الحيوية‪ ،‬وفي مقدمتها قطاع التعليم‪ ،‬مع‬
‫التأكيد على ضرورة تحسين مستوى معيشة المعلمين‪ ،‬والحفاظ على مكانتهم‪ ،‬بما ينسجم مع دورهم‬
‫المحوري في المجتمع‪ .‬وأكدنا على االهتمام بقطاع الزراعة‪ ،‬ورعاية العاملين فيه‪ ،‬إضافة إلى‬
‫زيادة االستثمارات في القطاع السياحي‪ ،‬واالهتمام بقطاع االتصاالت وتكنولوجيا المعلومات‪ ،‬الذي‬
‫يقوم بدور رئيسي في تحسين أداء مختلف مؤسسات الدولة‪ ،‬وليبقى األردن رائدًا إقليميًا في هذا‬
‫‪.‬المجال‬

‫‪،‬حضرات األعيان‬

‫‪،‬حضرات النواب‬

‫إن اإلنسان األردني هو ثروتنا األولى‪ ،‬وهو غاية التنمية وهو وسيلتها‪ ،‬ولذلك يجب أن تضمن‬
‫الدولة تحقيق العدالة والمساواة االقتصادية واالجتماعية‪ ،‬وتكافؤ الفرص‪ ،‬وتوسيع قاعدة الطبقة‬
‫الوسطى‪ ،‬وحماية الطبقة الفقيرة‪ .‬والفقر والبطالة شر سنحاربه بكل الوسائل والسبل‪ .‬وستعمل‬
‫الحكومة على تحسين آلية مساعدة المستفيدين من برامجها لمحاربة الفقر‪ ،‬وتعزيـز دور مؤسسات‬
‫‪.‬المجتمع المدني والقطاع الخاص في توفير برامج رديفة‬

‫‪،‬حضرات األعيان‬
‫‪،‬حضرات النواب‬

‫يمثل عمل الحكومة‪ ،‬في المحاور السبعة التي اعتمدتها‪ ،‬برنامجًا تنمويًا شامًال لتحسين األداء‪ ،‬في‬
‫جميع مسارات التنمية‪ .‬وينطوي هذا البرنامج على خطوات عملية‪ ،‬ومشاريع محددة‪ ،‬ستعرضها‬
‫الحكومة عليكم‪ ،‬من أجل التشاور حولها وتطويرها‪ ،‬والتعاون على الوصول إلى أهدافها في تطوير‬
‫‪.‬أداء األردن‪ ،‬والحفاظ عليه نموذجًا في اإلنجاز والعطاء‬

‫‪،‬حضرات األعيان‬

‫‪،‬حضرات النواب‬

‫ما كان لألردن أن يصل إلى ما حقق من إنجاز ونجاح لوال نعمة األمن واالستقرار‪ ،‬التي يسهر‬
‫على حمايتها رفاق السالح‪ ،‬نشامى قواتنا المسلحة‪ ،‬وأجهزتنا األمنية الباسلة‪ ،‬فهم مصدر فخر‬
‫واعتزاز لكل األردنيين‪ .‬وسنواصل توفير كل الدعم لجيشنا العربي المصطفوي واألجهزة األمنية‪،‬‬
‫رعاية وتسليحًا وتدريبًا‪ ،‬وعمًال فاعًال لتحسين مستوى معيشة منتسبيها‪ ،‬الذين يضحون بالغالي‬
‫‪.‬والنفيس من أجل حماية وطنهم ومسيرته المباركة‬

‫وسيظل األردن المنيع اآلمن المستقر سندًا ألشقائه العرب في الدفاع عن قضايانا العربـية‬
‫واإلسالمية‪ ،‬وفي مقدمة كل ذلك القضية الفلسطينية‪ .‬فقد كان األردن‪ ،‬وسيبقى بعون هللا‪ ،‬السند‬
‫األقوى ألشقائنا الفلسطينيين‪ ،‬وسيواصل القيام بكل ما يستطيع لرفع الظلم عنهم‪ ،‬وإنهاء االحتالل‪،‬‬
‫وقيام دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني‪ ،‬وعاصمتها القدس الشرقية‪ ،‬وفق مبادرة السالم العربية‪،‬‬
‫‪.‬وقرارات الشرعية الدولية‪ ،‬وفي سياق إقليمي يضمن تحقيق السالم الشامل‬

‫ولن يدخر األردن جهدًا في إسناد العراق الشقيق‪ ،‬والحفاظ على أمنه واستقراره‪ ،‬من أجل استعادة‬
‫‪.‬دوره الحيوي في المنطقة والعالم‬

‫‪،‬حضرات األعيان‬

‫‪،‬حضرات النواب‬

‫كثيرة هي التحديات التي نواجهها‪ ،‬لكن الفرص أكبر‪ ،‬وتاريخنا هو سجـل انتصار على التحديات‪،‬‬
‫صنعته إرادة األردنيين‪ ،‬وعلمهم وتماسكهـم‪ .‬وكذلك بإذن هللا سيكون المستقبل‪ ،‬محطات جديدة من‬
‫اإلنجـاز والبناء‪ ،‬نبنيها من خالل العمل الجاد‪ ،‬المرتكز على اإليمان بقدراتـنا والثقة بأنفسنا‪ .‬فال‬
‫وقت نضّيعه‪ ،‬وليعمل الجميع فريقًا واحدًا يقدم الصالح العام على كل ما سواه‪ ،‬يحترم القانون‪،‬‬
‫ويكّر س ثقافة الديموقراطية‪ ،‬يبني المؤسسات الفاعلة‪ ،‬يتسلح بالعلم والمعرفة والوعي‪ ،‬يحمي‬
‫الوحدة الوطنية‪ ،‬ويتصدى لكل أصوات الفرقة واالنقسام‪ ،‬والسلبية الُم حبطة‪ ،‬ويمضي بمسيرتنا‬
‫اإلصالحية التطويرية التحديثية نحو آفاق جديدة من اإلنجاز‪ ،‬التي تبني على إنجازات اآلبـاء‬
‫‪.‬واألجـداد‪ ،‬وتحافـظ على األردن‪ ،‬وطنًا عزيزًا شامخًا‬

‫ًا‬
‫‪.‬وفقنا هللا جميعًا إلى ما فيه خير األردن واألردنيين‪ ،‬وأمتنا العربية واإلسالمية‬

‫‪.‬والسالم عليكم ورحمة هللا وبركاته‬


‫كتاب التكليف السامي لدولة سمير الرفاعي‬

‫التاريخ‪ 9 :‬كانون األول ‪2009‬‬


‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫‪،‬عزيزنا دولة األخ سمير الرفاعي حفظه هللا‬

‫‪،‬السالم عليكم ورحمة هللا وبركاته وبعد‬

‫أما وقد قبلنا استقالة حكومة دولة األخ نادر الذهبي‪ ،‬فإننا نعهد إليك بتشكيل حكومة جديدة تبني على‬
‫ما حققه وطننا الغالي من إنجاز وتقدم‪ ،‬وتعالج ما اعترى المسيرة من ثغرات واختالالت‪ ،‬من‬
‫خالل عمل برامجي مؤسسي‪ ،‬ينطلق وفق خطة عمل واضحة ومعايير إنجاز وأداء تضمن التقدم‬
‫نحو ترجمة رؤيتنا اإلصالحية التحديثية إلى واقع ملموس‪ ،‬تنعكس آثاره اإليجابية على كل مناحي‬
‫الحياة في وطننا الغالي‪ ،‬ويوفر لشعبنا األبي ما يستحق من حياة آمنة كريمة مفتوحة على أوسع‬
‫آفاق اإلنجاز والتمّيز‪ .‬ولقد بدأنا منذ سنوات مسيرة اإلصالح والتحديث‪ ،‬ونحن عازمون على‬
‫مواصلة هذه المسيرة بما يبني على الخطط والبرامج واألهداف التي تضمنتها األجندة الوطنية‬
‫‪.‬ويحقق الخير والرخاء واالزدهار لوطننا الغالي‬

‫ويتطلب تحقيق هذا الهدف أن تنطلقوا في تشكيل حكومتكم وفق منهجية عمل محكمة تضع أهدافًا‬
‫محددة لإلنجاز في جميع المجاالت‪ ،‬وتحدد برامج زمنية لتنفيذها‪ ،‬ليكون مدى التقدم في تنفيذ هذه‬
‫البرامج المعيار الواضح لتقييم األداء واتخاذ القرارات المستقبلية بشأنها وحول من تناط به‬
‫مسؤولية تنفيذها‪ .‬ويستوجب ذلك أن يتم اختيار الوزراء وفق معايير القدرة والكفاءة‪ ،‬وعلى أساس‬
‫االلتزام بالرؤية العامة ألولويات المرحلة المقبلة وشروط التصدي لها ووضع الخطط العملية‬
‫لتنفيذها‪ .‬وفي ضوء ذلك‪ ،‬فإننا نوجهك ألخذ ما يلزم من الوقت لمناقشة المرشحين لالنضمام إلى‬
‫الفريق الوزاري حول األهداف والبرامج وآليات التنفيذ بحيث يعرف كل وزير األهداف المتوقع‬
‫‪.‬منه تحقيقها‪ ،‬والمعايير التي سيقّيم أداؤه على أساسها‬

‫وحتى تحقق هذه المنهجية ما نأمل من نتائج‪ ،‬فإننا نتوقع منكم أن ترفعوا لنا بعد ما ال يزيد عن‬
‫شهرين من تشكيل الحكومة خطة عمل كل وزارة بعد مناقشتها وتبّنيها في مجلس الوزراء‪ ،‬لضمان‬
‫عمل الجميع فريقًا واحدًا منسجمًا واضح الرؤية يعرف ما هو متوقع منه‪ ،‬ويعرف شعبنا العزيز‬
‫‪.‬األسس التي يعمل عليها واألهداف الموكل إليه تحقيقها بوضوح وشفافية‬

‫فنحن نريد حكومة تعمل بثقة وشفافية وبروح الفريق لخدمة الصالح العام‪ ،‬من دون تراٍخ أو تباطؤ‬
‫تحت وطأة الخوف من اتخاذ القرار أو حسابات الشعبية اآلنية‪ ،‬أو سياسات االسترضاء التي‬
‫أضاعت على وطننا في الماضي الكثير من فرص التمّيز والتطّو ر والتغيير اإليجابي الذي يمكننا‬
‫‪.‬من مواكبة روح العصر ومتطلباته‬
‫ونحن إذ نؤكد على ضرورة االلتزام بالقوانين في كل ما تقوم به الحكومة‪ ،‬فإننا نوجهك إلى إصدار‬
‫ميثاق شرف مرتكز على الدستور والقوانين يوضح كل المعايير األخالقية والقانونية التي يجب‬
‫على الوزراء االلتزام بها طوال فترة خدمتهم العامة‪ ،‬بحيث تكون هذه الوثيقة المعلنة مرجعية‬
‫إضافية يعتمدها األردنيون في الحكم على أداء الفريق الوزاري‪ .‬ويجب أيضًا أن تصدر عن‬
‫الحكومة وثيقة شبيهة ملزمة لكل العاملين في القطاع الحكومي وعلى جميع مستويات الخدمة‬
‫‪.‬العامة‬

‫فشعبنا الوفي مستعد لتحمل كل الصعاب ومواجهة كل التحديات إذا ما اقتنع بأن القائمين على‬
‫خدمته في مؤسسات الدولة يقومون بواجباتهم في أطر مؤسسية خاضعة للرقابة القانونية‪ ،‬ومحصنة‬
‫‪.‬ضد جميع أشكال الفساد واستغالل الوظيفة والتحايل على القانون‬

‫ونحن نريد يا دولة األخ أن تتقدم حكومتكم خطوات نوعية في مسيرتنا اإلصالحية التحديثية‬
‫التطويرية التي نتمسك بها ضرورة حتمية لبناء أردن المستقبل اآلمن المستقر المزدهر‪ .‬واإلصالح‬
‫منظومة سياسية اقتصادية إدارية اجتماعية متكاملة ال تصل مداها إال إذا تقدمت بشكل متواٍز في‬
‫جميع المجاالت‪ .‬ونحن إذ نعتبر اإلصالح االقتصادي أولوية لما له من أثر مباشر على حياة‬
‫مواطنينا الذين يشكل تحقيق األفضل لهم هدفنا األساس‪ ،‬فإننا نؤمن أن هذا اإلصالح لن يحقق‬
‫أهدافه إذا لم يقترن بإصالح سياسي يضمن أعلى درجة من المشاركة الشعبية في صناعة القرار‪،‬‬
‫عبر مؤسسات قادرة فاعلة تعمل بشفافية وموضوعية على تعظيم اإلنجاز والتصدي للقصور‬
‫‪.‬والتقصير والخلل وفقًا للدستور والقانون‬

‫وبعد أن صدرت إرادتنا بحل مجلس النواب تمهيدًا إلجراء انتخابات نيابية جديدة تكون أنموذجًا في‬
‫النزاهة والحيادية والشفافية‪ ،‬فسيكون في مقدمة مهام حكومتكم اتخاذ جميع الخطوات الالزمة‪ ،‬بما‬
‫في ذلك تعديل قانون االنتخاب وتحسين جميع إجراءات العملية االنتخابية‪ ،‬لضمان أن تكون‬
‫االنتخابات القادمة نقلة نوعية في مسيرتنا التطويرية التحديثية‪ ،‬وبحيث يتمكن كل األردنيين من‬
‫ممارسة حقهم في االنتخاب والترشح وتأدية واجبهم في انتخاب مجلس نيابي قادر على ممارسة‬
‫دوره الدستوري في الرقابة والتشريع واإلسهام بفاعلية في استكمال مسيرة البناء‪ ،‬وفي تكريس‬
‫‪.‬الديموقراطية ثقافة وممارسة في وطننا الحبيب‬

‫وعلى الحكومة أن تعيد تقييم آليات تعاملها مع مجلس النواب بما يضمن إعادة تصحيح هذه العالقة‬
‫لتقوم على التعاون والتكامل في خدمة المصلحة العامة‪ ،‬وبحيث تمارس السلطتان صالحيتهما‬
‫الدستورية من دون تغّو ل سلطة على أخرى‪ ،‬أو اللجوء إلى تفاهمات مصلحية تجعل من تحقيق‬
‫المكتسبات الشخصية شرطًا الستقرار عالقة السلطتين‪ .‬ولضمان عدم تكرار أخطاء الماضي‪ ،‬فإننا‬
‫نطلب منكم إعداد ميثاق شرف ملزم يوضح األسس التي تحكم كل تعامالت الحكومة مع أعضاء‬
‫مجلس النواب وفق الدستور والقانون‪ .‬ونأمل أن يبادر مجلس النواب الجديد أيضًا إلى إصدار وثيقة‬
‫مماثلة تطمئن األردنيين إلى أن العالقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية محكومة بمعايير تحقق‬
‫المصلحة العامة والتكامل الدستوري والقانوني والسياسي المطلوب لخدمة الوطن‪ ،‬وليست مرتهنة‬
‫‪.‬لالعتبارات والمكتسبات الشخصية الضيقة‬
‫وإذ تشكل االنتخابات القادمة‪ ،‬التي يجب أن ال يتأخر إجراؤها عن الربع األخير من العام المقبل‪،‬‬
‫خطوة رئيسية في تطوير أدائنا الديموقراطي وتعزيز المشاركة الشعبية في عملية التنمية السياسية‪،‬‬
‫فإننا نريدها جزءًا من برنامج تنمية سياسية شامل يعالج كل المعيقات أمام تحقيق هذه التنمية‪،‬‬
‫ويسهم في تطور العمل السياسي الحزبي البرامجي‪ ،‬ويفتح المجال أمام جميع أبناء الوطن‬
‫للمشاركة في مسيرة البناء‪ .‬ونحن ننتظر في هذا السياق قراراتكم حول سبل تنفيذ مشروع‬
‫الالمركزية من أجل تحقيق تطور نوعي في آليات اتخاذ القرار وضمان أعلى درجات المشاركة‬
‫‪.‬الشعبية في صناعة السياسات الوطنية‬

‫ويتطلب نجاح هذا البرنامج اتخاذ جميع الخطوات الالزمة لضمان حرية التعبير وفسح المجال أمام‬
‫اإلعالم المهني الحر المستقل لممارسة دوره ركيزة أساسية في مسيرة التنمية الوطنية‪ .‬وعلى ذلك‬
‫فال بد من إجراء التعديالت التشريعية الالزمة وتبني السياسات الكفيلة بإيجاد البيئة المناسبة لتطّو ر‬
‫صناعة اإلعالم المحترف وضمان حق وسائل اإلعالم في الوصول إلى المعلومة والتعامل معها‬
‫من دون أي قيود أو عوائق‪ .‬ويجب أيضًا تعديل القوانين وتحديثها لحماية المجتمع من الممارسات‬
‫‪.‬الالمهنية والالأخالقية التي تقوم بها بعض وسائل اإلعالم‬

‫وبالنسبة للسياسة االقتصادية‪ ،‬فلقد كان لألوضاع اإلقليمية والدولية آثارها السلبية على أوضاعنا‬
‫االقتصادية‪ .‬وعلى الحكومة بذل أقصى جهودها لتطوير األداء االقتصادي وضمان اإلدارة المثلى‬
‫للموارد‪ ،‬والعمل ضمن خطط واضحة تحمي اقتصادنا من تداعيات األزمة االقتصادية العالمية‬
‫وتمكنه من تحقيق أعلى مستويات النمو‪ .‬وال بد من بلورة السياسات االقتصادية والمالية الكفيلة‬
‫بزيادة تنافسية االقتصاد الوطني‪ .‬ويجب أن يشمل برنامج الحكومة االقتصادي خطوات وإجراءات‬
‫تحقق التوازن بين اإلمكانات المالية والطلب على اإلنفاق الحكومي‪ ،‬والمحافظة على االستقرار‬
‫المالي والنقدي‪ ،‬وتعزيز االعتماد على الموارد الذاتية‪ ،‬وتطوير التشريعات االقتصادية‪ ،‬وتحقيق‬
‫أعلى درجات التوازن التنموي بين المحافظات بما يؤدي إلى تحسين المستوى المعيشي للمواطنين‬
‫كافة ومحاربة الفقر والبطالة‪ .‬وال بد أيضًا من العمل على حماية الطبقات الفقيرة‪ ،‬وتقوية أدوات‬
‫‪.‬العمل المؤسسي لرعاية المحتاجين‬

‫وألن االستثمار يشكل أحد أهم مقّو مات النجاح االقتصادي ويسهم في توفير فرص العمل وجذب‬
‫التكنولوجيا الحديثة وتطوير قدرات قوانا العاملة‪ ،‬يجب تطوير البيئة االستثمارية والعمل بشكل‬
‫‪.‬مكثف على جذب االستثمار األجنبي‬

‫وفي ذات السياق‪ ،‬فإن الحكومة مدعوة لتسهيل عمل المستثمر األردني ودعم رجال األعمال‬
‫األردنيين بكل فئاتهم‪ ،‬بما في ذلك معالجة المعيقات البيروقراطية وتطوير آليات تمويل المشاريع‬
‫وتحديث إجراءات طرح العطاءات‪ ،‬بما يضمن مشاركة جميع المستثمرين فيها بشفافية وعدالة‪ .‬وال‬
‫بد أيضًا من القيام بكل ما يلزم من إجراءات تشريعية وتنظيمية لضمان سالمة الجهاز المصرفي‬
‫وحيويته‪ ،‬وتحصينه ضد تداعيات األزمة االقتصادية والمالية العالمية‪ .‬وعلى الحكومة االستمرار‬
‫في تطبيق السياسات المستهدفة تطوير الشراكة مع القطاع الخاص‪ ،‬بحيث يقوم بدوره كامًال في‬
‫‪.‬مسيرتنا التنموية‬
‫ويجب أن تركز السياسة االقتصادية الحكومية على تحقيق األمن الغذائي والمائي وتلبية احتياجات‬
‫المملكة من مصادر الطاقة‪ ،‬عبر التخطيط البعيد المدى وإقامة المشاريع الكبيرة القادرة على تلبية‬
‫احتياجاتنا المتنامية‪ .‬ولتحقيق أفضل النتائج الممكنة‪ ،‬وفي ضوء تداخل مشاريع الماء والغذاء‬
‫والطاقة‪ ،‬على الحكومة أن تضع األطر المؤسسية التي تضمن أعلى درجات التنسيق في إدارة‬
‫المشاريع في هذه القطاعات واالستثمار فيها‪ ،‬وخصوصًا في مشاريع الطاقة البديلة‪ ،‬والتنقيب عن‬
‫الغاز والصخر الزيتي‪ ،‬والطاقة النووية‪ ،‬وجر مياه الديسي‪ ،‬ومشروع ناقل البحرين‪ .‬ويحتاج قطاع‬
‫الزراعة‪ ،‬الذي يشكل إحدى أهم ركائز األمن الغذائي‪ ،‬إلى المزيد من الرعاية واالهتمام‪ ،‬وذلك من‬
‫خالل إيجاد المشاريع الداعمة للمزارعين‪ ،‬وإعفاء مستلزمات القطاع الزراعي من الضرائب‪،‬‬
‫‪.‬وتقديم القروض الميسرة للمزارعين‪ ،‬وإيجاد األسواق الجديدة لمحاصيلهم‬

‫وال بد أن يواكب االستثمار في هذه المشاريع الكبرى عمٌل مواٍز لتطوير البنية التحتية‪ ،‬وخصوصًا‬
‫قطاع االتصاالت وشبكات الطرق‪ ،‬واستكمال اإلجراءات المتعلقة بإنشاء سكة الحديد الوطنية‪،‬‬
‫ليكون األردن مركزًا إقليميًا للنقل‪ ،‬ولتطوير إمكانيات التكامل والتعاون مع الدول العربية‬
‫‪.‬المجاورة‬

‫ولما كان اإلنسان محور العملية التنموية برمّتها‪ ،‬وهو وسيلتها وغايتها‪ ،‬فقد بنينا رؤيتنا ألردن‬
‫المستقبل على االستثمار في اإلنسان األردني المبدع المتميز بعطائه‪ .‬فهو ثروة وطننا الحقيقية‪.‬‬
‫وعلى الحكومة المضّي قدمًا في تطوير العملية التربوية والتعليمية‪ ،‬عبر تنفيذ مشروع التطوير‬
‫التربوي على مدار السنوات الخمس القادمة‪ ،‬وتطوير التعليم الجامعي مع الحفاظ على استقاللية‬
‫الجامعات‪ ،‬والتوسع في مجاالت التعليم المهني بما يتالءم مع متطلبات سوق العمل‪ .‬ونؤكد في هذا‬
‫السياق على ضرورة وضع البرامج العملية إلطالق طاقات الشباب وإمكانياتهم‪ ،‬وتسليحهم بالعلم‬
‫‪.‬والمعرفة حتى يتمكنوا من مواكبة متطلبات العصر ومن اإلسهام في بناء وطنهم بكفاءة واقتدار‬

‫أما في مجال الرعاية الصحية‪ ،‬فالمطلوب هو توسيع مظلة التأمين الصحي ليشمل جميع‬
‫المواطنين‪ ،‬وتنفيذ العديد من المشاريع الصحية الكبرى مثل حوسبة القطاع الصحي‪ ،‬ومشاريع‬
‫تطوير مستشفيات البشير والزرقاء الجديد‪ ،‬والبادية الشمالية‪ ،‬وتحسين مستوى الخدمات الصحية‬
‫المقدمة للمواطن‪ ،‬في المستشفيات والمراكز الصحية‪ ،‬مع مراعاة التنسيق بين المستشفيات لضمان‬
‫‪.‬االستخدام األمثل للموارد‬

‫وإيمانًا منا بحق اإلنسان في الحيـاة اآلمنة الكريمة‪ ،‬فإننا نؤكد على أهمية برامج حماية األسرة‬
‫والمرأة والطفل‪ ،‬وتقديم الحماية والرعاية للفئات المعرضة للعنف وتطوير التشريعات الكفيلة‬
‫‪.‬بتحقيق هذا الهدف النبيل‬

‫وال بد من التأكيد هنا على أن يكون توفير السكن الكريم للمواطنين في مقدمة أولويات الحكومة‪.‬‬
‫وقد أطلقنا مبادرة «سكن كريم لعيش كريم» في العام ‪ 2008‬من أجل توفير أكبر عدد ممكن من‬
‫المساكن للمواطنين بأسعار معقولة وآليات تمويل تتيح فرص اإلفادة منها ألصحاب الدخل المحدود‪.‬‬
‫ورغم تحقيق بعض النجاحات في تنفيذ تلك المبادرة‪ ،‬إال أن اإلنجاز كان دون الطموح‪ .‬وعلى ذلك‬
‫فإن المطلوب اآلن هو المباشرة بدراسة جميع جوانب المبادرة ووضع الخطة الالزمة لمعالجة‬
‫ًا‬
‫الثغرات وإزالة المعيقات التي تواجه إتمامها‪ ،‬وتحديدًا في ما يتعلق بآليات التمويل‪ ،‬من أجل‬
‫‪.‬تطويرها وتنفيذها ضمن جدول زمني محدد‬

‫وال بد أيضًا من االستمرار في تحسين مستوى الخدمات المقدمة للمواطن‪ ،‬ووضع خطة شاملة‬
‫‪.‬إلحداث نقلة نوعية في مستوى هذه الخدمات وضمان تقديمها بسهولة وفاعلية‬

‫وإن التنمية الشاملة التي نسعى إلى تحقيقها تستدعي المزيد من االهتمام ببرامج تطوير القطاع‬
‫العام‪ ،‬وإعادة هيكلة الجهاز الحكومي وزيادة تأهيله‪ ،‬وتخليصه من مظاهر الترهل‪ ،‬واعتماد مبدأ‬
‫تكافؤ الفرص والشفافية في التعيين والترقية‪ ،‬وتفعيل آليات المحاسبة والمساءلة‪ ،‬ومحاربة كل‬
‫‪.‬أشكال الفساد والواسطة والمحسوبية بمنتهى الحزم والشعور بالمسؤولية‬

‫فالتنمية ال تتحقق إال في ظل العدالة والمساواة وسيادة القانون على الجميع‪ .‬والضمانة لكل ذلك هو‬
‫الجهاز القضائي‪ ،‬الذي نحرص على استقالليته ونزاهته وكفاءته وسمعته الطيبة‪ ،‬من خالل العمل‬
‫على تنفيذ الخطط والبرامج الالزمة لتطوير هذا الجهاز‪ ،‬وعلى رأسها برنامج قضاة المستقبل‪،‬‬
‫‪.‬وتيسير إجراءات التقاضي وتحسين أداء المرافق واألجهزة التابعة لهذا الجهاز‬

‫وإن حق المواطن وكرامته خط أحمر‪ ،‬وكرامة األردنيين عندي أسمى وأقدس من أن يمّسها أحد‬
‫بسوء‪ .‬وقد ساء األردنيين جميعًا بعض مظاهر العنف واالعتداء على المواطن والمعلم والموظف‬
‫والطبيب‪ .‬وهذا أمر مرفوض في كل األحوال‪ .‬ولذلك يجب تفعيل القوانين وتطبيقها على الجميع‬
‫‪.‬بمنتهى العدالة والحزم‪ .‬فاألردنيون سواسية أمام القانون‪ ،‬ومتساوون في الحقوق والواجبات‬

‫وما كان إلنجازاتنا الوطنية أن تتحقق من دون نعمة األمن واالستقرار‪ .‬وقواتنا المسلحة وأجهزتنا‬
‫األمنية هي الضمانة لسيادة الوطن وأمنه واستقراره‪ ،‬وهي موضع فخر األردنيين واعتزازهم‪ .‬وإن‬
‫من أهم واجباتنا جميعًا أن نوليها كل الدعم والرعاية واالهتمام من حيث اإلعداد والتدريب‬
‫‪.‬والتسليح‪ ،‬حتى تظل كما كانت على الدوام مثاًال في الكفاءة واالقتدار‬

‫وفي ما يتعلق بعالقاتنا العربية‪ ،‬فقد كان األردن منذ أن تأسس وإلى يومنا هذا في طليعة أمته‬
‫العربية من حيث االلتزام بانتمائه لهذه األمة والعمل على تعزيز التضامن والتكامل ضمن‬
‫مؤسسات العمل العربي المشترك‪ .‬ونحن مستمرون في القيام بواجبنا في الدفاع عن حقوق األمة‬
‫‪.‬وقضاياها العادلة‪ ،‬وفي مقدمة ذلك القضية الفلسطينية‬

‫وسنستمر في تقديم كل أشكال الدعم واإلسناد ألشقائنا الفلسطينيين في نضالهم للحصول على‬
‫حقوقهم المشروعة‪ ،‬خصوصًا حقهم في قيام دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني‪ ،‬وعاصمتها‬
‫القدس الشرقية‪ .‬ونؤكد هنا أن القدس بالنسبة لنا ولكل العرب والمسلمين خط أحمر ال نقبل‬
‫‪.‬بتجاوزه‬

‫وسنواصل عملنا وسنوظف كل عالقاتنا من أجل تحقيق السالم على أساس حل الدولتين وفي سياق‬
‫إقليمي شامل‪ ،‬يعيد جميع الحقوق العربية‪ ،‬ووفق المرجعيات المعتمدة‪ ،‬خصوصًا مبادرة السالم‬
‫العربـية‪ ،‬من أجل أن تنعم المنطقة باألمن واالستقرار وتتحرر من ويالت الصراع والظلم‬
‫واالحتالل‪ .‬وعلى الحكومة االستمرار في الوقوف بكل طاقاتها إلى جانب األشقاء الفلسطينيين‬
‫‪.‬وتزويدهم بكل أشكال الدعم والمساعدة التي يحتاجونها‬

‫إن ثقتنا بك يا دولة األخ كبيرة‪ ،‬وقد عرفتك شابًا أردنيًا مخلصًا متحمسًا للعمل والعطاء وحققت‬
‫نجاحات كثيرة في كل المهمات التي كلفتك بها‪ .‬ونحن على يقين بأنك ستعمل وفريقك الوزاري‬
‫ضمن أقصى طاقاتكم‪ .‬وستجدون مني كل الدعم والمؤازرة‪ .‬ونحن إذ ننتظر موافاتنا بأسماء‬
‫الوزراء الذين يقع عليهم اختيارك‪ ،‬ليتحملوا معك أمانة المسؤولية‪ ،‬فإننا نسأل المولى عز وجل أن‬
‫‪.‬يوفقنا جميعًا لخدمة األردن العزيز وتحقيق طموحات شعبنا األبي المعطاء‬

‫‪،‬والسالم عليكم ورحمة هللا وبركاته‬

‫عبدهللا الثاني ابن الحسين‬


‫عمان في ‪ 22‬ذو الحجة ‪ 1430‬هجرية‬
‫الموافق ‪ 9‬كانون األول ‪ 2009‬ميالدية‬
‫إهداء‬

‫إهدي هذا الكتاب إلى الشعب األردني‬


‫حول الكتاب‬

‫نبذة عن الكتاب‬
‫يكاد يكون حدًثا غير مسبوق أن يعمَد ملٌك إلى كتابِة مذِّك راِته‪ ،‬متصدًيا‪ ،‬مباِش رة‪ ،‬لما يواجُه ه من‬
‫مسائَل حساّسٍة ودقيقة في منطقة الشرق األوسط‪ .‬هذا ما قّر ر القياَم به جاللُة الملك عبد هللا الثاني ابُن‬
‫الحسين‪ ،‬إدراكا منه لما تنطوي عليه المرحلُة من حاجٍة ملّحٍة إلى التحرك في االتجاه الصحيح على‬
‫طريق اإلصالح السياسي واالجتماعي واالقتصادي‪ ،‬ويقيًنا منه أن ُفسحَة تحقيِق السالم العربي‪-‬‬
‫اإلسرائيلي َتضيُق بوتيرٍة متسارعة حتى تكاد تنحسُر تماًم ا‪ .‬منذ ما يزيد على عقد ُيديُر دفَة الحكم في‬
‫األردن‪ ،‬البلد المركزّي في كل ما ُيطرح أو يدور من نقاشاٍت حوَل الصراع العربي‪-‬اإلسرائيلي‪،‬‬
‫والعراق‪ ،‬وإيران‪ ،‬ومستقبِل العالقات بين أميركا والعالم اإلسالمّي ‪ .‬يقوم الملك عبد هللا الثاني بدور‬
‫محوري في كل هذه المسائل‪ .‬لكَّن نشأَته وتربيَته قد جاءتا خاليتين تماًم ا مما قد ُيشير إلى أن هذا‬
‫الدور‪ ،‬من موقع رأس الدولة بالذات‪ ،‬كان بانتظاره‪.‬‬

‫قيل في الكتاب‬
‫«في فرصتنا األخيرة يقص علينا الملك عبد هللا الثاني ابن الحسين‪ ،‬بأسلوبه السهل الممتنع‪،‬‬
‫الملكّي النكهة‪ ،‬مساَر سنواته العشر األولى في الحكم‪ ،‬راويًا عمق رؤيته اآلسرة حيال ما نواجهه من‬
‫تحديات كبرى‪ ،‬ونظرته المشبعة بالحس اإلنساني بالنسبة إلى السالم في عالمنا المضطرب‪ .‬من‬
‫طينة الرجال الطيبين ومن القادة الطليعيين‪ ،‬كّر س جهده وعمله الدؤوب ليأتي بالسالم واالزدهار‬
‫والرخاء إلى بلده ومنطقته‪ .‬في هذه المذكرات ُيعِم ل الفكر والتأمل عميقا في المعطيات التي تتيح لنا‬
‫اليوم‪ ،‬على الرغم من كل العوائق‪ ،‬أن نحقق سالمًا غاليًا‪ ،‬ويشرح األسباب التي تضعنا أمام‬
‫«فرصتنا األخيرة» التي ال يمكننا التفريط بها»‪ .‬الرئيس بيل كلينتون‬
‫«قصة العمق الؤيوي‪ ،‬والحنكة القيادية‪ ،‬والبطولة نقرأها جلية صادقة في «فرصتنا األخيرة»‪.‬‬
‫الجنرال تومي فرانكس‬
‫«لقد كان ألفكار الملك عبد هللا الثاني ابن الحسين‪ ،‬كما ألعماله‪ ،‬دور حاسم في النهوض بمستوى‬
‫معيشة الشعب األردني ورفاهه»‪ .‬ووِر ن بافت‬

‫نبذة عن المؤلف‬
‫الملك عبد هللا الثاني ابن الحسين ولد جاللة الملك عبد هللا الثاني في عمان في الثالثين من كانون‬
‫الثاني ‪/‬يناير ‪ .1962‬تلقى علومه االبتدائية في الكلية العلمية اإلسالمية في عمان عام ‪1966‬م‪ ،‬بداية‪،‬‬
‫لينتقل بعدها إلى مدرسة سانت إْدمند في ساري بإنجلترا‪ ،‬ومن ثم إلى مدرسة إيغلبروك وأكاديمية‬
‫ديرفيلد في الواليات المتحدة األمريكية إلكمال دراسته الثانوية‪ .‬ومن َثّم التحق باألكاديمية الملكية‬
‫البريطانية في ساندهرست‪ .‬تدرج في الخدمة في القوات المسلحة األردنية حتى توّلى قيادَة العمليات‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫ينتمي جاللة الملك عبد هللا الثاني إلى الجيل الثالث واألربعين من أحفاد النبي محمد صلى هّللا عليه‬
‫وسّلم‪ .‬وهو عميد األسرة الهاشمية‪ .‬وقد حمل جّده األكبر راية ثورة االستقالل العربية التي انتهت‬
‫بالتحرر من الحكم العثماني‪.‬‬

You might also like